كتاب : التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور
المؤلف : محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي

لما كانوا عليه، ويكون الحول تكميلا لمدة السكنى لا العدة، وهذا الذي قاله مجاهد أصرح ما في هذا الباب، وهو المقبول.
واعلموا أن العرب، في الجاهلية، كان من عادتهم المتبعة أن المرأة إذا توفى عنها زوجها تمكث في شر بيت لها حولا، محدة لابسة شر ثيابها متجنبة الزينة والطيب، كما تقدم في حاشية تفسير قوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:234] عن "الموطأ"، فلما جاء الإسلام أبطل ذلك الغلو في سوء الحالة، وشرع عدة الوفاة والإحداد، فلما ثقل ذلك على الناس، في مبدأ أمر تغيير العادة، أمر الأزواج بالوصية لأزواجهم بسكنى الحول بمنزل الزوج والإنفاق عليها من ماله، إن شاءت السكنى بمنزل الزوج، فإن خرجت وأبت السكنى هنالك لم ينفق عليها، فصار الخيار للمرأة في ذلك بعد أن كان حقا عليها لا تستطيع تركه، ثم نسخ الإنفاق والوصية بالميراث، فالله لما أراد نسخ عدة الجاهلية، وراعى لطفه بالناس في قطعهم عن معتادهم، أقر الاعتداد بالحول، وأقر ما معه من المكث في البيت مدة العدة، لكنه أوقفه على وصية الزوج، عند وفاته، لزوجه بالحسنى، وعلى قبول الزوجة ذلك، فإن لم يوص لها أو لم تقبل، فليس عليها السكنى، ولها الخروج، وتعتد حيث شاءت، ونسخ {وَصِيَّةً} السكنى حولا بالمواريث، وبقي لها السكنى في محل زوجها مدة العدة مشروعا بحديث الفريعة.
وقوله: {وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ} قرأه نافع، وابن كثير، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم، وأبو جعفر، ويعقوب، وخلف: برفع {وَصِيَّةً} على الابتداء، محولا عن المفعول المطلق، وأصله وصية بالنصب بدلا من فعله، فحول إلى الرفع لقصد الدوام كقولهم: حمد وشكر، "وصبر جميل" كما تقدم في تفسير {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [ الفاتحة:2] ، وقوله: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229]. ولما كان المصدر في المفعول المطلق، في مثل هذا، دالا على النوعية، جاز عند وقوعه مبتدأ أن يبقى منكرا، إذ ليس المقصود فردا غير معين حتى ينافي الابتداء، بل المقصود النوع، وعليه فقوله: لأزواجهم خبر، وقراه أبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، وحفص عن عاصم: وصية بالنصب فيكون قوله: {لِأَزْوَاجِهِمْ} [البقرة:240] متعلقا به على أصل المفعول المطلق الآتي بدلا من فعله لإفادة الأمر.
وظاهر الآية أن الوصية وصية المتوفين، فتكون من الوصية التي أمر بها من تحضره الوفاة: مثل الوصية التي في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة:180] فعلى هذا الاعتبار إذا لم يوص المتوفى

لزوجه بالسكنى فلا سكنى، لها، وقد تقدم أن الزوجة مع الوصية مخيرة بين أن تقبل الوصية، وبين أن تخرج وقال ابن عطية: قالت فرقة: منهم ابن عباس، والضحاك، وعطاء، والربيع: أن قوله: {وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ} هي {وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ} تعالى للأزواج بلزوم البيوت حولا، وعلى هذا القول فهو كقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء:11] وقوله: {وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ} فذلك لا يتوقف عن إيصاء المتوفين ولا على قبول الزوجات، بل هو حكم من الله يجب تنفيذه، وعليه يتعين أن يكون {لِأَزْوَاجِهِمْ} متعلقا بوصية، وتعلقه به هو الذي سوغ الابتداء به، والخبر محذوف دل عليه المقام لعدم تأتي ما قرر في الوجه الأول.
وقوله: {مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ} [البقرة:240]: تقدم معنى المتاع في قوله: {مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:236] والمتاع هنا هو السكنى، وهو منصوب على حذف فعله أي ليمتعوهن متاعا، وانتصب متاعا على نزع الخافض، فهو متعلق بوصية والتقدير وصية لأزواجهم بمتاع. وإلى مؤذنة بشيء جعلت غايته الحول، وتقديره متاعا بسكنى إلى الحول، كما دل عليه قوله: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ}.
والتعريف في الحول تعريف العهد، وهو الحول المعروف عند العرب من عهد الجاهلية الذي تعتد به المرأة المتوفى عنها، فهو كتعريفة في قول لبيد1:
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ... ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
وقوله: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} حال من {متاعا} مؤكدة، أو بدل من {متاعا} بدلا مطابقا، والعرب تؤكد الشيء بنفي ضده، ومنه قول أبي العباس الأعمى يمدح بني أمية:
خطباء على المنابر فرسا ... ن عليها وقالة غير خرس
وقوله: {فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} هو على قول فرقة معناه: فإن أبين قبول الوصية فخرجن، فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن: من الخروج وغيره من المعروف عدا الخطبة والتزوج، والتزين في العدة، فذلك ليس من المعروف.
عدا الخطبة والتزوج، والتزين في العدة، فذلك ليس من المعروف وعلى قول الفرقة
ـــــــ
1 كانو في الجاهلية تحد البنت على أبيها حولا كاملا إذا لم تكن ذات زوج، وقبل هذا البيت:
تمنى ابنتاي أن تعيش أبوهما ... وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر
فإن حان يوما أن يموت أبوكما ... فلا تخمشا وجها ولا تحلقا شعر
وقولا هو المرء الذي لا حليفه ... أضاع ولا خان الصديق ولا عذر
قالهل لبيد لما بلغ مائة وعشرين سنة يوصي ابنتيه بوصايا الإسلام.

الأخرى التي جعلت الوصية من الله، يجب أن يكون قوله: {فَإِنْ خَرَجْنَ} عطفا على مقدر للإيجاز، مثل: {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ} [الشعراء:63] أي فإن تم الحول فخرجن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن: أي من تزوج وغيره، من المعروف عدا، المنكر كالزنا وغيره، والحاصل أن المعروف يفسر: بغير ما حرم عليها في الحالة التي وقع فيها الخروج وكل ذلك فعل في نفسها،
قال ابن عرفة في "تفسيره" "وتنكير معروف هنا وتعريفه في الآية المتقدمة، لأن هذه الآية نزلت قبل الأخرى، فصار هنالك معهودا".وأحسب هذا غير مستقيم، وأن التعريف تعريف الجنس، وهو والنكرة سواء، وقد تقدم الكلام عن القراءة المنسوبة إلى على -بفتح ياء {يُتَوَفَّوْنَ} وما فيها من نكتة عربية عند قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} [البقرة:234] الآية.
[241] {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ}
عطف على جملة {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} [البقرة:240] جعل استيفاء لأحكام المتعة للمطلقات، بعد أن تقدم حكم متعة المطلقات قبل المسيس وقبل الفرض، فعمم بهذه الآية طلب المتعة للمطلقات كلهن. فاللام في قوله: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ} لام الاستحقاق.
والتعريف في المطلقات يفيد الاستغراق. فكانت هذه الآية قد زادت أحكاما على الآية التي سبقتها. وعن جابر بن زيد قال: لما نزل قوله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ} إلى قوله: {حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:236] قال رجل: إن أحسنت فعلت وإن لم أرد ذلك لم أفعل، فنزل قوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} فجعلها بيانا للآية السابقة، إذ عوض وصف المحسنين بوصف المتقين.
والوجه أن اختلاف الوصفين في الآيتين لا يقتضي اختلاف جنس الحكم باختلاف أحوال المطلقات، وأن جميع المتعة من شأن المحسنين والمتقين. وأن دلالة صيغة الطلب في الآيتين سواء: إن كان استحبابا، أو كان إيجابا.فالذين حملوا الطلب في الآية السابقة على الاستحباب، حملوه في هذه الآية على الاستحباب بالأولى، ومعولهم في محمل الطلب في كلتا الآيتين ليس إلا على استنباط علة مشروعية المتعة: وهي جبر خاطر المطلقة استبقاء للمودة، ولذلك لم يستثن مالك من مشمولات هذه الآية إلا المختلعة؛ لأنها هي التي دعت إلى الفرقة دون المطلق.

والذين حملوا الطلب في الآية المتقدمة على الوجوب، اختلفوا في محمل الطلب في هذه الآية فمنهم من طرد قوله بوجوب المتعة لجميع المطلقات، ومن هؤلاء عطاء، وجابر بن زيد، وسعيد ابن جبير، وابن شهاب، والقاسم بن محمد، وأبو ثور، ومنهم من حمل الطلب في هذه الآية على الاستحباب، وهو قول الشافعي، ومرجعه إلى تأويل ظاهر قوله: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ} بما دل عليه مفهوم قوله في الآية الأخرى {مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة:236].
[242] {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}
أي كهذا البيان الواضح، يبين الله آياته، فالآيات هنا دلائل الشريعة. وقد تقدم القول في نظيره في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة:143].
[243, 244] {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}
استئناف ابتدائي للتحريض على الجهاد، والتذكير بأن الحذر لا يؤخر الأجل، وأن الجبان قد يلقى حتفه في مظنة النجاة، وقد تقدم: أن هذه السورة نزلت في مدة صلح الحديبية وأنها تمهيد لفتح مكة، فالقتال من أهم أغراضها، والمقصود من هذا الكلام هو قوله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الآية. فالكلام رجوع إلى قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة:216] وفصلت بين الكلامين الآيات النازلة خلالهما المفتتحة بـ {يَسْأَلونَكَ} [البقرة: 217، 219، 220،222]
وموقع {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} قبل قوله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} موقع ذكر الدليل قبل المقصود، وهذا طريق من طرق الخطابة أن يقدم الدليل قبل المستدل عليه لمقاصد كقول علي رضي الله عنه، في بعض خطبه لما بلغه استيلاء جند الشام على أكثر البلاد، إذا افتتح الخطبة فقال ما هي إلا الكوفة أقبضها وأبسطها أنبئت بسرا هو ابن أبي أرطاة من قادة جنود الشام قد اطلع اليمن، وإني والله لأظن أن هؤلاء القوم سيدالون منكم باجتماعهم على باطلهم، وتفرقكم عن حقكم فقوله: "ما هي إلا الكوفة" موقعة موقع الدليل على قوله لأظن هؤلاء القوم إلخ وقال عيسى بن طلحة لما دخل على عروة بن الزبير، حين قطعت رجله ما كنا نعدك للصراع، والحمد لله الذي أبقى لنا أكثرك:

أبقي لنا سمعك، وبصرك، ولسانك، وعقلك، وإحدى رجليك فقدم قوله: ما كنا نعدك للصراع، والمقصود من مثل ذلك الاهتمام والعناية بالحجة، قبل ذكر الدعوى، أو حملا على التعجيل بالامتثال.
واعلم أن تركيب "ألم تر إلى كذا" إذا جاء فعل الرؤية فيه متعديا إلى ما ليس من شأن السامع أن يكون رآه، كان كلاما مقصودا منه التحريض على علم ما عدى إليه فعل الرؤية، وهذا مما اتفق عليه المفسرون ولذلك تكون همزة الاستفهام مستعملة في غير معنى الاستفهام بل في معنى مجازي أو كنائي، من معاني الاستفهام غير الحقيقي، وكان الخطاب به غالبا موجها إلى غير معين، وربما كان المخاطب مفروضا متخيلا.
ولنا في بيان وجه إفادة هذا التحريض من ذلك التركيب وجوه ثلاثة:
الوجه الأول: أن يكون الاستفهام مستعملا في التعجب، أو التعجيب، من عدم علم المخاطب بمفعول فعل الرؤية، ويكون فعل الرؤية علميا من أخوات ظن، على مذهب الفراء وهو صواب؛ لأن إلى ولام الجر يتعاقبان في الكلام كثيرا، ومنه قوله تعالى: {وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ} [النمل:33] أي لك وقالوا "أحمد الله إليك" كما يقال "أحمد لك الله" والمجرور بإلى في محل المفعول الأول، لأن حرف الجر الزائد لا يطلب متعلقا، وجملة وهم ألوف في موضع الحال، سادة مسد المفعول الثاني: لأن أصل المفعول الثاني لأفعال القلوب أنه حال1، على تقدير: ما كان من حقهم الخروج، وتفرع على قوله: {وَهُمْ أُلُوفٌ} قوله: {فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا} فهو من تمام معنى المفعول الثاني أو تجعل "إلى" تجريدا لاستعارة فعل الرؤية لمعنى العلم، أو قرينة عليها، أو لتضمين فعل الرؤية معنى النظر، ليحصل الادعاء أن هذا الأمر المدرك بالعقل كأنه مدرك بالمضر، لكونه بين الصدق لمن علمه، فيكون قولهم "ألم تر إلى كذا" في قوله: جملتين: ألم تعلم كذا وتنظر إليه.
الوجه الثاني: أن يكون الاستفهام تقريريا فإنه كثر مجيء الاستفهام التقريري في الأفعال المنفية، مثل {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1] {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ
ـــــــ
1 عندي أن أصل استعمال فعل الرؤية في معنى العلم وعده من أخوات ظن أنه استعارة الفعل الموضوع لإدراك المبصرات إلى معنى المدرك بالعقل المجرد لمشابهته للمدرك بالبصر في الوضوح واليقين ولذلك قد يصلونه بالحرف الذي أصله لتعدية فعل النظر.

شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:106].والقول1 في فعل الرؤية وفي تعدية حرف "إلى" نظير القول فيه في الوجه الأول.
الوجه الثالث: أن تجعل الاستفهام إنكاريا، إنكارا لعدم علم المخاطب بمفعول فعل الرؤية والرؤية علمية، والقول في حرف "إلى" نظير القول فيه على الوجه الأول، أو أن تكون الرؤية بصرية ضمن الفعل معنى تنظر على أن أصله أن يخاطب به من غفل عن النظر إلى شيء مبصر ويكون الاستفهام إنكاريا: حقيقة أو تنزيلا، ثم نقل المركب إلى استعماله في غير الأمور المبصرة فصار كالمثل، وقريب منه قول الأعشى:
ترى الجود يجري ظاهرا فوق وجهه
واستفادة التحريض، على الوجوه الثلاثة إنما هي من طريق الكناية بلازم معنى الاستفهام لأن شأن الأمر المتعجب منه، أو المقرر به، أو المنكور علمه، أن يكون شأنه أن تتوافر الدواعي على علمه، وذلك مما يحرض على علمه.
واعلم أن هذا التركيب جرى مجرى المثل، في ملازمته لهذا الأسلوب، سوى أنهم غيروه باختلاف أدوات الخطاب التي يشتمل عليها: من تذكير وضده، وإفراد وضده، نحو ألم ترى في خطاب المرأة وألم تريا وألم تروا وألم ترين، في التثنية والجمع هذا إذا خوطب بهذا المركب في أمر ليس من شأنه أن يكون مبصر للمخاطب أو مطلقا.
وقد اختلف في المراد من هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم، والأظهر أنهم قوم خرجوا خائفين من أعدائهم فتركوا ديارهم جبنا، وقرينة ذلك عندي قوله تعالى: {وَهُمْ أُلُوفٌ} فإنه جملة حال وهي محل التعجيب، وإنما تكون كثرة العدد محلا للتعجيب إذا كان المقصود الخوف من العدو، فإن شأن القوم الكثيرين ألا يتركوا ديارهم خوفا وهلعا والعرب تقول للجيش إذا بلغ الألوف "لا يغلب من قلة". فقيل هم من بني إسرائيل خالفوا على نبي لهم في دعوته إياهم للجهاد، ففارقوا وطنهم فرارا من الجهاد، وهذا الأظهر، فتكون القصة تمثيلا لحال أهل الجبن في القتال، بحال الذين خرجوا من ديارهم، بجامع الجبن وكانت الحالة المشبه بها أظهر في صفة الجبن وأفظع، مثل تمثيل
ـــــــ
1 إنما كثر الاستفهام التقريري في الأفعال المنفية لقصد تحقيق صدق المقر بعد إقراره لأن مقرره أورد له الفعل الذي يطلب منه الإقرار به مورد المنفي كأنه يقول أفسح لك المجال للإنكار إن شئت أن تقول لم أفعل فإذا أقر بالفعل بعد ذلك لم يبق له عذر بإدعاء أنه مكره فيما أقر به.

حال المتردد في شيء بحال من يقدم رجلا ويؤخر أخرى، فلا يقال إن ذلك يرجع إلى تشبيه الشيء بمثله. وهذا أرجح الوجوه لأن أكثر أمثال القرآن أن تكون بأحوال الأمم الشهيرة وبخاصة بني إسرائيل.
وقيل هم من قوم من بني إسرائيل من أهل داوردان قرب واسط1 وقع طاعون ببلدهم فخرجوا إلى واد أفيح فرماهم الله بداء موت ثمانية أيام، حتى انتفخوا ونتنت أجسامهم ثم أحياها. وقيل هم من أهل أذرعات، بجهات الشام. واتفقت الروايات كلها على أن الله أحياهم بدعوة النبي حزقيال بن بوزي2 فتكون القصة استعارة: شبه الذين يجبنون عن القتال بالذين يجبنون من الطاعون، بجامع خوف الموت، والمشبهون يحتمل أنهم قوم من المسلمين خامرهم الجبن لما دعوا إلى الجهاد في بعض الغزوات، ويحتمل أنهم فريق مفروض وقوعه قبل أن يقع، لقطع الخواطر التي قد تخطر في قلوبهم.
وفي "تفسير ابن كثير"، عن ابن جريج عن عطاء: أن هذا مثل لا قصة واقعة، وهذا بعيد يبعده التعبير عنهم بالموصول، وقوله: {فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ}. وانتصب {حَذَرَ الْمَوْتِ} على المفعول لأجله، وعامله {خَرَجُوا}.
والأظهر انهم قوم فروا من عدوهم، مع كثرتهم، وأخلوا له الديار، فوقعت لهم في طريقهم مصائب أشرفوا بها على الهلاك، ثم بحوا، أو أوبئة وأمراض، كانت أعراضها تشبه أعراض الموت، مثل داء السكت ثم برئوا منها: فهم غب حالهم تلك مثل قول الراجز:
وخارج أخرجه حب الطمع ... فر من الموت وفي الموت وقع
ويؤيد أنها إشارة إلى حادثة وليست مثلا قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} الآية ويؤيد أن المتحدث عنهم ليسوا من بني إسرائيل قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِنْ
ـــــــ
1 داوردان بفتح الدال بعدها ألف ثم واو مفتوحة ثم راء ساكنة كذا ضبطهاياقوت وهي شرقي واسط من جزيرة العراق قرب دجلة.
2 حزقيال بن بوزي هو ثالث أنبياء بني إسرائيل كان معاصرا لأرمياء ودانيال من القرنين السابع والسادس قبل المسيح وكان من جملة الذين أسرهم الأشوريون مع الملك يوياقيم ملك إسرائيل وهو يومئذ صغير فتنبأ في جهات الخابور في أرض الكلدانيين حيث القرى التي كانت على نهر الخابور شرقي دجلة ورأى مرائي أفردت بسفر من أسفار كتب اليهود وفيها إنذارات بما يحل ببني إسرئيل من المصائب وتوفي في الأسر.

بَنِي إِسْرائيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} [البقرة:246] والآية تشير إلى معنى قوله تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ} [النساء:78] وقوله: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران:154].
فأما الذين قالوا إنهم قوم من بني إسرائيل أحياهم الله بدعوة حزقيال، والذين قالوا إنما هذا مثل لا قصة واقعة، فالظاهر أنهم أرادوا الرؤيا التي ذكرت في كتاب حزقيال في الإصحاح 37 منه إذ قال "أخرجني روح الرب وأنزلني في وسط بقعة ملآنة عظاما ومر بي من حولها وإذا هي كثيرة ويابسة فقال لي يابن آدم أتحيا هذه العظام، فقلت يا سيدي أنت تعلم، فقال لي تنبأ على هذه العظام وقل لها أيتها العظام اليابسة اسمعي كلمة الرب، فتقاربت العظام، وإذا بالعصب والحكم كساها وبسط الجلد عليها من فوق وليس فيها روح فقال لي تنبأ للروح وقل قال الرب هلم يا روح من الرياح الأربع وهب على هؤلاء القتلى فتنبأت كما أمرني فدخل فيهم الروح فحيوا وقاموا على أقدامهم جيش عظيم جدا جدا" وهذا مثل ضربه النبي لاستماتة قومه، واستسلامهم لأعدائهم، لأنه قال بعده "هذه العظام هي كل بيوت إسرائيل هم يقولون يبست عظامنا وهلك رجاؤنا قد انقطعنا فتنبأ وقل لهم قال السيد الرب ها أنذا أفتح قبوركم وأصعدكم منها يا شعبي وآتي بكم إلى أرض إسرائيل وأجعل روحي فيكم فتحيون" فلعل هذا المثل مع الموضع الذي كانت فيه مراءى هذا النبي، وهو الخابور، وهو قرب واسط، هو الذي حدا بعض أهل القصص إلى دعوى أن هؤلاء القوم من أهل داوردان: إذ لعل داوردان كانت بجهات الخابور الذي رأى عنده النبي حزقيال ما رأى.
وقوله تعالى: {فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} القول فيه إما مجاز في التكوين والموت حقيقة أي جعل فيهم حالة الموت، وهي وقوف القلب وذهاب الإدراك والإحساس، استعيرت حالة تلقي المكون لأثر الإرادة بتلقي المأمور للأمر، فأطلق على الحالة المشبهة المركب الدال على الحالة المشبه بها على طريقة التمثيل، ثم أحياهم بزوال ذلك العارض فعلموا أنهم أصيبوا بما لو دام لكان موتا مستمرا، وقد يكون هذا من الأدواء النادرة المشبهة داء السكت وإما أن يكون القول مجازا عن الإنذار بالموت، والموت حقيقة، أي أراهم الله مهالك شموا منها رائحة الموت، ثم فرج الله عنهم فأحياهم. وإما أن يكون كلاما حقيقيا بوحي الله، لبعض الأنبياء، والموت موت مجازي، وهو أمر للتحقير شتما لهم، ورماهم بالذل والصغار، ثم أحياهم، وثبت فيهم روح الشجاعة.

والمقصود من هذا موعظة المسلمين بترك الجبن، وأن الخوف من الموت لا يدفع الموت، فهؤلاء الذين ذرب بهم هذا المثل خرجوا من ديارهم خائفين من الموت، فلم يغن خوفهم عنهم شيئا، وأراهم الله الموت ثم أحياهم، ليصير خلق الشجاعة لهم حاصلا بإدراك الحس. ومحل العبرة من القصة: هو أنهم ذاقوا الموت الذي فروا منه، ليعلموا أن الفرار لا يغني عنهم شيئا، وأنهم ذاقوا الحياة بعد الموت، ليعلموا أن الموت والحياة بيد الله، كما قال تعالى: {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ} [الأحزاب:16].
وجملة: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الآية هي المقصود الأول، فإن ما قبلها تمهيد لها، كما علمت، وقد جعلت في النظم معطوفة على جملة {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} عطفا على الاستئناف، فيكون لها حكم جملة مستأنفة، استئنافا ابتدائيا، ولولا طول الفصل بينها وبين جملة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة:216]، لقلنا: إنها معطوفة عليها على أن اتصال الغرضين يلحقها بها بدون عطف.
وجملة: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} حث على القتال، وتحذير من تركه، بتذكيرهم بإحاطة علم الله تعالى بجميع المعلومات: ظاهرها وباطنها. وقدم وصف سميع، وهو أخص من عليم، اهتمام به هنا؛ لأن معظم أحوال القتال في سبيل الله من الأمور المسموعة، مثل جلبة الجيش، وقعقعة السلاح، وصهيل الخيل. ثم ذكر وصف عليم لأنه يعم العلم بجميع المعلومات، وفيها ما هو من حديث النفس مثل خلق الخوف، وتسويل النفس القعود عن القتال، وفي هذا تعريض بالوعد والوعيد. وافتتاح الجملة بقوله: {وَاعْلَمُوا} للتنبيه على ما تحتوي عليه من معنى صريح وتعريض، وقد تقدم قريبا عند قوله: تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ} [البقرة:223].
[245] {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}
اعتراض بين جملة: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} [البقرة:243] إلى آخرها، وجملة: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ} [البقرة:246] الآية، قصد به الاستطراد للحث على الإنفاق لوجه الله في طرق البر، لمناسبة الحث على القتال، فإن القتال يستدعي إنفاق المقاتل على نفسه في العدة والمؤونة مع الحث على إنفاق الواجد فضلا في سبيل الله: بإعطاء العدة لمن لا عدة له، والإنفاق على المعسرين من الجيش، وفيها تبيين لمضمون

جملة {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:244] فكانت ذات ثلاثة أغراض.
و"القرض" إسلاف المال ونحوه بنية إرجاع مثله، ويطلق مجازا على البذل لأجل الجزاء، فيشمل بهذا المعنى بذل النفس والجسم رجاء الثواب، ففعل {يقرض} مستعمل في حقيقته ومجازه.
والاستفهام في قوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ} مستعمل في التحضيض والتهييج على الاتصاف بالخير كأن المستفهم لا يدري من هو أهل هذا الخير والجدير به، قال طرفة:
إذا القوم قالوا من فتى خلت أنني ... عنيت فلم أكسل ولم أتبلد
و{ذا} بعد أسماء الاستفهام قد يكون مستعملا في معناه كما تقول، وقد رأيت شخصا لا تعرفه: {من ذا} فإذا لم يكن في مقام الكلام شيء يصلح لأن يشار إليه بالاستفهام كان استعمال {ذا} بعد اسم الاستفهام للإشارة المجازية بأن يتصور المتكلم في ذهنه شخصا موهوما مجهولا صدر منه فعل فهو يسأل عن تعيينه، وإنما يكون ذلك للاهتمام بالفعل الواقع وتطلب معرفة فاعله ولكون هذا الاستعمال يلازم ذكر فعل بعد اسم الإشارة، قال النحاة كلهم بصريهم وكوفيهم: بأن {ذا} مع الاستفهام تتحول إلى اسم موصول مبهم غير معهود، فعدوه اسم موصول، وبوب سيبويه في كتابه فقال باب إجرائهم ذا وحده بمنزلة الذي وليس يكون كالذي إلا مع "ما" و"من" في الاستفهام فيكون {ذا} بمنزلة الذي ويكون ما أي أو من حرف الاستفهام وإجراؤهم إياه مع ما أي أو من بمنزلة اسم واحد مثله بقوله تعالى: {مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْراً} [النحل:30] وبقية أسماء الإشارة مثل اسم {ذا} عند الكوفيين، وأما البصريون فقصروا هذا الاستعمال على {ذا} وليس مرادهم أن ذا مع الاستفهام يصير اسم موصول؛ فإنه يكثر في الكلام أن يقع بعده اسم موصول، كما في هذه الآية، ولا معنى لوقوع اسمي موصول صلتهما واحدة، ولكنهم أرادوا أنه يفيد مفاد اسم الموصول، فيكون ما بعده من فعل أو وصف في معنى صلة الموصول، وإنما دونوا ذلك لأنهم تناسوا ما في استعمال ذا في الاستفهام من المجاز، فكان تدوينها قليل الجدوى.
والوجه أن {ذا} في الاستفهام لا يخرج عن كونه للإشارة وإنما هي إشارة مجازية، والفعل الذي يجيء بعده يكون في موضع الحال. فوزان قوله تعالى: {مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ} [النحل:24] وزان قول يزيد بن ربيعة بن مفرغ يخاطب بغلته:

نجوت وهذا تحملين طليق
والإقراض: فعل القرض. والقرض: السلف، وهو بذل شيء ليرد مثله أو مساويه، واستعمل هنا مجازا في البذل الذي يرجى الجزاء عليه تأكيدا في تحقيق حصول التعويض والجزاء. ووصف القرض بالحسن لأنه لا يرضي الله به إلا إذا كان معبرا عن شوائب الرياء والأذى، كما قال النابغة:
ليست بذات عقارب
وقيل: القرض هنا على حقيقته وهو السلف، ولعله علق باسم الجلالة لأن الذي يقرض الناس طمعا في الثواب كأنه أقرض الله تعالى؛ لأن القرض من الإحسان الذي أمر الله به وفي معنى هذا ما جاء في الحديث القدسي: "أن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني قال: يا رب وكيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه" الحديث. وقد رووا: أن ثواب الصدقة عشر أمثالها وثواب القرض ثمانية عشر من أمثاله.
وقرأ الجمهور {فَيُضَاعِفَهُ} بألف بعد الضاد، وقرأه ابن كثير، وابن عامر، وأبو جعفر، ويعقوب. بدون ألف بعد الضاد وبتشديد العين. ورفع {فَيُضَاعِفَهُ} في قراءة الجمهور، على العطف على {يُقْرِضُ} ليدخل في حيز التحضيض معاقبا للإقراض في الحصول، وقرأه ابن عامر، وعاصم، ويعقوب: بنصب الفاء هلى جواب التحضيض، والمعني على كلتا القراءتين واحد.
وقوله: {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} أصل القبض: الشد والتماسك، وأصل البسط: ضد القبض وهو الإطلاق والإرسال، وقد تفرعت عن هذا المعنى معان: منها القبض بمعنى الأخذ {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة:283] بمعنى الشح {وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} [التوبة:67] ومنها البسط بمعنى البذل {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ} [الرعد:26] وبمعنى السخاء {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَان} [المائدة:64] ومن أسمائه تعالى: القابض، الباسط، بمعنى المانع، المعطي،
وقرأ الجمهور: "ويبسط" بالسين، وقرأه نافع، والبزي عن ابن كثير، وأبو بكر عن عاصم، والكسائي، وأبو جعفر، وروح عن يعقوب، بالصاد وهو لغة.
يحتمل أن المراد هنا: يقبض العطايا والصدقات، ويبسط الجزاء والثواب، ويحتمل أن المراد بقبض نفوسا عن الخير، ويبسط نفوسا للخير، وفيه تعريض بالوعد بالتوسعة على

المنفق في سبيل الله، والتقتير على البخيل. وفي الحديث، اللهم أعط منفقا خلفا وممسكا تلفا، وفي ابن عطية عن الحلواني عن قالون عن نافع: "أنه لا يبالي كيف قرأ يبسط وبسطه بالسين أو بالصاد" أي لأنهما لغتان مثل الصراط والسراط، والأصل هو السين، ولكنها قلبت صادا في بصطه ويبصط لوجود الطاء بعدها، ومخرجها بعيد من مخرج السين؛ لأن الانتقال من السين إلى الطاء ثقيل بخلاف الصاد.
وقوله: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} خبر مستعمل في التنبيه والتذكير بأن ما أعد لهم في الآخرة من الجزاء على الإنفاق في سبيل الله أعظم مما وعدوا به من الخير في الدنيا، وفيه تعريض بأن الممسك البخيل عن الإنفاق في سبيل الله محروم من خير كثير.
روى "أنه لما نزلت الآية جاء أبو الدحداح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أو أن الله يريد منا القرض? قال: "نعم يا أبا الدحداح"، قال: "أرني يدك" فناوله يده فقال: فإني أقرضت الله حائطا فيه ستمائة نخلة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كم من عذق رداح ودار فساح في الجنة لأبي الدحداح".
[246] {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}
جملة: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ} استئناف ثان بعد جملة: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} [البقرة:243] سيق مساق الاستدلال لجملة: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة:190] وفيها زيادة تأكيد لفظاعة حال التقاعس عن القتال بعد التهيؤ في سبيل الله، والتكرير في مثله يفيد مزيد تحذير وتعريض بالتوبيخ؛ فإن المأمورين بالجهاد في قوله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} لا يخلون من نفر تعتريهم هواجس تثبطهم عن القتال، حبا للحياة ومن نفر تعترضهم خواطر تهون عليهم الموت عند مشاهدة أكدار الحياة، ومصائب المذلة، فضرب الله لهذين الحالين مثلين: أحدهما ما تقدم في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} والثاني قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ} وقد قدم أحدهما وأخر الآخر: ليقع التحريض على القتال بينهما،
ومناسبة تقديم الأولى أنها تشنع حال الذين استسلموا واستضعفوا أنفسهم، فخرجوا

من ديارهم مع كثرتهم، وهذه الحالة أنسب بأن تقدم بين يدي الأمر بالقتال والدفاع عن البيضة؛ لأن الأمر بذلك بعدها يقع موقع القبول من السامعين لا محالة، ومناسبة تأخير الثانية أنها تمثيل حال الذين عرفوا فائدة القتال في سبيل الله لقولهم: {وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ} إلخ. فسألوه دون أن يفرض عليهم فلما عين لهم القتال نكصوا على أعقابهم، وموضع العبرة هو التحذير من الوقوع في مثل حالهم، بعد الشروع في القتال، أو بعد كتبه عليهم، فلله بلاغة هذا الكلام، وبراعة هذا الأسلوب: تقديما وتأخيرا. وتقدم القول على {أَلَمْ تَرَ} [البقرة:243] في الآية قبل هذه.
والملأ: الجماعة الذين أمرهم واحد، وهو اسم جمع كالقوم والرهط، وكأنه مشتق من الملء وهو تعمير الوعاء بالماء ونحوه، وأنه مؤذن بالتشاور لقولهم: تمالأ القوم إذا اتفقوا على شيء والكل مأخوذ من ملء الماء؛ فإنهم كانوا يملأون قربهم وأوعيتهم كل مساء، عند الورد، فإذا ملأ أحد لآخر فقد كفاه شيئا مهما؛ لأن الماء قوام الحياة، فضربوا ذلك مثلا للتعاون على الأمر النافع الذي به قوام الحياة، والتمثيل بأحوال الماء في مثل هذا منه قول على اللهم عليك بقريش فإنهم قد قطعوا رحمي وأكفأوا إنائي تمثيلا لإضاعتهم حقه.
وقوله: {مِنْ بَعْدِ مُوسَى} إعلام بأن أصحاب هذه القصة كانوا مع نبي بعد موسى، فإن زمان موسى لم يكن فيه نصب ملوك على بني إسرائيل وكأنه إشارة إلى أنهم أضاعوا الانتفاع بالزمن الذي كان فيه رسولهم بين ظهرانيهم، فكانوا يقولون: اذهب أنت وربك فقاتلا، وكان النصر لهم معه أرجى لهم ببركة رسولهم والمقصود: التعريض بتحذير المسلمين من الاختلاف على رسولهم.
وتنكير نبي لهم للإشارة إلى أن محل العبرة ليس هو شخص النبي فلا حاجة إلى تعيينه، وإنما المقصود حال القوم وهذا دأب القرآن في قصصه، وهذا النبي هو صمويل وهو بالعربية شمويل بالشين المعجمة ولذلك لم يقل: إذ قالوا لنبيهم، إذ لم يكن هذا النبي معهودا عنه السامعين حتى يعرف لهم بالإضافة.
وفي قوله: {لِنَبِيٍّ لَهُمُ} تأييد لقول علماء النحو إن أصل الإضافة أن تكون على تقدير لام الجر، ومعنى {ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً} عين لنا ملكا؛ وذلك أنه لما لم يكن فيهم ملك في حالة الحاجة إلى ملك فكأن الملك غائب عنهم، وكأن حالهم يستدعي حضوره فإذا عين لهم شخص ما كل فكأنه كان غائبا عنهم فبعث أي أرسل إليهم، أو هو مستعار من

بعث البعير أي إنهاضه للمشي.
وقوله: {هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} الآية، استفهام تقريري وتحذير، فقوله: {أَلَّا تُقَاتِلُوا} مستفهم عنه بهل وخبر لعسى متوقع، ودليل على جواب الشرط {إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} وهذا من أبدع الإيجاز: فقد حكي جملا كثيرة وقعت في كلام بينهم، وذلك أنه قررهم على إضمارهم نية عدم القتال اختبارا وسبرا لمقدار عزمهم عليه، ولذلك جاء في الاستفهام بالنفي فقال ما يؤدي معنى "هل لا تقاتلون" ولم يقل: هل تقاتلون؛ لأن المستفهم إلى معانيه المجازية كانت حاجة المتكلم إلى اختيار الطرف الراجح متأكدة. وتوقع منهم عدم القتال وحذرهم من عدم القتال إن فرض عليهم، فجملة: {أَلَّا تُقَاتِلُوا} يتنازع معناها كل من هل وعسى وإن، وأعطيت لعسى، فلذلك قرنت بأن، وهي دليل للبقية فيقدر لكل عامل ما يقتضيه. والمقصود من هذا الكلام التحريض: لأن ذا الهمة يأنف من نسبته إل التقصير، فإذا سجل ذلك عليه قبل وجود دواعيه كان على حذر من وقوعه في المستقبل، كما يقول من يوصي غيره: افعل كذا وكذا وما أظنك تفعل.
وقرأ نافع وحده عسيتم بكسر السين على غير قياس، وقرأه الجمهور بفتح السين وهما لعتان في عسى إذا اتصل بها ضمير المتكلم أو المخاطب، وكأنهم قصدوا من كسر السين التخفيف بإمانة سكون الياء.
وقوله: {قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} جاءت واو العطف في حكاية قولهم؛ إذ كان في كلامهم ما يفيد إرادة أن يكون جوابهم عن كلامه معطوفا على قولهم: {ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ما يؤدي مثله بواو العطف فأرادوا تأكيد رغبتهم، في تعيين ملك يدبر أمور القتال، بأنهم ينكرون كل خاطر يخطر في نفوسهم من التثبيط عن القتال، فجعلوا كلام نبيهم بمنزلة كلام معترض في أثناء كلامهم الذي كملوه، فما يحصل به جوابهم عن شك نبيهم في ثباتهم، فكان نظم كلامهم على طريقة قوله تعالى حكاية عن الرسل {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران:122] {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا} [ابراهيم:12].
و"ما" اسم استفهام بمعنى أي شيء واللام للاختصاص والاستفهام إنكاري وتعجبي من قول نبيهم: {هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا} لأن شأن المتعجب منه أن يسأل عن سببه. واسم الاستفهام في موضع الابتداء، ولنا خبره، ومعناه ما حصل لنا

أو ما استقر لنا، فاللام في قوله: {لنا} لام الاختصاص و "أن" حرف مصدر واستقبال، و {نقاتل} منصوب بأن، ولما كان حرف المصدر يقتضي أن يكون الفعل بعده في تأويل المصدر، فالمصدر المنسبك من أن وفعلها إما أن يجعل مجرورا بحرف جر مقدر قبل أن مناسب لتعلق لا نقاتل بالخبر، والتقدير: ما لنا في أل نقاتل أي انتفاء قتالنا أو ما لنا لألا نقاتل أي لأجل انتفاء قتالنا، فيكون معنى الكلام إنكارهم أن يثبت لهم سبب يحملهم على تركهم القتال، أو سبب لأجل تركهم القتال، أي لا يكون لهم ذلك. وإما أن يجعل المصدر المنسبك بدلا من ضمير {لنا}: بدل اشتمال، والتقدير: ما لنا لتركنا القتال.
ومثل هذا النظم يجيء بأشكال خمسة: مثل: {مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ} [يوسف:11] {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} [يّس:22] الذي فطرني {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } [الصافات:154] فما لك والتلد دحول نجد {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} [النساء:88] ، والأكثر أن يكون ما بعد الاستفهام في موضع حال، ولكن الإعراب يختلف ومآل المعنى متحد.
و "ما" مبتدأ و "لنا" خبره، والمعنى: أي شيء كان لنا. وجملة {أَلَّا نُقَاتِلَ} [البقرة:246] حال وهي قيد للاستفهام الإنكاري: أي لا يثبت لنا شيء في حالة تركنا القتال. وهذا كنظائره في قولك: مالي لا أفعل أو مالي أفعل، فأن مصدرية مجرورة بحرف جر محذوف يقدر بفي أو لام الجر، متعلق بما تعلق به {لنا}.
وجملة: {وَقَدْ أُخْرِجْنَا} حال معللة لوجه الإنكار: أي أنهم في هذه الحال أبعد الناس عن ترك القتال؛ لأن أسباب حب الحياة تضعف في حالة الضر والكدر بالإخراج من الديار والأبناء.
وعطف الأبناء على الديار لأن الإخراج يطلق على إبعاد الشيء من حيزه، وعلى إبعاده من بين ما يصاحبه، ولا حاجة إلى دعوى جعل الواو عاطفة عاملا محذوفا تقديره وأبعدنا عن أبنائنا.
وقوله: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا} إلخ. جملة معترضة، وهي محل العبرة والموعظة لتحذير المسلمين من حال هؤلاء أن يتولوا عن القتال بعد أن أخرجهم المشركون من ديارهم وأبنائهم، وبعد أن تمنوا قتال أعدائهم وفرضه الله عليهم والإشارة إلى ما حكاه الله عنهم بعد بقوله: {فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [البقرة:249] إلخ.
وقوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} تذييل: لأن فعلهم هذا من الظلم؛ لأنهم لما طلبوا

القتال خيلوا أنهم محبون له ثم نكصوا عنه. ومن أحسن التأديب قول الراجز:
من قال لا في حاجة ... مسؤولة فما ظلم
وإنما الظالم من ... يقول لا بعد نعم
وهذه الآية أشارت إلى قصة عظيمة من تاريخ بني إسرائيل، لما فيها من العلم والعبرة، فإن القرآن يأتي بذكر الحوادث التاريخية تعليما للأمة بفوائد ما في التاريخ، ويختار لذلك ما هو من تاريخ أهل الشرائع، لأنه أقرب للغرض الذي جاء لأجله القرآن: هذه القصة هي حادث انتقال نظام حكومة بني إسرائيل من الصبغة الشورية، المعبر عنها عندهم بعصر القضاة، إلى الصبغة الملكية، المعبر عنها بعصر الملوك وذلك أنه لما توفى موسى عليه السلام في حدود سنة 1380 قبل الميلاد المسيحي، خلفه في الأمة الإسرائيلية يوشع بن نون، الذي عهد له موسى في آخر حياته بأن يخلفه فلما صار أمر بني إسرائيل إلى يوشع جعل لأسباط بني إسرائيل حكاما يسوسونهم. ويقضون بينهم، وسماهم القضاة فكانوا في مدن متعددة، وكان من أولئك الحكام أنبياء، وكان هنالك أنبياء غير حكام، وكان كل سبط من بني إسرائيل يسيرون على ما يظهر لهم، وكان من قضائهم وأنبيائهم صمويل بن القانة، من سبط أفرايم، قاضيا لجميع بني إسرائيل، وكان محبوبا عندهم، فلما شاخ وكبر وقعت حروب بين بني إسرائيل والفلسطينيين وكانت سجالا بينهم، ثم كان الانتصار للفلسطينيين، فأخذوا بعض قرى بني إسرائيل: حتى إن تابوت العهد، الذي سيأتي الكلام عليه، أسره الفلسطينيون، وذهبوا به إلى "أشدود" بلادهم وبقي بأيديهم عدة أشهر، فلما رأت بنو إسرائيل ما حل بهم من الهزيمة، ظنوا أن سبب ذلك هو ضعف صمويل عن تدبير أمورهم، وظنوا أن انتظام أمر الفلسطينيين، لم يكن إلا بسبب النظام الملكي، وكانوا يومئذ يتوقعون هجوم ناحاش: ملك العمونيين عليهم أيضا، فاجتمعت إسرائيل وأرسلوا عرفاءهم من كل مدينة، وطلبوا من صمويل أن يقيم لهم ملكا يقاتل بهم في سبيل الله، فاستاء صمويل من ذلك، وحذرهم عواقب حكم الملوك قائلا إن الملك يأخذ بنيكم لخدمته وخدمة خيله، ويتخذ منكم من يركض أمام مراكبه، ويسخر منكم حراثين لحرثه، وعملة لعدد حربه، وأدوات مراكبه، ويجعل بناتكم عطارات وطباخات وخبازات، ويصطفى من حقولكم، وكرومكم، وزياتينكم، أجودها فيعطيها لعبيده، ويتخذكم عبيدا، فإذا صرختم بعد ذلك في وجه ملككم لا يستجيب الله لكم، فقالوا: لا بد لنا من ملك لنكون مثل سائر الأمم، وقال لهم: هل عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا: {وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ}

