كتاب : التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور
المؤلف : محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي

مبتدأ وشرط أن يجري ما بعدهما على ما يناسب جملة الشرط لأن المفعول الأول لأفعال القلوب في معنى المبتدأ.
وجملة {هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ} جواب {إن} .واستعمال العرب إذا صدر الجواب بأداة استفهام غير الهمزة يجوز تجرده عن الفاء الرابطة للجواب كقوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام:47]،ويجوز اقترانه بالفاء كقوله: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ} [هود:63].فأما المصدر بالهمزة فلا يجوز اقترانه بالفاء كقوله: {أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:14,13].
وجواب الشرط دليل على المفعول الثاني لفعل الرؤية.والتقدير:أرأيتم ما تدعون من دون الله كاشفات ضره.والهمزة للاستفهام وهو إنكاري إنكار لهذا الظن.
وجيء بحرف {هَلْ} في جواب الشرط وهي للاستفهام الإنكاري أيضا تأكيدا لما أفادته همزة الاستفهام مع ما في"هَلْ"من إفادة التحقيق.وضمير {هُنَّ} عائد إلى "ما" الموصولة وكذلك الضمائر المؤنثة الواردة بعده ظاهرة ومستترة،إما لأن ما صدق "ما" الموصولة هنا أحجار غير عاقلة وجمع غير العقلاء يجري على اعتبار التأنيث،ولأن ذلك يصير الكلام من قبيل الكلام الموجه بأن آلهتهم كالإناث لا تقدر على النصر.
والكاشفات:المزيلات،فالكشف مستعار للإزالة بتشبيه المعقول وهو الضر بشيء مستتر،وتشبيه إزالته بكشف الشيء المستور،أي إخراجه،وهي مكنية والكشف استعارة تخييلية.
والإمساك أيضا مكنية بتشبيه الرحمة بما يسعف به،وتشبيه التعرض لحصولها بإمساك صاحب المتاع متاعه عن طالبيه.
وعدل عن تعدية فعل الإرادة للضر والرحمة،إلى تعديته لضمير المتكلم ذات المضرور والمرحوم مع أن متعلق الإرادات المعاني دون الذوات،فكان مقتضى الظاهر أن يقال:إن أراد ضري أو أراد رحمتي فحق فعل الإرادة إذا قصد تعديته إلى شيئين أن يكون المراد هو المفعول،وأن يكون ما معه معدى إليه بحرف الجر،نحو أردت خيرا لزيد،أو أردت به خيرا،فإذا عدل عن ذلك قصد به الاهتمام بالمراد به لإيصال المراد إليه حتى كأن ذاته هي المراد لمن يريد إيصال شيء إليه،وهذا من تعليق الأحكام بالذوات.

والمراد أحوال الذوات مثل {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة:3]أي أكلها.ونظم التركيب:إن أرادني وأنا متلبس بضر منه أو برحمة منه،قال عمرو بن شاس:
أرادت عرارا بالهوان ومن يرد ... عرارا لعمري بالهوان فقد ظلم
وإنما فرض إرادة الضر وإرادة الرحمة في نفسه دون أن يقول:إن أرادكم،لأن الكلام موجه إلى ما خوفوه من ضر أصنامهم إياه.
وقرأ الجمهور {كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ} و {مْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} بإضافة الوصفين إلى الاسمين.وقرأ أبو عمرو ويعقوب بتنوين الوصفين ونصب {ضُرِّهِ} و {رَحْمَتِهِ} وهو اختلاف في لفظ تعلق الوصف بمعموله والمعنى واحد.
ولما ألقمهم الله بهذه الحجة الحجر وقطعهم فلا يحيروا ببنت شفة أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول: {حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} ،وإنما أعيد الأمر بالقول ولم ينتظم {حَسْبِيَ اللَّهُ} في جملة الأمر الأول،لأن هذا المأمور بان يقوله ليس المقصود توجيهه إلى المشركين فإن فيما سبقه مقنعا من قلة الاكتراث بأصنامهم،وإنما المقصود ان يكون هذا القول شعار النبي صلى الله عليه وسلم في جميع شؤونه،وفيه حظ للمؤمنين معه حاصل من قوله: {عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64]،فإعادة فعل {قل} للتنبيه على استقلال هذا الغرض عن الغرض الذي قبله.
والحسب:الكافي وتقدم في قوله تعالى: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} في آل عمران[173]. وحذف المتعلق في هذه الجملة لعموم المتعلقات،أي حسبي الله من كل شيء وفي كل حال.
والمراد بقوله اعتقاده،ثم تذكره،ثم الإعلان به لتعليم المسلمين وإغاظة المشركين.
والتوكل:تفويض أمور المفوض إلى من يكفيه إياه، وتقدم في قوله: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} في سورة آل عمران[159].
وجملة {عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} يجوز أن تكون مما أمر بأن يقوله تذكرا من النبي صلى الله عليه وسلم وتعليما للمسلمين فتكون الجملة تذييلا للتي قبلها لأنها أعم منها باعتبار القائلين لأن {حَسْبِيَ اللَّهُ} يؤول إلى معنى:توكلت على الله،أي حسبي أنا وحسب كل متوكل،أي كل مؤمن يعرف الله حق معرفته ويعتمد على كفايته دون غيره،فتعريف {الْمُتَوَكِّلُونَ}

للعموم العرفي،أي المتوكلون الحقيقيون إذ لا عبرة بغيرهم.
ويجوز أن تكون من كلام الله تعالى خاطب به رسوله صلى الله عليه وسلم ولم يأمره بأن يقوله فتكون الجملة تعليلا للأمر بقول: {حَسْبِيَ اللَّهُ} ،أي اجعل الله حسبك،لأن أهل التوكل يتوكلون على الله دون غيره وهم الرسل والصالحون وإذ قد كنت من رفيقهم فكن مثلهم في ذلك على نحو قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [بالأنعام:90].وتقديم المجرور على {يَتَوَكَّلُ} لإفادة الاختصاص لأن أهل التوكل الحقيقيين لا يتوكلون إلا على الله تعالى،وذلك تعريض بالمشركين إذ اعتمدوا في أمورهم على أصنامهم.
[39ـ40] {قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ}
لما أبلغهم الله من الموعظة لأقصى مبلغ،ونصب لهم من الحجج أسطع حجة،وثبت رسوله صلى الله عليه وسلم أرسخ تثبيت،لا جرم أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يوادعهم موادعة مستقرب النصر،ويواعدهم ما أعد لهم من خسر.
وعدم عطف جملة {قُلْ} هذه على جملة {قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ} [الزمر:38]لدفع توهم أن يكون أمره {قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ} لقصد إبلاغه إلى المشركين نظير ترك العطف في البيت المشهور في علم المعاني:
وتظن سلمى أنني أبغي بها ... بدلا أراها في الضلال تهيم
لم يعطف جملة:أراها في الضلال،لئلا يتوهم أنها معطوفة على جملة:أبغي بها بدلا،ولأنها انتقال من غرض الدعوة والمحاجة إلى غرض التهديد.وابتدأ المقول بالنداء بوصف القوم لما يشعر به من الترقيق لحالهم والسف على ضلالهم لأن كونهم قومه يقتضي أن لا يدخرهم نصحا.
والمكانة:المكان،وتأنيثه روعي فيه معنى البقعة،استعير للحالة الحيطة بصاحبها إحاطة المكان بالكائن فيه.والمعنى:اعملوا على طريقتكم وحالكم من عداوتي،وتقدم نظيره في سورة الأنعام[135].
وقرأ الجمهور {مَكَانَتِكُمْ} بصيغة المفرد.وقرأ أبو بكر عن عاصم {مَكَانَاتِكُمْ} بصيغة الجمع بألف وتاء.
وقال تعالى هنا: {مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} ليكون التهديد بعذاب خزي في الدنيا

وعذاب مقيم في الآخرة.فأما قوله في سورة الأنعام[135]: {قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} فلم يذكر فيها العذاب لأنها جاءت بعد تهديدهم بقوله: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134].
وحذفت متعلق {إِنِّي عَامِلٌ} ليعم كل متعلق يصلح أن يتعلق بـ {عَامِلٌ} مع الاختصار فإن مقابلته بقوله: {اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} يدل على أنه أراد من {إِنِّي عَامِلٌ} أنه ثابت على عمله في نصحهم ودعوتهم إلى ما ينجيهم.وأن حذفت ذلك مشعر بأنه لا يقتصر على مقدار مكانته وحالته بل حاله تزداد كل حين قوة وشدة لا يعتريها تقصير ولا يثبطها إعراضهم،وهذا من مستتبعات الحذف ولم ننبه عليه في سورة الأنعام وفي سورة هود.
و {مَنْ} استفهام علقت فعل {تَعْلَمُونَ} عن العمل في مفعوليه.
والعذاب المخزي هو عذاب الدنيا.والمراد به هنا عذاب السيف يوم بدر.والعذاب المقيم هو عذاب الآخرة،وإقامته خلوده.وتنوين {عَذَابٌ} في الموضعين للتعظيم المراد به التهويل.
وأسند فعل {يَأْتِيهِ} إلى العذاب المخزي لأن الإتيان مشعر بأنه يفاجئهم كما يأتي الطارق.وكذلك إسناد فعل {يَحِلُّ} إلى العذاب المقيم لأن الحلول مشعر بالملازمة والإقامة معهم،وهو عذاب الخلود، ولذلك يسمى منزل القول حلة،ويقال للقوم القاطنين غير المسافرين: هم حلال، فكان الفعل مناسبا لوصفه بالمقيم.وتعدية فعل {يَحِلُّ} بحرف "على" للدلالة على تمكنه.
[41] {إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ}
الجملة تعليل للأمر بأن يقول لهم اعملوا على مكانتكم المفيد موادعتهم وتهوين تصميم كفرهم عليه، وتثبيته على دعوته.والمعنى:لأنا نزلنا عليك الكتاب بالحق لفائدة الناس وكفاك ذلك شرفا وهداية وكفاك تبليغه إليهم فمن اهتدى من الناس فهدايته لنفسه بواسطتك ومن ضل فلم يهتد به فضلاله على نفسه وما عليك من ضلالهم تبعة لأنك بلغت ما أمرت به.ولذلك خولف بين ما هنا مبين قوله في صدر السورة: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [الزمر:2]،لأن تلك في غرض التنويه بشأن النبي صلى الله عليه وسلم فناسب أن يكون إنزال الكتاب إليه،و {لِلنَّاسِ} متعلق بـ {أَنْزَلْنَا} ،و {بِالْحَقِّ} حال من {الْكِتَابَ} ،

والباء للملابسة، واللام في {لِلنَّاسِ} للعلة،أي لأجل الناس.وفي الكلام مضاف مفهوم مما تؤذن به اللام من معنى الفائدة والنفع أي لنفع الناس،أو مما يؤذن به التفريع في قوله: {فَمَنِ اهْتَدَى} الخ.وفاء {فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ} للتفريع وهو تفريع ناشي من معنى اللام.و"من" شرطية،أي من حصل منه الاهتداء في المستقبل فإن اهتداءه لفائدة نفسه لا غير،أي ليست لك من اهتدائه فائدة لذاتك لأن فائدة الرسول صلى الله عليه وسلم وهي شرفه وأجره ثابتة على التبليغ سواء اهتدى من اهتدى وضل من ضل.
وتقدم نظير هذه الآية في قوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} آخر سورة يونس[108]،وفي قوله: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} في آخر سورة النمل[92,91]،ولكن جيء في تينك الآيتين بصيغة قصر الاهتداء على نفس المهتدي وترك ذلك في هذه السورة،ووجه ذلك أن تينك الآيتين واردتان بالأمر بمخاطبة المشركين فكان المقام فيهما مناسبا لإفادة أن فائدة اهتدائهم لا تعود إلا لأنفسهم،أي ليست لي منفعة من اهتدائهم،خلافا لهذه الآية فإنها خطاب موجه من الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم ليس فيها حال من ينزل منزلة المدل باهتدائه.
أما قوله: {وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} فصيغة القصر فيه لتنزيل الرسول صلى الله عليه وسلم في أسفه على ضلالهم المفضي بهم إلى العذاب منزلة من يعود عليه من ضلالهم ضر فخوطب بصيغة القصر،وهو قصر قلب على خلاف مقتضى الظاهر.ولذلك اتحدت الآيات الثلاثاء في الاشتمال على القصر بالنسبة لجانب ضلالهم فإن قوله في سورة النمل[92] {فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ} في معنى {فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} , أي ليس ضلالكم علي فإنما أنا من المنذرين.وهذه نكت من دقائق إعجاز القرآن.
وقوله: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} القول فيه في {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} في سورة يونس[108].
وجملة {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} عطف على جملة {فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ} أي ليست مأمورا بإرغامهم على الاعتداء،فصيغ هذا الخبر في جملة اسمية للدلالة على ثبات حكم هذا النفي.
[42] {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}

يصلح هذا أن يكون مثلا لحال ضلال الضالين وهدى المهتدين نشأ عن قوله: {فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ} إلى قوله: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} [الزمر:41].
والمعنى:أن استمرار الضال على ضلالة قد يحصل بعه اهتداء وقد يوافيه أجله وهو في ضلاله فضرب المثل لذلك بنوم النائم قد تعقبه إفاقة وقد يموت النائم في نومه،وهذا تهوين على نفس النبي صلى الله عليه وسلم برجاء إيمان كثير ممن هم يومئذ في ضلال وشرك كما تحقق ذلك.فتكون الجملة تعليلا للجملة قبلها ولها اتصال بقوله: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ} [الزمر:22]إلى قوله: {أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الزمر:22].
ويجوز أن يكون انتقالا إلى استدلال على تفرد الله تعالى بالتصرف في الأحوال فإنه ذكر دليل التصرف بخلق الذوات ابتداء من قوله: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} إلى قوله: {فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ} [الزمر:6,5]،ثم دليل التصرف بخلق أحوال ذوات وإنشاء ذوات من تلك الأحوال وذلك من قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ} إلى قوله: {لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [الزمر:21]وأعقب كل دليل بما يظهر فيه أثره من الموعظة والعبرة والزجر عن مخالفة مقتضاه، فانتقل هنا إلى الاستدلال بحالة عجيبة من أحوال أنفس المخلوقات وهي حالة الموت وحالة النوم. وقد أنبأ عن الاستدلال قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} ،فهذا دليل للناس من أنفسهم، قال تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذريات:21]وقال: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [الروم:28]،فتكون الجملة استئنافا ابتدائيا للتدرج في الاستدلال ولها اتصال بجملة {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} وجملة {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ} المتقدمتين،وعلى كلا الوجهين أفادت الآية إبراز حقيقتين عظميتين من نواميس الحياتين النفسية والجسدية وتقديم اسم الجلالة على الخبر الفعلي لإفادة تخصيصه بمضمون الخبر،أي الله يتوفى لا غيره فهو قصر حقيقي لإظهار فساد أن أشركوا به آلهة لا تملك تصرفا في أحوال الناس.
والتوفي:الإماتة،وسميت توفيا لأن الله إذا أمات أحدا فقد توفاه أجله فالله المتوفي وملك الموت متوف أيضا لأنه مباشر التوفي.
والميت:متوفى بصيغة المفعول،وشاع ذلك فصار التوفي مرادفا للإماتة والوفاة مرادفة للموت بقطع النظر عن كيفية تصريف ذلك واشتقاقه من مادة الوفاء.
وتقدم في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} في سورة البقرة[234]،وقوله: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ} في سورة السجدة[11].

والأنفس:جمع نفس،وهي الشخص والذات قال تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} وتطلق على الروح الذي به الحياة والإدراك.
ومعنى التوفي يتعلق بالأنفس على كلا الإطلاقين.والمعنى:يتوفى الناس الذين يموتون فان الذي يوصف بالموت هو الذات لا الروح وأن توفيها سلب الأرواح عنها.
وقوله: {وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ} عطف على الأنفس باعتبار قيد {حِينَ مَوْتِهَا} لأنه في معنى الوصف فكأنه قيل يتوفى الأنفس التي تموت في حالة نومها،والأنفس التي لم تمت في نومها فأفاقت.ويتعلق {فِي مَنَامِهَا} بقوله: {يَتَوَفَّى} ،أي ويتوفى أنفسا لم تمت يتوفاها في منامها كل يوم،فعلم أن المراد بتوفيها هو منامها، وهذا جار على وجه التشبيه بحسب عرف اللغة إذ لا يطلق على النائم ميت ولا متوفى.وهو تشبيه نحي به منحى التنبيه إلى حقيقة علمية فإن حالة النوم حالة انقطاع أهم فوائد الحياة عن الجسد وهي الإدراك سوى أن أعضاءه الرئيسية لم تفقد صلاحيتها للعودة إلى أعمالها حين الهبوب من النوم، ولذلك قال تعالى: { وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ} كما تقدم في سورة الأنعام[60].
والفاء في {فيمسك} فاء الفصيحة لأن ما تقدم يقتضي مقدارا يفصح عنه الفاء لبيان توفي النفوس في المقام.
والإمساك:الشد باليد وعدم تسليم المشدود.والمعنى:فيبقي ولا يرد النفس التي قضى عليها بالموت، أي يمنعها أن ترجع إلى الحياة فإطلاق الإمساك على بقاء حالة الموت تمثيل لدوام تلك الحالة.ومن لطائفه أن أهل الميت يتمنون عود ميتهم لو وجدوا إلى عودة سبيلا ولكن الله لم يسمح لنفس ماتت أن تعود إلى الحياة.
والإرسال:الإطلاق والتمكين من مبارحة المكان للرجوع إلى ما كان.والمراد بـ {الأخرى} {الَّتِي لَمْ تَمُتْ} ولكن الله جعلها بمنزلة الميتة.والمعنى:يرد إليها الحياة كاملة.والمقصود من هذا إبراز الفرق بين الوفاتين.
ويتعلق {إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} بفعل {يرسل} لما فيه من معنى يرد الحياة إليها،أي فلا يسلبها الحياة كلها إلا في أجلها المسمى،أي المعين لها في تقدير الله تعالى.
والتسمية:التعيين،وتقدمت في قوله تعالى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} في سورة البقرة[282].

هذا هو الوجه في تفسير الآية الخلي عن التكلفات وعن ارتكاب شبه الاستخدام في قوله: {الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى} وعن التقدير.
وجملة {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} مستأنفة كما تذكر النتيجة عقب الدليل،أي أن في حالة الإماتة والإنامة دلائل على انفراد الله تعالى بالتصرف وأنه المستحق للعبادة دون غيره وان ليس المقصود من هذا الخبر الإخبار باختلاف حالتي الموت والنوم بل المقصود التفكر والنظر في مضرب المثل،وفي دقائق صنع الله والتذكير بما تنطوي عليه من دقائق الحكمة التي تمر على كل إنسان كل يوم في نفسه،وتمر على كثير من الناس في آلهم وفي عشائرهم وهم معرضون عما في ذلك من الحكم وبديع الصنع.
وجعل ما تدل عليه آيات كثيرة لأنهما حلتان عجيبتان ثم في كل حالة تصرف يغير التصرف الذي في الأخرى،ففي حالة الموت سلب بعض الحياة عن الجسم حتى يكون كالميت وما هو بميت ثم منح الحياة أن تعود إليه دواليك إلى أن يأتي إبان سلبها عنه سلبا مستمرا.
و"الآيات لقوم يتفكرون" حاصلة على كل من إرادة التمثيل وإرادة الاستدلال على الانفراد بالتصرف.وتأكيد الخبر بـ {إن} لتنزيل معظم الناس منزلة المنكر لتلك الآيات لعدم جريهم في أحوالهم على مقتضى ما تدل عليه.
والتفكير:تكلف الفكرة،وهو معالجة الفكر ومعاودة التدبر في دلالة الأدلة على الحقائق.
وقرأ الجمهور {قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} ببناء الفعل للفاعل ونصب الموت.وقرأه حمزة والكسائي وخلف { قُضِى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} ببناء الفعل للنائب وبرفع الموت وهو على مراعاة نزع الخافض.والتقدير:قضى عليها بالموت،فلما حذف الخافض صار الاسم الذي كان مجرورا بمنزلة المفعول به فجعل نائبا عن الفاعل،أو على تضمين {قُضِى} معنى كُتب وقُدر.
[43ـ44] {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}

{أم} منقطعة وهي للإضراب الانتقالي انتقالا من تشنيع إشراكهم إلى إبطال معاذيرهم في شرهم، ذلك أنهم لما دمغتهم حجج القرآن باستحالة أن يكون لله شركاء تمحلوا تأويلا لشركهم فقالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]كما حكي عنهم في أول هذه السورة،فلما استوفيت الحجج على إبطال الشرك أقبل هن على إبطال تأويلهم منه ومعذرتهم.والاستفهام الذي تشعر به {أم} في جميع مواقعها هو هنا للإنكار بمعنى أن تأويلهم وعذرهم منكر كما كان المعتذر عنه منكرا فلم يقضوا بهذه المعذرة وطرا.وقد تقدم في أول السورة بيان مرادهم بكونهم شفعاء.
وأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم مقالة تقطع بهتانهم وهي {أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ} .
فالواو في {أَوَلَوْ كَانُوا} عاطفة كلام الجيب على كلامهم وهو من قبيل ما سمي بعطف التلقين في قوله تعالى: {قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} في سورة البقرة[124]،ولك أن تجعل الواو للحال كما هو المختار في نظيره.وتقدم في قوله: {وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} في سورة آل عمران[91].وصاحب الحال مقدر دل عليه ما قبله من قوله: {اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ} .والتقدير:أيشفعون لو كانوا لا يملكون شيئا.والظاهر أن حكم تصدير الاستفهام قبل واو الحال كحكم تصديره قبل واو العطف.
وأفاد تنكير {شَيْئاً} في سياق النفي عموم كل ما يملك فيدخل في عمومه جميع أنواعه الشفاعة.ولما كانت الشفاعة أمرا معنويا كان معنى لكها تحصيل إجابتها،والكلام تهكم إذ كيف يشفع من لا يعقل فإنه لعدم عقله لا يتصور خطور معنى الشفاعة عنده فضلا عن أن تتوجه إرادته إلى الاستشفاع فاتخاذهم شفعاء من الحماقة.
ولما نفي أن يكون لأصنامهم شيء من الشفاعة في عموم نفي ملك شيء من الموجودات عن الأصنام،قوبل بقوله: {لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ} أي الشفاعة كلها لله.وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يقول ذلك لهم ليعلموا أن لا يملك الشفاعة إلا الله،أي هو مالك إجابة شفاعة الشفعاء الحق.وتقديم الخبر المجرور وهو {لِلَّهِ} على المبتدأ لإفادة الحصر.واللام للملك،أي قصر ملك الشفاعة على الله تعالى لا يملك أحد الشفاعة عنده.
و {جَمِيعاً} حال من الشفاعة مفيدة للاستغراق،أي لا يشذ جزئي من جزيئات حقيقية الشفاعة عن كونه ملكا لله وقد تأكد بلازم هذه لحال ما دل عليه الحصر من انتفاء أن يكون شيء من الشفاعة لغير الله.

وجملة {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} لتعميم انفراد اله بالتصرف في السماوات والأرض الشامل للتصرف في مؤاخذة المخلوقات وتسيير أمورهم فموقعها موقع التذييل المفيد لتقرير الجملة التي قبله وزيادة.والمراد الملك بالتصرف بالخلق وتصريف أحوال العامين ومن فيهما،فإذا كان ذلك الملك له فلا يستطيع أحد صرفه عن أمر أراد وقوعه إلى ضد ذلك الأمر في مدة وجود السماوات والأرض، وهذا إبطال لأن تكون لآلهتهم شفاعة لهم في أحوالهم في الدنيا.وعطف عليه {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} للإشارة إلى إثبات البعث وإلى أنه لا يشفع أحد عند الله بعد الحشر إلا من أذنه الله بذلك.
و {ثم} للترتيب الرتبي كشأنها في عطف الجمل، ذلك لأن مضمون {إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أن لله ملك الآخرة كما كان له ملك الدنيا وملك الآخرة أعظم لسعة مملوكاته وبقائها.وتقديم {إليه} على {تُرْجَعُونَ} للاهتمام والتقوي وللرعاية على الفاصلة.
[45] {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}
عطف على جملة {اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ} [الزمر:43]لإظهار تناقضهم في أقوالهم المشعر بأن ما يقولونه أقضية سفساطية يقولونها للتنصل من دمغات الحجج التي جبههم بها القرآن،فإنهم يعتذرون تارة على إشراكهم بأن شركاءهم شفعاء لهم عند اله.وهذا يقتضي أنهم معترفون بأن الله هو إلههم وإله شركائهم،ثم إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله واحد أو ذكر المسلمون كلمة لا إله إلا الله اشمأزت قلوبهم من الاقتصار على ذكر الله فلا يرضون بالسكوت عن وصف أصنامهم بالإلهية وذلك مؤذن بأنهم يسوونها بالله تعالى.
فقوله: {وَحْدَهُ} لك أن تجعله حالا من اسم الجلالة ومعناه منفردا.ويقدر في قوله: {ذُكِرَ اللَّهُ} معنى: بوصف الإلهية ويكون معنى {ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ} ذكر تفرده بالإلهية.وهذا جار على قول يونس بن حبيب في {وَحْدَهُ}. ولك أن تجعله مصدرا وهو قول الخليل بن أحمد،أي هو مفعول مطلق لفعل {ذُكِرَ} لبيان نوعه،أي ذكرا واحدا،أي لم يذكر مع اسم الله أسماء أصنامهم.وإضافة المصدر إلى ضمير الجلالة لاشتهار المضاف إليه بهذا الوحد.وهذا الذكر هو الذي يجري في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وفي الصلوات وتلاوة القرآن وفي مجامع المسلمين.

ومعنى {إِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} إذا ذكرت أصنامهم بوصف الإلهية وذلك حين يسمعون أقوال جماعة المشركين في أحاديثهم وأيمانهم باللات والعزى،أي ولم يذكر اسم الله معها فاستبشارهم بالاقتصار على ذكر أصنامهم مؤذن بأنهم يرجحون جانب الأصنام على جانب الأصنام على جانب الله تعالى.والذكر:هو النطق بالاسم.والمراد إذا ذكر المسلمون اسم الله اشمأز المشركون لأنهم لم يسمعوا ذكر آلهتهم وإذا ذكر المشركون أسماء أصنامهم استبشر الذين يسمعونهم من قومهم.والتعبير عن آلهتهم بـ {الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} دون لفظ:شركائهم أو شفعائهم،للإيماء إلى أن علة استبشارهم بذلك الذكر هو أنه ذكر من وهم دون الله،أي ذكر مناسب لهذه الصلة،أي هو خال عن اسم الله،فالمعنى: وإذا ذكر شركاؤهم دون ذكر الله إذا هم يستبشرون.
والاقتصار على التعرض لهذين الذكرين لأنهما أظهر في سوء نوايا المشركين نحو الله تعالى،وفي بطلان اعتذراهم بأنهم ما يعبدون الأصنام إلا ليقربوهم إلى الله ويشفعوا لهم عنده،فأما الذكر الذي يذكر فيه اسم الله وأسماء آلهتهم كقولهم في التلبية:لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك، فذلك ذكر لا مناسبة له بالمقام.
وذكر جمع من المفسرين لقوله: {إِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} أنه إشارة إلى ما يرى من قصة الغرانيق، ونسب تفسير ذلك بذلك إلى مجاهد،وهو بعيد عن سياق الآية.ومن البناء على الأخبار الموضوعة فلله در من أعرضوا عن ذكر ذلك.
الاشمئزاز:شدة الكراهية والنفور،أي كرهت ذلك قلوبهم ومداركهم.
والاستبشار:شدة الفرح حتى يظهر أثر ذلك على بشرة الوجه،وتقدم في قوله: {وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ} في سورة الحجر[67].
ومقابلة الاشمئزاز بالاستبشار مطابقة كاملة لأن الاشمئزاز غاية الكراهية والاستبشار غاية الفرح.
والتعبير عن المشركين بـ {الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} لأنهم عرفوا بهذه الصلة بين الناس مع قصد إعادة تذكيرهم بوقوع القيامة.
و {إذا} الأولى و {إذا} الثانية ظرفان مضمنان معنى الشرط كما هو الغالب.و {إذا} الثالثة للمفاجأة للدلالة على أنهم يعالجهم الاستبشار حينئذ من فرط حبهم آلهتهم.ولذلك جيء بالمضارع في {يَسْتَبْشِرُونَ} دون أن يقال: مستبشرون، لإفادة تجدد استبشارهم.

[46] {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}
لما كان أكثر ما تقدم من السورة مشعرا بالاختلاف بين المشركين والمؤمنين،وبان المشركين مصممون على باطلهم على ما غمرهم من حجج الحق دون إغناء الآيات والتدبر عنهم أمر الرسول صلى الله عليه وسلم عقب ذلك بأن يقول هذا القول تنفيسا عنه من كدر الأسى على قومه،وأعذار لهم بالنذارة،وإشعار لهم بأن الحق في جانبهم مضاع وأن الأجدر بالرسول صلى الله عليه وسلم متاركتهم وأن يفوض الحكم في خلافهم إلى الله.وفي هذا التفويض إشارة إلى أن الذي فوض أمره إلى الله هو الواثق بحقية دينه المطمئن بأن التحكيم يظهر حقه وباطل خصمه.
وابتدئ خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم ربه بالنداء لأن المقام مقام توجيه وتحاكم.وإجراء الوصفين على اسم الجلالة لما فيهما من المناسبة بخضوع الخلق كلهم لحكمه وشمول علمه لدخائلهم من محق ومبطل.
والفاطر:الخالق،وفاطر السماوات والأرض:فاطر لما تحتوي عليه.ووصف {فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} مشعر بصفة القدرة،وتقديمه قبل وصف العلم لأن شعور الناس بقدرته سابق على شعورهم بعلمه، ولأن القدرة أشد مناسبة لطلب الحكم لأن الحكم إلزام وقهر فهو من آثاره القدرة مباشرة.
والغيب:ما خفي وغاب عن علم الناس،والشهادة:ما يعلمه الناس مما يدخل تحت الإحساس الذي هو أصل العلوم.
والعدول عن الإضمار إلى الاسم الظاهر في قوله: {بَيْنَ عِبَادِكَ} دون أن يقول:بيننا،لما في {عِبَادِكَ} من العموم لأنه جمع مضاف فيشمل الحكم بينهم في قضيتهم هذه والحكم بين كل مختلفين لأن التعميم أنسب بالدعاء والمباهلة.
وجملة {أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ} خبر مستعمل في الدعاء.والمعنى:احكم بيننا.وفي تلقين هذا الدعاء للنبي صلى الله عليه وسلم لإيماء إلى أنه الفاعل الحق.وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في قوله: {أَنْتَ تَحْكُمُ} لإفادة الاختصاص،أي أنت لا غيرك.وإذ لم يكن في الفريقين من يعتقد أن اله يحكم بين الناس في مثل هذا الاختلاف فيكون الرد عليه بمفاد القصر،تعين أن القصر مستعمل كناية تلويحية عن شدة شكيمتهم في العناد وعدم

الإنصاف والانصياع إلى قواطع الحجج،بحيث إن من يتطلب حاكما فيهم لا يجد حاكما فيهم إلا الله تعالى.وهذا أيضا يؤمئ إلى العذر للرسول صلى الله عليه وسلم في قيامه بأقصى ما كلف به لأن هذا القول إنما يصدر عمن بذل وسعه فيما وجب عليه، فلما لقنه ربه أن يقوله كان ذلك في معنى:أنك أبلغت وأديت الرسالة فلم يبق إلا ما يدخل تحت قدرة الله تعالى التي لا يعجزها الألداء أمثال قومك، وفيه تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وفيه وعيد للمعاندين.
والحكم يصدق بحكم الآخرة وهو المحقق الذي لا يخلف،ويشمل حكم الدنيا بنصر المحق على المبطل إذا شاء الله أن يعجل بعض حكمه بأن يعجل لهم العذاب في الدنيا.
والإتيان بفعل الكون صلة لـ {ما} الموصولة ليدل على تحقق الاختلاف،وكون خبر "كان" مضارعا تعريض بأنه اختلاف متجدد إذ لا طماعية في ارعواء المشركين عن باطلهم.
وتقديم {فِيهِ} على {يَخْتَلِفُونَ} للرعاية على الفاصلة مع الاهتمام بالأمر المختلف فيه.
[47ـ48] {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}
عطف على جملة {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الزمر:46]الخ لأنها تشير إلى أن الحق في جانب النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي دعا ربه للمحاكمة،وأن الحكم سيكون على المشركين، فأعقب ذلك بتهويل ما سيكون به الحكم بأنه لو وجد المشركون فدية منه بالغة ما بلغت لافتدوا بها.
و {مَا فِي الْأَرْضِ} يشمل كل عزيز من أهليهم وأموالهم بل وأنفسهم فهو أهون من سوء العذاب يوم القيامة.والمعنى:لو أن ذلك ملك لهم يوم القيامة لافتدوا به يومئذ.ووجه التهويل في ذلك هو ما يستلزمه ملك هذه الأشياء من الشح بها في متعارف النفوس،فالكلام تمثيل لحالهم في شدة الدرك والشقاء بحال من لو كان له ما ذكر لبذله فدية من ذلك العذاب،وتقدم نظير هذا في سورة العقود. وتضمن حرف الشرط أن كون ما في الأرض لهم منتف، فأفاد أن لا فداء لهم من سوء العذاب وهو تأسيس لهم.
و {مِنْ} في قوله: {مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ} بمعنى لام التعليل،أي لافتدوا به لأجل العذاب السيئ الذي شاهدوه.ويجوز أن تكون للبدل،أي بدلا عن {سُوءِ الْعَذَابِ} .

وعطف على هذا التأييس تهويل آخر في عظم ما ينالهم من العذاب وهو ما في الموصول من قوله: {مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} من الإيهام الذي تذهب فيه نفس السامع إلى كل تصوير من الشدة.ويجوز جعل الواو للحال،أي لافتدوا به في حال ظهور ما لم يكونوا يحتسبون.
و {مِنَ اللَّهِ} متعلق ب)بدا(.و {من} ابتدائية،أي ظهر لهم مما أعد الله لهم الذي لم يكونوا يظنونه.
والاحتساب:مبالغة في الحساب بمعنى الظن مثل:اقترب بمعنى قرب.والمعنى:ما لم يكونوا يظنونه وذلك كناية عن كونه متجاوزا أقصى ما يتخيله المتخيل حين يسمع أوصافه،فلا التفات في هذه الكناية إلى كونهم كانوا مكذبين بالبعث فلم يكن يخطر ببالهم، ونظير هذا الوعد بالخبر قوله تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة:17].
و {سَيِّئَاتُ} جمع سيئة،وهو وصف أضيف إلى موصوفه وهو الموصول {مَا كَسَبُوا} أي مكسوباتهم السيئات.وتأنيثها باعتبار شهرة إطلاق السيئة على الفعلة وإن كان فيما كسبوه ما هو من فاسد الاعتقاد كاعتقاد الشركاء لله وإضمار البغض للرسول والصالحين والأحقاد والتحاسد فجرى تأنيث الوصف على تغليب السيئات العملية مثل الغضب والقتل والفواحش تغليبا لفظيا لكثرة الاستعمال.
وأوثر فعل {كَسَبُوا} على فعل:عملوا،لقطع تبرمهم من العذاب بتسجيل أنهم اكتسبوا أسبابه بأنفسهم،كما تقدم آنفا في قوله: {وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} [الزمر:24]دون: تعلمون.
والحَوْق:الإحاطة،أي أحاط بهم فلم ينفلتوا منه،وتقدم الخلاف في اشتقاقه في قوله تعالى: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ} في سورة الأنعام[10].
و {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} هو عذاب الآخرة،أي يستهزئون بذكره تنزيلا للعقاب منزلة مستهزأ به فيكون الضمير المجرور استعارة مكنية.ولك أن تجعل الباء للسببية وتجعل متعلق {يَسْتَهْزِئُونَ} محذوفا، أي يستهزئون بالنبي صلى الله عليه وسلم بسبب ذكره العذاب.وتقديم {بِهِ} على {يَسْتَهْزِئُونَ} للاهتمام به وللرعاية على الفاصلة.

