كتاب : التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور
المؤلف : محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي

ولما كان الاستفهام مستعملا في غير طلب الفهم حسن تعقيبه بالجواب عنه بقوله {عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ} فجوابه مستعمل بيانا لما أريد بالاستفهام من الإجمال لقصد التفخيم فبين جانب التفخيم ونظيره قوله تعالى {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ. تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء: 221-222]، فكأنه قيل هم يتساءلون عن النبأ العظيم ومنه قول حسان بن ثابت:
لمن الدار أقفرت بمعان ... بين أعلى اليرموك والصمان
ذاك معنى لآل جفنة في الدهر ... وحق تقلب الأزمان
والنبأ: الخبر، قيل مطلقا فيكون مرادفا للفظ الخبر وهو الذي جرى عليه إطلاق "القاموس" و"الصحاح" و"اللسان".
وقال الراغب: "النبأ الخبر ذو الفائدة العظيمة يحصل به علم أو غلبة ظن ولا يقال للخبر نبأ حتى يتضمن هذه الأشياء الثلاثة ويكون صادقا" اه. وهذا فرق حسن ولا أحسب البلغاء جروا إلا على نحو ما قال الراغب فلا يقال: للخبر عن الأمور المعتادة نبأ وذلك ما تدل عليه موارد استعمال لفظ النبأ في كلام البلغاء، وأحسب أن الذين أطلقوا مرادفة النبأ للخبر راعوا ما يقع في بعض كلام الناس من تسامح بإطلاق النبأ بمعنى مطلق الخبر لضرب من التأويل أو المجاز المرسل بالإطلاق والتقييد، فكثر ذلك في الكلام كثرة عسر معها تحديد مواقع الكلمتين ولكن أبلغ الكلام لا يليق تخريجه إلا على أدق مواقع الاستعمال. وتقدم عند قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ} في سورة الأنعام [34] وقوله: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ، أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} [ص: 67-68].
والعظيم حقيقته: كبير الجسم ويستعار للأمر المهم لأن أهمية المعنى تتخيل بكبر الجسم في أنها تقع عند مدكرها كمرأى الجسم الكبير في مرأى العين وشاعت هذه الاستعارة حتى ساوت الحقيقة.
ووصف {النَّبَأِ} ب {الْعَظِيمِ} هنا زيادة في التنويه به لأن كونه واردا من عالم الغيب زاده عظمة أوصال وأهوال، فوصف النبأ بالعظيم باعتبار ما وصف فيه من أحوال البعث في ما نزل من آيات القرآن قبل هذا. ونظيره قوله تعالى: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ، أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} في سورة ص [67-68].
والتعريف في {النَّبَأِ} تعريف الجنس فيشمل كل نبأ عظيم أنبأهم الرسول صلى الله عليه وسلم به،

وأول ذلك إنباؤه بأن القرآن كلام الله، وما تضمنه القرآن من إبطال الشرك، ومن إثبات بعث الناس يوم القيامة، فما يروى عن بعض السلف من تعيين نبأ خاص يحمل على التمثيل. فعن ابن عباس: هو القرآن، وعن مجاهد وقتادة: هو البعث يوم القيامة.
وسوق الاستدلال بقوله: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً} إلى قوله: {وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً} [النبأ:16] يدل دلالة بينة على أن المراد من {النَّبَأِ الْعَظِيمِ} الإنباء بأن الله واحد لا شريك له.
وضمير {هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} يجري فيه الوجهان المتقدمان في قوله: {يَتَسَاءَلُونَ} . واختلافهم في النبأ اختلافهم فيما يصفونه به، كقول بعضهم {إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [الأنعام:25] وقول بعضهم: هذا كلام مجنون، وقول بعضهم: هذا كذب، وبعضهم: هذا سحر، وهم أيضا مختلفون في مراتب إنكاره. فمنهم من يقطع بإنكار البعث مثل الذين حكى الله عنهم بقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ، أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} [سبأ: 7-8]، ومنهم من يشكون فيه كالذين حكى الله عنهم بقوله: {قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية:32] على أحد التفسيرين.
وجيء بالجملة الاسمية في صلة الموصول دون أن يقول: الذي يختلفون فيه أو نحو ذلك، لتفيد الجملة الاسمية أن الاختلاف في أمر هذا النبأ متمكن منهم ودائم فيهم لدلالة الجملة الاسمية على الدوام والثبات.
وتقديم {عنه} على {مُعْرِضُونَ} [صّ: 68] للاهتمام بالمجرور وللإشعار بأن الاختلاف ما كان من حقه أن يتعلق به، مع ما في التقديم من الرعاية على الفاصلة.
[4] {كَلَّا سَيَعْلَمُونَ}.
{كَلَّا} حرف ردع وإبطال لشيء يسبقه غالبا في الكلام يقتضي ردع المنسوب إليه وإبطال ما نسب إليه، وهو هنا ردع للذين يتساءلون عن النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون على ما يحتمله التساؤل من المعاني المتقدمة، وإبطال لما تضمنته جملة {يَتَسَاءَلُونَ} من تساؤل معلوم للسامعين.
فموقع الجملة موقع الجواب عن السؤال ولذلك فصلت ولم تعطف لأن ذلك طريقة السؤال والجواب.

والكلام وإن كان إخبارا عنهم فإنهم المقصودون به فالردع موجه إليهم بهذا الاعتبار.
والمعنى: إبطال الاختلاف في ذلك النبأ وإنكار التساؤل عنه ذلك التساؤل الذي أرادوا به الاستهزاء وإنكار الوقوع، وذلك يثبت وقوع ما جاء به النبأ وأنه حق لأن إبطال إنكار وقوعه يفضي إلى إثبات وقوعه.
والغالب في استعمال {كَلَّا} أن تعقب بكلام يبين ما أجملته من الردع والإبطال فلذلك عقبت هنا بقوله: {سَيَعْلَمُونَ} وهو زيادة في إبطال كلامهم بتحقيق أنهم سيوقنون بوقوعه ويعاقبون على إنكاره، فهما علمان يحصلان لهم بعد الموت: علم بحق وقوع البعث، وعلم في العقاب عليه.
ولذلك حذف مفعول {سَيَعْلَمُونَ} ليعم المعلومين فإنهم عند الموت يرون ما سيصيرون إليه فقد جاء في الحديث الصحيح "إن الكافر يرى مقعده فيقال له: هذا مقعدك حتى تبعث" ، وفي الحديث "القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار" ، وذلك من مشاهد روح المقبور وهي من المكاشفات الروحية وفسر بها قوله تعالى: {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ، ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} [التكاثر: 6-7].
فتضمن هذا الإبطال وما بعده إعلاما بأن يوم البعث واقع، وتضمن وعيدا وقد وقع تأكيده بحرف الاستقبال الذي شأنه إفادة تقريب المستقبل.
ومن محاسن هذا الأسلوب في الوعيد أن فيه إيهاما بأنهم سيعلمون جواب سؤالهم الذي أرادوا به الإحالة والتهكم، وصوروه في صورة طلب الجواب فهذا الجواب من باب قول الناس: الجواب ما ترى لا ما تسمع.
[5] {ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ}.
ارتقاء في الوعيد والتهديد فإن {ثم} لما عطفت الجملة فهي للترتيب الرتبي، وهو أن مدلول الجملة التي بعدها أرقى رتبة في الغرض من مضمون الجملة التي قبلها، ولما كانت الجملة التي بعد {ثم} مثل الجملة التي قبل {ثم} تعين أن يكون مضمون الجملة التي بعد {ثم} أرقى درجة من مضمون نظيرها. ومعنى ارتقاء الرتبة أن مضمون ما بعد {ثم} أقوى من مضمون الجملة التي قبل {ثم} ، وهذا المضمون هو الوعيد، فلما أستفيد تحقيق وقوع المتوعد به بما أفاده التوكيد اللفظي إذ الجملة التي بعد {ثم} أكدت الجملة

التي قبلها تعين انصراف معنى ارتقاء رتبة معنى الجملة الثانية هو أن المتوعد به الثاني أعظم مما يحسبون.
وضمير {سَيَعْلَمُونَ} في الموضوعين يجري على نحو ما تقدم في ضمير {يَتَسَاءَلُونَ} وضمير {فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} [النبأ: 3].
[6] {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً}.
لما كان أعظم نبأ جاءهم به القرآن إبطال إلهية أصنامهم وإثبات إعادة خلق أجسامهم، وهم الأصلان اللذان أثارا تكذيبهم بأنه من عند الله وتألبهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وترويجهم تكذيبه، جاء هذا الاستئناف بيانا لإجمال قوله: {عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ، الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ}.
وسيجيء بعده تكملته بقوله: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا} [النبأ:17].
وجمع الله لهم في هذه الآيات للاستدلال على الوحدانية بالانفراد بالخلق. وعلى إمكان إعادة الأجساد للبعث بعد البلى بأنها لا تبلغ مبلغ أيجاد المخلوقات العظيمة. ولكون الجملة في موقع الدليل لم تعطف على ما قبلها.
والكلام موجه إلى منكري البعث وهم الموجه إليهم الاستفهام فهو من قبيل الالتفات لأن توجيه الكلام في قوة ضمير المخاطب بدليل عطف {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا} [النبأ:8] عليه.
والاستفهام في {أَلَمْ نَجْعَلِ} تقريري وهو تقرير على النفي كما هو غالب صيغ الاستفهام التقريري أن يكون بعده نفي والأكثر كونه بحرف "لم"، وذلك النفي كالإعذار للمقرر إن كان يريد أن ينكر وإنما المقصود التقرير بوقوع جعل الأرض مهادا لا بنفيه بحرف النفي لمجرد تأكيد معنى التقرير.
فالمعنى: أجعلنا الأرض مهادا ولذلك سيعطف عليه {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا} وتقدم عند قوله تعالى: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} في سورة البقرة [33]. ولا يسعهم إلا الإقرار به قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25]، وحاصل الاستدلال بالخلق الأول لمخلوقات عظيمة أنه يدل على إمكان الخلق الثاني لمخلوقات هي دون المخلوقات الأولى قال تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ "أي الثاني" وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [غافر:57].

وجعل الأرض: خلقها على تلك الحالة لأن كونها مهادا أمر حاصل فيها من ابتداء خلقها ومن أزمان حصول ذلك لها من قبل خلق الإنسان لا يعلمه إلا الله.
والمعنى: أنه خلقها في حال أنها كالمهاد فالكلام تشبيه بليغ.
والتعبير ب {نَجْعَلِ} دون: نخلق، لأن كونها مهادا حالة من أحوالها عند خلقها أو بعده بخلاف فعل الخلق فإنه يتعدى إلى الذات غالبا أو إلى الوصف المقوم للذات نحو {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} [الملك:2].
والمهاد: بكسر الميم الفراش الممهد الموطأ؛ وزنة الفعال فيه تدل على أن أصله مصدر سمي به للمبالغة. وفي "القاموس": إن المهاد يراد في المهد الذي يجعل للصبي. وعلى كل فهو تشبيه للأرض به إذ جعل سطحها ميسرا للجلوس عليها والاضطجاع وبالأحرى المشي، وذلك دليل على إبداع الخلق والتيسير على الناس، فهو استدلال يتضمن امتنانا وفي ذلك الامتنان إشعار بحكمة الله تعالى إذ جعل الأرض ملائمة للمخلوقات التي عليها فإن الذي صنع هذا الصنع لا يعجزه أن يخلق الأجسام مرة ثانية بعد بلاها.
والغرض من الامتنان هنا تذكيرهم بفضل الله لعلهم أن يرعوا عن المكابرة ويقلبوا على النظر فيما يدعوهم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم تبليغا عن الله تعالى.
ومناسبة ابتداء الاستدلال على إمكان البعث بخلق الأرض أن البعث هو إخراج أهل الحشر من الأرض فكانت الأرض أسبق شيء إلى ذهن السامع عند الخوض في أمر البعث، أي بعث أهل القبور.
وجعل الأرض مهادا يتضمن الاستدلال بأصل خلق الأرض على طريقة الإيجاز ولذلك لم يتعرض إليه بعد عند التعرض لخلق السماوات.
[7] {وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً}.
عطف على {الأَرْضَ مِهَادًا} [النبأ:6] فالواو عاطفة {الْجِبَالَ} على {الأَرْضَ} ، وعاطفة {أَوْتَاداً} على {مِهَادًا} ، وهذا من العطف على معمولي عامل واحد وهو وارد في الكلام الفصيح وجائز باتفاق النحويين لأن حرف العطف قائم مقام العامل.

والأوتاد: جمع وتد بفتح الواو وكسر المثناة الفوقية. والوتد: عود غليظ شيئا، أسفله أدق من أعلاه يدق في الأرض لتشد به أطناب الخيمة وللخيمة أوتاد كثيرة على قدر اتساع دائرتها. والإخبار عن الجبال بأنها أوتاد على طريقة التشبيه البليغ أي كالأوتاد.
ومناسبة ذكر الجبال دعا إليها ذكر الأرض وتشبيهها بالمهاد الذي يكون داخل البيت فلما كان البيت من شأنه أن يخطر ببال السامع من ذكر المهاد كانت الأرض مشبهة بالبيت على طريقة المكنية فشبهت جبال الأرض بأوتاد البيت تخييلا للأرض مع جبالها بالبيت ومهاده وأوتاده.
وأيضا فإن كثرة الجبال الناتئة على وجه الأرض قد يخطر في الأذهان أنها لا تناسب جعل الأرض مهادا فكان تشبيه الجبال بالأوتاد مستملحا بمنزلة حسن الاعتذار، فيجوز أن تكون الجبال مشبهة بالأوتاد في مجرد الصورة مع هذا التخييل كقولهم: رأيت أسودا غابها الرماح. ويجوز أن تكون الجبال مشبهة بأوتاد الخيمة في أنها تشد الخيمة من أن تقلعها الرياح أو تزلزلها بأن يكون في خلق الجبال للأرض حكمة لتعديل سبح الأرض في الكرة الهوائية إذ نتو الجبال على الكرة الأرضية يجعلها تكسر تيار الكرة الهوائية المحيطة بالأرض فيعتدل تياره حتى تكون حركة الأرض في كرة الهواء غير سريعة.
على أن غالب سكان الأرض وخاصة العرب لهم منافع جمة في الجبال فمنها مسايل الأدوية، وقرارات المياه في سفوحها، ومراعي أنعامهم، ومستعصمهم في الخوف، ومراقب الطرق المؤدية إلى ديارهم إذا طرقها العدو. ولذلك كثر ذكر الجبال مع ذكر الأرض.
فكانت جملة {وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً} إدماجا معترضا بين جملة {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً} [النبأ:6] وجملة {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا} [النبأ:8].
[8] {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا} .
معطوف على التقرير الذي في قوله: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً} [النبأ:6]. والتقدير: وأخلقناكم أزواجا، فكان التقرير هنا على أصله إذ المقرر عليه هو وقوع الخلق فلذلك لم يقل: ألم نخلقكم أزواجا.
وعبر هنا بفعل الخلق دون الجعل لأنه تكوين ذواتهم فهو أدق من الجعل.

وضمير الخطاب للمشركين الذين وجه إليهم التقرير بقوله: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً} [النبأ:6]، وهو التفات من طريق الغيبة إلى طريق الخطاب.
والمعطوف عليه وإن كان فعلا مضارعا فدخول "لم" عليه صيره في معنى الماضي لما هو مقرر من أن "لم" تقلب معنى المضارع إلى الماضي فلذلك حسن عطف {خَلَقْنَاكُمْ} على {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً، وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} [النبأ: 6-7] والكل تقرير على شيء مضى.
وإنما عدل عن أن يكون الفعل فعلا مضارعا مثل المعطوف هو عليه لأن صيغة المضارع تستعمل لقصد استحضار الصورة للفعل كما في قوله تعالى: {فَتُثِيرُ سَحَابًا} [الروم:48]، فالإتيان بالمضارع في {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً} [النبأ:6] يفيد استدعاء إعمال النظر في خلق الأرض والجبال إذ هي مرئيات لهم. والأكثر أن يغفل الناظرون عن التأمل في دقائقها لتعودهم بمشاهدتها من قبل سن التفكر، فإن الأرض تحت أقدامهم لا يكادون ينظرون فيها بله أن يتفكروا في صنعها، والجبال يشغلهم عن التفكر في صنعها شغلهم بتجشم صعودها والسير في وعرها وحراسة سوائمهم من أن تضل شعابها وصرف النظر إلى مسالك العدو وعند الاعتلاء وعند الاعتلاء إلى مراقبها، فأوثر الفعل المضارع مع ذكر المصنوعات الحرية بدقة التأمل واستخلاص الاستدلال ليكون إقرارهم مما قرروا به على بصيرة فلا يجدوا إلى الإنكار سبيلا.
وجيء بفعل المضي في قوله: {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا} وما بعده لأن مفاعيل فعل "خلقنا" وما عطف عليه ليست مشاهدة لهم.
وذكر لهم من المصنوعات ما هو شديد الاتصال بالناس من الأشياء التي تتوارد أحوالها على مدركاتهم دواما، فإقرارهم بها أيسر لأن دلالتها قريبة من البديهي.
وقد أعقب الاستدلال بخلق الأرض وجبالها بالاستدلال بخلق الناس للجمع بين إثبات التفرد بالخلق وبين الدلالة على إمكان إعادتهم، والدليل في خلق الناس على الإبداع العظيم الذي الخلق الثاني من نوعه أمكن في نفوس المستدل عليهم قال تعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21]. وللمناسبة التي قدمنا ذكرها في توجيه الابتداء بخلق الأرض في الاستدلال فهي أن من الأرض يخرج الناس للبعث فكذلك تني بالاستدلال بخلق الناس الأول لأنهم الذين سيعاد خلقهم يوم البعث وهم الذين يخرجون من الأرض، وفي هذا المعنى جاء قوله تعالى: {وَيَقُولُ الإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا, أَوَلاَ

يَذْكُرُ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْئًا} [مريم: 66-67].
وانتصب {أَزْوَاجًا} على الحال من ضمير الخطاب في {خَلَقْنَاكُمْ} لأن المقصود الاستدلال بخلق الناس وبكون الناس أزواجا، فلما كان المناسب لفعل خلقنا أن يتعدى إلى الذوات جيء بمفعوله ضمير ذوات الناس، ولما كان المناسب لكونهم أزواجا أن يساق مساق أيجاد الأحوال جيء به حالا من ضمير الخطاب في {خَلَقْنَاكُمْ} ، ولو صرح له بفعل لقيل: وخلقناكم وجعلناكم أزواجا، على نحو ما تقدم في قوله: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً} [النبأ:6] ومما يأتي من قوله: {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا} [النبأ:9].
والأزواج: جمع زوج وهو اسم للعدد الذي يكرر الواحد تكريرة واحدة وقد وصف به كما يوصف بأسماء العدد في نحو قول لبيد:
حتى إذا سلخا جمادى ستة
ثم غلب الزواج على كل من الذكر وأنثاه من الإنسان والحيوان، فقوله: {أَزْوَاجًا} أفاد أن يكون الذكر زوجا للأنثى والعكس، فالذكر زوج لأنثاه والأنثى زوج لذكرها، وتقدم ذلك عند قوله تعالى: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} في سورة البقرة [35].
وفي قوله: {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا} إيماء إلى ما في ذلك الخلق من حكمة إيجاد قوة التناسل من اقتران الذكر بالأنثى وهو مناط الإيماء إلى الاستدلال على إمكان إعادة الأجساد فإن القادر على إيجاد هذا التكوين العجيب ابتداء بقوة التناسل قادر على أيجاد مثله بمثل تلك الدقة أو أدق.
وفيه استدلال على عظيم قدرة الله وحكمته، وامتنان على الناس بأنه خلقهم، وأنه خلقهم بحالة تجعل لكل واحد من الصنفين ما يصلح لأن يكون له زوجا ليحصل التعاون والتشارك في الأنس والتنعم، قال تعالى: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف:189] ولذلك صيغ هذا التقرير بتعليق فعل {خَلَقْنَا} بضمير الناس. وجعل {أَزْوَاجًا} حالا منه ليحصل بذلك الاعتبار بكلا الأمرين دون أن يقال: وخلقنا لكم أزواجا.
وفي ذلك حمل لهم على الشكر بالإقبال على النظر فيما بلغ إليهم عن الله الذي أسعفهم بهذه النعم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعريض بأن إعراضهم عن قبول الدعوة الإسلامية ومكابرتهم فيما بلغهم من ذلك كفران لنعمة واهب النعم.

[9] {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً}.
انتقل من الاستدلال بخلق الناس إلى الاستدلال بأحوالهم وخص منها الحالة التي هي أقوى أحوالهم المعروفة شبها بالموت الذي يعقبه البعث وهي حالة متكررة لا يخلون من الشعور بما فيها من العبرة لأن تدبير نظام النوم وما يطرأ عليه من اليقظة أشبه حال بحال الموت وما يعقبه من البعث.
وأوثر فعل {جَعَلْنَا} لأن النوم كيفية يناسبها فعل الجعل لا فعل الخلق المناسب للذوات كما تقدم في قوله: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً} [النبأ:6] وكذلك قوله: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا، وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} [النبأ: 10-11].
فإضافة نوم إلى ضمير المخاطبين ليست للتقييد لإخراج نوم غير الإنسان فإن نوم الحيوان كله سبات، ولكن الإضافة لزيادة التنبيه للاستدلال، أي أن دليل البعث قائم بين في النوم الذي هو من أحوالكم، وأيضا لأن في وصفه بسبات امتنانا، والامتنان خاص بهم قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} [يونس:67].
والسبات: بضم السين وتخفيف الباء أسم مصدر بمعنى السبت، أي القطع، أي جعلناه لكم قطعا لعمل الجسد بحيث لا بد للبدن منه، وإلى هذا أشار ابن الاعرابي وابن قتيبة إذ جعلا المعنى: وجعلنا نومكم راحة، فهو تفسير معنى.
وإنما أوثر لفظ "سبات" لما فيه من الإشعار بالقطع عن العمل ليقابله قوله بعده {وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} [النبأ:11] كما سيأتي.
ويطلق السبات على النوم الخفيف، وليس مرادا في هذه الآية إذ لا يستقيم أن يكون المعنى: وجعلنا نومكم نوما، ولا نوما خفيفا.
وفي "تفسير الفخر": طعن بعض الملاحدة في هذه الآية فقالوا: السبات هو النوم فالمعنى: وجعلنا نومكم نوما. وأخذ في تأويلها وجوها ثلاثة من أقوال المفسرين لا يستقيم منها إلا ما قاله ابن الأعرابي أن السبات القطع كما قال تعالى {مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ} [القصص:72] وهو المعنى الأصلي لتصاريف مادة سبت.
وأنكر أبن الأنباري وابن سيده أن يكون فعل سبت بمعنى استراح، أي ليس معنى اللفظ، فمن فسر السبات بالراحة أراد تفسير حاصل المعنى.

وفي هذا امتنان على الناس بخلق نظام النوم فيهم لتحصل لهم راحة من أتعاب العمل الذي يكدحون له في نهارهم فالله تعالى جعل النوم حاصلا للإنسان بدون اختياره، فالنوم يلجئ الإنسان إلى قطع العمل لتحصل راحة لمجموعه الهصبي الذي ركنه في الدماغ، فبتلك الراحة يستجد العصب قواه التي أوهنها عمل الحواس وحركات الأعضاء وأعمالها، بحيث لو تعلقت رغبة أحد بالسهر لا بد له من أن يغلبه النوم وذلك لطف بالإنسان بحيث يحصل له ما به منفعة مداركه قسرا عليه لئلا يتهاون به، ولذلك قيل: إن أقل الناس نوما أقصرهم عمرا وكذلك الحيوان.
[10] {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً}.
من إتمام الاستدلال الذي قبله وما فيه من المنة لأن كون الليل لباسا حالة مهيئة لتكيف النوم ومعينة على هنائه والانتفاع به لأن الليل ظلمة عارضة في الجو من مزايلة ضوء الشمس عن جزء من كرة الأرض وبتلك الظلمة تحتجب المرئيات عن الإبصار فيعسر المشي والعمل والشغل وينحط النشاط فتتهيأ الأعصاب للخمول ثم يغشاها النوم فيحصل السبات بهذه المقدمات العجيبة، فلا جرم كان نظام الليل آية على انفراد الله تعالى بالخلق وبديع تقديره.
وكان دليلا على أن إعادة الأجسام بعد الفناء غير متعذرة عليه تعالى فلو تأمل المنكرون فيها لعلموا أن الله قادر على البعث فلما كذبوا خبر الرسول صلى الله عليه وسلم به، وفي ذلك امتنان عليهم بهذا النظام الذي فيه اللطف بهم وراحة حياتهم لو قدروه حق قدره لشكروه وما أشركوا، فكان تذكر حالة الليل سريع الخطورة بالأذهان عند ذكر حالة النوم فكان ذكر النوم مناسبة للانتقال إلى الاستدلال بحالة الليل على حسب أفهام السامعين.
والمعني من جعل الليل لباسا يحوم حول وصف حالة خاصة بالليل عبر عنها باللباس.
فيجوز أن يكون اللباس محمولا على معنى الاسم وهو المشهور في إطلاقه، أي ما يلبسه الإنسان من الثياب فيكون وصف الليل به على تقدير كاف التشبيه على طريقة التشبيه البليغ، أي جعلنا الليل للإنسان كاللباس له، فيجوز أن يكون وجه الشبه هو التغشية. وتحته ثلاثة معان:
أحدها: أن الليل ساتر للإنسان كما يستره اللباس، فالإنسان في الليل يختلي بشؤونه

التي لا يرتكبها في النهار لأنه لا يحب أن تراها الأبصار، وفي ذلك تعريض بإبطال أصل من أصول الدهريين أن الليل رب الظلمة وهو معتقد المجوس وهم الذين يعتقدون أن المخلوقات كلها مصنوعة من أصلين أي إلهين: إله النور وهو صانع الخير، وإله الظلمة وهو صانع الشر. ويقال لهم الثنوية لأنهم أثبتوا إلهين اثنين، وهم فرق مختلفة المذاهب في تقرير كيفية حدوث العالم عن ذينك الأصلين، وأشهر هذه الفرق فرقة تسمى المانوية نسبة إلى رجل يقال له "ماني" فارسي قبل الإسلام، وفرقة تسمى مزدكية نسبة إلى رجل يقال له "مزدك" فارسي قبل الإسلام. وقد أخذ أبو الطيب معنى هذا التعريض بقوله:
وكم لظلام الليل عندك من يد ... تخبر أن المانوية تكذب
المعنى الثاني: من معنيي وجه الشبه باللباس: أنه المشابهة في الرفق باللابس والملاءمة لراحته، فلما كان الليل راحة للإنسان وكان محيطا بجميع حواسه وأعصابه شبه باللباس في ذلك. ونسب مجمل هذا المعنى إلى سعيد بن جبير السدي وقتادة إذ فسروا {سُبَاتًا} [النبأ:9] سكنا.
المعنى الثالث: أن وجه الشبه باللباس هو الوقاية، فالليل يقي الإنسان من الأخطار والاعتداء عليه، فكان العرب لا يغير بعضهم على بعض في الليل وإنما تقع الغارة صباحا ولذلك إذا غير عليهم يصرخ الرجل بقومه بقوله: يا صباحاه. ويقال، صبحهم العدو. وكانوا إذ أقاموا حرسا على الربى ناظورة على ما عسى أن يطرقهم من الأعداء يقيمونه نهارا فإذا أظلم الليل نزل الحرس، كما قال لبيد يذكر ذلك ويذكر فرسه:
حتى إذا ألقت يدا في كافر ... وأجن عورات الثغور ظلامها
أسهلت وانتصبت كجذع منيفة ... جرداء يحصر دونها جرامها
[11] {وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً}.
لما ذكر خلق نظام الليل قوبل بخلق نظام النهار، فالنهار: الزمان الذي يكون فيه ضوء الشمس منتشرا على جزء كبير من الكرة الأرضية. وفيه عبرة بدقة الصنع وإحكامه إذ جعل نظامان مختلفان منشؤهما سطوع نور الشمس واحتجابه فوق الأرض، وهما نعمتان للبشر مختلفتان في الأسباب والآثار؛ فنعمة الليل راجعة إلى الراحة والهدوء، ونعمة النهار راجعة إلى العمل والسعي، لأن النهار يعقب الليل فيكون الإنسان قد استجد راحته واستعاد نشاطه ويتمكن من مختلف الأعمال بسبب إبصار الشخوص والطرق.

ولما كان معظم العمل في النهار لأجل المعاش أخبر عن النهار بأنه معاش وقد أشعر ذكر النهار بعد ذكر كل من النوم والليل بملاحظة أن النهار ابتداء وقت اليقظة التي هي ضد النوم فصارت مقابلتهما بالنهار في تقدير: وجعلنا النهار واليقظة فيه معاشا، ففي الكلام اكتفاء دلت عليه المقابلة، وبذلك حصل بين الجمل الثلاث مطابقتان من المحسنات البديعة لفظا وضمنا.
والمعاش: يطلق مصدر عاش إذا حيي، فالمعاش: الحياة ويطلق اسما لما به عيش الإنسان من طعام وشراب على غير قياس.
والمعنيان صالحان للآية إذ يكون المعنى: وجعلنا النهار حياة لكم، شبهت اليقظة فيه الحياة، أو يكون المعنى وجعلنا النهار معيشة لكم، والإخبار عنه بأنه معيشة مجاز أيضا بعلاقة السببية لأن النهار سبب للعمل الذي هو سبب لحصول المعيشة وذلك يقابل جعل الليل سباتا بمعنى الانقطاع عن العمل، قال تعالى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [القصص:73].
ففي مقابلة السبات بالمعاش على هذين الاعتبارين مطابقتان من المحسنات.
[12] {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً} .
ناسب بعد ذكر الليل وانهار وهما من مظاهر الأفق المسمى سماء أن يتبع ذلك وما سبقه من خلق العالم السفلي بذكر خلق العوالم العلوية.
والبناء: جعل الجاعل أو صنع الصانع بيتا أو قصرا من حجارة وطين أو من أثواب، أو من أدم على وجه الأرض، وهو مصدر بني فبيت المدر مبني، والخيمة مبنية، والطراف والقبة من الأدم مبنيان. والبناء يستلزم الإعلاء على الأرض فليس الحفر بناء ولا نقر الصخور في الجبال بناء. قال الفرزدق:
إن الذي سمك السماء بنى لنا ... بيتنا دعائمه أعز وأطول
فذكر الدعائم وهي من أجزاء الخيمة.
واستعير فعل {بَنَيْنَا} في هذه الآية لمعنى: خلقنا ما هو عال فوق الناس، لأن تكوينه عاليا يشبه البناء.
ولذلك كان قوله: {فَوْقَكُمْ} إيماء إلى وجه الشبه في إطلاق فعل {بَنَيْنَا} وليس

ذلك تجريدا للاستعارة لأن الفوقية لا تختص بالمبنيات، مع ما فيه من تنبيه النفوس للاعتبار والنظر في تلك السبع الشداد.
والمراد بالسبع الشداد: السماوات، فهو من ذكر الصفة وحذف الموصوف للعلم به كقوله تعالى: {حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة:11]، ولذلك جاء الوصف باسم العدد المؤنث إذ التقدير: سبع سماوات.
فيجوز أن يراد بالسبع الكواكب السبعة المشهورة بين الناس يومئذ وهي: زحل، والمشتري، والمريخ، والشمس، والزهرة، وعطارد، والقمر. وهذا ترتيبها بحسب ارتفاع بعضها فوق بعض بما دل عليه خسوف بعضها ببعض حين يحول بينه وبين ضوء الشمس التي تكتسب بقية الكواكب النور من شعاع الشمس.
وهذا المحمل هو الأظهر لأن العبرة بها أظفر لأن المخاطبين لا يرون السماوات السبع ويرون هذه السيارات ويعهدونها دون غيرها من السيارات التي اكتشفها علماء الفلك من بعد. وهي "ستورن" و "نبتون" و "أورانوس" وهي في علم الله تعالى لا محالة لقوله: {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} [الملك:14] وأن الله لا يقول إلا حقا وصدقا ويقرب للناس المعاني بقدر أفهامهم رحمة بهم.
فأما الأرض فقد عدت أخيرا في الكواكب السيارة وحذف القمر من الكواكب لتبين أن حركته تابعة لحركة الأرض إلا أن هذا لا دخل له في الاستدلال لأن الاستدلال وقع بما هو معلوم مسلم يومئذ والكل من صنع الله.
ويجوز أن يراد بالسماوات السبع طبقات علوية يعلمها الله تعالى وقد اقتنع الناس منذ القدم بأنها سبع سماوات.
وشداد: جمع شديدة، وهي الموصوفة بالشدة، والشدة: القوة.
والمعنى: أنها متينة الخلق قوية الأجرام لا يختل أمرها ولا تنقص على مر الأزمان.
[13] {وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً} .
ذكر السماوات يناسبه ذكر أعظم ما يشاهده الناس في فضائها وذلك الشمس، ففي ذلك مع العبرة بخلقها عبرة في كونها على تلك الصفة ومنة على الناس باستفادتهم من

نورها فوائد جمة.
والسراج: حقيقته المصباح الذي يستضاء به وهو إناء يجعل فيه زيت وفي الزيت خرقة مفتولة تسمى الذبالة تشعل بنار فتضيء ما دام فيها بلل الزيت.
والكلام على التشبيه البليغ والغرض من التشبيه تقريب صفة المشبه إلى الأذهان كما تقدم في سورة نوح.
وزيد ذلك التقريب بوصف السراج بالوهاج، أي الشديد السنا.
والوهاج: أصله الشديد الوهج "بفتح الواو وفتح الهاء، ويقال بفتح الواو وسكون الهاء" وهو الاتقاد يقال: وهجت النار إذا اضطرمت اضطراما شديدا.
ويطلق الوهاج على المتلألئ المضيء وهو المراد هنا لأن وصف وهاج أجري على سراج، أي سراجا شديد الإضاءة، ولا يقال سراج ملتهب.
قال الراغب: الوهج حصول الضوء والحر من النار. وفي "الأساس" عد قولهم: سراج وهاج في قسم الحقيقة. وعليه جرى قوله في "الكشاف" متلالئا وقادا. وتوهجت النار، إذ تلمظت فتوهجت بضوئها وحرها فإذن يكون التعبير عن الشمس بالسراج في هذه الآية هو موقع التشبيه.
ولذلك أوثر فعل {جَعَلْنَا} دون: خلقنا، لأن كونها سراجا وهاجا حالة من أحوالها وإنما يعلق فعل الخلق بالذوات.
فالمعنى: وجعلنا لكم سراجا وهاجا أو وجعلنا في السبع الشداد سراجا وهاجا على نحو قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} [نوح:15-16] وقوله: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً} [الفرقان:61] سواء قدرت ضمير {فِيهَا} عائدا إلى {السَّمَاء} أو إلى "البروج" لأن البروج هي بروج السماء.
وقوله: {سِرَاجاً} اسم جنس فقد يراد به الواحد من ذلك الجنس فيحتمل أن يراد الشمس أو القمر.
[14-16] {وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً، لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً، وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا} .

استدلالا بحالة أخرى من الأحوال التي أودعها الله تعالى في نظام الموجودات وجعلها منشأ شبيها بحياة بعد شبيه بموت أو اقتراب منه ومنشأ تخلق موجودات من ذرات دقيقة. وتلك حالة إنزال ماء المطر من الأسحبة على الأرض فتنبت الأرض به سنابل حب وشجرا وكلأ، وتلك كلها فيها حياة قريبة من حياة الإنسان والحيوان وهي حياة النماء فيكون ذلك دليلا للناس على تصور حالة البعث بعد الموت بدليل من التقريب الدال على إمكانه حتى تضمحل من نفوس المكابرين شبه إحالة البعث.
وهذا الذي أشير إليه هنا قد صرح به في مواضع من القرآن كقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ، وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ، رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق: 9-11]، ففي الآية استدلالان بإنزال الماء من السحاب، واستدلال بالإنبات، وفي هذا أيضا منة على المعرضين على النظر في دلائل صنع الله التي هي دواع لشكر المنعم بها لما فيها من منافع للناس من رزقهم ورزق أنعامهم، ومن تنعمهم وجمال مرائيهم فإنهم لو شكروا المنعم بها لكانوا عندما يبلغهم عنه أنه يدعوهم إلى النظر في الأدلة مستعدين للنظر، بتوقع أن تكون الدعوة البالغة إليهم صادقة العزو إلى الله فما خفيت عنهم الدلالة.
ومناسبة الانتقال من ذكر السماوات إلى ذكر السحاب والمطر قوية.
والمعصرات: بضم الميم وكسر الصاد السحابات التي تحمل ماء المطر واحدثها معصرة اسم فاعل من: أعصرت السحابة، إذا آن لها أن تعصر، أي تنزل إنزالا شبيها بالعصر. فهمزة "أعصر" تفيد معنى الحينونة وهو استعمال موجود وتسمى همزة التهيئة كما في قولهم: أجز الزرع، إذا حان له أن يجز بزاي في آخره ، وأحصد إذا حان وقت حصاده. ويظهر من كلام صاحب "الكشاف" أن همزة الحينونة تفيد معنى التهيؤ لقبول الفعل وتفيد معنى التهيؤ لإصدار الفعل فإنه ذكر: أعصرت الجارية، أي حان وقت أن تصير تحيض، وذكر ابن قتيبة في "أدب الكاتب": أركب المهر، إذا حان أن يركب، وأقطف الكرم، إذا حان أن يقطف. ثم ذكر: أقطف القوم: حان أن يقطفوا كرومهم، وأنتجت الخيل: حان وقت نتاجها.
وفي تفسير ابن عطية عند قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً} الآية من سورة النور [43]، والعرب تقول: إن الله تعالى إذا جعل السحاب ركاما جاء بالريح عصر بعضه بعضا فيخرج الودق منه، ومن ذلك قوله: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً} ومن

ذلك قول حسان:
كلتاهما حلب العصير فحاطني ... بزجاجة أرخاهما للمفصل
أراد حسان الخمر والماء الذي مزجت به، أي هذه من عصير العنب وهذه من عصير السحاب، فسر هذا التفسير قاضي البصرة عبيد الله بن الحسن العنبري1 للقوم الذين حلف صاحبهم بالطلاق أن يسأل القاضي عن تفسير بيت حسان اه.
والثجاج: المنصب بقوة وهو فعال من ثج القاصر إذا انصب، يقال ثج الماء، إذا انصب بقوة، فهو فعل قاصر. وقد يسند الثج إلى السحاب، يقال: ثج السحاب يثج بضم الثاء، إذا صب الماء، فهو حينئذ فعل متعد.
ووصف الماء هنا بالثجاج للامتنان.
وقد بينت حكمة إنزال المطر من السحاب بأن الله جعله لإنبات النبات من الأرض جمعا بين الامتنان والإيماء إلى دليل تقريب البعث ليحصل إقرارهم بالبعث وشكر الصانع.
وجيء بفعل {لِنُخْرِجَ} دون نحو: لننبت، لأن المقصود الإيماء إلى تصوير كيفية بعث الناس من الأرض إذ ذلك المقصد الأول من هذا الكلام ألا ترى أنه لما كان المقصد الأول من آية سورة "ق" هو الامتنان جيء بفعل {أنبتنا} في قوله: {وَنَزَّلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ} [ق:9] الآية، ثم أتبع ثانيا بالاستدلال به على البعث بقوله: {كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق:11]. والبعث خروج من الأرض قال تعالى: {وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} في سورة طه.
والحب: اسم جمع حبة وهي البرزة. والمراد بالحب هنا: الحب المقتات للناس مثل: الحنطة، والشعير، والسلت، والذرة، والأرز، والقطنية، وهي الحبوب التي هي ثمرة السنابل ونحوها.
والنبات أصله اسم مصدر نبت الزرع، قال تعالى: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنْ الأَرْضِ نَبَاتًا} [نوح:17]. وأطلق النبات على النابت من إطلاق المصدر على الفاعل وأصله المبالغة ثم شاع استعماله فنسيت المبالغة.
ـــــــ
1 ولي قضاء البصرة سنة 158 وعزل سنة 165 وتوفي سنة 168. وهو الذي ينسب إليه القول بأن المجتهد لا يأثم ولو في أصول الدين إذا لم يخرج باجتهاده عن الإسلام.

والمراد به هنا: النبات الذي لا يؤكل حبه بل الذي ينتفع بذاته وهو ما تأكله الأنعام والدواب مثل التبن والقرط والفصفصة والحشيش وغير ذلك.
وجعلت الجنات مفعولا ل"نخرج" على تقدير مضاف، أي نخل جنات أو شجر جنات، لأن الجنات جمع جنة وهي قطعة من الأرض المغروسة نخلا أو نخلا وكرما، أو بجميع الشجر المثمر مثل التين والرمان كما جاء في مواضع من القرآن، وهي استعمالات مختلفة باختلاف المنابت.
ووجه إيثار لفظ {جَنَّاتٍ} أن فيه إيماء إلى إتمام المنة لأنهم كانوا يحبون الجنات والحدائق لما فيها من التنعم بالظلال والثمار والمياه وجمال المنظر، ولذلك أتبعت بوصف {أَلْفَافًا} لأنه يزيدها حسنا، وإن كان الفلاحون عندنا يفضلون التباعد بين الأشجار لأن ذلك أوفر لكمية الثمار لأن تباعدها أسعد لها بتخلل الهواء وشعاع الشمس، لكن مساق الآية هنا الامتنان بما فيه نعيم الناس.
وألفاف: اسم جمع لا واحد له من لفظه وهو مثل أو زاع وأخياف، أي كل جنة ملتفة، أي ملتفة الشجر بعضه ببعض.
فوصف الجنة بألفاف مبني على المجاز العقلي لأن الالتفاف في أشجارها ولكن لما كانت الأشجار لا يلتف بعضها على بعض في الغالب إلا إذا جمعتها جنة أسند ألفاف إلى جنات بطريق الوصف. ولعله من مبتكرات القرآن إذا لم أر شاهدا عليه من كلام العرب قبل القرآن.
وقيل ألفاف جمع لف بكسر اللام بوزن جذع، أي كل جنة منها لف بكسر اللام ولم يأتوا بشاهد عليه. وذكر في "الكشاف" أن صاحب "الإقليد"1 ذكر بيتا أنشده الحسن بن علي الطوسي2 ولم يعزه إلى قائل. وفي "الكشاف" زعم ابن قتيبة3: أنه لفاء ولف ثم ألفاف "أي أن ألفافا جمع الجمع" قال "وما أظنه واجدا له نظيرا" أي لا يجمع
ـــــــ
1 الإقليد اسم تفسير كذا قال القزويني في "الكشف" على "الكشاف" ورأيت في طرة نسخة فيه أن الإقليد لأبي الفتح الهمذاني ولم أعثر على ترجمة مؤلفة.
2 الحسن بن علي الطوسي لعله الوزير الملقب نظام الملك والبيت هو:
جنة لف وعيش مغدق ... وندامى كلهم بيض زهر
3 لعله ذكر ذلك في غير كتاب أدب الكتاب فإني لم أجده فيه.

