كتاب : التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور
المؤلف : محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي

والهزو: مصدر هزا، أي اتخذوا ذلك مستهزأ به. والاستهزاء بالآيات هو الاستهزاء عند سماعها، كما يفعلون عند سماع آيات الإخبار بالبعث وعند سماع آيات الوعيد والإنذار بالعذاب.
وعطف {وَمَا أُنْذِرُوا} على {الآيات} عطف خاص على عام لأنه أبلغ في الدلالة على توغل كفرهم وحماقة عقولهم.
{وَمَا أُنْذِرُوا} مصدرية، أي وإنذارهم والإخبار بالمصدر للمبالغة.
وقرأ الجمهور {هزؤا} بضم الزاي. وقرأه حمزة {هزءا} بسكون الزاي.
[57] {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفقَهُوهُ وَفي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً}
لما بين حالهم من مجادلة الرسل لسوء نية، ومن استهزائهم بالإنذار، وعرض بحماقتهم أتبع ذلك بأنه أشد الظلم. وذلك لأنه ظلم المرء نفسه وهو أعجب الظلم. فالذين ذكروا ما هم في غفلة عند تذكير بواسطة آيات الله وأعرضوا عن التأمل فيها مع أنها تنذرهم بسوء العاقبة. وشأن العاقل إذا سمع مثل ذلك أن يتأهب للتأمل وأخذ الحذر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لقريش "إذا أخبرتكم أن العدو مصبحكم غدا أكنتم مصدقي?: ما جربنا عليك كذبا فقال فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد" .
و {من} المجرورة موصولة، وهي غير خاصة بشخص معين بقرينة قوله: {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} . والمراد بها المشركين من العرب الذين ذكروا بالقرآن فأعرضوا عنه.
وعطف إعراضهم عن الذكر على التذكير بفاء التعقيب إشارة إلى أنهم سارعوا بالإعراض ولم يتركوا لأنفسهم مهلة النظر والتأمل.
ومعنى نسيان ما قدمت يداه أنه لم يعرض حاله وأعماله على النظر والفكر ليعلم: أهي صالحة لا تخشى عواقبها أم هي سيئة من شأنها أن لا يسلم مقترفها من مؤاخذة، والصلاح بين والفساد بين، ولذلك سني الأول معروفا والثاني منكرا، ولا سيما بعد أن جاءتهم الذكرى على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم فهم بمجموع الحالين أشد الناس ظلما، ولو تفكروا قليلا لعلموا أنهم غير مفلتين من لقاء جزاء أعمالهم.

فـ {من} استفهام مستعمل في الإنكار، أي لا أحد أظلم من هؤلاء المتحدث عنهم.
والنسيان: مستعمل في التغاضي عن العمل. وحقيقة النسيان تقدم عند قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} في سورة البقرة [106].
ومعنى {مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} ما أسلفه من الأعمال. وأكثر ما يستعمل مثل هذا التركيب في القرآن في العمل السيء، فصار جاريا مجرى المثل، قال تعالى: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [آل عمران:182]، وقال: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30]
والآية مصوغة بصيغة العموم، والمقصود الأول: منها مشركو أهل مكة.
وجملة {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} مستأنفة بيانية نشأت على جملة {وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} ، أي إن لم تعلم سبب نسيانه ما قدمت يداه فأعلم أنا جعلنا على قلوبهم أكنة. وهو يفيد معنى التعليل بالمآل، وليس موقع الجملة التعليلية.
والقلوب مراد بها: مدارك العلم.
والأكنة: جمع كنان، وهو الغطاء، لأنه يكن الشيء، أي يحجبه.
و {أَنْ يَفقَهُوهُ} مجرور بحرف محذوف، أي من أن يفقهوه، لتضمين {أكنة} معنى الحائل أو المانع.
والوقر: ثقل السمع المانع من وصول الصوت إلى الصماخ.
والضمير المفرد في {يفقهوه} عائد إلى القرآن المفهوم من المقام والمعبر عنه بالآيات.
وجملة {وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى} عطف على جملة { إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ} ، وهي متفرعة عليها، ولكنها لم تعطف بالفاء لأن المقصود جعل ذلك في الإخبار المستقل.
وأكد نفي اهتدائهم بحرف توكيد النفي وهو {لن}، وبلفظ {أبدا} المؤكد لمعنى {لن}، وبحرف الجزاء المفيد تسبب الجواب على الشرط.
وإنما حصل معنى الجزاء باعتبار تفرع جملة الشرط على جملة الاستئناف البياني، أي ذلك مسبب على فطر قلوبهم على عدم قبول الحق.
[58] {وَرَبُّكَ الْغَفورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ

لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً} .
جرى القرآن على عادته في تعقيب الترهيب والترغيب والعكس، فلما رماهم بقوارع التهديد والوعيد عطف على ذلك التعريض بالتذكير بالمغفرة لعلهم يتفكرون في مرضاته، ثم التذكير بأنه يشمل الخلق برحمته في حين الوعيد فيؤخر ما توعدهم به إلى حد معلوم إمهالا للناس لعلهم يرجعون عن ضلالهم ويتدبرون فيما هم فيه من نعم الله تعالى فلعلهم يشكرون، موجها الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم مفتتحا باستحضار الجلالة بعنوان الربوبية للنبي صلى الله عليه وسلم إيماء إلى أن مضمون الخبر تكريم له، كقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فيهِمْ} [لأنفال: 33].
والوجه في نظم الآية أن يكون {الغفور} نعتا للمبتدأ ويكون {ذو الرحمة} هو الخبر لأنه المناسب للمقام ولما بعده من جملة {لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ} ، فيكون ذكر {الغفور} إدماجا في خلال المقصود. فخص بالذكر من أسماء الله تعالى اسم {الغفور} تعريضا بالترغيب في الاستغفار.
والغفور: اسم يتضمن مبالغة الغفران لأنه واسع المغفرة إذ يغفر لمن لا يحصون ويغفر ذنوبا لا تحصى إن جاءه عبده تائبا منكسرا، على أن إمهاله الكفار والعصاة هو أيضا من أثر المغفرة إذ هو مغفرة مؤقتة.
وأما قوله: {ذُو الرَّحْمَةِ} فهو المقصود تمهيدا لجملة {لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا} ، فلذلك كانت تلك الجملة بيانا لجملة {وَرَبُّكَ الْغَفورُ ذُو الرَّحْمَةِ} باعتبار الغفور الخبر وهو الوصف الثاني.
والمعنى: أنهم فيما كسبوه من الشرك والعناد أحرياء بتعجيل العقوبة ولكن الله يمهلهم إلى أمد معلوم مقدر. وفي ذلك التأجيل رحمة بالناس بتمكين بعضهم من مهلة التدارك وإعادة النظر، وفيه استبقاؤهم على حالهم زمنا.
فوصف {ذُو الرَّحْمَةِ} يساوي وصف {الرحيم} لأن {ذو} رسوخ النسبة بين موصوفها وما تضاف إليه.
وإنما عدل عن وصف[الرحيم] إلى {ذو الرحمة} للتنبيه على أنه لا نعت تنبيها بطريقة تغيير الأسلوب، فإن اسم {الرحيم} صار شبيها بالأسماء الجامدة، لأنه صيغ بصيغة الصفة المشبهة فبعد عن ملاحظة الاشتقاق فيه واقترب من صنف الصفة الذاتية.

و {بل} للإضراب الإبطالي عن مضمون جواب {لو}، أي لم يعجل لهم العذاب إذ لهم موعد للعذاب متأخر، وهذا تهديد بما يحصل لهم يوم بدر.
والموئل: مفعل من وأل بمعنى لجأ، فهو اسم مكان بمعنى الملجأ.
وأكد النفي بـ {لن} ردا على إنكارهم، إذ هم يحسبون أنهم مفلتون من العذاب حين يرون أنه تأخر مدة طويلة، أي لأن لا ملجأ لهم من العذاب دون وقت وعده أو مكان وعده، فهو ملجؤهم. وهذا من تأكيد الشيء بما يشبه ضده، أي هم غير مفلتين منه.
[59] {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً} .
بعد أن أزيل غرورهم بتأخر العذاب، وأبطل الإفلات منه ببيان أن ذلك إمهال من أثر رحمة الله بخلقه. ضرب لهم المثل في ذلك بحال أهل القرى السالفين الذين أخر عنهم العذاب مدة ثم لم ينجوا منه بأخرة، فالجملة معطوفة على جملة {بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ} [الكهف: 58].
والإشارة بـ {تلك} إلى مقدر في الذهن، وكاف الخطاب المتصلة باسم الإشارة لا يراد بها مخاطب ولكنها من تمام اسم الإشارة، وتجري على ما يناسب حال المخاطب بالإشارة من واحد أو أكثر، والعرب يعرفون ديار عاد وثمود ومدين ويسمعون بقوم لوط وقوم فرعون فكانت كالحاضرة حين الإشارة.
والظلم: الشرك وتكذيب الرسل. والمهلك بضم الميم وفتح اللام مصدر ميمي من {أهلك}، أي جعلنا لإهلاكنا إياهم وقتا معينا في علمنا إذا جاء حل بهم الهلاك. وهذه قراءة الجمهور. وقرأه حفص عن عاصم بفتح الميم وكسر اللام على أنه اسم زمان على وزن مفعل. وقرأه أبو بكر عن عاصم بفتح الميم وفتح اللام على أنه مصدر ميمي لهلك.
[60] {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً}
لما جرى ذكر قصة خلق آدم وأمر الله الملائكة بالسجود له، وما عرض للشيطان من الكبر والاعتزاز بعنصره جهلا بأسباب الفضائل ومكابرة في الاعتراف بها وحسدا في الشرف والفضل، فضرب بذلك مثلا لأهل الضلال عبيد الهوى والكبر والحسد، أعقب

تلك القصة بقصة هي مثل في ضدها لأن تطلب ذي الفضل والكمال للازدياد منهما وسعيه للظفر بمن يبلغه الزيادة من الكمال، اعترافا للفاضل بفضلته. وفي ذلك إبداء المقابلة بين الخلقين ولإقامة الحجة على المماثلة والمخالفة بين الفريقين المؤمنين والكافرين، وفي خلال ذلك تعليم وتنويه بشأن العلم والهدى، وتربية للمتقين.
ولأن هذه السورة نزلت بسبب ما سأل المشركون والذين أملوا عليهم من أهل الكتاب عن قصتين قصة أصحاب الكهف وقصة ذي القرنين. وقد تقضى الجواب عن القصة الأولى وما ذيلت به، وآن أن ينتقل إلى الجواب عن القصة الثانية فتختم بذلك هذه السورة التي أنزلت لبيان القصتين. قدمت لهذه القصة الثانية قصة لها شبه بها في أنها تطواف في الأرض لطلب نفع صالح. وهي قصة سفر موسى عليه السلام لطلب لقاء من هو على علم لا يعلمه موسى. وفي سوق هذه القصة تعريض بأهل الكتاب بأن الأولى لهم أن يدلوا الناس على أخبار أنبياء إسرائيل وعلى سفر لأجل تحصيل العلم والحكمة لا سفر لأجل بسط الملك والسلطان.
فجملة {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفتَاهُ} معطوفة على جملة {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ} [الكهف: 50] عطف القصة على القصة. والتقدير: واذكر إذ قال موسى لفتاه، أي اذكر ذلك الزمن وما جرى فيه. وناسبها تقدير فعل {اذكر} لأن في هذه القصة موعظة وذكرى كما في قصة خلق آدم.
فانتصب {إذ} على المفعولية به.
والفتى: الذكر الشاب، والأنثى فتاة، وهو مستعمل مجازا في التابع والخادم. وتقدم عند قوله تعالى: {تُرَاوِدُ فَتَاهَا} في سورة يوسف [30].
وفتى موسى: خادمه وتابعه، فإضافة الفتى إلى ضمير موسى على معنى الاختصاص، كما يقال: غلامه. وفتى موسى هو يوشع بن نون من سبط أفرايم. وقد قيل: إنه ابن أخت موسى، كان اسمه الأصلي هوشع فدعاه موسى حين بعثه للتجسس في أرض كنعان يوشع. ولعل ذلك التغير في الاسم تلطف به، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة يا أبا هر. وفي التوراة: أن إبراهيم كان اسمه أبرام فلما أمره الله بخصال الفطرة دعاه إبراهام.
ولعل هذه التغييرات في العبرانية تفيد معاني غير معاني الأسماء الأولى فتكون كما دعا النبي صلى الله عليه وسلم زيد الخيل زيد الخير.

ويوشع أحد الرجال الاثني عشر الذين بعثهم موسى عليه السلام ليتجسسوا في أرض كنعان في جهات حلب وحبرون ويختبروا بأس أهلها وخيرات أرضها ومكثوا أربعين يوما في التجسس. وهو أحد الرجلين اللذين شجعا بني إسرائيل على دخول أرض طنعان اللذين ذكرهما القرآن في آية {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فإِنَّكُمْ غَالِبُونَ} [المائدة: 23]
كان ميلاد يوشع في حدود سنة 1463 قبل المسيح ووفاته في حدود سنة 1353 وعمر مائة وعشر سنين. وكان موسى عليه السلام قد قربه إلى نفسه واتخذه تلميذا وخادما، ومثل ذلك الاتخاذ يوسف صاحبه بمثل فتى أو غلام. ومنه وصفهم الإمام محمد بن عبد الواحد المطرز النحوي اللغوي غلام ثعلب، لشدة اتصاله بالإمام أحمد بن يحيى الشيباني الملقب بثعلب.
وكان يوشع أحد الرجلين الذين عهد إليهما موسى عليه السلام بأن يقسما الأرض بين أسباط بني إسرائيل بعد موسى عليه السلام. وأمر الله موسى بأن يعهد إلى يوشع بتدبير أمر الأمة الإسرائيلية بعد وفاة موسى عليه السلام فعهد إليه موسى بذلك فصار نبيا من يومئذ. ودبر أمر الأمة بعد موسى سبعا وعشرين سنة. وكتاب يوشع هو أول كتب الأنبياء بعد موسى عليه السلام.
وابتدئت القصة بحكاية كلام موسى عليه السلام المقتضي تصميما على أن لا يزول عما هو فيه، أي لا يشتغل بشيء آخر حتى يبلغ مجمع البحرين، ابتداء عجيبا في باب الإيجاز، فإن قوله ذلك يدل على أنه كان في عمل نهايته البلوغ إلى مكان، فعلم أن ذلك العمل هو سير سفر.
ويدل على أن فتاة استعظم هذه الرحلة وخشي أن تنالهما فيها مشقة تعوقهما عن إتمامها. أو هو بحيث يستعظمها للعلم بأنها رحلة بعيدة، وذلك شأن أسباب الأمور المهمة، ويدل على أن المكان الذي يسير إليه مكان يجد عنده مطلبه.
و {أبرح} مضارع برح بكسر الراء، بمعنى زال يزول. وتقدم في سورة يوسف عليه السلام. واستعير {لاَ أَبْرَحُ} لمعنى: لا أترك، أولا أكف عن السير حتى أبلغ مجمع البحرين. ويجوز أن يكون مضارع برح الذي هو فعل ناقص لا يستعمل ناقصا إلا مع النفي ويكون الخبر محذوفا بقرينة الكلام، أي لا أبرح سائرا. وعن الرضي أن حذف خبرها قليل.

وحذف ذكر الغرض الذي سار لأجله موسى عليه السلام لأنه سيذكر بعد، وهو حذف إيجاز وتشويق. له موقع عظيم في حكاية القصة، لإخراجها عن مطروق القصص إلى أسلوب بديع الحكم والأمثال قضاء لحق بلاغة الإعجاز.
وتفصيل هذه القصة وارد في صحيح البخاري من حديث: عمرو بن دينار ويعلى بن مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن موسى عليه السلام قام خطيبا في بني إسرائيل فسئل: أي الناس أعلم? فقال: أنا. فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه. فأوحى الله إليه: بلى عبدنا خضر هو أعلم منك. قال: فأين هو? قال: بمجمع البحرين. قال موسى عليه السلام: يا رب اجعل لي علما أعلم ذلك به. قال: تأخذ معك حوتا في مكتل فحيث ما فقدت الحوت فهو ثم، فأخذ حوتا فجعله في مكتل وقال لفتاه يوشع بن نون: لا أكلفك إلا أن تخبرني بحيث يفارقك الحوت، قال أي فتاه: ما كلفت كثيرا. ثم انطلق وانطلق بفتاه حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فناما واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سربا وموسى نائم، فقال فتاه وكان لم ينم: لا أوقظه وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار الماء عليه مثل الطاق. فلما استيقظ موسى نسي صاحبه أن يخبره بالحوت، فانطلقا بقية يومهما وليلتهما حتى إذا كان من الغد قال موسى عليه السلام لفتاه: آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا. قال: ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمره الله به أي لأن الله ميسر أسباب الامتثال لأوليائه فقال له فتاه: أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره وأتخذ سبيله في البحر عجبا. قال: فكان للحوت سربا ولموسى ولفتاه عجبا. فقال موسى: ذلك ما كنا نبغي، فارتدا على آثارهما قصصا، قال: رجعا يقصان آثارهما حتى انتهى إلى الصخرة، فإذا رجل مسجى ثوبا فسلم عليه موسى. فقال الخضر: وأنى بأرضك السلام... الحديث.
قوله ]وأنى بأرضك السلام[ استفهام تعجب. والكاف خطاب للذي سلم عليه فكان الخضر يظن ذلك المكان لا يوجد به قوم تحيتهم السلام. إما لكون ذلك المكان كان خلاء وإما لكونه مأهولا بأمة ليست تحيتهم السلام.
وإنما أمسك الله عن الحوت جرية الماء ليكون آية مشهودة لموسى عليه السلام وفتاه زيادة في أسباب قوة يقينهما. ولأن المكان لما كان ظرفا لظهور معجزات علم

النبوءة ناسب أن يحف به ما هو خارق للعادة إكراما لنزلاء ذلك المكان.
ومجمع البحرين لا ينبغي أن يختلف في أنه مكان من أرض فلسطين. والأظهر أنه مصب نهر الأردن في بحيرة طبرية فإنه النهر العظيم الذي يمر بجانب الأرض التي نزل بها موسى عليه السلام وقومه. وكانت تسمى عند الإسرائيليين بحر الجليل، فإن موسى عليه السلام بلغ إليه بعد مسير يوم وليلة راجلا فعلمنا أنه لم يكن مكانا بعيدا جدا. وأراد موسى أن يبلغ ذلك المكان لأن الله أوحى إليه أن يجد فيه العبد الذي هو أعلم منه فجعله ميقاتا له.
ومعنى كون هذا العبد أعلم من موسى عليه السلام أنه يعلم علوما من معاملة الناس لم يعلمها الله لموسى. فالتفاوت في العلم في هذا المقام تفاوت بفنون العلوم. وهو تفاوت نسبي.
والخضر: اسم رجل صالح. قيل: هو نبي من أحفاد عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام. فهو الخضر بن ملكان بن فالغ بن عابر. فيكون ابن عم الجد الثاني لإبراهيم عليه السلام. وقيل: الخضر لقبه. وأما اسمه فهو بليا بموحدة أو إيليا بهمزة وتحتية.
واتفق الناس على أنه كان من المعمرين، ثم اختلفوا في أنه لم يزل حيا اختلافا لم يبن على أدلة مقبولة متعارفة ولكنه مستند إلى أقوال بعض الصوفية. وهي لا ينبغي اعتمادها لكثرة ما يقع في كلامهم من الرموز والخلط بين الحياتين الروحية والمادية، والمشاهدات الحسية والكشفية، وقد جعلوه رمز العلوم الباطنية كما سيأتي.
وزعم بعض العلماء أن الخضر هو جرجس: وقيل: هو من ذرية عيسو بن إسحاق. وقيل: هو نبي بعث بعد شعيب.
وجرجس المعنى هو المعروف باسم مارجرجس. والعرب يسمونه: مار سرجس كما في كتاب سيبويه . وهو من أهل فلسطين ولد في الرملة في النصف الآخر من القرن الثالث بعد مولد عيسى عليه السلام وتوفي سنة 303 وهو من الشهداء. وهذا ينافي كونه في زمن موسى عليه السلام .
والخضر لقب له، أي الموصوف بالخضرة، وهي رمز البركة، قيل: لقب خضرا لأنه كان إذا جلس على الأرض أخضر ما حوله، أي أخضر بالنبات من أثر بركته. وفي دائرة المعارف الإسلامية ذكرت تخرصات تلصق قصة الخضر بقصص بعضها فارسية وبعضها

رومانية وما رائده في ذلك إلا مجرد التشابه في بعض أحوال القصص، وذلك التشابه لا تخلو عنه الأساطير والقصص فلا ينبغي إطلاق الأوهام وراء أمثالها.
والمحقق أن قصة الخضر وموسى يهودية الأصل ولكنها غير مسطورة في كتب اليهود المعبر عنها بالتوراة أو العهد القديم. ولعل عدم ذكرها في تلك الكتب هو الذي أقدم نوفا البكالي على أن قال: إن موسى المذكور في هذه الآيات هو غير موسى بني إسرائيل كما ذكر ذلك في صحيح البخاري وأن ابن عباس كذب نوفا، وساق الحديث المتقدم.
وقد كان سبب ذكرها في القرآن سؤال نفر من اليهود أو من لقنهم اليهود إلقاء السؤال فيها على الرسول صلى الله عليه وسلم وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الاسراء: 85]
واختلف اليهود في أن صاحب الخضر هو موسى بن عمران الرسول وأن فتاه هو يوشع بن نون، فقيل: نعم، وقد تأيد ذلك بما رواه أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم وقيل: هو رجل آخر اسمه موسى بن ميشا أو منسه ابن يوسف بن يعقوب. وقد زعم بعض علماء الإسلام أن الخضر لقي النبي صلى الله عليه وسلم وعد من صحابته. وذلك توهم وتتبع لخيال القصاصين. وسمي الخضر بليا بن ملكان أو إيليا أو إلياس، فقيل: إن الخضر هو إلياس المذكور في سورة يس.
ولا يصح أن يكون الخضر من بني إسرائيل إذ لا يجوز أن يكون مكلفا بشريعة موسى وبقرة موسى على أفعال لا تبيحها شريعة. بل يتعين أن يكون نبيا موحى إليه بوحي خاص، وعلم موسى أنه من أمة غير مبعوث موسى إليها. ولما علم موسى ذلك مما أوحى الله إليه من قوله: بلى عبدنا خضر هو أعلم منك. كما في حديث أبي بن كعب، لم يصرفه عنه ما رأى من أعماله التي تخالف شريعة التوراة لأنه كان على شريعة أخرى أمة وحده. وأما وجوده في أرض بني إسرائيل فهو من السياحة في العبادة، أو أمره الله بأن يحضر في المكان الذي قدره للقاء موسى رفقا بموسى عليه السلام .
ومعنى {أَوَأَمْضِيَ} أو أسير. والمضي: الذهاب والسير.
والحقب بضمتين اسم للزمان الطويل غير منحصر المقدار، وجمعه أحقاب.
وعطف {أمضي} على {أبلغ} بـ {أو} فصار المعطوف إحدى غايتين للإقلاع عن السير، أي إما أن أبلغ المكان أو أمضي زمنا طويلا. ولما كان موسى لا يخامره الشك

في وجود مكان هو مجمع للبحرين وإلقاء طلبته عنده، لأنه علم ذلك بوحي من الله تعالى، تعين أن يكون المقصود بحرف الترديد تأكيد مضيه زمنا يتحقق فيه الوصول إلى مجمع البحرين. فالمعنى: لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين بسير قريب أو سير أزمانا طويلة فإني بالغ مجمع البحرين، وكأنه أراد بهذا تأييس فتاه من محاولة رجوعهما. كما دل عليه قوله بعد: {لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفرِنَا هَذَا نَصَباً} [الكهف:62]
أو أراد شحذ عزيمة فتاه ليساويه في صحة العزم حتى يكونا على عزم متحد.
[61-63] { فلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فاتَّخَذَ سَبِيلَهُ في الْبَحْرِ سَرَباً فلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفرِنَا هَذَا نَصَباً قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ في الْبَحْرِ عَجَباً}
الفاء للتفريع والفصيحة لأنها تفصح عن كلام مقدر، أي فسارا حتى بلغا مجمع البحرين. وضمير {بينهما} عائد إلى البحرين، أي محلا يجمع بين البحرين. وأضيف {مجمع} إلى {بين} على سبيل التوسع، فإن {بين} اسم لمكان.
متوسط شيئين، وشأنه في اللغة أن يكون ظرفا للفعل، ولكنه قد يستعمل لمجرد مكان متوسط إما بالإضافة كما هنا، ومنه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} [المائدة: 106]، وهو بمنزلة إضافة المصدر أو اسم الفاعل إلى معموله، أو بدون إضافة توسعا كقوله تعالى: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } [الأنعام: 94]في قراءة من قرأ برفع {بينكم} .
والحوت هو الذي أمر الله موسى باستصحابه معه ليكون له علامة على المكان الذي فيه الخضر كما تقدم في سياق الحديث. والنسيان في قوله تعالى {أَوْ نُنْسِهَا} في سورة البقرة [106].
ومعنى نسيانهما أنهما نسيا أن يراقبا حاله أباق هو في مكتله حينئذ حتى إذا فقداه في مقامهما ذلك تحققا أن ذلك الموضع الذي فقداه هو الموضع الموقت لهما بتلك العلامة فلا يزيدا تعبا في المشي، فإسناد النسيان إليهما حقيقة، لأن يوشع وإن كان هو الموكل بحفظ الحوت فكان عليه مراقبته إلا أن موسى هو القاصد لهذا العمل فكان يهمه تعهده ومراقبته. وهذا يدل على لأن صاحب العمل أو الحاجة إذا وكل إلى غيره لا ينبغي له ترك تعهده. ثم إن موسى عليه السلام نام وبقى فتاه يقظان فأضطرب الحوت وجعل

لنفسه طريقا في البحر.
والسرب: النفق. والاتخاذ: الجعل. وقد انتصب {سربا} على الحال من {سبيله} مرادا بالحال التشبيه، كقول امرئ القيس:
إذا قامتا تضوع المسك منها
نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل
وقد مر تفسير كيف اتخذ البحر سربا في الحديث السابق عن أبي بن كعب.
وحذف مفعول {جاوزا} للعلم، أي جاوزا مجمع البحرين.
والغداء: طعام النهار مشتق من كلمة الغدوة لأنه يؤكل في وقت الغدوة، وضده العشاء، وهو طعام العشي. والنصب: التعب.
والصخرة: صخرة معهودة لهما. إذ كانا قد أويا إليها في سيرهما فجلسا عليها، وكانت في مجمع البحرين. قيل: إن موضعها دون نهر يقال له: نهر الزيت، لكثرة ما عنده من شجر الزيتون.
وقوله: {نَسِيتُ الْحُوتَ} أي نسيت حفظه وافتقاده. أي فانقلب في البحر.
وقوله: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} . هذا نسيان آخر غير النسيان الأول. فهذا نسيان ذكر الإخبار عنه.
وقرأ حفص عن عاصم {وَمَا أَنْسَانِيهُ} بضم هاء الضمير على أصل الضمير وهي لغة. والكسر أشهر لأن حركة الكسرة بعد الياء أخف.
و {أَنْ أَذْكُرَهُ} بدل اشتمال من ضمير {أنسانيه} لا من الحوت، والمعنى: ما أنساني أن أذكره لك إلا الشيطان. فالذكر هنا ذكر اللسان.
ووجه حصره إسناد هذا الإنساء إلى الشيطان أن ما حصل له من نسيان أن يخبر موسى بتلك الحادثة نسيان ليس من شأنه أن يقع في زمن قريب مع شدة الاهتمام بالأمر المنسي وشدة عنايته بإخبار نبيه به. ومع كون المنسي أعجوبة شأنها أن لا تنسى يتعين أن الشيطان يسوءه التقاء هذين العبدين الصالحين، وما له من الأثر في بث العلوم الصالحة فهو يصرف عنها ولو بتأخير وقوعها طمعا في حدوث العوائق.
وجملة {وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ في الْبَحْرِ} عطف على جملة {فإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ} وهي بقية

كلام فتى موسى، أي وأنه اتخذ سبيله في البحر، أي سبح في البحر بعد أن كان ميتا زمنا طويلا.
وقوله {عجبا} جملة مستأنفة، وهي من حكاية قول الفتى، أي أعجب له عجبا. فانتصب على المفعول المطلق الآتي بدلا من فعله.
[64-70] {قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً فوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً وَكَيْف تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً قَالَ فإِنِ اتَّبَعْتَنِي فلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً}
{قَالَ ذَلِكَ} الخ.. جواب عن كلامه، ولذلك فصلت كما بيناه غير مرة.
والإشارة بـ {ذلك} إلى ما تضمنه خبر الفتى من فقد الحوت. ومعنى كونه المبتغى أنه وسيلة المبتغى. وإنما المبتغى هو لقاء العبد الصالح في المكان الذي يفقد فيه الحوت.
وكتب {نبغ} في المصحف بدون ياء في آخره، فقيل: أراد الكاتبون مراعاة حالة الوقف، لأن الأحسن في الوقف على ياء المنقوص أن يوقف بحذفها. وقيل: أرادوا التنبيه على أنها رويت محذوفة في هذه الآية. والعرب يميلون إلى التخفيف. فقرأ نافع، وأبو عمرو، والكسائي، وأبو جعفر بحذف الياء في الوقف وإثباتها في الوصل. وقرأ عاصم، وحمزة، وابن عامر بحذف الياء في الوصل والوقف. وقرأ ابن كثير، ويعقوب بإثباتها في الحالين، والنون نون المتكلم المشارك، أي ما أبغيه أنا وأنت، وكلاهما يبغي ملاقاة العبد الصالح.
والارتداد: مطاوع الرد كأن رادا ردهما. وإنما ردتهما إرادتهما، أي رجعا على آثار سيرهما، أي رجعا على طريقهما الذي أتيا منه.
والقصص: مصدر قص الأثر، إذا توخى متابعته كيلا يخطئا الطريق الأول.
والمراد بالعبد: الخضر، ووصف بأنه من عباد الله تشريفا له، كما تقدم عند قوله تعالى {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الاسراء: 1] وعدل عن الإضافة إلى التنكير والصفة لأنه لم يسبق ما يقتضي تعريفه، وللإشارة إلى

أن هذا الحال الغريب العظيم الذي ذكر من قصته ما هو إلا من أحوال عباد كثيرين لله تعالى. وما منهم إلا له مقام معلوم.
وإيتاء الرحمة يجوز أن يكون معناه: أنه جعل مرحوما، وذلك بأن رفق الله به في أحواله. ويجوز أن يكون جعلناه سبب رحمة بأن صرفه تصرفا يجلب الرحمة العامة. والعلم من لدن الله: هو الإعلام بطريق الوحي.
و {عند} و {لدن} كلاهما حقيقته اسم مكان قريب. ويستعملان مجازا في اختصاص المضاف إليه بموصوفهما.
و {من} ابتدائية،أي آتيناه رحمة صدرت من مكان القرب، أي الشرف وهو قرب تشريف بالانتساب إلى الله، وعلما صدر منه أيضا. وذلك أن ما أوتيه من الولاية أو النبوءة رحمة عزيزة، أو ما أوتيه من العلم عزيز، فكأنهما مما يدخر عند الله في مكان القرب التشريفي من الله فلا يعطى إلا للمصطفين.
والمخالفة بين {مِنْ عِنْدِنَا} وبين {من لدنا} للتفنن تفاديا من إعادة الكلمة. وجملة {قَالَ لَهُ مُوسَى} ابتداء محاورة، فهو استئناف ابتدائي، ولذلك لم يقع التعبير بـ {قال} مجردة عن العاطف.
والاستفهام في قوله: {هَلْ أَتَّبِعُكَ} مستعمل في العرض بقرينة أنه استفهام عن عمل نفس المستفهم. والاتباع: مجاز في المصاحبة كقوله تعالى {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} [لنجم: 28]و {على} مستعملة في معنى الاشتراط لأنه استعلاء مجازي. جعل الاتباع كأنه مستعمل فوق التعليم لشدة المقارنة بينهما. فصيغة: أفعل كذا على كذا. من صيغ الالتزام والتعاقد.
ويؤخذ من الآية جواز التعاقد على تعليم القرآن والعلم. كما في حديث تزويج المرأة التي عرضت نفسها على النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقبلها، فزوجها من رغب فيها على أن يعلمها ما معه من القرآن.
وفيه أنه التزام يجب الوفاء به. وقد تفرع عن حكم لزوم الالتزام أن العرف فيه يقوم مقام الاشتراط فيجب على المنتصب للتعليم أن يعامل المتعلمين بما جرى عليه عرف أقاليمهم.

وذكر عياض في باب صفة مجلس مالك العلم من كتاب المدارك: أن رجلا خراسانيا جاء من خراسان إلى المدينة للسماع من مالك فوجد الناس يعرضون عليه وهو يسمع ولا يسمعون قراءة منه عليهم، فسأله أن يقرأ عليهم فأبى مالك، فاستدعى الخراساني قاضي المدينة. وقال: جئت من خراسان ونحن لا نرى العرض وأبى مالك أن يقرأ علينا. فحكم القاضي على مالك: أن يقرأ له، فقيل لمالك: أأصاب القاضي الحق? قال: نعم.
وفيه أيضا إشارة إلى أن حق المعلم على المتعلم اتباعه والاقتداء به.
وانتصب {رشدا} على المفعولية ل {تعلمني} أي ما به الرشد، أي الخير.
وهذا العلم الذي سأل موسى تعلمه هو من العلم النافع الذي لا يتعلق بالتشريع للأمة الإسرائيلية، فإن موسى مستغن في علم التشريع عن الازدياد إلا من وحي الله إليه مباشرة، لأنه لذلك أرسله وما عدا ذلك لا تقتضي الرسالة علمه. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الذين وجدهم يأبرون النخل "أنتم أعلم بأمور دنياكم" . ورجع يوم بدر إلى قول المنذر بن الحارث في أن المنزل الذي نزله جيش المسلمين بدر أول مرة ليس الأليق بالحرب.
وإنما رام موسى أن يعلم شيئا من العلم الذي خص الله به الخضر لأن الازدياد من العلوم النافعة هو من الخير. وقد قال الله تعالى تعليما لنبيه: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه: 114] وهذا العلم الذي أوتيه الخضر هو علم سياسة خاصة غير عامة تتعلق بمعينين لجلب مصلحة أو دفع مفسدة بحسب ما تهيئه الحوادث والأكوان لا بحسب ما يناسب المصلحة العامة. فلعل الله يسره لنفع معينين من عنده كما جعل محمدا صلى الله عليه وسلم رحمة عامة لكافة الناس، ومن هنا فارق سياسة التشريع العامة. ونظيره معرفة النبي صلى الله عليه وسلم أحوال بعض المشركين والمنافقين، وتحققه أن أولئك المشركين لا يؤمنون وهو مع ذلك يدعوهم دوما إلى الإيمان، وتحققه أن أولئك المنافقين غير مؤمنين وهو يعاملهم معاملة المؤمنين، وكان حذيفة بن اليمان يعرفهم بأعيانهم بإخبار النبي صلى الله عليه وسلم إياه بهم.
وقرأ الجمهور {رشدا} بضم الراء وسكون الشين. وقرأ أبو عمرو، ويعقوب بفتح الراء وفتح الشين مثل اللفظين السابقين، وهما لغتان كما تقدم.
وأكد جملة {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} بحرف {إن} وبحرف {لن} تحقيقا

لمضمونها من توقع ضيق ذرع موسى عن قبول ما يبديه إليه، لأنه علم أنه تصدر منه أفعال ظاهرها المنكر وباطنها المعروف. ولما كان موسى عليه السلام من الأنبياء الذين أقامهم الله لإجراء الأحكام على الظاهر علم أنه سينكر ما يشاهده من تصرفاته لاختلاف المشربين لأن الأنبياء لا يقرون المنكر.
وهذا تحذير منه لموسى وتنبيه على ما يستقبله منه حتى يقدم على متابعته إن شاء على بصيرة وعلى غير اغترار، وليس المقصود منه الإخبار. فمناط التأكيدات في جملة {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} إنما هو تحقيق خطورة أعماله وغرابتها في المتعارف بحيث لا تتحمل، ولو كان خبرا على أصله لم يقبل فيه المراجعة ولم يجبه موسى بقوله: { سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ} .
وفي هذا أصل من أصول التعليم أن ينبه المعلم المتعلم بعوارض موضوعات العلوم الملقنة لا سيما إذا كانت في معالجتها مشقة.
وزادها تأكيدا عموم الصبر المنفي لوقوعه نكرة في سياق النفي، وأن المنفي استطاعته الصبر المفيد أنه لو تجشم أن يصبر لم يستطيع ذلك. فأفاد هذا التركيب نفي حصول الصبر منه في المستقبل على آكد وجه.
وزيادة {معي} إيماء إلى أنه يجد من أعماله ما لا يجد مثله مع غيره فانتفاء الصبر على أعماله أجدر.
وجملة {وَكَيْف تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} في موضع الحال من اسم {إن} أو من ضمير {تستطيع} . فالواو واو الحال وليست واو العطف لأن شأن هذه الجملة أن لا تعطف على التي قبلها لأن بينهما كمال الاتصال إذ الثانية كالعلة للأولى. وإنما أوثر مجيئها في صورة الجملة الحالية، دون أن تفصل عن الجملة الأولى فتقع علة مع أن التعليل هو المراد. للتنبيه على أن مضمونها علة ملازمة لمضمون التي قبلها إذ هي حال من المسند إليه في الجملة قبلها.
و {كيف} للاستفهام الإنكاري في معنى النفي، أي وأنت لا تصبر على ما لم تحط به خبرا.
والخبر بضم الخاء وسكون الباء: العلم. وهو منصوب على أنه تمييز لنسبة الإحاطة في قوله {مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} ،أي إحاطة من حيث العلم.

والإحاطة: مجاز في التمكن، تشبيها لقوة تمكن الاتصاف بتمكن الجسم المحيط بما أحاط به.
وقوله: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً} أبلغ في ثبوت الصبر من نحو: سأصبر، لأنه يدل على حصول صبر ظاهر لرفيقه ومتبوعه. وظاهر أن متعلق الصبر هنا هو الصبر على ما من شانه أن يثير الجزع أو الضجر من تعب في المتابعة، ومن مشاهدة ما لا يتحمله إدراكه، ومن ترقب بيان الأسباب والعلل والمقاصد.
ولما كان هذا الصبر الكامل يقتضي طاعة الآمر فيما يأمره به عطف عليه ما يفيد الطاعة إبلاغا في الاتسام بأكمل أحوال طالب العلم.
فجملة {وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً} معطوفة على جملة {ستجدني} ، أو هو من عطف الفعل على الاسم المشتق عطفا على {صابرا} فيؤول بمصدر، أي وغير عاص. وفي هذا دليل على أن أهم ما يتسم به طالب العلم هو الصبر والطاعة للمعلم.
وفي تأكيده ذلك بالتعليق على مشيئة الله استعانة به وحرصا على تقدم التيسير تأدبا مع الله إيذان بأن الصبر والطاعة من المتعلم الذي له شيء من العلم أعسر من صبر وطاعة المتعلم الساذج، لأن خلو ذهنه من العلم لا يحرجه من مشاهدة الغرائب. إذ ليس في ذهنه من المعارف ما يعارض قبولها، فالمتعلم الذي له نصيب من العلم وجاء طالبا الكمال في علومه إذا بدا له من علوم أستاذه ما يخالف ما تقرر في علمه يبادر إلى الاعتراض والمنازعة. وذلك قد يثير النفرة بينه وبين أستاذ، فلتجنب ذلك خشي الخضر أن يلقى من موسى هذه المعاملة فقال له: {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً وَكَيْف تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} ، فأكد له موسى أنه يصبر ويطيع أمره إذا أمره. والتزام موسى ذلك مبني على ثقته بعصمة متبوعه لأن الله أخبره بأنه آتاه علما.
والفاء في قوله: {فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي} تفريع على وعد موسى إياه بأنه يجده صابرا، ففرع على ذلك نهيه عن السؤال عن شيء مما يشاهده من تصرفاته حتى يبينه له من تلقاء نفسه.
وأكد النهي بحرف التوكيد تحقيقا لحصول أكمل أحوال المتعلم مع المعلم، لأن السؤال قد يصادف وقت اشتغال المسؤول بإكمال عمله فتضيق له نفسه، فربما كان الجواب عنه بدون شره نفس. وربما خالطه بعض القلق فيبكون الجواب غير شاف. فأراد الخضر أن يتولى هو بيان أعماله في الإبان الذي يراه مناسبا ليكون البيان أبسط والإقبال

أبهج فيزيد الاتصال بين القرينين.
والذكر. هنا: ذكر اللسان. وتقدم عند قوله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ} في سورة البقرة [40]. أعني بيان العلل والتوجيهات وكشف الغوامض.
وإحداث الذكر: إنشاؤه وإبرازه، كقول ذي الرمة:
أحدتنا لخالقها شكرا
وقرأ نافع {فَلَا تَسْأَلْنِي} بالهمز وبفتح اللام وتشديد النون على أنه مضارع سأل المهموز مقترنا بنون التوكيد الخفيفة المدغمة في نون الوقاية وبإثبات ياء المتكلم.
وقرأ ابن عامر مثله. لكن بحذف ياء المتكلم. وقرأ البقية {تسألني} بالهمز وسكون اللام وتخفيف النون. وأثبتوا ياء المتكلم.
[71] {فانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا في السَّفينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً}
أي فعقب تلك المحاورة أنهما انطلقا. والانطلاق: الذهاب والمشي، مشتق من الإطلاق وهو ضد التقييد. لأن الدابة إذا حل عقالها مشت. فأصله مطاوع أطلقه.
و {حتى} غاية للانطلاق. أي إلى أن ركبا في السفينة.
و {حتى} ابتدائية. وفي الكلام إيجاز دل عليه قوله: {إِذَا رَكِبَا في السَّفينَةِ} . أصل الكلام: حتى استأجرا سفينة فركباها فلما ركبا في السفينة خرقها.
وتعريف {السفينة} تعريف العهد الذهني، مثل التعريف في قوله تعالى: {وَأَخَاف أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ} [يوسف: 13].
و {إذا} ظرف للزمان الماضي هنا. وليست متضمنة معنى الشرط. وهذا التوقيت يؤذن بأخذه في خرق السفينة حين ركوبهما. وفي ذلك ما يشير إلى أن الركوب فيها كان لأجل خرقها لأن الشيء المقصود يبادر به قاصده لأنه يكون قد دبره وارتآه من قبل.
وبني نظم الكلام على تقديم الظرف على عامله للدلالة على أن الخرق وقع بمجرد الركوب في السفينة. لأن في تقديم الظرف اهتماما به، فيدل على أن وقت الركوب مقصود لإيقاع الفعل فيه.

