كتاب : التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور
المؤلف : محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي

أني يكون {حِلٌّ} اسم مصدر أحل، أي أباح ، فالمعنى وقد جعلك أهل مكة حلالا بهذا البلد الذي يحرم أذى صيده وعضد شجره، وهم مع ذلك يحلون قتلك وإخراجك قال هذا شرحبيل بن سعد1 فيكون المقصود من هذا الاعتراض التعجب من مضمون الجملة وعليه فالإخبار عن ذات الرسول صلى الله عليه وسلم بوصف {حِلٌّ} يقدر فيه مضاف يعينه ما يصلح للمقام، أي وأنت حلال منك ما حرم من حق ساكن هذا البلد من الحرمة والأمن. والمعنى التعريض بالمشركين في عدواهم وظلمهم الرسول صلى الله عليه وسلم في بلد لا يظلمون فيه أحدا. وبالمناسبة ابتداء القسم بمكة هو أشعار بحرمتها المقتضية حرمة من يحل بها، أي فهم يحرمون أن يتعرضوا بأذى للدواب ويعتدون على رسول جاءهم برسالة من الله.
ويجوز أن يكون {حِلٌّ} اسما مشتقا من الحل وهو ضد المنع، أي الذي لا تبعة عليه فيما يفعله. قال مجاهد والسدي، أي ما صنعت فيه من شيء فأنت في حل أو أنت في حل ممن قاتلك أن تقاتله. وقريبا منه عن ابن عباس، أي مهما تمكنت من ذلك. فيصدق باحال والاستقبال. وقال في "الكشاف" يعني وأنت حل به في المستقبل ونظيره في الاستقبال قوله عز وجل: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30]، تقول لمن تعده بالإكرام والحباء أنت مكرم محبوا اه.
فهذا الاعتراض تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم قدمت له قبل ذكر إعراض المشركين عن الإسلام، ووعد بأنه سيمكنه منهم.
وعلى كلا الوجهين في محمل صفة حل هو خصوصيته للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد خصصه النبي صلى الله عليه وسلم بيوم الفتح فقال "وإنما أحلت لي ساعة من نهار" الحديث، وفي الموطأ قال مالك: ولم يكن رسول اله صلى الله عليه وسلم يومئذ أي يوم الفتح محرما.
ويثار من هذه الآية على اختلاف المحامل النظر في جواز دخول مكة بغير إحرام لغير مريد الحج أو العمرة. قال الباجي في "المنتقى" وابن العربي في "الأحكام": الداخل مكة غير مريد النسك لحاجة تتكرر كالحطابين وأصحاب الفواكه والمعاشي هؤلاء يجوز دخولهم غير محرمين لأنهم لو كلفوا الإحرام لحقتهم مشقة. وان كان دخولها لحاجة لا تتكرر فالمشهور عن مالك: إنه لابد من الإحرام وروي عنه تركه والصحيح وجوبه، فان تركه قال الباجي: فالظاهر من المذهب أنه لا شيء عليه وقد أساء ولم يفصل أهل
ـــــــ
1 أبو معاوية تابعي توفي سنة 123 ه.

المذهب بين من كان من أهل داخل الميقات أو من خارجه.
والخلاف في ذلك أيضا بين فقهاء الأمصار فذهب أبو حنيفة أن من كان من أهل داخل المواقيت يجوز له دخول مكة بغير مكة من دون إحرام إن لم يرد نسكا من حج أو عمرة وأما من كان من أهل خارج المواقيت فالواجب عليه الإحرام لدخول مكة دون تفصيل بين الاحتياج إلى تكرر الدخول أو عدم الاحتياج. وذهب الشافعي إلى سقوط الإحرام عن غير قاصد النسك ومذهب أحمد موافق مذهب مالك.
وحكى ابن عطية عن بعض المتأولين: أن معنى {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} أنه حال، أي ساكن بهذا البلد اهـ. وجعله ابن العربي قولا ولم يعزه إلى قائل، وحكاه القرطبي والبيضاوي كذلك وهو يقتضي أن تكون جملة {وَأَنْتَ حِلٌّ} في موضع الحال من ضمير {أقسم} فيكون القسم بالبلد مقيدا باعتبار بلد محمد صلى الله عليه وسلم، وهو تأويل جميل لو ساعد عليه ثبوت استعمال {حل} بمعنى: حال، أي مقيم في مكان فإن هذا لم يرد في كتب اللغة: "الصحاح" و"اللسان" و"القاموس" و"مفردات الراغب". ولم يعرج عليه صاحب "الكشاف"، ولا أحسب إعراضه عنه إلا لعدم ثقته بصحة استعماله وقال الخفاجي: والحل: صفة أو مصدر بمعنى الحال هنا على هذا الوجه ولا عبرة لمن أنكره لعدم ثبوته في كتب اللغة اه وكيف يقال: لا عبرة بعدم ثبوته في كتب اللغة، وهل المرجع في إثبات اللغة إلا كتب أيمتها.
وتكرير لفظ {بِهَذَا الْبَلَدِ} إظهار في مقام الإضمار لقصد تجديد التعجيب. ولقصد تأكيد فتح ذلك البلد العزيز عليه والشديد على المشركين أن يخرج عن حوزتهم.
و {والد} وقع منكر فهو تنكير تعظيم إذ لا يحتمل غير ذلك في سياق القسم. فتعين أن يكون المراد والدا عظيما، والراجح عمل والد على المعنى الحقيقي بقرينة قوله: {وَمَا وَلَدَ} .
والذي يناسب القسم بهذا البلد أن يكون المراد ب {والد} إبراهيم عليه السلام فإنه الذي اتخذ ذلك البلد لإقامة ولده إسماعيل وزوجه هاجر قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم:35] ثم قال {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم:37]. وإبراهيم والد سكان ذلك البلد الأصليين قال تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج:78]، ولأنه والد محمد صلى الله عليه وسلم.

و {مَا وَلَدَ} موصول وصلة والضمير المستتر في {ولد} عائد إلى {والد} . والمقصود: وما ولده إبراهيم نم الأبناء والذرية. وذلك مخصوص بالذين اقتفوا هديه فيشمل محمد صلى الله عليه وسلم.
وفي هذا تعريض للتنبيه بالمشركين من ذرية إبراهيم بأنهم حادوا عن طريقة أبيهم من التوحيد والصلاح والدعوة إلى الحق وعمارة المسجد الحرام قال تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [آل عمران:68].
وجيء باسم الموصول {ما} في قوله: {وَمَا وَلَدَ} دون "من" مع أن "من" أكثر استعمالا في إرادة العاقل وهو مراد هنا، فعدل عن "من" لأن {ما} أشد إبهاما، فأريد تفخيم أصحاب هذه الصلة فجيء لهم بالموصول الشديد الإبهام لإرادة التفخيم، ونظيره قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} [آل عمران:36] يعني مولودا عجيب الشأن. ويوضح هذا أن {ما} تستعمل نكرة تامة باتفاق، و"من" لا تستعمل نكرة تامة إلا عند الفارسي.
ولأن قوة الإبهام في {ما} أنسب بإرادة الجماعة دون واحد معين، ألا ترى إلى قول الحكم الأصم الفزاري:
اللؤم أكرم من وبر ووالده ... واللؤم أكرم من وبر وما ولدا
يريد ومن أولاده لا ولدا معينا.
وجملة {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} جواب القسم وهو الغرض من السورة.
والإنسان يجوز أن يراد به الجنس وهو الأظهر وقول جمهور المفسرين، فالتعريف فيه تعريف الجنس، ويكون المراد به خصوص أهل الشرك لأن قوله: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} [البلد:5] إلى آخر الآيات لا يليق إلا بأحوال غير المؤمنين، فالعموم عموم عرفي، أي الإنسان في عرف الناس يومئذ، ولم يكن المسلمون إلا نفرا قليلا ولذلك كثر في القرآن إطلاق الإنسان مرادا به الكافرون من الناس.
ويجوز أن يراد به إنسان معين، فالتعريف تعريف العهد، فعن الكلبي أنه أبو الأشد ويقال: أبو الأشدين واسمه أسيد بن كلدة الجمحي كان معروفا بالقوة والشدة يجعل الأديم العكاظي تحت قدميه فيقول من أزالني فله كذا. فيجذبه عشرة رجال حتى يمزق الأديم ولا تزول قدماه، وكان شديد الكفر والعداوة للنبي صلى الله عليه وسلم فنزل فيه {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} [البلد:5] وقيل هو الوليد بن المغيرة، وقيل هو أبو جهل. وعن مقاتل:

نزلت في الحارث بن عامر بن نوفل، زعم أنه أنفق مالا على إفساد أمر النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: هو عمرو بن عبد ود الذي اقتحم الخندق في يوم الأحزاب ليدخل المدينة فقتله علي بن أبي طالب خلف الخندق.
وليس لهذه الأقوال شاهد من النقل الصحيح ولا يلائمها القسم ولا السياق.
والخلق: إيجاد ما لم يكن موجودا، ويطلق على إيجاد حالة لها أثر قوي في الذات كقوله تعالى: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} [الزمر:6] وقوله: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} [المائدة:110]. فهو جعل يغير ذات الشيء.
والكبد بفتحتين: التعب والشدة، وقد تعددت أقال المفسرين في تقرير المراد بالكبد، ولم يعرج واحد منهم على ربط المناسبة بين ما يفسر به الكبد وبين السياق المسوق له الكلام وافتتاحه بالقسم المشعر بالتأكيد وتوقع الإنكار، حتى كأنهم بصدد تفسير كلمة مفردة ليست واقعة في كلام يجب التئامه، ويحق وءامه.
وقد غضوا النظر عن موقع فعل {خَلَقْنَا} على تفسيرهم الكبد إذ يكون فعل {خَلَقْنَا} كمعذرة للإنسان الكافر في ملازمة الكبد له إذ هو مخلوق فيه. وذلك يحط من شدة التوبيخ والذم، فالذي يلتئم مع السياق ويناسب القسم أن الكبد التعب الذي يلازم أصحاب الشرك من اعتقادهم تعدد الآلهة. واضطراب رأيهم في الجميع بين ادعاء الشركاء لله تعالى وبين توجههم إلى الله بطلب الرزق وبطلب النجاة إذا أصابهم ضر. ومن إحالتهم البعث بعد الموت مع اعترافهم بالخلق الأول فقوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} دليل مقصودا وحده بل هو توطئة لقوله: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} [البلد:5]. والمقصود إثبات إعادة خلق الإنسان بعد الموت للبعث والجزاء الذي أنكروه وابتدأهم القرآن بإثباته في سور كثيرة من السور الأولى.
فوزان هذا التمهيد وزان التمهيد بقوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} . [التين:4-5] بعد القسم بقوله: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} [التين:1] الخ.
فمعنى {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ} [البلد:5]: أيحسب أن لن نقدر عليه بعد اضمحلال جسده فنعيده خلقا آخر، فهو في طريقة القسم والمقسم عليه بقوله تعالى: {لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [القيامة:1] إلى قوله: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ، بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} [القيامة:1-4]. أي كما خلقناه أول مرة في نصب من أطوار الحياة كذلك

نخلقه خلقا ثانيا في كبد من العذاب في الآخرة لكفره.
وبذلك يظهر موقع إدماج قوله: {فِي كَبَدٍ} لأن المقصود التنظير بين الخلقين الأول والثاني في أنهما من مقدور الله تعالى.
والظرفية من قوله: {فِي كَبَدٍ} مستعملة مجازا في الملازمة فكأنه مظروف في الكبد، ونظيره قوله: {بَلْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلاَلِ الْبَعِيدِ، أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [سبأ: 8-9] الآية، فالمراد: عذاب الدنيا، وهو مشقة اضطراب البال في التكذيب واختلاق المعاذير والحيرة من الأمر على أحد التفسيرين لتلك الآية.
فمعنى أن الكبد ملازم للمشرك من حين اتصافه بالإشراك وهو حين تقوم العقل وكمال الإدراك.
ومن الجائز أن يجعل قوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} من قبيل القلب المقبول لتضمنه اعتبارا لطيفا وهو شدة تلبس الكبد بالإنسان المشرك حتى كأنه خلق في الكبد.
والمعنى: لقد خلقنا الكبد في الإنسان الكافر.
وللمفسرين تأويلات أخرى في معنى الآية لا يساعد عليها السياق.
[5] {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} .
هذه الجملة بدل اشتمال من جملة {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4].
والاستفهام مستعمل في التوبيخ والتخطئة.
وضمير {أَيَحْسَبُ} راجع إلى الإنسان لا محالة، ومن آثار الحيرة في معنى {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4]. أن بعض المفسرين جعل ضمير {أَيَحْسَبُ} راجعا إلى بعض مما يعمه لفظ الإنسان مثل أبي الأشد الجمحي، وهو ضعث على إبالة.
[6-7] {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُبَداً، أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ} .
أعقبت مساوي نفسه بمذام أقواله، وهو التفخر الكاذب والتمدح بإتلاف المال في غير صلاح. وقد كان أهل الجاهلية يتبجحون بإتلاف المال ويعدونه منقبة لايذانه بقلة اكتراث صاحبه به قال عنترة:
وإذا سكرت فإنني مستهلك ... مالي وعرضي وافر لم يكلم

وإذا صحوت فما أقصر عن ندى ... وكما علمت شمائلي وتكرمي
وجملة {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً} في موضع الحال من {الإِنسَانَ} [البلد:4]. وذلك من الكبد.
وجملة {أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ} بدل اشتمال من جملة {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً} لأن قوله: {أَهْلَكْتُ مَالاً لُبَداً} يصدر منه وهو يحسب أنه راج كذبه على جميع الناس وهو لا يخلوا من ناس يطلعون على كذبه قال زهير:
ومهما تكن عند امرئ من خليقة ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم
والاستفهام إنكار وتوبيخ وهو كناية عن علم الله تعالى بدخيلته وأن افتخاره بالكرم باطل.
و {لُبَداً} بضم اللام وفتح الموحدة في قراءة الجمهور وهو جمع لبدة بضم اللام وهي ما تلبد من صوف أو شعر، أي تجمع والتصق بعضه ببعض وقرأه أبو جعفر {لُبَداً} بضم اللام وتشديد الباء على أنه جمع لابد بمعنى مجتمع بعضه إلى بعض مثل: صيم وقيم، أو على أنه اسم على زنة فعل مثل زمل للجبان وجبإ للضعيف.
[8-10] {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ، وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ، وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} .
تعليل للإنكار والتوبيخ في قوله: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} [البلد:5] أو قوله: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ} [البلد:7] أي هو غافل عن قدرة الله تعالى وعن علمه المحيط بجميع الكائنات الدال عليهما أنه خلق مشاعر الإدراك التي منها العيان، وخلق آلات الإبانة وهي اللسان والشفتان، فكيف يكون مفيض العلم على الناس غير قادر وغير عالم بأحوالهم قال تعالى: {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14].
والاستفهام يجوز أن يكون تقريريا وأن يكون إنكاريا.
والاقتصار على العينين لأنهما أنفع المشاعر ولأن المعلل إنكار ضنه إن لم يره أحد. وذكر الشفتين مع اللسان لأن الإبانة تحصل بهما معا فلا ينطق اللسان بدون الشفتين ولا تنطق الشفتان بدون اللسان.
ومن دقائق القرآن أنه لم يقتصر على اللسان ولا على الشفتين خلاف عادة كلام العرب أن يقتصروا عليه يقولون: ينطق بلسان فصيح، ويقولون: لم ينطق ببنت شفة، أو لم ينبس ببنت شفة، لأن المقام مقام استدلال فجيء فيه بما له مزيد تصوير لخلق آلة

النطق.
وأعقب ما به اكتساب العلم وما به الإبانة عن المعلومات، بما يرشد الفكر إلى النظر والبحث وذلك قوله: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10].
فاستكمل الكلام أصول التعلم والتعليم فإن الإنسان خلق محبا للمعرفة محبا للتعريف بمشاعر الإدراك يكتسب المشاهدات وهي أصول المعلومات اليقينية، وبالنطق يفيد ما يعلمه لغيره، وبالهدي إلى الخير والشر يميز بين معلوماته ويمحصها.
والشفتان هما الجلدتان اللتان تستران الفم وأسنانه وبهما يمتص الماء، ومن انفتاحهما وانغلاقهما تتكيف أصوات الحروف التي بها النطق وهو المقصود هنا.
وأصل شفة شفو نقص منه الواو وعوض عنه هاء فيجمع على شفوات، وقيل أصله شفه بهاء هي لام الكلمة فعوض عنها هاء التأنيث فيجمع على شفهات وشفاه. والذي يظهر أن الأصل شفه بهاء أصلية ثم عوملت الهاء معاملة هاء التأنيث تخفيفا في حالة الوصل فقالوا: شفة، وتنوسي بكثرة الاستعمال فعومل معاملة هاء التأنيث كما في الآية وهو الذي تقضيه تثنيته على شفتين دون أن يقولوا: شفويين، فإنهم اتفقوا على أن التثنية ترد الاسم إلى أصله.
والهداية: الدلالة على الطريق المبلغة إلى المكان المقصود السير إليه.
والنجد: الأرض المرتفعة ارتفاعا دون الجبل. فالمراد هنا طريقان نجدان مرتفعان والطريق قد يكون منجدا مصعدا، وقد يكون غورا منخفضا.
وقد استعيرت الهداية هنا للإلهام الذي جعله الله في الإنسان يدرك به الضار والنافع وهو أصل التمدن الإنساني وأصل العلوم والهداية بدين الإسلام إلى ما فيه الفوز.
واستعير النجدان للخير والشر، وجعلا نجدين لصعوبة اتباع أحدهما وهو الخير فغلب على الطريقين، أو لأن كل واحد صعب باعتبار فطريق الخير صعوبته في سلوكه، وطريق الشر صعوبته في عواقبه، ولذلك عبر عنه بعد هذا ب {الْعَقَبَةَ} [البلد:11].
ويتضمن ذلك تشبيه إعمال الفكر لنوال المطلوب بالسير في الطريق الموصل إلى المكان المرغوب كما قال تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان:3]، وتشبيه الإقبال على تلقي دعوة الإسلام إذ شقت على نفوسهم كذلك.

وأدمج في هذا الاستدلال امتنان على الإنسان بما وهبه من وسائل العيش المستقيم.
ويجوز أن تكون الهداية هداية العقل للتفكير في دلائل وجود الله ووحدانيته بحيث لو تأمل لعرف وحدانية الله تعالى فيكون هذا دليلا على سبب مؤاخذة أهل الشرك والتعطيل بكفرهم في أزمان الخلو عن إرسال الرسل على أحد القولين في ذلك بين الأشاعرة من جهة، وبين الماتريدية والمعتزلة من جهة أخرى.
[11-17] {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ، فَكُّ رَقَبَةٍ، أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ، أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ، ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} .
يجوز أن يكون {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} تفريع إدماج بمناسبة قوله: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] أي هديناه الطريقين فلم يسلك النجد الموصل إلى الخير.
ويجوز أن يكون تفريعا على جملة {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُبَدًا} [البلد:6] وما بينهما اعتراضا، وتكون "لا اقتحم العقبة" استفهاما حذف منه أداته. وهو استفهام إنكار، والمعنى: أنه يدعي إهلاك مال كثير في الفساد من ميسر وخمر ونحو ذلك أفلا أهلكه في القرب والفضائل بفك الرقاب وإطعام المساكين في زمن المجاعة فإن الإنفاق في ذلك لا يخفي على الناس خلافا لما يدعيه من إنفاق.
وعلى هذا الوجه لا يعرض الإشكال بعدم تكرر "لا" فان شأن "لا" النافية إذا دخلت على فعل المضي ولم تكرر أن تكون للدعاء آلا إذا تكررت معها مثلها معطوفة عليها نحو قوله: {فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى} [القيامة:31] أو كانت "لا" معطوفة على نفي نحو: ما خرجت ولا ركبت. فهو في حكم تكرير "لا". وقد جاءت هنا نافية في غير دعاء، ولم تكرر استغناء عن تكريرها بكون ما بعدها وهو {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} يتضمن شيئين جاء بيانهما في قوله: {فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ} فكأنه قال: فلا فك رقبة ولا أطعم يتيما أو مسكينا. ويجوز أن يكون عدم تكرير "لا" هنا استغناء رقبة ولا أطعم يتيما أو مسكينا. ويجوز أن يكون عدم تكرير "لا" هنا استغناء بقوله: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} فكأنه قيل: فلا اقتحم العقبة ولا أمن. ويظهر أن كل ما يصرف عن التباس الكلام كاف عن تكرير "لا" كالإستثناء في قول الحريري في المقام الثلاثين لا عقد هذا العقد المبجل في هذا اليوم الاغر المحجل إلا الذي جال وجاب الخ وأطلق {الْعَقَبَةُ} على العمل الموصل للخير لأن عقبة النجد أعلى موضع فيه. ولكل نجد عقبة ينتهي بها. وفي العقبات تظهر

مقدرة السابرة.
والاقتحام: الدخول العسير في مكان أو جماعة كثيرين يقال: اقتحم الصف، وهو افتعال للدلالة على التكلف مثل اكتسب، فشبه تكلف الأعمال الصالحة باقتحام العقبة في شدته على النفس ومشقته قال تعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا} [فصلت:35].
والاقتحام ترشيح لاستعارة العقبة لطريق الخير، وهو مع ذلك استعارة لأن تزاحم الناس إنما يكون في طلب المنافع كما قال:
والمورد العذب كثير الزحام
وأفاد نفي الاقتحام أنه عدل على الاهتداء إيثارا للعاجل على الآجل ولو عزم وصبر لاقتحم العقبة. وقد تتابعت الاستعارات الثلاث: النجدين، والعقبة، والاقتحام، وبني بعضها على بعض وذلك من احسن الاستعارة وهي مبنية على تشبيه المعقول بالمحسوس.
والكلام مسوق مساق التوبيخ على عدم اهتداء هؤلاء للأعمال الصالحة مع قيام أسباب الاهتداء من الإدراك والنطق.
وقوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ} حال من العقبة في قوله: {فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} للتنويه بها وأنها لأهميتها يسأل عنها المخاطب هل اعلمه معلم ما هي، أي لم يقحم العقبة في حال جدارتها بأن تقتحم. وهذا التنويه يفيد التسويق إلى معرفة المراد من العقبة.
و {ما} الأولى استفهام. و {ما} الثانية مثلها. والتقدير: أي شيء أعلمك ما هي العقبة، أي أعلمك جواب هذا الاستفهام، كناية عن كونه أمرا عزيزا يحتاج إلى من يعلمك به.
والخطاب في {مَا أَدْرَاكَ} لغير معين لأن هذا بمنزلة المثل.
وفعل {أَدْرَاكَ} معلق عن العمل في المفعولين لوقوع الاستفهام بعده وقد تقدم نظيره في سورة الحاقة.
وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة وأبو جعفر ويعقوب وخلف، {فَكُّ رَقَبَةٍ} برفع {فَكُّ} وإضافته إلى {رَقَبَةٍ} ورفع {إِطْعَامٌ} عطفا على {فَكُّ} .
وجملة {فَكُّ رَقَبَةٍ} بيان للعقبة والتقدير: هي فك رقبة، فحذف المسند إليه حذفا لمتابعة الاستعمال. وتبيين العقبة بأنها: {فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ} مبنى على استعارة العقبة

للإعمال الصالحة الشاقة على النفس. وقد علمت أن ذلك من تشبيه المعقول بالمحسوس، فلا وجه لتقدير من قدر مضافا فقال: أي وما أدراك ما اقتحام العقبة.
وقرأه ابن كثير وأبو عمرو والكسائي {فَكُّ} بفتح الكاف على صيغة فعل المضي، وبنصب {رَقَبَةٍ} على المفعول ل {فَكُّ} أو"أطعم" بدون ألف بعد عين {إِطْعَامٌ} على أنه فعل مضي عطفا على {فَكُّ} ، فتكون جملة {فَكُّ رَقَبَةٍ} بيانا لجملة {فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} وما بينهما اعتراضا، أو تكون بدلا من جملة {اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} أي فلا اقتحم العقبة ولا فك رقبة أو أطعم. وما بينهما اعتراض كما تقرر آنفا.
والفك: أخذ الشيء من يد من احتاز به.
والرقبة مراد بها الإنسان، من إطلاق اسم الجزء على كله مثل إطلاق رأس وعين ووجه، وإيثار لفظ هنا لأن المراد ذات الأسير أو العبد وأول ما يخطر بذهن الناظر لواحد من هؤلاء. هو رقبته لأنه في الغالب يوثق من رقبته.
وأطلق الفك على تخليص المأخوذ في أسر أو ملك، لمشابهة تخليص الأمر العسير بالنزع من يد القابض الممتنع.
وهذه الآية أصل من أصول التشريع الإسلامي وهو تشوف الشارع إلى الحرية وقد بسطنا القول في ذلك في كتاب أصول النظام الاجتماعي في الإسلام.
والمسغبة: الجوع وهي مصدر على وزن المفعلة مثل المحمدة والمرحمة من شغب كفرح سغبا إذا جاع.
والمراد به {يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} زمان لا النهار المعروف.
وإضافة {ذي} إلى {مَسْغَبَةٍ} تفيد اختصاص ذلك اليوم بالمسغبة، أي يوم مجاعة. وذلك زمن البرد وزمن القحط.
ووجه تخصيص اليوم ذي مسغبة بالإطعام فيه أن الناس في زمن المجاعة يشتد شحهم بالمال خشية امتداد زمن المجاعة والاحتياج إلى الأقوات. فالإطعام في ذلك الزمن أفضل، وهو العقبة ودون العقبة مصاعد متفاوتة.
وانتصب {يتيما} على المفعول به ل {إِطْعَامٌ} الذي هو مصدر عامل عمل فعله وإعمال المصدر غير المضاف ولا المعرف باللام أقيس وإن كان إعمال المضاف أكثر،

ومنع الكوفيون إعمال المصدر غير المضاف. وما ورد بعده مرفوع أو منصوب حملوه على إضمار فعل من لفظ المصدر، فيقدر في مثل هذه الآية عندهم "يطعم يتيما".
واليتيم: الشخص الذي ليس له أب، وهو دون البلوغ ووجه تخصيصه بالإطعام أنه مظنة قلة الشبع لصغر سنه وضعف عمله وفقد من يعوله ولحيائه من التعرض لطلب ما يحتاجه. فلذلك رغب في إطعامه وإن لم يصل حد المسكنة والفقر ووصف بكونه {ذَا مَقْرَبَةٍ} أي مقربة من المطعم لأن هذا الوصف يؤكد إطعامه لأن في كونه يتيما إغاثة له بالإطعام، وفي كونه ذا مقربة صلة للرحم.
والمقربة: قرابة النسب وهو مصدر بوزن مفعلة مثل ما تقدم في {مسغبة} .
والمسكين: الفقير، وتقدم في سورة البقرة [184] عند قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} و {ذَا مَتْرَبَةٍ} صفة لمسكين جعلت المتربة علامة على الاحتياج بحسب العرف.
والمتربة مصدر بوزن مفعلة أيضا وفعله ترب يقال: ترب، إذا نام على التراب أي لم يكن له ما يفترشه على الأرض، وهو في الأصل كناية عن العرو من الثياب التي تحول بين الجسد والأرض عند الجلوس والاضطجاع وقريب منهم قولهم في الدعاء تربت يمينك: وتربت يداك.
و {أو} للتقسيم وهو معنى من معاني "أو" جاء من إفادة التخيير.
واعلم أنه إن كان المراد بالإنسان الجنس المخصوص، أي المشركين كان نفي فك الرقاب والإطعام كناية عن انتفاء تحليهم بشرائع الإسلام لأن فك الرقاب وإطعام الجياع من القربات التي جاء بها الإسلام من إطعام الجياع والمحاويج وفيه تعريض بتعيير المشركين بأنهم إنما يحبون التفاخر والسمعة وإرضاء أنفسهم بذلك، أو لمؤانسة الإخلاء وذلك غالب أحوالهم، أي لم يطعموا يتيما ولا مسكينا في يوم مسغبة، أي هو الطعام الذي يرضاه الله لأن فيه نفع المحتاجين من عباده. وليس مثل إطعامكم في المآدب والولائم والمنادمة التي لا تعود بالنفع على المطعمين لأن تلك المطاعم كانوا يدعون لها أمثالهم من أهل الجدة دون حاجة إلى الطعام وإنما يريدون المؤانسة أو المفاخرة.
وفي حديث مسلم "شر الطعام طعام الوليمة يمنعها من يأتيها ويدعى إليها من يأباها" وروى الطبراني: "شر الطعام طعام الوليمة يدعى إليه الشبعان ويحبس عنه الجائع" .