[49] {فَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}
الفاء لتفريع هذا الكلام على قوله: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} [الزمر:45]الآية وما بينهما اعتراض مسلسل بعضه مع بعض للمناسبات.
وتفريع ما بعد الفاء على ما ذكرناه تفريع وصف بعض من غرائب أحوالهم على بعض،وهل أغرب من فزعهم إلى الله وحده بالدعاء إذا مسهم الضر وقد كانوا يشمئزون من ذكر اسمه وحده فهذا تناقض من أفعالهم وتعكيس، فإنه تسبب حديث على حديث وليس تسببا على الوجود.وهذه النكتة هي الفارقة بين العطف بالفاء هنا وعطف نظيرها بالواو في قوله أول السورة {وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ} [الزمر:8].والمقصود بالتفريع هو قوله: {فَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا} ،وأما ما بعده فتتميم واستطراد.
وقد تقدم القول في نظير صدر هذه الآية في قوله: {وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ} [الزمر:8]الآية.وأن المراد بالإنسان كل مشرك فالتعريف تعريف الجنس، والمراد جماعة من الناس وهم أهل الشرك فهو للاستغراق العرفي.والمخالفة بين الآيتين تفنن ولئلا تخلو إعادة الآية من فائدة زائدة كما هو عادة القرآن في القصص المكررة.
وقوله: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} {إِنَّمَا} فيه هي الكلمة المركبة من "إن" الكافة التي تصير كلمة تدل على الحصر بمنزلة "ما" النافية التي بعدها "إلا" الاستثنائية.والمعنى:ما أوتيت الذي أوتيته من نعمة إلا لعلم مني بطرق اكتسابه.وتركيز ضمير الغائب في قوله: {أُوتِيتُهُ} عائد إلى {نِعْمَةً} على تأويل حكاية مقالتهم بأنها صادرة منهم في حال حضور ما بين أيديهم من أنواع النعم فهو من عود الضمير إلى ذات مشاهدة،فالضمير بمنزلة اسم الإشارة كقوله تعالى: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الاحقاف:24].
ومعنى {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} اعتقد ذلك فجرى في أقواله إذ القول على وفق الاعتقاد.و {عَلَى} للتعليل،أي لأجل علم،أي بسبب علم.وخولف بين هذه الآية وبين آية سورة القصص[78]في قوله: {عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} فلم يذكر هنا {عِنْدِي} لأن المراد بالعلم هنا مجرد الفطنة والتدبير،وأريد هنالك علم صوغ الذهب والفضة والكيمياء

التي اكتسب بها قارون من معرفة تدابيرها مالا عظيما،وهو علم خاص به،وأما ما هنا العلم الذي يوجد في جميع أهل الرأي والتدبير.
والمراد:العلم بطرق الكسب ودفع الضر كمثل حيل النوتي في هول البحر.والمعنى:أنه يقول ذلك إذا ذكره بنعمة الله عليه الرسول صلى الله عليه وسلم أو أحد المؤمنين، وبذلك يظهر موقع صيغة الحصر لأنه قصد قلب كلام من يقول له إن ذلك من رحمة الله به.
و {بل} للإضراب الإبطالي وهو إبطال لزعمهم أنهم أوتوا ذلك بسبب علمهم وتدبيرهم،أي بل إن الرحمة التي أوتوها إنما آتاهم الله إياها ليظهر للأمم مقدار شكرهم،أي هي دالة على حالة فيهم تشبه حالة الاختبار لمقدار علمهم بالله وشكرهم إياه لأن الرحمة والنعمة بها أثر في المنع عليه إما شاكرا وإما كفورا والله عالم بهم وغني عن اختبارهم.
وضمير {هِيَ} عائد إلى القول المستفاد من {قال} على طريقة إعادة الضمير على المصدر المأخوذ من فعل نحو {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8]،وإنما أنث ضميره باعتبار الإخبار عنه بلفظ {فِتْنَةٌ} ،أو على تأويل القول بالكلمة كقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون:100]بعد قوله {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:100,99]والمراد:أن ذلك القول سبب فتنة أو مسبب عن فتنة في نفوسهم.ويجوز أن يكون الضمير عائدا إلى {نِعْمَةً} .
والاستدراك بقوله تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} ناشئ عن مضمون جملة {إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ}،أي لكن لا يعلم أكثر الناس ومنهم القائلون،أنهم في فتنة بما أتوا من نعمة إذا كانوا مثل هؤلاء القائلين الزاعمين أن ما هم فيه من خير نتيجة مساعيهم وحيلهم.
وضمير {أَكْثَرُهُمْ} عائد إلى معلوم من المقام غير مذكور في الكلام إذ لم يتقدم ما يناسب أن يكون له معادا،والمراد به الناس،أي لكن أكثر الناس لا يعلمون أن بعض ما أوتوه من النعمة في الدنيا يكون لهم فتنة بحسب ما يتلقونها به من قلة الشكر وما يفضي إلى الكفر،فدخل في هذا الأكثر جميع المشركين الذين يقول كل واحد منهم:إنما أوتيته على علم.
[50ـ51] {قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ

فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ}
جملة {قَدْ قَالَهَا} مبينة لمضمون {هِيَ فِتْنَةٌ} [الزمر:49]لأن بيان مغبة الذين قالوا هذا القول في شأن النعمة التي تنالهم يبين أن نعمة هؤلاء كانت فتنة لهم.
وضمير {قَالَهَا} عائد إلى قول القائل: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} [الزمر:49]،على تأويل القول بالكلمة التي هي الجملة كقوله تعالى: {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون:100,99].
و {الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} هم غير المتدينين ممن أسلفوا ممن علمهم الله،ومنهم قارون وقد حكى عنه في سورة القصص أنه قال ذلك.
والمراد بـ {مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} ما كسبوه من أموال.وعدم إغنائه عنهم أنهم لم يستطيعوا دفع العذاب بأموالهم.والفاء في {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} لتفريع عدم إغناء ما كسبوه على مقالتهم تلك فإن عدم الإغناء مشعر بأنهم حل بهم من السوء ما شأن مثله أن يتطلب صاحبه الافتداء منه،فإذا كان ذلك السوء عظيما لم يكن له فداء،ففي الكلام إيجاز حذف يبينه قوله بعده: {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} . ففاء {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} مفرعة على جملة )ما أغنى عنهم(، أي تسبب على انتفاء إغناء الكسب عنهم حلول العقاب بهم.وكان مقتضى الظاهر في ترتيب الجمل أن تكون جملة {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} مقدمة على جملة {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} ،لأن الإغناء إنما يترقب عند حلول الضير بهم فإذا تقرر عدم الإغناء يذكر بعده حلول المصيبة،فعكس الترتيب على خلاف مقتضى الظاهر لقصد التعجيل بإبطال مقالة قائلهم: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} [الزمر:49]،أي لو كان لعلمهم أثر في جلب النعمة لهم لكان له أثر في دفع الضر عنهم.
والإشارة بـ {هؤلاء} إلى المشركين من أهل مكة وقد بينا غير مرة أننا اهتدينا إلى كشف عادة من عادات القرآن إذا ذكرت فيه هذه الإشارة أن يكون المراد بها المشركون من قريش.وإصابة السيئات مراد بها في الموضعين إصابة جزاء السيئات وهو عقاب الدنيا وعقاب الآخرة لأن جزاء السيئة سيئة مثلها.
والمعجز:الغالب،وتقدم عند قوله تعالى: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} في سورة الأنعام[134]،أي ما هم بمعجزينا،فحذف مفعول اسم الفاعل

لدلالة القرينة عليه.
[52] {أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}
عطف على جملة {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:49]فبعد أن وصف أكثرهم بانتفاء علمهم بذلك وإهمالهم النظر في الأدلة المفيدة للعلم وصمهم آذانهم عن الآيات التي تذكرهم بذلك حتى بقوا في جهالة مركبة وكان الشأن أن يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر،أي يعطي الخير من يشاء،ويمنع من يشاء.
فالاستفهام إنكار عليهم في انتفاء علمهم بذلك لأنهم تسببوا في انتفاء العلم،فالإنكار عليهم يتضمن توبيخا.واقتصر في الإنكار على إنكار انتفاء العلم بأن بسط الرزق وقدره من فعل الله تعالى لأنه أدنى لمشاهدتهم أحوال قومهم فكم من كاد غير مرزوق وكم من آخر يجيئه الرزق من حيث لا يحتسب.
وجُعل في ذلك آيات كثيرة لأن اختلاف أحوال الرزق الدالة على أن التصرف بيد الله تعالى بالتصرف في نفس الأمر.وجعلت الآيات لقوم يؤمنون لأن المؤمنين قد علموا ذلك وتخلقوا به ولم تكن فيه آيات للمشركين الغافلين عنه.
[53] {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}
أُطنبت آيات الوعيد بأفنانها السابقة إطنابا يبلغ من نفوس سامعيها أي مبلغ من الرعب والخوف، على رغم تظاهرهم بقلة الاهتمام بها.وقد يبلغ بهم وقعها مبلغ اليأس من سعي ينجيهم من وعيدها، فأعقبها الله ببعث الرجاء في نفوسهم للخروج إلى ساحل النجاة إذا أرادوها على عادة هذا الكتاب المجيد من مداواة النفوس بمزيج الترغيب والترهيب.
والكلام استئناف بياني لأن الزواجر السابقة تثير في نفوس المواجهين بها خاطر التساؤل عن مسالك النجاة فتتلاحم فيها الخواطر الملَكية والخواطر الشيطانية إلى أن يُرسى

التلاحم على انتصار إحدى الطائفتين،فكان في إنارة السبيل لها ما يسهل خطو الحائرين في ظلمات الشك،ويرتفق بها ويواسيها بعد أن أثخنتها جروح التوبيخ والزجر والوعيد،ويضمد تلك الجراحة،والحليم يزجر ويلين،وتثير في نفس النبي صلى الله عليه وسلم خشية أن يحيط غضب الله بالذين دعاهم إليه فأعرضوا،أو حببهم في الحق فأبغضوا،فلعله لا يفتح لهم باب التوبة،ولا تقبل منهم بعد إعراضهم أوبة،ولا سيما بعد أن أمره بتفويض الأمر إلى حكمه،المشتم منه ترقب قطع الجدال وفصمه،فكان أمره لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن يناديهم بهذه الدعوة تنفيسا عليه،وتفتيحا لباب الأوبة إليه،فهذا كلام ينحل إلى استئنافين فجملة {قل} استئناف لبيان ما ترقبه أفضل النبيين صلى الله عليه وسلم،أي بلغ عني هذا القول.
وجملة {يَا عِبَادِيَ} استئناف ابتدائي من خطاب الله لهم.وابتداء الخطاب بالنداء وعنوان العباد مؤذن بأن ما بعده إعداد للقبول وإطماع في النجاة.
والخطاب بعنوان {يَا عِبَادِيَ} مراد به المشركون ابتداء بدليل قوله: {وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ} [الزمر:54]وقوله: {وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر:56]وقوله: {بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الزمر:59].فهذا الخطاب جرى على غير الغالب في مثله في عادة القرآن عند ذكر {عِبَادِيَ} بالإضافة إلى ضمير المتكلم تعالى.
وفي "صحيح البخاري" عن ابن عباس:"أن ناسا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وأكثروا،وزنوا وأكثروا،فأتوا محمداً صلى الله عليه وسلم فقالوا:"إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارةـ يعني وقد سمعوا آيات الوعيد لمن يعمل تلك الأعمال وإلا فمن أين علموا أن تلك الأعمال جرائم وهم في جاهلية ـ فنزل {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} [الفرقان:68]يعني إلى قوله: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً} [الفرقان:70]ونزل {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} .
وقد رويت أحاديث عدة في سبب نزول هذه الآية غير حديث البخاري وهي بين ضعيف ومجهول ويستخلص من مجموعها أنها جزيئات لعموم الآية وأن الآية عامة لخطاب جميع المشركين وقد أشرنا إليها في ديباجة تفسير السورة.ومن أجمل الأحبار المروية فيها ما رواه ابن إسحاق عن نافع عن ابن عمر عن عمر قال:"لما اجتمعنا على الهجرة اتَّعدت أنا وهشام بن العاص السهمي،وعياش بن أبي ربيعة بن عتبة.فقلنا:

الموعد أضَاةُ بني غفار،وقلنا:من تأخر منا فقد حبس فليمض صاحباه.فأصبحت أنا وعياش بن عتبة وحبس عنا هشام وإذا هو قد فتن فافتتن فكنا نقول بالمدينة:هؤلاء قد عرفوا الله ثم افتتنوا لبلاء لحقهم لا نرى لهم توبة.وكانوا هم يقولون هذا في أنفسهم،فأنزل الله {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا} إلى قوله: {مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ} [الزمر:32]قال عمر:فكتبتها بيدي ثم بعثتها إلى هشام.قال هشام:فلما قدمت علي خرجت بها إلى ذي طوى فقلت:اللهم فهمنيها فعرفت أنها نزلت فينا فرجعت فجلست على بعيري فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم" اهـ.فقول عمر:"فأنزل الله" يريد أنه سمعه بعد أن هاجر وأنه مما نزل بمكة فلم يسمعه عمر إذ كان في شاغل تهيئة الهجرة فما سمعها إلا وهو بالمدينة فإن عمر هاجر إلى المدينة قبل النبي صلى الله عليه وسلم.
فالخطاب بقوله: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} تمهيد بإجمال يأتي بيانه في الآيات بعده من قوله: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ} [الزمر:54].وبعد هذا فعموم "عبادي" وعموم صلة {الَّذِينَ أَسْرَفُوا} يشمل أهل المعاصي من المسلمين وإن كان المقصود الأصلي من الخطاب المشركين على عادة الكلام البليغ من كثرة المقاصد والمعاني التي تفرغ في قوالب تسعها.
وقرأ الجمهور {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا} بفتح ياء المتكلم،وقرأه أبو عمروا وحمزة والكسائي ويعقوب بإسكان الياء.ولعل وجه ثبوت الياء في هذه الآية دون نظيرها وهو قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ} [الزمر:10]،أن الخطاب هنا للذين أسرفوا وفي مقدمتهم المشركون وكلهم مظنة تطرق اليأس من رحمة الله إلى نفوسهم،فكان إثبات "يا" المتكلم في خطابهم زيادة تصريح بعلامة التكلم تقوية لنسبة عبوديتهم إلى الله تعالى إيماء إلى أن شأن الرب الرحمة بعباده.
والإسراف:الإكثار.والمراد به هنا الإسراف في الذنوب والمعاصي،وتقدم ذكر الإسراف في قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً} في سورة النساء[6]وقوله: {فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} في سورة الإسراء[33].والأكثر أن يعدى إلى متعلقة بحرف {مِن} ،وتعديته هنا بـ"على" لأن الإكثار هنا من أعمال تتحملها النفس وتثقل بها وذلك متعارف في التبعات والعدوان تقول:أكثرت على فلان، فمعنى {أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} :أنهم جلبوا لأنفسهم ما تثقلهم تبعته ليشمل ما اقترفوه من شرك وسيئات.
والقنوط:اليأس،وتقدم في قوله: {فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ} في سورة الحجر[55].

وجملة {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} تعليل للنهي عن اليأس من رحمة الله.
ومادة الغفر ترجع إلى الستر،وهو يقتضي وجود المستور واحتياجه للستر فدل {يَغْفِرُ الذُّنُوبَ} على أن الذنوب ثابتة،أي المؤاخذة بها ثابتة والله يغفرها،أي يزيل المؤاخذة بها،وهذه المغفرة تقتضي أسبابا أجملت هنا وفصلت في دلائل أخرى من الكتاب والسنة منها قوله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82]،وتلك الدلائل يجمعها أن للغفران أسبابا تطرأ على المذنب ولولا ذلك لكانت المؤاخذة بالذنوب عبثا ينزه عنه الحكيم تعالى،كيف وقد سماها ذنوبا وتوعد عليها فكان قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ} دعوة إلى تطلب أسباب هذه المغفرة فإذا طلبها المذنب عرف تفصيلها.
و {جَمِيعاً} حال من {الذُّنُوبَ} ،أي حال جميعها،أي عمومها،فيغفر كل ذنب منها إن حصلت من المذنب أسباب ذلك.وسيأتي الكلام على كلمة "جميع" عند قوله تعالى: {وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ} في هذه السورة[67].
وجملة {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} تعليل لجملة {يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} أي لا يعجزه أن يغفر جميع الذنوب ما بلغ جميعها من الكثرة لأنه شديد الغفران شديد الرحمة.فبطل بهذه الآية قول المرجئة إنه لا يضر مع الإيمان شيء.
[54] {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ}
لما فتح لهم باب الرجاء أعقبه بالإرشاد إلى وسيلة المغفرة معطوفا بالواو وللدلالة على الجمع بين النهي عن القنوط من الرحمة وبين الإنابة جمعا يقتضي المبادرة،وهي أيضا مقتضى صيغة الأمر.
والإنابة:التوبة ولما فيها وفي التوبة من معنى الرجوع عدي الفعلان بحرف {إلى} .
والمعنى:توبوا إلى الله مما كنتم فيه من الشرك بأن توحدوه.وعطف عليه الأمر بالإسلام،أي التصديق بالنبي صلى الله عليه وسلم والقرآن واتباع شرائع الإسلام.
وفي قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ} إيذان بوعيد قريب إن لم ينيبوا ويسلموا كما يلمح إليه فعل {يَأْتِيَكُمُ} .
والتعريف في {الْعَذَابُ} تعريف الجنس،وهو يقتضي أنهم إن لم ينيبوا ويسلموا يأتهم العذاب.والعذاب منه ما يحصل في الدنيا إن شاءه الله وهذا

خاص بالمشركين،وأما المسلمون فقد استعاذ لهم منه الرسول صلى الله عليه وسلم حين نزل {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} كما تقدم في سورة الأنعام[65]،ومن العذاب عذاب الآخرة وهو جزاء الكفر والكبائر.
وهذا الخطاب يأخذ كل فريق منه بنصيب،فنصيب المشركين الإنابة إلى التوحيد واتباع دين الإسلام،ونصيب المؤمنين منه التوبة إذا أسرفوا على أنفسهم والإكثار من الحسنات وأما الإسلام فحاصل لهم.
والنصر:الإعانة على الغلبة بحيث ينفلت المغلوب من غلبة قاهره كرها على القاهر ولا نصير لأحد على الله.وأما الشفاعة لأهل الكبائر فليست من حقيقة النصر المنفي وهذه الفقرة أكثر حظ فيها هو حظ المشركين.
[55] {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} {أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ} هو القرآن وهو معنى قوله: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر:18]. والحظ للمشركين في هذه الآية لأن المسلمين قد اتبعوا القرآن كما قال تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِي الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ} [الزمر:18,17].
و {أَحْسَنَ} اسم تفضيل مستعمل في معنى كامل الحسن، وليس في معنى تفضيل بعضه على بعض لأن جميع ما في القرآن حسن فهو من باب قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف:33].
وإضافة {أَحْسَنَ} إلى {مَا أُنْزِلَ} من إضافة الصفة إلى الموصوف.
والعذاب المذكور في هذه هو العذاب المذكور قبل بنوعيه وكله بغتة إذ لا يتقدمه إشعار،فعذاب الدنيا يحل بغتة وعذاب الآخرة كذلك لأنه تظهر بوارقة عند البعث وقد أتاهم عذاب السيف يوم بدر ويأتيهم عذاب الآخرة يوم البعث.
[56ـ58] {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}

{أَنْ تَقُولَ} تعليل للأوامر في قوله: { وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر:54]و {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ} [الزمر:55]على حذف لام التعليل مع "أنْ" وهو كثير.
وفيه حذف {لا} النافية بعد {أن} ،وهو شائع أيضا كقوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ} [الأنعام:155ـ157]،وكقوله: { فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} [النساء:135].وعادة صاحب "الكشاف" تقدير:كراهية أن تفعلوا كذا. تقدير "لا" النافية أظهر لكثرة التصرف فيها في كلام العرب بالحذف والزيادة.
والمعنى:لئلا تقل نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله.وظاهر القول أنه القول جهرة وهو شأن الذي ضاق صبره عن إخفاء ندامته في نفسه فيصرخ بما حدث به نفسه فتكون هذه الندامة المصرح بها زائدة على التي أسرها،ويجوز أن يكون قولا باطنا في النفس.وتنكير {نَفْسٌ} للنوعية،أي أن يقول صنف من النفوس وهي نفوس المشركين فهو كقوله تعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} [التكوير:14].وقول لبيد:
أو يعتلق بعض النفوس حمامها
يريد نفسه.
وحرف "يا" في قوله: {يَا حَسْرَتَى} استعارة مكنية بتشبيه الحسرة بالعاقل الذي ينادى ليقبل،أي هذا وقتك فاحضري،والنداء من روادف المشبه به المحذوف،أي يا حسرتى احضري فأنا محتاج إليك،أي إلى التحسر،وشاع ذلك في كلامهم حتى صارت هذه الكلمة كالمثل لشدة التحسر.
والحسرة:الندامة الشديدة.واللف عوض عن ياء المتكلم.
وقرأ أبو جعفر وحده {يَا حَسْرَتَايَ} بالجمع بين ياء المتكلم والألف التي جعلت عوضا عن الياء في قولهم: {يَا حَسْرَتِي}. والأشهر عن أبي جعفر أن الياء التي بعد الألف مفتوحة.
وتعدية الحسرة بحرف الاستعلاء كما هو غالبها للدلالة على تمكن التحسر من مدخول {على} .
و {مَا} في {مَا فَرَّطْتُ} مصدرية،أي على تفريطي في جنب الله.
والتفريط:التضييع والتقصير،يقال:فرَّطه.والأكثر أن يقال:فرّط فيه.والجنب

والجانب مترادفان،وهو ناحية الشيء ومكانه ومنه {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} [النساء:36]أي الصاحب المجاور.
وحرف {في} هنا يجوز أن يكون لتعدية فعل {فَرَّطْتُ} فلا يكون للفعل مفعول ويكون المفرط فيه هو جنب الله،أي جهته ويكون الجنب مستعار للشان والحق،أي شأن الله وصفاته ووصاياه تشبيها لها بمكان السيد وحماه إذا أهمل حتى اعتدي عليه أو اقفز،كما قال سابق البربري:
أما تتقين الله في جنب وامق ... له كبد حرى عليك تَقَطَّعُ
أو يكون جملة {فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} تمثيلا لحال النفس التي أوقفت للحساب والعقاب بحال العبد الذي عهد إليه سيده حراسة حماه ورعاية ماشيته فأهملها حتى رعي الحمى وهلكت المواشي وأحضر للثقاف فيقول:يا حسرتا على ما فرطت في جنب سيدي.وعلى هذا الوجه يجوز إبقاء الجنب على حقيقته لأن التمثيل يعتمد تشبيه الهيئة بالهيئة.ويجوز أن تكون {ما} موصولة وفعل {فَرَّطْتُ} متعديا بنفسه على أحد الاستعمالين،ويكون المفعول محذوفا وهو الضمير المحذوف العائد إلى الموصول، وحذفه في مثله كثير،ويكون المجرور بـ {في} حالا من ذلك الضمير،أي كائنا ما فرطته في جانب الله.
وجملة {وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} خبر مستعمل في إنشاء الندامة على ما فاتها من قبول ما جاءها به الرسول من الهدى فكانت تسخر منه،والجملة حال من فاعل فرطت،أي فرطت في جنب الله تفريط الساخر لا تفريط الغافل،وهذا إقرار بصورة التفريط.و {إنْ} مخخفة من {إنّ} المشددة،واللام في {لَمِنَ السَّاخِرِينَ} فارقة بين {إنْ} المخففة و"إنْ"النافية.
و {مِنَ السَّاخِرِينَ} أشد مبالغة في الدلالة على اتصافهم بالسخرية من أن يقال:وإن كنتُ لساخرة، ما تقدم غير تقدم غير مرة منها عند قوله تعالى: {قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} في سورة البقرة[67].
ومعنى {أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} إنهم يقولونه لقصد الاعتذار والتنصل،تعيد أذهانهم ما اعتادوا الاعتذار به للنبي صلى الله عليه وسلم كما حكى الله عنهم: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف:20]وهم كانوا يقولونه لقصد إفحام النبي حين يدعوهم فبقي ذلك التفكير عالقا بعقولهم حين يحضرون للحساب.والكلام في {مِنَ

الْمُتَّقِينَ} مثله في {مِنَ السَّاخِرِينَ} .
وأما قولها: {حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً} فهو تمن محض.و {لو} فيه للتمني،وانتصب {فَأَكُونَ} على جواب التمني.
والكرة:الرجعة.وتقدم في قوله: {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} في سورة الشعراء[102]،أي كرة إلى الدنيا فأحسن،وهذا اعتراف بأنها علمت أنها كانت من المسيئين.
وقد حكي كلام النفس في ذلك الموقف على ترتيبه الطبيعي في جولانه في الخاطر بالابتداء بالتحسر على ما أوقعت فيه نفسها،ثم الاعتذار والتنصل طمعا أن ينجيها ذلك،ثم بتمني أن تعود إلى الدنيا لتعمل الإحسان كقوله تعالى: {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:100, 99].فهذا الترتيب في النظم هو أحكم ترتيب ولو رتب الكلام على خلافه لفاتت الإشارة إلى تولد هذه المعاني في الخاطر حينما يأتيهم العذاب،وهذا هو الأصل في الإنشاء إلى تولد ما لم يوجد ما يقتضي العدول عنه كما بينته في كتاب "أصول الإنشاء والخطابة".
[59] {بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ}
{بَلَى} حرف لإبطال منفي أو فيه رائحة النفي،لقصد إثبات ما نفي قبله،فتعين أن تكون هنا جوابا لقول النفس {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [الزمر:57]،لما تقتضيه {لو} التي استعملت للتمني من انتفاء ما تمناه وهو أن يكون الله هداه ليكون من المتقين،أي لم يهدني الله فلم أتق.وجملة {قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي} تفصيل للإبطال وبيان له،وهو مثل الجواب بالتسليم بعد المنع، أي هداك الله.
وقد قوبل كلام النفس بجواب يقابله على عدد قرائنه الثلاث1،وذلك بقوله: {قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا} وهذا مقابل {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي} [الزمر:57]ثم بقوله: {وَاسْتَكْبَرْتَ} وهو مقابل قولها: {عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر:56]،أي ليست نهاية أمرك التفريط بل أعظم منه وهو الاستكبار،ثم بقوله: {وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} وهذا مقابل قول النفس: {لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} فهذه قرائن ثلاث.والمعنى:أن الله هداك في الدنيا بالإرشاد بآيات القرآن فقابلتَ الإرشاد بالتكذيب والاستكبار والكفر بها فلا عذر لك.
ـــــــ
1 القرائن القرآنية:جمع قرينة وهي الفقرة ذات الفاصلة.

وكان الجواب على طريقة النشر المشوش بعد اللف رعيا لمقتضى ذلك التشويش وهو أن يقع ابتداء النشر بإبطال الأهم مما اشتمل عليه اللف وهو ما ساقوه على معنى التنصل والاعتذار من قولهم: {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي} [الزمر:57]لقصد المبادرة بإعلامهم بما يدحض معذرتهم،ثم عاد إلى إبطال قولهم: {عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر:56]فأبطل بقوله: {فَكَذَّبْتَ بِهَا} ،ثم أكمل بإبطال قولهم: {لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر:58]بقوله: {وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} .ولم يورد جواب عن قول النفس: {وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر:56]لأنه إقرار.
ولو لم يسلك هذا الأسلوب في النشر لهذا اللف لفات التعجيل بدحض المعذرة،ولفاتت مقابلة القرائن الثلاث المجاب عنها بقرائن أمثالها لما علمت من أن الإبطال روعي فيه قرائن ثلاث على وزن أقوال النفس،وأن ترتيب أقوال النفس كان جاريا على الترتيب الطبيعي،فلو لم يشوش النشر لوجب أن يقتصر فيه على أقل من عدد قرائن اللف فتفوت نكتة المقابلة التي هي شأن الجدال؛مع ما فيه من التورك.
وتركيب قوله: {وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} مثل ما تقدم آنفا في نظائره من قوله: {وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر:56]وما بعده مما أقحم فيه فعل {كُنْتُ} .
واتفق القراء على فتح التاءات الثلاث في قوله: {فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} وكذلك فتح الكاف من قوله: {جَاءَتْكَ} راجعة إلى النفس بمعنى الذات المغلبة في أن يراد بها الذكور ويعلم أن النساء مثلهم،مثل تغليب صيغة جمع المذكر في قوله: {مِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر:56].
[60] {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ}
عطف على إحدى الجمل المتقدمة المتعلقة بعذاب المشركين في الدنيا والآخرة، والأحسن أن يكون عطفا على جملة {وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} [الزمر:51]،أي في الدنيا كما أصاب الذين من قبلهم ويوم القيامة تسود وجوههم.فيجوز أن يكون اسوداد الوجوه حقيقة جعله الله علامة لهم وجعل بقية الناس بخلافهم.وقد جعل الله اسوداد الوجوه يوم القيامة علامة على سوء المصير كما جعل بياضها علامة على حسن المصير قال تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ

اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} في سورة[آل عمران:107,106].ويجوز أن يكون ابيضاض الوجوه مستعملا في النضرة والبهجة قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة:22]،وقال حسان بن ثابت:
بيض الوجوه كريمةٌ أحسابهم
ويقولون في الذي يخصل خصلة يفتخر بها قومه:بيَّضتَ وجوهنا.والخطاب في قوله: {تَرَى} لغير معين.
وجملة {وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} مبتدأ وخبر،وموقع الجملة موقع الحال من {الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ} ،لأن الرؤية هنا بصرية لا ينصب فعلها مفعولين.ولا يلزم اقتران جملة الحال الاسمية بالواو.
و {الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ} :هم الذين نسبوا إليه ما هو منزه عنه من الشريك وغير ذلك من تكاذيب الشرك،فالذين كذبوا على الله هم الذين ظلموا الذين ذكروا في قوله: {وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} [الزمر:51]،وصفوا أولا بالظلم ثم وصفوا بالكذب على الله في حكاية أخرى فليس قوله: {الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ} إظهار في مقام الإضمار.
ويدخل في {الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ} كل من نسب إلى الله صفة لا دليل له فيها،ومن شرع شيئا فزعم أن الله شرعه متعمدا قاصدا ترويجه للقبول بدون دليل،فيدخل أهل الضلال الذين اختلفوا صفات لله أو نسبوا إليه تشريعا،ولا يدخل أهل الاجتهاد المخطئون في الأدلة سواء في الفروع بالاتفاق وفي الأصول على ما نختاره إذا استفرغوا الجهود.ونسبة شيء إلى الله أمرها خطير،ولذلك قال أئمتنا:إن الحكم المقيس غير المنصوص يجوز أن يقال هو دين الله ولا يجوز أن يقال:قاله الله.
ولذلك فجملة {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ} واقعة موقع الاستئناف البياني لجملة {تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} على كلا المعنيين لأن السامع يسأل عن سبب اسوداد الوجوه فيجاب بان في جهنم مثواهم يعني لأن السواد يناسب ما سيفلح وجوههم من مس النار فأجيب بطريقة الاستفهام التقريري بتنزيل السائل المقدر منزلة من يعلم أن مثواهم جهنم فلا يليق به أن بغفل عن ناسبة سواد وجوههم،لمصيرهم إلى النار،فإن للدخائل عناوينها،وهذا الاستفهام كما في قوله تعالى: {لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ

اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام:53]،وكقول أبي مسعود الأنصاري للمغيرة بن شعبة حين كان أمير الكوفة وقد أخر الصلاة يوماً:"ما هذا يا مغيرة أليس قد علمت أن جبريل نزل فصلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم".وكقول الحجاج في خطبته في أهل الكوفة "ألستم أصحابي بالأهواز حين رمتم الغدر"الخ.
والتكبر:شدة الكبر،ومن أوصاف الله تعالى المتكبر،والكبر:إظهار المرء التعاظم على غيره لأنه يعد نفسه عظيما.وتعريف المتكبرين هنا للاستغراق،وأصحاب التكبر مراتب أقواها الشرك،قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60]وهو المعني بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر ولا يدخل النار من كان في قلبه حبة خردل من إيمان" أخرجه مسلم عن ابن مسعود،ألا ترى أنه قابله بالإيمان،ودونه مراتب كثيرة متفاوتة في قوة حقيقة ماهية التكبر،وكلها مذمومة.وما يدور على الألسن:أن الكبر على أهل الكبر عبادة،فليس بصحيح.
وفي وصفهم بالمتكبرين إيماء إلى أن عقابهم بتسويد وجوههم كان مناسبا لكبريائهم لأن المتكبر إذا كان سيئ الوجه انكسرت كبرياؤه لأن الكبرياء تضعف بمقدار شعور صاحبها بمعرفة الناس نقائصه.
[61] {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}
عطف على جملة {تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} [الزمر:60]إلى آخرها،أي وينجي الله الذين اتقوا من جهنم لأنهم ليسوا بمتكبرين.وهذا إيذان بأن التقوى تنافي التكبر لأن التقوى كمال الخلق الشرعي وتقتضي اجتناب المنهيات وامتثال الأمر في الظاهر والباطن،والكبر مرض قلبي باطني فإذا كان الكبر ملقيا صاحبه في النار بحكم قوله: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر:60]فضد أولئك ناجون منها وهم المتقون إذ التقوى تحول دون أسباب العقاب التي منها الكبر،فالذين اتقوا هم أهل التقوى وهي معروفة،ولذلك ففعل {اتَّقوا} منزل منزلة اللازم لا يقدر له مفعول.
والمفازة يجوز أن تكون مصدرا ميميا للفوز وهو الفلاح، مثل المتاب وقوله تعالى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً} [النبأ:31)]،ولحاق التاء به من قبيل لحاق هاء التأنيث بالمصدر في نحو قوله تعالى: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} [الواقعة:2].وتقدم ذلك في اسم سورة الفاتحة وعند قوله تعالى: {فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ} في آل عمران[188]،والباء

للملابسة،أي متلبسين بالفوز أو الباء للسببية،أي بسبب ما حصلوا عليه من الفوز.
ويجوز أن تكون المفازة اسم للفلاة، كما في قول لبيد:
لِوِرْدٍ تقلص الغيطان عنه ... يبذ مفازة الخمس الكمال
سميت مفازة باسم مكان الفوز،أي النجاة وتأنيثها بتأويل البقعة،وسموها مفازة باعتبار أن من حل بها سلم من أن يلحقه عدوه،كما قال العديل:
ودون يد الحجاج من أن تنالني ... بساطٌ بأيدي انا عجات عريض
وقول النابغة:
تدافع الناس عنا حين نركبها ... من المظالم تدعى أم صبار
وعلى هذا المعنى فالباء بمعنى "في".والمفازة:الجنة.وإضافة مفازة إلى ضميرهم كناية عن شدة تلبسهم بالفوز حتى عرف بهم كما يقال:فاز فوز فلان.
وقرأ الجمهور {بِمَفَازَتِهِمْ} بصيغة المفرد.وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وخلف {بِمَفَازَاتِهِمْ} بصيغة الجمع وهي تجري على المعنيين في المفازة لأن المصدر قد يجمع باعتبار تعدد الصادر منه،أو باعتبار تعدد أنواعه،وكذلك تعدد أمكنة الفوز بتعدد الطوائف،وعلى هذا بإضافة المفازة إلى ضمير {الَّذِينَ اتَّقَوْا} لتعريفها بهم،أي المفازة التي علمتم أنها لهم وهي الجنة،وقد علم ذلك من آيات وأخبارمنها قوله تعالى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً} [النبأ:31ـ33]
وجملة {لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} مبينة لجملة {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ} لأن نفي مس السوء هو إنجاؤهم ونفي الحزن عنهم نفي لأثر المس السوء.وجيء في جانب نفي السوء هو بالجملة الفعلية لأن ذلك لنفي حالة أهل النار عنهم،وأهل النار في مس من السوء متجدد.وجيء في نفي الحزن عنهم بالجملة الاسمية لأن أهل النار أيضا في حزن وغم ثابت لازم لهم.
ومن لطيف التعبير هذا التفنن،فإن شأن الأسواء الجسدية تجدد آلامها وشأن الأكدار القلبية دوام الإحساس بها.
[62ـ63] {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}

هذا استئناف ابتدائي تمهيد لقوله: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ} [الزمر:64]في ذكر تمسك الرسول صلى الله عليه وسلم والرسل من قبله بالتوحيد ونبذ الشرك والبراءة منه والتصلب في مقاومته والتصميم على قطع دابره،وجعلت الجمل الثلاث من قوله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} إلى قوله: {السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} مقدمات تؤيد ما يجيء بعدها من قوله: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ} [الزمر:64].
وقد اشتمل هذا الاستئناف ومعطوفاته على ثلاث جمل وجملة رابعة:
فالجملة الأولى {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} وهذه الجملة أدخلت كل موجود في أنه مخلوق لله تعالى،فهو ولي التصرف فيه لا يخرج من ذلك إلا ذات الله تعالى وصفاته فهي مخصوصة من هذا العموم بدليل العقل وهو أنه خالق كل شيء فلو كان خالق نفسه أو صفاته لزم توقف الشيء على ما يتوقف هو عليه وهذا ما يسمى بالدور في الحكمة،وإلزام الناس بتوحيده لأنه خالقهم،وليس في هذا قصد ثناء ولا تعاظم،والمقصود من هذه المقدمة تذكير الناس بأنهم جميعا هم وما معهم عبيد لله وحده ليس لغيره منة عليهم بالإيجاد.
الجملة الثانية {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} وجيء بها عطوفة لأن مدلولها مغاير لمدلول التي قبلها.والوكيل المتصرف في شيء بدون تعقب ولما لم يعلق بذلك الوصف شيء علم أنه موكول إليه جنس التصرف وحقيقته التي تعم جميع أفراد ما يتصرف فيه،فعم تصرفه أحوال جميع الموجودات من تقدير الأعمال والآجال والحركات،وهذه المقدمة تقتضي الاحتياج إليه بالإمداد فهم بعد أن أوجدهم لم يستغنوا عنه لمحة ما.
الجملة الثالثة {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وجيء بها مفصولة لأنها تفيد بيان الجملة التي قبلها فإن الوكيل على شيء يكون هو المتصرف في العطاء والمنع.
والمقاليد:جمع إِقليد بكسر الهمزة وسكون القاف وهذا جمع على غير قياس،وإقليد قيل معرب عن الفارسية،وأصله "كليد" قيل من الرومية وأصله "اقليدس" وقيل كلمة يمنية وهو مما تقاربت فيه اللغات.وهي كناية عن حفظ ذخائرها،فذخائر الأرض عناصرها ومعادنها وكيفيات أجوائها وبحارها، وذخائر السماوات سير كواكبها وتصرفات أرواحها في عوالمها وعوالمنا.وما لا يعلمه إلا الله تعالى. ولما كانت تلك العناصر والقوى شديدة النفع للناس وكان الناس في حاجة إليها شبهت بنفائس المخزونات فصح

أيضا أن تكون المقاليد استعارة مكنية،وهي أيضا استعارة مصرحة للأمر الإلهي التكويني والتسخيري الذي يفيض به على الناس من تلك الذخائر المدخرة كقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [الحجر:21].
وهذه المقدمة تشير إلى أن الله هو معطي ما يشاء لمن يشاء من خلقه،ومن أعظم ذلك النبوة وهدي الشريعة فإن جهل المشركين بذلك هو الذي جرأهم على أن أنكروا اختصاص محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة دونهم،واختصاص أتباعه بالهدى فقالوا: {أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [الأنعام:53].فهذه الجمل اشتملت على مقدمات ثلاث تقتضي كل واحدة منها دلالة على وحدانية الله بالخلق،ثم بالتصرف المطلق في مخلوقاته،ثم بوضع النظم والنواميس الفطرية والعقلية والتهذيبية في نظام العالم وفي نظام البشر.وكل ذلك موجب توحيده وتصديق رسوله صلى الله عليه وسلم والاستمساك بعروته كما رشد بذلك أهل الإيمان.
فأما الجملة الرابعة وهي {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} فتحتمل الاعتراض ولكن اقترانها بالواو بعد نظائرها يرجح أن تكون الواو فيها عاطفة وأنها مقصودة بالعطف على ما قبلها لأن فيها زيادة على مفاد الجملة قبلها،وتكون مقدمة رابعة للمقصود تجهيلا للذين هم ضد المقصود من المقدمات فإن الاستدلال على الحق بإبطال ضده ضرب من ضروب الاستدلال.لأن الاستدلال يعود إلى الترغيب وتنفير فإذا كان الذين كفروا بآيات الله خاسرين لا جرم كان الذين آمنوا بآيات الله هم الفائزين،فهذه الجملة تقابل جملة {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ} [الزمر:61]المنتقل منها إلى هؤلاء الآيات،وهي مع ذلك مفيدة إنذارهم وتأفين آرائهم،لأن موقعها بعد دلائل الوحدانية وهي آيات دالة على أن الله واحد يقتضي التنديد عليهم في عدم الاهتداء بها.
ووصف {الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ} بأنهم الخاسرون لأنهم كفروا بآيات من له مقاليد خزائن الخير فعرضوا أنفسهم للحرمان مما في خزائنه وأعظمها خزائن خير الآخرة.
وآيات الله هي دلائل وجوده ووحدانيته التي أشارت إليها الجمل الثلاث السابقة.
والإخبار عن الذين كفروا باسم الإشارة للتنبيه على أن المشار إليهم خسروا لأجل ما وصفوا به قبل اسم الإشارة وهو الكفر بآيات الله.وتوسط ضمير الفصل لإفادة حصر الخسارة فيهم وهو قصر ادعائي بناء على عدم الاعتداد بخسارة غيرهم بالنسبة إلى خسارتهم فخسارتهم أعظم خسارة.

[64] {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ}
هذا نتيجة المقدمات وهو المقصود بالإثبات،فالفاء في قوله: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ} لتفريع الكلام المأمور الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يقوله على الكلام الموحى به إليه ليقرع به أسماعهم،فإن الحقائق المتقدمة موجهة إلى المشركين فبعد تقررها عندهم وإنذارهم على مخالفة حالهم لما تقتضيه تلك الحقائق أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بان يوجه إليهم هذا الاستفهام الإنكاري منوعا على ما قبله إذ كانت أنفسهم قد خسئت بما جبهها من الكلام السابق تأييسها لهم من محاولة صرف الرسول صلى الله عليه وسلم عن التوحيد إلى عبادة غير الله.
وتوسط فعل {قُلْ} اعتراض بين التفريع والمفرع عنه لتصيير المقام لخطاب المشركين خاصة بعد أن كان مقام الكلام قبله مقام البيان لكل سامع من المؤمنين وغيرهم،فكان قوله: {قُلْ} هو الواسطة في جعل التفريع خاصا بهم،وهذا من بديع النظم ووفرة المعاني وهو حقيق بأن نسميه "تلوين البساط".
و {غَيْرَ اللَّهِ} منصوب بـ {أَعْبُدُ} الذي هو متعلق بـ {تَأْمُرُونِّي} على حذف حرف الجر مع "أن" وحذف حرف الجر مع "أنْ" كثير فقوله: {أَعْبُدُ} على تقدير:أن أعبد فلما حذف الجار المتعلق بـ {تَأْمُرُونِّي} حذفت "أن" التي كانت متصلة به،كما حذفت في قول طرفة:
ألا أيهذا الزاجري احضر الوغى ... وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
وهذا استعمال جائز عند أبي الحسن الأخفش وابن مالك ونحاة الأندلس.
والجمهور يمنعونه ويجعلون قوله: {أَعْبُدُ} هو المستفهم عنه،وفعل {تَأْمُرُونِّي} اعتراضا أو حالا، والتقدير:أأعبد غير الله حال كونكم تأمرونني بذلك،ومنه قولهم في المثل:تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، وفي الحديث:"وتعين الرجل على دابته فتحمله عليها أو تحمل عليها متاعه صدقة".
وقرأ نافع {تَأْمُرُونِيَ} بنون واحد خفيفة على حذف واحدة من النونين اللتين هما نون الرفع ونون الوقاية على الخلاف في المحذوفة وهو كثير في القرآن كقوله: {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} [الحجر:54]،وفتح نافع ياء المتكلم للتخفيف والتفادي من المد.وقرأ الجمهور {تَأْمُرُونِّي} بتشديد النون إدغاما للنونين مع تسكين الياء للتخفيف.وقرأ ابن كثير بتشديد النون وفتح الياء.وقرأ ابن عامر {تَأْمُرُونَني} بإظهار النونين وتسكين الياء.

