كتاب : التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور
المؤلف : محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي

والجناح بضم الجيم الإثم مشتق من جنح إذا مال لأن الإثم يميل به المرء عن طريق الخير، فاعتبروا فيه الميل عن الخير عكس اعتبارهم في حنف أنه ميل عن الشر إلى الخير.
والحج اسم في اللغة للقصد وفي العرف على قصد البيت الحرام الذي بمكة لعبادة الله تعالى فيه بالطواف والوقوف بعرفة والإحرام ولذلك صار بالإطلاق حقيقة عرفيه في هذا المعنى جنسا بالغلبة كالعلم بالغلبة ولذلك قال في "الكشاف" وهما أي الحج والعمرة" في المعاني كالنجم والبيت في الذوات1، فلا يحتاج إلى ذكر مضاف إليه إلا في مقام الاعتناء بالتنصيص ولذلك ورد في القرآن مقطوعا عن الإضافة نحو: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} إلى قوله: {وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197] وورد مضافا في قوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران:97] لأنه مقام ابتداء تشريع فهو مقام بيان وإطناب. وفعل حج بمعنى قصد لم ينقطع عن الإطلاق على القصد في كلام العرب فلذلك كان ذكر المفعول لزيادة البيان.
وأما صحة قولك حج فلان وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب عليكم الحج فحجوا" بدون ذكر المفعول فذلك حذف للتعويل على القرينة فغلبة إطلاق الفعل على قصد البيت أقل من غلبة إطلاق اسم الحج على ذلك القصد.
والعمرة اسم لزيارة البيت الحرام في غير موقت الحج أو في وقته بدون حضور عرفة فالعمرة بالنسبة إلى الحج مثل صلاة الفذ بالنسبة لصلاة الجماعة، وهي بصيغة الاسم علم الغلبة على زيارة الكعبة، وفعلها غلب على تلك الزيارة تبعا لغلبة الاسم فساواه فيها ولذلك لم يذكر المفعول هنا ولم يسمع.والغلبة على كل حال لا تمنع من الإطلاق الآخر نادرا.
ونفى الجناح عن الذي يطوف بين الصفا والمروة لا يدل على أكثر من كونه غير منهي عنه فيصدق بالمباح والمندوب، والواجب والركن، لأن المأذون فيه يصدق بجميع المذكورات فيحتاج في إثبات حكمه إلى دليل آخر ولذلك قالت عائشة لعروة لو كان كما تقول لقال فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما، قال ابن العربي في "أحكام القرآن": إن قول القائل: لا جناح عليك أن تفعل إباحة للفعل وقوله لا جناح عليك أن لا تفعل إباحة لترك الفعل فلم يأت هذا اللفظ لإباحة ترك الطواف ولا فيه دليل عليه وإنما جاء لإفادة إباحة
ـــــــ
1 في"الكشاف"، والنقل منه، "الأعيان".

الطواف لمن كان تحرج منه في الجاهلية أو بمن كان يطوف به في الجاهلية قصدا للأصنام التي كانت فيه اه.
ومراده أن لا جناح عليك أن تفعل نص في نفي الإثم عن الفاعل وهو صادق بالإباحة والندب والوجوب فهو في واحد منها مجمل، بخلاف لا جناح عليك أن لا تفعل فهو نص في نفي الإثم التالي وهو صادق بحرمة الفعل وكراهيته فهو في أحدهما مجمل، نعم إن التصدي للإخبار بنفي الإثم عن فاعل شئ يبدو منه أن ذلك الفعل مظنة لأن يكون ممنوعا هذا عرف استعمال الكلام، فقولك لا جناح عليك في فعل كذا ظاهر في الإباحة بمعنى استواء الوجهين دون الندب والوجوب إذ لا يعمد أحد إلى أو فرض أو مندوب فيقول فيه إنه لا جناح عليكم في فعله، فمن أجل ذلك فهم عروة بن الزبير من الآية عدم فرضية السعي، ولقد أصاب فهما من حيث استعمال اللغة لأنه من أهل اللسان، غير أن هنا سببا دعا للتعبير بنفي الإثم عن الساعي وهو ظن كثير من المسلمين أن في ذلك إثما، فصار الداعي لنفي الإثم عن الساعي هو مقابلة الظن بما يدل على نقيضه مع العلم بانتفاء احتمال قصد الإباحة بمعنى استواء الطرفين بما هو معلوم من أوامر الشريعة اللاحقة بنزول الآية أو السابقة لها، ولهذا قال عروة فيما رواه وأنا يومئذ حديث السن يريد أنه لا علم له بالسنن وأسباب النزول، وليس مراده من حداثة سنه جهله باللغة لأن اللغة يستوي في إدراك مفاداتها الحديث والكبير، ولهذا أيضا قالت له عائشة بئسما قلت يا ابن أختي تريد ذم كلامه من جهة ما أداه إليه من سوء فهم مقصد القرآن لو دام على فهمه ذلك، على عادتهم في الصراحة في قول الحق، فصار ظاهر الآية بحسب المتعارف مؤولا بمعرفة سبب التصدي لنفي الإثم عن الطائف بين الصفا والمروة.
فالجناح المنفي في الآية جناح عرض للسعي بين الصفا والمروة في نصب إساف ونائلة عليهما وليس لذات السعي، فلما زال سببه زال الجناح كما في قوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء:128] فنفى الجناح عن التصالح وأثبت له أنه خير فالجناح المنفي عن الصلح ما عرض قبله من أسباب النشوز والإعراض، ومثله قوله: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:182] مع أن الإصلاح بينهم مرغب فيه وإنما المراد لا إثم عليه فيما نقص من حق أحد الجانبين وهو إثم عارض.
والآية تدل على وجوب السعي بين الصفا والمروة بالإخبار عنهما بأنهما من شعائر

الله فلأجل هذا اختلفت المذاهب في حكم السعي1 فذهب مالك رحمه الله في أشهر الروايتين عنه إلى أنه فرض من أركان الحج وهو قول الشافعي وأحمد والجمهور، ووجهه أنه من أفعال الحج وقد اهتم به النبي صلى الله عليه وسلم وبادر إليه كما في حديث الصحيحين و "الموطأ" فلما تردد فعله بين السنية والفرضية قال مالك بأنه فرض قضاء لحق الاحتياط ولأنه فعل بسائر البدن من خصائص الحج ليس له مثيل مفروض فيقاس على الوقوف وطواف الإفاضة والإحرام، بخلاف ركعتي الطواف فإنهما فعل ليس من خصائص الحج لأنه صلاة، وبخلاف ترك لبس المخيط فإنه ترك، وبخلاف رمى الجمار فإنه فعل بعضة وهو اليد. وقولي ليس له مثيل مفروض لإخراج طواف القدوم فإنه وإن كان فعلا بجميع البدن إلا أنه له مثيل مفروض وهو الإفاضة فأغنى عن جعله فرضا، ولقوله في الحديث: "اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي2"، والأمر ظاهر في الوجوب، والأصل أن الفرض والواجب مترادفان عندنا لا في الحج، فالواجب دون الفرض لكن الوجوب الذي هو مدلول الأمر مساو للفرض.
وذهب أبو حنيفة إلى أنه واجب ينجبر بالنسك واحتج الحنفية لذلك بأنه لم يثبت بدليل قطعي في الدلالة فلا يكون فرضا بل واجبا لأن الآية قطعية المتن فقط والحديث ظنى فيهما، والجواب أن مجموع الظاهر من القول والفعل يدل على الفرضية وإلا فالوقوف بعرفة لا دليل على فرضيته وكذلك الإجرام فمتى يثبت هذا النوع المسمى عندهم بالفرض، وذهب جماعة من السلف إلى أنه سنة.
وقوله: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} تذييل لما أفادته الآية من الحث على السعي بين الصفا والمروة بمفاد قوله: {مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}، والمقصد من هذا التذييل الإتيان بحكم كلى في أفعال الخيرات كلها من فرائض ونوافل أو نوافل فقط فليس المقصود من {خَيْراً} خصوص السعي لأن خيرا نكرة في سياق الشرط فهي عامة ولهذا عطفت الجملة بالواو دون الفاء لئلا يكون الخير قاصرا على الطواف بين الصفا والمروة
ـــــــ
1 انظر "فتح القدير" "2/157-158"، "البدائع" "2/133،143"، "رد المختار" "3/203"، "شرح الرسالة" "1/471"، "الشرح الكبير" "2/34"، "شرح المنهاج" "2/126،127"، "المجموع" 8/ 71،72،73،75"، "المغني" "3/388،389"، "الفروع" "3/157"، "كشاف القناع" "5/21".
2 أخرجه أحمد في "مسنده" "6/421"، ط الحلبي.

بخلاف قوله تعالى في آية الصيام في قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} [البقرة:184] لأنه أريد هنالك بيان أن الصوم مع وجود الرخصة في الفطر أفضل من تركه أو أن الزيادة على إطعام مسكين أفضل من الاقتصار عليه كما سيأتي.
وتطوع يطلق بمعنى فعل طاعة وتكلفها، ويطلق مطاوع طوعه أي جعله مطيعا فيدل على معنى التبرع غالبا لأن التبرع زائد في الطاعة. وعلى الوجهين فانتصاب خيرا على نزع الخافض أي تطوع بخير أو بتضمين تطوع معنى فعل أو أتى.ولما كانت الجملة تذييلا فليس فيها دلالة على أن السعي من التطوع أي من المندوبات لأنها لإفادة حكم كلي بعد ذكر تشريع عظيم، على أن تطوع لا يتعين لكونه بمعنى تبرع بل يحتمل معنى أتى بطاعة أو تكلف طاعة.
وقرأ الجمهور: {مَنْ تَطَوَّعَ} بصيغة الماضي، وقرأه حمزة والكسائي ويعقوب وخلف يطوع بصيغة المضارع وياء الغيبة وجزم العين.
ومن هنا شرطية بدليل الفاء في جوابها. وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} دليل الجواب إذ التقدير ومن تطوع خيرا جوزي به لأن الله شاكر أي لا يضيع أجر محسن، عليم لا يخفى عنه إحسانه، وذكر الوصفين لأن ترك الثواب عن الإحسان لا يكون إلا عن جحود للفضيلة أو جهل بها فلذلك نفيا بقوله: {شَاكِرٌ عَلِيمٌ} والأظهر عندي أن {شَاكِرٌ} هنا استعارة تمثيلية شبه شأن الله في جزاء العبد على الطاعة بحال الشاكر لمن أسدى إليه نعمة وفائدة هذا التشبيه تمثيل تعجيل الثواب وتحقيقه لأن حال المحسن إليه أن يبادر بشكر المحسن.
[159, 160] {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة:159] إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}
عود بالكلام إلى مهيعه الذي فصل عنه بما اعترض من شرع السعي بين الصفا والمروة كما علمته آنفا
قال المفسرون إن هاته الآية نزلت في علماء اليهود في كتمهم دلائل صدق النبي محمد صلى الله عليه وسلم وصفاته وصفات دينه الموجودة في التوراة وفي كتمهم آية الرجم، وهو يقتضي

أن يكون اسم الموصول للعهد فإن الموصول يأتي له المعرف باللام وعليه فلا عموم هنا، وأنا أرى أن يكون اسم الموصول يأتي لما يأتي له المعرف باللام وعليه فلا عموم هنا، وأنا أرى أن يكون اسم الموصول هنا للجنس فهو كالمعرف بلام الاستغراق فيعم ويكون من العام الوارد على سبب خاص ولا يخصص بسببه ولكنه يتناول أفراد سببه تناولا أوليا أقوى من دلالته على بقية الأفراد الصالح هو للدلالة عليها لأن دلالة العام على صورة السبب قطعية ودلالته على غيرها مما يشمله مفهوم العام دلالة ظنية، فمناسبة وقع هاته الآية بعد التي قبلها أن ما قبلها كان من الأفانين القرآنية المتفننة على ذكر ما قابل به اليهود دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وتشبيههم فيها بحال سلفهم في مقابلة دعوة أنبيائهم من قبل إلى مبلغ قوله تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ} [البقرة:75] إلى قوله: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [البقرة:101] الآية وما قابل به اشتباههم من النصارى ومن المشركين الدعوة الإسلامية، ثم أفضى ذلك إلى الإنحاء على المشركين قلة وفائهم بوصايا إبراهيم الذي يفتخرون بأنهم من ذريته وأنهم سدنة بيته فقال: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ} [البقرة:114] الآيات، فنوه بإبراهيم وبالكعبة واستقبالها وشعائرها وتخلل ذلك رد ما صدر عن اليهود من إنكار استقبال الكعبة إلى قوله: {وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:146] يريد علماءهم ثم عقب ذلك بتكملة فضائل الكعبة وشعائرها، فلما تم جميع ذلك عطف الكلام إلى تفصيل ما رماهم به إجمالا في قوله تعالى :{إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ} فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا} إلخ، وهذه طريقة في الخطابة هي إيفاء الغرض المقصود حقه وتقصير الاستطراد والاعتراض الواقعين في أثنائه ثم الرجوع إلى ما يهم الرجوع إليه من تفصيل استطراد أو اعتراض تخلل الغرض المقصود.
فجملة: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ} إلخ استئناف كلام يعرف منه السامع تفصيل ما تقدم له إجماله، والتوكيد بإن لمجرد الاهتمام بهذا الخبر.
والكتم والكتمان عدم الإخبار بما من شأنه أن يخبر به من حادث مسموع أو مرئي ومنه كتم السر وهو الخبر الذي تخبر به غيرك وتأمره بأن يكتمه فلا يخبره غيره.
وعبر في {يَكْتُمُونَ} بالفعل المضارع للدلالة على أنهم في الحال كاتمون للبينات والهدى، ولو وقع بلفظ الماضي لتوهم السامع أن المعنى به قوم مضوا مع أن المقصود إقامة الحجة على الحاضرين.ويعلم حكم الماضين والآتين بدلالة لحن الخطاب لمساواتهم في ذلك،

والمراد بما أنزلنا ما اشتملت عليه التوراة من الدلائل والإرشاد، والمراد بالكتاب التوراة.
والبينات جمع بينة وهي الحجة وشمل ذلك ما هو من أصول الشريعة مما يكون دليلا على أحكام كثيرة، ويشمل الأدلة المرشدة إلى الصفات الإلهية وأحوال الرسل وأخذ العهد عليهم في اتباع كل رسول جاء بدلائل صدق لاسيما الرسول المبعوث في إخوة إسرائيل وهم العرب الذين ظهرت بعثته بينهم وانتشرت منهم، والهدى هو ما به الهدى أي الإرشاد إلى طريق الخير فيشمل آيات الأحكام التي بها صلاح الناس في أنفسهم وصلاحهم في مجتمعهم.
والكتمان يكون بإلغاء الحفظ والتدريس والتعليم، ويكون بإزالته من الكتاب أصلا وهو ظاهره قال تعالى: {وَتُخْفُونَ كَثِيراً} [الأنعام:91]، يكون بالتأويلات البعيدة عن مراد الشارع لأن إخفاء المعنى كتمان له، وحذف متعلق يكتمون الدال على المكتوم عنه للتعميم أي يكتمون ذلك عن كل أحد ليتأتى نسيانه وإضاعته.
وقوله: {مِنْ بَعْدِ} متعلق بـ {يَكْتُمُونَ} وذكر هذا الظرف لزيادة التفظيع لحال الكتمان وذلك أنهم كتموا البينات والهدى مع انتفاء العذر في ذلك لأنهم لو كتموا ما لم يبين لهم لكان لهم بعض العذر أن يقولوا كتمناه لعدم اتضاح معناه فكيف وهو قد بين ووضح في التوراة.
واللام في قوله: {لِلنَّاسِ} لم التعليل أي بيناه في الكتاب لأجل الناس أي أردنا إعلانه وإشاعته أي جعلناه بينا، وفي هذا زيادة تشنيع عليهم فيما أتوه من الكتمان وهو أنه مع كونه كتمانا للحق وحرمانا منه هو اعتداء على مستحقه الذي جعل لأجله ففعلهم هذا تضليل وظلم.
والتعريف في "الناس" للاستغراق لأن الله أنزل الشرائع لهدى الناس كلهم وهو استغراق عرفي أي الناس المشرع لهم.
وقوله: {أُولَئِكَ} إشارة إلى {الَّذِينَ يَكْتُمُونَ} ، وسط اسم الإشارة بين اسم {إن} وخبرها للتنبيه على أن الحكم الوارد بعد ذلك قد صاروا أحرياء به لأجل تلك الصفات التي ذكرت قبله بحيث إن تلك الصفات جعلتهم كالمشاهدين للسامع فأشير إليهم وهو في الحقيقة إشارة إلى أوصافهم، فمن أجل ذلك أفادت الإشارة التنبيه على أن تلك الأوصاف

هي سبب الحكم وهو إيماء للعلة على حد: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:5].
واختير اسم إشارة البعيد ليكون أبعث للسامع على التأمل منهم والالتفات إليهم أو لأن اسم الإشارة بهذه الصيغة هو الأكثر استعمالا في كلامهم.
وقد اجتمع في الآية إيما آن إلى وجه ترتب اللعن على الكتمان وهما الإيماء بالموصول إلى وجه بناء الخير أي علته وسببه، والإيماء باسم الإشارة للتنبيه على أحرويتهم بذلك، فكان تأكيد الإيماء إلى التعليل قائما مقام التنصيص على العلة.
واللعن الإبعاد عن الرحمة مع إذلال وغضب، وأثره يظهر في الآخرة بالحرمان من الجنة وبالعذاب في جهنم، وأما لمن الناس إياهم فهو الدعاء منهم بأن يبعدهم الله عن رحمته على الوجه المذكور، واختير الفعل المضارع للدلالة على التجدد مع العلم بأنه لعنهم أيضا فيما مضى إذ كل سامع يعلم أنه لا وجه لتخصيص لعنهم بالزمن المستقبل. وكذلك القول في قوله: {وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}، وكرر فعل {يَلْعَنُهُمُ} مع إغناء حرف العطف عن تكريره لاختلاف معنى اللاعنين فإن اللعن من الله الإبعاد عن الرحمة واللعن من البشر الدعاء عليهم عكس ما وقع في {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ} [الأحزاب:56] لأن التحقيق أن صلاة الله والملائكة واحدة وهي الذكر الحسن.
والتعريف في {اللَّاعِنُونَ} للاستغراق وهو استغراق عرفي أي يلعنهم كل لاعن، والمراد باللاعنين المتدينون الذين ينكرون المنكر وأصحابه ويغضبون لله تعالى ويطلعون على كتمان هؤلاء فهم يلعنونهم بالتعيين وإن لم يطلعوا على تعيينهم فهم يلعنونهم بالعنوان العام أي حين يلعنون كل من كتم آيات الكتاب حين يتلون التوراة. ولقد أخذ الله الميثاق على بني إسرائيل أن يبينوا التوراة ولا يخفوها كما قال: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:187].
وقد جاء ذكر اللعنة على إضاعة عهد الله في التوراة مرات وأشهرها العهد الذي أخذه موسى على بني إسرائيل في "حوريب" حسبما جاء في سفر الخروج في الإصحاح الرابع والعشرين، والعهد الذي أخذه عليهم في مؤاب وهو الذي فيه اللعنة على من تركه وهو في سفر التثنية في الإصحاح الثامن والعشرين والإصحاح التاسع والعشرين ومنه أنتم واقفون اليوم جميعكم أمام الرب إلهكم... لكي تدخلوا في عهد الرب وقسمه لئلا يكون فيكم اليوم منصرف عن الرب... فيكون متى يسمع كلام هذه اللعنة يتبرك في قلبه... حينئذ يحل غضب الرب وغيرته على ذلك الرجل فتحل عليه كل اللعنات المكتوبة

في هذا الكتاب ويمحو الرب اسمه من تحت السماء ويفرزه الرب للشر من جميع أسباط إسرائيل حسب جميع لعنات العهد المكتوبة في كتاب الشريعة هذا... لنعمل بجميع كلمات هذه الشريعة. وفي الإصحاح الثلاثين متى أنت عليك هذه الأمور البركة واللعنة جعلتهما قدامك وفيه أشهد عليكم اليوم السماء والأرض قد جعلت قدامك الحياة والموت، البركة واللعنة.
فقوله تعالى: {وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} تذكير لهم باللعنة المسطورة في التوراة فإن التوراة متلوة دائما بينهم فكلما قرأ القارئون هذا الكلام تجددت لعنة المقصودين، والذين كتموا ما أنزل من البينات والهدى هم أيضا يقرأون التوراة فإذا قرأوا لعنة الكاتمين فقد لعنوا أنفسهم بألسنتهم فأما الذين يلعنون المجرمين والظالمين غير الكاتمين ما أنول من البينات والهدى فهم غير مشمولين في هذا العموم، وبذلك كان الاستغراق المستفاد من تعريف اللاعنيون باللام استغراقا عرفيا.
واعلم أن لام الاستغراق العرفي واسطة بين لام الحقيقة ولام الاستغراق الحقيقي.
وإنما عدل إلى التعريف مع أنه كالنكرة مبالغة في تحققه حتى كأنه صار معروفا لأن المنكر مجهول، أو يكون التعريف للعهد أي يلعنهم الذين لعنوهم من الأنبياء الذين أوصوا بإعلان العهد وأن لا يكتموه.
ولما كان في صلة: {الَّذِينَ يَكْتُمُونَ} إيماء كما قدمناه فكل من يفعل فعلا من قبيل مضمون الصلة من غير أولئك يكون حقيقا بما تضمنه اسم الإشارة وخبره فإن من مقاصد القرآن في ذكر القصص الماضية أن يعتبر بها المسلمون في الخير والشر، وعن ابن عباس أن كل ما ذم الله أهل الكتاب عليه فالمسلمون محذرون من مثله، ولذل قال أبو هريرة لما قال الناس أكثر أبو هريرة من الرواية عن رسول الله فقال: لولا آية في كتاب الله ما حدثتكم حديثا بعد أن قال الناس أكثر أبو هريرة: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} الآية وساق الحديث1.
فالعالم يحرم عليه أن يكتم من علمه ما فيه هدى للناس لأن كتم الهدى إيقاع في الضلالة سواء في ذلك العلم الذي بلغ إليه بطريق الخبر كالقرآن والسنة الصحيحة والعلم
ـــــــ
1 أخرجه البخاري في :"3" "كتاب العلم" "42" "باب حفظ العلم، حديث "118" انظر فتح الباري" "1/213" دار المعرفة.

الذي يحصل عن نظر كالاجتهادات إذا بلغت مبلغ غلبة الظن بأن فيها خيرا للمسلمين، ويحرم عليه بطريق القياس الذي تومئ إليه العلة أن يبث في الناس ما يوقعهم في أوهام بان يلقنها وهو لا يحسن تنزيلها ولا تأويلها، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حدثوا الناس بما يفهمون أتحبون أن يكذب الله ورسوله", وكذلك كل ما يعلم أن الناس لا يحسنون وضعه.
وفي صحيح البخاري أن الحجاج قال لأنس بن مالك حدثني بأشد عقوبة عاقبها النبي فذكر له أنس حديث العرنيين الذين قتلوا الراعي واستاقوا الذود فقطع النبي صلى الله عليه وسلم أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وتركهم في الحرة يستقون فلا يسقون حتى ماتوا، فلما بلغ ذلك الحسن البصري قال وددت أنه لم يحدثه، أو يتلقفون من ظاهره ما يوافق هواهم فيجعلونه معذرة لهم فيما يعاملون به الناس من الظلم. قال ابن عرفة في "التفسير": لا يحل للعالم أن يذكر للظالم تأويلا أو رخصة يتمادى منها إلى المفسدة كمن يذكر للظالم ما قال الغزالي في "الإحياء" من أن بيت المال إذا ضعف واضطر السلطان إلى ما يجهز به جيوش المسلمين لدفع الضرر عنهم فلا بأس أن يوظف على الناس العشر أو غيره لإقامة الجيش وسد الخلة، قال ابن عرفة وذكر هذه المظلمة مما يحدث ضررا فادحا في الناس. وقد سأل سلطان قرطبة عبد الرحمن بن معاوية الداخل يحيى بن يحيى الليثي عن يوم أفطره في رمضان عامدا غلبته الشهوة على قربان بعض جواريه فيه فأفتاه بأنه يصوم ستين يوما والفقهاء حاضرون ما اجترأوا على مخالفة يحيى فلما خرجوا سألوه لم خصصته بأحد المخيرات فقال لو فتحنا له هذا الباب لوطئ كل يوم وأعتق أو أطعم فحملته على الأصعب لئلا يعود اه.
قلت فهو في كتمه عنه الكفارتين المخير فيهما قد أعمل دليل دفع مفسدة الجرأة على حرمة فريضة الصوم.
فالعالم إذا عين بشخصه لأن يبلغ علما أو يبين شرعا وجب عليه بيانه مثل الذين بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لإبلاغ كتبه أو لدعوة قومهم، وإن لم يكن معينا بشخصه فهو لا يخلو إما أن يكون ما يعلمه قد احتاجت الأمة إلى معرفته منه خاصة بحيث، يتفرد بعلمه في صقع أو بلد حتى يتعذر على أناس طلب ذلك من غيره أو يتعسر بحيث إن لم يعلمها إياه ضلت مثل التوحيد وأصول الاعتقاد، فهذا يجب عليه بيانه وجوبا متعينا عليه إن انفرد به في عصر أو بلد، أو كان هو أتقن للعلم فقد روى الترمذي وابن ماجه عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "إن الناس لكم تبع وإن رجالا يأتونكم يتفهمون أو يتعلمون فإذا

جاءوكم فاستوصوا بهم خيرا". وإن شاركه فيه غيره من أمثاله كان وجوبه على جميع الذين يعلمون ذلك على الكفاية، وإما أن يكون ما يعلمه من تفاصيل الأحكام وفوائدها التي تنفع الناس أو طائفة منهم، فإنما يجب عليه عينا أو كفاية على الوجهين المتقدمين أن يبين ما دعت الحاجة إلى بيانه، ومما يعد قد دعت الحاجة إلى بيانه أن تعين له طائفة من الناس ليعلمهم فحينئذ يجب عليه أن يعلمهم ما يرى أن في علمهم به منفعة لهم وقدرة على فهمه وحسن وضعه، ولذلك وجب على العالم إذا جلس إليه الناس للتعلم أن يلقي إليهم من العلم ما لهم مقدرة على تلقيه وإدراكه، فظهر بهذا أن الكتمان مراتب كثيرة وأن أعلاها ما تضمنته هذه الآية، وبقية المراتب تؤخذ بالمقايسة، وهذا يجئ أيضا في جواب العالم عما يلقي إليه من المسائل فإن كان قد انفرد بذلك أو كان قد عين للجواب مثل من يعين للفتوى في بعض الأقطار فعليه بيانه إذا علم احتياج السائل ويجئ في انفراده بالعلم أو تعيينه للجواب وفي عدم انفراده الوجهان السابقان في الوجوب العيني والوجوب الكفائى. وفي غير هذا فهو في خيرة أن يجيب أو يترك. وبهذا يكون تأويل الحديث الذي رواه أصحاب السنن الأربعة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة", فخصص عمومه في الأشخاص والأحوال بتخصيصات دلت عليها الأدلة قد أشرنا إلى جماعها. وذكر القرطبي عن سحنون أن الحديث وارد في كتمان الشاهد بحق شهادته.
والعهدة في وضع العالم نفسه في المنزلة اللائقة به من هذه المنازل المذكورة على ما يأنسه من نفسه في ذلك وما يستبرئ به لدينه وعرضه.
والعهدة في معرفة أحوال الطالبين والسائلين عليه ليجريها على ما يتعين إجراؤها عليه من الصور على ما يتوسمه من أحوالهم والأحوال المحيطة بهم، فإن أشكل عليه الأمر في حال نفسه أو حال سائله فليستشر أهل العلم والرأي في الدين.
يجب أن لا يغفل عن حكمة العطف في قوله تعالى: {وَالْهُدَى} حتى يكون ذلك ضابطا لما يقضي إليه كتمان ما يكتم.
وقوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} استثناء من: {الَّذِينَ يَكْتُمُونَ} أي فهم لا تلحقهم اللعنة، وهو استثناء حقيقي منصوب على تمام الكلام من {الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا} إلخ.
وشرط للتوبة أن يصلحوا ما كانوا أفسدوا وهو بإظهار ما كتموه وأن يبينوه للناس فلا يكفي اعترافهم وحدهم أو في خلواتهم، فالتوبة هنا الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم فإنه رجوع عن

كتمانهم الشهادة له الواردة في كتبهم وإطلاق التوبة على الإيمان بعد الكفر وارد كثيرا لأن الإيمان هو توبة الكافر من كفره، وإنما زاد بعده: {وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} لأن شرط كل توبة أن يتدارك التائب ما يمكن تداركه مما أضاعه بفعله الذي تاب عنه.
ولعل عطف: {وَبَيَّنُوا} على {أَصْلَحُوا} عطف تفسير.
وقوله {فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ} جملة مستأنفة لغير بيان بل لفائدة جديدة لأنه لما استثنى {الَّذِينَ تَابُوا} فقد تم الكلام وعلم السامع أن من تابوا من الكاتمين لا يلعنهم الله ولا يلعنهم اللاعنون، وجئ باسم الإشارة مسند إليه يمثل النكتة التي تقدمت.
وقرنت الجملة بالفاء للدلالة على شئ زائد على مفاد الاستثناء وهو أن توبتهم يعقبها رضي الله عنهم.
وفي "صحيح البخاري1" عن ابن مسعود قال: رسول الله: "لله أفرح بتوبة عبده من رجل نزل منزلا وبه مهلكة ومعه راحلته عليها طعامه وشرابه فوضع رأسه فنام نومة فاستيقظ وقد ذهبت راحلته حتى اشتد عليه الحر والعطش2 و ما شاء الله، قال أرجع إلى مكاني فرجع فنام نومة ثم رفع رأسه فإذا راحلته عنده".
فجاء في الآية نظم تقديره إلا الذين تابوا انقطعت عنهم اللعنة فأتوب عليهم. أي أرضى، وزاد توسط اسم الإشارة للدلالة على التعليل وهو إيجاز بديع.
[161, 162] {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ}
استئناف كلام لإفادة حال فريق آخر مشارك للذي قبله في استحقاق لعنة الله واللاعنين وهي لعنة أخرى.
وهذا الفريق هم المشركون فإن الكفر يطلق كثيرا في القرآن مرادا به الشرك قال تعالى: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة:10]، وذلك أن المشركين قد قرنوا سابقا
ـــــــ
1 أخرجه البخاري في: "80" "كتاب الدعوات" "4" "باب التوبة"، حديث "6308. انظر "فتح الباري" "11/102"
2 في المطبوعة واو العطف والتصويب من المصدر السابق. قال ابن حجرك "أو" شك من أبي شهاب.

مع أهل الكتاب قال تعالى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ} [البقرة:105] الآية: {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} [البقرة:118] فلما استؤنف الكلام ببيان لعنة أهل الكتاب الذين يكتمون عقب ذلك ببيان عقوبة المشركين أيضا فالقول في الاستئناف هنا كالقول في الاستئناف في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ} [البقرة:159] من كونه بيانيا أو مجردا.
وقال الفخر {الَّذِينَ كَفَرُوا} عام وهو شامل للذين يكتمون وغيرهم والجملة تذييل أي لما فيها من تعميم الحكم بعد إناطته ببعض الأفراد، وجعل في "الكشاف" المراد من {الَّذِينَ كَفَرُوا} خصوص الذين يكتمون1 وماتوا على ذلك وأنه ذكر لعنتهم أحياء ثم لعنتهم أمواتا، وهو بعيد عن معنى الآية لأن إعادة وكفروا لا نكتة لها للاستغناء بأن يقال والذين ماتوا وهم كفار، على أنه مستغنى عن ذلك أيضا بأنه مفاد الجملة السابقة مع استثنائها، واللعنة لا يظهر أثرها إلا بعد الموت فلا معنى لجعلها لمنتين، ولأن تعقيبه بقوله: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [البقرة:163] يؤذن بأن المراد هنا المشركون لتظهر مناسبة الانتقال.
وإنما قال هنا: {وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} لأن المشركين يلعنهم أهل الكتاب وسائر المتدينين الموحدين للخالق بخلاف الذين يكتمون ما أنزل من البينات فإنما يعلنهم الله والصالحون من أهل دينهم كما تقدم وتلعنهم الملائكة، وعموم "الناس" عرفي أي الذين هم من أهل التوحيد.
وقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا} تصريح بلازم اللعنة الدائمة فالضمير عائد لجهنم لأنها معروفة من المقام مثل: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [صّ:32] {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} [القيامة:26]، ويجوز أي يعود إلى اللعنة ويراد أثرها ولازمها.
وقوله: {لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ} أي لأن كفرهم عظيم يصدهم عن خيرات كثيرة بخلاف كفر أهل الكتاب.
والإنظار الإمهال، نظره نظرة أمهله، والظاهر أن المراد ولا هم يمهلون في نزول العذاب بهم في الدنيا وهو عذاب القتل إذ لا يقبل منهم إلا الإسلام دون الجزية بخلاف أهل الكتاب وهذا كقوله تعالى: {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ يَوْمَ نَبْطِشُ
ـــــــ
1 يشير إلى قوله تعالى السابق: {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات} [البقرة: 159]

الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} [الدخان:16] وهي بطشة يوم بدر. وقيل: {يُنْظَرُونَ} هنا من نظر العين وهو يتعدى بنفسه كما يتعدى بإلى أي لا ينظر الله إليهم يوم القيامة وهو كناية عن الغضب والتحقير.
وجئ بالجملة الاسمية هنا لدلالتها على الثبات والاستقرار بخلاف قوله: {أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ} فالمقصود التجدد ليكونوا غير آيسين من التوبة.
[163] {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ}
معطوف على جملة: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ} [البقرة:161] والمناسبة أنه لما ذكر ما ينالهم على الشرك من اللعنة والخلود في النار بين أن الذي كفروا به وأشركوا هو إله واحد وفي هذا العطف زيادة ترجيح لما انتميناه من كون المراد من {الَّذِينَ كَفَرُوا} المشركين لأن أهل الكتاب يؤمنون بإله واحد.
والخطاب بكاف الجمع لكل من يتأتى خطابه وقت نزول الآية أو بعده من كل قارئ للقرآن وسامع فالضمير عام، والمقصود به ابتداء المشركون لأنهم جهلوا أن الإله لا يكون إلا واحدا.
والإله في كلام العرب هو المعبود ولذلك تعددت الآلهة عندهم وأطلق لفظ الإله على كل صنم عبدوه وهو إطلاق ناشئ عن الضلال في حقيقة الإله لأن عبادة من لا يغنى عن نفسه ولا عن عابده شيئا عبث وغلط، فوصف الإله هنا بالواحد لأنه في نفس الأمر هو المعبود بحق فليس إطلاق الإله على المعبود بحق نقلا في لغة الإسلام ولكنه تحقيق للحق.
وما ورد في القرآن من إطلاق جمع الآلهة على أصنامهم فهو في مقام التغليط لزعمهم نحو: {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الاحقاف:28]، والقرينة هي الجمع، ولذلك لم يطلق في القرآن الإله بالإفراد على المعبود بغير حق، وبهذا تستغنى عن إكداد عقلك في تكلفات تكلفها بعض المفسرين في معنى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}.
والإخبار عن إلهكم بإله تكرير ليجري عليه الوصف بواحد والمقصود وإلهكم واحد لكنه وسط لفظ {إِلَهٌ} بين المبتدأ والخبر لتقرير معنى الألوهية في المخبر عنه كما تقول عالم المدينة عالم فائق. وليجئ ما كان أصله خبرا مجئ النعت فيفيد أنه وصف ثابت

للموصوف لأنه صار نعتا إذ أصل النعت أن يكون وصفا ثابتا وأصل الخير أن يكون وصفا حادثا، وهذا استعمال متبع في فصيح الكلام أن يعاد الاسم أو الفعل بعد ذكره ليبنى عليه وصف أو متعلق كقوله: {إِلَهاً وَاحِداً} [البقرة:133] وقوله: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} [الفرقان:72] وقد تقدم عند قوله تعالى.... والتنكير في {إِلَهٌ} للنوعية لأن المقصود منه تقرير معنى الألوهية، وليس للإفراد لأن الإفراد استفيد من قوله واحد خلافا لصاحب "المفتاح" في قوله تعالى: {إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الأنعام:19] إذ جعل التنكير في إله للإفراد وجعل تفسيره بالواحد بيانا للوحدة لأن المصير إلى الإفراد في القصد من التنكير مصير لا يختاره البليغ ما وجد عنه مندوحه.
وقوله: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} تأكيد لمعنى الوحدة وتنصيص عليها لرفع احتمال أن يكون المراد الكمال كقولهم في المبالغة هو نسيج وحده، أو أن يكون المراد إله المسلمين خاصة كما يتوهمه المشركون ألا ترى إلى قول أبي سفيان لنا العزى ولا عزى لكم .
وقد أفادت جملة: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} التوحيد لأنها نفت حقيقة الألوهية عن غير الله تعالى. وخبر {لا} محذوف دل عليه ما في {لا} من معنى النفي لأن كل سامع يعلم أن المراد نفي هذه الحقيقة فالتقدير لا إله إلا هو. وقد عرضت حيرة للنحاة في تقدير الخبر في هاته الكلمة لأن تقدير موجود يوهم أنه قد يوجد إله ليس هو موجودا في وقت التكلم بهاته الجملة، وأنا أجيب بأن المقصود إبطال وجود إله غير الله ردا على الذين ادعوا آلهة موجودة الآن وأما انتفاء وجود إله في المستقبل فمعلوم لأن الأجناس التي لم توجد لا يترقب وجودها من بعد لأن مثبتي الآلهة يثبتون لها القدم فلا يتوهم تزايدها، ونسب إلى الزمخشري أنه لا تقدير لخبر هنا وأن أصل لا إله إلا هو هو {إِلَهٌ} فقدم إله وأخر هو لأجل الحصر بإلا وذكروا أنه ألف في ذلك رسالة، وهذا تكلف والحق عندي أن المقدرات لا مفاهيم لها فليس تقدير لا إله موجود بمنزلة النطق بقولك لا إله موجود بل إن التقدير لإظهار معاني الكلام وتقريب الفهم وإلا فإن لا النافية إذا نفت النكرة فقد دلت على نفي الجنس أي نفي تحقق الحقيقة فمعنى {لا إله} انتفاء الألوهية {إلا الله} أي إلا الله.
وقوله: {الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} وصفان للضمير، أي المنعم بجلائل النعم ودقائقها وهما وصفان للمدح وفيهما تلميح لدليل الألوهية والانفراد بها لأنه منهم، وغيره ليس بمنعم وليس في الصفتين دلالة على الحصر ولكنهما تعريض به هنا لأن الكلام مسوق لإبطال

ألوهية غيره فكان ما يذكر من الأوصاف المقتضية للألوهية هو في معنى قصرها عليه تعالى، وفي الجمع بين وصفي {الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} ما تقدم ذكره في سورة الفاتحة على أن في ذكر صفة الرحمن إغاظة للمشركين فإنهم أبوا وصف الله بالرحمن كما حكى الله عنهم بقوله: {قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} [الفرقان:60].
واعلم أن قوله: {إِلَّا هُوَ} استثناء من الإله المنفى أي أن جنس الإله منفى إلا هذا الفرد، وخبر "لا" في مثل هاته المواضع يكثر حذفه لأن لا التبرئة مفيدة لنفي الجنس فالفائدة حاصلة منها ولا تحتاج للخبر إلا إذا أريد تقييد النفي بحالة نحو لا رجل في الدار غير أنهم لما كرهوا بقاء صورة اسم وحرف بلا خبر ذكروا مع اسم لا خبرا ألا ترى أنهم إذا وجدوا شيئا يسد مسد الهبر في الصورة حذفوا الخبر مع لا نحو الاستثناء في لا إله إلا الله، ونحو التكرير في قوله لا نسب اليوم ولا خلة. ولأبى حيان هنا تكلفات.
[164] {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}
موقع هاته الآية عقب سابقتها موقع الحجة من الدعوى، ذلك أن الله تعالى أعلن أن الإله إله واحد لا إله غيره وهي قضية من شانها أن تتلقى بالإنكار من كثير من الناس فناسب إقامة الحجة لمن لا يقتنع فجاء بهذه الدلائل الواضحة التي لا يسع الناظر إلا التسليم إليها.
فإن هنا لمجرد الاهتمام بالخبر للفت الأنظار إليه، ويحتمل أنهم نزلوا منزلة من ينكر أن يكون في ذلك آيات {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} لأنهم لم يجروا على ما تدل عليه تلك الآيات.
وليست {إن} هنا بمؤذنة بتعليل للجملة التي قبلها لأن شرط ذلك أن يكون مضمون الجملة التي بعدها صالحا لتعليل مضمون التي قبلها بحيث يكون الموقع لفاء العطف فحينئذ يغنى وقوع "إن" عن الإتيان بفاء العطف كما ذكره الشيخ عبد القاهر في "دلائل الإعجاز" وقد بسطنا القول فيه عند قوله تعالى: {اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} [البقرة:61].
والمقصود من هاته الآية إثبات دلائل وجود الله تعالى ووحدانيته ولذلك ذكرت إثر ذكر الوحدانية لأنها إذا أثبتت بها الوحدانية ثبت الوجود بالضرورة. فالآية صالحة للرد

على كفار قريش دهريهم ومشركهم والمشركون هم المقصود ابتداء، وقد قرر الله في هاته الآية دلائل كلها واضحة من أصناف المخلوقات وهي مع وضوحها تشتمل على أسرار يتفاوت الناس في دركها حتى يتناول كل صنف من العقلاء مقدار الأدلة منها على قدر قرائحهم وعلومهم.
والخلق هنا بمعنى المصدر واختير هنا لأنه جامع لكل ما فيه عبرة من مخلوقات السماوات والأرض، وللعبرة أيضا في نفس الهيئة الاجتماعية من تكوين السماوات والأرض والنظام الجامع بينها فكما أن كل مخلوق منها أو قيها هوآية وعبرة فكذلك مجموع خلقها، ولعل الآية تشير إلى ما يعبر عنه في علم الهيئة بالنظام الشمسي وهو النظام المنضبط في أحوال الأرض مع الكواكب السيارة المعبر عنها بالسماوات.
وَ {السَّمَاوَاتُ} جمع سماء والسماء إذا أطلقت مفردة فالمراد بها الجو المرتفع فوقنا الذي يبدو كأنه قبة زرقاء وهو الفضاء العظيم الذي تسبح فيه الكواكب وذلك المراد في نحو قوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [الملك:5] {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} [الصافات:6] {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [البقرة:22]. وإذا جمعت فالمراد بها أجرام عظيمة ذات نظام خاص مثل الأرض وهي السيارات العظيمة المعروفة والتي عرفت من بعد والتي ستعرف: عطارد، والزهرة، والمريخ، والشمس، والمشتري، وزحل، وأرانوس، ونبتون. ولعلها هي السماوات السبع والعرش العظيم، وهذا السر في جمع "السماوات" هنا وإفراد "الأرض" لأن الأرض عالم واحد وأما جمعها في بعض الآيات فهو على معنى طبقاتها أو أقسام سطحها.
والمعنى أن في خلق مجموع السماوات مع الأرض آيات، فلذلك أفرد الخلق وجعلت الأرض معطوفا على السماوات ليتسلط المضاف عليهما.
والآية في هذا الخلق {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} آية عظيمة لمن عرف أسرار هذا النظام وقواعد الجاذبية التي أودعها الله تعالى في سير مجموع هاته السيارات على وجه لا يعتريه خلل ولا خرق {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يّس: 40]، وأعظم تلك الأسرار تكوينها على هيئة كرية قال الفخر كان عمر بن الحسام يقرأ "كتاب المجسطى" على عمر الأبهرى فقال لهما بعض الفقهاء يوما ما الذي تقرءونه فقال الأبهرى أفسر قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا} [قّ: 6] فأنا أفسر كيفية بنائها ولقد صدق الأبهرى فيما قال فإن كل من كان أكثر توغلا في بحار