وإن كان المراد من الإنسان واحدا معينا جاز أن يكون المعنى على نحو ما تقدم، وجاز أن يكون ذما له باللؤم والتفاخر الكاذب، وفضحا له بأنه لم يسبق منه عمل نافع لقومه قبل الإسلام فلم يغرم غرامة في فكاك أسير أو مأخوذ بدم أو من بحرية على عبد.
وأيا ما كان فليس في الآية دلالة على أن الله كلف المشركين بهذه القرب ولا أنه عاقبهم على تركهم هذه القربات، حتى تفرض فيه مسألة خطاب الكفار بفروع الشريعة وهي مسألة قليلة الجدوى وفرضها هنا أقل إجداء.
وجملة {ثُمَّ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا} عطف على جملة {فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} .
و {ثم} للتراخي الرتبي فتدل على أن مضمون الجملة المعطوفة بها أرقى رتبة في الغرض المسوق له الكلام من مضمون الكلام المعطوف عليه، فيصير تقدير الكلام: فلا اقتحم العقبة بفك رقبة أو إطعام بعد كونه مؤمنا. وفي فعل {كان} أشعار بأن إيمانه سابق على اقتحام العقبة المطلوبة فيه بطريقة التوبيخ على انتفائها عنه.
فعطف {ثُمَّ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا} على الجمل المسوقة للتوبيخ والذم يفيد أن هذا الصنف من الناس أو هذا الإنسان المعين لم يكن من المؤمنين، وأنه ملوم على ما فرط فيه لانتفاء إيمانه، وأنه لو فعل شيئا من هذه الأعمال الحسنة ولم يكن من الذين آمنوا ما نفعه عمله شيئا لأنه قد انتفى عنه الحظ الأعظم من الصالحات كما دلت عليه {ثم} من التراخي الرتبي فهو مؤذن بأنه شرط في الاعتداد بالأعمال.
وعن عائشة أنها قالت: يا رسول الله إن أبن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم الطعام ويفك العاني ويعتق الرقاب ويحمل على إبله لله أي يريد التقرب فهل ينفعه ذلك شيئا قال "لا إنه لم يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين" . ويفهم من الآية بمفهوم صفة الذين آمنوا أنه لو عمل هذه القرب في الجاهلية وآمن بالله حين جاء الإسلام لكان عمله ذلك محمودا.
ومن يجعل {ثم} مفيدة للتراخي في الزمان يجعل المعنى: لا اقتحم العقبة واتبعها بالإيمان. أي اقتحم العقبة في الجاهلية وأسلم لما جاء الإسلام.
وقد جاء ذلك صريحا في حديث حكيم بن حزام في الصحيح قال قلت: يا رسول الله أرأيت أشياء كنت اتحنث بها في الجاهلية من صدقة أو عتاقة وصلة رحم فهل فيها من أجر فقال لي النبي: "أسلمت على ما سلف من خير" والتحنث: التعبد يعني

أن دخوله في الإسلام أفاد إعطاء ثواب على أعماله كأنه عملها في الإسلام.
وقال {مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا} دون أن يقول: ثم كان مؤمنا، لأن كونه من الذين آمنوا أدل على ثبوت الإيمان من الوصف بمؤمن لأن صفة الجماعة أقوى من أجل كثرة الموصوفين بها فإن كثرة الخير خير، كما تقدم في قوله تعالى: {قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} في سورة البقرة [67]، ثم في هذه الآية تقوية أخرى للوصف، وهو جعله بالموصول المشعر بأنهم عرفوا بالإيمان بين الفرق.
وحذف متعلق {آمَنُوا} للعلم به أي آمنوا بالله وحده وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم ودين الإسلام. فجعل الفعل كالمستغني عن المتعلق.
وأيضا ليتأتى من ذكر الذين آمنوا تخلص إلى الثناء عليهم بقوله: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} ولبشارتهم بأنهم أصحاب الميمنة.
وخص بالذكر من أوصاف المؤمنين تواصيهم بالصبر وتواصيهم بالمرحمة لأن ذلك أشرف صفاتهم بعد الإيمان، فإن الصبر ملاك الأعمال الصالحة كلها لأنها لا تخلو من كبح الشهوة النفسانية وذلك من الصبر.
والمرحمة ملاك صلاح الجامعة الإسلامية قال تعالى: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29].
والتواصي بالرحمة فضيلة عظيمة، وهو أيضا كناية عن اتصافهم بالمرحمة لأن من يوصي بالمرحمة هو الذي عرف قدرها وفضلها، فهو يفعلها قبل أن يوصي بها كما تقدم في قوله تعالى: {وَلاَ تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الفجر:18].
وفيه تعريض بأن أهل الشرك ليسوا من أهل الصبر ولا من أهل المرحمة، وقد صرح في ذلك في قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} إلى قوله: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا} [فصلت: 33-35] وقوله: {بَل لاَ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ، وَلاَ تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الفجر: 17-18].
[18-20] {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ، عَلَيْهِمْ نَارٌ مُوصَدَةٌ} .
لما نوه بالذين آمنوا أعقب التنويه بالثناء عليهم وبشارتهم مفتتحا باسم الإشارة لتميزهم أكمل تمييز لإحضارهم بصفاتهم في ذهن السامع، مع ما في اسم الإشارة من

إرادة التنويه والتعظيم.
و {الميمنة} جهة اليمين، فهي مفعلة للمكان مأخوذة من فعل يمنه "فعلا ماضيا" إذا كان على يمينه، أي على جهة يده اليمنى، أو مأخوذة من يمنه الله يمنا، إذا باركه، وإحدى المادتين مأخوذة من الأخرى، قيل سميت اليد اليمنى يمينا ويمني لأنها أعود نفعا على صاحبها في يسر أعماله، ولذلك سمي بلاد اليمن يمنا لأنها عن جهة يمين الواقف مستقبلا الكعبة من بابها لأن باب الكعبة شرقي، فالجهة التي على يمين الداخل إلى الكعبة هي الجنوب وهي جهة بلاد اليمن وكانت بلاد اليمن. مشهورة بالخيرات فهي ميمونة وكان جغرافيو اليونان يصفونها بالعربية السعيدة، وتفرع على ذلك اعتبارهم ما جاء عن اليمين من الوحش والطير مبشرا بالخير في عقيدة أهل الزجر والعيافة فالأيامن الميمونة قال المرقش يفند ذلك:
فإذا الأشائم كالأيا ... من والأيامن كالأشائم
ونشأ على اعتبار عكس ذلك تسمية بلاد الشام شأما بالهمز مشتقة من الشؤم لأن بلاد الشام من جهة شمال الداخل إلى الكعبة وقد أبطل الإسلام ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم "اللهم بارك لنا في شأمنا وفي يمننا" وما تسميتهم ضد اليد اليمنى يسارا إلا لإبطال ما يتوهم من الشؤم فيها.
ولما كانت جهة اليمين جهة مكرمة تعارفوا الجلوس على اليمين في المجامع كرامة للجالس، وجعلوا ضدهم بعكس ذلك. وقد أبطله الإسلام فكان الناس يجلسون حين انتهى بهم المجلس.
وسمي أهل الجنة {أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} و {أَصْحَابُ الْيَمِينِ} [الواقعة:27] وسمي أهل النار {أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} و {أَصْحَابُ الشِّمَالِ} في سورة الواقعة [41]، فقوله: {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} أي أصحاب الكرامة عند الله.
وقوله: {هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} أي هم محقرون. وذلك كناية مبنية على عرف العرب يومئذ في مجالسهم. ولا ميمنة ولا مشأمة على الحقيقة لأن حقيقة الميمنة والمشأمة تقتضيان حيزا لمن تنسب إليه الجهة.
وجملة {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} تتميم لما سيق من ذم الإنسان المذكور آنفا إذ لم يعقب ذمه هنالك بوعيده بعناية بالأهم وهو ذكر حالة أضداده ووعدهم،

فلما قضي حق ذلك ثني العنان إلى ذلك الإنسان فحصل من هذا النظم البديع محسن رد العجز على الصدر. ومحسن الطباق بين الميمنة والمشأمة.
وقد عرفت آنفا أن المشأمة منزلة الإهانة والغضب، ولذلك أتبع بقوله: {عَلَيْهِمْ نَارٌ مُوصَدَةٌ} .
وضمير الفصل في قوله: {هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} لتقوية الحكم وليس للقصر، إذ قد استفيد القصر من ذكر الجملة المضادة للتي قبلها وهي {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} .
و {مُوصَدَةٌ} اسم مفعول من أوصد الباب بالواو. ويقال:أأصد بالهمز وهما لغتان، قيل الهمز لغة قريش وقيل معناه جعله وصيدة. والوصيدة: بيت يتخذ من الحجارة في الجبال لحفظ الإبل. فقرأ الجمهور {مُوصَدَةٌ} بواو ساكنة بعد الميم من أوصد بالواو، وقرأه أبو عمرو وحمزة وحفص عن عاصم ويعقوب وخلف بهمزة ساكنة بعد الميم من ءاصد الباب، بهمزتين بمعنى وصده.
وجملة {عَلَيْهِمْ نَارٌ مُوصَدَةٌ} بدل اشتمال من جملة {هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} أو استئناف بياني ناشئ عن الإخبار عنهم بأنهم أصحاب المشأمة.
و {عليهم} متعلق ب {مُوصَدَةٌ} ،وقدم على عامله للإهتمام بتعلق الغلق عليهم تعجيلا للترهيب.
وقد استتب بهذا التقديم رعاية الفواصل بالهاء ابتداء من قوله: {فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} [البلد:11].
وإسناد الموصدية إلى النار مجاز عقلي، والموصد هو موضوع النار، أي جهنم.

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الشمسسميت هذه السورة في المصاحف وفي معظم كتب التفسير "سورة الشمس" بدون واو وكذلك عنونها الترمذي في جامعه بدون واو في نسخ صحيحة من "جامع الترمذي" ومن "عارضة الأحوذي" لابن العربي.
وعنونها البخاري سورة "والشمس وضحاها" بحكاية لفظ الآية، وكذلك سميت في بعض التفاسير وهو أولى أسمائها لئلا تلتبس على القارئ بسورة إذا الشمس كورت المسماة سورة التكوير.
ولم يذكرها في "الإتقان" مع السور التي لها أكثر من اسم.
وهي مكية بالاتفاق.
وعدت السادسة والعشرين في عدد نزول السور نزلت بعد سورة القدر، وقبل سورة البروج.
وآياتها خمس عشرة آية في عدد جمهور الأمصار، وعدها أهل مكة ست عشرة آية.
أغراضها
تهديد المشركين بأنهم يوشك أن يصيبهم عذاب بإشراكهم وتكذيبهم برسالة محمد صلى الله عليه وسلم كما أصاب ثمودا بإشراكهم وعتوهم على رسول الله إليهم الذي دعاهم إلى التوحيد.
وقدم لذلك تأكيد الخبر بالقسم بأشياء معظمة وذكر من أحوالها ما هو على بديع صنع الله تعالى الذي لا يشاركه فيه غيره فهو دليل على أنه المنفرد بالإلهية والذي لا يستحق غيره الإلهية وخاصة أحوال النفوس ومراتبها في مسالك الهدى والضلال والسعادة

والشقاء.
[1-8] {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا، وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا، وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا، وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا، وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} .
القسم لتأكيد الخبر، والمقصود بالتأكيد هو ما في سوق الخبر من التعريض بالتهديد والوعيد بالاستئصال.
والواوات الواقعة بعد الفواصل واوات قسم.
وكل من الشمس، والقمر والسماء والأرض، ونفس الإنسان، من أعظم مخلوقات الله ذاتا ومعنى الدالة على بديع حكمته وقوي قدرته.
وكذلك كل من الضحى، وتلو القمر الشمس والنهار، والليل من أدق النظام التي جعلها الله تعالى.
والضحى: وقت ارتفاع الشمس عن أفق مشرقها وظهور شعاعها وهو الوقت الذي ترتفع فيه الشمس متجاوزة مشرقها بمقدار ما يخيل للناظر أنه طول رمح.
ومهد لذلك بالتنبيه على أن تزكية النفس سبب الفلاح. وأن التقصير في إصلاحها سبب الفجور والخسران.
والتلو: التبع وأريد به خلف ضوئه في الليل ضوء الشمس أي إذا ظهر بعد مغيبها فكأنه يتبعها في مكانها، وهذا تلو مجازي. والقمر يتبع الشمس في أحوال كثيرة منها استهلاله، فالهلال يظهر للناظرين عقب غروب الشمس ثم يبقى كذلك ثلاث ليالي، وهو أيضا يتلو الشمس حين يقارب الابتدار وحين يصير بدرا فإذا صار بدرا صار تلوه الشمس حقيقة لأنه يظهر عندما تغرب الشمس، وقريبا من غروبها قبله أو بعده، وهو أيضا يضيء في أكثر ليالي الشهر جعله الله عوضا عن الشمس في عدة ليال في الإنارة، ولذلك قيد القسم بحين تلوه لأن تلوه للشمس حينئذ تظهر منه مظاهر التلو للناظرين، فهذا الزمان مثل زمان الضحى في القسم به، فكان بمنزلة قسم بوقت تلوه الشمس، فحصل القسم بذات القمر وبتلوه الشمس.
وفي الآية إشارة إلى أن نور القمر مستفاد من نور الشمس، أي من توجه أشعة

الشمس إلى ما يقابل الأرض من القمر، وليس نيرا بذاته، وهذا إعجاز علمي من إعجاز القرآن وهو مما أشرت إليه في المقدمة العشرة.
وابتدئ بالشمس لمناسبة المقام إيماء للتنويه بالإسلام لأن هديه كنور الشمس لا يترك للضلال مسلكا، وفيه إشارة إلى الوعد بانتشاره في العالم كانتشار نور الشمس في الأفق، واتبع بالقمر لأنه ينير في الظلام كما أنار الإسلام في ابتداء ظهوره في ظلمة الشرك، ثم ذكر النهار والليل معه لأنهما مثل لوضوح الإسلام بعد ضلالة الشرك وذلك عكس ما في سورة الليل لما يأتي.
ومناسبة استحضار السماء عقب ذكر الشمس والقمر، واستحضار الأرض عقب ذكر النهار والليل، واضحة، ثم ذكرت النفس الإنسانية لأنها مظهر الهدى والضلال وهو المقصود.
والضمير المؤنث في قوله: {جَلاَّهَا} ظاهره أنه عائد إلى الشمس فمعنى تجلية النهار الشمس وقت ظهور الشمس.
فإسناد التجلية إلى النهار مجاز عقلي والقسم إنما هو بالنهار لأنه حالة دالة على دقيق نظام العالم الأرضي. وقيل الضمير عائد إلى الأرض،أي أضاء الأرض فتجلت للناظرين لظهور المقصود كما يقال عند نزول المطر أرسلت يعنون أرسلت السماء ماءها.
وقيد القسم بالنهار بقيد وقت التجلية إدماجا للمنة في القسم.
وابتدئ القسم بالشمس وأضوائها الثلاثة الأصلية والمنعكسة لأن الشمس أعظم النيرات التي يصل نور شديد منها للأرض، ولما في حالها وحال أضوائها من الإيماء إلى أنها مثل لظهور الإيمان بعد الكفر وبث التقوى بعد الفجور فإن الكفر والمعاصي تمثل بالظلمة والإيمان والطاعات تمثل بالضياء قال تعالى: {وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ} [المائدة:16].
وأعقب القسم بالنهار بالقسم بالليل لأن الليل مقابل وقت النهار فهو وقت الإظلام.
والغشي:التغطية وليس الليل بمغط للشمس على الحقيقة ولكنه مسبب عن غشي نصف الكرة الأرضية لقرص الشمس ابتداء من وقت الغروب وهو زمن لذلك الغشي. فإسناد الغشي إلى الليل مجاز عقلي من إسناد الفعل إلى زمنه أو إلى مسببه "بفتح الباء".

والغاشي في الحقيقة هو تكوير الأرض ودورانها تجاه مظهر الشمس وهي الدورة اليومية، وقيل ضمير المؤنث في {يَغْشَاهَا} عائد إلى الأرض على نحو ما قيل في {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا} .
و {إذا} في قوله: {إِذَا تَلاَهَا} وقوله: {إِذَا جَلاَّهَا} وقوله: {إِذَا يَغْشَاهَا} ، في محل نصب على الظرفية متعلقة بكون هو حال من القمر ومن النهار ومن الليل فهو ظرف مستقر، أي مقسما بكل واحد من هذه الثلاثة في الحالة الدالة على أعظم أحواله وأشدها دلالة على عظيم صنع الله تعالى.
وبناء السماء تشبيه لرفعها فوق الأرض بالبناء. والسماء آفاق الكواكب قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ} وتقييد القسم بالليل بوقت تغشيته تذكيرا بالعبرة بحدوث حالة الظلمة بعد حالة النور.
وطحو الأرض: بسطها وتوطئتها للسير والجلوس والاضطجاع، يقال: طحا يطحو ويطحي طحوا وطحيا وهو مرادف "دحا" في سورة النازعات [30].
و"النفس": ذات الإنسان كما تقدم عند قوله تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} [الفجر:27 وتنكير "نفس" للنوعية أي جنس النفس فيعم كل نفس عموما بالقرينة على نحو قوله تعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} [الإنفطار:5].
وتسوية النفس: خلقها سواء، أي غير متفاوتة الخلق، وتقدم في سورة الانفطار [7] عند قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ} .
و {ما} في المواضع الثلاثة من قوله: {وَمَا بَنَاهَا} ، أو {مَا طَحَاهَا} ، {وَمَا سَوَّاهَا} ، إما مصدرية يؤول الفعل بعدها بمصدر فالقسم بأمور من آثار قدرة الله تعالى وهي صفات الفعل الإلهية وهي رفعة السماء وطحوه الأرض وتسويته الإنسان.
وعطف {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} على {سَوَّاهَا} ، فهو مقسم به، وفعل "ألهمها" في تأويل مصدر لأنه معطوف على صلة {ما} المصدرية، وعطف بالفاء لأن الإلهام ناشئ عن التسوية، فضمير الرفع في "ألهمها" عائد إلى التسوية وهي المصدر المأخوذ من {سَوَّاهَا} ويجوز أن تكون {ما} موصولة صادقة على فعل الله تعالى، وجملة {بَنَاهَا} صلة الموصول، أي والبناء الذي بنى السماء، والطحو الذي طحا الأرض والتسوية التي سوت النفس.

فالتسوية حاصلة من وقت تمام خلقة الجنين من أول أطوار الصبا إذ التسوية تعديل الخلقة وإيجاد القوى الجسدية والعقلية ثم تزداد كيفية القوى فيحصل الإلهام.
والإلهام: مصدر ألهم، وهو فعل متعد بالهمزة ولكن المجرد منه ممات الإلهام اسم قليل الورود في كلام العرب ولم يذكر أهل اللغة شاهدا له من كلام العرب.
ويطلق الإلهام إطلاقا خاصا على حدوث علم في النفس بدون تعليم ولا تجربة ولا تفكير فهو علم يحصل من غير دليل سواء ما كان منه وجدانيا كالانسياق إلى المعلومات الضرورية والوجدانية، وما كان منه عن دليل كالتجريبيات والأمور الفكرية النظرية.
وإيثار الفعل هنا ليشمل جميع علوم الإنسان، قال الراغب: الإلهام: إيقاع الشيء في الروع ويختص ذلك بما كان من جهة الله تعالى وجهة الملأ الأعلى اه. ولذلك فهذا اللفظ إن لم يكن من مبتكرات القرآن يكن مما أحياه القرآن لأنه اسم دقيق الدلالة على المعاني النفسية وقليل رواج أمثال ذلك في اللغة قبل الإسلام لقلة خطور مثل تلك المعاني في مخاطبات عامة العرب، وهو مشتق من اللهم وهو البلع دفعة، يقال: لهم كفرح، وأما إطلاق الإلهام على علم يحصل للنفس بدون مستند فهو إطلاق اصطلاحي للصوفية.
والمعنى هنا: أن من آثار تسوية النفس إدراك العلوم الأولية والإدراك الضروري المدرج ابتداء من الانسياق الجبلي نحو الأمور النافعة كطلب الرضيع الثدي أول مرة، ومنه اتقاء الضار كالفرار مما يكره، إلى أن يبلغ ذلك إلى أول مراتب الاكتساب بالنظر العقلي، وكل ذلك إلهام.
وتعدية الإلهام إلى الفجور والتقوى في هذه الآية مع أن الله أعلم الناس بما هو فجور وما هو تقوى بواسطة الرسل باعتبار أنه لولا ما أودع الله في النفوس من إدراك المعلومات على اختلاف مراتبها لما فهموا ما تدعوهم إليه الشرائع الإلهية، فلولا العقول لما تيسر إفهام الإنسان الفجور والتقوى، والعقاب والثواب.
وتقديم الفجور على التقوى مراعى فيه أحوال المخاطبين بهذه السورة وهم المشركون، وأكثر أعمالهم فجور ولا تقوى لهم، والتقوى صفة أعمال المسلمين وهم قليل يومئذ.
ومجيء فعل "ألهمها" بصيغة الإسناد إلى ضمير مذكر باعتبار أن تأنيث مصدر

التسوية تأنيث غير حقيقي أو لمراعاة لفظ {ما} إن جعلتها موصولة.
[9-10] {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} .
يجوز أن تكون الجملة جواب القسم، وأن المعنى تحقيق فلاح المؤمنين وخيبة المشركين كما جعل في سورة الليل [4-5] جواب القسم قوله: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى، فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى} الخ.
ويجوز أن تكون جملة معترضة بين القسم والجواب لمناسبة ذكر إلهام الفجور والتقوى، أي أفلح من زكى نفسه واتبع ما ألهمه الله من التقوى، وخاب من اختار الفجور بعد أن ألهم التمييز بين الأمرين بالإدراك والإرشاد الإلهي.
وهذه الجملة توطئة لجملة {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا} [الشمس:11]. فإن ما أصاب ثمودا كان من خيبتهم لأنهم دسوا أنفسهم بالطغوى.
وقدم الفلاح على الخيبة لمناسبته للتقوى، وأردف بخيبة من دسى نفسه لتهيئة الانتقال إلى الموعظة بما حصل لثمود من عقاب على ما هو أثر التدسية.
و {من} صادقة على الإنسان، أي الذي زكى نفسه بأن اختار لها ما به كمالها ودفع الرذائل عنها، فالإنسان والنفس شيء واحد، ونزلا منزلة شيئين باختلاف الإرادة والاكتساب.
والتزكية: الزيادة من الخير.
ومعنى {دَسَّاهَا} حال بينهما وبين فعل الخير. وأصل فعل دسى: دس، إذا أدخل شيئا تحت شيء فأخفاه، فأبدلوا الحرف المضاعف ياء طلبا للتخفيف كما قالوا: تقضى البازي أي تقضض، وقالوا: تظنيت، أي من الظن.
وإن كانت جملة {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} جواب القسم فجملة {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا} [الشمس:11] في موقع الدليل لمضمون جملة {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} أي خاب كخيبة ثمود.
والفلاح: النجاح بحصول المطلوب، والخيبة ضده، أي أن يحرم الطالب مما طلبه.
فالإنسان يرغب في الملائم النافع، فمن الناس من يطلب ما به النفع والكمال

الدائمان، ومن الناس من يطلب ما فيه عاجل النفع والكمال الزائف، فالأول قد نجح فيما طلبه فهو مفلح، والثاني يحصل نفعا عارضا زائلا وكمالا موقتا ينقلب انحطاطا فذلك لم ينجح فيما طلبه فهو خائب، وقد عبر عن ذلك هنا بالفلاح والخيبة كما عبر عنه في مواضع أخر بالربح والخسارة.
والمقصود هنا الفلاح في الآخرة والخيبة فيها.
وفي هذه الآيات محسن الطباق غير مرة فقد ذكرت أشياء متقابلة متضادة مثل الشمس والقمر لاختلاف وقت ظهورهما، ومثل النهار والليل، والتجلية والغشي، والسماء والأرض، والبناء والطحو، والفجور والتقوى، والفلاح والخيبة، والتزكية والتدسية.
[11-15] {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا، إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا، فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا، فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا، وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا} .
{كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا، إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا، فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا} .
إن كانت جملة {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس:9] الخ معترضة كانت هذه جوابا للقسم باعتبار ما فرع عليها بقوله: {فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ} أي حقا لقد كان ذلك لذلك، ولام الجواب محذوف تخفيفا لاستطالة القسم، وقد مثلوا لحذف اللام بهذه الآية وهو نظير قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} إلى قوله: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} [البروج:1-4].
والمقصود: التعريض بتهديد المشركين الذين كذبوا الرسول طغيانا هم يعلمونه من أنفسهم كما كذبت ثمود رسولهم طغيانا، وذلك هو المحتاج إلى التأكيد بالقسم لأن المشركين لم يهتدوا إلى أن ما حل بثمود من الاستئصال كان لأجل تكذيبهم رسول الله إليهم، فنبههم الله بهذا ليتدبروا أو لتنزيل علم من علم ذلك منهم منزلة الإنكار لعدم جري أمرهم على موجب العلم، فكأنه قيل: أقسم ليصيبكم عذاب كما أصاب ثمود، ولقد أصاب المشركين عذاب السيف بأيدي الذين عادوهم وآذوهم وأخرجوهم، وذلك أقسى عليهم وأنكى.

فمفعول {كَذَّبَتْ} محذوف لدلالة قوله بعده {فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ} والتقدير: كذبوا رسول الله.
وتقدم ذكر ثمود ورسولهم صالح عليه السلام في سورة الأعراف.
وباء {بِطَغْوَاهَا} للسببية، أي كانت طغواها سبب تكذيبهم رسول الله إليهم.
والطغوى: اسم مصدر يقال: طغا طغوا وطغيانا، والطغيان: فرط الكبر، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} في سورة البقرة [15]، وفيه تعريض بتنظير مشركي قريش في تكذيبهم بثمود في أن سبب تكذيبهم هو الطغيان والتكبر عن اتباع من لا يرون له فضلا عليهم {وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31].
و {إذ} ظرف للزمن الماضي يتعلق ب {طَغْوَاهَا} لأن وقت انبعاث أشقاها لعقر الناقة هو الوقت الذي بدت فيه شدة طغواها فبعثوا أشقاهم لعقر الناقة التي جعلت لهم آية وذلك منتهى الجرأة.
وانبعث: مطاوع بعث، فالمعنى: إذ بعثوا أشقاهم فانبعث وانتدب لذلك. و {إذ} مضاف إلى جملة {انْبَعَثَ أَشْقَاهَا} .
وقد ذكر هذا الظرف عن موقعه بعد قوله: {فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ} لأن انبعاث أشقاها لعقر الناقة جزئي من جزئيات طغواهم فهو أشد تعلقا بالتكذيب المسبب عن الطغوى ففي تقديمه قضاء لحق هذا الاتصال، ولإفادة أن انبعاث أشقاهم لعقر الناقة كان عن إغراء منهم إياه، ولا يفوت مع ذلك أنه وقع بعد أن قال لهم رسول الله ناقة الله، ويستفاد أيضا من قوله: {فَعَقَرُوهَا} .
وأشقاها: أشدها شقوة، وعني به رجل منهم سماه المفسرون قدار بضم القاف وتخفيف الدال المهملة بن سالف، وزيادته عليهم في الشقاوة بأنه الذي باشر الجريمة وإن كان عن ملإ منهم وإغراء.
والفاء من قوله: {فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ} عاطفة على {كَذَّبَتْ} فتفيد الترتيب والتعقيب كما هو الغالب فيها. ويكون معنى الكلام: كذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحداهم بآية الناقة وحذرهم من التعرض لها بسوء ومن منعها شربها في نوبتها من السقيا، وعطف على {فَكَذَّبُوهُ} ، أي فيما أنذرهم به فعقروها بالتكذيب المذكور أول مرة غير التكذيب المذكور

ثانيا. وهذا يقتضي أن آية الناقة أرسلت لهم بعد أن كذبوا وهو الشأن في آيات الرسل، وهو ظاهر ما جاء في سورة هود.
ويجوز أن تكون الفاء للترتيب الذكري المجرد وهي تفيد عطف مفصل على مجمل مثل قوله تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} [البقرة:36] فإن إزلا لهما إبعادهما وهو يحصل بعد الإخراج لا قبله. وقوله: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا} [الأعراف:4]، فيكون المعنى: كذبت ثمود بطغواها إذ انبعث أشقاها. ثم فصل ذلك بقوله: {فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ} إلى قوله: {فَعَقَرُوهَا} ، والعقر عند انبعاث أشقاها، وعليه فلا ضرورة إلى اعتبار الظرف هو {إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا} مقدما من تأخير.
وأعيدت عليهم ضمائر الجمع باعتبار أنهم جمع وإن كانت الضمائر قبله مراعى فيها أن ثمود اسم قبيلة.
وانتصب {نَاقَةَ اللَّهِ} على التحذير، والتقدير: احذروا ناقة الله. والمراد: التحذير من أن يؤذوها، فالكلام من تعليق الحكم بالذوات، والمراد: أحوالها.
وإضافة {ناقة} إلى اسم الجلالة لأنها آية جعلها الله على صدق رسالة صالح عليه السلام ولأن خروجها لهم كان خارقا للعادة.
والسقيا: اسم مصدر سقى، وهو معطوف على التحذير، أي احذروا سقيها، أي احذروا غضب سقيها، فالكلام على حذف مضاف، أو أطلق السقيا على الماء الذي تسقى منه إطلاقا للمصدر على المفعول فيرجع إلى إضافة الحكم إلى الذات. والمراد: حالة تعرف من المقام، فإن مادة سقيا تؤذن بأن المراد التحذير من أن يسقوا إبلهم من الماء الذي في يوم نوبتها.
والتكذيب المعقب به تحذيره إياهم بقوله: {نَاقَةَ اللَّهِ} ، تكذيب ثان وهو تكذيبهم بما اقتضاه التحذير من الوعيد. والإنذار بالعذاب إن لم يحذروا الاعتداء على تلك الناقة، وهو المصرح به في آية سورة الأعراف [73] في قوله: {وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
وبهذا الاعتبار استقام التعبير عن مقابلة التحذير بالتكذيب مع أن التحذير إنشاء، فالتكذيب إنما يتوجه إلى ما في التحذير من الإنذار بالعذاب.
والعقر: جرح البعير في يديه ليبرك على الأرض من الألم فينحر في لبته، فالعقر

كناية مشهورة عن النحر لتلازمهما.
{فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا} .
أي صاح عليهم ربهم صيحة غضب. والمراد بهذه الدمدمة صوت الصاعقة والرجفة التي أهلكوا بها قال تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ} [الحجر:73]، وإسناد ذلك إلى الله مجاز عقلي لأن الله هو خالق الصيحة وكيفياتها. فوزن دمدم فعلل، وقال أكثر المفسرين: دمدم عليهم أطبق عليهم الأرض، يقال: دمم عليه القبر، إذا أطبقه ودمدم مكرر دمم للمبالغة مثل كبكب، وعليه فوزن دمدم فعلل.
وفرع على "دمدم عليهم" {فَسَوَّاهَا} أي فاستتووا في إصابتها لهم فضمير النصب عائد إلى الدمدمة المأخوذة من "دمدم عليهم".
ومن فسروا "دمدم" بمعنى: أطبق عليهم الأرض قالوا معنى "سواها": جعل الأرض مستوية عليهم لا تظهر فيها أجسادهم ولا بلادهم، وجعلوا ضمير المؤنث عائدا إلى الأرض المفهومة من فعل "دمدم" فيكون كقوله تعالى: {لَوْ تُسَوَّى بِهِمْ الأَرْضُ} [النساء:42].
وبين {فَسَوَّاهَا} هنا وقوله: {وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس:7] قبله محسن الجناس التام.
والعقبى: ما يحصل عقب فعل من الأفعال من تبعة لفاعله أو مثوبة، ولما كان الذكور عقابا وغلبة وكان العرف أن المغلوب يكنى في نفسه الأخذ بالثأر من غالبه فلا يهدأ له بال حتى يثأر لنفسه، ولذلك يقولون: الثار المنيم، أي الذي يزيل النوم عن صاحبه، فكان الذي يغلب غيره يتقي حذرا من أن يتمكن مغلوبه من الثأر، أخبر الله أنه الغالب الذي لا يقدر مغلوبه على أخذ الثأر منه، وهذا كناية عن تمكن الله من عقاب المشركين وأن تأخير العذاب عنهم إمهال لهم وليس عن عجز فجملة {فَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا} تذييل للكلام وإيذان بالختام.
ويجوز أن يكون قوله: {فَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا} تمثيلا لحالهم في الاستئصال بحال من لم يترك من يثأر له فيكون المثل كناية عن هلاكهم عن بكرة أبيهم لم يبق منهم أحد.
وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر {فَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا} بفاء العطف تفريعا على {فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ} . وهو مكتوب بالفاء في مصاحف المدينة ومصحف الشام... ومعنى التفريع بالفاء على هذه القراءة تفريع العلم بانتفاء خوف الله منهم مع قوتهم ليرتدع بهذا

العلم أمثالهم من المشركين.
وقرأ الباقون من العشرة {وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا} بواو العطف أو الحال، وهي كذلك في مصاحف أهل مكة وأهل البصرة والكوفة، وهي رواية قرائها. وقال ابن القاسم وابن وهب: أخرج لنا مالك مصحفا لجده وزعم أنه كتبه في أيام عثمان بن عفان حين كتب المصاحف وفيه {وَلاَ يَخَافُ} بالواو، وهذا يقتضي أن بعض مصاحف المدينة بالواو ولكنهم لم يقرأوا بذلك لمخالفته روايتهم.