ونداؤهم بوصف الجاهلين تقريع لهم بعد أن وصفوا بالخسران ليجمع لهم بين نقص الآخرة ونقص الدنيا.والجهل هنا ضد العلم لأنهم جهلوا دلالة الدلائل المتقدمة فلم تفد منهم شيئا فعموا عن دلائل الوحدانية التي هي بمرأى منهم ومسمع فجهلوا دلالتها على الصانع الواحد ولم يكفهم هذا الحظ من الجهل حتى تدلوا إلى حضيض عبادة أجسام من الصخر الأصم.
وإطلاق الجهل على ضد العلم إطلاق عربي قديم قال النابغة:
يُخْبِرْكَ ذو عِرْضِهم عني وعالمهم ... وليس جاهل شيء مثل من علما
وقال السموأل أو عبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي:
سلي إن جهلت الناس عنا وعنهم ... فليس سواء عالم وجهول
وحُذف مفعول {الْجَاهِلُونَ} لتنزيل الفعل منزلة اللازم كأن الجهل صار لهم سجية فلا يفقهون شيئا فهم جاهلون بما أفادته الدلائل من الوحدانية التي لو علموها لما أشركوا ولما دعوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى إتباع شركهم،وهم جاهلون بمراتب النفوس الكاملة جهلا أطعمهم أن يصرفوا النبي صلى الله عليه وسلم عن التوحيد وأن يستزلوه بخزعبلاتهم وإطماعهم إياه أن يعبدوا الله إن هو شاركهم في عبادة أصنامهم يحسبون الدين مساومة ومغابنة وتطفيفا.
[65ـ66] {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ}
تأييد لأمره بأن يقول للمشركين تلك المقالة مقالة إنكار أن يطعموا منه في عبادة الله،بأنه قول استحقوا أن يرموا بغلظته لأنهم جاهلون بالأدلة وجاهلون بنفس الرسول وزكائها.وأعقب بأنهم جاهلون بأن التوحيد هو سنة الأنبياء وأنهم لا يتطرق الإشراك حوالي قلوبهم،فالمقصود الأهم من هذا الخبر التعريض بالمشركين إذ حاولوا النبي صلى الله عليه وسلم على الاعتراف بإلهية أصنامهم.
والواو عاطفة على جملة {قُلْ} [الزمر:64].وتأكيد الخبر بلام القسم وبحرف "قد" تأكيدا لما فيه من التعريض للمشركين.
والوحي:الإعلام من الله بواسطة الملك.والذين من قبله هم الأنبياء والمرسلون فالمراد القبلية في صفة النبوة فـ {الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ} مراد به الأنبياء.
وجملة {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} مبينة لمعنى أوحي كقوله تعالى: {فَوَسْوَسَ

إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ} [طه:120].
والتاء في {أَشْرَكْتَ} تاء الخطاب لكل من أوحي إليه بمضمون هذه الجملة من الأنبياء فتكون الجملة بيانا لما أوحي إليه وإلى الذين من قبله.ويجوز أن يكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم فتكون الجملة بيانا لجملة {أُوحِيَ إِلَيْكَ} ،ويكون {وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ} اعتراضا لأن البيان تابع للمبين عمومه ونحوه.وأيا ما كان فالمقصود بالخطاب تعريض بقوم الذي أوحي إليه لأن فرض إشراك النبي صلى الله عليه وسلم غير متوقع.واللام في {لَئِنْ أَشْرَكْتَ} موطئة للقسم المحذوف دالة عليه،واللام في {لَيَحْبَطَنَّ} لام جواب القسم.
والحَبط:البطلان والدحض،حبط عمله:ذهب باطلا.والمراد بالعمل هنا:العمل الصالح الذي يرجى منه الجزاء الحسن الأبدي.
ومعنى حَبطة:أن يكون لغوا غير مجازى عليه.وتقدم حكم الإشراك بعد الإيمان،وحكم رجوع ثواب العمل لصاحبه إن عاد إلى الإيمان بعد أن أبطل إيمانه عند قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} في سورة البقرة[217].
ثم عطف عليه أن صاحب الإشراك من الخاسرين،سبه حاله حينئذ بحال التاجر لذي أخرج مالا ليربح فيه زيادة مال فعاد وقد ذهب ماله الذي كان بيده أو أكثره،فالكلام تمثيل لحال من أشرك بعد التوحيد فإن الإشراك قد طلب به مبتكروه زيادة القرب من الله إذ قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس:18]فكان حالهم كحال التاجر الذي طلب الزيادة على ما عنده من المال ولكنه طلب الربح من غير بابه،فباء بخسرانه وتبابه.وفي تقدير فرض وقوع الإشراك من الرسول والذين من قبله مع تحفف عصمتهم التنبيه على عظم أمر التوحيد وخطر الإشراك ليعلم الناس أن أعلى الدرجات في الفضل لو فرض أن يأتي عليها الإشراك لما أبقى منها أثرا ولدحضها دحضا.
و {بل} لإبطال مضمون جملة {لَئِنْ أَشْرَكْتَ} أي بل لا تشرك،أو لإبطال مضمون جملة {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ} .
والفاء في قوله: {فاعبد} يظهر أنها تفريع على التحذير من حبط العمل ومن الخسران فحصل باجتماع {بَل} والفاء، في صدر الجملة،أن جمعت غرضين:غرض

إبطال كلامهم،وغرض التحذير من أحوالهم،وهذا وجه رشيق.
ومقتضى كلام سيبويه:أن الفاء مفرعة على فعل أمر محذوف يقدر بحسب المقام،وتقديره:تنبه فاعبد الله "أي تنبه لمكرهم ولا تغترر بما أمروك أن تعبد غير الله" فحذف فعل الأمر اختصارا فلما حذف استنكر الابتداء بالفاء فقدموا مفعول الفعل الموالي لها فكانت الفاء متوسطة كما هو شأنها في نسج الكلام وحصل مع ذلك التقديم حصر.وجعل الزمخشري والزجاج الفاء جزائية دالة على شرط مقدر أي يدل عليه السياق،وتقديره:إن كنت عاقلا مقابل قوله: {أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} [الزمر:64]فاعبد الله، فلما حذف الشرط "أي إيجازا" عوض عنه تقديم المفعول وهو قريب من كلام سيبويه.وعن الكسائي والفراء الفاء مؤذنة بفعل قبلها يدل عليه الفعل الموالي لها،والتقدير:الله أعبد فاعبد،فلما حذف الفعل الأول حذف مفعول الفعل الملفوظ به للاستغناء عنه بمفعول الفعل المحذوف.
وتقديم المعمول على {فاعبد} لإفادة القصر،كما تقدم في قوله: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ} في هذه السورة[14]، أي أعبد الله لا غيره،وهذا في مقام الرد على المشركين كما تضمنه قوله: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} [الزمر:64].
والشكر هنا:العمل الصالح لأنه عطف على إفراد الله تعالى بالعبادة فقد تمحض معنى الشكر هنا للعمل الذي يرضي الله تعالى والقول عموم الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ولمن قبله أو في خصوصه بالنبي صلى الله عليه وسلم ويقاس عليه الأنبياء كالقول في {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} .
[67] {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}
لما جرى الكلام على أن الله تعالى خلق كل شيء وأن له مقاليد السماوات والأرض وهو ملك عوالم الدنيا،وذيل ذلك بأن الذين كفروا بدليل الوحدانية هم الخاسرون،وانتقل الكلام هنا إلى عظمة ملك الله تعالى في العالم الأخروي الأبدي،وأن الذين كفروا بآيات الله الدالة على ملكوت الدنيا قد خسروا بترك النظر،فلو اطلعوا على عظيم ملك الله في الآخرة لقدروه حق قدره فتكون الواو عاطفة جملة {وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} على جملة { لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الزمر:63] ويكون قوله {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ} الخ معترضا بين الجملتين،اقتضاها التناسب مع جملة {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الزمر: 63].

ويجوز أن تكون معطوفة على جملة {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر:62]فتكون جملة {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} وجملة {وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ} كلتاهما معطوفتين على جملة {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر:62]. والمعنى:هو هو،إلا أن الحال أوضح إفصاحا عنه.
ويجوز أن تكون جملة {وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ} عطف غرض انتقل به إلى وصف يوم القيامة وأحوال الفريقين فيه،وجملة {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} اعتراضا،وهو تمثيل لحال الجاهل بعظمة شيء بحال من لم يحقق مقدار صبرة فنقصها عن مقدارها،فصار معنى {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ} :ما عرفوا عظمته حيث لم ينزهوه عما لا يليق بجلاله من الشريك في إلهيته.
و {حَقَّ قَدْرِهِ} من إضافة الصفة إلى الموصوف،أي ما قدروا الله قدره الحق،فانتصب {حَقَّ} على النيابة عن المفعول المطلق المبين للنوع،وتقدم نظير هذا في سورة الأنعام.
وجميع:أصله اسم مفعول مثل قتيل،قال لبيد:
عريت وكان بها الجميع فأبكروا ... منها وغودر نؤيها وثمامها
وبذلك استعمل توكيدا مثل "كل" و "أجمع" قال تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً} في سورة المجادلة [6].وقد وقع {جَمِيعاً} هنا حالا من {الْأَرْضُ} واسم {الْأَرْضُ} مؤنث فكان تجريد "جميع" من علامة التأنيث جريا على الوجه الغالب في جريان فعيل بمعنى مفعول على موصوفه،وقد تلحقه علامة التأنيث كقول امرئ القيس:
فلو أنها نفس تموت جميعةٌ ... ولكنها نفس تَسَاقَط أنفسا
وانتصب {جَمِيعاً} هنا على الحال من {الْأَرْضُ} وتقدم نظيره آنفا في قوله: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} [الزمر:44].
والقبضة بفتح القاف المرة من القبض،وتقدم في قوله: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ} في سورة طه [96].
والإخبار عن الأرض بهذا المصدر الذي هو بمعنى المفعول كالخلق بمعنى المخلوق للمبالغة في الاتصاف بالمعنى المصدري وإنما صيغ لها وزن المرة تحقيرا لها في جانب عظمة ملك الله تعالى،وإنما لم يُجَأْ بها مضمومة القاف بمعنى الشيء المقبوض لئلا تفوت المبالغة في الاتصاف ولا الدلالة على التحقير فالقبضة مستعارة للتناول استعارة تصريحية,والقبضة تدل على تمام التمكن من المقبوض وأن المقبوض لا تصرف له ولا تحرك.

وهذا إيماء إلى تعطيل حركة الأرض وانقماع مظاهرها إذ تصبح في عالم الآخرة شيئا موجودا لا عمل له وذلك بزوال نظام الجاذبية وانقراض أسباب الحياة التي كانت تمد الموجودات الحية على سطح الأرض من حيوان ونبات.
وطَيُّ السماوات:استعارة مكنية لتشويش تنسيقها واختلال أبعاد أجرامها فإن الطي رد ولف بعض شقق الثوب أو الورق على بعض بعد أن كانت مبسوطة منتشرة على نسق مناسب للمقصود من نشره فإذا انتهى المقصود طوي المنشور،قال تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء:104].وإثبات الطي تخييل.
والباء في {بِيَمِينِهِ} للآلة والسببية.واليمين:وصف لليد ولا يد هنا وإنما هي كناية عن القدرة لأن العمل يكون باليد اليمين قال الشاعر أشده الفراء والمبرد،قال القرطبي:
ولما رأيت الشمس أشرق نورها ... تناولت منها حاجتي بيمين
أي بقدرة.وضمير "منها" يعود على مذكور في أبيات قبله.
والمقصود من هاتين الجملتين تمثيل عظمة الله تعالى بحال من أخذ الأرض في قبضته ومن كانت السماوات مطوية أفلاكها وآفاقها بيده تشبيه المعقول بالمتخيل وهي تمثيلية تنحل أجزاؤها إلى استعارتين،وفيها دلالة على أن الأرض والسماوات باقية غير مضمحلة ولكن نظامها المعهود اعتراه تعطيل،وفي "الصحيح" عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يقبض الله الأرض ويطوي السماوات بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض" .وعن عبد الله ابن مسعود قال:"جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"يا محمد إنا نجد أن الله يجعل السماوات على إصبع،والأرضين على إصبع،والشجر على إصبع،والماء والثرى على إصبع،وسائر الخلق على إصبع.فيقول أنا الملك،فضحك رسول الله حتى بدت نواجذه تصديقا لقول الحبر ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} ".
ومعنى قوله:ثم قرأ هذه الآية،نزلت قبل ذلك لأنها مما نزل مما نزل بمكة.والحبر من أحبار يهود المدينة، وقول الراوي:تصديقا لقول الحبر،مدرج في الحديث من فهم الراوي كما جزم أبو العباس القرطبي في كتابه "المفهم على صحيح مسلم"،وقال

الخطابي:"روى هذا الحديث غير واحد عن عبد الله بن مسعود من طريق عبيدة فلم يذكروا قوله تصديقا لقول الحبر،ولعله من الراوي ظن وحسبان".اهـ،أي فهو من إدراج إبراهيم النخعي راوية عن عبيدة.وإنما كان ضحك النبي صلى الله عليه وسلم استهزاء بالحبر في ظنه أن الله يفعل ذلك حقيقة وأن له يدا وأصابع حسب اعتقاد اليهود التجسيم ولذلك أعقبه بقراءة {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} لأن افتتاحها يشتمل على إبطال ما توهمه الحبر ونظراؤه من الجسمية، وذلك معروف من اعتقادهم وقد رده القرآن عليهم غير مرة مما هو معلوم فلم يحتج النبي صلى الله عليه وسلم إلى التصريح بإبطاله واكتفى بالإشارة التي يفهمها المؤمنون، ثم أشار إلى أن ما توهمه اليهودي توزيعا على الأصابع إنما هو مجاز عن الأخذ والتصرف.وفي بعض روايات الحديث فنزل قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} وهو وهم من بعض رواته وكيف وهذه مكية وقصة الحبر مدنية.
وجملة {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} إنشاء تنزيه لله تعالى عن إشراك المشركين له آلهة وهو يؤكد جملة {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} .
[68] {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ}
انتقال من إجمال عظمة القدرة يوم القيامة إلى تفصيلها لما فيه تهويل وتمثيل لمجموع الأحوال يومئذ مما ينذر الكافر ويبشر المؤمن.ويذكر بإقامة العدل والحق،ثم تمثيل إزجاء المشركين إلى جهنم وسوق المؤمنين إلى الجنة.
فالجملة من عطف القصة على القصة،ومناسبة العطف ظاهرة،وعبر بالماضي في قوله: {وَنُفِخَ} وقوله: {فَصَعِقَ} مجازا لأنه محقق الوقوع مثل قوله: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل:1]،ويجوز أن تكون الواو للحال بتقدير "قد" أي والحال قد نفخ في الصور،فتكون صيغة الماضي في فعلي "نفخ وصعق" مستعملة في حقيقتها.
وابتدئت الجملة بحديث النفخ في الصور إذ هو ميقات يوم القيامة وما يتقدمه من موت كل حي على وجه الأرض.وتكرر ذكره في القرآن والسنة.
والصور:بوق ينادى به العبيد المتفرق مثل الجيش،ومثل النداء للصلاة فقد كان اليهود ينادون به: للصلاة الجامعة،كما جاء في حديث بدء الأذان في الإسلام.والمراد به هنا نداء الخلق لحضور الحشر أحيائهم وأمواتهم،وتقدم عند قوله: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} في الأنعام

[73].وهو علامة لأمر التكوين،فالأحياء يصعقون فيموتون "كما يموت المفزوع" بالنفخة الأولى، والأموات يصعقون اضطرابا تدب بسببه فيهم الحياة فيكونون مستعدين لقبول الحياة،فإذا نفخت النفخة الثانية حلت الأرواح في الأجساد المخلوقة لهم على مثال ما بلي من أجسادهم التي بليت،أو حلت الأرواح في الأجساد التي لم تزل باقية غير بالية كأجساد الذين صعقوا عند النفخة الأولى، ويجوز أن يكون بين النفختين زمن تبلى فيه الأجساد.والاستثناء من اسم الموصول الأول،أي إلا من أراد الله عدم صعقة وهم الملائكة والأرواح،وتقدم في سورة النمل[87] {وَيَوْمَ يُنْفَخُ1 فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} .
و {ثم} تؤذن بتراخي الرتبة لأنها عاطفة جملة،ويجوز أن تفيد مع ذلك المهلة المناسبة لما بين النفختين. و {أُخْرى} صفة لمحذوف،أي نفخة أخرى،وهي نفخة مخالف تأثيرها لتأثير النفخة الأولى،لأن الأولى نفخة إهلاك وصعق،والثانية نفخة إحياء وذلك باختلاف الصوتين أو باختلاف أمري التكوين.وإنما ذكرت النفخة الثانية في هذه الآية ولم تذكر في قوله في سورة النمل[87] {وَيَوْمَ يُنْفَخُ2 فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} لأن تلك في غرض الموعظة بفناء الدنيا وهذه الآية في غرض عظمة شأن الله يوم القيامة،وكذلك وصف النفخة بالوحدة في سورة الحاقة[13ـ15] {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} وذكرت هنا نفختان.
وضمير {هم} عائد على {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} فيما بقي من مفهومه بعد التخصيص بـ {إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} وهم الذين صعقوا صعق ممات وصعق اضطراب يهيأ لقبول الحياة عند النفخة.
و {إذا} للمفاجأة للتنبيه على سرعة حلول الحياة فيهم وقيامهم إثره.و {قيام} جمع قائم.
وجملة {يَنْظُرُونَ} حال.والنظر:الإبصار،وفائدة هذه الحال الدلالة على أنهم حيوا حياة كاملة لا غشاوة معها على أبصارهم،أي لا دهش فيها كما في قوله تعالى: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ} في سورة[الصافات:19]،أو أريد أنهم ينظرون نظر المقلب بصره الباحث. ويجوز أن يكون من النظرة، أو الانتظار.
ـــــــ
1, 2في المطبوعة "ونفخ" وهو خطأ.

[69ـ70] {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ}
صوَّرت هذه الآيات جلال ذلك الموقف وجماله أبدع تصوير والتعريف في {الْأَرْضُ} تعريف العهد الذكري الضمني فقد تضمن قوله: {فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68]أنهم قيام على قرار فإن القيام يستدعي مكانا تقوم فيه تلك الخلائق وهو أرض الحشر وهي الساهرة في قوله تعالى في سورة النازعات[14,13] {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} وفسرت بأنها الأرض البيضاء النقية وليس المراد الأرض التي كانوا عليها في الدنيا فإنها قد اضمحلت قال تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ} [إبراهيم: 48].
وإشراق الأرض انتشار الضوء عليها،يقال:أشرقت الأرض،ولا يقال:أشرقت الشمس،كما تقدم عند قوله: {بِالْعَشِيِّ وَالْأِشْرَاقِ} في سورة ص[18].
وإضافة النور إلى الرب إضافة تعظيم لأنه منبعث من جانب القدس وهو الذي في قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} الآية من سورة النور[35].فإضافة نور الرب إضافة تشريف للمضاف كقوله تعالى: {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً} [الأعراف:73]كما أن إضافة "رب" إلى ضمير الأرض لتشريف المضاف إليه،أي بنور خاص خلقه الله فيها لا بسطوع مصباح ولا بنور كوكب شمس أو غيرها،وإذ قد كان النور نورا ذاتيا لتلك الأرض كان إشارة إلى خلوصها من ظلمات الأعمال فدل على أن ما يجري على تلك الأرض من الأعمال والأحداث حق وكمال في بابه لأن عالم الأنوار لا يشوبه شيء من ظلمات الأعمال،ألا ترى أن العالم الأرضي لما لم يكن نيرا بذاته بل كان نوره مقتبسا من شروق الشمس والكواكب ليلا كان ما على وجه الأرض من الأعمال والمخلوقات خليطا من الخير والشر.وهذا يغني عن جعل النور مستعارا للعدل فإن ذلك المعنى حاصل بدلالة الالتزام كناية،ولو حمل النور على معنى العدل لكان أقل شمولا لأحوال الحق والكمال وهو يغني عنه قوله: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} .هذا هو الوجه في تفسير الآية وقد ذهب فيها المفسرون من السلف والخلف طرائق شتى.

و {الْكِتَابُ} تعريفه تعريف الجنس،أي وضعت الكتب وهي صحائف أعمال العباد أحضرت للحساب بما فيها ن صالح وسيئ.والوضع:الحط،والمراد به هنا الإحضار.
ومجيء النبيين للشهادة على أممهم،كما تقدم في قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} في سورة النساء[41].
ويجوز أن يكون المراد بالكتاب كتب الشرائع التي شرعها الله للعباد على ألسنة الرسل ويكون إحضارها شاهدة على الأمم بتفاصيل ما بلغه الرسل إليهم لئلا يزعموا انهم لم تبلغهم الأحكام.وقد صوَّرت الآية صورة المحكمة الكاملة التي أشرقت بنور العدل،وصدر الحكم على ما يستحقه المحكوم فيهم من كرامة ونذالة،ولذلك قال: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ} أي صدر القضاء فيهم بما يستحقون وهو مسمى الحق،فمن القضاء ما هو فصل بين الناس في معاملات بعضهم مع بعض من كل ظالم ومظلوم ومعتد ومعتدى عليه في اختلاف المعتقدات واختلاف المعاملات قال تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [النحل:124].
ومن القضاء القضاء على كل نفس بما هي به حقيقة من مرتبة الثواب أو العقاب وهو قوله: {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ} .فقضاء الله هو القضاء العام الذي لا يقتصر على إنصاف المتداعين كقضاء القاضي،ولا على سلوك الداعرين كقضاء والي الشرطة،ولا على مراقبة المغيرين كقضاء والي الحسبة، ولكنه قضاء على كل نفس بما اختلت به من عمل وبما أضمرته من ضمائر إن خيرا فخير وإن شرا فشر.وإلى ذلك تشير المراتب الثلاث في الآية:مرتبة {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} ،ومرتبة {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ} ،ومرتبة {وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ} .
والتوفية:إعطاء الشيء وافيا لا نقص فيه عن الحق في إعطائه ولا عن عطاء أمثاله.وفي قوله: {مَا عَمِلَتْ} مضاف محذوف،أي جزاء ما عملت لظهور أن ما عمله المرء لا يوفاه بعد أن عمله وإنما يوفى جزاءه.

والقول في الأفعال الماضوية في قوله: {وأشرقت} ، {ووضع} ، {وجيء} ، {ووفيت} كالقول في قوله: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} [الزمر:68].
[71ـ72] {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ}
هذا تنفيذ القضاء الذي جاء في قوله: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ} [الزمر:69]وقوله: {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ} [الزمر:70]،فإن عاقبة ذلك ونتيجته إيداع المجرمين في العقاب وإيداع الصالحين في دار الثواب.
وابتدئ في الخبر بذكر مستحقي العقاب لأنه الأهم في هذا المقام إذ هو مقام إعادة الموعظة والترهيب للذين لم يتعظوا بما تكرر في القرآن من العظات مثل هذه فما أهل الثواب فقد حصل المقصود منهم فما يذكر عنهم فإنما هو تكرير بشارة وثناء.
والسَّوق:أن يجعل الماشي ماشيا آخر يسير أمامه ويلازمه،وضده القود،والسوق مشعر بالإزعاج والإهانة،قال تعالى: {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ} [لأنفال:6]
والزُّمَر:جمع زُمْرَة،وهي الفوج من الناس المتبوع بفوج آخر،فلا يقال:مرت زمرة من الناس،إلا إذا كانت متبوعة بأخرى،وهذا من الألفاظ التي مدلولها شيء مقيد.
وإنما جعلوا زمرا لاختلاف درجات كفرهم،فإن كان المراد بالذين كفروا مشركي قريش المقصودين بهذا الوعيد كان اختلافهم على حسب شدة تصلبهم في الكفر وما يخالطه من حدب على المسلمين أو فظاظة،ومن محايدة للنبي صلى الله عليه وسلم أو أذى،وإن كان المراد بهم جميع أهل الشرك كما تقتضيه حكاية الموقف مع قوله: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ} كان تعدد زمرهم على حسب أنواع إشراكهم.
و {حتى} ابتدائية و {إذا} ظرف لزمان المستقبل يضمن معنى الشرط غالبا،أي سيقوا سوقا ملازما لهم بشدته متصل بزمن مجيئهم إلى النار.
وجملة {فتحت} جواب {إذا} لأنها ضمنت معنى الشرط وأغنى ذكر {إذا} عن الإتيان بـ"لما"التوقيتية، والتقدير:فلما جاءوها فتحت أبوابها،أي وكانت مغلقة لتفتح في وجوههم حين مجيئهم فجأة تهويلا ورعبا.

وقرأ الجمهور {فُتِّحَتْ} بتشديد التاء للمبالغة في الفتح.وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وخلف بتخفيف التاء على أصل الفعل.
والخزَنة:جمع خازن وهو الوكيل والبواب غلب عليه اسم الخازن لأنه يقصد لخزن المال.
والاستفهام الموجه إلى أهل النار استفهام تقريري مستعمل في التوبيخ والزجر كما دل عليه قولهم بعده: {ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} .
و {منكم} صفة لـ {رسل} والمقصود من الوصف التورك عليهم لأنهم كانوا يقولون: {أَبَشَراً مِنَّا وَاحِداً نَتَّبِعُهُ} [القمر:24]،والتلاوة:قراءة الرسالة والكتاب لأن القارئ يتلو بعض الكلام ببعض، وأصل الآيات:العلامات مثل آيات الطريق.وأطلقت على الأقوال الدالة على الحق،والمراد بها هنا القوال الموحى بها إلى الرسل مثل صحف إبراهيم وموسى والقرآن،وأخصها باسم الآيات هي آيات القران لأنها استكملت كنه الآيات باشتمالها على عظم الدلالة على الحق وإذ هي معجزات بنظمها ولفظها،وما عداه يسمى آيات على وجه المشاكلة كما في حديث الرجم:أن اليهودي الذي أحضر التوراة وضع يده على آية الرجم،ولأن في معاني كثير من القرآن والكتب السماوية ما فيه دلائل نظرية على الوحدانية والبعث ونحوها من الاستدلال.
وأسندت التلاوة إلى جميع الرسل وإن كن فيهم من ليس له كتاب،على طريقة التغليب.
وإضافة "يوم" إلى ضمير المخاطبين باعتبار كونهم فيه كقول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع :"كحرمة يومكم هذه في شهركم هذا في بلدكم هذا" فلإضافة قائمة مقام التعريف بـ"أل" العهدية.
وجوابهم بحرف {بلى} إقرار بإبطال المنفي وهو إتيان الرسل وتبليغهم فمعناه إثبات إتيان الرسل وتبليغهم.
و {كَلِمَةُ الْعَذَابِ} هي الوعيد به على ألسنة الرسل كما في قول بعضهم في الآية الأخرى: {فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ} [الصافات:31]أي تحققت فينا،فالتعريف في كلمة {الْعَذَابِ} تعريف الجنس لإضافتها إلى معرفة بلام الجنس،أي كلمات.
ومحل الاستدراك هو ما طوي في الكلام مما اقتضى أن تحق عليهم كلمات الوعيد،وذلك بإعراضهم عن الإصغاء لأمر الرسل،فالتقدير:ولكن تكبَّرْنَا وعانَدْنَا فحقت

كلمة العذاب على الكافرين،وهذا الجواب من قبيل جواب المتندم المكروب فإنه يوجز جوابه ويقول لسائله أو لائمة:الأمر كما ترى.
ولم يعطف فعل {قالوا} على ما قبله لأنه جاء في معرض المقاولة كما تقدم غير مرة انظر قوله تعالى: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} إلى قوله: {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30].
وفعل {قيل} مبني للنائب للعلم بالفاعل إذ القائل: ادخلوا أبواب جهنم، هم خزنتها.
ودخول الباب:ولوجه لوصول ما وراءه قال تعالى: {ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ} [المائدة:23]أي لجوا الأرض المقدسة،وهي أريحا.
والمَثْوَى:محل الثواء وهو الإقامة،والمخصوص بالذم محذوف دل عليه ما قبله والتقدير:بئس مثوى المتكبرين جهنم ووصفوا بـ {المتكبرين} لأنهم أعرضوا عن قبول الإسلام تكبرا عن أن يتبعوا واحدا منهم.
[73] {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ}
أطلق على تقدمة المتقين إلى الجنة فعل لسوق على طريقة المشاكلة لـ {سِيقَ} [الزمر:71]الأولِ، والمشاكلة من المحسنات،وهي عند التحقيق من قبيل الاستعارة التي لا علاقة لها إلا المشابهة الجملية عليها مجانسة اللفظ.وجعلهم زمرا بحسب مراتب التقوى.
والواو في جملة {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} واو الحال،أي حين جاءوها وقد فتحت أبوابها فوجدوا الأبواب مفتوحة على ما هو الشان في اقتبال أهل الكرامة.
وقد وهم في هذه الواو بعض النحاة مثل ابن خالويه والحريري وتبعهما الثعلبي في "تفسيره" فزعموا أنها واو تدخل على ما هو ثامن إما لأن فيه مادة ثمانية كقوله: {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف:22]،فقالوا في {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} جيء بالواو لأن أبواب الجنة ثمانية،وإما لأنه ثامن في التعداد نحو قوله تعالى: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ} إلى قوله: {وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة:112]فإنه الوصف الثامن في التعداد ووقوع هذه الواوات مصادفة غريبة،وتنبه أولئك إلى المصادفة تنبه لطيف ولكنه لا طائل تحته في

معاني القرآن بله بلاغته،وقد زينه ابن هشام في مغني اللبيب،وتقدم الكلام عليها عند قوله تعالى: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ} في سورة التوبة[112]وعند قوله: {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} في سورة الكهف[22].
و {إذا} هنا لمجرد الزمان غير مضمنة معنى الشرط،فالتقدير:حتى زمن مجيئهم إلى أبواب الجنة،أي خلتهم الملائكة الموكلون بإحفافهم عند أبواب الجنة،كحالة من يهدي العروس إلى بيتها فإذا أبلغها خلى بينها وبين بيتها،كأنهم يقولون:هذا منزلكم فدونكموه،فتلقتهم خزنة الجنة بالسلام.
و {طبتم} دعاء بالطيب لهم،أي التزكية وطيب الحالة،والجملة إنشاء تكريم ودعاء.
والخلاف بين القراء في {فتحت} هنا كالخلاف في نظيره المذكور آنفا.
[74] {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ}
عطف هذا الكلام يؤذن بأن قولهم ذلك غير جواب لقول الملائكة بل حمدوا الله على مل منحهم من النعيم الذي وعدهم به،وإنما وعدهم به بعنوان الأعمال الصالحة فلما كانوا أصحاب الأعمال الصالحة جعلوا وعد العاملين للصالحات وعدا لهم لتحقق المعلق عليه الوعد فيهم.ومعنى {صدقنا} حقق لنا وعده.
وقوله: {وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ} كلام جرى مجرى المثل لمن ورث الملك قال تعالى: {أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105]فعبر القرآن عن مراد أهل لجنة المختلفي اللغات بهذا لتركيب العربي الدال على معاني ما نطقوا به من لغاتهم المختلفة.
ويجوز أن يكون أهل الجنة نطقوا بكلام عربي ألهمهم الله إياه فق جاء في الآثار أن كلام أهل الجنة بالعربية الفصحى.ولفظ {الْأَرْضَ} جار على مراعاة التركيب التمثيلي لأن الأرض قد اضمحلت أو بدلت.ويجوز أن يكون لفظ {الْأَرْضَ} مستعارا للجنة لأنها قرارهم كما أن الأرض قرار الناس في الحياة الأولى.
وإطلاق الإيراث استعارة تشبيها للإعطاء بالتوريث في سلامته من تعب الاكتساب.
والتبؤ:السكني والحلول،والمعنى:أنهم ينتقلون في الغرف والبساتين تفننا في النعيم.

وأرادوا بـ {العاملين} أنفسهم،أي عاملي الخير،وهذا من التصريح بالحقائق فليس فيه عيب تزكية النفس،لأن ذلك العالم عالم الحقائق الكاملة المجردة عن شوب النقائض.
واعلم أن الآيات وصفت مصير أهل الكفر ومصير المتقن يوم الحشر وسكتت عن مصير أهل المعاصي الذين لم يلتحقوا بالمتقين بالتوبة من الكبائر وغفران الصغائر باجتناب الكبائر،وهذه عادة القرآن في الإعراض عن وصف رجال من الأمة الإسلامية بمعصية ربهم إلا عند الاقتضاء لبيان الأحكام،فإن الكبائر من أمر الجاهلية فما كان لأهل الإسلام أن يقعوا فيها فإذا وقعوا فيها فعليهم بالتوبة فإذا ماتوا غير تائبين فإن الله تعالى يحصي لهم حسنات أعمالهم وطيبات نواياهم فيقاصهم بها إن شاء،ثم هم فيما دون ذلك يقتربون من العقاب بمقدار اقترابهم من حال أهل الكفر في وفرة المعاصي فيؤمر بهم إلى النار،أو إلى الجنة،ومنهم أهل لأعراف.وقد تقدمت نبذة من هذا الشأن في سورة الأعراف.
[75] {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
{وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ}
عطف على ما قبله من ذكر أحوال يوم القيامة التي عطف بعضها على بعض ابتداء من قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الزمر:68]إن من جملة تلك الأحوال حف الملائكة حول العرش.
والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم فيكون إيذانا بأنها رؤية دنو من العرش وملائكته وذلك تكريم له يأن يكون قد حواه موكب الملائكة الذين حول العرش.
والحَفُّ:الإحداق بالشيء والكون بجوانبه.
وجملة {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} حال،أي يقولون أقوالا تدل على تنزيه الله تعالى وتعظيمه ملابسة لحمدهم إياه.فالباء في {بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} للملابسة تتعلق بـ {يُسَبِّحُونَ} .وفي استحضار الله تعالى بوصف ربهم إيماء إلى أن قربهم من العرش ترفيع في مقام العبودية الملازمة للخلائق.
{وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ}

تأكيد لجملة {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [الزمر:69]المتقدمة.
{وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
يجوز أن يكون توكيدا لجملة {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} [الزمر:74].ويجوز أن يكون حكاية قول آخر لقائلين من الملائكة والرسل وأهل الجنة،فهو أعم من القول المتقدم الذي هو قول المسوقين إلى الجنة من المتقين،فهذا قولهم يحمدون الله على عدل قضائه وجميع صفات كماله.

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة المؤمنوردت تسمية هذه السورة في السنة "حم المؤمن" روى الترمذي عن أبي هريرة قال: "قال رسول الله صلى الله وسلم: "من قرأ {حم} المؤمن إلى {إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [غافر: 1ـ3]، وآية الكرسي حين يصبح حُفِظ بهما"الحديث. وبذلك اشتهرت في مصاحف المشرق، وبذلك ترجمها البخاري في "صحيحه" والترمذي في "الجامع" . ووجه التسمية أنها ذكرت فيها قصة مؤمن آل فرعون ولم تذكر في سورة أخرى بوجه صريح.
والوجه في إعراب هذا الاسم حكايةُ كلمة {حم} ساكنة الميم بلفظها الذي يقرأ. وبإضافته إلى لفظ المؤمن بتقدير: سورة حم ذكر المؤمن أو لفظ المؤمن وتسمى أيضا "سورة الطول" لقوله تعالى في أولها: {ذِي الطَّوْلِ} [غافر: 3]وقد تنوسي هذا الاسم. وتسمى سورة غافر لذكر وصفه تعالى: {غَافِرِ الذَّنْبِ} [غافر: 3]في أولها. وبهذا الاسم اشتهرت في مصاحف المغرب.
وهي مكية بالاتفاق وعن الحسن استثناء قوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْأِبْكَارِ} [غافر: 55]، لأنه كان يرى أنها نزلت في فرض الصلوات الخمس وأوقاتها. ويرى أن فرض صلوات خمس وأوقاتها ما وقع إلا في المدينة وإنما كان المفروض بمكة ركعتين كل يوم من غير توقيت، وهو من بناء ضعيف على ضعيف فأن الجمهور على أن الصلوات الخمس فرضت بمكة في أوقاتها على أنه لا يتعين أن يكون المراد بالتسبيح في تلك الآية الصلوات بل يحمل على ظاهر لفظه من كل قول ينزه به الله تعالى.
وأشذ منه ما روي عن أبي العالية أن قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} [غافر: 56]نزلت في يهود من المدينة جادلوا النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الدجال وزعموا أنه منهم. وقد جاء في أول السورة[4]

{مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} . والمراد بهم: المشركون.
وهذه السورة جُعلت الستين في عداد ترتيب نزول السور نزلت بعد سورة الزمر وقبل سورة فصلت وهي أول سور "آل حم" نزولا. وقد كانت هذه السورة مقروءة عقب وفاة أبي طالب، أي سنة ثلاث قبل الهجرة لما سيأتي أن أبا بكر قرأ آية {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [غافر: 28]حين آذى نفر من قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم حول الكعبة، وإنما اشتد أذى قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاة أبي طالب.
والسور المفتتحة بكلمة {حم} سبع سور مرتبة في المصاحف على ترتيبها في النزول ويدعى مجموعها "آل حم" جعلوا لها اسم "آل" لتآخيها في فواتحها. فكأنها أسرة واحدة وكلمة "آل" تضاف إلى ذي شرف "ويقال لغير المقصود تشريفه أهل فلان" قال الكميت:
قرأنا لكم في آل حاميم آية ... تأولها منا فقيه ومعرب
يريد قول الله تعالى في سورة "حم عسق" {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23]على تأويل غير ابن عباس فلذلك عززه بقوله: تأولها منا فقيه ومعرب.
وربما جمعت السور المفتتحة بكلمة {حم} فقيل ألحوا ميم جمع تكسير على زنة فعاليل لأن مفرده على وزن فاعيل وزنا عرض له من تركيب اسمي الحرفين: حا، ميم فصار كالأوزان العجمية مثل "قابيل" و "راحيل" وما هو بعجمي لأنه وزن عارض لا يعتد به. وجمع التكسير على فعاليل يطرد في مثله. وقد ثبت أنهم جمعوا {حم} على حواميم في أخبار كثيرة عن ابن مسعود، وابن عباس، وسمرة بن جندب، ونسب في بعض الأخبار إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يثبت بسند صحيح. ومثله السور المفتتحة بكلمة {طس} أو {طسم} جمعوها على طواسين بالنون تغليبا. وأنشد أبو عبيدة أبياتا لم يسم قائلها:
حلفت بالسبع الألى قد طولت ... وبمئين بعدها قد أمئت
وبثمان ثنيت وكررت ... وبالطواسين اللواتي ثلثت
وبالحواميم اللواتي سبعت ... وبالمفصل التي قد فصلت
وعن أبي عبيدة والفراء أن قول العامة الحواميم ليس من كلام العرب وتبعهما أبو منصور الجواليقي.
وقد عدت آيها أربعا وثمانين في عد أهل المدينة وأهل مكة، وخمسا وثمانين في

عد أهل الشام والكوفة، واثنتين وثمانين في عد أهل البصرة.
أغراض هذه السورة
تضمنت هذه السورة أغراضا من أصول الدعوة إلى الإيمان، فابتدئت بما يقتضي تحدي المعاندين في صدق القرآن كما اقتضاه الحرفان المقطعان في فاتحتهما كما تقدم في أول سورة البقرة[1].
وأجري على اسم الله تعالى من صفاته ما فيه تعريض بدعوتهم إلى الإقلاع عما هم فيه، فكانت فاتحة السور مثل ديباجة الخطبة مشيرة إلى الغرض من تنزيل هذه السورة. وعقب ذلك بأن دلائل تنزيل هذا الكتاب من الله بينة لا يجحدها إلا الكافرون من الاعتراف بها حسدا، وأن جدالهم تشغيب وقد تكرر ذكر المجادلين في آيات الله خمس مرات في هذه السورة، وتمثيل حالهم بحال الأمم التي كذبت رسل الله بذكرهم إجمالا، ثم التنبيه على آثار استئصالهم وضرب المثل بقوم فرعون. وموعظة مؤمن آل فرعون قومه بمواعظ تشبه دعوة محمد صلى الله عليه وسلم قومه. والتنبيه على دلائل تفرد الله تعالى بالإلهية إجمالا. وإبطال عبادة ما يعبدون من دون الله. والتذكير بنعم الله على الناس ليشكره الذين أعرضوا عن شكره. والاستدلال على إمكان البعث. وإنذارهم بما يلقون من هوله وما يترقبهم من العذاب، وتوعدهم بأن لا نصير لهم يومئذ وبأن كبراءهم يتبرؤون منهم. وتثبيت الله رسوله ص بتحقيق نصر هذا الدين في حياته وبعد وفاته. وتخلل ذلك الثناء على المؤمنين ووصف كرامتهم وثناء الملائكة عليهم.
وورد في فضل هذه السورة الحديث الذي رواه الترمذي عن أبي هريرة قال: "قال رسول الله صلى اله عليه وسلم: "من قرأ {حم} المؤمن إلى {إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [غافر: 1ـ3] وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما حتى يمسي ومن قرأهما حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح".
[1] {حم~}
القول فيه كالقول في نظائره من الحروف المقطعة في أوائل السور، وأن معظمهما وقع بعده ذكر القرآن وما يشير إليه لتحدي المنكرين بالعجز عن معارضته. وقد مضى ذلك في أول سورة البقرة وذكرنا هنالك أن الحروف التي أسماؤها ممدودة الآخر ينطق بها في هذه الفواتح مقصورة بحذف الهمزة تخفيفا لأنها في حالة الوقف مثل اسم "حا" في هذه السورة واسم "را" في "الر" واسم "يا" في "يس~".