فعل جمعا على أفعال، أي لا نظير له إذ لا يقال خضر وأخضار وحمر وأحمار. يريد أنه لا يخرج الكلام الفصيح على استعمال لم يثبت ورود نظيره في كلام العرب مع وجود تأويل له على وجه وارد.
فكان أظهر الوجوه أن {أَلْفَافًا} اسم جمع لا واحد له من لفظه.
وبهذا الاستدلال والامتنان ختمت الأدلة التي أقيمت لهم على انفراد الله تعالى بالإلهية وتضمنت الإيماء إلى إمكان البعث وما أدمج فيها من المنن عليهم عساهم أن يذكروا النعمة فيشعروا بواجب شكر المنعم ولا يستفظعوا إبطال الشركاء في الإلهية وينظروا فيما بلغهم عنه من الإخبار بالبعث والجزاء فيصرفوا عقولهم للنظر في دلائل تصديق ذلك.
وقد ابتدئت هذه الدلائل بدلائل خلق الأرض وحالتها وجالت بهم الذكرى على أهم ما على الأرض من الجماد والحيوان، ثم ما في الأفق من أعراض الليل والنهار. ثم تصاعد بهم التجوال بالنظر في خلق السماوات وبخاصة الشمس ثم نزل بهم إلى دلائل السحاب والمطر فنزلوا معه إلى ما يخرج من الأرض من بدائع الصنائع ومنتهى المنافع فإذا هم ينظرون من حيث صدروا وذلك من رد العجز على الصدر.
[17-18] {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً، يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً} .
هذا بيان لما أجمله قوله: {عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ، الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} وهو المقصود من سياق الفاتحة التي افتتحت بها السورة وهيأت للانتقال مناسبة ذكر الإخراج من قوله: {لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً} [النبأ: 15] الخ، لأن ذلك شبه بإخراج أجساد الناس للبعث كما قال تعالى: {فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} إلى قوله: {كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} في سورة ق [9-11].
وهو استئناف بياني أعقب به قوله: {لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً} [النبأ: 15] الآية فيما قصد به من الإيماء إلى دليل البعث.
وأكد الكلام بحرف التأكيد لأن فيه إبطالا لإنكار المشركين وتكذيبهم بيوم الفصل.
ويوم الفصل: يوم البعث للجزاء.
والفصل: التمييز بين الأشياء المختلطة، وشاع إطلاقه على التمييز بين المعاني

المتشابهة والملتبسة فلذلك أطلق على الحكم، وقد يضاف إليه فيقال: فصل القضاء، أي نوع من الفصل لأن القضاء يميز الحق من الظلم.
فالجزاء على الأعمال فصل بين الناس بعضهم من بعض.
وأوثر التعبير عنه بيوم الفصل لإثبات شيئين:
أحدهما: أنه بين ثبوت ما جحدوه من البعث والجزاء وذلك فصل بين الصدق وكذبهم.
وثانيهما: القضاء بين الناس فيما اختلفوا فيه، وما اعتدى به بعضهم على بعض.
وإقحام فعل {كان} لإفادة أن توقيته متأصل في علم الله لما اقتضته حكمته تعالى التي هو أعلم بها وأن استعجالهم به لا يقدمه على ميقاته.
وتقدم {يَوْمُ الْفَصْلِ} غير مرة أخراها في سورة المرسلات [14].
ووصف القرآن بالفصل يأتي في قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ} في سورة الطارق [13].
والميقات: مفعال مشتق من الوقت، والوقت: الزمان المحدد في عمل ما، ولذلك لا يستعمل لفظ وقت إلا مقيدا بإضافة أو نحوها نحو وقت الصلاة.
فالميقات جاء على زنة اسم الآلة وأريد به نفس الوقت المحدد به شيء مثل ميعاد وميلاد، في الخروج عن كونه اسم آلة ألى جعله اسما لنفس ما أشتق منه. والسياق دل على متعلق ميقات، أي كان ميقاتا للبعث والجزاء.
فكونه {مِيقَاتًا} كناية تلويحية عن تحقيق وقوعه إذ التوقيت لا يكون إلا بزمن محقق الوقوع ولو تأخر وأبطأ.
وهذا رد لسؤالهم تعجيله وعن سبب تأخيره، سؤالا يريدون منه الاستهزاء بخبره.
والمعنى: أن ليس تأخر وقوعه دالا على انتفاء حصوله.
والمعنى: ليس تكذيبكم به مما يحملنا على تغيير إبانه المحدد له ولكن الله مستدرجكم مدة.
وفي هذا إنذار لهم بأنه لا يدرى لعله يحصل قريبا قال تعالى: {لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً} [الأعراف:187] وقال {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا} [الإسراء:51].

و {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} بدل من {يَوْمَ الْفَصْلِ} .
وأضيف {يَوْمَ} إلى جملة {يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} فانتصب {يَوْمَ} على الظرفية وفتحته فتحة إعراب لأنه أضيف إلى جملة أولها معرب وهو المضارع.
وفائدة هذا البدل حصول التفصيل لبعض أحوال الفصل وبعض أهوال يوم الفصل.
والصور: البوق. وهو قرن ثور فارغ الوسط مضيق بعض فراغه ويتخذ من الخشب أو من النحاس، ينفخ فيه النافخ فيخرج منه الصوت قويا لنداء الناس إلى الاجتماع، وأكثر ما ينادى به الجيش والجموع المنتشرة لتجتمع إلى عمل يريده الآمر بالنفخ.
وبني {يُنْفَخُ} إلى النائب لعدم تعلق الغرض بمعرفة النافخ وإنما الغرض معرفة هذا الحادث العظيم وصورة حصوله.
والنفخ في الصور يجوز أن يكون تمثيلا لهيئة دعاء الناس وبعثهم إلى الحشر بهيئة جمع الجيش المتفرق لراحة أو تتبع عدو فلا يلبثون أن يتجمعوا عند مقر أميرهم.
ويجوز أن يكون نفخ يحصل به الإحياء لا تعلم صفته فإن أحوال الآخرة ليست على أحوال الدنيا، فيكون النفخ هذا معبرا به عن أمر التكوين الخاص وهو تكوين الأجساد بعد بلاها وبث أرواحها في بقاياها. وقد ورد في الآثار إن الملك الموكل بهذا النفخ هو إسرافيل، وقد تقدم ذكر ذلك غير مرة.
وعطف {تأتون} بالفاء لإفادة تعقيب النفخ بمجيئهم إلى الحساب.
والإتيان: الحضور بالمكان الذي يمشي إليه الماشي فالإتيان هو الحصول.
وحذف ما يحصل بين النفخ في الصور وبين حضورهم لزيادة الإيذان بسرعة حصول الإتيان حتى كأنه يحصل عند النفخ في الصور فتحيون فتسيرون فتأتون.
وأفواجا حال من ضمير {تأتون} ، والأفواج: جمع فوج بفتح الفاء وسكون الواو، والفوج: الجماعة المتصاحبة من أناس مقسمين باختلاف الأغراض، فتكون الأمم أفواجا، ويكون الصالحون وغيرهم أفواجا قال تعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا} [الملك:8] الآية.
والمعنى: فتأتون مقسمين طوائف وجماعات، وهذا التقسيم بحسب الأحوال

كالمؤمنين والكافرين وكل أولئك أقسام ومراتب.
[19] {وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَاباً} .
جملة هي حال من ضمير {تأتون} .
والتقدير: وقد فتحت السماء، أي قد حصل النفخ قبل ذلك أو معه.
ويجوز أن تكون معطوفة على جملة {يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} فيعتبر {يَوْمَ} مضافا إلى هذه الجملة على حد قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} [الفرقان:25]. والتعبير بالفعل الماضي على هذا الوجه لتحقيق وقوع هذا التفتيح حتى كأنه قد مضى وقوعه.
وفتح السماء: انشقاقها بنزول الملائكة من بعض السماوات التي هي مقرهم نزولا يحضرون به لتنفيذ أمر الجزاء كما قال تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلاَئِكَةُ تَنزِيلاً الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَانِ} [الفرقان:26].
وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وأبو جعفر ويعقوب {وَفُتِحَتِ} بتشديد الفوقية، وهو مبالغة في فعل الفتح بكثرة الفتح أو شدته إشارة إلى أنه فتح عظيم لأن شق السماء لا يقدر عليه إلا الله.
وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وخلف بتخفيف الفوقية على أصل الفغل ومجرد تعلق الفتح بالسماء مشعر بأنه فتح شديد.
وفي الفتح عبرة لأن السماوات كانت ملتئمة فإذا فسد التئامها وتخللتها مفاتح كان معه انخرام نظام العالم الفاني قال تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} إلى قوله: {يَاأَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاَقِيهِ} [الإنشقاق: 1-6].
فالتفتح والفتح سواء في المعنى المقصود، وهو تهويل {يَوْمَ الْفَصْلِ} .
وفرع على انفتاح السماء بفاء التعقيب {فَكَانَتْ أَبْوَاباً} ، أي ذات أبواب.
فقوله: {أَبْوَاباً} تشبيه بليغ، أي كالأبواب وحينئذ لا يبقى حاجز بين سكان السماوات وبين الناس كما تقدم في قوله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4].

والأخبار عن السماء بأنها أبواب جرى على طريق المبالغة في الوصف بذات أبواب للدلالة على كثرة المفاتح فيها حتى كأنها هي أبواب وقريب منه قوله تعالى: {وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا} [القمر:12] حيث أسند التفجير إلى لفظ الأرض، وجيء باسم العيون تمييزا، وهذا يناسب معنى قراءة التشديد ويؤكده، ويقيد معنى قراءة التخفيف ويبينه.
و {كَانَتْ} بمعنى: صارت.
ومعنى الصيرورة في معاني "كان" وأخواتها الأربع وهي: ظل، وبات، وأمسى، وأصبح، وقرينة ذلك أنه مفرع على {فُتِحَتِ} ونظيره قوله تعالى: {فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} [الرحمن:37].
والأبواب: جمع باب، وهو الفرجة التي يدخل منها في حائل من سور أو جدار أو حجاب أو خيمة، وتقدم في قوله تعالى: {وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ} في سورة يوسف [23] وقوله: {ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ} في سور العقود [23].
[20] {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً} .
التسيير: جعل الشيء سائرا، أي ماشيا. وأطلق هنا على النقل من المكان، أي نقلت الجبال وقلعت من مقارها بسرعة بزلازل أو نحوها كما دل عليه قوله تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتْ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلاً} [المزمل:14]، حتى كأنها تسير من مكان إلى آخر وهو نقل يصحبه تفتيت كما دل عليه تعقيبه بقوله: {فَكَانَتْ سَرَاباً} لأن ظاهر التعقيب أن لا تكون معه مهلة، أي فكانت كالسراب في أنها لا شيء.
والقول في بناء {سُيِّرَتِ} للمجهول كالقول في {وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ} [النبأ:19].
وكذلك قوله: {فَكَانَتْ سَرَاباً} وهو كقوله: {فَكَانَتْ أَبْوَابًا} [النبأ:19].
والسراب: ما يلوح في الصحاري مما يشبه الماء وليس بماء ولكنه حالة في الجو القريب تنشأ من تراكم أبخرة على سطح الأرض. وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} في سورة النور [39].
[21-23] {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً، لِلْطَّاغِينَ مَآبًا، لاَبِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} .
يجوز أن تكون جملة {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً} في موضع خبر ثان لـ {إنَّ} من

قوله: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا} [النبأ:17] والتقدير: إن يوم الفصل إن جهنم كانت مرصادا فيه للطاغين، والعائد محذوف دل عليه قوله: {مِرْصَاداً} أي مرصادا فيه، أي في ذلك اليوم لأن معنى المرصاد مقترب من معنى الميقات إذ كلاهما محدد لجزاء الطاغين.
ودخول حرف "إن" في خبر "إن" يفيد تأكيدا على التأكيد الذي أفاده حرف التأكيد الداخل على قوله: {يَوْمَ الْفَصْلِ} على حد قول جرير:
إن الخليفة إن الله سربله ... سربال ملك به تزجى الخواتيم
ومنه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} كما تقدم في سورة الحج [17]. وتكون الجملة من تمام ما خوطبوا به بقوله: {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا} [النبأ:18].
والتعبير ب"الطاغين" إظهار في مقام الإضمار للتسجيل عليهم بوصف الطغيان لأن مقتضى الظاهر أن يقول "لكم مئابا".
ويجوز أن تكون مستأنفة أستئنافا بيانيا عن جملة {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا} [النبأ:17] وما لحق بها لأن ذلك مما يثير في نفوس السامعين تطلب ماذا سيكون بعد تلك الأهوال فأجيب بمضمون {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً} الآية. وعليه فليس في قوله: {لِلْطَّاغِينَ} تخريج على خلاف مقتضى الظاهر.
وابتدئ بذكر جهنم لأن المقام مقام تهديد إذ ابتدئت السورة بذكر تكذيب المشركين بالبعث ولما سنذكره من ترتيب نظم هذه الجمل.
وجهنم: اسم لدار العذاب في الآخرة. قيل وهو اسم معرب فلعله معرب عن العبرانية أو عن لغة أخرى سامية، وقد تقدم عند قوله تعالى: {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} في سورة البقرة [206].
والمرصاد: مكان الرصد، أي الرقابة، وهو بوزن مفعال الذي غلب في اسم آلة الفعل مثل مضمار للموضع الذي تضمر فيه الخيل، ومنهاج للموضع الذي ينهج منه.
والمعنى: أن جهنم موضع يرصد منه الموكلون بها، ويترقبون من يزجي إليها من أهل الطغيان كما يترقب أهل المرصاد من يأتيه من عدو.

ويجوز أن يكون مرصاد مصدرا على وزن المفعال، أي رصدا. والإخبار به عن جهنم للمبالغة حتى كأنها أصل الرصد، أي لا تفلت أحدا ممن حق عليهم دخولها.
ويجوز أن يكون مرصاد زنة مبالغة للراصد الشديد الرصد مثل صفة مغيار ومعطار، وصفت به جهنم على طريقة الاستعارة ولم تلحقه "ها" التأنيث لأن جهنم شبهت بالواحد من الرصد بتحريك الصاد، وهو الواحد من الحرس الذي يقف بالمرصد إذ لا يكون الحارس إلا رجلا.
ومتعلق {مِرْصَاداً} محذوف دل عليه قوله: {لِلْطَّاغِينَ مَآبًا} .
والتقدير: مرصادا للطاغين، وهذا أحسن لأن قرائن السورة قصار فيحسن الوقف عند {مِرْصَاداً} لتكون قرينة.
ولك أن تجعل للطاغين متعلقا ب {مِرْصَاداً} وتجعل متعلق {مَآبًا} مقدرا دل عليه {لِلْطَّاغِينَ} فيكون كالتضمين في الشعر إذ كانت بقية لما في القرينة الأولى في القرينة الموالية فتكون القرينة طويلة.
ولو شئت أن تجعل للطاغين متنازعا فيه بين {مِرْصَاداً} أو {مَآبًا} فلا مانع من ذلك معنى.
وأقحم {كَانَتْ} دون أن يقال: إن جهنم مرصاد للدلالة على أن جعلها مرصادا أمر مقدر لها كما تقدم في قوله: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا} [النبأ:17]. وفيه إيماء إلى سعة علم الله تعالى حيث أعد في أزله عقابا للطاغين.
و {مَآبًا} : مكان الأوب وهو الرجوع، أطلق على المقر والمسكن إطلاقا أصله كناية ثم شاع استعماله فصار اسما للموضع الذي يستقر به المرء.
ونصب {مَآبًا} على الحال من {جَهَنَّمُ} أو على أنه خبر ثان لفعل {كَانَتْ} أو على أنه بدل اشتمال من {مِرْصَاداً} لأن الرصد يشتمل على أشياء مقصودة منها أن يكونوا صائرين إلى جهنم.
و {لِلْطَّاغِينَ} متعلق ب {مَآبًا} قدم عليه لإدخال الروع على المشركين الذين بشركهم طغوا على الله، وهذا أحسن كما علمت آنفا. ولك أن تجعله متعلقا ب {مِرْصَاداً} أو متنازعا فيه بين {مِرْصَاداً} أو متنازعا فيه بين {مِرْصَاداً} و {مَآبًا} كما علمت آنفا.

والطغيان: تجاوز الحد في عدم الاكتراث بحق الغير والكبر، والتعريف فيه للعهد فالمراد به المشركون المخاطبون بقوله: {فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا} [النبأ:18]. فهو إظهار في مقام الإضمار لقصد الإيماء إلى سبب جعل جهنم لهم لأن الشرك أقصى الطغيان إذ المشركون بالله أعرضوا عن عبادته ومتكبرون على رسوله صلى الله عليه وسلم حيث أنفوا من قبول دعوته وهم المقصود من معظم ما في هذه السورة كما يصرح به قوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا لاَ يَرْجُونَ حِسَابًا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا} [النبأ:27-28]. هذا وأن المسلمين المستخفين بحقوق الله، أو المعتدين على الناس بغير حق، واحتقارا لا لمجرد غلبة الشهوة لهم حظ من هذا الوعيد بمقدار اقترابهم من حال أهل الكفر.
واللابث: المقيم بالمكان. وانتصب {لاَبِثِينَ} على الحال من الطاغين.
وقرأه الجمهور {لاَبِثِينَ} على صيغة جمع لابث. وقرأه حمزة وروح عن يعقوب {لبثين} على صيغة جمع "لبث" من أمثلة المبالغة مثل حذر على خلاف فيه، أو من الصفة المشبهة فتقتضي أن اللبث شأنه كالذي يجثم في مكان لا ينفك عنه.
وأحقاب: جمع حقب بضمتين، وهو زمن طويل نحو الثمانين سنة، وتقدم في قوله: {أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً} في سورة الكهف [60].
وجمعه هنا مراد به الطول العظيم لأن أكثر استعمال الحقب والأحقاب أن يكون في حيث يراد توالي الأزمان ويبين هذا الآيات الأخرى الدالة على خلود المشركين، فجاءت هذه الآية على المعروف الشائع في الكلام كناية به عن الدوام دون انتهاء.
وليس فيه دلالة على أن لهذا اللبث نهاية حتى يحتاج إلى دعوى نسخ ذلك بآيات الخلود وهو وهم لأن الأخبار لا تنسخ، أو يحتاج إلى جعل الآية لعصاة المؤمنين، فإن ذلك ليس من شأن القرآن المكي الأول إذ قد كان المؤمنون أيامئذ صالحين مخلصين مجدين في أعمالهم.
[24-26] {لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلا شَرَاباً، إِلاَّ حَمِيمًا وَغَسَّاقًا، جَزَاءً وِفَاقًا} .
هذه الجملة يجوز أن تكون حالا ثانية من {الْطَّاغِينَ} [النبأ:22] أو حالا أولى من الضمير في {لاَبِثِينَ} [النبأ:23] ، وأن تكون خبرا ثالثا ل {كَانَتْ مِرْصَادًا} [النبأ:21].

وضمير {فيها} على هذه الوجود عائد إلى {جَهَنَّمَ} [النبأ:21].
ويجوز أن تكون صفة ل {أَحْقَابًا} [النبأ:23]، أي لا يذوقون في تلك الأحقاب بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا. فضمير {فيها} على هذا الوجه عائد إلى الأحقاب.
وحقيقة الذوق: إدراك طعم الطعام والشراب. ويطلق على الإحساس بغير الطعوم مجازيا. وشاع في كلامهم، يقال: ذاق الألم، وعلى وجدان النفس كقوله تعالى: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} [المائدة:95]. وقد أستعمل هنا في معنييه حيث نصب {بَرْداً} و {شَرَاباً} .
والبرد: ضد الحر، وهو تنفيس للذين عذابهم الحر، أي لا يغاثون بنسيم بارد، والبرد ألذ ما يطلبه المحرور. وعن مجاهد والسدي وأبي عبيدة ونفر قليل تفسير البرد بالنوم وأنشدوا شاهدين غير واضحين، وأيا ما كان فحمل الآية عليه تكلف لا داعي إليه، وعطف {وَلا شَرَاباً} يناكده. والشراب: ما يشرب والمراد به الماء الذي يزيل العطش. والحميم: الماء الشديد الحرارة.
والغساق: قرأه الجمهور بتخفيف السين. وقرأه حمزة والكسائي وحفص بتشديد السين وهما لغتان فيه. ومعناه الصديد الذي يسيل من جروح الحرق وهو المهل، وتقدما في سورة "ص".
واستثناء {حَمِيمًا وَغَسَّاقًا} من {بَرْداً} أو {شَرَاباً} على طريقة اللف والنشر المرتب، وهو استثناء منقطع لأن الحميم ليس من جنس البرد في شيء إذ هو شديد الحر. ولأن الغساق ليس من جنس الشراب، إذ ليس المهل من جنس الشراب.
والمعنى: يذوقون الحميم إذ يراق على أجسادهم، والغساق إذ يسيل على مواضع الحرق فيزيد ألمهم.
وصورة الاستثناء هنا من تأكيد الشيء بما يشبه ضده في الصورة.
و {جَزَاءً } منصوب على الحال من ضمير {يَذُوقُونَ} ، أي حالة كون ذلك جزاء، أي مجازي به، فالحال هنا مصدر مؤول بمعنى الوصف وهو أبلغ من الوصف.
و {الوفاق} مصدر وافق وهو مؤول بالوصف، أي موافقا للعمل الذي جوزوا عليه، وهو التكذيب بالبعث وتكذيب القرآن كما دل عليه التعليل بعده بقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا لاَ

يَرْجُونَ حِسَابًا، وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا} [النبأ:27-28].
فإن ذلك أصل إصرارهم على الكفر، وهما أصلان: أحدهما عدمي وهو إنكار البعث، والآخر وجودي وهو نسبتهم الرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن للكذب، فعوقبوا على الأصل العدمي بعقاب عدمي وهو حرمانهم من البرد والشراب، وعلى الأصل الوجودي بجزاء وجودي وهو الحميم يراق على أجسادهم والغساق يمر على جراحهم.
[27-28] {إِنَّهُمْ كَانُوا لاَ يَرْجُونَ حِسَابًا، وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا} .
موقع هذه الجملة موقع التعليل لجملة {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً} إلى قوله: {جَزَاءً وِفَاقًا} [النبأ:21-26]، ولذلك فصلت.
وضمير {إنهم} عائد إلى {الْطَّاغِينَ} [النبأ:22].
وحرف "أن" للاهتمام بالخبر وليست لرد الإنكار إذ ل ينكر أحد أنهم لا يرجون حسابا وأنهم مكذبون بالقرآن، وشأن "إن" إذا قصد بها مجرد الاهتمام أن تكون قائمة مقام فاء التفريع مفيدة للتعليل، وتقدم ذلك عند قوله تعالى: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة:32] وقوله: {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} في سورة البقرة [70] فالجملة معترضة بين ما قبلها وبين جملة {فَذُوقُوا} [النبأ:30].
وقد علمت مناسبة جزاءهم لجرمهم عند قوله آنفا {جَزَاءً وِفَاقًا} [النبأ:26] مما يزيد وجه التعليل وضوحا.
وقوله: {لاَ يَرْجُونَ حِسَابًا} نفي لرجائهم وقوع الجزاء.
والرجاء أشتهر في ترقب الأمر المحبوب، والحساب ليس خيرا لهم حتى يجعل نفي ترقبه من قبيل نفي الرجاء فكان الظاهر أن يعبر عن ترقبه بمادة التوقع الذي هو ترقب الأمر المكروه، فيظهر أن وجه العدول عن التعبير بمادة التوقع إلى التعبير بمادة الرجاء أن الله لما أخبر عن جزاء الطاغين وعذابهم تلقى المسلمون ذلك بالمسرة وعلموا أنهم ناجون مما سيلقاه الطاغون فكانوا مترقبين يوم الحساب ترقب رجاء، فنفي رجاء يوم الحساب عن المشركين جامع بصريحه معنى عدم إيمانهم بوقوعه، وبكنايته رجاء المؤمنين وقوعه بطريقة الكناية التعريضية تعريضا بالمسلمين وهي أيضا تلويحية لما في لازم مدلول الكلام من الخفاء.

ومن المفسرين من فسر {يَرْجُونَ} بمعنى: يخافون، وهو تفسير بحاصل المعنى، وليس تفسيرا للفظ.
وفعل {كَانُوا} دال على أن انتفاء رجائهم الحساب وصف متمكن من نفوسهم وهم كائنون عليه، وليس المراد بفعل {كَانُوا} أنهم كانوا كذلك فانقضى لأن هذه الجملة إخبار عنهم في حين نزول الآية وهم في الدنيا وليست مما يقال لهم أو عنهم يوم القيامة.
وجيء بفعل {يَرْجُونَ} مضارعا للدلالة على استمرار انتفاء ما عبر عنه بالرجاء، وذلك لأنهم كلما أعيد لهم ذكر يوم الحساب جددوا إنكاره وكرروا شبهاتهم على نفي إمكانه لأنهم قالوا {إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية:32].
والحساب: العد، أي عد الأعمال والتوقيف على جزائها، أي لا يرجون وقوع حساب على أعمال العباد يوم الحشر.
و {كَذَّبُوا} عطف على {لاَ يَرْجُونَ} ، أي وإنهم كذبوا بآياتنا، أي بآيات القرآن.
والمعنى: كذبوا ما اشتملت عليه الآيات من إثبات الوحدانية ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
ولكون تكذيبهم بذلك قد استقر في نفوسهم ولم يترددوا فيه جيء في جانبه بالفعل الماضي لأنهم قالوا {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت:5].
وكذاب: بكسر الكاف وتشديد الذال مصدر كذب. والفعال بكسر أوله وتشديد عينه فعل مثل التفعيل، ونظائره: القصار مصدر قصر، والقضاء مصدر قضى، والخراق مصدر خرق المضاعف، والفسار مصدر فسر. وعن الفراء أن أصل هذا المصدر من اللغة اليمنية، يريد: وتكلم به العرب، فقد أنشدوا لبعض بني كلاب:
لقد طال ما ثبطتني عن صحابتي ... وعن حوج قضاؤها من شفائيا
وأوثر هذا المصدر هنا دون التكذيب لمراعاة التماثل في فواصل هذه السورة، فإنها على نحو ألف التأسيس في القوافي، والفواصل كالأسجاع ويحسن في الأسجاع ما يحسن في القوافي.
وفي الكشاف: وفعال فعل كله فاش في كلام فصحاء من العرب لا يقولون غيره.
وأنتصب {كِذَّابًا} على أنه مفعول مطلق مؤكد لعامله لإفادة شدة تكذيبهم بالآيات.

[29] {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً} .
اعتراض بين الجمل التي سيقت مساق التعليل وبين جملة {فَذُوقُوا} [النبأ:30]. وفائدة هذا الاعتراض المبادة بإعلامهم أن الله لا يخفى عليه شيء من أعمالهم فلا يدع شيئا من سيئاتهم إلا يحاسبهم عليه ما ذكر هنا وما لم يذكر؛ كأنه قيل : إنهم كانوا لا يرجون حسابا وكذبوا بآياتنا، وفعلوا مما عدا ذلك وكل ذلك محصي عندنا.
ونصب {كل} على المفعولية لـ {أَحْصَيْنَاهُ} على طريقة الاشتغال بضميره.
والإحصاء: حساب الأشياء لضبط عددها، فالإحصاء كناية عن الضبط والتحصيل.
وانتصب {كِتَاباً} على المفعولية المطلقة لـ {أَحْصَيْنَاهُ} . والتقدير: إحصاء كتابة، فهو مصدر بمعنى الكتابة، وهو كناية عن شدة الضبط لأن الأمور المكتوبة مصونة عن النسيان والإغفال، فباعتبار كونه كناية عن الضبط جاء مفعولا مطلقا لـ"أحصينا".
[30] {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَاباً} .
الفاء للتفريغ والتسبب على جملة {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا} [النبأ:21] وما أتصل بها، ولما غير أسلوب الخبر إلى الخطاب بعد أن كان جاريا بطريق الغيبة، ولم يكن مضمون الخبر مما يجري في الدنيا فيظن أنه خطاب تهديد للمشركين تعين أن يكون المفرع قولا محذوفا دل عليه فعل {ذوقوا} الذي لا يقال إلا يوم الجزاء، فالتقدير: فيقال لهم ذوقوا إلى آخره، ولهذا فليس في ضمير الخطاب التفات فالمفرع بالفاء هو فعل القول المحذوف.
والأمر في "ذوقوا" مستعمل في التوبيخ والتقريع.
وفرع على {فَذُوقُوا} ما يزيد تنكيدهم وتحسيرهم بإعلامهم بأن الله سيزيدهم عذابا فوق ما هم فيه.
والزيادة: ضم شيء إلى غيره من جنس واحد أو غرض واحد، قال تعالى: {فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} [التوبة:125] وقال: {وَلاَ تَزِدْ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَارًا} [نوح:28]، أي لا تزدهم على ما هم فيه من المساوي إلا الإهلاك.
فالزيادة المنفية في قوله: {فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَاباً} يجوز أن تكون زيادة نوع آخر من

عذاب يكون حاصلا لهم كما في قوله تعالى: {زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ} [النحل:88].
ويجوز أن تكون زيادة من نوع ما هم فيه من العذاب بتكريره في المستقبل.
والمعنى: فسنزيدكم عذابا زيادة مستمرة في أزمنة المستقبل، فصيغ التعبير عن هذا المعنى بهذا التركيب الدقيق، إذ أبتدئ بنفي الزيادة بحرف تأبيد النفي وأردف الاستثناء المقتضي ثبوت نقيض حكم المستثنى منه للمستثنى فصارت دلالة الاستثناء على معنى: سنزيدكم عذابا مؤبدا. وهذا من تأكيد الشيء بما يشبه ضده وهو أسلوب طريف من التأكيد إذ ليس فيه إعادة لفظ فإن زيادة العذاب تأكيد للعذاب الحاصل.
ولما كان المقصود الوعيد بزيادة العذاب في المستقبل جيء في أسلوب نفيه بحرف نفي المستقبل، وهو"لن" المفيد تأكيد النسبة المنفية وهي ما دل عليه مجموع النفي والاستثناء، فإن قيد تأبيد نفي الزيادة الذي يفيده حرف "لن" في جانب المستثنى منه يسري إلى إثبات زيادة العذاب في جانب المستثنى، فيكون معنى جملة الاستثناء: سنزيدكم عذابا أبدا، وهو معنى الخلود في العذاب. وفي هذا الأسلوب ابتداء مطمع بانتهاء مؤيس وذلك أشد حزنا وغما بما يوهمهم أن ما ألقوا فيه هو منتهى التعذيب حتى إذا ولج ذلك أسماعهم فحزنوا له أتبع بأنهم ينتظرهم عذاب آخر أشد، فكان ذلك حزنا فوق حزن، فهذا منوال هذا النظم وهو مؤذن بشدة الغضب.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص وأبي برزة الأسلمي وأبي هريرة: أن هذه الآية أشد ما نزل في أهل النار، وقد أسند هذا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عن أبي برزة الأسلمي. سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أشد آية في كتاب الله على أهل النار? فقال: "قول الله تعالى {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَاباً} " . وفي سنده جسر بن فرقد وهو ضعيف جدا.
وفي ابن عطية: أن أبا هريرة رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر أبن عطية سنده، وتعدد طرقه يكسبه قوة.
[31-36] {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً، حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً، وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً، وَكَأْساً دِهَاقاً، لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا كِذَّاباً، جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَاباً} .
جرى هذا الانتقال على عادة القرآن في تعقيب الإنذار للمنذرين بتبشير من هم أهل للتبشير.

فانتقل من ترهيب الكافرين بما سيلاقونه إلى ترغيب المتقين فيما أعد لهم في الآخرة من كرامة ومن سلامة مما وقع فيه أهل الشرك.
فالجملة متصلة بجملة {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا، لِلْطَّاغِينَ مَآبًا} [النبأ:21-22] وهي مستأنفة استئنافا ابتدائيا مقتضى الانتقال.
وافتتاحها بحرف "إن" للدلالة على الاهتمام بالخبر لئلا يشك فيه أحد.
والمقصود من المتقين المؤمنون الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم واتبعوا ما أمرهم به واجتنبوا ما نهاهم عنه لأنهم المقصود من مقابلتهم بالطاغين المشركين.
والمفاز: مكان الفوز وهو الظفر بالخير ونيل المطلوب. ويجوز أن يكون مصدرا ميميا بمعنى الفوز، وتنوينه للتعظيم.
وتقديم خبر "إن" على اسمها للاهتمام به تنويها للمتقين.
والمراد بالمفاز: الجنة ونعيمها. وأوثرت كلمة {مَفَازًا} على كلمة: الجنة، لأن اشتقاقه إثارة الندامة في نفوس المخاطبين بقوله: {فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا} [النبأ:18] وبقوله: {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَابًا} [النبأ:30].
وأبدل {حَدَائِقَ} من {مَفَازًا} بدل بعض من كل باعتبار أنه بعض من مكان الفوز، أو بدل اشتمال باعتبار معنى الفوز.
والحدائق: جمع حديقة وهي الجنة من النخيل والأشجار ذوات الساق المحوطة بحائط أو جدار أو حضائر.
والأعناب: جمع عنب وهو اسم يطلق على شجرة الكرم ويطلق على ثمرها.
والكواكب: جمع كاعب، وهي الجارية التي بلغت سن خمس عشرة سنة ونحوها. ووصفت بكاعب لأنها تكعب ثديها، أي صار كالكعب، أي استدار ونتأ، يقال: كعب بتشديد العين. ولما كان كاعب وصفا خاصا بالمرأة لم تلحقه هاء التأنيث وجمع على فواعل.
والأتراب: جمع ترب بكسر فسكون: وهو المساوي غيره في السن، وأكثر ما يطلق على الإناث. قيل هو مشتق من التراب فقيل لأنه حين يولد يقع على التراب مثل الآخر، أو لأن الترب ينشأ مع لدته في سن الصبا يلعب بالتراب.

وقيل مشتق من الترائب تشبيها في التساوي بالترائب وهي ضلوع الصدر فإنها متساوية.
وتقدم الأتراب في قوله تعالى: {عُرُبًا أَتْرَابًا} في الواقعة [37]، فيجوز أن يكون وصفهم بالأتراب بالنسبة بينهن في تساوي السن لزيادة الحسن، أي لا تفوت واحدة منهن غيرها، أي فلا تكون النفس إلى إحداهن أميل منها إلى الأخرى فتكون بعضهن أقل مسرة في نفس الرجل.
ويجوز أن يكون هذا الوصف بالنسبة بينهن وبين أزواجهن لأن ذلك أحب إلى الرجال في معتاد أهل الدنيا لأنه أوفق بطرح التكلف بين الزوجين وذلك أحلى المعاشرة.
والكأس: إناء معد لشرب الخمر وهو اسم مؤنث تكون من زجاج ومن فضة ومن ذهب، وربما ذكر في كتب اللغة أن الكأس الزجاجة فيها الشراب، ولم أقف على أن لها شكلا معينا يميزها عن القدح وعن الكوب وعن الكوز، ولم أجد في قواميس اللغة التعريف بالكأس بأنها: إناء الخمر وأنها الإناء ما دام فيه الشراب. وهذا يقتضي أنها لا تختص بصنف من الآنية.
وقد يطلقون على الخمر اسم الكأس وأريد بالكأس الجنس إذ المعنى وأكؤسا. وعدل عن صيفة الجمع لأن كأسا بالإفراد أخف من أكؤس وكؤوس ولأن هذا المركب جرى مجرى المثل كما سيأتي.
ودهاق: اسم مصدر دهق من باب جعل، أو اسم مصدر أدهق، ولكونه في الأصل مصدرا لم يقترن بعلامة تأنيث.
والدهق والإدهاق ملء الإناء من كثرة ما صب فيه.
ووصف الكأس بالدهق من إطلاق المصدر على المفعول كالخلق بمعنى المخلوق فإن الكأس مدهقة لا داهقة.
ومركب "كأس دهاق" يجري مجرى المثل قال عكرمة: قال ابن عباس: سمعت أبي في الجاهلية يقول: اسقنا كأسا دهاقا، ولذلك أفرد "كأسا"، ومعناه مملوءة خمرا، أي دون تقتير لأن الخمر كانت عزيزة فلا يكيل الحانوي للشارب إلا بمقدار فإذا كانت الكأس ملأى كان ذلك أسر للشارب.

وقوله: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا كِذَّاباً} يجوز أن يكون الضمير المجرور عائدا إلى الكأس، فتكون "في" للظرفية المجازية بتشبيه تناول الندامى للشراب من الكأس بحلولهم في الكأس على طريق المكنية، وحف "في" تخييل أو تكون "في" للتعليل كما في الحديث "دخلت أمرأة النار في هرة" الحديث، أي من أجل هرة. والمعنى: لا يسمعون لغوا ولا كذابا منها أو عندها، فتكون الجملة صفة ثانية ل"كأسا". والمقصود منها أن خمر الجنة سليمة مما تسببه خمر الدنيا من آثار العربدة من هذيان، وكذب وسباب، واللغو والكذب من العيوب التي تعرض لمن تدب الخمر في رؤوسهم، أي فأهل الجنة ينعمون بلذة السكر المعروفة في الدنيا قبل تحريم الخمر ولا تأتي الخمر على كمالاتهم النفسية كما تأتي عليها خمر الدنيا.
وكان العرب يمدحون من يمسك نفسه عن اللغو ونحوه في شرب الخمر، قال عمارة بن الوليد:
ولسنا بشرب أم عمرو إذا انتشوا ... ثياب الندامى بينهم كالغنائم
ولكننا يا أم عمرو نديمنا ... بمنزلة الريان ليس بعائم
وكان قيس بن عاصم المنقري ممن حرم الخمر على نفسه في الجاهلية وقال:
فإن الخمر تفضح شاربيها ... وتجنيهم بها الأمر العظيما
ويجوز أن يعود ضمير {فيها} إلى {مَفَازًا} باعتبار تأويله بالجنة لوقوعه في مقابلة {جَهَنَّمَ} من قوله: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا} [النبأ:21] أو لأنه أبدل {حَدَائِقَ} من {مَفَازًا} . وهذا المعنى نشأ عن أسلوب نظم الكلام حيث قدم {حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً} الخ، وأخر {وَكَأْساً دِهَاقاً} حتى إذا جاء ضمير فيها بعد ذلك جاز إرجاعه إلى الكأس وإلى المفاز كما علمت. وهذا من بديع الإيجاز مع وفرة المعاني مما عددناه من وجوه الإعجاز من جانب الأسلوب في المقدمة العاشرة من هذا التفسير، أي لا يسمعون في الجنة الكلام السافل ولا الكذب. فلما أحاط بأهل جهنم أشد الأذى بجميع حواسهم من جراء حرق النار وسقيهم الحميم والغساق لينال العذاب بواطنهم كما نال ظاهر أجسادهم، كذلك نفى عن أهل الجنة أقل الأذى وهو أذى سماع ما يكرهه الناس فإن ذلك أقل الأذى.
وكني عن انتفاء اللغو والكذاب عن شاربي خمر الجنة بأنهم لا يسمعون اللغو والكذاب فيها لأنه لو كان فيها لغو وكذب لسمعوه وهذا من باب قول امرئ القيس:

على لاحب لا يهتدي بمناره
أي لا منار فيه فيهتدى به، وهو نوع من لطيف الكناية، والذي في الآية أحسن مما وقع في بيت امرئ القيس ونحوه لأن فيه إيماء إلى أن أهل الجنة منزهة أسماعهم عن سقط القول وسفل الكلام كما في قوله في سورة الواقعة [25] {لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلاَ تَأْثِيمًا} .
واللغو: الكلام الباطل والهذيان وسقط القول الذي لا يورد عن روية ولا تفكير.
والكذاب: تقدم معناه آنفا.
وقرأ الجمهور {كِذَّابًا} هنا مشددا. وقرأه الكسائي هنا بتخفيف الذال. وانتصب {جَزَاءً} على الحال من {مَفَازًا} .
وأصل الجزاء مصدر جزى، ويطلق على المجازي به من إطلاق المصدر على المفعول، فالجزاء هنا المجازى به وهو الحدائق والجنات والكواعب والكأس.
والجزاء: إعطاء شيء عوضا على عمل. ويجوز أن يجعل الجزاء على أصل معناه المصدري وينتصب على المفعول المطلق الآتي بدلا من فعل مقدر. والتقدير: جزينا المتقين.
وإضافة رب إلى ضمير المخاطب مراد به النبي صلى الله عليه وسلم للإيماء إلى أن جزاء المتقين بذلك يشتمل على إكرام النبي صلى الله عليه وسلم لأن إسداء هذه النعم إلى المتقين كان لأجل أيمانهم به وعملهم بما هداهم إليه.
و"من" ابتدائية، أي صادرا من لدن الله، وذلك تنويه بكرم هذا الجزاء وعظم شأنه.
ووصف الجزاء بعطاء وهو أسم لما يعطى، أي يتفضل به بدون عوض للإشارة إلى أن ما جوزوا به أوفر مما عملوه، فكان ما ذكر للمتقين من المفاز وما فيه جزاء شكرا لهم وعطاء كرما من الله تعالى وكرامة لهذه الأمة إذ جعل ثوابها أضعافا.
و {حِسَاباً} : اسم مصدر حسب بفتح السين يحسب بضمنها، إذا عد أشياء وجميع ما تصرف من مادة حسب متفرع عن معنى العد وتقدير المقدار، فوقع {حِسَاباً} صفة {جَزَاءً} ، أي هو جزاء كثير مقدر على أعمالهم.

والتنوين فيه للتكثير، والوصف باسم المصدر للمبالغة وهو بمعنى المفعول، أي محسوبا مقدرا بحسب أعمالهم، وهذا مقابل ما وقع في جزاء الطاغين من قوله: {جَزَاءً وِفَاقًا} [النبأ:26].
وهذا الحساب مجمل هنا يبينه قوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام:160] وقوله: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} [البقرة:261].
وليس هذا الحساب للاحتراز عن تجاوز الحد المعين، فلذلك استعمال آخر كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10] ولكل آية مقامها الذي يجري عليه استعمال كلماتها فلا تعارض بين الآيتين.
ويجوز أن يكون {حِسَاباً} اسم مصدر أحسبه، إذا أعطاه ما كفاه، فهو بمعنى إحسابا، فإن الكفاية يطلق عليها حسب بسكون السين فإنه إذا أعطاه ما كفاه قال: حسبي.
[37] {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً} .
{رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ} .
قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر برفع {رب} ورفع {الرحمن} ، وقرأ ابن عامر وعاصم ويعقوب بخفضهما، وقرأه حمزة والكسائي وخلف بخفض {رب} ورفع {الرحمن} ، فأما قراءة رفع الاسمين ف {رب} خبر مبتدأ محذوف وهو ضمير يعود على قوله: {مِنْ رَبِّكَ} [النبأ:36] على طريقة حذف المسد إليه حذفا سماه السكاكي حذفا لاتباع الاستعمال الوارد على تركه، أي في المقام الذي يجري استعمال البلغاء فيه على حذف المسند إليه، وذلك إذا جرى في الكلام وصف ونحوه لموصوف ثم ورد ما يصلح أن يكون خبرا عنه أو أن يكون نعتا له فيختار المتكلم أن يجعله خبرا لا نعتا، فيقدر ضمير المنعوت ويأتي بخبر عنه وهو ما يسمى بالنعت المقطوع.
والمعنى: إن ربك هو ربهم لأنه رب السماوات والأرض وما بينهما ولكن المشركين عبدوا غيره جهلا وكفرا لنعمته. و {الرحمن} خبر ثان.
وأما قراءة جر الاسمين فهي جارية على أن {رَبِّ السَّمَاوَاتِ} نعت لـ {رَبِّكَ} من قوله: {جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ} [النبأ:36] و {الرَّحْمَنِ} نعت ثان.

والرب: المالك المتصرف بالتدبير ورعي الرفق والرحمة، والمراد بالسماوات والأرض وما بينهما مسماها مع ما فيها من الموجودات لأن اسم المكان قد يراد به ساكنه كما في قوله تعالى: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} في سورة الحج [45]، فأن الظلم من صفات سكان القرية لا صفة لذاتها، والخواء على عروشها من أحوال ذات القرية لا من أحوال سكانها، فكان إطلاق القرية مرادا به كلا المعنيين.
والمراد بما بين السماوات والأرض: ما على الأرض من كائنات وما في السماوات من الملائكة وما لا يعلمه بالتفصيل إلا الله وما في الجو من المكونات حية وغيرها من أسحبة وأمطار وموجودات سابحة في الهواء.
و {ما} موصولة وهي من صيغ العموم، وقد استفيد من ذلك تعميم ربوبيته على جميع المصنوعات.
وأتبع وصف {رَبِّ السَّمَاوَاتِ} بذكر اسم من أسمائه الحسنى وهو اسم {الرَّحْمَنِ} وخص بالذكر دون غيره من الأسماء الحسنى لأن في معناه إيماء إلى أن ما يفيضه من خير على المتقين في الجنة هو عطاء رحمان بهم.
وفي ذكر هذه الصفة الجليلة تعريض بالمشركين إذ أنكروا اسم الرحمن الوارد في القرآن كما حكى الله عنهم بقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَانِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَانُ} [الفرقان:60].
[37] {لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً} .
يجوز أن تكون هذه الجملة حالا من {مَا بَيْنَهُمَا} لأن ما بين السماوات والأرض يشمل ما في ذلك من المخلوقات العاقلة ، أو المزعوم لها العقل مثل الأصنام، فيتوهم أن من تلك المخلوقات من يستطيع خطاب الله ومراجعته.
ويجوز أن تكون استئنافا ابتدائيا لإبطال مزاعم المشركين أو للاحتراس لدفع توهم أن ما تشعر به صلة رب من الرفق بالمربوبين في تدبير شؤونهم يسيغ إقدامهم على خطاب الرب.
والملك في قوله: {لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا} معناه القدرة والاستطاعة لأن المالك يتصرف فيما يملكه حسب رغبته لا رغبة غيره فلا يحتاج إلى إذن غيره.

