كتاب : التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور
المؤلف : محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي

معنى(يصرفونك).
والذي أوحي إليه هو القرآن.
هذا هو الوجه في تفسير الآية بما تعطيه معاني تراكيبها مع ملاحظة ما تقتضيه أدلة عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم من أن تتطرق إليه خواطر إجابة المشركين لما يطمعون.
وللمفسرين بضعة محامل أخرى لهذه الآية استقصاها القرطبي، فمنها ما ليس له حظ من القبول لوهن سنده وعدم انطباقه على معاني الآية، ومنها ما هو ضعيف السند وتتحمله الآية بتكلف. ومرجع ذلك إلى أن المشركين راودوا النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يسويهم مع من يعدونهم منحطين عنهم من المؤمنين المستضعفين عندهم مثل: بلال، وعمار بن ياسر، وخباب، وصهيب، وأنهم وعدوا النبي إن هو فعل ذلك؛ بأن يجلسوا إليه ويستمعوا القرآن حين لا يكون فيه تنقيص آلهتهم، وأن رسول الله هم بأن يظهر لهم بعض اللين رغبة في إقبالهم على سماع القرآن لعلهم يهتدون، فيكون المراد من {الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} بعض الذي أوحينا إليك، وهو ما فيه فضل المؤمنين مثل قوله {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الأنعام: من الآية52] أو ما فيه تنقيض الأصنام.
وسمات التخرص وضيق العطن في معنى الآية بحاق ألفاظها بادية على جميع هاته الأخبار. وإذ قد مائت بها كتب التفسير لم يكن بد من تأويل الآية بأمثل ما يناسب تلك الأخبار لئلا تكون فتنة للناظرين فنقول: إن رغبة النبي صلى الله عليه وسلم في اقترابهم من الإسلام وفي تأمين المسلمين، أجالت في خاطره أن يجيبهم إلى بعض ما دعوه إليه مما يرجع إلى تخفيف الإغلاظ عليهم أو أنظارهم، أو إرضاء بعض أصحابه بالتخلي عن مجلسه حين يحضره صناديد المشركين وهو يعلم أنهم ينتدبون إلى ذلك لمصلحة الدين أو نحو ذلك مما فيه مصلحة لنشر الدين، وليس فيه فوات شيء على المسلمين، أي كادوا يصرفونك عن بعض ما أوحيناه إليك مما هو مخالف لما سألوه.
فالموصول في قوله {الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} للعهد لما هو معلوم عند النبي صلى الله عليه وسلم بحسب ما سأله المشركون من مخالفته. فهذه الآية مسوقة مساق المن على النبي بعصمة الله إياه من الخطأ في الاجتهاد، ومساق إظهار ملل المشركين من أمر الدعوة الإسلامية وتخوفهم من عواقبها. وفي ذلك تثبيت للنبي وللمؤمنين وتأييس للمشركين بأن ذلك لن

يكون.
وقوله {لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ} متعلق ب {يَفْتِنُونَكَ} ، واللام للعلة، أي يفعلون ذلك إضمارا منهم وطمعا في أن يفتري علينا غيره، أي غير مما أوحي إليك. وهذا طمع من المشركين أن يستدرجوا النبي من سؤال إلى آخر، فهو راجع إلى نياتهم. وليس في الكلام ما يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم هم بذلك كما فهمه بعض المفسرين. إذ لام التعليل لا تقتضي أكثر من غرض فاعل الفعل المعلل ولا تقتضي غرض المفعول ولا علمه.
و(إن) من قوله : {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} مخففة من (إن) المشددة واسمها ضمير شان محذوف، واللام في {لَيَفْتِنُونَكَ} هي اللام الفارقة بين (إن) المخففة من الثقيلة وبين (إن) النافية فلا تقتضي تأكيدا للجملة.
وجملة {وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً} عطف على جملة {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} . و(َإِذاً) حرف جزاء والنون التي بآخرها نون كلمة وليست تنوين تمكين فتكون جزاء لفعل {َيَفْتِنُونَكَ} بما معه من المتعلقات مقحما بين المتعاطفين لتصير واو العطف مع (إذا) مفيدة معنى فاء التفريع.
ووجه عطفها بالوا دون الاقتصار على حرف الجزاء لأنه باعتبار كونه من أحوالهم التي حاوروا النبي صلى الله عليه وسلم فيها وألحوا عليه ناسب أن يعطف على جملة أحوالهم. والتقدير: فلو صرفوك عن بعض ما أوحينا إليك لاتخذوك خليلا. واللام في قوله {لَاتَّخَذُوكَ} اللام الموطئة للقسم لأن الكلام على تقدير الشرط، وهو لو صرفوك عن الذي أوحينا إليك لاتخذوك خليلا.
واللام في قوله {لَاتَّخَذُوكَ} لام جواب ( لو ) إذ كان فعلا ماضيا مثبتا.
والخليل: الصديق. وتقدم عند قوله تعالى {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} [النساء: من الآية125] الله
{وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً إِذاً لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً} [الإسراء:75] يجوز أن يكون هذا كلاما مستقلا غير متصل بقوله {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ}

[الإسراء:73]
بناء على ما نحوناه في تفسير الآية السابقة. وهذه منة أخرى ومقام آخر من مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم تجاه المشركين. ويجوز أن يكون من تكملة ما قبله فيكون الركون إليهم ركونا فيما سألوه منه على نحو ما ساقه المفسرون من الأخبار المتقدمة.
و(لولا) حرف امتناع لوجود، أي يقتضي امتناعا لوجود، أي يقتضي امتناع جوابه لوجود شرطه، أي بسبب وجود شرطه.
والتثبيت: جعل الشيء ثابتا، أي متمكنا من مكانه غير مقلقل ولا مقلوع. وهو مستعار للبقاء على حاله غير متغير. وتقدم عند قوله تعالى {وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة: من الآية265]
وعدي التثبيت إلى ضمير النبي الدال على ذاته. والمراد تثبيت فهمه ورأيه. وهذا من الحكم على الذات. والمراد بعض أحوالها بحسب دلالة المقام، مثل {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: من الآية23]. فالمعنى: ولولا أن ثبتنا رأيك فأقررناه على ما كان عليه في معاملة المشركين لقاربت أن تركن إليهم.
واللام في {لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ} يجوز أن تكون لام جواب لولا ، وهي ملازمة لجوابها لتحقيق الربط بينه وبين الشرط.
والمعنى على الوجه الأول في موقع هذه الآية: أن الركون مجمل في أشياء هي مظنة الركون ولكن الركون منتف من أصله لأجل التثبيت بالعصمة كما انتفى أن يفتنه المشركون عن الذي أوحي إليه بصرف الله إياهم عن تنفيذ فتنتهم.
والمعنى على الوجه الثاني: ولولا أن عصمناك من الخطأ في الاجتهاد وأريناك أن مصلحة الشدة في الدين والتنويه بأتباعه، ولو كانوا من ضعفاء أهل الدنيا، لا تعارضها مصلحة تأليف قلوب المشركين، ولو كان المسلمون راضين بالغضاضة من أنفسهم استئلافا للمشركين، فإن إظهار الهوادة في أمر الدين تطمع المشركين في الترقي إلى سؤال ما هو أبعد مدى مما سألوه، فمصلحة ملازمة موقف الحزم معهم أرجح من مصلحة ملاينتهم وموافقتهم، أي فلا فائدة من ذلك. ولولا ذلك كله لقد كدت تركن إليهم قليلا، أي تميل إليهم، أي توعدتهم بالإجابة إلى بعض ما سألوك استنادا لدليل مصلحة مرجوحة واضحة وغفلة عن مصلحة راجحة خفية اغترارا بخفة بعض ما سألوه في جانب عظم ما وعدوا به من إيمانهم.

والركون: الميل بالركن، أي بالجانب من الجسد واستعمل في الموافقة بعلاقة القرب. وتقدم في قوله {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} في سورة هود الآية[113 ]ما استعمل ضده في المخالفة في قوله تعالى {وإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْأِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ } في هذه السورة.
وانتصب {تَرْكَنُ} على المفعول المطلق ل {تَرْكَنُ} أي شيئا من الركون. ووجه العدول عن مصدر )تركن( طلب الخفة لأن مصدر { تَرْكَنُ: وهو الركون فيه ثقل فتركه أفصح، وإنما لم يقتصر على {قلِيلاً} لأن تنكير {شَيْئاً} مفيد التقليل، فكان في ذكره تهيئة لتوكيد معنى التقليل، فإن كلمة شيء لتوغلها في إيهام جنس ما تضاف إليه أو جنس الموجود مطلقا مفيدة للتقليل غالبا كقوله تعالى {فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} [النساء من لآية20]
و)إذن( الثانية )جزاء ل {كِدْتَ تَرْكَنُ} ولكونها جزاء فصلت عن العطف إذ لا مقتضى له. فركون النبي صلى الله عليه وسلم إليهم غير واقع ولا مقارب الوقوع لأن الآية قد نفته بأربعة أمور، وهي: لولا الامتناعية. وفعل المقاربة المقتضي أنه ما كان يقع الركون ولكن يقع الاقتراب منه، والتحقير المستفاد من {شَيْئاً} ، والتقليل المستفاد من {قَلِيلاً} .
أي لولا إفهامنا إياك وجه الحق لخشي أن تقترب من ركون ضعيف قليل ولكن ذلك لم يقع. ودخلت قد في حيز الامتناع فأصبح تحقيقها معدوما، أي لولا أن ثبتناك لتحقق قرب ميلك القليل ولكن ذلك لم يقع لأنا ثبتناك.
وجملة {إِذاً لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ} جزاء لجملة {لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ} والمعنى: لو تركن إليهم لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات. ولما في إذن من معنى الجزاء استغني عن ربط الجملة بحرف التفريع. والمعنى: لقد كدت تركن فلأذقناك.
والضعف بكسر الضاد : مماثل مقدار شيء ذي مقدار، فهو لا يكون إلا مبينا بجنسه لفظا أو تقديرا مثل قوله تعالى {مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ } [لأحزاب من الأية30 ] أي ضعفي ما اعد لتلك الفاحشة. ولما كان كذلك ساغ إطلاقه دون بيان اعتمادا على بيان السياق كما هنا، فإن ذكر الإذاقة في مقام التحذير ينبئ بأنها إذاقة عذاب موصوف بأنه ضعف.
ثم إن الضعف أطلق هنا على القوي الشديد لعدم حمل الضعف على حقيقته إذ ليس ثم علم بمقدار العذاب يراد تضعيفه كقوله {فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ} وتقدم ذلك في

سورة الأعراف.
وإضافة الضعف إلى الحياة وإلى الممات على معنى (في)، فإن تقدير معنى (في) بين المتضايفين لا يختص بإضافة ما يضاف إلى الأوقات. فالتقدير: لأذقناك ضعفا في الحياة وضعفا في الممات، فضعف عذاب الحياة هو تراكم المصائب والأرزاء في مدة الحياة، أي العمر بزوال ما كان يناله من بهجة وسرور بتمام دعوته وانتظام أمته، ذلك أن يتمكن منه أعداؤه، وعذاب الممات أن يموت مكمودا مستذلا بين كفار يرون أنهم قد فازوا عليه بعد أن أشرفوا على السقوط أمامه.
ويشبه أن يكون قوله {وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} في استمرار ضعف الحياة، فيكون المعنى: لأذقناك ضعف الحياة حتى الممات.
فليس المراد من ضعف الممات عذاب الآخرة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لو ركن إليهم شيئا قليلا لكان ذلك عن اجتهاد واجتلابا لمصلحة الدين في نظره، فلا يكون على الاجتهاد عقاب في الآخرة إذ العقاب الأخروي لا يكون إلا على مخالفة في التكليف، وقد سوغ الله لنبيه الاجتهاد وجعل للمخطئ في اجتهاده أجرا كما قرر في تفسير قوله تعالى {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} في سورة ألأنفال[68 ].
وأما مصائب الدنيا وأرزاؤها فهي مسببة على أسباب من الأغلاط والأخطاء فلا يؤثر في التفادي منها حسن النية إن كان صاحبها قد أخطأ وجه الصواب، فتدبر في هذه المعاني تدبر ذوي الألباب، ولهذا خولف التعبير المعتاد استعماله لعذاب الآخرة. وعبر هنا ب {ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ}
وجملة {ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً} معطوفة على جملة {لَأَذَقْنَاكَ} .
وموقعها تحقيق عدم الخلاص من تلك الإذاقة. و)ثم( للترتيب الرتبي لأن عدم الخلاص من العذاب أهم من إذاقته، فرتبته في الأهمية أرقى. والنصير: الناصر المخلص من الغلبة أو الذي يثأر للمغلوب، أي لا تجد لنفسك من ينتصر لك فيصدنا عن إلحاق ذلك بك أو يثأر لك منا.
{وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً}

عطف على جملة {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} [الإسراء:3]تعدادا لسيئات أعمالهم. والضمائر متحدة.
والاستفزاز: الحمل على الترحل، وهو استفعال من فز بمعنى بارح المكان، أي كادوا أن يسعوا أن تكون فازا، أي خارجا من مكة. وتقدم معنى هذا الفعل عند قوله: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ} في هذه السورة [الإسراء:64].والمعنى: كادوا أن يخرجوك من بلدك. وذلك بأن هموا بأن يخرجوه كرها ثم صرفهم الله عن ذلك ليكون خروجه بغير إكراه حين خرج مهاجرا عن غير علم منهم لأنهم ارتأوا بعد زمان أن يبقوه بينهم حتى يقتلوه.
والتعريف في {الْأَرْضِ} تعريف للعهد،أي من أرضك وهي مكة.
وقوله: {لِيُخْرِجُوكَ} تعليل للاستفزاز، أي استفزازا لقصد الإخراج.
والمراد بالإخراج: مفارقة المكان دون رجوع. وبهذا الاعتبار جعل علة للاستفزاز لأن الاستفزاز أعم من الإخراج.
وجملة {وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خَلفَكَ} عطف على جملة {وَإِنْ كَادُوا} . أو هي اعتراض في آخر الكلام، فتكون الواو للاعتراض و(ذا)ظرفا لقوله {لا يَلْبَثُونَ} وهي(إذا)الملازمة الإضافة إلى الجملة.
ويجوز أن يكون(إذا)حرف جواب وجزاء لكلام سابق، وهي التي نونها حرف من الكلمة ولكن كثرت كتابتها بألف في صورة الاسم المنون. والأصل فيها أن يكون الفعل بعدها منصوبا ب(أن) مضمرة، فإذا وقعت بعد عاطف جاز رفع المضارع بعدها ونصبه.
ويجوز أن تكون(إذا) ظرفا للزمان، وتنونيها عوض عن جملة محذوفة على قول جماعة من نحاة الكوفة. وهو غير بعيد. ألا ترى أنها إذا وقعت بعد عاطف لم ينتصب بعدها المضارع إلا نادرا لانتفاء معنى التسبب، ولأنها حينئذ لا يظهر فيها معنى الجواب والجزاء.
والتقير: وإذا أخرجوك أو وإذا خرجت لا يلبثون خلفك إلا قليلا.
وقرأ الجمهور {خَلفَكَ} .
و {خَلفَكَ} أريد به بعدك. وأصل الخلف الوراء فاستعمل مجازا في البعدية، أي لا

يلبثون بعدك.
وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وحفص، وخلف {خِلافَكَ} وهو لغة في خلف. وتقدم عند قوله تعالى: {بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ} [التوبة:81)].
واللبث: الاستقرار في المكان، أي لا يستقرون في مكة بل يخرجون منها فلا يرجعون. وقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك مهاجرا وكانوا السبب في خروجه فكأنهم أخرجوه، كما تقدم عند قوله تعالى: {وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} في سورة البقرة[91]، فلم يلبث الذين تسببوا في إخراجه وألبوا عليه قومهم بعده إلا قليلا ثم خرجوا إلى وقعة بدر فلقوا حتفهم هنالك فلم يرجعوا وحق عليهم الوعيد، وأبقى الله عامتهم ودهاءهم لضعف كيدهم فأراد الله أن يدخلوا في الإسلام بعد ذلك.
وفي الآية إيماء إلى أن الرسول سيخرج من مكة وأن مخرجيه، أي المتسببين في خروجه، لا يلبثون بعده بمكة إلا قليلا.
والسنة: العادة والسيرة التي يلتزمها صاحبها. وتقدم القول في أنها اسم جامد أو اسم مصدر عند قوله تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} [آل عمران:136]، أي عادة الله في كل رسول أخرجه قومه أن لا يبقوا بعده، خرج هود من ديار عاد إلى مكة، وخرج صالح من ديار ثمود، وخرج إبراهيم ولوط وهلكت أقوامهم، فإضافة {سُنَّةَ} إلى {مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا} لأدنى ملابسة، أي سنتنا فيهم بدليل قوله: {وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً} فإضافته إلى ضمير الجلالة هي الإضافة الحقيقية.
وانتصب {سُنَّةَ} من {مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا} على المفعولية المطلقة. فإن كانت {سُنَّةَ} اسم مصدر فهو بدل من فعله. والتقدير: سننا ذلك لمن أرسلنا قبلك من رسلنا، أي لأجلهم. فلما عدل عن الفعل إلى المصدر أضيف المصدر إلى المتعلق بالفعل إضافة المصدر إلى مفعوله على التوسع؛ وإن كانت {سُنَّةَ} اسما جامدا فانتصابه على الحال لتأويله بمعنى اشتقاقي.
وجملة {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا} مستأنفة استئنافا بيانيا لبيان سبب كون لبثهم بعده قليلا. وإنما سن الله هذه السنة لرسله لأن تآمر الأقوام على إخراجهم يستدعي حكمة الله تعالى لأن تتعلق إرادته بأمره إياهم بالهجرة لئلا يبقوا مرموقين بعين الغضاضة بين قومهم وأجوارهم بشبه ما كان يسمى بالخلع عند العرب.

وجملة {وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً} اعتراض لتكملة البيان.
والمعنى: أن ذلك كائن لا محالة لأننا أجريناه على الأمم السالفة ولأن عادتنا لا تتحول.
والتعبير ب {لا تَجِدُ} مبالغة في الانتفاء كما في قوله: {وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} في سورة الأعراف[117].
والتحويل: تغيير الحال وهو التبديل. ومن غريب التفسير أن المراد: أن اليهود قالوا للنبي الحق بأرض الشام فإنها أرض الأنبياء فصدق النبي قولهم فغزا غزوة تبوك لا يريد إلا الشام فلما بلغ تبوك أنزل الله هذه الآية، وهي رواية باطلة. وسبب غزوة تبوك معروف في كتب الحديث والسير ومن أجل هذه الرواية قال فريق: إن الآية مدنية كما تقدم في صدر السورة.
[117] {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً}
كان شرع الصلوات الخمس للأمة ليلة الإسراء، كما ثبت في الحديث الصحيح، ولكنه كان غير مثبت في التشريع المتواتر إنما أبلغه النبي أصحابه فيوشك أن لا يعلمه غيرهم ممن يأتي من المسلمين. وأيضا فقد عينت الآية أوقاتا للصلوات بعد تقرر فرضها، فلذلك جاءت هذه الآية في هذه السورة التي نزلت عقب حادث الإسراء جمعا للتشريع الذي شرع للأمة أيامئذ المبتدأ بقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} الآيات[الإسراء:23].
فالجملة استئناف ابتدائي. ومناسبة موقعها عقب ما قبلها أن الله لما امتن على النبي صلى الله عليه وسلم بالعصمة وبالنصر ذكره بشكر النعمة بان أمره بأعظم عبادة يعبده بها، وبالزيادة منها طلبا لازدياد النعمة عليه، كما دل عليه قوله في آخر الآية {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} [الإسراء:79].
فالخطاب بالأمر للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكن قد تقرر من اصطلاح القرآن أن خطاب النبي بتشريع تدخل فيه أمته إلا إذا دل دليل على اختصاصه بذلك الحكم، وقد علم المسلمون ذلك وشاع بينهم بحيث ما كانوا يسألون عند اختصاص حكم إلا في مقام الاحتمال

القوي، كمن سأله: ألنا هذه أم للأبد? فقال: بل للأبد.
والإقامة: مجاز في المواظبة والإدامة. وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ} في أول سورة البقرة[3].
واللام في {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} لام التوقيت. وهي بمعنى(عند).
والدلوك: من أحوال الشمس. فورد بمعنى زوال الشمس عن وسط قوس فرضي في طريق مسيرها اليومي. وورد بمعنى: ميل الشمس عن مقدار ثلاثة أرباع القوس وهو وقت العصر. وورد بمعنى غروبها. فصار لفظ الدلوك مشتركا في المعاني الثلاثة.
والغسق: الظلمة، وهي انقطاع بقايا شعاع الشمس حين يماثل سواد أفق الغروب سواد بقية الأفق وهو وقت غيبوبة الشفق. وذلك وقت العشاء. ويسمى العتمة،أي الظلمة.
وقد جمعت الآية أوقاتا أربعة، فالدلوك يجمع ثلاثة أوقات باستعمال المشترك في معانيه. والقرينة واضحة. وفهم من حرف(إلى)الذي للانتهاء أن في تلك الأوقات صلوات لأن الغاية كانت لفعل {أَقِمِ الصَّلاةَ} فالغاية تقتضي تكرر إقامة الصلاة. وليس المراد غاية الصلاة واحدة جعل وقتها متسعا. لأن هذا فهم ينبو عنه ما تدل عليه اللام في قوله: {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} من وجوب إقامة الصلاة عند الوقت المذكور لأنه الواجب أو الأكمل. وقد زاد عمل النبي صلى الله عليه وسلم بيانا للآية.
وأما مقدار الاتساع فيعرف من أدلة أخرى وفيه خلاف بين الفقهاء. فكلمة"دلوك"لا تعادلها كلمة أخرى.
وقد ثبت في حديث أبي مسعود الأنصاري في"الموطأ":أن أول الوقت هو المقصود. وثبت في حديث عطاء بن يسار مرسلا في"الموطأ"وموصولا عن أنس ابن مالك عند ابن عبد البر وغيره: أن للصبح وقتا له ابتداء ونهاية. وهو أيضا ثابت لكل صلاة بآثار كثيرة عدا المغرب فقد سكت عنها الأثر. فترددت أنظار الفقهاء فيها بين وقوف عند المروي وبين قياس وقتها على أوقات غيرها. وهذا الثاني أرجح، لأن امتداد وقت الصلاة توسعة على المصلي وهي تناسب تيسير الدين.
وجعل الغسق نهاية للأوقات، فعلم أن المراد أول الغسق كما هو الشان المتعارف في الغاية بحرف(إلى) فعلم أن ابتداء الغسق وقت صلاة، وهذا جمع بديع.

ثم عطف {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} على {الصَّلاةَ} .والتقدير: وأقم قرآن الفجر، أي الصلاة به. كذا قدر القراء وجمهور المفسرين ليعلم أن لكل صلاة من تلك الصلوات قرآنا كقوله: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل:20]،أي صلوا به نافلة الليل.
وخص ذكر ذلك بصلاة الفجر دون غيرها لأنها يجهر بالقرآن في جميع ركوعها، ولأن سنتها أن يقرأ بسور من طوال المفصل فاستماع القرآن للمأمومين أكثر فيها وقراءته للإمام والفذ أكثر أيضا.
ويجوز أن يكون عطف {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} عطف جملة والكلام على الإغراء، والتقدير: والزم قرآن الفجر، قاله الزجاج. فيعلم أن قراءة القرآن في كل صلاة حتم.
وهذا مجمل في كيفية الصلوات. ومقادير ما تشتمل عليه من القرآن بينته السنة المتواترة والعرف في معرفة أوقات النهار والليل.
وجملة {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودا} استئناف بياني لوجه تخصيص صلاة الصبح باسم القرآن بان صلاة الفجر مشهودة، أي محضورة. وفسر ذلك بأنها تحضرها ملائكة الليل وملائكة النهار، كما ورد في الحديث:"وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الصبح". وذلك زيادة في فضلها وبركتها. وأيضا فهي يحضرها أكثر المصلين لأن وقتها وقت النشاط وبعدها ينتظر الناس طلوع الشمس ليخرجوا إلى أعمالهم فيكثر سماع القرآن حينئذ.
[79] {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً}
عطف على {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء:78]فإنه في تقدير جملة لكونه معمولا لفعل:{أَقِمِ} [الإسراء:78].
وقدم المجرور المتعلق ب"تهجد"على متعلقه اهتماما به وتحريضا عليه. وبتقديمه اكتسب معنى الشرط والجزاء فجعل متعلقه بمنزلة الجزاء فأدخلت عليه فاء الجزاء. وهذا مستعمل في الظروف والمجرورات المتقدمة على متعلقاتها. وهو استعمال فصيح. ومنه قوله تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26] وقول النبي صلى الله عليه وسلم:"ففيهما فجاهد"،وتقدم عند قوله تعالى: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} في سورة براءة[7].
وجعل الزجاج والزمخشري قوله: {وَمِنَ اللَّيْلِ} في معنى الإغراء بناء على أن نصب

{وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء:78]على الإغراء فيكون {فَتَهَجَّدْ} تفريعا على الإغراء تفريع مفصل على مجمل، وتكون(من)اسما بمعنى(بعض)كالتي في قوله: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ} [النساء:46]وهو أيضا حسن.
وضمير {بِهِ} به للقرآن المذكور في قوله: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء:78]وإن كان المعاد مقيدا بكونه في الفجر والمذكور هنا مرادا مطلقه، كقولك. عندي درهم ونصفه، أي نصف درهم لا نصف الدرهم الذي عندك.
والباء للسببية.
والتهجد: الصلاة في أثناء الليل. وهو اسم مشتق من الهجود. وهو النوم فنادة التفعل فيه للإزالة مثل التحرج والتأثم.
والنافلة: الزيادة من الأمر المحبوب.
واللام في {لَكَ} متعلقة ب {نَافِلَةً} وهي لام العلة. أي نافلة لأجلك. وفي هذا دليل على أن الأمر بالتهجد خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم فالأمر للوجوب. وبذلك انتظم في عداد الصلوات الواجبة فبعضها واجب عليه وعلى الأمة. وبعضها واجب عليه خاصة ويعلم منه أنه مرغب فيه كما صرحت به آية سورة المزمل[20] {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ} إلى قوله: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} .وفي هذا الإيجاب عليه زيادة تشريف له. ولهذا أعقب بوعد أن يبعثه الله مقاما محمودا. فجملة {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ} تعليل لتخصيصه بإيجاب لتهجد عليه. والرجاء من الله تعالى وعد. فالمعنى: ليبعثك ربك مقاما محمودا.
والمقام: محل القيام. والمراد به المكان المعدود لأمر عظيم، لأنه من شأنه أن يقوم الناس فيه ولا يجلسوا. وإلا فهو المجلس.
وانتصب {مَقَاماً} على الظرفية ل {يَبْعَثَكَ} .
ووصف المقام بالمحمود وصف مجازي. والمحمود من يقوم فيه. أي يحمد أثره فيه. وذلك لغنائه عن أصحاب ذلك المقام. ولذلك فسر المقام المحمود بالشفاعة العظمى.
وفي"صحيح البخاري"عن ابن عمر" أن الناس يصيرون يوم القيامة جُثاً بضم

الجيم وتخفيف المثلثة أي جماعات كل أمة تتبع نبيها يقولون: يا فلان اشفع!حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود".وفي"جامع الترمذي"عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} قال: هي الشفاعة. قال: هذا حديث حسن صحيح" .
وقد ورد وصف الشفاعة في"صحيح البخاري"مفصلا. وذلك مقام يحمده فيه كل أهل المحشر.
[80] {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً}
لما أمره الله تعالى بالشكر الفعلي عطف عليه الأمر بالشكر اللساني بأن يبتهل الله بسؤال التوفيق في الخروج من مكان والدخول إلى مكان كيلا يضره أن يستفزه أعداؤه من الأرض ليخرجوه منها، مع ما فيه من المناسبة لقوله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} [الإسراء:79]،فلما وعده بأن يقيمه مقاما محمودا ناسب أن يسأل أن يكون ذلك حالة في كل مقام يقومه. وفي هذا التلقين إشارة إلهية أن الله تعالى مخرجه من مكة إلى مهاجر. والظاهر أن هذه الآية نزلت قبيل العقبة الأولى التي كانت مقدمة للهجرة إلى المدينة.
والمدخل والمخرج بضم الميم وبفتح الحرف الثالث أصله اسم مكان الإدخال والإخراج. اختير هنا الاسم المشتق من الفعل المتعدى للإشارة إلى أن المطلوب دخول وخروج ميسران من الله تعالى وواقعان بإذنه. وذلك دعاء بكل دخول وخروج مباركين لتتم بين المسؤول وبين الموعود به وهو المقام المحمود. وهذا السؤال يعم كل مكان يدخل إليه ومكان يخرج منه.
والصدق: هنا المكان وما يحمد في نوعه، لأن ما ليس بمحمود فهو كالكاذب لأنه يخلف ظن المتلبس به.
وقد عمت هذه الدعوة جميع الدعوة جميع المداخل إلى ما يقدر له الدخول إليه وجميع المخارج التي يخرج منها حقيقة أو مجازا. وعطف عليه سؤال التأييد والنصر في تلك المداخل والمخارج وغيرها من الأقطار النائية والأعمال القائم بها غيره من أتباعه وأعدائه بنصر أتباعه وخذل أعدائه.

فالسلطان: اسم مصدر يطلق على السلطة وعلى الحجة وعلى الملك. وهو في هذا المقام كلمة جامعة، على طريقة استعمال المشترك في معانيه أو هو من عموم المشترك، تشمل أن يجعل له الله تأييدا وحجة وغلبة وملكا عظيما، وقد آتاه الله ذلك كله، فنصره على أعدائه، وسخر له من لم ينوه بنهوض الحجة وظهور دلائل الصدق، ونصره بالرعب.
ومنهم من فسر المدخل بأن المخرج الإخراج إلى فتح مكة والمدخل الإدخال إلى بلد مكة فاتحا، وجعل الآية نازلة قبيل الفتح، فبنى عليه أنها مدنية، وهو مدخول من جهات. وقد تقدم أن السورة كلها مكية على الصحيح.
والنصير: مبالغة في الناصر، أي سلطانا ينصرني. وإذا قد كان العمل القائم به النبي هو الدعوة إلى الإسلام كان نصره تأييدا له فيما هو قائم به، فصار هذا الوصف تقييدا للسلطان بأنه لم يسأل سلطانا للاستعلاء على الناس، وإنما سأل سلطانا لنصره فيما يطلب النصرة وهو التبليغ وبث الإسلام في الناس.
[81] {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً}
أعقب تلقينه الدعاء بسداد أعماله وتأييده فيها بأن لقنه هذا الإعلان المنبئ بحصول إجابة الدعوة الملهمة بإبراز وعده بظهور أمره في صورة الخبر عن شيء مضى.
ولما كانت دعوة الرسول هي لإقامة الحق وإبطال الباطل كان الوعد بظهور الحق وعدا بظهور أمر الرسول وفوزه على أعدائه، واستحفظه الله هذه الكلمة الجليلة إلى أن ألقاها يوم فتح مكة على مسامع من كانوا أعداءه فإنه لما دخل الكعبة ووجد فيها وحولها الأصنام جعل يشير إليها بقضيب ويقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} فتسقط تلك الأنصاب على وجوهها.
ومجيء الحق مستعمل في إدراك الناس إياه وعملهم به وانتصار القائم به على معاضديه تشبيها للشيء الظاهر بالشيء الذي كان غايبا فورد جائيا.
و {زَهَقَ} اضمحل بعد وجوده.ومصدره الزهوق والزهق. وزهوق الباطل مجاز في تركه أصحابه فكأنه كان مقيما بينهم ففارقهم. والمعنى: استقر وشاع الحق الذي يدعوا إليه النبي وانقض الباطل الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عنه.

وجملة {إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} تذييل للجملة التي قبله لما فيه من عموم يشمل كل باطل في كل زمان. وإذا كان هذا شأن الباطل كان الثبات والانتصار شأن الحق لأنه ضد الباطل فإذا انتفى الباطل ثبت الحق.
وبهذا كانت الجملة تذييلا لجميع ما تضمنته الجملة التي قبلها. والمعنى: ظهر الحق في هذه الأمة وانقضى الباطل فيها، وذلك شأن الباطل فيما مضى من الشرائع أنه لا ثبات له.
ودل فعل{كان}على أن الزهوق شنشنة الباطل، وشأنه في كل زمان أنه يظهر ثم يضمحل، كما تقدم في قوله تعالى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً} في صدر سورة يونس[2].
[82] {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً}
عطف على جملة {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} [لإسراء:81]على ما في تلك الجملة والجمل التي سبقتها من معنى التأييد للنبي صلى الله عليه وسلم ومن الإغاظة للمشركين ابتداء من قوله: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الإسراء:73]. فإنه بعد أن امتن عليه بأن أيده بالعصمة من الركون إليهم وتبشيره بالنصرة عليهم وبالخلاص من كيدهم، وبعد أن هددهم بأنهم صائرون قريبا إلى هلاك وأن دينهم صائر إلىالاضمحلال، أعلن له ولهم في هذه الآية: أن ما منه غيظهم وحنقهم، وهو القرآن الذي طمعوا أن يسألوا النبي أن يبدله بقرآن ليس فيه ذكر أصنامهم بسوء، أنه لا يزال متجددا مستمرا، فيه شفاء للرسول وأتباعه وخسارة للظالمين، ولأن القرآن مصدر الحق ومدحض الباطل أعقب قوله: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} [لإسراء:81]بقوله: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ} الآية. ولهذا اختير للإخبار عن التنزيل الفعل المضارع المشتق من فعل المضاعف للدلالة على التجديد والتكرير والتكثير، وهو وعد بأنه يستمر هذا التنزيل زمنا طويلا.
و {مَا هُوَ شِفَاءٌ} مفعول {َنُنَزِّلُ} .و {مِنَ الْقُرْآنِ} بيان لما في(ما)من الإبهام كالتي في قوله: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [الحج:30]،أي الرجس الذي هو الأوثان. وتقديم البيان لتحصيل غرض الاهتمام بذكر القرآن مع غرض الثناء عليه بطريق الموصولية بقوله: {مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ} إلخ، للدلالة على تمكن ذلك الوصف منه

بحيث يعرف به. والمعنى: ننزل الشفاء والرحمة وهو القرآن. وليست(من)للتبعيض ولا للابتداء.
والشفاء حقيقته زوال الداء، ويستعمل مجازا في زوال ما هو نقص وضلال وعائق عن النفع من العقائد الباطلة والأعمال الفاسدة والأخلاق الذميمة تشبيها له ببرء السقم، كقول عنترة:
ولقد شفى نفسي وابرأ سقمها
قيل الفوارس: ويك عنتر اقدم
والمعنى: أن القرآن كله شفاء ورحمة للمؤمنين ويزيد خسارة للكافرين، لأن كل آية من القرآن من أمره ونهيه ومواعظه وقصصه وأمثاله ووعده ووعيده، كل آية من ذلك مشتملة على هدي وصلاح حال للمؤمنين المتبعينه.
ومشتملة بضد ذلك على ما يزيد غيظ المستمرين على الظلم. أي الشرك. فيزدادون بالغيظ كراهية للقرآن فيزدادون بذلك خسارا بزيادة آثامهم واستمرارهم على فاسد أخلاقهم وبعد ما بينهم وبين الإيمان. وهذا كقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:124ـ125].
وفي الآية دليل على أن في القرآن آيات يشتفى بها من الأدواء والآلام ورد تعيينها في الأخبار الصحيحة فشملتها الآية بطريقة استعمال المشترك في معنييه. وهذا مما بينا تأصيله في المقدمة التاسعة من مقدمات هذا التفسير.
والأخبار الصحيحة في قراءة آيات معينة للاستشفاء من أدواء موصوفة بله الاستعاذة بآيات منه من الضلال كثيرة في"صحيح البخاري"وجامع الترمذي"وغيرهما. وفي الحديث الصحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال:"بعثنا رسول الله في سرية ثلاثين راكبا فنزلنا على قوم من العرب فسألناهم أن يضيفونا فأبوا، فلدغ سيد الحي فأتونا، فقالوا: أفيكم أحد يرقي من العقرب? قال: قلت: نعم ولكن لا أفعل حتى يعطونا، فقالوا: فإنا نعطيكم ثلاثين شاة. قال: فقرأت عليه فاتحة الكتاب سبع مرات فبرأ" الحديث. وفيه:"حتى أتينا رسول الله فأخبرته فقال: وما يدريك أنها رقية، قلت: يا رسول الله شيء ألقي في روعي(أي إلهام ألهمه الله)،قال: كلوا وأطعمونا من الغنم".فهذا تقرير من النبي صلى الله عليه وسلم بصحة إلهام أبي سعيد رضي الله عنه .
[83] {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْأِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُساً}

لما كان القرآن نعمة عظيمة للناس، وكان إعراض المشركين عنه حرمانا عظيما لهم من خيرات كثيرة، ولم يكن من شان أهل العقول السليمة أن يرضوا بالحرمان من الخير، كان الإخبار عن زيادته الظالمين خسارا مستغربا من شانه أن يثير في نفوس السامعين التساؤل عن سبب ذلك، أعقب ذلك ببيان السبب النفساني الذي يوقع العقلاء في مهواة هذا الحرمان، وذلك بعد الاستغال بما هو فيه من نعمة هويها وأولع بها. وهي نعمة تتقاصر عن أوج تلك النعم التي حرم منها لولا الهوى الذي علق بها والغرور الذي أراه إياها قصارى المطلوب، وما هي إلا إلى زوال قريب، كما أشار إليه قوله تعالى: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً} [المزمل:11]وقوله: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ} [آل عمران:196ـ197].
فهذه الجملة مضمونها مقصود بذاته استفيد بيانها بوقوعها عقب التي قبلها.
والتعريف في{الْأِنْسَانِ}تعريف الجنس، وهو يفيد الاستغراق وهو استغراق عرفي، أي أكثر أفراد الإنسان لأن أكثر الناس يومئذ كفار وأكثر العرب مشركون. فالمعنى: إذا أنعمنا على المشركين أعرضوا وإذا مسهم الشر يئسوا. وهذا مقابل حال أهل الإيمان الذين كان القرآن شفاء لأنفسهم وشكر النعمة من شيمهم والصبر على الضر من خلقهم.
والمراد بالإنعام: إعطاء النعمة. وليس المراد النعم الكاملة من الإيمان والتوفيق، كما في قوله: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7].وقوله: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ} [النساء:69].
والإعراض: الصد. وضد الإقبال. وتقدم عند قوله تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ} في سورة النساء[63].وقوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} في سورة الأنعام[68].
والنأي: البعد. وتقدم في قوله تعالى: {وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} في سورة الأنعام[26].
والجانب: الجنب. وهو الجهة من الجسد التي فيها اليد. وهما جانبان: يمين ويسار.
والباء في قوله: {بِجَانِبِهِ} للمصاحبة، أي بعد مصاحبا لجانبه، أي مبعدا جانبه. والبعد بالجانب تمثيل الإجفال من الشيء. قال عنترة:

وكأنما ينأى بجانب دفها الـ ... وحشي من هزج العشي مؤوم1
فالمفاد من قوله: {وَنَأَى بِجَانِبِهِ} صد عن العبادة والشكر. وهذا غير المفاد من معنى {أَعْرَضَ} فليس تأكيدا له. فالمعنى: أعرض وتباعد.
وحذف متعلق {أَعْرَضَ وَنَأَى} لدلالة المقام عليه من قوله {أَنْعَمْنَا عَلَى الْأِنْسَانِ} ،أي أعرض عنا وأجفل منا، أي من عبادتنا وأمرنا ونهينا.
وقرأ الجمهور {وَنَأَى} بهمزة بعد النون وألف بعد الهمزة.
وقرأ ابن عامر في رواية ابن ذكوان وأبو جعفر {وناء} بألف بعد النون ثم همزة. وهذا من القلب المكاني لأن العرب قد يتطلبون تخفيف الهمزة إذا وقعت بعد حرف صحيح وبعدها مدة فيقلبون المدة قبل الهمزة لأن وقوعها بعد المد أخف. من ذلك قولهم: راء في رأى، وقولهم: آرام في أرام، جمع رئم، وقيل: ناء في هذه القراءة بمعنى ثقل، أي عن الشكر، أي في معنى قوله تعالى: {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ} [لأعراف: 176].
وجملة {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُوساً} احتراس من أن يتوهم السامع من التقييد بقوله: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا} أنه إذا زالت عنه النعمة صلح حاله فبين أن حاله ملازم لنكران الجميل في السراء والضراء، فإذا زالت النعمة عنه لم يقلع عن الشرك والكفر ويتب إلى الله ولكنه ييأس من الخير ويبقى حنقا ضيق الصدر لا يعرف كيف يتدارك أمره.
ولا تعارض بين هذه الآية وبين قوله في سورة فصلت[51] {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} كما سيأتي هنالك.
ودل قوله: {كَانَ يَؤُوساً} على قوة يأسه إذ صيغ له مثال المبالغة. وأقحم معه فعل (كان) الدال على رسوخ الفعل، تعجيبا من حاله في وقت مس الضر إياه لأن حالة الضر أدعى إلى الفكرة في وسائل دفعه، بخلاف حالة الإعراض في وقت النعمة فإنها حالة لا يستغرب فيها الازدهاء لما هو فيه من النعمة.
[84] {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً}
(1) أراد أنها مجفلة في سيرها نشطة،فهي حين تسير تميل إلى جانبها كان هراً يخدش جانبها الأيسر فتميل إلى جهة اليمين،أي لاتسير على استقامة،وذلك من نشاط الدواب.
??
??
??
??

