كتاب : التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور
المؤلف : محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي

واسم {الإسلام} علم للدين الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وسلم، وهو جامع لما فيه خير الدنيا والآخرة فكان ذكر هذا الاسم في الجملة الحالية زيادة في تشنيع حال الذين أعرضوا عنه، أي وهو يدعى إلى ما فيه خيره وبذلك حق عليه وصف {أظلم} .
وجملة {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} تأييس لهم من الإقلاع عن هذا الظلم، أي أن الذين بلغوا هذا المبلغ من الظلم لا طمع في صلاحهم لتمكن الكفر منهم حتى خالط سجاياهم وتقوم مع قوميتهم، ولذلك أقحم لفظ {القوم} للدلالة على أن الظلم بلغ حد أن صار من مقومات قوميتهم كما تقدم في قوله تعالى: {لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} في سورة البقرة. وتقدم غير مرة.
وهذا يعم المخبر عنهم وأمثالهم الذين افتروا على عيسى، ففيها معنى التذييل.
وأسند نفي هديهم إلى الله تعالى لأن سبب انتفاء هذا الهدي عنهم أثر من آثار تكوين عقولهم ومداركهم على المكابرة بأسباب التكوين التي أودعها الله في نظام تكون الكائنات وتطورها من ارتباط المسببات بأسبابها مع التنبيه على أن الله لا يتدارك أكثرهم بعنايته، فمغير فيهم بعض القوى المانعة لهم من الهدى غضبا عليهم إذ لم يخلفوا بدعوة تستحق التبصر بسبب نسبتها إلى جانب الله تعالى حتى يتميز لهم الصدق من الكذب والحق من الباطل.
[8] {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} .
استئناف بياني ناشئ عن الإخبار عنهم بأنهم افتروا على الله الكذب في حال أنهم يدعون إلى الإسلام لأنه يثير سؤال سائل عما دعاهم إلى هذا الافتراء. فأجيب بأنهم يريدون أن يخفوا الإسلام عن الناس ويعوقوا انتشاره ومثلت حالتهم بحالة نفر يبتغون الظلام للتلصص أو غيره مما يراد فيه الاختفاء.
فلاحت له ذبالة مصباح تضيء للناس، فكرهوا ذلك وخشوا أن يشع نوره على الناس فتفتضح ترهاتهم، فعمدوا إلى إطفائه بالنفخ عليه فلم ينطفيء، فالكلام تمثيل دال على حالة الممثل لهم. والتقدير: يريدون عوق ظهور الإسلام كمثل قوم يريدون إطفاء النور، فهذا تشبيه الهيئة بالهيئة تشبيه المعقول بالمحسوس.
ثم إن ما تضمنه من المحاسن أنه قابل لتفرقة التشبيه على أجزاء الهيئة، فاليهود في

حال إرادتهم عوق الإسلام عن الظهور مشبهون بقوم يريدون إطفاء نور. الإسلام فشبه بمصباح. والمشركون مثلهم وقد مثل حال أهل الكتاب بنظير هذا التمثيل في قوله تعالى: : {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} إلى قوله: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} الآية في سورة براءة[30 ،32]، ووصفهم القرآن بأنه سحر ونحو ذلك من تمويهاتهم، فشبه بنفخ النافخين على المصباح فكان لذكر {بأفواههم} وقع عظيم في هذا التمثيل لأن الإطفاء قد يكون بغير الأفواه مثل المروحة والكير، وهم أرادوا إبطال آيات القرآن بزعم أنها من أقوال السحر.
وإضافة نور إلى اسم الجلالة إضافة تشريف، أي نورا أوقده الله، أي أوجده وقدره فما ظنكم بكماله.
واللام من قوله: {ليطفئوا} تسمى اللام الزائدة، وتفيد التأكيد. وأصلها لام التعليل، ذكرت علة فعل الإرادة عوضا عن مفعوله بتنزيل المفعول منزلة العلة.
والتقدير: يريدون إطفاء نور الله ليطفئوا. ويكثر وقوع هذا اللام بعد مادة الإرادة ومادة الأمر. وقد سماها بعض أهل العربية: لام أن لأن معنى أن المصدرية ملازم لها. وتقدم الكلام عليها عند قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} في سورة النساء[26]. فلذلك قيل: إن هذه اللام بعد فعل الإرادة مزيدة للتأكيد.
وجملة {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ} معطوفة على جملة {يريدون} وهي إخبار بأنهم لا يبلغون مرادهم وأن هذا الدين سيتم، أي يبلغ تمام الانتشار. وفي الحديث "والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون" .
والجملة الاسمية تفيد ثبوت هذا الإتمام. والتمام: هو حصول جميع ما للشيء من كيفية أو كمية، فتمام النور: حصول أقوى شعاعة وإتمامه إمداد آلته بما يقوى شعاعه كزيادة الزيت في المصباح وإزالة ما يغش اهـ.
وجملة {وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} حالية و {لو} وصلية، وهي تدل على أن مضمون شرطها أجدر ما يظن أن لا يحصل عند حصوله مضمون الجواب. ولذلك يقدر المعربون قبله ما يدل على تقدير حصول الشرط. فيقولون هذا إذا لم يكن كذا بل وإن كان كذا، وهو تقدير معنى لا تقدير حذف لأن مثل ذلك المحذوف لا يطرد في كل موقع فإنه

لا يستقيم في مثل قوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف: 17]، إذ لا يقال: إذا كنا كاذبين، بل ولو كنا صادقين. وكذلك ما في هذه الآية لأن المعنى: والله متم نوره على فرض كراهة الكافرين، ولما كانت كراهة الكافرين إتمام هذا النور محققة كان سياقها في صورة الأمر المفروض تهكما. وتقدم استعمال "لو" هذه عند قوله تعالى: {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} في سورة آل عمران[91].
وإنما كانت كراهية الكافرين ظهور نور الله حالة يظن انتفاء تمام النور معها، لأن تلك الكراهية تبعثهم على أن يتألبوا على إحداث العراقيل وتضليل المتصدين للاهتداء وصرفهم عنه بوجود المكر والخديعة والكيد والإضرار.
وشمل لفظ {الكافرون} جميع الكافرين بالإسلام من المشركين وأهل الكتاب وغيرهم.
ولكن غلب اصطلاح القرآن على تخصيص وصف الكافرين بأهل الكتاب ومقابلتهم بالمشركين أو الظالمين ويتجه على هذا أن يكون الاهتمام بذكر هؤلاء بعد {لو} الوصلية لأن المقام لإبطال مرادهم إطفاء نور الله فإتمام الله نوره إبطال لمرادهم إطفاءه. وسيرد بعد هذا ما يبطل مراد غيرهم من المعاندين وهم المشركون.
وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر عن عاصم {مُتِمُّ نُورِهِ} بتنوين {متم} ونصب {نوره} . وقرأه ابن كثير وحمزة والكسائي وحفص وخلف بدون تنوين وجر {نوره} على إضافة اسم الفاعل على مفعوله وكلاهما فصيح.
[9] {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} .
هذا زيادة تحد للمشركين وأحلافهم من أهل الكتاب فيه تقوية لمضمون قوله: {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف: 8]، وفيه معنى التعليل للجملة التي قبله. فقد أفاد تعريف الجزأين في قوله: {هوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ} قصرا إضافيا لقلب زعم الكافرين أن محمدا صلى الله عليه وسلم أتى من قبل نفسه، أي الله لا غيره أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق. وأن شيئا تولى الله فعله لا يستطيع أحد أن يزيله.

وتعليل ذلك بقوله: {ليُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} إعلام بأن الله أراد ظهور هذا الدين وانتشاره كيلا يطمعوا أن يناله ما نال دين عيسى عليه السلام من القمع والخفت في أول أمره واستمر زمانا طويلا حتى تنصر قسطنطين سلطان الروم، فلما أخبر الله بأنه أراد إظهار دين الإسلام على جميع الأديان علم أن أمره لا يزال في ازدياد حتى يتم المراد.
والإظهار: النصر ويطلق على التفضيل والإعلاء المعنوي.
والتعريف في قوله: {عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} تعريف الجنس المفيد للاستغراق، أي ليعلي هذا الدين الحق على جميع الأديان وينصر أهله على أهل الأديان الأخرى الذين يتعرضون لأهل الإسلام.
ويظهر أن لفظ {الدين} مستعمل في كلا معنييه: المعنى الحقيقي وهو الشريعة. والمعنى المجازي وهو أهل الدين كما تقول: دخلت قرية كذا وأكرمتني، فإظهار الدين على الأديان بكونه أعلى منها تشريعا وآدابا، وأصلح بجميع الناس لا يخص أمة دون أخرى ولا جيلا دون جيل.
وإظهار أهله على أهل الأديان بنصر أهله على الذين يشاقونهم في مدة ظهوره حتى يتم أمره ويستغني عمن ينصره.
وقد تم وعد الله وظهر هذا الدين وملك أهله أمما كثيرة ثم عرضت عوارض من تفريط المسلمين في إقامة الدين على وجهه فغلبت عليهم أمم، فأما الدين فلم يزل عاليا مشهودا له من علماء الأمم المتصفين بأنه أفضل دين للبشر.
وخص المشركون بالذكر هنا إتماما للذين يكرهون إتمام هذا النور، وظهور هذا الذين على جميع الأديان. ويعلم أن غير المشركين يكرهون ظهور هذا الذين لأنهم أرادوا إطفاء نور الدين لأنهم يكرهون ظهور هذا الدين فحصل في الكلام احتباك.
[10، 12] {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [11] يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} . هذا تخلص إلى الغرض الذي افتتحت به السورة من قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} إلى قوله: {كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:2، 4 ]. فبعد أن ضربت

لهم الأمثال، وانتقل الكلام من مجال إلى مجال، أعيد خطابهم هنا بمثل ما خوطبوا به بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2]، أي هل أدلكم على أحب العمل إلى الله لتعملوا به كما طلبتم إذ قلتم لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله لعملنا به فجاءت السورة في أسلوب الخطابة.
والظاهر أن الضمير المستتر في {أدلكم} عائد إلى الله تعالى لأن ظاهر الخطاب أنه موجه من الله تعالى إلى المؤمنين. ويجوز أن يجعل الضمير إلى النبي صلى الله عليه وسلم على تقدير قول محذوف وعلى اختلاف الاحتمال يختلف موقع قوله الآتي {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الصف:13].
والاستفهام مستعمل في العرض مجازا لأن العارض قد يسأل المعروض عليه ليعلم رغبته في الأمر المعروض كما يقال: هل لك في كذا? أو هل لك إلى كذا?
والعرض هنا كناية عن التشويق إلى الأمر المعروض، وهو دلالته إياهم على تجارة نافعة. وألفاظ الاستفهام تخرج عنه إلى معان كثيرة هي من ملازمات الاستفهام كما نبه عليه السكاكي في المفتاح ، وهي غير منحصرة فيما ذكره.
وجيء بفعل {أدلكم} لإفادة ما يذكر بعده من الأشياء التي لا يهتدي إليها بسهولة.
وأطلق على العمل الصالح لفظ التجارة على سبيل الاستعارة لمشابهة العمل الصالح التجارة في طلب النفع من ذلك العمل ومزاولته والكد فيه، وقد تقدم في قوله تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} في سورة البقرة[16].
ووصف التجارية بأنها تنجي من عذاب أليم، تجريد للاستعارة لقصد الصراحة بهذه الفائدة لأهميتها وليس الإنجاء من العذاب من شأن التجارة فهو من مناسبات المعنى الحقيقي للعمل الصالح.
وجملة {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} مستأنفة استئنافا بيانيا لأن ذكر الدلالة مجمل والتشويق الذي سبقها مما يشير في أنفس السامعين التساؤل عن هذا الذي تدلنا عليه وعن هذه التجارة.
وإذ قد كان الخطاب لقوم مؤمنين فإن فعل {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} مع {وتجاهدون} مراد به تجمعون بين الإيمان بالله ورسوله وبين الجهاد في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم تنويها بشأن الجهاد. وفي التعبير بالمضارع إفادة الأمر بالدوام على الإيمان وتجديده في كل آن، وذلك تعريض بالمنافقين وتحذير من التغافل عن ملازمة الإيمان وشؤونه.

وأما {تجاهدون} فإنه لإرادة تجدد الجهاد إذا استنفروا إليه.
ومجيء {يغفر} مجزوما تنبيه على أن {تؤمنون} {وتجاهدون} وإن جاءا في صيغة الخبر فالمراد الأمر لأن الجزم إنما يكون في جواب الطلب لا في جواب الخبر. قال المبرد والزمخشري.
وقال الفراء: جزم {يغفر} لأنه جواب {هل أدلكم} ، أي لأن متعلق {أدلكم} هو التجارة المفسرة بالإيمان والجهاد، فكأنه قيل: هل تنجرون بالإيمان والجهاد يغفر لكم ذنوبكم.
وإنما جيء بالفعلين الأولين على لفظ الخبر للإيذان بوجوب الامتثال حتى يفرض المأمور كأنه سمع الأمر وأمتثله.
وقرأ الجمهور {تنجيكم} بسكون النون وتخفيف الجيم. وقرأه ابن عامر بفتح النون وتشديد الجيم، يقال: أنجاه ونج اهـ.
والإشارة ب {ذلكم} إلى الإيمان والجهاد بتأويل: المذكور: خير.
و {خير} هذا ليس اسم تفضيل الذي أصله أخير ووزنه: أفعل، بل هو اسم لضد الشر ووزنه: فعل.
وجمع قوله: {خير} ما هو خير الدنيا وخير الآخرة.
وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} تعريض لهم بالعتاب على توليهم يوم أحد بعد أن قالوا: لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله لعملناه، فتدبوا إلى الجهاد فكان ما كان منهم يوم أحد، كما تقدم في أول السورة، فنزلوا منزلة من يشك في عملهم بأنه خير لعدم جريهم على موجب العلم.
والمساكن الطيبة: هي القصور التي في الجنة، قال تعالى: {وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً} [الفرقان:10].
وإنما خصت المساكن بالذكر هنا لأن في الجهاد مفارقة مساكنهم، فوعدوا على تلك المفارقة المؤقتة بمساكن أبدية. قال تعالى {قلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ} إلى قوله: {وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ} [ التوبة:24]الآية.

[13] {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} .
{وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} .
عطف على جملة {يَغْفِرْ لَكُمْ} {وَيُدْخِلْكُمْ} عطف الاسمية على الفعلية. وجيء بالاسمية لإفادة الثبوت والتحقق. ف {أخرى} مبتدأ خبره محذوف دل عليه قوله: {لكم} من قوله: {يَغْفِرْ لَكُمْ} . والتقدير: أخرى لكم، ولك أن تجعل الخبر قوله: {نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ} .
وجيء به وصفا مؤنثا بتأويل نعمة، أو فضيلة، أو حصله مما يؤذن به قوله: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [الصف: 12]إلى آخره من معنى النعمة والخصلة كقوله تعالى: {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا} في سورة الفتح [21].
ووصف {أخرى} بجملة {تحبونها} إشارة إلى الامتنان عليهم بإعطائهم ما يحبون في الحياة الدنيا قبل إعطاء نعيم الآخرة. وهذا نظير قوله تعالى: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة: 144].
و {نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ} بدل من {أخرى} ، ويجوز أن يكون خبرا عن {أخرى} . والمراد به النصر العظيم، وهو نصر فتح مكة فإنه كان نصرا على أشد أعدائهم الذين فتنوهم وآذوهم وأخرجوهم من ديارهم وأموالهم وألبوا عليهم العرب والأحزاب. وراموا تشويه سمعتهم، وقد انضم إليه نصر الدين بإسلام أولئك الذين كانوا من قبل أئمة الكفر ومساعير الفتنة، فأصبحوا مؤمنين إخوانا وصدق الله وعده بقوله: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً} [الممتحنة: 7 ] وقوله كنتم {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} [آل عمران: 103].
وذكر اسم الجلالة يجوز أن يكون إظهارا في مقام الإضمار على احتمال أن يكون ضمير التكلم في قوله: {هَلْ أَدُلُّكُمْ} [الصف: 10] كلاما من الله تعالى، ويجوز أن يكون جاريا على مقتضى الظاهر إن كان الخطاب أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم بتقدير قل.
ووصف الفتح ب {قريب} تعجيل بالسمرة.
وهذه الآية من معجزات القرآن الراجعة إلى الإخبار بالغيب.
{وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}

يجوز أن تكون عطفا على مجموع الكلام الذي قبلها ابتداء من قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ} [الصف: 10] على احتمال أن ما قبلها كلام صادر من جانب الله تعالى، عطف غرض على غرض فيكون الأمر من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بأن يبشر المؤمنين. ولا يتأتى في هذه الجملة فرض عطف الإنشاء على الإخبار إذ ليس عطف جملة على جملة بل جملة على مجموع جمل على نحو ما اختاره الزمخشري عند تفسير قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ} [البقرة: الآية في أوائل سورة البقرة [25] وما بينه من كلام السيد الشريف في حاشية الكشاف.
وأما على احتمال أن يكون قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ} إلى آخره مسوقا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يقول {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ} بتقدير قول محذوف، أي قل يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم، إلى آخره، فيكون الأمر في {وبشر} التفاتا من قبيل التجريد. والمعنى: وابشر المؤمنين.
وقد تقدم القول في عطف الإنشاء على الإخبار عند قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [البقرة: في أوائل سورة البقرة[25].
والذي استقر عليه رأيي الآن أن الاختلاف بين الجملتين بالخبرية والإنشائية اختلاف لفظي لا يؤثر بين الجملتين اتصالا ولا انقطاعا لأن الاتصال والانقطاع أمران معنويان وتابعان للأغراض فالعبرة بالمناسبة المعنوية دون الصيغة اللفظية وفي هذا مقنع حيث فاتني التعرض لهذا الوجه عند تفسير آية سورة البقرة.1
ـــــــ
1في قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} إلى قوله: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} .
في الكشاف فإن قلت: علام عطف هذا الأمر- {أي وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا} - ولم يسبق أمر أو نهي يصح عطفه عليه؟ قلت: ليس الذي اعتمد بالعطف هو الأمر حتى يطلب له مشاكل من أمر أو نهي – أي مشاكل إنشائي- يعطف عليه إنما المتعمد بالعطف هو جملة وصف ثواب المؤمنين فهي معطوفة على جملة وصف عقاب الكافرين اهـ.
قال السيد في حاشية الكشاف: العطف قد يكون بين المفردات وما في حكمها من الجمل التي لها محل من الإعراب. وقد يكون بين الجمل التي لا محل لها، وقد يكون بين قصتين بأن يعطف مجموع جمل متعددة مسوقة لمقصود، على مجموع جمل أخرى مسوقة لمقصود آخر، فيعتبر حينئذ التناسب بين القصتين دون آحاد الجمل الواقعة فيهما.

[14]{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ}.
ـــــــ
= ثم إن السكاكي لم يتعرض في كتابه لعطف القصة على القصة أصلا فالجامدون على كلامه تعريض بالسعد في كلامه في المطول إذ ذكر بحثا ودفعه وبنى البحث على أن كلام الكشاف مبني على جعل هذا العطف من عطف الجمل – تحيروا في هذا المقام، وزعموا أن ما ذكر أولا في الكشاف من قبيل عطف الجملة على الجملة الأخرى فلا بد من تضمين الخبر معنى الطلب أو العكس، وما ذكر فيه ثانيا من عطف المفرد على المفرد وهو عطف الفعل وحده على الفعل وحده.
وعبارة العلامة صريحة في أن المعطوف ههنا مجموع وصف ثواب المؤمنين كما فصل في قوله تعالى: {وَبَشِّرِ} إلى قوله {خالدون} أي في هذه السورة [البقرة:25] فلا حاجة حينئذ في صحة العطف إلى جملة إنشائية سابقة.
ولو كان المعطوف الأمر: يعني الجملة الأمرية التي هي {بشر} لاحتيج إلى طلب ما تشاكله من أمر أو نهي حتى يصح عطفه عليه، وأما توهم العطف بين الفعلين وحدهما فلا مساغ له فيما نحن فيه أصلا اهـ المقصود من كلام السيد.
وفي الكشاف عند قوله تعالى: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} إلى قوله: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} في سورة الصف، فإن قلت علام عطف قوله: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} قلت: على {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} لأنه في معنى الأمر كأنه قيل آمنوا وجاهدوا يثبكم الله وينصركم وبشر يا رسول الله المؤمنين بذلك اهـ.
وظاهر كلامه هنا أنه يكتفي في صحة العطف أن تكون الجملتان إنشائيتين ولو كان متعلقا الإنشائين مختلفين.
قول صاحب التلخيص : {وهو حسبي وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}
قال في المطول {وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} عطف إما على جملة {هو حسبي} والخصوص محذوف فيكون من عطف الجملة الفعلية الإنشائية على الإسمية الإخبارية. ثم عطف الجملة على المفرد إن صح باعتبار تضمن المفرد معنى الفعل كما في قوله تعالى: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً} في قراءة عاصم – لكنه في الحقيقة من عطف الإنشاء على الإخبار أي لأن قوله: {حسبي} لما تضمن معنى الفعل وهو كافئ صار في قوة الفعل وحيث كان إخبارا كان عطف نعم الوكيل عليه عطف جملة إنشائية على جملة خبرية.

هذا خطاب آخر للمؤمنين تكملة لما تضمنه الخطاب بقوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ} إلى قوله {وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [الصف: 10، 11] الآية الذي هو المقصود من ذلك الخطاب، فجاء هذا الخطاب الثاني تذكيرا بأسوة عظيمة من أحوال المخلصين من المؤمنين السابقين وهم أصحاب عيسى عليه السلام مع قلة عددهم وضعفهم.
فأمر الله المؤمنين بنصر الدين وهو نصر غير النصر الذي بالجهاد لأن ذلك تقدم التحريض عليه في قوله: {تُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} [الصف:11] الآية ووعدهم عليه بأن ينصرهم الله، فهذا النصر المأمور به هنا نصر دين الله الذي آمنوا به بأن يبثوه ويثبتوا على الأخذ به دون اكتراث بما يلاقونه من أذى من المشركين وأهل الكتاب، قال تعالى {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ
ـــــــ
قال السيد استصعب الشارح هذا العطف والأمر هين لأنا نختار أولا أنه معطوف على مجموع جملة {وهو حسبي} .
ونختار ثانيا أنه معطوف على حسبي، ولا حاجة إلى تضمينه معنى يحسبني فإن الجمل التي لها محل من الإعراب واقعة موقع المفردات فيجوز عطفها على المفردات وعكسه.
وأما قوله أي الشارح لكنه في الحقيقة من عطف الإنشاء على الإخبار فجوابه: أن ذلك جائز في الجمل التي لها محل من الإعراب نص عليه العلامة في سورة نوح وكفاك حجه قاطعة على جوازه قوله تعالى: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} فإن هذه الواو من الحكاية لا من المحكي، أي قالوا حسبنا الله وقالوا نعم الوكيل اهـ.
قلت: ومراد صاحب الكشاف في الموضعين: التفصي من الإقصاء إلى عطف الإنشاء على الخبر.
قلت:ظاهر كلام التفتزاني في قوله: فيكون من عطف الجملة الفعلية الإنشائية على الاسمية الإخبارية وفي قوله: لكنه في الحقيقة من عطف الإنشاء على الإخبار، أن التفتزاني لا يري ذلك العطف مانعا من جعل جملة {وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}معطوفة على جملة {وهو حسبي} وبذلك يكون كلامه دالا على جواز ذلك العطف. ويحتمل وهو الأظهر أن قوله: فيكون من عطف الجملة الفعلية الإنشائية الخ، أرادبه التنبيه على أن ذلك الإعراب يفصي إلا لازم ممنوع عندهم ولذلك جعل السيد كلام التفتزاني استصعابا لذلك العطف وقال: فجوابه: أن ذلك جائز في الجمل التي لها محل الخ.
ولم يصرح السيد برأيه في أصل مسألة عطف الإنشاء على الخبر عدا ما ألحقه بها من القيود.
والوجه عندي في عطف الإنشاء على الخبر ما علمت آنفا {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً} إلى قوله :{وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً} في سورة الأحزاب.

الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران:186]. وهذا هو الذي شبه بنصر الحواريين دين الله الذي جاء به عيسى عليه السلام، فإن عيسى لم يجاهد من عاندوه، ولا كان الحواريون ممن جاهدوا ولكنه صبر وصبروا حتى أظهر الله دين النصرانية وانتشر في الأرض ثم دب إليه التغيير حتى جاء الإسلام منسخة من أصله.
والأنصار: جمع نصير، وهو الناصر الشديد النصر.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر {كونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ} بتنوين {أنصارا} وقرن اسم الجلالة باللام الجارة فيكون {أنصارا} مرادا به دلالة اسم الفاعل المفيد للإحداث، أي محدثين النصر، واللام للأجل، أي لأجل الله، أي ناصرين له كما قال تعالى: {فَلا نَاصِرَ لَهُمْ} [محمد: 13].
وقرأه الباقون بإضافة {أنصار} إلى اسم الجلالة بدون لام على اعتبار أنصار كاللقب على نحو قوله: {مَنْ أَنْصَارِي}.
والتشبيه بدعوة عيسى ابن مريم للحواريين وجواب الحواريين تشبيه تمثيل، أي كونوا عند ما يدعوكم محمد صلى الله عليه وسلم إلى نصر الله كحالة قول عيسى ابن مريم للحواريين واستجابتهم له.
والتشبيه لقصد التنظير والتأسي فقد صدق الحواريون وعدهم وثبتوا على الدين ولم تزعزعهم الفتن والتعذيب.
و"ما" مصدرية، أي كقول عيسى وقول الحواريين. وفيه حذف مضاف تقديره: لكون قول عيسى وقول الحواريين. فالتشبيه بمجموع الأمرين قول عيسى وجواب الحواريين لأن جواب الحواريين بمنزلة الكلام المفرع على دعوة عيسى وإنما تحذف الفاء في مثله من المقاولات والمحاورات للاختصار، كما تقدم في قوله تعالى: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} في سورة البقرة[30].
وقول عيسى {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} استفهام لاختبار انتدابهم إلى نصر دين الله معه نظير قول طرفه:
إذا القوم قالوا من فتى خلت إنني ... عنيت فلم أكسل ولم أتبلد
وإضافة {أنصار} إلى ياء المتكلم وهو عيسى باعتبارهم أنصار دعوته.

و {إِلَى اللَّهِ} متعلق ب {أنصاري} . ومعنى {إلى} الانتهاء المجازي، أي متوجهين إلى الله، شبه دعاؤهم إلى الدين وتعليمهم الناس ما يرضاه الله لهم بسعي ساعتين إلى الله لينصروه كما يسعى المستنجد بهم إلى مكان مستنجدهم لينصره على من غلبه.
ففي حرف {إلى} استعارة تبعية، ولذلك كان الجواب المحكي عن الحواريين مطابقا للاستفهام إذ قالوا: نحن أنصار الله، أي نحن ننصر الله على من حاده وشاقه، أي ننصر دينه.
{والحواريون} : جمع حواري بفتح الحاء وتخفيف الواو وهي كلمة معربة عن الحبشية حواريا وهو الصاحب الصفي، وليست عربية الأصل ولا مشتقة من مادة عربية، وقد عدها الضحاك في جملة الألفاظ المعربة لكنه قال: إنها نبطية. ومعنى الحواري الغسال، كذا في الإتقان.
{والحواريون} : اسم أطلقه القرآن على أصحاب عيسى الاثنى عشر، ولا شك أنه كان معروفا عند نصارى العرب أخذوه من نصارى الحبشة. ولا يعرف هذا الاسم في الأناجيل.
وقد سمي النبي صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام حواريه على التشبيه بأحد الحواريين فقال: "لكل نبي حواري وحواري الزبير". وقد تقدم ذكر الحواريين في قوله تعالى: {قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} في سورة آل عمران[52].
واعلم أن مقالة عيسى عليه السلام المحكية في هذه الآية غير مقالته المحكية في آية آل عمران فإن تلك موجهة إلى جماعة بني إسرائيل الذين أحس منهم الكفر لما دعاهم إلى الإيمان به. أما مقالته المحكية هنا فهي موجهة للذين آمنوا به طالبا منهم نصرته لقوله تعالى: {كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ} الآية، فلذلك تعين اختلاف مقتضى الكلامين المتماثلين.
وعلى حسب اختلاف المقامين يجرى اختلاف اعتبار الخصوصيات في الكلامين وإن كانا متشابهين فقد جعلنا هنالك إضافة {أَنْصَارُ اللَّهِ} [آل عمران: 52] إضافة لفظية وبذلك لم يكن قولهم: {نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} مفيدا للقصر لانعدام تعريف المسند. فأما هنا فالأظهر أن كلمة {أَنْصَارُ اللَّهِ} اعتبرت لقبا للحواريين غرفوا أنفسهم به وخلعوه على أنفسهم فلذلك أرادوا الاستدلال به على أنهم أحق الناس بتحقيق معناه، ولذلك تكون إضافة {أنصار}

إلى اسم الجلالة هنا إضافة معنوية مفيدة تعريفا فصارت جملة {نحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} هنا مشتملة على صيغة قصر على خلاف نظيرتها التي في سورة آل عمران.
ففي حكاية جواب الحواريين هنا خصوصية صيغة القصر بتعريف المسند إليه والمسند. وخصوصية التعريف بالإضافة. فكان إيجازا في حكاية جوابهم بأنهم أجابوا بالانتداب إلى نصر الرسول ويجعل أنفسهم محقوقين بهذا النصر لأنهم محضوا أنفسهم لنصر الدين وعرفوا بذلك وبحصر نصر الذين فيهم حصرا يفيد المبالغة في تمحضهم له حتى كأنه لا ناصر للدين غيرهم مع قلتهم وإفادته التعريض بكفر بقية قومهم من بني إسرائيل.
وفرع على قول الحوارين {نحْنُ أَنْصَارُ} الأخبار بأن بني إسرائيل افترقوا طائفتين طائفة آمنت بعيسى وما جاء به، وطائفة كفرت بذلك وهو التفريع يقتضي كلاما مقدرا وهو فنصروا الله بالدعوة والمصابرة عليها فاستجاب بعض بني إسرائيل وكفر بعض وإنما استجاب لهم من بني إسرائيل عدد قليل فقد جاء في إنجيل "لوقا" أن أتباع عيسى كانوا أكثر من سبعين.
والمقصود من قوله: {فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ} التوطئة لقوله: {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} والتأييد النصر والتقوية، أيد الله أهل النصرانية بكثير ممن اتبع النصرانية بدعوة الحواريين وأتباعهم مثل بولس.
وإنما قال: {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا} ولم يقل: فأيدناهم لأن التأييد كان لمجموع المؤمنين بعيسى لا لكل فرد منهم إذ قد قتل من أتباعه خلق كثير ومثل بهم والقوا إلى السباع في المشاهد العامة تفترسهم، وكان ممن قتل من الحواريين الحواري الأكبر الذي سماه عيسى بطرس، أي الصخرة في ثباته في الله.
ويزعمون أن جثته في الكنيسة العظمى في رومة المعروفة بكنيسة القديس بطرس والحكم على المجموع في مثل هذا شائع كما تقول: نصر الله المسلمين يوم بدر مع أن منهم من قتل. والمقصود نصر الدين.
والمقصود من هذا الخبر وعد المسلمين الذين أمروا أن يكونوا أنصار الله بأن الله مؤيدهم على عدوهم.
والعدو يطلق على الواحد والجمع، قال تعالى: {وَهُمْ لَكُمْ عَدُوّ} [الكهف:50]وتقدم

عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} في سورة الممتحنة[1].
والظاهر هو : الغالب، يقال: ظهر عليه، أي غلبه، وظهر به أي غلب بسببه، أي بإعانته وأصل فعله مشتق من الاسم الجامد. وهو الظهر الذي هو العمود الوسط من جسد الإنسان، والدواب لأن بالظهر قوة الحيوان. وهذا مثل فعل "عضد" مشتقا من العضد. و "أيد" مشتقا من اليد ومن تصاريفه ظاهر عليه واستظهر وظهير له قال تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4]. فمعنى {ظاهرين} أنهم منصورون لأن عاقبة النصر كانت لهم فتمكنوا من الحكم في اليهود الكافرين بعيسى ومزقوهم كل ممزق.

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الجمعةسميت هذه السورة عند الصحابة وفي كتب السنة والتفاسير "سورة الجمعة" ولا يعرف لها اسم غير ذلك. وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال: كنا جلوسا عند النبي فأنزلت عليه سورة الجمعة الحديث. وسيأتي عند تفسير قوله تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} [الجمعة:3].
ووجه تسميتها وقوه لفظ {الْجُمُعَةِ} [الجمعة: 9] فيها وهو اسم لليوم السابع من أيام الأسبوع في الإسلام.
وقال ثعلب: إن قريشا كانت تجتمع فيه عند قصي بدار الندوة. ولا يقتضي في ذلك أنهم سموا ذلك اليوم الجمعة.
ولم أر في كلام العرب قبل الإسلام ما يثبت أن اسم الجمعة أطلقوه على هذا اليوم.
وقد أطلق اسم {الجمعة} على الصلاة المشروعة فيه على حذف المضاف لكثرة الاستعمال. وفي حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل" ، ووقع في كلام عائشة كان الناس ينتابون الجمعة من منازلهم والعوالي الخ.
وفي كلام أنس كنا نقيل بعد الجمعة، ومن كلام ابن عمر كان رسول الله لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف، أي من المسجد. ومن كلام سهل بن سعد ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة. فيحتمل أن يكون لفظ الجمعة الذي في اسم هذه السورة معنيا به صلاة الجمعة لأن في هذه السورة أحكاما لصلاة الجمعة. ويحتمل أن يراد به يوم الجمعة لوقوع لفظ يوم الجمعة في السورة في آية صلاة الجمعة.

وهي مدنية بالاتفاق.
ويظهر أنها نزلت سنة ست وهي سنة خيبر، فظاهر حديث أبي هريرة الذي أشرنا إليه آنفا أن هذه السورة نزلت بعد فتح خيبر لأن أبا هريرة أسلم يوم خيبر.
وظاهره أنها نزلت دفعة واحدة فتكون قصية ورود العير من الشام هي سبب نزول السورة وسيأتي ذكر ذلك.
وكان فرض صلاة الجمعة متقدما على وقت نزول السورة فإن النبي صلى الله عليه وسلم فرضها في خطبة خطب بها للناس وصلاها في أول يوم جمعة بعد يوم الهجرة في دار لبني سالم بن عوف. وثبت أن أهل المدينة صلوها قبل قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة كما سيأتي. فكان فرضها ثابتا بالسنة قولا وفعلا. وما ذكر في هذه السورة من قوله: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] ورد مورد التأكيد لحضور صلاة الجمعة وترك البيع، والتحذير من الانصراف عند الصلاة قبل تمامها كما سيأتي.
وقد عدت هذه السورة السادسة بعد المائة في ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد، نزلت بعد سورة التحريم وقبل سورة التغابن.
وظاهر حديث أبي هريرة يقتضي أن هذه السورة أنزلت دفعة واحدة غير منجمة.
وعدت آيها إحدى عشرة آية باتفاق العادين من قراء الأمصار.
أغراضها
أول أغراضها ما نزلت لأجله وهو التحذير من التخلف عن صلاة الجمعة والأمر بترك ما يشغل عنها في وقت أدائها. وقدم لذلك: التنويه بجلال الله تعالى.
والتنويه بالرسول صلى الله عليه وسلم. وأنه رسول إلى العرب ومن سيلحق بهم.
وأن رسالته لهم فضل من الله.
وفي هذا توطئة لذم اليهود لأنهم حسدوا المسلمين على تشريفهم بهذا الدين.
ومن جملة ما حسدوهم عليه ونقموه أن جعل يوم الجمعة اليوم الفاضل في الأسبوع بعد أن كان يوم السبت وهو المعروف في تلك البلاد.
وإبطال زعمهم أنهم أولياء الله.