فنفي الملك نفي الاستطاعة.
وقوله: {منه} حال من {خِطَابًا} . وأصله صفة لخطاب فلما تقدم على موصوفه صار حالا.
وحرف "من" اتصالية وهي ضرب من الابتدائية مجازية كقوله تعالى: {إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ ِلأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [الممتحنة:4]، فـ"من" الأولى اتصالية والثانية لتوكيد النص. ومنه قولهم: لست منك ولست مني وقوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} [آل عمران:28] ، أي لا يستطيعون خطابا يبلغونه إلى الله.
وضمير {لا يَمْلِكُونَ} عائد إلى {ما} الموصولة في قوله: {مَا بَيْنَهُمَا} لأنها صادقة على جميعهم.
والخطاب: الكلام الموجه لحاضر لدى المتكلم أو كالحاضر المتضمن إخبارا أو طلبا أو إنشاء مدح أو ذم.
وفعل {يَمْلِكُونَ} يعم لوقوعه في سياق النفي كما تعم النكرة المنفية. و {خِطَاباً} عام أيضا وكلاهما من العام المخصوص بمخصص منفصل كقوله عقب هذه الآية {لاَ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَانُ وَقَالَ صَوَابًا} [النبأ:38] وقوله: {يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [هود:105] وقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] وقوله: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى} [الأنبياء:28].
والغرض من ذكر هذا إبطال اعتذار المشركين حين استشعروا شناعة عبادتهم الأصنام التي شهر القرآن بها فقالوا {هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس:18]، وقالوا {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3].
[38] {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلاَئِكَةُ صَفًّا لاَ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَانُ وَقَالَ صَوَابًا} .
{يوم} متعلق بقوله: {لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً} ، أي لا يتكلم أحد يومئذ إلا من أذن له الله.
وجملة {لاَ يَتَكَلَّمُونَ} مؤكدة لجملة {لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً} أعيدت بمعناها لتقرير

المعنى إذ كان المقام حقيقا، فالتقرير لقصد التوصل به إلى الدلالة على إبطال زعم المشركين شفاعة أصنامهم لهم عند الله، وهي دلالة بطريق الفحوى فإنه إذا نفي تكلمهم بدون إذن نفيت شفاعتهم إذ الشفاعة كلام من له وجاهة وقبول عند سامعه.
وليبنى عليها الاستثناء لبعد المستثنى والمستثنى منه بمتعلقات {يَمْلِكُونَ} من مجرور ومفعول به، وظرف، وجملة أضيف لها.
وضمير {يَتَكَلَّمُونَ} عائد إلى ما عاد إليه ضمير {يَمْلِكُونَ} .
والقول في تخصيص {لاَ يَتَكَلَّمُونَ} مثل القول في تخصيص {لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا} [النبأ:37] وقوله: {إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَانُ} [طه:109] استثناء من ضمير {لاَ يَتَكَلَّمُونَ} وإذ قد كان مؤكدا لضمير {لا يَمْلِكُونَ} فالاستثناء منه يفهم الاستثناء من المؤكد به.
والقيام: الوقوف وهو حالة الاستعداد للعمل الجد وهو من أحوال العبودية الحق التي لا تستحق إلى لله تعالى. وفي الحديث "من أحب أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار" ، أي لأن ذلك من الكبرياء المختصة بالله تعالى.
والروح: اختلف في المراد منه اختلافا أثاره عطف الملائكة عليه فقيل هو جبريل.
وتخصيصه بالذكر قبل ذكر الملائكة المعطوف عليه لتشريف قدره بإبلاغ الشريعة، وقيل المراد: أرواح بني آدم.
واللام لتعريف الجنس: فالمفرد معها والجمع سواء. والمعنى: يوم تحضر الأرواح لتودع في أجسادها، وعليه يكون فعل {يَقُومُ} مستعملا في حقيقته ومجازه.
و {والملائكة} عطف على {الرُّوحُ} ، أي ويقوم الملائكة صفا.
والصف اسم للأشياء الكائنة في مكان بجانب بعضها بعضا كالخط. وقد تقدم في قوله تعالى: {ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا} في سورة طه [64] وفي قوله: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} في سورة الحج [36]، وهو تسمية بالمصدر من إطلاق المصدر على اسم الفاعل وأصله للمبالغة ثم صار اسما. وإنما يصطف الناس في المقامات التي يكون فيها أمر عظيم فصف الملائكة تعظيم لله وخضوع له.
والإذن: اسم للكلام الذي يفيد إباحة فعل للمأذون، وهو مشتق من: أذن له، إذا استمع إليه قال تعالى: {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} [الإنشقاق:2]، أي استمعت وطاعت لإرادة

الله. وأذن: فعل مشتق من اسم الأذن وهي جارحة السمع، فأصل معنى أذن له: أمال أذنه، أي سمعه إليه يقال: أذن يأذن أذنا كفرح، ثم استعمل في لازم السمع وهو الرضى بالمسموع فصار أذن بمعنى رضي بما يطلب منه أو ما شأنه أن يطلب منه، وأباح فعله، ومصدره إذن بكسر الهمزة وسكون الذال فكأن اختلاف صيغة المصدرين لقصد التفرقة بين المعنيين.
ومتعلق {أذن} محذوف دل عليه {لاَ يَتَكَلَّمُونَ} ، أي من أذن له في الكلام.
ومعنى أذن الرحمان: أن من يريد التكلم لا يستطيعه أو تعتريه رهبة فلا يقدم على الكلام حتى يستأذن الله فأذن له، وإنما يستأذنه إذا ألهمه الله للاستئذان فإن الإلهام إذن عند أهل المكاشفات في العامل الأخروي فإذا ألقى الله في النفس أن يستأذن استأذن الله فأذن له كما ورد في حديث الشفاعة من إحجام الأنبياء عن الاستشفاع للناس حتى يأتوا محمد صلى الله عليه وسلم قال في الحديث "فأنطلق فآتي تحت العرش فأقع ساجدا لربي عز وجل ثم يفتح الله علي من محامد وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه على أحد قبلي ثم يقول: ارفع رأسك أشفع تشفع" .
وقد أشار إلى هذا قوله تعالى: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى} [الأنبياء:28]، أي لمن علموا أن الله ارتضى قبول الشفاعة فيه وهم يعلمون ذلك بإلهام هو من قبيل الوحي لأن الإلهام في ذلك العالم لا يعتريه الخطأ.
وجملة {وَقَالَ صَوَابًا} يجوز أن تكون في موضع الحال من اسم الموصول، أي وقد قال المأذون له في الكلام صوابا، أي بإذن الله له في الكلام إذا علم أنه سيتكلم بما يرضي الله.
ويجوز أن تكون عطفا على جملة {أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَانُ} ، أي وإلا من قال صوابا فعلم أن من لا يقول الصواب لا يؤذن له.
وفعل {وَقَالَ صَوَابًا} مستعمل في معنى المضارع، أي ويقول صوابا، فعبر عنه بالماضي لإفادة تحقق ذلك، أي في علم الله.
وإطلاق صفة {الرَّحْمَنِ} على مقام الجلالة إيماء إلى أن إذن الله لمن يتكلم في الكلام أثر من آثار رحمته لأنه أذن فيما يحصل به نفع لأهل المحشر من شفاعة أو استغفار.

[39] {ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا} .
استئناف ابتدائي كالفذلكة لما تقدم من وعيد ووعد، وإنذار وتبشير، سيق مساق التنويه ب {يَوْمُ الْفَصْلِ} [النبأ:17] الذي ابتدئ الكلام عليه من قوله: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا} [النبأ:17]. والمقصود التنويه بعظيم ما يقع فيه من الجزاء بالثواب والعقاب وهو نتيجة أعمال الناس من يوم وجود الإنسان في الأرض.
فوصف اليوم بالحق يجوز أن يراد به الثابت الواقع كما في قوله تعالى: {وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} [الذاريات:6] وقوله آنفا: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا} ، فيكون {الْحَقُّ} بمعنى الثابت مثل ما في قوله تعالى: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} [الأنبياء:97].
ويجوز أن يراد بالحق ما قابل الباطل، أي العدل وفصل القضاء فيكون وصف اليوم به على وجه المجاز العقلي إذ الحق يقع فيه واليوم ظرف له قال تعالى: {يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} [الممتحنة:3].
ويجوز أن يكون الحق بمعنى الحقيق بمسمى اليوم لأنه شاع إطلاق اسم اليوم على اليوم الذي يكون فيه نصر قبيلة على أخرى مثل: يوم حليمة، ويوم بعاث. والمعنى: ذلك اليوم الذي يحق له أن يقال: يوم، وليس كأيام انتصار الناس بعضهم على بعض في الدنيا فيكون كقوله تعالى: {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التغابن:9]، فهو يوم انتقام الله من أعدائه الذين كفروا نعمته وأشركوا به عبيده في الإلهية ويكون وصف الحق بمثل المعنى الذي في قوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} [البقرة:121]، أي التلاوة الحقيقية باسم التلاوة وهي التلاوة بفهم معاني المتلو وأغراضه.
والإشارة بقوله: {ذَلِكَ} إلى اليوم المتقدم في قوله: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا} [النبأ:17]. ومفاد اسم الإشارة في مثل هذا المقام التنبيه على أن المشار إليه حقيق بما سيوصف به بسبب ما سبق من حكاية شؤونه كما في قوله تعالى: {وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:5] بعد قوله: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} إلى قوله: {وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة:2-4]، فلأجل جميع ما وصف به {يَوْمَ الْفَصْلِ} كان حقيقا بأن يوصف بأنه {الْيَوْمُ الْحَقُّ} وما تفرع عن ذلك من قوله: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا} .
وتعريف {الْيَوْمُ} باللام للدلالة على معنى الكمال، أي هو الأعظم من بين ما يعده الناس من أيام النصر للمنتصرين لأنه يوم يجمع فيه الناس كلهم ويعطى كل واحد منهم ما

هو أهله من خير أو شر فكأن ما عداه من الأيام المشهورة في تاريخ البشر غير ثابت الوقوع.
وفرع عليه {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا} بفاء الفصيحة لإفصاحها عن شرط مقدر ناشئ عن الكلام السابق. والتقدير: فإذا علمتم ذلك كله فمن شاء اتخاذ مآب عند ربه فليتخذه، أي فقد بان لكم ما في ذلك اليوم من خير وشر فليختر صاحب المشيئة ما يليق به للمصير في ذلك اليوم. والتقدير: مآبا فيه، أي في اليوم.
وهذا التفريع من أبدع الموعظة بالترغيب والترهيب عند ما تسنح الفرصة للواعظ من تهيؤ النفوس لقبول الموعظة.
والاتخاذ: مبالغة في الأخذ، أي أخذ أخذا يشبه المطاوعة في التمكن، فالتاء فيه ليست للمطاوعة الحقيقية بل هي مجاز وصارت بمنزلة الأصلية.
والاتخاذ: الاكتساب والجعل، أي ليقتن مكانا بأن يؤمن ويعمل صالحا لينال مكانا عند الله لأن المآب عنده لا يكون إلا خيرا.
فقوله: {إِلَى رَبِّهِ} دل على أنه مآب خير لأن الله لا يرضى إلا بالخير.
والمآب يكون اسم مكان من آب، إذا رجع فيطلق على المسكين لأن المرء يؤوب إلى مسكنه، ويكون مصدرا ميميا وهو الأوب، أي الرجوع كقوله تعالى: {إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} [الرعد:36]، أي رجوعي، أي فليجعل أوبا مناسبا للقاء ربه، أي أوبا حسنا.
[40] {إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} .
{إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا} .
اعتراض بين {مَآبًا} [النبأ:39] وبين {يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} كيفما كان موقع ذلك الظرف حسبما يأتي.
والمقصود من هذه الجملة الإعذار للمخاطبين بقوارع هذه السورة بحيث لم يبق بينهم وبين العلم بأسباب النجاة وضدها شبهة ولا خفاء.
فالخبر وهو {إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا} مستعمل في قطع العذر وليس مستعملا في

إفادة الحكم لأن كون ما سبق إنذارا أمر معلوم للمخاطبين. وافتتح الخبر بحرف التأكيد للمبالغة في الإعذار بتنزيلهم منزلة من يتردد في ذلك.
وجعل المسند فعلا مسندا إلى الضمير المنفصل لإفادة تقوي الحكم، مع تمثيل المتكلم في مثل المتبري من تبعة ما عسى أن يلحق المخاطبين من ضر ان لم يأخذوا حذرهم مما أنذرهم به كما يقول النذير عند العرب بعد الإنذار بالعدو "أنا النذير العريان".
والإنذار: الإخبار بحصول ما يسوء في مستقبل قريب.
وعبر عنه بالمضي لأن أعظم الإنذار قد حصل بما تقدم من قوله: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا لِلْطَّاغِينَ مَآبًا} إلى قوله: {فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَابًا} [النبأ:21-30].
وقرب العذاب مستعمل مجازا في تحققه وإلا فإنه بحسب العرف بعيد، قال تعالى: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا} [المعارج: 6-7]، أي لتحققه فهو كالقريب على أن العذاب يصدق بعذاب الآخرة وهو ما تقدم الإنذار به، ويصدق بعذاب الدنيا من القتل والأسر في غزوات المسلمين لأهل الشرك. وعن مقاتل: هو قتل قريش ببدر. ويشمل عذاب يوم الفتح ويوم حنين كما ورد لفظ العذاب لذلك في قوله تعالى: {يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} [التوبة:14] وقوله: {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ} [الطور:47].
{يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} .
يجوز أن يتعلق بفعل {اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا} [النبأ:39] فيكون {يَوْمَ يَنظُرُ} ظرفا لغوا متعلقا ب {أَنذَرْنَاكُمْ} .
ويجوز أن يكون بدلا من {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلاَئِكَةُ صَفًّا} [النبأ:38] لأن قيام الملائكة صفا حضور لمحاسبة الناس وتنفيذ فصل القضاء عليهم وذلك حين ينظر المرء ما قدمت يداه، أي ما عمله سالفا فهو بدل من الظرف تابع له في موقعه.
وعلى كلا الوجهين فجملة {إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا} معترضة بين الظرف ومتعلقه أو بينه وبين ما أبدل منه.
والمرء: اسم للرجل إذ هو اسم مؤنثه امرأة.
والاقتصار على المرء جري على غالب استعمال العرب في كلامهم، فالكلام خرج

مخرج الغالب في التخاطب لأن المرأة كانت بمعزل عن المشاركة في شؤون ما كان خارج البيت.
والمراد: ينظر الإنسان من ذكر أو أنثى، ما قدمت يداه. وهذا يعلم من استقراء الشريعة الدال على عموم التكاليف للرجال والنساء إلا ما خص منها بأحد الصنفين لأن الرجل هو المستحضر في أذهان المتخاطبين عند التخاطب.
وتعريف {الْمَرْءُ} للاستغراق مثل {إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [العصر: 2-3].
وفعل {يَنظُرُ} يجوز أن يكون من نظر العين أي البصر، والمعنى: يوم يرى المرء ما قدمت يداه. ومعنى نظر المرء ما قدمت يداه: حصول جزاء عمله له، فعبر عنه بالنظر لأن الجزاء لا يخلو من أن يكون مرئيا لصاحبه من خير أو شر، فإطلاق النظر هنا على الوجدان على وجه المجاز المرسل بعلاقة الإطلاق ونظيره قوله تعالى: {لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} [الزلزلة:6]، وقد جاءت الحقيقة في قوله تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا} [آل عمران:30] الآية. و"ما" موصولة صلتها جملة {قَدَّمَتْ يَدَاهُ} .
ويجوز أن يكون من نظر الفكر، وأصله مجاز شاع حتى لحق بالمعاني الحقيقية كما يقال: هو بخير النظرين، ومنه التنظر: توقع الشيء، أي يوم يترقب ويتأمل ما قدمت يداه، وتكون "ما" على هذا الوجه استفهامية وفعل {يَنظُرُ} معلقا عن العمل بسبب الاستفهام، والمعنى: ينظر المرء جواب من يسأل: ما قدمت يداه? ويجوز أن يكون من الانتظار كقوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ} [الأعراف:53].
وتعريف {الْمَرْءُ} تعريف الجنس المفيد للاستغراق.
والتقديم: تسبيق الشيء والابتداء به.
و {مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} هو ما أسفله من الأعمال في الدنيا من خير أو شر فلا يختص بما عمله من السيئات فقد قال تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ} [آل عمران:30] الآية.
وقوله: {مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} إما مجاز مرسل بإطلاق اليدين على جميع آلات الأعمال وإما أن يكون بطريقة التمثيل بتشبيه هيئة العامل لأعماله المختلفة بهيئة الصانع للمصنوعات

بيديه كما قالوا في المثل: "يداك أوكتا" ولو كان ذلك على قول بلسانه أو مشي برجليه.
ولا يحسن أن يجعل ذكر اليدين من التغليب لأن خصوصية التغليب دون خصوصية التمثيل.
وشمل {مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} الخير والشر.
وخص بالذكر من عموم المرء الإنسان الكافر الذي يقول {يَالَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} لأن السورة أقيمت على إنذار منكري البعث فكان ذلك وجه تخصيصه بالذكر، أي يوم يتمنى الكافر أنه لم يخلق من الأحياء فضلا عن أصحاب العقول المكلفين بالشرائع، أي يتمنى أن يكون غير مدرك ولا حساس بأن يكون أقل شيء مما لا إدراك له وهو التراب، وذلك تلهف وتندم على ما قدمت يداه من الكفر.
وقد كانوا يقولون {أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [الإسراء:98] فجعل الله عقابهم بالتحسر وتمني أن يكونوا من جنس التراب.
وذكر وصف الكافر يفهم منه أن المؤمن ليس كذلك لأن المؤمن وإن عمل بعض السيئات وتوقع العقاب على سيئاته فهو يرجو أن تكون عاقبته إلى النعيم وقد قال الله تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ} [آل عمران:30] وقال {لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة: 6-8]، فالمؤمنون يرون ثواب الإيمان وهو أعظم ثواب وثواب حسناتهم على تفاوتهم فيها ويرجون المصير إلى ذلك الثواب وما يرونه من سيئاتهم لا يطغي على ثواب حسناتهم، فهم كلهم يرجون المصير إلى النعيم، وقد ضرب الله لهم أو لمن يقاربهم مثلا بقوله: {وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} [الأعراف:46] على ما في تفسيرها من وجوه.
وهذه الآية جامعة لما جاء في السورة من أحوال الفريقين وفي آخرها رد العجز على الصدر من ذكر أحوال الكافرين الذين عرفوا بالطاغين وبذلك كان ختام السورة بها براعة مقطع.

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة النازعاتسميت في المصاحف وأكثر التفاسير "سورة النازعات" بإضافة سورة إلى النازعات بدون واو، جعل لفظ "النازعات" علما عليها لأنه لم يذكر في غيرها. وعنونت في كتاب التفسير من "صحيح البخاري" في كثير من كتب المفسرين بسورة "والنازعات" بإثبات الواو على حكاية أول ألفاظها.
وقال سعد الله الشهير بسعدي والخفاجي: إنها تسمى "سورة الساهرة" لوقوع لفظ "الساهرة" في أثنائها ولم يقع في غيرها من السور.
وقالا: تسمى سورة الطامة "أي لوقوع لفظ الطامة فيها ولم يقع في غيرها" ولم يذكرها في "الإتقان" في عداد السور التي لها أكثر من اسم.
ورأيت في مصحف مكتوب بخط تونسي عنون اسمها "سورة فالمدبرات" وهو غريب، لوقوع لفظ المدبرات فيها ولم يقع في غيرها.
وهي مكية بالاتفاق.
وهي معدودة الحادية والثمانين في ترتيب النزول، نزلت بعد سورة النبأ وقبل سورة الانفطار.
وعدد آيها خمس وأربعون عند الجمهور، وعدها أهل الكوفة ستا وأربعين آية.
أغراضها
اشتملت على إثبات البعث والجزاء، وإبطال إحالة المشركين وقوعه.
وتهويل يومه وما يعتري الناس حينئذ من الوهل.

وإبطال قول المشركين بتعذر الإحياء بعد انعدام الأجساد.
وعرض بأن نكرانهم إياه منبعث عن طغيانهم فكان الطغيان صادا لهم عن الإصغاء إلى الإنذار بالجزاء فأصبحوا آمنين في أنفسهم غير مترقبين حياة بعد هذه الحياة الدنيا بأن جعل مثل طغيانهم كطغيان فرعون وإعراضه عن دعوة موسى عليه السلام وإن لهم في ذلك عبرة، وتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وانعطف الكلام إلى الاستدلال على إمكان البعث بأن خلق العوالم وتدبير نظامه أعظم من إعادة الخلق.
وأدمج في ذلك إلفات إلى ما في خلق السماوات والأرض من دلائل على عظيم قدرة الله تعالى.
وأدمج فيه امتنان في خلق هذا العالم من فوائد يجتنونها وأنه إذا حل عالم الآخرة وانقرض عالم الدنيا جاء الجزاء على الأعمال بالعقاب والثواب.
وكشف عن شبهتهم في إحالة البعث باستبطائهم إياه وجعلهم ذلك أمارة على انتفائه فلذلك يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن تعيين وقت الساعة سؤال تعنت، وأن شأن الرسول أن يذكرهم بها وليس شأنه تعيين إبانها، وأنها يوشك أن تحل فيعلمونها عيانا وكأنهم مع طول الزمن لم يلبثوا إلا جزءا من النهار.
[1-9] {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً، وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً، وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً، فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً، فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً، يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ، تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ، قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ، أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ} .
ابتدئت بالقسم بمخلوقات ذات صفات عظيمة قسما مراد منه تحقيق ما بعده من الخبر وفي هذا القسم تهويل المقسم به.
وهذه الأمور الخمسة المقسم بها جموع جرى لفظها على صيغة الجمع بألف وتاء لأنها في تأويل جماعات تتحقق فيها الصفات المجموعة، فهي جماعات، نازعا، ناشطات، سابحات، سابقات، مدبرات، فتلك صفات لموصوفات محذوفة تدل عليها الأوصاف الصالحة لها.
فيجوز أن تكون صفات لموصوفات من نوع واحد له أصناف تميها تلك الصفات.
ويجوز أن تكون صفات لموصوفات مختلفة الأنواع بأن تكون كل صفة خاصية من

خواص نوع من الموجودات العظيمة قوامه بتلك الصفة.
والذي يقتضيه غالب الاستعمال أن المتعاطفات بالواو صفات مستقلة لموصوفات مختلفة أنواع أو أصناف، أو لموصوف واحد له أحوال متعددة، وأن المعطوفات بالفاء صفات متفرعة عن الوصف الذي عطفت عليه بالفاء، فهي صفات متعددة متفرع بعضها عن بعض لموصوف واحد فيكون قسما بتلك الأحوال العظيمة باعتبار موصوفاتها.
وللسلف من المفسرين أقوال في تعيين موصوفات هذه الأوصاف وفي تفسير معاني الأوصاف. وأحسن الوجوه على الجملة أن كل صفة مما عطف بالواو مرادا بها موصوف غير المراد بموصوف الصفة الأخرى، وأن كل صفة عطفت بالفاء أن تكون حال أخرى للموصوف المعطوف بالواو كما تقدم. وسنعتمد في ذلك أظهر الوجوه وأنظمها ونذكر ما في ذلك من الاختلاف ليكون الناظر على سعة بصيرة.
وهذا الإجمال مقصود لتذهب أفهام السامعين كل مذهب ممكن، فتكثر خطور المعاني في الأذهان، وتتكرر الموعظة والعبرة باعتبار وقع كل معنى في نفس له فيها أشد وقع وذلك من وفرة المعاني مع إيجاز الألفاظ.
فالنازعات: وصف مشتق من النزع ومعاني النزع كثيرة كلها ترجع إلى الإخراج والجذب فمنه حقيقة ومنه مجاز.
فيحتمل أن يكون {النَّازِعَاتِ} جماعة من الملائكة وهو الموكلون بقبض الأرواح، فالنزع هو إخراج الروح من الجسد شبه بنزع الدلو من البئر أو الركية ومنهم قولهم في المحتضر وهو في النزع. وأجريت صفتهم على صيغة التأنيث بتأويل الجماعة أو الطوائف كقوله تعالى: {قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا} [الحجرات:14].
وروي هذا عن علي وابن مسعود وابن عباس ومجاهد ومسروق وابن جبير والسدي فأقسم الله بالملائكة لأنها من أشرف المخلوقات، وخصها بهذا الوصف الذي هو من تصرفاتها تذكيرا للمشركين إذ هم في غفلة عن الآخرة وما بعد الموت، ولأنهم شديد تعلقهم بالحياة كما قال تعالى لما ذكر اليهود {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} [البقرة:96] فالمشركين مثل في حب الحياة ففي القسم بملائكة قبض الأرواح عظة لهم وعبرة.
والقسم على هذا الوجه مناسب للغرض ألأهم من السورة وهو إثبات البعث لأن

الموت أول منازل الآخرة فهذا من براعة الاستهلال.
وغرقا: اسم مصدر أغرق، وأصله إغراقا، جيء به مجردا عن الهمزة فعومل معاملة المصدر الثلاثي المتعدي مع أنه لا يوجد غرق متعديا ولا أن مصدره مفتوح عين الكلمة لكنه لما جعل عوضا عن مصدر أغرق وحذفت منه الزوائد قدر فعله بعد حذف الزوائد متعديا.
ولو قلنا: إنه سكنت عينه تخفيفا ورعيا للمزاوجة مع نشطا، وسبحا، وسبقا، وأمرا، لكان أرقب لأن متحرك الوسط يخفف بالسكون، وهذا مصدر محذوف هو مفعول مطلق للنازعات، أي نزعا غرقا، أي مغرقا، أي تنزع الأرواح من أقاصي الأجساد.
ويجوز أن تكون {النَّازِعَاتِ} صفة للنجوم، أي تنزع من أفق إلى أفق، أي تسير، يقال: ينزع إلى الأمر الفلاني، أي يميل ويشتاق.
وغرقا: تشبيه لغروب النجوم بالغرق في الماء وقال الحسن وقتادة وأبو عبيدة وابن كيسان والأخفش، وهو على هذا متعين لأن يكون مصدر غرق وأن تسكين عينه تخفيف.
والقسم بالنجوم في هذه الحالة لأنها مظهر من مظاهر القدرة الربانية كقوله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم:1].
ويحتمل أن تكون {النَّازِعَاتِ} جماعات الرماة بالسهام في الغزو يقال: نزع في القوس، إذا مدها عند وضع السهم فيها. وروي هذا عن عكرمة وعطاء.
والغرق: الإغراق، أي استيفاء مد القوس بإغراق السهم فيها فيكون قسما بالرماة من المسلمين الغزاة لشرفهم بأن غزوهم لتأييد دين الله، ولم تكن للمسلمين وهم بمكة يومئذ غزوات ولا كانوا يرجونها، فالقسم بها إنذار للمشركين بغزوة بدر التي كان فيها خضد شوكتهم، فيكون من دلائل النبوءة ووعد وعده الله رسوله صلى الله عليه وسلم.
و {النَّاشِطَاتِ} : يجوز أن تكون الموصوفات بالنشاط، وهو قوة الانطلاق للعمل كالسير السريع. ويطلق النشاط على سير الثور الوحشي وسير البعير لقوة ذلك، فيكون الموصوف إما الكواكب السيارة على وجه التشبيه لدوام تنقلها في دوائرها وإما إبل الغزو، وإما الملائكة التي تسرع إلى تنفيذ ما أمر الله به من أمر التكوين وكلاهما على وجه الحقيقة، وأياما كان فعطفها على {النَّازِعَاتِ} عطف نوع على نوع أو عطف صنف على صنف.

و {نَشْطاً} مصدر جاء على مصدر فعل المتعدي من باب نصر فتعين أن {النَّاشِطَاتِ} فاعلات النشط فهو متعد.
وقد يكون مفضيا لإرادة النشاط الحقيقي لا المجازي. ويجوز أن يكون التأكيد لتحقيق الوصف لا لرفع احتمال المجاز.
وعن ابن عباس: {النَّاشِطَاتِ} الملائكة تنشط نفوس المؤمنين، وعنه هي نفوس المؤمنين تنشط للخروج.
و {السَّابِحَاتِ} صفة من السبح المجازي، وأصل السبح العوم وهو تنقل الجسم على وجه الماء مباشرة وهو هنا مستعار لسرعة الانتقال، فيجوز أن يكون المراد الملائكة السائرين في أجواء السماوات وآفاق الأرض، وروي عن علي بن ابي طالب.
ويجوز أن يراد خيل الغزاة حين هجومها على العدو سريعة كسرعة السابح في الماء كالسابحات في قول امريء القيس يصف فرسا:
مسح اذ ما السابحات على الوغى ... أثرن الغبار بالكديد المركل
وقيل: {السَّابِحَاتِ} النجوم، وهو جار على قول من فسر النازعات بالنجوم. {سَبْحاً} مصدر مؤكد لإفادة التحقيق من التوسل إلى تنويه للتعظيم. وعطف {فَالسَّابِقَاتِ} بالفاء يؤذن بأن هذه الصفة متفرعة عن التي قبلها لأنهم يعطفون بالفاء الصفات التي من شأنها أن يتفرع بعضها عن بعض كما تقدم في قوله تعالى: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا، فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا، فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا} [الصافات: 1-3] وقول ابن زيابة:
يا لهف زيابة للحارث الص ... ابخ فالغائم فالآيب
فلذلك {فَالسَّابِقَاتِ} هي السابقات من السابحات.
والسبق: تجاوز السائر من يسير معه ووصوله إلى المكان المسير إليه قبله. ويطلق السبق على سرعة الوصول من دون وجود سائر مع السابق قال تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148] وقال {أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون:61].
ويطلق السبق على الغلب والقهر، ومنه قوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا} [العنكبوت:4] وقول مرة بن عداء الفقعسي:
كأنك لم تسبق من الدهر ليلة ... إذا أنت أدركت الذي كنت تطلب

فقوله تعالى: {فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً} يصلح للحمل على هذه المعاني على اختلاف محامل وصف السابحات بما يناسب كل احتمال على حياله بأن يراد السائرات سيرا سريعا فيما تعلمه. أو المبادرات. وإذا كان {السَّابِحَاتِ} بمعنى الخيل كان {السَّابِقَاتِ} إن حمل على معنى المسرعات كناية عن عدم مبالاة الفرسان بعدوهم وحرصهم على الوصول إلى أرض العدو، أو على معنى غلبهم أعداءهم.
وأكد بالمصدر المرافد لمعناه وهو {سَبْقاً} للتأكيد ودلالة التنكير على عظم ذلك السبق.
والمدبرات: الموصوفة بالتدبير.
والتدبير: جولان الفكر في عواقب الأشياء وبإجراء الأعمال على ما يليق بما توجد له فإن كانت السابحات جماعات الملائكة، فمعنى تدبيرها تنفيذ ما نيط بعدتها على أكمل ما أذنت به فعبرت عن ذلك بالتدبير للأمور لأنه يشبه فعل المدبر المتثبت.
وإن كانت السابحات خيل الغزاة فالمراد بالتدبير: تدبير مكائد الحرب من كر، وفر، وغارة، وقتل، وأسير، ولحاق للفارين، أو ثبات بالمكان. وإسناد التدبير إلى السابحات على هذا الوجه مجاز عقلي لأن التدبير للفرسان وإنما الخيل وسائل لتنفيذ التدبير، كما قال تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج:27]، فأسند الإيتان إلى ضمير {كُلِّ ضَامِرٍ} من الإبل لأن إتيان الحجيج من الفجاح العميقة يكون بسير الإبل.
وفي هذا المجاز إيماء إلى حذق الخيل وسرعة فهمها مقاصد فرسانها حتى كأنها هي المدبرة لما دبره فرسانها.
والأمر: الشأن والغرض المهم وتنوينه للتعظيم، وإفراده لإرادة الجنس أي أمورا.
وينتظم من مجموع صفات {النَّازِعَاتِ} ، و {النَّاشِطَاتِ} ، و {السَّابِحَاتِ} إذا فهم منها جماعات الرماة والجمالة والفرسان أن يكون إشارة إلى أصناف المقاتلين من مشاة وهم الرماة بالقسي، وفرسان على الخيل وكانت الرماة تمشي قدام الفرسان تنضح عنهم بالنبال حتى يبلغوا إلى مكان الملحمة. قال أنيف بن زبان الطائي:
وتحت نحور الخيل حرشف رجله ... تتاح لغرات القلوب نبالها
ولتحمل الآية لهذه الاحتمالات كانت تعريضا بتهديد المشركين بحرب تشن عليهم

وهي غزوة فتح مكة أو غزوة بدر مثل سورة "والعاديات" وأضرابها، وهي من دلائل نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم إذ كانت هذه التهديدات صريحها وتعريضها في مدة مقامه صلى الله عليه وسلم بمكة والمسلمون في ضعف فحصل من هذا القسم تعريض بعذاب في الدنيا.
وجملة {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ} إلى {خَاشِعَةٌ} جواب القسم وصريح الكلام موعظة. والمقصود منه لازمه وهو وقوع البعث لأن القلوب لا تكون إلا في أجسام. وقد علم أن المراد ب {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ} هو يوم القيامة لأنه قد عرف بمثل هذه الأحوال في آيات كثيرة مما سبق نزوله مثل قوله: {إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ} فكان في هذا الجواب تهويل ليوم البعث وفي طيه تحقيق وقوعه فحصل إيجاز في الكلام جامع بين الإنذار بوقوعه والتحذير مما يجري فيه.
و {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ} ظرف متعلق ب {وَاجِفَةٌ} فآل إلى أن المقسم عليه المراد تحقيقه هو وقوع البعث بأسلوب أوقع في نفوس السامعين المنكرين من أسلوب التصريح بجواب القسم، إذ دل على المقسم عليه بعض أحواله التي هي من أهواله فكان في جواب القسم إنذار.
ولم تقرن جملة الجواب بلام جواب القسم لبعد ما بين الجواب وبين القسم بطول جملة القسم، فيظهر لي من استعمال البلغاء أنه إذا بعد ما بين القسم وبين الجواب لا يأتون بلام القسم في الجواب، ومن ذلك قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} إلى {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} [البروج: 1-4]. ومثله كثير في القرآن فلا يؤتى بلام القسم في جوابه إلا إذا كان الجواب مواليا لجملة القسم نحو {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} [الأنبياء:57] {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر:92]، ولأن جواب القسم إذا كان جملة اسمية لم يكثر اقترانه بلام الجواب ولم أر التصريح بجوازه ولا بمنعه، وإن كان صاحب "المغني" استظهر في مبحث لام الجواب في قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ} [البقرة:103] أن اللام لم جواب القسم محذوف وليست لام جواب "لو" بدليل كون الجملة اسمية، والاسمية قليلة من جواب "لو" فلم ير جملة الجواب إذا كانت اسمية أن تقترن باللام. وجعل صاحب "الكشاف" تبعا للفراء وغيره جواب القسم محذوفا تقديره:لتبعثن.
وقدم الظرف على متعلقه لأن ذلك الظرف هو الأهم في جواب القسم لأنه المقصود إثبات وقوعه، فتقديم الظرف للاهتمام به والعناية به فإنه لما أكد الكلام بالقسم شمل التأكيد متعلقات الخبر التي منها ذلك الظرف، والتأكيد اهتمام، ثم أكد ذلك الظرف في

الأثناء بقوله: {يَوْمَئِذٍ} الذي هو يوم ترجف الراجفة فحصلت عناية عظيمة بهذا الخبر.
والرجف: الاضطراب والاهتزاز وفعله من باب نصر. وظاهر كلام أهل اللغة أنه فعل قاصر ولم أر من قال: إنه يستعمل متعديا، فلذلك يجوز أن يكون إسناد {تَرْجُفُ} إلى {الرَّاجِفَةُ} حقيقيا، فالمراد ب {الرَّاجِفَةُ} : الأرض لأنها تضطرب وتهتز بالزلازل التي تحصل عند فناء العالم الدنيوي والمصير إلى العالم الأخروي قال تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ} [المزمل:14] وقال {إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا} [الواقعة:4] وتأنيث {الرَّاجِفَةُ} لأنها الأرض، وحينئذ فمعنى {تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} أن رجفة أخرى تتبع الرجفة السابقة لأن صفة {الرَّاجِفَةُ} تقتضي وقوع رجفة، فالرادفة رجفة ثانية تتبع الرجفة الأولى.
ويجوز أن يكون إسناد {تَرْجُفُ} إلى {الرَّاجِفَةُ} مجازا عقليا، أطلق {الرَّاجِفَةُ} على سبب الرجف.
فالمراد ب {الرَّاجِفَةُ} : الصيحة والزلزلة التي ترجف الأرض بسببها جعلت هي الراجفة مبالغة كقولهم: عيشة راضية، وهذا هو المناسب لقوله: {تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} أي تتبع تلك الراجفة، أي مسببة الرجف رادفة، أي واقعة بعدها.
ويجوز أن يكون الرجف مستعارا لشدة الصوت فشبه الصوت الشديد بالرجف وهو التزلزل.
وتأنيث {الرَّاجِفَةُ} على هذا لتأويلها بالواقعة أو الحادثة.
و {تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} : التالية، يقال: ردف بمعنى تبع، والرديف: التابع لغيره، قال تعالى: {أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} 1[الأنفال:9]، أي تتبع الرجفة الأولى ثانية، فالمراد: رادفة من جنسها وهما النفختان اللتان في قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68].
وجملة {تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} حال من {الرَّاجِفَةُ} .
وتنكير {قُلُوبٌ} للتكثير، أي قلوب كثيرة ولذلك وقع مبتدأ وهو نكرة لإرادة النوعية.
ـــــــ
1 في المطبوعة: "يمددكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة مردفين".

والمراد: قلوب المشركين الذين كانوا يجحدون البعث فإنهم إذا قاموا فعلموا أن ما وعدهم الرسول صلى الله عليه وسلم به حق توقعوا ما كان يحذرهم منه من عقاب إنكار البعث والشرك وغير ذلك من أحوالهم.
فأما قلوب المؤمنين فإن فيها اطمئنانا متفاوتا بحسب تفاوتهم في التقوى.
والخوف يومئذ وإن كان لا يخلو منه أحد إلا أن أشده خوف الذين يوقنون بسوء المصير ويعلمون أنهم كانوا ضالين في الحياة الدنيا.
والواجفة: المضطربة من الخوف، يقال: وجف كضرب وجفا ووجيفا ووجوفا، إذا اضطرب.
و {وَاجِفَةٌ} خبر {قُلُوبٌ} .
وجملة {أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ} خبر ثان عن {قُلُوبٌ} وقد زاد المراد من الوجيف بيانا قوله: {أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ} ، أي أبصار أصحاب القلوب.
والخشوع حقيقته: الخضوع والتذلل، وهو هيئة للإنسان، ووصف الأبصار به مجاز في الانخفاض والنظر من طرف خفي من شدة الهلع والخوف من فظيع ما تشاهده من سوء المعاملة قال تعالى: {خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ} في سورة اقتربت الساعة [7]. ومثله قوله تعالى: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ} [القيامة:24].
وإضافة "أبصار" إلى ضمير القلوب لأدنى ملابسة لأن الأبصار لأصحاب القلوب وكلاهما من جوارح الأجساد مثل قوله: {إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} [النازعات:46].
[10-11] {يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ، أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَخِرَةً} .
استئناف إما ابتدائي بعد جملة القسم وجوابه، لإفادة أن هؤلاء هم الذين سيكونون أصحاب القلوب الواجفة والأبصار الخاشعة يوم ترجف الراجفة.
وإما استئناف بياني لأن القسم وما بعده من الوعيد يثير سؤالا في نفس السامع عن الداعي لهذا القسم فأجيب ب {يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ} ، أي منكرون البعث، ولذلك سلك في حكاية هذا القول أسلوب الغيبة شأن التحدث عن غير حاضر.
وضمير {يَقُولُونَ} عائد إلى معلوم من السياق وهم الذين شهروا بهذه المقالة ولا يخفون على المطلع على أحوالهم ومخاطباتهم وهم المشركون في تكذيبهم بالبعث.

والمساق إليه الكلام كل من يتأتى منه سماعه من المسلمين وغيرهم.
ويجوز أن يكون الكلام مسوقا إلى منكري البعث على طريقة الالتفاف.
وحكي مقالهم بصيغة المضارع لإفادة أنهم مستمرون عليه وأنه متجدد فيهم لا يرعوون عنه.
وللإشعار بما في المضارع من استحضار حالتهم بتكرير هذا القول ليكون ذلك كناية عن التعجيب من قولهم هذا كقوله تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} [هود:74].
وقد علم السامع أنهم ما كرروا هذا القول إلا وقد قالوه فيما مضى.
وهذه المقالة صادرة منهم وهم في الدنيا فليس ضمير {يَقُولُونَ} بعائد إلى {قُلُوبٌ} من قوله تعالى: {قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ} [النازعات:8].
وكانت عادتهم أن يلقوا الكلام الذي ينكرون فيه البعث بأسلوب الاستفهام إظهارا لأنفسهم في مظهر المتردد السائل لقصد التهكم والتعجب من الأمر المستفهم عنه. والمقصود: التكذيب لزعمهم أن حجة استحالة البعث ناهضة.
وجعل الاستفهام التعجبي داخلا على جملة اسمية مؤكدة ب"إن" وبلام الابتداء وتلك ثلاثة مؤكدات مقوية للخبر لإفادة أنهم أتوا بما يفيد التعجب من الخبر ومن شدة يقين المسلمين به، فهم يتعجبون من تصديق هذا الخبر فضلا عن تحقيقه والإيقان به.
والمردود: الشيء المرجع إلى صاحبه بعد الانتفاع به مثل العارية ورد ثمن المبيع عند التفاسخ أو التقايل، أي لمرجعون إلى الحياة، أي إنا لمبعوثون من قبورنا.
والمراد ب {الْحَافِرَةِ} : الحالة القديمة، يعني الحياة.
وإطلاقات {الْحَافِرَةِ} كثيرة في كلام العرب لا تتميز الحقيقة منها عن المجاز، والأظهر ما في "الكشاف": يقال: رجع فلان إلى حافرته، أي في طريقه التي جاء فيها فحفرها، أي أثر فيها بمشيه فيها جعل أثر قدميه حفرا أي لأن قدميه جعلتا فيها أثرا مثل الحفر، وأشار إلى أن وصف الطريق بأنها حافرة على معنى ذات حفر، وجوز أن يكون على المجاز العقلي كقولهم: عيشة راضية، أي راض عائشها، ويقولون: رجع إلى الحافرة، تمثيلا لمن كان في حالة ففارقها، ثم رجع إليها فصار: رجع في الحافرة، ورد

إلى الحافرة، جاريا مجرى المثل.
ومنه قول الشاعر وهو عمران بن حطان حسبما ظن ابن السيد البطليوسي في شرح "أدب الكتاب" :
أحافرة على صلع وشيب ... معاذ الله من سفه وعار
ومن الأمثال قولهم: "النقد عند الحافرة" أي إعطاء سبق الرهان للسباق عند وصوله إلى الأمد المعين للرهان. يريد: أرجوعا إلى الحافرة.
وظرف "إذا" في قوله: {أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَخِرَةً} وهو مناط التعجب وادعاء الاستحالة، أي إذا صرنا عظاما بالية فكيف نرجع أحياء.
و {إذا} متعلق ب {مردودون} .
و {نَخِرَةً} صفة مشتقة من قولهم: نخر العظم، إذا بلي فصار فارغ الوسط كالقصبة.
وتأنيث {نَخِرَةً} لأن موصوفه جمع تكسير، فوصفه يجري على التأنيث في الاستعمال.
هي همزة "إذا". وقرأه بقية العشرة {أإذا} بهمزتين إحداهما مفتوحة همزة الاستفهام والثانية مكسورة هي همزة "إذا".
وهذا الاستفهام إنكاري مؤكد للاستفهام الأول للدلالة على أن هذه الحالة جديرة بزيادة إنكار الإرجاع إلى الحياة بعد الموت، فهما إنكاران لإظهار شدة إحالته.
وقرأ الجمهور {نَخِرَةً} بدون ألف بعد النون. وقرأه حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم ورويس عن يعقوب وخلف {ناخرة} بالألف.
[12] {قَالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ} .
{قالوا} بدل اشتمال من جملة {يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ} [النازعات:10].
وأعيد فعل القول لمقاصد منها الدلالة على أن قولهم هذا في غرض آخر غير القول الأول فالقول الأول قصدهم منهم الإنكار والإبطال، والقول الثاني قصدوا منه الاستهزاء والتورك لأنهم لا يؤمنون بتلك الكرة فوصفهم إياها ب {خَاسِرَةٌ} من باب الفرض والتقدير، أي لو حصلت كرة لكانت خاسرة ومنها دفع توهم أن تكون جملة تلك {تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ

خَاسِرَةٌ} استئنافا من جانب الله تعالى.
وعبر عن قولهم هذا بصيغة الماضي دون المضارع على عكس {يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ} [النازعات:10] لأن هذه المقالة قالوها استهزاء فليست مما يتكرر منهم بخلاف قولهم {أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ} فإنه حجة ناهضة في زعمهم، فهذا مما يتكرر منهم في كل مقام. وبذلك لم يكن المقصود التعجب من قولهم هذا لأن التعجب ينقضي الإنكار وكون كرتهم، أي عودتهم إلى الحياة عودة خاسرة أمر محقق لا ينكر لأنهم يعودون إلى الحياة خاسرين لا محالة.
و {تِلْكَ} إشارة إلى الردة المستفادة من {مردودون} والإشارة إليه باسم الإشارة للمؤنث للإخبار عنه ب {كَرَّةٌ} .
و{إذن} جواب للكلام المتقدم، والتقدير: إذن تلك كرة خاسرة، فقدم {تِلْكَ} على حرف الجواب للعناية بالإشارة.
والكرة: الواحدة من الكر، وهو الرجوع بعد الذهاب، أي رجعة.
والخسران: أصله نقص مال التجارة التي هي لطلب الربح، أي بزيادة المال فاستعير هنا لمصادفة المكروه غير المتوقع.
ووصف الكرة بالخاسرة مجاز عقلي للمبالغة لأن الخاسر أصحابها. والمعنى: إنا إذن خاسرون لتكذيبنا وتبين صدق الذي أنذرنا بتلك الرجعة.
[13-14] {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ، فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} .
الفاء فصيحة للتفريع على ما يفيده قولهم {أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ، أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً} [النازعات: 9-10]} من إحالتهم الحياة بعد البلى والفناء.
فتقدير الكلام: فلا عجب في ذلك فما هي إلا زجرة واحدة فإذا أنتم حاضرون في الحشر.
وضمير "هي" ضمير القصة وهو ضمير الشأن. واختير الضمير المؤنث ليحسن عوده إلى زجره. وهذا من أحسن استعمالات ضمير الشأن. والقصر حقيقي مراد منه تأكيد الخبر بتنزيل السامع منزلة من يعتقد أن زجرة واحدة غير كافية في إحيائهم.