هذا تذييل،وهو تنهية للغرض الذي ابتدئ من قوله: {رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [الإسراء:66]الراجع إلى التذكير بنعم الله تعالى على الناس في خلال الاستدلال على أنه المتصرف الوحيد، وإلى التحذير من عواقب كفران النعم. وإذ قد ذكر في خلال ذلك فريقان في قوله: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} الآية[الإسراء:71]،وقوله: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً} [الإسراء:82].
ولما في كلمة(كل)من العموم كانت الجملة تذييلا.
وتنوين(كل)تنوين عوض عن المضاف إليه، أي كل أحد مما شمله عموم قوله: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى} [الإسراء:72] وقوله: {وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً} [الإسراء:82] وقوله: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْأِنْسَانِ} [الإسراء:83].
والشاكلة: الطريقة والسيرة التي اعتادها صاحبها ونشأ عليها. وأصلها شاكلة الطريق، وهي الشعبة التي تتشعب منه. قال النابغة يذكر ثوبا يشبه به بنيات الطريق:
له خلج تهوي فرادى وترعوي ... إلى كل ذي نيرين بادي الشواكل
وهذا أحسن ما فسر به الشاكلة هنا. وهذه الجملة في الآية تجري مجرى المثل.
وفرع عليه قوله: {فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً} .وهو كلام جامع لتعليم الناس بعموم علم الله، والترغيب للمؤمنين، والإنذار للمشركين مع تشكيكهم في حقية دينهم لعلهم ينظرون، كقوله: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً} الآية[سبأ:24].
[85] {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً}
وقع هذه الآية بين الآي التي معها يقتضي نظمه أن مرجع ضمير {يَسْأَلونَكَ} هو مرجع الضمائر المتقدمة، فالسائلون عن الروح هم قريش. وقد روى الترمذي عن ابن عباس قال: قالت قريش ليهود أعطونا شيئا نسأل هذا الرجل عنه، فقالوا: سلوه عن الروح، قال: فسألوه عن الروح، فأنزل الله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ} الآية.
وظاهر هذا أنهم سألوه عن الروح خاصة وأن الآية نزلت بسبب سؤالهم. وحينئذ فلا3

إشكال في إفراد هذا السؤال في هذه الآية على هذه الرواية. وبذلك يكون موقع هذه الآية بين الآيات التي قبلها والتي بعدها مسببا على نزولها بين نزول تلك الآيات.
واعلم أنه كان بين قريش وبين أهل يثرب صلات كثيرة من صهر وتجارة وصحبة. وكان لكل يثربي صاحب بمكة ينزل عنده إذا قدم الآخر بلده، كما كان بين أمية بن خلف وسعد بن معاذ. وقصتهما مذكورة في حديث غزوة بدر من"صحيح البخاري".
روى ابن إسحاق أن قريشا بعثوا النضر بن الحارث. وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار اليهود بيثرب يسألانهم عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم فقال اليهود لهما: سلوه عن ثلاثة. وذكروا لهم أهل الكهف وذا القرنين وعن الروح كما سيأتي في سورة الكهف. فسألته قريش عنها فأجاب عن أهل الكهف وعن ذي القرنين بما في سورة الكهف، وأجاب عن الروح بما في هذه السورة.
وهذه الرواية تثير إشكالا في وجه فصل جواب سؤال الروح عن المسألتين الأخريين بذكر جواب مسألة الروح في سورة الإسراء وهي متقدمة في النزول على سورة الكهف. ويدفع الإشكال أنه يجوز أن يكون السؤال عن الروح وقع منفردا أول مرة ثم جمع مع المسألتين الأخريين ثاني مرة.
ويجوز أن تكون آية سؤال مما ألحق بسورة الإسراء كما سنبينه في سورة الكهف. والجمهور على أن الجميع نزل بمكة، قال الطبري عن عطاء ابن يسار نزل قوله: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} بمكة.
وأما ما روي في"صحيح البخاري"عن ابن مسعود أنه قال:"بينما أنا مع النبي في حرث بالمدينة إذ مر اليهود فقال بعضهم لبعض سلوه عن الروح. فسألوه عن الروح فأمسك النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليهم شيئا، فعلمت أنه يوحى إليه، فقمت مقامي، فلما نزل الوحي قال: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ} الآية. فالجمع بينه وبين حديث ابن عباس المتقدم: أن اليهود لما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم قد ظن النبي أنهم أقرب من قريش إلى فهم الروح فانتظر أن ينزل عليه الوحي بما يجيبهم به أبين مما أجاب به قريشا، فكرر الله تعالى إنزال الآية التي نزلت بمكة أو أمره أن يتلوها عليهم ليعلم أنهم وقريشا سواء في العجز عن إدراك هذه الحقيقة أو أن الجواب لا يتغير.
هذا، والذي يترجح عندي: أن فيما ذكره أهل السير تخليطا، وأن قريشا استقوا من

اليهود شيئا ومن النصارى شيئا فقد كانت لقريش مخالطة مع نصارى الشام في رحلتهم الصيفية إلى الشام، لأن قصة أهل الكهف لم تكن من أمور بني إسرائيل وإنما هي من شؤون النصارى. بناء على أن أهل الكهف كانوا نصارى كما سيأتي في سورة الكهف، وكذلك قصة ذي القرنين إن كان المراد به الاسكندر المقدوني يظهر أنها مما عني به النصارى لارتباط فتوحاته بتأريخ بلاد الروم، فتعين أن اليهود ما لقنوا قريشا إلا السؤال عن الروح. وبهذا يتضح السبب في إفراد السؤال عن الروح في هذه السورة وذكر القصتين الأخريين في سورة الكهف، على أنه يجوز أن يتكرر السؤال في مناسبات وذلك شان الذين معارفهم محدودة فهم يلقونها في كل مجلس.
وسؤالهم عن الروح معناه أنهم سألوه عن بيان ماهية ما يعبر عنه في اللغة العربية بالروح والتي يعرف كل أحد بوجه الإجمال أنها حالة فيه.
والروح: يطلق على الموجود الخفي المنتشر في سائر الجسد الإنساني الذي دلت عليه آثاره من الإدراك والتفكير، وهو الذي يتقوم في الجسد الإنساني حين يكون جنينا بعد أن يمضي على نزول النطفة في الرحم مائة وعشرون يوما وهذا الإطلاق هو الذي في قوله تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [صّ:72]. وهذا يسمى أيضا بالنفس كقوله: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} [الفجر:27]
ويطلق الروح على الكائن الشريف المكون بأمر إلهي بدون سبب اعتيادي ومنه قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً} [الشورى:52] وقوله: {وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء:171].
ويطلق لفظ(الروح)على الملك الذي ينزل بالوحي على الرسل. وهو جبريل عليه السلام ومنه قوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ} [الشعراء:193ـ194].
واختلف المفسرون في الروح المسؤول عنه المذكور هنا ما هو من هذه الثلاثة. فالجمهور قالوا: المسؤول عنه هو الروح بالمعنى الأول، قالوا لأنه الأمر المشكل الذي لم تتضح حقيقته، وأما الروح بالمعنيين الآخرين فيشبه أن يكون السؤال عنه سؤالا عن معنى مصطلح قرآني. وقد ثبت أن اليهود سألوا عن الروح بالمعنى الأول لأنه هو الوارد في أول كتابهم وهو سفر التكوين من التوراة لقوله في الإصحاح الأول وروح الله يرف على وجه المياه . وليس الروح بالمعنيين الآخرين بوارد في كتبهم.

وعن قتادة والحسن: أنهم سألوا عن جبريل، والأصح القول الأول. وفي الروض الأنف أن النبي صلى الله عليه وسلم أجابهم مرة، فقال لهم: هو جبريل عليه السلام . وقد أوضحناه في سورة الكهف.
وإنما سألوا عن حقيقة الروح وبيان ماهيتها، فإنها قد شغلت الفلاسفة وحكماء المتشرعين، لظهور أن في الجسد الحي شيئا زائدا على الجسم، به يكون الإنسان مدركا وبزواله يصير الجسم مسلوب الإرادة والإدراك، فعلم بالضرورة أن في الجسم شيئا زائدا على الأعضاء الظاهرة والباطنة غير مشاهد إذ قد ظهر بالتشريح أن جسم الميت لم يفقد شيئا من الأعضاء الباطنة التي كانت له في حال الحياة.
وإذ قد كانت عقول الناس قاصرة عن فهم حقيقة الروح وكيفية اتصالها بالبدن وكيفية انتزاعها منه وفي مصيرها بعد ذلك الانتزاع، أجيبوا بأن الروح من أمر الله. أي أنه كائن عظيم من الكائنات المشرفة عند الله ولكنه مما استأثر الله بعمله. فلفظ {أمر} يحتمل أن يكون مرادف الشيء. فالمعنى: الروح بعض الأشياء العظيمة التي هي لله. فإضافة{أمر}إلى اسم الجلالة على معنى لام الاختصاص، أي أمر اختص بالله اختصاص علم.
و(من)للتبعيض، فيكون هذا الإطلاق كقوله: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً} [الشورى:52]. ويحتمل أن يكون الأمر أمر التكوين. فإما أن يراد نفس المصدر وتكون(من) ابتدائية كما في قوله: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40]، أي الروح يصدر عن أمر الله بتكوينه؛ أو يراد بالمصدر معنى المفعول مثل الخلق و(من) تبعيضية، أي الروح بعض مأمورات الله فيكون المراد بالروح جبريل عليه السلام . أي الروح من المخلوقات الذين يأمرهم الله بتبليغ الوحي، وعلى كلا الوجهين لم تكن الآية جوابا عن سؤالهم.
وروى ابن العربي في الأحكام عن ابن وهب عن مالك أنه قال:"لم يأته في ذلك جواب"اهـ. أي أن قوله: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} ليس جوابا ببيان ما سألوا عنه ولكنه صرف عن استعلامه وإعلام لهم بان هذا من العلم الذي لم يؤتوه. والاحتمالات كلها مرادة، وهي كلمة جامعة. وفيها رمز إلى تعريف الروح تعريفا بالجنس وهو رسم.
وجملة {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} يجوز أن تكون مما أمر الله رسوله أن يقوله للسائلين فيكون الخطاب لقريش أو لليهود الذين لقنوهم، ويجوز أن يكون تذييلا أو اعتراضا فيكون الخطاب لكل من يصلح للخطاب، والمخاطبون متفاوتون في القليل

المستثنى من المؤتى من العلم. وأن يكون خطابا للمسلمين.
والمراد بالعلم هنا المعلوم، أي ما شأنه أن يعلم أو من معلومات الله. ووصفه بالقليل بالنسبة إلى ما من شأنه أن يعلم من الموجودات والحقائق.
وفي"جامع الترمذي"قالوا(أي اليهود): "أوتينا علما كثيرا التوراة ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرا كثيرا ، فأنزلت: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} الآية[الكهف:109].
وأوضح من هذا ما رواه الطبري عن عطاء بن يسار قال: نزلت بمكة{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً}، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أتاه أحبار يهود فقالوا: يا محمد ألم يبلغنا أنك تقول {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً}، أفعنيتنا أم قومك? قال: كلا قد عنيت. قالوا: فإنك تتلو أنا أوتينا التوراة وفيها تبيان كل شيء. فقال رسول الله: هي في علم الله قليل، وقد آتاكم ما إن عملتم به انتفعتم. فأنزل الله {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لقمان:27].
هذا، والذين حاولوا تقريب شرح ماهية الروح من الفلاسفة والمتشرعين بواسطة القول الشارح لم يأتوا إلا برسوم ناقصة مأخوذة فيها الأجناس البعيدة والخواص التقريبية غير المنضبطة وتحكيم الآثار التي بعضها حقيقي وبعضها خيالي، وكلها متفاوتة في القرب من شرح خاصاته وأماراته بحسب تفاوت تصوراتهم لماهيته المبنيات على تفاوت قوى مداركهم. وكلها لا تعدو أن تكون رسوما خيالية وشعرية معبرة عن آثار الروح في الإنسان.
وإذ قد جرى ذكر الروح في هذه الآية وصرف السائلون عن مرادهم لغرض صحيح اقتضاه حالهم وحال زمانهم ومكانهم، فما علينا أن نتعرض لمحاولة تعرف حقيقة الروح بوجه الإجمال فقد تهيأ لأهل العلم من وسائل المعرفة ما تغيرت به الحالة التي اقتضت صرف السائلين في هذه الآية بعض التغير، وقد تتوفر تغيرات في المستقبل تزيد أهل العلم استعدادا لتجلي بعض ماهية الروح، فلذلك لا نجاري الذين قالوا: إن حقيقة الروح يجب الإمساك عن بيانها لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمسك عنها فلا ينبغي الخوض في شأن الروح بأكثر من كونها موجودة. فقد رأى جمهور العلماء من المتكلمين والفقهاء منهم أبو بكر بن العربي في"العواصم"،والنووي في"شرح مسلم": أن هذه الآية لا تصد العلماء عن البحث عن الروح لأنها نزلت لطائفة معينة من اليهود ولم يقصد بها المسلمون. فقال جمهور

المتكلمين: إنها من الجواهر المجردة. وهو غير بعيد عن قول بعضهم: هي من الأجسام اللطيفة والأرواح حادثة عند المتكلمين من المسلمين وهو قول أرسطاليس. وقال قدماء الفلاسفة: هي قديمة. وذلك قريب من مرادهم في القول بقدم العالم. ومعنى كونها حادثة أنها مخلوقة لله تعالى. فقيل: الأرواح مخلوقة قبل خلق الأبدان التي تنفخ فيها. وهو الأصح الجاري على ظواهر كلام النبي صلى الله عليه وسلم فهي موجودة من الأزل كوجود الملائكة والشياطين، وقيل: تخلق عند إرادة إيجاد الحياة في البدن الذي توضع فيه واتفقوا على أن الأرواح باقية بعد فناء أجسادها وأنها تحضر يوم الحساب.
[86] [87] {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً} [الإسراء:87]
هذا متصل بقوله: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ} [الإسراء:82]الآية أفضت إليه المناسبة فإنه لما تضمن قوله: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85]تلقين كلمة علم جامعة، وتضمن أن الأمة أوتيت علما ومنعت علما. وأن علم النبوءة من أعظم ما أوتيته، أعقب ذلك بالتنبيه إلى الشكر على نعمة العلم دفعا لغرور النفس، لأن العلم بالأشياء يكسبها إعجابا بتميزها عمن دونها فيه. فأوقظت إلى أن الذي منح العلم قادر على سلبه، وخوطب بذلك النبي صلى الله عليه وسلم لأن علمه أعظم علم، فإذا كان وجود علمه خاضعا لمشيئة الله فما الظن بعلم غيره، تعريضا لبقية العلماء. فالكلام صريحة تحذير، وهو كناية عن الامتنان كما دل عليه قوله بعده {إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً} وتعريض بتحذير أهل العلم.
واللام موطئة للقسم المحذوف قبل الشرط.
وجملة {لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} جواب القسم. وهو دليل جواب الشرط ومغن عنه.
و {لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا} بمعنى لنذهبنه، أي عنك، وهو أبلغ من نذهبه كما تقدم في قوله: {الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1]
وما صدق الموصول القرآن.
و(ثم)للترتيب الرتبي، لأن نفي الطمع في استرجاع المسلوب أشد على النفس من

سلبه، فذكره أدخل في التنبيه على الشكر والتحذير من الغرور.
والوكيل: من يوكل إليه المهم. والمراد به هنا المدافع عنك والشفيع لك. ولما فيه من معنى الغلبة عدي ب(على). ولما فيه من معنى التعهد والمطالبة عدي إلى المردود بالباء. أي متعهدا بالذي أوحينا إليك. ومعنى التعهد: به التعهد باسترجاعه، لأنه في مقابلة قوله: {لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} ، ولأن التعهد لا يكون بذات شيء بل بحال من أحواله فجرى، الكلام على الإيجاز.
وذكر هنا {وَكِيلاً} وفي الآية قبلها {نَصِيرًا} لأن معنى هذه على فرض سلب نعمة الاصطفاء، فالمطالبة بإرجاع النعمة شفاعة ووكالة عنه، وأما الآية قبلها فهي في فرض إلحاق عقوبة به. فمدافعة تلك العقوبة أو الثأر بها نصر.
والاستثناء في قوله: {إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} منقطع فحرف الاستثناء فيه بمعنى الاستدراك. وهو استدراك على ما اقتضاه فعل الشرط من توقع ذلك، أي لكن رحمة من ربك نفت مشيئة الذهاب بالذي أوحينا إليك فهو باق غير مذهوب به.
وهذا إيماء إلى بقاء القرآن وحفظه، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].
وموقع {إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً} موقع التعليل للاستثناء المنقطع، أي لكن رحمة من ربك منعت تعلق المشيئة بإذهاب الذي أوحينا إليك، لأن فضله كان عليك كبيرا فلا يحرمك فضل الذي أوحاه إليك. وزيادة فعل(كان)لتوكيد الجملة زيادة على توكيدها بحرف التوكيد المستعمل في معنى التعليل والتفريع.
[88] {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً}
استئناف للزيادة في الامتنان. وهو استئناف بياني لمضمون جملة {إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً} [الإسراء]. وافتتاحه ب(قل)للاهتمام به. وهذا تنويه يشرف القرآن فكان هذا التنويه امتنانا على الذين آمنوا به وهم الذين كان لهم شفاء ورحمة، وتحديا بالعجز على الإتيان بمثله للذين أعرضوا عنه وهم الذين لا يزيدهم إلا خسارا.
واللام موطئة للقسم.

وجملة {لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} جواب القسم المحذوف.
وجرد الجواب من اللام الغالب اقترانها بجواب القسم كراهية اجتماع لامين: لام القسم، ولام النافية.
ومعنى الاجتماع: الاتفاق واتحاد الرأي، أي لو تواردت عقول الإنس والجن على أن يأتي كل واحد منهم بمثل هذا القرآن لما أتوا بمثله. فهو اجتماع الرأي لا اجتماع التعاون، كما تدل عليه المبالغة في قوله بعده: {وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} .
وذكر الجن مع الإنس لقصد التعميم، كما يقال:"لو اجتمع أهل السماوات والأرض". وأيضا لأن المتحدين بإعجاز القرآن كانوا يزعمون أن الجن يقدرون على الأعمال العظيمة.
والمراد بالمماثلة للقرآن: المماثلة في مجموع الفصاحة والبلاغة والمعاني والآداب والشرائع. وهي نواحي إعجاز القرآن اللفظي والعلمي.
وجملة {لا يَأْتُونَ} جواب القسم الموطأ له باللام. وجواب(إن)الشرطية محذوف دل عليه جواب القسم.
وجملة{وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً}في موقع الحال من ضمير {لا يَأْتُونَ} .
و(لو)وصلية، وهي تفيد أن ما بعدها مظنة أن لا يشمله ما قبلها. وقد تقدم معناها عند قوله: {وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} في سورة آل عمران[91].
والظهير: المعين. والمعنى: ولو تعاون الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لما أتوا بمثله فكيف بهم إذا حاولوا ذلك متفرقين.
وفائدة هذه الجملة تأكيد معنى الاجتماع المدلول بقوله: {لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ} أنه اجتماع تظافر على عمل واحد ومقصد واحد.
وهذه الآية مفحمة للمشركين في التحدي بإعجاز القرآن.
[89] {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً}
لما تحدى الله بلغاء المشركين بالإعجاز تطاول عليهم بذكر فضائل القرآن على ما

سواه من الكلام، مدمجا في ذلك النعي عليهم إذ حرموا أنفسهم الانتفاع بما في القرآن من كل مثل. وذكرت هنا ناحية من نواحي إعجازه، وهي ما اشتمل عليه من أنواع الأمثال.وتقدم ذكر المثل عند قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا} في سورة البقرة[126]. ويجوز أن يراد بالمثل الحال، أي من كل حال حسن من المعاني يجدر أن يمثل به ويشبه ما يزاد بيانه في نوعه.
فجملة {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا} معطوفة على جملة {قُل لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ} مشاركة لها في حكمها المتقدم بيانه زيادة في الامتنان والتعجيز.
وتأكيدها بلام القسم وحرف التحقيق لرد أفكار المشركين أنه من عند الله، فمورد التأكيد هو فعل {صَرَّفْنَا} الدال على أنه من عند الله.
والتصريف تقدم آنفا عند قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا} [الإسراء:41].
وزيد في هذه الآية قيد{للناس}دون الآية السابقة لأن هذه الآية واردة في مقام التحدي والإعجاز، فكان الناس مقصودين به قصدا أصليا مؤمنهم وكافرهم بخلاف الآية المتقدمة فإنها في مقام توبيخ المشركين خاصة فكانوا معلومين كما تقدم.
ووجه تقديم أحد المتعلقين بفعل {صَرَّفْنَا} على الآخر: أن ذكر الناس أهم في هذا المقام لأجل كون الكلام مسوقا لتحديهم والحجة عليهم، وإن كان ذكر القرآن أهم بالأصالة، إلا أن الاعتبارات الطارئة تقدم في الكلام البليغ على الاعتبارات الأصلية، لأن الاعتبارات الأصلية لتقررها في النفوس تصير متعارفة فتكون الاعتبارات الطارئة أعز منالا. ومن هذا باب تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر. والأظهر كون التعريف في {الناس} للعموم كما يقتضيه قوله: {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً} .
وذكر في هذه الآية متعلق التصريف بقوله: {مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} بخلاف الآية السابقة، لأن ذكر ذلك أدخل في الإعجاز، فإن كثرة أغراض الكلام أشد تعجيزا لمن يروم معارضته عن أن يأتي بمثله، إذ قد يقدر بليغ من البلغاء على غرض من الأغراض ولا يقدر على غرض آخر، فعجزهم عن معارضة سورة من القرآن مع كثرة أغراضه عجز بين من جهتين، لأنهم عجزوا عن الإتيان بمثله ولو في بعض الأغراض، كما أشار إليه قوله تعالى في سورة البقرة[23] {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} فإن(من)للتبعيض وتنوين(مثل)للتعظيم

والتشريف، أي من كل مثل شريف. والمراد: شرفه في المقصود من التمثيل.
و(من)في قوله: {مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} .للتبعيض، و(كل)تفيد العموم، فالقرآن مشتمل على أبعاض من جميع أنواع المثل.
وحذف مفعول {أبى} للقرينة، أي أبى العمل به.
وفي قوله: {إِلَّا كُفُوراً} تأكيد الشيء بما يشبه ضده، أي تأكيد في صورة النقص، لما فيه من الإطماع بأن إبايتهم غير مطردة، ثم يأتي المستثنى مؤكدا لمعنى المستثنى منه، إذ الكفور أخص من المفعول الذي حذف للقرينة. وهو استثناء مفرع لما في فعل{أبى}من معنى النفي الذي هو شرط الاستثناء المفرغ لأن المدار على معنى النفي، مثل الاستثناء من الاستفهام المستعمل في النفي كقوله: {هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً} [الإسراء: 93].
والكفور ـ بضم الكاف ـ المحجود، أي جحدوا بما في القرآن من هدى وعاندوا.
[90ـ93] {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَأُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً}
عطف جملة {وَقَالُوا} على جملة {فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً} [الإسراء:99]. أي كفروا بالقرآن وطلبوا بمعجزات أخرى.
وضمير الجمع عائد إلى أكثر الناس الذين أبوا إلا كفورا، باعتبار صدور هذا القول بينهم وهم راضون به ومتمالئون عليه متى علموه، فلا يلزم أن يكون كل واحد منهم قال هذا القول كله بل يكون بعضهم قائلا جميعه أو بعضهم قائلا بعضه.
ولما اشتمل قولهم على ضمائر الخطاب تعين أن بعضهم خاطب به النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة إما في مقام واحد وإما في مقامات. وقد ذكر ابن إسحاق: أن عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبا سفيان بن حرب، والأسود بن المطلب، وزمعة بن الأسود، والوليد بن المغيرة، وأبا جهل بن هشام، وعبد الله بن أبي أمية، وأمية بن خلف، وناسا

معهم اجتمعوا بعد غروب الشمس عند الكعبة وبعثوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم. فأسرع إليهم حرصا على هداهم، فعاتبوه على تسفيه أحلامهم والطعن في دينهم، وعرضوا عليه ما يشاء من مال أو تسويد.وأجابهم بأنه رسول من الله إليهم لا ينبغي غير نصحهم، فلما رأوا منه الثبات انتقلوا إلى طلب بعض ما حكاه الله عنهم في هذه الآية.
وروي أن الذي سأل ما حكي بقوله تعالى: {أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ} [الإسراء: 93]إلى آخره، هو عبد الله بن أبي أمية المخزومي.
وحكى الله امتناعهم عن الإيمان بحرف(لن)المفيد للتأييد لأنهم كذلك قالوه.
والمراد بالأرض: أرض مكة، فالتعريف للعهد، ووجه تخصيصها أن أرضها قليلة المياه بعيدة عن الجنات.
والتفجير: مصدر فجر بالتشديد مبالغة غي الفجر، وهو الشق باتساع. ومنه سمي فجر الصباح فجرا لأن الضوء يشق الظلمة شقا طويلا عريضا، فالتفجير أشد من مطلق الفجر وهو تشقيق شديد باعتبار اتساعه. ولذلك ناسب الينبوع هنا والنهر في قوله تعالى: {وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً} [الكهف:33]وقوله: {فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ} .
وقرأه الجمهور ـ بضم التاء وتشديد الجيم ـ على أنه مضارع(فجر)المضاعف. وقرأه عاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف ـ بفتح التاء وسكون الفاء وضم الجيم مخففة ـ على أنه مضارع فجر كنصر، فلا التفات فيها للمبالغة لأن الينبوع يدل على المقصود أو يعبر عن مختلف أقوالهم الدالة على التصميم في الامتناع.
ومعنى {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ} لن نصدقك أنك رسول الله إلينا.
والإيمان: التصديق. يقال: آمنه، أي صدقه. وكثر أن يعدى إلى المفعول باللام، قال تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف:17]وقال: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت:26]. وهذه اللام من قبيل ما سماه في"مغني اللبيب"لام التبيين. وغفل عن التمثيل لها بهذه الآية ونحوها، فإن مجرور اللام بعد فعل {نُؤْمِنَ} مفعول لا التباس له بالفاعل وإنما تذكر اللام لزيادة البيان والتوكيد. وقد يقال: إنها لدفع التباس مفعول فعل"آمن" بمعنى صدق بمفعول فعل(آمن)إذا جعله أمينا. وتقدم قوله تعالى: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ} في سورة يونس:83].
والينبوع: اسم للعين الكثيرة النبع التي لا ينضب ماؤها. وصيغة يفعول صيغة مبالغة

غير قياسية. والينبوع مشتقة من مادة النبع؛ غير أن الأسماء الواردة على هذه الصيغة مختلفة، فيعضها ظاهر اشتقاقه كالينبوع والينبوت، وبعضها خفي كاليعبوب للفرس الكثير الجري. وقيل: اشتق من العب المجازي. ومنه أسماء معربة جاء تعريبها على وزن يفعول مثل: يكسوم اسم قائد حبشي، ويرموك اسم نهر. وقد استقرى الحسن الصاغاني ما جاء من الكلمات في العربية على وزن يفعول في مختصر له مرتب على حروف العجم. وقال السيوطي في"المزهر": إن ابن دريد عقد له في"الجمهرة"بابا.
والجنة، والنخيل، والعنب، والأنهار تقدمت في قوله: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} في سورة البقرة[266].
وخصوا هذه الجنة بأن تكون له، لأن شأن الجنة أن تكون خاصة لملك واحد معين، فأروه أنهم لا يبتغون من هذا الاقتراح نفع أنفسهم ولكنهم يبتغون حصوله ولو كان لفائدة المقترح عليه. والمقترح هو تفجير الماء في الأرض القاحلة. وإنما ذكروا وجود الجنة تمهيدا لتفجير أنهار خلالها فكأنهم قالوا: حتى تفجر لنا ينبوعا يسقي الناس كلهم، أو تفجر أنهارا تسقي جنة واحدة تكون تلك الجنة وأنهارها لك. فنحن مقتنعون بحصول ذلك لا بغية الانتفاع منه. وهذا كقولهم: {أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ} [الإسراء:93].
وذكر المفعول المطلق بقوله: {تَفْجِيراً} للدلالة على التكثير لأن {تفجر} قد كفى في الدلالة على المبالغة في الفجر، فتعين أن يكون الإتيان بمفعوله المطلق للمبالغة في العدد، كقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً} [الإسراء:106]،وهو المناسب لقوله: {خلالها} ، لأن الجنة تتخللها شعب النهر لسقي الأشجار. فجمع الأنهار باعتبار تشعب ماء النهر إلى شعب عديدة. ويدل لهذا المعنى إجماع القراء على قراءة {فَتُفَجِّرَ} هنا بالتشديد مع اختلافهم في الذي قبله. وهذا من لطائف معاني القراءات المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم فهي من أفانين إعجاز القرآن.
وقولهم: {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً} انتقال من تحديه بخوارق فيها منافع لهم إلى تحديه بخوارق فيها مضرتهم، يريدون بذلك التوسيع عليه، أي فليأتهم بآية على ذلك ولو في مضرتهم. وهذا حكاية لقولهم كما قالوا. ولعلهم أرادوا به الإغراق في التعجيب من ذلك فجمعوا بين جعل الإسقاط لنفس السماء. وعززوا تعجيبهم بالجملة المعترضة وهي {كَمَا زَعَمْتَ} إنباء بأن ذلك لا يصدق به أحد. وعنوا به قوله تعالى: {إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ} [سبأ: 9] وبقوله: {وَإِنْ

يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطاً يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ} [الطور:44]، إذ هو تهديد لهم بأشراط الساعة وإشرافهم على الحساب. وجعلوا(من)في قوله تعالى: {كِسْفاً مِنَ السَّمَاءِ} [الطور:44]تبعيضية، أي قطعة من الأجرام السماوية، فلذلك أبوا تعدية فعل {تُسْقِطَ} إلى ذات السماء. واعلم أن هذا يقتضي أن تكون هاتان الآيتان أو إحداها نزلت قبل سورة الإسراء وليس ذلك بمستبعد.
و"الكسف"ـ بكسر الكاف وفتح السين ـ جمع كسفة، وهي القطعة من الشيء مثل سدرة وسدر. وكذلك قرأه نافع، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم، وأبو جعفر، وقرأه الباقون بسكون السين بمعنى المفعول، أي المكسوف بمعنى المقطوع.
والزعم: القول المستبعد أو المحال.
والقبيل: الجماعة من جنس واحد. وهو منصوب على الحال من الملائكة، أي هم قبيل خاص غير معروف، كأنهم قالوا: أو تأتي بفريق من جنس الملائكة.
والزخرف: الذهب.
وإنما عدي {تَرْقَى فِي السَّمَاءِ} بحرف(في) الظرفية للإشارة إلى أن الرقي تدرج في السماوات كمن يصعد في المرقاة والسلم.
ثم تفننوا في الاقتراح فسألوه إن رقى أن يرسل إليهم بكتاب ينزل من السماء يقرءونه، فيه شهادة بأنه بلغ السماء. قيل: قائل ذلك عبد الله بن أبي أمية، قال: حتى تأتينا بكتاب معه أربعة من الملائكة يشهدون لك.
ولعلهم إنما أرادوا أن ينزل عليهم من السماء كتابا كاملا دفعة واحدة، فيكونوا قد ألحدوا بتنجيم القرآن، توهما بأن تنجيمه لا يناسب كونه منزلا من عند الله لأن التنجيم عندهم يقتضي التأمل والتصنع في تأليفه. ولذلك يكثر في القرآن بيان حكمة تنجيمه.
واللام في قوله: {لِرُقِيِّكَ} يجوز أن تكون لام التبيين. على أن"رقيك"مفعول {نُؤْمِنَ} مثل قوله: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ} فيكون ادعاء الرقي منفيا عنه التصديق حتى ينزل عليهم كتاب. ويجوز أن تكون اللام لام العلة ومفعول {نُؤْمِنَ} محذوفا دل عليه قوله قبله: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ} . والتقدير: لن نصدقك لأجل رقيك هي تنزل علينا كتابا. والمعنى: أنه لو رقى في السماء لكذبوا أعينهم حتى يرسل إليهم كتابا يرونه نازلا من السماء.
وهذا تورك منهم وتهكم.

ولما كان اقتراحهم اقتراح ملاجة وعناد أمره الله بأن يجيبهم بما يدل على التعجب من كرمهم بكلمة {سُبْحَانَ رَبِّي} التي تستعمل في التعجب كما تقدم في طالع هذه السورة، ثم بالاستفهام الإنكاري، وصيغة الحصر المقتضية قصر نفسه على البشرية والرسالة قصرا إضافيا، أي لست ربا متصرفا أخلق ما يطلب مني، فكيف آتي بالله والملائكة وكيف أخلق في الأرض ما لم يخلق فيها.
وقرأ الجمهور {قل} بصيغة فعل الأمر. وقرأه ابن كثير، وابن عامر {قال} بألف بعد القاف بصيغة الماضي على أنه حكاية لجواب الرسول صلى الله عليه وسلم عن قولهم: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً} على طريقة الالتفات.
[94،95] {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً}
بعد أن عدت أشكال عنادهم ومظاهر تكذيبهم أعقبت ببيان العلة الأصلية التي تبعث على الجحود في جميع الأمم وهي توهمهم استحالة أن يبعث الله للناس برسالة بشرا مثلهم. فذلك التوهم هو مثار ما يأتونه من المعاذير. فالذين هذا أصل معتقدهم لا يرجى منهم أن يؤمنوا ولو جاءتهم كل آية، وما قصدهم من مختلف المقترحات إلا إرضاء أوهامهم بالتنصل من الدخول في الدين، فلو أتاهم الرسول بما سألوه لانتقلوا فقالوا: إن ذلك سحر، أو قلوبنا غلف، أو نحو ذلك. ومع ما في هذا من بيان أصل كفرهم هو أيضا رد بالخصوص لقولهم: {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً} [الإسراء:92]ورد لقولهم: {تَرْقَى فِي السَّمَاءِ} إلى آخره.
وقوله: {إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً} يقتضي بصريحه أنهم قالوا بألسنتهم وهو مع ذلك كناية عن اعتقادهم ما قالوه. ولذلك جعل قولهم ذلك مانعا من أن يؤمنوا لأن اعتقاد قائليه يمنع من إيمانهم بضده ونطقهم بما يعتقدونه يمنع من يسمعونهم من متبعي دينهم.
وإلقاء هذا الكلام بصيغة الحصر وأداة العموم جعله تذييلا لما مضى من حكاية تفننهم في أساليب التكذيب والتهكم.
فالظاهر حمل التعريف في {الناس} على الاستغراق. أي ما منع جميع الناس أن

يؤمنوا إلا ذلك التوهم الباطل لأن الله حكى مثل ذلك عن كل أمة كذبت رسولها فقال حكاية عن قوم نوح {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} [المؤمنون:24]. وحكي مثله عن هود {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخَاسِرُونَ} [المؤمنون:33ـ34].وعن قوم صالح {مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [الشعراء:154]،وعن قوم شعيب {وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [الشعراء:186]،وحكي عن قوم فرعون: {فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} [المؤمنون:47]. وقال في قوم محمد صلى الله عليه وسلم: {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} [قّ:2].
وإذا شمل العموم كفار قريش أمر الرسول بأن يجيبهم عن هذا الشبهة بقوله: {لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ} [الإسراء:95]الآية، فاختص الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم باجتثاث هذه الشبهة من أصلها اختصاصا لم يلقنه من سبق من الرسل، فإنهم تلقوا تلك الشبهة باستنصار الله تعالى على أقوالهم فقال عن نوح {قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:117ـ118].
وقال مثله عن هود وصالح، وقال عن موسى وهارون، {فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ} [المؤمنون:48]،
فقد ادخر الله لرسوله قواطع الأدلة على إبطال الشرك وشبه الظلال بما يناسب كونه خاتم الرسل، ولهذا قال في خطبة حجة الوداع: "إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه ولكنه قد رضي أن يطاع فيما دون ذلك مما تحقرون من أعمالكم" .
ومعنى قوله: {لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ} الخ: أن الله يرسل الرسول للقوم من نوعهم للتمكن من المخالطة لأن اتحاد النوع هو قوام تيسير المعاشرة، قال تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً} [الأنعام:9]،أي في صورة رجل ليمكن التخاطب بينه وبين الناس.
وجملة {يَمْشُونَ} وصف ل {مَلائِكَةٌ} .
و {مُطْمَئِنِّينَ} حال. والمطمئن: الساكن. وأريد به هنا المتمكن غير المضطرب، أي مشي قرار في الأرض، أي لو كان في الأرض ملائكة قاطنون على الأرض غير نازلين برسالة للرسل أنزلنا عليهم ملكا.

ولما كان المشي والاطمئنان في الأرض من صفة الإنسان آل المعنى إلى: لو كنتم ملائكة لنزلنا عليكم من السماء ملكا فلما كنتم بشرا أرسلنا إليكم بشرا مثلكم.
ومجيء الهدى هو دعوة الرسل إلى الهدى.
[96] {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً}
بعد أن خص الله محمدا صلى الله عليه وسلم بتلقين الحجة القاطعة للضلالة أردف ذلك بتلقينه أيضا ما لقنه الرسل السابقين من تفويض الأمر إلى الله وتحكيمه في أعدائه. فأمره ب {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ} تسلية له وتثبيتا لنفسه وتعهدا له بالفصل بينه وبينهم كما قال نوح وهود {قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ} [المؤمنون:26]،وغيرهما من الرسل قال قريبا من ذلك.
وفي هذا رد لمجموع مقترحاتهم المتقدمة على وجه الإجمال.
ومفعول {كَفَى} محذوف، تقديره: كفاني. والشهيد: الشاهد، وهو المخبر بالأمر الواقع كما وقع.
وأريد بالشهيد هنا الشهيد للمحق على المبطل، فهو كناية عن النصير والحاكم لأن الشهادة سبب الحكم. والقرينة قوله: {بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} لأن ظرف(بين)يناسب معنى الحكم. وهذا بمعنى قوله تعالى: {حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [الأعراف:87] وقوله: {يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} [الممتحنة:3].
والباء الداخلة على اسم الجلالة زائدة لتأكيد لصوق فعل {كَفَى} بفاعله. وأصله: كفى الله شهيدا.
وجملة {إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً} تعليل للاكتفاء به تعالى، والخبير: العليم. وأريد به العليم بالنوايا والحقائق، والبصير: العليم بالذوات والمشاهدات من أحوالها. والمقصود من اتباعه به إحاطة العلم وشموله.
[97] {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً}
{وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ}
يجوز أن تكون الجملة معطوفة على جملة {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ

الْهُدَى} [الإسراء:94] جمعا بين المانع الظاهر المعتاد من الهدى وبين المانع الحقيقي وهو حرمان التوفيق من الله تعالى. فمن أصر على الكفر مع وضوح الدليل لذوي العقول فذلك لأن الله تعالى لم يوفقه. وأسباب الحرمان غضب الله على من لا يلقي عقله لتلقي الحق ويتخذ هواه رائدا له في مواقف الجد.
ويجوز أن تكون الجملة معطوفة على جملة {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الإسراء:96]ارتقاء في التسلية، أي لا يحزنك عدم اهتدائهم فإن الله حرمهم الاهتداء لما أخذوا بالعناد قبل التدبر في حقيقة الرسالة.
والمراد بالهدى الهدى إلى الإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
والتعريف في {الْمُهْتَدِ} تعريف العهد الذهني، فالمعرف مساو للنكرة، فكأنه قيل: فهو مهتد. وفائدة الإخبار عنه بأنه مهتد التوطئة إلى ذكر مقابله وهو {وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ} .كما يقال: من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا فلان.
ويجوز أن تجعل التعريف في قوله: {الْمُهْتَدِ} تعريف الجنس فيفيد قصر الهداية على الذي هداه الله قصرا إضافيا، أي دون من تريد أنت هداه وأضله الله. ولا يحتمل أن يكون المعنى على القصر الادعائي الذي هو بمعنى الكمال لأن الهدى المراد هنا هدي واحد وهو الهدي إلى الإيمان.
وحذفت ياء {الْمُهْتَدِ} في رسم المصحف لأنهم وقفوا عليها بدون ياء على لغة من يقف على الاسم المنقوص غير المنون بحذف الياء، وهي لغة فصيحة غير جارية على القياس ولكنها أوثرت من جهة التخفيف لثقل صيغة اسم الفاعل مع ثقل حرف العلة في آخر الكلمة. ورسمت بدون ياء لأن شأن أواخر الكلم أن ترسم بمراعاة حال الوقف. وأما في حال النطق في الوصل فقرأها نافع وأبو عمرو بإثبات الياء في الوصل وهو الوجه، ولذلك كتبوا الياء في مصاحفهم باللون الأحمر وجعلوها أدق من بقية الحروف المرسومة في المصحف تفرقة بينها وبين ما رسمه الصحابة كتاب المصحف. والباقون حذفوا الياء في النطق في الوصل إجراء للوصل مجرى الوقف. وذلك وإن كان نادرا في غير الشعر إلا أن الفصحاء يجرون الفواصل مجرى القوافي. واعتبروا الفاصلة كل جملة تم بها الكلام، كما دل عليه تمثيل سيبويه في كتابة الفاصلة بقوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} [الفجر:4] وقوله: {قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ} [الكهف:64]. وقد تقدم شيء من هذا عند قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} في سورة الرعد:9].

