كتاب : التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور
المؤلف : محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي

روايات غير صحيحة، والأظهر أن نزع اللباس تمثيل لحال التسبب في ظهور السوءة.
وكرر التنويه باللباس تمكينا للتمهيد لقوله تعالى بعده: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [لأعراف: 31].
وإسناد الإخراج والنزع والإراءة إلى الشيطان مجاز عقلي، مبني على التسامح في الإسناد بتنزيل السبب منزلة الفاعل، سواء اعتبر النزع حقيقة أم تمثيلا، فإن أطراف الإسناد المجازي العقلي تكون حقائق، وتكون مجازات، وتكون مختلفة، كما تقرر في علم المعاني.
واللام في قوله: {لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا} لام التعليل الادعائي، تبعا للمجاز العقلي، لأنه لما أسند الإخراج والنزع والإرادة إليه على وجه المجاز العقلي، فجعل كأنه فاعل الإخراج ونزع لباسهما وإراءتهما سوآتهما، ناسب أن يجعل له غرض من تلك الأفعال المضرة، وكونه قاصدا من ذلك الشناعة والفظاعة، كشأن الفاعلين أن تكون لهم علل غائبة من أفعالهم إتماما للكيد، وإنما الشيطان في الواقع سبب لرؤيتهما سوآتهما، فانتظم الإسناد الادعائي مع التعليل الادعائي، فكانت لام العلة تقوية للإسناد المجازي، وترشيحا له، ولأجل هذه النكتة لم نجعل اللام هنا للعاقبة كما جعلناها في قوله: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا} [لأعراف: 20] إذ لم تقارن اللام هنالك إسنادا مجازيا.
وفي الآية إشارة إلى أن الشيطان يهتم بكشف سوأة ابن آدم لأنه يسره أن سراه في حالة سوء وفظاعة.
وجملة: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ} واقعة موقع التعليل للنهي عن الافتتان بفتنة الشيطان، والتحذير من كيده، لأن شأن الحذر أن يرصد الشيء المخوف بنظره ليحترس منه إذا رأى بوادره، فأخبر الله الناس بأن الشياطين ترى البشر، وأن البشر لا يرونها، إظهارا للتفاوت بين جانب كيدهم وجانب حذر الناس منهم، فإن جانب كيدهم قوي متمكن وجانب حذر الناس منهم ضعيف، لأنهم يأتون المكيد من حيث لا يدري.
فليس المقصود من قوله: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} تعليم حقيقة من حقائق الأجسام الخفية عن الحواس وهي المسماة بالمجردات في اصطلاح الحكماء ويسميها علماؤنا الأرواح السفلية إذ ليس من أغراض القرآن التصدي لتعليم مثل هذا إلا ما

له أثر في التزكية النفسية والموعظة.
والضمير الذي اتصلت به "إن" عائد إلى الشيطان، وعطف: {وَقَبِيلُهُ} على الضمير المستتر في قوله: {يَرَاكُمْ} ولذلك فصل بالضمير المنفصل. وذكر القبيل، وهو بمعنى القبيلة، للدلالة على أن له أنصارا ينصرونه على حين غفلة من الناس، وفي هذا المعنى تقريب حال عداوة الشياطين بما يعهده العرب من شدة أخذ العدو عدوه على غرة من المأخوذ، تقول العرب: أتاهم العدو وهم غارون.
وتأكيد الخبر بحرف التوكيد لتنزيل المخاطبين في إعراضهم عن الحذر من الشيطان وفتنته منزلة من يترددون في أن الشيطان يراهم وفي أنهم لا يرونه.
و {مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} ابتداء مكان مبهم تنتفي فيه رؤية البشر، أي من كل مكان لا ترونهم فيه، فيفيد: إنه يراكم وقبيله وأنتم لا ترونه قريبا كانوا أو بعيدا، فكانت الشياطين محجوبين عن أبصار البشر، فكان ذلك هو المعتاد من الجنسين، فرؤية ذوات الشياطين منتفية لا محالة، وقد يخول الله رؤية الشياطين أو الجن متشكلة في أشكال الجسمانيات، معجزة للأنبياء كما ورد في الصحيح: إن عفريتا من الجن تفلت علي الليلة في صلاتي فهممت أن أوثقه في سارية من المسجد الحديث، أو كرامة للصالحين من الأمم كما في حديث الذي جاء يسرق من زكاة الفطر عند أبي هريرة، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة: ذلك شيطان كما في الصحيحين، ولا يكون ذلك إلا على تشكل الشيطان أو الجن في صورة غير صورته الحقيقية، بتسخير الله لتتمكن منه الرؤية البشرية، فالمرئي في الحقيقة الشكل الذي ماهية الشيطان من ورائه، وذلك بمنزلة رؤية مكان يعلم أن فيه شيطانا، وطريق العلم بذلك هو الخبر الصادق، فلولا الخبر لما علم ذلك.
وجملة: {إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} مستأنفة استئنافا ابتدائيا قصد منه الانتقال إلى أحوال المشركين في أئتمارهم بأمر الشيطان، تحذيرا للمؤمنين من الانتظام في سلكهم، وتنفيرا من أحوالهم، والمناسبة هي التحذير وليس لهذه الجملة تعلق بجملة: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ} .
وتأكيد الخبر بحرف التأكيد للاهتمام بالخبر بالنسبة لمن يسمعه من المؤمنين.
والجعل هنا جعل التكوين، كما يعلم من قوله تعالى: {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [البقرة: 34] بمعنى خلقنا الشياطين.

و {أَوْلِيَاءَ} حال من {الشَّيَاطِينَ} وهي حال مقدرة أي خلقناهم مقدرة ولايتهم للذين لا يؤمنون، وذلك أن الله جبل أنواع المخلوقات وأجناسها على طبائع لا تنتقل عنها، ولا تقدر على التصرف بتغييرها: كالافتراس في الأسد، واللسع في العقرب، وخلق الإنسان العقل والفكر فجعله قادرا على اكتساب ما يختار، ولما كان من جبلة الشياطين حب ما هو فساد، وكان من قدرة الإنسان وكسبه أنه قد يتطلب الأمر العائد بالفساد، إذا كان له فيه عاجل شهوة أو كان يشبه الأشياء الصالحة في بادئ النظرة الحمقاء، كان الإنسان في هذه الحالة موافقا لطبع الشياطين، ومؤتمرا بما تسوله إليه، ثم يغلب كسب الفساد والشر على الذين توغلوا فيه وتدرجوا إليه، حتى صار المالك لإراداتهم، وتلك مرتبة المشركين، وتتفاوت مراتب هذه الولاية، فلا جرم نشأت بينهم وبين الشياطين ولاية ووفاق لتقارب الدواعي، فبذلك انقلبت العداوة التي في الجبلة التي أثبتها قوله: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} [الأعراف: 22] وقوله: {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} فصارت ولاية ومحبة عند بلوغ ابن آدم آخر دركات الفساد، وهو الشرك وما فيه، فصار هذا جعلا جديدا ناسخا للجعل الذي في قوله: {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} كما تقدمت الإشارة إليه هنالك، فما في هذه الآية مقيد للإطلاق الذي في الآية الأخرى تنبيها على أن من حق المؤمن أن لا يوالي الشيطان.
والمراد بالذين لا يؤمنون المشركون، لأنهم المضادون للمؤمنين في مكة، وستجيء زيادة بيان لهذه الآية عند قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} في هذه السورة [35].
[28] {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} .
{وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} معطوف على {لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:27]، فهو من جملة الصلة، وفيه إدماج لكشف باطلهم في تعللاتهم ومعاذيرهم الفاسدة، أي للذين لا يقبلون الإيمان ويفعلون الفواحش ويعتذرون عن فعلها بأنهم اتبعوا آباءهم وأن الله أمرهم بذلك، وهذا خاص بأحوال المشركين المكذبين، بقرينة قوله: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} والمقصود من جملتي الصلة: تفظيع حال دينهم بأنه ارتكاب فواحش، وتفظيع حال استدلالهم لها بما لا ينتهض عند أهل العقول. وجاء الشرط بحرف {إِذَ} الذي من شأنه إفادة اليقين بوقوع الشرط ليشير إلى أن هذا حاصل منهم لا محالة.

والفاحشة في الأصل صفة لموصوف محذوف أي: فعلى فاحشة ثم نزل الوصف منزلة الاسم لكثرة دورانه، فصارت الفاحشة اسما للعمل الذميم، وهي مشتقة من الفحش بضم الفاء وهو الكثرة والقوة في الشيء المذموم والمكروه، وغلبت الفاحشة في الأفعال الشديدة القبح وهي التي تنفر منها الفطرة السليمة، أو ينشأ عنها ضر وفساد بحيث يأباها أهل العقول الراجحة، وينكرها أولو الأحلام، ويستحيي فاعلها من الناس، ويتستر من فعلها مثل البغاء والزنى والوأد والسرقة، ثم تنهى عنها الشرائع الحقة، فالفعل يوصف بأنه فاحشة قبل ورود الشرع، كأفعال أهل الجاهلية، مثل السجود للتماثيل والحجارة وطلب الشفاعة منها وهي جماد، ومثل العراء في الحج، وترك تسمية الله على الذبائح، وهي من خلق الله وتسخيره، والبغاء، واستحلال أموال اليتامى والضعفاء، وحرمان الأقارب من الميراث، واستشارة الأزلام في الإقدام على العمل أو تركه، وقتل غير القاتل لأنه من قبيلة القاتل، وتحريمهم على أنفسهم كثيرا من الطيبات التي أحلها الله وتحليلهم الخبائث مثل الميتة والدم. وقد روي عن ابن عباس أن المراد بالفاحشة في الآية التعري في الحج، وإنما محمل كلامه على أن التعري في الحج من أول ما أريد بالفاحشة لا قصرها عليه فكأن أئمة الشرك قد أعدوا لأتباعهم معاذير عن تلك الأعمال ولقنوها إياهم، وجماعها أن ينسبوها إلى آبائهم السالفين الذين هم قدوة لخلفهم، واعتقدوا أن آباءهم أعلم بما في طي تلك الأعمال من مصالح لو اطلع عليها المنكرون لعرفوا ما أنكروا، ثم عطفوا على ذلك أن الله أمر بذلك يعنون أن آباءهم ما رسموها من تلقاء أنفسهم، ولكنهم رسموها بأمر من الله تعالى، ففهم منه أنهم اعتذروا لأنفسهم واعتذروا لآبائهم، فمعنى قولهم: {وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} ليس ادعاء بلوغ أمر من الله إليهم ولكنهم أرادوا أن الله أمر آباءهم الذين رسموا تلك الرسوم وسنوها فكان أمر الله آباءهم أمرا لهم، لأنه أراد بقاء ذلك في ذرياتهم، فهذا معنى استدلالهم، وقد أجمله إيجاز القرآن اعتمادا على فطنة المخاطبين.
وأسند الفعل والقول إلى ضمير الذين لا يؤمنون في قوله: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا} : على معنى الإسناد إلى ضمير المجموع، وقد يكون القائل غير الفاعل، والفاعل غير قائل، اعتداد بأنهم لما صدق بعضهم بعضا في ذلك فكأنهم فعلوه كلهم، واعتذروا عنه كلهم.
وأفاد الشرط ربطا بين فعلهم الفاحشة وقولهم: {وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا} باعتبار إيجاز في الكلام يدل عليه السياق، إذ المفهوم أنهم إذا فعلوا فاحشة فأنكرت عليهم أو نهوا عنها

قالوا وجدنا عليها آباءنا، وليس المراد بالإنكار والنهي خصوص نهي الإسلام إياهم عن ضلالهم، ولكن المراد نهي أي ناه وإنكار أي منكر، فقد كان ينكر عليهم الفواحش من لا يوافقونهم عليها من القبائل، فإن دين المشركين كان أشتاتا مختلفا، وكان ينكر عليهم ذلك من خلعوا الشرك من العرب مثل زيد بن عمرو بن نفيل، وأمية ابن أبي الصلت، وقد قال لهم زيد بن عمرو: إن الله خلق الشاة وأنزل لها الماء من السماء وأنبت لها العشب ثم أنتم تذبحونها لغيره وكان ينكر عليهم من يتحرج من أفعالهم ثم لا يسعه لا يسعه إلا اتباعهم فيها إكراها.
وكان ينكر عليهم من لا توافق أعمالهم هواه: كما وقع لامرئ القيس، حيث عزم على قتال بني أسد بعد قتلهم أباه حجرا، فقصد ذا الخلصة صنم خثعم واستقسم عنده بالأزلام فخرج له الناهي فكسر الأزلام وقال:
لو كنت يا ذا الخلص الموتورا ... مثلي وكان شيخك المقبورا
لم تنه عن قتل العداة زورا
ثم جاء الإسلام فنعى عليهم أعمالهم الفاسدة وأسمعهم قوارع القرآن فحينئذ تصدوا للاعتذار. وقد علم من السياق تشنيع معذرتهم وفساد حجتهم.
ودلت الآية على إنكار ما كان مماثلا لهذا الاستدلال وهو كل دليل توكأ على اتباع الآباء في الأمور الظاهر فسادها وفحشها، وكل دليل استند إلى ما لا قبل للمستدل بعلمه، فإن قولهم: {وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} دعوى باطلة إذ لم يبلغهم أمر الله بذلك بواسطة مبلغ، فإنهم كانوا ينكرون النبوءة، فمن أين لهم تلقي مراد الله تعالى.
وقد رد الله ذلك عليهم بقوله لرسوله: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} فأعرض عن رد قولهم: {وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا} لأنه إن كان يراد رده من جهة التكذيب فهم غير كاذبين في قولهم، لأن آباءهم كانوا يأتون تلك الفواحش، وإن كان يراد رده من جهة عدم صلاحيته للحجة فإن ذلك ظاهر، لأن الإنكار والنهي ظاهر انتقالهما إلى آبائهم، إذ ما جاز على المثل يجوز على المماثل، فصار رد هذه المقدمة من دليلهم بديهيا وكان أهم منه رد المقدمة الكبرى، وهي مناط الاستدلال، أعني قولهم: {وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} .
فقوله: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} نقض لدعواهم أن الله أمرهم بها أي بتك الفواحش، وهو رد عليهم، وتعليم لهم، وإفاقة لهم من غرورهم، لأن الله متصف بالكمال

فلا يأمر بما هو نقص لم يرضه العقلاء وأنكروه، فكون الفعل فاحشة كاف في الدلالة على أن الله لا يأمر به لأن الله له الكمال الأعلى، وما كان اعتذارهم بأن الله أمر بذلك إلا عن جهل، ولذلك وبخهم الله بالاستفهام التوبيخي بقوله: {أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} أي ما لا تعلمون أن الله أمر به، فحذف المفعول لدلالة ما تقدم عليه، لأنهم لم يعلموا أن الله أمرهم بذلك إذ لا مستند لهم فيه، وإنما قالوه عن مجرد التوهم، ولأنهم لم يعلموا أن الله لا يليق بجلالة وكماله أن يأمر بمثل تلك الرذائل.
وضمن: {أَتَقُولُونَ} معنى تكذبون أو معنى تتقولون، فلذلك عدي بعلى، وكأن حقه أن يعدى بعن لو كان قولا صحيح النسبة، وإذ كان التوبيخ واردا على أن يقولوا على الله ما لا يعلمون كان القول على الله بما يتحقق عدم وروده من الله أحرى.
وبهذا الرد تمحض عملهم تلك الفواحش للضلال والغرور واتباع وحي الشياطين إلى أوليائهم أئمة الكفر، وفادة الشرك: مثل عمرو بن لحي، الذي وضع عبادة الأصنام، ومثل أبي كبشة، الذي سن عبادة الشعري من الكواكب، ومثل ظالم بن أسعد، الذي وضع عبادة العزى، ومثل القلمس، الذي سن النسيء. إلى ما اتصل بذلك من موضوعات سدنة الأصنام وبيوت الشرك.
واعلم أن ليس في الآية مستند لإبطال التقليد في الأمور الفرعية أو الأصول الدينية لأن التقليد الذي نعاه الله على المشركين وهو تقليدهم من ليسوا أهلا لأن يقلدوا، لأنهم لا يرتفعون عن رتبة مقلديهم، إلا بأنهم أقدم جيلا، وأنهم آباؤهم، فإن المشركين لم يعتذروا بأنهم وجدوا عليه الصالحين وهداة الأمة، ولا بأنه مما كان عليه إبراهيم وأبناؤه، ولأن التقليد الذي نعاه الله عليهم تقليد أعمال بديهية الفساد، والتقليد في الفساد يستوي، هو وتسنينه، في الذم، على أن تسنين الفساد أشد مذمة من التقليد فيه كما أنبأ عنه الحديث الصحيح: ما من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها ذلك لأنه أول من سن القتل وحديث من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة.
فما فرضه الذين ينزعون إلى علم الكلام من المفسرين في هذه الآية من القول في دم التقليد ناظر إلى اعتبار الإشراك داخلا في فعل الفواحش.
[30,29] {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ

مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ}.
بعد أن أبطل زعمهم أن الله أمرهم بما يفعلونه من الفواحش إبطالا عاما بقوله: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} [الأعراف: 28] استأنف استئنافا استطراديا بما فيه جماع مقومات الدين الحق الذي يجمعه معنى القسط أي العدل تعليما لهم بنقيض جهلهم، وتنويها بجلال الله تعالى، بأن يعلموا ما شانه أن يأمر الله به. ولأهمية هذا الغرض، ولمضادته لمدعاهم المنفي في جملة: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} [الأعراف: 28] فصلت هذه الجملة عن التي قبلها، ولم يعطف القول على القول ولا المقول على المقول: لأن في إعادة فعل القول وفي ترك عطفه على نظيره لفتا للأذهان إليه.
والقسط: العدل وهو هنا العدل بمعناه الأعم، أي الفعل الذي هو وسط بين الإفراط والتفريط في الأشياء، وهو الفضيلة من كل فعل، فالله أمر بالفضائل وبما تشهد العقول السليمة أنه صلاح محض وأنه حسن مستقيم، نظير وقوله: {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} [الفرقان: 67] فالتوحيد عدل بين الإشراك والتعطيل، والقصاص من القاتل عدل بين إطلال الدماء وبين قتل الجماعة من قبيلة القاتل لأجل جناية واحد من القبيلة لم يقدر عليه. وأمر الله بالإحسان، وهو عدل بين الشح والإسراف، فالقسط صفة للفعل في ذاته بأن يكون ملائما للصلاح عاجلا وآجلا، أي سالما من عواقب الفساد، وقد نقل عن ابن عباس أن القسط قول لا إله إلا هو، وإنما يعني بذلك أن التوحيد من أعظم القسط، وهذا إبطال للفواحش التي زعموا أن الله أمرهم بها لأن شيئا من تلك الفواحش ليس بقسط، وكذلك اللباس فإن التعري تفريط، والمبالغة في وضع اللباس إفراط، والعدل هو اللباس الذي يستر العورة ويدفع أذى القر أو الحر، وكذلك الطعام فتحريم بعضه غلو، والاسترسال فيه نهامة، والوسط هو الاعتدال، فقوله: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} كلام جامع لإبطال كل ما يزعمون أن الله أمرهم به مما ليس من قبيل القسط.
ثم أعقبه بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم عن الله: {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} فجملة: {وَأَقِيمُوا} عطف على جملة: {أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} أي قل لأولئك المخاطبين أقيموا وجوهكم. والقصد الأول منه إبطال بعض مما زعموا أن الله أمرهم به بطريق أمرهم بضد ما زعموه ليحصل أمرهم بما يرضي الله بالتصريح، وإبطال شيء زعموا أن الله أمرهم به بالالتزام، لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده، وإن شئت قلت لأن من يريد النهي عن

شيء وفعل ضده يأمر بضده فيحصل الغرضان من أمره.
وإقامة الوجوه تمثيل لكمال الإقبال على عبادة الله تعالى، في مواضع عبادته، بحال المتهيئ لمشاهدة أمر مهم حين يوجه وجهه إلى صوبه، لا يلتفت يمنة ولا يسرة، فلذلك التوجه المحض يطلق عليه إقامة لأنه جعل الوجه قائما، أي غير متغاض ولا متوان في التوجه، وهو في إطلاق القيام على القوة في الفعل كما يقال: قامت السوق، وقامت الصلاة، وقد تقدم في أول سورة البقرة[3] عند قوله: {وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ} ومنه قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً} [الروم: 30] فالمعنى أن الله أمر بإقامة الوجوه عند المساجد، لأن ذلك هو تعظيم المعبود ومكان العبادة. ولم يأمر بتعظيمه ولا تعظيم مساجده بما سوى ذلك مثل التعري، وإشراك الله بغيره في العبادة مناف لها أيضا، وهذا كما ورد في الحديث: " المصلي يناجي ربه فلا يبصقن قبل وجهه" فالنهي عن التعري مقصود هنا لشمول اللفظ إياه، ولدلالة السياق عليه بتكرير الامتنان والأمر باللباس: ابتداء من قوله: {لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا} [الأعراف: 20] إلى هنا.
ومعنى: {عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} عند كل مكان متخذ لعبادة الله تعالى، واسم المسجد منقول في الإسلام للمكان المعين المحدود المتخذ للصلاة وتقدم عند قوله تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ} في سورة العقود [2]، فالشعائر التي يوقعون فيها أعمالا من الحج كلها مساجد، ولم يكن لهم مساجد غير شعائر الحج، فذكر المساجد في الآية يعين أن المراد إقامة الوجوه عند التوجه إلى الله في الحج بأن لا يشركوا مع الله في ذلك غيره من أصنامهم بالنية، كما كانوا وضعوا هبل على سطح الكعبة ليكون الطواف بالكعبة لله ولهبل، ووضعوا اسافا ونائلة على الصفا والمروة ليكون السعي لله ولهما. وكان فريق منهم يهلون إلى مناة عند المشلل، فالأمر بإقامة الوجوه عند المساجد كلها أمر بالتزام التوحيد وكمال الحال في شعائر الحج كلها، فهذه مناسبة عطف قوله: {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} عقب إنكار أن يأمر الله بالفحشاء من أحوالهم، وإثبات أنه أمر بالقسط مما يضادها. وهذا الأمر وإن كان المقصود به المشركين لأنهم المتصفون بضده، فالمؤمنين منه حظ الدوام عليه، كما كان للمشركين حظ الإعراض عنه والتفريط فيه.
والدعاء في قوله {وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} بمعنى العبادة أي اعبدوه كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [لأعراف: 194]. والإخلاص تمحيض الشيء من مخالطة

غيره. والدين بمعنى الطاعة من قولهم دنت لفلان أي أطعته.
ومنه سمي الله تعالى: الديان، أي القهار المذلل المطوع لسائر الموجودات ونظير هذه الآية قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5]، والمقصد منها إبطال الشرك في عبادة الله تعالى، وفي إبطاله تحقيق لمعنى القسط الذي في قوله: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} كما قدمناه هنالك، و {مُخْلِصِينَ} حال من الضمير في ادعوه.
وجملة: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} في موضع الحال من الضمير المستتر في قوله {مُخْلِصِينَ} وهب حال مقدرة أي: مقدرين عودكم إليه وأن عودكم كبدئكم، وهذا إنذار بأنهم مؤاخذون على عدم الإخلاص في العبادة، فالمقصود منه هو قوله: {تَعُودُونَ} أي إليه، وأدمج فيه قوله {كَمَا بَدَأَكُمْ} تذكيرا بإمكان البعث الذي أحالوه؛ فكان هذا إنذار لهم بأنهم عائدون إليه فمجازون عن إشراكهم في عبادته، وهو أيضا احتجاج عليهم على عدم جدوى عبادتهم غير الله، وإثبات للبعث الذي أنكروه بدفع موجب استبعادهم إياه، حين يقولون: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [الواقعة: 47] ويقولون {أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَخِرَةً} [النازعات: 10, 11] ونحو ذلك، بأن ذلك الخلق ليس بأعجب من خلقهم الأول كما قال تعالى: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [قّ:15] وكما قال: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27} أي بنقيض تقدير استبعادهم الخلق الثاني، وتذكير لهم بأن الله منفرد بخلقهم الثاني، كما انفرد بخلقهم الأول، فهو منفرد بالجزاء فلا يغني عنهم آلهتهم شيئا.
فالكاف في قوله: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} لتشبيه عود خلقهم ببدئه و "ما" مصدرية والتقدير: تعودون عودا جديدا كبدئه إياكم، فقدم المتعلق، الدال على التشبيه، على فعله، وهو تعودون، للاهتمام به، وقد فسرت الآية في بعض الأقوال بمعان هي بعيدة عن سياقها ونظمها.
و {فَرِيقاً} الأول والثاني منصوبان على الحال: إما من الضمير المرفوع في {تَعُودُونَ} أي ترجعون إلى الله فريقين، فاكتفي عن إجمال الفريقين ثم تفصيلهما بالتفصيل الدال على الإجمال تعجيلا بذكر التفصيل لأن المقام مقام ترغيب وترهيب، ومعنى {فَرِيقاً هَدَى} : أن فريقا هداهم الله في الدنيا وفريقا حق عليهم الضلالة، أي في الدنيا، كما دل عليه التعليل بقوله: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} ، وإما من الضمير المستتر في قوله: {مُخْلِصِينَ} أي ادعوه مخلصين حال كونكم فريقين: فريقا هداه

الله للإخلاص ونبذ الشرك، وفريقا دام على الضلال ولازم الشرك.
وجملة: {هدى} في موضع الصفة لفريقا الأول، وقد حذف الرابط المنصوب: أي هداهم الله، وجملة: {حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} صفة {فَرِيقاً} الثاني.
وهذا كله إنذار من الوقوع في الضلال، وتحذير من اتباع الشيطان، وتحريض على توخي الاهتداء الذي هو من الله تعالى، كما دل عليه إسناده إلى ضمير الجلالة في قوله: {هَدَى} فيعلم السامعون أنهم إذا رجعوا إليه فريقين كان الفريق المفلح هو الفريق الذين هداهم الله تعالى كما قال: {أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22] وأن الفريق الخاسر هم الذين حقت عليهم الضلالة واتخذوا الشياطين أولياء من دون الله كما قال: {أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة: 19]. وتقديم {فَرِيقاً} الأول والثاني على عامليهما للاهتمام بالتفصيل.
ومعنى: {حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} ثبتت لهم الضلالة ولزموها. ولم يقلعوا عنها، وذلك أن المخاطبين كانوا مشركين كلهم، فلما أمروا بأن يعبدوا الله مخلصين افترقوا فريقين: فريقا هداه الله إلى التوحيد، وفريقا لازم الشرك والضلالة، فلم يطرأ عليهم حال جديد. وبذلك يظهر حسن موقع لفظ: {حَقَّ} هنا دون أن يقال أضله الله، لأن ضلالهم قديم مستمر اكتسبوه لأنفسهم، كما قال تعالى في نظيره: {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} [النحل: 36] ثم قال {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} [النحل: 37]، فليس تغيير الأسلوب بين: {وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} تحاشيا عن إسناد الإضلال إلى الله، كما توهمه صاحب الكشاف، لأنه قد أسند الإضلال إلى الله في نظير هذه الآية كما علمت وفي آيات كثيرة، ولكن اختلاف الأسلوب لاختلاف الأحوال.
وجرد فعل حق عن علامة التأنيث لأن فاعله غير حقيقي التأنيث، وقد أظهرت علامة التأنيث في نظيره في قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} [النحل: 36].
وقوله: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} استئناف مراد به التعليل لجملة {حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} [النحل: 36]، وهذا شأن إن إذا وقعت في صدر جملة عقب جملة أخرى أن تكون للربط والتعليل وتغني غناء الفاء، كما تقدم غير مرة.
والمعنى أن هذا الفريق، الذي حقت عليهم الضلالة، لما سمعوا الدعوة إلى التوحيد

والإسلام، لم يطلبوا النجاة ولم يتفكروا في ضلال الشرك البين، ولكنهم استوحوا شياطينهم، وطابت نفوسهم بوسوستهم، وائتمروا بأمرهم، واتخذوهم أولياء، فلا جرم أن يدوموا على ضلالهم لأجل اتخاذهم الشياطين أولياء من دون الله.
وعطف جملة: {وَيَحْسَبُونَ} على جملة: {اتَّخَذُوا} فكان ضلالهم ضلالا مركبا، إذ هم قد ضلوا في الائتمار بأمر أئمة الكفر وأولياء الشياطين، ولما سمعوا داعي الهدى لم يتفكروا، وأهملوا النظر، لأنهم يحسبون أنهم مهتدون لا يتطرق إليهم شك في أنهم مهتدون، فلذلك لم تخطر ببالهم الحاجة إلى النظر في صدق الرسول صلى الله عليه وسلم. والحسبان الظن، وهو هنا ظن مجرد عن دليل، وذلك أغلب ما يراد بالظن وما يرادفه في القرآن.
وعطف هذه الجملة على التي قبلها، واعتبارهما سواء في الإخبار عن الفريق الذين حقت عليهم الضلالة، لقصد الدلالة على أن ضلالهم حاصل في كل واحد من الخبرين، فولاية الشياطين ضلالة، وحسبانهم ضلالهم هدى ضلالة أيضا، سواء كان ذلك كله عن خطأ أو عن عناد، إذ لا عذر للضال في ظلاله بالخطأ، لأن الله نصب الأدلة على الحق وعلى التمييز بين الحق والباطل.
[31] {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}.
إعادة النداء في صدر هذه الجملة للاهتمام، وتعريف المنادى بطريق الإضافة بوصف كونهم بني آدم متابعة للخطاب المتقدم في قوله {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً} [لأعراف: 26].
وهذه الجملة تتنزل، من التي بعدها، وهي قوله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ} منزلة النتيجة من الجدل، فقدمت على الجدل فصارت غرضا بمنزلة دعوى وجعل الجدل حجة على الدعوى، وذلك طريق من طرق الإنشاء في ترتيب المعاني ونتائجها.
فالمقصد من قوله: {خُذُوا زِينَتَكُمْ} إبطال ما زعمه المشركون من لزوم التعري في الحج في أحوال خاصة، وعند مساجد معينة، فقد أخرج مسلم عن ابن عباس، قال: كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة وتقول من يعيرني تطوافا تجعله على فرجها وتقول:
اليوم يبدو بعضه أو كله ... وما بدا منه فلا أحله

وأخرج مسلم عن عروة بن الزبير، قال: كانت العرب تطوف بالبيت عراة إلا الحمس. والحمس قريش وما ولدت فكان غيرهم يطوفون عراة إلا أن يعطيهم الحمس ثيابا فيعطي الرجال الرجال والنساء النساء. وعنه: أنهم كانوا إذا وصلوا إلى منى طرحوا ثيابهم وأتوا المسجد عراة. وروي أن الحمس كانوا يقولون نحن أهل الحرم فلا ينبغي لأحد من العرب أن يطوف إلا في ثيابنا ولا يأكل إذا دخل أرضنا إلا من طعامنا. فمن لم يكن له من العرب صديق بمكة يعيره ثوبا ولا يجد ما يستأجر به كان بين أحد أمرين إما أن يطوف بالبيت عريانا وإما أن يطوف في ثيابه فإذا فرغ من طوافه ألقى ثوبه عنه فلم يمسه أحد وكان ذلك الثوب يسمى: اللقى بفتح اللام قال شاعرهم:
كفى حزنا كري عليه كأنه ... لقى بين أيدي الطائفين حرام
وفي الكشاف، عن طاووس: كان أحدهم يطوف عريانا ويدع ثيابه وراء المسجد وإن طاف وهي عليه ضرب وانتزعت منه لأنهم قالوا لا نعبد الله في ثياب أذنبنا فيها، وقد أبطله النبي صلى الله عليه وسلم إذ أمر أبا بكر رضي الله عنه، عام حجته سنة تسع، أن ينادي في الموسم: "أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان".
وعن السدي وابن عباس كان أهل الجاهلية التزموا تحريم اللم والودك في أيام الموسم، ولا يأكلون من الطعام إلا قوتا، ولا يأكلون دسما، ونسب في الكشاف ذلك إلى بني عامر، وكان الحمس يقولون: لا ينبغي لأحد إذا دخل أرضنا أن يأكل إلا من طعامنا، وفي تفسير الطبري عن جابر بن زيد كانوا إذا حجوا حرموا الشاة ولبنها وسمنها. وفيه، عن قتادة: أن الآية أرادت ما حرموه على أنفسهم من البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي.
فالأمر في قوله: {خُذُوا زِينَتَكُمْ} للوجوب، وفي قوله: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} للإباحة لبني آدم الماضين والحاضرين.
والمقصود من توجيه الأمر أو من حكايته إبطال التحريم الذي جعله أهل الجاهلية بأنهم نقضوا به ما تقرر في أصل الفطرة مما أمر الله به بني آدم كلهم، وامتن به عليهم، إذ خلق لهم ما في الأرض جميعا. وهو شبيه بالأمر الوارد بعد الحظر، فإن أصله إبطال التحريم وهو الإباحة كقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] بعد قوله: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 1] وقد يعرض لما أبطل به التحريم أن يكون واجبا. فقد ظهر من السياق والسياق في هذه الآيات أن كشف العورة من الفواحش، فلا جرم يكون

اللباس في الحج منه واجب، وهو ما يستر العورة، وما زاد على ذلك مباح مأذون فيه إبطالا لتحريمه، وأما الأمر بالأكل والشرب فهو للإباحة إبطالا للتحريم، وليس يجب على أحد أكل اللحم والدسم.
وقوله: {عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} تعميم أي لا تخصوا بعض المساجد بالتعري مثل المسجد الحرام ومسجد منى، وقد تقدم نظيره في قوله: {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 29]. وقد ظهرت مناسبة عطف الأمر بالأكل والشرب على الأمر بأخذ الزينة مما مضى آنفا.
والإسراف تقدم عند قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً} [النساء: 6] في سورة النساء، وهو تجاوز الحد المتعارف في الشيء أي: ولا تسرفوا في الأكل بكثرة أكل اللحوم والدسم لأن ذلك يعود بأضرار على البدن وتنشأ منه أمراض معضلة.
وقد قيل إن هذه الآية جمعت أصول حفظ الصحة من جانب الغذاء فالنهي عن السرف نهي إرشاد لا نهي تحريم بقرينة الإباحة اللاحقة في قوله {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ} إلى قوله {وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32]، ولأن مقدار الإسراف لا ينضبط فلا يتعلق به التكليف، ولكن يوكل إلى تدبير الناس مصالحهم، وهذا راجع إلى معنى القسط الواقع في قوله سابقا: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ } [الأعراف: 29] فإن ترك السرف من معنى العدل.
وقوله: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} تذييل، وتقدم القول في نظيره في سورة الأنعام.
[32] {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} .
استئناف معترض بين الخطابات المحكية والموجهة، وهو موضع إبطال مزاعم أهل الجاهلية فيما حرموه من اللباس والطعام وهي زيادة تأكيد لإباحة التستر في المساجد، فابتدئ الكلام السابق بأن اللباس نعمة من الله، وثني بالأمر بإجاب التستر عند كل مسجد، وثلث بإنكاران يوجد تحريم اللباس وافتتاح الجملة بـ {قُلْ} دلالة على أنه كلام مسوق للرد والإنكار والمحاورة.
والاستفهام إنكاري قصد به التهكم إذ جعلهم بمنزلة أهل علم يطلب منهم البيان

والإفادة نظير قوله: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} [الأنعام: 148] وقوله {نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأنعام: 143] وقرينة التهكم: إضافة الزينة إلى اسم الله، وتعريفها بأنها أخرجها الله لعباده، ووصف الرزق بالطيبات، وذلك يقتضي عدم التحريم، فالاستفهام يؤول أيضا إلى إنكار تحريمها.
ولوضوح انتفاء تحريمها، وأنه لا يقوله عاقل، وأن السؤال سؤال عالم لا سؤال طالب علم، أمر السائل بأن يجيب بنفسه سؤال نفسه فعقب من هو في صورة السؤال بقوله: {قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} على طريقة قوله: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ} في وسرة الأنعام [12]، - وقوله - { عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ} [النبأ: 1, 2] فآل السؤال وجوابه إلى خبرين.
وضمير: {هِيَ} عائد إلى الزينة والطيبات بقطع النظر عن وصف تحريم من حرمها، أي: الزينة والطيبات من حيث هي حلال للذين آمنوا فمن حرمها على أنفسهم فقد حرموا أنفسهم.
واللام في: {لِلَّذِينَ آمَنُوا} لام الاختصاص وهو يدل على الإباحة، فالمعنى: ما هي بحرام ولكنها مباحة للذين آمنوا، وإنما حرم المشركون أنفسهم من أصناف منها في الحياة الدنيا كلها مثل البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي وما في بطونها، وحرم بعض المشركين أنفسهم من أشياء في أوقات من الحياة الدنيا مما حرموه على أنفسهم من اللباس في الطواف وفي منى، ومن أكل اللحوم والودك والسمن واللبن، فكان الفوز للمؤمنين إذ اتبعوا أمر الله بتحليل ذلك كله في جميع أوقات الحياة الدنيا.
وقوله: {خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} قرأه نافع، وحده: برفع خالصة على أنه خبر ثان عن قوله: {هِيَ} أي: هي لهم في الدنيا وهي لهم خالصة يوم القيامة، وقرأه باقي العشرة: بالنصب على الحال من المبتدأ أي هي لهم الآن حال كونها خالصة في الآخرة ومعنى القراءتين واحد، وهو أن الزينة والطيبات تكون خالصة للمؤمنين يوم القيامة.
والأظهر أن الضمير المستتر في {خَالِصَةً} عائد إلى الزينة والطيبات الحاصلة في الحياة الدنيا بعينها، أي هي خالصة لهم في الآخرة، ولا شك أن تلك الزينة والطيبات قد انقرضت في الدنيا، فمعنى خلاصها صفاؤها. وكونه في يوم القيامة: هو أن يوم القيامة مظهر صفائها أي خلوصها من التبعات المنجرة منها، وهي تبعات تحريمها، وتبعات تناول بعضها مع الكفر بالمنعم بها، فالمؤمنون لما تناولوها في الدنيا تناولوها بإذن ربهم،

بخلاف المشركين فإنهم يسألون عنها فيعاقبون على ما تناولوه منها في الدنيا، لأنهم كفروا نعمة المنعم بها، فأشركوا به غيره كما قال تعالى فيهم: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة:82] وإلى هذا المعنى يشير تفسير سعيد بن جبير، والأمر فيه على قراءة رفع: {خَالِصَةً} أنه إخبار عن هذه الزينة والطيبات بأنها لا تعقب المتمتعين بها تبعات ولا أضرارا. وعلى قراءة النبي فهو نصب على الحال المقدرة.
ويحتمل أن يكون الضمير في {خَالِصَةً} إلى الزينة والطيبات باعتبار أنواعها لا باعتبار أعيانها، فيكون المعنى: ولم أمثالها يوم القيامة خالصة.
ومعنى الخلاص التمحض وهو هنا التمحض عن مشاركة غيرهم من أهل يوم القيامة، والمقصود أن المشركين وغيرهم من الكافرين لا زينة لهم ولا طيبات من الرزق يوم القيامة، أي أنهما في الدنيا كانت لهم مع مشاركة المشركين إياهم فيها. وهذا المعنى مروي عن ابن عباس وأصحابه.
ومعنى: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ} كهذا التفصيل المبتدئ من قوله: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً} [الأعراف: 26] الآيات أو من قوله: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأعراف: 3]. وتقدم نظير هذا التركيب في سورة الأنعام.
والمراد بالآيات الدلائل الدالة على عظيم قدرة الله تعالى، وانفراده بالإلهية. والدالة على صدق رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، إذ بين فساد دين أهل الجاهلية. وعلم أهل الإسلام علما كاملا لا يختلط معه الصالح والفاسد من الأعمال، إذ قال: خذوا زينتكم، وقال {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} [لأعراف: 31] ثم قال: {وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [لأعراف: 31]، وإذ عاقب المشركين على شركهم وعنادهم وتكذيبهم بعقاب في الدنيا، فخذلهم حتى وضعوا لأنفسهم شرعا حرمهم من طيبات كثيرة وشوه بهم بين الملأ في الحج بالعراء فكانوا مثل سوء ثم عاقبهم على ذلك في الآخرة، وإذ وفق المؤمنين لما استعدوا لقبول دعوة رسوله فاتبعوه، فمتعهم بجميع الطيبات في الدنيا غير محرومين من شيء إلا أشياء فيها ضر علمه الله فحرمها عليهم، وسلمهم من العقاب عليها في الآخرة.
واللام في قوله: {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} لام العلة، وهو متعلق بفعل {نُفَصِّلُ} ، أي تفصيل الآيات لا يفهمه إلا قوم يعلمون، فإن الله لما فصل الآيات يعلم أن تفصيلها لقوم يعلمون، ويجوز أن يكون الجار والمجرور ظرفا مستقرا في موضع الحال من الآيات، أي حال كونها دلائل لقوم يعلمون، فإن غير الذين لا يعلمون لا تكون آيات لهم إذ لا