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الليلسميت هذه السورة في معظم المصاحف وبعض كتب التفسير سورة الليل بدون واو، وسميت في معظم كتب التفسير سورة والليل بإثبات الواو، وعنونها البخاري والترمذي سورة "والليل إذا يغشى".
وهي مكية في قول الجمهور، واقتصر عليه كثير من المفسرين، وحكى ابن عطية عن المهدوي أنه قيل: إنها مدنية، وقيل بعضها مدني، وكذلك ذكر الأقوال في الإتقان، وأشار إلى أن ذلك لما روي من سبب نزول قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} [الليل:5] إذ روي أنها نزلت في أبي الدحداح الأنصاري في نخلة كان يأكل أيتام من ثمرها وكانت لرجل من المنافقين فمنعهم من ثمرها فاشتراها أبو الدحداح بنخيل فجعلها لهم وسيأتي.
وعدت التاسعة في عداد نزول السور، نزلت بعد سورة الأعلى وقبل سورة الفجر.
وعدد آيها عشرون.
أغراضها
احتوت على بيان شرف المؤمنين وفضائل أعمالهم ومذمة المشركين ومساويهم وجزاء كل.
وأن الله يهدي الناس إلى الخير فهو يجزي المهتدين بخير الحياتين والضالين بعكس ذلك.
وأنه أرسل رسوله صلى الله عليه وسلم للتذكير بالله وما عنده فينتفع من يخشى فيفلح ويصدف عن الذكرى من كان شقيا فيكون جزاؤه النار الكبرى وأولئك هم الذين صدهم عن التذكر إيثار

حب ما هم فيه في هذه الحياة.
وأدمج في ذلك الإشارة إلى دلائل قدرة الله تعالى وبديع صنعه.
[1-4] {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى، وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى، وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} .
افتتاح الكلام بالقسم جار على أسلوب السورتين قبل هذه، وغرض ذلك ما تقدم آنفا.
ومناسبة المقسم به للمقسم عليه أن سعي الناس منه خير ومنه شر وهما مماثلان النور والظلمة وأن سعي الناس ينبثق عن نتائج منها النافع ومنها الضار كما ينتج الذكر ذرية صالحة وغير صالحة.
وفي القسم بالليل والنهار التنبيه على الاعتبار بهما في الاستدلال على حكمة نظام الله في هذا الكون وبديع قدرته، وخص بالذكر ما في الليل من الدلالة من حالة غشيانيه الجانب الذي يغشاه من الأرض. ويغشى فيه من الموجودات فتعمها ظلمته فلا تبدو للناظرين، لأن ذلك أقوى أحواله، وخص بالذكر من أحوال النهار حالة تجليته عن الموجودات وظهور على الأرض كذلك.
وقد تقدم بيان الغشيان والتجلي في تفسير قوله: {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} في سورة الشمس [3-4].
واختير القسم بالليل والنهار لمناسبته للمقام لأن غرض السورة بيان البون بين حال المؤمنين والكافرين في الدنيا والآخرة.
وابتدئ في هذه السورة بذكر الليل ثم ذكر النهار عكس ما في سورة الشمس لأن هذه السورة نزلت قبل سورة الشمس بمدة وهي سادسة السور وأيامئذ كان الكفر مخيما على الناس إلا نفرا قليلا، وكان الإسلام قد أخذ في التجلي فناسب تلك الحالة بإشارة إلى تمثيلها بحالة الليل حين يعقبه ظهور النهار، ويتضح هذا في جواب القسم بقوله: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} إلى قوله: {إِذَا تَرَدَّى} [الليل:4-11].
وفي قوله: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} إجمال يفيد التشويق إلى تفصيله بقوله: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى} [الليل:5] الآية ليتمكن تفصيله في الذهن.

وحذف مفعول {يَغْشَى} لتنزيل الفعل منزلة اللازم لأن العبرة بغشاية كل ما تغشاه ظلمته.
وأسند إلى النهار التجلي مدحا له بالاستنارة التي يراها كل أحد ويحس بها حتى البصراء.
والتجلي: الوضوح، وتجلي النهار: وضوح ضيائه، فهو بمعنى قوله: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس:1] وقوله: {وَالضُّحَى} [الضحى:1].
وأشير إلى أن ظلمة الليل كانت غالبة لضوء النهار وأن النهار يعقبها والظلمة هي أصل أحال أهل الأرض وجميع العوالم المرتبطة بالنظام الشمسي وإنما أضاءت بعد أن خلق الله الشمس ولذلك اعتبر التاريخ في البدء بالليالي ثم طرأ عليه التاريخ بالأيام.
والقول في تقييد الليل بالظرف وتقييد النهار بمثله كالقول في قوله: {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} في السورة السابقة [الشمس:3-4].
و {ما} في قوله: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} مصدرية أقسم الله بأثر من آثار قدرته وهو خلق الزوجين وما يقتضيه من التناسل.
والذكر والأنثى: صنفا أنواع الحيوان. والمراد: خصوص خلق الإنسان وتكونه من ذكر وأنثى كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى} [الحجرات:13] لأنه هو المخلوق الأرفع في عالم الماديات وهو الذي يدرك المخاطبون أكثر دقائقه لتكرره على أنفسهم ذكورهم وإناثهم بخلاف تكون نسل الحيوان فإن الإنسان يدرك بعض أحواله ولا يحصي كثيرا منها.
والمعنى: وذلك الخلق العجيب من اختلاف حالي الذكورة والأنوثة مع خروجهما من أصل واحد، وتوقف التناسل على تزاوجهما، فألقسم بتعلق من تعلق صفات الأفعال الإلهية وهي قسم من الصفات لا يختلف في ثبوته وإنما اختلف علماء أصول الدين في عد صفات الأفعال من الصفات فهي موصوفة بالقدم عند الماتريدي، أو جعلها من تعلق صفة القدرة فهي حادثة عند الأشعري، وهو آيل إلى الخلاف اللفظي.
وقد كان القسم في سورة الشمس بتسوية النفس، أي خلق العقل والمعرفة في الإنسان، وأما القسم هنا فبخلق جسد الإنسان واختلاف صنفيه، وجملة {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} جواب القسم. والمقصود من التأكيد بالقسم قوله: {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى}

[الليل:11]. والسعي حقيقته: المشي القوي الحثيث، وهو مستعار هنا للعمل والكد.
وشتى: جمع شتيت على وزن فعلى مثل قتيل وقتلى، مشتق من الشت وهو التفرق الشديد يقال: شت جمعهم، إذا تفرقوا، وأريد به هنا التنوع والاختلاف في الأحوال كما في قول تأبط شرا:
قليل التشكي للملم يصيبه ... كثير الهوى شتى النوى والمسالك
وهو استعارة أو عن الأعمال المتخالفة لأن التفرق يلزمه الاختلاف.
والخطاب في قوله: {إِنَّ سَعْيَكُمْ} لجميع الناس من مؤمن وكافر.
واعلم أنه قد روي في الصحيحين عن علقمة قال: دخلت في نفر من أصحاب عبد الله يعني ابن مسعود الشام فسمع بنا أبو الدرداء فأتانا فقال: أيكم يقرأ على قراءة عبد الله? فقلت: أنا. قال: كيف سمعته يقرأ? {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} قال سمعته يقرأ "والليل إذا يغشى والنهار إذ تجلى والذكر والأنثى" قال: أشهد أني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هكذا. وسماها في "الكشاف" : قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، أي ثبت أنه قرأ بها، وتأويل ذلك: أنه أقرأها أبا الدرداء أيام كان القرآن مرخصا أن يقرأ على بعض اختلاف، ثم نسخ ذلك الترخيص بما قرأ به النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حياته وهو الذي اتفق عليه قراء القرآن. وكتب في المصحف في زمن أبي بكر رضي الله عنه، وقد بينت في المقدمة السادسة من مقدمات هذا التفسير معنى قولهم:قراءة النبي صلى الله عليه وسلم.
[5-11] {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى، وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى، وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} .
{فأما} تفريع وتفصيل للإجمال في قوله: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل:4] فحرف "أما" يفيد الشرط والتفصيل وهو يتضمن أداة شرط وفعل شرط لأنه بمعنى:مهما يكن من شيء، والتفصيل: التفكيك بين متعدد اشتركت آحاده في حالة وانفرد بعضها عن بعض بحالة هي التي يعتنى بتمييزها. وقد تقدم تحقيقه عند قوله تعالى: {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ رَبُّهُ} في سورة الفجر [15].
والمحتاج للتفصيل هنا هو السعي المذكور، ولكن جعل التفصيل بيان الساعين

بقوله: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى} لأن المهم هو اختلاف أحوال الساعين ويلازمهم السعي فإيقاعهم في التفصيل بحسب مساعيهم يساوي إيقاع المساعي في التفصيل، وهذا تفنن من أفانين الكلام الفصيح يحصل منه معنيان كقول النابغة:
وقد خفت حتى ما تزيد مخافتي ... على وعل في ذي المطارة عاقل
أي على مخافة وعل.
ومنه قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} الخ في سورة البقرة [177].
وقوله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة:19] الآية، أي كإيمان من آمن بالله.
وانحسر تفسير"شتى" في فريقين: فريق ميسر لليسرى وفريق ميسر للعسرى، لأن الحالين هما المهم في مقام الحث على الخير، والتحذير من الشر، ويندرج فيهما مختلف الأعمال كقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} في سورة الزلزلة [6-8]. ويجوز أن يجعل تفصيل "شتى" هم من أعطى واتقى وصدق بالحسنى، ومن بخل واستغنى وكذب بالحسنى وذلك عدد يصح أن يكون بيانا لشتى.
و {من} في قوله: {مَنْ أَعْطَى} الخ وقوله: {مَنْ بَخِلَ} الخ يعم كل من يفعل الإعطاء ويتقي ويصدق بالحسنى. وروي أن هذا نزل بسبب أن أبا بكر اشترى بلالا من أمية بن خلف وأعتقه لينجيه من تعذيب أمية بن خلف، ومن المفسرين من يذكر أبا سفيان بن حرب عوض أمية بن خلف، وهو وهم.
وقيل: نزلت في قضية أبي الدحداح مع رجل منافق ستأتي. وهذا الأخير متقض أن السورة مدنية وسبب النزول لا يخص العموم.
وحذف مفعول {أَعْطَى} لأن فعل الإعطاء إذا أريد به إعطاء المال بدون عوض، ينزل منزلة اللازم لاشتهار استعماله في إعطاء المال ولذلك يسمى المال الموهوب عطاء ، والمقصود إعطاء الزكاة.
وكذلك حذف مفعول {اتقى} لأنه يعلم أن المقدر اتقى الله.
وهذه الخلال الثلاث من خلال الإيمان، فأما من كان من المؤمنين كما

في قوله تعالى: {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ. وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} [المدثر:43-44]، أي لم نك من أهل الإيمان.
وكذلك فعل {بخل} لم يذكر متعلقة لأنه أريد به البخل بالمال.
و {اسْتَغْنَى} جعل مقابلا ل {اتقى} فالمراد به الاستغناء عن امتثال أمر الله ودعوته لأن المصر على الكفر المعرض عن الدعوة يعد نفسه غنيا عن الله مكتفيا بولاية الأصنام وقومه، فالسين والتاء للمبالغة في الفعل مثل سين استجاب بمعنى أجاب. وقد يراد به زيادة طلب الغنى بالبخل بالمال، فتكون السين والتاء للطلب، وهذه الخلال كناية عن كونه من المشركين.
والحسنى: تأنيث الأحسن فهي بالأصالة صفة لموصوف مقدر، وتأنيثها مشعر بأن موصوفها المقدر يعتبر مؤنث الفظ ويحتمل أمورا كثيرة مثل المثوبة أو النصر أو العدة أو العاقبة.
وقد يصير هذا الوصف علما بالغلبة فقيل: الحسنى الجنة، وقيل: كلمة الشهادة، وقيل: الصلاة، وقيل الزكاة. وعلى الوجوه كلها فالتصديق بها الاعتراف بوقوعها ويكنى به عن الرغبة في تحصيلها.
وحاصل الاحتمالات يحوم حول التصديق بوعد الله بما هو حسن من مثوبة أو نصر أو إخلاف ما تلف فيرجع هذا التصديق إلى الإيمان.
ويتضمن أنه يعمل الأعمال التي يحصل بها الفوز بالحسنى.
ولذلك قوبل في الشق الآخر بقوله: {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} .
والتيسير: جعل شيء يسير الحصول، ومفعول فعل التيسير هو الشيء الصعب لأجله وهو الذي ينتفع بسهولة الأمر، كما في قوله تعالى: {وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} [طه:26] وقوله: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} [القمر:17].
واليسرى في قوله: {لِلْيُسْرَى} هي ما لا مشتقة فيه. وتأنيثها: إما بتأويل الحالة، أي الحالة التي لا تشق عليه في الآخرة، وهي حالة النعيم، أو على تأويلها بالمكانة. وقد فسرت اليسرى بالجنة عن زيد بن أسلم ومجاهد. ويحتمل اللفظ معاني كثيرة تندرج في

معاني النافع الذي لا يشق على صاحبه، أي الملائم.
والعسرى: إما الحالة وهي حالة العسر والشدة، وإما مكانته وهي جهنم، لأنها مكان العسر والشدائد على أهلها قال تعالى: {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ، فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ} [المدثر:9-10] فمعنى "نيسره" ندرجه في عملي السعادة والشقاوة وبه فسر ابن عطية، فالأعمال اليسرى هي الصالحة، وصفت باليسرى باعتبار عاقبتها لصاحبها، وتكون العسرى الأعمال السيئة باعتبار عاقبتها على صاحبها فتأنيثهما باعتبار أن كلتيهما صفة طائفة من الأعمال.
وحرف التنفيس على هذا التفسير يكون مرادا منه الاستمرار من الآن إلى آخر الحياة كقوله تعالى: {قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} [يوسف: 98].
وحرف "ال" في "اليسرى" وفي "العسرى" لتعريف الجنس أو للعهد على اختلاف المعاني.
وإذا قد جاء ترتيب النظم في هذه الآية على عكس المتبادر غذ جعل ضمير الغيبة في "نيسره لليسرى" العائد إلى {مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} وهو الميسر، وجعل ضمير الغيبة في "نيسره للعسرى" العائد إلى {مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى} وهو الميسر، أي الذي صار الفعل صعب الحصول حاصلا له، وإذ وقع المجروران باللازم "اليسرى" و"العسرى"، وهما لا ينتفعان بسهولة من أعلى أو من بخل، تعين تأويل نظم الآية بإحدى طريقتين:
الأولى: إبقاء في فعل "نيسر" على حقيقته وجعل الكلام جاريا على خلاف مقتضى الظاهر بطريق القلب بأن يكون أصل الكلام: فسنيسر اليسرى له وسنيسر العسرى له ولا بد من مقتض للقلب، فيصار إلى أن المقتضي إفادة المبالغة في هذا التيسير حتى جعل الميسر ميسرا له والميسر له ميسرا على نحو ما وجهوا به قول العرب: عرضت الناقة على الحوض.
والثانية: أن يكون التيسير مستعملا مجازا مرسلا في التهيئة والإعداد بعلاقة اللزوم بين إعداد الشيء للشيء وتيسره له، وتكون اللام من قوله: {لِلْيُسْرَى} و {لِلْعُسْرَى} لام التعليل، أي نيسره لأجل اليسرى أو جل العسرى، فالمراد باليسرى الجنة وبالعسرى جهنم، على أن يكون الوصفان صارا علما بالغلبة على الجنة وعلى النار، والتهيئة لا تكون لذات الجنة وذات النار فتعين تقدير مضاف بعد اللام يناسب التيسير فيقدر لدخول اليسرى

ولدخول العسرى، أي سنعجل به ذلك.
والمعنى: سنجعل دخول هذه الجنة سريعا ودخول الآخر النار سريعا، يشبه الميسر من صعوبة لأن شأن الصعب الإبطاء وشأن السهل السرعة، ومنه قوله تعالى: {ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} [ق:44]، أي سريع عاجل. ويكون على هذا الوجه قوله: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} مشاكلة بنيت على استعارة تهكمية قرينتها قوله "العسرى". والذي يدعو إلى هذا أن فعل "نيسر" نصب ضمير من {أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ} ، وضمير {مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ} ، فهو تيسير ناشي عن حصول الأعمال التي يجمعها معنى {اتقى} أو معنى {استغنى} ، فالأعمال سابقة لا محالة. والتيسير مستقبل بعد حصولها فهو تيسير ما زاد على حصولها، أي تيسير الدوام عليها والاستزادة منها.
ويجوز أن يكون معنى الآية: أن يجعل التيسير على حقيقته ويجعل اليسرى وصفا أي الحالة اليسرى، والعسرى أي الحالة غير اليسرى.
وليس في التركيب قلب، والتيسير بمعنى الدوام على العمل، ففي صحيح البخاري عن علي قال كنا مع رسول الله في بقيع الغرقد في جنازة فقال: "ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار" ، فقالوا: يا رسول الله أفلا نتكل? فقال: "اعملوا فكل ميسر لما خلق له" . أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاء، ثم قرأ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى، وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} اهـ.
فصدر الحديث لا علاقة له بما تضمنته هذه الآية لأن قوله "ما من أحد إلا وقد كتب مقعده" الخ معناه قد علم الله أن أحدا سيعمل بعمل أهل الجنة حتى يوافي عليه، فقوله "وقد كتب مقعده" جعلت الكتابة تمثيلا لعلم الله بالمعلومات علما موافقا لما سيكون لا زيادة فيه ولا نقص، كالشيء المكتوب إذ لا يقبل زيادة ولا نقصا دون المقول الذي لا يكتب فهو لا ينضبط.
فنشأ سؤال من سأل عن فائدة العمل الذي يعمله الناس، ومعنى جوابه: أن فائدة العمل الصالح أنه عنوان على العاقبة الحسنة. وذكر مقابلة وهو العمل السيء إتماما للفائدة ولا علاقة له بالجواب.
وليس مجازه مماثلا لما استعمل في هذه الآية لأنه في الحديث علق به عمل أهل

السعادة فتعين أن يكون تيسيرا للعمل، أي إعدادا وتهيئة للأعمال صالحها أو سيئها.
فالذي يرتبط بالآية من اللفظ النبوي هو أن النبي صلى الله عليه وسلم أعقب كلامه بأن قرأ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} الآية لأنه قرأها تبيينا واستدلالا لكلامه فكان للآية تعلق بالكلام النبوي ومحل الاستدلال هو قوله تعالى: {فَسَنُيَسِّرُهُ} .
فالمقصود منه إثبات أن من شؤون الله تعالى تيسرا للعبد أن يعمل بعمل السعادة أو عمل الشقاء سواء كان عمله أصلا للسعادة كالأيمان أو للشقاوة كالكفر، أم كان للعمل مما يزيد السعادة وينقص من الشقاوة وذلك بمقدار الأعمال الصالحة لمن كان مؤمنا لأن ثبوت أحد معنيي التيسير يدل على ثبوت جنسه فيصلح دليلا لثبوت التيسير من أصله.
أو يكون المقصود من سوق الآية الاستدلال على قوله"اعملوا" لأن الآية ذكرت عملا وذكرت تيسيرا لليسرى وتيسيرا للعسرى، فيكون الحديث إشارة إلى أن العمل هو علامة التيسير وتكون اليسرى معنيا بها السعادة والعسرى معنيا بها الشقاوة، وما صدق السعادة الفوز بالجنة، وما صدق الشقاوة الهوي في النار.
وإذ كان الوعد بتيسير اليسرى لصاحب تلك الصلات الدالة على أعمال الإعطاء والتقوى والتصديق بالحسنى كان سلوك طريق الموصولية للإماء إلى وجه بناء الخبر وهو التيسير فتعين أن التيسير مسبب عن تلك الصلات، أي جزاء عن فعلها. فالمتيسر: تيسير الدوام عليها، وتكون اليسرى صفة للأعمال، وذلك من الإظهار في مقام الإضمار. والأصل: مستيسر له أعماله، وعدل عن الإضمار إلى وصف اليسرى للثناء على تلك الأعمال بأنها ميسرة من الله كقوله تعالى: {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} في سورة الأعلى [8].
وخلاصة الحديث أنه بيان للفرق بين تعلق علم الله بأعمال عباده قبل أن يعملوها، وبين تعلق خطابه إياهم بشرائعه، وأن ما يصدر عن الناس من أعمال ظاهرة وباطنة إلى خاتمة كل أحد وموافقاته هو عنوان للناس على ما كان قد علمه الله، ويلتقي المهيعان في أن العمل هو وسيلة الحصول على أو الوقوع في جهنم.
وإنما خص الإعطاء بالذكر في قوله: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} مع شمول {اتقى} لمفاده، وخص البخل بالذكر في قوله: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى} مع شمول {استغنى} له، لتحريض المسلمين على الإعطاء، والتقوى شعار المسلمين مع التصديق بالحسنى وضد الثلاثة من شعار المشركين.

وفي الآية محسن الجمع مع التقسيم، ومحسن الطباق، أربع مرات بين {أعطى} و {بخل} ، وبين {اتقى} و {استغنى} ، وبين {صدق} و {كذب} وبين "اليسرى" و"العسرى".
وجملة {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} عطف على جملة {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} أي سنعجل به إلى جهنم. فالتقدير: إذا تردى فيها.
والتردي: السقوط من علو إلى سفل، يعني: لا يغني عنه ماله الذي بخل به شيئا من عذاب النار.
و {ما} يجوز أن تكون نافية. والتقدير: وسوف لا يغني عنه ماله إذا سقط في جهنم، وتحتمل أن تكون استفهامية وهو استفهام إنكار وتوبيخ. ويجوز على هذا الوجه أن تكون الواو للاستئناف. والمعنى: وما يغني عنه ماله الذي بخل به.
روى ابن أبي حاتم عن عكرمة عن ابن عباس أنه كانت لرجل من المنافقين نخلة مائلة في دار رجل مسلم ذي عيال فإذا سقط منها ثمر أكله صبية لذلك المسلم فكان صاحب النخلة ينزع من أيديهم الثمرة فشكا المسلم ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكلم النبي صلى الله عليه وسلم صاحب النخلة "أن يتركها لهم وله بها نخلة في الجنة" فلم يفعل، وسمع ذلك أبو الدحداح الأنصاري1 فاشترى تلك النخلة من صاحبها بحائط فيه أربعون نخلة وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله اشترها مني بنخلة في الجنة فقال: "نعم والذي نفسي بيده" ، فأعطاها الرجل صاحب الصبية، قال عكرمة قال ابن عباس فأنزل الله تعالى {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل:1] إلى قوله: {لِلْعُسْرَى} وهو حديث غريب، ومن أجل قول ابن عباس:فأنزل الله تعالى {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} قال جماعة: السورة مدنية وقد بينا في المقدمة الخامسة أنه كثيرا ما يقع في كلام المتقدمين قولهم: فأنزل الله في كذا قوله كذا، أنهم يريدون به أن القصة مما تشمله الآية. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "كم من عذق رداح في الجنة لأبي الدحداح" ولمح إليها بشار بن برد في قوله:
ـــــــ
1 أبو الدحداح: ثابت بن الدحداح البلوي، حليف الأنصار، صحابي جليل، قتل في واقعة أحد، وقيل: مات بعدها من جرح كان به حين رجع النبي صلى الله عليه وسلم من الحديبية، وصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة وهو الذي صاح يوم أحد لما أرجف المشركون بموت النبي صلى الله عليه وسلم: يا معشر الأنضار إلي إلي أنا ثابت بن الدحداح إن كان محمد قد قتل فإن الله حي لا يموت، فقاتلوا عن دينكم فإن الله مظهركم وناصركم.

إن النحيلة إذ يميل بها الهوى ... كالعذق مال على أبي الدحداح
[12-13] {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى} .
استئناف مقرر لمضمون الكلام السابق من قوله: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى} إلى قوله: {لِلْعُسْرَى} [الليل:5-10]، وذلك لإلقاء التبعة على من صار إلى العسرى بأن الله أعذر إليه إذ هداه بدعوة الإسلام إلى الخير فأعرض عن الاهتداء باختياره اكتساب السيئات، فإن التيسير لليسرى يحصل عند ميل العبد إلى عمل الحسنات، والتيسير للعسرى يحصل عند ميله إلى عمل السيئات. وذلك الميل هو المعبر عنه بالكسب عند الأشعري، وسماه المعتزلة: قدرة العبد، وهو أيضا الذي اشتبه على الجبرية فسموه الجبر.
وتأكيد الخبر ب {إن} ولام الابتداء يومئ إلى أن هذا كالجواب عما يجيش في نفوس أهل الضلال عند سماع الإنذار السابق من تكذيبه بأن الله لو شاء منهم ما دعاهم إليه لألجئهم إلى الإيمان. فقد حكي عنهم في الآية الأخرى {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَانُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف:20].
وحرف "على" إذا وقع بين اسم وما يدل على فعل يفيد معنى اللزوم، أي لازم لنا هدى الناس، وهذا التزام من الله اقتضاه فضله وحكمته فتولى إرشاد الناس إلى الخير قبل أن يؤاخذهم بسوء أعمالهم التي هي فساد فيما صنع الله من الأعيان والأنظمة التي أقام عليها فطرة نظام العالم، فهدى الله الإنسان بأن خلقه قابلا للتمييز بين الصلاح والفساد ثم عزز ذلك بأن أرسل إليه رسلا مبينين لما قد يخفي أمره من الأفعال أو يشتبه على الناس فساده بصلاحه ومنبهين الناس لما قد يغفلون عنه من سابق ما عملوه.
وعطف {وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى} على جملة {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى} تتميم وتنبيه على أن تعهد الله لعباده بالهدى فضل منه وإلا فإن الدار الآخرة ملكه والدار الأولى ملكه بما فيهما قال تعالى: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} [المائدة:17] فله التصرف فيهما كيف يشاء فلا يحسبوا أن عليهم حقا على الله تعالى إلا ما تفضل به.
وفي الآية إشارة عظيمة إلى أن أمور الجزاء في الأخرى تجري على ما رتبه الله وأعلم به عباده. وأن نظام أمور الدنيا وترتيب مسبباته على أسبابه أمر قد وضعه الله تعالى وأمر بالحفاظ عليه وأرشد وهدى، فمن فرط في شيء من ذلك فقد استحق ما تسبب فيه.

[14-21] {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى، لاَ يَصْلاَهَا إِلاَّ الأَشْقَى، الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى، وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى، الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى، وَمَا ِلأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى، إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى} .
يجوز أن تكون الفاء لمجرد التفريع الذكري إذا كان فعل "أنذرتكم" مستعملا في ماضيه حقيقة وكان المراد الإنذار الذي اشتمل عليه قوله: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} إلى قوله تعالى: {تَرَدَّى} [الليل: 8-11]. وهذه الفاء يشبه معناها معنى فاء الفصيحة لأنها تدل على مراعاة مضمون الكلام الذي قبلها وهو تفريع إنذار مفصل على إنذار مجمل.
ويجوز أن تكون الفاء للتفريع المعنوي فيكون فعل "أنذرتكم" مرادا به الحال وإنما صيغة في صيغة المضي لتقريب زمان الماضي من الحال كما في : قد قامت الصلاة، وقولهم: عزمت عليكم إلا ما فعلت كذا، أي أعزم عليك، ومثل ما في صيغ العقود : كبعت وهو تعريف على جملة {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى} [الليل:12] والمعنى: هديكم فأنذرتكم إبلاغا في الهدى.
وتنكير {نَارًا} للتهويل، وجملة {تَلَظَّى} نعت. وتطلى: تلتهب من شدة الاشتعال. وهو مشتق من اللظى مصدر: لظيت إذا التهبت، وأصل {تَلَظَّى} تتلظى بتاءين حذفت إحداهما للاختصار.
وجملة {لاَ يَصْلاَهَا إِلاَّ الأَشْقَى} صفة ثانية أو حال من {نَارًا} بعد أن وصفت. وهذه نار خاصة أعدت للكافرين فهي التي في قوله: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:24] والقرينة على ذلك قوله: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى} الآية.
وذكر القرطبي أن أبا إسحاق الزجاج قال هذه الآية التي من أجلها قال أهل الإرجاء بالإرجاء فزعموا: أن لا يدخل النار إلا كافر، وليس الأمر كما ضنوا: هذه نار موصوفة بعينها لا يصلى هذه النار إلا الذي كذب وتولى، ولأهل النار منازل فمنها أن المنافقين في الدرك الأسفل من النار اه.
والمعنى: لا يصلاها إلا أنتم.
وقد أتبع {الأَشْقَى} بصفة {الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} لزيادة التنصيص على أنهم

المقصود بذلك فإنهم يعلمون أنهم كذبوا الرسول صلى الله عليه وسلم وتولوا أي أعرضوا عن القرآن، وقد انحصر ذلك الوصف فيهم يومئذ فقد كان الناس في زمن ظهور الإسلام أحد فريقين: إما كافر وإما مؤمن تقي، ولم يكن الذين أسلموا يغشون الكبائر لأنهم أقبلوا على الإسلام بشراشرهم، ولذلك عطف {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى} الخ تصريحا بمفهوم القصر وتكميلا للمقابلة.
و {الأَشْقَى} و {الأَتْقَى} مراد بهما: الشديد الشقاء والشديد التقوى ومثله كثير في الكلام.
وذكر القرطبي: أن مالكا قال: صلى بنا عمر بن عبد العزيز فقرأ {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} فلما بلغ {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى} وقع عليه البكاء فلم يقدر يتعداها من البكاء فتركها وقرأ سورة أخرى.
ووصف {الأَشْقَى} بصلة {الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} ، ووصف {الأَتْقَى} بصلة {الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} للإيذان بأن للصلة تسببا في الحكم.
وبين {الأَشْقَى} و {الأَتْقَى} محسن الجناس المضارع.
وجملة {يَتَزَكَّى} حال من ضمير {يُؤْتِي} ، وفائدة الحال التنبيه على أنه يوتي ماله بقصد النفع والزيادة من الثواب تعريضا بالمشركين اللذين يؤتون المال للفخر والرياء والمفسد والفجور.
والتزكي: تكلف الزكاء، وهو النماء من الخير.
والمال: اسم جنس لما يختص به أحد الناس من أشياء ينتفع بذاتها أو بخراجها وغلتها مثل الأنعام والأرضيين والآبار الخاصة والأشجار المختص به أربابها.
ويطلق عند بعض العرب مثل أهل يثرب على النخيل.
وليس في إضافة اسم الجنس ما يفيد العموم، فلا تدل الآية على أنه آتى جميع ماله.
وقوله: {وَمَا ِلأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} الآية اتفق أهل التأويل على أن أول مقصود بهذه الصلة أبو بكر الصديق رضي الله عنه لما اعتق بلالا قال المشركون: وما فعل ذلك أبو بكر إلا ليد كانت لبلال عنده. وهو قول من بهتانهم يعللون به أنفسهم كراهية

لأن يكون أبو بكر فعل ذلك محبة للمسلمين ، فأنزل الله تكذيبهم قوله: {وَمَا ِلأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} مرادا به بعض من شمله عموم {الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} ، وهذا شبيه بذكر بعض أفراد العام وهو لا يخصص العموم ولكن هذه لما كانت حالة غير كثيرة في أسباب إيتاء المال تعين أن المراد بها حالة خاصة معروفة بخلاف نحو قوله: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى} [البقرة:177]، وقوله: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُورًا} [الإنسان:9].
و {عنده} ظرف مكان وهو مستعمل هنا مجازا في تمكن المعنى من المضاف إليه عنه كتمكن الكائن في المكان القريب، قال الحارث بن حلزة:
من لنا عنده من الخير آيا ... ت ثلاث في كلهن القضاء
و {مِنْ نِعْمَةٍ} اسم {ما} النافية جر ب {من} الزائدة التي تزاد في النفي لتأكيد النفي، الاستثناء في {إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ} منقطع، أي لكن ابتغاء لوجه الله.
والابتغاء: الطلب بجد لأنه أبلغ من البغي.
والوجه مستعمل مراد به الذات كقوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن:27]. ومعنى ابتغاء الذات ابتغاء رضا الله.
وقوله: {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} وعد بالثواب الجزيل الذي يرضي صاحبه. وهذا تتميم لقوله: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى} لأن ذلك ما أفاد إلا أنه ناج من عذاب النار لاقتضاء المقام الاقتصار على ذلك لقصد المقابلة مع قوله: {لاَ يَصْلاَهَا إِلاَّ الأَشْقَى} فتمم هنا بذكر ما أعد له من الخيرات.
وحرف "سوف" لتحقيق الوعد في المستقبل كقوله: {قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} [يوسف:98] أي يتغلغل رضاه في أزمنة المستقبل المديد.
واللام لام الابتداء لتأكيد الخبر.
وهذه من جوامع الكلم لأنها يندرج تحتها كل ما يرغب فيه الراغبون. وبهذه السورة انتهت سورة وسط المفصل.