وتوبيخ قوم انصرفوا عنها لمجيء عير تجارة من الشام.
[1] {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} .
افتتاح السورة بالإخبار عن تسبيح أهل السماوات والأرض لله تعالى براعة استهلال لأن الغرض الأول من السورة التحريض على شهود الجمعة والنهي عن الأشغال التي تشغل عن شهودها وزجر فريق من المسلمين انصرفوا عن صلاة الجمعة حرصا على الابتياع من عير وردت المدينة في وقت حضورهم لصلاة الجمعة.
وللتنبيه على أن أهل السماوات والأرض يجددون تسبيح الله ولا يفترون عنه أوثر المضارع في قوله: {يسبح} .
ومعاني هذه الآية تقدمت مفرقة في أوائل سورة الحديد وسورة الحشر.
سوى أن هذه السورة جاء فيها فعل التسبيح مضارعا وجيء به في سواها ماضيا لمناسبة فيها وهي: أن الغرض منها التنويه بصلاة الجمعة والتنديد على نفر قطعوا عن صلاتهم وخرجوا لتجارة أو لهو فمناسب أن يحكى تسبيح أهل السماوات والأرض بما فيه دلالة على استمرار تسبيحهم وتجدده تعريضا بالذين لم يتموا صلاة الجمعة.
ومعاني صفات الله تعالى المذكورة هنا تقدمت في خواتم سورة الحشر.
ومناسبة الجمع بين هذه الصفات هنا أن العظيم لا ينصرف عن مجلسه من كان عنده إلا عند انفضاض مجلسه أو إيذانه بانصرافهم.
{والقدوس} : المنزه عن النقص وهو يرغب في حضرته. {والعزيز} : يعتز الملتفون حوله. فمفارقتهم حضرته تفريط في العزة. وكذلك {الحكيم} إذا فارق أحد حضرته فاته في كل آن شيء من الحكمة كما فات الذين انفضوا إلى العير ما خطب به النبي صلى الله عليه وسلم إذ تركوه قائما في الخطبة.
[2] {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} .
استئناف بياني ناشئ عن إجراء الصفات المذكورة آنفا على اسم الجلالة إذ يتساءل السامع عن وجه تخصيص تلك الصفات بالذكر من بين صفات الله تعالى فكأن الحال

مقتضيا أن يبين شيء عظيم من تعلق تلك الصفات بأحوال خلقه تعالى إذ بعث فيهم رسولا يطهر نفوسهم ويزكيهم ويعلمهم. فصفة {الْمَلِكِ} [ الجمعة:1} تعلقت بأن يدبر أمر عباده ويصلح شؤونهم، وصفة {الْقُدُّوسِ} [الجمعة: 1] تعلقت بأن يزكي نفوسهم، وصفة {الْعَزِيزِ} [الجمعة: 1] اقتضت أن يلحق الأميين من عباده بمراتب أهل العلم ويخرجهم من ذلة الضلال فينالوا عزة العلم وشرفه، وصفة {الْحَكِيمِ} [الجمعة:1 ] اقتضت أن يعلمهم الحكمة والشريعة.
وابتداء الجملة بضمير اسم الجلالة لتكون جملة اسمية فتفيد تقوية هذا الحكم وتأكيده، أي أن النبي صلى الله عليه وسلم مبعوث من الله لا محالة.
و {في} من قوله: {ِفي الْأُمِّيِّينَ} للظرفية، أي ظرفية الجماعة ولأحد أفرادها. ويفهم من الظرفية معنى الملازمة، أي رسولا لا يفارقهم فليس مارا بهم كما يمر المرسل بمقالة أو بمالكة يبلغها إلى القوم ويغادرهم.
والمعنى: أن الله أقام رسوله للناس بين العرب يدعوهم وينشر رسالته إلى جميع الناس من بلاد العرب فإن دلائل عموم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم معلومة من مواضع أخرى من القرآن كما في سورة الأعراف[158] {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} وفي سورة سبأ[28] {ومَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} .
والمراد ب{الأميين} : العرب لأن وصف الأمية غالب على الأمة العربية يومئذ. ووصف الرسول ب{منهم}، أي لم يكن غريبا عنهم كما بعث لوطا إلى أهل سلوم ولا كما بعث يونس إلى أهل نينوى، وبعث اليأس إلى أهل صيدا من الكنعانيين الذين يعبدون بعل، ف{من} تبعيضية، أي رسولا من العرب.
وهذه منة موجهة للعرب ليشكروا نعمة الله على لطفه بهم، فإن كون رسول القوم منهم نعمة زائدة على نعمة الإرشاد والهدي، وهذا استجابة لدعوة إبراهيم إذ قال {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ} [البقرة: 129] فتذكيرهم بهذه النعمة استنزال لطائر نفوسهم وعنادهم.
وفيه تورك عليهم إذ أعرضوا عن سماع القرآن فإن كون الرسول منهم وكتابه بلغتهم هو أعون على تلقي الإرشاد منه إذ ينطلق بلسانهم وبحملهم على ما يصلح أخلاقهم ليكونوا حملة هذا الدين إلى غيرهم.
و {الأميين} : صفة لموصوف محذوف دل عليه صيغة جمع العقلاء، أي في الناس

الأميين. وصيغة جمع المذكور في كلام الشارع تشمل النساء بطريقة التغليب الاصطلاحي، أي في الأميين والأميات فإن أدلة الشريعة قائمة على أنها تعم الرجال والنساء إلا في أحكام معلومة.
والأميون: الذين لا يقرؤون الكتابة ولا يكتبون، وهو جمع أمي نسبة إلى الأمة، يعنون بها أمة العرب لأنهم لا يكتبون إلا نادرا، فغلبت هذا التشبيه في الإطلاق عند العرب حتى صارت تطلق على من لا يكتب ولو من غيرهم قال تعالى في ذكر بني إسرائيل {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} وقد تقدم في سورة البقرة[78].
وأوثر التعبير به هنا توركا على اليهود لأنهم كانوا يقصدون به الغض من العرب ومن النبي صلى الله عليه وسلم جهلا منهم فيقولون: هو رسول الأميين وليس رسولا إلينا. وقد قال ابن صياد للنبي صلى الله عليه وسلم لما قال له "أتشهد أني رسول الله". أشهد أنك رسول الأميين. وكان ابن صياد متدينا باليهودية لأن أهله كانوا حلفاء لليهود.
وكان اليهود ينتقصون المسلمين بأنهم أميون قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} [آل عمران: 75] فتحدى الله اليهود بأنه بعث رسولا إلى الأميين وبأن الرسول أمي، وأعلمهم أن ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء كما في آخر الآية وأن فضل الله ليس خاصا باليهود ولا يغيرهم وقد قال تعالى من قبل لموسى {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ} [القصص: 5، 6].
ووصف الرسول بأنه منهم، أي من الأميين شامل لمماثلته لهم في الأمية وفي القومية. وهذا من إيجاز القرآن البديع.
وفي وصف الرسول الأمي بأنه يتلو على الأميين آيات الله، أي وحيه ويزكيهم ويعلمهم الكتاب، أي يلقنهم إياه كما كانت الرسل تلقن الأمم الكتاب باكتابة، ويعلمهم الحكمة التي علمتها الرسل السابقون أممهم في كل هذه الأوصاف تحد بمعجزة الأمية في هذا الرسول صلى الله عليه وسلم، أي هو مع كونه أمي قد أتى أمته بجميع الفوائد التي أتى بها الرسل غير الأميين أممهم ولم ينقص عنهم شيئا، فتمحضت الأمية للكون معجزة حصل من صاحبها أفضل مما حصل من الرسل الكاتبين مثل موسى.
وفي وصف الأمي بالتلاوة وتعليم الكتاب والحكمة وتزكية النفوس ضرب من محسن

الطباق لأن المتعارف أن هذه مضادة للأمية.
وابتدئ بالتلاوة لأن أول تبليغ الدعوة بإبلاغ الوحي، وثني بالتزكية لأن ابتداء الدعوة بالتطهير من الرجي المعنوي وهو الشرك، وما يعلق به من مساوي الأعمال والطباع.
وعقب بذكر تعليمهم الكتاب لأن الكتاب بعد إبلاغه إليهم تبين لهم مقاصده ومعانيه كما قال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:18، 19]، وقال: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، وتعليم الحكمة هو غاية ذلك كله لأن من تدبر القرآن وعمل به وفهم خفاياه نال الحكمة قال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ} [البقرة: 231] ونظيرها قوله: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} في سورة آل عمران[164].
وجملة {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} في موضع الحال من الأميين، أي ليست نعمة إرسال هذا الرسول إليهم قاصرة على رفع النقائص عنهم وعلى تحليتهم بكمال علم آيات الله وزكاة أنفسهم وتعليمهم الكتاب والحكمة بل هي أجل من ذلك إذ كانت منقذة لهم من ضلال مبين كانوا فيه وهو ضلال الإشراك بالله. وإنما كان ضلالا مبينا لأنه أفحش ضلال وقد قامت على شناعته الدلائل القاطعة، أي فأخرجهم من الضلال المبين إلى أفضل الهدى، فهؤلاء هم المسلمون الذين نفروا إسلامهم في وقت نزول هذه السورة.
و {إن} مخففة من الثقيلة وهي مهملة عن العمل في اسمها وخبرها. وقد سد مسدها فعل كان كما هو غالب استعمال {إن} المخففة. واللام في قوله: {لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} تسمى اللام الفارقة، أي التي تفيد الفرق بين {إن} النافية و {إن} المخففة من الثقيلة وما هي إلا اللام التي أصلها أن تقترن بخبر {إن} إذ الأصل: وإنهم لفي ضلال مبين، لكن ذكر اللام مع المخففة واجب غالبا لئلا تلتبس بالنافية، إلا إذا أمن اللبس.
[3] {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .
لا يجوز أن يكون {وآخرين} عطفا على {الأميين} [الجمعة:2] لأن آخرين يقتضي المغايرة لما يقابله فيقتضي أنه صادق على غير الأميين، أي غير العرب والرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن بين غير العرب فتعين أن لا يعطف {وآخرين} على {الأميين} لئلا يتعلق بفعل

{بعث} مجرور القي ولا على الضمير في قوله: {منهم} كذلك.
فهو إما معطوف على الضمير في {عليهم} من قوله: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ} [الجمعة:2] والتقدير: يتلو على آخرين وإذا كان يتلو عليهم فقد علم أنه مرسل إليهم لأن تلاوة الرسول صلى الله عليه وسلم لا تكون إلا تلاوة تبليغ لما أوحى به إليه.
وإما أن يجعل {وآخرين} مفعولا معه. والواو للمعية ويتنازعه الأفعال الثلاثة وهي يتلو، ويزكي، ويعلم. والتقدير: يتلو على الأميين آياتنا ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة مع آخرين.
وجملة {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2] معترضة بين المعطوف والمعطوف عليها أو بين الضمائر والمفعول معه. و {آخرين} : جمع آخر وهو المغاير في وصف مما دل عليه السياق. وإذ قد جعل {آخرين} هنا مقابلا للأميين كان مرادا به آخرون غير الأميين، أي من غير العرب المعنيين بالأميين.
فلو حملنا المغايرة على المغايرة بالزمان أو المكان، أي مغايرين للذين بعث فيهم الرسول، وجعلنا قوله: {منهم} بمعنى أنهم من الأميين، وقلنا: أريد وآخرين من العرب غير الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم فيهم، أي عربا آخرين غير أهل مكة، وهم بقية قبائل العرب ناكده ما روى البخاري ومسلم والترمذي يزيد أخرهم على الأولين عن أبي هريرة قال: كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأنزلت عليه سورة الجمعة فتلاها فلما بلغ {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} قال له رجل: من هم يا رسول الله? فلم يراجعه حتى سأل ثلاثا، وفينا سلمان الفارسي ووضع رسول الله يده على سلمان وقال: "لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال من هؤلاء"? وهذا وارد مورد التفسير لقوله تعالى: {وآخرين} .
والذي يلوح أنه تفسير بالجزئي على وجه المثال ليفيد أن {آخرين} صادق على أمم كثيرة منها أمة فارس، وأما شموله لقبائل العرب فهو بالأولى لأنهم مما شملهم لفظ الأميين.
ثم بنا أن ننظر إلى تأويل قوله تعالى: {منهم} . قلنا أن نجعل {من} تبعيضية كما هو المتبادر من معانيها فنجعل الضمير المجرور ب {من} عائدا إلى ما عاد إليه ضمير {كانوا} من قوله: {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2]، فالمعنى: وآخرين من الضالين يتلو عليهم آيات الله ويزكيهم الكتاب والحكمة ولنا أن نجعل {من} اتصالية كالتي

في قوله تعالى: {لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159].
والمعنى: وآخرين يتصلون بهم ويصيرون في جملتهم، ويكون قوله: {منهم} موضع الحال، وهذا الوجه يناسب قوله تعالى: {لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} لأن اللحوق هو معنى الاتصال.
وموضع جملة {لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} موضع الحال، وينشأ عن هذا المعنى إيماء إلى أن الأمم التي تدخل في الإسلام بعد المسلمين الأولين يصيرون مثلهم، وينشأ منه أيضا رمز إلى أنهم يتعربون لفهم الدين والنطق بالقرآن فكم من معان جليلة حوتها هذه الآية سكت عنها أهل التفسير.
وهذه بشارة غيبية بأن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ستبلغ أمما ليسوا من العرب وهم فارس. والأرمن. والأكراد. والبربر. والسودان. والروم. والترك. والتتار. والمغول. والصين. والهنود، وغيرهم وهذا من معجزات القرآن من صنف الإخبار بالمغيبات.
وفي الآية دلالة على عموم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم لجميع الأمم.
والنفي ب {لما} يقتضي أن المنفي بها مستمر الانتفاء إلى زمن التكلم فيشعر بأنه مترقب الثبوت كقوله تعالى: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14]، أي وسيدخل كما في الكشاف، والمعنى: أن آخرين هم في وقت نزول هذه الآية لم يدخلوا في الإسلام ولم يلتحقوا بمن أسلم من العرب وسيدخلون في أزمان أخرى.
واعلم أن قول النبي صلى الله عليه وسلم "لو كان الإيمان بالثريا لناله رجال من هؤلاء" الإيماء إلى مثال مما يشمله قوله تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ} لأنه لم يصرح في جواب سؤال السائل بلفظ يقتضي انحصار المراد ب {آخرين} في قوم سلمان. وعن عكرمة: هم التابعون. وعن مجاهد: هم الناس كلهم الذين بعث إليهم محمد صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عمر: هم أهل اليمن.
وقوله: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} تذييل للتعجيب من هذا التقدير الإلهي لانتشار هذا الدين في جميع الأمم. فإن {العزيز} لا يغلب قدرته شيء. {والحكيم} تأتي أفعاله عن قدر محكم.
[4] {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} .
الإشارة إلى جميع المذكور من إرسال محمد صلى الله عليه وسلم بالآيات والتزكية وتعليم الكتاب

والحكمة والإنقاذ من الضلال ومن إفاضة هذه الكمالات على الأميين الذين لم تكن لهم سابقة علم ولا كتاب، ومن لحاق أمم آخرين في هذا الخبر فزال اختصاص اليهود بالكتاب والشريعة، وهذا أجدع لأنفهم إذا حالوا أن يجيء رسول أمي بشريعة إلى أمة أمية فضلا عن أن نلتحق بأمية أمم عظيمة كانوا أمكن في المعارف والسلطان.
وقال: {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران:73] يختص به. وهذا تمهيد ومقدمة لقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ} [الجمعة:5] الآيات.
[5] {مثل مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} .
بعد أن تبين أنه تعالى آتى فضله قوما أميين أعقبه بأنه قد آتى فضله أهل الكتاب فلم ينتفع به هؤلاء الذين قد اقتنعوا من العلم بأن يحملوا التوراة دون فهم وهم يحسبون أن ادخار أسفار التوراة وانتقالها من بيت إلى بيت كاف في التبجح بها وتحقير من لم تكن التوراة بأيديهم، فالمراد اليهود الذين قاوموا دعوة محمد صلى الله عليه وسلم وظاهروا المشركين.
وقد ضرب الله لهؤلاء مثلا بحال حمار يحمل أسفارا لا حظ له منها إلا الحمل دون علم ولا فهم.
ذلك أن علم اليهود بما في التوراة أدخلوا فيه ما صيره مخلوطا بأخطاء وضلالات ومتبعا فيه هوى نفوسهم وما لا يعدو نفعهم الدنيوي ولم يتخلقوا بما تحتوي عليه من الهدى والدعاء إلى تزكية النفس وقد كتموا ما في كتبهم من العهد باتباع النبي الذي يأتي لتخليصهم من ربقة الضلال فهذا وجه ارتباط هذه الآية بالآيات التي قبلها، وبذلك كانت هي كالتتمة لما قبلها. وقال في الكشاف عن بعضهم: افتخر اليهود بأنهم أهل كتاب. والعرب لا كتاب لهم. فأبطل الله ذلك بشبههم بالحمار يحمل أسفارا.
ومعنى {حملوا} : عهد بها إليهم وكلفوا بما فيها فلم يفوا بما كلفوا، يقال: حملت فلانا أمر كذا فاحتمله، قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} سورة الأحزاب[72].

وإطلاق الحمل وما تصرف منه على هذا المعنى استعارة، بتشبيه إيكال، الأمر بحمل الجمل على ظهر الدابة، وبذلك كان تمثيل حالهم بحال الحمار يحمل أسفارا تمثيلا للمعنى المجازي بالمعنى الحقيقي. وهو من لطائف القرآن.
و {ثم} للتراخي الرتبي فإن عدم وفائهم بما عهد إليهم أعجب من تحملهم إي اهـ. وجملة {يَحْمِلُ أَسْفَاراً} في موضع الحال من الحمار أو في موضع الصفة لأن تعريف الحمار هنا تعريف جنس فهو معرفة لفظا نكرة معنى، فصح في الجملة اعتبار الحالية والوصف.
وهذا التمثيل مقصود منه تشنيع حالهم وهو من تشبيه المعقول بالمحسوس المتعارف، ولذلك ذيل بذم حالهم {بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ} .
و {بئس} فعل ذم، أي ساء حال الذين كذبوا بكتاب الله فهم قد ضموا إلى جهلهم بمعاني التوراة تكذيبا بآيات الله وهي القرآن.
و {مَثَلُ الْقَوْمِ} ، فاعل {بئس} . وأفنى هذا الفاعل عن ذكر المخصوص بالذم لحصول العلم بأن المذموم هو حال القوم المكذبين فلم يسلك في هذا التركيب طريق الإيهام على شرط التفسير لأنه قد سبقه ما بينه بالمثل المذكور قبله في قوله: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} . فصار إعادة لفظ المثل ثقيلا في الكلام أكثر من ثلاث مرات. وهذا من تفننات القرآن. و {الَّذِينَ كَذَّبُوا} صفة {القوم} .
وجملة {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} تذييل إخبارا عنهم بأن سوء حالهم لا يرجى لهم منه انفكاك لأن الله حرمهم اللطف والعناية بإنقاذهم لظلمهم بالاعتداء على الرسول صلى الله عليه وسلم بالتكذيب دون نظر، وعلى آيات الله بالجحد دون تدبر.
قال في الكشاف: وعن بعضهم قد أبطل الله قول اليهود في ثلاث، أي آيات من هذه السورة: افتخروا بأنهم أولياء الله وأحباؤه فكذبهم في قوله: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الجمعة:6]. وبأنهم أهل الكتاب والعرب لا كتاب لهم، فشبههم بالحمار يحمل أسفارا، وبالسبت وأنه ليس للمسلمين مثله فشرع الله لهم الجمعة.
[6] {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .

أعقب تمثيل حال جهلهم بالتوراة بذكر زعم من آثار جهلهم بها إبطالا لمفخرة مزعومة عندهم أنهم أولياء الله وبقية الناس ليسوا مثلهم. وذلك أصل كانوا يجعلونه حجة على أن شؤونهم أفضل من شؤون غيرهم. ومن ذلك أنهم كانوا يفتخرون بأن الله جعل لهم السبت أفضل أيام الأسبوع وأنه ليس للأميين مثله فلما جعل الله الجمعة للمسلمين اغتاظوا، وفي الكشاف افتخر اليهود بالسبت وأنه للمسلمين مثله فشرع الله لهم الجمعة.
وافتتح بفعل {قل} للاهتمام.
و {الَّذِينَ هَادُوا} : هم الذين كانوا يهودا، وتقدم وجه تسمية اليهود يهودا عند قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا} [البقرة:62] في سورة البقرة. ويجوز أن يكون {هادوا} بمعنى تابوا لقول موسى عليه السلام بعد أن أخذتهم الرجفة: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} كما تقدم في سورة الأعراف [156]. وأشهر وصف بني إسرائيل في القرآن بأنهم هود جمع هائد مثل قعود جمع قاعد. وأصل هود هوود وقد تنوسي منه هذا المعنى وصار علما بالغلبة على بني إسرائيل فنودوا به هنا بهذا الاعتبار لأن المقام ليس مقام ثناء عليهم أو هو تهكم.
وجيء ب {إن} الشرطية التي الأصل فيها عدم الجزم بوقوع الشرط مع أن الشرط هنا محقق الوقوع إذ قد اشتهروا بهذا الزعم وحكاه القرآن عنهم في سورة العقود [18] {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} للإشارة إلى أن زعمهم هذا لما كان باطلا بالدلائل كان بمنزلة الشيء الذي يفرض وقوعه كما يفرض المستبعد وكأنه ليس واقعا على طريقة قوله تعالى: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ} [الزخرف:5] ويفيد ذلك توبيخا بطريق الكناية.
والمعنى: إن كنتم صادقين في زعمكم فتمنوا الموت. وهذا إلجاء لهم حتى يلزمهم ثبوت شكهم فيما زعموه.
والأمر في قوله: {فتمنوا} مستعمل في التعجيز: كناية عن التكذيب مثل قوله تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 93].
ووجه الملازمة بين الشرط وجوابه أن الموت رجوع الإنسان بروحه إلى حياة أبدية تظهر فيها آثار رضى الله عن العبد أو غضبه ليجزيه على حسب فعله.

والنتيجة الحاصلة من هذا الشرط تحصل أنهم مثل جميع الناس في الحياتين الدنيا والآخرة وآثارهما، واختلاف أحوال أهلهما، فيعلم من ذلك أنهم ليسوا أفضل من الناس. وهذا ما دل عليه قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} [المائدة: 18].
وبهذا يندفع ما قد يعرض للناظر في هذه الآية من المعارضة بينها وبين ما جاء في الأخبار الصحيحة من النهي عن تمني الموت. وما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه" ، فقالت عائشة: إنا نكرة الموت فقال لها "ليس ذلك" الحديث. وما روي عنه أنه قال: "أرسل ملك الموت إلى موسى فلما جاءه صكه فرجع إلى ربه فقال أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت" إلى قوله "قال موسى فالآن".
ذلك أن شأن المؤمنين أن يكونوا بين الرجاء والخوف من الله، وليسوا يتوهمون أن الفوز مضمون لهم كما توهم اليهود.
فما تضمنته هذه الآية حكاية عن حال اليهود الموجودين يومئذ، وهم عامة غلبت عليهم الأوقام والغرور بعد انقراض علمائهم، فهو حكاية عن مجموع قوم. وأما الأخبار التي أوردناها فوصف لأحوال معينة وأشخاص معينين فلا تعارض مع اختلاف الأحوال والأزمان، فلو حصل لأحد يقين بالتعجيل إلى النعيم لتمنى الموت إلا أن تكون حياته لتأييد الدين كحياة الأنبياء.
فعلى الأول يحمل حال عمير بن الحمام في قوله:
جريا إلى الله بغير زاد
وحال جعفر بن أبي طالب يوم موته وقد اقتحم صف المشركين:
يا حبذا الجنة واقترابها
وقول عبد الله بن رواحة:
لكنني أسأل الرحمان مغفرة ... وضربة ذات فزغ تقذف الزبدا
المتقدمة في سورة البقرة لأن الشهادة مضمونه الجزاء الأحسن والمغفرة التامة.
وعلى الثاني يحمل قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة في تأويل قوله "من أحب لقاء الله أحب

الله لقاءه إن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله فليس شيء أحب إليه مما أمامه فأحب لقاء الله". وقول موسى عليه السلام لملك الموت: فالآن.
[7] {وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} .
اعتراض بين جملتي القولين قصد به تحيهم لإقامة الحجة عليهم أنهم ليسوا أولياء لله.
وليس المقصود من هذا معذرة لهم من عدم تمنيهم الموت وإنما المقصود زيادة الكشف عن بطلان قولهم: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18] وإثبات أنهم في شك من ذلك كما دل عليه استدلال القرآن عليهم يتحققهم أن الله يعذبهم بذنوبهم في قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} . وقد مر ذلك في تفسير سورة العقود[18].
والباء في {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} سببية متعلقة بفعل {يتمنونه} المنفي فما قدمت أيديهم هو سبب انتفاء تمنيهم الموت ألقى في نفوسهم الخوف مما قدمت أيديهم فكان سبب صرفهم عن تمتي الموت لتقدم الحجة عليهم.
و {ما} موصولة وعائدة الصلة محذوف وحذفه أغلبي في أمثاله.
والأيدي مجاز في اكتساب الأعمال لأن اليد يلزمها الاكتساب غالبا. ومصدق ما قدمته أيديهم سيئاتهم ومعاصيهم بقرينة المقام.
وتقدم نظير هذه الآية في سورة البقرة وما ذكرته هنا أتم مما هنالك فأجمع بينهما.
والتقديم: أصله جعل الشيء مقدما، أي سابقا غيره في مكان يقعوه فيه غيره. واستعير هنا لما سلف من العمل تشبيها له بشيء يسبقه المرء إلى مكان قبل وصوله إليه.
وجملة {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} ، أي عليم بأحوالهم وبأحوال أمثالهم من الظالمين فشمل لفظ الظالمين اليهود فإنهم من الظالمين. وقد تقدم معنى ظلمهم في الآية قبلها. وقد وصف اليهود بالظالمين في آيات كثيرة، وتقدم عند قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ} [البقرة:140] والمقصود أن أحجامهم عن تمني الموت لما في نفوسهم من خوف العقاب على ما فعلوه في الدنيا، فكني بعلم الله بأحوالهم عن عدم انفلاتهم من الجزاء عليها ففي هذا وعيد لهم.

[8] {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.
تصريح بما اقتضاه التذييل من الوعيد وعدم الانفلات من الجزاء عن أعمالهم ولو بعد زمان وقوعها لأن طول الزمان لا يؤثر في علم الله نسيانا، إذ هو عالم الغيب والشهادة. وموقع هذه الجملة موقع بدل الاشتمال من جملة {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الجمعة: 6]، وإعادة فعل {قل} من قبيل إعادة العامل في المبدل منه كقوله تعالى: {تَكُونُ لَنَا عِيداً لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا لأولنا وأخرنا} في سورة العقود[114].
ووصف {الموت} ب {الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ} للتنبيه على أن هلعهم من الموت خطأ كقول علقمة:
إن الذين ترونهم إخوانكم ... يشفي غليل صدورهم أن تصرعوا
وأطلق الفرار على شدة الحذر على وجه الاستعارة.
واقتران خبر {إن} بالفاء في قوله: {فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ} لأن اسم {إن} نعت باسم الموصول والموصول كثيرا ما يعامل معاملة الشرط فعومل اسم {إن} المنعوت بالموصول معاملة نعته.
وإعادة {إن} الأولى لزيادة التأكيد كقول جرير:
إن الخليفة إن الله سربله ... سربال ملك به تزجى الخواتيم
وتقدم عند قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} في سورة الكهف[30]. وفي سورة الحج أيضا.
والإنباء بما كانوا يعملون كناية عن الحساب عليه، وهو تعريض بالوعيد.
[9،10] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .
هذه الآيات هي المقصود من السورة وما قبلها مقدمات وتوطئات لها كما ذكرناه آنفا. وقد تقدم ما حكاه الكشاف من أن اليهود افتخروا على المسلمين بالسبت فشرع الله

للمسلمين الجمعة. فهذا وجه اتصال هذه الآية بالآيات الأربع التي قبلها فكن لهذه الآية تمهيدا وتوطئة. واللام في قوله {للصلاة} لام التعليل، أي نادى مناد لأجل الصلاة من يوم الجمعة، فعلم أن النداء هنا هو أذان الصلاة.
والجمعة بضم الجيم وضم الميم في لغة جمهور العرب وهو لغة أهل الحجاز. وبنو عقيل بسكون الميم.
والتعريف في {الصلاة} تعريف العهد وهي الصلاة المعروفة الخاصة بيوم الجمعة. وقد ثبتت شرعا بالتواتر ثم تقررت بهذه الآية فصار دليل وجوبها في الكتاب والسنة المتواترة وإجماع الأمة.
وكانت صلاة الجمعة مشروعة من أول أيام الهجرة. روي عن ابن سيرين أن الأنصار جمعوا الجمعة قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة قالوا: إن اليهود يوما يجتمعون فيه وللنصارى يوم مثل ذلك فتعالوا فلنجتمع حتى نجعل يوما لنا نذكر الله ونصلي فيه. وقالوا: أن لليهود السبت وللنصارى الأحد فاجعلوه يوم العروبة. فاجتمعوا إلى أسعد بن زرارة فصلى بهم يومئذ ركعتين وذكرهم.
وروى البيهقي عن الزهري أن مصعب بن عمير كان أول من جمع الجمعة بالمدينة قبل أن يقدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتعين أن يكون ذلك قد علم به النبي صلى الله عليه وسلم ولعلهم بلغهم عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث فضل يوم الجمعة وأنه يوم المسلمين.
فمشروعية صلاة الجمعة والتجميع فيه إجابة من الله تعالى رغبة المسلمين مثل أجابته رغبة النبي صلى الله عليه وسلم استقبال الكعبة المذكورة في قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:144].
وأما أول جمعة جمعها النبي صلى الله عليه وسلم فقال أهل السير: كانت في اليوم الخامس للهجرة لأن رسول الله قدم المدينة يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول فأقام بقباء ثم خرج يوم الجمعة إلى المدينة فأدركه وقت الجمعة في بطن واد لبني سالم بن عوف كان لهم فيه مسجد، فجمع بهم في ذلك المسجد، وخطب فيه أول خطبة خطبها بالمدينة وهي طويلة ذكر نصها القرطبي في تفسيره .
وقولهم: "فأدركه وقت الجمعة"، يدل على أن صلاة الجمعة كانت مشروعة يومئذ وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان عازما أن يصليها بالمدينة فضاق عليه الوقت فأداها في مسجد بني

سالم، ثم صلى الجمعة القابلة في مسجده بالمدينة وكانت جمعة المسجد النبوي بالمدينة الثانية بالأخبار الصحيحة.
وأول جمعة جمعت في مسجد من مساجد بلاد الإسلام بعد المدينة كانت في مسجد جؤاثاء1 من بلاد البحرين وهي مدينة الخط قرية لعبد القيس. ولما ارتدت العرب بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ثبت أهل جؤاثاء على الإسلام.
وتقرر أن يوم الجمعة اليوم السابع من أيام الأسبوع في الإسلام وهو الذي كان يسمى في الجاهلية عروبة. قال بعض الأئمة: ولا تدخل عليه اللام. قال السهيلي: معنى العروبة الراحة فيما بلغني عن بعض أهل العلم اهـ. قلت وذلك مروي عن ثعلب، وهو قبل يوم السبت وقد كان يوم السبت عيد الأسبوع عند اليهود وهو آخر أيام الأسبوع. وقد فرضت عليهم الراحة فيه عن الشغل بنص التوراة فكانوا يبتدئون عدد أيام الأسبوع من يوم الأحد وهو الموالي للسبت وتبعهم العرب في ذلك لأسباب غير معروفة ولذلك سمي العرب القدماء يوم الأحد أول.
فأيام الأسبوع عند العرب في القديم هي: أول، أهون جبار، كغراب وكتاب، دبار كذلك، مؤيس مهموزا، عروبة، شيار بشين معجمة مكسورة بعدها تحتية مخففة.
ثم أحدثوا أسماء لهذه الأيام هي: الأحد، الاثنين، الثلاثاء بفتح المثلثة الأولى وبضمها، الأربعاء بكسر الهمزة وكسر الموحدة، الخميس، عروبة أو الجمعة في قول بعضهم السبت. وأصل السبت: القطع، سمي سبتا عند الإسرائيليين لأنهم يقطعون فيه العمل، وشاع ذلك الاسم عند العرب.
وسموا الأيام الأربعة بعده بأسماء مشتقة عن أسماء العدد على ترتيبها وليس في التوراة ذكر أسماء للأيام. وفي سفر التكوين منها ذكرت أيام بدء الخلق بأعدادها أول
ـــــــ
1 جؤاثاء بضم الجيم وهمزة مفتوحة بعدها ألف وفي آخره ألف ممدودة وقد تقصر. مدينة بلاد الخط من البحرين الذي تنسب إليه الرماح الخطية لأنها تجلب إليه من بلاد الهند والخط الساحل وهذا الخط يسمى سيف عمان لأنه يمتد إلى عمان. ومن قطر والقطيف بفتح القاف وكسر الطاء، والفقير مصغرا وهذه البلاد تعرف في زماننا سنة 1385هـ بعضها ببلاد الكويت وبعضها بجزائر البحرين، وبعضها ببلاد عمان وبعضها من البلاد السعودية مثل القطيف وهجرا.

وثان الخ، وأن الله لم يخلق شيئا في اليوم الذي بعد اليوم السادس. وسمته التوراة سبتا، قال السهيلي: قيل أول من سمى يوم عروبة الجمعة كعب بن لؤي جد أبي قصي. وكان قريش يجتمعون فيه إلى كعب قال: وفي قول بعضهم. لم يسم يوم عروبة يوم الجمعة إلا مذ جاء الإسلام.
جعل الله يوم الجمعة للمسلمين عيد الأسبوع فشرع لهم اجتماع أهل البلد في المسجد وسماع الخطبة ليعلموا ما يهمهم في إقامة شؤون دينهم وإصلاحهم.
قال القفال: لما جعل الله الناس أشرف العالم السفلي لم يخف عظم المنة وجلالة قدر موهبته لهم فأمرهم بالسكر على هذه الكرامة في يوم من الأيام السبعة ليكون في اجتماعهم في ذلك اليوم تنبيه على عظم ما أنعم الله به عليهم. ولكل أهل ملة معروفة يوم من الأسبوع معظم، فلليهود يوم السبت وللنصارى الأحد وللمسلمين يوم الجمعة. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "نحن الآخرون"، أي آخر الدنيا "السابقون يوم القيامة" يوم القيامة يتعلق ب "السابقون". "بيد أنهم" أي اليهود والنصارى "أوتوا الكتاب من قبلنا ثم كان هذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله إليه، فالناس لنا فيه تبع اليهود غدا والنصارى بعد غد".
ولما جعل يوم الجمعة يوم شكر وتعظيم نعمة احتج فيه إلى الاجتماع الذي تقع به شهرته فجمعت الجماعات لذلك، واحتيج فيه إلى الخطبة تذكيرا بالنعمة وحثا على استدامتها. ولما كان مدار التعظيم إنما هو على الصلاة جعلت الصلاة لهذا اليوم وسط النهار ليتم الاجتماع ولم تجز هذه الصلاة إلا في مسجد واحد ليكون أدعى الاجتماع اهـ. كلام القفال. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "والنصارى بعد غد"، إشارة إلى ما عمله النصارى بعد المسيح وبعد الحواريين من تعويض يوم السبت بيوم الأحد لأنهم زعموا أن يوم الأحد فيه قام عيسى من قبره. فعوضوا الأحد عن يوم السبت بأمر من قسطنطين سلطان الروم في سنة 321 المسيحي. وصار دينا لهم بأمر أحبارهم.
وصلاة الجمعة هي صلاة ظهر يوم الجمعة، وليست صلاة زائدة على الصلوات الخمس فأسقط من صلاة الظهر ركعتان لأجل الخطبتين. روي عن عمر بن الخطاب أنه قال: وإنما قصرت الجمعة لأجل الخطبة.1
وأحسب أن ذلك تخفيف على الناس إذ وجبت عليهم خطبتان مع الصلاة فكانت كل
ـــــــ
1 رواه أبو بكر الرازي الجصاص في أحكام القرآن له جزء 3 ص 548.

خطبة بمنزلة ركعة وهذا سبب الجلوس بين الخطبتين للإيماء إلى أنهما قائمتان مقام الركعتين ولذلك كان الجلوس خفيفا. غير أن الخطبتين لم تعطيا أحكام الركعتين فلا يضر فوات إحداهما أو فواتهما معا ولا يجب على المسبوق تعويضهما ولا سجود لنقصهما عند جمهور فقهاء الأمصار، روي عن عطاء ومجاهد وطاووس: أن من فاتته الخطبة يوم الجمعة صلى أربعا صلاة الظهر. وعن عطاء: أن من أدرك ركعة من صلاة الجمعة أضاف إليها ثلاث ركعات وهو أراد أن فاتته الخطبة وركعة من صلاة الجمعة1.
وجعلت القراءة في الصلاة جهرا مع أن شأن صلوات النهار إسرار القراءة لفائدة إسماع الناس سورا من القرآن كما أسمعوا الخطبة فكانت صلاة إرشاد لأهل البلد في يوم من كل أسبوع.
والإجماع على أن صلاة الجمعة قائمة مقام صلاة الظهر في يوم الجمعة فمن صلاها لا يصلي معها ظهرا فأما من لم يصلها لعذر أو لغيره فيجب عليه أن يصلي الظهر. ورأيت في الجامع الأموي في دمشق قام إمام يصلي بجماعة ظهرا بعد الفراغ من صلاة الجمعة وذلك بدعة.
وإنما اختلف الأئمة في أصل الفرض في وقت الظهر يوم الجمعة فقال مالك والشافعي في آخر قوليه وأحمد وزفر من أصحاب أبي حنيفة: صلاة الجمعة المعروفة فرض وقت الزوال في يوم الجمعة وصلاة الظهر في ذلك اليوم لا تكون إلا بدلا عن صلاة الجمعة، أي لمن لم يصل الجمعة لعذر ونحوه.
وقال أبو حنيفة والشافعي في أول قوليه المرجوع عنه وأبو يوسف ومحمد في رواية: الفرض بالأصل هو الظهر وصلاة الجمعة بدل عن الظهر، وهو الذي صححه فقهاء الحنفية.
وقال محمد في رواية عنه: الفرض إحدى الصلاتين من غير تعيين والتعيين للمكلف فأشبه الواجب المخبر لأن الواجب المخير لا يأثم فيه فاعل أحد الأمرين وتارك الجمعة بدون عذر آثم.
قالوا: تظهر فائدة الخلاف في حر مقيم صلى الظهر في أول الوقت؛ فقال أبو حنيفة
ـــــــ
1 ذكره الجصاص في أحكام القرآن ص 548 ج 3.

وأصحابه: له صلاة الظهر مطلقا حتى لو خرج بعد أن صلى الظهر أو لم يخرج لم يبطل فرضه، لكن عند أبي حنيفة يبطل ظهره بمجرد السعي مطلقا وعند صاحبيه لا يبطل ظهره إلا إذا أدرك الجمعة.
وقال مالك والشافعي: لا يجوز أن يصلي الظهر يوم الجمعة سواء أدرك الجمعة أم لا، خرج إليها أم لا يعني فإن أدرك الجمعة فالأمر ظاهر وإن لم يدركها وجب عليه أن يصلي ظهرا آخر.
والنداء للصلاة: الأذان المعروف وهو أذان الظهر ورد في الصحيح عن السائب بن يزيد قال: كان النداء يوم الجمعة إذا جلس الإمام على المنبر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر. قال السائب بن يزيد: فلما كان عثمان وكثر الناس بالمدينة زاد أذانا على الزوراء الزوراء موضع بسوق المدينة. وربما وصف في بعض الروايات بالأذان الثاني. ومعنى كونه ثانيا أنه أذان مكرر للأذان الأصلي فهو ثان في المشروعية ولا يريد أنه يؤذن به بعد الفراغ من الأذان الذي يؤذن به وقت جلوس الإمام على المنير، أي يؤذن به في باب المسجد، إذ لم يكن للناس يومئذ صومعة، وربما وقع في بعض الروايات وصفه بالنداء الثالث وإنما يعني بذلك أنه ثالث بضميمه الأذان الأول. ولا يراد أن الناس يؤذنون أذانين في المسجد وإنما زاده عثمان ليسمع النداء من في أطراف المدينة، وربما سموه الأذان الأول.
والذي يظهر من تحقيق الروايات أن هذا الأذان الثاني يؤذن به عقب الأذان الأول، لأن المقصود حضور الناس للصلاة في وقت واحد ووقع في بعض عبارات الروايات والرواة أنه كان يؤذن بأذان الزوراء أولا ثم يخرج الإمام فيؤذن بالأذان بين يديه.
قال ابن العربي في العارضة : لما كثر الناس في زمن عثمان زاد النداء على الزوراء ليشعر الناس بالوقت فيأخذوا بالإقبال إلى الجمعة ثم يخرج عثمان فإذا جلس على المنبر أذن الثاني الذي كان أولا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يخطب. ثم يؤذن الثالث يعني به الإقامة اهـ.
وقال في الأحكام : وسماه في الحديث أي حديث السائب بن يزيد ثالث لأنه إضافة إلى الإقامة فجعله ثالث الإقامة، أي لأنه أحدث بعد أن كانت الإقامة مشروعة وسمى الإقامة أذانا مشاكلة أو لأنها إيذان بالدخول في الصلاة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "بين كل أذانين صلاة لمن شاء" يعني بين الأذان والإقامة، فتوهم الناس أنه أذان أصلي فجعلوا

الأذانات ثلاثة فكان وهما. ثم جمعوهم في وقت واحد فكان وهما على وهم اهـ. فتوهم كثير من أهل الأمصار أن الأذان لصلاة الجمعة ثلاث مرات لهذا تراهم يؤذنون في جوامع تونس ثلاثة أذانات وهو بدعة.
قال ابن العربي في العارضة : فأما بالمغرب أي بلاد المغرب فيؤذن ثلاثة من المؤذنين لجهل المفتين في الرسالة : وهذا الأذان الثاني أحدثه بنو أمية فوصفه بالثاني وهو التحقيق، ولكنه نسبة إلى بني أمية لعدم ثبوت أن الذي زاده عثمان، ورواه البخاري وأهل السنن عن السائب بن يزيد ولم يره مسلم ولا مالك في الموطأ .
والسبب في نسبته إلى بني أمية: أن علي بن أبي طالب لما كان بالكوفة لم يؤذن الجمعة إلا أذانا واحدا كما كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وألغي الأذان الذي جعله عثمان بالمدينة. فلعل الذي أرجع الأذان الثاني بعض خلفاء بني أمية قال مالك في المجموعة : إن هشام بن عبد الملك أحدث أذانا ثانيا بين يديه في المسجد.
واعلم أن النداء الذي نيط به الأمر بالسعي قي هذه الآية هو النداء الأول، وما كان النداء الثاني إلا تبليغا للأذان لمن كان بعيد فيجب على من سمعه السعي إلى الجمعة للعلم بأنه قد نودي للجمعة.
والسعي: أصله الاشتداد في المشي. وأطلق هنا على المشي بحرص التأخر مجازا.
و {ذكر الله} فسر بالصلاة وفسر بالخطبة، بهذا فسره سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير. قال أبو بكر بن العربي والصحيح أنه الجميع أوله الخطبة.
قلت: وإيثار {ذِكْرِ اللَّهِ} هنا دون أن يقول: إلى الصلاة، كما قال: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ} لتتأتى إرادة الأمرين الخطبة والصلاة. وفيه دليل على وجوب الخطبة في صلاة الجمعة وشرطيته على الجملة. وتفصيل أحكام التخلف عن الخطبة ليست مساوية للتخلف عن الصلاة إلا في أصل حرمة التخلف عن حضور الخطبة بغير عذر.
وفي حديث الموطأ "فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر" ولا شك أن الإمام إذا خرج ابتداء بالخطبة فكانت الخطبة من الذكر وفي ذلك تفسير للفظ الذكر في هذه الآية. وإنما نهوا عن البيع لأنه الذي يشغلهم ولأن سبب نزول الآية كان لترك فريق

منهم الجمعة إقبالا على عير تجارة وردت كما سيأتي في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11].
ومثل البيع كما يشغل عن السعي إلى الجمعة، وبعد كون البيع وما قيس عليه منها فقد اختلف في نسخ العقود التي انعقدت وقت الجمعة. وهو مبني على الخلاف في اقتضاء النهي فساد المنهي عنه، ومذهب مالك أن النهي يقتضي الفساد إلا لدليل. وقول مالك في المدونة: إن البيع الواقع في وقت صلاة الجمعة بين من تجب عليهم الجمعة يفسخ. وقال الشافعي: لا يفسخ. وجعله كالصلاة في الأرض المغصوبة وهو قول أبي حنيفة أيضا.
وأما النكاح المعقود في وقت الجمعة: ففي العتيبة عن ابن القاسم: لا يفسخ. ولعله اقتصر على ما ورد النهي عنه في القرآن ولم ير القياس موجبا لفسخ المقيس. وكذلك قال أئمة المالكية: لا تفسخ الشركة والهبة والصدقة الواقعة في وقت الجمعة وعللوا ذلك بندرة وقوع أمثالها بخلاف البيع.
وخطاب الآية جميع المؤمنين فدل على أن الجمعة واجبة على الأعيان. وشذ قوم قالوا: إنها واجبة على الكفاية قال ابن الفرس: ونسب إلى بعض الشافعية وخطاب القرآن الذين آمنوا عام خصصته السنة بعدم وجوب الجمعة على النساء والعبيد والمسافر إذا حل بقرية الجمعة ومن لا يستطيع السعي إليها.
و {من} في قوله: {مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} تبعيضية فإن يوم الجمعة زمان تقع فيه أعمال منها الصلاة المعهودة فيه، فنزل ما يقع في الزمان بمنزلة أجزاء الشيء.
ويجوز كون {من} للظرفية مثل التي في قوله تعالى: {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ} [فاطر: 40]، أي فيها من المخلوقات الأرضية.
والإشارة ب {ذلكم} إلى المذكور، أي ما ذكر من أمر بالسعي إليها، وأمر بترك البيع حينئذ، لأي ذلك خير لكم مما يحصل لكم من البيوعات. فلفظ {خير} اسم تفضيل أصله: أخير، حذفت همزته لكثرة الاستعمال.
والمفضل عليه محذوف لدلالة الكلام عليه. والمفضل: الصلاة، أي ثوابها. والمفضل عليه: منافع البيع للبائع والمشتري.
وإنما أعقب بقوله تعالى: {فإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ

فَضْلِ اللَّهِ} تنبيها على أن لهم سعة من النهار يجعلونها للبيع ونحوه من ابتغاء أسباب المعاش فلا يأخذوا ذلك من وقت الصلاة، وذكر الله، والأمر في {فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} للإباحة.
والمراد ب {فضل الله} : اكتساب المال والرزق.
وأما قوله: {واذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً} فهو احتراس من الانصباب في أشغال الدنيا انصبابا ينسي ذكر الله، أو يشغل عن الصلوات فإن الفلاح في الإقبال على مرضاة الله تعالى.
[11] {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} .
عطف على جملة {وذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] الآية. عطف التوبيخ على ترك المأمور به بعد ذكر الأمر وسلكت في المعطوفة طريقة الالتفاف لخطاب إيذانا بأنهم أحرياء أن يصرف للخطاب عنهم فحرموا من الحضور. وأخبر عنهم بحال الغائبين، وفيه تعريض بالتوبيخ.
ومقتضى الظاهر أن يقال: وإذا رأيتم تجارة أو لهوا فلا تنفضوا إليها. ومن مقتضيات تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر هنا أن يكون هذا التوبيخ غير شامل لجميع المؤمنين فإن نفرا منهم بقوا مع النبي صلى الله عليه وسلم حين خطبته ولم يخرجوا للتجارة ولا للهو.
وفي الصحيح عن جابر بن عبد الله قال: بينما نحن نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب يوم الجمعة إذ أقبلت عير من الشام تحمل طعاما فانفتل الناس إليها حتى لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلا أنا فيهم. وفي رواية وفيهم أبو بكر وعمر، فأنزل الله فيهم هذه الآية التي في الجمعة {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً} اهـ. وقد ذكروا في روايات أخرى أنه بقي مع النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمان بن عوف، وأبو عبيدة بن الجراح، وسعيد بن زيد، وبلال، وعبد الله بن مسعود، وعمار بن ياسر، وجابر بن عبد الله، فهؤلاء أربعة عشر. وذكر الدارقطني في حديث جابر: أنه قال ليس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أربعون رجلا.