يفقهونها كقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 99] في سورة الأنعام، أي كذلك التفصيل الذي فصلته لكم هنا نفصل الآيات ويتجدد تفصيلنا إياها حرصا على نفع قوم يعلمون.
والمراد بـ {قَوْمٍ يَعْلَمُونَ} : الثناء على المسلمين الذين فهموا الآيات وشكروا عليها. والتعريض يجهل وضلال عقول المشركين الذين استمروا على عنادهم وضلالهم، رغم ما فصل لهم من الآيات.
[33] {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}.
لما أنبأ قوله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} [الأعراف: 32] إلى آخره، بأن أهل الجاهلية حرموا من الزينة والطيبات من الرزق. وأنبأ قوله تعالى قبل ذلك: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} [الأعراف: 28] بأن أهل الجاهلية يعزون ضلالهم في الدين إلى الله، فأنتج ذلك أنهم ادعوا أن ما حرموه من الزينة والطيبات قد حرمه الله عليهم، أعقب مجادلتهم ببيان ما حرمه الله حقا وهم متلبسون به وعاكفون على فعله.
فالقصر المفاد من {إِنَّمَا} قصر إضافي مفاده أن الله حرم الفواحش وما ذكر معها لا ما حرمتموه من الزينة والطيبات، فأفاد إبطال اعتقادهم، ثم هو يفيد بطريق التعريض أن ما عده الله من المحرمات الثابت تحريمها قد تلبسوا بها، لأنه لما عد أشياء، وقد علم الناس أن المحرمات ليست محصورة فيها، علم السامع أن ما عينه مقصود به تعيين ما تلبسوا به فحصل بصيغة القصر رد عليهم من جانبي ما في صيغة "إنما" من إثبات ونفي: إذ هي بمعنى "ما –وإلا"، فأفاد تحليل ما زعموه حراما وتحريم ما استباحوه من الفواحش وما معها.
والفواحش جمع فاحشة وقد تقدم ذكر معنى الفاحشة عند قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً} في سورة النساء [22] وتقدم آنفا عند قوله تعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} [الأعراف: 28].
و {مَا ظَهَرَ مِنْهَا} هو ما يظهره الناس بين قرنائهم وخاصتهم مثل البغاء والمخادعة، وما بطن هو ما لا يظهره الناس مثل الوأد والسرقة، وقد تقدم القول في نظيره عند قوله

تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام: 151] في سورة الأنعام. وقد كانوا في الجاهلية يستحلون هذه الفواحش وهي مفاسد قبيحة لا يشك أولو الألباب، لو سئلوا، أن الله لا يرضى بها، وقيل المراد بالفواحش: الزنا، وما ظهر منه وما بطن حالان من أحوال الزناة، وعلى هذا يتعين أن يكون الإتيان بصيغة الجمع لاعتبار تعدد أفعاله وأحواله وهو بعيد.
وأما الإثم فهو كل ذنب، فهو أعم من الفواحش، وتقدم في قوله تعالى: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} في سورة البقرة [219]. وقوله: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْأِثْمِ وَبَاطِنَهُ} في سورة الأنعام [120]، فيكون ذكر الفواحش قبله للاهتمام بالتحذير منها قبل التحذير من عموم الذنوب، فهو من ذكر الخاص قبل العام للاهتمام، كذكر الخاص بعد العام، إلا أن الاهتمام الحاصل بالتخصيص مع التقديم أقوى لأن فيه اهتماما من جهتين.
وأما البغي فهو الاعتداء على حق الغير بسلب أموالهم أو بأذاهم، والكبر على الناس من البغي، فما كان بوجه حق فلا يسمى بغيا ولكنه أذى قال الله تعالى: {وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} [النساء: 16] وقد كان البغي شائعا في الجاهلية فكان القوي يأكل الضعيف، وذو البأس يغير على أنعام الناس ويقتل أعداءه منهم، ومن البغي أن يضربوا من يطوف بالبيت بثيابه إذا كان من غير الحمس. وأن يلزموه بأن لا يأكل غير طعام الحمس، ولا يطوف إلا في ثيابهم.
وقوله: {بِغَيْرِ الْحَقِّ} صفة كاشفة للبغي مثل العشاء الآخرة لأن البغي لا يكون إلا بغير حق.
وعطف {الْبَغْيَ} على {الأِثْمَ} من عطف الخاص على العام للاهتمام به، لأن البغي كان دأبهم في الجاهلية. قال سوار بن المضرب السعدي:
وأني لا أزال أخا حروب ... إذا لم أجن كنت مجن جان
والإشراك معروف وقد حرمه الله تعالى على لسان جميع الأنبياء منذ خلق البشر.
و {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} موصول وصلته، و"ما" مفعول {تُشْرِكُوا بِاللَّهِ} ، والسلطان البرهان والحجة، والمجرور في قوله: {بِهِ} صفة لـ {سُلْطَاناً} ، والباء للمصاحبة بمعنى معه أي لم ينزل حجة مصاحبة له، وهي مصاحبة الحجة للمدعي وهي مصاحبة مجازية ويجوز أن يكون الباء بمعنى على للاستعلاء المجازي على حد قوله تعالى: {مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ

بِقِنْطَارٍ} [آل عمران: 75] أي سلطانا عليه أي دليلا. وضمير به عائد إلى "ما" وهو الرابط للصلة. فمعنى نفي تنزيل الحجة على الشركاء: نفي الحجة الدالة على إثبات صفة الشركة مع الله في الإلهية، فهو من تعليق الحكم بالذات والمراد وصفها، مثل حرمت عليكم الميتة أي أكلها. وهذه الصلة مؤذنة بتخطئة المشركين، ونفي معذرتهم في الإشراك بأنه لا دليل يشتبه على الناس في عدم استحقاق الأصنام العبادة، فعرف الشركاء المزعومين تعريفا لطريق الرسم بأن خاصتهم: أن لا سلطان على شركتهم لله في الإلهية، فكل صنم من أصنامهم واضحة فيه هذه الخاصة، فإن الموصول وصلته من طرق التعريف، وليس ذلك كالوصف، وليس للموصول وصلته مفهوم مخالفة، ولا الموصولات معدودة في صيغ المفاهيم، فلا يتجه ما أورده الفخر من أن يقول قائل: هذا يوهم أن من بين الشرك ما أنزل الله به سلطانا واحتياجه إلى دفع هذا الإيهام، ولا ما قفاه عليه صاحب الانتصاف من تنظير نفي السلطان في هذه الآية بنحو قول امرئ القيس:
على لا حب لا يهتدى بمناره
ولا يتجه ما نحاه صاحب الكشاف من إجراء هذه الصلة على طريقة التهكم.
وقوله: { وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} تقدم نظيره آنفا عند قوله تعالى، في هذه السورة: { قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 28].
وقد جمعت هذه الآية أصول أحوال أهل الجاهلية فيما تلبسوا به من الفواحش والآثام، وهم يزعمون أنهم يتورعون عن الطواف في الثياب، وعن أكل بعض الطيبات في الحج. وهذا من ناحية قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 217].
[34] {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ}.
اعتراض بين جملة: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ} [الأعراف: 31] وبين جملة: {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأعراف: 35] لما نعى الله على المشركين ضلالهم وتمردهم، بعد أن دعاهم إلى الإيمان، وإعراضهم عنه، بالمجادلة والتوبيخ وإظهار نقائصهم بالحجة البينة، وكان حالهم حال من لا يقلع عما هم فيه، أعقب ذلك بإنذارهم ووعيدهم إقامة للحجة عليهم وأعذارا لهم قبل حلول العذاب بهم.

وهذه الجملة تؤكد الغرض من جملة: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} [لأعراف: 4]. وتحتمل معنيين:
أحدهما: أن يكون المقصود بهذا الخبر المشركين، بأن أقبل الله على خطابهم أو أمر نبيه بأن يخاطبهم، لأن هذا الخطاب خطاب وعيد وإنذار.
والمعنى الثاني: أن يكون المقصود بالخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون وعدا له بالنصر على مكذبيه، وإعلاما له بأن سنته سنة غيره من الرسل بطريقة جعل سنة أمته كسنة غيرها من الأمم.
وذكر عموم الأمم في هذا الوعيد، مع أن المقصود هم المشركون من العرب الذين لم يؤمنوا، إنما هو مبالغة في الإنذار والوعيد بتقريب حصوله كما حصل لغيرهم من الأمم على طريقة الاستشهاد بشواهد التاريخ في قياس الحاضر على الماضي فيكون الوعيد خبرا معضودا بالدليل والحجة. كما قال تعالى في آيات كثيرة منها: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [آل عمران:137] أي: ما أنتم إلا أمة من الأمم المكذبين ولكل أمة أجل فأنتم لكم أجل سيحين حينه.
وذكر الأجل هنا، دون أن يقول لكل أمة عذاب أو استئصال، إيقاظا لعقولهم من أن يغرهم الإمهال فيحسبوا أن الله غير مؤاخذهم على تكذيبهم، كما قالوا: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [لأنفال: 32]، وطمأنة للرسول صلى الله عليه وسلم بأن تأخير العذاب عنهم إنما هو جري على عادة الله تعالى في إمهال الظالمين على حد قوله: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} [يوسف: 110] وقوله {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ} [آل عمران: 196, 197].
ومعنى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} لكل أمة مكذبة إمهال فحذف وصف أمة أي: مكذبة.
وجعل لذلك الزمان نهاية وهي الوقت المضروب لانقضاء الإمهال، فالأجل يطلق على مدة الإمهال، ويطلق على الوقت المحدد به انتهاء الإمهال، ولا شك أنه وضع لأحد الأمرين ثم استعمل في الآخر على تأويل منتهى المدة أو تأخير المنتهى وشاع الاستعمالان، فعلى الأول يقال قضى الأجل أي المدة كما قال تعالى: {أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ} [القصص: 28] وعلى الثاني يقال: "دنا أجل فلان" وقوله تعالى: {وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا

الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا} [الأنعام: 128] والواقع في هذه الآية يصح للاستعمالين بأن يكون المراد بالأجل الأول المدة، وبالثاني الوقت المحدد لفعل ما.
والمراد بالأمة هنا الجماعة التي اشتركت في عقيدة الإشراك أو في تكذيب الرسل، كما يدل عليه السياق من قوله تعالى: {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ} [الأعراف: 33] الخ وليس المراد بالأمة، الجماعة التي يجمعها نسب أو لغة إذ لا يتصور انقراضها عن بكرة أبيها، ولم يقع في التاريخ انقراض إحداها، وإنما وقع في بعض الأمم أن انقرض غالب رجالها بحوادث عظيمة مثل طسم و جديس و عدوان فتندمج بقاياها في أمم أخرى مجاورة لها فلا يقال لأمة إن لها أجلا تنقرض فيه، إلا بمعنى جماعة يجمعها أنها مرسل إليها رسول فكذبته، وكذلك كان ما صدق هذه الآية، فإن العرب لما أرسل محمد صلى الله عليه وسلم ابتدأ دعوته فيهم ولهم، فآمن به من آمن، وتلاحق المؤمنون أفواجا، وكذب به أهل مكة وتبعهم من حولهم، وأمهل الله العرب بحكمته وبرحمة نبيه صلى الله عليه وسلم إذ قال: "لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده" فلطف الله بهم إذ جعلهم مختلطين مؤمنهم ومشركهم، ثم هاجر المؤمنون فبقيت مكة دار شرك وتمحض من علم الله أنهم لا يؤمنون فأرسل الله عليهم عباده المؤمنين فاستأصلوهم فوجا بعد فوج، في يوم بدر وما بعده من أيام الإسلام، إلى أن تم استئصال أهل الشرك بقتل بقية من قتل منهم في غزوة الفتح، مقل عبد الله بن خطل ومن قتل معه، فلما فتحت مكة دان العرب للإسلام وانقرض أهل الشرك، ولم تقم للشرك قائمة بعد ذلك، وأظهر الله عنايته بالأمة العربية إذ كانت من أول دعوة الرسول غير متمحضة للشرك، بل كان فيها مسلمون من أول يوم الدعوة، ومازالوا يتزايدون.
وليس المراد في الآية، بأجل الأمة، أجل أفرادها، وهو مدة حياة كل واحد منها، لأنه لا علاقة له بالسياق، ولأن إسناده إلى الأمة يعين أنه أجل مجموعها لا أفرادها، ولو أريد آجال الأفراد لقال لكل أحد أو لكل حي أجل.
و {إِذَا} ظرف زمان للمستقبل في الغالب، وتتضمن معنى الشرط غالبا، لأن معاني الظروف قريبة من معاني الشرط لما فيها من التعليق، وقد استغني بفاء تفريع عامل الظرف عنا عن الإتيان بالفاء في جواب "إذا" لظهور معنى الربط والتعليق بمجموع الظرفية والتفريع، والمفرع هو: {جَاءَ أَجَلُهُمْ} وإنما قدم الظرف على عامله للاهتمام به ليتأكد بذلك التقديم معنى التعليق.والمجيء مجاز في الحلول المقدر له كقولهم جاء الشتاء.
وإفراد الأجل في قوله: {إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ} مراعى فيه الجنس، الصادق بالكثير،

بقرينة إضافته إلى ضمير الجمع.
وأظهر لفظ أجل في قوله: {إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ} ولم يكتف بضميره لزيادة تقرير الحكم عليه، ولتكون هذه الجملة مستقلة بنفسها غير متوقفة على سماع غيرها لأنها بحيث تجري مجرى المثل، وإرسال الكلام الصالح لأن يكون مثلا طريق من طرق البلاغة.
و {يَسْتَأْخِرُونَ} و {يَسْتَقْدِمُونَ} بمعنى: يتأخرون ويتقدمون، فالسين والتاء فيهما للتأكيد مثل استجاب.
والمعنى: إنهم لا يتجاوزونه بتأخير ولا يتعجلونه بتقديم، والمقصود أنهم لا يؤخرون عنه، فعطف {وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} تتميم لبيان أن ما علمه الله وقدره على وفق علمه لا يقدر أحد على تغييره وصرفه، فكان قوله: {وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} لا تعلق له بغرض التهديد، وقريب من هذا قول أبي الشيص:
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي ... مستأخر عنه ولا متقدم
وكل ذلك مبني على تمثيل حالة الذي لا يستطيع التخلص من وعيد أو نحوه بهيئة من احتبس بمكان لا يستطيع تجاوزه إلى الأمام ولا إلى الوراء.
[36,35] {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.
يجيء في موقع هذه الجملة: من التأويل، ما تقدم من القول في نظرتها وهي قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ} [الأعراف: 26].
والتأويل الذي استظهرنا به هنالك يبدو في هذه النظيرة الرابعة أوضح، وصيغة الجمع في قوله: {رُسُلٌ} وقوله {يَقُصُّونَ} تقتضي توقع مجيء عدة رسل، وذلك منتف بعد بعثة الرسول الخاتم للرسل الحاشر العاقب صلى الله عليه وسلم، فذلك يتأكد أن يكون هذا الخطاب لبني آدم الحاضرين وقت نزول القرآن، ويرجح أن تكون هذه الندآت الأربعة حكاية لقول موجه إلى بني آدم الأولين الذي أوله: {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} [الأعراف:25].
قال ابن عطية: وكأن هذا خطاب لجميع الأمم، قديمها وحديثها، هو متمكن لهم،

ومتحصل منه لحاضري محمد صلى الله عليه وسلم أن هذا حكم الله في العالم منذ أنشأه يريد أن الله أبلغ الناس هذا الخطاب على لسان كل نبي، من آدم إلى هلم جرا، فما من نبي أو رسول إلا وبلغه أمته، وأمرهم بأن يبلغ الشاهد منهم الغائب، حتى نزل في القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم فعلمت أمته أنها مشمولة في عموم بني آدم.
وإذا كان ذلك متعينا في هذه الآية أو كالمتعين تعين اعتبار مثله في نظائرها الثلاث الماضية، فشد به يدك، ولا تعبأ بمن جردك.
فأما إذا جعل الخطاب في هذه الآية موجها إلى المشركين في زمن النزول، بعنوان كونهم من بني آدم، فهنالك يتعين صرف معنى الشرط إلى ما يأتي من الزمان بعد نزول الآية لأن الشرط يقتضي الاستقبال غالبا، كأنه قيل إن فاتكم إتباع ما أنزل إليكم فيما مضى لا يفتكم فيما بقي، ويتعين تأويل يأتينكم بمعنى يدعونكم، ويتعين جعل جمع الرسل على إرادة رسول واحد، تعظيما له، كما في قوله تعالى: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ} [الفرقان: 37] أي كذبوا رسوله نوحا، وقوله: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:105] وله نظائر كثيرة في القرآن.
وهذه الآية، والتي بعدها، متصلتا المعنى بمضمون قوله تعالى في أول السورة: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} [الأعراف: 4] الآية اتصال التفصيل بإجماله.
أكد به تحذيرهم من كيد الشيطان وفتونه، وأراهم به مناهج الرشد التي تعين على تجنب كيده، بدعوة الرسل إياهم إلى التقوى والإصلاح، كما أشار إليه بقوله، في الخطاب السابق: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 27] وأنبأهم بأن الشيطان توعد نوع الإنسان فيما حكى الله من قوله: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [لأعراف:16] الآية فلذلك حذر الله بني آدم من كيد الشيطان، وأشعرهم بقوة الشيطان بقوله: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف: 27] عسى أن يتخذوا العدة للنجاة من مخالب فتنته، وأردف ذلك بالتحذير من حزبه ودعاته الذين يفتنون المؤمنين، ثم عزز ذلك بإعلامه إياهم أنه أعانهم على الاحتراز من الشيطان، بأن يبعث إليهم قوما من حزب الله يبلغونهم عن الله ما فيه منجاة لهم من كيد الشياطين، بقوله: {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} الآية فأوصاهم بتصديقهم والامتثال لهم.
و {إِمَّا} مركبة من "إن" الشرطية و"ما" الزائدة المؤكدة لمعنى الشرطية، واصطلح

أئمة رسم الخط على كتابتها في صورة كلمة واحدة، رعيا لحالة النطق بها بإدغام النون في الميم، والأظهر أنها تقيد مع التأكيد عموم الشرط مثل أخواتها مهما و أيتها، فإذا اقترنت بإن الشرطية اقترنت نون التوكيد بفعل الشرط كقوله تعالى: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي} سورة مريم [26]، لأن التوكيد الشرطي يشبه القسم، وهذا الاقتران بالنون غالب، ولأنها لما وقعت توكيدا للشرط تنزلت من أداة الشرط منزلة جزء الكلمة.
وقوله: {مِنْكُمْ} أي من بني آدم، وهذا تنبيه لبني آدم بأنهم لا يترقبون أن تجيئهم رسل الله من الملائكة لأن للمرسل يكون من جنس من أرسل إليهم، وفي هذا تعريض بالجهلة من الأمم الذين أنكروا رسالة الرسل لأنهم من جنسهم، مثل قوم نوح، إذ قالوا: {مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنَا} [هود: 27] ومثل المشركين من أهل مكة إذ كذبوا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بأنه بشر قال تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً} [الاسراء: 94, 95].
ومعنى {يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي} يتلونها ويحكونها ويجوز أن يكون بمعنى يتبعون الآية بأخرى ويجوز أن يكون بمعنى يظهرون وكلها معان مجازية للقص لأن حقيقة القص هي أن أصل القصص إتباع الحديث من اقتصاص آثر الأرجل واتباعه لتعرف جهة الماشي، فعلى المعنى الأول فهو كقوله في الآية الأخرى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ} [الزمر: 71] وأيا ما كان فهو محتمل للحمل على جميعها من استعمال اللفظ في مجازيه.
الآية أصلها العلامة الدالة على شيء، من قول أو فعل، وآيات الله الدلائل التي جعلها دالة على وجوده، أو على صفاته، أو على صدق رسله، كما تقدم عند قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا في سورة البقرة} [39]، وقوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} في سورة الأنعام [37]، ومنه آيات القرآن التي جعلها الله دلالة على مراده للناس، للتعريض بالمشركين من العرب، الذين أنكروا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ووجه دلالة الآيات على ذلك إما لأنها جاءت على نظم يعجز البشر عن تأليف مثله، وذلك من خصائص القرآن، وإما لأنها تشتمل على أحكام ومعان لا قبل لغير الله ورسوله بإدراك مثلها، أو لأنها تدعو إلى صلاح لم يعهده الناس، فيدل ما اشتملت عليه على أنه مما أراده الله للناس، مثل بقية الكتب التي جاءت بها الرسل، وإما لأنها قارنتها أمور خارقة

للعادة تحدى بها الرسول المرسل بتلك الأقوال أمته، فهذا معنى تسميتها آيات، ومعنى إضافتها إلى الله تعالى، ويجوز أن يكون المراد بالآيات ما يشمل المعجزات غير القولية، مثل نبع الماء من بين أصابع محمد صلى الله عليه وسلم ومثل قلب العصا حية لموسى عليه السلام، وإبراء الأكمة لعيسى عليه السلام، ومعنى التكذيب بها العناد بإنكارها وجحدها.
وجملة: {فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ} جواب الشرط وبينها وبين جملة: {إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ} محذوف تقديره: فاتقى منكم فريق وكذب فريق {فَمَنِ اتَّقَى} الخ، وهذه الجملة شرطية أيضا، وجوابها {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} ، أي فمن اتبع رسلي فاتقاني وأصلح نفسه وعمله فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ولما كان إتيان الرسل فائدته لإصلاح الناس، لا لنفع الرسل، عدل عن جعل الجواب اتباع الرسل إلى جعله التقوى والصلاح، إيماء إلى حكمة إرسال الرسل، وتحريضا على اتباعهم بأن فائدته للأمم لا للرسل، كما قال شعيب: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} [هود: 88]، أي لا خوف عليهم من عقوبة الله في الدنيا والآخرة ولا هم يحزنون من شيء من ذلك، فالخوف والحزن المنفيان هما ما يوجبه العقاب، وقد ينتفي عنهم الخوف والحزن مطلقا بمقدار قوة التقوى والصلاح، وهذا من الأسرار التي بين الله وعباده الصالحين، ومثله قوله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [يونس: 62, 64].
وقد نفي الخوف نفي الجنس بلا النافية له، وجيء باسمها مرفوعا لأن الرفع يساوي البناء على الفتح في مثل هذا، لأن الخوف من الأجناس المعنوية التي لا يتوهم في نفيها أن يكون المراد نفي الفرد الواحد، ولو فتح مثله لصح، ومنه قول الرابعة من نساء حديث أم زرع: زوجي كليل تهامة، لا حر و قر ولا مخافة ولا سئامة فقد روي بالرفع وبالفتح.
و"على" في قوله: {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } للاستعلاء المجازي، وهو المقارنة والملازمة، أي لا خوف ينالهم.
وقوله: {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} جملة عطفت على جملة: {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} ، وعدل عن عطف المفرد، بأن يقال ولا حزن، إلى الجملة: ليتأتى بذلك بناؤ المسند الفعلي على ضميرهم، فيدل على أن الحزن واقع بغيرهم. وهم الذين كفروا، فإن بناء الخبر الفعلي على المسند إليه المتقدم عليه يفيد تخصيص المسند إليه بذلك الخبر، نحو: ما أنا قلت

هذا، فإنه نفي صدور القول من المتكلم مع كون القول واقعا من غيره، وعليه بيت دلائل الإعجاز، وهو للمتنبي:
وما أنا أسقمت جسمي به ... ولا أنا أضرمت في القلب نارا
فيفيد أن الذين كفروا يحزنون إفادة بطريق المفهوم، ليكون كالمقدمة للخبر عنهم بعد ذلك بأنهم أصحاب النار هم فيها خالدون.
وجملة: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ} معطوفة على جملة فمن اتقى وأصلح، والرابط محذوف تقديره: والذين كفروا منكم وكذبوا.
والاستكبار مبالغة في التكبر، فالسين والتاء للمبالغة، وهو أن يعد المرء نفسه كبيرا أي عظيما وما هو به، فالسين والتاء للعد والحسبان، وكلا الأمرين يؤذن بإفراطهم في ذلك وأنهم عدوا قدرهم.
وضمن الاستكبار معنى الإعراض، فعلق به ضمير الآيات، والمعنى: واستكبروا فأعرضوا عنها.
وأفاد تحقيق أنهم صائرون إلى النار بطريق قصر ملازمة النار عليهم في قوله: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ} لأن لفظ أصحاب مؤذن بالملازمة، وبما تدل عليه الجملة الاسمية من الدوام والثبات في قوله: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}
[39,37] {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ * قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ * وَقَالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ}
{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ * قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ فِي النَّارِ}.

الفاء للتفريع على جملة الكلام السابق، وهذه كالفذلكة لما تقدم لتبين أن صفات الضلال، التي أبهم أصحابها، هي حافة بالمشركين المكذبين برسالة محمد صلى الله عليه وسلم فإن الله ذكر أولياء الشياطين وبعض صفاتهم بقوله: {إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 27] وذكر أن الله عهد لبني آدم منذ القدم بأن يتبعوا من يجيئهم من الرسل عن الله تعالى بآياته ليتقوا ويصلحوا، ووعدهم على اتباع ما جاءهم بيني الخوف والحزن وأوعدهم على التكذيب والاستكبار بأن يكونوا أصحاب النار، فقد أعذر إليهم وبصرهم بالعواقب، فتفرع على ذلك: أن من كذب على الله فزعم أن الله أمره بالفواحش، أو كذب بآيات الله التي جاء بها رسوله، فقد ظلم نفسه ظلما عظيما، حتى يسأل عمن هو أظلم منه.
ولك أن تجعل جملة: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى} [الأنعام: 144] الخ معترضة بين جملة: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأعراف: 36] وجملة: {أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} كما سيأتي في موقع هذه الأخيرة، وقد تقدم الكلام على تركيب: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ} عند قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} في سورة البقرة [114]، وأن الاستفهام للإنكار، أي لا أحد أظلم.
والافتراء والكذب تقدم القول فيهما عند قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} في سورة العقود [103]. ولهذه الآية اتصال بآية: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} [الأعراف: 4] من حيث ما فيها من التهديد بوعيد عذاب الآخرة وتفظية أهواله.
و"من" استفهام إنكاري مستعمل في تهويل ظلم هذا الفريق، المعبر عنه بمن افترى على الله كذبا. و"من" الثانية موصولة، وهي عامة لكل من تتحقق فيه الصلة، وإنما كانوا أظلم الناس ولم يكن أظلم منهم، لأن الظلم اعتداء على حق، وأعظم الحقوق هي حقول الله تعالى، وأعظم الاعتداء على حق الله الاعتداء عليه بالاستخفاف بصاحبه العظيم، وذلك بأن يكذب بما جاءه من قبله، أو بأن يكذب عليه فيبلغ عنه ما لم يأمر به فإن جمع بين الأمرين فقد عطل مراد الله تعالى من جهتين: جهة إبطال ما يدل على مراده، وجهة إيهام الناس بأن الله أراد منهم ما لا يريده الله.
والمراد بهذا الفريق: هم المشركون من العرب، فإنهم كذبوا بآيات الله التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم، وافتروا على الله الكذب فيما زعموا أن الله أمرهم به من الفواحش، كما تقدم آنفا عند قوله تعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا} [لأعراف: 28].

و"أو" ظاهرها التقسيم فيكون الأظلم وهم المشركون فريقين: فريق افتروا على الله الكذب، وهم سادة أهل الشرك وكبراؤهم، الذين شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله، ونسبوه إلى الله وهم يعلمون، مثل عمرو بن لحي، وأبي كبشة، ومن جاء بعدهما، وأكثر هذا الفريق قد انقرضوا في وقت نزول الآية، وفريق كذبوا بآيات ولم يفتروا على الله وهم عامة المشركين، من أهل مكة وما حولها، وعلى هذا فكل واحد من الفريقين لا أظلم منه، لأن الفريق الآخر مساو له في الظلم وليس أظلم منه، فأما من جمع بين الآمرين ممن لعلهم أن يكونوا قد شرعوا للمشركين أمورا من الضلالات، وكذبوا محمدا صلى الله عليه وسلم، فهم أشد ظلما، ولكنهم لما كانوا لا يخلون عن الانتساب إلى كلا الفريقين وجامعين للخصلتين لم يخرجوا من كونهم من الفريق الذين هم أظلم الناس، وهذا كقوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [الأنعام: 93]. فلا شك أن الجامع بين الخصال الثلاث هو أظلم من كل من انفرد بخصلة منها، وذلك يوجب له زيادة في الأظلمية، لأن كل شدة وصف قابلة للزيادة.
ولك أن تجعل "أو" بمعنى الواو، فيكون الموصوف بأنه أظلم الناس هو من اتصف بالأمرين الكذب والتكذيب، ويكون صادقا على المشركين لأن جماعتهم لا تخلو عن ذلك.
شيء باسم الإشارة في قوله: {أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} ليدل على أن المشار إليهم أحرياء بأن يصيبهم العذاب بناء على ما دل عليه التفريع بالفاء.
وجملة {أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} يجوز أن تكون مستأنفة استئنافا بيانيا ناشئا عن الاستفهام في قوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} الآية، لأن التهويل المستفاد من الاستفهام يسترعي السامع أن يسأل عما سيلاقونه من الله الذي افتروا عليه وكذبوا بآياته.
ويجوز أن تكون جملة: {أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ} عطف بيان لجملة: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأعراف: 36] أي خالدون الخلود الذي هو نصيبهم من الكتاب.
وتكملة هذه الجملة هي جملة: {حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ} الآية كما سيأتي.

ومادة النيل والنوال وردت واوية العين ويائية العين مختلطتين في دواوين اللغة، غير مفصحة عن توزيع مواقع استعمالها بين الواوي واليائي، ويظهر أن أكثر معاني المادتين مترادفة وأن ذلك نشأ من القلب في بعض التصاريف أو من تداخل اللغات، وتقول نلت بضم النون من نال ينول، وتقول نلت بكسر النون من نال ينيل، وأصل النيل إصابة الإنسان شيئا لنفسه بيده، ونوله أعطاه فنال، فالأصل أن تقول نال فلان كسبا، وقد جاء هنا بعكس ذلك لأن النصيب من الكتاب هو أمر معنوي، فمقتضى الظاهر أن يكون النصيب منولا لا نائلا، لأن النصيب لا يحصل الذين افتروا على الله كذبا، بل بالعكس: الذين افتروا يحصلونه، وقد جاء ذلك في آيات كثيرة كقوله تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا} [الحج: 37] وقوله: {سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ} [لأعراف: 152]، فتعين أن يكون هذا إما مجازا مرسلا في معنى مطلق الإصابة، وإما أن يكون استعارة مبنية على عكس التشبيه بأن شبه النصيب بشخص طالب طلبة فنالها، وإنما يصار إلى هذا للتنبيه على أن الذي ينالهم شيء يكرهونه، وهو يطلبهم وهم يفرون منه، كما يطلب العدو عدوه، فقد صار النصيب من الكتاب كأنه يطلب أن يحصل الفريق الذين حق عليهم ويصادفهم، وهو فريب من القلب المبني على عكس التشبيه في قول رؤية:
ومهمه مغبرة أرجاؤه ... كأن لون أرضه سماؤه
وقولهم: عرضت الناقة على الحوض.
والنصيب الحظ الصائر لأحد المتقاسمين من الشيء المقسوم. وقد تقدم عند قوله تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا} [البقرة: 202] في سورة البقرة، وقوله: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} في سورة النساء [7].
والمراد بالكتاب ما تضمنه الكتاب، فإن كان الكتاب مستعملا حقيقة فهو القرآن، ونصيبهم منه هو نصيبهم من وعيده، مثل قوله تعالى آنفا: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأعراف:36]، وإن كان الكتاب مجازا في الأمر الذي قضاه الله وقدره، على حد قوله: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} [الرعد: 38] أي الكتاب الثابت في علم الله من إحقاق كلمة العذاب عليهم، فنصيبهم منه هو ما أخبر الله بأنه قدره لهم من الخلود في العذاب عليهم، فنصيبهم منه هو ما أخبر الله بأنه قدره لهم من الخلود في العذاب، وأنه لا يغفر لهم، ويشمل ذلك ما سبق تقديره لهم من الإمهال وذلك هو تأجيلهم إلى أجل أراده ثم استئصالهم بعده كما أخبر عن ذلك آنفا بقوله: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [لأعراف:34].

وحمل كثير من المفسرين النصيب على ما ينالهم من الرزق والإمهال في الدنيا قبل نزول العذاب بهم وهو بعيد من معنى الفاء في قوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ} ولا أحسب الحادي لهم على ذلك إلا ليكون نوال النصيب حاصلا في مدة ممتدة ليكون مجيء الملائكة لتوفهم غاية لانتهاء ذلك النصيب، استبقاء لمعنى الغاية الحقيقية في {حَتَّى} . وذلك غير ملتزم، فإن حتى الابتدائية لا تفيد من الغاية ما تفيده العاطفة كما سنذكره.
والمعنى: إما أن كل واحد من المشركين سيصيبه ما توعدهم الله به من الوعيد على قدر عتوه في تكذيبه وإعراضه، فتصيبه هو ما يناسب حاله عند الله من مقدار عذابه، وإما أن مجموع المشركين سيصيبهم ما قدر لأمثالهم من الأمم المكذبين للرسل المعرضين عن الآيات من عذاب الدنيا، فلا يغرنهم تأخير ذلك لأنه مصيبهم لا محالة عند حلول أجله، فنصيبهم هو صفة عذابهم من بين صفات العذاب التي عذبت بها الأمم.
وجملة: {حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا} تفصيل لمضمون جملة {يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} . فالوقت الذي أفاده قوله: {إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ} هو مبدأ وصف نصيبهم من الكتاب حين ينقطع عنهم الإمهال الذي لقوه في الدنيا.
و{حَتَّى} ابتدائية لأن الواقع بعدها جملة فتفيد السببية، فالمعنى: فـ {إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا} الخ، و"حتى" الابتدائية لها صدر الكلام فالغاية التي تدل عليها هي غاية ما يخبر به المخبر، وليست غاية ما يبلغ إليه المعطوف عليه بحتى، لأن ذلك إنما يلتزم إذا كانت حتى عاطفة، ولا تفيد إلا السببية كما قال ابن الحاجب فهي لا تفيد أكثر من تسبب ما قبلها فيما بعدها، قال الرضي؛ قال المصنف: وإنما وجب مع الرفع السببية لأن الاتصال اللفظي لما زال بسبب الاستئناف شرط السببية التي هي موجبة للاتصال المعنوي، جبرا لما فات من الاتصال اللفظي، قال عمرو ابن شأس:
نذود الملوك عنكم وتذودنا ... ولا صلح حتى تضبعون ونضبعا
وقد تقدم بعض هذا عند قوله تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ} في سورة الأنعام [31] و"حتى" الابتدائية تدل على أن مضمون الكلام الذي بعدها أهم بالاعتناء للإلقاء عند المتكلم لأنه أجدى في الغرض المسوق له الكلام، وهذا الكلام الواقع هنا بعد "حتى" فيه تهويل ما يصيبهم عند قبض أرواحهم، وهو أدخل في تهديدهم وترويعهم وموعظتهم، من الوعيد المتعارف، وقد هدد القرآن المشركين بشدائد الموت عليهم في آيات كثيرة لأنهم كانوا يرهبونه، والرسل هم الملائكة قال

تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ} [السجدة: 11] وقال {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ} [الأنفال: 50].
وجملة: {يَتَوَفَّوْنَهُمْ} في موضع الحال من {رُسُلُنَا} وهي حال معللة لعاملها، كقوله: {وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ} [لأعراف: 61, 62] أي رسول لأبلغكم ولأنصح لكم.
والتوفي نزع الروح من الجسد، وقد تقدم بيانه عند قوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} في سورة آل عمران [55] وهو المراد هنا، ولا جدوى في حمله على غير هذا المعنى، مما تردد فيه المفسرون، إلا أن المحافظة على معنى الغاية لحرف "حتى" فتوفي الرسل يجوز أن يكون المراد منه وقت أن يتووهم جميعا، إن كان المراد بالنصيب من الكتاب الاستئصال، أي حين تبعث طوائف الملائكة لإهلاك جميع أمة الشرك.
ويجوز أن يكون المراد حين يتوفون آحادهم في أوقات متفرقة إن كان المراد بالنصيب من الكتاب وعيد العذاب، وعلى الوجهين فالقول محكي على وجه الجمع والمراد منه التوزيع أي قال كل ملك لمن وكل بتوفيه، على طريقة: ركب القوم دوابهم. وقد حكي كلام الرسل معهم وجوابهم إياهم بصيغة الماضي على طريقة المحاورة، لأن وجود ظرف المستقبل قرينة على المراد.
والاستفهام في قوله: {أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} مستعمل في التهكم والتأييس.
و"ما" الواقعة بعد أين موصولة، يعني: أين آلهتكم التي كنتم تزعمون أنهم ينفعونكم عند الشدائد ويردون عنكم العذاب فإنهم لم يحضروكم، وذلك حين يشهدون العذاب عند قبض أرواحهم، فقد جاء في حديث الموطأ: أن الميت يرى مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار يقال له هذا مقعدك حتى يبعثك الله. وهذا خطاب للأرواح التي بها الإدراك وهو قبل فتنة القبر.
وقولهم: {ضَلُّوا عَنَّا} أي أتلفوا مواقعنا وأضاعونا فلم يحضروا، وهذا يقتضي أنهم لما يعلموا أنهم لا يغنون عنهم شيئا من النفع، فظنوا أنهم أذهنهم ما أذهنهم وأبعدهم عنهم ما أبعدهم، ولم يعلموا سببه، لأن ذلك إنما يتبين لهم يوم الحشر حين يرون إهانة أصنامهم وتعذيب كبرائهم، ولذلك لم ينكروا في جوابهم أنهم كانوا يدعونهم من دون الله

بخلاف ما حكي عنهم في يوم الحشر من قولهم: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] ولذلك قال هنا: {وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} ، وقال في الأخرى: {انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الأنعام: 24].
والشهادة هنا شهادة ضمنيه لأنهم لما لم ينفوا أن يكونوا يدعون من دون الله وأجابوا بأنهم ضلوا عنهم قد اعترفوا بأنهم عبدوهم.
فأما قوله: {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ} فهذا قول آخر، ليس هو من المحاورة السابقة، لأنه جاء بصيغة الإفراد، والأقوال قبله مسندة إلى ضمائر الجمع، فتعين أن ضمير "قال" عائد إلى الله تعالى بقرينة المقام، لأن مثل هذا القول لا يصدر من أحد غير الله تعالى، فهو استئناف كلام نشأ بمناسبة حكاية حال المشركين حين أول قدومهم على الحياة الآخرة، وهي حالة وفاة الواحد منهم فيكون خطابا صدر من الله إليهم بواسطة أحد ملائكته، أو بكلام سمعوه وعلموا أنه من قبل الله تعالى بحيث يوقنون منه أنهم داخلون إلى النار، فيكون هذا من أشد ما يرون فيه مقعدهم من النار عقوبة خاصة بهم. والأمر مستعمل للوعيد فيتأخر تنجيزه إلى يوم القيامة.
ويجوز أن يكون المحكي به ما يصدر من الله تعالى يوم القيامة من حكم عليهم بدخول النار مع الأمم السابقة، فذكر عقب حكاية حال قبض أرواحهم إكمالا لذكر حال مصيرهم، وتخلصا إلى وصف ما ينتزرهم من العذاب ولذكر أحوال غيرهم، وأيا ما كان فالإتيان بفعل القول، بصيغة الماضي: للتنبيه على تحقيق وقوعه على خلاف مقتضى الظاهر.
ويجوز أن تكون جملة: {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ} في موضع عطف البيان لجملة {يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} أي: قال الله فيما كتبه لهم {ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ} [الأعراف: 38] أي أمثالكم، والتعبير بفعل المضي جرى على مقتضى الظاهر.
والأمم جمع الأمة بالمعنى الذي تقدم في قوله: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} .
و"في" من قوله: {فِي أُمَمٍ} للظرفية المجازية، وهي كونهم في حالة واحدة وحكم واحد، سواء دخلوا النار في وسطهم أم دخلوا قبلهم أو بعدهم، وهي بمعنى مع في تفسير المعنى، ونقل عن صاحب الكشاف أنه نظر في التي في هذه الآية بفي التي في قول عروة بن أذينة:

إن تكن عن حسن الصنيعة مأفو ... كا ففي آخرين قد أفكوا
ومعنى {قَدْ خَلَتْ} قد مضت وانقرضت قبلكم، كما في قوله تعالى {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ} [البقرة: 134] في سورة البقرة، يعني: أن حالهم كحال الأمم المكذبين قبلهم، وهذا تذكير لهم بما حاق بأولئك الأمم من عذاب الدنيا كقوله: {وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ} [ابراهيم: 45] وتعريض بالوعيد بأن يحل بهم مثل ذلك، وتصريح بأنهم في عذاب النار سواء.
{قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ وَقَالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} .
جملة: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} مستأنفة استئنافا ابتدائيا، لوصف أحوالهم في النار، وتفظيعها للسامع، ليتعظ أمثالهم ويستبشر المؤمنين بالسلامة مما أصابهم فتكون جملة {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً} داخلة في حيز الاستئناف.
ويجوز أن تكون جملة: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ} معترضة بين جملة: {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ فِي النَّارِ} وبين جملة: {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا} الخ. على أن تكون جملة {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا} مرتبطة بجملة {ادخلوا في أمم} بتقدير محذوف تقديره: فيدخلون حتى إذا اداركوا.
و"ما" في قوله: {كُلَّمَا} ظرفية مصدرية، أي كل وقت دخول أمة لعنت أختها. والتقدير: لعنت كل أمة منهم أختها في كل أوقات دخول الأمة منهم، فتفيد عموم الأزمنة.
و {أُمَّةٌ} نكرة وقعت في حيز عموم الأزمنة، فتفيد العموم، أي كل أمة دخلت، وكذلك: {أُخْتَهَا} نكرة لأنه مضاف إلى ضمير نكرة فلا يتعرف فتفيد العموم، أيضا، أي كل أمة تدخل تلعن كل أخت لها، والمراد بأختها المماثلة لها في الدين الذي أوجب لها الدخول في النار، كما يقال: هذه الأمة أخت تلك الأمة إذا اشتركتا في النسب، فيقال: بكر وأختها تغلب، ومنه قول أبي الطبيب:
وكطسم وأختها في البعاد