الخ. وكان ذلك في أوائل القرن الحادي عشر قبل المسيح.
وقوله: {وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} يقتضي أن الفلسطينيين أخذوا بعض مدن بني إسرائيل، وقد صرح بذلك إجمالا في الإصحاح السابع من سفر صمويل الأول، وأنهم أسروا أبناءهم، وأطلقوا كهولهم وشيوخهم، وفي ذكر الإخراج من الديار والأبناء تلهيب للمهاجرين، من المسلمين، على مقاتلة المشركين الذين أخرجوهم من مكة، وفرقوا بينهم وبين نسائهم، وبينهم وبين أبنائهم، كما قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} [النساء:75]
[247] {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}
أعاد الفعل، في قوله: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ} للدلالة على أن كلامه هذا ليس من بقية كلامه الأول، بل هو حديث آخر متأخر عنه: وذلك أنه بعد أن حذرهم عواقب الحكومة الملكية، وحذرهم التولي عن القتال، تكلم معهم كلاما آخر في وقت آخر.
وتأكيد الخبر بإن: إيذان بأن من شأن هذا الخبر أن يتلقى بالاستغراب والشك، كما أنبأ عنه قولهم: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا}.
ووقع في سفر صمويل، في الإصحاح التاسع، أنه لما صمم بنو إسرائيل في سؤالهم أن يعين لهم ملكا، صلى لله تعالى فأوحى الله إليه: أن أجبهم إلى كل ما طلبوه، فأجابهم وقال لهم: اذهبوا إلى مدنكم، ثم أوحى الله إليه صفة الملك الذي سيعينه لهم، وأنه لقيه رجل من بنيامين اسمه شاول بن قيس، فوجد فيه الصفة: وهي أنه أصول القوم، ومسحه صمويل ملكا على إسرائيل، إذ صب على رأسه زيتا، وقبله وجمع بني إسرائيل، بعد أيام، في بلد المصفاة، وأحضره، وعينه لهم ملكا، وذلك سنة 1095 قبل المسيح.
وهذا الملك هو الذي سمي في الآية "طَالُوتَ" وهو "شاول" وطالوت لقبه، وهو وزن اسم مصدر: من الطول، على وزن فعلوت مثل جبروت وملكوت ورهبوت ورغبوت ورحموت، ومنه طاغوت أصله طغيوت فوقع فيه قلب مكاني، وطالوت وصف به للمبالغة في طول قامته، ولعله جعل لقبا له في القرآن للإشارة إلى الصفة التي عرف بها لصمويل،

في الوحي الذي أوحى الله إليه، كما تقدم، ولمراعاة التنظير بينه وبين جالوت غريمه في الحرب، أو كان ذلك لقباله في قومه قبل أن يؤتى الملك، وإنما يلقب بأمثال هذا اللقب، من كان من العموم. ووزن فعلوت وزن نادر في العربية ولعله من بقايا العربية القديمة السامية، وهذا هو الذي يؤذن به منعه من الصرف، فإن منعه من الصرف لا علة له إلا العلمية والعجمة، وجزم الراغب بأنه اسم عجمي ولم يذكر في كتب اللغة لذلك ولعله عومل معاملة الاسم العجمي لما جعل علما على هذا العجمي في العربية، فعجمته عارضة وليس هو عجميا بالأصالة، لأنه لم يعرف هذا الاسم في لغة العبرانيين كداوود وشاوول، ويجوز أن يكون منعه من الصرف لمصيره بالإبدال إلى شبه وزن فاعول، ووزن فاعول في الأعلام عجمي، مثل هاروت وماروت وشاوول وداوود، ولذلك منعوا قابوس من الصرف، ولم يعتدوا باشتقاقه من القبس، وكأن عدول القرآن عن ذكره باسمه شاول لثقل هذا اللفظ وخفة طالوت.
وأنى في قوله: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا} بمعنى كيف، وهو استفهام مستعمل في التعجيب، تعجبوا من جعل مثله ملكا، وكان رجلا فلاحا من بيت حقير، إلا أنه كان شجاعا، وكان أطول القوم، ولما اختاره صمويل لذلك، فتح الله عليه بالحكمة، وتنبأ نبوءات كثيرة، ورضيت به بعض إسرائيل، وأباه بعضهم، ففي سفر صمويل: أن الذين لم يرضوا به هم بنو بليعال والقرآن ذكر أن بني إسرائيل قالوا: أنى يكون له الملك علينا، وهو الحق؛ لأنهم لا بد أن يكونوا قد ظنوا أن ملكهم سيكون من كبرائهم وقوادهم. والسر في اختيار نبيهم لهم هذا الملك: أنه أراد أن تبقى لهم حالتهم الشورية بقدر الإمكان، فجعل ملكهم من عامتهم لا من سادتهم، لتكون قدمه في الملك غير راسخة، فلا يخشى منه أن يشتد في استعباد أمته، لأن الملوك في ابتداء تأسيس الدول يكونون أقرب إلى الخير، لأنهم لم يعتادوا عظمة الملك ولم ينسوا مساواتهم لأمثالهم، وما يزالون يتوقعون الخلع، ولهذا كانت الخلافة سنة الإسلام. وكانت الوراثة مبدأ الملك في الإسلام: إذ عهد معاوية ابن أبي سفيان لابنه يزيد بالخلافة بعده، والظن به أنه لم يكن يسعه يومئذ إلا ذلك؛ لأن شيعة بني أمية راغبون فيه، ثم كانت قاعدة الوراثة للملك في دول الإسلام وهي من تقاليد الدول من أقدم عصور التاريخ. وهي سنة سيئة ولهذا تجد مؤسسي الدول أفضل ملوك عائلاتهم. وقواد بني إسرائيل لم يتفطنوا لهذه الحكمة لقصر أنظارهم، وإنما نظروا إلى قلة جدته، فتوهموا ذلك مانعا من تمليكه عليهم، ولم يعلموا أن الاعتبار بالخلال النفسانية، وأن الغنى غنى النفس لا وفرة المال وماذا تجدي وفرته إذا لم يكن ينفقه في المصالح،

وقد قال الراجز:
قدني من نصر الخبيبين قدي ... ليس الإمام بالشحيح الملحد
فقولهم: {وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ} جملة حالية، والضمير من المتكلمين، وهم قادة بني إسرائيل وجعلوا الجملة حالا للدلالة على أنهم لما ذكروا أحقيتهم بالملك لم يحتاجوا إلى الاستدلال على ذلك؛ لأن هذا الأمر عندهم مسلم معروف، إذ هم قادة وعرفاء، وشاوول رجل من السوقة، فهذا تسجيل منهم بأرجحيتهم عليه، وقوله: {وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} معطوفة على جملة الحال فهي حال ثانية. وهذا إبداء مانع فيه من ولايته الملك في نظرهم، وهو أنه فقير، وشأن الملك أن يكون ذا مال ليكفي نوائب الأمة فينفق المال في العدد، والعطاء، وإغاثة الملهوف فكيف يستطيع من ليس بذي مال أن يكون ملكا، وإنما قالوا هذا لقصورهم في معرفة سياسة الأمم ونظام الملك؛ فإنهم رأوا الملوك المجاورين لهم في بذخة وسعة، فظنوا ذلك من شروط الملك.ولذا أجايهم نبيهم بقوله {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ} رادا على قولهم: {وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ} فإنهم استندوا إلى اصطفاء الجمهور إياهم فأجابهم بأنه أرجح منهم لأن الله اصطفاه، وبقوله: {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} رادا عليهم قولهم: {وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ}، أي زاده عليكم بسطة في العلم والجسم، فأعلمهم نبيهم أن الصفات المحتاج إليها في سياسة أمر الأمة ترجع إلى أصالة الرأي، وقوة البدن؛ لأنه بالرأي يهتدي لمصالح الأمة، لا سيما في وقت المضائق، وعند تعذر الاستشارة، أو عند خلاف أهل الشورى وبالقوة يستطيع الثبات في مواقع القتال فيكون بثباته ثبات نفوس الجيش،
وقدم النبي في كلامه العلم على القوة لأن وقعه أعظم، قال أبو الطيب:
الرأي قبا شجاعة الشجعان ... هو أول وهي المحل الثاني
فالعلم المراد هنا، هو علم تدبير الحرب وسياسة الأمة، وقيل: هو علم النبوءة، ولا يصح ذلك لأن طالوت لم يكن معدودا من أنبيائهم.
ولم يجيبهم نبيهم عن قوله: {وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} اكتفاء بدلالة اقتصاره على قوله: {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ}؛ فإنه يبسطه العلم وبالنصر يتوافر له المال؛ لأن المال تجلبه الرعية كما قال أرسططاليس، ولأن الملك ولو كان ذا ثروة، فثروته لا تكفي لإقامة أمور المملكة ولهذا لم يكن من شرط ولاة الأمور من الخليفة فما دونه أن يكون ذا سعة، وقد ولي على الأمة أبو بكر وعمر وعلي ولم يكونوا ذوي يسار. وغني الأمة في

بيت مالها ومنه تقوم مصالحها، وأرزاق ولاة أمورها.
والبسطة اسم من البسط وهو السعة والانتشار، فالبسطة الوفرة والقوة من الشيء، وسيجيء كلام عليها عند قوله تعالى: {وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً} [الأعراف:69] في الأعراف.
وقوله: {وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ} يحتمل أن يكون من كلام النبي، فيكون قد رجع بهم إلى التسليم إلى أمر الله، بعد أن بين لهم شيئا من حكمة الله في ذلك. ويحتمل أن يكون تذييلا للقصة من كلام الله تعالى، وكذلك قوله: {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}.
[248] {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}
أراد نبيهم أن يتحداهم بمعجزة تدل على أن الله تعالى اختار لهم شاوول ملكا، فجعل لهم آية تدل على ذلك: وهي أن يأتيهم التابوت، أي تابوت العهد، بعد أن كان في يد الفلسطينيين كما تقدم، وهذا إشارة إلى قصة تيسير الله تعالى لإرجاع التابوت إلى بني إسرائيل بدون قتال: وذلك أن الفلسطينيين أرجعوا التابوت إلى بني إسرائيل في قصة ذكرت في سفر صمويل: حاصلها أن التابوت بقي سبعة أشهر في بلاد فلسطين موضوعا في بيت صنمهم داجون ورأى الفلسطينيون آيات من سقوط صنمهم على وجهه، وانكسار يديه ورأسه، وإصابتهم بالبواسير في أشدود، وتخومها، وسلطت عليهم الجرذان تفسد الزروع، فلما رأوا ذلك استشاروا الكهنة، فأشاروا عليهم بإلهام من الله بإرجاعه إلى إسرائيل لأن إله إسرائيل قد غضب لتابوته وأن يرجعوه مصحوبا بهدية: صزرة خمس بواسير من ذهب، وصورة خمس فيران من ذهب، على عدد مدن الفلسطينيين العظيمة: أشدود، وغزة، واشقلون، وجت، وعفرون. ويوضع التابوت على عجلة جديدة تجرها بقرتان ومعه صندوق به التماثيل الذهبية، ويطلقون البقرتين تذهبان بإلهام إلى أرض إسرائيل، ففعلوا واهتدت البقرتان إلى أن بلغ التابوت والصندوق إلى يد اللاويين في تخم بيت شمس: هكذا وقع في سفر صمويل غير أن ظاهر سياقه أن رجوع التابوت إليهم كان قبل تمليك شاول، وصريح القرآن يخالف ذلك، ويمكن تأويل كلام السفر بما يوافق هذا بأن تحمل الحوادث على غير ترتيبها في الذكر، وهو كثير في كتابهم. والذي يظهر لي أن الفلسطينيين لما علموا اتحاد الإسرائيليين تحت ملك علموا أنهم ما أجمعوا أمرهم إلا لقصد أخذ الثأر

من أعدائهم وتخليص تابوت العهد من أيديهم، فدبروا أن يظهروا إرجاع التابوت بسبب آيات شاهدوها، ظنا منهم أن حدة بني إسرائيل تفل إذا أرجع إليهم التابوت بالكيفية المذكورة، آنفا، ولا يمكن أن يكون هذا الرعب حصل لهم قبل تمليك شاول، وابتداء ظهور الأنتصار به.
والتابوت اسم عجمي معرب فوزنه فاعول، وهذا الوزن قليل في الأسماء العربية، فيدل على أن ما كان على وزنه إنما هو معرب: مثل ناقوس وناموس، واستظهر الزمخشري أن وزنه فعلول بتحريك العين لقلة الأسماء التي فاؤها ولامها حرفان متحدان: مثل سلس وقلق، ومن أجل هذا أثبته الجوهري في مادة توب لا في تبت. والتابوت بمعنى الصندوق المستطيل: وهو صندوق أمر موسى عليه السلام بصنعه صنعه بصلئيل الملهم في صناعة الذهب والفضة والنحاس ونجارة الخشب، فصنعه من خشب السنط وهو شجرة من صنف القرظ وجعل طوله ذراعين ونصفا وعرضه ذراعا ونصفا وارتفاعه ذراعا ونصفا، وغشاه بذهب من داخل ومن خارج، وصنع له إكليلا من ذهب، وسبك له أربع حلق من ذهب على قوائمه الأربع، وجعل له عصوين من خشب مغشاتين بذهب لتدخل في الحلقات لحمل التابوت، وجعل غطاءه من ذهب، وجعل على طريق الغطاء صورة تخيل بها اثنين من الملائكة من ذهب باسطين أجنحتهما فوق الغطاء، وأمر الله موسى أن يضع في هذا التابوت لوحي الشهادة اللذين أعطاه الله إياهما وهي الألواح التي ذكرها الله في قوله: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ} [الأعراف:154].
والسكينة فعيلة بمعنى الاطمئنان والهدوء، وفي حديث السعي إلى الصلاة: "عليكم بالسكينة" وذلك أن من بركة التابوت أنه إذا كان بينهم في حرب أو سلم كانت نفوسهم واثقة بحسن المنقلب، وفيه أيضا كتب موسى عليه السلام، وهي مما تسكن ارؤيتها نفوس الأمة وتطمئن لأحكامها، فالظرفية على الأول مجازية، وعلى الثاني حقيقية، وورد في حديث أسيد حضير إطلاق السكينة على شئ شبه الغمام ينزل من السماء عند قراءة القرآن، فلعلها ملائكة يسمون بالسكينة.
والبقية في الأصل: ما يفضل من شيء بعد انقضاء معظمه، وقد بينت هنا بأنها مما ترك آل موسى وآل هارون، وهي بقايا من آثار الألواح، ومن الثياب التي ألبسها موسى أخاه هارون، حين جعله الكاهن لبني إسرائيل، والحافظ لأمور الدين، وشعائر العبادة

قيل: ومن ذلك عصا موسى. ويجوز أن تكون البقية مجازا عن النفيس من الأشياء؛ لأن الناس إنما يحافظون، على النفائس فتبقى كما قال النابغة:
بقية قدر من قدور توورثت ... لآل الجلاح كابرا بعد كابر
وقد فسر بهذا المعنى قول رويشد الطائي:
إن تذنبوا ثم تأتيني بقيتكم ... فما علي بذنب منكم فوت
أي تأتيني الجماعة الذين ترجعون إليهم في مهامكم، وقريب منه إطلاق التليد على القديم من المال الموروث.
والمراد من آل موسى وآل هارون أهل بيتهما: من أبناء هارون؛ فإنهم عصبة موسى؛ لأن موسى لم يترك أولادا، أو ما تركه آلهما هو آثارهما، فيئول إلى معنى ما ترك موسى وهارون وآلهما، أو أراد مما ترك موسى وهارون فلفظ آل مقحم كما في قوله: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46].
وهارون هو أخو موسى عليهما السلام وهو هارون بن عمران من سبط لاوي ولد قبل أن يأمر فرعون بقتل أطفال بني إسرائيل وهو أكبر من موسى، ولما كلم الله موسى بالرسالة أعلمه بأنه سيشرك معه أخاه هاروف فيكون كالوزير له، وأوحى إلى هاروف أيضا، وكان موسى هو الرسول الأعظم، وكان معظم وحي الله إلى هارون على لسان موسى، وقد جعل الله هارون أول كاهن لبني إسرائيل لما أقام لهم خدمة خيمة العبادة، وجعل الكهانة في نسله، فهم يختصون بأحكام لا تشاركهم فيها بقية الأمة منها تحريم الخمر على الكاهن، ومات هارون سنة ثمان أو سبع وخمسين وأربعمائة وألف قبل المسيح، في جبل هور على تخوم أرض أدوم في مدة التيه في السنة الثالثة من الخروج من مصر.
وقوله: {تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ} حال من "التابوت"، والحمل هنا هو الترحيل كما في قوله تعالى: {قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} [التوبة:92] لأن الراحلة تحمل راكبها؛ ولذلك تسمى حمولة وفي حديث غزوة خيبر: "وكانت الحمر حمولتهم" وقال النابغة:
يخال به راعي الحمولة طائرا
فمعنى حمل الملائكة التابوت هو تسييرهم بإذن الله البقرتين السائرتين بالعجلة التي عليها التابوت إلى محلة بني إسرائيل، من غير أن يسبق لهما إلف بالسير إلى تلك الجهة، هذا هو الملاقي لما في كتب بني إسرائيل.

وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} الإشارة إلى جميع الحالة أي في رجوع التابوت من يد أعدائكم إليكم، بدون قتال، وفيما يشتمل عليه التابوت من آثار موسى عليه السلام، وفي مجيئه من غير سائق. ولا إلف سابق.
[249, 251] {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}
{فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ}
عطف الفاء جملة:"لما قصل"، على جملة: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ} [البقرة:247] لأن بعث الملك، لأجل القتال، يترتب عليه الخروج للقتال الذي سألوا لأجله بعث النبي، وقد حذف بين الجملتين كلام كثير مقدر: وهو الرضا بالملك، ومجيء التابوت، وتجنيد الجنود؛ لأن ذلك مما يدل عليه جملة: فصل طالوت بالجنود.
ومعنى فصل بالجنود: قطع وابتعد بهم، أي تجاوزوا مساكنهم وقراهم التي خرجوا منها وهو فعل متعد: لأن أصله فصل الشيء عن الشيء ثم عدوه إلى الفاعل فقالوا فصل نفسه حتى صار بمعنى انفصل، فحذفوا مفعوله لكثرة الاستعمال، ولذلك تجد مصدره

الفصل بوزن مصدر المتعدى، ولكنهم ربما قالوا فصل فصولا نظرا لحالة قصوره، كما قالوا صده صدا، ثم قالوا صد هو صدا، ثم قالوا صد صدودا. ونظيره في حديث صفة الوحي "أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس فيفصم عني وقد وعيت ما قال أي فيفصل نفسه عني، والمعنى فينفصل عني".
وضمير {قال} راجع إلى "طالوت"، ولا يصح رجوعه إلى نبيهم، لأنه لم يخرج معهم، وإنما أخبر طالوت عن الله تعالى بأنه مبتليهم، مع أنه لم يكن نبيا يوحى إليه: إما استناد الإخبار تلقاه من صموئيل، وإما لأنه اجتهد أن يختبرهم بالشرب من النهر لمصلحة رآها في ذلك، فأخبر عن اجتهاده، إذ هو حكم الله في شرعهم فأسنده إلى الله، وهذا من معنى قول علماء أصول الفقه إن المجتهد يصح له أن يقول فيما ظهر له باجتهاده إنه دين الله أو لأنه في شرعهم أن الله أوجب على الجيش طاعة أميرهم فيما يأمرهم به، وطاعة الملك فيما يراه من مصالحهم، وكان طالوت قد رأى أن يختبر طاعتهم ومقدار صبرهم بهذه البلوى فجعل البلوى من الله؛ إذ قد أمرهم بطاعته بها وعلى كل فتسمية هذا التكليف ابتلاء تقريب للمعنى إلى عقولهم: لأن المقصود إظهار الاعتناء بهذا الحكم، وأن فيه مرضاة الله تعالى على المتمثل، وغضبه على العاصي، وأمثال هذه التقريبات في مخاطبات العموم شائعة، وأكثر كلام كتب بني إسرائيل من هذا القبيل،
والظاهر أن الملك لما علم أنه سائر بهم إلى عدو كثير العدد، قوى العدد أراد أن يختبر قوة يقينهم في نصرة الدين، ومخاطرتهم بأنفسهم، وتحملهم المتاعب، وعزيمة معاكستهم نفوسهم، فقال لهم إنكم ستمرون على نهر، وهو نهر الأردن، فلا تشربوا منه فمن شرب منه فليس مني، ورخص لهم في غرفة يغترفها الواحد بيده يبل بها ريقه، وهذا غاية ما يختبر به طاعة الجيش، فإن السير في الحرب يعطش الجيش، فإن السير في الحرب يعطش الجيش، فإذا وردوا الماء توافرت دواعيهم إلى الشرب منه عطشا وشهوة، ويحتمل أنه أراد إبقاء نشاطهم: لأن المحارب إذا شرب ماء كثيرا بعد التعب، انحلت عراه ومال إلى الراحة، وأثقله الماء. والعرب تعرف ذلك قال طفيل يذكر خيلهم:
فلما شارفت أعلام طي ... وطي في المغار وفي الشعاب
سقيناهن من سهل الأداوي ... فمصطبح على عجل وآبى
يريدأن الذي مارس الحرب مرارا لم يشرب؛ لأنه لا يسأم من الركض والجهد، فإذا كان حاجزا كان أخف له وأسرع، والغر منهم يشرب لجهله لما يراد منه، ولأجل هذا

رخص لهم في اغتراف غرفة واحدة.
والنهر بتحريك الهاء، وبسكونها للتخفيف ونظيره في ذلك شعر وبحر وحجر فالسكون ثابت لجميعها.
وقوله: {فَلَيْسَ مِنِّي} أي فليس متصلا بي ولا علقة بيني وبينه، وأصل من في مثل هذا التركيب للتبعيض، وهو تبعيض مجازي في الاتصال، وقال تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} [آل عمران:28] وقال النابغة:
إذا حاولت في أسد فجورا ... فإني لست منك ولست مني
وسمى بعض النحاة من هذه بالاتصالية. ومعنى قول طالوت ليس مني يحتمل أنه أراد الغضب عليه والبعد المعنوي، ويحتمل أنه أراد أنه يفصله عن الجيش، فلا يكمل الجهاد معه، والظاهر الأول: لقوله: {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} لأنه أراد به إظهار مكانة من ترك الشرب من النهر وولائه وقربه، ولو لم يكن هذا مراده لكان في قوله: {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي} غنية عن قوله: {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} لأنه إذا كان الشارب مبعدا من الجيش فقد علم أن من لم يشرب هو باقي الجيش.
والاستثناء في قوله: {إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} من قوله: {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ} لأنه من الشاربين، وإنما أخره عن هذه الجملة، وأتى به بعد جملة: {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ} ليقع بعد الجملة التي فيها المستثنى منه مع الجملة المؤكدة لها؛ لأن التأكيد شديد الاتصال بالمؤكد، وقد علم أن الاستثناء راجع إلى منطوق الأول ومفهوم الثانية، فإن مفهوم {مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} أن من طعمه ليس منه، ليعلم السامعون أن المغترف غرفة بيده هو كمن لم يشرب منه شيئا، وأنه ليس دون من لم يشرب في الولاء والقرب، وليس هو قسما واسطة. والمقصود من هذا الاستثناء الرخصة للمضطر في بلال ريقه، ولم تذكر كتب اليهود هذا الأمر بترك شرب الماء من النهر حين مرور الجيش في قصة شاول، وإنما ذكرت قريبا منه قال في سفر صمويل: لما ذكر أشد وقعة بين اليهود وأهل فلسطين، "وظنك رجال إسرائيل في ذلك اليوم؛ لأن شاول حلف القوم قائلا ملعون من يأكل خبزا إلى المساء حتى انتقم من أعدائي" وذكر في سفر القضاة في الإصحاح السابع مثل واقعة النهر، في حرب جدعون قاضي إسرائيل للمديانيين، والظاهر أن الواقعة، تكررت لأن مثلها يتكرر فأهملتها كتبهم في أخبار شاول.

وقوله: {لَمْ يَطْعَمْهُ} بمعنى لم يذقه، فهو من الطعم بفتح الطاء، وهو الذوق أي اختبار المطعوم، وكان أصله اختبار طعم الطعام أي ملوحته أو ضدها، أو حلاوته أو ضدها، ثم توسع فيه فأطلق على اختبار المشروب، ويعرف ذلك بالقرينة، قال الحارث بن خالد المخزومي. وقيل العرجي:
فإن شئت حرمت النساء سواكم ... وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا1
فالمعنى لم أذق. فأما أن يطلق الطعم على الشرب أي ابتلاع الماء فلا، لأن الطعم الأكل ولذلك جاء في الآية والبيت منفيا، لأن المراد أنه لم يحصل أقل ما يطلق عليه اسم الذوق، ومن أجل هذا عيروا خالد بن عبد الله القسري لما أخبر وهو على المنبر بخروج المغيرة بن سعيد عليه فقال "أطعموني ماء" إذ لم يعرف في كلام العرب من الإطعام إلا بمعنى الأكل، وأما من يطلب الشراب فإنما يقول اسقوني لأنه لا يقال طعم بمعنى شرب، وإنما هو بمعنى أكل2.
والغرفة بفتح الغين في قراءة نافع، وابن كثير، وابن عامر وأبي جعفر المرة من الغرف وهو أخذ الماء باليد، وقرأه حمزة، وعاصم، والكسائي، ويعقوب، وخلف، بضم الغين،وهو المقدار المغروف من الماء
ووجه تقييده بقوله: {بِيَدِهِ} مع أن الغرف لا يكون إلا باليد لدفع توهم أن يكون المراد تقدير مقدار الماء المشروب، فيتناوله بعضهم كرها، فربما زاد على المقدار فجعلت الرخصة الأخذ باليد.
وقد دل قوله: {فَشَرِبُوا مِنْهُ} على قلة صبرهم، وأنهم ليسوا بأهل لمزاولة الحروب، ولذلك لم يلبثوا أن صرحوا بعد مجاوزة النهر فقالوا: {لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} فيحتمل أن ذلك قالوه لما رأوا جنود الأعداء، ويحتمل أنهم كانوا يعلمون قوة العدو، وكانوا يسرون الخوف، فلما اقترب الجيشان، لم يستطيعوا كتمان ما بهم.
ـــــــ
1 هو شاعر جاهلي قتل يوم بدر والنقاخ بضم النون وبخاء معجمة هو الماء الصافي والبرد قيل هو النوم والظاهر أنه أراد الماء البارد والخطاب لليلى بنت أبي مرة بن عروة بن مسعود.
2 لدلالته على الهلع واضطراب الفؤاد فيعتريه العطش وقد هجاه بعضهم لذلك فقال:
بل المنابر من خوف ومن وهل ... واستطعم الماء لما جد في الهرب
فأشار إلى هجائه بأنه طلب الماء وبأنه استطعمه أي سماه طعاما.

وفي الآية انتقال بديع إلى ذكر جند جالوت، والتصريح باسمه، وهو قائد من قواد الفلسطينيين اسمه في كتب اليهود جليات كان طوله ستة أذرع وشبرا، وكان مسلحا مدرعا، وكان لا يستطيع أن يبارزه أحد من بني إسرائيل، فكان إذا خرج للصف عرض عليهم مبارزته وعيرهم بجبنهم.
وقوله: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ} الآية، أي الذين لا يحبون الحياة ويرجون الشهادة في سبيل الله فلقاء الله هنا كناية عن الموت في مرضاة الله شهادة وفي الحديث من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه فالظن على بابه. وكم في قوله: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ} خبرية لا محالة إذ لا موقع للاستفهام فإنهم قصدوا بقولهم هذا تثبيت أنفسهم وأنفس رفاقهم، ولذلك دعوا إلى ما به النصر وهو الصبر والمتوكل فقالوا: {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}.
والفئة الجماعة من الناس مشتقة من الفيء وهو الرجوع، لأن بعضهم يرجع إلى بعض، ومنه سميت مؤخرة الجيش فئة، لأن الجيش يفيء إليها.
وقوله: {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً} وهذا دعاؤهم حين اللقاء بطلب الصبر من الله، وعبروا عن إلهامهم إلى الصبر بالإفراغ استعارة لقوة الصبر والكثرة يتعاوران الألفاظ الدالة عليهما، كقول أبي كبير الهذلي:
كثير الهوى شتى النوى والمسالك
وقد تقدم نظيره، فاستعير الإفراغ هنا للكثرة مع التعميم والإحاطة وتثبيت الأقدام استعارة لعدم الفرار شبه الفرار والخوف بزلق القدم، فشبه عدمه بثبات القدم في المأزق.
وقد أشارت الآية في قوله: {فَهَزَمُوهُمْ} إلخ إلى انتصار بني إسرائيل على الفلسطينيين وهو انتصار عظيم كان به نجاح بني إسرائيل في فلسطين وبلاد العمالقة، مع قلة عددهم فقد قال مؤرخوهم إن طالوت لما خرج لحرب الفلسطينيين جمع جيشا فيه ثلاثة آلاف رجل، فلما رأوا كثرة الفلسطينيين حصل لهم ضنك شديد واختبأ معظم الجيش في جبل افرايم في المغارات والغياض والآبار، ولم يعبروا الأردن، ووجم طالوت واستخار صموئيل، وخرج للقتال فلما اجتاز نهر الأردن عد الجيش الذي معه فلم يجد إلا نحو ستمائة رجل، ثم وقعت مقاتلات كان النصر فيها لبني إسراءيل، وتشجع الذين جبنوا واختبأوا في المغارات وغيرها فخرجوا وراء الفلسطينيين وغنموا غنيمة كثيرة، وفي تلك الأيام من غير بيان في كتب اليهود لمقدار المدد بين الحوادث ولا تنصيص على المتقدم

منها والمتأخر ومع انتقالات في القصص غير متناسبة،وظهر داود بن يسي اليهودي إذا أوحى الله إلى صمويل أن يذهب إلى بيت يسي في بيت لحم ويمسح اصغر ابناء يسي ليكون ملكا على إسرائيل بعد حين، وساق الله داود إلى شاول "طالوت" بتقدير عجيب فخطى عند شاول، وكان داود من قبل راعي غنم أبيه، وكان ذا شجاعة ونشاطوحسن سمت، وله نبوغ في رمي المقلاع، فكان ذات يوم التقى الفلسطينين مع جيش طالوت وخرج زعيم من زعماء فلسطين اسمه جليات كما تقدم، فلم يستطع أحد مبارزته فانبرى له داود ورماه بالمقلاع فأصا بالحجر جبهته وأسقطه إلى الأرض واعتلاه داود واخترط سيفه وقطع رأسه، فذهب به إلى شاول وانهزم الفلسطينيين، وزوج شاول ابنته المسماة ميكال من داود، وصار داود بعد حين ملكا عوض شاول، ثم آتاه الله النبوة فصار ملكا نبيا، وعلمه مما يشاء. ويأتي ذكر داود عند قوله تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} في سورة الأنعام[83].
{وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}
ذيلت هذه الآية العظيمة، كل الوقائع العجيبة، أشارت بها الآيات السالفة: لتدفع عن السامع المتبصر ما يخامره من تطلب الحكمة في حدثان هذه الوقائع وأمثالها في هذا العالم ولكون مضمون هذه الآية عبرة من عبر الأكوان، وحكمة من حكم التاريخ، ونظم العمران التي لم يهتد إليها أحد قبل نزول هذه الآية، وقبل إدراك ما في مطاويها، عطفت على العبر الماضية كما عطف قوله: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ} [البقرة:247] وما بعده من رؤوس الآي. وعدل عن التعارف في أمثالها من ترك العطف، وسلوك سبيل الاستئناف. وقرأ نافع، وأبو جعفر، ويعقوب "ولولا دفاع الله الناس" بصيغة المفاعلة، وقرأه الجمهور {دفع} بصيغة المجرد.
والدفاع مصدر دافع الذي هو مبالغة في دفع لا للمفاعلة، كقول موسى جابر الجنفي:
لا أشتهي يا قوم إلا كارها ... باب الأمير ولا دفاع الحاجب
وإضافته إلى الله مجاز عقلي: كما هو في قوله: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38] أي يدفع لأن الذي يدفع حقيقة هو الذي يباشر الدفع في متعارف الناس وإنما

أسند إلى الله لأنه الذي قدره وقدر أسبابه. ولذلك قال: {بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} فجعل سبب الدفاع بعضهم وهو من باب: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17]. وأصل معنى الدفع الضرب باليد للإقصاء عن المرام. قال:
فدفعتها فتدافعت
وهو ذب عن مصلحة الدافع ومعنى الآية: أنه لولا وقوع دفع بعض الناس بعضا آخر بتكوين الله وإبداعه قوة الدفع وبواعثه غي الدافع، لفسدت الأرض: أي من على الأرض، واختل نظام ما عليها: ذلك أن الله تعالى لما خلق الموجودات التي على الأرض من أجناس، وأنواع، وأصناف، خلقها قابلة للاضمحلال، وأودع في أفرادها سننا دلت على أن مراد الله بقاؤها إلى أمد أراده، ولذلك نجد قانون الخلفية منبثا في جميع أنواع الموجودات فما من نوع إلا وفي أفراده قوة إيجاد أمثالها لتكون تلك الأمثال أخلافا عن الأفراد عند اضمحلالها، وهذه القوة هي المعبر عنها بالتناسل في الحيوان، والبذر في النبت، والنضح في المعادن، والتولد في العناصر الكيماوية. ووجود هذه القوة في جميع الموجودات أول دليل على أن موجدها قد أراد بقاء الأنواع، كما أراد اضمحلال الأفراد عند آجال معينة، لاختلال أو انعدام صلاحيتها، ونعلم من هذا أن الله خالق هذه الأكوان لا يحب فسادها، وقد تقدم لنا تفسير قوله: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205]
ثم إن الله تعالى كما أودع في جميع الكائنات إدراكات تنساق بها، بدون تأمل أو بتأمل، إلى ما فيه صلاحها وبقاؤها، كانسياق الوليد لالتهام الثدي، وأطفال الحيوان إلى الأثداء والمراعي، ثم تتوسع هذه الإدراكات، فيتفرع عنها كل ما فيه جلب النافع الملائم عن بصيرة واعتياد. ويسمى ذلك بالقوة الشاهية. وأودع أيضا في جميع الكائنات إدراكات تندفع بها إلى الذب عن أنفسها، ودفع العوادي عنها، عن غير نصيرة، كتعريض اليد بين الهاجم وبين الوجه، وتعريض البقرة رأسها بمجرد الشعور بما يهجم عليها من غير تأمل في تفوق قوة الهاجم على قوة المدافع ثم تتوسع هاته الإدراكات فتتفرع إلى كل ما فيه دفع المنافر من ابتداء بإهلاك من يتوقع منه الضر، ومن طلب الكن، وأتخاذ السلاح، ومقاومة العدو عند توقع الهلاك، ولو بآخر ما في القوة وهو القوة الغاضبة ولهذا تزيد قوة

المدافعة اشتدادا عند زيادة توقع الأخطار حتى في الحيوان. وما جعله الله في كل أنواع الموجودات من أسباب الأذى لمربد السوء به أدل دليل على أن الله خلقها لإرادة بقائها، وقد عوض الإنسان عما وهبه إلى الحيوان العقل والفكرة في التحيل على النجاة ممن يريد به ضررا، وعلى إيقاع الضر بمن يريده به قبل أن يقصده به، وهو المعبر عنه بالاستعداد.
ثم إنه تعالى جعل لكل نوع من الأنواع، أو فرد من الأفراد خصائص فيها منافع لغيره ولنفسه ليحرص كل على بقاء الآخر. فهذا ناموس عام. وجعل الإنسان بما أودعه من العقل هو المهيمن على بقية الأنواع. وجعل له العلم بما في الأنواع من الخصائص، وبما في أفراد نوعه من الفوائد. فخلق الله تعالى أسباب الدفاع بمنزلة دفع من الله يدفع مريد الضر بوسائل يستعملها المراد إضراره، ولولا هذه الوسائل التي خولها الله تعالى أفراد الأنواع، لاشتد طمع القوى في إهلاك الضعيف، ولاشتدت جراءة من يجلب النفع إلى نفسه على منافع يجدها في غيره، فابتزها منه، ولأفرطت أفراد كل نوع في جلب النافع الملائم إلى أنفسها بسلب النافع الملائم لغيرها، مما هو له، ولتناسى صاحب الحاجة، حين الاحتياج، ما في بقاء غيره من المنفعة له أيضا. وهكذا يتسلط كل ذي شهوة على غيره، وكل قوي على ضعيفه، فيهلك القوي الضعيف، ويهلك الأقوى القوي، وتذهب الأفراد تباعا، والأنواع كذلك حتى لا يبقى إلا أقوى الأفراد من أقوى الأنواع، وذلك شيء قليل، حتى إذا بقي أعوزته حاجات كثيرة لا يجدها في نفسه، وكان يجدها في غيره: من أفراد نوعه، كحاجة أفراد البشر بعضهم إلى بعض، أو من أنواع أخر، كحاجة الإنسان إلى البقرة، فيذهب هدرا.
ولما كان نوع الإنساع هو المهيمن على بقية موجودات الأرض وهو الذي تظهر في أفراده جميع التطورات والمساعي، خصته الآية بالكلام فقالت: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} إذ جعل الله في الإنسان القوة الشاهية لبقائه وبقاء نوعه، وجعل فيه القوة الغاضبة لرد المفرط في طلب النافع لنفسه، وفي ذلك استبقاء بقية الأنواع؛ لأن الإنسان يذب عنها في بقائها من منافع له. وبهذا الدفاع حصلت سلامة القوي، وهو ظاهر، وسلامة الضعيف أيضا لأن القوي إذا وجد التعب والمكدرات في جلب النافع، سئم ذلك، واقتصر على ما تدعو إليه الضرورة. وإنما كان الحاصل هو الفساد، ولولا الدفاع، دون الصلاح، لأن الفساد كثيرا ما تندفع إليه القوة الشاهية بما يوجد في أكثر المفاسد من اللذات العاجلة لقصيرة الزمن، لأن في كثير من النفوس أو أكثرها

الميل إلى مفاسد كثيرة، ولأن طبع النفوس الشريرة ألا تراعي مضرة غيرها، بخلاف النفوس الصالحة، فالنفوس الشريرة أعمد إلى انتهاك حرمات غيرها، ولأن الأعمال الفاسدة أسرع في حصول آثارها، وانتشارها، فالقليل منها يأتي على الكثير من الصالحات، فلا جرم لولا دفاع الناس بأن يدافع صالحهم المفسدين، لأسرع ذلك في فساد حالهم، ولعم الفساد أمورهم في أسرع وقت.
وأعظم مظاهر هذا الدفاع هو الحروب؛ فبالحرب الحائرة يطلب المحارب غصب منافع غيره، وبالحرب العادلة ينتصف المحق من المبطل، ولأجلها تتألف العصبيات والدعوات إلى الحق، والإنحاء على الظالمين، وهزم الكافرين.
ثم إن دفاع الناس بعضهم بعضا يصد المفسد عن محاولة الفساد، ونفس شعور المفسد يتأهب غيره لدفاعه بصده عن اقتحام مفاسد جمة.
ومعنى فساد الأرض: إما فساد الجامعة البشرية. كما دل عليه تعليق الدفاع بالناس، أي لفسد أهل الأرض، وإما فساد جميع ما يقبل الفساد، فيكون في الآية احتباك، والتقدير: ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض وبقية الموجودات بعضها ببعض لفسدت الأرض: أي من على الأرض ولفسد الناس.
والآية مسوقة مساق الامتنان، فلذلك قال تعالى: {لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} لأنا لا نحب فساد الأرض: إذ في فسادها بمعنى فساد ما عليها اختلال نظامنا، وذهاب أسباب سعادتنا، ولذلك عقبه بقوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} فهو استدراك مما تضمنته "لولا" من تقدير انتفاء الدفاع؛ لأن أصل "لولا" "لو" مع "لا" النافية: أي لو كان انتفاء الدفاع موجودا لفسدت الأرض وهذا الاستدراك في هذه الآية أدل دليل على تركيب "لولا" من "لو" و"لا": إذ لا يتم الاستدراك على قوله: {لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} لأن فساد الأرض غير واقع بعد فرض وجود الدفاع، إن قلنا "لولا" حرف امتناع لوجود.
وعلق الفضل بالعالمين كلهم لأن هذه المنة لا تختص.
[252] {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ}
الإشارة إلى ما تضمنته القصص الماضية وما فيها من العبر، ولكن الحكم العالية في قوله: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} [البقرة:251]، وقد نزلها منزلة المشاهد لوضوحها وبيانها وجعلت آيات لأنها دلائل على عظم تصرف الله تعالى وعلى سعة علمه.