وعن مجاهد ومقاتل: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقدم دحية بن خليفة الكلبي بتجارة فتلقاه أهله بالدفوف فخرج الناس. وفي رواية أن أهل المدينة أصابهم جوع وغلاء شديد فقدم دحية بتجارة من زيت الشام. وفي رواية وطعام وغير ذلك فخرج الناس من المسجد خشية أن يسبقوا إلى ذلك. وقال جابر بن عبد الله: كانت الجواري إذا نكحن يمررن بالمزامير والطبل فانفضوا إليها، فلذلك قال الله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً} ، فقد قيل إن ذلك تكرر منهم ثلاث مرات، فلا شك أن خروجهم كان تارة لأجل مجيء العير وتارة لحضور اللهو.
وروي أن العير نزلت بموضع يقال له: أحجار الزيت فتوهم الراوي فقال: بتجارة الزيت.
وضمير {إليها} عائد إلى التجارة لأنها أهم عندهم من اللهو ولأن الحدث الذي نزلت الآية عنده هو مجيء عير دحية من الشام. واكتفى به عن ضمير اللهو كما في قول قيس بن الخطيم، أو عمرو بن الحارث بن امرئ القيس:
نحن بما عندنا وأنت بما
عندك راض والرأي مختلف
ولعل التقسيم الذي أفادته {أو} في قوله: {أو لهوا} تقسيم لأحوال المنفضين إذ يكون بعضهم من ذوي العائلات خرجوا ليمتاروا لأهلهم، وبعضهم من الشباب لا همة لهم في الميرة ولكن أحبوا حضور اللهو.
و {إذا} ظرف للزمان الماضي مجرد عن معنى الشرط لأن هذا الانفضاض مضى. وليس المراد أنهم سيعودون إليه بعد ما نزل هذا التوبيخ وما قبله من الأمر والتحريض. ومثله قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ} [النساء:83] وقوله: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا} [التوبة:92] الآية.
والانقضاض: مطاوع فضه إذا فرقه، وغلب إطلاقه على غير معنى المطاوعة، أي بمعنى مطلق كما تفرق. قال تعالى {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون:7].
وقوله: {أو لهوا} فيه للتقسيم، أي منهم من انفض لأجل التجارة، ومنهم من انفض لأجل اللهو، وتأنيث الضمير في قوله: {إليها} تغليب للفظ تجارة لأن التجارة

كانت الداعي الأقوى لانفضاضهم.
وجملة {وَتَرَكُوكَ قَائِماً} تفظيع لفعلهم إذ فرطوا في سماع وعظ النبي صلى الله عليه وسلم، أي تركوك قائما على المنير. وذلك في خطبة الجمعة، والظاهر أنها جملة حالية، أي تركوك في حال الموعظة والإرشاد فأضاعوا علما عظيما بانفضاضهم إلى التجارة واللهو. وهذه الآية تدل على وجوب حضور الخطبة في صلاة الجمعة إذ لم يقل: وتركوا الصلاة.
وأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يعظهم بأن ما عند الله من الثواب على حضور الجمعة خير من فائدة التجارة ولذة اللهو. وكذلك ما أعد الله من الرزق للذين يؤثرون طاعة الله على ما يشغل عنها من وسائل الارتزاق جزاء لهم على إيثارهم جزاء في الدنيا قبل جزاء الآخرة، فرب رزق لم ينتفع به الحريص عليه وإن كان كثيرا، ورب رزق قليل ينتفع به صاحبه ويعود عليه بصلاح، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97]. وقال حكاية عن خطاب نوع قومه {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} [نوح:10، 12].
وذيل الكلام بقوله: {وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} لأن الله يرزق الرزق لمن يرضى عنه سليما من الأكدار والآثام، ولأنه يرزق خير الدنيا وخير الآخرة، ليس غير الله قادرا على ذلك، والناس في هذا المقام درجات لا يعلمها إلا الله وهو العالم بالسرائر

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة المنافقون
سميت هذه السورة في كتب السنة وكتب التفسير

سورة المنافقين
اعتبارا بذكر أحوالهم وصفاتهم فيها.
ووقع هذا الاسم في حديث زيد بن أرقم عند الترمذي قوله: "فلما أصبحنا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المنافقين" . وسيأتي قريبا، وروى الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة الجمعة بسورة الجمعة فيحرض بها المؤمنين، وفي الثانية بسورة المنافقين فيقرع بها المنافقين.
ووقع في صحيح البخاري وبعض كتب التفسير تسميتها سورة المنافقون على حكاية اللفظ الواقع في أولها وكذلك ثبت في كثير من المصاحف المغربية والمشرقية.
وهي مدنية بالاتفاق.
واتفق العادون على عد آيها إحدى عشرة آية.
وقد عدت الثانية بعد المائة في عداد نزول السور عند جابر بن زيد. نزلت بعد سورة الحج وقبل سورة المجادلة.
والصحيح أنها نزلت في غزوة بني المصطلق ووقع في جامع الترمذي عن محمد بن كعب القرظي أنها نزلت في غزوة تبوك. ووقع فيه أيضا عن سفيان: أن ذلك في غزوة بني المصطلق وغزوة بني المصطلق سنة خمس، وغزوة تبوك سنة تسع.
ورجح أهل المغازي وابن العربي في العارضة وابن كثير: أنها نزلت في غزوة بني المصطلق وهو الأظهر. لأن قول عبد الله بن أبي بن سلول: ليخرجن الأعز منها الأذل، يناسب الوقت الذي لم يضعف فيه شأن المنافقين وكان أمرهم كل يوم في ضعف

وكانت غزوة تبوك في آخر سني النبوة وقد ضعف أمر المنافقين.
وسبب نزولها ما روي عن زيد بن أرقم أنه قال: كنا في غزاة فكسع1 رجل من المهاجرين رجلا جهنيا حليفا للأنصار فقال الجهني: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين: فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ما بال دعوى الجاهلية،" قالوا: كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار فقال "دعوها فإنها منتنة" أي اتركوا دعوة الجاهلية: يآل كذا فسمع هذا الخبر عبد الله بن أبي فقال: أقد فعلوها أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. وقال: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله، قال زيد بن أرقم: فسمعت ذلك فأخبرت به عمي فذكره للنبي صلى الله عليه وسلم فدعاني فحدثته فأرسل رسول الله إلى عبد الله بن أبي وأصحابه فحلفوا ما قالوا، فكذبت رسول الله وصدقه فأصابني هم لم يصبني مثله فقال عمي ما أردت إلا أن كذبك رسول الله، وفي رواية: إلى أن كذبك، فلما أصبحنا قرأ رسول الله سورة المنافقين وقال لي: "إن الله قد صدقك".
وفي رواية للترمذي في هذا الحديث: أن المهاجري أعرابي وأن الأنصاري من أصحاب عبد الله بن أبي، وأن المهاجري ضرب الأنصاري على رأسه بخشبة فشجه، وأن عبد الله بن أبي قال: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله يعني الأعراب، وذكر أهل السير أن المهاجري من غفار اسمه جهجاه أجير لعمر بن الخطاب. وأن الأنصاري جهني اسمه سنان حليف لبن أبي، ثم يحتمل أن تكون الحادثة واحدة. واضطرب الراوي عن زيد بن أرقم في صفتها؛ ويجوز أن يكون قد حصل حادثتان في غزاة واحدة.
وذكر الواحدي في أسباب النزول : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل إلى عبد الله بن أبي وقال له: "أنت صاحب هذا الكلام الذي بلغني"، فقال عبد الله بن أبي: والذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئا من هذا وإن زيدا لكاذب.
والظاهر أن المقالة الأولى قالها ابن أبي في سورة غضب تهييجا لقومه ثم خشي انكشاف نفاقه فأنكرها.
وأما المقالة الثانية فإنما أدرجها زيد بن أرقم في حديثه وإنما قالها ابن أبي في سورة
ـــــــ
1 كسع ضربه دبره، وكان ذلك لخصومة في حوض ماء شربت منه ناقة الأنصاري.

الناصح كما سيأتي في تفسير حكايتها.
وعلى الأصح فهي قد نزلت قبل سورة الأحزاب، وعلى القول بأنها نزلت في غزوة تبوك تكون نزلت مع سورة براءة أو قبلها بقليل وهو بعيد.
أغراضها
فضح أحوال المنافقين بعد كثير من دخائلهم وتولد بعضها عن بعض من كذب، وخيس بعهد الله، واضطراب في العقيدة، ومن سفالة نفوس في أجسام تغر وتعجب، ومن تصميم على الإعراض عن طلب الحق والهدى، وعلى صد الناس عنه، وكان كل قسم من آيات السورة المفتتح ب {إذا} خص بغرض من هذه الأغراض. وقد علمت أن ذلك جرت إليه الإشارة إلى تكذيب عبد الله بن أبي بن سلول فيما حلف عليه من التنصل مما قاله.
وختمت بموعظة المؤمنين وحثهم على الإنفاق والادخار للآخرة قبل حلول الأجل.
[1] {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ}.
لما كان نزول هذه السورة عقب خصومة المهاجرين والأنصارى ومقالة عبد بن أبي في شأن المهاجرين. تعين أن الغرض من هذه الآية التعريض بكذب عبد الله بن أبي وبنفاقه فصيغ الكلام بصيغة تعم المنافقين لتجنب التصريح بالمقصود على طريقة قول النبي صلى الله عليه وسلم "ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله" ومراده مولى بريرة لما أراد أن يبيعها لعائشة أم المؤمنين واشترط أن يكون الولاء له، وابتدئ بتكذيب من أريد تكذيبه في ادعائه الإيمان بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم وإن لم يكن ذلك هو المقصود إشعارا بأن الله أطلع رسول الله صلى الله عليه وسلم على دخائلهم، وهو تمهيد لما بعده من قوله: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أن المنافقين قالوا: نشهد إنك لرسول الله.
فيجوز أن يكون قولهم: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} محكيا بالمعنى لأنهم يقولون عبارات كثيرة تفيد معنى أنهم يشهدون بأنه رسول الله مثل نطقهم بكلمة الشهادة.
ويجوز أن يكونوا توطؤوا على هذه الكلمة كلما أعلن أحدهم الإسلام. وهذا أليق بحكاية كلامهم بكلمة {قالوا} دون نحو: زعموا.
و {إذا} ظرف للزمان الماضي بقرينة جعل جملتيها ماصيتي، والظرف متعلق بفعل

{قالوا} وهو جواب {إذا} .
فالمعنى: إنك تعلم أنهم يقولون نشهد إنك لرسول الله.
و {نشهد} خبر مؤكد لأن الشهادة الإخبار عن أمر مقطوع به إذ هي مشتقة من المشاهدة أي المعاينة. والمعاينة أقوى طرق العلم، ولذلك كثر استعمال: أشهد ونحوه من أفعال اليقين في معنى القسم. وكثر أن يجاب بمثل ما يجاب به القسم قاله أبن عطيه. ومعنى ذلك: أن قوله: {نشهد} ليس إنشاء. وبعض المفسرين جعله صيغة يمين. وروي عن أبي حنيفة.
والمقصود من قوله: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} إعلام النبي صلى الله عليه وسلم وإعلام المسلمين بطائفة مبهمة شأنهم النفاق ليتوسموهم ويختبروا أحوالهم وقد يتلقى النبي صلى الله عليه وسلم بطريق الوحي تعيينهم أو تعيين بعضهم.
والمنافقون جمع منافق وهو الذي يظهر الإيمان ويسر الكفر وقد مضى القول فيه مفصلا في سورة آل عمران.
وجملة {إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} بيان لجملة {نشهد}.
وجملة {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} معترضة بين الجملتين المتعاطفتين وهذا الاعتراض لدفع إيهام من يسمع جملة {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} أنه تكذيب لجملة {إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} فإن المسلمين كانوا يومئذ محفوفين بفئام من المنافقين مبثوثين بينهم هجيراهم فتنة المسلمين فكان المقام مقتضيا دفع الإيهام وهذا من الاحتراس.
وعلق فعل {يعلم} عن العمل لوجود {إن} في أول الجملة وقد عدوا إن التي في خبرها لم ابتداء من المعلقات لأفعال القلب عن العمل بناء على أن لام الابتداء هي في الحقيقة لام جواب القسم وأن حقها أن تقع قبل {إن} ولكنها زحلقت في الكلام كراهية اجتماع مؤكدين متصلين، وأخذ ذلك من كلام سيبويه.
وجملة {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} عطف على جملة {قَالُوا نَشْهَدُ} .
وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي لتقوي الحكم.
وجيء بفعل {يشهد} في الإخبار عن تكذيب الله تعالى إياهم للمشاكلة حتى يكون إبطال خبرهم مساويا لإخبارهم.

والكذب: مخالفة ما يفيده الخبر للواقع في الخارج، أي الوجود فمعنى كون المنافقين كاذبون هنا انهم كاذبون في إخبارهم عن أنفسهم بأنهم يشهدون بأن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول الله لأن خبرهم ذلك مخالف لما في أنفسهم فهم لا يشهدون به ولا يوافق قولهم ما في نفوسهم. وبهذا بطل احتجاج النظام بظاهر هذه الآية على رأيه أن الكذب مخالفة الخبر لاعتقاد المخبر لأنه غفل عن قوله تعالى: {قَالُوا نَشْهَدُ} . وقد أشار إلى هذا الرد القزويني في تلخيص المفتاح وفي الإيضاح.
وجملة {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} مبينة لجملة {يشهد} مثل سابقتها.
[2] {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
استئناف بياني لأن تكذيب الله تعالى إياهم في قولهم للنبي صلى الله عليه وسلم {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون:1]، يثير في أنفس السامعين سؤالا عن أيمانهم لدى النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم مؤمنون به وأنهم لا يضمرون بغضه فأخبر الله عنهم بأنهم اتخذوا أيمانهم تقية يتقون بها وقد وصفهم الله بالحلف بالأيمان الكاذبة في آيات كثيرة من القرآن.
والجنة: ما يستتر به ويتقى ومنه سميت الدرع جنة.
والمعنى: جعلوا أيمانهم كالجنة يتقي بها ما يلحق من أذى. فلما شبهت الأيمان بالجنة على طريقة التشبيه البليغ، أتبع ذلك بتشبيه الحلف باتخاذ الجنة، إي استعمالها، ففي {اتخذوا} استعارة تبعية، وليس هذا خاصا بحلف عبد الله بن أبي أنه ما قال لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، كما تقدم في ذكر سبب نزولها، بل هو أعم، ولذلك فالوجه حمل ضمائر الجمع في قوله: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ} الآية على حقيقتها، أي اتخذ المنافقون كلهم أيمانهم جنة، أي كانت تلك تقيتهم، أي تلك شنشنة معروفة فيهم.
{فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} تفريع لصدهم عن سبيل الله على الحلف الكاذب لأن اليمين الفاجرة من كبائر الإثم لما فيها من الاستخفاف بجانب الله تعالى ولأنهم لما حلفوا على الكذب ظنوا أنهم قد آمنوا اتهام المسلمين إياهم بالنفاق فاستمروا على الكفر والمكر بالمسلمين وذلك صد عن سبيل الله، أي إعراض عن الأعمال التي أمر الله بسلوكها.
وفعل {صدوا} هنا قاصر الذي قياس مضارعة يصد بكسر الصاد.

وجملة {إنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} تذييل لتفظيع حالهم عن السامع. وساء من أفعال الذم تلحق ببئس على تقدير تحويل صيغة فعلها عن فعل المفتوح العين إلى فعل المضمومها لقصد إفادة الذم مع إفادة التعجب بسبب ذلك التحويل كما نبه عليه صاحب الكشاف وأشار إليه صاحب التسهيل.
[3] {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} .
جملة في موضع العلة لمصمون جملة {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المنافقون:2].
والإشارة إلى مضمون قوله: {إنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [المنافقون:2]، أي سبب إقدامهم على الأعمال السيئة المتعجب من سوئها، هو استخفافهم بالأيمان ومراجعتهم الكفر مرة بعد أخرى، فرسخ الكفر في نفوسهم فتجرأت أنفسهم على الجرائم وضربت بها، حتى صارت قلوبهم كالمطبوع عليها أن لا يخلص إليها الخير.
فقوله: {بِأَنَّهُمْ آمَنُوا} خبر عن اسم الإشارة. ومعنى الباء السببية. و {ثم} للتراخي الرتبي فإن إبطال الكفر مع إظهار الإيمان أعظم من الكفر الصريح. وأن كفرهم أرسخ فيهم من إظهار أيمانهم.
ويجوز أن يراد مع ذلك التراخي في الزمن وهو المهلة.
فإسناد فعل {آمنوا} إليهم مع الإخبار عنهم قبل ذلك بأنهم كاذبون في قولهم: {نشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون:1] مستعمل في حقيقته ومجازة فإن مراتب المنافقين متفاوتة في النفاق وشدة الكفر فمنهم من آمنوا لما سمعوا آيات القرآن أو لاحت لهم أنوار من النبي صلى الله عليه وسلم لم تثبت في قلوبهم. ثم رجعوا إلى الكفر للوم أصحابهم عليهم أو لإلقائهم الشك في نفوسهم قال ابن عطية: وقد كان هذا موجود. فقلت: ولعل الذين تابوا وحسن إسلامهم من هذا الفريق. فهؤلاء إسناد الإيمان إليهم حقيقة.
ومنهم من خالجهم خاطر الإيمان فيرددوا وقاربوا أن يؤمنوا ثم نكصوا على أعقابهم فشابه أول حالهم المؤمنين حين خطور الإيمان في قلوبهم.
ومنهم من أظهروا الإيمان كذبا وهذا هو الفريق الأكثر. وليس ما أظهروه في سيء من الإيمان وقد قال الله تعالى في مثلهم {وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ} [التوبة:74] مسماة إسلاما ولم يسمه إيمانا. ومنهم الذين قال الله تعالى فيهم {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا

وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14]. وإطلاق الإيمان على مثل هذا الفريق مجاز بعلاقة الصورة وهو كإسناد فعل {يحذر} في قوله تعالى: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ} الآية، في سورة براءة [64].
وعلى هذا الاعتبار يجوز أن يكون {ثم} مستعملا في معنييه الأصلي والمجازي على ما يناسب محمل فعل {آمنوا} .
ولو حمل المنافقون على واحد معين وهو عبد الله بن أبي جاز أن يكون ابن أبي آمن ثم كفر فيكون إسناد {آمنوا} حقيقة وتكون {ثم} للتراخي في الزمان.
وتفريع {فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} على قوله: {آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} ، فصار كفرهم بع الإيمان على الوجوه السابقة سببا في سوء أعمالهم بمقتضى باء السببية، وسببا في انتفاء إدراكهم الحقائق النظرية بمقتضى فاء التفريع.
والفقه: فهم للحقائق الخفية.
والمعنى: أنهم لا يدركون دلائل الإيمان حتى يعلموا أحقيته.
[4] {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} .
{وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} .
هذا انتقال إلى وضح بعض أحوالهم التي لا يبرزونها إذا جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولكنها تبرز من مشاهدتهم، فكان الوضح الأول مفتتحا ب {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} [المنافقون:1] وهذا الوضح مفتتحا ب {إِذَا رَأَيْتَهُمْ}
فجملة {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ} معطوفة على جملة {فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون:3] واقعة موقع الاحتراس والتتميم لدفع إيهام من يغره ظاهر صورهم.
واتبع انتفاء فقه عقولهم بالتنبيه على عدم الاغترار بحسن صورهم فإنها أجسام خالية عن كمال الأنفس كقول حسان ولعله أخذه من هذه الآية:
لا بأس بالقوم من طول ومن غلظ ... جسم البغال وأحلام العصافير
وتفيد مع الاحتراس تنبيها على دخائلهم بحيث لو حذف حرف العطف من الجملتين

لصح وقوعهما موقع الاستئناف الابتدائي. ولكن أوثر العطف للتنبيه على أن هاتين صفتان تحسبان كمالا وهما نقيصتان لعدم تناسقهما مع ما شأنه أن يكون كمالا. فإن جمال النفس كجمال الخلقة إنما يحصل بالتناسب بين المحاسن وإلا فربما انقلب الحسن موجب نقص.
فالخطاب في هذه الآية لغير معين يشمل كل من يراهم ممن يظن أن تغره صورهم فلا يدخل فيه النبي صلى الله عليه وسلم لأن الله قد أطعمه على أحوالهم وأوقفه على تعيينهم فهو كالخطاب الذي في قوله في سورة الكهف[18] {لوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً} .
والظاهر أن المراد بضمير الجمع واحد معين أو عدد محدود إذ يبعد أن يكون جميع المنافقين أحاسن الصور. وعن ابن عباس كان ابن أبي جسيما صحيحا صبيحا ذلق اللسان. وقال الكلبي: المراد ابن أبي والجد بن قيس ومعتب بن قشير كانت لهم أجسام ومنظر وفصاحة. وقال في الكشاف: وقوم من المنافقين في مثل صفة ابن أبي رؤساء المدينة.
وأجسام: جمع جسم بكسر الجيم وسكون السين وهو ما يقصد بالإشارة إليه أو ما له طول وعرض وعمق. وتقدم في قوله تعالى: {وزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} في سورة البقرة [247]. وجملة {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} معترضة بين جملة {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ} الخ وبين جملة {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ}.
والمراد بالسماع في قوله: {تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} الإصغاء إليهم لحسن إبانتهم وفصاحة كلامهم مع تغريرهم بحلاوة معانيهم تمويه حالهم على المسلمين.
فاللام في قوله: {لقولهم} لتضمين {تسمع} معنى: تصغ أيها السامع، إذ ليس في الإخبار بالسماع للقول فائدة لولا أنه ضمن معنى الإصغاء لوعي كلامهم.
وجملة {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} مستأنفة استئنافا بيانيا جوابا عن سؤال ينشأ عن وصف حسن أجسامهم وذلاقة كلامهم، فإنه في صورة مدح فلا يناسب ما قبله من ذمهم فيترقب السامع ما يرد بعد هذا الوصف.
ويجوز أن تكون الجملة حالا من ضميري الغيبة في قوله: {رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ}.
ومعناه أن حسن صورهم لا نفع فيه لأنفسهم ولا للمسلمين.

و {خشب} بضم الخاء وضم الشين جمع خشبة بفتح الخاء وفتح الشين وهو جمع نادر لم يحفظ إلا في ثمرة، وقيل ثمر جمع ثمار الذي هو جمع ثمرة فيكون ثمر جمع جمع. فيكون خشب على مثال جمع الجمع وإن لم يسمع بدنه.
وقرأه الجمهور بضمتين. وقرأه قنبل عن ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ويعقوب بضمة فسكون.
والمسندة التي سندت إلى حائط أو نحوه، أي أميلت إليه فهي غليظة طويلة قوية لكنها غير منتفع بها في سقف ولا مشدود بها جدار. شبهوا بالخشب المسندة تشبيه التمثيل في حسن المرأى وعدم الجدوى، أفيد بها أن أجسامهم المعجب بها ومقالهم المصغى إليه خاليان عن النفع كخلو الخشب المسندة عن الفائدة، فإذا رأيتموهم حسبتموهم أرباب لب وشجاعة وعلم ودراية. وإذا اختبرتموهم وجدتموهم على خلاف ذلك فلا تحتفلوا بهم.
{يحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} .
هذه الجملة بمنزلة بدل البعض من مضمون جملة {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} ، أي من مخالفة باطنهم المشوه للظاهر المموه، أي هم أهل جبن في صورة شجعان.
وهذا من جملة ما فضحته هذه السورة من دخائلهم ومطاوي نفوسهم كما تقدم في الآيات السابقة وإن اختلفت مواقعها من تفنن أساليب النظم، فهي مشتركة في التنبيه على أسرارهم.
والصيحة: المرة من الصياح، أي هم لسوء ما يضمرونه للمسلمين من العداوة لا يزالون يتوجسون خيفة من أن ينكشف أمرهم عند المسلمين فهم في خوف وهلع إذا سمعوا صيحة في خصومة أو أنشدت ضالة خشوا أن يكون ذلك غارة من المسلمين عليهم للإيقاع بهم.
و {كل} هنا مستعمل في معنى الأكثر لأنهم إنما يتوجسون خوفا من صيحات لا يعلمون أسبابها كما استعمله النابغة في قوله:
بها كل ذيال وخنساء ترعوي ... إلى كل رجاف من الرمل فارد
وقوله {عليهم} ظرف مستقر هو المفعول الثاني لفعل {يحسبون} وليس متعلقا ب {صيحة} .

{هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ}.
يجوز أن تكون استئنافا بيانيا ناشئا عن جملة {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} لأن تلك الجملة لغرابة معناها تثير سؤالا عن سبب هلعهم وتخوفهم من كل ما يتخيل منه بأس المسلمين فيجاب بأن ذلك لأنهم أعداء ألداء للمسلمين ينظرون للمسلمين بمرآة نفوسهم فكما هم يتربصون بالمسلمين الدوائر ويتمنون الوقيعة بهم في حين يظهرون لهم المودة كذلك يظنون بالمسلمين التربص بهم وإضمار البطش بهم على نحو ما قال أبو الطيب:
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه ... وصدق ما يعتاده من توهم
ويجوز أن تكون الجملة بمنزلة العلة لجملة {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} على هذا المعنى أيضا.
ويجوز أن تكون استئنافا ابتدائيا لذكر حالة من أحوالهم تهم المسلمين معرفتها ليترتب عليها تفريع {فأحذرهم} وعلى كل التقادير فنظم الكلام واف بالغرض من فضح دخائلهم.
والتعريف في {العدو} تعريف الجنس الدال على معين كمال حقيقة العدو فيهم، لأن أعدى الأعادي العدو المتظاهر بالموالاة وهو مداح وتحت ضلوعه الداء الدوي. وعلى هذا المعنى رتب عليه الأمر بالحذر منهم.
و{العدو}: اسم يقع على الواحد والجمع. والمراد: الحذر من الاغترار بظواهرهم الخلابة لئلا يخلص المسلمون إليهم بسرهم ولا يتقبلوا نصائحهم خشية المكائد.
والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ليبلغه المسلمين فيحذروهم.
{قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} .
تذييل فإنه جمع على الإجمال ما يغني عن تعداد مذامهم كقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} [النساء:63]، مسوق للتعجيب من حال توغلهم في الضلالة والجهالة بعدولهم عن الحق.
فافتتح التعجيب منهم بجملة اصلها دعاء بالإهلاك والاستئصال ولكنها غلب استعمالها في التعجب أو التعجيب من سوء الحال الذي جره صاحبه لنفسه فإن كثيرا من

الكلم التي هي دعاء بسوء تستعمل في التعجيب من فعل أو قول مكروه مثل قولهم: ثكلته أمه، وويل أمه. وتربت يمينه. واستعمال ذلك في التعجب مجاز مرسل للملازمة بين بلوغ الحال في السوء وبين الدعاء على صاحبه بالهلاك وبين التعجب من سوء الحال. فهي ملازمة بمرتبتين كناية رمزية.
و {أنى} هنا اسم استفهام عن المكان. وأصل {أنى} ظرف مكان وكثر تضمينه معنى الاستفهام في استعمالاته، وقد يكون للمكان المجازي فيفسر بمعنى {كيف} كقوله تعالى: {قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا} في سورة آل عمران[165]، وفي قوله: {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى} في سورة الدخان [13]. ومنه قوله هنا: {أَنَّى يُؤْفَكُونَ} ، والاستفهام هنا مستعمل في التعجيب على وجه المجاز المرسل لأن الأمر العجيب من شأنه أن يستفهم عن حال حصوله. فالاستفهام عنه من لوازم أعجوبته. فجملة {أَنَّى يُؤْفَكُونَ} ، بيان للتعجيب الإجمالي المفاد بجملة {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ}.
و {يؤفكون} يصرفون يقال: أفكه، إذا صرفه وأبعده، والمراد: صرفهم عن الهدى، أي كيف أمكن لهم أن يصرفوا أنفسهم عن الهدى، أو كيف أمكن لمضليهم أن يصرفوهم عن الهدى مع وضوح دلائله.
وتقدم نظير الآية في سورة براءة.
[5] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} . هذا حالهم في العناد ومجافاة الرسول صلى الله عليه وسلم والإعراض عن التفكر في الآخرة، بله الاستعداد للفوز فيها.
و {تعالوا} طلب من المخاطب بالحضور عند الطالب، وأصله فعل أمر من التعالي، وهو تكلف العلو، أي الصعود، وتنوسي ذلك وصار لمجرد طلب الحضور، فلزم حالة واحدة فصار اسم فعل، وتقدم عند قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} الآية في سورة الأنعام [151].
وهذا الطلب يجعل {تعالوا} مشعر بأن هذه حالة من أحوال انفرادهم في جماعتهم

فهي ثالث الأغراض من بيان مختلف أنواع تلك الأحوال، وقد ابتدأت ب {إذا} كما ابتدئ الغرضان السابقان ب {إذا} {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} [المنافقون:1]. {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} [المنافقون:4].
والقائل لهم ذلك أن يكون بعض المسلمين وعظوهم ونصحوهم، ويحتمل أنه بعض منهم اهتدى وأراد الإنابة.
قيل المقول له هو عبد الله بن أبي بن سلول على نحو ما تقدم من الوجوه في ذكر المنافقين بصيغة الجمع عند قوله: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} [المنافقون:1] وما بعده.
والمعنى: اذهبوا إلى رسول الله وسلوه الاستغفار لكم. وهذا يدل دلالة اقتضاء على أن المراد تربوا من النفاق وأخلصوا الإيمان وسلوا رسول الله ليستغفر لكم ما فرط منكم، فكان الذي قال لهم ذلك مطلعا على نفاقهم وهذا كقوله تعالى: في سورة البقرة [13] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ}.
وليس المراد من الاستغفار الصفح عن قول عبد الله بن أبي ليخرجن الأعز منها الأذل. لأن ابن أبي ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبرأ من أن يكون قال ذلك ولأنه لا يلتئم مع قوله تعالى: {لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [المنافقون:6].
ولي الرؤوس: إمالتها إلى جانب غير وجاه المتكلم. إعراضا عن كلامه، أي أبوا أن يستغفروا لأنهم ثابتون على النفاق، أو لأنهم غير راجعين فيما قالوه من كلام بذيء في جانب المسلمين، أو لئلا يلزموا بالاعتراف بما نسب إليهم من النفاق.
وقرأ الجمهور {لووا} بتشديد الواو الأولى مضاعف لوى للدلالة على الكثرة فيقتضي كثرة اللي منهم، أي لوى جمع كثير منهم رؤوسهم، وقرأ نافع وروج عن يعقوب بتخفيف الواو الأولى اكتفاء بإسناد الفعل إلى ضمير الجماعة.
والخطاب في {ورأيتهم} لغير معين، أي ورأيتهم يا من يراهم حينئذ.
وجملة {وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} في موضع الحال من ضمير يصدون، أي يصدون صد المتكبر عن طلب الاستغفار.
{سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}.

{سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ}.
جملة معترضة بين حكاية أحوالهم نشأت لمناسبة قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ رؤوسهم} [المنافقون:5] الخ.
واعلم أن تركيب: سواء عليه أكذا أم كذا، ونحوه مما جرى مجرى المثل فيلزم هذه الكلمات مع ما يناسبها من ضمائر المخبر عنه. ومدلوله استواء الأمرين لدى المجرور بحرف {على} ، ولذلك يعقب بجملة تبين جهة الاستواء كجملة {لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}. وجملة {لا يُؤْمِنُونَ} في سورة البقرة [6]. وقوله: {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} في سورة يس [10] وأما ما ينسب إلى بثينة في رثاء جميل بن معمر من قولها:
سواء علينا يا جميل بن معمر ... إذا مت بأساء الحياة ولينها
فلا أحسبه صحيح الرواية.
وسواء اسم بمعنى مساو يعامل معاملة الجامد في الغالب فلا يتغير خبره نقول: هما سواء، وهم سواء. وشذ قوله: سواءين.
و {على} من قوله: {عليهم} بمعنى تمكن الوصف: سواء فيهم.
وهمزة {أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ} أصلها همزة استفهام بمعنى: سواء عندهم سؤال السائل عن وقوع الاستغفار لهم وسؤال السائل عن عدم وقوعه. وهو استفهام مجازي مستعمل كناية عن قلة الاعتناء بكلا الحالين بقرينة لفظ سواء ولذلك يسمى النحاة هذه الهمزة التسوية. وتقدم عند قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} في سورة البقرة،[6] أي سواء عندهم استغفارك لهم وعدمه. ف {على} للاستعلاء المجازي الذي هو التمكن والتلبس فتؤول إلى معنى عند كما تقول سواء علي أرضيت أم غضب. وقوله تعالى: {قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ} في سورة الشعراء[136].
وجملة {لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} معترضة بين جملة {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ} وجملة {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ} [المنافقون: 7] وهي وعيد لهم وجزاء على استخفافهم بالاستغفار من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}.

جملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا عن حال من أحوالهم.
وجملة {إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} تعليل لانتفاء مغفرة الله لهم بأن الله غضب عليهم فحرمهم اللطف والعناية.
[7 ] {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ}
{هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} .
هذا أيضا من مقالاتهم في مجامعهم وجماعتهم يقولونها لإخوانه الذين كانوا ينفقون على فقراء المسلمين تظاهرا بالإسلام كأنهم يقول بعضهم لبعض تظاهر الإسلام بغير الإنفاق مثل قولهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله وذلك عقبت بها. وقد جاء في الأحاديث الصحيحة أن قائل هذه المقالة عبد الله بن أبي سلول كما تقدم في طالعة تفسير هذه السورة فإسناد هذا القول إلى ضمير المنافقين لأنهم تقبلوه منه إذ هو رأس المنافقين أو فشا هذا القول بين المنافقين فأخذوا يبثونه في المسلمين.
وموقع الجملة الاستئناف الابتدائي المعرب عن مكرهم وسوء طواياهم انتقالا من وصف إعراضهم عند التقرب من الرسول صلى الله عليه وسلم، إلى وصف لون آخر مكن كفرهم وهو الكيد للدين في صورة النصيحة.
وافتتحت الجملة بضميرهم الظاهر دون الاكتفاء بالمستتر في {يقولون} معاملة لهم بنقيض مقصودهم فإنهم ستروا كيدهم بإظهار قصد النصيحة ففضح الله أمرهم بمزيد التصريح، أي قد علمت أنكم تقولون هذا. وفي إظهار الضمير أيضا تعريض بالتوبيخ كقوله تعالى: {أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ} [ص:60 ]. وليكون للجملة الاسمية إفادة ثبات الخبر، وليكون الإتيان بالموصول مشعرا بأنهم عرفوا بهذه الصلة. وصيغة المضارع في {يقولون} يشعر بأن في هذه المقالة تتكرر منهم لقصد إفشائها.
و {مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} من كانوا في رعايته مثل أهل الصفة ومن كانوا يلحقون بالمدينة من الأعراب العفاة أوفريق من الأعراب كان يمنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق. روي البخاري عن زيد بن أرقم قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر أصاب الناس فيه شدة فقال عبد الله بن أبي: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من

حوله وهذا كلام مكر لأن ظاهره قصد الرفق برسول الله صلى الله عليه وسلم من كلفة إنفاق الأعراب الذين ألموا به في غزوة بني المصطلق، وباطنه إرادة إبعاد الأعراب عن تلقي الهدى النبوي وعن أن يتقوى بهم المسلمون أو تفرق فقراء المهاجرين لتضعف بتفرقهم بعض قوة المسلمين. وروايات حديث زيد مختلط.
وقوله: {رَسُولَ اللَّهِ} يظهر أنه صدر من عبد الله بن أبي ومن معه من المنافقين بهذا اللفظ إذا كانوا قالوا ذلك جهرا في ملإ المسلمين إذ هم يتظاهرون ساعتئذ بالإسلام.
و {حتى} مستعملة في التعليل بطريقة المجاز المرسل لأن معنى {حتى} انتهاء الفعل المذكور قبلها وغاية الفعل ينتهي الفاعل عن الفعل إذا بلغها، فهي سبب للانتهاء وعلة له، وليس المراد فإذا نفضوا فأنفقوا عليهم.
والانفاض: التفرق والابتعاد.
{وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ} .
عطف على جملة {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} إبطال لمكر المنافقين فيما قصدوه من قولهم المتظاهرين بأنهم قصدوا به نصح المسلمين، أي لو تمشت حيلتهم على المسلمين فأمسكوا هم وبعض المسلمين عن إنفاق الأعراب ومن يأوون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من العفاة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقطع عنهم الإنفاق وذلك دأبه كما دل عليه حديث عمر بن الخطاب أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما عندي شيء ولكن ابتع علي فإذا جاءني شيء قضيته". فقال عمر: يا رسول الله ما كلفك الله ما لا تقدر عليه، فكره النبي صلى الله عليه وسلم قول عمر. فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله أنفق ولا تخش من ذي العرش إقلالا. فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرف في وجهه البشر لقول الأنصاري ثم قال: "بهذا أمرت". رواه الترمذي في كتاب الشمائل.
وهذا جواب من باب طريقة النقض لكلامهم في مصطلح آداب البحث.
وخزائن جمع خزانة بكسر الخاء. وهي البيت الذي نخزن فيه الطعام قال تعالى {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ} تقدم في سورة يوسف[55]. وتطلق على الصندوق الكبير الذي يخزن فيه المال على سبيل التوسع وعلى بيوت الكتب وصناديقها، ومن هذا

ما جاء في حديث الصرف من الموطأ حتى يحضر خازني من الغابة.
{خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ} مقار أسباب حصول الأرزاق من غيوث رسمية وأشعة الشمس والرياح الصالحة فيأتي ذلك بتوفير الثمار والحبوب وخصب المرعى وتزايد النتاج. وأما خزائن الأرض فيما فيها من أهربه ومطامير وأندر، ومن كنوز الأحوال وما يفتح الله لرسوله صلى الله عليه وسلم من البلاد وما يفي عليه من أهل القرى.
واللام في {لله} للملك أي التصرف في ذلك ملك لله تعالى. ولما كان الإنفاق على فقراء المسلمين مما يعين على ظهور الذين الذي أرسل الله به رسوله صلى الله عليه وسلم كان الإخبار بأن الخزائن لله كناية عن تيسير الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم حصول ما ينفق منه كما دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم لما قال الأنصاري ولا تخش من ذي العرش إقلالا "بهذا أمرت". وذلك بما سيره الله لرسوله صلى الله عليه وسلم من زكوات المسلمين وغنائم الغزوات، وما فتح الله عليه من البلاد بخيراتها، وما أفاء الله عليه بغير قتال.
وتقديم المجرور من قوله: {خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} لإفادة قصر القلب وهو قلب للازم قولهم لا لصريحه لأن المنافقين لما قالوا: {لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّه} حسبوا أنهم إذا قطعوا الإنفاق على من عند رسول الله لا يجد الرسول صلى الله عليه وسلم ما ينفق منه عليهم فأعلم الله رسوله مباشرة وأعلمهم تبعا بأن ما عند الله من الرزق أعظم وأوسع.
واستدراك قوله: {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ} لرفع ما يتوهم من أنهم حين قالوا: {لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} كانوا قالوه عن بصيرة ويقين بأن انقطاع إنفاقهم على الذين يلوذون ب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقعط رزقهم فينفضون عنه بناء على أن القدرة على الإنفاق منحصرة فيهم لأنهم أهل الأحوال وقد غفلوا عن تعدد أسباب الغنى وأسباب الفقر.
والمعنى: أنهم لا يدركون دقائق المدركات وخفاياها.
ومفعول {يفقهون} محذوف، أي لا يفقهون ذلك وهو مضمون {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ، أو نزل الفعل منزلة اللازم مبالغة في انتفاء فقه الأشياء عنهم في كل حال.
[8] {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُون}

استئناف ثان على أسلوب التعداد والتكرير ولذلك لم يعطف. ومثله يكثر في مقام التوبيخ. وهذا وصف لخبث نواياهم إذ أرادوا التهديد وإفساد إخلاص الأنصار وأخوتهم مع المهاجرين بإلقاء هذا الخاطر في نفوس الأنصار بذرا للفتنة والتفرقة وانتهاز لخصومة طفيفة حدثت بين شخصين من موالي الفريقين، وهذا القول المحكي هنا صدر من عبد الله بن أبي بن سلول حين كسع حليف المهاجرين حليف الأنصار كما تقدم في ذكر سبب نزول هذه السورة، وعند قوله تعالى: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} [المنافقون: 7]، فإسناد القول إلى ضمير المنافقين هنا كإسناده هناك.
وصيغة المضارع في حكاية هذه المقالة لاستحضار الحالة العجيبة كقوله تعالى: {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} هود: 74]. والمدينة هي مدينتهم المعهودة وهي يثرب.
و {الأعز} : القوي العزة وهو الذي لا يقهر ولا يغلب على تفاوت في مقدار العزة إذ هي من الأمور النسبية. والعزة تحصل بوفرة العدد وسعة المال والعدة، وأراد ب {الأعز} فريق الأنصار فإنهم أهل المدينة وأهل الأموال وهم أكثر عددا من المهاجرين فأراد ليخرجن الأنصار من مدينتهم من جاءها من المهاجرين.
وقد أبطل الله كلامهم بقوله: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} وهو جواب بالطريقة التي تسمي القول بالموجب في علم الجدل وهي مما يسمى بالتسليم الجدلي في علم آداب البحث.
والمعنى: إن كان الأعز يخرج الأذل فإن المؤمنين هم الفريق الأعز. وعزتهم بكون الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم وبتأييد الله رسوله صلى الله عليه وسلم وأولياءه لأن عزة الله هي العزة الحق المطلقة، وعزة غيره ناقصة، فلا جرم أن أولياء الله هم الذين لا يفقهون إذا أراد الله نصرهم ووعدهم به. فإن كان إخراج من المدينة فإنما يخرج منها أنتم يا أهل النفاق.
وتقديم المسند على المسند إليه في {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ} لقصد القصر وهو قصر قلب، أي العزة لله ولرسوله وللمؤمنين لا لكم كما تحسبون.
وإعادة اللام في قوله: {ولرسوله} مع أن حرف العطف مغن عنها لتأكيد عزة الرسول صلى الله عليه وسلم وأنها بسبب عزة الله ووعده إياه، وإعادة اللام أيضا في قوله: {وللمؤمنين} للتأكيد أيضا إذ قد تخفى عزتهم وأكثرهم في حال قلة وحاجة.
والقول في الاستدراك بقوله: {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} نظير القول آنفا في

قوله: {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} المنافقين:7].
وعدل عن الإضمار في {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [7].
وقد سبق اسمهم في نظيرها قبلها لتكون الجملة مستقلة الدلالة بذاتها فتسير سير المثل.
وإنما نفي عنهم هنا العلم تجهيلا بسوء التأمل في أمارات الظهور والانحطاط فلم يفطنوا للإقبال الذي في أحوال المسلمين وازدياد سلطانهم يوما فيوما وتناقص من أعدائهم فإن ذلك أمر مشاهد فكيف يظن المنافقون أن عزتهم أقوى من غزة قبائل العرب الذين يسقطون بأيدي المسلمين كلما عزوهم من يوم بدر فما بعده.
[9 ]{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} .
انتقال من كشف أحوال المنافقين المسوق للحذر منهم والتحذير من صفاتهم. إلى الإقبال على خطاب المؤمنين بينهم عما شانه أن يشغل عن التذكر لما أمر الله ونهى، ثم الأمر بالإنفاق في سبل الخير في سبيل الله ومصالح المسلمين وجماعتهم وإسعاف آحادهم، لئلا يستهويهم قول المنافقين {لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} [المنافقون:7] والمبادرة إلى ذلك قبل إتيان الموت الذي لا يدري وقت حلوله حين تمنى أن يكون قد تأخر أجله ليزيد من العمل الصالح فلا ينفعه التمني وهو تمهيد لقوله بعده {وأَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ} [المنافقون:10]، فالمناسبة لهذا الانتقال هو حكاية مقال المنافقين ولذلك قدم ذكر الأقوال على ذكر الأولاد لأنها أهم بحسب السياق.
ونودي المخاطبون بطريق الموصول لما تؤذن به الصلة من التهمم لامتثال النهي.
وخص الأموال والأولاد بتوجه النهي عن الاشتغال بها اشتغالا يلهي عن ذكر الله لأن الأموال مما يكثر إقبال الناس على إنمائها والتفكير في اكتسابها بحيث تكون أوقات الشغل بها أكثر من أوقات الشغل بالأولاد. ولأنها كما تشغل عن ذكر الله بصرف الوقت في كسبها ونمائها، تشغل عن ذكره أيضا بالتذكير لكنزها بحيث ينسى ذكر ما دعا الله إليه من إنفاقها.
وأما ذكر الأولاد فهو إدماج لأن الاشتغال بالأولاد والشفقة عليهم وتدبير شؤونهم وقضاء الأوقات في التأنس بهم من شأنه أن ينسي عن تذكر أمر الله ونهيه في أوقات كثيرة

فالشغل بهذين أكثر من الشغل بغيرهما.
وصيغ الكلام في قالب توجيه النهي عن الإلهاء عن الذكر، إلى الأموال والأولاد والمراد نهي أصحابها، وهو استعمال معروف وقرينته هنا قوله: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} . وأصله مجاز عقلي مبالغة في نهي أصحابها عن الاشتغال بسببها عن ذكر الله، فنزل سبب الإلهاء منزلة اللاهي للملابسة بينهما وهو كثير في القرآن وغيره كقوله: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ} [االأعراف: 27] وقولهم لا أعرفنك تفعل كذا.
و {لا} في قوله: {وَلا أَوْلادُكُمْ} نافية عاطفة {أولادكم} على {أموالكم} ، والمعطوف عليه مدخول {لا}الناهية لأن النهي يتضمن النفي إذ هو طلب عدم الفعل ف {لا} الناهية أصلها {لا} النافية أشربت معنى النهي عند قصد النهي فجزمت الفعل حملا على مضادة معنى لام الأمر فأكد النهي عن الاشتغال بالأولاد بحرف النفي ليكون للاشتغال بالأولاد حظ مثل حظ الأموال.
و {ذِكْرِ اللَّهِ} مستعمل في معنييه الحقيقي والمجازي. فيشمل الذكر باللسان كالصلاة وتلاوة القرآن، والتذكر بالعقل كالتدبر في صفاته واستحضار امتثاله قال عمر بن الخطاب: أفضل من ذكر الله باللسان ذكر الله عند أمره ونهيه.
وفيه أن الاشتغال بالأموال والأولاد الذي لا يلهي عن ذكر الله ليس بمذموم وله مراتب.
وقوله: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} ، دليل على قول علماء أصول الفقه النهي اقتضاء كف عن فعل.
والإشارة {بذلك} إلى اللهو عن ذكر الله بسبب الأموال والأولاد، أي ومن يله عن ذكر الله، أي يترك ذكر الله الذي أوجبه مثل الصلاة في الوقت ويترك تذكر الله، أي مراعاة أوامره ونواهيه.
ومتى كان اللهو عن ذكر الله بالاشتغال بغير الأموال وغير الأولاد كان أولى بحكم النهي والوعيد عليه.
وأفاد ضمير الفصل في قوله: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} قصر صفة الخاسر على الذين يفعلون الذي نهوا عنه، وهو قصر ادعائي للمبالغة في اتصافهم بالخسران كأن خسران غيرهم لا يعد خسرانا بالنسبة إلى خسرانهم.

والإشارة إليهم ب {أولئك} للتنبيه على أنهم استحقوا ما بعد اسم الإشارة بسبب ما ذكر قبل اسم الإشارة، أعني اللهو عن ذكر الله.
[10] {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} .
هذا إبطال ونقض لكيد المنافقين حين قالوا: {لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} [المنافقون:7]، وهو يعم الإنفاق على الملتفين حول رسول الله صلى الله عليه وسلم والإنفاق على غيرهم فكانت الجملة كالتذييل.
وفعل {أنفقوا} مستعمل في الطلب الشامل للواجب والمستحب فإن مدلول صيغة: افعل، مطلق الطلب، وهو القدر المشترك بين الوجوب والندب.
وفي قوله: {مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ} إشارة إلى أن الإنفاق المأمور به شكر الله على ما رزق المنفق فإن الشكر صرف العبد ما أنعم الله به عليه فيما خلق لأجله، ويعرف ذلك من تلقاء الشريعة.
و {من} للتبعيض، أي بعض ما رزقناكم، وهذه توسعة من الله على عباده، وهذا البعض منه هو معين المقدار مثل مقادير الزكاة وصدقة الفطر. ومنه ما يتعين بسد الخلة الواجب سدها مع طاقة المنفق كنفقات الحج والجهاد والرباط ونفقات العيال الواجبة ونفقات مصالح المسلمين الضرورية والحاجية، ومنه ما يتعين بتعين سببه كالكفارات، ومنه ما وكل للناس تعيينه مما ليس بواجب من الإنفاق ذلك موكول إلى رغبات الناس في نوال الثواب فإن ذلك باب عظيم من القربى من رضى الله تعالى، وفي الحديث "الصدقة تطفئ الخطايا كما يطفئ الماء النار".
وقد ذكر الله المؤمنين بما في الإنفاق من الخير بأن عليهم أن يكثروا منه ما داموا مقتدرين قبل الفوت، أي قبل تعذر الإنفاق والإتيان بالأعمال الصالحة، وذلك حين يحس المرء بحالة تؤذن بقرب الموت ويغلب على قواه فيسأل الله أن يؤخر موته ويشفيه ليأتي بكثير مما فرط فيه من الحسنات طمعا أن يستجاب له فإن كان في أجله تأخير فلعل الله أن يستجيب له فإن لم يكن في الأجل تأخير أو لم يقدر الله له الاستجابة فإنه خير كثير.
و {لولا} حرف تحضيض، والتحضيض الطلب الحثيث المضطر إليه، ويستعمل

{لولا} للعرض أيضا والتوبيخ والتنديم والتمني على المجاز أو الكناية، وتقدم عند قوله تعالى: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ} في سورة يونس[98].
وحق الفعل بعدها أن يكون مضارعا وإنما جاء ماضيا هنا لتأكيد إيقاعه في دعاء الداعي حتى كأنه قد تحقق مثل {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل: 1] وقرينة ذلك ترتيب فعلي {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} عليه.
والمعنى: فيسأل المؤمن ربه سؤالا حثيثا أن يحقق تأخير موته إلى أجل يستدرك فيه ما اشتغل عنه من إنفاق وعمل صالح.
ووصف الأجل ب {قريب} تمهيد لتحصيل الاستجابة بناء على متعارف الناس أن الأمر اليسير أرجى لأن يستجيبه المسؤول فيغلب ذلك على شعورهم حين يسألون الله تنساق بذلك نفوسهم إلى ما عرفوا، ولذلك ورد في الحديث "لا يقولن أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت وليعزم المسألة فإنه لا مكره له" . تنبيها على هذا التوهم فالقرآن حكى عن الناس ما هو الغالب على أقوالهم.
وانتصب فعل {فأصدق} على إضمار "أن" المصدرية إضمارا واجبا في جواب الطلب.
وأما قوله: {وأكن} فقد اختلف فيه القراء.
فأما الجمهور فقرأوه مجزوما بسكون آخره على اعتباره جوابا للطلب مباشرة لعدم وجود فاء السببية فيه، واعتبار الواو عاطفة جملة على جملة وليست عاطفة مفردا على مفرد. وذلك لقصد تضمين الكلام معنى الشرط زيادة على معنى التسبب فيغني الجزم عن فعل شرط. فتقديره: إن تؤخرني إلى أجل قريب أكن من الصالحين، جمعا بين التسبب المفاد بالفاء. والتعليق الشرطي المفاد بجزم الفعل.
وإذا قد كان الفعل الأول هو المؤثر في الفعلين الوقع أحدهما بعد فاء السببية والآخر بعد الواو العاطفة عليه. فقد أفاد الكلام التسبب والتعليق في كلا الفعلين وذلك يرجع إلى محسن الاحتباك. فكأنه قيل: لولا أخرتني إلى أجل قريب فاصدق وأكون من الصالحين. إن تؤخرني إلى أجل قريب أصدق وأكن من الصالحين.
ومن لطائف هذا الاستعمال أن هذا السائل بعد أن حث سؤاله أعقبه بأن الأمر ممكن فقال: إن تؤخرني إلى أجل قريب أصدق وأكن من الصالحين. وهو من بدائع

الاستعمال القرآني لقصد الإيجاز وتوفير المعاني.
ووجه أبو علي الفارسي والزجاج قراءة الجمهور بجعل {وأكن} معطوفا على محل {فأصدق} . وقرأه أبو عمرو وحده من بين العشرة {وأكون} بالنصب والقراءة رواية متواترة وإن كانت مخالفة لرسم المصاحف المتواترة. وقيل: إنها يوافقها رسم مصحف أبي بن كعب ومصحف ابن مسعود.
وقرأ بذلك الحسن والأعمش وابن محيض من القراءات غير المشهورة. ورويت عن مالك بن دينار وابن جيبر وأبي رجاء. تلك أقل شهرة.
واعتذر أبو عمر عن مخالفة قراءته للمصحف بأن الواو حذفت في الخط اختصارا يريد انهم حذفوا صورة إشباع الضمة وهو الواو اعتمادا على نطق القارئ كما تحذف الألف اختصارا بكثرة في المصاحف. وقال القراء العرب: قد تسقط الواو في بعض الهجاء كما أسقطوا الألف من سليمان وأشباهه، أي كما أسقطوا الواو الثانية من داوود وبكثرة يكتبونه داود. قال الفراء: ورأيت في مصاحب عبد الله فقولا نقلا بغير واو، وكل هذا لا حاجة إليه لأن القرآن متلقى بالتواتر لا بهجاء المصاحف وإنما المصاحف معينة على حفظه.
{وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}.
{وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا}.
اعتراض في آخر الكلام فالواو اعتراضية تذكيرا للمؤمنين بالأجل لكل روح عند حلولها في جسدها حين يؤمر الملك الذي ينفخ الروح يكتب أجله وعمله ورزقه وشقي أو سعيد. فالأجل هو المدة المعينة لحياته لا يؤخر عن أمده فإذا حضر الموت كان دعاء المؤمن الله بتأخير أجله من الدعاء الذي استجاب لأن الله قدر الآجال.
وهذا سر عظيم لا يعلم حكمه تحديده إلا الله تعالى.
والنفس: الروح، سميت نفسا أخذا من النفس بفتح الفاء وهو الهواء الذي يخرج من الأنف والفم من كل حيوان ذي رئة، فسميت النفس لأن النفس يتولد منها، كما سمي مرادف النفس روحا لأنه مأخوذ الروح بفتح الراء لأن الروح به. قال أبو بكر بن الأنباري.

و {أجلها} الوقت المحدد لبقائها في الهيكل الإنساني.
ويجوز أن يراد بالنفس الذات، أي شخص الإنسان وهو من معاني النفس. كما في قوله تعالى: { أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] وأجلها الوقت المعين مقداره لبقاء الحياة.
و {لن} لتأكيد نفي التأخير، وعموم {نفسا} في سياق النفي يعم نفوس المؤمنين وغيرهم.
ومجيء الأجل حلول الوقت المحدد للاتصال بين الروح والجسد وهو ما علمه الله من طاقة البدن للبقاء حيا بحسب قواه وسلامته من العوارض المهلكة.
وهذا إرشاد من الله للمؤمنين ليكونوا على استعداد للموت في كل وقت، فلا يؤخروا ما يهمهم عمله سؤال ثوابه فما من أحد يؤخر العمل الذي يسره أن يعمله وينال ثوابه إلا وهو معرض لأن يأتيه الموت عن قريب أو يفاجئه، فعليه بالتحرز الشديد من هذا التفريط في كل وقت وحال، فربما تعذر عليه التدارك بفجأة الفوات، أو وهن المقدرة فإنه إن كان لم تطاوعه نفسه على العمل لصالح قبل الفوات فكيف يتمنى تأخير الأجل المحتوم.
{وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}.
عطف على جملة {لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ} [المنافقون: 9]. أو تذييل والواو اعتراضية.
ويفيد بناء الخبر على الجملة الاسمية تحقيق علم الله بما يعمله المؤمنون. ولما كان المؤمنون لا يخامرهم شك في ذلك كان التحقيق والتقوي راجعا إلى لازم الخبر وهو الوعد والوعيد والمقام هنا مقامهما لأن الإنفاق المأمور به منه الواجب المندوب. وفعلهما يستحق الوعد. وترك أولهما يستحق الوعيد.
وإيثار وصف {خبير} دون: عليم، لما تؤذن به مادة {خبير} من العلم بالأمور الخفية ليفيد أنه تعالى عليم بما ظهر من الأعمال وما بطن مثل أعمال القلب التي هي العزائم والنيات، وإيقاع هذه الجملة بعد ذكر ما يقطعه الموت من ازدياد الأعمال الصالحة إيماء إلى أن ما عسى أن يقطعه الموت من العزم على العمل إذا كان وقته المعين له شرعا ممتدا كالعمر للحج على المستطيع لمن لم يتوقع طرو مانع. وكالوقت المختار للصلوات، أن حيلولة الموت دون إتمامه لا يرزئ المؤمن ثوابه لأن المؤمن إذا اعتاد حزبا أو عزم على عمل صالح ثم عرض له ما منعه منه أن الله يعطيه أجره.

ومن هذا القبيل: أن من هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة كما في الحديث الصحيح.
وقرأ الجمهور {بِمَا تَعْمَلُونَ} بالمثناة الفوقية. وقرأه أبو بكر عن عاصم بالمثناة التحتية فيكون ضمير الغيبة عائدا إلى {نفسا} الواقع في سياق النفي لأنه عام فله حكم الجمع في المعنى.

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة التغابنسميت هذه السورة سورة التغابن ولا تعرف بغير هذا الاسم ولم ترد تسميتها بذلك في خبر مأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى ما ذكره ابن عطية عن الثعلبي عن ابن عمر من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مولود إلا وفي تشابيك مكتوب خمس آيات فاتحة سورة التغابن". والظاهر أن منتهى هذه الآيات قوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [التغابن: 4] فتأمله. ورواه القرطبي عن ابن عمر ولم ينسبه إلى التعليق فلعله أخذه من تفسير ابن عطية.
ووجه التسمية وقوع لفظ {التَّغَابُنِ} [التغابن: 9] فيها ولم يقع في غيرها من القرآن.
وهي مدنية في قول الجمهور وعن الضحاك هي مكية. وروى الترمذي عن عكرمة عن ابن عباس أن تلك الآيات نزلت في رجال أسلموا من أهل مكة وأرادوا الهجرة فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث. وقال مجاهد: نزلت في شأن عوف الأشجعي كما سيأتي.
وهي معدودة السابعة والمائة في ترتيب نزول السور نزلت بعد سورة الجمعة وقبل سورة الصف بناء على أنها مدنية.
وعدد آيها ثمان عشرة.
أغراضها
واشتملت هذه السورة على التذكير بأن من في السماء ومن في الأرض يسبحون لله، أي تنزهونه عن النقائض تسبيحا متجددا.
وأن الملك لله وحده فهو الحقيق بأفراده بالحمد لأنه خالق الناس كلهم فآمن

بوحدانيته ناس وكفر ناس ولم يشكروا نعمة إذ خلقهم في أحسن صورة وتحذيرهم من إنكار رسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
وإنذارهم على ذلك ليعتبروا بما حل بالأمم الذين كذبوا رسلهم وجحدوا بيناتهم تكبرا أن يهتدوا بإرشاد بشر مثلهم.
والإعلام بأن الله عليم بالظاهر والخفي في السماوات والأرض فلا يجري أمر في العالم إلا على ما اقتضته حكمته.
وأنحى عليهم إنكار البعث وبين لهم عدم استحالته وهددهم بأنهم يلقون حين يبعثون جزاء أعمالهم فإن أرادوا النجاة فليؤمنوا بالله وحده وليصدقوا رسوله صلى الله عليه وسلم والكتاب الذي جاء به ويؤمنوا بالبعث فإنهم إن آمنوا كفرت عنهم سيئاتهم وإلا فجزاؤهم النار خالدين فيها.
ثم تثبيت المؤمنين على ما يلاقونه من ضر أهل الكفر بهم فليتوكلوا على الله في أمورهم.
وتحذير المؤمنين من بعض قرابتهم الذين تغلغل الإشراك في نفوسهم تحذيرا من أن يثبطوهم عن الإيمان والهجرة.
وعرض لهم بالصبر على أموالهم التي صادرها المشركون.
وأمرهم بإنفاق المال في وجوه الخير التي يرضون بها ربهم وبتقوى الله والسمع له والطاعة.
[1] {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير}.
لما كان جل ما اشتملت عليه هذه السورة إبطال إشراك المشركين وزجرهم عن دين الإشراك بأسره وعن تفاريعه التي أعظمها إنكارهم البعث وتكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم وتكذيب القرآن وتلك أصول ضلالهم ابتدئت السورة بالإعلان بضلالهم وكفرانهم المنعم عليهم، فإن ما في السماوات والأرض يسبح لله تعالى عن النقائص: إما بلسان المقال مثل الملائكة والمؤمنين أو بلسان الحال مثل عبادة المطيعين من المخلوقات المدركة كالملائكة والمؤمنين، وإما بلسان الحال مثل دلالة حال الاحتياج إلى الإيجاد والإمداد كحاجة

الحيوان إلى الرزق وحاجة الشجرة إلى المطر وما يشهد به حال جميع تلك الكائنات من أنها مربوبة لله تعالى ومسخرة لما أراده منها، وكل تلك المخلوقات لم تنقض دلالة حالها بنفائض كفر مقالها فلم يخرج عن هذا التسبيح إلا أهل الضلال من الإنس والشياطين فإنهم حجبوا بشهادة حالهم لما غشوها به من صرح الكفر.
فالمعنى: يسبح لله ما في السماوات والأرض وأنتم بخلاف ذلك.
وهذا يفيد ابتداء تقرير تنزيه الله تعالى وقوة سلطانه ليزداد الذين آمنوا إيمانا ويكون لهم تعليما وامتنانا ويفيد ثانيا بطريق الكناية تعريضا بالمشركين الذين لم ينزهوه ولا وقروه فنسبوا إليه شركاء.
وجيء بفعل التسبيح مضارعا للدلالة على تجدد ذلك التسبيح ودوامه وقد سبق نظيره في فاتحة سورة الجمعة.
وجيء به في فواتح سور: الحديد، والحشر، والصف بصيغة الماضي للدلالة على أن التسبيح قد استقر في قديم الأزمان. فحصل من هذا التفنن في وفاتح هذه السور كلا المعنيين زيادة على ما بيناه من المناسبة الخاصة بسورة الجمعة، وما في هاته السورة من المناسبة بين تجدد التسبيح والأمر بالعفو عن ذوي القربى والأمر بالتقوى بقدر الاستطاعة والسمع والطاعة لكي لا يكتفي المؤمنون بحصول إيمانهم ليجتهدوا في تعزيزه بالأعمال الصالحة.
وإعادة {ما} الموصولة في قوله: {وَمَا فِي الْأَرْضِ} لقصد التوكيد اللفظي.
وجملة {لَهُ الْمُلْكُ} استئناف واقع موقع التعليل والتسبب لمضمون تسبيح لله ما في السماوات وما في الأرض فإن ملابسة جميع الموجودات لدلائل تنزيه الله تعالى عن الشركاء وعن النقائض لا مقتضى لها إلا انفراده بتملكها وإيجادها وما فيها من الاحتياج إليه وتصرفه فيها تصرف المالك المتفرد في ملكه.
وفي هذه الجملة تنويه بإقبال أهل السماوات والأرض على تسبيح الله وتجديد ذلك التسبيح.
فتقديم المسند على المسند إليه لإفادة تخصيصه بالمسند إليه، أي قصر تعلق لام الاستحقاق بالملك عليه تعالى فلا ملك لغيره وهو قصر ادعائي مبني على عدم الاعتداد بما لغير الله من ملك لنقصه وعدم خلوه عن الحاجة إلى غيره من هو له بخلاف ملكه

تعالى فهو الملك المطلق الداخل في سلطانه كل ذي ملك.
وجملة {وَلَهُ الْحَمْدُ} مضمونها سبب لتسبيح الله ما في السماوات وما في الأرض، إذ التسبيح من الحمد، فلا جرم أن كان حمد ذوي الإدراك مختصا به تعالى إذ هو الموصوف بالجميل الاختياري المطلق فهو الحقيق بالحمد والتسبيح.
فهذا القصر ادعائي لعدم الاعتداد بحمد غيره لنقصان كمالاتهم وإذا أريد بالحمد ما يشمل الشكر أو يفضي إليه كما في الحديث "الحمد رأس الشكر لم يشكر الله عبد لم يحمده" وهو مقتضى المقام من تسفيه أحلام المشركين في عبادتهم غيره فالشكر أيضا مقصور عليه تعالى لأنه المنعم الحق بنعم لا قبل لغيره بإسدائها، وهو المفيض على المنعمين ما ينعمون به في الظاهر، قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53] كما تقدم في تفسير أول سورة الفاتحة.
وجملة {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} معطوفة على اللتين قبلها وهي بمنزلة التذييل لهما والتبيين لوجه القصرين فيهما، فإن التقدير على كل شيء هو صاحب الملك الحق وهو المختص بالحمد الحق.
وفي هذا التذييل وعد للشاكرين ووعيد وترهيب للمشركين.
والاقتصار على ذكر وصف {قدير} هنا لأن المخلوقات التي تسبح الله دالة على صفة القدرة أولا لأن من يشاهد المخلوقات يعلم أن خالقها قادر.
[2] {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} .
هذا تقرير لما أفاده قوله: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [التغابن: 1]، وتخلص للمقصود منه على وجه التصريح بأن الذين أشركوا بالله قد كفروا بنعمته وبخلقهم زيادة على جحدهم دلائل تنزهه تعالى عن النقص الذي اعتقدوه له. ولذلك قدم {فَمِنْكُمْ كَافِرٌ} على {وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} لأن الشق الأول هو المقصود بهذا الكلام تعريضا وتصريحا.
وأفاد تعريف الجزأين من جملة {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ} قصر صفة الخالقية على الله تعالى، وهو قصر حقيقي قصد به الإشارة بالكناية بالرد على المشركين إذ عمدوا إلى عبادة أصنام يعلمون أنها لم تخلقهم فما كانت مستحقة لأن تعبد، لأن العبادة شكر. قال تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} {النحل:17].

والخطاب في قوله: {خلقكم} لجميع الناس الذين يدعوهم القرآن بقرينة قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} ، فإن الناس لا يعدون هذين القسمين.
والفاء في {َمِنْكُمْ كَافِرٌ} عاطفة على جملة {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ} وليست عاطفة على فعل {خلقكم} وهي للتفريع في الوقوع دون تسبب.
ونظيره قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:26] ومثل هذا التفريع يستتبع التعجيب من جري أحوال بعض الناس على غير ما يقتضيه الطبع {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة:82] فجملة {فَمِنْكُمْ كَافِرٌ} هي المقصود من التفريع، وهو تفريع في الحصول. وقدم ذكر الكافر لأنه الأهم في هذا المقام كما يشير إليه قوله تعالى: في {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} [التغابن:5].
وجملة {وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} تتميم وتنويه بشأن أهل الإيمان ومضادة حالهم لحال أهل الكفر ومقابلة الحال بالحال.
وقوله: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} تتميم واحتراس واستطراد، فهو تتميم لما يكمل المقصود من تقسيمهم إلى فريقين لإبداء الفرق بين الفريقين في الخير والشر وهو عليم بذلك وعليم بأنه يقع وليس الله مغلوبا على وقوعه ولكن حكمته وعلمه اقتضيا ذلك. ودون تفصيل هذا تطويل نخصه بتأليف في معنى القدر وجريان أعمال الناس في الدنيا إن شاء الله. وتقتصر هنا على أن نقول: خلق الله الناس وأودع فيهم العقول التي تتوصل بالنظر السليم من التقصير وشوائب الهوى وغشاوات العناد إلى معرفة الله على الوصف اللائق به وخلق فيهم القدرة على الأعمال الصالحة وغيرها المسماة عند الأشعري بالكسب وعند المعتزلة بقدرة العبد والخلاف في التعبير. وأرشدهم إلى الصلاح وحذرهم من الفساد، والله عالم بما يكتسبه كل أحد ولو شاء لصرف مقترف الفساد عن فعله ولكنه أوجد نظما مرتبطا بعضها ببعض ومنتشرة فقضت حكمته بالحفاظ على تلك النظم الكثيرة بأن لا يعوق سيرها في طرائقها ولا يعطل عملها لأجل إصلاح أشخاص هم جزء من كل لأن النظم العامة أعم فالحفاظ على اطرادها أصلح وأرجح، فلا تتنازل إرادة الله وقدرته إلى التدخل فيما سمي بالكسب على أصولنا أو بالقدوة الحادثة على أصول المعتزلة، بل جعل بحكمته بين الخلق والكسب حاجزا هو نظام تكوين الإنسان بما فيه من إرادة وإدراك وقدرة، وقد أشار إلى هذا قوله: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي هو بصير به من قبل أن تعملوه، وبعد أن عملتموه.

فبصير:أريد به العلم علم انكشاف لا يقبل الخفاء فهو كعلم المشاهدة وهذا إطلاق شانع في القرآن لاسيما إذا أفردت صفة {بصير} بالذكر ولم تذكر معها صفة "سميع".
واصطلح بعض المتكلمين على أن صفة البصيرة: العالم بالمرئيات. وقال بعضهم: هي تعلق العلم الإلهي بالأمور عند وقوعها. والحق أنها استعمالات مختلفة. وبهذا يتضح وجه الجمع بين ما يبدو من تعارض بين آيات القرآن وإخبار من السنة فاجعلوه مثالا يحتذى، وقولوا هكذا. هكذا.
وهو احتراس من أن يتوهم من تقسيمهم إلى فريقين أن ذلك رضى بالحالين كما حكي عن المشركين {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف:20].
وهو استطراد بطريق الكناية به عن الوعد والوعيد.
وشمل قوله: {بِمَا تَعْمَلُونَ} أعمال القلوب كالإيمان وهي المقصود ابتداء هنا.
[3] {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ}
استئناف بياني ناشئ عن قوله: {َمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن: 2] يبين أن انقسامهم إلى قسمي الكافرين والمؤمنين نشأ عن حياد فريق من الناس عن الحق الذي أقيم عليه خلق السماوات والأرض لأن الحق أن يؤمن الناس بوجود خالقهم، وبأنه واحد وأن يفردوه بالعبادة فذلك الذي أراده الله من خلقهم، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذار يا ت:56] وقال: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30] فمن حاد عن الإيمان ومال إلى الكفر فقد حاد عن الحق والفطرة.
{بالحق}
وقوله: {بالحق} معترض بين جملة {خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وجملة {وصوركم} .
وفي قوله: {بالحق} إيماء إلى إثبات البعث والجزاء لأن قوله بالحق متعلق بفعل {خلق} تعلق الملابسة المفاد بالباء، أي خلقا ملابسا للحق، والحق ضد الباطل، ألا

ترى إلى قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} إلى قوله: {ِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً} [آل عمران:190، 191]. والباطل ما صدقه هنالك هو العبث لقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الدخان:38، 39] فتعين أن ما صدق الحق في قوله: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} أنه ضد العبث والإهمال.
والمراد بـ {خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} خلق ذواتهن وخلق ما فيهن من المخلوقات كما أنبأ عنه قوله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} ، أي ما خلقناهما وما بينهما إلا بالحق، فكذلك يكون التقدير في الآية من هذه السورة.
وملابسة الحق لخلق السماوات والأرض يلزم أن تكون ملابسة عامة مطردة لأنه لو اختلت ملابسة حال من أحوال مخلوقات السماوات للحق لكان ناقضا لمعنى ملابسة خلقها للحق، فكان نفي البعث للجزاء لى أعمال المخلوقات موجبا اختلال تلك الملابسة في بعض الأحوال. وتخلف الجزاء عن الأعمال في الدنيا مشاهد إذ كثيرا ما نرى الصالحين في كرب ونرى أهل الفساد في نعمة، فلو كانت هذه الحياة الدنيا قصارى حياة المكلفين لكان كثير من أهل الصلاح غير لاق جزاء على صلاحه. وانقلب أكثر أهل الفساد متمتعا بإرضاء خباثة نفسه ونوال مشتهياته، فكان خلق كلا هذين الفريقين غير ملابس للحق، بالمعنى المراد.
ولزيادة الإيقاظ لهذا الإيماء عطف عليه قوله: {وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} وكل ذلك توطئة إلى ما سبقه من قوله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} [التغابن: 7] الآية.
وفي قوله: {بالحق} رمز إلى الجزاء وهو وعيد ووعد.
وفي قوله: {خَلْقِ السَّمَاوَاتِ} إلى آخره إظهار أيضا لعظمة الله في ملكوته.
{وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُم} .
إدماج امتنان على الناس بأنهم مع ما خلقوا عليه من ملابسة الحق على وجه الإجمال وذلك من الكمال وهو ما اقتضته الحكمة الإلهية فقد خلقوا في أحسن تقويم إذ كانت صورة الإنسان مستوفية الحسن متماثلة فيه لا يعتورها من فظاعة بعض أجزائها ونقصان الانتفاع بها ما يناكد محاسن سائرها بخلاف محاسن أحاسن الحيوان من الدواب والطير والحيتان من مشي على أربع مع انتكاس الرأس غالبا، أو زحف، أو نقز في

المشي في البعض.
ولا تعتور الإنسان نقائص في صورته إلا من عوارض تعرض في مدة تكوينه من صدمات لبطون الأمهات، أو علل تحل بهن، أو بالأجنة أو من عوارض تعرض له في مدة حياته فتشوه بعض محاسن الصور. فلا يعد ذلك من أصل تصوير الإنسان على أن ذلك مع ندرته لا يعد فظاعة ولكنه نقص نسبي في المحاسن فقد جمع بين الإيماء إلى ما اقتضته الحكمة قد نبههم إلى ما اقتضاه الإنعام. وفيه إشارة إلى دليل إمكان البعث كما قال: {فأَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ} قّ: 15]، وقال {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} [يّس: 81].
{وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} عطف على جملة {وصوركم} لأن التصوير يقتضي الإيجاد فأعقب بالتذكير بأن بعد هذا الإيجاد فناء ثم بعثا للجزاء.
والمصير مصدر ميمي لفعل صار بمعنى رجع وانتهى، ولذلك يعدى بحرف الانتهاء، أي ومرجعكم إليه يعني بعد الموت وهو مصير الحشر للجزاء.
وتقديم {إليه} على {المصير} للرعاية على الفاصلة مع إفادة الاهتمام بتعلق ذلك المصير بتصرف الله المحض. وليس مرادا بالتقديم قصر لأن المشركين لا يصدقون بهذا المصير من أصله بله أن يدعوا أنه مصير إلى غيره حتى يرد عليهم بالقصر.
وهذه الجملة أشد ارتباطا بجملة {خلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} منها بجملة {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} كما يظهر بالتأمل.
[4] {يعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}
كانوا ينفون الحشر بعلة أنه إذا تفرقت أجزاء الجسد لا يمكن جمعها ولا يحاط بها .{وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [السجدة:10] فكان قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} دحضا لشبهتهم، أي أن الذي يعلم ما في السماوات والأرض لا يعجزه تفرق أجزاء البدن إذا أراد جمعها. والذي يعلم السر في نفس الإنسان، والسر أدق وأخفى من ذرات الأجساد المتفرقة، لا تخفى

عليه مواقع تلك الأجزاء الدقيقة ولذلك قال تعالى: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} [القيامة:3، 4].
فالمقصود هو قوله: {وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ} كما يقتضيه الاقتصار عليه في تذييله بقوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} ولم يذكر أنه عليم بأعمال الجوارح، ولأن الخطاب للمشركين في مكة على الراجح. وذلك قبل ظهور المنافقين فلم يكن قوله: و {يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} تهديد على ما يبطنه الناس من الكفر.
وأما عطف {وَمَا تُعْلِنُونَ} فتتميم للتذكير بعموم تعلق علمه تعالى بالأعمال.
وقد تضمن قوله: {وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} وعيدا ووعدا ناظرين إلى قوله: {فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن: 2] فكانت الجملة لذلك شديدة الاتصال بجملة {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن: 2].
وإعادة فعل {يعلم} للتنبيه على العناية بهذا التعلق الخاص للعلم الإلهي بعد ذكر تعلقه العام في قوله: {يعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} تنبيها على الوعيد والوعد بوجه خاص.
وجملة {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} تذييل لجملة {وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ} لأنه يعلم ما سيره جميع الناس من المخاطبين وغيرهم.
و {ذَاتِ الصُّدُورِ} صفة لموصوف محذوف نزلت منزلة موصوفها، أي صاحبات الصدور، أي المكتومة فيها.
والتقدير: بالنوايا والخواطر ذات الصدور كقوله {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ} [القمر: 13] وتقدم بيانه عند قوله تعالى: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} في سورة الأنفال[43].
[5] {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
انتقال من التعريض الرمزي بالوعيد الأخروي في قوله: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [التغابن:2]، إلى قوله: {وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [التغابن: 3]، وقوله: {وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} [التغابن: 4]، إلى تعريض أوضح منه بطريق الإيماء إلى وعيد لعذاب دنيوي وأخروي معا فأن ما يسمى في باب الكناية بالإيمان أقل لازم من العريض والرمز فهو أقرب إلى التصريح. وهذا الإيماء بضرب المثل بحال أمم تلقوا رسلهم بمثل ما تلقى به المشركون محمد صلى الله عليه وسلم

تحذيرا لهم من أن يحل بهم مثل ما حل بأولئك، فالجملة ابتدائية لأنها عد لصنف ثان من أصناف كفرهم وهو إنكار الرسالة.
فالخطاب لخصوص الفريق الكافر بقرينة قوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} فهذا الخطاب موجه للمشركين الذين حالهم كحال من لم يبلغهم نبأ الذين كفروا مثل كفرهم، مثل عاد وثمود ومدين وقوم إبراهيم.
والاستفهام تقريري، والتقريري يؤتى معه بالجملة منفية توسعة على المقرر إن كان يريد الإنكار حتى إذا أقر لم يستطع بعد إقراره إنكارا لأنه قد أعذر له من قبل بتلقينه النفي وقد تقدم غير مرة.
وحذف ما أضيف إليه {قبل} ونوي معناه، والتقدير: من قبلكم، أي في الكفر بقرينة قوله: {فَمِنْكُمْ كَافِرٌ} [التغابن: 2]. والكافرون يعلمون أنهم المقصود لأنهم مقدمون
على الكفر ومستمرون عليه.
والوبال: السوء وما يكره.
والأمر: الشأن والحال.
والذوق مجاز في مطلق الإحساس والوجدان، شبه ما حل بهم من العذاب بشيء ذي طعم كريه يذوقه من حل به ويبتلعه لأن الذوق باللسان أشد من اللمس باليد أو الجلد. والمعنى: أحسوا العذاب في الدنيا إحساسا مكنيا.
وقوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} مراد به عذاب الآخرة لأن العطف يقتضي المغايرة.
[6] {ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} .
ارتقاء في التعريض إلى ضرب منه قريب من الصريح. وهو المسمى في الكناية بالإشارة. كانت مقالة الذين من قبل مماثلة لمقالة المخاطبين فإذا كانت هي سبب ما ذاقوه من الوبال فيوشك أن يذوق مماثلوهم في المقالة مثل ذلك الوبال.
فاسم الإشارة عائد إلى المذكور من الوبال والعذاب الأليم.