يريد: كطسم وجديس.
والمقام يعين جهة الأخوة، وسبب اللعن أن كل أمة إنما تدخل النار بعد مناقشة الحساب، والأمر بإدخالهم النار، وإنما يقع ذلك بعد أن يتبين لهم أن ما كانوا عليه من الدين هو ضلال وباطل، وبذلك تقع في نفوسهم كراهية ما كانوا عليه، لأن النفوس نكره الضلال والباطل بعد تبينه، ولأنهم رأوا أن عاقبة ذلك كانت مجلبة العقاب لهم، فيزدادون بذلك كراهية لدينهم، فإذا دخلوا النار فرأوا الأمم التي أدخلت النار قبلهم علموا، بوجه من وجوه العلم، أنهم أدخلوا النار بذلك السبب فلعنوهم لكراهية دينهم ومن اتبعوه.
وقيل: المراد بأختها أسلافها الذين أضلوها.
وأفادت {كُلَّمَا} لما فيها من معنى التوقيت: أن ذلك اللعن يقع عند دخول الأمة النار، فيتعين إذن أن يكون التقدير: لعنت أختها السابقة إياها في الدخول في النار، فالأمة التي تدخل النار أول مرة قبل غيرها من الأمم لا تلعن أختها، ويعلم أنها تلعن من يدخل بعدها الثانية، ومن بعدها بطريق الأولى، أو ترد اللعن على كل أخت لاعنة. والمعنى: كلما دخلت أمة منهم بقرينة قوله: {لَعَنَتْ أُخْتَهَا} .
و"حتى" في قوله: {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا} ابتدائية، فهي جملة مستأنفة وقد تقدم في الآية قبل هذه أن "حتى" الابتدائية تفيد معنى التسبب، أي تسبب مضمون ما قبلها في مضمون ما بعدها، فيجوز أن تكون مترتبة في المعنى على مضمون قوله: {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ} الخ، ويجوز أن تكون مترتبة على مضمون قوله: { كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} .
و {ادَّارَكُوا} أصله تداركوا فقلبت التاء دالا ليتأتى إدغامها في الدال للتخفيف، وسكنت ليتحقق معنى الإدغام المتحركين، لثقل واجتلبت همزة الوصل لأجل الابتداء بالساكن، وهذا قلب ليس بمتعين، وإنما هو مستحسن، وليس هو مثل قلب التاء في ادان وازداد وادكر. ومعناه: أدرك بعضهم بعضا، فصيغ من الإدراك وزن التفاعل، والمعنى: تلاحقوا واجتمعوا في النار. وقوله {جَمِيعاً} حال من ضمير {ادَّارَكُوا} لتحقيق استيعاب الاجتماع، أي حتى إذا اجتمعت أمم الضلال كلها.
والمراد: بـ {أُخْرَاهُمْ} : الآخرة في الرتبة، وهم الأتباع والرعية من كل أمة من تلك الأمم، لأن كل أمة في عصر لا تخلو من قادة ورعاع، والمراد بالأولى: الأولى في

المرتبة والاعتبار، وهم القادة والمتبوعون من كل أمة أيضا، فالأخرى والأولى هنا صفتان جرتا على موصوفين محذوفين، أي أخرى الطوائف لأولاهم، وقيل: أريد بالأخرى المتأخرة في الزمان، وبالأولى أسلافهم، لأنهم يقولون {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف: 22]. وهذا لا يلائم ما يأتي بعده.
واللام في: {لِأُولاهُمْ} لام العلة، وليست اللام التي يتعدى بها فعل القول، لأن قول الطائفة الأخيرة موجه إلى الله تعالى، بصريح قولهم: {رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا} إلخ، لا إلى الطائفة الأولى، فهي كاللام في قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الاحقاف: 11].
والضعف بكسر الضاد المثل لمقدار الشيء، وهو من الألفاظ الدالة على معنى نسبي يقتضي وجود معنى آخر، كالزوج والنصف، ويختص بالمقدار والعدد، هذا قول أبي عبيدة والزجاج وأئمة اللغة، وقد يستعمل فعله في مطلق التكثير وذلك إذا أسند إلى ما لا يدخل تحت المقدار، مثل العذاب في قوله تعالى: {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الفرقان: 69] وقوله: {يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 30] أراد الكثرة القوية فقولهم هنا {فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً} أي أعطهم عذابا هو ضعف عذاب آخر، فعلم أنه، آتاهم عذابا، وهم سألوا زيادة قوة فيه تبلغ ما يعادل قوته، ولذلك لما وصف بضعف علم أنه مثل لعذاب حصل قبله إذ لا تقول: أكرمت فلان ضعفا، إلا إذا كان إكرامك في مقابلة إكرام آخر، فأنت تزيده، فهم سألوا لهم مضاعفة العذاب لأنهم علموا أن الضلال سبب العذاب، فعلموا أن الذين شرعوا الضلال هم أولى بعقوبة اشد من عقوبة الذين تقلدوه واتبعوهم، كما قال تعالى في الآية الأخرى: {يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} [سبأ: 31].
وفعل: {قَالَ} حكاية لجواب الله إياهم عن سؤالهم مضاعفة العذاب لقادتهم، فلذلك فصل ولم يعطف جريا على طلايقة حكاية الأقوال في المحاورات. والتنوين في قوله: {لِكُلِّ} عوض عن المضاف إليه المحذوف، والتقدير: لكل أمة، أو لكل طائفة ضعف، أي زيادة عذاب مثل العذاب الذي هي معذبة أول الأمر، فأما مضاعفة العذاب للقادة فلأنهم سنوا الضلال أو أيدوه ونصروه وذبوا عنه بالتمويه والمغالطات فأضلوا، وأما مضاعفته للأتباع فلأنهم ضلوا بإضلال قادتهم، ولأنهم بطاعتهم العمياء لقادتهم، وشكرهم إياهم على ما يرسمون لهم، وإعطائهم إياهم الأموال والرشى، يزيدونهم طغيانا وجراءة

على الإضلال ويغرونهم بالازدياد منه.
والاستدراك في قوله {وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ} لرفع ما توهمه التسوية بين القادة والأتباع في مضاعفة العذاب: أن التغليظ على الأتباع بلا موجب، لأنهم لولا القادة لما ضلوا، والمعنى: أنكم لا تعلمون الحقائق ولا تشعرون بخفايا المعاني، فلذلك ظننتم أن موجب مضاعفة العذاب لهم دونكم هو أنهم علموكم الضلال، ولو علمتم حق العلم لاطلعتم على ما كان لطاعتكم إياهم من الأثر في إغرائهم بالازدياد من الإضلال. ومفعول {تَعْلَمُونَ} محذوف دل عليه قوله {لِكُلِّ ضِعْفٌ} ، والتقدير: لا تعلمون سبب تضعيف العذاب لكل من الطائفتين، يعني لا تعلمون سبب تضعيفه لكم لظهور أنهم علموا سبب تضعيفه للذين أضلوهم.
وقرأ الجمهور: {لا تَعْلَمُونَ} بتاء الخطاب على أنه من تمام ما خاطب الله به الأمة الأخرى، وقرأه أبو بكر عن عاصم بياء الغيبة فيكون بمنزلة التذييل خطابا لسامعي القرآن، أي قال الله لهم ذلك وهم لا يعلمون أن لكل ضعفا فلذلك سألوا التغليظ على القادة فأجيبوا بأن التغليظ قد سلط على الفريقين.
وعطفت جملة: {وَقَالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ} على جملة: {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ} لأنهم لم يدخلوا في المحاورة ابتداء فلذلك لم تفصل الجملة.
والفاء في قولهم: {فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ} فاء فصيحة، مرتبة على قول الله تعالى: {لِكُلِّ ضِعْفٌ} حيث سوى بين الطائفتين في مضاعفة العذاب. و"ما" نافية. و"من" زائدة لتأكيد نفي الفضل، لأن إخبار الله تعالى بقوله: {لِكُلِّ ضِعْفٌ} سبب للعلم بأن لا مزية لأخراهم عليهم في تعذيبهم عذابا أقل من عذابهم، فالتقدير: فإذا كان لكل ضعف فما كان لكم من فضل، والمراد بالفضل الزيادة من العذاب. وقوله: {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} يجوز أن يكون من كلام أولاهم: عطفوا قولهم {ذُوقُوا الْعَذَابَ} على قولهم {فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ} بفاء العطف الدالة على الترتب. فالتشفي منهم فيما نالهم من عذاب الضعف ترتب على تحقق انتفاء الفضل بينهم في تضعيف العذاب الذي أفصح عنه إخبار الله بأن لهم عذابا ضعفا.
وصيغة الأمر في قولهم: {فَذُوقُوا} مستعملة في الإهانة والتشفي.
والذوق استعمل مجازا مرسلا في الإحساس بحاسة اللمس، وقد تقدم نظائره غير مرة.
والباء سببية، أي بسبب ما كنتم تكسبون مما أوجب لكم مضاعفة العذاب، وعبر

بالكسب دون الكفر لأنه أشمل لأحوالهم، لأن إضلالهم لأعقابهم كان بالكفر وبحب الفخر والأغراب بما علموهم وما سنوا لهم، فشمل ذلك كله أنه كسب.
يجوز أن يكون قوله: {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} من كلام الله تعالى، مخاطبا به كلا الفريقين، فيكون عطفا على قوله: {لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ} ويكون قوله: { وَقَالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ} : جملة معترضة بين الجملتين المتعاطفتين، وعلى اعتباره يكون الأمر في قوله: {فَذُوقُوا} للتكوين والإهانة.
وفيما قص الله من محاورة قادة الأمم وأتباعهم ما فيه موعظة وتحذير لقادة المسلمين من الإيقاع بأتباعهم فيما يزج بهم في الضلالة، ويحسن لهم هواهم، وموعظة لعامتهم من الاسترسال في تأييد من يشايع هواهم، ولا يبلغهم النصيحة، وفي الحديث: كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته.
[41,40] {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ * لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ}.
استئناف ابتدائي مسوق لتحقيق خلود الفريقين في النار، الواقع في قوله: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأعراف:36] فأخبر الله بأنه حرمهم أسباب النجاة، فسد عليهم أبواب الخير والصلاح، وبأنه حرمهم من دخول الجنة.
وأكد الخبر بـ {إِنَّ} لتأييسهم من دخول الجنة، لدفع توهم أن يكون المراد من الخلود المتقدم ذكره الكناية عن طول مدة البقاء في النار فإنه ورد في مواضع كثيرة مرادا به هذا المعنى.
ووقع الإظهار في مقام الإضمار لدفع احتمال أن يكون الضمير عائدا إلى إحدى الطائفتين المتحاورتين في النار، واختير من طرق الإظهار طريق التعريف بالموصول إيذانا بما تومئ إليه الصلة من وجه بناء الخبر، أي: إن ذلك لأجل تكذيبهم بآيات الله واستكبارهم عنها، كما تقدم في نظيرها السابق آنفا.
والسماء أطلقت في القرآن على معان، والأكثر أن يراد بها العوالم العليا غير

الأرضية، فالسماء مجموع العوالم العليا وهي مراتب وفيها عوالم القدس الإلهية من الملائكة والروحانيات الصالحة النافعة، ومصدر إفاضة الخيرات الروحية والجثمانية على العالم الأرضي، ومصدر المقادير المقدرة قال تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذريات:22]، فالسماء هنا مراد بها عالم القدس.
وأبواب السماء أسباب أمور عظيمة أطلق عليها اسم الأبواب لتقريب حقائقها إلى الأذهان فمنها قبول الأعمال، ومسالك وصول الأمور الخيرية الصادرة من أهل الأرض، وطرق قبولها، وهو تمثيل لأسباب التزكية، قال تعالى: {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ} [فاطر: 10]، وما يعلم حقائقها بالتفصيل إلا الله تعالى، لأنها محجوبة عنا، فكما أن العفاة والشفعاء إذا وردوا المكان قد يقبلون ويرضى عنهم فتفتح لهم أبواب القصور والقباب ويدخلون مكرمين، وقد يردون ويسخطون فتوصد في وجوههم الأبواب، مثل إقصاء المكذبين المستكبرين وعدم الرضا عنهم في سائر الأحوال، بحال من لا تفتح له أبواب المنازل، وأضيفت الأبواب إلى السماء ليظهر أن هذا تمثيل لحرمانهم من وسائل الخيرات الإلهية الروحية، فيشمل ذلك عدم استجابة الدعاء، وعدم قبول الأعمال والعبادات، وحرمان أرواحهم بعد الموت مشاهدة مناظر الجنة ومقاعد المؤمنين منها. فقوله: {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} كلمة جامعة لمعنى الحرمان من الخبرات الإلهية المحضة، وإن كانوا ينالون من نعم الله الجثمانية ما يناله غيرهم، فيغاثون بالمطر، ويأتيهم الرزق من الله، وهذا بيان لحال خذلانهم في الدنيا الحائل بينهم وبين وسائل دخول الجنة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كل ميسر لما خلق له" وقال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 5, 10].
وقرأ نافع، وابن كثير، وعاصم، وابن عامر، وأبو جعفر، ويعقوب: {لا تُفَتَّحُ} بضم التاء الأولى وفتح الفاء والتاء الثانية مشددة وهو مبالغة في فتح، فيفيد تحقيق نفي الفتح لهم. أو أشير بتلك المبالغة إلى أن المنفي فتح مخصوص وهو الفتح الذي يفتح للمؤمنين، وهو فتح قوي، فتكون تلك الإشارة زيادة في نكايتهم.
وقرأ أبو عمرو بضم التاء الأولى وسكون الفاء وفتح التاء الثانية مخففة. وقرأ جمزة، والكسائي، وخلف {لا تُفَتَّحُ} بمثناة تحتية في أوله مع تخفيف المثناة الفوقية مفتوحة على اعتبار تذكير الفعل لأجل كون الفاعل جمعا لمذكر.

وقوله: {وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى} إخبار عن حالهم في الآخرة وتحقيق لخلودهم في النار.
وبعد أن حقق ذلك بتأكيد الخبر كله بحرف التوكيد، زيد تأكيدا بطريق تأكيد الشيء بما يشبه ضده، المشتهر عند أهل البيان بتأكيد المدح بما يشبه الذم، وذلك بقوله تعالى: {حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} فقد جعل لانتفاء دخولهم الجنة امتدادا مستمرا، إذ جعل غايته شيئا مستحيلا، وهو أن يلج الجمل في سم الخياط، أي لو كانت لانتفاء دخولهم الجنة غاية لكانت غايته ولوج الجمل وهو البعير في سم الخياط، وهو أمر لا يكون أبدا.
والجمل: البعير المعروف للعرب، ضرب به المثل لأنه أشهر الأجسام في الضخامة في عرف العرب. والخياط هو المخيط بكسر الميم وهو آلة الخياطة المسمى بالإبرة، والفعال ورد اسما مرادفا للمفعل في الدلالة على آلة الشيء كقولهم حزام ومحزم، وإزار ومئزر، ولحاف وملحف، وقناع ومقنع.
والسم: الخرت الذي في الإبرة يدخل فيه خيط الخائط، وهو ثقب ضيق، وهو بفتح السين في الآية بلغة قريش وتضم السين في لغة أهل العالية. وهي ما بين نجد وبين حدود أرض مكة.
والقرآن أحال على ما هو معروف عند الناس من حقيقة الجمل وحقيقة الخياط، ليعلم أن دخول الجمل في خرت الإبرة محال متعذر ما داما على حاليهما المتعارفين.
والإشارة في قوله: {وَكَذَلِكَ} إشارة إلى عدم تفتح أبواب السماء الذي تضمنه قوله: {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} أي، ومثل ذلك الانتفاء، أي الحرمان نجزي المجرمين لأنهم بإجرامهم، الذي هو التكذيب والإعراض، جعلوا أنفسهم غير مكترثين بوسائل الخير والنجاة، فلم يتوخوها ولا تطلبوها، فلذلك جزاهم الله عن استكبارهم أن أعرض عنهم، وسد عليهم أبواب الخيرات.
وجملة {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} تذييل يؤذن بأن الإجرام هو الذي أوقعهم في ذلك الجزاء، فهم قد دخلوا في عموم المجرمين الذين يجزون بمثل ذلك الجزاء، وهم المقصود الأول منهم، لأن عقاب المجرمين قد شبه بعقاب هؤلاء، فعلم أنهم مجرمون، وأنهم في الرعيل الأول من المجرمين، حتى شبه عقاب عموم المجرمين بعقاب هؤلاء

وكانوا مثلا لذلك العموم.
والإجرام: فعل الجرم بضم الجيم وهو الذنب، وأصل: أجرم صار ذا جرم، كما يقال: ألبن وأتمر وأخصب.
والمهاد بكسر الميم ما يمهد أي يفرش، و {غَوَاشٍ} جمع غاشية وهي ما يغشى الإنسان، أي يغطيه ما للحاف، شبه ما هو تحتهم من النار بالمهاد، وما هو فوقهم منها بالغواشي، وذلك كناية عن انتفاء الراحة لهم في جهنم، فإن المرء يحتاج إلى المهاد والغاشية عند اضطجاعه للراحة، فإذا كان مهادهم وغاشيتهم النار، فقد انتفت راحتهم، وهذا ذكر لعذابهم السوء بعد أن ذكر حرمانهم من الخير.
وقوله: {غَوَاشٍ} وصف لمقدر دل عليه قوله: {مِنْ جَهَنَّمَ}، أي ومن فوقهم نيران كالغواشي. وذيله بقوله: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} ليدل على أن سبب ذلك الجزاء بالعقاب: هو الظلم، وهو الشرك، ولما كان جزاء الظالمين قد شبه بجزاء الذين كذبوا بالآيات واستكبروا عنها، علم أن هؤلاء المكذبين من جملة الظالمين، وهم المقصود الأول من هذا التشبيه، بحيث صاروا مثلا لعموم الظالمين، وبهذين العمومين كان الجملتان تذييلين.
وليس في هذه الجملة الثانية وضع الظاهر موضع المضمر: لأن الوصفين، وإن كانا صادقين معا على المكذبين المشبه عقاب أصحاب الوصفين بعقابهم. فوصف المجرمين أعم مفهوما من وصف الظالمين، لأن الإجرام يشمل التعطيل والمجوسية بخلاف الإشراك، وحقيقة وضع المظهر موقع المضمر إنما تقوم حيث لا يكون للاسم الظاهر المذكور معنى زائد على معنى الضمير.
[48] {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.
أعقب الإنذار والوعيد للمكذبين، بالبشارة والوعد للمؤمنين المصدقين على عادة القرآن في تعقيب أحد الغرضين بالآخر.
وعطف على: {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا} [الأعراف: 40] أي: وإن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إلخ، لأن بين مضمون الجملتين مناسبة متوسطة بين كمال

الاتصال وكمال الانقطاع، وهو التضاد بين وصف المسند إليهما في الجملتين، وهو التكذيب بالآيات والإيمان بها، وبين حكم المسندين وهو العذاب والنعيم، وهذا من قبيل الجامع الوهمي المذكور في أحكام الفصل والوصل من علم المعاني.
ولم يذكر متعلق لـ {آمَنُوا} لأن الإيمان صار كاللقب للإيمان الخاص الذي جاء به دين الإسلام وهو الإيمان بالله وحده.
واسم الإشارة مبتدأ ثان، و {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} خبره والجملة خبر عن {الَّذِينَ آمَنُوا} وجملة {لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} معترضة بين المسند إليه والمسند على طريقة الإدماج. وفائدة هذا الإدماج الإنفاق بالمؤمنين، لأنه لما بشرهم بالجنة على فعل الصالحات أطمن قلوبهم بأن لا يطلبوا من الأعمال الصالحة بما يخرج عن الطاقة، حتى إذا لم يبلغوا إليه أيسوا من الجنة، بل إنما يطلبون منها بما في وسعهم، فإن ذلك يرضي ربهم.
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه، أنه قال، في هذه الآية: إلا يسرها لا عسرها أي قاله على وجه التفسير لا أنه قراءة.
والوسع تقدم في قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} في سورة البقرة [286].
ودل قوله: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} على قصر ملازمة الجنة عليهم، دون غيرهم، ففيه تأييس آخر للمشركين بحيث قويت نصية حرمانهم من الجنة ونعيمها، وجملة: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} حال من اسم الإشارة في قوله: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} .
[43] {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.
انتساق النظم يقتضي أن تكون جملة: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ} حالا من الضمير في قوله: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} . وتكون جملة: {وَنَزَعْنَا} معترضة بين جملة: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأعراف: 42]، وجملة: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ} الخ، اعتراضا بين به حال نفوسهم في المعاملة في الجنة، ليقابل الاعتراض الذي أدمج في

أثناء وصف عذاب أهل النار، والمبين به حال نفوسهم في المعاملة بقوله: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف: 38].
والتعبير عن المستقبل بلفظ الماضي للتنبيه على تحقق وقوعه، أي: وننزع ما في صدورهم من غل، وهو تعبير معروف في القرآن كقوله تعالى : {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل: 1].
والنزع حقيقته قلع الشيء من موضعه وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} في آل عمران [26]، ونزع الغل من قلوب أهل الجنة: هو إزالة ما كان في قلوبهم في الدنيا من الغل عند تلقي ما يسوء من الغير، بحيث ظهر الله نفوسهم في حياتها الثانية عن الانفعال بالخواطر الشرية التي منها الغل، فزال ما كان في قلوبهم من غل بعضهم من بعض في الدنيا، أي أزال ما كان حاصلا من غل وأزال طباع الغل التي في النفوس البشرية بحيث لا يخطر في نفوسهم.
والغل: الحقد والإجنة والضغن، التي تحصل في النفس عند إدراك ما يسؤوها من عمل غيرها، وليس الحسد من الغل بل هو إحساس باطني آخر.
وجملة {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ} في موضع الحال، أي هم في أمكنة عالية تشرف على أنهار الجنة.
وجملة: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ} معطوفة على جملة: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأعراف: 42].
والتعبير بالماضي مراد به المستقبل أيضا كما في وقيل: {وَنَزَعْنَا}. وهذا القول يحتمل أن يكونوا يقولونه في خاصتهم ونفوسهم، على معنى التقرب إلى الله بحمده، ويحتمل أن يكونوا يقولونه بينهم في مجامعهم.
والإشارة في قولهم {لِهَذَا} إلى جميع ما هو حاضر من النعيم في وقت ذلك الحمد، والهداية له هي الإرشاد إلى أسبابه، وهي الإيمان والعمل الصالح، كما دل عليه قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [لأعراف: 42]، وقال تعالى: {يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} [يونس: 9] الآية، وجعل الهداية لنفس النعيم لأن الدلالة على ما يوصل إلى الشيء إنما هي هداية لأجل ذلك الشيء، وتقدم الكلام على فعل الهداية وتعديته في سورة الفاتحة [6].
والمراد بهدي الله تعالى إياهم إرساله محمدا صلى الله عليه وسلم إليهم فأيقظهم من غفلتهم فاتبعوه،

ولم يعاندوا، ولم يستكبروا، ودل عليه قولهم {لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} مع ما يسر الله لهم من قبولهم الدعوة وانتقالهم الأمر، فإنه من تمام المنة المحمود عليها، وهذا التيسير هو الذي حرمه المكذبون المستكبرون لأجل ابتدائهم بالتكذيب والاستكبار، دون النر والاعتبار.
وجملة {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ} في موضع الحال من الضمير المنصوب، أي هدانا في هذا الحال حال بعدنا عن الاهتداء، وذلك مما يؤذن بكبر منة الله تعالى عليهم، وبتعظيم حمدهم وتجزيله، ولذلك جاءوا بجملة الحمد مشتملة على أقصى ما تشتمل عليه من الخصائص التي تقدم بيانها في سورة الفاتحة[6].
ودل قوله: {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ} على بعد حالهم السالفة عن الاهتداء، كما أفاده نفي الكون مع لام الجحود، حسبما تقدم عند قوله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} الآية في سورة آل عمران [79]، فإنهم كانوا منغمسين في ضلالات قديمة قد رسخت في أنفسهم، فأما قادتهم فقد زينها الشيطان لهم حتى اعتقدوها وسنوها لمن بعدهم، وأما دهماؤهم وأخلافهم فقد رأوا قدوتهم على تلك الضلالات، وتأصلت فيهم، فما كان من السهل اهتداؤهم، لولا أن هداهم الله ببعثة الرسل وسياستهم في دعوتهم وأن قذف في قلوبهم قبول الدعوة.
ولذلك عقبوا تحميدهم وثناءهم على الله بقولهم: {لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} فتلك جملة مستأنفة، استئنافا ابتدائيا، لصدروها عن ابتهاج نفوسهم واغتباطهم بما جاءتهم به الرسل، فجعلوا يتذكرون أسباب هدايتهم ويعتبرون بذلك ويغتبطون، تلذذا بالتكلم به، لأن تذكر الأمر المحبوب والحديث عنه مما تلذ به النفوس، مع قصد الثناء على الرسل.
وتأكيد الفعل بلام القسم وبقد، مع أنهم غير منكرين لمجيء الرسل: إما لأنه كناية عن الإعجاب بمطابقة ما وعدهم به الرسل من النعيم لما وجدوه مثل قوله تعالى: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} [الزخرف: 71] وقول النبي صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: "أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر"، وإما لأنهم أرادوا بقولهم هذا الثناء على الرسل والشهادة بصدقهم جمعا مع الثناء على الله، فأتوا بالخبر في صورة الشهادة المؤكدة التي لا تردد فيها.
وقرأ ابن عامر: {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ} بدون واو قبل "ما" وكذلك كتبت في المصحف الإمام الموجه إلى الشام، وعلى هذه القراءة تكون هذه الجملة مفصولة عن التي

قبلها، على اعتبار كونها كالتعليل للحمد، والتنويه بأنه حمد عظيم على نعمة عظيمة، كما تقدم بيانه.
وجملة: {وَنُودُوا} معطوفة على جملة: {وَقَالُوا} فتكون حالا أيضا، لأن هذا النداء جواب لثنائهم، يدل على قبول ما أثنوا به، وعلى رضى الله عنهم، والنداء من قبل الله، ولذلك بني فعله إلى المجهول لظهور المقصود، والنداء إعلان الخطاب، وهو أصل حقيقته في اللغة، ويطلق النداء غالبا على دعاء أحد ليقبل بذاته أو بفهمه لسماع كلام، ولو لم يكن برفع صوت: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً} [مريم:3] ولهذا المعنى حروف خاصة تدل عليه في العربية. وتقدم عند قوله تعالى: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا} في هذه السورة [22].
و"أن" تفسير لـ {نُودُوا} لأن النداء فيه معنى القول. والإشارة إلى الجنة بـ {تِلْكُمُ} ، الذي حقه أن يستعمل في المشار إليه البعيد، مع أن الجنة حاضرة بين يديهم، لقصد رفعة شانها وتعظيم المنة بها.
والإرث حقيقته مصير مال الميت إلى أقرب الناس إليه، ويقال: أورث الميت أقرباءه ماله، بمعنى جعلهم يرثونه عنه، لأنه لما لم يصرفه عنهم بالوصية لغيره فقد تركه لهم، ويطلق مجازا على مضير شيء إلى حد بدون عوض ولا غصب تشبيها بإرث الميت، فمعنى قوله: {أُورِثْتُمُوهَا} أعطيتموها عطية هنيئة لا تعب فيها ولا منازعة.
والباء في قوله: {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} سببية أي بسبب أعمالكم، وهي الإيمان والعمل الصالح، وهذا الكلام ثناء عليهم بأن الله شكر لهم أعمالهم، فأعطاهم هذا النعيم الخالد لأجل أعمالهم، وأنهم لما عملوا ما علوه من العمل ما كانوا ينوون بعملهم إلا السلامة من غضب ربهم وتطلب مرضاته شكرا له على نعمائه، وما كانوا يمتون بأن توصلهم أعمالهم إلى ما قالوه، وذلك لا ينافي الطمع في ثوابه والنجاة من عقابه، وقد دل على ذلك الجمع بين {أورثتموها} وبين باء السببية.
فالإيراث دل على أنها عطية بدون قصد تعاوض ولا تعاقد، وأنها فضل محض من الله تعالى، لأن إيمان العبد بربه وطاعته إياه لا يوجب عقلا ولا عدلا إلا نجاته من العقاب الذي من شانه أن يترتب على الكفران والعصيان، وإلا حصول رضى ربه عنه، ولا يوجب جزاء ولا عطاء، لأن شكر المنعم واجب، فهذا الجزاء وعظمته مجرد فضل من الرب على عبده شكرا لإيمانه به وطاعته، ولكن لما كان سبب هذا الشكر عند الرب الشاكر هو عمل عبده بما أمره به، وقد تفضل الله به فوعد به من قبل حصوله، فمن

العجب قول المنعزلة بوجوب الثواب عقلا، ولعلهم أوقعهم فيه اشتباه حصول الثواب بالسلامة من العقاب، مع أن الواسطة بين الحالين بينه لأولي الألباب، وهذا أحسن مما يطيل به أصحابنا معهم في الجواب.
وباء السببية اقتضت الذي أعطاهم منازل الجنة أراد به شكر أعمالهم وثوابها من غير قصد تعاوض ولا تقابل فجعلها كالشيء الذي استحقه العامل عوضا عن عمله فاستعار لها باء السببية.
[45,44] {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ}.
جملة {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} يجوز أن تكون معطوفة على جملة {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} [الأعراف: 43] إلخ، عطف القول على القول، إذ حكي قولهم المنبئ عن بهجتهم بما هم فيه من النعيم، ثم حكي ما يقولونه لأهل النار حينما يشاهدونهم.
ويجوز أن تكون معطوفة على جملة {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ} [الأعراف: 43] عطف القصة على القصة بمناسبة الانتقال من ذكر نداء من قبل الله إلى ذكر مناداة أهل الآخرة بعضهم بعضا، فعلى الوجهين يكون التعبير عنهم بأصحاب الجنة دون ضميرهم توطئة لذكر نداء أصحاب الأعراف ونداء أصحاب النار، ليعبر عن كل فريق بعنوانه وليكون منه محسن الطباق في مقابلته بقوله: {أَصْحَابُ النَّارِ} .
وهذا النداء خطاب من أصحاب الجنة، عبر عنه بالنداء كناية عن بلوغه إلى أسماع أصحاب النار من مسافة سحيقة البعد، فإن سعة الجنة وسعة النار تقتضيان ذلك لا سيما مع قوله {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ} [لأعراف: 46]، ووسيلة بلوغ هذا الخطاب من الجنة إلى أصحاب النار وسيلة عجيبة غير متعارفة. وعلم الله وقدرته لا حد لمتعلقاتهما.
و"أن" في قوله {أَنْ قَدْ وَجَدْنَا} تفسيرية للنداء. والخبر الذي هو {مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً} مستعمل في لازم معناه وهو الاعتباط بحالهم، وتنغيص أعدائهم بعلمهم برفاهية حالهم، والتورك على الأعداء إذ كانوا يحسبونهم قد ضلوا حين فارقوا دين آبائهم، وأنهم حرموا أنفسهم طيبات الدنيا بالانكفاف عن المعاصي، وهذه معان متعددة كلها من لوازم الإخبار، والمعاني الكنائية لا يمتنع تعددها لأنها تبع للوازم العقلية، وهذه الكناية

جمع فيها بين المعنى الصريح والمعاني الكنائية، ولكن المعاني الكنائية هي المقصودة إذ ليس القصد أن يعلم أهل النار بما حصل لأهل الجنة ولكن القصد ما يلزم عن ذلك. وأما المعاني الصريحة فمدلوله بالأصالة عند عدم القرينة المانعة.
والاستفهام في جملة {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً} مستعمل مجازا مرسلا بعلاقة للزوم في توقيف المخاطبين على غلطهم، وإثارة ندامتهم وغمهم على ما فرط منهم، والشماتة بهم في عواقب عنادهم. والمعاني المجازية التي علاقتها اللزوم يجوز تعددها مثل الكناية، وقرينة المجاز هي: ظهور أن أصحاب الجنة يعلمون أن أصحاب النار وجدوا وعده حقا.
والوجدان: إلقاء الشيء ولقيه، قال تعالى: {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ} [القصص: 15] وفعله يتعدى إلى مفعول واحد، قال تعالى {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ} [النور: 39] ويغلب أن يذكر مع المفعول حاله، فقوله: {وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً} معناه ألقيناه حال كونه حقا لا تخلف في شيء منه، فلا يدل قوله {وَجَدْنَا} على سبق بحث أو تطلب للمطابقة كما قد يتوهم، وقد يستعمل الوجدان في الإدراك والظن مجازا، وهو مجاز شائع.
و"ما" موصولة في قوله: {مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا} و {مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ} ودلت على أن الصلة معلومة عند المخاطبين. على تفاوت في الإجمال والتفصيل، فقد كانوا يعلمون أن الرسول صلى الله عليه وسلم وعد المؤمنين بنعيم عظيم، وتوعد الكافرين بعذاب أليم، سمع بعضهم تفاصيل ذلك كلها أو بعضها، وسمع بعضهم إجمالها: مباشرة أو بالتناقل عن إخوانهم، فكان للموصولية في قوله: {أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً} إيجاز بديع، والجواب بنعم تحقيق للمسؤول عنه بهل: لأن السؤال بهل يتضمن ترجيح السائل وقوع المسؤول عنه. فهو جواب المقر المتحسر المعترف، وقد جاء الجواب صالحا لظاهر السؤال وخفيه، فالمقصود من الجواب بها تحقيق ما أريد بالسؤال من المعاني حقيقة أو مجازا، إذ ليست نعم خاصة بتحقيق المعاني الحقيقية.
وحذف مفعول {وَعَدَ} الثاني في قوله: {مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ} لمجرد الإيجاز لدلالة مقابله عليه في قوله: {مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا} لأن المقصود من السؤال سؤالهم عما يخصهم. فالتقدير: فهل وجدتم ما وعدكم ربكم، أي من العذاب لأن الوعد يستعمل في الخير والشر.
ودلت الفاء في قوله: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ} على أن التأذين مسبب على المحاورة تحقيقا لمقصد أهل الجنة من سؤال أهل النار من إظهار غلطهم وفساد معتقدهم.

والتأذين: رفع الصوت بالكلام رفعا يسمع البعيد بقدر الإمكان وهو مشتق من الأذن بضم الهمزة جارحة السمع المعروفة، وهذا التأذين إخبار باللعن وهو الإبعاد عن الخير، أي إعلام بأن أهل النار مبعدون عن رحمة الله، زيادة في التأييس لهم، أو دعاء عليهم بزيادة البعد عن الرحمة بتضعيف العذاب أو تحقيق الخلود، ووقوع هذا التأذين عقب المحاورة بعلم منه أن المراد بالظالمين، وما تبعه من الصفات والأفعال، هم أصحاب النار، والمقصود من تلك الصفات تفظيع حالهم، والنداء على خبث نفوسهم، فساد معتقدهم.
وقرأ نافع، وأبو عمرو، وعاصم، وقيل عن ابن كثير: {أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ} بتخفيف نون "أن" على أنها تفسيرية لفعل "أذن" ورفع "لعنة" على الابتداء والجملة تفسيرية، وقرأه الباقون بتشديد النون وبنصب "لعنة" على "أن" الجملة مفعول "أذن" لتضمنه معنى القول، والتقدير: قائلا أن لعنة الله على الظالمين.
والتعبير عنهم بالظالمين تعريف لهم بوصف جرى مجرى اللقب تعرف به جماعتهم، كما يقال: المؤمنين، لأهل الإسلام، فلا ينافي أنهم حين وصفوا به لم يكونوا ظالمين، لأنهم قد علموا بطلان الشرك حق العلم وشأن اسم الفاعل أن يكون حقيقة في الحال مجازا في الاستقبال، ولا يكون للماضي، وأما إجراء الصلة عليهم بالفعلين المضارعين في قوله: {يَصُدُّونَ} وقوله: {وَيَبْغُونَهَا} وشان المضارع الدلالة على حدث حاصل في زمن الحال، وهم في زمن التأذين لم يكونوا متصفين بالصد عن سبيل الله، ولا ببغي عوج السبيل، فذلك لقصد ما يفيده المضارع من تكرر حصول الفعل تبعا لمعنى التجدد، والمعنى وصفهم بتكرر ذلك منهم في الزمن الماضي، وهو معنى قول علماء المعاني استحضار الحالة، كقوله تعالى في الحكاية عن نوح: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ} [هود: 38] مع أن زمن صنع الفلك مضى، وإنما قصد استحضار حالة التجدد، وكذلك وصفهم باسم الفاعل في قوله: {وَهُمْ بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ} فإن حقه الدلالة على زمن الحال. وقد استعمل هنا في الماضي: أي كافرون بالآخرة فيما مضى من حياتهم الدنيا، وكل ذلك اعتماد على قرينة حال السامعين المانعة من إرادة المعنى الحقيقي من صيغة المضارع وصيغة اسم الفاعل، إذ قد علم كل سامع أن المقصودين صاروا غير متلبسين بتلك الأحداث في وقت التأذين، بل تلبسوا بنقائضها، فإنهم حينئذ قد علموا الحق وشاهدوه كما دل عليه قولهم "نعم". وإنما عرفوا بتلك الأحوال الماضية لأن النفوس البشرية تعرف بالأحوال التي كانت متلبسة

بها في مدة الحياة الأولى، فبالموت تنتهي أحوال الإنسان فيستقر اتصاف نفسه بما عاشت عليه، وفي الحديث: يبعث كل عبد على ما مات عليه رواه مسلم، ويجوز أن تكون هذه اللعنة كانت الملائكة يلعنونها بها في الدنيا، فجهروا بها في الآخرة، لأنها صارت كالشعار للكفرة ينادون بها، وهذا كما جاء في الحديث: "يؤنى بالمؤذنين يوم القيامة يصرخون بالأذان" مع أن في ألفاظ الأذان ما لا يقصد معناه يومئذ وهو: "حي على الصلاة حي على الفلاح"، وفي حكاية ذلك هنا إعلام لأصحاب هذه الصفات في الدنيا بأنهم محقوقون بلعنة الله تعالى.
المراد بالظالمين: المشركون، وبالصد عن سبيل الله: إما تعرض المشركين للراغبين في الإسلام بالأذى والصرف عن الدخول في الدين بوجوه مختلفة، وسبيل الله ما به الوصول إلى مرضاته وهو الإسلام، فيكون الصد مرادا به المتعدي إلى المفعول، وإما إعراضهم عن سماع دعوة الإسلام وسماع القرآن، فيكون الصد مرادا به القاصر، الذي قيل: إن مضارعة بكسر الصاد، أو إن حق مضارعة كسر الصاد. إذ قيل لم يسمع مكسور الصاد. وإن كان القياس كسر الصاد في اللازم وضمها في المتعدي.
والضمير المؤنث في قوله: {وَيَبْغُونَهَا} عائد إلى {سَبِيلِ اللَّهِ} ، لأن السبيل يذكر ويؤنث قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} [يوسف: 108] وقال: {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} [الأعراف: 146].
والعوج: ضد الاستقامة، وهو بفتح العين في الأجسام، وبكسر العين في المعاني، وأصله أن يجوز فيه الفتح والكسر، ولكن الاستعمال خصص الحقيقة بأحد الوجهين والمجاز بالوجه الآخر، وذلك من محاسن الاستعمال، فالإخبار عن السبيل ب"عوج" إخبار بالمصدر للمبالغة، أي ويرومون ويحاولون إظهار هذه السبيل عوجاء، أي يختلقون لها نقائص يموهونها على الناس تنفيرا عن الإسلام كقولهم {هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} [سبأ: 7, 8]، وتقدم تفسيره عند قوله تعالى {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً} في سورة آل عمران [99].
وورد وصفهم بالكفر بطريق الجملة الاسمية في قوله: {وَهُمْ بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ} للدلالة على ثبات الكفر فيهم وتمكنه منهم، لأن الكفر من الاعتقادات العقلية التي لا يناسبها التكرر، فلذلك خولف بينه وبين وصفهم بالصد عن سبيل الله وبغي إظهار العوج

فيها، لأن ذينك من الأفعال القابلة للتكير، بخلاف الكفر فإنه ليس من الأفعال، ولكنه من الانفعالات، ونظير ذلك قوله تعالى {يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} [الشورى: 19].
[48,47] {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلّاً بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ * وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}.
تقديم {وَبَيْنَهُمَا} وهو خبر على المبتدإ للاهتمام بالمكان المتوسط بين الجنة والنار وما ذكر من شأنه. وبهذا التقديم صح تصحيح الابتداء بالنكرة، والتنكير للتعظيم.
وضمير {بَيْنَهُمَا} يعود إلى لفظي الجنة والنار الواقعين في قوله: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ} [الأعراف: 44]. وهما اسما مكان، فيصلح اعتبار التوسط بينهما. وجعل الحجاب فصلا بينهما، وتثنية الضمير تعين هذا المعنى، ولو أريد من الضمير فريقا أهل الجنة وأهل النار، لقال: بينهم. كما قال في سورة الحديد {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ} [13]الآية.
والحجاب سور ضرب فاصلا بين مكان الجنة ومكان جهنم، وقد سماه القرآن سورا في قوله {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ} في سورة الحديد [13]، وسمي السور حجابا لأنه يقصد منه الحجب والمنع كما سمي سورا باعتبار الإحاطة.
والأعراف: جمع عرف بضم العين وسكون الراء، وقد تضم الراء أيضا وهو أعلى الشيء ومنه سمي عرف الفرس، الشعر الذي في أعلى رقبته، وسمي عرف الديك. الريش الذي في أعلى رأسه.
و"أل" في {الأَعْرَافِ} للعهد، وهي الأعراف المعهودة التي تكون بارزة في أعالي السور، ليرقب منها النضارة حركات العد وليشعروا به إذا داهمهم. ولم يسبق ذكر للأعراف هنا حتى تعرف بلام العهد، فتعين أنها ما يعهده الناس في الأسوار، أو يجعل "أل" عوضا عن المضاف إليه: أي وعلى أعراف السور، وهما وجهان في نظائر هذا التعريف كقوله تعالى: {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:41] وأيا ما كان فنظم الآية يأبى أن يكون المراد من الأعراف مكانا مخصوصا يتعرف منه أهل الجنة وأهل النار، إذ لا وجه حينئذ لتعريفه مع عدم سبق الحديث عنه.