وقوله: {وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم: تنويها بشأنه، وتثبيتا لقلبه، وتعريضا بالمنكرين رسالته. وتأكيد الجملة بإن للاهتمام بهذا الخبر، وجيء بقوله: {مِنَ الْمُرْسَلِينَ} دون أن يقول: "وإنك لرسول الله"، للرد على المنكرين بتذكيرهم أنه ما كان بدعا من الرسل، وأنه أرسله كما أرسل من قبله، وليس في حالة ما ينقص عن أحوالهم.
[253] {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}
{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ}
موقع هذه الآية موقع الفذلكة لما قبلها والمقدمة لما بعدها,فأما الأول فإن الله تعالى لما أنبأ بإختبار الرسل إبراهيم وموسى وعيسى وما عرض لهم مع أقوامهم وختم ذلك بقوله: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ} [البقرة:252] جمع ذلك كله في قوله: {تِلْكَ الرُّسُلُ} لفتا إلى العبر التي في خلال ذلك كله ولما أنهى ذلك كله عقبه بقوله: {وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [البقرة:252] تذكيرا بأن إعلامه بأخبار الأمم والرسل آبة على صدق رسالته. إذ ما كان لمثله قبل بعلم ذلك لولا وحي الله إليه وفي هذا كله حجة على المشركين وعلى أهل الكتاب الذين جحدوا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فموقع اسم الإشارة مثل موقعه في قول النابغة:
بنى عمه الدنيا وعمرو بن عامر ... أولئك قوم بأسهم غير كاذب
والإشارة إلى جماعة المرسلين في قوله: {وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} وجيء بالإشارة لما فيها من الدلالة على الاستحضار حتى كأن جماعة الرسل حاضرة للسامع بعد ما مر من ذكر عجيب أحوال بعضهم وما أعقبه من ذكرهم على سبيل الإجمال.
وأما الثاني فلأنه لما أفيض القول في القتال وفي الحث على الجهاد والاعتبار بقتال الأمم الماضية عقب ذلك بأنه لو شاء الله ما اختلف الناس في أمر الدين من بعد ما جاءتهم البينات ولكنهم أساءوا الفهم فجحدوا البينات فأفضى بهم سود فهمهم إلى اشتطاط الخلاف بينهم حتى أفضى إلى الاقتتال. فموقع اسم الإشارة على هذا الاعتبار كموقع

ضمير الشأن أي هي قصة الرسل وأممهم فضلنا بعض الرسل على بعض فحسدت بعض الأمم أتباع بعض الرسل فكذب اليهود عيسى ومحمدا عليهما الصلاة والسلام وكذب النصارى محمدا صلى الله عليه وسلم.
وقرن اسم الإشارة بكاف البعد تنويها بمراتبهم كقوله: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة:2] .
واسم الإشارة مبتدأ والرسل خبر، وليس الرسل بدلا لأن الإخبار عن الجماعة بأنها الرسل أوقع في استحضار الجماعة العجيب شأنهم الباهر خبرهم، وجملة {فضلنا} حال.
والمقصود من هذه الآية تمجيد سمعة الرسل عليهم السلام، وتعليم المسلمين أن هاته الفئة الطيبة مع عظيم شأنها قد فضل الله بعضها على بعض، وأسباب التفضيل لا يعلمها إلا الله تعالى، غير أنها ترجع إلى ما جرى على أيديهم من الخيرات المصلحة للبشر ومن نصر الحق، وما لاقوه من الأذى في سبيل ذلك وما أيدوا به من الشرائع العظيمة المتفاوتة في هدى البشر، وفي عموم ذلك الهدى ودوامه، وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "لأن يهدي الله بك رجلا خير لك مما طلعت عليه الشمس" فما بالك بمن هدى الله بهم أمما في أزمان متعاقبة، ومن أجل ذلك كان محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الرسل ويتضمن الكلام ثناء عليهم وتسلية للرسل عليهم السلام فيما لقي من قومه.
وقد خص الله من جملة الرسل بعضا بصفات يتعين بها المقصود منهم، أو بذكر اسمه، فذكر ثلاثة إذ قال: منهم من كلم الله، وهذا موسى عليه السلام، لاشتهاره بهذه الخصلة العظيمة في القرآن، وذكر عيسى عليه السلام، ووسط بينهما الإيماء إلى محمد صلى الله عليه وسلم بوصفه، بقوله: {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ}
وقوله: {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} يتعين أن يكون المراد من البعض هنا واحدا من الرسل معينا لا طائفة، وتكون الدرجات مراتب من الفضيلة سابتة لذلك الواحد : لأنه لو كان المراد من البعض جماعة من الرسل مجملا، ومن الدرجات درجات بينهم لصار الكلام تكرارا مع قوله فضلنا بعضهم على بعض، ولأنه لو أريد بعض فضل على بعض لقال، ورفع بعضهم فوق بعض درجات كما قال في الآية الأخرى: {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الأنعام:165]
وعليه فالعدول من التصريح بالاسم أو بالوصف المشهور به لقصد دفع الاحتشام عن المبلغ الذي هو المقصود من هذا الوصف وهو محمد صلى الله عليه وسلم والعرب تعبر بالبعض عن

النفس كما في كول لبيد:
تراك أمكنة لا أرضها ... أو يعتلق بعض النفوس حمامها
أراد نفسه وعن المخاطب، كقولي أبي الطيب:
إذا كان بعض الناس سيفا لدولة ... ففي الناس بوقات لها وطبول
والذي يعين المراد في هذا كله هو القرينة كانطباق الخبر أو الوصف على أحد كقول طرفة:
إذا القوم قالوا ما الفتى خلت أنني ... عنيت فلم أكسل ولم أتبلد
وقد جاء على نحو هذه الآية قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} [الاسراء: 54-55]عقب قوله: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً} إلى أن قال: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} إلى قوله: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} [الاسراء:55]
وهذا إعلام بأن بعض الرسل أفضل من بعض على وجه الإجمال وعدم تعيين الفاضل من المفضول:ذلك أن كل فريق اشتركوا في صفة خير لا يخلون من أن يكون بعضهم أفضل من بعضبما للبعض من صفات الكمال الزائدة على الصفة المشتركة بينهم،وفي تمييز صفات التفاضل غموض،وتطرق لتوقع الخطأ وعروض وليس ذلك بسهل على العقول المعرضة للغفلة والخطأ. فإذا كان التفضيل قد أنبأ به رب الجميع، ومن إليه التفضيل، فليس من قدر الناس أن يتصدوا لوضع الرسل في مراتبهم ، وحسبهم الوقوف عندما ينبئهم الله في كتابه أو على لسان رسوله.
وهذا مورد الحديث الصحيح: "لا تفضلوا بين الأنبياء" يعني به النهي عن التفضيل التفصيلي، بخلاف التفضيل على سبيل الإجمال، كما نقول: الرسل أفضل من الأنبياء الذين ليسوا رسلا.وقد ثبت أن محمدا صلى الله عليه وسلم أفضل الرسل لما تظاهر من آيات تفضيلهوتفضيل الدين الذي جاء به وتفضيل الكتاب الذي أنزل عليه. وهي متقارنة الدلالة تنصيصا وظهورا. إلا أن كثرتها تحصل اليقين بمجموع معانيها عملا بقائدة كثرة الظواهر تفيد القطع.وأعظمها آية: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} [آل عمران:81]الآية.

وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يقولن أحدكم أنا خير من يونس بن متى" يعني بقوله: "أنا" نفسه على أرجح الاحتمالين، وقوله: "لا تفضلوني على موسى" فذلك صدر قبل أن ينبئه الله بأنه أفضل الخلق عنده.
وهذه الدرجات كثيرة عرفنا منها: عموم الرسالة لكافة الناس،ودوامها طول الدهر،وختمها للرسالات، والتأييد بالمعجزة العظيمة التي لا تلتبس بالسحر والشعوذة، وبدوام تلك المعجزة، وإمكان كل من يؤهل نفسه لإدراك الإعجاز وبإبتناء شريعتهعلى رعي المصالح ودرء المفاسد والبلوغ بالنفوس إلى أوج الكمال، وبتيسير إدانة معانديه له وتمليكه أرضهم وديارهم وأموالهم في زمن قصير،وبجعل نقل معجزته متواترا لا يجهلها إلا مكابر، وبمشاهدة أمته لقبره الشريف، وإمكان اقترابهم منه وائتناسهم به صلى الله عليه وسلم.
وقد عطف ما دل على نبيئنا على ما دل على موسى –عليهما السلام- لشدة الشبه بين شريعتيهما،لأن شريعة موسى عليه السلام أوسع الشرائع، مما قبلها، بخلاف شريعة عيسى عليه السلام.
وتكليم الله موسى هو ما أوحاه إليه بدون واسطة جبريل، بأن أسمعه كلاما أيقن بأنه صادر بتكوين الله، بأن خلق الله أصواتا من لغة موسى تضمنت أصول الشريعة، وسيجيء بيان ذلك عند قوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء:164]
وقوله: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} البينات هي المعجزات الظاهرة البينة، وروح القدس هو جبريل، فإن الروح هنا بمعنى الملك الخاص كقوله: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} [القدر:4]
والقدس بضم القاف وبضم الدال عند أهل الحجاز وسكونها عند بني تميم بمعنى الخلوص والنزاهة، فإضافة روح إلى القدس، من إضافة الموصوف إلى ىالصفة، ولذلك يقال الروح القدس، وقيل القدس اسم الله كالقدوس فإضافة روح إليه إضافة أصلية، أي روح من ملائكة الله.
وروحج القدس هو جبريل قال تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل:102] وفي الحديث: "إن روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستكمل أجلها" وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحسان: "اهجمهم ومعك روح القدس"
وإنما وصف عيسى بن مريم بهذين مع أن سائر الرسل أيدوا بالبينات وبروح القدس، للرد

على اليهود الذين أنكروا رسالته ومعجزاته،وللرد على النصارى الذين غلوا فزعكوا ألوهيته، ولأجل هذا ذكر معه اسم أمه-مهما ذكرللتنبيه على أن ابن الإنسان لا يكون إلاها، وعلى أن مريم أمة الله تعالى لا صاحبة لأن العرب لا تذكر أسماء نسائها وإنما تكنى، فيقولون ربة البيت،والأهل، ونحو ذلك ولا يذكرون أسماء النساء إلا في الغزل، أو أسماء الإماء.
{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}
اعتراض بين الفذلكة- المستفادة من جملة تلك الرسل إلى آخرها و بين جملة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:254] فالواو اعتراضية: فإن ما جرى من الأمر بالقتال ومن الأمثال التي بينت خصال الشجاعة والجبن وآثارهما، والمقصود منه تشريعا وتمثيلا قتال أهل الإيمان لأهل الكفر لإعلاء كلمة الله ونصر الحق على الباطل وبث الهدى وإزهاق الضلال. بين الله بهذا الاعتراض حجة الذين يقاتلون في سبيل الله على الذين كفروا: بأن الكافرين هم الظالمون إذ اختلفوا على ما جاءتهم به الرسل، ولو اتبعوا الحق لسلموا وسالموا.
ثم يجوز أن يكون الضمير المضاف إليه في قوله: {مِنْ بَعْدِهِمْ} مرادا به جملة الرسل أي ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعد أولئك الرسل من الأمم المختلفة في العقائد مثل اقتتال اليهود والنصارى في اليمن في قصة أصحاب الأخدود، ومقاتلة الفلسطينيين لبني إسرائيل انتصارا لأصنامهم، ومقاتلة الحبشة لمشركي العرب انتصارا لبيعة القليس التي بناها الحبشة في اليمن، والأمم الذين كانوا في زمن الإسلام وناووه وقاتلوا المسلمين أهله وهم المشركون الذين يزعمون أنهم على ملة إبراهيم واليهود والنصارى، ويكون المراد بالبينات دلائل صدق محمد صلى الله عليه وسلم، فتكون الآية بانحاء على الذين عاندوا النبي وناووا المسلمين وقاتلوهم، وتكون الآية على هذا ظاهرة التفرع على قوله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا} [البقرة:244] إلخ.
ويجوز أن يكون ضمير {مِنْ بَعْدِهِمْ} ضمير الرسل على إرادة التوزيع، أي الذين من بعد كل رسول من الرسل، فيكون مفيدا أن أمة كل رسول من الرسل اختلفوا واقتتلوا اختلافا واقتتالا نشأ من تكفير بعضهم بعضا كما وقع لبني إسرائيل في عصور كثيرة بلغت فيها طوائف منهم في الخروج من الدين إلى حد عبادة الأوثان، وكما وقع للنصارى في

عصور بلغ فيها اختلافهم إلى حد أن كفر بعضهم بعضا، فتقاتلت اليهود غير مرة قتالا جرى بين مملكة يهوذا ومملكة إسرائيل، وتقاتلت النصارى كذلك من جراء الخلاف بين اليعاقبة والملكية قبل الإسلام، وأشهر مقاتلات النصارى الحروب العظيمة التي نشأت في القرن السادس عشر من التاريخ المسيحي بين أشياع الكاثوليك وبين أشياع مذهب لوثير الراهب الجرماني الذي دعا الناس إلى إصلاح المسيحية واعتبار أتباع الكنيسة الكاثوليكية كفارا لإدعائهم ألوهية المسيح، فعظمت بذلك حروب بين فرنسا وأسبانيا وجرمانيا وانكلترا وغيرها من دول أوربا.
والمقصود تحذير المسلمين من الوقوع في مثل ما وقع فيه أولئك وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك تحذيرا متواترا بقوله: في خطبة حجة الوداع: "فلا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض" يحذرهم ما يقع من حروب الردة وحروب الخوارج بدعوى التكفير، وهذه الوصية من دلائل النبوة العظيمة.
وورد في الصحيح" قوله: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار" قيل يا رسول الله، هذا القاتل فما بال المقتول، قال: "أما إنه كان حريصا على قتل أخيه"، وذلك يفسر بعضه بعضا أنه القتال على اختلاف العقيدة.
والمراد بالبينات على هذا الاحتمال أدلة الشريعة الواضحة التي تفرق بين متبع الشريعة ومعاندها والتي لا تقبل خطأ الفهم والتأويل لو لم يكن دأبهم المكابرة ودحض الدين لأجل عرض الدنيا، والمعنى أن الله شاع اقتتالهم فاقتتلوا، وشاء اختلافهم فاختلفوا والمشيئة هنا مشيئة تكوين وتقدير لا مشيئة الرضا لأن الكلام مسوق مساق التمني للجواب والتحسير على امتناعه وانتفائه المفاد بلو كقول طرفة:
فلو شاء ربي كنت قيس بنخالد ... ولو شاء ربي كنت عمرو بن مرثد
وقوله: {ولمن اختلفوا} استدراك على ما تضمنه جواب لو شاء الله:وهو ما اقتتل،لكن ذكر في الاستدراك لازم الضد لجواب لو وهو الاختلاف لأنهم لما اختلفوا اقتتلوا ولو لم يختلفوا لما اقتتلوا. وإنما جيء بلازم الضد في الاستدراك للإيماء إلى سبب الاقتتال ليظهر أن معنى نفي مشيئة الله تركهم الاقتتال، هو أنه خلق داعية الاختلاف فيهم، فبتلك الداعية اختلفوا فجرهم الخلاف إلى أقصاه وهو الخلاف في العقيدة، فمنهم من آمن ومنهم من كفر’ فاقتتلوا لأن لزوم الاقتتال لهذه الحالة أمر عرفي شائع، فإن كان المراد اختلاف أمة الرسول الواحد فالإيمان والكفر في الآية عبارة عن خطأ أهل الدين فيه

إلى الحد الذي يفضي ببعضهم إلى الكفربه،وإن كان المراد اختلاف أمم الرسل كل للأخرى كما في قوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ} [البقرة:113] فالإيمان والكفر في الآية ظاهر، أي فمنهم من آمن بالرسول الخاتم فاتبعه ومنهم من كفر به فعاداه،فاقتتل الفريقان.
وأيا ما كان المراد من الوجهين فإن قوله: {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ} ينادي على أن الاختلاف الذي لا يبلغ بالمختلفين إلى كفر بعضهم بما آمن به الآخر لا يبلغ بالمختلفين إلى التقاتل، لأن فيما أقام الله لهم من بينات الشرع ما فيه كفاية الفصل بين المختلفين في اختلافهم إذا لم تغلب عليهم المكابرة والهوى أو لم يعمهم سوء الفهم وقلة الهدي.
لا جرم أن الله تعالى جعل في خلقة العقول اختلاف الميول والأفهام، وجعل في تفاوت الذكاء وأصالة الرأي أسبابا لاختلاف قواعد العلوم والمذاهب، فأسباب الاختلاف إذن مركوزة في الطباع، ولهذا قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} ثم قال: {وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا} فصار المعنى لو شاء الله ما اختلفوا، لكن الخلاف مركوز في الجبلة. بيد أن الله تعالى قد جعل - أيضا- في العقول أصولا ضرورية قطعية أو ظنية ظنا قريبا من القطع به تستطيع العقول أن تعين الحق من مختلف الآراء، فما صرف الناس عن اتباعه إلا التأويلات البعيدة التي تحمل عليها المكابرة أو كراهية ظهور المغلوبية، أو حب المدحة من الأشياع وأهل الأغراض، أو السعي إلى عرض عاجل من الدنيا، ولو شاء الله ما غرز في خلقة النفوس دواعي الميل إلى هاته الخواطر السيئة فما اختلفوا خلافا يدوم، ولكن اختلفوا هذا الخلاف فمنهم من آمن، ومنهم من كفر، فلاعذر في القتال إلا لفرقين: مؤمن وكافر بما آمن به الآخر، لأن الغضب والحمية الناشئين عن الاختلاف في الدين قد كانا سبب قتال منذ قديم، أما الخلاف الناشء بين أهل دين واحد لم يبلغ إلى التكفير فلا ينبغي أن يكون سبب القتال.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من قال لأخيه يا كافر فقد باء هو بها" لأنه إذا نسب أخاه في الدين إلى الكفر فقد أخذ في أسباب التفريق بين المسلمين وتوليد سبب التقاتل، فرجع هو بإثم الكفر لأنه المتسبب فيما يتسبب على الكفر، ولأنه إذا كان يرى بعض أحوال أهل الإيمان كفرا، فقد صار هو كافرا لأنه جعل الإيمان كفرا. وقال عليه الصلاة والسلام: "فلا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض"، فجعل القتال شعار التكفير. وقد

صم المسلمون عن هذه النصيحة الجليلة فاختلفوا خلافا بلغ بهم إلى التكفيروالقتال، وأوله خلاف الردة في زمن أبي بكر، ثم خلاف الحرورية في زمن علي وقد كفروا عليا في قبوله تحكيم الحكمي، ثم خلاف أتباع المقنع بخرسان الذي ادعى الإلاهية واتخذ وجها من ذهب، وظهر سنة 159 وهلك سنة163، ثم خلاف القرامطة مع بقية المسلمين وفيه شائبة من الخلاف المذهبي لأنهم في الأصل من الشيعة ثم تطرفوا فكفروا وادعوا الحلول – أي حلول الرب في المخلوقات – واقتلعوا الحجر الأسود من الكعبة وذهبوا به إلى بلدهم في البحرين، وذلك من سنة 293. واختلف المسلمون أيضا خلافا كثيرة في المذاهب جر بهم تارات إلى مقاتلات عظيمة، وأكثرها حروب الخوارج غير مكفرين لبقية الأمة في المشرقومقاتلات أبي يزيد النكاري الخارجي بالقيروان غيرها سنة 333 ومقاتلة الشيعة وأهل السنة بالقيروان سنة 407، ومقاتلة الشافعية والحنابلة ببغداد سنة 475 ومقاتلة الشيعة وأهل السنة بها سنة 445 وأعقبتها حوادث شر بينهم متكررة إلى أن اصطلحوا في سنة 502 وزال الشر بينهم، وقتال الباطنية المعروفين بالإسماعلية لأهل السنة في ساوة وغيرها من سنة 494 إلى سنة 523. ثم انقلبت إلى مقاتلات سياسية. ثم انقلبوا أنصارا للإسلام في الحروب الصليبية، وغير ذلك من المقاتلات الناشئة عن التكفير والتضليل. لا نذكر غيرها من مقاتلات الدول والأحزاب التي نخرت عظم الإسلام. وتطرقت كل جهة منه حتى البلد الحرام.
فالآية تنادي على التعجيب والتحذير من فعل الأمم في التقاتل للتخالف حيث لم يبلغوا في أصاله القول أو في سلامة الطوايا إلى الوسائل التي يتفادون بها عن التقاتل، فهم ملومون من هذه الجهة، ومشيرة إلى أن الله تعالى لو شاء لخلقهم من قبل على صفة أكمل مما هم عليه حتى يستعدوا بها إلى الأهتداء إلىالحق وإلى التبصر في العواقب قبل ذلك الإبان، فانتفاء المشيئة راجع إلى حكمة الخلقة، واللوم والحسرة راجعان إلى التقصير في امتثال الشريعة، ولذلك قال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} فأعاد {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} تأكيدا للأول وتمهيدا لقوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} ليعلم الواقف على كلام الله تعالى أن في هدى الله تعالى مقنعا لهم لو أرادا الاهتداء، وأن في سعة قدرته تعالى عصمة لهم لو خلقهم على أكمل من هذا الخلق كما خلق الملائكة. فالله يخلق ما يشاء ولكنه يكمل حا الخلق بالإرشاد والهدى، وهم يفرطون في ذلك.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا

خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:254]
موقع هذه الآية مثل موقع: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} [البقرة:245] الآية لأنه لما دعاهم لبذل نفوسهم للقتال في سبيل الله فقال: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:244] شفعه بالدعوة إلى بذل المال في الجهاد بقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} [البقرة:245] على طريقة قوله: {وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [لأنفال:72] وكانت هذه الآية في قوة التذييل لآية {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} لأن صيغة هذه الآية أظهر في إرادة عموم الإنفاق المطلوب في الإسلام، فالمراد بالإنفاق هنا ما هو أعم من الإنفاق في سبيل الله، ولذلك حذف المفعول والمتعلق لقصد الانتقال إلى الأمر بالصدقات الواجبة وغيرها، وستجيء آيات في تفصيل ذلك.
وقوله: {مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ} حث على الإنفاق واستحقاق فيه.
وقوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ} حث آخر لأنه يذكر بأن هنالك وقتا تنتهي الأعمال إليه ويتعذر الاستدراك فيه، واليوم هو يوم القيامة، وانتفاء البيع والخلة والشفاعة كناية عن تعذر التدارك للفائت، لأن المرء يحصل ما يعوزه بطرق هي المعاوضة المعبر عنها بالبيع، والإرتفاق من الغير وذلك بسبب الخلة، أو بسبب توسط الواسطة إلى من ليس بخليل.
والخلة - بضم الخاء- المودة والصحبة، ويجوز كسر الخاء ولم يقرأ به أحد وتطلق الخلة بالضم على الصديق تسمية بالمصدر فيستوي فيه الواحد وغيره والمذكر وغيره قال الحماسي:
ألا أبلغا خلتي راشدا ... وصنوي قديما إذا ما اتصل
وقال كعب: أكرم بها خلة، البيت.
فيجوز أن يراد هنا بالخلة المودة، ونفي المودة في ذلك لحصول أثرها وهوالدفع عن الخليل كقوله تعالى: {وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً} [لقمان:33] ويجوز أن يكون نفي الخليل كناية عن نفي لازمه وهو النفع كقوله: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ} قال كعب بن زهير:
وقال كل خليل كنت آمله ... لا ألهينك إني عنك مشغول
وقرأ الجمهور: {لا بَيْعٌ فِيهِ} - وما بعده – بالرفع لأن المراد بالبيع والخلة والشفاعة

الأجناس لا محالة، إذ هي من أسماء المعاني التي لا أحاد لها في الخارج فهي أسماء الأجناس لا نكرات، ولذلك لا يحتمل نفيها إرادة نفي الواحد حتى يحتاج عند قصد التنصيص على إرادة نفي الجنس إلى بناء الاسم على الفتح بخلاف نحو لا رجل في الدار ولا إله إلا الله،ولهذا جاءت الرواية في قول إحدى صواحب أم زرع "زوجي كليل تهامه لا حر ولا قر ولا مخافة ولا سامه" بالرفع لا غير، لأنها أسماء أجناس كما في هذه الآية. وقرأابن كثير وأبو عمرو ويعقوب بالفتح لنفي الجنس نصا فالقرائتان متساويتان معنى، ومن التكلف هنا قول البيضاوي إن وجه قراءة الرفع وقوع النفي في تقدير جواب لسؤال قائل هل البيع فيه أو خلة أو شفاعة.
والشفاعة الوساطة في طلب النفع، والسعي إلى من يارد استحقاق رضاه على مغضوب منه عليه أو إزالة وحشة أو بغضاء بينهما، فهي مشتقة من الشفع ضد الوتر، يقال شفع كمنع إذل صير الشيء شفعا، وشفع أيضا كمنع إذا سعى في الإرضاء ونحوه لأن المغضوب عليه والمحروم يبعد عن واصله فيصير وترا فإذا سعى الشفيع بجلب المنفعة والرضا فقد أعادهما شفعا،فالشفاعة تقتضي مشفوعا إليه ومشفوعا فيه، وهي – في عرفهه – لا يتصدى لها إلا من يتحقق قبول شفاعته، ويقال شفع فلان عند فلان في فلان فشفعه فيه أي فقبل شفاعته، وفي الحديث: "قالوا هذا جدير إن خطب بأن ينكح وإن شفع بأن يشفع".
وبهذ يظهر أن الشفاعة تكون في دفع المضرة وتكون في جلب المنفعة قال:
فذاك فتى إن تأته في صنيعة ... إلى ماله لا تأته بشفيع
ومما جاء في منشور الخليفة القادر بالله للسلطان محمود بن سبكتكين الغزنوي "وليناك كورة خرسان ولقبناك يمين الدولة، بشفاعة أبي حامد الاسفرائيني"، أي بواسطته ورغبته.
فالشفاعة – في العرف – تقتضي إدلال الشفيع عند المشفوع لديه، ولهذا نفاها الله تعالى هنا بمعنى نفي الاستحقاق أحد من المخلوقات أن يكون شفيعا عند الله بإدلال، وأثبتها في آيات أخرى كقوله – قريبا – {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] وقوله: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الانبياء:28] وثبتت للرسول عليه السلام في أحاديث كثيرة وأشير إليها بقوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} [الاسراء:79] وفسرت الآية بذلك في الحديث الصحيح، ولذلك كان من أصول اعتقادنا إثبات الشفاعة

للنبي صلى الله عليه وسلم، وأنكرها المعتزلة وهم مخطئونفي إنكارها وملبوسن في استدلالهم، والمسألة مبسوطة في كتب الكلام.
والشفاعة المنفية هنا المراد بها الشفاعة التي لا يسع المشفوع إليه ردها، فلا يعارض ما ورد من شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة لأن تلك كرامة أكرمه الله بها وأذن له فيها إذ يقول: "اشفع تشفع" فهي ترجع إلى قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] وقوله: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الانبياء:28] وقوله: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:23].
وقوله: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} صيغة قصر نشأت عن قوله: {لا بيع فيه} فدل على أن ذلك النفي تعريض وتعديد للمشركين فعقب بزيادة التغليظ عليهم والتنديد بأن ذلك التهديد والمهدد به قد جلبوه لأنفسهم بمكابرتهم فما ظلمهم الله، وهذا أشد وقعا على المعاقب لأن المظلوم يجد لنفسه سلوا بأنه متعدى عليه، فالقصر قصر قلب، بتنزيلها منزلة من يعتقد أنهم مظلومون.ولك أن تجعله قصرا حقيقيا ادعائيا لأن ظلمهم لما كان أشد الظلم جعلوا كمن انحصر الظلم فيهم.
والمراد بالكافرين ظاهرا المشركون، وهذا من بدائع بلاغة القرآن، فإن هذه الجملةصالحة أيضا لتذييل الأمر بالإنفاق في سبيل الله، لأن ذلك الإنفاق لقتال المشركين الذين بدأوا الدين بالمناوأة، فهم الظالمون لا المؤمنون الذين يقاتلونهم لحماية الدين والذب عن حوزته. وذكر الكافرين في مقام التسجيل فيه تنزيه للمؤمنين عن أن يتركوا الإنفاق إذ لا يظن بهم ذلك، فتركه والكفر متلازمان،فالكافرون يظلمون أنفسهم، والمؤمنون لا يظلمونها، وهذا كقوله تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت:7]
وذلك أن القرآن يصور المؤمنين في أكمل مراتب الإيمان ويقابل حالهم بحال الكفار تغليظا وتنزيها، ومن هذه الآية وأمثالها اعتقد بعض فرق الإسلام أن المعاصي تبطل الإيمان كما قدمناه.
[255] {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}

لما ذكر هول يوم القيامة وذكر حال الكافرين استأنف بذكر تمجيد الله تعالى وذكر صفاته إبطالا لكفر الكافرين وقطعا لرجائهم، لأن فيها {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} وجعلت هذه الآية ابتداءا لآيات تقرير الوحدانية والبعث، وأودعت هذه الآية العظيمة هنا لأنها كالبرزخ بين الأغراض السابقة واللاحقة.
وجيء باسم الذات هنا لأنه طريق في الدلالة على المسمى المنفرد بهذا الاسم، فإن العلم أعرف المعارف لعدم احتياجه في الدلالة على مسماه إلى قرينة أو معونة لولا احتمال تعدد التسمية، فلما انتفى هذا الاحتمال في اسم الجلالة كان أعرف المعارف لا محالة لاستغنائه عن القرائن والمعونات، فالقرائن كالتكلم والخطاب، والمعونات كالمعاد والإشارة بليد والصلة وسبق العهد والإضافة.
وجملة: "لا إله إلا هو" خبر أول عن اسم الجلالة، والمقصود من هذه الجملة إثبات الوحدانية وقد تقدم الكلام على دلالة لا له إلا هو على التوحيد ونفي الآلهة عند قوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [البقرة:163]
وقوله: {الحي} خبر لمبتدأ محذوف،و {القيوم} خبر ثن لذلك المبتدأ المحذوف، والمقصود إثبات الحياة وابطال استحقاق آلهة المشركين وصف الإلهية لانتفاء الحياة عنهم كما قال إبراهيم عليه السلام: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ} [مريم:42] وفصلت هذه الجملة عن التي قبلها للدلالة على استقلالها لأنها لو عطفت لكانت كالتبع،وظاهر كلا الكشاف أن هذه الجملة مبينة لما تضمنته جملة: {الله لا إله إلا هو} من ىأنه القائم بتدبير الخلق، أي لأن اختصاصه بالإلهية يقتضي أن لا مدبر غيره، فلذلك فصلت خلافا لما قرر به التفتازاني كلامه فإنه غير ملائم لعبارته.
والحي في كلام العرب من قامت به الحياة، وهي صفة بها الإدراك والتصرف، أعني كمال الوجود المتعارف، فهي في المخلوقات بانبثاث الروح واستقامة جريان الدم في الشرايين، وبالنسبة إلى الخالق ما يقارب أثر صفة الحياة فينا، أعني انتفاء الجمادية مع التنزيه عن عوارض المخلوقات.وفسرها المتكلمون بأنها "صفة تصحح لمن قامت به الإدراك والفعل"
وفسر صاحب "الكشاف" الحي بالباقي، أي الدائم الحياة بحيث لا يعتريه العدم، فيكون مستعملا كناية في لازم معناه لأن إثبات الحياة لله تعالى بغير هذا المعنى لا يكون إلا مجازا أو كناية. وقال الفخر: "الذي عندي أن الحي – في أصل اللغة – ليس عبارة

عن صحة العلم والقدرة. بل عبارة عن كمال الشيء في جنسه، قال تعالى: {فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الجاثية:5] وحياة الأشجار إيراقها. فالصفة المسماة – في عرف المتكلمين – بالحياة سميت بذلك لأن كمال حال الجسم أن يكون موصوفا بها، فالمفهوم الأصلي من لفظ الحي كونه واقعا على أكمل أحواله وصفاته".
والمقصود بوصف الله هنا الحي إبطال عقيدة المشركين إلاهية أصنامهم التي هي جمادات وكيف يكون مدبر أمور الخلق جمادا.
والحي صفة مشبهة من حيي، أصله حيي كحذر أدغمت الياءان، وهو يائي باتفاق أئمة اللغة، وأما كتابة السلف في المصحف كلمة حيوة بواو بعد الياء فمخالفة للقياس، وقيل كتبوها على لغة أهل اليمن لأنهم يقولون حيوة أي حياة، وقيل كتبوها على لغة تفخيم الفتحة.
والقيوم فيعول من قام يقوم وهو وزن مبالغة، وأصله قيؤوم فاجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت، والمراد به المبالغة في القيام المستعمل – مجازا مشهورا – في تدبير شؤون الناس، قال تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد:33] والمقصود إثبات عموم العلم له وكمال الحياة وإبطال إلهية أصنام المشركين، لأن المشركين كانوا يعترفون بأن مدبر الكون هو الله تعالى وإنما جعلوا آلهتهم شفعاء وشركاء ومقتسمين أمور القبائل. والمشركون من اليونان كانوا قد جعلوا لكل إله من آلهتهم أنواعا من المخلوقات يتصرف فيها وأمما من البشر تنتمي إليه ويحنأ عليها.
وجملة: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} مقررة لمضمون جملة: "الله الحي القيوم" ولرفع احتمال المبالغة فيها، فالجملة منزلة منزلة البيان لمعنى الحي القيوم ولذلك فصلت عن التي قبلها.
والسنة فعلة من الوسن، وهو أول النوم، والظاهر أن أصلها اسم هيأة كسائر ما جاء على وزن فعله من الواوي لفاء، وقد قالو وسنة بفتح الواو على صيغة المرة. والسنة أول النوم قال عدي بن الرقاع:
وسنان أقصده النعاس فرنقت ... في عينع سنة وليس بنائم
والنوم معروف وهو فتور يعتري أعصاب الدماغ من تعب أعمال الأعصاب من

تصاعد الأبخرة البدنية الناشئة عن الهضم والعمل العصبي،فيشتد عند مغيب الشمس ومجيء الظلمة فيطلب الدماغ والجهاز العصبي الذي يدبره الدماغ استراحة طبيعية فيغيب الحس شيئا فشيئا وتثقل حركة الأعضاء، ثم يغيب الحس إلى أن تسترجع الأعصاب نشاطها فتكون اليقظة.
ونفي استيلاء السنة والنوم على الله تعالى تحقيق لكمال الحياة ودوام التدبير، وإثبات لكمال العلم، فإن السنة والنوم يشبهان الموت، فحياة النائم في حالهما حياة ضعيفة، وهما يعوقان عن التدبير وعن العلم بما يحصل في وقت استيلائهما على الإحساس.
ونفي السنة عن الله تعالى لا يغني عن نفي النوم عنه لأن من الأحياء من لا تعتريه السنة فإذا نام نام عميقا، ومن الناس من تأخذه السنة في غير وقت النوم غلبة، وقد تمادحت العرب بالقدرة على السهر،قال أبو كبير:
فأتت به حوش الفؤاد مبطنا ... سهدا إذا ما نام ليل الهوجل
والمقصود أن الله لا يحجب علمه شيء حجبا ضعيفا ولا طويلا ولا غلبة ولا اكتسابا، فلا حاجة إلى ما تطلبه الفخر والبيضاوي من أن تقديم السنة على النوم مراعى فيه ترتيب الوجود، وأن ذكر النوم من قبيل الأحتراس. وقد أخذ هذا المعنى بشار وصاغه بما يناسب صناعة الشعر فقال:
وليل دجوجي تنام بناته ... وأبناؤه من طوله1 وربائبه
فإنه أراد من بنات الليل وأبنائه الساهرات والساهرين بمواظبة، وأراد بربائب الليل من هم أضعف منهم سهرا لليل لأن الربيب أضعف نسبة من الولد والبنت.
وجملة: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} تقرير لانفراده بالإلهية إذ جميع الموجودات مخلوقاته، وتعليل لا تصافه بالقيومية لأن من كانت جميع الموجودات ملكا له فهو حقيق بأن يكون قيومها وألا يهملها ولذلك فصلت الجملة عن التي قبلها.
واللام للملك. والمراد بالسماوات والأرض استغراق أمكنة الموجودات، فقد دلت الجملة على عموم الموجودات بالموصول وصلته، وإذا ثبت ملكه للعموم ثبت أنه لا يشذ
ـــــــ
1 كتب في نسخة ديوان بشار "هوله" بهاء في أوله وطبع كذلك وبدا لي بعد ذلك أنه تحريف وأن الصواب "طوله" بطاء عوض الهاء لأنه المناسب لقوله: "تنام"

عن ملكه موجود فحصل معنى الحصر، ولكنه زاده تأكيدا بتقديم المسند – أي لا لغيره – لإفادة الرد على أصناف المشركين، من الصابئة عبدة الكواكب كالسريان واليونان ومن مشركي العرب لأن مجرد حصول معنى الحصر بالعموم لا يكفي في الدلالة على إبطال العقائد الضالة. فهذه الجملة أفادت تعليم التوحيد بعمومها، وأفادت إبطال عقائد أهل الشرك بخصوصية القصر، وهذا بلاغة معجزة.
وجملة {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} مقررة لمضمون جملة {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} لما أفاده لام الملك من شمول ملكه تعالى لجميع ما في السماوات وما في الأرض، وما تضمنه تقديم المجرور من فصر ذلك الملك عليه تعالىقصر قلب، فبطل وصف الإلهية عن غيره تعالى، بالمطابقة وبطل حق الإدلال عليه والشفاعة عنده – التي لا ترد – بالإلتزام،لأن الإدلال من شأن المساوي والمقارب،والسفاعة إدلال. وهذا إبطال لمعتقد معظم مشركي العرب لأنهم لم يثبتوا لآلهتهم وطواغيتهم ألوهية تامة، بل قالوا: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس:18] وقالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] فأكد هذا المدلول بالصريح، ولذلك فصلت هذه الجملة عما قبلها.
و {ذا} مزيدة للتأكيد إذ ليس ثم مشار إليه معين، والعرب تزيد "ذا" لما تدل عليه الإشارة من وجود شخص معين يتعلق به حكم الاستفهام، حتى إذا أظهر عدم وجوده كان ذلك أدل على أن ليس ثمة متطلع ينصب نفسه لإدعاء هذا الحكم، وتقدم القول في "من ذا" عند قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} [البقرة:245] والاستفهام في قوله:
{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ} مستعمل في الإنكار والنفي بقرينة الاستثناء منه بقوله {إِلَّا بِإِذْنِهِ}.
والشفاعة تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى: {لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} [البقرة:254]
والمعنى أنه لا يشفع عنده أحد بحق وإدلال لأن المخلوقات كلها ملكه، ولكن يشفع عنده من أراد هو أن يظهر كرامته عنده فيأذنه بأن يشفع فيمن أراد هو العفو عنه،كما يسند إلى الكبراء مناولة المكرمات إلى نبغاء التلامذة في مواكب الإمتحان، ولذلك جاء في حديث الشفاعة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيه الناس ليكلم ربه فيخفف عنهم هول موقف

الحساب، فيأتي حتى يسجد تحت العرش ويتكلم بكلمات يعلمه الله تعالى إياها، فيقال يا محمد ارفع رأسك، سل تعطه، واشفع تشفع، فسجوده استئذان في الكلام، ولا يشفع حتى يقال اشفع، وتعليمه الكلمات مقدمة للإذن.
و جملة: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} تقدير وتكميل لما تضمنه مجموع جملتي {الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} ولما تضمنته جملة: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} فإن جملتي {الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} دلتا على عموم علمه بما حدث ووجد من الأكوان ولم تدلا على علمه بما سيكون فأكد وكمل بقوله يعلم الآية، وهي أيضا تعليل لجملة من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه إذ قد يتجه السؤال لماذا حرموا الشفاعة إلا بعد الإذن فقيل لأنهم لا يعلمون من يستحق الشفاعة وربما غرتهم الظواهر، والله يعلم من يستحقها فهو يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولأجل هذين المعنيين فصلت الجملة عما قبلها.
والمراد بما بين ايديهم وما خلفهم ما هو ملاحظ لهم من المعلومات وما خفي عنهم أو ذهلوا عنه منها، أو ما هو واقع بعدهم وما وقع قبلهم. وأما علمه بما في زمانهم فأحرى. وقيل المستقبل هو ما بين الأيدي والماضي هو الخلف، وقيل عكس ذلك، وهما استعمالان مبنيان على اختلاف الاعتبار في تمثيل ما بين الأيدي والخلف، لأن ما بين أيدي المرء هو أمامه، فهو يستقبله ويشاهده ويسعى للوصول إليه ن وما خلفه هو ما وراء ظهره، فهو قد تخلف عنه وانقطع ولا يشاهده، وقد تجاوزه ولا يتصل به بعد وقيل أمور الدنيا وأمور الآخرة، وهو فرع من الماضي والمستقبل، وقيل المحسوسات والمعقولات. وأياما كان فاللفظ مجاز، والمقصود عموم العلم بسائر الكائنات.
وضمير {أَيْدِيهِمْ} و {خَلْفَهُمْ} عائد إلى {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} بتغليب العقلاء من المخلوقات لأن المراد بما بين أيديهم وما خلفهم يشمل أحوال غير العقلاء، أو هو عائد على خصوص العقلاء من عموم ما في السماوات وما في الأرض فيكون المراد ما يختص بأحوال البشر – وهو البعض، لضمير ولا يحيطون – لأن العلم من أحوال العقلاء.
وعطفت جملة: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} على {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} لأنها تكملة لمعناها كقوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216]
ومعنى يحيطون يعلمون علما تاما، وهو مجاز حقيقته أن الإحاطة بالشيء تقتضي

الاحتواء على جميع أطرافه بحيث لا يشذ منه شيء من أوله ولا آخره فالمعنى لا يعلمون - علم اليقين – شيئا من معلوماته، وأما ما يدعونه فهو رجم بالغيب. فالعلم في قوله: {مِنْ عِلْمِهِ} بمعنى المعلوم، كالخلق بمعنى المخلوق، وإضافته إلى ضمير اسم الجلالة تخصيص له بالعلوم اللدونية التي استأثر الله بها ولم ينصب الله تعالى عليها دلائل عقلية أو عادية. ولذلك فقوله: {إِلَّا بِمَا شَاءَ} تنبيه على أنه سبحانه قد يطلع بعض أصفيائه على ما هو من خواص علمه كقوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن:27]
وقوله: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} تقرير لما تضمنته الجمل كلها من عظمة الله تعلى وكبريائه وعلمه وقدرته وبيان عظمة مخلوقاته المستلزمة عظمة شأنه، أو لبيان سعة ملكه –كذلك- كما سنبينه، وقد وقعت هذه الجمل مترتبة متفرعة.
والكرسي شيء يجلس عليه متركب من أعواد أو غيرها موضوعة كالأعمدة متساوية، عليها سطح من خشب أو غيره بمقدار ما يسع شخصا واحدا في جلوسه، فإن زاد على مجلس واحد وكان مرتفعا فهو العرش. وليس المراد في الآية حقيقة الكرسي إذ لا يليق بالله تعالى لاقتضاءه التحيز، فتعين أن يكون مرادا به غير حقيقته.
والجمهور قالوا: إن الكرسي مخلوق عظيم، ويضاف إلى الله تعالى لعظمته، فقيل هو العرش، وهو قول الحسن. وهذا هو الظاهر لأن الكرسي لم يذكر في القرآن إلا في هذه الآية وتكرر ذكر العرش، ولم يرد ذكرهما مقترنين فلو كان الكرسي غير العرش لذكر معه كما ذكرت السماوات مع العرش في قوله تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [المؤمنون:86] وقيل الكرسي غير العرش، فقال ابن زيد: هو دون العرش و روى في ذلك عن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه و سلم قال: "ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري الفلاة من الأرض" وهو حديث لم يصح. وقال أبو موسى الأشعري والسدي والضحاك: الكرسي موضع القدمين من العرش، أي لأن الجالس على عرش يكون مرتفعا عن الأرض فيوضع له كرسي لئلا تكون رجلاه في الفضاء إذا لم يتربع، وروي هذا عن ابن عباس. وقيل الكرسي مثل لعلم الله، وروي عن ابن عباس لأن العالم يجلس على كرسي ليعلم الناس. وقيل مثل لملك الله تعالى كما يقولون فلان صاحب كرسي العراق أي ملك العراق، قال البيضاؤي: "ولعله الفلك المسمى عندهم بفلك البروج" قلت أثبت القرآن سبع سماوات ولم يبين مسماها في قوله: "سورة نوح" {أَلَمْ

تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً} [نوح:16] فيجوز أن تكون السماوات طبقات من الأجواء مختلفة الخصائص متمايزة بما يملاها من العناصر، وهي مسبح الكواكب، ولقد قال تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [الملك:5] ويجوز أن تكون السماوات هي الكواكب العظيمة المرتبطة بنظام الشمس وهي: فلكان، وعطارد، والزهرة، وهذه تحت الشمس إلى الأرض، والمريخ، والمشتري، وزحل، وأورانوس، ونبتون، وهذه فوق الشمس على هذا الترتيب في البعد، إلا أنها في عظم الحجم يكون أعظمها المشتري، ثم زحل، ثم نبتون ثم أورانوس، ثم المريخ، فإذا كان العرش أكبرها فهو المشتري، والكرسي دونه فهو زحل، والسبع الباقية هي المذكورة، ويضم إليها القمر، وإن كان الكرسي هو العرش فلا حاجة إلى عد القمر، وهذا هو الظاهر، والشمس من جملة الكواكب، وقوله تعالى: {وجعل الشمس سراجا} تخصيص لها بالذكر للامتنان على الناس بأنها نور للأرض، إلا أن الشمس أكبر من جميعها على كل تقدير. وإذا كانت السماوات أفلاكا سبعة لشموس غير هذه الشمس ولكل فلك نظامه كما لهذه الشمس نظامها فذلك جائز- وسبحان من لا تحيط بعظمة قدرته الأفهام – فيكون المعنى على هذا أن الله تعالى نبهنا إلى عظيم قدرته وسعة ملكوته بما يدل علىذلك مع موافقته لما في نفس الأمر، ولكنه لم يفصل لنا ذلك لأن تفصيله ليس من غرض لاستدلال على عظمته، ولأن العقول لا تصل إلى فهمه لتوقفه على علوم واستكمالات فيها لم تتم إلى الآن، ولتعلمن نبأه بعد حين.
وجملة {وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} عطفت على جملة {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ} لأنها من تكملتها وفيها ضمير معاده في التي قبلها، أي إن الذي أوجد هاته العوالم لا يعجز عن حفظها.
وآده جعله ذا أود. والأود – بالتحريك – العوج، ومعنى آده أثقله لأن المثقل ينحني فيصير ذا أود.
وعطف عليه {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} لأنه من تمامه، والعلو والعظمة مستعاران لشرف القدر وجلال القدرة.
ولهذه الآية فضل كبير لم اشتملت عليه من أصول معرفة صفات الله تعالى، كما اشتملت سورة الإخلاص على ذلك وكما اشتملت كلمة الشهادة. في "الصحيحين" عن أبي هريرة: "أن آتيا أتاه في الليل فأخذ من طعام زكاة الفطر فلما أمسكه قال له إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي لن يزال معك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح" فقال

له النبي صلى الله عليه وسلم: "صدقك وذلك شيطان" وأخرج مسلم عن أبي ابن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم –قلت – الله لا إله إلا هو الحي القيوم، فضرب في صدري وقال: والله ليهنك العلم أبا المنذر" وروى النسائي: "من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت". وفيها فضائل كثيرة مجربة للتأمين على النفس والبيت.
[256] {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}
استئناف بياني ناشئ عن الأمر بالقتال في سبيل الله في قوله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:244] إذ يبدو للسامع أن القتال لأجل دخول العدو في الإسلام فبين في هذه الآية أنه لا إكراه على الدخول في الإسلام وسيأتي الكلام على أنها محكمة أو منسوخة.
وتعقيب آية الكرسي بهاته الآية بمناسبة أن ما اشتملت عليه الآية السابقة من دلائل الوحدانية وعظمة الخالق وتنزيهه عن الشوائب ما كفرت به الأمم، من شأنه ن يسوق ذوي العقول إلى قبول هذا الدين الواضح العقيدةن المستقيم الشريعة، باختيارهم دون جبر ولا إكراه، ومن شأنه أن يجعل دوامهم على الشرك بمحل السؤال: أيتركون عليه أم يكرهون على الإسلام، فكانت الجملة استئنافا بيانيا.
والإكراه الحمل على فعل مكروه، فالهمزة فيه للجعل، أي جعله ذا كراهية، ولا يكون ذلك إلا بتخويف وقوع ما هو أشد كراهية من الفعل المدعو إليه.
والدين تقدم بيانه عند قوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] وهو هنا مراد به الشرع.
والتعريف في الدين للعهد، أي دين الإسلام.
ونفي الإكراه خير في معنى النهي، والمراد نفي أسباب الإكراه في حكم الإسلام، أي لا تكرهوا أحدا على اتباع الإسلام قسرا، وجيء بنفي الجنس لقصد العموم نصا. وهو دليل واضح على إبطال الإكراه على الدين بسائر أنواعه، لأن أمر الإيمان يجري على الاستدلال، والتمكين من النظر، وبالاختيار. وقد تقرر في صدر الإسلام قتال المشركين

على الإسلام، وفي الحديث: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" ولا جائز أن تكون هذه الآية قد نزلت قبل ابتداء القتال كله، فالظاهر أن هذه الآية نزلت بعد فتح مكة واستخلاص بلاد العرب، إذ يمكن أن يدوم نزول السورة سنين كما قدمناه في صدر تفسير سورة الفاتحة لاسيما وقد قيل بأن آخر آية نزلت هي في سورة النساء: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء:176] الآية فنسخت حكم القتال على قبول الكافرين الإسلام ودلت على الاقتناع منهم بالدخول تحت سلطان الإسلام وهو المعبر عنه بالذمة،ووضحه عمل النبي صلى الله عليه وسلم وذلك حين خلصت بلاد العرب من الشرك بعد فتح مكة وبعد دخول الناس في الدين أفواجا حين جاءت وفود العرب بعد الفتح، فلما تم مراد الله من إنقاذ العرب من الشرك والرجوع بهم إلى ملة إبراهيم، ومن تخليص الكعبة من أرجاس المشركين، ومن تهيئة طائفة عظيمة لحما هذا الدينوحماية بيضته، وتبين هدى الإسلام وزال ما كان يحول دون اتباعه من المكابرة، وحقق الله سلامه بلاد العرب من الشرك كما وقع في خطبة حجة الوداع: "إن الشيطان قد يئس في أن يعبد في بلدكم هذا" لما تم ذلك كله أبطل الله القتال على الدين وأبقى القتال على توسيع سلطانه، ولذلك قال: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] وعلى هذا تكون الآية ناسخة لما تقدم من آيات القتال مثل قوله قبلها: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة:73] على أن الآيات النازلة قبلها أو بعدها أنواع ثلاثة:
أحدها: آيات أمرت بقتال الدفاع كقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة:36] وقوله: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [البقرة:194] وهذا قتال ليس للإكراه على الإسلام بل هو لدفع غائلة المشركين.
النوع الثاني: آيات أمرت بقتال المشركين والكفار ولم تغيى بغاية، فيجوز أن يكون إطلاقها مقيدا بغاية آية {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة:29] وحينئذ فلا تعارضه آيتنا هذه {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}
النوع الثالث: ما غيي بغاية كقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة:193] فيتعين أن يكون منسوخا بهته الآية وآية {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ}

[التوبة:29] كما نسخ حديث: "أمرت أن أقاتل الناس" هذا ما يظهر لنا في معنى الآية، والله أعلم.
ولأهل العلم قبلنا فيها قولان: الأول قال ابن مسعود وسليمان بن موسى: هي منسوخة بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} [التوبة:73] فإن النبي صلى الله عليه وسلم أكره العرب على الإسلام وقاتلهم ولم يرض منهم إلا به. ولعلهما يريدان من النسخ معنى التخصيص.والاستدلال على نسخها بقتال النبي صلى الله عليه وسلم العرب على الإسلام، يعارضه أنه صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من جميع الكفار، فوجه الجمع من التنصيص. القول الثاني أنها محكمة ولكنها خاصة، فقال الشعبي وقتادة والحسن والضحاك هي خاصة بأهل الكتاب فإنهم لا يكرهون على الإسلام إذا أدوا الجزية وإنما يجبر على الإسلام أهل الأوثان، وإلى هذا مال الشافعي فقال: "إن الجزية لا تؤخذ إلا من أهل الكتاب والمجوس. قال ابن العربي في "الأحكام": "وعلى هذا فكل من رأى قبول الجزية من جنس يحمل الآية عليه" يعني مع بقاء طائفة يتحقق فيها الإكراه. وقال ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد: نزلت هذه الآية في الأنصار كانوا في الجاهلية إذا كانت المرأة منهم مقلاتا – أي لا يعيش لها ولد1 – تنذر إن عاش لها ولد أن تهوده، فلما جاء الإسلام وأسلموا كان كثير من أبناء الأنصار يهودا فقالوا: لا ندع أبنائنا بل نكرههم على الإسلام، فأنزل الله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}
وقال السدي: نزلت في قصة رجل من الأنصار يقال له أبو حصين من بني سلمة بن عوف وله ابنان جاء تجار من نصارى شام إلى المدينة فدعوهما إلى النصرانية، فتنصرا وخرجا معهم، فجاء أبوهما فشكا للنبي صلى الله عليه وسلم وطلب أن يبعث من يردهما مكرهين فنزلت: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} ولم يؤمر يومئذ بالقتال ثم نسخ ذلك بآيات القتال. وقيل إن المراد بنفي الإكراه نفي تأثيره في إسلام من أسلم كرها فرارا من السيف، على معنى قوله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [النساء:94] وهذا القول تأويل في معنى الإكراه وحمل للنفي على الإخبار دون الأمر.
وقيل: إن المراد بالدين التوحيد ودين له كتاب سماوي وإن نفي الإكراه نهي،
ـــــــ
1 المقلات – بكسر الميم – مشتقة من القلت بالتحريك وهو الهلاك، وعليه فالتاء فيه أصلية وليست هاء التأنيث، ووقع في كلام ابن عباس تكون المرأة مقلى، رواه الطبري فيكون مقلاه مفعلة من قلى إذا أبغض.

والمعنى لا تكرهوا السبايا من أهل الكتاب لأنهن أهل دين وأكرهوا المجوس منهم والمشركات.
وقوله: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} واقع موقع العلة لقوله: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} ولذلك فصلت الجملة.
والرشد – بضم فسكون، وبفتح ففتح – الهدى وسداد الرأي، ويقابله الغي والسفه، والغي الضلال، وأصله مصدر غوي المتعدي فأصله غوي قلبت الواو ياء ثم أدغمتا. وضمن تبين معنى تميز فلذلك عدي بمن، وإنما تبين ذلك بدعوة الإسلام وظهوره في بلد مستقل بعد الهجرة.
وقوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} تفريع على قوله: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} إذ لم يبق بعد التبيين إلا الكفر بالطاغوت، وفيه بيان لنفي الإكراه في الدين، إذ قد تفرع عن تميز الرشد من الغي ظهور أن متبع الإسلام مستمسك بالعروة الوثقى فهو ينساق إليه اختيارا.
والطاغوت الأوثان والأصنام، والمسلمون يسمون الصنم الطاغية، وفي الحديث: "كانوا يهلون لمناة الطاغية" ويجمعون الطاغوط على طواغيط، ولا أحسبه إلا من مصطلحات القرآن وهو مشتق من الطغيان وهو الارتفاع والغلو في الكبر وهو مذموم و مكروه. ووزن طاغوت على التحقيق طغيوت –فعلوت- من أوزان المصادر مثل ملكوت ورهبوت ورحموت فوقع فيه قلب مكاني- بين عينه ولامه- فصير إلى فلعوت طيغوت ليتأتى قلب اللام ألفا فصار طاغوت، ثم أزيل عنه معنى المصدر وصار اسما لطائفة مما فيه هذا المصدر فصار مثل ملكوت في أنه اسم طائفة مما فيه معنى المصدر – لا مثل رحموت ورهبوت في أنهما مصدران – فتاؤه زائدة، وجعل علما على الكفر وعلى الأصنام، وأصله صفة بالمصدر ويطلق على الواحد والجمع والمذكر والمؤنث كشأن المصدر.
وعطف {وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} على الشرط لأن نبذ عبارة الأصنام لا مزية فيه إن لم يكن عوضها بعبادة الله تعالى.
ومعنى استمسك تمسك، فالسين والتاء للتأكيد كقوله: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ} [الزخرف:43] وقوله: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ} [آل عمران:195] وقول النابغة:

"فاستنكحوا أم جابر" غذ لا معنى لطلب التمسك بالعروة الوثقى بعد الإيمان، بل ال]مان التمسك نفسه. والعروة - بضم العين - ما يجعل كالحلقة في طرف شيء ليقبض على الشيء منه فللدلو عروة وللكوز عروة وقد تكون العروة في حبل بأن يشد طرفه إلى بعضه ويعقد فيصير مثل الحلقة فيه فلذلك قال في "الكشاف": العروة الوثقى من الحبل الوثيق.
و {الْوُثْقَى} المحكمة الشد. و {لا انْفِصَامَ لَهَا} أي لا انقطاع، والفصم القطع بتفريق الاتصال دون تجزئة بخلاف القصم بالقاف فهو قطع من إبانة وتجزئة.
والاستمساك بالعروة الوثقى تمثيلي، شبهت هيأة المؤمن في ثباته على الإيمان بهيئة من أمسك بعروة وثقى من حبل وهو راكب على صعب أو في سفينة في هول البحر، وهي هيئة معقولة شبهت بهيئة محسوسة، ولذلك قال في "الكشاف" "وهذا تمثيل للمعلوم بالنظر، بالمشاهدة" وقد أفصح عنه في تفسير سورة لقمان إذ قال:" مثلت حال المتوكل بحال من أراد أن يتدلى من شاهق فاحتاط لنفسه بأن استمسك بأوثق عروة من حبل متين مأمون انقطاعه فالمعنى أن المؤمن ثابت اليقين سالم من اضطراب القلب في الدنيا وهو ناج من مهاوي السقوط في الآخرة كحال من تمسك بعروة حبل متين لا ينفصم.
وقد أشارت الآية إلى أن هذه فائدة المؤمن تنفعه في دنياه بأن يكون على الحق والبصيرة وذلك مما تطلبه النفوس، وأشارت إلى فائدة ذلك في الآخرة بقوله: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} الذي هو تعريض بالوعد والثواب.
[257] {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}
وقع قوله: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} الآية موقع التعليل لقوله: {لا انْفِصَامَ لَهَا} [البقرة:256] لأن الذين كفروا بالطاغوت وآمنوا بالله قد تولو الله فصار وليهم، فهو يقدر لهم ما فيه نفعهم وهو ذب الشبهات عنهم، فبذلك يستمر تمسكهم بالعروة الوثقى ويأمنون انفصامها، أي فإذا اختار أحد أن يكون مسلما فإن الله يزيده هدى.
والولي الحليف فهو ينصر مولاه. فالمراد بالنور نور البرهان والحق، وبالظلمات ظلمات الشبهة والشك، فالله يزيد الذين اهتدوا هدى لأن اتباعهم الإسلام تيسير لطرق

اليقين فهم يزدادون توغلا فيها يوما فيوما، وبعكسهم الذين اختاروا الكفر على الإسلام فإن اختيارهم ذلك دل على ختم ضرب على عقولهم فلم يهتدوا، فهم يزدادون في الضلال يوما فيوما. ولأجل هذا الازدياد المتجدد في الأمرين وقع التعبير بالمضارع في – يخرجهم – ويخرجونهم – وبهذا يتضح وجه تعقيب هذه الآية بآية {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ} [البقرة:258] بآية {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} [البقرة:259] ثم بآية {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} فإن جميعها جاء لبيان وجوه انجلاء الشق والشبهات عن أولياء الله تعالى الذين صدق إيمانهم، ولا دعية إلى ما في "الكشاف" وغيره من تأويل الذين آمنوا والذين كفروا بالذين أرادوا ذلك، وجعل النور والظلمات تشبيها للإيمان والكفر لما علمت من ظهور المعن لما يدفع الحاجة إلى التأويل بذلك، ولا يحسن وقعه بعد قوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} ولقوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} فإنه متعين للحمل على زيادة تضليل الكافر في كفره بمزيد الشك كما في قوله: {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ – إلى – قوله: وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} [هود:101]، ولأن الطاغوت كانوا أولياء للذين آمنوا قبل الإيمان فإن الجميع كانوا مشركين، وكذلك ما أطال به فخر الدين من وجود الاستدلال على المعتزلة واستدلالهم علينا. وجملة يخرجهم خبر ثان عن اسم الجلالة. وجملة يخرجونهم حال من الطاغوط. وأعيد الضمير إلى الطاغوت بصيغة جميع العقلاء لأنه أسند إليهم ما كان من فعل العقلاء وإن كانوا في الحقيقة سبب الخروج لا مخرجين. وتقدم الكلام على الطاغوت عند قوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة:256].
[258] {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}
جرى هذا الكلام مجرى الحجة على مضمون الجملة الماضية أو المثال لها، فإنه لما ذكر بأن الله يخرج الذين آمنوا من الظلمات إلى النور وأن الطاغوت يخرجون الذين كفروا من النور إلى الظلمات، ساق ثلاثة شواهد على ذلك هذا أولها وأجمعها لأنه اشتمل على ضلال الكافر وهدى المؤمن، فكان هذا في قوة المثال.
والمقصود من هذا تمثيل حال المشركين في مجادلتهم النبي صلى الله عليه وسلم في البعث بحال

الذي حاج إبراهيم في ربه، ويدل لذلك ما يرد من التخيير في التشبيه في قوله: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} [بقرة:259]
وقد مضى الكلام على تركيب ألم تر. والاستفهام في {الم تر} مجازي متضمن معنى التعجيب، وقد تقدم تفصيل معناه وأصله عند قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} [البقرة:243] وهذا استدلال مسوق لإثبات الوحدانية لله تعالى وإبطال إلهية غيره لانفراده بالإحياء والإماتة وانفراده بخلق العوالم المشهودة للناس. ومعنى {حاج} خاصم وهو فعل جاء على زنة المفاعلة، ولا يعرف لحاج في الاستعمال فعل مجرد دال على وقوع الخصام ولا تعرف المادة التي اشتق منها. ومن العجيب أن الحجة في كلام العرب البرهان المصدق للدعوى مع أن حاج لايستعمل غالبا إلا في معنى المخاصمة، قال تعالى: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ} [غافر:47] مع قوله: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} [صّ:64] وأن الأغلب أنه يفيد الخصام بباطل، قال تعالى: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ} [الأنعام:80] وقال: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ} [آل عمران:20] والآية في ذلك كثيرة. فمعنى {الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ} أنه خاصمه خصاما باطلا في شأن صفات الله رب إبراهيم.
والذي حاج إبراهيم كافر لا محالة: {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} وقد قيل إنه نمرود بن فالخ بن عابر بن شالح بن أرفخشد بن سام بن قوش بن حام بن نوح، فيكون أخا "رعو" جد إبراهيم. والذي يعتمد أنه ملك جبار، كان ملكا في بابل وأنه الذي بنى مدينة بابل، وبنى الصرح الذي في بابل واسمه نمرود- بالدال المهملة في آخره – ويقال بالذال المعجمة، ولم تتعرض كتب اليهود لهذه القصة وهي في المرويات.
والضمير المضاف إليه رب عائد إلى إبراهيم، والإضافة لتشريف المضاف إليه، ويجوز عوده إلى الذي، والإضافة لإظهار غلطه كقول ابن زيابة:
نبئت عمرا غارزا رأسه ... في سنة يوعد أخواله
أي ما كان من شأن المروءة ا، يظهر شرا لأهل رحمه
وقوله: {أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} تعليل حذفت منه لام التعليل، وهو تعليل لما يتضمنه حاج من الإقدام على هذا الغلط العظيم الذي سهله عندهازدهاءه وإعجابه بنفسه فهو تعليل محض وليس علة غائية مقصودة للمحاج من حجاجه. وجوز صاحب "الكشاف" أن

يكون تعليلا غائيا أي حاج لأجل أن الله أتاه الملك فاللام استعارة تبعية لمعنى يؤدي بحرف غير اللام، والداعي لهاته الاستعارة التهكم، أي أنه وضع الكفر موضع الشكر كما في أحد الوجهين في قوله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة:82] أي جزاء رزقكم. وإيتاء الملك مجازا في التفضل عليه بتقدير أن جعله ملكا وخوله ذلك، ويجيء تفصيل هذا الفعل عند قوله تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ} [الأنعام:83] قيل كان نمرود أول ملك في الأرض، وأول من وضع التاج على رأسه و {إذ قال} ظرف لحاج وقد دل هذا على أن إبراهيم هو الذي بدأ بالدعوة إلى التوحيد واتج بحجة واضحة يدركها كل عاقل وهي أن الرب الحق هو الذي يحيي ويميت، فإن كل أحد يعلم بالضرورة أنه لا يستطيع إحياء ميت فلذلك ابتدأ إبراهيم الججة بدلالة عجز الناس عن إحياء الأموات، وأراد بأن الله يحيي أنه يخلق الأجسام الحية من الإنسان والحيوان وهذا معلوم بالضرورة. وفي تقديم الاستدلال بخلق الحياة إدماج لإثبات البحث لأن الذي حاج إبراهيم كان من عبدة الأصنام، وهم ينكرون البعث. وذلك موضع العبرة من سياق الآية في القرآن على مسامع أهل الشرك، ثم أعقبه بدلالة الأمانة، فإنه لا يستطيع تنهية حياة الحي، ففي الإحياء والأمانة دلالة على أنهما من فعل فاعل غير البشر، فالله هو الذي يحيي ويميت. فالله هو الباقي دون غيره الذين لا حياة لهم أصلا كالأصنام إذ لا يعطون الحياة غيرهم وهم فاقدوها،ودون من لا يدفع الموت على نفسه مثل هذا الذي حاج إبراهيم.
وجملة {قَالَ أَنَا أُحْيِي} بيان لحاج والتقدير حاج إبراهيم قال أنا أحيي وأميت حين قال له إبراهيم: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} وقد جاء بمغالطة عن جهل وغرور في الإحياء والإماتة إذ زعم أنه يعمد إلى من حكم عليه بالموت فيعفو عنه، وإلى بريء فيقتله، كذا نقلوه. ويجوز أن يكون مراده أن الإحياء والإماتة من فعله هو لأن أمرهما خفي لا يقوم عليه برهان محسوس.
وقرأ الجمهور ألف ضمير "أنا" بقصر الألف بحيث يكون كفتحة غير مشبعة وذلك استعمال خاص بألف "أنا" في العربية. وقرأه نافع وأبو جعفر مثلهم إلا إذا وقع بعد الألف همزة قطع مضمومة أو مفتوحة كما هنا، وكما في قوله تعالى: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:163] فيقرأه بألف ممدودة. وفي همزة القطع المكسورة روايتان لقالون عن نافع نحو قوله تعالى: {إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ} [الأعراف:188] وهذه لغة فصيحة.

وقوله: {قال إبراهيم} مجاوبة فقطعت العطف جريا على طريقة حكاية المحاورات، وقد عدل إبراهيم عن الاعتراض بأن هذا ليس من الإحياء المحتج به ولا من الإماتة المحتج بها، فأعرض عنه لما علم من مكابرة خصمه وانتقل إلى ما لا يستطيع الخصم انتحاله، ولذلك بهت أي عجز لم يجد معارضة.
وبهت فعل مبني للمجهول يقال بهته فبهت بمعنى أعجزه عن الجواب فعجز أو فاجأه بما لم يعرف دفعه قال تعالى: {بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ} [الانبياء:40] وقال عروة العذري:
فما هو إلا أن أراها فجاءة ... فأبهت حتى ما أكاد أجيب
ومنه البهتان وهو الكذب الفظيع الذي يبهت سامعه.
وقوله: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} تذييل هم حوصلة الحجة على قوله: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}، وإنما انتفى هدي الله لقوم الظالمين لأن الظلم حائل بين صاحبه وبين التنازل إلى التأمل من الحجج وإعمال النظر فيما فيه النفع، إذ الذهن في شاغل عن ذلك بزهوه وغروره.
والآية دليل على جواز المجادلة والمناظرة في إثبات العقائد، والقرآن مملوء بذلك، وأما ما نهي عنه من الجدل فهو جدال المكابرة والتعصب وترويج الباطل والخطأ.
[259] {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
تخيير في التشبيه على طريقة التشبيه، وقد تقدم بيانها عند قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} [البقرة:19] لأن قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ} [البقرة:258] في معنى التمثيل والتشبيه كما تقدم، وهو مراد صاحب "الكشاف" بقوله: "ويجوز أن يحمل على المعنى دون اللفظ كأنه قيل: "أرايت كالذي حاج أو كالذي مر" وإذ قد قرر بالآية قبلها ثبوت انفراد الله بالإلاهية، وذلك أصل الإسلام، أعقب بإثبات البعث الذي إنكاره أصل أهل الشرك.

واعلم أن العرب تستعمل الصيغتين في التعجب: يقولون ألم تر إلى كذا، ويقولون أرأيت مثل كذا أو ككذا، وقد يقال ألم تر ككذا لأنهم يقولون لم أر كاليوم في الخير أو في الشر، وفي الحديث: "فلم أره كاليوم منظرا قط" وإذا كان ذلك يقال في الخير جاز أن يدخل عليه الاستفهام فتقول: ألم تر كاليوم – في الخير والشر -، وحيث حذف الفعل المستفهم عنه فلك أن تقدره على الوجهين، وما صاحب "الكشاف" إلى تقديره: أرأيت كالذي لأنه الغالب في التعجب مع كاف التشبيه.
والذي مر على قرية قيل هو أرميا بن حلقيا، وقيل هو عزير بن شرخيا "عزرا بن سريا" والقرية بيت المقدس في أكثر الأقوال، والذي يظهر لي أنه حزقيال ابن بوزي نبي إسرائيل كان معاصرا لأرميا ودانيال وكان من جملة الذين أسرهم بختنصر إلى بابل في أوائل القرن السادس قبل المسيح، وذلك أنه لما رأى عزم بختنصر على استئصال اليهود وجمعه آثار الهيكل ليأتي بها إلى بابل، جمع كتب شريعة موسى وتابوت العهد وعصا موسى ورماها في بئر أرشليم خشية أن يحرقها بختنصر، ولعله اتخذ علامة يعرفها بها وجعلها سرا بينه وبين أنبياء زمانه وورثتهم من الأنبياء. فلما أخرج إلى بابل بقي هنالك وكتب كتابا في مراء رآها وحيا تدل على مصائب اليهود وما يرجى لهم من الخلاص، وكان آخر ما كتبه في السنة الخمسة والعشرين بعد سبي اليهود، ولم يعرف له خبر بعد كما ورد في تاريخهم، ويظن أنه مات أوقتل. ومن جملة ما كتبه: "أخرجني روح الرب وأنزلني في وسط البقعة وهي ملآنة عظاما كثيرة وأمرني عليها وإذا تلك البقعة يابسة فقال لي أتحيى هذه العظام، فقلت: يا سيدي الرب أنت تعلم. فقال لي: تنبأ على هذه العظام وقل لها: أيتها العظام اليابسة اسمعي كلمة الرب قال ها أنا ذا أدخل فيكم الروح وأضع عليكم عصبا وأكسوكم لحما وجلدا. فتنبأت، كما أمرني فتقاربت العظام كل عظم إلى عطمه، ونظرت وإذا باللحم والعصب كساها وبسط الجلد عليها من فوق ودخل فيهم الروح فحيوا وقامو على أقدامهم جيش عظيم جدا" ولما كانت رؤيا الأنبياء وحيا فلا شك أن الله لما أعاد عمران أورشليم في عهد عزرا النبي في حدود سنة 450 قبل المسيح أحيا النبي حزقيال – عليه السلام – ليرى مصداق نبوته، وأراه إحياء العظام، وأراه آية في طعامه وشرابه وحماره – وهذه مخاطبة بين الخالق وبعض أصفيائه على طريق المعجزة – وجعل خبره آية للناس من أهل الإيمان الذين يوقنون بما أخبرهم الله تعالى، أو لقوم أطلعهم الله على ذلك من أصفيائه، أو لأهل القرية التي كان فيها وفقد من بينهم فجاءهم من بعد مائة سنة وتحققه من يعرفه بصفاته، فيكون قوله تعالى: {مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} إشارة إلى

قوله: "أخرجني روح الرب وأمرني عليها". فقوله: {قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ} إشارة إلى قوله أتحيى هذه العظام فقلت يا سيدي أنت تعلم لأن كلامه هذا ينبأ باستبعاد إحيائها، ويكون قوله تعالى: {فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ} إلخ مما زاده القرآن من البيان على ما في كتب اليهود لأنهم كتبوها بعد مرور أزمنة، ويظن من هنا أنه مات في حدود 560 قبل المسيح، وكان تجديد أورشليم في حدود 458 فتلك مائة سنة تقريبا، ويكون قوله: {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً} تذكرة له بتلك النبوءة وهي تجديد مدينة إسرائيل.
وقوله: {وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} الخاوية: الفارغة من السكان والبناء والعرش جمع عرش وهو السقف. والظرف مستقر في موضع الحال، والمعنى أنه خاوية ساقطة على سقفها وذلك أشد الخراب لأن أول ما يسقط من البناء السقف ثم تسقط الجدران على تلك السقف. والقرية ÷ي بيت المقدس رآها في نومه كذلك أو رآها حين خربها رسل بختنصر، والظاهر الأول لأنه كان ممن سبي مع"يهوياقيم" ملك إسرائيل وهو لم يقع التخريب في زمنه بل وقع رفي زمن "صدقيا" أخيه بعد إحدى عشرة سنة.
وقوله: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} استفهام إنكار واستبعاد، وقوله: {فَأَمَاتَهُ اللَّهُ} التعقيب فيه بحسب المعقب فلا يلزم أن يكون أماته في وقت قوله: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ}. وقد قيل إنه نام فأماته الله في نومه.
وقوله: {ثُمَّ بَعَثَهُ} أي أحياه وهي حياة خاصة ردت بها روحه إلى جسده، لأن جسده لم يبل كسائر الأنبياء، وهذا بعث خارق للعادة وهو غير بعث الحشر.
وقوله: {لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} اعتقد ذلك بعلم أودعه الله فيه أو لأنه تذكر أنه نام في أول النهار ووجد الوقت الذي أفاق فيه آخر النهار.
وقوله: {فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ} تفريع على قوله: {لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ}. والأمر بالنظر أمر للاعتبار أي فانظره غي حال أنه لم يتسنه، والظاهر أن الطعام والشراب كانا معه حين أميت أو كانا موضوعين في قبره إذا كان من أمة أو في بلد يضعون الطعام للموتى المكرمين كما يفعل المصريون القدماء، أو كان معه طعام حين خرج فأماته الله في نومه كما قيل ذلك.
ومعنى {لَمْ يَتَسَنَّهْ} لم يتغير، وأصله مشتق من السنة لأن مر السنين يوجب التغير

وهو مثا تحجر الطين، والهاء أصلية لا هاء سكت، وربما عاملوا هاء سنة معاملة التاء في الاشتقاق فقالوا أسنت فلان إذا أصابته سنة أي مجاعة، قال مطرود الخزاعي، أو ابن الزبعري:
عمرو الذي هشم الثريد لقومه ... قوم بمكة مسنتين عجاف
وقوله: {وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ} قيل: كان حماره قد بلي فلم تبق إلا عظامه فأحياه الله أمامه. ولم يؤت مع قوله: {وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ} بذكر الحالة التي هي محل الاعتبار لأن مجرد النظر إليه كاف، فهو رآه عظاما ثم رآه حيا، ولعله هلك فبقي بتلك الساحة التي كان فيه حزقيال بعيدا عن العمران، وقد جمع الله له أنواع الإحياء إذ أحيى جسده بنفخ الروح – عن غير إعادة - وأحيى طعامه بحفظه من التغير وأحيى حماره بالإعادة فكان آية عظيمة للناس الموقنين بذلك، ولعل الله اطلع على ذلك الإحياء بعض الأحياء من أصفيائه.
فقوله: {وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً} معطوف على مقدر دل عليه قوله: {فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ} وانظر إلى حمارك، فإن الأمر فيه للاعتبار لأنه ناظر إلى ذلك لا محالة، والمقصود اعتباره في استبعاده أن يحيي الله القرية بعد موتها، فكان من قوة الكلام انظر إلى ما ذكر جعلناه آية لك على البعث وجعلناك آية للناس لأنهم لم يروا طعامه وشرابه وحماره، ولكن رأوا ذاته وتحققوه بصفاته. ثم قال له: وانظر إلى العظام كيف ننشزها، والظاهر أن المراد عظام بعض الآدميين الذين هلكوا، أو أراد عظام الحمار فتكون "أل" عوضا عن المضاف إليه فيكون قوله إلى العظام في قوة البدل من حمارك إلا أنه برز فيه العامل المنوي تكريره.
وقرأ جمهور العشرة {نُنْشِرهَا} بالراء مضارع أنشر الرباعي بمعنى الإحياء. وقرأه ابن عامر وحمزة وعاصم والكسائي وخلف: {نُنْشِزُهَا} – بالزاي – مضارع أنشزه إذا رفغه، والنشز الارتفاع، والمراد إرتفاعها حين تغلظ بإحاطة العصب واللحم والدم بها فحصل من القراءتين معنيان لكلمة واحدة، وفي كتاب "حزقيال" "فتقاربت العظام كل عظم إلى عظمه، ونظرت وإذا بالعصب واللحم كساها وبسط الجلد عليها".
وقوله: {قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} قرأ الجمهور أعلم بهمزة قطع على أنه مضارع علم فيكون جواب الذي مر على قرية عن قول الله له: {فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ} الآية وجاء بالمضارع ليدل على ما في كلام هذا النبي من الدلالة على تجدد علمه بذلك لأنه علمه في قبل وتجدد علمه إياه. وقرأه حمزة والكسائي بهمزة وصل على أنه من كلام

الله تعالى، وكان الظاهر أن يكون معطوفا على: {فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ} لكنه ترك عطفه لأنه جعل كالنتيجة للاستدلال بقوله :{فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ} الآية.
[260] {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}
معطوف على قوله: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} [البقرة:259]، فهو مثال ثالث لقضية قوله: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:257] الآية ومثال ثاني لقضية {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} فالتقدير: أو هو كإبراههيم إذ قال رب أرني إلخ. فإن إبراهيم لفرط محبته الوصول إلى مرتبة المعاينة في دليل البعث رام الإنتقال من العلم النظري البرهاني، إلى العلم الضروري، فسأل الله أن يريه إحياء الموتى بالمحسوس.
وانتصب {كَيْفَ} هنا على الحال مجردة عن الاستفهام، كانتصابها في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} [آل عمران:6]
وقوله: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} الواو فيه واو الحال، والهمزة استفهام تقريري على هذه الحالة، وعامل الحال فعل مقدر دل عليه قوله: {أَرِنِي} والتقدير: أأريك في حال أنك لم تؤمن، وهو تقرير مجازي مراد به لفت عقله إلى دفع هواجس الشك، فقوله: {بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} كلام صدر عن إختباره يقينه وإلفائه سالما من الشك.
وقوله: {لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} معناه لينبت ويتحقق علمي وينتقل من معالجة الفكر والنظر إلى بساطة الضرورة بيقين المشاهدة وانكشاف المعلوم انكشافا لا يحتاج إلى معاودة الاستدلال ودفع الشبه عن العقل، وذلك أن حقيقة يطمئن يسكن، ومصدره الاطمئنان، واسم المصدر الطمأنينة، فهو حقيقة في سكون الأجسام، وإطلاقه على استقرار العلم في النفس وانتفعء معالجة الاستدلال أصله مجاز بتشبيه التردد وعلاج الاستدلال بالاضطراب والحركة، وشاع ذلك المجاز حتى صار مساويا للحقيقة، يقال اطمئن باله واطمئن قلبه.
والأظهر أن اطمأن وزنه افعلل وأنه لا قلب فيه، فالهمزة فيه هي لام الكلمة والميم عين الكلمة، وهذا قول أبي عمرو وهو البين إذ لا داعي إلى القلب، فإن وقوع الهمزة لاما أكثر وأخف من وقوعها عينا، وذهب سيبويه إلى أن اطأمن مقلوب وأصله اطمأن وقد سمع طمأنته وطأمنته وأكثر الاستعمال على تقديم الميم على الهمزة، والذي أوجب

الخلاف عدم سماع المجرد منه إذ لم يسمع طمن.
والقلب مراد به العلم إذ القلب لا يضطرب عند الشك ولا يتحرك عند إقامة الدليل وإنما ذلك للفكر، وأراد بالإطمئنان العلم المحسوس وانشراح النفس به وقد دله الله على طريقة يرى بها إحياء الموتى رأي العين.
وقوله: {فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ} اعلم أن الطير يطلق على الواحد مرادفا لطائر، فإنه من التسمية بالمصدر وأصلها وصف فأصلها الوحدة، ولا شك في هذا الإطلاق، وهو قول أبو عبيدة والأزهري وقطرب ولا وجه للتردد فيه، ويطلق على جمعه أيضا وهو اسم جمع طائر كصحب وصاحب، وذلك أن أصله المصدر والمصدر يجري على الواحد وعلى الجمع.
وجيء بمن للتبعيض لدلالة على أن الأربعة مختلفة الأنواع، والظاهر أن حكمة التعدد والاختلاف زيادة في التحقق أن الإحياء لم يكن أهون في بعض الأنواع دون بعض، فلذلك عددت الأنواع، ولعل جعلها أربعة ليكون وضعها على الجهات الأربعة: المشرق والمغرب والجنوب والشمال لئلا يظن لبعض الجهات مزيد اختصاص بتأتي الإحياء، ويجوز أن يكون المراد بالأربعة أربعة أجزاء من طير واحد فتكون اللام للعهد إشارة إلى طير حاضر، أى خذ أربعة من أجزائه ثم ادعهن، والسعي من أنواع المشي لا من أنواع الطيران، فجعل ذلك آية على أنهن أعيدت إليهن حياة مخالفة للحياة السابقة، لئلا يظن أنهن لم يمتن تماما.
وذكر كل جبل يدل على أنه أمر بجعل كل جزء من أجزاء الطير على جبل لأن وضعها على الجبال تقوية لتفرق تلك الأجزاء، فإنها فرقت بالفصل من أجسادها وبوضعها في أمكنة متباعدة وعسرة التناول.
والجبل قطعة عظيمة من الأرض ذات حجارة وتراب ناتئة تلك القطعة من الأرض المستوية، وفي الأرض جبال كثيرة متفاوتة الارتفاع، وفي بعضها مساكن للبشر مثل جبال طيء، وبعضها تعتصم به الناس من العدو كما قال السمؤال:
لنا جبل يحتله من نجيره ... منيع يرد الطرف وهو كليل
ومعنى {صُرْهُنَّ} أدنهن أو أيلهن يقال صاره يصوره ويصيره بمعنى وهو لفظ عربي على الأصح وقيل معرب، فعن عكرمة أنه نبطي، وعن قتادة هو حبشي، وعن وهب هو

رومي، وفائدة الأمر بإدنائها أن يتأمل أحوالها حتى يعلم بعد إحيائها أنها لم ينتقل جزء منها عن موضعه.
وقوله: {ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً} عطف على محذوف دل عليه قوله: {جُزْءاً} لأن تجزئتهن إنما تقع بعد الذبح. فالتقدير فاذبحهن ثم اجعل إلخ.
وقرأ الجمهور {فَصُرْهُنَّ} - بضم الصاد وسكون الراء – من صاره يصوره، وقرأ حمزة وأبو جعفر وخلف ورويس عن يعقوب {فصِرهن} – بكسر الصاد – من صار يصير لغة في هذا الفعل.
وقرأ الجمهور {جُزْءاً}- بسكون الزاي- وقرأه أبو بكر عن عاصم بضم الزاي، وهما لغتان.
[262,261] {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}
عود إلى التحريض على الإنفاق في سبيل الله، فهذا المثل راجع إلى قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:254] وهو استئناف بياني لأن قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ} [البقرة:254] الآية يثير في نفوس السامعين الاستشراف لما يلقاه المنفق في سبيل الله يومئذ بعد أن أعقب بدلائل ومواعظ وعبر وقد تهيأت نفوس السامعين إلى التمحض لهاذا المقصود فأطيل الكلام فيه إطالة تناسب أهميته.
وقوله: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} تشبيه حال جزائهم وبركتهم، والصلة مؤذنة بأن المراد خصوص حال إنفاقهم بتقدير مثل نفقة الدين. وقد شبه حال إعطاء النفقة ومصادفتها موقعها وما أعطي من الثواب لهم بحال حبة أنبتت سبع سنابل إلخ، أي زرعت في أرض نقية وتراب طيب وأصابها الغيث فأنبتت سبع سنابل. وحذف ذلك كله إيجازا لظهور أن الحبة لا تنبت ذلك إلا كذلك، فهو من تشبيه المعقول بالمحسوس والمشبه به هيأة معلومة، وجعل أصل التمثيل في التضعيف حبة لأن تضعيفها من ذاتها لا بشيء يزاد عليها، وقد شاع تشبيه المعروف بالزرع وتشبيه الساعي بالزارع، وفي المثل "رب ساع لقاعد وزارع غير حاصد" ولما كانت المضاعفة تنسب إلى أصل

وحدة، فأصل الوحدة هنا هي ما يثيب الله به على الحسنات الصغيرة، أي ما يقع ثوابا على أقل الحسنات كمن هم بحسنة فلم يعملها، فإنه في حسنة الإنفاق في سبيل الله يكون سبعمائة ضعف.
قال الواحدي في أسباب النزول وغيره:إن هذه الآية نزلت في عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف، ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد الخروج إلى غزوة التبوك حث الناس على الإنفاق في سبيل الله. وكان الجيش يومئذ بحاجة إلى الجهاز – وهو جيش العسرة – فجاءه عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف، وقال عثمان بن عفان: "علي جهاز من لا جهاز له", فجهز الجيش بألف بعير بأقتابها وأحلاسها وقيل جاء بألف دينار ذهبا فصبها في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومعنى قوله: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} أن المضاعفة درجات كثيرة لا يعلمها إلا الله تعالى، لأنها تترتب على أحوال المتصدق وأحوال المتصدق عليه وأوقات ذلك وأماكنه. وللإخلاص وقصد الامتثال ومحبة الخير للناس والإيثار على النفس وغير ذلك مما يخف بالصدقة والإنفاق، تأثير في تضعبف الأجر، والله واسع عليم.
وأعاد قوله: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ} إظهار للإهتمام بهذه الصلة. وقوله: {ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ} جاء في عطفه بشم مع أن الظاهر أن يعطف بالواو، قال في "الكشاف": "لإظهار التفاوت بين الإنفاق وترك المن والأذى، وإن تركهما خير من نفس رتبة الصدقة، لأن العطاع قد يصدر عن كرم النفس وحب المحمدة فاللنفوس حظ فيه مع حظ المعطى، بخلاف ترك المن والأذى فلا حظ فيه لنفس المعطي، فإن الأكثر يميلون إلى التبجح والتطاول على المعطى، فالمهلة في "ثم" هنا مجازية، إذ شبه حصول الشيء المهم – في عزة حصوله – بحصول الشيء المتأخر زمنه، وكأن الذي دعا الزمخشري إلى هذا أنه رأى معنى المهلة هنا غير مراد لأن المراد حصول الإنفاق وترك المن معا.
والمن أصله الإنعام والفضل، يقال من عليه منا، ثم أطلق على عد الإنعام على المنعم عليه، ومنه قوله تعالى: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر:6] وهو إذ ذكر بعد الصدقة والعطاء تعين للمعنى الثاني.
وإنما يكون المن في الإنفاق في سبيل الله بالتطاول على المسلمين والرياء بالإنفاق، وبالتطاول على المجاهدين الذين يجهزهم أو يحملهم، وليس من المن التمدح بمواقف

المجاهد في الجهاد أو بموافق قومه، فقد قال الحريش بن هلال القريعي يذكر خيله في غزوة فتح مكة ويوم حنين:
شهدن مع النبي مسومات ... حنينا وهي دامية الحوامي
ووقعة خالد شهدت وحكت ... سنابكها على بلد الحرام
وقال عباس بن مرداس يتمدح بمواقع قومه في غزوة حنين:
حتى إذا قال النبي محمد ... أبني سليم قد وفيتم فأرجعوا
عدنا ولولا نحن أحدق جمعهم ... بالمسلمين وأحرزوا ما جمعوا
والأذى هو أن يؤذي المنفق من أنفق عليه بإساءة في القول أو في الفعل قال النابغة:
علي لعمرو نعمة بعد نعمة ... لوالده ليست بذات عقارب
فالمقصد الشرعي أن يكون إنفاق المنفق في سبيل الله مرادا به نصر الدين ولا حظ للنفس فيه، فذالك هو أعلى درجات الإنفاق، وهو الموعود عليه بهذا الأجر الجزيل، ودون ذلك مراتب كثيرة تتفاوت أحوالها.
[264,263] {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}
تخلص من غرض التنويع بالإنفاق في سبيل الله إلى التنويه بضرب آخر من الإنفاق وهو الإنفاق على محاويج من الناس، وهو الصدقات. ولم يتقدم ذكر للصدقة إلا أنها تخطر بالبال عند ذكر الإنفاق في سبيل الله، فلما وصف الإنفاق في سبيل الله بصفة الإخلاص لله فيه بقوله: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا} [البقرة:262]الآية انتقل بمناسبة ذلك إلى طرد ذلك الوصف في الإنفاق على المحتاجين، فإن المن والأذى في الصدقة أكثر حصولا لكون الصدقة متعلقة بأشخاص معينين، بخلاف الإنفاق في سبيل الله فإن أكثر من تنالهم النفقة لا يعلمهم المنفق.
فالمن على المتصدق عليه هو تذكيره بالنعمة كما تقدم آنفا.