فهذا عد لكفر آخر من وجوه كفرهم وهو تكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم وتكذيبهم بالقرآن فإن القرآن بينة من البينات لأنه معجزة.
والباء للسببية في موقع العلة. والضمير الشأن لقصد تهويل ما يفسر الضمير، وهو جملة {كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} إلى آخرها.
والاستفهام في {أبشر} استفهام إنكار وإبطال فهم أحالوا أن يكون بشر مثلهم يهدون بشرا أمثالهم، وهذا من جهلهم بمراتب النفوس البشرية ومن يصطفيه الله منها، ويخلقه مضطلعا بتبليغ رسالته إلى عباده. كما قال: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان: 7] وجهلوا أنه لا يصلح لإرشاد الناس إلا من هو من نوعهم قال تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً} [الإسراء:95] ولما أحالوا أن يكون البشر أهلا لهداية بشر مثله جعلوا ذلك كافيا في إعراضهم من قبول القرآن والتدبر فيه.
والبشر: اسم جنس للإنسان يصدق على الواحد كما في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف: 110] ويقال على الجمع كما هنا. وتقدم في قوله: {وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً} في سورة يوسف [31]وفي سورة مريم [17]عند قوله: {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً} .
وتنكير {بشر} للنوعية لأن محط الإنكار على كونهم يهدونهم، وهو نوع البشرية.
وتقديم المسند إليه على الخبر لقصد تقوى الإنكار، وما قالوا ذلك حتى اعتقدوه فلذلك أقدموا على الكفر برسلهم إذ قد اعتقدوا استحالة إرسال الله إياهم فجزموا بكذبهم في دعوى الرسالة فلذلك فرع عليه {فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا} .
والتولي أصله: الانصراف عن المكان الذي أنت فيه، وهو هنا مستعار للإعراض عن قبول دعوة رسلهم، وتقدم عند قوله تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} في سورة البقرة[64].
{واستغنى} غني فالسين والتاء للمبالغة كقوله: {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى} [عبس:5]. والمعنى: غني الله عن إيمانهم قال تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ} [الزمر: 7].
والواو واو الحال، أي والحال أن الله غني عنهم من زمن مضى فإن غني الله عن إيمانهم مقرر في الأزل.

ويجوز أن يراد: واستغنى الله عن إعادة دعوتهم لأن فيما أظهر لهم من البينات على أيدي رسلهم ما هو كاف لحصول التصديق بدعوة رسلهم لولا المكابرة فلذلك عجل لهم العذاب.
وعلى الوجهين متعلق {استغنى} محذوف دل عليه قوله: {فكفروا} . وقوله: {بالبينات} والتقدير: واستغنى الله عن إيمانهم.
وجملة {وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} تذييل، أي غني عن كل شيء فيما طلب منهم، حميد لمن امتثل وشكر.
[7] {ز َعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} . هذا ضرب ثالث من ضروب كفر المشركين المخاطبين بقوله: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ} [التغابن:5] الخ، وهو كفرهم بإنكارهم البعث والجزاء.
والجملة ابتدائية. وهذا الكلام موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بقرينة قوله: {قُلْ بَلَى} . وليس هذا من الإظهار في مقام الإضمار ولا من الالتفات بل هو ابتداء غرض مخاطب به غير من كان الخطاب جاريا معهم.
وتتضمن الجملة تصريحا بإثبات البعث وذلك الذي أوتي إليه فيما مضى يفيد بالحق في قوله: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} [التغابن: 3] وبقوله: {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [التغابن: 4 ] كما علمته آنفا.
والزعم: القول الموسوم بمخالفة الواقع خطأ فمنه الكذب الذي لم يتعمد قائله أن يخالف الواقع في ظن سامعه. ويطلق على الخبر المستغرب المشكوك في وقوع ما أخبر به، وعن شريح: لكل شيء كنية وكنية الكذب زعموا أراد بالكنية الكناية. فبين الزعم والكذب عموم وخصوص وجهي.
وفي الحديث "بئس مطية الرجل إلى الكذب زعموا" 1، أي قول الرجل زعموا كذا. وروي أهل الأدب أن الأعشى لما أنشد قيس بن معد يكرب: الكندي قوله في مدحه:
ـــــــ
رواه أبو داود عن حذيفة بن اليمان بسند فيه انقطاع.

ونبئت قيسا ولم أبله ... كما زعموا خير أهل اليمن
غضب قيس وقال له: "وما هو إلا الزعم".
ولأجل ما يصاحب الزعم من توهم قائله صدق ما قاله الحق فعل زعم بأفعال الظن فنصب مفعولين. وليس كثيرا في كلامهم، ومنه قول أبي ذؤيب:
فإن تزعميني كنت أجهل فيكم ... فإني شريت الحلم بعدك بالجهل
ومن شواهد النحو قول أبي أمية أوس الحنفي:
زعمتني شيخا ولست بشيخ ... إنما الشيخ من يدب دبيبا
والأكثر "أن" يقع بعد فعل الزعم أن المفتوحة المشددة أو المخففة مثل التي في هذه الآية فيسد المصدر المنسبك مسد المفعولين. والتقدير: زعم الذين كفروا انتفاء بعثهم.
وتقدم الكلام على فعل الزعم في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [النساء: 60] الآية في سورة النساء[60]، وقوله: {ثَّم نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} في سورة الأنعام[22] وما ذكرته هنا أوفى.
والمراد بـ {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} هنا المشركون من أهل مكة ومن على دينهم.
واجتلاب حرف {لن} لتأكيد النفي فكانوا موقنين بانتفاء البعث.
ولذلك جيء إبطال زعمهم مؤكدا بالقسم لينقض نفيهم بأشد منه، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يبلغهم عن الله أن البعث واقع وخاطبهم بذلك تسجيلا عليهم أن لا يقولوا ما بلغناه ذلك.
وجملة {قلْ بَلَى} معترضة بين جملة {زعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا} وجملة {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التغابن: 8].
وحرف {بلى} حرف جواب للإبطال خاص بجواب الكلام المنفي لإبطاله.
وجملة {ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ} ارتقاء في الإبطال.
{ثم} للتراخي الرتبي فإن إنباءهم بما عملوا أهم من إثبات البعث إذ هو العلة للبعث.
والإنباء: الإخبار، وإنباؤهم بما عملوا كناية عن محاسبتهم عليه وجزائهم عما

عملوه، فإن الجزاء يستلزم علم المجازي بعمله الذي جوزي عليه فكان حصول الجزاء بمنزلة إخباره بما عمله كقوله تعالى: {إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا} [لقمان: 23].
وهذا وعيد وتهديد بجزاء سيء لأن المقام دليل على أن عملهم سيء وهو تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم وإنكار ما دعاهم إليه.
وجملة {وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} تذييل، والواو اعتراضية.
واسم الإشارة: إما عائد إلى البعث المفهوم من {لتبعثن} مثل قوله: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] أي العدل أقرب للتقوى، وإما عائد إلى معنى المذكور من مجموع {لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ} .
وأخبر عنه ب {يسير} دون أن يقال: واقع كما قال: {وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} [الذاريات:6]، لأن الكلام لرد إحالتهم البعث بعلة أن أجزاء الجسد تفرقت فيتعذر جمعها فذكروا بأن العسير في متعارف الناس لا يعسر على الله وقد قال في الآية الأخرى {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27]
[8 ] {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} .
من جملة المأمور رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يقوله.
والفاء فصيحة تفصح عن شرط مقدر، والتقدير: فإذا علمتم هذه الحجج وتذكرتم ما حل بنظرائكم من العقاب وما ستنبؤون به من أعمالكم فآمنوا بالله ورسوله والقرآن، أي بنصه.
والمراد بالنور الذي أنزل الله القرآن، وصف بأنه نور على نور على طريقة الاستعارة لأنه أشبه النور في إيضاح المطلوب باستقامة حجته وبلاغه قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً} [النساء:174]. وأشبه النور في الإرشاد إلى السلوك القويم وفي هذا الشبه الثاني تشاركه الكتب السماوية، قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ} [المائدة:44]، وقرينة الاستعارة قوله: {الَّذِي أَنْزَلْنَا} ، لأنه من مناسبات المشبه لاشتهار القرآن بين الناس كلهم بالألقاب المشتقة من الإنزال والتنزيل عرف ذلك المسلمون والمعاندون. وهو إنزال مجازي أريد به تبليغ مراد الله إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} في سورة البقرة[4] وفي آيات كثيرة.

وإنما جعل الإيمان بصدق القرآن داخلا في حيز فاء التفريع لأن ما قبل الفاء تضمن أنهم كذبوا بالقرآن من قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} [التغابن:6] كما قال المشركون من أهل مكة والإيمان بالقرآن يشمل الإيمان بالبعث فكان قوله تعالى: {وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا} شاملا لما سبق الفاء من قوله: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} [التغابن: 7] الخ.
وفي قوله: {الَّذِي أَنْزَلْنَا} التفات من الغيبة إلى المتكلم لزيادة الترغيب في الإيمان بالقرآن تذكيرا بأنه منزل من الله لأن ضمير التكلم أشد دلالة على معاده من ضمير الغائب، ولتقوية داعي المأمور.
وجملة {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} تذييل لجملة {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} يقتضي وعدا إن آمنوا ووعيدا إن لم يؤمنوا.
وفي ذكر اسم الجلالة إظهار في مقام الإضمار لتكون الجملة مستقلة جارية مجرى المثل والكلم الجوامع، ولأن الاسم الظاهر أقوى دلالة من الضمير لاستغنائه عن تطلب المعاد.وفيه من تربية المهابة ما في قول الخليفة أمير المؤمنين يأمركم بكذا.
والخبير: العليم، وجيء هنا بصفة {الخبير} دون: البصير، لأن ما يعلمونه منه محسوسات ومنه غير محسوسات كالمعتقدات، ومنها الإيمان بالبعث، فعلق بالوصف الدال على تعلق العلم الإلهي بالموجودات كلها، بخلاف قوله فيما تقدم و {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [التغابن:2] فإن لكفر الكافرين وإيمان المؤمنين آثارا ظاهرة محسوسة فعلقت بالوصف الدال على تعلق العلم الإلهي بالمحسوسات.
[9، 10] {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}.
{يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ} .
متعلق بفعل {ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ} [التغابن:7] الذي هو كناية عن {تجازون} على

تكذيبكم بالبعث فيكون من تمام ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقوله لهم ابتداء من قوله تعالى: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن: 7].
والضمير المستتر في {يجمعكم} عائد إلى اسم الجلالة في قوله: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [التغابن: 8].
ومعنى {يجمعكم} يجمع المخاطبين والأمم من الناس كلهم، قال تعالى: {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ} [المرسلات:38].
ويجوز أن يراد الجمع الذي في قوله تعالى: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} [القيامة:3]، وهذا زيادة تحقيق للبعث الذي أنكروه.
واللام في {لِيَوْمِ الْجَمْعِ} يجوز أن يكون للتعليل، أي يجمعكم لأجل اليوم المعروف بالجمع المخصوص. وهو الذي لأجل جمع الناس، أي يبعثكم لأجل أن يجمع الناس كلهم للحساب، فمعنى {الجمع} هذا غير معنى الذي في {يجمعكم}. فليس هذا من تعليل الشيء بنفسه بل هو من قبيل التجنيس.
ويجوز أن يكون اللام بمعنى {في} على نحو ما قيل في قوله تعالى: {لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} [االأعراف:178]، وقوله: {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر:24] وقول العرب: مضى لسبيله، أي في طريقه وهو طريق الموت.
والأحسن عندي أن يكون اللام للتوقيت، وهي التي بمعنى "عند" كالتي في قولهم: كتب لكذا مضين مثلا، وقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الاسراء:78]. وهو استعمال يدل على شدة الاقتراب ولذلك فسروه بمعنى "عند"، ويفيد هنا: أنهم مجموعون في الأجل المعين دون تأخير ردا على قولهم: {أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} [التغابن:7]، فيتعلق قوله: {لِيَوْمِ الْجَمْعِ} بفعل {يجمعكم} .
ف"يوم الجمع" هو يوم الحشر. وفي الحديث "يجمع الله الأولين والآخرين" الخ. جعل المركب الإضافي لقبا ليوم الحشر، قال تعالى: {وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} ]الشورى:7].
وقرأ الجمهور {يجمعكم} بياء الغائب. وقرأ يعقوب بنون العظمة.
{ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} .

اعتراض بين جملة {ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ} [التغابن: 7] بمتعلقها وبين جملة {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ} اعتراضا يفيد تهويل هذا اليوم تعريضا بوعيد المشركين بالخسارة في ذلك اليوم: أي بسوء المنقلب.
والإتيان باسم الإشارة في مقام الضمير لقصد الاهتمام بتمييزه أكمل تمييز مع ما يفيد اسم إشارة البعيد من علو المرتبة على نحو ما تقدم في قوله: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} في سورة البقرة[2].
و{التغابن}: مصدر غابنة من باب المفاعلة الدالة على حصول الفعل من جانبين أو أكثر.
وحقيقة صيغة المفاعلة أن تدل على حصول الفعل الواحد من فاعلين فاكثر على وجه المشاركة في ذلك الفعل.
والغبن أن يعطى البائع ثمنا دون حق قيمته التي يعوض بها مثله.
فالغبن يؤول إلى خسارة البائع في بيعه، فلذلك يطلق الغبن على مطلق الخسران مجازا مرسلا كما في قول الأعشى:
لا يقبل الرشوة في حكمه
ولا يبالي غبن الخاسر
فليست مادة التغابن في قوله: {يوْمُ التَّغَابُنِ} مستعملة في حقيقتها إذ لا تعارض حتى يكون فيه غبن بل هو مستعمل في معنى الخسران على وجه المجاز المرسل.
وأما صيغة التفاعل فحملها جمهور المفسرين على حقيقتها من حصول الفعل من جانبين ففسروها أهل الجنة غبنوا أهل النار إذ أهل الجنة أخذوا الجنة وأهل جهنم أخذوا جهنم قاله مجاهد وقتادة والحسن. فحمل القرطبي وغيره كلام هؤلاء الأيمة على أن التغابن تمثيل لحال الفريقين بحال متبايعين أخذ أحدهما الثمن الوافي، وأخذ الآخر الثمن المغبون، يعني وقول عقبه {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ} ، إلى قوله: {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} قرينة على المراد من الجانبين وعلى كلا المعنيين يكون قوله: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً} إلى قوله: {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} تفصيلا للفريقين، فيكون في الآية مجازا وتشبيه ونمثيل، فالمجاز في مادة الغبن، والتمثيل في صيغة التغابن، وهو تشبيه مركب بمنزلة التشبيه البليغ إذ التقدير: ذلك يوم مثل التغابن.
وحمل قليل من المفسرين وهو ما فسر كلام الراغب في مفرداته وصرح ابن

عطية صيغة التفاعل على معنى الكثرة وشدة الفعل كما في قولنا عافاك الله وتبارك الله فتكون استعارة، أي خسارة للكافرين إذ هم مناط الإنذار. وهذا في معنى قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} في سورة البقرة [16]، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} الآية في سورة الصف[10].
فصيغة التفاعل مستعملة مجازا في كثرة حصول الغبن للكثرة بفعل من يحصل من متعدد.
والكلام تهديد للمشركين بسوء حالتهم في يوم الجمع، إذ المعنى: ذلك يوم غبنكم الكثير الشديد بقرينة قوله قبله {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا} [التغابن:8]. والغابن لهم هو الله تعالى.
ولولا قصد ذلك لما اقتصر على أن ذلك يوم تغابن فإن فيه ربحا عظيما للمؤمنين بالله ورسوله والقرآن، فوزان هذا القصر وزان قوله: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} [البقرة:16] وقول النبي صلى الله عليه وسلم1: "إنما المفلس الذي يفلس يوم القيامة" .
وأفاد تعريف جزأي جملة {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} قصر المسند إليه أي قصر جنس يوم التغابن على يوم الجمعة المشار إليه باسم الإشارة، وهو من قبيل قصر الصفة على الموصوف قصرا ادعائيا، أي ذلك يوم الغبن لا أيام أسواقكم ولا غيرها، فإن عدم أهمية غبن الناس في الدنيا جعل غبن الدنيا كالعدم وجعل يوم القيامة منحصرا فيه جنس الغبن.
وأما لام التعريف في قوله: {التغابن} فهي لام الجنس، ومن هذا المعنى قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر:15]. وقوله في ضده {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [فاطر: 29]. هذا هو المتعين في تفسير هذه الآية وأكثر المفسرين مر بها مرا. ولم يحتلب منها درا. وها أنا ذا كددت ثمادي، فعسى أن يقع للناظر كوقع القراح من الصادي، والله الهادي.
{يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ
ـــــــ
1 ذكره البخاري تعليقا في بعض أبواب الأدب من صحيحه.

جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}.
معطوفة على جملة {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التغابن: 8] وهو تفصيل لما أجمل في قوله: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} الذي هو تذييل.
و {من} شرطية والفعل بعدها مستقبل، أي من يؤمن من المشركين بعد هذه الموعظة نكفر عنه ما فرط من سيئاته.
والمراد بالسيئات: الكفر وما سبقه من الأعمال الفاسدة.
وتكفير السيئات: العفو عن المؤاخذة بها وهو مصدر كفر مبالغة في كفر. وغلب استعماله في العفو عما سلف من السيئات وأصله: استعارة الستر للإزالة مثل الغفران أيضا.
وانتصب {صالحا} على الصفة لمصدر وهو مفعول مطلق محذوف تقديره: عملا صالحا.
وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر {نكفر} و {ندخله} بنون العظمة على الالتفات من الغيبة إلى التكلم لأن مقام إقبال فناسبه ضمير المتكلم.
وقرأهما الباقون بياء الغيبة على مقتضى الظاهر لأن ضمير الجلالة يؤذن بعناية الله بهذا الفريق.
وجملة {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} تذييل.
وقوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا} ، أي كفروا وكذبوا من قبل واستمروا على كفرهم وتكذيبهم فلم يستجيبوا لهذه الدعوة ثبت لهم أنهم أصحاب النار. ولذلك جيء في جانب الخبر عنهم بالجملة الاسمية الدالة على الثبات لعراقتهم في الكفر والتكذيب.
وجيء لهم باسم الإشارة لتميزهم تمييزا لا يلتبس معه غيرهم بهم مثل قوله: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:5] مع ما يفيده اسم الإشارة من أن استحقاقهم لملازمة النار ناشئ عن الكفر والتكذيب بآيات الله وهذا وعيد.
وجملة {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} اعتراض تذييلي لزيادة تهويل الوعيد.

[11] {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.
استئناف انتقل إليه بعد أن توعد المشركون بما يحصل لهم من التغابن يوم يجمع الله الناس يوم الحساب. ويشبه أن يكون استئنافا بيانيا لأن تهديد المشركين بيوم الحساب يثير في نفوس المؤمنين التساؤل عن الانتصاف من المشركين في الدنيا على ما يلقاه المسلمون من إضرارهم بمكة فإنهم لم يكفوا عن أذى المسلمين وإصابتهم في أبدانهم وأموالهم والفتنة بينهم وبين أزواجهم وأبنائهم.
فالمراد: المصائب التي أصابت المسلمين من معاملة المشركين فأنبأهم الله بما يسليهم عن ذلك بأن الله عالم بما ينالهم. وقال القرطبي قيل سبب نزولها أن الكفار قالوا لو كان ما عليه المسلمون حقا لصانهم الله عن المصائب.
واختصت المصيبة في استعمال اللغة بما يلحق الإنسان من شر وضر وإن كان أصل فعلها يقال كما يصيب الإنسان مطلقا ولكن غلب إطلاق فعل أصاب على لحاق السوء، وقد قيل في قوله: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79]، أن إسناد الإصابة إلى الحسنة من قبيل المشاكلة.
وتأنيث المصيبة لتأويلها بالحادثة وتقدم عند قوله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} في سورة آل عمران[165].
والإذن: أصله إجازة الفعل لمن يفعله وأطلق على إباحة الدخول إلى البيت وإزالة الحجاب لأنه مشتق من أذن له إذا سمع كلامه. وهو هنا مستعار لتكوين أسباب الحوادث. وهي الأسباب التي تفضي في نظام العادة إلى وقوع واقعات، وهي من آثار صنع الله في نظام هذا العالم من ربط المسببات بأسبابها مع علمه بما تفضي إليه تلك الأسباب فلما كان هو الذي أوجد الأسباب وأسباب أسبابها، وكان قد جعل ذلك كله أصولا وفروعا بعلمه وحكمته، أطلق على ذلك التقدير والتكوين لفظ الإذن، والمشابهة ظاهرة، وهذا في معنى قوله: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد: 22].
ومقتضى هذه الاستعارة تقريب حقيقة التقلبات الدنيوية إلى عقول المسلمين باختصار العبارة لضيق المقام عن الإطناب في بيان العلل والأسباب، ولأن أكثر ذلك لا تبلغ إليه

عقول عموم الأمة بسهولة. والقصد من هذا تعليم المسلمين الصبر على ما يغلبهم من مصائب الحوادث لكيلا تفل عزائمهم ولا يهنوا ولا يلهيهم الحزن عن مهمات أمورهم وتدبير شؤونهم كما قال في سورة الحديد[23] {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} .
ولذلك أعقبه هنا بقوله: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} ، أي يهد قلبه عندما تصيبه مصيبة، فحذف هذا المتعلق لظهوره من السياق قال: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:139،140].
والمعنى: أن المؤمن مرتاض بالأخلاق الإسلامية متبع لوصايا الله تعالى فهو مجاف لفساد الأخلاق من الجزع والهلع يتلقى ما يصيبه من مصيبة بالصبر والتفكر في أن الحياة لا تخلوا من عوارض مؤلمة أو مكدرة. قال تعلى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:155،157] أي أصحاب الهدى الكامل لأنه هدى متلقى من التعاليم الإلهية الحق المعصومة من الخطل كقوله هنا {يَهْدِ قَلْبَهُ} .
وهذا الخبر في قوله: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} إيماء إلى الأمر بالثبات والصبر عند حلول المصائب لأنه يلزم من هدى الله قلب المؤمن عند المصيبة ترغيب المؤمنين في الثبات والتصبر عند حلو المصائب فلذلك ذيل بجملة {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ} فهو تذييل للجملة التي قبلها وارد على مراعاة جميع ما تضمنته من أن المصائب بإذن الله، ومن أن الله يهدي قلوب المؤمنين للثبات عند حلول المصائب ومن الأمر بالثبات والصبر عند المصائب، أي يعلم جميع ذلك.
وفيه كناية عن مجازاة الصابرين بالثواب لأن فائدة علم الله التي تهم الناس هو التخلق ورجاء الثواب ورفع الدرجات.
[12] {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} .
عطف على جملة {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11] لأنها تضمنت أن المؤمنين متهيؤون لطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فيما يدعوانهم إليه من صالح الأعمال كما يدل عليه تذييل الكلام بقوله: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران:122]، ولأن طلب الطاعة فرع عن

تحقق الإيمان كما في حديث معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى اليمن قال له: "إنك ستأتي قوما أهل كتاب فأول ما تدعوهم إليه فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدفة " الحديث.
وتفريع {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ} تحذير من عصيان الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
والتولي مستعار للعصيان وعدم قبول دعوة الرسول.
وحقيقة التولي الانصراف عن المكان المستقر فيه واستعير التولي للعصيان تشنيعا له مبالغة في التحذير منه، ومثله قوله تعالى: في خطاب المؤمنين {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} [محمد:38]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} [الأنفال:20].
والتعريف في قوله: {رسولنا} بالإضافة لقصد تعظيم شأنه بأنه صلى الله عليه وسلم رسول رب العالمين. وهذا الضمير التفات من الغيبة إلى التكلم يفيد تشريف الرسول بعز الإضافة إلى المتكلم.
ومعنى الحصر قوله: {فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} قصر الرسول صلى الله عليه وسلم على كون واجبه البلاغ، قصر موصوف على صفة فالرسول صلى الله عليه وسلم مقصور على لزوم البلاغ له لا يعدو ذلك إلى لزوم شيء آخر. وهو قصر قلب تنزيلا لهم في حالة العصيان المفروض منزلة من يعتقد أن الله لو شاء لألجأهم إلى العمل بما أمرهم به إلهابا لنفوسهم بالحث على الطاعة.
ووصف {البلاغ} بـ {المبين} ، أي الواضح عذر للرسول صلى الله عليه وسلم بأنه ادعى ما أمر به على الوجه الأكمل قطعا للمعذر عن عدم امتثال ما أمر به.
وباعتبار مفهوم القصر جملة فإنما على رسولنا البلاغ المبين كانت جوابا للشرط دون حاجة إلى تقدير جواب تكون هذه الجملة دليلا عليه أو علة له.
[13] {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} .
{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} .
جملة معترضة بين جملة {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [التغابن:12] وجملة {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} .

واسم الجلالة مبتدأ وجملة {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} خبر. وهذا تذكير للمؤمنين بما يعلمونه. أي من آمن بأن الله لا إله إلا هو كان حقا عليه أن يطيعه وأن لا يعبأ بما يصيبه في جانب طاعة الله من مصائب وأذى كما قال حبيب بن عدي:
لست أبالي حيت أقتل مسلما
على أي جنب كان الله مصرعي
ويجوز أن تكون جملة {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} في موقع العلي لجملة {وَأَطِيعُوا اللَّهَ} [التغابن:12] وتفيد أيضا تعليل جملة {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [التغابن: 12] لأن طاعة الرسول ترجع إلى طاعة الله قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80].
وافتتاح الجملة باسم الجلالة إظهار في مقام الإضمار إذ لم يقل هو لا إله إلا هو لاستحضار عظمة الله تعالى بما يحويه اسم الجلالة من معاني الكمال، ولتكون الجملة مستقلة بنفسها فتكون جارية مجرى الأمثال والكلم الجوامع.
{وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} .
عطف على {وَأَطِيعُوا اللَّهَ} فهو في معنى: وتوكلوا على الله، فإن المؤمنين يتوكلون على الله لا على غيره وأنتم مؤمنون فتوكلوا عليه.
وتقديم المجرور لإفادة الاختصاص، أي أن المؤمنين لا يتوكلون إلا على الله.
وجيء في ذلك بصيغة أمر المؤمنين بالتوكل على الله دون غيره ربطا على قلوبهم وتثبيتا لنفوسهم كيلا يأسفوا من إعراض المشركين وما يصيبهم منهم وأن ذلك لن يضرهم.
فإن المؤمنين لا يعتزون بهم ولا يتقوون بأمثالهم، لأن الله أمرهم أن لا يتوكلوا إلا عليه، وفيه إيذان بأنهم لا يخالفون أمر الله وذلك يغيظ الكافرين.
والإتيان باسم الجلالة في قوله: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} إظهار في مقام الإضمار لتكون الجملة مستقلة فتسير مسرى المثل، ولذلك كان إظهار لفظ {المؤمنون} ولم يقل: وعلى الله فليتوكلوا، ولما في {المؤمنون} من العموم الشامل للمخاطبين وغيرهم ليكون معنى التمثيل.
[14] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
إقبال على خطاب المؤمنين بما يفيدهم كمالا ويجنبهم ما يفتنهم.

أخرج الترمذي عن ابن عباس أن رجلا سأله عن هذه الآية فقال: هؤلاء رجال من أهل مكة أسلموا وأرادوا أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم، فلما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم أي بعد مدة وجاء معهم أزواجهم وأولادهم ورأوا الناس قد فقهوا في الدين أي سبقوهم بالفقه في الدين لتأخر هؤلاء عن الهجرة فهموا أن يعاقبوهم على ما تسببوا لهم حتى سبقهم الناس إلى الفقه في الدين فأنزل الله هذه الآية أي حتى قوله: {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . وهو الذي اقتصر عليه الواحدي في أسباب النزول ومقتضاه أن الآية مدنية.
وعن عطاء بن يسار وابن عباس أيضا أن هذه الآية نزلت بالمدينة في شأن عوف بن مالك الأشجعي كان ذا أهل وولد فكان إذا أراد الغزو بكوا إليه ورققوه وقالوا: إلى من تدعنا، فيرق لهم فيقعد عن الغزو. وشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية في شأنهم. فهذه الآية مستأنفة استئنافا ابتدائيا ويكون موقعها هذا سبب نزولها صادف أن كان عقب ما نزل قبلها من هذه السورة.
والمناسبة بينها وبين الآية التي قبلها لأن كلتيهما تسلية على ما أصاب المؤمنين من غم من معاملة أعدائهم إياهم ومن انحراف بعض أزواجهم وأولادهم عليهم.
وإذا كانت السورة كلها مكية كما هو قول الضحاك كانت الآية ابتداء إقبال على تخصيص المؤمنين بالخطاب بعد قضاء حق الغرض الذي ابتدئت به السورة على عادة القرآن في تعقيب الأغراض بأضدادها من ترغيب أو ترهيب، وثناء أو ملام، أو نحو ذلك ليوفى الطرفان حقيهما، وكانت تنبيها للمسلمين لأحوال في عائلاتهم قد تخفى عليهم ليأخذوا حذرهم، وهذا هو المناسب لما قبل الهجرة كان المسلمون بمكة ممتزجين مع المشركين بوشائج النسب والصهر والولاء فلما ناصبهم المشركون العداء لمفارقتهم دينهم وأضمروا لهم الحقد وأصبحوا فريقين كان كل فريق غير خال من أفراد متفاوتين في المضادة تبعا للتفاوت في صلابة الدين، وفي أواصر القرابة والصهر، وقد بلغ العداء إلى نهاية طرفه فتندحض أمامه جميع الأواصر فيصبح الأشد قربا أشد مضرة على قريبه من مضرة البعيد.
فأيقظت هذه الآية المؤمنين لئلا يغرهم أهل قرابتهم فيما توهم من جانب غرورهم فيكون ضرهم أشد عليهم وفي هذا الإيقاظ مصلحة للدين وللمسلمين ولذلك قال تعالى: {فَاحْذَرُوهُمْ} ولم يأمر بأن يضروهم، وأعقبه بقوله: {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ

اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ، جمعا بين الحذر وبين المسالمة وذلك من الحزم.
و {من} تبعيضية. وتقديم خبر {إن} على اسمها للاهتمام بهذا الخبر ولما فيه من تشويق إلى الاسم ليتمكن مضمون هذا الخبر في الذهن أتم تمكن لما فيه من الغرابة والأهمية. وقد تقدم مثله عند قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ} في سورة البقرة[8].
وعدو وصف من العداوة بوزن فعول بمعنى فاعل فلذلك لزم حالة الإفراد والتذكير إذا كان وصفا، وقد مضى ذلك عند قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ} في سورة النساء [92]. فأما إذا أريد منه معنى الاسمية فيطابق ما أجري عليه، قال تعالى: {يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً} [الممتحنة:2].
والإخبار عن بعض الأزواج والأولاد بأنهم عدو يجوز أن يحمل على الحقيقة فإن بعضهم قد يضمر عداوة لزوجه وبعضهم لأبويه من جراء المعاملة بما لا يروق عنده مع خباثة في النفس وسوء تفكير فيصير عدوا لمن حقه أن يكون له صديقا، ويكثر أن تأتي هذه العداوة من اختلاف الدين ومن الانتماء إلى الأعداء.
ويجوز أن يكون على معنى التشبيه البليغ، أي كالعدو في المعاملة بما هو من شأن معاملة الأعداء كما قيل في المثل يفعل الجاهل بنفسه ما يفعل العدو لعدوه. وهذا من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه.
وعطف على قوله: {فَاحْذَرُوهُمْ} جملة {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا} إلى آخرها عطف الاحتراس لأنه إذا كان العفو مطلوبا محبوبا إلى الله تعالى وهو لا يكون إلا بعد حصول الذنب فإن عدم المؤاخذة على مجرد ظن العداوة أجدر بالطلب ففهم النهي عن معاملة الأزواج والأنباء معاملة الأعداء لأجل إيجاس العداوة، بل المقصود من التحذير التوقي وأخذ الحيطة لابتداء المؤاخذة، ولذلك قيل الحزم سوء الظن بالناس، أي لكن دون أن يبنى على ذلك الظن معاملة من صدر منه ما ظننت به قال تعالى: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12] وقال: {أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6].
والعفو: ترك المعاقبة على الذنب بعد الاستعداد لها. ولو مع توبيخ.
والصفح: الإعراض عن المذنب، أي ترك عقابه على ذنبه دون التوبيخ.

والغفر: ستر الذنب وعدم إشاعته.
والجمع بينها هنا إيماء إلى تراتب آثار هذه العداوة وما تقتضيه آثارها من هذه المعاملات الثلاث. وحذف متعلق الأفعال الثلاثة لظهور أن المراد من أولادكم وأزواجكم فيما يصدر منهم مما يؤذيكم، ويجوز أن يكون حذف المتعلق لإرادة عموم الترغيب في العفو.
وإنما يعفو المرء ويصفح ويغفر عن المذنب إذا كان ذنبه متعلقا بحق ذلك المرء وبهذه الأفعال المذكورة هنا مطلقة وفي أدلة الشريعة تقييدات لها.
وجملة {فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} دليل جواب الشرط المحذوف المؤذن بالترغيب في العفو والصفح والغفر فالتقدير وأن تعفوا وتصفحوا وتغفروا يحب الله ذلك منكم لأن الله غفور رحيم، أي للذين يغفرون ويرحمون، وجمع وصف رحيم الخصال الثلاث.
[15] {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}.
تذييل لأن فيه تعميم أحوال الأولاد بعد أن ذكر حال خاص ببعضهم.
وأدمج فيه الأموال لأنها لم يشملها طلب الحذر ولا وصف العداوة. وقدم ذكر الأموال على الأولاد لأن الأموال لم يتقدم ذكرها بخلاف الأولاد.
ووجه إدماج الأموال هنا أن المسلمين كانوا قد أصيبوا في أموالهم من المشركين فغلبوهم على أموالهم ولم تذكر الأموال في الآية السابقة لأن الغرض هو التحذير من أشد الأشياء اتصالا بهم وهي أزواجهم وأولادهم. ولأن فتنة هؤلاء مضاعفة لأن الداعي إليها يكون من أنفسهم ومن مساعي الآخرين وتسويلهم. وجرد عن ذكر الأزواج هنا اكتفاء لدلالة فتنة الأولاد عليهن بدلالة فحوى الخطاب، فإن فتنتهن أشد من فتنة الأولاد لأن جرأتهن على التسويل لأزواجهن ما يحاولنه منهم أشد من جرأة الأولاد.
والقصر المستفاد من {إنما} قصر موصوف على صفة، أي ليست أموالكم وأولادكم إلا فتنة. وهو قصر ادعائي للمبالغة في كثرة ملازمة هذه الصفة للموصوف إذ يندر أن تخلو أفراد هذين النوعين، وهما أموال المسلمين وأولادهم عن الاتصاف بالفتنة لمن يتلبس بهما.
والإخبار ب {فتنة} للمبالغة. والمراد: أنهم سبب فتنة سواء سعوا في فعل الفتن أم

لم يسعوا. فإن الشغل بالمال والعناية بالأولاد فيه فتنة.
ففي هذه الآية من خصوصيات علم المعاني التذييل والإدماج، وكلاهما من الإطناب، والاكتفاء وهو من الإيجاز، وفيها الإخبار بالمصدر وهو {فتنة} ، والإخبار به من المبالغة فهذه أربعة من المحسنات البديعية، وفيها القصر، وفيها التعليل، وهو من خصوصيات الفصل، وقد يعد من محسنات البديع أيضا فتلك ست خصوصيات.
وفصلت هذه الجملة عن التي قبلها لأنها اشتملت على التذييل والتعليل وكلاهما من مقتضيات الفصل.
والفتنة: اضطراب النفس وحيرتها من جراء أحوال لا تلائم من عرضت له، وتقدم عند قوله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} في سورة البقرة [191].
أخرج أبو داود عن بريدة قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب يوم الجمعة حتى جاء الحسن والحسين يعثران ويقومان فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنبر فأخذهما وجذبهما ثم قرأ {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} . وقال "رأيت هذين فلم أصبر"، ثم أخذ في خطبته.
وذكر ابن عطية: أن عمر قال لحذيفة: كيف أصبحت فقال: أصبحت أحب الفتنة وأكره الحق. فقال عمر: ما هذا? فقال: أحب ولدي وأكره الموت.
وقوله: {وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} عطف على جملة {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} لأن قوله: {عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} كناية عن الجزاء عن تلك الفتنة لمن يصابر نفسه على مراجعة ما تسوله من الانحراف عن مرضاة الله إن كان في ذلك تسويل. والأجر العظيم على إعطاء حق المال والرأفة بالأولاد، أي والله يؤجركم عليها. لقول النبي صلى الله عليه وسلم "من ابتلى من هذه البنات بشيء وكن له سترا من النار". وفي حديث آخر "إن الصبر على سوء خلق الزوجة عبادة".
والأحاديث كثيرة في هذا المعنى منها ما رواه حذيفة فتنة الرجل في أهله وماله تكفرها الصلاة والصدقة.
[16] {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
فاء فصيحة وتفريع على ما تقدم، أي إذا علمتم هذا فاتقوا الله فيما يجب من التقوى

في معاملة الأولاد والأزواج ومصارف في الأموال فلا يصدكم حب ذلك والشغل به عن الواجبات، ولا يخرجكم الغضب ونحوه عن حد العدل المأمور به، ولا حب المال عن أداء حقوق الأموال وعن طلبها من وجوه الحلال. فالأمر بالتقوى شامل للتحذير المتقدم وللترغيب في العفو كما تقدم ولما عدا ذلك.
والخطاب للمؤمنين.
وحذف متعلق {اتقوا} لقصد تعميم ما يتعلق بالتقوى من جميع الأحوال المذكورة وغيرها وبذلك يكون هذا الكلام كالتذييل لأن مضمونه أعم من مضمون ما قبله.
ولما كانت التقوى في شأن المذكورات وغيرها قد يعرض لصاحبها التقصير في إقامتها حرصا على إرضاء شهوة النفس في كثير من أحوال تلك الأشياء زيد تأكيد الأمر بالتقوى بقوله: {مَا اسْتَطَعْتُمْ} .
و {ما} مصدرية ظرفية، أي مدة استطاعتكم ليعم الأزمان كلها ويعم الأحوال تبعا لعموم الأزمان ويعم الاستطاعات، فلا يتخلوا عن التقوى في شيء من الأزمان. وجعلت الأزمان ظرفا للاستطاعة لئلا يقصروا بالتفريط في شيء يستطيعونه فيما أمروا بالتقوى في شأنه ما لم يخرج عن حد الاستطاعة إلى حد المشقة قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185].
فليس في قوله: {ما استطعتم} تخفيف ولا تشديد ولكنه عدل. وإنصاف. ففيه ما عليهم وفيه ما لهم.
روى البخاري عن جابر بن عبد الله قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة فلقنني: فيما استطعت، وعن ابن عمر كنا إذا بايعنا النبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة يقول لنا "فيما استطعت".
وعطف {وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} على {اتَّقُوا اللَّهَ} من عطف الخاص على العام للاهتمام به، ولأن التقوى تتبادر في ترك المنهيات فإنها مشتقة من وقى. فتقوى الله أن يقي المرء نفسه مما نهاه الله عنه، ولما كان ترك المأمورات فيؤول إلى إتيان المنهيات، لأن ترك الأمر منهي عنه إذ الأمر بالشيء نهي عن ضده. كان التصريح به بخصوصه اهتماما بكلا الأمرين لتحصل حقيقة التقوى الشرعية وهي اجتناب المنهيات وامتثال المأمورات.

والمراد: اسمعوا الله، أي أطيعوا بالسمع للرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته.
والأمر بالسمع أمر يتلقى الشريعة والإقبال على سماع مواعظ النبي صلى الله عليه وسلم وذلك وسيلة التقوى قال تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ لَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر:17، 18].
وعطف عليه {وأطيعوا} : أي أطيعوا ما سمعتم من أمر ونهي.
وعطف {وأنفقوا} تخصيص بعد تخصيص فإن الإنفاق مما أمر الله به فهو من المأمورات.
وصيغة الأمر تشتمل واجب الإنفاق والمندوب ففيه التحريض على الإنفاق بمرتبتيه وهذا من الاهتمام بالنزاهة من فتنة المال التي ذكرت في قوله: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15].
وانتصب {خيرا} على الصفة لمصدر محذوف دل عليه {أنفقوا} . والتقدير: إنفاقا خيرا لأنفسكم. هذا قول الكسائي والفراء فيكون {خير} اسم تفضيل. وأصله: أخير، وهو محذوف الهمزة لكثرة الاستعمال، أي الإنفاق خير لكم من الإمساك. وعن سيبويه أنه منصوب على أنه مفعول به لفعل مضمر دل عليه {أنفقوا} . والتقدير: ائتوا خيرا لأنفسكم.
وجملة {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} تذييل.
و {من} اسم شرط وهي من صيغ العموم: أي كل من يوق شح نفسه والعموم يدل على أن {من} مراد بها جنس لا شخص معين ولا طائفة، وهذا حب اقتضاه حرص أكثر الناس على حفظ المال وادخاره والإقلال من نفع الغير به وذلك الحرص يسمى الشح.
والمعنى: أن الإنفاق يقي صاحبه من الشح المنهي عنه فإذا يسر على المرء الإنفاق فيما أمر الله به فقد وقي شح نفسه وذلك من الفلاح.
ولما كان ذلك فلاحا عظيما جيء في جانبه بصيغة الحصر بطريقة تعريف المسند، وهو قصر جنس المفلحين على جنس الذين وقوا شح أنفسهم، وهو قصر ادعائي للمبالغة في تحقق وصف المفلحين الذين وقوا شح أنفسهم نزل الآن فلاح غيرهم بمنزلة العدم.
وإضافة {شح} إلى النفس للإشارة إلى أن الشح من طباع النفس فإن النفوس شحيحة بالأشياء المحببة إليها قال تعالى: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} [النساء: 128].