وضمن الركوب معنى الدخول لأنه ركوب مجازي. فلذلك عدي بحرف {في} الظرفية نظير قوله تعالى {وقال اركبوا فيها} دون نحو قوله: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا} [النحل: 8]. وقد تقدم ذلك في سورة هود.
والخرق: الثقب والشق. وهو ضد الالتثام.
والاستفهام في {أخرقتها} للإنكار. ومحل الإنكار هو العلة بقوله: {لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} . لأن العلة ملازمة للفعل المستفهم عنه. ولذلك توجه أن يغير موسى عليه السلام هذا المنكر في ظاهر الأمر. وتأكيد إنكاره بقوله: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً} .
والإمر بكسر الهمزة: هو العظيم المفظع. يقال: أمر كفرح إمرا، إذا كثر في نوعه. ولذلك فسره الراغب بالمنكر. لأن المقام دال على شيء ضار. ومقام الأنبياء في تغيير المنكر مقام شدة وصراحة. ولم يجعله نكرا كما في الآية بعدها لأن العمل الذي عمله الخضر ذريعة للغرق ولم يقع الغرق بالفعل.
وقرأ الجمهور {لتغرق} بمثناة فوقية مضمونه على الخطاب. وقراه حمزة، والكسائي، وخلف {ليغرق} بتحتية مفتوحة ورفع {أهلها} على إسناد فعل الغرق للأهل.
[72] {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً}
استفهام تقرير وتعريض باللوم على عدم الوفاء بما التزم، أي أتقر أني قلت إنك لا تستطيع معي صبرا.
و {معي} ظرف متعلق بـ {تستطيع} ، فاستطاعة الصبر المنفية هي التي تكون في صحبته لأنه يرى أمورا عجيبة لا يدرك تأويلها.
وحذف متعلق القول تنزيلا له منزلة اللازم، أي ألم يقع مني قول فيه خطابك بعدم الاستطاعة.
[73] {قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً}
اعتذر موسى بالنسيان وكان قد نسى التزامه بما غشي ذهنه من مشاهدة ما ينكره.
والنهي مستعمل في التعطف والتماس عدم المؤاخذة، لأنه قد يؤاخذه على النسيان مؤاخذة من لا يصلح للمصاحبة لما ينشأ عن النسيان من خطر. فالحزامة الاحتراز من

صحبة من يطرأ عليه النسيان، ولذلك بني كلام موسى على طلب عدم المؤاخذة بالنسيان ولم يبن على الاعتذار بالنسيان، كأنه رأى نفسه محقوقا بالمؤاخذة، فكان كلاما بديع النسيج في الاعتذار.
والمؤاخذة: مفاعلة من الأخذ، وهي هنا للمبالغة لأنها من جانب واحد كقوله تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ} [النحل: 61].
و {ما} مصدرية، أي لا تؤاخذني بنسياني.
والإرهاق: تعدية رهق، إذا غشي ولحق، أي لا تغشني عسرا. وهو هنا مجاز في المعاملة بالشدة.
والإرهاق: مستعار للمعاملة والمقابلة.
والعسر: الشدة وضد اليسر. والمراد، هنا: عسر المعاملة، أي عدم التسامح معه فيما فعله فهو يسأله الإغضاء والصفح.
والأمر: الشأن.
و {من} يجوز أن تكون ابتدائية، فكون المراد بأمره نسيانه، أي لا تجعل نسياني منشئا لإرهاقي عسرا. ويجوز أن تكون بيانية فيكون المراد بأمره شأنه معه، أي لا تجعل شأني إرهاقك إياي عسرا.
[74] {فانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاماً فقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً}
يدل تفريع قوله: {فانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاما} عن اعتذار موسى، على أن الخضر قبل عذره وانطلقا مصطحبين.
والقول في نظم قوله: {حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاما} كالقول في قوله: {حَتَّى إِذَا رَكِبَا في السَّفينَةِ} [الكهف: 71].
وقوله {فقتله} تعقيب لفعل {لقيا} تأكيدا للمبادرة المفهومة من تقديم الظرف، فكانت المبادرة بقتل الغلام عند لقائه أسرع من المبادرة بخرق السفينة حين ركوبها.
وكلام موسى في إنكار ذلك جرى على نسق كلامه في إنكار خرق السفينة سوى أنه

وصف هذا الفعل بأنه نكر، وهو بضمتين الذي تنكره العقول وتستقبحه. فهو أشد من الشيء الإمر، لأن هذا فساد حاصل والآخر ذريعة فساد كما تقدم. ووصف النفس بالزاكية لأنها نفس غلام لم يبلغ الحلم فلم يقترف ذنبا فكان زكيا طاهرا. والزكاء: الزيادة في الخير.
وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وأبو جعفر، ورويس عن يعقوب {زاكية} بألف بعد الزاي اسم فاعل من زكا. وقرأ الباقون {زكية} . وهما بمعنى واحد.
قال ابن عطية: "النون من قوله: {نكرا} هي نصف القرآن. أي نصف حروفه. وقد تقدم أن ذلك مخالف لقول الجمهور: إن نصف القرآن هو حرف التاء من قوله تعالى: {وليتلطف} في هذه السورة".
[75-76] {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً}
كان جواب الخضر هذا على نسق جوابه السابق إلا أنه زاد ما حكي في الآية بكلمة {لك} وهو تصريح بمتعلق فعل القول. وإذ كان المقول له معلوما من مقام الخطاب كان في التصريح بمتعلق فعل القول تحقيق لوقوع القول وتثبيت له وتقوية، والداعي لذلك أنه أهمل العمل به.
واللام في قوله: {لك} لام التبليغ، وهي التي تدخل على اسم أو ضمير السامع لقول أو ما في معناه، نحو: قلت له، وأذنت له، وفسرت له؛ وذلك عندما يكون المقول له الكلام معلوما من السياق فيكون ذكر اللام لزيادة تقوي الكلام وتبليغه إلى السامع، ولذلك سميت لام التبليغ. ألا ترى أن اللام لم يحتج لذكره في جوابه أول مرة {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} . فكان التقرير والإنكار مع ذكر لام تعدية القول أقوى وأشد.
وهنا لم يعتذر موسى بالنسيان: إما لأنه لم يكن نسي. ولكنه رجح تغيير المنكر العظيم. وهو قتل النفس بدون موجب. على واجب الوفاء بالالتزام؛ وإما لأنه نسي وأعرض عن الاعتذار بالنسيان لسماجة تكرر الاعتذار به. وعلى الاحتماليين فقد عدل إلى المبادرة باشتراط ما تطمئن إليه نفس صاحبه بأنه إن عاد للسؤال الذي لا يبتغيه صاحبه فقد جعل له أن لا يصاحبه بعده.

وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "كانت الأولى من موسى نسيانا، والثانية شرطا" ، فاحتمل كلام النبي الاحتمالين المذكورين.
وأنصف موسى إذ جعل لصاحبه العذر في ترك مصاحبته في الثالثة تجنبا لإحراجه.
وقرأ الجمهور: {لدني} بتشديد النون قال ابن عطية: وهي قراءة النبي صلى الله عليه وسلم يعني أن فيها سندا خاصا مرويا فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم في المقدمة السادسة من مقدمات هذا التفسير.
وقرأ نافع، وأبو بكر، وأبو جعفر {من لدني} بتخفيف النون على أنه حذف منه نون الوقاية تخفيفا, لأن {لدن} أثقل من {عن} و {من} فكان التخفيف فيها مقبولا دونهما.
ومعنى {قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً} قد وصلت من جهتي إلى العذر في قطع الصحبة بمكان ينتهي إليه السائر على طريقة المكنية.
وأثبت له البلوغ تخييلا، أو استعار البلوغ لتعين حصول الشيء بعد المماطلة.
[77] {فانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفوهُمَا فوَجَدَا فيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً}
نظم قوله {فانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا} كنظم نظيريه السابقين.
والاستطعام: طلب الطعام. وموقع جملة {اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا} كموقع جملة {خرقها} وجملة {فقتله}. فهو متعلق {إذا}. وإظهار لفظ {أهلها} دون الإتيان بضميرهم بأن يقال: استطمعاهم، لزيادة التصريح. تشنيعا بهم في لؤمهم، إذ أبوا أن يضيفوهما وذلك لؤم لأن الضيافة كانت شائعة في الأمم من عهد إبراهيم عليه السلام وهي من المواساة المتبعة عند الناس، ويقوم بها من ينتدب إليها ممن يمر عليهم عابر السبيل ويسألهم الضيافة، أو من أعد نفسه لذلك من كرام القبيلة، فإباية أهل قرية كلهم من الإضافة لؤم لتلك القرية.
وقد أورد الصفدي على الشيخ تقي الدين السبكي سؤالا عن نكتة هذا الإظهار في أبيات. وأجابه السبكي جوابا طويلا نشرا ونظما بما لا يقنع. وقد ذكرهما الآلوسي.
وفي الآية دليل على أباحة طلب الطعام لعابر السبيل لأنه شرع من قبلنا، وحكاه القرآن ولم يرد ما ينسخه.

ودل لوم موسى الخضر، على أن لم يؤخذ أجر إقامة الحائط على صاحبه من أهل القرية، على أنه أراد مقابلة حرمانهم لحق الضيافة بحرمانهم من إقامة الجدار في قريتهم. وفي الآية مشروعية ضيافة عابر السبيل إذا نزل بأحد من الجي أو القرية. وفي حديث الموطأ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته يوم وليلة أي يتحفه ويبالغ في بره وضيافته ثلاثة أيام أي إطعام وإيواء بما حضر من غير تكلف كما يتكلف في أول ليلة فما كان بعد ذلك فهو صدقة" .
واختلف الفقهاء في وجوبها فقال الجمهور:الضيافة من مكارم الأخلاق وهي مستحبة وليست واجبة. وهو قول مالك وأبي حنيفة والشافعي.وحمد بن عبد الحكم من المالكية: الضيافة حق على أهل الحضر والبوادي. وقال الليث واحمد:الضيافة فرض يوما وليلة.
ويقال: ضيفه وأضافه. فهو مضيف بالتشديد. ومضيف بالتخفيف. والمتعرض للضيافة: ضائف ومتضيف بالتخفيف. والمتعرض للضيافة: ضائف ومتضيف. يقال: ضفته وتضيفته. إذا نزل به ومال إليه.
والجدار: الحائط المبني.
ومعنى {يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} أشرف على الانقضاض. أي السقوط. أي يكاد يسقط. وذلك بأن مال؛ فعبر عن إشرافه على الانقضاض بإرادة الانقضاض على طريقة الاستعارة المصرحة التبعية بتشبيه قرب انقضاضه بإرادة من يعقل فعل شيء فهو يوشك أن يفعله حيث أراده.
لأن الإرادة طلب النفس حصول شيء وميل القلب إليه.
وإقامة الجدار: تسوية ميله. وكانت إقامته بفعل خارق للعادة بأن أشار إليه بيده كالذي يسوي شيئا لينا كما ورد في بعض الآثار. وقول موسى: {لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} لوم، أي كان في مكنتك أن تجعل لنفسك أجرا على إقامة الجدار تأخذه ممن يملكه من أهل القرية ولا تقيمه مجانا لأنهم لم يقوموا بحق الضيافة ونحن بحاجة إلى ما ننفقه على أنفسنا. وفيه إشارة إلى أن الأتباع على المتبوع.
وهذا اللوم يتضمن سؤالا عن سبب ترك المشارطة على إقامة الجدار عند الحاجة

إلى الأجر. وليس هو لوما على مجرد إقامته مجانا، لأن ذلك من فعل الخير وهو غير ملوم.
وقرأ الجمهور {لَتَّخَذْتَ} بهمزة وصل بعد اللام وبتشديد المثناة الفوقية على أنه ماضي {اتخذ}.
وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب {لتخذت} بدون همزة على أنه ماضي {تخذت} المفتتح بتاء فوقية على أنه ماضي ]تخذ[ أوله فوقية، وهو من باب علم.
[78-82] {قَالَ هَذَا فرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً أماالسَّفينَةُ فكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ في الْبَحْرِ فأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفينَةٍ غَصْباً وأماالْغُلامُ فكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفراً فأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً وَأَمَّا الْجِدَارُ فكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ في الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً}
المشار إليه بلفظ {هذا} مقدر في الذهن حاصل من اشتراط موسى على نفسه أنه إن سأله عن شيء بعد سؤاله الثاني فقد انقطعت الصحبة بينهما، أي هذا الذي حصل الآن هو فراق بيننا، كما يقال: الشرط أملك عليك أم لك. وكثيرا ما يكون المشار إليه مقدار في الذهن كقوله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ} [القصص: 83]وإضافة {فراق} إلى {بيني} من إضافة الموصوف إلى الصفة. وأصل: فراق بيني، أي حاصل بيننا، أو من إضافة المصدر العامل في الظرف إلى معموله، كما يضاف المصدر إلى مفعوله. وقد تقدم خروج {بين} عن الظرفية عند قوله تعالى {فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا} [الكهف: 61].
وجملة {سأنبأك} مستأنفة استئنافا بيانيا، تقع جوابا لسؤال يهجس في خاطر موسى عليه السلام عن أسباب الأفعال التي فعلها الخضر عليه السلام وسأله عنها موسى فأنه قد وعده أن يحدث له ذكرا مما يفعله.
والتأويل: تفسير لشيء غير واضح، وهو مشتق من الأول وهو الرجوع. شبه تحصيل المعنى على تكلف بالرجوع إلى المكان بعد السير إليه. وقد مضي في المقدمة الأولى من مقدمات هذا التفسير، وأيضا عند قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ في

العِلْمِ يَقُولُونَ} الخ من أول سورة آل عمران [7].
وفي صلة الموصول من قوله: {مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً} تعريض باللوم على الاستعجال وعدم الصبر إلى أن يأتيه إحداث الذكر حسبما وعده بقوله {فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا} .
والمساكين: هنا بمعنى ضعفاء المال الذين يرتزقون من جهدهم ويرق لهم لأنهم يكدحون دهرهم لتحصيل عيشهم. فليس المراد أنهم فقراء أشد الفقر كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] بل المراد بتسميتهم بالفقراء أنهم يرق لهم كما قال الحريري في المقامة الحادية والأربعين:مسكين ابن آدم وأي مسكين.
وكان أصحاب السفينة هؤلاء عملة يأجرون سفينتهم للحمل أو للصيد.
ومعنى {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} :هو ملك بلادهم بالمرصاد منهم ومن أمثالهم يسخر كل سفينة يجدها غصبا، أي بدون عوض وكان ذلك لنقل أمور بناء أو نحوه مما يستعمله الملك في مصالح نفسه وشهواته. كما كان الفراعنة يسخرون الناس للعمل في بناء الأهرام.
ولو كان ذلك لمصلحة عامة للأمة لجاز التسخير من كل بحسب حاله من الاحتياج لأن ذلك فرض كفاية بقدر الحاجة وبعد تحققها.
و {وراء} اسم الجهة التي خلف ظهر من أضيف إليه ذلك الاسم،وهو ضد أمام وقدام.
ويستعار {الوراء} لحال تعقب شيء شيئا وحال ملازمة طلب شيء شيئا بحق وحال الشيء الذي سيأتي قريبا. كل ذلك تشبيه بالكائن خلف شيء لا يلبث أن يتصل به كقوله تعالى {مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ} [الجاثية: 10].
وقال لبيد:
أليس ورائي أن تراخت منيتي
لزوم العصا تحني عليها الأصابع
وبعض المفسرين فسروا {وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} بمعنى أمامهم ملك. فتوهم بعض مدوني اللغة أن {وراء} من أسماء الأضداد، وأنكره الفراء وقال: لا يجوز أن تقول للذي بين يديك وهو وراءك. وإنما يجوز ذلك في المواقيت من الليالي تقول: وراءك برد شديد، وبين يديك برد شديد. يعني أن ذلك على المجاز، قال الزجاج: وليس من الأضداد كما زعم بعض أهل اللغة.

ومعنى {كُلَّ سَفِيَنةٍ} أي صالحة، بقرينة قوله: {فأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} . وقد ذكروا في تعيين هذا الملك وسبب أخذه للسفن قصصا وأقوالا لم يثبت شيء منها بعينه، ولا يتعلق به غرض في مقام العبرة.
وجملة {فأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} متفرعة على كل من جملتي {فكَانَتْ لِمَسَاكِينَ} ، {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} ، فكان حقها التأخير عن كلتا الجملتين بحسب الظاهر، ولكنها قدمت خلافا لمقتضى الظاهر لقصد الاهتمام والعناية بإرادة إعابة السفينة حيث كان عملا ظاهره الإنكار وحقيقته الصلاح زيادة في تشويق موسى إلى علم تأويله، لأن كون السفينة لمساكين مما يزيد السامع تعجبا في الإقدام على خرقها. والمعنى: فأردت أن أعيبها وقد فعلت. وإنما لم يقل: فعبتها، ليدل على أن فعله وقع عن قصد وتأمل. وقد تطلق الإرادة على القصد أيضا. وفي اللسان عزو ذلك إلى سيبويه.
وتصرف الخضر في أمر السفينة تصرف برعي المصلحة الخاصة عن إذن من الله بالتصرف في مصالح الضعفاء إذ كان الخضر عالما بحال الملك أو كان الله أعلمه بوجوده حينئذ، فتصرف الخضر قائم مقام تصرف المرء في ماله بإتلاف بعضه لسلامة الباقي. فتصرفه الظاهر إفساد وفي الواقع إصلاح لأنه من ارتكاب أخف الضرين. وهذا أمر خفي لم يطلع عليه إلا الخضر. فلذلك أنكره موسى.
وأما تصرفه في قتل الغلام فتصرف بوحي من الله جار على قطع فساد خاص علمه الله وأعلم به الخضر بالوحي، فليس من مقام التشريع، وذلك أن الله علم من تركيب عقل الغلام وتفكيره أنه عقل شاذ وفكر منحرف طبع عليه بأسباب معتادة من انحراف طبع وقصور إدراك، وذلك من آثار مفضية إلى تلك النفسية وصاحبها في أنه ينشأ طاغيا كافرا. وأراد الله اللطف بأبويه بحفظ إيمانهما وسلامة العالم من هذا الطاغي لطفا أراده الله خارقا للعادة جاريا على مقتضى سبق علمه، ففي هذا مصلحة للدين بحفظ أتباعه من الكفر، وهو مصلحة خاصة فيها حفظ الدين، ومصلحة عامة لأنه حق لله تعالى فهو كحكم قتل المرتد.
والزكاة: الطهارة، مراعاة لقول موسى: {أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً} .
والرحم بضم الراء وسكون الحاء: نظير الكثر للكثرة.
والخشية: توقع ذلك لو لم يتدارك بقتله.
وضميرا الجماعة في قوله: {فخشينا} وقوله: {فأردنا} عائدان إلى المتكلم الواحد

بإظهار أنه مشارك لغيره في الفعل. وهذا الاستعمال يكون من التواضع لا من التعاظم لأن المقام مقام الإعلام بأن الله أطلعه على ذلك وأمره فناسبه التواضع فقال: {فخشينا.. فأردنا} ، ولم يقل مثله عند ما قال: {فأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} لأن سبب الإعابة إدراكه لمن له علم بحال تلك الأصقاع. وقد تقدم عند قوله تعالى: {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظَالِمُونَ} في سورة يوسف [79].
وقرأ الجمهور {أَنْ يُبْدِلَهُمَا} بفتح الموحدة وتشديد الدال من التبديل. وقرأه ابن كثير، وابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف بسكون الموحدة وتخفيف الدال من الإبدال.
وأما قضية الجدار فالخضر تصرف في شأنها عن إرادة الله اللطف باليتيمين جزاء لأبيهما على صلاحه. إذ علم الله أن إياهما كان يهمه أمر عيشهما بعده. وكان قد أودع تحت الجدار مالا. ولعله سأل الله أن يلهم ولديه عند بلوغ أشدهما أن يبحثا عن مدفن الكنز تحت الجدار بقصد أو بمصادقة. فلو سقط الجدار قبل بلوغهما لتناولت الأيدي مكانه بالحفر ونحوه فعثر عليه عاثر، فذلك أيضا لطف خارق للعادة. وقد أسند الإرادة في قصة الجدار إلى الله تعالى دون القصتين السابقتين لأن العمل فيهما كان من شأنه أن يسعى إليه كل من يقف على سره لأن فيهما دفع فساد عن الناس بخلاف قصة الجدار فتلك كرامة من الله لأبي الغلامين.
وقوله: {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} تصريح بما يزيل إنكار موسى عليه تصرفاته هذه بأنها رحمة ومصلحة فلا إنكار فيها بعد معرفة تأويلها.
ثم زاد بأنه فعلها عن وحي من الله لأنه لما قال: {وَمَا فعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} علم موسى أن ذلك بأمر من الله تعالى لأن النبي إنما يتصرف عن اجتهاد أو عن وحي، فلما نفى أن يكون فعله ذلك عن أمر نفسه تعين أنه عن أمر الله تعالى. وإنما أوثر نفي كون فعله عن أمر نفسه على أن يقول: وفعلته عن أمر ربي، تكملة لكشف حيرة موسى وإنكاره، لأنه لما أنكر عليه فعلاته الثلاث كان يؤيد إنكاره بما يقتضي أنه تصرف عن خطأ.
وانتصب {رحمة} على المفعول لأجله فينازعه كل من أردت، وأردنا، وأراد ربك .
وجملة {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً} فذلكة للجمل التي قبلها ابتداء من

قوله: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ} ، فالإشارة بذلك إلى المذكور في الكلام السابق وهو تلخيص للمقصود كحوصلة المدرس في آخر درسه.
و {تسطع} مضارع (اسطاع) بمعنى(استطاع). حذف تاء الاستفعال تخفيفا لقربها من مخرج الطاء. والمخالفة بينه وبين قوله {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً} للتفنن تجنبا لإعادة لفظ بعينه مع وجود مرادفه. وابتدئ بأشهرهما استعمالا وجيء بالثانية بالفعل المخفف لأن التخفيف أولى به لأنه إذا كرر {تستطع} يحصل من تكريره ثقل.
وأكد الموصول الأول الواقع في قوله: {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً} تأكيدا للتعريض باللوم على عدم الصبر.
واعلم أن قصة موسى والخضر قد اتخذتها طوائف من أهل النحل الإسلامية أصلا بنوا عليه قواعد موهومة.
فأول ما أسوه منها أن الخضر لم يكن نبيا وإنما كان عبدا صالحا، وأن العلم الذي أوتيه ليس وحيا ولكنه إلهام، وأن تصرفه الذي تصرفه في الموجودات أصل لإثبات العلوم الباطنية، وأن الخضر منحه الله البقاء إلى انتهاء مدة الدنيا ليكون مرجعا لتلقي العلوم الباطنية، وأنه يظهر لأهل المراتب العليا من الأولياء فيفيدهم من علمه ما هم أهل لتلقيه.
وبنوا على ذلك أن الإلهام ضرب من ضروب الوحي، وسموه الوحي الإلهامي، وأنه يجيء على لسان ملك الإلهام، وقد فصله الشيخ محيي الدين ابن العربي في الباب الخامس والثمانين من كتابه الفتوحات المكية ، وبين الفرق بينه وبين وحي الأنبياء بفروق وعلامات ذكرها منشورة في الأبواب الثالث والسبعين، والثامن والستين بعد المائتين، والرابع والستين بعد ثلاثمائة، وجزم بأن هذا الوحي الإلهامي لا يكون مخالفا للشريعة، وأطال في ذلك، ولا يخلو ما قاله من غموض ورموز. وقد انتصب علماء الكلام وأصول الفقه لإبطال أن يكون ما يسمى بالإلهام حجة. وعرفوه بأنه إيقاع شيء في القلب يثلج له الصدر، وأبطلوا كونه حجة لعدم الثقة بخواطر من ليس معصوما ولتفاوت مراتب الكشف عندهم. وقد تعرض لها النسفي في عقائده ، وكل ما قاله النسفي في ذلك حق، ولا يقام التشريع على أصول موهومة لا تنضبط.
والأظهر أن الخضر نبي عليه السلام وأنه كان موحى إليه بما أوحي، لقوله: {وَمَا

فعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} ، وأنه قد انقضى خبره بعد تلك الأحوال التي قصت في هذه السورة، وأنه قد لحقه الموت الذي يلحق البشر في أقصى غاية من الأجل يمكن أن تفرض، وأن يحمل ما يعزى إليه من بعض الصوفية الموسومين بالصدق أنه محوك على نسج الرمز المعتاد لديهم، أو على غشاوة الخيال التي قد تخيم عليهم.
فكونوا على حذر، ممن يقول: أخبرني الخضر.
[84,83] {وَيَسْأَلونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ في الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً}
افتتاح هذه القصة بـ {ويسألونك} يدل على أنها مما نزلت السورة للجواب عنه كما كان الابتداء بقصة أصحاب الكهف اقتضابا تنبيها على مثل ذلك.
وقد ذكرنا عند تفسير قوله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} في سورة الإسراء [85] عن ابن عباس أن المشركين بمكة سألوا النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أسئلة بإغراء من أحبار اليهود في يثرب. فقالوا: سلوه عن أهل الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح فإن أجاب عنها كلها فليس بنبي وإن أجاب عن بعضها وأمسك عن بعض فهو نبي?. وبينا هنالك وجه التعجيل في سورة الإسراء النازلة قبل سورة الكهف بالجواب عن سؤالهم عن الروح وتأخير الجواب عن أهل الكهف وعن ذي القرنين إلى سورة الكهف. وأعقبنا ذلك بما رأيناه في تحقيق الحق من سوق هذه الأسئلة الثلاثة في مواقع مختلفة.
فالسائلون: قريش لا محالة. والمسئول عنه: خبر رجل من عظماء العالم عرف بلقب ذي القرنين، كانت أخبار سيرته خفية مجملة مغلقة، فسألوا النبي عن تحقيقها وتفصيلها. وأذن له الله أن يبين منها ما هو موضع العبرة للناس في شؤون للناس في شؤون الصلاح والعدل، وفي عجيب صنع الله تعالى في اختلاف أحوال الخلق، فكان أحبار اليهود منفردين بمعرفة إجمالية عن هذه المسائل الثلاث وكانت من أسرارهم فلذلك جربوا بها نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
ولم يتجاوز القرآن ذكر هذا الرجل بأكثر من لقبه المشتهر به إلى تعيين اسمه وبلاده وقومه، لأن ذلك من شؤون أهل التاريخ والقصص وليس من أغراض القرآن، فكان منه الاقتصار على ما يفيد الأمة من هذه القصة عبرة حكمية أو خلقية فلذلك قال الله: {قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً} .

والمراد بالسؤال عن ذي القرنين السؤال عن خبره فحذف المضاف إيجازا لدلالة المقام، وكذلك حذف المضاف في قوله {منه} أي من خبره و {من} تبعيضية.
والذكر: التذكر والتفكر، أي سأتلو عليكم ما به التذكر، فجعل المتلو نفسه ذكرا مبالغة بالوصف بالمصدر، ولكن القرآن جاء بالحق الذي لا تخليط فيه من حال الرجل الذي يوصف بذي القرنين بما فيه إبطال لما خلط به الناس بين أحوال رجال عظماء كانوا في عصور متقاربة أو كانت قصصهم تساق مساق من جاسوا خلال بلاد متقاربة متماثلة وشوهوا تخليطهم بالأكاذيب، وأكثرهم في ذلك صاحب الشاهنامة الفردوسي وهو معروف بالأكاذيب والأوهام الخرافية.
اختلف المفسرون في تعيين المسمى بذي القرنين اختلافا كثيرا تفرقت بهم فيه أخبار قصصية وأخبار تاريخية واسترواح من الاشتقاقات اللفظية، ولعل اختلافهم له مزيد اتصال باختلاف القصاصين الذين عنو بأحوال الفاتحين عناية تخليط لا عناية تحقيق فراموا تطبيق هذه القصة عليها. والذي يجب الانفصال فيه بادئ ذي بدء أن وصفه بذي القرنين يتعين أن يكون وصفا ذاتيا له وهو وصف عربي يظهر أن يكون عرف بمدلوله بين المثيرين للسؤال عنه فترجموه بهذا اللفظ.
ويتعين أن لا يحمل القرنان على الحقيقة بل هما على التشبيه أو على الصورة. فالأظهر أن يكونا ذؤابتين من شعر الرأس متدليتين، وإطلاق القرن على الضفيرة من الشعر شائع في العربية، قال عمر بن أبي ربيعة:
فلثمت فاها آخذا بقرونها
شرب النزيف ببرد ماء الحشرج
وفي حديث أم عطية في صفة غسل ابنة النبي صلى الله عليه وسلم قالت أم عطية:"فجعلنا رأسها ثلاثة قرون"، فيكون هذا الملك قد أطال شعر رأسه وضفره ضفرتين فسمي ذا القرنين، كما سمي خرباق ذا اليدين.
وقيل: هما شبه قرني الكبش من نحاس كانا في خوذة هذا الملك فنعت بهما. وقيل: هما ضربتان على موضعين من رأس الإنسان يشبهان منبتي القرنين من ذوات القرون.
ومن هنا تأتي الأقوال في تعيين ذي القرنين، فأحد الأقوال: إنه الإسكندر بن قيليبوس المقدوني. وذكروا في وجه تلقيبه بذي القرنين أنه ضفر شعره قرنين، وقيل: كان

يلبس خوذة في الحرب بها قرنان، وقيل: رسم ذاته على بعض نقوده بقرنين في رأسه تمثيلا لنفسه بالمعبود آمون معبود المصريين وذلك حين ملك مصر.
والقول الثاني: إنه ملك من ملوك حمير هو تبع أبو كرب.
والقول الثالث: أنه ملك من ملوك الفرس وأنه أفريدون بن أنفيان بن جمشيد. هذه أوضح الأقوال، وما دونها لا ينبغي التعويل عليه ولا تصحيح روايته.
ونحن تجاه هذا الاختلاف يحق علينا أن نستخلص من قصته في هذه الآية أحوال تقرب تعيينه وتزييف ما عداه من الأقوال، وليس يجب الاقتصار على تعيينه من بين أصحاب هذه الأقوال بل الأمر في ذلك أوسع وهذه القصة القرآنية تعطى صفات لا محيد عنها: إحداها: أنه كان ملكا صالحا عادلا.
الثانية: أنه كان ملهما من الله.
الثالثة: أن ملكه شمل أقطارا شاسعه.
الرابعة: أنه بلغ في فتوحه من جهة المغرب مكانا كان مجهولا وهو عين حمئة.
الخامسة: أنه بلغ بلاد يأجوج ومأجوج، وأنها كانت في جهة مما شمله ملكه غير الجهتين الشرقية والغربية فكانت وسطا بينهما كما يقتضيه استقراء مبلغ أسبابه.
السادسة: أنه أقام سدا يحول بين ياجوج وماجوج وبين قوم آخرين.
السابعة: أن ياجوج وماجوج هؤلاء كانوا عائثين في الأرض فسادا وأنهم كانوا يفسدون بلاد قوم موالين لهذا الملك.
الثامنة: أنه كان معه قوم أهل صناعة متقنة في الحديد والبناء.
التاسعة: أن خبره خفي دقيق لا يعلمه إلا الأحبار علما إجماليا كما دل عليه سبب النزول.
وأنت إذا تدبرت جميع هذه الأحوال نفيت أن يكون ذو القرنين إسكندر المقدوني لأنه لم يكن ملكا صالحا بل كان وثنيا فلم يكن أهلا لتلقي الوحي من الله وإن كانت له كمالات على الجملة، وأيضا فلا يعرف في تاريخه أنه أقام سدا بين بلدين.

وأما نسبة السد الفاصل بين الصين وبين بلاد ياجوج وماجوج إليه في كلام بعض المؤرخين فهو ناشئ عن شهرة الاسكندر فتوهم القصاصون أن ذلك السد لا يكون إلا من بنائه، كما توهم العرب أن مدينة تدمر بناها سليمان عليه السلام. وأيضا فإن هيرودوتس اليوناني المؤرخ ذكر أن الاسكندر حارب أمه "سكيثوس". وهذا الاسم هو اسم ماجوج كما سيأتي قريبا1.
وأحسب أن لتركيب القصة المذكورة في هذه السورة على اسم إسكندر المقدوني أثرا في اشتهار نسبة السد إليه. وذلك من أوهام المؤرخين في الإسلام.
ولا يعرف أن مملكة إسكندر كانت تبلغ في الغرب إلى عين حمئة، وفي الشرق إلى قوم مجهولين عراة أو عديمي المساكين، ولا أن أمته كانت تلقبه بذي القرنين. وإنما انتحل هذا اللقب له لما توهموا أنه المعني بذي القرنين في هذه الآية. فمنحه هذا اللقب من مخترعات مؤرخي المسلمين، وليس رسم وجهه على النقود بقرنين مما شأنه أن يلقب به. وأيضا فالإسكندر كانت أخباره مشهورة لأنه حارب الفرس والقبط وهما أمتان مجاورتان للأمة العربية.
ومثل هذه المبطلات التي ذكرناها تتأتى لإبطال أن يكون الملك المتحدث عنه هو أفريدون، فإما أن يكون من تبابعة حمير فقد يجوز أن يكون في عصر متوغل في القدم. وقد توهم بعض المفسرين أنه كان معاصرا إبراهيم عليه السلام وكانت بلاده التي فتحها مجهولة المواقع. ولكن يبعد أن يكون هو المراد لأن العرب لا يعرفون من خبره مثل هذا. وقد ظهر من أقوالهم أن سبب هذا التوهم هو وجود كلمة {ذو} التي اشتهر وجود مثلها في ألقاب ملوك اليمن وتبابعته.
فالذي يظهر لي أن ذا القرنين كان ملكا من ملوك الصين لوجوه:
أحدهما: أن بلاد الصين اشتهر أهلها منذ القدم بأنهم أهل تدبير وصنائع.
الثاني: أن معظم ملوكهم كانوا أهل عدل وتدبير للمملكة.
الثالث: أن من سماتهم تطويل سعر رؤوسهم وجعلها في ضفيرتين فيظهر وجه تعريفه بذي القرنين.
ـــــــ
1 انظر القاموس الجديد تأليف لاروس في مادة سكيتس.

الرابع: أن سدا ورد ما عظيما لا يعرف له نظير في العالم هو موجود بين بلاد الصين وبلاد المغول. وهو المشهور في كتب الجغرافيا والتاريخ بالسور الأعظم، وسيرد وصفه.
الخامس: ما روت أن حبيبة عن زينب بنت جحش رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ليلة فقال: "ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم ياجوج وماجوج هكذا.وأشار بعقد تسعين" أعني بوضع طرف السبابة على طرف الإبهام. وقد كان زوال عظمة سلطان العرب على يد المغول في بغداد فتعين أن ياجوج وماجوج هم المغول وأن الردم المذكور في القرآن هو الردم الفاصل بين بلاد المغول وبلاد الصين وبانيه ملك من ملوكهم. وأن وصفه في القرآن بذي القرنين توصيف لا تلقيب فهو مثل التعبير عن شاول ملك إسرائيل باسم طالوت. وهذا الملك هو الذي بنى السد الفاصل بين الصين ومنغوليا. واسم هذا الملك "تسينشي هوانقتي" أو "تسين شى هو انق تي". وكان موجودا في حدود سنة سبع وأربعين ومائتين قبل ميلاد المسيح فهو متأخر عن إسكندر المقدوني بنحو قرن. وبلاد الصين في ذلك العصر كانت متدينة بدين "كنفيشيوس" المشرع المصلح. فلا جرم أن يكون أهل شريعته صالحين.
وهذا الملك يؤخذ من كتب التاريخ أنه ساءت حالته في آخر عمره وأفسد كثيرا وقتل علماء وأحرق كتبا، والله أعلم بالحقيقة وبأسبابها.
ولما ظن كثير من الناس أن ذا القرنين المذكور في القرآن هو إسكندر بن قيليبوس نحلوه بناء السد. وزعموه من صنعه كما نحلوه لقب ذي القرنين. وكل ذلك بناء أوهام على أوهام ولا أساس لواحد منهما ولا علاقة لإسكندر المقدوني بقصة ذي القرنين المذكورة في هذه السورة.
والأمر في قوله: {قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ} إذن من الله لرسوله بأن يعد بالجواب عن سؤالهم عملا بقوله {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23] على أحد تأويلين في معناه.
والسين في قول: {سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ} لتحقيق الوعد كما في قوله تعالى: {قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ} في سورة يوسف [98].
وجعل خبر ذي القرنين تلاوة وذكرا للإشارة إلى أن المهم من أخباره ما فيه تذكير وما يصلح لأن يكون تلاوة حسب شأن القرآن فإنه يتلى لأجل الذكر ولا يساق مساق

القصص.
وقوله: {مِنْهُ ذِكْراً} تنبيه على أن أحواله وأخباره كثيرة وأنهم إنما يهمهم بعض أحواله المفيدة ذكرا وعظة. ولذلك لم يقل في قصة أهل الكهف: نحن نقص عليك من نبئهم. لأن قصتهم منحصرة فيما ذكر. وأحوال ذي القرنين غير منحصرة فيما ذكر هنا.
وحرف {من} في قوله: {مِنْهُ ذِكْراً} للتبعيض باعتبار مضاف محذوف، أي من خبره.
والتمكين: جعل الشيء متمكنا، أي راسخا. وهو تمثيل لقوة التصرف بحيث لا يزعزع قوته أحد. وحق فعل مكنا التعدية بنفسه، فيقال: مكناه في الأرض كقوله: {مَكَّنَّاهُمْ في الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ} [الأنعام: 6]
فاللام في قوله: {مَكَّنَّا لَهُ في الْأَرْضِ} للتوكيد كاللام في قولهم: شكرت له، ونصحت له، والجمع بينهما تفنن. وعلى ذلك جاء قوله تعالى: {مَكَّنَّاهُمْ في الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ} [الأنعام: 6]
فمعنى التمكين في الأرض إعطاء المقدرة على التصرف.
والمراد بالأرض أهل الأرض، والمراد بالأرض أرض معينة وهي أرض ملكه. وتقدم عند قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُف في الْأَرْضِ} [يوسف: 56].
والسبب حقيقته: الحبل، وأطلق هنا على ما يتوسل به إلى الشيء من علم أو مقدرة أو آلات التسخير على وجه الاستعارة كقوله تعالى: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} في سورة البقرة [166].
و {كل شيء} مستعمل هنا في الأشياء الكثيرة كما تقدم في نظائره غير مرة منها قوله تعالى: {وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ} [يونس: 97]أي آتيناه وسائل أشياء عظيمة كثيرة.
[85-88] {فأَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ في عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْماً قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فيهِمْ حُسْناً قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فسَوْف نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُكْراً وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً}
السبب: الوسيلة. المراد هنا معنى مجازي وهو الطريق، لأن الطريق وسيلة إلى

المكان المقصود، وقرينة المجاز ذكر الاتباع والبلوغ في قوله: {فأتْبَع سَبَبا حَتّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشّمْسِ} . والدليل على إرادة غير معنى السبب في قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً} إظهار اسم السبب دون إظماره، لأنه لما أريد به معنى غير ما أريد بالأول حسن إظهار اسمه تنبيها على اختلاف المعنيين، أي فاتبع طريقا للسير وكان سيره للغزو، كما دل عليه قوله: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ} .
ولم يعد أهل اللغة معنى الطريق في معاني لفظ السبب لعلهم رأوه لم يكثر وينتشر في الكلام. ويظهر أن قوله تعالى: {أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ} [غافر: 37] من هذا المعنى، وكذلك قول زهير:
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه
أي هاب طرق المنايا أن يسلكها تنله المنايا، أي تأتيه، فذلك مجاز بالقرينة.
والمراد بـ {مَغْرِبَ الشَّمْسِ} مكان مغرب الشمس من حيث يلوح الغروب من جهات المعمور من طريق غزوته أو مملكته. وذلك حيث يلوح أنه لا أرض وراءه بحيث يبدو الأفق من جهة مستبحرة، إذ ليس للشمس مغرب حقيقي إلا فيما يلوح للتخيل. والأشبه أن يكون ذو القرنين قد بلغ بحر الخزر وهو بحيرة قزوين فإنها غرب بلاد الصين.
والقول في تركيب {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ} كالقول في قوله: {حَتَّى إِذَا رَكِبَا في السَّفينَةِ خَرَقَهَا}
.
والعين:منبع ماء.
وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وحفص {في عَيْنٍ حَمِئَةٍ} مهموزا مشتقا من الحمأة، وهو الطين الأسود. والمعنى: عين مختلط ماؤها بالحمأة فهو غير صاف.
وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم، وأبو جعفر، وخلف {في عَيْنٍ حامية} بألف بعد الحاء وياء بعد الميم، أي حارة من الحمو وهو الحرارة، أي أن ماءها سخن.
ويظهر أن هذه العين من عيون النفط الواقعة على ساحل بحر الخزر حيث مدينة باكو، وفيها منابع النفط الآن ولم يكن معروفا يومئذ. والمؤرخون المسلمون يسمونها البلاد المنتنة.

وتنكير {قوما} يؤذن بأنهم أمة غير معروفة ولا مألوفة حالة عقائدهم وسيرتهم.
فجملة {قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ} استئناف بياني لما أشعر به تنكير {قوما} من إثارة سؤال عن حالهم وعما لاقاه بهم ذو القرنين.
وقد دل قوله: {إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فيهِمْ حُسْناً} على أنهم مستحقون للعذاب، فدل على أن أحوالهم كانت في فساد من كفر وفساد عمل.
وإسناد القول إلى ضمير الجلالة يحتمل أنه قول إلهام، أي ألقينا في نفسه ترددا بين أن يبادر استئصالهم وأن يمهلهم ويدعوهم إلى الإيمان وحسن العمل، ويكون قوله: {قال أَمَّا مَنْ ظَلَمَ} ، أي قال في نفسه معتمدا على حالة وسط بين صورتي التردد.
وقيل: إن ذا القرنين كان نبيا يوحى عليه فيكون القول كلاما موحى به إليه يخيره فيه بين الأمرين، مثل التخيير الذي في قوله تعالى: {فإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فدَاءً} [محمد: 4] ويكون قوله: {قال أَمَّا مَنْ ظَلَمَ} جوابا منه إلى ربه. وقد أراد الله إظهار سداد اجتهاده كقوله: {ففهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الانبياء: 79].
و {حسنا} مصدر. وعدل عن {أن تحسن إليهم} إلى {أَنْ تَتَّخِذَ فيهِمْ حُسْناً} مبالغة في الإحسان إليهم حتى جعل كأنه اتخذ فيهم نفس الحسن، مثل قوله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} [البقرة: 83] }. وفي هذه المبالغة تلقين لاختيار أحد الأمرين المخير بينهما.
والظلم: الشرك، بقرينه قسيمة في قوله: {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} .
واجتلاب حرف الاستقبال في قوله {فَسَوفَ نُعَذِّبُهُ} يشير إلى أنه سيدعوه إلى الإيمان فإن أصر على الكفر يعذبه. وقد صرح بهذا المفهوم في قوله: {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} أي آمن بعد كفره.
ولا يجوز أن يكون المراد من هو مؤمن الآن، لأن التخيير بين تعذيبهم واتخاذ الإمهال معهم يمنع أن يكون فيهم مؤمنون حين التخيير.
والمعنى: فسوف نعذبه عذاب الدنيا ولذلك أسنده إلى ضميره ثم قال {ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُكْراً} [الكهف: 87] وذلك عذاب الآخرة.
وقرأ الجمهور {جَزَاءًَ الْحُسْنَى} بإضافة {جزاء} إلى {الحسنى} على الإضافة البيانية. وقرأه حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، ويعقوب، وخلف {جزاء الحسنى} بنصب {جزاء} منونا على أنه تمييز لنسبه استحقاقه الحسنى، أو مصدر مؤكد لمضمون

جملة {فَلَهُ جَزَاءًَ الْحُسْنَى} ، أو حال مقدمة على صاحبها باعتبار تعريف الجنس كالتنكير.
وتأنيث {الحسنى} باعتبار الخصلة أو الفعلة. ويجوز أن تكون {الحسنى} هي الجنة كما في قوله {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} [يونس: 26].
والقول اليسر: هو الكلام الحسن. وصف باليسر المعنوي لكونه لا يثقل سماعه. وهو مثل قوله تعالى {فقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً} [الاسراء: 28] أي جميلا.
فإن كان المراد من {الحسنى} الخصال الحسنى، فمعنى عطف {وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً} أنه يجازي بالإحسان وبالثناء. وكلاهما من ذي القرنين، وإن كان المراد من {الحسنى} ثواب الآخرة فذلك من أمر الله تعالى وإنما ذو القرنين مخبر به خبرا مستعملا في فائدة الخبر، على معنى. إنا نبشره بذلك، أو مستعملا في لازم الفائدة تأدبا مع الله تعالى، أي أني أعلم جزاءه عندك الحسنى.
وعطف عليه {وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً} لبيان حظ الملك من جزائه وأنه البشارة والثناء.
[89-90] {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْراً}
تقدم خلاف القراء في {فأَتْبَعَ سَبَباً} فهو كذلك هنا.
ومطلع الشمس: جهة المشرق من سلطانه ومملكته، بلغ جهة قاصية من الشرق حيث يخال أن لا عمران وراءها، فالمطلع مكان الطلوع.
والظاهر أنه بلغ ساحل بحر اليابان في حدود منشوريا أو كوريا شرقا، فوجد قوما تطلع عليهم الشمس لا يسترهم من حرها، أي لا جبل فيها يستظلون بظله ولا شجر فيها، فهي أرض مكشوفة للشمس. ويجوز أن يكون المعنى أنهم كانوا قوما عراة فكانوا يتقون شعاع الشمس في الكهوف أو في أسراب يتخذونها في التراب. فالمراد بالستر ما يستر الجسد.
وكانوا قد تعودوا ملاقاة حر الشمس، ولعلهم كانوا يتعرضون للشمس ليدفعوا عن أنفسهم ما يلاقونه من القر ليلا.