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الضحىسميت هذه السورة في أكثر المصاحف وفي كثير من كتب التفسير وفي "جامع الترمذي" "سورة الضحى" بدون الواو.
وسميت في كثير من التفاسير وفي "صحيح البخاري" "سورة والضحى" بإثبات الواو.
ولم يبلغنا عن الصحابة خبر صحيح في تسميتها.
وهي مكية بالاتفاق.
وسبب نزولها ما ثبت في "الصحيحين" يزيد أحدهما على الآخر عن الأسود بن قيس عن جندب بن سفيان البجلي قال دميت إصبع رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشتكى فلم يقم ليلتين أو ثلاثة فجاءت امرأة وهي أم جميل بنت حرب زوج أبي لهب كما في رواية عن ابن عباس ذكرها ابن عطية فقالت: يا محمد إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث. فأنزل الله {وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى، مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى: 1-3].
وروى الترمذي عن ابن عيينة عن الأسود عن جندب البجلي قال كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في غار فدميت إصبعه فقال: "هل أنت إلا إصبع دميت. وفي سبيل الله ما لقيت" . قال فأبطأ عليه جبريل، فقال المشركون قد ودع محمد فأنزل الله تعالى {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} . وقال: حديث حسن صحيح.
ويظهر أن قول أم جميل لم يسمعه جندب لأن جندبا كان من صغار الصحابة وكان يروي عن أبي بن كعب وعن حذيفة كما قال أبن عبد البر. ولعله أسلم بعد الهجرة فلم يكن قوله كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في غار مقارنا لقول المشركين "وقد ودع محمد". ولعل

جندبا روى حديثين جمعهما ابن عيينة. وقيل: إن كلمة في غار تصحيف، وأن أصلها: كنت غازيا. ويتعين حينئذ أن يكون حديثه جمع حديثين.
وعدت هذه السورة حادية عشرة في ترتيب نزول السور، نزلت بعد سورة الفجر وقبل سورة الانشراح.
وعدد آيها إحدى عشرة آية.
وهي أول سورة في قصار المفصل.
أغراضها
إبطال قول المشركين إذ زعموا أن ما يأتي من الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم قد انقطع عنه.
وزاده بشارة بأن الآخرة خير له من الأولى على معنيين في الآخرة والأولى. وأنه سيعطيه ربه ما فيه رضاه. وذلك يغيض المشركين.
ثم ذكره الله بما حفه به من ألطافه وعنايته في صباه وفي فتوته وفي وقت اكتهاله وأمره بالشكر على تلك النعم بما يناسبها مع نفع لعبيده وثناء على الله بما هو أهله.
[1-3] {وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى، مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} .
القسم لتأكيد الخبر ردا على زعم المشركين أن الوحي انقطع عن النبي صلى الله عليه وسلم حين رأوه لم يقم الليل بالقرآن بضع ليال. فالتأكيد منصب على التعريض المعرض به لإبطال دعوى المشركين. فالتأكيد تعريض بالمشركين وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يتردد في وقوع ما يخبره الله بوقوعه.
ومناسبة القسم ب {وَالضُّحَى. وَاللَّيْلِ} أن الضحى وقت انبثاق نور الشمس فهو إيماء إلى تمثيل نزول الوحي وحصول الاهتداء به، وأن الليل وقت قيام النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن وهو الوقت الذي كان يسمع فيه المشركون قراءته من بيوتهم القريبة من بيته أو من المسجد الحرام.
ولذلك قيد {اللَّيْلِ} بظرف {إِذَا سَجَى} . فلعل ذلك وقت قيام النبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً. نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً} [المزمل:2-3].
والضحى تقدم بيانه عند قوله تعالى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس:1].

وكتب في المصحف {وَالضُّحَى} بألف في صورة الياء مع أن أصل ألفه الواو لأنهم راعوا المناسبة مع أكثر الكلمات المختومة بألف في هذه السورة فإن أكثرها منقلبة الألف عن الياء، ولأن الألف تجري فيها الإمالة في اللغات التي تميل الألف التي من شأنها أن لا تمال إذا وقعت مع ألف تمال للمناسبة كما قال ابن مالك في "شرح كافيته" .
ويقال: سجا الليل سجوا بفتح وسكون، وسجوا بضمتين وتشديد الواو، إذا امتد وطال مدة ظلامه مثل سجو المرء بالغطاء، إذا غطي به جميع جسده وهو واوي ورسم في المصحف بألف في صورة الياء للوجه المتقدم في كتابة {الضُّحَى} .
وجملة {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ} الخ جواب القسم، وجواب القسم إذا كان جملة منفية لم تقترن باللام.
والتوديع: تحية من يريد السفر.
واستعير في الآية للمفارقة بعد الاتصال تشبيها بفراق المسافر في انقطاع الصلة حيث شبه انقطاع صلة الكلام بانقطاع صلة الإقامة، والقرينة إسناد ذلك إلى الله الذي لا يتصل بالناس اتصالا معهودا.
وهذا نفي لأن يكون الله قطع عنه الوحي.
وقد عطف عليه {وَمَا قَلَى} للإتيان على إبطال مقالتي المشركين إذ قال بعضهم: ودعه ربه، وقال بعضهم: قلاه ربه، يريدون التهكم.
وجملة {وَمَا قَلَى} عطف على جملة جواب القسم ولها حكمها.
والقلي بفتح القاف مع سكون اللام والقلى بكسر القاف مع فتح اللام : البغض الشديد، وسبب مقالة المشركين تقدم في صدر السورة.
والظاهر أن هذه السورة نزلت عقب فترة ثانية فتر فيها الوحي بعد الفترة التي نزلت إثرها سورة المدثر، فعن ابن عباس وابن جريج احتبس الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة عشر يوما أو نحوها. فقال المشركون: إن محمدا قد ودعه ربه وقلاه، فنزلت الآية.
واحتباس الوحي عن النبي صلى الله عليه وسلم وقع مرتين:
أولاهما: قبل نزول سورة المدثر أو المزمل، أي بعد نزول سورتين من القرآن أو ثلاث على الخلاف في الأسبق من سورتي المزمل والمدثر، وتلك الفترة هي التي خشي

رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون قد انقطع عنه الوحي. وهي التي رأى عقبها جبريل على كرسي بين السماء والأرض كما تقدم في تفسير سورة المدثر، وقد قيل: إن مدة انقطاع الوحي في الفترة الأولى كانت أربعين يوما ولم يشعر بها المشركون لأنها كانت في مبدإ نزول الوحي قبل أن يشيع الحديث بينهم فيه وقبل أن يقوم النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن ليلا.
وثانيتهما: فترة بعد نزول نحو من ثمان سور، أي السور التي نزلت بعد الفترة الأولى فتكون بعد تجمع عشر سور، وبذلك تكون هذه السورة حادية عشرة فيتوافق ذلك مع عددها في ترتيب نزول السور.
والاختلاف في سبب نزول هذه السورة يدل على عدم وضوحه للرواة، فالذي نظنه أن احتباس الوحي في هذه المرة كان لمدة نحو من اثني عشر يوما وأنه ما كان إلا للرفق بالنبي صلى الله عليه وسلم كي تستجم نفسه وتعتاد قوته تحمل أعباء الوحي إذ كانت الفترة الأولى أربعين يوما ثم كانت الثانية اثنى عشر يوما أو نحوها، فيكون نزول سورة الضحى هو النزول الثالث، وفي المرة الثالثة يحصل الارتياض في الأمور الشاقة ولذلك يكثر الأمر بتكرر بعض الأعمال ثلاثا، وبهذا الوجه يجمع بين مختلف الأخبار في سبب نزول هذه السورة وسبب نزول سورة المدثر.
وحذف مفعول {قلى} لدلالة {ودعك} عليه كقوله تعالى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب:35] وهو إيجاز لفظي لظهور المحذوف ومثله قوله: {فَآوَى} [الضحى:6]، ف {فَهَدَى} [الضحى:7] ، {فَأَغْنَى} [الضحى:8].
[4] {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى} .
عطف على جملة {وَالضُّحَى} [الضحى:1] فهذا كلام مبتدأ به، والجملة معطوفة على الجمل الابتدائية وليست معطوفة على جملة جواب القسم بل هي ابتدائية فلما نفي القلى بشر بأن آخرته خير من أولاه، وأن عاقبته أحسن من بدأته، وأن الله خاتم له بأفضل مما قد أعطاه في الدنيا وفي الآخرة.
وما في تعريف "الآخرة" و {الأولى} من التعميم يجعل معنى هذه الجملة في معنى التذييل الشامل لاستمرار الوحي وغير ذلك من الخير.
والآخرة: مؤنث الآخر، و {الأولى} : مؤنث الأول، وغلب لفظ الآخرة في اصطلاح القرآن على الحياة الآخرة وعلى الدار الآخرة كما غلب لفظ الأولى على حياة

الناس التي قبل انخرام هذا العالم، فيجوز أن يكون المراد هنا من كلا اللفظين كلا معنييه فيفيد أن الحياة الآخرة خير له من هذه الحياة العاجلة تبشيرا له بالخيرات الأبدية، ويفيد أن حالاته تجري على الانتقال من حالة إلى أحسن منها، فيكون تأنيث الوصفين جاريا على حالتي التغليب وحالتي التوصيف، ويكون التأنيث في هذا المعنى الثاني لمراعاة معنى الحالة.
ويومئ ذلك إلى أن عودة نزول الوحي عليه هذه المرة خير من العودة التي سبقت، أي تكفل الله بأن لا ينقطع عنه نزول الوحي من بعد.
فاللام في "الآخرة" و {الأولى} لام الجنس، أي كل آجل أمره هو خير من عاجله في هذه الدنيا وفي الأخرى.
واللام في قوله: {لك} لام الاختصاص، أي خير مختص بك وهو شامل لكل ما له تعلق بنفس النبي صلى الله عليه وسلم في ذاته وفي دينه وفي أمته، فهذا وعد من الله بأن ينشر دين الإسلام وأن يمكن أمته من الخيرات التي يأملها النبي صلى الله عليه وسلم لهم. وقد روى الطبراني والبيهقي في دلائل النبوءة عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "عرض عليّ ما هو مفتوح لأمتي بعدي فسرني" فأنزل الله تعالى: {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى} .
[5] {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} .
هو كذلك عطف على جملة القسم كلها وحرف الاستقبال لإفادة أن هذا العطاء الموعود به مستمر لا ينقطع كما تقدم في قوله تعالى: {قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} في سورة يوسف [98] وقوله: {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} في سورة الليل [21].
وحذف المفعول الثاني ل {يُعْطِيكَ} ليعم كل ما يرجوه صلى الله عليه وسلم من خير لنفسه ولأمته فكان مفاد هذه الجملة تعميم العطاء كما أفادت الجملة قبلها تعميم الأزمنة.
وجيء بفاء التعقيب في {فَتَرْضَى} لإفادة كون العطاء عاجل النفع بحيث يحصل به رضا المعطى عند العطاء فلا يترقب أن يحصل نفعه بعد تربص.
وتعريف {رَبُّكَ} بالإضافة دون اسم الله العلم لما يؤذن به لفظ "رب" من الرأفة واللطف، وللتوسل إلى إضافته إلى ضمير المخاطب لما في ذلك من الإشعار بعنايته برسوله وتشريفه بإضافة رب إلى ضميره.

وهو وعد واسع الشمول لما أعطيه النبي صلى الله عليه وسلم من النصر والظفر بأعدائه يوم بدر ويوم فتح مكة، ودخول الناس في الدين أفواجا وما فتح على الخلفاء الراشدين ومن بعدهم من أقطار الأرض شرقا وغربا.
واعلم أن اللام في {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ} [الضحى:4] وفي {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ} جزم صاحب الكشاف بأنه لام الابتداء وقدر مبتدأ محذوفا. والتقدير: ولأنت سوف يعطيك ربك. وقال: إن لام القسم لا تدخل على المضارع إلا مع نون التوكيد وحيث تعين أن اللام لام الابتداء ولام الابتداء لا تدخل إلا على جملة من مبتدأ وخبر تعين تقدير المبتدأ. واختار ابن الحاجب أن اللام في {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ} لام التوكيد يعني لام وجوب القسم. ووافقه ابن هشام في "مغني اللبيب" وأشعر كلامه أن وجود حرف التنفيس مانع من لحاق نون التوكيد ولذلك تحجب اللام في الجملة. وأقول في كون وجود حرف التنفيس يوجب كون اللام لام جواب قسم محل نظر.
[6-8] {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى، وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى، وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} .
استئناف مسوق مساق الدليل على تحقق الوعد، إي هو وعد جار على سنن ما سبق من عناية الله بك من مبدإ نشأتك ولطفه في الشدائد باطراد بحيث لا يحتمل أن يكون ذلك من قبيل الصدف لأن شأن الصدف أن لا تتكرر فقد علم أن اطراد ذلك مراد لله تعالى.
والمقصود من هذا إيقاع اليقين في قلوب المشركين بأن ما وعده الله به محقق الوقوع قياسا على ما ذكره به من ملازمة لطفه به فيما مضى وهم لا يجهلون ذلك عسى أن يقلعوا عن العناد ويسرعوا إلى الإيمان وإلا فإن ذلك مساءة تبقى في نفوسهم وأشباح رعب تخالج خواطرهم. ويحصل مع ذلك المقصود امتنان على النبي صلى الله عليه وسلم وتقوية لاطمئنان نفسه بوعد الله تعالى إياه.
والاستفهام تقريري، وفعل {يَجِدْكَ} مضارع وجد بمعنى ألفى وصادف، وهو الذي يتعدى إلى مفعول واحد ومفعوله ضمير المخاطب. و {يَتِيماً} حال، وكذلك {ضَالاً} و {عَائِلاً} . والكلام تمثيل لحالة تيسير المنافع للذي تعسرت عليه بحالة من وجد شخصا في شدة يتطلع إلى من يعينه أو يغيثه.
واليتيم: الصبي الذي مات أبوه وقد كان أبو النبي صلى الله عليه وسلم توفي وهو جنين أو أول

المدة من ولادته.
والإيواء: مصدر أوى إلى البيت، إذا رجع إليه، فالإيواء: الإرجاع إلى المسكن، فهمزته الأولى همزة التعدية، أي جعله آويا، وقد أطلق الإيواء على الكفالة وكفاية الحاجة مجازا أو استعارة، فالمعنى أنشأك على كمال الإدراك والاستقامة وكنت على تربية كاملة مع أن شأن الأيتام أن ينشأوا على نقائض لأنهم لا يجدون من يعني بتهذيبهم وتعهد أحوالهم الخلقية. وفي الحديث "أدبني ربي فأحسن تأديبي" فكان تكوين نفسه الزكية على الكمال خيرا من تربية الأبوين.
والضلال: عدم الاهتداء إلى الطريق الموصل إلى المكان المقصود سواء سلك السائر طريقا آخر يبلغ إلى غير المقصود أم وقف حائرا لا يعرف أي طريق يسلك، وهو المقصود هنا لأن المعنى: أنك كنت في حيرة من حال أهل الشرك من قومك فأراكه الله غير محمود وكرهه إليك ولا تدري ماذا تتبع من الحق، فإن الله لما أنشأ رسوله صلى الله عليه وسلم على ما أراد من إعداده لتلقي الرسالة في الإبان، ألهمه أن ما عليه قومه من الشرك خطأ وألقى في نفسه طلب الوصول إلى الحق ليتهيأ بذلك لقبول الرسالة عن الله تعالى.
وليس المراد بالضلال هنا اتباع الباطل، فإن الأنبياء معصومون من الإشراك قبل النبوءة باختلاف علمائنا، وإنما اختلفوا في عصمتهم من نوع الذنوب الفواحش التي لا تختلف الشرائع في كونها فواحش وبقطع النظر عن التنافي بين اعتبار الفعل فاحشة وبين الخلو عن وجود شريعة قبل النبوءة، فإن المحققين من أصحابنا نزهوهم عن ذلك والمعتزلة منعوا ذلك بناء على اعتبار دليل العقل كافيا في قبح الفواحش على إرسال كلامهم في ضابط دلالة العقل. ولم يختلف أصحابنا أن نبينا صلى الله عليه وسلم لم يصدر منه ما ينافي أصول الدين قبل رسالته ولم يزل علماؤنا يجعلون ما تواتر من حال استقامته ونزاهته عن الرذائل قبل نبوءته دليلا من جملة الأدلة على رسالته، بل قد شافه القرآن به المشركين بقوله: {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [يونس:16] وقوله: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} [المؤمنون:69]، ولأنه لم يؤثر أن المشركين أفحموا النبي صلى الله عليه وسلم فيما أنكر عليهم من مساوي أعمالهم بأن يقولوا فقد كنت تفعل ذلك معنا.
والعائل: الذي لا مال له، والفقر يسمى عيلة، قال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ} [التوبة:28] وقد أغناه الله غنائين: أعظمهما غنى القلب إذ ألقى في قلبه قلة الاهتمام بالدنيا، وغنى المال حين ألهم خديجة مقارضته في تجارتها.

وحذفت مفاعيل {فآوى} ، {فهدى} ، {فأغنى} للعلم بها من ضمائر الخطاب قبلها، وحذفها إيجاز، وفيه رعاية عن الفواصل.
[9-11] {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ، وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ، وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} .
الفاء الأولى فصيحة.
و"أما" تفيد شرطا مقدرا تقديره: مهما يكن من شيء، فكان مفادها مشعرا بشرط آخر مقدر هو الذي اجتلبت لأجله فاء الفصيحة، وتقدير نظم الكلام إذ كنت تعلم ذلك وأقررت به فعليك بشكر ربك، وبين له الشكر بقوله: {أَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ} الخ.
وقد جعل الشكر هنا مناسبا للنعمة المشكور عليها وإنما اعتبر تقدير: إذا أردت الشكر، لأن شكر النعمة تنساق إليه النفوس بدافع المروءة في عرف الناس، وصدر الكلام ب"أما" التفصيلية لأنه تفصيل لمجمل الشكر على النعمة.
ولما كانت "أما" بمعنى: ومهما يكن شيء، قرن جوابها بالفاء.
واليتيم مفعول لفعل {فَلاَ تَقْهَرْ} . وقدم للاهتمام بشأنه ولهذا القصد لم يؤت به مرفوعا وقد حصل مع ذلك الوفاء باستعمال جواب "أما" أن يكون مفصولا عن "أما" بشيء كراهية موالاة فاء الجواب لحرف الشرط. ويظهر أنهم ما التزموا الفصل بين "أما" وجوابها بتقديم شيء من علائق الجواب إلا لإرادة الاهتمام بالمقدم لأن موقع "أما" لا يخلو عن اهتمام بالكلام اهتماما يرتكز في بعض أجزاء الكلام، فاجتلاب "أما" في الكلام أثر للاهتمام وهو يقتضي أن مثار الاهتمام بعض متعلقات الجملة، فذلك هو الذي يعتنون بتقديمه وكذلك القول في تقديم {السَّائِلَ} وتقديم {بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} على فعليهما.
وقد قوبلت النعم الثلاث المتفرع عليها هذا التفصيل بثلاثة أعمال تقابلها.
فيجوز أن يكون هذا التفصيل على طريقة اللف وانشر المرتب، وذلك ما درج عليه الطيبي، ويجري على تفسير سفيان بن عينة السائل بالسائل عن الدين والهدى، فقوله: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ} مقابل لقوله: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} [الضحى:6] لا محالة، أي فكما آواك ربك وحفظك من عوارض النقص المعتاد لليتم، فكن أنت مكرما للأيتام رفيقا بهم، فجمع ذلك في النهي عن قهره، لأن أهل الجاهلية كانوا يقهرون الأيتام ولأنه إذا نهى عن قهر اليتيم

مع كثرة الأسباب لقهره لأن القهر قد يصدر من جراء القلق من مطالب حاجاته فإن فلتات اللسان سريعة الحصول كما قال تعالى: {فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء:23] وقال {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُورًا} [الإسراء:28].
والقهر: الغلبة والإذل وهو المناسب هنا، وتكون هذه المعاني بالفعل كالدع والتحقير بالفعل وتكون بالقول قال تعالى: {وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفًا} [النساء:5]، وتكون بالإشارة مثل عبوس الوجه، فالقهر المنهي عنه هو القهر الذي لا يعامل به غير اليتيم في مثل ذلك فأما القهر لأجل الاستصلاح كضرب التأديب فهو من حقوق التربية قال تعالى: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} [البقرة:220].
وقوله: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ} مقابل قوله: {وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى} [الضحى:7] لأن الضلال يستعدي السؤال عن الطريق فالضال معتبر من نصف السائلين. والسائل عن الطريق قد يتعرض لحماقة المسؤول كما قال كعب:
وقال كل خليل كنت آمله: ... لا ألهينك أني عنك مشغول
فجعل الله الشكر عن هدايته إلى طريق الخير أن يوسع باله للسائلين.
فلا يختص السائل بسائل العطاء بل يشمل كل سائل وأعظم تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم بإرشاد المسترشدين، وروي هذا التفسير عن سفيان بن عينة. روى الترمذي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن الناس لكم تبع وإن رجالا يأتوكم من أقطار الأرض يتفقهون فإذا أتوكم فاستوصوا بهم خيرا" قال هارون العبدي: كنا إذا أتينا أبا سعيد يقول: مرحبا بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والتعريف في {السَّائِلَ} تعريف الجنس فيعم كل سائل، أي عما يسال النبي صلى الله عليه وسلم عن مثله.
ويكون النشر على ترتيب اللف.
فإن فسر {السَّائِلَ} بسائل المعروف كان مقابل قوله: {وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} [الضحى:8] وكان من النشر المشوش، أي المخالف لترتيب اللف، وهو ما درج عليه "الكشاف".
والنهر: الزجر بالقول مثل أن يقول: إليك عني. ويستفاد من النهي عن القهر والنهر النهي عما هو أشد منهما في الأذى كالشتم والضرب والاستيلاء على المال وتركه محتاجا

وليس من النهر نهي السائل عن مخالفة آداب السؤال في الإسلام.
وقوله: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} مقابل قوله: {وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} .
فإن الإغناء نعمة فأمره الله أن يظهر نعمة الله عليه بالحديث عنها وإعلان شكرها.
وليس المراد بنعمة ربك نعمة خاصة وإنما أريد الجنس فيفيد عموما في المقام الخطابي، أي حدث ما أنعم الله به عليك من النعم، فحصل في ذلك الأمر شكر نعمة الإغناء، وحصل الأمر بشكر جميع النعم لتكون الجملة تذييلا جامعا.
فإن جعل قوله: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ} مقابل قوله: {وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} على طريقة اللف والنشر المشوش كان قوله: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} مقابل قوله: {وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى} [الضحى:7] على طريقة اللف وانشر المشوش أيضا.
وكان المراد بنعمة ربه نعمة الهداية إلى الدين الحق.
والتحديث: الإخبار، أي أخبر بما أنعم الله عليك اعترافا بفضله، وذلك من الشكر. والقول في تقديم المجرور وهو {بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} على متعلقه كالقول في تقديم {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ، وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ} .
والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، فمقتضى الأمر في المواضع الثلاثة أن تكون خاصة به، وأصل الأمر الوجوب، فيعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم واجب عليه ما أمر به، وأما مخاطبة أمته بذلك فتجري على أصل مساواة الأمة لنبيها فيما فرض عليه ما لم يدل دليل على الخصوصية، فأما مساواة الأمة له في منع قهر اليتيم ونهر السائل فدلائله كثيرة مع ما يقتضيه أصل المساواة.
وأما مساواة الأمة في الأمر بالتحدث بنعمة الله فإن نعم الله على نبيه صلى الله عليه وسلم شتى منها ما لا مطمع لغيره من الأمة فيه مثل نعمة الرسالة ونعمة القرآن ونحو ذلك من مقتضيات الاصطفاء الأكبر، ونعمة الرب في الآية مجملة.
فنعم الله التي أنعم بها على نبيه صلى الله عليه وسلم كثيرة منها ما يجب تحديثه به وهو تبليغه الناس أنه رسول من الله وأن الله أوحى إليه وذلك داخل في تبليغ الرسالة وقد كان يعلم الناس الإسلام فيقول لمن يخاطبه أن تشهد أن لا اله إلا الله وأني رسول الله.

ومنها تعريفه الناس ما يجب له من البر والطاعة كقوله لمن قال له اعدل يا رسول الله فقال "أيأمنني الله على وحيه ولا تأمنوني" ، ومنه ما يدخل التحديث به في واجب الشكر على النعمة فهذا وجوبه على النبي صلى الله عليه وسلم خالص من عروض المعارض لأن النبي معصوم من عروض الرياء ولا يظن الناس به ذلك فوجوبه عليه ثابت.
وأما الأمة فقد يكون فقد يكون التحدث بالنعمة منهم محفوفا برياء أو تفاخر. وقد ينكسر له خاطر من هو غير واجد مثل النعمة المتحدث بها. وهذا مجال للنظر في المعارضة بين المقتضي والمانع، وطرقة الجمع بينهما إن أمكن أو الترجيح لأحدهما.وفي تفسير الفخر: سئل أمير المؤمنين علي رضي الله عنه عن الصحابة فأثنى عليهم فقالوا له: فحدثنا عن نفسك فقال: مهلا فقد نهى الله عن التزكية، فقيل له: أليس الله تعالى يقول {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} فقال: فإني أحدث كنت إذا سئلت أعطيت. وإذا سكت ابتديت، وبين الجانح علم جم فسألوني. فمن العلماء من خص النعمة في قوله: {بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} بنعمة القرآن ونعمة النبوة وقاله مجاهد. ومن العلماء من رأى وجوب التحدث بالنعمة. رواه الطبري عن أبي نضرة1.
وقال القرطبي: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والحكم عام له ولغيره. قال عياض في الشفاء وهذا خاص له عام لأمته.
وعن عمرو بن ميمون2: إذا لقي الرجل من إخوانه من يثق به يقول له رزق الله من الصلاة البارحة كذا وكذا، وعن عبد الله بن غالب3: أنه كان إذا أصبح يقول: لقد رزقني الله البارحة كذا، قرأت كذا، صليت كذا، ذكرت الله كذا، فقلنا له: يا أبا فراس إن مثلك لا يقول هذا، قال يقول الله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} وتقولون أنتم: لا تحدث بنعمة الله. وذكر ابن العربي عن أيوب قال: دخلت على أبي رجاء العطاردي فقال: لقد رزق الله البارحة: صليت كذا وسبحت كذا، قال أيوب: فاحتملت ذلك لأبي رجاء. وعن بعض السلف أن التحدث بالنعمة تكون للثقة من الإخوان ممن يثق به قال ابن
ـــــــ
1 أبو نضرة المنذر بن مالك العبدي البصري من صغار التابعين توفي سنة 108 ه.
2 كذا قال القرطبي فيحتمل أنه عمرو بن ميمون الرقي المتوفى سنة 74ه.
3 وصفه ابن عطية ببعض الصالحين ولعله عبد الله بن غالب الحداني البصري العابد توفي سنة 83هـ.

العربي إن التحدث بالعمل يكون بإخلاص من النية عند أهل الثقة فإنه ربما خرج إلى الرياء وإساءة الضن بصاحبه. وذكر الفخر والقرطبي عن الحسن بن علي: إذا أصبت خيرا أو عملت خيرا فحدث به الثقة من إخوانك. قال الفخر: إلا أن هذا إنما يحسن إذا لم يتضمن رياء وظن أن غيره يقتدي به.