ومن فقرات الزمخشري في" الكلم النوابغ": "طعم الآلاء أحلى من المن. وهو أمرّ من الآلاء عند المن" الآلاء الأول النعم والآلاء الثاني شجر مر الورق، والمن الأول شيء شبه العسل يقع كالندى على بعض شجر بادية سينا وهو الذي في قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} [البقرة:57] والمن الثاني تذكير المنعم عليه بالنعمة.
والأذى الإساءة والضر القليل للمنعم عليه قال تعالى: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً} [آل عمران:111] والمراد به الأذى الصريح من المنعم للمنعم عليه كالتطاول عليه بأنه أعطاه، أو أن يتكبر عليه لأجل العطاء، بله تعييره بالفقر، وهو غير الأذى الذي يحصل عند المن.
وأشار أبو حامد الغزالي في كتاب الزكاة من "الإحياء" إلى أن المن له أصل ومغرس وهو من أحوال القلب وصفاته، ثم تتفرع عليه أحوال ظاهرة على اللسان والجوارح. ومنبع الأذى أمران: كراهية المعطي إعطاء ماله وشدة ذلك على نفسه ورؤيته أنه خير من الفقير، وكلاهما منشؤه الجهل، فإن كراهية تسليم المال حمق لأن من بذل المال أشرف مما بذله، وظنه أنه خير من الفقير جهل بخطر الغنى، أي أن مراتب الناس بما تتفاوت به نفوسهم من التزكية لا بعوارض الغنى والفقر التي لا تنشأ عن درجات الكمال النفساني.
ولما حذر الله المتصدق من أن يؤذي المتصدق عليه علم أن التحذير من الإضرار به كشتمه وضربه حاصل بفحوى الخطاب لأنه أولى بالنهي.
أوسع الله تعالى هذا المقام بيانا وترغيبا وزجرا بأساليب مختلفة وتفننات بديعة فنبهنا بذلك إلى شدة عناية الإسلام بالإنفاق في وجوه البر والمعونة.
وكيف لا تكون كذلك وقوام الأمة دوران أموالها بينها، وإن من أكبر مقاصد الشريعة الانتفاء بالثروة العامة بين أفراد الأمة على وجوه جامعة بين رعي المنفعة العامة ورعي الوجدان الخاص، وذلك بمراعاة العدل مع الذي كد لجمع المال وكسبه، ومراعاة الإحسان للذي بطأبه جهده، وهذا المقصد من أشرف المقاصد التشريعية. ولقد كان مقدار الإصابة والخطأ فيه هو ميزان ارتقاء الأمم وتدهورها، ولا تجد شريعة ظهرت ولا دعاة خير دعوا إلا وهم يجعلون لتنويل أفراد الأمة حظا من الأموال التي بين أيدي أهل الثروة وموضعا عظيما من تشريعهم أو دعوتهم، إلا أنهم في ذلك متفاوتون بين مقارب ومقصر أو آمل ومدبر، غير أنك لا تجد شريعة سددت السهم لهذا الغرض. وعرفت كيف تفرق بين المستحب فيه والمفترض. ومثل هذه الشريعة المباركة، فإنها قد تصرفت في

نظام الثروة العامة تصرفا عجيبا أقامته على قاعدة توزيع الثروة بين أفراد الأمة، وذلك بكفاية المحتاج من الأمة مؤونة حاجته، على وجوه لا تحرم المكتسب للمال فائدة اكتسابه وانتفائه به قبل كل أحد.
فأول ما ابتدأت به تأمين ثقة المكتسب – بالأمن على ماله – من أن ينتزعه منه منتزعإذ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء:29] وقال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع: "إن دماعكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا" سمع ذلك منه مائة ألف نفس أو يزيدون وتناقلوه في آفاق الإسلام حتى بلغ مبلغ التواتر، فكان من قواعد التشريع العامة قاعدة حفظ الأموال لا يستطيع مسلم إبطالها.
وقد أتبعت إعلان هذه الثقة بحفظ الأموال بتفاريع الأحكام المتعلقة بالمعاملات والتوثيقات، كمشروعية الرهن في السلف والتوثق بالإشهاد كما تصرح به الآيات الآتية وما سوى ذلك من نصوص الشريعة تنصيصا واستنباطا.
ثم أشارت إلى أن من مقاصدها ألا تبقى الأموال منتقلة في جهة واحدة أو عائلة أو قبيلة من الأمة بل المقصد دورانها بقوله تعالى في آية الفيء: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر:7] فضمير يكون عائد إلى ما أفاء الله باعتبار كونه مالا أي كي لا يكون المال دولة. والدولة ما يتداوله الناس من المال، أي شرعنا صرفه لمن سميناهم دون أن يكون لأهل الجيش حق فيه، لينال الفقراء منه حظوظهم فيصبحوا أغنياء فلا يكون مدالا بين طائفة الأغنياء كما كانوا في الجاهلية يأخذ قادتهم المرباع ويأخذ الغزاة ثلاثة الأرباع فيبقى المال كله لطائفة خاصة.
ثم عمدت إلى الانتزاع من هذا المال انتزاعا منظما فجعلت منه انتزاعا جبريا بعضه في حياة صاحب المال وبعضه بعد موته. فأما الذي في حياته، فهو الصدقات الواجبة، ومنها الزكاة، وهي في غالب الأحوال عشر المملوكات أو نصف عشرها أو ربع عشرها. وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم وجه تشريعها بقوله لمعذ بن جبل حين أرسله إلى اليمن: "إن الله فرض عليهم زكاة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم" وجعل توصيل ما توزيع من هذا المال لإقامة مصالح الناس وكفاية مؤن الضعفاء منهم، فصاروا بذلك ذوي حق في أموال الأغنياء، غير مهينين ولا مهددين بالمنع والقساوة. والتفت إلى الأغنياء فوعدهم على هذا

العطاء بأفضل ما وعد به المحسنون، من تسميته قرضا لله تعالى، ومن توفير ثوابه، كما جاءت به الآيات التي نحن بصدد تفسيرها.
ويلحق بهذا النوع أخذ الخمس من الغنيمة مع أنها حق المحاربين، فانتزع منهم ذلك وقال لهم: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} إلى قوله: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ} [الأنفال:41] فحرضهم على الرضا بذلك، ولا شك أنه انتزعه من أيدي الذين اكتسبوه بسيوفهم ورماحهم. وكذلك يلحق به النفقات الواجبة غير نفقة الزوجة لأنها غير منظور فيها إلى الانتزاع إذ هي في مقابلة تألف العائلة ولا نفقة الأولاد كذلك لأن الداعي إليها جبلي أما نفقة غير البنين عند من يوجب نفقة القرابة فهي من قسم الانتزاع الواجب، ومن الانتزاع الواجب الكفارات في حنث اليمين، وفطر رمضان، والظهار، والإيلاء، وجزاء الصيد. فهذا توزيع بعض مال الحي في حياته.
وأما توزيع المال بعد وفاة صاحبه فذلك ببيان فرائض الإرث على وجه لا يقبل الزيادة والنقصان. وقد كان العرب يعطون أموالهم لمن يحبون من أجنبي أو قريب كما قدمنا بيانه في قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [البقرة:180] وكان بعض الأمم يجعل الإرث للأكبر.
وجعل توزيع هذه الفرائض على وجه الرحمة بالناس أصحاب الأموال، فلم تعط أموالهم إلا لأقرب الناس إليهم، وكان توزيعه بحسب القرب كما هو معروف في مسائل الحجب من الفرائض، وبحسب الأحوجية إلى المال، كتفضيل الذكر على الأنثى لأنه يعول غيره والأنثى يعولها غيرها. والتفت في هذا الباب إلى أصحاب الأموال فترك لهم حق التصرف في ثلث أموالهم يعينون من يأخذه بعد موتهم على شرط ألا يكون وارثا، حتى لا يتوصلوا بذلك إلى تنفيل وارث على غيره.
وجعلت الشريعو من الانتزاع انتزاعا مندوبا إليه غير واجب، وذلك أنواع المواساة بالصدقات والعطايا والهدايا والوصايا وإسلاف المعسر بدون مرابات وليس في الشريعة انتزاع أعيان المملوكات من الأصول فالانتزاع لا يعدو انتزاع الفوائد بالعدالة والمساواة.
وجملة {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ} إلى آخرها مستأنفة استئنافا بيانيا، وتنكير {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ} للتقليل، أي أقل قول معروف خير من صدقة يتبعها أذى. والمعروف هو الذي يعرفه الناس، أي لا ينكرونه. فالمراد به القول الحسن وهو ضد الأذى.

والمغفرة هنا يراد بها التجاوز عن الإساءة، أي تجاوز المتصدق عن الملح أو الجافي في سؤاله إلحاحه أو جفاءه مثل الذي يسأل فيقول : أعطني حق الله الذي عندك أو نحو ذلك ويراد بها أيضا تجاوز الله تعالى عن الذنوب بسبب تلك الصدقة إذا كان معها قول معروف، وفي هذا تعريض بان الاذى يوشك أن يبطل ثواب الصدقة.
وقوله: {وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} تذييل للتذكير بصفتين من صفات الله تعالى ليتخلق بهما المؤمنون وهما: الغني الراجع إلى الترفع عن مقابلة العطية بما يبرد غليل شخ نفس المعطي، والحلم الراجع إليه العفو والصفح عن رعونة بعض العفاة.
والإبطال جعل الشيء باطلا، أي زائلا غير نافع لما أريد منه. فمعنى بطلان العمل عدم ترتب أثره الشرعي عليه سواء كان العمل واجبا أم كن متطوعا به، فإن كان العمل واجبا فبطلانه عدم إجزائه بحيث لا تبرأذمة المكلف من تكليفه بذلك العمل وذلك إذا اختل ركن أو شرط من العمل. وإن كان العمل متطوعا به رجع البطلان إلى عدم الثواب على العمل لمانع شرعي من اعتبار ثوابه وهو المراد هنا جمعا بين أدلة الشريعة.
وقوله: {كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} الكاف ظرف مستقر هو حال من ضمير تبطلوا، أي لا تكونوا في اتباع صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس وهو كافر لا يؤمن بالله واليوم الآخر، وإنما يعطي ليراه الناس وذلك عطاء أهل الجاهلية.
فالموصول من قوله: {كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ} مراد به جنس وليس مراد به جنس وليس مراد به معينا ولا واحدا، والغرض من هذا التشبيه تفظيع المشبه به وليس المراد المماثلة في الحكم الشرعي، جمعا بين الأدلة الشرعية.
والرئاء –بهمزتين – فعلا من رأى، وهو أن يكثر من إظهار أعماله الحسنة للناس، فصيغة الفعال فيه للمبالغة والكثرة، وأولى الهمزتين أصلية والأخيرة مبدلة عن الياء بعد الألف الزائدة، ويقال رياء –بياء بعد راء – على إبدال همزة ياء بعد الكسرة.
والمعنى تشبيه بعض المتصدقين المسلمين الذين يتصدقون طلبا للثواب ويعقبون صدقاتهم بالمن والأذى، بالمنفقين الكافرين الذين يتفقون أموالهم لا يطلبون من إنفاقها إلا الرئاء والمدحة – إذ هم لا يتطلبون أجر الآخرة –
ووجه الشبه عدم الانتفاع مما أعطوا بأزيد من شفاء ما في صدورهم من حب التطاول على الضعفاء وشفاء خلق الأذى المتطبعين عليه دون نفع في الآخرة.

ومثل حال الذي ينفق ماله رئاء الناس المشبه به- تمثيلا يسري إلى الذين يتبعون صدقاتهم بالمن والأذى بقوله: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ} إلخ – وضمير مثله عائد إلى الذي ينفق ماله رئاء الناس، لأنه لما كان تمثيلا لحال المشبه به كان لا محالة تمثيلا لحال المشبه، ففي الكلام ثلاثة تشبيهات.
مثل حال الكافر الذي ينفق ماله رئاء الناس بحال صفوان عليه تراب يغشيه، يعني يخاله الناظر تربة كريمة صالحة للبذر، فتقدير الكلام عليه تراب صالح للزرع فحذفت صفة التراب إيجازا اعتمادا على أن التراب الذي يرقب الناس أن يصيبه وابل هو التراب الذي يبذرون فيه، فإذا زرعه الزارع وأصابه وابل وطمع الزارع في زكاء زرعه، جرفه الماء من وجه الصفوان فلم يترك منه شيئا وبقي مكانه صلدا أملس فخاب أمل زارعه.
وهذا ذاحسن و أدق من أن نجعل المعنى تمثيل إنفاق الكافر بحال تراب على صفوان اصابه وابل فجرفه، وأن وجه الشبه هو سرعة الزوال وعدم القرار كقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} [ابراهيم:18] فإن مورد تلك الآية مقام آخر.
ولك1 أن تجعل كاف التشبيه في قوله تعالى: {كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ} صفة لمصدر محذوف دل عليه ما في لفظ صدقاتهم من معنى الإنفاق وحذف المضاف بين الكاف وبين اسم الموصول، والتقدير إنفاقا كإنفاق الذي ينفق ماله رئاء الناس.
وقد روعي في هذا التمثيل عكس التمثيل لمن ينفق ماله في سبيل الله بحبة أغلت سبعمائة حبة.
فالتشبيه تشبيه مركب معقول بمركب محسوس. ووجه الشبه الأمل في حالة تغر بالنفع ثم لا تلبث الا تأتي لآملها بما أمله فخاب أمله. ذلك أن المؤمنين لا يخلون من رجاء حصول الثواب لهم من صدقاتهم، ويكثر أن تعرض الغفلة للمتصدق فيتبع صدقته بالمن والأذى اندفاعا مع خواطر خبيثة..
وقوله: {لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا} أوقع موقعا بديعا من نظم الكلام تنهال به معان كثيرة فهو بموقعه كان صالحا لأن يكون حالا من الذي ينفق ماله رئاء الناس
ـــــــ
1 هذا مقابل قولنا في الصفحة السابقة " هو حال من ضمير تبطلوا"

فيكون مندلرجا في حالة المشبهة، وإجراء ضمير كسبوا ضمير جمع لتأويل الذي ينفق بالجماعة، وصالحا لأن يكون حالا من مثل صفوان باعتبار أنه مثل على نحو من جوز في قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} [البقرة:19] إذ تقديره فيه كمثل ذوي صيب فلذلك جاء ضميره بصيغة الجمع رعيا للمعنى وإن كان لفظ المعاد مفردا، وصالح لأن يجعل استينافا بيانيا لأن الكلام الذي قبلهيثير سال سائل عن مغبة أمر المشبه، وصالحا لأن يجعل تذييلا وفذلكة لضرب المثل فهو عود عن بدء قوله: {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة:264] إلى آخر الكلام.
وصالحا لأن يجعل حالا من صفوانن أي لا يقدرون على شيء مما كسبوا منه وحذف عائد الصلة لأنه ضمير مجرور بما جر به اسم الموصول. ومعنى {لا يَقْدِرُونَ} لا يستطيعون أن يسترجعوه ولا انتفعوا بثوابه فلم يبق لهم منه شيء.
ويجوز أن يكون المعنى لا يحسنون وضع شيء مما كسبوا موضعه، فهم يبذلون مالهم لغير فائدة تعود عليهم في آجالهم، بدليل قوله: {اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}.
والمعنى فتركه صلدا لا يحصدون منه زرعا كما في قوله: {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا} [الكهف:42].
وجملة {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} تذييل والواو اعتراضية وهذا التذييل مسوق لتحذير المؤمنين من تسرب أحوال الكافرين إلى أعمالهم فإن من أحوالهم المن على من ينفقون وأذاه.
[265] {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}
عطف مثل الذين ينفقون أموالهم في مرضاة الله على مثل الذي ينفق ماله رئاء الناس، لزيادة بيان ما بين مرتبتين من البون وتأكيدا للثناء على المنفقين بإخلاص، وتفننا في التمثيل. فإنه قد مثله فيما سلف بحبة أنبتت سبع سنابل، ومثله فيما سبق بتمثيل غير كثير التركيب لتحصل السرعة بتخيل مضاعفة الثواب، فلما مثل حال المنفق رئاء بالتمثيل الذي مضى أعيد تمثيل حال المنفق ابتغاء مرضاة الله بما هو أعجب في حسن التخيل، فإن الأمثال تبهج السامع كلما كانت أكثر تركيبا وضمنت الهيأة المشبه بها أحوالا حسنة

تكسبها حسنا ليسري ذلك التحسين إلى المشبه، وهذا من جملة مقاصد التشبيه.
وانتصب {ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً} على الحال بتأويل المصدر بالوصف، أي مبتغين مرضاة الله ومثبتين من أنفسهم. ولا يحسن نصبهما على المفعول له، أما قوله "ابتغاء" فلأن مفاد الابتغاء هو مفاد اللام التي ينتصب المفعول لأجلهبإضمارها، لأن يؤول إلى معنى لأجل طلبهممرضاة الله وأما قوله "وتثبيتا" فلأن حكمة حكم ما عطف هو عليه.
والتثبيت تحقيق الشيء وترسيخه، وهو تمثيل يجوز أن يكون لكبح النفس عن التشكك والتردد، أي أنهم يمنعون أنفسهم من التردد في الإنفاق في وجوه البر ولا يتركون مجالا لخواطر الشخ، وهذا من قولهم ثبت قدمه أي لم يتردد ولم ينقص، فإن إراضة النفس على فعل ما يشق عليها لها أثر في رسوخ الأعمال حتى تعتاد الفضائل وتصير لها ديدنا.
وإنفاق المال من أعظم ما ترسخ به الطاعة في النفس لأن المال ليس أمرا هينا على النفس، وتكون "من" على هذا الوجه للتبعيض، لكنه تبعيض مجازي باعتبار الأحوال، أي تثبيتا لبعض أحوال النفس.
وموقع "من" هذه في الكلام يدل على الاستنزال والاقتصاد في تعلق الفعل، بحيث لا يطلب تسلط الفعل على جميع ذات المفعول بل يكتفى ببعض المفعول، والمقصود الترغيب في تحصيل الفعل والاستدراج إلى تحصيله،وظاهر كلا "الكشاف" يقتضي أنه جعل التبعيض فيها حقيقيا.
ويجوز أن يكون تثبيتا تمثيلا للتصديق أي تصديقا لوعد الله وإخلاصا في الدين ليخالف حال المنافقين، فإن امتثال الأحكام الشاقة لا يكون إلا عن تصديق للآمر بها، أي يدلون على تثبيت من أنفسهم.
و"من" على هذا الوجه ابتدائية، أي تصديقا صادرا من أنفسهم.
ويجيء على الوجه الأول في تفسير التثبيت معنى أخلاقي جليل أشار إليه الفخر، وهو ما تقررفي الحكمة الخلقية أن تكرر الأفعال هو الذي يوجب حصول الملكة الفاضلة في النفس، بحيث تنساق عقب حصولها إلى الكمالات باختيارها، وبلا كلفة ولا ضجر. فالإيمان يأمر بالصدقة وأفعال البر والذي يأتي تلك المأمورات يثبت نفسه بأخلاق

الإيمان، وعلى هذا الوجه تصير الآية تحريضا على تكرير الإنفاق
ومثل هذا الإنفاق بجنة بربوة إلخ، ووجه الشبه هو الهيأة الحاصلة من مجموع أشياء تكامل بها تضعيف المنفعة، فهيأة المشبهة هي النفقة التي حف بها طلب رضى الله والتصديق بوعده فضوعفت أضعافا كثيرة أو دونها في الكثرة، والهيأة المشبهة بها هي هيأة الجنة الطيبة المكان التي جاءها التحتان فزكا ثمرها وتزايدت فأكملت الثمرة، أو أصابها طل فكان دون ذلك.
والجنة مكان من الأرض ذو شجر كثيربحيث يجن أي يستر الكائن فيه فاسمها مشتق من جن إذا ستر، وأكثر ما تطلق الجنة في كلامهم عل ذات الشجر المثمر المختلف الأصناف، فأما ما كان مغروسا نخيلا بحتا فإنما يسمى حائطا. والمشتهر في بلاد العرب من الشجر المثمر غير النخيل هو الكرم وثمره العنب أشهر الثمار في بلدهم بعد التمر فقد كان الغالب على بلاد اليمن والطائف. ومن ثمارهم الرمان،فإن كان النخل معها قيل لها جنة أيضا كما في الآية التي بعد هذه. ومما يدل على أن الجنة لا يراد بها حائط النخل قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ} [الأنعام:141] فعطف النخل على جنات، وذكر العريش وهو مما يجعل للكرم، هذا ما يستخلص من كلام علماء اللغة.
وقد حصل من تمثيل حال الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله بحبة ثم بجنة جناس مصحف.
والربوة بضم الراء وفتحها مكان من الأرض مرتفع دون الجبيل. وقرأجمهور العشرة بربوة بضم الراء وقرأ ابن عامر وعاصم بفتح الراء وتخصيص الجنة بأنها في ربوة لأن أشجار الربى تكون أحسن منظرا وأزكى ثمرا فكان لهذا القيد فائدتان إحداهما قوة وجه الشبه كما أفاده قول: {ضِعْفَيْنِ} والثانية تحسين المشبه به الراجع إلى تحسين المشبه في تخيل السامع.
والأكل بضم الهمزة وسكون الكاف وبضم الكاف أيضا، وقد قيل إن كل فُعْل في كلام العرب فهو مخفف فُعُل كعنق وفلك وحمق، وهو في الأصل ما يؤكل وشاع في ثمار الشجر قال تعالى: {ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ} [سبأ:16] وقال: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [ابراهيم:25] وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر ويعقوب "أكلها" بسكون الكاف، وقرأ ابن عامر وحمزة وعاصم والكسائي وخلف بضم الكاف.

وقوله: {ضِعْفَيْنِ} التثنية فيه لمجرد التكرير – مثل لبيك – أي أتت أكلها مضاعفا على تفاوتها.
قوله: {فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ}، أي فإن لم يصبها مطر غزير كفاها مطر قليل فأتت أ:لها دون الضعفين. والمعنى أن الإنفاق لابتغاء مرضاة الله له ثواب عظيم، وهو مع ذلك – متفاوت على مقدار تفاوت الإخلاص في الابتغاء والتثبيت كما تتفاوت أحوال الجنات الزكية في مقدار زكائها ولكنها لا تخيب صاحبها.
[266] {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}
استئناف بياني أثاره ضرب المثال العجيب للمنفق في سبيل الله بمثل حبة أنبتت سبع سنابل ومثل جنة بربوة إلى آخر ما وصف من المثلين. ولما أبع بما يفيد أن ذلك إنما هو للمنفقين في سبيل الله الذين لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى، ثم أتبع بالنهي عن أن يتبعوا صدقاتهم بالمن والأذى، استشرفت نفس السامع لتلقي مثل لهم يوضح حالهم الذميمة كما ضرب المثل لمن كانوا بضد حالهم في حالة محمودة.
ضرب الله هذا مثلا لمقابل مثل النفقة لمرضاة الله والتصديق وهو نفقة الرثاء، ووجه الشبه هو حصول خيبة ويأس في وقت تمام الرجاء وإشراف الإنتاج، فهذا مقابل قوله: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} [البقرة:265] الآية وقد وصف الجنة بأعظم ما يحسن به أحوال الجنات وما يرجى منه توفر ريعها، ثم وصف صاحبها بأقصى صفات الحاجة إلى فائدة جنته، بأنه ذوعيال فهو في حاجة إلى نفعهم وأنهم ضعفاء – أي صغار – إذ الضعيف في "لسان العرب" هو القاصر، ويطلق الضعيف على الفقير أيضا، قال تعالى: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً} [البقرة:282] وقال أبو خالد العتابي:
لقد زاد الحياة إلي حبا ... بناتي إنهن من الضعاف
وقد أصابه الكبر ولا قدرة له على الكسب غير تلك الجنة، فهذه أشد الأحوال الحرص كقول الأعشى:
كجابية الشيخ العراق تفهق

فحصل من تفصيل هذه الحالة أعظم الترقب لثمرة هذه الجنة كما كان المعطي صدقته في ترقب لثوابها.
فأصابها إعصار، أي ريح شديدة تقلع الشجر والنبات، فيها نار أي شدة حرارة، وهي المسماة بريح السموم، فإطلاق لفظ مار على شدة الحر تشبيه بليغ فأحرقت الجنة أي - أشجارها – أي صارت أعوادها يابسة، فهذا مفاجأة الخيبة في حين رجاء المنفعة.
والاستفهام في قوله: {أيود} استفهام إنكار وتحذير كما في قوله: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً} [الحجرات:12] والهيأة المشبهة محذوفة وهي هيأة المنفق نفقة متبعة بالمن والأذى.
روى البخاري أن عمر بن الخطاب سأل يوما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ترون هذه الآية نزلت: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} الآية فقال بعضهم: "الله أعلم"، فغضب عمر وقال: "قولوا نعلم أو لا نعلم فقال ابن عباس: "في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين"، فقال عمر: "يا ابن أخي قل ولا تحقر نفسك"، قال ابن عباس: "ضربت مثلا لعمل" ، قال عمر: "أي عمل؟" ، قال ابن عباس: "لعمل" ، قال: "صدقت لرجل غني يعمل بطاعة الله، ثم بعث الله عز وجل إليه الشيطان لما فني عمره فعمل في المعاصي حتى أحرق عمله".
وقوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ} تذييل، أي كهذا البيان الذي فيه تقريب المعقول بالمحسوس بين الله نصحا لكم رجاء تفكركم في العواقب حتى لا تكونوا على غفلة. والتشبيه في قوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ} نحو ما في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة:143]
[267] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}
إفضاء إلى المقصود وهو الأمر بالصدقات بعد أن قدم بين يديه مواعظ وترغيب وتحذير. وهي طريقة بلاغية في الخطابة والخطاب. فربما قدموا المطلوب ثم جاءوا بما يكسبه قبولا عند السامعين، وربما قدموا ما يكسب القبول قبل المقصود كما هنا. وهذا من ارتكاب خلاف مقتضى الظاهر في ترتيب الجمل’ ونكتة ذلك أنه قد شاع بين الناس

الترغيب في الصدقة وتكرر ذلك في نزول القرآن فصار غرضا دينيا مشهورا، وكان الاهتمام بإيضاحه والترغيب في أحواله والتنفير من نقائصه أجدر بالبيان. ونظير هذا قول علي في خطبته التي خطبها حين دخل سفيان الغامدي – أحد قواد أهل الشام – بلد الأنبار وهي من البلاد المطيعة للخليفة علي – وقتلوا عاملها حسان بن حسان البكري: "أما بعد فإن من ترك الجهاد رغبة عنه ألبسه الله ثوب الذل، وشمله البلاء وديث بالصغار’ وضرب على قلبه، وسيم الخسف، ومنع النصف. ألا وإني قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم ليلا ونهارا وقلت لكم اغزوهم قبل أن يغزوكم، فوالله ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا فتواكلتم. هذا أخو غامد قد وردت خيله الأنباع"إلخ وانظر كلمة "الجهاد" في هذه الخطبة فلعل أصلها القتال كما يدل عليه قوله بعده إلى قتا هؤلاء فحرفها قاصد أو غافل ولا إخالها تصدر عن علي رضي الله عنه.
والأمر يجوز أ، يكون للوجوب فتكون الآية في الأمر بالزكاة، أو للندب وهي في صدقة التطوع، أو هو للقدر المشترك في الطلب فتشمل الزكاة وصدقة التطوع، والأدلة الأخرى تبين حكم الكل.والقيد بالطيبات يناسب تعميم النفقات.
والمراد بالطيبات خيار الأموال، فيطلق الطيب على الأحسن في صنفه. والكسب ما يناله المرء بسعيه كالتجارة والإجارة والغنيمة والصيد. ويطلق الطيب على المال المكتسب بوجه حلال لا يخالطه ظلم ولا غش، وهو الطيب عند الله كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من تصدق بصدقة من كسب طيب – ولا يقبل الله إلا طيبا – تلقاها الرحمان بيمينه" الحديث, وفي الحديث الآخر: "إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا". ولم يذكر الطيبات مع قوله: {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} اكتفاء عنه بتقدم ذكره في قسيمه، ويظهر أن ذلك لم يقيد بالطيبات لأن قوله: {أَخْرَجْنَا لَكُمْ} أشعر بأنه مما اكتسبه المرء بعمله بالحرث والغرس ونحو ذلك لأن الأموال الخبيثة تحصل غالبا من ظلم الناس أو التحيل عليهم وغشهم وذلك لا يتأتى في الثمرات المستخرجة من الأرض غالبا.
والمراد بما أخرج من الأرض الزروع والثمار، فمنه ما يخرج بنفسه، ومنه ما يعالج بأسبابه كالسقي للشجر والزرع، ثم يخرجه الله بما أوجد من الأسباب العادية. وبعض المفسرين عد المعادن داخلة في {مَا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ}. وتجب على المعدن الزكاة عند مالك إذا بلغ النصاب، وفيه ربع العشر. وهو من الأموال المفروضة، وليس بزكاة عند أبي حنيفة’ ولذلك قال فيه الخمس. وبعضهم عد الركاز داخلا فيما

أخرج من الأرض ولكنه يخمس، وألحق في الحكم بالغنيمة عند المالكية. ولعل المراد بما كسبتم الأموال المزكاة من العين والماشية، وبالمخرج من الأرض الحبوب والثمار المزكاة.
وقوله: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} أصل تيمموا تتيمموا، حذفت تاء المضارعة في المضارع وتيمم بمعنى قصد وعمد.
والخبيث الشديد سوء في صنفه ولذلك يطلق على الحرام وعلى المستقذر. قال تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [لأعراف:157] وهو الضد الأقصى للطيب فلا يطلق على الرديء إلا على وجه المبالغة، ووقوع لفظه في سياق النهي يفيد عموم ما يصدق عليه اللفظ.
وجملة {مِنْهُ تُنْفِقُونَ} حال، والجار والمجرور معمولان للحال قدما عليه للدلالة على الاختصاص، أي لا تقصدوا الخبيث في حال إلا تنفقوا إلا منه، لأن محل النهي أن يخرج الرجل صدقته من خصوص رديء ماله. أما إخراجه من الجيد ومن الرديء فليس بمنهي لاسيما في الزكاة الواجبة لأنه يخرج عن كل ما عنده من نوعه. وفي حديث "الموطأ" في البيوع: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل عاملا على صدقات خيبرفأتاه بتمر جنيب فقال له: "أكل تمر خيبر هكذا"؟ قال: لا، ولكني أبيع الصاعين من الجمع بصاع من جنيب1 فقال له: "بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا" فدل على أن الصدقة تؤخذ من كل نصاب من نوعه، ولكن المنهي عنه أن يخص الصدقة بالأصناف الرديئة. وأما في الحيوان فيؤخذ الوسط لتعذر التنويع غالبا إلا إذا أكثر عدده فلا إشكال في تقدير الظرف هنا.
وقرأ الجمهور {تَيَمَّمُوا} بتاء واحدة خفيفة وصلا وابتداء، أصله تتيمموا، وقرأه البزي عن ابن كثير بتشديد التاء في الوصل على اعتبار الإدغام.
وقوله: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} جملة حالية من ضمير تنفقون ويجوز أن يكون الكلام على ظاهره من الإخبار فتكون جملة الحال تعليلا لنهيهم عن الإنفاق من المال الخبيث شرعا بقياس الإنفاق منه على اكتسابه قياس مساواة أي كما تكرهون كسبه كذلك ينبغي أن تكرهوا إعطاءه. وكأن كراهية كسبه كانت معلومة لديهم متقررة في نفوسهم، ولذلك وقع القياس عليها.
ـــــــ
1 الجمع صنف من التمر رديء والجنيب صنف طيب.

ويجوز أن يكون الكلام مستعملا في النهي عن أخذ المال الخبيث، فيكون الكلام منصرفا إلى غرض ثان وهو النهي عن أخذ المال الخبيث والمعنى لا تأخذوه، وعلى كلا الوجهين هو مقتض تحريم اللأخذ المال المعلومة على من هو بيده ولا يحله انتقاله إلى غيره.
والإغماض إطباق الجفن ويطلق مجازا على لازم ذلك، فيطلق تارة على الهناء والاستراحة لأن من لوازم الاغماض راحة النائم قال الأعشى:
عليك مثل الذي صليت فاغتمضي ... جفنا فإن لجنب المرء مضطجعا
أراد فاهنئي. ويطلق تارة علا لازمه من عدم الرؤية فيدل على التسامح في الأمر المكروه كقول الترماح:
لم يفتنا بالوتر قوم وللض ... يم رجال يرضون بالإغماض
فإذا أرادوا المبالغة في التغافل عن المكروه الشديد قالوا: أغمض عينه على قذى، وذلك لأن إغماض الجفن مع وجود القذى في العين. لقصد الراحة من تحرك القذى، قال عبد العزيز بن زرارة الكلائي1:
وأغمضت جفون على قذاها ... ولم أسمع إلى قا وقيل
والاستثناء في قوله: {إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} على الوجه الأول من جعل الكلام إخبارا، هو تقييد للنفي. وأما على الوجه الثاني من جعل النفي بمعنى النهي فهم من تأكيد الشيء بما يشبه ضده أما لا تأخذوه إلا إذا تغاضيتم عن النهي وتجاهلتموه.
وقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} تذييل، أي شاكر لمن تصدق صدقة طيبة. وافتتحه باعلموا للاهتمام بالخبر كما تقدم عند قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ} [البقرة:223] أو نزل المخاطبون الذين نهوا عن الإنفاق من الخبيث منزلة من لا يعلم أن الله
ـــــــ
1 الكلائي نسبة إلى الكلاء بوزن جبار محلة بالبصرة قرب الشاطي. وهذه الأبيات قالها بعد أن مكث عاما بباب معاوية لم يؤذن له ثم أذن له وأدناه وأولاه مصر، وقبله:
دخلت على معاوية ابن حرب ... ولكن بعد يأس من دخول
وما نلت الدخول عليه حتى ... حللت محلة الرجل الذليل

غني فأعطوا لوجهه ما يقبله المحتاج بكل حال ولم يعلموا أنه يحمد من يعطي لوجهه من طيب الكسب.
والغني الذي لا يحتاج إلى ما تكثر حاجة غالب الناس إليه، ولله الغنى المطلق فلا يعطى لأجله ولامتثال أمره إلا خير ما يعطيه أحد للغنى عن المال.
والحميد من أمثلة المبالغة، أي شديد الحمد، لأنه يثني على فاعل الخيرات. ويجوز أن يكون المراد أنه محمود، فيكون حميد بمعنى مفعول، أي فتخلقوا بذلك لأن صفات الله تعالى كمالات، فكونوا أغنياء القلوب عن الشخ محمودين على صدقاتكم، ولا تعطوا صدقات تؤذن بالشح ولا تشكرون عليها.
[268] {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}
{الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ}
استئناف عن قوله: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة:267] لأن الشيطان يصد الناس عن إعطاء خيار أموالهم، ويغريهم بالشح أو بإعطاء الرديء والخبيث، ويخوفهم من الفقر إن أعطوا بعض مالهم.
وقدم اسم الشيطان مسندا إليه لأن تقديمه مؤذن بذم الحكم، كما يقال في مثال علم المعاني "السفاح في دار صديقك"، ولأن في تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي تقوي الحكم وتحقيقه.
ومعنى {يَعِدُكُمُ} يسول لكم وقوعه في المستقبل إذا أنفقتم خيار أموالكم، وذلك بما يلقيه في قلوب الذين تخلقوا بالأخلاق الشيطانية. وسمي الإخبار بحصول أمر في المستقبل وعدا مجازا لأن الوعد إخبار بحصول شيء في المستقبل من جهة المخبر، ولذلك يقال:أنجز فلان وعده أي أخلف وعده، ولا يقال أنجز خبره، ويقولون صدق خبره وصدق وعده، فالوعد أخص من الخبر، وبذلك يؤذن كلام أئمة اللغة. فشبه إلقاء الشيطان في نفوسهم توقع الفقر بوعد منه بحصوله لا محالة، ووجه الشبه ما في الوعد من معنى التحقق، وحسن هذا المجاز هنا مشاكلته لقوله: {وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً} فإنه وعد حقيقي.

ثم إن كان الوعد يطلق على التعهد بالخير والشر كما هو كلام "القاموس" – تبعا لفصيح ثعلب – ففي قوله يعدكم الفقر مجاز واحد، وإن كان خاصا بالخير كما هو قول الزمخشري في الأساس، ففي قوله: {يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} مجازان.
والفقر شدة الحاجة إلى لوازم الحياة لعلة أو فقد ما يعاوض به، وهو مشتق من فقار الظهر، فأصله مصدر فقره إذا كسر ظهره، جعلوا العاجز بمنزلة من لا يستطيع أدنى حركة لأن الظهر هو مجمع الحركات، ومن هذا تسميتهم المصيبة فاقرة، وقاصمة الظهر، ويقال فقر وفقر وفقر – بفتح فسكون، وبفتحتين، وبضم فسكون، وبضمتين -، ويقال رجل فقير، ويقال رجل فقر وصفا بالمصدر.
والفحشاء اسم لفعل أو قول شديد السوء واستحقاق الذم عرفا أو شرعا. مشتق من الفحش – بضم الفاء وسكون الحاء – تجاوز الحد. وخصه الاستعمال بالتجاوز في القبيح، أي يأمركم بفعل قبيح. وهذا ارتقاء في التحذير من الخواطر الشيطانية التي تدعو إلى الأفعال الذميمة، وليس المراد بالفحشاء البخل لأن لفظ الفحشاء لا يطلق على البخل وإن كان البخيل يسمى فاحشا. وإطلاق الأمر على وسوسة الشيطان وتأثير قوته في النفوس مجاز لأن الأمر في الحقيقة من أقسشام الكلام. والتعريف في الفحشاء تعريف الجنس.
{وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}
عطف على جملة {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} لإظهار الفرق بين ما تدعو إليه وساوس الشيطان وما تدعوا إليه أوامر الله تعالى، والوعد فيه حقيقة لا محالة. والقول في تقديم اسم الجلالة على الخبر الفعلي في قوله: {وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ} على طريقة القول في تقديم اسم الشيطان في قوله: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ}
ومعنى "واسع" أنه واسع الفضل ، والوصف بالواسع مشتق من وسع المتعدي – إذا عم بالعطاء ونحوه – قال الله تعالى: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً} [غافر:7] وتقول العرب: "لا يسعني أن أفعل كذا"، أي لا أجد فيه سعة، وفي حديث علي في وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد وسع الناس بشره وخلقه فالمعنى هنا أنه وسع الناس والعالمين بعطائه.
[269] {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}

هذه الجملة اعتراض وتذييل لما تضمنته آيات الإنفاق من المواعظ والآداب وتلقين الأخلاق الكريمة، مما يكسب العاملين به رجاحة العقل واستقامة العمل.
فالمقصود التنبيه إلى نفاسة ما وعظهم الله به، وتنبيههم إلى أنهم قد أصبحوا به حكماء بعد أن كانوا في جاهلية جهلاء. فالمعنى: هذا من الحممة التي آتاكم الله، فهو يؤتي الحكمة من يشاء، وهذا كقوله: {وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ} [البقرة:231]
قال الفخر: "نبه على أن الأمر الذي لأجله وجب ترجيح وعد الرحمن على وعد الشيطان هو أن وعد الرحمن ترجحه الحكمة والعقل، ووعد الشيطان ترجحه الشهوة والحس من حيث إنهما يأمران بتحصيل اللذة الحاضرة، ولا شك أن حكم الحكمة هو الحكم الصادق المبرأ عن الزيغ، وحكم الحس والشهوة يوقع في البلاء والمحنة. فتعقيب قوله: {وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً} [البقرة:268] بقوله: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ} إشارة إلى أن ما وعد به تعالى من المغفرة والفضل من الحكمة، وأن الحكمة كلها من عطاء الله تعالى، وأن الله تعالى يعطيها من يشاء.
والحكمة إتقان العلم وإجراء الفعل على وفق ذلك العلم، فلذلك قيل:نزلت الحكمة على ألسنة العرب، وعقول اليونان، وأيدي الصينيين. وهي مشتقة من الحكم-وهو المنع – لأنها تمنع صاحبها من الوقوع في الغلط والضلال، قال تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود:1] ومنه سميت الحديدة التي في اللجام وتجعل في فم الفرس، حكمة.
ومن يشاء الله تعالى إيتاءه الحكمة هو الذي يخلقه مستعدا إلى ذلك، من سلامة عقله واعتدال قواه، حتى يكون قابلا لفهم الحقاءق منقادا إلى الحق إذا لاح له، لا يصده عن ذلك هوى ولا عصبية ولا مكابرة ولا أنفة، ثم ييسر له ذلك من حضور الدعاة وسلامة البقعة من العتاة فإذا انضم إلى ذلك توجهه إلى الله بأن يزيد أسبابه تيسيرا ويمنع عنه ما يحجب الفهم فقد كمل له التيسير. وفسرت الحكمة بأنها معرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه بما تبلغه الطاقة، أي بحيث لا تلتبس الحقائق المتشابهة بعضها مع بعض ولا يغلط في العلل والأسباب.
والحكمة قسمت أقساما مختلفة الموضوع اختلافا باختلاف العصور والأقاليم. ومبدأ ظهور علم الحكمة في الشرق عند الهنود البراهمة والبوذيين، وعند أهل الصين البوذيين، وفي بلاد فارس في حكمة زرادشت، وعند القبط في حكمة الكهنة. ثم انتقلت حكمة

هؤلاء الأمم الشرقية إلى اليونان وهذبت وصححت وفرعت وقسمت عندهم إلى قسمين: حكمة عملية، وحكمة نظرية.
فأما الحكمة العملية فهي المتعلقة بما يصدر من أعمال الناس، وهي تنحصر في تهذيب النفس، وتهذيب العائلة، وتهذيب الأمة.
والأول علم الأخلاق، وهو التخلق بصفات العلو الإلاهي بحسب الطاقة البشرية فيما يصدر عنه كمال في الإنسان.
والثاني علم تدبير المنزل.
والثالث علم السياسة المدنية والشرعية.
وأما الحكمة النظرية في الباحثة عن الأمور التي تعلم وليست من الأعمال، وإنما تعلم لتمام استقامة الأفهام والأعمال، وهي ثلاثة علوم:
علم يلقب بالأسفل وهو الطبيعي، وعلم يلقب بالأوسط وهو الرياضي، وعلم يلقب بالأعلى وهو الإلهي
فالطبيعي يبحث عن الأمور العامة للتكوين والخواص والكون والفساد، ويندرج تحته حوادث الجو وطبقات الأرض والنبات والحيوان والإنسان، ويندرج فيه الطب والكيمياء والنجوم.
والرياضي الحساب والهندسة والهيأة والموسيقي، ويندرج تحته الجبر والمساحة والحيل المتحركة "الماكينية" وجر الأثقال.
وأما الإلهي فهو خمسة أقسام: معني الموجودات، وأصول ومبادئ وهي المنطق ومناقضة الآراء الفاسدة، وإثبات واجب الوجود وصفاته، وإثبات الأرواح والمجردات وإثبات الوحي والرسالة، وقد بين ذلك أبو نصر الفارابي وأبو علي ابن سينا.
فأما المتأخرون – من حكماء الغرب – فقد قصروا الحكمة في الفلسفة على ما وراء الطبيعة وهو ما يسمى عند اليونان بالإلهيات.
والمهم من الحكمة في نظر الدين أربعة فصول:
أحدها معرفة الله حق معرفته وهو علم الاعتقاد الحق، ويسمى عند اليونان العلم الإلهي أو ما وراء الطبيعة.