وفاء {فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} للتفريع على جملة {إِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ} . و"إذا" للمفاجأة، أي الحصول دون تأخير فحصل تأكيد معنى التفريع الذي أفادته الفاء وذلك يفيد عدم الترتب بين الزجرة والحصول في الساهرة.
والزجرة: المرة من الزجر، وهو الكلام الذي فيه أمر أو نهي في حالة غضب. يقال: زجر البعير، إذا صاح له لينهض أو يسير، وعبر بها هنا عن أمر الله بتكوين أجساد الناس الأموات تصويرا لما فيه من معنى التسخير لتعجيل التكون. وفيه مناسبة لإحياء ما كان هامدا كما يبعث البعير البارك بزجرة ينهض بها سريعا خوفا من زاجره، وقد عبر عن ذلك بالصيحة في قوله تعالى: {يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} [ق:42] وهو الذي عبر عنه بالنفخ في الصور.
ووصفت الزجرة بواحدة تأكيدا لما في صيغة المرة من معنى الوحدة لئلا يتوهم أن إفراده للنوعية، وهذه الزجرة هي النفخة الثانية التي في قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68]، فهي ثانية التي قبلها، وهي الرادفة التي تقدم ذكرها آنفا وإنما أريد بكونها واحدة أنها لا تتبع بثانية لها، وقد وصفت بواحدة في سورة الحاقة بهذا الاعتبار.
والساهرة: الأرض المستوية البيضاء التي لا نبات فيها يختار مثلها لاجتماع الجموع ووضع المغانم. وأريد بها أرض يجعلها الله لجمع الناس للحشر.
والإتيان ب"إذا" الفجائية للدلالة على سرعة حضورهم بهذا المكان عقب البعث.
وعطفها بالفاء لتحقيق ذلك المعنى الذي أفادته "إذا" لأن الجمع بين المفاجأة والتفريغ أشد ما يعبر به عن السرعة مع إيجاز اللفظ.
والمعنى: أن الله يأمر بأمر التكوين بخلق أجساد تحل فيها الأرواح التي كانت في الدنيا فتحضر في موقف الحشر للحساب بسرعة.
[15-19] {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى، إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى، اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى، فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى، وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} .
هذه الآية اعتراض بين جملة {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ} [النازعات:13] وبين جملة {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا} [النازعات:27] الذي هو الحجة على إثبات البعث ثم الإنذار بما بعده

دعت إلى استطراده مناسبة التهديد لمنكري ما أخبرهم به الرسول صلى الله عليه وسلم من البعث لتماثل حال المشركين في طغيانهم على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بحال فرعون وقومه وتماثل حال الرسول صلى الله عليه وسلم مع قومه بحال موسى عليه السلام مع فرعون ليحصل من ذكر قصة موسى تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وموعظة للمشركين وأئمتهم مثل أبي جهل وأمية بن خلف وأضرابهما لقوله في آخرها {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [النازعات:26].
و {هَلْ أتَاكَ} استفهام صوري يقصد من أمثاله تشويق السامع إلى الخير من غير قصد إلى استعلام المخاطب عن سابق علمه بذلك الخبر، فسواء في ذلك علمه من قبل أو لم يعلمه، ولذلك لا ينتظر المتكلم بهذا الاستفهام جوابا عنه من المسؤول بل يعقب الاستفهام بتفصيل ما أوهم الاستفهام عنه بهذا الاستفهام كناية عن أهمية الخبر بحيث إنه مما يتساءل الناس عن علمه.
ولذلك لا تستعمل العرب في مثله من حروف الاستفهام غير {هل} لأنها تدل على طلب تحقيق المستفهم عنه، فهي في الاستفهام مثل "قد" في الإخبار، والاستفهام معها حاصل بتقدير همزة استفهام، فالمستفهم بها يستفهم عن تحقيق الأمر، ومن قبيله قولهم في الاستفهام: أليس قد علمت كذا فيأتون ب"قد" مع فعل النفي المقترن باستفهام إنكار من غير أن يكون علم المخاطب محققا عند المتكلم.
والخطاب لغير معين فالكلام موعظة ويتبعه تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم.
و {أتاك} معناه: بلغك، استعير الإتيان لحصول العلم تشبيها للمعقول بالمحسوس كأن الحصول مجيء إنسان على وجه التصريحية، أو كأن الخبر الحاصل إنسان أثبت له الإتيان على طريقة الاستعارة المكنية، قال النابغة:
أتاني أبيت اللعن أنك لمتني
والحديث: الخبر، وأصله فعيل بمعنى فاعل من حدث الأمر إذا طرأ وكان، أي الحادث من أحوال الناس وإنما يطلق على الخبر بتقدير مضاف لا يذكر لكثرة الاستعمال تقديره خبر الحديث، أي خبر الحادث.
و {إذا} اسم زمان، واستعمل هنا في الماضي وهو بدل من {حَدِيثُ مُوسَى} بدل اشتمال لأن حديثه يشتمل على كلام الله إياه وغير ذلك.
وكما جاز أن تكون "إذا" بدلا من المفعول به في قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ

عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً} [آل عمران:103] يجوز أن تكون بدلا من الفاعل وغيره، واقتصار ابن هشام وغيره على أنها تكون مفعولا به أو بدلا من المفعول به اقتصار على أكثر موارد استعمالها إذا خرجت عن الظرفية، فقد جوز في "الكشاف" وقوع "إذ" مبتدأ في قراءة من قرأ {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً} في سورة آل عمران [164].
وأضيف {إذ} إلى جملة {نَادَاهُ رَبُّهُ} . والمعنى: هل أتاك خبر زمان نادى فيه موسى ربه.
والواد: المكان المنخفض بين الجبال.
والمقدس: المطهر. والمراد به التطهير المعنوي وهو التشريف والتبريك لأجل ما نزل فيه من كلام الله دون توسط ملك يبلغ الكلام إلى موسى عليه السلام، وذلك تقديس خاص، ولذلك قال الله له في الآية الأخرى {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ} [طه:12].
وطوى: اسم مكان ولعله هو نوع من الأدوية يشبه البئر المطوية، وقد سمي مكان بظاهر مكة ذا طوى بضم الطاء وبفتحها وكسرها. وتقدم في سورة طه. وهذا واد في جانب جبل الطور في برية سينا في جانبه الغربي.
وقرأ الجمهور {طوى} بلا تنوين على أنه ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث بتأويل البقعة، أو للعدل عن طاو، أو للعجمة. وقرأه ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي وخلف منونا باعتباره اسم واد مذكر اللفظ.
وجملة {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ} بيان لجملة {نَادَاهُ رَبُّهُ} .
وجملة {إِنَّهُ طَغَى} تعليل للأمر في قوله: {اذْهَبْ} ، ولذلك افتتحت بحرف "إن" الذي هو للاهتمام ويفيد مفاد التعليل.
والطغيان إفراط التكبر وتقدم عند قوله: {لِلطَّاغِينَ مَآباً} في سورة النبأ [22].
وفرعون: لقب ملك القبط بمصر في القديم، وهو اسم معرب عن اللغة العبرانية ولا يعلم هل هو اسم للملك في لغة القبط ولم يطلقه القرآن إلا على ملك مصر الذي أرسل إليه موسى، وأطلق على الذي في زمن يوسف اسم الملك، وقد تقدم الكلام عليه عند قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآياتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِ} في سورة الأعراف [103].

و {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ} عرض وترغيب قال تعالى: {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44].
وقوله: {هَلْ لَكَ} تركيب جرى مجرى المثل فلا يغير عن هذا التركيب لأنه قصد به الإيجاز يقال: هل لك إلى كذا? وهل لك في كذا? وهو كلام يقصد منه العرض بقول الرجل لضيفه: هل لك أن تنزل? ومنه قول كعب:
ألا بلغا عني بجيرا رسالة ... فهل لك فيما قلت ويحك هل لكا
بضم تاء "قلت". وقول بجير أخيه في جوابه عن أبياته:
من مبلغ كعبا فهل لك في التي ... تلوم عليها باطلا وهي أحزم
و {لك} خبر مبتدأ محذوف تقديره: هل لك رغبة في كذا? فحذف "رغبة" واكتفي بدلالة حرف "في" عليه، وقالوا: هل لك إلى كذا? على تقدير: هل لك ميل? فحذف "ميل" لدلالة "إلى" عليه.
قال الطيبي: قال ابن جني: متى كان فعل من الأفعال في معنى فعل آخر فكثيرا ما يجرى أحدهما مجرى صاحبه فيعول به في الاستعمال إليه "كذا" ويحتذى به في تصرفه حذو صاحبه وإن كان طريق الاستعمال والعرف ضد مأخذه، ألا ترى إلى قوله تعالى: {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} وأنت إنما تقول: هل لك في كذا? لكنه لما دخله معنى: آخذ بك إلى كذا أو أدعوك إليه، قال {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} . وقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة:187] لا يقال: رفث إلى المرأة، إنما يقال: رفثت بها، ومعها، لكن لما كان الرفث بمعنى الإفضاء عدي ب"إلى" وهذا من أسد مذاهب العربية لأنه موضع يملك فيه المعنى عنان الكلام فيأخذه إليه اه. قيل ليس هذا من باب التضمين بل من باب المجاز والقرينة الجارة.
و {تزكى} قرأه نافع وابن كثير وأبو جعفر ويعقوب بتشديد الزاي على اعتبار أن أصله: تتزكى، بتاءين، فقلبت التاء المجاورة للزاي زايا لتقارب مخرجيهما وأدغمت في الزاي. وقرأه الباقون بتخفيف الزاي على أنه حذفت إحدى التائين اقتصارا للتخفيف.
وفعل {تَزَكَّى} على القراءتين أصله: تتزكى بتاءين مضارع تزكى مطاوع زكاه، أي جعله زكيا.
والزكاة: الزيادة، وتطلق على الزيادة في الخير النفساني قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ

زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 9-10]، وهو مجاز شائع ساوى الحقيقة ولذلك لا يحتاج إلى قرينة.
والمعنى: حثه على أن يستعد لتخليص نفسه من العقيدة الضالة التي هي خبث مجازي في النفس فيقبل إرشاد من يرشده إلى ما به زيادة الخير فإن فعل المطاوعة يؤذن بفعل فاعل يعالج نفسه ويروضها إذ كان لم يهتد أن يزكي نفسه بنفسه.
ولذلك أعقبه بعطف {وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} أي إن كان فيك إعداد نفسك للتزكية يكن إرشادي إياك فتخشى، فكان ترتيب الجمل في الذكر مراعى فيه ترتبها في الحصول فلذلك لم يحتج إلى عطفه بفاء التفريغ، إذ كثيرا ما يستغنى بالعطف بالواو مع إرادة الترتيب عن العطف بحرف الترتيب لأن الواو تفيد الترتيب بالقرينة، ويستغنى بالعطف عن ذكر حرف التفسير في العطف التفسيري الذي يكون الواو فيه بمعنى "أي" التفسيرية فإن {أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ} في قوة المفرد. والتقدير: هل لك في التزكية وهدايتي إياك فخشيتك الله تعالى.
والهداية: الدلالة على الطريق الموصل إلى المطلوب إذا قبلها المهدي.
وتفريع {فَتَخْشَى} على {أَهْدِيَكَ} إشارة إلى أن خشية الله لا تكون إلا بالمعرفة قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، أي العلماء به، أي يخشاه خشية كاملة لا خطأ فيها ولا تقصير.
قال الطيبي: وعن الواسطي: أوائل العلم الخشية، ثم الإجلال، ثم التعظيم، ثم الهيبة، ثم الفناء.
وفي الاقتصار على ذكر الخشية إيجاز بليغ لأن الخشية ملاك كل خير. وفي جامع الترمذي عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل" 1.
وذكر له الإله الحق بوصف {ربك} دون أن يذكر اسم الله العلم أو غيره من طرق التعريف إلطافا في الدعوة إلى التوحيد وتجنبا لاستطارة نفسه نفورا، لأنه لا يعرف في لغة فرعون اسم الله تعالى، ولو عرفه له باسمه في لغة إسرائيل لنفر لأن فرعون كان يعبد آلهة باطلة، فكان في قوله: {إِلَى رَبِّكَ} وفرعون يعلم أن له ربا إطماع له أن يرشده
ـــــــ
1 الإدلاج: مخففا: السير في أول الليل، ومشددا السير في آخر الليل، والمراد هنا الأول.

موسى إلى ما لا ينافي عقائده فيصغي إليه سمعه حتى إذا سمع قوله وحجته داخله الإيمان الحق مدرجا، ففي هذا الأسلوب استنزال لطائره.
والخشية: الخوف فإذا أطلقت في لسان الشرع يراد بها خشية الله تعالى ولهذا نزل فعلها هنا منزلة اللازم فلم يذكر له مفعول لأن المخشي معلوم مثل فعل الإيمان في لسان الشرع يقال: آمن فلان، وفلان مؤمن أي مؤمن بالله ووحدانيته.
[20-24] {فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى، فَكَذَّبَ وَعَصَى، ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى، فَحَشَرَ فَنَادَى، فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} .
الفاء في قوله: {فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى} فصيحة وتفريع على محذوف يقتضيه قوله: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ} [النازعات:17]. والتقدير: فذهب فدعاه فكذبه فأراه الآية الكبرى، وذلك لأن قوله: {إِنَّهُ طَغَى} [النازعات:17] يؤذن بأنه سيلاقي دعوة موسى بالاحتقار والإنكار لأن الطغيان مظنة ذينك، فعرض موسى عليه إظهار آية تدل على صدق دعوته لعله يوقن كما قال تعالى: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ، قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنْ الصَّادِقِين.، فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} [الشعراء: 30-32] فتلك هي الآية الكبرى المراد هنا.
والآية: حقيقتها العلامة والأمارة، وتطلق على الحجة المثبتة لأنها علامة على ثبوت الحق، وتطلق على معجزة الرسول لأنها دليل على صدق الرسول وهو المراد هنا.
وأعقب فعل {فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى} بفعل {فَكَذَّبَ} للدلالة على شدة عناده ومكابرته حتى أنه رأى الآية فلم يتردد ولم يتمهل حتى ينظر في الدلالة بل بادر إلى التكذيب والعصيان.
والمراد بعصيانه عصيان أمر الله أن يوحده أو أن يطلق بني إسرائيل من استعبادهم وتسخيرهم للخدمة في بلاده.
وعطف {ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى} ب {ثم} للدلالة على التراخي الرتبي كما هو شأنها في عطف الجمل، فأفادت {ثم} أن مضمون الجملة المعطوف بها أعلى رتبة في الغرض الذي تضمنته الجملة قبلها، أي أنه ارتقى من التكذيب والعصيان إلى ما هو أشد وهو الإدبار والسعي والدعاء الإلهية لنفسه، أي بعد أن فكر مليا لم يقتنع بالتكذيب والعصيان فخشي أنه إن سكت ربما تروج دعوة موسى بين الناس فأراد الحيطة لدفعها وتحذير الناس منها.
والإدبار والسعي مستعملان في معنييهما المجازيين فإن حقيقة الإدبار هو المشي إلى

الجهة التي هي خلف الماشي بأن يكون متوجها إلى جهة ثم يتوجه إلى جهة تعاكسها. وهو هنا مستعار للإعراض عن دعوة الداعي مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم لمسيلمة لما أبى الإيمان "ولئن أدبرت ليعقرنك الله" .
وأما السعي فحقيقته: شدة المشي، وهو هنا مستعار للحرص والاجتهاد في أمره الناس بعدم الإصغاء لكلام موسى، وجمع السحرة لمعارضة معجزته إذ حسبها سحرا كما قال تعالى: {فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ} [طه:60].
والعمل الذي يسعى إليه يبينه قوله تعالى: {فَحَشَرَ فَنَادَى، فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} فثلاثتها مرتبة على {يَسْعَى} .
فجملة {فَحَشَرَ} عطف على جملة {يَسْعَى} لأن فرعون بذل حرصه ليقنع رعيته بأنه الرب الأعلى خشية شيوع دعوة موسى لعبادة الرب الحق.
ويجوز أن يكون {أَدْبَرَ} على حقيقته، أي ترك ذلك المجمع بأن قام معرضا إعلانا بغضبه على موسى ويكون {يَسْعَى} مستعملا في حقيقته أيضا، أي قام يشتد في مشيه وهي مشية الغاضب المعرض.
والحشر: جمع الناس، وهذا الحشر هو المبين في قوله تعالى: {قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ، يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ} [الشعراء: 36-37].
وحذف مفعول "حشر" لظهوره لأن الذين يحشرون هم أهل مدينته من كل صنف.
وعطف {فَنَادَى} بالفاء لإفادة أنه أعلن هذا القول لهم بفور حضورهم لفرط حرصه على إبلاغ ذلك إليهم.
والنداء: حقيقته جهر الصوت بدعوة أحد ليحضر ولذلك كانت حروف النداء نائبة مناب "أدعو" فنصبت الاسم الواقع بعدها. ويطلق النداء على رفع الصوت دون طلب حضور مجازا مرسلا بعلاقة اللزوم كقول الحريري في "المقامة الثلاثين" فحين جلس كأنه أبن ماء السماء، نادى مناد من قبل الأحماء الخ
وحذف مفعول "نادى" كما حذف مفعول "حشر".
وإسناد الحشر والنداء إلى فرعون مجاز عقلي لأنه لا يباشر بنفسه حشر الناس ولا نداءهم ولكن يأمر أتباعه وجنده، وإنما أسند إليه لأنه الذي أمر به كقولهم: بنى المنصور بغداد.

والقول الذي نادى به هو تذكير قومه بمعتقدهم فيه فإنهم كانوا يعتبرون ملك مصر إلها لأن الكهنة يخبرونهم بأنه أبن "آمون رع" الذي يجعلونه إلها ومظهره الشمس.
وصيغة الحصر في {أَنَا رَبُّكُمُ} لرد دعوة موسى.
وقوله: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} بدل من جملة {فَنَادَى} بدلا مطابقا بإعادة حرف العطف، وهو الفاء لأن البدل قد يقترن بمثل العامل في المبدل منه لقصد التأكيد كما في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ} وتقدم في سورة الأنعام [99].
ويجوز أن تكون جملة {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ} عطفا على جملة {يَسْعَى} على أن يكون فرعون أمر بهذا القول في أنحاء مملكته، وليس قاصرا على إعلانه في الحشر الذين حشرهم حول قصره.
فوصف نفسه بالرب الأعلى لأنه ابن "آمون رع" وهو الرب الأعلى، فأبنه هو القائم بوصفه، أو لأنه كان في عصر اعتقاده: أن فرعون رب الأرباب المتعددة عندهم فصفة {الْأَعْلَى} صفة كاشفة.
[25-26] {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى} .
جملة {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى} مفرعة عن الجمل التي قبلها، أي كان ما ذكر من تكذيبه وعصيانه وكيده سببا لأن أخذه الله، وهذا هو المقصود من سوق القصة وهو مناط موعظة المشركين وإنذارهم، مع تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيته.
وحقيقة الأخذ: التناول باليد، ويستعار كثيرا للمقدرة والغلبة كما قال تعالى: {فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:42] وقال {فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} [الحاقة:10]. والمعنى: فلم يفلت من عقاب الله.
والنكال: اسم مصدر نكل به تنكيلا وهو مثل السلام، بمعنى التسليم.
ومعنى النكال: إيقاع أذى شديد على الغير من التشهير بذلك بحيث ينكل أي يرد ويصرف من يشاهده عن أن يأتي بمثل ما عومل به المنكل به، فهو مشتق من النكول وهو النكوص والهروب، قال تعالى: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا} في سورة البقرة [66].
وانتصب {نَكَالَ} على المفعولية المطلقة لفعل "أخذه" مبين نوع الأخذ بنوعين منه لأن الأخذ يقع بأحوال كثيرة.

وإضافة {نَكَالَ} إلى {الْآخِرَةِ وَالْأُولَى} على معنى "في".
فالنكال في الأولى هو الغرق، والنكال في الآخرة هو عذاب جهنم.
وقد استعمل النكال في حقيقته ومجازه لأن ما حصل لفرعون في الدنيا هو نكال حقيقي وما يصيبه في الآخرة أطلق عليه النكال لأنه يشبه النكال في شدة التعذيب ولا يحصل به نكال يوم القيامة.
وورود فعل {أَخَذَه} بصيغة المضي مع أن عذاب الآخرة مستقبل ليوم الجزاء مراعا فيه أنه لما مات ابتدأ يذوق العذاب حين يرى منزلته التي سيؤول إليها يوم الجزاء كما ورد في الحديث.
وتقديم {الْآخِرَةِ} على {الْأُولَى} في الذكر لأن أمر الآخرة أعظم.
وجاء في آخر القصة بحوصلة وفذلكة لما تقدم فقال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى} فهم من معنى البيان لمضمون جملة {هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} [النازعات:15] الآيات.
والإشارة بقوله: {فِي ذَلِكَ} إلى {حَدِيثُ مُوسَى} [النازعات:15].
والعبرة: الحالة التي ينتقل الذهن من معرفتها إلى معرفة عاقبتها أو عاقبة أمثالها. وهي مشتقة من العبر، وهو الانتقال من ضفة واد أو نهر إلى ضفته الأخرى.
والمراد بالعبرة هنا الموعظة.
وتنوين "عبرة" للتعظيم لأن في هذه القصة مواعظ كثيرة من جهات هي مثلات للأعمال وعواقبها، ومراقبة الله وخشيته، وما يترتب على ذلك وعلى ضده من خير وشر في الدنيا والآخرة.
وجعل ذلك عبرة لمن يخشى، أي من تخالط نفسه خشية الله لأن الذين يخشون الله هم أهل المعرفة الذين يفهمون دلالة الأشياء على لوازمها وخفاياها، قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] وقال {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43]. والخشية تقدمت قريبا في قوله: {وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} [النازعات:19].
وفي هذا تعريض بالمشركين بأنهم ليسوا بأهل للانتفاع بمثل هذا كما لم ينتفع بمثله فرعون وقومه.

وفي القصة كلها تعريض بسادة قريش من أهل الكفر مثل أبي جهل بتنظيرهم بفرعون وتنظير الدهماء بالقوم الذين حشرهم فرعون ونادى فيهم بالكفر، وقد علم المسلمون مضرب هذا المثل فكان أبو جهل يوصف عند المسلمين بفرعون هذه الأمة.
وتأكيد الخبر ب {أن} بلام الابتداء لتنزيل السامعين الذين سيقت لهم القصة منزلة من ينكر ما فيها من المواعظ لعدم جريهم على الاعتبار والاتعاظ بما فيها من المواعظ.
[27-29] {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا، رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا، وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} .
انتقال من الاعتبار بأمثالهم من الأمم الذي هو تخويف وتهديد على تكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى إبطال شبهتهم على نفي البعث وهي قوله: {أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ} [النازعات:10] وما أعقبوه به من التهكم المبني على توهم إحالة البعث. وإذ قد فرضوا استحالة عودة الحياة إلى الأجسام البالية إذ مثلوها بأجساد أنفسهم إذ قالوا {أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ} [النازعات:10] جاء إبطال شبهتهم بقياس خلق أجسادهم على خلق السماوات والأرض فقيل لهم {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ} ، فلذلك قيل لهم هنا أأنتم بضميرهم ولم يقل: آالإنسان أشد خلقا، وما هم إلا من الإنسان، فالخطاب موجه إلى المشركين الذين عبر عنهم آنفا بضمائر الغيبة من قوله: {يَقُولُونَ} إلى قوله: {فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} [النازعات:14]، وهو التفات من الغيبة إلى الخطاب.
فالجملة مستأنفة لقصد الجواب عن شبهتهم لأن حكاية شبهتهم ب {يَقُولُونَ أَإِنَّا} إلى آخره، تقتضي ترقب جواب عن ذلك القول كما تقدم الإيماء إليه عند قوله: {يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ} [النازعات:10].
والاستفهام تقريري. والمقصود من التقرير إلجاؤهم إلى الإقرار بأن خلق السماء أعظم من خلقهم، أي من خلق نوعهم وهو نوع الإنسان وهم يعلمون أن الله هو خالق السماء فلا جرم أن الذي قدر على خلق السماء قادر على خلق الإنسان مرة ثانية، فينتج ذلك أن إعادة خلق الأجساد بعد فنائها مقدورة لله تعالى لأنه قدر على ما هو أعظم من ذلك قال تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [غافر:57]، ذلك أن نظرهم العقلي غيمت عليه العادة فجعلوا ما لم يألفوه محالا، ولم يلتفتوا إلى إمكان ما هو أعظم مما أحالوه بالضرورة.

و {أَشَدُّ} : اسم تفضيل، والمفضل عليه محذوف يدل عليه قوله: {أَمِ السَّمَاءُ} .
ومعنى {أَشَدُّ} : أصعب، و {خَلْقًا} مصدر منتصب على التمييز لنسبة اسدية إليهم، أي أشد من جهة خلق الله إياكم أشد أم خلقه السماء، فالتمييز محول عن المبتدأ.
و {السَّمَاءُ} يجوز أن يراد به الجنس وتعريفه تعريف الجنس، أي السماوات وهي محجوبة عن مشاهدة الناس فيكون الاستفهام التقريري مبنيا على ما هو مشتهر بين الناس من عظمة السماوات تنزيلا للمعقول منزل المحسوس.
ويجوز أن يراد به سماء معينة وهي المسماة بالسماء الدنيا التي تلوح فيها أضواء النجوم فتعريفه تعريف العهد، وهي الكرة الفضائية المحيطة بالأرض ويبدو فيها ضوء النهار وظلمة الليل، فيكون الاستفهام التقريري مبنيا على ما هو مشاهد لهم. وهذا أنسب بقوله: {وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} لعد احتياجه إلى التأويل.
وجملة {بَنَاهَا} يجوز أن تكون مستأنفة استئنافا بيانيا لبيان شدة خلق السماء، ويجوز أن تكون بدل اشتمال من قوله: {أَمِ السَّمَاءُ} ، لأنه في تقدير: أم السماء أشد خلقا. وقد جعلت كلمة {بَنَاهَا} فاصلة فيكون الوقف عندها ولا ضير في ذلك إذ لا لبس في المعنى لأن {بَنَاهَا} جملة و {أم} المعادلة لا يقع بعدها الا اسم مفرد.
والبناء: جعل بيت أو دار من حجارة، أو آجر أو أدم، أو أثواب من نسيج الشعر، مشدودة شققه بعضها إلى بعض بغرز أو خياطة ومقامة على دعائم، فما كان من ذلك بأدم يسمى قبة وما كان بأثواب يسمى خيمة وخباء.
وبناء السماء: خلقها، استعير له فعل البناء لمشابهتها البيوت في الارتفاع.
وجملة {رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} مبينة لجملة {بَنَاهَا} أو بدل اشتمال منها. وسلك طريق الإجمال ثم التفصيل لزيادة التصوير.
والسمك: بفتح السين وسكون الميم: الرفع في الفضاء كما اقتصر عليه الراغب سواء اتصل المرفوع بالأرض أو لم يتصل بها وهو مصدر سمك.
والرفع: جعل جسم معتليا وهو مرادف للسمك فتعدية فعل {رَفَعَ} إلى "السمك" للمبالغة في الرفع، أي رفع رفعها أي جعله رفيعا، وهو من قبيل قولهم: ليل اليل، وشعر شاعر، وظل ظليل.

والتسوية: التعديل وعدم التفاوت وهي جعل الأشياء سواء، أي متماثلة وأصلها أن تتعلق بأشياء وقد تتعلق باسم شيء واحد على معنى تعديل جهاته ونواحيه ومنه قوله هنا {فَسَوَّاهَا} ، أي عدل أجزاءها وذلك بأن أتقن صنعها فلا ترى فيها تفاوتا.
والفاء في {فَسَوَّاهَا} للتعقيب.
وتسوية السماء حصلت مع حصول سمكها، فالتعقيب فيه مثل التعقيب في قوله: {فَنَادَى فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 23-24].
وجملة {وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا} معطوفة على جملة {بَنَاهَا} وليست معطوفة على {رَفَعَ سَمْكَهَا} لأن إغطاش وإخراج الضحى ليس مما يبين به البناء.
والإغطاش: جعله غاطشا، أي ظلاما يقال: غطش الليل من باب ضرب، أي أظلم.
والمعنى: أنه خص الليل بالظلمة وجعله ظلاما، أي جعل ليلها ظلاما، وهو قريب من قوله: {رَفَعَ سَمْكَهَا} من باب قولهم: ليل أليل.
وإخراج الضحى: إبراز نور الضحى، وأصل الإخراج النقل من مكان حاو، واستعير للإظهار استعارة شائعة.
والضحى: بروز ضوء الشمس بعد طلوعها وبعد احمرار شعاعها، فالضحى هو نور الشمس الخالص وسمي به وقته على تقدير مضاف كما في قوله تعالى: {وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} [طه:59] يدل لذلك قوله تعالى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس:1]، أي نورها الواضح.
وإنما جعل إظهار النور إخراج لأن النور طاريء بعد الظلمة، إذ الظلمة عدم وهو أسبق، والنور محتاج إلى السبب الذي ينيره.
وإضافة "ليل" و"ضحى" إلى ضمير {السَّمَاءُ} إن كان السماء الدنيا فلأنهما يلوحان للناس في جو السماء فيلوح الضحى أشعة منتشرة من السماء صادرة من جهة مطلع الشمس فتقع الأشعة على وجه الأرض ثم إذا انحجبت الشمس بدورة الأرض في اليوم والليلة أخذ الظلام يحل محل ما يتقلص من شعاع الشمس في الأفق إلى أن يصير ليلا حالكا محيطا بقسم من الكرة الأرضية.

وإن كان السماء جنسا للسماوات فإضافة ليل وضحى إلى السماوات لأنهما يلوحان في جهاتها.
[30-32] {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا، أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا، وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} .
انتقل الكلام من الاستدلال بخلق السماء إلى الاستدلال بخلق الأرض لأن الأرض أقرب إلى مشاهدتهم وما يوجد على الأرض أقرب إلى علمهم بالتفصيل أو الإجمال القريب من التفصيل.
ولأجل الاهتمام بدلالة خلق الأرض وما تحتوي عليه من قدم اسم {الْأَرْضَ} على فعله وفاعله فانتصب على طريقة الاشتغال، والاشتغال يتضمن تأكيدا باعتبار الفعل المقدر العامل في المشتغل عنه الدال عليه الفعل الظاهر المشتغل بضمير الاسم المقدم.
والدحو والدحي يقال: دحوت ودحيت. واقتصر الجوهري على الواوي وهو الجاري في كلام المفسرين هو: البسط والمد بتسوية.
والمعنى: خلقها مدحوة، أي مبسوطة مسواة.
والإشارة من قوله: {بَعْدَ ذَلِكَ} إلى ما يفهم من {بَنَاهَا. رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} [النازعات: 27-28]، أي بعد أن خلق السماء خلق الأرض مدحوة.
والبعدية ظاهرها: تأخر زمان حصول الفعل، وهذه الآية أظهر في الدلالة على أن الأرض خلقت بعد السماوات وهو قول قتادة ومقاتل والسدي، وهو الذي تؤيده أدلة علم الهيئة. وقد تقدم بيان ذلك عند قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} في سورة البقرة [29]، وما ورد من الآيات مما ظاهره كظاهر آية سورة البقرة تأويله واضح.
ويجوز أن تكون البعدية مجازا في نزول رتبة ما أضيف إليه {بَعْدَ} عن رتبة ما ذكر قبله كقوله تعالى: {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} [القلم:13].
وجملة {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} بدل اشتمال من جملة {دَحَاهَا} لأن المقصد من دحوها بمقتضى ما يكمل تيسير الانتفاع بها.
ولا يصح جعل جملة {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا} إلى آخرها بيانا لجملة {دَحَاهَا}

لاختلاف معنى الفعلين.
والمرعى: مفعل من رعى يرعى، وهوهنا مصدر ميمي أطلق على المفعول كالخلق بمعنى المخلوق، أي أخرج منها ما يرعى.
والرعي: حيقيته تناول الماشية الكلأ والحشيش والقصيل.
فالاقتصار على المرعى اكتفاء عن ذكر ما تخرجه الأرض من الثمار والحبوب لأن ذكر المرعى يدل على لطف الله بالعجماوات فيعرف منه أن اللطف بالإنسان أحرى بدلالة فحوى الخطاب، والقرينة على الاكتفاء قوله بعده {مَتَاعًا لَكُمْ وَِلأَنْعَامِكُمْ} [النازعات:33].
وقد دل بذكر الماء والمرعى على جميع ما تخرجه الأرض قوتا للناس وللحيوان حتى ما تعالج به الأطعمة من حطب للطبخ فإنه مما تنبت الأرض، وحتى الملح فإنه من الماء الذي على الأرض.
ونصب {الْجِبَالَ} يجوز أن يكون على طريقة نصب {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} ويجوز أن يكون عطفا على {مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} ويكون المعنى: وأخرج منها جبالها، فتكون "ال" عوضا عن المضاف إليه مثل {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:41] أي مأوى من خاف مقام ربه فإن الجبال قطع من الأرض ناتئة على وجه الأرض.
وإرساء الجبال: إثباتها في الأرض، ويقال: رست السفينة، إذا شدت إلى الشاطئ فوقفت على الأنجر، ويوصف الجبل بالرسو حقيقة كما في "الأساس"، قال السمؤال أو عبد الملك بن عبد الرحيم يذكر جبلهم:
رسا أصله فوق الثرى وسما به ... إلى النجم فرع لا ينال طويل
وإثبات الجبال: هو رسوخها بتغلغل صخورها وعروق أشجارها لأنها خلقت ذات صخور سائخة إلى باطن الأرض ولولا ذلك لزعزعتها الرياح، وخلقت تتخللها الصخور والأشجار ولولا ذلك لتهيلت أتربتها وزادها في ذلك أنها جعلت أحجامها متناسبة بأن خلقت متسعة القواعد ثم تتصاعد متضائقة.
ومن معنى إرسائها: أنها جعلت منحدرة ليتمكن الناس من الصعود فيها بسهولة كما يتمكن الراكب من ركوب السفينة الراسية ولو كانت في داخل البحر ما تمكن من ركوبها إلا بمشقة.

[33] {مَتَاعًا لَكُمْ وَِلأَنْعَامِكُمْ} .
"المتاع" يطلق على ما ينتفع به مدة، ففيه معنى التأجيل، وتقدم عند قوله: {وَأَمْتِعَتِكُمْ} في سورة النساء [102]، وهو هنا اسم مصدر متع، أي إعطاء للانتفاع زمانا، وتقدم بيانه عند قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} في سورة الأعراف [24].
وانتصب {مَتَاعًا} على النيابة عن الفعل. والتقدير: متعناكم متاعا.
ولام {لَكُمْ وَِلأَنْعَامِكُمْ} لام التقوية لأن المصدر فرع في العمل عن الفعل، وهو راجع إلى خلق الأرض والجبال، وذلك في الأرض ظاهر، وأما الجبال فلأنها معتصمهم من عدوهم، وفيها مراعي أنعامهم تكون في الجبال مأمونة من الغارة عليها من غرة. وهذا إدماج الامتنان في الاستدلال لإثارة شكرهم حق النعمة بأن يعبدوا المنعم وحده ولا يشركوا بعبادته غيره.
وفي قوله: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات:30] إلى {وَِلأَنْعَامِكُمْ} محسن الجمع ثم التقسيم.
[34-41] {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى، يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَى، وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى، فَأَمَّا مَنْ طَغَى، وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى، وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} .
يجوز أن يكون التفريع على الاستدلال الذي تضمنه قوله: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ} [النازعات:27] الآيات، فإن إثبات البعث يقتضي الجزاء إذ هو حكمته. وإذا اقتضى الجزاء كان على العاقل أن يعمل لجزاء الحسنى ويجتنب ما يوقع في الشقاء وأن يهتم بالحياة الدائمة فيؤثرها ولا يكترث بنعيم زائل فيتورط في اتباعه، فلذلك فرع على دليل إثبات البعث تذكير بالجزاءين، وإرشاد إلى النجدين.
وإذا قد قدم قبل الاستدلال تحذير إجمالي بقوله: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ} [النازعات:6] الآية كما يذكر المطلوب قبل القياس في الجدل، جيء عقب الاستدلال بتفصيل ذلك التحذير مع قرنه بالتبشير لمن تحلى بضده فلذلك عبر عن البعث ابتداء بالراجفة لأنها مبدؤه، ثم بالزجرة، وأخيرا بالطامة الكبرى لما في هذين الوصفين من معنى يشمل الراجفة

وما بعدها من الأهوال إلى أن يستقر كل فريق في مقره.
ومن تمام المناسبة للتذكير بيوم الجزاء وقوع عقب التذكير بخلق الأرض، والامتنان بما هيأ منها للإنسان متاعا به، للإشارة إلى أن ذلك ينتهي عندما يحين يوم البعث والجزاء.
ويجوز أن يجعل قوله: {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى} مفرعا على قوله: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} [النازعات: 13-14] فإن الطامة هي الزجرة.
ومناط التفريع هو ما عقبه من التفصيل بقوله: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى} الخ إذ ل يلتئم تفريع الشيء على نفسه.
و"إذا" ظرف للمستقبل فلذلك إذا وقع بعد الفعل الماضي صرف إلى الاستقبال، وإنما يؤتى بعد "إذا" بفعل المضي لزيادة تحقيق ما يفيده "إذا" من تحقق الوقوع.
والمجيء: هنا مجاز في الحصول والوقوع لأن الشيء الموقت المؤجل بأجل يشبه شخصا سائرا إلى غاية، فإذا حصل ذلك المؤجل عند أجله فكأنه السائر إلى إذا بلغ المكان المقصود.
والطامة: الحادثة، أو الوقعة التي تطم، أي تعلو وتغلب بمعنى تفوق أمثالها من نوعها بحيث يقل مثلها في نوعها، مأخوذ من طم الماء، إذا غمر الأشياء وهذا الوصف يؤذن بالشدة والهول إذ لا يقال مثله إلا في الأمور المهولة ثم بولغ في تشخيص هولها بأن وصفت ب {الْكُبْرَى} فكان هذا أصرح الكلمات لتصوير ما يقارن الحادثة من الأهوال.
والمراد بالطامة الكبرى: القيامة وقد وصفت بأوصاف عديدة في القرآن مثل الصاخة والقارعة والراجفة ووصفت بالكبرى.
و {يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَى} بدل من جملة {إِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى} بدا اشتمال لأن ما أضيف إليه يوم هو من الأحوال التي يشتمل عليها زمن مجيء الطامة وهو يوم القيامة ويوم الحساب.
وتذكر الإنسان ما سعاه: أن يوقف على أعماله في كتابه لأن التذكر مطاوع ذكره. والتذكر يقتضي سبق النسيان وهو انمحاء المعلوم من الحافظة.