المخلوقات كان أكثر علما بجلال الله تعالى وعظمته اه.
قلت ومن بديع هذا الخلق أن جعله الله تعالى يمد بعضه بعضا بما يحتاجه كلا فلا ينقص من المد شئ، لأنه يمده غيره بما يخلف له ما نقص، وهكذا نجد الموجودات متفاعلة، فالبحر يمد الجو بالرطوبة فتكون منه المياه النازلة ثم هو لا ينقص مع طول الآباد لأنه يمده كل نهر وواد.
وهي آية لمن كان في العقل دون هاته المرتبة فأدرك من مجموع هذا الخلق مشهدا بديعا في طلوع الشمس وغروبها وظهور الكواكب في الجو وغروبها.
وأما الاعتبار بما فيها من المخلوقات وما يحف بها من الموجودات كالنجوم الثوابت والشهب وما في الأرض من جبال وبحار وأنهار وحيوان فذلك من تفاريع تلك الهيئة الاجتماعية.
وقوله: {وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} تذكير بأية أخرى عظيمة لا تخفى على أحد العقلاء وهي اختلاف الليل والنهار أعني اختلاف حالتي الأرض في ضياء وظلمة، وما في الضياء من الفوائد للناس وما في الظلمة من الفوائد لهم لحصول سكونهم واسترجاع قواهم المنهوكة بالعمل.
وفي ذلك آية لخاصة العقلاء إذ يعلمون أسباب اختلاف الليل والنهار على الأرض وأنه من آثار دوران الأرض حول الشمس في كل يوم لهذا جعلت الآية في اختلافهما وذلك يقتضي أن كلا منهما آية.
والاختلاف افتعال من الخلف وهو أن يجئ شيء عوضا عن شئ آخر يخلفه في مكانه والخلفة بكسر الخاء الخلف قال زهير:
بها العين والآرام يمشين خلفه.
وقد أضيف الاختلاف لكل من الليل والنهار لأن كل واحد منهما يخلف الآخر فتحصل منه فوائد تعاكس فوائد الآخر بحيث لو دام أحدهما لا نقلب النفع ضرا {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [القصص:72-71].
وللاختلاف معنى آخر هو مراد أيضا وهو تفاوتهما في الطول والقصر فمرة يعتدلان

ومرة يزيد أحدهما على الآخر وذلك بحسب أزمنة الفصول وبحسب أمكنة الأرض في أطوال البلاد وأعراضها كما هو مقرر في علم الهيئة، وهذا أيضا من مواضع العبرة لأنه آثار الصنع البديع في شكل الأرض ومساحتها للشمس قربا وبعدا.ففي اختيار التعبير بالاختلاف هنا سر بديع لتكون العبارة صالحة للعبرتين.
والليل اسم لعرض الظلمة والسواد الذي يعم مقدار نصف من كرة الأرض الذي يكون غير مقابل للشمس فإذا حجب قرص الشمس عن مقدار نصف الكرة الأرضية بسبب التقابل الكروي تقلص شعاع الشمس عن ذلك المقدار من الكرة الأرضية فأخذ النور في الضعف وعادت إليه الظلمة الأصلية التي ما أزالها إلا شعاع الشمس ويكون تقلص النور مدرجا من وقت مغيب قرص الشمس عن مقابلة الأفق ابتداء من وقت الغروب ثم وقت الشفق الأحمر ثم الشفق الأبيض إلى أن يحلك السواد في وقت العشاء حين بعد قرص الشمس عن الأفق الذي ابتدأ منه المغيب، وكلما اقترب قرص الشمس من الأفق الآخر أكسبه ضياء من شعاعها ابتداء من وقت الفجر إلى الإسفار إلى الشروق إلى الضحى، حيث يتم نور أشعة الشمس المتجهة إلى نصف الكرة تدريجا.وذلك الضياء هو المسمى بالنهار وهو النور التام المنتظم على سطح الكرة الأرضية وإن كان قد يستنير سطح الكرة بالقمر في معظم لياليه استنارة غير تامة، وبضوء بعض النجوم استنارة ضعيفة لا تكاد تعتبر.
فهذا هو المراد باختلاف الليل والنهار أي تعاقبهما وخلف أحدهما الآخر، ومن بلاغه علم القرآن أن سمى ذلك اختلافا تسمية مناسبة لتعاقب الأعراض على الجوهر لأنه شئ غير ذاتي فإن ما بالذات لا يختلف فأومأ إلى أن الليل والنهار ليسا ذاتين ولكنهما عرضان خلاف معتقد الأمم الجاهلة أن الليل جسم أسود كما صوره المصريون القدماء على بعض الهياكل وكما قال امرؤ القيس في الليل:
فقلت له لما تمطى بصلبه ... وأردف أعجازا وناء بكلكل
وقال تعالى في سورة الشمس: {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا}.
وقوله: {والْفُلْكِ} عطف على {خَلْقِ} وَ {اخْتِلافِ} فهو معمول لفي أي وفي الفلك، ووصفها بالتي تجري الموصول لتعليل العطف أي أن عطفها على خلق السماوات والأرض في كونها آية من حيث إنها

تجري في البحر، وفي كونها نعمة من حيث أنها تجري بما ينفع الناس، فأما جريها في البحر فهو يتضمن آيتين، إحداهما آية خلق البحر الذي تجري فيه الفلك خلقا عجيبا عظيما إذ كان ماء غامرا لأكثر الكرة الأرضية وما فيه من مخلوقات وما ركب في مائه من الأملاح والعقاقير الكيمياوية ليكون غير متعفن بل بالعكس يخرج للهواء أجزاء نافعة للأحياء على الأرض، والثانية آية سير السفن فيه وهو ماء من شأنه أن يتعذر المشي عليه فجرى السفن آية من آيات إلهام الله تعالى الإنسان للتفطن لهذا التسخير العجيب الذي استطاع به أن يسلك البحر كما يمشي في الأرض، وصنع الفلك من أقدم مخترعات البشر ألهمه الله تعالى نوحا عليه السلام في أقدم عصور البشر،
ثم إن الله تعالى سخر للفلك الرياح الدورية وهي رياح تهب في الصباح إلى جهة وفي المساء إلى جهة في السواحل تنشأ عن إحماء أشعة الشمس في رابعة النهار الهواء الذي في البر حتى يخف الهواء فيأتي هواء من جهة البحر ليخلف ذلك الهواء البرى الذي تصاعد فتحدث ريح رخاء من جهة البحر ويقع عكس ذلك بعد الغروب فتأتى ريح من جهة البر إلى البحر، وهذه الريح ينتفع بها الصيادون والتجار وهي تكون أكثر انتظاما في مواقع منها في مواقع أخرى.
وسخر الفلك رياحا موسمية وهي تهب إلى جهة واحدة في أشهر من السنة وإلى عكسها في أشهر أخرى تحدث من اتجاه حرارة أشعة الشمس على الأماكن الواقعة بين مدار السرطان ومدار الجدي من المرة الأرضية عند انتقال الشمس من خط الاستواء إلى جهة مدار السرطان وإلى جهة مدار الجدي، فتحدث هاته الريح مرتين في السنة وهي كثيرة في شطوط اليمن وحضرموت والبحر الهندي وتسمى الريح التجارية.
وأما كونها نعمة فلأن في التسخير نفعا للتجارة والزيارة والغزو وغير ذلك ولذلك قال بما ينفع الناس لقصد التعميم مع الاختصار.
والفلك هنا جمع لا محالة لأن العبرة في كثرتها، وهو ومفرده سواء في الوزن فالتكسير فيه اعتباري وذلك أن أصل مفرده فلك بضمتين كعنق وكسر على فلك مثل عرب وعجم وأسد وخفف المفرد بتسكين عينه لأن ساكن العين في مضموم الفاء فرع مضموم العين قصد منه التخفيف على ما بينه الرضى فاستوى في اللفظ المفرد والجمع، وقيل المفرد بفتح الفاء وسكون اللام والجمع بضم الفاء وضم اللام قيل أسد وأسد وخشب وخشب ثم سكنت اللام تخفيفا، والاستعمال الفصيح في المفرد والجمع ضم الفاء

وسكون اللام قال تعالى: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ} [هود:37] {والْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [الشعراء:119] وقال: {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ} وقال: {وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} [الحج:65] {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} [يونس:22]، ثم إن أصل مفردة التذكير قال تعالى: {والْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} ويجوز تأنيثه على تأويله بمعنى السفينة قال تعالى: {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا} [هود:41] {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ} [هود:42] كل ذلك بعد قوله: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ} [هود:38].
وكأن هذا هو الذي اعتمده ابن الحاجب إذ عد لفظ الفلك مما أنث بدون تاء ولا ألف فقال في قصيدته والفلك تجري وهي في القرآن لأن العبرة باستعماله مؤنثا وإن كان تأنيثه بتأويل، وقد قيل إنه يجوز في مفرده فقط ضم اللام مع ضم الفاء وقرئ به شاذا والقول به ضعيف، وقال الكواشي وهو بضم اللام أيضا للمفرد والجمع وهو مردود إذ لم ينص عليه أهل اللغة ولا داعي إليه وكأنه قاله بالقياس على الساكن.
وفي امتنان الله تعالى بجريان الفلك في البحر1 دليل على جواز ركوب البحر من غير ضرورة مثل ركوبه للغزو والحج والتجارة، وقد أخرج مالك في "الموطأ2" وتبعه أهل "الصحيح" حديث أم حرام بنت ملحان في باب الترغيب في الجهاد الثاني من الموطأ عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب إلى قباء يدخل على أم حرام بنت ملحان فتطعمه وكانت تحت عبادة بن الصامت فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فنام يوما ثم استيقظ وهو يضحك قالت: فقلت ما يضحكك؟ قال: "ناس من أمتي عرضوا على غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر ملوكا على الأسرة", فقلت: ادع الله أن يجعلني منهم فدعا لها" الحديث. وفي حديث أبي هريرة: "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء" الحديث،
وعليه فلما روي عن عمر بن الخطاب أنه كتب إلى عمرو بن العاص أن لا يحمل جيش المسلمين في البحر مؤول على الاحتياط وترك التغرير3 وأنا أحسبه قد قصد منه
ـــــــ
1 ذكر ذلك القرطبي في شرحه للآية، و في مواضع أخر في "7/341 ،8/325".
2 في 21"كتاب الجهاد" "18"، باب الترغيب في الجهاد، حديث 39. وأخرجه البخاري في "56"، "كتب الجهاد"، "3" باب الدعاء بالجهاد والشهادة للرجال والنساء. ومسلم في "33" "كتاب الإمارة" "49" باب فضل الغزو في البحر، حديث "160".
3 قاله القرطبي في "2/195".

خشية تأخر نجدات المسلمين في غزواتهم لأن السفن قد يتأخر وصولها إذا لم تساعفها الرياح التي تجري بما لا تشتهي السفن ولأن ركوب العدد الكثير في سفن ذلك العصر مظنة وقوع الغرق، ولأن عدد المسلمين يومئذ قليل بالنسبة للعدو فلا ينبغي تعريضه للخطر فذلك من النظر في المصلحة العامة في أحوال معينة فلا يحتج به في أحكام خاصة للناس.ولما مات عمر استأذن معاوية عثمان فأذن له في ركوبه فركبه لغزو "قبرص" ثم لغزو القسطنطينية وفي غزوة قبرص ظهر تأويل رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أم حرام، وقد قيل إن عمر بن عبد العزيز لما ولى الخلافة نهى عن ركوبه ثم ركبه الناس بعده
وروي عن مالك كراهية سفر المرأة في البحر للحج والجهاد، قال ابن عبد البر وحديث أم حرام يرد هذه الرواية ولكن تأولها أصحابه بأنه كره ذلك لخشية اطلاعهن على عورات الرجال لعسر الاحتراز من ذلك فخصه أصحابه بسفن أهل الحجاز لصغرها وضيقها وتزاحم الناس فيها مع كون الطريق من المدينة إلى مكة من البر ممكنا سهلا وأما السفن الكبار كسفن أهل البصرة التي يمكن فيها الاستتار وقلة التزاحم فليس بالسفر فيها للمرأة بأس عند مالك1.
{وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ} معطوف على الأسماء التي قبله جئ به اسم موصول ليأتي عطف صلة على صلة فتبقى الجملة بمقصد العبرة والنعمة، فالصلة الأولى وهي {أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ} تذكير بالعبرة لأن في الصلة من استحضار الحالة مالا ليس في نحو كلمة المطر والغيث، وإسناد الإنزال إلى الله لأنه الذي أوجد أسباب نزول الماء بتكوينه الأشياء عند خلق هذا العالم على نظام محكم.
والسماء المفرد هو الجو والهواء المحيط بالأرض كما تقدم آنفا، وهو الذي يشاهده جميع السامعين.
ووجه العبرة أن شأن الماء الذي يسقي الأرض أن ينبع منها فجعل الماء نازلا عليها من ضدها وهو السماء عبرة عجيبة.
وفي الآية عبرة علمية لمن يجيء من أهل العلم الطبيعي وذلك أن جعل الماء نازلا من السماء يشير إلى أن بخار الماء يصير ماء في الكرة الهوائية عند ما يلامس الطبقة
ـــــــ
1 " التمهيد" لابن البر "1/233-234"، ط المغرب.

الزمهريرية وهذه الطبقة تصير زمهريرا عندما تقل حرارة أشعة الشمس، ولعل في بعض الأجرام العلوية وخاصة القمر أهوية باردة يحصل بها الزمهرير في ارتفاع الجو فيكون لها أثر في تكوين البرودة في أعلى الجو فأسند إليها بإنزال الماء مجازا عقليا وربما يستروح لهذا بحديث مروي وهو أن المطر ينزل من بحر تحت العرش أي أن عنصر المائية يتكون هنالك ويصل بالمجاور حتى يبلغ إلى جونا قليل منه فإذا صادفته الأرض تكون من ازدواجها الماء وقد قال تعالى: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ} [النور:43]، ولعلها جبال كرة القمر وقد ثبت في الهيئة أن نهار القمر يكون خمسة عشر يوما، وليله كذلك، فيحصل فيه، تغيير عظيم من شدة الحر إلى شدة البرد هي مدة استقباله الأرض أحدث في جو الأرض عنصر البرودة.
وقوله: {فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ} معطوف على الصلة بالفاء لسرعة حياة الأرض إثر نزول الماء وكلا الأمرين الفعل والفاء موضع عبرة وموضع منه. وأطلقت الحياة على تحرك القوى النامية من الأرض وهي قوة النبات استعارة لأن الحياة حقيقة هي ظهور القوى النامية في الحيوان فشبهت الأرض به. وإذا جعلنا الحياة حقيقة في ظهور قوى النماء وجعلنا النبات يوصف بالحياة حقيقة وبالموت فقوله: {فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ} مجاز عقلي والمراد إحياء ما تراد له الأرض وهو النبات.
وفي الجمع بين السماء والأرض وبين أحي وموت طباقان.
وقوله: {وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} عطف إما على {أَنْزَلَ} فيكون صلة ثانية وباعتبار ما عطف قبله على الصلة ثالثة، وإما عطف على أحي فيكون معطوفا ثانيا على الصلة، وأياما كان فهو آية ومنه مستقلة، فإن جعلته عطفا على الصلة فمن في قوله: {مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} بيانية وهي في موضع الحال ظرف مستقر، وإن جعلته عطفا على المعطوف على الصلة وهو أحيا فمن في قوله: {مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} تبعيضية وهي ظرف لغو، أي أكثر فيها عددا من كل نوع من أنواع الدواب بمعنى ان كل نوع من أنواع الدواب ينبث بعض كثير من كل أنواعه، فالتنكير في دابة للتنويع أي أكثر من كل الأنواع لا يختص ذلك بنوع دون آخر.
والبث في الأصل نشر ما كان خفيا ومنه بث الشكوى وبث السرأى أظهره. قالت الأعرابية لقد أبثثتك مكتومي وأطعمك مأدومي وفي حديث أم زرع قالت السادسة ولا يولج الكف ليعلم البث أي لا يبحث عن سر زوجته لتفشوه له، فمثلت البحث بإدخال

الكف إخراج المخبوء1، ثم استعمل مجازا في انتشار الشيء بعد أن كان كامنا كما في هاته الآية واستعمل أيضا في مطلق الانتشار، قال الخماسي:
وهلا أعدوني لمثلي تفاقدوا ... وفي الأرض مبثوث شجاع وعقرب
وبث الدواب على وجه عطفه على فعل {أَنْزَلَ} هو خلق أنواع الدوال على الأرض فعبر عنه بالبث لتصوير ذلك الخلق العجيب المتكاثر فالمعنى وخلق فبث فيها من كل دابة.
وعلى وجه عطف {وبث} على {فأحيا} فبث الدواب انتشارها في المراعي بعد أن كانت هازلة جاثمة وانتشار نسلها بالولادة وكل ذلك انتشار وبث وصفة لبيد بقوله:
رزقت مرابيع النجوم وصابها ... ودق الرواعد جودها فرهامها
فعلا فروع الأيهقان وأطفلت ... بالجلهتين ظباؤها ونعامها
والآية أوجز من بيتي لبيد وأوفر معنى فإن قوله تعالى: {وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ} أوجز من البيت الأول، وقوله: {فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} أوجز من قوله فعلا فروع الأيهقان وأعم وأبرع بما فيه من استعارة الحياة، وقوله: {وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} أوجز من قوله وأطفلت البيت مع كونه أعم لعدم اقتصاره على الظباء والنعام.
والدابة ما دب على وجه الأرض وقد آذنت كلمة {كل} بأن المراد جميع الأنواع فانتفى احتمال أن يراد من الدابة خصوص ذوات الأربع.
وقد جمع قوله تعالى: {فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} أصول علم التاريخ الطبيعي وهو المواليد الثلاثة المعدن والنبات والحيوان، وزيادة على ما في بقية الآية سابقا ولاحقا من الإشارات العلمية الراجعة لعلم الهيئة وعلم الطبيعة وعلم الجغرافيا الطبيعية وعلم حوادث الجو2.
وقوله: {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ} عطف على مدخول {في} وهو من آيات وجود الخالق
ـــــــ
1 قيل: إنه كان بجسدها عيب أو داء فكان لا يدخل يده في ثوبها فيمسه لعلمه أن ذلك يؤذيها، تصفه باللطف. وقيل: إن ذلك ذم له، أي لا يتفقد أمورها ومصالحها كقولهم: ما أدخل يدي في هذا الأمر أي لا أتفقده
2 قال ألوسي في آخر شرحه لهذه الآية:" وفي الآية إثبات الاستدلال بالحجج العقلية. وتنبيه على شرف علم الكلام وفضل أهله، وربما أشارت إلى شرف علم الهيئة". "2/33"، ط المنيرة.

وعظيم قدرته لأن هبوب الريح وركودها آية، واختلاف مهابها آية ، فلولا الصانع الحكم الذي أودع أسرار الكائنات لما هبت الريح أو لما ركدت، ولما اختلف مهابها بل دامت من جهة واحدة وهذا موضع العبرة، وفي تصريف الرياح موضع نعمة وهو أن هبوبها قد يحتاج إليه أهل موضع للتنفيس من الحرارة أو لجلب الأسلحة أو لطرد حشرات كالجرد ونحوه أو لجلب منافع مثل الطير.
وقد يحتاج أهل مكة إلى اختلاف مهابها لتجيء ريح باردة بعد ريح حارة أو ريح رطبة بعد ريح يابسة، أو لتهب إلى جهة الساحل فيرجع أهل السفن من الأسفار أو من الصيد، فكل هذا موضع نعمة، وهذا هو المشاهد للناس كلهم، ولأهل العلم في ذلك أيضا موضع عبرة أعجب وموضع نعمة، وذلك أن سبب تصريف الرياح أن الله أحاط الكرة الأرضية بهواء خلقه معها، به يتنفس الحيوان وهو محيط بجميع الكرة بحرها متصل بسطحها ويشغل من فوق سطحها ارتفاعا لا يعيش الحيوان لو صعد إلى أعلاه، وقد خلقه الله تعالى مؤلفا من غازين هما النيتروجين والأكسجين وفيه جزاء آخر عارض فيه هو جانب من البخار المائي المتصاعد له من تبخر البحار ورطوبة الأرض بأشعة الشمس وهذا البخار هو غاز دقيق لا يشاهد، وهذا الهواء قابل للحرارة والبرودة بسبب مجاورة حار أو بارد، وحرارته تأتي من أشعة الشمس ومن صعود حرارة الأرض حين تسخنها الشمس وبرودته تجيء من قلة حرارة الشمس ومن برودة الثلوج الصاعدة من الزمهرير الذي يتزايد بارتفاع الجو كما تقدم.
ولما كانت الحرارة من طبعها أن تمدد أجزاء الأشياء فتتلطف بذلك التمدد كما تقرر في الكيمياء، والبرودة بالعكس، فإذا كان هواء في جهة حارة كالصحراء وهواء في جهة باردة كالمنجمد وقع اختلاف بين الهواءين في الكثافة فصعد الخفيف وهو الحار إلى الأعلى وانحدر الكثيف إلى الأسفل وبصعود الخفيف يترك فراغا يخلفه فيه الكثيف طلبا للموازنة فتحدث حركة تسمى ريحا، فإذا كانت الحركة خفيفة لقرب التفاوت بين الهواءين سميت الحركة نسيما، وإذا اشتدت الحركة وأسرعت فهي الزوبعة. فالريح جنس لهاته الحركة والنسيم والزوبعة والزعزع أنواع له.
ومن وفوائد هاته الرياح الإعانة على تكوين السحاب ونقله من موضع إلى موضع وتنقية الكرة الهوائية مما يحل بها من الجراثيم المضرة، وهذان الأمران موضع عبرة ونعمة لأهل العلم.

وقد اختير التعبير بلفظ التصريف هنا دون نحو لفظ التبديل أو الاختلاف لأنه اللفظ الذي يصلح معناه لحكاية ما في الأمر من حال الرياح لأن التصريف تفعيل من الصرف للمبالغة وقد علمت أن منشأ الريح هو صرف بعض الهواء إلى مكان وصرف غيره إلى مكانه الذي كان فيه فيجوز أن تقدر: وتصريف الله تعالى الرياح، وجعل التصريف للريح مع أن الريح تكونت بذلك التصريف فهو من إطلاق السم على الحاصل وقت الإطلاق كما في قوله تعالى: {وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة:159] وهو ضرب من مجاز الأول، وأن تجعل التصريف بمعنى التغيير أي تبديل ريح من جهة إلى جهة فتبقى الحقيقة ويفوت الإعجاز العلمي ويكون اختيار لفظ التصريف دون التغيير لأنه أخف.
وجمع الرياح هنا لأن التصريف اقتضى التعدد لأنها كلما تغير مهبها فقد صات ريحا غير التي سبقت، وقرأ الجمهور {الرياح} بالجمع وقرأه حمزة والكسائي {الريح} بالإفراد على إرادة الجنس، واستفادة العموم من اسم الجنس المعرف سواء كان مفردا أو جمعا سواء، وقد قيل إن {الرياح} بصيغة الجمع يكثر استعماله في ريح الخير وأن الريح بإفراد يكثر استعماله في ريح الشر واعتضدوا في ذلك بما رووه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا رأى الريح: "اللهم اجعلها رياحا لا ريحا" وهي تفرقة أغلبية وإلا فقد غير بالإفراد في موضع الجمع، والعكس في قراءة كثير من القراء. والحديث لم يصح، وعلى القول بالتفرقة فأحسن ما يعلل به أن الريح النافعة للناس تجيء خفيفة وتتخلل موجاتها فجوات فلا تحصل منها مضرة فباعتبار تخلل الفجوات لهبوبها جمعت، وأما الريح العاصف فإنه لا يترك للناس فجوة فلذلك جعل ريحا واحدة وهذا مأخوذ من كلام القرطبي.
والرياح جمع ريح والريح بوزن فعل بكسر الفاء وعينها واو انقلبت ياء لأجل الكسرة بدليل قولهم في الجمع أرواح وأما قولهم في الجمع رياح فانقلاب الواو فيه ياء كانقلابها الكسرة بدليل قولهم في الجمع أرواح وأما قولهم في الجمع رياح فانقلاب الواو فيه ياء كانقلابها في المفرد لسبب الكسرة كما قالوا ديمة وديم وحيلة وحيل وهما من الواوي.
وقوله: {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ} عطف على {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ} أو على {الرِّيَاحِ} ويكون التقدير: وتصريف السحاب المسخر أي نقله من موضع إلى موضع. وهو عبرة ومنة أما العبرة ففي تكوينه بعد أن لم يكن وتسخيره وكونه في الفضاء، وأما المنة ففي جميع ذلك فتكوينه منة وتسخيره من موضع إلى موضع منة وكونه بين السماء والأرض منة لأنه ينزل منه المطر على الأرض من ارتفاع فيفيد اختراق الماء في الأرض، ولأنه لو كان على

سطح الأرض لاختنق الناس فهذا ما يبدو لكل أحد، وفي ذلك أيضا عبرة ومنة لأهل العلم فتكوينه عبرة لهم وذلك أنه يتكون من تصاعد أبخرة البحار ورطوبة الأرض التي تبخرها أشعة الشمس ولذا لم يخل الهواء من بخار الماء كما قدمناه إلا أن بخار الماء شفاف غازي فإذا جاور سطحا باردا ثقل وتكاثف فصار ضبابا أو ندى أو سحابا، وإنما تكاثف لأن أجزاء البخار تجتمع فتقل قدرة الهواء على حمله، ثم إذا تكامل اجتماعه نزل مطرا، ولكون البخار الصاعد إلى الجو أكثر بخار البحر؛ لأن البحر أكثر سطح الكرة الأرضية كانت السحب أكثر ما تتكون من جهة البحار، وكانوا يظنون أن المطر كله من ماء البحر وأن خراطيم السحاب تتدلى إلى أمواج البحر فتمتص منه الماء ثم ينزل مطرا. قال أبو ذؤيب الهذلى:
سقى أم عمرو كل آخر ليلة ... حناتم سود ماؤهن ثجيج
شربن بماء البحر ثم ترفعت ... متى لجج خضر لهن نئيج
وقال البديع الإصطرلابى1:
أهدي لمجلسك الشريف وإنما ... أهدي له ما حزت من نعمائه
كالبحر يمطره السحاب وماله ... فضل عليه لأنه من مائه
فلولا الرياح تسخره من موضع إلى موضع لكان المطر لا ينزل إلا في البحار. وموضع المنة في هذا في تكوينه حتى يحمل الماء ليحيى الأرض، وفي تسخيره لينتقل، وفي كونه بين السماء والأرض فهو مسخر بين السماء والأرض حتى يتكامل ما في الجو من الماء فيثقل السحاب فينزل ماء إذا لم تبق في الهواء مقدرة على حمله قال تعالى: {وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ} [الرعد:12]. وقوله تعالى: {لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أي دلائل وقد تقدم الكلام على الآية والآيات، وجمع الآيات لأن في كل ما ذكر من خلق السماوات والأرض وما عطف عليه آيات.
فإن أريد الاستدلال بها على وجود الله تعالى فقط كانت دلائل واضحة وكان ردا على الدهريين من العرب وكان ذكرهم بعد الذين ذكرهم بعد الذين كفروا وماتوا وهم كفار2 المراد بهم
ـــــــ
1 هبة الله بن الحسين لقب بالبديع ووصف بالاصطرلابي لأنه صانع آلة الاصطرلاب توفي سنة 534هـ
2 يشير إلى قوله تعالى السابق: {إن الذين كفروا وماتو وهم كفار} الآية

المشركون تكميلا لأهل النحل في العرب، ويكون قوله بعد ذلك: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً} [البقرة:165] رجوعا إلى المشركين وهذا الوجه يرجع إلى الاستدلال بالعلم على الصانع وهو دليل مشهور في كتب الكلام،
وإن أريد الاستدلال بهاته الدلائل على وحدانية الله تعالى المستلزمة لوجوده وهو الظاهر من قوله: {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} لأن الاستدلال بهاته الدلائل وأمثالها على وجود الصانع لا يدل على كمال عقل بخلاف الاحتجاج بها على وجه الوحدانية، ولأنه ذكر بعد قوله: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}، ولأن دهماء العرب كانوا من المشركين لا من المعطلين الدهريين. وكفاية هذه الدلائل في الرد على المشركين من حيث إنهم لم يكونوا يدعون للأصنام قدرة على الخلق كما أشار إليه قوله تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [النحل:17]
وأن أريد الاستدلال بهذا الآثار لوحدانية الأمم التي تثبت الاشتراك للآلهة في الإيجاد مثل مجوس الفرس ومشركي اليونان. فوجه دلالة هاته الآيات على الوحدانية. أن هذا النظام البديع في الأشياء المذكورة وذلك التدبير في تكوينها وتفاعلها وذهابها وعودها وكواقيتها كل ذلك دليل على أن لها صانعا حكيما متصفا بتمام العلم والقدرة والحكمة والصفات التي تقتضيها الألهانية، ولا جرم أن يكون الإله الموصوف بهاته الصفات واحدة لاعتراف المشركين بأن نواميس الخلق وتسيير الألم من فعل الله تعالى، إذ لم يدعوا لشركائهم الخلق ولذلك قال تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [النحل:17]، وذكر في سورة الاستدلال ببعض ما هنا على أن لا إله مع الله، فالمقصود التذكير بانتفاء حقيقة الإلهية عن شركائهم، وأما طريقة الاستدلال العلمية فهي بالبرهان الملقب في علم الكلام ببرهان التمانع وسيأتي عند قوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الانبياء:22] في سورة الأنبياء.
والقوم: الجماعة من الرجال ويطلق على قبيلة الرجل كما قال عمرو بن معدى كرب:
فلو أن قومي أنقطتني رماحهم
ويطلق على الأمة،
وذكر لفظ: {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} دون أن يقال للذين يعقلون أو للعاقلين لأن إجراء

الوصف على لفظ قوم، يومئ إلى أن ذلك الوصف سجية فيهم، ومن مكملات قوميتهم، فإن القبائل والأمم خصائص تميزها وتشتهر بها كما قال تعالى: {وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} [التوبة:56] وقد تكرر هذا في مواضع كثيرة من القرآن ومن كلام العرب، فالمعنى أن في ذلك آيات للذين سجيتهم العقل، وهو تعريض بأن الذين لم ينتفعوا بآيات ذلك ليست عقولهم براسخة ولا هي ملكات لهم وقد تكرر هذا في سورة يونس.
[165] {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ}
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} عطف على {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [البقرة:164] إلخ لأن تلك الجملة تضمنت أن قوما يعقلون استدلوا بخلق السماوات والأرض وما عطف عليه على أن الله واحد فوحده، فناسب أن يعطف عليه شأن الذين لم يهتدوا لذلك فاتخذوا لأنفسهم شركاء مع قيام تلك الدلائل الواضحة، فهؤلاء الذين اتخذوا من دون الله هم المتحدث عنهم آنفا بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ} [البقرة:161] الآيات.
وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ} خبر مقدم وقد ذكرنا وجه الإخبار به وفائدة تقديمه عند قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:8] وعطفه على ذكر دلائل الوحدانية وتقديم الخبر {مِنَ النَّاسِ} مؤذن بأنه تعجب من شأنهم.
و {من} في قوله: {مَنْ يَتَّخِذُ} ما صدقها فريق لا بدليل عود الضمير في قوله: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}.
والمراد بالأنداد الأمثال في الألوهية والعبادة، وقد مضى الكلام على الند بكسر النون عند قوله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22].
وقوله: {مِنْ دُونِ اللَّهِ} معناه مع الله لأن دون تؤذن بالحيلولة بمعنى وراء فإذا قالوا أتخذ دون الله فالمعنى أنه أفرده وأعرض عن الله وإذا قالوا من دون الله فالمعنى أنه جعله بعض حائل عن الله أي أشركه مع الله لأن الإشراك يستلزم الإعراض عن

الله أوقات الشغل بعبادة وذلك الشريك.
وقوله: {مِنْ دُونِ اللَّهِ} حال من ضمير {يَتَّخِذُ} وقوله: {يُحِبُّونَهُمْ} بدل {مَنْ يَتَّخِذُ} بدل اشتمال، لأن الاتخاذ يشتمل على المحبة والعبادة ويجوز كونه صفة لمن، وجز أن يكون صفة لأندادا لكنه ضعيف لأن فيه إيهام الضمائر لاحتمال أن يفهم أن المحب هم الأنداد يحبون الذين اتخذوهم، والأظهر أن يكون حالا من {من} تفظيعا لحالهم في هذا الاتخاذ وهو اتخاذ أنداد سووها بالله تعالى في محبتها والاعتقاد فيها.
والمراد بالأنداد هنا وفي مواقعه من القرآن، الأصنام لا الرؤساء1 كما قيل، وعاد عليهم ضمير جماعة العقلاء المنصوب في قوله: {يُحِبُّونَهُمْ} لأن الأصنام لما اعتقدوا ألوهيتها فقد صارت جديرة بضمير العقلاء على أن ذلك مستعمل في العربية ولو بدون هذا التأويل، والمحبة هنا مستعملة في معناها الحقيقي وهو ميل النفس إلى الحسن عندها بمعاينة أو سماع أو حصول تقع محقق أو موهوم لعدم انحصار المحبة في ميل النفس إلى المرئيات خلافا لبعض أهل اللغة فإن الميل إلى الخلق "بضم الخاء" وإلى الفعل الحسن والكمال، محبة أشد من محبة محاسن الذات فتشترك هذه المعاني في إطلاق اسم المحبة عليها باعتبار الحاصل في النفس وقطع النظر عن سبب حصوله.
فالتحقيق أن الحب يتعلق بذكر المرء وحصول النفع منه وحسن السمعة وإن لم يره فنحن نحب الله لما نعلمه من صفات كماله ولما يصلنا من نعمته وفضله ورحمته، ونحب رسوله لما نعلم من كماله ولما وصل إلينا على يديه ولما نعلم من حرصه على هدينا ونجاتنا، ونحب أجدادنا، ونحب أسلافنا من علماء الإسلام، ونحب الحكماء والمصلحين من الأولين والآخرين، ولله أبي مدين في هذا المعنى:
وكم من محب قد أحب وما رأى ... وعشق الفتى بالسمع مرتبة أخرى
وبضد ذلك كله تكون الكراهية،
ومن الناس من زعم أن تعلق المحبة بالله مجاز مرسل في الطاعة والتعظيم بعلاقة اللزوم لأن طاعة المحب للمحبوب لازم غرفى لها قال الجعدى:
ـــــــ
1 أي الذين كانوا يتبعونهم ويطيعونهم وينزلون على أوامرهم ونواهيهم، ورجح هذا لأنه تعالى ذكر بعد هذه الآية: {إذ تبرا الذين اتبعو من الذين اتبعوا} [البقرة:166]

ولو كان حبك صادقا لأطعته ... إن المحب لمن يحب مطيع
أو مجاز بالحذف، والتقدير: يحبون ثواب الله أو نعمته لأن المحبة لا تتعلق بذات الله، إما لأنها من أنواع الإرادة والإرادة لا تتعلق إلا بالجائزات وهو رأي بعض المتكلمين، وإما لأنها طلب الملائم. واللذة لا تحصل بغير المحسوسات وكلا الدليلين ظاهر الوهن كما بينه الفخر، وعلى هذا التفضيل بين إطلاق المحبة هنا يكون التشبيه راجعا إلى التسوية في القوة
ومنهم من جعل محبة الله تعالى مجازا وجعلها في قوله: {يُحِبُّونَهُمْ} أيضا مجازا وعلى ذلك درج في الكشاف وكان وجهه أن الأصل في تشبيه اسم بمثله أن يكون تشبيه فرد من الحقيقة بآخر منها. وقد علمت أنه غير متعين. وقوله: {كَحُبِّ اللَّهِ} مفيد لمساواة الجبن، لأن التشبيه المساواة وإضافة حب إلى اسم الجلالة من الإضافة إلى المفعول فهو بمنزلة الفعل المبني إلى المجهول.فالفاعل المحذوف حذف هنا لقصد التعميم أي كيفما قدرت حب محب الله فحب هؤلاء أندادهم مساو لذلك الحب، ووجه هذا التعميم أن أحوال المشركين مختلفة، فمنهم من يعبد الأنداد من الأصنام أو الجن أو الكواكب ويعترف بوجود الله ويسوي بين الأنداد وبينه، ويسميهم شركاء أو أبناء الله تعالى، ومنهم من يجعل لله تعالى الإلهية الكبرى ويجعل الأنداد شفعاء إليه، ومنهم من يقتصر على عبادة الأنداد وينسى الله تعالى . قال تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر:19]، ومن هؤلاء صابئة العرب الذين عبدوا الكواكب، ولله تعالى محبون من غير هؤلاء ومن بعض هؤلاء، فمحبة هؤلاء أندادهم مساوية لمحبة محبي الله إياه أي مساوية في التفكير في نفوس المحبين من الفريقين فيصح أن تقدر يحبونهم كما يجب أن يحب الله أو يحبونهم كحب الموحدين لله إياه أو يحبونهم كحبهم الله، وقد سلك كل صورة من هذه التقادير طائفة من المفسرين د، والتحقيق أن المقدر هو القدر المشترك وهو ما قدرناه في أول الكلام.
واعلم أن المراد إنكار محبتهم الأنداد من أصلها لا إنكار تسويتها بحب الله تعالى وإنما قيدت بمماثلة محبة الله لتشويهها وللنداء على انحطاط عقول أصحابها وفيه إيقاظ لعيون معظم المشركين وهم الذين زعموا أن الأصنام شفعاء لهم كما كثرت حكاية ذلك عنهم في القرآن فنبهوا إلى أنهم سووا بين محبة التابع ومحبة المتبوع ومحبة الخالق ومحبة المخلوق ومحبة الخالق لعلهم يستفيقون فإذا ذهبوا يبحثون عما تستحقه الأصنام من المحبة وتطلبوا

أسباب المحبة وجدوها مفقودة كما قال إبراهيم عليه السلام: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً} [مريم:42] مع ما في هذا الحال من زيادة موجب الإنكار.
وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} أي أشد حبا لله من محبة أصحاب الأنداد أندادهم، على ما بلغوا من التصلب فيها، ومن محبة بعضهم لله ممن يعترف بالله مع الأنداد، لأن محبة جميع هؤلاء المحبين وإن بلغوا ما بلغوا من التصلب في محبوبيهم لما كانت محبة مجردة عن الحجة لا تبلغ مبلغ أصحاب الاعتقاد الصميم المعضود بالبرهان، ولأن إيمانهم بهم لأغراض عاجلة كقضاء الحاجات ودفع الملمات بخلاف حب المؤمنين لله فإنه حب لذاته وكونه أهلا للحب ثم يتبع ذلك أغراض أعظمها الأغراض الآجلة لرفع الدرجات وتزكية النفس.
والمقصود تنقيص المشركين حتى في إيمانهم بآلهتهم فكثيرا ما كانوا يعرضون عنها إذا لم يجدوا منها ما أملوه.
فمورد التسوية بين المحبتين التي دل عليها التشبيه مخالف لمورد التفضيل الذي دل عليه اسم التفضيل هنا، لأن التسوية ناظرة إلى فرط المحبة وقت خطورها، والتفضيل ناظر إلى رسوخ المحبة وعدم نزولها، وهذا مأخوذ من كلام "الكشاف" ومصرح به في كلام البيضاوي مع زيادة تحريره، وهذا يغنيك عن احتمالات وتمحلات عرضت هنا لبعض المفسرين وبعض شراح "الكشاف".
وروي أن امرأ القيس لما أراد قتال بني أسد حين قتلوا أباه حجرا ملكهم مر على ذي الخلصة الصم الذي كان بتبالة بين مكة واليمن فاستقسم بالأزلام التي كانت عند الصنم فخرج له القدح الناهي ثلاث مرات فكسر تلك القداح ورمى بها وجه الصنم وشتمه وأنشد:
لو كنت ياذا الخلص الموتورا ... مثلي وكان شيخك المقبورا
لم تنه عن قتل العداة زورا1
ثم قصد بني أسد فظفر بهم.
وروى أن رجلا من بني ملكان جاء إلى سعد الصنم بساحل جدة وكان معه إبل
ـــــــ
1 ذو الخصلة بضم الخاء وفتح اللام صنم كان لخثعم وزبيد ودوس وهوازن، وهو صخرة قد نقشت فيها صورة الخصلة والخصلة زهرة معروفة، وكان عند ذي الخلصة أزلام ثلاثة يستقسمون بها وهي الناهي والآمر والمرتضى. وذو الخلصة هدمه جرير بن عبد الله البجلي بإذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم

فنفرت إبله لما رأت الصنم1 فغضب الملكاني على الصنم ورماه بحجر وقال:
أتينا إلى سعد ليجمع شملنا ... فشتتنا سعد فما نحن من سعد
وهل سعد إلا صخرة بتنوفة ... من الأرض لا تدعوا لغي ولا رشد
وإنما جيء بأفعل التفضيل بواسطة كلمة {أَشَدُّ} قال التفتزاني، آثر {أَشَدُّ حُبّاً} على أحب لأن أحب شاع في تفضيل المحبوب على محبوب آخر تقول: هو أحب إلي، وفي القرآن: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة:24]الخ. يعني أن فعل أحب هو الشائع وفعل حب قليل فلذلك خصوا في الاستعمال كلا بمواقع نقيا للبس فقالوا: أحب وهو محب وأشد حبا وقالوا حبيب من حب وأحب إلى من حب أيضا.
{وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} [البقرة:165]
عطف على قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ} وذلك أن قوله ذلك لما كان شرحا لحال ضلالهم الفظيع في الدنيا من اتخاذ الأنداد لله مع ظهور أدلة وحدانيته حتى كان قوله: {وَمِنَ النَّاسِ} مؤذنا بالتعجيب من حالهم كما قدمنا، وزيد في شناعته أنهم اتخذوا لله أندادا وأحبوها كحبه، ناسب أن ينتقل من ذلك أي ذكر عاقبتهم من هذا الصنيع ووصف فظاعة حالهم في الآخرة كما فظع حالهم في الدنيا.
قرأ نافع وابن عامر ويعقوب {وَلَوْ يَرَى} بتاء فوقية وهو خطاب لغير معين يعم كل من يسمع هذا الخطاب، وذلك لتناهي حالهم في الفظاعة والسوء، حتى لو حضرها الناس لظهرت لجميعهم ويجوز أن يكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم: {فالذين ظلموا} مفعول "ترى" على المعنين، و"إذ" ظرف زمان، والرؤية بصرية في الأول والثاني لتعلقها في الموضعين بالمرئيات، ولأن ذلك مورد المعنى، إلا أن وقت الرؤيتين مختلف، إذ المعنى لو تراهم الآن حين يرون العذاب يوم القيامة، أي لو ترى الآن حالهم، وقرأ الجمهور {يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} بالتحتية فيكون: {الَّذِينَ ظَلَمُوا} فاعل {يرى} والمعنى أيضا لو يرون الآن، وحذف مفعول {يرى} لدلالة المقام، وتقديره لو يرون عذابهم أو لو يرون أنفسهم أو يكون
ـــــــ
1 كأن هذا الصنم حجرا طويلا ضخما.

