كتاب : التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور
المؤلف : محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي

التأمل فلا يسعهم إلا الاعتراف بأن الله إذا شاء شيئا لا يدفعه غيره إلا بمشيئته، لأنهم يعترفون بأن الأصنام إنما تقربهم إلى الله زلفى، فإذا صدقوا وقالوا: اندعوا الله، فقد قامت الحجة عليهم من الآن لأن من لا يغني في بعض الشدائد لا ينبغي الاعتماد عليه في بعض آخر.
ولذلك كان موقع {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ} عقب هذا الاستفهام موقع النتيجة للاستدلال.فحرف"بل"لإبطال دعوة غير الله.أي فأنا أجيب عنكم بأنكم لا تدعون إلا الله.ووجه تولي الجواب عنهم من السائل نفسه أن هذا الجواب لما كان لا يسع المسؤول إلا إقراره صح أن يتولى السائل الجواب عنه، كما تقدم في قوله تعالى: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} في هذه السورة[12] .
وتقديم المفعول على {تدعون} للقصر وهو قصر إفراد للرد على المشركين في زعمهم أنهم يدعون الله ويدعون أصنامهم، وهم وإن كانوا لم يزعموا ذلك في حال ما إذا أتاهم عذاب الله أو أتتهم الساعة إلا أنهم لما ادعوه في غير تلك الحالة نزلوا منزلة من يستصحب هذا الزعم في تلك الحالة أيضا.
وقوله: {فيكشف} عطف على {تدعون} ، وهذا إطماع في رحمة الله لعلهم يتذكرون.ولأجل التعجيل به قدم {وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} وكان حقه التأخير.فهو شبيه بتعجيل المسرة.ومفعول {تدعون} محذوف وهو ضمير اسم الجلالة، أي ما تدعونه.والضمير المجرور بـ"إلى"عائد على {ما} من قوله: {مَا تَدْعُونَ} أي يكشف الذي تدعونه إلى كشفه.وإنما قيد كشف الضر عنهم بالمشيئة لأنه إطماع لا وعد.
وعدي فعل {تدعون} بحرف"إلى"لأن أصل الدعاء نداء فكأن المدعو مطلوب بالحضور إلى مكان اليأس.
ومفعول {شاء} محذوف على طريقة حذف مفعول فعل المشيئة الواقع شرطا، كما تقدم آنفا.
وفي قوله: {إِنْ شَاءَ} إشارة إلى مقابله، وهو إن لم يشأ لم يكشف، وذلك في عذاب الدنيا.وأما إتيان الساعة فلا يكشف إلا أن يراد بإتيانها ما يحصل معها من القوارع والمصائب من خسف وشبهه فيجوز كشفه عن بعض الناس.ومما كشفه الله عنهم من عذاب الدنيا عذاب الجوع الذي في قوله تعالى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ

يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ـإلى قوله ـإِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} [الدخان: 10ـ16] فسرت البطشة بيوم بدر.
وجملة {فيكشف} الخ معترضة بين المعطوفين.وقوله: {وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} عطف على {إِيَّاهُ تَدْعُونَ} أي فإنكم في ذلك الوقت تنسون ما تشركون مع الله,وهو الأصنام.
وقوله: {وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} يجوز أن يكون النسيان على حقيقته، أي تذهلون عن الأصنام لما ترون من هول العذاب وما يقع في نفوسهم من أنه مرسل عليهم من الله فتنشغل أذهانهم بالذي أرسل العذاب وينسون الأصنام التي اعتادوا أن يستشفعوا بها.
ويجوز أن يكون مجازا في الترك والإعراض، أي وتعرضون عن الأصنام، إذ لعلهم يلهمون أو يستدلون في تلك الساعة على أن غير الله لا يكشف عنهم من ذلك العذاب شيئا، وإطلاق النسيان على الترك شائع في كلام العرب، كما في قوله تعالى: {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} [الجاثية: 34] ، أي نهملكم كما أنكرتم لقاء الله هذا اليوم.ومن قبيله قوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 5] .
وفي قوله: {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ} دليل على أن الله تعالى قد يجيب دعوة الكافر في الدنيا تبعا لإجراء نعم الله على الكفار.والخلاف في ذلك بين الأشعري والماتريدي آئل إلى الاختلاف اللفظي.
[42ـ45] {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
لما أنذرهم بتوقع العذاب أعقبه بالاستشهاد على وقوع العذاب بأمم من قبل، ليعلم هؤلاء أن تلك سنة الله في الذين ظلموا بالشرك.
وهذا الخبر مستعمل في إنذار السامعين من المشركين على طريقة التعريض، وهم المخاطبون بالقول المأمور به في الجملة التي قبلها.

فجملة {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا} عطف على جملة {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ} [الأنعام: 40] ، والواو لعطف الجمل، فتكون استئنافية إذ كانت المعطوف عليها استئنافا.وافتتحت هذه الجملة بلام القسم و"قد"لتوكيد مضمون الجملة، وهو المفرع بالفاء في قوله: {فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} .نزل السامعون المعرض بإنذارهم منزلة من ينكرون أن يكون ما أصاب الأمم الذين من قبلهم عقابا من الله تعالى على إعراضهم.
وقوله: {فأخذناهم} عطف على {أرسلنا} باعتبار ما يؤذن به وصف {مِنْ قَبْلِكَ} من معاملة أممهم إياهم بمثل ما عاملك به قومك، فيدل العطف على محذوف تقديره: فكذبوهم.
ولما كان أخذهم بالبأساء والضراء مقارنا لزمن وجود رسلهم بين ظهرانيهم كان الموقع لفاء العطف للإشارة إلى أن ذلك كان بمرأى رسلهم وقبل انقراضهم ليكون إشارة إلى أن الله أيد رسله ونصرهم في حياتهم؛ لأن أخذ الأمم بالعقاب فيه حكمتان: إحداهما زجرهم عن التكذيب، والثانية: إكرام الرسل بالتأييد بمرأى من المكذبين.وفيه تكرمة للنبي صلى الله عليه وسلم بإيذانه بأن الله ناصره على مكذبيه.
ومعنى {أخذناهم} أصبناهم إصابة تمكن.وتقدم تفسير الأخذ عند قوله تعالى: {أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْأِثْمِ} في سورة البقرة[206] .
وقد ذكر متعلق الأخذ هنا لأنه أخذ بشيء خاص بخلاف الآتي بعيد هذا.
والبأساء والضراء تقدما عند قوله تعالى: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} في سورة البقرة[177] .وقد فسر البأساء بالجوع والضراء بالمرض، وهو تخصيص لا وجه له، لأن ما أصاب الأمم من العذاب كان أصنافا كثيرة.ولعل من فسره بذلك اعتبر ما أصاب قريشا بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم.
و"لعل"للترجي.جعل علة لابتداء أخذهم بالبأساء والضراء قبل الاستئصال.
ومعنى {يتضرعون} يتذللون لأن الضراعة التذلل والتخشع، وهو هنا كناية عن الاعتراف بالذنب والتوبة منه، وهي الإيمان بالرسل.
والمراد: أن الله قدم لهم عذابا هينا قبل العذاب الأكبر، كما قال: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [السجدة: 21]
وهذا من فرط رحمته الممازجة لمقتضى حكمته؛ وفيه إنذار لقريش بأنهم سيصيبهم البأساء والضراء قبل

الاستئصال، وهو استئصال السيف.وإنما اختار الله أن يكون استئصالهم بالسيف إظهارا لكون نصر الرسول عليه الصلاة والسلام عليهم كان بيده ويد المصدقين به.وذلك أوقع على العرب، ولذلك روعي حال المقصودين بالإنذار وهم حاضرون.فنزل جميع الأمم منزلتهم، فقال: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} ، فإن"لولا"هنا حرف توبيخ لدخولها على جملة فعلية ماضوية واحدة، فليست"لولا"حرف امتناع لوجود.
والتوبيخ إنما يليق بالحاضرين دون المنقرضين لفوات المقصود.ففي هذا التنزيل إيماء إلى مساواة الحالين وتوبيخ للحاضرين بالمهم من العبرة لبقاء زمن التدارك قطعا لمعذرهم.
ويجوز أن تجعل"لولا"هنا للتمني على طريقة المجاز المرسل، ويكون التمني كناية عن الإخبار بمحبة الله الأمر المتمنى فيكون من بناء المجاز على المجاز، فتكون هذه المحبة هي ما عبر عنه بالفرح في الحديث: "الله أفرح بتوبة عبده" الحديث.وتقديم الظرف المضاف مع جملته على عامله في قوله: {إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} للاهتمام بمضمون جملته، وأنه زمن يحق أن يكون باعثا على الإسراع بالتضرع مما حصل فيه من البأس.
والبأس تقدم عند قوله تعالى: {وَحِينَ الْبَأْسِ} في سورة البقرة[177] .والمراد به هنا الشدة على العدو وغلبته.ومجيء البأس: مجيء أثره، فإن ما أصابهم من البأساء والضراء أثر من آثار قوة قدرة الله تعالى وغلبه عليهم.والمجيء مستعار للحدوث والحصول بعد أن لم يكن تشبيها لحدوث الشيء بوصول القادم من مكان آخر بتنقل الخطوات.
ولما دل التوبيخ أو التمني على انتفاء وقوع الشيء عطف عليه بـ"لمكن"عطفا على معنى الكلام، لأن التضرع ينشأ عن لين القلب فكان نفيه المفاد بحرف التوبيخ ناشئا عن ضد اللين وهو القساوة، فعطف بـ {لمكن} .
والمعنى: ولكن اعتراهم ما في خلقتهم من المكابرة وعدم الرجوع عن الباطل كأن قلوبهم لا تتأثر فشبهت بالشيء القاسي.والقسوة: الصلابة.
وقد وجد الشيطان من طباعهم عونا على نفث مراده فيهم فحسن لهم تلك القساوة وأغراهم بالاستمرار على آثامهم وأعمالهم.ومن هنا يظهر أن الضلال ينشأ عن استعداد الله في خلقة النفس.

والتزيين: جعل الشيء زينا.وقد تقدم عند قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} في سورة آل عمران[14] .
وقوله: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ} عطف على جملة {قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ} .والنسيان هنا بمعنى الإعراض، كما تقدم آنفا في قوله: {وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 41] .وظاهر تفرع الترك عن قسوة القلوب وتزيين الشيطان لهم أعمالهم.و"ما"موصولة ما صدقها البأساء والضراء، أي لما انصرفوا عن الفطنة بذلك ولم يهتدوا إلى تدارك أمرهم.ومعنى {ذُكِّرُوا بِهِ} أن الله ذكرهم عقابه العظيم بما قدم إليهم من البأساء والضراء.و"لما"حرف شرط يدل على اقتران وجود جوابه بوجود شرطه، وليس فيه معنى السببية مثل بقية أدوات الشرط.
وقوله: {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} جواب {لما} والفتح ضد الغلق.فالغلق: سد الفرجة التي يمكن الاجتياز منها إلى ما رواءها بباب ونحوه، بخلاف إقامة الحائط فلا تسمى غلقا.
والفتح: جعل الشيء الحاجز غير حاجز وقابلا للحجز، كالباب حين يفتح.ولكون معنى الفتح والغلق نسبيين بعضهما من الآخر قيل للآلة التي يمسك بها الحاجز ويفتح بها مفتاحا ومغلاقا، وإنما يعقل الفتح بعد تعقل الغلق، ولذلك كان قوله تعالى: {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} مقتضيا أن الأبواب المراد هاهنا كانت مغلقة وقت أن أخذوا بالبأساء والضراء، فعلم أنها أبواب الخير لأنها التي لا تجتمع مع البأساء والضراء.
فالفتح هنا استعارة لإزالة ما يؤلم ويغم كقوله: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 96] .ومنه تسمية النصر فتحا لأنه إزالة غم القهر.
وقد جعل الإعراض عما ذكروا به وقتا لفتح أبواب الخير، لأن المعنى أنهم لما أعرضوا عن الاتعاظ بنذر العذاب رفعنا عنهم العذاب وفتحنا عليهم أبواب الخير، كما صرح به في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [الأعراف: 95,94]
وقرأ الجمهور {فتحنا} ـبتخفيف المثناة الفوقية ـ.وقرأه ابن عامر، وأبو جعفر

ورويس عن يعقوب بتشديدها للمبالغة في الفتح بكثرته كما أفاده قوله: {أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ}
ولفظ "كل"هنا مستعمل في معنى الكثرة، كما في قول النابغة:
بها كل ذيال وخنساء ترعوي ... الى كل رجاف من الرمل فارد
أواستعمل في معناه الحقيقي؛ على أنه عام مخصوص، أي أبواب كل شيء يبتغونه، وقد علم أن المراد بكل شيء جميع الأشياء من الخير خاصة بقرينة قوله: {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا} وبقرينة مقابلة هذا بقوله: {أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} [لأعراف: 94] ، فهنالك وصف مقدر، أي كل شيء صالح، كقوله تعالى: {يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} [الكهف: 79] أي صالحة.
و {حتى} في قوله: {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا} ابتدائية.ومعنى الفرح هنا هو الازدهاء والبطر بالنعمة ونسيان المنعم، كما في قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص: 76] .قال الراغب: "ولم يرخص في الفرح إلا في قوله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} "[يونس: 58] .و"إذا"ظرف زمان للماضي.
ومراد الله تعالى من هذا هو الإمهال لهم لعلهم يتذكرون الله ويوحدونه فتطهر نفوسهم، فابتلاهم الله بالضر والخير ليستقصي لهم سببي التذكر والخوف، لأن من النفوس نفوسا تقودها الشدة ونفوسا يقودها اللين.
ومعنى الأخذ هنا الإهلاك.ولذلك لم يذكر له متعلق كما ذكر في قوله آنفا: {فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} للدلالة على أنه أخذ لا هوادة فيه.
والبغتة فعلة من البغت وهو الفجأة، أي حصول الشيء على غير ترقب عند من حصل له وهي تستلزم الخفاء.فلذلك قوبلت بالجهرة في الآية الآتية.وهنا يصح أن يكون مؤولا باسم الفاعل منصوبا على الحال من الضمير المرفوع، أي مباغتين لهم، أو مؤولا باسم المفعول على أنه حال من الضمير المنصوب، أي مبغوتين، {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ} [هود: 102] .
وقوله: {فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} "إذا"فجائية.وهي ظرف مكان عند سيبويه، وحرف عند نحاة الكوفة.
والمبلسون اليائسون من الخير المتحيرون، وهو من الإبلاس، وهو الوجوم

والسكوت عند طلب العفو يأسا من الاستجابة.
وجملة {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ} معطوفة على جملة {أخذناهم} ، أي فأخذناهم أخذ الاستئصال.فلم يبق فيهم أحدا.
والدابر اسم فاعل من دبره من باب كتب، إذا مشى من ورائه.والمصدر الدبور ـ بضم الدال ـ، ودابر الناس آخرهم، وذلك مشتق من الدبر، وهو الوراء، قال تعالى: {وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ} [الحجر: 65] .وقطع الدابر كناية عن ذهاب الجميع لأن المستأصل يبدأ بما يليه ويذهب يستأصل إلى أن يبلغ آخره وهو دابره، وهذا مما جرى مجرى المثل، وقد تكرر في القرآن، كقوله: {أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ} [الحجر: 66] .
والمراد بالذين ظلموا المشركون، فإن الشرك أعظم الظلم، لأنه اعتداء على حق الله تعالى على عباده في أن يعترفوا له بالربوبية وحده، وأن الشرك يستتبع مظالم عدة لأن أصحاب الشرك لا يؤمنون بشرع يزع الناس عن الظلم.
وجملة {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} يجوز أن تكون معطوفة على جملة {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ} بما اتصل بها.عطف غرض على غرض.ويجوز أن تكون اعتراضا تذييليا فتكون الواو اعتراضية.وأياما كان موقعها ففي المراد منها اعتبارات ثلاثة:
أحدها: أن تكون تلقينا للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أن يحمدوا الله على نصره رسله وأولياءهم وإهلاك الظالمين، لأن ذلك النصر نعمة بإزالة فساد كان في الأرض، ولأن في تذكير الله الناس به إيماء إلى ترقب الإسوة بما حصل لمن قبلهم أن يترقبوا نصر الله كما نصر المؤمنين من قبلهم؛ فيكون {الْحَمْدُ لِلَّهِ} مصدرا بدلا من فعله، عدل عن نصبه وتنكيره إلى رفعه وتعريفه للدلالة على معنى الدوام والثبات، كما تقدم في قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} في سورة الفاتحة[2] .
ثانيها: أن يكون {الْحَمْدُ لِلَّهِ} كناية عن كون ما ذكر قبله نعمة من نعم الله تعالى لأن من لوازم الحمد أن يكون على نعمة، فكأنه قيل: فقطع دابر القوم الذين ظلموا.وتلك نعمة من نعم الله تقتضي حمده.
ثالثها: أن يكون إنشاء حمد لله تعالى من قبل جلاله مستعملا في التعجيب من معاملة الله تعالى إياهم وتدريجهم في درجات الإمهال إلى أن حق عليهم العذاب

ويجوز أن يكون إنشاء الله تعالى ثناء على نفسه، تعريضا بالامتنان على الرسول والمسلمين.
واللام في {الحمد} للجنس، أي وجنس الحمد كله الذي منه الحمد على نعمة إهلاك الظالمين.
وفي ذلك كله تنبيه على أنه يحق الحمد لله عند هلاك الظلمة، لأن هلاكهم صلاح للناس، والصلاح أعظم النعم، وشكر النعمة واجب.وهذ الحمد شكر لأنه مقابل نعمة.وإنما كان هلاكهم صلاحا لأن الظلم تغيير للحقوق وإبطال للعمل بالشريعة، فإذا تغير الحق والصلاح جاء الدمار والفوضى وافتتن الناس في حياتهم فإذا هلك الظالمون عاد العدل، وهو ميزان قوام العالم.
أخرج أحمد بن حنبل عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراح ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
[46] {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ}
استئناف ابتدائي عاد به إلى الجدال معهم في إشراكهم بالله تعالى بعد أن انصرف الكلام عنه بخصوصه من قوله تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً} [الأنعام: 19] وما تفنن عقب ذلك من إثبات البعث وإثبات صدق الرسول وذكر القوارع والوعيد إلى قوله: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ} [الأنعام: 40] الآيات.وتكرير الأمر بالقول للواحد الذي تقدم آنفا عند قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ} [الأنعام: 40] الآية.
والرؤية قلبية متعدية إلى مفعولين، وليس هذا من قبيل الاستعمال المتقدم آنفا في قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ} [الأنعام: 40] الآية.
واختلاف القراء في {أرأيتم} كاختلافهم في مثله من قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ} [الأنعام: 40] الآية.

والأخذ: انتزاع الشيء وتناوله من مقره، وهو هنا مجاز في السلب والإعدام، لأن السلب من لوازم الأخذ بالنسبة إلى المأخوذ منه فهو مجاز مرسل.ولك أن تجعله تمثيلا لأن الله هو معطي السمع والبصر فإذا أزالها كانت تلك الإزالة كحالة أخذ ما كان أعطاه، فشبهت هيئة إعدام الخالق بعض مواهب مخلوقه بهيئة انتزاع الآخذ شيئا من مقره.فالهيئة المشبهة هنا عقلية غير محسوسة والهيئة المشبهة بها محسوسة.والختم على القلوب تقدم بيانه في سورة البقرة[7] عند قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} .والمراد بالقلوب العقول التي بها إدراك المعقولات.
والسمع مصدر دال على الجنس فكان في قوة الجمع، فعم بإضافته إلى ضمير المخاطبين ولا حاجة إلى جمعه.
والأبصار جمع بصر، وهو في اللغة العين على التحقيق.وقيل: يطلق البصر على حاسة الإبصار ولذلك جمع ليعم بالإضافة جميع أبصار المخاطبين، ولعل إفراد السمع وجمع الأبصار جرى على ما يقتضيه تمام الفصاحة من خفة أحد اللفظين مفردا والآخر مجموعا عند اقترانهما، فإن في انتظام الحروف والحركات والسكنات في تنقل اللسان سرا عجيبا من فصاحة كلام القرآن المعبر عنها بالنظم.وكذلك نرى مواقعها في القرآن قال تعالى: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الاحقاف: 26] .
والقلوب مراد بها العقول في كلام العرب لأن القلب سبب إمداد العقل بقوة الإدراك.
وقوله: {مِنْ إِلَهٍ} معلق لفعل الرؤية لأنه استفهام، أي أعلمتم جواب هذا الاستفهام أم أنتم في شك.وهو استفهام مستعمل في التقرير يقصد منه إلجاء السامعين إلى النظر في جوابه فيوقنوا أنه لا إله غير الله يأتيهم بذلك لأنه الخالق للسمع والأبصار والعقول فإنهم لا ينكرون أن الأصنام لا تخلق، ولذلك قال لهم القرآن: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [النحل: 17]
و {من} في موضع رفع على الابتداء، و {إله} خبر {من} ، و {غَيْرُ اللَّهِ} صفة {إله} ، {ويأتيكم} جملة في محل الصفة أيضا، والمستفهم عنه هو إله، أي ليس إله غير الله يأتي بذلك، فدل على الوحدانية.ومعنى {يَأْتِيكُمْ بِهِ} يرجعه، فإن أصل أتى به، جاء به.ولما كان الشيء المسلوب إذا استنقذه منقذ يأتب به إلى مقره أطلق الإتيان بالشيء على

إرجاعه مجازا أو كناية.
والضمير المجرور بالباء عائد إلى السمع والأبصار والقلوب، على تأويلها بالمذكور فلذلك لم يقل بها.وهذا استعمال قليل في الضمير، ولكنه فصيح.وقد تقدم في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ} في سورة المائدة[36] ،وعند قوله: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً} في سورة النساء[4] .وإيثاره هنا على أن يقال: يأتيكم بها، لدفع توهم عود الضمير إلى خصوص القلوب.
والكلام جار مجرى التهديد والتخويف، اختير فيه التهديد بانتزاع سمعهم وأبصارهم وسلب الإدراك من قلوبهم لأنهم لم يشكروا نعمة هذه المواهب بل عدموا الانتفاع بها، كما أشار إليه قوله آنفا: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا} [الأنعام: 25] فكان ذلك تنبيها لهم على عدم إجداء هذه المواهب عليهم مع صلاحيتها للانتفاع، وناسب هنا أن يهددوا بزوالها بالكلية إن داموا على تعطيل الانتفاع بها فيما أمر به خالقها.
وقوله: {انظر} تنزيل للأمر المعقول منزلة المشاهد، وهو تصريف الآيات مع الإعراض عنها حتى أن الناظر يستطيع أن يراها، فأما الأمر فهو مستعمل في التعجيب من حال إعراضهم.
والجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا تتنزل منزلة التذييل للآيات السابقة، فإنه لما غمرهم بالأدلة على الوحدانية وصدق الرسول، وأبطل شبههم عقب ذلك كله بالتعجيب من قوة الأدلة مع استمرار الإعراض والمكابرة، وقد تقدم قريب منه عند قوله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النساء: 50] في سورة النساء.وهذا تذكير لهم بأن الله هو خالق أسماعهم وأبصارهم وألبابهم فما كان غيره جديرا بأن يعبدوه.
وتصريف الآيات اختلاف أنواعها بأن تأتي مرة بحجج من مشاهدات في السماوات والأرض، وأخرى بحجج من دلائل في نفوس الناس، ومرة بحجج من أحوال الأمم الخالية التي أنشأها الله، فالآيات هنا هي دلائل الوحدانية، فهي متحدة في الغاية مختلفة الأساليب متفاوتة في الاقتراب من تناول الأفهام عامها وخاصها، وهي أيضا مختلفة في تركيب دلائلها من جهتي المقدمات العقلية وغيرها، ومن جهتي الترغيب والترهيب ومن التنبيه والتذكير، بحيث تستوعب الإحاطة بالأفهام على اختلاف مدارك العقول.

والتعريف في الآيات للعهد، وهي المعهودة في هذه السورة ابتداء من قوله: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1] .
و {ثم} للترتيب الرتبي لأنها عطفت جملة على جملة، فهي تؤذن بأن الجملة المعطوفة أدخل في الغرض المسوق له الكلام، وهو هنا التعجيب من قوة الأدلة وأن استمرار الإعراض والمكابرة مع ذلك أجدر بالتعجيب به.
وجيء بالمسند في جملة {هُمْ يَصْدِفُونَ} فعلا مضارعا للدلالة على تجدد الإعراض منهم.وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي لتقوي الحكم.
و {يصدفون} يعرضون إعراضا شديدا.يقال: صدف صدفا وصدوفا، إذا مال إلى جانب وأعرض عن الشيء.وأكثر ما يستعمل أن يكون قاصرا فيتعدى إلى مفعوله بـ"عن".وقد يستعمل متعديا كما صرح به في القاموس.وقل التعرض لذلك في كتب اللغة ولكن الزمخشري في تفسير قوله تعالى في أواخر هذه السورة {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا} [الأنعام: 157] قدر: وصدف الناس عنها، مع أنه لم يتعرض لذلك في الأساس ولا علق على تقديره شارحوه.ولما تقدم ذكر الآيات حذف متعلق {يصدفون} لظهوره، أي صدف عن الآيات.
[47] {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ}
استئناف للتهديد والتوعد وإعذار لهم بأن إعراضهم لا يرجع بالسوء إلا عليهم ولا يضر بغيرهم، كقوله: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام: 26]
والقول في {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً} الآية كالقول في نظيريه المتقدمين.
وجيء في هذا وفي نظيره المتقدم بكاف الخطاب مع ضمير الخطاب دون قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ} [الأنعام: 46] الآية لأن هذا ونظيره أبلغ في التوبيخ لأنهما أظهر في الاستدلال على كون المشركين في مكنة قدرة الله، فإن إتيان العذاب أمكن وقوعا من سلب الأبصار والأسماع والعقول لندرة حصول ذلك، فكان

التوبيخ على إهمال الحذر من إتيان عذاب الله، أقوى من التوبيخ على الاطمئنان من أخذ أسماعهم وأبصارهم، فاجتلب كاف الخطاب المقصود منه التنبيه دون أعيان المخاطبين.
والبغتة تقدمت آنفا.
والجهرة: الجهر، ضد الخفية، وضد السر.وقد تقدم عنه قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} في سورة البقرة[55] .
وقد أوقع الجهرة هنا في مقابلة البغتة وكان الظاهر أن تقابل البغتة بالنظرة أو أن تقابل الجهرة بالخفية، إلا أن البغتة لما كانت وقوع الشيء من غير شعور به كان حصولها خفيا فحسن مقابلته بالجهرة، فالعذاب الذي يجيء بغتة هو الذي لا تسبقه علامة ولا إعلام به.والذي يجيء جهرة هو الذي تسبقه علامة مثل الكسف المحكي في قوله تعالى: { فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الاحقاف: 24] أو يسبقه إعلام به كما في قوله تعالى: {فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ} [هود: 65] .فإطلاق الجهرة على سبق ما يشعر بحصول الشيء إطلاق مجازي.وليس المراد من البغتة الحاصل ليلا ومن الجهرة الحاصل نهارا.
والاستفهام في قوله: {هَلْ يُهْلَكُ} مستعمل في الإنكار فلذلك جاء بعده الاستثناء.والمعنى لا يهلك بذلك العذاب إلا الكافرون.
والمراد بالقوم الظالمين المخاطبون أنفسهم فأظهر في مقام الإضمار ليتأتى وصفهم أنهم ظالمون، أي مشركون، لأنهم ظالمون أنفسهم وظالمون الرسول والمؤمنين.
وهذا يتضمن وعدا من الله تعالى بأنه منجي المؤمنين، ولذلك أذن رسوله بالهجرة من مكة مع المؤمنين لئلا يحل عليهم العذاب تكرمة لهم كما أكرم لوطا وأهله، وكما أكرم نوحا ومن آمن معه، كما أشار إليه قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33] ثم قوله: {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ} [الأنفال: 34] .
[49,48] {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}
عطف على جملة {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ} [الأنعام: 46] .والمناسبة أن صدوفهم وإعراضهم كانوا يتعللون له بأنهم يرومون آيات على وفق مقترحهم

وأنهم لا يقنعون بآيات الوحدانية، ألا ترى إلى قولهم: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً} [الإسراء: 90] إلى آخر ما حكي عنهم في تلك الآية، فأنبأهم الله بأن إرسال الرسل للتبليغ والتبشير والنذارة لا للتلهي بهم باقتراح الآيات.
وعبر بـ {نرسل} دون {أرسلنا} للدلالة على تجدد الإرسال مقارنا لهذين الحالين، أي ما أرسلنا وما نرسل.فقوله: {مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} حالان مقدرتان باعتبار المستقبل ومحققتان باعتبار الماضي.
والاستثناء من أحوال محذوفة، أي ما أرسلناهم إلا في حالة كونهم مبشرين ومنذرين.
والقصر إضافي للرد على من زعموا أنه إن لم يأتهم بآية كما اقترحوا فليس برسول من عند الله، فهو قصر قلب، أي لم نرسل الرسول للإعجاب بإظهار خوارق العادات.وكنى بالتبشير والإنذار عن التبليغ لأن التبليغ يستلزم الأمرين وهما الترغيب والترهيب، فحصل بهذه الكناية إيجاز إذ استغنى بذكر اللازم عن الجمع بينه وبين الملزوم.
والفاء في قوله: {فَمَنْ آمَنَ} للتفريع، أي فمن آمن من المرسل إليهم فلا خوف الخ.و {مَنْ} الأظهر أنها موصولة كما يرجحه عطف {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا} عليه.ويجوز أن تكون شرطية لا سيما وهي في معنى التفصيل لقوله: {مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} .فإن كانت شرطية فاقتران {فَلا خَوْفٌ} بالفاء بين، وإن جعلت موصولة فالفاء لمعاملة الموصول معاملة الشرط، والاستعمالان متقاربان.
ومعنى {أصلح} فعل الصلاح، وهو الطاعة لله فيما أمر ونهى، لأن الله ما أراد بشرعه إلا إصلاح الناس كما حكى عن شعيب: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} [هود: 88] .
والمس حقيقته مباشرة الجسم باليد وهو مرادف اللمس والجس، ويستعار لإصابة جسم جسما آخر كما في هذه الآية.
وقد تقدم في قوله تعالى: {لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} في سورة المائدة[73] .ويستعار أيضا للتكيف بالأحوال كما يقال: به مس من الجنون.قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [لأعراف: 201]
وجمع الضمائر العائدة إلى"مَنْْ"مراعاة لمعناها، وأما إفراد فعل {آمن} و {أصلح}

فلرعي لفظها.
والباء للسببية، و"ما"مصدرية، أي بسبب فسقهم.والفسق حقيقته الخروج عن حد الخير.وشاع استعماله في القرآن في معنى الكفر وتجاوز حدود الله تعالى.وتقدم تفصيله عند قوله تعالى: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} في سورة البقرة[26] .
وجيء بخبر"كان"جملة مضارعية للإشارة إلى أن فسقهم كان متجددا متكررا، على أن الإتيان بـ"كان"أيضا للدلالة على الاستمرار لأن "كان"إذا لم يقصد بها انقضاء خبرها فيما مضى دلت على استمرار الخبر بالقرينة، كقوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [النساء: 96] .
{قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ}
لما تقضّت المجادلة مع المشركين في إبطال شركهم ودحض تعاليل إنكارهم نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم بأنهم لا يؤمنون بنبوءته إلا إذا جاء بآية على وفق هواهم، وأبطلت شبهتهم بقوله: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} [الأنعام: 48] وكان محمد صلى الله عليه وسلم ممن شمله لفظ المرسلين، نقل الكلام إلى إبطال معاذيرهم فأعلمهم الله حقيقة الرسالة واقترانها بالآيات فبين لهم أن الرسول هو الذي يتحدى الأمة لأنه خليفة عن الله في تبليغ مراده من خلقه، وليست الأمة هي التي تتحدى الرسول، فآية صدق الرسول تجيء على وفق دعواه الرسالة، فلو ادعى أنه ملك أو أنه بعث لإنقاذ الناس من أرزاء الدنيا ولإدناه خيراتها إليهم لكان من عذرهم أن يسألوه آيات تؤيد ذلك، فأما والرسول مبعوث للهدى فآيته أن يكون ما جاء به هو الهدى وأن تكون معجزته هو ما قارن دعوته مما يعجز البشر عن الإتيان بمثله في زمنهم.
فقوله: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ} استئناف ابتدائي انتقل به الكلام من غرض إلى غرض.
وافتتاح الكلام بالأمر بالقول للاهتمام بإبلاغه، كما تقدم عند قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ} [الأنعام: 40] .
وقد تكرر الأمر بالقول من هنا إلى قوله: {لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ} [الأنعام: 67] اثنتي عشرة مرة.

والاقتصار على نفي ادعاء هذه الثلاثة المذكورة في الآية ناظر إلى ما تقدم ذكره من الآيات التي سألوها من قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} [الأنعام: 8] وقوله: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ} [الأنعام: 7] وقوله: {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ} [الأنعام: 35] الآية.
وافتتح الكلام بنفي القول ليدل على أن هذا القول لم يقترن بدعوى الرسالة فلا وجه لاقتراح تلك الأمور المنفي قولها على الرسول لأن المعجزة من شأنها أن تجيء على وفق دعوى الرسالة.
واللام في {لكم} لام التبليغ، وهي مفيدة تقوية فعل القول عندما لا تكون حاجة لذكر المواجه بالقول كما هنا لظهور أن المواجه بالقول هم المكذبون، ولذلك ورد قوله تعالى: {وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} [هود: 31] مجردا عن لام التبليغ.فإذا كان الغرض ذكر المواجه بالقول فاللام حينئذ تسمى لام تعدية فعل القول فالذي اقتضى اجتلاب هذه اللام هنا هو هذا القول بحيث لو قاله قائل لكان جديرا بلام التبليغ.
والخزائن جمع خزانة ـ بكسر الخاء ـ وهي البيت أو الصندوق الذي يحتوي ما تتوق إليه النفوس وما ينفع عند الشدة والحاجة.والمعنى أني ليس لي تصرف مع الله ولا أدعي أني خازن معلومات الله وأرزاقه.
و {خَزَائِنُ اللَّهِ} مستعارة لتعلق قدرة الله بالإنعام وإعطاء الخيرات النافعة للناس في الدنيا.شبهت تلك التعلقات الصلوحية والتنجيزية في حجبها عن عيون الناس وتناولهم مع نفعها إياهم، بخزائن أهل اليسار والثروة التي تجمع الأموال والأحبية والخلع والطعام، كما أطلق عليها ذلك في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [المنافقون: 7] ، أي ما هو مودع في العوالم العليا والسفلى مما ينفع الناس، وكذلك قوله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ} [الحجر: 21] .
وتقديم المسند وهو قوله: {عندي} للاهتمام به لما فيه من الغرابة والبشارة للمخبرين به لو كان يقوله.
وقوله: {وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} عطف على {عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ} فهو في حيز القول المنفي.وأعيد حرف النفي على طريقة عطف المنفيات بعضها على بعض فإن الغالب أن يعاد معها حرف النفي للتنصيص على أن تلك المتعاطفات جميعها مقصودة بالنفي بآحادها

لئلا يتوهم أن المنفي مجموع الأمرين.والمعنى لا أقول أعلم الغيب، أي علما مستمرا ملازما لصفة الرسالة.فأما إخباره عن بعض المغيبات فذلك عند إرادة الله إطلاعه عليه بوحي خاص، كما قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 27,26] وهو داخل تحت قوله: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} .
وعطف {وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} على {لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ} بإظهار فعل القول فيه، خلافا لقوله: {وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} لعله لدفع ثقل التقاء حرفين: "لا"وحرف"إن"الذي اقتضاه مقام التأكيد، لأن إدعاء مثله من شأنه أن يؤكد، أي لم أدع أني من الملائكة فتقولوا: {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} [الأنعام: 8] ، فنفي كونه ملكا جواب عن مقترحهم أن ينزل عليهم ملك أو أن يكون معه ملك نذيرا.والمقصود نفي أن يكون الرسول من جنس الملائكة حتى يكون مقارنا لملك آخر مقارنة تلازم كشأن أفراد الجنس الواحد.وكانوا يتوهمون أن الرسالة تقتضي أن يكون الرسول من غير جنس البشر فلذلك قالوا: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان: 7] .فالمعنى نفي ماهية الملكية عنه لأن لجنس الملك خصائص أخرى مغايرة لخصائص البشر.وهذا كما يقول القائل لمن يكلفه عنتا: إني لست من حديد.
ومن تلفيق الاستدلال أن يستدل الجبائي بهذه الآية على تأييد قول أصحابه المعتزلة بتفضيل الملائكة على الأنبياء مع بعد ذلك عن مهيع الآية.وقد تابعه الزمخشري، وكذلك دأبه كثيرا ما يرغم معاني القرآن على مسايرة مذهبه فتنزو عصبيته وتنزوي عبقريته، وهذه مسألة سنتكلم عليها في مظنتها.
وجملة {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} مستأنفة استئنافا بيانيا لأنه لما نفى أن يقول هذه المقالات كان المقام مثيرا سؤال سائل يقول: فماذا تدعى بالرسالة وما هو حاصلها لأن الجهلة يتوهمون أن معنى النبوءة هو تلك الأشياء المتبرأ منها في قوله: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ} الخ، فيجاب بقوله: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} ، أي ليست الرسالة إلا التبليغ عن الله تعالى بواسطة الوحي.
فمعنى {أتبع} مجاز مرسل في الاقتصار على الشيء وملازمته دون غيره.لأن ذلك من لوازم معنى الاتباع الحقيقي وهو المشي خلف المتبع ـ بفتح الموحدة ـ، أي لا أحيد عن تبليغ ما يوحى الي إلى إجابة المقترحات من إظهار الخوارق أو لإضافة الأرزاق أو إخبار بالغيب، فالتلقي والتبليغ هو معنى الاتباع، وهو كنه الرسالة عن الله تعالى.فالقصر

المستفاد هنا إضافي، أي دون الاشتغال بإظهار ما تقترحونه من الخوارق للعادة.والغرض من القصر قلب اعتقادهم أن الرسول لا يكون رسولا حتى يأتيهم بالعجائب المسؤولة.وقد حصل بذلك بيان حقيقة الرسالة تلك الحقيقة التي ضل عن إدراكها المعاندون.وهذا معنى قوله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} [الأنعام: 48] .
وإذ قد كان القصر إضافيا كان لا محالة ناظرا إلى قلب اعتقادهم بالنسبة لمطالبهم باتباع مقترحاتهم، أي لا أتبع في التبليغ إليكم إلا ما يوحى الي.فليس في هذا الكلام ما يقتضي قصر تصرف الرسول عليه ا لصلاة والسلام على العمل بالوحي حتى يحتج بها من ينفي من علمائنا جواز الاجتهاد للنبي صلى الله عليه وسلم في أمور الدين لأن تلك مسألة مستقلة لها أدلة للجانبين، ولا مساس لها بهذا القصر.ومن توهمه فقد أساء التأويل.
{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ}
هذا ختام للمجادلة معهم وتذييل للكلام المفتتح بقوله: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ} ، أي قل لهم هذا التذييل عقب ذلك الاستدلال.
وشبهت حالة من لا يفقه الأدلة ولا يفكك بين المعاني المتشابهة بحالة الأعمى الذي لا يعرف أين يقصد ولا أين يضع قدمه.وشبهت حالة من يميز الحقائق ولا يلتبس عليه بعضها ببعض بحالة القوي البصر حيث لا تختلط عليه الأشباح.وهذا تمثيل لحال المشركين في فساد الوضع لأدلتهم وعقم أقيستهم، ولحال المؤمنين الذين اهتدوا ووضعوا الأشياء مواضعها، أو تمثيل لحال المشركين التي هم متلبسون بها والحال المطلوبة منهم التي نفروا منها ليعلموا أي الحالين أولى بالتخلق.
وقوله: {أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ} استفهام إنكار.وهو معطوف بالفاء على الاستفهام الأول، لأنه مترتب عليه لأن عدم استواء الأعمى والبصير بديهي لا يسعهم إلا الاعتراف بعدم استوائهما فلا جرم أن يتفرع عليه إنكار عدم تفكرهم في أنهم بأيهما أشبه.والكلام على الأمر بالقول مثل ما تقدم عند قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ} [الأنعام: 40] .
والتفكر: جولان العقل في طريق استفادة علم صحيح.
{وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}

الأظهر أنه عطف على قوله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} [الأنعام: 50] لأن ذلك مقدمة لذكر من مثلت حالهم بحال البصير وهم المؤمنون.
وضمير {به} عائد إلى {مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأنعام: 50] وهو القرآن وما يوحى به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم غير مراد به الإعجاز.
و {الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} هم المؤمنون الممثلون بحال البصير.وعرفوا بالموصول لما تدل عليه الصلة من المدح، ومن التعليل بتوجيه إنذاره إليهم دون غيرهم، لأن الإنذار للذين يخافون أن يحشروا إنذار نافع، خلافا لحال الذين ينكرون الحشر، فلا يخافونه فضلا عن الاحتياج إلى شفعاء.
و {أَنْ يُحْشَرُوا} مفعول { يخافون} ، أي يخافون الحشر إلى ربهم فهم يقدمون الأعمال الصالحة وينتهون عما نهاهم خيفة أن يلقوا الله وهو غير راض عنهم.وخوف الحشر يقتضي الإيمان بوقوعه.ففي الكلام تعريض بأن المشركين لا ينجع فيهم الإنذار لأنهم لا يؤمنون بالحشر فكيف يخافونه.ولذلك قال فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6]
وجملة {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} حال من ضمير {أَنْ يُحْشَرُوا} ، أي يحشروا في هذه الحالة، فهذه الحال داخلة في حيز الخوف.فمضمون الحال معتقد لهم، أي ليسوا ممن يزعمون أن لهم شفعاء عند الله لا ترد شفاعتهم، فهم بخلاف المشركين الذين زعموا أصنامهم شفعاء لهم عند الله.
وقوله: {مِنْ دُونِهِ} حال من {ولي} و {شفيع} ، والعامل في الحال فعل {يخافون} ، أي ليس لهم ولي دون الله ولا شفيع دون الله ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا.وهو تعريض بالمشركين الذين اتخذوا شفعاء وأولياء غير الله.
وفي الآية دليل على ثبوت الشفاعة بإذن الله كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] .ولصاحب الكشاف هنا تكلفات في معنى {يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا} وفي جعل الحال من ضمير {يحشروا} حالا لازمة، ولعله يرمي بذلك إلى أصل مذهبه في إنكار الشفاعة.
وقوله: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} رجاء مسوق مساق التعليل للأمر بإنذار المؤمنين لأنهم يرجى تقواهم، بخلاف من لا يؤمنون بالبعث.