والخطاب في {فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ} لنبي صلى الله عليه وسلم لأن هذا الكلام مسوق لتسليته على عدم استجابتهم له. فنفي وجدان الأولياء كناية عن نفي وجود الأولياء لهم لأنهم لو كانوا موجودين لوجدهم هو وعرفهم.
والأولياء: الأنصار، أي لن تجد لهم أنصارا يخلصونهم من جزاء الضلال وهو العذاب. ويجوز أن يكون الأولياء بمعنى متولي شانهم، أي لن تجد لهم من يصلح حالهم فينقلهم من الضلال كقوله تعالى {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [ البقرة: من الآية257]
وجمع الأولياء باعتبار مقابلة الجمع بالجمع، أي لن تجد لكل واحد وليا ولا لجماعته وليا، كما يقال: ركب القوم دوابهم.
و {مِنْ دُونِهِ} أي غيره.
{وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً} ذكر المقصود من نفي الولي أو المئال له بذكر صورة عقابهم بقوله {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} الآية.
والحشر: جمع الناس من مواضع متفرقة إلى مكان واحد. ولما كان ذلك يستدعي مشيهم عدي الحشر بحرف )على( لتضمينه معنى )يمشون(. وقد فهم الناس ذلك من الآية فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم كيف يمشون على وجوههم? فقال:" إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم". والمقصود من ذلك الجمع بين التشويه والتعذيب لأن الوجه أرق تحملا لصلابة الأرض من الرجل.
وهذا جزاء مناسب للجرم، لأنهم روجوا الضلالة في صورة الحق ووسموا الحق بسمات الضلال فكان جزاؤهم أن حولت وجوههم أعضاء مشي عوضا عن الأرجل. ثم كانوا {عُمْياً وَبُكْماً} جزاء أقوالهم الباطلة على الرسول وعلى القرآن، و {صما} جزاء امتناعهم من سماع الحق، كما قال تعالى عنهم {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت: من الآية 5]. وقال عنهم {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراًقَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [ طه: 125_126],

وقال عنهم {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى} [الإسراء: من الآية72] أي من كان أعمى عن الحق فهو في الحشر يكون محروما من متعة النظر. وهذه حالتهم عند الحشر.
والمأوى محل الأوي، أي النزول بالمأوى، أي المنزل والمقر.
وخبت النار خبوا وخبوا: نقص لهيبها.
والسعير: لهب النار، وهو مشتق من سعر النار إذا هيج وقودها. وقد جرى الوصف فيه على التذكير تبعا لتذكير اللهب. والمعنى: زدناهم لهبا فيها.
وفي قوله {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً} إشكال لأن نار جهنم لا تخبو. وقد قال تعالى {فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ} [البقرة: من الآية86]
فعن ابن عباس:" أن الكفرة وقود للنار" قال تعالى {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [البقرة: من الآية4] فإذا أحرقتهم النار زال اللهب الذي كان متصاعدا من أجسامهم فلا يلبثون أن يعادوا كما كانوا فيعود الالتهاب لهم.
فالخبو وازدياد الاشتعال بالنسبة إلى أجسادهم لا في أصل نار جهنم. ولهذه النكتة سلط فعل {زِدْنَاهُمْ} على ضمير المشركين للدلالة على أن ازدياد السعير كان فيهم، فكأنه قيل: كلما خبت فيهم زدناهم سعيرا، ولم يقل: زدناها سعيرا.
وعندي: أن معنى الآية جار على طريق التهكم وبادئ الإطماع المسفر عن خيبة، لأنه جعل ازدياد السعير مقترنا بكل زمان من أزمنة الخبو، كما تفيده كلمة (ما)التي هي بمعنى كل زمان. وهذا في ظاهره إطماع بحصول خبو لورود لفظ الخبو في الظاهر، ولكنه يؤول إلى يأس منه إذ يدل على دوام سعيرها في كل الأزمان، لاقتران ازدياد سعيرها بكل أزمان خبوها. فهذا الكلام من قبيل التمليح، وهو من قبيل قوله تعالى {وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [ا لأعراف: من الآية40] وقول إياس القاضي للخصم الذي سأله: على من قضيت? فقال: على ابن أخت خالك.
{ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً} استئناف بياني لأن العقاب الفظيع المحكي يثير في نفوس السامعين السؤال عن سبب تركب هذه الهيئة من تلك الصورة المفظعة، فالجواب بأن ذلك بسبب الكفر بالآيات

وإنكار المعاد.
فالإشارة إلى ما تقدم من قوله {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} [ الإسراء: من الآية97] إلى آخر الآية بتأويل: المذكور.
والجزاء: العوض عن عمل.
والباء في {بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا} للسببية.
والظاهر أن جملة {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً} الخ. عطف على جملة {بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا} ، فذكر وجه اجتماع تلك العقوبات لهم. وذكر سببان:
أحدهما: الكفر بالآيات ويندرج فيه صنوف من الجرائم تفصيلا وجمعا تناسبها العقوبة التي في قوله {نحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم} .
وثانيهما: إنكارهم البعث بقولهم {أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً} المناسب له أن يعاقبوا عقابا يناسب ما أنكروه من تجدد الحياة بعد المصير رفاتا، فإن رفات الإحراق أشد اضمحلالا من رفات العظام في التراب.
والاستفهام في حكاية قولهم {أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً} وقوله {أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} إنكاري. وتقدم اختلاف القراء في إثبات الهمزتين في قوله {أَإِذَا} وفي إثباتها في قوله {أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} في نظير هذه الآية من هذه السورة.
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً}
جملة {أَوَلَمْ يَرَوْا} عطف على جملة {ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ} باعتبار ما تضمنته الجملة المعطوف عليها من الردع عن قولهم {أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً} [الإسراء: من الآية98]. فبعد زجرهم عن إنكارهم البعث بأسلوب التهديد عطف عليه إبطال اعتقادهم بطريق الاستدلال بقياس التمثيل في الإمكان، وهو كاف في إقناعهم هنا لأنهم إنما أنكروا البعث باعتقاد استحالة كما أفصح عنه حكاية كلامهم بالاستفهام الإنكاري. وإحالتهم ذلك مستندة إلى أنهم صاروا عظاما ورفاتا، أي بتعذر خلق امتثال تلك الجزاء، ولم يستدلوا بدليل آخر، فكان تمثيل خلق أجسام من أجزاء بالية بخلق أشياء أعظم منها من

عدم أوغل في الفناء دليلا يقطع دعواهم.
والاستفهام في {أَوَلَمْ يَرَوْا} إنكاري مثوب بتعجب من انتفاء علمهم لأنهم لما جرت عقائدهم على استبعاد البعث كانوا بحال من لم تظهر له دلائل قدرة الله تعالى، فيؤول الكلام إلى إثبات أنهم علموا ذلك في نفس الأمر.
والرؤية مستعملة في الاعتقاد لأنها عديت إلى كون الله قادرا. وذلك ليس من المبصرات. والمعنى: أو لم يعلموا أن الله قادر على أن يخلق مثلهم.
وضمير {مِثْلَهُمْ} عائد إلى ما عاد إليه ضمير {يَرَوْا} وهو {النَّاس} في قوله {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ} [اسراء: من الآية94] أي المشركين.
والمثل: المماثل، أي قادر على أن يخلق ناسا أمثالهم، لأن الكلام في إثبات إعادة أجسام المردود عليهم لا في أن الله قادر على أن يخلق خلقا آخر. ويكون في الآية إيماء إلى أن البعث إعادة أجسام أخرى عن عدم، فيخلق لكل ميت جسد جديد على مثال جسده الذي كان في الدنيا وتوضع فيه الروح التي كانت له.
ويجوز أن يكون لفظ )مثل( هنا كناية عن نفس ما أضيف أليه، كقول العرب: مثلك لا يبخل، وقوله تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شيْءٌ} [لشورى: من الآية11]ٌعلى أحد تأويلين فيه، أي على جعل الكاف الداخلة على لفظ (ثله)ير زائدة. والمعنى: قادر على أن يخلقهم، أي أن يعيد خلقهم، فإن ذلك ليس بأعجب من خلق السماوات والأرض.
ولعلمائنا طرق في إعادة الأجسام عند البعث فقيل: تكون الإعادة عن عدم، وقيل تكون عن جميع ما تفرق من الأجسام. وقيل: ينبت من عجب ذنب كل شخص جسد جديد مماثل لجسده كما تنبت من النواة شجرة مماثلة للشجرة التي أثمرت ثمرة تلك النواة.
ووصف اسم الجلالة بالموصول للإيماء إلى وجه بناء الخبر، وهو الإنكار عليهم، لأن خلق السماوات والأرض أمر مشاهد معلوم، وكونه من فعل الله لا ينازعون فيه.
وجملة {وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ} معطوفة على جملة {أَوَلَمْ يَرَوْا} لتأويلها بمعنى قد رأو ذلك لو كان
لهم عقول،أي تحققو أن الله قادر على إعادة الخلق وقد جعل لهم أجلا لا ريب فيه.

والأجل: الزمان المجعول غاية يبلغ إليها في حال من الأحوال. وشاع إطلاقه على امتداد الحياة، وهو المدة المقدرة لكل حي بحسب ما أودع الله فيه من سلامة آلات الجسم، وما علمه الله من العوارض التي تعرض له فتخرم بعض تلك السلامة أو تقويها.
والأجل هنا محتمل لإرادة الوقت الذي جعل لوقوع البعث في علم الله تعالى.
ووجه كون هذا الجعل لهم أنهم داخلون في ذلك الأجل لأنهم من جملة من يبعث حينئذ، فتخصيصهم بالذكر لأنهم الذين أنكروا البعث، والمعنى: وجعل لهم ولغيرهم أجلا.
ومعنى كون الأجل لا ريب فيه: أنه لا ينبغي فيه: ريب، وأن ريب المرتابين فيه مكابرة أو إعراض عن النظر، فهو من باب قوله {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:2].
ويجوز أن يكون الأجل أجل الحياة، أي وجعل لحياتهم أجلا، فيكون استدلالا ثانيا على البعث، أي ألم يروا أنه جعل لهم أجلا لحياتهم، فما أوجدهم وأحياهم وجعل لحياتهم أجلا إلا لأنه سيعيدهم إلى حياة أخرى، وإلا لما أفناهم بعد أن أحياهم، لأن الحكمة تقتضي أن ما يوجده الحكيم يحرص على بقائه وعدم فنائه، فما كان هذا الفناء الذي لا ريب فيه إلا فناء عارضا لاستقبال وجود أعظم من هذا الوجود وأبقى.
وعلى هذا الوجه فوجه كون هذا الجعل لهم ظاهر لأن الآجال آجالهم. وكونه لا ريب فيه أيضا ظاهر لأنهم لا يرتابون في أن لحياتهم آجالا. وقد تضمن قوله {لَهُمْ أجَلاً} [الإسراء: من الآية99] تعريضا بالمنة بنعمة الإمهال على كلا المعنيين وتعريضا بالتذكير بإفاضة الأرزاق عليهم في مدة الأجل لأن في ذكر خلق السماء والأرض تذكيرا بما تحتويه السماوات والأرض من الأرزاق وأسبابها.
وجملة {فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً} [لاسراء: من الآية99] تفريع على الجملتين باعتبار ما تضمنتاه من الإنكار والتعجيب. أي علموا أن الذي خلق السماوات والأرض قادر على إعادة الأجسام ومع علمهم أبوا إلا كفورا. فالتفريع من تمام الإنكار عليهم والتعجيب من حالهم.
واستثناء المفور من الإباية تأكيد للشيء بما يشبه ضده.
والكفور: جحود النعمة، وتقدم آنفا. واختير (لكفور)ا تنبيها على أنهم كفروا بما يجب اعتقاده، وكفروا نعمة المنعم عليهم فعبدوا غير المنعم.

{قُلْ لَوْْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْأِنْفَاقِ وَكَانَ الْأِنْسَانُ قَتُوراً} اعتراض ناشئ عن بعض مقترحاتهم التي توهموا عدم حصولها دليلا على انتفاء إرسال بشير، فالكلام استئناف لتكملة رد شبهاتهم. وهذا رد لما تضمنه قولهم {حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً} إلى قوله {تَفْجِيراً} [الإسراء: من الآية91) وقولهم {أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ} [الإسراء: من الآية93] من تعذر حصول ذلك لعظيم قيمته.
ومعنى الرد: أن هذا ليس بعظيم في جانب خزائن رحمة الله لو شاء أن يظهره لكم.
وأدمج في هذا الرد بيان ما فيهم من البخل عن الإنفاق في سبيل الخير. وأدمج في ذلك أيضا تذكيرهم بأن الله أعطاهم من خزائن رحمته فكفروا نعمته وشكروا الأصنام التي لا نعمة لها. ويصلح لأن يكون هذا خطابا للناس كلهم مؤمنهم وكافرهم كل على قدر نصيبه.
وشأن (و)أن يليها الفعل ماضيا في الأكثر أو مضارعا في اعتبارات، فهي مختصة بالدخول على الأفعال، فإذا أوقعوا الاسم بعدها في الكلام وأخروا الفعل عنه فإنما يفعلون ذلك لقصد بليغ: إما لقصد التقوي والتأكيد للإشعار بأن ذكر الفعل بعد الأداة ثم ذكر فاعله ثم ذكر الفعل مرة ثانية تأكيد وتقوية؛ مثل قوله {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} [التوبة: من الآية6] وإما للانتقال من التقوي إلى الاختصاص، بناء على أنه ما قدم الفاعل من مكانه إلا لقصد طريق غير مطروق. وهذا الاعتبار هو الذي يتعين التخريج عليه في هذه الآية ونحوها من الكلام البليغ، ومنه قول عمر لأبي عبيدة "لو غيرك قالها" .
والمعنى: لو أنتم أخصصتم بملك خزائن رحمة الله دون الله لما أنفقتم على الفقراء شيئا. وذلك أشد في التقريع وفي الامتنان بتخييل أن إنعام غيره كالعدم.
وكلا الاعتبارين لا يناكد اختصاص لو بالأفعال للاكتفاء بوقوع الفعل في حيزها غير موال إياها وموالاته إياها أمر أغلبي، ولكن لا يجوز أن يقال: لو أنت عالم لبذذت الأقران.
واختير الفعل المضارع لأن المقصود فرض أن يملكوا ذلك في المستقبل.
و {لَأَمْسَكْتُمْ} هنا منزل منزلة اللازم فلا يقدر له مفعول، لأن المقصود: إذن لاتصفتم

بالإمساك، أي البخل. يقال: فلان ممسك، أي بخيل. ولا يراد أنه ممسك شيئا معينا.
وأكد جواب(لو)بزيادة حرف(إذن)فيه لتقويه معنى الجوابية، ولأن في(إذن)معنى الجزاء كما تقدم آنفا عند قوله: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً} [الإسراء:42].ومنه قول بشر بن عوانة:
أفاطم لو شهدت ببطن خبت ... وقد لقى الهزبر أخاك بسرا
إذن لرأيت ليثا أم ليثا ... هزبرا أغلبا لاقى هزبرا
وجملة {وَكَانَ الْأِنْسَانُ قَتُوراً} حالية أو اعتراضية في آخر الكلام، وهي تفيد تذييلا لأنها عامة الحكم. فالواو فيها ليست عاطفة.
والقتور: الشديد البخل، مشتق من القتر وهو التضييق في الإنفاق.
[101،102] {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرائيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً}
بقي قولهم: {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً} [الإسراء:92]غير مردود عليهم، لأن له مخالفة لبقية ما اقترحوه بأنه اقتراح آية عذاب ورعب، فهو من قبيل آيات موسى عليه السلام التسع. فكان ذكر ما آتاه الله موسى من الآيات وعدم إجداء ذلك في فرعون وقومه تنظيرا لما سأله المشركون.
والمقصود: أننا آتينا موسى عليه السلام تسع آيات بينات الدلالة على صدقه فلم يهتد فرعون وقومه وزعموا ذلك سحرا، ففي ذلك مثل للمكابرين كلهم وما قريش إلا منهم. ففي هذا مثل للمعاندين وتسلية للرسول. والآيات التسع هي: بياض يده كلما أدخلها في جيبه وأخرجها، وانقلاب العصا حية، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والرجز وهو الدمل، والقحط وهو السنون ونقص الثمرات، وهي مذكورة في سورة الأعراف. وجمعها الفيروز آبادي في قوله:
عصا، سنة، بحر، جراد، وقمل ... يد، ودم، بعد الضفادع طوفان
فقد حصلت بقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} الحجة على المشركين الذين يقترحون الآيات.

ثم لم يزل الاعتناء في هذه السورة بالمقارنة بين رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالة موسى عليه السلام إقامة للحجة على المشركين الذين كذبوا بالرسالة بعلة أن الذي جاءهم بشر، وللحجة على أهل الكتاب الذين ظاهروا المشركين ولقنوهم شبه الإلحاد في الرسالة المحمدية ليصفو لهم جو العلم في بلاد العرب وهم ما كانوا يحسبون لما وراء ذلك حسابا.
فالمعنى: ولقد آتينا موسى تسع آيات على رسالته.
وهذا مثل التنظير بين إيتاء موسى وإيتاء القرآن في قوله في أول السورة {وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} [الإسراء:2]الآيات، ثم قوله: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9].
فتكون هذه الجملة عطفا على جملة {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً} [الإسراء:93] أو على جملة {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي} الآية[الإسراء:100].
ثم انتقل من ذلك بطريقة التفريع إلى التسجيل ببني إسرائيل استشهادا بهم على المشركين، وإدماجا للتعريض بهم بأنهم ساووا المشركين في إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ومظاهرتهم المشركين بالدس وتلقين الشبه، تذكيرا لهم بحال فرعون وقومه إذ قال له فرعون: {إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً} .
والخطاب في قوله: {فَاسْأَلْ} للنبي صلى الله عليه وسلم. والمراد: سؤال الاحتجاج بهم على المشركين لا سؤال الاسترشاد كما هو بين.
وقوله: {مَسْحُوراً} ظاهره أن معناه متأثرا بالسحر، أي سحرك السحرة وأفسدوا عقلك فصرت تهرف بالكلام الباطل الدال على خلل العقل مثل(الميمون والمشؤوم).وهذا قول قاله فرعون في مقام غير الذي قال له فيه: {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ} [الشعراء:35]، والذي قال فيه {إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} [الشعراء:34]، فيكون إعراضا عن الاشتغال بالآيات وإقبالا على تطلع حال موسى فيما يقوله من غرائب الأقوال عندهم. ألا ترى إلى قوله تعالى حكاية عنه {قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ} [الشعراء:25].وكل تلك الأقوال صدرت من فرعون في مقامات محاوراته مع موسى عليه السلام فحكي في كل آية شيء منها.

و(إذا) ظرف متعلق ب {آتينا} . والضمير المنصوب في {جَاءَهُمْ} عائد إلى بني إسرائيل. وأصل الكلام: ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات إذ جاء بني إسرائيل، فسألهم.
وكان فرعون تعلق ظنه بحقيقة ما أظهر من الآيات فرجح عنده أنها سحر، أو تعلق ظنه بحقيقة حال موسى فرجح عنده أنه أصابه سحر، لأن الظن دون اليقين، قال تعالى: {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنَّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية:32]. وقد يستعمل الظن بمعنى العلم اليقين.
ومعنى {ولَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} :أن فرعون لم يبق في نفسه شك في أن تلك الآيات لا تكون إلا بتسخير الله إذ لا يقدر عليها غير الله، وأنه إنما قال: {وإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً} .عنادا ومكابرة وكبرياء.
وأكد كلام موسى بلام القسم وحرف التحقيق تحقيقا لحصول علم فرعون بذلك. وإنما أيقن موسى بان فرعون قد علم بذلك: إما بوحي من الله أعلمه به، وإما برأي مصيب، لأن حصول العلم عند قيام البرهان الضروي حصول عقلي طبيعي لا يتخلف عن عقل سليم.
وقرأ الكسائي وحده {لقد علمتُ} ـ بضم التاء ـ ، أي أن تلك الآيات ليست بسحر كما زعمت كناية على أنه واثق من نفسه السلامة من السحر.
والإشارة ب {هَؤُلاءِ} إلى الآيات التسع جيء لها باسم إشارة العاقل، وهو استعمال مشهور. ومنه قوله تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36]،وقول جرير:
ذم المنازل بعد منزلة اللوى ... والعيش بعد أولئك الأيام
والأكثر أن يشار ب(أولاء) إلى العاقل.
والبصائر: الحجج المفيدة للبصيرة، أي العلم، فكأنها نفس البصيرة.
وقد تقدم عند قوله تعالى: {هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ} في آخر الأعراف[203]
وعبر عن الله بطريق إضافة وصف الرب للسماوات والأرض تذكيرا بأن الذي خلق السماوات والأرض هو القادر على أن يخلق مثل هذه الخوارق.
والمثبور: الذي أصابه الثبور وهو الهلاك. وهذا نذارة وتهديد لفرعون بقرب هلاكه.

وإنما جعله موسى ظنا تأدبا مع الله تعالى، أو لأنه علم ذلك باستقراء تام أفاده هلاك المعاندين للرسل، ولكنه لم يدر لعل فرعون يقلع عن ذلك وكان عنده احتمالا ضعيفا، فلذلك جعل توقع هلاك فرعون ظنا. ويجوز أن يكون الظن هنا مستعملا بمعنى اليقين كما تقدم آنفا.
وفي ذكر هذا من قصة موسى إتمام لتمثيل حال معاندي الرسالة المحمدية بحال من عاند رسالة موسى عليه السلام .
وجاء في جواب موسى عليه السلام لفرعون بمثل ما شافهه فرعون به من قوله: {إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً} مقارعة له وإظهار لكونه لا يخافه وأنه يعامله المثل قال تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة:194].
[103،104] {فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً}
أكملت قصة المثل بما فيه تعريض بتمثيل الحالين إنذارا للمشركين بأن عاقبة مكرهم وكيدهم ومحاولاتهم صائرة إلى ما صار إليه مكر فرعون وكيده، ففرع على تمثيل حالي الرسالتين وحالي المرسل إليهما ذكر عاقبة الحال الممثل بها إنذارا للممثلين المصير.
فقد أضمر المشركون إخراج النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين من مكة، فمثلت إرادتهم بإرادة فرعون إخراج موسى وبني إسرائيل من مصر، قال تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء:76].
والاستفزاز: الاستخفاف، وهو كناية عن الإبعاد وتقدم عند قوله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ} في هذه السورة[الإسراء:76].
والمراد بمن معه جنده الذين خرجوا معه يتبعون بني إسرائيل.
والأرض الأولى هي المعهودة وهي أرض مصر، والأرض الثانية أرض الشام وهي المعهودة لبني إسرائيل بوعد الله إبراهيم إياها.
ووعد الآخرة ما وعد الله به الخلائق على ألسنة الرسل من البعث والحشر.
واللفيف: الجماعات المختلطون من أصناف شتى، والمعنى: حكمنا بينهم في الدنيا

بغرق الكفرة وتمليك المؤمنين، وسنحكم بينهم يوم القيامة.
ومعنى {جِئْنَا بِكُمْ} أحضرناكم لدينا. والتقدير: جئنا بكم إلينا.
[105] {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً}
{وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ}
عود إلى التنويه بشأن القرآن متصل بقوله: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً} [الإسراء:89]. فلما عطف عليه {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ} [الإسراء:90] الآيات إلى هنا وسمحت مناسبة ذكر تكذيب فرعون موسى عليه السلام عاد الكلام إلى التنويه بالقرآن لتلك المناسبة.
وقد وصف القرآن بصفتين عظيمتين كل واحدة منهما تحتوي على ثناء عظيم وتنبيه للتدبر فيهما.
وقد ذكر فعل النزول مرتين، وذكر له في كل مرة متعلق متماثل اللفظ لكنه مختلف المعنى، فعلق إنزال الله إياه بأنه بالحق فكان معنى الحق الثابت الذي لا ريب فيه ولا كذب، فهو كقوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:2] وهو رد لتكذيب المشركين أن يكون القرآن وحيا من عند الله.
وعلق نزول القرآن، أي بلوغه للناس بأنه بالحق فكان معنى الحق الثاني مقابل الباطل، أي مشتملا على الحق الذي به قوام صلاح الناس وفوزهم في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} [الإسراء:81]،وقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء:105].
وضمائر الغيبة عائدة إلى القرآن المعروف من المقام.
والباء في الموضعين للمصاحبة لأنه مشتمل على الحق والهدى، والمصاحبة تشبه الظرفية. ولولا اختلاف معنى الباءين في الآية لكان قوله: {وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} مجرد تأكيد لقوله: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ} لأنه إذا أنزل بالحق نزل به ولا ينبغي المصير إليه ما لم يتعين.
وتقديم المجرور في الموضعين على عامله للقصر ردا على المنكرين الذين ادعوا أنه أساطير الأولين أو سحر مبين أو نحو ذلك.

{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً} جملة معترضة بين جملة {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ} وجملة {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ} [الإسراء:106] أي وفي ذلك الحق نفع وضر فأنت به مبشر للمؤمنين ونذير للكافرين.
والقصر للرد على الذين سألوه أشياء من تصرفات الله تعالى والذين ظنوا أن لا يكون الرسول بشرا.
[106] {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً}
عطف على جملة {أَنْزَلْنَاهُ} .
وانتصب {وَقُرْآناً} على الحال من الضمير المنصوب في {فَرَقْنَاهُ} مقدمة على صاحبها تنويها الكون قرآنا، أي كونه كتابا مقروءا. فإن اسم القرآن مشتق من القراءة، وهي التلاوة، إشارة إلى أنه من جنس الكلام الذي يحفظ ويتلى، كما أشار إليه قوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ} [الحجر:1]،
وقد تقدم بيانه. فهذا الكتاب له أسماء باختلاف صفاته فهو كتاب، وقرآن، وفرقان، وذكر، وتنزيل، وتجري عليه الأوصاف أو بعضها باختلاف المقام، ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْر} [الإسراء:78] وقوله: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل:20]باعتبار أن المقام للأمر بالتلاوة في الصلاة أو مطلقا، وإلى قوله: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان:1]
في مقام كونه فارقا بين الحق والباطل، ولهذا لم يوصف من الكتب السماوية بوصف القرآن غير الكتاب المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم.
ومعنى {فَرَقْنَاهُ} جعلناه فرقا، أي أنزلناه منجما مفرقا غير مجتمع صبره واحد. يقال: فرق الأشياء إذا باعد بيتها، وفرق الصبرة إذا جزأها. ويطلق الفرق على البيان لأن البيان يشبه تفريق الأشياء المختلطة، فيكون {فَرَقْنَاهُ} محتملا معنى بيناه وفصلناه،وإذ قد كان قوله: {وَقُرْآناً} حالا من ضمير {فَرَقْنَاهُ} آل المعنى إلى: أنا فرقناه وأقرأناه.
وقد علل بقوله: {لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} .فهما علتان: أن يقرأ على الناس وتلك علة لجعله قرآنا، وأن يقرأ على مكث، أي مهل وبطء وهي علة لتفريقه.
والحكمة في ذلك أن تكون ألفاظه ومعانيه أثبت في نفوس السامعين.

وجملة {وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً} معطوفة على جملة {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ} . وفي {َنَزَّلْنَاه} فعل نزلناه المضاعف وتأكيده بالمفعول المطلق إشارة إلى تفريق إنزاله المذكور في قوله: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ} [الإسراء:105].
وطوي بيان الحكمة للاجتزاء بما في قوله: {لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} من اتحاد الحكمة. وهي ما صرح به قوله تعالى: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} [الفرقان:32].
ويجوز أن يراد: فرقنا إنزاله رعيا للأسباب والحوادث. وفي كلا الوجهين إبطال لشبهتهم إذ قالوا: {لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الفرقان:32].
[107ـ109] {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً}
استئناف خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ليلقنه بما يقوله للمشركين الذين لم يؤمنوا بأن القرآن منزل من عند الله، فإنه بعد أن أوضح لهم الدلائل على أن مثل ذلك القرآن لا يكون إلا منزلا من عند الله من قوله: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء:88] فعجزوا عن الإتيان بمثله، ثم بيان فضائل ما اشتمل عليه بقوله: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} [الإسراء:89]، ثم بالتعرض إلى ما اقترحوه من الإتيان بمعجزات أخر، ثم يكشف شبهتهم التي يموهون بها امتناعهم من الإيمان برسالة البشر، وبين لهم غلطهم أو مغالطتهم، ثم بالأمر بإقامة الله شهيدا بينه وبينهم، ثم بتهديدهم بعذاب الآخرة، ثم بتمثيل حالهم مع رسولهم بحال فرعون وقومه مع موسى وما عجل لهم من عذاب الدنيا بالاستئصال، ثم بكشف شبهتهم في تنجيم القرآن، أعقب ذلك بتفويض النظر في ترجيح الإيمان بصدق القرآن وعدم الإيمان بقوله: {آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا} للتسوية بين إيمانهم وعدمه عند الله تعالى. فالأمر في قوله: {آمِنُوا بِهِ} للتسوية، أي إن شئتم.
وجزم {لا تُؤْمِنُوا} بالعطف على المجزوم. ومثله قوله في سورة الطور[16] {فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ} [الطور:16]،فحرف {لا} حرف نفي وليس حرف نهي، ولا يقع مع الأمر المراد به التسوية إلا كذلك، وهو كناية عن الإعراض عنهم واحتقارهم وقلة

المبالاة بهم، ويندمج فيه مع ذلك تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم.
وجملة {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} تعليل لمعنى التسوية بين إيمانهم به وعدمه أو تعليل لفعل {قل} ، أو لكليهما، شأن العلل التي ترد بعد جمل متعددة. ولذلك فصلت. وموقع (إن) فيها موقع فاء التفريع، أي إنما كان إيمانكم بالقرآن وعدمه سواء لأنه مستغن عن إيمانكم به بإيمان الذين أوتوا العلم من قبل نزوله. فهم أرجح منكم أحلاما وأفضل مقاما، وهم الذين أوتوا العلم، فإنهم يسمعونه ويؤمنون به ويزيدهم إيمانا بما في كتبهم من الوعد بالرسول الذي أنزل هذا عليه.
وفي هذا تعريض بأن الذين أعرضوا عن الإيمان بالقرآن جهلة وأهل جاهلية.
والمراد بالذين أوتوا العلم أمثال: ورقة بن نوفل، فقد تسامع أهل مكة بشهادته للنبي صلى الله عليه وسلم ومن آمن بعد نزول هذه السورة من مثل: عبد الله بن سلام، ومعيقيب، وسلمان الفارسي.
ففي هذه الآية إخبار بمغيب.
وضمائر"به، ومن قبله، ويتلى"عائدة إلى القرآن. والكلام على حذف مضافا معلوم من المقام معهود الحذف، أي آمنوا بصدقه ومن قبل نزوله.
والخرور: سقوط الجسم. قال تعالى: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 26].
وقد تقدم في قوله: {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً} في سورة الأعراف[143].
واللام في {لِلْأَذْقَانِ} بمعنى(على)كما في قوله تعالى: {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات:103]،
وتله للجبين(،وقول تأبط شرا:
............... 1 ... صريعا لليدين وللجرذان
وأصل هذه اللام أنها استعارة تبعية. استعير حرف الاختصاص لمعنى الاستعلاء للدلالة على مزيد التمكن كتمكن الشيء بما هو مختص به.
(1)أوله:"فأضر بها بلاد دهش فخرت".وضمير الغائبة عائد على الغول.
??
??
??
??

والأذقان: جمع الذقن ـ بفتح الذال وفتح القاف ـ مجتمع اللحيين وذكر الذقن للدلالة على تمكينهم الوجوه كلها من الأرض من قوة الرغبة في السجود لما فيه من استحضار الخضوع لله تعالى.
و {سُجَّداً} جمع ساجد، وهو في موضع الحال من ضمير {يَخِرُّونَ} لبيان الغرض من هذا الخرور. وسجودهم سجود تعظيم لله عند مشاهدة آية من دلائل علمه وصدق رسله وتحقيق وعده.
وعطفت {وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا} على {يَخِرُّونَ} للإشارة إلى أنهم يجمعون بين الفعل الدال على الخضوع والقول الدال على التنزيه والتعظيم. ونظيره قوله: {خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [السجدة:15]. على أن في قولهم: {سُبْحَانَ رَبِّنَا} دلالة على التعجب والبهجة من تحقق وعد الله في التوراة والإنجيل بمجيء الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم.
وجملة {إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً} من تمام مقولهم. وهو المقصود من القول. لأن تسبيحهم قبله تسبيح تعجب واعتبار بأنه الكتاب الموعود به وبرسوله في الكتب السابقة.
و(إن)مخففة من الثقيلة. وقد بطل عملها بسبب التخفيف. ووليها فعل من نواسخ المبتدأ جريا على الغالب في استعمال المخففة. وقرن خبر الناسخ فاللام الفارقة بين المخففة والنافية.
والوعد باق على أصله من المصدرية. وتحقيق الوعد يستلزم تحقيق الموعود به فحصل التصديق بالوعد والموعود به.
ومعنى {مَفْعُولاً} أن الله يفعل ما جاء في وعده، أي يكونه ويحققه. وهذا السجود سجود تعظيم لله إذ حقق وعده بعد سنين طويلة.
وقوله: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ} تكرير للجملة باختلاف الحال المقترنة بها. أعيدت الجملة تمهيدا لذكر الحال. وقد يقع التكرير مع العطف لأجل اختلاف القيود. فتكون تلك المغايرة مصححة العطف، كقول مرة بن عداء الفقعسي:
فهلا أعدوني لمثلي تفاقدوا ... إذا الخصم أبزى ماثل الرأس أنكب
وهلا أعدوني لمثلي تفاقدوا ... وفي الأرض مثبوت شجاع وعقرب

فالخرور المحكي بالجملة الثانية هو الخرور الأول، وأنما خروا خرورا واجدا ساجدين باكين، فذكر مرتين اهتماما بما صحبه من علامات الخشوع.
وذكر {يَبْكُونَ} بصيغة المضارع لاستحضار الحالة.
والبكاء بكاء فرح وبهجة. والبكاء: يحصل من انفعال باطني ناشئ عن حزن أو عن خوف أو عن شوق.
ويزيدهم القرآن خشوعا على خشوعهم الذي كان لهم من سماع كتابهم.
ومن السنة سجود القارئ والمستمع له بقصد هذه الآية اقتداء بأولئك الساجدين بحيث لا يذكر المسلم سجود أهل الكتاب عند سماع القرآن إلا وهو يرى أجدر بالسجود عند تلاوة القرآن.
[110] {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً}
{قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}
لا شك أن لنزول هذه الآية سببا خاصا إذ لا موجب لذكر هذا التخيير بين دعاء الله تعالى باسمه العلم وبين دعائه بصفة الرحمان خاصة دون ذكر غير تلك الصفة من صفات الله مثل: الرحيم أو العزيز وغيرهما من الصفات الحسنى.
ثم لا بد بعد ذلك من طلب المناسبة لوقوعها في هذا الموضع من السورة.
فأما سبب نزولها فروى الطبري والواحدي عن ابن عباس قال:"كان النبي صلى الله عليه وسلم ساجدا يدعو يا رحمان يا رحيم، فقال المشركون: هذا يزعم أنه يدعو واحدا وهو يدعو مثنى مثنى، فأنزل الله تعالى{ قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} .وعليه فالاقتصار على التخيير في الدعاء بين اسم الله وبين صفة الرحمان اكتفاء، أي أو الرحيم.
وفي"الكشاف": عن ابن عباس سمع أبو جهل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يا الله يا رحمان. فقال أبو جهل: إنه ينهانا أن نعبد إلهين وهو يدعو إلها آخر. وأخرجه ابن مردويه. وهذا أنسب بالآية لاقتصارها على اسم الله وصفة الرحمان.

وأما موقعها هنا فيتعين أن يكون سبب نزولها حدث حين نزول الآية التي قبلها.
والكلام رد وتعليم بان تعدد الأسماء لا يقتضي تعدد المسمى، وشتان بين ذلك وبين دعاء المشركين آلهة مختلفة الأسماء والمسميات، والتوحيد والإشراك يتعلقان بالذوات لا بالأسماء.
و(أي)اسم استفهام في الأصل، فإذا اقترنت بها(ما)الزائدة أفادت الشرط كما تفيده كيف إذا اقترنت بها(ما)الزائدة. ولذلك جزم الفعل بعدها وهو {تَدْعُوا} شرطا، وجيء لها بجواب مقترن بالفاء، وهو {فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} .
والتحقيق أن {فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} علة الجواب. والتقدير: أي اسم من أسمائه تعالى تدعون فلا حرج في دعائه بعدة أسماء إذ له الأسماء الحسنى وإذ المسمى واحد.
ومعنى {ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} ادعوا هذا الاسم أو هذا الاسم، أي اذكروا في دعائكم هذا أو هذا، فالمسمى واحد. وعلى هذا التفسير قد وقع تجوز في فعل {ادْعُوا} مستعملا في معنى اذكروا أو سموا في دعائكم.
ويجوز أن يكون الدعاء مستعملا في معنى سموا، وهو حينئذ يتعدى إلى مفعولين. والتقدير: سموا ربكم الله أو سموه الرحمان، وحذف المفعول الأول من الفعلين وأبقي الثاني لدلالة المقام.
{وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} لا شك أن لهذه الجملة اتصالا بجملة {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} يؤيد ما تقدم في وجه اتصال قوله: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} بالآيات التي قبله، فقد كان ذلك بسبب جهر النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه باسم الرحمان.
والصلاة: تحتمل الدعاء، وتحتمل العبادة المعروفة. وقد فسرها السلف هنا بالمعنيين. ومعلوم أن من فسر الصلاة بالعبادة المعروفة فإنما أراد قراءتها خاصة لأنها التي توصف بالجهر والمخافتة.
وعلى كلا الاحتمالين فقد جهر النبي صلى الله عليه وسلم بذكر الرحمان، فقال فريق من المشركين: ما الرحمان? وقالوا: إن محمدا يدعو إلهين، وقام فريق منهم يسب القرآن ومن جاء به، أو يسب الرحمان ظنا أنه رب آخر غير الله تعالى وغير آلهتهم، فأمر الله رسوله أن لا يجهر

بدعائه أو لا يجهر بقراءة صلاته في الصلاة الجهرية.
ولعل سفهاء المشركين توهموا من صدع النبي صلى الله عليه وسلم بالقراءة أو بالدعاء أنه يريد بذلك التحكك بهم والتطاول عليهم بذكر الله تعالى مجردا عن ذكر آلهتهم فاغتاظوا وسبوا. فأمره الله تعالى بأن لا يجهر بصلاته هذا الجهر تجنبا لما من شأنه أن يثير حفائظهم ويزيد تصلبهم في كفرهم في حين أن المقصود تليين قلوبهم.
والمقصود من الكلام النهي عن شدة الجهر.
وأما قوله تعالى: {وَلا تُخَافِتْ بِهَا} فالمقصود منه الاحتراس لكيلا يجعل دعاءه سرا أو صلاته كلها سرا فلا يبلغ أسماع المتهيئين للاهتداء به، لأن المقصود من النهي عن الجهر تجنب جهر يتوهم منه الكفار تحككا أو تطاولا كما قلنا.
والجهر: قوة صوت الناطق بالكلام.
والمخافتة مفاعلة: من حفت بكلامه، إذا أسر به. وصيغة المفاعلة مستعملة في معنى الشدة، أي لا تسرها.
وقوله: {ذَلِكَ} إشارة إلى المذكور، أي الجهر والمخافتة المعلومين من فعلي تجهر(و)وتخافت(أي اطلب سبيلا بين الأمرين ليحصل المقصود من إسماع الناس القرآن وينتفي توهم قصد التطاول عليهم.
[111] {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً}
لما كان النهي عن الجهر بالدعاء أو قراءة الصلاة سدا لذريعة زيادة تصميمهم على الكفر أعقب ذلك بأمره بإعلان التوحيد لقطع دابر توهم من توهموا أن الرحمان اسم لمسمى غير مسمى اسم الله، فيعضهم توهمه إلها شريكا، ويعضهم توهمه معينا وناصرا، أمر النبي بان يقول ما يقلع ذلك كله وأن يعظمه بأنواع من التعظيم.
وجملة {الْحَمْدُ لِلَّهِ} تقتضي تخصيصه تعالى بالحمد، أي قصر جنس الحمد عليه تعالى لأنه أعظم مستحق لأن يحمد. فالتخصيص ادعائي بادعاء أن دواعي حمد غير الله تعالى في جانب دواعي حمد الله بمنزلة العدم،كما تقدم في سورة الفاتحة.
و(من)في قوله: {مِنَ الذُّلِّ} بمعنى لام التعليل.

والذل: العجز والافتقار، وهو ضد العز، أي ليس له ناصر من أجل الذل. والمراد: نفي الناصر له على وجه مؤكد، فإن الحاجة إلى الناصر لا تكون إلا من العجز عن الانتصار للنفس. ويجوز تضمين(الولي) معنى(المانع)فتكون(من)لتعدية الاسم المضمن معناه.
ومعنى {كَبِّرْهُ} اعتقد أنه كبير، أي عظيم العظم المعنوي الشامل لوجوب الوجود والغنى المطلق، وصفات الكمال كلها الكاملة التعلقات. لأن الاتصاف بذلك كله كمال، والاتصاف بأضداد ذلك نقص وصغار معنوي.
وإجراء هذه الصلات الثلاث على اسم الجلالة الذي هو متعلق الحمد لأن في هذه الصلات إيماء إلى وجه تخصيصه بالحمد.
والإتيان بالمفعول المطلق بعد {كَبِّرْهُ} للتوكيد، ولما في التنوين من التعظيم. ولأن من هذه صفاته هو الذي يقدر على إعطاء النعم التي يعجز غيره عن إسدائها.

المجلد الخامس عشر
سورة الكهف...
بسم الله الرحمن الرحيم
18- سورة الكهف
سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الكهف.
روى مسلم، وأبو داود، عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف" وفي رواية لمسلم: "من آخر الكهف، عصم من فتنة الدجال" . ورواه الترمذي عن أبي الدرداء بلفظ "من قرأ ثلاث آيات من أول الكهف عصم من فتنة الدجال" . قال الترمذي: "حديث حسن صحيح".
وكذلك وردت تسميتها عن البراء بن عازب في "صحيح البخاري" . قال: "كان رجل يقرأ سورة الكهف وإلى جانبه حصان مربوط بشطنين فتغشته سحابة فجعلت تدنو، وتدنو، وجعل فرسه ينفر، فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال: "تلك السكينة تنزلت بالقرآن" .
وفي حديث أخرجه ابن مردويه عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه سماها سورة أصحاب الكهف".
وهي مكية بالاتفاق كما حكاه ابن عطية. قال: "وروي عن فرقد أن أول السورة إلى قوله: {جُرُزاً} نزل بالمدينة"، قال: "والأول أصح".
وقيل قوله: {وَاصْبِرْ نَفسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} [الكهف: 28] نزلتا بالمدينة، وقيل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفرْدَوْسِ نُزُلاً} [الكهف: 107] إلى آخر السورة نزل بالمدينة. وكل ذلك ضعيف كما سيأتي التنبيه عليه في مواضعه.
نزلت بعد سورة الغاشية وقبل سورة الشورى.
وهي الثامنة والستون في ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد.