"إذ" اسما غير ظرف أي لو ينظرون الآن ذلك الوقت فيكون بدل اشتمال من {الَّذِينَ ظَلَمُوا}
و {الَّذِينَ ظَلَمُوا} هم الذين اتخذوا من دون الله أندادا فهو من الإظهار في مقام الإضمار ليكون شاملا لهؤلاء المشركين وغيرهم، وجعل اتخاذهم الأنداد ظلما لأنه اعتداء على عدة حقوق.فقد اعتدوا على حق الله تعالى من وجوب توحيده، واعتدوا على من جعلوهم أندادا لله على العقلاء منهم مثل الملائكة وعيسى، ومثل ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، فقد ورد في "الصحيح" عن ابن عباس أنهم كانوا رجالا صالحين من قوم نوح فلما ماتوا اتخذ قومهم لهم تماثيل ثم عبدوها، ومثل اللات يزعم العرب أنه رجل كان يلت السويق للحجيج1 وأن أصله اللات بتشديد التاء، فبذلك ظلموهم إذ كانوا سببا لهول يحصل لهم من السؤال يوم القيامة كما قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة:116] وقال: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} [سبأ:40] الآية وقال: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ} [الفرقان:17] الآية، وظلموا أنفسهم في ذلك بتعريضها للسخرية في الدنيا وللعذاب في الآخرة وظلموا أعقابهم وقومهم الذين يتبعونهم في هذا الضلال فتمضي عليه العصور والأجيال، ولذلك حذف مفعول {ظَلَمُوا} لقصد التعميم، ولك أن تجعل {ظَلَمُوا} بمعنى أشركوا كما هو الشائع في القرآن قال تعالى عن لقمان: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] وعليه فلفعل منزل منزلة اللازم لأنه صار كاللقب.
وجملة: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} معترضة والغرض منها التنويه بشأن الذين آمنوا بأن حبهم لله صار أشد من حبهم الأنداد التي كانوا يعبدونها وهذا كقول عمر بن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم: "لأنت أحب إلي من نفسي التي بين جنبي".
وتركيب {وَلَوْ تَرَى} وما أشبهه نحو لو رأيت من التراكيب التي جرت مجرى المثل فبنيت على الاختصار وقد تكرر وقوعها في القرآن.
وجواب {لو} محذوف لقصد التفخيم وتهويل الأمر لتذهب النفس في تصويره كل يذهب ممكن ونظيره {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} [الأنعام:93] {وَلَوْ تَرَى
ـــــــ
1 في "الروض" للسهيلي أنه عمرو بن لحي.

إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} [الأنعام:27] {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} [الرعد:31]، قال المرزوقي عند قول الشميذر الحارثي:
وقد ساءني ما جرت الحرب بيننا ... بني عمنا لو كان أمرا مدانيا
حذف الجواب في مثل هاته المواضع أبلغ وأدل على المراد بدليل أن السيد إذا قال عبده لئن قمت إليك ثم سكت تزاحم على العبد من الظنون المعترضة للتوعد مالا يتزاحم لو نص على ضرب من العذاب، والتقدير على قراءة نافع وابن عامر لرأيت أمرا عظيما وعلى قراءة الجمهور لرأوا أمرا عظيما.
وقوله: {أَنَّ الْقُوَّةَ} قرأه الجمهور بفتح همزة أن وهو بدل اشتمال من العذاب أو من {الَّذِينَ ظَلَمُوا} فإن ذلك العذاب من أحوالهم، ولا يضر الفصل بين المبدل منه والبدل لطول البدل، ويجوز أن يكون على حذف لام التعليل والتقدير لأن القوة لله جميعا والتعليل بمضمون الجواب المقدر أي لرأيت ما هو هائل لأنه عذاب الله ولله القوة جميعا.
و {جَمِيعاً} استعمل في الكثرة فقوة غيره كالعدم وهذا كاستعمال ألفاظ الكثرة في معنى القوة وألفاظ القلة في معنى الوهن كما في قول تأبط شرا:
قليل التشكي للملم يصيبه ... كثير الهوى شتى النوى والمسالك
أراد شديد الغرام.
وقرأه أ ويعقوب {إن القوة} على الاستئناف البياني كأن سائلا قال: ماذا أرى وما هذا التهويل? فقيل: إن القوة ولا يصح كونها حينئذ للتعليل التي تغني غناء الفاء كما هي في قول بشار:
إن ذاك النجاح في التبكير
لأن ذلك يكون في مواقع احتياج ما قبلها للتعليل حتى تكون صريحة فيه.
وقرأ ابن عامر وحده إذ يرون العذاب بضم الياء أي إذ يريهم الله العذاب في معنى قوله: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ} [البقرة:167] وانتصب {جميعا} على التوكيد لقوله: {القوة} أي جميع جنس القوة ثابت لله، وهو مبالغة لعدم الاعتداد بقوة غيره فمفاد جميع هنا مفاد لام الاستغراق في قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الفاتحة:2].

وقد جاء {لو} في مثل هذا التركيب بشرط مضارع ووقع في كلام الجمهور من النحاة أن للشرط في الماضي وأن المضارع إذا وقع شرطا لها يصرف إلى معنى الماضي إذا أريد استحضار حالة ماضية وأما إذا كان المضارع بعدها متعينا للمستقبل فأوله الجمهور بالماضي في جميع مواقعه وتكلفوا في كثير منها كما وقع لصاحب "المفتاح"، وذهب المبرد وبعض الكوفيين إلى أن لو حرف بمعنى إن لمجرد التعليق لا للامتناع، وذهب ابن ماله في "التسهيل" و "الخلاصة" إلى أن ذلك جائز لكنه قليل وهو يريد القلة النسبية لوقوع الماضي وإلا فهو وارد في القرآن وفصيح العربية.
والتحقيق أن الامتناع الذي تفيده {لو} متفاوت المعنى ومرجعه إلى أن شرطها وجوابها مفروضان فرضا وغير حصول الشرط فقد يكون ممكن الحصول وقد يكون متعذرا ولذلك كان الأولى أن يعبر بالانتفاء دون الامتناع لأن الامتناع يوهم أنه غير ممكن الحصول فأما الانتفاء فأعم، وأن كون الفعل بعدها ماضيا أو مضارعا ليس لمراعاة مقدار الامتناع ولكن ذلك لمقاصد أخرى مختلفة باختلاف مفاد الفعلين في مواقعها في الشروط وغيرها، إذ كثيرا ما يراد تعليق الشرط بلو في المستقبل نحو قول توبة:
ولو تلتقى أصداؤنا بعد موتنا ... ومن بين رمسينا من الأرض سبسب
لظل صدى صوتي وإن كنت رمة ... لصوت صدى ليلى يهش ويطرب
فإنه صريح في المستقبل ومثله هذه الآية.
[ 166, 167] {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:167]
"إذ" ظرف وقع بدل اشتمال من ظرف {إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} [البقرة:165] أي لو تراهم في هذين الحالين حال رؤيتهم العذاب وهي حالة فظيعة وتشتمل على حال اتخاذ لهم وتبرئ بعضهم من بعض وهي حالة شنيعة وهما حاصلان في زمن واحد.
وجئ بالفعل بعد "إذ" هنا ماضيا مع أنه مستقبل في المعنى لأنه إنما يحصل في الآخرة تنبيها على تحقق وقوعه فإن درجت على أن إذ لا تخرج عن كونها ظرفا للماضي على رأي جمهور النحاة فهي واقعة موقع التحقيق مثل الفعل الماضي الذي معها فتكون ترشيحا للتبعية، وإن درجت على أنها ترد ظرفا للمستقبل وهو الأصح ونسبه في "التسهيل"

إلى بعض النحاة، وله شواهد كثيرة في القرآن قال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} [آل عمران:152] على أن يكون إذ تحسونهم هو الموعود به وقال: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ} [غافر:71] فيكون المجاز في فعل {تبرأ} خاصة.
والتبرؤ تكلف البراءة وهي التباعد من الأمر الذي من شأن قربه أن يكون مضرا ولذلك يقال تبارا إذا أبعد كل الآخر من تبعه محققة أو متوقعة.
و {الَّذِينَ اتُّبِعُوا} بالبناء إلى المجهول هم الذين ضللوا المشركين ونصبوا لهم الأنصاب مثل عمرو بن لحى، فقد أشعر قوله اتبعوا أنهم كانوا يدعون إلى متابعتهم، وأيد ذلك قوله بعده: {فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا} أي نجازيهم على إخلافهم.
ومعنى براءتهم منهم تنصلهم من مواعيد نفعهم في الآخرة الذي وعدوهم في الدنيا والشفاعة فيهم، وصرفهم عن الالتحاق بهم حين هرعوا إليهم.
وجملة: {وَرَأَوُا الْعَذَابَ} حالية أي تبرءوا في حال رؤيتهم العذاب، ومعنى رؤيتهم إياه أنهم رأوا أسبابه وعلموا أنه أعد لمن أضل الناس فجعلوا يتباعدون من أتباعهم لئلا يحق عليهم عذاب المضللين، ويجوز أن تكون رؤية العذاب مجازا في إحساس التعذيب كالمجاز في قوله تعالى: {يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ} [الأنعام:49]، فموقع الحال هنا حسن جدا وهي مغنية عن الاستئناف الذي يقتضيه المقام لأن السامع يتساءل عن موجب هذا التبرؤ فإنه غريب فيقال رأوا العذاب فلما أريد تصوير الحال وتهويل الاستفظاع عدل عن الاستئناف إلى الحال قضاء لحق التهويل واكتفاء بالحال عن الاستئناف لأن موقعهما متقارب، ولا تكون معطوفة على جملة {تبرأ} لأن معناها حينئذ يصير إعادة لمعنى جملة: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} فتصير مجرد تأكيد لها ويفوت ما ذكرناه من الخصوصيات.
وضمير {رأوا} ضمير مبهم عائد إلى فريقي الذين اتبعوا والذين اتبعوا.
وجملة: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} معطوفة على جملة {تبرأ} أي وإذ تقطعت بهم الأسباب، والضمير المجرور عائد إلى كلا الفريقين.
والتقطع الانقطاع الشديد لأن أصله مطاوع قطعه بالتشديد مضاعف قطع بالتخفيف.
والأسباب جمع سبب وهو الحبل الذي يمد ليرتقي عليه في النخلة أو السطح، وقوله: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} تمثيلية شبهت هيئتهم عند خيبة أملهم حين لم يجدوا النعيم

الذي تعبوا لأجلة مدة حياتهم وقد جاء إبانه في ظنهم فوجدوا عوضه العذاب، بحال المرتقى إلى النخلة ليجتني الثمر الذي كد لأجله طول السنة فتقطع به السبب عند ارتقائه فسقط هالكا، فكذلك هؤلاء قد علم كلهم حينئذ أن لا نجاة لهم فحالهم كحال الساقط من علو لا ترجى له سلامة، وهي تمثيلية بديعة لأنها الهيئة المشبهة تشتمل على سبعة أشياء كل واحد منها يصلح لأن يكون مشبها بواحد من الأشياء التي تشتمل عليها الهيئة المشبه بها وهي: تشبيه المشرك في عبادته الأصنام واتباع دينها بالمرتقى بجامع السعي، وتشبيه العبادة وقبول الآلهة منه بالحبل الموصل، وتشبيه النعيم والثواب بالثمرة في أعلى النخلة لأنها لا يصل لها المرء إلا بعد طول وهو مدة العمر، وتشبيه العمر بالنخلة في الطول، وتشبيه الحرمان من الوصول للنعيم بتقطيع الحبل، وتشبيه الخيبة بالبعد عن الثمرة، وتشبيه الوقوع في العذاب بالسقوط المهلك. وقلما تأتي في التمثيلية صلوحية أجزاء التشبيه المركب فيها لأن تكون تشبيهات مستقلة، والوارد في ذلك يكون في أشياء قليلة كقول بشار الذي يعد مثالا في الحسن:
كأن مثار النفع فوق رؤسنا ... وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
فليس في البيت أكثر من تشبيهات ثلاثة.
فالباء في {بهم} للملابسة أي تقطعت الأسباب ملتبسة بهم أي فسقطوا، وهذا المعنى هو محل التشبيه لأن الحبل لو تقطع غير ملابس للمرتقى عليه لما كان في ذلك ضر إذ يمسك بالنخلة ويتطلب سببا آخر ينزل فيه، ولذلك لم يقل وتقطعت أسبابهم أو نحوه، فمن قال إن الباء بمعنى عن أو للسببية أو التعدية فقد بعد عن البلاغة، وبهذه الباء تقوم معنى التمثيلية بالصاعد إلى النخلة بحبل وهذا المعنى فائت في قول امرئ القيس:
تقطع أسباب اللبانة والهوى ... عشية جاوزنا حماة وشيزرا
وقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} [البقرة:167] أظهر في مقام الإضمار لأن ضميري الغيبة اللذين قبله عائدان إلى مجموع الفريقين، على أن في صلة {الَّذِينَ اتَّبَعُوا} [البقرة:166] تنبيها على إغاظة المتبوعين وإثارة حسرتهم وذلك عذاب نفساني يضاعف العذاب الجثماني وقد نبه عليه قوله: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ}.
و {لو} في قوله: {لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} مستعملة في التمني وهو استعمال كثير لحرف {لو} وأصلها الشرطية حذف شرطها وجوابها واستعيرت للتمني بعلاقة اللزوم لأن الشيء العسير المنال يكثر تمنيه، وسد المصدر مسد الشرط والجواب، وتقدير الكلام لو ثبتت لنا كرة

لتبرأنا منهم وانتصب ما كان جوابا على أنه جواب التمني وشاع هذا الاستعمال حتى صار من معاني لو وهو استعمال شائع وأصله مجاز مرسل مركب وهو في الآية مرشح بنصب الجواب.
والكرة الرجعة إلى محل كان فيه الراجع وهي مرة من الكر ولذلك تطلق في القرآن على الرجوع إلى الدنيا لأنه رجوع لمكان سابق، وحذف متعلق الكرة هنا لظهوره.
والكاف في {كَمَا تَبَرَّأُوا} [البقرة:167] للتشبيه استعملت في المجازاة لأن شأن الجزاء أن يماثل الفعل المجازي قال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40]، وهذه الكاف قريبة من كاف التعليل أو هي أصلها وأحسن ما يظهر فيه معنى المجازاة في غير القرآن قول أبي كبير الهذلى:
أهز به في ندوة الحي عطفه ... كما هز عطفي بالهجان الأوارك
ويمكن الفرق بين هذه الكاف وبين كاف التعليل أن المذكور بعدها إن كان من نوع المشبه كما في الآية وبيت أبي كبير جعلت للمجازاة، وإن كان من غير نوعه وما بعد الكاف باعث على المشبه كانت للتعليل كما في قوله تعالى: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} [البقرة:198].
والمعنى أنهم تمنوا أن يعودوا إلى الدنيا بعدما علموا الحقيقة وانكشف لهم سوء صنيعهم فيدعوهم الرؤساء إلى دينهم فلا يجيبونهم ليشفوا غيظهم من رؤسائهم الذين خذلوهم ولتحصل للرؤساء خيبة وانكسار كما خيبوهم في الآخرة.
فإن قلت هم إذا رجعوا رجعوا جميعا عالمين بالحق فلا يدعوهم الرؤساء إلى عبادة الأوثان حتى يمتنعوا من إجابتهم، قلت باب التمني واسع فالأتباع تمنوا أن يعودوا إلى الدنيا عالمين بالحق ويعود المتبوعون في ضلالهم السابق وقد يقال لهم الأتباع متبوعيهم بأنهم أضلوهم على بصيرة لعلمهم غالبا والأتباع مغرورون لجهلهم فهم إذا رجعوا جميعا إلى الدنيا رجع المتبوعون على ما كانوا عليه من التضليل على علم بناء على أن ما رأوه يوم القيامة لم يزعهم لأنهم كانوا من قبل موقنين بالمصير إليه ورجع الأتباع عالمين بمكر المتبوعين فلا يطيعونهم.
وجملة: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ} [البقرة:167] تذييل وفذلكة لقصة تبري المتبوعين من أتباعهم.

والإشارة في قوله: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ} للإراءة المأخوذة من يريهم على أسلوب {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة:143].
والمعنى أن الله يريهم عواقب أعمالهم إراء مثل هذا الإراء إذ لا يكون إراء لأعمالهم أوقع منه فهو تشبيه الشيء بنفسه باختلاف الاعتبار كأنه يرام أن يريهم أعمالهم في كيفية شنيعة فلم يوجد أشنع من هذه الحالة، وهذا مثل الإخبار عن المبتدأ بلفظه في نحو شعري شعرى، أو بمرادفة نحو والسفاهة كاسمها، وقد تقدم تفصيله عند قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً}.
والإراءة هنا بصرية ولذلك فقوله: {حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ} حال من {أَعْمَالَهُمْ} ومعنى {يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ} يريهم ما هو عواقب أعمالهم لأن الأعمال لا تدرك بالبصر لأنها انقضت فلا يحسون بها.
والحسرة حزن في ندامة وتلهف وفعله كفرح واشتقاقها من الحسر وهو الكشف لأن الكشف عن الواقع هو سبب الندامة على ما فات من عدم الحيطة له.
وقوله: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} حال أو اعتراض في آخر الكلام لقصد التذييل لمضمون{كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ} لأنهم إذا كانوا لا يخرجون من النار تعين أن تمنيهم الرجوع إلى الدنيا وحدوث الخيبة لهم من صنع رؤسائهم لا فائدة فيه إلا إدخال ألم الحسرات عليهم وإلا فهم يلقون في النار على كل حال.
وعدل عن الجملة الفعلية بأن يقال {وما يخرجون} إلى الاسمية للدلالة على أن هذا الحكم ثابت أنه من صفاتهم، وليس لتقديم المسند إليه هنا نكتة، إلا أنه الأصل في التعبير بالجملة الاسمية في مثل هذا إذ لا تتأتى بسوى هذا التقديم، فليس في التقديم دلالة على اختصاص لما علمت ولأن التقديم على المسند المشتق لا يفيد الاختصاص عند جمهور أئمة المعاني، بل الاختصاص مفروض في تقديمه على المسند الفعلي خاصة، ولأجل ذلك صرح صاحب "الكشاف" تبعا للشيخ عبد القاهر بأن موقع الضمير هنا كموقعه في قول المعذل البكرى:
هم يفرشون اللبد كل طمرة ... وأجرد سباق يبذ المغاليا
في دلالته على قوة أمرهم فيما أسند إليهم لا على الاختصاص اه.
وادعى صاحب "المفتاح" أن تقديم المسند إليه على المسند المشتق قد يفيد

الاختصاص كقوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} [هود:91] {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا} [هود:29] {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} [الأنعام:107] فالوجه أن تقديم المسند إليه على المسند المشتق لا يفيد بذاته التخصيص وقد يستفاد من بعض مواقعه معنى التخصيص بالقرائن، وليس في قوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} ما يفيد التخصيص ولا ما يدعو إليه.
[ 168, 169] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}
استئناف ابتدائي هو كالخاتمة لتشويه أحوال أهل الشرك من أصول دينهم وفروعه التي ابتدأ الكلام فيها من قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ} [البقرة:161] الآية، إذ ذكر كفرهم إجمالا ثم أبطله بقوله: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [البقرة:163] واستدل على أبطاله بقوله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [البقرة:164] الآيات ثم وصف كفرهم بقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة:165]، ووصف حالهم وحسراهم يوم القيامة، فوصف هنا بعض مساوئ دين أهل الشرك فيما حرموا على أنفسهم مما أخرج الله لهم من الأرض، وناسب ذكره هنا أنه وقع بعد ما تضمنه الاستدلال على وحدانية الله والامتنان عليهم بنعمته بقوله :{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} إلى قوله: {وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} [البقرة:164] الآية، وهو تمهيد وتلخيص لما يعقبه من ذكر شرائع الإسلام في الأطعمة وغيرها التي ستأتي من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } [البقرة:172].
فالخطاب بيا أيها الناس موجه إلى المشركين كما هو شأن خطاب القرآن بيا أيها الناس.
والأمر في قوله: {كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ} مستعمل في التوبيخ على ترك ذلك وليس للوجوب ولا للإباحة، إذ ليس الكفار بأهل للخطاب بفروع الشريعة فقوله: {كلوا} تمهيد لقوله بعده {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ}.
وقوله: {حَلالاً طَيِّباً} تعريض بتحميقهم فيما اعتنوا به أنفسهم فحرموها من نعم طيبة افتراء على الله، وفيه إيماء إلى علة إباحته في الإسلام وتعليم للمسلمين بأوصاف الأفعال التي هي مناط الحل والتحريم.

والمقصود إبطال ما اختلقوه من منع أكل البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحامي، وما حكى الله عنهم في سورة الأنعام من قوله: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ} [الأنعام:138] الآيات.
قيل نزلت في تثقيف وبنى عامر بن صعصعة وخزاعة وبنى مدلج حرموا على أنفسهم من الأنعام أي مما ذكر في سورة الأنعام.
ومن في قوله {مِمَّا فِي الْأَرْضِ} للتبعيض، فالتبعيض راجع إلى كون المأكول بعضا من كل نوع وليس راجعا إلى كون المأكول أنواعا دون أنواع، لأنه يفوت غرض الآية، فما في الأرض عام خصصه الوصف بقوله: {حَلالاً طَيِّباً} فخرجت المحرمات الثابت تحريمها بالكتاب أو السنة.
وقوله: {حَلالاً طَيِّباً} حالان من "ما" الموصولة، أولهما لبيان الحكم الشرعي والثاني لبيان علته لأن الطيب من شأنه أن تقصده النفوس للانتفاع به فإذا ثبت الطيب ثبتت الحلية لأن الله رفيق بعباده لم يمنعهم مما فيه نفعهم الخالص أو الراجح.
والمراد بالطيب هنا ما تستطيعه النفوس بالإدراك المستقيم السليم من الشذوذ وهي النفوس التي تشتهي الملائم الكامل أو الراجح بحيث لا يعود تناوله بضر جثماني أو روحاني وسيأتي معنى الطيب لغة عند قوله تعالى: {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة:4] في سورة المائدة.
وفي هذا الوصف معنى عظيم من الإيماء إلى قاعدة الحلال والحرام فلذلك قال علماؤنا: إن حكم الأشياء التي لم ينص الشرع فيها بشيء أن أصل المضار منها التحريم وأصل المنافع الحل، وهذا بالنظر إلى ذات الشيء بقطع النظر عن عوارضه كتعلق حق الغير به الموجب تحريمه، إذ التحريم حينئذ حكم للعارض لا للمعروض.
وقد فسر الكيب هنا بما يبيحه الشرع وهو بعيد لأنه يفضي إلى التكرار، ولأنه يقتضي استعمال لفظ في معنى غير متعارف عندهم.
وقوله: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} الضمير للناس لا محالة وهم المشركون المتلبسون بالمنهي عنه دوما، وأما المؤمنون فحظهم منه التحذير والموعظة.
واتباع الخطوات تمثيلية، أصلها أن السائر إذا رأى آثار خطوات السائرين تبع ذلك المسلك علما منه بأنه ما سار فيه السائر قبله إلا لأنه موصل للمطلوب، فشبه المقتدى الذي لا دليل له سوى المقتدى به وهو يظن مسلكه موصلا، بالذي يتبع خطوات السائرين وشاعت هاته

التمثيلية حتى صاروا يقولون هو يتبع خطا فلان بمعنى يقتدي به ويمتثل له.
والخطوات بضم فسكون جمع خطوة مثل الغرفة والقبضة بضم أولهما بمعنى المخطو والمغروف والمقبوض، فهي بمعنى مخطوة اسم لمسافة بين القدمين عند مشي الماشي فهو يخطوها، وأما الخطوة بفتح الخاء فهي المرة من مصدر الخطو وتطلق على المخطو من إطلاق المصدر على المفعول.
وقرأ الجمهور: {خُطُوَاتِ} بضم فسكون على أصل جمع السلامة، وقرأه ابن عامر وقنبل عن ابن كثير وحفص عن عاصم بضم الخاء والطاء على الإتباع، والإتباع يساوي السكون في الخفة على اللسان.
والاقتداء بالشيطان إرسال النفس على العمل بما يوسوسه لها من الخواطر البشرية، فإن الشياطين موجودات مدركة لها اتصال بالنفوس البشرية لعله كاتصال الجاذبية بالأفلاك والمغناطيس بالحديد، فإذا حصل التوجه من أحدهما إلى الآخر بأسباب غير معلومة حدثت في النفس خواطر شيئة، فإن أرسل المكلف نفسه لاتباعها ولم يردعها بما له من الإرادة والعزيمة حققها في فعله، وإن كبحها وصدها عن ذلك غلبها. ولذلك أودع الله فينا العقل والإرادة والقدرة وكمل لما ذلك بالهدى الديني عونا وعصمة عن تلبيتها لئلا تضلنا الخواطر الشيطانية حتى نرى حسنا ما ليس بالحسن، ولهذا جاء في الحديث: "من هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة" لأنه لما هم بها فذلك حين تسلطت عليه القوة الشيطانية ولما عدل عنها فذلك حين غلب الإرادة الخيرية عليها، ومثل هذا يقال في الخواطر الخيرية وهي الناشئة عن التوجهات الملكية، فإذا تنازع الداعيان في نفوسنا احتجنا في التغلب إلى الاستعانة بعقولنا وآرائنا، وقدرتنا، وهدى الله تعالى إيانا. وذلك هو المعبر عنه عند الأشعري بالكسب، وعنه يترتب الثواب والعقاب.
واللام في {الشَّيْطَانِ} للجنس، ويجوز أن تكون للعهد، ويكون المراد إبليس وهو أصل الشياطين وآمرهم فكل ما ينشأ من وسوسة الشياطين فهو راجع إليه لأنه الذي خطا الخطوات الأولى.
وقوله: {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}، إن لمجرد الاهتمام بالخبر لأن العداوة بين الشيطان والناس معلومة متقررة عند المؤمنين والمشركين وقد كانوا في الحج يرمون الجمار ويعتقدون أنهم يرجمون الشيطان، أو تجعل إن للتأكيد بتنزيل غير المتردد في الحكم

منزلة المتردد أو المنكر لأنهم لاتباعهم الإشارات الشيطانية بمنزلة من ينكر عداوته كما قال عبدة:
إن الذين ترونهم إخوانكم ... يشفى غليل صدورهم أن تصرعوا
وأيا ما كان فإن تفيد معنى التعليل والربط في مثل هذا وتغنى غناء الفاء وهو شأنها بعد الأمر والنهي على ما في دلائل الإعجاز ومثله قول بشار:
بكرا صاحبي قبل الهجير ... إن ذاك النجاح في التبكير
وقد تقدم ذلك.
وإنما كان عدوا لأن عنصر خلقته مخالف لعنصر خلقه الإنسان فاتصاله بالإنسان يؤثر خلاف ما يلائمه، وقد كثر في القرآن تمثيل الشيطان في صورة العدو المتربص بنا الدوائر لإثارة داعية مخالفته في نفوسنا كي لا نغتر حين نجد الخواطر الشريرة في أنفسنا فنظنها ما نشأت فينا إلا وهي نافعة لنا لأنها تولدت من نفوسنا، ولأجل هذا أيضا صورت لنا النفس في صورة العدو في مثل هاته الأحوال.
ومعنى المبين الظاهر العداوة من أبان الذي هو بمعنى بان وليس من أبان الذي همزته للتعدية بمعنى أظهر لأن الشيطان لا يظهر لنا العداوة بل يلبس لنا وسوسته في لباس النصيحة أو جلب الملائم، ولذلك سماه الله وليا فقال: {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً} [النساء:119]، إلا أن الله فضحه فلم يبق مسلم تروج عليه تلبيساته حتى في حال اتباعه لخطواته فهو يعلم أنها وساوسه المضرة إلا أنه تغلبه شهوته وضعف عزيمته ورقة ديانته.
وقوله: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ} استئناف بياني لقوله: {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} فيئول إلى كونه علة للعلة إذ يسأل السامع عن ثبوت العداوة مع عدم سبق المعرفة ومع بعد ما بيننا وبينه فقيل: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ} أي لأنه لا يأمركم إلا بالسوء الخ أي يحسن لكم ما فيه مضرتكم لأن عداوته أمر خفي عرفناه من آثار أفعاله.
والأمر في الآية مجاز عن الوسوسة والتزيين إذ لا يسمع أحد صيغ أمر من الشيطان. ولك أن تجعل جملة {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ} تمثيلية بتشبيه حاله وحالهم في التسويل والوسوسة وفي تلقيهم ما يسوس لهم بحال الآمر والمأمور ويكون لفظ يأمر مستعملا في حقيقته مفيدا مع ذكر الرمز إلى أنهم لا إرادة لهم ولا يملكون أمر أنفسهم وفي هذا زيادة

تشنيع لحالهم وإثارة للعداوة بين الشيطان وبينهم.
والسوء الضر من ساءه سوءا، فالمصدر بفتح السين وأما السوء بضم السين فاسم للمصدر.
والفحشاء اسم مشتق من فحش إذا تجاوز الحد المعروف في فعله أو قوله واختص في كلام العرب بما تجاوز حد الآداب وعظم إنكاره، لأن وساوس النفس تئول إلى مضرة كشرب الخمر والقتل المفضي للثأر أو إلى سوأة وعار كالزنا والكذب، فالعطف هنا عطف لمتغايرين بالمفهوم والذات لا محالة بشهادة اللغة وإن كانا متحدين في الحكم الشرعي لدخول كليهما تحت وصف الحرام أو الكبيرة وأما تصادفهما معا في بعض الذنوب كالسرقة فلا التفات إليه كسائر الكليات المتصادفة.
وقوله: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:169] يشير إلى ما اختلقه المشركون وأهل الضلال من رسوم العبادات ونسبة أشياء لدين الله ما أمر الله بها. وخصه بالعطف مع أنه بعض السوء والفحشاء لاشتماله على أكبر الكبائر وهو الشرك والافتراء على الله.
ومفعول {تَعْلَمُونَ} محذوف وهو ضمير عائد إلى "ما" وهو رابط الصلة، ومعنى ما لا تعلمون: لا تعلمون أنه من عند الله بقرينة قوله: {عَلَى اللَّهِ} أي لا تعلمون أنه يرضيه ويأمر به، وطريق معرفة رضا الله وأمره هو الرجوع إلى الوحي وإلى ما يتفرع عنه من القياس وأدلة الشريعة المستقراة من أدلتها. ولذلك قال الأصوليون: يجوز للمجتهد أن يقول فيما أداه إليه اجتهاده بطريق القياس: إنه دين الله ولا يجوز أن يقول قاله الله، لأن المجتهد قد حصلت له مقدمة قطعية مستقراة من الشريعة انعقد الإجماع عليها وهي وجوب عمله بما أداه إليه اجتهاده بأن يعمل به في الفتوى والفضاء وخاصة نفسه فهو إذا أفتى به وأخبر فقد قال على الله ما يعلم أنه يرضى الله تعالى بحسب ما كلف به من الظن1.
ـــــــ
1 قال الألوسي عند شرح {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} " وظاهر الآية المنع من اتباع الظن رأسا لأن الظن مقابل للعلم لغة وعرفاه ويشكل عليه أن المجتهد يعمل بمقتضى ظنه الحاصل عنده من النصوص فكيف يسوغ اتباعه للمقلد، وأجيب بأن الحكم المظنون للمجتهد يجب العمل به للدليل القاطع وهو الإجماع وكل الحكم يجب العمل به قطعا علم قطعا بأنه حكم الله تعالى: وإلا لم يجب العمل به قطعا وكل ما علم قطعا أنه حكم الله تعالى فهو معلوم قطعا، فالحكم المظنون للمجتهد معلوم قطعا وخلاصته أن الظن كاف في طريق تحصيله ثم بواسطة الإجماع على وجوب

[170] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ}
الأحسن عندي أن يكون عطفا على قوله: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [البقرة:168]، فإن المقصود بالخطاب في ذلك هم المشركون فإنهم الذين ائتمروا لأمره بالسوء والفحشاء، وخاصة بأن يقولوا على الله مالا يعلمون، والمسلمون محاشون عن مجموع ذلك.
وفي هذه الآية المعطوفة زيادة تفظيع لحال أهل الشرك، فيعد أن أثبت لهم اتباعهم خطوات الشيطان فيما حرموا على أنفسهم من الطيبات، أعقب ذلك بذكر إعراضهم عمن يدعوهم إلى اتباع ما أنزل الله، وتشبثوا بعدم مخالفتهم ما ألفوا عليه آباءهم، وأعرضوا عن الدعوة إلى غير ذلك دون تأمل ولا تدبر.
{بل} إضراب إبطال، أي أضربوا عن قول الرسول، {اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} ، إضراب إعراض بدون حجة إلا بأنه مخالف لما ألوا عليه آباءهم.
وفي ضمير لهم التفات من الخطاب الذي في قوله: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ}
والمراد بما ألفوا عليه آباءهم، ما وجدوهم عليه من أمور الشرك كما قالوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23] والأمة: الملة وأعظم ذلك عبادة الأصنام.
وقوله: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} كلام من جانب آخر للرد على قولهم: {نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} ، فإن المتكلم لما حكاه عنهم رد قولهم هذا باستفهام يقصد منه الرد ثم التعجيب، فالهمزة مستعملة في الإنكار كناية وفي التعجيب إيماء، والمراد بالإنكار الرد والتخطئة لا الإنكار بمعنى النفي.
و {لو} للشرط وجوابها محذوف دل عليه الكلام السابق تقديره: لاتبعوهم، والمستفهم عنه هو الارتباط الذي بين الشرط وجوابه، وإنما صارت الهمزة للرد لأجل
ـــــــ
العمل صار المظنون معلوما وانقلب الظن علما، فتقليد المجتهد ليس من اتباع الظن في شيء، وزعم ذلك من اتباع الظن وتحقيقه في الأصول" "روح المعاني" "2/40"، ط المنيرية

العلم بأن المستفهم عنه يجاب عنه بالإثبات بقرائن حال المخبر عنه والمستفهم. ومثل هذا التركيب من بديع التراكيب العربية وأعلاها إيجازا و "لو" في مثله تسمى وصلية وكذلك "إن" إذا وقعت في موقع "لو"،
وللعلماء في معنى الواو وأداة الشرط في مثله ثلاثة أقوال:
القول الأول إنها للحال وإليه ذهب ابن جنى والمرزوقي وصاحب الكشاف قال ابن جنى في شرح الحماسة عند قول عمرو بن معد يكرب:
ليس الجمال بمئزر ... فاعلم وإن رديت بردا
ونحو منه بيت "الكتاب":
عاود هراة وإن معمورها خربا
وذلك أن الواو وما بعدها منصوبة الموضع بعاود كما أنها وما بعدها في قوله وإن رديت بردا منصوبة الموضع بما قبلها وقريب من هذا: أزورك راغبا فيض وأحسن إليك شاكرا إلى، فراغبا وشاكرا لهما ألا ترى أن معناه إن رغبت في زرتك وإن شكرتني أحسنت إليك، وسألت مرة أبا على عن قوله:
عاود هراة وإن معمورها خربا1
كيف موقع الواو هنا وأومأت في ذلك له إلى ما نحن بصدده فرأيته كالمصانع في الجواب لا قصورا بحمد الله عنه ولكن فتورا عن تكلفه فأجمعته، وقال المرزوقي هنالك: قوله وإن رديت بردا في موضع الحال كأنه قال ليس جمالك بمنرر مردى معه برد والحال قد يكون فيه معنى الشرط كما أن الشرط فيه معنى الحال فالأول كقولك لأفعلنه كائنا ما كان أي إن كان هذا أو إن كان ذاك، والثاني كبيت "الكتاب":
ـــــــ
1 هو لرجل من ربيعة قاله يرثي زوجه في واقعة فتح عبد الله بن خازم هراة سنة ست وستين وبعده قوله:
وأسعد اليوم مشغوفا إذا طربا ... وأرجع بطرفك نحو الخندقين ترى
رزءا جليلا وأمرأ مفظعا عجبا ... هاما تزقى وأوصالا مفرقة
ومنزلا مقفرا من أهله خربا

عاود هراة وإن معمورها خربا
لأن الواو منه في موضع الحال كما هو في بيت عمرو وفيه لفظ الشرط ومعناه وما قبله نائب عن الجواب، وتقديره: إن معمورها خربا فعاودها وإن رديت بردا على منرر فليس الجمال بذلك اهـ،
وقال صاحب "الكشاف": في هذه الآية وفي نظيرتها في سورة المائدة الواو للحال ، ثم ظاهر كلام ابن جنى والمرزوقي أن الحال في مثله من الجملة المذكورة قبل الواو وهو الذي نحاه البيضاوي هنا ورجحه عبد الحكيم، وذهب صاحب الكشاف إلى أن الحال من جملة محذوفة تقديرها أيتبعونهم ولو كان آباؤهم، وعلى اعتبار الواو واو الحال فهمزة الاستفهام في قوله: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ} ليست مقدمة من تأخير كما هو شانها مع واو العطف والفاء وثم بل الهمزة داخلة على الجملة الحالية، لأن محل الإنكار هو تلك الحالة ولذلك قال في "الكشاف" في سورة المائدة الواو واو الحال قد دخلت عليها همزة الإنكار وقدر هنا وفي المائدة محذوفا هو مدخول الهمزة في التقدير يدل عليه ما قبله فقدره هنا أيتبعون آباءهم وقدره في سورة المائدة أحسبهم ذلك، وهذا اختلاف في رأيه، فمن لا يقدر محذوفا يجعل الهمزة داخلة على جملة الحال.
القول الثاني أن الواو للعطف قيل على الجملة المتقدمة وإليه ذهب البيضاوي ولا أعلم له سلفا فيه وهو وجيه جدا أي قالوا بل تتبع ولو كان آباؤهم، وعليه فالجملة المعطوفة تارة تكون من كلام الحاكي كما في الآية أي يقولونه في كل حال ولو كان آباؤهم إلخ فهو من مجيء المتعاطفين من كلامي متكلمين عطف التلقين كما تقدم في قوله تعالى: {قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [البقرة:124]، وتارة تكون من كلام صاحب الكلام الأول كما في بيت "الحماسة" وبيت "الكتاب" وتارة تكون من كلام الحاكي تلقينا للمحكي عنه وتقديرا له من كلامه كقول رؤبة:
قالت بنات العم يا سلمى وإن ... كان فقيرا معدما قالت وإن
وقيل العطف على جملة محذوفة ونسبه الرضى للجرمي وقدروا الجملة بشرطية مخالفة للشرط المذكور، والتقدير: يتبعونهم إن كانوا يعقلون ويهتدون ولو كانوا لا يعقلون ولا يهتدون وكذلك التقدير في نظائره من الشواهد وهذا هو الجاري على ألسنة المعربين عندنا في نظائره لخفة مؤنته.
القول الثالث: مختار الرضى أن الواو في مثله للاعتراض إما في آخر الكلام كما

هنا وإما في وسطه، وليس الاعتراض معنى من معاني الواو ولكنه استعمال يرجع إلى واو الحال. فأما الشرط المقترن بهذه الواو فلكونه وقع موقع الحال أو المعطوف أو الاعتراض من كلام سابق غير شرط، كان معنى الشرطية فيه ضعيفا لذلك اختلف النحاة في أنه باق على معنى الشرط أو انسلخ عنه إلى معنى جديد فظاهر كلام ابن جنى والمرزوقي أن الشرطية باقية ولذلك جملا يقربان معنى الشرط من معنى الحال يومئان إلى وجه الجمع بين كون الجملة حالية وكونها شرطية، وإليه مال البيضاوي هنا وحسنه عبد الحكيم وهو الحق، ووجه معنى الشرطية فيه أن الكلام الذي قبله إذا ذكر فيه حكم وذكر معه ما يدل على وجود سبب لذلك الحكم وكان لذلك السبب أفراد أو أحوال متعددة منها ما هو مظنة لأن تتخلف السببية عنده لوجود ما ينافيها معه فإنهم يأتون بجملة شرطية مقترنة بإن أو لو دلالة على الربط والتعليق بين الحالة المظنون فيها تخلف التسبب وبين الفعل المسبب عن تلك الحالة، لأن جملة الشرط تدل على السبب وجملة الجزاء تدل على المسبب ويستغنون حينئذ عن ذكر الجزاء لأنه يعلم من أصل الكلام الذي عقب بجملة الشرط.
وإنما خص هذا النوع بحرفي "إن ولو" في كلام العرب لدلالتهما على ندرة حصول الشرط أو امتناعه، إلا أنه إذا كان ذلك الشرط نادر الحصول جاءوا معه بإن كبيت عمرو، وإذا كان ممتنع الحصول في نفس الأمر جاءوا معه بلو كما في هذه الآية، وربما أتوا بلو لشرط شديد الندرة، للدلالة على أنه قريب من الممتنع، فيكون استعمال لو معه مجازا مرسلا تبعيا.
وذهب جماعة إلى أن "إن ولو" في مثل هذا التركيب خرجتا عن الشرطية إلى معنى جديد، وظاهر كلام صاحب "الكشاف" في قوله تعالى: {وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} [الأحزاب:52] أن لو فيه للفرض؛ إذ فسره بقوله: مفروضا إعجابك حسنهن، وقال صاحب "الكشاف" هنا إن الشرط في مثله لمجرد التسوية وهي لا تقتضي جوابا على الصحيح لخروجها عن معنى الشرطية وإنما يقدرون الجواب توضيحا للمعنى وتصويرا له اه. وسمى المتأخرون من النحاة إن ولو هاتين وصليتين، وفسره التفتازاني في "المطول" بأنهما لمجرد الوصل والربط في مقام التأكيد.
وإذ قد تحققت معنى هذا الشرط فقد حان أن نبين لك وجه الحق في الواو المقارنة له المختلف فيها ذلك الاختلاف الذي سمعته، فإن كان ما بعد الواو معتبرا من جملة

الكلام الذي قبلها فلا شبهة في أن الواو للحال وأنه المعنى المراد وهو الغالب، وإن كان ما بعدها من كلام آخر فهي واو العطف لا محالة عطفت ما بعدها على مضمون الكلام الأول على معنى التلقين، وذلك كما في قوله تعالى: {قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ}1 [الزمر:43] وكذلك الآية التي نحن بصدد تفسيرها، فإن مجيء همزة الاستفهام دليل على أنه كلام آخر، وكذلك بيت قالت بنات العم المتقدم، وإن كان ما بعدها من جملة الكلام الأول لكنه منظور فيه إلى جواب سؤال يخطر ببال السامع فالواو للاستئناف البياني الذي عبر عنه الرضى بالاعتراض مثل قول كعب بن زهير:
لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم
أذنب وإن كثرت في الأقاويل فإن موقع الشرط فيه ليس موقع الحال بل موقع رد سؤال سائل يقول: أتنفي عن نفسك الذنب. وقد كثر القول في إثباته.
وقوله: {لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً} أي لا يدركون شيئا من المدركات، وهذا مبالغة في إلزامهم بالخطأ في اتباع آبائهم عن غير تبصر ولا تأمل، وتقدم القول في كلمة شئ.
ومتعلق {وَلا يَهْتَدُونَ} محذوف أي إلى شئ، وهذه الحالة ممتنعة في نفس الأمر؛ لأن لآبائهم عقولا تدرك الأشياء، وفيهم بعض الاهتداء مثل اهتدائهم إلى إثبات وجود الله تعالى وإلى بعض ما عليه أمورهم من الخير كإغاثة الملهوف وقرى الضيف وحفظ العهد ونحو ذلك، ولهذا صح وقوع "لو" الشرطية هنا. وقد أشبعت الكلام على "لو" هذه؛ لأن الكلام عليها لا يوجد مفصلا في كتب النحو، وقد أجحف فيه صاحب "المغنى".
وليس لهذه الآية تعلق بأحكام الاجتهاد والتقليد؛ لأنها ذم للذين أبوا أن يتبعوا ما أنزل الله، فأما التقليد فهو تقليد للمتبعين ما أنزل الله2.
[171] {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ
ـــــــ
1 في المطبوع " قل أو لو كانوا لا يعقلون شيئا ولا يهتدون" ولم أجدها في "معجم عبد الباقي" مادة يعقلون ويهتدون.
2 قال الألوسي: "في الآية دليل على المنع من التقليد لمن قدر على النظر، وأما اتباع الغير في الدين بعد العلم بدليل ما إنه ملحق فاتباع في الحقيقة لما أنزل الله تعالى، وليس من التقليد المذموم في شيء، وقد قال سبحانه: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} [النحل:43] "روح المعاني" "2/40-41"، ط المنيرة.

عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [البقرة:171]
لما ذكر تلقيهم الدعوة إلى اتباع الدين بالإعراض إلى أن بلغ قوله {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [البقرة:170]، وذكر فساد عقيدتهم إلى أن بلغ قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً} [البقرة:165] الآية، فالمراد بالذين كفروا المضروب لهم المثل هنا هو عين المراد من الناس في قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً}، وعين المراد من {الَّذِينَ ظَلَمُوا} في قوله: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [البقرة:165]، وعين الناس في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً} [البقرة:168]، وعين المراد من ضمير الغائب في قوله {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} [البقرة:11]، عقب ذلك كله بتمثيل فظيع حالهم إبلاغا في البيان واستحضارا لهم بالمثال، وفائدة التمثيل تقدمت عند قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} [البقرة:17]. وإنما عطفه بالواو هنا ولم يفصله كما فصل قوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} [البقرة:17] لأنه أريد هنا جعل هذه صفة مستقلة لهم في تلقي دعوة الإسلام ولو لم يعطفه لما صح ذلك.
والمثل هنا لما أضيف إلى {الَّذِينَ كَفَرُوا} كان ظاهرا في تشبيه حالهم عند سماع دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إياهم إلى الإسلام بحال الأنعام عند سماع دعوة من ينعق بها في أنهم لا يفهمون إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى متابعته من غير تبصر في دلائل صدقه وصحة دينه، فكل من الحالة المشبهة والحالة المشبه بها يشتمل على أشياء: داع ومدعو ودعوة، وفهم وإعراض وتصميم، وكل من هاته الأشياء التي هي أجزاء التشبيه المركب صالح لأن يكون مشبها بجزء من أجزاء المشبه به، وهذا من أبدع التمثيل وقد أوجزته الآية إيجازا بديعا، والمقصود ابتداء هو تشبيه حال الكفار لا محالة، ويستتبع ذلك تشبيه حال النبي وحال دعوته، وللكفار هنا حالتان: إحداهما حالة الإعراض عن داعي الإسلام، والثانية حالة الإقبال على عبادة الأصنام، وقد تضمنت الحالتين الآية السابقة وهي قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [البقرة:170] وأعظمه عبادة الأصنام، فجاء هذا المثل بيانا لما طوى في الآية السابقة.
فإن قلت: مقتضى الظاهر أن يقال: ومثل الذين كفروا كمثل غنم الذي ينعق؛ لأن الكفار هم المشبهون والذي ينعق يشبهه داعي الكفار فلماذا عدل عن ذلك? وهل هذا الأسلوب يدل على أن المقصود تشبيه النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه لهم بالذي ينعق? قلت: كلا

الأمرين منتف؛ فإن قوله: {وَمَثَلُ الَّذِينَ} ، صريح في أنه تشبيه هيئة بهيئة كما تقدم في قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ} [ البقرة:17 ] ، وإذا كان كذلك كانت أجزاء المركبين غير منظور إليها استقلالا وأيها ذكرت في جانب المركب المشبه والمركب المشبه به أجزأك، وإنما كان الغالب أن يبدءوا الجملة الدالة على المركب المشبه به بما يقابل المذكور في المركب المشبه نحو {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} وقد لا يلتزمون ذلك، فقد قال الله تعالى: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ} [آل عمران:117] الآية. والذي يقابل ما ينفقون في جانب المشبه به هو قوله: {حَرْثَ قَوْمٍ} [آل عمران:117] وقال: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ} [البقرة:261] وإنما الذي يقابل الذين ينفقون في جانب المشبه به هو زارع الحبة وهو غير مذكور في اللفظ أصلا وقال تعالى: {كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ} [البقرة:264] الآية، والذي يقابل الصفوان في جانب المشبه هو المال المنفق لا الذي ينفق، وفي الحديث الصحيح: مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استأجر أجراء الخ، والذي يقابل الرجل الذي استأجر في جانب المشبه هو الله تعالى في ثوابه للمسلمين وغيرهم ممن آمن قبلنا، وهو غير مذكور في جانب المشبه أصلا، وهو استعمال كثير جدا، وعليه فالتقديرات الواقعة للمفسرين هنا تقادير لبيان المعنى، والآية تحتمل أن يكون المراد تشبيه حال المشركين في إعراضهم عن الإسلام بحال الذي ينعق بالغنم، أو تشبيه حال المشركين في إقبالهم على الأصنام بحال الداعي للغنم، وأبا ما كان فالغنم تسمع صوت الدعاء والنداء ولا تفهم ما يتكلم به الناعق، والمشركون لم يهتدوا بالأدلة التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم فيكون قوله :{إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} من تكملة أوصاف بعض أجزاء الركب التمثيلي في جانب المشبه به. وذلك صالح لأن يكون مجرد إتمام للتشبيه إن كان المراد تشبيه المشركين بقلة الإدراك، ولأن يكون احتراسا في التشبيه إن كان المراد تشبيه الأصنام حين يدعوها المشركون بالغنم حين ينعق بها رعاتها فهي لا تسمع إلا دعاء ونداء، ومعلوم أن الأصنام لا تسمع لا دعاء ولا نداء فيكون حينئذ مثل قوله تعالى: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة:74] ثم قال وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار.
وقد جوز المفسرون أن يكون التمثيل على إحدى الطريقتين، وعندي أن الجمع بينهما ممكن ولعله من مراد الله تعالى؛ فقد قدمنا أن التشبيه التمثيلي يحتمل كل ما حملته من الهيئة كلها، وهيئة المشركين في تلقي الدعوة على إعراض عنها وإقبال على

دينهم كما هو مدلول قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ} [البقرة:170] الآية، فهذه الحالة كلها تشبه حال الناعق بما لا يسمع، فالنبي يدعوهم كناعق بغنم لا تفقه دليلا، وهم يدعون أصنامهم كناعق بغنم لا تفقه شيئا.ومن بلاغة القرآن صلوحية آياته لمعان كثيرة يفرضها السامع.
والنعق نداء الغنم وفعله كضرب ومنع ولم يقرأ إلا بكسر العين فلعل وزن ضرب فيه أفصح وإن كان وزن منع أقيس، وقد أخذ الأخطل معنى هذه الآية في قوله يصف جريرا بأن لا طائل في هجائه الأخطل:
فانعق بضأنك يا جرير فإنما ... منتك نفسك في الظلام ضلالا
والدعاء والنداء قيل بمعنى واحد، فهو تأكيد ولا يصح، وقيل الدعاء للقريب والنداء للبعيد، وقيل الدعاء ما يسمع والنداء قد يسمع وقد لا يسمع ولا يصح.
والظاهر أن المراد بهما نوعان من الأصوات التي تفهمها الغنم، فالدعاء ما يخاطب به الغنم من الأصوات الدالة على الزجر وهي أسماء الأصوات، والنادر رفع الصوت عليها لتجتمع إلى رعلتها، ولا يجوز أن يكونا بمعنى واحد مع وجود العطف؛ لأن التوكيد اللفظي لا يعطف فإن حقيقة النداء رفع الصوت لإسماع الكلام، أو المراد به هنا نداء الرعاء بعضهم بعضا للتعاون على ذود الغنم، وسيأتي معنى النداء عند قوله تعالى: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ} [الأعراف:43] في سورة الأعراف.
وقوله: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} أخبار لمحذوف على طريقة الحذف المعبر عنه في علم المعاني بمتابعة الاستعمال بعد أن أجرى عليهم التمثيل، والأوصاف إن رجعت للمشركين فهي تشبيه بليغ وهو الظاهر وإن رجعت إلى الأصنام المفهومة من ينعق على أحد الاحتمالين المتقدمين فهي حقيقة وتكون شاهدا على صحة الوصف بالعدم لمن لا يصح اتصافه بالملكة كقولك للحائط: هو أعمى، إلا أن يجاب بأن الأصنام لما فرضها المشركون عقلاء آلهة وأريد إثبات انعدام الإحساس منهم عبر عنها بهذه الأوصاف تهكما بالمشركين فقيل: صم بكم عمي كقول إبراهيم: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ} [مريم:42].
وقوله: {فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} تفريع كمجيء النتيجة بعد البرهان، فإن كان ذلك راجعا للمشركين فالاستنتاج عقب الاستدلال ظاهر لخفاء النتيجة في بادئ الرأي، أي إن تأملتم

وجدتموهم لا يعقلون؛ لأنهم كالأنعام والصم والبكم الخ، وإن كان راجعا للأصنام فالاستنتاج للتنبيه على غباوة المشركين الذين عبدوها. ومجيء الضمير لهم بضمير العقلاء تهكم بالمشركين لأنهم جعلوا الأصنام في أعلى مراتب العقلاء كما تقدم.
[172] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} اعتراض بخطاب المسلمين بالامتنان عليهم بإباحة ما في الأرض من الطيبات جرت إليه مناسبة الانتقال، فقد انتقل من توبيخ أهل الشرك على أن حرموا ما خلقه الله من الطيبات إلى تحذير المسلمين من مثل ذلك مع بيان ما حرم عليهم من المطعومات، وقد أعيد مضمون الجملة المتقدمة جملة {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ} [البقرة:168] بمضمون جملة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} ليكون خطاب المسلمين مستقلا بنفسه، ولهذا كان الخطاب هنا بيا أيها الذين آمنوا، والكلام على الطيبات تقدم قريبا.
وقوله: {وَاشْكُرُوا لِلَّهِ} معطوف على الأمر بأكل الطيبات الدال على الإباحة والامتنان، والأمر في {اشْكُرُوا} للوجوب لأن شكر المنعم واجب.
وتقدم وجه تعدية فعل الشكر بحرف اللام عند قوله تعالى: {وَاشْكُرُوا لِي} [البقرة:152].
والعدول عن الضمير إلى الاسم الظاهر لأن في الاسم الظاهر إشعارا بالإلهية فكأنه يومئ إلى ألا تشكر الأصنام؛ لأنها لم تخلق شيئا مما على الأرض باعتراف المشركين أنفسهم فلا تستحق شكرا. وهذا من جعل اللقب ذا مفهوم بالقرينة، إذ الضمير لا يصلح لذلك إلا في مواضع.
ولذلك جاء بالشرط فقال: {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} أي اشكروه على ما رزقكم إن كنتم ممن يتصف بأنه لا يعبد إلا الله أي إن كنتم هذا الفريق وهذه سجيتكم، ومن شأن كان إذا جاءت وخبرها جملة مضارعية أن تدل على الاتصاف بالعنوان لا على الوقوع بالفعل مثل قوله: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيا تَعْبُرُونَ} [يوسف:43] أي إن كان هذا العلم من صفاتكم، والمعنى إن كنتم لا تشركون معه في العبادة غيره فاشكروه وحده.
فالمراد بالعبادة هنا الاعتقاد بالإلهية والخضوع والاعتراف وليس المراد بها الطاعات الشرعية. وجواب الشرط محذوف أغنى عنه ما تقدمه من قوله: {وَاشْكُرُوا}
[173] {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ

فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} استئناف بياني، ذلك أن الإذن بأكل الطيبات يثير سؤال من يسأل ما هي الطيبات فجاء هذا الاستئناف مبينا المحرمات وهي أضداد الطيبات، لتعرف الطيبات بطريق المضادة المستفاد من صيغة الحصر، وإنما سلك طريق بيان ضد الطيبات للاختصار؛ فإن المحرمات قليلة، ولأن في هذا الحصر تعريضا بالمشركين الذين حرموا على أنفسهم كثيرا من الطيبات وأحلوا الميتة والدم، ولما كان القصر هنا حقيقيا لأن المخاطب به هم المؤمنون وهم لا يعتقدون خلاف ما يشرع لهم، لم يكن في هذا القصر قلب اعتقاد أحد وإنما حصل الرد به على المشركين بطريقة التعريض.
و {إنما} بمعنى ما "وإلا" أي ما حرم عليكم إلا الميتة وما عطف عليها، ومعلوم من المقام أن المقصود ما حرم من المأكولات.
والحرام: الممنوع منعا شديدا.
والميتة بالتخفيف هي في أصل اللغة الذات التي أصابها الموت فمخففها ومشددها سواء كالميت والميت، ثم خص المخفف مع التأنيث بالدابة التي تقصد ذكاتها إذا ماتت بدون ذكاة، فقيل: إن هذا من نقل الشرع وقيل: هو حقيقة عرفية قبل الشرع وهو الظاهر بدليل إطلاقها في القرآن على هذا المعنى.
وقرأ الجمهور الميتة بتخفيف الياء وقرأه أبو جعفر بتشديد الياء.
وإضافة التحريم إلى ذات الميتة وما عطف عليها هو من المسألة الملقبة في أصول الفقه بإضافة التحليل والتحريم إلى الأعيان، ومحمله على تحريم ما يقصد من تلك العين باعتبار نوعها نحو: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة:3] أو باعتبار المقام نحو: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء:23] فيقدر في جميع ذلك مضاف يدل عليه السياق، أو يقال: أقيم اسم الذات مقام الفعل المقصود منها للمبالغة، فإذا تعين ما تقصد له قصر التحريم والتحليل على ذلك، وإلا عمم احتياطا، فنحو: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} متعين لحرمة تزوجهن وما هو من توابع ذلك كما اقتضاه السياق، فلا يخطر بالبال أن يحرم تقبيلهن أو محادثتهن، ونحو: {فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة:90] بالنسبة إلى الميسر والأزلام متعين لاجتناب اللعب بها دون نجاسة ذواتها،
والميتة هنا عام؛ لأنه معرف بلام الجنس، فتحريم أكل الميتة هو نص الآية

وصريحها لوقوع فعل {حَرَّمَ} بعد قوله: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:57] وهذا القدر متفق عليه بين علماء الإسلام، واختلفوا فيما عدا الأكل من الانتفاع بأجزاء الميتة كالانتفاع بصوفها ومالا يتصل بلحمها مما كان ينتزع منها في وقت حياتها فقال مالك: يجوز الانتفاع بذلك، ولا ينتفع بقرنها وأظلافها وريشها وأنيابها لأن فيها حياة إلا ناب الفيل المسمى العاج، وليس دليله على هذا التحريم منتزعا من هذه الآية ولكنه أخذ بدلالة الإشارة؛ لأن تحريم أكل الميتة أشار إلى خباثة لحمها وما في معناها، وقال الشافعي: يحرم الانتفاع بكل أجزاء الميتة، ولا دليل له من فعل {حَرَّمَ} ؛ لأن الفعل في خير الإثبات لا عموم له، ولأن لفظ: {الْمَيْتَةَ} كل وليس كليا فليس من صيغ العموم، فيرجع الاستدلال به إلى مسألة الخلاف في الأخذ بأوائل الأسماء أو أواخرها وهي مسألة ترجع إلى إعمال دليل الاحتياط وفيه مراتب وعليه قرائن ولا احسبها متوافرة هنا، وقال أبو حنيفة لا يجوز الانتفاع بالميتة بوجه ولا يطعمها الكلاب ولا الجوارح، لأن ذلك ضرب من الانتفاع بها وقد حرمها الله تحريما مطلقا معلقا بعينها مؤكدا به حكم الحظر، فقوله موافق لقول مالك فيما عدا استدلاله.
وأما جلد الميتة فله شبه من جهة ظاهره كشبه الشعر والصوف، ومن جهة باطنه كشبه اللحم، ولتعارض هذين الشبهين اختلف الفقهاء في الانتفاع بجلد الميتة1 إذا دبغ فقال أحمد أبن حنبل: لا يطهر جلد الميتة بالدبغ، وقال أبو حنيفه والشافعي: يطهر بالدبغ ما عدا جلد الخنزير، لأنه محرم العين، ونسب هذا إلى الزهري، وألحق الشافعي جلد الكلب بجلد الخنزير، وقال مالك يطهر ظاهر الجلد بالدبغ لأنه يصير صلبا لا يداخله ما يجاوره، وأما باطنه فلا يطهر بالدبغ ولذلك قال: يجوز استعمال جلد الميتة المدبوغ في غير وضع الماء فيه، ومنع أن يصلى به أو عليه، وقول أبي حنيفة أرجح للحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى شاة ميتة كانت لميمونة أم المؤمنين فقال: "هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به"، ولما جاء في الحديث الآخر من قوله: "أيما إهاب دبغ فقد طهر2"،
ويظهر أن هذين الحبرين لم يبلغا مبلغ الصحة عند مالك ولكن صحتهما ثبتت عند غيره، والقياس يقتضي طهارة الجلد المدبوغ لأن الدبغ يزيل ما في الجلد من توقع العفونة العارضة للحيوان غير المذكي فهو مزيل لمعنى القذارة والخبائة العارضتين للميتة.
ـــــــ
1 انظر هذه المسألة في "البداية" لابن رشد "1/78"، دار المعرفة.
2 رواه الترمذي والنسائي وأحمد وابن ماجه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ويستثنى من عموم الميتة ميتة الحوت ونحوه من دواب البحر التي لا تعيش في البر وسيأتي الكلام عليها عند قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [المائدة:96] في سورة العقود.
واعلم أن حكمة تحريم الميتة فيما أرى هي أن الحيوان لا يموت غالبا إلا وقد أصيب بعلة والعلل مختلفة وهي تترك في لحم الحيوان أجزاء منها فإذا أكلها الإنسان قد يخالط جزءا من دمه جراثيم الأمراض، مع أن الدم الذي في الحيوان إذا وقفت دورته غلبت فيه الأجزاء الضارة على الأجزاء النافعة، ولذلك شرعت الذكاة لأن المذكي مات من غير علة غالبا ولأن إراقة الدم الذي فيه تجعل لحمه نقيا مما يخشى منه أضرار.
ومن أجل هذا قال مالك في الجنين: أن ذكاته ذكاة أمه1؛ لأنه لاتصاله بأجزاء أمه صار استفراغ دم أمه استفراغا لدمه ولذلك يموت بموتها فسلم من عاهة الميتة وهو مدلول الحديث الصحيح: "ذكاة الجنين ذكاة أمه" وبه أخذ الشافعي، وقال أبو حنيفة لا يؤكل الجنين إذا خرج ميتا فاعتبر أنه ميتة لم يذك، وتناول الحديث بما هو معلوم في الأصول، ولكن القياس الذي ذكرناه في تأييد مذهب مالك لا يقبل تأويلا.
وقد ألحق بعض الفقهاء بالحوت الجراد تؤكل ميتته لأنه تتعذر ذكاته وهو قول ابن نافع وابن عبد الحكيم من المالكية تمسكا بما في "صحيح مسلم" من حديث عبد الله بن أبي أوفى: "غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات كنا نأكل الجراد معه" اهـ.
وسواء كان معه ظرفا لغوا متعلقا بنأكل أم كان ظرفا مستقرا حالا من ضمير كنا فهو يقتضي الإباحة إما بأكله صلى الله عليه وسلم إياه وإما بتقريره ذلك فتخص به الآية لأنه حديث صحيح، وأما حديث: "أحلت لنا ميتتان السمك والجراد" فلا يصلح للتخصيص لأنه ضعيف كما قال ابن العربي في "الأحكام" 2، ومنعه مالك وجمهور أصحابه إلا أن يذكى ذكاة أمثاله كالطرح في الماء السخن أو قطع ما لا يعيش بقطعه.
ولعل مالك رحمة الله استضعف الحديث الذي في مسلم أو حمله على الاضطرار في السفر أو حمله على أنهم كانوا يصنعون به ما يقوم مقام الذكاة قال ابن وهب: إن ضم
ـــــــ
1 المصدر السابق"1/442"، دار المعرفة.
2 وابن رشد أيضا كما في المصدر السابق "1/80"ن دار المعرفة، وقال في "1/467"، دار المعرفة: "هذا الحديث في غالب ظني ليس هو في الكتب المشهورة من كتب الحديث".

الجراد في غرائر فضمه ذلك ذكاة له، وقد ذكر في "الموطأ" حديث عمر وقول كعب الأحبار في الجراد أنه من الحوت وبينت توهم كعب الأحبار في كتابي المسمى كشف "المغطى على الموطأ1 ".
وأما الدم فإنما نص الله على تحريمه لأن العرب كانت تأكل الدم، كانوا يأخذون المباعر فيملأونها دما ثم يشوونها بالنار ويأكلونها، وحكمة تحريم الدم أن شربه يورث ضراوة في الإنسان فتغلظ طباعه ويصير كالحيوان المفترس، وهذا مناف لمقصد الشريعة، لأنها جاءت لإتمام مكارم الأخلاق وإبعاد الإنسان عن التهور والهمجية، ولذلك قيد في بعض الآيات بالمسفوح أي المهراق، لأنه كثير لو تناوله الإنسان اعتاده أورثه ضراوة، ولذا عفت الشريعة عما يبقى في العروق بعد خروج الدم المسفوح بالذبح أو النحر، وقاس كثير من الفقهاء نجاسة الدم على تحريم أكله وهو مذهب مالك، ومداركهم في ذلك ضعيفة، ولعلهم راوا مع ذلك أن فيه قذارة.
والدم معروف مدلوله في اللغة وهو إفراز من المفرزات الناشئة عن الغذاء وبه الحياة وأصل خلقته في الجسد آت من انقلاب دم الحيض في رحم الحامل إلى جسد الجنين بواسطة المصران المتصل بين الرحم وجسد الجنين وهو الذي يقطع حين الولادة، وتجدده في جسد الحيوان بعد بروزه من بن أمه يكون من الأغذية بواسطة هضم الكبد للغذاء المنحدر إليها من المعدة بعد هضمه في المعدة ويخرج من الكبد مع عرق فيها فيصعد إلى القلب الذي يدفعه إلى الشرايين وهي العروق الغليظة وإلى العروق الرقيقة بقوة حركة القلب بالفتح والإغلاق حركة ما كينية هوائية، ثم يدور الدم في العروق متنقلا من بعضها إلى بعض بواسطة حركة القلب وتنفس الرئة وبذلك الدوران يسلم من التعفن فلذلك إذا تعطلت دورته حصة طويلة مات الحيوان.
ولحم الخنزير هو لحم الحيوان المعروف بهذا الاسم. وقد قال بعض المفسرين: إن العرب كانوا يأكلون الخنزير الوحش دون الإنسى، أي لأنهم لم يعتادوا تربية الخنازير وإذا كان التحريم وارد على الخنزير الإنسي أولى بالتحريم أو مساو للوحشي.
وذكر اللحم هنا لأنه المقصود للأكل فلا دلالة في ذكره على إباحة شيء آخر منه
ـــــــ
1 "كشف المغطي من المعاني وألفاظ الواقعة في الموطأ"

ولا على عدمها، فإنه قد يعبر ببعض الجسم على جميعه كقوله تعالى عن زكريا: {رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} [مريم:4] وأما نجاسته ونجاسة شعره أو إباحتها فذلك غرض آخر وهو ليس المراد من الآية.
وقد قيل في وجه اللحم هنا وتركه في قوله: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ} وجوه قال ابن عطية: إن المقصد الدلالة على تحريم عينه ذكى أم لم يذك اه. ومراده بهذا ألا يتوهم متوهم أنه إنما يحرم إذا كان ميتة وفيه بعد، وقال الآلوسي خصه لإظهار حرمته، لأنهم فضلوه على سائر اللحوم فربما استعظموا وقوع تحريمه اه. يريد أ، ذكره لزيادة التغليظ أي اللحم الذي تذكرونه بشراهة، ولا أحسب ذلك، لأن الذين استجادوا لحم الخنزير وهم الروم دون العرب، وعندي أن إقحام لفظ اللحم هنا إما مجرد تفنن في الفصاحة وإما للإيماء إلى طهارة ذاته كسائر الحيوان، وإنما المحرم أكله لئلا يفضي تحريمه للناس إلى قتله أو تعذيبه، فيكون فيه حجة لمذهب مالك بطهارة عين الخنزير كسائر الحيوان الحي، وإما للترخيص في الانتفاع بشعره؛ لأنهم كانوا يغزون به الجلد.
وحكمة تحريم لحم الخنزير أنه يتناول القاذورات بإفراط فتنشأ في لحمه دودة1 مما يقتاته لا تهضمها معدته فإذا أصيب بها آكله قتلته.
ومن عجيب ما يتعرض له المفسرون والفقهاء البحث في حرمة خنزير الماء وهي مسألة فارغة إذ أسماء أنواع الحوت روعيت فيها المشابهة كما سموا بعض الحوت فرس البحر وبعضه حمام البحر وكلب البحر، فكيف يقول أحد بتأثير الأسماء والألقاب في الأحكام الشرعية وفي المدونة توقف مالك أن يجيب في خنزير الماء وقال: أنتم تقولون خنزير. قال ابن شأس: رأي غير واحد أن توقف مالك حقيقة لعموم: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة:96] وعموم قوله تعالى: {وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ} ورأى بعضهم أنه غير متوقف فيه، وإنما امتنع من الجواب إنكارا عليهم تسميتهم إياه خنزير ولذلك قال أنتم تسمونه خنزير يعني أن العرب لم يكونوا يسمونه خنزير وأنه لا ينبغي تسميته خنزيرا ثم السؤال عن أكله حتى يقول قائلون أكلوا لحم الخنزير، أي فيرجع كلام مالك إلى صون ألفاظ الشريعة ألا يتلاعب بها، وعن أبي حنيفة أنه منع أكل خنزير البحر متردد أخذا بأنه سمي خنزيرا، وهذا عجيب منه وهو المعروف بصاحب الرأي، ومن أين لنا ألا يكون
ـــــــ
1 وتسمى في الفرنسية "Trichine والمرض يسمى “Trichnose”

لذلك الحوت اسم آخر في لغة بعض العرب فيكون أكله محرما على فريق ومباحا لفريق.
وقوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} أي ما أعلن به أو نودي عليه بغير اسم الله تعالى، وهو مأخوذ من أهل إذا رفع صوته بالكلام ومثله استهل ويقولون: اسهل الصبي صارخا إذا رفع صوته بالبكاء، وأهل بالحج أو العمرة إذا رفع صوته بالتلبية عند الشروع فيهما، والأقرب أنه مشتق من قول الرجل: هلا لقصد التنبيه المستلزم لرفع الصوت وهلا أيضا اسم صوت لزجر الخيل، وقيل مشتق من الهلال، لأنهم كانوا إذا رأوا الهلال نادى بعضهم بعضا وهو عندي من تلفيقات اللغويين وأهل الاشتقاق، ولعل اسم الهلال إن كان مشتقا وكانوا يصيحون عند رؤيته وهو الذي اشتق من هل وأهل بمعنى رفع صوته، لأن تصاريف أهل أكثر، ولأنهم سموا الهلال شهرا من الشهرة كما سيأتي.
وكانت العرب في الجاهلية إذا ذبحت أو نحرت للصنم صاحوا باسم الصنم عند الذبح فقالوا باسم اللات أو باسم العزى أو نحوهما، وكذلك كان عند الأمم التي يعبد آلهة إذا قربت لها القرابين، وكان نداء المعبود ودعاؤه عند الذبح إليه عند اليونان كما جاء في "الإلياذة" لهوميروس.
فأهل في الآية مبني للمجهول أي ما أهل عليه المهل غير اسم الله، وضمن {أهل} معنى تقرب فعدى لمتعلقه بالباء وباللام مثل تقرب، فالضمير المجرور بالباء عائد إلى ما {أهل}، وفائدة هذا التضمين تحريم ما تقرب به لغير الله تعالى سواء نودي عليه باسم المتقرب إليه أن لا، والمراد بغير الله الأصنام ونحوها.
وأما ما يذبحه سودان بلدنا بنية أن الجن تشرب دمه ولا يذكرون اسم الله عليه زعما بأن الجن تفر من نورانية اسم الله فالظاهر أنه لا يجوز أكله وإن كان الذين يفعلونه مسلمين ولا يخرجهم ذلك عن الإسلام.
وقال ابن عرفه في "تفسيره": الأظهر جواز أكله لأنه لم يهل به لغير الله.
وقوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ} الخ الفاء فيه لتفريع الإخبار لا لتفريع المعنى، فإن معنى رفع الحرج عن المضطر لا ينشأ عن التحريم، والمضطر هو الذي ألجأته الضرورة أي الحاجة أي اضطر إلى أكل شئ من هذه المحرمات فلا إثم عليه، وقول: {غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} حال، والبغي الظلم، والعدوان المحاربة والقتال، ومجي هذه الحال هنا للتنويه بشأن المضطر في حال إباحة هاته المحرمات له بأنه يأكلها يكون غير باغ ولا عاد، لأن الضرورة تلجئ إلى البغي والاعتداء فالآية إيماء إلى علة الرخصة وهي رفع البغي

والعدوان بين الأمة، وهي أيضا إيماء إلى حد الضرورة وهي الحاجة التي يشعر عندها من لم يكن دأبه البغي والغدوان بأنه سيبغى ويعتدى وهذا تحديد منضبط، فإن الناس متفاوتون في تحمل الجوع ولتفاوت الأمزجة في مقاومته، ومن الفقهاء من يحدد الضرورة بخشية الهلاك ومرادهم الإفضاء إلى الموت والمرض وإلا فإن حالة الإشراف على الموت لا ينفع عندها الأكل، فعلم أن نفي الإثم عن المضطر فيما يتناوله من هذه المحرمات منوط بحالة الاضطرار، فإذا تناول ما أزال به الضرورة فقد عاد التحريم كما كان، فالجائع يأكل من هاته المحرمات إن لم يجد غيرها أكلا يغنيه عن الجوع وإذا خاف أن تستمر به الحاجة كمن توسط فلاة في سفر أن يتزود من بعض هاته الأشياء حتى إن استغنى عنها طرحها، لأنه لا يدري هل يتفق له وجدانها مرة أخرى،
ومن عجب الخلاف بين الفقهاء أن ينسب إلى أبي حنيفة والشافعي أن المضطر لا يشبع ولا يتزود خلافا لمالك في ذلك والظاهر أنه خلاف لفظي والله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} في معرض الامتنان فكيف يأمر الجائع بالبقاء على بعض جوعه ويأمر السائر بالإلقاء بنفسه إلى التهلكة إن لم يتزود، وقد فسر قوله: {غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} بتفاسير أخرى: فمن الشافعي أنه غير الباغي والعادي على الإمام لا عاص بسفره فلا رخصة له فلا يجوز له أكل ذلك عند الاضطرار فأجاب المالكية: بأن عصيانه بالسفر لا يقتضي أن يؤمر بمعصية أكبر وهي إتلاف نفسه بترك أكل ما ذكر وهو إلجاء مكين.
ومما اختلفوا في قياسه على ضرورة الجوع ضرورة التداوي، فقيل لا يتداوى بهاته المحرمات ولا بشيء مما حرم الله كالخمر وهذا قول مالك والجمهور، ولم يزل الناس يستشكلونه لاتحاد العلة وهي حفظ الحياة، وعندي أن وجهه أن تحقق العلة فيه منتف إذ لم يبلغ العلم بخصائص الأدوية ظن نفعها كلها إلا ما جرب منها، وكم من أغلاط كانت للمتطببين في خصائص الدواء، ونقل الفخر عن بعضهم إباحة تناول المحرمات في الأدوية، وعندي أنه إذا وقع قوة ظن الأطباء الثفات بنفع الدواء المحرم من مرض عظيم وتعينه أو غلب ذلك في التجربة فالجواز قياسا على أكل المضطر وإلا فلا1.
ـــــــ
1 انظر "حاشية ابن عابدين"4/113-215"، "حاشية الدسوقي"4/353-354"، "الفوكه الدواني""2/441"، "حواشي الشرواني وابن قاسم على "التحفة""9/170" "قليوبي وعميرة" "3/203"، "كشاف القناع" "2/76، 6/116، 200"، "الإنصاف" "2/463-474"ن "الفروع" "2/165" وما بعدها.

وقرأ أبو جعفر: {فَمَنِ اضْطُرَّ} بكسر الطاء، لأن أصله اضطرر براءين أولاهما مكسورة فلما أريد إدغام الراء الأولى في الثانية نقلت حركتها إلى الطاء بعد طرح حركة الطاء.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} تذييل قصد به الامتنان، أي إن الله موصوف بهذين الوصفين فلا جرم أن يغفر للمضطر أكل الميتة لأنه رحيم بالناس، فالمغفرة هنا بمعنى التجاوز عما تمكن المؤاخذة عليه لا بمعنى تجاوز الذنب، ونحوه قوله صلى الله عليه وسلم في رؤيا القليب: "وفي نزعه ضعف والله يغفر له". ومعنى الآية: أن رفع الإثم عن المضطر حكم يناسب من اتصف بالمغفرة والرحمة.
[174] {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
عود إلى محاجة أهل الكتاب لاحق بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} [البقرة:159] بمناسبة قوله: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ} [البقرة:173] تحذيرا للمسلمين مما أحدثه اليهود في دينهم من تحريم بعض ما أحل الله لهم، وتحليل بعض ما حرم الله عليهم؛ لأنهم كانوا إذا أرادوا التوسيع والتضييق تركوا أن يقرؤوا من كتابهم ما غيروا العمل بأحكامه كما قال تعالى: {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً} [الأنعام:91] كما فعلوا في ترك قراءة حكم رجم الزاني في التوراة حين دعا النبي صلى الله عليه وسلم أحد اليهود ليقرأ ذلك الحكم من التوراة فوضع اليهودي يده على الكلام الوارد في ذلك كما أخرجه البخاري في كتاب الحدود ولجريانه على مناسبة إباحة ما أبيح من المأكولات جاء قوله هنا: {أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ} [البقرة:174] لقصد المشاكلة.
وفي هذا تهيئة للتخلص إلى ابتداء شرائع الإسلام؛ فإن هذا الكلام فيه إبطال لما شرعه أهل الكتاب في دينهم فكون التخلص ملونا بلوني الغرض السابق والغرض اللاحق.
وعدل عن تعريفهم بغير الوصول إلى الموصول لما في الصلة من الإيماء إلى سبب الخير وعلته نحو قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60].
والقول في الكتمان تقدم عند قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ

وَالْهُدَى} [البقرة:159] والكتاب المذكور هنا هو الكتاب المعهود من السياق وهو كتاب الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ، فيشبه أن تكون "أل" عوضا عن المضاف إليه، والذين يكتمونه هم اليهود والنصارى أي يكتمون البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم ويكتمون بعض الأحكام التي بدلوها.
وقوله: {وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً} تقدم تفسيره عند قوله تعالى: {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً} [البقرة:41] وهو المال الذي يأخذونه من الناس جزاء على إفتائهم بما يلائم هواهم مخالفا لشرعهم أو على الحكم بذلك، فالثمن يطلق على الرشوة لأنها ثمن يدفع عوضا عن جور الحاكم وتحريف المفتى.
وقوله: {أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ} جئ باسم الإشارة لإشهارهم لئلا يخفى أمرهم على الناس وللتنبيه على أن ما يخبر به عن اسم الإشارة استحقوه بسبب ما ذكر قبل اسم الإشارة، كما تقدم في قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:5]، وهو تأكيد للسببية المدلول عليها بالموصول، وفعل {يَأْكُلُونَ} مستعار لأخذ الرشا المعبر عنها بالثمن والظاهر أنه مستعمل في زمان الحال، أي ما يأكلون وقت كتمانهم واشترائهم إلا النار لأنه الأصل في المضارع.
والأكل مستعار للانتفاع مع الإخفاء، لأن الأكل انتفاع بالطعام وتغييب له فهو خفي لا يظهر كحال الرشوة، ولما لم يكن لآكل الرشوة على كتمان الأحكام أكل نار تعين أن في الكلام محازا، فقيل هو مجاز عقلي في تعلق الأكل بالنار وليست هي له وإنما له سببها أعنى الرشوة، قال التفتازاني: وهو الذي يوهمه ظاهر كلام "الكشاف" لكنه صرح أخيرا بغيره، وقيل هو مجاز في الطرف بأن أطلق لفظ النار على الرشوة إطلاقا للاسم على سببه قال التفتازاني: وهو الذي صرح به في الكشاف ونظره بقول الأعرابي يوبخ امرأته وكان يقلاها:
أكلت دما إن لم أرعك بضرة ... بعيدة مهوى القرط طيبة النشر
أراد الحلف بطريقة الدعاء على نفسه أن يأكل دما أي دية دم فقد تضمن الدعاء على نفسه بقتل أحد أقاربه وبذهاب مروءته، لأنهم كانوا يتعيرون بأخذ الدية عن القتيل ولا يرضون إلا بالقود،
واختار عبد الحكيم أنه استعارة تمثيلية: شبهت الهيئة الحاصلة من أكلهم الرشا بالهيئة المنتزعة من أكلهم النار وأطلق المركب الدال على الهيئة المشبه بها على الهيئة المشبهة.

قلت: ولا يضر كون الهيئة المشبه بها غير محسوسة لأنها هيئة متخيلة كقوله أعلام ياقوت نشرن على رماح من زبرجد فالمركب الذي من شأنه أن يدل على الهيئة المشبهة أن يقال: أولئك ما يأخذون إلا أخذا فظيعا مهلكا فإن تناولها كتناول النار للأكل فإنه كله هلاك من وقت تناولها باليد إلى حصولها في البطن، ووجه كون الرشوة مهلكة أن فيها اضمحلال أمر الأمة وذهاب حرمة العلماء والدين فتكون هذه الاستعارة بمنزلة قوله تعالى: {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران:103] أي على وشك الهلاك والاضمحلال.
والذي يدعو إلى المصير للتمثيلية هو قوله تعالى: {فِي بُطُونِهِمْ} فإن الرشوة لا تؤكل في البطن فيتعين أن يكون المركب كله استعارة، ولو جعلت الاستعارة في خصوص لفظ النار لكان قوله: {يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ} مستعملا في المركب الحقيقي، وهو لا يصح، ولولا قوله في بطونهم لأمكن أن يقال: إن يأكلون هنا مستعمل حقيقة عرفية في غضب الحق ونحو ذلك.
وجوزوا أن يكون قوله: {يَأْكُلُونَ} مستقبلا، أي ما سيأكلون إلا النار على أنه تهديد ووعيد بعذاب الآخرة، وهو وجيه، ونكتة استعارة الأكل هنا إلى اصطلائهم بنار جهنم هي مشاكلة تقديرية لقوله: {يَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً} [البقرة:174] فإن المراد بالثمن هنا الرشوة، وقد شاع تسمية أخذ الرشوة أكلا.
وقوله: {وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ} نفي للكلام والمراد به لازم معناه وهو الكناية عن الغضب، فالمراد نفي كلام التكريم، فلا ينافى قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:93]، وقوله: {وَلا يُزَكِّيهِمْ} أي لا يثني عليهم في ذلك المجمع، وذلك إشعار لهم بأنهم صائرون إلى العذاب؛ لأنه إذا نفيت التزكية أعقبها الذم والتوبيخ، فهو كناية عن ذمهم في ذلك الجمع إذ ليس يومئذ سكوت.
[175] {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ}
إن جعلت {أولئك} مبتدأ ثانيا لجملة هي خبر ثان عن المبتدأ الأول وهو اسم إن في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ} [البقرة:174] فالقول فيه

كالقول في نظيره وهو {أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ} [البقرة:174] ونكتة تكريره أنه للتنبيه على أن المشار إليه جدير بأحكام أخرى غير الحكم السابق وأن تلك الأحكام لأهميتها ينبغي ألا تجعل معطوفة تابعة للحكم الأول بل تفرد بالحكمية.
وإن جعلته مبتدأ مستقلا مع جملته فالجملة مستأنفة استئنافا بيانيا لبيان سبب انغماسهم في عذاب النار؛ لأنه وعيد عظيم جدا يستوجب أن يسأل عنه السائل فيبين بأنهم أخذوا الضلال ونبذوا الهدى واختاروا العذاب ونبذوا المغفرة، ومجيء المسند إليه حينئذ اسم إشارة لتفظيع حالهم؛ لأنه يشير لهم بوصفهم السابق وهو كتمان ما أنزل الله من الكتاب.
ومعنى اشتراء الضلالة بالهدى في كتمان الكتاب أن كل آية أخفوها أو أفسدوها بالتأويل فقد ارتفع مدلولها المقصود منها وإذا ارتفع مدلولها نسى العمل بها فأقدم الناس على ما حذرتهم منه، ففي كتمانهم حق رفع وباطل وضع.
ومعنى اشتراء العذاب بالمغفرة أنهم فعلوا ذلك الكتمان عن عمد وعلم بسوء عاقبته، فهم قد رضوا بالعذاب وإضاعة المغفرة فكأنهم استبدلوا بالمغفرة العذاب والقول في معنى: {اشتروا} تقدم عند قوله تعالى: {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} [البقرة:41].
وقوله: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} [البقرة:175] تعجيب من شدة صبرهم على عذاب النار، ولما كان شأن التعجيب أن يكون ناشئا عن مشاهدة صبرهم على العذاب وهذا الصبر غير حاصل في وقت نزول هاته الآية بنى التعجيب على تنزيل غير الواقع منزلة الواقع لشدة استحضار السامع إياه بما وصف به من الصفات الماضية، وهذا من طرق جعل المحقق الحصول في المستقبل بمنزلة الحاصل، ومنه التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي وتنزيل المتخيل منزلة الشاهد كقول زهير:
تبصر خليلي هل ترى من ظغائن ... تحملن بالعلياء من فوق جرثم
بعد أن ذكر أنه وقف بالدار بعد عشرين حجة، وقول مالك بن الريب:
دعاني الهوى من أهل ودي وجيرتي ... بذي الطيسين فالتفت ورائيا
وقريب منه قوله تعالى: {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} [التكاثر:6] على جعل {لَتَرَوُنَّ} جواب {لو}.