[52] {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ}
عطف على قوله: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} [الأنعام: 51] لأنه في معنى أنذرهم ولازمهم وإن كره ذلك متكبرو المشركين.فقد أجريت عليهم هنا صلة أخرى هي أنسب بهذا الحكم من الصلة التي قبلها، كما أن تلك أنسب بالحكم الذي اقترنت معه منها بهذا، فلذلك لم يسلك طريق الإضمار، فيقال: ولا تطردهم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم جاء داعيا إلى الله فأولى الناس بملازمته الذين هجيراهم دعاء الله تعالى بإخلاص فكيف يطردهم فإنهم أولى بذلك المجلس، كما قال تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} [آل عمران: 68] .
روى مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال: "كنا مع النبي ستة نفر، فقال المشركون للنبي: "أطرد هؤلاء لا يجترئون علينا.قال: وكنت أنا، وابن مسعود، ورجل من هذيل، وبلال، ورجلان، لست أسميهما، فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع، فحدث نفسه فأنزل الله تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} "أهـ.وسمى الواحدي بقية الستة: وهم صهيب، وعمار بن ياسر، والمقداد ابن الأسود، وخباب بن الأرت.وفي قول ابن مسعود: "فوقع في نفس رسول الله ما شاء الله"إجمال بينه ما رواه البيهقي أن رؤساء قريش قالوا لرسول الله: "لو طردت هؤلاء الأعبد وأرواح جبابهم جمع جبة جلسنا إليك وحادثناك".فقال: "ما أنا بطارد المؤمنين" .فقالوا: "فأقمهم عنا إذا جئنا فإذا قمنا فأقعدهم معك إن شئت"، فقال: "نعم"، طمعا في إيمانهم.فأنزل الله هذه الآية".ووقع في سنن ابن ماجة عن خباب أن قائل ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن، وأن ذلك سبب نزول الآية، وقال ابن عطية: "هو بعيد لأن الآية مكية.وعيينة والأقرع إنما وفدا مع وفد بني تميم بالمدينة سنة الوفود".اهـ.قلت: ولعل ذلك وقع منهما فأجابهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الآية التي نزلت في نظير اقتراحهما.
وفي سنده أسباط بن نصر أو نضر، ولم يكن بالقوي، وفيه السدي ضعيف.وروي مثله في بعض التفاسير عن سلمان الفارسي، ولا يعرف سنده.وسمى ابن إسحاق أنهم المستضعفون من المؤمنين وهم: خباب، وعمار، وأبو فكيهة، يسار مولى صفوان بن

أمية ابن مُحرّث، وصهيب وأشباههم، وأن قريشا قالوا: {أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [الأنعام: 53] .
وذكر الواحدي في أسباب النزول: "أن هذه الآية نزلت في حياة أبي طالب.فعن عكرمة قال: جاء عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، ومطعم بن عدي، والحارث بن نوفل، في أشراف بني عبد مناف إلى أبي طالب فقالوا: "لو أن ابن أخيك محمدا يطرد عنه موالينا وعبيدنا وعتقاءنا كان أعظم في صدورنا وأطمع له عندنا وأرجى لاتباعنا إياه وتصديقنا له.فأتى أبو طالب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحدثه بالذي كلموه، فقال عمر بن الخطاب: "لو فعلت ذلك حتى ننظر ما الذي يريدون وإلام يصيرون من قولهم، فأنزل الله هذه الآيات".فلما نزلت أقبل عمر يعتذر.والمعنى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لحرصه على إيمان عظماء قريش ليكونوا قدوة لقومهم ولعلمه بأن أصحابه يحرصون حرصه ولا يوحشهم أن يقاموا من المجلس إذا حضره عظماء قريش لأنهم آمنوا يريدون وجه الله لا للرياء والسمعة ولكن الله نهاه عن ذلك.وسماه طردا تأكيدا لمعنى النهى، وذلك لحكمة: وهي كانت أرجح من الطمع في إيمان أولئك، لأن الله اطلع على سرائرهم فعلم أنهم لا يؤمنون، وأراد الله أن يظهر استغناء دينه ورسوله عن الاعتزاز بأولئك الطغاة القساة، وليظهر لهم أن أولئك الضعفاء خير منهم، وأن الحرص على قربهم من الرسول صلى الله عليه وسلم أولى من الحرص على قرب المشركين، وأن الدين يرغب الناس فيه وليس هو يرغب في الناس كما قال تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات: 17]
ومعنى {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} يعلنون إيمانهم به دون الأصنام إعلانا بالقول، وهو يستلزم اعتقاد القائل بما يقوله، إذ لم يكن يومئذ نفاق وإنما ظهر المنافقون بالمدينة.
والغداة: أول النهار.والعشي من الزوال إلى الصباح.والباء للظرفية.والتعريف فيهما تعريف الجنس.والمعنى أنهم يدعون الله اليوم كله.فالغداة والعشي قصد بهما استيعاب الزمان والأيام كما يقصد بالمشرق والمغرب استيعاب الأمكنة.وكما يقال: الحمد لله بكرة وأصيلا، وقيل: أريد بالدعاء الصلاة.وبالغداة والعشي عموم أوقات الصلوات الخمس.فالمعنى ولا تطرد المصلين، أي المؤمنين.
وقرأ الجمهور {بِالْغَدَاةِ} بفتح الغين وبألف بعد الدال ـ.وقرأه ابن عامرـ بضم

الغين وسكون الدال وبواو ساكنة بعد الدال ـ وهي لغة في الغداة.
وجملة {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} حال من الضمير المرفوع في {يدعون} ، أي يدعون مخلصين يريدون وجه الله، أي لا يريدون حظا دنيويا.
والوجه حقيقة الجزء من الرأس الذي فيه العينان والأنف والفم.ويطلق الوجه على الذات كلها مجازا مرسلا.
والوجه هنا مستعار للذات على اعتبار مضاف، أي يريدون رضى الله، أي لايريدون إرضاء غيره.ومنه قوله تعالى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً} [الانسان: 9] ،وقوله: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} ، وتقدم في سورة البقرة[115] .فمعنى {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} أنهم آمنوا ودعوا الله لا يريدون بذلك عرضا من الدنيا.وقد قيل: إن قريشا طعنوا في إيمان الضعفاء ونسبوهم إلى النفاق، إلا أن هذا لم يرد به أثر صحيح، فالأظهر أن قوله: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} ثناء عليهم بكمال إيمانهم، وشهادة لهم بأنهم مجردون عن الغايات الدنيوية كلها، وليس المقصود به الرد على المشركين.
وجملة {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} تعليل للنهي عن طردهم، أو إبطال لعلة الهم بطردهم، أو لعلة طلب طردهم.فإن إبطال علة فعل المنهي عنه يؤول إلى كونه تعليلا للنهي، ولذا فصلت هذه الجملة.
والحساب: عد أفراد الشيء ذي الأفراد ويطلق على إعمال النظر في تمييز بعض الأحوال عن بعض إذا اشتبهت على طريقة الاستعارة بتشبيه تتبع الأحوال بعد الأفراد.ومنه جاء معنى الحسبة بكسر الحاء، وهي النظر في تمييز أحوال أهل السوق من استقامة وضدها.ويقال: حاسب فلانا على أعماله إذا استقراها وتتبعها.قال النابغة:
يحاسب نفسه بكم اشتراها
فالحساب هنا مصدر حاسب.والمراد به تتبع الأعمال والأحوال والنظر فيما تقابل به من جزاء.
وضمير الجمع في قوله: {مِنْ حِسَابِهِمْ} وقوله: {وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ} يجوز أن يكونا عائدين إلى {الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} وهو معاد مذكور، وهو المناسب لتناسق الضمائر مع قوله: {فتطردهم} .فالمعنى أنهم أهل الحق في مجلسك لأنهم مؤمنون فلا يطردون عنه وما عليك أن تحسب ما عدا ذلك من الأمور العارضة لهم بزعم المشركين، وأن حضور

أولئك في مجلسك يصد كبراء المشركين عن الإيمان، أي أن ذلك مدحوض تجاه حق المؤمنين في مجلس رسولهم وسماع هديه.
وقيل معنى {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ} أن المشركين طعنوا في إخلاص هؤلاء النفر، قالوا: يا محمد إن هؤلاء إنما اجتمعوا عندك وقبلوا دينك لأنهم يجدون مأكولا وملبوسا عندك، فقال الله تعالى: ما يلزمك إلا اعتبار ظاهرهم وإن كان لهم باطن يخالفه فحسابهم على الله، أي إحصاء أحوالهم ومناقشتهم عليها على نحو قول نوح: {إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ} [الشعراء: 113] .فمعنى حسابهم على هذا الوجه تمحيص نياتهم وبواطنهم.والقصد من هذا تبكيت المشركين على طريقة إرخاء العنان، وليس المراد استضعاف يقين المؤمنين.و {حسابهم} على هذا الوجه من إضافة المصدر إلى مفعوله.
ويجوز أن يكون الضميران عائدين إلى غير مذكور في الكلام ولكته معلوم من السياق الذي أشار إليه سبب النزول، فيعود الضميران إلى المشركين الذين سألوا طرد ضعفاء المؤمنين من مجلس النبي صلى الله عليه وسلم فيكون ضمير {فتطردهم} عائدا إل المؤمنين.ويختلف معاد الضميرين اعتمادا على ما يعينه سياق الكلام، كقوله تعالى: {وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} [الروم: 9] ، وقول عباس بن مرداس في وقعة حنين:
عدنا ولولا نحن أحدق جمعهم ... بالمسلمين وأحرزوا ما جمّعوا
أي أحرز المشركون ما جمعه المسلمون من الغنائم.
والمعنى: ما عليك من حساب المشركين على الإيمان بك أو على عدم الإيمان شيء، فإن ذلك موكول إلي فلا تظلم المؤمنين بحرمانهم حقا لأجل تحصيل إيمان المشركين، فيكون من باب قوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} [النساء: 135] .
وعلى هذا ا لوجه يجوز كون إضافة {حسابهم} من إضافة المصدر إلى مفعوله، أي محاسبتك إياهم.ويجوز كونها من إضافته إلى فاعله، أي من حساب المشركين على هؤلاء المؤمنين فقرهم وضعفهم.
و {عليك} خبر مقدم.و"على"فيه دالة على معنى اللزوم والوجوب لأن الرسول عليه الصلاة والسلام هم أو كان بحيث يهم بإجابة صناديد قريش لما سألوه، فيكون تنبيها على أن تلك المصلحة مدحوضة.

و"من"في قوله: {مِنْ شَيْءٍ} زائدة لتوكيد النفي للتنصيص على الشمول في سياق النفي، وهو الحرف الذي بتقديره بني اسم "لا"على الفتح للدلالة على إرادة نفي الجنس.
وتقديم المسندين على المسند إليهما في قوله: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ} تقديم غير واجب لأن للابتداء بالنكرتين هنا مسوغا، وهو وقوعهما في سياق النفي، فكان تقديم المجرورين هنا اختياريا فلابد له من غرض.والغرض يحتمل مجرد الاهتمام ويحتمل الاختصاص.وحيث تأتى معنى الاختصاص هنا فاعتباره أليق بأبلغ كلام، ولذلك جرى عليه كلام الكشاف.وعليه فمعنى الكلام قصر نفي حسابهم على النبي صلى الله عليه وسلم ليفيد أن حسابهم على غيره وهو الله تعالى.وذلك هو مفاد القصر الحاصل بالتقديم إذا وقع في سياق النفي، وهو مفاد خفي على كثير لقلة وقوع القصر بواسطة التقديم في سياق النفي.ومثاله المشهور قوله تعالى: {لا فِيهَا غَوْلٌ} [الصافات: 47] فإنهم فسروه بأن عدم الغول مقصور على الاتصاف بفي خمور الجنة، فالقصر قصر قلب.
وقد اجتمع في هذا الكلام خمسة مؤكدات.وهي "مِنْ"البيانية، و"مِنْ"الزائدة، وتقديم المعمول، وصيغة الحصر في قوله: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} ، والتأكيد بالتتميم بنفي المقابل في قوله: {وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ} ، فإنه شبيه بالتوكيد الفظي.وكل ذلك للتنصيص على منتهى التبرئة من محاولة إجابتهم لاقتراحهم.
ويفيد هذا الكلام التعريض برؤساء قريش الذين سألوا إبعاد الفقراء عن مجلس الرسول عليه الصلاة والسلام حين ما يحضرون وأوهموا أن ذلك هو الحائل لهم دون حضور مجلس الرسول عليه الصلاة والسلام والإيمان به والكون من أصحابه، فخاطب الله رسوله بهذا الكلام إذ كان الرسول هو المسؤول أن يقصي أصحابه عن مجلسه ليعلم السائلون أنهم سألوه ما لا يقع ويعلموا أن الله أطلع رسوله صلى ا لله عليه وسلم على كذبهم، وأنهم لو كانوا راغبين في الإيمان لما كان عليهم حساب أحوال الناس ولاشتغلوا بإصلاح خويصتهم، فيكون الخطاب على نحو قوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] .وقد صرح بذلك في قوله بعد: {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام: 55] .وإذ كان القصر ينحل على نسبتي إثبات ونفي فالنسبة المقدرة مع القصر وهي نسبة الإثبات ظاهرة من الجمع بين ضمير المخاطب وضمير الغائبين، أي عدم حسابهم مقصور عليك، فحسابهم على أنفسهم إذ كل نفس بما كسبت رهينة.

وقد دل على هذا أيضا قوله بعده: {وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ} فإنه ذكر لاستكمال التعليل، ولذلك عطف على العلة، لأن مجموع مدلول الجملتين هو العلة، أي حسابهم ليس عليك كما أن حسابك ليس عليهم بل على نفسك، إذ كل نفس بما كسبت رهينة، ولا تزر وازرة وزر أخرى.فكما أنك لا تنظر إلا إلى أنهم مؤمنون، فهم كذلك لا يطلب منهم التفريط في حق من حقوق المؤمنين لتسديد رغبة منك في شيء لا يتعلق بهم أو لتحصيل رغبة غيرهم في إيمانه.وتقديم المسند على المسند إليه هنا كتقديمه في نظيره السابق.
وفي قوله: {وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ} تعريض بالمشركين بأنهم أظهروا أنهم أرادوا بطرد ضعفاء المؤمنين عن مجلس الرسول صلى ا لله عليه وسلم النصح له ليكتسب إقبال المشركين عليه والإطماع بأنهم يؤمنون به فيكثر متبعوه.
ثم بهذا يظهر أن ليس المعنى: بل حسابهم على الله وحسابك على الله، لأن هذا غير مناسب لسياق الآية، ولأنه يصير به قوله: {وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ} مستدركا في هذا المقام، ولذلك لم يتكرر نظير هذه الجملة الثانية مع نظير الجملة الأولى فيما حكى الله عن نوح: {إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي} في سورة الشعراء[113] لأن ذلك حكي به ما صدر من نوح وما هنا حكي به كلام الله تعالى لرسوله، فتنبه.
ويجوز أن يكون تقديم المسند في الموضعين من الآية لمجرد الاهتمام بنفي اللزوم والوجوب الذي دل عليه حرف"على"في الموضعين لا سيما واعتبار معنى القصر في قوله: {وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ} غير واضح، لأننا إذا سلمنا أن يكون للرسول عليه الصلاة والسلام شبه اعتقاد لزوم تتبع أحوالهم فقلب ذلك الاعتقاد بالقصر، لا نجد ذلك بالنسبة إلى {لَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} إذ لا اعتقاد لهم في هذا الشأن.
وقدم البيان على المبين في قوله: {وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ} لأن الأهم في المقامين هو ما يختص بالمخاطب المعرض فيه بالذين سألوه الطرد لأنه المقصود بالذات، وإنما جيء بالجملة الثانية لاستكمال التعليل كما تقدم.
وقوله: {فتطردهم} منصوب في جواب النهي الذي في قوله: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} .وإعادة فعل الطرد دون الاقتصار على قوله: {فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} ، لإفادة تأكيد ذلك النهي وليبنى عليه قوله: {فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} لوقوع طول الفصل بين التفريع والمفرع عليه.فحصل بإعادة فعل {فتطردهم} غرضان لفظي ومعنوي.على أنه

يجوز أن يجعل {فتطردهم} منصوبا في جواب النفي من قوله: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ} ، أي لا تطردهم إجابة لرغبة أعدائهم.
وقوله: {فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} ،عطف على {فتطردهم} متفرع عليه، أي فتكون من الظالمين بطردهم، أي فكونه من ا لظالمين منتف تبعا لانتفاء سببه وهو الطرد.
وإنما جعل طردهم ظلما لأنه لما انتفى تكليفه بأن يحاسبهم صار طردهم لأجل إرضاء غيرهم ظلما لهم.وفيه تعريض بالذين سألوا طردهم لإرضاء كبريائهم بأنهم ظالمون مفرطون على الظلم؛ ويجوز أن يجعل قوله: {فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} ،منصوبا في جواب النهي، ويجعل قوله: {فتطردهم} جيء به على هذا الأسلوب لتجديد ربط الكلام لطول الفصل بين النهي وجوابه بالظرف والحال والتعليل؛ فكان قوله: {فتطردهم} كالمقدمة لقوله: {فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} ،وليس مقصود بالذات للجوابية؛ فالتقدير: فتكون من الظالمين بطردهم.
[53] {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ}
الواو استئنافية كما هي في نظائره.والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا لأن السامع لما شعر بقصة أومأ إليها قوله تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} [الأنعام: 52] الآية يأخذه العجب من كبرياء عظماء أهل الشرك وكيف يرضون البقاء في ضلالة تكبرا عن غشيان مجلس فيه ضعفاء الناس من الصالحين، فأجيب بأن هذا الخلق العجيب فتنة لهم خلقها الله في نفوسهم بسوء خلقهم.
وقعت هذه الجملة اعتراضا بين الجملتين المتعاطفتين تعجيلا للبيان، وقرنت بالواو للتنبيه على الاعتراض، وهي الواو الاعتراضية، وتسمى الاستئنافية؛ فبين الله أن داعيهم إلى طلب طردهم هو احتقار في حسد؛ والحسد يكون أعظم ما يكون إذا كان الحاسد يرى نفسه أولى بالنعمة المحسود عليها، فكان ذلك الداعي فتنة عظيمة في نفوس المشركين إذ جمعت كبرا وعجبا وغرورا بما ليس فيهم إلى احتقار للأفاضل وحسد لهم، وظلم لأصحاب الحق، وإذ حالت بينهم وبين الإيمان والانتفاع بالقرب من مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم.
والتشبيه مقصود منه التعجيب من ا لمشبه بأنه بلغ الغاية في العجب.

واسم الإشارة عائد إلى الفتون المأخوذ من"فتنا"كما يعود الضمير على المصدر في نحو: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} ، أي فتنا بعضهم ببعض فتونا يرغب السامع في تشبيهه وتمثيله لتقريب كنهه فإذا رام المتكلم أن يقربه له بطريقة التشبيه لم يجد له شبيها في غرائبه وفظاعته إلا أن يشبهه بنفسه إذ لا أعجب منه، على حد قولهم: والسفاهة كاسمها.
وليس ثمة إشارة إلى شيء متقدم مغاير للمشبه.وجيء باسم إشارة البعيد للدلالة على عظم المشار إليه.وقد تقدم تفصيل مثل هذا التشبيه عند قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} في سورة البقرة[143] .
والمراد بالبعض المنصوب المشركون فهم المفتونون، وبالبعض المجرور بالباء المؤمنون، أي فتنا عظماء المشركين في استمرار شركهم وشرك مقلديهم بحال الفقراء من المؤمنين الخالصين كما دل عليه قوله: {لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [الأنعام: 53] فإن ذلك لا يقوله غير المشركين، وكما يؤيده قوله تعالى في تذييله {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} .
والقول يحتمل أن يكون قولا منهم في أنفسهم أو كلاما قالوه في ملئهم.وأياما كان فهم لا يقولونه إلا وقد اعتقدوا مضمونه، فالقائلون {أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} هم المشركون.
واللام في قوله: {ليقولوا} لام التعليل، ومدخولها هو أثر العلة دال عليها بعد طيها على طريقة الإيجاز.والتقدير: فتناهم ليروا لأنفسهم شفوفا واستحقاقا للتقدم في الفضائل اغترارا بحال الترفه فيعجبوا كيف يدعى أن الله يمن بالهدى والفضل على ناس يرونهم أحط منهم، وكيف يعدون هم دونهم عند الله، وهذا من الغرور والعجب الكاذب.ونظيره في طي العلة والاقتصار على ذكر أثرها قول إياس بن قبيصة الطائي:
وأقدمت والخطي يخطر بيننا ... لأعلم من جبانها من شجاعها
أي ليظهر الجبان والشجاع فأعلمهما.
والاستفهام مستعمل في التعجب والإنكار، كما هو في قوله: {أَُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا} [القمر: 25] .والإشارة مستعملة في التحقير أو التعجيب كما هي في قوله تعالى حكاية عن قول المشركين: {أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} في سورة الأنبياء[36] .
وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي لقصد تقوية الخبر.

وقولهم: {مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} قالوه على سبيل التهكم ومجاراة الخصم، أي حيث اعتقد المؤمنون أن الله من عليهم بمعرفة الحق وحرم صناديد قريش، فلذلك تعجب أولئك من هذا الاعتقاد، أي كيف يظن أن الله يمن على فقراء وعبيد ويترك سادة أهل الوادي.وهذا كما حكى الله عنهم: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] .وهذه شنشنة معروفة من المستكبرين والطغاة.وقد حدث بالمدينة مثل هذا.روى البخاري أن الأقرع بن حابس جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إنما بايعك سراق الحجيج من أسلم وغفار ومزينة وجهينة فقال له رسول الله: "أرأيت إن كانت أسلم وغفار ومزينة وجهينة خيرا من بني تميم وبني عامر وأسد وغطفان أخابوا وخسروا" أي أخاب بنو تميم ومن عطف عليهم "فقال: نعم قال: فو الذي نفسي بيده إنهم لخير منهم.
وفي الآية معنى آخر، وهو أن يكون القول مضمرا في النفس، وضمير {ليقولوا} عائدا إلى المؤمنين الفقراء، فيكونوا هم البعض المفتونين، ويكون البعض المجرور بالباء صادقا على أهل النعمة من المشركين، وتكون إشارة {هؤلاء} راجعة إلى عظماء المشركين ويكون المراد بالمن إعطاء المال وحسن حال العيش، ويكون الاستفهام مستعملا في التحير على سبيل الكناية، والإشارة إلى المشركين معتبر فيها ما عرفوا به من الإشراك وسوء الاعتقاد في الله.والمعنى: وكذلك الفتون الواقع لعظماء المشركين، وهو فتون الإعجاب والكبرياء حين ترفعوا عن الدخول فيما دخل فيه الضعفاء والعبيد من تصديق محمد صلى الله عليه وسلم وصحبته استكبارا عن مساواتهم، كذلك كان فتون بعض آخر وهم بعض المؤمنين حين يشاهدون طيب عيش عظماء المشركين في الدنيا مع إشراكهم بربهم فيعجبون كيف من الله بالرزق الواسع على من يكفرون به ولم يمن بذلك على أوليائه وهم أولى بنعمة ربهم.وقد أعرض القرآن عن التصريح بفساد هذا الخاطر النفساني اكتفاء بأنه سماه فتنة، فعلم أنه خاطر غير حق، وبأن قوله: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} مشير إلى إبطال هذه الشبهة.ذلك بأنها شبهة خلطت أمر شيئين متفارقين في الأسباب، فاشتبه عليهم الجزاء على الإيمان وما أعد الله لأهله من النعيم الخالد في الآخرة، المترتب عليه ترتب المسبب على السبب المجعول عن حكمة الله تعالى، بالرزق في الدنيا المترتب على أسباب دنيوية كالتجارة والغزو والإرث والهبات.فالرزق الدنيوي لا تسبب بينه وبين الأحوال القلبية ولكنه من مسببات الأحوال المادية فالله أعلم بشكر الشاكرين، وقد أعد لهم جزاء شكرهم، وأعلم بأسباب رزق المرزوقين المحظوظين.فالتخليط بين المقامين من ضعف الفكر العارض للخواطر البشرية والناشئ عن سوء النظر وترك التأمل في الحقائق

وفي العلل ومعلولاتها.وكثيرا ما عرضت للمسلمين وغيرهم شبه وأغلاط في هذا المعنى صرفتهم عن تطلب الأشياء من مظانها وقعدت بهم عن رفو أخلالهم في الحياة الدنيا أو غرتهم بالتفريط فيما يجب الاستعداد له كل ذلك للتخليط بين الأحوال الدينية الأخروية وبين السنن الكونية الدنيوية، كما عرض لابن الراوندي من حيرة الجهل في قوله:
كم عالم عالم أعيت مذاهبه ... وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا
هذا الذي ترك الأوهام حائرة ... وصير العالم النحرير زنديقا
ولا شك أن الذين استمعوا القرآن ممن أنزل عليه صلى الله عليه وسلم قد اهتدوا واستفاقوا، فمن أجل ذلك تأهلوا لامتلاك العالم ولاقوا.
و {مِنْ} في قوله: {مِنْ بَيْنِنَا} ابتدائية.و"بين"ظرف يدل على التوسط، أي من الله عليهم مختارا لهم من وسطنا، أي من عليهم وتركنا، فيؤول إلى معنى من دوننا.
وقوله: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} تذييل للجملة كلها، فهو من كلام الله تعالى وليس من مقول القول، ولذلك فصل.والاستفهام تقريري.وعدي {أعلم} بالباء لأنه بصيغة التفضيل صار قاصرا.والمعنى أن الله أعلم بالشاكرين من عباده فلذلك من على الذين أشاروا إليه بقولهم: {أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} بمنة الإيمان والتوفيق.
ومعنى علمه تعالى بالشاكرين أنه أعلم بالذين جاءوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مستجيبين لدعوته بقريحة طالبين النجاة من الكفر راغبين في حسن العاقبة، فهو يلطف بهم ويسهل لهم الإيمان ويحببه إليهم ويزينه في قلوبهم ويزيدهم يوما فيوما تمكنا منه وتوفيقا وصلاحا، فهو أعلم بقلوبهم وصدقهم من الناس الذين يحسبون أن رثاثة حال بعض المؤمنين تطابق حالة قلوبهم في الإيمان فيأخذون الناس ببزاتهم دون نياتهم.فهذا التذييل ناظرا إلى قوله: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} [الأنعام: 36] .
وقد علم من قوله: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} أنه أيضا أعلم بأضدادهم.ضد الشكر هو الكفر، كما قال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [ابراهيم: 7] فهو أعلم بالذين يأتون الرسول عليه الصلاة والسلام مستهزئين متكبرين لا هم لهم إلا تحقير الإسلام والمسلمين، وقد استفرغوا وسعهم ولبهم في مجادلة الرسول صلى الله عليه وسلم وتضليل الدهماء في حقيقة الدين.ففي الكلام تعريض بالمشركين.
[54] {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ

الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
عطف على قوله: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} [الأنعام: 52] وهو ارتقاء في إكرام الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي.فهم المراد بقوله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنَا} .
ومعنى {يُؤْمِنُونَ بِآياتِنَا} أنهم يوقنون بأن الله قادر على أن ينزل آيات جمة.فهم يؤمنون بما نزل من الآيات وبخاصة آيات القرآن وهو من الآيات، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت: 51] .
وقوله: {فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ} قيل: معناه حيهم بتحية الإسلام، وهي كلمة"سلام عليكم"، وقيل: أبلغهم السلام من الله تعالى تكرمة لهم لمضادة طلب المشركين طردهم.
وقد أكرمهم الله كرامتين الأولى أن يبدأهم النبي صلى الله عليه وسلم بالسلام حين دخولهم عليه وهي مزية لهم، لأن شأن السلام أن يبتدئه الداخل، ثم يحتمل أن هذا حكم مستمر معهم كلما أدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحتمل أنه للمرة التي يبلغهم فيها هذه البشارة، فنزل هو منزلة القادم عليهم لأنه زف إليهم هذه البشرى.
والكرامة الثانية هي بشارتهم برضى الله عنهم بأن غفر لهم ما يعملون من سوء إذا تابوا من بعده وأصلحوا.وهذا الخبر وإن كان يعم المسلمين كلهم فلعله لم يكن معلوما، فكانت البشارة به في وجوه المؤمنين يومئذ تكرمة لهم ليكونوا ميموني النقيبة على بقية إخوانهم والذين يجيئون من بعدهم.
والسلام: الأمان، كلمة قالتها العرب عند لقاء المرء بغيره دلالة على أنه مسالم لا محارب لأن العرب كانت بينهم دماء وترات وكانوا يثأرون لأنفسهم ولو بغير المعتدي من قبيلته، فكان الرجل إذا لقي من لا يعرفه لا يأمن أن يكون بينه وبين قبيلته إحن وحفائظ فيؤمن أحدهما الآخر بقوله: السلام عليكم، أو سلام، أو نحو ذلك.وقد حكاها الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام ثم شاع هذا اللفظ فصار مستعملا في التكرمة.ومصدر سلم التسليم.والسلام اسم مصدر، وهو يأتي في الاستعمال منكرا مرفوعا ومنصوبا، ومعرفا باللام مرفوعا لا غير.فأما تنكيره مع الرفع كما في هذه الآية، فهو على اعتباره اسما بمعنى الأمان، وساغ الابتداء به لأن المقصود النوعية لا فرد معين.وإنما لم يقدم الخبر لاهتمام القادم بإدخال الطمأنينة في نفس المقدوم عليه، أنه طارق خير لا طارق شر.فهو

من التقديم لضرب من التفاؤل.وأما تعريفه مع الرفع فلدخول لام التعريف الجنس عليه.
وكلمة"على"في الحالتين للدلالة على تمكن التلبس بالأمان، أي الأمان مستقر منكم متلبس بكم، أي لا تخف.
وأما إن نصبوا مع التنكير فعلى اعتباره كمصدر سلم، فهو مفعول مطلق أتى بدلا من فعله.تقديره: سلمت سلاما، فلذلك لا يؤتى معه بـ"على".ثم أنهم يرفعونه أيضا على هذا الاعتبار فلا يأتون معه بـ"على"لقصد الدلالة على الدوام والثبات بالجملة الاسمية بالرفع، لأنه يقطع عنه اعتبار البدلية عن الفعل ولذلك يتعين تقدير مبتدأ، أي أمركم سلام، على حد {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف: 18] .والرفع أقوى، ولذلك قيل: إن إبراهيم رد تحية أحسن من تحية الملائكة، كما حكي بقوله تعالى: {قَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ} [هود: 69] .وقد ورد في رد السلام أن يكون بمثل كلمة السلام الأولى، كقوله تعالى: {إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً} [الواقعة: 26] وورد بالتعريف والتنكير فينبغي جعل الرد أحسن دلالة.فأما التعريف والتنكير فهما سواء لأن التعريف تعريف الجنس.ولذلك جاء في القرآن ذكر عيسى: {وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ} [مريم: 15] وجاء أنه قال: {وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ} [مريم: 33] .
وجملة {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} مستأنفة استئنافا ابتدائيا وهي أول المقصود من المقول، وأما السلام فمقدمة للكلام.وجوز بعضهم أن تكون كلاما ثانيا.وتقدم تفسير نظيره في قوله تعالى: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} في هذه السورة[12] .فقوله هنا: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} تمهيد لقوله: {أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ} الخ.
وقوله: {أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ} قرأه نافع، وابن عامر، وعاصم، ويعقوب بفتح الهمزة على أنه بدل من {الرحمة} بدل اشتمال، لأن الرحمة العامة تشتمل على غفران ذنب من عمل ذنبا ثم تاب وأصلح.وقرأه الباقون ـ بكسر الهمزة ـ على أن يكون استئنافا بيانيا لجواب سؤال متوقع عن مبلغ الرحمة."وَمْن"شرطية، وهي أدل على التعميم من الموصولة.والباء في قوله: {بجهالة} للملابسة، أي ملتبسا بجهالة.والمجرور في موضع الحال من ضمير {عمل} .
والجهالة تطلق على انتفاء العلم بشيء ما.وتطلق على ما يقابل الحلم، وقد تقدم في قوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} في سورة النساء[17] .والمناسب هنا هو المعنى الثاني، أي من عمل سوءا عن حماقة من نفسه وسفاهة،

لأن المؤمن لا يأتي السيئات إلا عن غلبة هواه رشده ونهاه.وهذا الوجه هو المناسب لتحقيق معنى الرحمة.وأما حمل الجهالة على معنى عدم العلم بناء على أن الجاهل بالذنب غير مؤاخذ، فلا قوة لتفريع قوله: {ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ} عليه، إلا إذا أريد ثم تفطن إلى أنه عمل سوءا.
والضمير في قوله: {مِنْ بَعْدِهِ} عائد إلى {سوءا} أي بعد السوء، أي بعد عمله.ولك أن تجعله عائدا إلى المصدر المضمون في "عَمِلَ"مثل {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] .
ومعنى {أصلح} صير نفسه صالحة، أو أصلح عمله بعد أن أساء.وقد تقدم عند قوله تعالى: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} في سورة المائدة[39] .وعند قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} في سورة ا لبقرة[160] .
وجملة {فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} دليل جواب الشرط، أي هو شديد المغفرة والرحمة، وهذا كناية عن المغفرة لهذا التائب المصلح.
وقرأه نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وأبو جعفر، وخلف ـ بكسر همزة ـ {فَأِنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} على أن الجملة مؤكدة بـ {إن} فيعلم أن المراد أن الله قد غفر لمن تاب لأنه كثير المغفرة والرحمة.وقرأه ابن عامر، وعاصم، ويعقوب {فأَنه} بفتح الهمزة ـ على أنها"أنّ"المفتوحة أخت"إنّ"، فيكون ما بعدها مؤولا بمصدر.والتقدير: فغفرانه ورحمته.وهذا جزء جملة يلزمه تقدير خبر، أي له، أي ثابت لمن عمل سوءا ثم تاب.
[55] {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ}
الواو استئنافية كما تقدم في قوله: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} [الأنعام: 53] .والجملة تذييل للكلام الذي مضى مبتدئا بقوله تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} [الأنعام: 51] .
والتفصيل: التبيين والتوضيح، مشتق من الفصل، وهو تفرق الشيء عن الشيء.ولما كانت الأشياء المختلطة إذا فصلت يتبين بعضها من بعض أطلق التفصيل على التبيين بعلاقة اللزوم، وشاع ذلك حتى صار حقيقة، ومن هذا القبيل أيضا تسمية الإيضاح تبيينا وإبانة، فإن أصل الإبانة القطع.والمراد بالتفصيل الإيضاح، أي الإتيان بالآيات الواضحة الدلالة

على المقصود منها.
والآيات: آيات القرآن.والمعنى نفصل الآيات ونبينها تفصيلا مثل هذا التفصيل الذي لا فوقه تفصيل، وهو تفصيل يحصل به علم المراد منها بينا.
وقوله: {ولتستبين} عطف على علة مقدرة دل عليها قوله: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ} لأن المشار إليه التفصيل البالغ غاية البيان، فيعلم من الإشارة إليه أن الغرض منه اتضاح العلم للرسول.فلما كان ذلك التفصيل بهذه المثابة علم منه أنه علة لشيء يناسبه وهو تبين الرسول ذلك التفصيل، فصح أن تعطف عليه علة أخرى من علم الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي استبانته سبيل المجرمين.فالتقدير مثلا: وكذلك التفصيل نفصل الآيات لتعلم بتفصيلها كنهها، ولتستبين سبيل المجرمين، ففي الكلام إيجاز الحذف.
وهكذا كلما كان استعمال"كذلك"نفعل بعد ذكر أفعال عظيمة صالحا الفعل المذكور بعد الإشارة لأن يكون علة لأمر من شأنه أن يعلل بمثله صح أن تعطف عليه علة أخرى كما هنا، وكما في قوله: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام: 75] بخلاف ما لا يصلح، ولذلك فإنه إذا أريد ذكر علة بعده ذكرت بدون عطف، نحو قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] .
و {سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} طريقهم وسيرتهم في الظلم والحسد والكبر واحتقار الناس والتصلب في الكفر.
والمجرمون هم المشركون.وضع الظاهر موضع المضمر للتنصيص على أنهم المراد ولإجراء وصف الإجرام عليهم.وخص المجرمين لأنهم المقصود من هذه الآيات كلها لإيضاح خفي أحوالهم للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين.
وقرأ نافع، وابن كثير، وابن عامر، وأبو عمرو، وحفص عن عاصم، وأبو جعفر، ويعقوب ـ بتاء مثناة فوقية في أول الفعل ـ على أنها تاء خطاب.والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم.
وقرأه حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم، وخلف ـ بياء الغائب ـ، ثم إن نافعا، وأبا جعفر قرأ {سَبِيلَ} بفتح اللام ـ على أنه مفعول {تستبين} فالسين والتاء للطلب.وقرأه البقية ـ برفع اللام ـ على أنه فاعل "يستبين"أو"تستبين".فالسين والتاء ليسا للطلب بل للمبالغة مثل استجاب.