وقد ورد في فضلها أحاديث متفاوتة أصحها الأحاديث المتقدمة.
وهي من السور التي نزلت جملة واحدة. روى الديلمي في سند الفردوس عن أنس قال: نزلت سورة الكهف جملة معها سبعون ألفا من الملائكة. وقد أغفل هذا صاحب "الإتقان" .
وعدت آيها في عدد قراء المدينة ومكة مائة وخمسا، وفي عدد قراء الشام مائة وستا، وفي عدد قراء البصرة مائة وإحدى عشرة، وفي عد قراء الكوفة مائة وعشرا، بناء على اختلافهم في تقسيم بعض الآيات إلى آيتين.
وسبب نزولها ما ذكره كثير من المفسرين، وبسطه ابن إسحاق في سيرته بدون سند، وأسنده الطبري إلى ابن عباس بسند فيه رجل مجهول: "أن المشركين لما أهمهم أمر النبي صلى الله عليه وسلم وازدياد المسلمين معه وكثر تساؤل الوافدين إلى مكة من قبائل العرب عن أمر دعوته، بعثوا النضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار اليهود بالمدينة يثرب يسألونهم رأيهم في دعوته، وهم يطمعون أن يجد لهم الأحبار ما لم يهتدوا إليه مما يوجهون به تكذيبهم إياه. قالوا: فإن اليهود أهل الكتاب الأول وعندهم من علم الأنبياء أي صفاتهم وعلاماتهم علم ليس عندنا، فقدم النضر وعقبة إلى المدينة ووصفا لليهود دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وأخبراهم ببعض قوله. فقال لهم أحبار اليهود: سلوه عن ثلاث? فإن أخبركم بهن فهو نبئ وإن لم يفعل فالرجل متقول، سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان أمرهم، وسلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، وسلوه عن الروح ما هي. فرجع النضر وعقبة فأخبرا قريشا بما قاله أحبار اليهود، فجاء جمع من المشركين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه عن هذه الثلاثة، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخبركم بما سألتم عنه غدا وهو ينتظر وقت نزول الوحي عليه بحسب عادة يعلمها. ولم يقل: إن شاء الله. فمكث رسول الله ثلاثة أيام لا يوحى إليه، وقال ابن إسحاق: خمسة عشر يوما، فأرجف أهل مكة وقالوا: وعدنا محمد غدا وقد أصبحنا اليوم عدة أيام لا يخبرنا بشيء مما سألناه عنه، حتى أحزن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وشق عليه، ثم جاءه جبريل عليه السلام بسورة الكهف وفيها جوابهم عن الفتية وهم أهل الكهف، وعن الرجل الطواف وهو ذو القرنين. وأنزل عليه فيما سألوه من أمر الروح {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الاسراء: 85] في سورة الإسراء. قال السهيلي: وفي رواية عن ابن إسحاق من غير طريق البكائي "أي زياد ابن عبد الله البكائي الذي يروي عنه ابن هشام" أنه

قال في هذا الخبر: "فناداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو أي الروح جبريل. وهذا خلاف ما روى غيره أن يهود قالت لقريش: سلوه عن الروح فإن أخبركم به فليس بنبئ وإن لم يخبركم به فهو نبي" ا هـ.
وأقول: قد يجمع بين الروايتين بأن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أجابهم عن أمر الروح بقوله تعالى: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الاسراء: 85] بحسب ما عنوه بالروح عدل بهم إلى الجواب عن أمر كان أولى لهم العلم به وهو الروح الذي تكرر ذكره في القرآن مثل قوله: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} [الشعراء: 193] وقوله {وَالرُّوحُ فيهَا} [القدر: 4] وهو من ألقاب جبريل على طريقة الأسلوب الحكيم مع ما فيه من الإغاظة لليهود، لأنهم أعداء جبريل كما أشار إليه قوله تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ} [البقرة: 97] الآية. ووضحه حديث عبد الله ابن سلام في قوله للنبي صلى الله عليه وسلم حين ذكر جبريل عليه السلام ذاك عدو اليهود من الملائكة فلم يترك النبي صلى الله عليه وسلم لهم منفذا قد يلقون منه التشكيك على قريش إلا سده عليهم.
وقد يعترضك هنا: أن الآية التي نزلت في أمر الروح هي من سورة الإسراء فلم تكن مقارنة للآية النازلة في شان الفنية وشأن الرجل الطواف فماذا فرق بين الآيتين، وأن سورة الإسراء يروي أنها نزلت قبل سورة الكهف فإنها معدودة سادسة وخمسين في عداد نزول السور، وسورة الكهف معدودة ثامنة وستين في النزول. وقد يجاب عن هذا بأن آية الروح قد تكون نزلت على أن تلحق بسورة الإسراء فإنها نزلت في أسلوب سورة الإسراء وعلى مثل فواصلها، ولأن الجواب فيها جواب بتفويض العلم إلى الله، وهو مقام يقتضي الإيجاز، بخلاف الجواب عن أهل الكهف وعن ذي القرنين فإنه يستدعي بسطا وإطنابا ففرقت آية الروح عن القصتين.
على أنه يجوز أن يكون نزول سورة الإسراء مستمرا إلى وقت نزول سورة الكهف، فأنزل قرآن موزع عليها وعلى سورة الكهف. وهذا على أحد تأويلين في معنى كون الروح من أمر ربي كما تقدم في سورة الإسراء. والذي عليه جمهور الرواة أن آية {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ} [الاسراء: 85] مكية إلا ما روي عن ابن مسعود. وقد علمت تأويله في سورة الإسراء.
فاتضح من هذا أن أهم غرض نزلت فيه سورة الكهف هو بيان قصة أصحاب

الكهف، وقصة ذي القرنين. وقد ذكرت أولاهما في أول السورة وذكرت الأخرى في آخرها.
كرامة قرآنية:
لوضع هذه السورة على هذا الترتيب في المصحف مناسبة حسنة ألهم الله إليها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رتبوا المصحف فإنها تقارب نصف المصحف إذ كان في أوائلها موضع قيل هو نصف حروف القرآن وهو التاء من قوله تعالى: {وَلْيَتَلَطَّفْ} [الكهف: 19] وقيل نصف حروف القرآن وهو"النون" من قوله تعالى: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً} [الكهف: 74] في أثنائها، وهو نهاية خمسة عشر جزءا من أجزاء القرآن وذلك نصف أجزائه، وهو قوله تعالى: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} [الكهف:75]، فجعلت هذه السورة في مكان قرابة نصف المصحف.
وهي مفتتحة بالحمد حتى يكون افتتاح النصف الثاني من القرآن بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ} كما كان افتتاح النف الأول بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ} . وكما كان أول الربع الرابع منه تقريبا بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [فاطر: 1].
أغراض السورة
افتتحت بالتحميد على إنزال الكتاب للتنويه بالقرآن تطاولا من الله تعالى على المشركين وملقنيهم من أهل الكتاب.
وأدمج فيه إنذار المعاندين الذين نسبوا لله ولدا، وبشارة للمؤمنين، وتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أقوالهم حين تريث الوحي لما اقتضته سنة الله مع أوليائه من إظهار عتبه على الغفلة عن مراعاة الآداب الكاملة.
وذكر افتتان المشركين بالحياة الدنيا وزينتها وأنها لا تكسب النفوس تزكية.
وانتقل إلى خبر أصحاب الكهف المسؤول عنه.
وحذرهم من الشيطان وعداوته لبني آدم ليكونوا على حذر من كيده.
وقدم لقصة ذي القرنين قصة أهم منها وهي قصة موسى والخضر عليهما السلام، لأن كلتا القصتين تشابهتا في السفر لغرض شريف. فذو القرنين خرج لبسط سلطانه على الأرض، وموسى عليه السلام خرج في طلب العلم.

وفي ذكر قصة موسى تعريض بأحبار بني إسرائيل إذ تهمموا بخبر ملك من غير قومهم ولا من أهل دينهم ونسوا خبرا من سيرة نبيهم.
وتخلل ذلك مستطردات من إرشاد النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيته. وأن الحق فيما أخبر به، وأن أصحابه الملازمين له خير من صناديد المشركين، ومن الوعد والوعيد، وتمثيل المؤمن والكافر، وتمثيل الحياة الدنيا وانقضائها، وما يعقبها من البعث والحشر، والتذكير بعواقب الأمم الدنيا وانقضائها، وما يعقبها من البعث والحشر، والتذكير بعواقب الأمم المكذبة للرسل، وما ختمت به من إبطال الشرك ووعيد أهله؛ ووعد المؤمنين بضدهم، والتمثيل لسعة علم الله تعالى. وختمت بتقرير أن القرآن وحي من الله تعالى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم فكان في هذا الختام محسن رد العجز على الصدر.
[1-3] {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً مَاكِثِينَ فيهِ أَبَداً} .
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّماً} .
موقع الافتتاح بهذا لتحميد كموقع الخطبة يفتتح بها الكلام في الغرض المهم.
ولما كان إنزال القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم أجزل نعماء الله تعالى على عباده المؤمنين لأنه سبب نجاتهم في حياتهم الأبدية، وسبب فوزهم في الحياة العاجلة بطيب الحياة وانتظام الأحوال والسيادة على الناس، ونعمة على النبي صلى الله عليه وسلم بأن جعله واسطة ذلك ومبلغه ومبينه؛ لأجل ذلك استحق الله تعالى أكمل الحمد إخبارا وإنشاء. وقد تقدم إفادة جملة {الْحَمْدُ لِلَّهِ} استحقاقه أكمل الحمد في صدر سورة الفاتحة.
وهي هنا جملة خبرية. أخبر الله نبيه والمسلمين بان مستحق الحمد هو الله تعالى لا غيره. فأجرى على اسم الجلالة الوصف بالموصول تنويها بمضمون الصلة ولما يفيده الموصول من تعليل الخبر.
وذكر النبي صلى الله عليه وسلم بوصف العبودية لله تقريب لمنزلته وتنويه به بما في إنزال الكتاب عليه من رفعة قدره كما في قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان: 1]
والكتاب: القرآن. فكل مقدار منزل من القرآن فهو {الكتاب} . فالمراد بالكتاب هنا ما وقع إنزاله من يوم البعثة في غار حراء إلى يوم نزول هذه السورة، ويلحق به ما ينزل

بعد هذه الآية ويزاد به مقداره.
وجملة {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} معترضة بين {الكتاب} وبين الحال منه وهو {قيما} . والواو اعتراضية. ويجوز كون الجملة حالا والواو حالية.
والعوج بكسر العين وفتحها وبفتح الواو حقيقته: انحراف جسم ما عن الشكل المستقيم، فهو ضد الاستقامة. ويطلق مجازا على الانحراف عن الصواب والمعاني المقبولة المستحسنة.
والذي عليه المحققون من أئمة اللغة أن مكسور العين ومفتوحها سواء في الإطلاقين الحقيقي والمجازي. وقيل: المكسور العين يختص بالإطلاق المجازي وعليه درج في "الكشاف" . ويبطله قوله تعالى لما ذكر نسف الجبال {فيَذَرُهَا قَاعاً صَفصَفاً لا تَرَى فيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً} [طه: 106- 107] حيث اتفق القراء على قراءته - بكسر العين -. وعن ابن السكيت: أن المكسور أعم يجيء في الحقيقي والمجازي وأن المفتوح خاص بالمجازي.
والمراد بالعوج هنا عوج مدلولات كلامه بمخالفتها للصواب وتناقضها وبعدها عن الحكمة وإصابة المراد.
والمقصود من هذه الجملة المعترضة أو الحالية إبطال ما يرميه به المشركون من قولهم افتراه، وأساطير الأولين، وقول كاهن، لأن تلك الأمور لا تخلو من عوج. قال تعالى: {أَفلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء: 82]
وضمير {له} عائد إلى {الكتاب} .
وإنما عدي الجعل باللام دون في لأن العوج المعنوي يناسبه حرف الاختصاص دون حرف الظرفية لأن الظرفية من علائق الأجسام، وأما معنى الاختصاص فهو أعم.
فالمعنى: أنه متصف بكمال أوصاف الكتب من صحة المعاني والسلامة من الخطأ والاختلاف. وهذا وصف كمال للكتاب في ذاته وهو مقتض أنه أهل للانتفاع به، فهذا كوصفه ب {أنه لا رَيْبَ فيهِ} [البقرة: 2]في سورة البقرة.
و {قيما} حال من {الكتاب} أو من ضميره المجرور باللام، لأنه إذا جعل حالا

من أحدهما ثبت الاتصاف به للآخر إذ هما شيء واحد، فلا طائل فيما أطالوا به من الإعراب.
والقيم: صفة مبالغة من القيام المجازي الذي يطلق على دوام تعهد شيء وملازمة صلاحه، لأن التعهد يستلزم القيام لرؤية الشيء والتيقظ لأحواله، كما تقدم عند قوله تعالى: {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255] في سورة البقرة.
والمراد به هنا أنه قيم على هدي الأمة وإصلاحها، فالمراد أن كماله متعد بالنفع، فوزانه وزان وصفه بأنه {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] في سورة البقرة.
والجمع بين قوله: {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} وقوله: {قيما} كالجمع بين {لا رَيْبَ فيهِ} وبين {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2]، وليس هو تأكيدا لنفي العوج.
{لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ}
{لينذر} متعلق بـ {أنزل} . والضمير المرفوع عائد إلى اسم الجلالة، أي لينذر الله بأسا شديدا من لدنه، والمفعول الأول لـ {ينذر} محذوف لقصد التعميم، أو تنزيلا للفعل منزلة اللازم لأن المقصود المنذر به وهو البأس الشديد تهويلا له ولتهديد المشركين المنكرين إنزال القرآن من الله.
والبأس: الشدة في الألم. ويطلق على القوة في الحرب لأنها تؤلم العدو. وقد تقدم في قوله تعالى
{وَالصَّابِرِينَ في الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} [البقرة: 177] من سورة البقرة. والمراد هنا: شدة الحال في الحياة الدنيا، وذلك هو الذي أطلق على اسم البأس في القرآن. وعليه درج الطبري. وهذا إيماء بالتهديد للمشركين بما سيلقونه من القتل والأسر بأيدي المسلمين، وذلك بأس من لدنه تعالى لأنه بتقديره وبأمره عباده أن يفعلوه، فاستعمال {لدن} هنا في معنييه الحقيقي والمجازي.
وليس جعل الإنذار ببأس الدنيا علة لإنزال الكتاب ما يقتضي اقتصار علل إنزاله على ذلك، لأن الفعل الواحد قد تكون له علل كثيرة يذكر بعضها ويترك بعض.
وإنما آثرت الحمل على جعل البأس الشديد بأس الدنيا للتفضي مما يرد على إعادة فعل {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} [الكهف: 4] كما سيأتي.
ويجوز أن يراد بالبأس عذاب الآخرة فإنه بأس شديد، ويكون قوله: {مِنْ لَدُنْهُ} .

مستعملا في حقيقته. وبهذا الوجه فسر جمهور المفسرين.
ويجوز أن يراد بالبأس الشديد ما يشمل بأس عذاب الآخرة وبأس عذاب الدنيا، وعلى هذا درج ابن عطية والقرطبي، ويكون استعمال من {لدنه} في معنييه الحقيقي والمجازي. أما في عذاب الآخرة فظاهر، وأما عذاب الدنيا فلأن بعضه بالقتل والأسر وهما من أفعال الناس ولكن الله أمر المسلمين بهما فهما من لدنه.
وحذف مفعول {ينذر} لدلالة السياق عليه لظهور أنه ينذر الذين لم يؤمنوا بهذا الكتاب ولا بالمنزل عليه، ولدلالة مقابلة عليه في قوله: {وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ} .
{وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً مَاكِثِينَ فيهِ أَبَداً}
عطف على قوله: {لينذر بأسا} ، فهو سبب آخر لإنزال الكتاب أثارته مناسبة ذكر الإنذار ليبقى الإنذار موجها غيرهم.
وقوله: {أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً} متعلق بـ {يبشر} بحذف حرف الجر مع أن أي بأن لهم أجرا حسنا. وذكر الإيمان والعمل الصالح للإشارة إلى أن استحقاق ذلك الأجر بحصول ذلك لأمرين. ولا يتعرض القرآن في الغالب لحالة حصول الإيمان مع شيء من الأعمال الصالحة كثير أو قليل، ولحكمه أدلة كثيرة.
والمكث: الاستقرار في المكان، شبه ما لهم من اللذات والملائمات بالظرف الذي يستقر فيه حاله للدلالة على أن الأجر الحسن كالمحيط بهم لا يفارقهم طرفة عين، فليس قوله: {أبدا} بتأكيد لمعنى {ماكثين} بل أفيد بمجموعها الإحاطة والدوام.
{وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} .
تعليل آخر لإنزال الكتاب على عبده، جعل تاليا لقوله: {لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ} [الكهف: 2] باعتبار أن المراد هنا إنذار مخصوص مقابل لما بشر به المؤمنين. وهذا إنذار بجزاء خالدين فيه وهو عذاب الآخرة، فإن جريت على تخصيص البأس في قوله: {بَأْساً شَدِيداً} [الكهف: 2] بعذاب الدنيا كما تقدم كان هذا الإنذار مغايرا لما

قبله، وإن جريت على شمول البأس للعذابين كانت إعادة فعل {ينذر} تأكيدا، فكان عطفه باعتبار إن لمفعوله صفة زائدة على معنى مفعول فعل {ينذر} السابق يعرف بها الفريق المنذرون بكلا الإنذارين. وهو يومئ إلى المنذرين المحذوف في قوله: {لِيُنْذِرَ بَأْساًشَدِيداً} [الكهف: 2] ويغني عن ذكره. وهذه العلة أثارتها مناسبة ذكر التبشير قبلها، وقد حذف هنا المنذر به اعتمادا على مقابله المبشر به.
والمراد بـ {الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} هنا المشركون الذين زعموا أن الملائكة بنات الله، وليس المراد به النصارى الذين قالوا بأن عيسى ابن الله تعالى، لأن القرآن المكي ما تعرض للرد على أهل الكتاب مع تأهلهم للدخول في العموم لاتحاد السبب.
والتعبير عنهم بالموصول وصلته لأنهم قد عرفوا بهذه المقالة بين أقوامهم وبين المسلمين تشنيعا عليهم بهذه المقالة، وإيماء إلى أنهم استحقوا ما أنذروا به لأجلها ولغيرها، فمضمون الصلة من موجبات ما أنذروا به لأن العلل تتعدد.
والولد: اسم لمن يولد من ذكر أو أنثى، يستوي فيه الواحد والجمع. وتقدم في قوله: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ} في سورة يونس [68].
وجملة {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ} حال من {الَّذِينَ قَالُوا} . والضمير المجرور بالباء عائد إلى القول المفهوم من {قالوا} .
و {من} لتوكيد النفي. وفائدة ذكر هذه الحال أنها أشنع في كفرهم وهي أن يقولوا كذبا ليست لهم فيه شبهة، فأطلق العلم على سبب العلم كما دل عليه قوله تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [المؤمنون: 117].
وضمير {به} عائد على مصدر مأخوذ من فعل {قالوا} ، أي ما لهم بذلك القول من علم.
وعطف {ولا لآبائهم} لقطع حجتهم لأنهم كانوا يقولون {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23]، فإذا لم يكن لآبائهم حجة على ما يقولون فليسوا جديرين بأن يقلدوهم.
{كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً}
استئناف بالتشاؤم بذلك القول الشنيع.

ووجه فصل الجملة أنها مخالفة للتي قبلها بالإنشائية المخالفة للخبرية.
وفعل {كبرت} بضم الباء. أصله: الإخبار عن الشيء بضخامة جسمه، ويستعمل مجازا في الشدة والقوة في وصف من الصفات المحمودة والمذمومة على وجه الاستعارة، وهو هنا مستعمل في التعجب من كبر هذه الكلمة في الشناعة بقرينة المقام. ودل على قصد التعجب منها انتصاب {كلمة} على التمييز إذ لا يحتمل التمييز هنا معنى غير أنه تمييز نسبة التعجب، ومن أجل هذا مثلوا بهذه الآية لورود فعل الأصلي والمحول لمعنى المدح والذم في معنى نعم وبئس بحسب المقام.
والضمير في قوله: {كبرت} يرجع إلى الكلمة التي دل عليها التمييز.
وأطلقت الكلمة على الكلام وهو إطلاق شائع، ومنه قوله تعالى: {إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون: 100]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل"
وجملة {تَخْرُجُ مِنْ أَفوَاهِهِمْ} صفة لـ {كلمة} مقصود بها من جرأتهم على النطق بها ووقاحتهم في قولها.
والتعبير بالفعل المضارع لاستحضار صورة خروجها من أفواههم تخيلا لفظاعتها. وفيه إيماء إلى أن مثل ذلك الكلام ليس له مصدر غير الأفواه، لأنه لاستحالة تتلقاه وتنطق به أفواههم وتسمعه أسماعهم ولا تعقله عقولهم لأن المحال لا يعتقده العقل ولكنه يتلقاه المقلد دون تأمل.
والأفواه: جمع فم بوزن أفعال، لأن أصل فم فوه بفتحتين بوزن جمل، أو فيه بوزن ريح، فحذفت الهاء من آخره لثقلها مع قلة الكلمة بحيث لا يجد الناطق حرفا يعتمد عليه لسانه، ولأن ما قبلها حرف ثقيل وهو الواو المتحركة فلما بقيت الكلمة مختومة بواو متحركة أبدلت ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها فصار (فا) ولا يكون اسم على حرفين أحدهما تنوين، فأبدلت الألف المنونة بحرف صحيح وهو الميم لأنها تشابه الواو التي هي الأصل في الكلمة لأنهما شفهيتان فصار فم ولما جمعوه ردوه إلى أصله.
وجملة {إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} مؤكدة لمضمون جملة {تَخْرُجُ مِنْ أَفوَاهِهِمْ} لأن الشيء الذي تنطق به الألسن ولا تحقق له في الخارج ونفس الأمر هو الكذب، أي تخرج من أفواههم خروج الكذب، فما قولهم ذلك إلا كذب، أي ليست له صفة إلا صفة

الكذب.
هذا إذا جعل القول المأخوذ من {يقولون} خصوص قولهم: {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} [الكهف: 4]. ولك أن تحمل {يقولون} على العموم في سياق النذفي، أي يصدر منهم قول إلا الكذب، فيكون قصرا إضافيا، أي ما يقولونه في القرآن والإسلام، أو ما يقولونه من معتقداتهم المخالف لما جاء به الإسلام فتكون جملة إن {يقولون} تذييلا.
[6] { تَخْرُجُ مِنْ أَفوَاهِهِمْ نَفسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً}
تفريع على جملة {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} [الكهف: 4] باعتبارهم مكذبين كافرين بقرينة مقابلة المؤمنين يهم في قوله: {وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ} [الكهف: 2] ثم قوله: {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} [الكهف: 4].
و {لعل} حقيقتها إنشاء الرجاء والتوقع، وتستعمل في الإنكار والتحذير على طريقة المجاز المرسل لأنهما لازمان الأمر المكروه.
وهي هنا مستعملة في تحذير الرسول عليه الصلاة والسلام من الاغتمام والحزن على عدم إيمان من لم يؤمنوا من قومه. وذلك في معنى التسلية لقلة الاكتراث بهم.
والباخع: قاتل نفسه، كذا فسره ابن عباس ومجاهد والسدي وابن جبير. وفسره البخاري بمهلك. وتفسيره يرجع إلى أبي عبيدة.
وفي اشتقاقه خلاف، فقيل مشتق البخاع بالباء الموحدة بوزن كتاب وهو عرق مستبطن في القفا فإذا بلغ الذابح البخاع فذلك أعمق الذبح، قاله الزمخشري في قوله تعالى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفسَكَ} في سورة الشعراء [3]. وانفرد الزمخشري بذكر هذا الاشتقاق في "الكشاف" و "الفائق" و "الأساس" . قال ابن الأثير في "النهاية" : بحثت في كتب اللغة والطب فلم أجد البخاع بالموحدة يعني أن الزمخشري انفرد بهذا الاشتقاق وبإثبات البخاع اسما لهذا العرق. قلت: كفى بالزمخشري حجة فيما أثبته. وقد تبعه عليه المطرزي في "المغرب" وصاحب "القاموس" . فالبخع: أصله أن يبلغ الذابح بالذبح إلى القفا ثم أطلق على القتل المشوب بغيظ.
والآثارة: جمع أثر وهو ما يؤثره، أي يبقيه الماشي أو الراكب في الرمل أو الأرض من مواطئ أقدامه وأخفاف راحلته. والأثر أيضا ما يبقيه أهل الدار إذا ترحلوا عنها من

تافه آلاتهم التي كانوا يعالجون بها شؤونهم كالأوتاد والرماد.
وحرف {على} للاستعلاء المجازي فيجوز أن يكون المعنى: لعلك مهلك نفسك لأجل إعراضهم عنك كما يعرض السائر عن المكان الذي كان فيه. فتكون {على} للتعليل.
ويجوز أن يكون المعنى تمثيل حال الرسول صلى الله عليه وسلم في شدة حرصه على اتباع قومه له وفي غمه من إعراضهم. وتمثيل حالهم في النفور والإعراض بحال من فارقه أهله وأحبته فهو يرى آثار ديارهم ويحزن لفراقهم. ويكون حرف {على} مستقرا في موضع الحال من ضمير الخطاب، ومعنى {على} الاستعلاء المجازي وهو شدة الاتصال بالمكان.
وكأن هذا الكلام سبق إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في آخر أوقات رجائه في إيمانهم إلى أنهم غير صائرين إلى الإيمان، وتهيئة لنفسه أن تتحمل ما سيلقاه من عنادهم رأفة من ربه، ولذلك قال {إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ} بصيغة الفعل المضارع المقتضية الحصول في المستقبل، أي إن استمر عدم إيمانهم.
واسم الإشارة وبيانه مراد به القرآن، لأنه لحضوره في الأذهان كأنه حاضر في مقام نزول الآية فأشير إليه بذلك الاعتبار. وبين بأنه الحديث.
والحديث: الخبر. وإطلاق اسم الحديث على القرآن باعتبار أنه إخبار من الله لرسوله، إذ الحديث هو الكلام الطويل المتضمن أخبارا وقصصا. سمي الحديث حديثا باعتبار اشتماله على الأمر الحديث، أي الذي حدث وجد، أي الأخبار المستجدة التي لا يعلمها المخاطب، فالحديث فعيل بمعنى مفعول. وانظر ما يأتي عند قوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} في سورة الزمر[23].
و {أسفا} مفعول له من {بَاخِعٌ نَفسَكَ} أي قاتلها لأجل شدة الحزن، والشرط معترض بين المفعولين، ولا جواب له للاستغناء عن الجواب بما قبل الشرط.
[8,7] {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً}
مناسبة موقع هذه الآية هنا خفية أعوز المفسرين بيانها، منهم ساكت عنها، ومنهم محاول بيانها بما لا يزيد على السكوت.
والذي يبدوا: أنها تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم على إعراض المشركين بأن الله أمهلهم وأعطاهم

زينة الدنيا لعلهم يشكرونه، وأنهم بطروا النعمة، فأن الله يسلب عنه النعمة فتصير بلادهم قاحلة. وهذا تعريض بأن سيحل بهم قحط السنين السبع التي سأل الله رسول الله ربه أن يجعلها على المشركين كسنين يوسف عليه السلام.
ولهذا اتصال بقوله: {لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ} [الكهف: 2].
وموقع {إن} صدر هذه الجملة موقع التعليل للتسلية التي تضمنها قوله تعالى {فلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ} [الكهف: 2].
ويحصل من ذلك تذكير بعضهم قدرة الله تعالى، وخاصة ما كان منها إيجادا للأشياء وأضدادها من حياة الأرض وموتها المماثل لحياة الناس وموتهم، والمماثل للحياة المعنوية والموت المعنوي من إيمان وكفر، ونعمة ونقمة، كلها عبر لمن يعتبر بالتغير ويأخذ إلى الانتقال من حال إلى حال فلا يثق بقوته وبطشه، ليقيس الأشياء بأشباهها نفسه على معيار الفضائل وحسنى العواقب.
وأوثر الاستدلال بحال الأرض التي عليها الناس لأنها أقرب إلى حسهم وتعلقهم، كما قال تعالى: {أَفلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْف خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْف رُفعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْف نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْف سُطِحَتْ} [لغاشية: 17-20] وقال: {وَفي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} [الذريات:20]
وقد جاء نظم هذا الكلام على أسلوب الإعجاز في جمع معان كثيرة يصلح اللفظ لها من مختلف الأعراض المقصودة، فإن الإخبار عن خلق ما على الأرض زينة يجمع الامتنان على الناس والتذكير ببديع صنع الله إذ وضع هذا العالم على أتقن مثال ملائم لما تحبه النفوس من الزينة والزخرف. والامتنان بمثل هذا كثير، مثل قوله: {وَلَكُمْ فيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل: 6]، وقال: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} [آل عمران: 14]
ولا تكون الأشياء زينة إلا وهي مبثوثة فيها الحياة التي بها نماؤها وازدهارها. وهذه الزينة مستمرة على وجه الأرض منذ رآها الإنسان، واستمرارها باستمرار أنواعها وإن كان الزوال يعرض لأشخاصها فتخلفها أشخاص أخرى من نوعها. فيتضمن هذا امتنانا ببث الحياة في الموجودات الأرضية.

ومن لوازم هذه الزينة أنها توقظ العقول إلى النظر في وجود منشئها وتسبر غور النفوس في مقدار الشكر لخالقها وجاعلها لهم، فمن موف بحق الشكر، ومقصر فيه وجاحد كافر بنعمة هذا المنعم ناسب إياها إلى غير موجدها. ومن لوازمها أيضا أنها تثير الشهوات لاقتطافها وتناولها فتستشار من ذلك مختلف الكيفيات في تناولها وتعارض الشهوات في الاستيثار بها مما يفضي إلى تغالب الناس بعضهم بعضا واعتداء بعضهم على بعض. وذلك الذي أوجد حاجتهم إلى الشرائع لتضبط لهم أحوال معاملاتهم، ولذلك علل جعل ما على الأرض زينة بقوله: {لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} ، أي أفوت في حسن من عمل القلب الراجع إلى الإيمان والكفر، وعمل الجسد المتبدي في الامتثال للحق والحيدة عنه.
فمجموع الناس متفاوتون في حسن العمل. ومن درجات التفاوت في هذا الحسن تعلم بطريق الفحوى درجة انعدام الحسن من أصله وهي حالة الكفر وسوء العمل، كما جاء في حديث "مثل المنافق الذي يقرأ القرآن ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن..." .
والبلو: الاختبار والتجربة. وقد تقدم عند قوله تعالى: {هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفسٍ مَا أَسْلَفتْ} في سورة يونس[30]. وهو هنا مستعار لتعلق علم الله التنجيزي بالمعلوم عند حصوله بقرينة الأدلة العقلية والسمعية الدالة على إحاطة علم الله بكل شيء قبل وقوعه فهو مستغن عن الاختبار والتجربة. وفائدة هذه الاستعارة الانتقال منها إلى الكناية عن ظهور ذلك لكل الناس حتى لا يلتبس عليهم الصالح بضده. وهو كقول قيس بن الخطيم:
واقبلت والخطى يخطر بيننا
لأعلم من جبانها من شجاعها
وقوله {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً} تكميل للعبرة وتحقيق لفناء العالم. فقوله: {جاعلون} اسم فاعل مراد به االمستقبل، أي سنجعل ما على الأرض كله معدوما فلا يكون على الأرض إلا تراب جاف أجرد لا يصلح للحياة فوقه وذلك هو فناء العالم، قال تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ} [ابراهيم: 48]
والصعيد: التراب. والجرز: القاحل الأجود. وسيأتي بيان معنى الصعيد عند قوله: {فتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً} [الكهف: 40] في هذه السورة.
[9] {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْف وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً}
{أم} للإضراب الانتقالي من غرض إلى غرض. ولما كان هذا من المقاصد التي

أنزلت السورة لبيانها لم يكن هذا الانتقال اقتضابا بل هو كالانتقال من الديباجة والمقدمة إلى المقصود.
على أن مناسبة الانتقال إليه تتصل بقوله تعالى: {فلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} [الكهف: 6]، إذ كان مما صرف المشركين عن الإيمان إحالتهم الإحياء بعد الموت، فكان ذكر أهل الكهف وبعثهم بعد خمودهم سنين طويلة مثالا لإمكان البعث.
و {أم} هذه هي {أم} المنقطعة بمعنى {بل}، وهي ملازمة لتقدير الاستفهام معها. يقدر بعدها حرف استفهام، وقد يكون ظاهرا بعدها كقول أفنون التغلبي:
أني جزوا عامرا سوءا بضعته
أم كيف يجزونني السوأى عن الحسن
والاستفهام المقدر بعد {أم} تعجيبي مثل الذي في البيت.
والتقدير هنا: أحسبت أن أصحاب الكهف كانوا عجبا من بين آياتنا،أي أعجب من بقية آياتنا، فإن إماتة الأحياء بعد حياتهم من عجب إنامة أهل الكهف، لأن في إنامتهم إبقاء للحياة في أجسامهم وليس في إماتة الأحياء إبقاء لشيء من الحياة فيهم على كثرتهم وانتشارهم. وهذا تعريض بغفلة الذين طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم بيان قصة أهل الكهف لاستعلام ما فيها من العجب، بأنهم سألوا عن عجيب وكفروا بما هو أعجب، وهو انقراض العالم، فإنهم كانوا يعرضون عن ذكر فناء العالم ويقولون: {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَاوَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24]. أي إن الحياة إلا حياتنا الدنيا لا حياة الآخرة وأن الدهر يهلكنا وهو باق.
وفيه لفت لعقول السائلين عن الاشتغال بعجائب القصص إلى أن الأولى لهم الاتعاظ بما فيها من العبر والأسباب وآثارها. ولذلك ابتدئ ذكر أحوالهم بقوله: {إِذْ أَوَى الْفتْيَةُ إِلَى الْكَهْف فقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً} [الكهف:10]، فأعلم الناس بثبات إيمانهم بالله ورجائهم فيه، وبقوله: {إِنَّهُمْ فتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً} [الكهف: 13] الآيات.. الدال على أنهم أبطلوا الشرك وسفهوا أهله تعريضا بأن حق السامعين أن يقتدوا بهداهم.
والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد: قومه الذين سألوا عن القصة، وأهل الكتاب الذين أغروهم بالسؤال عنها وتطلب بيانها. ويظهر أن الذين لقنوا قريشا السؤال عن أهل الكهف

هم بعض النصارى الذين لهم صلة بأهل مكة؛ من التجار الواردين إلى مكة، أو من الرهبان الذين في الأديرة الواقعة في طريق رحلة قريش من مكة إلى الشام وهي رحلة الصيف. ومحل التعجب هو قوله: {مِنْ آيَاتِنَا} ، أي من بين آياتنا الكثيرة المشاهدة لهم وهم لا يتعجبون منها ويقصرون تعجبهم على أمثال هذه الخوارق، فيؤول المعنى إلى أن أهل الكهف ليسوا هم العجب من بين الآيات الأخرى، بل عجائب صنع الله تعالى كثيرة منها ما هو أعجب من حال أهل الكهف ومنها ما يساويها.
فمعنى {من} في قوله: {مِنْ آيَاتِنَا} التبعيض، أي ليست قصة أهل الكهف منفردة بالعجب من بين الآيات الأخرى، كما تقول: سأل فلانا فهو العالم منا، أي المنفرد بالعلم من بيننا.
ولك أن تجعلها للظرفية المجازية، أي كانوا عجبا في آياتنا، أي وبقية الآيات ليست عجبا. وهذا نداء على سوء نظرهم إذ يعلقون اهتمامهم بأشياء نادرة وبين يديهم من الأشياء ما هو أجدر بالاهتمام.
وأخبر عن أصحاب الكهف بالعجب وإنما العجب حالهم في قومهم، فثم مضاف محذوف يدل عليه الكلام.
وأخبر عن حالهم بالمصدر مبالغة، والمراد عجيب.
والكهف: الشق المتسع الوسط في جبل، فإن لم يكن متسعا فهو غار.
والرقيم: فعيل بمعنى مفعول من الرقم وهو الكتابة. فالرقيم كتاب كان مع أصحاب الكهف في كهفهم. قيل: كتبوا فيه ما كانوا يدينون به من التوحيد، وقيل: هو كتاب دينهم، دين كان قبل عيسى عليه السلام، وقيل: هو دين عيسى، وقيل: كتبوا فيه الباعث الذي بعثهم على الالتجاء إلى الكهف فرارا من كفر قومهم.
وابتدأ القرآن من قصتهم بمحل العبرة الصادقة والقدوة الصالحة منها، وهو التجاؤهم إلى ربهم واستجابته لهم.
وقد أشارت الآية إلى قصة نفر من صالحي الأمم السالفة ثبتوا على دين الحق في وقت شيوع الكفر والباطل فانزووا إلى الخلوة تجنبا لمخالطة أهل الكفر فأووا إلى كهف استقروا فيه فرارا من الفتنة في دينهم، فأكرمهم الله تعالى بأن ألقى عليهم نوما بقوا فيه مدة طويلة ثم أيقظهم فأراهم انقراض الذين كانوا يخافونهم على دينهم. وبعد أن أيقنوا بذلك

أعاد نومتهم الخارقة للعادة فأبقاهم أحياء إلى أمد يعلمه الله أو أماتهم وحفظ أجسادهم من البلى كرامة لهم.
وقد عرف الناس خبرهم ولم يقفوا على أعيانهم ولا وقفوا رقيمهم، ولذلك اختلفوا في شأنهم، فمنهم من يثبت وقوع قصتهم ومنهم من ينفيها.
ولما كانت معاني الآيات لا تتضح إلا بمعرفة ما أشارت إليه من قصة أهل الكهف تعين أن نذكر ما صح عند أعلام المؤرخين على ما فيه من اختلاف. وقد ذكر ابن عطية ملخصا في ذلك دون تعريج على ما هو من زيادات المبالغين والقصاص.
والذي ذكره الأكثر أن في بلد يقال له"أبسس" بفتح الهمزة وسكون الموحدة وضم السين بعدها سين أخرى مهملة وكان بلدا من ثغور طرطوس بين حلب وبلاد أرمينية وأنطاكية.
وليست هي "أفسس" بالفاء أخت القاف المعروفة في بلاد اليونان بشهرة هيكل المشتري فيها فإنها من بلاد اليونان وإلى أهلها كتب بولس رسالته المشهور. وقد اشتبه ذلك على بعض المؤرخين والمفسرين. وهي قريبة من مرعش من بلاد أرمينية، وكانت الديانة النرانية دخلت في تلك الجهات، وكان الغالب عليها دين عبادة الأصنام على الطريقة الرومية الشرقية قبل تنصر قسطنطين، فكان من أهل أبسس نفر من صالحي النصارى يقاومون عبادة الأصنام. وكانوا في زمن الامبراطور دوقيوس ويقال دقيانوس الذي ملك في حدود سنة 237. وكان ملكه سنة واحدة. وكان متعصبا للديانة الرومانية وشديد البغض للنصرانية، فأظهر كراهية الديانة الرومانية. وتوعدهم دوقيوس بالتعذيب، فاتفقوا على أن يخرجوا من المدينة إلى جبل بينه وبين المدينة فرسخان يقال له بنجلوس فيه كهف أووا إليه وانفردوا فيه بعبادة الله. ولما بلغ خبر فرارهم مسامع الملك وأنهم أووا إلى الكهف أرسل وراءهم فألقى الله عليهم نومة فظنهم أتباع الملك أمواتا. وقد قيل:"إنه أمر أن تسد فوهة كهفهم بحائط، ولكن ذلك لم يتم فيما يظهر لأنه لو بني على فوهة كهفهم حائط لما أمكن خروج من انبعث منهم"،ولعل الذي حال دون تنفيذ ما أمر به الملك أن مدته لم تطل في الملك إذ لم تزد مدته على عام واحد، وقد بقوا في رقدتهم مدة طويلة قربها ابن العبري بمائتين وأربعين سنة، وكان انبعاثهم في مدة ملك ثاوذ وسيوس قيصر الصغير، وذكر القرآن أنها ثلاثمائة سنة.
ثم إن الله جعلهم آية لأنفسهم وللناس فيبعثهم من مرقدهم ولم يعلموا مدة مكثهم

وأرسلوا أحدهم إلى المدينة. وهي أبسس. بدراهم ليشتري لهم طعاما. تعجب الناس من هيئته ومن دراهمه وعجب هو مما رأى من تغيير الأحوال. وتسامع أهل المدينة بأمرهم، فخرج قيصر الصغير مع أساقفة وقسيسين وبطارقة إلى الكهف فنظروا إليهم وكلموهم وآمنوا بآيتهم، ولما انصرفوا عنهم ماتوا في مواضعهم. وكانت آية تأيد بها دين المسيح.
والذي في "كتاب الطبري" أن الذين ذهبوا إلى مشاهدة أصحاب الكهف هم رئيسا المدينة أريوس و أطيوس ومن معهما من أهل المدينة، وقيل لما شاهدهم الناس كتب واليا المدينة إلى ملك الروم. فحضر وشاهدهم وأمر بأن يبنى عليهم مسجد. ولم يذكروا هل نفذ بناء المسجد أو لم ينفذ. ولم يذكر أنه وقع العثور على هذا الكهف بعد ذلك. ولعله قد انسد بحادث زلزال أو نحوه كرامة من الله لأصحابه. وإن كانت الأخبار الزائفة عن تعيينه في مواضع من بلدان المسلمين من أقطار الأرض كثيرة. وفي جنوب القطر التونسي موضع يدعى أنه الكهف. وفي مواضع أخرى من بادية القطر مشاهد يسمونها السبعة الرقود اعتقادا بأن أهل الكهف كانوا سبعة. وستعلم مثار هذه التوهمات.
وفي "تفسير الآلوسي" عن ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال:"غزونا مع معاوية غزو المضيق نحو الروم فمررنا بالكهف الذي فيه أصحاب الكهف. فقال معاوية: لو كشف لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم، فقال ابن عباس: ليس ذلك لك، قد منع الله ذلك من هو خير منك، فقال: {لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا} فقال معاوية: لا أنتهي حتى أعلم علمهم فبعث رجالا وقال: اذهبوا فادخلوا الكهف وانظروا. فذهبوا فلما دخلوه بعث الله عليهم ريحا فأخرجتهم. وروى عبد الرزاق وابن أبي حاتم عن عكرمة: أن ابن عباس غزا مع حبيب بن مسلمة فمروا بالكهف فإذا فيه عظام. فقال رجل: هذه عظام أهل الكهف. فقال ابن عباس: لقد ذهبت عظامهم منذ أكثر من ثلاثمائة سنة".
وفي "تفسير الفخر" عن القفال عن محمد بن موسى الخوارزمي المنجم: "أن الواثق أنفذه ليعرف حال أصحاب الكهف، فسافر إلى الروم فوجه ملك الروم معه أقواما إلى الموضع الذي يقال إنهم فيه، قال: وإن الرجل الموكل بذلك الموضع فزعني من الدخول عليهم، قال: فدخلت ورأيت الشعور على صدورهم، قال: وعرفت أنه تمويه واحتيال، وأن الناس كانوا قد عالجوا تلك الجثث بالأدوية المجففة لأبدان الموتى لتصونها عن البلى مثل التلطيخ بالصبر وغيره" ا هـ.