وفي الحديث لما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أفضل الصدقة قال: "أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى. وأن لا تدع حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان" وتقدم نظير {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} في سورة الحشر[9].
[17،18] {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
استئناف بياني ناشئ عن قوله: {وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ} [التغابن:16]، فإن مضاعفة الجزاء على الإنفاق مع المغفرة خير عظيم، وبهذا الموقع يعلم السامع أن القرض أطلق على الإنفاق المأمور به إطلاقا بالاستعارة، والمقصود الاعتناء بفضل الإنفاق المأمور به. اهتماما مكررا فيعد أن جعل خيرا جعل سبب الفلاح وعرف بأنه قرض من العبد لربه وكفى بهذا ترغيبا وتلطفا في الطلب إذ جعل المنفق كأنه يعطي الله تعالى مالا وذلك من معنى الإحسان في معاملة العبد ربه وقد بينه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل إذ قال جبريل للنبي عليهما الصلاة والسلام: أخبرني عن الإحسان فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك" فمما ينضوي تحت معنى عبادة الله عبادة من يراه أن يستشعر العبد أن امتثال أمر ربه بالإنفاق المأمور به منه كأنه معاملة بين مقرض ومستقرض.
وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} في سورة البقرة[245].
وقرأ الجمهور {يضاعفه} بألف بعد الضاد وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب { يضعفه } بتشديد العين مضارع ضعف، وهما بمعنى واحد وهو لفظي الضعف.
والمضاعفة: إعطاء الضعف بكسر الضاد وهو مثل الشيء في الذات أو الصفة. وتصدق بمثل وبعده أمثال كما قال تعالى {أَضْعَافاً كَثِيرَةً} [البقرة:245].
وجعل الإنفاق سبب للغفران كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "الصدقة تطفئ الخطايا كما يطفئ الماء النار" .
والشكور: فعول بمعنى فاعل مبالغة، أي كثير الشكر وأطلق الشكر فيه على الجزاء

بالخير على فعل الصالحات تشبيها لفعل المتفضل بالجزاء بشكر المنعم عليه على نعمة ولا نعمة على الله فيما يفعله عباده من الصالحات. فإنما نفعها لأنفسهم ولكن الله تفضل بذلك حثا على صلاحهم فرتب لهم الثواب بالنعيم على تزكية أنفسهم، وتلطف لهم فسمي ذلك الثواب شكرا وجعل نفسه شاكرا.
وقد أومأ إلى هذا المقصد إتباع صفة {شكور} بصفة {حليم} تنبيها على أن ذلك من حلمه بعبادة دون حق لهم عليه سبحانه.
وأما وصف ب {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فتتميم للتذكير بعظمة الله تعالى مع مناسبتها للترغيب والترهيب الذين اشتملت عليهما الآيات السابقة كلها لأن العالم بالأفعال ظاهرها وخفيها لا يفيت شيئا من الجزاء عليها بما رتب لها، ولأن العزيز لا يعجزه شيء.
و {الحكيم} : الموصوف بالحكمة لا يدع معاملة الناس بما يقتضيه الحكمة من وضع الأشياء مواضعها ونوط الأمور بما يناسب حقائقها.
والحكيم فعيل بمعنى: المحكم، أي المتقن في صنعه ومعاملته وهما معا من صفاته تعالى فهو وصف جامع للمعنيين.

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الطلاقسورة {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [لطلاق:1] الخ شاعت تسميتها في المصاحف وفي كتب التفسير وكتب السنة: سورة الطلاق ولم ترد تسميتها بهذا في حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم موسوم بالقبول.
وذكر في الإتقان أن عبد الله بن مسعود سماها سورة النساء القصرى أخذا مما أخرجه البخاري وغيره عن مالك بن عامر قال: كنا عند عبد الله بن مسعود فذكر عنده أن الحامل المتوفى عنها تعتد أقصى الأجلين أي أجل وضع الحمل إن كان أكثر من أربعة أشهر وعشر، وأجل الأربعة الأشهر وعشر فقال: أتجعلون عليها التغليظ ولا تجعلون عليها الرخصة لنزلت سورة النساء القصرى بعد الطولى {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4] اهـ. وفي الاتقان عن الداودي إنكار أن تدعى هذه السورة بالقصرى للتنزه عن وصف القرآن بصفة نقص ورده ابن حجر بأن القصر أمر نسبي أي ليس مشعرا بنقص على الإطلاق. وابن مسعود وصفها بالقصرى احترازا عن السورة المشهورة باسم سورة النساء التي هي السورة الرابعة في المصحف التي أولها {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [النساء:1]. وأما قوله الطولى فهو صفة لموصوف محذوف أي بعد السورة الطولى يعني سورة البقرة لأنها أطول سور القرآن ويتعين أن ذلك مراده لأن سورة البقرة هي التي ذكرت فيها عدة المتوفى عنها. وقد يتوهم أن سورة البقرة تسمى سورة النساء الطولى من مقابلتها بسورة النساء القصرى في كلام ابن مسعود. وليس كذلك كما تقدم في سورة النساء.
وهي مدنية بالاتفاق.
وعدد آيها اثنتا عشرة آية في عدد الأكثر. وعدها أهل البصرة إحدى عشرة آية.

وهي معدودة السادسة والتسعين في ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد نزلت بعد سورة الإنسان وقبل سورة البينة.
وسبب نزولها ما رواه مسلم عن طريق ابن جريج عن أبي الزبير أنه سمع عبد الرحمان بن أيمن يسأل ابن عمر كيف ترى في الرجل طلق امرأته حائضا فقال طلق ابن عمر امرأته حائضا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: "ليراجعها"، فردها وقال: "إذا طهرت فليطلق أو ليمسك". قال ابن عمر وقرأ النبي: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1].
وظاهر قوله وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم الخ. إنها نزلت عليه ساعتئذ. ويحتمل أن تكون نزلت قبل هذه الحادثة. وقال الواحدي عن السدي: أنها نزلت في قضية طلاق ابن عمر وعن قتادة أنها نزلت بسبب أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق حفصة ولم يصح. وجزم أبو بكر بن العربي بأن شيئا من ذلك لم يصح وأن الأصح أن الآية نزلت بيانا لشرع مبتدأ.
أغراضها
الغرض من آيات هذه السورة تحديد أحكام الطلاق وما يعقبه من العدة والإرضاع والإنفاق والإسكان. تتميما للأحكام المذكورة في سورة البقرة.
والإيماء إلى حكمة شرع العدة والنهي عن الإضرار بالمطلقات والتضييق عليهن.
والإشهاد على التطليق وعلى المراجعة.
وإرضاع المطلقة ابنها بأجر على الله.
والأمر بالائتمار والتشاور بين الأبوين في شأن أولادهما.
وتخلل ذلك الأمر بالمحافظة الوعد بأن الله يؤيد من يتقي الله ويتبع حدوده ويجعل له من أمره يسرا ويكفر عنه سيئاته.
وأن الله وضع لكل شيء حكمه لا يعجزه تنفيذ أحكامه.
وأعقب ذلك بالموعظة بحال الأمم الذين عتوا عن أمر الله ورسله وهو حث

للمسلمين على العمل بما أمرهم به الله ورسوله صلى الله عليه وسلم لئلا يحق عليهم وصف العتو عن الأمر.
وتشريف وحي الله تعالى بأنه منزل من السماوات وصادر عن علم الله وقدرته تعالى.
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً}.
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}.
توجيه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم أسلوب من أساليب آيات التشريع المهتم به فلا يقتضي ذلك تخصيص ما يذكر بعده النبي صلى الله عليه وسلم مثل {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} {لأنفال:65} لأن النبي صلى الله عليه وسلم الذي يتولى تنفيذ الشريعة في أمته وتبيين أحوالها. فإن كان التشريع الوارد يشمله ويشمل الأمة جاء الخطاب مشتملا على ما يفيد ذلك مثل صيغة الجمع في قوله هنا {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} وإن كان التشريع خاصا بالرسول صلى الله عليه وسلم جاءت بما يقتضي ذلك نحو: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} .
قال أبو بكر بن العربي: وهذا قولهم أن الخطاب له لفظا. والمعنى له وللمؤمنين، وإذا أراد الله الخطاب للمؤمنين لاطفه بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} ، وإذا كان الخطاب باللفظ والمعنى جميعا له قال {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} اهـ. ووجه الاهتمام بأحكام الطلاق والمراجعة والعدة سنذكره عند قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ} .
فالأحكام المذكورة في هذه السورة عامة للمسلمين فضمير الجمع في قوله: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} وما بعده من الضمائر مثله مراد بها هو وأمته. وتوجيه الخطاب إليه لأنه المبلغ للناس وإمام أمته وقدوتهم والمنفذ لأحكام الله فيهم فيما بينهم من المعاملات فالتقدير إذا طلقتم أيها المسلمون.
وظاهر كلمة {إذا} أنها للمستقبل وهذا يؤيد ما قاله أبو بكر بن العربي من أنها شرع مبتدأ قالوا إنه يجوز أن يكون المراد إذا طلقتم في المستقبل فلا تعودوا إلى مثل ما فعلتم ولكن طلقوهن لعدتهن، أي في أطهارهن كما سيأتي.
وتكرير فعل {فطلقوهن} لمزيد الاهتمام به فلم يقل إذا طلقتم النساء فلطهرهن وقد

تقدم نظير ذلك عند قوله تعالى: {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} في سورة الشعراء [130]، وقوله: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} في سورة الفرقان [72].
واللام في {لعدتهن} لام التوقيت وهي بمعنى عند مثل كتب ليوم كذا من شهر كذا. ومنه قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسرا:78] لا تحتمل هذه اللام غير ذلك من المعاني التي تأتي لها اللام. ولما كان مدخول اللام هنا غير زمان علم أن المراد الوقت المضاف إلى عدتهن أي وقت الطهر.
ومعنى التركيب أن عدة النساء جعلت وقتا لإيقاع طلاقهن فكني بالعدة عن الطهر لأن المطلقة تعتد بالإظهار.
وفائدة ذلك أن يكون إيماء إلى حكمه هذا التشريع وهي أن يكون الطلاق عند ابتداء العدة وإنما تبتدأ العدة بأول طهر من أطهار ثلاثة لدفع المضرة عن الطلقة بإطالة انتظار تزويجها لأن ما بين حيضها إذا طلقت فيه وبين طهرها أيام غير محسوبة في عدتها فكان أكثر المطلقين يقصدون بذلك إطالة مدة العدة ليوسعوا على أنفسهم زمن الارتياء للمراجعة قبل أن يبن منهم.
وفعل {طلقتم} مستعمل في معنى أردتم الطلاق وهو استعمال وارد ومنه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [امائدة:6] الآية والقرينة ظاهرة.
والآية تدل على إباحة التطليق بدلالة الإشارة لأن القرآن لا يقدر حصول فعل محرم من دون أن يبين منعه.
والطلاق مباح لأنه قد يكون حاجيا لبعض الأزواج فإن الزوجين شخصان اعتشرا اعتشارا حديثا في الغالب لم تكن بينهما قبله صلة من نسب ولا جوار ولا تخلق بخلق متقارب أو متماثل فيكثر أن يحدث بينهما بعد التزوج تخالف في بعض نواحي المعاشرة قد يكون شديدا ويعسر تذليله، فيمل أحدهما ولا يوجد سبيل إلى إراحتهما من ذلك إلا التفرقة بينهما فأحله الله لأنه حاجي ولكنه ما أحله إلا لدفع الضر فلا ينبغي أن يجعل الإذن فيه ذريعة للنكاية من أحد الزوجين بالآخر. أو من ذوي قرابتهما، أو لقصد تبديل المذاق. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أبغض الحلال إلى الله الطلاق" .
وتعليق {طلقتم} بإذا الشرطية مشعر بأن الطلاق خلاف الأصل في علاقة الزوجين

التي قال الله فيها: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21].
واختلف العلماء في أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق وجزم به الخطابي في شرح سنن أبي داود ولم يثبت تطليق النبي صلى الله عليه وسلم بحديث صحيح والمروي في ذلك خبران، أولهما ما رواه ابن ماجه عن سويد بن سعيد وعبد الله بن عامر بن زراره ومسروق بن المرزبان بسندهم إلى ابن عباس عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حفصة ثم راجعها. وفي هذا السند ضعف لأن سويد بن سعيد ضعيف نسبه ابن معين إلى الكذب وضعفه ابن المديني والنسائي وابن عدي. وقبله أحمد بن حنبل وأبو حاتم. وكذلك مسروق ابن المرزبان يضعف أيضا. وبقي عبد الله بن عامر بن زرارة لا متكلم فيه فيكون الحديث صحيحا لمنه غريب وهو لا يقبل فيما تتوفر الدواعي على روايته كهذا. وهذا الحديث غريب في مبدئه ومنتهاه لانفراده سعيد بن جبير بروايته عن ابن عباس، وانفراد ابن عباس بروايته عن عمر بن الخطاب مع عدم إخراج أهل الصحيح إياه فالأشبه أنه لم يقع طلاق النبي صلى الله عليه وسلم حفصة ولكن كانت قضية الإيلاء بسبب حفصة.
والمعروف في الصحيح عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم آلى من نسائه فقال الناس طلق رسول الله نساءه. قال عمر: فقلت يا رسول الله أطلقت نساءك، قال: "لا آليت منهن شهرا". فلعل أحد رواة الحديث عن ابن عباس عبر عن الإيلاء بلفظ التطليق وعن الفيئة بلفظ راجع على أن ابن ماجة يضعف عند أهل النقد.
وثانيهما حديث الجونية أسماء أو أميمة بنت شراحيل الكندية في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها وأنه لما دخل يبني بها قالت له: أعوذ بالله منك، فقال: "قد عذت بمعاذ ألحقي بأهلك" وأمر أبا أسيد الساعدي أن يكسوها ثوبين وأن يلحقها بأهلها، ولعلها أرادت إظهار شرفها والتظاهر بأنها لا ترغب في الرجال وهو خلق شائع في النساء.
والأشبه أن هذا طلاق وأنه كان على سبب سؤالها فهو مثل التخيير الذي قال الله تعالى فيه {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} في سورة الأحزاب [28]. فلا يعارض ذلك قوله "أبغض الحلال إلى الله الطلاق". إذ يكون قوله ذلك مخصوصا بالطلاق الذي يأتيه الزوج بداع من تلقاء نفسه لأن علة الكراهية هي ما يخلفه الطلاق من بغضاء المطلقة من يطلقها فلا يصدر من النبي صلى الله عليه وسلم ابتداء تجنبا من أن تبغضه المطلقة فيكون ذلك وبالا عليها، فأما إذا سألته فقد انتفت الذريعة التي يجب سدها.

وعلم من قوله تعالى: {لعدتهن} أنهن النساء الدخول بهن لأن غير المدخول بهن لا عدة لهن إجماعا بنص آية الأحزاب.
وهذه الآية حجة لمالك والشافعي والجمهور أن العدة بالإظهار لا بالحيض فإن الآية دلت على أن يكون إيقاع الطلاق عند مبدإ الاعتداد فلو كان مبدأ الاعتداد هو الحيض لكانت الآية أمرا بإيقاع الطلاق في الحيض ولا خلاف في أن ذلك منهي عنه لحديث عمر في قضية طلاق ابنه عبد الله بن عمر زوجه وهي حائض. واتفق أهل العلم على الأخذ به فكيف يخالف مخالف في معنى القرء خلافا يفضي إلى إبطال حكم القضية في ابن عمر وقد كانت العدة مشروعة من قبل بآية سورة البقرة وآيات الأحزاب فلذلك كان نوط إيقاع الطلاق بالحال التي تكون بها العدة إحالة على أمر معلوم لهم.
وحكمة العدة تقدم بيانها.
{وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} .
الإحصاء: معرفة العد وضبطه. وهو مشتق من الحصى وهي صغار الحجارة لأنهم كانوا إذا كثرت أعداد شيء جعلوا لكل معدود حصاة ثم عدوا ذلك الحصى قال تعالى: {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} [الجن:28].
والمعنى: الأمر بضبط أيام العدة والإتيان على جميعها وعدم التساهل فيها لأن التساهل فيها ذريعة إلى أحد أمرين. إما التزويج قبل انتهائها فربما اختلط النسب، وإما تطويل المدة على المطلقة في أيام منعها من التزوج لأنها في مدة العدة لا تخلو من حاجة إلى من يقوم بها.
وأما فوات أمد المراجعة إذا كان المطلق قد ثاب إلى مراجعة امرأته.
والتعريف في العدة للعهد فإن الاعتداد مشروع من قبل كما علمته آنفا والكلام على تقدير مضاف لأن المحصى أيام العدة.
والمخاطب بضمير {أحصوا} هم المخاطبون بضمير {إِذَا طَلَّقْتُمُ} فيأخذ كل من يتعلق به هذا الحكم حظه من المطلق والمطلقة ومن يطلع على مخالفة ذلك من المسلمين وخاصة ولاة الأمور من الحكام وأهل الحسبة فإنهم الأولى بإقامة شرائع الله في الأمة وبخاصة إذا رأوا تفشي الاستخفاف بما قصدته الشريعة. وقد بينا ذلك في باب مقاصد القضاء من كتابي مقاصد الشريعة .

ففي العدة مصالح كثيرة وتحتها حقوق مختلفة اقتضتها تلك المصالح الكثيرة وأكثر تلك الحقوق للمطلق والمطلقة وهي تستتبع حقوقا للمسلمين وولاة أمورهم في المحافظة على تلك الحقوق وخاصة عند التحاكم.
{وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ} .
اعتراض بين جملة {وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} وجملة {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} . والواو اعتراضية.
وحذف متعلق {اتَّقُوا اللَّهَ} ليعم جميع ما يتقى الله فيه فيكون هذا من قبيل الاعتراض التذييلي وأول ما يقصد بأن يتقى الله فيه ما سيق الكلام لأجله.
فقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ} تحذير من التساهل في أحكام الطلاق والعدة. وذلك أن أهل الجاهلية لم يكونوا يقيمون للنساء وزنا وكان قرابة المطلقات قلما يدافعن عنهن فتناسى الناس تلك الحقوق وغمصوها فلذلك كانت هذه الآيات شديدة اللهجة في التحدي، وعبر عن تلك الحقوق بالتقوى وبحدود الله ولزيادة الحرص على التقوى اتبع اسم الجلالة بوصف {ربكم} للتذكير بأنه حقيق بأن يتقي غضبه.
{لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} .
استئناف أو حال من ضمير {أحْصُوا الْعِدَّة} ، أي حالة كون العدة في بيوتهن، ويجوز أن تكون بدل اشتمال من مضمون جملة {أحْصُوا الْعِدَّة} لأن مكثهن في بيوتهن في مدة العدة يحقق معنى إحصاء العدة.
ولكلا الوجهين جردت الجملة عن الاقتران بالواو وجوازا أو وجوبا.
وفي إضافة البيوت إلى ضمير النساء إيماء إلى أنهن مستحقات المكث في البيوت مدة العدة بمنزلة مالك الشيء وهذا ما يسمى في الفقه ملك الانتفاع دون العين ولأن بقاء المطلقات في البيوت اللاتي كن فيها أزواجا استصحاب لحال الزوجية إذ الزوجة هي المتصرفة في بيت زوجها ولذلك يدعوها العرب ربة البيت وللمطلقة حكم الزوجة ما دامت في العدة إلا في استمتاع المطلق.
وهذا الحكم سببه مركب من قصد المكارمة بين المطلق والمطلقة. وقصد الانضباط في على الاعتداد تكميلا لتحقق لحاق ما يظهر من حمل بأبيه المطلق حتى يبرأ النسب من

كل شك.
وجملة {وَلا يَخْرُجْنَ} عطف على جملة {لا تُخْرِجُوهُنَّ} وهو نهي لهن عن الخروج فإن المطلق قد يخرجها فترغب المطلقة في الخروج لأنها تستثقل البقاء في بيت زالت عنه سيادتها فنهاهن الله عن الخروج. فإذا كان البيت مكترى سكنته المطلقة زكراؤه على المطلق وإذا انتهى أمد كرائه فعلى المطلق تجديده إلى انتهاء عدة المطلقة.
وهذا الترتب بين الجملتين يشعر بالسببية وأن لكل امرأة معتدة حق السكنى في بيت زوجها مدة العدة لأنها معتدة لأجله أي لأجل حفظ نسبه وعرضه فهذا مقتضى الآية. ولذلك قال مالك وجمهور العلماء بوجوب السكنى للمطلقة المدخول بها سواء كان الطلاق رجعيا أو بائنا وقال ابن أبي ليلى: لا سكنى إلا للمطلقة الرجعية، وعلل وجوب الإسكان للمطلقة المدخول بها بعدة أمور: حفظ النسب، وجبر خاطر المطلقة وحفظ عرضها. وسيجيء في هذه السورة قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} [الطلاق:6] الآية. وتعلم أن ذلك تأكيدا لما في هذه الآية من وجوب الإسكان في العدة أعيد ليبين عليه قوله: {مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق:6] وما عطف عليه.
والاستثناء في قوله: {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} يحتمل أن يرجع إلى الجملتين اللتين قبله كما هو الشأن فيه إذا ورد بعد جمل على أصح الأقوال لعلماء الأصول. ويحتمل أن يرجع إلى الأخيرة منهما وهو مقتضى كونه موافقا لضميرها إذ كان الضمير في كلتيهما ضمير النسوة. وهو استثناء من عموم الأحوال التي اقتضاها عموم الذوات في قوله: {لا تُخْرِجُوهُنَّ} {وَلا يَخْرُجْنَ} . فالمعنى: إلا أن يأتين بفاحشة فأخرجوهن أو ليخرجن، أي يباح لكم إخراجهن وليس لهن الامتناع من الخروج وكذلك عكسه.
والفاحشة: الفعلة الشديدة السوء بهذا غلب إطلاقها في عرف اللغة فتشمل الزنى كما في قوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} الآية في سورة النساء[15].
وشمل غيره من الأعمال ذات الفساد كما في قوله: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا} [الأعراف: 28]. وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} في سورة الأعراف[33]. قال ابن عطية: قال بعض الناس الفاحشة متى وردت في القرآن معرفة فهي الزنى يريد أو ما يشبهه كما في قوله: {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [االأعراف:80] ومتى وردت منكرة فهي المعاصي.

وقرأ الجمهور {مبينة} بكسر الياء التحتية، أي هي تبين لمن تبلغه أنها فاحشة عظيمة فإسناد التبيين إليها مجاز باستعارة التبيين للوضوح أو تبيين لولاة الأمور صدورها من المرأة فيكون إسناد التبيين إلى الفاحشة مجازا عقليا وإنما المبين ملابسها وهو الإقرار والشهادة فيحمل في كل حالة على ما يناسب معنى التبيين.
وقرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم {مبينة} بفتح التحتية، أي كانت فاحشة بينتها الحجة أو بينها الخارج ومحمل القراءتين واحد.
ووصفها ب {مبينة} إما أن يراد به أنها واضحة في جنس الفواحش، أي هي فاحشة عظيمة وهذا المقام يشعر بأن عظمها هو عظم ما يأتيه النساء من أمثالها عرفا. وإما أن يراد به مبينة الثبوت للمدة التي تخرج.
وقد اختلفوا في المراد من الفاحشة هنا وفي معنى الخروج لأجلها فعن ابن مسعود وابن عباس والشعبي والحسن وزيد بن أسلم والضحاك وعكرمة وحماد والليث بن سعد وأبي يوسف: أن الفاحشة الزنى، قالوا ومعاد الاستثناء الإذن في إخراجهن، أي ليقام عليهن الحد.
وفسرت الفاحشة بالبذاء على الجيران والإحماء أو على الزوج بحيث أن بقاء أمثالهن في جوار أهل البيت يفضي إلى تكرر الخصام فيكون إخراجها من ارتكاب أخف الضررين ونسب هذا إلى أبي بن كعب لأنه قرأ إلا أن يفحشن عليكم بفتح التحتية وضم الحاء المهملة أي الاعتداء بكلام فاحش وروي ابن عباس أيضا واختاره الشافعي.
وفسرت الفاحشة بالمعصية من سرقة أو سب أو خروج من البيت فإن العدة بله الزنى ونسب إلى ابن عباس أيضا وابن عمر وقاله السدي وأبو جنيفة.
وعن قتادة الفاحشة: النشوز، أي إذا طلقها لأجل النشوز فلا سكنى لها.
وعن ابن عمر والسدي إرجاع الاستثناء إلى الجملة التي هو موال لها وهي جملة {وَلا يَخْرُجْنَ} أي هم منهيات عن الخروج إلا أن يردن أن يأتين بفاحشة، ومعنى ذلك إرادة تفظيع خروجهن، أي إن أردن أن يأتين بفاحشة يخرجن وهذا بما يسمى تأكيد الشيء بما يشبه ضده كذا سماه السكاكي تسمية عند الأقدمين تأكيد المادح بما يشبه الذم ومنه قول النابغة:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب

فجعلت الآية خروجهن ريبة لهن وحذرت النساء منه بأسلوب خطابي بفتح الخاء فيكون هذا الاستثناء منعا لهن من الخروج على طريقة المبالغة في النهي.
ومحمل فعل {يأتين} على هذا الوجه أنه من يردن أن يأتين مثل {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6].
وقد ورد في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتته فاطمة بنت قيس الفهرية فأخبرته أن زوجها أبا عمرو بن حفص أو أبا حفص بن عمرو وكان وجهه النبي صلى الله عليه وسلم مع علي إلى اليمن فأرسل إليها من اليمن بتطليقة صادفت آخر الثلاث فبانت منه، وأنه أرسل إلى بعض ذويه بأن ينفقوا عليها مدة العدة فقالوا لها مالك نفقة إلا أن تكون حاملا، وأنها رفعت أمرها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "لا نفقة لك" فاستأذنته في الانتقال فأذن لها أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم. وفي رواية أنها قالت: أخاف أن يقتحم علي بالبناء للمجهول، وفي رواية أنها كانت في مكان وحش مخيف على ناحيتها فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم بالانتقال.
واختلف العلماء في انتقالها فقال جماعة هو رخصة لفاطمة بنت قيس لا تتجاوزها وكانت عائشة أم المؤمنين ترى ذلك، روى البخاري أن يحيى بن سعيد بن العاص طلق امرأته عمرة بنت عبد الرحمان بن الحكم وكان عمها مروان بن الحكم أمير المدينة يومئذ فانتقلها أبوها إليه فبلغ ذلك عائشة أم المؤمنين فأرسلت إلى مروان أن اتق الله وأرددها إلى بيتها فقال مروان أو ما بلغك شأن فاطمة بنت قيس قالت عائشة لا يضرك أن لا تذكر حديث فاطمة، فقال مروان إن كان بك الشر فحسبك ما بين هذين من الشر، ولعل عائشة اقتنعت بذلك إذ لم يرد أنها ردت عليه.
وفي الصحيح عن عمر بن الخطاب أنه قال: لا ندع كتاب الله وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري أحفظت أم نسيت. وقالت عائشة: ليس لفاطمة بنت قيس خبر في ذكر هذا الحديث وعابت عليها أشد العيب. وقالت إن فاطمة كانت في مكان وحش مخيف على ناحيتها فرخص لها النبي صلى الله عليه وسلم بالانتقال. ويظهر من هذا أنه اختلاف في حقيقة العذر المسوغ للانتقال. قال مالك: وليس للمرأة أن تنتقل من موضع عدتها بغير عذر رواه الباجي في المنتقى .
وقال ابن العربي: إن الخروج للحدث والبذاء والحاجة إلى المعايش وخوف العودة من المسكن جائز بالسنة.

ومن العلماء من جوز الانتقال للضرورة وجعلوا ذلك محمل حديث فاطمة بنت قيس فإنها خيف عليها في مكان وحش وحدث بينها وبين أهل زوجها شر وبذاء قال سعيد بن المسيب تلك امرأة استطالت على أحمائها بلسانها أنها كانت لسنة فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تنتقل وهذا الاختلاف قريب من أن يكون اختلافا لفظيا لاتفاق الجميع عدا عمر بن الخطاب على أن انتقالها كان لعذر قبله النبي صلى الله عليه وسلم فتكون تلك القضية مخصصة للآية ويجري القياس عليها إذا تحققت علة القياس.
أما قول عمر بن الخطاب لا ندع كتاب الله وسنة نبينا لقول امرأة أحفظت أم نسيت. فهو دحض لرواية فاطمة ابنة قيس بشك له فيه فلا تكون معارضة لآية حتى يصار إلى الجمع بالتخصيص والترخيص. وقال ابن العربي: قيل إن عمر لم يخصص القرآن بخبر الواحد.
وأما تحديد منه خروج المعتدة من بيتها فلا خلاف في أن مبيتها في غير بيتها حرام. وأما خروجها نهارا لقضاء شؤون نفسها فجوزه مالك والليث بن سعد وأحمد للمعتدة مطلقا.
وقال الشافعي: المطلقة الرجعية لا تخرج ليلا ولا نهارا والميتوتة تخرج نهارا. وقال أبو حنيفة: تخرج المعتدة عدة الوفاة نهارا ولا تخرج غيرها، لا ليلا ولا نهارا.
وفي صحيح مسلم أن مروان بن الحكم أرسل إلى فاطمة بنت قيس يسألها عن حديثها فلما أبلغ إليه قال: لم نسمع هذا الحديث إلا من امرأة سنأخذ بالعصمة التي وجدنا عليها الناس. فقالت فاطمة حين بلغها قول مروان: فبيني وبينكم القرآن قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} . هذا لمن كان له رجعة فأي أمر يحدث بعد الثلاث فكيف تقولون لا نفقة لها إذا لم تكن حاملا فعلام تحسبونها فظنت أن ملازمة بيتها لاستقاء الصلة بينها وبين مفارقها وأنها ملزمة بذلك لأجل الإنفاق.
والذي تخلص لي أن حكمة السكنى للمطلقة أنها حفظ الأعراض فإن المطلقة يكثر التفات العيون لها وقد يتسرب سوء الظن إليها فيكثر الاختلاف عليها ولا تجد ذا عصمة يذب عنها فلذلك شرعت لها السكنى ولا تخرج إلا لحاجياتها فهذه حكمة من قبيل المظنة فإذا طرأ على الأحوال ما أوقعها في المشقة أو أوقع الناس في مشقة من جرائها أخرجت

من ذلك المسكن وجرى على مكثها في المسكن الذي تنتقل إليه ما يجري عليها في مسكن مطلقها لأن المظنة قد عارضتها مئنة. ومن الحكم أيضا في ذلك أن المطلقة قد لا تجد مسكنا لأن غالب النساء لم تكن لهن أموال وإنما هن عيال على الرجال فلما كانت المعتدة ممنوعة من التزوج كان إسكانها حقا على مفارقها استصحابا للحال حتى تحل للتزوج فتصير سكناها على من يتزوجها. ويزاد في المطلقة الرجعية قصد استبقاء الصلة بينها وبين مطلقها لعله أن يثوب إليه رشده فيراجعها فلا يحتاج في مراجعتها إلى إعادة التذاكر بينه وبينها أو بينه وبين أهلها. فهذا مجموع علل فإذا تخلفت واحدة منها لم يتخلف الحكم لأن الحكم المعلل بعلتين فأكثر لا يبطله سقوط بعضها بخلاف العلة المركبة إذا تخلف جزء منها.
{وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} .
الواو اعتراضية والجملة معترضة بين جملة {لا تُخْرِجُوهُنَّ} ، وجملة {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} أريد بهذا الاعتراض المبادرة بالتنبيه إلى إقامة الأحكام المذكورة من أول السورة إقامة لا تقصير فيها ولا خيرة لأحد في التسامح بها، وخاصة المطلقة والمطلق أن يحسبا أن ذلك من حقهما انفرادا أو اشتراكا.
والإشارة إلى الجمل المتقدمة باعتبار معانيها بتأويل القضايا.
والحدود: جمع حد وهو ما يحد، أي يمنع من الاجتياز إلى ما ورائه للأماكن التي لا يحبون الاقتحام فيها إما مطلقا مثل حدود الحمى وإما لوجوب تغيير الحالة مثل حدود الحرم لمنع الصيد وحدود المواقيت للإحرام بالحج والعمرة.
والمعنى: أن هذه الأحكام مشابهة الحدود في المحافظة على ما تقتضيه في هذا.
ووجه الشبه إنما يراعي بما يسمح به عرف الكلام مثل قولهم النحو في الكلام كالملح في الطعام فإن وجه التشبيه أنه لا يصلح الكلام بدونه وليس ذلك بمقتض أن يكون الكثير من النحو في الكلام مفسدا ككثرة الملح في الطعام.
ووقوع {حُدُودُ اللَّهِ} خبرا عن اسم الإشارة الذي أشير به إلى أشياء معينة يجعل إضافة حدود إلى اسم الجلالة مرادا منها تشريف المضاف وتعظيمه.
والمعنى: وتلك مما حد الله فلا تفيد تعريف الجمع بالإضافة عموما لصرف القرينة عن إفادة ذلك لظهور أن تلك الأشياء المعينة ليست جميع حدود الله.

{وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} .
عطف على جملة، {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} . فهو تتميم وهو المقصود من التذييل وإذ قد كان حدود الله جمعا معرفا بالإضافة كان مفيدا للعموم إذ لا صارف عن إرادة العموم بخلاف إضافة حدود الله السابق.
والمعنى: من يتعد شيئا من حدود الله فقد ظلم نفسه، وبهذا تعلم أن ليس في قوله: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} إظهار في مقام الإضمار لاختلاف هذين المركبين بالعموم والخصوص وجيء بهذا الإطناب لتهويل أمر هذا التعدي.
وأخبر عن متعديها بأنه ظلم نفسه للتخويف تحذيرا من تعدي هذه الحدود فإن ظلم النفس هو الجريرة عليها بما يعود بالإضرار وذلك منه ظلم لها في الدنيا بتعريض النفس لعواقب شيئة تنجر من مخالفة أحكام الذين لأن أحكامه صلاح للناس فمن فرط فيها فاتته المصالح المنطوية هي عليها.
قال: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة:6].
ومنه ظلم للنفس في الآخرة بتعريضها للعقاب المتوعد به على الإخلال بأحكام الدين قال تعالى: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر:56-58] فإن للمؤمنين حظا من هذا الوعيد بمقدار تفاوت ما بين الكفر ومجرد العصيان وجيء في هذا التحذير بمن الشرطية لإفادة عموم كل من تعدى حدود الله فيدخل في ذلك الذين يتعدون أحكام الطلاق وأحكام العدة في هذا العموم.
{لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} .
هذه الجملة تعليل لجملة {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} وما ألحق بها مما هو إيضاح لها وتفصيل لأحوالها. ولذلك جاءت مفصولة عن الجمل التي قبلها.
ويجوز كونها بدلا من جملة {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} بدل اشتمال لأن ظلم النفس بعضه حاصل في الدنيا وهو مشتمل على إضاعة مصالح النفس عنها. وقد

سلك في هذه الآية مسلك الترغيب في امتثال الأحكام المتقدمة بعد أن سلك في شانها مسلك الترهيب من مخالفتها.
فمن مصالح الاعتداد ما في مدة الاعتداد من التوسيع على الزوجين في مهلة النظر في مصير شأنهما بعد الطلاق، فقد يتضح لهما أو لأحدهما متاعب وأضرار من انفصام عروة المعاشرة بينهما فبعد ما أضجرهما من بعض خلقهما شيئا تافها بالنسبة لما لحقهما من أضرار الطلاق فيندم كلاهما أو أحدهما فيجدا من المدة ما يسع للسعي بينهما في إصلاح ذات بينهما.
والمقصود الإشارة إلى أهم ما في العدة من المصالح وهو ما يحدثه الله من أمر بعد الطلاق وتنكير أمر للتنويع. أي أمرا موصوفا بصفة محذوفة، أي أمرا نافعا لهما.
وهذا الأمر هو تقليب القلوب من بغض إلى محبة، ومن غضب إلى رضى، ومن إيثار تحمل المخالفة في الأخلاق مع المعاشرة على تحمل آلام الفراق وخاصة إذا كان بين المتفارقين أبناء، أو من ظهور حمل بالمطلقة بعد أن لم يكن لها أولاد فيلز ظهوره أباه إلى مراجعة أمه المطلقة. على أن في الاعتداد والإسكان مصالح أخرى كما علمته آنفا.
والخطاب في قوله: {لا تَدْرِي} لغير معين جار على طريقة القصد بالخطاب إلى كل من يصلح للخطاب ويهمه أمر الشيء المخاطب به من كل من قصر بصره إلى حالة الكراهية التي نشأ عليها الطلاق ولم يتدبر في عواقب الأمور ولا أحاط فكره بصور الأحوال المختلفة المتقلبة كما قال تعالى: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء:19].
ولعل كلمة {لا تَدْرِي} تجري مجرى المثل فلا يراد مما فيها من علامة الخطاب ولا من صيغة الإفراد إلا الجري على الغالب في الخطاب وهو مبني على توجيه الخطاب لغير معين.
و {لعل} ومعمولاها سادة معلقة فعل {تَدْرِي} عن العمل.
[2، 3] {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ

أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً}
{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}.
تفريع على جميع ما تقدم من أحكام العدة معطوف على جملة {وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} . [الطلاق:1] لأن إحصاءها بحفظ مدتها واستيعاب أيامها فإذا انتهت المدة فقد أعذر الله لهما والزيادة عليها إضرار بأحدهما أو بكليهما وفائدة الآجال الوقوف عند انتهائها.
وبلوغ الأجل أصله انتهاء المدة المقدرة له كما يؤذن به معنى البلوغ الذي هو الوصول إلى المطلوب على تشبيه الأجل المعين بالمكان المسير إليه وشاع ذلك في الاستعمال فالمجاز في لفظ الأجل وتبعه المجاز في البلوغ وقد استعمل البلوغ في هذه الآية في مقاربة ذلك الانتهاء مبالغة في عدم التسامح فيه وهذا الاستعمال مجاز آخر لمشابهة مقاربة الشيء بالحصول فيه والتلبس به.
وقرينة المجاز هنا هو لفظ الأجل لأنه لا تتصور المراجعة بعد بلوغ الأجل لأن في ذلك رفع معنى التأجيل.
ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} في سورة البقرة.[231].
والإمساك: اعتزام المراجعة عبر عنه بالإمساك للإيماء إلى أن المطلقة الرجعية لها حكم الزوجة فيما عدا الاستمتاع فكأنه لما راجعها قد أمسكها أن لا تفارقه فكأنه لم يفارقها لأن الإمساك هو الضن بالشيء وعدم التفريط فيه ومنه قوله تعالى: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} [الأحزاب: 37] وأنه إذا لم يراجعها فكأنه قد أعاد فراقها وقسا قلبه.
ومن أجل هذه النكتة جعل عدم الإمساك فراقا جديدا في قوله: {أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} .
والأمر في {فامسكوهن} {أو فارقوهن} للإباحة، وأو فيه للتخيير.
والباء في {بمعروف} للملابسة أي ملابسة كل من الإمساك والفراق للمعروف.
والمعروف: هو ما تعارفه الأزواج من حسن المعاملة في المعاشرة وفي الفراق.
فالمعروف في الإمساك: حسن اللقاء والاعتذار لها عما فرط والعود إلى حسن المعاشرة.