وفي هذه الحالة عبرة من اختلاف الأمم في الطبائع والعوائد وسيرتهم على نحو مناخهم.
[91] {كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً} .
{كَذَلِكَ} .
الكاف للتشبيه، والمشبه به شيء تضمنه الكلام السابق بلفظة أو معناه.
والكاف ومجرورها يجوز أن يكون شبه جملة وقع صفة لمصدر محذوف يدل عليه السياق، أي تشبيها ممائلا لما سمعت.
واسم الإشارة يشير إلى المحذوف لأنه كالمذكور لتقرر العلم به، والمعنى: من أراد تشبيهه لم يشبهه بأكثر من أن يشبهه بذاته على طريقة ما تقدم في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: 143] في سورة البقرة.
ويجوز أن يكون جزء جملة حذف أحد جزأيها والمحذوف ميتدأ. والتقدير:أمر ذي القرنين كذلك، أي كما سمعت.
ويجوز أن يكون صفة ل {قوما} أي قوما كذلك القوم الذين وجدهم في مغرب الشمس، أي في كونهم كفارا، وفي تخييره في إجراء أمرهم على العقاب أو على الإمهال. ويجوز أن يكون المجرور جزء جملة أيضا جلبت للانتقال من كلام إلى كلام فيكون فصل خطاب كما يقال: هذا الأمر كذا.
وعلى الوجوه كلها فهو اعتراض بين جملة {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ} الخ وجملة {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ} [الكهف: 93,92] الخ...
{ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً}
هذه الجملة حال من الضمير المرفوع في {ثُمَّ أَتْبَعَ} .
و {بمَا لَدَيْهِ} : ما عنده من عظمة الملك من جند وقوة وثروة.
والخبر بضم الخاء وسكون الموحدة: العلم والإحاطة بالخبر. كناية عن كون المعلوم عظيما بحيث لا يحيط به علما إلا علام الغيوب.
[92-98] {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْماً لا

يَكَادُونَ يَفقَهُونَ قَوْلاً قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفسِدُونَ في الْأَرْضِ فهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً قَالَ مَا مَكَّنِّي فيهِ رَبِّي خَيْرٌ فأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفيْنِ قَالَ انْفخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً فمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً}
السد بضم السين وفتحها: الجبل. ويطلق أيضا على الجدار الفاصل، لأنه يسد به الفضاء، وقيل: الضم في الجبل والفتح في الحاجز.
وقرأه نافع، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم، وأبو جعفر. وخلف، ويعقوب بضم السين. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحفص عن عاعصم بفتح السين على لغة عدم التفرقة.
والمراد بالسدين هنا الجبلان، وبالسد المفرد الجدار الفاصل، والقرينة هي التي عينت المراد من هذا اللفظ المشترك.
وتعريف {السدين} تعريف الجنس، أى بين سدين معينين، أي اتبع طريقا آخر في غزوة حتى بلغ بين جبلين معلومين.
ويظهر أن هذا السبب اتجه به إلى جهة غير جهتي المغرب والمشرق فيحتمل أنها الشمال أو الجنوب. وعينه المفسرون أنه للشمات، وبنوا على أن ذا القرنين هو إسكندر المقدوني، فقالوا: إن جهة السدين بين أرمينيا وأذربيجان. ونحن نبني على ما عيناه في الملقب بذي القرنين، فنقول: إن موضع السدين هو الشمال الغربي لصحراء قوبي الفاصلة بين الصين وبلاد المغول شمال الصين وجنوب مغوليا. وقد وجد السد هنالك ولم تزل آثاره إلى اليوم شاهدها الجغرافيون والسائحون وصورت صورا شمسية في كتب الجغرافيا وكتب التاريخ العصرية.
ومعنى {لا يَكَادُونَ يَفقَهُونَ قَوْلاً} أنهم لا يعرفون شيئا من قول غيرهم فلغتهم مخالفة للغات الأمم المعروفة بحيث لا يعرفها تراجمة ذي القرنين لأن شأن الملوك أن يتخذوا تراجمة ليترجموا لغات الأمم الذين يحتاجون إلى مخاطبتهم، فهؤلاء القوم كانوا يتكلمون بلغة غريبة لانقطاع أصقاعهم عن الأصقاع المعروفة فلا يوجد من يستطيع إفهامهم مراد الملك ولا هم يستطيعون الإفهام.

ويجوز أن يكون المعنى أنهم قوم متوغلون في البداوة والبلاهة فلا يفهمون ما يقصده من يخاطبهم.
وقرأ الجمهور {يفقهون} بفتح الياء التحتية وفتح القاف أي لا يفهمون قول غيرهم. وقرأ حمزة،والكسائى بضم الياء وكسر القاف أي لا يستطيعون إفهام غيرهم قولهم. والمعنيان متلازمان. وهذا كما في حديث الإيمان نسمع دوي صوته ولا نفهم ما يقول.
وهؤلاء القوم مجاورون ياجوج وماجوج. وكانوا أضعف منهم فسألوا ذا القرنين أن يقيهم من فساد ياجوج وماجوج. ولم يذكر المفسرون تعين هؤلاء القوم ولا أسماء قبيلتهم سوى أنهم قالوا: كم في منقطع بلاد الترك نحو المشرق وكانوا قوما صالحين فلا شك أنهم من قبائل بلاد الصين التي تتأخم بلاد المغول والتتر.
وجملة {قالوا} استئناف للمحاورة. وقد بينا في غير موضع أن جمل حكاية القول في المحاورات لا تقترن بحرف العطف كما في قوله تعالى {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} [البقرة: 30]الآية. فعلى أول الاحتمالين في معنى {لا يَكَادُونَ يَفقَهُونَ قَوْلاً} أنهم لا يدركون ما يطلب منهم من طاعة ونظام ومع ذلك يعربون عما في نفوسهم من الأغراض مثل إعراب الأطفال. وعلى الاحتمال الثاني أنهم أمكنهم أن يفهم مرادهم بعد لأي.
وافتتاحهم الكلام بالنداء أنهم نادوه نداء المستغيثين المضطرين. ونداؤهم إياه بلقب ذي القرنين على أنه مشهور بمعنى ذلك اللقب بين الأمم المتاخمة لبلاده.
وياجوج وماجوج أمة كثيرة العدد فيحتمل أن الواو الواقعة بين الاسمين حرف عطف فتكون أمة ذات شعبين. وهم المغول وبعض أصناف التتار. وهذا هو المناسب لأصل رسم الكلمة ولا سيما على القول بأنهما اسمان عربيان كما سيأتي فقد كان الصنفان متجاورين.
ووقع لعلماء التأريخ وعلماء الأنساب اختلاف إطلاق اسمي المغول والتتار كل على ما يطلق عليه الآخر لعسر التفرقة بين المتقاربين منهما. وقد قال بعض العلماء: إن المغول هم ماجوج بالميم اسم جد لهم يقال أيضا سكيشوس. وكان الاسم العام الذي يجمع القبيلتين ماجوج ثم أنقسمت الأمة فسميت فروعها بأسماء خاصة، فمنها ماجوج وياجوج وتتر ثم التركمان ثم الترك. ويحتمل أن الواو المذكورة

ليست عاطفة ولكنها جاءت في صورة العاطفة فيكون اللفظ كلمة واحدة مركبة تركيبا مزجيا. فيتكون اسما لأمة وهم المغول.
والذي يجب اعتماده أن اعتماده أن ياجوج وماجوج هم المغول والتتر.
وقد ذكر أبو الفداء أن ماجوج هم المغول فيكون ياجوج هم التتر. وقد كثرت التتر على المغول فاندمج المغول في التتر وغلب اسم التتر على القبيلتين. وأوضح شاهد على ذلك ما ورد في حديث أم حبيبة عن زينب بنت جحش أن النبي صلى الله عليه و سلم دخل عليها فزعا يقول: "لا اله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب.فتح اليوم من ردم ياجوج وماجوج مثل هذه" . وحلق بأصبعيه الإبهام والتي تليها. وقد تقدم آنفا.
ولا يعرف بالضبط وقت إنطلاقهم من بلادهم ولا سبب ذلك. ويقدر أن انطلاقهم كان أواخر القرن السادس الهجري. وتشتت ملك العرب بأيدي المغول والتتر من خروج جنكيز خان المغولي واستيلائه على بخارى سنة ست عشرة وستمائة من الهجرة ووصلوا ديار بكر سنة 628 هجرية ثم ماكان من تخريب هولاكو بغداد عاصمة ملك العرب سنة 660 هجرية.
ونظير إطلاق اسمين على حي مؤتلف من قبيلتين إطلاق طسم وجديس على أمة من العرب البائدة. وإطلاق السكاسك والسكرن في القبائل اليمنية، وإطلاق هلال وزغبة على أعراب إفريقية الواردين من صعيد مصر. وإطلاق أولاد يحيى على حي بتونس بالجنوب الغربي. ومرادة وفرجان على حي من وطن نابل بتونس.
وقرأ الجمهور {يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ} كلتيهما بألف بعد التحتية بدون همز. وقرأه عاصم بالهمز.
واختلف المفسرون في أنه اسم عربي أو معرب. وغالب ظني أنه اسم وضعه القرآن حاكى به معناه في لغة تلك الأمة المناسب لحال مجتمعهم فاشتق لهما من مادة الأج. وهو الخلط. إذ قد علمت أن تلك الأمة كانت أخلاطا من أصناف.
والاستفهام من قوله: {فَهَلْ نَجْعَل لَّكَ} مستعمل في العرض.
والخرج: المال الذي يدفع للملك. وهو بفتح الخاء المعجمة وسكون الراء في قراءة الجمهور. ويقال فيه الخراج بألف بعد الراء. وكذلك قرأة حمزة، والكسائي، وخلف.

وقرأ الجمهور {سدا} بضم السين وقرأه ابن كثير،وأبو عمرو،وحفص، والكسائي، وخلف بفتح السين.
وقوله {مَا مَكَّنِّي فيهِ رَبِّي خَيْرٌ} أي ما آتاني الله من المال والقوة خير من الخراج الذي عرضتموه من السد الذي سألتموه. أي ما مكنني فيه ربي يأتي بخير مما سألتم، فإنه لاح له أنه إن سد عليهم المرور من بين الصدفين تحيلوا فتسلقوا الجبال ودخلوا بلاد الصين، فأراد أن يبني سورا ممتدا على الجبال في طول حدود البلاد حتى يتعذر عليهم تسلق تلك الجبال.
ولذلك سماه ردما. والردم: البناء المردم. شبه بالثؤب المردم المؤتلف من رقاع فوق رقاع. أي سدا مضاعفا. ولعله بني جدارين متباعدين وردم الفراغ الذي بينهما بالتراب المخلوط ليتعذر نقيبه.
ولما كان ذلك يستدعي عمله كثيرين قال لهم: {فأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ} أي بقوة الأبدان. أراد تسخيرهم للعمل لدفع الضرر عنهم.
وقد بنى ذو القرنين وهو تسين شى هوانق تي سلطان الصين هذا الردم بناء عجيبا في القرن الثالث قبل المسيح وكان يعمل فيه ملايين من الخدمة. فجعل طوله ثلاثة الآف وثلاثمائة كيلو متر. وبعضهم يقول. ألفا ومائتي ميل. بحسب اختلاف الاصطلاح في تقدير الميل. أي البحر الاصفر شرقي مدينة بيكنغ عاصمة الصين في خط اتجاه مدينة مكدن الشهيرة. وذلك عند عرض 40.4 شمالا. وطول 12.02 شرقا. وهو يلاقي النهر الأصفر حيث الطول 111،50 شرقا. والعرض 39،50 شمالا.وأيضا في 37 عرض شمالي. ومن هنالك يتعطف إلى جهة الشمال الغربي وينتهي بقرب 99 طولا شرقيا و 40 عرضا شماليا.
وهو مبني بالحجارة ولآجر وبعضه من الطين فقط.
وسمكه عند أسفله نحو 25 قدما وعند أعلاه نحو 15 قدما وارتفاعه يتراوح بين 15 إلى 20 قدما. وعليه أبراج مبنية من القراميد ارتفاع بعضها نحو 40 قدما.
وهو الآن بحالة خراب فلم يبق له اعتبار من جهة الدفاع.
ولكنه بقي علامة على الحد الفاصل بين المقاطعات الأرضية فهو فاصل بين الصين ومنغوليا. ويخترق جبال بابلوني التي هي حدود طببيعية بين الصين وبلاد منغوليا فمنتهى طرفه إلى الشمال الغربي لصحراء قوبي.

وقرأ الجمهور {مَكَّنِّي} بنون مدغمة. وقرأه ابن كثير بالفك على الأصل.
وقوله: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} هو أمر لهم بمناولة زبر الحديد. فالإيتاء مستعمل في حقيقة معناه وهو المناولة وليس تكليفا للقوم بأن يجلبوا له الحديد من معادنه لأن ذلك ينافي قوله {مَا مَكَّنِّي فيهِ رَبِّي خَيْرٌ فأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ} أي أنه غني عن تكليفهم إنفاقا على جعل السد.وكأن هذا لقصد إقامة أبواب من حديد في مداخل الردم لمرور سيول الماء في شعب الجبل حتى لا ينهدم البناء بأن جعل الأبواب الحديدية كالشبابيك تمنع مرور الناس ولا تمنع انسياب الماء من بين قضبها، وجعل قضبان الحديد معضودة بالنحاس المذاب المصبوب على الحديد.
والزبر: جمع زبرة، وهي القطعة الكبيرة من الحديد.
والحديد: معدن من معادن الأرض يكون قطعا كالحصى ودون ذلك يكون فيها صلابة. وهو يصنف ابتداء إلى صنفين: لين، ويقال له الحديد الأنثى، وصلب ويقال له الذكر. ثم يصنف إلى ثمانية عشر صنفا. ألوانه متقاربة وهي السنجابي، منها ما هو إلى الحمرة.ومنها ما هو إلى البياض. وهو إذا صهر بنار قوية في أتون مغلق التأمت أجزاؤه وتجمعت في وسط النار كالاسفنجة واشتدت صلابته لأنه بالصهر يدفع مكان فيه من الأجزاء الترابية وهي المسماة بالصدأ والخبث، فتعلو تلك الأجزاء على سطحه وهي الزبد. وخبث الحديد الوارد في الحديث إن المدينة تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد ولذلك فبمقدار ما يطفو من تلك الجزاء الغريبة الخبيثة يخلص الجزء الحديدي ويصفو ويصير زبرا. ومن تلك الزبر تصنع الأشياء الحديدية من سيوف وزجاج ودروع ولأمات،ولا وسيلة لصنعه إلا الصهر أيضا بالنار بحيث تصير الزبرة كالجمر، فحينئذ تشكل بالشكل المقصود بواسطة المطارق الحديدية.
وقوله: {حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفيْنِ} أشعرت {حتى} بشيء مغيا قبلها، وهو كلام محذوف تقديره: فآتوه زبر الحديد فنضدها وبناها حتى إذا جعل بين الصدفين. وهذا إيجاز الحذف. والمساواة ك جعل الأشياء متساوية، أي متماثلة في مقار أو وصف.
والصدفان بفتح الصاد وفتح الدال في فقراءة الجمهور، وهو الأشهر. وقرأه ابن

كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، ويعقوب بضم الصاد والدال، وهو لغة. وقرأه أبو بكر عن عاصم بضم الصاد وسكون الدال.
والصدف: جانب الجبل، وهما جانبا الجبلين وهما السدان. وقال ابن عطية والقزويني في "الكشف" : إلا صدفان بالثنية، ولا يقال لأحدهما صدف لأن أحدهما يصادف الآخر، أي فالصدفان اسم لمجموع الجانبين مثل المقصان لما يقطع به الثوب ونحوه.
وعن أبي عيسى: الصدف كل بناء عظيم مرتفع.
والخطاب في قوله: {انفخوا} وقوله: {آتوني} خطاب للعملة. وحذف متعلق {انفخوا} لظهوره من كون العمل من صنع الحديد. والتقدير: انفخوا في الكيران المصفوفة على طول ما بين الصدفين وزبر الحديد.
وقرأ الجمهور {قَالَ آتُونِي} مثل الأول.
وقرأه حمزة، وأبو بكر عن عاصم {ائتوني} على أنه أمر من الإتيان. أي أمرهم أن يحضروا للعمل.
والقطر بكسر القاف: النحاس المذاب.
وضمير {اسطاعوا} و {استطاعوا} ليأجوج وماجوج.
والظهور: العلو. كسر الردم، وعدم استطاعتهم ذلك لارتفاعه وصلابته.
و {اسطاعوا} تخفيف {استطاعوا} . والجمع بينهما تفنن في فصاحة الكلام كراهية إعادة الكلمة. وابتدئ بالأخف منهما لأنه وليه الهمز وهو حرف ثقيل لكونه من الحلق، بخلاف الثاني إذ وليه اللام وهو خفيف.
ومقتضى الظاهر أن يبتدأ بفعل {استطاعوا} ويثنى بفعل {اسطاعوا} لأنه يثقل بالتكرير، كما وقع في قوله آنف: {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً} [الكهف: 78].
ثم قوله: {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً} [الكهف: 82]
ومن خصائص مخالفة مقتضى الظاهر هنا إيثار فعل ذي زيادة في المبنى بموقع فيه زيادة المعنى لأن استطاعة نقب السد أقوى من استطاعة تسلقه، فهذا من مواضع دلالة زيادة المبنى على زيادة في المعنى.
وقرأ حمزة وحده {فما اسطاعوا} الأول بتشديد الطاء مدغما فيها التاء.
وجملة {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} مستأنفة استئنافا بيانيا، لأنه لما آذن الكلام بانتهاء

حكاية وصف الردم كان ذلك مثيرا سؤال من يسأل: ماذا صدر من ذي القرنين حين أتم هذا العمل العظيم? فيجاب بجملة {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} .
والإشارة بهذا إلى الردم. وهو رحمة للناس لما فيه من رد فساد أمة ياجوج وماجوج عن أمة أخرى صالحة.
و {من} ابتدائية. وجعلت من الله لأن الله ألهمه لذلك ويسر له ما هو صعب.
وفرع عليه {فإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ} نطقا بالحكمة لأنه يعلم أن كل حادث صائر إلى زوال. ولأنه علم أن عملا عظيما مثل ذلك يحتاج إلى التعهد والمحافظة عليه من الانهدام. وعلم أن ذلك لا يتسنى في بعض أزمان انحطاط المملكة الذي لا محيض منه لكل ذي سلطان.
والوعد: هو الإخبار بأمر مستقبل، وأراد به ما في علم الله تعالى من الأجل الذي ينتهي إليه دوام ذلك الردم. فاستعار له اسم الوعد. ويجوز أن يكون الله قد أوحى إليه إن كان نبيا أو ألهمه إن كان صالحا أن لذلك الردم أجلا معينا ينتهي إليه.
وقد كان ابتداء ذلك الوعد يوم قال النبي صلى الله عليه وسلم "فتح اليوم من ردم ياجوج هكذا. وعقد بين إصبعيه الإبهام والسبابة" كما تقدم.
والدك في قراءة الجمهور مصدر بمعنى المفعول للمبالغة، أي جعله مدكوكا، أي مسوى بالأرض بعد ارتفاع. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف {جَعَلَهُ دَكَّاءَ} بالمد. والدكاء: اسم للناقة التي لا سنام لها، وذلك على التشبيه البليغ.
وجملة {وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً} تذييل للعلم بأنه لا بد له من أجل ينتهي إليه لقوله تعالى: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} [الرعد: 38] و {كُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} [يونس: 49] أي وكان تأجيل الله الأشياء حقا ثابتا لا يتخلف. وهذه الجملة بعمومها وما فيها من حكمة كانت تذييلا بديعا.
[99-101] {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ في بَعْضٍ وَنُفخَ في الصُّورِ فجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافرِينَ عَرْضاً الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ في غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً}
{وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ في بَعْضٍ}

الترك: حقيقته مفارقة شيء شيئا كان بقربه، ويطلق مجازا على جعل الشيء بحالة مخالفة لحالة سابقة تمثيلا لحال إلفائه على حالة، تم تغييرها بحال من كان قرب شيء ثم ذهب عنه. وإنما يكون هذا المجاز مقيدا بحالة كان عليها مفعول ترك، فيقيد أن ذلك آخر العهد، وذلك يستتبع أنه يدوم على ذلك الحال الذي تركه عليها بالقرينة.
والجملة عطف على الجملة التي قبلها ابتداء من قوله: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ} [الكهف: 93]. فهذه الجملة لذكر صنع الله تعالى في هذه القصة الثالثة من قصص ذي القرنين إذ ألهمه دفع فساد ياجوج وماجوج. بمنزلة جملة {قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ} [الكهف: 86] في القصة الأولى. وجملة {كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً} [الكهف:91]
فجاء أسلوب حكاية هذه القصص الثلاث على نسق واحد.
و {يومئذ} هو يوم إتمام بناء السد المستفاد من قوله {فما استطاعوا أن يظهروه} الآية.
و {يموج} يضطرب تشبيها بموج البحر.
وجملة {يموج} حال من {بعضهم} أو مفعول ثان ل {تركنا} على تأويله بـ {جعلنا}. أي جعلنا ياجوج وماجوج يومئذ مضطربين بينهم فصار فسادهم قاصرا عليهم ودفع عن غيرهم.
والنار تأكل نفسها
إن لم تجد ما تأكله
لأنهم إذا لم يجدوا ما اعتادوه من غزو الأمم المجاورة لهم رجع قويهم على ضعيفهم بالاعتداء.
{وَنُفخَ في الصُّورِ فجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافرِينَ عَرْضاً الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ في غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً}
تخلص من أغراض الاعتبار بما في القصة من إقامة المصالح في الدنيا على أيدي من اختاره الله لإقامتها من خاصة أوليائه، إلى غرض التذكير بالموعظة بأحوال الآخرة، وهو تخلص يؤذن بتشبيه حال تموجهم بحال تموج الناس في المحشر، تذكيرا للسامعين بأمر الحشر وتقريبا بحصوله في خيال المشركين، فإن القادر على جمع أمة كاملة وراء هذا السد، بفعل من يسره لذلك من خلقه، هو الأقدر على جمع الأمم في الحشر بقدرته، لأن متعلقات القدرة في عالم الآخرة أعجب. وقد تقدم أن من أهم أغراض هذه السورة إثبات

البعث. واستعمل الماضي موضع المضارع تنبيها على تحقيق وقوعه.
والنفخ في الصور تمثيلية مكنية تشبيها لحال الداعي المطاع وحال المدعو الكثير العدد السريع الإجابة، بحال الجند الذين ينفذون أمر القائد بالنفير فينفخون في بوق النفير، وبحال بقية الجند حين يسمعون بوق النفير فيسرعون إلى الخروج. على أنه يجوز أن يكون الصور من مخلوقات الآخرة.
والحالة الممثلة حالة غريبة لا يعلم تفصيلها إلا الله تعالى.
وتأكيد فعلي {جمعناهم} و {عرضنا} بمصدريهما لتحقق أنه جمع حقيقي وعرض حقيقي ليسا من المجاز، وفي تنكير الجمع والعرض تهويل.
ونعت الكافرين بـ {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ في غِطَاءٍ} للتنبيه على أن مضمون الصلة هو سبب عرض جهنم لهم، أي الذين عرفوا بذلك في الدنيا.
والغطاء: مستعار لعدم الانتفاع بدلالة البصر على تفرد الله بالإلهية. وحرف {من} للظرفية المجازية. وهي تمكن الغطاء من أعينهم بحيث كأنها محوية للغطاء.
و {عن} للمجاوزة، أي عن النظر فيما يحصل به ذكري.
ونفي استطاعتهم السمع أنهم لشدة كفرهم لا تطاوعهم نفوسهم للاستماع. وحذف مفعول {سمعا} لدلالة قوله: {عَنْ ذِكْرِي} عليه.
والتقدير: سمعا لآياتي، فنفي الاستطاعة مستعمل في نفي الرغبة وفي الإغراض كقوله {وَقَالُوا قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفي آذَانِنَا وَقْرٌ} [فصلت: 5]
وعرض جهنم مستعمل في إبرازها حين يشرفون عليها وقد سيقوا إليها فيعملون أنها المهيئة لهم، فشبه ذلك بالعرض تهكما بهم، لأن العرض هو إظهار ما فيه رغبة وشهوة.
[102] {أَفحَسِبَ الَّذِينَ كَفرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافرِينَ نُزُلاً} .
أعقب وصف حرمانهم الانتفاع بدلائل المشاهدات على وحدانية الله وإعراضهم عن سماع الآيات بتفريع الإنكار لاتخاذهم أولياء من دون الله يزعمونها نافعة لهم تنصرهم

تفريع الإنكار على صلة الذين كانت أ'ينهم في غطاء عن ذكري، لأن حسبانهم ذلك نشأ عن كون أعينهم في غطاء وكونهم لا يستطيعون سمعا، أي حسبوا حسبانا باطلا فلم يغن عنهم ما حسبوه شيئا، ولأجله كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعا.
وتقدم حرف الاستفهام على فاء العطف لأن للاستفهام صدر الكلام وهو كثير في أمثاله، والخلاف شهير بين علماء العربية في أن الاستفهام مقدم من تأخير، أو أن العطف إنما هو على ما بعد الاستفهام بعد حذف المستفهم عنه لدلالة المعطوف عليه. فيقدر هنا: آمنوا عذابي فحسبوا أن يتخذوا إلخ... وأول القولين أولى. وقد تقدمت نظائره منها قوله تعالى {أَفتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} [البقرة: 75] في سورة البقرة.
والاستفهام إنكاري. والإنكار عليهم فيما يحسبونه يقتضي أن ما ظنوه باطل. ونظيره قوله {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا} [العنكبوت: 2] و {أَنْ يَتَّخِذُوا} ساد مسد مفعولي {حسب} لأنه يشتمل على ما يدل على المفعولين فهو ينحل إلى مفعولين. والتقدير: أحسب الذين كفروا عبادي متخذين أولياء لهم من دوني.
والإنكار متسلط على معمول المفعول الثاني وهو {أولياء} المعمول ل {يتخذوا} بقرينة ما دل عليه فعل
{حسب} من أن هنالك محسوبا باطلا. وهو كونهم أولياء باعتبار ما تقتضيه حقيقة الولاية من الحماية والنصر.
و {عبادي} صادق على الملائكة والجن والشياطين ومن عبدوهم من الأخيار مثل عيسى عليه السلام، ويصدق على الأصنام بطريق التغليب.
و {مِنْ دُونِي} متعلق بـ {أولياء} إما يجعل {دوني} اسما بمعنى حول أي من حول عذابي، وتأويل {أولياء} بمعنى أنصارا، أي حائلين دون عذابي وما نعينهم منه. وإما يجعل دوني بمعنى غيري. أي أحسبوا أنهم يستغنون بولايتهم.
وصيغ فعل الاتخاذ بصيغة المضارع للدلالة على تجدده منهم وأنهم غير مقلعين عنه.
وجعل في الكشاف فعل {يتخذوا} للمستقبل. أي أحسبوا أن يتخذوا عبادي أولياء يوم القيامة كما اتخذوهم في الدنيا، وهو المشار إليه بقوله: {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافرِينَ عَرْضاً} ونظره بقوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ

إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ} [سبأ: 40-41]
وإظهار الذين كفروا دون أن يقال: أفحسبوا، بإعادة الضمير إلى الكافرين في الآية قبلها، لقصد استقلال الجملة بدلالتها، وزيادة في إظهار التوبيخ لهم.
وجملة {إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافرِينَ نُزُلاً} مقررة لإنكار انتفاعهم بأوليائهم فأكد بأن جهنم أعدت لهم نزلا فلا محيص لهم عنها ولذلك أكد بحرف {إن}.
و {أعتدنا} : أعددنا، أبدل الدال الأول تاء لقرب الحرفين، والإعداد: التهيئة، وقد تقدم آنفا عند قوله تعالى: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً} [الكهف: 29]. وجعل المسند إليه ضمير الجلالة لإدخال الروع في ضمائر المشركين.
والنزل بضمتين: ما يعد للنزيل والضيف من القرى. وإطلاق اسم النزل على العذاب استعارة علاقتها التهكم، كقول عمرو ابن كلثوم:
قربناكم فعجلنا قراكم
قبيل الصبح مرداة طحونا
[103-104] {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً}
اعتراض باستئناف ابتدائي أثاره مضمون جملة {أَفحَسِبَ الَّذِينَ كَفرُوا} الخ. فإنهم لما اتخذوا أولياء من ليسوا ينفعونهم فاختاروا الأصنام وعبدوها وتقربوا إليها بما أمكنهم من القرب اغترارا بأنها تدفع عنهم وهي لا تغني عنهم شيئا فكان عملهم خاسرا وسعيهم باطلا. فالمقصود من هذه الجملة هو قوله: {وَهُمْ يَحْسًبُونَ...} الخ.
وافتتاح الجملة بالأمر بالقول للاهتمام بالمقول بإصغاء السامعين لأن مثل هذا الافتتاح يشعر بأنه في غرض منهم، وكذلك افتتاحه باستفهامهم عن إنبائهم استفهاما مستعملا في العرض لأنه بمعنى: أتحبون أن ننبئكم بالأخسرين أعمالا، وهو عرض تهكم لأنه منبئهم بذلك دون توقف على رضاهم.
وفي قوله: {بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً} إلى آخره تمليح إذ عدل فيه عن طريقه الخطاب بأن يقال لهم: هل ننبئكم بأنكم الأخسرون أعمالا، إلى طريقة الغيبة بحيث يستشرفون إلى معرفة هؤلاء الأخسرين فما يروعهم إلا أن يعملوا أن المخبر عنهم هم أنفسهم.
والمقول لهم: المشركون، توبيخا لهم وتنبيها على ما غفلوا عنه من خيبة سعيهم.

ونون المتكلم المشارك في قوله: {ننبئكم} يجوز أن تكون نون العظمة راجعة إلى ذات الله على طريقة الالتفات في الحكاية. ومقتضى الظاهر أن يقال: هل ينبئكم الله، أي سينبئكم ويجوز أن تكون للمتكلم المشارك راجعة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى الله تعالى لأنه ينبئهم بما يوحى إليه من ربه. ويجوز أن تكون راجعة للرسول وللمسلمين.
وقوله: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ} بدل من {بالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً} .
وفي هذا الإطناب زيادة التشويق إلى معرفة هؤلاء الأخسرين حيث أجرى عليهم من الأوصاف ما يزيد السامع حرصا على معرفة الموصوفين بتلك الأوصاف والأحوال.
والضلال: خطأ السبيل. شبه سعيهم غير المثمر بالسير في طريق غير موصلة.
والسعي: المشي في شدة. وهو هنا محاز في العمل كما تقدم عند قوله {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} في سورة الإسراء [19]، أي عملوا أعمالا تقربوا بها للأصنام يحسبونها مبلغة إياهم أغراضا وقد أخطأوها وهم يحسبون أنهم يفعلون خيرا.
وإسناد الضلال إلى سعيهم مجاز عقلي. والمعنى: الذين ضلوا في سعيهم.
وبين {يحسبون} و {يحسنون} جناس مصحف، وقد مثل بهما في مبحث الجناس.
[105] {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً}
جملة هي استئناف بياني بعد قوله: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ} .
وجيء باسم الإشارة لتمييزهم أكمل تميز لئلا يلتبسوا بغيرهم على نحو قوله تعالى: {وأولئك هم المفلحون} .
وللتنبيه على أن المشار إليهم أحرياء بما بعد اسم الإشارة من حكم بسبب ما أجري عليهم من الأوصاف.
والآيات: القرآن والمعجزات.
والحبط: البطلان والدحض.
وقوله: {ربهم} يجري على الوجه الأول في نون {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ} أنه إظهار في مقام

الإضمار. ومقتضى الظاهر أن يقال: أولئك الذين كفروا بآياتنا. ويجري على الوجهين الثاني والثالث انه على مقتضى الظاهر.
ونون {فلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} على الوجه الأول في نون {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ} جارية على مقتضى الظاهر.
وأما على الوجهين الثالث والرابع فإنها التفات عن قوله: {بِآياتِ رَبِّهِمْ} ، ومقتضى الظاهر أن يقال: فلا يقيم لهم.
ونفي إقامة الوزن مستعمل في عدم الاعتداد بالشيء. وفي حقارته لأن الناس يزنون الأشياء المتنافس في مقاديرها والشيء التافه لا يوزن، فشبهوا بالمحقرات على طريقة المكنية وأثبت لهم عدم الوزن تخييلا.
وجعل عدم إقامة الوزن مفرعا على حبط أعمالهم لأنهم بحبط أعمالهم صاروا محقرين لا شيء لهم من الصالحات.
[106] {ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً}
الإشارة إما إلى ما تقدم من وعيدهم في قوله {إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافرِينَ نُزُلاً} ، أي ذلك الإعداد جزاؤهم.
وقوله: {جزاؤهم} خبر عن اسم الإشارة. وقوله: {جهنم} بدل من {جزاؤهم} بدلا مطابقا لأن إعداد جهنم هو عين جهنم وإعادة لفظ جهنم أكسبه قوة التأكيد؛ وإما إلى مقدر في الذهن دل عليه السياق بينه ما بعده على نحو استعمال ضمير الشأن مع تقدير مبتدأ محذوف. والتقدير: الأمر والشأن ذلك جزاؤهم جهنم.
والباء للسببية، و {ما} مصدرية، أي بسبب كفرهم.
و {اتخذوا} عطف على {كفروا} فهو من صلة {ما} المصدرية. والتقدير: وبما اتخذوا آياتي ورسلي هزوا، أي باتخاذهم ذلك كذلك.
والرسل يجوز أن يراد به حقيقة الجمع فيكون إخبارا عن حال كفار قريش ومن سبقهم من الأمم المكذبين، ويجوز أن يراد به الرسول الذي أرسل إلى الناس كلهم وأطلق عليه اسم الجمع تعظيما كما في قوله: {نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ} [ابراهيم: 44].

والهزو بضمتين مصدر بمعنى المفعول. وهو أشد مبالغة من الوصف باسم المفعول، أي كانوا كثيري الهزو بهم.
[107-108] {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفرْدَوْسِ نُزُلاً خَالِدِينَ فيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً}
هذا مقابل قوله: {إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافرِينَ نُزُلاً} على عادة القرآن في ذكر البشارة بعد الإنذار.
وتأكيد الجملة للاهتمام بها لأنها جاءت في مقابلة جملة {إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافرِينَ نُزُلاً} ، وهي مؤكدة كي لا يظن ظان أن جزاء المؤمنين غير مهتم بتأكيده مع ما في التأكيدين من تقوية الإنذار وتقوية البشارة.
وجعل المسند إليه الموصول بصلة الإيمان وعمل الصالحات للاهتمام بشأن أعمالهم، فلذلك خولف نظم الجملة التي تقابلها فلم يقل: جزاؤهم الجنة. وقد تقدم نظير هذا الأسلوب في المخالف بين وصف الجزاءين عند قوله تعالى في هذه السورة: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} [الكهف: 29] ثم قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} [الكهف:30]
وفي الإتيان بـ {فكانت} دلالة على أن استحقاقهم الجنات أمر مستقر من قبل مهيأ لهم.
وجيء بلام الاستحقاق تكريما لهم بأنهم نالوا الجنة باستحقاق إيمانهم وعملهم، كما قال تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:72]
وجمع الجنات إيماء إلى سعة نعيمهم، وأنها جنات كثيرة كما جاء في الحديث: "إنها جنان كثيرة" .
والفردوس: البستان الجامع لكل ما يكون في البساتين. وعن مجاهد هو معرب عن الرومية. وقيل عن السريانية. وقال الفراء: هو عربي، أي ليس معربا. ولم يرد ذكره في كلام العرب قبل القرآن.
وأهل الشام يقولون للبساتين والكروم: الفراديس. وفي مدينة حلب باب يسمى باب الفراديس.
وإضافة الجنات إلى الفردوس بيانية، أي جنات هي من صنف الفردوس. وورد في

الحديث أن الفردوس أعلى الجنة أو وسط الجنة. وذلك إطلاق آخر على هذا المكان المخصوص يرجع إلى أنه علم بالغلبة.
فإن حملت هذه الآية عليه كانت إضافة {جنات} إلى {الفردوس} إضافة حقيقية، أي جناب هذا المكان.
والنزل تقدم قريبا.
وقوله: {لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً} أي ليس بعدما حوته تلك الجنات من ضروب اللذات والتمتع ما تتطلع النفوس إليه فتود مفارقة ما هي فيه إلى ما هو خير منه. أي هم يجدون فيها كل ما يخامر أنفسهم من المشتهى.
والحول: مصدر بوزن العوج والصغر. وحرف العلة يصحح في هذه الضيفة لكن الغالب فيما كان على هذه الزنة مصدرا التصحيح مثل: الحول، وفيما كان منها جمعا الإعلال نحو: الحيل جمع حيلة. وهو من ذوات الواو مشتق من التحول.
[109] {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} .
لما ابتدئت هذه السورة بالتنويه بشأن القرآن ثم أفيض فيها من أفانين الإرشاد والإنذار والوعد والوعيد، وذكر فيها من أحسن القصص ما فيه غيره وموعظة، وما هو خفي من أحوال الأمم، حول الكلام إلى الإيذان بأن كل ذلك قليل من عظيم علم الله تعالى.
فهذا استئناف ابتدائي وهو انتقال إلى التنويه بعلم الله تعالى مفيض العلم على رسوله صلى الله عليه وسلم لأن المشركين لما سألوه عن أشياء يظنونها مفحمة للرسول وأن لا قبل له بعلمها علمه الله إياها، وأخبر عنها أصدق خبر، وبينها بأقصى ما تقبله أفهامهم وبما يقصر عنه علم الذين أغروا المشركين بالسؤال عنها، وكان آخرها خبر ذي القرنين، أتبع ذلك بما يعلم منه سعة علم الله تعالى وسعة ما يجري على وفق علمه من الوحي إذا أراد إبلاغ بعض ما في علمه إلى أحد من رسله. وفي هذا رد عجز السورة على صدرها.
وقيل: نزلت لأجل قول اليهود لرسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تقول، أي في سورة الإسراء {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الاسراء: 85] وقد أوتينا التوراة، ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرا

كثيرا. وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} في سورة الإسراء [85].
وقال الترمذي عن ابن عباس: قال حيي بن أخطب اليهودي:"في كتابكم {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} [البقرة: 269] ثم تقرأون {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} ؛ فنزل قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي...} الآية.
وكلمات الله: ما يدل على شيء من علمه مما يوحي إلى رسله أن يبلغوه، فكل معلوم يمكن أن يخبر به. فإذا أخبر به صار كلمة. ولذلك يطلق على المعلومات كلمات، لأن الله أخبر بكثير منها ولو شاء لأخبر بغيره، فإطلاق الكلمات عليها مجاز بعلاقة المآل. ونظيرها قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا في الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان: 27].وفي هذا دليل لإثبات الكلام النفسي ولإثبات التعلق الصلوحي لصفة العلم. وقل من يتنبه لهذا التعلق.
ولما كان شأن ما يخبر الله به على لسان أحد رسله أن يكتب حرصا على بقائه في الأمة، شبهت معلومات الله المخبر بها والمطلق عليها كلمات بالمكتوبات، ورمز إلى المشبه به بما هو من لوازمه وهو المداد الذي به الكتابة على طريقة المكنية، وإثبات المداد تخييل كتخيل الأظفار للمنية. فيكون ما هنا مثل قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ مَا في الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} فإن ذكر الأقلام إنما يناسب المداد بمعنى الحبر.
ويجوز أن يكون هنا تشبيه كلمات الله بالسراج المضيء، لأنه يهدي إلى المطلوب، كما شبه نور الله وهديه بالمصباح في قوله تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فيهَا مِصْبَاحٌ} [النور: 35]ويكون المداد تخييلا بالزيت الذي يمد به السراج.
والمداد يطلق على الحبر لأنه تمد به الدواة، أي يمد به ما كان فيها من نوعه، ويطلق المداد على الزيت الذي يمد به السراج وغلب إطلاقه على الحبر. وهو في هذه الآية يحتمل المعنيين فتتضمن الآية مكنيتين على الاحتمالين.
واللام في قوله: {لكلماته} لام العلة، أي لأجل كلمات ربي. والكلام يؤذن بمضاف محذوف، تقديره: لكتابة كلمات ربي، إذ المداد يراد للكتابة وليس البحر مما يكتب به ولكن الكلام بني على المفروض بواسطة لو .