[2] {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}
القول فيه كالقول في فاتحة سورة الزمر. ويزاد هنا أن المقصود بتوجيه هذا الخبر هم المشركين المنكرون أن القرآن منزل من عند الله. فتجريد الخبر عن المؤكد إخراج له على خلاف مقتضى الظاهر بجعل المنكر كغير المنكر لأنه يحف به من الأدلة ما إن تأمله ارتدع عن إنكاره فما كان من حقه أن ينكر ذلك.
[3] {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ}
أجريت على اسم الله ستة نعوت معارف، بعضها بحرف التعريف وبعضها بالإضافة إلى معرف بالحرف.
ووصْفُ الله بوصفي {الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [غافر: 2]هنا تعريض بأن منكري تنزيل الكتاب منه مغلوبون مقهورون، وبأن الله يعلم ما تكنه نفوسهم فهو محاسبهم على ذلك، ورمز إلى أن القرآن كلام العزيز العليم فلا يقدر غير الله على مثله ولا يعلم غير الله أن يأتي بمثله.
وهذا وجه المخالفين بين هذه الآية ونظيرتها من أول سورة الزمر التي جاء فيها وصف {الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الزمر: 1]، على أنه يتأتى في الوصف بالعلم ما تأتي في بعض احتمالات وصف {الْحَكِيمِ} في سورة الزمر. ويتأتى في الوصفين أيضا ما تأتى هنالك من طريقي إعجاز القرآن.
وفي ذكرهما رمز إلى أن الله أعلم حيث يجعل رسالته وأنه لا يجاري أهواء الناس فيمن يرشحونه لذلك من كبرائهم {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31].
وفي إتباع الوصفين العظيمين بأوصاف {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلُِ} ترشيح لذلك التعريض كأنه يقول: إن كنتم أذنبتم بالكفر بالقرآن فإن تدارك ذنبكم في مكنتكم لأن الله مقرر اتصافه بقبول التوبة وبغفران الذنب فكما غفر لمن تابوا من الأمم فقبل إيمانهم يغفر لمن يتوب منكم.
وتقديم {غَافِرِ} على {قَابِلِ التَّوْبِ} مع أنه مرتب عليه في الحصول للاهتمام بتعجيل الإعلام به لمن استعد لتدارك أمره فوصف {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} تعريض بالترغيب، وصفتا {شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلُِ} تعريض بالترهيب. والتوب: مصدر تاب،

والتوب بالمثناة والتوب بالمثلثة والَأوْب كلها بمعنى الرجوع، أي الرجوع إلى أمر الله وامتثاله بعد الابتعاد عنه. وإنما عطفت صفة {وَقَابِلِ التَّوْبِ} بالواو على صفة {غَافِرِ الذَّنْبِ} ولم تفصل كما فصلت صفتا {الْعَلِيمِ} [غافر: 2] {غَافِرِ الذَّنْبِ} وصفة {شَدِيدِ الْعِقَابِ} إشارة إلى نكتة جليلة وهي إفادة أن يجمع للمذنب التائب بين رحمتين بين أن يقبل توبته فيجعلها له طاعة، وبين أن يمحو عنه بها الذنوب التي تاب منها وندم على فعلها، فيصبح كأنه لم يفعلها. وهذا فضل من الله.
وقوله: {شَدِيدِ الْعِقَابِ} إفضاء بصريح الوعيد على التكذيب بالقرآن لأن مجيئه بعد قوله: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ} [غافر: 2]يفيد أنه المقصود من هذا الكلام بواسطة دلالة مستتبعات التراكيب.
والمراد بـ {غَافِرِ} و {قَابِلِ} أنه موصوف بمدلوليهما فيما مضى إذ ليس المراد انه سيغفر وسيقبل، فاسم الفاعل فيهما مقطوع عن مشابهة الفعل، وهو غير عامل عمل الفعل، فلذلك يكتسب التعريف بالإضافة التي تزيد تقريبه من الأسماء، وهو المحمل الذي لا يناسب غيره هنا.
و {شَدِيدِ} صفة مشبهة مضافة لفاعلها، وقد وقعت نعتا لاسم الجلالة اعتدادا بان التعريف الداخل على فاعل الصفة يقوم مقام تعريف الصفة فلم يخالف ما هو المعروف في الكلام من اتحاد النعت والمنعوت في التعريف واكتساب الصفة المشبهة التعريف بالإضافة هو قول نحاة الكوفة طردا لباب التعريف بالإضافة وسيبويه يجوز اكتساب الصفات المضافة التعريف بالإضافة إلا الصفة المشبهة لأن إضافتها إنما هي لفاعلها في المعنى لأن أصل ما تضاف إليه الصفة المشبهة أنه كان فاعلا فكانت إضافتها إليه مجرد تخفيف لفظي والخطب سهل.
والطوْل يطلق على سعة الفضل وسعة المال، ويطلق على القدرة كما في "القاموس"، وظاهره الإطلاق وأقره في "تاج العروس" وجعله من معنى هذه الآية، ووقوعه مع {شَدِيدِ الْعِقَابِ} ومزاوجتها بوصفي {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} ليشير إلى التخويف بعذاب الآخرة من وصف {شَدِيدِ الْعِقَابِ}، وبعذاب الدنيا من وصف {ذِي الطَّوْلِ} كقوله: {أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ} [الزخرف: 42]، وقوله: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً} [الأنعام: 37]. وأعقب ذلك بما يدل على الوحدانية وبأن المصير، أي المرجع إليه تسجيلا لبطلان الشرك وإفسادا لإحالتهم البعث.
فجملة {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} في موضع الصفة، وأتبع ذلك بجملة {إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} إنذاراً

بالبعث والجزاء لأنه لما أجريت صفات {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ} أثير في الكلام الإطماع والتخويف فكان حقيقيا بأن يشعروا بان المصير إما إلى ثوابه وإما إلى عقابه فليزنوا أنفسهم ليضعوها حيث يلوح من حالهم.
وتقديم المجرور في {إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} للاهتمام وللرعاية على الفاصلة بحرفين: حرف لين، وحرف صحيح مثل: العليم، والبلاد، وعقاب.
وقد اشتملت فاتحة هذه السورة على ما يشير إلى جوامع أغراضها ويناسب الخوض في تكذيب المشركين بالقرآن ويشير إلى أنهم قد اعتزوا بقوتهم ومكانتهم وأن ذلك زائل عنهم كما زال عن أمم أشد منهم، فاستوفت هذه الفاتحة كمال ما يطلب في فواتح الأغراض مما يسمى براعة المطلع أو براعة الاستهلال.
[4] {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ}
استئناف بياني نشأ من قوله: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [غافر: 2]المقتضي أن كون القرآن منزلا من عند الله أمر لا ريب فيه كما تقدم فينشأ في نفوس السامعين أن يقولوا: فما بال هؤلاء المجادلين في صدق نسبة القرآن إلا الذين كفروا بالله وإذ قد كان المكذبين بالقرآن أمرا معلوما كان الإخبار عنهم بأنهم كافرون غير مقصود منه إفادة اتصافهم بالكفر، فتعين أن يكون الخبر غير مستعمل في فائدة الخبر لا بمنطوقه ولا بمفهومه، فإن مفهوم الحصر وهو: أن الذين آمنوا لا يجادلون في آيات الله كذلك أمر معلوم مقرر، فيجوز أن يجعل المراد بالذين كفروا نفس المجادلين في آيات الله وأن المراد بكفرهم كفرهم بوحدانية الله بسبب إشراكهم، فالمعنى: لا عجب في جدالهم بآيات الله فإنهم أتوا بما هو أعظم وهو الإشراك على طريقة قوله تعالى: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء: 153].
ويجوز أن يجعل المراد بالذين كفروا جميع الكافرين بالله من السابقين والحاضرين، أي ما الجدل في آيات الله إلا من شأن أهل الكفر والإشراك، ومجادلة مشركي مكة شعبة من شعب مجادلة كل الكافرين، فيكون استدلالا بالأعم على الخاص، وعلى كلا الوجهين ترك عطف هذه الجملة على التي قبلها.
والمراد بالمجادلة هنا المجادلة بالباطل بقرينة السياق فمعنى {فِي آيَاتِ اللَّهِ} في

صدق آيات الله بقرينة قوله: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [غافر: 2]فتعين تقدير مضاف دل عليه المقام كما دل قوله تعالى عن إبراهيم عليه السلام: {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} [هود: 74]، على تقدير: في إهلاك قوم لوط، فصيغة المفاعلة للمبالغة في الفعل من جانب واحد لإفادة التكرر مثل: سافر وعافاه الله، وهم يتلونون في الاختلاق ويعاودون التكذيب والقول الزور من نحو قولهم: {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الأنعام: 25]، {سِحْر ٌمُبِينٌ} [المائدة: 110]، {قَوْلِ كَاهِنٍ} [الحاقة: 42] {بِقَوْلِ شَاعِرٍ} [الحاقة: 41]لا ينفكون عن ذلك. ومن المجادلة توركهم على الرسول صلى الله عليه وسلم بسؤاله أن يأتيهم بآيات كما يقترحون، نحو قولهم: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً} [الإسراء: 90]الآيات وقولهم: {لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً} [الفرقان: 7]الآيات.
وقد كان لتعلق {في} الظرفية بالجدال، ولدخوله على نفس الآيات دون أحوالها في قوله: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ} موقع عظيم من البلاغة لأن الظرفية تحوي جميع أصناف الجدال، وجعل مجرور الحرف نفس الآيات دون تعيين نحو صدقها أو وقوعها أو صنفها، فكان قوله: {فِي آيَاتِ اللَّهِ} جامعا للجدل بأنواعه ولمتعلق الجدل باختلاف أحواله والمراد الجدال بالباطل كما دل عليه تنظير حالهم بحال من قال فيهم: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ} [غافر: 5]فإذا أريد الجدال بالحق يقيد فعل الجدال بما يدل عليه.
والمعنى: ما يجادل في آيات الله أنها من عند الله، إن القرآن تحداهم أن يأتوا بمثله فعجزوا، وإنما هو تلفيق وتستر عن عجزهم عن ذلك واعتصام بالمكابرة فمجادلتهم بعدما تقدم من التحدي دالة على تمكن الكفر منهم وأنهم معاندون وبذلك حصل المقصود من فائدة هذا وإلا فكونهم كفارا معلوم.
وإظهار اسم الجلالة في قوله: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ} دون أن يقول: في آياته، لتفظيع أمرها بالصريح لأن ذكر اسم الجلالة مؤذن بتفظيع جدالهم وكفرهم وللتصريح بزيادة التنويه بالقرآن.
وفرع قوله: {فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ} على مضمون {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} لما علمت من أن مقتضى تلك الجملة أن يثير في نفس من يراهم في متعة ونعمة أن يتساءل في نفسه كيف يتركهم الله على ذلك ويظن أنهم أمنوا من عذاب الله، ففرع عليه الجواب {فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ} أي إنما هو استدراج ومقدار من حلم الله ورحمته بهم وقتاً ما،

أو أن معناه نحن نعلم أنهم يجادلون في آياتنا إصرارا على الكفر فلا يوهمك تقلبهم في البلاد أنا لا نؤاخذهم بذلك.
والغرور: ظن أحد شيئا حسنا وهو بضده يقال: غرك، إذا جعلك تظن السيىء حسنا. ويكون التغرير بالقول أو بتحسين صورة القبيح.
والتقلب: اختلاف الأحوال، وهو كناية عن تناول محبوب ومرغوب. و {الْبِلادِ} الأرض، وأريد بها هنا الدنيا كناية عن الحياة.
والمخاطب بالنهي في قوله: {فَلا يَغْرُرْكَ} يجوز أن يكون غير معين فيعم كل من شأنه أن يغره تقلب الذين كفروا في البلاد، وعلى هذا يكون النهي جاريا على حقيقة بابه، أي موجها إلى من يتوقع منه الغرور، ومثله كثير في كلامهم، قال كعب بن زهير
فلا يَغُرَّنْكَ ما منَّتْ وما وَعَدَتْ ... إن الأمانيَّ والأحلام تضليل
ويجوز أن يكون الخطاب موجها للنبي صلى الله عليه وسلم على أن تكون صيغة النهي تمثيلية بتمثيل حال النبي صلى الله عليه وسلم في استبطائه عقاب الكافرين بحال من غره تقلبهم في البلاد سالمين، كقوله: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر: 3].
والمعنى: لا يوهمنك تناولهم مختلف النعماء واللذات في حياتهم أننا غير مؤاخذينهم على جدالهم في آياتنا، أولا يوهمنك ذلك أننا لا نعلم ما هم عليه فلم نؤاخذهم به تنزيلا للعالم منزلة الجاهل في شدة حزن الرسول صلى الله عليه وسلم على دوام كفرهم ومعاودة أذاهم كقوله: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [إبراهيم: 42]، وفي معنى هذه قوله تعالى: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} وتقدمت في آل عمران[197,196].
[5] {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ}
جملة {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} وما بعدها بيان لجملة {فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ} [غافر: 4]باعتبار التفريع الواقع عقب هاته الجمل من قوله: {فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} ، فالمعنى: سبقتهم أمم بتكذيب الرسل كما كذبوك وجادلوا بالباطل رسلهم كما جادلك هؤلاء إلى أن آخذهم.

والأحزاب: جمع حزب بكسر الحاء وسكون الزاي وهو اسم للجماعة الذين هم سواء في شأن: من اعتقاد أو عمل أو عادة. والمراد بهم هنا الأمم الذين كانت كل أمة منهم متفقة في الدين، فكل أمة منهم حزب فيما اتفقت عليه.
وفي قوله: {مِنْ بَعْدِهِمْ} إشارة إلى أن قوم نوح كانوا حزبا أيضا فكانوا يدينون بعبادة الأصنام: يغوث، ويعوق، ونسر، وود، وسواع، وكذلك كانت كل أمة من الأمم التي كذبت الرسل حزبا متفقين في الدين، فعاد حزب، وثمود حزب، وأصحاب الأيكة حزب، وقوم نوح حزب. والمعنى: أنهم جميعا اشتركوا في تكذيب الرسل وإن تخالف بعض الأمم مع بعضها في الأديان. وفي الجمع بين {قَبْلَهُمْ} و {مِنْ بَعْدِهِمْ} محسن الطباق في الكلام.
والهم: العزم. وحقه أن يعدى بالباء إلى المعاني لأن العزم فعل نفساني لا يتعلق إلا بالمعاني. كقوله تعالى: {وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا} [التوبة: 74]، ولا يتعدى إلى الذوات، فإذا عدي إلى اسم ذات تعين تقدير معنى من المعاني التي تلابس الذات يدل عليها المقام كما في قوله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} [يوسف: 24]أي همت بمضاجعته. وقد يذكر بعد اسم الذات ما يدل على المعنى الذي يهم به كما في قوله هنا {لِيَأْخُذُوهُ} إن الهم بأخذه، وارتكاب هذا الأسلوب لقصد الأجمال الذي يعقبه التفصيل، ومثله تعلق أفعال القلوب بالأسماء في ظننتك جائيا، أي ظننت مجيئك.
والأخذ يستعمل مجازا بمعنى التصرف في الشيء بالعقاب والتعذيب والقتل ونحو ذلك من التنكيل، قال تعالى: {فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} [الحاقة: 10]ويقال للأسير: أخيذ، وللقتيل: أخيذ.
واختير هذا الفعل هنا ليشمل مختلف ما همت به كل أمة برسولها من قتل أو غيره كما قال تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} [الأنفال: 30].
والمعنى: أن الأمم السابقة من الكفرة لم يقتصروا على تكذيب الرسول بل تجاوزوا ذلك إلى الأذى من الهم بالقتل كما حكى الله عن ثمود: {قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [النمل: 49]. وقد تآمر كفار قريش على رسول الله ص ليلة دار الندوة ليقتلوه أن يتجمع نفر من جميع عشائرهم فيضربوه بالسيوف ضربة رجل واحد كيلا يستطيع أولياؤه من بني هاشم الأخذ بثأره، فأخذ الله الأمم عقوبة لهم على همهم برسلهم فأهلكهم واستأصلهم.

ويفهم من تفريغ قوله: {فَأَخَذْتُهُمْ} على قوله: {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ} إنذار المشركين أن همهم بقتل الرسول صلى الله عليه وسلم هو منتهى أمد الإمهال لهم، فإذا صمموا العزم على ذلك أخذهم الله كما أخذ الأمم المكذبة قبلهم حين همت كل أمة برسولهم ليأخذوه فإن قريشا لما هموا بقتل الرسول ص أنجاه الله منهم بالهجرة ثم أمكنه من نواصيهم يوم بدر. والمراد بـ {كُلُّ أُمَّةٍ} كل أمة من الأحزاب المذكورين.
وضمير {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ} عائد على {كُلُّ أُمَّةٍ} . والمقصود: من تعداد جرائم الأمم السابقة من تكذيب الرسل والهم بقتلهم والجدال بالباطل تنظير حال المشركين النازل فيهم قوله: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} [غافر: 4]بحال الأمم السابقين سواء، لينطبق الوعيد على حالهم أكمل انطباق في قوله: {فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} .
والباء في قوله: {بِالْبَاطِلِ} للملابسة، أي جادلوا ملابسين للباطل فالمجرور في موضع الحال من الضمير، أو الباء للآلة بتنزيل الباطل منزلة الآلة لجدالهم فيكون الظرف لغوا متعلقا بـ {جَادَلُوا} . وتقييد {جَادَلُوا} هذا بقيد كونه {بِالْبَاطِلِ} يقتضي تقييد ما أطلق في قوله: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} .
والإدحاض: إبطال الحجة، قال تعالى: {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الشورى: 16]. والمعنى: أنهم زوروا الباطل في الصورة الحق وروجوه بالسفسطة في صورة الحجة ليبطلوا حجج الحق وكفى بذلك تشنيعا لكفرهم.
وفرع على قوله: {فَأَخَذْتُهُمْ} قوله: {فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} كما فرع قوله: {فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ} [غافر: 4]على جملة {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} [غافر: 4]فيجري توجيه الاستفهام هنا على نحو ما جرى من توجيه الخطاب هناك.
والأخذ هنا: الغلب. والاستفهام بـ {فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} مستعمل في التعجيب من حالة العقاب وذلك يقتضي أن المخاطب بالاستفهام قد شاهد ذلك الأخذ والعقاب وإنما بني ذلك على مشاهدة آثار ذلك الأخذ في مرور الكثير على ديارهم في الأسفار كما أشار إليه قوله تعالى: {وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ} [الحجر: 76]ونحوه، وفي سماع الأخبار عن نزول العقاب بهم، وتوصفيهم، فنزل جميع المخاطبين منزلة من شاهد نزول العذاب بهم، ففي هذا الاستفهام تحقيق وتثبيت لمضمون جملة {فَأَخَذْتُهُمْ} .
ويجوز أن يكون في هذا الاستفهام معنى التقرير بناء على أن المقصود بقوله: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} إلى قوله: {فَأَخَذْتُهُمْ} التعريض بتهديد المشركين من قريش

بتنبيههم على ما حل بالأمم قبلهم لأنهم أمثلهم في الإشراك والتكذيب فذلك يكون الاستفهام عما حل بنظرائهم تقريريا لهم بذلك.
وحذفت ياء المتكلم من {عقاب} تخفيفا مع دلالة الكسرة عليها.
[6] {وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ}
الواو عاطفة على جملة {فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [الرعد: 32]، أي ومثل ذلك الحق حقت كلمات ربك فالمشار إليه المصدر المأخوذ من قوله: {حَقَّتْ كَلِمَاتُ رَبِّكَ} على نحو ما قرر غير مرة، أولاها عند قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} في سورة البقرة[143]، وهو يفيد أن المشبه بلغ الغاية في وجه الشبه حتى لو أراد أحد أن يشبههه لم يشبهه إلا بنفسه.
ولك أن تجعل المشار إليه الأخذ المأخوذ من قوله: {فَأَخَذْتُهُمْ} [غافر: 5]، أي ومثل ذلك الأخذ الذي أخذ الله به قوم نوح والأحزاب من بعدهم حقت كلمات الله على الذين كفروا، فعلم من تشبيه تحقق كلمات الله على الذين كفروا بذلك الأخذ لأن ذلك الأخذ كان تحقيقا لكلمات الله، أي تصديقا لما أخبرهم به من الوعيد، فالمراد بـ {الَّذِينَ كَفَرُوا} جميع الكافرين، فالكلام تعميم بعد تخصيص فهو تذييل لأن المراد بالأحزاب الأمم المعهودة التي ذكرت قصصها فيكون {الَّذِينَ كَفَرُوا} أعم. وبذلك يكون التشبيه في قوله: {وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَاتُ رَبِّكَ} جاريا على أصل التشبيه من المغايرة بين المشبه والمشبه به، وليس هو من قبيل قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: 143]، ونظائره.
ويجوز أن يكون المراد بـ {الَّذِينَ كَفَرُوا} عين المراد بقوله آنفا: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} [غافر: 4]أي مثل أخذ قوم نوح والأحزاب حقت كلمات ربك على كفار قومك، أي حقت عليهم كلمات الوعيد إذا لم يقلعوا عن كفرهم.
و"كلمات الله" هي أقواله التي أوحى بها إلى الرسل بوعيد المكذبين، و {عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} يتعلق بـ {حَقَّتْ} .
وقوله: {أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} يجوز أن يكون بدلا من {كَلِمَاتُ رَبِّكَ} بدلا مطابقا فيكون ضمير {أَنَّهُمْ} عائد إلى {الَّذِينَ كَفَرُوا} ، أي حق عليهم أن يكونوا أصحاب النار، وفي هذا إيماء إلى أن الله غير معاقب أمة الدعوة المحمدية بالاستئصال لأنه أراد أن يخرج منهم ذرية مؤمنين.
ويجوز أن يكون على تقدير لام التعليل محذوفة على طريقة كثرة حذفها قبل "أن".

والمعنى: لأنهم أصحاب النار، فيكون ضمير {أنَّهُم} عائدا إلى جميع ما ذكر قبله من قوم نوح والأحزاب من بعدهم ومن الذين كفروا.
وقرأ الجمهور {كَلِمَتُ رَبِّكَ} بالإفراد. وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر بصيغة الجمع، والإفراد هنا مساو للجمع لأن المراد به الجنس بقرينه أن الضمير المجرور بـ"على" تعلق بفعل {حَقَّتْ} وهو ضمير جمع فلا جرم أن تكون الكلمة جنسا صادقا بالمتعدد بحسب تعدد أزمان كلمات الوعيد وتعدد الأمم المتوعدة.
[7] {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ}
استئناف ابتدائي اقتضاه الانتقال من ذكر الوعيد المؤذن بذم الذين كفروا إلى الثناء على المؤمنين، فإن الكلام الجاري على ألسنة الملائكة مثل الكلام الجاري ألسنة الرسل إذا الجميع من وحي الله، والمناسبة المضادة بين الحالين والمقالين. والمعنى: لأنهم أصحاب النار، فيكون ضمير {أنَّهُم} عائدا إلى جميع ما ذكر قبله من قوم نوح والأحزاب من بعدهم ومن الذين كفروا.
وقرأ الجمهور {كَلِمَتُ رَبِّكَ} بالإفراد. وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر بصيغة الجمع، والإفراد هنا مساو للجمع لأن المراد به الجنس بقرينه أن الضمير المجرور بـ"على" تعلق بفعل {حَقَّتْ} وهو ضمير جمع فلا جرم أن تكون الكلمة جنسا صادقا بالمتعدد بحسب تعدد أزمان كلمات الوعيد وتعدد الأمم المتوعدة.
[7] {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ}
استئناف ابتدائي اقتضاه الانتقال من ذكر الوعيد المؤذن بذم الذين كفروا إلى الثناء على المؤمنين، فإن الكلام الجاري على ألسنة الملائكة مثل الكلام الجاري ألسنة الرسل إذا الجميع من وحي الله، والمناسبة المضادة بين الحالين والمقالين.
ويجوز أن يكون استئنافا بيانيا ناشئا عن وعيد المجادلين في آيات الله أن يسأل سائل عن حال الذين لا يجادلون في آيات الله فآمنوا بها.
وخص في هذه الآية طائفة من الملائكة موصوفة بأوصاف تقتضي رفعة شأنهم تذرعا من ذلك إلى التنويه بشأن المؤمنين الذين تستغفر لهم هذه الطائفة الشريفة من الملائكة، وإلا فإن الله قد أسند مثل هذا الاستغفار لعموم الملائكة في قوله في سورة الشورى[5] {وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} أي من المؤمنين بقرينه قوله فيها بعده: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ} [الشورى: 6].
و {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ} هم الموكلون برفع العرش المحيط بالسماوات وهو أعظم السماوات ولذلك أضيف إلى الله في قوله تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة: 17].
و {مَنْ حَوْلَهُ} طائفة من الملائكة تحف بالعرش تحقيقا لعظمته قال تعالى: {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [الزمر: 75]، ولا حاجة إلى الخوض في عددهم {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر: 31].
والإخبار عن صنفي الملائكة بأنهم يسبحون ويؤمنون به توطئة وتمهيد للإخبار عنهم ويجوز أن يكون استئنافا بيانيا ناشئا عن وعيد المجادلين في آيات الله أن يسأل سائل عن حال الذين لا يجادلون في آيات الله فآمنوا بها.
وخص في هذه الآية طائفة من الملائكة موصوفة بأوصاف تقتضي رفعة شأنهم تذرعا من ذلك إلى التنويه بشأن المؤمنين الذين تستغفر لهم هذه الطائفة الشريفة من الملائكة، وإلا فإن الله قد أسند مثل هذا الاستغفار لعموم الملائكة في قوله في سورة الشورى[5] {وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} أي من المؤمنين بقرينه قوله فيها بعده: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ} [الشورى: 6].
و {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ} هم الموكلون برفع العرش المحيط بالسماوات وهو أعظم السماوات ولذلك أضيف إلى الله في قوله تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة: 17].
و {مَنْ حَوْلَهُ} طائفة من الملائكة تحف بالعرش تحقيقا لعظمته قال تعالى: {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [الزمر: 75]، ولا حاجة إلى الخوض في عددهم {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر: 31].
والإخبار عن صنفي الملائكة بأنهم يسبحون ويؤمنون به توطئة وتمهيد للإخبار عنهم

بأنهم يستغفرون للذين آمنوا فذلك هو المقصود من الخبر، فقدم له ما فيه تحقيق استجابة استغفارهم لصدوره من دأبهم التسبيح وصفتهم الإيمان.
وصيغة المضارع في {يُسَبِّحُونَ} و {يُؤْمِنُونَ} و {يَسْتَغْفِرُونَ} مفيدة لتجدد ذلك وتكرره,وذلك مشعر بأن المراد أنهم يفعلون ذلك في الدنيا كما هو الملائم لقوله: {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا} وقوله: {وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ} [غافر: 8]وقوله: {وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ} [غافر: 9]الخ وقد قال في الآية الأخرى: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الشورى: 5]أي من المؤمنين كما تقدم.
ومعنى تجدد الإيمان المستفاد من {وَيُؤْمِنُونَ} تجدد ملاحظته في نفوس الملائكة وإلا فإن الإيمان عقد ثابت في النفوس وإنما تجدده بتجدد دلائله وآثاره. وفائدة الإخبار عنهم بأنهم يؤمنون مع كونه معلوما في جانب الملائكة التنويه بشأن الإيمان بأنه حال الملائكة,والتعريض بالمشركين أن لم يكونوا مثل أشرف أجناس المخلوقات مثل قوله تعالى في حق إبراهيم: {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 161]
وجملة {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً} مبينة لـ {يَسْتَغْفِرُونَ}, وفيها قو محذوف دلت عليه طريقة التكلم في قولهم: {رَبَّنَا}
والباء في {بِحَمْدِ رَبِّهِمْْ} للملابسة,أي يسبحون الله تسبيحا مصاحبا للحمد,فحذف مفعول {يُسَبِّحُونَ} للدلالة على المتعلق به.
والمراد بـ {الَّذِينَ آمَنُوا} المؤمنون المعهودون وهم المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم لأنهم المقصود في هذا المقام وإن كان صالحا لكل المؤمنين.
وافتتح دعاء الملائكة للمؤمنين بالنداء لأنه أدخل في التضرع وأرجى للإجابة,وتوجهوا إلى الله بالثناء بسعة رحمته وعلمه لأن سعة الرحمة مما يطمِع باستجابة الغفران,وسعة العلم تتعلق بثبوت إيمان الذين آمنوا.
ومعنى السعة في الصفتين كثرة تعلقهما,وذكر سعة العلم كناية عن يقينهم بصدق إيمان المؤمنين فهو بمنزلة قول القائل: أنت تعلم أنهم آمنوا بك ووحّدوك.
وجيء في وصفه بالرحمة الواسعة والعلم الواسع بأسلوب التمييز المحوَّل عن النسبة لما في تركيبه من المبالغة بإسناد السعة إلى الذات ظاهراً حتى كأنه ذاته هي التي وَسِعَتْ,فذلك إجمال يستشرف به السامع إلى ما يرد بعده فيجيء بعده التمييز المبيِّن لنسبة السعة أنها من جانب الرحمة وجانب العلم,وهي فائدة تمييز النسبة في كلام العرب,لأن

للتفصيل بعد الإجمال تمكينا للصفة في النفس كما في قوله تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً} [مريم: 4] والمراد أن الرحمة والعلم وسعا كل موجود,الآن,أي في الدنيا وذلك هو سياق الدعاء كما تقدم آنفاً,فما من موجود في الدنيا إلا وقد نالته قسمة من رحمة الله سواء في ذلك المؤمن والكافر والإنسان والحيوان.
و {كُلَّ شَيْءٍ} كل موجود,وهو عام مخصوص بالعقل بالنسبة للرحمة,أي كل شيء محتاج إلى الرحمة,وتلك هي المجودات التي لها إدراك تدرك به الملائم والمنافر والنافع والضار,من الإنسان والحيوان,إذ لا فائدة في تعلق الرحمة بالحجر والشجر ونحوهما. وأما بالنسبة إلى العلم فالعموم على بابه قال تعالي: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} [الملك: 14]
ولما كان سياق هذا الدعاء أنه واقع في الدنيا كما تقدم اندفع ما عسى أن يقال إن رحمة الله لا تسع المشركين يوم القيامة إذ هم في عذاب خالد فلا حاجة إلى تخصيص عموم كل شيء بالنسبة إلى سعة الرحمة بمخصصات الأدلة المنفصلة القاضية بعدم سعة رحمة الله للمشركين بعد الحساب.
وتفرع على هذه التوطئة بمناجاة الله تعالى ما هو المتوسَّل إليه منها وهو طلب المغفرة للذين تابوا لأنه إذا كان قد علم صدق توبة من تاب منهم وكانت رحمته وسعت كل شيء فقد استحقوا أن تشملهم رحمته لأنهم أحرياء بها.
ومفعول {فَاغْفِرْ} محذوف للعلم,أي اغفر لهم ما تابوا منه,أي ذنوب الذين تابوا. والمراد بالتوبة: الإقلاع عن المعاصي وأعظمها الإشراك بالله.
واتباع سبيل الله هو العمل بما أمرتهم واجتناب ما نهاهم عنه، فالإرشاد يشبه الطريق الذي رسمه الله لهم ودلهم عليه فإذا عملوا به فكأنهم اتبعوا السبيل فمشوا فيه فوصلوا إلى المقصود.
{وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} عطف على {فَاغْفِرْ} فهو من جملة التفريع فإن الغفران يقتضي هذه الوقاية لأن غفران الذنب هو عدم المؤاخذة به. وعذاب الجحيم جعله الله لجزاء المذنبين، إلا أنهم عضدوا دلالة الالتزام بدلالة المطابقة إظهارا للحرص على المطلوب. والجحيم: شدة الالتهاب، وسميت جهنم دار الجزاء على الذنوب.
[8ـ9] {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ

وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}
إعادة النداء في خلال جمل الدعاء اعتراض للتأكيد بزيادة التضرع، وهذا ارتقاء من طلب وقايتهم العذاب إلى طلب إدخالهم مكان النعيم.
والعَدْن: الإقامة، أي الخلود. والدعاء لهم بذلك مع تحققهم أنهم موعودون به تأدب مع الله تعالى لأنه لا يسأل عما بفعل، كما تقدم في سورة آل عمران[194] قوله: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ} .
ويجوز أن يكون المراد بقولهم: {وَأَدْخِلْهُمْ} عجل لهم بالدخول. ويجوز أن يكون ذلك تمهيدا لقولهم: {وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} فإن أولئك لم يكونوا موعودين به صريحا. و {وَمَنْ صَلَحَ} عطف على الضمير المنصوب في {أَدْخِلْهُمْ} .
والمعنى دعاء بأن يجعلهم الله معهم في مساكن متقاربة، كما تقدم في قوله تعالى: {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ} في سورة يس[56] وقوله: {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّاتِهُمْ } في سورة الطور.
ورتبت القرابات في هذه الآية على ترتيبها الطبيعي فإن الآباء أسبق علاقة بالأبناء ثم الأزواج ثم الذريات.
وجملة {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} اعتراض بين الدعوات استقصاء للرغبة في الإجابة بداعي محبة الملائكة لأهل الصلاح لما بين نفوسهم والنفوس الملكية من التناسب. واقتران هذه الجملة بحرف التأكيد للاهتمام بها. و"أن"في مثل هذا المقام تغني غناء فاء السببية، أي فعزتك وحكمتك هما اللتان جرأتانا على سؤال ذلك من جلالك، فالعزة تقتضي الاستغناء عن الانتفاع بالأشياء النفيسة فلما وعد الصالحين الجنة لم يكن لله ما يضنه بذلك فلا يصدر منه مطل، والحكمة تقتضي معاملة المحسن بالإحسان.
وأعقبوا بسؤال النجاة من العذاب والنعيم بدار الثواب بدعاء بالسلامة من عموم كل ما يسؤهم يوم القيامة بقولهم: {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ} وهو دعاء جامع إذ السيئات هنا جمع سيئة وهي الحالة أو الفعلة التي تسوء من تعلقت به مثل ما في قوله: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} [غافر: 45]وقوله تعالى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ}

[الأعراف: 131]صيغت على وزن فَيْعَلَة في قيام الوصف بالموصوف مثل قيم وسيد وصيقل، فالمعنى: وقهم من كل ما يسوءهم.
فالتعريف في {السَّيِّئَاتِ} للجنس وهو صالح لإفادة الاستغراق، فوقوعه في سياق ما هو كالنفي وهو فعل الوقاية يفيد عموم الجنس، على أن بساط الدعاء يقتضي عموم الجنس ولو بدون لام نفي كقول الحريري:
يا أهل ذا المغنى وقيتم ضرا
وفي الحديث: "اللهم أعط منفقا خلفا، وممسكا تلفا" أي كل منفق وممسك.
والمراد إبلاغ هؤلاء المؤمنين أعلى درجات الرضى والقبول يوم الجزاء بحيث لا ينالهم العذاب ويكونون في بحبوحة النعيم ولا يعتريهم ما يكدرهم من نحو التوبيخ والفضيحة. وقد جاء هذا المعنى في آيات كثيرة كقوله: {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ} [الانسان: 11].
وجملة {وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ} تذييل، أي وكل من وقي السيئات يوم القيامة فقد نالته رحمة الله، أي نالته الرحمة كاملة ففعل {رَحِمْتَهُ} مراد به تعظيم مصدره.
وقد دل على هذا المراد في هذه الآية قوله: {وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} إذ أشير إلى المذكور من وقاية السيئات إشارة للتنويه والتعظيم. ووصف الفوز بالعظيم لأنه فوز بالنعيم خالصا من الكدرات التي تنقص حلاوة النعمة.
وتنوين {يَوْمَئِذٍ} عوض عن المضاف إليه، أي يوم إذ تدخلهم جنات عدن.
[10] {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْأِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ}
مقابلة سؤال الملائكة للمؤمنين بالنعيم الخالص يوم القيامة بما يخاطب به المشركون يومئذ من التوبيخ والتنديم وما يراجعون به من طلب العفو مؤذنة بتقدير معنى الوعد باستجابة دعاء الملائكة للمؤمنين، فطي ذكر ذلك ضرب من الإيجاز.
والانتقال منه إلى بيان ما سيحل بالمشركين يومئذ ضرب من الأسلوب الحكيم لأن قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ} الآيات مستأنف استئنافا بيانيا كأن سائلا سأل عن تقبل دعاء الملائكة للمؤمنين فأجيب بأن الأهم أن يسأل عن ضد ذلك، وفي هذا الأسلوب

إيماء ورمز إلى أن المهم من هذه الآيات كلها هو موعظة أهل الشرك رجوعا إلى قوله: {وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَاتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر: 6]، والمراد بـ {الَّذِينَ كَفَرُوا} هنا مشركو أهل مكة، فأنهم المقصود بهذه الأخبار كما تقدم آنفا في قوله: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر: 7].
والمعنى: أنهم يناديهم الملائكة تبليغا عن رب العزة، قال تعالى: {أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 44]وهو بعد عن مرتبة الجلال، أي ينادون وهم في جهنم كما دل عليه قوله: {فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} [غافر: 11].
واللام في {لَمَقْتُ اللَّهِ} لام القسم. والمقت: شدة البغض. و {إِذْ تُدْعَوْنَ} ظرف لـ {مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} .
و {إِذْ} ظرف للزمن الماضي، أي حين كنتم تدعون إلى الإيمان على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك في الدنيا بقرينة {تُدْعَوْنَ} ، وجيء بالمضارع في {تُدْعَوْنَ} و {تَكْفُرُونَ} للدلالة على تكرر دعوتهم إلى الإيمان وتكرر كفرهم، أي تجدده.
ومعنى مقتكم أنفسهم حينئذ أنهم فعلوا لأنفسهم ما يشبه المقت إذ حرموها من فضيلة الإيمان ومحاسن شرائعه ورضوا لأنفسهم دين الكفر بعد أن أوقظوا على ما فيه من ضلال ومغبَّة سوء، فكان فعلهم ذلك شبيها بفعل المرء لبغيضه من الضر والكيد، وهذا كما يقال: فلان عدو نفسه. وفي حديث سعد بن أبي وقاص عن عمر بن الخطاب أن عمر قال لنساء من قريش يسألن النبي صلى الله عليه وسلم ويستكثرن فلما دخل عمر ابتدرن الحجاب فقال لهن: "يا عدُوَّات أنفسهن أتهبنني ولا تهبن رسول الله صلى الله عليه وسلم".
فالمقت مستعار لقلة التدبر فيما يضر. وقد أشار إلى وجه هذه الاستعارة قوله: {إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْأِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} فمناط الكلام هو {فَتَكْفُرُونَ} وفي ذكر {ينادون} ما يدل على كلام محذوف تقديره: أن الذين كفروا يمقتهم الله وينادون لمقت الله الخ.
ومعنى مقت الله: بغضه إياهم وهو مجاز مرسل أطلق على المعاملة بآثار البغض من التحقير والعقاب فهو أقرب إلى حقيقة البغض لأن المراد به أثره وهو المعاملة بالنكال، وهو شائع شيوع نظائره مما يضاف إلى الله مما تستحيل حقيقته عليه، وهذا الخبر مستعمل في التوبيخ والتنديم.
و {أكبر} بمعنى أشد وأخطر أثرا، فإطلاق الكبر عليه مجاز لأن الكبر من أوصاف

الأجسام لكنه شاع إطلاقه على القوة في المعاني. ولما كان مقتهم أنفسهم حرمهم من الإيمان الذي هو سبب النجاة والصلاح وكان غضب الله عليهم أوقعهم في العذاب كان مقت الله إياهم أشد وأنكى من مقتهم أنفسهم لأن شدة الإيلام أقوى من الحرمان من الخير. والمقت الأول قريب من قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} [البقرة: 16]، والمقت الثاني قريب من قوله تعالى: {وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً} [فاطر: 39]وهو مقت العذاب. هذا هو الوجه في تفسير الآية الملاقي لتناسق نظمها، وللمفسرين فيها وجوه أخر تدنو وتبعد مما ذكرنا فاستعرضها واحكم فيها.
و {أنفسكم} يتنازعه {مَقْتُ اللَّهِ} ، و {مقتكم} فهو مفعول المصدرين المضافين إلى فاعليهما.
وبني فعل {تدعون} إلى النائب للعلم بالفاعل لظهور أن الداعي هو الرسول صلى الله عليه وسلم أو الرسل عليهم السلام. وتفريغ {فَتَكْفُرُونَ} بالفاء على {تدعون} يفيد أنهم أعقبوا الدعوة بالكفر، أي بتجديد كفرهم السابق وبإعلانه أي دون أن يتمهلوا مهلة النظر والتدبر فيما دعوا إليه.
[11] {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ}
جواب عن النداء الذي نودوا به من قبل الله تعالى فحكى مقالهم على طريقة حكاية المحاورات بحذف حرف العطف، طمعوا أن يكون اعترافهم بذنوبهم وسيلة إلى منحهم خروجا من العذاب ما ليستريحوا منه ولو بعض الزمن، وذلك لأن النداء الموجه إليهم من قبل الله أو همهم أن فيه إقبالا عليهم.
والمقصود من الاعتراف هو اعترافهم بالحياة الثانية لأنهم كانوا ينكرونها وأما الموتتان والحياة الأولى فإنما ذكرن إدماجا للاستدلال في صلب الاعتراف تزلقا منهم، أي أيقنا أن الحياة الثانية حق وذلك تعريض بأن إقرارهم صدق لا مواربة فيه ولا تصنع لأنه حاصل عن دليل، ولذلك جعل مسببا على هذا الكلام بعطفه بفاء السببية في قوله: {فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا} .
والمراد بإحدى الموتتين: الحالة التي يكون بها الجنين لحما لا حياة فيه في أول

تكوينه قبل أن ينفخ فيه الروح، وإطلاق الموت على تلك الحالة مجاز وهو مختار الزمخشري والسكاكي بناء على أن حقيقة الموت انعدام الحياة من الحي بعد أن اتصف بالحياة، فإطلاقه على انعدام الحياة قبل حصولها فيه استعارة، إلا أنها شائعة في القرآن حتى ساوت الحقيقة فلا إشكال في استعمال {أَمَتَّنَا} في حقيقة ومجازه، ففي ذلك الفعل جمع بين الحقيقة والاستعارة التبعية تبعا لجريان الاستعارة في المصدر ولا مانع من ذلك لأنه واقع ووارد في الكلام البليغ كاستعمال المشترك في معنييه، والذين لا يرون تقييد مدلول الموت بأن يكون حاصلا بعد الحياة يكون إطلاق الموت على حالة ما قبل الاتصاف بالحياة عندهم واضحا، وتقدم في قوله تعالى: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ} في سورة البقرة[28]، على أن إطلاق الموت على الحالة التي قبل نفخ الروح في هذه الآية أسوغ لأن فيه تغليبا للموتة الثانية. وأما الموتة الثانية فهي الموتة المتعارفة عند انتهاء حياة الإنسان والحيوان.
والمراد بالإحياءتين: الأحياء الأولى عند نفخ الروح في الجسد بعد مبدأ تكوينه، والإحياءة الثانية التي تحصل عند البعث، وهو في معنى قوله تعالى: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 28].
وانتصب {اثنتين} في الموضعين على الصفة لمفعول مطلق محذوف. والتقدير: موتتين اثنتين وإحياءتين اثنتين فيجيء في تقدير موتتين تغليب الاسم الحقيقي على الاسم المجازي عند من يقيد معنى الموت.
وقد أورد كثير من المفسرين إشكال أن هنالك حياة ثالثة لم تذكر هنا وهي الحياة في القبر التي أشار إليها حديث سؤال القبر وهو حديث اشتهر بين المسلمين من عهد السلف، وفي كون سؤال القبر يقتضي حياة الجسم حياة كاملة احتمال، وقد يتأول بسؤال روح الميت عند جسده أو بحصول حياة مؤقتة بمقدار السؤال ليس للمتصف بها تصرف الإحياء في هذا العالم، لم يعتد بها لا سيما والكلام مراد منه التوطئة لسؤال خروجهم من جهنم، وبهذا يعلم أن الآية بمعزل عن أن يستدل بها لثبوت الحياة عند السؤال في القبر.
وتفرع قولهم: {فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا} على قولهم: {وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} اعتبار أن إحدى الإحياءتين كانت السبب في تحقق ذنوبهم التي من أصولها إنكارهم البعث فلما رأوا البعث رأي العين أيقنوا بأنهم مذنبون إذ أنكروه ومذنبون بما استكثروه من الذنوب لاغترارهم بالأمن من المؤاخذة عليهم بعد الحياة العاجلة.