والمعنى: يوم يذكر الإنسان فيتذكر، أي يعرض عليه عمله فيعترف به إذ ليس المقصود من التذكر إلا أثره، وهو الجزاء فكني بالتذكر عن الجزاء قال تعالى: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:14].
وتبريز الجحيم: إظهار لأهلها. وجيء بالفعل المضاعف لإفادة إظهار الجحيم لأنه إظهار لأجل الإرهاب.
والجحيم: جهنم. ولذلك قرن فعله بتاء التأنيث لأن جهنم مؤنثة في الاستعمال، أو هو بتأويل النار، والجحيم كل نار عظيمة في حفرة عميقة.
وبني فعل {برزت} للمجهول لعدم الغرض ببيان مبرزها إذ الموعظة في الإعلام بوقوع إبرازها يومئذ.
و {لِمَنْ يَرَى} ، أي لكل راء، ففعل {يرى} منزل منزلة اللازم لأن المقصود لمن له بصر، كقول البحتري:
أن يرى مبصر ويسمع واع
والفاء في قوله: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى} رابطة الجواب "إذا" لأن جملة {مَنْ طَغَى} إلى آخرها جملة اسمية ليس فيها فعل يتعلق به "إذا" فلم يكن بين "إذا" وبين جوابها ارتباط لفظي فلذلك تجلب الفاء لربط الجواب في ظاهر اللفظ، وأما في المعنى فيعلم أن "إذا" ظرف يتعلق الاستقرار الذي بين المبتدأ والخبر.
و"أما" حرف تفصيل وشرط لأنها في معنى: مهما يكن شيء.
والطغيان تقدم معناه آنفاز والمراد هنا: طغى على أمر الله، كما دل عليه قوله: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} .
وقدم ذكر الطغيان على أيثار الحياة الدنيا لأن الطغيان من أكبر أسباب إيثار الحياة الدنيا فلما كان مسببا عنه ذكر عقبه مراعاة للترتب الطبيعي.
والإيثار: تفضيل شيء على شيء في حال لا يتيسر فيها الجمع بين أحوال كل منهما.
ويعدى فعل الإيثار إلى اسم المأثور بتعديه الفعل إلى مفعوله، ويعدى إلى المأثور عليه بحرف "على" قال تعالى حكاية {لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا} [يوسف:91]، وقد يترك ذكر

المأثور يشير إليه كما إذا كان المأثور والمأثور عليه ضدين كما هنا لما هو شائع من المقابلة بين الحياة لدنيا والآخرة.
وقد يترك ذكر المأثور اكتفاء بذكر المأثور عليه إذا كان هو الأهم كقوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الحشر:9] لظهور أن المراد يؤثرون الفقراء.
والمراد بالحياة الدنيا حظوظها ومنافعها الخاصة بها، أي التي لا تشاركها فيها حظوظ الآخرة، فالكلام على حذف مضاف، تقديره: نعيم الحياة.
ويفهم من فعل الإيثار أن معه نبذا لنعيم الآخرة. ويرجع إيثار الحياة الدنيا إلى إرضاء هوى النفس، وإنما يعرف كلا الحظين بالتوقيف الإلهي كما عرف الشرك وتكذيب الرسل والاعتداء على الناس والبطر والصلف وما يستتبعه ذلك من الأحوال الذميمة.
وملاك هذا الإيثار هو الطغيان على أمر الله، فإن سادتهم ومسيريهم يعلمون أن ما يدعوهم إليه الرسول هو الحق ولكنهم يكرهون متابعته استكبارا على أن يكونوا تبعا للغير فتضيع سيادتهم.
وقد زاد هذا المفاد بيانا قوله بعده {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} الآية. وبه يظهر أن مناط الذم في يثار الحياة الدنيا هو إيثارها على الآخرة، فأما الأخذ بحظوظ الحياة الدنيا التي لا يفيت الآخذ بها حظوظ الآخرة فذلك غير مذموم، وهو مقام كثير من عباد الله الصالحين حكاه الله تعالى عن صالحي بني إسرائيل من قولهم لقارون {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا} [القصص:77].
وقوله: {مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} مقابل قوله: {مَنْ طَغَى} لأن الخوف ضد الطغيان وقوله: {نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} مقابل قوله: {وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} .
ونهي الخائف نفسه مستعار للانكفاف عن تناول ما تحبه النفس من المعاصي والهوى، فجعلت نفس الإنسان بمنزلة شخص آخر يدعوه إلى السيئات وهو ينهاه عن هذه الدعوة، وهذا يشبه ما يسمى بالتجريد، يقولون: قالت له نفسه كذا فعصاها، ويقال: نهى قلبه، ومن أحسن ما قيل في ذلك قول عروة بن أذينة:
وإذا وجدت لها وساوس سلوة ... شفع الفؤاد إلى الضمير فسلها
والمراد ب {الهوى} ما تهواه النفس فهو مصدر بمعنى المفعول مثل الخلق بمعنى المخلوق، فهو ما ترغب فيه قوى النفس الشهوية والغضبية مما يخالف الحق والنفع

الكامل. وشاع الهوى في المرغوب الذميم ولذلك قيل في قوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص:50] أن {بِغَيْرِ هُدًى} حال فمؤكدة ليست تقييدا إذ لا يكون الهوى إلا بغير هدى.
وتعريف {الهوى} تعريف الجنس.
والتعريف في {المأوى} الأول والثاني تعريف العهد، أي مأوى من طغى، ومأوى من خاف مقام ربه، وهو تعريف معن عن ذكر ما يضاف إليه {مأوى} ومثله شائع في الكلام كما في قوله: غض الطرف1، أي الطرف المعهود من الأمر، أي غض طرفك. وقوله: واملأ السمع، أي سمعك2 وقوله تعالى: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ} [الأعراف:46]، أي على أعراف الحجاب، ولذلك فتقدير الكلام عند نحاة الصرة المأوى له أو مأواه عند نحاة الكوفة، ويسمي نحاة الكوفة الألف واللام هذه عوضا عن المضاف إليه وهي تسمية حسنة لوضوحها واختصارها، ويأبى ذلك البصريون، وهو خلاف ضئيل، إذ المعنى متفق عليه.
والمأوى: اسم مكان من أوى، إذا رجه، فالمراد به: المقر والمسكن لأن المرء يذهب إلى قضاء شؤونه ثم يرجع إلى مسكنه.
و {مَقَامَ رَبِّهِ} مجاز عن الجلال والمهابة وأصل المقام مكان القيام فكان أصله مكان ما يضاف هو إليه، ثم شاع إطلاقه على نفس ما يضاف إليه على طريقة الكناية بتعظيم المكان عن تعظيم صاحبه، مثل ألفاظ: جناب، وكنف، وذرى، قال تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46] وقال {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي} [إبراهيم:14] وذلك من قبيل الكناية المطلوب بها نسبة إلى المكنى عنه فإن خوف مقام الله مراد به خوف الله والمراد بالنسبة ما يشمل التعلق بالمفعول.
وفي قوله: {يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَى} إلى قوله: {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} محسن الجمع مع التقسيم.
ـــــــ
1 في قول الفرزدق:
فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولاكلابا
2 في قول البوصيري:
واملأ السمع من محاسن يم ... ليها عليها الإنشاذ والإملاء

وتعريف {النفس} في قوله: {وَنَهَى النَّفْسَ} هو مثل التعريف في {المأوى} .
وفي تعريف "أصحاب الجحيم" و"أصحاب الجنة" بطريق الموصول إيماء إلى أن الصلتين علتان في استحقاق ذلك المأوى.
[42-45] {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا، فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا، إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا، إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} .
استئناف بياني منشؤه أن المشركين كانوا يسألون عن وقت حلول الساعة التي يتوعدهم بها النبي صلى الله عليه وسلم كما حكاه الله عنهم غير مرة في القرآن كقوله: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس:48].
وكان سؤالهم استهزاء واستخفافا لأنهم عقدوا قلوبهم على استحالة وقوع الساعة وربما طلبوا التعجيل بوقوعها وأوهموا أنفسهم وأشياعهم أن تأخر وقوعها دليل على اليأس منها لأنهم يتوهمون أنهم إذا فعلوا ذلك مع الرسول صلى الله عليه وسلم لو كان صادقا لحمي غضب الله مرسله سبحانه فبادر بإراءتهم العذاب وهم يتوهمون شؤون الخالق كشؤون الناس إذا غضب أحدهم عجل بالانتقام طيشا وحنقا قال تعالى: {لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً} [الكهف:58].
فلا جرم لما قضي حق الاستدلال على إمكان البعث بإقامة الدليل وضرب الأمثال، وعرض بعقاب الذين استخفوا بها في قوله: {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى} [النازعات:34]، كان ذلك مثارا لسؤالهم أن يقولوا: هل لمجيء هذه الطامة الكبرى وقت معلوم? فكان الحال مقتضيا هذا الاستئناف البياني قضاء لحق المقام وجوابا عن سابق الكلام.
فضمير "يسألون" عائد إلى المشركين أصحاب القلوب الواجفة والذين قالوا {أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ} [النازعات:10].
وحكي فعل السؤال بصيغة المضارع للدلالة على تجدد هذا السؤال وتكرره.
والساعة: هي الطامة فذكر الساعة إظهار في مقام الإضمار لقصد استقلال الجملة بمدلولها مع تفنن في التعبير عنها بهذين الاسمين {الطَّامَّةُ} [النازعات:34] و {السَّاعَةِ} .
و {أَيَّانَ مُرْسَاهَا} جملة مبينة للسؤال.
و {أيان} اسم يستفهم به عن تعيين الوقت.

والاستفهام مستعمل في الاستبعاد كناية وهو أيضا كناية عن الاستحالة، و {مرساها} مصدر ميمي لفعل أرسى، والإرساء: جعل السفينة عند الشاطيء لقصد النزول منها. واستعير الإرساء للوقوع والحصول تشبيها للأمر المغيب حصوله بسفينة ماخرة البحر لا يعرف وصولها إلا إذا رست، وعليه ف {أيان} ترشيح للاستعارة، وتقدم نظير هذه في سورة الأعراف.
وقوله: {فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا} واقع موقع الجواب عن سؤالهم عن الساعة باعتبار ما يظهر من حال سؤالهم عن الساعة من إرادة تعيين وقتها وصرف النظر عن إرادتهم به الاستهزاء، فهذا الجواب من تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر، وهو من تلقي السائل بغير ما يتطلب تنبيها له على أن الأولى به أن يهتم بغير ذلك، وهو مضمون قوله: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} . وهذا ما يسمى بالأسلوب الحكيم، ونظيره ما روي في الصحيح أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة فقال له "ماذا أعددت لها?" ، أي كان الأولى لك أن تصرف عنايتك إلى الاستكثار من الحسنات إعدادا ليوم الساعة.
والخطاب وإن كان موجها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فالمقصود بلوغه إلى مسامع المشركين فلذلك اعتبر اعتبار جواب عن كلامهم وذلك مقتضى فصل الجملة عن التي قبلها شأن الجواب والسؤال.
و"ما" في قوله: {فيم} اسم استفهام بمعنى: أي شيء? مستعملة في التعجيب من سؤال السائلين عنها ثم توبيخهم. و"في" للظرفية المجازية بجعل المشركين في إحفائهم بالسؤال عن وقت الساعة كأنهم جعلوا النبي صلى الله عليه وسلم محوطا بذكر وقت الساعة، أي متلبسا به تلبس العالم بالمعلوم فدل على ذلك بحرف الظرفية على طريقة الاستعارة في الحرف.
وحذف ألف "ما" لوقوعها بعد حرف الجر مثل {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} [النبأ:1]. و {فيم} خبر مقدم و {أنت} مبتدأ، و {مِنْ ذِكْرَاهَا} إما متعلق بالاستقرار الذي في الخبر أو هو حال من المبتدأ.
و {من} : إما مبينة للإبهام الذي في "ما" الاستفهامية، أي في شيء هو ذكراها، أي في شيء هو أن تذكرها، أي لست متصديا لشيء هو ذكرى الساعة، وإما صفة للمبتدأ فهي اتصالية وهي ضرب من الابتدائية ابتداؤها مجازي، أي لست في شيء يتصل بذكرى الساعة ويحوم حوله، أي ما أنت في شيء هو ذكر وقت الساعة، وعلى الثاني: ما أنت في صلة مع ذكر الساعة، أي لا ملابسة بينك وبين تعيين وقتها.

وتقديم {فيم} على المبتدأ للاهتمام به ليفيد أن مضمون الخبر هو مناط الإنكار بخلاف ما لو قيل: أأنت في شيء من ذكراها?
والذكرى: اسم مصدر الذكر، والمراد به هنا الذكر اللساني.
وجملة {إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا} في موقع العلة للإنكار الذي اقتضاه قوله: {فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا} ولذلك فصلت، وفي الكلام تقدير مضاف، والمعنى: إلى ربك علم منتهاها.
وتقديم المجرور على المبتدأ في قوله: {إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا} لإفادة القصر، أي لا إليك، وهذا قصر صفة على موصوف.
والمنتهى: أصله مكان انتهاء السير، ثم أطلق على المصير لأن المصير لازم للانتهاء قال تعالى: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النجم:42] ثم توسع فيه فأطلق على العلم، أي لا يعلمها إلا الله، فقوله: {مُنتَهَاهَا} هو في المعنى على حذف مضاف، أي علم وقت حصولها كما دل عليه قوله: {أَيَّانَ مُرْسَاهَا} .
ويجوز أن يكون {مُنتَهَاهَا} بمعنى بلوغ خبرها كما يقال: أنهيت إلى فلان حادثة كذا، وانتهى إلي نبأ كذا.
وقوله: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} استئناف بياني ناشئ عن جملة {فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا} وهو أن يسأل السامع عن وجه إكثار النبي صلى الله عليه وسلم ذكرها وأنها قريبة، فأجيب بأن النبي صلى الله عليه وسلم حظه التحذير من بغتتها، وليس حظه الإعلام بتعيين وقتها، على أن المشركين قد اتخذوا إعراض القرآن عن تعيين وقتها حجة لهم على إحالتها لأنهم بجهلهم بالحقائق يحسبون أن من شأن النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلم الغيب ولذلك تكرر في القرآن تبرئة النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك كما في قوله تعالى: {قُلْ لاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ} [الأنعام:50].
وأفادت {إنما} قصر المخاطب على صفة الإنذار، أي تخصيصه بحال الإنذار وهو قصر موصوف على صفة فهو قصر إضافي، أي بالنسبة إلى ما اعتقدوه فيه بما دل عليه إلحافهم في السؤال من كونه مطلعا على الغيب.
وقوله: {مُنذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} قرأه الجمهور بإضافة {مُنذِرُ} إلى {مَنْ يَخْشَاهَا} . وقرأه أبو جعفر بتنوين {مُنذِرُ} على أن {مَنْ يَخْشَاهَا} مفعوله.

وفي إضافة {مُنذِرُ} إلى {مَنْ يَخْشَاهَا} أو نصبه به أيجاز حذف، تقديره: منذرها فينتذر من يخشاها، وقرينة ذلك حالية للعلم المتواتر من القرآن بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينذر جميع الناس لا يخص قوما دون آخرين فإن آيات الدعوة من القرآن ومقامات دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن إلا عامة، ولا يعرف من يخشى الساعة إلا بعد أن يؤمن المؤمن ولو عرف أحد بعينه أنه لا يؤمن أبدا لما وجهت إليه الدعوة، فتعين أن المراد: أنه لا ينتفع بالإنذار إلا من يخشى الساعة ومن عداه تمر الدعوة بسمعه فلا يأبه بها، فكان ذكر {مَنْ يَخْشَاهَا} تنويها بشأن المؤمنين وإعلانا لمزيتهم وتحقيرا للذين بقوا على الكفر قال تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ، إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ} [فاطر: 22-23].
وعلى هذا القانون يفهم لماذا وجه هذا الخطاب بالإيمان إلى ناس قد علم الله أنهم لا يؤمنون، وكشف الواقع على أنهم هلكوا ولم يؤمنوا مثل صناديد قريش أصحاب القليب قليب بدر مثل أبي جهل والوليد بن المغيرة، ولماذا وجه الخطاب بطلب التقوى ممن علم الله أنه لا يتقي مثل دعار العرب الذين أسلموا ولم يتركوا العدوان والفواحش، ومثل أهل الردة الذين لم يكفروا منهم ولكنهم أصروا على منع الزكاة وقاتلهم أبو بكر رضي الله عنه، فمن مات منهم في ذلك فهو ممن لم يتق الله لأن ما في علم الله لا يبلغ الناس إلى علمه ولا تظهر نهايته إلا بعد الموت وهي المسألة المعروفة عند المتكلمين من أصحابنا بمسألة الموافاة.
[46] {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} .
جواب عما تضمنه قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} [النازعات:42] باعتبار ظاهر حال السؤال من طلب المعرفة بوقت حلول الساعة واستبطاء وقوعها الذي يرمون به إلى تكذيب وقوعها، فأجيبوا على طريقة الأسلوب الحكيم، أي إن طال تأخر حصولها فإنها واقعة وأنهم يوم وقوعها كأنه ما لبثوا في انتظار إلا بعض يوم.
والعشية: معبر بها عن مدة يسيرة من زمان طويل على طريقة التشبيه، وهو مستفاد من {كَأَنَّهُمْ} ، فهو تشبيه حالهم بحالة من لم يلبث إلا عشية، وهذا التشبيه مقصود منه تقريب معنى التشبيه من المتعارف.
وقوله: {أَوْ ضُحَاهَا} تخيير في التشبيه على نحو قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنْ السَّمَاءِ} في سورة البقرة [19]. وفي هذا العطف زيادة في تقليل المدة لأن حصة الضحى

أقصر من حصة العشية.
وإضافة "ضحى" إلى ضمير "العشية" جرى على استعمال عربي شائع في كلامهم. قال الفراء: أضيف الضحى إلى العشية، وهو اليوم الذي يكون فيه على عادة العرب يقولون:آتيك الغداة أو عشيتها، وآتيك العشية أو غداتها، وأنشدني بعض بني عقيل:
نحن صبحنا عامرا في دارها ... جردا تعادى طرفي نهارها
عشية الهلال أو سرارها
أراد عشية الهلال أو عشية سرار العشية، فهو أشد من: آتيك الغداة أو عشيتها اه.
ومسوغ الإضافة أن الضحى أسبق من العشية إذ لا تقع عشية إلا بعد مرور ضحى، فصار ضحى ذلك اليوم يعرف بالإضافة إلى عشية اليوم لأن العشية أقرب إلى علم الناس لأنهم يكونون في العشية بعد أن كانوا في الضحى، فالعشية أقرب والضحى أسبق.
وفي هذه الإضافة أيضا رعاية على الفواصل التي هي على حرف الهاء المفتوحة من {أَيَّانَ مُرْسَاهَا} .
وبانتهاء هاته السورة انتهت سور طوال المفصل التي مبدؤها سورة الحجرات.

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة عبسسميت هذه السورة في المصاحف وكتب التفسير وكتب السنة "سورة عبس".
وفي "أحكام ابن العربي" عنونها سورة ابن أم مكتوم. ولم أر هذا لغيره. وقال الخفاجي: تسمى سورة الصاخة. وقال العيني في "شرح صحيح البخاري" تسمى سورة السفرة ، وتسمى سورة الأعمى ، وكل ذلك تسمية بألفاظ وقعت فيها لم تقع في غيرها من السور أو بصاحب القصة التي كانت سبب نزولها.
ولم يذكرها صاحب "الإتقان" في السور التي لها أكثر من اسم وهو عبس.
وهي مكية بالاتفاق.
وقال في "العارضة": لم يحقق العلماء تعيين النازل بمكة من النازل بالمدينة في الجملة ولا يحقق وقت إسلام ابن أم مكتوم اه. وهو مخالف لاتفاق أهل التفسير على أنها مكية فلا محصل لكلام ابن العربي.
وعدت الرابعة والعشرين في ترتيب نزول السور. نزلت بعد سورة والنجم وقبل سورة القدر.
وعدد آيها عند العادين من أهل المدينة وأهل مكة وأهل الكوفة اثنان وأربعون، وعند أهل البصرة إحدى وأربعون وعند أهل الشام أربعون.
وهي أولى السور من أواسط المفصل.
وسبب نزولها يأتي عند قوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى} [عبس:1].

أغراضها
تعليم رسول الله صلى الله عليه وسلم الموازنة بين مراتب المصالح ووجوب الاستقراء لخفياتها كي لا يفيت الاهتمام بالمهم منها في بادئ الرأي مهما آخر مساويا في الأهمية أو أرجح. ولذلك يقول علماء أصول الفقه إن على المجتهد أن يبحث عن معارض الدليل الذي لاح له.
والإشارة إلى اختلاف الحال بين المشركين المعرضين عن هدي الإسلام وبين المسلمين المقبلين على تتبع مواقعه.
وقرن ذلك بالتذكير بإكرام المؤمنين وسمو درجتهم عند الله تعالى.
والثناء على القرآن وتعليمه لمن رغب في علمه.
وانتقل من ذلك إلى وصف شدة الكفر من صناديد قريش بمكابرة الدعوة التي شغلت النبي صلى الله عليه وسلم عن الالتفات إلى رغبة ابن أم مكتوم.
والاستدلال على إثبات البعث وهو مما كان يدعوهم إليه حين حضور ابن أم مكتوم وذلك كان من أعظم ما عني به القرآن من حيث إن إنكار البعث هو الأصل الأصيل في تصميم المشركين على وجوب الإعراض عن دعوة القرآن توهما منهم بأنه يدعوا إلى المحال، فاستدل عليهم بالخلق الذي خلقه الإنسان، واستدل بعده بإخراج النبات والأشجار من أرض ميتة.
وأعقب الاستدلال بالإنذار بحلول الساعة والتحذير من أهوالها وبما يعقبها من ثواب المتقين وعقاب الجاحدين.
والتذكير بنعمة الله على المنكرين عسى أن يشكروه.
والتنويه بضعفاء المؤمنين وعلو قدرهم ووقوع الخير من نفوسهم والخشية، وأنهم أعظم عند الله من أصحاب الغنى الذين فقدوا طهارة النفس، وأنهم أحرياء بالتحقير والذم، وأنهم أصحاب الكفر والفجور.
[1-4] {عَبَسَ وَتَوَلَّى، أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى، أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى} .

افتتاح هذه السورة بفعلين متحملين لضمير لا معاد له في الكلام تشويق لما سيورد بعدهما، والفعلان يشعران بأن المحكي حادث عظيم، فأما الضمائر فيبين إبهاما قوله: {فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى} [عبس:6] وأما الحادث فيتبين من ذكر الأعمى ومن استغنى.
وهذا الحادث سبب نزول هذه الآية من أولها إلى قوله: {بَرَرَةٍ} [عبس:16]. وهو ما رواه مالك في الموطأ مرسلا عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال: أنزلت {عَبَسَ وَتَوَلَّى} في ابن أم مكتوم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقول: يا محمد استدنني، وعند النبي صلى الله عليه وسلم رجال من عظماء المشركين فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يعرض عنه "أي عن ابن أم مكتوم" ويقبل على الآخر، ويقول: "يا أبا فلان هل ترى بما أقول بأسا" فيقول "لا والدماء ما أرى بما تقول يأسى"، فأنزلت {عَبَسَ وَتَوَلَّى} .
ورواه الترمذي مسندا عن عروة عن عائشة بقريب من هذا، وقال الترمذي هذا حديث حسن غريب.
وروى الطبري عن ابن عباس "أن ابن أم مكتوم جاء يقريء النبي صلى الله عليه وسلم آية من القرآن ومثله عن قتادة.
وقال الواحدي وغيره "كان النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ يناجي عتبة بن ربيعة وأبا جهل، والعباس بن عبد المطلب، وأبي بن خلف، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن المغيرة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقبل على الوليد بن المغيرة يعرض عليهم الإسلام.
ولا خلاف في أن المراد ب {الأعمى} هو ابن أم مكتوم. قيل: اسمه عبد الله وقيل اسمه عمرو، وهو الذي اعتمده في "الإصابة"، وهو ابن قيس بن زائدة من بني عامر بن لؤي من قريش.
وأمه عاتكة وكنية أم مكتوم لأن ابنها عبد الله ولد أعمى والأعمى يكنى يكنى عنه بمكتوم. ونسب إلى أمه لأنها أشرف بيتا من بيت أبيه لأن بني مخزوم من أهل بيوتات قريش فوق بني عامر بن لؤي. وهذا كما نسب عمرو بن المنذر ملك الحيرة إلى أمه هند بنت الحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار زيادة في تشريفه بوارثة الملك من قبل أبيه وأمه.
ووقع في "الكشاف":أن أم مكتوم هي أم أبيه. وقال الطيبي: إنه وهم، وأسلم قديما وهاجر إلى المدينة قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم إليها، وتوفي بالقادسية في خلافة عمر بعد

سنة أربع عشرة أو خمسة عشرة.
وفيه نزلت هذه السورة وآية {غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ} من سورة النساء [95].
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه ويكرمه وقد استخلفه على المدينة في خروجه إلى الغزوات ثلاث عشرة مرة، وكان مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم هو وبلال بن رباح.
والعبوس بضم العين: تقطيب الوجه وإظهار الغضب. ويقال: رجل عبوس بفتح العين، أي متقطب، قال تعالى: {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} [الإنسان:10]. وعبس من باب ضرب.
والتولي. أصله تحول الذات من مكانها، ويستعار لعدم اشتغال المرء بكلام يلقى إليه أو جلس يحل عنده، وهو هنا مستعار لعدم الاشتغال بسؤال سائل ولعدم الإقبال على الزائر.
وحذف متعلق {تولى} لظهور أنه تول عن الذي مجيئه كان سبب التولي.
وعبر عن ابن أم مكتوم ب {الأَعْمَى} ترقيقا للنبي صلى الله عليه وسلم ليكون العتاب ملحوظا فيه أنه لما كان صاحب ضرارة فهو أجدر بالعناية به، لأن مثله يكون سريعا إلى انكسار خاطره.
و {أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى} مجرور بلام الجر محذوف مع {أن} وهو حذف مطرد وهو متعلق بفعلي {عَبَسَ وَتَوَلَّى} على طريقة التنازع.
والعلم بالحادثة يدل على أن المراد مجيء خاص وأعمى معهود.
وصيغة الخبر مستعملة في العتاب على الغفلة عن المقصود الذي تضمنه الخبر وهو اقتصار النبي صلى الله عليه وسلم على الاعتناء بالحرص على تبليغ الدعوة إلى من يرجو منه قبولها مع الذهول عن التأمل فيما يقارن ذلك من تعليم من يرغب في علم الدين ممن آمن، ولما كان صدور ذلك من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم لم يشأ الله أن يفاتحه بما يتبادر منه أنه المقصود بالكلام، فوجهه إليه على أسلوب الغيبة ليكون أول ما يقرع سمعه باعثا على أن يترقب المعني من ضمير الغائب فلا يفاجئه العتاب وهذا تلطف من الله برسوله صلى الله عليه وسلم ليقع العتاب في نفسه مدرجا وذلك أهون وقعا، ونظير هذا قوله: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة:43].
قال عياض: قال عون بن عبد الله والسمرقندي: أخبره الله بالعفو قبل أن يخبره بالذنب حتى سكن قلبه اه. فكذلك توجيه العتاب إليه مسندا إلى ضمير الغائب ثم جيء

بضمائر الغيبة فذكر الأعمى تظهر المراد من القصة وأتضح المراد من ضمير الغيبة.
ثم جيء بضمائر الخطاب على طريقة الالتفات.
ويظهر أن النبي صلى الله عليه وسلم رجا من ذلك المجلس أن يسلموا فيسلم بإسلامهم جمهور قريش أو جميعهم فكان دخول ابن أم مكتوم قطعا لسلك الحديث وجعل يقول للنبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله استدنني، علمني، أرشدني، ويناديه ويكثر النداء والإلحاح فظهرت الكراهية في وجه الرسول صلى الله عليه وسلم لعله لقطعه عليه كلامه وخشيته أن يفترق النفر المجتمعون، وفي رواية الطبري أنه أستقرأ النبي صلى الله عليه وسلم آية من القرآن.
وجملة {وَمَا يُدْرِيكَ} الخ في موضع الحال.
وما يدريك مركبة من "ما" الاستفهامية وفعل الدراية المقترن بهمزة التعدية، أي ما يجعلك داريا أي عالما. ومثله {مَا أَدْرَاكَ} كقوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة:3]. ومنه {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ} في سورة الأنعام [109].
والاستفهام في هذه التراكيب مراد منه التنبيه على مغفول عنه ثم تقع بعده جملة نحو {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ} [القارعة:3] ونحو قوله هنا {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} .
والمعنى أي شيء يجعلك داريا. وإنما يستعمل مثله لقصد الإجمال ثم التفصيل.
قال الراغب: ما ذكر ما أدراك في القرآن إلا وذكر بيانه بعده اه. قلت: فقد يبينه تفصيل مثل قوله هنا {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} وقوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 2-3] وقد يقه بعده ما فيه تهويل نحو {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ} [القارعة:10]، أي ما يعلمك حقيقتها وقوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة:3] أي أي شيء أعلمك جواب {ما الحاقة} .
وفعل {يُدْرِيكَ} معلق عن العمل في مفعوليه لورود حرف "لعل" بعده فإن "لعل" من موجبات تعليق أفعال القلوب على ما أثبته أبو علي الفارسي في "التذكرة" إلحاقا للترجي بالاستفهام في أنه طلب. فلما علق فعل {يُدْرِيكَ} عن العمل صار غير متعد إلى ثلاثة مفاعيل وبقي متعديا إلى مفعول واحد بهمزة التعددية التي فيها فصار ما بعده جملة مستأنفة.
والتذكر: حصول أثر التذكير، فهو خطور أمر معلوم في الذهن بعد نسيانه إذ هو

مشتق من الذكر بضم الذال.
والمعنى: انظر فقد يكون تزكيه مرجوا، أي إذا أقبلت عليه بالإرشاد زاد الإيمان رسوخا في نفسه وفعل خيرات كثيرة مما ترشده إليه فزاد تزكيه، فالمراد ب {يتزكى} تزكية زائدة على تزكية الإيمان بالتملي بفضائل شرائعه ومكارم أخلاقه مما يفيضه هديك عليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "لو أنكم تكونون إذا خرجتم من عندي كما تكونون عندي لصافحتكم الملائكة" إذ الهدى الذي يزداد به المؤمنون رفعة وكمالا في درجات الإيمان هو كاهتداء الكافر إلى الأيمان لا سيما إذ الغاية من الاهتداءين واحدة.
و {يزكى} أصله: يتزكى، قلبت التاء زايا لتقارب مخرجيهما قصدل ليتأنى الإدغام وكذلك فعل في {يذكر} من الإدغام.
والتزكي: مطاوع زكاه، أي يحصل أثر التزكية في نفسه. وتقدم في سورة النازعات.
وجملة {أَوْ يَذَّكَّرُ} عطف على يزكى، أي ما يدريك أن يحصل أحد الأمرين وكلاهما مهم، أي تحصل الذكرى في نفسه بالإرشاد لما لم يكن يعلمه أو تذكر لما كان في غفلة عنه.
والذكرى: اسم مصدر التذكير.
وفي قوله تعالى: {فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى} اكتفاء عن أن يقول: فينفعه التزكي وتنفعه الذكرى لظهور أن كليهما نفع له.
والذكرى: هو القرآن لأنه يذكر الناس بما يغفلون عنه قال تعالى: {وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [القلم:52] فقد كان فيما سأل عنه ابن أم مكتوم آيات من القرآن.
وقرأ الجمهور {فتنفعه} بالرفع عطفا على "يذكر". وقرأه عاصم بالنصب في جواب {لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} .
[5-6] {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى، فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى} .
تقدم الكلام على {أما} في سورة النازعات أنها بمعنى: مهما يكن شيء، فقوله: {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى} تفسيره مهما يكن الذي استغنى فأنت له تصدى، أي مهما يكن شيء فالذي استغنى تتصدى له، والمقصود: أنت تحرص على التصدي له، فجعل مضمون الجواب وهو التصدي له معلقا على وجود من استغنى وملازما له ملازمة التعليق الشرطي

على طريقة المبالغة.
والاستغناء: عد الشخص نفسه غنيا في أمر يدل عليه السياق قول، أو فعل أو علم، فالسين والتاء للحسبان، أي حسب نفسه غنيا. وأكثر ما يستعمل الاستغناء في التكبر والاعتزاز بالقوة.
فالمراد ب {مَنِ اسْتَغْنَى} هنا: من عد نفسه غنيا عن هديك بأن أعرض عن قبوله لأنه أجاب قول النبي صلى الله عليه وسلم له "هل ترى بما أقول بأسا" ، بقوله: "لا والدماء..." كناية على أنه لا بأس به يريد ولكني غير محتاج إليه.
وليس المراد ب {مَنِ اسْتَغْنَى} من استغنى بالمال إذ ليس المقام في أيثار صاحب مال على فقير.
وهذا الذي تصدى النبي صلى الله عليه وسلم لدعوته وعرض القرآن عليه هو على أشهر الأقوال المروية عن سلف المفسرين الوليد بن المغيرة المخزومي كما تقدم.
والإتيان بضمير المخاطب مظهرا قبل السند الفعلي دون استتاره في الفعل يجوز أن يكون للتقوي كأنه قيل: تتصدى له تصديا، فمناط العتاب هو التصدي القوي.
ويجوز أن يكون مفيدا للاختصاص، أي فأنت لا غيرك تتصدى له، أي ذلك التصدي لا يليق بك. وهذا قريب من قولهم: مثلك لا يبخل، أي لو تصدى له غيرك لكان هونا، فأما أنت فلا يتصدى مثلك لمثله فمناط العتاب هو أنه وقع من النبي صلى الله عليه وسلم في جليل قدره.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو جعفر بفتح التاء وتشديد الصاد على إدغام إحدى التاءين في الصاد. والباقون بالفتح وتخفيف الصاد على حف إحدى التاءين.
والتصدي: التعرض، أطلق هنا على الإقبال الشديد مجازا.
[7] {وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى} .
جملة معترضة بين جملة {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى} [عبس:5] وجملة {وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى} [عبس:8] الآية، والواو اعتراضية.
و {ما} نافية و {عليك} خبر مقدم. والمبتدأ {أَلاَّ يَزَّكَّى} ، والمعنى: عدم تزكيه

ليس محمولا عليك، أي لست مؤاخذا بعدم اهتدائه حتى يزيد من الحرص على ترغيبه في الإيمان ما لم يكلفك الله به. وهذا رفق من الله برسوله صلى الله عليه وسلم.
[8-10] {وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى، وَهُوَ يَخْشَى، فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} .
عطف على جملة {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى} [عبس:5] اقتضى ذكره قصد المقابلة مع المعطوف عليها مقابلة الضدين إتماما للتقسيم. والمراد: هو ابن أم مكتوم، فحصل بمضمون هذه الجملة تأكيد لمضمون {عَبَسَ وَتَوَلَّى، أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى} [عبس: 1-2].
والسعي: شدة المشي، كني به عن الحرص على اللقاء فهو مقابل لحال من استغنى لأن استغناءه استغناء الممتعض عن التصدي له.
وجملة {وَهُوَ يَخْشَى} في موضع الحال، وحذف مفعول {يَخْشَى} لظهوره لأن الخشية في لسان الشرع تنصرف إلى خشية الله تعالى.
والمعنى: أنه جاء طلبا للتزكية لأن يخشى الله من التقصير في الاسترشاد. واختير الفعل المضارع لإفادته التجدد.
والقول في {فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} كالقول في {فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى} [عبس:6].
والعبرة في هذه الآيات أن الله تعالى زاد نبيه صلى الله عليه وسلم علما عظيما من الحكمة النبوية، ورفع درجة علمه إلى أسمى ما تبلغ إليه عقول الحكماء رعاة الأمم، فنبهه إلى أن في معظم الأحوال أو جميعها نواحي صلاح ونفع قد تخفى لقلة اطرادها، ولا ينبغي ترك استقرائها عند الاشتغال بغيرها ولو ظنه الأهم، وأن ليس الإصلاح بسلوك طريقة واحدة للتدبير بأخذ قواعد كلية منضبطة تشبه قواعد العلوم يطبقها في الحوادث ويغضي عما يعارضها بأن يسرع إلى ترجيح القوي على الضعيف مما فيه صفة الصلاح، بل شأن مقوم الأخلاق أن يكون بمثابة الطبيب بالنسبة إلى الطبائع والأمزجة فلا يجعل لجميع الأمزجة علاجا واحدا بل الأمر يختلف باختلاف الناس. وهذا غور عميق يخاض إليه من ساحل القاعدة الأصولية في باب الاجتهاد القائلة إن المجتهد إذا لاح له دليل يبحث عن المعارض والقاعدة القائلة إن الله تعالى حكما قبل الاجتهاد نصب عليه أمارة وكلف المجتهد بإصابته فإن أصابه فله أجران وإن أخطئه فله أجر واحد.
فإذا كان ذلك مقام المجتهدين من أهل العلم لأن مستطاعهم فإن غوره هو اللائق

بمرتبة أفضل الرسل صلى الله عليه وسلم فيما لم يرد له فيه وحي، فبحثه عن الحكم أوسع مدى من مدى أبحاث عموم المجتهدين، وتنقيبه على المعارض أعمق غورا من تناوشهم، لئلا يفوت سيد المجتهدين ما فيه من صلاح ولو ضعيفا، ما لم يكن إعماله يبطل ما في غيره من صلاح أقوى لأن اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم في مواضع اجتهاده قائم مقام الوحي فيما لم يوح إليه فيه.
فالتزكية الحق هي المحور الذي يدور عليه حال ابن أم مكتوم وحال المشرك من حيث إنها مرغوبة للأول ومزهود فيها من الثاني، وهي مرمى اجتهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم لتحصيلها للثاني والأمن على قرارها للأول بإقباله على الذي يتجافى عن دعوته، وإعراضه عن الذي يعلم من حاله أنه متزك بالإيمان.
وفي حاليهما حالان آخران سرهما من أسرار الحكمة التي لقنها الله نبيه صلى الله عليه وسلم وهو يخفى في معتاد نظر النظار فأنبأه الله به ليزيل عنه ستار ظاهر حاليهما، فإن ظاهر حاليهما قاض بصرف الاهتمام إلى أحدهما وهو المشرك لدعوته إلى الإيمان حين لاح من لين نفسه لسماع القرآن ما أطمع النبي صلى الله عليه وسلم بأنه قد اقترب من الإيمان فمحض توجيه كلامه إليه لأن هدي الناس إلى الإيمان أعظم غرض بعث النبي صلى الله عليه وسلم لأجله، فالاشتغال به يبدو أهم وأرجح من الاشتغال بمن هو مؤمن خالص، وذلك ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم.
غير أن وراء ذلك الظاهر حالا آخر كامنا علمه الله تعالى العالم بالخفيات ولم يوحي لرسوله صلى الله عليه وسلم التنقيب عليه وهو حال مؤمن هو مظنة الازدياد من الخير، وحال كافر مصمم على الكفر تؤذن سوابقه بعناده وأنه لا يفيد فيه البرهان شيئا. وإن عميق التوسم في كلا الحالين قد يكشف للنبي صلى الله عليه وسلم بإعانة الله رجحان حال المؤمن المزداد من الرشد والهدي على حال الكافر الذي لا يغر ما أظهره من اللين مصانعة أو حياء من المكابرة، فإن كان في إيمان الكافر نفع عظيم عام للأمة بزيادة عددها ونفع الخاص لذاته. وفي ازدياد من وسائل الخير وتزكية النفس نفع خاص له والرسول راع لآحاد الأمة ولمجموعها، فهو مخاطب بالحفاظ على مصالح المجموع ومصالح الآحاد بحيث لا يدحض مصالح الآحاد لأجل مصالح المجموع إلا إذا تعذر الجمع بين الصالح العام والصالح الخاص، بيد أن الكافر صاحب هذه القضية ينبيء دخيلته بضعف الرجاء في إيمانه لو أطيل التوسم في حاله، وبذلك تعطل الانتفاع بها عموما وخصوصا وتمخض أن لتزكية المؤمن صاحب القضية نفعا لخاصة نفسه ولا يخلو من عود تزكية بفائدة على الأمة بازدياد الكاملين من أفرادها.

وقد حصل في هذا إشعار من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، بأن الاهتداء صنوف عديدة وله مراتب سامية، وليس الاهتداء مقتصرا على حصول الإيمان مراتب وميادين لسبق همم النفوس لا يغفل عن تعهدها بالتثبيت والرعي والإثمار، وذلك التعهد إعانة على تحصيل زيادة الإيمان.
وتلك سرائر لا يعلم حقها وفروقها إلا الله تعالى. فعلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو خليفة الله في خلقه أن يتوخاها بقدر المستطاع، فما أوحى الله إليه في شأنه اتبع ما يوحى إليه وما لم ينزل عليه وحي في شأنه فعليه أن يصرف اجتهاده كما أشار إليه قوله تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد:30].
فكان ذلك موقع هذه الوصية المفرغة في قالب المعاتبة للتنبيه إلى الاكتراث بتتبع تلك المراتب وغرس الإرشاد فيها على ما يرجى من طيب تربتها ليخرج منها نبات نافع للخاصة والعامة.
والحاصل أن الله تعالى أعلم رسوله صلى الله عليه وسلم أن ذلك المشرك الذي محضه نصحه لا يرجى منه صلاح، وأن ذلك المؤمن الذي استبقى العناية به إلى وقت آخر يزداد صلاحا تفيد المبادرة به، لأنه في حالة تلهفه على التلقي من رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد استعدادا منه في حين آخر.
فهذه الحادثة منوال ينسج عليها الاجتهاد النبوي إذا لم يرد له الوحي ليعلم أن من وراء الظواهر خبايا، وأن القرائن قد تستر الحقائق.
وفي ما قررنا ما يعرف به أن مرجع هذه الآية وقضيتها إلى تصرف النبي صلى الله عليه وسلم بالاجتهاد فيما لم يوح إليه فيه. وأنه ما حاد عن رعاية أصول الاجتهاد قيد أنملة. وهي دليل لما تقرر في أصول الفقه من جواز الاجتهاد للنبي ص9 ووقوعه، وأنه جرى على قاعدة إعمال أرجح المصلحتين بحسب الظاهر، لأن السرائر موكولة إلى الله تعالى، وأن اجتهاده صلى الله عليه وسلم لا يخطيء بحسب ما نصبه الله من الأدلة، ولكنه قد يخالف ما في علم الله، وأن الله لا يقر رسوله صلى الله عليه وسلم على ما فيه مخالفة لما أراده الله في نفس الأمر.
ونظير هذه القضية قضية أسرى بدر التي حدثت بعد سنين من نزول هذه الآية والموقف فيهما متماثل.
وفي قوله تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} [عبس:3] إيماء إلى عذر النبي صلى الله عليه وسلم في

تأخيره إرشاد ابن أم مكتوم لما علمت من أنه يستعمل في التنبيه على أمر مغفول عنه، والمعنى: لعله يزكى تزكية عظيمة كانت نفسه متهيئة لها ساعتئذ إذ جاء مسترشدا حريصا، وهذه حالة خفية.
وكذلك عذره في الحرص على إرشاد المشرك بقوله: {وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى} [عبس:7] إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم يخشى تبعة من فوات إيمان المشرك بسبب قطع المحاورة معه والإقبال على استجابة المؤمن المسترشد.
فإن قال قائل: فلماذا لم يعلم الله رسوله صلى الله عليه وسلم من وقت حضور ابن أم مكتوم بما تضمنه هذا التعليم الذي ذكرتم.
قلنا: لأن العلم الذي يحصل عن تبين غفلة، أو إشعار بخفاء يكون أرسخ في النفس من العلم المسوق عن غير تعطش ولأن وقوع ذلك بعد حصول سببه أشهر بين المسلمين وليحصل للنبي صلى الله عليه وسلم مزية كلا المقامين: مقام الاجتهاد، ومقام الإفادة.
وحكمة ذلك كله أن يعلم الله رسوله صلى الله عليه وسلم بهذا المهيع من علي الاجتهاد لتكون نفسه غير غافلة عن مثله وليتأسى به علماء أمته وحكامها وولاة أمورها.
ونظير هذا ما ضربه الله لموسى عليه السلام من المثل في ملاقاة الخضر، وما جرى من المحاورة بينهما، وقول الخضر لموسى {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} [الكهف:68] ثم قوله له {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف:82] . وقد سبق مثله في الشرائع السابقة كقوله في قصة نوح {قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:46] وقوله لإبراهيم {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:124].
هذا ما لاح لي في تفسير هذه الآيات تأصيلا وتفصيلا، وهو بناء على أساس ما سبق إليه المفسرون من جعلهم مناط العتاب مجموع ما في القصة من الإعراض عن إرشاد ابن أم مكتوم، ومن العبوس له، والتولي عنه، ومن التصدي القوي لدعوة المشرك والإقبال عليه.
والأظهر عندي أن مناط العتاب الذي تؤتيه لهجة الآية والذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ثبوته من كثرة ما يقول لابن أم مكتوم "مرحبا بمن عاتبني ربي لأجله" إنما هو عتاب على العبوس والتولي، لا على ما حف بذلك من المبادرة بدعوة، وتأخير إرشاد، لأن ما سلكه النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الحادثة من سبيل الإرشاد لا يستدعي عتابا إذ ما سلك إلا سبيل

الاجتهاد القويم لآن المقام الذي أقيمت فيه هذه الحادثة تقاضاه إرشادان لا محيص من تقديم أحدهما على الآخر، هما: إرشاد كافر إلى الإسلام عساه أن يسلم. وإرشاد مؤمن إلى شعب الإسلام عساه أن يزداد تزكية.
وليس في حال المؤمن ما يفيت إيمانا وليس في تأخير إرشاده على نية التفرغ إليه بعد حين ما يناكد زيادة صلاحه فإن زيادة صلاحه مستمرة على ممر الأيام.
ومن القواعد المستقراة من تصاريف الشريعة والشاهدة بها العقول السليمة تقديم درء المفاسد على جلب المصالح، ونفي الضر الأكبر قبل نفي الضر الأصغر، فلم يسلك النبي صلى الله عليه وسلم إلا مسلك الاجتهاد المأمور به فيما لم يوح إليه فيه. وهو داخل تحت قوله تعالى لعموم الأمة {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] وهو القائل "إنما أنا بشر وإنكم تختصمون ألي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع. فمن قضيت له بحق أخيه فلا يأخذه فإنما أقتطع له قطعة من نار" ، وهو القائل "أمرت أن أحكم بالظاهر والله يتولى السرائر" وهو حديث صحيح المعنى وإن كان في إسناده تردد. فلا قبل له بعلم المغيبات إلا أن يطلعه الله على شيء منها، فلا يعلم أن هذا المشرك مضمر الكفر والعناد وأن الله يعلم أنه لا يؤمن ولا أن لذلك المؤمن في ذلك صفاء نفس وإشراق قلب لا يتهيآن له في كل وقت.
وبذلك يستبين أن ما أوحى الله به إلى نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه السورة هو وحي له بأمر كان مغيبا عنه حين أقبل على دعوة المشرك وأرجأ إرشاد المؤمن. وليس في ظاهر حالهما ما يؤذن بباطنه وما أظهر الله فيها غيب علمه إلا لإظهار مزية مؤمن راسخ الإيمان وتسجيل كفر مشرك لا يرجى منه الأيمان، ومع ما في ذلك من تذكير النبي صلى الله عليه وسلم بما عمله الله من حسن لأدبه مع المؤمنين ورفع شأنهم أمام المشركين. فمناط المعاتبة هو العبوس للمؤمن بحضرة المشرك الذي يستصغر أمثال ابن أم مكتوم، فما وقع في خلال هذا العتاب من ذكر حال المؤمن والكافر إنما هو إدماج لأن في الحادثة فرصة من التنويه بسمو منزلة المؤمن لانطواء قلبه على أشعة تؤهله لأن يستنير بها ويفيضها على غيره جمعا بين المعاتبة والتعليم، على سنن هدي القرآن في المناسبات.
[11-16] {كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ، فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ، فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ، مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ،بِأَيْدِي سَفَرَةٍ،كِرَامٍ بَرَرَةٍ} .