والمداد: اسم لما يمد به الشيء، أي يزاد به على ما لديه. ولم يقل مدادا، إذ ليس المقصود تشبيهه بالحبر لحصول ذلك بالتشبيه الذي قبله وإنما قصد هنا أن مثله يمده.
والنفاد: الفناء والاضمحلال. ونفاد البحر ممكن عقلا.
وأما نفاد كلمات الله بمعنى تعلقات علمه فمستحيل، فلا يفهم من تقييد نفاد كلمات الله بقيد الظرف وهو {قبل} إمكان نفاد كلمات الله. ولكن لما بني الكلام على الفرض والتقدير بما يدل عليه {لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً}
وهذا الكلام كناية عن عدم تناهي معلومات الله تعالى التي منها تلك المسائل الثلاث التي سألوا عنها النبي صلى الله عليه وسلم فلا يقتضي قوله: {قَبْلَ أَنْ تَنْفدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} أن لكلمات الله تعالى نفادا كما علمته.
وجملة {وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدا} في موضع الحال.
و {لو} وصلية،وهي الدالة على حالة هي أجدر الأحوال بأن لا يتحقق معها مفاد الكلام السابق فينبه السامع على أنها متحقق معها مفاد الكلام السابق. وقد تقدم عند قوله تعالى: {فلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افتَدَى بِه} في سورة آل عمران [91]. وهذا مبالغة ثانية.
وانتصب {مددا} على التمييز المفسر للإبهام الذي في لفظ {بمثله} أي مثل البحر في الإمداد.
[100] {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً}
استئناف ثان، انتقل به من التنويه بسعة علم الله تعالى وأنه لا يعجزه أن يوحي إلى رسوله بعلم كل ما يسأل عن الإخبار به. إلى إعلامهم بأن الرسول لم يبعث للإخبار عن الحوادث الماضية والقرون الخالية. ولا أن من مقتضى الرسالة أن يحيط علم الرسول بالأشياء فيتصدى للإجابة عن أسئلة تلقى إليه، ولكنه بشر علمه كعلم البشر أوحى إليه بما شاء إبلاغه عباده من التوحيد والشريعة. ولا علم له إلا ما علمه ربه كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي} [لأعراف: 203]

فالحصر في قوله: {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} قصر الموصوف على الصفة وهو إضافي للقلب. أي ما أنا إلا بشر لا أتجاوز البشرية إلى العلم بالمغيبات.
وأدمج في هذا أهم ما يوحى إليه وما بعث لأجله وهو توحيد الله والسعي لما فيه السلامة عند لقاء الله تعالى. وهذا من رد العجز على الصدر من قوله في أول السورة {لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْه} إلى قوله: {إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} [الكهف: 2-5].
وجملة {يُوحَى إِلَيَّ} مستأنفة. أو صفة ثانية ل {بشر} .
و {أنما} مفتوحة الهمزة أخت إنما المكسورة الهمزة وهي مركبة من {أن} المفتوحة الهمزة و {ما} الكافة كما ركبت إنما المكسورة الهمزة فتفيد ما تفيده {أن} المفتوحة من المصدرية، وما تفيده إنما من الحصر، والحصر المستفاد منها هنا قصر إضافي للقلب.
والمعنى: يوحي الله إلي توحيد الإله وانحصار وصفه في صفة الوحدانية دون المشاركة.
وتفريع {فمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ} هو من جملة الموحى به إليه. أي يوحى إلي بوحدانية الإله وبإثبات البعث وبالأعمال الصالحة.
فجاء النظم بطريقة بديعة في إفادة الأصول الثلاثة، إذ جعل التوحيد أصلا لها وفرع عليه الأصلان الآخران، وأكد الإخبار بالوحدانية بالنهي عن الإشراك بعبادة الله تعالى. وحصل مع ذلك رد العجز على الصدر وهو أسلوب بديع.

المجلد السادس عشر
سورة مريم...
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة مريم
اسم هذه السورة في المصاحف وكتب التفسير وأكثر كتب السنة سورة مريم. ورويت هذه التسمية عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث رواه الطبراني والديلمي، وابن منده، وأبو نعيم، وأبو أحمد الحاكم: عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني عن أبيه عن جده أبي مريم قال :"أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إنه ولدت لي الليلة جارية، فقال: والليلة أنزلت علي سورة مريم فسمها مريم " . فكان يكنى أبا مريم، واشتهر بكنيته. واسمه نذير، ويظهر أنه أنصاري.
وابن عباس سماها سورة كهيعص ، وكذلك وقعت تسميتها في صحيح البخاري في كتاب التفسير في أكثر النسخ وأصحها. ولم يعدها جلال الدين في الإتقان في عداد السور المسماة باسمين ولعله لم ير الثاني اسما.
وهي مكية عند الجمهور. وعن مقاتل: أن آية السجدة مدنية. ولا يستقيم هذا القول لاتصال تلك الآية بالآيات قبلها إلا أن تكون ألحقت بها في النزول وهو بعيد.
وذكر السيوطي في الإتقان قولا بأن قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم:71]الآية مدني، ولم يعزه لقائل.
وهي السورة الرابعة والأربعون في ترتيب النزول؛ نزلت بعد سورة فاطر وقبل سورة طه. وكان نزول سورة طه قبل إسلام عمر بن الخطاب كما يؤخذ من قصة إسلامه فيكون نزول هذه السورة أثناء سنة أربع من البعثة مع أن السورة مكية، وليس أبو مريم هذا معدودا في المسلمين الأولين فلا أحسب الحديث المروي عنه مقبولا.
ووجه التسمية أنها بسطت فيها قصة مريم وابنها وأهلها قبل أن تفصل في غيرها.

ولا يشبهها في ذلك إلا سورة آل عمران التي نزلت في المدينة.
وعدت آياتها في عدد أهل المدينة ومكة تسعا وتسعين. وفي عدد أهل الشام والكوفة ثمانا وتسعين.
أغراض السورة
ويظهر أن هذه السورة نزلت للرد على اليهود فيما اقترفوه من القول الشنيع في مريم وابنها، فكان فيها بيان نزاهة آل عمران وقداستهم في الخير.
وهل يثبت الخطي إلا وشيجه
ثم التنويه بجمع من الأنبياء والمرسلين من أسلاف هؤلاء وقرابتهم.
والإنحاء على بعض خلفهم من ذرياتهم الذين لم يكونوا على سننهم في الخير من أهل الكتاب والمشركين وأتوا بفاحش من القول إذ نسبوا لله ولدا، وأنكر المشركون منهم البعث وأثبت النصارى ولدا لله تعالى.
والتنويه بشأن القرآن في تبشيره ونذارته. وأن الله يسره بكونه عربيا ليسر تلك اللغة.
والإنذار مما حل بالمكذبين من الأمم من الاستئصال.
واشتملت على كرامة زكريا إذ أجاب الله دعاءه فرزقه ولدا على الكبر وعقر امرأته.
وكرامة مريم بخارق العادة في حملها وقداسة ولدها، وهو إرهاص لنبوءة عيسى عليه السلام، ومثله كلامه في المهد.
والتنويه بإبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، وموسى، وإسماعيل، وإدريس عليه السلام.
ووصف الجنة وأهلها.
وحكاية إنكار المشركين البعث بمقالة أبي بن خلف والعاصي ابن وائل وتبجحهم على المسلمين بمقامهم ومجامعهم.
وإنذار المشركين أن أصنامهم التي اعتزوا بها سيندمون على اتخاذها.
ووعد الرسول النصر على أعدائه.
وذكر ضرب من كفرهم بنسبة الولد لله تعالى.

والتنويه بالقرآن ولملته العربية، وأنه بشير لأوليائه ونذير بهلاك معانديه كما هلكت قرون قبلهم.
وقد تكرر في هذه السورة صفة الرحمان ست عشرة مرة، وذكر اسم الرحمة أربع مرات، فأنبأ بأن من مقاصدها تحقيق وصف الله تعالى بصفة الرحمان. والرد على المشركين الذين تقعروا بإنكار هذا الوصف كما حكى الله تعالى عنهم في قوله في سورة الفرقان: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} [الفرقان: من الآية60]
ووقع في هذه السورة استطراد بآية {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} [مريم: من الآية64]
{كهيعص} حروف هجاء مرسومة بمسمياتها ومقروءة بأسمائها فكأنها كتبت لمن يتهجاها. وقد تقدم القول في مجموع نظائرها. وفي المختار من الأقوال منها في سورة البقرة وكذلك موقعها من الكلام.
والأصل في النطق بهذه الحروف أن يكون كل حرف منها موقوفا عليه، لأن الأصل فيها أنها تعداد حروف مستقلة أو مختزلة من كلمات.
وقرأ الجمهور جميع أسماء هذه الحروف الخمسة بإخلاص الحركات والسكون بإسكان أواخر أسمائها. وقرأ أبو عمرو، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم، ويعقوب اسم الحرف الثني وهو{ها}بالإمالة. وفي رواية عن نافع وابن كثير قرأ {ها} بحركة بين الكسر والفتح.
وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي{يا}بالإمالة.
وقرأ نافع، وابن كثير، وعاصم، وأبو جعفر بإظهار دال{صاد}وقرأ الباقون بإدغامه في ذال {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ} [مريم: من الآية2] وإنما لم يمد{ها} و{يا} مع أن القارئ إنما ينطق بأسماء هذه الحروف التي في أوائل السور لا بمسمياتها المكتوبة أشكالها، واسما هذين الحرفين مختومان بهمزة مخففة للوجه الذي ذكرناه في طالع سورة يونس وهو التخفيف بإزالة لأجل السكت.
واعلم أنك إن جربت على غير المختار في معاني فواتح السور، فأما الأقوال التي جعلت الفواتح كلها متحدة في المراد فالأمر ظاهر، وأما الأقوال التي خصت بعضها

بمعان، فقيل في معنى {كهيعص} إن حروفها مقتضبة من أسمائه تعالى: الكافي أو الكريم أو الكبير، والهاء من هادي، والياء من حكيم أو رحيم، والعين من العليم أو العظيم، والصاد من الصادق، وقيل مجموعها اسم من أسمائه تعالى، حتى قيل هو الاسم الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وقيل اسم من أسماء القرآن، أي بتسمية جديدة، وليس في ذلك حديث يعتمد.
{ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا*إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً} [مريم2 :3]
افتتاح كلام، فيتعين أن {ذِكْرُ} خبر مبتدأ محذوف، مثله شائع الحذف في أمثال هذا من العناوين. والتقدير: هذا ذكر رحمة ربك عبده. وهو بمعنى: اذكر. ويجوز أن يكون {ذكر} أصله مفعولا مطلقا نائبا عن عامله بمعنى الأمر، أي اذكر ذكرا، ثم حول عن النصب إلى الرفع للدلالة على الثبات كما حول في قوله {الْحَمْدُ لِلَّهِ} وقد تقدم في سورة الفاتحة. ويرجحه {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ} [مريم: من الآية16] ونظائره.
وقد جاء نظم هذا الكلام على طريقة بديعة من الإيجاز والعدول عن الأسلوب المتعارف في الإخبار، وأصل الكلام: ذكر عبدنا زكريا إذ نادى ربه فقال: رب الخ... فرحمة ربك، فكان في تقديم الخبر بأن الله رحمه اهتمام بهذه المنقبة له، والإنباء بأن الله يرحم من التجأ إليه، مع ما إضافة {رَبِّ} إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم وإلى ضمير زكريا من التنويه بهما.
وافتتحت قصة مريم وعيسى بما يتصل بها من شؤون آل بيت مريم وكافلها لأن في تلك الأحوال كلها تذكيرا برحمة الله تعالى وكرامته لأوليائه.
وزكريا نبي من أنبياء بني إسرائيل، وهو زكريا الثاني زوج خالة مريم، وليس له كتاب في أسفار التوراة، وأما الذي له كتاب فهو زكريا ابن برخيا الذي كان موجودا في القرن السادس قبل المسيح. وقد مضت ترجمة زكريا الثاني في سورة آل عمران ومضت قصة دعائه هنالك.
و {إِذْ نَادَى رَبَّهُ} ظرف ل {رَحْمَتِ} أي رحمة الله إياه في ذلك الوقت، أو بدل من {ذِكْرُ} ، أي اذكر ذلك الوقت.
والنداء: أصله رفع الصوت بطلب الإقبال. وتقدم عند قوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ} في سورة آل عمران وقوله: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ

أورثتموها} في سورة الأعراف. ويطلق الندار كثيرا على الكلام الذي فيه طلب إقبال الذات لعمل أو إقبال الذهن لوعي كلام، فلذلك سميت الحروف التي يفتتح بها طلب الإقبال حروف النداء. ويطلق على الدعاء بطلب حاجة وإن لم يكن فيه نداء لأن شأن الدعاء في المتعارف أن يكون جهرا، أي تضرعا لأنه أوقع في نفس المدعو. ومعنى الكلام: أن زكريا قال: يا رب، بصوت خفي. وإنما كان خفيا لأن زكريا رأى أنه أدخل في الإخلاص مع رجائه أن الله يجيب دعوته لئلا تكون استجابته مما يتحدث به الناس، فلذلك لم يدعه تضرعا وإن كان التضرع أعون على صدق التوجه غالبا. فلعل يقينن زكريا كاف في تقوية التوجه. فاختار لدعائه السلامة من مخالطة الرياء. ولا منافاة بين كونه نداء وكونه خفيا، لأنه نداء من يسمع الخفاء.
والمراد بالرحمة: استجابة دعائه، كما سيصرح به بقوله {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى} وإنما حكي في الآية وصف دعاء زكريا كما وقع فليس فيها إشعار بالثناء على إخفاء الدعاء.
{قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً [4] وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً [5] يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً [6]}
جملة {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} مبنية لجملة {نَادَى رَبَّهُ} وهي وما بعدها تمهيد للمقصود من الدعاء وهو قوله: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً} وإنما كان ذلك تمهيدا لما يتضمنه من اضطراره لسؤال الولد. والله يجيب المضطر إذا دعاه. فليس سؤاله الولد سؤال توسع لمجرد تمتع أو فخر.
ووصف من ما تشتد معه الحاجة إلى الولد حالا ومثالا. فكان وهن العظم وعموم الشيب حالا مقتضيا للاستعانة بالولد مع ما يقتضيه من اقتراب إبان الموت عادة. فذلك مقصود لنفسه ووسيلة لغيره وهو الميراث بعد الموت.
والخبران من قوله: {وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً} مستعملان مجازا في لازم الإخبار. وهو الاسترحام لحاله. لأن المخبر بفتح الباء عالم بما تضمنه الخبران.
والوهن: الضعف. وإسناده إلى العظم دون غيره مما شمله الوهن في جسده لأنه

أوجز في الدلالة على عموم الوهن جميع بدنه لأن العظم هو قوام البدن وهو أصلب شيء فيه فلا يبلعه الوهن إلا وقد بلغ ما فوقه.
والتعريف في {العظم} تعريف الجنس دال على عموم العظام منه. وشبه عموم الشيب شعر رأسه أو غلبته عليه باشتعال النار في الفحم بجامع انتشار شيء لامع في جسم اسود. تشبيها مركبا تمثيليا قابلا لاعتبار التفريق في التشبيه. وهو أبدع أنواع المركب. فشبه الشعر الأسود بفحم والشعر الأبيض بنار على طريق التمثيلية المكنية ورمز إلى الأمرين بفعل {اشْتَعَل} .
وأسند الاشتعال إلى الرأس. وهو مكان الشعر الذي عمه الشيب.لأن الرأس لا يعمه الشيب إلا بعد أن يعم اللحية غالبا. فعموم الشيب في الرأس أمارة التوغل في كبر السن.
وإسناد الاشتعال إلى الرأس مجاز عقلي، لأن الاشتعال من صفات النار المشبه بها الشيب فكان الظاهر إسناده إلى الشيب. فلما جيء باسم الشيب تميزا لنسبة الاشتعال حصل بذلك خصوصية المجاز وغرابته، وخصوصية التفضيل بعد الاحتمال. مع إفادة تنكير {شَيْباً} من التعظيم فحصل إيجاز بديع. وأصل النظم المعتاد: واشتعل الشيب في شعر الرأس.
ولما في هذه الجملة من الخصوصيات من مبني المعاني والبيان كان لها اعظم وقع عند أهل البلاغة نبه عليه صاحب الكشاف ووضحه صاحب المفتاح فانظرهما.
وقد اقتبس معناها أبو بكر بن دريد في قوله:
واشتعل المبيض في مسودة ... مثل اشتعال النار في جزل الغضا
ولكنه خليق بأن يكون مضرب قولهم في المثل: ماء ولا كصدي.
والشيب: بياض الشعر. ويعرض للشعر البياض بسبب نقصان المادة التي تعطي اللون الأصلي للشعر، ونقصانها بسبب كبر السن غالبا، فلذلك كان الشيب علامة على الكبر، وقد يبيض الشعر من مرض.
وجملة {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً} معترضة بين الجمل التمهيدية. والباء في قوله {بِدُعَائِكَ} للمصاحبة.

والشقي: الذي أصابته الشقوة، وهي ضد السعادة، أي هي الحرمان من المأمول وضلال السعي. وأطلق نفي الشقاوة والمراد حصول ضدها وهو السعادة على طريق الكناية إذ لا واسطة بينهما عرفا.
ومثل هذا التركيب جرى في كلامهم مجري المثل في حصول السعادة من شيء. ونظيره قوله تعالى في هذه السورة في قصة إبراهيم {عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً} أي عسى أن أكون سعيدا، أي مستجاب الدعوة. وفي حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه في شأن الذين يذكون الله ومن جالسهم "هم الجلساء لا يشقي بهم جليسهم" أي يسعد معهم. وقال بعض الشعراء، لم نعرف اسمه وهو إسلامي:
وكنت جليس قعقاع بن شور ... ولا يشقى بقعقاع جليس
أي يسعد به جليسه.
والمعنى: لم أكن فيما دعوتك من قبل مردود منك، أي أنه قد عهد من الله الاستجابة كلما دعاه.
وهذا تمهيد للإجابة من طريق غير طريق التمهيد الذي في الجمل المصاحبة له بل طريق الحث على استمرار جميل صنع الله معه، وتوسل إليه بما سلف له معه من الاستجابة.
روي أن محتاجا سأل حاتما الطائي أو معن بن زائدة قائلا: أنا الذي أحسنت إلي يوم كذا فقال: مرحبا بمن توسل بنا إلينا.
وجملة {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي} عطف على جملة {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً} ، أي قاربت الوفاة وخفت الموالي من بعدي.
وما روي عن ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وأبي صالح عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا أنه قال: "يرحم الله زكريا ما كان عليه من وراثة ماله" فلعله خشي سوء معرفتهم بما يخلفه من الآثار الدينية والعلمية. وتلك أعلاق يعز على المؤمن تلاشيها، ولذلك قال: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ} فإن نفوس الأنبياء لا تطمح إلا لمعالي الأمور ومصالح الدين وما سوى ذلك فهو تبع.
فقوله: {يَرِثُنِي} يعني به وراثة ماله. ويؤيده ما أخرجه عبد الرزاق عن قتادة عن الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يرحم الله زكريا ما كان عليه من وراثة ماله" .
والظواهر تؤذ ن بأن الأنبياء كانوا يورثون، قال تعالى: { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ}

وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: "نحن معشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة" فإنما يريد به رسول الله نفسه، كما حمله عليه عمر في حديثه مع العباس وعلي في صحيح البخاري إذ قال عمر: يريد رسول الله بذلك نفسه. فيكون ذلك من خصوصيات محمد صلى الله عليه وسلم فإن كان ذلك حكما سابقا كان مراد زكريا إرث آثار النبوة خاصة من الكتب المقدسة وتقاييده عليها.
والموالي: العصبة وأقرب القرابة، جمع مولي بمعنى الولي.
ومعنى: {مِنْ وَرَائي} من بعدي، فإن الوراء يطلق ويراد به ما بعد الشيء. كما قال النابغة:
وليس وراء اله للمرء مطلب
أي بعد الله. فمعنى {مِنْ وَرَائي} من بعد حياتي.
و {مِنْ وَرَائي} في موضع الصفة ل {الْمَوَالِيَ} أو الحال.
وامرأة زكريا اسمها أليصابات من نسل هارون أخي موسى فهي من سبط لاوي.
والعاقر: الأنثى التي لا تلد، فهو وصف خاص بالمرأة، ولذلك جرد من علامة التأنيث إذ لا لبس. ومصدره: العقر بفتح العين وضمها مع سكون القاف. وأتى بفعل[كان] للدلالة على أن العقر متمكن منها وثابت لها فلذلك حرم من الولد منها.
ومعنى {مِنْ لَدُنْكَ} أنه من عند الله عندية خاصة، لأن المتكلم يعلم أن كل شيء من عند الله بتقديره وخلقه الأسباب ومسبباتها تبعا لخلقها، فلما قال {مِنْ لَدُنْكَ} 1 دل على أنه سأل وليا غير جار أمره على المعتاد من إيجاد الأولاد لانعدام الأسباب المعتادة، فتكون هبته كرامة له.
ويتعلق {لِيَ} و {مِنْ لَدُنْكَ} بفعل {فَهَبْ} . وإنما قدم {لِي} على {مِنْ لَدُنْكَ} لأنه الأهم من غرض الداعي، وهو غرض خاص يقدم على الغرض العام.
و {يَرِثُنِي} قرأه الجمهور بالرفع على الصفة ل {وَلِيّاً} . وقرأه أبو عمرو، والكسائي بالجزم على أنه جواب الدعاء في قوله: {فَهَبْ ِلي} لإرادة التسبب لأن أصل الأجوبة الثمانية أنها على تقدير فاء السبب.
و {آلِ يَعْقُوبَ} يجوز أن يراد بهم خاصة بني إسرائيل كما يقتضيه لفظ {آلِ}
ـــــــ
1 في المطبوع " من عندك".

المشعر بالفضيلة والشرف، فيكون يعقوب هو إسرائيل، كأنه قال: ويرث من آل إسرائيل، أي حملة الشريعة وأحبار اليهودية كقوله تعالى: {فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء: 54] وإنما يذكر آل الرجل في مثل هذا السياق إذا كانوا على سنته، ومن هذا القبيل قوله تعالى: {إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه} ، وقوله: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} [الإسراء: 3] . مع أن الناس كلهم ذرية من حملوا معه.
ويجوز أن يراد يعقوب آخر غير إسرائيل. وهو يعقوب بن ماثان، قاله: معقل والكلبي. وهو عم مريم أخو عمران أبيها، وقيل: هو أخو زكريا، أي ليس له أولاد فيكون ابن زكريا وارثا ليعقوب لأنه ابن أخيه، فيعقوب على هذه هو من جملة الموالي الذين خافهم زكريا من ورائه.
{يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيّاً قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً} [مريم: 7 - 8]
مقول قول محذوف دل عليه السياق عقب الدعاء إيجازا، أي قلنا يا زكريا الخ...
والتبشير: الوعد بالعطاء. وفي الحديث: أنه قال للأنصار فأبشروا وأملوا وفي حديث وفد بني تميم: اقبلوا البشرى، فقالوا بشرتنا فأعطيتنا.
ومعنى: {اسْمُهُ يَحْيَى} سمية يحيى، فالكلام خبر مستعمل في الأمر.
والسمي فسروه بالموافق في الاسم، أي لم نجعل له من يوافقه في هذا الاسم من قبل وجوده. فعليه يكون هذا الإخبار سرا من الله أودعه زكريا فلا يظن أنه قد يسمي أحد ابنه يحيي فيما بين هذه البشارة وبين ازداد الولد. وهذه منة من الله وإكرام لزكريا إذا جعل اسم ابنه مبتكرا. وللأسماء المبتكرة مزية قوة تعريف المسمى لقلة الاشتراك، إذ لا يكون مثله كثيرا مدة وجوده. وله مزية اقتداء الناس به من بعد حين يسمون أبناءهم ذلك الاسم تيمنا واستجادة.
وعندي: أن السمي هنا هو الموافق في الاسم الوصفي بإطلاق الاسم على الوصف فإن الاسم أصله في الاشتقاق "وسم"، والسمة: أصلها وسمة، كما في قوله تعالى: {لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى} [النجم: 27]، أي يصفونهم أنهم إناث، ومنه قوله

الآتي: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم: من الآية65] أي لا مثيل لله تعالى في أسمائه. وهذا أظهر في الثناء على يحيى والامتنان على أبيه. والمعنى: أنه لم يجيء قبل يحيى من الأنبياء من اجتمع له ما اجتمع ليحيى فإنه أعطى النبوءة وهو صبي، قال تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً} [مريم: من الآية12]. وجعل حصورا ليكون غير مشقوق عليه في عصمته عن الحرام، ولئلا تكون له مشقة في الجمع بين حقوق العبادة وحقوق الزوجة، وولد لأبيه بعد الشيخوخة ولأمه بعد العقر. وبعث مبشرا برسالة عيسى عليه السلام، ولم يكن هو رسولا، وجعل اسمه العلم مبتكرا غير سابق من قلبه. وهذه مزايا وفضائل وهبت له ولأبيه، وهي لا تقتضي أنه أفضل الأنبياء لأن الأفضلية تكون بمجموع فضائل لا ببعضها وإن جلت، ولذلك قيل المزية لا تقتضي الأفضلية وهي كلمة صدق.
وجملة {قَالَ رَبِّ} جواب للبشارة.
و {أَنَّى} استفهام مستعمل في التعجب. والتعجب مكنى به عن الشكر، فهو اعتراف بأنها عطية عزيزة غير مألوفة لأنه لا يجوز أن يسأل الله أن يهب له ولدا ثم يتعجب من استجابة الله له. ويجوز أن يكون قد ظن الله يهب له ولدا من امرأة أخرى بأن يأذنه بتزوج امرأة غير عاقر، وتقدم القول في نظير هذه الآية في سورة آل عمران.
وجملة {وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً} حال من ياء التكلم وكرر ذلك مع قوله في دعائه {وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً} . وهو يقتضي أن زكريا كان يظن أن عدم الولادة بسبب عقر امرأته، وكان الناس يحسبون ذلك إذا لم يكن بالرجل عنة ولا خصاء ولا اعتراض، لأنهم يحسبون الإنعاض والإنزال هما سبب الحمل إن لم تكن بالمرأة عاهة العقر. وهذا خطأ فإن عدم الولادة يكون إما لعلة بالمرأة في رحمها أو لعلة في ماء الرجل يكون غير صالح لنماء البويضات التي تبرزها رحم المرأة.
و {مِنَ} في قوله: {مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً} للابتداء، وهو مجاز في معنى التعليل.
والكبر: كثرة سني العمر. لأنه يقارنه ظهور قلة النشاط واختلال نظام الجسم.
و {عِتِيّا} مفعول {بَلَغْتُ}
والبلوغ: مجاز في حلول الإنسان. وجعل نفسه هنا بالغا الكبر وفي آية آل عمران قال {وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ} [آل عمران: من الآية40] لأن البلوغ لما كان مجازا في حصول الوصف صح أن يسند إلى الوصف وإلى الموصوف.

والعتي بضم العين في قراءة الجمهور: مصدر عتا العود إذا يبس، وهو بوزن فعول أصله عتوو، والقياس فيه أن تصحح الواو لأنها إثر ضمة ولكنهم لما استقلوا توالي ضمتين بعدهما وأوان وهما بمنزلة ضمتين تخلصوا من ذلك الثقل بإبدال ضمة العين كسرة ثم قلبوا الواو الأولى ياء لوقوعها ساكنة إثر كسرة فلما قلبت ياء اجتمعت تلك الياء مع الواو التي هي لام. وكأنهم ما كسروا التاء في عتي بمعنى اليبس إلا لدفع الالتباس بينه وبين العتو الذي هو الطغيان فلا موجب لطلب تخفيف أحدهما دون الآخر.
شبه عظامه بالأعواد اليابسة على طريقة السكنية، وإثبات وصف العتي لها استعارة تخييلية.
[9] {قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً}
فصلت جملة {قَالَ كَذَلِك} لأنها جرت على طريقة المحاورة وهي جواب عن تعجبه. والمقصود منه إبطال التعجب الذي في قوله: {وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً} . فضمير {قال} عائد إلى الرب من قوله {قال رب أنى يكون لي غلام} [مريم: 8].
والإشارة في قوله: {كَذَلِكَ} إلى قول زكريا: {وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً} والجار والمجرور مفعول لفعل {قال ربك} ، أي كذلك الحال من كبرك وعقر امرأتك قدر ربك، ففعل {قال ربك} مراد به القول التكويني، أي التقديري، أي تعلق الإرادة والقدرة. والمقصود من تقديره التمهيد لإبطال التعجب الدال عليه قوله: {هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} [مريم: من الآية9] فجملة {هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} [مريم: من الآية9] استئناف بياني جوابا لسؤال ناشئ عن قوله: {كَذَلِكَ} لأن تقرير منشأ التعجب يثير ترقب السامع أن يعرف ما يبطل ذلك التعجب المقرر، وذلك كونه هينا في جانب قدرة الله تعالى العظيمة.
ويجوز أن يكون المشار إليه بقول: {كَذَلِكَ} هو القول المأخوذ من {قَالَ رَبُّكَ} ، أي أن قول ربك: {هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} بلغ غاية الوضوح في بابه بحيث لا يبين بأكثر ما علمت، فيكون جاريا على طريقة التشبيه كقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: من الآية143]، وقد تقدم في سورة البقرة. وعلى هذا الاحتمال فجملة {هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} [مريم: من الآية9] تعليل لإبطال التعجب إبطالا مستفادا من قوله: {كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ} ، ويكون الانتقال من الغيبة في قوله

{قَالَ رَبُّكَ} [مريم: من الآية9] إلى التكلم في قوله: {هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} التفاتا. ومقتضى الظاهر: هو عليه هين.
والهين بتشديد الياء: السهل حصوله.
وجملة {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ} على الاحتمالين هي في موضع الحال من ضمير الغيبة الذي في قوله {هو علي هين} ، أي إيجاد الغلام لك هين علي في حال كوني قد خلقتك من قبل هذا الغلام ولم تكن موجودا، أي في حال كونه مماثلا لخلقي إياك، فكما لا عجب من خلق الولد في الأحوال المألوفة كذلك لا عجب من خلق الولد في الأحوال النادرة إذ هما إيجاد بعد عدم.
ومعنى {وَلَمْ تَكُ شَيْئاً} : لم تكن موجودا.
وقرأ الجمهور {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ} بتاء المتكلم.
وقرأه حمزة، والكسائي، وخلف {وقد خلقناك} بنون العظمة.
[10] {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً}
أراد نصب علامة على وقوع الحمل بالغلام، لأن البشارة لم تعين زمنا، وقد يتأخر الموعود به لحكمة، فأراد زكريا أن يعلم وقت الموعود به. وفي هذا الاستعجال تعريض بطلب المبادرة به، ولذلك حذف متعلق {آية} . وإضافة {آيَتُكَ} [مريم: من الآية10] على معنى اللام، أي آية لك، أي جعلنا علامة لك.
ومعنى {أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ} [مريم: من الآية10] أن لا تقدر على الكلام، لأن ذلك هو المناسب لكونه آية من قبل الله تعالى. وليس المراد نهيه عن كلام الناس، إذ لا مناسبة في ذلك للكون آية، وقد قدمنا تحقيق ذلك في سورة آل عمران.
وجعلت مدة انتفاء تكليمه الناس هنا ثلاث ليال، وجعلت في سورة آل عمران ثلاثة أيام فعلم أن المراد هنا ليال بأيامها وأن المراد في آل عمران أيام بلياليها.
وأكد ذلك هنا بوصفها ب {سَوِيّاً} [مريم: من الآية10] أي ثلاث ليال كاملة، أي بأيامها.
وسوي: فعيل بمعنى مفعول، يستوي الوصف به الواحد والواحدة والمتعدد منهما.

وفسر أيضا {سَوِيّاً} بأنه حال من ضمير المخاطب، أي حال كونك سويا، أي بدون عاهة الخرس والبكم. ولكنها آية لك اقتضتها الحكمة، التي بيناها في سورة آل عمران. وعلى هذا فذكر الوصف لمجرد تأكيد الطمأنينة، ولألا فإن تأجيله بثلاث ليال كاف في الاطمئنان على انتفاء العاهة.
[11] {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً}
الظاهر أن المعنى أنه خرج على قومه ليصلي على عادته،فكان في محرابه في صلاة خاصة ودعاء خفي، ثم خرج لصلاة الجماعة إذ هو الحبر الأعظم لهم.
وضمن {خَرَجَ} معنى {طلع} فعدي ب {عَلَى} كقوله تعالى {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِه} [القصص: من الآية79].
والمحراب: بيت أو محتجر يخصص للعبادة الخاصة. قال الحريري: فمحرابي أحرى بي.
والوحي: الإشارة بالعين أو بغيرها، والإيماء لإفادة معنى شأنه أن يفاد بالكلام.
و [أن] تفسيرية. وجملة {سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} تفسير ل {أَوْحَى}، لأن [أوحى] فيه معنى القول دون حروفه.
وإنما أمرهم بالتسبيح لئلا يحسبوا أن زكريا لما لم يكلمهم قد نذر صمتا فيقتدوا به فيصمتوا، وكان الصمت من صنوف العبادة في الأمم السالفة. كما سيأتي في قوله تعالى: {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً} [مريم: من الآية26]. فأومأ إليهم أن يشرعوا فيما اعتادوه من التسبيح، أو أراد أن يسبحوا الله تسبيح شكر على أن وهب نبيهم ابنا يرث علمه. ولعلهم كانوا علموا ترقبه استجابة دعوته، أو أنه أمرهم بذلك أمرا مبهما يفسره عندما تزول حبسة لسانه.
[12- 14 ] {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً * وَحَنَاناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيّاً * وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيّاً}
مقول قول محذوف، بقرينة أن هذا الكلام خطاب ليحيى، فلا محالة أنه صادر من قائل، ولا يناسب إلا أن يكون قولا من الله تعالى، وهو انتقال من البشارة به إلى نبوءته. والأظهر أن هذا من إخبار القرآن للأمة لا من حكاية ما قيل لزكريا. فهذا ابتداء ذكر

فضائل يحيى.
وطوي ما بين ذلك لعدم تعلق الغرض به. والسياق يدل عليه. والتقدير: قلنا يا يحيى خذ الكتاب.
والكتاب: التوراة لا محالة، إذ لم يكن ليحيى كتاب منزل عليه.
والأخذ: مستعار للتفهم والتدبر، كما يقال: أخذت العلم عن فلان، لأن المعتنى بالشيء يشبه الآخذ.
والقوة: المراد بها قوة معنوية، وهي العزيمة والثبات.
والباء للملابسة، أي أخذا ملابسا للثبات على الكتاب. أي على العمل به وحمل الأمة على اتباعه، فقد أخذ الوهن يتطرق إلى الأمة اليهودية في العمل بدينها.
و {وَآتَيْنَاهُ} عطف على جملة القول المحذوفة، أي قلنا: يا يحيى خذ الكتاب وآتيناه الحكم.
والحكم: اسم للحكمة. وقد تقدم معناها في قوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} البقرة: من الآية269 في سورة البقرة. والمراد بها النبوءة، كما تقدم في قوله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً} [يوسف: من الآية22] في سورة يوسف، فيكون هذا خصوصية ليحيى أن أوتي النبوءة في حال صباه. وقيل: الحكم هو الحكمة والفهم.
و {صبيا} حال من الضمير المنصوب في {آتيناه} . وهذا يقتضي أن الله أعطاه استقامة الفكر وإدراك الحقائق في حال الصبا على غير المعتاد، كما أعطى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم الاستقامة وإصابة الرأي في صباه. ويبعد أن يكون يحيى أعطي النبوة وهو صبي، لأن النبوة رتبة عظيمة فإنما تعطى عند بلوغ الأشد. واتفق العلماء على أن يحيى أعطي النبوءة قبل بلوغ الأربعين سنة بكثير. ولعل الله لما أراد أن يكون شهيدا في مقتبل عمرة باكرة بالنبوة.
والحنان: الشفقة. ومن صفات الله تعالى الحنان. ومن كلام العرب: حنانيك، أي حنانا منك بعد حنان. وجعل حنان يحيى من لدن الله إشارة إلى أنه متجاوز المعتاد بين الناس.
والزكاة: زكاة النفس ونقاؤها من الخبائث، كما في قوله تعالى: {فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى

أَنْ تَزَكَّى} ، أو أريد بها البركة.
وتقي: فعيل بمعنى مفعل، من اتقى إذا اتصف بالتقوى، وهي تجنب ما يخالف الدين. وجيء في وصفه بالتقوى بفعل {كَاَن تَقِيَّا} للدلالة على تمكنه من الوصف.
وكذلك عطف بروره بوالديه على كونه تقيا للدلالة على تمكنه من هذا الوصف.
والبرور: الإكرام والسعي في الطاعة. والبر بفتح الباء وصف على وزن المصدر، فالوصف به مبالغة. وأما البر بكسر الباء فهو اسم مصدر لعدم جريه على القياس.
والجبار: المستخف بحقوق الناس، كأنه مشتق من الجبر، وهو القسر والغصب، لأنه يغصب حقوق الناس.
والعصي: فعيل من أمثلة المبالغة، أي شديد العصيان. والمبالغة منصرفة إلى النفي لا إلى المنفي، أي لم يكن عاصيا بالمرة.
[15] {وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً}
الأظهر أنه عطف على {وآتيناه الحكم صبيا} مخاطبا به المسلمون ليعلموا كرامة يحيى عند الله.
والسلام: اسم الكلام الذي يفاتح به الزائر والراحل فيه ثناء أو دعاء. وسمي ذلك سلاما لأنه يشتمل على الدعاء بالسلامة ولأنه يؤذن بأن الذي أقدم هو عليه مسالم له لا يخشى منه بأسا. فالمراد هنا سلام من الله عليه، وهو ثناء الله عليه، كقوله {سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يّس:58]. فإذا عرف السلام باللام فالمراد به مثل المراد بالمنكر أو مراد به العهد، أي سلام إليه، كما سيأتي في السلام على عيسى. فالمعنى: أن إكرام الله متمكن من أحواله الثلاثة المذكورة.
وهذه الأحوال الثلاثة المذكورة هنا أحوال ابتداء أطوار: طور الورود على الدنيا. وطور الارتحال عنها، وطور الورود على الآخرة. وهذا كناية على أنه بمحل العناية الإلهية في هذه الأحوال.
والمراد باليوم مطلق الزمان الواقع فيه تلك الأحوال.

وجيء بالفعل المضارع في {وَيَوْمَ يَمُوتُ} [مريم: من الآية15] لاستحضار الحالة التي مات فيها. ولم تذكر قصة قتله في القرآن إلا إجمالا.
[16 - 21 ] {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً}
جملة {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ} عطف على جملة {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ} عطف القصة على القصة فلا يراعى حسن اتحاد الجملتين في الخبرية والإنشائية، على أن ذلك الاتحاد ليس بملتزم. على أنك علمت أن الأحسن أن يكون قوله: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} مصدرا وقع بدلا من فعله. والمراد بالذكر: التلاوة، أي اتل خبر مريم الذي نقصه عليك.
وفي افتتاح القصة بهذا زيادة اهتمام بها وتشويق للسامع أن يتعرفها ويتدبرها.
والكتاب: القرآن، لأن هذه القصة من جملة القرآن. وقد اختصت هذه السورة بزيادة كلمة {فِي الْكِتَابِ} بعد كلمة {واذكر} . وفائدة ذلك التنبيه إلى أن ذكر من أمر بذكرهم كائن بآيات القرآن وليس مجرد ذكر فضله في كلام آخر من قول النبي صلى الله عليه وسلم كقوله "لو لبثت ما لبث يوسف في السجن لأجبت الداعي" .
ولم يأت مثل هذه الجملة في سورة أخرى لأنه قد حصل علم المراد في هذه السورة فعلم أنه المراد في بقية الآيات التي جاء فيها لفظ {اذكر} . ولعل سورة مريم هي أول سورة أتى فيها لفظ {واذكر} في قصص الأنبياء فإنها السورة الرابعة والأربعون في عدد نزول السور.
و {إذ} ظرف متعلق بـ {اذكر} باعتبار تضمنه معنى القصة والخبر، وليس متعلقا به في ظاهر معناه لعدم صحة المعنى.
ويجوز أن يكون {إذ} مجرد اسم زمان غير ظرف ويجعل بدلا من مريم، أي اذكر زمن انتباذها مكانا شرقيا. وقد تقدم مثله في قوله: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا إِذْ نَادَى

رَبَّهُ} .
والانتباذ: الانفراد والاعتزال، لأن النبذ: الإبعاد والطرح، فالانتباذ في الأصل افتعال مطاوع نبذه، تم أطلق على الفعل الحاصل بدون سبق فاعل له.
وانتصب {مَكَاناً} على أنه مفعول {انْتَبَذَتْ} لتضمنه معنى حلت. ويجوز نصبه على الظرفية لما فيه من الإبهام. والمعنى: ابتعدت عن أهلها في مكان شرقي.
ونكر المكان إبهاما له لعدم تعلق الغرض بتعيين نوعه إذ لا يفيد كمالا في المقصود من القصة. وأما التصدي لوصفه بأنه شرقي فللتنبيه على أصل اتخاذ النصارى الشرق قبلة لصلواتهم إذ كان حمل مريم بعيسى في مكان من جهة مشرق الشمس. كما قال ابن عباس: إني لأعلم خلق الله لأي شيء اتخذت النصارى الشرق قبلة لقوله تعالى: {مَكَاناً شَرْقِيّاً} أي أن ذلك الاستقبال ليس بأمر من الله تعالى. فذكر كون المكان شرقيا نكتة بديعة من تاريخ الشرائع مع ما فيه من مؤاخاة الفواصل.
واتخاذ الحجاب: جعل شيء يحجب عن الناس. قيل: إنها احتجبت لتغتسل وقيل لتمتشط.
والروح: الملك، لأن تعليق الإرسال به وإضافته إلى ضمير الجلالة دلا على أنه من الملائكة وقد تمثل لها بشرا.
والتمثل: تكلف المماثلة، أي أن ذلك الشكل ليس شكل الملك بالأصالة.
و {بَشَراً} حال من ضمير {تَمَثَّلَ}، وهو حال على معنى التشبيه البليغ.
والبشر: الإنسان. قال تعالى: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ} [صّ: من الآية71] أي خالق آدم عليه السلام.
والسوي: المستوى، أي التام الخلق. وإنما تمثل لها كذلك للتناسب بين كمال الحقيقة وكمال الصورة، وللإشارة إلى كمال عصمتها إذ قالت: {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً} ، إذ لم يكن في صورته ما يكره لأمثالها، لأنها حسبت أنه بشر اختبأ لها ليراودها عن نفسها، فبادرته بالتعوذ منه قبل أن يكلمها مبادرة بالإنكار على ما توهمته من قصده الذي هو المتبادر من أمثاله في مثل تلك الحالة.
وجملة {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ} [مريم: من الآية18] خبرية، ولذلك أكدت بحرف التأكيد. والمعنى:

أنها أخبرته بأنها جعلت الله معاذا لها منه، أي جعلت جانب الله ملجأ لها مما هم به. وهذه موعظة له.
وذكرها صفة {الرحمان} دون غيرها من صفات الله لأنها أرادت أن يرحمها الله بدفع من حسبته داعرا عليها.
وقولها: {إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً} تذكير له بالموعظة بأن عليه أن يتقي ربه.
ومجيء هذا التذكير بصيغة الشرط المؤذن بالشك في تقواه قصد لتهييج خشيته. وكذلك اجتلاب فعل الكون الدال على كون التقوى مستقرة فيه. وهذا أبلغ وعظ وتذكير وحث على العمل بتقواه.
والقصر في قوله: {إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ} قصر إضافي، أي لست بشرا، ردا على قولها: {إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً} المقتضى اعتقادها أنه بشر.
وقرأ الجمهور {لِأَهَبَ} [مريم: من الآية19] بهمزة المتكلم بعد لام العلة. ومعنى إسناد الهبة إلى نفسه مجاز عقلي لأنه سبب هذه الهبة. وقرأه أبو عمرو، وورش عن نافع "ليهب" بياء الغائب، أي ليهب ربك لك، مع أنها مكتوبة في المصحف بألف. وعندي أن قراءة هؤلاء بالياء بعد اللام إنما هي نطق الهمزة المخففة بعد كسر اللام بصورة نطق الياء.
ومحاورتها الملك محاولة قصدت بها صرفه عما جاء لأجله، لأنها علمت أنه مرسل من الله فأرادت مراجعة ربها في أمر لم تطقه،كما راجعه إبراهيم عليه السلام في قوم لوط. وكما راجعه محمد صلى الله عليه وسلم في فرض خمسين صلاة. ومعنى المحاورة أن ذلك يجر لها ضرا عظيما إذ هي مخطوبة لرجل ولم يبن بها فكيف يتلقى الناس منها الإتيان بولد من غير أب معروف.
وقولها: {وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً} تبرئة لنفسها من البغاء بما يقتضيه فعل الكون من تمكن الوصف الذي هو خبر الكون، والمقصود منه تأكيد النفي. فمفاد قولها: {وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً} غير مفاد قولها: {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} وهو مما زادت به هذه القصة على ما في قصتها في سورة آل عمران، لأن قصتها في سورة آل عمران نزلت بعد هذه فصح الاجتزاء في القصة بقولها {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} .
وقولها: {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} أي لم يبن بي زوج، لأنها كانت مخطوبة و مراكنة ليوسف النجار ولكنه لم يبن بها فإذا حملت بولد اتهمها خطيبها وأهلها بالزنى.