وتقديم الجار والمجرور لتصحيح الابتداء بالنكرة، إذ اقتضى المقام الحديث عن رجال مجهولين يكونون على أعراف هذا الحجاب. قبل أن يدخلوا الجنة، فيشهدون هنالك أحوال أهل الجنة وأحوال أهل النار، ويعرفون رجالا من أهل النار كانوا من أهل العزة والكبرياء في الدنيا، وكانوا يكذبون وعد الله المؤمنين بالجنة. وليس تخصيص الرجال بالذكر بمقتض أن ليس في أهل الأعراف نساء، ولا اختصاص هؤلاء الرجال المتحدث عنهم بذلك المكان دون سواهم من الرجال، ولكن هؤلاء رجال يقع لهم هذا الخبر، فذكروا هنا للاعتبار على وجه المصادفة، لا لقصد تقسيم أهل الآخرة وأمكنتهم، ولعل توهم أن تخصيص الرجال بالذكر لقصد التقسيم قد أوقع بعض المفسرين في حيرة لتطلب المعنى لأن ذلك يقتضي أن يكون أهل الأعراف قد استحقوا ذلك المكان لأجل حالة لاحظ للنساء فيها، فبعضهم حمل الرجال على الحقيقة فتطلب عملا يعمله الرجال لاحظ للنساء فيه في الإسلام، وليس إلا الجهاد، فقال بعض المفسرين: هؤلاء قوم جاهدوا وكانوا عاصين لآبائهم، وبعض المفسرين حمل الرجال على المجاز بمعنى الأشخاص من الملائكة، أطلق عليهم الرجال لأنهم ليسوا إناثا كما أطلق على أشخاص الجن في قوله تعالى {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ} [الجن: 6] فيظهر وجه لتخصيص الرجال بالذكر تبعا لما في بعض تلك الأحاديث التي أشرنا إليها.
وأما ما نقل عن بعض السلف أن أهل الأعراف هم قوم استوت موازين حسناتهم مع موازين سيئاتهم، ويكون إطلاق الرجال عليهم تغليبا، لأنه لابد أن يكون فيهم نساء، ويروى فيه أخبار مسندة إلى النبي صلى الله عليه وسلم لم تبلغ مبلغ الصحيح ولم تنزل إلى رتبة الضعيف: روى بعضها ابن ماجة، وبعضها ابن مردويه، وبعضها الطبري، فإذا صحت فإن المراد منها أن من كانت تلك حالتهم يكونون من جملة أهل الأعراف المخبر عنهم في القرآن بأنهم لم يدخلوا الجنة وهم يطمعون، وليس المراد منها أنهم المقصود من هذه الآية كما لا يخفى على المتأمل فيها.
والذي ينبغي تفسير الآية به: أن هذه الأعراف جعلها الله مكانا يوقف به من جعله الله من أهل الجنة قبل دخوله إياها، وذلك ضرب من العقاب خفيف، فجعل الداخلين إلى الجنة متفاوتين في السبق تفاوتا يعلم الله أسبابه ومقاديره، وقد قال تعالى {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10]. وخص الله بالحديث في هذه الآيات رجالا من

أصحاب الأعراف. ثم يحتمل أن يكون أصحاب الأعراف من الأمة الإسلامية خاصة، ويحتمل أن يكونوا من سائر الأمم المؤمنين برسلهم، وأياما كان فالمقصود من هذه الآيات هم من كان من الأمة المحمدية.
وتنوين {كُلّاً} عوض عن المضاف إليه المعروف من الكلام المتقدم أي كل أهل الجنة وأهل النار.
والسيما بالقصر السمة أي العلامة، أي بعلامة ميز الله بها أهل الجنة وأهل النار، وقد تقدم بيانها واشتقاقها عند قوله تعالى {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} في سورة البقرة [273].
ونداؤهم أهل الجنة بالسلام يؤذن بأنهم في اتصال بعيد من أهل الجنة، فجعل الله ذلك أمارة لهم بحسن عاقبتهم ترتاح لها نفوسهم، ويعلمون أنهم صائرون إلى الجنة، فلذلك حكي الله حالهم هذه للناس إيذانا بذلك وبان طمعهم في قوله {لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} هو طمع مستند إلى علامات وقوع المطموع فيه، فهو من صنف الرجاء كقوله {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:82].
و {أَنَّ} تفسير للنداء، وهو القول {سَلامٌ عَلَيْكُمْ}. و {سَلامٌ عَلَيْكُمْ} دعاء تحية وإكرام.
وجملة {لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} مستأنفة للبيان. لأن قوله {وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} يثير سؤالا يبحث عن كونهم صائرين إلى الجنة أو إلى غيرها، وجملة {وَهُمْ يَطْمَعُونَ} حال من ضمير {يَدْخُلُوهَا} والجملتان معا معترضتان بين جملة {وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} وجملة {وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ} .
وجملة {وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ} معطوفة على جملة {وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} .
والصرف: أمر الحال بمغادرة المكان. والصرف هنا مجاز في الالتفات أو استعارة. وإسناده إلى المجهول هنا جار على المتعارف في أمثاله من الأفعال التي لا يتطلب لها فاعل، وقد تكون لهذا الإسناد هنا فائدة زائدة وهي الإشارة إلى أنهم لا ينظرون إلى أهل النار إلا نظرا شبيها بفعل من يحمله على الفعل حامل، وذلك أن النفس وإن كانت تكره المناظر السيئة فإن حب الاطلاع يحملها على أن توجه النظر إليها آونة لتحصيل ما هو مجهول لديها.
والتلقاء: مكان وجود الشيء، وهو منقول من المصدر الذي هو بمعنى اللقاء، لأن

محل الوجود ملاق للموجود فيه.
[49,48] {وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ}.
التعريف في قوله {أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ} للعهد بقرينة تقدم ذكره في قوله {وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ} [الأعراف: 46] وبقرينة قوله هنا {رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ} إذ لا يستقيم أن يكون أولئك الرجال ينادينهم جميع من كان على الأعراف، ولا أن يعرفهم بسيماهم جميع الذين كانوا على الأعراف، مع اختلاف العصور والأمم، فالمقصود بأصحاب الأعراف هم الرجال الذين ذكروا في الآية السابقة بقوله {وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ} فكأنه قيل: ونادى أولئك الرجال الذين على الأعراف رجالا. والتعبير عنهم هنا بأصحاب الأعراف إظهار في مقام الإضمار، إذ كان مقتضى الظاهر أن يقال. ونادوا رجالا، إلا أنه لما تقدد في الآية السابقة ما يصلح لعود الضمائر إليه وقع الإظهار في مقام الإضمار دفعا للالتباس.
والنداء يؤذن ببعد المخاطب فيظهر أن أهل الأعراف لما تطلعوا بأبصارهم إلى النار عرفوا رجالا، أو قبل ذلك لما مر عليهم بأهل النار عرفوا رجالا كانوا جبارين في الدنيا. والسيما هنا يتعين أن يكون المراد بها المشخصات الذاتية التي تتميز بها الأشخاص، وليست السيما التي يتميز بها أهل النار كلهم كما هو في الآية السابقة.
فالمقصود بهذه الآية ذكر شيء من أمر الآخرة. فيه نذارة وموعظة لجبابرة المشركين من العرب الذين كانوا يحقرون المستضعفين من المؤمنين، وفيهم عبيد وفقراء فإذا سمعوا بشارات القرآن للمؤمنين بالجنة سكتوا عمن كان من أحرار المسلمين وسادتهم، وأنكروا أن يكون أولئك الضعاف والعبيد من أهل الجنة، وذلك على سبيل الفرض، أي لو فرضوا صدق وجود جنة، فليس هؤلاء بأهل لسكنى الجنة لأنهم ما كانوا يؤمنون بالجنة، وقصدهم من هذا تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم وإظهار ما يحسبونه خطلا من أقواله، وذلك مثل قولهم {هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [سبأ: 7] فجعلوا تمزق الأجساد وفناءها دليلا على إبطال الحشر. وسكتوا عن حشر الأجساد التي لم تمزق، وكل ذلك من سوء الفهم وضعف الإدراك والتخليط بين العاديات والعقليات.

قال ابن الكلبي: ينادي أهل الأعراف وهم على السور يا وليد بن المغيرة يا أبا جهل بن هشام يا فلان ويا فلان فهؤلاء من الرجال الذين يعرفونهم بسيماهم وكانوا من أهل العزة والكبرياء.
ومعنى {جَمْعُكُمْ} يحتمل أن يكون جمع الناس، أي ما أغنت عنكم كثرتكم التي تعتزون بها، ويحتمل أن يراد من الجمع المصدر بمعنى اسم المفعول، أي ما جمعتموه من المال والثروة كقوله تعالى {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ} [الحاقة:28].
و"ما" الأولى نافية، ومعني {مَا أَغْنَى} ما أجزى مصدره الغناء بفتح الغين وبالمد.
والخبر مستعمل في الشماتة والتوقيف على الخطأ.
و"ما" الثانية مصدرية، أي واستكباركم الذي مضى في الدنيا، ووجه صوغه بصيغة الفعل دون المصدر إذ لم يقل استكباركم ليتوسل بالفعل إلى كونه مضارعا فيفيد أن الاستكبار كان دأبهم لا يفترون عنه.
وجملة {أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ} من كلام أصحاب الأعراف. والاستفهام في قوله {أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ} مستعمل في التقرير.
والإشارة بـ {هَؤُلاءِ} إلى قوم من أهل الجنة كانوا مستضعفين في الدنيا ومحقرين عند المشركين بقرينة قوله {الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ} وقوله {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ} قال المفسرون هؤلاء مثل سلمان، وبلال، وخباب، وصهيب من ضعفاء المؤمنين، فإما أن يكونوا حينئذ قد استقروا في الجنة فجلاهم الله لأهل الأعراف وللرجال الذين خاطبوهم، وإما أن يكون ذلك الحوار قد وقع قبل إدخالهم الجنة. وقسمهم عليهم لإظهار تصلبهم في اعتقادهم وأنهم لا يخامرهم شك في ذلك كقوله تعالى {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} [النحل: 38].
وقوله {لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ} هو المقسم عليه، وقد سلطوا النفي في كلامهم على مراعاة نفي كلام يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم أو المؤمنون، وذلك أن بشارات القرآن أولئك الضعفاء، ووعده إياهم بالجنة، وثناءه عليهم نزل منزلة كلام يقول: إن الله ينالهم برحمة، أي بأن جعل إيواء الله إياهم بدار رحمته، أي الجنة، بمنزلة النيل وهو حصول الأمر المحبوب المبحوث عنه كما تقدم في قوله {أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ

الْكِتَابِ} [الأعراف: 37] آنفا، فأطلق على ذلك الإيواء فعل "ينال" على سبيل الاستعارة. وجعلت الرحمة بمنزلة الآلة للنيل كما يقال: نال الثمرة بمحجن، فالباء للآلة. أو جعلت الرحمة ملابسة للنيل فالباء للملابسة، والنيل هنا استعارة، وقد عمدوا إلى هذا الكلام المقدر فنفوه فقالوا {لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ} .
وهذا النظم الذي حكي به قسمهم يؤذن بتهكمهم بضعفاء المؤمنين في الدنيا، وقد أغفل المفسرون تفسير هذه الآية بحسب نظمها.
وجملة: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ} قبل مقول قول محذوف اختصارا لدلالة السياق عليه، وحذف القول في مثله كثير ولا سيما إذا كان المقول جملة إنشائية، والتقدير: قال لهم الله ادخلوا الجنة فكذب الله قسمكم وخيب ظنكم، وهذا كله من كلام أصحاب الأعراف، والأظهر أن يكون الأمر في قوله: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ} للدعاء لأن المشار إليهم بهؤلاء هم أناس من أهل الجنة، لأن ذلك الحين قد استقر فيه أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار، كما تقتضيه الآيات السابقة من قوله { وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ} إلى قوله {الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأعراف: 46, 47] فلذلك يتعين جعل الأمر للدعاء كما في قول المعري:
ابق في نعمة بقاء الدهور ... نافذا لحكم في جميع الأمور
وإذ قد كان الدخول حاصلا فالدعاء به لإرادة الدوام كما يقول الداعي على الخارج: أخرج غير مأسوف عليك، ومنه قوله تعالى {وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} .
ورفع {خَوْفٌ} مع "لا" لأن أسماء أجناس المعاني التي ليست لها أفراد في الخارج يستوي في نفيها بلا الرفع والفتح، كما تقدم عند قوله تعالى: {فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [لأعراف: 35].
[51,50] {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ}.

{وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} .
القول في {نَادَى} وفي {أَنْ} التفسيرية كالقول في: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا} [الأعراف: 44] الآية. وأصحاب النار مراد بهم من كان من مشركي أمة الدعوة لأنهم المقصود كما تقدم، وليوافق قوله بعد {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ} [الأعراف: 52].
فعل الفيض حقيقته سيلان الماء وانصبابه بقوة ويستعمل مجازا في الكثرة، ومنه ما في الحديث:" ويفيض المال حتى لا يقبله أحد". ويجيء منه مجاز في السخاء ووفرة العطاء، ومنه ما في الحديث أنه قال لطلحة: "أنت الفياض" فالفيض في الآية إذا حمل على حقيقته كان أصحاب النار طالبين من أصحاب الجنة أن يصبوا عليهم ماء ليشربوا منه، وعلى هذا المعنى حمله المفسرون، ولأجل ذلك جعل الزمخشري عطف {مَِا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} عطفا على الجملة لا على المفرد، فيقدر عامل بعد حرف العطف يناسب ما عدا الماء تقديره: أو أعطونا، ونظره بقول الشاعر أنشده الفراء :
علفتها تبنا وماء باردا ... حتى شبت همالة عيناها
تقديره: علفتها تبنا وسقيتها ماء باردا، وعلى هذا الوجه تكون "من" بمعنى بعض، أو صفة لموصوف محذوف تقديره: شيئا من الماء، لأن: {أَفِيضُوا} يتعدى بنفسه.
ويجوز عندي أن يحمل الفيض على المعنى المجازي، وهو سعة العطاء والسخاء، من الماء والرزق، إذ ليس معنى الصب بمناسب بل المقصود الإرسال والتفضل، ويكون العطف عطف مفرد على مفرد وهو أصل العطف، ويكون سؤلهم من الطعام مماثلا لسؤلهم من الماء في الكثرة، فيكون في هذا الحمل تعريض بأن أصحاب الجنة أهل سخاء، وتكون "من" على هذا الوجه بيانية لمعنى الإفاضة، ويكون فعل {أَفِيضُوا} منزلا منزلة اللازم، فتتعلق من بفعل {أَفِيضُوا} .
والرزق مراد به الطعام كما في قوله تعالى: {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ} [البقرة: 25] الآية.
وضمير {قَالُوا} لأصحاب الجنة، وهو جوابهم عن سؤال أصحاب النار، ولذلك فصل على طريقة المحاورة.

والتحريم في قوله: {حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} مستعمل في معناه اللغوي وهو المنع كقول عنترة:
حرمت علي وليتها لم تحرم
وقوله: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [الانبياء:95].
والمراد بالكافرين المشركون، لأنهم قد عرفوا في القرآن بأنهم اتخذوا دينهم لهو ولعبا، وعرفوا بإنكار لقاء يوم الحشر.
وقد تقدم القول في معنى اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحياة الدنيا عند قوله تعالى: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} في سورة الأنعام [70].
وظاهر النظم أن قوله {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ} إلى قوله: {الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} هو من حكاية كلام أهل الجنة، فيكون: {اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً} الخ صفة للكافرين.
وجوز أن يكون: {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً} مبتدأ على أنه من كلام الله تعالى، وهو يفضي إلى جعل الفاء في قوله {فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ} داخلة على خبر المبتدإ لتشبيه اسم الموصول بأسماء الشرط، كقوله تعالى: {وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} [النساء: 16] وقد جعل قوله {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً} إلى قوله: {وَمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ} آية واحدة في ترقيم أعداد آي المصاحف وليس بمتعين.
{فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ}
اعتراض حكي به كلام يعلن به، من جانب الله تعالى، يسمعه الفريقان. وتغيير أسلوب الكلام هو القرينة على اختلاف المتكلم، وهذا الأليق بما رجحناه من جعل قوله: {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً} إلى آخره حكاية لكلام أصحاب الجنة.
والفاء للتفريع على قول أصحاب الجنة: {إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً} الآية. وهذا العطف بالفاء من قبيل ما يسمى بعطف التلقين الممثل له غالبا بمعطوف بالواو فهو عطف كلام، متكلم على كلام متكلم آخر، وتقدير الكلام: قال الله: {فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ} ، فحذف فعل القول، وهذا تصديق لأصحاب الجنة، ومن جعلوا قوله: {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً} كلاما مستأنفا من قبل الله تعالى تكون

الفاء عندهم تفريعا في كلام واحد.
والنسيان في الموضعين مستعمل مجازا في الإهمال والترك لأنه من لوازم النسيان، فإنهم لم يكونوا في الدنيا ناسين لقاء يوم القيامة. فقد كانوا يذكرونه ويتحدثون عنه حديث من لا يصدق بوقوعه.
وتعليق الظرف بفعل: {نَنْسَاهُمْ} لإظهار أن حرمانهم من الرحمة كان من أشد أوقات احتياجهم إليها، فكان لذكر اليوم أثر في إثارة تحسرهم وندامتهم، وذلك عذاب نفساني.
ودل معنى كاف التشبيه في قوله: {كَمَا نَسُوا} على أن حرمانهم من رحمة الله كان مماثلا لإهمالهم التصديق باللقاء، وهي مماثلة جزاء العمل للعمل، وهي مماثلة اعتبارية، فلذلك يقال: إن الكاف في مثله للتعليل، كما في قوله تعالى {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 198] وإنما التعليل معنى يتولد من استعمال الكاف في التشبيه الاعتباري، وليس هذا التشبيه بمجاز، ولكنه حقيقة خفية لخفاء وجه الشبه.
وقوله {كَمَا نَسُوا} ظرف مستقر في موضع الصفة لموصوف محذوف دل عليه {نَنْسَاهُمْ} أي نسيانا كما نسوا.
و"ما" في: {كَمَا نَسُوا} وفي {وَمَا كَانُوا} مصدرية أي كنسيانهم اللقاء وكجحدهم بآيات الله. ومعنى جحد الآيات تقدم عند قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} في سورة الأنعام [33].
[52] {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.
الواو في { وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ } عاطفة هذه الجملة على جملة {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 50]، عطف القصة على القصة، والغرض على الغرض، فهو كلام أنف انتقل به من غرض الخبر عن حال المشركين في الآخرة إلى غرض وصف أحوالهم في الدنيا، المستوجبين بها لما سيلاقونه في الآخرة، وليس هو من الكلام الذي عقب الله به كلام أصحاب الجنة في قوله {فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا} [الأعراف: 51] لأن قوله هنا {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ} [الأعراف: 53] الخ، يقتضي أنه حديث عن إعراضهم عن القرآن في الدنيا، فضمير الغائبين في قوله: {جِئْنَاهُمْ} عائد إلى الذين كذبوا في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ}

[الأعراف: 40] الآية.
والمراد بالكتاب القرآن. والباء في قوله: {بِكِتَابٍ} لتعدية فعل {جِئْنَاهُمْ} ، مثل الباء في قوله: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} [البقرة: 17] فمعناه: أجأناهم كتابا، أي جعلناه جاء يا إياهم، فيؤول إلى معنى أبلغناهم إياه وأرسلناه إليهم.
وتأكيد هذا الفعل بلام القسم و"قد" إما باعتبار صفة "كتاب"، وهي جملة {فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً} فيكون التأكيد جاريا على مقتضى الظاهر، لأن المشركين ينكرون أن يكون القرآن موصوفا بتلك الأوصاف، وإما تأكيد لفعل {جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ} ، وهو بلوغ الكتاب إليهم فيكون التأكيد خارجا على خلاف مقتضى الظاهر، بتنزيل المبلغ إليهم منزلة من ينكر بلوغ الكتاب إليهم، لأنهم في إعراضهم عن النظر والتدبر في شانه بمنزلة من لم يبلغه الكتاب، وقد يناسب هذا الاعتبار ظاهر قوله بعد: {يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 53].
وتنكير "كتاب"، وهو معروف، قصد به تعظيم الكتاب، أو قصد به النوعية، أي ما هو إلا كتاب كالكتب التي أنزلت من قبل، كما تقدم في قوله تعالى {كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ} في طالع هذه السورة [2].
و {فَصَّلْنَاهُ} أي بيناه أي بينا ما فيه، والتفصيل تقدم عند قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} في سورة الأنعام[55].
و {عَلَى عِلْمٍ} ظرف مستقر في موضع الحال من فاعل {فَصَّلْنَاهُ} ، أي حال كوننا على علم، و"على" للاستعلاء المجازي، تدل على التمكن من مجرورها، كما في قوله: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 5] وقوله {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} في سورة الأنعام [57]. ومعنى هذا التمكن أن علم الله تعالى ذاتي لا يعزب عنه شيء من المعلومات.
وتنكير {عِلْمٍ} للتعظيم، أي عالمين أعظم العلم، والعظمة هنا راجعة إلى كمال الجنس في حقيقته، وأعظم العلم هو العلم الذي لا يحتمل الخطأ ولا الخفاء أي عالمين علما ذاتيا لا يتخلف عنا ولا يختلف في ذاته، أي لا يحتمل الخطأ ولا التردد.
{هُدىً وَرَحْمَةً} حال من {كِتَابٌ} ، أو من ضميره في قوله: {فَصَّلْنَاهُ} . ووصف الكتاب بالمصدرين {هُدىً وَرَحْمَةً} إشارة إلى قوة هديه الناس وجلب الرحمة لهم.

وجملة {هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} إشارة إلى أن المؤمنين هم الذين توصلوا للاهتداء به والرحمة، وأن من لم يؤمنوا قد حرموا الاهتداء والرحمة، وهذا كقوله تعالى في سورة البقرة [2] {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ}
[53] {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}.
جملة {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ} مستأنفة استئنافا بيانيا، لأن قوله {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} يثير سؤال من يسأل: فماذا يؤخرهم عن التصديق بهذا الكتاب الموصوف بتلك الصفات? وهل أعظم منه آية على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم? فكان قوله {هَلْ يَنْظُرُونَ} كالجواب عن هذا السؤال، الذي يجيش في نفس السامع. والاستفهام إنكاري ولذلك جاء بعده الاستثناء.
ومعنى {هَلْ يَنْظُرُونَ} ينتظرون من النظرة بمعنى الانتظار، والاستثناء من عموم الأشياء المنتظرات، والمراد المنتظرات من هذا النوع وهو الآيات، أي ما ينتظرون آية أعظم إلا تأويل الكتاب، أي إلا ظهور ما توعدهم به، وإطلاق الانتظار هنا استعارة تهكمية: شبه حال تمهلهم إلى الوقت الذي سيحل عليهم فيه ما أوعدهم به القرآن بحال المنتظرين، وهم ليسوا بمنتظرين ذلك إذ هم جاحدون وقوعه، وهذا مثل قوله تعالى {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} [محمد: 18] وقوله {فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ} [يونس: 102] والاستثناء على حقيقته وليس من تأكيد الشيء بما يشبه ضده لأن المجاز في فعل {يَنْظُرُونَ} فقط.
والقصر إضافي، أي بالنسبة إلى غير ذلك من أغراض نسيانهم وجحودهم بالآيات، وقد مضى القول في نظير هذا التركيب عند قوله تعالى {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} في سورة الأنعام [158].
والتأويل توضيح وتفسير ما خفي، من مقصد كلام أو فعل، وتحقيقه، قال تعالى {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً} [الكهف: 78] وقال { هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ} [يوسف: 100] وقال {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59] وقد تقدم اشتقاقه ومعناه في المقدمة الأولى من مقدمات هذا التفسير، وضمير {تَأْوِيلَهُ} عائد إلى "كتاب" من

قوله: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ} [الأعراف: 52].
وتأويله وضوح معنى ما عدوه محالا وكذبا، من البعث والجزاء ورسالة رسول من الله تعالى ووحدانية الإله والعقاب، فذلك تأويل ما جاء به الكتاب أي تحقيقه ووضوحه بالمشاهدة، وما بعد العيان بيان.
وقد بينته جملة {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ} إلخ، فلذلك فصلت، لأنها تتنزل من التي قبلها منزلة البيان للمراد من تأويله، وهو التأويل الذي سيظهر يوم القيامة، فالمراد باليوم يوم القيامة، بدليل تعلقه بقوله: {يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ} الآية فإنهم لا يعلمون ذلك ولا يقولونه إلا يوم القيامة. وإتيان تأويله مجاز في ظهوره وتبينه بعلاقة لزوم ذلك للإتيان. والتأويل مراد به ما به ظهور الأشياء الدالة على صدق القرآن، فيما أخبرهم وما توعدهم.
و {الَّذِينَ نَسُوهُ} هم المشركون، وهم معاد ضمير {يُنْظَرُونَ} فكان مقتضى الظاهر أن يقال: يقولون، إلا أنه أظهر بالموصولية لقصد التسجيل عليهم بأنهم نسوه وأعرضوا عنه وأنكروه، تسجيلا مرادا به التنبيه على خطئهم والنعي عليهم بأنهم يجرون بإعراضهم سوء العاقبة لأنفسهم.
والنسيان مستعمل في الإعراض والصد، كما تقدم في قوله: {كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا} [الأعراف: 51].
والمضاف إليه المقدر المنبئ عنه بناء قبل على الضم: هو التأويل، أو اليوم، أي من قبل تأويله، أو من قبل ذلك اليوم، أي في الدنيا. والقول هنا كناية عن العلم والاعتقاد، لأن الأصل في الأخبار مطابقتها لاعتقاد المخبر، أي يتبين لهم الحق ويصرحون به.
وهذا القول يقوله بعضهم لبعض اعترافا بخطئهم في تكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم وما أخبر به عن الرسل من قبله، ولذلك جمع الرسل هنا، مع أن الحديث عن المكذبين محمدا صلى الله عليه وسلم، وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لهم الأمثال بالرسل السابقين، وهم لما كذبوه جرأهم تكذيبه على إنكار بعثة الرسل إذ قالوا: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91] أو لأنهم مشاهدون يومئذ ما هو عقاب الأمم السابقة على تكذيب رسلهم، فيصدر عنهم ذلك القول عن تأثر بجميع ما شاهدوه من التهديد الشامل لهم ولمن عداهم من الأمم.
وقولهم: {قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} خبر مستعمل في الإقرار بخطئهم في تكذيب

الرسل، وإنشاء للحسرة على ذلك، وإبداء الحيرة فيما ذا يصنعون، ولذلك رتبوا عليه وفرعوا بالفاء قولهم: {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ} إلى آخره.
والاستفهام يجوز أن يكون حقيقيا يقوله بعضهم لبعض، لعل أحدهم يرشدهم إلى مخلص لهم من تلك الورطة، وهذا القول يقولونه في ابتداء رؤية ما يهددهم قبل أن يوقنوا بانتفاء الشفعاء المحكي عنهم في قوله تعالى: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء: 100, 101] ويجوز أن يكون الاستفهام مستعملا في التمني. ويجوز أن يكون مستعملا في النفي، على معنى التحسر والتندم، و {مِنْ} زائدة للتوكيد، على جميع التقادير، فتفيد توكيد العموم في المستفهم عنه، ليفيد أنهم لا يسألون عمن توهموهم شفعاء من أصنامهم، إذ قد يئسوا منهم، كما قال تعالى {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ} [الأعراف: 94] بل هم يتساءلون عن أي شفيع يشفع لهم، ولو يكون الرسول صلى الله عليه وسلم الذي ناصبوه العداء في الحياة الدنيا، ونظيره قوله تعالى، في سورة المؤمن {فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} .
وانتصب {فَيَشْفَعُوا} على جواب الاستفهام، أو التمني، أو النفي.
"والشفعاء" جمع شفيع وهو الذي يسعى بالشفاعة، وهم يسمون أصنامهم شفعاء قال تعالى: {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18].
وتقدم معنى الشفاعة عند قوله تعالى: {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} في سورة البقرة [48]، وعند قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} في سورة البقرة [254] وعند قوله: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً} في سورة النساء [85].
وعطف فعل {نُرَدُّ} بـ"أو" على مدخول الاستفهام، فيكون الاستفهام عن أحد الأمرين، لأن أحدهما لا يجتمع مع الآخر، فإذا حصلت الشفاعة فلا حاجة إلى الرد، وإذا حصل الرد استغني عن الشفاعة.
وإذ كانت جملة {لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ} واقعة في حيز الاستفهام، فالتي عطفت عليها تكون واقعة في حيز الاستفهام، فلذلك تعين رفع الفعل المضارع في القراءات المشهورة، ورفعه بتجرده عن عامل النصب وعامل الجزم، فوقع موقع الاسم كما قدره الزمخشري تبعا للفراء، فهو مرفوع بنفسه من غير احتياج إلى تأويل الجملة التي قبله، بردها إلى جملة

فعلية، بتقدير: هل يشفع لنا شفعاء كما قدره الزجاج، لعدم الملجئ إلى ذلك، ولذلك انتصب: {فَنَعْمَلَ} في جواب {نُرَدُّ} كما انتصب {فَيَشْفَعُوا} في جواب {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ} .
والمراد بالعمل في قولهم {فَنَعْمَلَ} ما يشمل الاعتقاد، وهو الأهم، مثل اعتقاد الوحدانية والبعث وتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن الاعتقاد عمل القلب، ولأنه تترتب عليه آثار عملية، من أقوال وأفعال وامتثال. والمراد بالله في قوله {الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} ما كانوا يعملونه من أمور الدين بقرينة سياق قولهم: {قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} أي فنعمل ما يغاير ما صممنا عليه بعد مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم.
وجملة {قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} مستأنفة استئنافا ابتدائيا تذييلا وخلاصة لقصتهم، أي فكان حاصل أمرهم أنهم حسروا أنفسهم من الآن وضل عنهم ما كانوا يفترون.
والخسارة مستعارة لعدم الانتفاع بما يرجى منه النفع، وقد تقدم بيان ذلك عند قوله تعالى: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 12] في سورة الأنعام، قوله: {فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} في أول هذه السورة [9]. والمعنى: أن ما أقحموا فيه نفوسهم من الشرك والتكذيب قد تبين أنه مفض بهم إلى تحقق الوعيد فيهم، يوم يأتي تأويل ما توعدهم به القرآن، فبذلك تحقق أنهم خسروا أنفسهم من الآن، وإن كانوا لا يشعرون.
وأما قوله: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} فالضلال مستعار للعدم طريقة التهكم شبه عدم شفعائهم المزعومين بضلال الإبل عن أربابها تهكما عليهم، وهذا التهكم منظور فيه إلى محاكاة ظنهم يوم القيامة المحكي عنهم في قوله قبل: {قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا} [الأعراف: 37].
و"ما" من قوله: {مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} موصولة، ما صدقها الشفعاء الذين كانوا يدعونهم من دون الله، وحذف عائد الصلة المنصوب، أي ما كانوا بفترونه، أي يكذبونه إذ يقولون {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا} [يونس: 18]، وهم جماد لا حظ لهم في شؤون العقلاء حتى يشفعوا، فهم قد ضلوا عنهم من الآن ولذلك عبر بالمضي لأن الضلال المستعار للعدم متحقق من ماضي الأزمنة.
[54] {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ

وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}.
جاءت أغراض هذه السورة متناسبة متماسكة. فإنها ابتدئت بذكر القرآن والأمر باتباعه ونبذ ما يصد عنه وهو اتباع الشرك، ثم التذكير بالأمم التي أعرضت عن طاعة رسل الله. ثم الاستدلال على وحدانية الله، والامتنان بخلق الأرض والتمكين منها، وبخلق أصل البشر وخلقهم، وخلل ذلك بالتذكير بعداوة الشيطان لأصل البشر وللبشر في قوله: {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [لأعراف: 16]. وانتقل من ذلك إلى التنديد على المشركين فيما اتبعوا فيه تسويل الشيطان من قوله: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} [الأعراف: 28]، ثم بتذكيرهم بالعهد الذي أخذه الله على البشر في قوله: {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأعراف: 35] الآية. وبأن المشركين ظلموا بنكث العهد بقوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ} [الأعراف: 37] وتوعدهم وذكرهم أحوال أهل الآخرة، وعقب ذلك عاد إلى ذكر القرآن بقوله: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ} [الأعراف: 52] وأنهاه بالتذييل بقوله: {قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [لأعراف: 53].
فلا جرم تهيأت الأسماع والقلوب لتلقي الحجة على أن الله إله واحد، وأن آلهة المشركين ضلال وباطل، ثم لبيان عظيم قدرته ومجده فلذلك استؤنف بجملة {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ} الآية، استئنافا ابتدائيا عاد به التذكير إلى صدر السورة في قوله: {وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} ، فكان ما في صدر السورة بمنزلة المطلوب المنطقي، وكان ما بعده بمنزلة البرهان، وكان قوله: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ} بمنزلة النتيجة للبرهان، والنتيجة مساوية للمطلوب الا أنها تؤخذ أوضح وأشد تفصيلا.
فالخطاب موجه إلى المشركين ابتداء، ولذلك كان للتأكيد بحرف "إن" موقعه لرد إنكار المشركين انفراد الله بالربوبية، وإذ كان ما اشتملت عليه هذه الآية يزيد المسلمين بصيرة بعظم مجد الله وسعة ملكه، ويزيدهم ذكرى بدلائل قدرته، كان الخطاب صالحا لتناول المسلمين، لصلاحية ضمير الخطاب لذلك، ولا يكون حرف "إن" بالنسبة إليهم سدى، لأنه يفيد الاهتمام بالخبر، لأن فيه حظا للفريقين، ولأن بعض ما اشتمل عليه "ما" هو بالمؤمنين أعلق مثل {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55] وقوله: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56] وبعضه بالكافرين أنسب مثل قوله {كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 57].

وقد جعل المخبر عنه الرب، والخبر اسم الجلالة: لأن المعنى أن الرب لكم المعلوم عندكم هو الذي اسمه الدال على ذاته: الله، لا غيره ممن ليس له هذا الاسم، على ما هو الشأن، فهي تعريف المسند في نحو: أنا أخوك. يقال لمن يعرف المتكلم ويعرف أن له أخا ولا يعرف أن المتكلم هو أخوه، فالمقصود من تعريف المسند إفادة ما يسمى في المنطق يحمل المواطاة، وهو حمل هو هو ولذلك يخير المتكلم في جعل أحد الجزأين مسندا إليه، وجعل الآخر مسندا، لأن كليهما معروف عند المخاطب، وإنما الشأن أن يجعل أقواهما معرفة عند المخاطب هو المسند إليه، ليكون الحمل أجدى إفادة، ومن هذا القبيل قول المعري يصف فارسا في غارة:
يخوض بحرا نقعه ماؤه ... يحمله السايح في لبده
إذ قد علم السامع أن للفارس عند الغارة نفعا، وعلم أن الشاعر أثبت للفارس بحرا وأن للبحر ماء، فقد صار النقع والبحر معلومين للسامع، فأفاده أن نفع الفارس هو ماء البحر المزعوم، لأنه أجدى لمناسبة استعارة البحر للنقع، وإلا فما كان يعوز المعري أن يقول: ماؤه نقعه فمن انتقد البيت فإنه لم ينصفه.
قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ} جعل المسند إليه {رَبَّكُمُ} لأن الكلام جار مع من ادعوا أربابا، والمقام للجدال في تعيين ربهم الحق، فكان الأهم عند المتكلم من المعرفتين عند المخاطبين: هو تعيين ربهم، فجعل ما يدل على ربهم مسندا إليه، وأخبر عنه بأنه هو الذي يعلمون أنه الله، وأكد هذا الخبر بحرف التوكيد، وإن كان المشركون يثبتون الربوبية لله، والمسلمون لا يمترون في ذلك، لتنزيل المشركين من المخاطبين منزلة من يتردد في كون الله ربا لهم لكثرة إعراضهم عنه في عباداتهم وتوجهاتهم.
وقوله: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} صفة لاسم الجلالة، والصلة مؤذنة بالإيماء إلى وجه بناء الخبر المتقدم، وهو {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ} لأن خلق السماوات والأرض يكفيهم دليلا على انفراده بالإلهية، كما تقدم عند قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} بسورة الأنعام [1].
وقوله: {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} تعليم بعظيم قدرته، ويحصل منه للمشركين زيادة شعور بضلالهم في تشريك غيره في الإلهية، فلا يدل قوله: {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} على أن أهل مكة كانوا يعلمون ذلك، وفيه تحد لأهل الكتاب كما في قوله تعالى {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرائيلَ} [الشعراء:197] وليس القصد من قوله: {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} الاستدلال على الوحدانية، إذ لا دلالة فيه على ذلك.

وقد اقتضت حكمة الله تعالى أن يكون خلق السماوات والأرض مدرجا، وأن لا يكون دفعة، لأنه جعل العوالم متولدا بعضها من بعض، لتكون أتقن صنعا مما لو حلقت دفعة، وليكون هذا الخلق مظهرا لصفتي علم الله تعالى وقدرته، فالقدرة صالحة لخلقها دفعة، لكن العلم والحكمة أقتضيا هذا التدرج، وكانت تلك المدة أقل زمن يحصل فيه المراد من التولد بعظيم القدرة، ولعل تكرر ذكر هذه الأيام في آيات كثيرة لقصد التنبيه إلى هذه النكتة البديعة، من كونها مظهر سعة العلم وسعة القدرة.
وظاهر الآيات أن الأيام هي المعروفة للناس، التي هي جمع اليوم الذي هو مدة تقدر من مبدإ ظهور الشمس في المشرق إلى ظهورها في ذلك المكان ثانية، وعلى هذا التفسير فالتقدير في ما يماثل تلك المدة ست مرات، لأن حقيقة اليوم بهذا المعنى لم تتحقق إلا بعد تمام خلق السماء والأرض، ليمكن ظهور نور الشمس على نصف الكرة الأرضية وظهور الظلمة على ذلك النصف إلى ظهور الشمس مرة ثانية، وقد قيل: إن الأيام هنا جمع اليوم من أيام الله تعالى الذي هو مدة ألف سنة، فستة أيام عبارة عن ستة آلاف من السنين نظرا لقوله تعالى: {وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج: 47] وقوله: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة:5]. ونقل ذلك عن زيد بن أرقم واختاره النقاش، وما هو ببعيد، وإن كان مخالفا لما في التوراة. وقيل المراد: في ستة أوقات، فإن اليوم يطلق على الوقت كما في قوله تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [لأنفال: 16] أي حين إذ يلقاهم زحفا، ومقصود هذا القائل أن السماوات والأرض خلقت عالما بعد عالم ولم يشترك جميعها في أوقات تكوينها، وأيا ما كان فالأيام مراد بها مقادير لا الأيام التي واحدها يوم الذي هو من طلوع الشمس إلى غروبها إذ لم تكن شمس في بعض تلك المدة، والتعمق في البحث في هذا خروج عن غرض القرآن.
والاستواء حقيقته الاعتدال، والذي يؤخذ من كلام المحققين من علماء اللغة والمفسرين أنه حقيقة في الارتفاع والاعتلاء، كما في قوله تعالى في صفة جبريل: {فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} [النجم: 6, 8].
والاستواء له معان متفرعة عن حقيقته، أشهرها القصد والاعتلاء، وقد التزم هذا اللفظ في القرآن مسندا إلى ضمير الجلالة عند الإخبار عن أحوال سماوية، كما في هذه الآية. ونظائرها سبع آيات من القرآن: هنا، وفي يونس، والرعد، وطه، والفرقان، وألم

السجدة، والحديد، وفصلت. فظهر لي أن لهذا الفعل خصوصية في كلام العرب كان بسببها أجدر بالدلالة على المعنى المراد تبليغه مجملا مما يليق بصفات الله ويقرب إلى الإفهام معنى عظمته، ولذلك اختير في هذه الآيات دون غيره من الأفعال التي فسره بها المفسرون.
فالاستواء يعبر عن شأن عظيم من شؤون عظمة الخالق تعالى، اختير التعبير به على طريق الاستعارة والتمثيل: لأن معناه أقرب معاني المواد العربية إلى المعنى المعبر عنه من شؤونه تعالى، فإن الله لما أراد تعليم معان من عالم الغيب لم يكن يتأتى ذلك في اللغة إلا بأمثلة معلومة من عالم الشهادة، فلم يكن بد من التعبير عن المعاني المغيبة بعبارات تقربها مما يعبر به عن عالم الشهادة، ولذلك يكثر في القرآن ذكر الاستعارات التمثيلية والتخيلية في مثل هذا.
وقد كان السلف يتلقون أمثالها بلا بحث ولا سؤال لأنهم علموا المقصود الإجمالي منها فاقتنعوا بالمعنى مجملا، ويسمون أمثالها بالمتشابهات، ثم لما ظهر عصر ابتداء البحث كانوا إذا سئلوا عن هذه الآية يقولون: استوى الله على العرش ولا نعرف لذلك كيفا، وقد بينت أن مثل هذا من القسم الثاني من المتشابه عند قوله تعالى: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} في سورة آل عمران [7]، فكانوا يأبون تأويلها. وقد حكى عياض في المدارك عن سفيان بن عيينة أنه قال: سأل رجل مالكا فقال: الرحمان على العرش استوى. كيف استوى يا أبا عبد الله؛ فسكت مالك مليا حتى علاه الرحضاء ثم سري عنه، فقال: الاستواء معلوم والكيف غير معقول والسؤال عن هذا بدعة والإيمان به واجب وإني لأظنك ضالا واشتهر هذا عن مالك في روايات كثيرة، وفي بعضها أنه قال لمن سأله: وأظنك رجل سوء أخرجوه عني وأنه قال: والسؤال عنه بدعة. وعن سفيان الثوري أنه سئل عنها: فقال: فعل الله فعلا في العرش سماه استواء. قد تأوله المتأخرون من الأشاعرة تأويلات، أحسنها: ما جنح إليه إمام الحرمين أن المراد بالاستواء الاستيلاء بقرينة تعديته بحرف على، وأنشدوا على وجه الاستئناس لذلك قول الأخطل:
قد استوى بشر على العراق ... بغير سيف ودم مهراق
وأراه بعيدا، لأن العرش ما هو إلا من مخلوقاته فلا وجه للإخبار باستيلائه عليه، مع احتمال أن يكون الأخطل قد انتزعه من هذه الآية، وقد قال أهل اللغة: إن معانيه تختلف باختلاف تعديته بعلى أو بإلى، قال البخاري، عن مجاهد: استوى علا على

العرش، وعن أبي العالية: استوى إلى السماء ارتفع فسوى خلقهن.
وأحسب أن استعارته تختلف بقرينة الحرف الذي يعدى به فعله فإن عدي بحرف "على" كما في هذه الآية ونظائرها فهو مستعار من معنى الاعتلاء، مستعمل في اعتلاء مجازي يدل على معنى التمكن، فيحتمل أنه أريد منه التمثيل، وهو تمثيل شأن تصرفه تعالى بتدبير العوالم، ولذلك نجده بهذا التركيب في الآيات السبع واقعا عقب ذكر خلق السماوات والأرض، فالمعنى حينئذ: خلقها ثم هو يدبر أمورها تدبير الملك أمور مملكته مستويا على عرشه. ومما يقرب هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يقبض الله الأرض ويطوي السماوات يوم القيامة ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض" . ولذلك أيضا عقب التركيب في مواقعه كلها بما فيه معنى التصرف كقوله هنا {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} الخ، وقوله في سورة يونس: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} [يونس: 3]، وقوله في سورة الرعد: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ} [الرعد: 2]. وقوله في سورة ألم السجدة[السجدة::4, 5]: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَيُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ} . وكمال هذا التمثيل يقتضي أن يكون كل جزء من أجزاء الهيئة الممثلة مشبها بجزء من أجزاء الهيئة الممثل بها، فيقتضي أن يكون ثمة موجود من أجزاء الهيئة الممثلة مشابها لعرش الملك في العظمة، وكونه مصدر التدبير والتصوف الإلهي يفيض على العوالم قوى تدبيرها، وقد دلت الآثار الصحيحة من أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم على وجود هذا المخلوق العظيم المسمى بالعرش كما سنبينه.
فأما إذا عدي فعل الاستواء بحرف اللام فهو مستعار من معنى القصد والتوجه إلى معنى تعلق الإرادة، كما في قوله {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة: 29]، وقد نحا صاحب الكشاف نحوا من هذا المعنى، إلا أنه سلك به طريقة الكناية عن الملك: يقولون استوى فلان على العرش يريدون ملك.
والعرش حقيقته الكرسي المرتفع الذي يجلس عليه الملك، قال تعالى {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل: 23] وقال: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ} [يوسف: 100]، وهو في هذه الآية ونظائرها مستعمل جزءا من التشبيه المركب، ومن بداعة هذا التشبيه أن كان كل جزء من أجزاء الهيئة المشبهة مماثلا لجزء من أجزاء الهيئة المشبه بها، وذلك أكمل التمثيل في البلاغة العربية، كما قدمته آنفا. وإذ قد كان هذا التمثيل مقصودا لتقريب شأن من شؤون

عظمة ملك الله بحال هيئة من الهيئات المتعارفة، ناسب أن يشتمل على ما هو شعار أعظم المدبرين للأمور المتعارفة أعني الملوك، وذلك شعار العرش الذي من حوله تصدر تصرفات الملك، فإن تدبير الله لمخلوقاته بأمر التكوين يكون صدوره بواسطة الملائكة، وقد بين القرآن عمل بعضهم مثل جبريل عليه السلام وملك الموت، وبينت السنة بعضها: فذكرت ملك الجبال، وملك الرياح، والملك الذي يباشر تكوين الجنين، ويكتب رزقه وأجله وعاقبته، وكذلك أثار القرآن إلى أن من الموجودات العلوية موجودا منوها به سماه العرش ذكره القرآن في آيات كثيرة. ولما ذكر خلق السماوات والأرض وذكر العرش ذكره بما يشعر بأنه موجود قبل هذا الخلق. وبينت السنة أن العرش أعظم من السماوات وما فيهن، من ذلك حديث عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء ثم خلق السماوات والأرض" وحديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في حديث طويل:" فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمان ومنه تفجر أنهار الجنة" وقد قيل إن العرش هو الكرسي وأنه المراد في قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} كما تقدم الكلام عليه في سورة البقرة [255].
وقد دلت "ثم" في قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي} على التراخي الرتبي أي وأعظم من خلق السماوات والأرض استواءه على العرش، تنبيها على أن خلق السماوات والأرض لم يحدث تغييرا في تصرفات الله بزيادة ولا نقصان، ولذلك ذكر الاستواء على العرش عقب ذكر خلق السماوات والأرض في آيات كثيرة، ولعل المقصد من ذلك إبطال ما يقوله اليهود: إن الله استراح في اليوم السابع فهو كالمقصد من قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [قّ:38].
وجملة {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} في موضع الحال من اسم الجلالة، ذكر به شيء من عموم تدبيره تعالى وتصرفه المضمن في الاستواء على العرش، وتنبيه على المقصود من الاستواء، ولذلك جاء به في صورة الحال لا في صورة الخبر، كما ذكر بوجه العموم في آية سورة يونس [3] وسورة الرعد[2] بقوله: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} وخص هذا التصرف بالذكر لما يدل عليه من عظيم المقدرة، وما فيه من عبرة التغير ودليل الحدوث، ولكونه متكررا حدوثه في مشاهدة الناس كلهم. والإغشاء والتغشية: جعل الشيء غاشيا، والغشي والغشيان حقيقته التغطية والغم.