{كلا}
إبطال وقد تقدم ذكر "كلا" في سورة مريم [79-82]، وتقدم قريبا في سورة النبأ. وهو هنا إبطال لما جرى في الكلام السابق ولو بالمفهوم كما في قوله: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} [عبس:3]. ولو بالتعريض أيضا كما في قوله: {عَبَسَ وَتَوَلَّى} [عبس:1].
وعلى التفسير الثاني المتقدم ينصرف الإبطال إلى {عَبَسَ وَتَوَلَّى} خاصة.
ويجوز أن يكون تأكيدا لقوله: {وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى} [عبس:7] على التفسيرين، أي لا تظن أنك مسؤول عن مكابرته وعناده فقد بلغت ما أمرت بتبليغه.
{إِنَّهَا تَذْكِرَة، فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَه، فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ، مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ، بِأَيْدِي سَفَرَةٍ، كِرَامٍ بَرَرَةٍ} .
استئناف بعد حرف الإبطال، وهو استئناف بياني لأن ما تقدم من العتاب ثم ما عقبه من الإبطال يثير في خاطر الرسول صلى الله عليه وسلم الحيرة في كيف يكون العمل في دعوة صناديد قريش إذا لم يتفرغ لهم لئلا ينفروا عن التدبر في القرآن، أو يثير في نفسه مخافة أن يكون قصر في شيء من واجب التبليغ.
وضمير {أنها} عائدة إلى الدعوة التي تضمنها قوله: {فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى} [عبس:6].
ويجوز أن يكون المعنى: أن هذه الموعظة تذكرة لك وتنبيه لما غفلت عنه وليست ملاما وإنما يعاتب الحبيب حبيبه.
ويجوز عندي أن يكون {كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} استئنافا ابتدائيا موجها إلى من كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعوه قبيل نزول السورة فإنه كان يعرض القرآن على الوليد بن المغيرة ومن معه، وكانوا لايستجيبون إلى ما دعاهم ولا يصدقون بالبعث، فتكون "كلا" إبطالا لما نعتوا به القرآن من أنه أساطير الأولين أو نحو ذلك.
فيكون ضمير {إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} عائدا إلى الآيات التي قرأها النبي صلى الله عليه وسلم عليهم في ذلك المجلس ثم أعيد عليها الضمير بالتذكير للتنبيه على أن المراد آيات القرآن.
ويؤيد هذا الوجه قوله تعالى عقبه {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [عبس:17] الآيات حيث ساق لهم أدلة إثبات البعث.
فكان تأنيث الضمير نكتة خصوصية لتحميل الكلام هذه المعاني.

والضمير الظاهر في قوله: {ذَكَرَهُ} يجوز أن يعود إلى {تَذْكِرَةٌ} لأن ما صدقها القرآن الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرضه على صناديد قريش قبيل نزول هذه السورة، أي فمن شاء ذكر القرآن وعمل به.
ويجوز أن يكون الضمير عائدا إلى الله تعالى فإن إعادة ضمير الغيبة على الله تعالى دون ذكر معاده في الكلام كثير في القرآن لأنه شؤونه تعالى وأحكامه نزل القرآن لأجلها فهو ملحوظ لكل سامع للقرآن، إي فمن شاء ذكر الله وتوخى مرضاته.
والذكر على كلا الوجهين: الذكر بالقلب، وهو توخي الوقوف عند الأمر والنهي. وتعدية فعل "ذكر" إلى ذلك الضمير على الوجهين على حذف مضاف يناسب المقام.
والذي اقتضى الإتيان بالضمير وكونه ضمير مذكر مراعاة الفواصل وهي: {تَذْكِرَةٌ ، مُطَهَّرَةٍ ، سَفَرَةٍ ، بَرَرَةٍ} .
وجملة {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} معترضة بين قوله: {تَذْكِرَةٌ} وقوله: {فِي صُحُفٍ} .
والفاء لتفريع مضمون الجملة على جملة {إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} فإن الجملة المعترضة تقترن بالفاء إذا كان معنى الفاء قائما، فالفاء من جملة الاعتراض، أي هي تذكرة لك بالأصالة وينتفع بها من شاء أن يتذكر على حسب استعداده، أي يتذكر بها كل مسلم كقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف:44].
وفي قوله: {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} تعريض بأن موعظة القرآن نافعة لكل أحد تجرد عن العناد والمكابرة، فمن لم يتعظ بها فلأنه لم يشأ أن يتعظ. وهذا كقوله تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} [ النازعات:45] وقوله: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير:28] وقوله: {وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [الحاقة:48] ونحوه كثير، وقد تقدم قريب منه في قوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} في سورة الإنسان [29].
والتذكرة: اسم لما يتذكر به الشيء إذا نسي. قال الراغب: وهي أعم من الدلالة والأمارة قال تعالى: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} . وتقدم نظيره في سورة المدثر [49].
وكل من {تَذْكِرَةٌ} و {ذَكَرَهُ} هو من الذكر القلبي الذي مصدره بضم الذال في الغالب، أي فمن شاء عمل به ولا ينسه.

والصحف: جمع صحيفة، وهي قطعة من أديم أو ورق أو خرقة يكتب فيها الكتاب، وقياس جمعها صحائف، وأما جمعها على صحف فمخالف للقياس، وهو الأفصح ولم يرد في القرآن إل صحف، وسيأتي في سورة الأعلى، وتطلق الصحيفة على ما يكتب فيه.
و {مُطَهَّرَةٍ} اسم مفعول من طهره إذا نظفه. والمراد هنا: الطهارة المجازية وهي الشرف، فيجوز أن يحمل الصحف على حقيقته فتكون أوصافها ب {مُكَرَّمَةٍ ، مَرْفُوعَةٍ ، مُطَهَّرَةٍ} محمولة على المعاني المجازية وهي معاني الاعتناء بها كما قال تعالى: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} [النمل:29]. وتشريفها كما قال تعالى: {إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ} [المطففين:18] وقدسية معانيها كما قال تعالى: {وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ} [البقرة:129]، وكان المراد بالصحف الأشياء التي كتب فيها القرآن من رقوق وقراطيس، وأكتاف، ولخاف، وجريد.
فقد روي أن كتاب الوحي كانوا يكتبون فيها كما جاء في خبر جمع أبي بكر للمصحف حين أمر بكتابته في رقوق أو قراطيس، ويكون إطلاق الصحف عليها تغليبا ويكون حرف "في" للظرفية الحقيقية ويكون المراد بالسفرة جمع سافر، أي كاتب، وروي عن ابن عباس. قال الزجاج: وإنما قيل للكتاب سفر "بكسر السين" وللكاتب سافر لأن معناه أنه يبين الشيء ويوضحه يقال: أسفر الصبح، إذا أضاء وقاله الفراء.
ويجوز أن يراد بالصحف كتب الرسل الذين قبل محمد صلى الله عليه وسلم مثل التوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم عليه السلام. فتكون هذه الأوصاف تأييدا للقرآن بأن الكتب الإلهية السابقة جاءت بما جاء به. ومعنى كون هذه التذكرة في كتب الرسل السابقين: أن أمثال معانيها وأصولها في كتبهم، كما قال تعالى: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى، صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى:18-19] وكما قال {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ} [الشعراء:196] وكما قال {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} [الشورى:13].
ويجوز أن يراد بالصحف صحف مجازية، أي ذوات موجودة قدسية يتلقى جبريل عليه السلام منها القرآن الذي يؤمر بتبليغه للنبي صلى الله عليه وسلم، ويكون إطلاق الصحف عليها لشبهها بالصحف التي يكتب الناس فيها. ومعنى {مُكَرَّمَةٍ} عناية الله بها، ومعنى {مَرْفُوعَةٍ} أنها من العالم العلوي، ومعنى {مُطَهَّرَةٍ} مقدسة مباركة، أي هذه التذكرة مما تضمنه علم الله وما كتبه للملائكة في صحف قدسية.

وعلى الوجهين المذكورين في المراد بالصحف "فسفرة" يجوز أن يكون جمع سافر، مثل كاتب وكتبة، ويجوز أن يكون اسم جمع سفير، وهو المرسل في أمر مهم، فهو فعيل بمعنى فاعل، وقياس جمعه سفراء وتكون "في" للظرفية المجازية، أي المماثلة في المعاني.
وتاتي وجوه مناسبة في معنى {سَفَرَةٍ} ، فالمناسب للوجه الأول أن يكون السفرة كتاب القرآن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أن يكون المراد قراء القرآن، وبه فسر قتادة وقال: هم بالنبطية القراء، وقال غيرهم: الوراقون باللغة العبرانية.
وقد عدت هذه الكلمة في عداد ما ورد في القرآن من المعرب كما في الإتقان عن ابن أبي حاتم، وقد أغفلها السيوطي فيما أستدركه على ابن السبكي وابن حجر في نظميهما في المعرب في القرآن أو قصد عدم ذكرها لوقوع الاختلاف في تعريبها.
والمناسبة للوجه الثاني: أن يكون محمله الرسل.
والمناسب، للوجه الثالث أن يكون محمله الملائكة لأنهم سفراء بين الله ورسله.
والمراد بأيديهم: حفظهم إياه إلى تبليغه، فمثل حال الملائكة بحال السفراء الذين يحملون بأيديهم الألوك والعهود.
وإما أن يراد: الرسل الذين كانت بأيديهم كتبهم مثل موسى وعيسى عليهما السلام.
وإما أن يراد كتاب الوحي مثل عبد الله بن سعد بن أبي سرح وعبد الله بن عمرو بن العاص وعمر وعثمان وعلي وعامر بن فهيرة.
وكان بعض المسلمين يكتب ما يتلقاه من القرآن ليدرسه مثل ما ورد في حديث إسلام عمر بن الخطاب من عثوره على سورة طه مكتوبة عند أخته أم جميل فاطمة زوج سعيد بن زيد.
وفي وصفهم بالسفرة ثناء عليهم لأنهم يبلغون القرآن للناس وهم حفاظه ووعاته قال تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49] فهذا معنى السفرة. وفيه بشارة بأنهم سينشرون الإسلام في الأمم وقد ظهر مما ذكرنا ما لكلمة {سَفَرَةٍ} من الوقع العظيم المعجز في هذا المقام.
ووصف {كرام} مما وصف به الملائكة في آيات أخرى كقوله تعالى: {كِرَامًا

كَاتِبِينَ} [الإنفطار:11].
ووصف البررة ورد صفة للملائكة في الحديث الصحيح قوله: "الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة" .
والبررة : جمع بر، وهو الموصوف بكثرة البرور. وأصل بر مصدر بر يبر من باب فرح، ومصدره كالفرح، فهذا من باب الوصف بالمصدر مثل عدل وقد اختص البررة بجمع بر ولا يكون جمع بار.
والغالب في اصطلاح القرآن أن البررة الملائكة والأبرار الآدميون. قال الراغب لأن بررت أبلغ من إبرار إذ هو جمع بر، وأبرار جمع بار، وبر أبلغ من بار كما أن عدلا أبلغ من عادل.
وهذا تنويه بشأن القرآن لأن التنويه بالآيات الواردة في أول هذه السورة من حيث إنها بعض القرآن فأثني على القرآن بفضيلة أثره في التذكير والإرشاد، وبرفعة مكانته، وقدس مصدره، وكرم قراره، وطهارته، وفضائل حملته ومبلغيه، فإن تلك المدائح عائدة إلى القرآن بطريق الكناية.
[17-22] {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ، مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ، ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ، ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ، ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} .
استئناف ابتدائي نشأ عن ذكر من استغنى فإنه أريد به معين واحد أو أكثر، وذلك يبينه ما وقع من الكلام الذي دار يبن النبي صلى الله عليه وسلم وبين صناديد المشركين في المجلس الذي دخل فيه ابن أم مكتوم.
والمناسبة وصف القرآن بأنه تذكرة لمن شاء أن يتذكر، وإذ قد كان أكبر دواعيهم على التكذيب بالقرآن إنه أخبر عن البعث وطالبهم بالإيمان به كان الاستدلال على وقوع البعث أهم ما يعتنى به في هذا التذكير وذلك من أفنان قوله: {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} [عبس:12].
والذي عرف بقوله: {مَنِ اسْتَغْنَى} [عبس:5] يشمله العموم الذي أفاده تعريف {الإِنْسَانُ} من قوله تعالى: {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} .
وفعل قتل فلانا أصله دعاء عليه بالقتل. والمفسرون الأولون جعلوا {قُتِلَ

الإِنْسَانُ} أنه لعن، رواه الضحاك عن ابن عباس وقوله مجاهد وقتادة وأبو مالك. قال في الكشاف دعاء عليه وهذا من أشنع دعواتهم ، أي فمورده غير مورود قوله تعالى: {قَاتَلَهُمْ اللَّهُ} [التوبة30] وقولهم: قاتل الله فلانا يريدون التعجب من حاله، وهذا أمر مرجعه للاستعمال ولا داعي إلى حمله على التعجيب لأن قوله: {مَا أَكْفَرَهُ} يغني عن ذلك.
والدعاء بالسوء من الله تعالى مستعمل في التحقير والتهديد لظهور أن حقيقة الدعاء لا تناسب الإلهية لأن الله هو الذي يتوجه إليه الناس بالدعاء.
وبناء {قتل} للمجهول متفرع على استعماله في الدعاء، إذ لا غرض في قاتل يقتله، وكثر في القرآن مبنيا للمجهول نحو {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} [المدثر:19].
وتعريف {الإِنْسَانُ} يجوز أن يكون التعريف المسمى تعريف الجنس فيفيد استغراق جميع أفراد الجنس، وهو استغراق حقيقي، وقد يراد به استغراق معظم الأفراد بحسب القرائن فتولد بصيغة الاستغراق إدعاء لعدم الاعتداد بالقليل من الأفراد، ويسمى الاستغراق العرفي في اصطلاح علماء المعاني، ويسمى العام المراد به الخصوص في اصطلاح علماء الأصول والقرينة هنا ما بين به كفر الإنسان من قوله: {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} إلى قوله: {ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} ، فيكون المراد من قوله: {الإِنْسَانُ} المشركين المنكرين البعث، وعلى ذلك جملة المفسرين، فإن معظم العرب يومئذ كافرون بالبعث.
قال مجاهد: ما كان في القرآن {قُتِلَ الإِنْسَانُ} فإنما عني به الكافر.
والأحكام التي يحكم بها على الأجناس يراد أنها غالبة على الجنس، فالاستغراق الذي يقضيه تعريف لفظ الجنس المحكوم عليه استغراق عرفي معناه ثبوت الحكم للجنس على الجملة، فلا يقتضي اتصاف جميع الأفراد به، بل قد يخلو عنه بعض الأفراد وقد يخلو عنه المتصف به في بعض الأحيان، فقوله: {مَا أَكْفَرَهُ} تعجيب من كفر جنس الإنسان أو شدة كفره وإن كان القليل منه غير كافر.
فآل معنى الإنسان إلى الكفار من هذا الجنس وهم الغالب على نوع الإنسان.
فغالب الناس كفروا بالله من أقدم عصور التاريخ وتفشى الكفر بين أفراد الإنسان وانتصروا له وناضلوا عنه. ولا أعجب من كفر من ألهوا أعجز الموجودات من حجارة وخشب، أو نفوا أن يكون لهم رب خلقهم.

ويجوز أن يكون تعريف {الإِنْسَانُ} تعريف العهد لشخص معين من الإنسان يعينه خبر سبب النزول، فقيل: أريد به أمية بن خلف، وكان ممن حواه المجلس الذي غشيه ابن أم مكتوم، وعندي أن الأولى أن يكون أراد به الوليد بن المغيرة.
وعن ابن عباس أن المراد عتبة بن أبي لهب، وذكر في ذلك قصة لا علاقة لها بخبر المجلس الذي غشيه ابن أم مكتوم، فتكون الجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا، والمناسبة ظاهرة.
وجملة {مَا أَكْفَرَهُ} تعليل لإنشاء الدعاء عليه دعاء التحقير والتهديد. وهذا تعجيب من شدة كفر هذا الإنسان.
ومعنى شدة الكفر أن كفره شديد كما، وكيفا، ومتى، لأنه كفر بوحدانية الله، وبقدرته على إعادة خلق الأجسام بعد الفناء، وبإرساله الرسول، وبالوحي إليه صلى الله عليه وسلم، وأنه كفر قوي لأنه اعتقاد قوي لا يقبل التزحزح، وأنه مستمر لا يقلع عنه مع تكرر التذكير والإنذار والتهديد.
وهذه الجملة بلغت نهاية الإيجاز وأرفع الجزالة بأسلوب غليظ دال على السخط بالغ حد المذمة، جامع للملامة، ولم يسمع مثلها قبلها، فهي من جوامع الكلم القرآنية.
وحذف المتعلق بلفظ {أكفره} لظهوره من لفظ "أكفر" وتقديره: ما أكفره بالله.
وفي قوله: {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} محسن الاتزان فإنه من بحر الرمل من عروضه الأولى المحذوفة.
وجملة {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} بيان لجملة {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} ، لأن مفاد هذه الجملة الاستدلال على إبطال إحالتهم البعث وذلك الإنكار من أكبر أصول كفرهم.
وجيء في هذا الاستدلال بصورة سؤال وجواب للتشويق إلى مضمونه، ولذلك قرن الاستفهام بالجواب عنه على الطريقة المتقدمة في قوله تعالى: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ، عَنْ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} [النبأ: 1-2].
والاستفهام الصوري، وجعل المستفهم عنه تعيين الأمر الذي خلق الإنسان لأن المقام هنا ليس لإثبات أن الله خلق الإنسان، بل المقام لإثبات إمكان إعادة الخلق بتنظيره بالخلق الأول على طريقة قوله تعالى: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ} [ق:15] أي كما كان خلق

الإنسان أول مرة من نطفة يكون خلقه ثاني مرة من كائن ما، ونظيره قوله تعالى: {فَلْيَنظُرْ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ، خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ، يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ، إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} في سورة الطارق [5-8].
والضمير المستتر في قوله: {خَلَقَهُ} عائد إلى الله تعالى المعلوم من فعل الخلق لأن المشركين لم يكونوا ينكرون أن الله خالق الإنسان.
وقدم الجار والمجرور في قوله: {مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ} محاكاة لتقديم المبين في السؤال الذي اقتضى تقديمه كونه استفهاما يستحق صدر الكلام، مع الاهتمام بتقديم ما منه الخلق، لما في تقديمه من التنبيه للاستدلال على عظيم حكمة الله تعالى إذ كون أبدع مخلوق معروف من أهون شيء وهو النطفة.
وإنما لم يستغن عن إعادة فعل خلقه في جملة الجواب مع العلم به بتقديم ذكر حاصله في السؤال لزيادة التنبيه على دقة ذلك الخلق البديع.
فذكر فعل {خَلَقَهُ} الثاني في أسلوب المساواة ليس بإيجاز، وليس بإطناب.
والنطفة: الماء القليل، وهي فعلة بمعنى مفعولة كقولهم: قبضة حب، وغرفة ماء. وغلب إطلاق النطفة على الماء الذي منه التناسل، فذكرت النطفة لتعين ذكرها لأنها مادة خلق الحيوان للدلالة على أن صنع الله بديع فإمكان البعث حاصل، وليس في ذكر النطفة هنا إيماء الى تحقير أصل نشأة الإنسان لأن قصد ذلك محل نظر، على أن المقام هنا للدلالة على خلق عظيم وليس مقام زجر المتكبر.
وفرع على فعل {خَلَقَهُ} فعل {فَقَدَّرَهُ} بفاء التفريع لأن التقدير هنا إيجاد الشيء على مقدار مضبوط منظم كقوله تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:2]، أي جعل التقدير من آثار الخلق لأنه خلقه متهيئا للنماء وما يلابسه من العقل والتصريف وتمكينه من النظر بعقله، والأعمال التي يريد إتيانها وذلك حاصل مع خلقه مدرجا مفرعا.
وهذا التفريع وما عطف عليه إدماج للامتنان من خلال الاستدلال.
وحرف {ثم} من قوله: {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} للتراخي الرتبي لأن تيسير سبيل العمل الإنساني أعجب في الدلالة على بديع صنع الله لأنه أثر العقل وهو أعظم ما في خلق الإنسان وهو أقوى في المنة.

و {السَّبِيلَ} : الطريق، وهو مستعار لما يفعله الإنسان من أعماله وتصرفاته تشبيها للأعمال بطريق يمشي فيه الماشي تشبيه المحسوس بالمعقول.
ويجوز أن يكون مستعارا لمسقط المولود من بطن أمه فقد أطلق على ذلك الممر اسم السبيل في قولهم "السبيلان" فيكون هذا من استعمال اللفظ في مجازيه. وفيه مناسبة لقوله بعده {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} ، ف {أَمَاتَهُ} مقابل {خَلَقَهُ} و {أقبره} مقابل {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} لأن الإقبار إدخال في الأرض وهو ضد خروج المولود إلى الأرض.
والتيسير: التسهيل، و {السَّبِيلَ} منصوب بفعل مضمر على طريق الاشتغال، والضمير عائد إلى {السَّبِيلَ} . والتقدير: يسر السبيل له، كقوله: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} [القمر:17] أي لذكر الناس.
وتقديم {السَّبِيلَ} على فعله للاهتمام بالعبرة بتيسير السبيل بمعنييه المجازيين، وفيه رعاية للفواصل.
وكذلك عطف {ثُمَّ أَمَاتَهُ} على {يسره} بحرف التراخي وهو لتراخي الرتبة فإن انقراض تلك القوى العقلية والحسية بالموت، بعد أن كانت راسخة زمنا ما، انقراض عجيب دون تدريج ولا انتظار زمان يساوي مدة بقائها، وهذا إدماج للدلالة على عظيم القدرة.
ومن المعلوم بالضرورة أن الكثير الذي لا يحصى من أفراد النوع الإنساني قد صار أمره إلى الموت وأن من هو حي آيل لا محالة، فالمعنى: ثم أماته ويميته.
فصيغة المضي في قوله: {أَمَاتَهُ} مستعملة في حقيقته وهو موت من مات، ومجازه وهو موت من سيموتون، لأن موتهم في المستقبل محقق. وذكر جملة {ثُمَّ أَمَاتَهُ} توطئة وتمهيد لجملة {فأقبره} .
وإسناد الإماتة إلى الله تعالى حقيقة عقلية بحسب عرف الاستعمال. وهذا إدماج للامتنان في خلال الاستدلال كما أدمج {فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} فيما سبق.
و {أقبره} جعله ذا قبر، وهو أخص من معنى قبره، أي أن الله سبب له أن يقبر. قال الفراء: أي جعله مقبورا، ولم يجعله ممن يلقى للطير والسباع ولا ممن يلقى في النواويس جمع ناووس صندوق من حجر أو خشب يوضع فيه الميت ويجعل في بيت أو نحوه.

والإقبار: تهيئة القبر ويقال: أقبره أيضا، إذا أمر بأن يقبر، ويقال: قبر الميت، إذا دفنه، فالمعنى: أن الله جعل الناس ذوي قبور.
وإسناد الإقبار إلى الله تعالى مجاز عقلي لأن الله ألهم الناس الدفن كما في قصة دفن أحد ابني آدم أخاه بإلهام تقليده لفعل غراب حفر لغراب آخر ميت حفرة فواراه فيها، وهي سورة العقود، فأسند الإقبار إلى الله لأنه ألهم الناس إياه. وأكد ذلك بما أمر في شرائعه من وجوب دفن الميت.
والقول في أن صيغة المضي مستعملة في حقيقتها ومجازها نظير القول في صيغة {أَمَاتَهُ} .
وهذه كلها دلائل على عظيم قدرة الله تعالى وهم عدوها قاصرة على الخلق الثاني، وهي تتضمن منن على الناس في خلقهم وتسويتهم وإكمال قواهم أحياء، وإكرامهم أمواتا بالدفن لئلا يكون الإنسان كالشيء اللقي يجتنب بنو جنسه القرب منه ويهينه التقام السباع وتمزيق مخالب الطير والكلاب، فمحل المنة في قوله: {ثُمَّ أَمَاتَهُ} هو فيما فرع عليه بالفاء بقوله: {فَأَقْبَرَهُ} وليست الإماتة وحدها منة.
وفي الآية دليل على أن وجوب دفن أموات الناس بالإقبار دون الحرق بالنار كما يفعل مجوس الهند، ودون الإلقاء لسباع الطير في ساحات في الجبال محوطة بجدران دون سقف كما كان يفعله مجوس الفرس وكما كان يفعله أهل الجاهلية بموتى الحروب والغارات في الفيافي إذ لا يوارونهم بالتراب وكانوا يفتخرون بذلك ويتمنونه قال الشنفري:
لا تقبروني إن قبري محرم ... عليكم ولكن أبشري أم عامر
يريد أن تأكله الضبع، وأبطل الإسلام ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم دفن شهداء المسلمين يوم أحد في قبور مشتركة، ووارى قتلى المشركين ببدر في قليب، قال عمرو بن معد يكرب قبل الإسلام:
آليت لا أدفن قتلاكم ... فدخنوا المرء وسرباله
وجملة {ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} رجوع إلى إثبات البعث وهي كالنتيجة عقب الاستدلال. ووقع قوله: {إِذَا شَاءَ} معترضا بين جملة {أَمَاتَهُ} وجملة {أَنْشَرَهُ} لرد توهم المشركين أن عدم التعجيل بالبعث دليل على انتفاء وقوعه في المستقبل و"إذا" ظرف للمستقبل ففعل المضي بعدها مؤول بالمستقبل. والمعنى: ثم حين يشاء ينشره، أي ينشره

حين تتعلق مشيئته بإنشاره.
و {أَنْشَرَهُ} بعثه من الأرض وأصل النشر إخراج الشيء المخبأ يقال: نشر الثوب، إذ أزال طيه، ونشر الصحيفة، إذا فتحها ليقرأها. ومنه الحديث فنشروا التوراة.
وأما الإنشار بالهمزة فهو خاص بإخراج الميت من الأرض حيا وهو البعث، فيجوز أن يقال: نشر الميت، والعرب لم يكونوا يعتقدون إحياء الأموات إلا أن يكونوا قد قالوه في تخيلا تهم التوهمية. فيكون منه قول الأعشى:
حتى يقول الناس مما رأوا ... يا عجبا للميت الناشر
ولذلك قال الله تعالى: {وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ} [هود:7].
وفي قوله: {إِذَا شَاءَ} رد لشبهتهم إذ كانوا يطلبون تعجيل البعث تحديا وتهكما ليجعلوا عدم الاستجابة بتعجيله دليلا على أنه لا يكون، فأعلمهم الله أنه يقع عندما يشاء الله وقوعه لا في الوقت الذي يسألونه لأنه موكول إلى حكمة الله واستفادة إبطال قولهم من طريق الكناية.
[23] {كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} .
تفسير هذه الآية معضل وكلمات المفسرين والمتأولين فيها بعضها جاف المنال، وبعضها جاف عن الاستعمال. ذلك أن المعروف في {كَلاّ} أنه حرف ردع وزجر عن كلام سابق أو لاحق، وليس فيما تضمنه ما سبقها ولا فيما بعدها ما ظاهره أن يزجر عنه ولا أن يبطل، فتعين المصير إلى تأويل مورد {كَلاّ} .
فأما الذين التزموا أن يكون حرف {كَلاّ} للردع والزجر وهم الخليل وسيبويه وجمهور نحاة البصرة ويجيزون الوقوف عليها كما يجيزون الابتداء بها، فقد تأولوا هذه الآية وما أشبهها بتوجيه الإنكار إلى ما يوميء إليه الكلام السابق أو اللاحق دون صريحه ولا مضمونه.
فمنهم من يجعل الردع متوجها إلى ما قبل {كَلاّ} مما يوميء إليه قوله تعالى: {ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} [عبس:22]، أي إذا شاء الله، إذ يوميء إلى أن الكافر ينكر أن ينشره الله ويعتل بأنه لم ينشر أحد منذ القدم إلى الآن. وهذا الوجه هو الجاري على قول البصريين

كما تقدم.
وموقع {كَلاّ} على هذا التأويل موقع الجواب والإبطال، وموقع جملة {لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} موقع العلة للإبطال، أي لو قضى ما أمره الله به لعلم بطلان زعمه أنه لا ينشر.
وتأوله في الكشاف بأنه ردع للإنسان عما هو عليه أي مما ذكر قبله من شدة كفره واسترساله عليه دون إقلاع، يريد أنه زجر غير مضمون {مَا أَكْفَرَهُ} [عبس:17].
ومنهم من جعل الردع متوجها إلى ما بعد {كَلاّ} مما يوميء إليه قوله تعالى: {لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} ، أي ليس الأمر كما يقول هذا الإنسان الكافر من أنه قد أدى حق الله الذي نبهه إليه بدعوة الرسل وبإيداع قوة التفكير فيه، ويتسروح هذا من كلام روي عن مجاهد، وهو أقرب لأن ما بعد {كَلاّ} لما كان نفيا ناسب أن يجعل {كَلاّ} تمهيدا للنفي.
وموقع {كَلاّ} على هذا الوجه أنها جزء من استئناف.
وموقع جملة {لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} استئناف بياني نشأ عن مضمون جملة {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} إلى قوله: {أَنْشَرَهُ} [عبس: 18-22]، أي إنما لا يهتد الكافر إلى دلالة الخلق الأول على إمكان الخلق الثاني، لأنه لم يقض حق النظر الذي أمره الله.
وأما الذين لم يلتزموا معنى الزجر في {كَلاّ} وهم الكسائي القائل تكون {كَلاّ} بمعنى حقا، ووافقه ثعلب وأبو حاتم السجستاني القائل تكون {كَلاّ} بمعنى "ألا" الاستفتاحية.
والنضر بن شميل والفراء القائلان: تكون {كَلاّ} حرف جواب بمعنى نعم. فهؤلاء تأويل الكلام على رأيهم ظاهر.
وعن الفراء {كَلاّ} تكون صلة هي حرفا زائدا للتأكيد كقولك: كلا ورب الكعبة اه. وهذا وجه إليه ولا يتأتى في هذه الآية.
فالوجه في موقع {كَلاّ} هنا أنه يجوز أن تكون زجرا عما يفهم من قوله: {ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} [عبس:22] المكنى به عن فساد استدلالهم بتأخيره على أنه لا يقع فيكون الكلام على هذا تأكيدا للإبطال الذي في قوله: {كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} [عبس:11] باعتبار معناه الكنائي إن كان صريح معناه غير باطل فقوله: {إِذَا شَاءَ} مؤذن بأنه الآن لم يشأ وذلك مؤذ بإبطال أن يقع البعث عندما يسألون وقوعه، أي أنا لا نشاء انشارهم الآن وإنما

ننشرهم عندما نشاء مما قدرنا أجله عند خلق العالم الأرضي.
وتكون جملة {لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} تعليلا للردع، أي الإنسان لم يستتم ما أجل الله لبقاء نوعه في هذا العالم من يوم تكوينه فلذلك لا ينشر الآن، ويكون المراد بالأمر في قوله: {مَا أَمَرَهُ} أمر التكوين، أي لم يستتم ما صدر به أمر تكوينه حين قيل لآدم {وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [البقرة:36].
ويجوز أن يكون زجرا عما أفاده قوله: {لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} وقدمت {كَلاّ} في صدر الكلام الواردة لإبطاله للاهتمام بمبادرة الزجر.
وتقدم الكلام على {كَلاّ} في سورة مريم وأحلت هنالك على ما هذا.
و {لَمَّا} حرف نفي يدل على نفي الفعل في الماضي مثل "لم" ويزيد بالدلالة على استمرار النفي إلى وقت التكلم كقوله تعالى: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14].
والمقصود أنه مستمر على عدم قضاء ما أمره الله مما دعاه إليه.
والقضاء: فعل ما يجب على الإنسان كاملا لأن أصل القضاء مشتق من الإتمام فتضمن فعلا تاما، أي لم يزل الإنسان الكافر معرضا عن الإيمان الذي أمره الله به، وعن النظر في خلقه من نطفة ثم تطور أطوارا إلى الموت قال تعالى: {فَلْيَنظُرْ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ} [الطارق:5]، وما أمره من التدبر في القرآن ودلائله ومن إعمال عقله في الاستدلال على وحدانية الله تعالى ونفي الشرك عنه. ومن الدلائل نظره في كيفية خلقه فإنها دلائل قائمة بذاته فاستحق الردع والزجر.
والضمير المستتر في {أَمَرَهُ} عائد إلى ما عادت عليه الضمائر المستترة في خلقه، وقدره، وأماته، وأقبره، وأنشره
[24-32] {فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ، أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا، ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا، فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا، وَعِنَبًا وَقَضْبًا، وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً، وَحَدَائِقَ غُلْبًا، وَفَاكِهَةً وَأَبًّا، مَتَاعًا لَكُمْ وَِلأَنْعَامِكُمْ} .
إما مفرع على قوله: {لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} [عبس:23] فيكون مما أمره الله به من النظر، وإما على قوله: {مَا أَكْفَرَهُ} [عبس:17] فيكون هذا النظر مما يبطل ويزيل شدة كفر

الإنسان. والفاء مع كونها للتفريع تفيد معنى الفصيحة، إذ التقدير: إن أراد أن يقضي ما أمره فلينظر إلى طعامه أو إن أراد نقض كفره فلينظر إلى طعامه. وهذا نظير الفاء في قوله تعالى: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ، فَلْيَنظُرْ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ} [الطارق: 4-5]، أي إن أراد الإنسان الخلاص من تبعات ما يكتبه عليه الحافظ فلينظر مم خلق ليهتدي بالنظر فيؤمن فينجو.
وهذا استدلال آخر على تقريب كيفية البعث انتقل إليه في معرض الإرشاد إلى تدارك الإنسان ما أهمله وكان الانتقال من الاستدلال بما في خلق الإنسان من بديع الصنع من دلائل قائمة بنفسه في آية {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [عبس:18] إلى الاستدلال بأحوال موجودة في بعض الكائنات شديدة الملازمة لحياة الإنسان ترسيخا للاستدلال، وتفننا فيه، وتعريضا بالمنة على الإنسان في هذه الدلائل، ومن نعمة النبات الذي به بقاء حياة الإنسان وحياة ما ينفعه من الأنعام.
وتعدية فعل النظر هنا بحرف {إلى} تدل على أنه من نظر العين إشارة إلى أن العبرة تحصل بمجرد النظر في أطواره. والمقصود التدبر فيما يشاهده الإنسان من أحوال طعامه بالاستدلال بها على إيجاد الموجودات من الأرض. وجعل المنظور إليه ذات الطعام مع أن المراد النظر إلى أسباب تكونه وأحوال تطوره إلى حالة انتفاع الإنسان به وانتفاع أنعام الناس به.
وذلك من أسلوب إناطة الأحكام بأسماء الذوات، والمراد أحوالها مثل قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ} [المائدة:4] أي أكلها، فأمر الله الإنسان بالتفكير في أطوار تكون الحبوب والثمار التي بها طعامه، وقد وصف له تطور ذلك ليتأمل ما أودع إليه في ذلك من بديع التكوين سواء رأى ذلك ببصره أم لم يره، ولا يخلو أحد عن علم إجمالي بذلك، فيزيده هذا الوصف علما تفصيليا، وفي جميع تلك الأطوار تمثيل لإحياء الأجساد المستقرة في الأرض، فقد يكون هذا التمثيل في مجرد الهيئة الحاصلة بإحياء الأجساد، وقد يكون تمثيلا في جميع تلك الأطوار بأن تخرج الأجساد من الأرض كخروج النبات بأن يكون بذرها في الأرض ويرسل الله لها قوى لا نعلمها تشابه قوة الماء الذي به تحيا بذور النبات، قال تعالى: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنْ الأَرْضِ نَبَاتًا، ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا} [نوح: 17-18].
وفي تفسير ابن كثير عند قوله تعالى: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} [التكوير:7] عن ابن

[أبي]1 حاتم بسنده إلى ابن عباس يسيل واد من أصل العرش فيما بين الصيحتين فينبت منه كل خلق بلي إنسان أو دابة ولو مر عليهم مار قد عرفهم قبل ذلك لعرفهم قد نبتوا على وجه الأرض، ثم ترسل الأرواح فتزوج الأجساد اه. وأمور الآخرة لا تتصورها الأفهام بالكنه وإنما يجزم العقل بأنها من الممكنات وهي مطيعة لتعلق القدرة التنجيزي.
والإنسان المذكور هنا هو الإنسان المذكور في قوله: {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [عبس:17] وإنما جيء باسمه الظاهر دون الضمير كما في قوله: {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [عبس:18]، لأن ذلك قريب من معاده وما هنا ابتداء كلام فعبر فيه بالاسم الظاهر للإيضاح.
وأدمج في ذلك منه عليه بالإمداد بالغذاء الذي به غخلاف ما يضمحل من قوته بسبب جهود العقل والتفكير الطبيعية التي لا يشعر بحصولها في داخل المزاج، وبسبب كد الأعمال البدنية والإفرازات، وتلك أسباب لتبخر القوى البدنية فيحتاج المزاج إلى تعويضها وإخلافها وذلك بالطعام والشراب.
وإنما تعلق النظر بالنظر مع أن الاستدلال هو بأحوال تكوين الطعام، إجراء للكلام على الإيجاز ويبينه ما في الجمل بعده من قوله: {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا} إلى آخرها.
فالتقدير: فلينظر الإنسان إلى خلق طعامه وتهيئة الما لإنمائه وشق الأرض وإنباته وإلى انتفاعه به وانتفاع مواشيه في بقاء حياتهم.
وقرأ الجمهور {أَنَّا صَبَبْنَا} بكسر همزة "إنا" على أن الجملة بيان لجملة {فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} لتفصيل ما اجمل هنالك على وجه الإيجاز. وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وخلف ورويس عن يعقوب بفتح الهمزة على أنه اسم بدل اشتمال من {طَعَامِهِ} أو البدل الذي يسميه بعض النحويين بدل مفصل من مجمل.
والصب: إلقاء صبرة متجمعة من أجزاء مائعة أو كالمائعة في وعاء غير الذي كانت فيه، يقال: صب الماء في الجرة، وصب القمح في الهري، وصب الدراهم في الكيس. وأصله: صب الماء، مثل نزول المطر وإفراغ الدلو.
والشق: الإبعاد بين ما كان متصلا، والمراد هنا شق سطح الأرض بخرق الماء فيه أو بآلة كالمحراث والمسحاة، أو بقوة حر الشمس في زمن الصيف لتتهيأ لقبول الأمطار في فصل الخريف والشتاء.
ـــــــ
1 زيادة من "تفسير ابن كثير" عند شرح الآية، والنقل منه بتصرف.