وأما قولها: {وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً} فهو نفي لأن تكون بغيا من قبل تلك الساعة، فلا ترضى بأن ترمى بالبغاء بعد ذلك. فالكلام كناية عن التنزه عن الوصم بالبغاء بقاعدة الاستصحاب. والمعنى: ما كنت بغيا فيما مضى أفأعد بغيا فيما يستقبل.
وللمفسرين في هذا المقام حيرة ذكرها الفخر والطيبي، وفيما ذكرنا مخرج من مأزقها. وليس كلام مريم مسوقا مساق الاستبعاد مثل قول زكريا: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً} [مريم: من الآية8] لاختلاف الحالين لأن حال زكريا حال راغب في حصول الولد، وحال مريم حال متشائم منه متبرئ من حصوله.
والبغي: اسم للمرأة الزانية، ولذلك لم تتصل به هاء التأنيث، ووزنه فعيل أو فعول بمعنى فاعل فيكون أصله بغوي. لأنه من البغي فلما اجتمع الواو والياء وسكن السابق منهما قلبت الواو ياء وأدغمت في الياء الأصلية وعوض عن ضمة الغين كسرة لمناسبة الياء فصار بغي.
وجواب الملك معناه: أن الأمر كما قلت، نظير قوله في قصة زكريا {كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} ، وهو عدول عن إبطال مرادها من المراجعة لا بيان هون هذا الخلق في جانب القدرة على طريقة الأسلوب الحكيم.
وفي قوله: {هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} توجيه بأن ما اشتكته من توقع ضد قولها وطعنهم في عرضها ليس بأمر عظيم في جانب ما أراد الله من هدى الناس لرسالة عيسى عليه السلام بأن الله تعالى لا يصرفه عن إنفاذ مراده ما عسى أن يعرض من ضر في ذلك لبعض عبيده، لأن مراعاة المصالح العامة تقدم على مراعاة المصالح الخاصة.
فضمير {هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} عائد إلى ما تضمنه حوارها من لحاق الضر بها كما فسرنا به قولها {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً} . فبين جواب الملك إياها وبين جواب الله زكريا اختلاف في المعنى.
والكلام في الموضوعين على لسان الملك من عند الله، ولكنه أسند في قصة زكريا إلى الله لأن كلام الملك كان تبليغ وحي عن الله جوابا من الله عن مناجاة زكرياء، وأسند في هذه القصة إلى الملك لأنه جواب عن خطابها إياه.
وقوله: {وَلِنَجْعَلَهُ} عطف على {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} باعتبار ما في ذلك من قول الروح لها: {لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً} ، أي لأن هبة الغلام الزكي كرامة من الله لها، وجعله

آية للناس ورحمة كرامة للغلام، فوقع التفات من طريقة الغيبة إلى طريقة التكلم.
وجملة {وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً} يجوز أن تكون في قول الملك، ويجوز أن تكون مستأنفه. وضمير {كان} عائد إلى الوهب المأخوذ من قوله: {لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً}
وهذا قطع للمراجعة وإنباء بأن التخليق قد حصل في رحمها.
[22] {فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً}
الفاء للتفريع والتعقيب، أي فحملت بالغلام في فور تلك المراجعة.
والحمل: العلوق، يقال: حملت المرأة ولدا، وهو الأصل، قال تعالى: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً} . ويقال: حملت به. وكأن الباء لتأكيد اللصوق، مثلها في {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة: من الآية6]. قال أبو كبير الهذلي:
حملت به في ليلة قرءودة ... كرها وعقد نطاقها لم يحلل
والانتباذ تقدم قريبا، وكذلك انتصاب {مكانا} تقدم.
و {قصيا} بعيدا، أي بعيدا عن مكان أهلها. قيل: خرجت إلى البلاد المصرية فارة من قومها أن يعزروها وأعانها خطيبها يوسف النجار وأنها ولدت عيسى عليه السلام في الأرض المصرية. ولا يصح.
وفي إنجيل لوقا: أنها ولدته في قرية بيت لحم من البلاد اليهودية حين صعدت إليها مع خطيبها يوسف النجار إذ كان مطلوبا للحضور بقرية أهله لأن ملك البلاد يجري إحصاء سكان البلاد، وهو ظاهر قوله تعالى: {فَأَتَتْ بِهِ قَومَهَا تَحْمِلُهُ} .
والفاء في قوله {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ} للتعقيب العرفي، أي جاءها المخاض بعد تمام مدة الحمل، قيل بعد ثمانية أشهر من حملها.
و {أَجَاءَهَا} معناه ألجأها، وأصله جاء، عدي بالهمزة فقيل: أجاءه، أي جعله جائيا. ثم أطلق مجازا على إلجاء شيء شيئا إلى شيء، كأنه يجئ به إلى ذلك الشيء، ويضطره إلى المجيء إليه. قال الفراء: أصله من جئت وقد جعلته العرب إلجاء. وفي المثل شر ما يجيئك إلى مخة عرقوب وقال زهير:

وجار سار معتمدا إلينا ... أجاءته المخافة والرجاء
والمخاض بفتح الميم: طلق الحامل، وهو تحرك الجنين للخروج.
والجذع بكسر الجيم وسكون الذال المعجمة: العود الأصلي للنخلة الذي يتفرع منه الجريد. وهو ما بين العروق والأغصان، أي إلى أصل نخلة استندت إليه.
وجملة {قَالَتْ} استئناف بياني، لأن السامع يتشوف إلى معرفة حالها عند إبان وضع حملها بعد ما كان أمرها مستترا غير مكشوف بين الناس وقد آن أن ينكشف، فيجاب السامع بأنها تمنت الموت قبل ذلك؛ فهي في حالة من الحزن ترى أن الموت أهون عليها من الوقوع فيها.
وهذا دليل على مقام صبرها وصدقها في تلقي البلوى التي ابتلاها الله تعالى. فلذلك كانت في مقام الصديقية.
والمشار إليه في قولها: {قَبْلَ هَذَا} هو الحمل. أرادت أن لا يتطرق عرضا بطعن ولا تجر على أهلها معرة. ولم تتمن أن تكون ماتت بعد بدو الحمل لأن الموت حينئذ لا يدفع الطعن في عرضها بعد موتها ولا المعرة على أهلها إذ يشاهد أهلها بطنها بحملها وهي ميتة فتطرقها القالة.
وقرأ الجمهور {مِتُّ} بكسر الميم للوجه الذي تقدم في قوله تعالى: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ} في سورة آل عمران. وقرأه ابن كثير، وابن عامر، وأبو عمرو، وعاصم، وأبو جعفر بضم الميم على الأصل. وهما لغتان في فعل {مات} إذا اتصل به ضمير رفع متصل.
والنسي بكسر النون وسكون السين في قراءة الجمهور: الشيء الحقير الذي شأنه أن ينسى. ووزن فعل يأتي بمعنى اسم المفعول بقيد تهيئته لتعلق الفعل به دون تعلق حصل. وذلك مثل الذبح في قوله تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات:107]، أي كبش عظيم معد لأن يذبح، فلا يقال للكبش ذبح إلا إذا أعد للذبح، ولا يقال للمذبوح ذبح بل ذبيح. والعرب تسمي الأشياء التي يغلب إهمالها أنساء، ويقولون عند الارتحال: أنظروا أنساءكم، أي الأشياء التي شأنكم أن تنسوها.
ووصف النسي بمنسي مبالغة في نسيان ذكرها، أي ليتني كنت شيئا غير متذكر وقد نسيه أهله وتركوه فلا يلتفتون إلى ما يحل به، فهي تمنت الموت وانقطاع ذكرها بين أهلها

من قبل ذلك.
وقرأه حمزة، وحفص، وخلف {نَسْياً} بفتح النون، وهو لغة في النسي، كالوتر والوتر، والجسر والجسر.
[24] {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً}
ضمير الرفع المستتر في {نَادَاهَا} [مريم: من الآية24] عائد إلى ما عاد عليه الضمير الغائب في {فَحَمَلَتْه} ، أي ناداها المولود.
قرأ نافع، وحمزة والكسائي، وحفص، وأبو جعفر، وخلف، وروح عن يعقوب {مِنْ تَحْتِهَا} بكسر ميم من على أنها حرف ابتداء متعلق ب {نَادَاهَا} وبجر {تَحْتِهَا}
وقرأ ابن كثير، وأبو عمر، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم، ورويس عن يعقوب {مَن} بفتح الميم على أنها اسم موصول، وفتح {تَحتَها} على أنه ظرف جعل صلة. والمعني بالموصول هو الغلام الذي تحتها. وهذا إرهاص لعيسى وكرامة لأمه عليهما السلام.
وقيد {مِنْ تَحْتِهَا} لتحقيق ذلك، ولإفادة أنه ناداها عند وضعه قبل أن ترفعه مبادرة للتسلية والبشارة وتصويرا لتلك الحالة التي هي حالة تمام اتصال الصبي بأمه.
و {أنَّ} من قوله: {أَلَّا تَحْزَنِي} تفسيرية لفعل {نَادَاهَا}
وجملة {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} خبر مراد به التعليل لجملة {أَلَّا تَحْزَنِي} ، أي أن حالتك حالة جديرة بالمسرة دون الحزن لما فيها من الكرامة الإلهية.
السري: الجدول من الماء كالساقية، كثير الماء الجاري.
وهبها الله طعاما طيبا وشرابا طيبا كرامة لها يشهدها كل من يراها، وكان معها خطيبها يوسف النجار، ومن عسى أن يشهدها فيكون شاهدا بعصمتها وبراءتها مما يظن بها. فأما الماء فلأنه لم يكن الشأن أن تأوي إلى مجرى ماء لتضع عنده. وأما الرطب فقيل كان الوقت شتاء ولم يكن إبان رطب وكان جذع النخلة جذع نخلة ميتة فسقوط الرطب منها خارق للعادة. وإنما أعطيت رطبا دون التمر لأن الرطب أشهى للنفس إذ هو كالفاكهة وأما التمر فغذاء.

[25 - 26] {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً *فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً}
{وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً *فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً}
فائدة قوله: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} أن يكون إثمار الجذع اليابس رطبا ببركة تحريكها إياه، وتلك كرامة أخرى لها. ولتشاهد بعينها كيف يثمر الجذع اليابس رطبا. وفي ذلك كرامة لها بقوة يقينها بمرتبتها.
والباء في {بِجِذْعِ النَّخْلَة} لتوكيد لصوق الفعل بمفعوله مثل {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة: من الآية6] وقوله: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195]
وضمن {وهُزِّي} معنى قربي أو أدني، فعدي ب [إلى]، أي حركي جذع النخلة وقريبه يدن إليك ويلن بعد اليبس ويسقط عليك رطبا.
والمعنى: أدني إلى نفسك جذع النخلة. فكان فاعل الفعل ومتعلقة متحدا، وكلاهما ضمير معاد واحد. ولا ضير في ذلك لصحة المعنى وورود أمثاله في الاستعمال نحو {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} [القصص: من الآية32]. فالضام والمضموم إليه واحد. وإنما منع النحاة أن يكون الفاعل والمفعول ضميري معاد واحد إلا في أفعال القلوب، وفي فعلي: عدم وفقد، لعدم سماع ذلك، لا لفساد المعنى، فلا يقاس على ذلك منع غيره.
والرطب: تمر لم يتم جفافه.
والجني: فعيل بمعنى مفعول، أي مجتنى، وهو كناية عن حدثان سقوطه، أي عن طراوته ولم يكن من الرطب المخبوء من قبل لأن الرطب متى كان أقرب عهدا بنخلته كان أطيب طعما.
و {تُسَاقِطْ} قرأه الجمهور بفتح التاء وتشديد السين أصله تتساقط بتاءين أدغمت التاء الثانية في السين ليتأتى التخفيف بالإدغام.
وقرأه حمزة بتخفيف السين على حذف إحدى التاءين للتخفيف {رُطَباً} [مريم: من الآية25] على هاته القراءات تمييز لنسبة التساقط إلى النخلة.
وقرأه حفص بضم التاء وكسر السين على أنه مضارع ساقطت النخلة تمرها، مبالغة في أسقطت، و{رُطَباً} [مريم: من الآية25] مفعول به.

وقرأه يعقوب بياء تحتية مفتوحة وفتح القاف وتشديد السين فيكون الضمير المستتر عائدا إلى {جِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم: من الآية25].
وجملة {فَكُلِي} وما بعدها فذلكة للجمل التي قبلها من قوله: {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} أي فأنت في بحبوحة عيش.
وقرة العين: كناية عن السرور بطريق المضادة، لقولهم: سخنت عينه إذا كثر بكاؤه. فالكناية بضد ذلك عن السرور كناية بأربع مراتب. وتقدم في قوله تعالى: {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} [القصص: من الآية9]. وقرة العين تشمل هناء العيش وتشمل الأنس بالطفل المولود. وفي كونه قرة عين كناية عن ضمان سلامته ونباهة شأنه.
وفتح القاف في {وَقَرِّي عَيْناً} لأنه مضارع قررت عينه من باب رضي، أدغم فنقلت حركة عين الكلمة إلى فائها في المضارع لأن الفاء ساكنة.
[26] {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً}
هذا من بقية ما زادها به عيسى، وهو وحي من الله إلى مريم أجراه على لسان الطفل، تلقينا من الله لمريم وإرشادا لقطع المراجعة مع من يريد مجادلتها. فعلمها أن تنذر صوما يقارنه انقطاع عن الكلام، فتكون في عبادة وتستريح من سؤال السائلين ومجادلة الجهلة.
وكان الانقطاع عن الكلام من ضروب العبادة في بعض الشرائع السالفة، وقد اقتبسه العرب في الجاهلية كما دل عليه حديث المرأة من أحمس التي حجت مصمتة. ونسخ في شريعة الإسلام بالنسبة، ففي الموطأ "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا قائما في الشمس فقال: ما بال هذا? فقالوا: نذر أن لا يتكلم ولا يستظل من الشمس ولا يجلس ويصوم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مروه فليتكلم وليستظل وليجلس وليتم صيامه" وكان هذا الرجل يدعى أبا إسرائيل.
وروى عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه" أنه دخل على امرأة قد نذرت أن لا تتكلم. فقال لها: إن الإسلام قد هدم هذا فتكلمي". وفي الحديث أن امرأة من أحمس حجت مصمتة، أي لا تتكلم. فالصمت كان عبادة في شرع من قبلنا وليس هو بشرع لنا لأنه نسخة الإسلام بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "مروه فليتكلم " ،وعمل أصحابه.
وقد دلت الآثار الواردة في هذه على أشياء:

الأول:أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوجب الوفاء بالنذر في مثل هذا، فدل على أنه غير قربة.
الثاني:أنه لم يأمر فيه بكفارة شأن النذر الذي يتعذر الوفاء به أو الذي لم يسم له عمل معين كقوله: علي نذر، وفي الموطأ عقب ذكر الحديث المذكور قال مالك: ولم يأمره بكفارة ولو كانت فيه كفارة لأمره بها فدل ذلك على أنه عمل لا اعتداد به بوجه.
الثالث:أنه أومأ إلى علة عدم انعقاد النذر به بقوله:"إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني".
فعلمنا من ذلك أن معنى العبادة أن تكون قولا أو فعلا يشتمل على معنى يكسب النفس تزكية ويبلغ بها إلى غاية محمودة مثل الصوم والحج، فيحتمل ما فيها من المشقة لأجل الغاية السامية، وليست العبادة بانتقام من الله لعبده ولا تعذيب له كما كان أهل الضلال يتقربون بتعذيب نفوسهم، وكما شرع في بعض الأديان التعذيب القليل لخضد جلافتهم.
وفي هذا المعنى قوله تعالى: {فكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ*لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:37]، لأنهم كانوا يحسبون أن القربة إلى الله في الهدايا أن يريقوا دماءها ويتركوا لحومها ملقاة للعوافي.
وفي "البخاري" : "عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى شيخا يهادى بين ابنيه فقال: ما بال هذا? قالوا: نذر أن يمشي. قال: إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني. وأمره أن يركب" فلم ير له في المشي في الطواف قربة".
وفيه عن ابن عباس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم مر وهو يطوف بالكعبة بإنسان ربط يده إلى إنسان بسير أو بخيط أو بشيء غير ذلك، فقطعه النبي بيده ثم قال:قده بيده" .
وفي مسند أحمد عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاصي: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أدرك رجلين وهما مقتربان. فقال: ما بالهما? قالا: إنا نذرنا لنقترنن حتى نأتي الكعبة. فقال: أطلقا أنفسكما ليس هذا نذرا إنما النذر ما يبتغى به وجه الله" . وقال:"إسناده حسن".
الرابع: أن الراوي لبعض هذه الآثار رواها بلفظ:"نهى رسول الله عن ذلك. ولذلك قال مالك في الموطأ عقب حديث الرجل الذي نذر أن لا يستظل ولا يتكلم ولا يجلس: قال مالك: قد أمره رسول الله أن يتم ما كان لله طاعة ويترك ما كان لله معصية".

ووجه كونه معصية أنه جراءة على الله بأن يعبده بما لم يشرع له ولو لم سكن فيه حرج على النفس كنذر صمت ساعة، وأنه تعذيب للنفس التي كرمها الله تعالى من التعذيب بوجوه التعذيب إلا لعمل اعتبره الإسلام مصلحة للمرء في خاصته أو للأمة أو لدرء مفسدة مثل القصاص والجلد. ولذلك قال: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} [النساء: من الآية29]
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أن دماءكم وأموالكم وأنفسكم وأبشاركم عليكم حرام" لأن شريعة الإسلام لا تناط شرائعها إلا بجل المصالح ودرء المفاسد".
والمأخوذ من قول مالك في هذا أنه معصية كما قاله في الموطأ . ولذلك قال الشيخ أبو محمد في الرسالة :"ومن نذر معصية من قتل نفس أو شرب خمر أو نحوه أو ما ليس بطاعة ولا معصية فلا شيء عليه. وليستغفر الله". فقوله: "وليستغفر الله" بناء على أنه أتى بنذره مخالفا لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عنه. ولو فعل أحد صمتا بدون نذر ولا قصد عبادة لم يكن حراما إلا إذا بلغ إلى حد المشقة المضنية.
وقد بقي عند النصارى اعتبار الصمت عبادة وهم يجعلونه ترحما على الميت أن يقفوا صامتين هنيهة.
ومعنى {فقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً} فانذري صوما وإن لقيت من البشر أحدا فقولي: إني نذرت صوما فحذفت جملة للقرينة. وقد جعل القول المتضمن إخبار بالنذر عبارة عن إيقاع النذر وعن الإخبار به كناية عن إيقاع النذر لتلازمهما لأن الأصل في الخبر الصدق والمطابقة للواقع مثل قوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} [البقرة: من الآية136] وليس المراد أنها تقول ذلك ولا تفعله لأن الله تعالى لا يأذن في الكذب إلا في حال الضرورة مع عدم تأتي الصدق معها، ولذلك جاء في الحديث إن في المعاريض مندوحة عن الكذب.
وأطلق القول على ما يدل على ما في النفس، وهو الإيماء إلى أنها نذرت صوما مجازا بقرينة قوله {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً} فالمراد أن تؤدي ذلك بإشارة إلى أنها نذرت صوما بأن تشير إشارة تدل على الانقطاع عن الأكل، وإشارة تدل على أنها لا تتكلم لأجل ذلك، فإن كان الصوم في شرعهم مشروطا بترك الكلام كما قيل فالإشارة الواحدة كافية. وإن كلام الصوم عبادة مستقلة قد يأتي بها الصائم مع ترك الكلام تشير إشارتين للدلالة على أنها نذرت الأمرين، وقد علمت مريم أن الطفل الذي كلمها هو الذي يتولى الجواب عنها حين تسأل بقرينة قوله تعالى: {فأَشَارَتْ إِلَيْهِ} [مريم: 29].

والنون في قوله: {تَرَيِنَّ} [مريم: من الآية26] نون التوكيد الشديدة اتصلت بالفعل الذي صار آخره ياء بسبب حذف نون الرفع لأجل حرف الشرط فحركت الياء بحركة مجانسة لها كما هو الشأن مع نون التوكيد الشديدة.
والإنسي: الإنسان، والياء فيه للنسب إلى الإنس، وهو اسم جمع إنسان، فياء النسب لإفادة فرد من الجنس مثل: ياء حرسي لواحد من الحرس. وهذا نكره في سياق النفي يفيد المموم، أي لن أكلم أحدا.
وعدل عن {أحد} إلى {إِنْسِيّاً} [مريم: من الآية26] للرعي على فاصلة الياء، وليس ذلك احترازا عن تكليمها الملائكة إذ لا يخطر ذلك بالبال عند المخاطبين بمن هيئت لهم هذه المقالة فالحمل عليه سماجة.
[27] {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً*يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً}
دلت الفاء على أن مريم جاءت أهلها عقب انتهاء الكلام الذي كلمها ابنها. وفي إنجيل لوقا: أنها بقيت في بيت لحم إلى انتهاء واحد وأربعين يوما، وهي أيام التطهير من دم النفاس، فعلى هذا يكون التعقيب المستفاد من الفاء تعقيبا عرفيا مثل: تزوج فولد له.
و {قومها} : أهل محلتها. وجملة {تَحْمِلُهُ} حال من تاء {أَتَتْ} وهذا الحال للدلالة على أنها أتت معلنة به غير ساترة لأنها قد علمت أن الله سيبرئها مما يتهم به مثل من جاء في حالتها.
وجملة {قَالُوا يَا مَرْيَمُ} مستأنفة استئنافا بيانيا. وقال قومها هذه المقالة توبيخا لها.
وفري: فعيل من فرى من ذوات الياء. ولهذا اللفظ عدة إطلاقات، وأظهر محامله هنا أنه الشنيع في السوء، قاله مجاهد والسدي، وهو جاء من مادة افترى إذا كذب لأن المرأة تنسب ولدها الذي حملت به من زنى إلى زوجها كذبا. ومنه قوله تعالى: {لا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرُجُلِهِنَّ} [الممتحنة: من الآية12]
ومن أهل اللغة من قال: إن الفري والفرية مشتقان من الإفراء بالهمز. وهو قطع الجلد لإفساده أو لتحريقه، تفرقة بين أفرى وفرى، وأن فرى المجرد للاصلاح.
والأخت: مؤنث الأخ، اسم يضاف إلى اسم آخر، فيطلق حقيقة على ابنة أبوي ما

أضيفت إلى اسمه أو ابنة أحد أبويه. ويطلق على من تكون من أبناء صاحب الاسم الذي تضاف إليه إذا كان اسم قبيلة كقولهم: يا أخا العرب. كما في حديث ضيف أبي بكر الصديق قوله لزوجه يا أخت بني فراس ما هذا. فإذا لم يذكر لفظ بني مضافا إلى اسم جد القبيلة كان مقدرا. قال سهل بن مالك الفزاري:
يا أخت خير البدو والحضارة ... كيف ترين في فتى فزارة
يريد يا أخت أفضل قبائل العرب من بدوها وحضرها.
فقوله تعالى: {يَا أُخْتَ هَارُونَ} يحتمل أن يكون على حقيقته. فيكون لمريم أخ اسمه هارون كان صالحا في قومه، خاطبوها بالإضافة إليه زيادة في التوبيخ، أي ما كان لأخت مثله أن تفعل فعلتك، وهذا أظهر الوجهين. ففي صحيح مسلم وغيره عن المغيرة بن شعبة قال: بعثني رسول الله إلى أهل نجران فقالوا: أرأيت ما تقرءون {يَا أُخْتَ هَارُونَ} وموسى قبل عيسى بكذا وكذا? قال المغيرة: فلم أدر ما أقول. فلما قدمت على رسول الله ذكرت ذلك له. فقال: ألم يعلموا أنهم كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم والصالحين قبلهم اه. ففي هذا تجهيل لأهل نجران أن طعنوا في القرآن على توهم أن ليس في القوم من اسمه هارون إلا هارون الرسول أخا موسى.
ويحتمل أن معنى {يَا أُخْتَ هَارُونَ} أنها إحدى النساء من ذرية هارون أخي موسى، كقول أبي بكر: يا أخت بني فراس. وقد كانت مريم من ذرية هارون أخي موسى من سبط لاوي. ففي إنجيل لوقا كان كاهن اسمه زكريا من فرقة أبيا وامرأته من بنات هارون واسمها إليصابات، واليصابات زوجة زكريا نسيبة مريم، أي ابنة عمها. وما وقع للمفسرين في نسب مريم أنها من نسل سليمان بن داود خطأ.
ولعل قومها تكلموا باللفظين فحكاه القرآن بما يصلح لهما على وجه الإيجاز. وليس في هذا الاحتمال ما ينافي حديث المغيرة بن شعبة.
والسوء بفتح السين وسكون الواو: مصدر ساءه، إذا أضر به وأفسد بعض حاله، فإضافة اسم إليه تفيد أنه من شؤونه وأفعاله وأنه هو مصدر له. فمعنى {امْرَأَ سَوْءٍ} رجل عمل مفسد.
ومعنى البغي تقدم قريبا. وعنوا بهذا الكلام الكناية عن كونها أتت بأمر ليس من شأن أهلها، أي أتت بسوء ليس من شأن أبيها وبغاء ليس من شأن أمها، وخالفت سيرة

أبويها فكانت امرأة سوء وكانت بغيا؛ وما كان أبوها امرأ سوء ولا كانت أمها بغيا فكانت مبتكرة الفواحش في أهلها. وهم أرادوا ذمها فأتوا بكلام صريحه ثناء على أبويها مقتض أن شأنها أن تكون مثل أبويها.
[29] {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً}
أي أشارت إليه إشارة دلت على أنها تحيلهم عليه ليسألوه عن قصته، أو أشارت إلى أن يسمعوا منه الجواب عن توبيخهم إياها وقد فهموا ذلك من إشارتها.
ولما كانت إشارتها بمنزلة مراجعة كلام حكي حوارهم الواقع عقب الإشارة بجملة القول مفصولة غير معطوفة.
والاستفهام: إنكار؛ أنكروا أن يكلموا من ليس من شأنه أن يتكلم، وأنكروا أن تحيلهم على مكالمته، أي كيف نترقب منه الجواب، أو كيف نلقي عليه السؤال، لأن الحالتين تقتضيان التكلم.
وزيادة فعل الكون في {مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ} للدلالة على تمكن المظروفية في المهد من هذا الذي أحيلوا علة مكالمته، وذلك مبالغة منهم في الإنكار، وتعجب من استخفافها بهم. ففعل {كان} زائد للتوكيد، ولذلك جاء بصيغة المضي لأن "كان" الزائدة تكون بصيغة الماضي غالبا.
وقوله: {فِي الْمَهْدِ} خبر {من} الموصولة.
و {صَبِيّاً} حال من اسم الموصول.
والمهد: فراش الصبي وما يمهد لوضعه.
[30 - 33] {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً * وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً * وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً *وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً}
كلام عيسى هذا مما أهملته أناجيل النصارى لأنهم طووا خبر وصولها إلى أهلها عد وضعها، وهو طي يتعجب منه. ويدل على أنها كتبت في أحوال غير مضبوطة، فأطلع الله تعالى عليه نبيه صلى الله عليه وسلم.

والابتداء بوصف العبودية لله ألقاه الله على لسان عيسى لأن الله علم بأن قوما سيقولون: إنه ابن الله.
والتعبير عن إيتاء الكتاب بفعل المضي مراد به أن الله قدر إيتاءه إياه، أي قدر أن يؤتيني الكتاب.
والكتاب: الشريعة التي من شأنها أن تكتب لئلا يقع فيها تغيير. فإطلاق الكتاب على شريعة عيسى كإطلاق الكتاب على القرآن. والمراد بالكتاب الإنجيل وهو ما كتب من الوحي الذي خاط الله به عيسى. ويجوز أن يراد الكتاب التوراة فيكون الإيتاء إيتاء علم ما في التوراة كقوله تعالى: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:12] فيكون قوله: {وَجَعَلَنِي نَبِيّاً} ارتقاء في المراتب التي أتاه الله إياها.
والقول في التعبير عنه بالماضي كالقول في قوله: {آتَانِيَ الْكِتَابَ} .
والمبارك: الذي تقارن البركة أحواله في أعماله ومحاورته ونحو ذلك، لأن المبارك اسم مفعول من باركه، إذا جعله ذا بركة. أو من بارك فيه، إذا جعل البركة معه.
والبركة: الخير واليمن.
ذلك أن الله أرسله برحمة لنبي إسرائيل ليحل لهم بعض الذي حرم عليهم وليدعوهم إلى مكارم الأخلاق بعد أن قست قلوبهم وغيروا من دينهم، فهذه أعظم بركة تقارنه. ومن بركته أن جعل الله حلوله في المكان سببا لخير أهل تلك البقعة من خصبها واهتداء أهلها وتوفيقهم إلى الخير. ولذلك كان إذا لقيه الجهلة والقساة والمفسدون انقلبوا صالحين وانفتحت قلوبهم للإيمان والحكمة. ولذلك ترى أكثر الحواريين كانوا من عامة الأميين من صيادين وعشارين فصاروا دعاة هدى وفاضت ألسنتهم بالحكمة.
وبهذا يظهر أن كونه مباركا أعم من كونه نبيا عموما وجهيا، فلم يكن في قوله: {وَجَعَلَنِي نَبِيّاً} غنية عن قوله: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً}
والتعميم الذي في قوله: {أَيْنَ مَا كُنْتُ} تعميم للأمكنة، أي لا تقتصر بركته على كونه في الهيكل بالمقدس أو في مجمع أهل بلده، بل هو حيثما حل تحل معه البركة.
والوصاية: الأمر المؤكد بعمل مستقبل، أي قدر وصيتي بالصلاة والزكاة، أي أن يأمرني بهما أمرا مؤكدا مستمرا، فاستعمال صيغة المضي في {وَأَوْصَانِي} مثل استعمالها

في قوله: {آتَانِيَ الْكِتَابَ}
والزكاة: الصدقة. والمراد: أن يصلي ويزكي. وهذا أمر خاص به كما أمر نبينا صلى الله عليه وسلم بقيام الليل، وقرينة الخصوص قوله: {مَا دُمْتُ حَيّاً} لدلالته على استغراق مدة حياته بإيقاع الصلاة والصدقة، أي أن يصلي ويتصدق في أوقات التمكن من ذلك، أي غير أوقات الدعوة أو الضرورات.
فالاستغراق المستفاد من قوله: {مَا دُمْتُ حَيّاً} استغراق عرفي مراد به الكثرة؛ وليس المراد الصلاة والصدقة المفروضتين على أمته، لأن سياق الكلام في أوصاف تميز بها عيسى عليه السلام ولأنه لم يأت بشرع صلاة زائدة على ما شرع في التوراة.
والبر بفتح الباء: اسم بمعنى البار. وتقدم آنفا. وقد خصه الله تعالى بذلك بين قومه، لأن بر الوالدين كان ضعيفا في بني إسرائيل يومئذ، وبخاصة الوالدة لأنها تستضف، لأن فرط حنانها ومشقتها قد يجرئان الولد على التساهل في البر بها.
والجبار: المتكبر الغليظ على الناس في معاملتهم. وقد تقدم في سورة هود قوله {وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ}
والشقي: الخاسر والذي تكون أحواله كدرة له ومؤلمة، وهو ضد السعيد. وتقدم عند قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} في آخر سورة هود [105].
ووصف الجبار بالشقي باعتبار مآله في الآخرة وربما في الدنيا.
وقوله: {وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ} إلى آخره تنويه بكرامته عند الله، أجراه على لسانه ليعلموا أنه بمحل العناية من ربه، والقول فيه تقدم في آية ذكر يحيى.
وجيء بـ{السَّلامُ} هنا معرفا باللام على الجنس مبالغة في تعلق السلام به حتى كان جنس السلام بأجمعه عليه. وهذا مؤذن بتفضيله على يحيى إذ قيل في شأنه {وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ} ، وذلك هو الفرق بين المعرف بلام الجنس وبين النكرة.
ويجوز جعل اللام للعهد، أي سلام إليه، وهو كناية عن تكريم الله عبده بالثناء عليه في الملأ الأعلى وبالأمر بكرامته. ومن هذا القبيل السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب: من الآية56]، وما أمرنا به في التشهد في الصلاة من قول المتشهد "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته".

ومؤذن أيضا بتمهيد التعريض باليهود إذ طعنوا فيه وشتموه في الأحوال الثلاثة، فقالوا: ولد من زنى، وقالوا: مات مصلوبا، وقالوا: يحشر مع الملاحدة والكفرة، لأنهم يزعمون أنه كفر بأحكام من التوراة.
[34-35] {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ * مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [مريم:35]
اعتراض بين الجمل المقولة في قوله {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} مع قوله: {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ} ، أي ذلك المذكور هو عيسى ابن مريم لا كما تزعم النصارى واليهود.
والإشارة لتمييز المذكور أكمل تمييز تعريضا بالرد على اليهود والنصارى جميعا، إذ أنزله اليهود إلى حضيض الجناة، ورفعه النصارى إلى مقام الإلهية، وكلاهما مخطئ مبطل، أي ذلك هو عيسى بالحق، وأما من تصفونه فليس هو عيسى لأن استحضار الشخص بصفات غير صفاته تبديل لشخصيته، فلما وصفوه بغير ما هو صفته جعلوا بمنزلة من لا يعرفون فاجتلب اسم الإشارة ليتميز الموصوف أكمل تمييز عند الذين يريدون أن يعرفوه حق معرفته. والمقصود بالتمييز تمييز صفاته الحقيقية عن الصفات الباطلة التي ألصقوها به لا تمييز ذاته عن الذوات إذ ليست ذاته بحاضرة وقت نزول الآية، أي تلك حقيقة عيسى عليه السلام وصفته.
و {قَوْلَ الْحَقِّ} قرأه الجمهور بالرفع. وقرأه ابن عامر، وعاصم، ويعقوب بالنصب ؛ فأما الرفع فهو خبر ثان عن اسم الإشارة أو وصف لعيسى أو بدل منه، وأما النصب فهو حال من اسم الإشارة أو من عيسى.
ومعنى {قَوْلَ الْحَقِّ} أن تلك الصفات التي سمعتم هي قول الحق، أي مقول هو الحق وما خالفها باطل، أو أن عيسى عليه السلام هو قول الحق، أي مقول الحق، أي المكون من قول {كُنْ}، فيكون مصدرا بمعنى اسم المفعول كالخلق في قوله تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} [لقمان: من الآية11].
وجوز أبو علي الفارسي أن يكون نصب {قَوْلَ الْحَقِّ} بتقدير: أحق قول الحق، أي هو مصدر مؤكد لمضمون الجملة قبله منصوب بفعل محذوف وجوبا، تقديره: أحق قول الحق. ويجوز أن يكون {قَوْلَ الْحَقِّ} مصدرا نائبا عن فعله، أي أقول قول الحق. وعلى

هذين الوجهين يكون اعتراضا. ويجوز أن يكون {قَوْلَ} مصدرا بمعنى الفاعل صفة ل {عِيسَى} أو حالا منه، أي قائل الحق إذ قال: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ} إلى قوله: {وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً} [مريم: 30 - 33]
و {الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} صفة ثانية أو حال ثانية أو خبر ثان عن {عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ} على ما يناسب الوجوه المتقدمة.
والامتراء: الشك، أي الذي فيه يشكون، أي يعتقدون اعتقادا مبناه الشك والخطأ، فإن عاد الموصول إلى القول فالامتراء فيه هو الامتراء في صدقة، وإن عاد إلى عيسى فالامتراء فيه هو الامتراء في صفاته بين رافع وخافض.
وجملة {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ} تقرير لمعنى العبودية، أو تفصيل لمضمون جملة {الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} فتكون بمنزلة بدل البعض أو الاشتمال منها، اكتفاء بإبطال قول النصارى بأن عيسى ابن الله، لأنه أهم بالإبطال، إذ هو تقرير لعبودتة عيسى وتنزيه لله تعالى عما لا يليق بجلال الألوهية من اتخاذ الولد ومن شائبة الشرك، ولأنه القول الناشئ عن الغلو في التقديس، فكان فيما ذكر من صفات المدح لعيسى ما قد يقوي شبهتهم فيه بخلاف قول اليهود فقد ظهر بطلانه بما عدد لعيسى من صفات الخير.
وصيغة {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ} تفيد انتفاء الولد عنه تعالى بأبلغ وجه لأن لام الجحود تفيد مبالغة النفي، وأنه مما لا يلاقي وجود المنفي عنه، ولأن في قوله {أن يتخذ} إشارة إلى أنه لو كان له ولد لكان هو خلقه، واتخذه فلم يعد أن يكون من جملة مخلوقاته، فإثبات البنوة له خلف من القول.
وجملة {إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} بيان لجملة {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ} ، لإبطال شبهة النصارى إذ جعلوا تكوين إنسان بأمر التكوين عن غير سبب معتاد دليلا على أن المكون ابن لله تعالى، فأشارت الآية إلى أن تكون أصول الموجودات أبناء لله وإن كان ما يقتضيه لا يخرج عن الخضوع إلى أمر التكوين.
[36] {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}
يجوز أن يكون هذا بقية لكلام جرى على لسان عيسى تأييدا لبراءة أمه وما بينهما اعتراض كما تقدم آنفا.
والمعنى: تعميم ربوبية الله تعالى لكل الخلق.

وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وأبو جعفر، ورويس عن يعقوب همزة {وَإِنَّ} مفتوحة فخرجة الزمخشري: أنه على تقدير لام التعليل، فإن كان من كلام عيسى فهو تعليل لقوله {فاعبدوه} على أنه مقدم من تأخير للاهتمام بالعلة لكونها مقرر للمعلول ومثبتة له على أسلوب قوله تعالى {وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا} ويكون قوله: {فاعبدوه} متفرعا على قوله {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} بعد أن أردف ما تعلقه من أحوال نفسه.
ولما اشتمل مدخول لام التعليل على اسم الجلالة أضمر له فيما عد. وتقدير النظم هكذا. فاعدوا الله لأنه ربي وربكم.
ويجوز أن يكون عطفا على قوله: {بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ} . أي وأوصاني بأن الله ربي وربكم، فيكون بحذف حرف الجر وهو مطرد مع {إِنَّ}.
ويجوز أن يكون معطوفا على {الْحَقِّ} من قوله {قَوْلَ الْحَقِّ} على وجه جعل {قَوْلَ} بمعنى قائل، أي قائل الحق وقائل إن الله ربي وربكم، فإن همزة {أن} يجوز فتحها وكسرها بع ماد' القول.
وإن كان مما خوطب النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقوله كان بتقدير قول محذوف، أو عطفا على {مريم} من قوله تعالى {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ} أي اذكر يا محمد أن الله ربي فكذلك، ويكون تفريع {فاعبدوه} على قوله {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ} إلى آخره.
وقرأه ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وخلف، وروح عن يعقوب بكسر همزة {إِنَّ} ووجهها ظاهر على كلا الاحتمالين.
وجملة {هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} تذييل وفذلكة لما سبقه على اختلاف الوجوه. والإشارة إلى مضمون ما تقدم على اختلاف الوجوه.
والمراد بالصراط المستقيم اعتقاد الحق، شبه بالصراط المستقيم على التشبيه البليغ، شبه الاعتقاد الحق في كونه موصولا إلى الهدى بالصراط المستقيم في إيصاله إلى المكان المقصود باطمئنان بال، وعلم أن غير هذا كبنيات الطريق من سلكها ألقت به المخاوف والمتآلف كقوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ

سَبِيلِهِ}
[37] {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ}
الفاء لتفريغ الإخبار بحصول الاختلاف على الإخبار بأن هذا صراط مستقيم، أي حاد عن الصراط المستقيم الأحزاب فاختلفوا بينهم في الطرائق التي سلوكها، أي هذا صراط مستقيم لا يختلف سالكوه اختلافا أصليا، فسلك الأحزاب طرقا أخرى هي حائدة عن الصراط المستقيم فلم يتفقوا على شيء.
وقوله: {مِنْ بَيْنِهِمْ} متعلق ب {فَاخْتَلَفَ}. و {مِنْ} حرف توكيد، أي اختلفوا بينهم.
والمراد بالأحزاب أحزاب النصارى، لأن الاختلاف مؤذن بأنهم كانوا متفقين ولم يكن اليهود موافقين النصارى في شيء من الدين. وقد كان النصارى على قول واحد على التوحيد في حياة الحواريين ثم حدث الاختلاف في تلاميذهم. وقد ذكرنا في تفسير قوله تعالى {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ} في سورة النساء أن الاختلاف انحل إلى ثلاثة مذاهب: الملكانية وتسمى الجاثليقية، واليعقوبية، والنسطورية. وانشعبت من هذه الفرق عدة فرق ذكرها الشهرستاني، ومنها الأليانة، والبليارسية، والمقدانوسية، والسبالية، والبوطينوسية، والبولية، إلى فرق أخرى. منها فرقة كانت في العرب تسمى الركوسية ورد ذكرها في الحديث "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعدي بن حاتم: إنك ركوسي" . قال أهل اللغة هي نصرانية مشوبة بعقائد الصابئه. وحدثت بعد ذلك فرقة الاعتراضية البروتستان أتباع لوثير. وأشهر الفرق اليوم هي الملكانية كاثوليك، واليعقوبية أرثودوكس، والاعتراضية البروتستان. ولما كان اختلافهم قد انحصر في مرجع واحد يرجع إلى إلهية عيسى اغترارا وسوء فهم في معنى لفظ ابن الذي ورد صفة للمسيح في الأناجيل مع أنه قد وصف بذلك فيها أيضا أصحابه. وقد جاء في التوراة أيضا أنتم أبناء الله. وفي إنجيل متى الحواري وإنجيل يوحنا الحواري كلمات صريحة في أن المسيح ابن إنسان وأن الله إلهه وربه، فقد انحصرت مذاهبهم في الكفر بالله فلذلك ذيل بقوله: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} ، فشمل قوله: {الذين كفروا} هؤلاء المخبر عنهم من النصارى وشمل المشركين غيرهم.
والمشهد صالح لمعان، وهو أن يكون مشتقا من المشاهدة أو من الشهود، ثم إما أن يكون مصدرا ميميا في المعنيين أو اسم مكان لهما أو اسم زمان لهما، أي يوم فيه

ذلك وغيره.
والويل حاصل لهم في الاحتمالات كلها وقد دخلوا في عموم الذين كفروا بالله، أي نفوا وحدانيته، فدخلوا في زمرة المشركين لا محالة، ولكنهم أهل كتاب دون المشركين.
[38] {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [مريم:38]
{أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} صيغتا تعجب، وهو تعجب على لسان الرسول والمؤمنين، أو هو مستعمل في التعجيب، والمعنيان متقاربان، وهو مستعمل كناية أيضا عن تهديدهم؛ فتعين أن التعجيب من بلوغ حالهم في السوء مبلغا يتعجب من طاقتهم على مشاهدة مناظره وسماع مكارهه. والمعنى؛ ما أسمعهم وما أبصرهم في ذلك اليوم، أي ما أقدرهم على السمع والبصر بما يكرهونه. وقريب هو من معنى قوله تعالى {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} [البقرة: من الآية175].
وجوز أن يكون {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} غير مستعمل في التعجب بل صادف أن جاء على صورة فعل التعجب، وإنما هو على أصل وضعه أمر للمخاطب غير المعين بأن يسمع ويبصر بسببهم، ومعمول السمع والبصر محذوف لقصد التعميم ليشمل كل ما يصح أن يسمع وأن يبصر. وهذا كناية عن التهديد.
وضمير الغائبين عائد إلى الذين كفروا، أي أعجب بحالهم يومئذ من نصارى وعبدة الأصنام.
والاستدراك الذي أفاده قوله {لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} راجع إلى ما يفيده التقييد بالظرف في قوله:] {يوْمَ يَأْتُونَنَا} من ترقب سوء حالهم يوم القيامة الذي يقتضي الظن بأنهم الآن في سعة من الحال. فأقيد أنهم متلبسون بالضلال المبين وهو من سوء الحال لهم لما يتبعه من اضطراب الرأي والتباس الحال على صاحبه. وتلك نكتة التقييد بالظرف في قوله: {الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} .
والتعبير عنهم بـ {الظَّالِمُونَ} إظهار في مقام الإضمار. ونكتته التخلص إلى خصوص المشركين لأن اصطلاح القرآن إطلاق الظالمين على عبدة الأصنام وإطلاق الظلم على عبادة الأصنام، قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]

[39] {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}
عقب تحذيرهم من عذاب الآخرة والنداء على سوء ضلالهم في الدنيا بالأمر بإنذارهم استقصاء في الإعذار لهم.
والضمير عائد إلى الظالمين، وهم المشركون من أهل مكة وغيرهم من عبدة الأصنام لقوله {وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} وقوله: {وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ}
وانتصب {يَوْمَ الْحَسْرَةِ} على أنه مفعول خلف عن المفعول الثاني ل {وَأَنْذِرْهُمْ} لأنه بمعنى أنذرهم عذاب يوم الحسرة.
والحسرة: الندامة الشديدة الداعية إلى التلهف. والمراد بيوم الحسرة يوم الحساب، أضيف اليوم إلى الحسرة لكثرة ما يحدث فيه من تحسر المجرمين على ما فرطوا فيه من أسباب النجاة، فكان ذلك اليوم كأنه مما اختصت به الحسرة، فهو يوم حسرة بالنسبة إليهم وإن كان يوم فرح بالنسبة إلى الصالحين.
واللام في {الْحَسْرَةِ} على هذا الوجه لام العهد الذهني، ويجوز أن يكون اللام عوضا عن المضاف إليه، أي يوم حسرة الظالمين.
ومعنى {قُضِيَ الْأَمْرُ} تمم أم الله بزجهم في العذاب فلا معقب له.
ويجوز أن يكون المراد ب {الْأَمْرُ} أمر الله بمجيء يوم القيامة، أي إذا حشروا. و {إِذْ} اسم زمان، بدل من {يَوْمَ الْحَسْرَةِ}
وجملة {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ} حال من {الْأَمْرُ} وهي حال سببية، إذ التقدير:إذ قضي أمرهم.
والغفلة: الذهول عن شيء شأنه أن يعلم.
ومعنى جملة الحال على الاحتمال الأول في معنى الأمر الكناية عن سرعة صدور الأمر بتعذيبهم، أي قضي أمرهم على حين أنهم في غفلة، أي بهت. وعلى الاحتمال الثاني تحذير من حلول يوم القيامة بهم قبل أن يؤمنوا كقوله: {لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً} [لأعراف: من الآية187]، وهذا أليق بقوله: {وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}

ومعنى {وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} استمرار عدم إيمانهم إلى حلول قضاء الأمر يوم الحسرة. فاختيار صيغة المضارع فيه دون صيغة اسم الفاعل لما يدل عليه المضارع من استمرار الفعل وقتا فوقتا استحضارا لذلك الاستمرار العجيب في طوله وتمكنه.
[40] {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ}
تذييل لختم القصة على عادة القرآن في تذييل الأغراض عند الانتقال منها إلى غيرها. والكلام موجه إلى المشركين لإبلاغه إليهم.
وضمير {يُرْجَعُونَ} عائد إلى {مَنْ عَلَيْهَا} وإلى ما عاد إليه ضمير الغيبة في {وَأَنْذِرْهُمْ}
وحقيقة الإرث: مصير مال الميت إلى من يبقى بعده. وهو هنا مجاز في تمحض التصرف في الشيء دون مشارك، فإن الأرض كانت في تصرف سكانها من الإنسان والحيوان كل بما يناسبه. فإذا هلك الناس والحيوان فقد صاروا في باطن الأرض وصارت الأرض في غير تصرفهم فلم يبق تصرف فيها إلا لخالقها، وهو تصرف كان في ظاهر الأمر مشتركا بمقدار ما خولهم الله التصرف فيها إلى أجل معلوم، فصار الجميع في محض تصرف الله، ومن جملة ذلك تصرفه بالجزاء.
وتأكيد جملة {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ} بحرف التوكيد لدفع الشك لأن المشركين ينكرون الجزاء، فهم ينكرون أن الله يرث الأرض ومن عليها بهذا المعنى.
وأما ضمير الفصل في قوله: {نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ} فهو لمجرد التأكيد ولا يفيد تخصيصا، إذ لا يفيد رد اعتقاد مخالف لذلك.
وظهر لي: أن مجيء ضمير الفصل لمجرد التأكيد كثير إذا وقع ضمير الفصل بعد ضمير آخر نحو قوله {إِنَّنِي أَنَا اللَّه} طه: من الآية14] في سورة طه. وقوله: {وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} في سورة يوسف [37].
وأفاد هذا التذييل التعريف بتهديد المشركين بأنهم لا مفر لهم من الكون في قبضة الرب الواحد الذي أشركوا بعبادته بعض ما على الأرض، وأن آلهتهم ليست بمرجوة لنفعهم إذ ما هي إلا مما يرثه الله.

وبذلك كان موقع جملة {وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} بينا، فالتقديم مفيد القصر، أي لا يرجعون إلى غيرنا. ومحمل هذا التقديم بالنسبة إلى المسلمين الاهتمام ومحمله بالنسبة إلى المشركين القصر كما تقدم في قوله: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ}
[41 - 42] {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً}
قد تقدم أن من أهم ما استملت عليه هذه السورة التنويه بالأنبياء والرسل السالفين. وإذ كان إبراهيم عليه السلام أبا الأنبياء وأول من أعلن التوحيد إعلانا باقيا، لبنائه له هيكل التوحيد وهو الكعبة، كان ذكر إبراهيم من أغراض السورة. وذكر عقب قصة عيسى لمناسبة وقوع الرد على المشركين في آخر القصة ابتداء من قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} إلى قوله: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا} . ولما كان إبراهيم قد جاء بالحنيفية وخالفها العرب بالإشراك وهم ورثة إبراهيم كان لتقديم ذكره على البقية الموقع الجليل من البلاغة.
وفي ذلك تسلية للنبىء صلى الله عليه وسلم على ما لقي من مشركي قومه لمشابهة حالهم بحال قوم إبراهيم.
وقد جرى سرد خبر إبراهيم عليه السلام على أسلوب سرد قصة مريم عليه السلام لما في كل من الأهمية كما تقدم.
وتقدم تفسير {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَاب} في أول قصة مريم.
و {الصديق} بتشديد الدال صيغة مبالغة في الاتصاف، مثل الملك الضليل لقب امرئ القيس، وقولهم: رجل مسيك، أي شحيح، ومنه طعام حريف، ويقال: دليل خريت، إذ كان ذا حذق بالطرق الخفية في المفاوز، مشتقا من الخرت وهو ثقب الشيء كأنه يثقب المسدودات ببصره. وتقدم في قوله تعالى {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ} . وصف إبراهيم بالصديق لفرط صدقه في امتثال ما يكلفه الله تعالى لا يصده عن ذلك ما قد يكون عذرا للمكلف مثل مبادرته إلى محاولة ذبح ولده حين أمره الله بذلك في وحي الرؤيا، فالصدق هنا بمعنى بلوغ نهاية الصفة في الموصوف بها، كما في قول تأبط شرا.
إني لمهد من ثنائي فقاصد ... به لابن عم الصدق شمس بن مالك

وتأكيد هذا الخبر بحرف التوكيد وبإقحام فعل الكون للاهتمام بتحقيقه زيادة في الثناء عليه.
وجملة {إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً} واقعة موقع التعليل للاهتمام بذكره في التلاوة، وهذه الجملة معترضة بين المبدل منه والبدل فإن (إذا) اسم زمان وقع بدلا من إبراهيم، أي اذكر ذلك خصوصا من أحوال إبراهيم فإنه أهم ما يذكر فيه لأنه مظهر صديقيته إذ خاطب أباه بذلك الإنكار.
والنبي: فعيل بمعنى مفعول، من أنبأه بالخبر. والمراد هنا أنه منبأ من جانب الله تعالى بالوحي. والأكثر أن يكون النبي مرسلا للتبليغ، وهو معنى شرعي، فالنبي فيه حقيقة عرفية. وتقدم في سورة البقرة عند قوله {ذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً} ، فدل ذلك على أن قوله لأبيه: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ} إنما كان عن وحي من الله ليبلغ قومه إبطال عبادة الأصنام.
وقرأ الجمهور {نبيا} بياء مشددة بتخفيف الهمزة ياء لثقلها ولمناسبة الكسرة. وقرأه نافع وحده (نَبِيّئاً)بهمزة آخره. وبذلك تصير الفاصلة القرآنية على حرف الألف، ومثل تلك الفاصلة كثير في فواصل القرآن.
وقوله: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ} الخ... بدل اشتمال من إبراهيم. و {إذ} اسم زمان مجرد عن الظرفية لأن {إذ} ظرف متصرف على التحقيق. والمعنى: اذكر إبراهيم زمان قوله لأبيه فإن ذلك الوقت أجدر أوقات إبراهيم بأن يذكر.
وأبو إبراهيم هو {آزار} تقدم ذكره في سورة الأنعام.
وافتتح إبراهيم خطابه أباه بندائه مع أن الحضرة مغنية عن النداء قصدا لإحضار سمعه وذهنه لتلقي ما سيلقيه إليه.
قال الجد الوزير رحمة الله فيما أملاه علي ذات ليلة من عام 1318ه فقال:
علم إبراهيم أن في طبع أهل الجهالة تحقيرهم للصغير كيفما بلغ حاله في الحذق وبخاصة الآباء مع أبنائهم، فتوجه إلى أبيه بخطابه بوصف الأبوة إيماء إلى أنه مخلص له النصيحة، وألقى إليه حجة فساد عبادته فيصوره الاستفهام عن سبب عبادته وعمله المخطىء، منبها على خطئه عندما بتأمل في عمله، فإنه إن سمع ذلك وحاول بيان سبب

عبادة أصنامه لم يجد لنفسه مقالا ففطن بخطل رأيه وسفاهة حلمه، فإنه لو عبد حيا مميزا لكانت له شبهة ما. وابتدأ بالحجة الراجعة إلى الحس إذ قال له: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ} فذلك حجة محسوسة، ثم أتبعها بقوله: {وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً} ، ثم انتقل إلى دفع ما يخالج عقل أبيه من النفور عن تلقي الإرشاد من ابنه بقوله يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا، فلما قضى حق ذلك انتقل إلى تنبيهه على أن ما هو فيه أثر من وساوس الشيطان، ثم ألقي إليه حجة لائقة بالمتصلبين في الضلال بقوله: {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً} ، أي أن الله أبلغ إليك الوعيد على لساني، فإن كنت لا تجزم بذلك فافرض وقوعه فإن أصنامك لم تتوعدك على أن تفارق عبادتها. وهذا كما في الشعر المنسوب إلى علي رضي الله عنه:
زعم المنجم والطبيب كلاهما ... لا تحشر الأجسام قلت: إليكما
إن صح قولكما فلست بخاسر ... أو صح قولي فالخسار عليكما
قال: وفي النداء بقوله: {يَا أَبَتِ} أربع مرات تكرير اقتضاه مقام استنزاله إلى قبول الموعظة لأنها مقام إطناب. ونظر ذلك بتكرير لقمان قوله: {يَا بُنَيَّ} [لقمان: من الآية13] ثلاث مرات، قال: بخلاف قول نوح لابنه: {يَا بُنَيَّ ارْكَبْ} [هود: من الآية42] مرة واحدة دون تكرير لأن ضيق المقام يقتضي الإيجاز وهذا من طرق الإعجاز. انتهى كلامه بما يقارب لفظه.
وأقول: الوجه ما بني عليه من أن الاستفهام مستعمل في حقيقته، كما أشار إليه صاحب الكشاف، ومكنى به عن نفي العلة المسؤول عنها بقوله: {لِمَ تَعْبُدُ} فهو كناية عن التعجيز عن إبداء المسؤول عنه، فهو من التورية في معنيين يحتملهما الاستفهام.
و {أَبَتِ} : أصله أبي، حذفوا ياء المتكلم وعوضوا عنها تاء تعويضا على غير قياس، وهو خاص بلفظ الأب والأم في النداء خاصة، ولعله صيغة باقية من العربية القديمة. ورأى سيبويه أن التاء تصبر في الوقف هاء، وخالفه الفراء فقال: ببقائها في الوقف. والتاء مكسورة في الغالب لأنها عوض عن الياء والياء بنت الكسرة ولما كسروها فتحوا الياء وبذلك قرأ الجمهور. وقرأ ابن عامر، وأبو جعفر "يا أبت" بفتح التاء دون ألف بعدها، بناء على أنهم يقولون "يا أبتا" بألف بعد التاء لأن ياء المتكلم إذا نودي يجوز فتحها وإشباع فتحتها فقرأه على اعتبار حذف الألف تخفيفا وبقاء الفتحة.

[43] {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً}
إعادة ندائه بوصف الأبوة تأكيد لإحضار الذهن ولإمحاض النصيحة المستفاد من النداء الأول. قال في الكشاف : ثم ئني بدعوته إلى الحق مترفقا به متطلقا، فلم يسم أباه بالجهل المفرط ولا نفسه بالعلم الفائق ولكنه قال: إن معي طائفة من العلم ليست معك، وذلك علم الدلالة على الطريق السوي، فلا تستنكف، وهب أني وإياك في مسير وعندي معرفة بالهداية دونك فاتبعني أنجك من أن تضل وتتيه اه. ذلك أن أباه كان يرى نفسه على علم عظيم لأنه كان كبير ديانة قومه. وأراد إبراهيم علم الوحي والنبوءة.
وتفريع أمره بأن يتبعه على الإخبار بما عنده من العلم دليل على أن أحقية العالم بأن يتبع مركوزة في غريزة العقول لم يزل البشر يتقصون مظان المعرفة والعلم لجلب ما ينفع واتقاء ما يضر، قال تعالى {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: من الآية43]
وفي قوله {أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً} استعارة مكنية، شبه إبراهيم بهادي الطريق البصير بالثنايا، وإثبات الصراط السوي قرينة التشبيه، وهو أيضا استعارة مصرحة بأن شبه الاعتقاد الموصل إلى الحق والنجاة بالطريق البصير بالثناية، وإثبات الصراط السوي قرينة التشبيه، وهو أيضا استعارة مصرحة بأن شبه الاعتقاد الموصل إلى الحق والنجاة بالطريق المستقيم المبلغ إلى المقصود.
و {يَا أَبَتِ} تقدم الكلام على نظيره قريبا.
[44] {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً}
إعادة النداء لزيادة تأكيد ما أفاده النداء الأول والثاني.
والمراد بعبادة الشيطان عبادة الأصنام، عبر عنها بعبادة الشيطان إفصاحا عن فسادها وضلالها، فإن نسبة الضلال والفساد إلى الشيطان مقررة في نفوس البشر، ولكن الذين يتبعونه لا يفطنون إلى حالهم ويتبعون وساوسه تحت ستار التمويه مثل قولهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23]، ففي الكلام إيجاز لأن معناه:لا تعبد الأصنام لأن اتخاذها من تسويل الشيطان للذين اتخذوها ووضعوها للناس، وعبادتها من وساوس الشيطان للذين سنوا سنن عبادتها، ومن وساوسه للناس الذين أطاعوهم في عبادتها، فمن عبد الأصنام فقد عبد الشيطان وكفى بذلك ضلالا معلوما.

وهذا كقوله تعالى: {وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَاناً مَرِيداً} [النساء: من الآية117]. وتقدم في سورة النساء. وفي هذا تبغيض لعبادة الأصنام، لأن في قرارة نفوس الناس بغض الشيطان والحذر من كيده.
وجملة {إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً} [مريم: من الآية44] تعليل للنهي عن عبادته وعبادة آثار وسوسته بأنه شديد العصيان للرب الواسع الرحمة. وذكر وصف {عصيا} الذي هو من صيغ المبالغة في العصيان مع زيادة فعل {كان} للدلالة على أنه لا يفارق عصيان ربه وأنه متمكن منه، فلا جرم أنه لا يأمر إلا بما ينافي الرحمة، أي بما يفضي إلى النقمة، ولذلك اختير وصف الرحمان من بين صفات الله تعالى تنبيها على أن عبادة الأصنام توجب غضب الله فتفضي إلى الحرمان من رحمته، فمن كان هذا حاله فهو جدير بأن لا يتبع.
وإظهار اسم الشيطان في مقام الإضمار، إذ لم يقل: إنه كان للرحمن عصيا، لإيضاح إسناد الخبر إلى المسند إليه، ولزيادة التنفير من الشيطان، لأن في ذكر صريح اسمه تنبيها إلى النفرة منه، ولتكون الجملة موعظة قائمة بنفسها. وتقدم الكلام على {يَا أَبَتِ} قريبا.
[45] {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً}
لا جرم أنه لما قرر أن عبادته الأصنام اتباع لأمر الشيطان عصي الرحمان انتقل إلى توقع حرمانه من رحمة الله بأن يحل به عذاب من الله، فحذره من عاقبة أن يصير من أولياء الشيطان الذين لا يختلف البشر في مذمتهم وسوء عاقبتهم، ولكنهم يندمجون فيهم عن ضلال بمال حالهم.
وللإشارة إلى أن أصل حلول العذاب بمن يحل به هو الحرمان من الرحمة في تلك الحالة، عبر عن الجلالة بوصف الرحمان للإشارة إلى أن حلول العذاب ممن شأنه أن يرحم إنما يكون لفظاعة جرمه إلى حد أن يحرمه من رحمته من شأنه سعة الرحمة.
والولي: الصاحب والتابع ومن حالهما حال واحد وأمرهما جميع، فكني بالولاية عن المقارنة في المصير.
والتعبير بالخوف الدال على الظن دون القطع تأدب مع الله تعالى بأن لا يثبت أمرا فيما هو من تصرف الله، وإبقاء للرجاء في نفس أبيه لينظر في التخلص من ذلك العذاب بالإقلاع عن عبادة الأوثان.

ومعنى {فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً} [مريم: من الآية45] فتكون في اتباع الشيطان في العذاب. وتقدم الكلام على {يَا أَبَتِ} قريبا.
[46] {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً}
فصلت جملة {قَالَ....} لوقوعها في المحاورة كما تقدم في قوله تعالى: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} [البقرة: من الآية30] في سورة البقرة.
والاستفهام للإنكار إنكارا لتجافي إبراهيم عن عبادة أصنامهم. وإضافة الآلهة إلى ضمير نفسه إضافة ولاية وانتساب إلى المضاف لقصد تشريف المضاف إليه.
وقد جاء في جوابه دعوة ابنه بمنتهى الجفاء والعنجهية بعكس ما في كلام إبراهيم من اللين والرقة، فدل ذلك على أنه كان قاسي القلب بعيد الفهم، شديد التصلب في الكفر.
وجملة {أَرَاغِبٌ أَنْتَ} جملة اسمية مركبة من مبتدأ وفاعل سد مسد الخبر على اصطلاح النحاة طردا لقواعد التركيب اللفظي، ولكنهم لما اعتبروا الاسم الواقع ثانيا بعد الوصف فاعلا سادا مسد الخبر فقد أثبتوا لذلك الاسم حكم المسند إليه وصار للوصف المبتدإ حكم المسند. فمن اجل ذلك كان المصير إلى مثل هذا النظم في نظر البلغاء هو مقتضى كون المقام يتطلب جملة اسمية للدلالة على ثبات المسند إليه، ويتطلب الاهتمام بالوصف دون الاسم لغرض يوجب الاهتمام به، فيلتجئ البليغ إلى الإتيان بالوصف أول والإتيان بالاسم ثانيا.
ولما بلغ الوصف له عمل فعله تعين على النحاة اعتبار الوصف مبتدأ لأن للمبتدأ عراقة في الأسماء، واعتباره مع ذلك متطلبا فاعلا، وجعلوا فاعله سادا مسد الخبر، فصار للتركيب شبهان. والتحقيق أنه في قوة خبر مقدم ومبتدأ مؤخر. ولهذا نظر الزمخشري في الكشاف إلى هذا المقصد فقال قدم الخبر على المبتدأ في قوله: {أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي} لأنه كان أهم عنده وهو به أعني اه. ولله دره، وإن ضاع بين أكثر الناظرين دره. فدل النظم في هذه الآية على أن أبا إبراهيم ينكر على إبراهيم تمكن الرغبة عن آلهتهم من نفسه، ويهتم بأمر الرغبة عن الآلهة لأنها موضع عجب.

والنداء في قوله: {يَا إِبْرَاهِيمُ} تكملة لجملة الإنكار والتعجب، لأن المتعجب من فعله مع حضوره يقصد بندائه تنبيهه على سوء فعله، كأنه عن إدراك فعله، فالمتكلم ينزله منزلة الغائب فيناديه لإرجاع رشده إليه، فينبغي الوقف على قوله {يَا إِبْرَاهِيمُ}
وجملة {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ} مستأنفة.
واللام موطئة للقسم تأكيدا لكونه راجمة إن لم ينته عن كفره بآلهتهم.
والرجم: الرمي بالحجارة، وهو كناية مشهورة في معنى القتل بذلك الرمي. وإسناد أبي إبراهيم ذلك إلى نفسه يحتمل الحقيقة، إما لأنه كان من عادتهم أن الوالد يتحكم في عقوبة ابنه، وإما لأنه كان حاكما في قومه. ويحتمل المجاز العقلي إذ لعله كان كبيرا في دينهم فيرجم قومه إبراهيم استناد لحكمه بمروقة عن دينهم.
وجملة {وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً} عطف على جملة {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ} ، وذلك أنه هدده بعقوبة آجلة إن لم يقلع عن كفره بآلهتهم، وبعقوبة عاجلة وهي طرده من معاشرته وقطع مكالمته.
والهجر: قطع المكالمة وقطع المعاشرة، وإنما أمر أبو إبراهيم ابنه بهجرانه ولم يخبره بأنه هو يهجره ليدل على أن هذا الهجران في معنى الطرد واخلع إشعارا بتحقيره.
و {مَلِيّاً} طويلا، وهو فعيل، ولا يعرف له فعل مجرد ولا مصدر. فملي مشتق من مصدر ممات، وهو فعيل بمعنى فاعل لأنه يقال: أملي له، إذا أطال له المدة، فيأتون بهمزة التعدية، ف {مَلِيّاً} صفة لمصر محذوف منصوب على المفعولية المطلقة، أي هجرا مليا، ومن الملاوة من الدهر للمدة المديدة من الزمان، وهذه المادة تدل على كثرة الشيء.
ويجوز أن ينتصب على الصفة لظروف محذوف، أي زمانا طويلا، وبناء على أن الملأ مقصورة غالب في الزمان فذكره يغني عن ذكر موصوفه كقوله تعالى: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} [القمر:13]، أي سفينة ذات ألواح.
[47-48] {قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً}.

سلام عليك سلام توديع ومتاركة. وبادره به قبل الكلام الذي أعقبه به إشارة إلى أنه لا يسوءه ذلك الهجر في ذات الله تعالى ومرضاته.
ومن حلم إبراهيم أن كانت مشاركته أباه مثوبة بالإحسان في معاملته في آخر لحظة.
والسلام: السلامة: و"على" للاستعلاء المجازي وهو التمكن. وهذه كلمة تحية وإكرام، وتقدمت آنفا عند قوله تعالى: {وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ} [مريم: من الآية15]
وأظهر حرصه على هداه فقال {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} أي أطلب منه لك المغفرة من هذا الكفر، بأن يهديه الله إلى التوحيد فيغفر له الشرك الماضي، إذا لم يكن إبراهيم تلقى نهيا من الله عن الاستغفار للمشرك. وهذا ظاهر ما في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} . واستغفاره له هو المحكي في قوله تعالى: {وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء:86]
وجملة {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} مستأنفة، وعلامة الاستقبال والفعل المضارع مؤذنان بأنه يكرر الاستغفار في المستقبل.
وجملة {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} تعليل لما يتضمنه الوعد بالاستغفار من رجاء المغفرة استجابة لدعوة إبراهيم بأن يوفق الله أبا إبراهيم للتوحيد ونبذ الإشراك.
والحفي: الشديد البر والإلطاف. وتقدم في سورة الأعراف عند قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ} [لأعراف: من الآية187]
وجملة {وَأَعْتَزِلُكُمْ} عطف على جملة {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} ، أي يقع الاستغفار في المستقبل ويقع اعتزالي إياكم الآن، لأن المضارع غالب في الحال. أظهر إبراهيم العزم على اعتزالهم وأنه لا يتوانى في ذلك ولا يأسف له إذا كان في ذات الله تعالى، وهو المحكي بقوله تعالى {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات:99]، وقد خرج من بلد الكلدان عازما على الالتحاق بالشام حسب أمر الله تعالى.
رأى إبراهيم أن هجرانه أباه غير مغن، لأن بقية القوم على رأي أبيه فرأى أن يهجرهم جميعا، ولذلك قال له: {وَأَعْتَزِلُكُمْ}
وضمير جماعة المخاطبين عائد إلى إبراهيم وقومه تنزيلا لهم منزلة الحضور في

ذلك المجلس، لأن أباه واحد منهم وأمرهم سواء، أو كان هذا المقال جرى بحضر جماعة منهم.
وعطف على ضمير القوم أصنامهم للإشارة إلى عداوته لتلك الأصنام إعلانا بتغيير المنكر.
عبر عن الأصنام بطريق الموصولية بقوله: {وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} للإيماء إلى وجه بناء الخبر وعلة اعتزاله إياهم وأصنامهم:بأن تلك الأصنام تعبد من دون الله وأن القوم يعبدونها، فلذلك وجه اعتزاله إياهم وأصنامهم.
والدعاء: العبادة، لأنها تستلزم دعاء المعبود.
وزاد على الإعلان باعتزال أصنامهم الإعلان بأنه يدعوا الله احتراسا من أن يحسبوا أنه نوى مجرد اعتزال عبادة أصنامهم فربما اقتنعوا بإمساكه عنهم، ولذا بين لهم أته بعكس ذلك يدعوا الله الذي لا يعبدونه.
وعبر عن الله بوصف الربوبية المضاف إلى ضمير نفسه للإشارة إلى انفراده من بينهم بعبادة الله تعالى فهو ربه وحده من بينهم، فالإضافة هنا تفيد معنى القصر الإضافي، مع ما تتضمنه الإضافة من الاعتزاز بربوبية الله إياه والتشريف لنفسه بذلك.
وجملة { وعَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً} في موضع الحال من ضمير {وادعوا} ، أي راجا أن لا أكون بدعاء ربي شقيا. وتقدم معناه عند قوله تعالى: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً} [مريم: من الآية4] في هذه السورة. وفي إعلانه هذا الرجاء بين ظهرانيهم تعريض بأنهم أشقياء بدعاء آلهتهم.
[49-50] {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلّاً جَعَلْنَا نَبِيّاً *وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً}
طوي ذكر اعتزاله إياهم بعد أن ذكر عزمه عليه إيجازا في الكلام للعلم بأن مثله لا يعزم أمرا إلا نفذ عزمه، والاكتفاء بذكر ما ترتب عليه من جعل عزمه حدثا واقعا قد حصل جزاءه عليه من ربه، فلأنه لما اعتزل أباه وقومه واستوحش بذلك الفراق وهبه لله ذرية يأنس لهم إذ وهبه إسحاق ابنه، ويعقوب ابن ابنه، وجعلهما نبيين. وحسبك بهذا مكرمة له عند ربه.

وليس مجازاة الله إبراهيم مقصورة على أن وهبه إسحاق ويعقوب، إذ ليس في الكلام ما يقتضي الانحصار، فإنه قد وهبه إسماعيل أيضا، وظهرت موهبته إياه قبل ظهور موهبة إسحق، وكل ذلك بعد أن اعتزل قومه.
وإنما اقتصر على ذكر إسحاق ويعقوب دون ذكر إسماعيل فلم يقل: وهبنا له إسماعيل وإسحاق ويعقوب، لأن إبراهيم لما اعتزل قومه خرج بزوجه سارة قريبته، فهي قد اعتزلت قومها أيضا إرضاء لربها ولزوجها، فذكر الله الموهبة الشاملة لإبراهيم ولزوجه، وهي أن وهب لهما إسحاق وبعده يعقوب، ولأن هذه الموهبة لما كانت كفاء لإبراهيم على مفارقته أباه وقومه كانت موهبة من يعاشر إبراهيم ويؤنسه وهما إسحاق ويعقوب. أما إسماعيل فقد أراد الله أن يكون بعيدا عن إبراهيم في مكة ليكون جار بيت الله. وإنه لجوار أعظم من جوار إسحاق ويعقوب أباهما.
وقد خص إسماعيل بالذكر استقلالا عقب ذلك، ومثله قوله تعالى: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [صّ: من الآية45] ثم قال: {وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ} [صّ: من الآية48] في سورة ص، وقد قال في آية الصافات: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} [الصافات:99-101] إلى أن قال: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات:112] فذكر هنالك إسماعيل عقب قوله: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات:99] إذ هو المراد بالغلام الحليم.
والمراد بالهبة هنا: تقدير ما في الأزل عند الله لأن ازدياد إسحاق ويعقوب كان بعد خروج إبراهيم بمدة بعد أن سكن أرض كنعان وبعد أن اجتاز بمصر ورجع منها. وكذلك ازدياد إسماعيل كان بعد خروجه بمدة وبعد أن اجتاز بمصر كما وردفي الحديث وفي التوراة، أو أريد حكاية هبة إسحاق ويعقوب فيما مضى بالنسبة إلى زمن نزول القران تنبيها بأن ذلك جزاؤه على إخلاصه.
والنكتة في ذكر يعقوب أن إبراهيم رآه حفيدا وسر به، فقد ولد يعقوب قبل موت إبراهيم بخمس عشر سنة، وأن من يعقوب نشأت أمة عظيمة.
وحرف "لما" حرف وجود لوجود، أي يقتضي وجود جوابه لأجل وجود شرطها، وفد تكون بينهما فترة فتدل على مجرد الجزائية، أي التعليل دون توقيت، وذلك كما هنا.

وضمير {لَهُمْ} عائد إلى إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام.
و{مِنْ} [مريم: من الآية49] في قوله: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ} [الصافات: من الآية113] إما حرف تبعيض صفة لمحذوف دل عليه {وَهَبْنَا} أي موهوبا من رحمتنا. وإما اسم بمعنى بعض بتأويل، كما تقدم عند قوله تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: من الآية8] في سورة البقرة. وإن كان النحاة لم يثبتوا لكلمة {من} استعمالها اسما كما أثبتوا ذلك لكلمات الكاف و عن و على لكن بعض موارد الاستعمال تقتضيه، كما قاله التفتزاني في حاشية الكشاف، وأقره عبد الحكيم. وعلى هذا تكون {من} في موضع نصب على المفعول به لفعل {وهبنا} ، أي وهبنا لهم بعض رحمتنا، وهي النبوءة لأنها رحمة لهم ولمن أرسلوا إليهم.
واللسان: مجاز في الذكر والثناء.
ووصف {لِسَانَ صِدْقٍ} وصفا بالمصدر.
الصدق: بلوغ كمال نوعه، كما تقدم آنفا، فلسان الصدق ثناء الخير والتبجيل. ووصف بالعلو مجازا لشرف ذلك الثناء.
وقد رتب جزاء الله إبراهيم على نبذه أهل الشرك ترتيبا بديعا إذ جوزي بنعمة الدنيا وهي العقب الشريف، ونعمة الآخرة وهي الرحمة، وبأثر تينك النعمتين وهو لسان الصدق، إذ لا يذكر به إلا من حصل النعمتين.
وتقدم اختلاف القراء في نبيا عند ذكر إبراهيم عليه السلام.
[51-53] {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً * وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً * وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً}
أفضت مناسبة ذكر إبراهيم ويعقوب إلى أن يذكر موسى في هذا الموضع لأنه أشرف نبي من ذرية إسحاق ويعقوب.
والقول في جملة: {وَاذْكُر} وجملة إِنَّهُ {كَانَ} كالقول في نظيريهما في ذكر إبراهيم عدا أن الجملة هنا غير معترضة بل مجرد استئناف.

وقرأ الجمهور {مُخْلَصاً} بكسر اللام من أخلص القاصر إذا كان الإخلاص صفته. والإخلاص في أمر ما: الإتيان به غير مشوب بتقصير ولا تفريط ولا هوادة، مشتق من الخلوص، وهو التمحض وعدم الخلط. والمراد هنا: الإخلاص فيما هو شأنه، وهو الرسالة بقرينة المقام.
وقرأ حمزة، وعاصم، والكسائي، وخلف بفتح اللام من أخلصه، إذا اصطفاه.
وخص موسى بعنوان [المخلص] على الوجهين لأن ذلك مزيته، فإنه أخلص في الدعوة إلى الله فاستخف بأعظم جبار وهو فرعون، وجادله مجادلة الأكفاء، كما حكى الله عنه في قوله تعالى في سورة الشعراء {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ *وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} إلى قوله: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ} . وكذلك ما حكاه الله عنه بقوله: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص:17]، فكان الإخلاص في أداء أمانة الله تعالى ميزته.ولأن الله اصطفاه لكلامه مباشرة قبل أن يرسل إليه الملك بالوحي، فكان مخلصا بذلك، أي مصطفى، لأن ذلك مزيته قال تعالى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه:41].
والجمع بين وصف موسى لأنه رسول ونبي. وعطف {نبيا} على {رسولا} مع أن الرسول بالمعنى الشرعي أخص من النبي، فلأن الرسول هو المرسل بوحي من الله ليبلغ إلى الناس فلا يكون الرسول إلا نبيئا، وأما النبي فهو المنبأ بوحي من الله وإن لم يؤمر بتبليغه، فإذا لم يؤمر بالتبليغ فهو نبي وليس رسولا، فالجمع بينهما هنا لتأكيد الوصف، إشارة إلى أن رسالته بلغت مبلغا قويا، فقوله: {نبيا} تأكيد لوصف {رسولا} .
وتقدم اختلاف القراء في لفظ {نبيا} عند ذكر إبراهيم.
وجملة {وَنَادَيْنَاهُ} عطف على جملة {إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً} فهي مثلها مستأنفة.
والنداء: الكلام الدال على طلب الإقبال، وأصله: جهر الصوت لإسماع البعيد، فأطلق على طلب إقبال أحد مجازا مرسلا، ومنه {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: من الآية9]، وهو مشتق من الندى بفتح النون وبالقصر وهو بعد الصوت. ولم يسمع فعله إلا بصيغة المفاعلة، وليست بحصول فعل من جانبين بل المفاعلة للمبالغة، وتقدم عند قوله تعالى: {كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} [البقرة: من الآية171] في سورة البقرة، وعند قوله:

{رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ} آل عمران [193].
وهذا النداء هو الكلام الموجه إليه من جانب الله تعالى، قال تعالى: {إني اصطفيتك على الناس برسالتي وبكلامي} في سورة الأعراف. وتقدم تحقيق صفته هناك وعند قوله تعالى: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ} في سورة براءة.
والطور: الجبل الواقع بين بلاد الشام ومصر، ويقال: له طور سيناء.
وجانبه: ناحيته السفلى، ووصفه ب {الأيمن} لأنه الذي على يمين مستقبل مشرق الشمس، لأن جهة الشمس هي الجهة التي يضبط بها البشر النواحي.
والتقريب: أصله الجعل بمكان القرب، وهو الدنو وهو ضد البعد. وأريد هنا القرب المجازي وهو الوحي. فقوله: {نَجِيّاً} حال من ضمير {مُوسَى} ، وهي حال مؤكدة لمعنى التقريب.
ونجي: فعيل بمعنى مفعول من المناجاة. وهي المحادثة السرية؛ شبه الكلام الذي لم يكلم بمثله أحدا ولا أطلع عليه أحدا، بالمناجاة. وفعيل بمعنى مفعول، يجيء من الفعل المزيد المجرد بحذف حرف الزيادة، مثل جليس ونديم ورضيع.
ومعنى هبة أخيه له: أن الله عززه به وأعانه به، إذ جعله نبيا وأمره أن يرافقه في الدعوة، لأن في لسان موسى حبسة، وكان هارون فصيح اللسان. فكان يتكلم عن موسى بما يريد إبلاغه، وكان يستخلفه في مهمات الأمة. وإنما جعلت تلك الهبة من رحمة الله لأن الله رحم موسى إذ يسر له أخا فصيح اللسان، وأكلمه بالإنباء حتى يعلم مراد موسى مما يبلغه عن الله تعالى. ولم يوصف هارون بأنه رسول إذ لم يرسله الله تعالى وإنما جعله مبلغا عن موسى. وأما قوله تعالى: {فَقُولاَ إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ} [طه:47] فهو من التغليب.
[54-55] {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً} .
خص إسماعيل بالذكر هنا تنبيها على جدارته بالاستقلال بالذكر عقب ذكر إبراهيم وابنه اسحاق، لأن إسماعيل صار جد أمه مستقلة قبل أن يصير يعقوب جد أمه و لأن إسماعيل هو الابن البكر لإبراهيم وشريكه في بناء الكعبة. وتقدم ذكر إسماعيل عند قوله

تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} [البقرة: من الآية127] في سورة البقرة.
وخصه بوصف صدق الوعد لأنه اشتهر به وتركه خلقا في ذريته.
وأعظم وعد صدقه وعده إياه إبراهيم بأن يجده صابرا على الذبح فقال: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: من الآية102].
وجعله الله نبيا ورسولا إلى قومه. وهم يومئذ لا يعدون أهله أمة وبنيه وأصهاره من جرهم. فلذلك قال الله تعالى: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ} ثم إن أمه العرب نشأت من ذريته فهم أهله أيضا، وقد كان من شريعته الصلاة والزكاة وشؤون ملة أبيه إبراهيم.
ورضي الله عنه:إنعامه عليه نعما كثيرة، إذ باركه وأنمى نسله وجعل أشرف الأنبياء من ذريته، وجعل الشريعة العظمى على لسان رسول من ذريته.
وتقدم اختلاف القراء في قراءة {نبيا} بالهمز أو بالياء المشددة.
وتقدم توجيه الجمع بين وصف رسول ونبي عند ذكر موسى عليه السلام آنفا.
[56-57] {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً * وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} .
إدريس: اسم جعل علما على جد أبي نوح، وهو المسمى في التوراة أخنوخ. فنوح هو ابن لامك بن متوشالح بن أخنوخ، فلعل اسمه عند نسابي العرب إدريس، أو أن القران سماه بذلك اسما مشتقا من الدرس لما سيأتي قريبا. واسمه هرمس عند اليونان, ويزعم أنه كذلك يسمى عند المصرين القدماء، والصحيح أن اسمه عند المصريين توت أو تحوتي أو تهوتي لهجات في النطق باسمه.
وذكر ابن العبري في تاريخه أن إدريس كان يلقب عند قدماء اليونان "طريسمجيسطيس"، ومعناه بلسانهم ثلاثي التعليم، لأنه كان يصف الله بثلاث صفات ذاتية وهي الوجود والحكمة والحياة اهـ.
ولا يخفى قرب الحروف الأولى في هذا الاسم من حروف إدريس, لعل العرب اختصروا الاسم لطوله فاقتصروا على أوله مع تغيير.

وكان إدريس نبيا، ففي الإصحاح الخامس من سفر التكوين وسار أخنوخ مع الله. قيل: هو أول من وضع للبشر عمارة المدن، وقواعد العلم، وقواعد التربية، وأول من وضع الخط؛ وعلم الحساب بالنجوم وقواعد سير الكواكب، وتركيب البسائط بالنار فلذلك كان علم الكيمياء ينسب إليه، وأول من علم الناس الخياطة. فكان هو مبدأ من وضع العلوم، والحضارة، والنظم العقلية.
فوجه تسميته في القرآن بإدريس أنه اشتق له اسم من الفرس على وزن مناسب للأعلام العجمية، فلذلك منع من الصرف مع كون حروفه من مادة عربية، كما منع إبليس من الصرف، وكما منع طالوت من الصرف.
وتقدم اختلاف القراء في لفظ {نبيا} عند ذكر إبراهيم.
وقوله: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} قال جماعة من المفسرين هو رفع مجازي. والمراد: رفع المنزلة، لما أوتيه من العلم الذي فاق به على من سلفه. ونقل هذا عن الحسن، وقال به أبو مسلم الأصفهاني. وقال جماعة: هو رفع حقيقي إلى السماء. وفي الإصحاح الخامس من سفر التكوين وسار أخنوخ مع الله ولم يوجد لأن الله أخذه. وعلى هذا فرفعه مثل رفع عيسى عليه السلام. والأظهر أن ذلك بع نزوع روحه وروحنة جثته.ومما يذكر عنه أنه بقي ثلاث عشرة سنة لا ينام ولا يأكل حتى تروحن، فرفع، وأما حديث الإسراء فلا حجة فيه لهذا القول لأنه ذكر فيه عدة أنبياء غيره وجدوا في السماوات. ووقع في حديث مالك بن صعصعة عن الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماوات أنه وجد إدريس عليه السلام في السماء وأنه لما سلم عليه قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح. فأخذ منه أن إدريس عليه السلام لم تكن له ولادة على النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لم يقل له والابن الصالح، ولا دليل في ذلك لأنه قد يكون قال ذلك اعتبارا بأخوة التوحيد فرجحها على صلة النسب فكان ذلك من حكمته.
على أنه يجوز أن يكون ذلك سهوا من الراوي فإن تلك الكلمة لم تثبت في حديث جابر بن عبد الله في صحيح البخاري . وقد جزم البخاري في أحاديث الأنبياء بأن إدريس جد نوح أوجد أبيه. وذلك يدل على أنه لم ير في قوله مرحبا بالأخ الصالح ما ينافي أن يكون أبا للنبي صلى الله عليه وسلم.
[58] {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ

وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرائيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً} .
الجملة استئناف ابتدائي، واسم الإشارة عائد إلى المذكورين من قوله: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} [مريم:2] إلى هنا. والإتيان به دون الضمير للتنبيه على أن المشار إليهم جديرون بما يذكر بعد اسم الإشارة لأجل ما ذكر مع المشار إليهم من الأوصاف، أي كانوا أحرياء بنعمة الله عليهم وكونهم في عداد المهديين المجتبين وخليقين بمحبتهم لله تعالى وتعظيمهم إياه.
والمذكور بعد اسم الإشارة هو مضمون قوله: {أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} وقوله {وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا} ، فإن ذلك أحسن جزاء على ما قدموه من الإعمال، ومن أعطوه من مزايا النبوءة والصديقية ونحوهما. وتلك وإن كانت نعما وهداية واجتباء فقد زادت هذه الآية بإسناد تلك العطايا إلى الله تعالى تشريفا لها، فكان ذلك التشريف هو الجزاء عليها إذ لا أزيد من المجازي عليه إلا تشريفه.
وقرأ الجمهور {مِنَ النَّبِيِّينَ} بياءين بعد الموحدة. وقرأه نافع وحده بهمزة بعد الموحدة.
وجملة {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ} مستأنفة دالة على شكرهم نعم الله عليهم وتقريبه إياهم بالخضوع له بالسجود عند تلاوة آياته وبالبكاء.
والمراد به البكاء الناشئ عن انفعال النفس انفعالا مختلطا من التعظيم والخوف.
و {سُجَّداً} جمع ساجد، {وَبُكِيّاً} وبكياجمع باك. والأول بوزن فعل مثل عذل، والثاني وزنه فعول جمع فاعل مثل قوم قعود، وهو يأتي لأن فعله بكى يبكي، فأصله: بكوي، فلما اجتمع الواو والياء وسبق إحداهما بالسكون قلبت الواو ياء وأدغمت في الياء وحركت عين الكلمة بحركة مناسبة للياء. وهذا الوزن سماعي في جمع فاعل ومثله.
وهذه الآية من مواضع سجود القرآن المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم اقتداء بأولئك الأنبياء في السجود عند تلاوة القرآن، فهم سجدوا كثيرا عند تلاوة آيات الله التي أنزلت عليهم، ونحن نسجد اقتداء بهم عند تلاوة الآيات التي أنزلت إلينا. وأثنت على سجودهم قصدا للتشبه بهم بقدر الطاقة حين نحن متلبسون بذكر صنيعهم.