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الشرحسميت في معظم التفاسير وفي "صحيح البخاري" و"جامع الترمذي" سورة ألم نشرح ، وسميت في بعض التفاسير سورة الشرح ومثله في بعض المصاحف المشرقية تسمية بمصدر الفعل الواقع فيها من قوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1] وفي بعض التفاسير تسميتها سورة الانشراح.
وهي مكية بالاتفاق.
وقد عدت الثانية عشرة في عداد نزول السور، نزلت بعد سةدورة الضحى بالاتفاق وقبل سورة العصر.
وعن طاووس وعمر بن عبد العزيز أنهما كانا يقولان ألم نشرح من سورة الضحى. وكانا يقرءانهما بالركعة الواحدة لا يفصلان بينهما يعني في الصلاة المفروضة وهذا شذوذ مخالف لما اتفقت عليه الأمة من تسوير المصحف الإمام.
وعدد آيها ثمان.
أغراضها
احتوت على ذكر عناية الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بلطف الله له وإزالة الغم والحرج عنه، وتفسير ما عسر عليه، وتشريف قدره لينفس عنه، فمضمونها شبيه بأنه حجة على مضمون سورة الضحى تثبيتا له بتذكيره سالف عنايته به وإنارة سبيل الحق وترفيع الدرجة ليعلم أن الذي ابتدأه بنعمته ما كان ليقطع عنه فضله، وكان ذلك بطريقة التقرير بماض يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم.
واتبع ذلك بوعده بأنه كلما عرض له عسر فسيجد من أمره يسرى كدأب الله تعالى في

معاملته فليتحمل متاعب الرسالة ويرغب إلى الله عونه.
[1-4] {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ، وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ، الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ، وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} .
استفهام تقريري على النفي. والمقصود التقرير على إثبات المنفي كما تقدم غير مرة. وهذا التقرير مقصود به التذكير لأجل أن يراعي هذه المنة عندما يخالجه ضيق صدر مما يلقاه من أذى قوم يريد صلاحهم وإنقاذهم من النار ورفع شأنهم بين الأمم،ليدوم على دعوته العظيمة نشيطا غير ذي أسف ولا كمد.
والشرح حقيقته: فصل أجزاء اللحم بعضها عن بعض، ومنه الشريحة للقطعة من اللحم، والتشريح في الطب، ويطلق على انفعال النفس بالرضى بالحال المتلبس بها. وظاهر كلام "الأساس" أن هذا إطلاق حقيقي. ولعله راعى كثرة الاستعمال، أي هو من المجاز الذي يساوي الحقيقة لأن الظاهر أن الشرح الحقيقي خاص بشرح اللحم، وأن إطلاق الشرح على رضى النفس بالحال أصله استعارة ناشئة عن إطلاق لفظ الضيق وما تصرف منه على الإحساس بالحزن والكمد قال تعالى: {وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ} [هود:12] الآية. فجعل إزالة ما في النفس من حزن مثل شرح اللحم وهذا الأنسب بقوله: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:5].
وتقدم قوله: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} في سورة طه [25].
فالصدر مراد به الإحساس الباطني الجامع لمعنى العقل والإدراك. وشرح صدره كناية عن الإنعام عليه بكل ما تطمح إليه نفسه الزكية من الكمالات وإعلامه برضى الله عنه وبشارته بما سيحصل للدين الذي جاء به من النصر.
هذا تفسير الآية بما يفيده نظمها واستقلالها عن المرويات الخارجية، ففسرها ابن عباس بأن الله شرح قلبه بالإسلام، وعن الحسن قال، شرح صدره أن ملئ علما وحكما، وقال سهل بن عبد الله التستري: شرح صدره بنور الرسالة، وعلى هذا الوجه حمله كثير من المفسرين ونسبه ابن عطية إلى الجمهور.
ويجوز أن يجعل الشرح شرحا بدنيا. وروي عن ابن عباس أنه فسر به وهو ظاهر صنيع الترمذي إذ أخرج حديث شق الصدر الشريف في تفسير هذه السورة فتكون الآية

إشارة إلى مرويات في شق صدره صلى الله عليه وسلم شقا قدسيا، وهو المروي بعض خبره في الصحيحين، والمروي مطولا في السيرة والمسانيد، فوقع بعض الروايات في الصحيحين أنه كان في رؤيا النوم ورؤيا الأنبياء وحي، وفي بعضها أنه كان يقظة وهو ظاهر ما في "البخاري"، وفي "صحيح مسلم" أنه يقظة وبمرأى من غلمان أترابه، وفي حديث مسلم عن أنس بن مالك أنه قال رأيت أثر الشق في جلد صدر النبي صلى الله عليه وسلم، وفي بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم بين النائم واليقظان، والروايات مختلفة في زمانه ومكانه مع اتفاقها على أنه كان بمكة. واختلاف الروايات حمل بعض أهل العلم على القول بأن شق صدره الشريف تكرر مرتين إلى أربع، منها حين كان عند حليمة. وفي حديث عبد الله بن أحمد بن حنبل أن الشق كان وعمر النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين.
والذي في الصحيح عن أبي ذر أنه كان عند المعراج به إلى السماء، ولعل بعضها كان رؤيا وبعضها حسا. وليس في شيء من هذه الأخبار على اختلاف مراتبها ما يدل على أنه الشرح المراد في الآية، وإذ قد كان ذلك الشق معجزة خارقة للعادة يجوز أن يكون مرادا وهو ما نحاه أبو بكر بن العربي في الأحكام، وعليه يكون الصدر قد أطلق على حقيقته وهو الباطن الحاوي للقلب ومن العلماء فسر الصدر بالقلب حكاه عياض في الشفا، يشير إلى ما جاء في خبر شق الصدر من إخراج قلبه وإزالة مقر الوسوسة منه، وكلا المعنيين للشرح يفيد أنه إيقاع معنى عظيم لنفس النبي صلى الله عليه وسلم إما مباشرة وإما باعتبار مغزاه كما لا يخفى.
واللام في قوله: {لك} لام التعليل، وهو يفيد تكريما للنبي صلى الله عليه وسلم بأن الله فعل ذلك لأجله.
وفي ذكر الجار والمجرور قبل ذكر المشروح سلوك طريقة الإبهام للتشويق فإنه لما ذكر فعل {نَشْرَحْ} علم السامع أن ثم مشروحا، فلما وقع قوله: {لك} قوي الإبهام فزاد التشويق، لأن {لك} يفيد معنى شيئا لأجلك فلما وقع بعده قوله "صدره" تعين المشروح المترقب فتمكن في الذهن كمال تمكن، وهذا ما أشار إليه في "الكشاف" وقفي علي صاحب المفتاح في مبحث الإطناب.
والوزر: الحرج، ووضعه: حطه عن حامله، والكلام تمثيل لحال إزالة الشدائد والكروب بحال من يحط ثقلا عن حامله ليريحه من عناء الثقل.
والمعنى: أن الله أزال عنه كل ما كان يتحرج منه من عادات أهل الجاهلية التي لا

تلائم ما فطر الله عليه نفسه من الزكاء والسمو ولا يجد بدا من مسايرتهم عليه فوضع عنه ذلك حين أوحى إليه بالرسالة، وكذلك ما كان يجده في أول بعثته من ثقل الوحي فيسره الله عليه بقوله: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى} إلى قوله: {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} [الأعلى:6-8].
و {أَنقَضَ} جعل الشيء ذانقيض، والنقيض صوت صرير المحمل والرحل وصوت عظام المفاصل، وفرقعة الأصابع،وفعله القاصر من باب نصر ويعدى بالهمزة.
وإسناد {أَنقَضَ} إلى الوزر مجاز عقلي، وتعديته إلى الظهر تبع لتشبيه المشقة بالحمل، فالتركيب تمثيل لمتجشم المشاق الشديدة بالحمولة المثقلة بالإجمال تثقيلا شديدا حتى يسمع لعظام ظهرها فرقعة وصرير، وهو تمثيل بديع لأنه تشبيه مركب قابل لتفريق التشبيه على أجزائه.
ووصف الوزر بهذا الوصف تكميل للتمثيل بأنه وزر عظيم.
واعلم أن في قوله: {أَنقَضَ ظَهْرَكَ} اتصال حرفي الضاد والظاء وهما متقاربا المخرج فربما يحصل من النطق بهما شيء من الثقل على اللسان ولكنه لا ينافي الفصاحة إذ لا يبلغ مبلغ ما يسمى بتنافر الكلمات بل مثله مغتفر في كلام الفصحاء. والعرب فصحاء الألسن فإذا اقتضى نظم الكلام ورود مثل هذين الحرفين المتقاربين لم يعبأ البليغ بما يعرض عند اجتماعهما من بعض الثقل، ومثل ذلك قوله تعالى: {وَسَبِّحْهُ} [الإنسان:26] في اجتماع الحاء مع الهاء، وذلك حيث لا يصح الإدغام. وقد أوصى علماء التجويد بظهار الضاد مع الظاء إذا تلاقيا كما في هذه الآية وقوله: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ} [الفرقان:27] ولها نظائر في القرآن.
وهذه الآية هي المشتهرة ولم يزل الأيمة في المساجد يتوخون الحذر من إبدال أحد هذين الحرفين بالآخر للخلاف الواقع بين الفقهاء في بطلان صلاة اللحان ومن لا يحسن القراءة مطلقا أو إذا كان عامدا إذا كان فذا وفي بطلان صلاة من خلفه أيضا إذا كان اللاحن إماما.
ورفع الذكر: جعل ذكره بين الناس بصفات الكمال، وذلك بما نزل من القرآن ثناء عليه وكرامة. وبإلهام الناس التحدث بما جبله الله عليه من المحامد منذ نشأته.
وعطف {وَوَضَعْنَا} و {وَرَفَعْنَا} بصيغة المضي على فعل {نَشْرَحْ} بصيغة المضارع لأن "لم" قلبت زمن الحال إلى المضي فعطف عليه الفعلان بصيغة المضي لأنهما داخلان

في حيز التقرير فلما لم يقترن بهما حرف "لم" صير بهما إلى ما تقيده "لم" من معنى المضي.
والآية تشير إلى أحوال كان النبي صلى الله عليه وسلم في حرج منها أو من شأنه أن يكون في حرج، وأن الله كشف عنه ما به من حرج منها أو هيأ نفسه لعدم النوء بها.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمها كما أشعر به إجمالها في الاستفهام التقريري المقتضي علم المقرر بما قرر عليه، ولعل تفصيلها فيما سبق في سورة الضحى فلعلها كانت من أحوال كراهيته ما عليه أهل الجاهلية من نبذ توحيد الله ومن مساوي الأعمال.
وكان في حرج من كونه بينهم ولا يستطيع صرفهم عما هم فيه ولم يكن يترقب طريقها لأن يهديهم أو لم يصل إلى معرفة كنه الحق الذي يجب أن يكون قومه عليه ولم يطمع إلا في خويصة نفسه يود أن يجد لنفسه قبس نور يضيء له سبيل الحق مما كان باعثا له على التفكر والخلوة والالتجاء إلى الله، فكان يتحنث في غار حراء فلما انتشله الله من تلك الوحلة بما أكرمه به من الوحي كان ذلك شرحا مما كان يضيق به صدره يومئذ، فانجلى له النور، وأمر بإنقاذ قومه وقد يظنهم طلاب حق وأزكياء نفوس فلما قابلوا إرشاده بالإعراض وملاطفته لهم بالامتعاض، حدث في صدره ضيق آخر أشار إلى مثله قوله تعالى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:3] وذلك الذي لم يزل ينزل عليه في شأنه ربط جأشه بنحو قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:272] فكلما نزل عليه وحي من هذا أكسبه شرحا لصدره، وكان لحماية أبي طالب إياه وصده قريشا عن أذاه منفس عليه، وأقوى مؤيد له لدعوته ينشرح له صدره. وكلما آمن أحد من الناس تزحزح بعض الضيق عن صدره، وكانت شدة قريش على المؤمنين يضيق لها صدره فكلما خلص بعض المؤمنين من أذى قريش بنحو عتق الصديق بلالا وغيره، وبما بشره الله من عاقبة النصر له وللمؤمنين تصريحا وتعريضا نحو قوله في السورة قبلها {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:5] فذلك من الشرح المراد هنا. وجماع القول في ذلك أن تجليات هذا الشرح عديدة وأنها سر بين الله تعالى وبين رسوله صلى الله عليه وسلم المخاطب بهذه الآية.
وأما وضع الوزر عمه فحاصل بأمرين: بهدايته إلى الحق التي أزالت حيرته بالتفكر في حال قومه وهو ما أشار إليه قوله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى} [الضحى:7]، وبكفايته مؤنة كلف عيشه التي قد تشغله عما هو فيه من الأنس بالفكرة في صلاح نفسه، وهو ما

أشار إليه قوله: {وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} [الضحى:8].
ورفع الذكر مجاز في إلهام الناس لأن يذكروه بخير، وذلك بإيجاد أسباب تلك السمعة حتى يتحدث بها الناس، استعير الرفع لحسن الذكر لأن الرفع جعل الشيء عاليا لا تناله جميع الأيدي ولا تدوسه الأرجل. فقد فطر الله رسوله صلى الله عليه وسلم على مكارم يعز وجود نوعها ولم يبلغ أحد شأو ما بلغه منها حتى لقب في قومه بالأمين. وقد قيل إن قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ، مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير: 19-21] مراد به النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن عظيم رفع ذكره أن اسمه مقترن باسم الله تعالى في كلمة إلإسلام وهي كلمة الشهادة.
وروي هذا التفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد الخدري عن ابن حبان وأبي يعلى قال السيوطي: وإسناده حسن، وأخرجه عياض في "الشفاء" بدون سند. والقول في ذكر كلمة {لك} مع {وَرَفَعْنَا} كالقول في ذكر نظيرها مع قوله: {أَلَمْ نَشْرَحْ} .
وإنما لم يذكر مع {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ} بأن يقال: ووضعنا لك وزرك للاستغناء بقوله: {عنك} فإنه في إفادة الإبهام ثم التفصيل مساو لكلمة {لك} ، وهي في إفادة العناية به تساوي كلمة {لك} ، لأن وضع الفعل المعدى إلى الوزر يدل على أن الوضع عنه فكانت زيادة {عنك} إطنابا يشير إلى ذلك عناية به نظير قوله: {لك} الذي قبله، فحصل بذكر عنك إيفاء إلى تعدية فعل {وضعنا} مع الإيفاء بحق الإبهام ثم البيان.
[5-6] {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} .
الفاء فصيحة تفصح عن كلام مقدر يدل عليه الاستفهام التقريري هنا، أي إذا علمت هذا وتقرر، تعلم أن اليسر مصاحب للعسر، وإذ كان اليسر نقيض العسر كانت مصاحبة اليسر للعسر مقتضية نقض تأثير العسر ومبطلة لعمله، فهو كناية رمزية عن إدراك العناية الإلهية به فيما سبق، وتعريض بالوعد باستمرار ذلك في كل أحواله.
وسياق الكلام وعد للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يسر الله له المصاعب كلما عرضت له، فاليسر لا يختلف عن اللحاق بتلك المصاعب، وذلك من خصائص كلمة {مع} الدالة على المصاحبة.

وكلمة {مع} هنا مستعملة في غير حقيقة معناها لأن العسر واليسر نقيضان فمقارنتهما معا مستحيلة، فتعين أن المعية مستعارة لقرب حصول اليسر عقب حلول العسر أو ظهور بوادره، بقرينة استحالة المعنى الحقيقي للمعية. وبذلك يندفع التعارض بين هذه الآية وبين قوله تعالى: {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} في سورة الطلاق [7].
فهذه الآية في عسر خاص يعرض للنبي صلى الله عليه وسلم، وآية سورة الطلاق عامة، وللبعدية فيها مراتب متفاوتة.
فالتعريف في {العسر} تعريف العهد، أي العسر الذي عهدته وعلمته وهو من قبيل ما يسميه نحاة الكوفة بأن "ال" فيه عوض عن المضاف إليه نحو قوله تعالى: {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} النازعات:41] أي فإن مع عسرك يسرا، فتكون الصورة كلها مقصورة على بيان كرامة النبي صلى الله عليه وسلم عند ربه تعالى.
وعد الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بأن الله جعل الأمور العسرة عليه يسرة له وهو ما سبق ووعده له بقوله: {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} [الأعلى:8].
وحرف {أن} للاهتمام بالخبر.
وإنما لم يستغن بها عن الفاء كما يقول الشيخ عبد القاهر: "إن" تغني غناء فاء التسبب، لأن الفاء هنا أريد بها الفصيحة مع التسبب فلو أقتصر على حرف "أن" لفات معنى الفصيحة.
وتنكير {يسرا} للتعظيم، أي مع العسر العارض لك تيسيرا عظيما يغلب العسر ويجوز أن يكون هذا وعد للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته لأنما يعرض له من عسر إنما يعرض له في شؤون دعوته للدين ولصالح المسلمين.
وروى ابن جرير عن يونس ومعمر عن الحسن عن النبي إنما لما نزلت هذه الآية {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ابشروا أتاكم اليسر لن يغلب عسر يسرين" فاقتضى أن الآية غير خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم بل تعمه وأمته. وفي "الموطأ" أنا أبا عبيدة بن الجراح كتب إلى عمر بن الخطاب يذكر له جموعا من الروم وما يتخوف منهم فكتب إليه عمر: أما بعد فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن من منزل شدة يجعل الله بعده فرجا وإنه لن يغلب عسر يسرين.
وروى ابن أبي حاتم والبزار في مسنده عن عائذ بن شريح قال: سمعت أنس بن

مالك يقول كان النبي صلى الله عليه وسلم جالسا وحياله حجر، فقال: لو جاء العسر فدخل هذا الحجر لجاء اليسر حتى يدخل عليه فيخرجه فأنزل الله عز وجل {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} . قال البزار: لا نعلم رواه عن أنس إلا عائذ بن شريح قال ابن كثير: وقد قال أبو حاتم الرازي: في حديث عائذ ابن شريح ضعف.
وروى ابن جرير مثله عن ابن مسعود موقوفا. ويجوز أن تكون جملة {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} معترضة بين جملة {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:4] وجملة {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ} [الشرح:7] تنبيها على أن الله لطيف بعباده فقدر أن لا يخلو عسر من مخالطة يسر وإنه لولا ذلك لهلك الناس قال تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ} [النحل:61].
وروي عن ابن عباس يقول الله تعالى خلقت عسرا واحدا وخلقت يسرين ولن يغلب عسر يسرين اه.
والعسر: المشقة في تحصيل المرغوب والعمل المقصود.
واليسر ضده وهو: سهولة تحصيل المرغوب وعدم التعب فيه.
وجملة {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} مؤكدة لجملة {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} وفائدة هذا التأكيد تحقيق اطراد هذا الوعد وتعميمه لأنه خبر عجيب.
ومن المفسرين من جعل اليسر في الجملة الأولى يسر الدنيا وفي الجملة الثانية يسر الآخرة وأسلوب الكلام العربي لا يساعد عليه لأنه متمحض لكون الثانية تأكيدا.
هذا وقول النبي صلى الله عليه وسلم "لن يغلب عسر يسرين" قد ارتبط لفظه ومعناه بهذه الآية. وصرح في بعض رواياته بأنه قرأ هذه الآية حينئذ وتضافر المفسرون على انتزاع ذلك منها فوجب التعرض لذلك، وشاع بين أهل العلم أن ذلك مستفاد من تعريف كلمة العسر وإعادتها معرفة ومن تنكير كلمة "يسر" وإعادتها منكرة، وقالوا: إن اللفظ النكرة إذا أعيد نكرة فالثاني غير الأول وإذا أعيد اللفظ معرفة فالثاني عين الأول كقوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً، فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل:15-16].
وبناء كلامهم على قاعدة إعادة النكرة معرفة خطأ لأن تلك القاعدة في إعادة النكرة معرفة لا في إعادة المعرفة معرفة وهي خاصة بالتعريف بلام العهد دون لام الجنس، وهي أيضا في إعادة اللفظ في جملة أخرى والذي في الآية ليس بإعادة لفظ في كلام ثان بل

هي تكرير للجملة الأولى، فلا ينبغي الالتفات إلى هذا المأخذ، وقد أبطله من قبل أبو على الحسين الجرجاني1 في كتاب "النظم" كما في "معالم التنزيل". وأبطله صاحب "الكشاف" أيضا، وجعل ابن هشام في "مغنى اللبيب" تلك القاعدة خطأ.
والذي يظهر في تقرير معنى قوله لن يغلب عسر يسرين أن جملة {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} تأكيد لجملة {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} . ومن المقرر أن المقصود من تأكيد الجملة في مثله هو تأكيد الحكم الذي تضمنه الخبر. ولا شك أن الحكم المستفاد من هذه الجملة هو ثبوت التحاق اليسر بالعسر عند حصوله، فكان التأكيد مفيدا ترجيح أثر اليسر على أثر العسر، وذلك الترجيح عبر عنه بصيغة التثنية في قوله يسرين فالتثنية هنا كناية رمزية عن التغلب والرجحان فإن التثنية قد يكنى بها عن التكرير المراد منه التكثير كما في قوله تعالى: {ثُمَّ ارْجِعْ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك:4] أي أرجع البصر كثيرا لأن البصر لا ينقلب حسيرا من رجعتين. ومن ذلك قول العرب: لببيك، وسعديك، ودواليك والتكرير يستلزم قوة الشيء المكرر فكانت القوة لازم لازم التثنية وإذا تعددت اللوازم كانت الكناية رمزية.
وليس ذلك مستفادا من تعريف {الْعُسْرِ} باللام ولا من تنكير {اليسر} وإعادته منكرا.
[7] {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} .
تفريع على ما تقرر من التذكير باللطف والعناية ووعده وبتيسير ما هو عسير عليه في طاعته التي أعظمها تبليغ الرسالة دون ملل ولا ضجر.
والفراغ: خلو باطن الظرف أو الإناء لأن شأنه أن يظرف فيه.
وفعل فرغ يفيد أن فاعله كان مملوءا بشيء، وفراغ الإنسان. مجاز في إتمامه ما شأنه أن يعمله.
ولم يذكر هنا متعلق {فَرَغْتَ} وسياق الكلام يقتضي أنه لازم أعمال يعلمها
ـــــــ
1 قال حمزة بن يوسف السهمي المتوفى سنة 427 ه. في "تاريخ علماء جرجان" هو أبو علي الحسين بن يحيى بن نصر الجرجاني له تصانيف عدة منها "في نظم القرآن" مجلدتان. كان من أهل السنة روى عن العباس بن يحيى "أو ابن عيسى" العقيلي اه.

الرسول صلى الله عليه وسلم كما أن مساق السورة في تيسير مصاعب الدعوة وما يحف بها. فالمعنى إذا أتممت عملا من مهام الأعمال فأقبل على عمل آخر بحيث يعمر أوقاته كلها بالأعمال العظيمة. ومن هنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند قفوله من إحدى غزواته "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر" ، فالمقصود بالأمر هو {فَانصَبْ} . وأما قوله: {فَإِذَا فَرَغْتَ} فتمهيد وإفادة لإيلاء العمل بعمل آخر في تقرير الدين ونفع الأمة. وهذا من صيغ الدلالة على تعاقب الأعمال. ومثله قول القائل: ما تأتيني من فلان صلة إلا أعقبتها أخرى.
واختلفت أقوال المفسرين من السلف في تعيين المفروع منه، وإنما هو اختلاف في الأمثلة فحذف المتعلق هنا لقصد العموم وهو عموم عرفي لنوع من الأعمال التي دل عليها السياق ليشمل كل متعلق عمله مما هو مهم كما علمت وهو أعلم بتقديم بعض الأعمال على بعض إذا لم يمكن اجتماع كثير منها بقدر الإمكان كما أقر الله بأداء الصلاة مع الشغل بالجهاد بقوله: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} إلى قوله: {كِتَابًا مَوْقُوتًا} في سورة النساء [102-103].
وهذا الحكم ينسحب على كل عمل ممكن من أعماله الخاصة به مثل قيام الليل والجهاد عند تقوي المسلمين وتدبير أمور الأمة.
وتقديم {فَإِذَا فَرَغْتَ} على {فَانصَبْ} للاهتمام بتعليق العمل بوقت الفراغ من غيره لتتعاقب الأعمال. وهذه الآية من جوامع الكلم القرآنية لما احتوت عليه من كثرة المعاني.
[8] {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} .
عطف على تفريع الأمر بالشكر على النعم أمر بطلب استمرار نعم الله عليه كما قال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7].
والرغبة: طلب حصول ما هو محبوب وأصله أن يعدى إلى المطلوب منه بنفسه ويعدى إلى الشيء المطلوب ب"في". ويقال: رغب عن كذا بمعنى صرف رغبته عنه بأن رغب في غيره وجعل منه قوله تعالى: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ} [النساء:127] بتقدير حرف الجر المحذوف قبل حرف "أن" هو حرف "عن". وذلك تأويل عائشة أم المؤمنين كما تقدم في سورة النساء.
وأما تعدية فعل {فَارْغَبْ} هنا بحرف {إلى} فلتضمينه معنى الإقبال والتوجه تشبيها

بسير السائر إلى من عنده حاجته كما قال تعالى عن إبراهيم {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي} [الصافات:99].
وتقديم {إِلَى رَبِّكَ} على {فَارْغَبْ} لإفادة الاختصاص، أي إليه لا إلى غيره تكون رغبتك فإن صفة الرسالة أعظم صفات الخلق فلا يليق بصاحبها أن يرغب غير الله تعالى.
وحذف مفعول "ارغب" ليعم كل ما يرغبه النبي صلى الله عليه وسلم وهل يرغب النبي إلا في الكمال النفساني وانتشار الدين ونصر المسلمين.
واعلم أن الفاء في قوله: {فَانصَبْ} [الشرح:7] وقوله: {فَارْغَبْ} رابطة للفعل لأن تقديم المعمول يتضمن معنى الاشتراط والتقييد فأن تقديم المعمول لما أفاد الاختصاص نشأ منه معنى الاشتراط، وهو كثير في الكلام قال تعالى: {بَلْ اللَّهَ فَاعْبُدْ} [الزمر:66] وقال: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ، وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ، وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر:3-5]، وفي تقديم المجرور قال تعالى {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26] وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمن سأل منه أن يخرج للجهاد "ألك أبوان?" قال نعم: قال "ففيهما فجاهد" . بل قد يعامل معاملة الشرط في الإعراب كما روي قول النبي صلى الله عليه وسلم "كما تكونوا يول عليكم" بجزم الفعلين، وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى: {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} في سورة يونس [58].
وذكر الطيبي عن أمالي السيد يعني ابن الشجري أن اجتماع الفاء والواو هنا من أعجب كلامهم لأن الفاء تعطف أو تدخل في الجواب وما أشبه الجواب بالاسم الناقص، أو في صلة الوصول الفعلية لشبهها بالجواب ، وهي هنا خارجة عما وضعت له اه. ولا يبقى تعجب بعد ما قررناه.

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة التينسميت في معظم كتب التفسير ومعظم المصاحف "سورة والتين" بإثبات الواو تسمية بأول كلمة فيها. وسماها بعض المفسرين "سورة التين" بدون الواو لأن فيها لفظ "التين" كما قالوا "سورة البقرة" وبذلك عنونها الترمذي وبعض المصاحف.
وهي مكية عند أكثر العلماء قال ابن عطية: ل أعرف في ذلك خلافا بين المفسرين، ولم يذكرها في "الإتقان" في عداد السور المختلف فيها. وذكر القرطبي عن قتادة أنها مدنية، ونسب أيضا إلى ابن عباس، والصحيح عن ابن عباس أنه قال: هي مكية.
وعدت الثامنة والعشرين في ترتيب نزول السور، نزلت بعد سورة البروج وقبل سورة الإيلاف.
وعدد آياتها ثمان.
أغراضها
احتوت هذه السورة على التنبيه بأن الله خلق الإنسان على الفطرة المستقيمة ليعلموا أن الإسلام هو الفطرة كما قال في الآية الأخرى {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30] وأن ما يخالف أصوله بالأصالة أو بالتحريف فساد وضلال، ومتبعي ما يخالف الإسلام أهل ضلالة.
والتعريض بالوعيد للمكذبين بالإسلام.
والإشارة بالأمور المقسم بها إلى أطوار الشرائع الأربعة إيماء إلى أن الإسلام جاء مصدقا لها وأنها مشاركة أصولها لأصول دين الإسلام.

والتنويه بحسن جزاء الذين اتبعوا الإسلام في أصوله وفروعه.
وشملت الامتنان على الإنسان بخلقه على أحسن نظام في جثمانه ونفسه.
[1-5] {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ، وَطُورِ سِينِينَ، وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ، لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} .
ابتداء الكلام بالقسم المؤكد يؤذن بأهمية الغرض المسوق له الكلام، وإطالة القسم تشويق إلى المقسم عليه.
والتين ظاهرة: الثمرة المشهورة بهذا الاسم، وهي ثمرة يشبه شكلها شكل الكمثرى ذات قشر لونه أزرق إلى السواد، تتفاوت أصنافه في قتومة قشره، سهلة التقشير تحتوي على مثل وعاء أبيض في وسطه عسل طيب الرائحة مخلوط ببزور دقيقة مثل السمسم الصغير، وهي من أحسن الثمار صورة وطعما وسهولة مضغ فحالتها دالة على دقة صنع الله ومؤذنة بعلمه وقدرته، فالقسم بها لأجل دلالتها إلى صفات إلهية كما يقسم بالاسم لدلالته على الذات، مع الإيذان بالمنة على الناس إذ خلق لهم هذه الفاكهة التي تنبت في كل البلاد والتي هي سهلة النبات لا تحتاج إلى كثرة عمل وعلاج.
والزيتون أيضا ظاهره: الثمرة المشهورة ذات الزيت الذي يعصر منها فيطعمه الناس ويستصبحون به. والقسم بها كالقسم بالتين من حيث إنها دالة على صفات الله، مع الإشارة إلى نعمة خلق هذه الثمرة النافعة الصالحة التي تكفي الناس حوائج طعامهم وإضاءتهم.
وعلى ظاهر الاسمين للتين والزيتون حملهما جمع من المفسرين الأولين ابن عباس ومجاهد والحسن وعكرمة والنخعي وعطاء وجابر بن زيد ومقاتل والكلبي وذلك لما في هاتين الثمرتين من المنافع للناس المقتضية الامتنان عليهم بأن خلقها الله لهم، ولكن مناسبة ذكر هذين مع {طُورِ سِينِينَ} ومع {الْبَلَدِ الأَمِينِ} تقتضي أن يكون لهما محمل أوفق بالمناسبة فروي عن ابن عباس أيضا تفسير التين بأنه مسجد نوح الذي بني على الجودي بعد الطوفان. ولعل تسمية هذا الجبل التين لكثرته فيه، إذ قد تسمى الأرض باسم ما يكثر فيها من الشجر كقول امرئ القيس:
امرخ ديارهم أم عشر

وسمي بالتين موضع جاء في شعر النابغة يصف سحابات بقوله:
صهب الظلال أتين التين عن عرض ... يزجين غيما قليلا ماؤه شبما
والزيتون يطلق على الجبل الذي بني عليه المسجد الأقصى لأنه ينبت الزيتون. وروي هذا عن ابن عباس والضحاك وعبد الرحمان بن زيد وقتادة وعكرمة ومحمد بن كعب القرضي. ويجوز عندي أن يكون القسم ب {التِّينِ وَالزَّيْتُونِ} معنيا بهما شجر هاتين الثمرتين، أي اكتسب نوعاهما شرفا من بين الأشجار يكون كثير منه نابتا في هذين المكانين المقدسين كما قال جرير:
أتذكر حين تصقل عارضيها ... بفرع بشامة سقي البشام1
فدعا لنوع البشام بالسقي لأجل عود بشامة الحبيبة.
وأما {طُورِ سِينِينَ} فهو الجبل المعروف ب طور سينا. والطور: الجبل بلغة النبط وهم الكنعانيون، وعرف هذا الجبل ب {طُورِ سِينِينَ} لوقوعه في صحراء "سنين"، و"سنين" لغة في سين وهي صحراء بين مصر وبلاد فلسطين. وقيل: سنين اسم الأشجار بالنبطية أو بالحبشة، وقيل: معناه الحسن بلغة الحبشة.
وقد جاء تعريبه في العربية على صيغة تشبه صيغة جمع المذكر السالم وليس بجمع، مجاز في إعرابه أن يعرب مثل إعراب جمع المذكر بالواو نيابة عن الضمة، أو الياء نيابة عن الفتحة أو الكسرة، وأن يحكى على الياء مع تحريك نونه بحركات الإعراب مثل: صفين ويبرين وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} [الطور:1-2].
و {الْبَلَدِ الأَمِينِ} : مكة، سمي الأمين لأن من دخله كان آمنا، فالأمين فعيل بمعنى مفعل مثل "الداعي السميع" في بيت عمرو بن معد يكرب، ويجوز ان يكون بمعنى مفعول على وجه الإسناد المجازي، أي المأمون ساكنوه قال تعالى: {وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش:4].
والإشارة إليه للتعظيم ولأن نزول السورة في ذلك البلد فهو حاضر بمرأى ومسمع من المخاطبين نظير قوله: {لاَ أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد:1].
وعلى ما تقدم ذكره من المحملين الثانيين للتين والزيتون تتم المناسبة بين الإيمان
ـــــــ
1 وفي رواية التبريزي في "شرح الحماسة": أتنسى إذ توعدنا سليمى بعود... الخ ص 50 ج 1.