فجملة {فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا} إنشاء إقرار بالذنوب ولذلك جيء فيه بالفعل الماضي كما هو غالب صيغ الخبر المستعمل في الإنشاء مثل صيغ العقود نحو: بعت. والمعنى: نعترف بذنوبنا.
وجعلوا هذا الاعتراف ضربا من التوبة توهما منهم أن التوبة تنفع يومئذ فلذلك فرعوا عليه {فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} ، فالاستفهام مستعمل في العرض والاستعطاف كليا لرفع العذاب، وقد تكرر في القرآن حكاية سؤال أهل النار الخروج أو التخفيف ولو يوما.
والاستفهام بحرف {هَلْ} مستعمل في الاستعطاف. وحرف {مِن} زائد لتوكيد العموم الذي في النكرة ليفيد تطلبهم كل سبيل للخروج وشأن زيادة {مِن} أن تكون في النفي وما معناه دون الإثبات. وقد عد الاستفهام ب {هَلْ} خاصة من مواقع زيادة {مِن} لتوكيد العموم كقوله تعالى: {وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [قّ: 30]، وتقدم ذلك عند قوله تعالى: {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا} في سورة الأعراف [53]، وأن وجه اختصاص {هَلْ} بوقوع {مِن} الزائدة في المستفهم عنه بها أنه كثر استعمال الاستفهام بها في معنى النفي، وزيادة {مِن} حينئذ لتأكيد النفي وتنصيص عموم النفي، فخف وقوعها بعد {هَلْ} على ألسن أهل الاستعمال.
وتنكير {خُرُوجٍ} للنوعية تلطفا في السؤال، أي إلى شيء من الخروج قليل أو كثير لأن كل خروج يتنفعون به راحة من العذاب كقولهم: {ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذَابِ} [غافر: 49].
والسبيل: الطريق واستعير إلى الوسيلة التي يحصل بها الأمر المرغوب، وكثر تصرف الاستعمال في إطلاقات السبيل والطريق والمسلك والبلوغ على الوسيلة وبحصول المقصود.
وتنكير {سَبِيلٍ} كتنكير {خُرُوجٍ} أي من وسيلة كيف كانت بحق أو بعفو بتخفيف أو غير ذلك.
قال في "الكشاف": "وهذا كلام من غلب عليه اليأس والقنوط" يريد أن في اقتناعهم بخروج ما دلالة على أنهم يستبعدون حصول الخروج.
[12] {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ}

عدل عن جوابهم بالحرمان من الخروج إلى ذكر سبب وقوعهم في العذاب، وإذا قد كانوا عالمين به قالوا: {فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا} [غافر: 11]، كانت إعادة التوقيف عليه بعد سؤال الصفح عنه كناية عن استدامته وعدم استجابة سؤالهم الخروج منه على وجه يشعر بتحقيرهم.
وزيد ذلك تحقيقا بقوله: {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} .
فالإشارة بـ {ذلكم} إلى ما هم فبه من العذاب الذي أنبأ به قوله: {يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [غافر: 10]وما عقب به من قولهم: {فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} [غافر: 11].
والباء في {بِأَنَّهُ} للسببية، أي بسبب كفرتم إذا دعي الله وحده. وضمير {بِأَنَّهُ} ضمير الشأن، وهو مفسر بما بعده من قوله: {إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا} ، فالسبب هو مضمون القصة الذي حاصل سبكه: بكفركم بالوحدانية وإيمانكم بالشرك.
و {إذا} مستعملة هنا في الزمن الماضي لأن دعاء الله واقع في الحياة الدنيا وكذلك كفرهم بوحدانية الله، فالدعاء الذي مضى مع كفرهم به كان سبب وقوعهم في العذاب.
ومجيء {وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا} بصيغة المضارع في الفعلين مؤول بالماضي بقرينه ما قبله، وإيثار صيغة المضارع في الفعلين لدلالتهما على تكرر ذلك منهم في الحياة الدنيا فإن لتكرره أثرا في مضاعفة العذاب لهم.
والدعاء: النداء، والتوجه بالخطاب. وكلا المعنيين يستعمل فيه الدعاء ويطلق الدعاء على العبادة، كما سيأتي عند قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} في هذه السورة[60]، فالمعنى إذا نودي الله بمسمعكم نداء دالا على أنه إله واحد مثل آيات القرآن الدالة على نداء الله بالوحدانية، فالدعاء هنا الإعلان والذكر، ولذلك قوبل بقوله: {كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا} ، والدعاء بهذا المعنى أعم من الدعاء بمعنى سؤال الحاجات ولكنه يشمله، أو إذا عبد الله وحده.
ومعنى {كفرتم} جددتم الكفر، وذلك إما بصدور أقوال منهم ينكرون فيها انفراد الله بالإلهية، وإما بملاحظة جديدة وتذكر آلهتهم. ومعنى {وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا} إن يصدر ما يدل على الإشراك بالله من أقوال زعمائهم ورفاقهم الدالة على تعدد الآلهة أو إذا أشرك به في العبادة تؤمنوا، أي تجددوا الإيمان بتعدد الآلهة في قلوبكم أو تؤيدوا ذلك بأقوال التأييد والزيادة. ومتعلق {كفرتم} و {تؤمنوا} محذوفان لدلالة ما قبلهما. والتقدير: كفرتم بتوحيد وتؤمنوا بالشركاء.

وجيء في الشرط الأول بـ {إذا} التي الغالب في شرطها تحقق وقوعه إشارة إلى أن دعاء الله وحده أمر محقق بين المؤمنين لا تخلو عنه أيامهم ولا مجامعهم، مع ما تفيد {إذا} من الرغبة في الحصول مضمون شرطها.
وجيء في الشرط الثاني بحرف {إن} التي أصلها عدم الجزم بوقوع شرطها، أو أن شرطها أمر مفروض، مع أن الإشراك محقق تنزيلا للمحقق منزلة المشكوك المفروض للتنبيه على أن دلائل بطلان الشرك واضحة بأدنى تأمل وتدبر فنزل إشراكهم المحقق منزلة المفروض لأن المقام مشتمل على ما يقلع مضمون الشرط من أصله فلا يصلح إلا لفرضه على نحو ما يفرض المعلوم موجودا أو المحال ممكنا.
والألف واللام في الحكم للجنس. واللام في {لله} للملك أي جنس الحكم ملك لله، وهذا يفيد قصر هذا الجنس على الكون لله كما تقدم في قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} في سورة الفاتحة[2] وهو قصر حقيقي إذ لا حكم يوم القيامة لغير الله تعالى.
وبهذه الآية تمسك الحرورية يوم حروراء حين تداعى جيش الكوفة وجيش الشام إلى التحكيم فثارت الحرورية على علي بن أبي طالب وقالوا: لا حكم إلا لله "جعلوا التعريف للجنس والصيغة للقصر" وحدقوا إلى هذه الآية واغضوا عن آيات جمة، فقال علي لما سمعها: "كلمة حق أريد بها باطل" اضطرب الناس ولم يتم التحكيم.
وإيثار صفتي {الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} بالذكر هنا لأن معناهما مناسب لحرمانهم من الخروج من النار، أي لعدم نقض حكم الله عليهم بالخلود في النار، لأن العلو في وصفة تعالى علو مجازي اعتباري بمعنى شرف القدر وكماله، فهو العلي في مراتب الكمالات كلها بالذات، ومن جملة ما يقتضيه ذلك تمام العلو وتمام العدل، فلذلك لا يحكم إلا بما تقتضيه الحكمة والعدل.
ووصف {الْكَبِيرِ} كذلك هو كبر مجازي، وهو قوة صفات كماله، فإن الكبير قوي وهو الغني المطلق، وكلا الوصفين صيغ على مثال الصفة المشبهة للدلالة على الاتصاف الذاتي المكين، وإنما يقبل حكم النقض لأحد أمرين: إما اعدم جريه على ما يقتضيه من سبب الحكم وهو النقض لأجل مخالفة الحق وهذا ينافيه وصف {الْعَلِيِّ} ، وإما لأنه جور ومجاوز للحد، وهذا ينافيه وصف {الْكَبِيرِ} لأنه يقتضي الغنى عن الجور.
[13] {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقاً وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ}

هذا استئناف ابتدائي إقبال على خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بعد أن انقضى وصف ما يلاقي المشركون من العذاب، وما يدعون من دعاء لا يستجاب، وقرينه ذلك قوله: {وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [غافر: 14].
ومناسبة الانتقال هي وصفا {الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر: 12]لأن جملة {يُرِيكُمْ آيَاتِهِ} تناسب وصف العلو، وجملة {وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقاً} تناسب وصف {الْكَبِيرِ} بمعنى الغني المطلق.
والآيات: دلائل وجوده ووحدانيته. وهي المظاهر العظيمة التي تبدو للناس في هذا العالم كقوله: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً} [الرعد: 12]وقوله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 190]. وتنزيل الرزق من السماء هو نزول المطر لأن المطر سبب الرزق وهو في نفسه آية أدمج معها امتنان، ولذلك عقب الأمران بقوله: {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ} .
وصيغة المضارع في {يُرِيكُمُ} و {وَيُنَزِّلُ} تدل على أن المراد إراءة متجددة وتنزيل متجدد وإنما يكون ذلك في خطاب المشركين في جهنم، ويزيد ذلك تأييدا قوله: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [غافر: 14].
وعدي فعلا "يرى" و"ينزل" إلى ضمير المخاطبين وهم المؤمنون لأنهم الذين انتفعوا بالآيات فآمنوا وانتفعوا بالرزق فشكروا بالعمل بالطاعات فجعل غيرهم بمنزلة غير المقصودين بالآيات لأنهم لم ينتفعوا بها كما قال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43]
فجعل غير العالمين كمن لا يعقل ولا يفقه.
ولذلك ذيلت إراءة الآيات وإنزال الرزق لهم بقوله: {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ} أي من آمن ونبذ الشرك لأن الشرك يصد أهله عن الإنصاف وإعمال النظر في الأدلة.
والإنابة: التوبة، وفي صيغة المضارع إشارة إلى أن الإنابة المحصلة للمطلوب هي الإنابة المتجددة المتكررة، وإذا قد كان المخاطبون منيبين إلى الله كان قوله: {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ} دالا بدلالة الاقتضاء على أنهم رأوا الآيات وطمأنوا بها وأنهم عرفوا قدر النعمة وشكروها فكان بين الإنابة وبين التذكر تلازم عادي، ولذلك فجملة {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ} تذييل.

وتقديم {لَكُمْ} على مفعول {يُنَزِّلُ} وهو {رِزْقاً} لكمال الامتنان بأن جعل تنزيل الرزق لأجل الناس ولو أخر المجرور لصار صفة لـ {رِزْقاً} فلا يفيد أن التنزيل لأجل المخاطبين بل يفيد أن الرزق صالح للمخاطبين وبين المعنيين بون بعيد، فكان تقديم المجرور في الترتيب على مفعول الفعل على خلاف مقتضى الظاهر لأن حق المفعول أن يتقدم على غيره من متعلقات الفعل وإنما خولف الظاهر لهذه النكتة.
وجُعل تنزيل الرزق لأجل المخاطبين وهم المؤمنين إشارة إلى أن الله أراد كرامتهم ابتداء وأن انتفاع غيرهم بالرزق انتفاع بالتبع لهم لأنهم الذين بمحل الرضى من الله تعالى.
وتثار من هذه الآية مسألة الاختلاف بين الأشعرية مع الماتريدي ومع المعتزلة في أن الكافر منعم عليه أوْ لا؟، فعن الأشعري أن الكافر غير منعم عليه في الدنيا ولا في الدين ولا في الآخرة، وقال القاضي أبو بكر الباقلاني والماتريدي: "هو منعم عليه نعمة دنيوية، لا دينية ولا أخروية"، وقالت المعتزلة: "هو منعم عليه نعمة دنيوية ودينية لا أخروية"، فأما الأشعري فلم يعتبر بظاهر الملاذ التي تحصل للكافر في الحياة فإنما ذلك إملاء واستدراج لأن مآلها العذاب المؤلم فلا تستحق اسم النعمة.
وأنا أقول: لو استدل له بأنها حاصلة لهم تبعا فهي لذائذ وليست نعما لأن النعمة لذة أريد منها نفع من وصلت إليه كما أشرت إليه آنفا.
وأما الباقلاني فراعى ظاهر الملاذ فلم يمنع أن تكون نعما وإن كانت عواقبها آلاما، وآيات القرآن شاهدة لقوله. وأما المعتزلة فزادوا فزعموا أن الكافر منعم عليه دينا، وأرادوا بذلك أن الله مكن الكافر من نعمة القدرة على النظر المؤدي إلى معرفة الله وواجب صفاته. والذي استقر عليه رأي المحققين من المتكلمين أن هذا الخلاف لفظي لأنه غير ناظر إلى حقيقة حالة الكافر في الدنيا والدين، وإنما نظر كل شق من أهل الخلاف إلى ما حف بأحوال الكافر في تلك النعمة فرجع إلى الخلاف في الألفاظ المصطلح عليها ومدلولاتها في حقائق المقصود منها.
[14] {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [غافر: 14]
تفريع على ما شاهدوا من الآيات وما أفيض عليهم من الرزق، وعلى أنهم المرجوون للتذكير، أي إذ كنتم بهذه الدرجة فادعوا الله مخلصين، ففي الفاء معنى الفصيحة كما تقدم في قوله: {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ} [غافر: 13].

والمعنى: أن الله أراكم آياته وأنزل لكم الرزق وما يتذكر إلا المنيبون وأنتم منهم فادعوا الله مخلصين لتوفير دواعي تلك العبادة.
والأمر مستعمل في طلب الدوام لأن المؤمنين قد دعوا الله مخلصين له، فالمقصود: دوموا على ذلك ولو كره الكافرون، لأن كراهية الكافرين ذلك من المؤمنين تكون سببا لمحاولتهم صرفهم عن ذلك بكل وسيلة يجدون إليها سبيلا فيخشى ذلك أن يفتن فريقا من المؤمنين، فالكراهية كناية عن المقاومة والصد لأنهما لازمان للكراهية لأن شأن الكاره أن لا يصبر على دوام ما يكرهه، فالأمر بقوله {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ} إلى نحو الأمر في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء: 136].
وإظهار اسم الجلالة في قوله: {فَادْعُوا اللَّهَ} لأن الكلام تفريغ لاستجداد غرض آخر فجعل مستقلا عما قبله.
وتقدم تفسير {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} في تفسير قوله: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} أول سورة الزمر[2].
وجملة {وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} في موضع الحال من فاعل {ادْعُوا} .
و {لو} وصلية تفيد أن شرطها أقصى ما يكون من الأحوال التي يراد تقييد عامل الحال بها، أي اعبدوه في كل حال حتى في حال كراهية الكافرين ذلك لأن كراهية الكافرين ذلك والمؤمنون بين ظهرانيهم وفي بلاد سلطان الكافرين مظنة لأن يصدهم ذلك عن دعاء الله مخلصين له الدين. وهذا في معنى قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94]وقد تقدم تفصيل "لو" هذه عند قوله: {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} في سورة آل عمران[91].
[15ـ16] {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}
{رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ}

{رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ} خبر عن مبتدأ محذوف هو ضمير اسم الجلالة في قوله: {فَادْعُوا اللَّهَ} [غافر: 14] وليس خبرا ثانيا بعد قوله: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ} [غافر: 13]لأن الكلام هنا في غرض مستجد، وحذف المسند إليه في مثله حذف اتباع للاستعمال في حذف مثله، كذا سماه السكاكي بعد أن يجري من قبل الجملة حديث عن المحذوف كقول عبد الله بن الزبير أو إبراهيم بن العباس الصولي أو محمد بن سعيد الكاتب:
سأشكر عمرا إن تراخت منيتي ... أيادي لم تمنن وإن هي جلت
فتى غير محجوب الغنى عن صديقه ... ولا مظهرا للشكوى إذا النعل زلت
و {رَفِيعُ} يجوز أن يكون صفة مشبهة. والتعريف في {الدَّرَجَاتِ} عوض عن المضاف إليه. والتقدير: رفيعة درجاته، فلما حول وصف ما هو من شؤونه إلى أن يكون وصفا لذاته سلك طريق الإضافة وجعلت الصفة المشبهة يقال: فلان حسن فعله، ويقال: حسن الفعل، فيؤول قوله {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ} إلى صفة ذاته.
و {الدَّرَجَاتِ} مستعارة للمجد والعظمة، وجمعها إيذان بكثرة العظمات باعتبار صفات مجد الله التي لا تحصر، والمعنى: أنه حقيق بإخلاص الدعاء إليه. ويجوز أن يكون {رَفِيعُ} من أمثلة المبالغة، أي كثير رفع الدرجات لمن يشاء وهو المعنى قوله تعالى: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} يوسف: 76]. وإضافته إلى {الدَّرَجَاتِ} من الإضافة إلى المفعول فيكون راجعا إلى صفات أفعال الله تعالى.
والمقصود: تثبيتهم على عبادة الله مخلصين له الدين بالترغيب بالتعرض إلى رفع الله درجاتهم كقوله: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} في سورة المجادلة[6].
و {ذُو الْعَرْشِ} خبر ثان وفيه إشارة إلى أن رفع الدرجات منه متفاوت.
كما إن مخلوقاته العليا متفاوتة في العظم والشرف إلى أن تنتهي إلى العرش وهو أعلى المخلوقات كأنه قيل: إن الذي رفع السماوات ورفع العرش ماذا تقدرون رفعه درجات عابديه على مراتب عبادتهم وإخلاصهم.
وجملة {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ} خبر ثالث، أو بدل بعض من جملة {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ} فإن من رفع الدرجات أن يرفع بعض عباده، فبدل البعض هو هنا أهم أفراد المبدل منه.

والإلقاء: حقيقته رمي الشيء من اليد إلى الأرض، ويستعار للإعطاء إذا كان غير مترقب، وكثر هذا في القرآن، قال: {فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ} [النحل: 87,86]. واستعير هنا للوحي لأنه يجيء فجأة على غير ترقب كإلقاء الشيء إلى الأرض.
والروح: الشريعة، وحقيقة الروح: ما به حياة الحي من المخلوقات، ويستعار للنفيس من الأمور وللوحي لأنه به حياة الناس المعنوية وهي كمالهم وانتظام أمورهم، فكما تستعار الحياة للإيمان والعلم، كذلك يستعار الروح الذي هو سبب الحياة لكمال النفوس وسلامتها من الطوايا السيئة، ويطلق الروح على الملك قال: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً} [مريم: 17].
و {من} ابتدائية في {مِنْ أَمْرِهِ} ,أي بأمره، فالأمر على ظاهره. ويجوز أن تكون {من} تبعيضية ظرفا مستقرا صفة {الروح} أي بعض شؤونه التي لا يطلع عليها غيره إلا من ارتضى فيكون الأمر بمعنى الشأن، أي الشؤون العجيبة، وقيل {من} بيانية وأن الأمر هو الروح وهذا بعيد.
وهذا الآية تشير إلى أن النبوءة غير مكتسبة لأنها ابتدئت بقوله: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر: 14]ثم أعقب بقوله: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ} فأشار إلى أن عبادة الله بإخلاص سبب لرفع الدرجات، ثم أعقب بقوله: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ} فجيء بفعل الإلقاء وبكون الروح من أمره وبصلة {مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} ، فآذن بأذن ذلك بمحض اختياره وعلمه كما قال تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَاتِهُ} [الأنعام: 124].
وهذا يرتبط بقوله في أول السورة[2] {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ}
فأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بالإخلاص في العبادة مفرعا على إنزال الكتاب إليه، وجاء في شأن الناس بقوله: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ} [غافر: 14]ثم أعقبه بقوله: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ} .
وقد ضرب لهم العرش والأنبياء مثلين لرفع الدرجات في العوالم والعقلاء. وفيه تعريض بتسفيه المشركين إذ قالوا: {أَبَشَراً مِنَّا وَاحِداً نَتَّبِعُهُ} [القمر: 24]، {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31]و {قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} [الأنعام: 124].
وتخلص من ذكر النبوءة إلى النذارة بيوم الجزاء. ليعود وصف يوم الجزاء الذي انقطع الكلام عليه من قوله تعالى: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ} [غافر: 12]الخ.

والإنذار: إخبار فيه تحذير مما يسوء وهو إخبار بما فيه مسرة. وفعله المجرد: نذر كعلم، يقال: نذر بالعدو فحذره. والهمزة في أنذر للتعدية فحقه أن لا يتعدى بالهمزة إلا إلى مفعول واحد وهو الذي كان فاعل الفعل المجرد، وأن يتعدى إلى الأمر المخبر به بالباء يقال أنذرتهم بالعدو، غير أنه في أغلب الاستعمال تضمينه معنى التحذير فعدوه إلى مفعول ثان وهو استعمال القرآن، وأما قوله في أول الأعراف [2] {لِتُنْذِرَ بِهِ} فالباء فيه للسببية أو الآلة المجازية وليست للتعدية. وضمير {به} عائد إلى الكتاب.
والضمير المستتر في {لينذر} عائد إلى اسم الجلالة من قوله: {فَادْعُوا اللَّهَ} [غافر: 14]، والأحسن أن يعود على {مَنْ} الموصولة لينذر من ألقى عليه الروح قومه، ولأنفيه تخلصا إلى ذكر الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم الذي هو بصدد الإنذار دون الرسل الذين سبقوا إذ لا تلائمهم صيغة المضارع ولأنه مرجح لإظهار اسم الجلالة في قوله: {لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ} كما سيأتي.
و {يَوْمَ التَّلاقِ} هو يوم الحشر، وسمي يوم التلاقي أن الناس كلهم يلتقون فيه، أو لأنهم يلقون ربهم لقاء مجازيا، أي يقفون في حضرته وأمام أمره مباشرة كما قال تعالى: {الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} [يونس: 7] أي لا يرجون يوم الحشر. وانتصب {يَوْمَ التَّلاقِ} على أنه مفعول ثان لـ {ينذر} ، وحذف المفعول الأول لظهوره، أي لينذر الناس. وبين {التلاق} و {يلقي} جناس.
وكتب {التلاق} في المصحف بدون ياء. وقرأه نافع وأبو عمرو في رواية عنه بكسرة بدون ياء. وقرأه الباقون بالياء لأنه وقع في الوصل لا في الوقف فلا موجب لطرح لياء إلا معاملة الوصل معاملة الوقف وهو قليل في النثر فيقتصر فيه على السماع. وكفى برواية نافع وأبي عمرو سماعا.
و {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ} بدل من {يَوْمَ التَّلاقِ} . و {هُمْ بَارِزُونَ} جملة اسمية، والمضاف ظرف مستقبل وذلك جائز على الأرجح بدون تقدير.
وضمير الغيبة عائد إلى {الكافرون} من قوله: {وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [غافر: 14].
وجملة {لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ} بيان لجملة {هُمْ بَارِزُونَ} والمعنى مناسب: إنهم واضحة ظواهرهم وبواطنهم فإن ذلك مقتضى قوله: {مِنْهُمْ شَيْءٌ} .
وإظهار اسم الجلالة لأن إظهار أصرح لبعد معاده بما عقبه من قوله: {عَلَى مَنْ

يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} ، ولأن الأظهر أن ضمير {لينذر} عائد إلى {مَنْ يَشَاءُ} .
ومعنى {مِنْهُمْ} من مجموعهم، أي من مجموع أحوالهم وشؤونهم، ولهذا أوثر ضمير الجمع لما فيه من الإجمال الصالح لتقدير مضاف للمقام، وأوثر أيضا لفظ {شَيْءٌ} لتوغله في العموم، ولم يقل لا يخفى على الله منهم أحد أو لا يخفى على الله من أحد من شيء، أي من أجزاء جسمه، فالمعنى: لا يخفى على الله شيء من أحوالهم ظاهرها وباطنها.
{لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}
مقول لقول محذوف، وحذف القول من حديث البحر. والتقدير: يقول الله لمن الملك اليوم، ففعل القول المحذوف جملة في موضع الحال، أو استئناف بياني جوابا عن سؤال سائل عما ذا يقع بعد بروزهم بين يدي الله.
والاستفهام إما تقريري ليشهد الطغاة من أهل المحشر على أنفسهم أنهم كانوا في الدنيا مخطئين فيما يزعمونه لأنفسهم من ملك لأصنامهم حين يضيفون إليها التصرف في ممالك من الأرض والسماء، مثل قول اليونان بإله البحر وإله الحرب وإله الحكمة، وقول أقباط مصر بإله الشمس وإله الموت وإله الحكمة، وقول العرب باختصاص بعض الأصنام ببعض القبائل مثل اللات لثقيف، وذي الخَلَصة لدوْس، ومناة للأوس والخزرج. وكذلك ما يزعمونه لأنفسهم من سلطان على الناس لا يشاركهم فيه غيرهم كقول فرعون: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38]وقوله: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف: 51]، وتلقيب أكاسرة الفرس أنفسهم بلقب: ملك الملوك "شاهنشاه"، وتلقيب ملوك الهند أنفسهم بلقب ملك الدنيا "شاه جهان"، ويفسر هذا المعنى ما في الحديث في صفة يوم الحشر: "ثم يقول الله أنا الملك أين ملوك الأرض"استفهاما مرادا منه تخويفهم من الظهور يومئذ، أي أين هم اليوم لماذا لم يظهروا بعظمتهم وخيلائهم.
ويجوز أيضا أن يكون الاستفهام كناية عن التشويق إلى ما يرد بعده من الجواب لأن الشأن أن الذي يسمع استفهاما يترقب جوابه فيتمكن من نفسه الجواب عند سماعه فضل تمكن، على أن حصول التشويق لا يفوت على اعتبار الاستفهام للتقرير، وقريب منه {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186].
و {اليوم} المعروف باللام هو اليوم الحاضر، وحضوره بالنسبة إلى القول المحكي أنه يقال فيه، أي اليوم الذي وقع فيه هذا القول كما هو شأن أسماء الزمان الظروف اذا

إذا عُرِّفت باللام.
وجملة {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} يجوز أن تكون من بقية القول المقدار الصادر من جانب الله تعالى بأن يصدر من ذلك الجانب استفهام ويصدر منه جوابه لأنه لما كان الاستفهام مستعملا في التقرير أو التشويق كان من الشأن أن يتولى الناطق به الجواب عنه، ونظيره قوله تعالى: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ} [النبأ: 2,1].
ويجوز أن تكون مقول قول آخر محذوف، أي فيقول المسؤولون: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } إقرار منهم بذلك، والتقدير: فيقول البارزون لله الواحد القهار، فتكون معترضة.
وذكر الصفتين {الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} دون غيرهما من الصفات العلى لأن لمعنييهما مزيد مناسبة بقوله : {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} حيث شوهدت دلائل الوحدانية لله وقهره جميع الطغاة والجبارين.
[17] {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}
لا ريب في ان هذه الجمل الثلاث متصلة بالمقول الصادر من جانب الله تعالى، سواء كان مجموع الجملتين السابقتين مقولا واحدا أم كانت الثانية منهما من مقول أهل المحشر.
وترتيب هذه الجمل الخمس هو أنه لما تقرر أن الملك لله وحده في ذلك اليوم بمجموع الجملتين السابقتين، عددت آثار التصرف بذلك الملك وهي الحكم على العباد بنتائج أعمالهم وأنه حكم عادل لا يشوبه ظلم، وأنه عاجل لا يبطئ لأن الله لا يشغله عن إقامة الحق شاغل ولا هو بحاجة إلى التدبر والتأمل في طرق قضائه، وعلى هذه النتائج جاء ترتيب {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} ، ثم {لا ظُلْمَ الْيَوْمَ} ,ثم {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} . وأما مواقع هاته الجمل الثلاث فإن جملة {الْيَوْمَ تُجْزَى} الخ واقعة موقع البيان لما في جملة {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر: 16]وجوابها من إجمال، وجملة {لا ظُلْمَ الْيَوْمَ} واقعة موقع بدل الاشتمال من جملة {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} أي جزاء عادلا لا ظلم فيه، أي ليس فيه أقل شوب من الظلم حسبما اقتضاه وقوع النكرة بعد {لا} النافية للجنس.
وتعريف {الْيَوْمَ} في قوله: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ} وقوله: {لا ظُلْمَ الْيَوْمَ} نظير تعريف {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر: 16]، وجملة {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} واقعة موقع

التعليل لوقوع الجزاء في ذلك اليوم ولانتفاء الظلم عن ذلك الجزاء. وتأخيرها عن تينك الجملتين مشير إلى أنها علة لهما، فحرف التوكيد واقع موقع فاء السببية كما هو شأن {إن} إذا جاءت في غير مقام رد الإنكار، فسرعة الحساب تقتضي سرعة الحكام. وسرعة الحكم تقتضي تملؤ الحاكم من العلم بالحق، ومن تقدير جزاء كل عامل على عمله دون تردد ولا بحث لأن الحاكم علام الغيوب، فكان قوله {سَرِيعُ الْحِسَابِ} علة لجميع ما تقدمه في هذا الغرض. والمعنى: أن الله محاسبهم حسابا سريعا لأنه سريع الحساب.
والحساب مصدر حاسب غيره إذا حسب له ما هو مطلوب بإعداده وفائدة ذلك تختلف فتارة يكون الحساب لقصد استحضار أشياء كيلا يضيع منها شيء، وتارة يكون لقصد توقيف من يتعين توقيفه عليها، وتارة يكون لقصد مجازاة كل شيء منها بعدله، وهذا الأخير هو المراد هنا ولأجله سمي يوم الجزاء يوم الحساب، وهو المراد في قوله تعالى: {إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي } [الشعراء: 113]. والباء في قوله: {بِمَا كَسَبَتْ} للسببية أي تجزى بسبب ما كسبت، أي جزاء مناسبا لما كسبت، أي عملت.
وفي الآية إيماء إلى أن تأخير القضاء بالحق بعد تبينه للقاضي بدون عذر ضرب من مضروب الجور لأن الحق إن كان حق العباد فتأخير الحكم لصاحب الحق إبقاء لحقه بيد غيره، ففيه تعطيل انتفاعه بحقه برهة من الزمان وذلك ظلم، ولعل صاحب الحق في حاجة إلى التعجيل حقه لنفع معطل أو لدفع ضر جاثم، ولعله أن يهلك في مدة تأخير حقه فلا ينتفع به، أو لعل الشيء المحكوم به يتلف بعارض أو قصد فلا يصل إليه صاحبه بعد. وان كان الحق حق الله كان تأخير القضاء فيه إقرار للمنكر. في "صحيح البخاري" : "أن الرسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل أبا موسى على اليمن ثم أتبعه معاذ بن جبل فلما قدم معاذ على أبي موسى ألقى إليه أبو موسى وسادة وقال له: أنزل، وإذا رجل موثق عند أبي موسى، قال معاذ: ما هذا?قال: كان يهوديا فأسلم ثم تهود. قال معاذ: لا أجلس حتى يقتل، قضاء الله ورسوله، ثلاث مرات، فأمر به أبو موسى فقتل".
[18] {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ}
الأظهر أن يكون قوله: {وَأَنْذِرْهُمْ} وما بعده معترضا بين جملة {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [غافر: 17] وجملة {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ} [غافر: 19]على الوجهين الآتيين في موقع جملة {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ} ، فالواو اعتراضيه، والمناسبة أن ذكر الحساب به يقتضي

التذكير بالاستعداد ليوم الحساب وهو يوم الآزفة.
ويوم الآزفة يوم القيامة. وأصل الآزفة اسم فاعل مؤنث مشتق من فعل أزف الأمر، إذا قرب، فالآزفة صفة لموصوف محذوف تقديره: الساعة الآزفة، أو القيامة الآزفة، مثل الصاخة، فتكون إضافة {يَوْمَ} آلي {الْآزِفَةِ} ، حقيقة. وتقدم القول في تعدية الإنذار إلى "اليوم" في قوله: {لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ} [غافر: 15].
و {إذ} بدل من {يَوْمَ} فهو اسم زمان منصوب على المفعول به، مضاف إلى جملة {الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ} . و {أل} في {الْقُلُوبُ} و {الْحَنَاجِرِ} عوض عن المضاف إليه. وأصله: إذ قلوبهم لدى حناجرهم، فبواسطة "أل" عوض تعريف الإضافة بتعريف العهد وهو رأي نحاة الكوفة، والبصريون يقدرون: إذ القلوب منهم والحناجر منهم والمعنى: إذ قلوب الذين تنذرهم، يعني المشركين، فأما قلوب الصالحين يومئذ فمطمئنة.
والقلوب: البضعات الصنوبرية التي تتحرك حركة مستمرة ما دام الجسم حيا فتدفع الدم إلي الشرايين التي بها حياة الجسم.
والحناجر: جمع حَنْجَرة بفتح الحاء وفتح الجيم وهي الحلقوم. ومعنى القلوب لدى الحناجر: أن القلوب يشتد اضطراب حركتها من فرط الجزع مما يشاهد أهلها من بوارق الأهوال حتى تتجاوز القلوب موضعها صاعدة الى الحناجر كما قال تعالى في ذكر يوم الأحزاب: {وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب: 10].
وكاظم: اسم فاعل من كَظَم كُظُوما، إذا احتبس نفسه "بفتح الفاء". فمعنى {كَاظِمِينَ} ساكنين لا يستطيعون كلاما. فعلى هذا التأويل لا يقدر لـ {كَاظِمِينَ} مفعول لأنه عومل معاملة الفعل اللازم. ويقال: كظم كظما، إذا سد شيئا مجرى ماء أو بابا أو طريقا فهو كاظم، فعلى هذا يكون المفعول مقدرا. والتقدير كاظمينها، أي كاظمين حناجرهم إشفاقا من أن تخرج منها قلوبهم من شدة الاضطراب. وانتصب {كَاظِمِينَ} على الحال من ضمير الغائب في قوله: {أَنْذِرْهُمْ} على أن الحال حال مقدرة. ويجوز أن يكون حالا من القلوب على المجاز العقلي بإسناد الكاظم إلى القلوب وإنما الكاظم أصحاب القلوب كما في قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ} [البقرة: 79]وإنما الكاتبون هم بأيديهم.
وجملة {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} في موضع بدل اشتمال من جملة {الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ} لأن تلك الحالة تقتضي أن يستشرفوا إلى شفاعة من اتخذوهم

ليشفعوا لهم عند الله فلا يلفون صديقا ولا شفيعا. والحميم: المحب المشفق.
والتعريف في {الظَّالِمِينَ} للاستغراق ليعم كل ظالم، أي مشرك فيشمل الظالمين المنذرين، ومن مضى من أمثالهم فيكون بمنزلة التذييل ولذلك فليس ذكر الظالمين من الإظهار في مقام الإضمار.
ووصف {شَفِيعٍ} بجملة {يُطَاعُ} وصف كاشف إذ ليس أن المراد لهم شفعاء لا تطاع شفاعتهم لظهور قلة جدوى ذلك ولكن لما كان شأن من يتعرض للشفاعة أن يثق بطاعة المشفوع عنده له.
وأتبع {شَفِيعٍ} بوصف {يُطَاعُ} لتلازمهما عرفا فهو من إيراد نفي الصفة اللازمة للموصوف. والمقصود: نفي الموصوف بضرب من الكناية التمليحية كقول ابن أحمر:
ولا ترى الضب بها ينْجَحِر1
أي لا ضب فيها فينجر، وذلك يفيد مفاد التأكيد.
والمعنى: إن الشفيع إذا لم يطع فليس بشفيع. والله لا يجترىء أحد على الشفاعة عنده إلا إذا أذن له فلا يشفع عنده إلا من يطاع.
[19] {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}
يجوز أن تكون جملة {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ} خبرا عن مبتدأ محذوف هو ضمير عائد إلى أسم الجلالة من قوله: {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [غافر: 17]على نحو ما قرر قبله في قوله: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ} [غافر: 15]. ومجموع الظاهر والمقدر استئناف للمبالغة في الإنذار لأنهم إذا ذكروا بأن الله يعلم الخفايا كان إنذار بالغا يقتضي الحذر من كل اعتقاد أو عمل نهاهم الرسول صلى الله عليه وسلم عنه، فبعد أن أيأسهم من أن يتوهموا أنهم يستطيعون إخفاء شيء من نواياهم أو أدني حركات أعمالهم على ربهم.
ويجوز أن تكون خبرا ثانيا عن اسم. ويجوز أن تكون خبرا ثانيا عن اسم {إنَّ} في قوله: {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [غافر: 17]، وما بينهما اعتراض كما مر على كلا التقديرين.
ـــــــ
1 أوله: لا تفزع الأرنب أهوالُها
يصف مفازة قاحلة لا ضب فيها ولا أرنب.