وإسناد الصب والشق والإنبات إلى ضمير الجلالة لأن الله مقدر نظام الأسباب المؤثرة في ذلك، ومحكم نواميسها وملهم الناس استعمالها.
فالإسناد مجاز عقلي في الأفعال الثلاثة. وقد شاع في {صَبَبْنَا} و {أَنْبَتْنَا} حتى ساوى الحقيقة العقلية.
وانتصب {صَبًّا} و {شقا} على المفعول المطلق ل {صَبَبْنَا} و {شَقَقْنَا} مؤكدا لعامله ليتأتى تنوينه لما في التنكير من الدلالة على التعظيم وتعظيم كل شيء بما يناسبه وهو تعظيم تعجب.
والفاء في قوله: {فَأَنْبَتْنَا} للتفريع والتعقيب وهو في كل شيء بحسبه.
والحب أريد منه المقتات منه للإنسان، وقد تقدم في قوله تعالى: {كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ} في سورة البقرة [261].
والعنب: ثمر الكرم، ويتخذ منه الخمر والخل، ويؤكل رطبا، ويتخذ منه الزبيب.
والقضب: الفصفصة الرطبة، سميت قضبا لأنها تعلف للدواب رطبة فتقضب، أي تقطع مرة بعد أخرى ولا تزال تخلف ما دام الماء ينزل عليها، وتسمى القت.
والزيتون: الثمر الذي يعصر منه الزيت المعروف.
والنخل: الشجر الذي ثمرته التمر وأطواره.
والحدائق: جمع حديقة وهي الجنة من نخل وكرم وشجر وفواكه، وعطفها على النخل من عطف الأعم على الأخص، ولأن في ذكر الحدائق إدماجا للامتنان بها لأنها مواضع تنزههم واخترافهم.
وإنما ذكر النخل دون ثمرته، وهو التمر، خلافا لما قرن به من الثمار والفواكه والكلأ، لأن منافع شجر النخيل كثيرة لا تقتصر على ثمره، فهم يقتاتون ثمرته من تمر ورطب وبسر، ويأكلون جماره، ويشربون ماء عود النخلة إذا شق عنه، ويتخذون من نوى التمر علفا لإبلهم، وكل ذلك من الطعام، فضلا عن اتخاذهم البيوت والأواني من خشبه، والحصر من سعفه، والحبال من ليفه، فذكر اسم الشجرة الجامعة لهذه المنافع أجمع في الاستدلال بمختلف الأحوال وإدماج الامتنان بوفرة النعم، وقد تقدم قريبا في سورة النبأ.
والغلب: جمع غلباء، وهي مؤنث الأغلب، وهو غليظ الرقبة، يقال غلب كفرح،

يوصف به الإنسان والبعير، وهو هنا مستعار لغلظ أصول الشجر فوصف الحدائق به، إما على تشبيه الحديقة في تكاثف أوراق شجرها والتفافها بشخص غليظ الأوداج والأعصاب فتكون استعارة، وإما على تقدير محذوف، أي غلب شجرها، فيكون نعتا سببيا وتكون الاستعارة في تشبيه كل شجرة بامرأة غليظة الرقبة، وذلك من محاسن الحدائق لأنها تكون قد استكملت قوة الأشجار كما في قوله: {وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا} [النبأ:16].
وخصت الحدائق بالذكر لأنها مواضع التنزه والاختراف، ولأنها تجمع أصنافا من الأشجار.
والفاكهة: الثمار التي تؤكل للتفكه لا للاقتيات، مثل الرطب والعنب الرطب والرمان واللوز.
والأب: بفتح الهمزة وتشديد الباء: الكلأ الذي ترعاه الأنعام، روي أن أبا بكر الصديق سئل عن الأب: ما هو? فقال "أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا علم لي به" وروي أن عمر بن الخطاب قرأ يوما على المنبر {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا} إلى {وَأَبًّا} فقال كل هذا قد عرفناه فما الأب? ثم رفع عصا كانت في يده وقال: هذا لعمر الله هو التكلف فما عليك ياابن أم عمر أن لا تدري ما الأب ابتغوا ما بين لكم من هذا الكتاب فاعملوا به، وما لم تعرفوه فكلوه إلى ربه. وفي "صحيح البخاري" عن عمر بعض هذا مختصرا.
والذي يظهر لي في انتفاء علم الصديق والفاروق بمدلول الأب وهما من خلص العرب لأحد سببين:
إما لأن هذا اللفظ كان قد تنوسي من استعمالهم فأحياه القرآن لرعاية الفاصلة فإن الكلمة قد تشتهر في بعض القبائل أو في بعض الأزمان وتنسى في بعضها مثل اسم السكين عند الأوس والخزرج، فقد قال أنس بن مالك ما كنا نقول إلا المدية حتى سمعت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر أن سليمان عليه السلام قال "ائيتوني بالسكين اقسم الطفل بينهما نصفين".
وإما أن كلمة الأب تطلق على أشياء كثيرة منها النبت الذي ترعاه الأنعام، ومنها التبن، ومنها يابس الفاكهة، فكان إمساك أبي بكر وعمر عن بيان معناه لعدم الجزم بما أراد الله منه على التعيين، وهل الأب مما يرجع إلى قوله: {مَتَاعًا لَكُمْ} أو إلى قوله:

{وَِلأَنْعَامِكُمْ} في جمع ما قسم قبله.
وذكر في الكشاف وجها آخر خاصا بكلام عمر فقال إن القوم كانت أكبر همتهم علكفة على العمل، وكان التشاغل بشيء من العلم لا يعمل به تكلفا عندهم، فأراد عمر أن الآية مسوقة في الامتنان على الإنسان. وقد علم من فحوى الآية أن الأب بعض ما أنبته الله للإنسان متاعا له ولأنعامه فعليك بما هو أهم من النهوض بالشكر لله على ما تبين لك مما عدد من نعمه ولا تتشاغل عنه بطلب الأب ومعرفة النبات الخاص الذي هو اسم له واكتف بالمعرفة الجملية إلى أن يتبين لك في غير هذا الوقت، ثم وصى الناس بأن يجروا على هذا السن فيما أشبه ذلك من مشكلات القرآن اه. ولم يأت كلام "الكشاف" بأزيد من تقرير الإشكال.
وقوله: {مَتَاعًا لَكُمْ} حال من المذكورات يعود إلى جميعها على قاعدة ورود الحال بعد مفردات متعاطفة، وهذا نوع من التنازغ.
وقوله: {وَِلأَنْعَامِكُمْ} عطف قوله: {لكم} .
والمتاع: ما ينتفع به زمنا ثم ينقطع، وفيه لف ونشر مشوش، والسامع يرجع كل شيء من المذكورات إلى ما يصلح له لظهوره. وهذه الحال واقعة موقع الإدماج أدمجت الموعظة والمنة في خلال الاستدلال.
[33-42] {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ، يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ، وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ، ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ، وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ، تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ، أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ}.
الفاء للتفريع على اللوم والتوبيخ في قوله تعالى: {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [عبس:17] وما تبعه من الاستدلال على المشركين من قوله: {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [عبس:18] إلى قوله: {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا} [عبس:25]، ففرع على ذلك إنذار بيوم الجزاء، مع مناسبة وقوع هذا الإنذار عقب التعريض والتصريح بالامتنان في قوله: {إِلَى طَعَامِهِ} [عبس:24] وقوله: {مَتَاعًا لَكُمْ وَِلأَنْعَامِكُمْ} [عبس:32] على نحو ما تقدم في قوله: {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى} من سورة النازعات [34].
والصاخة: صيحة شديدة من صيحات الإنسان تصخ الأسماع، أي تصمها

يقال: صخ يصخ قاصرا ومتعديا، ومضارعه يصخ بضم عينه في الحالين. وقد اختلف أهل اللغة في اشتقاقها اختلافا لا جدوى له، وما ذكرناه هو خلاصة قول الخليل والراغب وهو أحسن وأجرى على قياس اسم الفاعل من الثلاثي، فالصاخة صارت في القرآن علما بالغلبة على حادثة يوم القيامة وانتهاء هذا العالم، وتحصل صيحات منها أصوات تزلزل الأرض واصطدام بعض الكواكب بالأرض مثلا، ونفخة الصور التي تبعث عندها الناس. و"إذا" ظرف وهو متعلق ب {جَاءَتِ الصَّاخَّةُ} وجوابه قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ} الآيات.
والمجيء مستعمل في الحصول مجازا، شبه حصول يوم الجزاء بشخص جاء من مكان آخر.
و {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ} بدل من {إِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ} بدلا مطابقا.
والفرار: الهروب للتخلص من مخيف.
وحرف "من" هنا يجوز أن يكون بمعنى التعليل الذي يعدى به فعل الفرار إلى سبب الفرار حين يقال: فر من الأسد، وفر من العدو، وفر من الموت، ويجوز أن يكون بمعنى المجاوزة مثل "عن".
وكون أقرب الناس للإنسان يفر منهم يقتضي هول ذلك اليوم بحيث إذا رأى ما يحل من العذاب بأقرب الناس إليه توهم أن الفرار منه ينجيه من الوقوع في مثله، إذ قد علم أنه كان مماثلا لهم فيما ارتكبوه من الأعمال فذكرت هنا أصناف من القرابة، فإن القرابة آصرة تكون لها في النفس معزة وحرص على سلامة صاحبها وكرامته. والألف يحدث في النفس حرصا على الملازمة والمقارنة، وكلا هذين الوجدانين يصد صاحبه عن المفارقة فما قولك في هول يغشى على هذين الوجدانين فلا يترك لهما مجالا في النفس.
ورتبت أصناف القرابة في الآية حسب الصعود من الصنف إلى من هو أقوى منه تدرجا في تهويل ذلك اليوم.
فابتدىء بالأخ لشدة اتصاله بأخيه من زمن الصبا فينشأ بذلك إلف بينهما يستمر طول الحياة، ثم ارتقي من الأخ إلى الأبوين وهما أشد قربا لأبنيهما، وقدمت الأم في الذكر لأن إلف ابنها بها أقوى منه بأبيه وللرعي على الفاصلة، وانتقل إلى الزوجة والبنين وهما مجتمع عائلة الإنسان وأشد الناس قربا به وملازمة.

وأطنب بتعداد هؤلاء الأقرباء دون أن يقال: يوم يفر المرء من أقرب قرابته مثلا لإحضار صورة الهول في نفس السامع.
وكل من هؤلاء القرابة إذا قدرته هو الفار كان من ذكر معه مفرورا منه إلا قوله: {وَصَاحِبَتِهِ} لظهور أن معناه والمرأة من صاحبها، ففيه اكتفاء، وإنما ذكرت بوصف الصاحبة الدال على القرب والملازمة دون وصف الزوج لأن المرأة قد تكون غير حسنة العشرة لزوجها فلا يكون فراره منها كناية عن شدة الهول فذكر بوصف الصاحبة.
والأقرب أن هذا فرار المؤمن من قرابته المشركين خشية أن يؤاخذ بتبعتهم إذ بقوا على الكفر.
وتعليق جار الأقرباء بفعل {يَفِرُّ الْمَرْءُ} يقتضي أنهم قد وقعوا في عذاب يخشون تعديه إلى من يتصل بهم.
وقد اجتمع في قوله: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ} إلى آخره أبلغ ما يفيد هول ذلك اليوم بحيث لا يترك هوله للمرء بقية من رشده فإن نفس الفرار للخائف مسبة فيما تعارفوه لدلالته على جبن صاحبه وهم يتعيرون بالجبن وكونه يترك أعز الأعزة عليه مسبة عظمى.
وجملة {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} مستأنفة استئنافا ابتدائيا لزيادة تهويل اليوم، وتنوين {شأن} للتعظيم.
وحيث كان فرار المرء من الأقرباء الخمسة يقتضي فرار كل قريب من ألئك من مثله كان الاستئناف جامعا للجميع تصريحا بذلك المقتضى، فقال {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} أي عن الاشتغال بغيره من المذكورات بله الاشتغال عمن هو دون أولئك من القرابة والصحبة.
والشأن: الحال المهم.
وتقديم الخبر في قوله: {لِكُلِّ امْرِئٍ} على المبتدأ ليتأتى تنكير {شَأْنٌ} الدال على التعظيم لأن العرب لا يبتدئون بالنكرة في جملتها إلا بمسوغ من مسوغات عدها النحاة بضعة عشر مسوغا، ومنها تقديم الخبر على المبتدأ.
والإغناء: جعل الغير غنيا، أي غير محتاج لشيء في عرضه. وأصل الإغناء والغني: حصول النافع المحتاج إليه، قال تعالى: {وَمَا أُغْنِي عَنكُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [يوسف:67]

وقال {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ} [الحاقة:28]. وقد استعمل هنا في معنى الإشغال والإشغال أعم.
فاستعمل الإغناء الذي هو نفع في معنى الإشغال الأعم على وجه المجاز المرسل أو الاستعارة إيماء إلى أن المؤمنين يشغلهم عن قرابتهم المشركين فرط النعيم ورفع الدرجات كما دل عليه قوله عقبه {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ} إلى آخر السورة.
وجملة {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ} جواب "إذا" أي إذا جاءت الصاخة كان الناس صنفين صنف وجوههم مسفرة وصنف وجوههم مغبرة.
وقدم هنا ذكر وجوه أهل النعيم على وجوه أهل الجحيم خلاف قوله في سورة النازعات [37] {فَأَمَّا مَنْ طَغَى} ثم قوله: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} [النازعات:40] إلى آخره لأن هذه السورة أقيمت على عماد التنويه بشأن رجل من أفاضل المؤمنين والتحقير لشأن عظيم من صناديد المشركين فكان حظ الفريقين مقصودا مسوقا إليه الكلام وكان حظ المؤمنين هو الملتفت إليه ابتداء، وذلك في قوله: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} [عبس:3] إلى لآخره، ثم قوله: {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى} [عبس: 5-6].
وأما سورة النازعات فقد بنيت على تهديد المنكرين للبعث ابتداء من قوله: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ، تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ، قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ} [النازعات:6-8] فكان السياق للتهديد والوعيد وتهويل ما يلقونه يوم الحشر، وأما ذكر حظ المؤمنين يومئذ فقد دعا إلى ذكره الاستطراد على عادة القرآن من تعقيب الترهيب بالترغيب.
وتنكير {وجوه} الأول والثاني للتنويع، وذلك مسوغ وقوعهما مبتدأ.
وإعادة {يومئذ} لتأكيد الربط بين الشرط وجوابه ولطول الفصل بينهما والتقدير: وجوه مسفرة يوم يفر المرء من أخيه إلى آخره.
وقد أغنت إعادة {يومئذ} عن ربط الجواب بالفاء.
والمسفرة ذات الإسفار، والإسفار النور والضياء، يقال: أسفر الصبح، إذا ظهر ضوء الشمس في أفق الفجر، أي وجوه متهللة فرحا وعليها أثر النعيم.
و {ضاحكة} أي كناية عن السرور.
و {مستبشرة} معناه فرحة، والسين والتاء فيه للمبالغة مثل: استجاب، ويقال: بشر،

أي فرح وسر، قال تعالى: {قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلاَمٌ} [يوسف:19] أي يا فرحتي.
وإسناد الضحك والاستبشار إلى الوجوه مجاز عقلي لأن الوجوه محل ظهور الضحك والاستبشار، فهو من إسناد الفعل إلى مكانه، ولك أن تجعل الوجوه كناية عن الذوات كقوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن:27].
وهذه وجوه أهل الجنة المطمئنين بالا المكرمين عرضا وحضورا.
والغبرة بفتحتين الغبار كله، والمراد هنا إنها معفرة بالغبار إهانة من أثر الكبوات.
و {ترهقها} تغلب عليها وتعلوها.
والقترة: بفتحتين شبه دخان يغشى الوجه من الكرب والغم، كذا قال الراغب، وهو غير الغبرة كما تقتضيه الآية لئلا يكون من الإعادة، وهي خلاف الأصل ولا داعي إليها. وسوى بينهما الجوهري وتبعه ابن منظور وصاحب القاموس.
وهذه وجوه أهل الكفر، يعلم ذلك من سياق هذا التنويع، وقد صرح بذلك بقوله: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} زيادة في تشهير حالهم الفظيع للسامعين.
وجيء باسم الإشارة لزيادة الإيضاح تشهيرا بالحالة التي سببت لهم ذلك.
وضمير الفصل هنا الإفادة التقوى.
وأتبع وصف {الكفرة} بوصف {الفجرة} مع أن وصف الكفر أعظم من وصف الفجور لما في معنى الفجور من خساسة العمل فذكر وصفاهم الدالان عن مجموع فساد الاعتقاد وفساد العمل.
وذكر وصف {الفجرة} بدون عاطف يفيد أنهم جمعوا بين الكفر والفجور.

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة التكويرلم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سماها تسمية صريحة. وفي حديث الترمذي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين فليقرأ إذا الشمس كورت، وإذا السماء انفطرت، وإذا السماء انشقت" . وليس هذا صريحا في التسمية لأن صفة يوم القيامة في جميع هذه السورة بل هو في الآيات الأول منها، فتعين أن المعنى: فليقرأ هذه الآيات، وعنونت في "صحيح البخاري" وفي "جامع الترمذي" "سورة إذا الشمس كورت"، وكذلك عنونها الطبري.
وأكثر التفاسير يسمونها "سورة التكوير" وكذلك تسميتها في المصاحف وهو اختصار لمدلول "كورت".
وتسمى "سورة كورت" تسمية بحكاية لفظ وقع فيها. ولم يعدها في "الإتقان" مع السور التي لها أكثر من اسم.
وهي مكية بالاتفاق.
وهي معدودة السابعة في عداد نزول سور القرآن، نزلت بعد سورة الفاتحة وقبل سورة الأعلى.
وعدد آيها تسع وعشرون.
أغراضها
اشتملت على تحقيق الجزاء صريحا.
وعلى إثبات البعث وابتدىء بوصف الأهوال التي تتقدمه وأنتقل إلى وصف أهوال

تقع عقبه.
وعلى التنويه بشأن القرآن الذي كذبوا به لأنه أوعدهم بالبعث زيادة لتحقيق وقوع البحث إذ رموا النبي صلى الله عليه وسلم بالجنون والقرآن بأنه يأتيه به شيطان.
[1-14] {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ، وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ، وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ، وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ، وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ، وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ، وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ، وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ، وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ، وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ، وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ، وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ، عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} .
الافتتاح ب {إِذَا} افتتاح متشوق لأن {إِذَا} ظرف يستدعي متعلقا، ولأنه أيضا شرط يؤذن بذكر جواب بعده، فإذا سمعه السامع ترقب ما سيأتي بعده فعند ما يسمعه يتمكن من نفسه كمال تمكن، وخاصة بالإطناب بتكرير كلمة {إِذَا} .
وتعدد الجمل التي أضيف إليها اثنتي عشرة مرة، فإعادة كلمة {إِذَا} بعد واو العطف في هذه الجمل المتعاطفة إطناب، وهذا الإطناب اقتضاه قصد التهويل، والتهويل من مقتضيات الإطناب والتكرير، كما في قصيدة الحارث بن عباد البكري:
قربا مربط النعامة مني الخ
وفي إعادة {إِذَا} إشارة إلى أن مضمون كل جملة من هذه الجمل الثنتي عشرة مستقل بحصول مضمون جملة الجواب عند حصوله بقطع النظر عن تفاوت زمان حصول الشروط فإن زمن سؤال الموءودة ونشر الصحف أقرب لعلم النفوس بما أحضرت أقرب من زمان تكوير الشمس وما عطف عليه مما يحصل قبل البعث.
وقد ذكر في هذه الآيات اثنا عشر حدثا فستة منها تحصل في آخر الحياة الدنيوية، وستة منها تحصل في الآخرة.
وكانت الجمل التي جعلت شروطا ل {إِذَا} في هذه الآية مفتتحة بالمسند إليه المخبر عنه بمسند فعلي دون كونها جملا فعلية ودون تقدير أفعال محذوفة تفسرها الأفعال المذكورة وذلك يؤيد نحاة الكوفة بجواز وقوع شرط {إِذَا} جملة غير فعلية وهو الراجع لأن {إِذَا} غير عريقة في الشرط. وهذا الأسلوب لقصد الاهتمام بذكر ما أسندت إليه الأفعال التي يغلب أن تكون شروط ل {إِذَا} لأن الابتداء بها أدخل في التهويل

والتشويق وليفيد ذلك التقديم على المسند الفعلي تقوي الحكم وتأكيده في جميع تلك الجمل ردا على إنكار منكريه فلذلك قيل {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} ولم يقل: إذا كورت الشمس، وهكذا نظائره.
وجواب الشروط الاثني عشر هو قوله: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} وتتعلق به الظروف المشربة معنى الشرط.
وصيغة الماضي في الجمل الثنتي عشرة الواردة شروطا ل {إذا} مستعملة في معنى الاستقبال تنبيها على تحقق وقوع الشرط.
وتكوير الشمس: فساد جرمها لتداخل ظاهرها في باطنها بحيث يختل تركيبها فيختل لاختلاله نظام سيرها، ومن قولهم: كور العمامة، إذا أدخل بعضها في بعض ولفها، وقريب من هذا الإطلاق إطلاق الطي في قوله تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} [الأنبياء:104].
وفسر {كُوِّرَتْ} بمعنى غورت. رواه الطبري عن ابن جبير وقال: هي كلمة معربة عن الفارسية وأن أصلها بالفارسية كور بكر بضم الكاف الأولى وسكون الراء الأخيرة وعلى ذلك عدت هذه الكلمة مما وقع في القرآن من المعرب. وقد عدها ابن السبكي في نظمه الكلمات المعربة في القرآن.
وإذا زال ضوء الشمس انكدرت النجوم لأن معظمها يستنير من انعكاس نور الشمس عليها.
والانكدار: مطاوع كدره المضاعف على غير قياس، أي حصل للنجوم انكدار من تكدير الشمس لها حين زال عنها انعكاس نورها، فلذلك ذكر مطاوع كدر دون ذكر فاعل التكدير.
والكدرة: ضد الصفاء كتغير لون الماء ونحوه.
وفسر الانكدار بالتساقط والانقضاض، وأنشد قول العجاج يصف بازيا:
ابصر خربان فضاء فانكدر
ومعنى تساقطها تساقط بعضها على بعض واصطدامها بسبب اختلال نظام الجاذبية الذي جعل الله لإمساكها إلى أمد معلوم.

وتسيير الجبال انتقالها من أماكنها بارتجاج الأرض وزلزالها. وتقدم في سورة النبأ.
والعشار جمع عشراء وهي الناقة الحامل إذ بلغت عشرة أشهر لحملها فقاربت أن تضع حملها لأن النوق تحمل عاما كاملا، والعشار أنفس مكاسب العرب ومعنى {عطلت} تركت لا ينتفع بها.
والكلام كناية عن ترك الناس أعمالهم لشدة الهول.
وعلى هذا الوجه يكون ذلك من أشراط الساعة في الأرض فيناسب {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} .
ويجوز أن تكون العشار مستعارة للأسحبة المحملة بالمطر، شبهت بالناقة العشراء. وهذا غير بعيد من الاستعمال، فهم يطلقون مثل هذه الاستعارة للسحاب. كما أطلقوا على السحابة اسم بكر في قول عنترة:
جادت عليه كل بمكر حرة ... فتركن كل قرارة كالدرهم
فأطلق على السحابة الكثيرة الماء اسم البكر الحرة، أي الأصيلة من النوق وهي في حملها الأول.
ومعنى تعطيل الأسحبة أن يعرض لها ما يحبس مطرها عن النزول، أو معناه أن الأسحبة الثقال لا تتجمع ولا تحمل ماء، فمعنى تعطيلها تكونها، فيتوالى القحط على الأرض فيهلك الناس والأنعام. وعلى هذا الوجه فذلك من أشراط الساعة العلوية فيناسب تكوير الشمس وانكدار النجوم.
و { الْوُحُوشُ} : جمع وحش وهو الحيوان البري غير المتأنس بالناس.
وحشرها: جمعها في مكان واحد، أي مكان من الأرض عند اقتراب فناء العالم فقد يكون سبب حشرها طوفانا يغمر الأرض من فيضان البحار فكلما غمر جزءا من الأرض فرت وحوشه حتى تجتمع في مكان واحد طالبة النجاة من الهلاك، ويشعر بهذا عطف {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} عليه.
وذكر هذا بالنسبة إلى الوحوش إيماء إلى شدة الهول فالوحوش التي من طبعها نفرة بعضها عن بعض تتجمع في مكان واحد لا يعدو شيء منها على الآخر من شدة الرعب، فهي ذاهلة عما في طبعها من الاعتداء والافتراس، وليس هذا الحشر الذي يحشر الناس به

للحساب بل هذا حشر في الدنيا وهو المناسب لما عد معه من الأشراط، وروي معناه عن أبي بن كعب.
وتسجير البحار: فيضانها قال تعالى: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} في سورة الطور [6]. والمراد تجاوز مياهها معدل سطوحها واختلاط بعضها ببعض وذلك من آثار اختلال قوة كرة الهواء التي كانت ضاغطة عليها، وقد وقع في آية سورة الانفطار [3] {وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ} وإذا حدث ذلك اختلط ماؤها برملها فتغير لونه.
يقال: سجر مضاعفا وسجر مخففا. وقرىء بهما فقرأه الجمهور مشددا. وقرأه ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب مخففا.
وقوله تعالى: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} شروع في ذكر الأحوال الحاصلة في الآخرة يوم القيامة وقد أنتقل إلى ذكرها لأنها تحصل عقب الستة التي قبلها وابتدىء بأولها وهو تزويج النفوس، والتزويج: جعل الشيء زوجا لغيره بعد أن كان كلاهما فردا، والتزويج أيضا: جعل الأشياء أنواعا متماثلة قال تعالى: {وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [الرعد:3] لأن الزوج يطلق على النوع والصنف من الأشياء والنفوس: جمع نفس، والنفس يطلق على الروح، قال تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ} [الفجر: 27-28] وقال {أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ} [الأنعام:93].
وتطلق النفس على ذات الإنسان قال تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} [الأنعام:151] وقال {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ} وقال {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النور:61] أي فليسلم الداخل على أمثاله من الناس.
فيجوز أن يكون معنى النفوس هنا الأرواح، أي تزوج الأرواح بالأجساد المخصصة لها فيصير الروح زوجا مع الجسد بعد أن كان فردا لا جسم له في برزخ الأرواح، وكانت الأجساد بدون أرواح حين يعاد خلقها، أي وإذا أعطيت الأرواح للأجساد. وهذا هو البعث وهو المعنى المتبادر أولا، وروي عن عكرمة.
ويجوز أن يكون المعنى وإذا الأشخاص نوعت وصنفت فجعلت أصنافا: المؤمنون، والصالحون، والكفار، والفجار، قال تعالى: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاَثَةً، فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ، وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ، وَالسَّابِقُونَ} [الواقعة:7-10] الآية.

ولعل قصد إفادة هذا التركيب لهذين المعنيين هو مقتضى العدول عن ذكر ما زوجت النفوس به. وأول منازل البعث اقتران الأرواح بأجسادها، ثم تقسيم الناس إلى مراتبهم للحشر، كما قال تعالى: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68] ثم قال {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا} [الزمر:71] ثم قال {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا} [الزمر:73] الآية.
وقد ذكروا معاني أخرى لتزويج النفوس في هذه الآية غير مناسبة للسياق.
وبمناسبة ذكر تزويج النفوس بالأجساد خص سؤال الموءودة بالذكر دون غيره مما يسأل عنه المجرمون يوم الحساب. ذلك لأن إعادة الأرواح إلى الأجساد كان بعد مفارقتها بالموت، والموت إما بعارض جسدي من انحلال أو مرض وإما باعتداء عدواني من قتل أو قتال، وكان من أفظع الأعتداء على إزهاق الأرواح من أجسادها اعتداء الآباء على نفوس أطفالهم بالوأد، فإن الله جعل في الفطرة حرص الآباء على استحياء أبناءهم وجعل الأبوين سبب إيجاد الأبناء، فالوأد أفظع أعمال أهل الشرك. وسؤال الموءودة سؤال تعريضي مراد منه تهديد وائدها ورعبه بالعذاب.
وظاهر الآية أن سؤال الموءودة وعقوبة من وأدها أول ما يقضى فيه يوم القيامة كما يقتضي ذلك جعل هذا السؤال وقتا تعلم عنده كل نفس ما أحضرت فهو من أول ما يعلم به حين الجزاء.
والوأد: دفن الطفلة وهي حية: قيل هو مقلوب آداه، إذا أثقله لأنه إثقال الدفينة بالتراب. قال في "الكشاف" كان الرجل إذا ولدت له بنت فأراد أن يستحييها البسها جبة من صوف أو شعر ترعى له الإبل والغنم في البادية، وإن أراد قتلها تركها حتى إذا كانت سداسية يقول لأمها طيبيها وزينيها حتى أذهب بها إلى أحمائها وقد حفر لها بئرا في الصحراء فيبلغ بها البئر فيقول لها: انظري فيها ثم يدفعها من خلفها ويهيل عليها التراب حتى تستوي البئر بالأرض. وقيل: كانت الحامل إذا أقربت حفرت حفرة فتمخضت على رأس الحفرة فإذا ولدت بنتا رمت بها في الحفرة وإن ولدي ابنا حبسته اه.
وكانوا يفعلون ذلك خشية من إغارة العدو عليهم فيسبي نساءهم ولخشية الإملاق في سني الجدب لأن الذكر يحتال للكسب بالغارة وغيرها والأنثى عالة على أهلها، قال تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ} [الإسراء:31] وقال {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى

ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ، يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [النحل: 58-59].
وإذ قد فشى فيهم كراهية ولادة الأنثى فقد نما في نفوسهم بغضها فتحركت فيها الخواطر الإجرامية فالرجل يكره أن تولد له أنثى لذلك، وامرأته تكره أن تولد لها أنثى خشية من فراق زوجها إياها وقد يهجر الرجل امرأته إذا ولدت أنثى.
وقد توارثت هذا الجهل أكثر الأمم على تفاوت بينهم فيه، ومن كلام بعضهم وقد ماتت ابنته نعم الصهر القبر.
ومن آثار هذا الشعور حرمان البنات من أموال آباءهن بأنواع من الحيل مثل وقف أموالهم على الذكور دون الإناث وقد قال مالك: إن ذلك من سنة الجاهلية، ورأى ذلك الحبس باطلا، وكان كثير من أقرباء الميت يلجئون بناته إلى إسقاط حقهن في ميراث أيهن لأخوتهن في فور الأسف على موت أبيهن فلا يمتنعن من ذلك ويرين الامتناع من ذلك عارا عليهن فإن لم يفعلن قطعهن أقرباؤهن.
وتعرف هذه المسألة في الفقه بهبة بنات القبائل. وبعضهم يعدها من الإكراه.
ولم يكن الوأد معمولا به عند جميع القبائل، قيل: أول من وأد البنات من القبائل ربيعة، وكانت كندة تئد البنات، وكان بنو تميم يفعلون ذلك، ووأد قيس أبن عاصم المنقري من بني تميم ثمان بنات له قبل إسلامه.
ولم يكن الوأد في قريش البتة. وكان صعصعة بن ناجية جد الفرزدق من بني تميم يفتدي من يعلم أنه يريد وأد بنته من قومه بناقتين عشراوين وجمل فقيل: إنه افتدى ثلاثمائة وستين موءودة، وقيل وسبعين وفي "الأغاني": وقيل أربعمائة.
وفي "تفسير القرطبي": فجاء الإسلام وقد أحيا سبعين موءودة ومثل هذا في كتاب الشعراء لأبن قتيبة وبين العددين بون بعيد فلعل في أحدهما تحريفا.
وفي توجيه السؤال إلى الموءودة {بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} في ذلك الحشر إدخال الروع على من وأدها، وجعل سؤالها عن تعيين ذنب أوجب قتلها للتعريض بالتوبيخ والتخطئة للذي وأدها وليكون جوابها شهادة على من وأدها فيكون استحقاقه العقاب أشد وأظهر.

وجملة {بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} بيان لجملة {سُئِلَتْ} .
و"أي" اسم استفهام يطلب به تميز شيء من بين أشياء تشترك معه في حال.
والاستفهام في {بِأَيِّ ذَنْبٍ} تقريري، وإنما سئلت عن تعيين الذنب الموجب قتلها دون أن تسأل عن قاتلها لزيادة التهديد لأن السؤال عن تعيين الذنب مع تحقق الوائد الذي يسمع ذلك السؤال أن لا ذنب لها إشعار للوائد بأنه غير معذور فيما صنع بها.
وينتزع من قوله تعالى: {سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} الوارد في سياق نفي ذنب عن الموءودة يوجب قتلها استدلال على أن من ماتوا من أطفال المشركين لا يعتبرون مشركين مثل آباءهم، وأول من رأيته تعرض لهذا الاستدلال الزمخشري في "الكشاف" . وذكر أن ابن عباس استدل على هذا المعنى قال في "الكشاف" وفيه دليل على أن أطفال المشركين لا يعذبون وإذ أبكت الله الكافر ببراءة الموءودة من الذنب فما أقبح به وهو الذي لا يظلم مثقال ذرة أن يكر على هذا التبكيت فيفعل بها ما تنسى عنده فعل المبكت من العذاب السرمدي. وعن ابن عباس أنه سئل عن ذلك فاحتج بهذه الآية اه. فأشار إلى ثلاثة أدلة:
أحدها: دلالة الإشارة، أي لأن قوله تعالى: {بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} يشير إلى أنها لا ذنب لها، وهذا استدلال ضعيف لأن الذنب المنفي وجوده بطريقة الاستفهام المشوب بإنكار إنما هو الذنب الذي يخول لأبيها وأدها لا إثبات حرمتها وعصبة دمها فتلك قضية أخرى على تفصيل فيها.
الثاني: قاعدة إحالة فعل القبيح على الله تعالى على قاعدة التحسين والتقبيح عند المعتزلة وإحالتهم الظلم على الله إذا عذب أحدا بدون فعله، وهو أصل مختلف فيه بين الأشاعرة والمعتزلة. فعندنا أن تصرف الله في عبيده لا يوصف بالظلم خلافا لهم على أن هذا الدليل مبني على أساس الدليل الأول وقد علمت أنه غير سالم من النقض.
الثالث: ما نسبه إلى ابن عباس وهو يشير إلى ما أخرجه ابن أبي حاتم بسنده إلى عكرمة أنه قال: قال ابن عباس: أطفال المشركين في الجنة، فمن زعم أنهم في النار فقد كذب بقول الله تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} . وقد أجيب عن القول المروي عن ابن عباس بأنه لم يبلغ مبلغ الصحة. وهذه مسألة من أصول الدين لا يكتفى فيها إلا بالدليل القاطع.

واعلم أن الأحاديث الصحيحة في حكم أطفال المشركين متعارضة، فروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة وابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن أولاد أو ذراري المشركين. فقال: "الله أعلم بما كانوا عاملين" ، وهذا الجواب يحتمل الوقت عن الجواب، أي الله أعلم بحالهم كقول موسى عليه السلام {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ} [طه:52] جوابا لقول فرعون {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى} [طه:51]. ويحتمل أن المعنى الله أعلم بحال كل واحد منهم لو كبر ماذا يكون عاملا من كفر أو إيمان، أي فيعامله بما علم من حاله.
وأخرج البخاري ومسلم ببعض اختلاف في اللفظ عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه" الحديث. زاد في رواية مسلم ثم يقول أي أبو هريرة إقرأوا {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم:30] فيقتضي أنهم يولدون على فطرة الإسلام حتى يدخل عليه من أبويه أو قريبه أو قرينه ما يغيره عن ذلك وهذا أظهر ما يستدل به في هذه المسألة.
قال المازري في "المعلم" : فاضطرب العلماء فيهم. والأحاديث وردت ظواهرها مختلفة واختلاف هذه الظواهر سبب اضطراب العلماء في ذلك والقطع ههنا يبعد اه.
وقول أبي هريرة: وأقرأوا {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} الخ مصباح ينير وجه الجمع بين هذه الأخبار: وقد ورد في حديث الرؤيا عن سمرة بن جندب ما هو صريح في ذلك إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "وأما الرجل الذي في الروضة فأنه إبراهيم عليه السلام وأما الولدان الذين حوله فكل مولود مات على الفطرة" . قال سمرة فقال بعض المسلمين: يا رسول الله وأولاد المشركين? فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "وأولاد المشركين" . واختلفت أقوال العلماء في أولاد المشركين فقال ابن المبارك وحماد بن سلمة وحماد بن زيد وإسحاق بن راهويه والشافعي هم في مشيئة الله. والصحيح الذي عليه المحققون والجمهور أنهم في الجنة وهو ظاهر قول أبي هريرة. وذهب الأزارقة إلى أن أولاد المشركين تبع لآبائهم، وقال أبو عبيد سألت محمد بن الحسن عن حديث "كل مولود يولد على الفطرة" فقال كان ذلك أول الإسلام قبل أن تنزل الفرائض وقبل أن يفرض الجهاد. قال أبو عبيد: كأنه يعني أنه لو ولد على الفطرة لم يرثاه لأنه مسلم وهما كافران فلما فرضت الفرائض على خلاف ذلك جاز أن يسمى كافرا وعلم أنه يولد على دينهما.
وهنالك أقوال أخرى كثيرة غيرة معزوة إلى معين ولا مستندة لأثر صحيح.

وذكر المازري: أن أطفال الأنبياء في الجنة بإجماع وأن جمهور العلماء على أن أطفال بقية المؤمنين في الجنة وبعض العلماء وقف فيهم، وقال النووي: أجمع من يعتد به من علماء المسلمين على أن من مات من أطفال المسلمين فهو من أهل الجنة.
وقرأ الجمهور "قتلت" بتخفيف المثناة الأولى، وقرأه أبو جعفر بتشديدها، وهي تفيد معنى أنه قتل شديد فظيع.
ونشر الصحف حقيقته: فتح طيات الصحيفة، أو إطلاق التفافها لتقرأ كتابتها وتقدم في قوله: {أَنْ يُؤْتَى صُحُفاً مُنَشَّرَةً} في سورة المدثر [52]، وعند قوله: {كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً} في سورة الإسراء [13].
والمراد: صحف الأعمال، وهي إما صحف حقيقية مخالفة للصحف المألوفة، وإما مجازية أطلقت على أشياء فيها إحصاء أعمال الناس، وقد تقدم غير مرة.
وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وأبو جعفر ويعقوب {نُشِرَتْ} بتخفيف الشين. وقرأه الجمهور بتشديد الشين للتكثير لكثرة الصحف المنشورة.
والكشط: إزالة الإهاب عن الحيوان الميت وهو أعم من السلخ لأن السلخ لا يقال إلا في إزالة أهاب البقر والغنم دون إزالة إهاب الإبل فإنه كشط ولا يقال سلخ، والظاهر أن المراد إزالة تقع في يوم القيانة لأنها ذكرت في أثناء أحداث يوم القيامة بعد قوله: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ، وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ} وقوله: {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ} .
فالظاهر أن السماء تبقى منشقة منفطرة تعرج الملائكة بينها وبين أرض المحشر حتى يتم الحساب فإذا قضي الحساب أزيلت السماء من مكانها فالسماء مكشوطة والمكشوط عنه هو عالم الخلود، ويكون {كشطت} إستعارة للإزالة.
ويجوز أن يكون هذا من الأحداث التي جعلت أشراطا للساعة وأخر ذكره لمناسبة ذكر نشر الصحف لأن الصحف تنشرها الملائكة وهم من أهل السماء فيكون هذا الكشط من قبيل الانشقاق في قوله تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} [الإنشقاق:1] والانفطار في قوله تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} إلى قوله: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} [الإنفطار: 1-5] فيكون الكشط لبعض جزاء السماء والمكشوط عنه بعض آخر، فيكون من قبيل قوله تعالى: {لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف:40] ومن قبيل الطي في قوله تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا

بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء:104] لأن ظاهره اتصال طي السماء بإعادة الخلق، وتصير الأشراط التي تحصل قبل البعث سبعة والأحداث التي تقع بعد البعث خمسة.
والجحيم أصله: النار ذات الطبقات من الوقود من حطب ونحوه بعضها فوق بعض، وصار علما بالغلبة على جهنم دار العذاب في الآخرة في اصطلاح القرآن. وتسعيرها أو إسعارها: إيقادها، أي هيأت لعذاب من حق عليهم العذاب.
وقرأ نافع وابن ذكوان عن ابن عامر وحفص عن عاصم وأبو جعفر ورويس عن يعقوب {سُعِّرَتْ} بتشديد العين مبالغ في الإسعار. وقرأه الباقون بالتخفيف.
وقوبلت بالجنة دار النعيم واسم الجنة علم بالغلبة على دار النعيم، و {أُزْلِفَتْ} قربت، والزلفى: القرب، أي قربت الجنة من أهلها، أي جعلت بالقرب من محشرهم بحيث لا تعب عليهم في الوصول إليها وذلك كرامة لهم.
وأعلم أن تقديم المسند إليه في الجمل الثنتى عشرة المفتتحات بكلمة {إذا} من قوله: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} إلى هنا، والإخبار عنه بالمسند الفعلي مع إمكان أن يقال: إذا كورت الشمس وإذا انكدرت النجوم، وهكذا كما قال {فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} [الرحمن:37] إن ذلك التقديم لإفادة الاهتمام بتلك الأخبار المجعولة علامات ليوم البعث توسلا بالاهتمام بأشراطه إلى الاهتمام به وتحقيق وقوعه.
وإن إطالة ذكر تلك الجمل تشويق للجواب الواقع بعدها بقوله: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} .
وجملة {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} يتنازع التعلق به كلمات {إذا} المتكررة.
وعن عمر بن الخطاب إنه قرأ أول هذه السورة فلما بلغ {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} قال: لهذا أجريت القصة أي هو جواب القسم ومعنى {عَلِمَتْ} إنها تعلم بما أحضرت فتعلمه.
وقوله: {نَفْسٌ} نكرة في سياق الشرط مراد بها العموم، أي علمت كل نفس ما أحضرت، واستفادة العموم من النكرة في سياق الإثبات تحصل من القرينة الدالة على عدم القصد إلى واحد من الجنس، والقرينة هنا وقوع لفظ نفس في جواب هذه الشروط التي لا يخطر بالبال أن تكون شروطا لشخص واحد، وقد قال تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ} [آل عمران:30].