[176] {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ}
جئ باسم الإشارة لربط الكلام اللاحق بالسابق على طريقة العرب في أمثاله إذا طال الفصل بين الشيء وما ارتبط به من حكم أو علة أو نحوهما كقول النابغة:
وذلك من تلقاء مثلك رائع
بعد قوله:
أتاني أبيت اللعن أنك لمتني
والكلام السابق الأظهر أنه قوله: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} [البقرة:175] والمعنى أنهم استحقوا العذاب على كتمانهم بسبب أن الله أنزل الكتاب بالحق فكتمانهم شيئا من الكتاب كتمان للحق وذلك فساد وتغيير لمراد الله؛ لأن ما يكتم من الحق يخلفه الباطل كما بيناه آنفا فحق عليهم العذاب لكتمانه، لأنه مخالف مراد الله من تنزيله، وعليه فالكتاب في قوله: {بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ} هو عين الكتاب المذكور في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ} [البقرة:174] وهو كتابهم التوراة والإنجيل ليكون الموضوع في العلة والحكم المعلل واحدا، وعليه فالجملة فصلت من الجملة التي قبلها لجريانها منها مجرى العلة.
ويجوز أن يكون المشار إليه السابق هو الكتمان المأخوذ من يكتمون، أي إنما كتموا ما كتموا بسبب أن الله نزل الكتاب بالحق فعلموا أنه على النعت الذي بشر الله به على لسان التوراة. والمعنى أنهم كتموا دلائل صدق النبي حسدا وعنادا؛ لأن الله أنزل القرآن على محمد، فالكتاب هنا غير الكتاب في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ} [البقرة:174]
والجملة على هذا الوجه استئناف بياني لاستغراب تعمدهم كتمان ما أنزل الله من الكتاب وإن هذا الصنع الشنيع لا يكون إلا عن سبب عظيم، فبين بقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ}
وقوله: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} تذييل ولكنه عطف بالواو لأنه يتضمن تكملة وصف الذين اشتروا الضلالة بالهدى ووعيدهم، والمراد بالذين اختلفوا

عين المراد من قوله: {الَّذِينَ يَكْتُمُونَ} [البقرة:159] و {الَّذِينَ اشْتَرَوُا} [البقرة:175]، فالموصولات كلها على نسق واحد.
والمراد من الكتاب المجرور بفي يحتمل أنه المراد من الكتاب في قوله: {نَزَّلَ الْكِتَابَ} فهو القرآن فيكون من الإظهار في مقام الإضمار ليناسب استقلال جملة التذييل بذاتها ويكون المراد باختلفوا على هذا الوجه أنهم اختلفوا مع الذين آمنوا منهم أو اختلفوا فيما يصفون به القرآن من تكذيب به كله أو تكذيب مالا يوافق هواهم وتصديق ما يؤيد كتبهم، ويحتمل أن المراد من الكتاب المجرور بفي هو المراد من المنصوب في قوله: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ} [البقرة:174] يعني التوراة والإنجيل أي اختلفوا في الذي يقرونه والذي يغيرونه وفي الإيمان بالإنجيل والإيمان بالتوراة، ومن المحتمل أن يكون المراد بالذين اختلفوا في الكتاب ما يشمل المشركين وأن يكون الاختلاف هو اختلاف معاذيرهم عن القرآن إذ قالوا: سحر أو شعر أو كهانة أو أساطير الأولين. لكنه خروج عن سياق الكلام على أهل الكتاب، ومن المحتمل أيضا أن يكون المراد بالكتاب الجنس أي الذين اختلفوا في كتب الله فآمنوا ببعضها وكفروا بالقرآن.
وفائدة الإظهار في مقام الإضمار في قوله: {الْكِتَابِ} أن يكون التذييل مستقلا بنفسه لجريانه مجرى المثل، وللمفسرين وجوه كثيرة في قوله: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ} متفاوتة البعد.
ووصف الشقاق بالبعيد مجاز عقلي أي بعيد صاحبه عن الوفاق كقوله تعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود:118].
[177] {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}
قدمنا عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:153] أن قوله: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} متصل بقوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة:142] وأنه

ختام للمحاجة في شأن تحويل القبلة، وأن ما بين هذا وذلك كله اعتراض أطنب فيه وأطيل لأخذ معانيه بعضها بحجز بعض.
فهذا إقبال على خطاب المؤمنين بمناسبة ذكر أحوال أهل الكتاب وحسدهم المؤمنين على اتباع الإسلام مراد منه تلقين المسلمين الحجة على أهل الكتاب في تهويلهم على المسلمين إبطال القبلة التي كانوا يصلون إليها ففي ذلك تعريض بأهل الكتاب. فأهل الكتاب رأوا أن المسلمين كانوا على شئ من البر باستقبالهم قبلتهم فلما تحولوا عنها لمزوهم بأنهم أضاعوا أمرا من أمور البر، يقول عد عن هذا وأعرضوا عن تهويل الواهنين وهبوا أن قبلة الصلاة تغيرت أو كانت الصلاة بلا قبلة أصلا فهل ذلك أمر له أثر في تزكية النفوس واتصافها بالبر، فذكر المشرق والمغرب اقتصار على أشهر الجهات أو هو للإشارة إلى قبلة اليهود وقبلة النصارى لإبطال تهويل الفريقين على المسلمين حين استقبلوا الكعبة، ومنهم من جعله لكل من يسمع الخطاب.
والبر: سعة الإحسان وشدة المرضاة والخير الكامل الشامل ولذلك توصف به الأفعال القوية الإحسان فيقال: بر الوالدين وبر الحج وقال تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] والمراد به هنا بر العبد ربه بحسن المعاملة في تلقي شرائعه وأوامره.
ونفى البر عن استقبال الجهات مع أن منها ما هو مشروع كاستقبال الكعبة: إما لأنه من الوسائل ل من المقاصد فلا ينبغي أن يكون الاشتغال به قصارى همة المؤمنين ولذلك أسقطه الله عن الناس في حال العجز والنسيان وصلوات النوافل على الدابة في السفر، ولذلك قال: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ} إلخ فإن ذلك كله من أهم مقاصد الشريعة وفيه جماع صلاح النفس والجماعة ونظير هذا قوله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ} [التوبة:19] الآيات فيكون النفي على معنى نفي الكمال، وإما لأن المنفى عنه البر هو استقبال قبلتي اليهود والنصارى فقد تقدم لنا أن ذلك الاستقبال غير مشروع في أصل دينهم ولكنه شئ استحسنه أنبياؤهم ورهبانهم ولذلك نفى البر عن تولية المشرق والمغرب تنبيها على ذلك.
وقرأ الجمهور: {لَيْسَ الْبِرَّ} برفع البر على أنه اسم {لَيْسَ} والخبر هو أن تولوا وقرأه حمزة وحفص عن عاصم بنصب {الْبِرَّ} على أن قوله: {أَنْ تُوَلُّوا} اسم {لَيْسَ} مؤخر، ويكثر في كلام العرب تقديم الخبر على الاسم في باب كان وأخواتها إذا كان أحد معمولي هذا الباب مركبا من أن المصدرية وفعلها كان المتكلم بالخيار في

المعمول الآخرين أن يرفعه وأن ينصبه وشأن اسم {لَيْسَ} أن يكون هو الجدير بكونه مبتدأ به، فوجه قراءة رفع {الْبِرّ} أن البر أمر مشهور معروف لأهل الأديان مرغوب للجميع فإذا جعل مبتدأ في حالة النفي أصغت الأسماع إلى الخبر، وأما توجيه قراءة النصب فلأن أمر استقبال القبلة هو الشغل الشاغل لهم فإذا ذكر خبره قبله ترقب السامع المبتدأ فإذا سمعه تقرر في علمه.
وقوله: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ} إخبار عن المصدر باسم الذات للمبالغة كعكسه في قولها: "فإنما هي إقبال وإدبار" وذلك كثير في الكلام ومنه قوله تعالى: {إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً} [الملك:30] وقول النابغة:
وقد خفت حتى ما تزيد مخافتي ... على وعل في ذي المطارة عاقل
أي وعل هو مخافة أي خائف، ومن قدر في مثله مضافا أي بر من آمن أو ولكن ذو البر فإنما عنى بيان المعنى لا أن هنالك مقدارا؛ لأنه يخرج الكلام عن البلاغة إلى كلام مغسول كما قال التفتازاني، وعن المبرد: لو كنت ممن يقرأ لقرأت ولكن البر بفتح الباء، وكأنه أراد الاستغناء عن التقدير في الإخبار عن البر بجملة: {مَنْ آمَنَ} لأن من آمن هو البار لا نفس البر وكيف يقرأ كذلك و {الْبِرَّ} معطوف بلكن في مقابلة البر المثبت فهل يكون إلا عينه ولذا لم يقرأ أحد إلا البر بكسر الباء، على أن القراءات مروية وليست اختيارا ولعل هذا لا يصح عن المبرد،
وقرأ نافع وابن عامر ولكن البر بتخفيف النون من لكن ورفع البر على الابتداء وقرأه بقية العشرة بتشديد نون لكن ونصب البر والمعنى واحد.
وتعريف {وَالْكِتَابِ} تعريف الجنس المفيد للاستغراق أي آمن بكنب الله مثل التوراة والإنجيل والقرآن، ووجه التعبير بصيغة المفرد أنها أخف مع عدم التباس التعريف بأن يكون للعهد؛ لأن عطف النبيين على "الكتاب" قرينة على أن اللام في "الكتاب" للاستغراق فأوثرت صيغة المفرد طلبا لخفة اللفظ. وما يظن من أن استغراق المفرد المعرف باللام أشمل من استغراق الجمع المعرف بها ليس جاريا على الاستعمال وإنما توهمه السكاكي في المفتاح في قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} [مريم:4] من كلام وقع في الكشاف وما نقل عن ابن عباس أنه قرأ قوله تعالى: {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ} [البقرة:285] ، وقال الكتاب أكثر من الكتب فلو صح ذلك عنه لم يكن مريدا به توجيه قراءته و "كتابه" المعرف بالإضافة بل عنى به الأسماء المنفية بلا التبرئة تفرقة بين

نحو لا رجل في الدار ونحو رجال في الدار في تطرق احتمال نفي جنس الجموع لا جنس الأفراد على ما فيه من البحث فلا ينبغي التعلق بتلك الكلمة ولا يصح التعلق بما ذكره صاحب "المفتاح".
والذي ينبغي اعتماده أن استغراق المفرد والجمع في المعرف باللام وفي المنفى بلا التبرئة سواء وإنما يختلف تعبير أهل اللسان مرة بصيغة الإفراد ومرة بصيغة الجمع تبعا لحكاية الصورة المستحضرة في ذهن المتكلم والمناسبة لمقام الكلام، فأما في المنفى بلا النافية للجنس فلك أن تقول لا رجل في الدار ولا رجال في الدار على السواء إلا إذا رجح أحد التعبيرين مرجح لفظي، وأما في المعرف باللام أو الإضافة فكذلك في صحة التعبير بالمفرد والجمع سوى أنه قد يتوهم احتمال إرادة العهد وذلك يعرض للمفرد والدمع ويندفع بالقرائن.
وعلى في قوله: {عَلَى حُبِّهِ} مجاز في التمكن من حب المال مثل {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً} [البقرة:5] وهي في مثل هذا المقام للتنبيه على أبعد الأحوال من مظنة الوصف فلذلك تفيد مفاد كلمة مع وتدل على معنى الاحتراس كما هي في قوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً} [الانسان:8] وقول زهير:
من يلق يوما على علاته هرما ... يلق السماحة فيه والندى خلقا
قال الأعلم في "شرحه" أي فكيف به وهو على غير تلك الحالة اهـ.
وليس هذا معنى مستقلا من معاني على بل هو استعلاء مجازي أريد به تحقق ثبوت مدلول مدخولها لمعمول متعلقها، لأنه لبعد وقوعه يحتاج إلى التحقيق، والضمير للمال لا محالة والمراد أنه يعطي المال مع حبه للمال وعدم زهادته فيه فيدل على أنه إنما يعطيه مرضاة لله تعالى ولذلك كان فعله هذا برا.
وذكر أصنافا ممن يؤتون المال لأن إتيانهم المال ينجم عنه خيرات ومصالح.
فذكر ذوي القربى أي أصحاب قرابة المعطى فاللام في القربى عوض عن المضاف إليه، أمر المرء بالإحسان إليهم لأن مواساتهم تكسبهم محبتهم إياه والتئامهم وهذا التئام القبائل الذي أراده الله بقوله: {لِتَعَارَفُوا} [الحجرات:13] فليس مقيدا بوصف فقرهم كما فسر به بعض المفسرين بل ذلك شامل للهدية لأغنيائهم وشامل للتوسعة على المتضائقين وترفيه عيشتهم، إذ المقصود هو التحابب.

ثم ذكر اليتامى وهم مظنة الضعف لظهور أن المراد اليتيم المحتاج حاجة دون الفقر وإنما هو فاقد ما كان ينيله أبوه من رفاهية عيش، فإيتاؤهم المال يجبر صدع حياتهم وذكر السائلين وهم الفقراء والمسكنة: الذل مشتقة من السكون ووزن مسكين مفعيل للمبالغة مثل منطيق والمسكين الفقير الذي أذله الفقر وقد اتفق أئمة اللغة أن المسكين غير الفقير فقيل هو أقل فقرا من الفقير وقيل هو أشد فقرا وهذا قول الجمهور وقد يطلق أحدهما في موضع الآخر إذا لم يجتمعا وقد اجتمع في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة:60] ونظيرها في ذكر هؤلاء الأربعة قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [البقرة:215].
وذكر السائلين وهم الفقراء كنى عنهم بالسائلين لأن شأن المرء أن تمنعه نفسه من أن يسأل الناس لغير حاجة غالبا. فالسؤال علامة الحاجة غالبا، ولو أدخل الشك في العلامات الاعتيادية لارتفعت الأحكام فلو تحقق غنى السائل لما شرع إعطاؤه لمجرد شؤاله، ورووا: "للسائل حق ولو جاء راكبا على فرس" وهو ضعيف.
وذكر ابن السبيل وهو الغريب أعنى الضيف في البوادي؛ إذ لم يكن في القبائل نزل أو خانات أو فنادق ولم يكن السائر يستصحب معه المال وإنما يحمل زاد يومه ولذلك كان حق الضيافة فرضا على المسلمين أي في البوادي ونحوها. وذكر الرقاب والمراد فداء الأسرى وعتق العبيد. ثم ذكر الزكاة وهي حق المال لأجل الغنى ومصارفها مذكورة في آيتها،
وذكر الوفاء بالعهد لما فيه من الثقة بالمعاهد ومن كرم النفس وكون الجد والحق لها دربة وسجية، وإنما قيد بالظرف وهو إذا عاهدوا أي وقت حصول العهد فلا يتأخر وفاؤهم طرفة عين، وفيه تنبيه على وجوب الاحتياط عند بذل العهد بحيث لا يعاهد حتى يتحقق أنه يستطيع الوفاء كأنه يقول: فإن علموا ألا يفوا فلا يعاهدوا. وعطف {وَالْمُوفُونَ} على {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} وغير أسلوب الوصف فلم يقل ومن أوفى بعده للدلالة على مغايرة الوصفين بأن الأول من علائق حق الله تعالى وأصول الدين والثاني من حقوق العباد.
وذكر الصابرين في البأساء لما في الصبر من الخصائص التي ذكرناها عند قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45] ثم ذكر مواقعه التي لا يعدوها وهي حالة الشدة، وحالة الضر، وحالة القتال، فالبأساء والضراء اسمان على وزن فعلاء وليسا

وصفين إذ لم يسمع لهما أفعل مذكرا، والبأساء مشتقة من البؤس وهو سوء الحالة من فقر ونحوه من المكروه، قال الراغب: وقد غلب في الفقر ومنه البئيس الفقير، فالبأساء الشدة في المال. والضراء شدة الحال على الإنسان مشتقة من الضر ويقابلها السراء وهي ما يسر الإنسان من أحواله، والبأس النكاية والشدة في الحرب ونحوها كالخصومة {قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ} [النمل:33] {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} [الحشر:14] والشر أيضا بأس والمراد به هنا الحرب.
فلله هذا الاستقراء البديع الذي يعجز عنه كل خطيب وحكيم غير العلام الحكيم وقد جمعت هذه الخصال جماع الفضائل الفردية والاجتماعية الناشئ عنها صلاح أفراد المجتمع من أصول العقيدة وصالحات الأعمال.
فالإيمان وإقام الصلاة هما منبع الفضائل الفردية، لأنهما ينبثق عنهما سائر التحليات المأمور بها، والزكاة وإيتاء المال أصل نظام الجماعة صغيرها وكبيرها، والمواساة تقوى عنها الأخوة والاتحاد وتسدد مصالح للأمة كثيرة ويبذل المال في الرقاب يتعزز جانب الحرية المطلوبة للشارع حتى يصير الناس كلهم أحرارا. والوفاء بالعهد فيه فضيلة فردية وهي عنوان كمال النفس، وفضيلة اجتماعية وهي ثقة الناس بعضهم ببعض.
والصبر فيه جماع الفضائل وشجاعة الأمة ولذلك قال تعالى هنا: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} فحصر فيهم الصدق والتقوى حصرا ادعائيا للمبالغة. ودلت على أن المسلمين قد تحقق فيهم معنى البر، وفيه تعريض بأن أهل الكتاب لم يتحقق فيهم، لأنهم لم يؤمنوا ببعض الملائكة وبعض النبيين، ولأنهم حرموا كثيرا من الناس حقوقهم، ولم يفوا بالعهد، ولم يصبروا. وفيها أيضا تعريض بالمشركين إذ لم يؤمنوا باليوم الآخر، والنبيين، والكتاب وسلبوا اليتامى أموالهم، ولم يقيموا الصلاة، ولم يؤتوا الزكاة.
ونصب {الصَّابِرِينَ} وهو معطوف على مرفوعات نصب على الاختصاص على ما هو المتعارف في كلام العرب في عطف النعوت من تخيير المتكلم بين الإتباع في الإعراب للمعطوف عليه وبين القطع قاله الرضى، والقطع يكون بنصب ما حقه أن يكون مرفوعا أو مجرورا وبرفع ما هو بعكسه ليظهر قصد المتكلم القطع حين يختلف الإعراب؛ إذ لا يعرف أن المتكلم قصد القطع إلا بمخالفة الإعراب، فأما النصب فبتقدير فعل مدح أو ذم بحسب المقام، والأظهر تقدير فعل أخص لأنه يفيد المدح بين الممدوحين والذم بين المذمومين.

وقد حصل بنصب {الصَّابِرِينَ} هنا فائدتان: إحداهما عامة في كل قطع من النعوت، فقد نقل عن أبي على الفارسي أنه إذا ذكرت الصفات الكثيرة في معرض المدح أو الذم فالأحسن أن يخاف إعرابها ولا تجعل كلها جارية على موصوفها لأن هذا من مواضع الإطناب فإذا خولف إعراب الأوصاف كان المقصود أكمل لأن الكلام عند اختلاف الإعراب يصير كأنه أنواع من الكلام وضروب من البيان.
قال في "الكشاف" نصب على المدح وهو باب واسع كسره سيبويه على أمثلة وشواهد اه. قلت: قال سيبويه في باب ما ينتصب على التعظيم والمدح1: "وإن شئت جعلته صفة فجرى على الأول، وإن شئت قطعته فابتدأته، مثل ذلك قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} إلى قوله: {وَالصَّابِرِينَ} ولو رفع الصابرين على أول الكلام كان جيدا، ولو ابتدأته فرفعته على الابتداء كان جيدا، ونظير هذا النصب قول الخرنق:
لا يبعدن قومي الذين هموا ... سم العداة وآفة الجزر
النازلين بكل معترك ... والطيبون معاقد الأزر
بنصب النازلين، ثم قال: وزعم الخليل أن نصب هذا على أنك لم ترد أن تحدث الناس ولا من تخاطب بأمر جهلوه ولكنهم قد علموا من ذلك ما قد علمت فجعلته ثناء وتعظيما ونصبه على الفعل كأنه قال أذكر أهل ذلك وأذكر المقيمين ولكنه فعل لا يستعمل إظهاره" اه قلت: يؤيد هذا الوجه أنه تكرر مثله في نظائر هذه الآية في سورة النساء {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ} [النساء:162] عطفا على {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [النساء:162]، وفي سورة العقود والصابئون عطفا على {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا} [البقرة:62].
الفائدة الثانية في نصب {الصَّابِرِينَ} بتقدير أخص أو أمدح تنبيها على خصيصية الصابرين ومزية صفتهم التي هي الصبر.
قال في "الكشاف" ولا يلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحنا في خط المصحف، وربما التفت إليه من لم ينظر في الكتاب ولم يعرف مذاهب العرب ومالهم في النصب على الاختصاص من الافتنان اه وأقول: إن تكرره كما ذكرنا وتقارب الكلمات يربأ به
ـــــــ
1 راجع "الكتاب" له "1/248"، دار الصادر

عن أن يكون خطأ أو سهوا وهو بين كلمتين مخالفتين إعرابه.
وعن الكسائي أن نصبه عطف على مفاعيل {آتى} أي وآتى المال الصابرين أي الفقراء المتعففين عن المسألة حين تصيبهم البأساء والضراء والصابرين حين البأس وهم الذين لا يجدون ما ينفقون للغزو ويحبون أن يغزوا، لأن فيهم غناء عن المسلمين قال تعالى: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة:92]
وعن بعض المتأولين أن نصب {والصابرين} وقع خطأ من كتاب المصاحف وأنه مما أراده عثمان رضى الله عنه فيما نقل عنه أنه قال بعد أن قرأ المصحف الذي كتبوه إني أجد به لحنا ستقيمه العرب بألسنتها وهذا متقول على عثمان ولو صح لكان يريد باللحن ما في رسم المصاحف من إشارات مثل كتابة الألف في صورة الياء إشارة إلى الإمالة ولم يكن اللحن يطلق على الخطأ. وقرأ يعقوب {وَالصَّابِرِونَ} بالرفع عطفا على {وَالْمُوفُونَ}.
[178] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أعيد الخطاب بيا أيها الذين آمنوا، لأن هذا صنف من التشريع لأحكام ذات بال في صلاح المجتمع الإسلامي واستتباب نظامه وأمنه حين صار المسلمون بعد الهجرة جماعة ذات استقلال بنفسها ومدينتها، فإن هاته الآيات كانت من أول ما أنزل بالمدينة عام الهجرة كما ذكره المفسرون في سبب نزولها في تفسير قوله تعالى بعد هذا: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة:190] الآية.
تلك أحكام متتابعة من إصلاح أحوال الأفراد وأحوال المجتمع، وابتدئ بأحكام القصاص، لأن أعظم شئ من اختلال الأحوال اختلال حفظ نفوس الأمة، وقد أفرط العرب في إضاعة هذا الأصل، يعلم ذلك من له إلمام بتاريخهم وآدابهم وأحوالهم، فقد بلغ بهم تطرفهم في ذلك إلى وشك الفناء لو طال ذلك فلم يتداركهم الله فمه بنعمة الإسلام، فكانوا يغير بعضهم على بعض لغنيمة أنعامه وعبيده ونسائه فيدافع المغار عليه وتتلف نفوس بين الفريقين ثم ينشأ عن ذلك طلب الثارات فيسعى كل من قتل له قتيل في

قتل قاتل وليشه وإن أعوزه ذلك قتل به غيره من واحد كفء له، أو عدد يراهم لا يوازونه ويسمون ذلك بالتكايل في الدم أي كأن دم الشريف يكال بدماء كثيرة فربما قدروه باثنين أو بعشرة أو بمائة، وهكذا يدور الأمر ويتزايد تزايدا فاحشا حتى يصير تفانيا قال زهير:
تدار كتما عبسا وذبيان بعدما ... تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم
وينتقل الأمر من قبيلة إلى قبيلة بالولاء والنسب والحلف والنصرة، حتى صارت الإحن فاشية فتخاذلوا بينهم واستنصر بعض القبائل على بعض فوجد الفرس والروم مدخلا إلى التفرقة بينهم فحكموهم وأرهبوهم، وإلى هذا الإشارة والله أعلم بقوله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ .....فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران:103] فألف بين قلوبهم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها أي كنتم أعداء بأسباب الغارات والحروب فألف بينكم بكلمة الإسلام، وكنتم على وشك الهلاك فأنقذكم منه فضرب مثلا للهلاك العاجل الذي لا يبقى شيئا بحفرة النار فالقائم على حافتها ليس بينه وبين الهلاك إلا أقل حركة.
فمعنى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ} أنه حق لازم للأمة لا محيد عن الأخذ به فضمير {عَلَيْكُمُ} لمجموع الأمة على الجملة لمن توجه له حق القصاص وليس المراد على كل فرد فرد القصاص، لأن ولى الدم له العفو عن دم وليه كما قال تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} وأصل الكتابة نقش الحروف في حجر أو رقش أو ثوب ولما كان ذلك النقش يراد به التوثق لما نقش به ودوام تذكره أطلق كتب على المعنى حق وثبت أي حق لأهل القتيل.
والقصاص اسم لتعويض حق جناية أو حق غرم على أحد بمثل ذلك من عند المحقوق إنصافا وعدلا، فالقصاص يطلق على عقوبة الجاني بمثل ما جنى، وعلى محاسبة رب الدين بما عليه للمدين من دين يفي بدينه، فإطلاقاته كلها تدل على التعادل والتناصف في الحقوق والتبعات المعروضة للغمص.
وهو بوزن فعال وهو وزن مصدر فاعل من القص وهو القطع ومنه قولهم: طائر مقصوص الجناح ومنه سمى المقص لآلة القص أي القطع وقصة الشعر بضم القاف ما يقص منه لأنه يجرى في حقين متبادلين بين جانبين يقال قاص فلان فلانا إذا طرح من دين في ذمته مقدارا يدين له في ذمة الآخر فشبه التناصف بالقطع لأنه يقطع النزاع الناشب قبله، فلذلك سمى القود وهو تمكين ولي المقتول من قتل قاتل مولاه قصاصا قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: من الآية179]، وسميت عقوبة من يجرح أحدا جرحا عمدا

عدوانا بأن يجرح ذلك الجارح مثل ما جرح غيره قصاصا قال تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة:45]، وسموا معاملة المعتدى بمثل جرمه قصاصا {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} [البقرة:194]، فماهية القصاص تتضمن ماهية التعويض والتماثل.
فقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} يتحمل معنى الجزاء على القتل بالقتل للقاتل وتتحمل معنى التعادل والتماثل في ذلك الجزاء بما هو كالعوض له والمثل، وتتحمل معنى أنه لا يقتل غير القاتل ممن لا شركة له في قتل القتيل فأفاد قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ} حق المؤاخذة بين المؤمنين في قتل القتلى فلا يذهب حق قتيل باطلا ولا يقتل غير القاتل باطلا، وذلك إبطال لما كانوا عليه في الجاهلية من إهمال دم الوضيع إذا قتله الشريف وإهمال حق الضعيف إذا قتله القوي الذي يخشى قومه، ومن تحكمهم بطلب قتل غير القاتل إذا قتل أحد رجلا شريفا يطلبون قتل رجل شريف مثله بحيث لا يقتلون القاتل إلا إذا كان بواء للمقتول أي كفءا له في الشرف والمجد ويعتبرون قيمة الدماء متفاوتة بحسب تفاوت السؤدد والشرف ويسمون ذلك التفاوت تكايلا من الكيل، قالت ابنة بهدل بن قرقة الطائي تستثير رهطها على قتل رجل قتل أباها وتذكر أنها ما كانت تقنع بقتله به لولا أن الإسلام أبطل تكايل الدماء:
أما في بني حصن من ابن كريهة ... من القوم طلاب الترات غشمشم
فيقتل جبرا يامرئ لم يكن له ... بواء ولكن لا تكايل بالدم1
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "المسلمون تتكافأ دماؤهم".
وقد ثبت بهذه الآية شرع القصاص في قتل العمد، وحكمة ذلك ردع أهل العدوان عند الإقدام على قتل الأنفس إذا علموا أن جزاءهم القتل، فإن الحياة أعز شئ على الإنسان في الجبلة فلا تعادل عقوبة القتل في الردع والانزجار، ومن حكمة ذلك تطمين أولياء القتلى بأن القضاء ينتقم لهم ممن اعتدى على قتيلهم قال تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً} [الاسراء:33] أي لئلا يتصدى أولياء القتيل للانتقام من قاتل مولاهم بأنفسهم؛ لأن ذلك يفضي إلى صورة الحرب بين رهطين فيكثر فيه إتلاف الأنفس كما تقدم في الكلام على صدر الآية، ويأتي عند قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: من الآية179]
ـــــــ
1 جبر هو اسم قاتل أبيها

وأول دم أفيد به في الإسلام دم رجل من هذيل قتله رجل من بني ليث فأقاد منه النبي صلى الله عليه وسلم وهو سائر إلى فتح الطائف بموضع يقال له: بحرة الرغاء في طريق الطائف وذلك سنة ثمان من الهجرة.
و {في} من قوله: {فِي الْقَتْلَى} للظرفية المجازية والقصاص لا يكون في ذوات القتلى، فتعين تقدير مضاف وحذفه هنا ليشمل القصاص سائر شئون القتلى وسائر معاني القصاص فهو إيجاز وتعميم.
وجمع {الْقَتْلَى} باعتبار جمع المخاطبين أي في قتلاكم، والتعريف في القتلى تعريف الجنس، والقتيل هو من يقتله غيره من الناس والقتل فعل الإنسان إماتة إنسان آخر فليس الميت بدون فعل فاعل قتيلا.
وجملة: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} بين وتفصيل لجملة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} فالباء في قوله: {بِالْحُرِّ} وما بعده، متعلقة بمحذوف دل عليه معنى القصاص والتقدير الحر يقتص أو يقتل بالحر الخ ومفهوم القيد مع ما في الحر والعبد والأنثى من معنى الوصفية يقتضي أن الحر يقتل بالحر لا بغيره، والعبد يقتل بالعبد لا بغيره، والأنثى تقتل بالأنثى لا بغيرها،
وقد اتفق علماء الإسلام على أن هذا المفهوم غير معمول به باطراد، لكنهم اختلفوا في المقدار المعمول به منه بحسب اختلاف الأدلة الثابتة من الكتاب والسنة وفي المراد من هذه الآية ومحمل معناها، ففي "الموطأ" قال مالك أحسن ما سمعت في هذه الآية أن قوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} فهؤلاء الذكور وقوله: {وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} أن القصاص يكون بين الإناث كما يكون بين الذكور والمرأة الحرة تقتل بالمرأة الحرة كما يقتل الحر بالحر والأمة تقتل بالأمة كما يقتل العبد بالعبد والقصاص يكون بين النساء كما يكون بين الرجال. والقصاص أيضا يكون بين الرجال والنساء.أي وخصت الأنثى بالذكر مع أنها مشمولة لعموم الحر بالحر والعبد لئلا يتوهم أن صيغة التذكير في قوله: {الْحُرُّ} وقوله: {الْعَبْدُ} مراد بها خصوص الذكور.
قال القرطبي عن طائفة أن الآية جاءت مبينة لحكم النوع إذا قتل نوعه فبينت حكم الحر إذا قتل حرا والعبد إذا قتل عبدا والأنثى إذا قتلت أنثى ولم يتعرض لأحد النوعين إذا قتل الآخر، فالآية محكمة وفيها إجمال يبينه قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ} [المائدة:45] الآية اه. وعلى هذا الوجه فالتقييد لبيان عدم التفاضل في أفراد النوع، ولا

مفهوم له فيما عدا ذلك من تفاضل الأنواع إثباتا ولا نفيا، وقال الشعبي: نزلت في قوم قالوا: لنقتلن الحر بالعبد والذكر بالأنثى. وذلك وقع في قتال بين حيين من الأنصار، ولم يثبت هذا الذي رواه وهو لا يغنى في إقامة محمل الآية.
وعلى هذين التأويلين لا اعتبار بعموم مفهوم القيد؛ لأن شرط اعتباره إلا يظهر لذكر القيد سبب إلا الاحتراز عن نقيضه، فإذا ظهر سبب غير الاحتراز بطل الاحتجاج بالمفهوم، وحينئذ فلا دلالة في الآية على ألا يقتل حر بعبد ولا أنثى بذكر ولا على عكس ذلك، وإن دليل المساواة بين الأنثى والذكر وعدم المساواة بين العبد والحر عند من نفى المساواة مستنبط من أدلة أخرى.
الثالث: نقل عن ابن عباس: أن هذا كان حكما في صدر الإسلام ثم نسخ بآية المائدة {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45] ونقله في "الكشاف" عن سعيد بن المسيب والنخعي والثوري وأبي حنيفة، ورده ابن عطية والقرطبي بأن أية المائدة حكاية عن بني إسرائيل فكيف تصلح نسخا لحكم ثبت في شريعة الإسلام، أي حتى على القول بأن شرع من قبلنا شرع لنا فمحله ما لم يأت في شرعنا خلافه.
وقال ابن العربي في الأحكام عن الحنفية: إن قوله تعالى: {فِي الْقَتْلَى} هو نهاية الكلام وقوله: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} جاء بعد ذلك وقد ثبت عموم المساواة بقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} لأن القتلى عام وخصوص آخر الآية لا يبطل عموم أولها، ولذلك قالوا يقتل الحر بالعبد، قلت: يرد على هذا أنه لا فائدة في التفصيل لو لم يكن مقصودا وإن الكلام بأواخره فالخاص يخصص العام لا محالة، وإنه لا محيص من اعتبار كونه تفصيلا إلا أن يقولوا إن ذلك كالتمثيل، والمنقول عن الحنفية في "الكشاف" هو ما ذكرناه آنفا.
ويبقى بعد هاته التأويلات سؤال قائم عن وجه تخصيص الأنثى بعد قوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} وهل تخرج الأنثى عن كونها حرة أو أمة بعد ما تبين أن المراد بالحر والعبد الجنسان؛ إذ ليس صيغة الذكور فيها للاحتراز عن النساء منهم؛ فإن "ال" لما صيرته اسم جنس صار الحكم على الجنس وبطل ما فيه من صيغة تأنيث كما يبطل ما فيه من صيغة جمع إن كانت فيه.
ولأجل هذا الإشكال سألت العلامة الجد الوزير رحمة الله عن وجه مجيء هذه المقابلة المشعرة بألا يقتص من صنف إلا لقتل مماثلة في الصفة فترك لي ورقة بخطه فيها

ما يأتي الظاهر والله تعالى أعلم أن للآية يعني آية سورة المائدة نزلت إعلاما بالحكم في بني إسرائيل تأنيسا وتمهيدا لحكم الشريعة الإسلامية، ولذلك تضمنت إناطة الحكم بلفظ النفس المتناول للذكر والأنثى الحر والعبد الصغير والكبير، ولم تتضمن حكما للعبيد ولا للإناث، وصدرت بقوله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا} [المائدة:45] والآية الثانية يعني آية سورة البقرة صدرت بقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ} وناط الحكم فيها بالحرية المتناولة للأصناف كلها ثم ذكر حكم العبيد والإناث ردا على من يزعم أنه لا يقتص لهم، وخصص الأنثى للدلالة على أن دمها معصوم، وذلك لأنه إذا اقتص لها من لطف التبليغ حيث كان الحكم متضمنا لدليله، فقوله:
كتب القتل والقتال علينا ... وعلى الغانيات جر الذيول
حكم جاهلي اهـ
يعني أن الآية لم يقصد منها إلا إبطال ما كان عليه أمر الجاهلية من ترك القصاص لشرف أو لقلة اكتراث، فقصدت التسوية بقوله: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} أي لا فضل لحر شريف على حر ضعيف ولا لعبيد السادة على عبيد العامة وقصدت من ذكر الأنثى إبطال ما كان عليه الجاهلية من عدم الاعتداد بجناية الأنثى واعتبارها غير مؤاخذة بجناياتها، وأراد بقوله: حكم جاهلي أنه ليس جاريا على أحكام الإسلام؛ لأن البيت لعمر ابن أبي ربيعة وهو شاعر إسلامي من صدر الدولة الأموية.
فإن قلت: كان الوجه ألا يقول: {بِالْأُنْثَى} المشعر بأن الأنثى لا تقتل بالرجل مع إجماع المسلمين على أن المرأة يقتص منها للرجل. قلت: الظاهر أن القيد حرج محرج الغالب، فإن الجاري في العرف أن الأنثى لا تقتل إلا أنثى، إذ لا يتشاور الرجال والنساء فذكر {بِالْأُنْثَى} خارج على اعتبار الغالب كمخرج وصف السائمة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "في الغنم السائمة الزكاة" والخلاصة أن الآية لا يلتئم منها معنى سليم من الإشكال إلا معنى إرادة التسوية بين الأصناف لقصد إبطال عوائد الجاهلية.
وإذا تقرر أن الآية لا دلالة لها على نفي القصاص بين الأصناف المختلفة ولا على إثباته من جهة ما ورد على كل تأويل غير ذلك من انتقاض بجهة أخرى، فتعين أن قوله: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} محملة الذي لا شك فيه هو مساواة أفراد كل صنف بعضها مع بعض دون تفاضل بين الأفراد، ثم أدلة العلماء في تسوية القصاص بين

بعض الأصناف مع بعض الذكور بالإناث وفي عدمها كعدم تسوية الأحرار بالعبيد عند الذين لا يسوون بين صنفيهما خلافا لأبي حنيفة والثوري وابن أبي ليلى وداود أدلة أخرى غير هذا القيد الذي في ظاهر الآية، فأما أبو حنيفة فأخذ بعموم قوله: {الْقَتْلَى} ولم يثبت له مخصصا ولم يستثن منه إلا القصاص بين المسلم والكافر الحربي واستثناؤه لا خلاف فيه، ووجهه أن الحربي غير معصوم الدم، وأما المعاهد ففي حكم قتل المسلم إياه مذاهب، وأما الشافعي وأحمد فنفيا القصاص من المسلم للذمي والمعاهد وأخذا بحديث لا يقتل مسلم بكافر، ومالك والليث قالا لا قصاص من المسلم إذا قتل الذمي والمعاهد قتل عدوان وأثبتا القصاص منه إذا قتل غيلة.
وأما القصاص بين الحر والعبد في قطع الأطراف فليس من متعلقات هذه الآية وسيأتي عند قوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة:45] في سورة العقود. ونفى مالك والشافعي وأحمد القصاص من الحر للعبد استنادا لعمل الخلفاء الراشدين وسكوت الصحابة، واستنادا لآثار مروية، وقياسا على انتفاء القصاص من الحر في إصابة أطراف العبد فالنفس أولى بالحفظ. والقصاص من العبد لقتله الحر ثابت عندهما بالفحوى، والقصاص من الذكر لقتل الأنثى ثابت بلحن الخطاب.
{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ}
الفاء لتفريع الإخبار أي لمجرد الترتيب اللفظي لا لتفريع حصول ما تضمنته الجملة المعطوفة بها على حصول ما تضمنته ما قبلها، والمقصود بيان أن أخذ الولي بالقصاص المستفاد من صور {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} ليس واجبا عليه ولكنه حق له فقط لئلا يتوهم من قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ} أن الأخذ به واجب على ولى القتيل، والتصدي لتفريع ذكر هذا بعد ذكر حق القصاص للإيماء إلى أن الأولى بالناس قبول الصلح استبقاء لأواصر أخوة الإسلام.
قال الأزهري: "هذه آية مشكلة وقد فسروها تفسيرا قربوه على قدر إفهام أهل عصرهم" ثم أخذ الأزهري في تفسيرها بما لم يكشف معنى وما أزال إشكالا، وللمفسرين مناح كثيرة في تفسير ألفاظها ذكر القرطبي خمسة منها، وذكر في "الكشاف" تأويلا آخر، وذكر الطيبي تأويلين راجعين إلى تأويل "الكشاف"، واتفق جميعهم على أن القصد منها

الترغيب في المصالحة عن الدماء، وينبغي ألا نذهب بإفهام الناظر طرائق قددا، فالقول الفصل أن نقول: إن ما صدق من في قوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ} هو ولي المقتول وإن المراد بأخيه هو القاتل وصف بأنه أخ تذكيرا بأخوة الإسلام وترقيقا لنفس ولي المقتول؛ لأنه إذا اعتبر القاتل أخا له كان من المروءة ألا يرضى بالقود منه؛ لأنه كمن رضى بقتل أخيه، ولقد قال بعض العرب: قتل أخوه ابنا له عمدا فقدم إليه ليقتاد منه فألقى السيف وقال:
أقول للنفس تأساء وتعزية ... إحدى يدي أصابتني ولم ترد
كلاهما خلف فقد صاحبه ... هذا أخي حين أدعوه وذا ولدي
وما صدق {شَيْءٌ} هو عوض الصلح، ولفظ شيء اسم متوغل في التفكير دال على نوع ما يصلح له سياق الكلام، وقد تقدم حسن موقع كلمة شيء عند قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ} [البقرة:155]،
ومعنى {عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ} أنه أعطى العفو أي الميسور على القاتل من عوض الصلح. ومن معاني العفو أنه الميسور من المال الذي لا يجحف بباذله وقد فسر به العفو من قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ} [لأعراف:199]، وإيثار هذا الفعل لأنه يؤذن بمراعاة التيسير والسماحة وهي من خلق الإسلام فهذا تأكيد للترغيب الذي دل عليه قوله: {مِنْ أَخِيهِ} والتعبير عن عوض الدم بشيء لأن العوض يختلف فقد يعرض على ولي الدم مال من ذهب أو فضة وقد يعرض عليه إبل أو عروض أو مقاصة دماء بين الحيين؛ إذ ليس العوض في قتل العمد معينا كما هو في دية قتل الخطأ.
{واتِّبَاعٌ} وَ {أَدَاءٌ} مصدران وقعا عوضا عن فعلين والتقدير: فليتبع اتباعا وليؤد أداء فعدل عن أن ينصب على المفعولية المطلقة إلى الرفع لإفادة معنى الثبات والتحقيق الحاصل بالجملة الاسمية كما عدل إلى الرفع في قوله تعالى: {قَالَ سَلامٌ} [هود:69] بعد قوله: {قَالُوا سَلاماً} [هود:69]، وقد تقدم تطور المصدر الذي أصله مفعول مطلق إلى مصيره مرفوعا عند قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الفاتحة:2] فنظم الكلام: فاتباع حاصل، ممن عفي له من أخيه شئ وأداء حاصل من أخيه إليه، وفي هذا تحريض أن عفي له على أن يقبل ما عفي له وتحريض لأخيه على أداء ما بذله بإحسان.
والاتباع مستعمل في القبول والرضا، أي فليرض بما عفي له كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "وإذا أتبع أحدكم على ملئ فليتبع".
والضمير المقدر في {اتِّبَاعٌ} عائد إلى {مَنْ عُفِيَ لَهُ} له والضمير المقدر في أداء عائد

إلى أخيه، والمعنى: فليرضى بما بذل له من الصلح المتيسر، وليؤد باذل الصلح ما بذله دون مماطلة ولا نقص، والضمير المجرور باللام والضمير المجرور بإلى عائدان على {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ}.
ومقصد الآية الترغيب في الرضا بأخذ العوض عن دم القتيل بدلا من القصاص لتغيير ما كان أهل الجاهلية يتعيرون به من أخذ الصلح في قتل العمد ويعدونه بيعا لدم مولاهم كما قال مرة الفقعسى:
فلا تأخذوا عقلا من القوم إنني ... أرى العار يبقى والمعاقل تذهب
وقال غيره يذكر قوما لم يقبلوا منه صلحا عن قتيل:
فلو أن حيا يقبل المال فدية ... لسقنا لهم سيبا من المال مفعما
ولكن أبى قوم أصيب أخوهم ... رضا العار فاختاروا على اللبن الدما
وهذا كله في العفو على قتل العمد وأما قتل الخطأ فإن شأنه الدية عن عاقلة القاتل وسيأتي في سورة النساء.
وإطلاق وصف الأخ على المماثل في دين الإسلام تأسيس أصل جاء به القرآن جعل به التوافق في العقيدة كالتوافق في نسب الإخوة، وحقا فإن التوافق في الدين آصرة نفسانية والتوافق في النسب آصرة جسدية والروح أشرف من الجسد.
واحتج ابن عباس بهذه الآية على الخوارج في أن المعصية لا تزيل الإيمان، لأن الله سمى القاتل أخا لولي الدم وتلك أخوة الإسلام مع كون القاتل عاصيا.
وقوله: {بِالْمَعْرُوفِ} المعروف هو الذي تألفه النفوس وتستحسنه فهو مما تسر به النفوس ولا تشمئز منه ولا تنكره، ويقال لضده منكر وسيأتي عند قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:110] في سورة آل عمران.
والباء في قوله: {بِالْمَعْرُوفِ} للملابسة أي فاتباع مصاحب للمعروف أي رضا وقبول، وحسن اقتضاء إن وقع مطل، وقبول التنجيم إن سأله القاتل.
والأداء: الدفع وإبلاغ الحق والمراد به إعطاء مال الصلح، وذكر متعلقة وهو قوله: {إِلَيْهِ} المؤذن بالوصول إليه والانتهاء إليه للإشارة إلى إبلاغ مال الصلح إلى ولي المقتول