الثاني ما يصدر عن العلم به كمال نفسية الإنسان، وهو علم الأخلاق,
الثالث تهذيب العائلة، وهو المسمى عند اليونان علم تدبير المنزل.
الرابع تقويم الأمة وإصلاح شؤونها وهو المسمى علم السياسة المدنية، وهو مندرج في أحكام الإمامة والأحكام السلطانية. ودعوة الإسلام في أصوله وفروعه لا تخلو عن شعبة من هذه الحكمة.
وقد ذكر الله الحكمة في مواضع كثيرة من كتابه مرادا بها ما فيه صلاح النفوس، من النبوءة والهدى والإرشاد. وقد كانت الحكمة تطلق عند العرب على الأقوال التي فيها إيقاظ للنفس ووصاية بالخير، وإخبار بتجارب السعادة والشقاوة، وكليات جامعة لجماع الآداب. وذكر الله تعالى - في كتابه – حكمة لقمان ووصاياه في قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} [لقمان:12] الأيات. وقد كانت لشعراء العرب عناية بإبداء الحكمة في شعرهم وهي إرسال الأمثال، كما فعل زهير في الأبيات التي أولها "رأيت المنايا خبط عشواء" والتي افتتحها بمن ومن في معلقته. وقد كانت بيد بعض الأحبار صحائف فيها آداب ومواعظ مثل شيء من جامعة سليمان عليه السلام وأمثاله، فكان العرب ينقلون منها أقوالا. وفي "صحيح البخاري" في باب الحياء من كتاب الأدب أن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحياء لا يأتي إلا بخير"، فقال بشير بن كعب العدوي: مكتوب في الحكمة إن من الحياء وقارا وإن من الحياء سكينة، فقال له عمران: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحدثني عن صحيفتك"
والحكيم هو النابغ في هاته العلوم أو بعضها فبحكمته يعتصم من الوقوع في الغلط والضلال بمقدار مبلغ حكمته، وفي الغرض الذي تتعلق به حكمته.
وعلوم الحكمة هي مجموع ما أرشد إليه هدي الهداة من أهل الوحي الإلاهي الذي هو أصل إصلاح عقول البشر، فكان مبدأ ظهور الحكمة في الأديان، ثم ألحق بها ما أنتجه ذكاء العقول من أنظارهم المتفرعة على أصول الهدى الأول. وقد مهد قدماء الحكماء طرائق من الحكمة فنبعت ينابيع الحكمة في عصور متقاربة كانت فيها مخلوطة بالأوهام والتخيلات والضلالات. بين الكلدانيين والمصريين والهنود والصين، ثم درسها حكماء اليونان فهذبوا وأبدعوا، وميزوا علم الحكمة عن غيره، وتوخوا الحق ما استطاعوا فأزالوا أوهاما عظيمة وأبقوا كثيرا. وانحصرت هذه العلوم في طريقتي سقراط وهي نفسية، وفيثاغورس وهي رياضية عقلية. والأولى يونانية والثانية لإيطالليا اليونانية. وعنهما أخذ

أفلاطون، واشتهر أصحابه بالإشراقيين، ثم أخذ عنه أفضل تلامذته وهو أرسططاليس وهذب طريقته ووسع العلوم، وسميت أتباعه بالمشائين، ولم تزل الحكمة من وقت ظهوره معولة على أصوله إلى يومنا هذا
{وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} وهو الذي شاء الله إيتاءه الحكمة والخير الكثير منجر إليه من سداد الرأي والهدي الإلهي، ومن تفاريع قواعد الحكمة التي تعصم من الوقوع في الغلط والضلال بمقدار التوغل في فهمها واستحضار مهمها، لأننا إذا تتبعنا ما يحل بالناس من المصائب نجد معظمها من جراء الجهالة والضلالة وأفن الرأي. وبعكس ذلك نجد ما يجتنيه الناس من المنافع والملائمات منجرا من المعارف والعلم بالحقائق، ولو أننا علمنا الحقائق كلها لاجتنبنا كل ما نراه موقعا في البؤس والشقاء.
وقرأ الجمهور {ومن يؤت} بفتح المثناة الفوقية بصيغة المبني للنائب، على أن ضمير يؤت نائب فاعل عائد على من الموصولة وهو رابط الصلة بالموصول. وقرأ يعقوب ومن يؤتِ الحكمة – بكسر المثناة الفوقية – بصيغة البناء للفاعل. فيكون الضمير الذي في فعل يؤت عائدا إلى الله تعالى، وحينئذ فالعائد ضمير نصب محذوف والتقدير: ومن يؤته الله.
وقوله: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} تذييل للتنبيه على أن من يشاء الله إيتاء الحكمة هو ذو اللب. وأن تذكر الحكمة واستصحاب إرشادها بمقدار استحضار اللب وقوته اللب في الأصل خلاصة الشيء وقلبه، وأطلق هنا على عقل الإنسان لأنه أنفع شيء فيه.
[270] {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}
{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ}
تذييل للكلام السابق المسوق للأمر بالإنفاق وصفاته المقبولة والتحذير من المثبطات عنه ابتداء من قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة:267]
والمقصود من هذا التذييل التذكير بأن الله لا يخفى عليه شيء من النفقات وصفاتها، وأدمج النذر مع الإنفاق فكان الكلام جديرا بأن يكون تذييلا.

والنذر التزام قربة أو صدقة بصيغة الإيجاب على النفس كقوله علي صدقة، وعلى تجهيز غاز أو نحو ذلك،ويكون مطلقا ومعلقا على شيء. وقد عرفت العرب النذر من الجاهلية، فقد نذر عبد المطلب أنه إن رزق عشرة أولاد ليذبحن عاشرهم قربانا للكعبة، وكان ابنه العاشر هو عبد الله ثاني الذبيحين، وأكرم بها مزية، ونذرت نتيلة زوج عبد المطلب – لما افتقدت ابنها العباس وهو صغير – أنها إن وجدته لتكسون الكعبة الديباج ففعلت. وهي أول من كسى الكعبة الديباج. وفي حديث البخاري أن عمر بن الخطاب قال: يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن اعتك ليلة في المسجد الحرام، فقال: "أوف بنذرك".
وفي الأمم السالفة كان النذر، وقد حكى الله عن امرأة عمران {إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً} [آل عمران:35] والآية دلت على مشروعيته في الإسلام ورجاء ثوابه، لعطفه على ما هو من فعل الخير سواء كان النذر مطلقا أو معلقا، لأن الآية أطلقت، ولأن قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} مراد به الوعد بالثواب. وفي الحديث الصحيح عن عمر وابنه عبد الله وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن النذر لا يقدم شيئا ولا يؤخر ولا يرد شيئا ولا يأتي ابن آدم بشيء لم يكن قدر له، ولكنه يستخرج به من البخيل". ومساقة الترغيب في النذر غير المعلق لا إبطال فائدة النذر. وقد مدح الله عباده فقال: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الانسان:7] وفي "الموطأ" عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه".
ومن في قوله: {مِنْ نَفَقَةٍ} و {مِنْ نَذْرٍ} بيان لما أنفقتم ونذرتم، ولما كان شأن البيان أن يفيد معنى زائدا على معنى المبين، وكان معنى المبين هنا عين معنى المبين، تعين أن يكون المقصود منه العين المنفق والمنذور بما في تنكير مجرور من من إرادة أنواع النفقات والمنذورات فأكد بذلك العموم ما أفادته ما الشرطية من العموم من خير أو شر في سبيل الله أو في سبيل الطاغوت، قال التفتازاني: "مثل هذا البيان يكون لتأكيد العموم ومنع الخصوص"
وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} كناية عن الجزاء عليه لأن علم الله بالكائنات لا يشك فيه السامعون، فأريد لازم معناه، وإنما كان لازما له لأن القادر لا يصده عن الجزاء إلا عدم العلم بما يفعله المحسن أو المسيء.
{وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}

هذا وعيد قوبل به الوعد الذي كني عنه بقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} والمراد بالظالمين المشركون علنا والمنافقون، لأنهم إن منعوا الصدقات الواجبة فقد ظلموا مصارفها في حقهم في المال وظلموا أنفسهم بإلقائها في تبعات المنع، وإن منعوا صدقة التطوع فقد ظلموا أنفسهم بحرمانها من فضائل الصدقات وثوابها في الآخرة.
والأنصار جمع نصير، ونفي الأنصار كناية عن نفي النصر والغوث في الآخرة وهو ظاهر، وفي الدنيا لأنهم لما بخلوا بنصرهم الفقير بأموالهم فإن الله يعدمهم النصير في المضايق، ويقسي عليهم قلوب عباده، ويلقي عليهم الكراهية من الناس.
{إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [البقرة:271]
استئناف بياني ناشء عن قوله: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} [البقرة:270] إذ أشعر تعميم "من نفقة" بحال الصدقات الخفية فيتساءل السامع في نفسه هل إبداء الصدقات يعد ريائا وقد سمع قبل ذلك قوله: {كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} [البقرة:264] ولأن قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} قد كان قولا فصلا في اعتبار نيات المتصدقين وأحوال ما يظهرونه منها وما يخفونه من صدقاتهم. فهذا الاستئناف يدفع توهما من شأنه تعطيل الصدقات والنفقات، وهو أن يمسك المرء عنها إذا لم يجد بدا من ظهورها فيخشى أن يصيبه الرياء.
والتعريف في قوله: {الصَّدَقَاتِ} تعريف الجنس، ومحمله على العموم فيشمل كل الصدقات فرضها ونفلها، وهو المناسب لموقع هذه الآية عقب ذكر أنواع النفقات.
وجاء الشرط بإن في الصدقتين لأنها أصل أدوات الشرط، ولا مقتضى للعدول عن الأصل، إذ كلتا الصدقتين مرض لله تعالى، وتفضيل صدقة السر قد وفى به صريح قوله: {فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}
وقوله: {فَنِعِمَّا} أصله فنعم ما، فأدعم المثلان وكسرت عين نعم لأجل التقاء الساكنين، وما في مثله نكرة تامة أي متوغلة في الإبهام لا يقصد وصفها بما يخصصها، فتمامها من حيث عدم اتباعها بوصف لا من حيث أنها واضحة المعنى، ولذلك تفسر بشيء. ولما كانت كذلك تعين أن تكون في موضع التمييز لضمير نعم المرفوع المستتر، فالقصد منه التنبيه على القصد إلى عدم التمييز حتى إن المتكلم – إذا ميز – لا يميز إلا

بمثل المميز
وقوله: {هي} مخصوص بالمدح، أي الصدقات، وقد علم السامع أنها الصدقات المبدأة، بقرينة فعل الشرط، فلذلك كان تفسير المعنى فنعما إبداؤها.
وقرأ ورش عن نافع وان كثير وحفص ويعقوب فنِعِمَّا – بكسر العين وتشديد الميم من نعم مع ميم ما – وقرأه ابن عامر وحمزة والكسائي بفتح النون وكسر العين. وقرأه قالون عن نافع وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم بكسر النون واختلاس حركة العين بين الكسر والسكون. وقرأه أبو جعفر بكسر النون وسكون العين مع بقاء تشديد الميم، ورويت هذه أيضا عن قالون وأبيعمرو وأبي بكر.
وقوله: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} تفضيل لصدقة السر لأن فيها إبقاء على ماء وجه الفقير، حيث لم يطلع عليه غير المعطي. وفي الحديث الصحيح، عد من السبعة الذين يظلهم الله بظله "..... ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه" "يعني من شدة القرب بين اليمين والشمال، لأن حساب الدراهم ومناولة الأشياء بتعاونهما، فلو كانت الشمال من ذوات العلم لما اطلعت على ما أنفقته اليمين".
وقد فضل الله في هذه الآية صدقة السر على صدقة العلانية على الإطلاق، فإن حملت الصدقات على العموم – كما هو الظاهر – إجراءا للفظ الصدقات مجرى لفظ الإنفاق في الآي السابقة واللاحقة – كان إخفاء صدقة الفرض والنفل أفضل، وهو قول جمهور العلماء، وعن إلكيا الطبري أن هذا أحد قول الشافعي. وعن المهدوي: كان الإخفاء أفضل فيهما في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ساءت ظنون الناس بالناس فاستحسن العلماء إظهار صدقة الفرض، قال ابن عطية: وهذا مخالف للآثار أن إخفاء الصدقة أفضل. فيكون عموم الصدقات في الآية مخصوصا بصدقة التطوع، ومخصص العموم الإجماع، وحكى ابن العربي الإجماع عليه. وإن أريد بالصدقات في الآية غير الزكاة كان المراد بها أخص من الإنفاق المذكور في الآي قبلها وبعدها، وكان تفضيل الإخفاء مختصا بالصدقات المندوبة. وقال ابن عباس والحسن: إظهار الزكاة أفضل، وإخفاء صدقة التطوع أفضل من إظهارها وهو قول الشافعي.
وقوله: {وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ} توقف المفسرون في حكمة ذكره، مع العلم بأن الصدقة لا تكون إلا للفقراء، وأن الصدقة المبدأة أيضا تعطي للفقراء.

فقال العصام: "كأن نكتة ذكره هنا أن الإبداء لا ينفك عن إيتاء الفقراء، لأن الفقير يظهر فيه ويمتاز عن غيره إذ يعلمه الناس بحاله، بخلاف الإخفاء فاشترط معه إيتاؤها للفقير حثا على الفحص عن حال من يعطيه الصدقة" "أي لأن الحريصين – من غير الفقراء – يستحيون أن يتعرضوا للصدقات الظاهرة ولا يصدهم شيء عن التعرض للصدقات الخفية".
وقال الخفاجي:"لم يذكر الفقراء مع المبدأة لأنه أريد بها الزكاة ومصارفها الفقراء وغيرهم، وأما الصدقة المخفاة فهي صدقة التطوع ومصارفها الفقراء فقط". وهو ضعيف لوجهين:أحدهما أنه لا وجه لقصر الصدقة المبدأة على الفريضة ولا قائل به بل الخلاف في أن تفضيل الإخفاء هل يعم الفريضة أولا، الثاني أن الصدقة المتطوع بها لا يمتنع صرفها لغير الفقراء كتجهيز الجيوش.
وقال الشيخ ابن عاشور جدي في تعليق له على حديث فضل إخفاء الصدقة من "صحيح مسلم": "عطف إيتاء الفقراء على الإخفاء المجعول شرطا للخيرية في الآية – مع العلم بأن الصدقة للفقراء – يؤذن بأن الخيرية لإخفاء حال الفقير وعدم إظهار اليد العليا عليه"، أي فهو إيماء إلى العلة وأنها الإبقاء على ماء وجه الفقير، وهو القول الفصل لانتفاء شائبة الرياء.
وقوله: {وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} قرأه نافع والكسائي وأبو بكر وأبو جعفر وخلف بنون العظمة، وبجزم الراء عطفا على موضع جملة الجواب وهي جملة فهو خير لكم، فيكون التكفير معلقا على الإخفاء. وقرأه ابن كثير وأبو عمرو بالنون أيضا وبرفع الراء على أنه وعد على إعطاء الصدقات ظهرة أو خفية وقرأه ابن عامر وحفص بالتحتية – على أنه ضميره عائد إلى الله – وبالرفع.
[272] {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ}
استئناف معترض به بين قوله: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ} [البقرة:271] وبين قوله: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ} ومناسبته هنا أن الآيلت المتقدمة يلوح من خلالها أصناف من الناس: منهم الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ومنهم

الذين يبطلون صدقاتهم بالمن والأذى، ومنهم الذين يتيممون الخبيث منه ينفقون، ومنهم من يعدهم الشيطان الفقر ويأمرهم بالفحشاء. وكان وجود هذه الفرق مما يثقل على النبي صلى الله عليه وسلم، فعقب الله ذلك بتسكين نفس رسوله والتهوين عليه بأن ليس عليه هداهم ولكن عليه البلاغ. فالهدى هنا بمعنى الإلجاء لحصول الهدي في قلوبهم، وأما الهدي بمعنى التبليغ والإرشاد فهو على النبي، ونظائر هذا في القرآن كثيرة. فالضمير راجع إلى جميع من بقي فيهم شيء من عدم الهدى أنه وأشدهم المشركون والمنافقون، وقيل الضمير راجع إلى ناس معروفين، روي أنه كان لأسماء ابنة أبي بكر أم كافرة وجد كافر فأرادت أسماء – عام عمرة القضية – أن تواسيهما بمال، وأنه أراد بعض الأنصار الصدقة على قرابتهم وأصهارهم في بني النضير وقريظة، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين عن الصدقة على الكفار، إلجاء لأولئك الكفار على الدخول في الإسلام، فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} الآيات، أي هدى الكفار إلى الإسلام، أي فرخص للمسلمين الصدقة على أولئك الكفرة.
فالضمير عائد إلى معلوم للمخاطب. فيكون نزول الآية لذلك السبب ناشئا عن نزول أيات الأمر بالإنفاق والصدقة، فتكون الآيات المتقدمة سبب السبب لنزول هذه الآية.
والمعنى أن ليس عليك أن تهديهم بأكثر من الدعوة والإرشاد، دون هداهم بالفعل أو الإلجاء، إذ لا هادي لمن يضلل الله، وليس مثل هذا بميسر للهدى.
والخطاب في {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} ظاهره أنه خطاب للرسول على الوجه الأول الذي ذكرناه في معاد ضمير هداهم. ويجوز أن يكون خطابا لمن يسمع على الوجه الآتي في الضمير إذا اعتبرنا ما ذكروه في سبب النزول، أي ليس عليك أيها المتردد في إعطاء قريبك.
وعلى في قوله: {عليك} للاستيلاء المجازي، أي طلب فعل على وجه الوجوب.
والمعنى ليس ذلك بواجب على الرسول، فلا يحزن على عدم حصول هداهم لأنه أدى واجب التبليغ، أو المعنى ليس ذلك بواجب عليكم أيها المعالجين لإسلامهم بالحرمان من الإنفاق حتى تسعوا إلى هداهم بطرق الإلجاء.
وتقديم الظرف وهو {عليك} على المسند إليه وهو {هداهم} إذا أجرى على ما تقرر في علم المعاني من أن تقديم المسند الذي حقه التأخير يفيد قصر المسند إليه إلى المسند، وكان ذلك في الإثبات بينا لا غبار عليه نحو {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6]

وقوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة:286] فهو إذا وقع في سياق النفي غير بين لأنه إذا كان التقديم في صورة الإثبات مفيدا للحصر اقتضى أنه إذا نفي فقد نفي ذلك الانحصار، لأن الجملة المكيفة بالقصر في حالة الإثبات هي جملة مقيدة نسبتها بقيد الأنحصار أي بقيد انحصار موضوعها في معنى محمولها. فإذا دخل عليها النفي كان مقتضيا نفي النسبة المقيدة، أي نفي ذلك الانحصار، لأن شأن النفي إذا توجه إلى كلام مقيد أن ينصب على ذلك القيد. لكن أئمة الفن حين ذكروا أمثلة تقديم المسند على المسند إليه سووا فيها بين الإثبات – كما ذكرنا – وبين النفي نحو: {لا فِيهَا غَوْلٌ} فقد مثل به في "الكشاف" عند قوله تعالى: {لا فِيهَا غَوْلٌ} [الصافات:47] فقد مثل به في "الكشاف" عند قوله تعالى: {لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:2] فقال: "قصد تفضيل خمر الجنة على خمور الدنيا" وقال السيد في شرحه هنالك "عد قصرا للموصوف على الصفة أي الغول مقصور على عدم الحصول في خمور الجنة لا يتعداه إلى عدم الحصول فيما يقابله، أو عدم الغول مقصور على الحصول فيها لا يتجاوزه إلى الحصول في هذه الخمور". وقد أحلت عند قوله تعالى: {لاريب فيه} على هذه الآية هنا، فبنا أن نبين طريقة القصر بالتقديم في النفي، وهي أن القصر لما كان كيفية عارضة للتركيب ولم يكن قيدا لفظيا بحيث يتوجه النفي إليه كانت تلك الكيفية مستصحبة مع النفي، فنحو: {لا فِيهَا غَوْلٌ} يفيد قصر الغول على الانتفاء عن خمور الدنيا ولا يفيد قصر الغول على الكون في خمور الجنة. وإلى هذا أشار السيد في شرح "الكشاف" عند قوله: {لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:2] إذ قال: "وبالجملة يجعل حرف النفي جزءا أو حرفا من حروف المسند أو المسند إليه" وعلى هذا بنى صاحب "الكشاف" فجعل وجه أن لم يقدم الظرف في قوله: {لا رَيْبَ فِيهِ}كما قدم الظرف في قوله: {لا فِيهَا غَوْلٌ} لأنه لو أول لقصد أن كتابا آخر فيه الريب، لا في القرآن، وليس ذلك بمراد.
فإذا تقرر هذا فقوله: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} إذا أجري على هذا المنوال كان مفاده هداهم مقصور على انتفاء كونه عليك، فيلزم منه استفادة إبطال انتفاء كونه على غير المخاطب، أي إبطال انتفاء كونه على الله، وكلا المفادين غير مراد إذ لا يعتقد الأول ولا الثاني. فالوجه: إما أن يكون التقديم هنا لمجرد الاهتمام كتقديم يوم الندى في قول الحريري:
ما فيه من عيب سوى أنه ... يوم الندى قسمته ضيزى
بنفي كون هداهم حقا على الرسول تهوينا للأمر عليه، فأما الدلالة على كون ذلك

مفوضا إلى الله تعالى فمن قوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} وإما أن يكون جرى على خلاف مقتضى الظاهر بتنزيل السامعين منزلة من يعتقد أن إيجاد الإيمان في الكفار يكون بتكوين الله وبالإلجاء من المخلوق، فقصر هداهم على عدم الكون في إلجاء المخلوقين إياهم لا على عدم الكون في أنه على الله، فيلزم من ذلك أنه على الله، أي مفوض إليه.
وقوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} جيء فيه بحرف الاستدراك لما في الكلام المنفي من توهم إمكان هديهم بالحرص أو بالإلجاء، فمصب الاستدراك هو الصلة أعني {مَنْ يَشَاءُ}، فلا فائدة في إلجاء من لم يشأ الله هديه. والتقدير: ولكن هداهم بيد الله، وهو يهدي من يشاء، فإذا شاء الله أن يهديهم هداهم.
{وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ}
عطف على جملة: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ} [البقرة:271] وموقعها زيادة بيان فضل الصدقات كلها، وأنها لما كانت منفعتها لنفس المتصدق فليختر لنفسه ما هو خير، وعليه أن يكثر منها بنبذ كل ما يدعو لترك بعضها.
وقوله: {وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} جملة حالية، وهو خبر مستعمل في معنى الأمر، أي إنما تكون منفعة الصدقات لأنفسكم إن كنتم ما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله لا للرياء ولا لمراعاة حال مسلم وكافر، وهذا المعنى صالح لكلا المعنيين المحتملين في الآية التي قبلها. ويجوز كونها معطوفة عليها إذا كان الخبر بمعنى النهي، أيلا تنفقوا إلا ابتغاء وجه الله. وهذ الكلام خبر مستعمل في الطلب لقصد التحقيق والتأكيد، ولذلك خولف فيه أسلوب ما خف به من جملة: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ} - وجملة - {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ}.
وقوله: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} عطف على التي قبلها لبيان أن جزاء النفقات بمقدارها وأن من نقص له من الأجر فهو الساعي في نقصه. وكررر فعل تنفقون ثلاث مرات في الآية لمزيد الاهتمام بمدلوله وجيء به مرتين بصيغة الشرط عند قصد بيان الملازمة بين الإنفاق والثواب، وجيء به مرة في صيغة النفي والاستثناء لأنه قصد الخبر بمعنى الإنشاء، أي النهي عن أن ينفقوا إلا لابتغاء وجه الله.
وتقديم {وَأَنْتُمْ} على الخبر الفعلي لمجرد التقوى وزيادة التنبيه على أنهم

لا يظلمون، وإنما يظلمون أنفسهم.
وإنما جعلت هاته الأحكام جملا مستقلا بعضها عن بعض ولم تجعل جملة واحدة مقيدة فائدتها بقيود جميع الجمل وأعيد لفظ الإنفاق في جميعها بصيغ مختلفة تكريرا للاهتمام بشأنه، لتكون كل جملة مستقلة بمعناها قصيرة الألفاظ كثيرة المعاني فتجري مجرى الأمثال، وتتناقلها الأجيال.
وقد أخذ من الآيات الأخيرة – على أحد التفسيرين – جواز الصدقة على الكفار، والمراد بالكفار الذين يختلطون بالمسلمين غير مؤذنين لهم وهم أهل العهد وأهل الذمة والجيران. واتفق فقهاء الإسلام على جواز إعطاء صدقة التطوع للكافرين، وحكمة ذلك أن الصدقة من إغاثة الملهوف والكافر من عباد الله، ونحن قد أمرنا بالإحسان إلى الحيوان،ففي الحديث الصحيح: قالوا يا رسول الله وإن لنا في البهائم لأجرا. فقال: "في كل ذي كبد رطبة أجر"
واتفق الفقهاء على أن الصدقة المفروضة – أعني الزكاة – لا تعطى للكفار، وحكمة ذلك أنها إنما فرضت لإقامة أود المسلمين ومواساتهم، فهي مال الجامعة الإسلامية يؤخذ بمقادير معينة، ففيه غنى للمسلمين، بخلاف ما يعطيه المرء عن طيب نفس لأجل الرأفة والشفقة. واختلفوا في صدقة الفطر، فالجمهور ألحقوه بالصدقات المفروضة، وأبو حنيفة ألحقها بصدقة التطوع فأجاز إعطاؤها إلى الكفار، ولو قيل ذلك في غير زكاة الفطر، كان أشبه، فإن العيد عيد المسلمين، ولعله رآها صدقة شكر على القدرة على الصيام، فكان المنظور فيها حال المتصدق لا حال المتصدق عليه وليكونوا في ذلك اليوم أوسع حالا منهم في سائر المدة، وهذا القدر لا تظهر حكمته في فقراء الكافرين.
[273] {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ}
{لِلْفُقَرَاءِ} متعلق بتنفقون الأخير، وتعلقه به يؤذن بتعلق معناه بنظائره المقدمة، فما من نفقة ذكرت آنفا إلا وهي للفقراء لأن الجمل قد عضد بعضها بعضا.
و {الَّذِينَ أُحْصِرُوا} أي حبسوا وأرصدوا. ويحتمل أن المراد بسبيل الله هنا

الجهاد، فإن كان نزولها في قوم جرحوا في سبيل الله فصاروا زمني ففي للسببية والضرب في الأرض المشي للجهاد بقرينة قوله: {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} والمعنى أنهم أحقاء بأن ينفق عليهم لعجزهم الحاصل بالجهاد، وإن كانوا قوما بصدد القتال يحتاجون للمعونة، ففي للظرفية المجازية، وإن كان المراد بهم أهل الصفة1، وهم فقراء المهاجرين الذين خرجوا من ديارهم وأموالهم بمكة وجاءوا دار الهجرة لا يستطيعون الزراعة ولا تجارة، فمعنى أحصروا في سبيل الله عيقوا عن أعمالهم لأجل سبيل الله وهو الهجرة، ففي للتعليل وقد قيل: لإن أهل الصفة كانوا يخرجون في كل سرية يبعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه فسبيل الله هو الجهاد. ومعنى "أحصروا" على هذا الوجه أرصدوا. و"في" باقية على التعليل.
والظاهر من قوله: {لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً} أنهم عاجزون عن التجارة لقلة ذات اليد، والضرب في الأرض كناية عن التجر لأن شأن التاجر أن يسافر ليبتاع ويبيع فهو يضرب الأرض برجليه أو دابته.
وجملة {لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً} يجوز أن تكون حالا، وأن تكون بيانا لجملة أحصروا.
وقوله: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ} حال من الفقراء، أي الجاهل بحالهم من الفقر يظنهم أغنياء، ومن للإبتداء لأن التعفف مبدأ هذا الحسبان.
والتعفف تكلف العفاف وهو النزاهة عما يليق. وفي "البخاري: باب الاستعفاف عن المسألة، أخرج فيه حديث أبي سعيد: أن الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، حتى نفد ما عنده فقال: "ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم، ومن
ـــــــ
1 الصفة – بضم الصاد وتشديد الفاء- بهو واسع طويل السمك، وهو موضع بناه النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد النبوي في المدينة كالرواق ليأوي إليه فقراء المهاجرين الذين خرجوا من أموالهم بمكة وكانوا أربعمائة في عددهم وكانوا يقلون ويكثرون، منهم أبو ذر جندب الغفاري ومنهم أبو هريرة ومنهم جعيل بن سراقة الضمري ولم أقف على غيرهم. وذكر المرتضى في شرح "القاموس" أنه جمع من أسمائهم اثنين وتسعين، وعن أبي ذر: "كنا إذا أمسينا حضرنا باب رسول الله فيأمر كل رجل فينصرف برجل ويبقى من بقي مع رسول الله عشرة أو أقل يوتى رسول الله بعشائه فنتعشى معه فإذا فرغنا قال لنا: "ناموا في المسجد"، كان هذا في صدر أيام الهجرة ثم فتح الله على المسلمين فاستغنوا وخرجوا ودامت الصفة حياة النبي صلى الله عليه وسلم" فقد عد أبو هريرة من أصحابها وهو أسلم عام خيبر.

يستعفف يعفه الله، ومن يستغني يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله".
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو والكسائي وخلف ويعقوب يحسبهم بكسر السين وقرأه الباقون بفتح السين، وهما لغتان.
ومعنى {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} أي بعلامة الحاجة والخطاب لغير معين ليعم كل مخاطب، وليس للرسول لأنه أعلم بحالهم. والمخاطب لتعرفهم هو الذي تصدى لتطلع أحوال الفقراء، فهو المقابل للجاهل في قوله: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ}، كأنه قيل: فبماذا تصل إليهم صدقات المسلمين إذا كان فقرهم خفيا، وكيف يطلع عليهم فأحيل ذلك على مظنة المتأمل كقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر:75]
والسيما العلامة، مشتقة من سام الذي هو مقلوب وسم، فأصله وسمى فوزنها عفلى، وهي في الصورة فعلى، يدل لذلك قولهم سمة، فإن أصلها وسمة. ويقولون سيمي بالقصر وسيماء بالمد وسيمياء بزيادة الياء بعد الميم وبالمد، ويقولون سوم إذا جعل سمة. وكأنهم إنما قلبوا حروف الكلمة لقصد التوصل إلى التخفيف بهذه الأوزان لأن قلب عين الكلمة متأت بخلاف قلب فائها. ولم يسمع من كلامهم فعل مجرد من سوّم المقلوب، وإنما سمع منه فعل مضاعف في قولهم سوّم فرسه.
وقوله: {لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} بيان لقوله يحسبهم الجاهل أغنياء بيانا ثانيا، لكيفية حسبانهم أغنياء في أنهم لا يسألون الناس. وكان مقتضى الظاهر تقديمه على الذي قبله إلا أنه أخر للإهتمام بما سبقه من الحق على توسم احتياجهم بأنهم محصرون لا يستطيعون ضربا في الأرض لأنه المقصود من سياق الكلام.
فأنت تري كيف لم يغادر القرآن شيئا من الحث على إبلاغ الصدقات إلى أيدي الفقراء إلا وقد جاء به، وأظهر به مزيد الاعتناء.
والإلحاف الإلحاح في المسألة. ونصب على أنه مفعول مطلق مبين للنوع، ويجوز أن يكون حالا من ضمير يسألون بتأويل ملحفين. وأيا ما كان فقد نفي عنهم السؤال المقيد بالإلحاف أو المقيدون فيه بأنهم ملحفون – وذلك لا يفيد صدور نفي المسألة منهم – مع أن قوله: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ} يدل على أنهم لا يسألون أصلا، وقد تأوله الزجاج والزمخشري بأن المقصود نفي السؤال ونفي الإلحاف معا كقول امرئ

القيس:
ألا لآحب لا يهتدى بمناره
يريد نفي المنار والاهتداء، وقرينة هذا المقصود أنهم وصفوا بأنهم يحسبون أغنياء من التعفف، ونظيره قوله تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر:18] أي لا شفيع أصلا، ثم حيث لا شفيع فلا إطاعة، فأنتج لا شفيع يطاع، فهو مبالغة في نفي الشفيع لأنه كنفيه بنفي لازمه وجعلوه نوعا من أنواع الكناية، وقال التفتازاني: "إنما تحسن هذه الطريقة إذا كان القيد الواقع بعد النفي بمنزلة اللازم للنفي، لأن شأن اللآحب أن يكون له منار، وشأن الشفيع أن يطاع، فيكون نفي اللازم نفيا للملزوم بطريق برهاني، وليس الإلحاف بالنسبة إلى السؤال كذلك، بل لا يبعد أن يكون ضذ الإلحاف – وهو الرفق والتلطف – أشبه باللازم" "أي أن يكون المنفي مطرد اللزوم للمنفي عنه" وجوز صاحب "الكشاف" أن يكون المعنى أنهم إن سألوا سألوا بتلطف خفيف دون إلحاف،أي إن شأنهم أن يتعففوا، فإذا سألوا سألوا بغير إلحاف، وهو بعيد لأن فصل الجملة عن التي قبلها دليل على أنها كالبيان لها، والأظهر الوجه الأول – الذي جعل في "الكشاف" ثانيا – وأجاب الفخر بأنه تعالى وصفهم بالتعفف فأغنى عن ذكر أنهم لا يسألون، وتعين أن قوله: {لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} تعريض بالملحفين في السؤال، أي زيادة فائدة في عدم السؤال.
{وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ}
أعيد التحريض على الإنفاق فذكر مرة رابعة، وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} كناية عن الجزاء عليه لأن العلم يكنى به عن أثره كثيرا، فلما كان الإنفاق مرغبا فيه من الله، وكان علم الله بذلك معروفا للمسلمين، تعين أن يكون الإخبار بأنه عليم به أنه عليم بامتثال المنفق، أي فهو لا يضيع أجره إذ لا يمنعه منه مانع بعد كونه عليما به، لأنه قدير عليه. وقد حصل بمجموع هذه المرات الأربع من التحريض ما أفاد شدة فضل الإنفاق بأنه نفع للمنفق، وصلة بينه وبين ربه، ونوال الجزاء من الله، وأنه ثابت له في علم الله.
[274] {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}
جملة مستأنفة تفيد تعميم أحوال فضائل الإنفاق بعد أن خصص الكلام بالإنفاق

للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله فاسم الموصول مبتدأ وجملة {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ} خبر مبتدأ.
وأدخل الفاء في خبر الموصول للتنبيه على تسبب استحقاق الأجر على الإنفاق لأن المبتدأ لما كان مشتملا على صلة مقصود منها التعميم، والتعليل،والإيماء إلى علة بناء الخبر على المبتدأ – وهي ينفقون – صح إدخال الفاء في خبره كما تدخل في جواب الشرط، لأن أصل الفاء الدلالة على التسبب وما ادخلت في جواب الشرط إلا لذلك. والسر الخفاء. والعلانية: الجهر والظهور. وذكر عند ربهم لتعظيم شأن الأجر.
وقوله: {وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} مقابل قوله: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [البقرة:270] إذ هو تهديد لمعاني الصدقات بإسلام الناس إياهم عند حلول المصائب بهم، وهذا بشارة للمنفقين بطيب العيش في الدنيا فلا يخافون اعتداء المعتدين لأن الله أكسبهم محبة الناس إياهم، ولا تحل بهم المصائب المحزنة إلا ما لا يسلم منه أحد مما هو معتاد في إبانه.
أما انتفاء الخوف والحزن عنهم في الآخرة فقد علم من قوله: {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ}
ورفع خوف في نفي الجنس إذ لا يتوهم نفي المفرد لأن الخوف من المعاني التي هي أجناس محضة لا أفراد لها كما تقدم في قوله تعالى: {لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ} [البقرة:254] ومنه ما في حديث أم زرع: "لا حر ولا قر ولا مخافة ولا سآمة".
[275] {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}
نظم القرآن أهم أصول حفظ مال الأمة في سلك هاته الآيات، فبعد أن ابتدأ بأعظم تلك الأصول وهو تأسيس مال للأمة به قوام أمرها، يؤخذ من أهل الأموال أخذا عدلا مما كان فضلا عن الغنى فقرضه على الناس، يؤخذ من أغنيائهم فيرد على فقرائهم، سواء في ذلك ما كان مفروضا وهو الزكاة أوتطوعا وهو الصدقة، فأطنب في الحث عليه، والترغيب في ثوابه، والتحذير من إمساكه، ما كان فيه موعظة لمن اتعظ، عطف الكلام

إلى إبطال وسيلة كانت من أسباب ابتزاز الأغنياء أموال المحتاجين إليهم، وهي المعاملة بالربا الذي لقبه النبي صلى الله عليه وسلم ربا الجاهلية، وهو أن يعطي المدين مالا لدائنه زائدا على قدر الدين لأجل الانتظار، فإذا حل الأجل ولم يدفع زاد في الدين، يقولون:إما أن تقضي وإما أن تربي. وقد كان ذلك شائعا في الجاهلية كذا قال الفقهاء. والظاهر أنهم كانوا يأخذون الربا على المدين من وقت إسلافه وكلما طلب النظرة أعطى ربا آخر، وربما تسامح بعضهم في ذلك. وكان العباس بن عبد المطلب مشتهرا بالمراباة في الجاهلية، وجاء في خطبة حجة الوداع: "ألا وإن ربا الجاهلية موضوع وإن أول ربا أبدأ به ربا عمي عباس بن عبد المطلب"
وجملة {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا} استئناف، وجيء بالموصول للدلالة على علة بناء الخبر وهو قوله: {لا يَقُومُونَ} إلى آخره.
والأكل في الحقيقة ابتلاع الطعام، ثم أطلق على الانتفاع بالشيء وأخذه بحرص، وأصله تمثيل، ثم صار حقيقة عرفية فقالوا: أكل مال الناس {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى} [النساء:10] -{أَلا تَأْكُلُونَ مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ} [الصافات:92] ولا يختص بأخذ الباطل ففي القرآن {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} [النساء:4]
والربا: اسم على وزن فعل بكسر الفاء وفتح العين لعلهم خففوه من الرباء – بالمد – فصيروه اسم مصدر، لفعل ربا الشيء يربوا ربوا – بسكون الباء على القياس كما في "الصحاح" وبضم الراء والباء كعلو – ورباء بكسر الراء وبالمد مثل الرماء إذا زاد قال تعالى: {فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} [الروم:39] وقال: {اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} [الحج: 5] – ولكونه من ذوات الواو ثني على ربوان.وكتب بالألف،وكتبه بعض الكوفيين بالياء نظرا لجواز الإمالة فيه لمكان كسرة الراء1 ثم ثنوه بالياء لأجل الكثرة أيضا – قال الزجاج: "ما رأيت خطأ أشنع من هذا، ألا يكفيكم الخطأ في الخط حتى أخطؤوا في التثنية كيف وهم يقرؤون {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَ} [الروم:39] بفتحة على الواو - {فِي أَمْوَالِ النَّاسِ} [الروم:39] يشير إلى قراءة عاصم والأعمش، وهما كوفيان، وبقراءتهما يقرأ اهل الكوفة".
وكتب الربا في المصحف حيثما وقع بواو بعدها ألف، والشأن أن يكتب ألفا، فقال
ـــــــ
1 من العرب من جعل الراء المكسورة في الكلمة ذات ألف المنقلبة عن واو تجوز إمالتها سواء تقدمت الراء نحو ربا أم تأخرت نحو دار.