والإحضار: جعل الشيء حاضرا.
ومعنى {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} حصول اليقين بما لم يكن لها من علم من حقائق الأعمال التي كان علمها بها أشتاتا: بعضه معلوم على غير وجهه، وبعضه معلوم صورته مجهولة عواقبه، وبعضه مغفول عنه. فنزل العلم الذي كان حاصلا للناس في الحياة الدنيا منزلة عدم العلم، وأثبت العلم لهم في ذلك اليوم علم أعمالهم من خير أو شر فيعلم ما لم يكن له به علم مما يحقره من أعماله ويتذكر ما كان قد علمه من قبل، وتذكر المنسي والمغفول عنه نوع من العلم.
وما أحضرته هو ما أسلفته من الأعمال. ولما كانت الأعمال تظهر آثارها من ثواب وعقاب يومئذ عبر عن ظهور آثارها بالإحضار لشببه به كما يحضر الزاد للمسافر ففي فعل {أَحْضَرَتْ} استعارة. ويطلق على ذلك الإعداد كقول النبي صلى الله عليه وسلم للذي سأله متى الساعة "ماذا أعددت لها" .
وأسند الإحضار إلى النفوس لأنها الفاعلة للأعمال التي يظهر جزاؤها يومئذ فهذا الإسناد من إسناد فعل الشيء إلى سبب فعله، فحصل هنا مجازان: مجاز لغوي، ومجاز عقلي، وحقيقتهما في قوله تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ} .
وجعلت معرفة النفوس لجزاء أعمالها حاصلة عند حصول مجموع الشروط التي ذكرت في الجمل الثنتي عشرة لأن بعض الأحوال التي تضمنتها الشروط مقارن لحصول علم النفوس بأعمالها وهي الأحوال الستة المذكورة أخيرا، وبعض الأحوال حاصل من قبل بقليل وهي الأحوال الستة المذكورة أولا. فنزل القريب منزلة المقارن، فلذلك جعل الجميع شروطا ل {إذا} .
[15-21] {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ، الْجَوَارِ الْكُنَّسِ، وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ، وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ، إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ، مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} .
الفاء لتفريع القسم وجوابه على الكلام السابق للإشارة إلى ما تقدم من الكلام هو بمنزلة التمهيد لما بعد الفاء فإن الكلام السابق أفاد تحقيق وقوع البعث والجزاء وهم قد أنكروه وكذبوا القرآن الذي أنذرهم به، فلما قضي حق الإنذار به وذكر أشراطه فرع عنه

تصديق القرآن الذي أنذرهم بهوإنه موحى به من عند الله.
فالتفريع هنا تفريع معنى وتفريع ذكر معا، وقد جاء تفريع القسم لمجرد تفريع ذكر كلام على كلام آخر كقول زهير:
فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله ... رجال بنوه من قريش وجرهم
عقب نسيب معلقته الذي لا يتفرع عن معانيه ما بعد القسم وإنما قصد به إن ما تقدم من الكلام إنما هو للإقبال على ما بعد الفاء، وبذلك يظهر تفوق التفريع الذي في هذه الآية على تفريع بيت زهير.
ومعنى "لا أقسم": إيقاع القسم، وقد عدت "لا" زائدة، وتقدم عند قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} في سورة الواقعة [75].
والقسم مراد به تأكيد الخبر وتحقيقه، وأدمج فيف أوصاف الأشياء المقسم بها للدلالة على تمام قدرة الله تعالى.
و"الخنس": جمع خانسة، وهي التي تخنس، أي تختفي، يقال: خنست البقرة والظبية، إذا اختفت في الكناس.
و"الجواري": جمع جارية، وهي التي تجري، أي تسير سيرا حثيثا.
و {الْكُنَّسِ} : جمع كانسة، يقال: كنس الظبي، إذا دخل كناسه بكسر الكاف وهو البيت الذي يتخذه للمبيت.
وهذه الصفات أريد بها صفات مجازية لأن الجمهور على أن المراد بموصوفاتها الكواكب، وصفن بذلك لأنها تكون في النهار مختفية عن الأنظار فشبهت بالوحشية المختفية في شجر ونحوه، فقيل: الخنس وهو من بديع التشبيه، لأن الخنوس اختفاء الوحش عن أنظار الصيادين ونحوهم دون السكون في كناس. وكذلك الكواكب لأنها لا ترى في النهار لغلبة شعاع الشمس على أفقها وهي مع ذلك موجودة في مطالعها.
وشبه ما يبدو للأنظار من تنقلهافي سمت الناظرين للأفق باعتبار اختلاف ما يسامتها من جزء من الكرة الأرضية بخروج الوحش، فشبهت حالة بدوها بعد احتجابها مع كونها كالمتحركة بحالة الوحش تجري بعد خنوسها تشبيه التمثيل. وهو يقتضي أنها صارت مرئية فلذلك عقب بعد ذلك بوصفها بالكنس، أي عند غروبها تشبيها لغروبها بدخول الظبي أو

البقرة الوحشية كناسها بعد الانتشار والجري.
فشبه طلوع الكوكب بخروج الوحشية من كناسها، وشبه تنقل مرآها للناظر بجري الوحشية عند خروجها من كناسها صباحا، قال لبيد:
حتى إذا انحسر الظلام وأسفرت ... بكرت تزل عن الثرى أزلامها
وشبه غروبها بعد سيرها بكنوس الوحشية في كناسها وهو تشبيه بديع فكان قوله: {بِالْخُنَّسِ} استعارة وكان {الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} ترشيحين للاستعارة.
وقد حصل من مجموع الأوصاف الثلاث ما يشبه اللغز يحسب به أن الموصوفات ظباء أو وحوش لأن تلك الصفات حقائقها من أحوال الوحوش، والألغاز طريقة مستملحة عند بلغاء العرب وهي عزيزة في كلامهم، قال بعض شعرائهم وهو من شواهد العربية:
فقلت أعيراني القدوم لعلني ... أخط بها قبرا لأبيض ماجد
أراد أنه يصنع بها غمدا لسيف صقيل مهند.
وعن ابن مسعود وجابر بن عبد الله وابن عباس: حمل هذه الأوصاف على حقائقها المشهورة، وإن الله أقسم بالظباء وبقر الوحش.
والمعروف في أقسام القرآن أن تكون بالأشياء العظيمة الدالة على قدرة الله تعالى أو الأشياء المباركة.
ثم عطف القسم ب {الليل} على القسم ب"الكواكب" لمناسبة جريان الكواكب في الليل، ولأن تعاقب الليل والنهار من أجل مظاهر الحكمة الإلهية في هذا العالم.
وعسعس الليل عسعاسا وعسة، قال مجاهد عن ابن عباس: أقبل بظلامه، وقال مجاهد أيضا عن ابن عباس معناه: أدبر ظلامه، وقال زيد بن أسلم وجزم به الفراء وحكى عليه الإجماع. وقال المبرد والخليل هو من الأضداد يقال: عسعس، إذ أقبل ظلامه، وعسعس، إذا أدبر ظلامه. قال ابن عطية: قال المبرد: أقسم الله بإقبال الليل وإدباره معا اه.
وبذلك يكون إيثار هذا الفعل لإفادته كلا حالين صالحين للقسم به فيهما لأنهما من مظاهر القدرة إذ يعقب الظلام الضياء ثم يعقب الضياء الظلام، وهذا إيجاز.
وعطف عليه القسم بالصبح حين تنفسه، أي انشقاق ضوئه لمناسبة ذكر الليل، ولأن

تنفس الصبح من مظاهر بديع النظام الذي جعله الله في هذا العالم.
والتنفس: حقيقته خروج النفس من الحيوان، أستعير لظهور الضياء مع بقايا الظلام على تشبيه خروج الضياء بخروج النفس على طريقة الاستعارة المصرحة، أو لأنه إذا بدا الصباح أقبل معه نسيم فجعل ذلك كالتنفس له على طريقة المكنية بتشبيه الصبح بذي نفس مع تشبيه النسيم بالأنفاس.
وضمير {إنه} عائد إلى القرآن ولم يسبق له ذكر ولكنه معلوم من المقام في سياق الإخبار بوقوع البعث فإنه مما أخبرهم به القرآن وكذبوا بالقرآن لأجل ذلك.
والرسول الكريم يجوز أن يراد به جبريل عليه السلام، وصف جبريل برسول لأنه مرسل من الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن.
وإضافة "قول" إلى {رَسُولٍ} إما لأدنى ملابسة بأن جبريل يبلغ ألفاظ القرآن إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيحكيها كم أمره الله تعالى فهو قائلها، أي صادرة منه ألفاظها.
وفي التعبير عن جبريل بوصف {رَسُولٍ} إيماء إلى أن القول الذي يبلغه هو رسالة من الله مأمور بإبلاغها كما هي.
قال ابن عطية: وقال آخرون الرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم في الآية كلها اه. ولم يعين اسم أحد ممن قالوا هذا من المفسرين.
وأستطرد في خلال الثناء على القرآن الثناء على الملك المرسل به تنويها بالقرآن فإجراء أوصاف الثناء على {رَسُولٍ} للتنويه به أيضا، وللكناية على أن ما نزل به صدق لأن كمال القائل يدل على صدق القول.
ووصف {رَسُولٍ} بخمسة أوصاف:
الأول: {كَرِيمٍ} وهو النفيس في نوعه.
والوصفان الثاني والثالث: {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} . فالقوة حقيقتها مقدرة الذات على الأعمال العظيمة التي لا يقدر عليها غالبا. ومن أوصافه تعالى "القوي"، ومنها مقدرة الذات من إنسان أو حيوان على كثير من الأعمال التي لا يقدر عليها أبناء نوعه.
وضدها الضعف قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ

قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} [الروم:54].
وتطلق القوة مجازا على ثبات النفس على مرادها والإقدام ورباطة الجأش. قال تعالى: {يَايَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:12] وقال {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة:63]، فوصف جبريل ب {ذِي قُوَّةٍ} يجوز أن يكون شدة المقدرة كما وصف بذلك في قوله تعالى: {ذُو مِرَّةٍ} [النجم:6]، ويجوز أن يكون من القوة المجازية وهي الثبات في إيداء ما أرسل به كقوله تعالى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:5] لأن المناسب للتعليم هو قوة النفس، وأما إذا كان المراد محمد صلى الله عليه وسلم فوصفه ب {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} يراد بها المعنى المجازي وهو الكرامة والاستجابة له.
والمكين: فعيل، صفة مشبهة من مكن بضم الكاف مكانة إذا علت رتبته عند غيره، قال تعالى في قصة يوسف مع الملك {فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف:54].
وتوسيط قوله: {عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ} بين {ذِي قُوَّةٍ} و {مَكِينٍ} ليتنازعه كلا الوصفين على وجه الإيجاز، أي هو ذو قوة عند الله، أي جعل الله مقدرة جبريل تخوله أن يقوم بعظيم ما يوكله الله به مما يحتاج إلى قوة القدرة وقوة التدبير، وهو ذو مكانة عند الله وزلفى.
ووصف النبي صلى الله عليه وسلم بذلك على نحو ما تقدم.
والعندية عندية تعظيم وعناية، ف"عند" للمكان المجازي الذي هو بمعنى الاختصاص والزلفى.
وعدل على اسم الجلالة إلى {ذِي الْعَرْشِ} بالنسبة إلى جبريل لتمثيل حال جبريل ومكانته عند الله بحالة الأمير الماضي في تنفيذ أمر الملك وهو بمحل الكرامة لديه.
وأما بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فللإشارة إلى عظيم شأنه إذ كان ذا قوة عند أعظم موجود شأنا.
الوصف الرابع: {مُطَاعٍ} أن يطيعه من معه من الملائكة كما يطيع الجيش قائدهم، أو النبي صلى الله عليه وسلم مطاع: أي مأمور الناس بطاعة ما يأمرهم به.
و {ثم} بفتح التاء اسم إشارة إلى المكان، والمشار إليه هو المكان المجازي الذي

دل عليه قوله: {عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ} فيجوز تعلق الظرف ب {مُطَاعٍ} وهو أنسب لإجراء الوصف على جبريل، أي مطاع في الملأ الأعلى فيما يأمر به الملائكة والنبي صلى الله عليه وسلم مطاع في العالم العلوي، أي مقرر عند الله أن يطاع فيما يأمر به.
ويجوز أن يتعلق ب {أَمِينٌ} ، وتقديمه على متعلقه للاهتمام بذلك المكان، فوصف جبريل به ظاهر أيضا، ووصف النبي صلى الله عليه وسلم به بأنه مقررة أمانته في الملأ الأعلى.
والأمين: الذي يحفظ ما عهد له به حتى يؤديه دون نقص ولا تغيير، وهو فعيل أما بمعنى مفعول، أي مأمون من أمنه على كذا. وعلى هذا يقال: امرأة أمين، ولا يقال: أمينة، وأما صفة مشبهة من: آمن بضم الميم إذا صارت الأمانة سجيته، وعلى هذا الوجه يقال: امرأة أمينة، ومنه قول الفقهاء في المرأة المشتكية أضرار زوجها: يجعلان عند أمينة وأمين.
[22] {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} .
عطف على جملة {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [التكوير:19] فهو داخل في خبر القسم جوابا ثانيا عن القسم، والمعنى: وما هو أي القرآن بقول مجنون كما تزعمون. فبعد أن أثنى الله على القرآن بأنه قول رسول مرسل من الله وكان قد تضمن ذلك ثناء على النبي صلى الله عليه وسلم بأنه صادق فيما بلغه عن الله تعالى، أعقبه بإبطال بهتان المشركين فيما اختلقوه على النبي صلى الله عليه وسلم من قولهم {مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ} [الدخان:14] وقولهم: {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} [سبأ:8]، فأبطل قولهم إبطالا مؤكدا ومؤيدا، فتأكيده بالقسم وبزيادة الباء بعد النفي، وتأييده بما أومأ إليه وصفة بأن الذي بلغه وصاحبهم، فإن وصف صاحب كناية عن كونهم يعلمون خلقه وعقله ويعلمون أنه ليس بمجنون، إذ شأن الصاحب أن لا تخفى دقائق حواله على أصحابه.
والمعنى: نفي أن يكون القرآن من وساوس المجانين، فسلامة مبلغه من الجنون تقتضي سلامة قوله عن أن يكون وسوسة.
ويجري على ما تقدم من القول بأن المراد ب {رَسُولٍ كَرِيمٍ} [التكوير:19] النبي محمد صلى الله عليه وسلم أن يكون قوله: {صَاحِبُكُمْ} هنا إظهارا في مقام الإضمار للتعريض بأنه معروف عندهم بصحة العقل وأصالة الرأي.
والصاحب حقيقته: ذو الصحبة، وهي الملازمة في أحوال التجمع والانفراد

للمؤانسة والموافقة، ومنه قيل للزوج: صاحبة وللمسافر مع غيره صاحب، قال امرؤ القيس:
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه
وقال تعالى حكاية عن يوسف {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ} [يوسف:39]، وقال الحريري في المقامة الحادية والعشرين ولا لكم مني إلا صحبة السفينة.
وقد يتوسعون في إطلاقه على المخالط في أحوال كثيرة ولو في الشر، كقول الحجاج يخاطب الخوارج ألستم أصحابي بالأهواز حين رمتم الغدر، واستبطنتم الكفر. وقول الفضل اللهيبي:
كل له نية في بغض صاحبه ... بنعمة الله نقليكم وتقلونا
والمعنى: أن الذي تخاصمونه وتكذبونه وتصفونه بالجنون ليس بمجنون وأنكم مخالطوه وملازموه وتعلمون حقيقته فما قولكم عليه إنه مجنون إلا لقصد البهتان وإساءة السمعة.
فهذا موقع هذه الجملة مع ما قبلها وما بعدها، والقصد من ذلك إثبات صدق محمد صلى الله عليه وسلم ولا يخطر بالبال أنها مسوقة في معرض الموازنة والمفاضلة بين جبريل ومحمد عليهما السلام والشهادة لهما بمزاياهما حتى يشم من وفرة الصفات المجراة على جبريل أنه أفضل من محمد صلى الله عليه وسلم.
ولا أن المبالغة في أوصاف جبريل مع الاقتصاد في أوصاف محمد صلى الله عليه وسلم تؤذن بتفضيل أولهما على الثاني.
ومن أسمج الكلام وأضعف الاستدلال قول صاحب الكشاف وناهيك بهذا دليلا على جلالة مكانة جبريل عليه السلام ومباينة منزلته لمنزلة أفضل الإنس محمد صلى الله عليه وسلم إذا وازنت بين الذكرين وقايست بين قوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير: 19-20]، وبين قوله: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} اه.
وكيف انصرف نظره عن سياق الآية في الرد على أقوال المشركين في النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقولوا في جبريل شيئا لأن الزمخشري رام أن ينتزع من الآية دليلا لمذهب أصحاب الاعتزال من تفضيل الملائكة على الأنبياء، وهي مسألة لها مجال آخر، على أنك قد علمت إن الصفات التي أجريت على {رَسُولٍ} في قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ}

إلى قوله: {أَمِينٍ} [التكوير:19-21]، غير متعين انصرافها إلى جبريل فإنها محتملة الانصراف إلى محمد صلى الله عليه وسلم. وقد يطغى عليه حب الاستدلال لعقائد أهل الاعتزال طغيانا يرمي بفهمه في مهاوي الضآلة، وهل يسمح بال ذي مسكن من علم بمجاري كلام العقلاء أن يتصدى متصد لبيان فضل أحد بأن ينفي عنه إنه مجنون، وهذا كله مبني على تفسير {رَسُولٍ كَرِيمٍ} بجبريل فأما إن أريد به محمد صلى الله عليه وسلم أو هو وجبريل عليهما السلام فهذا مقتلع من جذره.
ولا يخفى إن العدول عن اسم النبي العلم إلى {صَاحِبُكُمْ} لما يؤذن به {صَاحِبُكُمْ} من كونهم على علم بأحواله، وأما العدول عن ضميره إن كان المراد ب {رَسُولٍ} خصوص النبي صلى الله عليه وسلم فمن الإظهار في مقام الإضمار للوجه المذكور وإذا أريد ب {رَسُولٍ} كلاهما فذكر {صَاحِبُكُمْ} لتخصيص الكلام به.
[23] {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} .
عطف على جملة {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [التكوير:22].
والمناسبة بين الجملتين إن المشركين كانوا إذا بلغهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم يخبر أنه نزل عليه جبريل بالوحي من وقت غار حراء فما بعده استهزأوا وقالوا: إن ذلك الذي يتراءى له هو جني، فكذبهم الله بنفي الجنون عنه ثم بتحقيق أنه إنما رأى جبريل القوي الأمين. فضمير الرفع عائد إلى صاحب من قوله: {وَمَا صَاحِبُكُمْ} وضمير النصب عائد إلى {رَسُولٍ كَرِيمٍ} [التكوير:19]، وسياق الكرم يبين معاد الرائي والمرئي.
و"الأفق": الفضاء الذي يبدو للعين من الكرة الهوائية بين طرفي مطلع الشمس ومغربها من حيث يلوح ضوء الفجر ويبدو شفق الغروب وهو يلوح كأنه قبة زرقاء والمعنى رآه ما بين السماء والأرض.
و {الْمُبِينِ} : وصف الأفق، أي للأفق الواضح البين.
والمقصود من هذا الوصف نعت الأفق الذي تراءى منه جبريل للنبي عليهما الصلاة والسلام بأنه أفق واضح بين لا تشتبه فيه المرئيات ولا يتخيل فيه الخيال، وجعلت تلك الصفة علامة على ان المرئي ملك وليس بخيال لأن الأخيلة التي يتخيلها المجانينإنما يتخيلونها على الأرض تابعة لهم على ما تعودوه من وقت الصحة، وقد وصف النبي عليه الصلاة والسلام الملك الذي رآه عند نزول سورة المدثر بأنه على كرسي جالس بين السماء والأرض،

ولهذا تكرر ذكر ظهور الملك بالأفق في سورة النجم [5-9] في قوله تعالى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى، ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى، وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى، ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى، فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} إلى أن قال {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى، وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى، عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} [النجم:12-15] الآيات، قيل رأى النبي جبريل عليهما السلام بمكة من جهة جبل أجياد من شرقيه.
[24] {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} .
الضمير عائد إلى {صَاحِبُكُمْ} [التكوير:22] كما يقتضيه السياق فإن المشركين لم يدعوا أن جبريل ضنين على الغيب، وإنما ادعوا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ظلما وزورا، ولقرب المعاد.
و {الْغَيْبِ} : ما غاب عن عيان الناس، أو عن علمهم وهو تسمية للمصدر. والمراد ما أستأثر الله بعلمه إلا أن يطلع عليه بعض أنبياءه، ومنه وحي الشرائع، والعلم بصفات الله تعالى وشؤونه، ومشاهدة ملك الوحي، وتقدم في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} في سورة البقرة [3].
وكتبت كلمة {بِضَنِينٍ} في مصاحف الأمصار بضاد ساقطة كما اتفق عليه القراء.
وحكي عن أبي عبيد، قال الطبري: هو ما عليه مصاحف المسلمين متفقة وإن اختلفت قراءتهم به.
وفي "الكشاف" هو في مصحف أبي بالضاد وفي مصحف ابن مسعود بالظاء وقد اختصر الشاطبي في منظومته في الرسم على رسمه الضاد إذ قال:
الضاد في {بِضَنِينٍ} تجمع البشرا
وقد اختلف القراء في قراءته فقرأه نافع وابن عامر وعاصم وحمزة وأبو جعفر وخلف وروح عن يعقوب بالضاد الساقطة التي تخرج من حافة اللسان مما يلي الأضراس وهي القراءة الموافقة لرسم المصحف الإمام.
وقرأه الباقون بالظاء المشالة التي تخرج من طرف اللسان وأصول الثنايا العليا، وذكر في "الكشاف" أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بهما، وذلك مما لا يحتاج إلى التنبيه، لأن القراءتين ما كانتا متواترتين إلا وقد رويتا عن النبي صلى الله عليه وسلم.

والضاد والظاء حرفان مختلفان والكلمات المؤلفة من أحدهما مختلفة المعاني غالبا إلا نحو حضض بضادين ساقطتين وحظظ بظاءين مشالين وحضظ بضاد ساقطة بعدها ظاء مشالة وثلاثتها بضم الحاء وفتح ما بعد الحاء. فقد قالوا: إنها لغات في كلمة ذات معنى واحد وهو اسم صمغ يقال له: خولان.
ولا شك أن الذين قرأوه بالظاء المشالة من أهل القراءات المتواترة وهم ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ورويس عن يعقوب قد رووه متواترا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك فلا يقدح في قراءتهم كونها مخالفة لجميع نسخ مصاحف الأمصار لأن تواتر القراءة أقوى من تواتر الخط إن اعتبر للخط تواتر.
وما ذكر من شرط موافقة القراءة لما في مصحف عثمان لتكون قراءة صحيحة تجوز القراءة بها، إنما هو بالنسبة للقراءات التي لم ترو متواترة كما بينا في المقدمة السادسة من مقدمات هذا التفسير.
وقد اعتذر أبو عبيدة عن اتفاق مصاحف الإمام على كتابتها بالضاد مع وجود الاختلاف فيها بين الضاد والظاء في القراءات المتواترة، بأن قال ليس هذا بخلاف الكتاب لأن الضاد والظاء لا يختلف خطهما في المصاحف إلا بزيادة رأس إحداهما على رأس الأخرى فهذا قد يتشابه ويتدانى اه.
يريد بهذا الكلام أن ما رسم في المصحف الإمام ليس مخالفة من كتاب المصاحف للقراءات المتواترة، أي أنهم يراعون اختلاف القراءات المتواترة فيكتبون بعض نسخ المصاحف على اعتبار اختلاف القراءات وهو الغالب. وههنا اشتبه الرسم فجاءت الظاء دقيقة الرأس.
ولا أرى للاعتذار لأنه لما كانت القراءتان متواترتين عن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمد كتاب المصاحف على إحداهما وهي التي قرأ بها جمهور الصحابة وخاصة عثمان بن عفان، وأوكلوا القراءة الأخرى إلى حفظ القارئين.
وإذا تواترت قراءة {بِضَنِينٍ} بالضاد الساقطة و {بظنين} بالظاء المشالة علمنا أن الله أنزله بالوجهين وأنه أراد كلا المعنيين.
فأما معنى "ضنين" بالضاد الساقطة فهو البخيل الذي لا يعطي ما عنده مشتق من الضن بالضاد مصدر ضن، وإذا بخل، ومضارعه بالفتح والكسر.

فيجوز أن يكون على معناه الحقيقي، أي وما صاحبكم ببخيل أي بما يوحى إليه وما يخبر به عن الأمور الغيبية طلبا للانتفاع بما يخبر به بحيث لا ينبئكم عنه إلا بعوض تعطونه، وذلك كناية عن نفي أن يكون كاهنا أو عرافا يتلقى الأخبار عن الجن إذا كان المشركون يترددون على الكهان ويزعمون أنهم يخبرون بالمغيبات، قال تعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ، وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [الحاقة:41-42] فأقام لهم الفرق بين حال الكهان وحال النبي صلى الله عليه وسلم بالإشارة إلى أن النبي لا يسألهم عوضا عما يخبرهم به وإن الكاهن يأخذ ما يخبر به ما يسمونه حلوانا، فيكون هذا المعنى من قبيل قوله تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [الفرقان:57] {قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الأنعام:90] ونحو ذلك.
ويجوز أن يكون "ضنين" مجازا مرسلا في الكتمان بعلاقة اللزوم لآن الكتمان بخل بالأمر المعلوم للكاتم، أي ما هو بكاتم الغيب، أي ما يوحى إليه، وذلك أنهم كانوا يقولون {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} [يونس:15] وقالوا {وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ} [الإسراء:93].
ويتعلق {عَلَى الْغَيْبِ} بقوله: {بِضَنِينٍ} .
وحرف "على" على هذا الوجه بمعنى الباء مثل قوله تعالى: {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لاَ أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ} [الأعراف:105] أي حقيق بي، أو لتضمين "ضنين" معنى حريص، والحرص: شدة البخل وما محمد بكاتم شيئا من الغيب فما أخبركم به فهو عين ما أوحيناه إليه. وقد يكون البخيل على هذه كناية عن كاتم وهو كناية بمرتبة أخرى عن عدم التغيير. والمعنى: وما صاحبكم بكاتم شيئا من الغيب، أي ما أخبركم به فهو الحق.
وأما معنى "ظنين" بالظاء المشالة فهو فعيل بمعنى مفعول مشتق من الظن بمعنى التهمة، أي مظنون. ويراد إنه مظنون به سوء، أي أن يكون كاذبا فيما يخبر به عن الغيب، وكثر حذف مفعول ظنين بهذا المعنى في الكلام حتى صار الظن يطلق بمعنى التهمة فعدي إلى مفعول واحد. وأصل ذلك أنهم يقولون: ظن به سوءا، فيتعدى إلى متعلقه الأول بحرف باء الجر فلما كثر استعماله حذفوا الباء ووصلوا الفعل بالمجرور فصار مفعولا فقالوا ظنه: بمعنى: اتهمه، يقال: سرق لي كذا وظننت فلانا.
وحرف {على} في هذا الوجه للاستعلاء المجازي الذي هو بمعنى الظرفية نحو {أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} [طه:10]، أي ما هو بمتهم في أمر الغيب وهو الوحي أن لا يكون

كما بلغه، أي أن ما بلغه هو الغيب لا ريب فيه، وعكسه قولهم: ائتمنه على كذا.
[25] {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} .
عطف على {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [التكوير:19]، وهذا رجوع ما أقسم عليه من أن القرآن قول رسول كريم، بعد أن استطرد بينهما بتلك المستطردات الدالة على زيادة كمال هذا القول بقدسية مصدره ومكانة حامله عند الله وصدق متلقيه منه عن رؤيا محقة لا تخيل فيها، فكان التخلص إلى العود لتنزيه القرآن بمناسبة ذكر الغيب في قوله تعالى: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} [التكوير:24].
فإن القرآن من أمر الغيب الذي أوحى به إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وفيه كثير من الأخبار عن أمور الغيب الجنة والنار ونحو ذلك.
وقد علم أن الضمير عائد إلى القرآن لأنه اخبر عن الضمير بالقول الذي هو من جنس الكلام إذ قال {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} [التكوير:25] فكان المخبر عنه من قبيل الأقوال لا محالة، فلا يتوهم أن الضمير عائد إلى ما عاد إليه ضمير {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} .
وهذا إبطال لقول المشركين فيه: إنه كاهن، فإنهم كانوا يزعمون إن الكهان تأتيهم الشياطين بأخبار الغيب، قال تعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ، وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [الحاقة:41-42] وقال {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ، وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} [الشعراء: 210-211] وقال {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ، تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء: 221-222] وهم كانوا يزعمون أن الكاهن كان يتلقى عن شيطانه ويسمون شيطانه رئيا.
وفي حديث فترة الوحي ونزول سورة والضحى: إن حمالة الحطب امرأة أبي لهب وهي أم جميل بنت حرب قالت للنبي صلى الله عليه وسلم أرى شيطانك قد قلاك.
و {رَجِيمٍ} فعيل بمعنى مفعول، أي مرجوم. والمرجوم: المبعد الذي يتباعد الناس من شره فإذا أقبل عليهم رجموه فهو وصف كاشف للشيطان لأنه لا يكون إلا متبرأ منه.
[26] {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} .
جملة {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} معترضة بين جملة {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} [التكوير:25] وقوله: {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [التكوير:27].

والفاء لتفريغ التوبيخ والتعجيز على الحجج المتقدمة المثبتة أن القرآن لا يجوز أن يكون كلام كاهن وأنه وحي من الله بواسطة الملك.
وهذا من اقتران الجملة المعترضة بالفاء كما تقدم في قوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} في سورة عبس [12].
و"أين" اسم استفهام عن المكان. وهو استفهام إنكاري عن مكان ذهابهم، أي طريق ضلالهم، تمثيلا لحالهم في سلوك طرق الباطل بحال من ظل الطريق الجادة فيسأله السائل منكرا عليه سلوكه، أي أعدل عن هذا الطريق فإنه مضلة.
ويجوز أن يكون الاستفهام مستعملا في التعجيز عن طلب طريق يسلكونه إلى مقصدهم من الطعن في القرآن.
والمعنى: أنه قد سدت عليكم طرق بهتانكم إذ اتضح بالحجة الدامغة بطلان ادعاءكم أن القرآن كلام مجنون أو كلام كاهن، فماذا تدعون بعد ذلك.
واعلم أن جملة "أين تذهبون" قد أرسلت مثلا، ولعله من مبتكرات القرآن وكنت رأيت في كلام بعضهم: أين يذهب بك، لمن كان في خطأ وعماية.
[27-28] {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ، لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} .
بعد أن أفاقهم من ضلالتهم أرشدهم إلى حقيقة القرآن بقوله: {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} ، وهذه الجملة تتنزل منزلة المؤكدة لجملة {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} [التكوير:25] ولذلك جردت على العاطف، ذلك أن القصر المستفاد من النفي والاستثناء في قوله: {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} يفيد قصر القرآن على صفة الذكر، أي لا غير ذلك وهو قصر إضافي قصد منه إبطال أن يكون قول شاعر، أو قول كاهن، أو قول مجنون، فمن جملة ما أفاده القصر نفي أن يكون قول شيطان رجيم، وبذلك كان فيه تأكيد لجملة {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} .
والذكر اسم يجمع معاني الدعاء والوعظ بحسن الأعمال والزجر عن الباطل وعن الضلال، أي ما القرآن إلا تذكير لجميع الناس ينتفعون به في صلاح اعتقادهم، وطاعة الله ربهم، وتهذيب أخلاقهم، وآداب بعضهم مع بعض، والمحافظة على حقوقهم، ودوام انتظام جماعتهم، وكيف يعاملون غيرهم من الأمم الذين لم يتبعوه.

ف"العالمين" يعم كل البشر لأنهم مدعوون للاهتداء به ومستفيدون مما جاء فيه.
فإن قلت: القرآن يشتمل على أحاديث الأنبياء والأمم وهو أيضا معجزة لمحمد صلى الله عليه وسلم فكيف قصر على كونه ذكرا.
قلت: القصر الإضافي لا يقصد منه إلا تخصيص الصفة بالموصوف بالنسبة إلى صفة أخرى خاصة، على أنك لك أن تجعل القصر حقيقيا مفيدا قصر القرآن على الذكر دون غير ذلك من الصفات، فإن ما اشتمل عليه من القصص والأخبار مقصود به الموعظة والعبرة كما بينت ذلك في المقدمة السابعة.
وأما إعجازه فله مدخل عظيم في التذكير لأن إعجازه دليل على أنه ليس بكلام من صنع البشر، وإذا علم ذلك وقع اليقين بأنه حق.
وأبدل من {لِلْعَالَمِينَ} قوله: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} بدل بعض من كل، وأعيد مع البدل حرف الجر العامل مثله في المبدل منه لتأكيد العامل كقوله تعالى: {وَمِنْ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ} [الأنعام:99] وقوله: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} [الأعراف:75]، وتقدم في سورة الأنعام. والخطاب في قوله: {مِنْكُمْ} للذين خوطبوا بقوله: {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} [التكوير:26] وإذا كان القرآن ذكرا لهم وهم من جملة العالمين كان ذكر {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} من بقية العالمين أيضا بحكم قياس المساواة، ففي الكلام كناية عن ذلك.
وفائدة هذا الإبدال التنبيه على أن الذين تذكروا بالقرآن وهم المسلمون قد شاؤوا الاستقامة لأنفسهم فنصحوا أنفسهم، وهو ثناء عليهم.
وفي مفهوم الصلة تعريض بأن الذين لم يتذكروا بالقرآن ما حل بينهم وبين التذكر به إلا أنهم لم يشاؤوا أن يستقيموا، بل رضوا لأنفسهم بالاعوجاج، أي سوء العمل والاعتقاد، ليعلم السامعون أن دوام أولئك على الضلال ليس لقصور القرآن عن هديهم بل لأنهم أبوا أن يهتدوا به، إما للمكابرة فقد كانوا يقولون {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت:5] وإما للإعراض عن تلقيه {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:26].
والاستقامة مستعارة لصلاح العمل الباطني، وهو الاعتقاد، والظاهري هو الأفعال والأقوال تشبيها للعمل بخط مستقيم تشبيه معقول بمحسوس. ثم إن الذين لم يشاؤوا أن

يستقيموا هم الكافرون بالقرآن وهم المسوق لهم الكلام، ويلحق بهم على مقادير متفاوتة كل من فرط بالاهتداء بشيء من القرآن من المسلمين فإنه ما شاء أن يستقيم لما فرط منه في أحوال أو أزمان أو أمكنة.
وفي هذه الآية إشارة بينة على أن من الخطأ أن يوزن حال الدين الإسلامي بميزان أحوال بعض المسلمين أو معظمهم كما يفعله بعض أهل الأنظار القاصرة من الغربيين وغيرهم إذ يجعلون وجهة نظرهم التأمل في حالة الأمم الإسلامية ويستخلصون من استقرائها أحكاما كلية يجعلونها قضايا لفلسفتهم في كنه الديانة الإسلامية.
وهذه الآية صريحة في إثبات المشيئة للإنسان العاقل فيما يأتي ويدع، وأنه لا عذر له إذا قال: هذا أمر قدر، وهذا مكتوب عند الله، فإن تلك كلمات يضعونها في غير محالها، وبذلك يبطل قول الجبرية، ويثبت للعبد كسب أو قدرة على اختلاف التعبير.
[29] {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} .
يجوز أن تكون تذييلا أو اعتراضا في آخر الكلام.
ويجوز أن تكون حالا. والمقصود التكميل والاحتراس في معنى لمن شاء منكم أن يستقسم، أي ولمن شاء له ذلك من العالمين، وتقدم في آخر سورة الإنسان قوله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ، فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً، وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإنسان: 29-30].
والفرق بينهما أن في هذه الآية وصف الله تعالى ب {رَبُّ الْعَالَمِينَ} وهو مفيد التعليل لارتباط مشيئة من شاء الاستقامة من العالمين لمشيئة الله ذلك لأنه رب العالمين فهو الخالق فيهم دواعي المشيئة وأسباب حصولها المتسلسلة وهو الذي أرشدهم للاستقامة على الحق، وبهذا الوصف ظهر مزيد الاتصال بين مشيئة الناس الاستقامة بالقرآن وبين كون القرآن ذكرا للعالمين.
وأما آية سورة الإنسان فقد ذيلت {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإنسان:30] أي فهو بعلمه وحكمته ينوط مشيئته لهم الاستقامة بمواضع صلاحيتهم لها فيفيد أن من لم يشأ أن يتخذ إلى ربه سبيلا قد حرمه الله تعالى من مشيئته الخير بعلمه وحكمته كناية عن شقائهم.
و {ما} نافية، والاستثناء من مصادر محذوفة دل عليها قوله: {إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}

وتقدم بيان ذلك في سورة الإنسان.
وفي هذه الآية وآية سورة الإنسان إفصاح عن شرف أهل الاستقامة بكونهم بمحل العناية من ربهم إذا شاء لهم الاستقامة وهيأهم لها، وهذه العناية بمعنى عظيم تحير أهل العلم في الكشف عنها، فمنهم من تطوح به إلى الجبر ومنهم من ارتمى في وهدة القدر، ومنهم من اعتدل فجزم بقوة للعباد حادثة يكون بها اختيارهم لسلوك الخير أو الشر فسماها بعض هؤلاء قدرة حادثة وبعضهم سماها كسبا. وحملوا ما خالف ذلك من ظواهر الآيات والأخبار على مقام تعليم الله عباده التأدب مع جلاله.
وهذا أقصى ما بلغت إلية الأفهام القويمة في مجامل متعارض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية. ومن ورائه سلك دقيق يشده قد تقصر عنه الأفهام.

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الانفطارسميت هذه السورة "سورة الانفطار" في المصاحف ومعظم التفاسير.
وفي حديث رواه الترمذي عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين فليقرأ إذا الشمس كورت، وإذا السماء انفطرت، وإذا السماء انشقت" . قال الترمذي: حديث حسن غريب. وقد عرفت ما فيه من الاحتمال في أول سورة التكوير.
وسميت في بعض التفاسير "سورة إذا السماء انفطرت" وبهذا الاسم عنونها البخاري في كتاب التفسير من "صحيحه". ولم يعدها صاحب "الإتقان" مع السور ذات أكثر من اسم وهو الانفطار.
ووجه التسمية وقوع جملة {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ} [الإنفطار:1] في أولها فعرفت بها.
وسميت في قليل من التفاسير "سورة انفطرت"، وقيل تسمى "سورة المنفطرة" أي السماء المنفطرة.
وهي مكية بالاتفاق.
وهي معدودة الثانية والثمانين في عداد نزول السور، نزلت بعد سورة النازعات وقبل سورة الانشقاق.
وعدد آيها تسع عشرة آية.
أغراضها
واشتملت هذه السورة على: إثبات البعث، وذكر أهوال تتقدمه.

وإيقاظ المشركين للنظر في الأمور التي صرفتهم عن الاعتراف بتوحيد الله تعالى وعن النظر في دلائل وقوع البعث والجزاء.
والأعلام بأن الأعمال محصاة. وبيان جزاء الأعمال خيرها وشرها.
وإنذار الناس بأن لا يحسبوا شيئا ينجيهم من جزاء الله إياهم على سيء أعمالهم.
[1-5] {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ، وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ، وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ، وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ، عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} .
الافتتاح ب {إذا} افتتاح مشوق لما يرد بعدها من متعلقها الذي هو جواب ما في "إذا" من معنى الشرط كما تقدم في أول سورة إذا الشمس كورت، سوى أن الجمل المتعاطفة المضاف إليها هي هنا أقل من اللآتي في سورة التكوير لأن المقام لم يقتض تطويل الإنطاب كما اقتضاه المقام في سورة التكوير وإن كان في كلتيهما مقتض الإنطاب لكنه متفاوت لأن سورة التكوير من أول السور نزولا كما علمت آنفا.
وأما سورة الانفطار فبينها وبين سورة التكوير أربع وسبعون سورة تكرر في بعضها إثبات البعث والجزاء والإنذار وتقرر عند المخاطبين فأغنى تطويل الإطناب والتهويل.
و {إذا} ظرف للمستقبل متضمن معنى الشرط.
والمعربون يقولون: خافض لشرطه منصوب بجوابه، وهي عبارة عن حسنة جامعة.
والقول في الجمل التي أضيف إليها {إذا} من كونها جملا مفتتحة بمسند إليه مخبر عنه بمسند فعلي دون أن يؤتى بالجملة الفعلية ودون تقدير أفعال محذوفة قبل الأسماء، لقصد الاهتمام بالمسند إليه وتقوية الخبر.
وكذلك القول في تكرير كلمة "إذا" بعد حروف العطف كالقول في جمل {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير:1].
و {انفَطَرَتْ} : مطاوع فطر، إذا جعل الشيء مفطورا، أي مشقوقا ذا فطور، وتقدم في سورة الملك.
وهذا الانفطار: انفراج يقع فيما يسمى بالسماء وهو ما يشبه القبة في نظر الرائي يراه تسير فيه الكواكب في أسمات مضبوطة تسمى بالأفلاك تشاهد بالليل، ويعرف سمتها في

النهار، ومشاهدتها في صورة متماثلة مع تعاقب القرون تدل على تجانس ما هي مصورة منه فإذا اختل ذلك وتخللته أجسام أو عناصر غريبة من أصل نظامه تفككت تلك الطباق ولاح فيها تشقق فكان علامة على انحلال النظام المتعلق بها كله.
والظاهر أن هذا الانفطار هو المعبر عنه بالانشقاق أيضا في سورة الانشقاق وهو حدث يكون قبل يوم البعث وأنه من أشراط الساعة لأنه يحصل عند إفساد النظام الذي أقام الله عليه حركات الكواكب وحركة الأرض وذلك يقتضيه قرنه بانتثار الكواكب وتفجر البحار وتبعثر القبور.
وأما الكشط الذي تقدم في سورة التكوير [11] في قوله: {وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ} فذلك عرض آخر يعرض للسماوات يوم الحشر فهو من قبيل الله تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلاَئِكَةُ تَنزِيلاً} [الفرقان:25].
والانتثار: مطاوع النثر ضد الجمع وضد الضم، فالنثر هو رمي أشياء على الأرض بتفرق.
وأما التفرق في الهواء فإطلاق النثر عليه مجاز كما في قوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23]. فانتثار الكواكب مستعار لتفرق هيئات اجتماعها المعروفة في مواقعها، أو مستعار لخروجها من دوائر أفلاكها وسموتها فتبدو مضطربة في الفضاء بعد أن كانت تلوح كأنها قارة، فانتثارها تبددها وتفرق مجتمعها، وذلك من آثار اختلال قوة الجاذبية التي أقيم عليها نظام العالم الشمسي.
وتفجير البحار انطلاق مائها من مستواه وفيضانه على ما حولها من الأرضين كما يتفجر ماء العين حين حفرها لفساد كرة الهواء التي هي ضاغطة على مياه البحار وبذلك التفجير يعم الماء على الأرض فيهلك ما عليها ويختل سطحها.
ومعنى {بُعْثِرَتْ} : انقلب باطنها ظاهرها، والبعثرة: الانقلاب، ويقال: بعثر المتاع إذا قلب بعضه على بعض. قال في "الكشاف" بعثر مركب من البعث من راء ضمت إليه. وقال البيضاوي قيل: إن بعثر مركب من بعث وراء الإثارة كبسمل اه. ونقل مثله عن السهيلي. وأن بعثر منحوت من بعث وإثارة مثل بسمل، وحوقل، فيكون في بعثر معنى فعلين بعث وأثار، أي أخرج وقلب، فكأنه قلب لأجل إخراج ما في المقلوب.
والذي اقتصر عليه أيمة اللغة أن معنى بعثر: قلب بعض شيء على بعضه.

وبعثرت القبور: حالة من حالات الانقلاب الأرضي والخسف خصت بالذكر من بين حالات الأرض لما فيها من الهول باستحضار حالة الأرض وقد ألقت على ظاهرها ما كان في باطن المقابر من جثث كاملة ورفات، فإن كان البعث عن عدم كما مال إليه بعض العلماء أو عن تفريق كما رآه بعض آخر، فإن بعث الأجساد الكاملة يجوز أن يختص بالبعث عن تفريق ويختص بعث الأجساد البالية والرمم بالكون عن عدم.
وجملة {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} جواب لما في {إذا} من معنى الشرط، ويتنازع التعلق به جميع ما ذكر من كلمات {إذا} الأربع. وهذا العلم كناية عن الحساب على ما قدمت النفوس وأخرت.
وعلم النفوس بما قدمت وأخرت يحصل بعد حصول ما تضمنته جمل الشرط ب {إذا} إذ لا يلزم في ربط المشروط بشرطه أن يكون حصوله مقارنا لحصول شرطه لأن الشروط اللغوية أسباب وأمارات وليست عللا، وقد تقدم بيان ذلك في سورة التكوير.
وصيغة الماضي في قوله: {انفَطَرَتْ} وما عطف عليه مستعمله في المستقبل تشبيها لتحقيق وقوع المستقبل بحصول الشيء في الماضي.
وإثبات العلم للناس بما قدموا وأخروا عند حصول تلك الشروط لعدم الاعتداد بعلمهم بذلك الذي كان في الحياة الدنيا، فنزل منزلة عدم العلم كما تقدم بيانه في قوله: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} في سورة التكوير [14].
و {نَفْسٌ} مراد به العموم على نحو ما تقدم في {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} في سورة التكوير [14].
و {مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} : هو العمل الذي قدمته النفس، أي عملته مقدما وهو ما عملته في أول العمر، والعمل الذي أخرته، أي عملته مؤخرا أي في آخر مدة الحياة، أو المراد بالتقديم بالمبادرة بالعمل، والمراد بالتأخير مقابله وهو ترك العمل.
والمقصود من هذين تعميم التوفيق على جميع ما عملته ومثله قوله تعالى: {يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} في سورة لا أقسم بيوم القيامة [13].
والعلم يتحقق بإدراك ما لم يكن معلوما من قبل وبتذكر ما نسي لطول المدة عليه كما تقدم في نظيره في سورة التكوير. وهذا وعيد بالحساب على جميع أعمال المشركين، وهم المقصود بالسورة كما يشير إليه قوله بعد هذا {بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ} [الإنفطار:9]، ووعد

للمتقين، ومختلط لما عملوا عملا صالحا وآخر سيئا.
[6-8] {يَاأَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ، الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ، فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} .
استئناف ابتدائي لأن ما قبله بمنزلة المقدمة له لتهيئة السامع لتلقي هذه الموعظة لأن ما سبقه من التهويل والإنذار يهيء النفس لقبول الموعظة إذ الموعظة تكون أشد تغلغلا في القلب حينئد لما يشعر به السامع من انكسار نفسه ورقة قلبه فيزول عنه طغيان المكابرة والعناد فخطر في النفوس ترقب شيء بعد ذلك.
النداء للتنبيه تنبيها يشعر بالاهتمام بالكلام لسماعه فليس النداء مستعملا في حقيقته إذ ليس مرادا به طلب إقبال ولا هو موجها لكل من يسمعه بقصد أو بغير قصد.
فالتعريف في {الإنسان} تعريف الجنس، وعلى ذلك حمله جمهور المفسرين، أي ليس المراد إنسانا معينا، وقرينة ذلك سياق الكلام مع قوله عقبه {بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ، وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} [الإنفطار:9-10] الآية.
وهذا العموم مراد به الذين أنكروا البعث بدلالة وقوعه عقب الإنذار بحصول البعث ويدل على ذلك قوله بعده، {بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ} [الإنفطار:9] فالمعنى: يا أيها الإنسان الذي أنكر البعث ولا يكون منكر البعث إلا مشركا لأن إنكار البعث والشرك متلازمان يومئذ فهو من العام المراد به الخصوص بالقرينة أو من الاستغراق العرفي لأن جمهور المخاطبين في إبداء الدعوة الإسلامية هم المشركون.
و {ما} في قوله: {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ} استفهامية عن الشيء الذي غر المشرك فحمله على الإشراك بربه وعلى إنكار البعث.
وعن ابن عباس وعطاء: الإنسان هنا الوليد بن المغيرة، وعن عكرمة المراد أبي بن خلف، وعن ابن عباس أيضا: المراد أبو الأشد بن كلدة الجمحي، وعن الكلبي ومقاتل: نزلت في الأسود بن شريق.
والاستفهام مجاز في الإنكار والتعجيب من الإشراك بالله، أي لا موجب للشرك وإنكار البعث إلا أن يكون ذلك غرورا غره عنا كناية عن كون الشرك لا يخطر ببال العاقل

إلا أن يغره به غاره، فيحتمل أن يكون الغرور موجودا ومحتمل أن لا يكون غرور.
والغرور: الإطماع بما يتوهمه المغرور نفعا وهو ضر. وفعله قد ينسد إلى اسم ذات المطمع حقيقة مثل {وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان:33] أو مجازا نحو {وَغَرَّتْكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [الجاثية:35] فإن الحياة زمان الغرور، وقد يسند إلى اسم معنى من المعاني حقيقة نحو {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلاَدِ} [آل عمران:196]. وقول امرىء القيس:
أغرك مني إن حبك قاتلي
أو مجازا نحو قوله تعالى: {زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام:112].
ويتعدى فعله إلى مفعول واحد، وقد يذكر مع مفعوله اسم ما يتعلق الغرور بشؤونه فيعدى إليه بالباء، ومعنى الباء فيه الملابسة كما في قوله: {وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان:33]، أي لا يغرنكم غرورا متلبسا بشأن الله، أي مصاحبا لشؤون الله مصاحبة مجازية وليست هي باء السببية كما يقال: غره ببذل المال،أو غره بالقول. وإذا كانت الملابسة لا تتصور ماهيتها مع الذوات فقد تعين في باء الملابسة إذا دخلت على اسم ذات أن يكون معها تقدير شأن من شؤون الذات يفهم من المقام، فالمعنى هنا: ما غرك بالإشراك بربك كما يدل عليه قوله: {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} الآية فإن منكر البعث يومئذ لا يكون إلا مشركا.
وإيثار تعريف الله بوصف {ربك} دون ذكر اسم الجلالة لما في معنى الرب من الملك والإنشاء والرفق، ففيه تذكير للإنسان بموجبات استحقاق الرب طاعة مربوبه فهو تعريض بالتوبيخ.
وكذلك إجراء وصف الكريم دون غيره من صفات الله للتذكير بنعمته على الناس ولطفه بهم فإن الكريم حقيق بالشكر والطاعة.
والوصف الثالث الذي تضمنته الصلة {فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ} جامع لكثير ما يؤذن به الوصفان الأولان فإن الخلق والتسوية والتعديل وتحسين الصورة من الرفق بالمخلوق، وهي نعم عليه وجميع ذلك تعريض بالتوبيخ على كفران نعمته بعبادة غيره.
وذكر عن صالح بن مسمار قال بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية فقال "غره جهله" ، ولم يذكر سندا.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68