وقوله: "فسافر إلى الروم" مبني على اعتقادهم أن الكهف كان حول مدينة أفسوس بالفاء أخت القاف وهو وهم حصل من تشابه اسمي البلدين كما نبهنا عليه آنفا، فإن بلد أفسس في زمن الواثق لا تزال في حكم قياصرة الروم بالقسطنطينية، ولذلك قال بعض المؤرخين:"إن قيصر الروم لما بلغته بعثة الجماعة الذين وجههم الخليفة الواثق، أمر بأن يجعل دليل في رفقة البعثة ليسهل لهم ما يحتاجونه. أما مدينة أبسس بالباء الموحدة فقد كانت حينئذ من جملة مملكة الإسلام".
قال ابن عطية: "وبالأندلس في جهة غرناطة بقرب قرية تسمى لوشة كهف فيه موتى ومعهم كلب رمة، وأكثرهم قد انجرد لحمه وبعضهم متماسك، وقد مضت القرون السالفة ولم نجد من علم شأنهم إثارة، ويزعم الناس أنهم أصحاب الكهف، دخلت إليهم ورأيتهم سنة أربع وخمسمائة، وهم بهذه الحال وعليهم مسجد وقريب منهم بناء رومي يسمى الرقيم كأنه قصر محلق كذا بحاء مهملة لعله بمعنى مستدير كالحلقة وقد بقي بعض جدرانه وهو في فلاة من الأرض حزنة، وبأعلى حضرة أغرناطة مما يلي القبلة آثار مدينة قديمة رومية يقال لها مدينة دقيوس وجدنا في آثارها غرائب في قبورها ونحوها اه.
وقصة أهل الكهف لها اتصال بتاريخ طور كبير من أطوار ظهور الأديان الحق، وبخاصة طور انتشار النصرانية في الأرض".
وللكهوف ذكر شائع في اللوذ إليها والدفن بها.
وقد كان المتنصرون يضطهدون في البلاد فكانوا يفرون من المدن والقرى إلى الكهوف يتخذونها مساكن فإذا مات أحدهم دفن هنالك. وربما كانوا إذا قتلوهم وضعوهم في الكهوف التي كانوا يتعبدون فيها. ولذلك يوجد في رومية كهف عظيم من هذه الكهوف اتخذه النصارى لأنفسهم هنالك، وكانوا كثيرا ما يستصحبون معهم كلبا ليدفع عنهم الوحوش من ذئاب ونحوها. وما الكهف الذي ذكره ابن عطية إلا واحد من هذه الكهوف.
غير أن ما ذكر في سبب نزول السورة من علم اليهود بأهل الكهف، وجعلهم العلم بأمرهم أمارة على نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم يبعد أن يكون أهل الكهف هؤلاء من أهل الدين المسيحي فإن اليهود يتجافون عن كل خبر فيه ذكر للمسيحية. فيحتمل أن بعض اليهود أووا إلى بعض الكهوف في الاضطهادات التي أصابت اليهود وكانوا يأوون إلى الكهوف. ويوجد مكان بأرض سكرة قرب المرسى من أحواز تونس فيه كهوف صناعية حقق لي بعض علماء الآثار من الرهبان النصارى بتونس أنها كانت مخابئ لليهود يختفون فيها من

اضطهاد الرومان القرطاجنيين لهم.
ويجوز أن يكون لأهل كلتا الملتين اليهودية والنصرانية خبرا عن قوم من صالحيهم عرفوا بأهل الكهف أو كانوا جماعة واحدة ادعى أهل كلتا الملتين خبرها لصالحي ملته. وبني على ذلك اختلاف في تسمية البلاد التي كان بها كهفهم.
قال السهيلي في "الروض الأنف" : وأصحاب الكهف من أمة عجمية والنصارى يعرفون حديثهم ويؤرخون به ا هـ. وقد تقدم طرف من هذا عند تفسير قوله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ} في سورة الإسراء [85].
[10] {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً}
{إذ} ظرف مضاف إلى الجملة بعده. وهو متعلق بـ {كانوا} فتكون هذه الجملة متصلة بالتي قبلها.
ويجوز كون الظرف متعلقا بفعل محذوف تقديره: اذكر، فتكون مستأنفة استئنافا بيانيا للجملة التي قبلها. وأيا ما كان فالمقصود إجمال قصتهم ابتداء، تنبيها على أن قصتهم ليست أعجب آيات الله. مع التنبيه على أن ما أكرمهم الله به من العناية إنما كان تأييدا لهم لأجل إيمانهم. فلذلك عطف عليه قوله: {فقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} .
وأوى أويا إلى المكان: جعله مسكنا له، فالمكان: المأوى. وقد تقدم عند قوله تعالى: {أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يونس: 8] في سورة يونس.
والفتنة: جمع قلة لفتى، وهو الشاب المكتمل. وتقدم عند قوله تعالى في سورة يوسف. والمراد بالفتية: أصحاب الكهف. وهذا من الإظهار في مقام الإضمار لأن مقتضى الظاهر أن يقال: إذ أووا، فعدل عن ذلك لما يدل عليه لفظ الفتية من كونهم أترابا متقاربي السن. وذكرهم بهذا الوصف للإيماء إلى ما فيه من اكتمال خلق الرجولية المعبر عنه بالفتوة الجامع لمعنى سداد الرأي، وثبات الجأش، والدفاع عن الحق، ولذلك عدل عن الإضمار فلم يقل: أذ أووا إلى الكهف.
ودلت الفاء في جملة {فقالوا} على أنهم لما أووا إلى الكهف بادروا بالابتهال إلى الله.

ودعوا الله أن يؤتيهم رحمة من لدنه، وذلك جامع لخير الدنيا والآخرة، أي أن يمن عليهم برحمة عظيمة تناسب عنايته باتباع الدين الذي أمر به، فزيادة {مِنْ لَدُنْكَ} للتعلق بفعل الإيتاء تشير إلى ذلك، لأن في من معنى الابتداء وفي {لدن} معنى العندية والانتساب إليه، فذلك أبلغ مما لو قالوا: آتنا رحمة، لأن الخلق كلهم بمحل الرحمة من الله، ولكنهم سألوا رحمة خاصة وافرة في حين توقع ضدها، وقصدوا الأمن على إيمانهم من الفتنة، ولئلا يلاقوا في اغترابهم مشقة وألما، وأن لا يهينهم أعداء الدين فيصيروا فتنة للقوم الكافرين.
ثم سألوا الله أن يقدر لهم أحوالا تكون عاقبتها حصول ما خولهم من الثبات على الدين الحق والنجاة من مناواة المشركين. فعبر عن ذلك التقدير بالتهيئة التي هي إعداد أسباب حصول الشي.
و {من} في قوله: {مِنْ أَمْرِنَا} ابتدائية.
والأمر هنا: الشأن والحال الذي يكونون فيه، وهو مجموع الإيمان والاعتصام إلى محل العزلة عن أهل الشرك. وقد أعد الله لهم من الأحوال ما به رشدهم. فمن ذلك صرف أعدائهم عن تتبعهم. وأن ألهمهم موضع الكهف، وأن كان وضعه على جهة صالحة ببقاء أجسامهم سليمة، وأن أنامهم نوما طويلا ليمضي عليهم الزمن الذي تتغير فيه أحوال المدينة، وحصل رشدهم إذ ثبتوا على الدين الحق وشاهدوه منصورا متبعا. وجعلهم آية للناس على صدق الدين وعلى قدرة الله وعلى البعث.
والرشد بفتحتين: الخير وإصابة الحق والنفع والصلاح، وقد تكرر في سورة الجن باختلاف هذه المعاني. والرشد بضم الراء وسكون الشين مرادف الرشد. وغلب في حسن تدبير المال. ولم يقرأ هذا اللفظ هنا في القراءات المشهورة إلا بفتح الراء بخلاف قوله تعالى: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256], في البقرة. وقوله: {فإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً} [النساء: 6] في سورة النساء فلم يقرأ فيهما إلا بضم الراء .
ووجه إيثار مفتوح الراء والشين في هذه السورة في هذا الموضع وفي قوله الآتي: {وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً} [الكهف: 24]: أن تحريك الحرفين فيهما أنسب بالكلمات الواقعة في قرائن الفواصل. ألا ترى أن الجمهور قرأوا قوله في هذه السورة: {عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} [الكهف: 66] بضم الراء لأنه أنسب بالقرائن المجاورة له وهي {مِنْ لَدُنَّا عِلْماً} [الكهف: 65] - {مَعِيَ صَبْراً}

[الكهف: 67]- {مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} [الكهف: 68] - {وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً} [الكهف: 69] إلى آخره. ولم يقرأه هنالك بفتح الراء والشين إلا أبو عمرو ويعقوب.
[11-12] {فضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ في الْكَهْف سِنِينَ عَدَداً ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً}
دتفريع هذه الجملة بالفاء إما على جملة دعائهم، فيؤذن بأن مضمونها استجابة دعوتهم، فجعل الله إنامتهم كرامة لهم. بأن سلمهم من التعذيب بأيدي أعدائهم. وأيد بذلك أنهم على الحق. وأرة الناس ذلك بعد زمن طويل.
وإما على جملة {إِذْ أَوَى الْفتْيَةُ} [الكهف: 10] الخ فيؤذن بأن الله عجل لهم حصول ما قصدوه مما لم يكن في حسبانهم.
والضرب: هنا بمعنى الوضع، كما يقال: ضرب عليه حجابا، ومنه قوله تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ} [البقرة: 61]، وقد تقدم تفصيله عند قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا} [البقرة: 26].
وحذف مفعول {ضربنا} لظهوره. أي ضربنا على آذانهم غشاوة أو حائر عن السمع، كما يقال: بنى على امرأته، تقديره: بنى بيتا. والضرب على الآذان كناية عن الإنامة لأن النوم الثقيل يستلزم عدم السمع، لأن السمع السليم لا يحجبه إلا النوم، بخلاف البصر الصحيح فقد يحجب بتغميض الأجفان.
وهذه الكناية من خصائص القرآن لم تكن معروفة قبل هذه الآية وهي من الإعجاز.
و {عددا} نعت {سنين} . والعدد: مستعمل في الكثرة، أي سنين ذات عدد كثير. ونظيره ما في حديث بدء الوحي من قول عائشة فكان يخرج إلى غار حراء فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد تريد الكثيرة. وقد أجمل العدد هنا تبعا لإجمال القصة.
والبعث: هنا الإيقاظ، أي أيقظناهم من نومتهم يقظة مفزوع. كما يبعث البعير من مبركه. وحسن هذه الاستعارة هنا أن المقصود من هذه القصة إثبات البعث بعد الموت فكان في ذكر لفظ البعث تنبيه على أن في هذه الإفاقة دليلا على إمكان البهث وكيفيته.
والحزب: الجماعة الذين توافقوا على شيء واحد. فالحزبان فريقان: أحدهما مصيب والآخر مخطئ في عد الأمد الذي مضى عليهم. فقيل: هما فريقان من أهل

الكهف أنفسهم على أنه المشار إليه بقوله تعالى: {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ} [الكهف: 19]. وفي هذا بعد من لفظ حزب إذ كان القائل واحدا والآخرون شاكين، وبعيد أيضا من فعل {أحصى} لأن أهل الكهف ما قصدوا الإحصاء لمدة لبثهم عند إفاقتهم بل خالوها زمنا قليلا. فالوجه: أن المراد بالحزبين حزبان من الناس أهل بلدهم اختلفت أقوالهم في مدة لبثهم بعد أن علموا انبعاثهم من نومتهم. أحد الفريقين مصيب والآخر مخطيء، والله يعلم المصيب منهم والمخطئ. فهما فريقان في جانبي صواب وخطإ كما دل عليه قوله {أحصى} .
ولا ينبغي تفسير الحزبين بأنهما حزبان من أهل الكهف الذين قال الله فيهم: { قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} الآية [الكهف: 19].
وجعل حصول علم الله بحال الحزبين علة لبعثه إياهم كناية عن حصول الاختلاف في تقدير مدتهم فإنهم إذا اختلفوا علم الله اختلافهم علم الواقعات، وهو تعلق للعلم يصح أن يطلق عليه تنجيزي وإن لم يقع ذلك عند علماء الكلام.
وقد تقدم عند قوله تعالى: {لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} في أول السورة الكهف [7].
و {أحصى} يحتمل أن يكون فعلا ماضيا، أن يكون اسم تفضيل مصوغا من الرباعي على خلاف القياس. واختار الزمخشري في "الكشاف" تبعا لأبي علي الفارسي الأول تجنبا لصوغ اسم التفضيل على غير قياس لقلته. واختار الزجاج الثاني. ومع كون صوغ اسم التفضيل من غير الثلاثي ليس قياسا فهو كثير في الكلام الفصيح وفي القرآن.
فالوجه، أن {أحصى} اسم تفضيل، والتفضيل منصرف إلى ما في معنى الإحصاء من الضبط والإصابة. والمعنى: لنعلم أي الحزبين أتقن إحصاء. أي عدا بأن يكون هو الموافق للواقع ونفس الأمر ويكون ما عداه تقريبا ورجما بالغيب وذلك هو ما فصله قوله تعالى: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ} [الكهف: 22] الآية.
فـ {أي} اسم استفهام مبتدأ وهو معلق لفعل {لنعلم} عن العمل، {وأحصى} خبر عن {أي} و {أمدا} تمييز لاسم التفصيل تمييز نسبة، أي نسبة التفضيل إلى موصوفه كما في قوله {أنا أكثر منك مالا} [الكهف: 34]. ولا يريبك أنه لا يتضح أن يكون هذا التمييز محولا عن الفاعل لأنه لا يستقيم أن تقول: أفضل أمده. إذ التحويل أمر تقديري

يقصد منه التقريب.
والمعنى: ليظهر اضطراب الناس في ضبط تواريخ الحوادث واختلال حرصهم وتخمينهم إذا تصدوا لها، ويعلم تفريط كثير من الناس في تحديد الحوادث وتاريخها، وكلا الحالين يمت إلى الآخر بصلة.
[13-14] {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً}
لما اقتضى قوله: {لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى} [الكهف: 12] أن في نبأ أهل الكهف تخرصات ورجما بالغيب أثار ذلك في النفس تطلعا إلى معرفة الصدق في أمرهم، من أصل وجود القصة إلى تفاصيلها من مخبر لا يشك في صدق خبره كانت جملة {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ } استئنافا بيانيا لجملة {لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً} [الكهف: 12].
وهذا شروع في مجمل القصة والاهتمام بمواضع العبرة منها. وقدم منها ما فيه وصف ثباتهم على الإيمان ومنابذتهم قومهم الكفرة ودخولهم الكهف.
وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي في جملة {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ} يفيد الاختصاص، أي نحن لا غيرنا يقص قصصهم بالحق.
والحق: هنا الصدق. والصدق من أنواع الحق، ومنه قوله تعالى: {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} في سورة الأعراف [105].
والباء للملابسة، أي القصص المصاحب للصدق لا للتخرصات.
والقصص: سرد خبر طويل فالإخبار بمخاطبة مفرقة ليس بقصص وتقدم في طالع سورة يوسف.
والنبأ: الخبر الذي فيه أهمية وله شأن.
وجملة {إِنَّهُمْ فتْيَةٌ} مبينة للقصص والنبأ. وافتتاح الجملة بحرف التأكيد لمجرد الاهتمام لا لرد الإنكار.

وزيادة الهدى يجوز أن يكون تقوية هدى الإيمان المعلوم من قوله: {آمَنُوا بِرَبِّهِمْ} بفتح بصائرهم للتفكير في وسائل النجاة بإيمانهم وألهمهم التوفيق والثبات، فكل ذلك هدى زائد على هدى الإيمان.
ويجوز أن تكون تقوية فضل الإيمان بفضل التقوى كما في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17]
والزيادة: وفرة مقدار شيء مخصوص، مثل وفرة عدد المعدود، ووزن الموزون، ووفرة سكان المدينة.
وفعل {زاد} يكون قاصرا مثل قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْف أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147],
ويكون متعديا كقوله: {فزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً} [البقرة: 10]. وتستعار الزيادة لقوة الوصف كما هنا.
والربط على القلب مستعار إلى تثبيت الإيمان وعدم التردد فيه. فلما شاع إطلاق القلب على الاعتقاد استعير الربط عليه للتثبيت على عقده. كما قال تعالى: {لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص: 10]. ومنه قولهم: هو رابط الجأش. وفي ضده يقال: اضطرب قلبه. وقال تعالى: {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب: 10]. استعير الاضطراب ونحوه للتردد والشك في حصول شيء.
وتعدية فعل {ربطنا} بحرف الاستعلاء للمبالغة في الشد لأن حرف الاستعلاء مستعار لمعنى التمكن من الفعل.
و {إذ قاموا} ظرف للربط، أي كان الربط في وقت في قيامهم. أي كان ذلك الخاطر الذي قاموا به مقارنا لربط الله على قلوبهم، أي لولا ذلك لما أقدموا على مثل ذلك العمل وذلك القول.
والقيام يحتمل أن يكون حقيقيا، بأن وقفوا بين يدي ملك الروم المشرك، أو وقفوا في مجامع قومهم خطباء معلنين فساد عقيدة الشرك. ويحتمل أن يكون القيام مستعارا للإقدام والجسر على عمل عظيم، وللاهتمام بالعمل أو القول، تشبيها للاهتمام بقيام الشخص من قعود للإقبال على عمل ما، كقول النابغة:
بأن حصنا وحيا من بني أسد
قاموا فقالوا حمانا غير مقروب
فليس في ذلك قيام بعد قعود بل قد يكونون قالوه وهم قعود.

وعرفوا الله بطريق الإضافة إلى ضميرهم: إما لأنهم عرفوا من قبل بأنهم عبدوا الله المنزه عن الجسم وخصائص المحدثات، وإما لأن الله لم يكن معروفا باسم علم عند أولئك المشركين الذين يزعمون أن رب الأرباب هو جوبتير الممثل في كوكب المشتري، فلم يكن طريق لتعريفهم الإله الحق إلا طريق الإضافة. وقريب منه ما حكاه الله عن قول موسى لفرعون بقوله تعالى: {قَالَ فرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء: 24-25]
وهذا إن كان القول مسوقا إلى قومهم المشركين قصدوا به إعلان إيمانهم بين قومهم وإظهار عدم الاكتراث بتهديد الملك وقومه، فيكون موقفهم هذا كموقف بني إسرائيل حين قالوا لفرعون: {قَالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 50] أو قصدوا به موعظة قومهم بدون مواجهة خطابهم استنزالا لطائرهم على طريقة التعريض من باب إياك أعني فاسمعي يا جارة. واستقصاء لتبليغ الحق إليهم. وهذا هو الأظهر لحمل القيام على حقيقته، ولأن القول نسب إلى ضمير جمعهم دون بعضهم. بخلاف الإسناد في قوله: {قال قائل منهم كم لبثتم} تقتضي أن يكون المقول له ذلك فريقا آخر، ولظهور قصد الاحتجاج من مقالهم. ويكون قوله: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} خبر المبتدأ إعلاما لقومهم بهذه الحقيقة وتكون جملة {لن ندعو} استئنافا. وإن كان هذا القول قد جرى بينهم في خاصتهم تمهيدا لقوله: {وإذ اعتزلتموهم} [الكهف: 16] الخ. فالتعريف بالإضافة لأنها أخطر طريق بينهم، ولأنها تتضمن تشريفا لأنفسهم. ويكون قوله: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} صفة كاشفة، وجملة {لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً} خبر المبتدأ.
وذكروا الدعاء دون العبادة لأن الدعاء يشمل الأقوال كلها من إجراء وصف الإلهية على غير الله ومن نداء غير الله عند السؤال.
وجملة {لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً} استئناف بياني لما أفاده توكيد النفي ب لن. وإن وجود حرف الجواب في خلال الجملة بنادي على كونها متفرعة على التي قبلها. واللام للقسم.
والشطط: الإفراط في مخالفة الحق والصواب. وهو مشتق من الشط، وهو البعد عن الموطن لما في البعد عنه من كراهية النفوس، فاستعير للإفراط في شيء مكروه، أي لقد قلنا قولا شططا، وهو نسبة الإلهية إلى من دون الله.

[15] {هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً}
استئناف بياني لما اقتضته جملة {لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً} إذ يثور في نفس السامع أن يتساءل عمن يقول هذا الشطط إن كان في السامعين من لا يعلم ذلك أو بتنويل غير السائل منزلة السائل.
وهذه الجملة من بقية كلام الفتية كما اقتضاه ضمير قوله: {دونه} العائد إلى {ربنا} [الكهف: 14] .
والإشارة إلى قومهم بـ {هؤلاء} لقصد تمييزهم بما سيخبر به عنهم. وفي هذه الإشارة تعريض بالتعجب من حالهم وتفضيح صنعهم. وهو من لوازم قصد التمييز.
وجملة {اتخذوا} خبر عن اسم الإشارة، وهو خبر مستعمل في الإنكار عليهم دون الإخبار إذ اتخاذهم آلهة من دون الله معلوم بين المتخاطبين، فليس الإخبار به بمفيد فائدة الخبر.
ومعنى {مِنْ دُونِهِ} من غيره، و {من} ابتدائية، أي آلهة ناشئة من غير الله، وكان قومهم يومئذ يعبدون الأصنام على عقيدة الروم ولا يؤمنون بالله.
وجملة {لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} مؤكدة للجملة التي قبلها باعتبار أنها مستعملة في الإنكار، لأن مضمون هذه الجملة يقوي الإنكار عليهم.
و {لولا} حرف تحضيض. حقيقته: الحث على تحصيل مدخولها. ولما كان الإتيان بسلطان على ثبوت الإلهية للأصنام التي اتخذوها آلهة متعذرا بقرينة أنهم أنكروه عليهم انصرف التحضيض إلى التبكيت والتغليط، أي اتخذوا آلهة من دون الله لا برهان على إلهيتهم.
ومعنى {عليهم} على آلهتهم، بقرينة قوله: {اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} .
والسلطان: الحجة والبرهان.
والبين: الواضح الدلالة. ومعنى الكلام: إذ لم يأتوا بسلطان على ذلك فقد أقاموا اعتقادهم على الكذب والخطأ، ولذلك فرع عليه جملة {فمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} .

و {من} استفهامية، وهو إنكار، أي لا أظلم ممن افترى. والمعنى: أنه أظلم من غيره. وليس المراد المساواة بينه وبين غيره، كما تقدم في قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فيهَا اسْمُهُ} [البقرة: 114] والمعنى: أن هؤلاء افتروا على الله كذبا، وذلك أنهم أشركوا معه غيره في الإلهية فقد كذبوا عليه في ذلك إذ أثبتوا له صفة مخالفة للواقع.
وافتراء الكذب تقدم في قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفرُوا يَفتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [المائدة: 103] في سورة العقود.
ثم إن كان الكلام من مبدئه خطابا لقومهم أعلنوا به إيمانهم بينهم كما تقدم كانت الإشارة في قولهم {هؤلاء قومنا} على ظاهرها، وكان ارتقاء في التعريض لهم بالموعظة، وإن كان الكلام من مبدئه دائرا بينهم في خاصتهم كانت الإشارة إلى حاضر في الذهن كقوله تعالى: {فإِنْ يَكْفرْ بِهَا هَؤُلاءِ} [الأنعام: 89] أي مشركو مكة.
[16] {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فأْوُوا إِلَى الْكَهْف يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفقاً}
يتعين أن يكون هذا من كلام بعضهم لبعض على سبيل النصح والمشورة الصائبة. وليس يلزم في حكاية أقوال القائلين أن تكون المحكيات كلها صادرة في وقت واحد، فيجوز أن يكونوا قال بعضهم لبعض ذلك بعد اليأس من ارعواء قومهم عن فتنتهم في مقام آخر. ويجوز أن يكون ذلك في نفس المقام الذي خاطبوا فيه قومهم بأن غيروا الخطاب من مواجهة قومهم إلى مواجهة بعضهم بعضا، وهو ضرب من الالتفات. فعلى الوجه الأول يكون فعل {اعْتَزَلْتُمُوهُمْ} مستعملا في إرادة الفعل مثل {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6]،وعلى الوجه الثاني يكون الاعتزال قد حصل فيما بين مقام خطابهم قومهم وبين مخاطبة بعضهم بعضا. وعلى الاحتمالين فالقرآن اقتصر في حكاية أقوالهم على المقصد الأهم منها في الدلالة على ثباتهم دون ما سوى ذلك مما لا أثر له في الغرض وإنما هو مجرد قصص.
و {إذ} للظرفية المجازية بمعنى التعليل.
والاعتزال: التباعد والانفراد عن مخالطة الشيء، فمعنى اعتزال القوم ترك

مخالطتهم. ومعنى اعتزال ما يعبدون: التباعد عن عبادة الأصنام.
والاستثناء في قوله {إلا الله} منقطع لأن الله تعالى لم يكن يعبده القوم.
والفاء للتفريع على جملة {وَإذِاعْتَزَلْتُمُوهُمْ} باعتبار إفادتها معنى: اعتزلتم دينهم اعتزالا اعتقاديا، فيقدر بعدها جملة نحو: اعتزلوهم اعتزال مفارقة فأووا إلى الكهف، أو يقدر: وإذ اعتزلتم دينهم يعذبونكم فأووا إلى الكهف. وجوز الفراء أن تضمن {إذ} معنى الشرط ويكون {فأووا} جوابها. وعلى الشرط يتعين أن يكون {اعْتَزَلْتُمُوهُمْ} مستعملا في إرادة الاعتزال.
والأوي تقدم آنفا، أي فاسكنوا الكهف.
والتعريف في {الكهف} يجوز أن يكون تعريف العهد، بأن كان الكهف معهودا عندهم يتعبدون فيه من قبل. ويجوز أن يكون تعريف الحقيقة مثل {وَأَخَاف أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ} [يوسف: 13]، أي فأووا إلى كهف من الكهوف. وعلى هذا الاحتمال يكون إشارة منهم إلى سنة النصارى التي ذكرناها في أول هذه الآيات، أو عادة المضطهدين من اليهود كما ارتأيناه هنالك.
ونشر الرحمة: توفر تعلقها بالمرحومين. سبه تعليق الصفة المتكرر بنشر الثوب في انه لا يبقي من الثوب شيئا مخفيا، كما شبه بالبسط وشبه ضده بالطي وبالقبض.
والمرفق بفتح الميم وكسر الفاء: ما يرتفق به وينتفع. وبذلك قرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر، وبكسر الميم وفتح الفاء وبه قرأ الباقون.
وتهيئته مستعارة للإكرام به والعناية، تشبيها بتهيئة القرى للضيف المعتنى به. وجزم {ينشر} في جواب الأمر. وهو مبني على الثقة بالرجاء والدعاء. وساقوه مساق الحاصل لشدة ثقتهم بلطف ربهم بالمؤمنين.
[17] {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً}
{وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ في فجْوَةٍ منه}

عطف بعض أحوالهم على بعض، انتقل إلى ذكره بمناسبة الإشارة إلى تحقيق رجائهم في ربهم حين قال بعضهم لبعض {يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفقاً} . وهذا حال عظيم وهو ما هيأ الله لهم في أمرهم من مرفق، وأن ذلك جزاؤهم على اهتدائهم وهو من لطف الله بهم.
والخطاب لغير معين. والمعنى: يرى من تمكنه الرؤية. وهذا كثير في الاستعمال، ومنه قول النابغة:
ترى عافيات الطير قد وثقت لها
بشبع من السخل العتاق الأكايل
وقد أوجز من الخبر أنهم لما قال بعضهم لبعض {فأْوُوا إِلَى الْكَهْف} أنهم أووا إليه. والتقدير: فأخذوا بتصيحته فأووا إلى الكهف. ودل عليه قوله في صدر القصة {إِذْ أَوَى الْفتْيَةُ إِلَى الْكَهْف} فرد عجز الكلام على صدره.
و {تزاور} مضارع مشتق من الزور بفتح الزاي، وهو الميل. وقرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر بفتح التاء وتشديد الزاي بعدها ألف وفتح الواو. وأصله: تتزاور بتاءين أدغمت تاء التفاعل في الزاي تخفيفا .
وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وخلف بتخفيف الزاي على حذف إحدى التاءين وهي تاء المضارعة للتخفيف اجتزاء برفع الفعل الدال على المضارعة. وقرأه ابن عامر ويعقوب {تزور} بفتح التاء بعدها زاي ساكنة وبفتح الواو وتشديد الراء بوزن تحمر. وكلها أبنية مشتقة من الزور بالتحريك، وهو الميل عن المكان، قال عنتره:
فازور من وقع القنا بلبانه
أي مال بعض بدنه إلى بعض وانقبض.
والإتيان بفعل المضارعة للدلالة على تكرر ذلك كل يوم.
و {تقرضهم} أي تنصرف عنهم. وأصل القرض القطع، أي أنها لا تطلع في كهفهم.
و {ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ} بمعنى صاحبة، وهي صفة لمحذوف يدل عليه الكلام، أي الجهة صاحبة اليمين. وتقدم الكلام على {ذات} عند قوله تعالى: {وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} في سورة الأنفال [1].

والتعريف في {اليمين} ، و {الشمال} عوض عن المضاف إليه، أي يمين الكهف وشماله، فيدل على أن فم الكهف كان مفتوحا إلى الشمال الشرقي، فالشمس إذا طلعت تطلع على جانب الكهف ولا تخترقه أشعتها، وإذا غربت كانت أشعتها أبعد عن فم الكهف منها حين طلوعها.
وهذا وضع عجيب يسره الله لهم بحكمته ليكون داخل الكهف بحالة اعتدال فلا ينتاب البلى أجسادهم، وذلك من آيات قدرة الله.
والفجوة: المتسع من داخل الكهف، بحيث لم يكونوا قريبين من فم الكهف. وفي تلك الفجوة عون على حفظ هذا الكهف كما هو.
{ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ الله}
الإشارة بقوله: {ذلك} إلى المذكور من قوله: { وَتَرَى الشَّمْسَ} .
وآيات الله: دلائل قدرته وعنايته بأوليائه ومؤيدي دين الحق.
والجملة معترضة في خلال القصة للتنويه بأصحابها.
والإشارة للتعظيم.
{مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً}
استئناف بياني لما اقتضاه اسم الإشارة من تعظيم أمر الآية وأصحابها.
وعموم {من} الشرطية يشمل المتحدث عنهم بقرينة المقام. والمعنى: أنهم كانوا مهتدين لأن الله هداهم فيمن هدى، تنبيها على أن تيسير ذلك لهم من الله هو أثر تيسيرهم لليسرى والهدى، فأبلغهم الحق على لسان رسولهم. ورزقهم أفهاما تؤمن بالحق. وقد تقدم الكلام على نظير {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فهُوَ الْمُهْتَدِ} ، وعلى كتابة {المهتد} بدون ياء في سورة الإسراء.
والمرشد: الذي يبين للحيران وجه الرشد، وهو إصابة المطلوب من الخير.
[18] {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً} .

{وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ}
عطف على بقية القصة، وما بينهما اعتراض. والخطاب فيه كالخطاب في قوله: {وَتَرَى الشَّمْسَ} [الكهف: 17]. وهذا انتقال إلى ما في حالهم من العبوة لمن لو رآهم من الناس مدمج فيه بيان كرامتهم وعظيم قدرة الله في شانهم، وهو تعجيب من حالهم لمن رآه من الناس.
ومعنى حسبانهم أيقاظا: أنهم في حالة تشبه حال اليقظة وتخالف حال النوم، فقيل: كانت أعينهم مفتوحة.
وصيغ فعل {تحسبهم} مضارعا للدلالة على أن ذلك يتكرر مدة طويلة.
والأيقاظ: جمع يقظ. بوزن كتف، وبضم القاف بوزن عضد.
والرقود: جمع راقد.
والتقليب: تغيير وضع الشيء من ظاهره إلى باطنه، قال تعالى: {فأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفيْهِ} [الكهف: 42].
و {ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ} أي إلى جهة أيمانهم وشمائلهم. والمعنى: أن الله أجرى عليهم حال الأحياء الأيقاظ فجعلهم تتغير أوضاعهم من أيمانهم إلى شمائلهم والعكس. وذلك لحكمة لعل لها أثرا في بقاء أجسامهم بحالة سلامة.
والإتيان بالمضارع للدلالة على التجدد بحسب الزمن المحكي. ولا يلزم أن يكونوا كذلك حين نزول الآية.
{وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ}
هذا يدل على أن تقليبهم لليمين وللشمال كرامة لهم بمنحهم حالة الأحياء وعناية بهم، ولذلك لم يذكر التقليب لكلبهم بل استمر في مكانه باسطا ذراعيه شأن جلسة الكلب.
والوصيد: مدخل الكهف، شبه بالباب الذي هو الوصيد لأنه يوصد ويغلق.
وعدم تقليب الكلب عن يمينه وشماله يدل على أن تقليبهم ليس من أسباب سلامتهم من البلى وإلا لكان كلبهم مثلهم فيه بل هو كرامة لهم. وقد يقال: إنهم لم يفنوا وأما كلبهم ففنى وصار رمة مبسوطة عظام ذراعيه.

{لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً}
الخطاب لغير معين، أي لو اطلعت عليهم أيها السامع حين كانوا في تلك الحالة قبل أن يبعثهم الله، إذ ليس في الكلام أنهم لم يزالوا كذلك زمن نزول الآية.
والمعنى: لو اطلعت عليهم ولم تكن علمت بقصتهم لحسبتهم لصوصا قطاعا للطريق، إذ هم عدد في كهف وكانت الكهوف مخابئ لقطاع الطريق، كما قال تأبط شرا:
أقول للحيان وقد صفرت لهم
وطابي ويومي ضيق الجحر معور
ففررت منهم وملكك الرعب من شرهم، كقوله تعالى: {وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفةً} [هود: 70]. وليس المراد الرعب من ذواتهم إذ ليس في ذواتهم ما يخالف خلق الناس، ولا الخوف من كونهم أمواتا إذ لم يكن الرعب من الأموات من خلال العرب، على أنه قد سبق {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ} .
والاطلاع: الإشراف على الشيء ورؤيته من مكان مرتفع، لأنه افتعال من طلع إذا ارتقى جبلا، فصيغ الافتعال للمبالغة في الارتقاء، وضمن معنى الإشراف فعدي بـ {على}، ثم استعمل مجازا مشهورا في رؤية الشيء الذي لا يراه أحد، وسيأتي ذكر هذا الفعل عند قوله تعالى: {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ} في سورة مريم [78], فضلا عن أن يكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. وفي "الكشاف" عن ابن عباس ما يقتضي ذلك وليس بصحيح.
وانتصب {فرارا} على المفعول المطلق المبين لنوع {وليت} .
و {ملئت} مبني للمجهول، أي ملاك الرعب وملا بتشديد اللام مضاعف ملا وقرئ بهما.
والملء: كون المظروف حالا في جميع فراغ الظرف بحيث لا تبقى في الظرف سعة لزيادة شيء من المظروف، فمثلت الصفة النفسية بالمظروف، ومثل عقل الإنسان بالظرف، ومثل تمكن الصفة من النفس بحيث لا يخالطها تفكير في غيرها بملء الظرف بالمظروف، فكان في قوله {ملئت} استعارة تمثيلية، وعكسه قوله تعالى: {وَأَصْبَحَ فؤَادُ أُمِّ مُوسَى فارِغاً} [القصص: 10].
وانتصب {رعبا} على تمييز النسبة المحول عن الفاعل في المعنى لأن الرعب هو الذي يملأ. فلما بني الفعل إلى المجهول لقصد الإحمال ثم التفصيل صار ما حقه أن يكون فاعلا تمييزا. وهو إسناد بديع حصل منه التفصيل بعد الإجمال، وليس تمييزا محولا

عن المفعول كما قد يلوح بادئ الرأي.
والرعب تقدم في قوله تعالى: {سَنُلْقِي في قُلُوبِ الَّذِينَ كَفرُوا الرُّعْبَ} في سورة آل عمران [151].
وقرأ نافع وابن كثير {ولملئت} بتشديد اللام على المبالغة في الملء. وقرأ الباقون بتخفيف اللام على الأصل.
وقرأ الجمهور {رعبا} بسكون العين.وقرأه ابن عامر والكسائي وأبو جعفر ويعقوب بضم العين.
[19-20] {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّف وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ في مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفلِحُوا إِذاً أَبَداً}
عطف لجزء من القصة الذي فيه عبرة لأهل الكهف بأنفسهم ليعلموا من أكرمهم الله به من حفظهم عن أن تنالهم أيدي أعدائهم بإهانة، ومن إعلامهم علم اليقين ببعض كيفية البعث، فإن علمه عظيم وقد قال إبراهيم: {رَبِّ أَرِنِي كَيْف تُحْيِي الْمَوْتَى} [البقرة: 260].
والإشارة بقوله: {وكذلك} إلى المذكور من إنامتهم وكيفيتها، أي كما أنمناهم قرونا بعثناهم. ووجه الشبه: أن في الإفاقة آية على عظيم قدرة الله تعالى مثل آية الإنامة.
ويجوز أن يكون تشبيه البعث المذكور بنفسه للمبالغة في التعجب كما تقدم في قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: 143].
وتقدم الكلام على معنى البعث في الآية المتقدمة، وفي حسن موقع لفظ البعث في هذه القصة، وفي التعليل من قوله: {ليتساءلوا} عند قوله {ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى} [الكهف:12]. والمعنى: بعثناهم فتساءلوا بينهم.
وجملة {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ} بيان لجملة {ليتساءلوا} . وسميت هذه المحاورة تساؤلا لأنهما تحاور عن تطلب كل رأي الآخر للوصول إلى تحقيق المدة. والذين قالوا: {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} هم من عدا الذي قال {كَمْ لَبِثْتُمْ} .