وقرأ ابن عامر، وابن كثير، وأبو عمرو، وحفص، عن عاصم ـ برفع ـ {سَبِيلُ} على أن تاء المضارعة تاء المؤنثة.لأن السبيل مؤنثة في لغة عرب الحجاز، وعلى أنه من استبان القاصر بمعنى بان فـ {سبيل} فاعل {تستبين} ، أي لتتضح سبيلهم لك وللمؤمنين.
[56] {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ}
استئناف ابتدائي عاد به الكلام إلى إبطال الشرك بالتبرئ من عبادة أصنامهم فإنه بعد أن أبطل إلهية الأصنام بطريق الاستدلال من قوله: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً} [الأنعام: 14] الآية.وقوله: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ} [الأنعام: 40] الآية وقوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ} [الأنعام: 46] الآية.جاء في هذه الآية بطريقة أخرى لإبطال عبادة الأصنام وهي أن الله نهى رسوله عليه الصلاة والسلام عن عبادتها وعن اتباع أهواء عبدتها.
وبني {نهيت} على صيغة المجهول للاستغناء عن ذكر الفاعل لظهور المراد، أي نهاني الله.وهو يتعدى بحرف"عن"فحذف الجر حذفا مطردا مع"أن".وأجري على الأصنام اسم الموصول الموضوع للعقلاء لأنهم عاملوهم معاملة العقلاء فأتى لهم بما يحكي اعتقادهم، أو لأنهم عبدوا الجن وبعض البشر فغلب العقلاء من معبوداتهم.
ومعنى {تدعون} تعبدون وتلجئون إليهم في المهمات، أي تدعونهم.و {مِنْ دُونِ اللَّهِ} حال من المفعول المحذوف، فعامله {تدعون} .وهو حكاية لما غلب على المشركين من الاشتغال بعبادة الأصنام ودعائهم عن عبادة الله ودعائه، حتى كأنهم عبدوهم دون الله، وإن كانوا إنما أشركوهم بالعبادة مع الله ولو في بعض الأوقات.وفيه نداء عليهم باضطراب عقيدتهم إذ أشركوا مع الله في العبادة من لا يستحقونها مع أنهم قائلون بأن الله هو مالك الأصنام وجاعلها شفعاء لكن ذلك كالعدم لأن كل عبادة توجهوا بها إلى الأصنام قد اعتدوا بها على حق الله في أن يصرفوها إليه.
وجملة {قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ} استئناف آخر ابتدائي، وقد عدل عن العطف إلى الاستئناف ليكون غرضا مستقلا.وأعيد الأمر بالقول زيادة في الاهتمام بالاستئناف واستقلاله ليكون هذا النفي شاملا للاتباع في عبادة الأصنام وفي غيرها من ضلالتهم

كطلب طرد المؤمنين عن مجلسه.
والأهواء جمع هوى، وهو المحبة المفرطة.وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ} في سورة البقرة[120] .وإنما قال: {لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ} دون لا أتبعكم للإشارة إلى أنهم في دينهم تابعون للهوى نابذون لدليل العقل.وفي هذا تجهيل لهم في إقامة دينهم على غير أصل متين.
وجملة {قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً} جواب لشرط مقدر، أي إن اتبعت أهواءكم إذن قد ضللت.وكذلك موقع "إذن"حين تدخل على فعل غير مستقبل فإنها تكون حينئذ جوابا لشرط مقدر مشروط بـ"إن"أو"لو"مصرح به تارة، كقول كثير:
لئن عاد لي عبد العزيز بمثلها ... وأمكنني منها إذن لا أقيلها
ومقدر أخرى كهذه الآية، وكقوله تعالى: {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} [المؤمنون: 91] .
وتقدم جواب"إذن"على"إذن"في هذه الآية للاهتمام بالجواب.ولذلك الاهتمام أكد بـ {قد} مع كونه مفروضا وليس بواقع، للإشارة إلى أن وقوعه محقق لو تحقق الشرط المقدر الذي دلت عليه "إذن".
وقوله: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} عطف على {قَدْ ضَلَلْتُ} ، عطف عليه للدلالة على أنه جزاء آخر للشرط المقدر، فيدل على أنه إن فعل ذلك يخرج عن حاله التي هو عليها الآن من كونه في عداد المهتدين إلى الكون في حالة الضلال، وأفاد مع ذلك تأكيد مضمون جملة {قَدْ ضَلَلْتُ} لأنه نفى عن نفسه ضد الضلال فتقررت حقيقة الضلال على الفرض والتقدير.
وتأكيد الشيء بنفي ضده طريقة عربية قد اهتديت إليها ونبهت عليها عند قوله تعالى: {قد ضلوا وما كانوا مهتدين} في هذه السورة[140] .ونظيره قوله تعالى: {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} [طه: 79] .
وقد أتي بالخبر بالجار والمجرور فقيل: {مِنَ الْمُهْتَدِينَ} ولم يقل: وما أنا مهتد، لأن المقصود نفي الجملة التي خبرها {مِنَ الْمُهْتَدِينَ} ، فإن التعريف في {المهتدين} عريف الجنس، فإخبار المتكلم عن نفسه بأنه من المهتدين يفيد أنه واحد من الفئة التي تعرف عند الناس بفئة المهتدين، فيفيد أنه مهتد إفادة بطريقة تشبه طريقة الاستدلال.فهو

من قبيل الكناية التي هي إثبات الشيء بإثبات ملزومه.وهي أبلغ من التصريح.قال في الكشاف في قوله تعالى: {قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ} [الشعراء: 168] : قولك فلان من العلماء أبلغ من قولك: فلان عالم، لأنك تشهد له بكونه معدودا في زمرتهم ومعروفة مساهمته لهم في العلم.وقال عند قوله تعالى: {قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ} في سورة الشعراء[136] .فإن قلت لو قيل: أوعظت أو لم تعظ، كان أخصر، والمعنى واحد.قلت: ليس المعنى بواحد وبينهما فرق لأن المراد سواء علينا أفعلت هذا الفعل الذي هو الواعظ أم لم تكن أصلا من أهله ومباشرته، فهو أبلغ في قلة الاعتداد بوعظه من قوله: أم لم تعظ.وقال الخفاجي إن أصل هذا لابن جني.
ولهذا كان نفي هذا الخبر مفيدا نفي هذه النسبة الكنائية فكانت أبلغيته في النفي كأبلغيته في الإثبات، لأن المفاد الكنائي هو هو.ولذلك فسره في الكشاف بقوله: "وما أنا من الهدى في شيء".ولم يتفطن لهذه النكتة بعض الناظرين نقله عنه الطيبي فقال: إنه لما كان قولك: هو من المهتدين، مفيدا في الإثبات أن للمخبر عنه حظوظا عظيمة في الهدى فهو في النفي يوجب أن تنفى عنه الحظوظ الكثيرة، وذلك يصدق بأن يبقى له حظ قليل.وهذا سفسطة خفيت عن قائلها لأنه إنما تصح إفادة النفي ذلك لو كانت دلالة المثبت بواسطة القيود اللفظية، فأما وهي بطريق التكنية فهي ملازمة للفظ إثباتا ونفيا لأنها دلالة عقلية لا لفظية.ولذا قال التفتازاني: "هو من قبيل تأكيد النفي لا نفي التأكيد"فهو يفيد أنه قد انسلخ عن هذه الزمرة التي كان معدودا منها وهو أشد من مطلق الاتصاف بعدم الهدى لأن مفارقة المرء فئته بعد أن كان منها أشد عليه من اتصافه بما يخالف صفاتهم قبل الاتصال بهم.
وقد تقدم قوله تعالى: {قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} في سورة البقرة[67] ، وأحلنا بسطه على هذا الموضع.
[57] {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ}
استئناف ابتدائي انتقل به الكلام من إبطال الشرك بدليل الوحي الإلهي المؤيد للأدلة السابقة إلى إثبات صدق الرسالة بدليل من الله مؤيد للأدلة السابقة أيضا، لييأسوا من محاولة إرجاع الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ عن دعوته إلى الإسلام وتشكيكه في وحيه

بقولهم: ساحر، مجنون، شاعر، أساطير الأولين، ولييأسوا أيضا من إدخال الشك عليه في صدق إيمان أصحابه، وإلقاء الوحشة بينه وبينهم بما حاولوا من طرده أصحابه عن مجلسه حين حضور خصومه، فأمره الله أن يقول لهم إنه على يقين من أمر ربه لا يتزعزع.وعطف على ذلك جواب عن شبهة استدلالهم على تكذيب الوعيد بما حل بالأمم من قبلهم بأنه لو كان صدقا لعجل لهم العذاب، فقد كانوا يقولون: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32] ويقولون: {رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [صّ: 16] ، فقال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: { قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأنعام: 58] ، وأكد الجملة بحرف التأكيد لأنهم ينكرون أن يكون على بينة من ربه.
وإعادة الأمر بالقول لتكرير الاهتمام الذي تقدم بيانه عند قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ} [الأنعام: 40] .
والبينة في الأصل وصف مؤنث بين، أي الواضحة، فهي صفة جرت على موصوف محذوف للعلم به في الكلام، أي دلالة بينة أو حجة بينة.ثم شاع إطلاق هذا الوصف فصار اسما للحجة المثبتة للحق التي لا يعتريها شك، وللدلالة الواضحة، وللمعجزة أيضا، فهي هنا يجوز أن تكون بمعنى الدلالة البينة، أي اليقين.وهو أنسب بـ {على} الدالة على التمكن، كقولهم فلان على بصيرة، أي أني متمكن من اليقين في أمر الوحي.
ويجوز أن يكون المراد بالبينة القرآن، وتكون"على"مستعملة في الملازمة مجازا مرسلا لأن الاستعلاء يستلزم الملازمة، أي أني لا أخالف ما جاء به القرآن.
و {مِنْ رَبِّي} صفة لـ {بينة} يفيد تعظيمها وكمالها.و"مِنْ"ابتدائية، أي بينة جائية الي من ربي، وهي الأدلة التي أوحاها الله إليه وجاء بها القرآن وغيره، ويجوز أن تكون"مِنْ"اتصالية، أي على يقين متصل بربي، أي بمعرفته توحيده، أي فلا أتردد في ذلك فلا تطمعوا في صرفي عن ذلك، أي أني آمنت بإله واحد دلت على وجوده ووحدانيته دلائل خلقه وقدرته، فأنا موقن بما آمنت به لا يتطرقني شك.وهذا حينئذ مسوق مساق التعريض بالمشركين في أنهم على اضطراب من أمر آلهتهم وعلى غير بصيرة.
وجملة {وَكَذَّبْتُمْ بِهِ} في موضع الحال من {بينة} .وهي تفيد التعجب منهم أن كذبوا بما دلت عليه البينة.ويجوز أن تكون معطوفة على جملة {إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} ، أي أنا على بينة وأنتم كذبتم بما دلت عليه البينات فشتان بيني وبينكم.

والضمير في قوله: {به} يعود إلى البينة باعتبار تأويلها بالبيان أو باعتبار أن ما صدقها اليقين أو القرآن على وجه جعل"منِْ"ابتدائية، أي وكذبتم باليقين مكابرة وعنادا، ويعود إلى ربي على وجه جعل "منِْ"اتصالية، أي كنت أنا على يقين في شأن ربي وكذبتم به مع أن دلائل توحيده بينة واضحة.ويعود إلى غير مذكور في الكلام، وهو القرآن لشهرة التداول بينهم في شأنه فإذا أطلق ضمير الغائب انصرف إليه بالقرينة.
والباء التي عدي بها فعل {كذبتم} هي لتأكيد لصوق معنى الفعل بمفعوله، كما في قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة: 6] .فلذلك يدل فعل التكذيب إذا عدي بالباء على معنى الإنكار، أي التكذيب القوي.ولعل الاستعمال أنهم لا يعدون فعل التكذيب بالباء إلا إذا أريد تكذيب حجة أو برهان مما يحسب سبب تصديق، فلا يقال: كذبت بفلان، بل يقال: كذبت فلانا قال تعالى: {لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ} [الفرقان: 37] وقال: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ} [القمر: 23]
والمعنى التعريضي بهم في شأن اعتقادهم في آلهتهم باق على ما بيناه.
وقوله: {مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} استئناف بياني لأن حالهم في الإصرار على التكذيب مما يزيدهم عنادا عند سماع تسفيه أحلامهم وتنقص عقائدهم فكانوا يقولون: لو كان قولك حقا فأين الوعيد الذي توعدتنا.فإنهم قالوا: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32] وقالوا: {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً} [الإسراء: 92] فأمر بأن يجيب أن يقول: {مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} .
والاستعجال طلب التعجيل بشيء، فهو يتعدى إلى مفعول واحد، وهو المطلوب منه تعجيل شيء.فإذا أريد ذكر الأمر المعجل عدي إليه بالباء.والباء فيه للتعدية.والمفعول هنا محذوف دل عليه قوله: {مَاعِنْدِي} .والتقدير: تستعجلونني به.وأما قوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوه} [النحل: 1] فالأظهر أن ضمير الغائب عائد لاسم الجلالة، وسيأتي في أول سورة النحل.
ومعنى {مَا عِنْدِي} أنه ليس في مقدرتي، كما يقال: ما بيدي كذا.فالعندية مجاز عن التصرف بالعلم والمقدرة.والمعنى: أني لست العليم القدير، أي لست إلها ولكنني عبد مرسل أقف عند ما أرسلت به.

وحقيقة"عِنْدَ"أنها ظرف المكان القريب.وتستعمل مجازا في استقرار الشيء لشيء وملكه إياه، كقوله: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} [الأنعام: 59] .وتستعمل مجازا في الاحتفاظ بالشيء، كقوله: {وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [الزخرف: 85] {وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ} [ابراهيم: 46] ولا يحسن في غير ذلك1.
والمراد بـ {مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} العذاب المتوعد به.عبر بطريق الموصولية لما تنبئ به الصلة من كونه مؤخرا مدخرا لهم وأنهم يستعجلونه وأنه واقع بهم لا محالة، لأن التعجيل والتأخير حالان للأمر الواقع؛ فكان قوله: {تستعجلون} في نفسه وعيدا.وقد دل على أنه بيد الله وأن الله هو الذي يقدر وقته الذي ينزل بهم فيه، لأن تقديم المسند الظرف أفاد قصر القلب، لأنهم توهموا من توعد النبي صلى الله عليه وسلم إياهم أنه توعدهم بعقاب في مقدرته.فجعلوا تأخره إخلافا لتوعده، فرد عليهم بأن الوعيد بيد الله، كما سيصرح به في قوله: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} .فقوله: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} تصريح بمفهوم القصر، وتأكيد له.وعلى وجه كون ضمير {به} للقرآن، فالمعنى كذبتهم بالقرآن وهو بينة عظيمة، وسألتم تعجيل العذاب تعجيزا لي وذلك ليس بيدي.
وجملة {يَقُصُّ الْحَقَّ} حال من اسم الجلالة أو استئناف، أي هو أعلم بالحكمة في التأخير أو التعجيل.
وقرأ نافع، وابن كثير، وعاصم، وأبو جعفر {يَقُصُّ} بضم القاف وبالصاد المهملة ـ فهو من الاقتصاص، وهو اتباع الأثر، أي يجري قدره على أثر الحق، أي على وفقه؛ أو هو من القصص، وهو الحكاية أي يحكي بالحق، أي أن وعده واقع لا محالة
ـــــــ
1 أردت بهذا أن استعمال"عند"مجازا في غير ما ذكرنا مشكوك في صحة استعماله في كلام العرب,فقول أبي فراس:
بلى أنا مشتاق وعندي لوعة
ليس بجار على الاستعمال
وأما قول المعري:
أعندي وقد مارست كل خفية يصدق واش أو يخيب آمل
فهو أقرب للاستعمال بأن يكون"عند"حقيقة في المكان,أي المكان القريب مني يريد مجلسه,أي لا يقع تصديق ذلك في مقامي.وأما قول الشاعر:
عندي اصطبار وأما أنني جزع
يوم النوى فلبعد كاد يبريني
فلا يعرف قائله,ويظهر أنه مولَّد وهو من شواهد المسائل النحوية.

فهو لا يخبر إلا بالحق.و {الحق} منصوب على المفعولية به على الاحتمالين.
وقرأ الباقون {يقض} بسكون القاف وبضاد معجمة مكسورة ـ على أنه مضارع"قضى"، وهو في المصحف بغير ياء.فاعتذر عن ذلك بأن الياء حذفت في الخط تبعا لحذفها في اللفظ في حال الوصل، إذ هو غير محل وقف، وذلك مما أجري فيه الرسم على اعتبار الوصل على النادر كما كتب {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} [العلق: 18] .قال مكي: "قراءة الصاد أي المهملة أحب إلي لاتفاق الحرميين: "أي نافع وابن كثير"عليها ولأنه لو كان من القضاء للزمت الباء الموحدة فيه، يعني أن يقال: يقص بالحق.وتأويله بأنه نصب على نزع الخافض نادر.وأجاب الزجاج بأن {الحق} منصوب على المفعولية المطلقة، أي القضاء الحق، وعلى هذه القراءة ينبغي أن لا يوقف عليه لئلا يضطر الواقف إلى إظهار الياء فيخالف الرسم المصحفي.
وجملة {وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} أي يقص ويخبر بالحق، وهو خير من يفصل بين الناس، أو يقضي بالحق، وهو خير من يفصل القضاء.
والفصل يطلق بمعنى القضاء.قال عمر في كتابه إلى أبي موسى فإن فصل القضاء يورث الضغائن.ويطلق بمعنى الكلام الفاصل بين الحق والباطل، والصواب والخطأ، ومنه قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [صّ: 20] وقوله: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ} [الطارق: 13] .فمعنى {خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} يشمل القول الحق والقضاء العدل.
[58] {قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ}
استئناف بياني لأن قوله: {مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} [الأنعام: 57] يثير سؤالا في نفس السامع أن يقول: فلو كان بيدك إنزال العذاب بهم ماذا تصنع، فأجيب بقوله: {لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} الآية.وإذ قد كان قوله: {لَوْ أَنَّ عِنْدِي} الخ استئنافا بيانيا فالأمر بأن يقوله في قوة الاستئناف البياني لأن الكلام لما بني كله على تلقين الرسول ما يقوله لهم فالسائل يتطلب من الملقن ماذا سيلقن به رسوله إليهم.ومعنى {عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} تقدم آنفا، أي لو كان في علمي حكمته وفي قدرتي فعله.وهذا كناية عن معنى لست إلها ولكنني عبد أتبع ما يوحى إلي.
وقوله: {لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} جواب {لو} .فمعنى {قضي} تم وانتهى.

والأمر مراد به النزاع والخلاف.فالتعريف فيه للعهد، وبني {قُضِيَ الْأَمْرُ} للمجهول لظهور أن قاضيه هو من بيده ما يستعجلون به.
وتركيب"قضي الأمر"شاع فجرى مجرى المثل، فحذف الفاعل ليصلح التمثل به في كل مقام، ومنه قوله: {قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} [يوسف: 41] وقوله: {وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} [الشورى: 21] وقوله: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ} [مريم: 39] ؛ ولذلك إذا جاء في غير طريقة المثل يصرح بفاعله كقوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ} [الحجر: 66] .
وذلك القضاء يحتمل أمورا: منها أن يأتيهم بالآية المقترحة فيؤمنوا، أو أن يغضب فيهلكهم، أو أن يصرف قلوبهم عن طلب ما لا يجيبهم إليه فيتوبوا ويرجعوا.
وجملة {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ} تذييل، أي الله أعلم مني ومن كل أحد بحكمة تأخير العذاب وبوقت نزوله، لأنه العليم الخبير الذي عنده ما تستعجلون به.والتعبير {بالظالمين} إظهار في مقام ضمير الخطاب لإشعارهم بأنهم ظالمون في شركهم إذ اعتدوا على حق الله، وظالمون في تكذيبهم إذ اعتدوا على حق الله ورسوله، وظالمون في معاملتهم الرسول صلى الله عليه وسلم.
[59] {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}
عطف على جملة {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ} [الأنعام: 58] على طريقة التخلص.والمناسبة في هذا التخلص هي الإخبار بأن الله أعلم بحالة الظالمين، فإنها غائبة عن عيان الناس، فالله أعلم بما يناسب حالهم من تعجيل الوعيد أو تأخيره، وهذا انتقال لبيان اختصاصه تعالى بعلم الغيب وسعة علمه ثم سعة قدرته وأن الخلق في قبضة قدرته.وتقديم الظرف لإفادة الاختصاص، أي عنده لا عند غيره.والعندية عندية علم واستئثار وليست عندية مكان.
والمفاتح جمع مِفْتَح ـ بكسر الميم ـ وهو الآلة التي يفتح بها المغلق، وتسمى المفتاح.وقد قيل: إن مفتح أفصح من مفتاح، قال تعالى: {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} [القصص: 76] .

والغيب ما غاب على علم الناس بحيث لا سبيل لهم إلى علمه، وذلك يشمل الأعيان لمغيبة كالملائكة والجن، والأعراض الخفية، ومواقيت الأشياء.
و {مَفَاتِحُ الْغَيْب} هنا استعارة تخييلية تنبني على مكنية بأن شبهت الأمور المغيبة عن الناس بالمتاع النفيس الذي يدخر بالمخازن والخزائن المستوثق عليها بأقفال بحيث لا يعلم ما فيها إلا الذي بيده مفاتحها.وأثبتت لها المفاتح على سبيل التخييلية.والقرينة هي إضافة المفاتح إلى الغيب، فقوله: {مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} بمنزلة أن يقول: عنده علم ا لغيب الذي لا يعلمه غيره.
ومفاتح الغيب جمع مضاف يعم كل المغيبات، لأن علمها كلها خاص به تعالى، وأما الأمور التي لها أمارات مثل أمارات الأنواء وعلامات الأمراض عند الطبيب فتلك ليست من الغيب بل من أمور الشهادة الغامضة.وغموضها متفاوت والناس في التوصل إليها متفاوتون ومعرفتهم بها من قبيل الظن لا من قبيل اليقين فلا تسمى علما، وقيل: المفاتح جمع مفتح بفتح الميم وهو البيت أو المخزن الذي من شأنه أن يغلق على ما فيه ثم يفتح عند الحاجة إلى ما فيه، ونقل هذا عن السدي، فيكون استعارة مصرحة والمشبه هو العلم بالغيب شبه في إحاطته وحجبه المغيبات ببيت الخزن تشبيه معقول بمحسوس.
وجملة {لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} مبينة لمعنى {عنده} ، فهي بيان للجملة التي قبلها ومفيدة تأكيدا للجملة الأولى أيضا لرفع احتمال أن يكون تقديم الظرف لمجرد الاهتمام فأعيد ما فيه طريق متعين كونه للقصر.وضمير {يعلمها} عائدإلى {مَفَاتِحُ الْغَيْب} على حذف مضاف من دلالة الاقتضاء.تقديره: لا يعلم مكانها إلا هو، لأن العلم لا يتعلق بذوات المفاتح، وهو ترشيح لاستعارة مفاتح الغيب للعلم بالمغيبات، ونفي علم غيره لها كناية عن نفي العلم بما تغلق عليه المفاتح من علم المغيبات.
ومعنى {لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} أي علما مستقلا به، فأما ما أطلع عليه بعض أصفيائه، كما قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 27] فلذلك علم يحصل لمن أطلعه بإخبار منه فكان راجعا إلى علمه هو.والعلم معرفة الأشياء بكيفية اليقين.
وفي الصحيح عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مفاتح الغيب خمس: إن الله عنده علم الساعة، وينزل الغيث، ويعلم ما في الأرحام، وما تدري نفس ماذا تكسب غدا، وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير" .

وجملة {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} عطف على جملة {لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} ، أو على جملة {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} ، لأن كلتيهما اشتملت على إثبات علم لله ونفي علم عن غيره، فعطفت عليهما هذه الجملة التي دلت على إثبات علم الله تعالى، دون نفي علم غيره وذلك علم الأمور الظاهرة التي قد يتوصل الناس إلى علم بعضها، فعطف هذه الجملة على جملة {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} لإفادة تعميم علمه تعالى بالأشياء الظاهرة المتفاوتة في الظهور بعد إفادة علمه بما لا يظهر للناس.
وظهور ما في البر للناس على الجملة أقوى من ظهور ما في البحر.وذكر البر والبحر لقصد الإحاطة بجميع ما حوته هذه الكرة، لأن البر هو سطح الأرض الذي يمشي فيه الحيوان غير سابح، والبحر هو الماء الكثير الذي يغمر جزءا من الأرض سواء كان الماء ملحا أم عذبا.والعرب تسمي النهر بحرا كالفرات ودجلة.والموصول للعموم فيشمل الذوات والمعاني كلها.
وجملة {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ} عطف على جملة {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} لقصد زيادة التعميم في الجزئيات الدقيقة.فإحاطة العلم بالخفايا مع كونها من أضعف الجزئيات مؤذن بإحاطة العلم بما هو أعظم أولى به.وهذه من معجزات القرآن فإن الله علم ما يعتقده الفلاسفة وعلم أن سيقول بقولهم من لا رسوخ له في الدين من أتباع الإسلام فلم يترك للتأويل في حقيقة علمه مجالا، إذ قال: {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ} كما سنبين الاختيار في وجه إعرابه.
والمراد بالورقة ورقة من الشجر.وحرف"مَنْ"زائد لتأكيد النفي ليفيد العموم نصا.وجملة {يعلمها} في موضع الحال من {ورقة} الواقعة في حيز النفي المستغنية بالعموم عن الصفة.وذلك لأن الاستثناء مفرغ من أحوال، وهذه الحال حال لازمة بعد النفي حصل بها مع الفعل المنفي الفائدة الاستثناء من عموم الأحوال، أي ما تسقط من ورقة في حالة إلا حالة يعلمها.
والأظهر في نظم قوله: {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ} أن يكون {ورقة} في محل المبتدأ مجرور بـ {مِنْ} الزائدة، وجملة {تسقط} صفة لـ {ورقة} مقدمة عليها فتعرب حالا، وجملة {إِلَّا يَعْلَمُهَا} خبر مفرغ له حرف الاستثناء. {وَلا حَبَّةٍ} عطف على المبتدأ بإعادة حرف النفي، و {فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ} صفة لـ {حبة} ، أي ولا حبة من بذور النبت مظروفة في طبقات الأرض إلى أبعد عمق يمكن، فلا يكون {حبة} معمولا لفعل {تسقط} لأن

الحبة التي تسقط لا تبلغ بسقوطها إلى ظلمات الأرض. {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ} معطوفان على المبتدأ المجرور بـ {مِنْ} .والخبر عن هذه المبتدآت الثلاثة هو قوله: {إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} لوروده بعد الثلاثة، وذلك ظاهر وقوع الإخبار به عن الثلاثة، وأن الخبر الأول راجع إلى قوله: {مِنْ وَرَقَةٍ} .
والمراد بالكتاب المبين العلم الثابت الذي لا يتغير، وما عسى أن يكون عند الله من آثار العلم من كتابة أو غيرها لم يطلعنا على كنهها.
وقيل: جر {حبة} عطف على {ورقة} مع إعادة حرف النفي، و {فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ} وصف لـ {حبة} .وكذلك قوله: {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ} بالجر عطفا على {حبة} و {ورقة} ، فيقتضي أنها معمولة لفعل {تسقط} ، أي ما يسقط رطب ولا يابس، ومقيدة بالحال في قوله: {إِلَّا يَعْلَمُهَا} .
وقوله: {إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} تأكيد لقوله: {إِلَّا يَعْلَمُهَا} لأن المراد بالكتاب المبين علم الله تعالى سواء كان الكتاب حقيقة أم مجازا عن الضبط وعدم التبديل.وحسن هذا التأكيد تجديد المعنى لبعد الأول بالمعطوفات وصفاتها، وأعيد بعبارة أخرى تفننا.
وقد تقدم القول في وجه جمع {ظلمات} عند قوله تعالى: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} في هذه السورة[1] .و {مبين} إما من أبان المتعدي، أي مبين لبعض مخلوقاته ما يريده كالملائكة، أو من أبان القاصر الذي هو بمعنى بان، أي بين، أي فصل بما لا احتمال فيه ولا تردد.
وقد علم من هاته الآيات عموم علمه تعالى بالكليات والجزئيات.وهذا متفق عليه عند أهل الأديان دون تصريح به في الكتب السابقة وما أعلنه إلا القرآن في نحو قوله: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 29] .وفيه إبطال لقول جمهور الفلاسفة أن الله يعلم الكليات خاصة ولا يعلم الجزئيات، زعما منهم بأنهم ينزهون العلم الأعلى عن التجزي؛ فهم أثبتوا صفة العلم لله تعالى وأنكروا تعلق علمه بجزئيات الموجودات.وهذا هو المأثور عنهم عند العلماء.وقد تأوله عنهم ابن رشد الحفيد ونصير الدين الطوسي.وقال الإمام الرازي في المباحث المشرقية1: "ولا بد من تفصيل مذهب الفلاسفة فإن اللائق
ـــــــ
1 كذا نسب إليه الحكيم السلكوتي في"الرسالة المعروفة بالخاقانية".رسالة مخطوطة في مكتبتنا.

بأصولهم أن يقال: الأمور أربعة أقسام؛ فإنها إما أن لا تكون متشكلة ولا متغيرة، وإما أن تكون متشكلة غير متغيرة، وإما أن تكون متغيرة غير متشكلة؛ وإما أن تكون متشكلة ومتغيرة معا.فأما ما لاتكون متشكلة ولا متغيرة فإنه تعالى عالم به سواء كان كليا أو جزئيا.وكيف يمكن القول بأنه تعالى لا يعلم الجزئيات منها مع اتفاق الأكثر منهم على علمه تعالى بذاته المخصوصة وبالعقول.
وأما المتشكلة غير المتغيرة وهي الأجرام العلوية فهي غير معلومة له تعالى بأشخاصها عندهم، لأن إدراك الجسمانيات لا يكون إلا بالآت جسمانية.
وأما المتغيرة غير المتشكلة فذلك مثل الصور والأعراض الحادثة والنفوس الناطقة، فإنها غير معلومة له لأن تعلقها يحوج إلى آلة جسمانية بل لأنها لما كانت متغيرة يلزم من تغيرها العلم.
وأما ما يكون متشكلا ومتغيرا فهو الأجسام الكائنة الفاسدة1.وهي يمتنع أن تكون مدركة له تعالى للوجهين"أي المذكورين في القسمين الثاني والثالث"اهـ.
وقد عد إنكار الفلاسفة أن الله يعلم الجزئيات من أصول ثلاثة لهم خالفت المعلوم بالضرورة من دين الإسلام.وهي: إنكار علم الله بالجزئيات؛ وإنكار حشر الأجساد، والقول بقدم العالم.ذكر ذلك الغزالي في تهافت الفلاسفة فمن يوافقهم في ذلك من ا لمسلمين يعتبر قوله كفرا، لكنه من قبيل الكفر باللازم فلا يعتبر قائله مرتدا إلا بعد أن يوقف على ما يفضي إليه قوله ويأبى أن يرجع عنه فحينئذ يستتاب ثلاثا فإن تاب وإلا حكم بردته.
[60] {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمّىً ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}
عطف جملة {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ} على جملة {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا} [الأنعام: 59] انتقالا من بيان سعة علمه إلى بيان عظيم قدرته لأن ذلك كله من دلائل الإلهية تعليما لأوليائه ونعيا على المشركين أعدائه.وقد جرت عادة القرآن بذكر دلائل الوحدانية في أنفس الناس عقب ذكر دلائلها في الآفاق فجمع ذلك هنا على وجه بديع مؤذن بتعليم
ـــــــ
1 يعني التي يعتريها الكون والفساد.

صفاته في ضمن دليل وحدانيته.وفي هذا تقريب للبعث بعد الموت.
فقوله: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ} صيغة قصر لتعريف جزأي الجملة، أي هو الذي يتوفى الأنفس دون الأصنام فإنها لا تملك موتا ولا حياة.
والخطاب موجه إلى المشركين كما يقتضيه السياق السابق من قوله: {لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأنعام: 58] واللاحق من قوله: {ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 64] ويقتضيه طريق القصر.ولما كان هذا الحال غير خاص بالمشركين علم منه أن الناس فيه سواء.
والتوفي حقيقته الإماتة، لأنه حقيقة في قبض الشيء مستوفى.وإطلاقه على النوم مجاز لشبه النوم بالموت في انقطاع الإدراك والعمل.إلا ترى قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} [الزمر: 42] .وقد تقدم تفصيله عند قوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} في سورة آل عمران[55] .
والمراد بقوله: {يتوفاكم} ينيمكم بقرينة قوله: {ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ} ، أي في النهار، فأراد بالوفاة هنا النوم على التشبيه.وفائدته أنه تقريب لكيفية البعث يوم القيامة، ولذا استعير البعث للإفاقة من النوم ليتم التقريب في قوله: {ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ} .
ومعنى {جرحتم} كسبتم، وأصل الجرح تمزيق جلد الحي بشيء محدد مثل السكين والسيف والظفر والناب.وتقدم في قوله: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} في سورة العقود[45] .وأطلق على كلاب الصيد وبزاته ونحوها اسم الجوارح لأنها تجرح الصيد ليمسكه الصائد.قال تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [4] وتقدم في سورة العقود.كما سموها كواسب، كقول لبيد:
غضفا كواسب ما يمن طعامها
فصار لفظ الجوارح مرادفا للكواسب؛ وشاع ذلك فأطلق على الكسب اسم الجرح، وهو المراد هنا.وقال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الجاثية: 21] .
وجملة {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} معترضة لقصد الامتنان بنعمة الإمهال، أي ولولا فضله لما بعثكم في النهار مع علمه بأنكم تكتسبون في النهار عبادة غيره ويكتسب بعضكم بعض ما نهاهم عنه كالمؤمنين.

ووقع الاقتصار على الإخبار بعلمه تعالى ما يكسب الناس في النهار دون الليل رعيا للغالب، لأن النهار هو وقت أكثر العمل والاكتساب، ففي الإخبار أنه يعلم ما يقع فيه تحذير من اكتساب ما لا يرضى الله باكتسابه بالنسبة للمؤمنين، وتهديد للمشركين.
وجملة {ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ} معطوفة على {يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ} فتكون"ثم"للمهلة الحقيقية، وهو الأظهر.ولك أن تجعل"ثم"للترتيب الرتبي فتعطف على جملة {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ} ، أي وهو يعلم ما تكتسبون من المناهي ثم يردكم ويمهلكم.وهذا بفريق المشركين أنسب.
و"في"للظرفية.والضمير للنهار.والبعث مستعار للإفاقة من النوم لأن البعث شاع في إحياء الميت وخاصة في اصطلاح القرآن {قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [المؤمنون: 82] وحسن هذه الاستعارة كونها مبنية على استعارة التوفي للنوم تقريبا لكيفية البعث التي حارت فيها عقولهم، فكل من الاستعارتين مرشح للأخرى.
واللام في {لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمّىً} لام التعليل لأن من الحكم والعلل التي جعل الله لها نظام اليقظة والنوم أن يكون ذلك تجزئة لعمر الحي، وهو أجله الذي أجلت إليه حياته يوم خلقه، كما جاء في الحديث: "يؤمر بكتب رزقه وأجله وعمله". فالأجل معدوم بالأيام والليالي، وهي زمان النوم واليقظة.والعلة التي بمعنى الحكمة لا يلزم اتحادها فقد يكون لفعل الله حكم عديدة.فلا إشكال في جعل اللام للتعليل.
وقضاء الأجل انتهاؤه.ومعنى كونه مسمى أنه معين محدد.والمرجع مصدر ميمي، فيجوز أن يكون المراد الرجوع بالموت، لأن الأرواح تصير في قبضة الله ويبطل ما كان لها من التصرف بإرادتها.ويجوز أن يكون المراد بالرجوع الحشر يوم القيامة، وهذا أظهر.
وقوله: {ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي يحاسبكم على أعمالكم بعد الموت، فالمهلة في"ثم"ظاهرة، أو بعد الحشر، فالمهلة لأن بين الحشر وبين ابتداء الحساب زمنا، كما ورد في حديث الشفاعة.
[62,61] {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ}

{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ}
عطف على جملة {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ} [الأنعام: 60] ، وتقدم تفسير نظيره آنفا.والمناسبة هنا أن النوم والموت خلقهما الله فغلبا شدة الإنسان كيفما بلغت فبين عقب ذكرهما أن الله هو القادر الغالب دون الأصنام.فالنوم قهر، لأن الإنسان قد يريد أن لا ينام فيغلبه النوم، والموت قهر وهو أظهر، ومن الكلم الحق: سبحان من قهر العباد بالموت.6
{ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون}
{ويرسل} عطف على { القاهر} ، فيعتبر المسند إليه مقدما على الخبر الفعلي، فيدل على التخصيص أيضا بقرينة المقام، أي هو الذي يرسل عليكم حفظة دون غيره.والقصر هنا حقيقي، فلا يستدعي رد اعتقاد مخالف.والمقصود الإعلام بهذا الخبر الحق ليحذر السامعون من ارتكاب المعاصي.
ومعنى {على} في قوله: {عليكم} الاستعلاء المجازي، أي إرسال قهر وإلزام، كقوله: {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا} [الإسراء: 5] ، لأن سياق الكلام خطاب للمشركين كما عملت، ومثله قوله تعالى: {كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} [الانفطار: 10,9]
و {عليكم} متعلق بـ {يرسل} فعلم، أن المراد بحفظ الحفظة الإحصاء والضبط من قولهم: حفظت عليه فعله كذا.وهو ضد نسي.ومنه قوله تعالى: {وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} [قّ: 4] .وليس هو من حفظ الرعاية والتعهد مثل قوله تعالى: {حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء: 34] .
فالحفظة ملائكة وظيفتهم إحصاء أعمال العباد من خير وشر.وورد في الحديث الصحيح: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار"الحديث.
وقوله: {إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} غاية لما دل عليه اسم الحفظة من معنى الإحصاء، أي فينتهي الإحصاء بالموت، فإذا جاء الوقت الذي ينتهي إليه أجل الحياة توفاه الملائكة المرسلون لقبض الأرواح.
فقوله: {رُسُلُنَا} في قوة النكرة لأن المضاف مشتق فهو بمعنى اسم المفعول فلا تفيده الإضافة تعريفا، ولذلك فالمراد من الرسل التي تتوفى رسل غير الحفظة المرسلين على العباد، بناء على الغالب في مجيء نكرة عقب نكرة أن الثانية غير الأولى.وظاهر

قوله: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} أن عددا من الملائكة يتولى توفي الواحد من الناس.وفي الآية الأخرى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة: 11] ، وسمي في الآثار عزرائيل، ونقل عن ابن عباس: "أن لملك الموت أعوانا".فالجمع بين الآيتين ظاهر.
وعلق فعل التوفي بضمير {أحدكم} الذي هو في معنى الذات.والمقصود تعليق الفعل بحال من أحوال أحدكم المناسب للتوفي، وهو الحياة، أي توفت حياته وختمتها، وذلك بقبض روحه.
وقرأ الجمهور {تَوَفَّتْهُ} بمثناة فوقية بعد الفاء ـ.وقرأ حمزة وحده {تَوَفَّاه رُسُلُنَا} وهي في المصحف مرسومةـ بنتأة بعد الفاء ـ فتصلح لأن تكون مثناة فوقية وأن تكون مثناة تحتية على لغة الإمالة.وهي التي يرسم بها الألفات المنقلبة عن الياءات.والوجهان جائزان في إسناد الفعل إلى جمع التكسير.
وجملة {وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} حال.والتفريط: التقصير في العمل والإضاعة في الذوات.والمعنى أنهم لا يتركون أحدا قد تم أجله ولا يؤخرون توفيه.
والضمير في قوله: {ردوا} عائد إلى {أحد} باعتبار تنكيره الصادق بكل أحد، أي ثم يرد المتوفون إلى الله.والمراد رجوع الناس إلى أمر الله يوم القيامة، أي ردوا إلى حكمه من نعيم وعذاب، فليس في الضمير التفات.
والمولى هنا بمعنى السيد، وهو اسم مشترك يطلق على السيد وعلى العبد.
و {الحق} بالجرـ صفة لـ {مولاهم} ، لما في {مولاهم} من معنى مالكهم، أي مالكهم الحق الذي لا يشوب ملكه باطل يوهن ملكه.وأصل الحق أنه الأمر الثابت فإن كل ملك غير ملك الخالقية فهو مشوب باستقلال مملوكه عنه استقلالا متفاوتا، وذلك يوهن الملك ويضعف حقيته.
وجملة {أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} تذييل ولذلك ابتدئ بأداة الاستفتاح المؤذنة بالتنبيه إلى أهمية الخبر.والعرب يجعلون التذييلات مشتملة على اهتمام أو عموم أو كلام جامع.
وقدم المجرور في قوله: {لَهُ الْحُكْمُ} للاختصاص، أي له لا لغيره، فإن كان المراد من الحكم جنس الحكم فقصره على الله إما حقيقي للمبالغة لعدم الاعتداد بحكم غيره، وإما إضافي للرد على المشركين، أي ليس لأصنامكم حكم معه، وإن كان المراد من

الحكم الحساب، أي الحكم المعهود يوم القيامة، فالقصر حقيقي.وربما ترجح هذا الاحتمال بقوله عقبه: {وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} أي ألا له الحساب، وهو أسرع من يحاسب فلا يتأخر جزاؤه.
وهذا يتضمن وعدا ووعيدا لأنه لما أتي بحرف المهلة في الجمل المتقدمة وكان المخاطبون فريقين: فريق صالح وفريق كافر، وذكر أنهم إليه يرجعون كان المقام مقام طماعية ومخالفة؛ فالصالحون لا يحبون المهلة والكافرون بعكس حالهم، فعجلت المسرة للصالحين والمساءة للمشركين بقوله: {وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ}
[63ـ64] {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ}
استئناف ابتدائي.ولما كان هذا الكلام تهديدا وافتتح بالاستفهام التقريري تعين أن المقصود بضمائر الخطاب المشركون دون المسلمين.وأصرح من ذلك قوله: {ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} .
وإعادة الأمر بالقول للاهتمام، كما تقدم بيانه عند قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ} [الأنعام: 40] الآية.والاستفهام مستعمل في التقرير والإلجاء، لكون ذلك لا ينازعون فيه بحسب عقائد الشرك.
والظلمات قيل على حقيقتها، فيتعين تقدير مضاف، أي من إضرار ظلمات البر والبحر، فظلمات البر ظلمة الليل التي يلتبس فيها الطريق للسائر والتي يخشى فيها العدو للسائر وللقاطن، أي ما يحصل في ظلمات البر من الآفات.وظلمات البحر يخشى فيها الغرق والضلال والعدو.وقيل: "أطلقت الظلمات مجازا على المخاوف الحاصلة في البر والبحر، كما يقال: يوم مظلم إذا حصلت فيه شدائد".ومن أمثال العرب: "رأى الكواكب مُظْهِراً"، أي أظلم عليه يومه إظلاما في عينيه لما لاقاه من الشدائد حتى صار كأنه ليل يرى فيه الكواكب.والجمع على الوجهين روعي فيه تعدد أنواع ما يعرض من الظلمات، على أننا قدمنا في أول السورة أن الجمع في لفظ الظلمات جرى على قانون الفصاحة.وجملة {تدعونه} حال من الضمير المنصوب في {يُنَجِّكُمْ} .
وقرئ {مَنْ يُنَجِّيكُمْ} بالتشديد ـ لنافع، وابن كثير، وابن عامر، وأبي عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي، وأبي جعفر، وخلف.وقرأه يعقوب ـ بالتخفيف ـ.

والتضرع: التذلل، كما تقدم في قوله: {لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} في هذه السورة[42] .وهو منصوب على الحال مؤولا باسم الفاعل.والخفية ـ بضم الخاء وكسرها ـ ضد الجهر.وقرأه الجمهور بضم الخاء.وقرأه أبو بكر عن عاصم بكسر الخاء وهو لغة مثل أسوة وإسوة.وعطف {خفية} على {تضرعا} إما عطف الحال على الحال كما تعطف الأوصاف فيكون مصدرا مؤولا باسم الفاعل، وإما أن يكون عطف المفعول المطلق على الحال على أنه مبين لنوع الدعاء، أي تدعونه في الظلمات مخفين أصواتكم خشية انتباه العدو من الناس أو الوحوش.
وجملة {لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا} في محل نصب بقول محذوف، أي قائلين.وحذف القول كثير في القرآن إذا دلت عليه قرينة الكلام.واللام في {لئن} الموطئة للقسم,واللام في {لنكونن} لام جواب القسم.وجيء بضمير الجمع إما لأن المقصود حكاية اجتماعهم على الدعاء بحيث يدعو كل واحد عن نفسه وعن رفاقه.وإما أريد التعبير عن الجمع باعتبار التوزيع مثل: ركب القوم خيلهم، وإنما ركب كل واحد فرسا.
وقرأ الجمهور {أَنْجَيْتَنَا} بمثناة تحتية بعد الجيم ومثناة فوقية بعد التحتية ـ.وقرأه عاصم، وحمزة، والكسائي وخلف {أَنْجَانَا} بألف بعد الجيم ـوالضمير عائد إلى {مَنْ} في قوله: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ} .
والإشارة بـ {هذه} إلى الظلمة المشاهدة للمتكلم باعتبار ما ينشأ عنها، أو باعتبار المعنى المجازي وهو الشدة، أو إلى حالة يعبر عنها بلفظ مؤنث مثل الشدة أو الورطة أو الربقة.
والشاكر هو الذي يراعي نعمة المنعم فيحسن معاملته كلما وجد لذلك سبيلا.وقد كان العرب يرون الشكر حقا عظيما ويعيرون من يكفر النعمة.
وقولهم: {مِنَ الشَّاكِرِينَ} أبلغ من أن يقال: لنكونن شاكرين، كما تقدم عند قوله تعالى: {قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [الأنعام: 56] .
وجملة {قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا} تلقين لجواب الاستفهام من قوله: {مَنْ يُنَجِّيكُمْ} أن يجيب عن المسؤولين، ولذلك فصلت جملة {قل} لأنها جارية مجرى القول في المحاورة، كما تقدم في هذه السورة.وتولى الجواب عنهم لأن هذا الجواب لا يسعهم إلا الاعتراف به.