والمعروف في الفراق: كف اللسان عن غيبتها وإظهار الاستراحة منها.
والمعروف في الحالين من عمل الرجل لأنه هو المخاطب بالإمساك أو الفراق.
وأما المعروف الذي هو من عمل المرأة فمقرر من أدلة أخرى كقوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228].
وتقديم الإمساك أعني المراجعة على إمضاء المفارقة، إيماء إلى أنه أرضى لله تعالى وأوفق بمقاصد الشريعة مع ما تقدم من التعبير عن المراجعة بالإمساك، ففهم أن المراجعة مندوب إليها لأن أبغض الحلال إلى الله الطلاق.
ولما قيد أمر الإباحة من قوله: {فامسكوهن} {أو فارقوهن} ، بقيد بالمعروف، فهم منه أنه إن كان إمساك دون المعروف فهو غير مأذون فيه وهو الإمساك الذي كان يفعله أهل الجاهلية أن يطلق الرجل امرأته فإذا قاربت انتهاء عدتها راجعها أياما ثم طلقها بفعل ذلك ثلاثا ليطيل عليها من العدة فلا تتزوج عدة أشهر إضرار بها.
وقد تقدم هذا عند قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} ، إلى قوله: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا} في سورة البقرة[321].
{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} .
ظاهر وقوع هذا الأمر بعد ذكر الإمساك أو الفراق، أنه راجع إلى كليهما لأن الإشهاد جعل تتمة للمأمور به في معنى الشرط للإمساك أو الفراق لأن هذا العطف يشبه القيد وإن لم يكن قيدا وشأن الشروط الواردة بعد جمل أن تعود إلى جميعها.
وظاهر صيغة الأمر الدلالة على الوجوب فيتركب من هذين أن يكون الإشهاد على المراجعة وعلى بت الطلاق واجبا على الأزواج لأن الإشهاد يرفع أشكالا من النوازل وهو قول ابن عباس وأخذ به يحيى بن بكير من المالكية والشافعي في أحد قوليه وابن حنبل في أحد قوليه وروى عن عمران بن حصين وطاووس وإبراهيم وأبي قلابة وعطاء. وقال الجمهور الإشهاد المأمور به الإشهاد على المراجعة دون بت الطلاق.
أما مقتضى صيغة الأمر في قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ} فقيل هو مستحب وهو قول أبي حنيفة والمشهور عن مالك فيما حكاه ابن القصار ولعل مستند هذا القول عدم جريان العمل بالتزامه بين المسلمين في عصر الصحابة وعصور أهل العلم، وقياسه

على الإشهاد بالبيع فإنهم اتفقوا على عدم وجوبه وكلا هذين مدخول لأن دعوى العمل بترك الإشهاد دونها منع، ولأن قياس الطلاق والرجعة على البيع قد يقدح فيه بوجود فارق معتبر وهو خطر الطلاق والمراجعة وأهمية ما يترتب عليهما من الخصومات بين الانساب، وما في البيوعات مما يغني عن الإشهاد وهو التقايض في الاعواض. وقيل الأمر للوجوب المراجعة دون الفرقة وهو أحد قولي الشافعي وأحمد ونسبه إسماعيل بن حماد من فقهاء المالكية ببغداد إلى مالك وهو ظاهر مذهب ابن بكير.
واتفق الجميع على أن هذا الإشهاد ليس شرطا في صحة المراجعة أو المفارقة لأنه إنما شرع احتياطا لحقهما وتجنبا لنوازل الخصومات خوفا من أن يموت فتدعي أنها زوجة لم تطلق، أو أن تموت هي فيدعي هو ذلك، وكأنهم بنوه على أن الأمر لا يقتضي الفور، على أن جعل الشيء شرطا لغيره يحتاج إلى دليل خاص غير دليل الوجوب لأنه قد يتحقق الإثم بتركه ولا يبطل بتركه ما أمر بإيقاعه معه مثل الصلاة في الأرض المغصوبة. وبالثوب المغصوب. قال الموجبون للإشهاد لو راجع ولم يشهد أو بت الفراق ولم يشهد صحت مراجعته ومفارقته وعليه أن يشهد بعد ذلك.
قال يحي بن بكير: معنى الاستشهاد على المراجعة والمفارقة أن يشهد عند مراجعتها إن راجعها، وعند انقضاء عدتها إن لم يراجعها أنه قد كان طلقها وأن عدتها قد انقضت.
ولفقهاء الأمصار في صفة ما تقع المراجعة من صيغة بالقول ومن فعل ما هو من أفعال الأزواج، تفاصيل محلها كتب الفروع ولا يتعلق بالآية إلا ما جعله أهل العلم دليلا على المراجعة عند من جعله كذلك.
{وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ}
عطف على {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} .
والخطاب موجه لكل من تتعلق به الشهادة من الشهود عليهم والشهود كل يأخذ بما هو حظه من هذين الخطابين. وليس هو من قبيل {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ} [يوسف: 29] لظهور التوزيع هناك باللفظ دون ما هنا فإنه بالمعنى فالكل مأمورون بإقامة الشهادة.
فتعريف الشهادة لاستغراق، أي كل شهادة وهو استغراق عرفي لأن المأمر به الشهادة الشرعية.

ومعنى إقامة الشهادة: إيقاعها مستقيمة لا عوج فيها فالإقامة مستعارة لإيقاع الشهادة على مستوفيها ما يجب فيها شرعا مما دلت عليه أدلة الشريعة وهذه استعارة شائعة وتقدم عند قوله تعالى: {وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ} في سورة البقرة[282].
وقوله: {لله} ، أي لأجل الله وامتثال أمره لا لأجل المشهود له ولا لأجل المشهود عليه ولا لأجل منفعة الشاهد والإبقاء على راحته. وتقدم بعض هذا عند قوله تعالى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} في سورة البقرة[282].
{ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} .
الإشارة إلى جميع ما تقدم من الأحكام التي فيها موعظة للمسلمين من قوله: {وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ} [الطلاق:1]، إلى قوله: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} .
والوعظ: التحذير مما يضر والتذكير الملين للقلوب وقد تقدم عند قوله تعالى: {ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ}في سورة البقرة:[232] وعند قوله تعالى: : {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ} في سورة النور[17].
{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} .
اعتراض بين جملة {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} وجملة {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} [الطلاق:4] الآية، فأن تلك الأحكام لما اعتبرت موعظة بقوله: {ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} أعقب ذلك بقضية عامة، وهي أن تلك من تقوى الله تعالى وبما لتقوى الله من خير في الدنيا والآخرة على عادة القرآن من تعقيب الموعظة والترهيب بالبشارة والترغيب.
ولما كان أمر الطلاق غير حال من حرج وغم يعرض للزوجين وأمر المراجعة لا يخلو في بعض أحواله من تحمل أحدهما لبعض الكره من الأحوال التي سببت الطلاق، أعلمهما الله بأنه وعد المتقين الواقفين عند حدوده أن يجعل لهم مخرجا من الضائقات شبه ما هم فيه من الحرج بالمكان المغلق على الحال فيه وشبه ما يمنحهم الله به من اللطف وإجراء الأمور على ما يلائم أحوالهم بجعل منفذ في المكان المغلق بتخلص منه المتضائق فيه.
ففي الكلام استعارة أن إحداهما ضمنية مطوية والأخرى صريحة وشمل المخرج ما يحف من اللطف بالمتقين في الآخرة أيضا بتخليصهم من أهوال الحساب والانتظار

فالمخرج لهم في الآخرة هو الإسراع بهم إلى النعيم.
ولما كان من دواعي الفراق والخلاف بين الزوجين ما هو من التقتير في الإنفاق لضيق ذات اليد فكان الإحجام عن المراجعة عارضا كثيرا للناس بعد التطليق، أتبع الوعد بجعل المخرج للمتقين بالوعد بمخرج خاص وهو مخرج التوسعة في الرزق.
وقوله: {مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} احتراس لئلا يتوهم أحد أن طرق الرزق معطلة عليه فيستبعد ذلك فيمسك عن مراجعة المطلقة لأنه لا يستقبل مالا ينفق منه، فأعلمه الله أن هذا الرزق لطف من الله والله أعلم كيف يهئ له أسبابا غير مترقبة.
فمعنى {مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} : من مكان لا يحتسب منه الرزق أي لا يظن أنه يرزق منه.
و {حيث} مستعملة مجازا في الأحوال والوجوه تشبيها للأحوال بالجهات لأنها لما جعلت مقارنة للرزق أشبهت المكان الذي يرد منه الوارد ولذلك كانت {من} هنا للابتداء المجازي تبعا لاستعارة حيث. ففي حرف {من} استعارة تبعية. وذكر الواحدي في أسباب النزول أنها نزلت في شأن عوف بن مالك الأشجعي إذ أسر المشركون ابنه سالما فأتى عوف النبي صلى الله عليه وسلم وشكا إليه ذلك وأن أمه جزعت فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتق الله واصبر" وأمره وزوجته أن يكثرا قولا لا حول ولا قوة إلا بالله فغفل المشركون عن الابن فساق عنزا كثيرة من عنز المشركين وجاء بها المدينة فنزلت الآية، فيجوز أن يكون نزولها في أثناء نزول هذه السورة فصادفت الغرضين، ويكون ذلك من قبيل معجزات القرآن.
{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} .
تكملة للتي قبلها فإن تقوى الله سبب تفريح الكرب والخلاص من المضائق، وملاحظة المسلم ذلك ويقينه بأن الله يدفع عنه ما يخطر بباله من الخواطر الشيطانية التي تثبطه عن التقوى ويحقق وعد اله إياه بأن يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب.
وحسب: وصف بمعنى كاف. وأصله اسم مصدر أو مصدر.
وجملة {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} في موضع العلة لجملة {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} ، أي لا تستبعدوا وقوع ما وعدكم الله حين ترون أسباب ذلك مفقودة فإن الله إذا وعد وعدا فقد أراده وإذا أراد الله أمرا يسر أسبابه.

ولعل قوله {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} إشارة إلى هذا المعنى، أي علم الله أن يكفي من يتوكل عليه مهمة فقدر لذلك أسبابه كما قدر أسباب الأشياء كلها فلا تشكوا في إنجاز وعده فإنه إذا أراد أمرا يسر أسبابه من حيث لا يحتسب الناس وتصاريف الله تعالى خفية عجيبة.
ومعنى {بَالِغُ أَمْرِهِ} : واصل إلى مراده. والبلوغ مجاز مشهور في الحصول على المراد. والأمر هنا بمعنى الشأن.
وعن عبد الله بن رافع لما نزل قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} قال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أي بعضهم : فنحن إذا توكلنا نرسل ما كان لنا ولا نحفظه فنزلت {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ}، أي فيكم وعليكم اهـ.
وقرأ الجمهور {بالغ } بالتنوين و {أمره} بالنصب. وقرأه حفص عن عاصم {بَالِغُ أَمْرِهِ} بإضافة {بالغ} إلى {أمره} .
{قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} .
لهذه الجملة موقع تتجلى فيه صورة من صور إعجاز القرآن في ترتيب مواقع الجمل بعضها بعد بعض كما نبهت عليه في مواقع سلفت. فهذه الجملة لها موقع الاستئناف البياني ناشئ عما اشتملت عليه جمل {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} ، إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} لأن استعداد السامعين لليقين بما تضمنته تلك الجمل متفاوت فقد يستبعد بعض السامعين تحقق الوعد لأمثاله بما تضمنته تلك الجمل يعرضها على ارتباك أحواله، أو يتردد يقينه فيقول: أين أنا من تحصيل هذا، حين يتبع نظره فيرى بونا عن حصول الموعود بسبب انعدام وسائله لديه فيتملكه اليأس.
فهذا الاستئناف البياني وقع عقب الوعد تذكيرا بأن الله علم مواعيده وهيأ لها مقادير حصولها لأنه جعل لكل شيء قدرا.
ولها موقع التعليل لجملة {وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} [الطلاق:1] فإن العدة من الأشياء فلما أمر الله بإحصاء أمرها غلل ذلك بأن تقدير مدة العدة جعله الله، فلا يسوغ التهاون فيه.
ولها موقع التذييل لجملة {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق:1]، أي الذي وضع تلك الحدود قد جعل لكل شيء قدرا لا يعدوه كما جعل الحدود.

ولها موقع التعليل لجملة {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} ، لأن المعنى إذا بلغن القدر الذي جعله الله لمدة العدة فقد حصل المقصد الشرعي الذي أشار إليه قوله تعالى: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} [الطلاق:1] فالمعنى: فإن لم يحدث الله أمر المراجعة فقد رفق بكم وحط عنكم امتداد العدة.
ولها موقع التعليل لجملة {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} فإن الله جعل الشهادة قدرا لرفع النزاع.
فهذه الجملة جزء آية وهي تحتوي على حقائق من الحكمة.
ومعنى {لكُلِّ شَيْءٍ} لكل موجود، أي لكل حادث فالشيء الموجود سواء كان ذاتا أو معنى من المعاني قال تعالى {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} [القمر:52]. فعموم قوله: {لكُلِّ شَيْءٍ} صريح في أن ما وعد الله به يجعل له حين تكوينه قدرا.
قال الراغب في مفرداته: وذلك أن فعل الله ضربان: ضرب أوجده بالفعل، ومعنى إيجاده بالفعل أنه أبدعه كاملا دفعة لا تعتريه الزيادة والنقصان إلى أن يشاء أن يغنيه أو يبدله كالسماوات وما فيها. ومنها ما جعل أصوله موجودة بالفعل وأجزاءه بالصلاحية وقدره على وجه لا يتأتى منه غير ما قدره فيه كتقديره في النواة أن ينبت منها النخل دون أن ينبت منها تفاح أو زيتون. وتقديره نطفة الإنسان لأن يكون منها إنسان دون حيوان آخر. فتقدير الله على وجهين: أحدهما بالحكم منه أن تكون كذا أو لا يكون كذا: إما على سبيل الوجوب وإما على سبيل الإمكان. وعلى ذلك قوله: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} . والثاني بإعطاء القدرة عليه، وعلى ذلك قوله: {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} [المرسلات:23] أو يكون من قبيل قوله: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} اهـ.
والقدر: مصدر قدره المتعدي إلى مفعول بتخفيف الدال الذي معناه وضع فيه بمقدار كمية ذاتية أو معنوية تجعل على حسب ما يتحمله المفعول. فقدر كل مفعول لفعل قدر ما تتحمله طاقته واستطاعته من أعمال، أو تتحمله مساحته من أشياء أو يتحمله وعيه لما يكد به ذهنه من مدارك وأفهام. ومن فروع هذا المعنى ما في قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} في سورة البقرة [286]. وقوله هنا {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7].
ومن جزئيات معنى القدر ما يسمى التقدير: مصدر قدر المضاعف إذا جعل شيئا أو

أشياء على مقدار معين مناسب لما جعل لأجله كقوله تعالى: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} في سورة سبأ[11].
[4 ،5] {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} .
{وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} .
عطف على قوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1] فإن العدة هنالك أريد بها الإقراء فأشعر ذلك أن تلك المعتدة ممن لها أقراء، فبقي بيان اعتداد المرأة التي تجاوزت سن المحيض أو التي لم تبلغ سن من تحيض وهي الصغيرة. وكلتاهما يصدق عليها أنها آيسة من المحيض، أي في ذلك الوقت.
والوقف على قوله: {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} ، أي هن معطوفات على الآيسين.
واليأس: عدم الأمل. والمأيوس منه في الآية يعلم من السياق من قوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1]، أي يئسن من المحيض سواء كان اليأس منه بعد تعدده أو كان بعدم ظهوره، أي لم يكن انقطاعه لمرض أو إرضاع. وهذا السن يختلف تحديده باختلاف الذوات والأقطار كما يختلف سن ابتداء الحيض كذلك. وقد اختلف في تحديد هذا السن بعدد السنين فقيل: ستون سنة، وقيل: خمس وخمسون، وترك الضبط بالسنين أولى وإنما هذا تقريب لإبان اليأس.
والمقصود من الآية بين وهي مخصصة لعموم قوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} من سورة البقرة[228]. وقد نزلت سورة الطلاق بعد سورة البقرة.
وقد خفي مفاد الشرط من قوله: {إِنِ ارْتَبْتُمْ} وما هو متصل به. وجمهور أهل التفسير جعلوا هذا الشرط متصلا بالكلام الذي وقع هو في أثنائه، وإنه ليس متصلا بقوله: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق:1] في أول هذه السورة خلافا لشذوذ تأويل بعيد وتشتيت لشمل الكلام، ثم خفي المراد من هذا الشرط بقوله {إِنِ ارْتَبْتُمْ} .
وللعلماء فيه طريقتان:
الطريقة الأولى: مشى أصحابها إلى أن مرجع اليأس غير مرجع الارتياب باختلاف

المتعلق، فروى أشهب عن مالك أن الله تعالى لما بين عدة ذوات القروء وذوات الحمل، أي في سورة البقرة، وبقيت اليائسة والتي لم تحض ارتاب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في أمرهما فنزلت هذه الآية. ومثله مروي عن مجاهد، وروى الطبري حبرا عن أبي بن كعب أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اعتداد هاتين اللتين لم تذكرا في سورة البقرة، فنزلت هذه الآية. فجعلوا حرف {إن} بمعنى إذ وأن الاتياب وقع في حكم العدة قبل نزول الآية، أي إذ ارتبتم في حكم ذلك فبيناه بهذه الآية قال ابن العربي: حديث أبي غير صحيح. وأنا أقول: رواه البيهقي في سنته والحاكم في المستدرك وصححه . والطبراني بسنده عن عمرو بن سالم أن أبيا قال: وليس في رواية الطبري ما يدل على إسناد الحديث.
وهو في رواية البيهقي بسنده إلى أبي عثمان عمر بن سالم الأنصاري1 عن أبي بن كعب وهو منقطع، لأن أبا عثمان لم يلق أبي بن كعب وأحسب أنه في مستدرك الحاكم كذلك لأن البيهقي رواه عن الحاكم فلا وجه لقول ابن العربي: هو غير صحيح. فإن رجال سنده ثقات.
وفي أسباب النزول للواحدي عن قتادة أن خلاد2 بن النعمان وأبيا سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فنزلت هذه الآية. وقيل: إن السائل معاذ بن جبل سأل عن عدة الآيسة.
فالريبة على هذه الطريقة تكون مرادا بها ما حصل من التردد في حكم هؤلاء المطلقات فتكون جملة الشرط معترضة بين المبتدإ وهو الموصول وبين خبره وهو جملة {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} .
والفاء في {فعدتهن} داخلة على جملة الخبر لما في الموصول من معنى الشرط مثل قوله تعالى: {وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} [النساء: 16] ومثله كثير في الكلام.
والارتياب على هذا قد وقع فيما مضى فتكون {إن} مستعملة في معنى اليقين بلا نكتة.
والطريقة الثانية: مشى أصحابها إلى أن مرجع اليأس ومرجع الاتياب واحد، وهو حالة المطلقة من المحيض، وهو عن عكرمة وقتادة وابن زيد وبه فسر يحيى بن بكير
ـــــــ
1 هو قاضي مرو، وروى عن القاسم بن محمد.
2 خلاد بخاء معجمة في أوله ابن النعمان الأنصاري. قال في الإصابة : لم يذكر إلا في تفسير مقاتل.

وإسماعيل بن هاد من المالكية ونسبه ابن لبابة من المالكية إلى داود الظاهري.
وهذا التفسير يمحض أن يكون المراد من الارتياب حصول الريب في حال المرأة.
وعلى هذا فجملة الشرط وجوابه خبر عن {اللَّائِي يَئِسْنَ} ، أي إن ارتبن هن وارتبتم أنتم لأجل ارتيابهن، فيكون ضمير جمع الذكور المخاطبين تغليبا ويبقى الشرط على شرطيته. والارتياب مستقبل والفاء رابطة للجواب.
وهذا التفسير يقتضي أن يكون الاعتداد بثلاثة أشهر مشروطا بأن تحصل الريبة في يأسها من المحيض فاصطدم أصحابه بمفهوم الشرط الذي يقتضي أنه إن لم تحصل الريبة في يأسهن أنهن لا يعتددن بذلك أو لا يعتددن أصلا فنسب ابن لبابة من فقهاء المالكية إلى داود الظاهري أنه ذهب إلى سقوط العدة عن المرأة التي يوقن أنها يائسة.
قلت ولا تعرف نسبة هذا إلى داود. فإن ابن حزم: لم يحكه عنه ولا حكاه أحد ممن تعرضوا لاختلاف الفقهاء، قال ابن لبابة: وهو شذوذ، وقال ابن لبابة: وأما ابن بكير وإسماعيل بن جماد، أي من فقهاء المالكية فجعلا المرأة المتيقن يأسها ملحقة بالمرتابة في العدة بطريق القياس يريد أن العدة لها حكمتان براءة الرحم، وانتظار المراجعة، وأما الذين لا يعتبرون مفهوم المخالفة فهم في سعة مما لزم الذين يعتبرونه.
وأصحاب هذا الطريق مختلفون في الوجهة وفي محمل الآية بحسبها: فقال عكرمة وابن زيد وقتادة: ليس على المرأة المرتاب في معودة الحيض إليها عدة أكثر من ثلاثة أشهر تعلقا بظاهر للآية ولعل علة ذلك عندهم أن ثلاثة الأشهر يتبين فيها أمر الحمل فإن لم يظهر حمل بعد انقضائها تمت عدة المرأة، لأن الحمل بعد سن اليأس نادر فإذا اعترتها ريبة الحمل انتقل النظر إلى حكم الشك في الحمل وتلك مسألة غير التي نزلت في شأنها الآية.
وقال الأكثرون من أهل العلم: إن المرتاب في ]أسها نمكث تسعة أشهر أي أمد الحمل المعتاد فإن لم يظهر بها حمل ابتدأت الاعتداد بثلاثة أشهر فتكمل لها سنة كاملة. وأصل ذلك ما رواه سعيد بن المسيب من قضاء عمر بن الخطاب ولم يخالف أحد من الصحابة، وأخذ به مالك. وعن مالك في المدونة : تسعة أشهر للريبة والثلاثة الأشهر هي العدة. ولعلهم رأوا أن العدة بعد مضي التسعة الأشهر تعبد لأن ذلك هو الذي في القرآن وأما التسعة الأشهر فأوجبها عمر بن الخطاب لعله بالاجتهاد، وهو تقييد للإطلاق

الذي في الآية.
وقال النخعي وسفيان الثوري وأبو حنيفة الشافعي: تعتد المرتاب في يأسها بالإقراء أي تنتظر الدم إلى أن يبلغ سن من لا يشبه أن تحيض ولو زادت مدة انتظارها على تسعة أشهر. فإذا بلغت سن اليأس دون ريبة اعتدت بثلاثة أشهر من يومئذ. ونحن نتأول له بأن تقدير الكلام: فعدتهن ثلاثة أشهر، أي بعد زوال الارتياب كما سنذكره، وهو مع ذلك يقتضي أن هذه الثلاثة الأشهر بعد مضي تسعة أشهر أو بعد مضي مدة تبلغ بها سن من لا يشبه أن تحيض تعبد، لأن انتفاء الحمل قد اتضح وانتظار المراجعة قد امتد. إلا أن نعتذر لهم بأن مدو الانتظار لا يتحفز في خلالها المطلق للرأي في أمر المراجعة لأنه في سعة الانتظار فيزاد في المدة لأجل ذلك، وفي تفسير القرطبي: قال عكرمة وقتادة: من الريبة المرأة المستحاضة التي لا يستقيم لها الحيض في أول الشهر مرارا، وفي الأشهر مرة أي بدون انضباط اهـ. ونقل الطبري مثل هذا الكلام عن الزهري وابن زيد، فيجب أن يصار إلى هذا الوجه في تفسير الآية. والمرأة إذا قاربت وقت اليأس لا ينقطع عنها الحيض دفعة واحدة بل تبقى عدة أشهر ينتابها الحيض غبا بدون انتظام ثم ينقطع تماما.
وقوله تعالى: {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} عطف على {وَاللَّائِي يَئِسْنَ} والتقدير: عدتهن ثلاثة أشهر. ويحسن الوقف على قوله: {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} .
{وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}.
معطوفة على جملة {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} فهي إتمام العدة المجمل في قوله تعالى: {وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} وتقدير الكلام: وأولات الأحمال منهن، أي من المطلقات أجلهن أن يضعن حملهن.
فحصل بهذه الآية مع التي قبلها تفصيل لأحوال المطلقات وحصل أيضا منها بيان الإجمال الآية التي في سورة البقرة.
{وأولات} اسم جمع لذات بمعنى: صاحبة. وذات: مؤنث ذو، بمعنى: صاحب. ولا مفرد ل {أولات} من الفظه كما لا مفرد للفظ "أولو" و {أولات} مثل ذوات كما أن أولو مثل ذوو. ويكتب {أولات} بواو بعد الهمزة في الرسم تبعا لكتابة لفظ "أولو" بواو بعد الهمزة لقصد التفرقة في الرسم بين أولى في حالة النصب والجر وبين حرف "إلى". وليتهم قصروا كتابته بواو بعد الهمزة على لفظ أولي المذكر المنصوب أو

المجرور وتركوا التكلف في غيرهما.
وجعلت عدة المطلقة الحامل منهاة بوضع الحمل لأنه لا أدل على براءة الرحم منه، إذ الغرض الأول من العدة تحقق براءة الرحم من ولد للمطلق أو ظهور اشتغال الرحم بجنين له. وضم إلى ذلك غرض آخر وهو ترقب ندم المطلق وتمكينه من تدارك أمره بالمراجعة، فلما حصل الأهم ألغي ما عداه رعيا لحق المرأة في الانطلاق من حرج الانتظار، على أن الحمل قد يحصل بالقرب من الطلاق فألغي قصد الانتظار تعليلا بالغالب دون النادر، خلافا لمن قال في المتوفى عنها: عليها أقصى الأجلين وهو منسوب إلى علي بن أبي طالب وابن عباس.
وبهذا التفسير لا تتعارض هذه الآية مع آية عدة المتوفى عنها التي في سورة البقرة [234] {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} . لأن تلك في واد وهذه في واد، تلك شأن المتوفى عنهن وهذه في شأن المطلقات.
ولكن لما كان أجل أربعة أشهر وعشر للمتوفى عنها منحصرة حكمته في تحقق براءة رحم امرأة المتوفى من ولد له إذ لا فائدة فيه غير ذلك ولا يتوهم أن الشريعة جعلت ذلك لغرض الحزن على الزوج المتوفى للقطع بأن هذا مقصد جاهلي، وقد دلت الشريعة في مواضع على إبطاله والنهي عنه في تصاريف كثيرة كما بيناه في تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} الخ في سورة البقرة[234].
وقد علمنا أن وضع الحمل غاية لحصول هذا المقصد نجم من جهة المعنى أن المتوفى عنها الحامل إذا وضعت حملها تخرج من عدة وفاة زوجها ولا تقضي أربعة أشهر وعشرا كما أنها لو كان أمد حملها أكثر من أربعة أشهر وعشر لا تقتصر على الأربعة الأشهر وعشر إذ لا حكمة في ذلك.
من أجل ذلك كانت الآية دالة على أن عدة الحامل وضع حملها سواء كانت معتدة من طلاق أم كانت معتدة في وفاة.
ومن أجل ذلك قال جمهور أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم: إن عدة الحامل المتوفى عنها كعدتها من الطلاق وضع حملها غير أن أقوالهم تدل على أن بينهم من كانوا يرون في تعارض العمومين أن العام المتأخر منهما ينسخ العام الآخر وهي طريقة المتقدمين.

روى أهل الصحيح أن عبد الله بن مسعود لما بلغه أن علي بن أبي طالب قال في عدة الحامل المتوفى عنها: إن عليها أقصى الأجلين أي أجل وضع الحمل وأجل الأربعة الأشهر والعشر قال ابن مسعود: لنزلت سورة النساء القصرى أي سورة الطلاق بعد الطولى أي بعد طولى السور وهي البقرة، أي ليست ىية سورة البقرة بناسخة لما في آية سورة الطلاق. ويعضدهم خبر سبيعة بنت الحارث الأسلمية توفى زوجها سعد بن خولة في حجة الوداع بمكة وتركها حاملا فوضعت بعد وفاته بخمس عشرة ليلة وقيل بأربعين ليلة. فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في التزوج فقال لها: "قد حللت فانكحي إن شئت". روته أم سلمة أم المؤمنين وقبله معظم الصحابة الذين بلغهم. وتلقاه الفقهاء بعدهم بالقبول ويشهد له بالمعنى والحكمة كما تقدم آنفا.
واختلف المتأخرون من أهل الأصول في وجه العمل في تعارض عمومين كل واحد منهما عام من وجه مثل هاتين الآيتين فالجمهور درجوا على ترجيح أحدهما بمرجح والحنفية جعلوا المتأخر من العمودين ناسخا للمتقدم. فقوله {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ} لأن الموصول من صيغ العموم فيعم كل حامل معتدة سواء كانت في عدة الطلاق أو في عدة وفاة، وقوله {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة:234] تعم كل امرأة تركها الميت سواء كانت حاملا أو غير حامل، لأن {أواجا} نكرة وقعت مفعول الصلة وهي {يذرون} المشتملة على ضمير الموصول الذي هو عام فمفعوله تبع له عمومه فيشمل المتوفى عنهن الحوامل وهن ممن شملهن عموم {أُولاتُ الْأَحْمَالِ} فتعارض العمومان كل من وجه، فآية {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ} اقتضت أن الحوامل كلهن تنتهي عدتهن بالوضع وقد يكون الوضع قبل الأربعة الأشهر والعشر، وآية البقرة يقتضي عمومها أن المتوفى عنهن يتربصن أربعة أشهر وعشرا. وقد يتأخر هذا الأجل عن وضع الحمل.
فذهب الجمهور إلى ترجيح عموم {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ} على عموم {وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً} [البقرة:234] من وجوه.
أحدها أن عموم{وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ} حاصل بذات اللفظ لأن الموصل مع صلته من صيغ العموم، وأما قوله: {وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً} فإن {أزواجا} نكرة في سياق الإثبات فلا عموم لها في لفظها وإنما عرض لها العموم تبعا لعموم الموصول العامل فيها وما كان عمومه بالذات أرجح مما كان عمومه بالعرض.

وثانيها: أن الحكم في عموم {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ} علق بمدلول صلة الموصول وهي مشتق، وتعليق الحكم بالمشتق يؤذن بتعليل ما اشتق منه بخلاف العموم الذي في سورة البقرة، فما كان عمومه معللا بالوصف أرجح في العمل مما عمومه غير معلل.
وثالثها: قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدة سبيعة الأسلمية.
وذهب الحنيفية إلى أن عموم {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ} ناسخ لعموم قوله {وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً} [البقرة:234] في مقدار ما تعارضا فيه.
ومآل الرأيين واحد هو أن عدة الحامل وضع حملها سواء كانت معتدة من طلاق أم من وفاة زوجها.
والصحيح أن آية البقرة لم يرتفع حكمها وشذ القائلون بأن المتوفى عنها إن لم تكن حاملا ووضعت حملها يجب عليها عدة أربعة أشهر وعشر.
وقال قليل من أهل العلم بالجمع الآيتين بما يحقق العمل بهما معا فأوجبوا على الحامل المتوفى عنها زوجها الاعتداد بالأقصى من الأجلين أجل الأربعة الأشهر والعشر. وأجل وضع الحمل، وهو قول علي بن أبي طالب وابن عباس. وقصدهم من ذلك الاحتياط لأنه قد تأتى لهم هنا إذ كان التعارض في مقدار زمنين فأمكن العمل بأوسعهما الذي يتحقق فيه الآخر وزيادة فيصير معنى هذه الآية {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} ما لم تكن في عدة وفاة ويكون معنى آية سورة البقرة وأزواج المتوفين يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا ما لم تكن حوامل فيزدن تربصا إلى وضع الحمل. ولا يجوز تخصيص عموم {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة:234] بما في آية {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} من خصوص بالنظر إلى الحوامل المتوفى عنهن، إذ لا يجوز أن تنتهي عدة الحامل المتوفى عنها التي مضت عليها أربعة أشهر وعشر قبل وضع حملها من عدة زوجها، وهي في حالة حمل لأن ذلك مقرر بطلانه من عدة أدلة في الشريعة لا خلاف فيها وإلى هذا ذهب ابن أبي ليلى.
وفي صحيح البخاري عن محمد بن سيرين قال: كنت في حلقة فيها عظم من الأنصار أي بالكوفة وفيهم عبد الرحمان بن أبي ليلى وكان أصحابه يعظونه فذكر آخر الأجلين، فحدثت حديث عبد الله بن عتبة في شأن سبيعة بنت الحارث فقال عبد الرحمان

لكن عمه أي عم عتبة وهو عبد الله بن مسعود كان لا يقول ذلك أي لم يحدثنا به فقلت: إني إذن لجريء إن كذبت على رجل في جانب الكوفة وكان عبد الله بن عتبة ساكنا بظاهر الكوفة فخرجت فلقيت عامرا أو مالك بن عوف فقلت: كيف كان قول ابن مسعود في المتوفى عنها زوجها وهي حامل، فقال: قال ابن مسعود: أتجعلون عليها التغليظ ولا تجعلون لها الرخصة لنزلت سورة النساء القصرى بعد الطولى أي البقرة.
وفي البخاري عن أبي سلمة جاء رجل إلى ابن عباس وأبو هريرة جالس عنده فقال: أفتني في امرأة ولدت بعد زوجها بأربعين ليلة فقال ابن عباس: آخر الأجلين. فقلت أنا {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} . قال أبو هريرة: أنا مع ابن أخي أي مع أبي سلمة فأرسل ابن عباس كريبا إلى أم سلمة يسألها فقالت: قتل كذا والتحقيق أنه مات حجة الوداع زوج سبيعة الأسلمية وهي حبلى فوضعت بعد موته بأربعين ليلة فخطبت فأنكحها رسول الله. وقد قال بعضهم: إن ابن عباس رجع عن قوله. ولم يذكر رجوعه في حديث أبي سلمة.
{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} .
تكرير للموعظة وهو اعتراض. والقول فيه كالقول في قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاًوَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [2، 3]. والمقصود موعظة الرجال والنساء على الأخذ بما في هذه الأحكام مما عسى أن يكون فيه مشقة على أحد بأن على كل أن يصبر لذلك امتثالا لأمر الله فإن الممتثل وهو مسمى المتقي يجعل الله له يسرا فيما لحقه من عسر.
والأمر: الشأن والحال. والمقصود: يجعل له من أمره العسير في نظره يسرا بقرينة جعل اليسر لأمره.
و {من} للابتداء المجازي المراد به المقارنة والملابسة.
واليسر: انتفاء الصعوبة، أي انتفاء المشاق والمكروهات.
والمقصود من هذا تحقيق الوعد باليسر فيما شأنه العسر لحث الأزواج على امتثال ما أمر الله به الزوج من الإنفاق في مدة العدة ومن المراجعة وترك منزله لأجل سكناها إذا كان لا يسعهما وما أمر المرأة من تربص أمد العدة وعدم الخروج ونحو ذلك.

والإشارة بقوله: {ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ} إلى الأحكام المتقدمة من أول السورة. وهذه الجملة معترضة بين المتعاطفتين.
والأمر في قوله {أَمَرَ اللَّهُ} : حكمه وما شرعه لكم كما قال: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52].
وإنزاله: إبلاغه إلى الناس بواسطة الرسول صلى الله عليه وسلم أطلق عليه الإنزال تشبيها لشرف معانيه وألفاظه بالشيء الرفيع لأن الشريف يتخيل رفيعا. وهو استعارة كثيرة في القرآن. ففي قوله: {أَنْزَلَهُ} استعارة مكنية.
والكلام كناية عن الحث على التهمم برعايته والعمل به وبعث الناس على التنافس في العلم به إذ قد اعتنى الله بالناس حيث أنزل إليهم ما فيه صلاحهم.
وأعيد التحريض على العمل بما أمر الله بالوعد بما هو أعظم من الأرزاق وتفريج الكرب وتيسر الصعوبات في الدنيا. وذلك هو تكفير للسيئات وتوفير الأجور.
والجملة معطوفة على الجملة المعترضة فلها حكم الاعتراض.
وجيء بالوعد من الشرط لتحقيق تعليق الجواب على شرطه.
[6] {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} .
{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} .
هذه الجملة وما ألحق بها من الجمل إلى قوله: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ} [الطلاق: 8] الخ.
تشريع مستأنف فيه بيان لما أجمل في الآيات السابقة من قوله: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق: 1] وقوله: {أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق:2]، وقوله: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4] فتتنزل هذه الجمل من اللاتي قبلها منزلة البيان لبعض، ويدل الاشتمال لبعض وكل ذلك مقتضى للفصل. وابتدئ ببيان ما في {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق:1] من إجمال.
والضمير المنصوب في {أسكنوهن} عائد إلى النساء المطلقات في قوله: {إذا طلقتم} [الطلاق:1]. وليس فيما تقدم من الكلام ما يصلح لأن يعود عليه هذا الضمير إلا لفظ النساء وإلا لفظ {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ} [الطلاق: 4]، ولكن لم يقل أحد بأن الإسكان

خاص بالمعتدات الحوامل فإنه ينافي قوله تعالى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ} [الطلاق:1] فتعين عود الضمير إلى النساء المطلقات كلهن، وبذلك يشمل المطلقة الرجعية والبائنة والحامل، لما علمته في أول السورة من إرادة الرجعية والبائنة من لفظ {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق:1].
وجمهور أهل العلم قائلون بوجوب السكنى لهن جميعا. قال أشهب: قال مالك يخرج عنها إذا طلقها وتبقى هي في المنزل. وروى ابن نافع قال مالك: فأما التي لم تبن فإنها زوجة يتوارثان والسكنى لهن لازمة لأزواجهن اهـ. يريد أنها مستغنى عن أخذ حكم سكناها من هذه الآية. ولا يريد أنها ميتثناة من حكم الآية. وقال قتادة وابن أبي ليلى وإسحاق وأبو ثور وأحمد بن حنبل: لا سكنى للمطلقة طلاقا بائنا. ومتمسكهم في ذلك ما روته فاطمة بنت قيس: أن زوجها طلقها ثلاثا وأن أخا زوجها منعها من السكنى والنفقة، وأنها رفعت أمرها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها: "إنما السكنى والنفقة على من له عليها الرجعة". وهو حديث غريب لم يعرفه أحد إلا من رواية فاطمة بنت قيس. ولم يقبله عمر بن الخطاب. فقال: لا نترك كتاب الله وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري لعلها نسيت أو شبه عليها. وأنكرته عائشة على فاطمة بنت قيس فيما ذكرته من أنه أذن لها في الانتقال إلى مكان غير الذي طلقت فيه كما تقدم.
وروي أن عمر روى عن النبي صلى الله عليه وسلم "أن للمطلقة البائنة سكنى"1. ورووا أن قتادة وابن أبي ليلى أخذا بقوله تعالى: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} [الطلاق:1] إذ الأمر هو المراجعة، فقصرا الطلاق في قوله {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق:1]، على الطلاق الرجعي لأن البائن لا تترقب بعده مراجعة وسبقها إلى هذا المأخذ فاطمة بنت قيس المذكورة.
روى مسلم أن مروان بن الحكم أرسل إلى فاطمة بنت قيس يسألها عن الحديث فحدثته فقال مروان: لم نسمع هذا الحديث إلا من المرأة سنأخذ بالعصمة التي وجدنا عليها الناس فبلغ قول مروان فاطمة بنت قيس فقالت: بيني وبينكم القرآن، قال الله عز وجل {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} ، إلى قوله {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} [الطلاق:1]. قالت: هذا لمن كانت له رجعة فأي أمر يحدث بعد الثلاث اهـ.
ويرد على ذلك أن إحداث الأمر ليس قاصرا على المراجعة فإن من الأمر الذي يحدثه الله أن يرفق قلوبهما فيرغبا معا في إعادة المعاشرة بعقد جديد. وعلى تسليم اقتصار
ـــــــ
1 هكذا يروي المفسرون عن عمر: أنه سمع من النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ولم أقف عليه مسندا.