بأن يذهب به إليه ولا يكلفه الحضور بنفسه لقبضه أو إرسال من يقبضه، وفيه إشارة إلى أنه لا يمطله، وزاد ذلك تقريرا بقوله: {بِإِحْسَانٍ} أي دون غضب ولا كلام كريه أو جفاء معاملة.
وقوله: {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ} إشارة إلى الحكم المذكور وهو قبول العفو وإحسان الأداء والعدول عن القصاص، تخفيف من الله على الناس فهو رحمة منه أي أثر رحمته، إذ التخفيف في الحكم أثر الرحمة، فالأخذ بالقصاص عدل والأخذ بالعفو رحمة.
ولما كانت مشروعية القصاص كافية في تحقيق مقصد الشريعة في شرع القصاص من ازدجار الناس عن قتل النفوس وتحقيق حفظ حق المقتول بكون الخيرة للولي كان الإذن في العفو إن تراضيا عليه رحمة من الله بالجانبين، فالعدل مقدم والرحمة تأتي بعده.
قيل: إن الآية أشارت إلى ما كان في الشريعة الإسرائيلية من تعيين القصاص من قاتل العمد دون العفو ودون الدية كما ذكره كثير من المفسرين وهو في "صحيح البخاري" عن ابن عباس، وهو ظاهر ما في سفر الخروج الإصحاح الثالث: "من ضرب إنسانا فمات يقتل قتلا ولكن الذي لم يتعمد بل أوقع الله في يده فأنا أجعل لك مكانا يهرب إليه وإذا بغى إنسان على صاحبه ليقتله بغدر فمن عند مذبحي تأخذه للموت"، وقال القرطبي: إن حكم الإنجيل العفو مطلقا والظاهر أن هذا غير ثابت في شريعة عيسى، لأنه ما حكى الله عنه إلا أنه قال: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران:50]، فلعله مما أخذه علماء المسيحية من أمره بالعفو والتسامح لكنه حكم تنزه شرائع الله عنه لإفضائه إلى انخرام نظام العالم، وشتان بين حال الجاني بالقتل في الإسلام يتوقع القصاص ويضع حياته في يد ولي دم المقتول فلا يدري أيقبل الصلح أم لا يقبل، وبين ما لو كان واثقا بأنه لا قصاص عليه فإن ذلك يجرئه على قتل عدوه وخصمه.
{فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
تفريع عن حكم العفو لأن العفو يقتضي شكر الله على أن أنجاه بشرع جواز العفو وبأن سخر الولي للعفو، ومن الشكر ألا يعود إلى الجناية مرة أخرى فإن عاد فله عذاب أليم، وقد فسر الجمهور العذاب الأليم بعذاب الآخرة والمراد تشديد العذاب عليه كقوله تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة:95]، ثم له من حكم العفو والدية ما للقاتل ابتداء عندهم، وفسره بعضهم بعذاب الدنيا أعنى القتل فقالوا: إن عاد المعفو عنه إلى

القتل مرة أخرى فلا بد من قتله ولا يمكن الحاكم الولي من العفو ونقلوا ذلك عن قتادة وعكرمة والسدي ورواه أبو داود عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عن عمر بن عبد العزيز أنه موكول إلى اجتهاد الإمام،
والذي يستخلص من أقوالهم هنا سواء كان العذاب عذاب الآخرة أو عذاب الدنيا أن تكرر الجناية يوجب التغليظ وهو ظاهر من مقاصد الشارع؛ لأن الجناية قد تصير له دربة فعوده إلى قتل النفس يؤذن باستخفافه بالأنفس فيجب أن يراح منه الناس، وإلى هذا نظر قتادة ومن معه، غير أن هذا لا يمنع حكم العفو إن رضى به الولي؛ لأن الحق حقه، وما أحسن قول عمر بن عبد العزيز بتفويضه إلى الإمام لينظر هل صار هذا القاتل مزهق أنفس، وينبغي إن عفي عنه أن تشدد عليه العقوبة أكثر من ضرب مائة وحبس عام وإن لم يقولوه؛ لأن ذكر الله هذا الحكم بعد ذكر الرحمة دليل على أن هذا الجاني غير جدير في هاته المرة بمزيد الرحمة، وهذا موضع نظر من الفقه دقيق، قد كان الرجل في الجاهلية يقتل ثم يدفع الدية ثم يغدره ولي الدم فيقتله وقريب من هذا قصة حصين بن ضمضم التي أشار إليها زهير بقوله:
لعمري لنعم الحي حر عليهم ... بما لا يواتيهم حصين بن ضمضم
[179] {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}
تذييل لهاته الأحكام الكبرى طمأن به نفوس الفريقين أولياء الدم والقاتلين في قبول أحكام القصاص فبين أن في القصاص حياة، والتنكير في {حَيَاةٍ} للتعظيم بقرينة المقام، أي في القصاص حياة لكم أي لنفوسكم؛ فإن فيه ارتداع الناس عن قتل النفوس، فلو أهمل حكم القصاص لما ارتدع الناس؛ لأن أشد ما تتوقاه نفوس البشر من الحوادث هو الموت، فلو علم القاتل أنه يسلم من الموت لأقدم على القتل مستخفا بالعقوبات كما قال سعد بن ناشب لما أصاب دما وهرب فعاقبه أمير البصرة بهدم داره بها:
سأغسل عني العار بالسيف جالبا ... علي قضاء الله ما كان جالبا
وأذهل عن داري وأجعل هدمها ... لعرضي من باقي المذمة حاجبا
ويصغر في عيني تلادى إذا انثنت ... يميني بإدراك الذي كنت طالبا
ولو ترك الأمر للأخذ بالثأر كما كان عليه في الجاهلية لأفرطوا في القتل وتسلسل الأمر كما تقدم، فكان في مشروعية القصاص حياة عظيمة من الجانبين، وليس الترغيب في

أخذ مال الصلح والعفو بناقض لحكمة القصاص؛ لأن الازدجار يحصل بتخيير الولي في قبول الدية فلا يطمئن مضمر القتل إلى عفو الولي إلا نادرا وكفى بهذا في الازدجار.
وفي قوله تعالى: {يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} تنبيه بحرف النداء على التأمل في حكمة القصاص ولذلك جيء في التعريف بطريق الإضافة الدالة على أنهم من أهل العقول الكاملة؛ لأن حكمة القصاص لا يدركها إلا أهل النظر الصحيح؛ إذ هو في بادئ الرأي كأنه عقوبة بمثل الجناية؛ لأن في القصاص رزية ثانية لكنه عند التأمل هو حياة لا رزية للوجهين المتقدمين.
وقال: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} إكمالا للعلة أي تقريبا لأن تتقوا فلا تتجاوزوا في أخذ الثأر حد العدل والإنصاف. ولعل للرجاء وهي هنا تمثيل أو استعارة تبعية كما تقدم عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} إلى قوله {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21] في أول السورة.
وقوله: {فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} من جوامع الكلم قلق ما كان سائرا مسرى المثل عند العرب وهو قولهم "القتل أنفى للقتل" وقد بينه السكاكي في "مفتاح العلوم" و "ذيله" من جاء بعده من علماء المعاني، وتزيد عليهم: أن لفظ القصاص قد دل على إبطال التكايل بالدماء وعلى إبطال قتل واحد من قبيلة القاتل إذا لم يظفروا بالقاتل وهذا لا تفيده كلمتهم الجامعة.
[180] {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ}
استئناف ابتدائي لبيان حكم المال بعد موت صاحبه فإنه لم يسبق له تشريع ولم يفتتح بـ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} لأن الوصية كانت معروفة قبل الإسلام فلم يكن شرعها إحداث شيء غير معروف، لذلك لا يحتاج فيها إلى مزيد تنبيه لتلقي الحكم، ومناسبة ذكره أنه تغيير لما كانوا عليه في أول الإسلام من بقايا عوائد الجاهلية في أموال الأموات فإنهم كانوا كثيرا ما يمنعون القريب من الإرث بتوهم أنه يتمنى موت قريبه ليرثه، وربما فضلوا بعض الأقارب على بعض، ولما كان هذا مما يفضي بهم إلى الإحن وبها تحتل الحالة الاجتماعية بإلقاء العداوة بين الأقارب كما قال طرفة:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة ... على المرء من وقع الحسام المهند

كان تغييرها إلى حال العدل فيها من أهم مقاصد الإسلام كما بينا تفصيله فيما تقدم في آية: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة:178]. أما مناسبة ذكره عقب حكم القصاص فهو جريان ذكر موت القتيل وموت القاتل قصاصا.
والقول في {كُتِبَ} تقدم في الآية السابقة وهو ظاهر في الوجوب قريب من النص فيه. وتجريده من علامة التأنيث مع كون مرفوعه مؤنثا لفظا لاجتماع مسوغين للتجريد وهما كون التأنيث غير حقيقي وللفصل بينه وبين الفعل بفاصل، وقد زعم الشيخ الرضي أن اجتماع هذين المسوغين يرجح تجريد الفعل عن علامة التأنيث والدرك عليه.
ومعنى حضور الموت حضور أسبابه وعلاماته الدالة على أن الموت المتخيل للناس قد حضر عند المريض ونحوه ليصيره ميتا قال تأبط شرا:
والموت خزيان ينظر
فإن حضور الشيء حلوله ونزوله وهو ضد الغيبة، فليس إطلاق حضر هنا من قبيل إطلاق الفعل على مقاربة الفعل نحو قد قامت الصلاة ولا على معنى إرادة الفعل كما في {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة:6] {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98]، ولكنه إسناد مجازي إلى الموت لأنه حضور أسبابه، وأما الحضور فمستعار للعرو والظهور، ثم إن إطلاق الموت على أسبابه شائع قال رويشد بن كثير الطائي:
وقل لهم بادروا بالعفو والتمسوا ... قولا يبرؤكم إني أنا الموت
والخير المال وقيل الكثير منه، والجمهور على أن الوصية مشروعة في المال قليله وكثيره، وروى عن علي وعائشة وابن عباس أن الوصية لا تجب إلا في المال الكثير.
كانت عادة العرب في الجاهلية أن الميت إذا كان له ولد أو أولاد ذكور استأثروا بماله كله وإن لم يكن له ولد ذكر استأثر بماله أقرب الذكور له من أب أو عم أو ابن عم الأدنين فالأدنين، وكان صاحب المال ربما أوصى ببعض ماله أو بجميعه لبعض أولاده أو قرابته أو أصدقائه، فلما استقر المسلمون بدار الهجرة واختصوا بجماعتهم شرع الله لهم تشريك بعض القرابة في أموالهم ممن كانوا قد يهملون توريثه من البنات والأخوات والوالدين في حال وجود البنين ولذلك لم يذكر الأبناء في هذه الآية.
وعبر بفعل "ترك" وهو ماض عن معنى المستقبل أي إن يترك، للتنبيه على اقتراب المستقبل من المضي إذا أوشك أن يصير ماضيا، والمعنى: إن أوشك أن يترك خيرا أو

شارف أو يترك خيرا، كما قدروه في قوله تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ} [النساء:9] في سورة النساء وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس:96] في سورة يونس أي حتى يقاربوا رؤية العذاب.
والوصية فعيلة من وصى فهي الموصى بها فوقع الحذف والإيصال ليتأتى بناء فعيلة بمعنى مفعوله؛ لأن زنة فعيلة لا تبنى من القاصر. والوصية الأمر بفعل شيء أو تركه مما فيه نفع للمأمور أو للآمر في مغيب الآمر في حياته أو فيما بعد موته، وشاع إطلاقها على أمر بشيء يصلح بعد موت الموصى وفي حديث العرباض بن سارية قال: "وعظنا رسول الله موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون فقلنا يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا" إلخ.
والتعريف في الوصية تعريف الجنس أي كتب عليكم ما هو معروف عندكم بالوصية للوالدين والأقربين، فقوله: {لِلْوَالِدَيْنِ} متعلق بالوصية معمول له؛ لأن اسم المصدر يعمل عمل المصدر ولا يحتاج إلى تأويله بأن والفعل، والوصية مرفوع نائب عن الفاعل لفعل: {كُتِبَ} وَ {إِذَا} ظرف.
و {الْمَعْرُوفِ} الفعل الذي تألفه العقول ولا تنكره النفوس فهو الشيء المحبوب المرضي سمى معروفا لأنه لكثرة تداوله والتأنس به صار معروفا بين الناس، وضده يسمى المنكر وسيأتي عند قوله تعالى: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:110] في سورة آل عمران.
والمراد {بِالْمَعْرُوفِ} هنا العدل الذي لا مضارة فيه ولا يحدث منه تحاسد بين الأقارب بأن ينظر الموصى في ترجيح من هو الأولى بأن يوصي إليه لقوة قرابة أو شدة حاجة، فإنه إن توخى ذلك استحسن فعله الناس ولم يلوموه، ومن المعروف في الوصية إلا تكون للإضرار بوارث أو زوج أو قريب وسيجيء عند قوله تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً} [البقرة:182].
والباء في {بِالْمَعْرُوفِ} للملابسة، والجار والمجرور في موضع الحال من الوصية.
وقد شمل قوله: {بِالْمَعْرُوفِ} تقدير ما يوصى به وتمييز من يوصى له ووكل ذلك إلى نظر الموصى فهو مؤتمن على ترجيح من هو أهل للترجيح في العطاء كما أشار إليه قوله

تعالى: {عَلَى الْمُتَّقِينَ}.
وقوله: {حَقّاً} مصدر مؤكد لـ {كُتِبَ} لأنه بمعناه و {عَلَى الْمُتَّقِينَ} صفة أي حقا كائنا على المتقين، ولك أن تجعله معمول {حَقّاً} ولا مانع من أن يعمل المصدر المؤكد في شيء ولا يخرجه ذلك عن كونه مؤكدا بما زاد على معنى فعله؛ لأن التأكيد حاصل بإعادة مدلول الفعل، نعم إذا أوجب ذلك المعمول له تقييدا يجعله نوعا أو عددا فحينئذ يخرج عن التأكيد.
وخص هذا الحق بالمتقين ترغيبا في الرضى به؛ لأن ما كان من شأن المتقى فهو أمر نفيس فليس في الآية دليل على أن هذا الوجوب على المتقين دون غيرهم من العصاة، بل معناه أن هذا الحكم هو من التقوى وإن غيره معصية، وقال ابن عطية: خص المتقون بالذكر تشريفا للرتبة ليتبارى الناس إليها.
وخص الوالدين والأقربين لأنهم مظنة النسيان من الموصى، لأنهم كانوا يورثون الأولاد أو يوصون لسادة القبيلة.
وقدم الوالدين للدلالة على أنهما أرجح في التبدية بالوصية، وكانوا قد يوصون بإيثار بعض أولادهم على بعض أو يوصون بكيفية توزيع أموالهم على أولادهم، ومن أشهر الوصايا في ذلك وصية نزار بن معد بن عدنان إذ أوصى لابنه مضر بالحمراء، ولابنه ربيعة بالفرس، ولابنه أنمار بالحمار، ولابنه إياد بالخادم، وجعل القسمة في ذلك للأفعى الجرهمي، وقد قيل: إن العرب كانوا يوصون للأباعد طلبا للفخر ويتركون الأقربين في الفقر وقد يكون ذلك لأجل العداوة والشنآن.
وهذه الآية صريحة في إيجاب الوصية، لأن قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ} صريح في ذلك وجمهور العلماء على أنها ثبت بها حكم وجوب الإيصاء للوالدين والأقربين، وقد وقت الوجوب بوقت حضور الموت ويلحق به وقت توقع الموت، ولم يعين المقدار الموصى به وقد حرضت السنة على إعداد الوصية من وقت الصحة بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما حق أمرئ له مال يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده" أي لأنه قد يفجأه الموت.
والآية تشعر بتفويض تعيين المقدار الموصى به إلى ما يراه الموصى، وأمره بالعدل بقوله: {بِالْمَعْرُوفِ} فتقرر حكم الإيصاء في صدر الإسلام لغير الأبناء من القرابة زيادة على ما يأخذه الأبناء، ثم إن آية المواريث التي في سورة النساء نسخت هذه الآية نسخا مجملا

فبينت ميراث كل قريب معين فلم يبق حقه موقوفا على إيصاء الميت له بل صار حقه ثابتا معينا رضى الميت أم كره، فيكون تقرر حكم الوصية في أول الأمر استئناسا لمشروعية فرائض الميراث، ولذلك صدر الله تعالى آية الفرائض بقوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء:11] فجعلها وصية نفسه سبحانه إبطالا للمنة التي كانت للموصى.
وبالفرائض نسخ وجوب الوصية الذي اقتضته هذه الآية وبقيت الوصية مندوبة بناء على أن الوجوب إذا نسخ بقي الندب وإلى هذا ذهب جمهور أهل النظر من العلماء الحسن وقتادة والنخعي والشعبي ومالك وأبو حنيفة والأوزاعي والشافعي وأحمد وجابر بن زيد، ففي البخاري في تفسير سورة النساء عن جابر بن عبد الله قال: عادني النبي وأبو بكر في بني سلمة ماشيين فوجدني النبي لا أعقل فدعا بماء فتوضأ منه ثم رش علي فأفقت فقلت: ما تأمرني أن أصنع في مالي يا رسول الله فنزلت: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء:11] الآية اه. فدل على أن آخر عهد بمشروعية الوصايا سؤال جابر بن عبد الله، وفي البخاري عن ابن عباس كان المال للولد وكانت الوصية للوالدين فنسخ الله من ذلك ما أحب الخ.
وقيل نسخت مشروعية الوصية فصارت ممنوعة قاله إبراهيم بن خثيم وهو شذوذ وخلاف لما اشتهر في السنة إلا أن يريد بأنها صارت ممنوعة للوارث،
وقيل: الآية محكمة لم تنسخ والمقصود بها من أول الأمر الوصية لغير الوارث من الوالدين والأقربين مثل الأبوين الكافرين والعبدين والأقارب الذين لا ميراث لهم وبهذا قال الضحاك والحسن في رواية وطاووس واختاره الطبري، والأصح هو الأول،
ثم القائلون ببقاء حكم الوصية بعد النسخ منهم من قال: إنها بقيت مفروضة للأقربين الذين لا يرثون وهذا قول الحسن وطاووس والضحاك والطبري لأنهم قالوا: هي غير منسوخة، وقال به ممن قال إنها منسوخة ابن عباس ومسروق ومسلم بن يسار والعلاء بن زياد، ومنهم من قال: بقيت مندوبة للأقربين وغيرهم وهذا قول الجمهور إلا أنه إذا كان أقاربه في حاجة ولم يوص لهم فبئس ما صنع ولا تبطل الوصية، وقيل تختص بالقرابة فلو أوصى لغيرهم بطلت وترد على أقاربه قاله جابر بن زيد والشعبي وإسحاق بن راهوية والحسن البصري، والذي عليه قول من تعتمد أقوالهم أن الوصية لغير الوارث إذا لم يخش بتركها ضياع حق أحد عند الموصى مطلوبة، وأنها مترددة بين الوجوب والسنة المؤكدة لحديث: "لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر له مال يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته

مكتوبة عند رأسه"، إذا كان هذا الحديث قد قاله النبي صلى الله عليه وسلم بعد مشروعية الفرائض فإن كان قبل ذلك كان بيانا لآية الوصية وتحريضا عليها، ولم يزل المسلمون يرون الوصية في المال حقا شرعيا، وفي "صحيح البخاري" عن طلحة بن مصرف قال: سألت عبد الله بن أبي أوفى هل كان النبي أوصى فقال: لا، فقلت: كيف كتبت على الناس الوصية ولم يوص? قال: أوصى بكتاب الله اه، يريد أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان لا يورث فكذلك لا يوصي بماله ولكنه أوصى بما يعود على المسلمين بالتمسك بكتاب الإسلام، وقد كان من عادة المسلمين أن يقولوا للمريض إذا خيف عليه الموت أن يقولوا له أوص.
وقد اتفق علماء الإسلام على أن الوصية لا تكون لوارث لما رواه أصحاب "السنن" عن عمر بن خارجة وما رواه أبو داود والترمذي عن أبي أمامة كلاهما يقول سمعت النبي قال: "إن الله أعطى كل ذي حق حقه ألا لا وصية لوارث" وذلك في حجة الوداع، فخص بذلك عموم الوالدين وعموم الأقربين وهذا التخصيص نسخ، لأنه وقع بعد العمل بالعام وهو وإن كان خبر أحاد فقد اعتبر من قبيل المتواتر، لأنه سمعه الكافة وتلقاه علماء الأمة بالقبول.
والجمهور على أن الوصية بأكثر من الثلث باطلة للحديث المشهور عن سعد بن أبي وقاص أنه مرض فعاده النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنه في أن يوصي بجميع ماله فمنعه إلى أن قال له: "الثلث والثلث كثير إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس" ، وقال أبو حنيفة: إن لم يكن للموصى ورثة ولو عصبة دون بيت المال جاز للموصى أن يوصى بجميع ماله ومضى ذلك أخذا بالإيماء إلى العلة في قوله: "إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير" الخ. وقال: إن بيت المال جامع لا عاصب وروى أيضا عن علي وابن عباس ومسروق وإسحاق بن راهوية، واختلف في إمضائها للوارث إذا أجازها بقية الورثة ومذهب العلماء من أهل الأمصار أنها إذا أجازها الوارث مضت،
هذا وقد اتفق المسلمون على أن الله تعالى عين كيفية قسمة تركة الميت بآية المواريث، وإن آية الوصية المذكورة هنا صارت بعد ذلك غير مراد منها ظاهرها، فالقائلون بأنها محكمة قالوا: بقيت الوصية لغير الوارث والوصية للوارث بما زاد على تصيبه من الميراث فلا نسخ بين الآيتين.
والقائلون بالنسخ يقول منهم من يرون الوصية لم تزل مفروضة لغير الوارث: إن آية المواريث نسخت الاختيار في الموصى له والإطلاق في المقدار الموصى به، ومن يرى

منهم الوصية قد نسخ وجوبها وصارت مندوبة يقولون: إن آية المواريث نسخت هذه الآية كلها فأصبحت الوصية المشروعة بهذه الآية منسوخة بآية المواريث للإجماع على أن آية المواريث نسخت عموم الوالدين والأقربين الوارثين، ونسخت الإطلاق الذي في لفظ الوصية والتخصيص بعد العمل بالعام، والتقييد بعد العمل بالمطلق كلاهما نسخ، وإن كان لفظ آية المواريث لا يدل على ما يناقض آية الوصية، لاحتمالها أن يكون الميراث بعد إعطاء الوصايا أو عند عدم الوصية بل ظاهرها ذلك لقوله: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ} [النساء:11]، وإن كان الحديثان الواردان في ذلك آحادا لا يصلحان لنسخ القرآن عند من لا يرون نسخ القرآن بخبر الآحاد، فقد ثبت حكم جديد للوصية وهو الندب أو الوجوب على الخلاف في غير الوارث وفي الثلث بدليل الإجماع المستند للأحاديث وفعل الصحابة، ولما ثبت حكم جديد للوصية فهو حكم غير مأخوذ من الآية المنسوخة بل هو حكم مستند للإجماع، هذا تقرير أصل استنباط العلماء في هذه المسألة وفيه ما يدفع عن الناظر إشكالات كثيرة للمفسرين والفقهاء في تقرير كيفية النسخ.
[181] {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}
الضمائر البارزة في "بدله وسمعه وإثمه ويبدلونه" عائدة إلى القول أو الكلام الذي يقوله الموصى ودل عليه لفظ {الْوَصِيَّةُ} [البقرة:180]، وقد أكد ذلك بما دل عليه قوله: {سَمِعَهُ} إذ إنما تسمع الأقوال، وقيل هي عائدة إلى الإيصاء المفهوم من قوله: {الْوَصِيَّةُ} أي كما يعود الضمير على المصدر المأخوذ من الفعل نحو قوله تعالى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8]، ولك أن تجعل الضمير عائدا إلى {الْمَعْرُوفِ} [ البقرة:180] ، والمعنى فمن بدل الوصية الواقعة بالمعروف، لأن الإثم في تبديل المعروف، بدليل قوله الآتي: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:182].
والمراد من التبديل هنا الإبطال أو النقص؛ وما صدق من {مَنْ بَدَّلَهُ} هو الذي بيده تنفيذ الوصية من خاصة الورثة كالأبناء ومن الشهود عليها بإشهاد من الموصى أو بحضور موطن الوصية كما في الوصية في السفر المذكورة في سورة المائدة {لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ} [المائدة:106] فالتبديل مستعمل في معناه المجازي لأن حقيقة التبديل جعل شيء في مكان شيء آخر والنقض يستلزم الإتيان بضد المنقوض وتقييد التبديل بظرف {بَعْدَ مَا سَمِعَهُ} تعليل للوعيد أي لأنه بدل ما سمعه وتحققه وإلا فإن التبديل لا يتصور إلا في معلوم مسموع؛ إذ لا تتوجه النفوس إلى المجهول.

والقصر في قوله: {فَإِنَّمَا إِثْمُهُ} إضافي، لنفي الإثم عن الموصى وإلا فإن إثمه أيضا يكون على الذي يأخذ ما لم يجعله له الموصى مع علمه إذا حاباه منفذ الوصية أو الحاكم فإن الحكم لا يحل حراما، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فمن قضيت له بحق أخيه فإنما أقتطع له قطعة من نار"، وإنما انتفى الإثم عن الموصى لأنه استبرأ لنفسه حين أوصى بالمعروف فلا وزر عليه في مخالفة الناس بعده لما أوصى به، إذ {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [لنجم:39]
والمقصود من هذا القصر إبطال تعلل بعض الناس بترك الوصية بعلة خيفة ألا ينفذها الموكول إليهم تنفيذها، أي فعليكم بالإيصاء ووجوب التنفيذ متعين على ناظر الوصية فإن بدله فعليه إثمه، وقد دل قوله: {فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} أن هذا التبديل يمنعه الشرع ويضرب ولاة الأمور على يد من يحاول هذا التبديل؛ لأن الإثم لا يقرر شرعا.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} وعيد للمبدل، لأن الله لا يخفى عليه شيء وإن تحيل الناس لإبطال الحقوق بوجوه الحيل وجاروا بأنواع الجور فالله سميع وصية الموصى ويعلم فعل المبدل، وإذا كان سميعا عليما وهو قادر فلا حائل بينه وبين مجازاة المبدل. والتأكيد بأن ناظر إلى حالة المبدل الحكمية في قوله: {فَمَنْ بَدَّلَهُ} لأنه في إقدامه على التبديل يكون كمن ينكر أن الله عالم فلذلك أكد له الحكم تنزيلا له منزلة المنكر.
[182] {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
تفريع على الحكم الذي تقدمه وهو تحريم التبديل، فكما تفرع عن الأمر بالعدل في الوصية وعيد المبدل لها، وتفرع عن وعيد المبدل الإذن في تبديل هو من المعروف وهو تبديل الوصية التي فيها جور وحيف بطريقة الإصلاح بين الموصى لهم وبين من ناله الحيف من تلك الوصية بأن كان جديرا بالإيصاء إليه فتركه الموصى أو كان جديرا بمقدار فأجحف به الموصى؛ لأن آية الوصية حصرت قسمة تركة الميت في اتباع وصيته وجعلت ذلك موكولا إلى أمانته بالمعروف، فإذا حاف حيفا واضحا وجنف عن المعروف أمر ولاة الأمور بالصلح.
ومعنى خاف هنا الظن والتوقع؛ لأن ظن المكروه خوف فأطلق الخوف على لازمه وهو الظن والتوقع إشارة إلى أن ما توقعه المتوقع من قبيل المكروه، والقرينة هي أن

الجنف والإثم لا يخيفان أحدا ولا سيما من ليس من أهل الوصية وهو المصلح بين أهلها، ومن إطلاق الخوف في مثل هذا قول أبي محجن الثقفي:
أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها
أي أظن وأعلم شيئا مكروها ولذا قال قبله:
تروى عظامي بعد موتي عروقها
والجنف الحيف والميل والجور وفعله كفرح.
والإثم المعصية، فالمراد من الجنف هنا تفضيل من لا يستحق التفضيل على غيره من القرابة المساوي له أو الأحق، فيشمل ما كان من ذلك عن غير قصد ولكنه في الواقع حيف في الحق، والمراد بالإثم ما كان قصد الموصى به حرمان من يستحق أو تفضيل غيره عليه.
والإصلاح جعل الشيء صالحا يقال: أصلحه أي جعله صالحا، ولذلك يطلق على الدخول بين الخصمين بالمراضاة؛ لأنه يجعلهم صالحين بعد أن فسدوا، ويقال: أصلح بينهم بتضمينه معنى دخل، والضمير المجرور ببين في الآية عائد إلى الموصى والموصى لهم المفهومين من قوله: {مُوصٍ} إذ يقتضي موصى لهم، ومعنى {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:182] أنه لا يلحقه حرج من تغيير الوصية؛ لأنه تغيير إلى ما فيه خير.
والمعنى: أن من وجد في وصية الموصى إضرارا ببعض أقربائه، بأن حرمه من وصيته أو قدم عليه من هو أبعد نسبا، أو أوصى إلى غني من أقربائه وترك فقيرهم فسعى في إصلاح ذلك وطلب من الموصى تبديل وصيته، فلا إثم عليه في ذلك؛ لأنه سعى في إصلاح بينهم، أو حدث شقاق بين الأقربين بعد موت الموصى لأنه آثر بعضهم، ولذلك عقبه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وفيه تنويه بالمحافظة على تنفيذ وصايا الموصين حتى جعل تغيير جورهم محتاجا للإذن من الله تعال والتنصيص على أنه مغفور.
وقرأ الجمهور {مُوصٍ} على أنه اسم فاعل أوصى وقرأه أبو بكر عن عاصم وحمزة، والكسائي، ويعقوب، وخلف {مُوصٍ} بفتح الواو وتشديد الصاد على أنه اسم فاعل وصى المضاعف.
[183, 184] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ

مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ}
حكم الصيام حكم عظيم من الأحكام التي شرعها الله تعالى للأمة، وهو من العبادات الرامية إلى تزكية النفس ورياضتها، وفي ذلك صلاح حال الأفراد فردا فردا؛ إذ منها يتكون المجتمع. وفصلت الجملة عن سابقتها للانتقال إلى غرض آخر، وافتتحت بيا أيها الذين آمنوا لما في النداء من إظهار العناية بما سيقال بعده.
والقول في معنى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ} ودلالته على الوجوب تقدم آنفا عند قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ} [البقرة:180] الآية.
والصيام يقال الصوم هو في اصطلاح الشرع: اسم لترك جميع الأكل وجميع الشرب وقربان النساء مدة مقدرة بالشرع بنية الامتثال لأمر الله أو لقصد التقرب بنذر للتقرب إلى الله.
والصيام اسم منقول من مصدر فعال وعينه واو قلبت ياء لأجل كسرة فاء الكلمة، وقياس المصدر الصوم، وقد ورد المصدران في القرآن، فلا يطلق الصيام حقيقة في اللغة إلا على ترك كل طعام وشراب، وألحق به في الإسلام ترك قربان كل النساء، فلو ترك أحد بعض أصناف المأكول أو بعض النساء لم يكن صياما كما قال العرجى:
فإن شئت حرمت النساء سواكم ... وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا
وللصيام إطلاقات أخرى مجازية كإطلاقة على إمساك الخيل عن الجري في قول النابغة:
خيل صيام وخيل غير صائمة ... تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما
وأطلق عل ترك شرب حمار الوحش الماء، وقال لبيد يصف حمار الوحش وأتانه في إثر فصل الشتاء حيث لا تشرب الحمر ماء لاجتزائها بالمرعى الرطب:
حتى إذا سلخا جمادى ستة ... جزءا فطال صيامه وصيامها
والظاهر أن اسم الصوم في اللغة حقيقة في ترك الأكل والسرب بقصد القربة فقد

عرف العرب الصوم في الجاهلية من اليهود في صومهم يوم عاشوراء كما سنذكره. وقول الفقهاء: إن الصوم في اللغة مطلق الإمساك وإن إطلاقه على الإمساك عن الشهوتين اصطلاح شرعي، لا يصح، لأنه مخلف لأقوال أهل اللغة كما في "الأساس" وغيره، وأما إطلاق الصوم على ترك الكلام في قوله تعالى حكاية عن قول عيسى: {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً} [مريم:26] فليس إطلاقا للصوم على ترك الكلام ولكن المراد، أن الصوم كان يتبعه ترك الكلام على وجه الكمال والفضل.
فالتعريف في الصيام في الآية تعريف العهد الذهني، أي كتب عليكم جنس الصيام المعروف. وقد كان العرب يعرفون الصوم، فقد جاء في "الصحيحين" عن عائشة قالت: "كان يوم عاشوراء يوما تصومه قريش في الجاهلية" وفي بعض الروايات قولها: "وكان رسول الله يصومه" وعن ابن عباس: "لما هاجر رسول الله إلى المدينة وجد اليهود يصومون في يوم عاشوراء، فقال: ما هذا? فقالوا: يوم نجى الله فيه موسى، فنحن نصومه فقال رسول الله: "نحن أحق بموسى منكم فصامه وأمر بصومه" فمعنى سؤاله هو السؤال عن مقصد اليهود من صومه لا تعرف أصل صومه، وفي حديث عائشة فلما نزل رمضان كان رمضان الفريضة وقال رسول الله من صام يوم عاشوراء ومن شاء ولم يصمه فوجب صوم يوم عاشوراء بالسنة ثم نسخ ذلك بالقرآن فالمأمور به صوم معروف زيدت في كيفيته المعتبرة شرعا قيود تحديد أحواله وأوقاته بقوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} إلى قوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:187] وقوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ} [البقرة:185] الآية وقوله: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:185]، وبهذا يتبين أن في قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} إجمالا وقع تفصيله في الآيات بعده.
فحصل صيام الإسلام ما يخالف صيام اليهود والنصارى في قيود ماهية الصيام وكيفيتها، ولم يكن صيامنا مماثلا لصيامهم تمام المماثلة. فقوله: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} تشبيه في أصل فرض ماهية الصوم في الكيفيات، والتشبيه يكتفي فيه ببعض وجود المشابهة وهو وجه الشبه المراد في القصد، وليس المقصود من هذا التشبيه الحوالة في صفة الصوم على ما كان عليه عند الأمم السابقة ولكن فيه أغراضا ثلاثة تضمنها التشبيه:
أحدهما الاهتمام بهذه العبادة، والتنويه بها لأنها شرعها الله قبل السلام لمن كانوا

قبل المسلمين، وشرعها للمسلمين، وذلك يقتضي اطراد صلاحها ووفرة ثوابها.وإنهاض هم المسلمين لتلق هذه العبادة كي لا يتميز بها من كان قبلهم. إن المسلمين كانوا يتنافسون في العبادات كما ورد في الحديث: "أن ناسا من أصحاب رسول الله قالوا: يا رسول الله: ذهب أهل الدثور يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم", الحديث ويحبون التفضيل على أهل الكتاب وقطع تفاخرا أهل الكتاب عليهم بأنهم أهل شريعة قال تعالى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ} [الأنعام:157] فلا شك أنهم يغتبطون أمر الصوم وقد كان صومهم الذي صاموه وهو يوم عاشوراء إنما اقتدوا فيه ليهود، فهم في ترقب إلى تخصيصهم من الله بصوم أنف، فهذه فائدة التشبيه لأهل الهم من المسلمين إذ ألحقهم الله بصالح الأمم في الشرائع العائدة بخير الدنيا والآخرة قال تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26].
والغرض الثاني أن في التشبيه بالسابقين تهوينا على المكلفين بهذه العبادة أن يستثقلوا هذا الصوم؛ فإن في الاقتداء بالغير أسوة في المصاعب، فهذه فائدة لمن قد يستعظم الصوم من المشركين فيمنعه وجوده في الإسلام من الإيمان ولمن يستثقله من قريبي العهد بالإسلام، وقد أكد هذا المعنى الضمني قوله بعده: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ}
والغرض الثالث إثارة العزائم للقيام بهذه الفريضة حتى لا يكونوا مقصرين في قبول هذا الفرض بل ليأخذوه بقوة تفوق ما أدى به الأمم السابقة.
ووقع لأبي بكر بن العربي في "العارضة" قوله كان من قول مالك في كيفية صيامنا أنه كان مثل صيام من قبلنا وذلك معنى قوله: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}، وفيه بحث سنتعرض له عند تفسير قوله تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة:187].
فهذه الآية شرعت وجوب صيام رمضان، لأن فعل {كُتِبَ} يدل على الوجوب وابتداء نزول سورة البقرة كان في أول الهجرة كما تقدم فيكون صوم عاشوراء ثم فرض رمضان في العام الذي يليه وفي "الصحيح" أن النبي صلى الله عليه وسلم صام تسع رمضانات فلاشك أنه صام أول رمضان في العام الثاني من الهجرة ويكون صوم عاشوراء قد فرض عاما فقط وهو أول العام الثاني من الهجرة.

والمراد بالذين من قبلكم من كان قبل المسلمين من أهل الشرائع وهم أهل الكتاب أعني اليهود، لأنهم الذين يعرفهم المخاطبون ويعرفون ظاهر شئونهم وكانوا على اختلاط بهم في المدينة وكان لليهود صوم فرضه الله عليهم وهو صوم اليوم العاشر من الشهر السابع من سنتهم وهو الشهر المسمى عندهم "تسرى" يبتدئ الصوم من غروب اليوم التاسع إلى غروب اليوم العاشر وهو يوم كفارة الخطايا ويسمونه "كبور" إن أحبارهم شرعوا صوم أربعة أيام أخرى وهي الأيام الأول من الأشهر الرابع والخامس والسابع والعاشر من سنتهم تذكارا لوقائع بيت المقدس وصوم يوم "بوريم" تذكارا لنجاتهم من غصب ملك الأعاجم "أحشويروش" في واقعة "استير" ، وعندهم صوم التطوع، وفي الحديث: "أحب الصيام إلى الله صيام داود كان يصوم يوما ويفطر يوما"، أما النصارى فليس، في شريعتهم نص على تشريع صوم زائد على ما في التوراة فكانوا يتبعون صوم اليهود وفي "صحيح مسلم" عن ابن عباس: "قالوا يا رسول الله إن يوم عاشوراء تعظمه اليهود والنصارى" ثم إن رهبانهم شرعوا صوم أربعين يوما اقتداء بالمسيح، إذ صام أربعين يوما قبل بعثته،ويشرع عندهم نذر الصوم عند التوبة وغيرها، إلا أنهم يتوسعون في صفة الصوم، فهو عندهم ترك الأقوات القوية والمشروبات، أو هو تناول طعام واحد في اليوم يجوز أن تلحقه أكلة خفيفة.
وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} بيان لحكمة الصيام وما لأجله شرع، فهو في قوة المفعول لأجله لكتب، و"لعل" إما مستعارة لمعنى كي استعارة تبعية، وإما تمثيلية بتشبيه شأن الله، قي إرادته من تشريع الصوم التقوى بحال المترجي من غيره فعلا ما، والتقوى الشرعية هي اتقاء المعاصي، وإنما كان الصيام موجبا لاتقاء المعاصي، لأن المعاصي قسمان، قسم ينجع في تركه التفكر كالخمر والميسر والسرقة والغصب فتركه يحصل بالوعد على تركه والوعيد على فعله والموعظة بأحوال الغير، وقسم ينشأ من دواع طبيعية كالأمور الناشئة عن الغضب وعن الشهوة الطبيعية التي قد يصعب تركها بمجرد التفكر، فجعل الصيام وسيلة لاتقائها، لأنه يعدل القوى الطبيعية التي هي داعية تلك المعاصي، ليرتقي المسلم به عن حضيض الانغماس في المادة إلى أوج العالم الروحاني، فهو وسيلة للارتياض بالصفات الملكية والانتفاض من غبار الكدرات الحيوانية. وفي الحديث الصحيح: "الصوم جنة" أي وقاية ولما ترك ذكر متعلق جنة تعين حمله على ما يصلح له من أصناف الوقاية المرغوبة، ففي الصوم وقاية من الوقوع في المآثم ووقاية من الوقوع في عذاب الآخرة، ووقاية من العلل والأدواء الناشئة عن الإفراط في تناول اللذات.