وقدم المسند إليه على الخبر الفعلي لإفادة الاختصاص، أي الله ينجيكم لا غيره، ولأجل ذلك صرح بالفعل المستفهم عنه.ولولا هذا لاقتصر على {قُلِ اللَّهُ} .والضمير في {منها} للظلمات أو للحادثة.
وزاد {مِنْ كُلِّ كَرْبٍ} لإفادة التعميم، وأن الاقتصار على ظلمات البر والبحر بالمعنيين لمجرد المثال.
وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وهشام عن ابن عامر، ويعقوب {يُنْجِيكُمْ} بسكون النون وتخفيف الجيم ـ على أنه من أنجاه، فتكون الآية جمعت بين الاستعمالين.وهذا من التفنن لتجنب الإعادة.ونظيره {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} [الطارق: 17] .وقرأه ابن ذكوان عن ابن عامر، وأبو جعفر، وخلف، وعاصم، وحمزة، والكسائي {يُنَجِّيكُمْ} بالتشديد ـ مثل الأولى.
و {ثم} من قوله: {ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} للترتيب الرتبي لأن المقصود أن إشراكهم مع اعترافهم بأنهم لا يلجأون إلا إلى الله في الشدائد أمر عجيب، فليس المقصود المهلة.
وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي لمجرد الاهتمام بخبر إسناد الشرك إليهم، أي أنتم الذين تتضرعون إلى الله باعترافكم تشركون به من قبل ومن بعد، من باب {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 85] ، ومن باب: لو غيرك قالها، ولو ذات سوار لطمتني.
وجيء بالمسند فعلا مضارعا لإفادة تجدد شركهم وأن ذلك التجدد والدوام عليه أعجب.
والمعنى أن الله أنجاكم فوعدتم أن تكونوا من الشاكرين فإذا أنتم تشركون.وبين {الشاكرين} و {تشركون} الجناس المحرف.
[65] {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ}
{قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ}
استئناف ابتدائي عقب به ذكر النعمة التي في قوله: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ} .بذكر القدرة على الانتقام، تخويفا للمشركين.وإعادة فعل الأمر بالقول مثل إعادته في نظائره للاهتمام المبين عند قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ} [الأنعام: 40] .

والمعنى قل للمشركين، فالمخاطب بضمائر الخطاب هم المشركون.والمقصود من الكلام ليس الإعلام بقدرة الله تعالى فإنها معلومة، ولكن المقصود التهديد بتذكيرهم بأن القادر من شأنه أن يخاف بأسه فالخبر مستعمل في التعريض مجازا مرسلا مركبا، أو كناية تركيبية.وهذا تهديد لهم، لقولهم: {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} [يونس: 20] .
وتعريف المسند والمسند إليه أفاد القصر، فإفاد اختصاصه تعالى بالقدرة على بعث العذاب عليهم وأن غيره لا يقدر على ذلك فلا ينبغي لهم أن يخشوا الأصنام، ولو أرادوا الخير لأنفسهم لخافوا الله تعالى وأفردوه بالعبادة لمرضاته، فالقصر المستفاد إضافي.والتعريف في {القادر} تعريف الجنس، إذ لا يقدر غيره تعالى على مثل هذا العذاب.
والعذاب الذي من فوق مثل الصواعق والريح، والذي من تحت الأرجل مثل الزلازل والخسف والطوفان.
و {يلبسكم} مضارع لَبَسَه ـ بالتحريك ـ أي خلطه، وتعدية فعل {يلبسكم} إلى ضمير الأشخاص بتقدير اختلاط أمرهم واضطرابه ومرجه، أي اضطراب شؤونهم، فإن استقامة الأمور تشبه انتظام السلك ولذلك سميت استقامة أمور الناس نظاما.وبعكس ذلك اختلال الأمور والفوضى تشبه اختلاط الأشياء، ولذلك سمي مرجا ولبسا.وذلك بزوال الأمن ودخول الفساد في أمور الأمة، ولذلك يقرن الهرج وهو القتل بالمرج، وهو الخلط فيقال: هم في هرج ومرج، فسكون الراء في الثاني للمزاوجة.
وانتصب {شِيَعَا} على الحال من الضمير المنصوب في {يلبسكم} .والشيع جمع شيعة ـ بكسر الشين ـ وهي الجماعة المتحدة في غرض أو عقيدة أو هوى فهم متفقون عليه، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159] .وشيعة الرجل أتباعه والمقتدون به قال تعالى: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ} [الصافات: 83] أي من شيعة نوح.
وتشتت الشيع وتعدد الآراء أشد في اللبس والخلط، لأن اللبس الواقع كذلك لبس لا يرجى بعده انتظام.
وعطف عليه {وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} لأن من عواقب ذلك اللبس التقاتل.فالبأس هو القتل والشر، قال تعالى: {وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} [النحل: 81] والإذاقة استعارة للألم.

وهذا تهديد للمشركين كما قلنا بطريق المجاز أو الكناية.وقد وقع منه الأخير فإن المشركين ذاقوا بأس المسلمين يوم بدر وفي غزوات كثيرة.
في صحيح البخاري عن جابر بن عبد الله قال: "لما نزلت {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعوذ بوجهك" .قال: {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قال: "أعوذ بوجهك" ، قال: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} قال رسول الله: "هذا أهون، أو هذا أيسر" .اهـ.واستعاذة النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك خشية أن يعم العذاب إذا نزل على الكافرين من هو بجوارهم من المسلمين لقوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25] وفي الحديث قالوا: "يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون"؟قال: "نعم إذا كثر الخبث" وفي الحديث الآخر: "ثم يحشرون على نياتهم" .ومعنى قوله: "هذه أهون" ،أن القتل إذا حل بالمشركين فهو بيد المسلمين فيلحق المسلمين منه أذى عظيم لكنه أهون لأنه ليس فيه استئصال وانقطاع كلمة الدين، فهو عذاب للمشركين وشهادة وتأييد للمسلمين.وفي الحديث: "لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية" .وبعض العلماء فسر الحديث بأنه استعاذ أن يقع مثل ذلك بين المسلمين.ويتجه عليه أن يقال: لماذا لم يستعذ الرسول صلى الله عليه وسلم من وقوع ذلك بين المسلمين، فلعله لأنه أوحي إليه أن ذلك يقع في المسلمين، ولكن الله وعده أن لا يسلط عليهم عدوا من غير أنفسهم.وليست استعاذته بدالة على أن الآية مراد بها خطاب المسلمين كما ذهب إليه بعض المفسرين، ولا أنها تهديد للمشركين والمؤمنين، كما ذهب إليه بعض السلف، إلا على معنى أن مفادها غير الصريح صالح للفريقين لأن قدرة الله على ذلك صالحة للفريقين، ولكن المعنى التهديدي غير مناسب للمسلمين هنا.وهذا الوجه يناسب أن يكون الخبر مستعملا في أصل الإخبار وفي لازمه فيكون صريحا وكناية ولا يناسب المجاز المركب المتقدم بيانه.
{انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ}
استئناف ورد بعد الاستفهامين السابقين.
وفي الأمر بالنظر تنزيل للمعقول منزلة المحسوس لقصد التعجيب منه، وقد مضى في تفسير قوله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} في سورة النساء[50] .
وتصريف الآيات تنويعها بالترغيب تارة والترهيب أخرى.فالمراد بالآيات آيات القرآن.وتقدم معنى التصريف عند قوله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ

يَصْدِفُونَ} في هذه السورة[46] .
و {لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} استئناف بياني جواب لسؤال سائل عن فائدة تصريف الآيات، وذلك رجاء حصول فهمهم لأنهم لعنادهم كانوا في حاجة إلى إحاطة البيان بأفهامهم لعلها تتذكر وترعوي.
وتقدم القول في معنى"لعل"عند قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} في سورة البقرة[21] .
وتقدم معنى الفقه عند قوله تعالى: {فَمَا لِهَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} في سورة النساء[78] .
[67,66] {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}
عطف على {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ} [الأنعام: 65] ، أي لعلهم يفقهون فلم يفقهوا وكذبوا.وضمير {به} عائد إلى العذاب في قوله: {عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً} [الأنعام: 65] ، وتكذيبهم به معناه تكذيبهم بأن الله يعذبهم لأجل إعراضهم.
والتعبير عنهم بـ {قومك} تسجيل عليهم بسوء معاملتهم لمن هو من أنفسهم، كقوله تعالى: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23] ، وقال طرفة:
وظلم ذوي القربي أشد مضاضة ... على المرء من وقع الحسام المهند
وتقدم وجه تعدية فعل"كذب"بالباء عند قوله تعالى: {وَكَذَّبْتُمْ بِهِ} في هذه السورة[57] .
وجملة {وَهُوَ الْحَقُّ} معترضة لقصد تحقيق القدرة على أن يبعث عليهم عذابا الخ.
وقد تحقق بعض ذلك بعذاب من فوقهم وهو عذاب القحط، وبإذاقتهم بأس المسلمين يوم بدر.
ويجوز أن يكون ضمير به عائدا إلى القرآن، فيكون قوله: {وَكَذَّبَ بِهِ} رجوعا بالكلام إلى قوله: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ} [الأنعام: 57] ، أي كذبتم بالقرآن، على وجه جعل"مِنْ"في قوله: {مِنْ رَبِّي} [الأنعام57] ابتدائية كما تقدم، أي كذبتم بآية القرآن وسألتم نزول العذاب تصديقا لرسالتي وذلك ليس بيدي.ثم اعترض بجمل كثيرة.

أولاها: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} [الأنعام: 59] ، ثم ما بعده من التعريض بالوعيد، ثم بنى عليه قوله: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ} فكأنه قيل: قل إني على بينة من ربي وكذبتم به وهو الحق قل لست عليكم بوكيل.
وقوله: {قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} إرغام لهم لأنهم يرونه أنهم لما كذبوه وأعرضوا عن دعوته قد أغاظوه، فأعلمهم الله أنه لا يغيظه ذلك وأن عليه الدعوة فإن كانوا يغيظون فلا يغيظون إلا أنفسهم.
والوكيل هنا بمعنى المدافع الناصر، وهو الحفيظ.وتقدم عند قوله تعالى: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} في سورة آل عمران[173] .
وتعديته بـ"على"لتضمنه معنى الغلبة والسلطة، أي لست بقيم عليكم يمنعكم من التكذيب، كقوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} [الشورى: 48] وجملة {لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ} مستأنفة استئنافا بيانيا، لأن قوله: {وَهُوَ الْحَقُّ} يثير سؤالهم أن يقولوا: فمتى ينزل العذاب.فأجيبوا بقوله: {لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ} .
والنبأ: الخبر المهم، وتقدم في هذه السورة.فيجوز أن يكون على حقيقته، أي لكل خبر من أخبار القرآن، ويجوز أن يكون أطلق المصدر على اسم المفعول، أي لكل مخبر به، أي ما أخبروا به من قوله: {أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ} [الأنعام: 65] الآية.
والمستقر وقت الاستقرار، فهو اسم زمانه، ولذلك صيغ بوزن اسم المفعول، كما هو قياس صوغ اسم الزمان المشتق من غير الثلاثي.والاستقرار بمعنى الحصول، أي لكل موعود به وقت يحصل فيه.وهذا تحقيق للوعيد وتفويض زمانه إلى علم الله تعالى.وقد يكون المستقر هنا مستعملا في الانتهاء والغاية مجازا، كقوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ} [يّس: 38] ، وهو شامل لوعيد الآخرة ووعيد الدنيا ولكل مستقر.وعن السدي: استقر يوم بدر ما كان يعدهم به من العذاب.
وعطف {سَوْفَ تَعْلَمُونَ} على جملة: {لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ} .أي تعلمونه، أي هو الآن غير معلوم وتعلمونه في المستقبل عند حلوله بكم.وهذا أظهر في وعيد العذاب في الدنيا.
[68] {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}

عطف على جملة {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ} [الأنعام: 66] .والعدول عن الإتيان بالضمير إلى الإتيان بالاسم الظاهر وهو اسم الموصول، فلم يقل: وإذا رأيتهم فأعرض عنهم، يدل على أن الذين يخوضون في الآيات فريق خاص من القوم الذين كذبوا بالقرآن أو بالعذاب.فعموم القوم أنكروا وكذبوا دون خوض في آيات القرآن، فأولئك قسم، والذين يخوضون في الآيات قسم كان أبذى وأقذع، وأشد كفرا وأشنع، وهم المتصدون للطعن في القرآن.وهؤلاء أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالإعراض عن مجادلتهم وترك مجالسهم حتى يرعووا عن ذلك.ولو أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بالإعراض عن جميع المكذبين لتعطلت الدعوة والتبليغ.
ومعنى {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ} إذا رأيتهم في حال خوضهم.
وجاء تعريف هؤلاء بالموصولية دون أن يقال الخائضين أو قوما خائضين لأن الموصول فيه إيماء إلى وجه الأمر بالإعراض لأنه أمر غريب، إذ شأن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن يمارس الناس لعرض دعوة الدين، فأمر الله إياه بالإعراض عن فريق منهم يحتاج إلى توجيه واستئناس.وذلك بالتعليل الذي أفاده الموصول وصلته، أي فأعرض عنهم لأنهم يخوضون في آياتنا.
وهذه الآية أحسن ما يمثل به، لمجيء الموصول للإيماء إلى إفادة تعليل ما بني عليه من خبر أو إنشاء، ألا ترى أن الأمر بالإعراض حدد بغاية حصول ضد الصلة.وهي أيضا أعدل شاهد لصحة ما فسر به القطب الشيرازي في شرح المفتاح قول السكاكي: "أو أن تومئ بذلك إلى وجه بناء الخبر"بأن وجه بناء الخبر هو علته وسببه، وإن أبى التفتزاني ذلك التفسير.
والخوض حقيقته الدخول في الماء مشيا بالرجلين دون سباحة ثم استعير للتصرف الذي فيه كلفة أو عنت، كما استعير التعسف وهو المشي في الرمل لذلك.واستعير الخوض أيضا للكلام الذي فيه تكلف الكذب والباطل لأنه يتكلف له قائله، قال الراغب: وأكثر ما ورد في القرآن ورد فيما يذم الشروع فيه، قال تعالى: {يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا} {نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة: 65} {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} التوبة: 69] {ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام: 91] .فمعنى {يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا} يتكلمون فيها بالباطل والاستهزاء.
والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة وحكم بقية المسلمين كحكمه، كما قال في ذكر المنافقين في سورة النساء[140] {فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} .

والإعراض تقدم تفسيره عند قوله تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ} في سورة النساء[63] .
والإعراض عنهم هنا هو ترك الجلوس إلى مجالسهم، وهو مجاز قريب من الحقيقة لأنه يلزمه الإعراض الحقيقي غالبا، فإن هم غشوا مجلس الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ فالإعراض عنهم أن يقوم عنهم وعن ابن جريج: "فجعل إذا استهزأوا قام فحذروا وقالوا لا تستهزأوا فيقوم".وفائدة هذا الإعراض زجرهم وقطع الجدال معهم لعلهم يرجعون عن عنادهم.
و {حتى} غاية للإعراض لأنه إعراض فيه توقيف دعوتهم زمانا أوجبه رعي مصلحة أخرى هي من قبيل الدعوة فلا يضر توقيف الدعوة زمانا، فإذا زال موجب ذلك عادت محاولة هديهم إلى أصلها لأنها تمحضت للمصلحة.
وإنما عبر عن انتقالهم إلى حديث آخر بالخوض لأنهم لا يتحدثون إلا فيما لا جدوى له من أحوال الشرك وأمور الجاهلية.
و {غيرِه} صفة لـ {حديث} .والضمير المضاف إليه عائد إلى الخوض باعتبار كونه حديثا حسبما اقتضاه وصف {حديث} بأنه غيره.
وقوله: {وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} عطف حالة النسيان زيادة في تأكيد الأمر بالإعراض.وأسند الإنساء إلى الشيطان فدلنا على أن النسيان من آثار الخلقة التي جعل الله فيها حظا لعمل الشيطان.كما ورد أن التثاؤب من الشيطان، وليس هذا من وسوسة الشيطان في أعمال الإنسان لأن الرسول صلى الله عليه وسلم معصوم من وسوسة الشيطان في ذلك، فالنسيان من الإعراض البشرية الجائزة على الأنبياء في غير تبليغ ما أمروا بتبليغه، عند جمهور علماء السن?ة من الأشاعرة وغيرهم.قال ابن العربي في الأحكام: "إن كبار الرافضة هم الذين ذهبوا إلى تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم من النسيان"أهـ.وهو قول لبعض الأشعرية وعزي إلى الأستاذ أبي إسحاق الإسفرائيني فيما حكاه نور الدين السيرازي في شرح للقصيدة النونية لشيخه تاج الدين السبكي.ويتعين أن مراده بذلك فيما طريقه البلاغ كما يظهر مما حكاه عنه القرطبي: وقد نسي رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم من ركعتين في الصلاة الرباعية، ونسي آيات من بعض السور تذكرها لما سمع قراءة رجل في صلاة الليل، كما في الصحيح.وفي الحديث الصحيح: "إنما أنا بشر أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني" فذلك نسيان استحضارها بعد أن بلغها.وليس نظرنا في جواز ذلك وإنما نظرنا في إسناد ذلك إلى الشيطان فإنه يقتضي أن للشيطان حظا له أثر في نفس

الرسول، فيجوز أن تكون بعض الأعراض البشرية التي يجوز طروها على الأنبياء قد جعلها الله في أصل الخلقة من عمل الشياطين، كما جعل بعض الأعراض موكولة للملائكة، ويكون النسيان من جملة الأعراض الموكولة إلى الشياطين كما تكرر إسناده إلى الشيطان في آيات كثيرة منها.وهذا مثل كون التثاؤب من الشيطان، وكون ذات الجنب من الشيطان.وقد قال أيوب: {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [صّ: 41] ، وحينئذ فالوجه أن الأعراض البشرية الجائزة على الأنبياء التي لا تخل بتبليغ ولا توقع في المعصية قد يكون بعضها من أثر عمل الشيطان وأن الله عصمهم من الشيطان فيما عدا ذلك.
ويجوز أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم قد خص من بين الأنبياء بأن لا سلطة لعمل شيطاني عليه ولو كان ذلك من الأعراض الجائزة على مقام الرسالة، فإنما يتعلق به من تلك الإعراض ما لا أثر للشيطان فيه.وقد يدل لهذا ما ورد في حديث شق الصدر: "أن جبريل لما استخرج العلقة قال: "هذا حظ الشيطان منك"، يعني مركز تصرفاته، فيكون الشيطان لا يتوصل إلى شيء يقع في نفس نبينا صلى الله عليه وسلم إلا بواسطة تدبير شيء يشغل النبي حتى ينسى مثل ما ورد في حديث الموطأ حين نام رسول الله صلى الله عليه وسلم ووكل بلالا بأن يكلأ لهم الفجر، فنام بلال حتى طلعت الشمس، فإن النبي قال: "إن الشيطان أتى بلالا فلم يزل يهدئه كما يهدأ الصبي حتى نام" .فأما نوم النبي والمسلمين عدا بلالا فمان نوما معتادا ليس من عمل الشيطان.والى هذا الوجه أشار عياض في الشفاء.وقريب منه ما ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ليلة القدر، فخرج ليعلم الناس فتلاحى رجلان فرفعت.فإن التلاحي من عمل الشيطان، ولم يكن يستطيع رفع ليلة القدر بنفسه فوسوس بالتلاحي.
والحاصل أن الرسول صلى الله عليه وسلم معصوم من الوسوسة، وأما ما دونها مثل الإنساء والنزغ فلا يلزم أن يعصم منه.وقد يفرق بين الأمرين: أن الوسوسة آثارها وجودية والإنساء والنزغ آثارهما عدمية، وهي الذهول والشغل ونحو ذلك.
فالمعنى إن أنساك الشيطان الإعراض عنهم فإن تذكرت فلا تقعد معهم، فهذا النسيان ينتقل به الرسول صلى الله عليه وسلم من عبادة إلى عبادة، ومن أسلوب في الدعوة إلى أسلوب آخر، فليس إنساء الشيطان إياه إيقاعا في معصية إذ لا مفسدة في ارتكاب ذلك ولا يحصل به غرض من كيد الشيطان في الضلال، وقد رفع الله المؤاخذة بالنسيان، ولذلك قال: {فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ، أي بعد أن تتذكر الأمر بالإعراض.فالذكرى اسم للتذكر وهو ضد النسيان، فهي اسم مصدر، أي إذا أغفلت بعد هذا فقعدت إليهم فإذا

تذكرت فلا تقعد، وهو ضد فأعرض، وذلك أن الأمر بالشيء نهي عن ضده.
وقرأ الجمهور {يُنْسِيَنَّكَ} بسكون النون وتخفيف السين ـ.وقرأه ابن عامر ـ بفتح النون وتشديد السين ـ من التنسية، وهي مبالغة في أنساه.ومن العلماء من تأول هذه الآية بأنها مما خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته كقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] قال أبو بكر بن العربي: "إذا عذرنا أصحابنا في قولهم ذلك في: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} لاستحالة الشرك عليه فلا عذر لهم في هذه الآية لجواز النسيان عليه".
والقوم الظالمون هم الذين يخوضون في آيات الله، فهذا من الإظهار في مقام الإضمار لزيادة فائدة وصفهم بالظلم، فيعلم أن خوضهم في آيات الله ظلم، فيعلم أنه خوض إنكار للحق ومكابرة للمشاهدة.
[69] {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}
لما كان الإعراض عن مجالس الذين يخوضون بالطعن في الآيات قد لا يحول دون بلوغ أقوالهم في ذلك إلى أسماع المؤمنين من غير قصد أتبع الله النهي السابق بالعفو عما تتلقفه أسماع المؤمنين من ذلك عفوا، فتكون الآية عذرا لما يطرق أسماع المؤمنين من غير قعودهم مع الطاعنين.
والمراد بـ {الَّذِينَ يَتَّقُونَ} المؤمنون، والنبي صلى الله عليه وسلم هو أول المتقين، فالموصول كتعريف الجنس فيكون شاملا لجميع المسلمين كما كان قوله: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} [الأنعام: 68] حكمه شاملا لبقية المسلمين بحكم التبع.وقال جمع من المفسرين: "كانت آية {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} [الأنعام: 68] خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم وجاء قوله تعالى: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} رخصة لغير النبي من المسلمين في الحضور في تلك المجالس لأن المشركين كان يغضبهم قيام النبي من مجالسهم".ونسب هذا إلى ابن عباس، والسدي، وابن جبير، فيكون عموم الموصول في قوله: {الَّذِينَ يَتَّقُونَ} مخصوصا بما اقتضته الآية التي قبلها.
وروى البغوي عن ابن عباس قال: "لما نزلت {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} [الأنعام: 68] قال المسلمون: "كيف نقعد في المسجد الحرام ونطوف بالبيت وهم يخوضون أبدا.فأنزل الله عز وجل: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ}

يعني إذا قمتم عنهم فما عليكم تبعة ما يقولون في حال مجانبتكم إياهم إذ ليس عليكم جرى ذلك وما عليهم أن يمنعوهم.
وقوله: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} تقدم تفسير نظيره آنفا، وهو قوله: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 52] .
ثم الحساب هنا مصدر مضاف إلى ضمير الذين يخوضون في الآيات.فهذا المصدر بمنزلة الفعل المبني للمجهول فيحتمل أن يكون فاعله {الَّذِينَ يَتَّقُونَ} على وزان ما تقدم في قوله: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 52] ، أي ما على الذين يتقون أن يحاسبوا الخائضين، أي أن يمنعوهم من الخوض إذ لم يكلفهم الله بذلك لأنهم لا يستطيعون زجر المشركين، ويحتمل أن يكون فاعله الله تعالى كقوله: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الغاشية: 26] أي ما على الذين يتقون تبعة حساب المشركين، أي ما عليهم نصيب من إثم ذلك الخوض إذا سمعوه.
وقوله: {وَلَكِنْ ذِكْرَى} عطفت الواو الاستدراك على النفي، أي ما عليهم شيء من حسابهم ولكن عليهم الذكرى.والذكرى اسم مصدر ذكر بالتشديد بمعنى وعظ، كقوله تعالى: {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [قّ: 8] ، أي عليهم إن سمعوهم يستهزئون أن يعظوهم ويخوفوهم غضب الله فيجوز أن يكون"ذكرى"منصوبا على المفعول المطلق الآتي بدلا من فعله.والتقدير: ولكن يذكرونهم ذكرى.ويجوز أن يكون ذكرى مرفوعا على الابتداء، والتقدير: ولكن عليهم ذكرى.
وضمير {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} عائد إلى ما عاد إليه ضمير {حسابهم} أي لعل الذين يخوضون في الآيات يتقون، أي يتركون الخوض.وعلى هذا فالتقوى مستعملة في معناها اللغوي دون الشرعي.ويجوز أن يكون الضمير عائدا إلى {الَّذِينَ يَتَّقُونَ} ,أي ولكن عليهم الذكرى لعلهم يتقون بتحصيل واجب النهي عن المنكر أو لعلهم يستمرون على تقواهم.
وعن الكسائي: "المعنى ولكن هذه ذكرى"، أي قوله: {وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 68] تذكرة لك وليست مؤاخذة بالنسيان، إذ ليس على المتقين تبعة سماع استهزاء المستهزئين ولكنا ذكرناهم بالإعراض عنهم لعلهم يتقون سماعهم.

والجمهور على أن هذه الآية ليست بمنسوخة.وعن ابن عباس والسدي: "أنها منسوخة بقوله تعالى في سورة النساء[140] {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} بناء على رأيهم أن قوله: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} أباح للمؤمنين القعود ولم يمنعه إلا على النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} [الأنعام: 68] كما تقدم آنفا.
[70] {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ}
عطف على جملة {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} [النساء: 63] أو على جملة {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 69] .وهذا حكم آخر غير حكم الإعراض عن الخائضين في آيات الله ولذلك عطف عليه.وأتي بموصول وصلة أخرى فليس ذلك إظهارا في مقام الإضمار.
و {ذر} فعل أمر.قيل: لم يرد له ماض ولا مصدر ولا اسم فاعل ولا اسم مفعول.فتصاريفه هذه مماثلة في الاستعمال استغناء عنها بأمثالها من مادة ترك تجنبا للثقل واستعملوا مضارعه والأمر منه.وجعله علماء التصريف مثالا واويا لأنهم وجدوه محذوف أحد الأصول، ووجدوه جاريا على نحو يعد ويرث فجزموا بأن المحذوف منه الفاء وأنها واو.وإنما حذفت في نحو ذر ودع مع أنها مفتوحة العين اتباعا للاستعمال، وهو حذف تخفيف لا حذف دفع ثقل، بخلاف حذف يعد ويرث.
ومعنى"ذر"اترك، أي لا تخالط.وهو هنا مجاز في عدم الاهتمام بهم وقلة الاكتراث باستهزائهم كقوله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} [المدثر: 11] وقوله: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ} ، وقول طرفة:
فذرني وخلقي إنني لك شاكر ... ولو حل بيتي نائيا عند ضرغد
أي لا تبال بهم ولا تهتم بضلالهم المستمر ولا تشغل قلبك بهم فالتذكير بالقرآن شامل لهم، أو لا تعبأ بهم وذكرهم به، أي لا يصدك سوء استجابتهم عن إعادة تذكيرهم.

والدين في قوله: {اتَّخَذُوا دِينَهُمْ} يجوز أن يكون بمعنى الملة، أي ما يتدينون به وينتحلونه ويتقربون به إلى الله، كقول النابغة:
مجلتهم ذات الإله ودينهم ... قويم فما يرجون غير العواقب
أي اتخذوه لعبا ولهوا، أي جعلوا الدين مجموع أمور هي من اللعب واللهو، أي العبث واللهو عند الأصنام في مواسمها، والمكاء والتصدية عند الكعبة على أحد التفسيرين في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: 35]
وإنما لم يقل اتخذوا اللهو واللعب دينا لمكان قوله: {اتخذوا} فإنهم لم يجعلوا كل ما هو من اللهو واللعب دينا لهم بل عمدوا إلى أن ينتحلوا دينا فجمعول له أشياء من اللعب واللهو وسموها دينا.
ويجوز أن يكون المراد من الدين العادة، كقول المثقب العبدي:
تقول وقد درأت لها وظيني
أهذا دينه أبدا وديني أي الذين دأبهم اللعب واللهو المعرضون عن الحق، وذلك في معاملتهم الرسول.صلى الله عليه وسلم.
واللعب واللهو تقدم تفسيرهما في قوله تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} في هذه السورة[32].
والذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا فريق عرفوا بحال هذه الصلة واختصت بهم، فهم غير المراد من الذين يخوضون في الآيات بل بينهم وبين الذين يخوضون في الآيات؛ فيوجز أن يكون المراد بهم المشركين كلهم بناء على تفسير الدين بالملة والنحلة فهم أعم من الذين يخوضون فبينهم العموم والخصوص المطلق.وهذا يناسب تفسير {ذر} بمعنى عدم الاكتراث بهم وبدينهم لقصد عدم اليأس من إيمانهم أو لزيادة التسجيل عليهم، أي وذكرهم بالقرآن، ويجوز أن يكون المراد بهم فريقا من المشركين سفهاء اتخذوا دأبهم اللعب واللهو، بناء على تفسير الدين بمعنى العادة فبينهم وبين الذين يخوضون العموم والخصوص الوجهي.
{وغرتهم} أي خدعتهم الحياة الدنيا وظنوا أنها لا حياة بعدها وأن نعيمها دائم لهم بطرا منهم.وتقدم تفسير الغرور عند قوله تعالى: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ} في سورة آل عمران[196].

وذكر الحياة هنا له موقع عظيم وهو أن همهم من هذه الدنيا هو الحياة فيها لا ما يكتسب فيها من الخيرات التي تكون بها سعادة الحياة في الآخرة، أي غرتهم الحياة الدنيا فأوهمتهم أن لا حياة بعدها وقالوا: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [الأنعام: 29].
والضمير المجرور في {وَذَكِّرْ بِهِ} عائد على القرآن لأن التذكير هو التذكير بالله وبالبعث وبالنعيم والعذاب.وذلك إنما يكون بالقرآن فيعلم السامع أن ضمير الغيبة يرجع إلى ما في ذهن المخاطب من المقام، ويدل عليه قوله تعالى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [قّ: 45].وحذف مفعول {ذكر} لدلالة قوله: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً} أي وذكرهم به.
وقوله: {أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ} يجوز أن يكون مفعولا ثانيا لـ {ذكر} وهو الأظهر، أي ذكرهم به إبسال نفس بما كسبت، فإن التذكير يتعدى إلى مفعولين من باب أعطى لأن أصل فعله المجرد يتعدى إلى مفعول فهو بالتضعيف يتعدى إلى مفعولين هما"هم"و {أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ} .وخص هذا المصدر من بين الأحداث المذكر بها لما فيه من التهويل.ويجوز أن يكون {أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ} على تقدير لام الجر تعليلا للتذكير، فهو كالمفعول لأجله فيتعين تقدير لا النافية بعد لام التعليل المحذوفة.والتقدير: لئلا تبسل نفس، كقوله تعالى: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} ، وقد تقدم في آخر سورة النساء[176].وجوز فيه غير ذلك ولم أكن منه على ثلج.
ووقع لفظ"نفس"وهو نكرة في سياق الإثبات وقصد به العموم بقرينة مقام الموعظة، كقوله تعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} [الانفطار: 5]ـأي كل نفس ـ علمت نفس ما أحضرت، أي كل نفس.
والإبسال: الإسلام إلى العذاب، وقيل: السجن والارتهان، وقد ورد في كلامهم بالمعنيين وهما صالحان هنا.وأصله من البسل وهو المنع والحرام.قال ضمرة النهشلي:
بكرت تلومك بعد وهن في الندى ... بسل عليك ملامتي وعتابي
وأما الإبسال بمعنى الإسلام فقد جاء فيه قول عوف بن الأحوص الكلابي:
وإبسالي بني بغير جرم ... بعوناه ولا بدم مراق
ومعنى {بِمَا كَسَبَتْ} بما جنت.فهو كسب الشر بقرينة {تُبْسَلَ}

وجملة {لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ} الخ في موضع الحال من {نفس} لعموم {نفس} ، أو في موضع الصفة نظرا لكون لفظه مفردا.
والولي: الناصر.والشفيع: الطالب للعفو عن الجاني لمكانة له عند من بيده العقاب.وقد تقدم الولي عند قوله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً} في هذه السورة[14]، والشفاعة عند قوله تعالى: {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} في سورة البقرة[48].
وجملة {وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا} عطف على جملة {لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} .و {تعدل} مضارع عدل إذا فدى شيئا بشيء وقدره به.فالفداء يسمى العدل كما تقدم في قوله تعالى: {وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} في سورة البقرة[48].وجيء في الشرط بـ {إنْ} المفيدة عدم تحقق حصول الشرط لأن هذا الشرط مفروض كما يفرض المحال.
والعدل في قوله: {كُلَّ عَدْلٍ} مصدر عدل المتقدم.وهو مصدره القياسي فيكون {كل} منصوبا على المفعولية المطلقة كما في الكشاف، أي وإن تعط كل عطاء للفداء لا يقبل عطاؤها، ولا يجوز أن يكون مفعولا به لـ {تعدل} لأن فعل"عدل"يتعدى للعوض بالباء وإنما يتعدى بنفسه للمعوض وليس هو المقصود هنا.فلذلك منع في الكشاف أن يكون {كُلَّ عَدْلٍ} مفعولا به، وهو تدقيق.و {كل} هنا مجاز في الكثرة إذ ليس للعدل، أي للفداء حصر حتى يحاط به كله.وقد تقدم استعمال"كل"بمعنى الكثرة وهو مجاز شائع عند قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ} في سورة البقرة[145].
وقوله: {لا يُؤْخَذْ مِنْهَا} أي لا يؤخذ منها ما تعدل به.فقوله: {منها} هو نائب الفاعل لـ {يؤخذ} .وليس في {يؤخذ} ضمير العدل لأنك قد علمت أن العدل هنا بمعنى المصدر، فلا يسند إليه الأخذ كما في الكشاف، فقد نزل فعل الأخذ منزلة اللازم ولم يقدر له مفعول كأنه قيل: لا يؤخذ منها أخذ.والمعنى لا يؤخذ منها شيء.وقد جمعت الآية جميع ما تعارف الناس التخلص به من القهر والغلب، وهو الناصر والشفيع والفدية.فهي كقوله تعالى: {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} .في سورة البقرة[48].
وجملة {أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا} مستأنفة استئنافا بيانيا لأن الكلام يثير

سؤال سائل يقول: فما حال الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا من حال النفوس التي تبسل بما كسبت، فأجيب بأن أولئك هم الذين أبسلوا بما كسبوا، فتكون الإشارة إلى الموصول بما له من الصلة، والتعريف للجزأين أفاد القصر، أي أولئك هم المبسلون لا غيرهم.وهو قصر مبالغة لأن إبسالهم هو أشد إبسال يقع فيه الناس فجعل ما عداه كالمعدوم.
ويجوز أن تكون الإشارة إلى النفس في قوله: {أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ} باعتبار دلالة النكرة على العموم، أي أن تكون الإشارة إلى النفس في قوله: {أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ} باعتبار دلالة النكرة على العموم، أي أن أولئك المبسلون العادمون وليا وشفيعا وقبول فديتهم هم الذين أبسلوا بما كسبوا، أي ذلك هو الإبسال الحق لا ما تعرفونه في جرائركم وحروبكم من الإبسال، كإبسال أبناء عوف بن الأحوص المتقدم آنفا في شعره، فهذا كقوله تعالى: {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التغابن: 9]
وجملة {لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ} بيان لمعنى الإبسال أو بدل اشتمال من معنى الإبسال، فلذلك فصلت.
والحميم: الماء الشديد الحرارة، ومنه الحمة بفتح الحاء العين الجارية بالماء الحار الذي يستشفى به من أوجاع الأعضاء والدمل.وفي الحديث: "مثل العالم مثل الحمة يأتيها البعداء ويتركها القرباء" .وخص الشراب من الحميم من بين بقية أنواع العذاب المذكور من بعد للإشارة إلى أنهم يعطشون فلا يشربون إلا ماء يزيدهم حرارة على حرارة العطش.
والباء في {بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} للسببية، و"ما"مصدرية.
وزيد فعل"كان"ليدل على تمكن الكفر منهم واستمرارهم عليه لأن فعل مادة الكون تدل على الوجود، فالإخبار به عن شيء مخبر عنه بغيره أو موصوف بغيره لا يفيد فائدة الأوصاف سوى أنه أفاد الوجود في الزمن الماضي، وذلك مستعمل في التمكن.
[71] {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}
{قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ}
استئناف ابتدائي لتأييس المشركين من ارتداد بعض المسلمين عن الدين، فقد كان

المشركون يحاولون ارتداد بعض قرابتهم أو من لهم به صلة.كما ورد في خبر سعيد ابن زيد وما لقي من عمر بن الخطاب.وقد روي أن عبد الرحمان بن أبي بكر الصديق دعا أباه إلى عبادة الأصنام، وأن الآية نزلت في ذلك، ومعنى ذلك أن الآية نزلت مشيرة إلى ذلك وغيره وإلا فإن سورة الأنعام نزلت جملة واحدة.وحاول المشركون صرف النبي صلى الله عليه وسلم عن الدعوة إلى الإسلام وهم يرضونه بما أحب كما ورد في خبر أبي طالب.
والاستفهام إنكار وتأييس، وجيء ـبنون المتكلم ومعه غيره ـ لأن الكلام من الرسول صلى الله عليه وسلم عن نفسه وعن المسلمين كلهم.و {مِنْ دُونِ اللَّهِ} متعلق بـ {ندعوا} .والمراد بما لا ينفع ولا يضر الأصنام، فإنها حجارة مشاهد عدم نفعها وعجزها عن الضر، ولو كانت تستطيع الضر لأضرت بالمسلمين لأنهم خلعوا عبادتها وسفهوا أتباعها وأعلنوا حقارتها، فلما جعلوا عدم النفع ولا الضر علة لنفي عبادة الأصنام فقد كنوا بذلك عن عبادتهم النافع الضار وهو الله سبحانه.
وقوله: {وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا} عطف على {ندعوا} فهو داخل في حيز الإنكار.والرد: الإرجاع إلى المكان الذي يؤتى منه، كقوله تعالى: {رُدُّوهَا عَلَيَّ} [صّ: 33].
والأعقاب جمع عقب وهي مؤخر القدم.وعقب كل شيء طرفه وآخره ويقال: رجع على عقبه وعلى عقبيه ونكص على عقبيه بمعنى رجع إلى المكان الذي جاء منه لأنه كان جاعلا إياه وراءه فرجع.
وحرف"على"فيه للاستعلاء، أي رجع على طريق جهة عقبه، كما يقال: رجع وراءه، ثم استعمل تمثيلا شائعا في التلبس بحالة ذميمة كان فارقها صاحبها ثم عاد إليها وتلبس بها، وذلك أن الخارج إلى سفر أو حاجة فإنما يمشي إلى غرض يريده فهو يمشي القدمية فإذا رجع قبل الوصول إلى غرضه فقد أضاع مشيه، فيمثل حاله بحال من رجع على عقبيه.وفي الحديث: "اللهم أمض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم".فكذلك في الآية هو تمثيل لحال المرتد إلى الشرك بعد أن أسلم بحال من خرج في مهم فرجع على عقبيه ولم يقض ما خرج له.وهذا أبلغ في تمثيل سوء الحالة من أن يقال: ونرجع إلى الكفر بعد الإيمان.
وقد أضيف "بعد"إلى {إِذْ هَدَانَا} وكلاهما اسم زمان، فإن"بعد"يدل على الزمان المتأخر عن شيء كقوله: {وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ} [النور: 58]و"إذا"يدل على زمان معرف بشيء، فـ"إذا"اسم زمن متصرف مراد به الزمان وليس مفعولا فيه.والمعنى بعد الزمن

الذي هدانا الله فيه، ونظيره: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} في سورة آل عمران[8].
{كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا} ارتقى في تمثيل حالهم لو فرض رجوعهم على أعقابهم بتمثيل آخر أدق، بقوله: {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ} ، وهو تمثيل بهيئة متخيلة مبنية على اعتقاد المخاطبين في أحوال الممسوسين.فالكاف في موضع الحال من الضمير في {نُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا} ، أي حال كوننا مشبهين للذي استهوته الشياطين فهذه الحال مؤكدة لما في {نُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا} من معنى التمثيل بالمرتد على أعقابه.
والاستهواء استفعال، أي طلب هوى المرء ومحبته، أي استجلاب هوى المرء إلى شيء يحاوله المستجلب.وقربه أبو علي الفارسي بمعنى همزة التعدية.فقال: استهواه بمعنى أهواه مثل استزل بمعنى أزل.ووقع في الكشاف أنه استفعال من هوى في الأرض إذا ذهب فيها، ولا يعرف هذا المعنى من كلام أئمة اللغة ولم يذكره هو في الأساس مع كونه ذكر {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ} ولم ينبه على هذا من جاء بعده.
والعرب يقولون: استهوته الشياطين، إذا اختطفت الجن عقله فسيرته كما تريد.وذلك قريب من قولهم: سَحَرتْه، وهم يعتقدون أن الغيلان هي سحرة الجن، وتسمى السعالى أيضا، واحدتها سَعْلاة، ويقولون أيضا: استهامته الجن إذا طلبت هيامه بطاعتها.
وقوله: {فِي الْأَرْضِ} متعلق بـ {استهوته} ، لأنه يتضمن معنى ذهبت به وضل في الأرض.وذلك لأن الحالة التي تتوهمها العرب استهواء الجن يصاحبها التوحش وذهاب المجنون على وجهه في الأرض راكبا رأسه لا ينتصح لأحد، كما وقع لكثير من مجانينهم ومن يزعمون أن الجن اختطفتهم.ومن أشهرهم عمرو بن عدي الأيادي اللخمي ابن أخت جذيمة بن مالك ملك الحيرة.وجوز بعضهم أن يكون {فِي الْأَرْضِ} متعلقا بـ {حيران} ، وهو بعيد لعدم وجود مقتض لتقديم المعمول.
و {حيران} حال من {الَّذِي اسْتَهْوَتْهُ} وهو وصف من الحيرة، وهي عدم الاهتداء إلى السبيل.يقال: حار يحار إذ تاه في الأرض فلم يعلم الطريق.وتطلق مجازا على التردد في الأمر بحيث لا يعلم مخرجه، وانتصب {حيران} على الحال من {الذي} .
وجملة {لَهُ أَصْحَابٌ} حال ثانية، أي له رفقة معه حين أصابه استهواء الجن.فجملة {يدعونه} صفة لـ {أصحاب} .