فمعنى: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} أن الله يجعل أحدهما غاشيا الآخر.
والغشي مستعار للاخفاء، لأن النهار يزيل أثر الليل والليل يزيل أثر النهار، ومن بديع الإيجاز ورشاقة التركيب: جعل الليل والنهار مفعولين لفعل فاعل الإغشاء، فهما مفعولان كلاهما صالح لأن يكون فاعل الغشي، ولهذا استغنى بقوله: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} عن ذكر عكسه ولم يقل: والنهار الليل، كما في آية {وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} [الزمر: 5] لكن الأصل في ترتيب المفاعيل في هذا الباب أن يكون الأول هو الفاعل في المعنى، ويجوز العكس إذا أمن اللبس، وبالأحرى إذا استوى الاحتمالان.
وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم في رواية حفص {يُغْشِي} بضم الياء وسكون الغين وتخفيف الشين. وقرأه حمزة، والكسائي، وعاصم في رواية أبي بكر، ويعقوب، وخلف بضم الياء وفتح الغين وتشدبد الشين وهما بمعنى واحد في التعدية.
وجملة {يَطْلُبُهُ} إن جعلت استئنافا أو بدل اشتمال من جملة "يغشي" فأمرها واضح، واحتمل الضمير المنصوب في "يطلبه" أن يعود إلى الليل وإلى النهار، وإن جعلت حالا تعين أن تعتبر حالا من أحد المفعولين على السواء فإن كلا الليل والنهار يعتبر طالبا ومطلوبا، تبعا لاعتبار أحدهما مفعولا أول أو ثانيا.
وشبه ظهور ظلام الليل في الأفق ممتدا من المشرق إلى المغرب عند الغروب واختفاء نور النهار في الأفق ساقطا من المشرق إلى المغرب حتى يعم الظلام الأفق بطلب الليل النهار على طريقة التمثيل، وكذلك يفهم تشبيه امتداد ضوء الفجر في الأفق من المشرق إلى المغرب واختفاء ظلام الليل في الأفق ساقطا في المغرب حتى يعم الضياء الأفق: بطلب النهار الليل على وجه التمثيل، ولا مانع من اعتبار التنازع للمفعولين في جملة الحال كما في قوله تعالى: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ} [مريم: 27] وقوله: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} .
والحثيث: المسرع، وهو فعيل بمعنى مفعول، من حثه إذا أعجله وكرر إعجاله ليبادر بالعجلة، وقريب من هذا قول سلامة بن جندل يذكر انتهاء شبابه وابتداء عصر شيبه:
أودى الشباب الذي مجد عواقبه ... فيه نلذ ولا لذات للشيب
ولى حثيثا وهذا الشيب يتبعه ... لو كان يدركه ركض اليعاقيب

فالمعنى يطلبه سريعا مجدا في السرعة لأنه لا يلبث أن يعفى أثره.
{وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ} بالنصب في قراءة الجمهور معطوفات على السماوات والأرض، أي وخلق الشمس والقمر والنجوم، وهي من أعظم المخلوقات التي اشتملت عليها السماوات، و {مُسَخَّرَاتٍ} حال من المذكورات.
وقرأ ابن عامر برفع {الشَّمْسَ} وما عطف عليه ورفع {مُسَخَّرَاتٍ} ، فتكون الجملة حالا من ضمير اسم الجلالة كقوله {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} .
وتقدم الكلام على الليل والنهار عند قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} في سورة البقرة [164] ويأتي في سورة الشمس.
والتسخير حقيقته تذليل ذي عمل شاق أو شاغل بقهر وتخويف أو بتعليم وسياسة بدون عوض، فمنه تسخير العبيد والأسرى، ومنه تسخير الأفراس والرواحل، ومنه تسخير البقر للحلب، والغنم للجز. ويستعمل مجازا في تصريف الشيء غير ذي الإرادة في عمل عجيب أو عظيم من شانه أن يصعب استعماله فيه، بحيلة أو إلهام تصريفا يصيره من خصائصه وشؤونه، كتسخير الفلك للمخر في البحر بالريح أو بالجذف، وتسخير السحاب للامطار، وتسخير النهار للعمل، والليل للسكون، وتسخير الليل للسير في الصيف، والشمس للدفء في الشتاء، والظل للتبرد في الصيف، وتسخير الشجر للأكل من ثماره حيث خلق مجردا عن موانع تمنع من اجتنائه مثل الشوك الشديد، فالأسد غير مسخر بهذا المعنى ولكنه بحيث يسخر إذا شاء الإنسان الانتفاع بلحمه أو جلده بحيلة لصيده بزينة أو نحوها، ولذلك قال الله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} [الجاثية: 13] باعتبار هذا المجاز على تفاوت في قوة العلاقة. فقوله {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} أطلق التسخير فيه مجازا على جعلها خاضعة للنظام الذي خلقها الله عليه بدون تغيير، مع أن شأن عظمها أن لا يستطيع غيره تعالى وضعها على نظام محدود منضبط.
ولفظ الأمر في قوله: {بِأَمْرِهِ} مستعمل مجازا في التصريف بحسب القدرة الجارية على وفق الإرادة، ومنه أمر التكوين المعبر عنه في القرآن بقوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يّس:82] لأن "كن" تقريب لنفاذ القدرة المسمى بالتعلق التسخيري عند تعلق الإرادة التنجيزي أيضا فالأمر هنا من ذلك، وهو تصريف نظام

الموجودات كلها.
وجملة: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} مستأنفة استئناف التذييل للكلام السابق من قوله: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} لإفادة تعميم الخلق. والتقدير: لما ذكر آنفا ولغيره. فالخلق: إيجاد الموجودات، والأمر تسخيرها للعمل الذي خلقت لأجله.
وافتتحت الجملة بحرف التنبيه لتعي نفوس السامعين هذا الكلام الجامع.
واللام الجارة لضمير الجلالة لام الملك. وتقديم المسند هنا لتخصيصه بالمسند إليه.
والتعريف في الخلق والأمر تعريف الجنس، فتفيد الجملة قصر جنس الخلق وجنس الأمر على الكون في ملك الله تعالى، فليس لغيره شيء من هذا الجنس، وهو قصر إضافي معناه: ليس لآلهتهم شيء من الخلق ولا من الأمر، وأما قصر الجنس في الواقع على الكون في ملك الله تعالى فلذلك يرجع فيه إلى القرائن، فالخلق مقصور حقيقة على الكون في ملكه تعالى، وأما الأمر فهو مقصور على الكون في ملك الله قصرا ادعائيا لأن لكثير من الموجودات تدبير أمور كثيرة، ولكن لما كان المدبر مخلوقا لله تعالى كان تدبيره راجعا إلى تدبير الله كما قيل في قصر جنس الحمد في قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الفاتحة: 2].
وجملة {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} تذييل معترضة بين جملة {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ} وجملة {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55] إذ قد تهيأ المقام للتكير بفضل الله على الناس، وبنافع تصرفاته، عقب ما أجرى من إخبار عن عظيم قدرته وسعة علمه وإتقان صنعه.
وفعل {تَبَارَكَ} في صورة اشتقاقه يؤذن بالإظهار الوصف على صاحبه المتصف به مثل: تثاقل، أظهر في العمل، وتعالل، أي أظهر العلة، وتعاظم: أظهر العظمة، وقد يستعمل بمعنى ظهور الفعل على المتصف به ظهورا بينا حتى كأن صاحبه يظهره، ومنه {تَعَالَى اللَّهُ} [النمل: 63] أي ظهر علوه، أي شرفه على الموجودات كلها، ومنه {تَبَارَكَ} ، أي ظهرت بركته.
والبركة: شدة الخير، وقد تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً} في سورة آل عمران [96]، وقوله: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} في سورة الأنعام [92]. فبركة الله الموصوف بها هي مجده ونزاهته وقدسه، وذلك جامع

صفات الكمال، ومن ذلك أن له الخلق والأمر.
وإتباع اسم الجلالة بالوصف وهو {رَبُّ الْعَالَمِينَ} في معنى البيان لاستحقاقه البركة والمجد، لأنه مفيض خيرات الإيجاد والإمداد، ومدبر أحوال الموجودات، بوصف كونه رب أنواع المخلوقات، ومضى الكلام على {الْعَالَمِينَ} في سورة الفاتحة[2].
[55] {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}.
استئناف جاء معترضا بين ذكر دلائل وحدانية الله تعالى بذكر عظيم قدرته على تكوين أشياء لا يشاركه غيره في تكوينها، فالجملة معترضة بين جملة {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} [الأعراف: 54] وجملة {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ} [الأعراف: 57] جرى هذا الاعتراض على عادة القرآن في انتهاز فرص تهنؤ القلوب للذكرى. والخطاب بـ {ادْعُوا} خاص بالمسلمين لأنه تعليم لأدب دعاء الله تعالى وعبادته، وليس المشركون بمتهيئين لمثل هذا الخطاب، وهو تقريب للمؤمنين وإدناء لهم وتنبيه على رضى الله عنهم ومحبته، وشاهده قوله بعده: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [لأعراف: 56]. والخطاب موجه إلى المسلمين بقرينة السياق.
و"الدعاء" حقيقته النداء، ويطلق أيضا على النداء لطلب مهم، واستعمل مجازا في العبادة لاشتمالها على الدعاء والطلب بالقول أو بلسان الحال، كما في الركوع والسجود، مع مقارنتهما للأقوال وهو إطلال كثير في القرآن.
والظاهر أن المراد منه هنا الطلب والتوجه، لأن المسلمين قد عبدوا الله وأفردوه بالعبادة، وإنما المهم إشعارهم بالقرب من رحمة ربهم وإدناء مقامهم منها.
وجيء لتعريف الرب بطريق الإضافة دون ضمير الغائب، مع وجود معاد قريب في قوله {تَبَارَكَ اللَّهُ} [الأعراف: 54] ودون ضمير المتكلم، لأن في لفظ الرب إشعارا بتقريب المؤمنين بصلة المربوبية، وليتوسل بإضافة الرب إلى ضمير المخاطبين إلى تشريف المؤمنين وعناية الرب بهم كقوله {بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ} [آل عمران: 150].
والتضرع: إظهار التذلل بهيئة خاصة، ويطلق التضرع على الجهر بالدعاء لأن الجهر من هيئة التضرع، لأنه تذلل جهري، وقد فسر في هذه الآية وفي قوله في سورة الأنعام {تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} بالجهر بالدعاء، وهو الذي نختاره لأنه أنسب بمقابلته بالخفية،

فيكون أسلوبه وفقا لأسلوب نظيره في قوله: {وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً} [الأعراف: 56] وتكون، الواو للتقسيم بمنزلة "أو" وقد قالوا: إنها فيه أجود من "أو". ومن المفسرين من أبقى التضرع على حقيقته وهو التذلل، فيكون مصدرا بمعنى الحال، أي متذللين، أو مفعولا مطلقا لـ {ادْعُوا} ، لأن التذلل بعض أحوال الدعاء فكأنه نوع منه، وجعلوا قوله: {وَخُفْيَةً} مأمورا به مقصورا بذاته، أي ادعوه مخفين دعاءكم، حتى أوهم كلام بعضهم أن الإعلان بالدعاء منهي عنه أو غير مثوب عليه، وهذا خطأ: فإن النبي صلى الله عليه وسلم دعا علنا غير مرة. وعلى المنبر بمسمع من الناس وقال: "اللهم حوالينا ولا علينا" وقال: "اللهم عليك بقريش" الحديث. وما رويت أدعيته إلا لأنه جهر بها يسمعها من رواها، فالصواب أن قوله: {تَضَرُّعاً} إذن بالدعاء بالجهر والإخفاء، وأما ما ورد من النهي عن الجهر فإنما هو عن الجهر الشديد الخارج عن حد الخشوع. وقرأ الجمهور {وَخُفْيَةً} بضم الخاء وقرأه أبو بكر بكسر الخاء وتقدم في الأنعام.
وجملة: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} واقعة موقع التعليل للأمر بالدعاء، إشارة إلى أنه أمر تكريم للمسلمين يتضمن رضى الله عنهم، ولكن سلك في التعليل طريق إثبات الشيء بإبطال ضده، تنبيها على قصد الأمرين وإيجازا في الكلام. ولكون الجملة واقعة موقع التعليل افتتحت ب"إن" المفيدة لمجرد الاهتمام، بقرينة خلو المخاطبين عن التردد في هذا الخبر، ومن شان "إن" إذا جاءت على هذا الوجه أن تفيد التعليل والربط، وتقوم مقام الفاء، كما نبه عليه الشيخ عبد القاهر.
وإطلاق المحبة وصفا لله تعالى، في هذه الآية ونحوها، إطلاق مجازي مراد بها لازم معنى المحبة، بناء على أن حقيقة المحبة انفعال نفساني، وعندي فيه احتمال، فقالوا: أريد لازم المحبة، أي في المحبوب والمحب، فيلزمها اتصاف المحبوب بما يرضي المحب لتنشأ المحبة التي أصلها الاستحسان، ويلزمها رضي المحب عن محبوبة وإيصال النفع له. وهذان اللازمان متلازمان في أنفسهما، فإطلاق المحبة وصفا لله مجاز بهذا اللازم المركب.
والمراد بـ {الْمُعْتَدِينَ} : المشركون، لأنه يرادف الظالمين.
والمعنى: ادعوا ربكم لأنه يحبكم ولا يحب المعتدين، كقوله: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60] تعريض

بالوعد بإجابة دعاء المؤمنين وأنه لا يستجيب دعاء الكافرين، قال تعالى: {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [الرعد14] على أحد تأويلين فيها. وحمل بعض المفسرين التضرع على الخضوع، فجعلوا الآية مقصورة على طلب الدعاء الخفي حتى بالغ بعضهم فجعل الجهر بالدعاء منهيا عنه، وتجاوز بعضهم فجعل قوله: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} تأكيدا لمعنى الأمر بإخفاء الدعاء، وجعل الجهر بالدعاء من الاعتداء والجاهرين به من المعتدين الذين لا يجبهم الله. ونقل ذلك عن ابن جريج، وأحسب أنه نقل عنه غير مضبوط العبارة، كيف وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم جهرا ودعا أصحابه.
[56] {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}.
{وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا}
عطف النهي عن الفساد في الأرض على جملة {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} عطفا على طريقة الاعتراض، فإن الكلام لما أنبأ عن عناية الله بالمسلمين وتقريبه إياهم إذ أمرهم بأن يدعوه وشرفهم بذلك العنوان العظيم في قوله: {رَبَّكُمْ} [الأعراف: 55]، وعرض لهم بمحبته إياهم دون أعدائهم المعتدين، أعقبه بما يحول بينهم وبين الإدلال على الله بالاسترسال فيما تمليه عليهم شهواتهم من ثوران القوتين الشهوية والغضبية، فإنهما تجنيان فساد في الغالب، فذكرهم بترك الإفساد ليكون صلاحهم منزها عن أن يخالطه فساد، فإنهم إن أفسدوا في الأرض أفسدوا مخلوقات كثيرة وأفسدوا أنفسهم في ضمن ذلك الإفساد، فأشبه موقع الاحتراس، وكذلك دأب القرآن أن يعقب الترغيب بالترهيب، وبالعكس، لئلا يقع الناس في اليأس أو الأمن.
والاهتمام بدرء الفساد كان مقاما هنا مقتضيا التعجيل بهذا النهي معترضا بين جملتي الأمر بالدعاء.
وفي إيقاع هذا النهي قوله {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف:55] تعريض بان المعتدين وهم المشركون مفسدون في الأرض، وإرباء للمسلمين عن مشابهتهم، أي لا يليق بكم وأنتم المقربون من ربكم، المأذون لكم بدعائه، أن تكونوا مثل المبعدين منه المبغضين.
والإفساد في الأرض والإصلاح تقدم الكلام عليهما عند قوله تعالى {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ

لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} في سورة البقرة [11]، وبينا هنالك أصول الفساد وحقائق الإصلاح، ومر هنالك القول في حذف مفعول: {تُفْسِدُوا} مما هو نظير ما هنا.
و {الْأَرْضِ} هنا هي الجسم الكروي المعبر عنه بالدنيا.
والإفساد في كل جزء من الأرض هو إفساد لمجموع الأرض، وقد يكون بعض الإفساد مؤديا إلى صلاح أعظم مما جره الإفساد من المضرة، فيترجح الإفساد إذا لم يمكن تحصيل صلاح ضروري إلا به، فقد قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم نخل بني النضير، ونهى أبو بكر رضي الله عنه عن قطع شجر العدو، لاختلاف الأحوال.
والبعدية في قوله: {بَعْدَ إِصْلاحِهَا} بعدية حقيقية، لأن الأرض خلقت من أول أمرها على صلاح قال الله تعالى: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} [فصلت: 10] على نظام صالح بما تحتوي عليه، وبخاصة الإنسان الذي هو أشرف المخلوقات التي جعلها الله على الأرض، وخلق له ما في الأرض، وعزز ذلك النظام بقوانين وضعها الله على ألسنة المرسلين والصالحين والحكماء من عباده، الذين أيدهم بالوحي والخطاب الإلهي، أو بالإلهام والتوفيق والحكمة، فعلوا الناس كيف يستعملون ما في الأرض على نظام يحصل به الانتفاع بنفع النافع وإزالة ما في النافع من الضر وتجنب ضر الضار، فذلك النظام الأصلي، والقانون المعزز له، كلاهما إصلاح في الأرض، لأن الأول إيجاد الشيء صالحا، والتاني جعل الضار صالحا بالتهذيب أو بالإزالة، وقد مضى في قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} في سورة البقرة، أن الإصلاح موضوع للقدر المشترك بين إيجاد الشيء صالحا وبين جعل الفاسد صالحا. فالإصلاح هنا مصدر في معنى الاسم الجامد، وليس في معنى الفعل، لأنه أريد به إصلاح حاصل ثابت في الأرض لا إصلاح هو بصدد الحصول، فإذا عير ذلك النظام فأفسد الصالح، واستعمل الضار على ضره، أو استبقي مع إمكان إزالته، كان إفسادا بعد إصلاح، كما أشار إليه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:73].
والتصريح بالبعدية هنا تسجيل لفظاعة الإفساد بأنه إفساد لما هو حسن ونافع، فلا معذرة لفاعله ولا مساغ لفعله عند أهل الأرض.

{وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}
عود إلى أمر الدعاء لأن ما قبله من النهي عن الإفساد أشبه الاحتراس المعترض بين أجزاء الكلام، وأعيد الأمر بالدعاء ليبنى عليه قوله {خَوْفاً وَطَمَعاً} قصدا لتعليم الباعث على الدعاء بعد أن علموا كيفيته، وهذا الباعث تنطوي تحته أغراض الدعاء وأنواعه، فلا إشكال في عطف الأمر بالدعاء على مثله لأنهما مختلفان باختلاف متعلقاتهما.
والخوف تقدم عند قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 229].
والطمع تقدم في قوله: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} في سورة البقرة [75].
وانتصاب {خَوْفاً وَطَمَعاً} هنا على المفعول لأجله، أي أن الدعاء يكون لأجل خوف منه وطمع فيه، فحذف متعلق الخوف والطمع لدلالة الضمير المنصوب في {ادْعُوهُ} .
والواو للتقسيم للدعاء بأنه يكون على نوعين.
فالخوف من غضبه وعقابه، والطمع في رضاه وثوابه، والدعاء لأجل الخوف نحو الدعاء بالمغفرة، والدعاء لأجل الطمع نحو الدعاء بالتوفيق وبالرحمة. وليس المراد أن الدعاء يشتمل على خوف وطمع في ذاته كما فسر به الفخر في السؤال الثالث لأن ذلك وإن صح في الطمع لا يصح في الخوف إلا بسماجة، وفي الأمر بالدعاء خوفا وطمعا دليل على أن من حظوظ المكلفين في أعمالهم مراعاة جانب الخوف من عقاب الله والطمع في ثوابه، وهذا مما طفحت به أدلة الكتاب والسنة، وقد أتى الفخر في السؤال الثاني في تفسير الآية بكلام غير ملاق للمعروف عند علماء الأمة، ونزع به نزعة المتصوفة الغلاة، وتعقبه يطول، فدونك فأنظره إن شئت.
وقد شمل الخوف والطمع جميع ما تتعلق به أغراض المسلمين نحو ربهم في عاجلهم وأجلهم، ليدعوا الله بأن ييسر لهم أسباب حصول ما يطمعون، وأن يجنبهم أسباب حصول ما يخافون، وهذا يقتضي توجه همتهم إلى اجتناب المنهيات لأجل خوفهم من العقاب، وإلى امتثال المأمورات لأجل الطمع في الثواب، فلا جرم أنه اقتضى الأمر بالإحسان، وهو أن يعبدوا الله عبادة من هو حاضر بين يديه فيستحيي من أن يعصيه، فالتقدير: وادعوه خوفا وطمعا وأحسنوا بقرينة تعقيبه بقوله {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} . وهذا إيجاز.

وجملة {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} واقعة موقع التفريع على جملة {وَادْعُوهُ} ، فلذلك قرنت بـ"إن" الدالة على التوكيد، وهو لمجرد الاهتمام بالخبر، إذ ليس المخاطبون بمترددين في مضمون الخبر، ومن شأن "إن" إذا جاءت على هذا الوجه أن تفيد التعليل وربط مضمون جملتها بمضمون الجملة التي قبلها، فتغني عن فاء التفريع، ولذلك فصلت الجملة عن التي قبلها فلم تعطف لإغناء "إن" عن العاكف.
و {رَحْمَتَ} : إحسانه وإيتاؤه الخير.
والقرب حقيقته دنو المكان وتجاوره، ويطلق على الرجاء مجازا يقال: هذا قريب، أي ممكن مرجو، ومنه قوله تعالى {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَرَاهُ قَرِيباً} [المعارج: 6, 7] فإنهم كانوا ينكرون الحشر وهو عند الله واقع لا محالة، فالقريب هنا بمعنى المرجو الحصول وليس بقرب مكان، ودل قوله {قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} على مقدر في الكلام، أي وأحسنوا لأنهم إذا دعوا خوفا وطمعا فقد تهيأوا لنبذ ما يوجب الخوف، واكتساب ما يوجب الطمع، لئلا يكون الخوف والطمع كاذبين، لأن من خاف لا يقدم على المخوف، ومن طمع لا يترك طلب المطموع، ويتحقق ذلك بالإحسان في العمل ويلزم من الإحسان ترك السيئات، فلا جرم تكون رحمة الله قريبا منهم، وسكت عن ضد المحسنين رفقا بالمؤمنين وتعريضا بأنهم لا يظن بهم أن يسيئوا فتبعد الرحمة عنهم.
وعدم لحاق علامة التأنيث لوصف {قَرِيبٌ} مع أن موصوفة مؤنث اللفظ، وجهه علماء العربية بوجوه كثيرة، وأشار إليهما في الكشاف.
وجلها يحوم حول تأويل الاسم المؤنث بما يرادفه من اسم مذكر، أو الاعتذار بأن بعض الموصوف به غير حقيقي التأنيث كما هنا، وأحسنها عندي قول الفراء وأبي عبيدة: أن قريبا أو بعيدا إذا أطلق على قرابة النسب أو بعد النسب فهو مع المؤنث بتاء ولا بد، وإذا أطلق على قرب المسافة أو بعدها جاز فيه مطابقة موصوفة وجاز فيه التذكير على التأويل بالمكان، وهو الأكثر، قال الله تعالى {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود: 83] وقال {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً} [الأحزاب: 63]. ولما كان إطلاقه في هذه الآي على وجه الاستعارة من قرب المسافة جرى على الشائع في استعماله في المعنى الحقيقي، وهذا من لطيف الفروق العربية في استعمال المشترك إزالة للإلهام بقدر الإمكان.
[57] {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً

ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}.
جملة {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ} عطف على جملة: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} [الأعراف: 54] وقد حصلت المناسبة بين آخر الجمل المعترضة وبين الجملة المعترض بينها وبين ما عطفت عليه بأنه لما ذكر قرب رحمته من المحسنين ذكر بعضا من رحمته العامة وهو المطر. فذكر إرسال الرياح هو المقصود الأهم لأنه دليل على عظم القدرة والتدبير، ولذلك جعلناه معطوفا على جملة: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} [الأعراف: 54] أو على جملة :{أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54]. وذكر بعض الأحوال المقارنة لإرسال الرياح يحصل منه إدماج الامتنان في الاستدلال وذلك لا يقتضي أن الرياح لا ترسل إلا للتبشير بالمطر، ولا أن المطر لا ينزل إلا عقب إرسال الرياح، إذ ليس المقصود تعليم حوادث الجو، وإذ ليس في الكلام ما يقتضي انحصار الملازمة وفيه تعريض ببشارة المؤمنين بإغداق الغيث عليهم ونذارة المشركين بالقحط والجوع كقوله: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً} [الجن:16] وقوله {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان: 10].
وأطلق الإرسال على الانتقال على وجه الاستعارة، فإرسال الرياح هبوبها من المكان الذي تهب فيه ووصولها، وحسن هذه الاستعارة أن الريح مسخرة إلى المكان الذي يريد الله هبوبها فيه فشبهت بالعاقل المرسل إلى جهة ما، ومن بدائع هذه الاستعارة أن الريح لا تفارق كرة الهواء كما تقدم عند قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ} الآية في سورة البقرة [164]، فتصريف الرياح من جهة إلى جهة أشبه بالإرسال منه بالإيجاد. والرياح: جمع ريح، وقد تقدم في سورة البقرة.
وقرأ الجمهور {الرِّيَاحَ} بصيغة الجمع وقرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي، وخلف: الريح بصيغة المفرد باعتبار الجنس، فهو مساو لقراءة الجمع، قال ابن عطية: من قرأ بصيغة الجمع فقراءته أسعد، لأن الرياح حيثما وقعت في القرآن فهي مقترنة بالرحمة، كقوله: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} [الحجر: 22] وأكثر ذكر الريح المفردة أن تكون مقترنة بالعذاب كقوله: {رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الاحقاف: 24] ونحو ذلك. ومن قرأ بالإفراد فتقييدها بالنشر يزيل الاشتراك أي الإيهام. والتحقيق أن التعبير بصيغة الجمع قد يراد به تعدد المهاب أو حصول الفترات في الهبوب، وأن الإفراد قد يراد به أنها مدفوعة دفعة

واحدة قوية لا فترة بين هباتها.
وقوله {نَشْراً} قرأه نافع، وأبو عمرو، وابن كثير، وأبو جعفر: نشرا بضم النون والشين على أنه جمع نشور بفتح النون كرسول ورسل، وهو فعول بمعنى فاعل، والنشور الريح الحية الطيبة لآنها تنشر السحاب، أي تبثه وتكثره في الجو، كالشيء المنشور، ويجوز أن يكون فعولا بمعنى مفعول، أي منشورة، أي مبثوثة في الجهات، متفرقة فيها، لأن النشر هو التفريق في جهات كثيرة، ومعنى ذلك أن ريح المطر تكون لينة، تجيء مرة من الجنوب ومرة من الشمال، وتتفرق في الجهات حتى ينشأ بها السحاب ويتعدد سحابات مبثوثة، كما قال الكميت في السحاب:
مرته الجنوب بأنفاسها ... وحلت عزاليه الشمأل
ومن أجل ذلك عبر عنها بصيغة الجمع لتعدد مهابها، ولذلك لم تجمع فيما لا يحمد فيه تعود المهاب كقوله: {وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} [يونس: 22] من حيث جري السفن إنما جيده بريح متصلة.
وقرأه ابن عامر {نَشْراً} بضم النون وسكون الشين وهو تخفيف نشر الذي هو بضمتين كما يقال: رسل في رسل. وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف بفتح النون وسكون الشين على أنه مصدر، وانتصب إما على المفعولية المطلقة لأنه مرادف لـ "أرسل" بمعناه المجازي، أي أرسلها إرسالا أو نشرها نشرا، وإما على الحال من الريح، أي ناشرة أي السحاب، أو من الضمير في "أرسل" أي أرسلها ناشرا أي محييا بها الأرض الميتة، أي محييا بآثارها وهي الأمطار.
وقرأه عاصم بالباء الموحدة في موضع النون مضمومة وبسكون الشين ولا لتنوين وهو تخفيف بشرا بضمها على أنه جمع بشير نذر ونذير، أي مبشرة للناس باقتراب الغيث.
فحصل من مجموع هذه القراءات أن الرياح تنشر السحاب، وأنها تأتي من جهات مختلفة تتعاقب فيكون ذلك سبب امتلاء الأسحبة بالماء وأنها تحيي الأرض بعد موتها، وأنها تبشر الناس بهبوبها، فيدخل عليهم بها سرورا.
وأصل معنى قولهم: بين يدي فلان، انه يكون أمامه بقرب منه ولذلك قوبل بالخلف في قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [البقرة: 255] فقصد قائلة الكناية

عن الأمام، وليس صريحا، حيث إن الأمام القريب أوسع من الكون بين اليدين، ثم لشهرة هذه الكناية وأغلبية موافقتها للمعنى الصريح جعلت كالصريح، وساغ أن تستعمل مجازا في التقدم والسبق القريب، كقوله تعالى {إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ: 46]، وفي تقدم شئ على شئ مع قربه منه من غير أن يكون أمامه ومن غير أن يكون للمتقدم عليه يدان، وهكذا استعماله في هذه الآية، أي يرسل الرياح سابقة رحمته.
والرحمة هذه أريد بها المطر، فهو من إطلاق المصدر على المفعول، لأن الله يرحم به. والقرينة على المراد بقية الكلام، وليست الرحمة من أسماء المطر في كلام العرب فإن ذلك لم يثبت، وإضافة الرحمة إلى اسم الجلالة في هذه الآية تبعد دعوى من ادعاها من أسماء المطر. والمقصد الأول من قوله {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ} تقريع للمشركين وتفنيد إشراكهم، وتبعه تذكير المؤمنين وإثارة اعتبارهم، لأن الموصول دل على أن الصلة معلومة الانتساب للموصول، لأن المشركين يعلمون أن للرياح مصرفا وأن للمطر منزلا، غير أنهم يذهلون أو يتذاهلون عن تعيين ذلك الفاعل، ولذلك يجيئون في الكلام بأفعال نزول المطر مبنية إلى المجهول غالبا، فيقولون: مطرنا بنوء الثريا ويقولون: غثنا ما شئنا مبنيا للمجهول أي أغثنا، فأخبر الله تعالى بأن فاعل تلك الأفعال هو الله، وذلك بإسناد هذا الموصول إلى ضمير الجلالة في قوله {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ} أي الذي علمتم أنه يرسل الرياح وينزل الماء، وهو الله تعالى كقوله {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة: 16]، فالخبر مسوق لتعيين صاحب هذه الصلة. فه بمنزلة الجواب عن استفهام مقصود منه طلب التعيين في نحو قولهم: أراحل أنت أم ثاو، ولذلك لم يكن في هذا الإسناد قصر لأنه به رد اعتقاد، فإنهم لم يكونوا يزعمون أن غير الله يرسل الرياح، ولكنهم كانوا كمن يجهل ذلك من جهة إشراكهم معه غيره، فروعي في هذا الإسناد حالهم ابتداء، ويحصل رعي حال المؤمنين تبعا، لأن السياق مناسب لمخاطبة الفريقين كما تقدم في الآي السابقة.
و {حَتَّى} ابتدائية وهي غاية لمضمون قوله {بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} ، الذي هو في معنى متقدمة رحمته، أي تتقدمها مدة وتنشر أسحبتها حتى إذا أقلت سحابا أنزلنا به الماء، فإنزال الماء هو غاية تقدم الرياح وسبقها المطر، وكانت الغاية مجزاة أجزاء فأولها مضمون قوله {أَقَلَّتْ} أي الرياح السحاب، ثم مضمون قوله {ثِقَالاً} ، ثم مضمون {سُقْنَاهُ} أي إلى البلد الذي أراد الله غيثه، ثم أن ينزل منه الماء. وكل ذلك غاية لتقدم

الرياح، لأن المفرع عن الغاية هو غاية.
الثقال: البطيئة التنقل لما فيها من رطوبة الماء، وهو البخار، وهو السحاب المرجو منه المطر، ومن أحسن معاني أبي الطيب قوله في حسن الاعتذار:
ومن الخير بطء سيبك عني ... أسرع السحب في المسير الجهام
وطوي بعض المغيا: وذلك أن الرياح تحرك الأبخرة التي على سطح الأرض، وتمدها برطوبات تسوقها إليها من الجهات الندية التي تمر عليها كالبحار والأنهار والبحيرات والأرضين الندية، ويجتمع بعض ذلك إلى بعض وهو المعبر عنه بالإثارة في قوله تعالى: {فَتُثِيرُ سَحَاباً} [الروم: 48] فإذا بلغ حد البخارية رفعته الرياح من سطح الأرض إلى الجو.
ومعنى {أَقَلَّتْ} حملت مشتق من القلة لأن الحامل يعد محمولة قليلا فالهمزة فيه للجعل.
وإقلال الريح السحاب هو أن الرياح تمر على سطح الأرض فيتجمع بها ما على السطح من البخار، وترفعه الرياح إلى العلو في الجو، حتى يبلغ نقطة باردة في أعلى الجو، فهنالك ينقبض البخار وتتجمع أجزاؤه فيصير سحابات، وكلما انضمت سحابة إلى أخرى حصلت منهما سحابة أثقل من إحداهما حين كانت منفصلة عن الأخرى، فيقل انتشارها إلى أن تصير سحابا عظيما فيثقل، فينماع، ثم ينزل مطرا، وقد تبين أن المراد من قوله {أَقَلَّتْ} غير المراد من قوله في الآية الأخرى {فَتُثِيرُ سَحَاباً} [الروم: 48].
والسحاب اسم جمع لسحابة فلذلك جاز إجراؤه على اعتبار التذكير نظرا لتجرد لفظه عن علامة التأنيث، وجاز اعتبار التأنيث فيه نظرا لكونه في معنى الجمع ولهذه النكتة وصف السحاب في ابتداء إرساله بأنها تثير، ووصف بعد الغاية بأنها ثقال، وهذا من إعجاز القرآن العلمي، وقد ورد الاعتباران في هذه الآية فوصف السحاب بقوله {ثِقَالاً} اعتبارا بالجمع كما قال صلى الله عليه وسلم و"رأيت بقرا تذبح"، وأعيد الضمير إليه بالإفراد في قوله {سُقْنَاهُ} .
وحقيقة السوق أنه تسيير ما يمشي ومسيره وراءه يزديه ويحثه، وهو هنا مستعار لتسيير السحاب بأسبابه التي جعلها الله، وقد يجعل تمثيلا إذا روعي قوله {أَقَلَّتْ سَحَاباً} أي: سقناه بتلك الريح إلى بلد، فيكون تمثيلا لحالة دفع الريح السحاب بحالة سوق السائق

الدابة.
واللام في قوله {لِبَلَدٍ} لام العلة، أي لأجل بلد ميت، وفي هذه اللام دلالة على العناية الربانية بذلك البلد فلذلك عدل عن تعدية سقناه بحرف "إلى".
والبلد: الساحة الواسعة من الأرض.
والميت: مجاز أطلق على الجانب الذي انعدم منه النبات، وإسناد الموت المجازي إلى البلد هو أيضا مجاز عقلي، لأن الميت إنما هو نباته وثمره، كما دل عليه التشبيه في قوله {كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى}.
والضمير المجرور بالباء في قوله {فَأَخْرَجْنَا بِهِ} يجوز أن يعود إلى البلد، فيكون الباء بمعنى "في" ويجوز أن يعود إلى الماء فيكون الباء للآلة.
والاستغراق في {كُلِّ الثَّمَرَاتِ} استغراق حقيقي، لأن البلد الميت ليس معينا بل يشمل كل بلد ميت ينزل عليه المطر، فيحصل من جميع أفراد البلد الميت جميع الثمرات قد أخرجها الله بواسطة الماء، والبلد الواحد يخرج ثمؤاته المعتادة فيه، فإذا نظرت إلى ذلك البلد خاصة فاجعل استغراق كل الثمرات استغراقا عرفيا، أي من كل الثمرات المعروفة في ذلك البلد وحرف "من" للتبعيض.
وجملة {كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى} . معترضة استطرادا للموعظة والاستدلال على تقريب البعث الذي يستبعدونه، والإشارة ب"كذلك". إلى الإخراج المتضمن له فعل {فَأَخْرَجْنَاِ} باعتبار ما قبله من كون البلد ميتا، ثم إحيائه أي إحياء ما فيه من أثر الزرع والثمر، فوجه الشبه هو إحياء بعد موت، ولا شك أن لذلك الإحياء كيفية قدرها الله وأجمل ذكرها لقصور الإفهام عن تصورها.
وجملة {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} مستأنفة، والرجاء ناشئ عن الجمل المتقدمة من قوله {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} لأن المراد التذكر الشامل الذي يزيد المؤمن عبرة وإيمانا، والذي من شانه أن يقلع من المشرك اعتقاد الشرك ومن منكر البعث إنكاره.
وقرأ الجمهور {تذكرون} بتشديد الذال على إدغام التاء الثانية في الذال بعد قلبها ذالا، وقرأ عاصم في رواية حفص {تَذَكَّرُونَ} بتخفيف الذال على حذف إحدى التاءين.