وتكون إشارة إلى موارد أعظم الشرائع الواردة للبشر، فالتين إيماء إلى رسالة نوح وهي أول شريعة لرسول، والزيتون إيماء إلى شريعة إبراهيم فإنه بنى المسجد الأقصى كما ورد في الحديث وقد ورد في أول الإسراء، و {طُورِ سِينِينَ} إيماء إلى شريعة التوراة، و {الْبَلَدِ الأَمِينِ} إيماء إلى مهبط شريعة الإسلام، ولم يقع إيماء إلى شريعة عيسى لأنها تكملة لشريعة التوراة.
وقد يكون الزيتون على تأويله بالمكان وبأنه المسجد الأقصى إيماء إلى مكان ظهور شريعة عيسى عليه السلام لأن المسجد الأقصى بناه سليمان عليه السلام فلم تنزل فيه شريعة قبل شريعة عيسى ويكون قوله: {وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} إيماء إلى شريعة إبراهيم وشريعة الإسلام فإن الإسلام جاء على أصول الحنيفية وبذلك يكون إيماء هذه الآية ما صرح به في قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} [الشورى:13]، وبذلك يكون ترتيب الإيماء إلى شرائع نوح وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام غير جار على ترتيب ظهورها فتوجيه مخالفة الترتيب الذكري للترتيب الخارجي أنه لمراعاة اقتران الاسمين المنقولين عن اسمي الثمرتين، ومقارنة الاسمين الدالين على نوعين من أماكن الأرض، يتأتى محسن مراعاة النظير ومحسن التورية، وليناسب {سِينِينَ} فواصل السورة.
وفي ابتداء السورة بالقسم بما يشمل إرادة مهابط أشهر الأديان الإلهية براعة استهلال لغرض السورة وهو أن الله خلق الإنسان في أحسن تقويم، أي خلقه على الفطرة السليمة مدركا لأدلة وجود الخالق ووحدانيته. وفيه إيماء إلى أن ما خالف ذلك من النحل والملل قد حاد عن أصول شرائع الله كلها بقطع النظر عن اختلافها في الفروع، ويكفي في تقوم معنى براعة الاستهلال ما يلوح في المعنى من احتمال.
وجملة {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} مع ما عطف عليه هو جواب القسم.
والقسم عليه يدل على أن التقويم تقويم خفي وأن الرد رد خفي يجب التدبر لإدراكه كما سنبينه في قوله: {فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} . فلذلك ناسب أن يحقق بالتوكيد بالقسم، لأن تصرفات معظم الناس في عقائدهم جارية على حالة تشبه حالة من ينكرون أنهم خلقوا على الفطرة.
والخلق: تكوين وإيجاد لشيء، وخلق الله جميع الناس هو أنه خلق أصول الإيجاد

وأوجد الأصول الأولى في بدء الخليقة كما قال تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] وخلق أسباب تولد الفروع من الأصول فتناسلت منها ذرياتهم كما قال {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا ِلأَدَمَ} [الأعراف:11].
وتعريف {الإنسان} يجوز أن يكون تعريف الجنس، وهو التعريف الملحوظ فيه مجموع الماهية مع وجودها في الخارج في ضمن بعض أفرادها أو جميع أفرادها.
ويحمل على معنى: خلقنا جميع الناس في أحسن تقويم.
ويجوز أن يكون تعريف {الإنسان} تعريف الحقيقة نحو قولهم: الرجل خير من المرأة، وقول امرئ القيس:
الحرب أول ما تكون فتية
فلا يلاحظ فيه أفراد الجنس بل الملحوظ حالة ماهية في أصلها دون ما يعرض لأفرادها مما يغير بعض خصائصها. ومنه التعريف الواقع في قوله تعالى: {إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً} ، وقد تقدم في سورة المعارج [19].
والتقويم: جعل الشيء في قوام بفتح القاف ، أي عدل وتسوية، وحسن التقويم أكمله وأليقه بنوع الإنسان، أي أحسن تقويم له، وهذا يقتضي أنه تقويم خاص بالإنسان لا يشاركه فيه غيره من المخلوقات، ويتضح ذلك في تعديل القوى الظاهرة والباطنة بحيث لا تكون إحدى قواه موقعة له فيما يفسده، ولا يعوق بعض قواه البعض الآخر عن أداء وظيفته فإن غيره من جنسه كان دونه في التقويم.
وحرف {في} يفيد الظرفية المجازية المستعارة لمعنى التمكن والملك فهي مستعملة في معنى باء الملابسة أو لام الملك، وإنما عدل عن أحد الحرفين الحقيقيين لهذا المعنى إلى حرف الظرفية لإفادة قوة الملابسة أو قوة الملك مع الإيجاز ولولا الإيجاز لكانت مساواة الكلام أن يقال: لقد خلقنا الإنسان بتقويم مكين هو أحسن تقويم.
فأفادت الآية أن الله كون الإنسان تكوينا ذاتيا متناسبا ما خلق له نوعه من الإعداد لنظامه وحضارته، وليس تقويم صورة الإنسان الظاهرة هو المعتبر عند الله تعالى ولا جديرا بأن يقسم عليه إذ لا أثر له في إصلاح النفس، وإصلاح الغيرة، وإصلاح في الأرض، ولأنه لو كان هو المراد لذهبت المناسبة التي في القسم بالتين والزيتون وطور سنين والبلد الأمين. وإنما هو متمم لتقويم النفس قال النبي صلى الله عليه وسلم "إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا

إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم" 1 فإن العقل أشرف ما خص به نوع الإنسان من بين الأنواع.
فالمرضي عند الله هو تقويم إدراك الإنسان ونظره العقلي الصحيح لأن ذلك هو الذي تصدر عنه أعمال الجسد إذ الجسم آلة خادمة للعقل فلذلك كان هو المقصود من قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} .
وأما خلق جسد الإنسان في أحسن تقويم فلا ارتباط له بمقصد السورة ويظهر هذا كمال الظهور في قوله: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} فإنه لو حمل الرد أسفل سافلين على مصير الإنسان في أرذل العمر إلى نقائص قوته كما فسر به كثير من المفسرين لكان نبوه عن غرض السورة أشد، وليس ذلك مما يقع فيه تردد السامعين حتى يحتاج إلى تأكيده بالقسم ويدل ذلك قوله بعده {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا} [التين:6] لأن الإيمان أثر التقويم لعقل الإنسان الذي يلهمه السير في أعماله على الطريق الأقوم، ومعاملة بني نوعه السالمين من عدائه معاملة الخير معهم على حسب توافقهم معه في الحق فذلك هو الأصل في تكوين الإنسان إذ سلم من عوارض عائقة من بعض ذلك مما يعرض له وهو جنين؛ أما من عاهة تلحقه لمرض أحد الأبوين، أو لفساد هيكله من سقطة أو صدمة في حمله، وما يعرض له بعد الولادة من داء معضل يعرض له يترك فيه اختلال مزاجه فيحرف شيئا من فطرته كحماقة السوداويين والسكريين أو خبال المختبلين، ومما يدخله على نفسه من مساوي العادات كشرب المسكرات وتناول المخدرات مما يورثه على طول انثلام تعقله أو خور عزيمته.
والذي نأخذه من هذه الآية أن الإنسان مخلوق على حالة الفطرة الإنسانية التي فطر الله النوع ليتصف بآثارها، وهي الفطرة الإنسانية الكاملة في إدراكه إدراكا مستقيما مما يتأدى من المحسوسات الصادقة، أي الموافقة لحقائق الأشياء الثابتة في نفس الأمر، بسبب سلامة ما تؤديه الحواس السليمة، وما يتلقاه العقل السليم من ذلك ويتصرف فيه بالتحليل والتركيب المنتظمين، بحيث لو جانبته التلقينات الضالة والعوائد الذميمة والطبائع المنحرفة والتفكير الضار أو لو تسلطت عليه تسلطا ما فاستطاع دفاعها عنه بدلائل الحق والصواب، لجرى في جميع شؤونه على الاستقامة، ولما صدرت منه إلا الأفعال الصالحة
ـــــــ
1 رواه مسلم. ورواه غيره يزيد بعضهم على بعض.

ولكنه قد يتعثر في ذيول اغتراره ويرخي العنان لهواه وشهوته، فترمي به في الضلالات، أو يتغلب عليه دعاة الضلال بعامل التخويف أو الإطماع فيتابعهم طوعا أو كرها، ثم لا يلبث أن يستحكم فيه ما تقلده فيعتاده وينسى الصواب والرشد.
ويفسر هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم "ما من مولود إلا يولد على الفطرة ثم يكون أبواه هما اللذان يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه" الحديث، ذلك أن أبويه هما أول من يتولى تأديبه وتثقيفه وهما أكثر الناس ملازمة له في صباه، فهما اللذان يلقيان في نفسه الأفكار الأولى، فإذا سلم من تضليل أبويه فقد سار بفطرته شوطا ثم هو بعد ذلك عرضة لعديد من المؤثرات فيه، أن خيرا فخير وإن شرا فشر، وأقتصر النبي صلى الله عليه وسلم على الأبوين لأنهما أقوى أسباب الزج في ضلالتهما، وأشد إلحاحا على ولدهما.
ولم يعرج المفسرون قديما وحديثا على تفسير التقويم بهذا المعنى العظيم فقصروا التقويم على حسن الصورة. وروي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والكلبي وإبراهيم وأبي العالية، أو على استقامة القامة. وروي عن ابن عباس، أو على الشباب والجلادة، وروي عن عكرمة وابن عباس.
ولا يلائم مقصد السورة إلا أن يتأول بأن ذلك ذكر نعمة على الإنسان عكس الإنسان شكرها فكفر بالمنعم فرد أسفل سافلين، سوى ما حكاه ابن عطية عن الثعلبي عن أبي بكر بن طاهر1 أنه قال "تقويم الإنسان عقله وإدراكه اللذان زيناه بالتمييز" ولفظه عند القرطبي قريب من هذا مع زيادة يتناول مأكوله بيده وما حكاه الفخر عن الأصم2 أن {أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} أكمل عقل وفهم وأدب وعلم وبيان.
وتفيد الآية أن الإنسان مفطور على الخير وأن في جبلته جلب النفع والصلاح لنفسه وكراهة وما يظنه باطلا أو هلاكا، ومحبة الخير والحسن من الأفعال لذلك تراه يسر بالعدل والإنصاف، وينصح بما يراه مجلبة لخير غيره، ويغيث الملهوف ويعامل بالحسنى، ويغار على المستضعفين، ويشمئز من الظلم ما دام مجردا عن روم نفع يجلبه لنفسه أو إرضاء شهوة يريد قضاءها أو إشفاء غضب يجيش بصدره، تلك العوارض تحول بينه وبين
ـــــــ
1 لم أقف على تعيينه وليس يبعد أن يكون هو الأصم.
2 الأصم لقب أبي بكر عبد الرحمان بن كيسان من أصحاب هشام الفوطي من المعتزلة. وقال ابن حجر في "لسان الميزان": إنه كان من طبقة أبي الهذيل العلاف المعتزلي.

فطرته زمنا، ويهش إلى كلام الوعاظ والحكماء والصالحين ويكرمهم ويعظمهم ويود طول بقائهم.
فإذا ساورته الشهوة السيئة فزينت له ارتكاب المفاسد ولم يستطع ردها عن نفسه انصرف إلى سوء الأعمال، وثقل عليه نصح الناصحين ووعظ الواعظين على مراتب في كراهية ذلك بمقدار تحكم الهوى في عقله.
ولهذا كان الأصل في الناس الخير والعدالة والرشد وحسن النية عند جمهور من الفقهاء والمحدثين.
وجملة {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} معطوفة على جملة {خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} فهي في حيز القسم.
وضمير الغائب في قوله: {رَدَدْنَاهُ} عائد إلى الإنسان فيجري فيه الوجهان المتقدمان من التعريف.
و {ثم} لإفادة التراخي الرتبي كما هو شأنها في عطف الجمل، لأن الرد أسفل سافلين بعد خلقه محوطا بأحسن تقويم عجيب لما فيه من انقلاب ما جبل عليه، وتغيير الحالة الموجودة أعجب من إيجاد حالة لم تكن، ولأن هذه الجملة هي المقصود من الكلام لتحقيق أن الذين حادوا عن الفطرة صاروا أسفل سافلين.
والمعنى: ولقد صيرناه أسفل سافلين أو جعلناه في أسفل سافلين.
والرد حقيقته: إرجاع ما أخذ من شخص أو نقل من موضع إلى ما كان عنده، ويطلق الرد مجازا على تصيير الشيء بحالة غير الحالة التي كانت له مجازا مرسلا بعلاقة الإطلاق عن التقييد كما هنا.
و {أسفل} : اسم تفضيل، أي أشد سفالة، وأضيف إلى {سَافِلِينَ} ، أي الموصوفين بالسفالة. فالمراد: أسفل سافلين في الاعتقاد بخالقه بقرينة قوله: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا} [التين:6].
وحقيقة السفالة: انخفاض المكان، وتطلق مجازا شائعا على الخسة والحقارة في النفس، فالأسفل الأشد سفالة من غيره في نوعه.
والسافلون: هم سفلة الاعتقاد، والإشراك أسفل الاعتقاد فيكون {أَسْفَلَ سَافِلِينَ}

مفعولا ثانيا لـ {رَدَدْنَاهُ} لأنه أجري مجرى أخوات صار.
والمعنى: أن الإنسان أخذ يغير ما فطر عليه من التقويم وهو الإيمان بالله واحد وما يقتضيه ذلك من تقواه ومراقبته فصار أسفل سافلين، وهل أسفل ممن يعتقد إلهية الحجارة والحيوان الأبكم من بقر أو تماسيح أو ثعابين أو من شجر السمر أو من يحسب الزمان إلها ويسميه الدهر، أو من يجحد وجود الصانع وهو يشاهد مصنوعاته ويحس بوجود نفسه قال تعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21].
فإن ملت إلى جانب الأخلاق رأيت الإنسان يبلغ به انحطاطه إلى حضيض التسفل، فمن ملق إذا طمع، ومن شح إذا شجع، ومن جزع إذا خاف، ومن هلع، فكم من نفوس جعلت قرابين للآلهة ومن أطفال موءودة، ومن أزواج مقذوفة في النار مع الأموات من أزواجهن، فهل بعد مثل هذا من تسفل في الأخلاق وأفنى الرأي.
وإسناد الرد إلى الله تعالى إسناد مجازي لأنه يكون الأسباب العالية ونظام تفاعلها وتقابلها في الأسباب الفرعية، حتى تصل إلى الأسباب المباشرة على نحو إسناد مد وقبض الظل إليه تعالى في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} إلى قوله: {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} [الفرقان:45-46] وعلى نحو الإسناد في قول الناس: بنى الأمير مدينة كذا.
ويجوز أن يكون {أَسْفَلَ سَافِلِينَ} ظرفا، أي مكانا أسفل ما يسكنه السافلون، فإضافة {أَسْفَلَ} إلى {سَافِلِينَ} من إضافة الظرف إلى الحال فيه، وينتصب {أَسْفَلَ} بـ {رَدَدْنَاهُ} انتصاب الظرف أو على نزع الخافض، أي إلى أسفل سافلين، وذلك هو دار العذاب كقوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ} [النساء:145] فالرد مستعار لمعنى الجعل في مكان يستحقه، وإسناد الرد إلى الله تعالى على هذا الوجه حقيقي.
وحسب أن قوله تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} انتزع منه مالك رحمه الله وما ذكره عياض في المدارك قال: قال ابن أبي اويس: قال مالك: أقبل علي يوما ربيعة فقال لي: من السفلة يا مالك? قلت: الذي يأكل بدينه، قال لي فمن سفلة السفلة? قلت الذي يأكل غيره بدينه. فقال: "زه"1 وصدرني أي ضرب على صدري يعني استحسانا. وأن المشركين كانوا أسفل سافلين لأنهم ظللهم كبراؤهم وأيمتهم فسولوا لهم
ـــــــ
1 "زه" بكسر الزاي وهاء ساكنة كلمة تدل على شدة الاستحسان وهي معربة عن الفارسية، ومنها تحت لفظ الزهرة. أي الاستحسان لأن "زه" تقال مكروه غالبا.

عبادة الأصنام لينالوا قيادتهم.
[6] {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} .
استثناء متصل من عموم الإنسان فلما أخبر عن الإنسان بأنه رد أسفل سافلين ثم استثنى من عمومه الذين آمنوا بقي غير المؤمنين في أسفل سافلين.
والمعنى: أن الذين آمنوا بعد أن ردوا أسفل سافلين أيام الإشراك صاروا بالإيمان إلى الفطرة التي فطر الله الإنسان عليها فراجعوا أصلهم إلى أحسن تقويم.
وعطف {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} لأن عمل الصالحات من أحسن التقويم بعد مجيء الشريعة لأنها تزيد الفطرة رسوخا وينسحب الإيمان على الأخلاق فيردها إلى فضلها ثم يهديها إلى زيادة الفضائل من أحاسنها، وفي الحديث "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" .
فكان عطف {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} للثناء على المؤمنين بأن إيمانهم باعث لهم على العمل الصالح وذلك حال المؤمنين حين نزول السورة فهذا العطف عطف صفة كاشفة.
وليس لانقطاع الاستثناء هنا احتمال لأن وجود الفاء في قوله: {فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} يأباه كل الإباية.
وفرع على معنى الاستثناء وهو أنهم ليسوا ممن يرد أسفل سافلين الأخبار بأن لهم أجرا عظيما لأن الاستثناء أفاد بأنهم ليسوا أسفل سافلين فأريد زيادة البيان لفضلهم وما أعد لهم.
وتنوين {أجر} للتعظيم.
والممنون: الذي يمن على المأجور به، أي لهم أجر لا يشوبه كدر، ولا كدر أن يمن على الذي يعطاه بقول: هذا أجرك، أو هذا عطاؤك، فالممنون مفعول من عليه. ويجوز أن يكون مفعولا من من الحبل، إذا قطعه فهو منين، أي مقطوع أو موشك على التقطع.
[7-8] {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ، أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} .
تفريع على جميع ما ذكر من تقويم خلق الإنسان ثم رده أسفل سافلين، لأن ما بعد

الفاء من كلام مسبب عن البيان الذي قبل الفاء، أي فقد بان لك أن غير الذين آمنوا هم الذين ردوا إلى أسفل سافلين فمن يكذب منهم بالدين الحق بعد هذا البيان.
و"ما" يجوز أن تكون استفهامية، والاستفهام توبيخي، والخطاب للإنسان المذكور في قوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4] فإنه بعد الذي استثني منه الذين آمنوا بقي الإنسان المكذب.
وضمير الخطاب التفات، ومقتضى الظاهر أن يقال: فما يكذبه، ونكتة الالتفات هنا أنه أصرح في مواجهة الإنسان المكذب بالتوبيخ.
ومعنى {يُكَذِّبُكَ} يجعلك مكذبا، أي لا عذر لك في تكذيبك بالدين.
ومتعلق التكذيب: إما محذوف لظهوره، أي يجعلك مكذبا بالرسول صلى الله عليه وسلم، وأما المجرور بالباء، أي يجعلك مكذبا بدين الإسلام، أو مكذبا بالجزاء إن حمل الدين على معنى الجزاء وجملة {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} مستأنفة للتهديد والوعيد.
و {الدين} يجوز أن يكون بمعنى الملة أو الشريعة، كقوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ} [آل عمران:19] وقوله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا} [آل عمران:85].
وعليه تكون الباء للسببية، أي فمن يكذبك بعد هذا بسبب ما جئت به من الدين فالله يحكم فيه. ومعنى {يُكَذِّبُكَ} : ينسبك للكذب بسبب ما جئت به من الدين أو ما أنذرت به من الجزاء، وأسلوب هذا التركيب مؤذن بأنهم لم يكونوا ينسبون النبي صلى الله عليه وسلم إلى الكذب قبل أن يجيئهم بهذا الدين.
ويجوز أن يكون "الدين" بمعنى الجزاء في الآخرة كقوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] وقوله: {يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ} [الإنفطار:15] وتكون الباء صلة "يكذب" كقوله: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ} [الأنعام:66] وقوله: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ} 1 [الأنعام:57].
ويجوز أن تكون ما موصولة وما صدقها المكذب، فهو بمعنى من ، وهي في محل مبتدأ، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والضمير المستتر في {يُكَذِّبُكَ} عائد إلى ما وهو الرابط للصلة بالموصول، والباء للسببية، أي ينسبك للكذب بسبب ما جئت به من
ـــــــ
1 في المطبوعة: {قُلْ أرأيتم إِن كنت عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ} وهو خطأ.

الإسلام أو من إثبات البعث والجزاء.
وحذف ما أضيف إليه {بعد} فبنيت بعد على الضم والتقدير: بعد تبين الحق أو بعد تبين ما ارتضاه لنفسه من أسفل سافلين.
وجملة {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} يجوز أن تكون خبرا عن "ما" والرابط محذوف تقديره: بأحكم الحاكمين فيه.
ويجوز أن تكون الجملة دليلا عن الخبر المخبر به عن "ما" الموصولة وحذف إيجاز اكتفاء بذكر ما هو كالعلة له فالتقدير الذي يكذبك بالدين يتولى الله الانتصاف منه أليس الله بأحكم الحاكمين.
والاستفهام تقريري.
و"أحكم" يجوز أن يكون مأخوذا من الحكم، أي أقضى القضاة. ومعنى التفضيل أن حكمه أسد وأنفذ.
ويجوز أن يكون مشتقا من الحكمة. والمعنى: أن أقوى الحاكمين حكمة في قضائه بحيث لا يخالط حكمه تفريط في شيء من المصلحة ونوط الخبر بذي وصف يؤذن بمراعاة خصائص المعنى المشتق منه الوصف فلما أخبر عن الله بأنه أفضل الذين يحكمون، علم أن الله يفوق قضاؤه كل قضاء في خصائص القضاء وكمالاته، وهي: إصابة الحق، وقطع دابر الباطل، وإلزام كل من يقضي عليه بالامتثال لقضائه والدخول تحت حكمه.
روى الترمذي وأبو داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من قرأ منكم {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} [التين:1] فانتهى إلى قوله: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} فليقل: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين" .

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة العلقاشتهرت تسمية هذه السورة في عهد الصحابة والتابعين باسم "سورة اقرأ باسم ربك".روي في "المستدرك" عن عائشة: "أول سورة نزلت من القرآن اقرأ باسم ربك" فأخبرت عن السورة ب {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق:1]. وروي ذلك عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وأبي رجاء العطاردي ومجاهد والزهري، وبذلك عنونها الترمذي.
وسميت في المصاحف ومعظم التفاسير "سورة العلق" لوقوع لفظ "العلق" في أوائلها، وكذلك سميت في بعض كتب التفسير.
وعنونها البخاري: "سورة اقرأ باسم ربك الذي خلق".
وتسمى "سورة اقرأ"، وسماها الكواشي في "التخليص" "سورة اقرأ والعلق".
وعنونها ابن عطية وأبو بكر بن العربي "سورة القلم" وهذا اسم سميت به "سورة ن والقلم" ولكن الذين جعلوا اسم هذه السورة "سورة القلم" يسمون الأخرى "سورة ن". ولم يذكرها في "الإتقان" في عداد السور ذات أكثر من اسم.
وهي مكية باتفاق.
وهي أول سورة نزلت في القرآن كما ثبت في الأحاديث الصحيحة الواضحة، ونزل أولها بغار حراء على النبي صلى الله عليه وسلم وهو مجاور فيه في رمضان ليلة سبعة عشرة منه من سنة أربعين بعد الفيل إلى قوله: {عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:5]. ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة عن عائشة. وفيه حديث عن أبي موسى الأشعري وهو الذي قاله أكثر المفسرين من السلف والخلف.
وعن جابر أول سورة المدثر، وتؤول بأن كلامه نص أن سورة المدثر أول سورة

نزلت بعد فترة الوحي كما في "الإتقان" كما أن سورة الضحى نزلت بعد فترة الوحي الثانية.
وعدد آيها في عد أهل المدينة ومكة عشرون، وفي عد أهل الشام ثمان عشرة، وفي عد أهل الكوفة والبصرة تسع عشرة.
أغراضها
تلقين محمد صلى الله عليه وسلم الكلام القرآني وتلاوته إذ كان لا يعرف التلاوة من قبل.
والإيماء إلى أن علمه بذلك ميسر لأن الله الذي ألهم البشر العلم بالكتابة قادر على تعليم من يشاء ابتداء.
وإيماء إلى أن أمته ستصير إلى معرفة القراءة والكتابة والعلم.
وتوجيهه إلى النظر في خلق الله الموجودات وخاصة خلقه الإنسان خلقا عجيبا مستخرجا من علقة فذلك مبدأ النظر.
وتهديد من كذب النبي صلى الله عليه وسلم وتعرض ليصده عن الصلاة والدعوة إلى الهدى والتقوى.
وإعلام النبي صلى الله عليه وسلم أن الله عالم بأمر من يناوونه وأنه قامعهم وناصر رسوله.
وتثبيت الرسول على ما جاءه من الحق والصلاة والتقرب إلى الله.
وأن لا يعبأ بقوة أعداءه لأن قوة الله تقهرهم.
[1-5] {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} .
{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ} .
هذا أول ما أوحي به من القرآن إلى محمد صلى الله عليه وسلم لما ثبت عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم مما سيأتي قريبا.
وافتتاح السورة بكلمة {اقرأ} إيذان بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيكون قارئا، أي تاليا كتابا بعد أن لم يكن قد تلا كتابا قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ} [العنكبوت:

48]، أي من قبل نزول القرآن، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل حين قال له اقرأ "ما أنا بقارئ" .
وفي هذا الافتتاح براعة استهلال للقرآن.
وقوله تعالى: {اقرأ} أمر بالقراءة، والقراءة نطق بكلام معين مكتوب أو محفوظ على ظهر قلب.
وتقدم في قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} في سورة النحل [98].
والأمر بالقراءة مستعمل في حقيقته من الطلب لتحصيل فعل في الحال أو الاستقبال، فالمطلوب بقوله: {اقرأ} أن يفعل القراءة في الحال أو المستقبل القريب من الحال، أي أن يقول ما سيملى عليه، والقرينة على أنه أمر بقراءة في المستقبل القريب أنه لم بتقديم إملاء كلام عليه محفوظ فتطلب منه قراءته، ولا سلمت إليه صحيفة فتطلب منه قراءتها، فهو كما يقول المعلم للتلميذ: أكتب، فيتأهب لكتابة ما سيمليه عليه.
وفي حديث "الصحيحين" عن عائشة رضي الله عنها قولها فيه حتى جاءه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال: اقرأ. قال فقلت: "ما أنا بقارئ فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ. قفلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ فقلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} إلى {مَا لَمْ يَعْلَمْ} .
فهذا الحديث روته عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقولها قال: فقلت: "ما أنا بقارئ" . وجميع ما ذكرته فيه مما روته عنه لا محالة وقد قالت فيه فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده أي فرجع بالآيات التي أمليت عليه، أي رجع متلبسا بها، أي بوعيها.
وهو يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلقى ما أوحي إليه. وقرأه حينئذ ويزيد ذلك إيضاحا قولها في الحديث فانطلقت به خديجة إلى ورقة بن نوفل فقالت له خديجة: يا ابن عم اسمع من ابن أخيك ، أي اسمع القول الذي أوحي إليه. وهذا ينبئ بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قيل له بعد الغطة الثالثة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} الآيات الخمس قد قرأها ساعتئذ كما أمره الله ورجع من غار حراء إلى بيته يقرؤها، وعلى هذا الوجه يكون قول الملك له في

المرات الثلاث {اقرأ} إعادة للفظ المنزل من الله إعادة تكرير للاستئناس بالقراءة التي لم يتعلمها من قبل.
ولم يذكر لفعل {اقرأ} مفعول، إما لأنه نزل منزلة اللازم وأن المقصود أوجد القراءة، وإما لظهور المقروء من المقام، وتقديره: اقرأ ما سنلقيه إليك من القرآن.
وقوله: {بِاسْمِ رَبِّكَ} فيه وجوه.
أولها: أن يكون افتتاح كلام بعد جملة {اقرأ} وهو أول المقروء، أي قل: باسم الله، فتكون الباء للاستعانة فيجوز تعلقه بمحذوف تقديره: ابتدئ. ويجوز أن يتعلق ب {اقرأ} الثاني فيكون تقديمه على معموله للاهتمام بشأن اسم الله. ومعنى الاستعانة باسم الله ذكر اسمه عند هذه القراءة، وإقحام كلمة "اسم" لأن معنى الاستعانة بذكر اسمه تعالى لا بذاته كما تقدم في الكلام على البسملة، وهذا الوجه يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "باسم الله" حين تلقى هذه الجملة.
الثاني: أن تكون الباء للمصاحبة ويكون المجرور في موضع الحال من ضمير {اقرأ} الثاني مقدما على عامله للاختصاص، أي اقرأ ما سيوحى إليك مصاحبا قراءتك اسم ربك. فالمصاحبة مصاحبة الفهم والملاحظة لجلاله، ويكون هذا إثباتا لوحدانية الله بالإلهية وإبطالا للنداء باسم الأصنام الذي كان يفعله المشركون يقولون: باسم اللات، باسم العزى، كما تقدم في البسملة. فهذا أول ما جاء من قواعد الإسلام قد افتتح به أول الوحي.
الثالث: أن تكون الباء بمعنى على كقوله تعالى: {مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ} [آل عمران:75]، أي على قنطار. والمعنى: اقرأ على اسم ربك، أي على إذنه، أي أن الملك جاءك على اسم ربك، أي مرسلا من ربك، فذكر "اسم" على هذا متعين.
وعدل عن اسم الله العلم إلى صفة {ربك} لما يؤذن وصف الرب من الرأفة بالمربوب والعناية به، مع ما يتأتى بذكره من إضافته إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم إضافة مؤذنة بأنه المنفرد بربوبيته عنده ردا على الذين جعلوا لأنفسهم أربابا من دون الله فكانت هذه الآية أصلا للتوحيد في الإسلام.
وجئ في وصف الرب بطريق الموصل {الَّذِي خَلَقَ} ولأن في ذلك استدلالا على انفراد الله بالإلهية لأن هذا القرآن سيتلى على المشركين لما تفيده الموصولية من الإيماء

إلى علة الخبر، وإذا كانت علة الإقبال على ذكر اسم الرب هي أنه خالق دل ذلك على بطلان الإقبال على ذكر غيره الذي ليس بخالق، فالمشركون كانوا يقبلون على اسم اللات واسم العزى، وكون الله هو الخالق يعترفون به قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25] فلما كان المقام مقام ابتداء الإسلام دين التوحيد كان مقتضيا لذكر أدل الأوصاف على وحدانيته.
وجملة {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ} يجوز أن تكون بدلا من جملة {الَّذِي خَلَقَ} بدل مفصل من مجمل إن لم يقدر له مفعول، أو بدل بعض إن قدر له مفعول عام، وسلك طريق الإبدال لما فيه من الإجمال ابتداء لإقامة الاستدلال على افتقار المخلوقات كلها إليه تعالى لأن المقام مقام الشروع في تأسيس ملة الإسلام. ففي الإجمال إحضار للدليل مع الاختصار مع ما فيه من إفادة التعميم ثم يكون التفصيل بعد ذلك لزيادة تقرير الدليل.
ويجوز أن تكون بيانا من {الَّذِي خَلَقَ} إذ قدر لفعل {خلق} الأول مفعول دل عليه بيانه فيكون تقدير الكلام: اقرأ باسم ربك الذي خلق الإنسان من علق.
وعدم ذكر مفعول لفعل {خلق} يجوز أن يكون لتنزيل الفعل منزلة اللازم، أي الذي هو الخالق وأن يكون حذف المفعول لإرادة العموم، أي خلق كل المخلوقات، وأن يكون تقديره: الذي خلق الإنسان اعتمادا على ما يرد بعده من قوله: {خَلَقَ الإِنسَانَ} ، فهذه معان في الآية.
وخص خلق الإنسان بالذكر من بين بقية المخلوقات لأنه المطرد في مقام الاستدلال إذ لا يغفل أحد من الناس عن نفسه ولا يخلو من أن يخطر له خاطر البحث عن الذي خلقه وأوجده لذلك قال تعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21].
وفيه تعريض بتحميق المشركين الذين ضلوا عن توحيد الله تعالى مع أن دليل الوحدانية قائم في أنفسهم.
وفي قوله: {مِنْ عَلَقٍ} إشارة إلى ما ينطوي في أصل خلق الإنسان من بديع الأطوار والصفات التي جعلته سلطان هذا العالم الأرضي.
والعلق: اسم جمع علقة وهي قطعة قدر الأنملة من الدم الغليظ الجامد الباقي رطبا لم يجف، سمي بذلك تشبيها لها بدودة صغيرة تسمى علقة، وهي حمراء داكنة تكون في المياه الحلوة، تمتص الدم من الحيوان إذا علق خرطومها بجلده وقد تدخل إلى فم الدابة