و {خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ} مصدر مضاف إلى فاعله فالخائنة مصدر على وزن اسم الفاعل مثل العافية للمعافاة، والعاقبة، والكاذبة في قوله تعالى: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} [الواقعة: 2]ويجوز إبقاء {خَائِنَةَ} على ظاهر اسم الفاعل فيكون صفة لموصف محذوف دل عليه {الْأَعْيُنِ} ، أي يعلم نظرة الأعين الخائنة.
وحقيقة الخيانة: عمل من أؤتمن على شيء بضد ما أؤتمن لأجله بدون علم صاحب الأمانة، ومن ذلك نقض العهد بدون إعلان بنبده. ومعنى {خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ} خيانة النظر، أي مسارقة النظر لشيء بحضرة من لا يحب النظر إليه. فإضافة {خَائِنَةَ} إلى {الْأَعْيُنِ} من إضافة الشيء إلى آلته كقولهم: ضرب السيف.
والمراد بـ {خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ} النظرة المقصودة منها إشعار المنظور إليه بما يسوء غيرها الحاضر استهزاء به أو إغراء به. وإطلاق الخائنة بمعنى الخيانة على هذه النظرة استعارة مكنية، شبه الجليس بالحليف في أنه لما جلس إليك أو جلست إليه فكأنه عاهدك على السلامة، ألا ترى أن المجلسة يتقدمها السلام وهو في الأصل إنباء بالمسالمة فإذا نظرت إلى آخر غيركما نظرا خفيا لإشارة إلى ما لا يرضي الجليس من استهزاء أو إغراء فكأنك نقضت العهد المدخول عليه بينكما، فإطلاق الخيانة على ذلك تفظيع له، ويتفاوت قرب التشبيه بمقدار تفاوت ما وقعت النظرة لأجله في الإساءة وآثار المضرة. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مايكون لنبي أن تكون له خائنة الأعين" ، أي لا تصدر منه.
و { وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} النوايا والعزائم التي يضمرها صاحبها في نفسه، فأطلق الصدر على ما يكن الأعضاء الرئيسية على حسب اصطلاح أصحاب اللغة.
[20] {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} كان مقتضى الظاهر أن يؤتى بجملة {يَقْضِي بِالْحَقِّ} معطوفة بالواو على جملة {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ} [غافر: 19]فيقال: ويقضي بالحق ولكن عدل عن ذلك لما في الاسم العلم لله تعالى من الإشعار بما يقتضيه المسمى به من صفات الكمال التي منها العدل في القضاء، ونظيره في الإظهار في مقام الإضمار قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد: 41]. وليحصل من تقديم المسند إليه على المسند الفعلي تقوي المعنى، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا

يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال: 36]أعيد الموصول ولم يؤت بضميره {الَّذِينَ كَفَرُوا} ليفيد تقديم الاسم على الفعل تقوي الحكم.
والجملة من تمام الغرض الذي سيقت إليه جملة {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ } [غافر: 19]كما تقدم، وكلتاهما ناظرة إلى قوله: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ } [غافر: 18]أي أن ذلك من القضاء بالحق.
وأما جملة {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ} فناظرة إلى جملة {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 18]فبعد أن نفي عن أصنامهم الشفاعة، نفي عنها القضاء بشيء ما بالحق أو بالباطل وذلك إظهار لعجزها.
ولا تحسبن جملة {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ} مسوقة ضميمة إلى جملة {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ} ليفيد مجموع الجملتين قصر القضاء بالحق على الله تعالى قصر قلب، أي دون الأصنام، كما أفيد القصر من ضم الجملتين في قول السموأل أو عبد الملك الحارثي:
تسيل على حد الظُّبات نفوسنا ... وليست على غير الظُّبات تسيل
لأن المنفى عن آلهتهم أعم من المثبت لله تعالى، وليس مثل ذلك مما يضاد صيغة القصر لكفى في إفادته تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي بحمله على إرادة الاختصاص في قوله: {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ} . فالمراد من قوله: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ} التذكير بعجز الذين يدعونهم وأنهم غير أهل للإلهية وهذه طريقة في إثبات صفة لموصوف ثم تعقيب ذلك بإظهار نقيضه فيما يعد مساويا له كما في قول أمية بن أبي الصلت:
تلك المكارم لا قَعْبَانِ من لَبَن ... شيباً بماءٍ فصار فيما بعدُ أبوالا
وإلا لما كان لعطف قوله: لا قعبان من لبن، مناسبة.
والدعاء يجوز أن يكون بمعنى النداء وأن يكون بمعنى العبادة كما تقدم آنفا.
وجملة {إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} مقررة لجمل {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} إلى قوله: {لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ} [غافر: 20,19]. فتوسط ضمير الفصل مفيد للقصر وهو تعريض بأن آلهتهم لا تسمع ولا تبصر فكيف ينسبون إليها الإلهية، واثبات المبالغة في السمع والبصر لله تعالى يقرر معنى {يَقْضِي بِالْحَقِّ} لأن العالم بكل شيء تتعلق حكمته بإرادة الباطل ولا تخطيء أحكامه بالعثار في الباطل، وتأكيد الجملة بحرف

التأكيد تحقيق للقصر. وقد ذكر التفتزاني في "شرح المفتاح" في مبحث ضمير الفصل أن القصر يؤكد.
وقرأ نافع وهشام عن ابن عامر {تدعُون} بتاء الخطاب على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب لقرع أسماع المشركين بذلك. وقرأ الجمهور بياء الغيبة على الظاهر.
[21ـ22] { أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ}
انتقال من إنذارهم بعذاب الآخرة على كفرهم إلى موعظتهم وتحذيرهم من أن يحل بهم عذاب الآخرة كما حل بأمم أمثالهم.
فالواو عاطفة جملة {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} على جملة {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ} [غافر: 18]الخ. والاستفهام تقريري على ما هو الشائع في مثله من الاستفهام الداخل على نفي في الماضي بحرف "لم"، والتقرير موجه للذين ساروا من قريش ونظروا آثار الأمم الذين أبادهم الله جزاء تكذيبهم رسلهم، فهم شاهدوا ذلك في رحلتيهم رحلة الشتاء ورحلة الصيف وإنهم حدثوا بما شاهدوه من تضمهم نواديهم ومجالسهم فقد صار معلوما للجميع، فبهذا الاعتبار أسند الفعل المقرر به إلى ضمير الجمع على جملة.
والمضارع الواقع بعد "لم" والمضارع الواقع في جوابه منقلبان إلى المضي بواسطة "لم". وتقدم شبيه هذه الآية في آخر سورة فاطر وفي سورة الروم.
والضمير المنفصل في قوله: {كَانُوا هُمْ} ؤضمير فصل عائد إلى {الظَّالِمِينَ} [غافر: 18]وهم كفار قريش الذين أريدوا بقوله: {وَأَنْذِرْهُمْ} [غافر: 18]، وضمير الفصل لمجرد توكيد الحكم وتقويته وليس مرادا به قصر المسند على المسند إليه، أي قصر الأشدية على ضمير {كانوا} إذ ليس للقصر معنى هنا كما تقدم في قوله تعالى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ} في سورة طه[14]وهذا ضابط التفرقة بين ضمير الفصل الذي يفيد القصر وبين الذي يفيد مجرد التأكيد. واقتصار القزويني في "تلخيص المفتاح" على إفادة ضمير الفصل الاختصاص تقصير تبع فيه كلام "المفتاح" وقد نبه عليه سعد الدين في "شرحه على التلخيص".

والمراد بالقوة القوة المعنوية وهي كثرة الأمة ووفرة وسائل الاستغناء عن الغير كما قال تعالى: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت: 15].
وجملة {كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} الخ مستأنفة استئنافا بيانيا لتفصيل الإجمال الذي في قوله: {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ} لأن العبرة بالتفريع بعدها بقوله: {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ} .
وقرأ الجمهور {مِنْهُمْ} بضمير الغائب، وقرأه ابن عامر {منكم} بضمير خطاب الجماعة وكذلك رسمت في مصحف الشام، وهذه الرواية جارية على طريقة الالتفاف.
والآثار: جمع أثر، وهو الشيء أو شكل يرسمه فعل شيء آخر، مثل أثر الماشي في الرمل قال تعالى: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ} [طه: 96]ومثل العشب إثر المطر في قوله تعالى: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم: 50]، ويستعار الأثر لما يقع بعد شيء كقوله تعالى: { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ} [الكهف: 6].
والمراد بالأرض: أرض أمتهم.
والفاء في {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ} لتفريغ الأخذ على كونهم أشد قوة من قريش لأن القوة أريد بها هنا الكناية عن الإباء من الحق والنفور من الدعوة، فالتقدير: فأعرضوا، أو كفروا فأخذهم الله.
والآخذ: الاستئصال الإهلاك كني عن العقاب بالأخذ، أو استعمل الأخذ، مجازا في العقاب.
والذنوب: جمع ذنب وهو المعصية، والمراد بها الإشراك وتكذيب الرسل، وذلك يستتبع ذنوبا جمة، وسيأتي تفسيرها بقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} .
ومعنى {وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ} ما كان لهم من عقابه وقدرته عليهم، فالواقي: هو المدافع الناصر.
و {مِنَ} الأولى متعلقة بـ {وَاقٍ} ، وقدم الجار والمجرور للاهتمام بالمجرور، و {مِنَ} الثانية زائدة لتأكيد النفي بحرف "ما" وذلك إشارة إلى المذكور وهو أخذ الله إياهم بذنوبهم.
والباء للسببية، أي ذلك الأخذ بسبب أنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا

بهم، وفي هذا تفصيل للأجمال الذي في قوله: {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ} . والجملة بعد "أنَّ" المفتوحة في تأويل مصدر. فالتقدير: ذلك بسبب تحقق مجيء الرسل إليهم فكفرهم به.
وأفاد المضارع في قوله: {تَأْتِيهِمْ} تجدد الإتيان مرة بعد مرة لمجموع تلك الأمم,أي يأتي لكل أمة منهم رسول,فجمع الضمير في {تَأْتِيهِمْ} و {رُسُلُهُمْ} وجمع الرسل في قوله: {رُسُلُهُمْ} من مقابلة الجمع بالجمع, فالمعنى: أن كل أمة منهم أتاها رسول. ولم يؤت بالمضارع في قوله: {فكفروا} لأن كفر أولئك الأمم واحد وهو الإشراك وتكذيب الرسل.
وكرر قوله: {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ} بعد أن تقدم نظيره في قوله: {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ} الخ إطنابا لتقرير أخذ الله إياهم بكفرهم برسلهم، وتهويلا على المنذرين بهم أن يساووهم في عاقبتهم كما ساووهم في أسبابها.
وجملة {إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} تعليل وتبيين لأخذ الله إياهم وكيفيته وسرعة أخذه المستفاد من فاء التعقيب، فالقوي لا يعجزه شيء فلا يعطل مراده ولا يتريث، و {شَدِيدُ الْعِقَابِ} بيان لذلك الأخذ على حد قوله تعالى: {فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 42].
[23ـ24] { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآياتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ}
هذا ذكر فريق آخر من الأمم لم يشهد العرب آثارهم وهم قوم فرعون أقباط مصر، وتقدم نظير هذه الآية في أواخر سورة هود. وتقدم ذكر هامان وهو لقب وزير فرعون في سورة القصص. وفي هذه القصة أنها تزيد على ما أجمل من قصص أمم أخرى أن فيها عبرتين: عبرة بكيد المكذبين وعنادهم ثم هلاكهم، وعبرة بصبر المؤمنين وثباتهم ثم نصرهم، وفي كلتا العبرتين وعيد ووعد.
وجملة {فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} معترضة بين جملة {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى} وبين جملة {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ} [غافر: 25].
وقارون هو من بني إسرائيل كذب موسى، وتقدم ذكره في القصص، وقد قيل إنه كان منقطعا إلى فرعون وخادما له، وهذا بعيد لأنه كان في زمرة من خرج مع موسى، أي فاشترك أولئك في رمي رسولهم بالكذب والسحر كما فعلت قريش.

[25] {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ}
أي رموه ابتداء بأنه ساحر كذاب توهما أنهم يلقمونه حجر الإحجام فلما استمر على دعوته وجاءهم بالحق، أي أظهر لهم الآيات الحق، أي الواضحة، فأطلق {جَاءَهُمْ} على ظهور الحق كقوله تعالى: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} [الإسراء: 81].
و {مِنْ عِنْدِنَا} وصف للحق لإفادة أنه حق خارق للعادة لا يكون إلا من تسخير الله وتأييده، وهو آيات نبوته التسع.
ووجه وقوع {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا} بعد قوله: {أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآياتِنَا} [غافر: 23]مع اتحاد مفاد الجملتين فأن مفاد جملة {جَاءَهُمْ} مساو لمفاد جملة {أَرْسَلْنَا} ، ومفاد قوله: {بِالْحَقِّ} مساو لمفاد قوله: {بِآياتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [هود: 96]أن الأول للتنويه برسالة موسى وعظمة موقفه أمام الأرض يومئذ، وأما قوله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ} فهو بيان لدعوته إياهم وما نشأ عنها، وتقدير الكلام: رسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون فلما جاءهم بالحق، فسلكت في هذا النظم طريقة الإطناب للتنويه والتشريف.
وجملة {فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} معترضة. وأرادوا بقولهم اقتلوا أبناء الذين معه أن يرهبوا أتباعه حتى ينفضوا عنه فلا يجد أنصارا ويبقى بنو إسرائيل في خدمة المصريين.
وضمير {جَاءَهُمْ} يحمل على أنه عائد إلى غير مذكور في اللفظ لأنه ضمير جمع يدل عليه المقام وهم أهل مجلس فرعون الذين لا يخلو عنهم مجلس الملك في مثل هذه الحوادث العظيمة كما في قوله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ} [القصص: 38]الآية. وليس عائدا إلى فرعون وهامان وقارون لأن قارون لم يكن مع فرعون حين دعاه موسى ولم يكن من المكذبين لموسى في وقت حضوره لدى فرعون ولكنه طغى بعد خروج بني إسرائيل من مصر وبلغ به طغيانه إلى الكفر كما تقدم في قصته في سورة القصص.
والضمير في قولهم: {اقتلوا} مخاطب به فرعون خطاب تعظيم مثل {رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون: 99].
وإنما أبهم القائلون لعدم تعلق الغرض بعلمه، ففعل {قالوا} بمنزلة المبني للنائب أو بمنزلة: قال قائل، لأن المقصود قوله بعده: {وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ

إِلَّا فِي ضَلالٍ} . وهو محل الاعتبار لقريش بأن كيد أمثالهم كان مضاعفا فكذلك يكون كيدهم. وهذا القتل غير القتل الذي فعله فرعون الذي ولد موسى وفي زمنه.
وسمي هذا الرأي كيدا لأنهم تشاوروا فيه فيما بينهم دون أن يعلم بذلك موسى والذين آمنوا معه وأنهم أضمروه ولم يعلنوه ثم شغلهم عن إنفاذه ما حل بهم من المصائب التي ذكرت في قوله تعالى في سورة الأعراف[130] {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ} الآية، ثم بقوله: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ} [لأعراف: 133]الآية.
والضلال: الضياع والاضمحلال كقوله: {وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [السجدة: 10]أي هذا الكيد الذي دبروه قد أخذ الله على أيديهم فلم يجدوا لإنقاذه سبيلا.
[26] {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ}
عطف {وَقَالَ} بالواو يدل على أنه قال هذا القول في موطن آخر ولم يكن جوابا لقولهم: {اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [غافر: 25]، وفي هذا الأسلوب إيماء إلى أن فرعون لم يعمل بإشارة الذين قالوا: {اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} وإنه سكت ولم يراجعهم بتأييد ولا إعراض، ثم رأى أن الأجدر قتل موسى دون أن يقتل الذين آمنوا معه لأن قتله أقطع لفتنهم.
ومعنى {ذَرُونِي} إعلامهم بعزمه بضرب من إظهار ميله لذلك وانتظاره الموافقة عليه بحيث يمثل حاله وحال من يريد فعل شيء فيصد عنه، فلرغبته فيه يقول لمن يصده: دعني أفعل كذا، لأن ذلك التركيب مما يخاطب به الممانع والملائم ونحوهما، قال طرفة:
فأن كنت لا تستطيع دفع منيتي ... فدعني أبادرها بما ملكت يدي
ثم استعمل هذا التعبير عن الرغبة ولم يكن ثمة معارض أو ممانع، وهو استعمال شائع في هذا وما يرادفه مثل: دعني وخلني، كما في قوله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} [المدثر: 11]، وقوله: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ} [المزمل: 11]، وقول أبي قاسم السهيلي:

دعني على حكم الهوى أتضرع ... فعسى يلين لي الحبيب ويخشع
وذلك يستتبع كناية عن خطر ذلك العمل وصعوبة تحصيله لأن مثله مما يمنع المستشار مستشيره من الإقدام عليه، ولذلك عطف عليه {وَلْيَدْعُ رَبَّهُ} لأن موسى خوفهم عذاب الله وتحداهم بالآيات التسع.
ولام الأمر في {وَلْيَدْعُ رَبَّهُ} مستعملة في التسوية وعدم الاكتراث. وجملة {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ} تعليل للعزم على قتل موسى. والخوف مستعمل في الإشفاق، أي أظن ظنا قويا أن يبدل دينكم. وحذفت "من" التي يتعدى فعل {أَخَافُ} لأنها وقعت بينه وبين "أن".
والتبديل: تعويض الشيء بغيره. وتوسم فرعون ذلك من إنكار موسى على فرعون زعمه أنه إله لقومه فإن تبديل الأصول يقتضي تبديل فروع الشريعة كلها.
والإضافة في قوله: {دِينَكُمْ} تعريض بأنهم أولى بالذب عن الدين وان كان هو دينه أيضا لكنه تجرد في مشاورتهم عن أن يكون فيه مراعاة لحظ نفسه كما قالوا هم: {أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [الأعراف: 127]وذلك كله إلهاب وتحضيض.
والأرض: هي المعهودة عندهم وهي مملكة فرعون.
ومعنى إظهار موسى الفساد عندهم أنه يتسبب في ظهوره بدعوته إلى تغيير ما هم عليه من الديانة والعوائد. وأطلق الإظهار على الفشو والانتشار على سبيل الاستعارة. وقد حملة غروره وقلة تدبره في الأمور على ظن أن ما خالف دينهم يعد فسادا إذ ليست لهم حجة لدينهم غير الإلف والانتفاع العاجل.
وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وأبو عمر وأبو جعفر {وأَنْ} بواو العطف. وقرأ غيرهم {أَوْ أَنْ} ب"أو" التي للترديد، أي لا يخلو سعي موسى عن حصول أحد هاذين. وقرا نافع وأبو عمر وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر بضم ياء {يُظْهِرَ} ونصب {الْفَسَادَ} أي يبدل ويكون سببا في ظهور الفساد. وقرأه ابن كثير وابن عامر وحمزة الكسائي وحفص عن عاصم ويعقوب وخلف بفتح الياء وبرفع {الْفَسَادُ} على معنى أن الفساد يظهر بسبب ظهور أتباع موسى، أو بأن يجترئ غيره على مثل دعواه بأن تزول حرمة الدولة، لأن شأن أهل الخوف عن عمل أن ينقلب جبنهم شجاعة إذا رأوا نجاح من اجترأ على العمل الذي يريدون مثله.

[27] {وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ}
هذا حكاية كلام صدر من موسى في غير حضرة فرعون لا محالة، لأن موسى لم يكن ممن يضمه ملأ استشارة فرعون حين قال لقومه: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى} [غافر: 6]لكن موسى لما بلغه ما قاله فرعون في ملائه قال موسى في قومه: {إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ} ، ولذلك حكي فعل قوله معطوفا بالواو لأن ذلك القول لم يقع في محاورة مع مقال فرعون بخلاف الأقوال المحكية في سورة الشعراء[18ـ31] من قوله: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً} إلى قوله: {قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} .
وقوله: {عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ} خطاب لقومه من بني إسرائيل تطمينا لهم وتسكينا لإشفاقهم عليه من بطش فرعون. والمعنى: إني أعددت العدة لدفع بطش فرعون العوذ بالله من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب وفي مقدمة هؤلاء المتكبرين فرعون.
ومعنى ذلك: أن موسى علم أنه سيجد مناوين متكبرين يكرهون ما أرساه اله به إليهم، فدعا ربه وعلم أن الله ضمن له الحفظ وكفاه ضير كل معاند، وذلك ما حكي في سورة طه[46,45] {قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} فأخبر موسى قومه بأن ربه حافظ له ليثقوا بالله كما كان مقام النبي لا حين كان في أول البعثة تحرسه أصحابه في الليل فلما نزل قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ} [الحجر: 95,94]الآية أمر أصحابه بأن يتخلوا عن حراسته.
وتأكيد الخبر بحرف "إن" متوجه إلى لازم الخبر وهو أن الله ضمن له السلامة وأكد ذلك لتنزيل بعض قومه أو جلهم منزلة من يتردد في ذلك لما رأى من إشفاقهم عليه.
والعَوذ: الالتجاء إلى المحل الذي يستعصم به العائذ فيدفع عنه من يروم ضره، يقال: عاذ بالجبل، وعاذ بالجيش، وقال تعالى: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98].
وعبر عن الجلالة بصفة الرب مضافا إلى ضمير المتكلم لأن في صفة الرب إيماء إلى توجيه العوذ به لأن العبد يعوذ بمولاه. وزيادة وصفه برب المخاطبين للإيماء إلى أن

عليهم أن لا يجزعوا من مناواة فرعون لهم وأن عليهم أن يعوذوا بالله من كل ما يفظعهم.
وجعلت صفة {لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} مغنية عن صفة الكفر أو الإشراك لأنها تتضمن الإشراك وزيادة، لأنه إذا اجتمع في المرء التجبر والتكذيب بالجزاء قلت مبالاته بعواقب أعماله فكملت فيه أسباب القسوة والجرأة على الناس.
[28] {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ}
عطف قول هذا الرجل يقتضي أنه قال قوله هذا في غير مجلس شورى فرعون، لأنه لو كان قوله جاريا مجرى المحاورة مع في مجلس استشارته، أو كان أجاب به عن قول فرعون: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى} [غافر: 26]لكانت حكاية قوله بدون عطف على طريقة المحاورات. والذي يظهر أن الله ألهم هذا الرجل بأن يقول مقالته إلهاما كان أول مظهر من تحقيق الله لاستعاذة موسى بالله، فلما شاع توعد فرعون بقتل موسى عليه السلام جاء هذا الرجل إلى فرعون ناصحا ولم يكن يتهمه فرعون لأنه من آله.
وخطابه بقوله: {أَتَقْتُلُونَ} موجه إلى فرعون لأن فرعون هو الذي يسند إليه القتل لأنه الآمر به، ولحكاية كلام فرعون عقب كلام مؤمن آل فرعون بدون عطف بالواو في قوله: {قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى} [غافر: 29].
ووصفه بأنه من آل فرعون صريح في أنه من القبط ولم يكن من بني إسرائيل خلافا لبعض المفسرين ألا ترى إلى قوله تعالى بعده {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} [غافر: 29]فإن بني إسرائيل لم يكن لهم ملك هنالك.
والأظهر أنه كان من قرابة فرعون وخاصته لما يقتضيه لفظ آل من ذلك حقيقة أو مجازا. والمراد أنه مؤمن بالله ومؤمن بصدق موسى، وما كان إيمانه هذا إلا لأنه كان رجلا صالحا اهتدى إلى توحيد اله إما بالنظر في الأدلة فصدق موسى عندما سمع دعوته كما اهتدى أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى تصديق النبي صلى الله عليه وسلم في حين سماع دعوته فقال له: "صَدَقْتَ". وكان كتمه الإيمان متجددا مستمرا تقيةً من فرعون وقومه إذ علم أن إظهاره الإيمان يضره ولا ينفع غيره كما كان "سقراط" يكتم إيمانه بالله في بلاد اليونان خشية أن يقتلوه انتصارا لآلتهم.

وأراد بقوله: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً} إلى آخره أن يسعى لحفظ موسى من القتل بفتح باب المجادلة في شأنه لتشكيك فرعون في تكذيبه بموسى، وهذا الرجل هو غير الرجل المذكور في سورة القصص[20]في قوله تعالى: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى} فأن تلك القصة كانت قبيل خروج موسى من مصر، وهذه القصة في مبدأ دخوله مصر.
ولم يوصف هنالك بأنه مؤمن ولا بأنه من آل فرعون بل كان من بني إسرائيل كما هو صريح سفر الخروج. والظاهر أن الرجل المذكور هنا كان رجلا صالحا نظارا في أدلة التوحيد ولم يستقر الإيمان في قلبه على وجهه إلا بعد أن سمع دعوة موسى، وإن اله يقيض لعباده الصالحين حماة عند الشدائد.
قيل اسم هذا الرجل حبيب النجار وقيل سمعان، وقد تقدم في سورة يس أن حبيبا النجار من رسل عيسى عليه السلام. وقصة هذا الرجل المؤمن من آل فرعون غير مذكورة في "التوراة" بالصريح ولكنها مذكورة إجمالا في الفقرة السابعة من الإصحاح العاشر: "فقال عبيد فرعون إلى متى يكون لنا هذا "أي موسى" فخَّاً أطْلِق الرجال ليعبدوا الرب إلههم".
والاستفهام في {أَتَقْتُلُونَ} استفهام إنكار، أي يقبح بكم أن تقتلوا نفسا لأنه يقول: ربي الله، أي ولم يجبركم على أن تؤمنوا به ولكنه قال لكم قولا فاقبلوه أو ارفضوه، فهذا محمل قوله: {أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} وهو الذي يمكن الجمع بينه وبين كون هذا الرجل يكتم إيمانه.
و {أَنْ يَقُولَ} . مجرور بلام التعليل المقدرة لأنها تحذف مع "أن" كثيرا. وذكر اسم الله لأنه الذي ذكره موسى ولم يكن من أسماء آلهة القبط.
وأما قوله: {وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} فهو ارتقاء في الحجاج بعد أن استأنس في خطاب قومه بالكلام الموجه فارتقى إلى التصريح بتصديق موسى بعلة أنه قد جاء بالبينات، أي الحجج الواضحة بصدقه، وإلى التصريح بأن الذي سماه الله في قوله: {أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} هو رب المخاطبين فقال: {مِنْ رَبِّكُمْ} . فجملة {وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} في موضع الحال من قوله: {رجلا} ، والباء في {بِالْبَيِّنَاتِ} للمصاحبة.
وقوله: {وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ} رجوع إلى ضرب من إيهام الشك في صدق موسى ليكون كلامه مشتملا عل احتمالي تصديق وتكذيب يتداولهما في كلامه فلا يؤخذ عليه أنه مصدق لموسى بل يخيل إليهم أنه في حالة نظر وتأمل ليسوق فرعون وملأه إلى أدلة صدق موسى بوجه لا يثير نفورهم، فالجملة عطف على جملة {وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} فتكون حالا.

وقدم احتمال كذبه على احتمال صدقه زيادة في التباعد عن ظنهم به الانتصار لموسى فأراد أن يظهر في مظهر المهتم بأمر قومه ابتداء.
ومعنى: {وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ} استنزالهم للنظر، أي فعليكم بالنظر في آياته ولا تعجلوا بقتله ولا باتباعه فإن تبين لكم كذبه فيما تحداكم به وما أنذركم به من مصائب فلم يقع شيء من ذلك لم يضركم ذلك شيئا وعاد كذبه عليه بأن يوسم بالكاذب، وإن تبين لكم صدقه يصبكم بعض ما توعدكم به، أي تصبكم بوارقه فتعلموا صدقه فتتبعوه، وهذا وجه التعبير بـ {بعض} دون أن يقول: يصبكم الذي يعدكم به. والمراد بالوعد هنا الوعد بالسوء وهو المسمى بالوعيد. أي فإن استمررتم على العناد يصبكم جميع ما توعدكم به بطريق الأولى.
وقد شابَه مقام أبي بكر الصديق مقام مؤمن آل فرعون إذ آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم حين سمع دعوته ولم يكن من آله، ويوم جاء عقبة بن أبي معيط إلى النبي صلى الله عليه وسلم "والنبي صلى الله عليه وسلم بفناء الكعبة" يخنقه بثوبه فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكب عقبه ودفعه وقال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} . قال علي بن أبي طالب: "والله ليوم أبي بكر خير من مؤمن آل فرعون، إن مؤمن آل فرعون رجل يكتم إيمانه وإن أبا بكر كان يظهر إيمانه وبذل ماله ودمه" وأقول: كان أبو بكر أقوى يقينا من مؤمن آل فرعون لأن فرعون كتم إيمانه وأبو بكر أظهر إيمانه.
وجملة {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} يجوز أنها من قول مؤمن آل فرعون، فالمقصود منها تعليل قوله: {وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} أي لأن الله لا يقره على كذبه فأن كان كاذبا على الله فلا يلبث أن يفتضح أمره أو يهلكه، كما قال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة: 44ـ46]لأن الله لا يمهل الكاذب عليه، ولأنه إذا جاءكم بخوارق العادات فقد تبين صدقه لأن الله لا يخرق العادة بعد تحدي المتحدي بها إلا ليجعلها أمارة على أنه مرسل منه لأن تصديق الكاذب محال على الله تعالى.
ومعنى {يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} أي مما توعدكم بوقوعه في الدنيا، أو في الآخرة وكيف إذا كانت البينة نفسها مصائب تحل بهم مثل الطوفان والجراد وبقية التسع الآيات.

والمسرف: متجاوز المعروف في شيء، فالمراد هنا مسرف في الكذب لأن أعظم الكذب أن يكون على الله، قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} [الأنعام: 93].
وإذا كان المراد الإسراف في الكذب تعين أن قوله: {كَذَّابٌ} عطف بيان وليس خبرا ثانيا إذ ليس ثمة إسراف هنا غير إسراف الكذب، وفي هذا اعتراف من هذا المؤمن بالله الذي أنكره فرعون، رماه بين ظهرانيهم. ويجوز أن تكون جملة {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي} إلى آخرها جملة معترضة بين كلامي مؤمن آل فرعون ليست من حكاية كلامه وإنما هي قول من جانب الله في قرآنه بقصد منها تزكية هذا الرجل المؤمن إذ هداه الله للحق، وأنه تقي صادق، فيكون نفي الهداية عن المسرف الكذاب كناية عن تقوى هذا الرجل وصدقه لأنه نطق عن هدى والله لا يعطي الهدى من هو مسرف كذاب.
[29] {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ}
لما توسم نهوض حجته بينهم وأنها داخلت نفوسهم، أمن بأسهم، وانتهز فرصة انكسار قلوبهم، فصارحهم بمقصوده من الإيمان بموسى على سنن الخطباء وأهل الجدل بعد تقرير المقدمات والحجج أن يهجموا على الغرض المقصود، فوعظهم بهذه الموعظة. وأدخل قومه في الخطاب فناداهم ليستهويهم إلى تعضيده أمام فرعون فلا يجد فرعون بدا من الانصياع إلى اتفاقهم وتظاهرهم، وأيضا فإن تشريك قومه في الموعظة أدخل في باب النصيحة فابتدأ بنصح فرعون لأنه الذي بيده الأمر والنهي، وثنى بنصيحة الحاضرين من قومه تحيرا لهم من مصائب تصيبهم من جراء امتثالهم أمر فرعون بقتل موسى فإن ذلك يهمهم كما يهم فرعون. وهذا الترتيب في إسداء النصيحة نظير الترتيب في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ولأئمة المسلمين وعامتهم"1 .
ولا يخفى ما في ندائهم بعنوان أنهم قومه من الاستصغاء لنصحه وترقيق قلوبهم لقوله.
وابتداء الموعظة بقوله: {لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ} تذكير بنعمة الله عليهم، وتمهيد لتخويفهم من غضب الله، يعني: لا تغرنكم عظمتكم وملككم فإنهما
ـــــــ
1بعض حديث أوله: الدين النصيحة قالوا لمن يا رسول الله قال لله ولرسوله الخ.

معرضان للزوال إن غضب الله عليكم.
والمقصود: تخويف فرعون من زوال ملكه، ولكنه جعل الملك لقومه لتجنب مواجهة فرعون بفرض زوال ملكه.
والأرض: أرض مصر، أي نافذا حكمكم في هذا الصقع.
وفرع على هذا التمهيد {فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} ، و"مَنْ"للاستفهام الإنكاري عن كل ناصر، فالمعنى: فلا نصر لنا من بأس الله. وأدمج نفسه مع قومه في {يَنْصُرُنَا} و {جَاءَنَا} ، ليريهم أنه يأبى لقومه ما يأباه لنفسه وأن المصيبة إن حلت لا تصيب بعضهم دون بعض.
ومعنى {ظَاهِرِينَ} غالبين، وتقدم آنفا، أي إن كنتم قادرين على قتل موسى فالله قادر على هلاككم.
والبأس: القوة على العدو والمعاند، فهو القوة على الضر.
{قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ}
تفطن فرعون إلى أنه المعرَّض به في خطاب الرجل المؤمن قومه فقاطعه كلامه وبين سبب عزمه على قتل موسى عليه السلام بأنه ما عرض عليهم ذلك إلا لأنه لا يرى نفعا إلا في قتل موسى ولا يستصوب غير ذلك ويرى ذلك هو سبيل الرشاد، وكأنه أراد لا يترك لنصيحة مؤمنهم مدخلا إلى نفوس ملئه خيفة أن يتأثروا بنصحه فلا يساعدوا فرعون على قتل موسى. ولكون كلام فرعون صدر مصدر المقاطعة لكلام المؤمن جاء فعل قول فرعون مفصولا غير معطوف وهي طريقة حكاية المقاولات والمحاورة.
ومعنى {مَا أُرِيكُمْ} ما أجعلكم رائين إلا ما أراه لنفسي، أي ما أشير عليكم بأن تعتقدوا إلا ما أعتقده، فالرؤية علمية، أي لا أشير إلا بما هو معتقدي.
والسبيل: مستعار للعمل، وإضافته إلى الرشاد قرينه، أي ما أهديكم وأشير عليكم إلا بعمل فيه رشاد. وكأنه يعرض بأن كلام مؤمنهم سفاهة رأي: والمعنى الحاصل من الجملة الثانية غير المعنى الحاصل من الجملة الأولى كما هو بين وكما هو مقتضى العطف.
[30ـ31] {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ

دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ}
لما كان هذا تكملة لكلام الذي آمن ولم يكن فيه تعريج على محاورة فرعون على قوله: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى} [غافر: 29]الخ وكان الذي آمن قد جعل كلام فرعون في البين واسترسل يكمل مقالته عطف فعل قوله بالواو ليتصل كلامه بالكلام الذي قبله، ولئلا يتوهم إنه قصد به مراجعة فرعون ولكنه قصد إكمال خطابه، وعبر عنه بالذي آمن لأنه قد عرف بمضمون الصلة بعد ما تقدم. وإعادته نداء قومه تأكيد لما قصده من النداء الأول حسبما تقدم.
وجعل الخوف وما في معناه يتعدى إلى المخوف منه بنفسه والى المخوف عليه بحرف "على" قال لبيد يرثي أخاه أربد:
أخشى على أربد الحتوف ولا ... أخشى عليه الرياح والمطرا
و {يَوْمِ الْأَحْزَابِ} مراد به، الجنس "لا يوم" معين بقرينة إضافته إلى جمع أزمانهم متباعدة. فالتقدير: مثل أيام الأحزاب، فإفراد يوم للإنجاز، مثل بطن في قول الشاعر وهو من شواهد سيبويه في باب الصفة المشبهة بالفاعل:
كلوا في بعض بطنكم تعفوا ... فإن زمانكم زمن خميص
والمراد بأيام الأحزاب أيام إهلاكهم والعرب يطلقون اليوم على يوم الغالب ويوم المغلوب.
والأحزاب الأمم لأن كل أمة حزب تجمعهم أحوال واحدة وتناصر بينهم فلذلك تسمى الأمة حزبا، وتقدم عند قوله تعالى: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} في سورة المؤمنين[53].
والدأب: العادة والعمل الذي يدأب عليه عامله، أي يلازمه ويكرره، وتقدم في قوله تعالى: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} في أول آل عمران[11].
وانتصب {مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ} على عطف البيان من {مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ} ولما كان بيانا له كان ما يضافان إليه متحدا لا محالة فصار الأحزاب و "الدأب" في معنى واحد وإنما يتم ذلك بتقدير مضاف متحد فيهما، فالتقدير: مثل يوم جزاء الأحزاب. مثل يوم جزاء دأب قوم نوح وعاد وثمود، أي جزاء عملهم. ودأبهم الذي اشتركوا فيه هو الإشراك بالله.
وهذا يقتضي أن القبط كانوا على علم بما حل بقوم نوح وعاد وثمود، فأما قوم نوح فكان طوفانهم مشهورا، وأما عاد وثمود فلقرب بلادهم من البلاد المصرية وكان عظيما لا

يخفى على مجاوريهم.
وجملة {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ} معترضة، والواو اعتراضية وهي اعتراض بين كلامية المتعاطفين، أي أخاف عليكم جزاء عادلا من الله وهو جزاء الإشراك.
والظلم يطلق على الشرك {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]، ويطلق على المعاملة بغير الحق، وقد جمع قوله: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ} نفي الظلم بمعنييه على طريقة استعمال المشترك في معنييه.
وكذلك فعل يريد يطلق بمعنى المشيئة كقوله: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: 6]، ويطلق بمعنى المحبة كقوله: {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ} [الذاريات: 57]، فلما وقع فعل الإرادة في حيز النفي اقتضى عموم نفي الإرادة بمعنييها على طريقة استعمال المشترك في معنييه، فالله تعالى لا يحب صدور ظلم من عباده ولا يشاء أن يظلم عباده. وأول المعنيين في الإرادة وفي الظلم أعلق بمقام الإنذار، والمعنى الثاني تابع للأول لأنه يدل على أن الله تعالى لا يترك عقاب أهل الشرك لأنه عدل، لأن التوعد بالعقاب على الشرك والظلم أقوى الأسباب في إقلاع الناس عنه، وصدق الوعيد من متممات ذلك مع كونه مقتضى الحكمة لإقامة العدل.
وتقديم اسم {اللَّهُ} على الخبر الفعلي لإفادة قصر مدلول المسند على المسند إليه، وإذ كان المسند واقعا في سياق النفي كان المعنى: قصر نفي إرادة الظلم على الله تعالى قصر قلب، أي الله لا يريد ظلما للعباد بل غيره يريدونه لهم وهم قادة الشرك وأئمته إذ يدعونهم إليه ويزعمون أن الله أمرهم به قال تعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} [الأعراف: 28].
هذا على المعنى الأول للظلم، وأما على المعنى الثاني فالمعنى: ما الله يريد أن يظلم عباده ولكنهم يظلمون أنفسهم باتباع أئمتهم على غير بصيرة كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس: 44]وبظلمهم دعاتهم وأئمتهم كما قال تعالى: {وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} [هود: 101]، فلم يخرج تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في سياق النفي في هذه الآية عن مهيع استعماله في إفادة قصر المسند على المسند إليه فتأمله.
[32ـ33] {وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}

أعقب تخويفهم بعقاب الدنيا الذي حل مثله بقوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم بأن خوفهم وأنذرهم عذاب الآخرة عاطفا جملته على جملة عذاب الدنيا.
وأقحم بين حرف العطف والمعطوف نداء قومه للغرض الذي تقدم آنفا.
و {يَوْمَ التَّنَادِ} يوم الحساب والحشر، سمي {يَوْمَ التَّنَادِ} لأن الخلق يتنادون يومئذ: فمن مستشفع، ومن متضرع، ومن مسلم ومهنئ، ومن موبخ، ومن معتذر، ومن آمر، ومن معلن بالطاعة، قال تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ} [فصلت: 47]، {أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 44]، {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ} [لأعراف: 44] {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 50]، {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} [الإسراء: 71], {دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً} [الفرقان: 13]، {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ} [القمر: 6]ونحو ذلك.
ومن بديع البلاغة ذكر هذا الوصف لليوم في هذا المقام ليذكرهم أنه في موقفه بينهم يناديهم بـ"يا قوم" ناصحا ومريدا خلاصهم من كل نداء مفزع يوم القيامة، وتأهيلهم لكل نداء سار فيه.
وقرأ الجمهور {يَوْمَ التَّنَادِ} بدون ياء في الوصل والوقف وهو غير منون ولكن عومل معاملة المنون لقصد الرعاية على الفواصل، كقول التاسعة من نساء حديث أم زرع: "زوجي رفيع العماد، طويل النجاد، كثير الرماد، قريب البيت من الناد" فحذفت الياء من كلمة "الناد" وهي معرفة.
وقرأ ابن كثير {يَوْمَ التَّنَادِي} بإثبات الياء على الأصل اعتبارا بأن الفاصلة هي قوله: {فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} .
و {يَوْمَ تُوَلُّونَ} بدل من {يَوْمَ التَّنَادِ} ، والتوالي: الرجوع، والإدبار: أن يرجع من الطريق التي وراءه، أي من حيث أتى هربا من الجهة التي ورد إليها لأنه وجد فيها ما يكره، أي يوم تفرون من هول ما تجدونه. و {مُدْبِرِينَ} حال مؤكدة لعاملها وهو {تُوَلُّونَ} .
وجملة {مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} في موضع الحال. والمعنى: حالة لا ينفعكم التولي.
والعاصم: المانع والحافظ. و {مِنَ اللَّهِ} متعلق بـ {عَاصِمٍ} ، و {من} المتعلقة به للابتداء، تقول: عصمة من الظالم، أي جعله في منعة مبتدأة من الظالم. وضمن فعل عصم معنى: أنقذ وانتزع، ومعنى {مِنَ اللَّهِ} من عذابه وعقابه لأن المنع إنما تتعلق به المعاني لا الذوات. و {مِنْ} الداخلة على {عَاصِمٍ} مزيدة لتأكيد النفي.