والدعاء: القول الدال على طلب عمل من المخاطب.والهدى: ضد الضلال.أي يدعونه إلى ما فيه هداه.وإيثار لفظ {الهدى} هنا لما فيه من المناسبة للحالة المشبهة.ففي هذا اللفظ تجريد للتمثيلية
كقوله تعالى: {فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} في سورة البقرة[17].ولذلك كان لتعقيبه بقوله: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} وقع بديع.وجوز في الكشاف أن يكون الهدى مستعارا للطريق المستقيم.
وجملة {ائتنا} بيان لـ {يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى} لأن الدعاء فيه معنى القول.فصح أن يبين بما يقولونه إذا دعوه، ولكونها بيانا فصلت عن التي قبلها، وإنما احتاج إلى بيان الدعاء إلى الهدى لتمكين التمثيل من ذهن السامع، لأن المجنون لا يخاطب بصريح المقصد فلا يدعى إلى الهدى بما يفهم منه أنه ضال لأن من خلق المجانين العناد والمكابرة.فلذلك يدعونه بما يفهم منه رغبتهم في صحبته ومحبتهم إياه، فيقولون: ايتنا، حتى إذا تمكنوا منه أوثقوه وعادوا به إلى بيته.
وقد شبهت بهذا التمثيل العجيب حالة من فرض ارتداده إلى ضلالة الشرك بعد هدى الإسلام لدعوة المشركين إياه وتركه أصحابه المسلمين الذين يصدونه عنه، بحال الذي فسد عقله باستهواء من الشياطين والجن، فتاه في الأرض بعد أن كان عاقلا عارفا بمسالكها، وترك رفقته العقلاء يدعونه إلى موافقتهم، وهذا التركيب البديع صالح للتفكيك بأن يشبه كل جزء من أجزاء الهيئة المشبهة بجزء من أجزاء الهيئة المشبهة بها، بأن يشبه الارتداد بعد الإيمان بذهاب عقل المجنون، ويشبه الكفر بالهيام في الأرض، ويشبه المشركون الذين دعوهم إلى الارتداد بالشياطين وتشبه دعوة الله الناس للإيمان ونزول الملائكة بوحيه بالأصحاب الذين يدعون إلى الهدى.وعلى هذا التفسير يكون {الذي} صادقا على غير معين، فهو بمنزلة المعرف بلام الجنس.وروي عن ابن عباس أن الآية نزلت في عبد الرحمان بن أبي بكر الصديق حين كان كافرا وكان أبوه وأمه يدعوانه إلى الإسلام فيأبى، وقد أسلم في صلح الحديبية وحسن إسلامه.
[72,73] {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ}

جملة {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} مستأنفة استئناف تكرير لما أمر أن يقوله للمشركين حين يدعون إلى الرجوع إلى ما كانوا عليه في الجاهلية، وقد روي أنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم اعبد آلهتنا زمنا ونعبد إلهك زمنا.وكانوا في خلال ذلك يزعمون أن دينهم هدى فلذلك خوطبوا بصيغة القصر.وهي {إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} فجيء بتعريف الجزأين، وضمير الفصل، وحرف التوكيد، فاجتمع في الجملة أربعة مؤكدات، لأن القصر بمنزلة مؤكدين إذ ليس القصر إلا تأكيدا على تأكيد، وضمير الفصل تأكيد، و"إن"تأكيد، فكانت مقتضى حال المشركين المنكرين أن الإسلام هدى.
وتعريف المسند إليه بالإضافة للدلالة على الهدى الوارد من عند الله تعالى، وهو الدين الموصى به، وهو هنا الإسلام، بقرينة قوله: {بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ} .وقد وصف الإسلام بأنه {هُدَى اللَّهِ} في قوله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} في سورة البقرة[120]، أي القرآن هو الهدى لا كتبهم.
وتعريف المسند بلام الجنس للدلالة على قصر جنس الهدى على دين الإسلام، كما هو الغالب في تعريف المسند بلام الجنس، وهو قصر إضافي لأن السياق لرد دعوة المشركين إياهم الرجوع إلى دينهم المتضمنة اعتقادهم أنه هدى، فالقصر للقلب إذ ليسوا على شيء من الهدى، فلا يكون قصر الهدى على هدى القرآن بمعنى الهدى الكامل، بخلاف ما في سورة البقرة.
وجملة {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ} عطف على المقول.وهذا مقابل قوله: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنعام: 56]، وقوله: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية.
واللام في {لنسلم} أصلها للتعليل وتنوسي منها معنى التعليل فصارت لمجرد التأكيد.وهي اللام التي يكثر ورودها بعد مادة الأمر ومادة الإرادة.وسماها بعضهم لام أن ـ بفتح الهمزة وسكون النون ـ قال الزجاج: "العرب تقول: أمرتك بأن تفعل وأمرتك أن تفعل وأمرتك لتفعل".فالباء للإلصاق، وإذا حذفوها فهي مقدرة مع "أنْ".وأما أمرتك لتفعل، فاللام للتعليل، فقد أخبر بالعلة التي لها وقع الأمر.يعني وأغنت العلة عن ذكر المعلل.وقيل: "اللام بمعنى الباء"، وقيل: "زائدة"، وعلى كل تقدير فـ"أنْ"مضمرة بعدها، أي لأجل أن نسلم.والمعنى: وأمرنا بالإسلام، أي أمرنا أن أسلموا.وتقدم الكلام على هذه اللام عند قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} في سورة النساء[26].

واللام في قوله: {لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} متعلقة بـ {نسلم} لأنه معنى تخلص له قال: {فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ} .وقد تقدم القول في معنى الإسلام عند قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} في سورة البقرة[131].وفي ذكر اسم الله تعالى بوصف الربوبية لجميع الخلق دون اسمه العلم إشارة إلى تعليل الأمر وأحقيته.
وقوله: {وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ} إن جعلت"أن"فيه مصدرية على قول سيبويه، إذ يسوغ دخول"أن"المصدرية على فعل الأمر فتفيد الأمر والمصدرية معا لأن صيغة الأمر لم يؤت بها عبثا، فنقول المعربين: "إنه يتجرد عن الأمرية"، مرادهم به أنه تجرد عن معنى فعل الأمر إلى معنى المصدرية فهو من عطف المفردات.وهو إما عطف على {لنسلم} بتقدير حرف جر محذوف قبل"أن"وهو الباء.وتقدير الحرف المحذوف يدل عليه معنى الكلام، وإما عطف على معنى {لنسلم} لأنه وقع في موقع بأن نسلم، كما تقدم عن الزجاج.فالتقدير: أمرنا بأن نسلم، ثم عطف عليه {وَأَنْ أَقِيمُوا} أي وأمرنا بأن أقيموا، والعطف على معنى اللفظ وموقعه استعمال عربي، كقوله تعالى: {لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ} [المنافقون: 10]إذ المعنى إن تؤخرني أصدق وأكن.
وإن جُعلت"أن"فيه تفسيرية فهو من عطف الجمل.فيقدر قوله: {أُمِرْنَا لِنُسْلِمَ} بأمرنا أن أسلموا لنسلم {وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ} أي لنقيم فيكون في الكلام احتباك.
وأظهر من هذا أن تكون"أن"تفسيرية.وهي تفسير لما دلت عليه واو العطف من تقدير العامل المعطوف عليه، وهو {وأمرنا} ، فإن {أمرنا} فيه معنى القول دون حروفه فناسب موقع"أن"التفسيرية.
وتقدم معنى إقامة الصلاة في صدر سورة البقرة[3].
و {اتقوه} عطف على {أقيموا} ويجري فيه ما قرر في قوله: {وَأَنْ أَقِيمُوا} .
والضمير المنصوب عائد إلى {رَبِّ الْعَالَمِينَ} وهو من الكلام الذي أمروا بمقتضاه بأن قال الله للمؤمنين: أسلموا لرب العالمين وأقيموا الصلاة واتقوه.ويجوز أن يكون محكيا بالمعنى بأن قال الله: اتقون، فحكي بما يوافق كلام النبي المأمور بأن يقوله بقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} ، كما في حكاية قول عيسى: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة: 117].
وجمع قوله: {واتقوه} جميع أمور الدين، وتخصيص إقامة الصلاة بالذكر

للاهتمام.
وجملة {وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} إما عطف على جملة {اتقوه} عطف الخبر على الإنشاء فتكون من جملة المقول المأمور به بقوله: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ} ، أي وقل لهم وهو الذي إليه تحشرون، أو عطف على {قل} فيكون من غير المقول.وفي هذا إثبات للحشر على منكريه وتذكير به للمؤمنين به تحريضا على إقامة الصلاة والتقوى.
واشتملت جملة {وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} على عدة مؤكدات وهي: صيغة الحصر بتعريف الجزأين، وتقديم معمول {تحشرون} المفيد للتقوي لأن المقصود تحقيق وقوع الحشر على من أنكره من المشركين وتحقيق الوعد والوعيد للمؤمنين، والحصر هنا حقيقي إذ هم لم ينكروا كون الحشر إلى الله وإنما أنكروا وقوع الحشر، فسلك في إثباته طريق الكناية بقصره على الله تعالى المستلزم وقوعه وأنه لا يكون إلا إلى الله، تعريضا بأن آلهتهم لا تغني عنهم شيئا.
وجملة {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ} عطف على {وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} ، والقصر حقيقي إذ ليس ثم رد اعتقاد لأن المشركين يعترفون بأن الله هو الخالق للأشياء التي في السماء والأرض كما قدمناه في أول السورة.فالمقصود الاستدلال بالقصر على أنه هو المستحق للعبادة لأن الخلائق عبيده كقوله تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [النحل: 17}
والباء من قوله: {بالحق} للملابسة، والمجرور متعلق بـ {خلق} أو في موضع الحال من الضمير.
والحق في الأصل مصدر"حق"إذا ثبت، ثم صار اسما للأمر الثابت الذي لا ينكر من إطلاق المصدر وإرادة اسم الفاعل مثل فلان عدل.والحق ضد الباطل.فالباطل اسم لضد ما يسمى به الحق فيطلق الحق إطلاقا شائعا على الفعل أو القول الذي هو عدل وإعطاء المستحق ما يستحقه، وهو حينئذ مرادف العدل ويقابله الباطل فيرادف الجور والظلم، ويطلق ا لحق على الفعل أو القول السديد الصالح البالغ حد الإتقان والصواب، ويرادف الحكمة والحقيقة، ويقابله الباطل فيرادف العبث واللعب.والحق في هذه الآية بالمعنى الثاني، كما في قوله تعالى: {مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الدخان: 39]بعد قوله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} [الدخان: 38] وكقوله: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً} [آل عمران: 191].فالله تعالى أخرج

السماوات والأرض وما فيهن من العدم إلى الوجود لحكم عظيمة وأودع في جميع المخلوقات قوى وخصائص تصدر بسببها الآثار المخلوقة هي لها ورتبها على نظم عجيبة تحفظ أنواعها وتبرز ما خلقت لأجله، وأعظمها خلق الإنسان وخلق العقل فيه والعلم، وفي هذا تمهيد لإثبات الجزاء إذ لو أهملت أعمال المكلفين لكان ذلك نقصانا من الحق الذي خلقت السماوات والأرض ملابسة له، فعقب بقوله: {وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ} .
وجملة {وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ} معطوفة على التي قبلها لمناسبة ملابسة الحق لأفعاله تعالى فبينت ملابسة الحق لأمره تعالى الدال عليه {يقول} .والمراد بـ {يَوْمَ يَقُولُ كُنْ} يوم البعث، لقوله بعده {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} .
وقد أشكل نظم قوله: {وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ} ، وذهب فيه المفسرون طرائق.والوجه أن قوله: {وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ} ظرف وقع خبره مقدما للاهتمام به، والمبتدأ هو {قوله} ويكون {الحق} صفة للمبتدأ.وأصل التركيب: وقوله الحق يوم يقول: كن فيكون.ونكتة الاهتمام بتقديم الظرف الرد على المشركين المنكرين وقوع هذا التكوين بعد العدم.
ووصف القول بأنه الحق للرد على المشركين أيضا.وهذا القول هو عين المقول لفعل {يَقُولُ كُنْ} ، وحذف المقول له {كن} لظهوره من المقام، أي يقول لغير الموجود الكائن: كن.وقوله: {فيكون} اعتراض، أي يقول لما أراد تكوينه {كن} فيوجد المقول له {كن} عقب أمر التكوين.
والمعنى أنه أنشأ خلق السماوات والأرض بالحق، وأنه يعيد الخلق الذي بدأه بقول حق، فلا يخلو شيء من تكوينه الأول ولا من تكوينه الثاني عن الحق.ويتضمن أنه قول مستقبل، وهو الخلق الثاني المقابل للخلق الأول، ولذلك أتي بكلمة {يوم} للإشارة إلى أنه تكوين خاص مقدر له يوم معين.
وفي قوله: {قَوْلُهُ الْحَقُّ} صيغة قصر للمبالغة، أي هو الحق الكامل لأن أقوال غيره وإن كان فيها كثير من الحق فهي معرضة للخطأ وما كان فيها غير معرض للخطأ فهو من وحي الله أو من نعمته بالعقل والإصابة، فذلك اعتداد بأنه راجع إلى فضل الله.ونظير هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه: "قولك الحق ووعدك الحق" .

والمراد بالقول كل ما يدل على مراد الله تعالى وقضائه في يوم الحشر، وهو يوم يقول كن، من أمر تكوين، أو أمر ثواب، أو عقاب، أو خبر بما اكتسبه الناس من صالح الأعمال وأضدادها، فكل ذلك من قول الله في ذلك اليوم وهو حق.وخص من بين الأقوال أمر التكوين لما اقتضاه التقديم من تخصيصه بالذكر كما علمت.
وللمفسرين في إعراب هذه الآية وإقامة المعنى من ذلك مسالك أخرى غير جارية على السبل الواضحة.
وقوله: {وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} جملة مستقلة وانتظامها كانتظام جملة {وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ} إلا أن في تقديم المسند إليه على المسند قصر المسند إليه على المسند، أي الملك مقصور على الكون له لا لغيره لرد ما عسى أن يطمع فيه المشركون من مشاركة أصنامهم يومئذ في التصرف والقضاء.والمقصود من هذا الظرف تهويل ذلك اليوم.
والنفخ في الصور مثل ضرب للأمر التكويني بحياة الأموات الذي يعم سائر الأموات، فيحيون به ويحضرون للحشر كما يحضر الجيش بنفخ الأبواق ودق الطبول.والصور: البوق.وورد في الحديث: "أن الملك الموكل بنفخ الصور هو إسرافيل، ولا يعلم كنه هذا النفخ إلا الله تعالى".ويوم النفخ في الصور هو يوم يقول: كن فيكون، ولكنه عبر عنه هنا بـ {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} لإفادة هذا الحال العجيب، ولأن اليوم لما جعل ظرفا للقول عرف بالإضافة إلى جملة {يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ} .ولما جعل اليوم ظرفا للملك ناسب أن يعرف اليوم بما هو من شعار الملك والجند.
وقد انتصب {يَوْمَ يُنْفَخُ} على الظرفية، والعامل فيه للاستقرار الذي في قوله: {وَلَهُ الْمُلْكُ} .ويجوز أن يجعل بدلا من {يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ} ويجعل {وَلَهُ الْمُلْكُ} عطفا على {قَوْلُهُ الْحَقُّ} على أن الجميع جملة واحدة.
وعن ابن عباس: "الصور هنا جمع صورة"، أي ينفخ في صور الموجودات.
ولما انتهى المقصود من الإخبار عن شؤون من شأن الله تعالى أتبع بصفات تشير إلى المحاسبة على كل جليل ودقيق ظاهر وباطن بقوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} .وجاء أسلوب الكلام على طريقة حذف المخبر عنه في مقام تقدم صفاته.فحذف المسند إليه في مثله تبع لطريقة الاستعمال في تعقيب الأخبار بخبر أعظم منها يجعل فيه المخبر عنه مسندا

إليه ويلتزم حذفه.وقد تقدم بيانه عند قوله تعالى: {مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} في سورة آل عمران[97]، فلذلك قال هنا: {عَالِمُ الْغَيْبِ} فحذف المسند إليه ثم لم يحذف المسند إليه في قوله: {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} .
والغيب: ما هو غائب.وقد تقدم بيانه عند قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} في سورة البقرة[3]، وعند قوله: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} في هذه السورة[59].
والشهادة: ضد الغيب، وهي الأمور التي يشاهدها الناس ويتوصلون إلى عملها يقال: شهد، بمعنى حضر، وضده غاب، ولا تخرج الموجودات عن الاتصاف بهذين الوصفين، فكأنه قيل: العالم بأحوال جميع الموجودات.والتعريف في {الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} للاستغراق، أي عالم كل غيب وكل شهادة.
وقوله: {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} عطف على قوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ} .وصفة {الحكيم} تجمع إتقان الصنع فتدل على عظم القدرة مع تعلق العلم بالمصنوعات.وصفة {الخبير} تجمع العلم بالمعلومات ظاهرها وخفيها.فكانت الصفتان كالفذلكة لقوله: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} ولقوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} .
[74] {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}
عطف على الجمل السابقة التي أولاها {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ} [الأنعام: 66]المشتملة على الحجج والمجادلة في شأن إثبات التوحيد وإبطال الشرك، فعقبت تلك الحجج بشاهد من أحوال الأنبياء بذكر مجادلة أول رسول أعلن التوحيد وناظر في إبطال الشرك بالحجة الدامغة والمناظرة الساطعة، ولأنها أعدل حجة في تاريخ الدين إذ كانت مجادلة رسول لأبيه ولقومه، وكانت أكبر حجة على المشركين من العرب بأن أباهم لم يكن مشركا ولا مقرا للشرك في قومه، وأعظم حجة للرسول صلى الله عليه وسلم إذ جاءهم بالإقلاع عن الشرك.
والكلام في افتتاح القصة بـ {إذ} بتقدير اذكر تقدم عند قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} في سورة البقرة[30].
و {آزر} ظاهر الآية أنه أبو إبراهيم.ولا شك أنه عرف عند العرب أن أبا إبراهيم

اسمه آزر فإن العرب كانوا معتنين بذكر إبراهيم عليه السلام ونسبه وأبنائه.وليس من عادة القرآن التعرض لذكر أسماء غير الأنبياء فما ذكر اسمه في هذه الآية إلا لقصد سنذكره.ولم يذكر هذا الاسم في غير هذه الآية.والذي في كتب الإسرائيليين أن اسم أبي إبراهيم"تارح"ـ بمثناة فوقية فألف فراء مفتوحة فحاء مهملة ـ.قال الزجاج: "لا خلاف بين النسابين في أن اسم أبي إبراهيم تارح".وتبعه محمد ابن الحسن الجويني الشافعي في تفسير النكت.وفي كلامهما نظر لأن الاختلاف المنفي إنما هو في أن آزر اسم لأبي إبراهيم ولا يقتضي ذلك أنه ليس له اسم آخر بين قومه أو غيرهم أو في لغة أخرى غير لغة قومه.ومثل ذلك كثير.وقد قيل: "إن "آزر"وصف".قال الفخر: "قيل معناه الهرم بلغة خوازرم، وهي الفارسية الأصلية".وقال ابن عطية عن الضحاك: "آزر"الشيخ".وعن الضحاك: "أن اسم أبي إبراهيم بلغة الفرس"آزر".وقال ابن إسحاق ومقاتل والكلبي والضحاك: "اسم أبي إبراهيم تارح وآزر لقب له مثل يعقوب الملقب إسرائيل"، وقال مجاهد: "آزر"اسم الصنم الذي كان يعبده أبو إبراهيم فلقب به".وأظهر منه أن يقال: أنه الصنم الذي كان أبو إبراهيم سادن بيته.
وعن سليمان التيمي والفراء: "آزر"كلمة سب في لغتهم بمعنى المعْوَج، أي عن طريق الخير".وهذا وهم لأنه يقتضي وقوع لفظ غير عربي ليس بعلم ولا بمعرب في القرآن.فإن المعرب شرطه أن يكون لفظا غير علم نقله العرب إلى لغتهم.وفي تفسير الفخر: "أن من الوجوه أن يكون"آزر"عم إبراهيم وأطلق عليه اسم الأب لأن العم قد يقال له: أب.ونسب هذا إلى محمد بن كعب القرظي.وهذا بعيد لا ينبغي المصير إليه فقد تكرر في القرآن ذكر هذه المجادلة مع أبيه، فيبعد أن يكون المراد أنه عمه في تلك الآيات كلها.
قال الفخر: وقالت الشيعة: "لا يكون أحد من آباء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجداده كافرا.وأنكروا أن"آزر"أب لإبراهيم وإنما كان عمه.وأما أصحابنا فلم يلتزموا ذلك".قلت: هو كما قال الفخر من عدم التزام هذا وقد بينت في"رسالة"لي في طهارة نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الكفر لا ينافي خلوص النسب النبوي خلوصا جبليا لأن الخلوص المبحوث عنه هو الخلوص مما يتعير به في العادة.والذي يظهر لي أنه: أن "تارح"لقب في بلد غربة بلقب"آزر"باسم البلد الذي جاء منه، ففي "معجم ياقوت"ـ آزرـ بفتح الزاي وبالراء ـ ناحية بين سوق الأهواز ورامهرمز.

وفي الفصل الحادي عشر من سفر التكوين من التوراة أن بلد تارح أبي إبراهيم هو"أور الكلدانيين ".وفي "معجم ياقوت""أور"ـ بضم الهمزة وسكون الواوـ من أصقاع رامهرمز من خورستان".ولعله هو أور الكلدانيين أو جزء منه أضيف إلى سكانه.وفي سفر التكوين أن تارح خرج هو وابته إبراهيم من بلده أور الكلدانيين قاصدين أرض كنعان وأنهما مرا في طريقهما ببلد"حاران"وأقاما هناك ومات تارح في حاران.فلعل أهل حاران دعوه آزر لأنه جاء من صقع آزر.وفي الفصل الثاني عشر من سفر التكوين ما يدل على أن إبراهيم ـ عليه السلام ـ نُبِّئ في حاران في حياة أبيه.
ولم يرد في التوراة ذكر للمحاورة بين إبراهيم وأبيه ولا بينه وبين قومه.
ولذا فالأظهر أن يكون {آزر} في الآية منادى وأنه مبني على الفتح.ويؤيد ذلك قراءة يعقوب {آزر} مضموما.ويؤيده أيضا ما روي: "أن ابن عباس قرأه أإزرـ بهمزتين أولاهما مفتوحة والثانية مكسورة ـ، وروي: "عنه أنه قرأه ـ بفتح الهمزتين ـ وبهذا يكون ذكر اسمه حكاية لخطاب إبراهيم إياه خطاب غلظة، فذلك مقتضي ذكر اسمه العلم.
وقرأ الجمهور {آزر} بفتح الراء ـ وقرأه يعقوب ـ بضمهاـ.واقتصر المفسرون على جعله في قراءة ـ فتح الراء ـ بيانا من {أبيه} ، وقد علمت أنه لا مقتضي له.
والاستفهام في {أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً} استفهام إنكار وتوبيخ.
والظاهر أن المحكي في هذه الآية موقف من مواقف إبراهيم مع أبيه، وهو موقف غلظة، فيتعين أنه كان عندما أظهر أبوه تصلبا في الشرك.وهو ما كان بعد أن قال له أبوه: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ} [مريم: 46]وهو غير الموقف الذي خاطبه فيه بقوله: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ} الآيات في سورة مريم[42].
و {تتخذ} مضارع اتخذ، وهو افتعال من الأخذ، فصيغة الافتعال فيه دالة على التكلف للمبالغة في تحصيل الفعل.قال أهل اللغة: قلبت الهمزة الأصلية تاء لقصد الإدغام تخفيفا ولينوا الهمزة ثم اعتبروا التاء كالأصلية فربما قالوا: تخذ بمعنى اتخذ، وقد قرئ بالوجهين قوله تعالى: {قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} [الكهف: 77]و {لَتَخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} فأصل فعل اتخذ أن يتعدى إلى مفعول واحد وكان أصل المفعول الثاني حالا، وقد وعدنا عند قوله تعالى: {قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُؤاً} في سورة البقرة[67] بأن نبين استعمال"اتخذ"وتعديته في هذه السورة.ومعنى تتخذ هنا تصطفي وتختار؛ فالمراد أتعبد أصناما.

وفي فعل {تتخذ} إشعار بأن ذلك شيء مصطنع مفتعل وأن الأصنام ليست أهلا للإلهية.وفي ذلك تعريض بسخافة عقله أن يجعل إلهه شيئا هو صنعه.
والأصنام جمع صنم، والصنم الصورة التي تمثل شكل إنسان أو حيوان، والظاهر أن اعتبار كونه معبودا داخل في مفهوم اسم صنم كما تظافرت عليه كلمات أهل اللغة فلا يطلق على كل صورة، وفي شفاء الغليل: "أن صنم معرب عن"شمن"، وهو الوثن، أي مع قلب في بعض حروفه، ولم يذكر اللغة المعرب منها، وعلى اعتبار كون العبادة داخلة في مفهوم الاسم يكون قوله: {أصناما} مفعول {تتخذ} على أن تتخذ متعد إلى مفعول واحد على أصل استعماله ومحل الإنكار هو المفعول، أي {أصناما} ، ويكون قوله: {آلهة} حالا من {أصناما} مؤكدة لمعنى صاحب الحال، أو بدلا من {أصناما} .وهذا الذي يناسب تنكير {أصناما} لأنه لو كان مفعولا أول لـ {تتخذ} لكان معرفا لأن أصله المبتدأ.وعلى احتمال أن الصنم اسم للصورة سواء عبدت أم لم تعبد يكون قوله: {آلهة} مفعولا ثانيا لـ {تتخذ} على أن {تتخذ} مضمن معنى تجعل وتصير، أي أتجعل صورا آلهة لك كقوله: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} [الصافات: 95].
وقد تضمن ما حكي من كلام إبراهيم لأبيه أنه أنكر عليه شيئين: أحدهما جعله الصور آلهة مع أنها ظاهرة الانحطاط عن صفة الإلهية، وثانيهما تعدد الآلهة ولذلك جعل مفعولا {تتخذ} جَمْعَين، ولم يقل: أتتخذ الصنم إلها.
وجملة {إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ} مبينة للإنكار في جملة {تَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً} .وأكد الإخبار بحرف التأكيد لما يتضمه ذلك الإخبار من كون ضلالهم بينا، وذلك مما ينكره المخاطب؛ ولأن المخاطب لما لم يكن قد سمع الإنكار عليه في اعتقاده قبل ذلك يحسب نفسه على هدى ولا يحسب أن أحدا ينكر عليه ما هو فيه، ويظن أن إنكار ابنه عليه لا يبلغ إلى حد أن يراه وقومه في ضلال مبين.فقد يتأوله بأنه رام منه ما هو أولى.
والرؤية يجوز أن تكون بصرية قصد منها في كلام إبراهيم أن ضلال أبيه وقومه صار كالشيء المشاهد لوضوحه في أحوال تقرباتهم للأصنام من الحجارة فهي حالة مشاهد ما فيها من الضلال.وعليه فقوله: {فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} في موضع الحال.ويجوز كون الرؤية علمية، وقوله: {فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} في موضع المفعول الثاني.
وفائدة عطف {وقومك} على ضمير المخاطب مع العلم بأن رؤيته أباه في ضلال

يقتضي أن يرى مماثليه في ضلال أيضا لأن المقام مقام صراحة لا يكتفي فيه بدلالة الالتزام ولينبئه من أول وهلة علة أن موافقة جمع عظيم إياه على ضلاله لا تعضد دينه ولا تشكك من ينكر عليه ما هو فيه.و {مبين} اسم فاعل من أبان بمعنى بان، أي ظاهر.ووصف الضلال بـ {مبين} نداء على قوة فساد عقولهم حيث لم يتفطنوا لضلالهم مع أنه كالمشاهد المرئي.
ومباشرته إياه بهذا القول الغليظ كانت في بعض مجادلاته لأبيه بعد أن تقدم له بالدعوة بالرفق، كما حكى الله عنه في موضع آخر {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً ـ إلى قوله ـ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} [مريم: 42ـ47].فلما رأى تصميمه على الكفر سلك معه الغلظة استقصاء لأساليب الموعظة لعل بعضها أن يكون أنجع في نفس أبيه من بعض فإن للنفوس مسالك ولمجال أنظارها ميادين متفاوتة، ولذلك قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، وقال له في موضع آخر {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73].فحكى الله تعالى عن إبراهيم في هذه الآية بعض مواقفه مع أبيه وليس في ذلك ما ينافي البرور به لأن المجاهرة بالحق دون سب ولا اعتداء لا تنافي البرور.ولم يزل العلماء يخطئون أساتذتهم وأئمتهم وآباءهم في المسائل العلمية بدون تنقيص.وقد قال أرسطاليس في اعتراض على أفلاطون: "أفلاطون صديق والحق صديق لكن الحق أصدق".على أن مراتب بر الوالدين متفاوتة في الشرائع.وقد قال أبناء يعقوب: {تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} [يوسف: 95].
[75] {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ}
عطف على جملة {قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً} [الأنعام: 74} .فالمعنى وإذ نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض إرادة لا إرادة أوضح منها في جنسها والإشارة بقوله: {وكذلك} إلى الإرادة المأخوذ من قوله: {نري إبراهيم} أي مثل ذلك الإراء العجيب نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض.وهذا على طريقة قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: 143].وقد تقدم بيانه في سورة البقرة، فاسم الإشارة في مثل هذا الاستعمال يلازم الإفراد والتذكير لأنه جرى مجرى المثل.

وقوله: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} إشارة إلى حجة مستنبطة من دلالة أحوال الموجودات على وجود صانعها.
والرؤية هنا مستعملة للانكشاف والمعرفة، فالإراءة بمعنى الكشف والتعريف، فتشمل المبصرات والمعقولات المستدل بجميعها على الحق وهي إراءة إلهام وتوفيق، كما في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 185]، فإبراهيم عليه السلام ابتديء في أول أمره بالإلهام إلى الحق كما ابتديء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرؤيا الصادقة.ويجوز أن يكون المراد بالإراءة العلم بطريق الوحي.وقد حصلت هذه الإراءة في الماضي فحكاها القرآن بصيغة المضارع لاستحضار تلك الإراءة العجيبة كما في قوله تعالى: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً} [فاطر: 9].
والملكوت اتفق أئمة اللغة على أنه مصدر كالرغبوت والرحموت والرهبوت والجبروت.وقالوا: إن الواو والتاء فيه للمبالغة.وظاهره أن معناه الملك ـ بكسر الميم ـ لأن مصدر ملك الملك ـ بكسر الميم ـ ولما كان فيه زيادة تفيد المبالغة كان معناه الملك القوي الشديد.ولذلك فسره الزمخشري بالربوبية والإلهية.وفي اللسان: "مُلْك الله وملكوته سلطانُه ولفلان ملكوت العراق، أي سلطانه وملكه.وهذا يقتضي أنه مرادف للملك ـ بضم الميم ـ وفي طبعة "اللسان"في بولاق رقمت على ميم ملكه ضمة.
وفي الإتقان عن عكرمة وابن عباس: أن الملكوت كلمة نبطية.فيظهر أن صيغة"فعلوت"في جميع الموارد التي وردت فيها أنها من الصيغ الدخلية في اللغة العربية، وأنها في النبطية دالة على المبالغة، فنقلها العرب إلى لغتهم لما فيها من خصوصية القوة.ويستخلص من هذا أن الملكوت يطلق مصدرا للمبالغة في الملك، وأن الملك "بالضم"لما كان ملكا"بالكسر"عظيما يطلق عليه أيضا الملكوت.
فأما في هذه الآية فهو مجاز على كلا الإطلاقين لأنه من إطلاق المصدر وإراءة اسم المفعول، وهو المملوك، كالخلق على المخلوق، إما من الملك ـ بكسر الميم ـ أو من الملك ـ بضمهاـ.
وإضافة ملكوت السماوات والأرض على معنى"في".والمعنى ما يشمله الملك أو الملك، والمراد ملك الله.والمعنى نكشف لإبراهيم دلائل مخلوقاتنا أو عظمة سلطاننا كشفا يطلعه على حقائقها ومعرفة أن لا خالق ولا متصرف فيما كشفنا له سوانا.
وعطف قوله: {وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} على قوله: {وكذلك} لأن {وكذلك} أفاد كون المشبه به تعليما فائقا.ففهم منه أن المشبه به علة لأمر مهم هو من جنس المشبه به.

فالتقدير: وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض إراء تبصير وفهم ليعلم علما وفق لذلك التفهيم، وهو العلم الكامل وليكون من الموقنين.وقد تقدم بيان هذا عند تفسير قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ1 الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} في هذه السورة[56].
والموقن هو العالم علما لا يقبل الشك، وهو الإيقان.والمراد الإيقان في معرفة الله تعالى وصفاته.وقوله: {وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} أبلغ من أن يقال: وليكون موقنا كما تقدم عند قوله تعالى: {قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} في هذه السورة[56].
[56ـ57] {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ فَلَمَّا رَأى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}
{فَلَمَّا جَنَّ} تفريع على قوله: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأنعام: 75] بقرينة قوله: {رَأى كَوْكَباً} فإن الكوكب من ملكوت السماوات,وقوله في المعطوف عليه {نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأنعام: 75].فهذه الرؤية الخاصة التي اهتدى بها إلى طريق عجيب في إبكات لقومه ملجئ إياهم للاعتراف بفساد معتقدهم، هي فرع من تلك الإراءة التي عمت ملكوت السماوات والأرض،لأن العطف بالفاء يستدعي مزيد الاتصال بين المعطوف والمعطوف عليه لما في معنى الفاء من التفريع والتسبب،ولذلك نعد جعل الزمخشري {فَلَمَّا جَنَّ} عطفا على قال: {قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ} [الأنعام: 74]،وجعله ما بينهما اعتراضا،غير رشيق.
وقوله: {جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ} أي أظلم الليل إظلاما على إبراهيم، أي كان إبراهيم محوطا بظلمة الليل، وهو يقتضي أنه كان تحت السماء ولم يكن في بيت.
ويؤخذ من قوله بعده {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} أنه كان سائرا مع فريق من قومه يشاهدون الكواكب، وقد كان قوم إبراهيم صابئين يعبدون الكواكب ويصورون لها
ـــــــ
1 في المطبوعة: "نصرف",وهو خطأ,والمثبت هو الموافق للمصحف.

أصناما.وتلك ديانة الكلدانيين قوم إبراهيم.
يقال: جنه الليل، أي أخفاه، وجنان الليل ـ بفتح الجيم ـ، وجنه: ستره الأشياء المرئية بظلامه الشديد.يقال: جنه الليل، وهو الأصل.ويقال: جن عليه الليل، وهذا يقصد به المبالغة في الستر بالظلمة حتى صارت كأنها غطاء، ومع ذلك لم يسمع في كلامهم جن الليل قاصرا بمعنى أظلم.
وظاهر قوله: {رَأى كَوْكَباً} أنه حصلت له رؤية الكواكب عرضا من غير قصد للتأمل وإلا فإن الأفق في الليل مملوء كواكب، وأن الكواكب كان حين رآه واضحا في السماء مشرقا بنوره، وذلك أنور ما يكون في وسط السماء.فالظاهر أنه رأى كوكبا من بينها شديد الضوء.فعن زيد بن علي أن الكوكب هو الزهرة.وعن السدي أنه المشتري.ويجوز أن يكون نظر الكواكب فرأى كوكبا فيكون في الكلام إيجاز حذف مثل {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ} [الشعراء: 63]، أي فضرب فانفلق.وجملة {رَأى كَوْكَباً} جواب {لما} .والكوكب: النجم.
وجملة {قَالَ هَذَا رَبِّي} مستأنفة استئنافا بيانيا جوابا لسؤال ينشأ عن مضمون جملة {رَأى كَوْكَباً} وهو أن يسأل سائل: فماذا كان عندما رآه، فيكون قوله: {قَالَ هَذَا رَبِّي} جوابا لذلك.
واسم الإشارة هنا لقصد تمييز الكوكب من بين الكواكب ولكن إجراؤه على نظيريه في قوله حين رأى القمر وحين رأى الشمس {هَذَا رَبِّي ـ هَذَا رَبِّي} يعين أن يكون القصد الأصلي منه هو الكناية بالإشارة عن كون المشار إليه أمرا مطلوبا مبحوثا عنه فإذا عثر عليه أشير إليه، وذلك كالإشارة في قوله تعالى: {لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ} [الروم: 56]،وقوله: {قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} [يوسف: 32]ولم يقل فهو الذي لمتنني.ولعل منه قوله: {بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا} [يوسف: 65]إذ لم يقتصروا على"بضاعتنا ردت إلينا".وفي"صحيح البخاري"قال الأحنف بن قيس: "ذهبت لأنصر هذا الرجل"يعني علي بن أبي طالب"ولم يتقدم له ذكر، لأن عليا وشأنه هو الجاري في خواطر الناس أيام صفين، وسيأتي قوله تعالى: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ} [الأنعام: 89]يعني كفار قريش، وفي حديث سؤال القبر: "فيقال له ما علمك بهذا الرجل""يعني الرسول صلى الله عليه وسلم"، وهذا من الأغراض الداعية للتعريف باسم الإشارة التي أهملها علماء البلاغة فيصح هنا أن يجعل مستعملا في معنييه الصريح والكناية.