[58] {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ}.
جملة معترضة بين جملة {كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى} وبين جملة {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً} [لأعراف: 59] تتضمن تفصيلا لمضمون جملة {فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [الأعراف: 57] إذ قد بين فيها اختلاف حال البلد الذي يصيبه ماء السحاب، دعا إلى هذا التفصيل أنه لما مثل إخراج ثمرات الأرض بإخراج الموتى منها يوم البعث تذكيرا بذلك للمؤمنين، وإبطالا لإحالة البعث عند المشركين، مثل هنا باختلاف حال إخراج النبات من الأرض اختلاف حال الناس الأحياء في الانتفاع برحمة هدى الله، فموقع قوله {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} كموقع قوله: {كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى} ولذلك ذيل هذا بقوله: {كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} كما ذيل ما قبله بقوله: {كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 57].
والمعنى: كذلك نخرج الموتى وكذلك ينتفع برحمة الهدي من خلقت فطرته طيبة قابلة للهدى كالبلد الطيب ينتفع بالمطر، ويحرم من الانتفاع بالهدى من خلقت فطرته خبيثة كالأرض الخبيثة لا تنفع بالمطر فلا تنبت نباتا نافعا، فالمقصود من هذه الآية التمثيل، وليس المقصود مجرد تفصيل أحوال الأرض بعد نزول المطر، لأن الغرض المسوق له الكلام يجمع أمرين: العبرة بصنع الله، والموعظة بما يماثل أحواله. فالمعنى: كما أن البلد الطيب يخرج نباته سريعا بهجا عند نزول المطر، والبلد الخبيث لا يكاد ينبت فإن أنبت أخرج نبتا خبيثا لا خير فيه.
والطيب وصف على وزن فيعل وهي صيغة تدل على قوة الوصف في الموصوف مثل: قيم، وهو المتصف بالطيب، وقد تقدم تفسير الطيب عند قوله تعالى: {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} في سورة المائدة [4]، وعند قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً} في سورة البقرة [168].
والبلد الطيب الأرض الموصوفة بالطيب، وطيبها زكاء تربتها وملاءمتها لإخراج النبات الصالح وللزرع والغرس وهي الأرض النقية.
{وَالَّذِي خَبُثَ} ضد الطيب.
وقوله {بِإِذْنِ رَبِّهِ} في موضع الحال من {نَبَاتُهُ} . والإذن: الأمر، والمراد به أمر

العناية به كقوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [صّ: 75] ليدل على تشريف ذلك النبات، فهو في معنى الوصف بالزكاء، والمعنى: البلد الطيب يخرج نباته طيبا زكيا مثله، وقد أشار إلى طيب نباته بان خروجه بإذن ربه، فأريد بهذا الإذن إذن خاص هو إذن عناية وتكريم، وليس المراد إذن التقدير والتكوين فإن ذلك إذن معروف لا يتعلق الغرض ببيانه في مثل هذا المقام.
{وَالَّذِي خَبُثَ} حمله جميع المفسرين على أنه وصف للبلد، أي البلد الذي خبث وهو مقابل البلد الطيب، وفسروه بالأرض التي لا تنبت إلا نباتا لا ينفع، ولا يسرع إنباتها، مثل السباخ، وحملوا ضمير يخرج على أنه عائد للنبات، وجعلوا تقدير الكلام: والذي خبث لا "يخرج" نباته إلا نكدا، فحذف المضاف فالتقدير، وهو نبات، وأقيم المضاف إليه مقامه، وهو ضمير البلد الذي خبث، المستتر في فعل يخرج.
والذي يظهر لي: أن يكون {الَّذِي} صادقا على نبات الأرض، والمعنى: والنبت الذي خبث لا يخرج إلا نكدا، ويكون في الكلام احتباك إذ لم يذكر وصف الطيب بعد نبات البلد الطيب، ولم تذكر الأرض الخبيثة قبل ذكر النبات الخبيث، لدلالة كلا الضدين على الآخر. والتقدير: والبلد الطيب يخرج نباته طيبا بإذن ربه، والنبات الذي خبث يخرج نكدا من البلد الخبيث، وهذا صنع دقيق لا يهمل في الكلام البليغ.
وقرأ الجميع {لا يَخْرُجُ} بفتح التحتية وضم الراء إلا ابن وردان عن أبي جعفر قرأ بضم التحتية وكسر الراء على خلاف المشهور عنه، وقيل إن نسبة هذا لابن وردان توهم.
والنكد وصف من النكد بفتح الكاف وهو مصدر نكد الشيء إذا كان غير صالح يجر على مستعمله شرا. وقرأ أبو جعفر {إِلاَّ نَكِداً} ، بفتح الكاف.
وفي تفصيل معنى الآية جاء الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع بها الله الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع لذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به".

والإشارة بقوله: {كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآياتِ} إلى تفنن الاستدلال بالدلائل الدالة على عظيم القدرة المقتضية الوحدانية، والدالة أيضا على وقوع البعث بعد الموت، والدالة على اختلاف قابلية الناس للهدى والانتفاع به بالاستدلال الواضح البين المقرب في جميع ذلك، فذلك تصريف أي تنويع وتفنين للآيات أي الدلائل.
والمراد بالقوم الذين يشكرون: المؤمنون: تنبيها على أنهم مورد التمثيل بالبلد الطيب، وأن غيرهم مورد التمثيل بالبلد الخبيث، وهذا كقوله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43].
[59] {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}.
استئناف انتقل به الغرض من إقامة الحجة والمنة المبتدئة بقوله تعالى {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ} [الأعراف: 10]، وتنبيه أهل الضلالة أنهم غارقون في كيد الشيطان، الذي هو عدو نوعهم، من قوله {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} إلى قوله {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 16, 33]، ثم بالتهديد بوصف عذاب الآخرة وأحوال الناس فيه، وما تخلل ذلك من الأمثال والتعريض؛ إلى غرض الاعتبار والموعظة بما حل بالأمم الماضية، فهذا الاستئناف له مزيد اتصال بقوله في أوائل السورة [4] {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} الآية، وقد أفيض القول فيه في معظم السورة وتتبع هذا الاعتبار أغراض أخرى: وهي تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم، وتعليم أمته بتاريخ الأمم التي قبلها من الأمم المرسل إليهم، ليعلم المكذبون من العرب أن لا غضاضة على محمد صلى الله عليه وسلم ولا على رسالته من تكذيبهم، ولا يجعله ذلك دون غيره من الرسل، بله أن يؤيد زعمهم أنه لو كان صادقا في رسالته لأيده الله بعقاب مكذبيه لما قالوا على سبيل التهكم أو الحجاج: "اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم". وليعلم أهل الكتاب وغيرهم أن ما لقبه محمد صلى الله عليه وسلم من قومه هو شنشنة أهل الشقاوة تلقاء دعوة رسل الله. وأكد هذا الخبر بلام القسم وحرف التحقيق لأن الغرض من هذه الأخبار تنظير أحوال الأمم المكذبة رسلها بحال مشركي العرب في تكذيبهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
وكثر في الكلام اقتران جملة جواب القسم: بـ {قَدْ} لأن القسم يهيئ نفس السامع

لتوقع خبر مهم فيؤتى بقد لأنها تدل على تحقيق أمر متوقع، كما أثبته الخليل والزمخشري، والتوقع قد يكون توقعا للمخبر به، وقد يكون توقعا للخبر كما هنا.
وتقدم التعريف بنوح عند قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً} في سورة آل عمران [33]، وكان قوم نوح يسكنون الجزيرة والعراق، حسب ظن المؤرخين، وعبر عنهم القرآن بطريق القومية المضافة إلى نوح إذ لم يكن لهم اسم خاص من أسماء الأمم يعرفون به، فالتعريف بالإضافة هنا لأنها أخصر طريق.
وعطف جملة {فَقَالَ يَا قَوْمِ} على جملة {أَرْسَلْنَا} بالفاء إشعارا بان ذلك القول صدر منه بفور إرساله، فهي مضمون ما أرسل به.
وخاطب نوح قومه كلهم لأن الدعوة لا تكون إلا عامة لهم، وعبر في ندائهم بوصف القوم لتذكيرهم بآصرة القرابة، ليتحققوا أنه ناصح ومريد خيرهم ومشقق عليهم، وأضاف "لقوم" إلى ضميره للتحبيب والترقيق لاستجلاب اهتدائهم.
وقوله لهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} إبطال للحالة التي كانوا عليها، وهي تحتمل أن تكون حالة شرك كحالة العرب، وتحتمل أن تكون حالة وثنية باقتصارهم على عبادة لأصنام دون الله تعالى، كحالة الصابئة وقدماء اليونان، وآيات القرآن صالحة للحالين، والمنقول في القصص: أن قوم نوح كانوا مشركين، وهو الذي يقتضيه ما في صحيح البخاري عن ابن عباس أن آلهة قوم نوح أسماء جماعة من صالحيهم فلما ماتوا قال قومهم: لو اتخذنا في مجالسهم أنصابا فاتخذوها وسموها بأسمائهم حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت.
وظاهر ما في سورة نوح أنهم كانوا لا يعبدون الله لقوله: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ} [نوح: 3] وظاهر ما في سورة فصلت أنهم يعترفون بالله لقولهم: {لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً} [فصلت: 14] مع احتمال أنه خرج مخرج التسليم الجدلي فإن كانوا مشركين كان أمره إياهم بعبادة الله مقيدا بمدلول قوله: {ما لكم من إله غيره} أي أفردوه بالعبادة ولا تشركوا معه الأصنام، وإن كانوا مقتصرين على عبادة الأوثان كان قوله: {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} تعليلا للإقبال على عبادة الله، أي هو الإله لا أوثانكم.
وجملة {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} على الوجه الأول بيان للعبادة التي أمرهم بها، أي أفردوه بالعبادة دون غيره، إذ ليس غيره لكم بإله.

وعلى الوجه الثاني يكون استئنافا بيانيا للأمر بالإقلاع عن عبادة غيره.
وقرأ الجمهور {غَيْرُهُ} بالرفع على الصفة "لإله" باعتبار محله لأنه في محل رفع إذ هو مبتدأ وإنما جر لدخول حرف الجر الزائد ولا يعتد بجره، وقراه الكسائي، وأبو جعفر: بجر {غَيْرُ} على النعت للفظ "إلاه" نظرا لحرف الجر الزائد.
وجملة {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} يجوز أن تكون في موقع التعليل، كما في الكشاف: أي لمضمون قوله {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} كأنه قيل: اتركوا عبادة غير الله خوفا من عذاب يوم عظيم، وبني نظم الكلام على خوف المتكلم عليهم، دلالة على إمحاضه النصح لهم وحرضه على سلامتهم، حتى جعل ما يضر بهم كأنه يضر به، فهو يخافه كما يخافون على أنفسهم، وذلك لأن قوله هذا كان في مبدإ خطابهم بما أرسل به، ويحتمل أنه قاله بعد أن ظهر منهم التكذيب: إي إن كنتم لا تخافون عذابا فإني أخافه عليكم، وهذا من رحمة الرسل بقومهم.
وفعل الخوف يتعدى بنفسه إلى الشيء المخوف منه، ويتعدى إلى مفعول ثان بحرف "على" إذا كان الخوف من ضر يلحق غير الخائف، كما قال الأحوص:
فإذا تزول تزول على متخمط ... تخشى بوادره على الأقران
ويجوز أن تكون مستأنفة ثانية بعد جملة {اعْبُدُوا اللَّهَ} لقصد الإرهاب والإنذار، ونكتة بناء نظم الكلام على خوف المتكلم عليهم هي هي.
والعذاب المخوف ويومه يحتمل أنهما في الآخرة أو في الدنيا، والأظهر الأول لأن جوابهم بأنه في ضلال مبين يشعر بأنهم أحالوا الوحدانية وأحالوا البعث كما يدل عليه قوله في سورة نوح {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتاً ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً} [نوح: 17, 18] فحالهم كحال مشركي العرب لأن عبادة الأصنام تمحض أهلها للاقتصار على أغراض الدنيا.
[60] {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}.
فصلت جملة {قَالَ} على طريقة الفصل في المحاورات، واقترن جوابهم بحرف التأكيد للدلالة على أنهم حققوا وأكدوا اعتقادهم أن نوحا منغمس في الضلالة. {الْمَلَأُ} مهموز بغير مد: الجماعة الذين أمرهم واحد ورأيهم واحد لأنهم يمالئ بعضهم بعضا،

أي يعاونه ويوافقه، ويطلق الملأ على أشراف القوم وقادتهم لأن شأنهم أن يكون رأيهم واحدا عن تشاور، وهذا المعنى هو المناسب في هذه الآية بقرينة من الدالة على التبعيض أي أن قادة القوم هم الذين تصدوا لمجادلة نوح والمناضلة عن دينهم بمسمع من القوم الذين خاطب جميعهم، والرؤية قلبية بمعنى العلم، أي أنا لنوقن أنك في ضلال مبين ولم يوصف الملأ هنا بالذين كفروا، أو بالذين استكبروا كما وصف الملأ في قصة هود بالذين كفروا استغناء بدلالة المقام على أنهم كذبوا وكفروا.
وظرفيه {فِي ضَلالٍ} مجازية تعبيرا عن تمكن وصف الضلال منه حتى كأنه محيط به من جوانبه إحاطة الظرف بالمظروف.
"والضلال" اسم مصدر ضل إذا أخطأ الطريق الموصل، "والمبين" اسم فاعل من أبان المرادف بان، وذلك هو الضلال البالغ الغاية في البعد عن طريق الحق، وهذه شبهة منهم فإنهم توهموا أن الحق هو ما هم عليه، فلا عجب إذا جعلوا ما بعد عنه بعدا عظيما ضلالا بينا لأنه خالفهم، وجاء بما يعدونه من المحال، إذ نفى الإلهية عن آلهتهم، فهذه مخالفة، وأثبتها لله وحده، فإن كانوا وثنيين فهذه مخالفة أخرى، وتوعدهم بعذاب على ذلك وهذه مخالفة أيضا، وإن كان العذاب الذي توعدهم به عذاب الآخرة فقد أخبرهم بأمر محال عندهم وهو البعث، فهي مخالفة أخرى، فضلاله عندهم مبين، وقد يتفاوت ظهوره، وادعى أن الله أرسله وهذا في زعمهم تعمد كذب وسفاهة عقل وادعاء محال كما حكي عنهم في قوله تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} -وقوله هنا - {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأعراف: 66, 63] الآية.
[63,61] {قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}.
فصلت جملة {قَالَ} على طريقة فصل المحاورات. والنداء في جوابه إياهم للاهتمام بالخبر، ولم يخص خطابه بالذين جاوبوه، بل أعاد الخطاب إلى القوم كلهم، لأن جوابه مع كونه مجادلة للملأ من قومه هو أيضا يتضمن دعوة عامة، كما هو بين، وتقدم آنفا نكتة التعبير في ندائهم بوصف القوم المضاف إلى ضميره، فأعاد ذلك مرة ثانية

استنزالا لطائر نفوسهم مما سيعقب النداء من الرد عليهم وإبطال قولهم: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأعراف: 60].
والضلالة مصدر مثل الضلال، فتأنيثه لفظي محض، والعرب يستشعرون التأنيث غالبا في أسماء أجناس المعاني، مثل الغواية والسفاهة، فالتاء لمجرد تأنيث اللفظ وليس في هذه التاء معنى الوحدة لأن أسماء أجناس المعاني لا تراعى فيها المشخصات، فليس الضلال بمنزلة اسم الجمع للضلالة، خلافا لما في الكشاف، وكأنه حاول إثبات الفرق بين قول قومه له: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ} [الأعراف:60]، وقوله هو {لَيْسَ بِي ضَلالةٌ} وتبعه فيه الفخر، وابن الأثير في المثل السائر، وقد تكلف لتصحيحه التفتزاني، ولا حاجة إلى ذلك، لأن التخالف بين كلمتي ضلال وضلالة اقتضاه التفنن حيث سبق لفظ ضلال، وموجب سبقه إرادة وصفه بـ {مُبِينٍ} [الأعراف:60]، فلو عبر هنالك بلفظ ضلالة لكان وصفها بمبينة غير مألوف الاستعمال، ولما تقدم لفظ {ضَلالٍ} [الأعراف:60] استحسن أن يعاد بلفظ يغايره في السورة دفعا لثقل الإعادة؛ فقوله: {لَيْسَ بِي ضَلالةٌ} رد لقولهم {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأعراف:60] بمساوية لا بأبلغ منه.
والباء في قوله: {بِي} المصاحبة أو الملابسة، وهي تناقض معنى الظرفية المجازية من قولهم: {فِي ضَلالٍ} فإنهم جعلوا الضلال متمكنا منه، فنفى هو أن يكون للضلال متلبس به.
وتجريد {لَيْسَ} من تاء التأنيث مع كون اسمها مؤنث اللفظ جرى على الجوار في تجريد الفعل من علامة التأنيث، إذا كان مرفوعة غير حقيقي التأنيث، ولمكان الفصل بالمجرور.
والاستدراك الذي في قوله: {وَلَكِنِّي رَسُولٌ} لرفع ما توهموه من أنه في ضلال حيث خالف دينهم، أي هو في حال رسالة عن الله، مع ما تقتضي الرسالة من التبليغ والنصح والإخبار بما لا يعلمونه، وذلك ما حسبوه ضلالا، وشأن "لكن" أن تكون جملتها مفيدة معنى يغاير معنى الجملة الواقعة قبلها، ولا تدل عليه الجملة السابقة وذلك هو حقيقة الاستدراك الموضوعة له "لكن" فلا بد من مناسبة بين مضموني الجملتين: إما في المسند نحو: {وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ} [الأنفال: 43] أو في المسند إليه نحو: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] فلا يحسن أن تقول: ما سافرت ولكني مقيم، وأكثر وقوعها بعد جملة منفية، لأن النفي معنى واسع، فيكثر أن

يحتاج المتكلم بعده إلى زيادة بيان، فيأتي بالاستدراك، ومن قال: إن حقيقة الاستدراك هو رفع ما يتوهم السامع ثبوته أو نفيه فإنما نظر إلى بعض أحوال الاستدراك أو إلى بعض أغراض وقوعه في الكلام البليغ، وليس مرادهم أن حقيقة الاستدراك لا تقوم إلا بذلك.
واختيار طريق الإضافة في تعريف المرسل: لما تؤذن به من تفخيم المضاف ومن وجوب طاعته على جميع الناس، تعريضا بقومه إذ عصوه.
وجملة: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي} صفة لرسول، أو مستأنفة، والمقصود منها إفادة التجدد، وأنه غير تارك التبليغ من أجل تكذيبهم تأييسا لهم من متابعته إياهم، ولولا هذا المقصد لكان معنى هذه الجملة حاصلا من معنى قوله: {وَلَكِنِّي رَسُولٌ} ، ولذلك جمع الرسالات لأن كل تبليغ يتضمن رسالة بما بلغه، ثم إن اعتبرت جملة: {أُبَلِّغُكُمْ} صفة، يكن العدول عن ضمير الغيبة إلى ضمير التكلم في قوله: {أُبَلِّغُكُمْ} وقوله: {رَبِّي} التفاتا، باعتبار كون الموصوف خبرا عن ضمير المتكلم، وان اعتبرت استئنافا، فلا التفات.
والتبليغ والإبلاغ: جعل الشيء بالغا، أي واصلا إلى المكان المقصود، وهو هنا استعارة للإعلام بالأمر المقصود علمه، فكأنه ينقله من مكان إلى مكان.
وقرأ الجمهور: أبلغكم بفتح الموحدة وتشديد اللام وقراه أبو عمرو، ويعقوب: بسكون الموحدة وتخفيف اللام من الإبلاغ والمعنى واحد.
ووجه العدول عن الإضمار إلى الإظهار في قوله: {رِسَالاتِ رَبِّي} هو ما تؤذن به إضافة الرب إلى ضمير المتكلم من لزوم طاعته، وأنه لا يسعه الا تبليغ ما أمره بتبليغه، وإن كره قومه.
والنصح والنصيحة كلمة جامعة، يعبر بها عن حسن النية وإرادة الخير من قول أو عمل، وفي الحديث: الدين النصيحة وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم. ويكثر إطلاق النصح على القول إلي فيه تنبيه للمخاطب إلى ما ينفعه ويدفعه عنه الضر.
وضده الغش. وأصل معناه أن يتعدى إلى المفعول بنفسه، ويكثر أن يعدى إلى المفعول بلام زائدة دالة على معنى الاختصاص للدلالة على أن الناصح أراد من نصحه ذات المنصوح، لا جلب خير لنفس الناصح، ففي ذلك مبالغة ودلالة على إمحاض النصيحة، وأنها وقعت خالصة للمنصوح، مقصودا بها جانبه لا غير، فرب نصيحة ينتفع

بها الناصح فيقصد النفعين جميعا، وربما يقع تفاوت بين النفعين فيكون ترجيح نفع الناصح تقصيرا أو إجحافا بنفع المنصوح.
وفي الإتيان بالمضارع دلالة على تجديد النصح لهم، وإنه غير تاركه من أجل كراهيتهم أو بذاءتهم.
وعقب ذلك بقوله: {وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} جمعا لمعان كثيرة مما تتضمنه الرسالة وتأييدا لثباته على دوام التبليغ والنصح لهم، والاستخفاف بكراهيتهم وأذاهم، لأنه يعلم ما لا تعلمونه مما يحمله على الاسترسال في عمله ذلك، فجاء بهذا الكلام الجامع، ويتضمن هذا الإجمال البديع تهديدا لهم بحلول عذاب بهم في العاجل والآجل، وتنبيها للتأمل فيما أتاهم به، وفتحا لبصائرهم أن تتطلب العلم بما لم يكونوا يعلمونه، وكل ذلك شأنه أن يبعثهم على تصديقه وقبول ما جاءهم به.
و {مِنْ} ابتدائية أي: صار لي علم وارد من الله تعالى، وهذه المعاني التي تضمنها هذا الاستدراك هي ما يسلم كل عاقل أنها من الهدى والصلاح، وتلك هي أحواله، وهم وصفوا حاله بأنه في ضلال مبين، ففي هذا الاستدراك نعي على كمال سفاهة عقولهم.
وانتقل إلى كشف الخطأ في شبهتهم فعطف على كلامه قوله: {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ} مفتتحا الجملة بالاستفهام الإنكاري بعد واو العطف، وهذا مشعر بأنهم أحالوا أن يكون رسولا، مستدلين بأنه بشر مثلهم، كما وقعت حكايته في آية أخرى: {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} [المؤمنون: 24].
واختير الاستفهام دون أن يقول: لا عجب، إشارة إلى أن احتمال وقوع ذلك منهم مما يتردد فيه ظن العاقل بالعقلاء. فقوله: {أَوَعَجِبْتُمْ} بمنزلة المنع لقضية قولهم: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأعراف: 60] لأن قولهم ذلك بمنزلة مقدمة دليل على بطلان ما يدعوهم إليه.
وحقيقة العجب أنه انفعال نفساني يحصل عند إدراك شئ غير مألوف، وقد يكون العجب مشوبا بإنكار الشيء المتعجب منه واستبعاده وإحالته، كما في قوله تعالى: {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} [قّ: 2, 3] وقد اجتمع المعنيان في قوله تعالى: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ} [الرعد: 5] والذي في هذه الآية كناية

عن الإنكار كما في قوله تعالى: {قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [هود: 73] أنكروا عليها أنها عدت ولادتها ولدا، وهي عجوز، محالا.
وتنكير {ذِكْرٌ} و {رَجُلٍ} للنوعية إذ لا خصوية لذكر دون ذكر ولا لرجل دون رجل، فإن الناس سواء، والذكر سواء في قبوله لمن وفقه الله ورده لمن حرم التوفيق، أي هذا الحدث الذي عظمتموه وضججتم له ما هو إلا ذكر من ربكم على رجل منكم. ووصف {رَجُلٍ} بأنه منهم، أي من جنسهم البشري فضح لشبهتهم، ومع ما في الكلام من فضح شبهتهم فيه أيضا رد لها بأنهم أحقاء بأن يكون ما جعلوه موجب استبعاد واستحالة هو موجب القبول والإيمان، إذ الشان أن ينظروا في الذكر الذي جاءهم من ربهم وأن لا يسرعوا إلى تكذيب الجائي به، وأن يعلموا أن كون المذكر رجلا منهم أقرب إلى التعقل من كون مذكرهم من جنس آخر من ملك أو جني، فكان هذا الكلام من جوامع الكلم في إبطال دعوى الخصم والاستدلال لصدق دعوى المجادل، وهو يتنزل منزلة سند المنع في علم الجدل.
ومعنى "على" من قوله: {عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ} يشعر بأن {جَاءَكُمْ} ضمن معنى نزل: أي نزل ذكر من ربكم على رجل منكم، وهذا مختار ابن عطية، وعن الفراء أن {عَلَى} بمعنى مع.
والمجرور في قوله: {لِيُنْذِرَكُمْ} ظرف مستقر في موضع الحال من رجل، أو هو ظرف لغو متعلق بقوله: {جَاءَكُمْ} وهو زيادة في تشويه خطئهم إذ جعلوا ذلك ضلالا مبينا، وإنما هو هدى واضح لفائدتكم بتحذيركم من العقوبة، وإرشادكم إلى تقوى الله، وتقريبكم من رحمته.
وقد رتبت الجمل على ترتيب حصول مضمونها في الوجود، فإن الإنذار مقدم لأنه حمل على الإقلاع عما هم عليه من الشرك أو الوثنية، ثم يحصل بعده العمل الصالح فترجى منه الرحمة.
والإنذار تقدم عند قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً} في سورة البقرة [119].
والتقوى تقدم عند قوله تعالى: {فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} في أول سورة البقرة [2].
ومعنى "لعل" تقدم في قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} في سورة البقرة [21].

والرحمة تقدمت عند قوله تعالى: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} في سورة الفاتحة[3].
[64] {فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً عَمِينَ}.
وقع التكذيب من جميع قومه: من قادتهم،ودهمائهم، عدا بعض أهل بيته ومن آمن به عقب سماع قول نوح، فعطف على كلامه بالفاء أي صدر منهم قول يقتضي تكذيب دعوى أنه رسول من رب العالمين يبلغ وينصح ويعلم ما لا يعلمون، فصار تكذيبا أعم من التكذيب الأول، فهو بالنسبة للملأ يؤول إلى معنى الاستمرار على التكذيب، وبالنسبة للعامة تكذيب أنف، بعد سماع قول قادتهم وانتهاء المجادلة بينهم وبين نوح، فليس الفعل مستعملا في الاستمرار كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ} [النساء: 136] إذ لا داعي إليه هنا، وضمير الجمع عائد إلى القوم، والفاء في قوله: {فَأَنْجَيْنَاهُ} للتعقيب، وهو تعقيب عرفي: لأن التكذيب حصل بعده الوحي إلى نوح بأنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن، ولا يرجى زيادة مؤمن آخر، وأمره بأن يدخل الفلك ويحمل معه من آمن إلى آخر ما قصه الله في سورة هود.
وقدم الإخبار بالإنجاء على الإخبار بالإغراق، مع أن مقتضى مقام العبرة تقديم الإخبار بإغراق المنكرين، فقدم الإنجاء للاهتمام بإنجاء المؤمنين وتعجيلا لمسرة السامعين من المؤمنين بأن عادة الله إذا أهلك المشركين أن ينجي الرسول والمؤمنين، فلذلك التقديم يفيد التعريض بالنذارة، وإلا فإن الإغراق وقع قبل الإنجاء، إذ لا يظهر تحقق إنجاء نوح ومن معه إلا بعد حصول العذاب لمن لم يؤمنوا به، فالمعقب به التكذيب ابتداء هو الإغراق، والإنجاء واقع بعده، وليتأتى هذا التقديم عطف فعل الإنجاء بالواو المفيدة لمطلق الجمع، دون الفاء.
وقوله: {فِي الْفُلْكِ} متعلق بمعنى قوله: {مَعَهُ} لأن تقديره: استقروا معه في الفلك، وبهذا التعليق علم أن الله أمره أن يحمل في الفلك معشرا، وأنهم كانوا مصدقين له، فكان هذا التعليق إيجازا بديعا.
والفلك تقدم في قوله تعالى { إن في خلق السماوات والأرض} في سورة البقرة [164].

{وَالَّذِينَ مَعَهُ} هم الذين آمنوا به، وسنذكر تعيينهم عند الكلام على قصته في سورة هود.
والإتيان بالموصول في قوله: {وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا} دون أن يقال: وأغرقنا سائرهم، أو بقيتهم، لما تؤذن به الصلة من وجه تعليل الجب في قوله: {وَأَغْرَقْنَا} أي أغرقناهم لأجل تكذيبهم.
وجملة {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً عَمِينَ} تتنزل منزلة العلة لجملة {أَغْرَقْنَا} كما دل عليه حرف "إن" لأن حرف "إن" هنا لا يقصد به رد الشك والتردد، إذ لا شك فيه، وإنما المقصود من الحرف الدلالة على الاهتمام بالخبر، ومن شأن "إن" إذا جاءت للاهتمام أن تقوم مقام فاء التفريع، وتفيد التعليل وربط الجملة بالتي قبلها. ففصل هذه الجملة كلا فصل.
و {عَمِينَ} جمع عم جمع سلامة بواو ونون. وهو صفة على وزن فعل مثل أشر، مشتق من العمى، وأصله فقدان البصر، ويطلق مجازا على فقدان الرأي النافع، ويقال: عمى القلب، وقد غلب في الكلام تخصيص الموصوف بالمعنى المجازي بالصفة المشبهة لدلالتها على ثبوت الصفة، وتمكنها بان تكون سجية وإنما يصدق ذلك في فقد الرأي، لأن المرء يخلق عليه غالبا، بخلاف فقد البصر، ولذلك قال تعالى هنا: {عَمِينَ} ولم يقل عميا كما قال في الآية الأخرى: {عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً} [الاسراء: 97] ومثله قول زهير:
ولكنني عن علم ما في غد عم
والذين كذبوا كانوا عمين لأن قادتهم داعون إلى الضلالة مؤيدونها، ودهماؤهم متقلبون تلك الدعوة سماعون لها.
وقد دلت هذه القصة على معنى عظيم في إرادة الله تعالى تطور الخلق الإنساني: فإن الله خلق الإنسان في أحسن تقويم، وخلق له الحس الظاهر والحس الباطن، فانتفع باستعمال بعض قواه الحسية في إدراك أوائل العلوم، ولكنه استعمل بعض ذلك فيما جلب إليه الضر والضلال، وذلك باستعمال القواعد الحسية فيما غاب عن حسه وإعانتها بالقوى الوهمية والمخيلة، ففكر في خالقه وصفاته فتوهم له أندادا وأعوانا وعشيرة وأبناء وشركاء في ملكه، وتفاقم ذلك في الإنسان مع مرور الأزمان حتى عاد عليه بنسيان خالقه، إذ لم يدخل العلم به تحت حواسه الطاهرة، وأقبل على عبادة الآلهة الموهومة حيث اتخذ لها

صورا محسوسة، فأراد الله إصلاح البشر وتهذيب إدراكهم، فأرسل إليهم نوحا فآمن به قليل من قومه وكفر به جمهورهم، فأراد الله انتخاب الصالحين من البشر الذين قبلت عقولهم الهدى، وهم نوح ومن آمن به، واستئصال الذين تمكنت الضلالة من عقولهم لينشئ من الصالحين ذرية صالحة ويكفي الإنسانية فساد الضالين، كما قال نوح {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً} [نوح:27]، فكانت بعثة نوح وما طرأ عليها تجديدا لصلاح البشر وانتخابا للأصلح.
[66,65] {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} .
يجوز أن يكون العطف من عطف الجمل بأن يقدر بعد واو العطف "أرسلنا" لدلالة حرف "إلى" عليه، مع دلالة سبق نظيره في الجملة المعطوف عليها، والتقدير وأرسلنا إلى عاد، فتكون الواو لمجرد الجمع اللفظي من عطف القصة على القصة وليس من عطف المفردات، ويجوز أن يكون من عطف المفردات: عطفت الواو {هُوداً} على {نُوحاً} ، فتكون الواو نائبة عن العامل وهو {أَرْسَلْنَا} [الأعراف:59]، والتقدير: "لقد أرسلنا نوها إلى قومه وهودا أخا عاد إليهم وقدمت "إلى" فهو من العطف على معمولي عامل واحد، وتقديم إلى اقتضاه حسن نظم الكلام في عود الضمائر، والوجه الأول أحسن.
وقدم المجرور على المفعول الأصلي ليتأتى الإيجاز بالإضمار حيث أريد وصف هود بأنه من أخوه عاد من مضميمهم، من غير احتياج إلى إعادة لفظ عاد، ومع تجنب عود الضمير على متأخر لفظا ورتبة، فقيل وإلى عاد أخاهم هودا، و}هود} بدل أو بيان من {أَخَاهُمْ} .
وعاد أمة عظيمة من العرب العاربة البائدة، وكانوا عشر قبائل، وقيل ثلاث عشرة قبيلة وهم أبناء عاد بن عوص، وعوص هو ابن إرم بن سام بن نوح، كذا اصطلح المؤرخون.
وهود اختلف في نسبه، فقيل: هو من ذرية عاد، فقال القائلون بهذا: هو ابن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عاد، وقيل: هو من ذرية سام جد عاد، وليس من ذرية عاد،

والقائلون بهذا قالوا هو هود بن شالخ بن ارفخشد بن سام بن نوح، وذكر البغوي عن علي: أن قبر هود بحضر موت في كثيب أحمر، وعن عبد الرحمان بن سابط: أن قبر هود بين الركن والمفام وزمزم.
وعاد أريد به القبيلة وساغ صرفه لأنه ثلاثي ساكن الوسط، وكانت منازل عاد ببلاد العرب بالشحر بكسر الشين المعجمة وسكون الحاء المهملة من أرض اليمن وحصر موت وعمان والأحقاف، وهي الرمال التي بين حضر موت وعمان.
والأخ هنا مستعمل في مطلق القريب، على وجه المجاز المرسل ومنه قولهم يا أخا العرب، وقد كان هود من بني عاد، وقيل: كان ابن عم إرم، ويطلق الأخ مجازا أيضا على المصاحب الملازم، كقولهم: هو أخو الحرب، ومنه: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الاسراء: 27] وقوله: {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ} [لأعراف: 202]. فالمراد أن هودا كان من ذوي نسب قومه عاد، وإنما وصف هود وغيره بذلك، ولم يوصف نوح بأنه أخ لقومه: لأن الناس في زمن نوح لو يكونوا قد انقسموا شعوبا وقبائل، والعرب يقولون، للواحد من القبيلة: أخو بني فلان، قصدا لعزوه ونسبته تمييزا للناس إذ قد يشتركون في الأعلام، ويؤخذ من هذه الآية ونظائرها أن نظام القبائل ما حدث إلا بعد الطوفان.
وفصلت جملة {قَالَ يَا قَوْمِ} ولم تعطف بالفاء كما عطف نظيرها المتقدم في قصة نوح: لأن الحال اقتضى هنا أن تكون مستأنفة استئنافا بيانيا لأن قصة هود لما وردت عقب قصة نوح المذكور فيها دعوته قومه صار السامع مترقبا معرفة ما خاطب به هود قومه حيث بعثه الله إليهم، فكان ذلك مثار سؤال في نفس السامع أن يقول: فماذا دعا هود قومه وبماذا أجابوا? فيقع الجواب بأنه قال: يا قوم اعبدوا الله الخ مع ما في هذا الاختلاف من التفنن في أساليبي الكلام، ولأن الفعل المفرع عنه القول بالعطف لما كان محذوفا لم يكن التفريع حسنا في صورة النظم.
والربط بين الجمل حاصل في الحالتين لأن فاء العطف رابط لفظي للمعطوف بالمعطوف عليه وجواب السؤال رابط جملة الجواب مثال السؤال ربطا معنويا.
وجملة {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} مستأنفة ابتدائية. وقد شابهت دعوة هود قومه دعوة نوح قومه في المهم من كلامها: لأن الرسل مرسلون من الله والحكمة من الإرسال واحدة، فلا جرم أن تتشابه دعواتهم، وفي الحديث: الأنبياء أبناء علات وقال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى

وَعِيسَى} [الشورى: 13].
وجملة {أَفَلا تَتَّقُونَ} استفهامية إنكارية معطوفة بفاء التفريع على جملة {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} . والمراد بالتقوى الحذر من عقاب الله تعالى على إشراكهم غيره في العبادة واعتقاد الإلهية. وفيه تعريض بوعيدهم إن استمروا على ذلك. وإنما ابتدأ بالإنكار عليهم إغلاظا في الدعوة وتهويلا لفظاعة الشرك، أن كان قال ذلك في ابتداء دعوته، ويحتمل أن ذلك حكاية قول من أقواله في تكرير الدعوة بعد أن دعاهم المرة بعد المرة ووعظهم، كما قال نوح: {إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً} [نوح: 5] كما اقتضاه بعض توجيهات تجريد حكاية كلامه عن فاء التفريع المذكور آنفا.
ووصف الملإ بـ {الَّذِينَ كَفَرُوا} هنا، دون ما في قصة نوح، وصف كاشف وليس للتقييد تفننا في أساليب الحكاية ألا ترى أنه قد وصف ملأ قوم نوح بـ {الَّذِينَ كَفَرُوا} في آية سورة هود، والتوجيه الذي في الكشاف هنا غفلة عما في سورة هود.
والرؤية قلبية، أي أنا لنعلم أنك في سفاهة.
والسفاهة سخافة العقل، وقد تقدم القول في هذه المادة عند قوله تعالى: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} [البقرة: 13] وقوله: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} في سورة البقرة [130]. وجعلوا قوله: {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} كلاما لا يصدر إلا عن مختل العقل لأنه من قول المحال عندهم.
وأطلقوا الظن على اليقين في قولهم: {وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} وهو استعمال كثير كما في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ} وقد تقدم في سورة البقرة [46]، وأرادوا تكذيبه في قوله {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} ، وفيما يتضمنه قوله ذلك من كونه رسولا إليهم من الله.
وقد تشابهت أقوال قوم هود وأقوال قوم نوح في تكذيب الرسول لأن ضلالة المكذبين متحدة، وشبهاتهم متحدة، كما قال تعالى: {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} [البقرة: 118] فكأنهم لقن بعضهم بعضا كما قال تعالى: {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذريات:53]
[68,67] {قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَأُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ}.

فصلت جملة {قَالَ} لأنها على طريقة المحاورة، وقد تقدم القول فيها آنفا وفيما مضى.
وتفسير الآية تقدم في نظيرها آنفا في قصة نوح، إلا أنه قال في قصة نوح {وَأَنْصَحُ لَكُمْ} [الأعراف: 62] وقال في هذه {وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} فنوح قال ما يدل على أنه غير مقلع عن النصح للوجه الذي تقدم، وهود قال ما يدل على أن نصحه لهم وصف ثابت فيه متمكن منه، وأن ما زعموه سفاهة هو نصح.
وأتبع {نَاصِحٌ} بـ {أَمِينٌ} وهو الموصوف بالأمانة لرد قولهم له {لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [الأعراف: 66] لأن الأمين هو الموصوف بالأمانة، والأمانة حالة في الإنسان تبعثه على حفظ ما يجب عليه من حق لغيره، وتمنعه من إضاعته، أو جعله لنفع نفسه، وضدها الخيانة.
والأمانة من أعز أوصاف البشر، وهي من أخلاق المسلمين، وفي الحديث: لا إيمان لمن لا أمان له وفي الحديث: إن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة ثم قال ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه إلى أن قال فيقال: إن في بني فلان رجلا أمينا ويقال للرجل ما أعقله وما أظرفه وما أجلده وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فذكر الإيمان في موضع الأمانة. والكذب من الخيانة، والصدق من الأمانة، لأن الكذب الخبر بأمر غير واقع في صورة توهم السامع واقع، فذلك خيانة للسامع، والصدق إبلاغ الأمر الواقع كما هو فهو أداء لأمانة ما علمه المخبر، فقوله في الآية {أَمِينٌ} وصف يجمع الصفات التي تجعله بمحل الثقة من قومه، ومن ذلك إبطال كونه من الكاذبين.
وتقديم {لَكُمْ} على عامله للإيذان باهتمامه بما ينفعهم.
[69] {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}
{أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ}
هذا مماثل قول نوح لقومه وقد تقدم آنفا سبب المماثلة. وتقدم من قبل تفسير نظيره.

{وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}
يجوز أن يكون قوله: {لِيُنْذِرَكُمْ} عطفا على قوله: {اعْبُدُوا} [ الأعراف: 65] ويكون ما بينهما اعتراضا حكي به ما جرى بينه وبين قومه من المحاورة التي فاطعوه بها عقب قوله لهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ} [الأعراف: 65]، فلما أثم جوابهم عما قاطعوا به كلامه عاد إلى دعوته، فيكون رجوعا إلى الدعوى، ويجوز أن يكون عطفا على قوله: {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ} أي: لا تنكروا أن جاءكم ذكر من ربكم واذكروا نعمته عليكم، فيكون تكملة للاستدلال، وأيا ما كان فالمآل واحد، وانتقل من أمرهم بالتوحيد إلى تذكيرهم بنعمة الله عليهم التي لا ينكرون أنها من نعم الله دون غيره، لأن الخلق والأمر لله لا لغيره، تذكيرا من شانه إيصالهم إلى إفراد الله تعالى بالعبادة. وإنما أمرهم بالذكر بضم الذال لأن النفس تنسى النعم فتكفر المنعم، فإذا تذكرت النعمة رأت حقا عليها أن تشكر المنعم، ولذلك كانت مسألة شكر المنعم من أهم مسائل التكليف، والاكتفاء بحسنه عقلا عند المتكلمين سواء منهم من اكتفى بالحسن العقلي ومن لم يكتف به واعتبر التوقف على الخطاب الشرعي.
و {إِذْ} اسم زمان منصوب على المفعول به، وليس ظرفا لعدم استقامة المعنى على الظرفية، والتحقيق أن إذ لا تلازم الظرفية بل هي ظرف متصرف، وهو مختار صاحب الكشاف، والمعنى: اذكروا الوقت الذي ظهرت فيه خلافتكم عن قوم نوح في تعمير الأرض والهيمنة على الأمم، فإن عادا كانوا ذوي قوة ونعمة عظيمة {وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت: 15].
فالخلفاء جمع خليفة وهو الذي يخلف عيره في شيء، أي يتولى عمل ما كان يعمله الآخر، وقد تقدم عند قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} في سورة البقرة [30]، فالمراد: جعلكم خلفاء في تعمير الأرض. ولما قال {مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} علم أن المقصود أنهم خلفاء قوم نوح، فعاد أول أمة اضطلعت بالحضارة بعد الطوفان، وكان بنو نوح قد تكاثروا وانتشروا في الأرض، في أرمينية والموصل والعراق وبلاد العرب، وكانوا أمما كثيرة، أو كانت عاد عظم تلك الأمم وأصحاب السيادة على سائر الأمم، وليس المراد أنهم خلفوا قوم نوح في ديارهم لأن منازل عاد غير منازل قوم نوح عند المؤرخين، وهذا التذكير تصريح بالنعمة، وتعريض بالنذارة والوعيد بأن قوم نوح إنما استأصلهم

وأبادهم عذاب من الله على شركهم، فمن اتبعهم في صنعهم يوشك أن يحل به عذاب أيضا.
و {الْخَلْقُ} يحتمل أن يكون مصدرا خالصا، ويحتمل أن يكون بمعنى اسم المفعول، وهو يستعمل في المعنيين.
وقوله {بَصْطَةً} ثبت في المصاحف بصاد قبل الطاء وهو مرادف بسطة الذي هو بسين قبل الطاء. ووقع في آيات أخرى. وأهمل الراغب {بصطة} الذي بالصاد. وظاهر عبارة القرطبي أنه في هذه الآية بسين وليس كذلك.
والبصطة: الوفرة والسعة في أمر من الأمور.
فإن كان {الْخَلْقُ} بمعنى المصدر فالبصطة الزيادة في القوى الجبلية أي زادهم قوة في عقولهم وأجسامهم فخلقهم عقلاء أصحاء، وقد اشتهر عند العرب نسبة العقول الراجحة إلى عاد، ونسبة كمال قوى الأجسام إليهم قال النابغة:
أحلام عاد واجسام مطهرة ... من المعقة والآفات والإثم
وقال وداك بن ثميل المازتي في الحماسة:
وأحلام عاد لا يخاف جليسهم ... ولو نطق العوار غرب لسان
وقال قيس بن عبادة:
وأن لا يقولوا غاب قيس وهذه ... سراويل عادي نمته ثمود
وعلى هذه الوجه يكون قوله: {فِي الْخَلْقِ} متعلقا بـ {بَصْطَةً} وإن كان الخلق بمعنى الناس فالمعنى: وزادكم بصطة في الناس بأن جعلكم أفضل منهم فيما تتفاضل به الأمم من الأمور كلها، فيشمل رجحان العقول وقوة الأجسام وسلامتها من العاهات والآفات وقوة البأس، وقد نسبت الدروع إلى عاد فيقال لها: العادية، وكذلك السيوف العادية، وقد قال الله تعالى حكاية عنهم: {وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت: 15]وحكى عن هود أنه قال لهم: {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الشعراء: 129, 134] وعلى هذا الوجه يكون قوله: {فِي الْخَلْقِ} ظرفا مستقرا في موضع الحال من ضمير المخاطبين.

والفاء في قوله: {فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ} فصيحة، أي: إن ذكرتم وقت جعلكم الله خلفاء في الأرض ووقت زادكم بصطة فاذكروا نعمه الكثيرة تفصيلا، فالكلام جاء على طريقه القياس من الاستدلال بالجزئي على إثبات حكم كلي، فإنه ذكرهم بنعمة واضحة وهي كونهم خلفاء ونعم مجملة وهي زيادة بصطتهم، ثم ذكرهم بقية النعم بلفظ العموم وهو الجمع المضاف.
والآلاء جمع "إلى" والإلى النعمة وهذا مثل جمع عنب على أعناب، ونظيره جمع إني بالنون، وهو الوقت، على آناء قال تعالى: {غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} [الأحزاب: 53] أي وقته، وقال: {وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ} [طه: 130].
ورتب على ذكر نعم الله رجاء أن يفلحوا لأن ذكر النعم يؤدي إلى تكرير شكر المنعم، فيحمل المنعم عليه على مقابلة النعم بالطاعة.
[71,70] {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} .
جاوبوا هودا بما أنبأ عن ضياع حجته في جنب ضلالة عقولهم ومكابرة نفوسهم، ولذلك أعادوا تكذيبه بطريق الاستفهام الإنكاري على دعوته للتوحيد، وهذا الجواب أقل جفوة وغلظة من جوابهم الأول، إذ قالوا: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [الأعراف: 66] كأنهم راموا استنزال نفس هود ومحاولة إرجاعه عما دعاهم إليه، فلذلك اقتصروا على الإنكار وذكروه بان الأمر الذي أنكره هو دين آباء الجميع تعريضا بأنه سفه آباءه، وهذا المقصد هو الذي اقتضى التعبير عن دينهم بطريق الموصولية في قولهم: {مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} إيماء إلى وجه الإنكار عليه وإلى أنه حقيق بمتابعة دين آبائه، كما قال الملأ من قريش لأبي طالب حين دعاه النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: "لا إله إلا الله" عند احتضاره فقالوا لأبي طالب أترغب عن ملة عبد المطلب.
واجتلاب "كان" لندل على أن عبادتهم أمر قديم مضت عليه العصور.
والتعبير بالفعل وكونه مضارعا في قوله: {يَعْبُدُ} ليدل على أن ذلك متكرر من آبائهم ومتجدد وأنهم لا يفترون عنه.

ومعنى {أَجِئْتَنَا} أقصدت واهتممت بنا لنعبد الله وحده فاستعير فعل المجيء لمعنى الاهتمام والتحفز والتصلب، كقول العرب: ذهب يفعل، وفي القرآن {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ} [لمدثر: 1, 2] وقال حكاية عن فرعون {ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى فَحَشَرَ فَنَادَى} [النازعات: 22, 23] وفرعون لم يفارق مجلس ملكه وإنما أريد انه أعرض واهتم ومثله قولهم ذهب يفعل كذا قال النبهاني:
فإن كنت سيدنا سدتنا ... وإن كنت للخال فاذهب فخل
فقصدوا مما دل عليه فعل المجيء زيادة الإنكار عليه وتسفيهه على اهتمامه بأمر مثل ما دعاهم إليه.
و {وَحْدَهُ} حال من اسم الجلالة وهو اسم مصدر أوحده: إذا اعتقده واحدا، فقياس المصدر الإيحاد، وانتصب هذا المصدر على الحال: إما من اسم الجلالة بتأويل المصدر باسم المفعول عند الجمهور أي موحدا أي محكوما له بالوحدانيه، وقال يونس: هو بمعنى اسم الفاعل أي موحدين له فهو حال من الضمير في {لِنَعْبُدَ} وتقدم معنى: {وَنَذَرَ} عند قوله تعالى: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً} في سورة الأنعام[70].
والفاء في قوله {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} لتفريع طلب تحقيق ما توعدهم به، وتحديا لهود، وإشعار له بأنهم موقنون بأن لا صدق للوعيد الذي يتوعدهم فلا يخشون ما وعدهم به من العذاب. فالأمر في قولهم {فَأْتِنَا} للتعجيز.
والإتيان بالشيء حقيقته أن يجيء مصاحبا إياه، ويستعمل مجازا في الإحضار والإثبات كما هنا. والمعنى فعجل لنا ما تعدنا به من العذاب، أو فحقق لنا ما زعمت من وعيدنا. ونظيره الفعل المشتق من المجيء مثل {مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ} [هود: 3] {الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} [البقرة: 71]
وأسندوا الفعل إلى ضميره تعريضا بان ما توعدهم به هو شيء من مختلقاته وليس من قبل الله تعالى، لأنهم يزعمون أن الله لا يحب منهم الإقلاع عن عبادة آلهتهم، لأنه لا تتعلق إرادته بطلب الضلال في زعمهم.
والوعد الذي أرادوه وعد بالشر، وهو الوعيد، ولم يتقدم ما يفيد أنه توعدهم بسوء، فيحتمل أن يكون وعيدا ضمنيا تضمنه قوله: {أَفَلا تَتَّقُونَ} [الأعراف: 65] لأن إنكاره عليهم

انتفاء الاتقاء دليل على أن ثمة ما يحذر منه، ولأجل ذلك لم يعينوا وعيدا في كلامهم بل أبهموه بقولهم: {بِمَا تَعِدُنَا} ، ويحتمل أن يكون الوعيد تعريضا من قوله: {إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} [الأعراف: 69] المؤذن بأن الله استأصل قوم نوح وأخلفهم بعاد، فيوشك أن يستأصل عادا ويخلفهم بغيرهم.
وعقبوا كرمهم بالشرط فقالوا: {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} استقصاء لمقدرته قصدا منهم لإظهار عجزه عن الإتيان بالعذاب فلا يسعه إلا الاعتراف بأنه كاذب، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله تقديره: أتيت به وإلا فلست بصادق.
فأجابهم بأن أخبرهم بأن الله قد غضب عليهم، وأنهم وقع عليهم رجس من الله.
والأظهر أن: {وَقَعَ} معناه حق وثبت، من قولهم للأمر المحقق: هذا واقع، وقولهم للأمر المكذوب: هذا غير واقع فالمعنى حق وقدر عليكم رجس وغضب. فالرجس هو الشيء الخبيث، أطلق هنا مجازا على خبث الباطن، أي فساد النفس كما في قوله تعالى: {فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ} [توبة: 125]قوله: {كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 125] والمعنى: أصاب الله نفوسهم بالفساد لكفرهم فلا يقبلون الخير ولا يصيرون إليه، وعن ابن عباس أنه فسر الرجس هنا باللعنة، والجمهور فسروا الرجس هنا بالعذاب، فيكون فعل {وَقَعَ} من استعمال صيغة المضي في معنى الاستقبال، إشعار بتحقيق وقوعه? ومنهم من فسر الرجس بالسخط، وفسر الغضب بالعذاب، على أنه مجاز مرسل لأن العذاب أثر الغضب، وقد أخبر هود بذلك عن علم بوحي في ذلك الوقت أو من حين أرسله الله، إذ أعلمه بأنهم إن لم يرجعوا عن الشرك بعد أن يبلغهم الحجة فإن عدم رجوعهم علامة على أن خبث قلوبهم متمكن لا يزول، ولا يرجى منهم إيمان، كما قال الله لنوح: {لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود: 36]
وغضب الله تقديره: الإبعاد والعقوبة والتحقير، وهي آثار الغضب في الحوادث، لأن حقيقته الغضب: انفعال تنشأ عنه كراهية المغضوب عليه وإبعاده وإضراره.
وتأخير الغضب عن الرجس لأن الرجس، وهو خبث نفوسهم، قد دل على أن الله فطرهم على خبث بحيث كان استمرارهم على الضلال أمرا جبليا، فدل ذلك على أن الله غضب عليهم. فوقوع الرجس والغضب عليهم حاصل في الزمن الماضي بالنسبة لوقت قول

هود. واقترانه ب قَدْ} للدلالة على تقريب زمن الماضي من الحال: مثل قد قامت الصلاة.
وتقديم: {عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} على فاعل الفعل للاهتمام بتعجيل ذكر المغضوب والغاضب، إيقاظا لبصائرهم لعلهم يبادرون بالتوبة، ولأن المجرورين متعلقان بالفعل فناسب إيلاؤهما إياه، ولو ذكرا بعد الفاعل لتوهم أنهما صفتان له. وقدم المجرور الذي هو ضميرهم، على الذي هو وصف ربهم لأنهم المقصود الأول بالفعل.
ولما قدم إنذارهم بغضب الله عاد إلى الاحتجاج عليهم بفساد معتقدهم فأنكر عليهم أن يجادلوا في شأن أصنامهم.والمجادلة: المحاجة.
وعبر عن الأصنام بأنها أسماء، أي هي مجرد أسماء ليست لها الحقائق التي اعتقدوها ووضعوا لها الأسماء لأجل استحضارها، فبذلك كانت تلك الأسماء الموضوعة مجرد ألفاظ، لانتفاء الحقائق التي وضعوا الأسماء لأجلها. فإن الأسماء توضع للمسميات المقصودة من التسمية، وهم إنما وضعوا لها الأسماء واهتموا بها باعتبار كون الإلهية جزءا من المسمى الموضوع له السم، وهو الداعي إلى التسمية، فمعاني الإلهية وما يتبعها ملاحظة لمن وضع تلك الأسماء، فلما كانت المعاني المقصودة من تلك الأسماء منتفية كانت الأسماء لا مسميات لها بذلك الاعتبار، سواء في ذلك ما كان منها له ذوات وأجسام كالتماثيل والأنصاب، وما لم تكن له ذات، فلعل بعض آلهة عاد كان مجرد اسم يذكرونه بالإلهية ولا يجعلون له تمثالا ولا نصبا، مثل ما كانت العزى عند العرب، فقد قيل: إنهم جعلوا لها بيتا ولم يجعلوا لها نصبا، وقد قال الله تعالى في ذلك: {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم: 23]
وذكر أهل الأخبار أن عادا اتخذوا أصناما ثلاثة وهي صمود بفتح الصاد المهملة بوزن زبور.و صداء بضم الصاد المهملة مضبوطا بخط الهمداني محشي الكشاف في نسخة من حاشيته المسماة توضيح المشكلات ومنسوخة بخطه وبدال مهملة بعدها ألف ولم أقف على ضبط الدال بالتشديد أو بالتخفيف: وقد رأيت في نسخة من الكشاف مخطوطة موضوعا على الدال علامة شد، ولست على تمام الثقة بصحة النسخة، وبعد الألف همزة كما هو في نسخ الكشاف وتفسير البغوي، وكذلك هو في أبيات موضوعة في قصة قوم عاد في كتب القصص. ووقع في نسخة تفسير ابن عطية وفي مروج الذهب للمسعودي، وفي نسخه من شرح ابن بدرون على قصيدة ابن عبدون

الأندلسي بدون همزة بعد الألف. و"الهباء" بالمد في آخره مضبوطا بخط الهمذاني في نسخة حاشيته على الكشاف، وفي نسخة الكشاف المطبوعة، وفي تفسيري البغوي والخازن، وفي الأبيات المذكورة آنفا. ووقع في نسخة قلمية من الكشاف بألف دون مد. ولم أقف على ضبط الهاء، ولم أر ذكر صداء والهباء فيما رأيت من كتب اللغة.
وعطف على ضمير المخاطبين: {وَآبَاؤُكُمْ} لأن من آباءهم من وضع لهم تلك الأسماء، فالواضعون وضعوا وسموا، والمقلدون سموا ولم يضعوا، واشتراك الفريقان في أنهم يذكرون أسماء لا مسميات لها.
و {سَمَّيْتُمُوهَا} معناه: ذكرتموها بألسنتكم، كما يقال: سم الله، أي ذاكر اسمه، فيكون سمى بمعنى ذكر لفظ الاسم، والألفاظ كلها أسماء لمدلولاتها، وأصل اللغة أسماء قال تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31] وقال لبيد:
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما
أي لفظه. وليس المراد من التسمية في الآية وضع الاسم للمسمى، كما يقال: سميت ولدي كذا، لأن المخاطبين وكثيرا من آبائهم لاحظ لهم في تسمية الأصنام، وإنما ذلك من فعل بعض الآباء وهم الذين انتحلوا الشرك واتخذوه دينا وعلموه أبناءهم وقومهم، ولأجل هذا المعنى المقصود من التسمية لم يذكر لفعل: "سميتم" مفعول ثان ولا متعلق، بل اقتصر على مفعول واحد.
والسلطان: الحجة التي يصدق بها المخالف، سميت سلطانا لأنها تتسلط على نفس المعارض وتقنعه، ونفى أن تكون الحجة منزلة من الله لأن شأن الحجة في مثل هذا أن يكون مخبرا بها من جانب الله تعالى، لأن أمور الغيب مما استأثر الله بعلمه. وأعظم المغيبات ثبوت الإلهية لأنه قد يقصر العمل عن إدراكها فمن شأنها أن تتلقى من قبل الوحي الإلهي.
والفاء في قوله: {فَانْظُرُوا} لتفريع هذا الإنذار والتهديد السابق، لأن وقوع الفضب والرجس عليهم، ومكابرتهم واحتجاجهم مما لا حجة له، ينشأ عن ذلك التهديد نشأ بانتظار العذاب.
وصيغة الأمر للتهديد مثل: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] ولانتظار افتعال من النظر بمعنى الترقب، كأن المخاطب أمر بالترقب فارتقب.

ومفعول: {فَانْظُرُوا} محذوف دل عليه قوله: رجي وغضب أي فانتظروا عقابا.
وقوله: {إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} استئناف بياني لأن تهديده إياهم يثير سؤالا في نفوسهم أن يقولوا: إذا كنا ننتظر العذاب فماذا يكون حالك، فبين أنه ينتظر معهم، وهذا مقام أدب مع الله تعالى كقوله تعالى تلقينا لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: وما أدري ما يفعل بي ولا بكم" فهود يخاف أن يشمله العذاب النازل بقومه وذلك جائز كما في الحديث: أن أم سلمة قالت: أنهلك وفينا الصالحون قال: "نعم إذا كثر الخبث" . وفي الحديث الآخر: "ثم يحشرون على نياتهم" ويجوز أن ينزل بهم العذاب ويراه هود ولكنه لا يصيبه، وقد روي ذلك في قصته، ويجوز أن يبعده الله وقد روي أيضا في قصته بأن يأمره بمبارحة ديار قومه قبل نزول العذاب:
[72] {فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ}.
الفاء للتعقيب: أي فعجل الله استئصال عاد ونجى هودا والذين معه أي المؤمنين من قومه، فالمعقب به هو قطع دابر عاد، وكان مقتضى الظاهر أن يكون النظم هكذا: "فقطعنا دابر الذين كذبوا" إلخ "ونجينا هودا" إلخ، ولكن جرى النظم على خلاف مقتضى الظاهر للاهتمام بتعجيل الإخبار بنجاة هود ومن آمن معه، على نحو ما قررته في قوله تعالى {فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا} [لأعراف: 64] في قصة نوح المتقدمة، وكذلك القول في تعريف الموصولية في قوله {وَالَّذِينَ مَعَهُ} والذين معه هم من آمن من قومه، فالمعية هي المصاحبة في الدين، وهي معية مجازية، قيل إن الله تعالى أمر هودا ومن معه بالهجرة إلى مكة قبل أن يحل العذاب بعاد، وإنه توفي هنالك ودفن في الحجر ولا أحسب هذا ثابتا لأن مكة إنما بناها إبراهيم وظاهر القرآن في سورة هود أن بين عاد وإبراهيم زمنا طويلا لأنه حكى عن شعيب قوله لقوله {أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} [هود: 89] فهو ظاهر في أن عادا وثمودا كانوا بعيدين من زمن شعيب وأن قوم لوط غير بعيدين، والبعد مراد به بعد الزمان، لأن أمكنة الجميع متقاربة، وكان لوط في زمن إبراهيم فالأولى أن لا نعين كيفية إنجاء هود ومن معه. والأظهر أنها بالأمر بالهجرة إلى مكان بعيد عن العذاب، وروي عن علي أن قبر هود بحضر موت وهذا أقرب.

وقوله: {بِرَحْمَةٍ مِنَّا} الباء فيه للسببية، وتنكير {رَحْمَةٍ} للتعظيم، وكذلك وصفها بأنها من الله للدلالة على كمالها، و"من" للابتداء، ويجوز أن تكون الباء للمصاحبة، أي: فأنجيناه ورحمناه، فكانت الرحمة مصاحبة لهم إذ كانوا بمحل اللطف والرفق حيثما حلوا إلى انقضاء آجالهم، وموقع "منا" على هذا الوجه موقع رشيق جدا يؤذن بأن الرحمة غير منقطعة عنهم كقوله: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} الطور: 48]
وتفسير قوله: {وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا} [لأعراف: 72]نظير قوله تعالى: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا} في سورة الأنعام[45]، وقد أرسل عليهم الريح الدبور فأفناهم جميعا ولم يبق منهم أحد. والظاهر أن الذين أنجاهم الله منهم لم يكن لهم نسل. وأما الآية فلا تقتضي إلا انقراض نسل الذين كذبوا ونزل بهم العذاب والتعريف بطريق الموصولية تقدم في قوله: {وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا} [لأعراف: 64]في قصة نوح آنفا، فهو للإيماء إلى وجه بناء الخبر وهو قطع دابرهم.
{وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ} عطف على {كَذَّبُوا} فهو من الصلة، وفائدة عطفه الإشارة إلى أن كلتا الصلتين موجب لقطع دابرهم: وهما التكذيب والإشراك تعريضا بمشركي قريش، ولموعظتهم ذكرت هذه القصص. وقد كان ما حل بعاد من الاستئصال تطهيرا أول لبلاء العرب من الشرك، وقطعا لدابر الضلال منها في أول عصور عمرانها، إعدادا لما أراد الله تعالى من انبثاق نور الدعوة المحمدية فيها.
[73] {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
الواو في قوله: {وَإِلَى ثَمُودَ} مثلها في قوله: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً} [لأعراف: 65] وكذلك القول في تفسيرها إلى قوله تعالى {مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}
وثمود أمة عظيمة من العب البائدة وهم أبناء ثمود بن جاثر بجيم ومثلثة كما في القاموس ابن إرم بن سام بن نوح فيلتقون مع عاد في إرم وكانت مساكنهم بالحجر بكسر الحاء وسكون الجيم بين الحجاز والشام، وهو المكان المسمى الآن مدائن صالح وسمي في حديث غزوة تبوك: حجر ثمود.
وصالح هو ابن عبيل بلام في آخره وبفتح العين ابن آسف بن ماشج أو شالخ بن

عبيل بن جاثر ويقال كاثر ابن ثمود. وفي بعض هذه الأسماء اختلاف في حروفها في كتب التاريخ وغيرها أحسبه من التحريف وهي غير مضبوطة سوى عبيل فإنه مضبوط في سميه الذي هو جد قبيلة، كما في القاموس.
وثمود هنا ممنوع من الصرف لأن المراد به القبيلة لا جدها. وأسماء القبائل ممنوعة من الصرف على اعتبار التأنيث مع العلمية وهو الغالب في القرآن، وقد ورد في بعض آيات القرآن مصروفا كما في قوله تعالى: {أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ} [هود: 68] على اعتبار الحي فينتفي موجب منع الصرف لأن الاسم عربي.
وقوله: {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} يدل على أن ثمود كانوا مشركين، وقد صرح بذلك في آيات سورة هود وغيرها. والظاهر أنهم عبدوا الأصنام التي عبدتها عاد لأن ثمود وعادا أبناء نسب واحد، فيشبه أن تكون عقائدهم متماثلة. وقد قال المفسرون: أن ثمود قامت بعد عاد فنمت وعظمت واتسعت حضارتها، وكانوا موحدين، ولعلهم اتعظوا بما حل بعاد، ثم طالت مدتهم ونعم عيشهم فعتوا ونسوا نعمة الله وعبدوا الأصنام فأرسل الله إليهم صالحا رسول يدعوهم إلى التوحيد فلم يتبعه إلا قليل منهم مستضعفون، وعصاه سادتهم وكبراؤهم، وذكر في آية سورة هود أن قومه لم يغلظوا له القول كما أغلظت قوم نوح وقوم هود لرسولهم، فقد: {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} [هود:62]. وتدل آيات القرآن وما فسرت به من القصص على أن صالحا أجلهم مدة للتأمل وجعل الناقة لهم آية، وأنهم تاركوها ولم يهيجوها زمنا طويلا.
فقد أشعرت مجادلتهم صالحا في أمر الدين على أن التعقل في المجادلة أخذ يدب في نفوس البشر، وأن علواءهم في المكابرة أخذت نقصر؛ وأن قناة بأسهم ابتدأت تلين، للفرق الواضح بين جواب قوم نوح وقوم هود، وبين جواب قوم صالح. ومن أجل ذلك أمهلهم الله ومادهم لينظروا ويفكروا فيما يدعوهم إليه نبيهم وليزنوا أمرهم، وجعل لهم الانكفاف عن مس الناقة بسوء علامة على امتداد الإمهال لأن إنكفافهم ذلك علامة على أن نفوسهم لم تحنق على رسولهم، فرجاؤه إيمانهم مستمر، والإمهال لهم أقطع لعذرهم، وأنهض بالحجة عليهم، فلذلك أخر الله العذاب عنهم إكراما لنبيهم الحريص على إيمانهم بقدر الطاقة، كما قال تعالى لنوح: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [هود: 36]

جملة: {قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} إلخ، هي من مقول صالح في وقت غير الوقت الذي ابتدأ فيه بالدعوة، لأنه قد طوي هنا جواب قومه وسؤالهم إياه آية كما دلت عليه آيات سورة هود وسورة الشعراء، ففي سورة هود: {قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا} [هود: 62] الآية، وفي سورة الشعراء: {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ * مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ} [الشعراء: 153, 155]الآية.
فجملة: {قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} تعليل لجملة: {اعْبُدُوا اللَّهَ} ، أي اعبدوه وحده لأنه جعل لكم آية على تصديقي فيما بلغت لكم، وعلى انفراده بالتصرف في المخلوقات.
وقوله: {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ} يقتضي أن الناقة كانت حاضرة عند قوله: {قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} لأنها نفس الآية.
والبينة: الحجة على صدق الدذعوى، فهي ترادف الآية، وقد عبر بها عن الآية في قوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة:1]
و {هَذِهِ} إشارة إلى الناقة التي جعلها الله آية لصدق صالح ولما كانت الناقة هي البينة كانت جملة: {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً} منزلة من التي قبلها منزلة عطف البيان.
وقوله {آيَةً} حال من اسم الإشارة في قوله: {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ} لأن اسم الإشارة فيه معنى الفعل، واقترانه بحرف التنبيه يقوي شبهه بالفعل، فلذلك يكون عاملا في الحال بالاتفاق، وتقدم عند قوله: {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ} في سورة آل عمران [58]، وسنذكر قصة في هذا عند تفسير قوله تعالى: {وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً} في سورة هود [72].
وأكدت جملة: {قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ} ، وزادت على التأكيد إفادة ما اقتضاه قوله {لَكُمْ} من التخصيص وتثبيت أنها آية، وذلك معنى اللام، أي هي آية مقنعة لكم ومجعولة لأجلكم.
فقوله: {لَكُمْ} ظرف مستقر في موضع الحال من {آيَةً} ، وأصله صفة فلما قدم على موصوفة صار حالا، وتقديمه للاهتمام بأنها كافية لهم على ما فيهم من عناد.

وإضافة ناقة إلى اسم الله تعالى تشريف لها لأن الله أمر بالإحسان إليها وعدم التعرض لها بسوء، وعظم حرمتها، كما يقال: الكعبة بيت الله، أو لأنها وجدت بكيفية خارقة للعادة، فلانتفاء ما الشان أن تضاف إليه من أسباب وجود أمثالها أضيفت إلى اسم الجلالة كما قيل: عيسى عليه السلام كلمة الله.
وأما إضافة: {أَرْضِ} إلى اسم الجلالة فالمقصود منه أن للناقة حقا في الأكل من نبات الأرض لأن الأرض لله وتلك الناقة من مخلوقاته فلها الحق في الانتفاع بما يصلح لانتفاعها.
وقوله {هذا} مقدمة لقوله {وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ} أي بسوء يعوقها عن الرعي إما بموت أو بجرح، وإما لأنهم لما كذبوه وكذبوا معجزته راموا منع الناقة من الرعي لتموت جوعا على معنى الإلجاء الناشئ عن الجهالة.
والأرض هنا مراد بها جنس الأرض كما تقتضيه الإضافة.
وقد جعل الله سلامة تلك الناقة علامة على سلامتهم من عذاب الاستئصال للحكمة التي قدمتها آنفا، وأن ما أوصى الله به في شانها شبيه بالحرم، وشبيه بحمى الملوك لما فيه من الدلالة على تعظيم نفوس القوم لمن تنسب إليه تلك الحرمة، ولذلك قال لهم صالح: {فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ} لأنهم إذا مسها أحد بسوء، عن رضى من البقية، فقد دلوا على أنهم خلعوا حرمة الله تعالى وحنقوا على رسوله عليه السلام.
وجزم {تَأْكُلْ} على أن أصله جواب الأمر بتقدير: إن تذروها تأكل، فالمعنى على الرفع والاستعمال على الجزم، كما في قوله تعالى: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ} [ابراهيم: 31] أي يقيمون وهو كثير في الكلام، ويشبه أن أصل جزم أمثاله في الكلام العربي على التوهم لوجود فعل الطلب قبل فعل صالح للجزم، ولعل منه قوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً} [الحج: 27].
وانتصب قوله {فَيَأْخُذَكُمْ} في جواب النهي ليعتبر الجواب للمنهي عنه لأن حرف النهي لا أثر له: أي إن تمسوها بسوء يأخذكم عذاب.
وأنيط النهي بالمس بالسوء لأن المس يصدق على أقل اتصال شيء بالجسم، فكل ما ينالها مما يراد منه السوء فهو منهي عنه، وذلك لأن الحيوان لا يسوؤه إلا ما فيه ألم لذاته، لأنه لا يفقه المعاني النفسانية.

والباء في قوله: {بِسُوءٍ} للملابسة، وهي في موضع الحال من فاعل تمسوها أي يقصد سوء.
[74] {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}.
يجوز أن يكون عطفا على قوله {اعْبُدُوا اللَّهَ} [الأعراف: 73] وأن يكون عطفا على قوله: {فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ} [الأعراف: 73] الخ. والقول فيه كالقول في قوله: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} [الأعراف: 69].
{وَبَوَّأَكُمْ} معناه أنزلكم، مشتق من البوء وهو الرجوع، لأن المرء يرجع إلى منزله ومسكنه، وتقدم في سورة آل عمران [ 121] {تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ}.
وقوله: {فِي الْأَرْضِ} يجوز أن يكون تعريف الأرض للعهد، أي في أرضكم هذه، وهي أرض الحجر، ويجوز أن يكون للجنس لأنه لما بوأاهم في أرض معينة فقد بوأهم في جانب من جوانب الأرض.
و"السهول" جمع سهل، وهو المستوي من الأرض، وضده الجبل.
والقصور: جمع فصر وهو المسكن، وهذا يدل على أنهم كانوا يشيدون القصور، وآثارهم تنطق بذلك.
و"من" في قوله: {مِنْ سُهُولِهَا} للظرفية، أي: تتخذون في سهولها قصورا.
والنحت: بري الحجر والخشب بآلة على تقدير مخصوص.
الجبال: جمع جبل وهو الأرض الناتئة على غيرها مرتفعة، والجبال: ضد السهول.
والبيوت: جمع بيت وهو المكان المحدد المتخذ للسكنى، سواء كان مبنيا من حجر أم كان من أثواب شعر أو صوف. وفعل النحت يتعلق بالجبال لأن النحت يتعلق بحجارة الجبال، وانتصب {بُيُوتاً} على الحال من الجبال، أي صائرة بعد النحت بيوتا، كما يقال: خط هذا الثوب قميصا، وابر هذه القصبة قلما، لأن الجبل لا يكون حاله حال البيوت وقت النحت، ولكن يصير بيوتا بعد النحت.

ومحل الامتنان هو أن جعل منازلهم قسمين: قسم صالح للبناء فيه، وقسم صالح لنحت البيوت، قيل: كانوا يسكنون في الصيف القصور، وفي الشتاء البيوت المنحوتة في الجبال.
وتفريع الأمر بذكر آلاء الله على قوله: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ} تفريع الأعم على الأخص، لأنه أمرهم بذكر نعمتين، ثم أمرهم بذكر جميع النعم التي لا يحصونها، فكان هذا بمنزلة التذييل.
وفعل: {وَاذْكُرُوا} مشتق من المصدر، الذي هو بضم الذال، وهو التذكر بالعقل والنظر النفساني، وتذكر آلاء يبعث على الشكر والطاعة وترك الفساد، فلذلك عطف نهيهم عن الفساد في الأرض على الأمر بذكر آلاء الله.
{وَلا تَعْثَوْا} معناه ولا تفسدوا، يقال: عثى كرضي، وهذا الأفصح، ولذلك جاء في الآية بفتح الثاء حين أسند إلى واو الجماعة، ويقال عثا يعثو من باب سما عثوا وهي لغة دون الأولى، وقال كراع، كأنه مقلوب عاث. والعثي والعثو كله بمعنى أفسد أشد الإفساد.
و {مُفْسِدِينَ} حال مؤكدة لمعنى {تَعْثَوْا} وهو وإن كان أعم من المؤكد فإن التأكيد يحصل ببعض معنى المؤكد.
[76,75] {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ}.
عدل الملأ الذين استكبروا عن مجادلة صالح عليه السلام إلى اختبار تصلب الذين آمنوا به في إيمانهم، ومحاولة إلقاء الشك في نفوسهم، ولما كان خطابهم للمؤمنين مقصودا به إفساد دعوة صالح عليه السلام كان خطابهم بمنزلة المحاورة مع صالح عليه السلام، فلذلك فصلت جملة حكاية قولهم على طريقة فصل جمل حكاية المحاورات، كما قدمناه غير مرة آنفا وفيما مضى.
وتقدم تفسير الملأ قريبا.
ووصفهم بالذين استكبروا هنا لتفظيع كبرهم وتعاظمهم على عامة قومهم واستذلالهم

إياهم. وللتنبيه على أن الذين آمنوا بما جاءهم به صالح عليه السلام هم ضعفاء قومه.
واختيار طريق الموصولية في وصفهم ووصف الآخرين بالذين استضعفوا لما تومئ إليه الصلة من وجه صدور هذا الكلام منهم، أي أن استكبارهم هو صارفهم عن طاعة نبيهم، وأن احتقارهم المؤمنين هو الذي لم يسغ عندهم سبقهم إياهم إلى الخير والهدى، كما حكى عن قوم نوح قولهم: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ} [هود: 27] وكما حكى عن كفار قريش بقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} [الاحقاف:11] ولهذا لم يوصفوا بالكفر كما وصف به قوم هود.
والذين استضعفوا هم عامة الناس الذين أذلهم عظماؤهم واستعبدوهم لأن زعامة الذين استكبروا كانت قائمة على السيادة الدنيوية الخلية عن خلال الفضيلة، من العدل والرأفة وحب الإصلاح، فلذلك وصف الملأ بالذين استكبروا، وأطلق على العامة وصف الذين استضعفوا.
واللام في قوله: {لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} لتعدية فعل القول.
وقوله: {لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} بدل من {لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} بإعادة حرف الجر الذي جر بمثله المبدل منه.
والاستفهام في {أَتَعْلَمُونَ} للتشكيك والإنكار، أي: ما نظنكم آمنتم بصالح عليه السلام عن علم بصدقه، ولكنكم اتبعتموه عن عمى وضلال غير موقنين، كما قال قوم نوح عليه السلام: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} [هود: 27] وفي ذلك شوب من الاستهزاء.
وقد جيء في جواب {الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} بالجملة الاسمية للدلالة على أن الإيمان متمكن منهم بمزيد الثبات، فلم يتركوا للذين استكبروا مطمعا في تشكيكهم، بله صرفهم عن الإيمان برسولهم.
وأكد الخبر بحرف "إن" لإزالة ما توهموه من شك الذين استكبروا في صحة إيمانهم، والعدول في حكاية جواب الذين استضعفوا عن أن يكون بنعم إلى أن يكون بالموصول صلته لأن الصلة تتضمن إدماجا بتصديقهم بما جاء به صالح من نحو التوحيد واثبات البعث والدلالة على تمكنهم من الإيمان بذلك كله بما تفيده الجملة الاسمية من

الثبات والدوام وهذا من بليغ الإيجاز المناسب لكون نسبح هذه الجملة من حكاية القرآن لا من المحكي من كلامهم إذ لا يظن أن كلامهم بلغ من البلاغة هذا المبلغ، وليس هو من الأسلوب الحكيم كما فهمه بعض المتأخرين.
ومراجعة الذين استكبروا بقولهم: {إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} تدل على تصلبهم في كفرهم وثباتهم فيه، إذ صيغ كلامهم بالجملة الاسمية المؤكدة.
والموصول في قولهم: {بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ} هو ما أرسل به صالح عليه السلام. وهذا كلام جامع لرد ما جمعه كلام المستضعفين حين {قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ} فهو من بلاغة القرآن في حكاية كلامهم وليس من بلاغة كلامهم.
ثم إن تقديم المجرورين في قوله: {بِمَا أُرْسِلَ بِه} ، و {بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ} على عامليهما يجوز أن يكون من نظم حكاية كلامهم وليس له معادل في كلامهم المحكي، وإنما هو التقوم الفاصلتان، ويجوز أن يكون من المحكي: بأن يكون في كلامهم ما دل على الاهتمام بمدلول الموصولين، فجاء في نظم الآية مدلولا عليه بتقديم المعمولين.
وقرأ الجمهور: {قَالَ الْمَلَأُ} بدون عطف جريا على طريقة أمثاله في حكاية المحاورات. وقراه ابن عامر: {قَالَ} بحرف العطف وثبتت الواو في المصحف المبعوث إلى الشام خلافا لطريقة نظائرها، وهو عطف على كلام مقدر دل عليه قوله: {قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ} والتقدير: فآمن به بعض قومه، وقال الملأ من قومه الخ، أو هو عطف على: {قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ} [الأعراف: 65] الآية، ومخالفة نظائره تفنن.
[78,77] {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ}.
الفاء للتعقيب لحكاية قول الذين استكبروا: {إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} ، أي قالوا ذلك فعقروا، والتعقيب في كل شيء بحسبه، وذلك أنهم حين قالوا ذلك كانوا قد صدعوا بالتكذيب، وصمموا عليه، وعجزوا عن المحاجة والاستدلال، فعزموا على المصير إلى النكاية والإغاظة لصالح عليه السلام ومن آمن به، ورسموا لابتداء عملهم أن يعتدوا على الناقة التي جعلها صالح عليه السلام لهم، وأقامها بينه وبينهم علامة موادعة ما داموا غير متعرضين لها بسوء، ومقصدهم من نيتهم إهلاك الناقة أن يزيلوا آية صالح عليه السلام لئلا يزيد عدد المؤمنين به، لأن مشاهدة آية نبوءته سالمة بينهم تثير في

نفوس كثير منهم الاستدلال على صدقه والاستئناس لذلك بسكوت كبرائهم وتقريرهم لها على مرعاها وشربها، ولأن في اعتدائهم عليها إيذانا منهم بتحفيزهم للاضرار بصالح عليه السلام وبمن آمن به بعد ذلك وليروا صالحا عليه السلام أنهم مستحقون بوعيده إذ قال لهم: {وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [لأعراف: 73].
والضمير في قوله: {فَعَقَرُوا} عائد إلى {الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} [لأعراف: 75]، وقد أسند العقر إليهم وإن كان فاعله واحدا منهم لأنه كان عن تمالئ ورضى من جميع الكبراء، كما دل عليه قوله تعالى في سورة القمر[29]: {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ} ، وهذا كقول النابغة في شأن بني حن:
وهم قتلوا الطائي بالجو عنوة
وإنما قتله واحد منهم
وذكر في الأثر: أن الذي تولى الناقة رجل من سادتهم اسمه قدرا بضم القاف ودال مهملة مخففة وراء في آخره ابن سالف. وفي حديث البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر في خطبته الذي عقر الناقة فقال: "انبعث لها رجل عزيز عارم1 منيع في رهطه مثل أبي زمعة2.
والعقر: حقبقته الجرح البليغ، قال امرؤ القيس:
تقول وقد مال الغبيط بنا معا ... عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل
أي جرحته باحتكاك الغبيط في ظهره من ميله إلى جهة، ويطلق العقر على قطع عضو الحيوان، ومنه قولهم، عقر حمار وحش، أي ضربه بالرمح فقطع منه عضوا، وكانوا يعقرون البعير المراد نحره بقطع عضو منه حتى لا يستطيع الهروب عند النحر، فلذلك أطلق العقر على النحر على وجه الكناية قال امرؤ القيس:
ويوم عقرت للعذارى مطيتي
وما في هذه الآية كذلك.
ـــــــ
1 العارم: - بعين مهملة – لجبار.
2 أبو زمعة هو الأسود بن المطلب القرشي مات كافرا.