وأغنى الكلام على تعدية فعل {أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ} [غافر: 30]عن إعادته هنا.
وجملة {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} عطف على جملة {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ} لتضمنها معنى: إني أرشدكم إلى الحذر من يوم التنادي.
وفي الكلام إيجاز بحذف جمل تدل عليها الجملة المعطوفة. والتقدير: هذا إرشاد لكم فإن هداكم الله عملتم به وإن أعرضتم عنه فذلك لأن الله أضلكم ومن يضلل الله فما له من هاد، وفي هذه الجملة معنى التذليل.
ومعنى إسناد الإضلال والإغواء ونحوهما إلى الله أن يكون قد خلق نفس الشخص وعقله خلقا غير قابل لمعاني الحق والصواب، ولا ينفعل لدلائل الاعتقاد الصحيح.
وأراد من هذه الصلة العموم الشامل لكل من حرمه الله التوفيق، وفيه تعريض بتوقعه أن يكون فرعون وقومه من جملة هذا العموم، وآثر لهم هذا دون أن يقول: {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ} [الزمر: 37]لأنه أحس منهم الإعراض ولم يتوسم فيهم مخائل الانتفاع بنصحه وموعظته.
[34ـ35] {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ}
{وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً}
توسم فيهم قلة جدوى النصح لهم وأنهم مصممون على تكذيب موسى فارتقى في موعظتهم إلى اللوم على ما مضى، ولتذكيرهم بأنهم من ذرية قوم كذبوا يوسف لما جاءهم بالبينات فتكذيب المرشدين إلى الحق شنشنة معروفة في أسلافهم فتكون سجية فيهم. وتأكيد الخبر بـ"قد" ولام القسم لتحقيقه لأنهم مظنة أن ينكروه لبعد عهدهم به.
فالمجيء في قوله: {جَاءَكُمْ} مستعار للحصول والظهور والباء للملابسة، أي ولقد ظهر لكم يوسف ببينات. ولا يلزم أن يكون إظهار البينات مقارنا دعوة إلى شرع لأنه لما

أظهر البينات وتحققوا مكانته كان عليهم بحكم العقل السليم أن يتبينوا آياته ويستهدوا طريق الهدى والنجاة، فإن الله لم يأمر يوسف بأن يدعو فرعون وقومه، لحكمة لعلها هي انتظار الوقت والحال المناسب الذي ادخره الله لموسى عليه السلام.
والبينات: الدلائل البينة المظهرة أنه مصطفى من الله للإرشاد إلى الخير، فكان على كل عاقل أن يتبع خطاه ويترسم آثاره ويسأله عما وراء هذا العالم المادي، بناء على أن معرفة الوحدانية واجبة في أزمان الفترات: إما بالعقل، أو بما تواتر بين البشر من تعاليم الرسل السابقين على الخلاف بين المتكلمين.
والبينات: إخباره بما هو مغيب عنهم من أحوالهم بطريق الوحي في تعبير الرؤى، وكذلك آية العصمة التي انفرد بها من بينهم وشهدت له بها امرأة العزيز وشاهد أهلها حتى قال الملك: {ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} [يوسف: 54]، فكانت دلائل نبوءة يوسف واضحة ولكنهم لم يستخلصوا منها استدلالا يقتفون به أثره في صلاح آخرتهم، وحرصوا على الانتفاع به في تدبير أمور دنياهم فأودعوه خزائن أموالهم وتدبير مملكتهم، فقال له الملك: {إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف: 54]. ولم يخطر ببالهم أن يسترشدوا به سلوكهم الديني. فإن قلت: إذا لم يهتدوا إلى الاسترشاد بيوسف في أمور دينهم وألهاهم الاعتناء بتدبير الدنيا عن تدبير الدين فلماذا لم يدعهم يوسف إلى الاعتقاد بالحق واقتصر على أن سأل من الملك: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55].
قلت: لأن الله لم يأمره بالدعوة للإرشاد إلا إذا سئل منه ذلك لحكمة كما علمت آنفا، فأقامه اله مقام المفتي والمرشد لمن استرشد لا مقام المحتسب المغير للمنكر، و {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَاتِهُ} [الأنعام: 124]، فلما أقامه الله كذلك وعلم يوسف من قول الملك: {إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف: 54]أن الملك لا يريد إلا تدبير مملكته وأمواله، لم يسأله أكثر مما يفي له بذلك. وأما وجوب طلبهم المعرفة والاسترشاد منه فذلك حق عليهم، فمعنى {فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ} الإنحاء على أسلافهم في قلة الاهتمام بالبحث عن الكمال الأعلى وهو الكمال النفساني باتباع الدين القويم، أي فما زال أسلافكم يشعرون بأن يوسف على أمر عظيم من الهدى غير مألوف لهم ويهرعون إليه في مهماتهم ثم لا تعزم نفوسهم على أن يطلبوا منه الإرشاد في أمور الدين. فهم من أمره في حالة شك، أي كان حاصل ما بلغوا إليه في شأنه أنهم في شك مما يكشف لهم

عن واجبهم نحوه فانقضت مدة حياة يوسف بينهم وهم في شك من الأمر. فالملام متوجه عليهم لتقصيرهم في طلب ما ينجيهم بعد الموت قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا} [الإسراء: 18]الآيتين.
و {حتى} للغاية وغايتها هو مضمون الجملة التي بعدها وهي جملة {إِذَا هَلَكَ} ، {وإذا} هنا اسم لزمان المضي مجرورة بـ {حتى} وليست بظرف، أي حتى زمن هلاك يوسف قلتم: لن يبعث الله بعده رسولا، أي قال أسلافكم في وقت وفاة يوسف: لا يبعث الله في المستقبل أبدا رسولا بعد يوسف، يعنون: أنا كنا مترددين في الإيمان بيوسف فقد استرحنا من التردد فإنه لا يجئ من يدعي الرسالة عن الله من بعده، وهذا قول جرى منهم على عادة المعاندين والمقاومين لأهل الإصلاح والفضل أن يعترفوا بفضلهم بعد الموت تندما على ما فاتهم من خير كانوا يدعونهم إليه.
وفيه ضرب من المبالغة في الكمال في عصره كما يقال: خاتمة المحققين، وبقية الصالحين، ومن لا يأتي الزمان بمثله، وحاصله أنهم كانوا في شك من بعثه رسول واحد، وأنهم أيقنوا أن يدعي الرسالة بعده كاذب فلذلك كذبوا موسى.
ومقالتهم هذه لا تقتضي أنهم كانوا يؤمنون بأنه رسول ضرورة أنهم كانوا في شك من ذلك وإنما أرادوا بها قطع هذا الاحتمال في المستقبل وكشف الشك عن نفوسهم وظاهر هذه الآية أن يوسف كان رسولا لظاهر قوله: {قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً} أن رسولا حال من ضمير {مِنْ بَعْدِهِ} . والوجه أن يكون قوله: {رَسُولاً} مفعول {يَبْعَثَ} وأنه لا يقتضي وصف يوسف به فإنه لم يرد في الأخبار عده في الرسل ولا أنه دعا إلى دين في مصر وكيف والله يقول: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [يوسف: 76]ولا شك في أنه نبي إذا وجد مساغا للإرشاد أظهر كقوله: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [يوسف: 40,39]وقوله: {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [يوسف: 38,37].
وعدي فعل {جَاءَكُمْ} إلى ضمير المخاطبين. وأسند {فَمَا زِلْتُمْ} و {قُلْتُمْ} إلى ضميرهم أيضا، وهو ما كانوا موجودين حينئذ قصدا لحمل تبعة أسلافهم عليهم وتسجيلا عليهم بأن التكذيب للناصحين واضطراب عقولهم في الانتفاع بدلائل الصدق قد ورثوه عن

أسلافهم في جبلتهم وتقرر في نفوسهم فانتقاله إليهم جيلا بعد جيل كما تقدم في خطاب بني إسرائيل في سورة البقرة[49] {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} ونحوه.
{كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ[34]الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ[35]}
جرى أكثر المفسرين على أن هذه الجمل حكاية لبقية كلام المؤمن وبعضهم جعل بعضها من حكاية كلام المؤمن وبعضها كلاما من الله تعالى، وذلك من تجويز أن يكون قوله: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ} الخ بدلا أو مبتدأ، وسكت بعضهم عن ذلك مقتصرا على بيان المعنى دون تصد لبيان اتصالها بما قبلها.
والذي يظهر أن قوله: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ} إلى قوله: {جَبَّارٍ} كله من كلام الله تعالى معترض بين كلام المؤمن وكلام فرعون فإن هذا من المعاني الإسلامية قصد منه العبرة بحال المكذبين بموسى تعريضا بمشركي قريش، أي كضلال قوم فرعون يضل الله من هو مسرف مرتاب أمثالكم، فكذلك يكون جزاؤكم، ويؤيد هذا الوجه قوله في آخرها {وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا} فإن مؤمن آل فرعون لم يكن معه مؤمن موسى وهارون غيره، وهذا من باب تذكر الشيء بضده,ومما يزيد يقينا بهذا أن وصف {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ} تكرر أربع مرات من أول السورة، ثم كان هنا وسطا في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} [غافر: 56]، ثم كان خاتمة في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ} [غافر: 69].
والإشارة في قوله: {كَذَلِكَ} إلى الضلال المأخوذ من قوله: {يُضِلُّ اللَّهُ} أي مثل ذلك الضلال يضل الله المسرفين المرتابين، أي أن ضلال المشركين في تكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم مثل ضلال قوم فرعون في تكذيبهم موسى عليه السلام. والخطاب بالكاف المقترنة باسم الإشارة خطاب للمسلمين.
والمسرف: المُفْرِط في فعل لا خير فيه. والمرتاب: شديد الريب، أي الشك.
وإسناد الإضلال إلى الله كإسناد نفي الهداية إليه في قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [غافر: 28]، وتقدم آنفا.

وقوله: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ} يجوز أن يكون مبتدأ خبره {كَبُرَ مَقْتاً} ويجوز أن يكون بدلا من من في قوله: {مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ} فبين أن ما صدق من جماعة لا واحد، فروعي في {مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ} لفظ "مَنْ" فأخبر عنه بالإفراد وروعي في البدل معنى "مَنْ" فأبدل منه موصول الجمع. وصلة {الَّذِينَ} عرف بها المشركين قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} [فصلت: 40} وقال في هذه السورة[4] {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ} .
واختيار المضارع في {يُجَادِلُونَ} لإفادة تجدد مجادلتهم وتكررها وأنهم لا ينفكون عنها. وهذا صريح في ذمهم وكناية عن ذم جدالهم الذي أوجب ضلالهم.
وفي الموصلية إيماء إلى علة إضلالهم، أي سبب خلق الضلال في قلوبهم الإسراف بالباطل تكرر مجادلتهم قصدا للباطل. والمجادلة تكرير الاحتجاج لإثبات مطلوب المجادل وإبطال مطلوب من يخالفه قال تعالى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، فمن المجادلة في آيات الله المحاجة لإبطال دلالتها، ومنها المكابرة فيها كما قالوا: {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت: 5]، ومنها قطع الاستماع لها، كما قال عبد الله بن أبي بن سلول في وقت صراحة كفره للنبي صلى الله عليه وسلم وقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم مجلسا فيه ابن سلول فقرأ عليهم القرآن فقال عبد الله بن سلول: "لا أحسن مما تقول أيها المرء ولا تغشنا به في مجلسنا واجلس في رحلك فمن جاءك فاقرأ عليه".
و {بِغَيْرِ سُلْطَانٍ} متعلق بـ {يُجَادِلُونَ} ، والباء للاستعانة، والسلطان: الحجة. والمعنى: أنهم يجادلون بما ليس بحجة ولكن باللجاج والاستهزاء. و {أتاهم} صفة لـ {سلطان}. والإتيان مستعار للظهور والحصول.
وحصول الحجة هو اعتقادها ولوحها في العقل، أي يجادلون جدلا ليس مما تثيره العقول والنظر الفكري ولكنه تمويه وإسكات.
وجملة {كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ} خبر {إنَّ} من باب الإخبار بالإنشاء، وهي إنشاء ذم جدالهم المقصود منه كم فم الحق، أي كبر جدالهم مقتا عند الله، ففاعل {كَبُرَ} ضمير الجدال المأخوذ من {يُجَادِلُونَ} على طريقة قوله: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8].

و {مَقْتاً} تمييز للكبر وهو تمييز نسبة محلول عن الفاعل، والتقدير: كبر مقت جدالهم.
وفعل {كَبُرَ} هنا ملحق بأفعال الذم مثل: ساء، لأن وزن فعل بضم العين يجيء بمعنى: نعم وبئس، ولو كانت ضمة عينه أصيلة وبهذا تفظيع بالصراحة بعد أن استفيد من صلة الموصول أن جدالهم هو سبب إضلالهم ذلك الإضلال المكين، فحصل بهذا الاستئناف تقرير فظاعة جدالهم بطريقي الكناية والتصريح.
والكِبَر: مستعار للشدة، أي مقت جدالهم مقتا شديدا.
والمقت: شدة البغض، وهو كناية عن شدة العقاب على ذلك من الله. وكونه مقتا عند الله تشنيع له وتفظيع.
أما عطف {وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا} فلم أر في التفاسير الكثيرة التي بين يدي من عرج على فائدة عطف {وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا} ما عدا المهائمي في "تبصرة الرحمن" إذ قال: " {كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ} وهو موجب للإضلال ويدل على أنه كبر مقتا أنه عند الذين آمنوا وهم المظاهر التي يظهر فيها ظهور الحق" اهـ. وكلمة المهائمي كلمة حسنة يعني أن كونه مقتا عند الله لا يحصل في علم الناس إلا بالخبر فزيد الخبر تأييدا بالمشاهدة فإن الذين آمنوا على قلتهم يومئذ يظهر بينهم بغض مجادلة المشركين.
وعندي: أن أظهرَ من هذا أن الله أراد التنويه بالمؤمنين ولم يرد إقناع المشركين فإنهم لا يعبأون ببغض المؤمنين ولا يصدقون ببغض الله إياهم، فالمقصود الثناء على المؤمنين بأنهم يكرهون الباطل، كما قال: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } [التوبة: 71]مع الإشارة إلى تبجيل مكانتهم بأن ضمت عنديتهم إلى عندية الله تعالى على نحو قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} [آل عمران: 18]وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 64]وقوله: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 62]ونحو قول النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر حديث كلام الذئب فتعجب بعض من حضر فقال: "آمنت بذلك وأبو بكر" ولم يكن أبو بكر في المجلس.
وفي إسناد كراهية الجدال في آيات الله بغير سلطان للمؤمنين تلقين للمؤمنين بالإعراض عن مجادلة المشركين على نحو ما في قوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} [القصص: 55]، وقوله: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [الفرقان: 63]وقوله: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} [الفرقان: 72].

والقول في {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} كالقول في {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ} .
والطبع: الختم، وتقدم في قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} في سورة البقرة[7].
والختم والطبع والأكِنَّة: خلق الضلالة في القلب، أي النفس. والمتكبر: ذو الكبر المبالغ فيه ولذلك استعيرت صيغة التكلف. والجبار: مثال مبالغة من الجبر، وهو الإكراه، فالجبار: الذي يكره الناس على ما لا يحبون عمله لظلمه.
وقرأ الجمهور {عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ} بإضافة {قَلْبِ} إلى {مُتَكَبِّرٍ} . وقرأ أبو عمر وحده وابن ذكوان عن عامر بتنوين {قَلْبٍ} على أن يكون {مُتَكَبِّرٍ} و {جَبَّارٍ} صفتين لـ {قَلْبِ} ، ووصف القلب بالتكبر والجبر مجاز عقلي. والمقصود وصف صاحبه كقوله تعالى: {فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283]لأنه سبب الإثم كما يقال: رأت عيني وسمعت أذني.
[36ـ37] {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ}
هذه مقالة أخرى لفرعون في مجلس آخر غير المجلس الذي حاجه فيه موسى ولذلك عطف قوله بالواو كما أشرنا إليه فيما عطف من الأقوال السابقة آنفا، وكما أشرن إليه في سورة القصص، وتقدم الكلام هنالك مستوفي على نظيره معنى هذه الآية على حسب ظاهرها، وتقدم ذكر "هامان" والصرح هنالك.
وقد لاح لي هنا محمل آخر أقرب أن يكون المقصود من الآية ينتظم مع ما ذكرناه هنالك في الغاية ويخالفه في الدلالة، وذلك أن يكون فرعون أمر ببناء صرح لا لقصد الارتقاء إلى السماوات بل ليخلو بنفسه رياضة ليستمد الوحي من الرب الذي ادعى موسى أنه أوحى إليه إذ قال: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [طه: 48]

فإن الارتياض في مكان منعزل عن الناس كان من شعار الاستحياء الكهنوتي عندهم، وكان فرعون يحسب نفسه أهلا لذلك لزعمه أنه ابن الآلهة وحامي الكهنة والهياكل. وإنما كان يشغله تدبير أمر المملكة فكان يكل شؤون الديانة إلى الكهنة في معابدهم، فأراد قي هذه الأزمة الجدلية أن يتصدى لذلك بنفسه ليكون قوله الفصل في نفي وجود إله آخر تضليلا لدهماء أمته، لأنه أراد التوطئة للإخبار بنفي إله آخر غير آلهتهم فأراد أن يتولى وسائل النفي بنفسه كما كانت لليهود محاريب للخلوة للعبادة كما تقدم عند قوله تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ} [مريم: 11]وقوله: { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ} [آل عمران: 37]ومن اتخاذ الرهبان النصارى صوامع في أعالي الجبال للخلوة للتعبد، ووجودها عند هذه المم يدل على إنها موجودة عند الأمم المعاصرة لهم والسابقة عليهم.
والأسباب: جمع سبب، والسبب ما يوصل إلى مكان بعيد، فيطلق السبب على الطريق، ويطلق على الحبل لأنهم كانوا يتوصلون به إلى أعلى النخيل، والمراد هنا: طرق السماوات، كما في قول زهير:
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ... وإن يرق أسباب السماء بسلم
وانتصب {أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ} على البدل المطابق لقوله: {الْأَسْبَابَ} . وجئ بهذا الأسلوب من الإجمال ثم التفصيل للتشويق إلى المراد بالأسباب تفخيما لشأنها وشأن عمله لأنه أمر عجيب ليورد على نفس متشوقة إلى معرفته وهي نفس "هامان".
والاطّلاع بتشديد الطاء مبالغة في الطلوع، والطلوع: الظهور. والأكثر أن يكون ظهورا من ارتفاع، ويعرف ذلك أو عدمه بتعدية الفعل فإن عدي بحرف على فهو الظهور من ارتفاع، وأن عدي بحرف "إلى" فهو ظهور مطلق.
وقرأ الجمهور {فَأَطَّلِعَ} بالرفع تفريعا على {أَبْلُغَ} كأنه قيل: أبلغ ثم اطلع، وقرأه حفص عن عاصم بالنصب على جواب الترجي لمعاملة الترجي معاملة التمني وإن كان ذلك غير مشهور، والبصريون ينكرونه كأنه قيل: متى بلغت اطلعت، وقد تكون له ههنا نكتة وهي استعارة حرف الرجاء إلى معنى التمني على وجه الاستعارة التبعية إشارة إلى بعد ما ترجاه، وجعل نصب الفعل بعده قرينه على الاستعارة.
وبين {إلى} و {إله} الجناس الناقص بحرف كما ورد مرتين في قول أبي تمام:
يمدون من أيد عواص عواصم ... تصول بأسياف قواض قواضب

وجملة {وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً} معترضة للاحتراس من أن يظن "هامان" وقومه أن دعوة موسى أوهنت منه يقينه بدينه وآلهته وأنه يروم أن يبحث بحث متأمل ناظر في أدلة المعرفة فحقق لهم أنه ما أراد بذلك إلا نفي ما ادعاه موسى بدليل الحس. وجئ بحرف التوكيد المعزز بلام الابتداء لينفي عن نفسه اتهام وزيره إياه بتزلزل اعتقاده في دينه. والمعنى: إني أفعل ذلك ليظهر كذب موسى.
والظن هنا مستعمل في معنى اليقين والقطع، ولذلك سمى الله عزمه هذا كيدا في قوله: {وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ}.
{وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ}
جملة {وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ} عطف على جملة {وَقَالَ فِرْعَوْنُ} لبيان حال اعتقاده وعمله بعد أن بين حال أقواله، والمعنى: أنه قال قولا منبعثا عن ضلال اعتقاد ومغريا فساد الأعمال. ولهذا الاعتبار اعتبار جميع أحوال فرعون لم تفصل هذه الجملة عن التي قبلها إذ لم يقصد بها ابتداء قصة أخرى، وهذا مما سموه بالتوسط بين كمالي الاتصال والانقطاع في باب الفصل والوصل من علم المعاني. وافتتاحها بـ {كذلك} كافتتاح قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} في عمله سورة البقرة[143]، أي مثل ذلك التزيين عمل فرعون زين له سوء عمله مبالغة في أن تزيين عمله له بلغ من القوة في نوعه ما لا يوجد له شبه يشبه به فمن أراد تشبيهه فليشبهه بعينه.
وبني فعل {زُيِّنَ} إلى المجهول لأن المقصود معرفة مفعول التزيين لا معرفة فاعله، أي حصل له تزيين سوء عمله في نفسه فحسب الباطل حقا والضلال اهتداء.
وقرأ الجمهور {وَصَدَّ} بفتح الصاد وهو يجوز اعتباره قاصرا الذي مضارعه يصد بكسر الصاد، ويجوز اعتباره متعديا الذي مضارعه يصد بضم الصاد، أي أعرض عن السبيل ومنع قومه اتباع السبيل. وقرأه حمزة الكسائي وعاصم بضم الصاد.
والقول فيه كالقول في {زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ} .
وتعريف { السبيل} للعهد، أي سبيل الله، أو سبيل الخير، أو سبيل الهدى، ويجوز أن يكون التعريف للدلالة على الكمال في النوع، أي صد عن السبيل الكامل الصالح.
وجملة {وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ} عطف على جملة {وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ} ، والمراد بكيده ما أمر به من بناء الصرح والغاية منه، وسمي كيدا لأنه عمل

ليس المراد به ظاهرة بل أريد به الإفضاء إلى إيهام قومه كذب موسى عليه السلام.
والتباب: الخسران والهلاك، ومنه {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1]، وحرف الظرفية استعارة تبعية لمعنى شدة الملابسة كأنه قيل: وما كيد فرعون إلا في تباب شديد. والاستثناء من أحوال مقدرة.
[38ـ40] {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ}
هذا مقال في مقام آخر قاله مؤمن آل فرعون، فهذه المقالات المعطوفة بالواو مقالات متفرقة. فابتدأ موعظته بندائهم ليلفت إليه أذهانهم ويستصغي أسماعهم، وبعنوان أنهم قومه لتصغى إليه أفئدتهم.
ورتب خطبته على أسلوب تقديم الإجمال ثم تعقيبه بالتفصيل، فابتدأ بقوله: {اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} ، وسبيل الرشاد مجمل وهو على إجماله مما تتوق إليه النفوس، فربط حصوله باتباعهم إياه مما يقبل بهم على تلقي ما يفسر هذا السبيل، ويسترعي أسماعهم إلى ما يقوله إذ لعله سيأتيهم بما ترغبه أنفسهم إذ قد يظنون أنه نقح رأيه ونخل مقاله وأنه سيأتي بما هو الحق الملائم لهم. وتقدم ذكر {سَبِيلَ الرَّشَادِ} آنفا.
وأعاد النداء تأكيدا لإقبالهم إذ لاحت بوارقه فأكمل مقدمته بتفصيل ما أجمله يذكرهم بأن الحياة الدنيا محدودة بأجل غير طويل، وأن وراءها حياة أبدية، لأنه علم أن اشد دفاعهم عن دينهم منبعث عن محبة السيادة والرفاهية، وذلك من متاع الدنيا الزائل وأن الخير لهم هو العمل للسعادة الأبدية.
وقد بني هذه المقدمة على ما كانوا عليه من معرفة أن وراء هذه الحياة حياة أبدية فيها حقيقة السعادة والشقاء، وفيها الجزاء على الحسنات والسيئات بالنعيم أو العذاب، إذ كانت ديانتهم تثبت حياة أخرى بعد الحياة الدنيا ولكنها حرفت معظم وسائل السعادة والشقاوة، فهذه حقائق مسلمة عندهم على إجمالها وهي من نوع الأصول الموضوعة في صناعة الجدل، وبذلك تمت مقدمة خطبته وتهيأت نفوسهم لبيان مقصده المفسر لإجمال مقدمته.
فجملة {إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ} مبينة لجملة {أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} . والمتاع:

ما ينتفع به انتفاعا مؤجلا. والقرار: الدوام في المكان. والقصر المستفاد من قوله: {إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ} قصر موصوف على صفة، أي لا صفة للدنيا منزلة من يحسبها منافع خالدة.
وجملتا {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً} إلى آخرهما بيان لجملة {وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} . والقصر المستفاد من ضمير الفصل في قوله: {وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} قصر قلب نظير القصر في قوله: { إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ} ، وهو مؤكد للقصر في قوله: {إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ} من تأكيد إثبات ضد الحكم لضد المحكوم عليه، وهو قصر قلب، أي لا الدنيا. و"مَنْ" من قوله {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً} شرطية. ومعنى {إِلَّا مِثْلَهَا} المماثلة في الوصف الذي دل عليه اسم السيئة وهو الجزاء السيئ، أي لا يجزي عن عمل السوء بجزاء الخير، أي لا يطمعوا أن يعملوا السيئات وأنهم يجازون عليها جزاء خير. وفي "صحيح البخاري" عن وهب بن منبه وكان كثير الوعظ للناس قيل له، إنك بوعظك تقنط الناس فقال: "أأنا أقدر أن أقنط الناس والله يقول: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر: 53] ولكنكم تحبون أن تبشروا بالجنة على مساوي أعمالكم". وكأن المؤمن خص الجزء بالأعمال لأنهم كانوا متهاونين بالأعمال وكان قصارى ما يهتمون به هو حسن الاعتقاد في الآلهة، ولذلك توجد على جدر المعابد المصرية صورة الحساب في هيئة وضع قلب الميت في الميزان ليكون جزاؤه على ما يفسر عنه ميزان قلبه.
ولذلك ترى مؤمن آل فرعون لم يهمل ذكر الإيمان بعد أن اهتم بتقديم الأعمال فتراه يقول: {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} ، فالإيمان هو أس هيكل النجاة، ولذلك كان الكفر أس الشقاء الأبدي فإن كل عمل سيء فإن سوءه وفساده جزئي منقض فكان العقاب عليه غير لأبدي، وأما الكفر فهو سيئة دائمة مع صاحبها لأن مقرها قلبه واعتقاده وهو ملازم له فلذلك كان عقابه أبديا، لأن الحكمة تقتضي المناسبة بين الأسباب وآثارها فدل قوله: {فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} أن جزاء الكفر شقاء أبدي لأنه مثل الكفر في كونه ملازما للكافر إن مات كافرا.
وبهذا البيان أبطلنا قول المعتزلة والخوارج بمساواة مرتكب الكبائر للكافر في الخلود في العذاب، بأنه قول يفضي إلى مزية الإيمان وذلك تنافيه أدلة الشريعة البالغة مبلغ القطع، ونظير هذا المعنى قوله تعالى: {فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا

مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذَا ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البلد: 13ـ17].
وترتيبه دخول الجنة على عمل الصالحات معناه: من عمل صالحا ولم يعمل سيئة بقرينة مقابلته بقوله: {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} ، فإن خلط المؤمن عملا صالحا وسيئا فالمقاصة، وبيانه في تفاصيل الشريعة.
وقوله: {بِغَيْرِ حِسَابٍ} كناية على سعة الرزق ووفرته كما تقدم عند قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} في سورة آل عمران[37].
و {مَنْ} في قوله: {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً} الخ شرطية، وجوابها {فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} . وجئ باسم الإشارة للتنبيه على أن المشار إليه يستحق ما سيذكر بعد اسم الإشارة من أجل ما ذكر قبل اسم الإشارة من الأوصاف، وهي عمل الصالحات مع الإيمان زيادة على استفادة ذلك من تعليقه على الجملة الشرطية. وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي في جملة جواب الشرط لإفادة الحصر. والمعنى: أنكم إن متم على الشرك والعمل السيئ لا تدخلونها.
وقوله: {مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} بيان لما في {مَنْ} من الإبهام من جانب احتمال التعميم فلفظ {ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} مراد به إفادة مساواة الأنثى للذكر في الجزاء على الأعمال إذ لا مناسبة له في هذا المقام، وتعريضا بفرعون وخاصته أنهم غير مفلتين من الجزاء.
وقرأ الجمهور {يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} بفتح الياء. وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم بضمها وفتح الخاء، والمعنى واحد.
[41ـ43] {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ}
أعاد نداءهم وعطفت حكايته بواو العطف للإشارة إلى أن نداءه اشتمل على ما يقتضي في لغتهم أن الكلام قد تخطي من غرض إلى غرض وأنه سيطرق ما يغاير أول كلامه مغايرة ما تشبه مغايرة المتعاطفين في لغة العرب، وأنه سيرتقى باستدراجهم في درج

الاستدلال إلى المقصود بعد المقدمات، فانتقل هنا إلى أن أنكر عليهم شيئا جرى منهم نحوه وهو أنهم أعقبوا موعظته إياهم بدعوته للإقلاع عن ذلك وأن يتمسك بدينهم وهذا شيء مطوي في خلال القصة دلت عليه حكاية إنكاره عليم، وهو كلام آيس من إستجابتهم لقوله فيه: {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ} [غافر: 44]، ومتوقع أذاهم لقوله: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ} [غافر: 44]، ولقوله تعالى آخر القصة: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} [غافر: 45]. فصرح هنا وبين بأنه لم يزل يدعوهم إلى اتباع ما جاء به موسى وفي اتباعه النجاة من عذاب الآخرة فهو يدعوهم إلى النجاة حقيقة، وليس إطلاق النجاة على ما يدعوهم إليه بمجاز مرسل بل يدعوهم إلى حقيقة النجاة بوسائط.
والاستفهام في {مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ} استفهام تعجبي باعتبار تقييده بجملة الحال وهي {وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} فجملة {وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} في موضع الحال بتقدير مبتدأ، أي وأنتم تدعونني إلى النار وليست بعطف لأن أصل استعمال: ما لي أفعل، وما لي لا أفعل ونحوه، أن يكون استفهاما عن عل أو حال ثبت للمجرور باللام "وهي لام الاختصاص"، ومعنى لام الاختصاص يكسب مدخولها حالة خفيا سببها الذي علق بمدخول اللام نحو قوله تعالى: {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} [التوبة: 38] {مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ} [النمل: 20]وقولك لمن يستوقفك: ما لك? فتكون الجملة التي بعد اسم الاستفهام وخبره جملة فعلية.
وتركيب: ما لي ونحوه، هو كتركيب: هل لك ونحوه في قوله تعالى: {فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} [النازعات: 18]وقول كعب بن زهير:
ألا بلغا عني بجيرا رسالة ... فهل لك فيما ويحك هل لك
فإذا قامت القرينة على انتفاء إرادة الاستفهام الحقيقي انصرف ذلك إلى التعجب من الحالة، أو إلى الإنكار أو نحو ذلك. فالمعنى هنا على التعجب يعني أنه يعجب من دعوتهم إياه لدينهم مع ما رأوا من حرصه على نصحهم ودعوتهم إلى النجاة وما أتاهم به من الدلائل على صحة دعوته وبطلان دعوتهم.
وجملة {تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ} بيان لجملة {وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} لأن الدعوة إلى النار أمر مجمل مستغرب فبينه ببيان أنهم يدعونه إلى التلبس بالأسباب الموجبة عذاب النار. والمعنى: تدعونني للكفر بالله وإشراك ما لا أعلم مع الله في الإلهية.

ومعنى {مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} ما ليس لي بصحته أو بوجوده علم، والكلام كناية عن كونه بعلم أنها ليست آلهة بطريق الكناية بنفي اللازم عن نفي الملزوم.
وعطف عليه {وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ} فكان بيانا لمجمل جملة {أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ} . وإبراز ضمير المتكلم في قوله: {وَأَنَا أَدْعُوكُمْ} لإفادة تقوي الخبر بتقديم المسند إليه على خبره الفعلي.
وفعل الدعوة إذا ربط بمتعلق غير مفعوله يعدى تارة باللام وهو الأكثر في الكلام، ويعدى بحرف "إلى" وهو الأكثر في القرآن لما يشتمل عليه من الاعتبارات ولذلك علق به معمول في هذه الآية أربع مرات بـ"إلى" ومرة باللام مع ما في ربط فعل الدعوة بمتعلقة الذي هو من المعنويات من مناسبة لام التعليل مثل {تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ} ، وربطه بما هو ذات بحرف إلى في قوله: {أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ} فأن النجاة هي نجاة من النار فهي نجاة من أمر محسوس، وقوله: {وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} وقوله: {وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا} الخ، لأن حرف "إلى" دال على الانتهاء لأن الذي يدعو أحدا إلى شيء إنما يدعوه إلى أن ينتهي إليه، فالدعاء إلى الله الدعاء إلى توحيده بالربوبية فشبه بشيء محسوس تشبيه المعقول بالمحسوس، وشبه اعتقاده صحته بالوصول إلى الشيء المسعي إليه، وشبهت استعارة مكنية وتخييلة وتبعية، وفي {الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ} استعارة مكنية، وفي {أَدْعُوكُمْ} استعارة تبعية وتخييلية.
وعدل عن اسم الجلالة إلى الصفتين {الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ} لإدماج الاستدلال على استحقاقه الإفراد بالإلهية والعبادة، بوصفه {الْعَزِيزِ} لأنه لا تناله الناس بخلاف أصنامهم فإنها ذليلة توضع على الأرض ويلتصق بها القتام وتلوثها الطيور بذرقها، ولإدماج ترغيبهم في الإقلاع عن الشرك بأن الموحد بالإلهية يغفر لهم ما سلف من شركهم حتى لا ييأسوا من عفوه بعد أن أساءوا إليه.
وجملة {لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} بيان لجملة {تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّه} . وكلمة {لا جَرَمَ} بفتحتين في الأفصح من لغات ثلاث فيها، كلمة يراد بها معنى لا يثبت أو لابد، فمعنى ثبوته لأن الشيء الذي لا ينقطع هو باق وكل لك يؤول إلى معنى حق وقد يقولون: لا ذا جرم، ولا أن ذا جرم، ولا عن ذا جرم، ولا جر بدون ميم ترخيما للتخفيف.

والأظهر أن {جَرم} اسم لا فعل لأنه لو كان فعلا لكان ماضيا بحسب صيغته فيكون دخول {لا} عليه من خصائص استعمال الفعل في الدعاء.
والأكثر أن يقع بعدها "أنَّ" المفتوحة المشددة فيقدر معها حرف "في" ملتزما حذفه غالبا. والتقدير: لا شك في أن ما تدعونني إليه ليس له دعوة.
وتقدم بيان معنى {لا جَرَمَ} وأن جرم فعل أو اسم عند قوله تعالى: {لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ} في سورة هود[23].
وما صدق {ما} الأصنام، وأعيد الضمير عليها مفردا في قوله: {لَيْسَ لَهُ} مراعاة لإفراد لفظ "ما".
وقوله: {لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} إلى قوله: {أَصْحَابُ النَّارِ} واقع موقع التعليل لجملتي {مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} لأنه إذا تحقق أن لا دعوة للأصنام في الدنيا بدليل ولا يفيدهم دعاؤها ولا نداؤها. وتحقق إذن أن المرجو للإنعام في الدنيا والآخرة هو الرب الذي يدعوهم هو إليه. وهذا دليل إقناعي غير قاطع للمنازع في إلهية رب هذا المؤمن ولكنه أراد إقناعهم واستحفظهم دليله لأنهم سيظهر لهم قريبا أن رب موسى له دعوة في الدنيا ثقة منه بأنهم سيرون انتصار موسى على فرعون ويرون صرف فرعون عن قتل موسى بعد عزمه عليه فيعلمون أن الذي دعا إليه موسى هو المتصرف في الدنيا فيعلمون أنه المتصرف في الآخرة.
ومعنى {لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ} انتفاء أن يكون الدعاء إليه بالعبادة أو الالتجاء نافعا لا نفي وقوع الدعوة لأن وقوعها مشاهد. فهذا من باب "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" وقولهم: ليس ذلك بشيء، أي بشيء نافع، وبهذا تعلم أن {دَعْوَةٌ} مصدر متحمل معنى ضمير فاعل، أي ليست دعوة داع، وأن ضمير {لَهُ} عائد إلى "ما" الموصولة، أي لا يملك دعوة الداعين، أي لا يملك إجابتهم.
وعطفت على هذه الجملة جملة {وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ} عطف اللازم على ملزومه لأنه إذ تبين أن رب موسى المسمى "الله" هو الذي له الدعوة، تبين أن المرد، أي المصير إلى الله في الدنيا بالالتجاء والاستنصار وفي الآخرة بالحكم والجزاء.
ولو عطفت مضمون هذه الجملة بالفاء المفيدة للتفريع لكانت حقيقة بها، ولكن عدل عن ذلك إلى عطفها بالواو اهتماما بشأنها لتكون مستقلة الدلالة بنفسها غير باحث سامعها على ما ترتبط به، لأن

الشيء المتفرغ على شيء يعتبر تابعا له، كما قال الأصوليون في أن جواب السائل غير المستقل بنفسه تابع لعموم السؤال.
وكذلك جملة {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} بالنسبة إلى تفرع مضمونها على مضمون جملة {وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ} إلى الله لأنه إذا كان المصير إليه كان الحكم والجزاء بين الصائرين إليه من مثاب ومعاقب فيتعين أن المعاقب هم الكافرون بالله.
فالإسراف هنا: إفراط الكفر، ويشمل ما قيل: إنه أريد هنا سفك الدم بغير حق ليصرف فرعون عن قتل موسى عليه السلام. والوجه أن يعم أصحاب الجرائم والآثام. والتعريف فيه تعريف الجنس المفيد للاستغراق وهو تعريض بالذين يخاطبهم إذ هم مسرفون على كل تقدير فهم مسرفون في إفراط كفرهم بالرب الذي دعا إليه موسى، ومسرفون فيما يستتبعه ذلك من المعاصي والجرائم فضمير الفصل في قوله: {هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} يفيد قصرا ادعائيا لأنهم المتناهون في صحبة النار بسبب الخلود بخلاف عصاة المؤمنين، وهذا لحمل كلام المؤمن على موافقة الواقع لأن المظنون به أنه نبيء أو ملهم وإلا فإن المقام مقام تمييز حال المؤمنين من حال المشركين، وليس مقام تفصيل درجات الجزاء في الآخرة.
[44] {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}
هذا الكلام متاركة لقومه وتنهية لخطابه إياهم ولعله استشعر من ملامحهم أو من مقاطعتهم كلامه بعبارات الإنكار، ما أيأسه من تأثرهم بكلامه، فتحداهم بأنهم إن أعرضوا عن الانتصاح لنصحه سيندمون حين يرون العذاب إما في الدنيا كما اقتضاه قوله: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ}[ غافر: 32]، فالفاء تفريع على جملة {مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} [غافر: 41].
وفعل {سَتَذْكُرُونَ} مشتق من الذكر بضم الذال وهو ضد النسيان، أي ستذكرون في عقولكم، أي ما أقول لكم الآن يحضر نصب بصائركم يوم تحققه، فشبه الإعراض بالنسيان ورمز إلى النسيان بما هو من لوازمه في العقل ملازمة الضد لضده وهو التذكر على طريقة المكنية وفي قرينتها استعارة تبعية.
والمعنى سيحل بكم من العذاب ما يذكركم ما أقوله: إنه سيحل بكم.

وجملة {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ} عطف على جملة {مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} ، ومساق هذه الجملة مساق الانتصاف منهم لما أظهروه له من الشر، يعني: أني أكل شأني وشأنكم معي إلى الله فهو يجزي كل فاعل بما فعل، وهذا كلام منصف فالمراد بـ {أَمْرِي} شأني ومهمي.
ويدل لمعنى الانتصاف تعقيبه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} معللا تفويض أمره معهم إلى الله عليم بأحوال جميع العباد فعموم العباد شمله وشمل خصومه.
وقال في "الكشاف" : "قوله: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ} لأنهم تواعدوه" اهـ. يعني أن فيه إشعار بذلك بمعونة ما بعده.
و {العباد} الناس يطلق على جماعتهم اسم العباد، ولم أر إطلاق العبد على الإنسان الواحد ولا إطلاق العبيد على الناس.
والبصير: المطلع الذي لا يخفى عليه الأمر. والباء للتعدية كما في قوله تعالى: {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ} [القصص: 11]، فإذا أرادو تعدية فعل البصر بنفسه قالوا: أبصره.
[45ـ46] {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}
تفريع {فَوَقَاهُ اللَّهُ} مؤذن بأنهم أضمروا مكرا به. وتسميته مكرا مؤذن بأنهم لم يشعروه به وأن يكون فر من فرعون ولم يعثروا عليه.
و"ما" مصدرية. والمعنى: سيئات مكرهم. وإضافة {سَيِّئَاتِ} إلى "مكر" إضافة بيانية، وهي هنا في قوة إضافة الصفة إلى الموصوف لأن المكر سيء. وإنما جمع السيئات باعتبار تعدد أنواع مكرهم التي بيتوها.
وحاق: أحاط. والعذاب: الغرق. والتعريف للعهد لنه مشهور معلوم.
وتقدم له ذكر في السور النازلة قبل هذه السورة.