وقد سجد النبي صلى الله عليه وسلم عند هذه الآية وسن ذلك لأمته.
[59-63] {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً * جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً * لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلَّا سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً * تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيّاً}.
فرع على الثناء عليهم اعتبار وتنديد بطائفة من ذرياتهم لم يقتدوا بصالح أسلافهم وهم المعني بالخلف.
والخلف بسكون اللام عقب السوء، وبفتح اللام عقب الخير. وتقدم عند قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ} [الأعراف: من الآية169] في سورة الأعراف.
وهو هنا يشمل جميع الأمم التي ضلت لأنها راجعة في النسب إلى إدريس جد نوح إذ هم من ذرية نوح ومن يرجع أيضا إلى إبراهيم؛ فمنهم من يدلي إليه من نسل إسماعيل وهم العرب. ومنهم من يدلي إليه من نسل يعقوب وهم بنو إسرائيل.
ولفظ {مِنْ بَعْدِهِمْ} يشمل طبقات وقرونا كثيرة، ليس قيدا لأن الخلف لا يكون إلا من بعد أصله وإنما ذكر لاستحضار ذهاب الصالحين.
والإضاعة: مجاز في التفريط بتشبيهه بإهمال العرض النفيس، فرطوا في عبادة الله واتبعوا شهواتهم فلم يخالفوا ما تميل إليه أنفسهم مما هو فساد. وتقدم قوله تعالى: {إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} في الكهف.
والصلاة: عبادة الله وحده.
وهذان وصفان جامعان لأصناف الكفر والفسوق، فالشرك إضاعة للصلاة لأنه انصراف عن الخضوع لله تعالى، فالمشركون أضاعوا الصلاة تماما، قال تعالى: {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:43]، والشرك: اتباع للشهوات، لأن المشركين اتبعوا عبادة الأصنام لمجرد الشهوة من غير دليل، وهؤلاء هم المقصود هنا، وغير المشركين كاليهود والنصارى فرطوا في صلوات واتبعوا شهوات ابتدعوها، ويشمل ذلك كله اسم الغي.
والغي: الضلال، ويطلق على الشر، كما أطلق ضده وهو الرشد على الخير في قوله تعالى {أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} [الجن: من الآية10] } وقوله {قُلْ إِنِّي لا

أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً} [الجن:10]. فيجوز أن يكون المعنى فسوف يلقون جزاء غيهم، كقوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً} [الفرقان: من الآية68] أي جزاء الآثام. وتقدم الغي في قوله تعالى: {وإخوانهم يمدونهم في الغي} ، وقوله: {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} [الأعراف:202و146] كلاهما في سورة الأعراف. وقرينة ذلك مقابلته في ضدهم بقوله: {فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} .
وحرف [سوف] دال على أن لقاءهم الغي متكرر في أزمنة المستقبل مبالغة في وعيدهم وتحذيرا لهم من الإصرار على ذلك.
وقوله: {فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} جيء في جانبهم باسم الإشارة إشادة بهم وتنبيها لهم للترغيب في توبتهم من الكفر. وجيء بالمضارع الدال على الحال للإشارة إلى أنهم لا يمطلون في الجزاء. والجنة: علم لدار الثواب والنعيم. وفيها جنات كثيرة كما ورد في الحديث: أو جنة واحدة هي أنها لجنان كثيرة.
والظلم: هنا بمعنى النقص والإجحاف والمطل، كقوله: {كِلْتَا الْجَنَّتَينِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلمَ ْتَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} في سورة الكهف.
وشيء: اسم بمعنى ذات أو موجود وليس المراد مصدر الظلم.
وذكر {شيئا} في سياق النفي يفيد نفي كل فرد من أفراد النقص والإجحاف والإبطاء، فيعلم انتفاء النقص القوي بالفحوى دفعا لما عسى أن يخالج نفوسهم من الانكسار بعد الإيمان بظن أن سبق الكفر يحط من حسن مصيرهم.
و {جَنَّاتِ} بدل من {الجنة} . جيء بصيغة جمع جنات مع أن المبدل منه مفرد لأنه يشتمل على جنات كثيرة كما علمت، وهو بدل مطابق وليس بدل اشتمال.
و {عَدْنٍ} : الخلد والإقامة، أي جنات خلد ووصفها ب {الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ} لزيادة تشريفها وتحسينها، وفي ذلك إدماج لتبشير المؤمنين السابقين في أثناء وعد المدعوين إلى الإيمان.
والغيب: مصدر غاب، فكل ما غاب عن المشاهدة فهو غيب.
وتقدم في قوله تعالى {الذين يؤمنون بالغيب} في أول البقرة.
والباء في {بِالْغَيْبِ} بالغيب للظرفية، أي وعدها إياهم في الأزمنة الغائبة عنهم، أي في

الأزل إذ خلقها لهم، قال تعالى: {أُعِدَّتْ لِلمُتَّقِين} . وفيه تنبيه على أنها وإن كانت محجوبة عنهم في الدنيا فإنها مهيئة لهم.
وجملة {إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً} تعليل لجملة {الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ} أي يدخلون الجنة وعدا من الله واقعا. وهذا تحقيق للبشارة.
والوعد: هنا مصدر مستعمل في معنى المفعول. وهو من باب كسا، فالله وعد المؤمنين الصالحين جنات عدن، فالجنات لهم موعودة من ربهم.
والمأتي: الذي يأتيه غيره، وقد استعير الإتيان لحصول المطلوب المترقب، تشبيها لمن يحصل الشيء بعد أن سعى لتحصيله بمن مشى إلى مكان حتى أتاه، وتشبيها للشيء المحصل بالمكان المقصود. ففي قوله {مَأْتِيّاً} تمثيلية اقتصر من أجزائها على إحدى الهيئتين، وهي تستلزم الهيئة الأخرى لأن المأتي لا بد له من آت.
وجملة {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً} حال من {عِبَادَهُ}
واللغو: فضول الكلام وما لا طائل تحته. وإنفاؤه كناية عن انتفاء أقل المكدرات في الجنة، كما قال تعالى: {لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً} [الغاشية:11]، وكناية عن جعل مجازاة المؤمنين في الجنة بضد ما كانوا يلاقونه في الدنيا من أذى المشركين ولغوهم.
وقوله: {إِلَّا سَلاَماً} استثناء منقطع وهو مجاز من تأكيد الشيء بما يشبه ضده كقول النابغة:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
أي لكن تسمعون سلاما، قال تعالى: {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} [يونس: من الآية10] وقال {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماًإِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً} . [الواقعة:25،26]
والرزق: الطعام.
وجيء بالجملة الاسمية للدلالة على ثبات ذلك ودوامه، فيفيد التكرر المستمر وهو أخص من التكرر المفاد بالفعل المضارع وأكثر. وتقديم الظرف للاهتمام بأنهم، وإضافة رزق إلى ضميرهم لزيادة الاختصاص.
والبكرة: النصف الأول من النار، والعشي: النصف الأخير، والجمع بينهما كناية عن استغراق الزمن، أي لهم رزقهم غير محصور ولا مقدر بل كلما شاءوا فلذلك لم يذكر الليل.

وجملة {تِلْكَ الْجَنَّةُ} مستأنفة ابتدائية، واسم الإشارة لزيادة التمييز تنويها بشأنها وأجريت عليها الصفة بالموصول وصلته تنويها بالمتقين وأنهم أهل الجنة كما قال تعالى: {أُعْدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} .
و {نُورِثُ} نجعل وارثا، أي نعطي الإرث. وحقيقة الإرث: انتقال مال القريب إلى قريبه بعد موته لأنه أولى الناس بماله فهو انتقال مقيد بحالة. واستعير هنا للعطية المدخرة لمعطاها، تشبيها بمال لموروث الذي يصير إلى وارثه آخر الأمر.
وقرأ الجمهور {نورث} بسكون الواو بعد الضمة وتخفيف الراء. وقرأه رويس عن يعقوب: نورث بفتح الواو وتشديد الراء من ورثه المضاعف.
[64] {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً}
موقع هذه الآية هنا غريب. فقال جمهور المفسرين: إن سبب نزولها أن جبريل عليه السلام أبطأ أياما عن النزول إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأن النبي ود أن تكون زيارة جبريل له أكثر مما هو يزوره فقال لجبريل: ألا تزورنا أكثر مما تزورنا، فنزلت {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} إلى آخر الآية، أي إلى قوله: {نَسِيّاً} ، رواه البخاري والترمذي عن ابن عباس. وظاهره أنه رواية وهو أصح ما روي في سبب نزولها وأليقه بموقعها هنا. ولا يلتفت إلى غيره من الأقوال في سبب نزولها.
والمعنى: أن الله أمر جبريل عليه السلام أن يقول هذا الكلام جوابا عنه، فالنظم نظم القرآن بتقدير: وقل ما نتنزل إلا بأمر ربك، أي قل يا جبريل، فكان هذا خطابا لجبريل ليبلغه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قرآنا. فالواو عاطفة فعل القول المحذوف على الكلام الذي قبله عطف قصة على قصة مع اختلاف المخاطب، وأمر الله رسوله أن يقرأها هنا، ولأنها نزلت لتكون من القرآن.
ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك لجبريل عليه السلام عند انتهاء قصص الأنبياء في هذه السورة فأثبتت الآية في الموضع الذي بلغ إليه نزول القرآن.
والضمير لجبريل والملائكة، أعلم الله نبيه على لسان جبريل أن نزول الملائكة لا يقع إلا عن أمر الله تعالى وليس لهم اختيار في النزول ولقاء الرسل، قال تعالى: {لا

يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الانبياء:27].
و {نَتَنَزَّلُ} مرادف ننزل، وأصل التنزل: تكلف النزول. فأطلق ذلك على نزول الملائكة من السماء إلى الأرض لأنه نزول نادر وخروج عن عالمهم فكأنه متكلف، قال تعالى: {تَنَزَّلُ الملائكة والروح فيها} . [القدر:4].
واللام في {له} للملك، وهو ملك التصرف.
والمراد بـ {مَا بَيْنَ أَيْدِينَا} : ما هو أمامنا، و بـ {مَا خَلْفَنَا} : ما هو وراءنا، و بـ {مَا بَيْنَ ذَلِكَ} : ما كان عن أيمانهم وعن شمائلهم، لأن ما كان عن اليمين وعن الشمال هو بين الأمام والخلف. والمقصود استيعاب الجهات.
ولما كان ذلك مخبرا عنه بأنه ملك لله تعين أن يراد به الكائنات التي في تلك الجهات، فالكلام مجاز مرسل بعلاقة الحلول، مثل {وَاسْأَلِ القَرْيَةَ} ، فيعم جميع الكائنات، ويستتبع عموم أحوالها وتصرفاتها مثل التنزل بالوحي. ويستتبع عموم الأزمان المستقبل والماضي والحال، وقد فسر بها قوله: {مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ} .
وجملة {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} على هذا الوجه من الكلام الملقن به جبريل جوابا للنبي صلى الله عليه وسلم.
و {نَسِيّاً} صيغة مبالغة من نسي، أي كثير النسيان أو شديدة.
والنسيان: الغفلة عن توقيت الأشياء بأوقاتها. وقد فسروا هنا بتارك، أي ما كان ربك تاركك. وعليه فالمبالغة منصرفة إلى طول مدة النسيان. وفسر بمعنى شديد النسيان، فيتعين صرف المبالغة إلى جانب نسبة نفي النسيان عند الله، أي تحقيق نفي النسيان مثل المبالغة في قوله: {وما ربك بظلام للعبيد} فهو هنا كناية عن إحاطة علم الله، أي أن تنزلنا بأمر الله لما هو على وفق علمه وحكمته في ذلك، فنحن لا نتنزل إلا بأمره، وهو لا يأمرنا بالتنزل إلا عند اقتضاء علمه وحكمته أن يأمرنا به.
وجوز أبو مسلم وصاحب الكشاف : أن هذه الآية من تمام حكاية كلام أهل الجنة بتقدير فعل يقولون حالا من قوله {مَنْ كَاَن تَقِيَّا} ، أي وما نتنزل في هذه الجنة إلا بأمر ربك الخ. وهو تأويل حسن.

وعليه فكاف الخطاب في قوله: {بِأَمْرِ رَبِّكَ} خطاب كل قائل لمخاطبة. وهذا التجويز بناء على أن ما روى عن ابن عباس رأى له في تفسير الآية لا تتعين متابعته.
وعليه فجملة {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} من قول الله تعالى لرسوله تذييلا لما قبله، أو هي من كلام أهل الجنة، أي وما كان ربنا غافلا عن إعطاء ما وعدنا به.
[65] {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً}
جملة مستأنفة من كلام الله تعالى كما يقتضيه قوله: {فَاعْبُدْهُ} إلى آخره ذيل به الكلام الذي لقنه جبريل المتضمن: أن الملائكة لا يتصرفون إلا عن إذن ربهم وأن أحوالهم كلها في قبضته بما يفيد عموم تصرفه تعالى في سائر الكائنات، ثم فرع عليه أمر الرسول عليه السلام بعبادته، فقد انتقل الخطاب إليه.
وارتفع {رَبُّ السَّمَاوَاتِ} على الخبرية لمبتدأ محذوف ملتزم الحذف في المقام الذي يذكر فيه أحد بأخبار وأوصاف ثم يراد تخصيصه بخبر آخر. وهذا الحذف سماه السكاكي بالحذف الذي اتبع فيه الاستعمال كقول الصولي أو ابن الزبير بفتح الزاي وكسر الموحدة:
سأشكر عمرا إن تراخت منيتي ... أيادي لم تمنن وإن هي جلت
فتى غير محجوب الغنى عن صديقه ... ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلت
والسماوات: العوالم العلوية. والأرض: العالم السفلي، وما بينهما: الأجواء والآفاق. وتلك الثلاثة تعم سائر الكائنات.
والخطاب في {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ} و {هل تَعْلَمُ} للنبي صلى الله عليه وسلم.
وتفريع الأمر بعبادته على ذلك ظاهر المناسبة ويحصل منه التخلص إلى التنويه بالتوحيد وتفظيع الإشراك.
والاصطبار: شدة الصبر على الأمر الشاق، لأن صيغة الافتعال ترد لإفادة قوة الفعل. وكان الشأن أن يعدى الاصطبار بحرف على كما قال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: من الآية132] ولكنه عدي هنا باللام لتضمينه معنى الثبات، أي اثبت للعبادة، لأن العبادة مراتب كثيرة من مجاهدة النفس. وقد يغلب بعضها بعض النفوس فتستطيع الصبر على بعض العبادات دون بعض منا قال النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة العشاء: "هي

أثقل صلاة على المنافقين" . فلذلك لما أمر الله رسوله بالصبر على العبادة كلها وفيها أصناف جمة تحتاج إلى ثبات العزيمة، نزل القائم بالعبادة منزلة المغالب لنفسه، فعدي الفعل باللام كما يقال: اثبت لعداتك.
وجملة {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} واقعة موقع التعليل للأمر بعبادته والاصطبار عليها.
والسمي هنا الأحسن أن يكون بمعنى المسامي، أي المماثل في شؤونه كلها. فعن ابن عباس أنه فسره بالنظير، مأخوذا من المساماة فهو فعيل بمعنى فاعل، لكنه أخذ من المزيد كقول عمرو بن معد يكرب:
أمن ريحانة الداعي السمي
أي المسمع. وكما سمي تعالى {الحكيم}، أي المحكم للأمور، فالسمي هنا بمعنى المماثل في الصفات بحيث تكون المماثلة في الصفات كالمساماة.
والاستفهام إنكاري، أي لا مسامي لله تعالى، أي ليس من يساميه، أي يضاهيه، موجودا.
وقيل السمي: المماثل في الاسم، كقوله في ذكر يحيى {لم نجعل له من قبل سميا} . والمعنى: لا تعلم له مماثلا في اسمه الله فإن المشركين لم يسموا شيئا من أصنامهم الله باللام وإنما يقولون للواحد منها إله، فانتفاء تسمية غيره من الموجودات المعظمة باسمه كناية عن إتراف الناس بأن لا مماثل له في صفة الخالقية، لأن المشركين لم يجترثوا على أن يدعوا لآلهتهم الخالقية قال تعالى: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله} . وبذلك يتم كون الجملة تعليلا للأمر بإفراده بالعبادة على هذا الوجه أيضا.
وكني بانتفاء العلم بسميه عن انتفاء وجود سمي له، لأن العلم يستلزم وجود المعلوم، وإذا انتفى مماثلة انتفى من يستحق العبادة غيره.
[66-76] {وَيَقُولُ الْأِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً * أَوَلا يَذْكُرُ الْأِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً} .
لما تضمن قوله: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} إبطال عقيدة الإشراك به ناسب الانتقال إلى إبطال أثر من آثار الشرك، وهو نفي المشركين وقوع البعث بعد الموت حتى

يتم انتقاض أصلي الكفر. فالواو عاطفة قصة على قصة، والإتيان بفعل {يَقُولُ} مضارعا لاستحضار حالة هذا القول للتعجيب من قائله تعجيب إنكار.
والمراد بالإنسان جمع من الناس، بقرينة قوله بعده {فَوربِّكَ لَنَحْشرنّهم} ، فيراد من كانت هاته مقالته وهم معظم المخاطبين بالقرآن في أول نزوله. ويجوز أن يكون وصف حذف، أي الإنسان الكافر، كما حذف الوصف في قوله تعالى: {يَأخذُ كُلَّ سَفِينةٍ غَصْباً} ، أي كل سفينة صالحة، فتكون كقوله تعالى: {أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه بلى قادرين على أن نسوي بنانه} . وكذلك إطلاق الناس على خصوص المشركين منهم في آيات كثيرة كقوله تعالى: {يا أيا الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم} إلى قوله :{فأتوا بسورة من مثله} فإن ذلك خطاب للمشركين. وقيل تعريف {الْأِنْسَانُ} للعهد لإنسان معين. فقيل، قائل هذا أبي بن خلف، وقيل: الوليد بن المغيرة.
والاستفهام في {أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً} إنكار لتحقيق وقوع البعث، فلذلك أتى بالجملة المسلط عليها الإنكار مقترنة بلام الابتداء الدالة على توكيد الجملة الواقعة هي فيها، أي يقول لا يكون ما حققتموه من إحيائي في المستقبل.
ومتعلق {أُخْرَجُ} محذوف، أي أخرج من القبر.
وقد دخلت لام الابتداء في قوله: {لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً} على المضارع المستقبل بصريح وجود حرف الاستقبال، وذلك حجة لقول ابن مالك بأن لام الابتداء تدخل على المضارع المراد به الاستقبال ولا تخلصه للحال. ويظهر أنه مع القرينة الصريحة لا ينبغي الاختلاف في عدم تخليصها المضارع للحال، وإن صمم الزمخشري على منعه، وتأول ما هنا بأن اللام مزيدة للتوكيد وليست لام الابتداء، وتأوله في قوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:5] بتقدير مبتدأ محذوف، أي ولأنت سوف يعطيك ربك فترضى، فلا تكون اللام داخلة على المضارع، وكل ذلك تكلف لا ملجئ إليه.
وجملة {أَوَلا يَذْكُرُ الْأِنْسَانُ} معطوفة على جملة {يَقُولُ الْأِنْسَانُ} ، أي يقول ذلك ومن النكير عليه أنه لا يتذكر أنا خلقناه من قبل وجوده.
والاستفهام إنكار وتعجيب من ذهول الإنسان المنكر البعث عن خلقه الأول.

وقرأ الجمهور {أَوَلا يَذْكُرُ} بسكون الذال وضم الكاف من الذكر بضم الذال. وقرأه أبو جعفر بفتح الذال وتشديد الكاف على أن أصله يتذكر فقلبت التاء الثانية ذالا لقرب مخرجيهما.
والشيء: هو الموجود، أي أنا خلقناه ولم يك موجودا.
و {قبل} من الأسماء الملازمة للإضافي. ولما حذف المضاف إليه واعتبر مضافا إليه مجملا ولم يراع له لفظ مخصوص تقدم ذكره بنيت {قبل} على الضم، كقوله تعالى: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم: 40].
والتقدير: أنا خلقناه من قبل كل حالة هو عليها. والتقدير في آية سورة الروم: لله الأمر من قبل كل حدث ومن بعده.
والمعنى: الإنكار على الكافرين أن يقولوا ذلك ولا يتذكروا حال النشأة الأولى فإنها أعجب عند الذين يجرون في مداركهم على أحكام العادة، فإن الإيجاد عن عدم من غير سبق مثال أعجب وأدعى إلى الاستبعاد من إعادة موجودات كانت لها أمثلة. ولكنها فسدت هياكلها وتغيرت تراكيبها. وهذا قياس على الشاهد وإن كان القادر سواء عليه الأمران.
[68-70] {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً * ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً * ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيّاً} .
الفاء تفريع على جملة {أو لا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل} ، باعتبار ما تضمنته من التهديد. وواو القسم لتحقيق الوعيد. والقسم بالرب مضافا إلى ضمير المخاطب وهو النبي صلى الله عليه وسلم إدماج لتشريف قدره.
وضمير {لَنَحْشُرَنَّهُمْ} عائد إلى {الإنسان} المراد به الجنس المفيد للاستغراق العرفي كما تقدم، أي انحشرن المشركين.
وعطف "الشياطين" على ضمير المشركين لقصد تحقيرهم بأنهم يحشرون مع أحقر جنس وأفسده، وللإشارة إلى الشياطين هم سبب ظلالهم الموجب لهم هذه الحالة، فحشرهم مع الشياطين إنذارا لهم بأن مصيرهم هو مصير الشياطين وهو محقق عند الناس

كلهم. فلذلك عطف عليه جملة {ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً} ، والضمير للجميع. وهذا إعداد آخر للتقرب من العذاب فهو إنذار على إنذار وتدرج في إلقاء الرعب في قلوبهم. فحرف {ثم} للترتيب الرتبي لا للمهلة إذ ليست المهلة مقصودة وإنما المقصود أنهم ينقلون من حالة عذاب إلى أشد.
و {جِثِيّاً} حال من ضمير {لنُحْضِرَنَّهُمْ} ، والجثي: جمع جاث. ووزنه فعول مثل: قاعد وقعود وجالس وجلوس، وهو وزن سماعي في جمع فاعل. وتقدم نظيره {خروا سجدا وبكيا} ، فأصل جثي جثو وبواو ينلأن فعله واوي، يقال: جثا يجثو إذا برك على ركبته وهي هيئة الخاضع الذليل، فلما اجتمع في جثوو واوان استثقلا بعد ضمه الثاء فصير إلى تخفيفه بإزالة سبب الثقل السابق وهو الضمة فعوضت بكسر الثاء، فلما كسرت الثاء تعين قلب الواو الموالية لها ياء للمناسبة فاجتمع الواو والياء وسبق أحدهما بالسكون فقلب الواو الأخرى ياء وأدغمتا فصار جثي.
وقرى حمزة، والكسائي، وحفص، وخلف – بكسر الجيم – وهو كسر إتباع لحركة الثاء.
وهذا الجثو هو غير جثو الناس في الحشر المحكي بقوله تعالى: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا} [الجاثية: من الآية28] فإن ذلك جثو خضوع لله، وهذا الجثو حول جهنم جثو مذلة.
والقول في عطف جملة {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ} كالقول في جملة {ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ} وهذه حالة أخرى من الرعب أشد من اللتين قبلها وهي حالة تميزهم للإلقاء في دركات الجحيم على حسب مراتب غلوهم في الكفر.
والنزع: إخراج شيء من غيره، ومنه نزع الماء من البئر.
والشيعة: الطائفة التي شاعت أحدا، أي اتبعته، فهي على رأي واحد. وتقدم في قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ} [الحجر:10] في سورة الحجر. والمراد هنا شيع أهل الكفر، أي من كل شيعة منهم، أي ممن أحضرناهم حول جهنم.
والعتي: العصيان والتجبر، فهو مصدر بوزن فعول مثل: خروج وجلوس، فقلبت الواو ياء. وقرأه حمزة، والكسائي، وحفص، وخلف بكسر العين إتباعا لحركة التاء كما تقدم في {جِثِيّاً} .

والمعنى: لنميزن من كل فرقة تجمعها محلة خاصة من دين الضلال من هو تلك الشيعة أشد عصيانا لله وتجبرا عليه، وهذا تهديد لعظماء المشركين مثل أبي جهل وأمية بن خلف ونظرائهم.
و"أي" اسم موصول بمعنى "ما" و"من". والغالب أن يحذف صدر صلتها فتبنى على الضم. وأصل التركيب: أيهم هو أشد عتيا على الرحمان. وذكر صفة الرحمان هنا لتفظيع عتوهم، لأن شديد الرحمة بالخلق حقيق بالشكر له والإحسان لا بالكفر به والطغيان.
ولما كان هذا النزع والتمييز مجملا، فقد يزعم كل فريق أن غيره أشد عصيانا، أعلم الله تعالى أنه يعلم من هو أولى منهم بمقدار قلي النار فإنها دركات متفاوتة.
والصلي: مصدر صلي النار كرضي، وهو مصدر سماعي بوزن فعول. وقرأه حمزة، والكسائي، وحفص، وخلف يكسر الصاد إتباعا لحركة اللام، كما تقدم في {جِثِيّاً} .
وحرفا الجر يتعلقات بأفعلي التفضيل.
[71-72] {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً}
لما ذكر انتزاع الذين هم أولى بالنار من بقية طوائف الكفر عطف عليه أن جميع طوائف الشرك يدخلون النار، دفعا لتوهم أن انتزاع من هو أشد على الرحمان عتيا هو قصارى ما ينال تلك الطوائف من العذاب، بأن يحسبوا أن كبراءهم يكونون فداء لهم من النار أو نحو ذلك، أي وذلك الانتزاع لا يصرف بقية الشيع عن النار فإن الله أوجب على جميعهم النار.
وهذه الجملة معترضة بين جملة {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ} الخ... وجملة {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا} الخ...
فالخطاب في {وَإِنْ مِنْكُمْ} التفات عن الغيبة في قوله: {لنحشرنهم} و {لنحضرنهم} ؛ عدل عن الغيبة إلى الخطاب ارتقاء في المواجهة بالتهديد حتى لا يبقى مجال للالتباس المراد من ضمير الغيبة فإن ضمير الخطاب أعرف من ضمير الغيبة. ومقتضى الظاهر أن يقال: وإن منهم إلا واردها. وعن ابن عباس أنه كان يقرأ {وإن منهم} .

وكذلك قرأ عكرمة وجماعة.
فالمعنى: وما منكم أحد ممن نزع من كل شيعة وغيره إلا وارد جهنم حتما قضاه الله فلا مبدل لكلماته، أي فلا تحسبوا أن تنفعكم شفاعتهم أو تمنعكم عزة شيعكم، أو تلقون التبعة على سادتكم وعظماء أهل ضلالكم، أو يكونون فداء عنكم من النار. وهذا نظير قوله تعالى {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين وإن جهنم لموعدهم أجمعين} ، أي الغاوين وغيرهم.
وحرف {إن} للنفي.
والورود: حقيقته الوصول إلى الماء للاستقاء. ويطلق على الوصول مطلقا مجازا شائعا، وأما إطلاق الورود على الدخول فلا يعرف إلا أن يكون مجازا غير مشهور فلا بد له من قرينة.
وجملة {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} زيادة في الارتقاء بالوعيد بأنهم خالدون في العذاب، فليس ورودهم النار بموقت بأجل.
و {ثُمَّ} للترتيب الرتبي، تنويها بإنجاء الذين اتقوا، وتشويها بحال الذين يبقون في جهنم جثيا. فالمعنى: وعلاوة على ذلك ننجي الذين اتقوا من ورود جهنم. وليس المعنى: ثم ينجي المتقين من بينهم بل المعنى أنهم نجوا من الورود إلى النار. وذكر إنجاء المتقين، أي المؤمنين، إدماج ببشارة المؤمنين في أثناء وعيد المشركين.
وجملة {وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} عطف على جملة {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} . والظالمون: المشركون.
والتعبير بالذين ظلموا إظهار في مقام الإضمار. والأصل: ونذركم أيها الظالمون.
ونذر: نترك، وهو مضارع ليس له ماض من لفظه، أمات العرب ماضي {نذر} استغناء عنه بماضي {ترك}، كما تقدم عند قوله تعالى {ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام: من الآية91] في سورة الأنعام.
فليس الخطاب في قوله: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} لجميع الناس مؤمنهم وكافرهم على معنى ابتداء كلام؛ بحيث يقتضي أن المؤمنين يردون النار مع الكافرين ثم ينجون من عذابها، لأن هذا معنى ثقيل ينبو عنه السياق، إذ لا مناسبة بينه وبين سياق الآيات

السابقة. ولأن فضل الله على المؤمنين بالجنة وتشريفهم بالمنازل الرفيعة ينافي أن يسوقهم مع المشركين مساقا واحدا، كيف وقد صدر الكلام بقوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ} وقال تعالى {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدا ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا} ، وهو صريح في اختلاف حشر الفريقين.
فموقع هذه الآية هنا كموقع قوله تعالى: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر:43] عقب قوله: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر:42]. فلا يتوهم أن جهنم موعد عباد الله المخلصين مع تقدم ذكره لأنه ينبو عنه مقام الثناء.
وهذه الآية مثار إشكال ومحط قيل وقال، واتفق جميع المفسرين على أن المتقين لا تنالهم نار جهنم. واختلفوا في محل الآية فمنهم من جعل ضمير {منكم} لجميع المخاطبين بالقرآن، ورووه عن بعض السلف فصدمهم فساد المعنى ومنافاة حكمة الله والأدلة الدالة على سلامة المؤمنين يومئذ من لقاء أدنى عذاب، فسلكوا مسالك من التأويل، فمنهم من تأول الورود بالمرور المجرد دون أن يمس المؤمنين أذى، وهذا بعد عن الاستعمال، فإن الورود إنما يراد به حصول ما هو مودع في المورد لأن أصله من ورود الحوض. وفي آي القرآن ما جاء إلا لمعنى المصير إلى النار كقوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الانبياء:98] وقوله: { يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} [هود:98] وقوله: {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً} . على أن إيراد المؤمنين إلى النار لا جدوى له فيكون عبثا، ولا اعتداد بما ذكره له الفخر مما سماه فوائد.
ومنهم من تأول ورود جهنم بمرور الصراط، وهو جسر على جهنم، فساقوا الأخبار المروية في مرور الناس على الصراط متفاوتين في سرعة الاجتياز. وهذا أقل بعدا من الذي قبله.
وروى الطبري وابن كثير في هذين المحملين أحاديث لا تخرج عن مرتبة الضعف مما رواه أحمد في مسنده والحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" . وأصح ما في الباب ما رواه أبو عيسى الترمذي قال يرد الناس النار ثم يصدرون عنها بأعمالهم الحديث في مرور الصراط.
ومن الناس من لفق تعضيدا لذلك بالحديث الصحيح: أنه لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد فيلج النار إلا تحلة القسم فتأول تحلة القسم بأنها ما في هذه الآية من قوله

تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} وهذا محمل باطل، إذ ليس في هذه الآية قسم يتحلل، وإنما معنى الحديث: أن من استحق عذابا من المؤمنين لأجل معاص فإذا كان قد مات له ثلاثة من الولد كانوا كفارة له فلا يلج النار إلا ولوجا قليلا يشبه ما يفعل لأجل تحله القسم، أي التحلل منه. وذلك أن المقسم على شيء إذا صعب عليه بر قسمه اخذ بأقل ما يتحقق فيه ما حلف عليه، فقوله تحله القسم تمثيل.
ويروي عن بعض السلف روايات انهم تخوفوا من ظاهر هذه الآية. من ذلك ما نقل عن عبد الله بن رواحة، وعن الحسن البصري، وهو من الوقوف في موقف الخوف من شيء محتمل.
وذكر فعل {نَذَرُ} هنا دون غيره للإشعار بالتحقير، أي نتركهم في النار لا نعبأ بهم، لأن في فعل الترك معنى الإهمال.
والحتم: اصله مصدر حتمه إذ جعله لازما، وهو هنا بمعنى المفعول، أي محتوما على الكافرين، والمقتضي: المحكوم به. وجثي تقدم.
وقرأ الجمهور {ثم ننجي} بفتح النون الثانية وتشديد الجيم وقرأه الكسائي بسكون النون الثانية وتخفيف الجيم.
[73-74] {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً * وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِئْياً}
عطف على قوله: {ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيا} . وهذا صنف آخر من غرور المشركين بالدنيا وإناطتهم دلالة على السعادة بأحوال طيب العيش في الدنيا فكان المشركون يتشففون على المؤمنين ويرون أنفسهم أسعد منهم.
والتلاوة: القراءة. وقد تقدمت عند قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} [البقرة: من الآية102] في البقرة، وقوله: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} [لأنفال: من الآية2] في أول الأنفال. كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ على المشركين القرآن فيسمعون آيات النعي عليهم وإنذارهم بسوء المصير، وآيات البشارة للمؤمنين بحسن العاقبة، فكان المشركون يكذبون بذلك ويقولون: لو كان للمؤمنين خير لعجل لهم، فنحن في نعمة وأهل سيادة، وأتباع محمد من عامة الناس، وكيف يفوقوننا بل كيف يستوون معنا، ولو كنا عند الله كما يقول

محمد لمن على المؤمنين برفاهية العيش فإنهم في حالة ضنك ولا يساووننا فلو أقصاهم محمد عن مجلسه لاتبعاه، قال تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ * وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام:25،53]، وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الاحقاف: من الآية11]. فلأجل كون المشركين كانوا يقيسون هذا القياس الفاسد ويغالطون به جعل قولهم به معلقا بزمان تلاوة آيات القرآن عليهم. فالمراد بالآيات البينات: آيات القرآن، ومعنى كونها بينات: أنها واضحات الحجة عليهم ومفعمة بالأدلة المقنعة.
واللام في قوله: {لِلَّذِينَ آمَنُوا} يجوز كونها للتعليل، أي قالوا لأجل الذين آمنوا، أي من أجل شأنهم، فيكون هذا القول المشركين فيما بينهم. ويجوز كونها متعلقة بفعل {قَالَ} لتعديته إلى متعلقة، فيكون قولهم خطابا منهم للمؤمنين.
والاستفهام في قولهم: {أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ} تقريري.
وقرأ من عدا ابن كثير {مَقَاماً} بفتح الميم على أنه اسم مكان من قام، أطلق مجازا على الحظ والرفعة، كما في قوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46]، فهو مأخوذ من القيام المستعمل مجازا في الظهور والمقدرة.
وقرأه ابن كثير بضم الميم من أقام بالمكان، وهو مستعمل في الكون في الدنيا. والمعنى: خير حياة.
وجملة {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ} خطاب من الله لرسوله. وقد أهلك الله أهل قرون كثيرة كانوا أرفه من مشركي العرب متاعا وأجمل منهم منظرا. فهذه الجملة معترضة بين حكاية قولهم وبين تلقين النبي صلى الله عليه وسلم ما يجيبهم به عن قولهم. وموقعها التهديد وما بعدها هو الجواب.
والأثاث: متاع البيوت الذي يتزين به، {وَرِئْياً} قرأه الجمهور بهمزة بعد الراء وبعد الهمزة ياء على وزن فعل بمعنى مفعول كذبح من الرؤية، أي أحسن مرئيا، أي منظرا وهيئة.
وقرأه قالون عن نافع وابن ذكوان عن ابن عامر "ريا" بتشديد الياء بلا همز إما على أنه من قلب الهمزة ياء وإدغامها في الياء الأخرى، وإما على أنه من الري الذي هو

النعمة والترفه، من قولهم: ريان من النعيم، وأصله من الري ضد العطش، لأن الري يستعار للتنعم كما يستعار التلهف للتألم.
[75-76] {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً * وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَرَدّاً}
هذا جواب قولهم: {أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً} . لقن الله رسوله صلى الله عليه وسلم كشف مغالطتهم أو شبهتهم؛ فأعلمهم بأن ما هم فيه من نهمة الدنيا إنما هو إمهال من الله إياهم، لأن ملاذ الكافر استدراج. فمعيار التفرقة بين النعمة الناشئة عن رضى الله تعالى على عبده وبين النعمة التي هي استدراج لمن كفر به هو النظر إلى حال من هو في نعمة بين حال هدى وحال ضلال، قال تعالى في شأن الأولين: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97]. وقال في شأن الآخرين: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون:55-56]
والمعنى: أن من كان منغمسا في الضلالة اغتر بإمهال الله له فركبه الغرور كما ركبهم إذ قالوا: {أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً} .
واللام في قوله: {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً} لام الأمر أو الدعاء، استعملت مجازا في لازم معنى الأمر، أي التحقيق، أي فسيمد له الرحمان مدا، أي أن ذلك واقع لا محالة على سنة الله في إمهال الضلال، إعذارا لهم، كما قال تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} [فاطر: من الآية37] وتنبيها للمسلمين أن لا يغيروا بإنعام الله على الضلال حتى أن المؤمنين يدعون الله به لعدم اكتراثهم بطول مدة نعيم الكفار.
فإن كان المقصود من {قُلْ} أن يقول النبي ذلك للكفار فلام الأمر مجرد مجاز في التحقيق، وإن كان المقصود أن يبلغ النبي ذلك عن الله أنه قال ذلك فلام الأمر مجاز أيضا وتجريد بحيث إن الله تعالى يأمر نفسه بأن يمد لهم.
والمد: حقيقته إرخاء الحبل وإطالته، ويستعمل مجازا في الإمهال كما هنا، وفي الإطالة كما في قولهم: مد الله في عمرك.

و {مَدّاً} مفعول مطلق مؤكد لعامله، أي فليمدد له المد الشديد، فسينتهي ذلك.
و {حَتَّى} لغاية المد، وهي ابتدائية، أي يمد له الرحمان إنى أن يروا ما يوعدون، أي لا محيص لهم عن رؤية ما أوعدوا من العذاب ولا يدفعه عنه طول مدتهم في النعمة. فتكون الغاية مضمون الجملة التي بعدها {حَتَّى} لا لفظا مفردا. والتقدير: يمد لهم الرحمان حتى يروا العذاب فيعلموا من هو أسعد ومن هو أشقى.
وحرف الاستقبال لتوكيد حصول العلم لهم حينئذ وليس للدلالة على الاستقبال لأن الاستقبال استفيد من الغاية.
و {إمَّا} حرف تفصيل لـ {مَا يُوعَدُونَ} ، أي ما أوعدوا من العذاب إما عذاب الدنيا وإما عذاب الآخرة، فإن كل واحد منهم لا يعدو أن يرى أحد العذابين أو كليهما.
وانتصب لفظ {الْعَذَابَ} على المفعولية لـ {يَرَوا} . وحرف {إمَّا} غير عاطف، وهو معترض بين العامل ومعموله، كما في قول تأبط شرا:
هما خطتا إما إسار ومنة ... وإما دم والموت بالحر أجدر
بحر إسار، ومنة، ودم.
وقوله: {شَرٌّ مَكَاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً} مقابل قولهم: {خَيْرٌ مَقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً} فالمكان يرادف المقام، والجند الأعوان، لأن الندي أريد به أهله كما تقدم، فقوبل {خَيْرٌ مَقَاماً} [ بـ {أَضْعَفُ جُنْداً} .
وجملة {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً} معطوفة على جملة {مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً} لما تضمنه ذلك من الإمهال المفضي إلى الاستمرار في الضلال، والاستمرار: الزيادة. فالمعنى على الاحتباك، أي فليمدد له الرحمان مدا فيزدد ضلالا، ويمد للذين اهتدوا فيزدادوا هدى.
وجملة {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ} عطف على جملة {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً} . وهو ارتقاء من بشارتهم بالنجاة إلى بشارتهم برفع الدرجات، أي الباقيات الصالحات خير من السلامة من العذاب التي اقتضاها قوله تعالى {فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً} ، أي فسيظهر أن ما كان فيه الكفرة من النعمة والعزة هو أقل مما كان عليه المسلمون من الشظف والضعف باعتبار المآلين. إذ كان مآل الكفرة العذاب ومآل

المؤمنين السلامة من العذاب وبعد فللمؤمنين الثواب.
والباقيات الصالحات: صفتان لمحذوف معلوم من المقام. أي الأعمال الباقي نعيمها وخيرها، والصالحات لأصحابها هي خير عند الله من نعمة النجاة من العذاب. وقد تقدم وجه تقديم الباقيات على الصالحات عند الكلام على نظيره في أثناء سورة الكهف.
والمرد: المرجع. والمراد به عاقبة الأمر.
[77-80] {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً * كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً * وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً}
تفريع على قوله: { وَيَقُولُ الْأِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً} [مريم:66] وما اتصل به من الاعتراض والتفريعات. والمناسبة: أن قائل هذا الكلام كان في غرور مثل الغرور الذي كان فيه أصحابه. وهو غرور إحالة البعث. والآية تشير إلى قصة خباب بن الأرت مع العاصي بن وائل السهمي. ففي الصحيح : أن خبابا كان يصنع السيوف في مكة. فعمل للعاصي ابن وائل سيفا وكان ثمنه دينا على العاصي، وكان خباب قد أسلم، فجاء خباب يتقاضى دينه من العاصي فقال له العاصي بن وائل: لا أقضيكه حتى تكفر بمحمد، فقال خباب وقد غضب: لا أكفر بمحمد حتى يميتك الله تم يبعثك. قال العاصي: أو مبعوث أنا بعد الموت? قال: نعم. قال العاصي متهكما: إذا كان ذلك فسيكون لي مال وولد وعند ذلك أقضيك دينك فنزلت هذه الآية في ذلك. فالعاصي بن وائل هو المراد بالذي كفر بآياتنا.
والاستفهام في {أَفَرَأَيْتَ} مستعمل في التعجيب من كفر هذا الكافر.
والرؤية مستعارة للعلم بقصته العجيبة. نزلت القصة منزلة الشيء المشاهد بالبصر لأنه من أقوى طوق العلم. وعبر عنه بالموصول لما في الصلة من منشأ العجب ولا سيما قوله: {لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً} .
والمقصود من الاستفهام لفت الذهن إلى معرفة هذه القصة أو إلى تذكرها إن كان عالما بها.