والعتو تجاوز الحد في الكبر، وتعديته لتضمينه معنى الإعراض.
وأمر ربهم هو ما أمرهم به على لسان صالح عليه السلام من قوله: {وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ} [الأعراف: 73] فعبر عن النهي عن الشيء مقصود منه الأمر بفعل ضده، ولذلك يقول علماء الأصول إن النهي عن الشيء يستلزم الأمر بضده الذي يحصل به تحقق الكف عن المنهي عنه.
وأرادوا: {بِمَا تَعِدُنَا} العذاب الذي توعدهم به مجملا. وجيء بالموصول للدلالة على أنهم لا يخشون شيئا مما يريده من الوعيد المجمل. فالمراد بما تتوعدنا به وصيغت صلة الموصول من مادة الوعد لأنه أخف من مادة الوعد.
وقد فرضوا كونه من المرسلين بحرف "إن" الدال على الشك في حصول الشرط. أي كنت من الرسل عن الله فالمراد بالمرسلين من صدق عليهم هذا اللقب. وهؤلاء. لجهلهم بحقيقة تصرف الله تعالى وحكمته، يحسبون أن تصرفات الله كتصرفات الخلق، فإذا أرسل رسولا ولم يصدقه المرسل إليهم غضب الله واندفع إلى إنزال العقاب إليهم، ولا يعلمون أن الله يمهل الظالمين ثم يأخذهم متى شاء.
وجملة {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} معترضة بين جملة {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ} وبين جملة {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ} [الأعراف: 79] أريد باعتراضها التعجل بالخبر عن نفاذ الوعيد فيهم فعقب عتوهم، فالتعقيب عرفي، أي لم يكن بين العقر وبين الرجفة زمن طويل، كان بينهما ثلاثة أيام، كما ورد في آية سورة هود [65] {فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} .
وأصل الأخذ تناول شئ باليد، ويستعمل مجازا في ملك الشيء، بعلاقة اللزوم، ويستعمل أيضا في القهر كقوله {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ} [الأنفال: 52] {فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} [الحاقة: 10] وأخذ الرجفة: إهلاكا إياهم وإحاطتها بهم إحاطة الآخذ. ولا شك أن الله نجى صالحا عليه السلام والذين آمنوا معه، كما في آية سورة هود. وقد روى أنه خرج في مائة وعشرة من المؤمنين، فقيل: نزلوا رمله فلسطين، وقيل: تباعدوا عن ديار قومهم بحيث يرونها، فلما أخذتهم الرجفة وهلكوا عاد صالح عليه السلام ومن آمن معه فسكنوا ديارهم، وقيل: سكنوا مكة وأن صالحا عليه السلام دفن بها، وهذا بعيد كما قلناه في عاد، ومن أهل الأنساب من يقول: إن ثقيفا من بقايا ثمود، أي من ذرية من نجا منهم من العذاب، ولم يذكر القرآن ثمودا أن ثمودا انقطع دابرهم فيجوز أن تكون منهم بقية.

والرجفة: اضطراب الأرض وارتجاجها، فتكون من حوادث سماوية كالرياح العاصفة والصواعق، وتكون من أسباب أرضية كالزلزال، فالرجفة اسم للحالة الحاصلة، وقد سماها في سورة هود بالصيحة فعلمنا أن الذي أصاب ثمود هو صاعقة أو صواعق متوالية رجفت أرضهم وأهلكتهم صعقين، ويحتمل أن تقارنها زلزال أرضية.
والدار: المكان الذي يحتله القوم، وهو يفرد ويجمع باعتبارين، فلذلك قال في آية سورة هود: {فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} {فَأَصْبَحُوا} هنا بمعنى صاروا.
والجاثم: المكب على صدره في الأرض مع قبض ساقيه كما يجثوا الأرنب، ولما كان ذلك أشد سكونا وانقطاعا عن اضطراب الأعضاء استعمل في الآية كناية عن همود الجثة بالموت، ويجوز أن يكون المراد تشبيه حالة وقوعهم على وجوههم حين صعقوا بحالة الجاثم تفظيعا لهيئة ميتتهم، والمعنى أنهم أصبحوا جثثا هامدة ميتة على أبشع منظر لميت.
[79] {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ}.
والفاء في قوله: {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ} عاطفة على جملة: {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ} [الأعراف: 77] والتولي الانصراف عن فراق وغضب، ويطلق مجازا على عدم الاكتراث بالشيء، وهو هنا يحتمل أن يكون حقيقة فيكون المراد به أنه فارق ديار قومه حين علم أن العذاب نازل بهم، فيكون التعقيب لقوله: {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ} [الأعراف: 77] لأن ظاهر تعقيب التولي عنهم وخطابه إياهم أن لا يكون بعد أن تأخذهم الرجفة فأصبحوا جاثمين.
ويحتمل أن يكون مجازا بقرينة الخطاب أيضا، أي فأعرض عن النظر إلى القرية بعد أصابتها بالصاعقة، أو فأعرض عن الحزن عليهم واشتغل بالمؤمنين كما قال تعالى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:3].
فعلى الوجه الأول يكون قوله: {يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ} الخ مستعملا في التوبيخ لهم والتسجيل عليهم، وعلى الوجه الثاني يكون مستعملا في التحسر أو في التبرئ منهم، فيكون النداء تجسر فلا يقتضي كون أصحاب الاسم المنادى ممن يعقل النداء حينئذ، مثل ما تنادي الحسرة في: يا حسرة.

وقوله: {لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ} تفسيره مثل تفسير قوله في قصة نوح عليه السلام: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ} [لأعراف: 62]. واللام في "لقد" لام القسم، وتقدم نظيره عند قوله: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً} [الأعراف: 59].
والاستدراك بـ"لكن" ناشئ عن قوله: {لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ} لأنه مستعمل في التبرؤ من التقصير في معالجة كفرهم، سواء كان بحيث هم يسمعونه أم كان قاله في نفسه، فذلك التبرؤ يؤذن بدفع توهم تقصير في الإبلاغ والنصيحة لانعدام ظهور فائدة الإبلاغ والنصيحة، فاستدرك بقوله: {وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} ، أي تكرهون الناصحين فلا تطيعونهم في نصحهم. لأن المحب لمن يحب مطيع، فأراد بذلك الكناية عن رفضهم النصيحة.
واستعمال المضارع في قوله: {لا تُحِبُّونَ} إن كان في حال سماعهم قوله فهو للدلالة على التجديد والتكرير، أي لم يزل هذا دأبكم فيكون ذلك آخر علاج لإقلاعهم إن كانت فيهم بقية للإقلاع عما هم فيه، وإن كان بعد انقضاء سماعهم فالمضارع لحكاية الحال الماضية مثلها في قوله تعالى: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً} [فاطر: 9].
[81,80] {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ * إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ}.
عطف {وَلُوطاً} على {نُوحاً} في قوله: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً} [الأعراف: 59] فالتقدير: وأرسلنا لوطا، وتغيير الأسلوب في ابتداء قصة لوط وقومه إذ ابتدئت بذكر "لوطا" كما ابتدئت قصة بذكر نوح لأنه لم يكن لقوم لوط اسم يعرفون به كما لم يكن لقوم نوح اسم يعرفون به. و"إذ" ظرف متعلق بـ"أرسلنا" المقدر يعني أرسلناه وقت قال لقومه، وجعل وقت القول ظرفا للإرسال لإفادة مبادرته بدعوة قومه إلى ما أرسله الله به، والمقارنة التي تقتضيها الظرفية بين وقت الإرسال ووقت قوله، مقارنة عرفية بمعنى شدة القرب بأقصى ما يستطاع من مبادة التبليغ.
وقوم لوط كانوا خليطا من الكنعانيين وممن نزل حولهم. ولذلك لم يوصف بأنه أخوهم إذ لم يكن من قبائلهم، وإنما نزل فيهم واستوطن ديارهم. ولوط عليه السلام هو ابن أخي إبراهيم عليه السلام كما تقدم في سورة الأنعام، وطان لوط عليه السلام قد نزل

ببلاد سدوم ولم يكن بينهم وبينه قرابة.
والقوم الذين أرسل إليهم لوط عليه السلام هم أهل قرية سدوم و عمورة من أرض كنعان، وربما أطلق اسم سدوم وعمورة على سكانها. وهم أسلاف الفينيقيين وكانتا على شاطئ السديم، وهو بحر الملح، كما جاء في التوراة1 وهو البحر الميت المدعو بحيرة لوط بقرب أرشليم. وكانت قرب سدوم ومن معهم أحدثوا فاحشة استمتاع الرجال بالرجال، فأمر الله لوطا عليه السلام لما نزل بقريتهم سدوم في رحلته مع عمه إبراهيم عليه السلام أن ينهاهم ويغلظ عليهم.
فالاستفهام في {أَتَأْتُونَ} إنكاري توبيخي، والإتيان المستفهم عنه مجاز في التلبس والعمل، أي أتعملون الفاحشة، وكني بالإتيان على العمل المخصوص وهي كناية مشهورة.
والفاحشة: الفعل الدنيء الذميم، وقد تقدم الكلام عليها عند تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} [الأعراف: 28]: والمراد هنا فاحشة معروفة، فالتعريف للعهد.
وجملة: {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} مستأنفة استئنافا ابتدائيا، فإنه بعد أن أنكر عليهم إتيان الفاحشة، وعبر عنها بالفاحشة، وبخهم بأنهم أحدثوها، ولم تكن معروفة في البشر فقد سنوا سنة سيئة للفاحشين في ذلك.
ويجوز أن تكون جملة: {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ} صفة للفاحشة، ويجوز أن تكون حالا من ضمير: {أَتَأْتُونَ} أو من: {الْفَاحِشَةَ}.
والسبق حقيقته: وصول الماشي إلى مكان مطلوب له ولغيره قبل وصول غيره، ويستعمل مجازا في التقدم في الزمان، أي الأولية والابتداء، وهو المراد هنا، والمقصود أنهم سبقوا الناس بهذه الفاحشة إذ لا يقصد بمثل هذا التركيب أنهم ابتدأوا مع غيرهم في وقت واحد.
والباء لتعدية فعل "سبق" لاستعماله بمعنى ابتداء فالباء ترشيح للتبعية. و"من" الداخلة على "أحد" لتوكيد النفي للدلالة على معنى الاستغراق في النفي. و"من" الداخلة على {الْعَالَمِينَ} للتبعيض.
ـــــــ
1 الاصحاح من سفر التكوين 20.

وجملة: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ} مبينة لجملة {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} ، والتأكيد بإن واللام كناية عن التوبيخ لأنه مبني على تنزيلهم منزلة من ينكر ذلك لكونهم مسترسلون عليه غير سامعين لنهي الناهي. والإتيان كناية عن عمل الفاحشة.
وقرأ نافع، والكسائي، وحفص عن عاصم، وأبو جعفر: {إِنَّكُمْ} بهمزة واحدة مكسورة بصيغة الخبر، فالبيان راجع إلى الشيء المنكر بهمزة الإنكار في {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} ، وبه يعرف بيان الإنكار، ويجوز اعتباره خبرا مستعملا في التوبيخ، ويجوز تقدير همزة استفهام حذفت للتخفيف ولدلالة ما قبلها. وقرأه البقية: {أَإِنَّكُمْ} بهمزتين على صيغة الاستفهام فالبيان للإنكار، وبه يعرف بيان المنكر، فالقراءتان مستويتان.
والشهوة: الرغبة في تحصيل شيء مرغول، وهي مصدر شهي كرضى، جاء على صيغة الفعلة وليس مرادا به المرة.
وانتصب {شَهْوَةً} على المفعول لأجله. والمقصود من هذا المفعول تفظيع الفاحشة وفاعليها بأنهم يشتهون ما هو حقيق بأن يكره ويستفظع.
وقوله: {مِنْ دُونِ النِّسَاءِ} زيادة في التفظيع وقطع للعذر في فعل هذه الفاحشة، وليس قيدا للإنكار، فليس إتيان الرجال مع إتيان النساء بأقل من الآخر فظاعة، ولكن المراد أن إتيان الرجال كله واقع في حالة من حقها إتيان النساء، كما قال في الآية الأخرى: {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} [الشعراء: 166].
و {بَلْ} للإضراب الانتقالي، للانتقال من غرض الإنكار إلى غرض الذم والتحقير والتنبيه إلى حقيقة حالهم.
والإسراف مجاوزة العمل مقدار أمثاله في نوعه، أي المسرفون في الباطل والجرم، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً} في سورة النساء [6] وعند قوله تعالى: {وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} في سورة الأنعام [141].
ووصفهم بالإسراف بطريق الجملة الاسمية الدالة على الثبات، أي أنتم قوم تمكن منهم الإسراف في الشهوات فلذلك اشتهوا شهوة غريبة لما سئموا الشهوات المعتادة. وهذه شنشنة الاسترسال في الشهوات حتى يصبح المرء لا يشفي شهوته شيء، ونحوه قوله عنهم في آية أخرى: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} [الشعراء: 166].

ووجه تسمية هذا الفعل الشنيع فاحشة وإسرافا أنه يشتمل على مفاسد كثيرة: منها استعمال الشهوة الحيوانية المغروزة في غير ما غرزت عليه، لأن الله خلق في الإنسان الشهوة الحيوانية لإرادة بقاء النوع بقانون التناسل، حتى يكون الداعي إليه قهري ينساق إليه الإنسان بطبعه، فقضاء تلك الشهوة في غير الغرض الذي وضعها الله لأجله اعتداء على الفطرة وعلى النوع، ولأنه يغير خصوصية الرجلة بالنسبة إلى المفعول به إذ يجعل آلة لقضاء شهوة غيره على خلاف ما وضع الله في نظام الذكورة والأنوثة من قضاء الشهوتين معا، ولأنه مفض إلى قطع النسل أو تقليله، ولأن ذلك الفعل يجلب أضرارا للفاعل والمفعول بسبب استعمال محلين في عير ما خلقا له.
وحدثت هذه الفاحشة بين المسلمين في خلافة أبي بكر من رجل يسمى الفجاءة، كتب فيه خالد بن الوليد إلى أبي بكر الصديق أنه عمل عمل قوم لوط وإذ لم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها حد معروف جمع أبو بكر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم واستشارهم فيه، فقال علي: أرى أن يحرق بالنار، فاجتمع رأي الصحابة على ذلك فكتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد أن يحرقه فأحرقه، وكذلك قضى ابن الزبير في جماعة عملوا الفاحشة في زمانه، وهشام بن الوليد، وخالد القسري بالعراق، ولعله قياس على أن الله أمطر عليهم نارا كما سيأتي.
وقال مالك: يرجم الفاعل والمفعول به، إذ أطاع الفاعل وكانا بالغين، رجم الزاني المحصن، سواء أحصنا أن لم يحصنا. وقاس عقوبتهم على عقوبة الله لقوم لوط إذ أمطر عليهم حجارة، والذي يؤخذ من مذهب مالك أنه يجوز القياس على ما فعله الله تعالى في الدنيا، وروي أنه أخذ في زمان ابن الزبير أربعة عملوا عمل قوم لوط، وقد أحصنوا، فأمر بهم فأخرجوا من الحرم فرجموا بالحجارة حتى ماتوا، وعنده ابن عمر وابن عباس فلم ينكرا عليه.
وقال أبو حنيفة: يعزر فاعله ولا يبلغ التعزير حد الزنى، كذا عزا إليه القرطبي، والذي في كتب الحنيفة أن أبا حنيفة يرى فيه التعزير إلا إذا تكرر منه فيقتل، وقال أبو يوسف ومحمد: فيه حد الزنى، فإذا اعتاد ذلك ففيه التعزير بالإحراق، أو يهدم عليه جدار، أو ينكس من مكان مرتفع ويتبع بالأحجار، أو يسجن حتى يموت أو يتوب، وذكر الغزنوي في الحاوي أن الأصح عن أبي يوسف ومحمد التعزير بالجلد أي دون تفصيل بين الاعتياد وغيره وسياق كلامهم التسوية في العقوبة بين الفاعل والمفعول به.

وقال الشافعي يحد حد الزاني، فإن كان محصنا فحد المحصن، وإن كان غير محصن فحد غير المحصن. كذا حكاه القرطبي. وقال ابن هبيرة الحنبلي، في كتاب اختلاف الأئمة: إن للشافعي قولين: أحدهما هذا، والآخر أنه يرجم بكل حال، ولم يذكر له ترجيحا، وقال الغوالي، في الوجيز: للواط يوجب قتل الفاعل والمفعول على قول، والرجم بكل حال على قول، والتعزير على قول، وهو كالزنى على قول وهذا كلام غير محرر.
وفي كتاب اختلاف الأئمة لابن هبيرة الحنبلي: أن أظهر الروابين عن أحمد أن في اللواط الرجم بكل حال، أي محصنا كان أو غير محصن، وفي رواية عنه أنه كالزنى. وقال ابن حزم، في المحلى: إن مذهب داود وجميع أصحابه أن اللوطي يجلد دون الحد، ولم يصرح، فيما نقلوا عن أبي حنيفة وصاحبيه، ولا عن أحمد، ولا الشافعي بمساواة الفاعل والمفعول به في الحكم إلا عند مالك، ويؤخذ من حكاية ابن جزم في المحلى: أن أصحاب المذاهب المختلفة في تعزير هذه الفاحشة لم يفرقوا بين الفاعل والمفعول إلا قولا شاذا لأحد فقهاء الشافعية رأى أن المفعول أغلظ عقوبة من الفاعل.
وروى أبو داود والترمذي، عن عكرمة عن ابن عباس، والترمذي عن أبي هريرة، وقال في إسناده، مقال عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به" وهو حديث غريب لم يرو عن غير عكرمة عن ابن عباس وقد علمت استشارة أبي بكر في هذه الجريمة، ولو كان فيها سند صحيح لظهر يومئذ.
[82] {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ}.
عطفت جملة: {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} على جملة: {قَالَ لِقَوْمِهِ} [الأعراف: 80]. والتقدير: وإذ ما كان جواب قومه إلا أن قالوا الخ، والمعنى: أنهم أفحموا عن ترويج شنعتهم والمجادلة في شانها، وابتدروا بالتآمر على إخراج لوط عليه السلام وأهله من القرية، لأن لوطا عليه السلام كان غريبا بينهم وقد أرادوا الاستراحة من إنكاره عليهم شأن من يشعرون بفساد حالهم، الممنوعين بشهواتهم عن الإقلاع عن سيئاتهم، المصممين على مداومة ذنوبهم، ولم يزل من شان المنغمسين في الهوى تجهم حلول من لا يشاركهم بينهم.

والجواب: الكلام الذي يقابل به كلام آخر: تقريرا، أو ردا، أو جزاء.
وانتصب قوله {جَوَابَ} على أنه خبر "كان" مقدم على اسمها الواقع بعد أداة الاستثناء المفرغ، وهذا هو الاستعمال الفصيح في مثل هذا التركيب، إذا كان أحد معمولي كان مصدرا منسبكا من "أن" والفعل كما تقدم في سورة آل عمران وسورة الأنعام، ولذلك أجمعت القراءات المشهورة على نصب المعمول الأول.
والضمير المنصوب في قوله: {أَخْرِجُوهُمْ} عائد على محذوف علم من السياق، وهم لوط عليه السلام وأهله: وهم زوجه وابنتاه.
وجملة: {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} علة للأمر بالإخراج، وذلك شأن إن إذا جاءت في مقام لا شك فيه ولا إنكار، بل كانت لمجرد الاهتمام فإنها تفيد مفاد فاء التفريع وتدل على الربط والتعليل.
والتطهر تكلف الطهارة. وحقيقتها النظافة، وتطلق الطهارة مجازا على تزكية النفس والحذر من الرذائل وهي المراد هنا، وتلك صفة كمال، لكن القوم لما تمردوا على الفسوق كانوا يعدون الكمال منافرا لطباعهم، فلا يطيقون معاشرة أهل الكمال، ويذمون ما لهم من الكمالات فيسمونها ثقلا، ولذا وصفوا تنزه لوط عليه السلام وآله تطهرا، بصيغة التكلف والتصنع، ويجوز أن يكون حكاية لما في كلامهم من التهكم بلوط عليه السلام وآله، وهذا من قلب الحقائق لأجل مشايعة العوائد الذميمة، وأهل المجون والاخلاع، يسمون المتعفف عن سيرتهم بالتائب أو نحو ذلك، فقولهم {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} قصدوا به ذمهم.
وهم قد علموا هذا التطهر من خلق لوط عليه السلام وأهله لأنهم عاشروهم، ورأوا سيرتهم، ولذلك جيء بالخبر جملة فعليه مضارعيه لدلالتها على أن التطهر متكرر منهم، ومتجدد، وذلك أدعى لمنافرتهم طباعهم والغضب عليهم وتجهم إنكار لوط عليه السلام عليهم.
[84,83] {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ * وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ}.
قوله تعالى: {فَأَنْجَيْنَاهُ} تعقيب لجملة: {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} [الأعراف: 82] أو

الجملة: {قَالَ لِقَوْمِهِ} [لأعراف: 80] وهذا التعقيب يؤذن بأن لوطا عليه السلام أرسل إلى قومه قبل حلول العذاب بهم بزمن قليل.
و {أَنْجَيْنَاهُ} مقدم من تأخير. والتقدير: فأمطرنا عليهم مطرا وأنجيناه وأهله، فقدم الخبر بإنجاء لوط عليه السلام على الخبر بإمطارهم مطر العذاب، لقصد إظهار الاهتمام بأمر إنجاء لوط عليه السلام، ولتعجيل المسرة للسامعين من المؤمنين، فتطمئن قلوبهم لحسن عواقب أسلافهم من مؤمني الأمم الماضية، فيعلموا أن تلك سنة الله في عباده، وقد تقدم بيان ذلك عند قوله تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ} في هذه السورة [64].
وأهل لوط عليه السلام هم زوجه وابنتان له بكران، وكان له ابنتان متزوجتان كما ورد في التوراة امتنع زوجاهما من الخروج مع لوط عليه السلام فهلكتا مع أهل القرية.
وأما امرأة لوط عليه السلام فقد أخبر الله عنها هنا أن الله لم ينجها، فهلكت مع قوم لوط، وذكر في سورة هود ما ظاهره أنها لم تمتثل ما أمر الله لوطا عليه السلام أن لا يلتفت هو ولا أحد من أهله الخارجين معه إلى المدن حين يصيبها العذاب فالتفتت امرأته فأصابها العذاب، وذكر في سورة التحريم أن امرأة لوط عليه السلام كانت كافرة. وقال المفسرون: كانت تسر الكفر وتظهر الإيمان، ولعل ذلك سبب التفاتها لأنها كانت غير موقنة بنزول العذاب على قوم لوط، ويحتمل أنها لم تخرج مع لوط عليه السلام وان قوله: {إِلاَّ امْرَأَتَكَ} في سورة هود [81]، استثناء من {أَهْلِكَ} لا من {أَحَدٌ} . لعل امرأة لوط عليه السلام كانت من أهل سدوم تزوجها لوط عليه السلام هنالك بعد هجرته، فإنه أقام في سدوم سنين طويلة بعد أن هلكت أم بناته وقبل أن يرسل، وليست هي أم بنتيه فإن التوراة لم تذكر امرأة لوط عليه السلام إلا في آخر القصة.
ومعنى {مِنَ الْغَابِرِينَ} من الهالكين، والغابر يطلق على المنقضي، ويطلق على اآتي، فهو من أسماء الأضداد، وأشهر إطلاقيه هو المنقضي، ولذلك يقال: غبر بمعنى هلك، وهو المراد هنا: أي كانت من الهالكين، أي هلكت مع من هلك من أهل سدوم.
والإمطار مشتق من المطر، والمطر اسم للماء النازل من السحاب، يقال: مطرتهم السماء بدون همزة بمعنى نزل عليهم المطر، كما يقال: غاثتهم ووبلتهم، ويقال: مكان ممطور، أي أصابه المطر، ولا يقال: ممطر، ويقال أمطروا بالهمزة بمعنى نزل عليهم

من الجو ما يشبه المطر، وليس هو بمطر، فلا يقال: هم ممطرون، ولكن يقال: هم ممطرون، كما قال تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} [الحجر: 74] وقال: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ} [الأنفال: 32] كذا قال الزمخشري هنا وقال، في سورة الأنفال: قد كثر الإمطار في معنى العذاب، وعن أبي عبيدة أن التفرقة بين مطر وأمطر أن مطر للرحمة وأمطر للعذاب. وأما قوله تعالى في سورة الأحقاف: [24] {قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} فهو يعكر على كلتا التفرقتين، ويعين أن تكون التفرقة أغلبية.
وكان الذي أصاب قوم لوط حجرا وكبريتا من أعلى القرى كما في التوراة وكان الدخان يظهر من الأرض مثل دخان الأتون، وقد ظن بعض الباحثين أن آبار الحمر التي ورد في التوراة أنها كانت في عمق السديم، كانت قابلة للالتهاب بسبب زلازل أو سقوط صواعق عليها. وقد ذكر في آية أخرى، في القرآن: أن الله جعل عالي تلك القرى سافلا، وذلك هو الخسف وهو من آثار الزلازل، ومن المستقرب أن يكون البحر الميت هنالك قد طغى على هذه الآبار أو البراكين من آثار الزلزال.
وتنكير: {مَطَراً} للتعظيم والتعجيب أي: مطرا عجيبا من شانه أن يهلك القرى.
وتفرع عن هذه القصة العجيبة الأمر بالنظر في عاقبتهم بقوله: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} فالأمر للإرشاد والاعتبار. والخطاب يجوز أن يكون لغير معين بل لكل من يتأتى منه الاعتبار، كما هو شان إيراد التذييل بالاعتبار عقب الموعظة، لأن المقصود بالخطاب كل من قصد بالموعظة، ويجوز أن يكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم تسلية له على ما يلاقيه من قومه الذين كذبوا بأنه لا ييأس من نصر الله، وأن شأن الرسل انتظار العواقب.
والمجرمون فاعلوا الجريمة، وهي المعصية والسيئة، وهذا ظاهر في أن الله عاقبهم بذلك العقاب على هذه الفاحشة، وأن لوطا عليه السلام أرسل لهم لنهيهم عنها، لا لأنهم مشركون بالله، إذ لم يتعرض له في القرآن بخلاف ما قص عن الأمم الأخرى، لكن تمالئهم على فعل الفاحشة واستحلالهم إياها يدل على أنهم لم يكونوا مؤمنين بالله، وبذلك يؤذن قوله تعالى في سورة التحريم: [10] {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ} ، فيكون إرسال لوط عليه السلام بإنكار تلك الفاحشة ابتداء بتطهير نفوسهم، ثم يصف لهم الإيمان، إذ لا شك أن لوطا عليه السلام بلغهم الرسالة عن الله تعالى، وذلك يتضمن أنه دعاهم إلى الإيمان، إلا أن اهتمامه الأول كان بإبطال هذه الفاحشة، ولذلك وقع الاقتصار في إنكاره عليهم ومجادلتهم إياه على ما يخص تلك الفاحشة، وقد علم أن
-

الله أصابهم بالعذاب عقوبة، على تلك الفاحشة، كما قال في سورة العنكبوت [34]: {إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} وأنهم لو أقلعوا عنها لترك عذابهم على الكفر إلى يوم آخر أو إلى اليوم الآخر.
[87,85] {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ * وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} .
تفسير صدر هذه الآية هو كتفسير نظيرها في قصة ثمود، سوى أن تجريد فعل {قَالَ يَا قَوْمِ} من الفاء هنا يترجح أنه للدلالة على أن كلامه هذا ليس هو الذي فاتحهم به في ابتداء رسالته بل هو مما خاطبهم به بعد أن دعاهم مرارا، وبعد أن آمن به من آمن منهم كما يأتي.
ومدين أمة سميت باسم جدها مدين بن إبراهيم الخليل عليه السلام، من زوجه الثالثة التي تزوجها في آخر عمره وهي سرية اسمها قطورا. وتزوج مدين ابنة لوط عليه السلام وولد له أبناء: هم عيفة و عفر و حنوك و ابيداع و ألدعة وقد أسكنهم إبراهيم عليه السلام في ديارهم، وسطا بين مسكن ابنه إسماعيل عليه السلام ومسكن ابنه إسحاق عليه السلام، ومن ذريتهم تفرعت بطون مدين، وكانوا يعدون نحو خمسة وعشرين ألفا، ومواطنهم بين الحجاز وخليج العقبة بقرب ساحل البحر الأحمر، وقاعدة بلادهم وج على البحر الأحمر وتنتهي أرضهم من الشمال إلى حدود معان من بلاد الشام، وإلى نحو تبوك من الحجاز، وتسمى بلادهم الأيكة. ويقال: أن الأيكة هي تبوك فعلى هذا هي من بلاد مدين، وكانت بلادهم قرى وبوادي، وكان شعيب عليه السلام من القرية وهي الأيكة، وقد تعربوا بمجاورة الأمم العربية وكانوا في مدة شعيب عليه السلام تحت ملوك مصر، وقد اكتسبوا، بمجاورة قبائل العرب ومخالطتهم، لكونهم في طريق مصر، عربية فأصبحوا في عداد العرب المستعربة، مثل بني إسماعيل عليه السلام، وقد كان شاعر في

الجاهلية يعرف بأبي الهميسع هو من شعراء مدين وهو القائل:
إن تمنعي صوبك صوب المدمع ... يجري على الخد كضئب الثعثع
من طمحة صبيرها جحلنجع ويقال: إن الخط العربي أول ما ظهر في مدين.
وشعيب عليه السلام هو رسول لأهل مدين، وهو من أنفسهم، اسمه في العربية شعيب عليه السلام واسمه في التوراة: يشرون ويسمى أيضا رعوئيل وهو ابن نويلى أو نويب بن رعويل بن عيفا بن مدين. وكان موسى عليه السلام لما خرج من مصر نزل بلاد مدين وزوجه شعيب ابنته المسماة صفوره وأقام موسى عليه السلام عنده عشر سنين أجيرا.
وقد خبط في نسب مدين ونسب شعيب عليه السلام جمع عظيم من المفسرين والمؤرخين، فما وجدت مما يخالف هذه افانبذه. وعد الصفدي شعيبا في العميان، ولم أقف على ذلك في الكتب المعتمدة. وقد ابتدأ الدعوة بالإيمان لأن به صلاح الاعتقاد والقلب، وإزالة الزيف من العقل.
وبينه شعيب عليه السلام التي جاءت في كلامه: يجوز أن تكون أطلقت على الآية لمعجزة أظهرها لقومه عرفوها ولم يذكرها القرآن، كما قال ذلك المفسرون، والأظهر عندي أن يكون المراد بالبينة حجة أقامها على بطلان ما هم عليه من الشرك وسوء الفعل، وعجزوا عن مجادلته فيها، فقامت عليهم الحجة مثل المجادلة التي حكيت في سورة هود فتكون البينة أطلقت على ما يبين صدق الدعوى، لا على خصوص خارق العادة، أو أن يكون أراد بالبينة ما أشار إليه بقوله: {فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا} أي يكون أنذرهم بعذاب يحل بهم إن لم يؤمنوا، كما قال في الآية الأخرى {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الشعراء:187] فيكون التعبير بالماضي في قوله: {قَدْ جَاءَتْكُمْ} مرادا به المستقبل القريب، تنبيها على تحقيق وقوعه، أو أن يكون عرض عليهم أن يظهر لهم آية، أي معجزة ليؤمنوا، فلم يسألوها وبادروا بالتكذيب، فيكون المعنى مثل ما حكاه الله تعالى عن موسى عليه السلام: {قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائيلَ قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا} [الأعراف: 105, 106] الآية، فيكون معنى: {قَدْ جَاءَتْكُمْ} قد أعدت لأن تجيئكم إذا كنتم تؤمنون عند مجيئها.

والفاء في قوله: {فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ} للتفريع على مضمون معنى {بَيِّنَةٍ} لأن البينة تدل على صدقه، فلما قام الدليل على صدقه وكان قد أمرهم بالتوحيد بادئ بدء، لما فيه من صلاح القلب، شرع يأمرهم بالشرائع من الأعمال بعد الإيمان، كما دل عليه قوله الآتي: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فتلك دعوة لمن آمن من قومه بأن يكملوا إيمانهم بالتزام الشرائع الفرعية، وإبلاغ لمن لم يؤمن بما يذمهم بعد الإيمان بالله وحده، وفي دعوة شعيب عليه السلام قومه إلى الأعمال الفرعية بعد أن استقرت الدعوة إلى التوحيد ما يؤذن بأن البشر في ذلك العصر قد تطورت نفوسهم تطورا هيأهم لقبول الشرائع الفرعية، فإن دعوة شعيب عليه السلام كانت أوسع من دعوة الرسل من قبله هود وصالح عليهم السلام إذ كان فيها تشريع أحكام فرعية وقد كان عصر شعيب عليه السلام قد أظل عصر موسى عليه السلام الذي جاء بشريعة عظيمة ماسة نواحي الحياة كلها.
والبخس فسروه بالنقص، وزاد الراغب في المفردات قيدا، فقال: نقص الشيء على سبيل الظلم، وأحسن ما رأيت في تفسيره قول أبي بكر بن العربي في أحكام القرآن: البخس في لسان العرب هو النقص بالتعييب والتزهيد أو المخادعة غن القيمة أو الاحتيال في التزيد في الكيل والنقصان منه فلنبن على أساس كلامه فنقول: البخس هو إنقاص شيء من صفة أو مقدار هو حقيق بكمال في نوعه. ففيه معنى الظلم والتحيل، وقد ذكر ابن سيدة في المخصص البخس في باب الذهاب بحق الإنسان، ولكنه عندما ذكره وقع فيما وقع فيه غيره من مدوني اللغة، فالبخس حدث يتصف به فاعل وليس صفة للشيء المبخوس في ذاته، إلا بمعنى الوصف بالمصدر، كما قال تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} [يوسف: 20] أي دون قيمة أمثاله، أي تساهل بائعوه في ثمنه لأنهم حصلوه بغير عوض ولا كلفة. وأعلم أنه قد يكون البخس متعلقا بالكمية كما يقول المشتري: هذا النحي لا يزن أكثر من عشرة أرطال، وهو يعلم أن مثله يزن اثني عشر رطلا، أو يقول: ليس على هذا النخل أكثر من عشرة قناطير تمرا في حين أنه يعلم أنه يبلغ عشرين قنطارا، وقد يكون متعلقا بالصفة كما يقول: هذا البعير شرود وهو من الرواحل، ويكون طريق البخس قولا، كما مثلنا، وفعلا كما يكون من بذل ثمن رخيص في شيء من شأنه أن يباع غاليا، والمقصود من البخس أن ينتفع الباخس الراغب في السلعة المبخوسة بأن يصرف الناس عن الرغبة فيها فتبقى كلا على جالبها فيضطر إلى بيعها بثمن زهيد، وقد يقصد منه إلقاء الشك في نفس جالب السلعة بأن سلعته هي دون ما

هو رائج بين الناس، فيدخله اليأس من فوائد نتاجه فتكسل الهمم.
وما وقع في "اللسان" من معاني البخس: أنه الخسيس فلعل ذلك على ضرب من المجاز أو التوسع، وبهذا تعلم أن البخس هو بمعنى النقص الذي هو فعل الفاعل بالمفعول، لا النقص الذي هو صفة الشيء الناقص، فهو أخض من النقص في الاستعمال، وهو أخض منه في المعنى أيضا.
ثم إن حق فعله أن يتعدى إلى مفعول واحد، كقوله تعالى: {وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً} [البقرة: 282] فإذا عدي إلى مفعولين كما في قوله هنا: {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} فذلك على معنى التحويل لتحصيل الإجمال ثم التفصيل، وأصل الكلام: "ولا تبخسوا أشياء الناس" فيكون قوله {أَشْيَاءَهُمْ} بدل اشتمال من قوله: {النَّاسَ} وعلى هذا فلو بني فعل {بَخْسٍ} للمجهول لقلت بخس فلان شيئه برفع فلان ورفع شيئه. وقد جعله أبو البقاء مفعولا ثانيا، فعلى إعرابه لو بني الفعل للمجهول لبقي {أَشْيَاءَهُمْ} منصوبا، وعلى إعرابنا لو بني الفعل للمجهول لصار أشياؤهم مرفوعا على البدليه من الناس، وبهذا تعلم أن بين البخس والتطفيف فرقا قد خفي على كثير.
وحاصل ما أمر به شعيب عليه السلام قومه، بعد الأمر بالتوحيد، ينحصر في ثلاثة أصول: هي حفظ حقوق المعاملة المالية، وحفظ نظام الأمة ومصالحها، وحفظ حقوق حرية الاستهداء.
فالأول قوله: {فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ} فإيفاء الكيل والميزان يرجع إلى حفظ حقوق المشترين، لأن الكائل أو الوازن هو البائع، وهو الذي يحمله حب الاستفضال على تطفيف الكيل أو الوزن، ليكون باع الشيء الناقص بثمن الشيء الوافي، كما يحسبه المشتري.
وأما النهي عن بخس الناس أشياءهم فيرجع إلى حفظ حقوق البائع لأن المشتري هو الذي يبخس شيء البائع ليهيئه لقبول الغبن في ثمن شيئه، وكلا هذين الأمرين حيلة وخداع لتحصيل ربح من المال.
والكيل مصدر، ويطلق على ما يكال به، وهو المكيال كقوله تعالى: {وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ} [يوسف: 65] وهو المراد هنا: لمقابلته بالميزان، ولقوله في الآية الأخرى: {وَلا

تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ} [هود: 84] ومعنى. إيفاء المكيال والميزان أن تكون آلة الكيل وآلة الوزن بمقدار ما يقدر بها من الأشياء المقدرة. وإنما خص هذين التحيلين بالأمر والنهي المذكورين: لأنهما كانا شائعين عند مدين، ولأن التحيلات في المعاملة المالية تنحصر فيهما إذ كان التعامل بين أهل البوادي منحصرا في المبادلات بأعيان الأشياء: عرضا وطلبا.
وبهذا يظهر أن النهي في قوله: {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} أفاد معنى غير الذي أفاده الأمر في قوله: {فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ} . وليس ذلك النهي جاريا مجرى العلة للأمر، أو التأكيد لمضمونه، كما فسر به بعض المفسرين.
وما جاء في هذا التشريع هو أصل من أصول رواج المعاملة بين الأمة لأن المعاملات تعتمد الثقة المتبادلة بين الأمة، وإنما تحصل بشيوع الأمانة فيها، فإذا حصل ذلك نشط الناس للتعامل فالمنتج يزداد إنتاجا وعرضا في الأسواق، والطالب من تاجر أو مستهلك يقبل على الأسواق آمنا لا يخشى غبنا ولا خديعة ولا خلابة، فتتوفر السلع في الأمة، وتستغني عن اجتلاب أقواتها وحاجياتها وتحسينياتها، فيقوم نماء المدينة والحضارة على أساس متين، ويعيش الناس في رخاء وتحابب وتآخ، وبضد ذلك يختل حال الأمة بمقدار تفشي ضد ذلك.
وقوله: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} هذا الأصل الثاني من أصول دعوة شعيب عليه السلام للنهي عن كل ما يفضي إلى إفساد ما هو على حالة الصلاح في الأرض، وقد تقدم القول في نظير هذا التركيب عند قوله تعالى: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً} في أوائل هذه السورة [56].
والإشارة بـ {ذَلِكُمْ} إلى مجموع ما تضمنه كلامه، أي ذلك المذكور، ولذا أفرد اسم الإشارة. والمذكور: هو عبادة الله وحده، وإيفاء الكيل والميزان، وتجنب بخس أشياء الناس، وتجنب الفساد في الأرض. وقد أخبر عنه بأنه خير لهم، أي نفع وصلاح تنتظم به أمورهم كقوله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} [الحج: 36]. وإنما كان ما ذكر خيرا: لأنه يوجب هناء العيش واستقرار الأمن وصفاء الود بين الأمة وزوال الإحن المفضية إلى الخصومات والمقاتلات، فإذا تم ذلك كثرت الأمة وعزت وهابها أعداؤها وحسنت أحدوثتها وكثر مالها بسبب رغبة

الناس في التجارة والزراعة لأمن صاحب المال من ابتزاز ماله، وفيه خير الآخرة لأن ذلك إن فعلوه امتثالا لأمر الله تعالى بواسطة رسوله أكسبهم رضى الله، فنجوا من العذاب، وسكنوا دار الثواب. فالتنكير في قوله: {خَيْرٌ} للتعظيم والكمال لأنه جامع خيري الدنيا والآخرة.
وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} شرط مقيد لقوله: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} والمؤمنون لقب للمتصفين بالإيمان بالله وحده، كما هو مصطلح الشرائع، وحمل المؤمنين على المصدقين لقوله، ونصحه، وأمانته: حمل على ما يأباه السياق، بل المعنى، أنه يكون خيرا إن كنتم مؤمنين بالله وحده، فهو رجوع إلى الدعوة للتوحيد بمنزلة رد العجز على الصدر في كلامه، ومعناه أن حصول الخير من الأشياء المشار إليها لا يكون إلا مع الإيمان، لأنهم إذا فعلوها وهم مشركون لم يحصل منها الخير لأن مفاسد الشرك تفسد ما في الأفعال من الخير، أما في الآخرة فظاهر، وأما في الدنيا فإن الشرك يدعو إلى أضداد تلك الفضائل كما قال الله تعالى: {وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} [هود: 101] أو يدعو إلى مفاسد لا يظهر معها نفع تلك المصالح. والحاصل أن المراد بالتقييد نفي الخير الكامل عن تلك الأعمال الصالحة إن لم يكن فاعلوها مؤمنين بالله حق الإيمان، وهذا كقوله تعالى {فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البلد: 13, 17]. وتأويل الآية بغير هذا عدول بها عن مهيع الوضوح.
وقوله: {وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ} هذا الأصل الثالث من دعوته وهو النهي عن التعرض للناس دون الإيمان، فإنه بعد أن أمرهم بالإيمان بالله وما يتطلبه من الأعمال الصالحة، وفي ذلك صلاح أنفسهم، أي أصلحوا أنفسكم ولا تمنعوا من يرغب في إصلاح نفسه. ذلك أنهم كانوا يصدون وفود الناس عن الدخول إلى المدينة التي كان بها شعيب "عليه السلام" لئلا يؤمنوا به. فالمراد بالصراط الطريق الموصلة إلى لقاء شعيب عليه السلام.
والقعود مستعمل كناية عن لازمة وهو الملازمة والاستقرار، وقد تقدم عند قوله تعالى: {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} في هذه السورة [16].
و"كل" للعموم وهو عموم عرفي، أي كل صراط مبلغ إلى القرية أو إلى منزل شعيب

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68