واسند الجواب إلى ضمير جماعتهم: إما لأنهم تواطأوا عليه، وإما على إرادة التوزسع، أي منهم من قال: لبثنا يوما، ومنهم من قال: لبثنا بعض يوم. وعلى هذا يجوز أن تكون {أو} للتقسيم في القول بدليل قوله بعد: {قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} ،أي لما اختلفوا رجعوا فعدلوا عن القول بالظن إلى تفويض العلم إلى الله تعالى، وذلك من كمال إيمانهم. فالقائلون {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} يجوز أن يكون جميعهم وهو الظاهر، ويجوز أن يكون قول بعضهم فأسند إليهم لأنهم رأوه صوابا.
وتفريع قولهم: {فابْعَثُوا أَحَدَكُمْ} على قولهم: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} لأنه في معنى فدعوا الخوض في مدة اللبث فلا يعلمها إلا الله وخذوا في شيء آخر مما يهمكم، وهو قريب من الأسلوب الحكيم. وهو تلقي السائل بغير ما يتطلب تنبيها على أن غيره أولى بحاله، ولولا قولهم: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} لكان قولهم: {فابْعَثُوا أَحَدَكُمْ} عين الأسلوب الحكيم.
والورق بفتح الواو وكسر الراء: الفضة. وكذلك قرأه الجمهور. ويقال ورق بفتح الواو وسكون الراء وبذلك قرأ أبو عمرو وحمزة وأبو بكر عن عاصم وروح عن يعقوب وخلف. والمراد بالورق هنا القطعة المسكوكة من الفضة، وهي الدراهم. قيل: كانت من دراهم دقيوس سلطان الروم.
والإشارة بهذه إلى دراهم معينة عندهم، والمدينة هي أبسس بالباء الموحدة. وقد قدمنا ذكرها في صدر القصة.
و {أيها} ما صدقه أي مكان من المدينة، لأن المدينة كل له أجزاء كثيرة منها دكاكين الباعة، أي فلينظر أي مكان منها هو أزكى طعاما، أي أزكى طعامه من طعام غيره.
والنصب {طعاما} على التمييز لنسبة {أزكى} إلى {أي}.
والأزكى: الأطيب والأحسن، لأن الزكو الزيادة في الخير والنفع.
والرزق: القوت. وقد تقدم عند قوله تعالى: {قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ} سورة يوسف[37], في سورة يوسف، والفاء لتفريع أمرهم من يبعثونه بأن يأتي بطعام زكي وبأن يتلطف.
وصيغة الأمر في قوله {فليأتكم} و {ليتلطف} أمر لأحد غير معين سيوكلونه، أي أن تبعثوه يأتكم برزق، ويجوز أن يكون المأمور معينا بينهم وإنما الإجمال في حكاية

كلامهم لا في الكلام المحكي. وعلى الوجهين فهم مأمورون بأن يوصوه بذلك.
قيل التاء من كلمة {وَلْيَتَلَطَّف} هي نصف حروف القرآن عدا. وهنالك قول اقتصر عليه ابن عطية هو أن النون من قوله تعالى: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً} [الكهف: 74] هي نصف حروف القرآن.
والإشعار: الإعلام، وهو إفعال منشعر من باب نصر وكرم شعورا، أي علم. فالهمزة للتعدية مثل همزة {أعلم} من علم الذي هو عليم العرفان يتعدى إلى واحد.
وقوله: {بكم} متعلق بـ {يشعرن} . فمدخول الباء هو المشعور، أي المعلوم. والمعلوم إنما يكون معنى من المعاني ما علق الضمير المجرور بفعل {يشعرن} من قبيل تعليق الحكم بالذات. والمراد بعض أحوالها. والتقدير: ولا يخبرن بوجودكم أحدا. فهنا مضاف محذوف دلت عليه دلالة الاقتضاء فيشمل جميع أحوالهم من عددهم ومكانهم وغير ذلك. والنون لتوكيد النهي تحذيرا من عواقبه المضمنة في جملة {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ} [الكهف: 20] الواقعة تعليلا للنهي، وبيانا لوجه توكيد النهي بالنون. فهي واقعة موقع العلة والبيان، وكلاهما يقتضي فصلها عما قبلها.
وجملة {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ} علة للأمر بالتلطف والنهي عن إشعار أحد بهم.
وضمير {إنهم} عائد إلى ما أفاده العموم في قوله {وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً} ،فصار {أحدا} في معنى جميع الناس على حكم النكرة في سياق شبه النهي.
والظهور أصله: البروز دون سائر. ويطلق على الظفر بالشيء، وعلى الغلبة على الغير، وهو المراد هنا.
قال تعالى: {أَوِ الطِّفلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور: 31] وقال {وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ} [التحريم: 3] وقال {تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [البقرة: 85].
والرجم: القتل برمي الحجارة على المرجوم حتى يموت، وهو قتل إذلال وإهانة وتعذيب.
وجملة {يَرْجُمُوكُمْ} جواب شرط {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا} .ومجموع جملتي الشرط

وجوابه دليل على خبر {إن} المحذوف لدلالة الشرط وجوابه عليه.
ومعنى {يُعِيدُوكُمْ في مِلَّتِهِمْ} يرجعلوكم إلى الملة التي هي من خصائصهم، أي لا يخلو أمرهم عن أحد الأمرين إما إرجاعكم إلى دينهم أو قتلكم.
والملة. الدين. وقد تقدم في سورة يوسف [37] عند قوله: {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} .
وأكد التحذير من الإرجاع إلى ملتهم بأنها يترتب عليها انتفاء فلاحهم في المستقبل، لما دلت عليه حرف {إذا} من الجزائية.
و {أبدا} ظرف للمستقبل كله. وهو تأكيد لما دل عليه النفي بـ{لن} من التأييد أو ما يقاربه.
[21] {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} .
{وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فيهَا}
انتقل إلى جزء القصة الذي هو موضع عبرة أهل زمانهم بحالهم وانتفاعهم وباطمئنان قلوبهم لوقوع البعث يوم القيامة بطريقة التقريب بالمشاهدة وتأييد الدين بما ظهر من كرامة أنصاره.
وقد كان القوم الذين عثروا عليهم مؤمنين مثلهم، فكانت آيتهم آية تثبيت وتقوية إيمان.
فالكلام عطف على قوله: {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ} [الكهف: 19] الآية.
والقول في التشبيه والإشارة في {وَكَذَلِكَ} نظير القول في الذي قبله آنفا.
والعثور على الشيء: الاطلاع عليه والظفر به بعد الطلب. وقد كان الحدث عن أهل الكهف في تلك المدينة يتناقله أهلها فيسر الله لأهل المدينة العثور عليهم للحكمة التي في قوله: {لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حق} الآية.
ومفعول {أعثرنا} محذوف دل عليه عموم {وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً} [الكهف:

20].تقديره: أعثرنا أهل المدينة عليهم.
وضمير {ليعلموا} عائد إلى المفعول المحذوف المقدر لأن المقدر كالمذكور.
ووعد الله هو إحياء الموتى للبعث. وأما علمهم بأن الساعة لا ريب فيها. أي ساعة الحشر، فهو إن صار علمهم بذلك عن مشاهدة تزول بها خواطر الخفاء التي تعتري المؤمن في اعتقاده حين لا يتصور كيفية العقائد السمعية وما هو بريب في العلم ولكنه في الكيفية، وهو الوارد فيه أنه لا يخطر إلا لصديق ولا يدوم إلا عند زنديق.
{إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ}
الظرف متعلق بـ {أعثرنا} ، أي أعثرنا عليهم حين تنازعوا أمرهم. وصيغ ذلك بصيغة الظرفية للدلالة على اتصال التنازع في أمر أهل الكهف بالعثور عليهم بحيث تبادروا إلى الخوض في كرامة يجعلونها لهم. وهذا إدماج لذكر نزاع جرى بين الذين اعتدوا عليهم في أمور شتى جمعها قوله تعالى: {أمرهم} فضمير {يتنازعون} و {بينهم} عائدان إلى ما عاد الله ضمير {ليعلموا} .
وضمير {أمرهم} يجوز أن يعود إلى أصحاب الكهف. والأمر هنا بمعنى الشأن.
والتنازع: الجدال القوي، أي يتنازع أهل المدينة بينهم شأن أهل الكهف، مثل: أكانوا نياما أم أمواتا، وأيبقون أحياء أم يموتون، وأيبقون في ذلك الكهف أم يرجعون إلى سكنى المدينة، وفي مدة مكثهم.
ويجوز أن يكون ضمير {أمرهم} عائدا إلى ما عاد عليه ضمير {يتنازعون} . أي شأنهم فيما يفعلونه بهم.
والإتيان بالمضارع لاستحضار حالة التنازع.
[21] {فقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً}
طوي هنا وصف العثور عليهم، وذكر عودهم إلى الكهف لعدم تعلق الغرض بذكره، إذ ليس موضع عبرة لأن المصير إلى مرقدهم وطرو الموت عليهم شأن معتاد لكل حي.
وتفريع {فقالوا} على {يتنازعون} .

وإنما ارتأوا أن يبنوا عليهم بنيانا لأنهم خشوا عليهم من تردد الزائرين غير المتأدبين، فلعلهم أن يؤذوا أجسادهم وثيابهم باللمس والتقليب، فأرادوا أن يبنوا عليهم بناء يمكن غلق بابه وحراسته.
وجملة {رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ} يجوز أن تكون من حكاية كلام الذين قالوا، ابنوا عليهم بنيانا. والمعنى: ربهم أعلم بشؤونهم التي تنزعنا فيها، فهذا تنهية للتنازع في أمرهم. ويجوز أن تكون معترضة من كلام الله تعالى في أثناء حكاية تنازع الذين أعثروا عليهم، أي رب أهل الكهف أو رب المتنازعين في أمرهم أعلم منهم بواقع ما تنازعوا فيه.
والذين غلبوا على أمرهم ولاة الأمور بالمدينة، فضمير {أمرهم} يعود إلى ما عاد إليه ضمير {فقالوا} ،أي الين غلبوا على أمر القائلين: ابنوا عليهم بنيانا.
وإنما رأوا أن يكون البناء مسجدا ليكون إكراما لهم ويدوم تعهد الناس كهفهم. وقد كان اتخاذ المساجد على قبور الصالحين من سنة النصارى، ونهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث يوم وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت عائشة رضي الله عنها: ولولا ذلك لأبرز قبره، أي لأبرز في المسجد النبوي ولم يجعل وراء جدار الحجرة.
واتخاذ المساجد على القبور، والصلاة فيها منهي عنه، لأن ذلك ذريعة إلى عبادة صاحب القبر أو شبيه بفعل من يعبدون صالحي ملتهم. وإنما كانت الذريعة مخصوصة بالأموات لأن ما يعرض لأصحابهم من الأسف على فقدانهم يبعثهم على الإفراط فيما يحسبون أنه إكرام لهم بعد موتهم، ثم يتناسى الأمر ويظن الناس أن ذلك لخاصية في ذلك الميت. وكان بناء المساجد على القبور سنة لأهل النصرانية، فإن كان شرعا لهم فقد نسخه الإسلام، وإن كان بدعة منهم في دينهم فأجدر.
[22] {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً}
{سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ}
لما شاعت قصة أهل الكهف حين نزل بها القرآن صارت حديث النوادي، فكانت

مثار تخرصات في معرفة عددهم، وحصر مدة مكثهم في كهفهم، وربما أملى عليهم المتنصرة من العرب في ذلك قصصا، وقد نبههم القرآن إلى ذلك وأبهم على عموم الناس الإعلام بذلك لحكمة، وهي أن تتعود الأمة بترك الاشتغال فيما ليست منه فائدة للدين أو للناس، ودل علم الاستقبال على أن الناس لا يزالون يخوضون في ذلك.
وضمير {يقولون} عائد إلى غير مذكور لأنه معلوم من المقام، أي يقول الناس أو المسلمون، إذ ليس في هذا القول حرج ولكنهم نبهوا إلى أن جميعه لا حجة لهم فيه. ومعنى سين الاستقبال سار إلى الفعلين المعطوفين على الفعل المقترن بالسين، وليس في الانتهاء إلى عدد الثمانية إيماء إلى أنه العدة في نفس الأمر.
وقد أعلم الله أن قليلا من الخلق يعلمون عدتهم وهم من أطلعهم الله على ذلك. وفي مقدمتهم محمد صلى الله عليه وسلم لأن قصتهم جاءت على لسانه فلا شك أن الله أطلعه على عدتهم. وروي أن ابن عباس قال: أنا من القليل.
وكأن أقوال الناس تمالأت عل أن عدتهم فردية تيمنا بعدد المفرد، وإلا فلا دليل على ذلك دون غيره، وقد سمى الله قولهم ذلك رجما بالغيب.
والرجم حقيقته: الرمي بحجر ونحوه. واستعير هنا لرمي الكلام من غير روية ولا تثبت، قال زهير:
وما هو عنها بالحديث المرجم.
والباء في {بالغيب} للتعدية، كأنهم لما تكلموا عن أمر غائب كانوا يرجمون به.
وكل جملة {رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} وجملة {سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ} في موضع الصفة لاسم العدد الذي قبلها، أو موضع الخبر الثاني عن المبتدأ المحذوف.
وجملة {وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} الواو فيها واو الحال، وهي في موضع الحال من المبتدأ المحذوف، أو من اسم العدد الذي هو خبر المبتدأ، وهو إن كان نكرة فإن وقوعه خبر على معرفة أكسبه تعريفا. على أن وقوع الحال جملة مقترنة بالواو قد عد من مسوغات مجيء الحال من النكرة. ولا وجه لجعل الواو فيه داخلة على جملة هي صفة للنكرة لقصد تأكيد لصوق الصفة بالموصوف كما ذهب إليه في "الكشاف" لأنه غير معروف في فصيح الكلام: وقد رده السكاكي في المفتاح وغير واحد.

ومن غرائب فتن الابتكار في معاني القرآن قول من زعم: إن هذه الواو. واو الثمانية، وهو منسوب في كتب العربية إلى بعض ضعفه النحاة ولم يعين مبتكره. وقد عد ابن هشام في "مغني اللبيب" من القائلين بذلك الحريري وبعض ضعفة النحاة كابن خالويه والثعلبي من المفسرين.
قلت: أقدم هؤلاء هو ابن خالويه النحوي المتوفى سنة370 فهو المقصود ببعض ضعفه النحاة. وأحسب وصفه بهذا الوصف أخذه ابن هشام من كلام ابن المنير في "الانتصاف على الكشاف" من سورة التحريم إذ روي عن ابن الحاجب: أن القاضي الفاضل كان يعتقد أن الواو في قوله تعالى {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً} [التحريم: 5] في سورة التحريم هي الواو التي سماها بعض ضعفة النحاة واو الثمانية. وكان القاضي يتبجح باستخراجها زائدة على المواضع الثلاثة المشهورة، أحدها: التي في الصفة الثامنة في قوله تعالى: {وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة: 112] في سورة براءة. والثانية: في قوله: {وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} . والثالثة: في قوله: {وَفتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73] في الزمر. قال ابن الحاجب ولم يزل الفاضل يستحسن ذلك من نفسه إلى أن ذكره يوما بحضرة أبي الجود النحوي المقري، فبين له أنه واهم في عدها من ذلك القبيل وأحال البيان على المعنى الذي ذكره الزمخشري من دعاء الضرورة إلى الإتيان بالواو هنا لامتناع اجتماع الصفتين في موصوف واحد آخره.
وقال في "المغنى" : سبق الثعلبي الفاضل إلى عدها من المواضع في تفسيره. وأقول: لعل الفاضل لم يطلع عليه. وزاد الثعلبي قوله تعالى: {سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً} [الحاقة: 7] في سورة الحاقة حيث قرن اسم عدد ثمانية بحرف الواو.
ومن غريب الاتفاق أن كان لحقيقة الثمانية اعتلاق بالمواضع الخمسة المذكورة من القرآن إما بلفظة كما هنا وآية الحاقة، وإما بالانتهاء إليه كما في آية براءة وآية التحريم، وإما بكون مسماه معدودا بعدد الثمانية كما في آية الزمر. ولقد بعد الانتباه إلى ذلك من اللطائف، ولا يبلغ أن يكون من المعرف. وإذا كانت كذلك ولم يكن لها ضابط مضبوط فليس من البعيد عد القاضي الفاضل منها آية سورة التحريم لأنها صادفت الثامنة في الذكر وإن لم تكن ثامنة من صفات الموصوفين، وكذلك لعد آية سورة الحاقة، ومثل هذه اللطائف كالزهرة تشم ولا تحك.
وقد تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى: {وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ} في سورة براءة [112].

وجملة {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ} مستأنفة استئنافا بيانيا لما تثيره جملة {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ} إلى آخرها من ترقب تعيين ما يعتمد عليه من أمر عدتهم. فأجيب بأن بحال العلم بذلك على علام الغيوب. وإسناد اسم التفضيل إلى الله تعالى يفيد أن علم الله بعدتهم هو العلم الكامل وأن علم غيره مجرد ظن وحدس قد يصادف الواقع وقد لا يصادفه.
وجملة {مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ} كذلك مستأنفة استئنافا بيانيا لأن الإخبار عن الله بأنه الأعلم يثير في نفوس السامعين أن يسألوا: هل يكون بعض الناس عالما بعدتهم علما غير كامل. فأجيب بأن قليلا من الناس يعلمون ذلك ولا محالة هم من أطلعهم الله على ذلك بوحي وعلى كل حال فهم لا يوصفون بالأغلبية لأن علمهم مكتسب من جهة الله الأعلم بذلك.
{فلا تُمَارِ فيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِراً وَلا تَسْتَفتِ فيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً}
تفريع على الاختلاف في عدد أهل الكهف، أي إذا أراد بعض المشركين المماراة في عدة أهل الكهف لأخبار تلقوها من أهل الكتاب أو لأجل طلب تحقيق عدتهم فلا تمارهم إذ هو اشتغال بما ليس فيه جدوى. وهذا التفريع وما عطف عليه معترض في أثناء القصة.
والتماري: تفاعل مشتق من المرية، وهي الشك. واشتقاق المفاعلة يدل على أنها إيقاع من الجانبين في الشك، فيؤول إلى معنى المجادلة في المعتقد لإبطاله وهو يفضي إلى الشك فيه، فأطلق المراء على المجادلة بطريق المجاز، ثم شاع فصار حقيقة لما ساوى الحقيقة. والمراد بالمراء فيهم: المراء في عدتهم كما هو مقتضى التفريع.
والمراء الظاهر: هو الذي لا سبيل إلى إنكاره ولا يطول الخوض فيه. وذلك مثل قوله: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ} وقوله: {مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ} ، فإن هذا مما لا سبيل إلى إنماره وإبايته لوضوح حجته وما وراء ذلك محتاج إلى الحجة فلا ينبغي الاشتغال به لقلة جدواه.
والاستفتاء: طلب الفتوى، وهي الخبر عن أمر علمي مما لا يعلمه كل أحد. ومعنى {فيهم} أي في أمرهم، أي أمر أهل الكهف. والمراد من النهي عن استفنائهم الكناية عن جهلهم بأمر أهل الكهف، فضمير {منهم} عائد إلى عاد إليه ضمير {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ} ،

وهم أهل مكة الدين سألوا عن أمر أهل الكهف.
أو يكون كناية رمزية عن حصول علم النبي صلى الله عليه وسلم بحقيقة أمرهم بحيث هو غني عن استفتاء أحد، وأنه لا يعلم المشركين بما علمه الله من شأن أهل الكهف، وتكون (من) تعليلية، والضمير المجرور بها عائدا إلى السائلين المتعنتين، أي لا تسأل علم ذلك من أجل حرص السائلين على أن تعلمهم بيقين أمر أهل الكهف فإنك علمته ولم تؤمر بتعليمهم إياه، ولو لم يحمل النهي على هذا المعنى لم يتضح له وجه. وفي التقييد بـ {منهم} محترز ولا يستقيم جعل ضمير {منهم} عائدا إلى أهل الكتاب، لأن هذه الآيات مكية باتفاق الرواة والمفسرين.
[23-24] {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً}
{وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}
عطف على الاعتراض. ومناسبة موقعه هنا ما رواه ابن إسحاق والطبري في أول هذه السورة والواحدي في سورة مريم: أن المشركين لما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل الكهف وذي القرنين وعدهم بالجواب عن سؤالهم من الغد ولم يقل: (إن شاء الله)، فلم يأته جبريل عليه السلام بالجواب إلا بعد خمسة عشر يوما. وقيل: بعد ثلاثة أيام كما تقدم، أي فكان تأخير الوحي إليه بالجواب عتابا رمزيا من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم كما عاتب سليمان عليه السلام فيما رواه البخاري: أن سليمان قال: لأطوفن الليلة على مائدة امرأة تلد كل واحدة ولدا يقاتل في سبيل الله فلم تحمل منهن إلا واحدة ولدت شق غلام. ثم كان هذا عتابا صريحا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أهل الكهف وعد بالإجابة ونسي أن يقول: (إن شاء الله)كما نسي سليمان، فأعلم الله رسوله بقصة أهل الكهف، ثم نهاه عن أن يعد بفعل شيء دون التقييد بمشيئة الله.
وقوله: {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} استثناء حقيقي من الكلام الذي قبله. وفي كيفية نظمه اختلاف للمفسرين، فمقتضى كلام الزمخشري أنه من بقية جملة النهي، أي هو استثناء من حكم النهي، أي لا تقولن: إني فاعل الخ... إلا أن يشاء الله أن تقوله. ومشيئة الله تعلم من إذنه بذلك، فصار المعنى: إلا أن بأذن الله لك بأن تقوله. وعليه فالمصدر المسبك من {أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} مستثنى من عموم المنهيات وهو من كلام الله تعالى. ومفعول {يَشَاءَ اللَّهُ}

محذوف دل عليه ما قبله كما هو شأن فعل المشيئة. والتقدير: إلا قولا شاءه الله فأنت غير منهي عن أن تقوله.
ومقتضى كلام الكسائي والأخفش والفراء أنه مستثنى من جملة {إِنِّي فاعِلٌ ذَلِكَ غَداً} فيكون مستثنى من كلام النبي صلى الله عليه وسلم المنهي عنه. أي إلا قولا مقترنا ب(إن شاء الله) فيكون المصدر المنسبك من أن والفعل في محل نصب على نزع الخافض وهو باء الملابسة. والتقدير: إلا ب(إن يشاء الله) أي بما يدل على ذكر مشيئة الله، لأن ملابسة القول حقيقة المشيئة محال. فعلم أن المراد تلبسه بذكر المشيئة بلفظ(إن شاء الله) ونحوه. فالمراد بالمشيئة إذن الله له.
وقد جمعت هذه الآية كرامة للنبي صلى الله عليه وسلم من ثلاث جهات:
الأولى: أنه أجاب سؤله، فبين لهم ما سألوه إياه على خلاف عادة الله مع المكابرين.
الثانية: أنه علمه علما عظيما من أدب النبوة.
الثالثة: أنه ما علمه ذلك إلا بعد أن أجاب سؤله استئناسا لنفسه أن لا يبادره بالنهي عن ذلك قبل أن يجيبه، كيلا يتوهم أن النهي يقتضي الإعراض عن إجابة سؤاله، وكذلك شأن تأديب الحبيب المكرم. ومثاله ما في الصحيح: أن حكيم بن حزام قال: " سألت رسول الله فأعطاني ثم سألته فأعطاني ثم سألته فأعطاني، ثم قال: يا حكيم إن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذة بسخاوة نفس بورك له فيه ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه وكان كالذي يأكل ولا يشبع واليد العليا خير من اليد السفلى. قال حكيم: يا رسول الله والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحدا بعدك شيئا حتى أفارق الدنيا" . فعلم حكيم أن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم له ذلك ليس القصد منه منعه من سؤله وإنما قصد منه تخليقه بخلق جميل، فلذلك أقسم حكيم: أن لا يأخذ عن أحد غير رسول الله شيئا. ولم يقل: لا أسألك بعد هذه المرة شيئا.
فنظم الآية أن اللام في قوله: {لشي} ليست اللام التي يتعدى بها فعل القول إلى المخاطب بل هي لام العلة، أي لا تقولن: إني فاعل كذا لأجل شيء تعد به، فاللام بمنزلة في.
و {شيء} اسم متوغل في التنكير يفسره المقام، أي الشيء تريد أن تفعله.

والإشارة بقوله: {ذلك} عائدة إلى {شيء} ، أي أني فاعل الإخبار بأمر يسألونه.
و {غدا} مستعمل في المستقبل مجازا. وليست كلمة {غدا} مرادا بها اليوم الذي يلي يومه، ولكنه مستعمل في معنى الزمان المستقبل، كما يستعمل اليوم بمعنى زمان الحال، والأمس بمعنى زمن الماضي. وقد جمعها قول زهير:
وأعلم علم اليوم والأمس قبله
ولكنني عن علم ما في غد عم
وظاهر الآية اقتصار إعمالها على الإخبار بالعزم على فعل في المستقبل دون ما كان من الكلام إنشاء مثل اإيمان، فلذلك اختلف فقهاء الأمصار في شمول هذه الآية لإنشاء الأيمان ونحوها، فقال جمهورهم: يكون ذكر {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} حلا لعقد اليمين يسقط وجوب الكفارة. ولعلهم أخذوه من معنى (شيء) في قوله: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذَلِكَ غَداً} الخ: بحيث إذا أعقبت اليمين بقول: {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} ونحوه لم يلزم البر في اليمين. وروي ابن القاسم وأشهب وابن عبد الحكم عن مالك أن قوله {ولا تقولن لشيء إني فاعل} الخ.. إنما قصد بذلك ذكر الله عند السهو وليس باستثناء. يعني أن حكم الثنيا في الأيمان لا يؤخذ من هذه الآية بل هو مما ثبت بالسنة. ولذلك لم يخالف مالك في إعمال الثنيا في اليمين، وهي قول (إن شاء الله). وهذا قول ابن حنيفة والشافعي.
{وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ}
عطف على النهي، أي لا تعد بوعد فإن نسيت فقلت: إني فاعل، فاذكر ربك، أي اذكر ما نهاك عنه. والمراد بالتذكير التدارك وهو هنا مشتق من الذكر بضم الذال وهو كناية عن لازم التذكر، وهو الامتثال، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أفضل من ذكر الله باللسان ذكر الله عند أمره ونهيه.
وفي تعريف الجلالة بلفظ الرب مضافا إلى ضمير المخاطب دون اسم الجلالة العلم من كمال الملاطفة ما لا يخفى.
وحذف مفعول {نسيت} لظهوره من المقام، أي إذا نسيت النهي فقلت: إني فاعل. وبعض الذين أعملوا به آية {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} في حل الأيمان بذكر الاستثناء بمشيئة الله جعلوا قوله: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} ترخيصا في تدارك الثنيا عند تذكر ذلك، فمنهم من لم يحد ذلك بمدة. وعن ابن عباس: لا تحديد بمدة بل ولو طال ما بين اليمين والثنيا.

والجمهور على أن قوله: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} لا دلالة فيه على جواز تأخير الثنيا، واستدلوا بأن السنة وردت بخلافة.
{وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً}
لما أبر الله وعد نبيه صلى الله عليه وسلم الذي وعده المشركين أن يبين لهم أمر أهل الكهف فأوحاه إليه وأوقفهم عليه، أعقب ذلك بعتابه على التصدي لمجاراتهم في السؤال عما هو خارج عن غرض الرسالة دون إذن من الله، وأمره أن يذكر نهي ربه. ويعزم على تدريب نفسه على إمساك الوعد ببيان ما يسأل منه بيانه دون أن يأذنه الله به، أمره هنا أن يخبر سائليه بأنه ما بعث للاشتغال بمثل ذلك، وأنه يرجوا أن الله يهديه إلى ما هو أقرب إلى الرشد من بيان أمثال هذه القصة وإن كانت هذه القصة تشتمل على موعظة وهدى ولكن الهدى الذي في بيان الشريعة أعظم وأهم. والمعنى: وقل لهم عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشدا.
فجملة {وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ} الخ.. معطوفة على جملة {فلاَ تُمَارِ فيهِمْ} . ويجوز أن تكون جملة {وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ} عطفا على جملة {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} ، أي اذكر أمره ونهيه وقل في نفسك: عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشدا، أي ادع الله بهذا.
وانتصب {رشدا} على تمييز نسبة التفضيل من قوله: {لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا} ويجوز أن يكون منصوبا على أنه مفعول مطلق مبين لنوع فعل {أَنْ يَهْدِيَنِ} لأن الرشد نوع من الهداية.
فـ {عسى} مستعملة في الرجاء تأدبا، واسم الإشارة عائد إلى المذكور من قصة أهل الكهف بقرينة وقوع هذا الكلام معترضا في أثنائها.
ويجوز أن يكون المعنى: وارج من الله أن يهديك فيذكرك أن لا تعيد وعدا ببيان شيء دون إذن الله.
والرشد بفتحتين الهدى والخير. وقد تقدم القول فيه عند قوله تعالى في هذه السور {وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً} [الكهف: 10].

[25] {وَلَبِثُوا في كَهْفهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً}
رجوع إلى بقية القصة بعد أن تخلل الاعتراض بينها بقوله {فلاَ تُمَارِ فيهِمْ} إلى قوله {رشدا} [الكهف: 22-24].
فيجوز أن تكون جملة {وَلَبِثُوا} عطفا على مقولهم في قوله: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22]. أي ويقولون: لبثوا في كهفهم، ليكون موقع قوله: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا} [الكهف: 26] كموقع قوله السابق: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ} [الكهف: 22]، وعليه فلا يكون هذا إخبار عن مدة ليثهم. وعن ابن مسعود أنه قرأ {وقالوا لَبِثُوا في كَهْفهِمْ} إلى آخره، فذلك تفسير لهذا العطف.
ويجوز أن يكون العطف على القصة كلها. والتقدير: وكذلك أعثرنا عليهم إلى آخره، وهم لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنة وتسع سنين.
وعلى اختلاف الوجهين يختلف المعنى في قوله: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا} [الكهف: 26] كما سيأتي. ثم إن الظاهر أن القرآن أخبر بمدة لبث أهل الكهف في كهفهم، وأن المراد لبثهم الأول قبل الإفاقة وهو المناسب لسبق الكلام على اللبث في قوله: {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} [الكهف: 19]، وقد قدما عند قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْف وَالرَّقِيمِ} [الكهف: 9] الخ... أن مؤرخي النصارى يزعمون أن مدة نومة أهل الكهف مائتان وأربعون سنة. وقيل: المراد لبثهم من وقت موتهم الأخير إلى زمن نزول هذه الآية.
والمعنى: أن يقدر لبثهم بثلاثمائة وتسع سنين. فعبر عن هذا العدد بأنه ثلاثمائة سنة وزيادة تسع. ليعلم أن التقدير بالسنين القمرية المناسبة لتاريخ العرب والإسلام مع الإشارة إلى موافقة ذلك المقدار بالسنين الشمسية التي بها تاريخ القوم الذين منهم أهل الكهف وهم أهل بلاد الروم. قال السهيلي في "الروض الأنف" : النصارى يعرفون حديث أهل الكهف ويؤرخون به. وأقول: واليهود الذين لقنوا قريشا السؤال عنهم يؤرخون الأشهر بحساب القمر ويؤرخون السنين بحساب الدورة الشمسية. فالتفاوت بين أيام السنة القمرية وأيام السنة الشمسية يحصل منه سنة قمرية كاملة في كل ثلاث وثلاثين سنة شمسية، فيكون التفاوت في مائة سنة شمسية بثلاث سنين زائدة قمرية. كذا نقله ابن عطية عن النقاش المفسر. وبهذا تظهر نكتة التعبير عن التسع السنين بالازدياد. وهذا من علم القرآن

وإعجازه العلمي الذي لم يكن لعموم العرب علم به.
وقرأ الجمهور {ثلاثمائة} بالتنوين. وانتصب {سنين} على البدلية من اسم العدد على رأي من يمنع مجيء تمييز المائة منصوبا، أو هو تمييز عند من يجيز ذلك.
وقرأه حمزة والكسائي وخلف بإضافة مائة إلى سنين على أنه تمييز للمائة. وقد جاء تمييز المائة جمعا، وهو نادر لكنه فصيح.
[26] {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ في حُكْمِهِ أَحَداً}
إن كان قوله تعالى: {وَلَبِثُوا في كَهْفهِمْ} [الكهف: 25] إخبارا من الله عن مدة لبثهم يكون قوله {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ} قطعا للمماراة في مدة لبثهم المختلف فيها بين أهل الكتاب، أي الله أعلم منكم بمدة لبثهم.
وإن كان قوله: {ولبثوا} حكاية عن قول أهل الكتاب في مدة لبثهم كان قوله: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا} تفويضا إلى الله في علم ذلك كقوله: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ} [الكهف: 22].
وغيب السماوات والأرض ما غاب علمه عن الناس من موجودات السماوات والأرض وأحوالهم. واللام في {لله} للملك. وتقديم الخبر المجرور لإفادة الاختصاص، أي لله لا لغيره، ردا على الذين يزعمون علم خبر أهل الكهف ونحوهم.
و {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} صيغتا تعجيب من عموم علمه تعالى بالمغيبات من المسموعات والمبصرات، وهو العلم الذي لا يشاركه فيه أحد.
وضمير الجمع في قوله: {مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ} يعود إلى المشركين الذين الحديث معهم. وهو إبطال لولاية آلهتهم بطريقة التنصيص على عموم النفي بدخول {من} الزائدة على النكرة المنفية.
وكذلك قوله: {وَلا يُشْرِكُ في حُكْمِهِ أَحَداً} هو رد على زعمهم بأن الله اتخذ آلهتهم شركاء له في ملكه.
وقرأ الجمهور {ولا يشرك} برفع {يشرك} وبياء الغيبة. والضمير عائد إلى اسم الجلالة في قوله {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ} . وقرأه ابن عامر بتاء الخطاب وجزم و {يشرك}

على أن {لا} ناهية. والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم مراد به أمته، أو الخطاب لكل من يتلقاه.
وهنا انتهت قصة أصحاب الكهف بما تخللها، وقد أكثر المفسرون من رواية الأخبار الموضوعة فيها.
[27] {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً}
عطف على جملة {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا} [الكهف:26] بما فيها من قوله: {مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ في حُكْمِهِ أَحَداً} [الكهف:26].
والمقصود من هذا الرد على المشركين إذ كانوا أيامئذ لا يبين لهم شيء إلا وانتقلوا إلى طلب شيء آخر فسألوا عن أهل الكهف وعن ذي القرنين، وطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل بعض القرآن للثناء عليهم، ونحو ذلك، كما تقدم ذلك عند قوله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً} [الاسراء: 73].
والمعنى: لا تعبأ بهم إن كرهوا تلاوة بعض ما أوحى إليك واتل جميع ما أوحى إليك فإنه لا مبدل له. فلما وعدهم الجواب عن الروح وعن أهل الكهف وأبر الله وعده إياهم قطعا لمعذرتهم ببيان إحدى المسألتين ذيل ذلك بأن أمر نبيه أن يقرأ القرآن كما أنزل عليه وأنه لا مبدل لكلمات الله، ولكي لا يطمعهم الإجابة عن بعض ما سألوه بالطمع في أن يجيبهم عن كل ما طلبوه.
وأصل النفي بـ {لا} النافية للجنس أنه نفي وجود اسمه. والمراد هنا نفي الإذن في أن يبدل أحد كلمات الله.
والتبديل: التغيير بالزيادة والنقص. أي بإخفاء بعضه بترك تلاوة ما لا يرضون بسماعه من إبطال شركهم وضلالهم. وهذا يؤذن بأنهم طعنوا في بعض ما اشتملت عليهم القصة في القرآن كما أشار إليه قوله: {سَيَقُولُونَ ثَلاَثَةٌ} وقوله: {وَلَبِثُوا في كَهْفهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ} [الكهف: 25].
وقد تقدم نظير هذا عند قوله تعالى: {وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} في سورة الأنعام [34].
فالأمر في قوله: {واتل} كناية عن الاستمرار. و {مَا أُوحِيَ} مفيد للعموم، أي كل

ما أوحي إليك، ومفهوم الموصول أن ما لم يوح إليه لا يتلوه. وهو ما اقترحوا أن يقوله في الثناء عليهم وإعطائهم شطرا من التصويب.
والتلاوة: القراءة. وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} في سورة البقرة [102] وقوله: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} في الأنفال [2].
والملتحد: اسم مكان ميمي يجيء على زنة اسم المفعول من فعله. والملتحد: مكان الالتحاد، والالتحاد: الميل إلى جانب. وجاء بصيغة الافتعال لأن أصله تكلف الميل. ويفهم من صيغة التكلف أنه مفر من مكروه يتكلف الخائف أن يأوي إليه. فلذلك كان الملتحد بمعنى الملجأ. والمعنى: لن تجد شيئا ينجيك من عقابه. والمقصود من هذا تأييسهم مما طمعوا فيه.
[28] {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف: 28].
{وَاصْبِرْ نَفسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}
هذا من ذيول الجواب عن مسألتهم عن أهل الكهف. فهو مشارك لقوله: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ} [الكهف: 27].الآية. وتقدم في سورة الأنعام [52] عند قوله تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} أن سادة المشركين كانوا زعموا أنه لولا أن من المؤمنين ناسا أهل خصاصة في الدنيا وأرقاء لا يدانوهم ولا يستأهلون الجلوس معهم لأتوا إلى مجالسة النبي صلى الله عليه وسلم واستمعوا القرآن، فاقترحوا عليه أن يطردهم من حوله إذا غشيه سادة قريش، فرد الله عيهم بما في سورة الأنعام وما في هذه السورة.
وما هنا آكد إذ أمره بملازمتهم بقوله: {وَاصْبِرْ نَفسَكَ} ، أي احبسها معهم حبس ملازمة.
والصبر: الشد بالمكان بحيث لا يفارقه. ومنه سميت المصبورة وهي الدابة تشد لتجعل غرضا للرمي. ولتضمين فعل {اصبر} معنى الملازمة علق به ظرف {مع}.

و {الغداة} قرأه الجمهور بألف بعد الدال: اسم الوقت الذي بين الفجر وطلوع الشمس. والعشي: المساء والمقصود أنهم يدعون الله دعاء متخللا سائر اليوم والليلة. والدعاء: المناجاة والطلب. والمراد به ما يشمل الصلوات.
والتعبير عنهم بالموصول للإيماء إلى تعليل الأمر بملازمتهم، أي لأنهم أحرياء بذلك لأجل إقبالهم على الله فهم الأجدر بالمقارنة والمصاحبة. وقرأ ابن عامر {بالغدوة} بسكون الدال وواو بعد الدال مفتوحة وهو مرادف الغداة.
وجملة {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} في موضع الحال. ووجه الله: مجاز في إقباله على العبد.
ثم أكد الأمر بمواصلتهم بالنهي عن أقل إعراض عنهم.
وظاهر {وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} نهي العينين عن أن تعدوا عن الذين يدعون ربهم. أي أن تجاوزاهم، أي تبعدا عنهم. والمقصود: الإعراض، ولذلك ضمن فعل العدو معنى الإعراض، فعدي إلى المفعول بـ {عن} وكان حقه أن يتعدى إليه بنفسه يقال: عداه، إذا جاوزه. ومعنى نهي العينين نهي صاحبهما، فيؤول إلى معنى: ولا تعدي عينيك عنهم. وهو إيجاز بديع.
وجملة {تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} حال من كاف الخطاب، لأن المضاف جزء من المضاف إليه، أي لا تكن إرادة الزينة سبب الإعراض عنهم لأنهم لا زينة لهم من بزة وسمت.
وهذا الكلام تعريض بحماقة سادة المشركين الذين جعلوا همهم وعنايتهم بالأمور الظاهرة وأهملوا الاعتبار بالحقائق والمكارم النفسية فاستكبروا عن مجالسة أهل الفضل والعقول الرجحة والقلوب النيرة وجعلوا همهم الصور الظاهرة.
[28] {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فرُطاًْ}
هذا نهي جامع عن ملابسة شيء مما يأمره به المشركون. والمقصود من النهي تأسيس قاعدة لأعمال الرسول والمسلمين تجاه رغائب المشركين وتأييس المشركين من نوال شيء مما رغبوه من النبي صلى الله عليه وسلم.
وما صدق {من} كل من اتصف بالصلة. وقيل نزلت في أمية بن خلف الجمحي، دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى طرد فقراء المسلمين عن مجلسه حين يجلس إليه هو وأضرابه من سادة

قريش.
والمراد بإغفال القلب جعله غافلا عن التفكر في الوحدانية حتى راج فيه الإشراك، فإن ذلك ناشئ عن خلقه عقول ضيقة التبصر مسوقة بالهوى والإلف.
وأصل الإغفال: إيجاد الغفلة، وهي الذهول عن تذكر الشيء، وأريد بها هنا غفلة خاصة، وهي الغفلة المستمرة المستفادة من جعل الإغفال من الله تعالى كناية عن كونه في خلقه تلك القلوب. وما بالطبع لا يتخلف.
وقد اعتضد هذا المعنى بجملة {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} ، فإن اتباع الهوى يكون عن بصيرة لا عن ذهول، فالغفلة خلقة في قلوبهم، واتباع الهوى كسب من قدرتهم.
والفرط بضمتين: الظلم والاعتداء. وهو مشتق من الفروط وهو السبق لأن الظلم سبق في الشر.
والأمر: الشأن والحال.
وزيادة فعل الكون للدلالة على تمكن الخبر من الاسم، أي حالة تمكن الإفراط والاعتداء على الحق.
[29] {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فمَنْ شَاءَ فلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فلْيَكْفرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفقاً}
بعد أن أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بما فيه نقض ما يقتلونه من مقترحاتهم وتعريض بتأييسهم من ذلك أمره أن يصارحهم بأنه لا يعدل عن الحق الذي جاءه من الله، وأنه مبلغه بدون هوادة، وأنه لا يرغب في إيمانهم ببعضه دون بعض. ولا يتنازل إلى مشاطرتهم في رغباتهم بشطر الحق الذي جاء به، وأن إيمانهم وكفرهم موكول إلى أنفسهم، لا يحسبون أنهم بوعد الإيمان يستنزلون النبي صلى الله عليه وسلم عن بعض ما أوحى إليه.
و {الحق} خبر مبتدأ محذوف معلوم من المقام، أي هذا الحق. والتعبير بـ {ربكم} للتذكير بوجوب توحيده.
والأمر في قوله: {فليؤمن} وقوله: {فليكفر} للتسوية المكنى بها عن الوعد والوعيد.