والخطاب لكل من يصلح للخطاب فلم يرد به معين. ويجوز أن يكون خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم.
والآيات: القرآن، أي كفر بما أنزل إليه من الآيات وكذب بها. ومن جملتها آيات البعث.
والولد: اسم جمع لولد المفرد، وكذلك قرأه الجمهور، وقرأ حمزة، والكسائي في هذه السورة في الألفاظ الأربعة {وولد} بضم الواو وسكون اللام فهو جمع ولد، كأسد وأسد.
وجملة {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ} جواب لكلامه على طريقة الأسلوب الحكيم بحمل كلامه على ظاهر عبارته من الوعد بقضاء الدين من المال الذي سيجده حين يبعث، فالاستفهام في قوله {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ} إنكاري وتعجيبي.
و {أَطَّلَعَ} افتعل من طلع للمبالغة في حصول فعل الطلوع وهو الارتقاء، ولذلك يقال لمكان الطلوع مطلع بالتخفيف ومطلع بالتشديد. ومن أجل هذا أطلق الاطلاع على الإشراف على الشيء، لأن الذي يروم الإشراف على مكان محجوب عنه يرتقي إليه من علو، فالأصل أن فعل "اطلع" قاصر غير محتاج إلى التعدية، قال تعالى: {قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} ، فإذا ضمن {أَطَّلَعَ} معنى أشرف عدي بحرف الاستعلاء كقولة تعالى {لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا} . وتقدم إجمالا في سورة الكهف.
فانتصب {الْغَيْبَ} في هذه الآية على المفعولية لا على نزع الخافض كما توهمه بعض المفسرين. قال في الكشاف : ولاختيار هذه الكلمة شأن، يقول: أو قد بلغ من عظمة شأنه أن ارتقى إلى علم الغيب اه.فالغيب: هو ما غاب عن الأبصار.
والمعنى: أأشرف على عالم الغيب فرأى مالا وولدا معدين له حين يأتي يوم القيامة أو فرأى ماله وولده صائرين معه في الآخرة لأنه لما قال فسيكون لي مال وولدا عنى أن ماله وولده راجعان إليه يومئذ أم عهد الله إليه بأنه معطيه ذلك فأيقن بحصوله، لأنه لا سبيل إلى معرفة ما أعد له يوم القيامة إلا أحد هذين إما مكاشفة ذلك ومشاهدته. وإما إخبار الله بأنه يعطيه إياه.
ومتعلق العهد محذوف يدل عليه السياق. تقديره: بأن يعطيه مالا وولدا.

و {عِنْدَ} ظرف مكان، وهو استعارة بالكناية بتشبيه الوعد بصحيفة مكتوب بها تعاهد وتعاقد بينه وبين الله موضوعة عند الله، لأن الناس كانوا إذا أرادوا توثيق ما يتعاهدون عليه كتبوه في صحيفة ووضعوها في مكان حصين مشهور كما كتب المشركون صحيفة القطيعة بينهم وبين بني هاشم ووضعوها في الكعبة. وقال الحارث ابن حلزة:
حذر الجور والتطاخي وهل ينتقض ... ما في المهارق الأهواء
ولعل في تعقيبه بقوله: {سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ} إشارة إلى هذا المعنى بطريق مراعاة النظير.
وأختير هنا من أسمائه {الرَّحْمَنِ} . لأن استحضار مدلوله أجدر في وفائه بما عهد به من النعمة المزعومة لهذا الكافر، ولأن في ذكر هذا الاسم توركا على المشركين الذين {وَمَا الرَّحْمَنُ} [الفرقان: من الآية60]
و {كَلَّا} حرف ردع وزجر عن مضمون كلام سابق من متكلم واحد، أو من كلام يحكي عن متكلم آخر أو مسموع منه كقوله تعالى: {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ* قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي} [الشعراء: من الآية62]
والأكثر أن تكون عقب آخر الكلام المبطل بها، وقد تقدم على الكلام المبطل للاهتمام بالإبطال وتعجيله والتشويق إلى سماع الكلام الذي سيرد بعدها كما في قوله تعالى: {كَلَّا وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ} [المدثر: 32] على أحد تأويلين. وأما فيها من معنى الإبطال كانت في معنى النفي، فهي نقيض إي و أجل ونحوهما من أحرف الجواب بتقدير الكلام السابق.
والمعنى: لا يقع ما حكى عنه من زعمه ولا من غروره. والغالب أن تكون متبعة بكلام بعدها، فلا يعهد في كلام العرب أن يقول قائل في رد كلام: كلا، ويسكت.
ولكونها حرف ردع أفادت معنى تاما يحسن السكوت عليه. فلذلك جاز الوقت عليها عند الجمهور. ومنع المبرد الوقف عليها بناء على أنها لابد أن تتبع بكلام، وقال الفراء: مواقعها أربعة.
موقع يحسن الوقف عليها والابتداء بها كما في هذه الآية.
موقع يحسن الوقف عليها ولا يحسن الابتداء بها كقوله: {فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا} [الشعراء: من الآية15].

وموقع يحسن فيه الابتداء بها ولا يحسن الوقف عليها كقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ} [المدثر:54]
موقع لا يحسن فيه شيء من الأمرين كقوله تعالى: {ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر:4]
وكلام الفراء يبين أن الخلاف بين الجمهور وبين المبرد لفضي لأن الوقف أعم من السكوت التام.
وحرف النفيس في قوله: {سَنَكْتُبُ} لتحقيق أن ذلك واقع لا محالة كقوله تعالى: {قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} [يوسف: 98].
والمد في العذاب: الزيادة منه، كقوله: {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً} .
و {مَا يَقُولُ} في الموضعين إيجاز، لأنه لو حكي كلامه لطال. وهذا كقوله تعالى: {قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ} [آل عمران: من الآية183]. أي وبقربان تأكله النار. أي ما قاله من الإلحاد والتهكم بالإسلام. وما قاله من المال والولد، أي سنكتب جزاءه ونهلكه فنرثه ما سماه من المال والولد، أي نرث أعيان ما ذكر أسماءه، إذ لا يعقل أن يورث عنه قوله وكلامه. فـ {مَا يَقُولُ} بدل اشتمال من ضمير النصب في {نرثه} ، إذ التقدير: ونرث ولده وماله.
والإرث: مستعمل مجازا في السلب والأخذ، أو كناية عن لازمه وهو الهلاك. والمقصود: تذكيره بالموت، أو تهديده بقرب هلاكه.
ومعنى إرث أولاده أنهم يصيرون مسلمين فيدخلون في حزب الله، فإن العاصي ولد عمرا الصحابي الجليل وهشاما الصحابي الشهيد يوم أجنادين، فهنا بشارة للنبي صلى الله عليه وسلم ونكاية وكمد للعاصي بن وائل.
والفرد: الذي ليس معه ما يصير به عددا، إشارة إلى أنه يحشر كافرا وحده دون ولده، ولا مال له. و {فردا} حال.
[81-82] {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً}
عطف على جملة {وَيَقُولُ الْأِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ} فضمير {اتَّخَذُوا} عائد

إلى الذين أشركوا لأن الكلام جرى على بعض منهم.
والاتخاذ: جعل الشخص الشيء لنفسه، فجعل الاتخاذ هنا الاعتقاد والعبادة. وفي فعل الاتخاذ إيماء إلى أن عقيدتهم في تلك الآلهة شيء مصطلح عليه مختلق لم يأمر الله به كما قال تعالى عن إبراهيم: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} [الصافات: 95].
وفي قوله: {مِنْ دُونِ اللَّهِ} إيماء إلى أن الحق يقتضي أن يتخذوا الله إلها، إذ بذلك تقرر الاعتقاد الحق من مبدأ الخليقة، وعليه دلت العقول الراجحة.
ومعنى {لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً} ليكونوا معزين لهم، أي ناصرين، فأخبر عن الآلهة بالمصدر لتصوير اعتقاد المشركين في آلهتهم أنهم نفس العز، أي أن مجرد الانتماء لها يكسبهم عزا.
وأجرى على الآلهة ضمير العاقل لأن المشركين الذين اتخذوهم توهموهم عقلاء مدبرين.
والضميران في قوله: {سَيَكْفُرُونَ} و {يَكُونُونَ} يجوز أن يكونا عائدين إلى آلهة، أي سينكر الآلهة عبادة المشركين إياهم، فعبر عن الجحود والإنكار بالكفر، وستكون الآلهة ذلا ضد العز.
والأظهر أن ضمير {سَيَكْفُرُونَ} عائد إلى المشركين، أي سيكفر المشركون بعبادة الآلهة فيكون مقابل قوله: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً} . وفيه تمام المقابلة، أي بعد أن تكلفوا جعلهم آلهة لهم سيكفرون بعبادتهم، فالتعبير بفعل {سَيَكْفُرُونَ} يرجح هذا الحمل لأن الكفر شائع في الإنكار الاعتقادي لا في مطلق الجحود، وأن ضمير {يَكُونُونَ} للآلهة وفيه تشتيت الضمائر. ولا ضير في ذلك إذ كان السياق يرجع كلا إلى ما يناسبه، كقول عباس بن مرداس:
عدنا ولولا نحن أحدق جمعهم ... بالمسلمين وأحرزوا ما جمعوا
أي وأحرز جمع المشركين ما جمعه المسلمون من الغنائم.
ويجوز أن يكون ضميرا {سَيَكْفُرُونَ} و {يَكُونُونَ} راجعين إلى المشركين، وأن حرف الاستقبال للحصول قريبا؛ أي سيكفر المشركون بعبادة الأصنام ويدخلون في الإسلام ويكونون ضدا على الأصنام يهدمون هياكلها ويلعنونها، فهو بشارة للنبي صلى الله عليه وسلم بأن دينه سيظهر على دين الكفر. وفي هذه المقابلة طباق مرتين.

والضد: اسم مصدر، وهو خلاف الشيء في الماهية أو المعاملة. ومن الثاني تسمية العدو ضدا. ولكونه في معنى المصدر لزم في حال الوصف به حالة واحدة بحيث لا يطابق موصوفه.
[83-84] {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً * فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً}
استئناف بياني لجواب سؤال يجيش في نفس الرسول صلى الله عليه وسلم من إيغال الكافرين في الضلال جماعتهم. وآحادهم، وما جره إليهم من سوء المصير ابتداء من قوله تعالى {وَيَقُولُ الْأِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً} ، وما تخلل ذلك من ذكر إمهال الله إياهم في الدنيا، وما أعد لهم من العذاب في الآخرة. وهي معترضة بين جملة {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً} وجملة {يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين} . وأيضا هي كالتذليل لتلك الآيات والتقرير لمضمونها لأنها تستخلص أحوالهم، وتتضمن تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عن إمهالهم وعدم تعجيل عقابهم.
والاستفهام في {أَلَمْ تَرَ} تعجيبي. ومثله شائع في كلام العرب يجعلون الاستفهام على نفي فعل. والمراد حصول ضده بحث المخاطب على الاهتمام بتحصيله، أي كيف لم تر ذلك. ونزل إرسال الشياطين على الكافرين لاتضاح آثاره منزلة الشيء المرئي المشاهد، فوقع التعجيب من مرآه بقوله: ألم تر ذلك.
والأز: الهز والاستفزاز الباطني، مأخوذ من أزيز القدر إذا اشتد غليانها. شبه اضطراب اعتقادهم وتناقض أقوالهم واختلاق أكاذيبهم بالغليان في صعود وانخفاض وفرقعة وسكون، فهو استعارة فتأكيده بالمصدر ترشيح.
وإرسال الشياطين عليهم تسخيرهم لها وعدم انتفاعهم بالإرشاد النبوي المنقذ من حبائلها، وذلك لكفرهم وإعراضهم عن استماع مواعظ الوحي. وللإشارة إلى هذا المعنى عدل عن الإضمار إلى الإظهار في قوله: {عَلَى الْكَافِرِينَ} . وجعل {تَؤُزُّهُمْ} حالا مقيدا للإرسال لأن الشياطين مرسلة على جميع الناس ولكن الله يحفظ المؤمنين من كيد الشياطين على حسب قوة الإيمان وصلاح العمل، قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر:42].
وفرع على هذا الاستئناف وهذه التسلية قوله: {فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ} ، أي فلا تستعجل

العذاب لهم إنما نعد لهم عدا. وعبر ب {تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ} معدى بحرف الاستعلاء إكراما للنبي صلى الله عليه وسلم بأن نزل منزلة الذي هلاكهم بيده. فنهى عن تعجيله بهلاكهم. وذلك إشارة إلى قبول دعائه عند ربه، فلو دعا عليهم بالهلاك لأهلكهم الله كيلا يرد دعوة نبيه صلى الله عليه وسلم، لأنه يقال: عجل على فلان بكذا، أي أسرع بتسليطه عليه، كما يقال: عجل إليه إذا أسرع بالذهاب إليه كقوله: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه: 84]، فاختلاف حروف تعدية فعل {عجل} ينبئ عن اختلاف المعنى المقصود بالتعجيل.
ولعل سبب الاختلاف بين هذه الآية وبين قوله تعالى: {وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الاحقاف: من الآية35] لهم} في سورة الأحقاف أن المراد هنا استعجال الاستئصال والإهلاك وهو مقدر كونه على يد النبي صلى الله عليه وسلم، فلذلك قيل هنا {فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ} ، أي انتظر يومهم الموعود، وهو يوم بدر، ولذلك عقب بقوله: {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً} ، أي ننظرهم ونؤجلهم، وأن العذاب المقصود في سورة الأحقاف هو عذاب الآخرة لوقوعه في خلال الوعيد لهم بعذاب النار لقوله هنالك: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} [الأحقاف: 34 - 35].
والعد: الحساب.
و {إنما} للقصر، أي ما نحن إلا نعد لهم، وهو قصر موصوف على صفة قصرا إضافيا، أي نعد لهم ولسنا بناسين لهم كما يظنون، أو لسنا بتاركينهم من العذاب بل نؤخرهم إلى يوم موعود.
وأفادت جملة {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً} تعليل النهي عن التعجيل عليهم لأن {إِنَّمَا} مركبة من "إن" و "ما" وإن تفيد التعليل كما تقدم غير مرة.
وقد استعمل العد مجازا في قصر المدة لأن الشيء القليل يعد ويحسب. وفي هذا إنذار باقتراب استئصالهم.
[85-87] {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً*لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً}
إتمام لإثبات قلة غناء آلهتهم عنهم تبعا لقوله: {وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} [مريم:82].

فجملة {لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ} هو مبدأ الكلام، وهو بيان لجملة {وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً}
والظرف وما أضيف الظرف إليه إدماج بينت به كرامة المؤمنين وإهانة الكافرين. وفي ضمنه زيادة بيان الجملة {وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} بأنهم كانوا سبب سوقهم إلى جهنم وردا ومخلفتهم لحال المؤمنين في ذلك المشهد العظيم. فالظرف متعلق ب {يَمْلِكُونَ} وضمير {لا يَمْلِكُونَ} عائد للآلهة. والمعنى: لا يقدرون على أن ينفعوا من اتخذوهم آلهة ليكونوا لهم عزا.
والحشر: الجمع مطلقا، يكون في الخير كما هنا. وفي الشر كقوله: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 22 - 23]، ولذلك أتبع فعل {نَحْشُرُ} بقيد {وَفْداً} ، أي حشر الوفود إلى الملوك، فإن الوفود يكونون مكرمين، وكانت لملوك العرب وكرمائهم وفود في أوقات، ولأعيان العرب وفادات سنويه على ملوكهم وسادتهم. ولكل قبيلة وفادة، وفي المثل إن الشقي وافد البراجم. وقد اتبع العرب هذه السنة فوفدوا على النبي صلى الله عليه وسلم لأنه أشرف السادة. وسنة الوفود عي سنة تسع من الهجرة تلت فتح مكة بعموم الإسلام بلاد العرب.
وذكر صفة {الرحمان} هنا واضحة المناسبة للوفد.
والسوق: تسيير الأنعام قدام رعاتها، يجعلونها أمامهم لترهب زجرهم وسياطهم فلا تتفلت عليهم، فالسوق: سير خوف وحذر.
وقوله: {وِرْداً} حال قصد منها التشبيه، فلذلك جاءت جامدة لأن معنى التشبيه يجعلها كالمشتق.
والورد بكسر الواو: أصله السير إلى الماء، وتسمى الأنعام الواردة وردا تسمية على حذف المضاف، أي ذات ورد، كما يسمى الماء الذي يرده القوم وردا. قال تعالى: {وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} [هود: من الآية98]
والاستثناء في {إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً} استثناء منقطع، أي لكن يملك الشفاعة يومئذ من اتخذ عند الرحمان عهدا، أي من وعده الله بأن يشفع وهم الأنبياء والملائكة.

ومعنى {لا يَمْلِكُونَ} لا يستطيعون، فإن الملك يطلق على المقدرة والاستطاعة. وقد تقدم عند قوله تعالى {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً} [المائدة:76]
[88-95] {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً}
عطف على جملة {وَيَقُولُ الْأِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ} [مريم: من الآية66] أو على جملة {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً} [مريم: من الآية81] إتماما لحكاية أقوالهم، وهو القول بأن لله ولدا، وهو قول المشركين: الملائكة بنات الله. وقد تقدم في سورة النحل وغيرها؛ فصريح الكلام رد على المشركين، وكنايته تعريض بالنصارى الذين شابهوا المشركين في نسبة الولد إلى الله، فهو تكملة للإبطال الذي في قوله تعالى آنفا: {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ} [مريم: 35] الخ.
والضمير عائد إلى المشركين، فيفهم منه أن المقصود من حكاية قولهم ليس مجرد الإخبار عنهم، أو تعليم دينهم ولكن تفظيع قولهم وتشنيعه، وإنما قالوا ذلك تأييدا لعبادتهم الملائكة والجن واعتقادهم شفعاء لهم.
وذكر {الرحمان} هنا حكاية لقولهم بالمعنى، وهم لا يذكرون اسم الرحمان ولا يقرون به، وقد أنكروه كما حكى الله عنهم {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} [الفرقان: من الآية60]. فهم إنما يقولون: {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} كما حكي عنهم في آيات كثيرة منها آية سورة الكهف. فذكر {الرَّحْمَنُ} هنا وضع للمرادف في موضع مرادفه. فذكر اسم {الرَّحْمَنُ} لقصد إغاظتهم بذكر اسم أنكروه.
وفيه أيضا إيماء إلى اختلال قولهم لمنافاة وصف الرحمان اتخاذ الولد كما سيأتي في قوله: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً} والخطاب في {لَقَدْ جِئْتُمْ} للذين قالوا اتخذ الرحمان ولدا، فهو التفات لقصد إبلاغهم التوبيخ على وجه شديد الصراحة لا يلتبس فيه المراد. كما تقدم في قوله آنفا: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: من الآية71] فلا يحسن تقدير: قل لقد جئتم.

وجملة {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً} مستأنفة لبيان ما اقتضته جملة {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً} من التشنيع والتفظيع.
وقرأ نافع، والكسائي بياء تحتية على عدم الاعتداد بالتأنيث. وذلك جائز في الاستعمال إذا لم يكن الفعل رافعا لضمير مؤنث متصل، وقرأ البقية {تَكَاد} بالتاء المثناة الفوقية، وهو الوجه الآخر.
والتفطر: الانشقاق، والجمع بينه وبين {وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ} تفنن في استعمال المترادف لدفع ثقل تكرير اللفظ. والخرور: السقوط.
ومن في قوله: {منه} للتعليل، والضمير المجرور بمن عائد إلى {شَيْئاً إِدّاً} ، أو إلى القول المستفاد من {قَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً} .
والكلام جار على المبالغة في التهويل من فظاعة هذا القول بحيث إنه يبلغ إلى الجمادات العظيمة فيغير كيانها.
وقرأ نافع، وأبن كثير، وحفص عن عاصم، والكسائي {يتفطرن} بمثناة تحتية بعدها تاء فوقية. وقرأ أبو عمر، وابن عامر، وحمزة، وأبو جعفر، ويعقوب، وخلف، وأبو بكر عن عاصم بتحتية بعدها نون من الانفطار. والوجهان مطاوع فطر المضاعف أو فطر المجرد، ولا يكاد ينضبط الفرق بين البنيتين في الاستعمال. ولعل محاولة التفرقة بينهما كما في الكشاف و الشافية لا يطرد. قال تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} [الفرقان: من الآية25]، وقال: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق:1]. وقرئ في هذه الآية {يتفطرون} و {ينفطرون} . والأصل توافق القراءتين في البلاغة.
والهد: هدم البناء. وانتصب {هدا} على المفعولية المطلقة لبيان نوع الخرور. أي سقوط الهدم، وهو أن يتساقط شظايا وقطعا.
و {أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً} متعلق بكل من {يتفطرن، وتنشق، وتخر} ، وهو على حذف لام الجر قبل "أن" المصدرية وهو حذف مطرد.
والمقصود منه تأكيد ما أفيد من قوله {منه} . وزيادة بيان لمعاد الضمير المجرور في قوله {منه} اعتناء ببيانه.
ومعنى {دَعَوْا} : نسبوا، كقوله تعالى {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب: من الآية5]، ومنه يقال:

ادعى إلى بني فلان، أي انتسب. قال بشامة بن حزن النهشلي:
إنا بني نهشل لا ندعي لأب ... عنه ولا هو بالأبناء يشرينا
وجملة {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً} عطف على جملة {قَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً}
ومعنى {مَا يَنْبَغِي} ما يتأتى، أو ما يجوز. وأصل الانبغاء: أنه مطاوع فعل بغى الذي بمعنى طلب. ومعنى مطاوعته: التأثر بما طلب منه، أي استجابة الطلب، نقل الطيبي عن الزمخشري أنه قال في كتاب سيبويه: كل فعل فيه علاج يأتي مطاوعه على الانفعال كصرف وطلب وعلم، وما ليس فيه علاج كعدم وفقد لا يتأتى في مطاوعه الانفعال البتة اه. فبان أن أصل معنى {يَنْبَغِي} يستجيب الطلب. ولما كان الطلب مختلف المعاني باختلاف المطلوب لزم أن يكون معنى {يَنْبَغِي} مختلفا بحسب المقام فيستعمل بمعنى: يتأتى، ويمكن، ويستقيم، ويليق. وأكثر تلك الإطلاقات أصله من قبيل الكناية واشتهرت فقامت مقام التصريح.
والمعنى في هذه الآية: وما يجوز أن يتخذ الرحمان ولدا. بناء على أن المستحيل لو طلب حصوله لما تأتى لأنه مستحيل لا تتعلق به القدرة، لا لأن الله عاجز عنه. ونحو قوله: {قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} [الفرقان: 18] يفيد معنى: لا يستقيم لنا، أو لا يخول لنا أن نتخذ أولياء غيرك، ونحو قوله {الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} [يّس: من الآية40] يفيد معنى لا تستطيع. ونحو {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يّس: من الآية69] يفيد معنى: أنه لا يليق به. ونحو {وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} يفيد معنى: لا يستجاب طلبه لطالبه إن طلبه، وفرق بين قولك: ينبغي لك أن لا تفعل هذا، وبين لا ينبغي لك أن تفعل كذا، أي ما يجوز لجلال الله أن يتخذ ولدا لأن جميع الموجودات غير ذاته تعالى يجب أن تكون مستوية في المخلوقية له والعبودية له. وذلك ينافي البنوة لآن بنوة الإله جزء من الإلهية، وهو أحد الوجهين في تفسير قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف:81]، أي لو كان له ولد لعبدته قبلكم.
ومعنى {آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} ، الإتيان المجازي، وهو الإقرار والاعتراف، مثل: باء بكذا، أصله رجع، واستعمل بمعنى اعترف.

و {عَبْدا} حال، أي معترف لله بالإلهية غير مستقل عنه في شيء في حال كونه عبدا.
ويجوز جعل {آتِي الرَّحْمَنِ} بمعنى صائر إليه بعد الموت، ويكون المعنى أنه يحيا عبدا ويحشر عبدا بحيث لا تشوبه نسبة البنوة في الدنيا ولا في الآخرة.
وتكرير اسم {الرَّحْمَنِ} في هذه الآية أربع مرات إيماء إلى أن وصف الرحمان الثابت لله. والذي لا ينكر المشركون ثبوت حقيقته لله وإن أنكروا لفظه. ينافي ادعاء الولد له لأن الرحمان وصف يدل على عموم الرحمة وتكثرها. ومعنى ذلك شاملة لكل موجود مفتقر إلى رحمة الله تعالى. ولا يتقوم ذلك إلا بتحقيق العبودية فيه. لأنه لو كان بعض الموجودات ابنا لله تعالى لاستغنى عن رحمته لأنه يكون بالنبوة مساويا له في الإلهية المقتضية الغني المطلق، ولأن اتخاذ الابن يتطلب به متخذه بر الابن به ورحمنه له، وذلك ينافي كون الله مفيض كل رحمة.
فذكر هذا الوصف عند قوله: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً} وقوله {أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً} تسجيل لغباوتهم.
وذكره عند قوله: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً} إيماء إلى دليل عدم لياقة اتخاذ الابن بالله.
وذكره عند قوله: {إلاّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدَا} استدلال على احتياج جميع الموجودات إليه وإقرارها له بملكه إياها.
وجملة {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ} عطف على جملة {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً} ، مستأنفة ابتدائية لتهديد القائلين هذه المقالة. فضمائر الجمع عائدة إلى ما عاد إليه ضمير {وقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً} وما بعده. وليس عائدا على {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ، أي لقد علم الله كل من قال ذلك وعدهم فلا ينفلت أحد منهم من عقابه.
ومعنى {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} إبطال ما لأجله قالوا اتخذ الله ولدا، لنهم زعموا ذلك موجب عبادتهم الملائكة والجن ليكونوا شفعاءهم عند الله، فأيأسهم الله من ذلك بأن كل واحد يأتي يوم القيامة مفردا لا نصير له كما في قوله في الآية السالفة {ويَأْتِينَافَرْداً} . في ذلك تعويض بأنهم آتون لما يكرهون من العذاب والإهانة إتيان الأعزل إلى من يتمكن من الانتقام منه.

[96] {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً}
يقتضي اتصال الآيات بعضها ببعض في المعاني أن هذه الآية وصف لحال المؤمنين يوم القيامة بضد حال المشركين، فيكون حال إتيانهم غير حال انفراد بل حال تأنس بعضهم ببعض.
ولما ختمت الآية قبلها بأن المشركين آتون يوم القيامة مفردين. وكان ذلك مشعرا بأنهم آتون إلى ما من شأنه أن يتمنى المورط فيه من يدفع عنه وينصره، وإشعار ذلك بأنهم مغضوب عليهم، أعقب ذلك بذكر حال المؤمنين الصالحين، وأنهم على العكس من حال المشركين، وأنهم يكونون يومئذ بمقام المودة والتبجيل. فالمعنى: سيجعل لهم الرحمان أوداء من الملائكة كما قال تعالى: {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [فصلت: 31]، ويجعل بين أنفسهم مودة كما قال تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} [الحجر: من الآية47]
وإيثار المصدر ليفي بعدة متعلقات بالود. وفسر أيضا جعل الود بأن الله يجعل لهم محبة في قلوب أهل الخير. رواه الترمذي عن قتيبة بن سعيد عن الدراوردي. وليست هذه الزيادة عن أحد ممن روى الحديث عن غير قتيبة بن سعيد ولا عن قتيبة بن سعيد في غير رواية الترمذي، فهذه الزيادة إدراج من قتيبة عند الترمذي خاصة.
وفسر أيضا بأن الله سيجعل لهم محبة منه تعالى. فالجعل هنا كالإلقاء في قوله تعالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} [طه:39] أي هذا أظهر الوجوه في تفسير الود. وقد ذهب فيه جماعات المفسرين إلى أقوال شتى متفاوتة في القبول.
[97] {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً}
إيذان بانتهاء السورة، فإن شأن الإتيان بكلام جامع بعد أفنان الحديث أن يؤذن بأن المتكلم سيطوي بساطة. وذلك شأن التذييلات والخواتم وهي ما يؤذن بانتهاء الكلام. فلما احتوت السورة على عبر وقصص وبشارات ونذر جاء هنا في التنويه بالقرآن وبيان بعض ما في تنزيله من الحكم.
فيجوز جعل الفاء فصيحة مؤذنة بكلام مقدر يدل عليه المذكور، كأنه قيل: بلغ ما أنزلنا إليك ولو كره المشركون ما فيه من إبطال دينهم وإنذارهم بسوء العاقبة فما أنزلناه إليك إلا للبشارة والنذارة ولا تعبأ بما حصل مع ذلك من الغيظ أو الحقد. وذلك أن

المشركين كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: "لو كففت عن شتم آلهتنا وآبائنا وتسفيه أرائنا لاتبعناك".
ويجوز أن تكون الفاء للتفريع على وعيد الكافرين بقوله: {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً *وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم: 94 - 95]. ووعد المؤمنين بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} [مريم: 96]. والمفرع هو مضمون {لِتُبَشِّرَ بِهِ} الخ {وَتُنْذِرَ بِهِ} الخ، أي ذلك أثر الإعراض عما جئت به من النذارة، وأثر الإقبال على ما جئت به من البشارة مما يسرناه بلسانك فإنا ما أنزلناه عليك إلا لذلك.
وضمير الغائب عائد إلى القرآن بدلالة السياق مثل {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص: من الآية32] وبذلك علم أن التيسير تسهيل قراءة القرآن. وهذا إدماج للثناء على القرآن بأنه ميسر للقراءة، كقوله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17]
واللسان: اللغة، أي بلغتك، وهي العربية، كقوله: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء 192- 195] ؛ فإن نزول القرآن بأفضل اللغات وأفصحها هو من أسباب فضله على غيره من الكتب وتسهيل حفظه ما لم يسهل مثله لغيره من الكتب.
والباء للسببية أو المصاحبة.
وعبر عن الكفار بقوم لد ذما لهم بأنهم أهل إيغال في المراء والمكابرة، أي أهل تصميم على باطلهم، فاللد: جمع ألد، وهو الأقوى في اللدد، وهو الإباية من الاعتراف بالحق. وفي الحديث الصحيح: "أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم" . ومما جره الإشراك إلى العرب من مذام الأخلاق التي خلطوا بها محاسن أخلاقهم أنهم ربما تمدحوا باللدد، قال بعضهم في رثاء البعض:
إن تحت الأحجار حزما وعزما ... وخصيما ألد ذا مغلاق
وقد حسن مقابلة المتقين بقوم لد. لأن التقوى امتثال وطاعة والشرك عصيان ولدد.
وفيه تعريض بأن كفرهم عن نعاد وهم يعلمون أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق، كما قال تعالى: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: من الآية33]
وإيقاع لفظ القوم عليهم للإشارة إلى أن اللدد شأنهم، وهو الصفة التي تقومت منها قوميتهم، كما تقدم في قوله تعالى: {لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} في سورة البقرة، [164] وقوله

تعالى: {وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس:101]
[98] {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً} [مريم:98]
لما ذكروا بالعناد والمكابرة أتبع بالتعريض بتهديدهم على ذلك بتذكيرهم بالأمم التي استأصلها الله لجبروتها وتعنتها لتكون لهم قياسا ومثلا. فالجملة معطوفة على جملة {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} باعتبار ما تضمنته من بشارة المؤمنين ونذارة المعاندين، لأن في التعريض بالوعيد لهم نذارة لهم وبشارة للمؤمنين باقتراب إراحتهم من ضرهم.
و {وكَمْ} خبرية عن كثرة العدد.
والقرن: الأمة والجيل. ويطلق على الزمان الذي تعيش فيه الأمة. وشاع تقديريه بمائة سنة. و {من} بيانية، وما بعدها تمييز {كم} .
والاستفهام في {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ} إنكاري. والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم تبعا لقوله {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} أي ما تحس، أي ما تشعر بأحد منهم. والإحساس: الإدراك بالحس، أي لا ترى منهم أحدا.
والركز: الصوت الخفي، ويقال: الرز، وقد روى بهما قول لبيد:
وتوجست ركز الأنيس فراعها ... عن ظهر غيب والأنيس سقامها
وهو كناية عن اضمحلالهم؛ كني باضمحلال لوازم الوجود عن اضمحلال وجودهم.

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة طهسميت سورة "طاها" باسم الحرفين المنطوق بهما في أولها.
ورسم الحرفان بصورتهما لا بما ينطق به الناطق من اسميهما تبعا لرسم المصحف كما تقدم في سورة الأعراف. وكذلك وردت تسميتها في كتب السنة في حديث إسلام عمر بن الخطاب كما سيأتي قريبا.
وفي تفسير القرطبي عن مسند الدرامي عن هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن الله تبارك وتعالى قرأ "طاها" باسمين قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام فلما سمعت الملائكة القرآن قالوا: طوبى لأمة ينزل هذا عليها" الحديث. قال ابن فورك: معناه أن الله أظهر كلامه وأسمعه من أراد أن يسمعه من الملائكة، فتكون هذه التسمية مروية عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وذكر في الإتقان عن السخاوي أنها تسمى أيضا "سورة الكليم"، وفيه عن الهذلي في كامله أنها تسمى "سورة موسى".
وهي مكية كلها على قول الجمهور. واقتصر عليه ابن عطية وكثير من المفسرين. وفي الإتقان أنه استثني منها آية {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه: من الآية130] واستظهر في الإتقان أن يستثنى منها قوله تعالى {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [طه: من الآية131]. لما أخرج أبو يعلى والزار عن أبي رافع قال: "أضاف النبي صلى الله عليه وسلم ضيفا فأرسلني إلى رجل من اليهود أن أسلفني دقيقا إلى هلال رجب فقال: لا، إلا برهن، فأتيت النبي فأخبرته فقال: أما والله إني لأمين في السماء أمين في الأرض. فلم أخرج من عنده حتى نزلت {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [طه:131] الآية اهـ.

وعندي أنه إن صح حديث أبي رافع فهو من اشتباه التلاوة بالنزول. فالعل النبي صلى الله عليه وسلم قرأها متذكرا فظنها أبو رافع نازلة ساعتئذ ولم يكن سمعها قبل، أو أطلق النزول على التلاوة. ولهذا نظائر كثيرة في المرويات في أسباب النزول كما علمته غير مرة.
وهذه السورة هي الخامسة والأربعون في ترتيب النزول نزلت بعد سورة مريم وقبل سورة الواقعة. ونزلت قبل إسلام عمر بن الخطاب لما روى الدارقطني عن أنس بن مالك، وابن إسحاق في سيرته عنه قال: خرج عمر متقلدا بسيف. فقيل له: إن ختنك وأختك قد صبوا، فأتاهما عمر وعندهما خباب بن الأرت يقرئهما سورة "طاها"، فقال: "أعطوني الكتاب الذي عندكم فأقرأه? فقالت له أخته: إنك رجس، ولا يمسه إلا المطهرون فقم فاغتسل أو توضأ. فقام عمر وتوضأ وأخذ الكتاب فقرأ طه. فلما قرأ صدرا منها قال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه" إلى آخر القصة. وذكر الفخر عن بعض المفسرين أن هذه السورة من أوائل ما نزل بمكة.
وكان إسلام عمر في سنة خمس من البعثة قبيل الهجرة الأولى إلى الحبشة فتكون هذه السورة قد نزلت في سنة خمس أو أواخر سنة أربع من البعثة.
وعدت آيها في عدد أهل المدينة ومكة مائة وأربعا وثلاثين وفي عدد أهل الشام مائة وأربعين، وفي عدد أهل البصرة مائة واثنتين وثلاثين. وفي عدد أهل الكوفة مائة وخمسا وثلاثين.
أغراضها
احتوت من الأغراض على:
- التحدي بالقرآن بذكر الحروف المقطعة في مفتتحها
- والتنويه بأنه تنزيل من الله لهدي القابلين للهداية؛ فأكثرها في هذا الشأن.
- والتنويه بعظمة الله تعالى. وإثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بأنها تماثل رسالة أعظم رسول قبله شاع ذكره في الناس. فضرب المثل لنزول القران على محمد صلى الله عليه وسلم بكلام الله موسى عليه السلام
- وبسط نشأة موسى وتأييد الله إياه ونصره على فرعون بالحجة والمعجزات وبصرف كيد فرعون عنه وعن أتباعه.

- وإنجاء الله موسى وقومه، وغرق فرعون،وما أكرم الله به بني إسرائيل في خروجهم من بلد القبط.
وقصة السامري وصنعه العجل الذي عبده بنو إسرائيل في مغيب موسى عليه السلام.
وكل ذلك تعويض بأن مآل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم صائر إلى ما صارت إليه بعثة موسى عليه السلام من النصر على معانديه. فلذلك انتقل من ذلك إلى وعيد من أعرضوا عن القرآن ولم تنفعهم أمثاله ومواعظه.
- وتذكير الناس بعدواة الشيطان الإنسان بما تضمنه قصة خلق آدم.
- ورتب على ذلك سوء الجزاء في الآخرة لمن جعلوا مقادتهم بيد الشيطان وإنذارهم بسوء العقاب في الدنيا.
- وتسلية النبي صلى الله عليه وسلم على ما يقولونه وتثبيته على الدين.
وتخلل ذلك إثبات البعث. وتهويل يوم القيامة وما يتقدمه من الحوادث والأهوال.
{طه} [طه:1]
هذان الحرفان من حروف فواتح بعض السور مثل الم، ويس. ورسما في خط المصحف بصورة حروف التهجي التي هي مسمى "طا" و"ها" كما رسم جميع الفواتح التي بالحروف المقطعة. وقرئا لجميع القراء كما قرأت بقية فواتح السور. فالقول فيهما كالقول المختار في فواتح تلك السور، وقد تقدم في أول سورة البقرة وسورة الأعراف.
وقيل هما حرفان مقتضبان من كلمتي "طاهر" و"هاد" وأنهما على معنى النداء بحذف حرف النداء.
وتقدم وجه المد في "طا" "ها" في أول سورة يونس. وقيل مقتضبان من فعل "طأ" أمرا من الوطء. ومن "ها" ضمير المؤنثة الغائبة عائد إلى رجل واحدة فأمره الله بهذه الآية أن يطأ الأرض برجله الأخرى. ولم يصح.
وقيل: "طاها" كلمة واحدة وأن أصلها من الحبشية. ومعناها إنسان، وتكلمت بها

قبيلة عك أو عكل وأنشدوا ليزيد بن مهلهل:
إن السفاهة طاها من شمائلكم ... لا بارك الله في القوم الملاعين
وذهب بعض المفسرين إلى اعتبارهما كلمة لغة عك أو عكل أو كلمة من الحبشية أو النبطية وأن معناها في لغة: عك يا إنسان، أو يا رجل. وفي ما عداها: يا حبيبي. وقيل: هي اسم سمى الله به نبيه صلى الله عليه وسلم وأنه على معنى النداء. أو هو قسم به. وقيل: هي اسم من أسماء الله تعالى على معنى القسم.
ورويت في ذلك آثار وأخبار ذكر بعضها عياض في الشفاء . ويجري فيها قول من جعل جميع هذه الحروف متحدة في المقصود منها. كقول من قال: هي أسماء للسور الواقعة فيها. ونحو ذلك مما تقدم في سورة البقرة. وإنما غرهم بذلك تشابه في النطق فلا نطيل بردها. وكذلك لا التفات إلى قول من زعموا أنه من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم.
[2-6] {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى * تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى}
افتتحت السورة بملاطفة النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله لم يرد من إرساله وإنزال القرآن عليه أن يشقى بذلك. أي تصيبه المشقة ويشده التعب، ولكن أراد أن يذكر بالقرآن من يخاف وعيده. وفي هذا تنويه أيضا بشأن المؤمنين الذين آمنوا بأنهم كانوا من أهل الخشية ولولا ذلك لما ادكروا بالقرآن.
وفي هذه الفاتحة تمهيد لما يرد من أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالاضطلاع بأمر التبليغ. وبكونه من أولي العزم مثل موسى عليه السلام وأن لا يكون مفرطا في العزم كما كان آدم عليه السلام قبل نزوله إلى الأرض. وأدمج في ذلك التنويه بالقرآن لأن في ضمن ذلك تنويها بمن أنزل عليه وجاء به.
والشقاء: فرط التعب بعمل أو غم في النفس، قال النابغة:
إلا مقالة أقوم شقيت بهم ... كانت مقالتهم قرعا على كبدي
وهمزة الشقاء منقلبة عن الواو. يقال: شقاء وشقاوة بفتح الشين وشقوة بكسرها.

ووقوع فعل {أَنْزَلْنَا} في سياق النفي يقتضي عموم مدلوله. لأن الفعل في سياق النفي بمنزلة النكرة في سياقه. وعموم الفعل يستلزم عموم متعلقاته من مفعول ومجرور، فيعم نفي جميع كل إنزال للقرآن فيه شقاء له، ونفي كل شقاء يتعلق بذلك الإنزال، أي جميع أنواع الشقاء فلا يكون إنزال القرآن سببا في شيء من الشقاء للرسول صلى الله عليه وسلم.
وأول ما يراد منه هنا أسف النبي صلى الله عليه وسلم من إعراض قومه عن الإيمان بالقرآن. قال تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} [الكهف:6].
ويجوز أن يكون المراد: ما أرسلناك لتخيب بل لنؤيدك وتكون لك العاقبة.
وقوله: {إِلَّا تَذْكِرَةً} استثناء مفرغ من أحوال للقرآن محذوفة، أي ما أنزلناه عليك القرآن في حال من أحوال إلا حال تذكرة فصار المعنى: ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى وما أنزلناه في حال من الأحوال إلا تذكرة. ويدل لذلك تعقيبه بقوله: {تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ} الذي هو حال من القرآن لا محالة، ففعل {أَنْزَلْنَا} عامل في {لِتَشْقَى} بواسطة حرف الجر، وعامل في {تَذْكِرَةً} بواسطة صاحب الحال، وبهذا تعلم أن ليس الاستثناء من العلة المنفية بقوله: {لتشقى} حتى تتحير في تقويم معنى الاستثناء فتفزع إلى جعله منقطعا وتقع في كلف لتصحيح النظم.
وقال الواحدي في أسباب النزول : قال مقاتل: قال أبو جهل والنضر بن الحارث وزاد غير الواحدي: الوليد بن المغيرة، والمطعم ابن عدي للنبي صلى الله عليه وسلم إنك لشقي بترك ديننا، لما رأوا من طول عبادته واجتهاده، فأنزل الله تعالى {طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} الآية، وليس فيه سند.
والتذكرة: خطور المنسي بالذهن، فإن التوحيد مستقر في الفطرة والإشراك مناف لها، فالدعوة إلى الإسلام تذكير لما في الفطرة أو تذكير لملة إبراهيم عليه السلام.
و {مَنْ يَخْشَى} هو المستعد للتأمل والنظر في صحة الدين، وهو كل من يفكر للنجاة في العاقبة، فالخشية هنا مستعملة في المعنى العربي الأصلي. ويجوز أن يراد بها المعنى الإسلامي، وهو خوف الله، فيكون المراد من الفعل المآل، أي من يؤول أمره إلى الخشية بتيسير الله تعالى له التقوى، كقوله تعالى: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: من الآية2] أي الصائرين إلى التقوى.
وَ {تَنْزِيلاً} حال من {الْقُرْآنَ} ثانية.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68