صاحب "الكشاف": كتبت كذلك على لغة من يفخم أي ينحو بالألف منحى الواو والتفخيم عكس الإمالة، وهذا بعيد، إذ ليس التفخيم لغة قريش حتى يكتب بها المصحف. وقال المبرد: كتب كذلك للفرق بين الربا والزنا، وهو أبعد لأن سياق الكلام لا يترك اشتباها بينهما من جهة المعنى إلا في قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الاسراء:32] وقال الفراء: إن العرب تعلموا الخط من أهل الحيرة وهم نبط يقولون في الربا: ربو – بواو ساكنة – فكتبت كذلك، وهذا أبعد من الجميع.
والذي عندي أن الصحابة كتبوه بالواو ليشيروا إلى أصله كما كتبوا الألفات المنقلبة عن الياء في أواسط الكلمات بياءات عليها ألفات، وكأنهم أرادوا في ابتداء الأمر أن يجعلوا الرسم مشيرا إلى أصول الكلمات ثم استعجلوا فلم يطرد في رسمهم، ولذلك كتبوا الزكاة بالواو، وكتبوا الصلاة بالواو تنبيها على أن أصلها هو الركوع من تحريك الصلوين لا من الاصطلاء. وقال صاحب "الكشاف": وكتبوا بعدها ألفا تشبيها بواو الجمع. وعندي أن هذا لا معنى للتعليل به، بل إنما كتبوا الألف بعدها عوضا عن أن يضعوا الألف فوق الواو، كما وضعوا المنقلب عن ياء ألفا فوق الياء لئلا يقرأها الناس الربو.
وأريد بالذين يأكلون الربا هنا من كان على دين الجاهلية، لأن هذا الوعيد والتشنيع لا يناسب إلا التوجه إليهم لأن ذلك من جملة أحوال كفرهم وهم لا يرعوون عنها ما داموا على كقرهم. أما المسلمون فسبق لهم تشريع بتحريم الربا بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130] وهم لا يقولون إنما البيع مثل الربا، فجعل الله هذا الوعيد من جملة أصناف العذاب خاصا للكافرين لأحل ما تفرع عن كفرهم من وضع الربا.
وتقدم ذلك كله إنكار القرآن على أهل الجاهلية إعطاءهم الربا، وهو من أول ما نعاه القرآن عليهم في مكة، فقد جاء في سورة الروم: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم:39] وهو خطاب للمشركين لأن السورة مكية ولأن بعد الآية قوله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ}
ومن عادات القرآن أن يذكر أحوال الكفار إغلاظا عليهم، وتعريضا بتخويف المسلمين، ليكره إياهم لأحوال أهل الكفر. وقد قال ابن عباس: كل ما جاء في القرآن من ذم أحوال الكفار فمراد منه أيضا تحذير المسلمين من مثله في الإسلام، ولذلك قال

الله تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: من الآية275] وقال تعالى: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة:276]
ثم عطف إلى خطاب المسلمين فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} [البقرة:278] الآيات، ولعل بعض المسلمين لم ينكف عن تعاطي الربا أو لعل بعضهم فتن بقول الكفار: إنما البيع مثل الربا. فكانت آية سورة آل عمران مبدأ التحريم، وكانت هذه الآية إغلاق بال المعذرة في أكل الربا وبيان لكيفية تدارك ما سلف منه.
والربا يقع على وجهين: أحدهما السلف بزيادة على ما يعطيه المسلف، والثاني السلف بدون زيادة إلى أجل، يعني فإذا لم يوف المستلف أداء الدين عند الأجل كان عليه أن يزيد فيه زيادة يتفقان عليها عند حلول كل أجل.
وقوله: {لا يَقُومُونَ} حقيقة القيام النهوض والاستقلال، ويطلق مجازا على تحسن الحال، وعلى القوة، من ذلك قامت السوق، وقامت الحرب. فإن كان القيام المنفي هنا القيام الحقيقي فالمعنى: لا يقومون – يوم يقوم الناس لرب العالمين- إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان، أي إلا قياما كقيام الذي يتخبطه الشيطان، وإن كان القيام المجازي فالمعنى إما على أن حرصهم ونشاطهم في معاملات الربا كقيام المجنون تشنيعا لجشعهم، قاله ابن عطية، ويجوز على هذا أن يكون المعنى تشبيه ما يعجب الناس من استقامة حالهم، ووفرة مالهم، وقوة تجارتهم، بما يظهر من حال الذي يتخبطه الشيطان حتى تخاله قويا سريع الحركة، مع أنه لا يملك لنفسه شيئا. فالآية على المعنى الحقيقي وعيد لهم بابتداء تعذيبهم من وقت القيام للحساب إلى أن يدخلوا النار، وهذا هو الظاهر وهو المناسب لقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا} وهي على المعنى المجازي تشنيع، أو توعد بسوء الحال في الدنيا ولقي المتاعب ومرارة الحياة تحت صورة يخالها الرائي مستقيمة.
والتخبط مطاوع خبطه إذا ضربه ضربا شديدا فاضطرب له، أي تحرك تحركا شديدا، ولما كان من لازم هذا التحرك عدم الاتساق، أطلق التخبط على اضطراب الإنسان من غير اتساق. ثم إنهم يعمدون إلى فعل المطاوعة فيجعلونه متعديا إلى مفعول إذا أرادوا الاختصار ، فعوضا عن أن يقولوا خبطه فتخبط يقولون تخبطه كما قالوا: اضطره إلى كذا فتخبط الشيطان المرء جعله إياه متخبطا، أي متحركا على غير اتساق.
والذي يتخبطه الشيطان هو المجنون الذيب أصابه الصرع. فيضطرب به اضطرابات،

ويسقط على الأرض إذا أراد القيام، فلما شبهت الهيأة بالهيأة جيء في لفظ الهيأة المشبه بها بالألفاظ الموضوعة للدلالة عليها في كلامهم وإلا لما فهمت الهيأة المشبه بها، وقد عرف ذلك عندهم. قال الأعشى يصف ناقته بالنشاط وسرعة السير، بعد أن سارت ليلا كاملا:
وتصبح عن غب السري وكأنها ... ألم بها من طائف الجن أولق1
والمس في الأصل هو اللمس باليد كقولها2: " المس مس الأرنب" وهو إذا أطلق معرفا بدون عهد مس معروف دل عندهم على مس الجن، فيقولون: رجل ممسوس أي مجنون، وإنما أحتيج إلى زيادة قوله من المس ليظهر المراد من تخبط الشيطان فلا يظن أنه تخبط مجازي بمعنى الوسوسة. و"من" ابتدائية متعلقة بيتخبطه لا محالة.
وهذا عند المعتزلة جار على ما عهده العربي مثل قوله:"طلعها كأنه رؤوس الشياطين" وقول امرؤ القيس:
ومسنونة زرق كأنياب أغوال
إلا أن هذا أثره مشاهد وعلته متخيلة والآخران وتخيلان لأنهم ينكرون تأثير الشياطين بغير الوسوسة.وعندنا أيض مبني على تخييلهم والصرع إنما يكون من علل تعتري الجسم مثل فيضان المرة عند الأطباء المتقدمين وتشنج المجموع العصبي عند المتأخرين، إلا أنه يجوز عندنا أن تكون هاته العلل كلها تنشأ في الأصل من توجهات شيطانية، فإن عوالم المجردات – كالأرواح – لم تنكشف أسرارها لنا حتى الآن ولعل لها ارتباطات شعاعية هي مصادر الكون والفساد.
وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا} الإشارة إلى {كَمَا يَقُومُ } لأن ما مصدرية، والباء سببية.
والمحكي عنهم بقوله: {قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا}، إن كان قولا لسانيا فالمراد به قول بعضهم أو قول دعاتهم وهم المنافقون بالمدينة، ظنوا بسوء فهمهم أن تحريم الربا
ـــــــ
1يريد أنها بعد أن تسري الليل تصبح نشيطة لشدة قوتها بحيث لا يقل نشاطها. والغب بكسر الغين بمعنى عقب. وطائف الجن ما يحيط بالإنسان من الصرع والاضطراب قال تعالى: {إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا}. والأولق اسم مس الجن والفعل منه أولق بالبناء للمجهول.
2 في حديث أم زرع من "صحيح البخاري".

اضطراب في حين تحليل البيع، لقصد أن يفتنوا المسلمين في صحة أحكام شريعتهم، إذ يتعذر أن يكون كل من أكل الربا قال هذا الكلام، وإن كان قولا حاليا بحيث يقوله كل من يأكل الربا لو سأله سائل عن وجه تعاطيه الربا، فهو استعارة. ويجوز أن يكون {قالوا} مجازا لأن اعتقادهم مساواة البيع للربا يستلزم أن يقوله قائل، فأطلق القول وأريد لازمه، وهو الاعتقاد به
وقولهم: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا} قصر إضافي للرد على من زعم تخالف حكمهما فحرم الربا وأحل البيع، ولما صرح فيه بلفظ مثل ساغ أن يقال البيع مثل الربا كما يسوغ أن يقال الربا مثل البيع، ولا يقال إن الظاهر أن يقولوا إنما الربا مثل البيع لأنه هو الذي قصد إلحاقه به، كما في سؤال الكشاف وبني عليه جعل الكلام من قبيل المبالغة، لأنا نقول: ليسوا هم بصدد إلحاق الفروع بالأصول على طريقة القياس بل هم كانوا يتعاطون الربا والبيع، فهما في الخطور بأذهانهم سواء، غير أنهم لما سمعوا بتحريم الربا وبقاء البيع على الإباحة سبق البيع حينئذ إلى أذهانهم فأحضروه ليثبتوا به إباحة الربا، أو أنهم جعلوا البيع هو الأصل تعريضا بالإسلام في تحريمه الربا على الطريقة المسماة في الأصول بقياس العكس1، لأن قياس العكس إنما يلتجأ إليه عند كفاح المناظرة، لا في وقت استنباط المجتهد في خاصة نفسه.
وأرادوا بالبيع هنا بيع التجارة لا بيع المحتاج سلعته براس ماله.
وقوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} من كلام الله تعالى جواب لهم وللمسلمين، فهو إعراض عن مجادلتهم إذ لا جدوى فيها لأنهم قالوا ذلك كفرا ونفاقا فليسوا ممن تشملهم أحكام الأحكام الإسلام. وهو إقناع للمسلمين بأن ما قاله الكفار هو شبهة محضة وأن الله العليم قد حرم هذا وأباح ذاك، وما ذلك إلا لحكمة وفروق معتبرة لو تدبرها أهل التدبر لأدركوا الفرق بين البيع والربا، وليس في هذا الجواب كشف للشبهة فهو مما وكله الله تعلى لمعرفة أهل العلم من المؤمنين مع أن ذكر تحريم الربا عقب التحريض على الصدقات يومئ إلى كشف الشبهة.
ـــــــ
1 هو الاستدلال بحكم الفرع على حكم الأصل لقصد إبطال مذهب المستدل عليه ويقابله قياس الطرد وهو الاستدلال بحكم الأصل على حكم الفرع لإثبات حكم الفرع في نفس الأمر. مثال الأول أن تقول: النبيذ مثل الخمر في الإسكار، فلو كان النبيذ حلالا لكانت الخمر حلالا وهو باطل. ومثال الثاني أن تقول: النبيذ مسكر فهو حرام كالخمر.

وأعلم أن مبنى شبهة القائلين {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا} أن التجارة فيها زيادة على ثمن المبيعات لقصد انتفاع التاجر في مقابلة جلب السلع وإرصادها للطالبين في البيع الناض ثم لأجل انتظار الثمن في البيع المؤجل، فكذلك إذا أسلف عشرة دراهم مثلا على أنه يرجعها له أحد عشر درهما، فهو قد أعطاه هذا الدرهم الزائد لأجل إعداد مله لمن يستسلفه، لأن المقرض تصدى لإقراضه وأعد ماله لأجله، ثم لأجل انتظار ذلك بعد محل أجله.
وكشف هاته الشبهة قد تصدى له القفال: "من باع ثوبا يساوي عشرة بعشرين فقد جعل ذات الثوب مقابلا بعشرين، فلما حصل التراضي على هذا التقابل صارت العشرون عوضا للثوب في المالية فلم يأخذ البائع من المشتري شيئا بدون عوض، أما إذا أقرضه عشرة بعشرين فقد أخذ المقرض العشرة الزائدة من غير عوض. ولا يقال إن الزائد عوض الإمهال لأن الإمهال ليس مالا أو شيئا يشار إليه حتى يجعله عوضا عن العشرة الزائدة" ومرجع هذه التفرقة إلى أنها مجرد
اصطلاح اعتباري فهي تفرقة قاصرة.
وأشار الفخر في أثناء تقرير حكمة تحريم الربا إلى تفرقة أخرى زادها البيضاوي تحريرا، حاصلها أن الذي يبيع الشيء المساوي عشرة بأحد عشر يكون قد مكن المشتري من الانتفاع بالمبيع إما بذاته وإما بالتجارة به، فذلك الزائد لأجل تلك المنفعة وهي مسيس الحاجة أو توقع الرواج والربح، وأما الذي دفع درهما لأجل السلف فإنه لم يحصل منفعة أكثر من من مقدار المال الذي أخذه، ولا يقال: إنه يستطيع أن يتجر به فيربح لأن هذه منفعة موهومة غير محققة الحصول، مع أن أخذ الزائد أمر محقق على كل تقدير.
وهذه التفرقة أقرب من تفرقة قفال، لكنها يرد عليها أن انتفاع المقترض بالمال فيه سد حاجته فهو كانتفاع المشتري بالسلعة، وأما تصديه للمتاجرة بمال القرض أو بالسلعة المشتراة فأمر نادر فيها.
فالوجه عندي في التفرقة بين البيع والربا أن مرجعها إلى التعليل بالمظنة مراعاة للفرق بين حلي المقترض والمشتري، فقد كان الإقتراض لدفع حاجة المقترض للإنفاق على نفسه وأهله لأنهم كانوا يعدون التداين هما وكربا، وقد استعاذ منه النبي صلى الله عليه وسلم، وحال التاجر حال التفضل. وكذلك اختلاف حالي المسلف والبائع، فحال باذل ماله للمحتاجين لينتفع بما يدفعونه من الربا فيزيدهم ضيقا، لأن المتسلف مظنة الحاجة، ألا تراه ليس بيده مال، وحال بائع السلعة تجارة حال من تجشم مشقة لجلب ما يحتاجه المتفضلون وإعداده

لهم عند دعاء حاجتهم إليه مع بذلهم له ما بيده من المال، فالتجارة معاملة بين غنيين: ألا ترى أن كليهما باذل لما لا يحتاج إليه وآخذ ما يحتاج إليه، فالمتسلف مظنة الفقر، والمشتري مظنة الغنى، فلذلك حرم الربا لأنه استغلال لحاجة الفقير وأحل البيع لأنه إعانة لطلب الحاجات. فتبين أن الإقراض من نوع المواساة والمعروف، وأنها مؤكدة التعين على المواسي وجوبا أو ندبا، وأيا ما كان فلا يحل للمقرض أن يأخذ أجرا على عمل المعروف. فأما الذي يستقرض مالا ليتجر به أو ليوسع تجارته فليس مظنة الحاجة فلم يكن من أهل استحقاق مواساة المسلمين، فلذلك لا يجب على الغني إقراضه بحال فإذا قرضه فقد تطوع بمعروف. وكفى بهذا تفرقة بين الحالين.
وقد ذكر الفخر لحكمة تحريم الربا أسبابا أربعة:
أولها: أن فيه أخذ مال الغير بغير عوض، وأورد عليه ما تقدم في الفرق بينه وبين البيع، وهو فرق غير وجيه.
الثاني: أن في تعاطي الربا ما يمنع الناس من اقتحام مشاق الاشتغال في الاكتساب، لأنه إذا تعود صاحب المال أخذ الربا خف عنه اكتساب المعيشة، فإذا فشا في الناس أفضى إلى انقطاع منافع الخلق لأن مصلحة العالم لا تنتظم إلا بالتجارة والصناعة والعمارة.
الثالث: أنه يفضي إلى انقطاع المعروف بين الناس بالقرض.
الرابع: أن الغالب في المقرض أن يكون غنيا، وفي المستقرض أن يكون فقيرا، فلو أبيح الربا لتمكن الغني من أخذ مال الضعيف.
وقد أشرنا فيما مر في الفرق بين الربا والبيع إلى علة تحريمه وسنبسط ذلك عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130]
هذا وقد تعرضت الآية إلى حكم هو تحليل البيع وتحريم الربا، لأنها من قول الله تعالى لإعلان هذا التشريع بعد تقديم الموعظة بين يديه.
و"أل" في كل من البيع والربا لتعريف الجنس، فثبت بها حكم أصلين عظيمين في معاملات الناس محتاج إليهما فيها: أحدهما يسمى بيعا والآخر يسمى ربا. أولهما مباح معتبر كونه حاجيا للأمة، وثانيهما محرم ألغيت حاجيته لما عارضها من المفسدة. وظاهر تعريف الجنس أن الله أحل البيع بجنسه فيشمل التحليل سائر أفراده، وأنه حرم الربا بجنسه

كذلك. ولما كان معنى {َأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة:275] أذن فيه كان في قوة قضية موجبة، فلم يقتض استغراق الجنس بالصيغة، ولم تقم قرينة على قصد الاستغراق قيامها في نحو الحمد لله، فبقي محتملا شمول الحل لسائر أفراد البيع ، ولما كان البيع قد تعتريه أسباب توجب فساده وحرمته تتبعت الشريعة أسباب تحريمه، فتعطل احتمال الاستغراق في شأنه في هذه الآية.
أما معنى قوله: {وَحَرَّمَ الرِّبا} فهو في حكم المنفي لأن حرم في معنى منع، فكان مقتضيا استغراق جنس الربا بالصيغة، إذ لا يطرأعليه ما يصيره حلالا.
ثم اختلف علماء الإسلام في أن لفظ الربا في الآية باق على معناه المعروف في اللغة، أو هو منقول إلى معنى جديد في اصطلاح الشرع.
فذهب ابن عباس وابنعمر ومعاوية إلى أنه باق معناه المعروف وهو ربال الجاهلية، أعني الزيادة لأجل التأخير، وتمسك ابن عباس بحديث أسامة: "إنما الربا في النسيئة" ولم يأخذ بما ورد في إثبات ربا الفضل بدون نسيئة، قال الفخر: "ولعله لا يرى تخصيص القرآن بخبر الأحاد" يعني أنه حمل {أحل الله البيع} على عمومه.
وأما جمهور العلماء فذهبوا إلى أن الربا منقول في عرف الشرع إلى معنى جديد كما دلت عليه أحاديث كثيرة، وإلى هذا نحا عمر بن الخطاب وعائشة وأبو سعيد الخدري وعبادة بن الصامت بل رأى عمر أن لفظ الربا نقل إلى معنى جديد ولم يبين جميع المراد منه فكأنه عنده مما يشبه المجمل، فقد حكى عنه ابن رشد في المقدمات أنه قال: "كان من آخر ما أنزل الله على رسوله آية الربا فتوفي رسول الله ولم يفسرها، وإنكم تزعمون أنا نعلم أبواب الربا، ولأن أكون أعلمه أحب إلي من أن يكون لي مثل مصر وكورها" قال ابن رشد: ولم يرد عمر بذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفسر آية الربا، وإنما أراد والله أعلم أنه لم يعم وجوه الربا بالنص عليها. وقال ابن العربي: بين رسول الله صلى الله عليه وسلم معنى الربا في ستة وخمسين حديثا.
والوجه عندي أن ليس مراد عمر أن لفظ الربا مجمل لأنه قابله بالبيان وبالتفسير، بل أراد أن تحقيق حكمه في صور البيوع الكثيرة لم يعمه النبي صلى الله عليه وسلم بالتنصيص، لأن المتقدمين لا يتوخون في عباراتهم ما يساوي المعاني الاصطلاحية، فهؤلاء الحنفية سموا المخصصات بيان تغيير. وذكر ابن العربي في العواصم أن أهل الحديث يتوسعون في معنى البيان. وفي تفسير الفخر عن الشافعي أن قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} من

المجملات التي لا يجوز التمسك بها، أي بعمومها: عموم البيع وعموم الربا، لأنه إن كان المراد جنس البيع وجنس الزيادة لزم بيان أي بيع وأي زيادة، وإن كان المراد كل بيع وكل زيادة فما من بيع إلا وفيه زيادة، فأول الآية أباح جميع البيوع وآخرها حرم الجميع، فوجب الرجوع إلى بيان الرسول عليه السلام. والذي حمل الجمهور على اعتبار لفظ الربا مستعملا في معنى جديد أحاديث وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل دلت على تفسير الربا بما هو أعم من ربا الجاهلية المعروف عندهم قبل الإسلام، وأصولها ستة أحاديث:
الحديث الأول حديث أبي سعيد الخدري: "الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد فمن زاد وازداد فقد أربى، الآخذ والمعطي في ذلك سواء".
الثاني حديث عبادة بن الصامت: "الذهب بالذهب تبرها وعينها والفضة بالفضة تبرها وعينها والبر بالبر مدا بمد والشعير بالشعير مدا بمد والتمر بالتمر مدا بمد والملح بالملح مدا بمد، فمن زاد واستزاد فقد أربى، ولا بأس ببيع الذهب بالفضة والفضة بالذهب أكثرهما يدا بيد، وأما النسيئة فلا". رواه أبو داود، فسماه في هذين الحديثين ربا.
الثالث حديث أبي سعيد: أن بلال جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر برني فقال له: "من أين هذا"؟ فقال بلال: تمر كان عندنا رديء فبعت منه صاعين بصاع لطعم النبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوه عين الربا، لا تفعل، ولكن إذا أردت أن تشتري التمر فبعه ثم اشتر من هذا" فسمى التفاضل ربا.
الرابع حديث "الموطأ" و "البخاري" عن ابن سعيد وأبي هريرة: أن سواد بن عزية جاء في خيبر بتمر جنيب فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أكل تمر خيبر هكذا" فقال: "يا رسول الله إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والثلاثة" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تفعل، بع الجمع بالدراهم ، ثم ابتع بالدراهم جنيبا".
الخامس حديث عائشة في "صحيح البخاري": قالت: "لما نزلت الآيات من آخر البقرة في الربا قرأها النبي ثم حرم التجارة في الخمر" فظاهره أن تحريم التجارة في الخمر كان عملا بآية النهي عن الربا وليس في تجارة الخمر معنى من معاني الربا المعروف عندهم وإنما هو بيع فاسد.
السادس حديث الدار قطني – ورواه ابن وهب عن مالك – أن العالية بنت أينع وفدت

إلى المدينة من الكوفة، فلقيت عائشة فأخبرتها أنها باعت من زيد بن أرقم في الكوفة جارية بثمانمائة درهما إلى العطاء، ثم إن زيدا باع الجارية فاشترتها العالية منه بستمائة نقدا، فقالت لها عائشة: "بئس ما شريت وما اشتريت"، أبلغي زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله إلا أن يتوب"، قالت فقلت لها:"أرأيت إن لم آخذ منه إلا رأس مالي" قالت: " {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} فجعلته عائشة من الربا ولذلك تلت الآية.
فلأجل الأحاديث الستة أثبت الفقهاء ثلاثة أنواع للربا في اصطلاح الشرع:
الأول ربا الجاهلية وهو زيادة على الدين لأجل التأخير.
الثاني ربا الفضل وهو زيادة في أحد العوضين في بيع الصنف بصنفه من الأصناف المذكورة في حديث أبي سعيد وعبادة بن الصامت.
الثالث ربا النسيئة وهو بيع شيء من تلك الأصناف بمثله مؤخرا. وزاد المالكية نوعا رابعا: وهو ما يؤول إلى واحد من الأصناف بتهمة التحيل على الربا، وترجمه في المدونة ببيوع الآجال، ودليل مالك فيه حديث العالية. ومن العلماء من زعم أن لفظ الربا يشمل كل بيع فاسد أخذا من حديث في تحريم تجارة الخمر، وإليه مال ابن العربي.
وعندي أن أظهر المذاهب في هذا مذهب ابن عباس، وأن أحاديث ربا الفضل تحمل على حديث أسامة: "إنما الربا في النسيئة" ليجمع بين الحديثين، وتسمية التفاضل بالربا في حديثي أبي سعيد وعبادة بن الصامت دليل على ما قلناه، وأن ما راعاه مالك من إبطال ما يفدي إلى تعامل الربا إن صدر من مواقع التهمة رعي حسن، وما عداه إغرق في الاحتيات، وقد يؤخذ من بعض أقوال مالك في الموطأ" وغيره أن انتفاء التهمة لا يبطل العقد.
ولا متمسك في نحو حديث عائشة في زيد بن أرقم لأن المسلمين في أمرهم الأول كانوا قريبي عهد بربا الجاهلية، فكان حالهم مقتضيا لسد الذرائع.
وفي "تفسير القرطبي": كان معاوية بن أبي سفيان يذهب إلى أن النهي عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة متفاضلا إنما ورد في الدينار المضروب والدرهم المضروب لا في التبر ولا في المصوغ، فروى مسلم عن عبادة بن الصامت قال: غزونا وعلى الناس معاوية فغنمنا غنائم كثيرة، فكان فيما غنمنا آنية من ذهب، فأمر معاوية رجالا ببيعها في أعطيات الناس، فتنازع الناس في ذلك، فبلغ ذلك عبادة بن الصامت فقام فقال: "سمعت

رسول الله ينهى عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة إلا سواء بسواء عينا بعين، من زاد وازداد فقد أربى" فبلغ ذلك معاوية فقام خطيبا فقال: "ألا ما بال أقوام يتحدثون عن رسول الله أحاديث قد كنا نشهده ونصحبه فلم نسمعها منه" فقال عبادة بن الصامت: "لنحدثن بما سمعنا من رسول الله وإن كره معاوية".
والظاهر أن الآية لم يقصد منها إلا ربا الجاهلية، وأن ما عداه من المعاملات الباطلة التي فيها أكل مال بالباطل مندرجة في أدلة أخرى.
وقوله: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى} الآية تفريع على الوعيد في قوله: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا}
والمجيء بمعنى العلم والبلاغ، أي من علم هذا الوعيد، وهذا عذر لمن استرسل على معملة الربا قبل بلوغ التحريم إليه، فالمراد بالموعظة هذه الآية وآية آل عمران.
والاتهاء مطاوع نهاه إذا صده عما لا يليق، وكأنه مشتق من من النهي – بضم النون – وهو العقل. ومعنى "فله ما سلف"، أي ما سلف قبضه من مال الربا لا ما سلف عقده ولم يقبض، بقرينة قوله – الآتي – {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ} [البقرة:279]
وقوله: {وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} فرضوا فيه احتمالات يرجع بعضها إلى رجوع الضمير إلى "من جاءه" وبعضها إلى رجوعه إلى ما سلف، والأظهر أنه راجع إلى من جاءه لأنه المقصود، وأن معنى {وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} أن أمر جزائه على الانتهاء موكول إلى الله تعالى، وهذا من الإيهام المقصود منه التفخيم، فالمقصود الوعد بقرينة مقابلته بالوعيد في قوله: {وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}
وجعل العائد خالدا في النار إما لأن المراد العود إلى قوله: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا} أي عاد إلى استحلال الربا وذلك نفاق، فإن كثيرا منهم قد شق عليهم ترك التعامل بالربا، فعلم الله منهم ذلك وجعل عدم إقلاعهم عنه أمارة على كذب إيمانهم، فالخلود على حقيقته. وإما لأن المراد العود إلى المعاملة بالربا، وهو الظاهر من مقابلتهم، بقوله: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى} والخلود طول المكث كقول لبيد:
فوقفت أسألها وكيف سؤالنا ... صما خوالد ما يبين كلامها
ومنه: خلد الله ملك فلان.
وتمسك بظاهر هاته الآية ونحوها الخوارج القائلون بتكفير مرتكب الكبيرة كما

كما تمسكوا بنظائرها. وغفلوا عن تغليظ وعيد الله تعالى في وقت نزول القرآن، إذ الناس يومئذ قريب عهدهم بكفر. ولا بد من الجمع بين أدلة الكتاب والسنة.
[276] {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ}
استئناف لبيان سوء عاقبة الربا في الدنيا بعد أن بينت عاقبته في الآخرة، فهو استئناف بياني لتوقع سؤال من يسأل عن حال هؤلاء الذين لا ينتهون بموعظة الله. وقوله: {وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} استطراد لبيان عاقبة الصدقة في الدنيا أيضا ببيان أن المتصدق يفوز بالخير في الدارين كما باء المرابي بالشر فيهما، فهذا وعد ووعيد دنيويان.
والمحق هو كالمحو: بمعنى إزالة الشيء، ومنه محاق القمر ذهاب نوره ليلة السرار. ومعنى {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا} أنه يتلف ما حصل منه في الدنيا، {وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} أي يضاعف ثوابها لأن الصدقة لا تقبل الزيادة إلا بمعنى زيادة ثوابها، وقد جاء نظيره في قوله في الحديث: "من تصدق بصدقة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا طيبا تلقاها الرحمان بيمينه وكلتا يديه يمين فيربيها له كما يربي أحدكم فلوه".. ولما جعل المحق بالربا وجعل الإرباء بالصدقات كانت المقابلة مؤذنة بحذف مقابلين آخرين، والمعنى: يمحق الله الربا ويعاقب عليه، ويربي الصدقات ويبارك لصاحبها، على طريقة الاحتباك.
وجملة: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} معترضة بين أحكام الربا. ولما كان شأن الاعتراض ألا يخلو من مناسبة بينه وبين سياق الكلام، كان الإخبار بأن الله لا يحب جميع الكافرين مؤذنا بأن الربا من شعار أهل الكفر، وأنهم الذين استباحوه فقالوا إنما البيع مثل الربا، فكان هذا تعريضا بأن المرابي متسم بخلال أهل الشرك.
ومفاد التركيب أن الله لا يحب أحدا من الكافرين الآثمين لأن "كل" من صيغ العموم، فهي موضوعة لاستغراق أفراد ما تضاف إليه وليست موضوعة للدلالة على صبرة مجموعة، ولذلك يقولون ÷ي موضوعة للكل الجميعي، وأما الكل المجموعي فلا تستعمل فيه كل إلا مجازا. فإذا أضيفت "كل" إلى اسم استغرقت جميع أفراده، سواء ذلك في الإثبات وفي النفي، فإذا دخل النفي على "كل" كان المعنى عموم النفي لسائر الأفراد، لأن النفي كيفية تعرض للجملة فالأصل فيه أن يبقى مدلول الجملة كما هو، إلا أنه يتكيف بالسلب عوضا عن تكيفه بالإيجاب، فإذا قلت كل الديار ما دخلته، أو لم أدخل كل دار، أو كل دار لم أدخل، أفاد ذلك نفي دخولك أية دار من الديار، كما أن مفاده في حالة

الإثبات ثبوت دخولك كل دار، ولذلك كان الرفع والنصب للفظ كل سواء في المعنى في قول أبي النجم:
قد أصبحت أم الخيار تدعي ... علي ذنبا كله لم أصنع
كما قال سيبويه: إنه لو نصب لكان أولى، لأن النصب لا يفسد معنى ولا يخل بميزان. ولا تخرج "كل" عن إفادة العموم إلا إذا استعملها المتكلم في خبر يريد به إبطال خبر وقعت فيه "كل" صريحا أو تقديرا، كأن يقول أحد: كل الفقهاء يحرم أكل لحوم السباع، فتقول له: ما كل العلماء يحرم لحوم السباع، فأنت تريد إبطال الكلية فيبقى البعض، وكذلك في رد الاعتقادات المخطئة كقول المثل: "ما كل بيضاء شحمة"، فإنه لرد اعتقاد ذلك كما قال زفر بن الحارث الكلابي:
وكنا حسبنا كل بيضاء شحمة
وقد نظر الشيخ عبد القادر الجرجاني إلى هذا الاستعمال الأخير فطرده في استعمال "كل" إذا وقعت في حيز النفي بعد أداة النفي وأطال في بيان ذلك في كتابه دلائل الإعجاز، وزعم أن رجز أبي النجم يتغير معناه باختلاف رفع "كل" ونصبه في قوله: "كله لم أصنع". وقد تعقبه العلامة التفتازاني تعقبا مجملا بأن ما قاله الأغلبي، وأنه قد تخلف في مواضع. وقفيت أنا على أثر التفتازاني فبينت في تعليقي " الايجاز على دلائل الإعجاز" أن الغالب هو العكس وحاصله ما ذكرت هنا.
[277] {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}
جملة معترضة لمقابلة الذم بالمدح، وقد تقدم تفسير نظيرتها قريبا. والمقصود التعريض بأن الصفات المقابلة لهاته الصفات صفة غير المؤمنين. والمناسبة تزداد ظهورا لقوله: {وَآتَوُا الزَّكَاةَ}
[278, 279] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ}
قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا} إفضاء إلى التشريع بعد

أن قدم أمامه من الموعظة ما هيأ النفوس إليه. فإن كان قوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة:275] من كلام الذين الذين قالوا: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا} [البقرة:275] فظاهر، وإن كان من كلام الله تعالى فهو تشريع وقع في سياق الرد، فلم يكتف بتشريع غير مقصود ولذا احتيج إلى هذا التشريع الصريح المقصود، وما تقدم كله وصف لحال أهل الجاهلية وما بقي منه في صدر الإسلام قبل التحريم.
وأمروا بتقوى الله قبل الأمر بترك الربا لأن تقوى الله هي أصل الامتثال والاجتناب، ولأن ترك الربا من جملتها. فهو كالأمر بطريق برهاني.
ومعنى {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا} الآية اتركوا ما بقي في ذمم الذين عاملتموهم بالربا، فهذا مقابل قوله: {فله ما سلف} ، فكان الذي سلف قبضه قبل نزول الآية معفوا عنه وما لم يقبض مأمورا بتركه.
قيل نزلت هذه الآية خطابا لثقيف – أهل الطائف – إذ دخلوا في الإسلام بعد فتح مكة وبعد حصار الطائف على صلح وقع بينهم وبين عتاب بن أسيد – الذي أولاه النبي صلى الله عليه وسلم مكة بعد الفتح – بسبب أنهم كانت لهم معاملات بالربا مع قريش، فاشترطت ثقيف قبل النزول على الإسلام أن كل ربا لهم على الناس يأخذونه، وكل ربا عليهم فهو موضوع، وقبل منه رسول الله شرطهم، ثم أنزل الله تعالى هذه الآية خطابا لهم – وكانوا حديثي عهد بإسلام – فقالوا: لا يدي لنا1 بحرب الله ورسوله.
وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} معناه إن كنتم مؤمنين حقا، فلا ينافي قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} إذ معناه يأيها الذين دخلوا في الإيمان، واندفعت أشكالات عرضت.
وقوله: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} يعني إن تمسكتم بالشرط فقد انتقض الصلح بيننا، فاعلموا أن الحرب عادت جذعة، فهذا كقوله: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} وتنكير حرب لقصد تعظيم أمرها، ولأجل هذا المقصد عدل عن إضافة الحرب إلى الله وجيء عوضا عنها بمن ونسبت إلى الله، لأنها بإذنه على سبيل مجاز الإسناد، وإلى رسوله لأنه المبلغ والمبشر، وهذا هو الظاهر. فإذا صح ما ذكر في
ـــــــ
1 أي لا قدرة لنا. فاليدان مجاز في القدرة، لأنهما آلتها، وأصله: لا يدين لنا، فعاملوا المجرور باللام معاملة المضاف إليه كما في قولهم: لا أبا له، بإثبات ألف أبا، قاله ابن الحاجب. وقال غيره: اللام مقحمة بين المضاف والمضاف إليه.

سبب نزولها فهو من تجويز الاجتهاد للنبي صلى الله عليه وسلم في الأحكام إذ قبل من ثقيف النزول على اقتضاء ما لهم من الربا عند أهل مكة، وذلك قبل أن ينزل قوله تعالى: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا} فيحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى الصلح مع ثقيف على دخولهم في الإسلام مع تمكينهم مما لهم قبل قريش من أموال الربا الثابتة في زممهم قبل التحريم مصلحة،إذ الشأن أن ما سبق التشريع لا ينقض كتقرير أنكحة المشركين، فلم يقره الله على ذلك وأمر بالانكفاف عن قبض مال الربا بعد التحريم ولو كان العقد قبل التحريم، ولذلك جعلهم على خيرة من أمرهم في الصلح الذي عقدوه.
ودلت الآية على أن مجرد العقد الفاسد لا يوجب فوات التدارك إلا بعد القبض، ولذلك جاء قبلها "فله ما سلف" وجاء هنا: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا} - إلى قوله - {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ}
وهذه الآية أصل عظيم في البيوع الفاسدة تقتضي نقضها، وانتقال الضمان بالقبض، والفوات بانتقال الملك، والرجوع بها إلى رؤوس الأموال أو إلى القيم إن فاتت، لأن القيمة بدل من رأس المال.
ورؤوس الأموال أصولها، فهو من إطلاق الرأس على الأصل، وفي الحديث: "رأس الأمر الإسلام".
ومعنى {لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} لا تأخذون مال الغير ولا يأخذ غيركم أموالكم.
وقرأ الجمهور {فَأْذَنُوا}- بهمزة وصل وفتح الذال – أمرا من أذن، وقرأه حمزة وأبو بكر وخلف { فَآذِنُوا} بهمزة قطع بعدها ألف وبذال مكسورة – أمرا من آذن بكذا إذا أعلم به أي فآذنوا أنفسكم ومن حولكم.
[280] {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
عطف على قوله: {فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ} لأن ظاهر الجواب أنهم يسترجعونها معجلة ، إذ العقود قد فسخت. فعطف عليه حالة أخرى، والمعطوف عليه حالة مقدرة مفهومة لأن الجزاء يدل على التسبب، والأصل حصول المشروط عند الشرط. والمعنى وإن حصل ذو عسرة، أي غريم معسر.

وفي الآية حجة على أن "ذو" تضاف لغير ما يفيد شيئاً شريفاً.
والنظِرة ـ بكسر الظاء ـ الانتظار.
والميسُرة ـ بضم السين في قراءة نافع وبفتحها في قراءة الباقين ـ اسم لليسر وهو ضد العسر ـ بضم العين ـ وهي مفعلة كمشرفة ومشربة ومالكة ومقدرة، قال أبو علي ومفعلة بالفتح أكثر في كلامهم.
وجملة فنظرة جواب الشرط، والخبر محذوف، أي فنظرة له.
والصيغة طلب، وهي محتملة للوجوب والندب. فإن أريد بالعسرة العُدْم أي نفاد مالِهِ كله فالطلب للوجوب، والمقصود به إبطال حكم بيع المعسر واسترقاقه في الدين إذا لم يكن له وفاء. وقد قيل: إن ذلك كان حكماً في الجاهلية وهو حكم قديم في الأمم كان من حكم المصريين، ففي القرآن الإشارة إلى ذلك بقوله تعالى: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} [يوسف:79]. وكان في شريعة الرومان استرقاق المدين، وأحسب أن في شريعة التوراة قريباً من هذا، وروي أنه كان في صدر الإسلام، ولم يثبت. وإن أريد بالعسرة ضيق الحال وإضرار المدين بتعجيل القضاء فالطلب يحتمل الوجوب، وقد قال به بعض الفقهاء، ويحتمل الندب، وهو قول مالك والجمهور، فمن لم يشأ لم ينظره ولو ببيع جميع ماله لأن هذا حق يمكن استيفاؤه، والإنظار معروف والمعروف لا يجب. غير أن المتأخرين بقرطبة كانوا لا يقضون عليه بتعجيل الدفع، ويؤجلونه بالاجتهاد لئلا يدخل عليه مضرة بتعجيل بيع ما به الخلاصُ.
ومورد الآية على ديون معاملات الربا، لكن الجمهور عمموها في جميع المعاملات ولم يعتبروا خصوص السبب لأنه لما أبطل حكم الربا صار رأس المال ديناً بحتاً، فما عين له من طلب الإنظار في الآية حكم ثابت للدين كله. وخالف شريح فخصَّ الآية بالديون التي كانت على ربا ثم أبطل رباها.
وقوله: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} أي أن إسقاط الدين عن المعسر والتنفيس عليه بإغنائه أفضل، وجعله الله صدقة لأن فيه تفريج الكرب وإغاثة الملهوف.
وقرأ الجمهور من العشرة {تَصَدَّقُوا} ـ بشديد الصاد ـ على أن أصله تتصدقوا فقلت التاء الثانية صاداً لتقاربهما وأدغمت في الصاد، وقرأه عاصم بتخفيف الصاد على حذف إحدى التاءين للتخفيف.

[281] { وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}.
جئ بقوله: {واتقوا يوماً} تذييلاً لهاته الأحكام لأنه صالح للترهيب من ارتكاب ما نهي عنه والترغيب في فعل ما أمر به أو ندب إليه، لأن في ترك المنهيات سلامة من آثامها، وفي فعل المطلوبات استكثاراً من ثوابها، والكل يرجع إلى اتقاء ذلك اليوم الذي تطلب فيه السلامة وكثرة أسباب النجاح.
وفي "البخاري" عن ابن عباس أن هذه آخر آية نزلت. وعن ابن عباس هي آخر ما نزل فقال جبريل: "يا محمد ضعها على رأس ثمانين ومائتين من البقرة". وهذا الذي عليه الجمهور، قاله ابن عباس والسدي والضحاك وابن جريج وابن جبير ومقاتل. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاش بعد نزولها واحداً وعشرين يوماً، وقيل واحداً وثمانين، وقيل سبعة أيام، وقيل تسعة، وقيل ثلاث ساعات. وقد قيل: إن آخر آية هي آية الكلالة، وقيل غير ذلك، وقد استقصى الأقوال صاحب الإتقان.
وقرأه الجمهور ترجعون بضم التاء وفتح الجيم، وقرأ يعقوب بفتح التاء وكسر الجيم.
[282] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلْ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.
لما اهتم القرآن بنظام أحوال المسلمين في أموالهم فابتدأ بما به قوام عامتهم من

مواساة الفقير وإغاثة الملهوف، ووضح ذلك بما فيه عبرة للمعتبر، ثم عطف عليه التحذير من مضايقة المحتاجين إلى المواساة مضايقة الربا مع ما في تلك المعاملات من المفاسد، ثلَّث ببيان التوثقات المالية من الإشهاد، وما يقوم مقامه وهو الرهن والائتمان. وإن تحديد التوثق في المعاملات من أعظم وسائل بث الثقة بين المتعاملين، وذلك من شأنه تكثير عقود المعاملات ودوران دولاب التمول.
والجملة استئناف ابتدائي، والمناسبة في الانتقال ظاهرة عقب الكلام على غرماء أهل الربا.
والتداين من أعظم أسباب رواج المعاملات لأن المقتدر على تنمية المال قد يعوزه المال فيضطر إلى التداين ليظهر مواهبه في التجارة أو الصناعة أو الزراعة، ولأن المترفه قد ينضب المال من بين يديه وله قِبل به بعد حين، فإذا لم يتداين اختل نظام ماله، فشرع الله تعالى للناس بقاء التداين المتعارف بينهم كيلا يظنوا أن تحريم الربا والرجوع بالمتعاملين إلى رؤوس أموالهم إبطال للتداين كله. وأفاد ذلك التشريع بوضعه في تشريع آخر مكمل له وهو التوثق له بالكتابة والإشهاد.
والخطاب موجه للمؤمنين أي لمجموعهم، والمقصود منه خصوص المتداينين، والأخص بالخطاب هو المدين لأن من حق عليه أن يجعل دائنه مطمئن البال على ماله. فعلى المستقرض أن يطلب الكتابة وإن لم يسألها الدائن، ويؤخذ مما حكاه الله في سورة القصص عن موسى وشعيب، إذ استأجر شعيب موسى. فلما تراوضا على الإجارة وتعين أجلها قال موسى: "والله على ما نقول وكيل" فذلك إشهاد على نفسه لمؤاجره دون أن يسأله شعيب ذلك.
والتداين تفاعل، وأطلق هنا ـ مع أن الفعل صادر من جهة واحدة وهي جهة المُسَلِّف ـ لأنك تقول أدّان منه فدانه، فالمفاعلة منظور فيها إلى المخاطبين هم مجموع الأمة؛ لأن في المجموع دائناً ومديناً، فصار المجموع مشتملاً على جانبين. ولك أن تجعل المفاعلة على غير بابها كما تقول تداينت من زيد.
وزيادة قيد {بدين} إما لمجرد الإطناب، كما يقولون رأيته بعيني ولمسته بيدي، وإما ليكون معاداً للضمير في قوله فاكتبوه، ولولا ذكره لقال فاكتبوا الدين فلم يكن النظم بذلك الحسن، ولأنه أبين لتنويع الدين إلى مؤجل وحال، قاله في "الكشاف".