وقوله تعالى: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} ظرف للصيام مثل قولك الخروج يوم الجمعة، ولا يضر وقوع الفصل بين {الصِّيَامُ} وبين {أَيَّاماً} وهو قوله: {كَمَا كُتِبَ} إلى {تَتَّقُونَ} لأن الفصل لم يكن بأجنبي عند التحقيق، إذ الحال والمفعول لأجله المستفاد من لعل كل ذلك من تمام عامل المفعول فيه وهو قوله صيام، ومن تمام العامل في ذلك العامل وهو {كُتِبَ} فإن عامل العامل في الشيء عامل في ذلك الشيء ولجواز الفصل بالأجنبي إذا كان المعمول ظرفا، لاتساعهم في الظروف وهذا مختار الزجاج والزمخشري والرضى، ومرجع هذه المسألة إلى تجنب تشتيت الكلام باختلال نظامه المعروف، تجنبا للتعقيد المخل بالفصاحة.
والغالب على أحوال الأمم في جاهليتها وبخاصة العرب هو الاستكثار من تناول اللذات من المآكل والخمور ولهو النساء والدعة، وكل ذلك يوفر القوى الجسمانية والدموية في الأجساد، فتقوى الطبائع الحيوانية التي في الإنسان من القوة الشهوية والقوة الغضبية. وتطغيان على القوة العاقلة، فجاءت الشرائع بشرع الصيام، لأنه يفي بتهذيب تلك القوى، إذ هو يمسك الإنسان عن الاستكثار من مثيرات إفراطها، فتكون نتيجته تعديلها في أوقات معينة هي مظنة الاكتفاء بها إلى أوقات أخرى. والصوم بمعنى إقلال تناول الطعام عن المقدار الذي يبلغ حد الشبع أو ترك بعض المأكل: أصل قديم من أصول التقوى لدى المليين ولدى الحكماء الإشراقيين، والحكمة الإشراقية مبناها على تزكية النفس بإزالة كدرات البهيمية عنها بقدر الإمكان، بناء على أن للإنسان قوتين: إحداهما روحانية منبثة في قرارتها من الحواس الباطنية، والأخرى حيوانية منبثة في قرارتها من الأعضاء الجسمانية كلها، وإذ كان الغذاء يخلف للجسد ما يضيعه من قوته الحيوانية إضاعة تنشأ عن العمل الطبيعي للأعضاء الرئيسية وغيرها، فلا جرم كانت زيادة الغذاء على القدر المحتاج إليه توفر للجسم من القوة الحيوانية فوق ما يحتاجه وكان نقصانه يقتر عليه منها إلى أن يبلغ إلى المقدار الذي لا يمكن حفظ الحياة بدونه، وكان تغلب مظهر إحدى القوتين بمقدار تضاؤل مظهر القوة الأخرى، فلذلك وجدوا أن ضعف القوة الحيوانية يقلل معمولها فتتغلب القوة الروحانية على الجسد ويتدرج به الأمر حتى يصير صاحب هذه الحال أقرب إلى الأرواح والمجردات منه إلى الحيوان، بحيث يصير لا حظ له في الحيوانية إلا حياة الجسم الحافظة لبقاء الروح فيه، ولذلك لزم تعديل مقدار هذا التناقص بكيفية لا تفضي إلى اضمحلال الحياة، لأن ذلك يضيع المقصود من تزكية

النفس وإعدادها للعوالم الأخروبة، فهذا التعادل والترجيح بين القوتين هو أصل مشروعية الصيام في الملل ووضعيته في حكمة الإشراق، وفي كيفيته تختلف الشرائع اختلافا مناسبا للأحوال المختصة هي بها بحيث لا يفيد المقصد من الحياتين، ولا شك أن أفضل الكيفيات لتحصيل هذا الغرض من الصيام هو الكيفية التي جاء بها الإسلام، قيل في "هياكل النور1" "النفوس الناطقة من جوهر الملكوت إنما شغلها عن عالمها القوى البدنية ومشاغلتها، فإذا قويت النفس بالفضائل الروحانية وضعف سلطان القوى البدنية بتقليل الطعام وتكثير السهر تتخلص أحيانا إلى عالم القدس وتتصل بأبيها المقدس وتتلقى منه المعارف فمن الصوم ترك البراهمة أكل لحوم الحيوان والاقتصار على النبات أو الألبان، وكان حكماء اليونان يرتاضون على إقلال الطعام بالتدريج حتى يعتادوا تركه أياما متوالية، واصطلحوا على أن التدريج في إقلال الطعام تدريجا لا يخشى منه انخرام صحة البدن أن يزن الحكيم شبعه من الطعام بأعواد من شجر التين رطبة ثم لا يجددها فيزن بها كل يوم طعامه لا يزيد على زنتها وهكذا يستمر حتى تبلغ من اليبس إلى حد لا يبس بعده فتكون هي زنة طعام كل يوم.
وفي "حكمة الإشراق" للسهروردي "وقبل الشروع في قراءة هذا الكتاب يرتاض أربعين يوما تاركا للحوم الحيوانات مقللا للطعام منقطعا إلى التأمل لنور الله اهـ" .
وإذ قد كان من المتعذر على الهيكل البشرى بما هو مستودع حياة حيوانية أن يتجرد عن حيوانيته، فمن المتعذر عليه الانقطاع البات عن إمداد حيوانيته بمطلوباتها فكان من اللازم لتطلب ارتقاء نفسه أن يتدرج به في الدرجات الممكنة من تهذيب حيوانيته وتخليصه من التوغل فيها بقدر الإمكان، لذلك كان الصوم من أهم مقدمات هذا الغرض، لأن فيه خصلتين عظيمتين؛ هما الاقتصاد في إمداد القوى الحيوانية وتعود الصبر بردها عن دواعيها، وإذ قد كان البلوغ إلى الحد الأتم من ذلك متعذرا كما علمت، حاول أساطين الحكمة النفسانية الإقلال منه، فمنهم من عالج الإقلال بنقص الكميات وهذا صوم الحكماء، ومنهم من حاوله من جانب نقص أوقات التمتع بها وهذا صوم الأديان وهو أبلغ إلى القصد وأظهر في ملكة الصبر، وبذلك يحصل للإنسان دربة على ترك شهواته، فيتأهل للتخلق بالكمال فإن الحائل بينه وبين الكمالات والفضائل هو ضعف التحمل للانصراف
ـــــــ
1 هو للسهروردي

عن هواه وشهواته.
إذا المرء لم يترك طعاما يحبه ... ولم ينه قلبا غاويا حيث يمما
فيوشك أن تلقى له الدهر سبة ... إذا ذكرت أمثالها نملأ الفما
فإن قلت: إذا كان المقصد الشرعي من الصوم ارتياض النفس على ترك الشهوات وإثارة الشعور بما يلاقيه أهل الخصاصة من ألم الجوع، واستشعار المساواة بين أهل الجدة والرفاهية وأهل الشظف في أصول الملذات بين الفريقين من الطعام والشراب واللهو، فلماذا اختلفت الأديان الإلهية في كيفية الصيام ولماذا التزمت الديانة الإسلامية في كيفيته صورة واحدة، ولم تكل ذلك إلى المسلم يتخذ لإراضة نفسه ما يراه لائقا به في تحصيل المقاصد المرادة.
قلت: شأن التعليم الصالح أن يضبط للمتعلم قواعد وأساليب تبلغ به إلى الثمرة المطلوبة من المعارف التي يزاولها فإن معلم الرياضة البدنية يضبط للمتعلم كيفيات من الحركات بأعضائه وتطور قامته انتصابا وركوعا وقرفصاء، بعض ذلك يثمر قوة عضلاته وبعضها يثمر اعتدال الدورة الدموية وبعضها يثمر وظائف شرايينه، وهي كيفيات حددها أهل تلك المعرفة وأدنوا بها حصول الثمرة المطلوبة، ولو وكل ذلك للطالبين لذهبت أوقات طويلة في التجارب وتعددت الكيفيات بتعدد أفهام الطالبين واختيارهم وهذا يدخل تحت قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185].
والمراد بالأيام من قوله: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} شهر رمضان عند جمهور المفسرين، وإنما عبر عن رمضان بأيام وهي جمع قلة ووصف بمعدودات وهي جمع قلة أيضا؛ تهوينا لأمره على المكلفين، والمعدودات كناية عن القلة؛ لأن الشيء القليل يعد عدا؛ ولذلك يقولون: الكثير لا يعد، ولأجل هذا اختير في وصف الجمع مجيئه في التأنيث على طريقة الجمع بألف وتاء وإن كان مجيئه على طريقة الجمع المكسر الذي فيه هاء تأنيث أكثر،
قال أبو حيان عند قوله تعالى الآتي بعده: {مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] صفة الجمع الذي لا يعقل تارة تعامل معاملة الواحدة المؤنثة، نحو قوله تعالى: {إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً} [البقرة:80] وتارة تعامل معاملة جمع المؤنث نحو: {أَيَّاماً مَعْدُودَةً} فمعدودات جمع لمعدودة، وأنت لا تقول يوم معدودة وكلا الاستعمالين فصيح، ويظهر أنه ترك فيه تحقيقا وذلك أن الوجه في الوصف الجاري على جمع مذكر إذا أنثوه أن يكون مؤنثا مفردا، لأن الجمع قد أول بالجماعة والجماعة كلمة مفردة وهذا هو الغالب، غير أنهم إذا أرادوا

التنبيه على كثرة ذلك الجمع أجروا وصفه على صيغة جمع المؤنث ليكون في معنى الجماعات وأن الجمع ينحل إلى جماعات كثيرة، ولذلك فأنا أرى أن معدودات أكثر من معدودة ولأجل هذا قال تعالى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً} [البقرة:80] لأنهم يقللونها غرورا أو تعزيرا، وقال هنا: {مَعْدُودَاتٍ} لأنها ثلاثون يوما، وقال في الآية الآتية: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197] وهذا مثل قوله في جمع جمل: {جمالات} على أحد التفسيرين وهو أكثر من جمال، وعن المازني أن الجمع لما لا يعقل يجيء الكثير منه بصيغة الواحدة المؤنثة تقول: الجذوع انكسرت والقيل منه يجيء بصيغة الجمع تقول: الأجذاع انكسرن اه وهو غير ظاهر.
وقيل المراد بالأيام غير رمضان بل هي أيام وجب صومها على المسلمين عندما فرض الصيام بقوله: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} ثم نسخ صومها بصوم رمضان وهي يوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر وهي أيام البيض الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر وإليه ذهب معاذ وقتادة وعطاء ولم يثبت من الصوم المشروع للمسلمين قبل رمضان إلا صوم يوم عاشوراء كما في الصحيح وهو مفروض بالسنة، وإنما ذكر أن صوم عاشوراء والأيام البيض كان فرضا على النبي صلى الله عليه وسلم ولم يثبت رواية، فلا يصح كونها المراد من الآية لا لفظا ولا أثرا، على أنه قد نسخ ذلك كله بصوم رمضان كما دل عليه حديث السائل الذي قال: "لا أزيد على هذا ولا أنقص منه" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفلح إن صدق" .
{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}
تعقيب لحكم العزيمة بحكم الرخصة، فالفاء لتعقيب الأخبار لا للتفريع، وتقديمه هنا قبل ذكر بقية تقدير الصوم تعجيل بتطمين نفوس السامعين لئلا يظنوا وجوب الصوم عليهم في كل حال.
والمريض من قام به المرض وهو انحراف المزاج عن حد الاعتدال الطبيعي بحيث تثور في الجسد حمى أو وجع أو فشل.
وقد اختلف الفقهاء في تحديد المرض الموجب للفطر، فأما المرض الغالب الذي لا يستطيع المريض نعه الصوم بحال بحيث يخشى الهلاك أو مقاربته فلا خلاف بينهم في أنه مبيح للفطر بل يوجب الفطر، وأما المرض الذي دون ذلك فقد اختلفوا في مقداره فذهب محققوا الفقهاء إلى أنه المرض الذي تحصل به الصيام مشقة زائدة على مشقة

الصوم الصحيح من الجوع والعطش المعتادين، بحيث يسبب له أوجاعا أو ضعفا منهكا أو تعاوده به أمراض ساكنة أو يزيد في انحرافه إلى حد المرض أو يخاف تمادي المرض بسببه. وهذا قول مالك وأبي حنيفة والشافعي على تفاوت بينهم في التعبير، وأعدل العبارات ما نقل من مالك، لأن الله أطلق المرض ولم يقيده، وقد علمنا أنه ما أباح الفطر إلا لأن لذلك المرض تأثيرا في الصائم ويكشف ضابط ذلك قول القرافي في الفرق الرابع عشر، إذ قال: "إن المشاق قسمان: قسم ضعيف لا تنفك عنه تلك العبادة كالوضوء والغسل في زمن البرد وكالصوم، وكالمخاطرة بالنفس في الجهاد، وقسم هو ما تنفك عنه العبادة وهذا أنواع: نوع لا تأثير له في العبادة كوجع إصبع، فإن الصوم لا يزيد وجع الإصبع وهذا الالتفات إليه، ونوع له تأثير شديد مع العبادة كالخوف على النفس والأعضاء والمنافع وهذا يوجب سقوط تلك العبادة، ونوع يقرب من هذا فيوجب ما يوجبه1".
وذهب ابن سيرين وعطاء والبخاري إلى أن المرض وهو الوجع والاعتلال يسوغ الفطر ولو لم يكن الصوم مؤثرا فيه شدة أو زيادة، لأن الله تعالى جعل المرض سبب الفطر كما جعل السفر سبب الفطر من غير أن تدعوا إلى ضرورة كما في السفر، يريدون أن العلة هي مظنة المشقة الزائدة غالبا، قيل دخل بعضهم على ابن سيرين في نهار رمضان وهو يأكل فلما فرغ قال: إنه وجعتني إصبعي هذه فأفطرت، وعن البخاري قال: اعتللت بنيسابور علة خفيفة في رمضان فعادني إسحاق بن راهوية في نفر من أصحابه فقال لي: أفطرت يا أبا عبد الله قلت: نعم أخبرنا عبدان عن ابن المبارك عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: من أي المرض أفطر? قال: من أي مرض كان كما قال الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً} وقيل: إذا لم يقدر المريض على الصلاة قائما أفطر، وإنما هذه حالة خاصة تصلح مثالا ولا تكون شرطا، وعزي إلى الحسن والنخمي ولا يخفي ضعفه؛ إذ أين القيام في الصلاة من الإفطار في الصيام، وفي هذا الخلاف مجال للنظر في تحديد مدى الانحراف والمرض المسوغين إفطار الصائم، فعلى الفقيه الإحاطة بكل ذلك ونقربه من المشقة الحاصلة للمسافر وللمرأة الحائض.
وقوله: {أَوْ عَلَى سَفَرٍ} أي أو كان بحالة السفر وأصل "على" الدلالة على الاستعلاء ثم استعملت مجازا في التمكن كما تقدم في قوله تعالى: {عَلَى هُدىً مِنْ
ـــــــ
1 الفروق" للقرافي "1/118"، عالم الكتب.

رَبِّهِمْ} [البقرة:5] ثم شاع في كلام العرب أن يقولوا فلان على سفر أي مسافر ليكون نصا في المتلبس، لأن اسم الفاعل يحتمل الاستقبال فلا يقولون على سفر للعازم عليه وأما قول.....
ماذا على البدر المحجب لو سفر ... إن المعذب في هواء على سفر
أراد أنه على وشك الممات فخطأ من أخطاء المولدين في العربية، فنبه الله تعالى بهذا اللفظ المستعمل غي التلبس بالفعل، على أن المسافر لا بفطر حتى يأخذ في السير في السفر دون مجرد النية، والمسألة مختلف فيها فعن أنس بن مالك أنه أراد السفر في رمضان فرحلت دابته ولبس ثياب السفر وقد تقارب غروب الشمس فدعا بطعام فأكل منه ثم ركب وقال: هذه السنة، رواه الدارقطني، وهو قول الحسن البصري، وقال جماعة: إذا أصبح مقيما ثم سافر بعد ذلك فلا يفطر يومه ذلك هو قول الزهري، ومالك والشافعي والأوزاعي وأبي حنيفة وأبي ثور، فإن أفطر فعليه القضاء دون الكفارة، وبالغ بعض المالكية فقال: عليه الكفارة وهو قول ابن كنانة والمخزومي، ومن العجب اختيار ابن العربي إياه، وقال أبو عمر بن عبد البر: ليس هذا بشيء لأن الله أباح له الفطر بنص الكتاب، ولقد أجاد أبو عمر، وقال أحمد وإسحاق والشعبي: يفطر إذا سافر بعد الصبح ورووه عن ابن عمر وهو الصحيح الذي يشهد له حديث ابن عباس في "صحيحي البخاري ومسلم" "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة، فصام حتى بلغ عسفان ثم دعا بماء فرفعه إلى يديه ليريه فأفطر حتى قدم مكة"، قال القرطبي: وهذا نص في الباب فسقط ما يخالفه.
وإنما قال تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] ولم يقل: فصيام أيام أخر، تنصيصا على وجوب صوم أيام بعدد أيام الفطر في المرض والسفر؛ إذ العدد لا يمون إلا على مقدار مماثل. فمن للتبعيض إن اعتبر أيام أعن من أيام العدة أي من أيام الدهر أو السنة، أو تكون من تمييز عدة أي عدة هي أيام مثل قوله: {بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةُ} [آل عمران:125]،
ووصف الأيام بأخر وهو جمع الأخرى اعتبارا بتأنيث الجمع؛ إذ كل جمع مؤنث، وقد تقدم ذلك في قوله تعالى آنفا {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:184] قال أبو حيان: واختير في الوصف صيغة الجمع دون أن يقال أخرى لئلا يظن أنه وصف لعدة، وفيه نظر؛ لأن هذا الظن لا يوقع في لبس؛ لأن عدة الأيام هي أيام فلا يعتني بدفع هذا الظن، فالظاهر أن

العدول عن أخرى لمراعاة صيغة الجمع في الموصوف مع طلب خفة اللفظ.
ولفظ {أُخَرَ} ممنوع من الصرف في كلام العرب. وعلل جمهور النحويين منعه من الصرف على أصولهم بأن فيه الوصفية والعدل، أما الوصفية فظاهرة وأما العدل فقالوا: لما كان جمع آخر ومفرده بصيغة اسم التفضيل وكان غير معرف باللام كان حقه أن يلزم الإفراد والتذكير جريا على سنن أصله وهو اسم التفضيل إذا جرد من التعريف باللام ومن الإضافة إلى المعرفة أنه يلزم الإفراد والتذكير فلما نطق به العرب مطابقا لموصوفه في التثنية والجمع علمنا أنهم عدلوا به عن أصله "والعدول عن الأصل يوجب الثقل على اللسان؛ لأنه غير معتاد الاستعمال" فخففوه لمنعه من الصرف وكأنهم لم يفعلوا ذلك في تثنيته وجمعه بالألف والنون لقلة وقوعهما، وفيه ما فيه.
ولم تبين الآية صفة قضاء صوم رمضان، فأطلقت {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}، فلم تبين أتكون متتابعة أم يجوز تفريقها، ولا وجوب المبادرة بها أو جواز تأخيرها، ولا وجوب الكفارة على الفطر متعمدا في بعض أيام القضاء، ويتجاذب النظر في هذه الثلاثة دليل التمسك بالإطلاق لعدم وجود ما يقيده كما يتمسك بالعام إذا لم يظهر المخصص، ودليل أن الأصل في قضاء العبادة أن يكون على صفة العبادة المقضية.
فأما حكم تتابع أيام القضاء، فروى الدارقطني بسند صحيح قالت عائشة نزلت {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ متتابعات} فسقطت متتابعات، تريد نسخت وهو قول الأئمة الأربعة وبه قال من الصحابة أو هريرة، وأبو عبيدة، ومعاذ بن جبل، وابن عباس، وتلك رخصة من الله، ولأجل التنبيه عليها أطلق قوله: {مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ولم يقيد بالتتابع كما قال في كفارة الظهار وفي كفارة قتل الخطأ. فلذلك ألغي الجمهور إعمال قاعدة جريان قضاء العبادة على صفة المقضي ولم يقيدوا مطلق آية قضاء الصوم بما قيدت به آية كفارة الظهار وكفارة قتل الخطأ. وفي "الموطأ" عن ابن عمر أنه يقول: يصوم قضاء رمضان متتابعا من أفطره من مرض أو سفر، قال الباجي في "المنتقى": يحتمل أن يريد به الوجوب وأن يريد الاستحباب.
وأما المبادرة بالقضاء، فليس في الكتاب ولا في السنة ما يقتضيها، وقوله هنا: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} مراد به الأمر بالقضاء، وأصل الأمر لا يقتضي الفور، ومضت السنة على أن قضاء رمضان لا يحب فيه الفور بل هو موسع إلى شهر شعبان من السنة الموالية للشهر الذي أفطر فيه، وفي "الصحيح" عن عائشة قالت: يكون علي الصوم من رمضان فما

أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان. وهذا واضح الدلالة على عدم وجوب الفور، وبذلك قال جمهور العلماء وشد داود الظاهري فقال: يشرع في قضاء رمضان ثاني يوم شوال المعاقب له.
وأما من أفطر متعمدا في يوم من أيام قضاء رمضان فالجمهور على أنه لا كفارة عليه؛ لأن المفارة شرعت حفظا لحرمة شهر رمضان وليس لأيام القضاء حرمة وقال قتادة: تجب عليه الكفارة بناء على أن قضاء العبادة يساوي أصله.
{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}1
عطف على قوله: {عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} والمعطوف بعض المعطوف عليه فهو في المعنى كبدل البعض أي وكتب على الذين يطيقونه فدية؛ فإن الذين يطيقونه بعض المخاطبين بقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}.
والمطيق هو الذي أطلق الفعل أي كان في طوقه أن يفعله، والطاقة أقرب درجات القدرة إلى مرتبة العجز، ولذلك يقولون فيما فوق الطاقة: هذا ما لا يطاق، وفسرها الفراء بالجهد بفتح الجيم وهو المشقة، وفي بعض روايات "صحيح البخاري" عن ابن عباس قرأ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فلا يطيقونه}. وهي تفسير فيما أحسب، وقد صدر منه نظائر من هذه القراءة، وقيل الطاقة القدرة مطلقا.
فعلى تفسير الإطاقة بالجهد فالآية مراد منها الرخصة على من تشتد به مشقة الصوم في الإفطار والفدية.
وقد سموا من هؤلاء الشيخ الهرم والمرأة المرضع والحامل فهؤلاء يفطرون ويطعمون عن كل يوم يفطرونه وهذا قول ابن عباس وأنس بن مالك والحسن البصري وإبراهيم النخعي وهو مذهب مالك والشافعي، ثم من استطاع منهم القضاء قضى ومن لم يستطعه لم يقض مثل الهرم، ووافق أبو حنسفة في الفطر؛ إلا أنه لم ير الفدية إلا على الهرم لأنه لا يقضي بخلاف الحامل والمرضع، ومرجع الاختلاف إلى أن قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} [البقرة:184] هل هي لأجل الفطر أم لأجل سقوط القضاء? والآية تحتملهما إلا أنها في الأول أظهر، ويؤيد ذلك فعل السلف، فقد كان أنس بن مالك حين هرم وبلغ عشرا بعد
ـــــــ
1 في المطبوعة "مساكين" بصيغة الجمع" وهي قراءة المصنف.

المائة يفطر ويطعم لكل يوم مسكينا خبزا ولحما.
وعلى تفسير الطاقة بالقدرة فالآية تدل على أن الذي يقدر على الصوم له أن يعوضه بالإطعام، ولما كان هذا الحكم غير مستمر بالإجماع قالوا في حمل الآية عليه: إنها حينئذ تضمنت حكما بأن فيه توسعة ورخصة ثم انعقد الإجماع على نسخه، وذكر أهل الناسخ والمنسوخ أن ذلك فرض في أول الإسلام لما شق عليهم الصوم ثم نسخ بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185] ونقل ذلك عن ابن عباس وفي البخاري عن ابن عمر وسلمة بن الأكوع نسختها آية {شَهْرُ رَمَضَانَ} [البقرة:185] ثم أخرج عن ابن أبي ليلى قال: حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم نزل رمضان فشق عليهم فكان من أطعم كل يوم مسكينا ترك الصوم من يطيقه ورخص لهم في ذلك فنسختها: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ}، ورويت في ذلك آثار كثيرة عن التابعين وهو الأقرب من عادة الشارع في تدرج تشريع التكاليف التي فيها مشقة على الناس من تغيير معتادهم كما تدرج في تشريع منع الخمر.
ونلحق بالهرم والمرضع والحامل كل من تلحقه مشقة أو توقع ضر مثلهم وذلك يختلف باختلاف الأمزجة واختلاف أزمان الصوم من اعتدال أو شدة برد أو حر، وباختلاف أعمال الصائم التي يعملها لاكتسابه من الصنائع كالصائغ والحداد والحمامي وخدمة الأرض وسير البريد وحمل الأمتعة وتعبيد الطرقات والظئر.
وقد فسرت الفدية بالإطعام إما بإضافة المبين إلى بيانه كما قرأ نافع وابن ذكوان عن ابن عامر وأبو جعفر: {فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْاكِينٍ}، بإضافة فدية إلى طعام، وقراه الباقون بتنوين "فِدْيَة"ٌ وإبدال "طَعَامُ" من "فِدْيَةٌ".
وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر "مساكين" بصيغة الجمع جمع مسكين، وقرأه الباقون بصيغة المفرد، والإجماع على أن الواجب إطعام مسكين، فقراءة الجمع مبنية على اعتبار جمع الذين يطيقونه من مقابلة الجمع بالجمع مثل ركب الناس دوابهم، وقراءة الإفراد اعتبار بالواجب على آحاد المفطرين.
والإطعام هو ما يشبع عادة من الطعام المتغذي به في البلد، وقدره فقهاء المدينة مدا بمد النبي صلى الله عليه وسلم من بر أو شعير أو تمر.
{فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ}
تفريع على قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} الخ، والتطوع: السعي في أن يكون

طائعا غير مكره أي طاع طوعا من تلقاء نفسه. والخير مصدر خار إذا حسن وشرف وهو منصوب لتضمين {تَطَوَّعَ} معنى أتى، أو يكون {خَيْراً} صفة لمصدر محذوف أي تطوعا خيرا. ولا شك أن الخير هنا متطوع به فهو الزيادة من الأمر الذي الكلام بصدده وهو الإطعام لا محالة، وذلك إطعام غير واجب فيحتمل أن يكون المراد: فمن زاد على إطعام مسكين واحد فهو خير، وهذا قول ابن عباس، أو أن يكون: من أراد الإطعام مع الصيام، قاله ابن شهاب، وعن مجاهد: من زاد في الإطعام على المد وهو بعيد؛ إذ ليس المد مصرحا به في الآية، وقد أطعم أنس بن مالك خبزا ولحما عن كل يوم أفطره حين شاخ.
و {خَيْرٌ} الثاني في قوله: {فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} يجوز أن يكون مصدرا كالأول ويكون المراد به المفضل عليه لظهوره.
{وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
الظاهر رجوعه لقوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} فإن كان قوله ذلك نازلا في إباحة الفطر للقادر فقوله: {وَأَنْ تَصُومُوا} ترغيب في الصوم وتأنيس به، وإن كان نازلا في إباحته لصاحب المشقة كالهرم فكذلك، ويحتمل أن يرجع إلى قوله: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً} وما بعده، فيكون تفضيلا للصوم على الفطر إلا أن هذا في السفر مختلف فيه بين الأئمة، ومذهب مالك رحمة الله أن الصوم أفضل من الفطر وأما في المرض ففيه تفصيل يحسب شدة المرض.
وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} تذييل أي تعلمون فوائد الصوم على رجوعه لقوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} إن كان المراد بهم القادرين أي إن كنتم تعلمون فوائد الصوم دنيا وثوابه أخرى، وأن كنتم تعلمون ثوابه على الاحتمالات الأخر. وجئ في الشرط بكلمة "إن" لأن علمهم بالأمرين من شأنه إلا يكون محققا؛ لخفاء الفائدتين.
[185] {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا

اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}
{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}
قد علمت أن هذه الآيات تكملة للآيات السابقة وأن لا نسخ في خلال هاته الآيات، فقوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ} خبر مبتدأ محذوف تقديره هي أي الأيام المعدودات شهر رمضان، والجملة مستأنفة بيانيا، لأن قوله: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:184] يثير سؤال السامع عن تعيين هذه الأيام، ويؤيد ذلك قراءة مجاهد {شَهْرُ} بالنصب على البدلية من {أَيَّاماً}: بدل تفصيل.
وحذف المسند إليه جار على طريقة الاستعمال في المسند إليه إذا تقدم من الكلام ما فيه تفصيل وتبيين لأحوال المسند إليه فهم يحذفون ضميره، وإذا جوزت أن يكون هذا الكلام نسخا لصدر الآية لم يصح أن يكون التقدير هي شهر رمضان فيتعين أن يكون شهر رمضان مبتدأ خبره قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}، واقتران الخبر بالفاء حينئذ مراعاة لوصف المبتدأ بالموصول الذي هو شبيه بالشرط ومثله كثير في القرآن وفي كلام العرب، أو على زيادة الفاء في الخبر كقوله:
وقائلة خولان فأنكح فتاتهم1
أنشده سيبويه، وكلا هذين الوجهين ضعيف.
والشهر جزء من أثنى عشر جزءا من تقسيم السنة قال تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [التوبة:36] والشهر يبتدئ من ظهور الهلال إلى المحاق ثم ظهور الهلال مرة أخرى، وهو مشتق من الشهرة لأن الهلال يظهر لهم فيشهرونه ليراه الناس فيثبت الشهر عندهم.
ورمضان علم وليس منقولا؛ إذ لم يسمع مصدر على وزن الفعلان من رمض بكسر الميم إذا احترق؛ لأن الفعلان يدل على الاضطراب ولا معنى له هنا، وقيل هو منقول عن المصدر. ورمضان علم على الشهر التاسع من أشهر السنة العربية القمرية المفتتحة بالمحرم؛ فقد كلن العرب يفتتحون أشهر العام بالمحرم؛ لأن نهاية العام عندهم هي
ـــــــ
1 تمامه:
وأكرومة الحيين خلو كماهيا

انقضاء الحج ومدة الرجوع إلى آفاقهم، ألا ترى أن لبيدا جعل جمادى الثانية وهو نهاية فصل الشتاء شهرا سادسا إذ قال:
حتى إذا سلخا جمادى ستة ... جزءا فطال صيامه وصيامها
ورمضان ممنوع من الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون؛ لأنه مشتق من الرمضاء وهي الحرارة، لأن رمضان أول أشهر الحرام بناء على ما كان من النسيء في السنة عند العرب إذ كانت السنة تنقسم إلى ستة فصول كل فصل منها شهران: الفصل الأول الخريف وشهراه محرم وصفر، الثاني ربيع الأول وهو وقت نضج الثمار وظهور الرطب والتمر وشهراه شهر ربيع الأول وشهر ربيع الثاني على أن الأول والثاني وصف لشهر، ألا ترى أن العرب يقولون "الرطب شهري ربيع" ، الثالث الشتاء وشهراه جمادى الأولى وجمادى الثانية قال حاتم:
في ليلة من جمادى ذات أندية ... لا يبصر الكلب من ظلمائها الطنبا
لا ينبح الكلب فيها غير واحدة ... حتى يلف على خيشومه الذنبا
الرابع الربيع الثاني، والثاني وصف للربيع، وهذا هو وقت ظهور النور والكمأة وشهراه رجب وشعبان، وهو فصل الدر والمطر قال النابغة يذكر غزوات النعمان ابن الحارث:
وكانت لهم ربعية يحذرونها ... إذا خضخضت ماء السماء القبائل
وسموه الثاني لأنه يجيء بعد الربع الأول في حساب السنة، قال النابغة:
فإن يهلك أبو قابوس بهلك ... ربيع الثان والبلد الحرام
في رواية وروى "ربيع الناس" ، وسموا كلا منهما ربيعا لأنه وقت خصب، الفصل الخامس، الصيف وهو مبدأ الحر وشهراه رمضان وشوال، لأن النوق تشول أذنابها فيه تطرد الذباب. السادس القيظ وشهراه ذو القعدة وذو الحجة
وبعض القبائل تقسم السنة إلى أربعة، كل فصل له ثلاثة أشهر؛ وهي الربيع وشهوره رجب وشعبان ورمضان، والصيف وشهوره شوال وذو القعدة وذو الحجة، والخريف وشهوره محرم وصفر والربيع الأول، والشتاء وشهوره شهر ربيع الثاني، على أن الأول والثاني وصفان لشهر لا لربيع، وجمادى الأولى وجمادى الثانية.
ولما كانت أشهر العرب قمرية وكانت السنة القمرية أقل من أيام السنة الشمسية التي

تجئ بها الفصول تنقص أحد عشر يوما وكسرا، وراموا أن يكون الحج في وقت الفراغ من الزروع والثمار ووقت السلامة من البرد وشدة الحر جعلوا للأشهر كبسا بزيادة شهر في السنة بعد ثلاث سنين وهو المعبر عنه بالنسيء.
وأسماء الشهور كلها أعلام لها عدا شهر ربيع الأول وشهر ربيع الثاني فلذلك وجب ذكر لفظ الشهر معهما ثم وصفه بالأول والثاني؛ لأن معناه الشهر الأول من فصل الربيع أعني الأول، فالأول والثاني صفتان لشهر، أما الأشهر الأخرى فيجوز فيها ذكر لفظ الشهر بالإضافة من إضافة اسم النوع إلى واحدة مثل شجر الأرك ومدينة بغداد، وبهذا يشعر كلام سيبويه والمحققين فمن قال: إنه لا يقال رمضان إلا بإضافة شهر إليه بناء على أن رمضان مصدره، حتى تكلف لمنعه من الصرف بأنه صار بإضافة شهر إليه علما فمنع جزء العلم من الصرف كما منع هريرة في أبي هريرة فقد تكلف شططا وخالف ما روى من قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من صام رمضان إيمانا واحتسابا" بنصب رمضان وإنما أنجز إليهم هذا الوهم من اصطلاح كتاب الديوان كما في "أدب الكاتب".
وإنما أضيف الشهر إلى رمضان في هذه الآية مع أن للإيجاز المطلوب لهم يقتضي عدم ذكره إما لأنه الأشهر في فصيح كلامهم وإما للدلالة على استيعاب جميع أيامه بالصوم؛ لأنه لو قال رمضان لكان ظاهر لا نصا، لا سيما مع تقدم قوله: {أَيَّاماً} [البقرة:80] فيتوهم السامعون أنها أيام من رمضان.
فالمعنى أن الجزء المعروف بشهر رمضان من السنة العربية القمرية هو الذي جعل ظرفا لأداء فريضة الصيام المكتوبة في الدين فكلما حل الوقت المعين من السنة المسمى بشهر رمضان فقد وجب على المسلمين أداء فريضة الصوم فيه، ولما كان ذلك حلوله مكررا في كل عام كان وجوب الصوم مكررا في كل سنة إذ لم ينط الصيام بشهر واحد مخصوص ولأن ما أجرى على الشهر من إلفات يحقق أن المراد منه الأزمنة المسماة به طول الدهر.
وظاهره قوله: {الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} أن المخاطبين يعلمون أن نزول القرآن وقع في شهر رمضان، لأن الغالب في صلة الموصول أن يكون السامع عالما باختصاصها بمن أجزي عليه الموصول، ولأن مثل هذا الحدث الديني من شأنه ألا يخفى عليهم، فيكون الكلام تذكيرا بهذا الفضل العظيم، ويجوز أيضا أن يكون إعلاما بهذا الفضل وأجرى الكلام على طريقة الوصف بالموصول للتنبيه على أن الموصوف مختص بمضمون هذه

الصلة بحيث تجعل طريقا لمعرفته، ولا نسلم لزوم علم المخاطب باتصاف ذي الصلة بمضمونها في التعريف بالموصولية بل ذلك أغلى كما يشهد به تتبع كلامهم، وليس المقصود الإخبار عن شهر رمضان بأنه أنزل فيه القرآن، لأن تركيب الكلام لا يسمح باعتباره خبر لأن لفظ {شَهْرُ رَمَضَانَ} خبر وليس هو مبتدأ، والمراد بإنزال القرآن ابتداء إنزاله على النبي صلى الله عليه وسلم، فإن فيه ابتداء النزول من عام واحد وأربعين من الفيل فعبر عن إنزال أوله باسم جميعه؛ لأن ذلك القدر المنزل مقدر إلحاق تكملته به كما جاء في كثير نن الآيات مثل قوله: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} [الأنعام:92] وذلك قبل إكمال نزوله فيشمل كل ما يلحق به من بعد، وقد تقدم قوله: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} ومعنى { الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ} أنزل في مثله؛ لأن الشهر الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ قد انقضى قبل نزوله آية الصوم بعدة سنين، فإن صيام رمضان فرض في السنة الثانية للهجرة فبين فرض الصيام والشهر الذي أنزل فيه القرآن حقيقة عدة سنين فيتعين بالقرينة أن المراد أنزل في مثله أي في نظيره من عام آخر.
فقد جعل الله للمواقيت المحدودة اعتبار يشبه اعتبار الشيء الواحد المتجدد وإنما هذا اعتبار للتذكير بالأيام العظيمة المقدار كما قال تعالى: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} [ابراهيم:5]، فخلع الله على المواقيت التي قارنها شيء عظيم في الفضل أن جعل لتلك المواقيت فضلا مستمرا تنويها بكونها تذكرة لأمر عظيم، ولعل هذا هو الذي جعل الله لأجله سنة الهدى في الحج، لأن في مثل ذلك الوقت ابتلى الله إبراهيم بذبح ولده إسماعيل وأظهر عزم إبراهيم وطاعته ربه ومنه أخذ العلماء تعظيم اليوم الموافق ليوم ولادة النبي صلى الله عليه وسلم، ويجيء من هذا إكرام ذرية رسول الله وأبناء الصالحين وتعظيم ولاة الأمور الشرعية القائمين مقام النبي صلى الله عليه وسلم في أعمالهم من الأمراء والقضاة والأئمة.
وهذا يدل على أن مراد الله تعالى من الأمة صوم ثلاثين يوما متتابعة مضبوطة المبدأ والنهاية متحدة لجميع المسلمين. ولما كان ذلك هو المراد وفت بشهر معين قمريا لسهولة ضبط بدئه ونهايته برؤية الهلال والتقدير، واختير شهر رمضان من بين الأشهر لأنه قد شرف بنول القرآن فيه، فإن نزول القرآن لما كان لقصد تنزيه الأمة وهداها ناسب أن يكون ما به تطهير النفوس والتقرب من الحالة الملكية واقا فيه، والأغلب على ظني أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم أيام تحنثه في غار حراء قبل أن ينزل عليه الوحي إلهاما من الله تعالى وتلقينا لبقية من الملة الحنفية فلما أنزل عليه الوحي في شهر رمضان أمر الله الأمة

الإسلامية بالصوم في ذلك الشهر، روى ابن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "جاورت بحراء شهر رمضان" ، وقال ابن سعد: جاء الوحي وهو في غار حراء يوم الاثنين لسبع عشرة خلت من رمضان.
وقوله: {هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى} حالان من القرآن إشا بهما إلى وجه تفضيل الشهر بسبب ما نزل فيه من الهدى والفرقان.
والمراد بالهدى الأول: ما في القرآن من الإرشاد إلى المصالح العامة والخاصة التي لا تنافي العادة، وبالبينات من الهدى: ما في القرآن من الاستدلال على الهدى الخفي الذي ينكره كثير من الناس مثل أدلة التوحيد وصدق الرسول وغير ذلك من الحجج القرآنية. والفرقان مصدر فرق وقد شاع في الفرق بين الحق والباطل أي إعلان التفرقة بين الحق الذي جاءهم من الله وبين الباطل الذي كانوا عليه قبل الإسلام، فالمراد بالهدى الأول: ضرب من الهدى غير المراد من الهدى الثاني، فلا تكرار.
{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}
تفريع على قوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} الذي هو بيان لقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] كما تقدم فهو رجوع إلى التبيين بعد الفصل بما عقب به قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} من استيناس وتنويه بفضل الصيام وما يرجى من عودة على نفوس الصائمين بالتقوى وما حف الله به فرضه على الأمة من تيسير عند حصول مشقة من الصيام.
وضمير [مِنْكُمْ] عائد إلى {الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:14] مثل الضمائر التي قبله، أي كل من حضر الشهر فليصمه، و {شَهِدَ} يجوز أن يكون بمعنى حضر كما يقال: إن فلانا شهد بدرا وشهد أحدا وشهد العقبة أو شهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أي حضرها فنصب الشهر على أنه مفعول فيه لفعل {شَهِدَ} أي حضر في الشهر أي لم يكن مسافرا، وهو المناسب لقوله بعده: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ} الخ.
أي فمن حضر في الشهر فليصمه كله ويفهم أن من حضر بعضه يصوم أيام حضوره.
ويجوز أن يكون {شَهِدَ} بمعنى علم كقوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [آل عمران:18] فيكون انتصاب الشهر على المفعول به بتقدير مضاف أي علم بحلول الشهر،

وليس شهد بمعنى رأى؛ لا يقال: {شَهِدَ} بمعنى رأى، وإنما يقال شاهد، ولا الشهر هنا بمعنى هلاله بناء على أن الشهر يطلق على الهلال كما حكوه عن الزجاج وأنشد في "الأساس" قول ذي الرمة:
فأصبح أجلي الطرف ما يستزيده ... يرى الشهر قبل الناس وهو نحيل
أي يرى هلال الشهر، لأن الهلال لا يصح أن يتعدي إليه فعل {شَهِدَ} بمعنى حضر ومن يفهم الآية على ذلك فقد أخطأ خطأ بينا وهو يفضي إلى أن كل فرد من الأمة معلق وجوب صومه على مشاهدته هلال رمضان فمن لم ير الهلال لا يجب عليه الصوم وهذا باطل، ولهذا فليس في الآية تصريح على طريق ثبوت الشهر وإنما بينته السنة بحديث لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فاقدروا له وفي معنى الإقدار له محامل ليست من تفسير الآية.
وقرأ الجمهور: "القرآن" بهمزة مفتوحة بعد الراء الساكنة وبعد الهمزة ألف، وقرأه ابن كثير براء مفتوحة بعدها ألف على نقل حركة الهمزة إلى الراء الساكنة لقصد التخفيف.
وقوله: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ} قالوا في وجه إعادته مع تقدم نظيره في قوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً} [البقرة:184] أنه لما كان صوم رمضان واجبا على التخيير بينه وبين الفدية بالإطعام بالآية الأولى وهي: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] إلخ وقد سقط الوجوب عن المريض والمسافر بنصها فلما نسخ حكم تلك الآية بقوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ} الآية وصار الصوم واجبا علة التعيين خيف أن يظن الناس أن جميع ما كان في الآية الأولى من الرخصة قد نسخ فوجب الصوم أيضا حتى على المريض والمسافر فأعيد ذلك في هذه الآية الناسخة تصريحا ببقاء تلك الرخصة، ونسخت رخصة الإطعام مع القدرة والحصر والصحة لا غير، وهو بناء على كون هاته الآية ناسخة للتي قبلها، فإن درجنا على أنهما نزلتا في وقت واحد كان الوجه في إعادة هذا الحكم هو هذا الموضع الجدير بقوله: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً } لأنه جاء بعد تعيين أيام الصوم، وأما ما تقدم في الآية الأولى فهو تعجيل بالإعلام بالرخصة رفقا بالسامعين، أو أن إعادته لدفع توهم أن الأول منسوخ بقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} فليصمه إذا كان شهد بمعنى تحقق وعلم، مع زيادة في تأكيد حكم الرخصة ولزيادة بيان معنى قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}.
{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}

استئناف بياني كالعلة لقوله: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً} إلخ بين به حكمة الرخصة أي شرع لكم القضاء لأنه يريد بكم اليسر عند المشقة.
وقوله: {وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} نفي لضد اليسر، وقد كان يقوم مقام هاتين الجملتين جملة قصر نحو أن يقول: ما يريد بكم إلا اليسر، لكنه عدل عن جملة القصر إلى جملتي إثبات ونفي لأن المقصود ابتداء هو جملة الإثبات لتكون تعليلا للرخصة، وجاءت بعدها جملة النفي تأكيدا لها، ويجوز أن يكون قوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} تعليلا لجميع ما تقدم من قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [ البقرة:183] إلى هنا فيكون إيماء إلى أن مشروعية الصيام وإن كانت تلوح في صورة المشقة والعسر فأن في طيها من المصالح ما يدل على أن الله أراد بها اليسر أي تيسير تحصيل رياضة النفس بطريقة سليمة من إرهاق أصحاب بعض الأديان الأخرى أنفسهم.
وقرأ الجمهور: "اليسر" و"العسر" بسكون السين فيهما، وقرأه أبو جعفر بضم السين ضمة إتباع.
{وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}
عطف على جملة: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} إلخ؛ إذ هي في موقع العلة كما علمت؛ فإن مجموع هذه الجمل الأربع تعليل لما قبلها من قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ} إلى قوله: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}.
واللام في قوله: {وَلِتُكَبِّرُوا} تسمى شبه الزائدة وهي اللام التي يكثر وقوعها بعد فعل الإرادة وفعل الأمر إي مادة أمر للذين مفعولها إن المصدرية مع فعلها، فحق ذلك المفعول أن يتعدى إليه الإرادة وفعل مادة الأمر بنفسه دون حرف الجر ولكن كثر في الكلام تعديته باللام نحو قوله تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} [الصف:8] قال في "الكشاف": أصله يريدون أن يطفئوا، ومنه قوله تعالى: {وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} [الزمر:12] والفعل الذي بعد اللام منصوب بأن ظاهرة أو مقدرة.
والمعنى: يريد الله أن تكملوا العدة وأن تكبروا الله، وإكمال العدة يحصل بقضاء الأيام التي أفطرها من وجب عليه الصوم ليأتي بعدة أيام شهر رمضان كاملة، فإن في تلك العدة حكمة تجب المحافظة عليها، فبالقضاء حصلت حكمة التشريع وبرخصة الإفطار لصاحب العذر حصلت رحمة التخفيف.

وقرأ الجمهور: {وَلِتُكْمِلُوا} بسكون الكاف وتخفيف الميم مضارع أكمل وقرأه أبو بكر عن عاصم ويعقوب بفتح الكاف وتشديد الميم مضارع كمل.
وقوله: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} عطف على قوله: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} وهذا يتضمن تعليلا وهو في معنى علة غير متضمنة لحكمة ولكنها متضمنة لمقصد إرادة الله تعالى وهو أن يكبروه.
والتكبير تفعيل مراد به النسبة والتوصيف أي أن تنسبوا الله إلى الكبر والنسبة هنا نسبة بالقول اللساني، والكبر هنا كبر معنوي لا جسمي فهو العظمة والجلال والتنزيه عن النقائص كلها، أي لتصفوا الله بالعظمة، وذلك بأن تقولوا: الله أكبر، فالتفعيل هنا مأخوذ من فعل المنحوت من قول يقوله، مثل قولهم: بسمل وحمدل وهلل وقد تقدم عند الكلام على البسملة، أي لتقولوا: الله أكبر، وهي جملة تدل على أن الله أعظم من كل عظيم في الواقع كالحكماء والملوك والسادة والقادة، ومن كل عظيم فبالاعتقاد كالآلهة الباطلة، وإثبات الأعظمية لله في كلمة "الله أكبر" كناية عن وحدانيته بالإلهية، لأن التفضيل يستلزم نقصان من عداه والناقص غير مستحق للإلهية، لأن حقيقتها لا تلاقي شيئا من النقص، ولذلك شرع التكبير في الصلاة لإبطال ما كانوا يتقربون به إلى أصنامهم، وكذلك شرع التكبير عند انتهاء الصيام بهذه الآية، فمن أجل ذلك مضت السنة بأن يكبر المسلمون عند الخروج إلى صلاة العيد ويكبر الإمام في خطبة العيد.
وفي لفظ التكبير عند انتهاء الصيام خصوصية جليلة وهي أن المشركين كانوا يتزلفون إلى آلهتهم بالأكل والتصيخ بالدماء، فكان لقول المسلم: الله أكبر، إشارة إلى أن الله يعبد بالصوم وأنه متنزه عن ضراوة الأصنام.
وقوله: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} تعليل آخر وهو أعم من مضمون جملة: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} فإن التكبير تعظيم يتضمن شكرا والشكر أعم، لأنه يكون بالأقوال التي فيها تعظيم لله تعالى ويكون بفعل القرب من الصدقات في أيام الصيام وأيام الفطر، ومن مظاهر الشكر لبس أحسن الثياب يوم الفطر.
وقد دلت الآية على الأمر بالتكبير؛ إذ جعلته مما يريده الله، وهو غير مفصل في لفظ الكبير، ومجمل في وقت التكبير؛ وعدده، وقد بينت السنة القولية والفعلية ذلك على اختلاف بين الفقهاء في الأحوال.