ذلك على إحداث أمر المراجعة فذكر هذه الحكمة لا يقتضي تخصيص عموم اللفظ الذي قبلها إذ يكفي أن تكون حكمة لبعض أحوال العام. فالصواب أن حق السكنى للمطلقات كلهن، وهو قول جمهور العلماء.
وقوله {مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} ، أي في البيوت التي تسكنونها، أي لا يكلف المطلق بمكان للمطلقة غير بيته ولا يمنعها السكنى ببيته. وهذا تأكيد لقوله {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق:1].
فإذا كان المسكن لا يسع مبيتين متفرقين خرج المطلق منه وبقيت المطلقة، كما تقدم فيما رواه أشهب عن مالك.
و {من} الواقعة في قوله {مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} للتبعيض، أي في بعض ما سكنتم ويؤخذ منه أن المسكن صالح للتبعيض بحسب عرف السكنى مع تجنب التقارب في المبيت إن كانت غير رجعية، فيؤخذ منه أنه إن لم يسعهما خرج الزوج المطلق.
و {من} في قوله {مِنْ وُجْدِكُمْ} بدل مطابق، وهو بيان لقوله {مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} فإن مسكن المرء هو وجده الذي وجده غالبا لمن لم يكن مقترا على نفسه.
والوجد: مثلث الواو هو الوسع والطاقة. وقرأه الجمهور بضم الواو. وقرأه روح عن يعقوب بكسرها.
{وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} .
أتبع الأمر بإسكان المطلقات بنهي عن الإضرار بهن في شيء مدة العدة من ضيق محل أو تقتير في الإنفاق أو مراجعة يعقبها تطليق لتطويل العدة عليهن قصدا للكناية والتشفي كما تقدم عند قوله تعالى: {وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً} في سورة البقرة [231]. أو للإلجاء إلى افتدائها من مراجعته بخلع.
والضارة: الإضرار القوي فكأن المبالغة راجعة إلى النهي لا إلى المنهي عنه، أي هو نهي شديد كالمبالغة في قوله {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46] في أنها مبالغة في النفي ومثله كثير في القرآن.
والمراد بالتضييق: التضييق المجازي وهو الحرج والأذى.
واللام في {لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} لتعليل الإضرار وهو قيد جرى على غالب ما يعرض

للمطلقين من مقاصد أهل الجاهلية، كما تقرر في قوله تعالى: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا} [البقرة:231] وإلا فإن الإضرار بالمطلقات منهي عنه وإن لم يكن لقصد التضييق عليهن.
{وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} .
ضمير {كن} يعود إلى ما عاد إليه ضمير {أسكنوهن} كما هو شأن ترتيب الضمائر، وكما هو مقتضى عطف الجمل، وليس عائدا على خصوص النساء الساكنات لأن الضمير لا يصلح لأن يكون معادا لضمير آخر.
وظاهر نظم الآية يقتضي أن الحوامل مستحقات الإنفاق دون بعض المطلقات أخذا بمفهوم الشرط، وقد أخذ بذلك الشافعي والأوزاعي وابن أبي ليلى.
ولكن المفهوم معطل في المطلقات الرجعيات لأن إنفاقهن ثابت بأنهن زوجات. ولذلك قال مالك: إن ضمير {أسكنوهن} للمطلقات البوائن كما تقدم. ومن لم يأخذ بالمفهوم قالوا الآية تعرضت للحوامل تأكيدا للنفقة عليهن لأن مدة الحمل طويلة فربما سئم المطلق الإنفاق، فالمقصود من هذه الجملة هو الغاية التي بقوله: {حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} وجعلوا للمطلقة غير ذات الحمل الإنفاق. وبه أخذ أبو حنيفة والثوري. ونسب إلى عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما.
وهذا الذي يرجح هو هذا القول وليس للشرط مفهوم وإنما الشرط مسوق لاستيعاب الإنفاق جميع أمد الحمل.
{فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} .
لما كان الحمل ينتهي بالوضع انتقل إلى بيان ما يجب لهن بعد الوضع فإنهن بالوضع يصرن بائنات فتنقطع أحكام الزوجية فكان السامع بحيث لا يدري هل يكون إرضاعها ولدها حقا عليها كما كان في زمن العصمة أو حقا على أبيه فيعطيها أجر إرضاعها كما كان يعطيها النفقة لأجل ذلك الولد حين كان حملا. وهذه الآية مخصصة لقوله في سورة البقرة.[233] {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} الآية.
وأفهم قوله {لكم} أن إرضاع الولد بعد الفراق حق على الأب وحده لأنه كالإنفاق والأم ترضع ولدها في العصمة تبعا لإنفاق أبيه عليها عند مالك خلافا لأبي حنيفة

والشافعي، إذ قالا: لا يجب الإرضاع على الأم حتى في العصمة فلما انقطع إنفاق الأب عليها بالبينونة تمحضت إقامة غذاء ابنه عليه فإن أرادت أن ترضعه فهي أحق بذلك، ولها أجر الإرضاع وإن أبت فعليه أن يطلب ظئرا لابنه فإن كان الطفل غير قابل ثدي غير أمه وجب عليها إرضاعه ووجب على أبيه دفع أجرة رضاعه.
وقال أبو ثور: يجب إرضاع الابن على أمه ولو بعد البينونة. نقله عنه أبو بكر ابن العربي في الأحكام وهو عجيب. وهذه الآية أمامه.
والائتمار: التشاور والتداول في النظر. وأصله مطاوع أمره لأن المتشاورين يأمر أحدهما الآخر فيأتمر الآخر بما أمره. ومنه تسمية مجامع أصحاب الدعوة أو النحلة أو القصد الموحد مؤتمرا لأنه يقع الاستئمار فيه، أي التشاور وتداول الآراء.
وقوله {وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ} خطاب للرجال والنساء الواقع بينهم الطلاق ليتشاوروا في أمر إرضاع الأم ولدها. وما يبذله الأب لها من الأجرة على ذلك.
وقيد الائتمار بالمعروف، أي ائتمرا ملابسا لما هو المعروف في مثل حالهم وقومهم، أي معتاد مقبول، فلا يشتط الأب في الشح ولا تشتط الأم في الحرص.
وقوله {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} عتاب وموعظة للأب والأم بأن ينزل كل منهما نفسه منزلة ما لو اجتلبت للطفل ظئر، فلا تسأل الأم أكثر من أجر أمثالها، ولا يشح الأب عما يبلغ أجر أمثال أم الطفل، ولا يسقط حق الأم إذا وجد الأب من يرضع له مجانا لأن الله قال {فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} وإنما يقال أرضعت له، إذا استؤجرت لذلك، كما يقال: استرضع أيضا، إذا آجر من يرضع له ولده. وتقدم في سورة البقرة قوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ} [233] الآية.
والتعاسر صدور العسر من الجانبين. وهو تفاعل من قولكم: عسرت فلانا، إذا أخذته على عسره، ويقال: تعاسر البيعان إذا لم يتفقا.
فمعنى {تَعَاسَرْتُمْ} اشتد الخلاف بينكم ولم ترجعوا إلى وفاق، أي فلا يبقى الولد بدون رضاعة.
وسين الاستقبال مستعمل في معنى التأكيد، كقوله {قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} في سورة يوسف[98]. وهذا المعنى ناشئ عن جعل علامة الاستقبال كناية عن تجدد ذلك الفعل في أزمنة المستقبل تحقيقا لتحصيله.

وهذا الخبر مستعمل كناية أيضا عن أمر الأب باستئجار ظئر للطفل بقرينة تعليق {له} . بقوله {فسترضع} .
فاجتمع فيه ثلاث كنايات: كناية عن موعظة الأب، وكناية عن موعظة الأم، وكناية عن أمر الأب بالاسترضاع لولده.
[7] {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} .
تذييل لما سبق من أحكام الإنفاق على المعتدات والمرضعات بما يعم ذلك. ويعم كل إنفاق يطالب به المسلم من مفروض ومندوب، أي الإنفاق على قدر السعة.
والسعة: هي الجدة من المال أو الرزق.
والإنفاق: كفاية مؤونة الحياة من طعام ولباس وغير ذلك مما يحتاج إليه.
و {من} هنا ابتدائية لأن الإنفاق يصدر عن السعة في الاعتبار، وليست {من} هذه ك {من} التي في قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الأنفال:3] لأن النفقة هنا ليست بعضا من السعة، وهي هناك بعض الرزق فلذلك تكون {من} من قوله: {فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} تبعيضية.
ومعنى {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ} جعل رزقه مقدورا، أي محدودا بقدر معين وذلك كناية عن التضييق. وضده {يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} [غافر:40]، يقال: قدر عليه رزقه، إذا قتره، قال تعالى: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} وتقدم في سورة الرعد[26] أي من كان في ضيق من المال فلينفق بما يسمح به رزقه بالنظر إلى الوفاء بالإنفاق ومراتبه في التقديم. وهذا مجمل هنا تفصيله في أدلة أخرى من الكتاب والسنة والاستنباط، قال النبي صلى الله عليه وسلم لهند بنت عتبة زوج أبي سفيان: "خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف".
والمعروف: هو ما تعارفه الناس في معتاد تصرفاتهم ما لم تبطله الشريعة.
والرزق: اسم لما ينتفع به الإنسان في حاجاته من طعام ولباس ومتاع ومنزل. سواء كان أعيانا أو أثمانا. ويطلق الرزق كثيرا على الطعام كما في قوله تعالى: {عِنْدَهَا رِزْقاً} [آل عمران: 37].
ولم يختلف العلماء في أن النفقات لا تتحدد بمقادير معينة لاختلاف أحوال الناس

والأزمان والبلاد. وإنما اختلفوا في التوسع في الإنفاق في مال المؤسر هل يقضي عليه بالتوسعة على من ينفق هو عليه ولا أحسب الخلاف في ذلك إلا اختلافا في أحوال الناس وعوائدهم ولا بد من اعتبار حال المنفق عليه ومعتاده، كالزوجة العالية القدر. وكل ذلك داخل تحت قول النبي صلى الله عليه وسلم لهند: "ما يكفيك وولدك بالمعروف".
وجملة {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا} تعليل لقوله: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} . لأن مضمون هذه الجملة قد تقرر بين المسلمين من قبل في قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} في سورة البقرة[286]، وهي قبل سورة الطلاق.
والمقصود منه إقناع المنفق عليه بأن لا يطلب من المنفق أكثر من مقدرته. ولهذا قال علماؤنا: لا يطلق على المعسر إذا كان يقدر على إشباع المنفق عليها وإكسائها بالمعروف ولو بشطف، أي دون ضر.
و {مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} يشمل المقدرة على الاكتساب فإذا كان من يجب عليه الإنفاق قادرا على الاكتساب لينفق من يجب عليه إنفاقه أو ليكمل له ما ضاق عنه ماله، يجبر على الاكتساب. وأما من لا قدرة له على الاكتساب وليس له ما ينفق منه فنفقته أو نفقة من يجب عليه إنفاقه على مراتبها تكون على بيت مال المسلمين. وقد قال عمر بن الخطاب: وأن رب الصريمة ورب الغنيمة إن تهلك ماشيتهما يأتيني ببينة يقول يا أمير المؤمنين يا أمير المؤمنين، افتاركهم أينا، رواه مالك في الموطأ.
وفي عجز الزوج عن إنفاق زوجه إذا طلبت الفراق لعدم النفقة خلاف. فمن الفقهاء من رأى ذلك موجبا للتفرقة بينهما بعد أجل رجاء يسر الزوج وقدر بشهرين، وهو قول مالك. ومنهم من لم ير التفريق بين الزوجين بذلك وهو قول أبي حنيفة، أي وتنفق من بيت مال المسلمين.
والذي يقتضيه النظر أنه إن كان بيت المال قائما فإن من واجبه نفقة الزوجين المعسرين وإن لم يتوصل إلى الإنفاق من بيت المال كان حقا أن يفرق القاضي بينهما ولا يترك المرأة وزوجها في احتياج. ومحل بسط ذلك في مسائل الفقه.
وجملة {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} تكملة للتذييل فإن قوله {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا} يناسب مضمون جملة {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} .
وقوله {سَيَجْعَلُ اللَّهُ} الخ تناسب مضمون {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} الخ. وهذا

الكلام خبر مستعمل في بعث الترجي وطرح اليأس عن المعسر من ذوي العيال. ومعناه: عسى أن يجعل الله بعد عسركم يسرا لكم فإن الله يجعل بعد عسر يسرا. وهذا الخبر لا يقتضي إلا أن من تصرفات الله أن يجعل بعد عسر قوم يسرا لهم، فمن كان في عسر رجا أن يكون ممن يشمله فضل الله، فيبدل عسره باليسر.
وليس في هذا الخبر وعد لكل معسر بأن يصير عسره يسرا. وقد يكون في المشاهدة ما يخالف ذلك فلا فائدة في التكلف بأن هذا وعد من الله للمسلمين الموحدين يومئذ بأن الله سيبدل عسرهم باليسر، أو وعد للمنفقين الذين يمتثلون لأمر الله ولا يشحون بشيء مما يسعه مالهم. وانظر قوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} [الشرح:5].
ومن بلاغة القرآن الإتيان ب "عسر ويسرا" نكرتين غير معرفين باللام لئلا يتوهم من التعريف معنى الاستغراق كما في قوله: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} .
[8، 11] {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُكْراً فذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً} .
[8، 9] {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُكْراً َفذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً} .
لما شرعت للمسلمين أحكام كثيرة من الطلاق ولواحقه، وكانت كلها تكاليف قد تحجم بعض الأنفس عن إيفاء حق الامتثال لها تكاسلا أو تقصيرا رغب في الامتثال لها بقوله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [الطلاق: 2] وقوله: {َ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} [الطلاق: 4]، وقوله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} [الطلاق:5]، وقوله {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} [الطلاق: 7].
وحذر الله الناس في خلال ذلك من مخالفتها بقوله: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق:1]، وقوله: {ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } [الطلاق: 2] أعقبها بتحذير عظيم من الوقوع في مخالفة أحكام الله ورسله لقلة العناية

بمراقبتهم، لأن الصغير يثير الجليل، فذكر المسلمين وليسوا ممن يعتوا على أمر ربهم بما حل بأقوام من عقاب عظيم على قلة اكتراثهم بأمر الله ورسله لئلا يسلكوا سبيل التهاون بإقامة الشريعة، فيلقي بهم ذلك في مهواة الضلال.
وهذا الكلام مقدمة لما يأتي من قوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} الآيات فالجملة معطوفة على مجموع الجمل السابقة عطف غرض على غرض.
و {كَأَيِّنْ} اسم لعدد كثير مبهم يفسره ما يميزه بعده من اسم مجرور بمن و {كَأَيِّنْ} بمعنى كم الخبرية. وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} في آل عمران[146].
والمقصود من إفادة التكثير هنا تحقيق أن العذاب الذي نال أهل تلك القرى شيء ملازم لجزائهم على عتوهم عن أمر ربهم ورسله فلا يتوهم متوهم أن ذلك مصادفة في بعض القرى وأنها غير مطردة في جميعهم.
و {كأين} في موضع رفع على الابتداء، وهو مبني.
وجملة {عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا} في موضع الخبر ل {كأين} .
والمعنى: الإخبار بكثرة 1لك باعتبار ما فرع عليه من قوله: {فَحَاسَبْنَاهَا} فالمفرع هو المقصود من الخبر.
والمراد بالقرية: أهلها على حد قوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} [يوسف: 82]
بقرينة قوله عقب ذلك {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيدا} إذ جيء بضمير جمع العقلاء.
وإنما أوثر لفظ القرية هنا دون الأمة ونحوها لأن في اجتلاب هذا اللفظ تعريضا بالمشركين من أهل مكة ومشايعة لهم بالنذارة ولذلك كثر في القرآن ذكر أهل القرى في التذكير بعذاب الله في نحو {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} [الأعراف: 4].
وفيه تذكير للمسلمين بوعد الله بنصرهم ومحق عدوهم.
والعتو ويقال العتي: تجاوز الحد في الاستكبار والعناد. وضمن معنى الإعراض فعدي بحرف {عن} .
والمحاسبة مستعملة في الجزاء على الفعل بما يناسب شدته من شديد العقاب، تشبيها لتقدير الجزاء بإجراء الحساب بين المتعاملين، وهو الحساب في الدنيا، ولذلك جاء

{فَحَاسَبْنَاهَا} و {عذبناها} بصيغة الماضي.
والمعنى: فجازيناها على عتوها جزاء يكافئ طغيانها.
والعذاب النكر: هو عذاب الاستئصال بالغرق، والخسف، والرجم، ونحو ذلك.
وعطف العذاب على الحساب مؤذن بأنه غيره، فالحساب فيما لقوه قبل الاستئصال من المخوفات وأشراط الإنذار مثل القحط والوباء والعذاب هو ما توعدوا به.
ولك أن تجعل الحساب على حقيقته ويراد به حساب الآخرة. وشدته قوة المناقشة فيه والانتهار على كل سيئة يحاسبون عليها.
والعذاب: عذاب جهنم، ويكون الفعل الماضي مستعملا في معنى المستقبل تشبيها للمستقبل بالماضي في تحقق وقوعه مثل قوله: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل: 1]، وقوله: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ} [الأعراف: 44].
والنكر بضمتين، وبضم فسكون: ما ينكره الرأي من فظاعة كيفيته إنكارا شديدا.
وقرأ نافع وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر ويعقوب {نكرا} بضمتين. وقرأه الباقون بسكون الكاف. وتقدم في سورة الكهف.
والفاء في قوله: {فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا} لتفريع {فَحَاسَبْنَاهَا} {وَعَذَّبْنَاهَا} .
والذوق: هنا الإحساس مطلقا، وهو مجاز مرسل.
والوبيل: صفة مشبهة. يقال: وبل بالضم : المرعى، إذا كان كلأه وخيما ضارا لما يرع اهـ.
والأمر: الحال والشأن، وإضافة الوبال إلى الأمر من إضافة المسبب إلى السبب، أي ذاقوا الوبال الذي تسبب لهم فيه أمرهم وشأنهم الذي كانوا عليه.
وعاقبة الأمر: آخره وأثره. وهو يشمل العاقبة في الدنيا والآخرة كما دل عليه قوله: {أعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً} .
وشبهت عاقبتهم السوأى بخسارة التاجر في بيعه في أنهم لما عتوا حسبوا أنهم أرضوا أنفسهم بإعراضهم عن الرسل وانتصروا عليهم فما لبثوا أن صاروا بمذلة وكما يخسر التاجر في تجره.

وجيء بفعل {كان} بصيغة المضي لأن الحديث عن عاقبتها في الدنيا تغليبا. وفي كل ذلك تفظيع لما لحقهم مبالغة في التحذير مما وقعوا فيه.
وجملة {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً} بدل اشتمال من جملة {وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً} أو بدل بعض من كل.
والمراد عذاب الآخرة لأن الإعداد التهيئة وإنما يهيأ الشيء الذي لم يحصل.
وإن جعلت الحساب والعذاب المذكورين آنفا حساب الآخرة وعذابها كما تقدم آنفا فجملة {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً} استئنافا لبيان أن ذلك متزايد غير مخفف منه كقوله: {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَاباً} [النبأ:30]
{فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا} .
هذا التفريع المقصود على التكاليف السابقة وخاصة على قوله: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق: 1] وهو نتيجة ما مهد له به من قوله: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ} .
وفي نداء المؤمنين بوصف {أُولِي الْأَلْبَابِ} إيماء إلى أن العقول الراجحة تدعو إلى تقوى الله لأنها كمال نفساني، ولأن فوائدها حقيقية دائمة، ولأن بها اجتناب المضار في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ألَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62، 63]، وقوله: {أولي} معناه ذوي، وتقدم بيانه عند قوله {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} [الطلاق: 4] آنفا، و {الَّذِينَ آمَنُوا} بدل من {أُولِي الْأَلْبَابِ} . وهذا الاتباع يومئ إلى أن قبولهم الإيمان عنوان على رجاحة عقولهم. والإتيان بصلة الموصول إشعار بأن الإيمان سبب للتقوى وجامع لمعظمها ولكن للتقوى درجات هي التي أمروا بأن يحيطوا بها.
{قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}
في هذه الجملة معنى العلة للأمر بالتقوى لأن إنزال الكتاب نفع عظيم لهم مستحق شكرهم عليه.
وتأكيد الخبر ب {قد} للاهتمام به وبعث النفوس على تصفح هذا الكتاب ومتابعة

إرشاد الرسول صلى الله عليه وسلم.
والذكر: القرآن. وقد سمي بالذكر في آيات كثيرة لأنه يتضمن تذكير الناس بما هم في غفلة عنه من دلائل التوحيد وما يتفرع عنها من حسن السلوك، ثم تذكيرهم بما تضمنه من التكاليف وبيناه عند قوله تعالى: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} في سورة الحجر[6]. وأنزل القرآن تبليغه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بواسطة الملك واستعير له الإنزال لأن الذكر مشبه بالشيء المرفوع في السماوات، كما تقدم في سورة الحجر وفي آيات كثيرة.
وجعل إنزال الذكر إلى المؤمنين لأنهم الذين انتفعوا به وعلموا بما فيه فخصصوا هنا من بين جميع الأمم لأن القرآن أنزل إلى الناس كلهم.
وقوله: {رسولا} بدل من {ذكرا} بدل اشتمال لأن بين القرآن والرسول محمد صلى الله عليه وسلم ملازمة وملابسة فإن الرسالة تحققت له عند نزول القرآن عليه، فقد أعمل فعل {أنزل} في {رسولا} تبعا لإعماله في المبدل منه باعتبار هذه المقارنة واشتمال مفهوم أحد الاسمين على مفهوم الآخر. وهذا كما أبدل {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ} [البينة:2] من قوله: {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} في سورة البينة[1].
والرسول: هو محمد صلى الله عليه وسلم.
وأما تفسير الذكر بجبريل، وهو مروي عن الكلبي لتصحيح إبدال {رسولا} منه ففيه تكلفات لا داعي إليها فإنه لا محيص عن اعتبار بدل الاشتمال، ولا يستقيم وصف جبريل بأنه يتلو على الناس الآيات فإن معنى التلاوة بعيد من ذلك، وكذلك تفسير الذكر بجبريل.
ويجوز أن يكون {رسولا} مفعولا لفعل محذوف يدل عليه {أَنْزَلَ اللَّهُ} وتقديره: وأرسل إليكم رسولا، ويكون حذفه إيجازا إلا أن الوجه السابق أبلغ وأوجز.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم {مبينات} بفتح الياء. وقرأه الباقون بكسرها ومآل القراءتين واحد.
وجعلت علة إنزال الذكر إخراج المؤمنين الصالحين من الظلمات إلى النور وإن كانت علة إنزاله إخراج جميع الناس من ظلمات الكفر وفساد الأعمال إلى نور الإيمان والأعمال الصالحات، نظرا لخصوص الفريق الذي انتفع بهذا الذكر اهتماما بشأنهم. وليس ذلك بدال على أن العلة مقصورة على هذا الفريق ولكنه مجرد تخصيص بالذكر. وقد تقدم نظير هذه الجملة في مواضع كثيرة منها أول سورة الأعراف.

{وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً} .
عطف على الأمر بالتقوى والتنويه بالمتقين والعناية بهم هذا الوعد على امتثالهم بالنعيم الخالد بصيغة الشرط للدلالة على أن ذلك نعيم مقيد حصوله لراغبيه بأن يؤمنوا ويعملوا الصالحات.
و{صالحا} نعت لموصوف محذوف دل عليه {يعمل} أي عملا صالحا، وهو نكرة في سياق الشرط تفيد العموم كإفادته في سياق النفي. فالمعنى: ويعمل جميع الصالحات، أي المأمور بها أمرا جازما بقرينة استقراء أدلة الشريعة.
وتقدم نظير هذه الآية في مواضع كثيرة من القرآن.
وجملة {قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً} حال من الضمير المنصوب في {ندخله} ولذلك فذكر اسم الجلالة إظهار في مقام الإضمار لتكون الجملة مستقلة بنفسها.
والرزق: كل ما ينتفع به وتنكيره هنا للتعظيم، أي رزقا عظيما.
وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر {ندخله} بنون العظمة. وقرأه الباقون بالتحتية على أنه عائد إلى اسم الجلالة من قوله {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ} وعلى قراءة نافع وابن عامر يكون فيه سكون الالتفات.
[12] {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} .
اسم الجلالة خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو الله. وهذا من حذف المسند إليه لمتابعة الاستعمال كما سماه السكاكي، فإنه بعد أن جرى ذكر شؤون من عظيم شؤون الله تعالى ابتداء من قوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ} [الطلاق:1] إلى هنا، فقد تكرر اسم الجلالة وضميره والإسناد إليه زهاء ثلاثين مرة فاقتضى المقام عقب ذلك أن يزاد تعريف الناس بهذا العظيم، ولما صار البساط مليئا بذكر اسمه صح حذفه عند الإخبار عنه إيجازا وقد تقدم عند قوله تعالى: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} في سورة مريم[65]، وكذلك عند قوله: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة: 18]، وقوله: {مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ} في سورة البقرة [125].
فالجملة على هذا الوجه مستأنفة استئنافا ابتدائيا.

والموصول صفة لاسم الجلالة وقد ذكرت هذه الصلة لما فيها من الدلالة على عظيم قدرته تعالى، وعلى أن الناس وهم من جملة ما في الأرض عبيده، فعليهم أن يتقوه، ولا يتعدوا حدوده، ويحاسبوا أنفسهم على مدى طاعتهم إياه فإنه لا تخفى عليه خافية، وأنه قدير على إيصال الخير إليهم إن أطاعوه وعقابهم إن عصوه.
وفيه تنويه بالقرآن لأنه من جملة الأمر الذي يتنزل بين السماء والأرض.
والسبع السماوات تقدم القول فيها غير مرة، وهي سبع منفصل بعضها عن الآخر لقوله تعالى: في سورة نوح[15] {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً} .
وقوله: {وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} عطف على {سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} وهو يحتمل وجهين: أحدهما أن يكون المعطوف قوله {مِنَ الْأَرْضِ} على أن يكون المعطوف لفظ الأرض ويكون حرف {من} مزيدا للتوكيد بناء على قول الكوفيين والأخفش أنه لا يشترط لزيادة {من} أن تقع في سياق النفي والنهي والاستفهام والشرط وهو الأحق بالقبول وإن لم يكن كثيرا في الكلام، وعدم الكثرة لا ينافي الفصاحة، والتقدير: وخلق الأرض، ويكون قوله: {مثلهن} حالا من {الأرض} .
ومماثلة الأرض للسماوات في دلالة خلقها على عظيم قدرة الله تعالى، أي أن خلق الأرض ليس أضعف دلالة على القدرة من خلق السماوات لأن لكل منهما خصائص دالة على عظيم القدرة.
وهذا أظهر ما يؤول به الآية.
وفي إفراد لفظ {الأرض} دون أن يؤتى به جمعا كما أتي بلفظ السماوات إيذان بالاختلاف بين حاليهما.
الوجه الثاني: أن يكون المعطوف {مثلهن} ويكون قوله: {وَمِنَ الْأَرْضِ} بيانا للمثل فما صدق {مثلهن} هو {الأرض} . وتكون {من} بيانية وفيه تقديم البيان على المبين، وهو وارد غير نادر.
فيجوز أن تكون مماثلة في الكروية، أي مثل واحدة من السماوات، أي مثل كوكب من الكواكب السبعة في كونها تسير حول الشمس مثل الكواكب فيكون ما في الآية من الإعجاز العلمي الذي قدمنا ذكره في المقدمة العاشرة.

وجمهور المفسرين جعلوا المماثلة في عدد السبع وقالوا: إن الأرض سبع طبقات فمنهم من قال هي سبع طبقات منبسطة تفرق بينها البحار. وهذا مروي عن ابن عباس من رواية الكلبي عن أبي صالح عنه، ومنهم من قال هي سبع طباق بعضها فوق بعض وهو قول الجمهور. وهذا يقرب من قول علماء طبقات الأرض الجيولوجيا، من إثبات طبقات أرضية لكنها لا تصل إلى سبع طبقات.
وفي الكشاف قيل ما في القرآن آية تدل على أن الأرضين سبع إلا هذه اهـ. وقد علمت أنها لا دلالة فيها على ذلك.
وقال المازري في كتابة المعلم على صحيح مسلم عند قول النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب الشفعة: "من اقتطع شبرا من الأرض ظلما طوقه من سبع أرضين يوم القيامة".
كان شيخنا أبو محمد عبد الحميد كتب إلي بعد فراقي له هل وقع في الشرع عما يدل على كون الأرض سبعا، فكتبت إليه قول الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} وذكرت له هذا الحديث فأعاد كتابه إلي يذكر فيه أن الآية محتملة هل مثلهن في الشكل والهيئة أو مثلهن في العدد. وأن الخبر من أخبار الآحاد، والقرآن إذا احتمل والخبر إذا لم يتواتر لم يصح القطع بذلك، والمسألة ليست من العمليات فيتمسك فيها بالظاهر وأخبار الآحاد، فأعدت إليه المجاوبة أحتج لبعد الاحتمال عن القرآن وبسطت القول في ذلك وترددت في آخر كتابي في احتمال ما قال. فقطع المجاوبة اهـ.
وأنت قد تبينت أن إفراد الأرض مشعر بأنها أرض واحدة وأن المماثلة في قوله: {مثلهن} راجعة إلى المماثلة في الخلق العظيم، وأما الحديث فإنه في شأن من شؤون الآخرة وهي مخالفة للمتعارف، فيجوز أن يطوق الغاصب بالمقدار الذي غصبه مضاعفا سبع مرات في الغلظ والثقل، على أن عدد السبع يجوز أن يراد به المبالغة في المضاعفة. ولو كان المراد طبقات معلومة لقال: طوقه من السبع الأرضين بصيغة التعريف. كلام عبد الحميد أدخل في التحقيق من كلام المازري.
وعلى مجاراة تفسير الجمهور لقوله: {وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} من المماثلة في عدد السبع، فيجوز أن يقال: إن السبع سبع قطع واسعة من سطح الأرض يفصل بينها البحار نسميها القارات ولكن لا نعني بهذه التسمية المعنى الاصطلاحي في كتب الجغرافيا القديمة أو الحديثة بل هي قارات طبيعية كان يتعذر وصول سكان بعضها إلى بعضها الآخر في الأزمان التي لم يكن فيها تنقل بحري وفيما بعدها مما كان ركوب البحر فيها مهولا. وهي

أن آسيا مع أوروبا قارة، وإفريقيا قارة، وأستراليا قارة، وأميريكا الشمالية قارة، وأميريكا الجنوبية قارة، وجرولندة في الشمال، والقارة القطبية الجنوبية. ولا التفات إلى الأجزاء المتفرقة من الأرض في البحار، وتكون {من} تبعيضية لأن هذه القارات الاصطلاحية أجزاء من الأرض.
وقرأ الجميع {مثلهن} بالنصب. وقرأه عاصم في غير المتواتر بالرفع على أنه مبتدأ.
ومعنى {يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} أمر الله بالتكوين أو بالتكليف يبلغ إلى الذين يأمرهم الله به من الملائكة ليبلغوه. أو لمن يأمرهم الله من الرسل ليبلغوه عنه، أو من الناس ليعلموا بما فيه، كل ذلك يقع فيما بين السماء والأرض.
واللام في قوله {لتعلموا} لام كي وهي متعلقة بـ {خلق} .
والمعنى: أن مما أراده الله من خلقه السماوات والأرض، أن يعلم الناس قدرة الله على كل شيء وإحاطة علمه بكل شيء. لأن خلق تلك المخلوقات العظيمة وتسخيرها وتدبير نظامها في طول الدهر يدل أفكار المتأملين على أن مبدعها يقدر على أمثالها فيستدلوا بذلك على أنه قدير على كل شيء لأن دلالتها على إبداع ما هو دونها ظاهرة، ودلالتها على ما هو أعظم منها وإن كانت غير مشاهدة، فقياس الغائب على الشاهد يدل على أن خالق أمثالها قادر على ما هو أعظم. وأيضا فإن تدبير تلك المخلوقات بمثل ذلك الإتقان المشاهد في نظامها، دليل على سعة علم مبدعها وأحاطته بدقائق ما هو دونها، وأن من كان علمه بتلك المثابة لا يظن بعلمه إلا الإحاطة بجميع الأشياء.
فالعلم المراد من قوله: {لتعلموا} صادق على علمين: علم يقيني مستند إلى أدلة يقينية مركبة من الدلالة الحسية والعقلية، وعلم ظني مستند إلى الأدلة الظنية والقرائن. وكلا العلمين موصل إلى الاستدلال في الاستدلال الخطابي بفتح الخاء.

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة التحريمسورة {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] الخ سميت سورة التحريم في كتب السنة وكتب التفسير. ووقع في رواية أبي ذر الهروي لصحيح البخاري تسميتها باسم سورة اللم تحرم بتشديد اللام، وفي الإتقان وتسمى سورة اللم تحرم، وفي تفسير الكواشي أي بهمزة وصل وتشديد اللام مكسورة وبفتح الميم وضم التاء محققه وتشديد الراء مكسورة بعدها ميم على حكاية جملة {لم تحرم} وجعلها بمنزلة الاسم وإدخال لام تعريف العهد على ذلك اللفظ وإدغام اللامين.
وتسمى سورة النبي صلى الله عليه وسلم وقال الآلوسي: إن ابن الزبير سماها سورة النساء. قلت ولم أقف عليه ولم يذكر صاحب الإتقان هذين في أسمائها.
واتفق أهل العدد على أن عدة آيها اثنتا عشرة.
وهي مدنية. قال ابن عطية: بإجماع أهل العلم وتبعه القرطبي. وقال في الإتقان عن قتادة: إن أولها إلى تمام عشر آيات وما بعدها مكي، كما وقعت حكاية كلامه. ولعله أراد إلى عشر آيات، أي أن الآية العاشرة من المكي إذ من البعيد أن تكون الآية العاشرة مدنية والحادية عشر مكية.
وهي معدودة الخامسة بعد المائة في عداد نزول سور القرآن نزلت بعد سورة الحجرات وقبل سورة الجمعة.
ويدل قوله: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم:2] أنها نزلت بعد سورة المائدة كما سيأتي.

وسبب نزولها حادثتان حدثتا بين أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.
إحداهما: ما ثبت في الصحيح عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان شرب عسلا عند إحدى نسائه اختلف في أنها زينب بنت جحش، أو حفصة، أو أم سلمة، أو سودة بنت زمعة. والأصح أنها زينب. فعلمت بذلك عائشة فتواطأت هي وحفصه على أن أيتهما دخل عليها تقول له إني أجد منك ريح مغافير أكلت مغافير والمغافير صمغ شجر العرفط وله رائحة مختمرة وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكره أن توجد منه رائحة وإنما تواطأتا على ذلك غيرة منهما أن يحتبس عند زينب زمانا يشرب فيه عسلا. فدخل على حفصة فقالت له ذلك، فقال: "بل شربت عسلا عند فلانة ولن أعود له"، أراد بذلك استرضاء حفصة في هذا الشأن وأوصاها أن لا تخبر بذلك عائشة لأنه يكره غضبها فأخبرت حفصة عائشة فنزلت الآيات.
هذا أصح ما روي في سبب نزول هذه الآيات. والتحريم هو قوله: "ولن أعود له" لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا صدقا وكانت سودة تقول لقد حرمناه.
والثانية ما رواه ابن القاسم في المدونة عن مالك عن زيد بن أسلم قال: حرم رسول الله أم إبراهيم جاريته فقال "والله لا أطؤك" ثم قال: "هي علي حرام" فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} [التحريم:1].
وتفصيل هذا الخبر ما رواه الدارقطني عن ابن عباس عن عمر قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم ولده مارية في بيت حفصة فوجدته حفصة معها، وكانت حفصة غابت إلى بيت أبيها. فقالت حفصة: تدخلها بيتي ما صنعت بي هذا من بين نسائك إلا من هواني عليك. فقال لها: "لا تذكري هذا لعائشة فهي علي حرام إن قربتها". قيل: فقالت له حفصة: كيف تحرم عليك وهي جاريتك فحلف لها أن لا يقربها فذكرته حفصة لعائشة فآلى أن لا يدخل على نسائه شهرا فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} . وهو حديث ضعيف.
أغراض هذه السورة
ما تضمنه سبب نزولها أن أحدا لا يحرم على نفسه ما أحل الله له لإرضاء أحد إذ ليس ذلك بمصلحة له ولا للذي يسترضيه فلا ينبغي أن يجعل كالنذر إذ لا قربة فيه وما هو بطلاق لأن التي حرمها جارية ليست بزوجة، فإنما صلاح كل جانب فيما يعود بنفع على

نفسه أو ينفع به غيره نفعا مرضيا عند الله وتنبيه نساء النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن غيرة الله على نبيه أعظم من غيرتهن عليه وأسمى مقصدا.
وأن الله يطلعه على ما يخصه من الحادثات.
وأن من حلف على يمين فرأى حنثها خيرا من برها أن يكفر عنها ويفعل الذي هو خير. وقد ورد التصريح بذلك في حديث وقد عبد القيس عن رواية أبي موسى الأشعري، وتقدم في سورة براءة.
وتعليم الأزواج أن لا يكثرن من مضايقة أزواجهن فإنها ربما أدت إلى الملال فالكراهية فالفراق.
وموعظة الناس بتربية بعض الأهل بعضا ووعظ بعضهم بعضا.
وأتبع ذلك بوصف عذاب الآخرة ونعيمها وما يفضي إلى كليهما من أعمال الناس صالحاتها وسيئاتها.
وذيل ذلك بضرب مثلين من صالحات النساء وضدهن لما في ذلك من العظمة لنساء المؤمنين ولأمهاتهم.
[1] {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
افتتاح السورة بخطاب النبي صلى الله عليه وسلم بالنداء تنبيه على أن ما سيذكر بعده مما يهتم به النبي صلى الله عليه وسلم والأمة ولأن سبب النزول كان من علائقه.
والاستفهام فيقوله: {لِمَ تُحَرِّمُ} مستعمل في معنى النفي، أي لا يوجد ما يدعو إلى أن تحرم على نفسك ما أحل الله لك ذلك أنه لما التزم عدم العود إلى ما صدر منه التزاما بيمين أو بدون يمين أراد الامتناع منه في المستقبل قاصدا بذلك تطمين أزواجه اللاء تمالأن عليه لفرط غيرتهن، أي ليست غيرتهن مما تجب مراعاته في المعاشرة إن كانت فيما لا هضم فيه لحقوقهم، ولا هي من إكرام إحداهن لزوجها إن كانت الأخرى لم تتمكن من إكرامه بمثل ذلك الإكرام في بعض الأيام.
وهذا يومئ إلى ضبط ما يراعي من الغيرة وما لا يراعى.

وفعل {تحرم} مستعمل في معنى: تجعل ما أحل لك حراما، أي تحرمه على نفسك كقوله تعالى: {إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ} [آل عمران: 93] وقرينته قوله هنا {مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} .
وليس معنى التحريم هنا نسبة الفعل إلى كونه حراما كما في قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32]، وقوله: {يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً} [التوبة:37]، فإن التفعيل يأتي بمعنى التصبير كما يقال: وسع هذا الباب ويأتي بمعنى إيجاد الشيء على حالة مثل ما يقال للخياط: وسع طوق الجبة.
ولا يخطر ببال أحد أن يتوهم منه أنك غيرت إباحته حراما على الناس أو عليك. ومن العجيب قول الكشاف: ليس لأحد أن يحرم ما أحل الله لأن الله إنما أحله لمصلحة عرفها في إحلاله الخ.
وصيغة المضارع في قوله: {لم تحرم} لأنه أوقع تحريما متجددا.
فجملة {تبتغي}حال من ضمير {تحرم}. فالتعجيب واقع على مضمون الجملتين مثل قوله: {لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130].
وفي الإتيان بالموصول في قوله: {مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} لما في الصلة من الإيماء إلى تعليل الحكم هو أن ما أحله الله لعبده ينبغي له أن يتمتع به ما لم يعرض له ما يوجب قطعه من ضر أو مرض لأن تناوله شكر لله واعتراف بنعمته والحاجة إليه.
وفي قوله: {تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} عذر للنبي صلى الله عليه وسلم فيما فعله من أنه أراد به خيرا وهو جلب رضا الأزواج لأنه أهون على معاشرته مع الإشعار بأن مثل هذه المرضاة لا يعبأ بها لأن الغيرة نشأت عن مجرد معاكسة بعضهن بعضا وذلك مما يختل به حسن المعاشرة بينهن، فأنبأه الله أن هذا الاجتهاد معارض بأن تحريم ما أحل الله له يفضي إلى قطع كثير من أسباب شكر الله عند تناول نعمه وأن ذلك ينبغي إبطاله في سيرة الأمة.
وذيل بجملة {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} استئناسا للنبي صلى الله عليه وسلم من وحشة هذا الملام، أي والله غفور رحيم لك مثل قوله: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة:43].
[2] {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} .
استئناف بياني بين الله به لنبيه صلى الله عليه وسلم أن له سعة في التحلل مما التزم تحريمه على

نفسه، وذلك فيما شرع الله من كفارة اليمين فأفتاه الله بأن يأخذ برخصته في كفارة اليمين المشروعة للأمة كلها ومن آثار حكم هذه الآية ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس بعد أن استحملوه وحلف أن لا يحملهم إذ ليس عنده ما يحملهم عليه، فجاءه ذود من إبل الصدقة فقال لهم: "وإني والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرت عن يميني وفعلت الذي هو خير".
وافتتاح الخبر بحرف التحقيق لتنزيل النبي صلى الله عليه وسلم منزلة من لا يعلم أن الله فرض تحلة الأيمان بآية الكفارة بناء على أنه لم يأخذ بالرخصة تعظيما للقسم. فأعلمه الله أن الأخذ بالكفارة لا تقصير عليه فيه فإن في الكفارة ما يكفي للوفاء بتعظيم اليمين بالله إلى شيء هذا قوله تعالى: في قصة أيوب {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} [ص:44] كما ذكرناه في تفسيرها و {فرض} عين ومنه قوله تعالى: {نَصِيباً مَفْرُوضاً} [النساء:7]. وقال: فرض له في العطاء والمغنى: قد بين الله لكن تحلة أيمانكم.
واعلم أنه إن كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يصدر منه في تلك الحادثة إلا أنه التزم أن لا يعود لشرب شيئا عند بعض أزواجه في غير يوم نوبتها أو كان وعد أن يحرم مارية على نفسه بدون يمين على الرواية الأخرى. كان ذلك غير يمين فكان أمر الله إياه بأن يكفر عن يمينه إما لأن ذلك يجري مجرى اليمين لأنه إنما وعد لذلك تطمينا لخاطر أزواجه فهو التزام لهن فكان بذلك ملحقا باليمين وبذلك أخذ أبو حنيفة ولم يره مالك يمينا ولا نذرا فقال في الموطأ : ومعنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "من نذر أن يعصي الله فلا يعصه" أن ينذر الرجل أن يمشي إلى الشام أو إلى مصر مما ليس لله في بطاعة إن كلم فلانا، فليس عليه في ذلك شيء إن هو كلمة لأنه ليس لله في هذه الأشياء طاعة فإن حلف فقال: والله لا آكل هذا الطعام ولا ألبس هذا الثوب فإنما عليه كفارة يمين اهـ.
وقد اختلف هل كفر النبي صلى الله عليه وسلم عن يمينه تلك.
فالتحلة على هذا التفسير عند مالك هي: جعل الله ملتزم مثل هذا في حل من التزام ما التزمه. أي موجب التحلل من يمينه.
وعند أبي حنيفة هي ما شرعه الله من الخروج من الأيمان بالكفارات وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم صدر منه يمين عند ذلك على أن لا يعود فتحلة اليمين هي الكفارة عند الجميع.
وجملة {وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ} تذييل لجملة {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} . والمولى:

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68