وخاصة الخيل والبغال فتعلق بلهاته ولا يتفطن لها.
ومعنى {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ} أن نطفة الذكر ونطفة المرأة بعد الاختلاط ومضي مدة كافية تصيران علقة فقد أخذت في أطوار التكون، فجعلت العلقة مبدأ الخلق ولم تجعل النطفة مبدأ الخلق لأن النطفة اشتهرت في ماء الرجل فلو لم تخالطه نطفة المرأة لم تصر العلقة فلا يتخلق الجنين وفيه إشارة إلى أن خلق الإنسان من علق ثم مصيره إلى كمال أشده هو خلق ينطوي على قوى كامنة وقابليات عظيمة أقصاها قابلية العلم والكتابة.
ومن إعجاز القرآن العلمي ذكر العلقة لأن الثابت في العلم الآن أن الإنسان يتخلق من بويضة دقيقة جدا لا ترى إلا بالمرآة المكبرة أضعافا تكون في مبدإ ظهورها كروية الشكل سابحة في دم حيض المرأة فلا تقبل التخلق حتى تخالطها نطفة الرجل فتمتزج معها فتأخذ في التخلق إذا لم يعقها عائق كما قال تعالى: {مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} [الحج:5]، فإذا أخذت في التخلق والنمو امتد تكورها قليلا فشابهت العلقة التي في الماء مشابهة تامة في دقة الجسم وتلونها بلون الدم الذي هي ساحبة فيه وفي كونها سابحة في سائل كما تسبح العلقة، وقد تقدم هذا في سورة غافر وأشرت إليه في المقدمة العاشرة.
ومعنى حرف من الابتداء.
وفعل {أقرأ} الثاني تأكيد ل {اقرأ} الأول للاهتمام بهذا الأمر.
{وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} .
جملة معطوفة على جملة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} فلها حكم الاستئناف، و {ربك} مبتدأ وخبره إما {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} وإما جملة {عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} وهذا الاستئناف بياني.
فإذا نظرت إلى الآية مستقلة عما تضمنه حديث عائشة في وصف سبب نزولها كان الاستئناف ناشئا عن سؤال يجيش في خاطر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول كيف: أقرأ وأنا لا أحس القراءة والكتابة، فأجيب بأن الذي علم القراءة بواسطة القلم، أي بواسطة الكتابة يعلمك ما لم تعلم.
وإذا قرنت بين الآية وبين الحديث المذكور كان الاستئناف جوابا عن قوله لجبريل "ما أنا بقارئ" فالمعنى: لا عجب في أن تقرأ وإن لم تكن من قبل عالما بالقراءة إذ

العلم بالقراءة يحصل بوسائل أخرى مثل الإملاء والتلقين والإلهام وقد علم الله آدم الأسماء ولم يكن آدم قارئا.
ومقتضى الظاهر: وعلم بالقلم، فعدل عن الإضمار لتأكيد ما يشعر به { رَبِّكَ} من العناية المستفادة من قوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} وأن هذه القراءة شأن من شؤون الرب اختص بها عبده إتمام لنعمة الربوبية عليه.
وليجري على لفظ الرب وصف الأكرم.
ووصف {الأَكْرَمُ} مصوغ للدلالة على قوة الاتصاف بالكرم وليس مصوغا للمفاضلة فهو مسلوب المفاضلة.
والكرم : التفضل بعطاء ما ينفع المعطي، ونعم الله عظيمة لا تحصى ابتداء من نعمة الإيجاد، وكيفية الخلق، والإمداد.
وقد جمعت هذه الآيات الخمس من أول السورة أصول الصفات الإلهية فوصف الرب يتضمن الوجود والوحدانية، ووصف {الَّذِي خَلَقَ} ووصف {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} يقتضيان صفات الأفعال، مع ما فيه من الاستدلال القريب على ثبوت ما أشير إليه من الصفات بما تقتضيه الموصولية من الإيماء إلى وجه بناء الخير الذي يذكر معها. ووصف {الأَكْرَمُ} يتضمن صفات الكمال والتنزيه عن النقائص.
ومفعولا {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} محذوفان دل عليهما قوله: {بالقلم} وتقديره: علم الكاتبين أو علم ناسا الكتابة، وكان العرب يعظمون علم الكتابة ويعدونها من خصائص أهل الكتاب كما قال أبو حية النميري:
كما خط الكتاب بكف يوما ... يهودي يقارب أو يزيل
ويتفاخر من يعرف الكتابة بعلمه وقال الشاعر:
تعلمت باجاد وآل ... مرامروسودت أثوابي ولست بكاتب
وذكر أن ظهور الخط في العرب أول ما كان عند أهل الأنبار. وأدخل الكتابة إلى الحجاز حرب بن أمية تعلمه من أسلم بن سدرة وتعلمه أسلم من مرامر بن مرة وكان الخط سابقا عند حمير باليمن ويسمى المسند.
وتخصيص هذه الصلة بالذكر وجعلها معترضة بين المبتدإ والخبر للإيماء إلى إزالة ما

خطر ببال النبي صلى الله عليه وسلم من تعذر القراءة عليه لأنه لا يعلم الكتابة فكيف القراءة إذ قال للملك "ما أنا بقارئ" ثلاث مرات، لأنه قوله "ما أنا بقارئ" اعتذار عن تعذر امتثال أمره بقوله: {اقرأ} ؛ فالمعنى أن الذي علم الناس الكتابة بالقلم والقراءة قادر على أن يعلمك القراءة وأنت لا تعلم الكتابة.
والقلم: شظية من قصب ترقق وتثقف وتبري بالسكين لتكون ملساء بين الأصابع ويجعل طرفها مشقوقا شقا في طول نصف الأنملة، فإذا بل ذلك الطرف بسائل المداد يحط به على الورق وشبهه، وقد تقدم عند قوله تعالى: {إِذْ يُلْقُونَ أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} في سورة آل عمران [44].
وجملة {عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} خبر عن قوله: {وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} وما بينهما اعتراض.
وتعريف {الإنسان} يجوز أن يكون تعريف الجنس فيكون ارتقاء في الإعلام بما قدره الله تعالى من تعليم الإنسان بتعميم التعليم بعد تخصيص التعليم بالقلم.
وقد حصلت من ذكر التعليم بالقلم والتعليم الأعم إشارة إلى ما يتلقاه الإنسان من التعاليم سواء كان بالدرس أم بمطالعة الكتب وأن تحصيل العلوم يعتمد أمورا ثلاثة:
أحدهما: الأخذ عن الغير بالمراجعة والمطالعة، وطريقهما الكتابة وقراءة الكتب فإن بالكتابة أمكن للأمم تدوين آراء علماء البشر ونقلها إلى الأقطار النائية وفي الأجيال الجائية.
والثاني: التلقي من الأفواه بالدرس والإملاء.
والثالث: ما تنقدح به العقول من المستنبطات والمخترعات. وهذان داخلان تحت قوله تعالى: {عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} .
وفي ذلك اطمئنان لنفس النبي صلى الله عليه وسلم بأن عدم معرفته الكتابة لا يحول دون قراءته لأن الله علم الإنسان ما لم يعلم، فالذي علم القراءة لأصحاب المعرفة بالكتابة قادر على أن يعلمك القراءة دون سبق معرفة بالكتابة.
وأشعر قوله: {مَا لَمْ يَعْلَمْ} أن العلم مسبوق بالجهل فكل علم يحصل فهو علم ما لم يكن يعلم من قبل، أي فلا يؤيسنك من أن تصير عالما بالقرآن والشريعة أنك لا تعرف

قراءة ما يكتب بالقلم. وفي الآية إشارة إلى الاهتمام بعلم الكتابة وبأن الله يريد أن يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم ما ينزل عليه من القرآن فمن أجل ذلك أتخذ النبي صلى الله عليه وسلم كتابا للوحي من مبدإ بعثه.
وفي الاقتصار على أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالقراءة ثم إخباره بأن الله علم الإنسان بالقلم إيماء إلى استمرار صفة الأمية للنبي صلى الله عليه وسلم لأنها وصف مكمل لإعجاز القرآن قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت:48].
وهذه أخر الخمس الآيات التي هي أول ما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء.
[6-10] {كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى، إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى، أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى، عَبْدًا إِذَا صَلَّى} .
استئناف ابتدائي لظهور أنه في غرض لا اتصال له بالكلام الذي قبله.
وحرف {كَلاَّ} ردع وإبطال، وليس في الجملة التي قبلها ما يحتمل الإبطال والردع، فوجود {كَلاَّ} في أول الجملة دليل على أن المقصود بالردع هو ما تضمنه قوله: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى، عَبْدًا إِذَا صَلَّى} الآية.
وحق {كَلاَّ} أن تقع بعد كلام لإبطاله والزجر عن مضمونه، فوقوعها هنا في أول الكلام يقتضي أن معنى الكلام الآتي بعدها حقيق بالإبطال وبردع قائله، فابتدئ الكلام بحرف الردع للإبطال، ومن هذا القبيل أن يفتتح الكلام بحرف نفي ليس بعده ما يصلح لأن يلي الحرف كما في قول امرئ القيس:
فلا وأبيك ابنة العامر ... ي لا يدعي القوم أني أفر
روى مسلم عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: قال أبو جهل: هل يعفر محمد وجهه أي يسجد في الصلاة بين أظهركم? فقيل: نعم، فقال: واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته فأتى رسول الله وهو يصلي زعم ليطأ على رقبته فما فجأهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيده. فقيل له: ما لك يا أبا الحكم? قال: إن بيني وبينه لخندقا من نار وهولا وأجنحة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا" قال: فأنزل الله، لا ندري في حديث أبي هريرة أو شيء بلغه {إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى} الآيات اهـ.

وقال الطبري: ذكر أن آية {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى، عَبْدًا إِذَا صَلَّى} وما بعدها نزلت في أبي جهل بن هشام وذلك أنه قال فيما بلغنا: لأن رأيت محمدا يصلي لأطأن رقبته. فجعل الطبري ما أنزل في أبي جهل مبدوءا بقوله: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى، عَبْدًا إِذَا صَلَّى} .
ووجه الجمع بين الروايتين: أن النازل في أبي جهل بعضه مقصود وهو ما أوله {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى} الخ، وبعضه تمهيد وتوطئة وهو {إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى} إلى {الرُّجْعَى} .
واختلفوا في أن هذه الآيات إلى أخر السورة نزلت عقب الخمس الآيات الماضية وجعلوا مما يناكده ذكر الصلاة فيها. وفيما روي في سبب نزولها من قول أبي جهل بناء على أن الصلاة فرضت ليلة الإسراء وكان الإسراء بعد البعثة بسنين، فقال بعضهم: إنها نزلت بعد الآيات الخمس الأولى من هذه السورة، ونزل بينهن قرآن أخر ثم نزلت هذه الآيات، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإلحاقها، وقال بعض أخر: ليست هذه السورة أول ما أنزل من القرآن.
وأنا لا أرى مناكدة تفضي إلى هذه الحيرة والذي يستخلص من مختلف الروايات في بدء الوحي وما عقبه من الحوادث أن الوحي فتر بعد نزول الآيات الخمس الأوائل من هذه السورة وتلك الفترة الأولى التي ذكرناها في أول سورة الضحى، وهناك فترة للوحي هذه ذكرها ابن إسحاق بعد أن ذكر ابتداء نزول القرآن وذلك يؤذن بأنها حصلت عقب نزول الآيات الخمس الأول ولكن أقوالهم اختلفت في مدة الفترة. وقال السهيلي: كانت المدة سنتين، وفيه بعد. وليس تحديد مدتها بالأمر المهم ولكن الذي يهم هو أنا نوقن بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان في مدة فترة الوحي يرى جبرائيل ويتلقى منه وحيا ليس من القرآن. وقال السهيلي في الروض الأنف: ذكر الحربي أن الصلاة قبل الإسراء كانت صلاة قبل غروب الشمس "أي العصر" وصلاة قبل طلوعها "أي الصبح"، وقال يحيى بن سلام مثله، وقال: كان الإسراء وفرض الصلوات الخمس قبل الهجرة بعام اهـ. فالوجه أن تكون الصلاة التي كان يصليها النبي صلى الله عليه وسلم غير الصلوات الخمس بل كانت هيئة غير مضبوطة بكيفية وفيها سجود لقول الله تعالى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق:19] يؤديها في المسجد الحرام أو غيره بمرأى من المشركين فعظم ذلك على أبي جهل ونهاه عنها.
فالوجه أن تكون هذه الآيات إلى بقية السورة قد نزلت بعد فترة قصيرة من نزول أول

السورة حدثت فيها صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفشا فيها خبر بدء الوحي ونزول القرآن، جريا على أن الأصل في الآيات المتعاقبة في القراءة أن تكون قد تعاقبت في النزول إلا ما ثبت تأخره بدليل بين، وجريا على الصحيح الذي لا ينبغي الالتفات إلى خلافه من أن هذه السورة هي أول سورة نزلت.
فموقع قوله: {إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} موقع المقدمة لما يرد بعده من قوله: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى، عَبْدًا إِذَا صَلَّى} إلى قوله: {لاَ تُطِعْهُ} [العلق:19] لأن مضمونه كلمة شاملة لمضمون {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى، عَبْدًا إِذَا صَلَّى} إلى قوله: {فَلْيَدْعُ نَادِيَه} [العلق:17].
والمعنى: أن ما قاله أبو جهل ناشئ عن طغيانه بسبب غناه كشأن الإنسان.
والتعريف في {الإنسان} للجنس، أي من طبع الإنسان أن يطغى إذا أحس من نفسه الاستغناء، واللام مفيدة الاستغراق العرفي، أي أغلب الناس في ذلك الزمان إلا من عصمه خلقه أو دينه.
وتأكيد الخبر بحرف التأكيد ولام الابتداء لقصد زيادة تحقيقه لغرابته حتى كأنه مما يتوقع أن يشك السامع فيه.
والطغيان: التعاظم والكبر.
والاستغناء: شدة الغنى، فالسن والتاء فيه للمبالغة في حصول الفعل مثل استجاب واستقر.
{أَنْ رَآهُ} متعلق ب"يطغى" بحذف لام التعليل لأن حذف الجار مع "أن" كثير وشائع، والتقدير: إن الإنسان ليطغى لرويته نفسه مستغنيا.
وعلة هذا الخلق أن الاستغناء تحدث صاحبه نفسه بأنه غير محتاج إلى غيره وأن غيره محتاج فيرى نفسه أعظم من أهل الحاجة ولا يزال ذلك التوهم يربو في نفسه حتى يصبو خلقا حيث لا وازع يزعه من دين أو تفكير صحيح فيطغى على الناس لشعوره بأنه لا يخاف بأسهم لأن له ما يدفع به الاعتداء من لامة سلاح وخدم وأعوان وعفاة ومنتفعين بماله من شركاء وعمال وأجراء فهو في عزة عند نفسه.
فقد بينت هذه الآية حقيقة نفسية عظيمة من الأخلاق وعلم النفس. ونبهت على

الحذر من تغلغلها في النفس.
وضمير {رآه} المستتر المرفوع على الفاعلية وضميره البارز المنصوب على المفعولية كلا هما عائد إلى الإنسان، أي أن رأى نفسه استغنى.
ولا يجتمع ضميران متحدا المعاد: أحدهما فاعل، والآخر مفعول في كلام العرب، إلا إذا كان العامل من باب ظن وأخواتها كما في الآية، ومنه قوله تعالى: {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} في سورة الإسراء [62]. قال الفراء: والعرب تطرح النفس من هذا الجنس "أي جنس أفعال الظن والحسبان" تقول: رأيتني وحسبتني، ومتى تراك خارجا، ومتى تظنك خارجا، وألحقت "رأى" البصرية ب"رأى" القلبية عند كير من النحاة كما في قوله قطري بن الفجاءة:
فلقد أراني للرماح دريئة ... من عن يميني مرة وأمامي
ومن النادر قول النمر بن تولب:
قد بت أحرسني وحدي ويمنعني ... صوت السباع به يضبحن والهام
وقرأ الجميع {أَنْ رَآهُ} بألف بعد الهمزة، وروى ابن مجاهد عن قنبل أنه قرأه عن أبن كثير "رأه" بدون ألف بعد الهمزة، قال ابن مجاهد: هذا غلط ولا يعبأ بكلام ابن مجاهد بعد أن جزم بأنه رواه عن قنبل، لكن هذا لم يروه غير ابن مجاهد عن قنبل فيكون وجها غريبا عن قنبل.
وألحق بهذه الأفعال: فعل فقد وفعل عدم، إذا استعملا في الدعاء نحو قول القائل: فقدتني وعدمتني.
وجملة {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} معترضة بين المقدمة والمقصد والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، أي مرجع الطاغي إلى الله، وهذا موعظة وتهديد على سبيل التعريض لمن يسمعه من الطغاة، وتعليم للنبي صلى الله عليه وسلم وتثبيت له، أي لا يحزنك طغيان الطاغي فان مرجعه إلى، ومرجع الطاغي إلى العذاب قال تعالى: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا، لِلْطَّاغِينَ مَآبًا} [النبأ:21-22] وهو موعظة للطاغي بأن غناه لا يدفع عنه الموت، والموت: رجوع إلى الله كقوله: {يَاأَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاَقِيهِ} [الإنشقاق:6].
وفيه معنى آخر وهو أن استغناءه غير حقيقي لأنه مفتقر إلى الله في أهم أموره ولا يدري ماذا يصيره إليه ربه من العواقب فلا يزده يغنى زائف في هذه الحياة فيكون:

{الرُّجْعَى} مستعملا في مجازه، وهو الاحتياج إلى المرجوع إليه، وتأكيد الخبر ب"إن" مراعى فيه المعنى التعريضي لأن معظم الطغاة ينسبون هذه الحقيقة بحيث ينزلون منزلة من ينكرها.
و {الرُّجْعَى} : بضم الراء مصدر رجع على زنة فعلى مثل البشرى.
وتقديم {إِلَى رَبِّكَ} على {الرُّجْعَى} للاهتمام بذلك.
وجملة {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى، عَبْدًا إِذَا صَلَّى} إلى آخرها هي المقصود من الردع الذي أفاده حرف {كلا} ، فهذه الجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا متصلا باستئناف جملة {إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى} .
و {الَّذِي يَنْهَى} اتفقوا على أنه أريد به أبو جهل إذ قال قولا يريد به نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي في المسجد الحرام فقال في ناديه: لئن رأيت محمدا يصلي في الكعبة لأطأن على عنقه. فإنه أراد بقوله ذلك أن يبلغ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فهو تهديد يتضمن النهي عن أن يصلي في المسجد الحرام ولم يرو أنه نهاه مشافهة.
و {أَرَأَيْتَ} كلمة تعجيب من حال، تقال للذي يعلم أنه رأى حالا عجيبة. والرؤية علمية، أي أعلمت الذي ينهي عبدا والمستفهم عنه هو ذلك العلم، والمفعول الثاني لـ"رأيت" محذوف دل عليه قوله في آخر الجمل {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:14].
والاستفهام مستعمل في التعجيب لأن الحالة العجيبة من شأنها أن يستفهم عن وقوعها استفهام تحقيق وتثبيت لنبئها إذ لا يكاد يصدق به، فاستعمال الاستفهام في التعجيب مجاز مرسل في التركيب. ومجيء الاستفهام في التعجيب كثير نحو {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1].
والرؤية علمية، والمعنى: أعجب ما حصل لك من العلم قال الذي ينهي عبدا إذا صلى. ويجوز أن تكون الرؤية بصرية لأنها حكاية أمر وقع في الخارج. والخطاب في {أَرَأَيْتَ} لغير معين.
والمراد بالعبد النبي صلى الله عليه وسلم. وإطلاق العبد هنا على معنى واحد من عباد الله أي شخص كما في قوله تعالى: {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} [الإسراء:5]، أي رجالا. وعدل عن التعبير عنه بضمير الخطاب لأن التعجيب من نفس النهي عن الصلاة بقطع النظر عن خصوصية المصلي. فشموله لنهيه عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم أوقع، وصيغة

المضارع في قوله: {يَنْهَى} لاستحضار الحالة العجيبة وإلا فإن نهيه قد مضي.
والمنهي عنه محذوف يغني عنه تعليق الظرف بفعل {يَنْهَى} أي ينهاه عن صلاته.
[11-12] {أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى، أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى} .
تعجيب أخر من حال المفروض وقوعه، أي أتظنه ينهي أيضا عبدا متمكنا من الهدى فتعجب من نهيه. والتقدير: أرأيته إن كان العيد على الهدى أينهاه عن الهدى، أو إن كان العبد آمرا بالتقوى أينهاه عن ذلك.
والمعنى: أن ذلك هو الظن به فيعجب المخاطب من ذلك لأن من ينهى عن الصلاة وهي قربة إلى الله فقد نهى عن الهدى، ويوشك أن ينهي عن أن يمأر أحد بالتقوى.
وجواب الشرط محذوف وأتى بحرف الشرط الذي الغالب فيه عدم الجزم بوقوع فعل الشرط مجاراة لحال الذي ينهى عبدا.
والرؤية هنا علمية، وحذف مفعولا فعل الرؤية اختصار لدلالة {الَّذِي يَنْهَى} [العلق:9] على المفعول الأول ودلالة {يَنْهَى} على المفعول الثاني في الجملة قبلها.
و {وعلى} للاستعلاء المجازي وهو شدة التمكن من الهدى بحيث يشبه تمكن المستعلي على المكان كما تقدم في قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} [لقمان:5].
فالضميران المستتران في فعلي {كَانَ عَلَى الْهُدَى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى} عائدان إلى {عبدا} وأن كانت الضمائر الحافة به عائدة إلى {الَّذِي يَنْهَى، عَبْدًا إِذَا صَلَّى} [العلق:9-10].
فإن السياق يرد كل ضمير إلى معاده كما في قول عباس بن مرداس:
عدنا ولولا نحن أحدق جمعهم ... بالمسلمين وأحرزوا ما جمعوا
والمفعول الثاني لفعل "رأيت" محذوف دل عليه قوله: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:14] أو دل عليه قوله: {يَنْهَى} المتقدم. والتقدير: أرأيته.
وجواب {إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى، أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى} محذوف تقديره: أينهاه أيضا.
وفصلت جملة {أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى} لوقوعها موقع التكرير لأن فيها تكرير التعجيب من أحوال عديدة لشخص واحد.
[13-14] {أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى، أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} .

جملة مستأنفه للتهديد والوعيد على التكذيب والتولي، أي إذا كذب بما يدعى إليه وتولى أتظنه غير عالم بأن الله مطلع عليه.
فالمفعول الأول ل"رأيت" محذوف وهو ضمير عائد إلى {الَّذِي يَنْهَى} [العلق:9] والتقدير: أرأيته إن كذب ... إلى آخره.
وجواب {إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} هو {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} كذا قدر صاحب الكشاف، ولم يعتبر وجوب اقتران جملة جواب الشرط بالفاء إذا كانت الجملة استفهامية. وصرح الرضي باختيار عدم اشتراط الاقتران بالفاء ونظره بقوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام:47] فأما قول جمهور النحات والزمخشري في المفصل فهو وجوب الاقتران بالفاء، وعلى قولهم يتعين تقدير جواب الشرط بما يدل عليه {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} ، والتقدير إن كذب وتولى فالله عالم به، كناية عن توعده، وتكون جملة {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} مستأنفة لإنكار جهل المكذب بأن الله سيعاقبه،واشرط وجوابه سادان مسد المفعول الثاني.
وكني بأن الله يرى عن الوعيد بالعقاب.
وضمن فعل {يَعْلَمْ} معنى يوقن فلذلك عدي بالباء.
وعلق فعل {أرأيت} هنا عن العمل لوجود الاستفهام في قوله: {أَلَمْ يَعْلَمْ} .
والاستفهام إنكاري، أي كان حقه أن يعلم ذلك ويقي نفسه العقاب.
وفي قوله: {إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} إيذان للنبي صلى الله عليه وسلم بأن أبا جهل سيكذبه حين يدعوه إلى الإسلام وسيتولى، ووعد بأن الله سينتصف له منه.
وضمير {كَذَّبَ وَتَوَلَّى} عائد إلى {الَّذِي يَنْهَى، عَبْدًا إِذَا صَلَّى} [العلق:9-10] وقرينة المقام ترجع الضمائر إلى مراجعها المختلفة.
وحذف مفعول {كذب} لدلالة ما قبله عليه. والتقدير: إن كذبه، أي العبد الذي صلى، وبذلك انتظمت الجمل الثلاث في نسبة معانيها إلى الذي ينهى عبدا إذا صلى وإلى العبد الذي صلى، واندفعت عنك ترددات عرضت في التفاسير.
وحذف مفعول {يرى} ليعم كل موجود، والمراد بالرؤية المسندة إلى الله تعالى تعلق علمه بالمحسوسات.

[15-16] {كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَا بِالنَّاصِيَةِ، نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} .
{كَلاَّ} .
أكد الردع الأول بحرف الردع الثاني وفي آخر الجملة وهو الموقع الحقيق لحرف الردع إذ كان تقديم نظيره في أول الجملة، لما دعا إليه لمقام من التشويق.
{لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَا بِالنَّاصِيَةِ، نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} .
أعقب الردع بالوعيد على فعله إذا لم يرتدع وينته عنه.
واللام موطئة للقسم، وجملة "لنسفعن" جواب القسم، وأما جواب الشرط فمحذوف دل عليه جواب القسم.
والسفع: القبض الشديد بجذب.
والناصية مقدم شعر الرأس، والأخذ من الناصية أخذ من لا يترك له تمكن من الانفلات فهو كناية عن أخذه إلى العذاب، وفيه إذلال لأنهم كانوا لا يقبضون على شعر رأس أحد إلا لضربه أو لجره. وأكد ذلك السفع بالباء المزيدة الداخلة على المفعول لتأكيد اللصوق.
والنون نون التوكيد الخفيفة التي يكثر دخولها في القسم المثبت، وكتبت في المصحف ألفا رعيا للنطق لها في الوقف لأن أواخر الكلم أكثر ما ترسم على مراعاة النطق في الوقف.
والتعريف في "الناصية" للعهد التقديري، أي بناصيته، أي ناصية الذي ينهى عبدا إذا صلى وهذا اللام هي التي يسميها نحاة الكوفة عوضا عن المضاف إليه. وهي تسمية حسنة وإن أباها البصريون فقدروا في مثله متعلقا لمدخول اللام.
و {ناصية} بدل من الناصية وتنكيرها لاعتبار الجنس، أي هي من جنس ناصية كاذبة خاطئة.
و {خاطئة} اسم فاعل من خطئ من باب علم، إذا فعل خطيئة، أي ذنبا، ووصف الناصية بالكاذبة والخاطئة مجاز عقلي. والمراد: كاذب صاحبها خاطئ صاحبها، أي آثم. ومحسن هذا المجاز أن فيه تخييلا بأن الكذب والخطء باديان من ناصيته فكانت

الناصية جديرة بالسفع.
[17-19] {فَلْيَدْعُ نَادِيَه، سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ، كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} .
{فَلْيَدْعُ نَادِيَه، سَنَدْعُ الزَّبَانِيَة، كَلاَّ} .
تفريع على الوعد. ومناسبة ذلك ما رواه الترمذي والنسائي عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى عند المقام فمر به أبو جهل فقال: يا محمد ألم أنهك عن هذا، وتوعده، فأغلظ له رسول الله، فقال أبو جهل: يا محمد بأي شيء تهددني? أما والله إني لأكثر أهل هذا الوادي ناديا، فأنزل الله تعالى {فَلْيَدْعُ نَادِيَه، سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} يعني أن أبا جهل أراد بقوله ذلك تهديد النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يغري عليه أهل ناديه.
والنادي: اسم للمكان الذي يجتمع فيه القوم، يقال: ندا القوم ندوا، إذا اجتمعوا. والندوة بفتح النون الجماعة، ويقال: ناد وندي، ولا يطلق هذا الاسم على المكان إلا إذا كان القوم مجتمعين فيه فإذا تفرقوا عنه فليس بناد، ويقال النادي لمجلس القوم نهارا، فأما مجلسهم في الليل فيسمى المسامر قال تعالى: {سَامِرًا تَهْجُرُونَ} [المؤمنون:67].
واتخذ قصي لندوة قريش دارا تسمى دار الندوة حول المسجد الحرام وجعلها لتشاورهم ومهماتهم وفيها يعقد على الأزواج، وفيها تتدرع الجواري، أي يلبسوهن الدروع، أي الأقمصة إعلانا بأنهن قاربن سن البلوغ، وهذه الدار كانت اشترتها الخيزران زوجة المنصور أبي جعفر وأدخلتها في ساحة المسجد الحرام، وأدخل بعضها في المسجد الحرام في زيادة عبد الملك بن مروان وبعضها في زيادة أبي جعفر المنصور، وبقيت بقيتها بيتا مستقلا ونزل به المهدي سنة 160 في مدة خلافة المعتضد بالله العباسي لما زاد في المسجد الحرام جعل مكان دار الندوة مسجدا متصلا بالمسجد الحرام فاستمر كذلك ثم هدم وأدخلت مساحته في مساحة المسجد الحرام في الزيادة التي زادها الملك سعود بن عبد العزيز ملك الحجاز ونجد سنة 1379.
ويطلق النادي على الذين ينتدون فيه وهو معنى قول أبي جهل: إني لأكثر أهل هذا الوادي ناديا، أي ناسا يجلسون إلي يريد أنه رئيس يصمد إليه، وهو المعني هنا.
وإطلاق النادي على أهله نظير إطلاق القرية على أهلها في قوله تعالى: {وَاسْأَلْ

الْقَرْيَةَ} [يوسف:82] ونظير إطلاق المجلس على أهله في قول ذي الرمة:
لهم مجلس صهب السبال أذلة ... سواسة أحرارها وعبيدها
وإطلاق المقامة على أهلها في قول زهير:
وفيهم مقامات حسان وجوههم ... وأندية ينتابها القول والفعل
أي أصحاب مقامات حسان وجوههم.
وإطلاق المجمع على أهله في قول لبيد:
إنا إذا التقت المجامع لم يزل ... منا لزاز عظيمة جسامها
الأبيات الأربعة.
ولام الأمر في {فَلْيَدْعُ نَادِيَه} للتعجيز لأن أبا جهل هدد النبي صلى الله عليه وسلم بكثرة أنصاره وهم أهل ناديه فرد الله عليه بأن أمره بدعوة ناديه فإنه إن دعاهم ليسطوا على النبي صلى الله عليه وسلم دعا الله ملائكة فأهلكوه. وهذه الآية معجزة خاصة من معجزات القرآن فإنه تحدى أبا جهل بهذا وقد سمع أبو جهل القرآن وسمعه أنصاره فلم يقدم أحد منهم على السطو على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أن الكلام يلهب حميته.
وإضافة النادي إلى ضميره لأنه رئيسهم ويجتمعون إليه قالت إعرابية سيد ناديه، وثمال عافيه.
وقوله: {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} جواب الأمر التعجيزي، أي فإن دعا ناديه دعونا لهم الزبانية ففعل {سَنَدْعُ} مجزوم في جواب الأمر، ولذلك كتب في المصحف بدون واو وحرف الاستقبال لتأكيد الفعل.
والزبانية: بفتح الزاي وتخفيف التحتية جمع زباني بفتح الزاي وبتحتية مشددة، أو جمع زبنية بكسر الزاي فموحدة ساكنة فنون مكسورة فتحتية مخففة، أو جمع زبني بكسر فسكون فتحتية مشددة، وقيل: هو اسم جمع لا واحد له من لفظه مثل أبابيل عباديد. وهذا الاسم مشتق من الزبن وهو الدفع بشدة يقال: ناقة زبون إذا كانت تركل من يحلبها، وحرب زبون يدفع بعضها بعضا بتكرر القتال.
فالزبانية الذين يزبنون الناس، أي يدفعونهم بشدة. والمراد بهم ملائكة العذاب ويطلق الزبانية على أعوان الشرطة.
و {كلا} ردع لإبطال ما تضمنه قوله: {فَلْيَدْعُ نَادِيَه} ، أي وليس بفاعل، وهذا تأكيد

للتحدي والتعجيز.
وكتب {سَنَدْعُ} في المصحف بدون واو بعد العين مراعاة لحالة الوصل، لأنها ليست محل وقف ولا فاصلة.
{لاَ تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} .
هذا فذلكة للكلام المتقدم من قوله: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى، عَبْدًا إِذَا صَلَّى} [العلق:9-10]، أي لا تترك صلاتك في المسجد الحرام ولا تخش منه.
وأطلقت الطاعة على الحذر الباعث على الطاعة على طريق المجاز المرسل، والمعنى: لا تخفه ولا تحذره فإنه لا يضرك.
وأكد قوله: {لاَ تُطِعْهُ} بجملة {وَاسْجُدْ} اهتماما بالصلاة.
وعطف عليه {وَاقْتَرِبْ} للتنويه بما في الصلاة من مرضاة الله تعالى بحيث جعل المصلي مقتربا من الله تعالى.
والاقتراب: افتعال من القرب، عبر بصيغة الافتعال لما فيها من معنى التكلف والتطلب، أي اجتهد في القرب إلى الله بالصلاة.