وتعريف الجزأين مفيد للقصر لأنه لم يقل: هذا رب.فدل على أن إبراهيم عليه السلام أراد استدراج قومه فابتدأ بإظهار أنه لا يرى تعدد الآلهة ليصل بهم إلى التوحيد واستبقى واحدا من معبوداتهم ففرض استحقاقه الإلهية كيلا ينفروا من الإصغاء إلى استدلاله.
وظاهر قوله: {قال} إنه خاطب بذلك غيره، لأن القول حقيقته الكلام، وإنما يساق الكلام إلى مخاطب.
ولذلك كانت حقيقة القول هي ظاهر الآية من لفظها ومن ترتيب نظمها إذ رتب قوله: {فَلَمَّا جَنَّ} على قوله: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأنعام: 75]وقوله: {وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام: 75]ورتب ذلك كله على قوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً} [الأنعام: 74]الآية، ولقوله تعالى: {قَالَ هَذَا رَبِّي} وإنما يقوله لمخاطب، ولقوله عقب ذلك {يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} ، ولأنه اقتصر على إبطال كون الكواكب آلهة واستدل به على براءته مما يشركون مع أنه لا يلزم من بطلان إلهية الكواكب بطلان إلهية أجرام أخرى لولا أن ذلك هو مدعى قومه؛ فدل ذلك كله على أن إبراهيم ـ عليه السلام ـ قال ذلك على سبيل المجادلة لقومه وإرخاء العنان لهم ليصلوا إلى تلقي الحجة ولا ينفروا من أول وهلة فيكون قد جمع جمعا من قومه وأراد الاستدلال عليهم.
وقوله: {هَذَا رَبِّي} أي خالقي ومدبري فهو مستحق عبادتي.قاله على سبيل الفرض جريا على معتقد قومه ليصل بهم إلى نقض اعتقادهم فأظهر أنه موافق لهم ليهشوا إلى ذلك ثم يكر عليهم بالإبطال إظهارا للإنصاف وطلب الحق.ولا يريبك في هذا أن صدور ما ظاهره كفر على لسانه ـ عليه السلام ـ لأنه لما رأى أنه ذلك طريق إلى إرشاد قومه وإنقاذهم من الكفر، واجتهد فرآه أرجى للقبول عندهم ساغ له التصريح به لقصد الوصول إلى الحق وهو لا يعتقده، ولا يزيد قوله هذا قومه كفرا، كالذي يكره على أن يقول كلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان فإنه إذا جاز ذلك لحفظ نفس واحدة وإنقاذها من الهلاك كان جوازه لإنقاذ فريق من الناس من الهلاك في الدنيا والآخرة أولى.وقد يكون فعل ذلك بإذن من الله تعالى بالوحي.
وعلى هذا فالآية تقتضي أن قومه يعبدون الكواكب وأنهم على دين الصابئة وقد كان ذلك الدين شائعا في بلدان الكلدان التي نشأ فيها إبراهيم عليه السلام وأن الأصنام التي كانوا يعبدونها أرادوا بها أنها صور للكواكب وتماثيل لها على حسب تخيلاتهم

وأساطيرهم مثلما كان عليه اليونان القدماء، ويحتمل أنهم عبدوا الكواكب وعبدوا صورا أخرى على أنها دون الكواكب كما كان اليونان يقسمون المعبودات إلى آلهة وأنصاف آلهة.على أن الصابئة يعتقدون أن الكواكب روحانيات تخدمها.
وأفل النجم أفولا: غاب، والأفول خاص بغياب النيرات السماوية، يقال: أفل النجم وأفلت الشمس، وهو المغيب الذي يكون بغروب الكوكب وراء الأفق بسبب الدورة اليومية للكرة الأرضية، فلا يقال: أفلت الشمس أو أفل النجم إذا احتجب بسحاب.
وقوله: {لا أُحِبُّ} الحب فيه بمعنى الرضى والإرادة، أي لا أرضى بالآفل إلها، أولا أريد الآفل إلها.وقد علم أن متعلق المحبة هو إرادته إلها له بقوله: {هَذَا رَبِّي} .وإطلاق المحبة على الإرادة شائع في الكلام، كقوله تعالى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة: 108].وقدره في الكشاف بحذف مضاف، أي لا أحب عبادة الآفلين.
وجاء بـ {الآفلين} بصيغة جمع الذكور العقلاء المختص بالعقلاء بناء على اعتقاد قومه أن الكواكب عاقلة متصرفة في الأكوان، ولا يكون الموجود معبودا إلا وهو عالم.
ووجه الاستدلال بالأفول على عدم استحقاق الإلهية أن الأفول مغيب وابتعاد عن الناس، وشأن الإله أن يكون دائم المراقبة لتدبير عباده فلما أفل النجم كان في حالة أفوله محجوبا عن الاطلاع على الناس، وقد بنى هذا الاستدلال على ما هو شائع عند القوم من كون أفول النجم مغيبا عن هذا العالم، يعني أن ما يغيب لا يستحق أن يتخذ إلها لأنه لا يغني عن عباده فيما يحتاجونه حين مغيبه.وليس الاستدلال منظورا فيه إلى التغير لأن قومه لم يكونوا يعلمون الملازمة بين التغير وانتفاء صفة الإلهية، ولأن الأفول ليس بتغير في ذات الكوكب بل هو عرض للأبصار المشاهدة له، أما الكوكب فهو باق في فلكه ونظامه يغيب ويعود إلى الظهور وقوم إبراهيم يعلمون ذلك فلا يكون ذلك مقنعا لهم.
ولأجل هذا احتج بحالة الأفول دون حالة البزوغ فإن البزوغ وإن كان طرأ بعد أفول لكن الأفول السابق غير مشاهد لهم فكان الأفول أخصر في الاحتجاج من أن يقول إن هذا البازغ كان من قبل آفلا.
وقوله: {فَلَمَّا رَأى الْقَمَرَ بَازِغاً} الخ عطف على جملة محذوفة دل عليها الكلام.والتقدير: فطلع القمر فلما رآه بازغا، فحذفت الجملة للإيجاز وهو يقتضي أن القمر طلع بعد أفول الكوكب، ولعله اختار لمحاجة قومه الوقت الذي يغرب فيه الكوكب ويطلع القمر

بقرب ذلك، وأنه كان آخر الليل ليعقبهما طلوع الشمس.وأظهر اسم {القمر} لأنه حذف معاد الضمير.والبازغ: الشارق في ابتداء شروقه، والبزوغ ابتداء الشروق.
وقوله: {هَذَا رَبِّي} أفاد بتعريف الجزأين أنه أكثر ضوءا من الكوكب فإذا كان استحقاق الإلهية بسبب النور فالذي هو أشد نورا أولى بها من الأضعف.واسم الإشارة مستعمل في معناه الكنائي خاصة وهو كون المشار إليه مطلوبا مبحوثا عنه كما تقدم آنفا.
وقوله: {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} قصد به تنبيه قومه للنظر في معرفة الرب الحق وأنه واحد، وأن الكوكب والقمر كليهما لا يستحقان ذلك مع أنه عرض في كلامه بأن له ربا يهديه وهم لا ينكرون عليه ذلك لأنهم قائلون بعدة أرباب.وفي هذا تهيئة لنفوس قومه لما عزم عليه من التصريح بأن له ربا غير الكواكب.ثم عرض بقومه أنهم ضالون وهيأهم قبل المصارحة للعلم بأنهم ضالون، لأن قوله: {لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} يدخل على نفوسهم الشك في معتقدهم أن يكون ضلالا، ولأجل هذا التعريض لم يقل: لأكونن ضالا، وقال: {لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} ليشير إلى أن في الناس قوما ضالين، يعني قومه.
وإنما تريث إلى أفول القمر فاستدل به على انتفاء الهيئة ولم ينفها عنه بمجرد رؤيته بازغا مع أن أفوله محقق بحسب المعتاد لأنه أراد أن يقيم الاستدلال على أساس المشاهدة على ما هو المعروف في العقول لأن المشاهدة أقوى.
وقوله: {فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً} أي في الصباح بعد أن أفل القمر، وذلك في إحدى الليالي التي يغرب فيها القمر قبيل طلوع الشمس لأن الظاهر أن هذا الاستدلال كله وقع في مجلس واحد.
وقوله للشمس: {هَذَا رَبِّي} باسم إشارة المذكر مع أن الشمس تجري مجرة المؤنث لأنه اعتبرها ربا، فروعي في الإشارة معنى الخبر، فكأنه قال: هذا الجرم الذي تدعونه الشمس تبين أنه هو ربي.
وجملة {هَذَا أَكْبَرُ} جارية مجرى العلة لجملة {هَذَا رَبِّي} المقتضية نقض ربوبية الكوكب والقمر وحصر الربوبية في الشمس ونفيها عن الكوكب والقمر، ولذلك حذف المفضل عليه لظهوره، أي هو أكبر منهما، يعني أن الأكبر الأكثر إضاءة أولى باستحقاق الإلهية.
وقوله: {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} ، إقناع لهم بأن لا يحاولوا موافقته

إياهم على ضلالهم لأنه لما انتفى استحقاق الإلهية عن أعظم الكواكب التي عبدوها فقد انتفى عما دونها بالأحرى.
والبريء فعيل بمعنى فاعل من بَرِىَء ـ بكسر الراء لا غيرـ يبرأ بفتح الراء لا غير بمعنى تفصى وتنزه ونفى المخالطة بينه وبين المجرور بـ"مِنْ".ومنه {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 3] {فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا} [الأحزاب: 69] {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} [يوسف: 53].فمعنى قوله: {بريء} هنا أنه لا صلة بينه وبين ما يشركون.والصلة في هذا المقام هي العبادة إن كان ما يشركون مرادا به الأصنام، أو هي التلبس والاتباع إن كان ما يشركون بمعنى الشرك.
والأظهر أن"ما"في قوله: {مَا تُشْرِكُونَ} موصولة وأن العائد محذوف لأجل الفاصلة، أي ما تشركون به، كما سيأتي في قوله: {وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} [الأنعام: 80]لأن الغالب في فعل البراءة أن يتعلق بالذوات، ولئلا يتكرر مع قوله بعده: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} .ويجوز أن تكون"ما"مصدرية، أي من إشراككم، أي لا أتقلده.
وتسميته عبادتهم الأصنام إشراكا لأن قومه كانوا يعترفون بالله ويشركون معه في الإلهية غيره كما كان إشراك العرب وهو ظاهر آي القرآن حيث ورد فيها الاحتجاج عليهم بخالق السماوات والأرض، وهو المناسب لضرب المثل لمشركي العرب بشأن إبراهيم وقومه، ولقوله الآتي: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82].
وجملة {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ} بمنزلة بدل الاشتمال من جملة {إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} ، لأن البراءة من الإشراك تشتمل على توجيه الوجه إلى الله، وهو إفراده بالعبادة.والوجه في قوله: {وجهي} حقيقة.و {وجهت} مشتق من الجهة والوجهة، أي صرفته إلى جهة، أي جعلت كذا جهة له يقصدها.يقال: وجهه فتوجه إلى كذا إذا ذهب إليه.ويقال للمكان المقصود وجهة بكسر الواو، وكأنهم صاغوه على زنة الهيئة من الوجه لأن القاصد إلى مكان يقصده من نحو وجهه، وفعلوه على زنة الفعلة بكسر الفاء لأن قاصد المكان بوجهه تحصل هيئة في وجهه وهي هيئة العزم وتحديق النظر.فمعنى {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ} صرفته وأدرته.وهذا تمثيل: شبهت حالة إعراضه عن الأصنام وقصده إلى إفراد الله تعالى بالعبادة بمن استقيل بوجهه شيئا وقصده وانصرف عن غيره.
وأتي بالموصول في قوله: {لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} ليومىء إلى علة توجهه إلى عبادته، لأن الكواكب من موجودات السماء، والأصنام من موجودات الأرض فهي

مفطورة لله تعالى.
وفعل"وجه"يتعدى إلى المكان المقصود بإلى، وقد يتعدى باللام إذا أريد أنه انصرف لأجل ذلك الشيء، فيحسن ذلك إذا كان الشيء المقصود مراعى إرضاؤه وطاعته كما تقول: توجهت للحبيب، ولذلك اختير تعدية هنا باللام، لأن في هذا التوجه إرضاء وطاعة.
وفطر: خلق، وأصل الفطر الشق.يقال فطر فطورا إذا شق قال تعالى: {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} [الملك: 3]أي اختلال، شبه الخلق بصناعة الجلد ونحوه، فإن الصانع يشق الشيء قبل أن يصنعه، وهذا كما يقال: الفتق والفلق، فأطلق الفطر على إيجاد الشيء وإبداعه على هيئة تؤهل للفعل.
و {حنيفا} حال من ضمير المتكلم في {وجهت} .وتقدم بيان ذلك عند قوله تعالى: {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} في سورة البقرة[135].
وجملة {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} عطف على الحال، نفى عن نفسه أن يكون متصلا بالمشركين وفي عدادهم.
فلما تبرأ من أصنامهم تبرأ من القوم، وقد جمعهما أيضا في سورة الممتحنة[4] {إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} .
وأفادت جملة {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} تأكيدا لجملة {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً} ، وإنما عطفت لأنها قصد منها التبرىء من أن يكون من المشركين.
وهذا قد جرينا فيه على أن قول إبراهيم لما رأى النيرات {هَذَا رَبِّي} هو مناظرة لقومه واستدراج لهم، وأنه كان موقنا بنفي إلهيتها، وهو المناسب لصفة النبوءة أن يكون أوحي إليه ببطلان الإشراك وبالحجج التي احتج بها على قومه.ومن المفسرين من قال: إن كلامه ذلك كان نظرا واستدلالا في نفسه لقوله: {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي} ، فإنه يشعر بأنه في ضلال لأنه طلب هداية بصيغة الاستقبال أي لأجل أداة الشرط، وليس هذا بمتعين لأنه قد يقوله لتنبيه قومه إلى أن لهم ربا بيده الهداية، كما بيناه في موضعه، فيكون كلامه مستعملا في التعريض.على أنه قد يكون أيضا مرادا به الدوام على الهداية والزيادة فيها، على أنه قد يكون أراد الهداية إلى إقامة الحجة حتى لا يتغلب عليه قومه.

فإذا بنينا على أن ذلك كان استدلالا في نفسه قبل الجزم بالتوحيد فإن ذلك كان بإلهام من الله تعالى، فيكون قوله: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأنعام: 75]معناه نريه ما فيها من الدلائل على وجود الصانع ووحدانيته قبل أن نوحي إليه ويكون قوله: {رَأى كَوْكَباً} بمعنى نظر في السماء فرأى هذا الكوكب ولم يكن نظر في ذلك من قبل، ويكون قوله: {قَالَ هَذَا رَبِّي} قولا في نفسه على نحو ما يتحدث به المفكر في نفسه، وهو حديث النفس، كقول النابغة في كلب صيد:
قالت له النفس إني لا أرى طمعا ... وإن مولاك لم يسلم ولم يصد
وقول العجاج في ثور وحشي:
ثم انثنى وقال في التفكير ... إن الحياة اليوم في الكرور
وقوله: {قَالَ هَذَا رَبِّي} وقوله: { لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} وقوله: {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي} كل ذلك مستعمل في حقائقه من الاعتقاد الحقيقي.وقوله: {قَالَ يَا قَوْمِ} هو ابتداء خطابه لقومه بعد أن ظهر الحق له فأعلن بمخالفته قومه حينئذ.
[80] {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} [الأنعام: 80]
لما أعلن إبراهيم ـ عليه السلام ـ معتقده لقومه أخذوا في محاجته، فجملة {وحاجه} عطف على جملة {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [الأنعام: 79].
وعطفت الجملة بالواو دون الفاء لتكون مستقلة بالإخبار بمضمونها مع أن تفرع مضمونها على ما قبلها معلوم من سياق الكلام.
والمحاجة مفاعلة متصرفة من الحجة، وهي الدليل المؤيد للدعوى.ولا يعرف لهذه المفاعلة فعل مجرد بمعنى استدل بحجة، وإنما المعروف فعل حج إذا غلب في الحجة، فإن كانت احتجاجا من الجانبين فهي حقيقة وهو الأصل، وإن كانت من جانب واحد باعتبار أن محاول الغلب في الحجة لا بد أن يتلقى من خصمه ما يرد احتجاجه فتحصل المحاولة من الجانبين، فبذلك الاعتبار أطلق على الاحتجاج محاجة، أو المفاعلة فيه للمبالغة.والأولى حملها هنا على الحقيقة بأن يكون المعنى حصول محاجة بينهم وبين إبراهيم.
وذكر الشيخ ابن عرفة في درس تفسيره: "أن صيغة المفاعلة تقتضي أن المجعول فيها

فاعلا هو البادىء بالمحاجة، وأن بعض العلماء استشكل قوله تعالى في سورة البقرة[258] {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ} حيث قال: {إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة: 258].فبدأ بكلام إبراهيم وهو مفعول الفعل وأجاب بأن إبراهيم بدأ بالمقاولة ونمروذ بدأ المحاجة.ولم يذكر أئمة اللغة هذا القيد في استعمال صيغة المفاعلة.ويجوز أن يكون المراد هنا أنهم سلكوا معه طريق الحجة على صحة دينهم أو على إبطال معتقده وهو يسمع، فجعل سماعه كلامهم بمنزلة جواب منه فأطلق على ذلك كلمة المحاجة.وأبهم احتجاجهم هنا إذ لا يتعلق به غرض لأن الغرض هو الاعتبار بثبات إبراهيم على الحق.وحذف متعلق {حاجه} لدلالة المقام، ودلالة ما بعده عليه من قوله: {أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ} الآيات.
وقد ذكرت حججهم في مواضع من القرآن، منها قوله في سورة الأنبياء[52ـ56] {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُون قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ ـ إلى قوله ـ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} ،وقوله في سورة الشعراء[73,72] {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} الآيات،وفي سورة الصافات[85ـ98] {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ ـإلى قوله ـ فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ} وكلها محاجة حقيقية، ويدخل في المحاجة ما ليس بحجة ولكنه مما يرونه حججا بأن خوفوه غضب آلهتهم، كما يدل عليه قوله: {وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} الآية.والتقدير: وحاجه قومه فقالوا: كيت وكيت.
وجملة {قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ} جواب محاجتهم، ولذلك فصلت، على طريقة المحاورات كما قدمناه في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} في سورة البقرة[30]، فإن كانت المحاجة على حقيقة المفاعلة فقوله: {أتحاجوني} غلق لباب المجادلة وختم لها، وإن كانت المحاجة مستعملة في الاحتجاج فقوله: {أتحاجوني} جواب لمحاجتهم، فيكون كقوله تعالى: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ} [آل عمران: 20].والاستفهام إنكار عليهم وتأييس من رجوعه إلى معتقدهم.
و {في} لظرفية المجازية متعلقة بـ {تحاجوني} ودخولها على اسم الجلالة على تقدير مضاف، لأن المحاجة لا تكون في الذوات، فتعين تقدير ما يصلح له المقام وهو صفات الله الدالة على أنه واحد، أي في توحيد الله وهذا كقوله تعالى: {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} [هود: 74]أي في استئصالهم.

وجملة {وَقَدْ هَدَانِ} حال مؤكدة للإنكار، أي لا جدوى لمحاجتكم إياي بعد أن هداني الله إلى الحق، وشأن الحال المؤكدة للإنكار أن يكون اتصاف صاحبها بها معروفا عند المخاطب.فالظاهر أن إبراهيم نزلهم في خطابه منزلة من يعلم أن الله هداه كناية على ظهور دلائل الهداية.
وقرأ نافع،وابن عامر،وأبوجعفر {أتحاجوني} بنون واحدة خفيفة ـ وأصله أتحاجونني ـ بنونين ـ فحذفت إحداهما للتخفيف، والمحذوفة هي الثانية التي هي نون الوقاية على مختار أبي علي الفارسي.قال: "لأن الأولى نون الإعراب وأما الثانية فهي موطئة لياء المتكلم فيجوز حذفها تخفيفا، كما قالوا، لَيْتِي في لَيْتَني".وذهب سيبوية أن المحذوفة هي الأولى لأن الثانية جلبت لتحمل الكسرة المناسبة للياء ونون الرفع لا تكون مكسورة، وأياما كان فهذا الحذف مستعمل لقصد التخفيف.وعن أبي عمرو بن العلاء: "أن هذه القراءة لحن"، فإن صح ذلك عنه فهو مخطئ في زعمه، أو أخطأ من عزاه إليه.وقرأه البقية بتشديد النون لإدغام نون الرفع في نون الوقاية لقصد التخفيف أيضا، ولذلك تمد الواو لتكون المدة فاصلة بين التقاء الساكنين، لأن المدة خفة وهذا الالتقاء هو الذي يدعونه التقاء الساكنين على حدة.
وحذفت ياء المتكلم في قوله: {وَقَدْ هَدَانِ} للتخفيف وصلا ووقفا في قراءة نافع من رواية قالون، وفي الوقف فقط في قراءة بعض العشرة.وقد تقدم في قوله تعالى: {أُُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186].
وقوله: {وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} معطوف على {أتحاجوني} فتكون إخبارا، أو على جملة {وَقَدْ هَدَانِ} فتكون تأكيدا للإنكار.وتأكيد الإنكار بها أظهر منه لقوله: {وَقَدْ هَدَانِ} لأن عدم خوفه من آلهتهم قد ظهرت دلائله عليه.فقومه إما عالمون به أو منزلون منزلة العالم، كما تقدم في قوله: {وَقَدْ هَدَانِ} ،وهو يؤذن بأنهم حاجوه في التوحيد وخوفوه بطش آلهتهم ومسهم إياه بسوء، إذ لا مناسبة بين إنكار محاجتهم إياه وبين نفي خوفه من آلهتهم، ولا بين هدى الله إياه وبين نفي خوفه آلهتهم، فتعين أنهم خوفوه مكر آلهتهم.ونظير ذلك ما حكاه الله عن قوم هود: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [هود: 54].
و"ما"من قوله: {مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} موصولة ما صدقها آلهتهم التي جعلوها شركاء لله في الإلهية.
والضمير في قوله: {به} يجوز أن يكون عائدا على اسم الجلالة فتكون الباء

لتعدية فعل {تشركون} ، وأن يكون عائدا إلى"ما"الموصولة فتكون الباء سببية، أي الأصنام التي بسببها أشركتم.
وقوله: {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً} استثناء مما قبله وقد جعله ابن عطية استثناء منقطعا بمعنى لكن.وهو ظاهر كلام الطبري، وهو الأظهر فإنه لما نفى أن يكون يخاف إضرار آلهتهم وكان ذلك قد يتوهم منه السامعون أنه لا يخاف شيئا استدرك عليه بما دل عليه الاستثناء المنقطع، أي لكن أخاف مشيئة ربي شيئا مما أخافه، فذلك أخافه.وفي هذا الاستدارك زيادة نكاية لقومه إذ كان لا يخاف آلهتهم في حين أنه يخشى ربه المستحق للخشية إن كان قومه لا يعترفون برب غير آلهتهم على أحد الاحتمالين المتقدمين.
وجعل الزمخشري ومتابعوه الاستثناء متصلا مفرغا عن مستثنى منه محذوف دل عليه الكلام، فقدره الزمخشري من أوقات، أي لا أخاف ما تشركون به أبدا، لأن الفعل المضارع المنفي يتعلق بالمستقبل على وجه عموم الأزمنة لأنه كالنكرة المنفية، أي إلا وقت مشيئة ربي شيئا أخافه من شركائكم، أي بأن يسلط ربي بعضها علي فذلك من قدرة ربي بواسطتها لا من قدرتها علي.وجوز أبو البقاء أن يكون المستثنى منه أحوالا عامة، أي إلا حال مشيئة ربي شيئا أخافه منها.
وجملة {وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} استئناف بياني لأنه قد يختلج في نفوسهم: كيف يشاء ربك شيئا تخافه وأنت تزعم أنك قائم بمرضاته ومؤيد لدينه فما هذا إلا شك في أمرك، فلذلك فصلت، أي إنما لم آمن إرادة الله بي ضرا وإن كنت عبده وناصر دينه لأنه أعلم بحكمة إلحاق الضر.أو النفع بمن يشاء من عباده.وهذا مقام أدب مع الله تعالى: {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 99].
وجملة {أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} معطوفة على جملة {أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ} .وقدمت همزة الاستفهام على فاء العطف.
والاستفهام إنكار لعدم تذكرهم مع وضوح دلائل التذكر.والمراد التذكر في صفات آلهتهم المنافية لمقام الإلهية، وفي صفات الإله الحق التي دلت عليها مصنوعاته.
[81] {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}

عطفت جملة {وَكَيْفَ أَخَافُ} على جملة {وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} ل[الأنعام: 80]ليبين لهم أن عدم خوفه من آلهتهم أقل عجبا من عدم خوفهم من الله تعالى، وهذا يؤذن بأن قومه كانوا يعرفون الله وأنهم أشركوا معه في الإلهية غيره فلذلك احتج عليهم بأنهم أشركوا بربهم المعترف به دون أن ينزل عليهم سلطانا بذلك.
و {كيف} استفهام إنكاري، لأنهم دعوه إلى أن يخاف بأس الآلهة فأنكر هو عليهم ذلك وقلب عليهم الحجة، فأنكر عليهم أنهم لم يخافوا الله حين أشركوا به غيره بدون دليل نصبه لهم فجمعت {كيف} الإنكار على الأمرين.
قالوا وفي قوله: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ} يجوز أن تكون عاطفة على جملة {أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ} فيدخل كلتاهما في حكم الإنكار، فخوفه من آلهتهم منكر، وعدم خوفهم من الله منكر.
ويجوز أن تكون الواو للحال فيكون محل الإنكار هو دعوتهم إياه إلى الخوف من آلهتهم في حال إعراضهم عن الخوف ممن هو أعظم سلطانا وأشد بطشا، فتفيد"كيف"مع الإنكار معنى التعجيب على نحو قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 44].ولا يقتضي ذلك أن تخويفهم إياه من أصنامهم لا ينكر عليهم إلا في حال إعراضهم عن الخوف من الله لأن المقصود على هذا إنكار تحميق ومقابلة حال بحال، لا بيان ما هو منكر وما ليس بمنكر، بقرينة قوله في آخره {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ} .وهذا الوجه أبلغ.
و {مَا أَشْرَكْتُمْ} موصولة والعائد محذوف، أي ما أشركتم به.حذف لدلالة قوله: {وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} [الأنعام: 80]عليه،والموصول في محل المفعول"به"، لـ {مَا أَشْرَكْتُمْ} .
وفي قوله: {أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ} حذفت"من"المتعلقة بـ {تخافون} لاطراد حذف الجار مع"أن"،أي من إشراككم، ولم يقل: ولا تخافون الله،لأن القوم كانوا يعرفون الله ويخافونه ولكنهم لم يخافوا الإشراك به.و {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً} موصول مع صلته مفعول {أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ} .
ومعنى {لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ} لم يخبركم بإلهية الأصنام التي عبدتموها ولم يأمركم بعبادتها خبرا تعلمون أنه من عنده فلذلك استعار لذلك الخبر التنزيل تشبيها لعظم قدره

بالرفعة، ولبلوغه إلى من هم دون المخبر، بنزول الشيء العالي إلى أسفل منه.
والسلطان: الحجة لأنها تتسلط على نفس المخاصم،أي لم يأتكم خبر منه تجعلونه حجة على صحة عبادتكم الأصنام.
والفاء في قوله: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ} تفريع على الإنكار،والتعجيب فرع عليهما استفهاما ملجئا إلى الاعتراف بأنهم أولى بالخوف من الله من إبراهيم من آلهتهم.والاستفهام بـ {أي} للتقرير بأن فريقه هو وحده أحق بالأمن.
والفريق: الطائفة الكثيرة من الناس المتميزة عن غيرها بشيء يجمعها من نسب أو مكان أو غيرهما، مشتق من فرق إذا ميز.والفرقة أقل من الفريق،وأراد بالفريقين هنا قومه ونفسه، فأطلق على نفسه الفريق تغليبا، أو أراد نفسه ومن تبعه إن كان له أتباع ساعتئذ، قال تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت: 26]،أو أراد من سيوجد من أتباع ملته،كما يناسب قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82].
والتعريف في {الأمن} للجنس، وهو ضد الخوف، وجملة {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} مستأنفة ابتدائية، وجواب شرطها محذوف دل عليه الاستفهام، تقديره: فأجيبوني، وفيه استحثاث على الجواب.
[82] {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}
هذه الجملة من حكاية كلام إبراهيم على ما ذهب إليه جمهور المفسرين فيكون جوابا عن قوله: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ} [الأنعام: 81].تولى جواب استفهامه بنفسه ولم ينتظر جوابهم لكون الجواب مما لا يسع المسؤول إلا أن يجيب بمثله، وهو تبكيت لهم.قال ابن عباس: "كما يسأل العالم ويجيب نفسه بنفسه، أي بقوله: "فإن قلت قلت".وقد تقدمت نظائره في هذه السورة.
وقيل: ليس ذلك من حكاية كلام إبراهيم،وقد انتهى قول إبراهيم عند قوله: {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} بل هو كلام مستأنف من الله تعالى لابتداء حكم، فتكون الجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا تصديقا لقول إبراهيم.
وقيل: هو حكاية لكلام صدر من قوم إبراهيم جوابا عن سؤال إبراهيم {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ} [الأنعام: 81].ولا يصح لأن الشأن في ذلك أن يقال: قال الذين

آمنوا الخ، ولأنه لو كان من قول قومه لما استمر بهم الضلال والمكابرة إلى حد أن ألقوا إبراهيم في النار.
وحذف متعلق فعل {آمنوا} لظهوره من الكلام السابق.والتقدير: الذين آمنوا بالله.
وحقيقة {يلبسوا} يخلطوا، وهو هنا مجاز في العمل بشيئين متشابهين في وقت واحد.شبه بخلط الأجسام كما في قوله: {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 42].
والظلم: الاعتداء على حق صاحب حق، والمراد به هنا إشراك غير الله مع الله في اعتقاد الإلهية وفي العبادة، قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]لأنه أكبر الاعتداء،إذ هو اعتداء على المستحق المطلق العظيم، لأن من حقه أن يفرد بالعبادة اعتقادا وعملا وقولا لأن ذلك حقه على مخلوقاته.ففي الحديث: "حق العباد على الله أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا" .وقد ورد تفسير الظلم في هذه الآية بالشرك.في الحديث الصحيح عن عبد الله بن مسعود: "لما نزلت {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} شق ذلك على المسلمين وقالوا: "أينا لم يظلم نفسه"!.فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس كما تظنون إنما هو كما قال لقمان لابنه: : {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]"أهـ.وذلك أن الشرك جمع بين الاعتراف لله بالإلهية والاعتراف لغيره بالربوبية أيضا.ولما كان الاعتراف لغيره ظلما كان إيمانهم بالله مخلوطا بظلم وهو إيمانهم بغيره، وحمله على هذا المعنى هو الملائم لاستعارة اسم الخلط لهذا المعنى لأن الإيمان بالله وإشراك غيره في ذلك كلاهما من جنس واحد وهو اعتقاد الربوبية فهما متماثلان،وذلك أظهر في وجه الشبه، لأن شأن الأجسام المتماثلة أن يكون اختلاطها أشد فإن التشابه أقوى أحوال التشبيه عند أهل البيان.والمعنى الذين آمنوا بالله ولم يشركوا به غيره في العبادة.
وحمل الزمخشري الظلم على ما يشمل المعاصي، لأن المعصية ظلم للنفس كما في قوله تعالى: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36]تأويلا للآية على أصول الاعتزال لأن العاصي غير آمن من الخلود في النار فهو مساو للكافر في ذلك عندهم، مع أنه جعل قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا} إلى آخره من كلام إبراهيم، وهو إن كان محكيا من كلام إبراهيم لا يصح تفسير الظلم منه بالمعصية إذ لم يكن إبراهيم حينئذ داعيا إلا للتوحيد ولم تكن له بعد شريعة، وإن كان غير محكي من كلامه فلا يناسب تفسيره فيه بالمعصية، لأن تعقيب كلام إبراهيم به مقصود منه تأييد قوله وتبيينه، فالحق أن الآية غير محتاجة للتأويل

على أصولهم نظرا لهذا الذي ذكرناه.
والإشارة بقوله: {أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ} للتنبيه على أن المسند إليه جدير بالمسند من أجل ما تقدم من أوصاف المسند إليه وهذا كقوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 5].
وقوله: {لَهُمُ الْأَمْنُ} أشارت اللام إلى أن الأمن مختص بهم وثابت، وهو أبلغ من أن يقال: آمنون.والمراد الأمن من عذاب الدنيا بالاستئصال ونحوه وما عذبت به الأمم الجاحدة، ومن عذاب الآخرة إذ لم يكن مطلوبا منهم حينئذ إلا التوحيد.والتعريف في {الأمن} تعريف الجنس،وهو الأمن المتقدم ذكره، لأنه جنس واحد،وليس التعريف تعريف العهد حتى يجيء فيه قولهم: إن المعرفة إذا أعيدت معرفة فالثانية عين الأولى إذ لا يحتمل هنا غير ذلك.
وقوله: {وَهُمْ مُهْتَدُونَ} معطوف على قوله: {لَهُمُ الْأَمْنُ} عطف جزء جملة على الجملة التي هي في حكم المفرد،فيكون {مهتدون} خبرا ثانيا عن اسم الإشارة عطف عليه بالواو على إحدى الطريقتين في الأخبار المتكررة.
والضمير للفصل ليفيد قصر المسند على المسند إليه، أي الاهتداء مقصور على الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم دون غيرهم، أي أن غيرهم ليسوا بمهتدين، على طريقة قوله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 5]وقوله: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} [التوبة: 104].وفيه إشارة إلى أن المخبر عنهم لما نبذوا الشرك فقد اهتدوا.
ويجوز أن يكون قوله: {وَهُمْ مُهْتَدُونَ} جملة، بأن يكون ضمير الجمع مبتدأ و"مهتدون"خبره، والجملة معطوفة على جملة {أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ} ،فيكون خبرا ثانيا عن اسم الموصول، ويكون ذكر ضمير الجمع لأجل حسن العطف لأنه لما كان المعطوف عليه جملة اسمية لم يحسن أن يعطف عليه مفرد في معنى الفعل، إذ لا يحسن أن يقال: أولئك لهم الأمن ومهتدون؛فصيغ المعطوف في صورة الجملة.وحينئذ فالضمير لا يفيد اختصاصا إذ لم يؤت به للفصل، وهذا النظم نظير قوله تعالى: {لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التغابن: 1]وقوله تعالى: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحديد: 2]
على اعتبار {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} عطفا على {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وما بينهما حال، وهذا من محسنات الوصل كما عرف في البلاغة، وهو من بدائع نظم الكلام العربي.

[83] {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}
عطف على جملة {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ} [الأنعام: 80]. {وتلك} إشارة إلى جميع ما تكلم به إبراهيم في محاجة قومه، وأتي باسم إشارة المؤنث لأن المشار إليه حجة فأخبر عنه بحجة فلما لم يكن مشار إليه محسوس تعين أن يعتبر في الإشارة لفظ الخبر لا غير، كقوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة: 253].وإضافة الحجة إلى اسم الجلالة للتنويه بشأنها وصحتها.
و {آتيناها} في موضع الحال من اسم الإشارة أو من الخبر.
وحقيقة الإيتاء الإعطاء، فحقه أن يتعدى إلى الذوات،ويكون بمناولة اليد إلى اليد.قال تعالى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى} [البقرة: 177]، ولذلك يقال: اليد العليا هي المعطية واليد السفلى هي المعطاة.ويستعمل مجازا شائعا في تعليم العلوم وإفادة الآداب الصالحة وتخويلها وتعيينها لأحد دون مناولة يد سواء كانت الأمور الممنوحة ذواتا أم معاني.يقال: آتاه الله مالا، ويقال: آتاه الخليفة إمارة {آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} [البقرة: 258], {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ} [صّ: 20]فإيتاء الحجة إلهامه إياها وإلقاء ما يعبر عنها في نفسه، وهو فضل من الله على إبراهيم إذ نصره على مناظريه.
و {على} للاستعلاء المجازي، وهو تشبيه الغالب بالمستعلي المتمكن من المغلوب، وهي متعلقة"بحجتنا"خلافا لمن منعه.يقال: هذا حجة عليك وشاهد عليك، أي تلك حجتنا على قومه أقحمناهم بها بواسطة إبراهيم، ويجوز أن يتعلق بـ {آتيناها} لما يتضمنه الإيتاء من معنى النصر.
وجملة {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} حال من ضمير الرفع في {آتيناها} أو مستأنفة لبيان أن مثل هذا الإيتاء تفضيل للمؤتى وتكرمة له.
ورفع الدرجات تمثيل لتفضيل الشأن،شبهت حالة المفضل على غيره بحال المرتقي في سلم إذا ارتفع من درجة إلى درجة، وفي جميعها رفع،وكل أجزاء هذا التمثيل صالح لاعتبار تفريق التشبيه،فالتفضيل يشبه الرفع، والفضائل المتفاوتة تشبه الدرجات،ووجه الشبه عزة حصول ذلك لغالب الناس.
وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو جعفر، بإضافة {درجات} إلى {مَنْ} .فإضافة الدرجات إلى اسم الموصول باعتبار ملابسة المرتقي في الدرجة لها لأنها

إنما تضاف إليه إذا كان مرتقيا عليها، والإتيان بصيغة الجمع في {درجات} باعتبار صلاحية {مَنْ نَشَاءُ} لأفراد كثيرين متفاوتين في الرفعة، ودل فعل المشيئة على أن التفاضل بينهم بكثرة موجبات التفضيل، أو الجمع باعتبار أن المفضل الواحد يتفاوت حاله في تزايد موجبات فضله.وقرأه البقية ـ بتنوين ـ {دَرَجَاتٍ} ـ، فيكون تمييزا لنسبة الرفع باعتبار كون الرفع مجازا في التفضيل.والدرجات مجازا في الفضائل المتفاوتة.
ودل قوله: {مَنْ نَشَاءُ} على أن هذا التكريم لا يكون لكل أحد لأنه لو كان حاصلا لكل الناس لم يحصل الرفع ولا التفضيل.
وجملة {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} مستأنفة استئنافا بيانيا، لأن قوله: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} يثير سؤالا، يقول: لماذا يرفع بعض الناس دون بعض، فأجيب بأن الله يعلم مستحق ذلك ومقدار استحقاقه ويخلق ذلك على حسب تعلق علمه.فحكيم بمعنى محكم، أي متقن للخلق والتقدير.وقدم {حكيم} على {عليم} لأن هذا التفضيل مظهر للحكمة ثم عقب بـ {عليم} ليشير إلى أن ذلك الإحكام جار على وفق العلم.
[84ـ87] {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلّاً هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلّاً فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}
جملة {ووهبنا} عطف على جملة {آتيناها} [الأنعام: 83]لأن مضمونها تكرمة وتفضيل.وموقع هذه الجملة وإن كانت معطوفة هو موقع التذييل للجمل المقصود منها إبطال الشرك وإقامة الحجج على فساده وعلى أن الصالحين كلهم كانوا على خلافه.
والوهب والهبة: إعطاء شيء بلا عوض، وهو هنا مجاز في التفضل والتيسير.
ومعنى هبة يعقوب لإبراهيم أنه ولد لابنه إسحاق في حياة إبراهيم وكبر وتزوج في حياته فكان قرة عين لإبراهيم.
وقد مضت ترجمة إبراهيم عليه السلام عند قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} [البقرة: 124].وترجمة إسحاق، ويعقوب، عند قوله تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ

بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ} [البقرة: 132]وقوله: {وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [البقرة: 133]كل ذلك في سورة البقرة.
وقوله: {كُلّاً هَدَيْنَا} اعتراض، أي كل هؤلاء هديناهم يعني إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فحذف المضاف إليه لظهوره وعوض عنه التنوين في"كل"تنوين عوض عن المضاف إليه كما هو المختار.
وفائدة ذكر هديهما التنويه بإسحاق ويعقوب، وأنهما نبيان نالا هدى الله كهديه إبراهيم، وفيه أيضا إبطال للشرك، ودمغ لقريش ومشركي العرب، وتسفيه لهم بإثبات أن الصالحين المشهورين كانوا على ضد معتقدهم، كما سيصرح به في قوله: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 88].
وجملة {وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ} عطف على الاعتراض، أي وهدينا نوحا من قبلهم.وهذا استطراد بذكر بعض من أنعم الله عليهم بالهدى، وإشارة إلى أن الهدى هو الأصل، ومن أعظم الهدى التوحيد كما علمت.وانتصب {نوحا} على أنه مفعول مقدم على {هدينا} للاهتمام، و {مِنْ قَبْلُ} حال من {نوحا} .وفائدة ذكر هذا الحال التنبيه على أن الهداية متأصلة في أصول إبراهيم وإسحاق ويعقوب.وبني {قَبْلُ} على الضم، على ما هو المعروف في"قبل"وأخوات غير من حذف ما يضاف إليه قبل وينوى معناه دون لفظه.وتقدمت ترجمة نوح عند قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً} في سورة آل عمران[33].
وقوله: {مِنْ ذُرِّيَّتِهِ} حال من داود، و {داود} مفعول"هدينا"محذوفا.وفائدة هذا الحال التنويه بهؤلاء المعدودين بشرف أصلهم وبأصل فضلهم، والتنويه بإبراهيم أو بنوح بفضائل ذريته.والضمير المضاف إليه عائد إلى نوح لا إلى إبراهيم لأن نوحا أقرب مذكور، ولأن لوطا من ذرية نوح، وليس من ذرية إبراهيم حسبما جاء في كتاب التوراة.ويجوز أن يكون لوط عومل معاملة ذرية إبراهيم لشدة اتصاله به، كما يجوز أن يجعل ذكر اسمه بعد انتهاء أسماء من هم من ذرية إبراهيم منصوبا على المدح بتقدير فعل لا على العطف.
وداود تقدم شيء من ترجمته عند قوله تعالى: {وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ} في سورة البقرة[251].ونكملها هنا بأنه داود بن يسي من سبط يهوذا من بني إسرائيل.ولد بقرية بيت لحم سنة 1085 قبل المسيح، وتوفي في أورشليم سنة 1015.وكان في شبابه راعيا لغنم

أبيه.وله معرفة بالنغم والعزف والرمي بالمقلاع.فأوحى الله إلى"شمويل"نبي بني إسرائيل أن يبارك داود بن يسي، ويمسحه بالزيت المقدس ليكون ملكا على بني إسرائيل، على حسب تقاليد بني إسرائيل إنباء بأنه سيصير ملكا على إسرائيل بعد موت"شاول"الذي غضب الله عليه.فلما مسحه "شمويل"في قرية بيت لحم دون أن يعلم أحد خطر لشاول، وكان مريضا، أن يتخذ من يضرب له بالعود عندما يعتاده المرض، فصادف أن اختاروا له داود فألحقه بأهل مجلسه ليسمع أنغامه.ولما حارب جند"شاول"الكنعانيين كما تقدم في سورة ا لبقرة، كان النصر للإسرائيليين بسبب داود إذ رمى البطل الفلسطيني"جالوت"بمقلاعه بين عينيه فصرعه وقطع رأسه، فلذلك صاهره شاول بابنته "ميكال"، ثم أن"شاول"تغير على داود، فخرج داود إلى بلاد الفلسطينيين وجمع جماعة تحت قيادته، ولما قتل"شاول"سنة 1055 بايعت طائفة من الجند الإسرائيلي في فلسطين داود ملكا عليهم.وجعل مقر ملكه"حَبْرُون"، وبعد سبع سنين قتل ملك إسرائيل الذي خلف شاول فبايعت الإسرائيليون كلهم داود ملكا عليهم، ورجع إلى أورشليم، وآتاه الله النبوءة وأمره بكتابة الزبور المسمى عند اليهود بالمزامير.
وسليمان تقدمت ترجمته عند قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} في سورة البقرة[102].
وأيوب نبي أثبت القرآن نبوءته.وله قصة مفصلة في الكتاب المعروف بكتاب أيوب، من جملة كتب اليهود.ويظن بعض المؤرخين أن أيوب من ذرية"ناحور"أخي إبراهيم.وبعضهم ظن أنه ابن حفيد عيسو بن إسحاق ابن إبراهيم، وفي كتابه أن أيوب كان ساكنا بأرض عوص"وهي أرض حوران بالشام، وهي منازل بني عوص بن إرم بن سام بن نوح، وهم أصول عاد "وكانت مجاورة لحدود بلاد الكلدان، وقد ورد ذكر البلدان في كتاب أيوب وبعض المحققين يظن أنه من صنف عربي وأنه من عوص، كما يدل عليه عدم التعرض لنسبته في كتابه، والاقتصار على أنه كان بأرض عوص"الذين هم من العرب العاربة".وزعموا أن كلامه المسطور في كتابه كان بلغة عربية، وأن موسى ـ عليه السلام ـ نقله إلى العبرانية.وبعضهم يظن أن المكلام المنسوب إليه كان شعرا ترجمه موسى في كتابه وأنه أول شعر عرف باللغة العربية الأصلية.وبعضهم يقول: هو أول شعر عرفه التاريخ، ذلك لأن كلامه وكلام أصحابه الثلاثة الذين عزوه على مصائبه جار على طريقة شعرية لا محالة.