وقدم الإيمان على الكفر لأن إيمانهم مرغوب فيه.
وفاعل المشيئة في الموضعين ضمير عائد إلى من الموصولة في الموضعين.
وفعل {يؤمن، ويكفر} مستعملان للمستقبل، أي من شاء أن يوقع أحد الأمرين ولو بوجه الاستمرار على أحدهما المتلبس به الآن فإن العزم على الاستمرار عليه تجديد لإيقاعه.
وجملة {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً} مستأنفة استئنافا بيانيا لأن ما دل عليه الكلام من إيكال الإيمان والكفر إلى أنفسهم وما يفيده من الوعيد كلاهما يثير في النفوس أن يقول قائل: فماذا يلاقي من شاء فاستمر على الكفر، فيجاب بأن الكفر وخيم العاقبة عليهم.
والمراد بالظالمين: المشركون قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]
وتنوين {نارا} للتهويل والتعظيم.
والسرادق بضم السين قيل: هو الفسطاط، أي الخيمة. وقيل: السرادق: الحجزة بضم الحاء وسكون الزاي، أي الحاجز الذي يكون محيطا بالخيمة يمنع الوصول إليها، فقد يكون من جنس الفسطاط أديما أو ثوبا وقد يكون غير ذلك كالخندق. وهو كلمة معربة من الفارسية. أصلها سراطاق قالوا: ليس في كلام العرب اسم مفرد ثالثه ألف وبعده حرفان. والسرادق: هنا تخييل لاستعارة مكنية بتشبيه النار بالدار، وأثبت لها سرادق مبالغة في إحاطة دار العذاب بهم، وشأن السرادق يكون في بيوت أهل الترف، فإثباته لدار العذاب استعارة تهكمية.
والاستغاثة: طلب الغوث وهو الإنقاذ من شدة وبتخفيف الألم. وشمل {يستغيثوا} الاستغاثة من حر النار يطلبون شيئا يبرد عليهم، بأن يصبوا على وجوههم ماء مثلا، كما في آية الأعراف {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ} [لأعراف: 50]. والاستغاثة من شدة العطش الناشئ عن الحر فيسألون الشراب. وقد أومأ إلى شمول الأمرين ذكر وصفين لهذا الماء بقوله: {يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ} .
والإغاثة: مستعارة للزيادة مما استغيث من أجله على سبيل التهكم، وهو من تأكيد الشيء بما يشبه ضده.
والمهل بضم الميم له معان كثيرة أشبهها هنا أنه دردي الزيت فإنه يريدها التهابا

قال تعالى: {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ} [المعارج: 8]
والتشبيه في سواد اللون وشدة الحرارة فلا يزيدهم إلا حرارة، ولذلك عقب بقوله: {يَشْوِي الْوُجُوهَ} وهو استئناف ابتدائي.
والوجه أشد الأعضاء تألما من حر النار قال تعالى: {تَلْفحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ} [المؤمنون: 104]
وجملة {بِئْسَ الشَّرَابُ} مستأنفة ابتدائية أيضا لتشنيع ذلك الماء مشروبا كما شنع مغتسلا. وفي عكسه الماء الممدوح في قوله تعالى {هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [صّ: 42]
والمخصوص بذم {بئس} محذوف دل عليه ما قبله. والتقدير: بئس الشراب ذلك الماء.
وجملة {وساءت مرتفقا} معطوفة على جملة {يَشْوِي الْوُجُوهَ} ، فهي مستأنفة أيضا لإنشاء ذم تلك النار بما فيها.
والمرتفق: محل الاتفاق، وهو اسم مكان مشتق من اسم جامد إذ اشتق من المرفق وهو مجمع العضد والذراع. سمي مرفقا لأن الإنسان يحصل به الرفق إذا أصابه إعياء فيتكئ عليه. فلما سمي به العضو تنوسي اشتقاقه وصار كالجامد، ثم اشتق منه المرتفق. فالمرتفق هو المتكأ، وتقدم في سورة يوسف.
وشأن المرتفق أن يكون مكان استراحة، فإطلاق ذلك على النار تهكم، كما أطلق على ما يزاد به عذابهم لفظ الإغاثة، وكما أطلق على مكانهم السرادق.
وفعل {ساء} يستعمل {بئس} فيعمل عمل {بئس}، فقوله: {مرتفقا} تمييز. والمخصوص بالذم محذوف كما تقدم في قوله: {بئس الشراب} .
[30] {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً}
جملة مستأنفة استئنافا بيانيا مراعي فيه حال السامعين من المؤمنين، فإنهم حين يسمعون ما أعد للمشركين تتشوف نفوسهم إلى معرفة ما أعد للذين آمنوا ونبذوا الشرك فأعلموا أن عملهم مرعي عند ربهم. وجريا على عادة القرآن في تعقيب الوعيد بالوعد

والترهيب بالترغيب.
وافتتاح الجملة بحرف التوكيد {إن} لتحقيق مضمونها. وإعادة حرف {إن} في الجملة المخبر بها عن المبتدأ الواقع في الجملة الأولى لمزيد العناية والتحقيق كقوله تعالى في سورة الحج [17] {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفرُّونَ مِنْهُ فإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ} [الجمعة: 8] ومثله قول جرير:
إن الخليفة إن الله سربله
سربال ملك به تزجى الخواتيم
وموقع {إن} الثانية في هذه الآية أبلغ منه في بيت جرير لأن الجملة التي وقعت فيها في هذه الآية لها استقلال بمضمونها من حيث هي مفيدة حكما يعم ما وقعت خبرا عنه وغيره من كل من يماثل الخبر عنهم في عملهم، فذلك العموم في ذاته حكم جدير بالتأكيد لتحقيق حصوله لأربابه بخرف بيت جرير.
وأما آية سورة الحج فقد اقتضى طول الفصل حرف التأكيد حرصا على إفادة التأكيد.
والإضاعة: جعل الشيء ضائعا. وحقيقته الضيعة: تلف الشيء من مظنة وجوده. وتطلق مجازا على انعدام الانتفاع بشيء موجود فكأنه قد ضاع وتلف، قال تعالى: {أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ} في سورة آل عمران [195]، وقال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] في البقرة. ويطلق على منع التمكين من شيء والانتفاع به تشبيها للممنوع بالضائع في اليأس من التمكن منه كما في هذه الآية، أي أنا لا نحرم من أحسن عملا أجر عمله. ومنه قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [التوبة: 120].
[31] {أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفقاً}
والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا، لأن ما أجمل من عدم إضاعة أجرهم يستشرف بالسامع إلى ترقب ما بين هذا الأجر.
وافتتاح الجملة باسم الإشارة لما فيه من التنبيه على أن المشار إليهم جديرون لما بعد اسم الإشارة لأجل الأوصاف المذكورة قبل اسم الإشارة، وهي كونهم آمنوا وعملوا

الصالحات.
واللام في {لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي} لام الملك. و {من} للابتداء، جعلت جهة تحتهم منشئا لجري الأنهار. وتقدم شبيه هذه الآية في قوله تعالى {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} في سورة براءة [72].
و {عدن} تقدم في قوله تعالى: {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً في جَنَّاتِ عَدْنٍ} في سورة براءة [72].
و {مِنْ تَحْتِهمُ} بمنزلة {مِنْ تَحْتِها} ، لأن تحت جناتهم هو تحت لهم.
ووجه إيثار إضافة {تحت} إلى ضميرهم دون ضمير الجنات زيادة تقرير المعنى الذي أفادته لام الملك، فاجتمع في هذا الخبر عدة مقررات لمضمونه، وهي: التأكيد مرتين، وذكر اسم الإشارة. ولام الملك، وجر اسم الجهة بـ {من}، وإضافة اسم الجهة إلى ضميرهم، والمقصود من ذلك: التعريض بإغاظة المشركين لتتقرر بشارة المؤمنين أتم تقرر.
وجملة {يحلون} في موضع الصفة لـ {جَنَّاتُ عَدْنٍ}.
والتحلية: التزيين، والحلية: الزينة.
وأسند الفعل إلى المجهول، لأنهم يجدون أنفسهم محلين بتكوين الله تعالى.
والأساور: جمع سوار على غير قياس. وقيل: جمع أسورة الذي هو جمع سوار. فصيغة جمع الجمع للإشارة إلى اختلاف أشكال ما يحلون به منها، فإن الحلية تكون مرصعة بأصناف اليواقيت.
و {من} في قوله: {مِنْ أَسَاوِرَ} مزيدة للتأكيد على رأي الأخفش. وسيأتي وجهه في سورة الحج. ويجوز أن تكون للابتداء، وهو متعين عند الذين يمنعون زيادتها في الإثبات.
والسوار: حلي من ذهب أو فضة يحيط بموضع الذراع، وهو اسم معرب عن الفارسية عند المحققين وهو في الفارسية دستوراه بهاء في آخره كما في كتاب الراغب، وكتب بدون هاء في "تاج العروس" .
وأما قوله: {مِنْ ذَهَبٍ} فإن {من} فيه للبيان، وفي الكلام اكتفاء، أي من ذهب وفضة كما اكتفى في آية سورة الإنسان بذكر الفضة عن ذكر الذهب بقوله {وَحُلُّوا أَسَاوِر

مِنْ فضَّةٍ} [الانسان: 21]، ولكل من المعدنين جمالة الخاص.
واللباس: ستر البدن بثوب من قميص أو إزار أو رداء، وجميع ذلك للوقاية من الحر والبرد وللتجمل.
والثياب: جمع ثوب، وهو الشقة من النسيج.
واللون الأخضر أعدل الألوان وأنفعها عند البصر، وكان من شعار الملوك. قال النابغة:
يصونون أجسادا قديما نعيمها
بخالصة الأردان خضر المناكب
والسندس: صنف من الثياب، وهو الديباج الرقيق يلبس مباشرا للجلد ليقيه غلظ الإستبرق.
والإستبرق: الديباج الغليظ المنسوج بخيوط الذهب، يلبس فوق الثياب مباشرة للجلد.
وكلا اللفظين معرب. فأما لفظ {سندس} فلا خلاف في أنه معرب وإنما اختلفوا في أصله، فقال جماعة: أصله فارسي، وقال المحققون: أصله هندي وهو في اللغة الهندية سندون بنون في آخره. كان قوم من وجوه الهند وفدوا على الإسكندر يحملون هدية من هذا الديباج، وأن الروم غيروا اسمه إلى سندوس، والعرب نقلوه عنهم فقالوا سندس فيكون معربا عن الرومية وأصله الأصيل هندي.
وأما الإستبرق فهو معرب عن الفارسية. وأصله في الفارسية إستبره أو إستبر بدون هاء أو استقره أو إستفره. وقال ابن دريد: هو سرياني عرب وأصله إستروه وقال ابن قتيبة: هو رومي عرب، ولذلك فهمزته همزة قطع عند الجميع، وذكره بعض علماء اللغة في باب الهمزة وهو الأصوب، ويجمع على أبارق قياسا، على أنهم صغروه على أبريق فعاملوا السين والتاء معاملة الزوائد.
وفي "الإتقان" للسيوطي عن ابن النقيب: لو اجتمع فصحاء العالم وأرادوا أن يتركوا هذا اللفظ يقوم مقامه في الفصاحة لعجزوا.
وذلك: أن الله تعالى إذا حث عبادة على الطاعة بالوعد والوعيد. والوعد بما يرغب فيه العقلاء وذلك منحصر في: الأماكن، والمآكل، والمشارب، والملابس، ونحوها مما

تتحد فيه الطباع أو تختلف فيه. وأرفع الملابس في الدنيا الحرير، والحرير كلما كان ثوبه أثقل كان أرفع فإذا أريد ذكر هذا فالأحسن أن يذكر بلفظ واحد موضوع له صريح، وذلك ليس إلا الإستبرق ولا يوجد في العربية لفظ واحد يدل على ما يدل عليه لفظ إستبرق. هذه خلاصة كلامه على تطويل فيه.
و {من} في قوله: {مِنْ سُنْدُسٍ} للبيان.
وقدم ذكر الحلي على اللباس هنا لأن ذلك وقع صفة للجنات ابتداء، وكانت مظاهر الحلي أبهج للجنات، فقدم ذكر الحلي وأخر اللباس لأن اللباس أشد اتصالا بأصحاب الجنة لا بمظاهر الجنة، وعكس ذلك في سورة الإنسان في قوله: {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ} [الانسان: 21] لأن الكلام هنالك جرى على صفات أصحاب الجنة.
وجملة {مُتَّكِئِينَ فيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ} في موضع الحال من ضمير {يلبسون} .
والاتكاء: جلسة الراحة والترف. وتقدم عند قوله تعالى {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً} سورة يوسف [31].
والأرائك: جمع أريكة. وهي اسم لمجموع سرير وحجلة. والحجلة: قبة من ثياب تكون في البيت تجلس فيها المرأة أو تنام فيها. ولذلك يقال للنساء: ربات الحجال، فإذا وضع فيها سرير للاتكاء أو الاضطجاع فهي أريكة. ويجلس فيها الرجل وينام مع المرأة، وذلك من شعار أهل الترف.
وجملة {نعم الثواب} استئناف مدح، ومخصوص فعل المدح محذوف لدلالة ما تقدم عليه. والتقدير: نعم الثواب الجنات الموصوفة.
وعطف عليه فعل إنشاء ثان وهو {وَحَسُنَتْ مُرْتَفقاً} لأن {حسن} و {ساء} مستعملان استعمال {نعم} و {بئس} فعملا عملهما. ولذلك كان التقدير: وحسنت الجنات مرتفقا. وهذا مقابل قوله في حكاية حال أهل النار {وَسَاءَتْ مُرْتَفقاً} .
والمرتفق: هنا مستعمل في معناه الحقيقي بخلاف مقابله المتقدم.
[32-36] { وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَففنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفرا وَدَخَلَ

جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَباً}
عطف على جملة {وَقُلِ الحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ} الآيات، فإنه بعد أن بين لهم ما أعد لأهل الشرك وذكر ما يقابله مما أعده للذين آمنوا صرب مثلا لحال الفريقين بمثل قصة أظهر الله فيها تأييده للمؤمن وإهانته للكافر، فكان لذلك المثل شبه بمثل قصة أصحاب الكهف من عصر أقرب لعلم المخاطبين من عصر أهل الكهف، فضرب مثلا للفريقين للمشركين وللمؤمنين بمثل رجلين كان حال أحدهما معجبا مؤنقا وحال الآخر بخلاف ذلك؛ فكانت عاقبة صاحب الحال المونقة تباتا وخسارة، وكانت عاقبة الآخر نجاحا، ليظهر للفريقين ما يجره الغرور والإعجاب والجبروت إلى صاحبه من الأرزاء، وما يلقاه المؤمن المتواضع العارف بسنن الله في العالم من التذكير والتدبر في العواقب فيكون معرضا للصلاح والنجاح.
واللام في قوله: {لهم} يجوز أن يتعلق بفعل {واضرب} كقوله تعالى {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفسِكُمْ} [الروم: 28]. ويجوز أن يتعلق بقوله: {مثلا} تعلق الحال بصاحبها، أي شبها لهم، أي للفريقين كما في قوله تعالى: {فلا تضربوا لله الأمثال} [النحل: 74]، والوجه أن يكون متنازعا فيه بين {ضرب، ومثلا}.
والضمير في قوله: {لهم} يعود إلى المشركين من أهل مكة على الوجه الأول ولم يتقدم لهم ذكر، ويعود إلى جماعة الكافرين والمؤمنين على الوجه الثاني.
ثم إن كان حال هذين الرجلين الممثل به حالا معروفا فالكلام تمثيل حال محسوس بحال محسوس. فقال الكلبي: المعني بالرجلين رجلان من بني مخزوم من أهل مكة أخوان أحدهما كافر وهو الأسود ابن عبد الأشد بشين معجمة وقيل بسين مهملة بن عبد ياليل، والآخر مسلم وهو أخوه: أبو سلمة عبد الله بن عبد الأشد بن عبد ياليل. ووقع في "الإصابة" : بن هلال، وكان زوج أم سلمة قبل أن يتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولم يذكر المفسرون أين كانت الجنتان، ولعلهما كانت بالطائف فإن فيه جنات أهل مكة.
وعن ابن عباس: هما أخوان من بني إسرائيل مات أبوهما وترك لهما مالا فاشترى أحدهما أرضا وجعل فيها جنتين، وتصدق الآخر بماله فكان من أمرهما في الدنيا ما قصه

الله تعالى في هذه السورة، وحكى مصيرهما في الآخرة بما حكاه الله في سورة الصافات [50-52] في قوله: {فأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌقرين يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ} الآيات. فتكون قصتهما معلومة بما نزل فيها من القرآن في سورة الصافات قبل سورة الكهف.
وإن كان حال الرجلين حالا مفروضا كما جوزه بعض المفسرين فيما نقله عنه ابن عطية فالكلام على كل حال تمثيل محسوس بمحسوس لأن تلك الحالة متصورة متخيلة. قال ابن عطية: فهذه الهيئة التي ذكرها الله تعالى لا يكاد المرء يتخيل أجمل منها في مكاسب الناس، وعلى هذا الوجه يكون هذا التمثيل كالذي في قوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ} [البقرة: 265] الآيات.
والأظهر من سياق الكلام وصنع التراكيب مثل قوله: {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ} [الكهف: 37] الخ فقد جاء {قال} غير مقترن بفاء وذلك من شأن حكاية المحاورات الواقعة، ومثل قوله {ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا} أن يكون هذا المثل قصة معلومة ولأن ذلك أوقع في العبرة والموعظة مثل المواعظ بمصير الأمم الخالية.
ومعنى {جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا} قدرنا له أسباب ذلك.
وذكر الجنة والأعناب والنخل تقدم في قوله تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} في سورة البقرة [266].
ومعنى {حففناهما} أحطناهما، يقال: حفه بكذا، إذا جعله حافا به، أي محيطا، قال تعالى: {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} [الزمر: 75]، لأن "حف" يتعدى إلى مفعول واحد فإذا أريد تعديته إلى ثان عدي إليه بالباء، مثل: غشيه وغشاه بكذا. ومن محاسن الجنات أن تكون محاطة بالأشجار المثمرة.
ومعنى {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً} ألهمناه أن يجعل بينهما. وظاهر الكلام أن هذا الزرع كان فاصلا بين الجنتين: كانت الجنتان تكتنفان حقل الزرع فكان المجموع ضيعة واحدة. وتقدم ذكر الزرع في سورة الرعد.
و {كلتا} اسم دال على الإحاطة بالمثنى يفسره المضاف هو إليه، فهو اسم مفرد دال

على شيئين نظير زوج. ومذكره {كلا}. قال سيبويه: أصل كلا كلو واصل كلتا كلوا فحذفت لام الفعل من كلتا وعوضت التاء عن اللام المحذوفة لتدل التاء على التأنيث. ويجوز في خبر كلا وكلتا الإفراد اعتبارا للفظه وهو أفصح كما في هذه الآية. ويجوز تثنيته اعتبارا لمعناه كما في قول الفرزدق:
كلاهما حين جد الجري بينهما
قد أقلعا وكلا أنفيهما رابي
و {أكلها} قرأه الجمهور بضم الهمزة وسكون الكاف. وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وأبو جعفر وخلف بضم الهمزة وضم الكاف وهو الثمر، وتقدم.
وجملة {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا} معترضة بين الجمل المتعاطفة. والمعنى: أثمرت الجنتان إثمارا كثيرا حتى أشبهت المعطي من عنده.
ومعنى {وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً} لم تنقص منه، أي من أكلها شيئا، أي لم تنقصه عن مقدار ما تعطيه الأشجار في حال الخصب. ففي الكلام إيجاز بحذف مضاف. والتقدير: ولم تظلم من مقدار أمثاله. واستعير الظلم للنقص على طريقة التمثيلية بتشبيه هيئة صاحب الجنتين في إتقان خبرهما وترقب إثمارهما بهيئة من صار له حق في وفرة غلتها بحيث إذا لم تأت الجنتان بما هو مترقب منهما أشبهتا من حرم ذا حق حقه فظلمه، فاستعير الظلم لإقلال الإغلال، واستعير نفيه للوفاء بحق الإثمار.
والتفجير تقدم عند قوله تعالى: {حَتَّى تَفجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً} في سورة الإسراء [90].
والنهر بتحريك الهاء لغة في النهر بسكونها. وتقدم عند قوله تعالى: {قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} في سورة البقرة [249].
وجملة {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ} في موضع الحال من {لأحدهما} . والثمر بضم الثاء والميم: المال الكثير المختلف من النقدين والأنعام والجنات والمزارع. وهو مأخوذ من ثمر ماله بتشديد الميم بالبناء للنائب، يقال: ثمر الله ماله إذا كثر. قال النابغة:
فلما رأى أن ثمر الله ماله
وأثل موجودا وسد مفاقره
مشتقا من اسم الثمرة على سبيل المجاز أو الاستعارة لأن الأرباح وعفو المال يشبهان ثمر الشجر. وشاع هذا المجاز حتى صار حقيقة. قال النابغة:
مهلا فداء لك الأقوام كلهم
وما أثمر من مال ومن ولد

وقرأ الجمهور {ثمر} بضم المثلثة وضم الميم. وقرأه أبو عمرو ويعقوب بضم المثلثة وسكون الميم. وقرأه عاصم بفتح المثلثة وفتح الميم .
فقالوا: إنه جمع ثمار الذي هو جمع ثمر، مثل كتب جمع كتاب فيكون دالا على أنواع كثيرة مما تنتجه المكاسب، كما تقدم آنفا في جمع أساور من قوله: {أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ} . وعن النحاس بسنده إلى ثعلب عن الأعمش: أن الحجاج قال: "لو سمعت أحدا يقرأ {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ} أي بضم الثاء لقطعت لسانه. قال تعلب: فقلت للأعمش: أنأخذ بذلك. قال: لا ولا نعمة عين، وكان يقرأ: ثمر"، أي بضمتين.
والمعنى: وكان لصاحب الجنتين مال، أي غير الجنتين. والفاء لتفريع جملة {قال} على الجمل السابقة، لأن ما تضمنته الجمل السابقة من شأنه أن ينشأ عنه غرور بالنفس ينطق ربه عن مثل ذلك القول.
والصاحب هنا بمعنى المقارن في الذكر حيث انتظمهما خبر المثل، أو أريد به الملابس المخاصم، كما في قول الحجاج يخاطب الخوارج ألستم أصحابي بالأهواز .
والمراد بالصاحب هنا الرجل الآخر من الرجلين، أي فقال: من ليس له جنات في حوار بينهما. ولم يتعلق الغرض بذكر مكان هذا القول ولا سببه لعدم الاحتياج إليه في الموعظة.
وجملة {وَهُوَ يُحَاِورُه} حال من ضمير {قال} .
والمحاورة: مراجعة الكلام بين متكلمين.
وضمير الغيبة المنفصل عائد على ذي الجنتين. والضمير المنصوب في {يحاوره} عائد على صاحب ذي الجنتين، ورب الجنتين يحاور صاحبه. دل فعل المحاورة على أن صاحبه قد وعظه في الإيمان والعمل الصالح، فراجعه الكلام بالفخر عليه والتطاول شأن أهل الغطرسة والنقائض أن يعدلوا عن المجادلة بالتي هي أحسن إلى إظهار العظمة والكبرياء.
و {أعز} أشد عزة. والعزة: ضد الذل. وهي كثرة عدد عشيرة الرجل وشجاعته.
والنفر: عشيرة الرجل الذين ينفرون معه. وأراد بهم هنا ولده، كما دل عليه مقابلته في جواب صاحبه بقوله: {إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالاً وَوَلَداً} [الكهف: 39]. وانتصب

{نفرا} على تمييز نسبة {أعز} إلى ضمير المتكلم.
وجملة {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ} في موضع الحال من ضمير {قال} ، أي قال ذلك وقد دخل جنته مرافقا لصاحبه. أي دخل جنته بصاحبه، كما يدل عليه قوله {قال مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً} ، لأن القول لا يكون إلا خطابا لآخر، أي قال له، ويدل عليه أيضا قوله: {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ} [الكهف: 37]. ووقوع جواب قوله: {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفراً} في خلال الحوار الجاري بينهما في تلك الجنة.
ومعنى {وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفسِهِ} وهو مشرك مكذب بالبعث بطر بنعمة الله عليه.
وإنما أفرد الجنة هنا وهما جنتان لأن الدخول إنما يكون لإحداها لأنه أول ما يدخل إنما يدخل إحداهما قبل أن ينتقل منها إلى الأخرى، فما دخل إلا إحدى الجنتين.
والظن بمعنى: الاعتقاد، وإذا انتفى الظن بذلك ثبت الظن بضده.
وتبيد: تهلك وتفنى.
والإشارة بهذا إلى الجنة التي هما فيها، أي لا أعتقد أنها تنتفض وتضمحل.
والأبد: مراد منه طول المدة، أي هي باقية بقاء أمثالها لا يعتريها ما يبيدها. وهذا اغترار منه بغناه واغترار بما لتلك الجنة من وثوق الشجر وقوته وثبوته واجتماع أسباب نمائه ودوامه حوله، من مياه وظلال.
وانتقل من الإخبار عن اعتقاده دوام تلك الجنة إلى الإخبار عن اعتقاده بنفي قيام الساعة.
ولا تلازم بين المعتقدين. ولكنه أراد التورك على صاحبه المؤمن تخطئة إياه، ولذلك عقب ذلك بقوله {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَباً} تهكما بصاحبه. وقرينة التهكم قوله: {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} . وهذا كقول العاصي ابن وائل السهمي لخباب بن الأرت ليكونن لي مال هنالك فأقضيك دينك منه.
وأكد كلامه بلام القسم ونون التوكيد مبالغة في التهكم.
وانتصب {منقلبا} على تمييز نسبة الخبر. والمنقلب: المكان الذي ينقلب إليه، أي يرجع.
وضمير {منهما} للجنتين عودا إلى أول الكلام تفننا في حكاية كلامه على قراءة الجمهور {منهما} بالتثنية، وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي ويعقوب وخلف

{منها} بالإفراد جريا على قوله: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ} وقوله: {أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ} .
[37-41] {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالاً وَوَلَداً فعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِنَ السَّمَاءِ فتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً} .
{قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} .
حكي كلام صاحبه بفعل القول بدون عطف للدلالة على أنه واقع موقع المحاورة والمجاوبة، كما قدمناه غير مرة.
والاستفهام في قوله: {أَكَفرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ} مستعمل في التعجيب والإنكار، وليس على حقيقته، لأن الصاحب كان يعلم أن صاحبه مشرك بدليل قوله له: {وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً} . فالمراد بالكفر هنا الإشراك الذي من جملة معتقداته إنكار البعث، ولذلك عرف بطريق الموصولية لأن مضمون الصلة من شأنه أن يصرف من يدركه عن الإشراك به، فإنهم يعترفون بأن الله هو الذي خلق الناس فما كان غير الله مستحقا للعبادة.
ثم إن العلم بالخلق الأول من شأنه أن يصرف الإنسان عن إنكار الخلق الثاني، كما قال تعالى: {أَفعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ في لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [قّ: 15] ،وقال {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ} [الروم: 27]، فكان مضمون الصلة تعريضا بجهل المخاطب.
وقوله: {مِنْ تُرَابٍ} إشارة إلى الأجزاء التي تتكون منها النطفة وهي أجزاء الأغذية المستخلصة من تراب الأرض، كما قال تعالى: في الآية الأخرى: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ} [يّس: 36].
والنطفة: ماء الرجل، مشتقة من النطف وهو السيلان. و {سواك} عدل خلقك، أي جعله متناسبا في الشكل والعمل.
و {من} في قوله: { مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفةٍ } ابتدائية، وقوله: {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي}

كتب في المصحف بألف بعد النون. واتفق القراء العشرة على إثبات الألف في النطق في حال الوقف، وأما في حال الوصل فقرأه الجمهور بدون نطق بالألف، وقرأه ابن عامر وأبو جعفر ورويس عن يعقوب بإثبات النطق بالألف في حال الوصل، ورسم المصحف يسمح بكلتا الروايتين.
ولفظ {لكنا} مركب من لكن بسكون النون الذي هو حرف استدراك، ومن ضمير المتكلم أنا. وأصله: لكن أنا، فحذفت الهمزة تخفيفا كما قال الزجاج، أي على غير قياس لا لعلة تصريفية، ولذلك لم يكن للهمزة حكم الثابت فلم تمنع من الإدغام الذي يمنع منه ما هو محذوف لعلة بناء على أن المحذوف لعلة بمنزلة الثابت، ونقلت حركتها إلى نون {لكن} الساكنة دليلا على المحذوف فالتقى نونان متحركتان فلزم إدغامهما فصار {لكنا}. ولا يجوز أن تكون لكن المشددة النون المفتوحتها أشبعت فتحتها، لأن لكن المشددة من أخوات إن تقتضي أن يكون الاسم بعدها منصوبا وليس هنا ما هو ضمير نصب، ولا يجوز اعتبار ضمير {أنا} ضمير نصب اسم {لكن} لأن ضمير المتكلم المنصوب يجب أن يكون بياء المتكلم، ولا اعتباره ضمير المتكلم المشارك لمنافاته لإفراد ضمائره بعده في قوله: {هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا} .
{فأنا} مبتدأ، وجملة {هُوَ اللَّهُ رَبِّي} ضمير شأن وخبره. وهي خبر {أنا}، أي شأني هو الله ربي. والخبر في قوله: {هُوَ اللَّهُ رَبِّي} مستعمل في الإقرار، أي أعترف بأنه ربي خلافا لك.
وموقع الاستدراك مضادة ما بعد {لكن} لما قبلها، ولا سيما إذا كان الرجلان أخوين أو خليلين كما قيل فإنه قد يتوهم أن اعتقادهما سواء.
وأكد إثبات اعترافه بالخالق الواحد بمؤكدات أربعة، وهي: الجملتان الاسميتان، وضمير الشأن في قوله {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} ، وتعريف المسند والمسند إليه في قول: {اللَّهُ رَبِّي} المفيد قصر صفة ربوبية الله على نفس المتكلم قصرا إضافيا بالنسبة لمخاطبه، أي دونك إذ تعبد آلهة غير الله، وما القصر إلا توكيد مضاعف، ثم بالتوكيد اللفظي للجملة بقوله: {وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً} .
وعطف جملة {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ} على جملة {أَكَفرْتَ} عطف إنكار على إنكار. و {لولا} للتوبيخ، كشأنها إذا دخلت على الفعل الماضي، نحو {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ

شُهَدَاءَ} [النور: 13], أي كان الشأن أن نقول: {مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} عوض قولك: { قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} . والمعنى: أكفرت بالله وكفرت نعمته.
و {ما} من قوله: {مَا شَاءَ اللَّهُ} أحسن ما قالوا فيها إنها موصولة، وهي خبر عن مبتدأ محذوف يدل عليه ملابسة حال دخول الجنة، أي هذه الجنة ما شاء الله، أي الأمر الذي شاء الله إعطاءه إياي.
وأحسن منه عندي: أن تكون {ما} نكرة موصوفة. والتقدير: هذه شيء شاء الله، أي لي.
وجملة {لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} تعليل لكون تلك الجنة من مشيئة الله، أي لا قوة لي على إنشائها، أو لا قوة لمن أنشأها إلا بالله، فإن القوى كلها موهبة من الله تعالى لا تؤثر إلا بإعانته بسلامة الأسباب والآلات المفكرة والصانعة. فما في جملة {لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} من العموم جعلها كالعلة والدليل لكون تلك الجنة جزئيا من جزئيات منشئات القوى البشرية الموهوبة للناس بفضل الله.
{إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالاً وَوَلَداً فعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِنَ السَّمَاءِ فتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً}
جملة ابتدائية رجع بها إلى مجاوبة صاحبه عن قوله: {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفراً} [الكهف: 37]، وعظه فيها بأنه لا يدري أن تصير كثرة ماله إلى قلة أو إلى اضمحلال وأن يصير القليل ماله ذا مال كثير.
وحذفت ياء المتكلم بعد نون الوقاية تخفيفا وهو كثير.
و {أنا} ضمير فصل، فلذلك كان {أقل} منصوبا على أنه مفعول ثان ل {ترن} ولا اعتداد بالضمير. و {عسى} للرجاء، وهو طلب الأمر القريب الحصول. ولعله أراد به الدعاء لنفسه وعلى صاحبه.
والحسبان: مصدر حسب كالغفران. وهو هنا صفة لموصوف محذوف، أي هلاكا حسبانا، أي مقدرا من الله، كقوله تعالى: {عَطَاءً حِسَاباً} [النبأ: 36]. وقيل: الحسبان اسم جمع لسهام قصار يرمى بها في طلق واحد وليس له مفرد. وقيل: اسم جمع حسبانة وهي الصاعقة. وقيل: اسم للجراد. والمعاني الأربعة صالحة هنا، والسماء: الجو

المرتفع فوق الأرض.
والصعيد: وجه الأرض. وتقدم عند قوله تعالى: {فتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} [المائدة: 6]. وفسروه هنا بذلك فيكون ذكره هنا توطئة لإجراء الصفة عليه وهي {زلقا} .
وفي "اللسان" عن الليث يقال للحديقة، إذا خربت وذهب شجراؤها: قد صارت صعيدا، أي أرضا مستوية لا شجر فيها اه. وهذا إذا صح أحسن هنا، ويكون وصفه بـ {زلقا} مبالغة في انعدام النفع به بالمرة. لكني أظن أن الليث ابتكر هذا المعنى من هذه الآية وهو تفسير معنى الكلام وليس تبيينا لمدلول لفظ. صعيد. ونظيره قوله: {وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا} [الكهف: 8] في أول هذه السورة.
والزلق: مصدر زلقت الرجل، إذا اضطربت وزلت على الأرض فلم تستقر. ووصف الأرض بذلك مبالغة، أي ذات زلق، أي هي مزلقة.
والغور: مصدر غار الماء، إذا ساخ الماء في الأرض. ووصفه بالمصدر للمبالغة، ولذلك فرع عليه {فلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً} . وجاء بحرف توكيد النفي زيادة في التحقيق لهذا الرجاء الصادر مصدر الدعاء.
[43,42] {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفيْهِ عَلَى مَا أَنْفقَ فيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً}
كان صاحبه المؤمن رجلا صالحا فحقق الله رجاءه، أو كان رجلا محدثا من محدثي هذه الأمة، أو من محدثي الأمم الماضية على الخلاف في المعني بالرجلين في الآية، ألهمه الله معرفة ما قدره في الغيب من عقاب في الدنيا للرجل الكافر المتجبر.
وإنما لم تعطف جملة {وَأُحِيطَ} بفاء التفريع على رجاء صاحبه المؤمن إذ لم يتعلق الغرض في هذا المقام بالإشارة إلى الرجل المؤمن، وإنما المهم التنبيه على أن ذلك حادث حل بالكافر عقابا له على كفره ليعلم السامعون أن ذلك جزاء أمثاله وأن ليس بخصوصية لدعوة الرجل المؤمن.
والإحاطة: الأخذ من كل جانب، مأخوذة من إحاطة العدو بالقوم إذا غزاهم. وقد تقدمت في قوله تعالى {إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} في سورة يوسف [66] وقوله: {إِنَّ رَبَّكَ

أَحَاطَ بِالنَّاسِ} في سورة الإسراء [60].
والمعنى: أتلف ماله كله بأن أرسل على الجنة والزرع حسبان من السماء فأصبحت صعيدا زلقا وهلكت أنعامه وسلبت أمواله، أو خسف بها بزلزال أو نحوه.
وتقدم اختلاف القراء في لفظ {ثمر} آنفا عند قوله تعالى: {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ} [الكهف: 34].
وتقليب الكفين: حركة يفعلها المتحسر، وذلك أن يقلبهما إلى أعلى ثم إلى قبالته تحسرا على ما صرفه من المال في إحداث تلك الجنة. فهو كناية عن التحسر، ومثله قولهم: قرع السن من ندم، وقوله تعالى: {عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ} [آل عمران: 119]
والخاوية: الخالية، أي وهي خالية من الشجر والزرع، والعروش: السقف. و {على} للاستعلاء. وجلسة {عَلَى عُرُوشِهَا} في موضع الحال من ضمير {خاوية} .
وهذا التركيب أرسله القرآن مثلا للخراب التام الذي هو سقوط سقوف البناء وجدرانه. وتقدم في قوله: { أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} في سورة البقرة [259]، على أن الضمير مراد به جدران القرية بقرينة مقابلته بعروشها، إذ القرية هي المنازل المركبة من جدران وسقف، ثم جعل ذلك مثلا لكل هلاك تام لا يبقي معه من الشيء الهالك.
وجملة {ويقول} حكاية لتندمه على ما فرط منه حين لا ينفعه الندم بعد حلول العذاب.
والمضارع للدلالة على تكرر ذلك القول منه.
وحرف النداء مستعمل في التلهف. و {ليتني} تمن مراد به التندم. وأصل قولهم: "يا ليتني" أنه تنزيل للكلمة منزلة من يعقل، كأنه يخاطب كلمة {ليت} يقول: احضري فهذا أوانك، ومثله قوله تعالى {أَنْ تَقُولَ نَفسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فرَّطْتُ في جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر: 56].
وهذا ندم على الإشراك فيما مضى وهو يؤذن بأنه آمن بالله وحده حينئذ.
وقوله: {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} موعظة وتنبيه على جزاء قوله:

{وَأَعَزُّ نَفراً} [الكهف: 34].
والفتنة: الجماعة. وجملة {ينصرونه} صفة، أي لم تكن له فئة هذه صفتها، فإن فتنة لم تغن عنه من عذاب الله.
وقوله: {وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً} أي ولا يكون له انتصار وتخلص من العذاب.
وقرأه الجمهور {ولم تكن} بمثناة فوقية اعتدادا بتأنيث {فئة} في اللفظ. وقرأه حمزة والكسائي وخلف {يكن} بالياء التحتية. والوجهان جائزان في العمل إذا رفع ما ليس بحقيقي التأنيث.
وأحاط به هذا العقاب لا لمجرد الكفر، لأن الله قد يمتع كافرين كثيرين طوال حياتهم ويملي لهم ويستدرجهم. وإنما أحاط به هذا العقاب جزاء على طغيانه وجعله ثروته وماله وسيلة إلى احتقار المؤمن الفقير، فإنه لما اعتز بتلك النعم وتوسل بها إلى التكذيب بوعد الله استحق عقاب الله بسلب تلك النعم عنه كما سلبت النعمة عن قارون حين قال {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص: 78]. وبهذا كان هذا المثل موضع العبرة للمشركين الذين جعلوا النعمة وسيلة للترفع عن مجالس الدعوة لأنها تجمع قوما يرونهم أحط منهم وطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم طردهم عن مجلسه كما تقدم.
[44] {هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً} .
تذييل للجمل قبلها لما في هذه الجملة من العموم الحاصل من قصر الولاية على الله تعالى المقتضي تحقيق جملة {وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً} ، وجملة {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الكهف: 34]، وجملة {وَمَا كَاَن مُنْتَصِراً} [الكهف: 34]، لأن الولاية من شانها أن تبعث على نصر المولى وأن تطمع المولى في أن وليه ينصره. ولذلك لما رأى الكافر ما دهاه من جراء كفره التجأ إلى أن يقول {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً} [الكهف: 42]، إذ علم أن الآلهة الأخرى لم تغن ولايتهم عنه شيئا، كما قال أبو سفيان يوم أسلم "لقد علمت أن لو كان معه إله آخر لقد أغنى عني شيئا". فاسم الإشارة مبتدأ و {الولاية لله} جملة خبر عن اسم الإشارة.
واسم إشارة المكان البعيد مستعار للإشارة إلى الحال العجيبة بتشبيه الحالة بالمكان لإحاطتها بصاحبها، وتشبيه غرابتها بالبعد لندرة حصولها. والمعنى: أن في مثل تلك الحالة تقصر الولاية على الله. فالولاية: جنس معرف بلام الجنس يفيد أن هذا الجنس

مختص باللام على نحو ما قرر في قوله تعالى: {الحَمْدُ لِله} [الفاتحة: 2].
والولاية بفتح الواو مصدر ولي، إذا ثبت له الولاء. وتقدمت عند قوله تعالى: {مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} في سورة الأنفال [72].
وقرأه حمزة والكسائي وخلف {الولاية} بكسر الواو وهي اسم للمصدر أو اسم بمعنى السلطان والملك.
و {الحق} قرأه الجمهور بالجر، على أنه وصف الله تعالى، كما وصف بذلك في قوله تعالى {وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ} في سورة يونس [30]. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وخلف {الحق} بالرفع صفة للولاية، ف {الحق} بمعنى الصدق لأن ولاية غيره كذب وباطل.
قال حجة الإسلام: والواجب بذاته هو الحق مطلقا، إذ هو الذي يستبين بالعقل أنه موجود حقا، فهو من حيث ذاته يسمى موجودا ومن حيث إضافته إلى العقل الذي أدركه على ما هو عليه يسمى حقا اه.
وبهذا يظهر وجه وصفه هنا بالحق دون وصف آخر، لأنه قد ظهر في مثل تلك الحال أن غير الله لا حقيقة له أو لا دوام له.
{وخير} يجوز أن يكون بمعنى أخير، فيكون التفضيل في الخيرية على ثواب غيره وعقب غيره، فإن ما يأتي من ثواب من غيره ومن عقبى إما زائف مفض إلى ضر وإما زائل، وثواب الله خالص دائم وكذلك عقباه.
ويجوز أن يكون {خير} اسما ضد الشر، أي هو الذي ثوابه وعقبه خير وما سواه فهو شر.
والتمييز تمييز نسبة الخير إلى الله. و {العقب} بضمتين وبسكون القاف بمعنى العاقبة، أي آخرة الأمر. وهي ما يرجوه المرء من سعيه وعمله.
وقرأ الجمهور {عقبا} بضمتين وبالتنوين. وقرأه عاصم وحمزة وخلف بإسكان القاف وبالتنوين.
فكان ناله ذلك الشرك الجبار من عطاء إنما ناله بمساع وأسباب ظاهرية ولم ينله بعناية من الله تعالى وكرامة فلم يكن خيرا وكانت عاقبته شرا عليه.

[45] { وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً}
كان أعظم حائل بين المشركين وبين النظر في أدلة الإسلام انهماكم في الإقبال على الحياة الزائلة ونعيمها، والغرور الذي غر طغاة أهل الشرك وصرفهم عن إعمال عقولهم في فهم أدلة التوحيد والبعث كما قال تعالى: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً} [المزمل:11]، وقال: {أن كان ذا مال وبنين إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين} [القلم: 14-15].
وكانوا يحسبون هذا العالم غير آيل إلى الفناء {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24]. وما كان أحد الرجلين الذين تقدمت قصتهما إلا واحدا من المشركين إذ قال: {وَمَا أَظُنّ السَّاعةَ قَائِمَةً} [الكهف: 36].
فأمر الله رسوله بأن يضرب لهم مثل الحياة الدنيا التي غرتهم بهجتها.
والحياة الدنيا: تطلق على مدة بقاء الأنواع الحية على الأرض وبقاء الأرض على حالتها. فإطلاق اسم {الحَيَاةِ الدُّنْيَا} على تلك المدة لأنها مدة الحياة الناقصة غير الأبدية لأنها مقدر زوالها، فهي دنيا.
وتطلق الحياة الدنيا على مدة حياة الأفراد، أي حياة كل أحد. ووصفها بـ {الدنيا} بمعنى القريبة، أي الحاضرة غير المستنظرة، كنى عن الحضور بالقرب، والوصف للاحتراز عن الحياة الآخرة وهي الحياة بعد الموت.
والكاف في قوله: {كماء} في محل الحال من الحياة المضاف إليه {مثل}. أي اضرب لهم مثلا لها حال أنها كماء أنزلناه.
وهذا المثل منطبق على الحياة الدنيا بإطلاقيها. فهما مرادان منه. وضمير {لهم} عائد إلى المشركين كما دل عليه تناسق ضمائر الجمع الآتية في قوله {وَحَشَرْنَاهُمْ فلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ} - {وَعُرِضُوا }-{بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً} [الكهف: 47-48].
واختلاط النبات: وفرته والتفاف بعضه ببعض من قوة الخصب والازدهار.
والباء في قوله: {به} باء السببية. والضمير عائد إلى {ماء} أي فاختلط النبات بسبب الماء، أي اختلط بعض النبات ببع. وليست الباء لتعدية فعل {اختلط} إلى المفعول

لعدم وضوح المعنى عليه، وفي ذكر الأرض بعد ذكر السماء محسن الطباق.
و {أصبح} مستعملة بمعنى صار، وهو استعمال شائع.
والهشيم: اسم على وزن فعيل بمعنى مفعول، أي مهشوما محطما. والهشم: الكسر والتفتيت.
و {تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} أي تفرقه في الهواء. والذرو: الرمي في الهواء. شبهت حالة هذا العالم بما فيه بحالة الروضة تبقى زمانا بهجة خضرة ثم يصير نبتها بعد حين إلى اضمحلال. ووجه الشبه: المصير من حال حسن إلى حال شيء. وهذا تشبيه معقول بمحسوس لأن الحالة المشبهة معقولة إذ لم ير الناس بوادر تقلص بهجة الحياة. وأيضا شبهت هيئة إقبال نعيم الدنيا في الحياة مع الشباب والجدة وزخرف العيش لأهله. ثم تقلص ذلك وزوال نفعه ثم انقراضه أشتاتا بهيئة إقبال الغيث منبت الزرع ونشأته عنه ونضارته ووفرته ثم أخذه في الانتقاص وانعدام التمتع به ثم تطايره أشتاتا في الهواء، تشبيها لمركب محسوس بمركب محسوس ووجه الشبه كما علمت.
وجملة {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً} جملة معترضة في آخر الكلام. موقعها التذكير بقدرة الله تعالى على خلق الأشياء وأضدادها، وجعل أوائلها مفضية إلى أواخرها، وترتيبه أسباب الفناء على أسباب البقاء، وذلك اقتدار عجيب. وقد أفيد ذلك على أكمل وجه بالعموم الذي في قوله: {على كل شيء} وهو بذلك العموم أشبه التذييل. والمقتدر: القوي القدرة.
[46] {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً}
اعتراض أريد به الموعظة والعبرة للمؤمنين بأن ما فيه المشركون من النعمة من مال وبنين ما هو إلا زينة الحياة الدنيا التي علمتم أنها إلى زوال، كقوله تعالى {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفرُوا في الْبِلادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ} [آل عمران:196] وأن ما أعد الله للمؤمنين خير عند الله وخير أملا. والاغتباط بالمال والبنين شنشنة معروفة في العرب، قال طرفة:
فلو شاء ربي كنت قيس بن عاصم
ولو شاء ربي كنت عمرو بن مرثد
فأصبحت ذا مال كثير وطاف بي
بنون كرام سادة لمسود

{وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} صفتان جرتا على موصوف محذوف، أي الأعمال الصالحات البقيات، أي التي لا زوال لها، أي لا زوال لخيرها، وهو ثوابها الخالد، فهي خير من زينة الحياة الدنيا التي هي غير باقية.
وكان مقتضى الظاهر في ترتيب الوصفين أن يقدم {الصالحات} على {الباقيات} لأنهما وإن كانا وصفين لموصوف محذوف إلا أن أعرفهما في وصفيه ذلك المحذوف هو الصالحات. لأنه قد شاع أن يقال: الأعمال الصالحات ولا يقال الأعمال البقيات، ولأن بقاءها مترتب على صلاحها، فلا جرم أن الصالحات وصف قام مقام الموصوف وأغنى عنه كثيرا في الكلام حتى صار لفظ {الصالحات} بمنزلة الاسم الدال على عمل خير، وذلك كثير في القرآن قال تعالى: {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الكهف: 36]، وفي كلامهم قال جرير:
كيف الهجاء وما تنفك صالحة
من آل لأم بظهر الغيب تأتيني
ولكن خولف مقتضى الظاهر هنا، فقدم {الباقيات} للتنبيه على أن ما ذكر قبله إنما كان مفصولا لأنه ليس بباق، وهو المال والبنون، كقوله تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا في الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ} [الرعد: 26]، فكان هذا التقديم قاضيا لحق الإيجاز لإغنائه عن كلام محذوف، تقديره: أن ذلك زائل أو ما هو بباق والباقيات من الصالحات خير منه، فكان قوله {فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} [الكهف: 45] مفيدا للزوال بطريقة التمثيل وهو من دلالة التضمن، وكان قوله: {والباقيات} مفيدا زوال غيرها بطريقة الالتزام، فحصل دلالتان غير مطابقتين وهما أوقع في صناعة البلاغة، وحصل بثانيتهما تأكيد لمفاد الأولى فجاء كلاما مؤكدا موجزا.
ونظير هذه الآية آية سورة مريم قوله: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} [مريم: 76] فإنه وقع إثر قوله: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِئْياً} [مريم: 73-74] الآية.
وتقديم المال على البنين في الذكر لأنه أسبق خطورا لأذهان الناس، لأنه يرغب فيه الصغير والكبير والشاب والشيخ ومن له من الأولاد ما قد كفاه ولذلك أيضا قدم في بيت طرفة المذكور آنفا.