ومناسبة فعل {حَاق} لذلك العذاب أنه مما يحيق على الحقيقة، وإنما كان الغرق سوء عذاب لأن الغرق يعذب باحتباس النفس مدة وهو يطفو على الماء ويغوص فيه ويرعبه هول الأمواج وهو موقن بالهلاك ثم يكون عرضه لأكل الحيتان حيا وميتا وذلك ألم في الحياة وخزي بعد الممات يذكرون به بين الناس.
وقوله: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً} يجوز أن يكون جملة وقعت بدلا من جملة {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} ، فيجعل {النار} مبتدأ ويجعل جملة {يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا} خبرا عنه ويكون مجموع الجملة من المبتدأ وخبره بدل اشتمال من جملة {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} لأن سوء العذاب إذا أريد به الغرق كان مشتملا على موتهم وموتهم يشتمل على عرضهم على النار غدوا وعشيا، فالمذكور عذابان: عذاب الدنيا عذاب الغرق وما يلحق به من عذاب قبل عذاب يوم القيامة.
ويجوز أن يكون {النار} بدلا مفردا من {سُوءُ الْعَذَابِ} بدلا مطابقا وجملة {يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا} حالا من {النار} فيكون المذكور في الآية عذابا واحدا ولم يذكر عذاب الغرق.
وعلى كلا الوجهين فالمذكور ي الآية عذاب قبل عذاب يوم القيامة فذلك هو المذكور بعده بقوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} .
والعرض حقيقته: إظهار شيء لمن يراه لترغيب أو تحذير وهو يتعدى إلى الشيء المظهر بنفسه وإلى من يظهر لأجله بحرف "على"، وهذا يقتضي أن المعروض عليه لا يكون إلا من يعقل ومنزلا منزلة من يعقل، وقد يقلب هذا الاستعمال لقصد المبالغة كقول العرب: "عرضت الناقة على الحوض"، وحقه: عرضت الحوض على الناقة، وهو الاستعمال الذي في هذه الآية وقوله في سورة الأحقاف[20] {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ} . وقد عد علماء المعاني القلب من أنواع تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر ومثلوا له بقول العرب: عرضت الناقة على الحوض. واختلفوا في عدة من أفانين لكلام البليغ فعدة منها أبو عبيدة والفارسي والسكاكي ولم يقبله الجمهور، وقال القزويني: "إن تضمن اعتبار لطيفا قبل وإلا رد".
وعندي أن الاستعمالين على مقتضى الظاهر وأن العرض قد كثر في معنى الإمرار دون قصد الترغيب كما يقال: عرض الجيش على أميره واستعرضه الأمير. ولعل أصله مجاز ساوى الحقيقة فليس في الآيتين قلب ولا في قول العرب: عرضت الناقة على الحوض، قلب، ويقال: عرض بنو فلان على السيف، إذا قتلوا به. وخرج في "الكشاف" آية الأحقاف على قولهم: عرض على السيف.

ومعنى عرضهم على النار أن أرواحهم تشاهد المواضع التي أعدت لها في جهنم، وهو ما يبينه حديث عبد الله بن عمر في "الصحيح" قال: قال رسول الله: "إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة" .
وقوله: {غُدُوّاً وَعَشِيّاً} ناية عن الدوام لأن الزمان لا يخلو من هاذين الوقتين.
وقوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} هذا ذكر عذاب الآخرة الخالد، أي يقال: أدخلوا آل فرعون أشد العذاب، وعلم من عذاب آل فرعون أن فرعون داخل في ذلك العذاب بدلالة الفحوى.
وقرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص وأبو جعفر ويعقوب {أَدْخِلُوا} بهمزة قطع وكسر الخاء. وقرأ الباقون بهمزة وصل وضم الخاء على معنى أن القول موجه إلى آل فرعون وأن آل فرعون منادى بحذف الحرف.
[447ـ48] {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ}
يجوز أن يكون {إذ} معمولا لـ"اذكر" محذوف فيكون عطفا على جملة {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ} [غافر: 18]، والضمير عائدا إلى {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ} [غافر: 35]وما بين هذا وذاك اعتراض واستطراد لأنها قصد منها عظة المشركين بمن سبقهم من الأمم المكذبين فلما استوفي ذلك عاد الكلام إليهم. ويفيد ذلك صريح الوعيد للمشركين بعد أن ضربت لهم الأمثال كما قال تعالى: {وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [محمد: 10]، وقد تكرر في القرآن موعظة المشركين بمثل هذا كقوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} الآية في سورة البقرة[166]، وقوله: {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ} الآية في سورة الأعراف[38].
ويجوز أن تكون {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ} عطفا على جملة {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46]لأن "إذ" و"يوم" كليهما ظرف بمعنى "حين"، فيكون المعنى: وحين تقوم الساعة يقال: أدخلوا آل فرعون أشد العذاب، وحين يتحاج أهل النار فيقول الضعفاء الخ.

وقرن {فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ} بالفاء لإفادة كون هذا القول ناشئا عن تحاجهم في النار مع كون ذلك دالا على أنه في معنى متعلق {إذ} ، وهذا استعمال من استعمالات الفاء التي يسميها النحاة زائدة، وأثبت زيادتها جماعة منهم الأخفش والفراء والأعلم وابن بَرْهان، وحكاه عن أصحابه البصريين. وضمير {يَتَحَاجُّونَ} على هذا الوجه عائد إلى {آلَ فِرْعَوْنَ} لأن ذلك يأبه قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ} [غافر: 49]وقوله: {أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} [غافر: 50]ولم يأت آل فرعون إلا رسول واحد هو موسى عليه السلام فيعود ضمير {يَتَحَاجُّونَ} إلى معلوم من المقام وهم أهل النار.
والتحاج: الاحتجاج من جانبين فأكثر، أي إقامة كل فريق حجته وهو يقتضي وقوع خلاف بين المتحاجين إذ الحجة تأييد لدعوى لدفع الشك في صحتها.
والضعفاء: عامة الناس الذين لا تصرف لهم في أمور الأمة. والذين استكبروا: سادة القوم، أي الذين تكبروا كبرا شديدا، فالسين والتاء فيه للمبالغة. وقول الضعفاء للكبراء هذا الكلام يحتمل أنه على حقيقته فهو ناشئ عما اعتادوه من اللجإ إليهم في مهمهم حين كانوا في الدنيا فخالوا أنهم يتولون تدبير أمورهم في ذلك المكان ولهذا أجاب الذين استكبروا بما يفيد أنهم اليوم سواء في العجز وعدم الحيلة فقالوا: {إِنَّا كُلٌّ فِيهَا} أي لو أغنينا عنكم لأغنينا عن أنفسنا.
وتقديم قولهم: {إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً} على طلب التخفيف عنهم من النار، مقدمة للطلب لقصد توجيهه وتعليله وتذكيرهم بالولاء الذي بينهم في الدنيا، يلهمهم الله هذا القول لافتضاح عجز المستكبرين أن ينفعوا أتباعهم تحقيرا لهم جزاء على تعاظمهم الذي كانوا يتعاظمون به في الدنيا.
ويحتمل أن قول الضعفاء ليس مستعملا في حقيقة الحث على التخفيف عنهم ولكنه مستعمل في التوبيخ، أي كنتم تدعوننا إلى دين الشرك فكانت عاقبة ذلك أن صرنا في هذا العذاب فهل تستطيعون الدفع عنا.
وتأكيدا {إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً} بـ"إنَّ" للاهتمام بالخبر وليس لرد إنكار.
والتبع: اسم لمن يتبع غيره، يستوي فيه الواحد والجمع، وهو مثل خدم وحشم لأن أصله مصدر، فلذلك استوى فيه الواحد والجمع، وقيل التبع: جمع لا يجري على الواحد، فهو إذن من الجموع النادرة.

والاستفهام في قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا} مستعمل في الحث واللوم على خذلانهم وترك الاهتمام بما هم فيه من عذاب.
وجيء بالجملة الاسمية الدالة على الثبات، أي هل من شأنكم أنكم مغنون عنا. و {مُغْنُونَ} اسم فاعل من أغنى غناء بفتح الغين والمد، أي فائدة وإجزاء.
والنصيب: الحظ والحصة من الشيء، قال تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} إلى قوله: {نَصِيباً مَفْرُوضاً} [النساء: 7].
وقد ضمن {مُغْنُونَ} معنى دافعون ورادون، فلذلك عدي إلى مفعول وهو {نَصِيباً} ، أي جزاءا من حر النار غير محدد المقدار من قوتها، و {مِنَ النَّارِ} بيان لـ {نَصِيباً} كقوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [إبراهيم: 21]فهم قانعون بكل ما يخفف عنهم من شدة حر النار وغير طامعين في الخروج منها. ويجوز أن يكون {مُغْنُونَ} على معناه دون تضمين ويكون {نَصِيباً} منصوبا على المفعول المطلق لمغنون والتقدير غناء نصيبا، أي غناء ما ولو قليلا. و {مِنَ النَّارِ} متعلقا بـ {مُغْنُونَ} كقوله تعالى: {وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [يوسف: 67]. ويجوز أن يكون النصيب الجزء من أزمنة العذاب فيكون على حذف مضاف تقديره: من مدة النار.
ولما كان جواب الذين استكبروا للذين استضعفوا جاريا في مجرى المحاورة جرد فعل {قال} من حرف العطف على طريقة المحاورة كما تقدم غير مرة.
ومعنى قولهم: {إِنَّا كُلٌّ فِيهَا} نحن وأنتم مستوون في الكون في النار فكيف تطمعون أن ندفع عنكم شيئا من العذاب. وعلى وجه أن يكون قول الضعفاء: {إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً} إلى آخره توبيخا ولوما لزعمائهم يكون قول الزعماء: {إِنَّا كُلٌّ فِيهَا} اعترافا بالغلط، أي دعوا لومنا وتوبيخنا فقد كفانا أنا معكم في النار. وتأكيد الكلام بـ"إنَّ" للاهتمام بتحقيقه أو لتنزيل من طالبوهم بالغناء عنهم من عذاب النار مع مشاهدتهم أنهم في العذاب مثلهم، منزلة من يحسبهم غير واقعين في النار، وفي هذا التنزيل ضرب من التوبيخ يقولون: ألستم تروننا في النار مثلكم فكيف نغني عنكم. و {كُلٌّ} مرفوع بالابتداء وخبره {فيها} والجملة من المبتدأ وخبره خبر إن وتنوين عوض عن المضاف إليه، إذ التقدير: إنا كلنا في النار.
وجملة {إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} تتنزل منزلة بدل الاشتمال من جملة {إِنَّا كُلٌّ

فِيهَا} فكلتا الجملتين جواب لهم مؤيس من حصول التخفيف عنهم. والمعنى: نحن مستوون في العذاب وهو حكم الله فلا مطمع في التقصي من حكمه فقد جوزي كل فريق بما يستحق.
وما في هذه الجملة الثانية من عموم تعلق فعل الحكم بين العباد ما يجعل هذا البدل بمنزلة التذييل، أي أن الله حكم بين العباد كلهم بجزاء أعمالهم فكان قسطنا من الحكم هذا العذاب. فكلمة {بَيْنَ} هنا مستعملة في معناها الحقيقي وهو المكان المتوسط، أي وقع حكمه وقضاؤه في مجمعهم الذي حضره من حكم عليه ومن حكم له ومن لم يتعرض للحكومة لأنه من أهل الكرامة بالجنة، فليست كلمة "بين" هنا بمنزلة "بين" في قوله تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 48]فإنها في ذلك مستعملة مجازا في التفرقة بين المحق والمبطل.
وفي هذه الآية عبرة لزعماء الأمم وقادتهم أن يحذروا الارتماء بأنفسهم في مهاوي الخسران فيوقعوا المقتدين بهم في تلك المهاوي فإن كان إقدامهم ومغامرتهم بأنفسهم وأممهم على علم بعواقب ذلك كانوا أحرياء بالمذمة والخزي في الدنيا ومضاعفة العذاب في الآخرة، إذ ما كان لهم أن يغروا بأقوام وكلوا أمورهم بقادتهم عن حسن ظن فيهم، أن يخونوا أمانتهم فيهم كما قال تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 13],وإن كان قحمهم أنفسهم في مضائق الزعامة عن جهل بعواقب قصورهم وتقصيرهم فإنهم ملومون على عدم التوثيق من كفاءتهم لتدبير الأمة فيخبطوا بها خبط عشواء حتى يزلوا بها فيهووا بها من شواهق بعيدة فيصيروا رميما، ويلقوا في الآخرة جحيما.
[49ـ50] {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذَابِ قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ}
لما لم يجدوا مساغا للتخفيف من العذاب في جانب كبرائهم، وتنصل كبراؤهم من ذلك أو اعترفوا بغلطهم وتوريطهم قومهم وأنفسهم تمالأ الجميع على محاولة طلب تخفيف العذاب بدعوة من خزنة جهنم، فلذلك أسند القول إلى الذين في النار، أي جميعهم من الضعفاء والذين استكبروا.

وخزنة: جمع خازن، وهو الحافظ لما في المكان من مال أو عروض. و {خَزَنَةِ جَهَنَّمَ} هم الملائكة الموكلون بما تحويه من النار ووقودها والمعذبين فيها وموكلون بتسيير ما تحتوي عليه دار العذاب وأهلها ولذلك يقال لهم: خزنة النار، لأن الخزن لا يتعلق بالنار بل بما يحويها فليس قوله هنا: {جَهَنَّمَ} إظهارا في مقام الإضمار إذ لا يحسن إضافة خزنة إلى النار ولو تقدم لفظ {جَهَنَّمَ} لقال: لخزنتها، كما في قوله في سورة الملك[6ـ8]: {وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ "جَهَنَّمَ" وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} إلى قوله: {سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا} فإن الضمير لـ {جَهَنَّمَ} لا لـ {النَّارِ} .
وفي "الكشاف" أنه من الإظهار في مقام الإضمار للتهويل بلفظ {جَهَنَّمَ} ، والمسلك الذي سلكناه أوضح.
وفي إضافة "رب" إلى ضمير المخاطبين ضرب من الإغراء بالدعاء، أي لأنكم أقرب إلى استجابته لكم. ولما ظنوهم أرجى للاستجابة سألوا التخفيف يوما من أزمنة العذاب وهو أنفع لهم من تخفيف قوة النار الذي سألوه من مستكبريهم.
وجزم {يُخَفِّفْ} بعد الأمر بالدعاء، ولعله بتقدير لام الأمر لكثرة الاستعمال، ومن أهل العربية من يجعله جزما في جواب الطلب لتحقيق التسبب. فيكون فيه إيذان بأن الذين في النار واثقون بأن خزنة جهنم إذا دعوا الله استجاب لهم. وهذا الجزم شائع بعد الأمر بالقول وما في معناه لهذه النكتة وحقه الرفع أو إظهار لام الأمر. وتقدم الكلام عليه عند قوله تعالى: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاة} في سورة إبراهيم[31].
وضمن {يُخَفِّفْ} معنى ينقص فنصب {يَوْماً} ، أو هو على تقدير مضاف، أي عذاب يوم، أي مقدار يوم، وانتصب {يَوْماً} على المفعول به لـ {يُخَفِّفْ} .
واليوم كناية عن القلة، أي يخفف عنا ولو زمنا قليلا. و {مِنَ الْعَذَابِ} بيان لـ {يَوْماً} لأنه أريد به المقدار فاحتاج إلى البيان على نحو التمييز. ويجوز تعلقه بـ {يُخَفِّفْ} .
وجَوابُ خزنة جهنم لهم بطريق الاستفهام التقريري المراد به: إظهار سوء صنيعهم بأنفسهم إذ لم يتبعوا الرسل حتى وقعوا في هذا العذاب، وتنديمهم على ما أضاعوه في حياتهم الدنيا من وسائل النجاة من العقاب. وهو كلام جامع يتضمن التوبيخ، والتنديم، والتحسير، وبيان سبب تجنب الدعاء لهم، وتذكيرهم بأن الرسل كانت تحذرهم من الخلود في العذاب.

والواو في قوله: {أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ} لم يعرج المفسرون على موقعها. وهي واو العطف عطف بها "خزنة جهنم" كلامهم على كلام الذين في النار من قبيل طريقة عطف المتكلم كلاما على كلام صدر من المخاطب إيماء إلى أن حقه أن يكون من بقية كلامه وأن لا يغفله، وهو ما يلقب بعطف التلقين كقوله تعالى: {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [البقرة: 124]فإن أهل النار إذا تذكروا ذلك عملوا وجاهة تنصل خزنة جهنم من الشفاعة لهم، وتفريغ {فادعو} على ذلك ظاهر على كلا التقديرين. وهمزة الاستفهام مقدمة من التأخير على التقديرين، لوجوب صدارتها.
وجملة {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} يجوز أن تكون من كلام خزنة جهنم تذييلا لكلامهم يبين أن قولهم فادعوا مستعمل في التنبيه على الخطأ، أي دعاؤكم لم ينفعكم لأن دعاء الكافرين في ضلال والواو اعتراضية، ويجوز أن تكون من كلام الله تعالى تذييلا واعتراضا.
والبينات: الحجج الواضحة والدعوات الصريحة إلى اتباع الهدى. فلم يسعهم إلا الاعتراف بمجيء السل إليهم بالبينات فقالوا: بلى، فرد عليهم خزنة جهنم بالتنصل من أن يدعوا الله بذلك، إلى إيكال أمرهم إلى أنفسهم بقولهم: {فادعوا} تفريعا على اعترافهم بمجيء الرسل إليهم بالبينات.
ومعنى تفريعه عليه هو أنه مفرع عليه باعتبار معناه الكنائي الذي هو التنصل من أن يدعوا لهم، أي كما توليتم الأعراض عن الرسل استبداد بآرائهم فتولوا اليوم أمر أنفسكم فادعوا أنتم، فإن "من تولى قرها يتولى حرها"، فالأمر في قوله: {فادعوا} مستعمل في الإباحة أو في التسوية، وفيه تنبيه على خطأ السائلين في سؤالهم.
وزيادة فعل الكون في {أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ} للدلالة على أن مجيء الرسل إلى الأمم أمر متقرر محقق، لما يدل عليه فعل الكون من الوجود بمعنى التحقق، وأما الدلالة على أن فعل الإتيان كان في الزمن الماضي فهو مستفاد من "لم"النافية في الماضي.
والضلال: الضياع، وأصله: خطأ الطريق، كما في قوله تعالى: {أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [السجدة: 10].
والمعنى: أن دعاءهم لا ينفعهم ولا يقبل منهم، وسواء كان قوله: {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} من كلام الملائكة أو من كلام الله تعالى فهو مقتض عموم دعائهم

لأن المصدر المضاف من صيغ العموم الذوات يستلزم عموم الأزمنة والأمكنة.
وأما ما يوهم استجابة دعاء الكافرين نحو قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا} [الأنعام: 64,63]وقوله: {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [يونس: 23,22]، فظاهر أن هذه لا تدل على استجابة كرامة ولكنها لتسجيل كفرهم ونكرانهم، وقد يتوهم في بعض الأحوال أن يدعو الكافر فيقطع ما طلبه وإنما ذلك لمصادفة دعائه وقت إجابة دعاء غيره من الصالحين، وكيف يستجاب دعاء الكافر وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم استبعاد استجابة دعاء المؤمن الذي يأكل الحرام ويلبس الحرام في حديث مسلم عن أبي هريرة: "ذكر رسول الله رجلا يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام ومشربه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب له" . ولهذا لم يقل الله: فلما استجاب دعاءهم، وإنما قال: فلما نجاهم، أي لأنه قدر نجاتهم من قبل أن يدعوا أو لأن دعاءهم صادف دعاء بعض المؤمنين.
[51ـ52] {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}
كلام مستأنف وهو استخلاص للعبرة من القصص الماضية مسوق لتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم ووعده بحسن العاقبة، وتسلية المؤمنين ووعدهم بالنصر وحسن العاقبة في الدنيا والآخرة. وذلك أن الكلام من ابتداء السورة كان بذكر مجادلة المشركين في القرآن بقوله تعالى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} [غافر: 4]وأومأ إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بأن شيعهم آيلة إلى خسار بقوله: {فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ} [غافر: 4]، وامتد الكلام في الرد على المجادلين وتمثيل حالهم بحال أمثالهم من الأمم التي آل أمرها إلى خيبة واضمحلال في الدنيا وإلى عذاب دائم في الآخرة ولما استوفى الغرض مقتضاه من إطناب البيان بين الله لرسوله صلى الله عليه وسلم عقبه أنه ينصر رسله والذين آمنوا في الدنيا كما دل عليه قوله في آخر الكلام {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [غافر: 77].
وقد علم من فعل النصر أن هنالك فريقا منصورا عليهم الرسل والمؤمنون في الدنيا

والآخرة,ومن المتعين أنهم الفريق المعاند للرسل وللمؤمنين، فنصر الرسل والمؤمنين عليهم في الدنيا بإظهارهم عليهم وإبادتهم، وفي الآخرة بنعيم الجنة لهم وعذاب النار لأعدائهم.
والتعبير بالمضارع في قوله: {لَنَنْصُرُ} لما فيه من استحضار حالات النصر العجيبة التي وصف بعضها في السورة ووصف بعض آخر في سور أخرى تقدم نزولها، وإلا فإن نصر الرسل الذين سبقوا محمدا صلى الله عليه وسلم قد مضى ونصر محمد صلى الله عليه وسلم مترقب غير حاصل حين نزول الآية.
وتأكيد الخبر بـ"إن" وبجعل المسند فعليا في قوله: {لَنَنْصُرُ} مراعي فيه حال المعرض بهم بأن الله ينصر رسله عليهم وهم المشركون لأنهم كانوا يكذبون بذلك.
وهذا وعد للمؤمنين بأن الله ناصرهم على من ظلمهم في الحياة الدنيا بان يوقع الظالم في سوء عاقبة أو بأن يسلط عليه من ينتقم منه بنحو أو أشد مما ظلم به مؤمنا.
والأشهاد: جمع شاهد. والقيام: الوقوف في الموقف. والأشهاد: الرسل، والملائكة الحفظة والمؤمنون من هذه الأمة، كما أشار إليه قوله: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143]، وذلك اليوم هو يوم الحشر، وشهادة الرسل على الذين كفروا بهم من جملة نصرهم عليهم وكذلك شهادة المؤمنين.
و {يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ} بدل من {يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} وهو منصوب على البدلية من الظرف. والمراد بالظالمين: المشركون. والمعذرة اسم مصدر اعتذر، وتقدم عند قوله تعالى: {قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} في سورة الأعراف[164].
وظاهر إضافة المعذرة إلى ضميرهم أنهم تصدر منهم يومئذ معذرة يعتذرون بها عن الأسباب التي أوجبت لهم العذاب مثل قولهم: {رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا} [الأعراف: 38]وهذا لا ينافي قوله تعالى: {وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 36]الذي هو في انتفاء الاعتذار من أصله لأن ذلك الاعتذار هو الاعتذار المأذون فيه، وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ} في سورة الروم[57].
وقرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي وخلف {لا يَنْفَعُ} بالياء التحتية لأن الفاعل وهو"معذرة" غير حقيقي التأنيث وللفصل بين الفعل وفاعله بالمفعول وقرأ الباقون بالتاء الفوقية على اعتبار التأنيث اللفظي.

{وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ} عطف على الجملة {لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ} أي ويوم لهم اللعنة. واللعنة: البعد والطرد، أي من رحمة الله، {وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} هي جهنم. وتقديم لهم في هاتين الجملتين للاهتمام بالانتقام منهم.
[53ـ54] {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرائيلَ الْكِتَابَ هُدىً وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ}
هذا من أوضح مثل نصر الله ورسوله والذين آمنوا بهم وهو أشبه الأمثال بالنصر الذي قدره الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم فإن نصر موسى على قوم فرعون كون الله به أمة عظيمة لم تكن يؤبه بها وأوتيت شريعة عظيمة وملكا عظيما، وكذلك كان نصر النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين كان أعظم من ذلك وأكمل وأشرف.
فجملة {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى} الخ معترضة بين {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا} [غافر: 51]وبين التفريع عليه في قوله: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [غافر: 55]، وأي نصر أعظم من الخلاص من العبودية والقلة والتبع لأمة أخرى في أحكام تلائم أحوال الأمة التابعة، إلى مصير الأمة مالكة أمر نفسها ذات مثل المسلمين مع النبي صلى الله عليه وسلم وبعده وهو إيماء إلى الوعد بأن القرآن الذي كذب به المشركون باق موروث في الأمة الإسلامية.
والهدى الذي أوتيه موسى هو ما أوحي إليه من المر بالدعوة إلى الدين الحق، أي الرسالة وما أنزل إليه من الشريعة وهي المراد بالكتاب، أي التوراة، وهو الذي أورثه الله بني إسرائيل، أي أخذوه منه في حياته وأبقاه الله لهم بعد وفاته، فإطلاق الإيراث استعارة. وفي ذلك إيذان بأن الكتاب من جملة الهدى الذي أوتيه موسى، قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ} [المائدة: 44]، ففي الكلام إيجاز حذف تقديره: ولقد آتينا موسى الهدى والكتاب وأورثنا بني إسرائيل الكتاب، فإن موسى أتي من الهدى ما لم يرثه بنو إسرائيل وهو الرسالة وأوتي من الهدى ما أورثه بنو إسرائيل وهو الشريعة التي في التوراة.
و {هُدىً} و {ذِكْرَى} حالان من {الْكِتَابَ} أي هدى لبني إسرائيل وذكرى لهم، ففيه علم ما لم يعلمه المتعلمون، وفيه ذكرى لما علمه أهل العلم منهم، وتشمل الذكرى استنباط الأحكام من نصوص الكتاب وهو الذي يختص بالعلماء منهم من أنبيائهم

وقضاتهم وأحبارهم، فيكون {لِأُولِي الْأَلْبَابِ} متعلقا بـ {ذِكْرَى} .
وأولو الألباب: أولو العقول الراجحة القادرة على الاستنباط.
[55] {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْأِبْكَارِ}
تفريع على قوله {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا} [غافر: 51]أي فاعلم أنا ناصروك والذين آمنوا واصبر على ما تلاقيه من قومك ولا تهن.
وجملة {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} تعليل للأمر بالصبر. و {إنَّ} للاهتمام بالخبر وهي في مثل هذا المقام تغني غناء فاء التعليل فكأنه قيل: فوعد الله حق ويفاد بأن التأكيد الذي هو للاهتمام والتحقيق.
ووعد الله هو وعد رسوله بالنصر في الآية السابقة وفي غير ما آية. والمعنى لا تستبطئ النصر فإنه واقع، وذلك ما نصر به النبي صلى الله عليه وسلم في أيامه على المشركين يوم بدر ويوم الفتح ويوم حنين وفي أيام الغزوات الأخرى. وما عرض من الهزيمة يوم أحد كان امتحانا وتنبيها على سوء مغبة عدم الحفاظ على وصية الرسول صلى الله عليه وسلم أن لا يبرحوا من مكانهم ثم كانت العاقبة للمؤمنين.
وعُطف على الأمر بالصبر الأمر بالاستغفار والتسبيح فكانا داخلين في سياق التفريع على الوعد بالنصر رمز إلى تحقيق الوعد لأنه أمر عقبه بما هو من آثار الشكر كناية عن كون نعمة النصر حاصلة لا محالة، وهذه كناية رمزية.
والأمر بالاستغفار أمر بأن يطلب من الله تعالى المغفرة التي اقتضتها النبوءة، أي اسأل الله دوام العصمة لتدوم المغفرة، وهذا مقام التخلية عن الأكدار النفسية، وفيه تعريض بان أمته مطلوبون بذلك بالأحرى كقوله: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65]وأيضا فالنبي صلى الله عليه وسلم مأمور بالاستغفار تعبدا وتأدبا. وأمر بتسبيح الله تعالى وتنزيهه بالعشي والإبكار، أي الأوقات كلها فاقتصر على طرفي أوقات العمل.
والعشي: آخر النهار إلى ابتداء ظلمة الليل، ولذلك سمي طعام الليل عشاء، وسميت الصلاة الأخير بالليل عشاء. والإبكار: اسم لبكرة النهار كالإصباح اسم

للصباح، والبكرة أول النهار، وتقدمت في قوله: {أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} في سورة مريم[11]. وتقدم العشي في قوله: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} في سورة الأنعام[52]. وهذا مقام التحلي بالكمالات النفسية وبذلك يتم الشكر ظاهرا وباطنا. وجعل الأمران معطوفين على الأمر بالصبر لأن الصبر هنا لانتظار النصر الموعود، ولذلك لم يؤمر بالصبر لما حصل النصر في قوله: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر: 1ـ3]فإن ذلك مقام محض الشكر دون الصبر.
وقد أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر كما في أول سورة الفتح، فتعين أن أمره بالاستغفار في سورة غافر قبل أن يخبره بذلك، لطلب دوام المغفرة، وكان أمره به في سورة النصر بعد أن أخبره بغفران ما تقدم من ذنبه وما تأخر، للإرشاد إلى شكر نعمة النصر، وقد قال بعض الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم في شأن عبادته: "إن الله قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر"، فقال: "أفلا أكون عبدا شكوا" . وكان يكثر أن يقول في سجوده: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي". بعد نزول سورة {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} [النصر: 1]قالت عائشة رضي الله عنها: "يتأول القرآن". وبحكم السياق تعلم أن الآية لا علاقة لها بفرض الصلاة ولا بأوقاتها وإنما هي على نحو قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} في سورة النصر[3].
[56] {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}
{إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ}
جرى الكلام من أول السورة إلى هنا في ميدان الرد على مجادلة المشركين في آيات الله ودحض شبههم وتوعدهم على كفرهم وضرب الأمثال لهم بأمثالهم من أهل العناد ابتداء من قوله: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} [غافر: 4]وقوله: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ} [غافر: 21]، كما ذكرت أمثال أضدادهم من أهل الإيمان من حضر منهم ومن غبر من قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآياتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ} [هود: 97,96]ثم قوله: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ

آلِ فِرْعَوْنَ} [غافر: 28]، وخُتم ذلك بوعد النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالنصر كما نصر النبيون من قبله والذين آمنوا بهم، وأمر بالصبر على عناد قومه والتوجه إلى عبادة ربه، فكان ذكر الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان عقب ذلك من باب المثل المشهور الشيء بالشيء يذكر.
وبهذه المناسبة انتقل هنا إلى كشف ما تكنه صدور المجادلين من أسباب جدالهم بغير حق، ليعلم الرسول صلى الله عليه وسلم دخيلتهم فلا يحسب أنهم يكذبونه تنقصا له ولا تجويزا للكذب عليه، ولكن الذي يدفعهم إلى التكذيب هو التكبر عن أن يكونوا تبعا للرسول صلى الله عليه وسلم ووراء الذين سبقوهم بالإيمان ممن كانوا لا يعبأون بهم. وهذا نحو قوله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33].
فقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ} الآية استئناف ابتدائي وهو كالتكرير لجملة {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ} [غافر: 35]تكرير تعداد للتوبيخ عند تنهية غرض الاستدلال كما يوقف الموبخ المرة بعد المرة.
و {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ} هم مشركو أهل مكة وهم المخبر عنهم في قوله أول السورة: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ} [غافر: 4]. ومعنى المجادلة في آيات تقدم هناك.
ويتعلق قوله: {بِغَيْرِ سُلْطَانٍ} بـ {يجادلون} . والباء للمصاحبة، أي مصاحب لهم غير سلطان، أي غير حجة، أي أنهم يجادلون مجادلة عناد وغصب.
وفائدة هذا القيد تشنيع مجادلتهم وإلا فإن المجادلة في آيات الله لا تكون إلا بغير سلطان لأن آيات الله لا تكون مخالفة للواقع فهذا القيد نظير القيد في قوله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} [القصص: 50]، وكذلك وصف {سلطان} بجملة {أتاهم} لزيادة تفظيع مجادلتهم بأنها عرية عن حجة لديهم فهم يجادلون بما ليس لهم به علم، وتقدم نظير أول هذه الآية في أثناء قصة موسى وفرعون في هذه السورة.
و {إنْ} في قوله: {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ} نافية والجار والمجرور خبر مقدم، والاستثناء مفرغ، و {كبر} مبتدأ مؤخر، والجملة كلها خبر عن {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ} . وأطلق الصدور على القلوب مجازا بعلاقة الحلول، والمراد ضمائر أنفسهم، والعرب يطلقون القلب على العقل لأن القلب هو الذي يحس الإنسان بحركته عند الانفعالات النفسية من الفرح وضده والاهتمام بالشيء. والكبر من الانفعالات النفسية، وهو: إدراك الإنسان

خواطر تشعره بأنه أعظم من غيره فلا يرضى بمساواته بله متابعته، وتقدم في تفسير قوله تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ} في سورة البقرة[34].
والمعنى: ما يحملهم على المجادلة في آيات الله إلا الكبر على الذي جاءهم بها وليست مجادلتهم لدليل لاح لهم. وقد أثبت لهم الكبر الباعث على المجادلة بطريق القصر لينفي أن يكون داعيهم إلى المجادلة شيء آخر غير الكبر على وجه مؤكد، فإن القصر تأكيد على تأكيد لما يتضمنه من إثبات الشيء بوجه مخصوص مؤكد، ومن نفي ما عداه فتضمن جملتين.
وجملة {مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} يجوز أن تكون معترضة، ويجوز أن تكون في موضع الصفة لـ {كبر} . وحقيقة البلوغ: الوصول، قال تعالى: {إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} [النحل: 7]ويطلق على نوال الشيء وتحصيله مجازا مرسلا كما في قوله تعالى: {وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ} [سبأ: 45]وهو هنا محمول على المعنى المجازي لا محالة، أي ما هم ببالغي الكبر.
وإذ قد كان الكبر مثبتا حصوله في نفوسهم إثباتا مؤكدا بقوله: {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ} ، تعين إن نفي بلوغهم الكبر منصرف إلى حالت الكبر: فإما أن يراد نفي أهليتهم للكبر إذ هم أقل من أن يكون لهم الكبر كقوله تعالى: {لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8]أي لا عزة حقا لهم، فالمعنى هنا: كبر زيف؛وإما أن يراد نفي نوالهم شيئا من آثار كبرهم مثل تحقير الذين يتكبرون عليهم مثل احتقار المتكبر عليهم ومخالفتهم إياهم فيما يدعونهم إليه فضلا عن الانتظام في سلك اتباعهم، وإذلالهم، وإفحام حجتهم، فالمعنى: ما هم ببالغين مرادهم الذي يأملونه منك في نفوسهم الدالة عليه أقوالهم مثل قولهم: {نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور: 30]وقولهم: {لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26]ونحو ذلك من أقوالهم لكاشفة لآمالهم.
فتنكير {كبر} للتعظيم، أي كبر شديد بتعدد أنواعه، وتمكنه من نفوسهم، فالضمير البارز في {ببالغيه} عائد إلى الكبر على وجه المجاز بعلاقة السببية أو المسببية، والداعي إلى هذا المجاز طلب الإيجاز لأن تعليق نفي البلوغ باسم ذات الكبر يشمل جميع الأحوال التي يثيرها الكبر، وهذا من مقاصد إسناد الأحكام إلى الذوات إن لم تقم قرينة على إرادة حالة مخصوصة، كما في قوله تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ} [الزخرف: 32]أي

جميع أحوال معيشتهم. فشمل قوله: {مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} عدم بلوغهم شيئا مما ينطوي عليه كبرهم، فما بلغوا الفضل على غيرهم حتى يتكبروا، ولا مطمع لهم في حصول آثارهم كبرهم، كما قال تعالى: {لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً} [الفرقان: 21].
وقد نُفي أن يبلغوا مرادهم بصوغه في قالب الجملة الاسمية لإفادتها ثبات مدلولها ودوامة، فالمعنى: أنهم محرومون من بلوغه حرمانا مستمرا، فاشتمل تشويه حالهم إثباتا ونفيا على خصوصيات بلاغية كثيرة.
ومن المفسرين من جعل ما صدق {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ} هنا اليهود، وجعله في معنى قوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 54]، وارتقى بذلك إلى القول بأن هذه الآية مدنية ألحقت بالسورة المكية كما تقدم في مقدمة تفسير السورة، وأيدوا تفسيرهم هذا بآثارهم لو صحت لم تكن فيها دلالة على أكثر من صلوحية الآية لأن تضرب مثلا لكل فريق يجادلون في آيات الله بغير سلطان جدالا يدفعهم إليه الكبر.
{فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}
لما ضمن الله لرسوله صلى الله عليه وسلم إن الذين يجادلونه فيما جاءهم به يحدوهم إلى الجدال كبرهم المنطوي على كيدهم وأنهم لا يبلغون ما أضمروه وما يضمرونه، فرع على ذلك أن أمره بأن يجعل الله معاذه منهم، أي لا يعبأ بما يبيتونه، أي قدم على طلب العوذ بالله. وحذف متعلق "استعذ" لقصد تعميم الاستعاذة من كل ما يخاف منه.
وجملة {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} تعليل للأمر بالدوام على الاستعاذة، أي لأنه المطلع على أقوالهم وأعمالهم وأنت لا تحيط علما بتصاريف مكرهم وكيدهم.
والتوكيد بحرف "إن"، والحصر بضمير الفصل مراعى فيه التعريض بالمتحدث عنهم وهم الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان. والمعنى: أنه هو القادر على إبطال ما يصنعونه لأ أنت فكيف يتم لهم ما أضمروه لك.
[57] {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}
مناسبة اتصال هذا الكلام بما قبله أن أهم ما جادلوا فيه من آيات الله هي الآيات المثبتة للبعث وجدالهم في إثبات البعث هو أكبر شبهة لهم ضللت أنفسهم وروجوها في

عامتهم فقالوا: {أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [الرعد: 5]. فكانوا يسخرون من النبي صلى الله عليه وسلم لأجل ذلك {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} [سبأ: 8,7]، ولما كانوا مقرين بأن الله هو خالق السماوات والأرض أقيمت عليهم الحجة على إثبات البعث بأن بعث الأموات لا يبلغ أمره خلق السماوات والأرض بالنسبة إلى قدرة الله تعالى. والكلام مؤذن بقسم مقدر لأن اللام لام جواب القسم، والمقصود: تأكيد الخبر.
ومعنى {أكبر} أنه أعظم وأهم وأكثر متعلقات قدرة بالقادر عليه لا يعجز عن خلق ناس يبعثهم للحساب.
فالمراد بالناس في قوله: {مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} الذين يعيد الله خلقتهم كما بدأهم أول مرة ويودع فيهم أرواحهم كما أودعها فيهم أول مرة. والخبر مستعمل في غير معناه لأن كون خلقها أكبر هو أمر معلوم وإنما أريد التذكير والتنبيه عليه لعدم جريهم على موجب علمهم به.
وموقع الاستدراك في قوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} ما اقتضاه التوكيد بالقسم من اتضاح أن خلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس.
فالمعنى: أن حجة إمكان البعث واضحة ولكن الذين ينكرونها لا يعلمون، أي لا يعلمون الدليل لأنهم متلاهون عن النظر في الأدلة مقتنعون ببادئ الخواطر التي تبدو لهم فيتخذونها عقيدة دون بحث عن معارضها، فلما جروا على حالة انتقاء العلم نزلوا منزلة من لا علم لهم فلذلك نزل فعل {يَعْلَمُونَ} منزلة اللازم ولم يذكر له مفعول.
فالمراد بـ {أَكْثَرَ النَّاسِ} هم الذين يجادلون في آيات البعث وهم المشركون، وأما الذين علموا ذلك فهم المؤمنون وهم أقل منهم عددا. وإظهار لفظ {النَّاسِ} في قوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} مع أن مقتضى الظاهر الإضمار، لتكون الجملة مستقلة بالدلالة فتصلح لأن تسير مسير الأمثال، فالمعنى أنهم أنكروا البعث لاستبعادهم خلق الأجسام مع أن في خلق السماوات ولأرض ما لا يبقى معه استبعاد مثل ذلك.
[58] {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً مَا تَتَذَكَّرُونَ}

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68