ويوسف هو ابن يعقوب ويأتي تفصيل ترجمته في سورة يوسف.
وموسى وهارون وزكريا، تقدمت تراجمهم في سورة البقرة.وترجمة عيسى تقدمت في سورة البقرة وفي سورة آل عمران.ويحيى تقدمت ترجمته في آل عمران.
وقوله: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} اعتراض بين المتعاطفات، والواو للحال، أي وكذلك الوهب الذي وهبنا لإبراهيم والهدي الذي هدينا ذريته نجزي المحسنين مثله، أو وكذلك الهدي الذي هدينا ذرية نوح نجزي المحسنين مثل نوح، فعلم أن نوحا أو إبراهيم من المحسنين بطريق الكناية، فأما إحسان نوح فيكون مستفادا من هذا الاعتراض، وأما إحسان إبراهيم فهو مستفاد مما أخبر الله به عنه من دعوته قومه وبذله كل الوسع لإقلاعهم عن ضلالهم.
ويجوز أن تكون الإشارة هنا إلى الهدي المأخوذ من قوله: {هدينا} الاول والثاني، أي وكذلك الهدي العظيم نجزي المحسنين، أي بمثله، فيكون المراد بالمحسنين أولئك المهديين من ذرية نوح أو من ذرية إبراهيم.فالمعنى أنهم أحسنوا فكان جزاء إحسانهم أن جعلناهم أنبياء.
وأما إلياس فهو المعروف في كتب الإسرائيليين باسم إيليا، ويسمى في بلاد العرب باسم إلياس أو "مار إلياس"وهو إلياس التشبي1.وذكر المفسرون أنه إلياس بن فنحاص بن إلعاز، أو ابن هارون أخي موسى فيكون من سبط لاوي.كان موجودا في زمن الملك"آخاب"ملك إسرائيل في حدود سنة ثمان عشرة وتسعمائة قبل المسيح.وهو إسرائيلي من سكان"جِلْعاد"ـ بكسر الجيم وسكون اللام ـ صقع جبلي في شرق الأردن ومنه بعلبك.وكان إلياس من سبط روبين أو من سبط جاد.وهذان السبطان هما سكان صقع جِلْعاد، ويقال لإلياس في كتب اليهود التشبي، وقد أرسله الله تعالى إلى بني إسرائيل لما عبدوا الاوثان في زمن الملك"آخاب"وعبدوا"بَعْل"صنم الكنعانيين.وقد وعظهم إلياس وله أخبار معهم.أمره الله أن يجعل اليسع خليفة له في النبوءة، ثم رفع الله إلياس في عاصفة إلى السماء فلم ير له أثر بعد، وخلفه اليسع في النبوءة في زمن الملك
ـــــــ
1 نسبة إلى تشبي مدينة الأرض التي أعطيت لسبط نفتالي كمكا في سفر العدد.

"تهورام"بن"آخاب"ملك إسرائيل.
وقوله: {كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ} اعتراض.والتنوين في كل عوض عن المضاف إليه، أي كل هؤلاء المعدودين وهو يشمل جميع المذكورين إسحاق ومن بعده.
وأما إسماعيل فقد تقدمت ترجمته في سورة البقرة.
واليسع اسمه بالعبرانية إليشع ـ بهمزة قطع مكسورة ولام بعدها تحتية ثم شين معجمة وعين ـ وتعريبه في العربية اليسع ـ بهمزة وصل ولام ساكنة في أوله بعدها تحتية مفتوحة ـ في قراءة الجمهور.
وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف "الليسع"ـ بهمزة وصل وفتح اللام مشددة بعدها تحتية ساكنة ـ بوزن ضَيْغَم، فهما لغتان فيه.وهو ابن"شافاط"من أهل"آبل محولة".كان فلاحا فاصطفاه الله للنبوءة على يد الرسول إلياس في مدة"آخاب"وصحب إلياس.ولما رفع إلياس لازم سيرة إلياس وظهرت له معجزات لبني إسرائيل في"أريحا"وغيرها.وتوفي في مدة الملك"يوءاش"ملك إسرائيل وكانت وفاته سنة أربعين وثمانمائة 840 قبل المسيح ودفن بالسامرة.والالف واللام في اليسع من أصل الكلمة، ولكن الهمزة عوملت معاملة همزة الوصل للتخفيف فأشبه الاسم الذي تدخل عليه اللام التي للمح الأصل مثل العباس، وما هي منها.
وأما يونس فهو ابن متى، واسمه في العبرانية"يونان بن أمتاي"، وهو من سبط"زَبُولون".ويجوز في نونه في العربية الضم والفتح والكسر.ولد في بلدة"غاث ايفر"من فلسطين، أرسله الله إلى أهل"نَيْنَوَى"من بلاد أشور.وكان أهلها يومئذ خليطا من الآشوريين واليهود الذين في أسر الآشوريين، ولما دعاهم إلى الإيمان فأبوا توعدهم بعذاب، فتأخر العذاب فخرج مغاضبا وذهب إلى"يافا"فركب سفينة للفينيقيين لتذهب به إلى ترشيش"مدينة غربي فلسطين إلى غربي صور وهي على البحر ولعلها من مراسي الوجه البحري من مصر أو من مراسي برقة لأنه وصف في كتب اليهود أن سليمان كان يجلب إليه الذهب والفضة والقرود والطواويس من ترشيش، فتعين أن تكون لترشيش تجارة مع الحبشة أو السودان، ومنها تصدر هذه المحصولات.وقيل هي طرطوشة من مراسي الأندلس.وقيل "قرطاجنة"مرسى إفريقية قرب تونس.وقد قيل في تواريخنا أن تونس كان اسمها قبل الفتح الإسلامي ترشيش.وهذا قريب لأن تجارتها مع السودان قد تكون أقرب"فهال البحر على السفينة وثقلت وخيف غرقها، فاقترعوا فكان يونس ممن خاب في القرعة فرمي

في البحر والتقمه حوت عظيم فنادى في جوفه: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الانبياء: 87]، فاستجاب الله له، وقذفه الحوت على الشاطئ.وأرسله الله ثانيا إلى أهل نينوى وآمنوا وكانوا يزيدون على مائة ألف.وكانت مدته في أول القرن الثامن قبل الميلاد.ولم نقف على ضبط وفاته.وذكر ابن العربي في الأحكام في سورة الصافات أن قبره بقرية جلجون بين القدس وبلد الخليل، وأنه وقف عليه في رحلته.وستأتي أخبار يونس في سورة يونس وسورة الأنبياء وسورة الصافات.
وأما لوط فهو ابن هاران بن تارح، فهو ابن أخي إبراهيم.ولد في"أور الكلدانيين".ومات أبوه قبل تارح، فاتخذ تارح لوطا في كفالته.ولما مات تارح كان لوط مع إبراهيم ساكنين في أرض حاران "حوران"بعد أن خرج تارح أبو إبراهيم من أور الكلدانيين قاصدين أرض كنعان.وهاجر إبراهيم مع لوط إلى مصر لقحط أصاب بلاد كنعان، ثم رجعا إلى بلاد كنعان، وافترق إبراهيم ولوط بسبب خصام وقع بين رعاتهما، فارتحل لوط إلى"سدوم"، وهي من شرق الأردن إلى أن أوحي إليه بالخروج منها حين قدر الله خسفها عقابا لأهلها فخرج إلى"صوغر"مع ابنته ونسله هناك، وهم"المؤابيون"و "بنو عمون".
وقوله: {وَكُلّاً فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} جملة معترضة، والواو اعتراضية، والتنوين عوض عن المضاف إليه، أي كل أولئك المذكوريين من إسحاق إلى هنا.و"كل"يقتضي استغراق ما أضيف إليه.وحكم الاستغراق أن يثبت الحكم لكل فرد فرد لا للمجموع.والمراد تفضيل كل واحد منهم على العالمين من أهل عصره عدا من كان أفضل منه أو مساويا له، فاللام في {العالمين} للاستغراق العرفي، فقد كان لوط في عصر إبراهيم وإبراهيم أفضل منه.وكان من غيرهما من كانوا في عصر واحد ولا يعرف فضل أحدهم على الآخر.وقال عبد الجبار: "يمكن أن يقال: المراد وكل من الأنبياء يفضلون على كل من سواهم من العالمين.ثم الكلام بعد ذلك في أن أي الأنبياء أفضل من الآخر كلام في غرض آخر لا تعلق له بالأول"اهـ.ولا يستقيم لأن مقتضى حكم الاستغراق الحكم على كل فرد فرد.
وتتعلق بهذه الآية مسألة مهمة من مسائل أصول الدين.وهي ثبوت نبوءة الذين جرى ذكر أسمائهم فيها، وما يترتب على ثبوت ذلك من أحكام في الإيمان وحق النبوة.وقد أعرض عن ذكرها المفسرون وكان ينبغي التعرض لها لأنها تتفرع إلى مسائل تهم طالب

العلوم الإسلامية معرفتها، وأحق مظنة بذكرها هو هذه الآية وما هو بمعنى بعضها.فأما ثبوت نبوءة الذين ذكرت أسماؤهم فيها فلأن الله تعالى قال بعد أن عد أسماءهم {أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوءةَ} .فثبوت النبوءة لهم أمر متقرر لأن اسم الإشارة {أولئك} قريب من النص في عوده إلى جميع المسمين قبله مع ما يعضده ويكمله من النص بنبوءة بعضهم في آيات تماثل هذه الآية، مثل آية سورة النساء[163] {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ} الآيات، ومثل الآيات من سورة مريم [41] {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ} الآيات.
وللنبوءة أحكام كثيرة تتعلق بموصوفها وبمعاملة المسلمين لمن يتصف بها: منها معنى النبي والرسول، ومعنى المعجزة التي هي دليل تحقق النبوءة أو الرسالة لمن أتى بها، وما يترتب على ذلك من وجوب الإيمان بما يبلغه عن الله تعالى من شرع وآداب، ومسائل كثيرة من ذلك مبسوطة في علم الكلام فليرجع إليها.إنما الذي يهمنا من ذلك في هذا التفسير هو ما أومأ به قوله تعالى في آخرها: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام: 89].فمن علم هذه الآيات في هذه السورة وكان عالما بمعناها وجب عليه الإيمان بنبوءة من جرت أسماؤهم فيها.
وقد ذكر علماؤنا أن الإيمان بأن الله أرسل رسلا ونبأ أنبياء لإرشاد الناس واجب على الجملة، أي إيمانا بإرسال أفراد غير معينين، أو بنبوءة أفراد غير معننين دون تعيين شخص معين باسمه ولا غير ذلك مما يميزه عن غيره إلا محمدا صلى الله عليه وسلم.قال الشيخ أبو محمد بن أبي زيد في"الرسالة": "الباعث"صفة لله تعالى"الرسل إليهم لإقامة الحجة عليهم".فإرسال الرسل جائز في حق الله غير واجب، وهو واقع على الإجمال دون تعيين شخص معين.وقد ذكر"صاحب المقاصد"أن إرسال الرسل محتاج إليه، وهو لطف من الله بخلقه وليس واجبا عليه.وقالت المعتزلة وجمع من المتكلمين "أي من أهل السنة"مما وراء النهر بوجوب إرسال الرسل عليه تعالى.
ولم يذكر أحد من أئمتنا وجوب الإيمان بنبي معين غير محمد صلى الله عليه وسلم رسولا إلى الخلق كافة.قال أبو محمد بن أبي زيد: "ثم ختم أي الله الرسالة والنذارة والنبوءة بمحمد نبيه صلى الله عليه وسلم الخ"، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الذي رواه عمر بن الخطاب من سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله" الخ.فلم يعين رسلا مخصوصين.وقال في جواب سؤاله عن الإسلام "الإسلام أن تشهد أن لا إله

إلا الله وأن محمدا رسول الله" .
فمن علم هذه الآيات وفهم معناها وجب عليه الاعتقاد بنبوءة المذكورين فيها.ولعل كثيرا لا يقرأونها وكثيرا ممن يقرأونها لا يفهمون مدلولاتها حق الفهم فلا يطالبون بتطلب فهمهما واعتقاد ما دلت عليه إذ ليس ذلك من أصول الإيمان والإسلام ولكنه من التفقه في الدين.
قال القاضي عياض في فصل"سابع"من فصول الباب الثالث من القسم الرابع من كتاب الشفاء: "وهذا كله"أي ما ذكره من إلزام الكفر أو الجرم الموجب للعقوبة لمن جاء في حقهم بما ينافي ما يجب لهم"فيمن تكلم فيهم"أي الأنبياء أو الملائكة"بما قلناه على جملة الملائكة والنبيين"أي على مجموعهم لا على جميعهم ـ قاله الخفاجي ـ يريد بالجميع كل فرد فرد"ممن حقفنا كونه منهم ممن نص عليه في كتابه أو حققنا علمه بالخبر المتواتر والإجماع القاطع والخبر المشتهر المتفق عليه"الواو في هذا التقسيم بمعنى أو".فأما من لم يثبت الإخبار بتعيينه ولا وقع الإجماع على كونه من الأنبياء كالخضر، ولقمان، وذي القرنين، ومريم، وآسية"امرأة فرعون"وخالد بن سنان المذكور أنه نبي أهل الرس، فليس الحكم في سابهم والكافر بهم كالحكم فيما قدمناه"أهـ.
فإذا علمت هذا علمت أن ما وقع في أبيات ثلاثة نظمها البعض، ذكرها الشيخ إبراهيم البيجوري في مبحث الإيمان من شرحه على جوهرة التوحيد:
حتم على كل ذي التكليف معرفة ... بأنبياء على التفصيل قد علموا
في تلك حجتنا1 منهم ثمانية ... من بعد عشر ويبقى سبعة وهم
إدريس.هود.شعيب، صالح وكذا ... ذو الكفل، آدم، بالمختار قد ختموا
لا يستقيم إلا بتكلف، لأن كون معرفة ذلك حتما يقتضي ظاهره الاصطلاحي أنه واجب، وهذا لا قائل به فإن أراد بالحتم الأمر الذي لا ينبغي إهماله كان متأكدا لقوله: على كل ذي التكليف.فلو عوضه بكل ذي التعليم.ولعله أراد بالحتم أنه يتحتم على من علم ذلك عدم إنكار كون هؤلاء أنبياء بالتعيين، ولكن شاء بين وجوب معرفة شيء وبين منع إنكاره بعد أن يعرف.
ـــــــ
1 أراد الآية {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا} وهي بواو العطف فلو قال: وتلك حجتنا عدت ثمانية منهم وعشراً الخ .

فأما رسالة هود وصالح وشعيب فقد تكرر ذكرها في آيات كثيرة.
وأما معرفة نبوءة ذي الكفل ففيها نظر إذ لم يصرح في سورة الأنبياء بأكثر من كونه من الصابرين والصالحين.واختلف المفسرون في عدة من الأنبياء، ونسب إلى الجمهور القول بأنه نبي.وعن أبي موسى الأشعري ومجاهد: "أن ذا الكفل لم يكن نبيا".وسيأتي ذكر ذلك في سورة الأنبياء.
وأما آدم فإنه نبي منذ كونه في الجنة فقد كلمه الله غير مرة.وقال: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه: 122]فهو قد أهبط إلى الأرض مشرفا بصفة النبوءة.وقصة ابني آدم في سورة المائدة دالة على أن آدم بلغ لأبنائه شرعا لقوله تعالى فيها { إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 27ـ29].
فالذي نعتمده أن الذي ينكر نبوءة معين ممن سمي في القرآن في عداد الأنبياء في سورة النساء وسورة هود وسورة الأنعام وسورة مريم، وكان المنكر محققا علمه بالآية التي وصف فيها بأنه نبي ووقف على دليل صحة ما أنكره وروجع فصمم على إنكاره، إن ذلك الإنكار يكون كفرا لأنه أنكر معلوما بالضرورة بعد التنبيه عليه لئلا يعتذر بجهل أو تأويل مقبول.
واعلم أني تطلبت كشف القناع عن وجه الاقتصار على تسمية هؤلاء الأنبياء من بين سائر الأنبياء من ذرية إبراهيم أو ذرية نوح،"على الوجهين في معاد ضمير {ذريته} "فلم يتضح لي وتطلبت وجه ترتيب أسمائهم هذا الترتيب، وموالاة بعض هذه الأسماء لبعض في العطف فلم يبد لي، وغالب ظني أن من هذه الوجوه كون هؤلاء معروفون لأهل الكتاب وللمشركين الذين يقتبسون معرفة الأنبياء من أهل الكتاب، وأن المناسبة في ترتيبهم لا تخلو من أن تكون ناشئة عن الابتداء بذكر أن إسحاق ويعقوب موهبة لإبراهيم وهما أب وابنه، فنشأ الانتقال من واحد إلى آخر بمناسبة للانتقال، وأن توزيع أسمائهم على فواصل ثلاث لا يخلو عن مناسبة تجمع بين أصحاب تلك الأسماء في الفاصلة الشاملة لأسمائهم.ويجوز أن خفة أسماء هؤلاء في تعريبها إللا العربية حروفا ووزنا لها أثر في إيثارها
بالذكر دون غيرها من الأسماء نحو"شمعون وشمويل وحزقيال ونحميا"، وأن المعدودين في هذه الآيات الثلاث توزعوا الفضائل إذ منهم الرسل والأنبياء والملوك وأهل

الأخلاق الجليلة العزيزة من الصبر وجهاد النفس والجهاد في سبيل الله والمصابرة لتبليغ التوحيد والشريعة ومكارم الأخلاق، كما أشار إلى ذلك قوله تعالى في آخر الآيات {أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوءةَ} [الأنعام: 89] ومن بينهم أصلا الأمتين العربية والإسرائيلية.
فلما ذكر إسحاق ويعقوب أردف ذكرهما بذكر نبيين من ذرية إسحاق وإسحاق ويعقوب، وهما أب وابنه من الأنبياء هما داود وسليمان مبتدءا بهما على بقية ذرية إسحاق ويعقوب، لأنهما نالا مجدين عظيمين مجد الآخرة بالنبوءة ومجد الدنيا بالملك.ثم أردف بذكر نبيين تماثلا في أن الضر أصاب كليهما وأن انفراج الكرب عنهما بصبرهما.وهما أيوب ويوسف.ثم بذكر رسولين أخوين هما موسى وهارون، وقد أصاب موسى مثل ما أصاب يوسف من الكيد له لقتله ومن نجاته من ذلك وكفالته في بيت الملك، فهؤلاء الستة شملتهم الفاصلة الأولى المنتهية بقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} .
ثم بذكر نبيين أب وابنه وهما زكريا ويحيى.فناسب أن يذكر بعدهما رسولان لا ذرية لهما، وهما عيسى وإلياس، وهما متماثلان في أنهما رفعا إلى السماء.فأما عيسى فرفعه مذكور في القرآن، وأما إلياس فرفعه مذكور في كتب الإسرائيليين ولم يذكره المفسرون من السلف.وقد قيل: إن إلياس هو إدريس وعليه فرفعه مذكور في قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} في سورة مريم[57].وابتدئ بعيسى عطفا على يحيى لأنهما قريبان ابنا خالة، ولأن عيسى رسول وإلياس نبي غير رسول.وهؤلاء الأربعة تضمنتهم الفاصلة الثانية المنتهية بقوله تعالى: {كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ} .وعطف اليسع لأنه خليفة إلياس وتلميذه، وأدمج بينه وبين إلياس إسماعيل تنهية بذكر النبي الذي إليه ينتهي نسب العرب من ذرية إبراهيم.وختموا بيونس ولوط لأن كلا منهما أرسل إلى أمة صغيرة.وهؤلاء الأربعة تضمنتهم الفاصلة الثالثة المنتهية بقوله: {وَكُلّاً فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} .
وقوله: {وَمِنْ آبَائِهِمْ} عطف على قوله: {كلا} .فالتقدير: وهدينا من آبائهم وذرياتهم وإخوانهم.وجعل صاحب الكشاف"مِن"اسما بمعنى بعض، أي وهدينا بعض آبائهم على طريقته في قوله تعالى: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ} [النساء: 46].وقدر ابن عطية ومن تبعه المعطوف محذوفا تقديره: ومن آبائهم جمعا كثيرا أو مهديين كثيرين، فتكون"مِن"تبعيضية متعلقة بـ {هدينا} .

والذريات جمع ذرية، وهي من تناسل من الآدمي من أبناء أدنين وأبنائهم فيشمل أولاد البنين وأولاد البنات.ووجه جمعه إرادة أن الهدى تعلق بذرية كل من له ذرية من المذكورين للتنبيه على أن في هدي بعض الذرية كرامة للجد، فكل واحد من هؤلاء مراد وقوع الهدي في ذريته.وإن كانت ذرياتهم راجعين إلى جد واحد وهو نوح عليه السلام.ثم إن كان المراد بالهدى المقدر الهدى المماثل للهدى المصرح به، وهو هدى النبوءة، فالآباء يشمل مثل آدم وإدريس عليهم ـ السلام ـ فإنهم آباء نوح.والذريات يشمل أنبياء بني إسرائيل مثل يوشع ودانيال.فهم من ذرية نوح وإبراهيم وإسحاق ويعقوب، والأنبياء من أبناء إسماعيل ـ عليه السلام ـ مثل حنظلة بن صفوان وخالد بن سنان، وهودا، وصالحا من ذرية نوح، وشعيبا، من ذرية إبراهيم.والإخوان يشمل بقية الأسباط أخوة يوسف.
وإن كان المراد من الهدى ما هو أعم من النبوءة شمل الصالحين من الآباء مثل هابيل ابن آدم.وشمل الذريات جميع صالحي الأمم مثل أهل الكهف، قال تعالى: {وَزِدْنَاهُمْ هُدىً} [الكهف: 13]، ومثل طالوت ملك إسرائيل، ومثل مضر وربيعة فقد ورد أنهما كانا مسلمين.رواه الديلمي عن ابن عباس.ومثل مؤمن آل فرعون وامرأة فرعون.ويشمل الإخوان هاران ابن تارح أخا إبراهيم، وهو أبو لوط، وعيسو أخا، يعقوب وغير هؤلاء ممن علمهم الله تعالى.
والاجتباء الاصطفاء والاختيار، قالوا هو مشتق من الجبى، وهو الجمع، ومنه جباية الخراج.وجبي الماء في الحوض الذي سميت منه الجابية، فالافتعال فيه للمبالغة مثل الاضطرار، ووجه الاشتقاق أن الله اختارهم فجعلهم موضع هديه لأنه أعلم حيث يجعل رسالته ونبوءته وهديه.
وعطف قوله: {وهديناهم} على {اجتبيناهم} عطفا يؤكد إثبات هداهم اهتماما بهذا الهدي، فبين أنه هدى إلى صراط مستقيم، أي إلى ما به نوال ما يعمل أهل الكمال لنواله، فضرب الصراط المستقيم مثلا لذلك تشبيها لهيئة العامل لينال ما يطلبه من الكمال بهيئة الساعي على طريق مستقيم يوصله إلى ما سار بدون تردد ولا تحير ولا ضلال، وذكر من ألفاظ المركب الدال على الهيئة المشبه بها بعضه وهو الصراط المستقيم لدلالته على جميع الألفاظ المحذوفة للإيجاز.
والصراط المستقيم هو التوحيد والإيمان بما يجب الإيمان به من أصول الفضائل

التي اشتركت فيها الشرائع، والمقصود مع الثناء عليهم التعريض بالمشركين الذين خالفوا معتقدهم، كما دل عليه قوله بعد ذلك: {هُدَى اللَّهِ ـإلى قوله ـ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 88].
[88] {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} استئناف بياني، أي لا تعجبوا من هديهم وضلال غيرهم.والإشارة إلى الهدى الذي هو مصدر مأخوذ من أفعال الهداية الثلاثة المذكورة في الآية قبلها، وخصوصا المذكور آخرا بقوله: {وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 87].وقد زاد اسم الإشارة اهتماما بشأن الهدي إذ جعل كالشيء المشاهد فزيد باسم الإشارة كمال تمييز، وأخبر عن الهدى بأنه هدى الله لتشريف أمره وبيان عصمته من الخطأ والضلال، وفيه تعريض بما عليه المشركون مما يزعمونه هدى ويتلقونه عن كبرائهم، أمثال عمرو بن لحي الذي وضع لهم عبادة الأصنام، ومثل الكهان وأضرابهم.وقد جاء هذا الكلام على طريقة الفذلكة لأحوال الهداية التي تكرر ذكرها كأبيات حاتم الطائي:
ولله صعلوك يساور همه ... ويمضي على الأحداث والدهر مقدما
إلى أن قال بعد أبيات سبعة في محامد ذلك الصعلوك:
فذلك إن يهلك فحسنى ثناؤه ... وإن عاش لم يقعد ضعيفا مذمما
وقوله تعالى: {يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} جملة في موضع الحال من {هُدَى اللَّهِ} .والمراد بـ {مَنْ يَشَاءُ} الذين اصطفاهم الله واجتباهم وهو أعلم بهم وباستعدادهم لهديه ونبذهم المكابرة وإقبالهم على طلب الخير وتطلعهم إليه وتدرجهم فيه إلى أن يبلغوا مرتبة إفاضة الله عليهم الوحي أو التوفيق والإلهام الصادق.ففي قوله: {مَنْ يَشَاءُ} من الإبهام ما يبعث النفوس على تطلب هدى الله تعالى والتعرض لنفحاته، وفيه تعريض بالمشركين الذين أنكروا نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم حسدا، ولذلك أعقبه بقوله: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} تفظيعا لأمر الشرك وأنه لا يغتفر لأحد ولو بلغ من فضائل الأعمال مبلغا عظيما مثل هؤلاء المعدودين المنوه بهم.والواو للحال.و"حبط"معناه تلف.أي بطل ثوابه.وقد تقدم في قوله تعالى: {مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} في سورة البقرة[217]

[89] {أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ}
استئناف ابتدائي للتنويه بهم، فهي فذلكة ثانية، لأن الفذلكة الأولى راجعة إلى ما في الجمل السابقة من الهدى وهذه راجعة إلى ما فيها من المهديين.
واسم الإشارة لزيادة الاعتناء بتمييزهم وإخطار سيرتهم في الأذهان.والمشار إليهم هم المعينون بأسمائهم والمذكورون إجمالا في قوله: {وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ} [الأنعام: 87].و {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} خبر عن اسم الإشارة.
والمراد بالكتاب الجنس: أي الكتب.وإيتاء الكتاب يكون بإنزال ما يكتب، كما أنزل على الرسل وبعض الانبياء، وما أنزل عليهم يعتبر كتابا، لأن شأنه أن يكتب سواء كتب أم لم يكتب.وقد نص القرآن على أن إبراهيم كانت له صحف بقوله: {صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى: 19]وكان لعيسى كلامه الذي كتب في الإنجيل.ولداود الكلام الصادر منه تبليغا عن الله تعالى، وكان نبيا ولم يكن رسولا، ولسليمان الأمثال، والجامعة، والنشيد المنسوب في ثلاثتها أحكام أمر الله بها.ويقال: إن إدريس كتب الحكمة في صحف وهو الذي يسميه الإسرائيليون"أخنوخ"ويدعوه القبط"توت"ويدعوه الحكماء"هُرْمس".ويكون إيتاء الكتاب بإيتاء النبي فهم وتبيين الكتب المنزلة قبله، كما أوتي أنبياء بني إسرائيل من بعد موسى أمثال يحيى فقد قال تعالى له: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم: 12].
والحكم هو الحكمة، أي العلم بطرق الخير ودفع الشر.قال تعالى في شأن يحيى: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً} [مريم: 12] ، ولم يكن يحيى حاكما أي قاضيا، وقد يفسر الحكم بالقضاء بالحق.كما في قوله تعالى في شأن داود وسليمان: {وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} [الانبياء: 79].
وإيتاء هذه الثلاث على التوزيع، فمنهم من أوتي جميعها وهم الرسل منهم والأنبياء الذين حكموا بين الناس مثل داود وسليمان، ومنهم من أوتي بعضها وهم الأنبياء غير الرسل والصالحون منهم غير الأنبياء، وهذا باعتبار شمول اسم الإشارة لآبائهم وذرياتهم وإخوانهم.
والفاء في قوله: { فَإِنْ يَكْفُرْ} عاطفة جملة الشرط على جملة {أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ

الْكِتَابَ} عقبت بجملة الشرط وفرعت عليها لأن الغرض من الجمل السابقة من قوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ} [الأنعام: 74]هو تشويه أمر الشرك بالاستدلال على فساده بنبذ أهل الفضل والخير إياهن فكان للفاء العاطفة عقب ذلك موقع بديع من أحكام نظم الكلام.
وضمير {بها} عائد إلى المذكورات: الكتاب والحكم والنبوة.والإشارة في قوله: {هؤلاء} إلى المشركين من أهل مكة، وهي إشارة إلى حاضر في أذهان السامعين، كما ورد في حديث سؤال القبر: "فيقال له ما علمك بهذا الرجل؟" يعني النبي صلى الله عليه وسلم".وفي البخاري قال الأحنف بن قيس: "ذهبت لأنصر هذا الرجل""يعني علي بن أبي طالب".
وقد تقصيت مواقع آي القرآن فوجدته يعبر عن مشركي قريش كثيرا بكلمة هؤلاء ،كقوله: {بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ} [الزخرف: 29]ولم أر من نبه عليه من قبل.
وكفر المشركين بنبوءة أولئك الأنبياء تابع لكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ولذلك حكى الله عنهم بعد أنهم {قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91].
ومعنى {وَكَّلْنَا بِهَا} وفقنا للإيمان بها ومراعاتها والقيام بحقها.فالتوكيل هنا استعارة، لأن حقيقة التوكيل إسناد صاحب الشيء تدبير شيئه إلى من يتولى تدبيره ويكفيه كلفة حفظه ورعاية ما به بقاؤه وصلاحه ونماؤه.يقال: وكلته على الشيء ووكلته بالشيء فيتعدى بعلى وبالباء.وقد استعير في هذه الآية للتوفيق إلى الإيمان بالنبوءة والكتاب والحكم والنظر في ما تدعو إليه ورعايته تشبيها لتلك الرعاية برعاية الوكيل، وتشبيها للتوفيق إليها بإسناد النظر إلى الوكيل، لأن الوكالة تقتضي وجود الشيء الموكل بيد الوكيل مع حفظه ورعايته، فكانت استعارة {وكلنا} لهذا المعنى إيجازا بديعا يقابل ما يتضمنه معنى الكفر بها من إنكارها الذي فيه إضاعة حدودها.
والقوم هم المؤمنون الذين آمنوا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن وبمن قبله من الرسل وما جاءهم من الكتب والحكم والنبوءة.والمقصود الأول منهم المؤمنون الذين كانوا بمكة ومن آمن من الأنصار بالمدينة إذ كانت هذه السورة قد نزلت قبيل الهجرة.وقد فسر في الكشاف القوم بالأنبياء المتقدم ذكرهم وادعى أن نظم الآية حمله عليه، وهو تكلف لا حامل إليه.
ووصف القوم بأنهم {لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} للدلالة على أنهم سارعوا إلى الإيمان بها بمجرد دعوتهم إلى ذلك فلذلك جيء في وصفهم بالجملة الاسمية المؤلفة من اسم"ليس"

وخبرها لأن ليس بمنزلة حرف نفي إذ هي فعل غير متصرف فجملتها تدل على دوام نفي الكفر عنهم، وأدخلت الباء في خبر"ليس"لتأكيد ذلك النفي فصار دوام نفي مؤكدا.
والمعنى إن يكفر المشركون بنبوءتك ونبوءة من قبلك فلا يضرك كفرهم لأنا قد وفقنا قوما مؤمنين للإيمان بك وبهم، فهذا تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم على إعراض بعض قومه عن دعوته.
وتقديم المجرور على عامله في قوله: {لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} لرعاية الفاصلة مع الاهتمام بمعاد الضمير: الكتاب والحكم والنبوة.
[90] {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ}
{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}
جملة ابتدائية قصد من استئنافها استقلالها للاهتمام بمضمونها، ولأنها وقعت موقع التكرير لمضمون الجملتين التين قبلها: جملة {وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 87]وجملة {أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوءَةَ} [الأنعام: 89].وحق التكرير أن يكون مفصولا، وليبنى عليها التفريع في قوله: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} والمشار إليهم باسم الإشارة هم المشار إليهم بقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوءَةَ} [الأنعام: 89]فإنهم الذين أمر نبينا صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهداهم.
وتكرير اسم الإشارة لتأكيد تمييز المشار إليه ولما يقتضبه التكرير من الاهتمام بالخبر.
وأفاد تعريف المسند والمسند إليه قصر جنس الذين هداهم الله على المذكورين تفصيلا وإجمالا، لأن المهذبين من البشر لا يعدون أن يكونوا أولئك المسمين ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم، فإن من آبائهم آدم وهو الأب الجامع للبشر كلهم، فأريد بالهدى هدى البشر، أي الصرف عن الضلالة، فالقصر حقيقي.ولا نظر لصلاح الملائكة لأنه صلاح جبلي.وعدل عن ضمير المتكلم إلى اسم الجلالة الظاهر لقرن هذا الخبر بالمهابة والجلالة.
وقوله: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} تفريع على كمال ذلك الهدى، وتخلص إلى ذكر حظ محمد صلى الله عليه وسلم من هدى الله بعد أن قدم قبله مسهب ذكر الأنبياء وهديهم إشارة إلى علو منزلة

محمد صلى الله عليه وسلم وأنها منزلة جديرة بالتخصيص بالذكر حيث لم يذكر مع الأنبياء المتقدمين، وأنه جمع هدى الأولين، وأكملت له الفضائل، وجمع له ما تفرق من الخصائص والمزايا العظيمة.وفي إفراده بالذكر وترك عده مع الأولين رمز بديع إلى فذاذته وتفرد مقداره، ورعي بديع لحال مجيء رسالته بعد مرور تلك العصور المتباعدة أو المتجاورة، ولذلك قدم امجرور وهو {بهداهم} على عامله، للاهتمام بذلك الهدى لأنه هو منزلتك الجامعة للفضائل والمزايا، فلا يليق به الاقتداء بهدى هو دون هداهم.ولأجل هذا لم يسبق للنبي صلى الله عليه وسلم اقتداء بأحد ممن تحنفوا في الجاهلية أو تتنصروا أو تهودوا.فقد لقي النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن عمرو بن نفيل قبل النبوة في بلده وعرض عليه أن يأكل معه من سفرته، فقال زيد: "إني لا آكل مما تذبحون على أنصابكم"توهما منه أن النبي صلى الله عليه وسلم يدين بدين الجاهلية، وألهم الله محمدا عليه الصلاة والسلام السكوت عن إجابته إلهاما لحفظ السر المدخر فلم يقل له إني لا أذبح على نصب.ولقي ورقة بن نوفل غير مرة بمكة.ولقي بحيرا الراهب.ولم يقتد بأحد من أولئك وبقي على الفطرة إلى أن جاءته الرسالة.
والاقتداء افتعال من القدوة ـ بضم القاف وكسرهاـ وقياسه على الإسوة يقتضي أن الكسر فيه أشهر.وقال في المصباح: "الضم أكثر".ووقع في"المقامات"للحريري: "وقدوة الشحاذين"فضُبط بالضم.وذكره الواسطي في"شرح ألفاظ المقامات"في القاف المضمومة، وروى فيه فتح القاف أيضا، وهو نادر.والقدوة هو الذي يعمل غيره مثل عمله، ولا يعرف له في اللغة فعل مجرد فلم يسمع إلا اقتدى.وكأنهم اعتبروا القدوة اسما جامدا واشتقوا منه الافتعال للدلالة على التكلف كما اشتقوا من اسم الخريف اخترف، ومن الأسوة ائتسى، وكما اشتقوا من اسم النمر تنمر، ومن الحجر تحجر.وقد تستعمل القدوة اسم مصدر لاقتدى.يقال: لي في فلان قدوة كما في قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الممتحنة: 6].
وفي قوله: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} تعريض للمشركين بأن محمدا صلى الله عليه وسلم ما جاء إلا على سنة الرسل كلهم وأنه ما كان بدعا من الرسل.
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهداهم يؤذن بأن الله زوى إليه فضيلة من فضائلهم التي اختص كل واحد بها سواء ما اتفق منه واتحد، أو اختلف وافترق، فإنما يقتدى بما أطلعه الله عليه من فضائل الرسل وسيرهم،وهو الخلق الموصوف بالعظيم في قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]

ويشمل هداهم ما كان منه راجعا إلى أصول الشرائع، وما كان منه راجعا إلى زكاء النفس وحسن الخلق.وأما ما كان منه تفاريع عن ذلك وأحكاما جزئية من كل ما أبلغه الله إياه بالوحي ولم يأمره باتباعه في الإسلام ولا بين له نسخه، فقد اختلف علماؤنا في أن الشرائع الإلهية السابقة هل تعتبر أحكامها من شريعة الإسلام إذا أبلغها الله إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يجعل في شريعته ما ينسخها.
وأرى أن أصل الاستدلال لهذا أن الله تعالى إذا ذكر في كتابه أو أوحى إلى رسوله عليه ـالصلاةوالسلام حكاية حكم من الشرائع السابقة في مقام التنويه بذلك والامتنان ولم يقارنه ما يدل على أنه شرع للتشديد على أصحابه عقوبة لهم، ولا ما يدل على عدم العمل به، فإن ذلك يدل على أن الله تعالى يريد من ا لمسلمين العمل بمثله إذا لم يكن من أحكام الإسلام ما يخالفه ولا من أصوله ما يأباه، مثل أصل التيسير ولا يقتضي القياس على حكم إسلامي ما يناقض حكما من شرائع من قبلنا.ولا حجة في الآيات التي فيها أمر النبي صلى الله عليه وسلم باتباع من قبله مثل هذه الآية، ومثل قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} [النحل: 123]ومثل قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} [الشورى: 13]، لأن المقصود من ذلك أصول الديانة وأسس التشريع التي لا تختلف فيها الشرائع، فمن استدل بقوله تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} فاستدلاله ضعيف.قال الغزالي في المستصفى: "أراد بالهدى التوحيد ودلالة الأدلة العقلية على الواحدانية والصفات لأنه تعالى أمره بالاقتداء بهداهم فلو كان المراد بالهدى شرائعهم لكان أمرا بشرائع مختلفة وناسخة ومنسوخة فدل أنه أراد الهدى المشترك بين جميعهم"اهـ.ومعنى هذا أن الآية لا تقوم حجة على المخالف فلا مانع من أن يكون فيها استئناس لمن رأى حجية شرع من قبلنا على الصفات التي ذكرتها آنفا.وفي صحيح البخاري في تفسير سورة "ص~"عن العوام قال: "سألت مجاهدا عن سجدة ص~ فقال: سألت ابن عباس: "من أين سجدت؟"أي من أي دليل أخذت أن تسجد في هذه الآية، يريد أنها حكاية عن سجود داود وليس فيها صيغة أمر السجود"فقال: "أوما تقرأ { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} فكان داود ممن أمر نبيكم أن يقتدي به فسجدها داود فسجدها رسول الله".
والمذاهب في هذه المسألة أربعة: المذهب الأول: مذهب مالك فيما حكاه ابن بكير وعبد الوهاب والقرافي ونسبوه إلى أكثر أصحاب مالك: أن شرائع من قبلنا تكون

أحكاما لنا، لأن الله أبلغها إلينا.والحجة على ذلك ما يثبت في الصحاح من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في قضية الربيع بنت النضر حين كسرت ثنية جارية عمدا أن تكسر ثنيتها فراجعته أمها وقالت: والله لا تكسر ثنية الربيع فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كتاب الله القصاص" ، وليس في كتاب الله حكم القصاص في السن إلا ما حكاه عن شرع التوراة بقوله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ـ إلى قوله ـ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} [المائدة: 45].وما في الموطأ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من نسي الصلاة فليصلها إذا ذكرها فإن الله تعالى يقول في كتابه {أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14]وإنما قاله الله حكاية عن خطابه لموسى ـ عليه السلام ـ، وبظاهر هذه الآية لأن الهدى مصدر مضاف فظاهره العموم، ولا يسلم كون السياق مخصصا له كما ذهب إليه الغزالي.ونقل علماء المالكية عن أصحاب أبي حنيفة مثل هذا.وكذلك نقل عنهم ابن حزم في كتابه"الإعراب في الحيرة والالتباس الواقعين في مذاهب أهل الرأي والقياس"1.وفي "توضيح"صدر الشريعة حكايته عن جماعة من أصحابهم ولم يعينه.ونقله القرطبي عن كثير من أصحاب الشافعي.وهو منقول في كتب الحنفية عن عامة أصحاب الشافعي.
المذهب الثاني: ذهب أكثر الشافعية والظاهرية: أن شرع من قبلنا ليس شرعا لنا.واحتجوا بقوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة: 48].ونسب القرطبي هذا القول للكثير من أصحاب مالك وأصحاب الشافعي.وفي "توضيح"صدر الشريعة نسبة مثل هذا القول لجماعة من أصحابهم.
الثالث: إنما يلزم الاقتداء بشرع إبراهيم ـ عليه السلام ـ لقوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} [النحل: 123].ولم أقف على تعيين من نسب إليه هذا القول.
الرابع: لا يلزم إلا اتباع شريعة عيسى لأنها آخر الشرائع نسخت ما قبلها.ولم أقف على تعيين صاحب هذا القول.قال ابن رشد في المقدمات: "وهذا أضعف الأقوال".
والهاء في قوله: {اقتده} ساكنة عند جمهور القراء، فهي هاء السكت التي تجلب عند الوقف على الفعل المعتل اللام إذا حذفت لامه للجازم، وهي تثبت في الوقف وتحذف في الوصل، وقد ثبتت في المصحف لأنهم كانوا يكتبون أواخر الكلم على مراعاة
ـــــــ
1 مخطوط في مكتبتنا.