ومعنى {وَخَيْرٌ أَمَلاً} أن أمل الآمل في المال والبنين إنما يأمل حصول أمر مشكوك في حصوله ومقصور على مدته. وأما الآمل لثواب الأعمال الصالحة فهو يأمل حصول أمر موعود به من صادق الوعد. ويأمل شيئا تحصل منه منفعة الدنيا ومنفعة الآخرة كما قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]. فلا جرم كان قوله: {وَخَيْرٌ أَمَلاً} بالتحقق والعموم تذييلا لما قبله.
[47-48] {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفاً لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً} .
عطف على جملة {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 45] فلفظ {يوم} منصوب بفعل مضمر. تقديره: اذكر. كما هو متعارف في أمثاله. فبعد أن بين لهم تعرض ما هم فيه من نعيم إلى الزوال على وجه الموعظة، أعقبه بالتذكير بما بعد ذلك الزوال بتصوير حال البعث وما يترقبهم فيه من العقاب على كفرهم به، وذلك مقابلة لضده المذكور في قوله: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ} .
ويجوز أن يكون الظرف متعلقا بمحذوف غير فعل {أذكر} يدل عليه مقام الوعيد مثل: يرون أمرا مفظعا أو عظيما أو نحو ذلك مما تذهب إلى تقديره نفس السامع. ويقدر المحذوف متأخرا عن الظرف وما اتصل به لقصد تهويل اليوم وما فيه.
ولا يجوز أن يكون الظرف متعلقا القول المقدر عند قوله: {لََقَدْ جِئْتُمونَا} إذ لا يناسب موقع عطف هذه الجملة على التي قبلها. ولا وجه معه لتقديم الظرف على عامله.
وتسيير الجبال: نقلها من مواضعها بزلزال أرضي عظيم، وهو مثل قوله تعالى: {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} [التكوير: 3] وقوله تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل: 88]. وقيل: أطلق التسيير على تناثر أجزائها. فالمراد ويوم نسير كل جبل من الجبال، فيكون كقوله {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفوشِ} [القارعة: 5] وقوله: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثّاً} [الواقعة: 5-6] وقوله: {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فكَانَتْ سَرَاباً} [النبأ: 20]. والسبب واحد، والكيفيتان متلازمتنا. وهو من أحوال

انقراض نظام هذا العالم، وإقبال عالم الحياة الخالدة والبعث.
وقرأ الجمهور {نسير} بنون العظمة. وقرأ ابن كثير وابن عامر، وأبو عمروويوم تسير الجبال بمثناة فوقية ببناء الفعل إلى المجهول ورفع {الجبال} .
والخطاب في قوله: {وترى الأرض بارزة} لغير معين. والمعنى: ويرى الرائي، كقول طرفة:
ترى جشوتين من تراب عليهما
صفائح صم من صفيح منضد
وهو نظير قوله: {فتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفقِينَ مِمَّا فيهِ} [الكهف: 49].
والبارزة: الظاهرة، أي الظاهر سطحها، إذ ليس عليها شيء يستر وجهها من شجر ونبات أو حيوان، كقوله تعالى: {فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} [النازعات: 14].
وجملة {وحشرناهم} في موضع الحال من ضمير {تسير} على قراءة من قرأ بنون العظمة، أو من الفاعل المنوي الذي يقتضيه بناء الفعل للنائب على قراءة من قرأ {تسير الجبال} بالبناء للنائب.
ويجوز أن نجعل جملة {وحشرناهم} معطوفة على جملة {نسير الجبال} على تأويله بـ {نحشرهم} بأن أطلق الفعل الماضي على المستقبل تنبيها على تحقيق وقوعه.
والمغادرة: إبقاء شيء وتركه من تعلق فعل به. وضمائر الغيبة في {حشرناهم} و {منهم} و {عرضوا} عائدة إلى ما عاد إليه ضمير الغيبة في قوله: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 45].
وعرض الشيء: إحضاره ليرى حاله وما يحتاجه. ومنه عرض الجيش على الأمير ليرى حالهم وعدتهم. وفي الحديث عرضت علي الأمم وهو هنا مستعار لإحضارهم حيث يعلمون أنهم سيتلقون ما يأمر الله به في شأنهم.
والصف: جماعة يقفون واحدا حذو واحد بحيث يبدو جميعهم لا يحجب أحد منهم أحدا. وأصله مصدر صفهم إذا أوقفهم، أطلق على المصفوف. وانتصب {صفا} على الحال من واو {عرضوا} . وتلك الحالة إيذان بأنهم أخضروا بحالة الجناة الذين لا يخفى منهم أحد إيقاعا للرعب في قلوبهم.
وجملة {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ} معطوفة على جملة {وحشرناهم} ، فهي في موضع

الحال من الضمير المنصوب في {حشرناهم} ، أي حشرناهم وقد عرضوا تنبيها على سرعة عرضهم في حين حشرهم.
وعدل عن الإضمار إلى التعريف بالإضافة في قوله: {عَلَى رَبِّكَ} دون أن يقال علينا لتضمن الإضافة تنويها بشأن المضاف إليه بأن في هذا العرض وما فيه من التهديد نصيبا من الانتصار للمخاطب إذ كذبوه حين أخبرهم وأنذرهم بالبعث.
وجملة {لَقَدْ جِئْتُمُونَا} مقول لقول محذوف دل عليه أن الجملة خطاب للمعروضين فتهين تقدير القول. وهذه الجملة في محل الحال. والتقدير: قائلين لهم لقد جئتمونا. وذلك بإسماعهم هذا الكلام من جانب الله تعالى وهم يعلمون أنه من جانب الله تعالى. والخطاب في قوله: {لَقَدْ جِئْتُمُونَا} موجه إلى معاد ضمير {عرضوا} .
والخبر في قوله: {لَقَدْ جِئْتُمُونَا} مستعمل في التهديد والتغليظ والتنديم على إنكارهم البعث. والمجيء: مجاز في الحضور، شبهوا حين موتهم بالغائبين وشبهت حياتهم بعد الموت بمجيء الغائب.
وقوله: {كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} واقع موقع المفعول المطلق المفيد للمشابهة، أي جئتمونا مجيئا كخلقكم أول مرة. فالخلق الثاني أشبه الخلق الأول، أي فهذا خلق ثان. و {ما} مصدرية، أي كخلقنا إياكم المرة الأولى، قال تعالى: {أَفعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ في لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [قّ:15]. والمقصود التعريض بخطئهم في إنكارهم البعث.
والإضراب في قوله: {بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً} انتقال من التهديد وما معه من التعريض بالتغليط إلى التصريح بالتغليط في قالب الإنكار؛ فالخبر مستعمل في التغليط مجازا وليس مستعملا في إفادة مدلوله الأصلي.
والزعم: الاعتقاد المخطئ، أو الخبر المعرض للكذب. والموعد أصله: وقت الوعد بشئ أو مكان الوعد. وهو هنا الزمن الموعود به الحياة بعد الموت.
والمعنى: أنكم اعتقدتم باطلا أن لا يكون لكم موعد للبعث بعد الموت أبدا.
[49] {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفقِينَ مِمَّا فيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً}

جملة {وَوُضِعَ الْكِتَابُ} معطوفة على جملة {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ} [الكهف: 48]، فهي في موضع الحال، أي وقد وضع الكتاب.
والكتاب مراد به الجنس، أي وضعت كتب أعمال البشر، لأن لكل أحد كتابا، كما دلت عليه آيات أخرى منها قوله تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً} [الاسراء: 13-14] الآية. وإفراد الضمير في قوله {مما فيه} لمراعاة إفراد لفظ {الكتاب}. وعن الغزالي: أنه قال: يكون كتاب جامع لجميع ما هو متفرق في الكتب الخاصة بكل أحد. ولعله انتزعه من هذه الآية. وتفرع على وضع الكتاب بيان حال المجرمين عند وضعه.
والخطاب بقوله {فترى} لغير معين. وليس للنبي صلى الله عليه وسلم لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يومئذ في مقامات عالية عن ذلك الموضع.
والإشفاق: الخوف من أمر يحصل في المستقبل.
والتعبير بالمضارع في {يقولون} لاستحضار الحالة الفظيعة، أو لإفادة تكرر قولهم ذلك وإعادته شأن الفزعين الخائفين.
ونداء الويل: ندبة للتوجع من الويل. وأصله نداء استعمل مجازا بتنزيل ما لا ينادى منزلة ما ينادى لقصد حضورة، كأنه يقول: هذا وقتك فاحضري، ثم شاع ذلك فصار لمجرد الغرض من النداء وهو التوجع ونحوه.
والويلة: تأنيث الويل للمبالغة، وهو سوء الحال والهلاك. كما أنثت الدار على دارة، للدلالة على سعة المكان. وقد تقدم عند قوله تعالى: {قال يا وليتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب} في سورة العقود المائدة [31].
والاستفهام في قولهم: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ} مستعمل في التعجيب. فما اسم استفهام، ومعناها: أي شيء، و {هَذَا الْكِتَابِ} صفة لـ {ما} الاستفهامية لما فيها من التنكير، أي ما ثبت لهذا الكتاب.
واللام للاختصاص مثل قوله: {مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُف} [يوسف: 11].
وجملة {لا يغادر} في موضع الحال، هي مثار التعجيب، وقد جرى الاستعمال بملازمة الحال لنحوما لك فيقولون: {ما لك} لا تفعل وما لك فاعلا.

والمغادرة: الترك، وتقدم آنفا في قوله: {فلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً} [الكهف: 47].
والصغيرة والكبيرة: وصفان لموصوف محذوف لدلالة المقام، أي فعلة أو هنة. والمراد بالصغر والكبر هنا الأفعال العظيمة والأفعال الحقيرة. والعظم والحقارة يكونان بحسب الوضوح والخفاء ويكونان بحسب القوة والضعف.
وتقديم ذكر الصغيرة لأنها أهم من حيث يتعلق التعجب من إحصائها. وعطفت عليها الكبيرة لإرادة التعميم في الإحصاء لأن التعميم أيضا مما يثير التعجب. فقد عجبوا من إحاطة كاتب الكتاب بجميع الأعمال.
والاستثناء من عموم أحوال الصغيرة والكبيرة، أي لا يبقي صغيرة ولا كبيرة في جميع أحوالهما إلا في حال إحصائه إياها، أي لا يغادره غير محصي. فالاستثناء هنا من تأكيد الشيء بما يشبه ضده لأنه إذا أحصاه فهو لم يغادره، فآل إلى معنى أنه لا يغادر شيئا، وانتفت حقيقة الاستثناء.
فجملة {أحصاها} في موضع الحال. والرابط بينها وبين ذي الحال حرف الاستثناء. والإحصاء: العد، أي كانت أفعالهم معدودة مفصلة.
وجملة {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً} في موضع الحال من ضمير {يقولون} . أي إنما قالوا ذلك حين عرضت عليهم أعمالهم كلها عند وضع ذلك الكتاب عرضا سريعا حصل به علم كل بما في كتابه على وجه خارق للعادة.
وجملة {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} عطف على جملة {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً} لما أفهمته الصلة من أنهم لم يجدوا غير ما عملوا، أي لم يحمل عليهم شيء لم يعملوه، لأن الله لا يظلم أحدا فيؤاخذه بما لم يقترفه، وقد حدد لهم من قبل ذلك ما ليس لهم أن يفعلوه وما أمروا بفعله، وتوعدهم ووعدهم، فلم يكن في مؤاخذتهم بما عملوه من المنهيات بعد ذلك ظلم لهم. والمقصود: إفادة هذا الشان من شؤون الله تعالى، فلذلك عطفت الجملة لتكون مقصودة أصالة. وهي مع ذلك مفيدة معنى التذييل لما فيها من الاستدلال على مضمون الجملة قبلها، ومن العموم الشامل لمضمون الجملة قبلها وغيره، فكانت من هذا الوجه صالحة للفصل بدون عطف لتكون تذييلا.
[50] {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ ففسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً}

عطف على جملة {يوَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ} [الكهف: 47] بتقدير: واذكر إذ قلنا للملائكة، تفننا لغرض الموعظة الذي سبقت له هذه الجمل، وهو التذكير بعواقب اتباع الهوى والأعراض عن الصالحات، وبمداحض الكبرياء والعجب واحتقار الفضيلة والابتهاج بالأعراض التي لا تكسب أصحابها كمالا نفسيا. وكما وعظوا بآخر أيام الدنيا ذكروا هنا بالموعظة بأول أيامها وهو يوم خلق آدم، وهذا أيضا تمهيد وتوطئة لقوله {يَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} [الكهف: 52] الآية، فإن الإشراك كان من غرور الشيطان ببني آدم.
ولها أيضا مناسبة بما تقدم من الآيات التي أنحت على الذين افتخروا بجاههم وأموالهم واحتقروا فقراء أهل الإسلام ولم يميزوا بين الكمال الحق والغرور الباطل، كما أشار إليه قوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الكهف: 28]، فكان في قصة إبليس نحو آدم مثل لهم، ولأن في هذه القصة تذكيرا بأن الشيطان هو أصل الضلال، وأن خسران الخاسرين يوم القيامة آيل إلى اتباعهم خطوات الشيطان وأوليائه. ولهذا فرع على الأمرين قوله تعالى {أَفتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ}
وهذه القصة تكررت في مواضع كثيرة من القرآن، وهي في كل موضع تشتمل على شيء لم تشتمل عليه في الآخر، ولها في كل موضع ذكرت فيه عبرة تخالف عبرة غيره، فذكرها في سورة البقرة مثلا إعلام بمبادئ الأمور، وذكرها هنا تنظير للحال وتوطئة للإنكار والتوبيخ، وقس على ذلك.
وفسق: تجاوز عن طاعته. وأصله قولهم: فسقت الرطبة، إذا خرجت من قشرها فاستعمل مجازا في التجاوز. قال أبو عبيدة. والفسق بمعنى التجاوز عن الطاعة. قال أبو عبيدة: "لم نسمع ذلك في شيء من أشعار الجاهلية ولا أحاديثها وإنما تكلم به العرب بعد نزول القرآن"، أي في هذه الآية ونحوها. ووافقه المبرد وابن الأعرابي. وأطلق الفسق في مواضع من القرآن على العصيان العظيم، وتقدم في سورة البقرة [26] عند قوله تعالى: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ} .
والأمر في قوله: {عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} بمعنى المأمور، أي ترك وابتعد عما أمره لله به.
والعدول في قوله: {عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} إلى التعريف بطريق الإضافة دون الضمير لتفظيع فسق الشيطان عن أمر الله بأنه فسق عبد أمر من تجب عليه طاعته لأنه مالكه.

وفرع على التذكير بفسق الشيطان وعلى تعاظمه على أصل النوع الإنساني إنكار اتخاذه واتخاذ جنده أولياء لأن تكبره على آدم يقتضي عداوته للنوع، ولأن عصيانه أمر مالكه يقتضي أنه لا يرجى منه خير وليس أهلا لأن يتبع.
والاستفهام مستعمل في الإنكار والتوبيخ للمشركين، إذ كانوا يعبدون الجن، قال تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ} [الأنعام: 100]ولذلك علل النهي بجملة الحال وهي جملة {هُمُ الْعَدُوُّ} [المنافقون: 4].
والذرية: النسل، وذرية الشيطان الشياطين والجن.
والعدو: اسم يصدق على الواحد وعلى الجمع، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة: 1] وقال: {هُمُ الْعَدُوُّ} [المنافقون: 4].
عومل هذا الاسم معاملة المصادر لأنه على زنة المصدر مثل القبول والولوع، وهما مصدران. وتقدم عند قوله تعالى: {فإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ} في سورة النساء [92].
والولي: من يتولى، أي يتخذ ذا ولاية بفتح الواو وهي القرب. والمراد به القرب المعنوي، وهو الصداقة والنسب والحلف. و {من} زائدة للتوكيد، أي تتخذونهم أولياء مباعدين لي. وذلك هو إشراكهم في العبادة، فإن كل حالة يعبدون فيها الآلهة هي اتخاذ لهم أولياء من دون الله.
والخطاب في {أَفتَتَّخِذُونَهُ} وما بعده خطاب للمشركين الذين اتخذوه وليا. وتحذير للمسلمين من ذلك.
وجملة {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} مستأنفة لإنشاء ذم إبليس وذريته باعتبار اتخاذ المشركين إياهم أولياء. أي بئس البدل للمشركين الشيطان وذريته، فقوله: {بدلا} تمييز مفسر لاسم {بئس} المحذوف لقصد الاستغناء عنه بالتمييز على طريقة الإجمال ثم التفصيل.
والظالمون هم المشركون. وإظهار الظالمين في موضع الإضمار للتشهير بهم. ولما في الاسم الظاهر من معنى الظلم الذي هو ذم لهم.
[51] {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ

الْمُضِلِّينَ عَضُداً}
تتنزل هذه الجملة منزلة التعليل للجملتين اللتين قبلها وهما {أَفتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ} إلى قوله {بدلا} [الكهف: 50]، فإنهم لما لم يشهدوا خلق السماوات والأرض لم يكونوا شركاء لله في الخلق بطريق الأولى فلم يكونوا أحقاء بان يعبدوا. وهذا احتجاج على المشركين بما يعترفون به فإنهم يعترفون بأن الله هو المتفرد بخلق السماوات والأرض وخلق الموجودات.
والإشهاد: جعل الغير شاهدا، أي حاضرا، وهو هنا كناية عن إحضار خاص، وهو إحضار المشاركة في العمل أو الإعانة عليه. ونفي هذا الشهود يستلزم نفي المشاركة في الخلق والإلهية بالفحوى أي، بالأولى، فإن خلق السماوات كان قبل وجود إبليس وذريته، فهو استدلال على انتفاء إلهيتهم بسبق العدم على وجودهم. وكل ما جاز عليه العدم استحال عليه القدم، والقدم من لوازم الإلهية. وضمائر الغيبة في قوله: {أشهدتم} وقوله: {أنفسهم} عائدة إلى المتحدث عنه، أي إبليس وذريته كما عاد إليهم الضمير في قوله {وَهُمْ لَكُمْ عَدُو} .
ومعنى {أنفسهم} ، أنفس بعضهم بقرينة استحالة مشاهدة المخلوق خلق نفسه، فإطلاق الأنفس هنا نظير إطلاقه في قوله تعالى: {فإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فسَلِّمُوا عَلَى أَنْفسِكُمْ} [النور: 61] وفي قوله {وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} [البقرة: 84]، أي أنفس بعضكم. فعلى هذا الوجه تتناسق الضمائر ويتقوم المعنى المقصود.
واعلم أن الله تعالى خلق السماوات والأرض قبل أن يخلق لهما سكانهما كما دل عليه قوله: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ في يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فوْقِهَا وَبَارَكَ فيهَا وَقَدَّرَ فيهَا أَقْوَاتَهَا في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:9-12]
وكان أهل الجاهلية يعتقدون في الأرض جنا متصرفين فكانوا إذا نزلوا واديا مخوفا قالوا: أعوذ بعزيز هذا الوادي، ليكونوا في أمن من ضره.
وقرأ أبو جعفر {ما أشهدناهم} بنون العظمة، وقرأ {وَمَا كُنْتُ} بفتح التاء على الخطاب، والخطاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو خبر مستعمل في النهي.

والمراد ب {المضلين} الشياطين، لأنهم أضلوا الناس بإلقاء خواطر الضلالة والفساد في النفوس، كما قال تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121].
وجملة {وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً} تذييل لجملة {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} .
والعدول عن الإضمار بأن يقال: وما كنت متخذهم إلى {المضلين} لإفادة الذم، ولأن التذييل ينبغي أن يكون كلاما مستقلا.
والعضد بفتح العين وضم الضاد المعجمة في الأفصح، و بالفتح وسكون الضاد في لغة تميم. وفيه لغات أخرى أضعف. ونسب ابن عطية أن أبا عمرو قراه بضم العين وضم الضاد على أنها لغة في عضد وهي رواية هارون عن أبي عمرو وليست مشهورة. وهو: العظم الذي بين المرفق والكتف. وهو يطلق مجازا على المعين على العمل، يقال: فلان عضدي واعتضدت به.
والمعنى: لا يليق بالكمال الإلهي أن أتخذ أهل الإضلال أعوانا فأشركهم في تصرفي في الإنشاء، فإن الله مفيض الهداية وواهب الدراية فكيف يكون أعوانه مصادر الضلالة، أي لا يعين المعين إلا على عمل أمثاله، ولا يكون إلا قرينا لأشكاله.
[52] {وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فدَعَوْهُمْ فلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً}
عطف على جملة {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} فيقدر: واذكر يوم يقول نادوا شركائي، أو على جملة {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الكهف: 51] فالتقدير: ولا أشهدت شركاءهم جميعا ولا تنفعهم شركاؤهم يوم الحشر، فهو انتقال من إبطال معبودية الشيطان والجن إلى إبطال إلهية جميع الآلهة التي عبدها دهماء المشركين مع بيان ما يعتريهم من الخيبة واليأس يومئذ. وقد سلك في إبطال إلهيتها طريق المذهب الكلامي وهو الاستدلال على انتفاء الماهية بانتفاء لوازمها، فإنه إذا انتفى نفعها للذين يعبدونها استلزم ذلك انتفاء إلهيتها، وحصل بذلك تشخيص خيبتهم ويأسهم من النجاة.

وقرأه الجمهور {يقول} بياء الغيبة وضمير الغائب عائد إلى الله تعالى لدلالة المقام عليه، وقرأ حمزة {نقول} بنون العظمة.
واليوم الذي يقع فيه يوم الحشر. والمعنى: يقول للمشركين، كما دل عليه قوله: {الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} ، أي زعمتموهم شركائي. وقدم وصفهم بوصف الشركاء قبل فعل الزعم تهكما بالمخاطبين وتوبيخا لهم، ثم أردف بما يدل على كذبهم فيما ادعوا بفعل الدال على اعتقاد باطل.
والنداء: طلب الإقبال للنصرة والشفاعة.
والاستجابة: الكلام الدال على سماع النداء والأخذ في الإقبال على المنادي بنحو قول: لبيكم.
وأمره إياهم بمناداة شركائهم مستعمل في معناه مع إرادة لازمة وهو إظهار باطلهم بقرينة الزعم. ولذلك لم يسعهم إلا أن ينادوهم حيث قال: {فدعوهم} لطمعهم، فإذا نادوهم تبين لهم خيبة طمعهم. ولذلك عطف فعل الدعاء بالفاء الدالة على التعقيب. وأتى به في صيغة المضي للدلالة على تعجيل وقوعه حينئذ حتى كأنه قد انقضى.
والموبق: مكان الوبوق، أي الهلاك. يقال: وبق مثل وعد ووجل وورث. والموبق هنا أريد به جهنم، أي حين دعوا أصنامهم بأسمائهم كون الله فيما بين مكانهم ومكان أصنامهم فوهات جهنم، ويجوز أن تكون جملة {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً} جملة حال، أي وقد جعلنا بينهم موبقا تمهيدا لما من قوله: {وَرَأى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ} [الكهف: 53].
[53] {وَرَأى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً}
عطف على جملة {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً} [الكهف: 52]، أي جعلنا الموبق ورآه المجرمون، فذكر المجرمين إظهار في مقام الإضمار للدلالة على ما يفيد المجرمون من تلبسهم بما استحقوا به عذاب النار. وكذلك بـ {النار} في مقام الإضمار للموبق للدلالة على أن الموبق هو النار فهو شبيه بعطف البيان.
والظن مستعمل هنا في معنى التحقق وهو من استعمالاته. ولعل اختياره هنا ضرب من التهكم بهم، بأنهم رجحوا أن تلك النار أعدت لأجلهم في حين أنهم موقنون بذلك.
والمواقعة: مفاعلة من الوقوع، وهو الحصول لقصد المبالغة، أي واقعون فيها وقوع

الشيء الحاصل في موقع يتطلبه فكأنه يقع هو فيه.
والمصرف: مكان الصرف، أي التخلص والمجاوزة. وفي الكلام إيجاز، تقديره: وحاولوا الانقلاب أو الانصراف فلم يجدوا عنها مصرفا، أي مخلصا.
[54] {وَلَقَدْ صَرَّفنَا في هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} .
عطف على الجمل السابقة التي ضربت فيها أمثال من قوله: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ} [الكهف: 32] وقوله: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 45]. ولما كان في ذلك لهم مقنع وما لهم منه مدفع عاد إلى التنويه بهدي القرآن عودا ناظرا إلى قوله: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ} [الكهف: 27]وقوله {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فمَنْ شَاءَ فلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فلْيَكْفرْ} [الكهف: 29]، فأشار لهم أن هذه الأمثال التي قرعت أسماعهم هي من جملة هدي القرآن الذي تبرموا منه. وتقدم الكلام على نظير هذه الآية عند قوله {وَلَقَدْ صَرَّفنَا لِلنَّاسِ في هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفوراً} في سورة الإسراء [89]، سوى أنه يتجه هنا أن يسال لم قدم في هذه الآية أحد متعلقي فعل التصريف على الآخر إذ قدم هنا قوله: {في هَذَا الْقُرْآنِ} على قوله: {للناس} عكس آية سورة الإسراء. وهو ما أشرنا إليه عند الآية السابقة من أن ذكر القرآن أهم من ذكر الناس بالأصالة، ولا مقتضى للعدول عنه هنا بل الأمر بالعكس لأن الكلام جار في التنويه بشأن القرآن وأنه ينزل بالحق لا بهوى الأنفس.
والناس: اسم عام لكل من يبلغه القرآن في سائر العصور المستقبلة، والمقصود على الخصوص المشركون. كما دل عليه جملة {وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} ، فوزانه وزان قوله: {وَلَقَدْ صَرَّفنَا لِلنَّاسِ في هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفوراً} [الاسراء:89]. وسيجيء قوله: {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} [الكهف: 56]. وهذا يشبه العام الوارد على سبب خاص وقرائن خاصة.
وجملة {وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} تذييل، وهو مؤذن بكلام محذوف على وجه الإيجاز، والتقدير: فجادلوا فيه وكان الإنسان أكثر جدلا، فإن الإنسان اسم لنوع بني آدم. وحرف {ال} فيه لتعريف الحقيقة فهو أوسع عموما من لفظ الناس. والمعنى: أنهم جادلوا. والجدال: خلق، منه ذميم يصد عنه تأديب الإسلام ويبقى في خلق المشركين.

ومنه محمود كما في قوله تعالى { فلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا في قَوْمِ لُوطٍ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود: 74،75], فأشار بالثناء على إبراهيم إلى أن جداله محمود. وليس المراد بالإنسان الإنسان الكافر كما في قوله تعالى: {وَيَقُولُ الْأِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً} [مريم: 66] ولا المراد بالجدل الجدل بالباطل، لأن هذا سيجيء في قوله تعالى: {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفرُوا بِالْبَاطِلِ} الآية، فقوله هنا: {وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} تمهيد لقوله بعده {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفرُوا بِالْبَاطِلِ} [الكهف: 56].
و {شيء} اسم مفرد متوغل في العموم. ولذلك صحت إضافة اسم التفضيل إليه، أي أكثر الأشياء. واسم التفضيل هنا مسلوب المفاضلة مثل قوله: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف: 33]، وإنما أتي بصيغته لقصد المبالغة في شدة جدل الإنسان وجنوحه إلى المماراة والنزاع حتى فيما ترك الجدال في شأنه أحسن، بحيث إن شدة الوصف فيه تشبه تفوقه في الوصف على كل من يعرض أنه موصوف به.
وإنما ألجئنا إلى هذا التأويل في اسم التفضيل لظهور أن غير الإنسان من أنواع ما على الأرض لا يتصور منه الجدل. فالجدل خاص بالإنسان لأنه من شعب النطق الذي هو فصل حقيقة الإنسانية، أما الملائكة فجدلهم محمود مثل قولهم: {أَتَجْعَلُ فيهَا مَنْ يُفسِدُ فيهَا} إلى قوله: {ونُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة: 30]. وأما الشياطين فهم أكثر جدلا من الإنسان، ولكن لما نبا المقام عن إرادتهم كانوا غير مرادين بالتفضيل عليهم في الجدل.
و {جدلا} تمييز لنسبة الأكثرية إلى الإنسان. والمعنى: وكان الإنسان كثيرا من جهة الجدل، أي كثيرا جدله. ويدل لهذا المعنى ما ثبت في الصحيح عن علي: "أن النبي صلى الله عليه وسلم طرقه وفاطمة ليلا فقال: ألا تصليان? فقال علي: يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله إن شاء أن يبعثنا بعثنا، قال: فانصرف رسول الله حين قلت له ذلك ولم يرجع إلي شيئا، ثم سمعته يضرب فخذه ويقول {وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} . يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأولى بعلي أن يحمد إيقاظ رسول الله إياه ليقوم من الليل وأن يحرص على تكرر ذلك وأن يسر بما في الكلام رسول الله من ملام، ولا يستدل بما يحبذ استمرار نومه، فذلك محل تعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم من جواب علي رضي الله عنه.
ولا يحسن أن يحمل التفضيل في الآية على بابه بأن يراد أن الإنسان أكثر جدلا من الشياطين والجن مما يجوز على حقيقته الجدل لأنه محمل لا يراد مثله في مثل هذا. ومن

أنبأنا أن للشياطين والجن مقدرة على الجدل?.
والجدل: المنازعة بمعاوضة القول، أي هو الكلام الذي يحاول به إبطال ما في كلام المخاطب من رأي أو عزم عليه: بالحجة أو بالإقناع أو بالباطل، قال تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46]،وقال {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ في زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} [المجادلة: 1]، وقال {يُجَادِلُنَا في قَوْمِ لُوطٍ} [هود: 74]، وقال: {وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفسَهُمْ} [النساء: 107] وقال {يجادلونك في الحق بعد ما تبين} [الأنفال: 6].
والمراد هنا مطلق الجدل وبخاصة ما كان منه بباطل، أي أن كل إنسان في طبعه الحرص على إقناع المخالف بأحقية معتقده أو عمله. وسياق الكلام يقتضي إرادة الجدل الباطل.
[55] {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً}
عطف على جملة {وَلَقَدْ صَرَّفنَا في هَذَا الْقُرْآنِ} [الكهف: 54] الخ. ومعناها متصل تمام الاتصال بمعنى الجملة التي قبلها بحيث لو عطفت عليها بفاء التفريع لكان ذلك مقتضى الظاهر. وتعتبر جملة {وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} [الكهف: 54] معترضة بينهما أولا أن في جعل هذه الجملة مستقلة بالعطف اهتماما بمضمونها في ذاته، بحيث يعد تفريعه على مضمون التي قبلها يحيد به عن الموقع الجدير هو به في نفوس السامعين إذ أريد أن يكون حقيقة مقررة في النفوس. ولهذه الخصوصية فيما أرى عدل في هذه الجملة عن الإضمار إلى الإظهار بقوله: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ} وبقوله: {إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى} دون أن يقول: وما منعهم أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى قصدا لاستقلال الجملة بذاتها غير مستعانة بغيرها، فتكون فائدة مستقلة تستأهل توجه العقول إلى وعيها لذاتها لا لأنها فرع على غيرها.
على أن عموم {الناس} هنا أشتمل من عموم لفظ {الناس} في قوله: {وَلَقَدْ صَرَّفنَا في هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ} [الكهف: 54] فإن ذلك يعم الناس الذين يسمعون القرآن في أزمان ما بعد نزول تلك الآية، وهذا يعم الناس كلهم الذين امتنعوا من الإيمان بالله.
وكذلك عموم لفظ {الهدى} يشمل هدى القرآن وما قبله من الكتب الإلهية وأقوال

الأنبياء كلها، فكانت هذه الجملة قياسا تمثيليا بشواهد التاريخ وأحوال تلقي الأمم دعوات رسلهم.
فالمعنى: ما منع هؤلاء المشركين من الإيمان بالقرآن شيء يمنع مثله، ولكنهم كالأمم الذين قبلهم الذين جاءهم الهدى بأنواعه من كتب وآيات وإرشاد إلى الخير.
والمراد بـ {الأولين} السابقون من الأمم في الضلال والعناد. ويجوز أن يراد بهم الآباء، أي سنة آبائهم، أي طريقتهم ودينهم. ولكل أمة أمة سبقتها.
و {أَنْ تَأْتِيَهُمْ} استثناء مفرغ هو فاعل {وما منع} . {أن يؤمنوا} منصوب على نزع الخافض، أي من أن يؤمنوا.
ومعنى {تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ} تحل فيهم وتعتريهم. أي تلقى في نفوسهم وتسول إليهم. والمعنى: أنهم يشبهون خلق من كانوا قبلهم من أهل الضلال ويقلدونهم، كما قال تعالى: {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذريات:53]
وسنة الأولين: طريقتهم في الكفر. وإضافة {سنة} إليهم تشبه إضافة المصدر إلى فاعله. أي السنة التي سنها الأولون. وإسناد منعهم من الإيمان إلى إتيان سنة الأولين استعارة.
والمعنى: ما منع الناس أن يؤمنوا إلا الذي منع الأولين قبلهم من عادة العناد والطغيان وطريقتهم في تكذيب الرسل والاستخفاف بهم.
وذكر الاستغفار هنا بعد ذكر الإيمان تلقين إياهم بأن يبادروا بالإقلاع عن الكفر وأن يتوبوا إلى الله من تكذيب النبي ومكابرته.
و {أو} هي التي بمعنى إلى، وانتصاب فعل {يَأْتِيَهُمُ العَذَابُ} بـ {أن} مضمرة بعد {أو}. و {أو} متصلة المعنى بفعل {منع}، أي منعهم تقليد سنة الأولين من الإيمان إلى أن يأتيهم العذاب كما أتى الأولين.
هذا ما بدا لي في تفسير هذه الآية وأراه أليق بموقع هاته الآية من التي قبلها.
فأما جميع المفسرين فقد تأولوا الآية على خلاف هذا على كلمة واحدة فجعلوا المراد بالناس عين المراد بهم في قوله: {وَلَقَدْ صَرَّفنَا في هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} [الكهف: 54]، أي ما منع المشركين من الإيمان بالله ورسوله. وجعلوا المراد بالهدى

عين المراد بالقرآن، وحملوا سنة الأولين على معنى سنة الله في الأولين، أي الأمم المكذبين الماضين، أي فإضافة {سنة} إلى {الأولين} مثل إضافة المصدر إلى مفعوله، وهي عادة الله فيهم، أي يعذبهم عذاب الاستئصال.
وجعلوا إسناد المنع من الإيمان إلى إتيان سنة الأولين، بتقدير مضاف، أي انتظار أن تأتيهم سنة الله في الأولين، أي ويكون الكلام تهكما وتعريضا بالتهديد بحلول العذاب بالمشركين، أي لا يؤمنون إلا عند نزول عذاب الاستئصال، أي على معنى قوله تعالى: {فهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فانْتَظِرُوا} [يونس: 102].
وجعلوا قوله: {أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً} قسيما لقوله: {إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ} ،فحرف {أو} للتقسيم، وفعل {يأتيهم} منصوب بالعطف على فعل {أن تأتيهم سنة الأولين} بالاستئصال المفاجئ أو يأتيهم العذاب مواجها لهم. وجعلوا {قبلا} حالا من {العذاب} ، أي مقابلا. قال الكلبي: وهو عذاب السيف يوم بدر. ولعله يريد أنه عذاب مقابلة وجها لوجه، أي عذاب الجلاد بالسيوف. ومعناه: أن المشركين منهم من ذاق عذاب السيف في غزوات المسلمين، ومنهم من مات فهو يرى عذاب الآخرة. وعلى هذا التفسير الذي سلكوه ينسلخ من الآية معنى التذييل، وتقصر على معنى التهديد.
والإتيان: مجاز في الحصول في المستقبل، لوجود {أن} المصدرية التي تخلص المضارع للاستقبال، وهو استقبال نسبي فلكل أمة استقبال سنة من قبلها.
والسنة: العادة المألوفة في حال من الأحوال.
وإسناد منعهم الإيمان إلى إتيان سنة الأولين أو إتيان العذاب إسناد مجاز عقلي. والمراد: ما منعهم إلا سبب إتيان سنة الأولين لهم أو إتيان العذاب. وسبب ذلك هو التكبر والمكابرة والتمسك بالضلال، أي أنه لا يوجد مانع يمنعهم الإيمان يخولهم المعذرة به ولكنهم جروا على سنن من قبلهم من الضلال. وهذا كناية عن انتفاء إيمانهم إلى أن يحل بهم أحد العذابين.
وفي هذه الكناية تهديد وإنذار وتحذير وحث على المبادرة بالاستغفار من الكفر. وهو في معنى قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس: 96-97]
و {قبلا} حال من العذاب. وهو بكسر القاف وفتح الباء في قراءة الجمهور

بمعنى المقابل الظاهر. وقرأ حمزة، وعاصم، والكسائي، وأبو جعفر، وخلف (قبلا) بضمتين وهو جمع قبيل، أي يأتيهم العذاب أنواعا.
[56] {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُواً}
بعد أن أشار إلى جدالهم في هدى القرآن بما مهد له من قوله: {وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} [الكهف: 54]. وأشار إلى أن الجدال فيه مجرد مكابرة وعناد، وأنه لا يحف بالقرآن ما يمنع من الإيمان به كما لم يحف بالهدى الذي أرسل إلى الأمم ما يمنعهم الإيمان به، أعقب ذلك بأن وظيفة الرسل التبليغ بالبشارة والنذارة لا التصدي للمجادلة، لأنها مجادلة لم يقصد منها الاسترشاد بل الغاية منها إبطال الحق.
والاستثناء من أحوال عامة محذوفة، أي ما نرسل المرسلين في حال إلا في حال كونهم مبشرين ومنذرين. والمراد بالمرسلين جميع الرسل.
وجملة {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفرُوا بِالْبَاطِلِ} عطف على جملة {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} . وكلتا الجملتين مرتبط بجملتي {وَلَقَدْ صَرَّفنَا في هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} [الكهف: 54]. وترتيب هذه الجمل في الذكر جار على ترتيب معانيها في النفس بحيث يشعر بأن كل واحدة منها ناشئ معناها على معنى التي قبلها، فكانت جملة {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفرُوا بِالْبَاطِلِ} مفيدة معنى الاستدراك، أي أرسلنا الرسل مبشرين ومنذرين بما فيه مقنع لطالب الهدى، ولكن الذين كفروا جادلوه بالباطل لإزالة الحق لا لقصد آخر. واختيار فعل المضارعة للدلالة على تكرر المجادلة، أو لاستحضار صورة المجادلة.
والمجادلة تقدمت في قوله تعالى: {يُجَادِلُنَا في قَوْمِ لُوطٍ} [هود: 74] في سورة هود.
والإدحاض: الإزلاق، يقال: دحضت القدم، إذا زلت، وهو مجاز في الإزالة، لأن الرجل إذا زلقت زالت عن موضع تخطيها، قال تعالى: {فسَاهَمَ فكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات:141]
وجملة {وَاتَّخَذُوا آيَاتِي} عطف على جملة {وَيُجَادِلُ } فإنهم ما قصدوا من المجادلة الاهتداء، ولكن أرادوا إدحاض الحق واتخاذ الآيات كلها وبخاصة آيات الإنذار هزؤا.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68