وقال الطيبي عن صاحب الفرائد: يمكن أن يظن استعمال التداين مجازاً في الوعد كقوله رؤبة:
داينتُ أروى والديون تُقضى ... فمطلت بعضاً وأدت بعضاً
فذكر قوله "بدين" دفعاً لتوهم المجاز. والدين في كلام العرب العوض المؤخر قال شاعرهم:
وعدتنا بدرهمينا طلاء ... وشواء معجلا غير دين
وقوله: {إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} طلب تعيين الآجال للديون لئلا يقعوا في الخصومات والتداعي في المرادات، فأدمج تشريع التأجيل في أثناء تشريع التسجيل.
والأجل مدة من الزمان محدودة النهاية مجعولة ظرفاً لعمل غير مطلوب فيه المبادرة، لرغبة تمام ذلك العمل عند انتهاء تلك المدة أو في أثنائها.
والأجل اسم وليس بمصدر، والمصدر التأجيل، وهو إعطاء الأجل. ولما فيه من معنى التوسعة في العمل أطلق الأجل على التأخير، وقد تقدم في قوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} [البقرة:234]، وقوله: {حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة:235].
والمسمى حقيقته المميز باسم يميزه عما يشابهه في جنسه أو نوعه، فمنه أسماء الأعلام وأسماء الأجناس، والمسمى هنا مستعار للمعين المحدود، وإنما يقصد تحديده بنهاية من الأزمان المعلومة عند الناس، فشبه ذلك بالتحديد بوضع الاسم بجامع التعيين؛ إذ لا يمكن تمييزه عن أمثاله إلا بذلك، فأطلق عليه لفظ التسمية، ومنه قول الفقهاء المَهر المسمى. فالمعنى أجل معين بنهايته. والدين لا يكون إلا إلى أجل، فالمقصود من وصف الدين بهذا الوصف، هو وصف أجل بمسمى إدماجاً للأمر بتعيين الأجل.
وقوله: {بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} يعم كل دين: من قرض أو من بيع أو غير ذلك. وعن ابن عباس أنها نزلت في السلم ـ يعني بيع الثمار ونحوها من المثليات في ذمة البائع إذا كان ذا ذمة إلى أجل ـ وكان السلم من معاملات أهل المدينة. ومعنى كلامه أن بيع السلم سبب نزول الآية، ومن المقرر في الأصول أن السبب الخاص لا يخصص العموم.
والأمر في "فاكتبوه" قيل للاستحباب، وهو قول الجمهور ومالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد، وعليه فيكون قوله: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [البقرة:283] تكميلاً لمعنى الاستحباب. وقيل الأمر للوجوب، قاله ابن جريج والشعبي وعطاء والنخعي، وروي عن

أبي سعيد الخدري، وهو قول داوود، واختاره الطبري. ولعل القائلين بوجوب الإشهاد الآتي عند قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} قائلون بوجوب الكتابة، وعليه فقوله: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [البقرة:283] تخصيص لعموم أزمنة الوجوب لأن الأمر للتكرار، لا سيما مع التعليق بالشرط، وسماه الأقدمون في عباراتهم نسخاً.
والقصد من الأمر بالكتابة التوثق للحقوق وقطع أسباب الخصومات، وتنظيم معاملات الأمة، وإن كان الاطلاع على العقود الفاسدة. والأرجح أن الأمر للوجوب فإنه الأصل في الأمر، وقد تأكد بهذه المؤكدات، وأن قوله: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} الآية رخصة خاصة بحالة الائتمان بين المتعاقدين كما سيأتي ـ فإن حالة الائتمان حالة سالمة من تطرق التناكر والخصام ـ لأن الله تعالى أراد من الأمة قطع أسباب التهارج والفوضى فأوجب عليهم التوثق في مقامات المشاحنة، لئلا يتساهلوا ابتداءً ثم يفضوا إلى المنازعة في العاقبة، ويظهر لي أن في الوجوب نفياً للحرج عن الدائن إذا طلب من مدينه الكتب حتى لا يعد المدين ذلك من سوء الظن به، فإن في القوانين معذرة للمتعاملين.
وقال ابن عطية: "الصحيح عدم الوجوب لأن للمرء أن يهب هذا الحق ويتركه بإجماع، فكيف يجب عليه أن يكتبه، وإنما هو ندب للاحتياط". وهذا كلام قد يروج في بادئ الرأي ولكنه مردود بأن مقام التوثق غير مقام التبرع.
ومقصد الشريعة تنبيه أصحاب الحقوق حتى لا يتساهلوا ثم يندموا وليس المقصود إبطال ائتمان بعضهم بعضاً، كما أن من مقاصدها دفع موجدة الغريم من توثق دائنه إذا علم أنه بأمر من الله ومن مقاصدها قطع أسباب الخصام.
وقوله: {فَاكْتُبُوهُ} يشمل حالتين:
الأولى حالة كتابة المتداينين بخطيهما أو خط أحدهما ويسلمه للآخر إذا كانا يحسنان الكتابة معاً، لأن جهل أحدهما بها ينفي ثقته بكتابة الآخر.
والثانية حالة كتابة ثالث يتوسط بينهما. فيكتب ما تعاقدا عليه ويشهد عليه شاهدان ويسلمه بيد صاحب الحق إذا كانا لا يحسنان الكتابة أو أحدهما، وهذه غالب أحوال العرب عند نزول الآية. فكانت الأمية بينهم فاشية، وإنما كانت الكتابة في الأنباط والحيرة وبعض جهات اليمن وفيمن يتعلمان قليلاً من مكة والمدينة.
وقوله: {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} أمر للمتداينين بأن يتوسطوا كاتباً يكتب بينهم

لأن غالب حالهم جهل الكتابة.
فعل الأمر به إلى الكاتب مبالغة في أمر المتعاقدين بالاستكتاب. والعرب تعمد إلى المقصود فتنزله منزلة الوسيلة مبالغة في حصوله كقولهم في الأمر ليكن ولدك مهذباً، وفي النهي لا تنسَ ما أوصيتك، ولا أعرفنك تفعل كذا.
فمتعلق فعل الطلب هو ظرف بينكم وليس هذا أمراً للكاتب، وأما أمر الكاتب فهو قوله: {وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ}.
وقوله: {بِالْعَدْلِ} أي بالحق، وليس العدل هنا بمعنى العدالة التي يوصف بها الشاهد فيقال رجل عدل لأن وجود الباء يصرف عن ذلك، ونظيره قوله الآتي: {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ}.
ولذلك قصر المفسرون قوله: {فَاكْتُبُوهُ} على أن يكتبه كاتب غير المتداينين لأنه الغالب، ولتعقيبه بقوله: وليكتب بينكم كاتب بالعدل، فإنه كالبيان لكيفية فاكتبوه، على أن كتاب المتعاقدين إن كانا يحسنانها تؤخذ بلحن الخطاب أو فحواه.
ولذلك كانت الآية حجة عند جمهور العلماء لصحة الاحتجاج بالخط، فإن استكتاب الكاتب إنما ينفع بقراءة خطه.
وقوله: {وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ} نهي لمن تطلب منه الكتابة بين المتداينين عن الامتناع منها إذا دعي إليها، فهذا حكم آخر وليس تأكيداً لقوله: {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ}. لما علمت آنفاً من كون ذلك حكماً موجهاً للمتداينين. وهذا النهي قد اختلف في مقتضاه فقيل نهي تحريم، فالذي يدعى لأن يكتب بين المتداينين يحرم عليه الامتناع.
وعليه فالإجابة للكتابة فرض عين، وهو قول الربيع ومجاهد وعطاء والطبري، وهو الذي لا ينبغي أن يعدل عنه. وقيل: إنما تجب الإجابة وجوباً عينياً إذا لم يكن في الموضع إلا كاتب واحد، فإن كان غيره فهو واجب على الكفاية وهو قول الحسن، ومعناه أنه موكول إلى ديانتهم لأنهم إذا تمالأوا على الامتناع أثموا جميعاً، ولو قيل: إنه واجب على الكفاية على من يعرف الكتابة من أهل مكان المتداينين، وإنه يتعين بتعيين طالب التوثق أحدهم لكان وجيهاً، والأحق بطلب التوثق هو المستقرض كما تقدم آنفاً.
وقيل: إنما يجب على الكاتب في حال فراغه، قاله السدي. وقيل: هو منسوخ بقوله: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} وهو قول الضحاك، وروي عن عطاء، وفي هذا نظر

لأن الحضور للكتابة بين المتداينين ليس من الإضرار إلا في أحوال نادرة كبعد مكان المتداينين من مكان الكاتب. وعن الشعبي وابن جريج وابن زيد أنه منسوخ بقوله تعالى ـ بعد هذا ـ {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة:283]. وسيأتي لنا إبطال ذلك.
وعلى هذا الخلاف يختلف في جواز الأجر على الكتابة بين المتداينين، لأنها إن كانت واجبة فلا أجر عليها، وإلا فالأجر جائز.
ويلحق بالتداين جميع المعاملات التي يطلب فيها التوثق بالكتابة والإشهاد، وسيأتي الكلام على حكم أداء الشهادة عند قوله تعالى: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ}.
وقوله: {كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ} أي كتابة تشابه الذي علمه الله أن يكتبها، والمراد بالمشابهة المطابقة لا المقاربة، فهي مثل قوله: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ} [البقرة: 137]، فالكاف في موضع المفعول المطلق لأنها صفة لمصدر محذوف. و"ما" موصولة.
ومعنى ما عمله الله أنه يكتب ما يعتقده ولا يجحف أو يوارب، لأن الله ما علم إلا الحق وهو المستقر في فطرة الإنسان، وإنما ينصرف الناس عنه بالهوى فيبدلون ويغيرون وليس ذلك التبديل بالذي علمهم الله تعالى، وهذا يشير إليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "واستفتِ نفسك وإن أفتاك الناس".
ويجوز أن تكون الكاف لمقابلة الشيء بمكافئه والعوض بمعوضه، أي أن يكتب كتابة تكافئ تعليم الله إياه الكتابة، بأن ينفع الناس بها شكراً على تيسير الله له أسباب عملها، وإنما يحصل هذا الشكر بأن يكتب ما فيه حفظ الحق ولا يقصر ولا يدلس، وينشأ عن هذا المعنى من التشبيه معنى التعليل كما في قوله تعالى: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص:77] وقوله: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 198].
والكاف على هذا إما نائبة عن المفعول المطلق أو صفة لمفعول به محذوف على تأويل مصدر فِعل أن يكتب بالمكتوب، و"ما" على هذا الوجه مصدرية، وعلى كلا الوجهين فهو متعلق بقوله: {أَنْ يَكْتُبَ}، وجوز صاحب "الكشاف" تعليقه بقوله فليكتب فهو وجه في تفسير الآية.
وقوله: {فَلْيَكْتُبْ} تفريع على قوله: {وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ}، وهو تصريح بمقتضى النهي وتكرير للأمر في قوله: {فَاكْتُبُوهُ}، فهو يفيد تأكيد الأمر وتأكيد النهي أيضاً، وإنما

أعيد ليُرتَّب عليه قوله: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} لبعد الأمر الأول بما وليه، ومثله قوله تعالى: {اتَّخَذُوهُ} [الأعراف:148] بعد قوله: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً} [الأعراف:148] الآية.
وقوله: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} أمل وأملي لغتان: فالأولى لغة أهل الحجاز وبني أسد، والثانية لغة تميم، وقد جاء القرآن بهما قال تعالى: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} وقال: { فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفرقان:5]، قالوا والأصل هو أملل ثم أبدلت اللام ياء لأنها أخف؛ أي عكس ما فعلوا في قولهم تقضي البازي إذ أصله تقضض.
ومعنى اللفظين أن يلقي كلاماً على سامعه ليكتبه عنه، هكذا فسره في "اللسان" و"القاموس". وهو مقصور في التفسير أحسب أنه نشأ عن حصر نظرهم في هذه الآية الواردة في غرض الكتابة، وإلا فإن قوله تعالى في سورة الفرقان [5]: {فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} تشهد بأن الإملاء والإملال يكونان لغرض الكتابة ولغرض الرواية والنقل كما في آية الفرقان، ولغرض الحفظ كما يقال مَلّ المؤدب على الصبي للحفظ، وهي طريقة تحفيظ العميان. فتحرير العبارة أن يفسر هذا اللفظان بإلقاء كلام ليكتب عنه أو ليروى أو ليحفظ، والحق هنا ما حقَّ أي ثبت للدائن.
وفي هذا الأمر عبرة للشهود فإن منهم من يكتبون في شروط الحبس ونحوه ما لم يملله عليهم المشهود عليه إلا إذا كان قد فوض إلى الشاهد الإحاطة بما فيه توثقه لحقة أو أوقفه عليه قبل عقده على السدارة.
والضمير في قوله: {وَلْيَتَّقِ}، وقوله: {وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً} يحتمل أن يعودا إلى الذي عليه الحق لأنه أقرب مذكور من الضميرين، أي لا ينقص رب الدين شيئاً حين الإملاء، قاله سعيد بن جبير، وهو على هذا أمر للمدين بأن يقر بجميع الدين ولا يغبن الدائن. وعندي أن هذا بعيد إذ لا فائدة بهذه الوصاية؛ فلو أخفى المدين شيئاً أو غبن لأنكر عليه رب الدين لأن الكتابة يحضرها كلاهما لقوله تعالى: {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ}. ويحتمل أن يعود الضميران إلى {كاتب} بقرينة أن هذا النهي أشد تعلقاً بالكاتب؛ فإنه الذي قد يغفل عن بعض ما وقع إملاؤه عليه.
والضمير في قوله: {منه} عائد إلى الحق وهو حق لكلا المتداينين، فإذا بخس منه شيئاً أضر بأحدهما لا محالة، وهذا إيجاز بديع.

والبخس فسره أهل اللغة بالنقص ويظهر أنه أخص من النقص، فهو نقص بإخفاء. وأقرب الألفاظ إلى معناه الغبن، قال ابن العربي في الأحكام في سورة الأعراف: "البخس في لسان العرب هو النقص بالتعييب والتزهييد، أو المخادعة عن القيمة، أو الاحتيال في التزيد في الكيل أو النقصان منه". أي عن غفلة من صاحب الحق، وهذا هو المناسب في معنى الآية لأن المراد النهي عن النقص من الحق عن غفلة من صاحبه، ولذلك نهي الشاهد أو المدين أو الدائن، وسيجيء في سورة الأعراف عند قوله تعالى: {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ}. [الأعراف: 85].
وقوله: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً} السفيه هو مختل العقل، وتقدم بيانه عند قوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ}. [البقرة:142].
والضعيف الصغير، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ} [البقرة:266].
والذي لا يستطيع أن يملِّ هو العاجز كمن به بكم وعمىً وصمم جميعاً.
ووجه تأكيد الضمير المستتر في فعل يملِّ بالضمير البارز هو التمهيد لقوله: {فَلْيُمْلِلْ} لئلا يتوهم الناس أن عجزه يسقط عنه واجب الإشهاد عليه بما يستدينه، وكان الأولياء قبل الإسلام وفي صدره كبراء القرابة. والولي من له ولاية على السفيه والضعيف ومن لا يستطيع أن يمل كالأب والوصي وعرفاء القبيلة، وفي حديث وفد هوازن: قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليرفع إلي عرفاؤكم أمركم"، وكان ذلك في صدر الإسلام وفي الحقوق القبلية.
ومعنى {بالعدل} أي بالحق. وهذا دليل على أن إقرار الوصي والمقدم في حق المولي عليه ماضٍ إذا ظهر سببه، وإنما لم يعمل به المتأخرون من الفقهاء سداً للذريعة خشية التواطؤ على إضاعة أموال الضعفاء.
{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى}.
عطف على {فَاكْتُبُوهُ}، وهو غيره وليس بياناً له إذ لو كان بياناً لما اقترن بالواو. فالمأمور به المتداينون شيئان: الكتابة، والإشهاد عليها. والمقصود من الكتابة ضبط صيغة التعاقد وشروطه وتذكر ذلك خشية النسيان. ومن أجل ذلك سماها الفقهاء ذُكْر الحق، وتسمى عقداً قال الحارس بن حلزة:

حذر الجور والتطاخي وهل ينـ ... ـقض ما في المهارق الأهواء
قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة:283]. فلم يجعل بين فقدان الكاتب وبين الرهن درجة وهي الشهادة بلا كتابة لأن قوله: {وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً} [البقرة: 283]. صار في معنى ولم تجدوا شهادة، ولأجل هذا يجوز أن يكون الكاتب أحد الشاهدين. وإنما جعل القرآن كاتباً وشاهدين لندرة الجمع بين معرفة الكتابة وأهلية الشهادة.
{وَاسْتَشْهِدُوا} بمعنى أشهدوا، فالسين والتاء فيه لمجرد التأكيد، ولك أن تجعلهما للطلب أي أطلبوا شهادة شاهدين، فيكون تكليفاً بالسعي للإشهاد وهو التكليف المتعلق بصاحب الحق. ويكون قوله: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} تكليفاً لمن يطلب منه صاحب الحق أي أن يشهد عليهما أن لا يمتنع.
والشهادة حقيقتها الحضور والمشاهدة، والمراد بها هنا حضور خاص وهو حضور لأجل الاطلاع على التداين، وهذا إطلاق معروف للشهادة على حضور لمشاهدة تعاقد بين متعاقدين أو لسماع عقد من عاقد واحد مثل الطلاق والحبس. وتطلق الشهادة أيضاً على الخبر الذي يخبر به صاحبه عن أمر حصل لقصد الاحتجاج به لمن يزعمه، والاحتجاج به على من ينكره، وهذا هو الوارد في قوله: {ثم لم يأتوا بأربعة شهداء} [النور:4].
وجعل المأمور به طلب الإشهاد لأنه الذي في قدرة المكلف وقد فهم السامع أن الغرض من طلب الإشهاد حصوله. ولهذا أمر المستشهد ـ بفتح الهاء ـ بعد ذلك بالامتثال فقال: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا}.
والأمر في قوله: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} قيل للوجوب، وهو قول جمهور السلف، وقيل للندب، وهو قول جمهور الفقهاء المتأخرين: مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وسيأتي عند قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ}.
وقوله: {مِنْ رِجَالِكُمْ} أي من رجال المسلمين، فحصل به شرطان: أنهم رجال، وأنهم ممن يشملهم الضمير.
وضمير جماعة المخاطبين مراد به المسلمون لقوله في طالعة هذه الأحكام: {يا أيها الذين آمنوا}.
وأما الصبي فلم يعتبره الشرع لضعف عقله عن الإحاطة بمواقع الإشهاد ومداخل

التهم.
والرجل في أصل اللغة يفيد وصف الذكورة فخرجت الإناث، ويفيد البلوغ فخرج الصبيان، والضمير المضاف إليه أفاد وصف الإسلام. فأما الأنثى فيذكر حكمها بعد هذا، وأما الكافر فلأن اختلاف الدين يوجب التباعد في الأحوال والمعاشرات والآداب فلا تمكن الإحاطة بأحوال العدول والمرتابين من الفريقين، كيف وقد اشترط في تزكية المسلمين شدة المخالطة، ولأنه قد عرف من غالب أهل الملل استخفاف المخالف في الدين لحقوق مخالفه، وذلك من تخليط الحقوق والجهل بواجبات الدين الإسلامي. فإن الأديان السالفة التي لم تتعرض لاحترام حقوق المخالفين، فتوهم أتباعهم دحضها. وقد حكى الله عنهم أنهم قالوا: {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ}. وهذه نصوص التوراة في مواضع كثيرة تنهي عن أشياء أو تأمر بأشياء وتخصها ببني إسرائيل، وتسوغ مخالفة ذلك مع الغريب، ولم نر في دين من الأديان التصريح بالتسوية في الحقوق سوى دين الإسلام، فكيف نعتد بشهادة هؤلاء الذين يرون المسلمين مارقين عن دين الحق مناوئين لهم، ويرمون بذلك نبيهم فمن دونه، فماذا يرجى من هؤلاء أن يقولوا الحق لهم أو عليهم والنصرانية تابعة لأحكام التوراة. على أن تجافي أهل الأديان أمر كان كالجبلي فهذا الإسلام مع أمره المسلمين بالعدل مع أهل الذمة لا نرى منهم امتثالاً فيما يأمرهم به في شأنهم.
وفي القرآن إيماء إلى هذه العلة {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ}. وفي "البخاري" في حديث أبي قلابة في مجلس عمر بن عبد العزيز. وما روي عن سهل بن أبي حثمة الأنصاري: أن نفراً من قومه ذهبوا إلى خيبر فتفرقوا بها، فوجدوا أحدهم قتيلاً، فقالوا للذين وجد فيهم القتيل أنتم قتلتم صاحبنا، قالوا ما قتلنا، فانطلقوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشكوا إليه، فقال لهم: "تأتون بالبينة على من قلته"، قالوا: "ما لنا بينة"، قال: "فتحلف لكم يهود خمسين يميناً"، قالوا: "ما يبالون أن يقتلونا أجمعين ثم يحلفون"، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبطل دمه ووداه من مال الصدقة. فقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم قول الأنصار في اليهود: إنهم ما يبالون أن يقتلوا كل القوم ثم يحلفون.
فإن قلت: كيف اعتدت الشريعة بيمين المدعى عليه من الكفار، قلت: اعتدت بها لأنها أقصى ما يمكن في دفع الدعوى، فرأتها الشريعة خيراً من إهمال الدعوى من أصلها.

ولأجل هذا اتفق علماء الإسلام على عدم قبول شهادة أهل الكتاب بين المسلمين في غير الوصية في السفر، واختلفوا في الإشهاد على الوصية في السفر، فقال ابن عباس ومجاهد وأبو موسى الأشعري وشريح بقبول شهادة غير المسلمين في الوصية في السفر، وقضى به أبو موسى الأشعري مدة قضائه في الكوفة، وهو قول أحمد وسفيان الثوري وجماعة من العلماء، وقال الجمهور: لا تجوز شهادة غير المسلمين على المسلمين ورأوا أن ما فيه آية الوصية منسوخ، وهو قول زيد بن أسلم ومالك وأبي حنيفة والشافعي، واختلفوا في شهادة بعضهم على بعض عند قاضي المسلمين فأجازها أبو حنيفة ناظراً في ذلك إلى انتفاء تهمة تساهلهم بحقوق المسلمين، وخالفه الجمهور، والوجه أنه يتعذر لقاضي المسلمين معرفة أمانة بعضهم مع بعض وصدق أخبارهم كما قدمناه آنفاً.
وظاهر الآية قبول شهادة العبد العدل وهو قول شريح وعثمان البتي وأحمد وإسحاق وأبي ثور، وعن مجاهد: المراد الأحرار، وهو قول مالك وأبي حنيفة والشافعي، والذي يظهر لي أن تخصيص العبد من عموم الآية بالعرف وبالقياس، أما العرف فلأن غالب استعمال لفظ الرجل والرجال ألا يرد مطلقاً إلى مراداً به الأحرار، يقولون: رجال القبيلة ورجال الحي، قال محكان التميمي:
يا ربة البيت قويم غير صاغرة ... ضمي إليك رجال الحي والغربا
وأما القياس فلعدم الاعتداد بهم في المجتمع لأن حالة الرق تقطعهم عن غير شؤون مالكيهم فلا يضبطون أحوال المعاملات غالباً؛ ولأنهم ينشؤون على عدم العناية بالمروءة، فترك اعتبار شهادة العبد معلوم للمظنة وفي النفس عدم انثلاج لهذا التعليل.
واشترط العدد في الشاهد ولم يكتف بشهادة عدل واحد لأن الشهادة لما تعلقت بحق معين لمعين اتهم الشاهد باحتمال أن يتوسل إليه الظالم الطالب لحق مزعوم فيحمله على تحريف الشهادة، فاحتيج إلى حيطة تدفع التهمة فاشترط فيه الإسلام وكفى به وازعاً، والعدالة لأنها تزع من حيث الدين والمروءة، وزيد انضمام ثان إليه لاستبعاد أن يتواطأ كلا الشاهدين على الزور. فثبت بهذه الآية أن التعدد شرط في الشهادة من حيث هي، بخلاف الرواية لانتفاء التهمة فيها إذ لا تتعلق بحق معين، ولهذا لو روى راوٍ حديثاً هو حجة في قضية للراوي فيها حق لما قبلت روايته، وقد كلف عمر أبا موسى الأشعري أن يأتي بشاهد معه على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا استأذن أحدكم ثلاثاً ولم يؤذن له فليرجع" إذ كان ذلك في ادعاء أبي موسى أنه لما لم يأذن له عمر في الثالثة رجع، فشهد له أبو سعيد

الخدري في ملإِ من الأنصار.
والعدد هو اثنان في المعاملات المالية كما هنا.
وقوله: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ} أي لم يكن الشاهدان رجلين، أي بحيث لم يحضر المعاملة رجلان بل حضر واحد، فرجل وامرأتان يشهدان. فقوله: {فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} جواب الشرط، وهو جزء جملة حذف خبرها لأن المقدر أنسب بالخبرية ـ ودليل المحذوف قوله: {وَاسْتَشْهِدُوا} ـ وقد فهم المحذوف فكيفما قدرته ساغ لك.
وجيء في الآية بكان الناقصة مع التمكن من أن يقال فإن لم يكن رجلان لئلا يتوهم منه أن شهادة المرأتين لا تقبل إلا عند تعذر الرجلين كما توهمه قوم، وهو خلاف قول الجمهور لأن مقصود الشارع التوسعة على المتعاملين. وفيه مرمى آخر وهو تعويدهم بإدخال المرأة في شؤون الحياة إذ كانت في الجاهلية لا تشترك في هذه الشؤون، فجعل الله المرأتين مقام الرجل الواحد وعلل ذلك بقوله: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى}، وهذه حيطة أخرى من تحريف الشهادة وهي خشية الاشتباه والنسيان لأن المرأة أضعف من الرجل بأصل الجبلة بحسب الغالب، والضلال هنا بمعنى النسيان.
وقوله: {أَنْ تَضِلَّ} قرأه الجمهور بفتح همزة أن على أنه محذوف منه لام التعليل كما هو الغالب في الكلام العربي مع أن، والتعليل في هذا الكلام ينصرف إلى ما يحتاج فيه إلى أن يُعلل لقصد إقناع المكلفين، إذ لا نجد في هذه الجملة حكماً قد لا تطمئن إليه النفوس إلا جعل عوض الرجل الواحد بامرأتين اثنتين فصرح بتعليله. واللام المقدرة قبل أن متعلقة بالخبر المحذوف في جملة جواب الشرط إذ التقدير فرجل وامرأتان يشهدان أو فليشهد رجل وامرأتان، وقرأوه بنصب {فَتُذَكِّرَ} عطفاً على {أَنْ تَضِلَّ}، وقرأه حمزة بكسر الهمزة على اعتبار أن شرطية وتضل فعل الشرط، وبرفع تذكر على أنه خبر مبتدأ محذوف بعد الفاء لأن الفاء تؤذن بأن ما بعدها غير مجزوم والتقدير فهي تذكرها الأخرى على نحول قوله تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة:95].
ولما كان "أن تضل" في معنى لضلال إحداهما صارت العلة في الظاهر هي الضلال، وليس كذلك بل العلة هي ما يترتب على الضلال من إضاعة المشهود به، فتفرع عليه قوله: {فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} لأن فتذكر معطوف على تضل بفاء التعقيب فهون من تكملته، والعبرة بآخر الكلام كما قدمناه في قوله تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} [البقرة: 266]، ونظيره في "الكشاف" أن تقول: أعددت الخشبة أن

يميل الحائط فأدعمه، وأعددت السلاح أن يجيء عدو فأدفعه. وفي هذه الاستعمال عدول عن الظاهر وهو أن يقال: أن تذكر إحداهما الأخرى عند نسيانها. ووجهه صاحب "الكشاف" بأن فيه دلالة على الاهتمام بشأن التذكير حتى صار المتكلم يعلل بأسبابه المفضية إليه لأجل تحصيله. وادعى ابن الحاجب في أماليه على هذه الآية بالقاهرة سنة ست عشرة وستمائة: أن من شأن لغة العرب إذا ذكروا علة ـ وكان للعلة علة ـ قدموا ذكر علة العلة وجعلوا العلة معطوفة عليها بالفاء لتحصل الدلالتان معاً بعبارة واحدة. ومثله بالمثال الذي مثل به "الكشاف"، وظاهر كلامه أن ذلك ملتزم ولم أره لغيره.
والذي أراه أن سبب العدول في مثله أن العلة تارة تكون بسيطة كقولك: فعلت كذا إكراماً لك، وتارة تكون مركبة من دفع ضر وجلب نفع بدفعه. فهنالك يأتي المتكلم في تعليله بما يدل على الأمرين في صورة علة واحدة إيجازاً في الكلام كما في الآية والمثالين. لأن المقصود من التعدد خشية حصول النسيان للمرأة المنفردة، فلذا أخذ بقولها حق المشهود عليه وقصد تذكير المرأة الثانية إياها، وهذا أحسن مما ذكره صاحب "الكشاف".
وفي قوله: {فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} إظهار في مقام الإضمار لأن مقتضى الظاهر أن يقول فتذكرها الأخرى، وذلك أن الإحدى والأخرى وصفان مبهمان لا يتعين شخص المقصود بهما، فكيفما وضعتهما في موضعي الفاعل والمفعول كان المعنى واحداً، فلو أضمر للإحدى ضمير المفعول لكان المعاد واضحاً سواء كان قوله إحداهما ـ المظهر ـ فاعلاً أو مفعولاً به، فلا يظن أن كون لفظ إحداهما المظهر في الآية فاعلاً ينافي كونه إظهاراً في مقام الإضمار لأنه لا أضمر لكان الضمير مفعولاً، والمفعول غير الفاعل كما قد ظنه التفتازاني لأن المنظور إليه في اعتبار الإظهار في مقام الإضمار هو تأتي الإضمار مع اتحاد المعنى. وهو موجود في الآية كما لا يخفى.
ثم نكتة الإظهار هنا قد تحيرت فيها أفكار المفسرين ولم يتعرض لها المتقدمون، قال التفتازاني في "شرح الكشاف": "ومما ينبغي أن يتعرض له وجه تكرير لفظ إحداهما، ولا خفاء في أنه ليس من وضع المظهر موضع المضمر إذ ليست المذكرة هي المناسبة إلا أن يجعل إحداهما الثانية في موقع المفعول، ولا يجوز ذلك لتقديم المفعول في موضع الإلباس، ويصح أن يقال: فتذكرها الأخرى، فلا بد للعدول من نكتة". وقال العصام في "حاشية البيضاوي" نكتة التكرير أنه كان فصل التركيب أن تذكر إحداهما الأخرى إن

ضلت، فلما قدم إن ضلت وأبرز في معرض العلة لم يصح الإضمار "أي لعدم تقدم إمعاد" ولم يصح أن تضل الأخرى لأنه لا يحسن قبل ذكر إحداهما "أي لأن الأخرى لا يكون وصفاً إلى في مقابلة وصف مقابل مذكور فأبدل بإحداهما "أي أبدل موقع لفظ لأخرى بلفظ إحداهما ولم يغير ما هو أصل العلة عن هيأته لأنه كأن لم يقدم عليه، {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا} يعني فهذا وجه الإظهار.
وقال الخفاجي في "حاشية التفسير": "قالوا: إن النكتة الإبهام لأن كل واحدة من المرأتين يجوز عليها ما يجوز على صاحبتها من الضلال والتذكير، فدخل الكلام في معنى العموم" يعني أنه أظهر لئلا يتوهم أن إحدى المرأتين لا تكون إلا مذكرة الأخرى، فلا تكون شاهدة بالأصالة. وأصل هذا الجواب لشهاب الدين الغزنوي عصري الخفاجي عن سؤال وجهه إليه الخفاجي، وهذا السؤال:
يا رأس أهل العلوم السادة البررة ... ومن نداه على كل الورى نشره
ما سر تكرار إحدى دون تذكرها ... في آية لذوي الأشهاد في البقرة
وظاهر الحال إيجاز الضمير على ... تكرار إحداهما لو أنه ذكره
وحمل الإحدى على نفس الشهادة في ... أولاهما ليس مرضياً لدى المهره
فغص بفكرك لاستخراج جوهرة ... من بحر علمك ثم ابعث لنا درره
فأجاب الغزنوي:
يا من فوائده بالعلم منتشرة ... ومن فضائله في الكون مشتهره
تضل إحداهما فالقول محتمل ... كليهما فهي للإظهار مفتقره
ولو أتى بضمير كان مقتضياً ... تعيين واحدة للحكم معتبره
ومن رددتم عليه الحل فهو كما ... أشرتم ليس مرضياً لمن سبره
هذا الذي سمح الذهن الكليل به ... والله أعلم في الفحوى بما ذكره
وقد أشار السؤال والجواب إلى رد على جواب لأبي القاسم المغربي في تفسيره1؛ إذ جعل إحداهما الأول مراداً به إحدى الشهادتين، وجعل تضل بمعنى تتلف بالنسيان، وجعل إحداهما الثاني مراداً به إحدى المرأتين. ولما اختلف المدلول لم يبق إظهار في
ـــــــ
1 هو أبو القاسم حسين بن علي الشهري بالمغربي استوزره البوهي ببغداد وفي سنة 418.

مقام الإضمار، وهو تكلف وتشتيت للضمائر لا دليل عليه، فينزه تخريج كلام الله عليه، وهو الذي عناه الغزنوي بقوله: "ومن رددتم عليه الحل الخ..".
والذي أراه أن هذا الإظهار في مقام الإضمار لنكتة هي قصد استقلال الجملة بمدلولها كيلا تحتاج إلى كلام آخر فيه معاد الضمير لو أضمر، وذلك يرشح الجملة لأن تجري مجرى المثل. وكأن المراد هنا الإيماء إلى أن كلتا الجملتين علة لمشروعية تعدد المرأة في الشهادة، فالمرأة معرضة لتطرق النسيان إليها وقلة ضبط ما يهم ضبطه، والتعدد مظنة لاختلاف مواد النقص والخلل، فعسى ألا تنسى إحداهما ما نسيته الأخرى. فقوله أن تضل تعليل لعدم الاكتفاء بالواحدة، وقوله: {فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} تعليل لإشهاد امرأة ثانية حتى لا تبطل شهادة الأولى من أصلها.
{وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا}.
عُطف {وَلا يَأْبَ} على {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ} لأنه لما أمر المتعاقدين باستشهاد شاهدين نهي من يطلب إشهاده عن أن يأبى، ليتم المطلوب وهو الإشهاد.
وإنما جيء في خطاب المتعاقدين بصيغة الأمر وجيء في خطاب الشهداء بصيغة النهي اهتماماً بما فيه التفريط. فإن المتعاقدين يظن بهما إهمال الإشهاد فأمرا به، والشهود يظن بهما الامتناع فنهوا عنه، وكل يستلزم ضده.
وتسمية المدعوين شهداء باعتبار الأول القريب، وهو المشارفة، وكأن في ذلك نكتة عظيمة: وهي الإيماء إلى أنهم بمجرد دعوتهم إلى الإشهاد، قد تعينت عليهم الإجابة، فصاروا شهداء.
وحذف معمول دعوا إما لظهوره من قوله ـ قبله ـ {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ} أي إذا ما دعوا إلى الشهادة أي التحمل، وهذا قول قتادة، والربيع بن سليمان، ونقل عن ابن عباس، فالنهي عن الإباية عند الدعاء إلى الشهادة حاصل بالأولى، ويجوز أن يكون حذف المعمول لقصد العموم، أي إذا ما دعوا للتحمل والأداء معاً؛ قاله الحسن، وابن عباس، وقال مجاهد: إذا ما دعوا إلى الأداء خاصة، ولعل الذي حمله على ذلك هو قوله: {الشُّهَدَاءِ} لأنهم لا يكونون شهداء حقيقة إلا بعد التحمل، ويبعده أن الله تعالى قال ـ بعد هذا ـ {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} [البقرة:283] وذلك نهي عن الإباية عند الدعوة للأداء.
والذي يظهر أن حذف المتعلق بفعل {دُعُوا} لإفادة شمول ما يدعون لأجله في

التعاقد: من تحمل، عند قصد الإشهاد، ومن أداء، عند الاحتياج إلى البينة. قال ابن الحاجب: "والتحمل حيث يفتقر إليه فرض كفاية والأداء نحو البريدين ـ إن كانا اثنين ـ فرض عين، ولا تحل إحالته على اليمين".
والقول في مقتضى النهي هنا كالقول في قوله: {وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ} ويظهر أن التحمل يتعين بالتعيين من الإمام، أو بما يعينه، وكان الشأن أن يكون فرض عين إلا لضرورة فينتقل المتعاقدان لآخر، وأما الأداء ففرض عين إن كان لا مضرة فيه على الشاهد في بدنه، أو ماله، وعند أبي حنيفة الأداء فرض كفاية إلا إذا تعين عليه، بأن لا يوجد بدله، وإنما يجب بشرط عدالة القاضي، وقرب المكان: بأن يرجع الشاهد إلى منزله في يومه، وعلمه بأنه تقبل شهادته، وطلب المدعي. وفي هذه التعليقات رد بالشهادة إلى مختلف اجتهادات الشهود، وذلك باب من التأويلات لا ينبغي فتحه.
قال القرطبي: "يؤخذ من هذه الآية أنه يجوز للإمام أن يقيم للناس شهوداً، ويجعل لهم كفايتهم من بيت المال، فلا يكون لهم شغل إلا تحمل حقوق الناس حفظاً لها". قلت: وقد أحسن. قضاة تونس المتقدمون، وأمراؤها، في تعيين شهود منتصبين للشهادة بين الناس، يؤخذون ممن يقبلهم القضاة ويعرفونهم بالعدالة، وكذلك كان الأمر في الأندلس، وذلك من النظر للأمة، ولم يكن ذلك متبعاً في بلاد المشرق؛ بل كانوا يكتفون بشهرة عدالة بعض الفقهاء وضبطهم للشروط وكتب الوثائق فيعتمدهم القضاة، ويكلون إليهم ما يجري في النوازل من كتابة الدعوى والأحكام، وكان مما يعد في ترجمة بعض العلماء أن يقال: كان مقبولاً عند القاضي فلان.
{وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ}.
تعميم في أكوان أو أحوال الديون المأمور بكتابتها، فالصغير والكبير هنا مجازان في الحقير والجليل. والعاملات الصغيرة أكثر من الكبيرة، فلذلك نهوا عن السآمة هنا. والسآمة: الملل من تكرير فعل ما.
والخطاب للمتداينين أصالة، ويستتبع ذلك خطاب الكاتب: لأن المتداينين إذا دعواه للكتابة وجب عليه أن يكتب.
والنهي عنها نهي عن أثرها، وهو ترك الكتابة، لأن السآمة تحصل للنفس من غير اختيار، فلا ينهى عنها في ذاتها، وقيل السآمة هنا كناية عن الكسل والتهاون. وانتصب

صغيراً أو كبيراً على الحال من الضمير المنصوب بتكتبوه، أو على حذف كان مع اسمها. وتقديم الصغير على الكبير هنا، مع أن مقتضى الظاهر العكس، كتقديم السنة على النوم في قوله تعالى: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] لأنه قصد هنا إلى التنصيص على العموم لدفع ما يطرأ من التوهمات في قلة الاعتناء بالصغير، وهو أكثر، أو اعتقاد عدم وجوب كتابة الكبير، لو اقتصر في اللفظ على الصغير.
وجملة {إلى أجله} حال من الضمير المنصوب بتكتبوه، أي مغيِّى الدين إلى أجله الذي تعاقداً عليه، والمراد التغيية في الكتابة.
{ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا}.
تصريح بالعلة لتشريع الأمر بالكتابة: بأن الكتابة فيها زيادة التوثق، وهو أقسط أي أشد قسطاً، أي عدلاً، لأنه أحفظ للحق، وأقوم للشهادة، أي أعون على إقامتها، وأقرب إلى نفي الريبة والشك، فهذه ثلاث علل، ويستخرج منها أن المقصد الشرعي أن تكون الشهادة في الحقوق بينة، واضحة، بعيدة عن الاحتمالات، والتوهمات. واسم الإشارة عائد إلى جميع ما تقدم باعتبار أنه مذكور، فلذلك أشير إليه باسم إشارة الواحد.
وفي الآية حجة لجواز تعليل الحكم الشرعي بعلل متعددة وهذا لا ينبغي الاختلاف فيه.
واشتقاق {أَقْسَطُ} من أقسط بمعنى عدل، وهو رباعي، وليس من قسط لأنه بمعنى جار، وكذا اشتقاق {َأَقْوَمُ} من أقام الشهادة إذا أظهرها جارٍ على قول سيبويه بجواز صوغ التفضيل والتعجب من الرباعي المهموز، سواء كانت الهمزة للتعدية نحو أعطى أم لغير التعدية نحو أفرط. وجوز صاحب "الكشاف" أن يكون أقسط مشتقاً من قاسط بمعنى ذي قسط أي صيغة نسب وهو مشكل، إذ ليس لهذه الزنة فعل. واستشكل أيضاً بأن صوغه من الجامد أشد من صوغه من الرباعي. والجواب عندي أن النسب هنا لما كان إلى المصدر شابه المشتق: إذ المصدر أصل الاشتقاق، وأن يكون أقوم مشتقاً من قام الذي هو محول إلى وزن فعل ـ بضم العين ـ الدال على السجية، الذي يجيء منه قويم صفة مشبهة.
{ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا}.
استثناء من عموم الأحوال أو الأكوان في قوله: {صغيراً أو كبيراً} وهو استثناء؛

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68