حال الوقف.وقد أثبتها جمهور القراء في الوصل، وذلك من إجراء الوصل مجرى الوقف وهو وارد في الكلام الفصيح.والأحسن للقارئ أن يقف عليها جريا على الأفصح، فجمهور القراء أثبتوها ساكنة ما عدا رواية هشام عن ابن عامر فقد حركها بالكسر، ووجه أبو علي الفارسي هذه القراءة بأنها تجعل الهاء ضمير مصدر"اقتد"، أي اقتد الاقتداء، وليست هاء السكت، فهي كالهاء في قوله تعالى: {عَذَاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 115]أي لا أعذب ذلك العذاب أحدا.وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف، بحذف الهاء في حالة الوصل على القياس الغالب.
{قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ}
استئناف عقب به ذلك البيان العظيم الجامع لأحوال كثير من الأمم.والإيماء إلى نبوءة جمع من الأنبياء والصالحين، وبيان طريقة الجدل في تأييد الدين، وأنه ما جاء إلا كما جاءت ملل تلك الرسل، فلذلك ذيله الله بأمر رسوله أن يذكر قومه بأنه يذكرهم.كما ذكرت الرسل أقوامهم، وأنه ما جاء إلا بالنصح لهم كما جاءت الرسل.وافتتح الكلام بفعل {قل} للتنبيه على أهميته كما تقدم في هذه السورة غير مرة.وقدم ذلك بقوله: {لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} أي لست طالب نفع لنفسي على إبلاغ القرآن، ليكون ذلك تنبيها للاستدلال على صدقه لأنه لو كان يريد لنفسه نفعا لصانعهم ووافقهم.قال في الكشاف في سورة هود عند قوله تعالى حكاية عن هود[51] {يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ} ."ما من رسول إلا واجه قومه بهذا القول لأن شأنهم النصيحة والنصيحة لا يمحصها ولا يمحضها إلا حسم المطامع وما دام يتوهم شيء منها لم تنفع ولم تنجع"اهـ.
قلت: وحكى الله عن نوح مثل هذا في قوله في سورة هود [29] {وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} .وقال لرسوله أيضا في سورة الشورى[23] {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} .فليس المقصود من قوله: {لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} رد اعتقاد معتقد أو نفي تهمة قيلت ولكن المقصود به الاعتبار ولفت النظر إلى محض نصح الرسول صلى الله عليه وسلم في رسالته وأنها لنفع الناس لا يجر منها نفعا إلى نفسه.
والضمير في قوله: {عليه} وقوله: {إن هو} راجع إلى معروف في الأذهان؛ فإن معرفة المقصود من الضمير مغنية عن ذكر المعاد مثل قوله تعالى: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [صّ: 32]، وكما في حديث عمر في خبر إيلاء النبي صلى الله عليه وسلم: "فنزل صاحبي

الانصاري يوم نوبته فضرب بأبي ضربا شديدا فقال: أثم هو".الخ.والتقدير: لا أسألكم على التبليغ أو الدعاء أجرا وما دعائي وتبليغي إلا ذكرى بالقرآن وغيره من الأقوال.
والذكرى اسم مصدر الذكرـ بالكسرـ، وهو ضد النسيان، وتقدم آنفا.والمراد بها هنا ذكر التوحيد والبعث والثواب والعقاب.
وجعل الدعوة ذكرى للعالمين، لأن دعوته صلى الله عليه وسلم عامة لسائر الناس.وقد أشعر هذا بأن انتفاء سؤال الأجر عليه لسببين: أحدهما أنه ذكرى لهم ونصح لنفعهم فليس محتاجا لجزاء منهم، ثانيهما: أنه ذكرى لغيرهم من الناس وليس خاصا بهم.
[91] {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ}
وجود واو العطف في مصدر هذه الجملة ينادي على أنها نزلت متناسقة مع الجمل التي قبلها، وأنها وإياها واردتان في غرض واحد هو إبطال مزاعم المشركين، فهذا عطف على جملة {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ} [الأنعام: 89]، وأنها ليست ابتدائية في غرض آخر.فواو الضمير في قوله: {قدروا} عائد على ما عاد إليه اسم الإشارة في قوله: {هَؤُلاءِ} [الأنعام: 89]كما علمت آنفا.ذلك أن المشركين لما استشعروا نهوض الحجة عليهم في نزول القرآن بأنه ليس بدعا مما نزل على الرسل، ودحض قولهم: {لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً} [الفرقان: 7]توغلوا في المكابرة والجحود فقالوا: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} وتجاهلوا ما كانوا يقولونه عن إبراهيم ـ عليه السلام ـ وما يعلمونه من رسالة موسى عليه السلام وكتابه.فروى الطبري عن ابن عباس ومجاهد: أن قائل ذلك هم المشركون من قريش.
وقد جاءت هذه الآية في هذا الموقع كالنتيجة لما قبلها من ذكر الأنبياء وما جاءوا به من الهدى والشرائع والكتب، فلا جرم أن الذين قالوا: ما أنزل الله على بشر من شيء، قد جاءوا إفكا وزورا وأنكروا ما هو معلوم في أجيال البشر بالتواتر.وهذه الجملة مثل ما حكاه الله عنهم في قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} [سبأ: 31].ومن أئمة التفسير من جعل هذا حكاية لقول بعض اليهود، واختلفوا في أنه معين أو غير معين، فعن ابن عباس أيضا، وسعيد ابن جبير، والحسن، والسدي: أن قائل: {مَا

أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} بعض اليهود.وروي عن سعيد بن جبير وعكرمة أن قائل ذلك مالك بن الصيف القرظي وكان من أحبار اليهود بالمدينة، وكان سمينا وأنه جاء يخاصم النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي: "أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى أما تجد في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين فغضب وقال: "والله ما أنزل الله على بشر من شيء.وعن السدي: "أن قائله فنحاص اليهودي".ومحمل ذلك كله على أن قائل ذلك منهم قاله جهلا بما في كتبهم فهو من عامتهم، أو قاله لجاجا وعنادا.وأحسب أن هذه الروايات هي التي ألجأت رواتها إلى ادعاء أن هذه الآيات نزلت بالمدينة، كما تقدم في الكلام على أول هذه السورة.
وعليه يكون وقع هذه الآيات في هذا الموقع لمناسبة قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} [الأنعام: 89]الآية، وتكون الجملة كالمعترضة في خلال إبطال حجاج المشركين.وحقيق {قدروا} عينوا القدر وضبطوه أي، علموه علما عن تحقق.
والقدرـ بفتح فسكون ـ مقياس الشيء وضابطه، ويستعمل مجازا في علم الأمر بكنهه وفي تدبير الأمر.يقال: قدر القوم أمرهم يقدُرونه ـ بضم الدال ـ في المضارع، أي ضبطوه ودبروه.وفي الحديث قول عائشة: "فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن".وهو هنا مجاز في العلم الصحيح، أي ما عرفوا الله حق معرفته وما علموا شأنه وتصرفاته حق العلم بها، فانتصب {حق} على النيابة عن المفعول المطلق لإضافته إلى المصدر وهو {قدره} ، والإضافة هنا من إضافة الصفة إلى الموصوف.والأصل: ما قدروا الله قدره الحق.
و {إذ قالوا} ظرف، أي ما قدروه حين قالوا {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} لأنهم لما نفوا شأنا عظيما من شؤون الله، وهو شأن هديه الناس وإبلاغهم مراده بواسطة الرسل، قد جهلوا ما يفضي إلى الجهل بصفة من صفات الله تعالى التي هي صفة الكلام، وجهلوا رحمته للناس ولطفه بهم.
ومقالهم هذا يعم جميع البشر لوقوع النكرة في سياق النفي لنفي الجنس، ويعم جميع ما أنزل باقترانه بـ {من} في حيز النفي للدلالة على استغراق الجنس أيضا، ويعم إنزال الله تعالى الوحي على البشر بنفي المتعلق بهذين العمومين.
والمراد بـ {شيء} هنا شيء من الوحي، ولذلك أمر الله نبيه بأن يفحمهم باستفهام تقرير وإلجاء بقوله: {مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} فذكّرهم بأمر لا يستطيعون جحده لتواتره في بلاد العرب,وهو رسالة موسى ومجيئه بالتوراة وهي تدرس بين اليهود

في البلد المجاور مكة، واليهود يترددون على مكة في التجارة وغيرها، وأهل مكة يترددون على يثرب وما حولها وفيها اليهود وأحبارهم، وبهذا لم يذكرهم الله برسالة إبراهيم عليه السلام لأنهم كانوا يجهلون أن الله أنزل عليه صحفا فكان قد يتطرقه اختلاف في كيفية رسالته ونبوءته.وإذا كان ذلك لا يسع إنكاره كما اقتضاه الجواب آخر الآية بقوله: {قُلِ اللَّهُ} فقد ثبت أن الله أنزل على أحد من البشر كتابا فانتقض قولهم: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} على حسب قاعدة نقض السالبة الكلية بموجبة جزئية.وافتتح بالأمر بالقول للاهتمام بهذا الإفحام، وإلا فإن القرآن كله مأمور النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقوله.
والنور: استعارة للوضوح والحق، فإن الحق يشبه بالنور، كما يشبه الباطل بالظلمة.قال أبو القاسم علي التنوخي:
وكأن النجوم بين دجاها ... سنن لاح بينهن ابتداع
ولذلك عطف عليه {هدى} .ونظيره قوله في سورة المائدة[44] {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ} .ولو أطلق النور على سبب الهدى لصح لولا هذا العطف، كما قال تعالى عن القرآن: {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52].وقد انتصب {نورا} على الحال.
والمراد بالناس اليهود، أي ليهديهم، فالتعريف فيه للاستغراق، إلا أنه استغراق عرفي، أي الناس الذين هم قومه بنو إسرائيل.
وقوله: {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ} يجوز أن يكون صفة سببية للكتاب، ويجوز أن يكون معترضا بين المتعاطفات.
قرأ {تَجْعَلُونَهُ ـو تُبْدُونَ ـوَتُخْفُونَ} بتاء الخطاب ـ من عدا ابن كثير، وأبا عمرو، ويعقوب، من العشرة، فإما أن يكون الخطاب لغير المشركين إذ الظاهر أن ليس لهم عمل في الكتاب الذي أنزل على موسى ولا باشروا إبداء بعضه وإخفاء بعضه فتعين أن يكون خطابا لليهود على طريقة الإدماج "أي الخروج من خطاب إلى غيره"تعريضا باليهود وإسماعا لهم وإن لم يكونوا حاضرين من باب إياك أعني واسمعي يا جارة، أو هو التفات من طريق الغيبة الذي هو مقتضى المقام إلى طريق الخطاب.وحقه أن يقال يجعلونه ـ بياء المضارع للغائب ـ كما قرأ غير هؤلاء الثلاثة القراء.وإما أن يكون خطابا للمشركين.ومعنى كونهم يجعلون كتاب موسى قراطيس يبدون بعضها ويخفون بعضها أنهم سألوا

اليهود عن نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم فقرأوا لهم ما في التوراة من التمسك بالسبت، أي دين اليهود، وكتموا ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يأتي من بعد، فأسند الإخفاء والإبداء إلى المشركين مجازا لأنهم كانوا مظهرا من مظاهر ذلك الإخفاء والإبداء.ولعل ذلك صدر من اليهود بعد أن دخل الإسلام المدينة وأسلم من أسلم من الأوس والخزرج، فعلم اليهود وبال عاقبة ذلك عليهم فأعزوا المشركين بما يزيدهم تصميما على المعارضة.وقد قدمت ما يرجح أن سورة الأنعام نزلت في آخر مدة إقامة رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، وذلك يوجب ظننا بأن هذه المدة كانت مبدأ مداخلة اليهود لقريش في مقاومة الدعوة الإسلامية بمكة حين بلغت إلى المدينة.
قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب {يَجْعَلُونَهُ ،ويُبْدُونَهَا ، وَيُخْفُونَ} بالتحتية ـ فتكون ضمائر الغيبة عائدة إلى معروف عند المتكلم، وهو يهود الزمان الذين عرفوا بذلك.
والقراطيس جمع قرطاس.وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ} في هذه السورة[7].وهو الصحيفة من أي شيء كانت من رق أو كاغد أو خرقة.أي تجعلون الكتاب الذي أنزل على موسى أوراقا متفرقة قصدا لإظهار بعضها وإخفاء بعض آخر.
وقوله: {تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً} صفة لقراطيس،أي تبدون بعضها وتخفون كثيرا منها، ففهم أن المعنى تجعلونه قراطيس لغرض إبداء بعض وإخفاء بعض.
وهذه الصفة في محل الذم فإن الله أنزل كتبه للهدى، والهدى بها متوقف على إظهارها وإعلانها، فمن فرقها ليظهر بعضا ويخفي بعضا فقد خالف مراد الله منها.فأما لو جعلوه قراطيس لغير هذا المقصد لما كان فعلهم مذموما، كما كتب المسلمون القرآن في أجزاء منفصلة لقصد الاستعانة على القراءة، وكذلك كتابة الألواح في الكتاتيب لمصلحة.
وفي "جامع العتبية"في سماع ابن القاسم عن مالك: "سئل مالك ـ رحمه الله ـ عن القرآن يكتب أسداسا وأسباعا في المصاحف، فكره ذلك كراهية شديدة وعابها وقال لا يفرق القرآن وقد جمعه الله وهؤلاء يفرقونه ولا أرى ذلك"أهـ.قال ابن رشد في البيان والتحصيل: "القرآن أنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم شيئا بعد شيء حتى كمل واجتمع جملة واحدة فوجب أن يحافظ على كونه مجموعا، فهذا وجه كراهية مالك لتفريقه".أهـ.
قلت: ولعله إنما كره ذلك خشية أن يكون ذلك ذريعة إلى تفرق أجزاء المصحف

الواحد فيقع بعضها في يد بعض المسلمين فيظن أن ذلك الجزء هو القرآن كله، ومعنى قول مالك: وقد جمعه الله، أن الله أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بجمعه بعد أن نزل منجما، فدل ذلك على أن الله أراد جمعه فلا يفرق أجزاء.وقد أجاز فقهاء المذهب تجزئة القرآن للتعلم ومس جزئه على غير وضوء، ومنه كتابته في الألواح.
وقوله: {وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا} في موضع الحال من كلام مقدر دل عليه قوة الاستفهام لأنه في قوة أخبروني، فإن الاستفهام يتضمن معنى الفعل.
ووقوع الاستفهام بالاسم الدال على طلب تعيين فاعل الإنزال يقوي معنى الفعل في الاستفهام إذ تضمن اسم الاستفهام فعلا وفاعلا مستفهما عنهما، أي أخبروني عن ذلك وقد علمكم الله بالقرآن الذي أنكرتم كونه من عند الله، احتججتم على إنكار ذلك بنفي أن ينزل الله على بشر شيئا، ولو أنصفتم لوجدتم وأمارة نزوله من عند الله ثابتة فيه غير محتاج معها للاستدلال عليه.وهذا الخطاب أشد انطباقا على المشركين لأنهم لم يكونوا عالمين بأخبار الأنبياء وأحوال التشريع ونظامه فلما جاءهم محمد عليه الصلاة والسلام علم ذلك من آمن علما راسخا، وعلم ذلك من بقي على كفره بما يحصل لهم من سماع القرآن عند الدعوة ومن مخاليطهم من المسلمين، وقد وصفهم الله بمثلها في آيات أخرى، كقوله تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} [هود: 49].
ويجوز أن تكون جملة {وعلمتم} عطفا على جملة {أَنْزَلَ الْكِتَابَ} على اعتبار المعنى كأنه قيل: وعلمكم ما لم تعلموا.ووجه بناء فعل {علمتم} للمجهول ظهور الفاعل، ولأنه سيقول: {قُلِ اللَّهُ} .
فإا تأولنا الآية بما روي من قصة مالك بن الصيف المتقدمة فالاستفهام بقوله: {مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ} تقريري، إما لإبطال ظاهر كلامهم من جحد تنزيل كتاب على بشر، على طريقة إفحام المناظر بإبداء ما في كلامه من لوازم الفساد، مثل فساد اطراد التعريف أو انعكاسه؛ وإما لإبطال مقصودهم من إنكار رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بطريقة الإلزام لأنهم أظهروا أن رسالة محمد عليه الصلاة والسلام كالشيء المحال فقيل لهم على سبيل التقرير {مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} ولا يسعهم إلا أن يقولوا: الله، فإذا اعترفوا بذلك فالذي أنزل على موسى كتابا لم لا ينزل على محمد مثله، كما قال تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 54]الآية.

ثم على هذا القول تكون قراءة {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ} بالفوقيةجارية على الظاهر، وقراءته بالتحية من قبيل الالتفات.ونكتته أنهم لما أخبر عنهم بهذا الفعل الشنيع جعلوا كالغائبين عن مقام الخطاب.
والمخاطب بقوله: {وعلمتم} على هذا الوجه هم اليهود، فتكون الجملة حالا من ضمير {تجعلونه} ، أي تجعلونه قراطيس تخفون بعضها في حال أن الله علمكم على لسان محمد ما لم تكونوا تعلمون، ويكون ذلك من تمام الكلام المعترض به.
ويجيء على قراءة {يَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ} بالتحتية ـ أن يكون الرجوع إلى الخطاب بعد الغيبة التفاتا أيضا.وحسنه أنه لما أخبر عنهم بشيء حسن عاد إلى مقام الخطاب، أو لأن مقام الخطاب أنسب بالامتنان.
واعلم أن نظم الآية صالح للرد على كلا الفريقين مراعاة لمقتضى الروايتين.فعلى الرواية الأولى فواو الجماعة في"قدروا ـ وقالوا"عائدة إلى ما عاد إليه إشارة هؤلاء، وعلى الرواية الثانية فالواو واو الجماعة مستعملة في واحد معين على طريقة التعريض بشخص من باب: "ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله"، وذلك من قبيل عود الضمير على غير مذكور اعتمادا على أنه مستحضر في ذهن السامع.
وقوله: {قُلِ اللَّهُ} جواب الاستفهام التقريري.وقد تولى السائل الجواب لنفسه بنفسه لأن المسؤول لا يسعه إلا أن يجيب بذلك لأنه لا يقدر أن يكابر، على ما قررته في تفسير قوله تعالى: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ} في هذه السورة[12].
والمعنى قل الله أنزل الكتاب على موسى.وإذا كان {وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا} معطوفا على جملة {أنزل} كان الجواب شاملا له، أي الله علمكم ما لم تعلموا فيكون جوابا عن الفعل المسند إلى المجهول بفعل مسند إلى المعلوم على حد قول ضرار بن نهشل أو الحارث النهشلي يرثي أخاه يزيد:
ليبك يزيد ضارع لخصومة ... ومختبط مما تطيح الطوائح
كأنه سئل من يبكيه فقال: ضارع.
وعطف {ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} بثم للدلالة على الترتيب الرتبي، أي أنهم لا تنجع فيهم الحجج والأدلة فتركهم وخوضهم بعد التبليغ هو الاولى ولكن الاحتجاج عليهم لتبكيتهم وقطع معاذيرهم.

وقوله: {فِي خَوْضِهِمْ} متعلق بـ {ذرهم} .وجملة {يلعبون} حال من ضمير الجمع.
وتقدم القول في {ذر} في قوله تعالى: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ} [الأنعام: 70].
والخوض تقدم في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} [الأنعام: 68].واللعب تقدم في {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً} في هذه السورة[70].
[92] {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ}
{وَهَذَا كِتَابٌ} عطف على جملة {قُلِ اللَّهُ} [الأنعام: 91],أي وقل لهم الله أنزل الكتاب على موسي وهذا كتاب أنزلناه.والإشارة إلى القرآن لأن المحاولة في شأنه من ادعائهم نفي نزوله من عند الله، ومن تبكيتهم بإنزال التوراة، يجعل القرآن كالحاضر المشاهد، فأتي باسم الإشارة لزيادة تمييزه تقوية لحضوره في الأذهان.
وافتتاح الكلام باسم الإشارة المفيد تمييز الكتاب أكمل تمييز وبناء فعل {أنزلنا} على خبر اسم الإشارة، وهو {كتاب} الذي هو عينه في المعنى، لإفادة التقوية، كأنه قيل: وهذا أنزلناه.
وجعل {كتاب} الذي حقه أن يكون مفعول {أنزلنا} مسندا إليه، ونصب فعل {أنزلنا} لضميره، لإفادة تحقيق إنزاله بالتعبير عنه مرتين، وذلك كله للتنويه بشأن هذا الكتاب.
وجملة {أنزلناه} يجوز أن تكون حالا من اسم الإشارة، أو معترضة بينه وبين خبره.و {مبارك} خبر ثان.والمبارك اسم مفعول من باركه، وبارك عليه، وبارك فيه، وبارك له، إذا جعل له البركة.والبركة كثرة الخير ونماؤه يقال: باركه.قال تعالى: {أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} [النمل: 8]،ويقال: بارك فيه، قال تعالى: {وَبَارَكَ فِيهَا} [فصلت: 10]
ولعل قولهم: "بارك فيه"إنما يتعلق به ما كانت البركة حاصلة للغير في زمنه أو مكانه، وأما"باركه"فيتعلق به ما كانت البركة صفة له، و"بارك عليه"جعل البركة متمكنة منه،"وبارك له"جعل أشياء مباركة لأجله، أي بارك فيما له.

والقرآن مبارك لأنه يدل على الخير العظيم، فالبركة كائنة به، فكأن البركة جعلت في ألفاظه، ولأن الله تعالى قد أودع فيه بركة لقارئه المشتغل به بركة في الدنيا وفي الآخرة، ولأنه مشتمل على ما في العمل به كمال النفس وطهارتها بالمعارف النظرية ثم العملية.فكانت البركة ملازمة لقراءته وفهومه.قال فخر الدين: "قد جرت سنه الله تعالى بأن الباحث عنه"أي عن هذا الكتاب"المتمسك به يحصل له عز الدنيا وسعادة الآخرة.وأنا قد نقلت أنواعا من العلوم النقلية والعقلية فلم يحصل لي بسبب شيء من العلوم من أنواع السعادات في الدنيا مثل ما حصل لي بسبب خدمة هذا العلم"يعني التفسير.
و {رمصدق} خبر عن {كتاب} بدون عطف.والمصدق تقدم عند قوله تعالى: {مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} في سورة البقرة[97]، وقوله: {وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ} في سورة آل عمران[50].و {الذي} من قوله: {الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} اسم موصول مراد به معنى جمع.وإذ قد كان جمع الذي وهو الذين لا يستعمل في كلام العرب إلا إذا أريد به العاقل وشبهه، نحو {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأعراف: 194]لتنزيل الأصنام منزلة العاقل في استعمال الكلام عرفا.فلا يستعمل في جمع غير العاقل إلا الذي المفرد، نحو قوله تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر: 33]
والمراد بـ {الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} ما تقدمه من كتب الانبياء، وأخصها التوراة والإنجيل والزبور، لأنها آخر ما تداوله الناس من الكتب المنزلة على الانبياء، وهو مصدق الكتب النازلة قبل هذه الثلاثة وهي صحف إبراهيم وموسى.
ومعنى كون القرآن مصدقها من وجهين، أحدهما: أن في هذه الكتب الوعد بمجيء الرسول المقفى على نبوءة أصحاب تلك الكتب، فمجيء القرآن قد أظهر صدق ما وعدت به تلك الكتب ودل على أنها من عند الله.
وثانيهما: أن القرآن مصدق أنبيائها وصدقها وذكر نورها وهداها، وجاء بما جاءت به من أصول الدين والشريعة.ثم إن ما جاء به من الأحكام التي لم تكن ثابتة فيها لا يخالفها.وأما ما جاء به من الأحكام المخالفة للأحكام المذكورة فيها من فروع الشريعة فذلك قد يبين فيه أنه لأجل اختلاف المصالح، أو لأن الله أراد التيسير بهذه الأمة.
ومعنى {بَيْنَ يَدَيْهِ} ما سبقه.وقد تقدم بيانه عند قوله تعالى: {فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} في سورة البقرة[97]، وعند قوله: {وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ} في سورة آل عمران[50].

وأما جملة {وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى} فوجود واو العطف في أولها مانع من تعليق {لتنذر} بفعل {أنزلناه} ، ومن جعل المجرور خبرا عن {كتاب} خلافا للتفتزاني، إذ الخبر إذا كان مجرورا لا يقترن بواو العطف ولا نظير لذاك في الاستعمال، فوجود لام التعليل مع الواو مانع من جعلها خبرا آخر لـ {كتاب} ، فلا محيص عند توجيه انتظامها مع ما قبلها من تقدير محذوف أو تأويل بعض ألفاظها، والوجه عندي أنه معطوف على مقدر ينبئ عنه السياق.والتقدير: ليؤمن أهل الكتاب بتصديقه ولتنذر المشركين.ومثل هذا التقدير يطرد في نظائر هذه الآية بحسب ما يناسب أن يقدر.وهذا من أفانين الاستعمال الفصيح.ونظيره قوله تعالى: {هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} في سورة إبراهيم[52].
ووقع في الكشاف: "أن {ولتنذر} معطوف على ما دلت عليه صفة الكتاب، كأنه قيل: أنزلناه للبركات وتصديق ما تقدمه والإنذار"أهـ.وهذا وإن استتب في هذه الآية فهو لا يحسن في آية سورة إبراهيم، لأن لفظ"بلاغ"اسم ليس فيه ما يشعر بالتعليل، و"للناس"متعلق به واللام فيه للتبليغ لا للتعليل، فتعين تقدير شيء بعده نحو لينتبهوا أو لئلا يؤخذوا على غفلة ولينذروا به.
والإنذار: الإخبار بما فيه توقع ضر، وضده البشارة.وقد تقدم عند قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً} في سورة البقرة[119].واقتصر عليه لأن المقصود تخويف المشركين إذ قالوا: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91].
وأم القرى: مكة، وأم الشيء استعارة شائعة في الأمر الذي يرجع إليه ويلتف حوله، وحقيقة الأم الأنثى التي تلد الطفل فيرجع الولد إليها ويلازمها، وشاعت استعارة الأم للأصل والمرجع حتى صارت حقيقة، ومنه سميت الراية أما، وسمي أعلى الرأس أم الرأس، والفاتحة أم القرآن.وقد تقدم ذلك في تسمية الفاتحة.وإنما سميت مكة أم القرى لأنها أقدم القرى وأشهرها وما تقرت القرى في بلاد العرب إلا بعدها، فسماها العرب أم القرى، وكان عرب الحجاز قبلها سكان خيام.
وإنذار أم القرى بإنذار أهلها، وهذا من مجاز الحذف كقوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82]، وقد دل عليه قوله: {وَمَنْ حَوْلَهَا} ، أي القبائل القاطنة حول مكة مثل خزاعة، وسعد بن بكر، وهوازن، وثقيف، وكنانة.
ووجه الاقتصار على أهل مكة ومن حولها في هذه الآية أنهم الذين جرى الكلام

والجدال معهم من قوله: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ} [الأنعام: 66]، إذ السورة مكية وليس في التعليل ما يقتضي حصر الإنذار بالقرآن فيهم حتى نتكلف الادعاء أن {مَنْ حَوْلَهَا} ، مراد به جميع أهل الأرض.
وقرأ الجمهور {وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى} بالخطاب، وقرأه أبو بكر وحده عن عاصم {وَلِيُنْذِرَ} بياء الغائب ـ على أن يكون الضمير عائدا إلى {كتاب} .
وقوله: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ} احتراس من شمول الإنذار المؤمنين الذين هم يومئذ بمكة وحولها المعروفون بهذه الصلة دون غيرهم من أهل مكة، ولذلك عبر عنهم بهذا الموصول لكونه كاللقب لهم، وهو مميزهم عن أهل الشرك لأن أهل الشرك أنكروا الآخرة.وليس في هذا الموصول إيذان بالتعليل، فإن اليهود والنصارى يؤمنون بالآخرة ولم يؤمنوا بالقرآن ولكنهم لم يكونوا من أهل مكة يومئذ.
وأخبر عن المؤمنين بأنهم يؤمنون بالقرآن تعريضا بأنهم غير مقصودين بالإنذار فيعلم أنهم أحقاء بضده وهو البشارة.
وزادهم ثناء بقوله: {وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} إيذانا بكمال إيمانهم وصدقه، إذ كانت الصلاة هي العمل المختص بالمسلمين، فإن الحج كان يفعله المسلمون والمشركون، وهذا كقوله: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ} [البقرة: 3,2]ولم يكن الحج مشروعا للمسلمين في مدة نزول هذه السورة.
[93] {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام: 93]
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ}
لما تقضى إبطال ما زعموه من نفي الإرسال والإنزال والوحي، الناشئ عن مقالهم الباطل، إذ قالوا: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91]، وعقب ذلك بإثبات ما لأجله جحدوا إرسال الرسل وإنزال الوحي على بشر، وهو إثبات أن هذا الكتاب منزل من

الله، عقب بعد ذلك بإبطال ما اختلقه المشركون من الشرائع الضالة في أحوالهم التي شرعها لهم عمرو بن لحي من عبادة الاصنام، وزعمهم أنهم شفعاء لهم عند الله، وما يستتبع ذلك من البحيرة، والسائبة، وما لم يذكر اسم الله عليه من الذبائح، وغير ذلك.فهم ينفون الرسالة تارة في حين أنهم يزعمون أن الله أمرهم بأشياء فكيف بلغهم ما أمرهم الله به في زعمهم، وهم قد قالوا: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91].فلزمهم أنهم قد كذبوا على الله فيما زعموا أن الله أمرهم به لأنهم عطلوا طريق وصول مراد الله إلى خلقه وهو طريق الرسالة فجاءوا بأعجب مقالة.
وذكر من استخفوا بالقرآن فقال بعضهم: أنا أوحي إلي، وقال بعضهم: أنا أقول مثل قول القرآن، فيكون المراد بقوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} تسفيه عقائد أهل الشرك والضلالة منهم على اختلافها واضطرابها.ويجوز أن يكون المراد مع ذلك تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عما رموه به من الكذب على الله حين قالوا: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91]لأن الذي يعلم أنه لا ظلم أعظم من الافتراء على الله وادعاء الوحي باطلا لا يقدم على ذلك، فيكون من ناحية قول هرقل لأبي سفيان: "وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال فذكرت أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله".
والاستفهام إنكاري فهو في معنى النفي، أي لا أحد أظلم من هؤلاء أصحاب هذه الصلات.ومساقه هنا مساق التعريض بأنهم الكاذبون إبطالا لتكذيبهم إنزال الكتاب، وهو تكذيب دل عليه مفهوم قوله: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ} [الأنعام: 92]لاقتضائه أن الذين لا يؤمنون بالآخرة وهم المشركون يكذبون به؛ ومنهم الذي قال: أوحي إلي؛ ومنهم الذي قال: سأنزل مثل ما أنزل الله؛ ومنهم من افترى على الله كذبا فيما زعموا أن الله أمرهم بخصال جاهليتهم.ومثل هذا التعريض قوله تعالى في سورة العقود[60] {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْه} الآيةعقب قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ} [المائدة: 57]الآية.
وتقدم القول في {وَمَنْ أَظْلَمُ} عند قوله تعالى {مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُه} في سورة البقرة[114].
والافتراء: الاختلاق،وتقدم في قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ

الْكَذِب} في سورة العقود[103].
{ومن} موصولة مراد به الجنس، أي كل من افترى أو قال، وليس المراد فردا معينا، فالذين افتروا على الله كذبا هم المشركون لأنهم حللوا وحرموا بهواهم وزعموا أن الله أمرهم بذلك، وأثبتوا لله شفعاء عنده كذبا.
و {أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ} عطف على صلة {من} ، أي كل من ادعى النبوءة كذبا، ولم يزل الرسل يحذرون الناس من الذين يدعون النبوءة كذبا كما قدمته.روي أن المقصود بهذا مسيلمة متنبئ أهل اليمامة، قاله ابن عباس وقتادة وعكرمة.وهذا يقتضي أن يكون مسيلمة قد ادعى النبوءة قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة لأن السورة مكية.والصواب أن مسيلمة لم يدع النبوءة إلا بعد أن وفد على النبي صلى الله عليه وسلم في قومه بني حنيفة بالمدينة سنة تسع طامعا في أن يجعل له رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر بعده فلما رجع خائبا ادعى النبوءة في قومه.
وفي "تفسير"ابن عطية أن المراد بهذه الآية مع مسيلمة الأسود العنسي المتنبي بصنعاء.وهذا لم يقله غير ابن عطية.وإنما ذكر الطبري الأسود تنظيرا مع مسيلمة فإن الأسود العنسي ما ادعى النبوءة إلا في آخر حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم.والوجه أن المقصود العموم ولا يضره انحصار ذلك في فرد أو فردين في وقت ما وانطباق الآية عليه.
وأما {مَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} ،فقال الواحدي في "أسباب النزول"،: "عن ابن عباس وعكرمة: أنها نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري وكان قد أسلم بمكة، وكان يكتب الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم، ثم ارتد وقال: "أنا أقول مثل ما أنزل الله"، استهزاء، وهذا أيضا لا ينثلج له الصدر لأن عبد الله بن أبي سرح ارتد بعد الهجرة ولحق بمكة وهذه السورة مكية.وذكر القرطبي عن عكرمة، وابن عطية عن الزهراوي والمهدوي أنها: نزلت في النضر ابن الحارث كان يقول: "أنا أعارض القرآن".وحفظوا له أقوالا، وذلك على سبيل الاستهزاء.وقد رووا أن أحدا من المشركين قال: "إنما هو قول شاعر وإني سأنزل مثله"؛ وكان هذا قد تكرر من المشركين كما أشار إليه القرآن، فالوجه أن المراد بالموصول العموم ليشمل كل من صدر منه هذا القول ومن يتابعهم عليه في المستقبل.
وقولهم {مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّه} إما أن يكونوا قالوا هذه العبارة سخرية كما قالوا: {يأّيُهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر: 6]، وإما أن يكون حكاية من الله تعالى بالمعنى، أي قال سأنزل مثل هذا الكلام، فعبر الله عنه بقوله {ماأَنْزَلَ اللَّهُ} كقوله:

{قَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ} [النساء: 157]
{ولَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ}
عطفت جملة {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْت} على جملة {مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباًْ} لأن هذه وعيد بعقاب لأولئك الظالمين المفترين على الله والقائلينُ"أوحِيَ إِلَيْنَا"والقائلين: {سأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} .
فـ {الظالمون} في قوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} يشمل أولئك ويشمل جميع الظالمين المشركين، ولذلك فالتعريف في {الظالمون} تعريف الجنس المفيد للاستغراق.
والخطاب في {ترى} للرسول صلى الله عليه وسلم، أو كل من تأتى منه الرؤية فلا يختص به مخاطب.
ثم الرؤية المفروضة يجوز أن يراد بها رؤية البصر إذا كان الحال المحكي من أحوال يوم القيامة، وأن تكون علمية إذا كانت الحالة المحكية من أحوال النزع وقبض أرواحهم عند الموت.
ومفعول {ترى} محذوف دل عليه الظرف المضاف.والتقدير: ولو ترى الظالمين إذ هم في غمرات الموت، أي وقتهم في غمرات الموت، ويجوز جعل"إذ"اسما مجردا عن الظرفية فيكون هو المفعول كما في قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً} [الاعراف: 86] فيكون التقدير، ولو ترى زمن الظالمون في غمرات الموت.ويتعين على هذا الاعتبار جعل الرؤية علمية لأن الزمن لا يرى.
والمقصود من هذا الشرط تهويل هذا الحال، ولذلك حذف جواب"لو"كما هو الشأن في مقام التهويل.ونظائره كثيرة في القرآن.والتقدير: لرأيت أمرا عظيما.
والغمرة بفتح الغين ما يغمر أي يغم من الماء فلا يترك للمغمور مخلصا.وشاعت استعارتها للشدة تشبيها بالشدة الحاصلة للغريق حين يغمره الوادي أو السيل حتى صارت الغمرة حقيقية عرفية في الشدة الشديدة.
وجمع الغمرات يجوز أن يكون لتعدد الغمرات بعدد الظالمين فتكون صيغة الجمع مستعملة في حقيقتها.ويجوز أن يكون لقصد المبالغة في تهويل ما يصيبهم بأنه أصناف من الشدائد هي لتعدد أشكالها وأحوالها لا يعبر عنها باسم مفرد.فيجوز أن يكون هذا وعيدا بعذاب يلقونه في الدنيا في وقت النزع.ولما كان للموت سكرات جعلت غمرة الموت

غمرات.
و"في"للظرفية المجازية للدلالة على شدة ملابسة الغمرات لهم حتى كأنها ظرف يحويهم ويحيط بهم.
فالموت على هذا الوجه مستعمل في معناه الحقيقي وغمراته هي آلام النزع.
وتكون جملة {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} حكاية قول الملائكة لهم عند قبض أرواحهم.فيكون إطلاق الغمرات مجازا مفردا ويكون الموت حقيقة.ومعنى بسط اليد تمثيلا للشدة في انتزاع أرواحهم ولا بسط ولا أيدي.والأنفس بمعنى الارواح، أي أخرجوا أرواحكم من أجسادكم، أي هاتوا أرواحكم، والأمر للإهانة والإرهاق إغلاظا في قبض أرواحهم ولا يتركون لهم راحة ولا يعاملونهم بلين، وفيه إشارة إلى أنهم يجزعون فلا يلفظون أرواحهم وهو على هذا الوجه وعيد بالآلام عند النزع جزاء في الدنيا على شركهم، وقد كان المشركون في شك من البعث فتوعدوا بما لا شك فيه، وهو حال قبض الأرواح بأن الله يسلط عليهم ملائكة تقبض أرواحهم بشدو وعنف وتذيقهم عذابا في ذلك.وذلك الوعيد يقع من نفوسهم موقعا عظيما لأنهم كانوا يخافون شدائد النزع وهو كقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [الأنفال: 50]الآية، وقوله: {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} على هذا صادر من الملائكة.
ويجوز أن يكون هذا وعيدا بما يلاقيه المشركون من شدائد العذاب يوم القيامة لمناسبة قوله بعد: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى} [الأنعام: 94]؛ فغمرات الموت تمثيل لحالهم يوم الحشر في منازعة الشدائد وأهوال القيامة بحال منهم في غمرات الموت وشدائد النزع فالموت تمثيل وليس بحقيقة.والمقصود من التمثيل تقريب الحالة وإلا فإن أهوالهم يومئذ أشد من غمرات الموت ولكن لا يوجد في المتعارف ما هو أقصى من هذا التمثيل دلالة على هول الألم.وهذا كما يقال: وجدت ألم الموت، وقول أبي قتادة في وقعة حنين: "فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت"، وقول الحارث بن هشام المخزومي:
وشممت ريح الموت من تلقائهم ... في مأزق والخيل لم تتبدد
وجملة {وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ} حال،أي والملائكة مادون أيديهم إلى المشركين ليقبضوا عليهم ويدفعوهم إلى الحساب على الوجه الثاني، أو ليقبضوا أرواحهم على الوجه الأول، فيكون بسط الأيدي حقيقة بأن تتشكل الملائكة لهم في أشكال في صورة الآدميين.ويجوز أن يكون بسط الأيدي كناية عن المس والإيلام، كقوله: {لئِنْ

بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي} [المائدة: 28]
وجملة {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} مقول لقول محذوف.وحذف القول في مثله شائع، والقول على هذا من جانب الله تعالى.والتقدير: نقول لهم: أخرجوا أنفسكم والأنفس بمعنى الذوات.والأمر للتعجيز، أي أخرجوا أنفسكم من هذا العذاب إن استطعتم، والإخراج مجاز في الإنقاذ والإنجاء لان هذا الحال قبل دخولهم النار.ويجوز إبقاء الإخراج على حقيقته إن كان هذا الحال واقعا في حين دخولهم النار.
والتعريف في {الْيَوْمَ} للعهد وهو يوم القيامة الذي فيه هذا القول، وإطلاق اليوم عليه مشهور، فإن حمل الغمرات على النزع عند الموت فاليوم مستعمل في الوقت، أي وقت قبض أرواحهم.
وجملة {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ} الخ استئناف وعيد، فصلت للاستقلال والاهتمام، وهي من قول الملائكة.و {تجزون} تعطون جزاء، والجزاء هو عوض العمل وما يقابل به من أجر أو عقوبة.قال تعالى {جَزَاءً وِفَاقاً} [النبأ: 26]، وفي المثل: المرء مجزي بما صنع إن خيرا فخير وإن شرا فشر.يقال: جزاه يجزيه فهو جاز.وهو يتعدى بنفسه إلى الشيء المعطى جزاء، ويتعدى بالباء إلى الشيء المكافأ عنه، كما في هذه الآية.ولذلك كانت الباء في قوله تعالى في سورة يونس[27] {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} متأولا على معنى الإضافة البيانية.أي جزاء هو سيئة، وأن مجرور الباء هو السيئة المجزى عنها، كما اختاره ابن جني.وقال الاخفش: "الباء فيه زائدة لقوله تعالى {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} "[الشورى: 30].ويقال: جازى بصيغة المفاعلة.قال الراغب: "ولم يجئ في القرآن: جازى".
والهون: الهوان، وهو الذل.وفسره الزجاج بالهوان الشديد، وتبعه صاحب الكشاف، ولم يقله غيرهما من علماء اللغة.وكلام أهل اللغة يقتضي أن الهون مرادف الهوان، وقد قرأ ابن مسعود {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهَوَانِ} وإضافة العذاب إلى الهون لإفادة ما تقتضيه الإضافة من معنى الاختصاص والملك، أي العذاب المتمكن في الهون الملازم له.
والباء في قوله: {بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ} باء العوض لتعدية فعل {تجزون} إلى المجزي عنه.ويجوز جعل الباء للسببية، أي تجزون عذاب الهون بسبب قولكم، ويعلم أن الجزاء على ذلك، و"ما"مصدرية.ثم إن كان هذا القول صادرا من جانب الله تعالى فذكر اسم

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68