فأما لفظ التكبير فظاهر الآية أنه كل قول فيه لفظ الله أكبر، والمشهور في السنة أنه يكرر الله أكبر ثلاثا، وبهذا أخذ مالك وأبو حنيفة والشافعي، وقال مالك والشافعي: إذا شاء المرء زاد على التكبير تهليلا وتحميدا فهو حسن ولا يترك الله أكبر، فإذا أراد الزيادة على التكبير كبر مرتين ثم قال: لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد وهو قول ابن عمر وابن عباس، وقال أحمد: هو واسع، وقال أبو حنيفة: لا يجزئ غير ثلاث تكبيرات.
وأما وقته: فتكبير الفطر يبتدئ من وقت خروج المصلى من بيته إلى محل الصلاة، وكذلك الإمام ومن خرج معه، فإذا بلغ محل الصلاة قطع التكبير، ويسن في أول كل ركعة من ركعتي صلاة العيد افتتاح الأولى بسبع تكبيرات والثانية بست، هذا هو الأصح مما ثبت في الأخبار وعمل به أهل المدينة من عهد النبي صلى الله عليه وسلم فما بعده وتلقاه جمهور علماء الأمصار، وفيه خلاف كثير لا فائدة في التطويل بذكره والأمر واسع، ثم يكبر الإمام في خطبة صلاة العيد بعد الصلاة ويكبر معه المصلون حين تكبيره وينصتون للخطبة فيما سوى التكبير.
وقال ابن عباس وسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والشافعي: يكبر الناس من وقت استهلال هلال الفطر إلى انقضاء صلاة العيد ثم ينقطع التكبير، هذا كله في الفطر فهو مورد الآية التي نحن بصدد تفسيرها.
فأما في الأضحى فيزاد على ما يذكر في الفطر التكبير عقب الصلوات المفروضة من صرة الظهر من يوم الأضحى إلى صلاة الصبح من اليوم الرابع منه، ويأتي تفصيله في تفسير قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:203].
[186] {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}
الجملة معطوفة على الجمل السابقة المتعاطفة أي {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا .... وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:185] ثم التفت إلى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم وحده لأنه في مقام تبليغ فقال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي} أي العباد الذين كان الحديث معهم، ومقتضى الظاهر أن يقال: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} وتدعون فأستجيب لكم إلا أنه عدل عنه ليحصل في خلال ذلك تعظيم شأن النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يسأله المسلمون عن أمر الله تعالى، والإشارة إلى جواب من عسى لأن يكونوا سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن كيفية الدعاء هل يكون جهرا أو سرا، وليكون

نظم الآية مؤذنا بأن الله تعالى بعد أن أمرهم بما يجب له عليهم أكرمهم فقال: وإذا سألوا عن حقهم علي فإني قريب منهم أجيب دعوتهم، وجعل هذا الخير مرتبا على تقدير سؤالهم إشارة إلى أنهم يهجس هذا في نفوسهم بعد أن يسمعوا الأمر بالإكمال والتكبير والشكر أن يقولوا: هل لنا جزاء على ذلك? وأنهم قد يحجمون عن سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك أدبا مع الله تعالى فلذلك قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ} الصريح بأن هذا سيقع في المستقبل.واستعمال مثل هذا الشرط مع مادة السؤال لقصد الاهتمام بما سيذكر بعده استعمال معروف عند البلغاء قال علقمة:
فإن تسألوني بالنساء فإنني ... خبير بأدواء النساء طبيب
والعلماء يفتتحون المسائل المهمة في كتبهم بكلمة فإن قلت وهو اصطلاح "الكشاف". ويؤيد هذا تجريد الجواب من كلمة قل التي ذكرت في مواقع السؤال من القرآن نحو: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ} [البقرة:189] {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} [البقرة:220]، مع ما في هذا النظم العجيب من زيادة إخراج الكلام في صورة الحكم الكلي إذ جاء بحكم عام في سياق الشرط فقال: {سَأَلَكَ عِبَادِي} وقال: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ} ولو قيل وليدعوني فأستجيب لهم لكان حكما جزئيا خاصا بهم، فقد ظهر وجه اتصال الآية بالآيات قبلها ومناسبتها لهن وارتباطها بهن من غير أن يكون هنالك اعتراض جملة.
وقيل إنها جملة معترضة اقترنت بالواو بين أحكام الصيام للدلالة على أن الله تعالى مجازيهم على أعمالهم وأنه خبير بأحوالهم، قيل إنه ذكر الدعاء هنا بعد ذكر الشكر للدلالة على أن الدعاء يجب أن يسبقه الثناء.
والعباد الذين أضيفوا إلى ضمير الجلالة هم المؤمنون لأن الآيات كلها في بيان أحكام الصوم ولوازمه وجزائه وهو من شعار المسلمين، وكذلك اصطلاح القرآن غالبا في ذكر العباد مضافا لضمير الجلالة، وأما قوله تعالى: {أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ} [الفرقان:17] عبادي هؤلاء بمعنى المشركين فاقتضاه أنه في مقام تنديمهم على استعبادهم للأصنام.
وإنما قال تعالى: {فَإِنِّي قَرِيبٌ} ولم يقل: فقل لهم إني قريب إيجازا لظهوره من قوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي} وتنبيها على أن السؤال مفروض غير واقع منهم بالفعل، وفيه لطيفة قرآنية وهي إيهام أن الله تعالى تولى جوابهم عن سؤالهم بنفسه إذ حذف في اللفظ ما يدل على وساطة النبي صلى الله عليه وسلم تنبيها على شدة قرب العبد من ربه في مقام الدعاء.

واحتيج للتأكيد بإن، لأن الخبر غريب وهو أن يكون تعالى قريبا مع كونهم لا يرونه. و {أُجِيبُ} خبر ثان لإن وهو المقصود من الإخبار الذي قبله تمهيدا له لتسهيل قبوله.
وحذفت ياء المتكلم من قوله "دعان" في قراءة نافع وأبي عمرو وحمزة والكسائي؛ لأن حذفها في الوقف لغة جمهور العرب عدا أهل الحجاز، ولا تحذف عندهم في الوصل لأن الأصل عدمه ولأن الرسم يبنى على حال الوقف، وأثبت الياء ابن كثير وهشام ويعقوب في الوصل والوقف، وقرأ ابن ذكوان وعاصم بحذف الياء في الوصل والوقف وهي لغة هذيل، وقد تقدم أن الكلمة لو وقعت فاصلة لكان الحذف متفقا عليه في قوله تعالى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة:40] في هذه السورة.
وفي هذه الآية إيماء إلى أن الصائم مرجو الإجابة، وإلى أن شهر رمضان مرجوة دعواته، وإلى مشروعية الدعاء عند انتهاء كل يوم من رمضان.
والآية دلت على أن إجابة دعاء الداعي تفضل من الله على عبادة غير أن ذلك لا يقتضي التزام إجابة الدعوة من كل أحد وفي كل زمان، لأن الخبر لا يقتضي العموم، ولا يقال: إنه وقع في حيز الشرط فيفيد التلازم، لأن الشرط هنا ربط الجواب بالسؤال وليس ربطا للدعاء بالإجابة، لأنه لم يقل: إن دعوني أجبتهم.
وقوله: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي} تفريع على {أُجِيبُ} أي إذا كنت أجيب دعوة الداعي فليجيبوا أوامري، واستجاب وأجاب بمعنى واحد.
وأصل أجاب واستجاب أنه الإقبال على المنادى بالقدوم، أو قول بدل على الاستعداد للحضور نحو "لبيك"، ثم أطلق مجازا مشهورا على تحقيق ما يطلبه الطالب، لأنه لما كان بتحقيقه يقطع مسألته فكأنه أجاب نداءه.
فيجوز أن يكون المراد بالاستجابة امتثال أمر الله فيكون {وَلْيُؤْمِنُوا بِي} عطفا مغايرا والمقصود من الأمر الأول الفعل ومن الأمر الثاني الدوام، ويجوز أن يراد بالاستجابة ما يشمل استجابة دعوة الإيمان، فذكر {وَلْيُؤْمِنُوا} عطف خاص على عام للاهتمام به.
وقوله: {لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} تقدم القول في مثله والرشد إصابة الحق وفعله كنصر وفرح وضرب، والأشهر الأول.
[187] {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ

وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}
{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ}
انتقال في أحكام الصيام إلى بيان أعمال في بعض أزمنة رمضان قد يظن أنها تنافي عبادة الصيام، ولأجل هذا الانتقال فصلت الجملة عن الجمل السابقة.
وذكروا السبب نزول هذه الآية كلاما مضربا غير مبين فروى أبو داود عن معاذ بن جبل كان المسلمون إذا نام أحدهم إذا صلى العشاء وسهر بعدها لم يأكل ولم يباشر أهله بعد ذلك فجاء عمر يريد امرأته فقالت: إني قد نمت فظن أنها تعتل فباشرها، وروى البخاري عن البراء ابن عازب أن قيس بن صرمة جاء إلى منزله بعد الغروب يريد طعامه فقالت له امرأته: حتى نسخن لك شيئا فنام فجاءت امرأته فوجدته نائما فقالت: خيبة لك فبقي كذلك فلما انتصف النهار أغمى عليه من الجوع، وفي كتاب التفسير من "صحيح البخاري" عن حديث البراء ابن عازب قال: لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله وكان رجال يحزنون أنفسهم فأنزل الله تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} الآية، ووقع لكعب بن مالك مثل ما وقع لعمر، فنزلت هذه الآية بسبب تلك الأحداث، فقيل: كان ترك الأكل ومباشرة النساء من بعد النوم أو من بعد صلاة العشاء حكما مشروعا بالسنة ثم نسخ، وهذا قول جمهور المفسرين، وأنكر أبو مسلم الأصفهاني أن يكون هذا نسخا لشيء تقرر في شرعنا وقال: هو نسخ لما كان في شريعة النصارى.
وما شرع الصوم إلا إمساكا في النهار دون الليل فلا أحسب أن الآية إنشاء للإباحة ولكنها إخبار عن الإباحة المتقررة في أصل توقيت الصيام بالنهار، والمقصود منها إبطال شئ توهمه بعض المسلمين وهو أن الأكل بين الليل لا يتجاوز وقتين وقت الإفطار ووقت السحور وجعلوا وقت الإفطار هو ما بين المغرب إلى العشاء، لأنهم كانوا ينامون إثر صلاة العشاء وقيامها فإذا صلوا العشاء لم يأكلوا إلا أكلة السحور وأنهم كانوا ينامون إثر صلاة العشاء وقيامها فإذا صلوا العشاء لم يأكلوا إلا أكلة السحور وأنهم كانوا في أمر الجماع كشأنهم في أمر الطعام وأنهم لما اعتادوا جعل النوم مبدأ وقت الإمساك الليلي

ظنوا أن النوم إن حصل في غير إبانة المعتاد يكون أيضا مانعا من الأكل والجماع إلى وقت السحور وإن وقت السحور لا يباح فيه إلا الأكل دون الجماع؛ إذا كانوا يتأتون من الإصباح في رمضان على جنابة، وقد جاء في صحيح مسلم أن أبا هريرة كان يرى ذلك يغني بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لعل هذا قد سرى إليهم من أهل الكتاب كما يقتضيه ما رواه محمد ابن جرير من طريق السدى، ولعلهم التزموا ذلك ولم يسألوا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولعل ذلك لم يتجاوز بعض شهر رمضان من السنة التي شرع لها صيام رمضان فحدثت هذه الحوادث المختلفة المتقاربة، وذكر ابن العربي في "العارضة" عن ابن القاسم عن مالك كان في أول الإسلام من رقد قبل أن يطعم من الليل شيئا فأنزل الله: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ } فأكلوا بعد ذلك فقوله تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ} دليل على أن القرآن نزل بهذا الحكم لزيادة البيان؛ إذ علم الله ما ضيق به بعض المسلمين على أنفسهم وأوحى به إلى رسوله صلى الله عليه وسلم. وهذا يشير إلى أن المسلمين لم يفشوا ذلك ولا أخبروا به رسول الله ولذلك لا نجد في روايات البخاري بن صرمة عند أبي داود ولعله من زيادات الراوي.
فأما أن يكون ذلك قد شرع ثم نسخ فلا أحسبه، إذ ليس من شأن الدين الذي شرع الصوم أول مرة يوما في السنة ثم درجه فشرع الصوم شهرا على التخيير بينه وبين الإطعام تخفيفا على المسلمين أن يفرضه بعد ذلك ليلا ونهارا فلا يبيح الفطر إلا ساعات قليلة من الليل.
وليلة الصيام الليلة التي يعقبها صيام اليوم الموالي لها جويا على استعمال العرب في إضافة الليلة لليوم الموالي لها إلا ليلة عرفة فإن المراد بها الليلة التي بعد يوم عرفة.
والرفث في "الأساس" و"اللسان" أن حقيقته الكلام مع النساء في شؤون الالتذاذ بهن ثم أطلق على الجماع كناية، وقيل هو حقيقة فيهما وهو الظاهر، وتعديته بإلى ليتعين المعنى المقصود وهو الإفضاء،
وقول: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ} جملة مستأنفة كالعلة لما قبلها أي أحل لعسر الاحتراز عن ذلك. ذلك أن الصوم لو فرض على الناس في الليل وهو وقت الاضطجاع لكان الإمساك عن قربان النساء في ذلك الوقت عنتا ومشقة شديدة ليست موجودة في الإمساك عن قربانهن في النهار؛ لإمكان الاستعانة عليه في النهار بالعبد عن المرأة، فقوله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ} استعارة بجامع شدة الاتصال حينئذ وهي استعارة أحياها القرآن، لأن العرب كانت اعتبرتها في قولهم: لا بس الشيء الشيء، إذا اتصل به لكنهم صيروها في خصوص

زنة المفاعلة حقيقة عرفية فجاء القرآن فأحياها وصيرها استعارة أصلية جديدة بعد أن كانت تبعية منسية وقريب منها قول امرئ القيس:
فسلي ثيابي من ثيابك تنسل
و {تَخْتَانُونَ} قال الراغب: الاختيان، مراودة الخيانة بمعنى أنه افتعال من الخون وأصله تختونون فصارت الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، وخيانة الأنفس تمثيل لتكليفها ما لم تكلف به كأن ذلك تغرير بها؛ إذ يوهمها أن المشقة مشروعة عليها وهي ليست بمشروعة، وهو تمثيل لمغالطتها في الترخص بفعل ما ترونه محرما عليكم فتقدمون تارة وتحجمون أخرى كمن يحاول خيانة فيكون كالتمثيل في قوله تعالى: {يُخَادِعُونَ} [البقرة:9].
والمعنى هنا أنكم تلجئونها للخيانة أو تنسبونها لها، وقيل: الاختيان أشد من الخيانة كالاكتساب والكسب كما في "الكشاف" قلت: وهو استعمال كما قال تعالى: {وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} [النساء:107].
وقوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} الأمر للإباحة، وليس معنى قوله: {فَالْآنَ} إشارة إلى تشريع المباشرة حينئذ بل معناه: {فَالْآنَ} اتضح الحكم فباشروهن ولا تختانوا أنفسكم والابتغاء الطلب، وما كتبه الله: ما أباحه من مباشرة النساء في غير وقت الصيام أو اطلبوا ما قدر الله لكم من الولد تحريضا للناس على مباشرة النساء عسى أن يتكون النسل من ذلك وذلك لتكثير الأمة وبقاء النوع في الأرض.
{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}
عطف على {بَاشِرُوهُنَّ} والخيط سلك الكتان أو الصوف أو غيرهما يلفق به بين الثياب بشده بإبرة أو مخيط، يقال خاط الثوب وخيطه. وفي خبر قبور بني أمية أنهم وجدوا معاوية رضي الله عنه في قبره كالخيط، والخيط هنا يراد به الشعاع الممتد في الظلام والسواد الممتد بجانبه قال أبو دؤاد من شعراء الجاهلية:
فلما أضاءت لنا سدفة1 ... ولاح من الصبح خيط أنارا
ـــــــ
1 السدفة الضوء بلغة قيس والظلمة بلغة تميم فهي من الأضداد في العربية.

وقوله: {مِنَ الْفَجْرِ} من ابتدائية أي الشعاع الناشئ عن الفجر وقيل بيانية وقيل تبعيضية وكذلك قول أبي دؤاد "من الصبح" لأن الخيط شائع في السلك الذي يخاط به فهو قرينة إحدى المعنيين للمشترك، وجعله في "الكشاف" تشبيها بليغا، فلعله لم يثبت عنده اشتهار إطلاقه على هذا المعنى في غير بعض الكلام، كالآية وبيت أبي دؤاد، وعندي أن القرآن ما أطلقه إلا لكونه كالنص في المعنى المراد في اللغة الفصحى دون إرادة التشبيه لأنه ليس بتشبيه واضح.
وقد جئ في الغاية بحتى وبالتبين للدلالة على أن الإمساك يكون عند اتضاح الفجر للناظر وهو الفجر الصادق، ثم قوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ} تحديد لنهاية وقت الإفطار بصريح المنطوق؛ وقد علم منه لا محالة أنه ابتداء زمن الصوم، إذ ليس في زمان رمضان إلا صوم وفطر وانتهاء أحدهما مبدأ الآخر فكان قوله: {أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} بيانا لنهاية وقت الصيام ولذلك قال تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا} ولم يقل ثم صوموا لأنهم صائمون من قبل.
و {إِلَى اللَّيْلِ} غاية اختير لها "إلى" للدلالة على تعجيل الفطر عند غروب الشمس لأن إلى تمتد معها الغاية بخلاف حتى، فالمراد هنا مقارنة إتمام الصيام بالليل.
واعلم أن ثم في عطف الجمل للتراخي الرتبي وهو اهتمام بتعيين وقت الإفطار؛ لأن ذلك كالبشارة لهم، ولا التفات إلى ما ذهب إليه أبو جعفر الخباز السمرقندي من قدماء الحنفية من الاستدلال بثم في هاته الآية على صحة تأخير النية عن الفجر احتجاجا لمذهب أبي حنيفة من جواز تأخير النية إلى الضحوة الكبرى. بناء على أن ثم للتراخي وأن إتمام الصيام يستلزم ابتداءه فكأنه قال ثم بعد تبيين الخيطين من الفجر صوموا أو أتموا الصيام إلى الليل فينتج معنى صوموا بعد تراخ عن وقت الفجر وهو على ما فيه من التكلف والمصير إلى دلالة الإشارة الخفيفة غفلة عن معنى التراخي في عطف ثم للجمل.
هذا، وقد رويت قصة في فهم بعض الصحابة لهذه الآية وفي نزولها مفرقة، فروى البخاري ومسلم عن عدي بن حاتم قال: لما نزلت: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} عمدت إلى عقال أسود وإلى عقال أبيض فجعلتهما تحت وسادتي فجعلت أنظر في الليل فلا يستبين لي الأبيض من الأسود فغدوت على رسول الله فذكرت له ذلك فقال رسول الله: "إن وسادك لعريض، وفي رواية:"إنك لعريض القفا، وإنما ذلك سواد الليل وبياض النهار".

ورويا عن سهل بن سعد قال: نزلت {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} ولم ينزل {مِنَ الْفَجْرِ} فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود ولم يزل يأكل حتى تتبين له رؤيتهما فأنزل الله بعد: {مِنَ الْفَجْرِ} فيظهر من حديث سهل بن سعد أن مثل ما عمله عدي ابن حاتم قد كان عمله غيره من قبله بمدة طويلة، فإن عجيا أسلم سنة تسع أو سنة عشر، وصيام رمضان فرض سنة اثنتين ولا يعقل أن يبقى المسلمون سبع أو ثماني سنين في مثل هذا الخطأ، فمحل حديث سهل بن سعد على أن يكون ما فيه وقع في أول مدة شرع الصيام، ومحمل حديث عدي بن حاتم أن عديا وقع في مثل الخطأ الذي وقع فيه من تقدموه، فإن الذي عند مسلم عن عبد الله بن إدريس عن حصين عن الشعبي عن عدي أنه قال لما نزلت: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} إلخ فهو قد ذكر الآية مستكملة، فيتعين أن يكون محمل حديث سهل بن سعد على أن ذلك قد عمله بعض الناس في الصوم المفروض قبل فرض رمضان أي صوم عاشوراء أو صوم النذر وفي صوم التطوع، فلما نزلت آية فرض رمضان وفيها: {مِنَ الْفَجْرِ} علموا أن ما كانوا يعملونه خطأ، ثم حدث مثل ذلك لعدي بن حاتم.
وحديث سهل، لا شبهة في صحة سنده إلا أنه يحتمل أن يكون قوله فيه ولم ينزل: {مِنَ الْفَجْرِ} وقوله: فأنزل الله بعد ذلك: {مِنَ الْفَجْرِ} مرويا بالمعنى فجاء راويه بعبارات قلقة غير واضحة، لأنه لم يقع في "الصحيحين" إلا من رواية سعيد بن أبي مريم عن أبي غسان عن أبي حازم عن سهل بن سعد فقال الراوي: فأنزل بعد أو بعد ذلك: {منَ الْفَجْرِ} وكان الأوضح أن يقول فأنزل الله بعد: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} إلى قوله: {مِنَ الْفَجْرِ}
وأيا ما كان فليس في هذا شئ من تأخير البيان، لأن معنى الخيط في الآية ظاهر للعرب، فالتعبير به من قبيل الظاهر لا من قبيل المجمل، وعدم فهم بعضهم المراد منه لا يقدح في ظهور الظاهر، فالذين اشتبه عليهم معنى الخيط الأبيض والخيط الأسود، فهموا أشهر معاني الخيط وظنوا أن قوله: {مِنَ الْفَجْرِ} متعلق بفعل {يَتَبَيَّنَ} على أن تكون "من" تعليلية أي يكون تبينة بسب ضوء الفجر، فصنعوا ما صنعوا ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم: "إن وسادك لعريض" أو "إنك لعريض القفا" كناية عن قلة الفطنة وهي كناية موجهة من جوامع كلمه عليه السلام.

وقوله تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ} عطف على قوله: {بَاشِرُوهُنَّ} لقصد أن يكون المعتكف صالحا. وأجمعوا على أنه لا يكون إلا في المسجد لهاته الآية، واختلفوا في صفة المسجد فقيل لابد من المسجد الجامع وقيل مطلق مسجد وهو التحقيق وهو مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي رحمهم الله، وأحكامه في كتب الفقه وليست من غرض هذا المفسر.
{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}
تذييل بالتحذير من مخالفة ما شرع إليه من أحكام الصيام.
فالإشارة إلى ما تقدم، والإخبار عنها بالحدود عين أن المشار إليه هو التحديدات المشتمل عليها الكلام السابق وهو في قوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ} وقوله: {إِلَى اللَّيْلِ} {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ} من كل ما فيه تحديد يفضي تجاوز إلى معصية، فلا يخطر بالبال دخول أحكام الإباحة في الإشارة مثل: {أُحِلَّ لَكُمْ} ومثل: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ}
والحدود والحواجز ونهايات الأشياء التي إذا تجاوز المرء دخل في شيء آخر، وشبهت الأحكام بالحدود لأن تجاوزها يخرج من حل إلى منع وفي الحديث: "وحد حدودا فلا تعتدوها". وستأتي زيادة بيان له في قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْأِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:188]
وقوله: {فَلا تَقْرَبُوهَا} نهى عن مقاربتها الموقعة في الخروج منها على طريق الكناية لأن القرب من الحد يستلزم قصد الخروج غالبا كما قال تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام:152]، ولهذا قال تعالى في آيات أخرى {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} [البقرة:229]. كما سيأتي هنالك وفي معنى الآية حديث: "من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه".
والقول في: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ} تقدم نظيره في قوله {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة:143] أي كما بين أحكام الصيام يبين آياته للناس أي جميع آياته لجميع الناس، والمقصد أن هذا شأن الله في إيضاح أحكامه لئلا يلتبس شيء منها على الناس، وقوله: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} أي إرادة لاتقائهم الوقوع في المخالفة، لأنه لو لم يبين لهم الأحكام لما اهتدوا لطريق الامتثال، أو لعلهم يلتبسون بعناية الامتثال والإتيان بالمأمورات على وجهها فتحصل لهم صفة التقوى الشرعية، إذ لو لم يبين الله لهم لأتوا بعبادات غير مستكملة لما أراد الله منها؛ وهم وإن كانوا معذورين عند عدم البيان وغير

مؤاخذين بإثم التقصير إلا أنهم لا يبلغون صفة التقوى أي كمال مصادفة مراد الله تعالى، فلعل يتقون على هذا منزل منزلة اللازم لا يقدر له مفعول مثل {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]، وهو على الوجه الأول محذوف المفعول للقرينة.
[188] {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْأِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
عطف على جملة، والمناسبة أن قوله: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} [البقرة:187] تحذير من الجرأة على مخالفة الصيام بالإفطار غير المأذون فيه وهو ضرب الأكل الحرام فعطف عليه أكل آخر محرم وهو أكل المال بالباطل، والمشاكلة زادت المناسبة قوة، هذا من جملة عداد الأحكام المشروعة لإصلاح ما اختل من أحوالهم في الجاهلية، ولذلك عطف على نظائره وهو مع ذلك أصل تشريع عظيم للأموال في الإسلام.
كان أكل المال بالباطل شنشنة معروفة لأهل الجاهلية بل كان أكثر أحوالهم المالية فإن اكتسابهم كان من الإغارة ومن االميسر، ومن غضب التقوى مال الضعيف، ومن أكل الأولياء أموال الأيتام واليتامى، ومن الغرور والمقامرة، ومن الرباة ونح ذلك. وكل ذلك من الباطل الذي ليس من طيب نفس،
والأكل حقيقته إدخال الطعام إلى المعدة من الفم وهو هنا للأخذ بقصد الانتفاع دون إرجاع، لأن ذلك الأخذ يشبه الأكل من جميع جهاته، ولذلك لا يطلق على إحراق مال الغير اسم الأكل ولا يطلق على القرض والوديعة اسم الأكل، وليس الأكل هنا استعارة تمثيلية؛ إذ لا مناسبة بين هيئة آخذ مال غيره لنفسه بقصد عدم إرجاعه وهيئة الأكل لا يخفى.
والأموال: جمع مال ونعرفه بأنه "ما بقدره إقامة نظام معاش أفراد الناس في تناول الضروريات والحاجات والتحسينيات بحسب مبلغ حضارتهم حاصلا بكدح" ، فلا يعد الهواء مالا، ولا ماء المطر والأودية والبحار مالا، ولا التراب مالا، ولا كهوف الجبال وضلال الأشجار مالا، ويعد الماء المحتقر بالآبار مالا، وتراب المقاطع مالا، والحشيش والحطب مالا، وما ينحته المرء لنفسه في جبل مالا.
والمال ثلاثة أنواع: النوع الأول ما تحصل تلك الإقامة بذاته دون توقف على شيء وهو الأطعمة كالحبوب، والثمار، والحيوان لأكله وللانتفاع بصوفه وشعره ولبنه وجلوده

ولركوبه قال تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ} [النحل:80] وقال: {لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [غافر: من الآية79] وقد سمت العرب الإبل مالا قال زهير:
صحيحات مل طالعات بمخرم
وقال عمر: "لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت عليهم من بلادهم شبرا ، وهذا النوع هو أعلى أنواع الأموال وأثبتها، لأن المنفعة حاصلة به من غير توقف على أحوال المتعاملين ولا على اصطلاحات المنظمين، فصاحبة ينتفع به زمن السلم وزمن الحرب وفي وقت الثقة ووقت الخوف وعند رضا الناس عليه وعدمه وعند احتياج الناس وعدمه، وفي الحديث: "يقول ابن آدم: مالي مالي وإنما مالك ما أكلت فأمريت أو أعطيت فأغنيت" فالحصر هنا للكمال في الاعتبار من حيث النفع المادي والنفع العرضي.
النوع الثاني: ما تحمل تلك الإقامة به وبما يكمله مما يتوقف نفعه عليه كالأرض للزرع وللبناء عليها، والنار للطبخ والإذابة، والماء لسقي الأشجار، وآلات الصناعات لصنع الأشياء من الحطب والصوف ونحو ذلك، وهذا النوع دون النوع الثاني لتوقفه على أشياء ربما كانت في أيدي الناس فضنت بها وربما حالت دون نوالها موانع من حرب أو خوف أو وعورة طريق.
النوع الثالث: ما تحصل الإقامة بعوضه مما اصطلح البشر على جعله عوضا لما يراد تحصيله من الأشياء، وهذا هو المعبر عنه بالنقد أو بالعملة، وأكثر اصطلاح البشر في هذا النوع على معدني الذهب والفضة وما اصطلح عليه بعض البشر من التعامل بالنحاس والودع والخرزات وما اصطلح عليه المتأخرون من التعامل بالحديد الأبيض وبالأوراق المالية وهي أوراق المصارف المالية المعروفة وهي حجج التزام من المصرف بدفع مقدار ما بالورقة الصادرة منه، وهذا لا يتم اعتباره إلا في أزمنة السلم والأمن وهو مع ذلك متقارب الأفراد، والأوراق التي تروجها الحكومات بمقادير مالية يتعامل بها رعايا تلك الحكومات.
وقولي في التعريف: حاصلا بكدح، أردت به أن شأنه أن يكون حاصلا بسعي فيه كلفة ولذلك عبرت عنه بالكدح وذلك للإشارة إلى أن المال يشترط فيه أن يكون مكتسبا والاكتساب له ثلاث طرق.

الطريق الأول: طريق التناول من الأرض قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} [البقرة:29] وقال: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك:15] وهذا كالحطب والحشيش والصيد البري والبحري وثمر شجر البادية والعسل، وهذا قد يكون بلا مزاحمة وقد يكون بمزاحمة فيكون تحصيله بالسبق كسكنى الجمال والتقاط الكمأة.
الطريق الثاني: الاستنتاج وذلك بالولادة والزرع والغرس والحلب، وبالصنعة كصنع الحديد والأواني واللباس والسلاح.
الطريق الثالث: التناول من يد الغير فيما لا حاجة له به إما يتعامل بأن يعطي المرء ما زاد على حاجته مما يحتاج إليه غيره ويأخذ من الغير ما زاد على حاجته مما يحتاج إليه هو، أو بإعطاء ما جعله الناس علامة على أن مالكه جدير بأن يأخذ به ما قدر بمقداره كدينار ودرهم في شئ مقوم بهما، وإما بقوة وغلبة كالقتال على الأراضي وعلى المياه.
والباطل اسم فاعل من بطل إذا ذهب ضياعا وخسرا أي بدون وجه، ولا شك أن الوجه هو ما يرضي صاحب المال أعنى العوض في البيوعات وحب المحمدة في التبرعات.
والضمائر في مثل {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ} إلى آخر الآية عامة لجميع المسلمين، وفعل {وَلا تَأْكُلُوا} وقع في حيز النهي فهو عام، فأفاد ذلك نهيا لجميع المسلمين عن كل أكل وفي جميع الأموال، فنا هنا جمعان جمع الآكلين وجمع الأموال المأكولة، وإذا تقابل جمعان في كلام العرب احتمل أن يكون من مقابلة كل فرد من أفراد الجمع بكل فرد من أفراد الجمع الآخر على التوزيع نحو ركب القوم دوابهم وقوله تعالى: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء:102] {قُوا أَنْفُسَكُمْ} [التحريم:6]، واحتمل أن يكون كذلك لكن على معنى أن كل فرد يقابل بفرد غيره لا بفرد نفسه نحو قوله: {وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} [الحجرات:11] وقوله: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النور:61]، واحتمل أن يكون من مقابلة كل فرد بجميع الأفراد نحو قوله: {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ} [غافر:9]، والتعويل في ذلك على القرائن.
وقد علم أن هذين الجمعين هنا من النوع الثاني أي لا يأكل بعضهم مال بعض آخر بالباطل؛ بقرينة قوله: {بَيْنَكُمْ} ؛ لأن بين تقتضي توسطا خلال طرفين، فعلم أن الطرفين آكل ومأكول منه والمال بينهما، فلزم أن يكون الآكل غير المأكول وإلا لما كانت فائدة

لقوله: {بَيْنَكُمْ}.
ومعنى أكلها بالباطل أكلها بدون وجه، وهذا الأكل مراتب:
المرتبة الأولى: ما علمه جميع السامعين مما هو صريح في كونه باطلا كالغصب والسرقة والحيلة.
المرتبة الثانية: ما أحلقه الشرع بالباطل فبين أنه من الباطل وقد كان خفيا عنهم وهذا مثل الربا؛ فإنهم قالوا: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا} [البقرة:275] ، ومثل رشوة الحكام، ومثل بيع الثمرة قبل بدو صلاحها؛ ففي الحديث: "أرأيت إن منع الله الثمرة بم يأخذ أحدكم مال أخيه"، والأحاديث في ذلك كثيرة قال ابن العربي: هي خمسون حديثا.
المرتبة الثالثة: ما استنبطه العلماء من ذلك، فما يتحقق فيه وصف الباطل بالنظر وهذا مجال للاجتهاد في تحقيق معنى الباطل، والعلماء فيه بين موسع ومضيق مثل ابن القاسم وأشهب من المالكية وتصيلة في الفقه.
وقد قيل: إن هذه الآية نزلت في قضية عبدان الحضرمي وامرئ القيس الكندي اختصما لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أرض فنزلت هذه الآية والقصة مذكورة في "صحيح مسلم" ولم يذكر فيها أن هذه لآية نزلت فيهما وإنما ذكر ذلك ابن أبي حاتم.
وقوله تعالى: {وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} طف على {تَأْكُلُوا} أي لا تدلوا بها إلى الحكام لتتوسلوا بذلك إلى أكل المال بالباطل.
وخص هذه الصورة بالنهي بعد ذكر ما يشملها وهو أكل الأموال بالباطل؛ لأن هذه شديدة الشناعة جامعة لمحرمات كثيرة، وللدلالة على أن معطي الرشوة آثم مع أنه لم يأكل ملا بل آكل غيره، وجوز أن تكون الواو للمعية و {تُدْلُوا} منصوبا بأن مضمرة بعدها في جواب النهي فيكون النهي عن مجموع الأمرين أي لا تأكلوها بينكم مدلين بها إلى الحكام لتأكلوا وهو يفضي إلى أن المنهي عنه في هذه الآية هو الرشوة خاصة فيكون المراد الاعتناء بالنهي من هذا النوع من أكل الأموال بالباطل.
والإدلاء في الأصل إرسال الدلو في البئر وهو هنا مجاز في التوسل والدفع.
فالمعنى على الاحتمال الأول، لا تدفعوا أموالكم للحكام لتأكلوا بها فريقا من أموال الناس باإثم؛ فالإدلاء بها هو دفعها لإرشاد الحكام ليقضوا للدافع بمال غيره فهي تحريم للرشوة، وللقضاء بغير الحق، ولأكل المقضي له مالا بالباطل بسبب القضاء بالباطل.

والمعنى على الاحتمال الثاني لا تأكلوا أموالكم بالباطل في حال انتشاب الخصومات بالأموال لدى الحكام لتتوسلوا بقضاء الحكام، إلى أكل الأموال بالباطل حين لا تستطيعون أكلها بالغلب، وكأن الذي دعاهم إلى فرض هذا الاحتمال هو مراعاة القصة التي ذكرت في سبب النزول، ولا يخفى أن التقيد بتلك القصة لا وجه له في تفسير الآية، لأنه لو صح سندها لكان حمل الآية على تحريم الرشوة لأجل أكل المال دليلا على تحريم أكل المال بدون رشوة بدلالة تنقيح المناط.
وعلى ما اخترناه فالآية دلت على تحريم أكل الأموال بالباطل، وعلى تحريم إرشاء الحكام لأكل الأموال بالباطل، وعلى أن قضاء القاضي لا يغير صفة أكل المال بالباطل، وعلى تحريم الجوز في الحكم بالباطل ولو بدون إرشاء، لأن تحريم الرشوة إنما كان لما فيه من تغيير الحق، ولا جرم أن هاته الأشياء من أهم ما تصدى الإسلام لتأسيسه تغييرا لما كانوا عليه في الجاهلية فإنهم كانوا يستحلون أموال الذين لم يستطيعوا منع أموالهم من الأكل فكانوا يأكلون أموال الضعفاء قال صنان اليشكري:
لو كان حوض حمار ما شربت به ... إلا بإذن حمار آخر الأبد
لكنه حوض من أودى بإخوته ... ريب المنون فأمسى بيضة البلد
وأما إرشاء الحكام فقد كان أهل الجاهلية يبذلون الرشا للحكام ولما تنافر عامر بن الطفيل وعلقمة بن علاثة إلى هرم بن قطبة الفزاري بذل كل واحد منهما مائة من الإبل إن حكم له بالتفضيل على الآخر فلم يقض لواحد منهما بل قضي بينهما بأنهما كركبتي البعير الأدرم الفحل تستويان في الوقوع على الأرض فقال الأعشى في ذلك من أبيات.
حكمتموه فقضى بينكم ... أزهر مثل القمر الباهر
لا يقبل الرشوة في حكمه ... ولا يبالي غبن الخاسر
ويقال إن أول من ارتشى من حكام الجاهلية هو ضمرة بن ضمرة النهشلي بمائة من الإبل دفعها عباد بن أنف الكلب في منافرة بينه وبين معبد بن فضلة الفقعسي لينفره عليه ففعل، ويقال إن أول من ارتشى في الإسلام يرفأ غلام عمر بن الخطاب رشاء المغيرة ابن شعبة ليقدمه في الإذن بالدخول إلى عمر؛ لأن يرفأ لما كان هو الواسطة في الإذن للناس وكان الحق في التقديم في الإذن للأسبق، إذ لم يكن مضطرا غيره إلى التقديم كان تقديم غير الأسبق اعتداء على حق الأسبق فكان جورا وكان بذل المال لأجل تحصيله إرشاء ولا أحسب هذا إلا من أكاذيب أصحاب الأهواء للغض من عدالة بعض الصحابة

فإن صح ولا إخاله: فالمغيرة لم ير في ذلك بأسا؛ لأن الضر اللاحق بالغير غير معتد به، أو لعله رآه إحسانا ولم يقصد التقديم ففعله يرفأ إكراما له لأجل نواله، أما يرفأ فلعله لم يهتد إلى دقيق هذا الحكم.
فالرشوة حرمها الله تعالى بنص هاته الآية؛ لأنها إن كانت للقضاء بالجور فهي لأكل مال الباطل وليست هي أكل مال بالباطل فلذلك عطف على النهي الأول؛ لأن الحاكم موكل المال لا آكل، وإن كانت للقضاء بالحق فهي أكل مال بالباطل؛ لأن القضاء بالحق واجب، ومثلها كل مال يأخذه الحاكم على القضاء من الخصوم إلا إذا لم يجعل له شئ من بيت المال ولم يكن له مال فقد أباحوا له أخذ شئ معين على القضاء سواء فيه كلا الخصمين.
ودلالة هذه الآية على أن قضاء القاضي لا يؤثر في تغيير حرمة أكل المال من قوله: {وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْأِثْمِ} فجعل المال الذي يأكله أحد بواسطة الحكم إثما وهو صريح في أن القضاء لا يحل حراما ولا ينفذ إلا ظاهرا1، وهذا مما لا شبهة فيه لولا خلاف وقع في المسألة، فإن أبا حنيفة خالف جمهور الفقهاء فقال بأن قضاء القاضي يحل الحرام وينفذ باطنا وظاهرا إذا كان بحل أو حرمة وادعاه المحكوم له بسبب معين أي كان القضاء يعقد أو فسخ وكان مستندا لشهادة شهود وكان المقضي به مما يصح أن يبتدأ، هذا الذي حكاه عنه غالب فقهاء مذهبه وبعضهم يخصه بالنكاح
واحتج على ذلك بما روي أن رجلا خطب امرأة هو دونها فأبت إجابته فادعى عليها، إن كان ولا بد فزوجني منه فقال لها علي شاهداك زوجاك، وهذا الدليل بعد تسليم صحة سنده لا يزيد على كونه مذهب صحابي وهو لا يعارض الأحوال الشرعية ولا الأحاديث المروية نحو حديث: "فمن قضيت له بحق أخيه فلا يأخذه فإنما أقتطع له قطعة من نار"، على أن تأويله ظاهر وهو أن عليا اتهمها بأنها تريد بإحداث العقد بعد الحكم لإظهار الوهن في الحكم والإعلان بتكذيب المحكوم له ولعلها إذا طلب منها العقد أن تمتنع فيصبح الحكم معلقا.
ـــــــ
1 انظر هذه المسألة في "تفسير القرطبي" "4/120" المسألة الثانية من [آل عمران:77]

والظاهر أن مراد أبي حنيفة أن القضاء فيما يقع صحيحا وفاسدا شرعا من كل ما ليس فيه حق العبد أن قضاء القاضي بصحته يتنزل منزلة استكمال شروطه توسعه على الناس فلا يخفي ضعف هذا ولذلك لم يتابعه عليه أحد من أصحابه.
وقوله: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} حال مؤكدة لأن المدلي بالأموال للحكام ليأكل أموال الناس عالم لا محالة بصنعه، فالمراد من هذه الحال تشنيع الأمر وتفظيعه إعلانا بأن أكل المال بهذه الكيفية هو من الذين أكلوا أموال الناس عن علم وعمد فجرمه أشد.
[189] {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}
{يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}
اعتراض بين شرائع الأحكام الراجعة إلى إصلاح النظام، دعا إليه ما حدث من السؤال، فقد روي الواحدي أنها نزلت بسبب أن أحد اليهود سأل أنصاريا عن الأهلة وأحوالها في الدقة إلى أن تصير بدرا ثم تتناقص حتى تختفي فسأل الأنصاري رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية، ويظهر أن نزولها متأخر عن نزول آيات فرض الصيام ببضع سنين؛ لأن آية: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} متصلة بها. وسيأتي أن تلك الآية نزلت في عام الحديبية أو عام عمرة القضية. فمناسبة وضعها في هذا الموضع هي توقيت الصيام بحلول شهر رمضان، فكان من المناسبة ذكر المواقيت لإقامة نظام الجامعة الإسلامية على أكمل وجه. ومن كمال النظام ضبط الأوقات، ويظهر أن هذه الآية أيضا نزلت بعد أن شرع الحج أي بعد فتح مكة، لقوله تعالى: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}.
وابتدئت الآية بـ {يَسْأَلونَكَ} لأن هنالك سؤالا واقعا عن أمر الأهلة وجميع الآيات التي افتتحت بـ {يَسْأَلونَكَ} هي متضمنة لأحكام وقع السؤال عنها فيكون موقعها في القرآن مع آيات تناسبها نزلت في وقتها أو قرنت بها. وروى أن الذي سأله عن ذلك معاذ بن جبل وثعلبة بن غنمة الأنصاري فقالا: ما بال الهلال يبدو دقيقا ثم يزيد حتى يمتلئ ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدأ، قال العراقي لم أقف لهذا السبب على إسناد.
وجمع الضمير في قوله: {يَسْأَلونَكَ} مع أن المروي أن الذي سأله رجلان نظرا

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68