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة القدرسميت هذه السورة في المصاحف التفسير وكتب السنة "سورة القدر" وسماها ابن عطية في "تفسيره" وأبو بكر الجصاص في "أحكام القرآن" "سورة ليلة القدر".
وهي مكية في قول الجمهور وهو قول جابر بن زيد ويروى عن ابن عباس. وعن ابن عباس أيضا والضحاك أنها مدنية ونسبه القرطبي إلى الأكثر. وقال الواقدي: هي أول سورة نزلت بالمدينة ويرجحه أن المتبادر أنها تتضمن الترغيب في إحياء ليلة القدر وإنما كان ذلك بعد فرض رمضان بعد الهجرة.
وقد عدها جابر بن زيد الخامسة والعشرين في ترتيب نزول السور، نزلت بعد سورة عبس وقبل سورة الشمس، فأما قولب من قالوا إنها مدنية فيقتضي أن تكون نزلت بعد المطففين وقبل البقرة.
وآياتها خمس في العدد المدني والبصري والكوفي وست في العد المكي والشامي.
أغراضها
التنويه بفضل القرآن وعظمته بإسناد إنزاله إلى الله تعالى...
والرد على الذين جحدوا أن يكون القرآن منزلا من الله تعالى.
ورفع شأن الوقت الذي أنزل فيه ونزول الملائكة في ليلة إنزاله.
وتفضيل الليلة التي توافق ليلة إنزاله من كل عام.
ويستتبع ذلك تحرير المسلمين على تحين ليلة القدر بالقيام والتصدق.
[1] {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}

اشتملت هذه الآية على تنويه عظيم بالقرآن فافتتحت بحرف "إن" وبالإخبار عنها بالجملة الفعلية، وكلاهما من طرق التأكيد والتقوي.
ويفيد هذا التقديم قصرا وهو قصر قلب للرد على المشركين الذي نفوا أن يكون القرآن منزلا من الله تعالى.
وفي ضمير العظمة وإسناد الإنزال إليه تشريف عظيم للقرآن.
وفي الإتيان بضمير القرآن دون الاسم الظاهر إيماء إلى أنه حاضر في أذهان المسلمين لشدة إقبالهم عليه فكون الضمير دون سبق معاد إيماء إلى شهرته بينهم.
فيجوز أن يراد به القرآن كله فيكون فعل "أنزلنا" مستعملا في ابتداء الإنزال لأن الذي أنول في تلك الليلة خمس الآيات الأول من سورة العلق ثم فتر الوحي ثم عاد إنزاله منجما ولم يكمل إنزال القرآن إلا بعد نيف وعشرين سنة، ولكن لما كان جميع القرآن مقررا في علم الله تعالى مقداره وأنه ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم منجما حتى يتم، كان إنزاله بإنزال الآيات الأول منه لأن ما ألحق بالشيء يعد بمنزلة أوله فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه" الحديث فاتفق العلماء على أن الصرة فيما ألحق بالمسجد النبوي لها ذلك الفضل، وأن الطواف في زيادات المسجد الحرام يصح كلما اتسع المسجد.
ومن تسديد ترتيب المصحف أن وضعت سورة القدر عقب سورة العلق مع أنها أقل عدد آيات من سورة البينة وسور بعدها، كأنه إماء إلى أن الضمير في {أَنزَلْنَاه} يعود إلى القرآن الذي ابتدئ نزوله بسورة العلق.
ويجوز أن يكون الضمير عائدا على المقدار الذي أنزل في تلك الليلة وهو الآيات الخمس من سورة العلق فإن كل جزء من القرآن يسمى قرآنا، وعلى كلا الوجهين فالتعبير بالمضي في فعل {أَنزَلْنَاه} لا مجاز فيه. وقيل أطلق ضمير القرآن على بعضه مجازا بعلاقة البعضية.
والآية صريحة في أن الآيات الأول من القرآن نزلت ليلا وهو الذي يقتضيه حديث بدء الوحي في "الصحيحين" لقول عائشه فيه "فكان يتحنث في غار حراء الليالي ذوات العدد" فكان تعبده ليلا، ويظهر أن يكون الملك قد نزل عليه أثر فراغه من تعبده، وأما قول عائشه "فرجع بها رسول الله يرجف فؤاده" فمعناه أنه خرج من غار حراء إثر الفجر

بعد انقضاء تلقينه الآيات الخمس إذ يكون نزولها عليه في آخر تلك الليلة وذلك أفضل أوقات الليل كما قال تعالى: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمران:17].
وليلة القدر: اسم جعله الله لليلة التي ابتدئ فيها نزول القرآن، ويظهر أن أول تسميتها بهذا الاسم كان في هذه الآية ولم تكن معروفة عند المسلمين وبذلك يكون ذكرها بهذا الاسم تشويقا لمعرفتها ولذلك عقب قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} [القدر:2].
والقدر: الذي عرفت الليلة بالاضافة إليه هو بمعنى الشرف والفضل كما قال تعالى في سورة الدخان [3] {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} ، أي ليلة القدر والشرف عند الله تعالى مما أعطاها من البركة فتلك ليلة جعل الله لها شرفا فجعلها مظهرا لما سبق به علمه فجعلها مبدأ الوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
والتعريف في {الْقَدْرِ} تعريف الجنس. ولم يقل: في ليلة قدر بالتنكير لأنه قصد جعل هذا المركب بمنزلة العلم لتلك الليلة كالعلم بالغلبة، لآن تعريف المضاف إليه باللام مع تعريف المضاف بالإضافة أوغل في جعل ذلك المركب لقبا لاجتماع تعريفين فيه.
وقد ثبت أن ابتداء نزول القرآن كان في شهر رمضان قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة:185]. ولا شك أن المسلمين كانوا يعلمون ذلك إذ كان نزول هذه السورة قبل نزول سورة البقرة بسنين إن كانت السورة مكية أو بمدة أقل من ذلك إن كانت السورة مدنية، فليلة القدر المرادة هنا كانت في رمضان وتأيد ذلك بالأخبار الصحيحة من كونها من ليال رمضان في كل سنة.
وأكثر الروايات أن الليلة التي أنزل فيها القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم كانت ليلة سبعه عشرة من رمضان. وسيأتي في تفسير الآيات عقب هذا الكلام في هل ليلة ذات عدد متماثل في جميع الأعوام أو تختلف في السنين? وفي هل تقع في واحدة من جميع ليالي رمضان أو لا تخرج عن العشر الأواخر منه? وهل هي مخصوصة بليلة وتر كما كانت أول مرة أو لا تختص بذلك?
والمقصود من تشريف الليلة التي كان ابتداء إنزال القرآن فيها تشريف آخر للقرآن بتشريف زمان ظهوره، تنبيها على أنه تعالى اختار لابتداء إنزاله وقتا شريفا مباركا لأن عظم قدر الفعل يقتضي أن يختار لإيقاعه فضل الأوقات والأمكنة، فاختيار فضل الأوقات لابتداء إنزاله ينبئ عن علو قدره عند الله تعالى كقوله: {لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:

79] على الوجهين في المراد من المطهرين.
[2] {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} .
تنويه بطريق الإبهام المراد به أن إدراك كنهها ليس بالسهل لما ينطوي عليه من الفضائل الجمة.
وكلمة "ما أدراك ما كذا" كلمة تقال في تفخيم الشيء وتظيمه، والمعنى: أي شيء يعرفك ما هي ليلة القدر، أي يعسر على شيء أن يعرفك مقدارها، وقد تقدمت غير مرة منها، قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} في سورة الانفطار [17] قريبا. والواو واو الحال.
وأعيد اسم {لَيْلَةُ الْقَدْرِ} الذي سبق قريبا في قوله: {فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1] على خلاف مقتضى الظاهر لأن مقتضى الظاهر الإضمار، فقصد الاهتمام بتعيينها، فحصل تعظيم ليلة القدر صريحا، وحصلت كتابة عن تعظيم ما أنزل فيها وأن الله اختار إنزاله فيها ليتطابق الشرفان.
[3] {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} .
بيان أول لشيء من الإبهام الذي في قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} [القدر:2] مقل البيان في قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ، فَكُّ رَقَبَةٍ، أَوْ إِطْعَامٌ} [البلد: 12-14] الآية. فلذلك فصلت الجملة لأنها استئناف بياني، أو لأنها كعطف البيان.
وتفضيلها بالخير على ألف شهر. إنما هو بتضعيف فضل ما يحصل فيها من الأعمال الصالحة واستجابة الدعاء ووفرة ثواب الصدقات والبركة للأمة فيها، لأن تفاضل الأيام لا يكون بمقادير أزمنتها ولا بما يحدث فيها من حر أو برد، أو مطر، ولا بطولها أو بقصرها، فإن تلك الأحوال غير معتد بها عند الله تعالى ولكن الله يعبأ بما يحصل من الصلاح للناس أفرادا وجماعات وما يعين على الحق والخير ونشر الدين. وقد قال في فضل الناس {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] فكذلك فضل الأزمان إنما يقاس بما يحصل فيها لأنها ظروف للأعمال وليست لها صفات ذاتية يمكن أن تتفاضل بها كتفاضل الناس ففضلها بما أعده الله لها من التفضيل كتفضيل ثلث الليل الأخير للقريات وعدد الألف يظهر أنه مستعمل في وفرة التكثير كقوله "واحد كألف" وعليه جاء قوله

تعالى: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} [البقرة:96] وإنما جعل تمييز عدد الكثرة هنا بالشهر للرعي على الفاصلة التي هي بحرف الراء. وفي الموطأ قال مالك أنه سمع من يثق به من أهل العلم يقول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أري أعمار الناس قبله أو ما شاء الله من ذلك فكأنه تقاصر أعمار أمته أن لا يبلغوا من العمل مثلما بلغ غيرهم في طول العمر فأعطاه الله {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} اهـ.
وإظهار لفظ {لَيْلَةُ الْقَدْرِ} في مقام الإضمار للاهتمام، وقد تكرر هذه اللفظ ثلاث مرات والمرات الثلاث ينتهي عندها التكرير غالبا كقوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنْ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنْ الْكِتَابِ} [آل عمران:78].
وقول عدي:
لا أرى الموت يسبق الموت شيء ... نغص الموت ذا الغنى والفقيرا
ومما ينبغي التنبيه له ما وقع في جامع الترمذي بسنده إلى القاسم بن الفضل الحداني عن يوسف بن سعد قال: قام رجل إلى الحسن بن علي بعدما بايع معاوية فقال: سودت وجوه المؤمنين، أو يا مسود وجوه المؤمنين فقال: لا تؤنبني رحمك الله فأن النبي صلى الله عليه وسلم أري بني أمية على منبره فساءه ذلك فنزلت {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1] يا محمد يعني نهرا من الجنة، ونزلت {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 1-3] يملكها بنو أمية يا محمد قال القاسم: فعددناها فإذا هي ألف شهر لا يزيد يوما ولا ينقص". قال أبو عيسى الترمذي، هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وقد قيل عن القاسم بن الفضل عن يوسف بن مازن نعرفه والقاسم بن الفضل ثقة ويوسف بن سعد رجل مجهول اه.
قال ابن كثير في "تفسيره" ورواه أبن جرير من طريق القاسم في الفضل عن عيسى بن مازن كذا قال، وعيسى بن مازن غير معروف، وهذا يقتضي اضطرابا في هذا الحديث، أي لاضطرابهم في الذي يروي عنه القاسم بن الفضل، وعلى كل احتمال فهو مجهول.
وأقول: وأيضا ليس في سنده ما يفيد أن يوسف بن سعد سمع ذلك من الحسن رض الله عنه. وفي "تفسير الطبري" عن عيسى بن مازن أنه قال: قلت للحسن: يا مسود وجوه المؤمنين إلى آخر الحديث. وعيسى بن مازن غير معروف أصلا فإذا فرضنا توثيق يوسف بن سعد فليس في روايته ما يقتضي أنه سمعه بل يجوز أن يكون أراد ذكر قصه

تروى عن الحسن.
واتفق حذاق العلماء على أنه حديث منكر صرح بذلك أبن كثير وذكره عن شيخه المزي، وأقول: هو مختل المعنى وسمات الوضع لائحة عليه وهو من وضع أهل النحل المخالفة للجماعة فالاحتجاج به لا يليق أن يصدر مثله عن الحسن مع فرط علمه وفطنته، وآية ملازمة بين ما زعموه من رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين دفع الحسن التأنيب عن نفسه، ولا شك أن هذا الخبر من وضع دعاة العباسيين على أنه مخالف للواقع لأن المدة التي بين تسليم الحسن الخلافة إلى معاوية وبين بيعة السفاح وهو أول خلفاء العباسية ألف شهر واثنان وتسعون شهرا أو أكثر بشهر أو بشهرين فما نسب إلى القاسم الحداني من قوله: فعددناها فوجدناها الخ كذب لا محالة. والحاصل أن هذا الخبر الذي أخرجه الترمذي منكر كما قاله المزي.
قال ابن عرفه وفي قوله: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} المحسن المسمى تشابه الأطراف وهو إعادة لفظ القافية في الجملة التي تليها كقوله تعالى: { كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} [النور: 35] اهـ. يريد بالقافية ما يشمل القرينة في الأسجاع والفواصل في الآي، ومثاله في الشعر قول ليلى الأخيلية:
إذا نزل الحجاج أرضا مريضة ... تتبع أقصى دائها فشفاها
شفاها من الداء العضال الذي بها ... غلام إذا هز القناة سقاها الخ
[4، 5] {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ، سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} .
إذا ضم هذا البيان الثني لما في قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} [القدر:2] من الإبهام التفخيمي حصل منها ما يدل دلالة بينة على أن الله جعل مثل هذه الفضيلة لكل ليلة من ليالي الأعوام تقع في مثل الليلة من شهر نزول القرآن كرامة للقرآن، ولمن أنزل عليه، وللدين الذي نزل فيه، وللأمة التي تتبعه، ألا ترى أن معظم السورة كان لذكر فضائل ليلة القدر فما هو إلا للتحريض على تطلب العمل الصالح فيها. فإن كونها خيرا من ألف شهر أومأ إلى ذلك وبينته الأخبار الصحيحة. والتعبير بالفعل المضارع بقوله: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ} مؤذن بأن هذا التنزل متكرر في المستقبل بعد نزول هذه السورة.
وذكر نهايتها بطلوع الفجر لا أثر له في بيان فضلها فتعيين أنه إدماج للتعريف بمنتهاها

ليحرص الناس على كثرة العمل فيها قبل انتهائها.
لا جرم أن ليلة القدر التي ابتدئ فيها نزول القرآن قد انقضت قبل أن يشعر بها أحد عدا محمد صلى الله عليه وسلم إذ كان قد تحنث فيها، وأنزل عليه أول القرآن آخرها، وانقلب إلى أهله في صبيحتها، فلولا إرادة التعريف بفضل الليالي الموافقة في كل السنوات لاقتصر على بيان فضل تلك الليلة الأولى ولما كانت حاجة إلى تنزل الملائكة فيها، ولا إلى تعيين منتهاها.
وهذا تعليم للمسلمين أن يعظموا أيام فضلهم الديني وأيام نعم الله عليهم وهو مماثل لما شرع الله لموسى من تفضيل بعض أيام السنين التي توافق أياما حصلت فيها نعم عظمى من الله على موسى قال تعالى {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} [ابراهيم: 5] فينبغي أن تعد ليلة القدر عيد نزول القرآن.
وحكمة إخفاء تعيينها إرادة أن يكرر المسلمون حسناتهم في ليال كثيرة توخيا لمصادفة ليلة القدر كما أخفيت ساعة الإجابة يوم الجمعة.
هذا محصل ما أفاده القرآن في فضل ليلة القدر من كل عام ولم يبين أنها أية ليلة، ولا من أي شهر، وقد قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185] فتبين أن ليلة القدر الأولى هي من ليالي شهر رمضان لا محالة، فبنا أن نتطلب تعيين ليلة القدر الأولى التي ابتدئ إنزال القرآن فيها لنطلب تعيين ما يماثلها من ليالي رمضان في جميع السنين، وتعيين صفة المماثلة، والمماثلة تكون في صفات مختلفة فلا جائز أن تماثلها في اسم يومها نحو الثلاثاء أو الأربعاء، ولا في الفصل من شتاء أو صيف أو نحو ذلك مما ليس من الأحوال المعتبرة في الدين فعلينا أن نتطلب جهة من جهات المماثلة لها في اعتبار الدين وما يرضي الله. وقد أختلف في تعيين المماثلة اختلافا كثيرا وأصح ما يعتمد في ذلك: أنها من ليالي شهر رمضان من كل سنة وأنها من ليالي الوتر كما دل عليه الحديث الصحيح "تحروا ليلة القدر في الوتر في العشر الأواخر من رمضان" .
والوتر: أفضل الأعداد عند الله كما دل عليه حديث "إن الله وتر يحب الوتر" .
وأنها ليست ليلة معينة مطردة في كل السنين بل هي متنقلة في الأعوام، وأنها في رمضان وإلى هذا ذهب مالك والشافعي وأحمد وأكثر أهل العلم قال ابن رشيد: وهو أصح الأقاويل وأولاها بالصواب. وعلى أنها متنقلة في الأعوام فأكثر أهل العلم على أنها

لا تخرج عن شهر رمضان. والجمهور على أنها لا تخرج عن العشر الأواخر منه، وقال جماعة: لا تخرج عن العشر الأواسط، والعشر الأواخر.
وتأولوا ما ورد من الآثار ضبطها على إرادة الغالب أو إرادة عام بعينه.
ولم يرد في تعيينها شيء صريح يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم لأن ما ورد في ذلك من الأخبار محتمل لأن يكون أراد به تعيينها في خصوص السنة التي أخبر عنها وذلك مبسوط في كتب السنة فلا نطيل به، وقد أتى ابن كثير منه بكثير.
وحفظت عن الشيخ محي الدين بن العربي أنه ضبط تعيينها باختلاف السنين بأبيات ذكر في البيت الأخير منها قوله:
وضابطها بالقول ليلة جمعة ... توافيك بعد النصف في ليلة وتر
حفظناها عن بعض معلمينا ولم أقف عليها. وجربنا علامة ضوء الشمس في صبيحتها فلم تتخلف.
وأصل {تنزل} تتنزل فحذفت إحدى التاءين اختصارا. وظاهر أن تنزل الملائكة إلى الأرض.
ونزول الملائكة إلى الأرض لأجل البركات التي تحفهم.
و {الروح} : هو جبريل، أي ينزل جبريل في الملائكة.
ومعنى {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} أن هذا التنزيل كرامة أكرم الله بها المسلمين بأن أنزل لهم في تلك الليلة جماعات من ملائكته وفيهم أشرفهم وكان نزول جبريل في تلك الليلة ليعود عليها من الفضل مثل الذي حصل في مماثلتها الأولى ليلة نزوله بالوحي في غار حراء.
وفي هذا أصل لإقامة المواكب لإحياء ذكرى أيام مجد الإسلام وفضله وأن من كان له عمل في أصل تلك الذكرى ينبغي أن لا يخلو عنه موكب البهجة بتذكارها.
وقوله: {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} متعلق ب {تنزل} إما بمعنى السببية، أي يتنزلون بسبب إذن ربهم لهم في النزول فالإذن بمعنى المصدر، وإما بمعنى المصاحبة، أي مصاحبين لما أذن به ربهم، فالإذن بمعنى المأذون به من إطلاق المصدر على المفعول نحو {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} [لقمان: 11].
و {من} في قوله من {مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} يجوز أن تكون بيانية تبين الإذن من قوله: {بِإِذْنِ

رَبِّهِمْ} أي بإذن ربهم الذي هو في كل أمر.
ويجوز أن تكون بمعنى الباء، أي تتنزل بكل أمر مثل ما في قوله تعالى: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: 11] أي بأمر الله، وهذا إذا جعلت باء {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} سببية، ويجوز أن تكون للتعليل، أي من أجل كل أمر أراد الله قضاءه بتسخيرهم.
و {كل} مستعملة في معنى الكثرة للأهمية، أي في أمور كثيرة عظيمة كقوله تعالى: {وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ} [يونس: 97] وقوله: {يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج: 27] وقوله: {وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال: 12]. وقوله النابغة:
بها كل ذيال وخنساء ترعوي ... إلى كل رجاف من الرمل فارد
وقد بينا ذلك عند قوله تعالى: {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} في سورة الحج.
وتنوين {أمر} للتعظيم، أي بأنواع الثواب على الأعمال في تلك الليلة. وهذا الأمر غير الأمر الذي في قوله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان:4] مع أن {أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا} في سورة [الدخان: 5] متحدة مع اختلاف شؤونها، فإن لها شؤونا عديدة.
ويجوز أن يكون هو الأمر المذكور هنا فيكون هنا مطلقا وفي آية الدخان مقيدا.
واعلم أن موقع قوله: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} الى قوله: {مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} ، من جملة {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:3] موقع الاستئناف البياني أو موقع بدل الاشتمال فالمراعاة هذا الموقع فصلت الجملة عن التي قبلها ولم تعطف عليها مع أنهما مشتركان في كون كل واحدة منهما تفيد بيانا لجملة {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} [القدر:2] فأوثرت مراعاة موقعها الاستئنافي أو البدلي على مراعاة اشتراكهما في كونها بيانا لجملة {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} لأن هذا البيان لا يفوت السامع عند إيرادها في صورة البيان أو البدل بخلاف ما لو عطفت على التي قبلها بالواو لفوات الإشارة إلى أن تنزل الملائكة فيها من أحوال خيريتها.
وجملة {سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} بيان لمضمون {مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} وهو كالاحتراس لأن تنزل الملائكة يكون للخير ويكون للشر لعقاب مكذبي الرسل قال تعالى: {مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ} [الحجر:8] وقال {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ} [الفرقان: 22]. وجمع بين إنزالهم للخير والشر فى قوله: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ

فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ} لأنفال:12] الآية، فأخبر هنا أن تنزل الملائكة ليلة القدر لتنفيذ أمر الخير للمسلمين الذين صاموا رمضان وقاموا ليلة القدر، فهذه بشارة.
والسلام: مصدر أو اسم مصدر معناه السلامة قال تعالى: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الانبياء:69]. ويطلق السلام على التحية والمدحة، وفسر السلام بالخير، والمعنيان حاصلان في هذه الآية، فالسلامة تشمل كل خير لأن الخير سلامة من الشر ومن الأذى، فيشمل السلام الغفران وإجزال الثواب واستجابة الدعاء بخير الدنيا والآخرة. والسلام بمعنى التحية والقول الحسن مراد به ثناء الملائكة على أهل ليلة القدر كدأبهم مع أهل الجنة فيما حكاه قوله تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 23-24].
وتنكير {سَلامٌ} للتعظيم. وأخبر عن الليلة بأنها سلام للمبالغة لأنه إخبار بالمصدر.
وتقديم المسند وهو سلام على المسند إليه لإفادة الاختصاص، أي ما هي إلا سلام. والقصر ادعائي لعدم الاعتداد بما يحصل فيها لغير الصائمين القائمين، ثم يجوز أن يكون {سَلامٌ هِيَ} مرادا به الإخبار فقط، ويجوز أن يراد بالمصدر الأمر والتقدير: سلموا سلاما، فالمصدر بدل من الفعل وعدل عن نصبه إلى الرفع ليفيد التمكن مثل قوله تعالى: {قَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ} [هود: 69]. والمعنى: اجعلوها سلاما بينكم، أي لا نزاع ولا خصام. ويشير إليه ما في الحديث الصحيح "خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى رجلان فرفعت وعسى أن يكون خيرا لكم فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة" .
و {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} غاية لما قبله من قوله: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ} إلى {سَلامٌ هِيَ} .
والمقصود من الغاية إفادة أن جميع أحيان تلك الليلة معمورة بنزول الملائكة والسلامة، فالغاية هنا مؤكدة لمدلول {ليلة} لأن الليلة قد تطلق على بعض أجزائها كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم "من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه" ، أي من قام بعضها، فقد قال سعيد بن المسيب: من شهد العشاء من ليلة القدر فقد أخذ بحظه منها. يريد شهدها في جماعة كما يقتضيه فعل شهد فإن شهود الجماعة من أفضل الأعمال الصالحة.
وجيء بحرف {حتى} لإدخال الغاية لبيان أن ليلة القدر تمتد بعد مطلع الفجر بحيث

أن صلاة الفجر تعتبر واقعة في تلك الليلة لئلا يتوهم أن نهايتها كنهاية الفطر بآخر جزء من الليل، وهذا توسعة من الله في امتداد الليلة إلى ما بعد طلوع الفجر.
ويستفاد من غاية تنزل الملائكة فيها، أن تلك غاية الليلة وغاية لما فيها من الأعمال الصالحة التابعة لكونها خيرا من ألف شهر، وغاية السلام فيها.
وقرأ الجمهور {مطلع} بفتح اللام على أنه مصدر ميمي، أي طلوع الفجر، أي ظهوره. وقرأه الكسائي وخلف بكسر اللام على معنى زمان طلوع الفجر.

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة البينة
وردت تسمية هذه السورة في كلام النبي صلى الله عليه وسلم {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} . روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بن كعب "إن الله أمرني أن أقرأ عليك {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} " قال: وسماني لك? قال: "نعم" . فبكى فقوله: أن أقرأ عليك {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} واضح أنه أراد السورة كلها فسماها بأول جملة فيها، وسميت هذه السورة في معظم كتب التفسير وكتب السنة سورة {لَمْ يَكُنِ} بالاقتصار على أول كلمة منها، وهذا الاسم هو المشهور في تونس بين أبناء الكتاتيب.
وسميت في أكثر المصاحف "سورة القيمة" وكذلك في بعض التفاسير. وسميت في بعض المصاحف "سورة البينة".
وذكر في "الإتقان" أنها سميت في مصحف أبي "سورة أهل الكتاب"، أي لقوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [البينة: 1]، وسميت سورة "البرية" وسميت "سورة الانفكاك". فهذه ستة أسماء.
واختلف في أنها مكية أو مدنية قال ابن عطية: الأشهر أنها مكية وهو قول جمهور المفسرين. وعن ابن الزبير وعطاء بن يسار هي مدنية.
وعكس القرطبي فنسب القول بأنها مدنية إلى الجمهور وابن عباس والقول بأنها مكية إلى يحيى بن سلام. وأخرج ابن كثير عن أحمد بن حنبل بسنده إلى أبي حبة البدري قال: لما نزلت {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} إلى آخرها قال جبريل: يا رسول الله إن الله يأمرك أن تقرئها أبيا" الحديث، أي وأبي من أهل المدينة. وجزم البغوي وابن كثير بأنها مدنية، وهو الأظهر لكثرة ما فيها من تخطئة أهل الكتاب ولحديث أبي حبة البدري، وقد عدها جابر بن زيد في عداد السور المدنية. قال ابن عطية: إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما دفع

إلى مناقضة أهل الكتاب بالدينة.
وقد عدت المائة وإحدى في ترتيب النزول نزلت بعد سورة الطلاق وقبل سورة الحشر، فتكون نزلت قبل غزوة بني النضير، وكانت غزوة النضير سنة أربع في ربيع الأول فنزول هذه السورة آخر سنة ثلاث أو أول سنة أربع.
وعدد آياتها ثمان عند الجمهور، وعدها أهل البصرة تسع آيات.
أغراضها
توبيخ المشركين وأهل الكتاب على تكذيبهم بالقرآن والرسول صلى الله عليه وسلم.
والتعجيب من تناقض حالهم إذ هم ينتظرون أن تأتيهم البينة فلما أتتهم البينة كفروا بها.
وتكذيبهم في ادعائهم أن الله أوجب عليهم التمسك بالأديان التي هم عليها.
ووعيدهم بعذاب الآخرة.
والتسجيل عليهم بأنهم شر البرية.
والثناء على الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
ووعدهم بالنعيم الأبدي ورضى الله عنهم وإعطائه إياهم ما يرضيهم.
وتخلل ذلك تنويه بالقرآن وفضله على غيره باشتماله على ما في الكتب الإلهية التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم من قبل وما فيه من فضل وزيادة.
[1-3] {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ، رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُطَهَّرَةً، فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} .
استصعب في كلام المفسرين تحصيل المعنى المستفاد من هذه الآيات الأربع من أول هذه السورة تحصيلا ينتزع من لفظها ونظمها فذكر الفخر عن الواحدي في التفسير البسيط له أنه قال: هذه الآية من أصعب ما في القرآن نظما وتفسيرا وقد تخبط فيها الكبار من العلماء. قال الفخر: ثم إنه لم يلخص كيفية الإشكال فيها.
وأنا أقول: وجه الإشكال أن تقدير الآية: لم يكن الذين كفروا منفكين حتى تأتيهم البينة التي هي الرسول صلى الله عليه وسلم ثم إنه تعالى لم يذكر أنهم منفكون عماذا لكنه معلوم إذ المراد

هو الكفر والشرك الذين كانوا عليهما فصار التقدير: لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم حتى تأتيهم البينة التي هي الرسول صلى الله عليه وسلم ثم إن كلمة {حتى} لانتهاء الغاية فهذه الآية تقتضي أنهم صاروا منفكين عن كفرهم عند إتيان الرسول صلى الله عليه وسلم ثم قال بعد ذلك {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة:4] وهذا يقتضي أن كفرهم قد ازداد عند مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم فحينئذ حصل بين الآية الأولى والآية الثانية مناقضة في الظاهر اه كلام الفخر.
يريد أن الظاهر أن قوله {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ} بدل من {البينة} ، وأن متعلق {مُنْفَكِّينَ} حذف لدلالة الكلام عليه لأنهم لما أجريت عليهم صلة الذين كفروا دل ذلك على أن المراد لم يكونوا منفكين على كفرهم، وإن حرف الغاية يقتضي أن إتيان البينة المفسرة ب {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ} هي نهاية انعدام انفكاكهم عن كفرهم، أي فعند إتيان البينة يكونون منفكين عن كفرهم فكيف مع أن الله يقول {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة:4] فإن تفرقهم راجع إلى تفرقهم عن الإسلام وهو ازدياد في الكفر إذ به تكثر شبه الضلال التي تبعث على التفرق في دينهم مع اتفاقهم في أصل الكفر، وهذا الأخير بناء على اعتبار قوله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [البينة:4] الخ كلاما متصلا بإعراضهم عن الإسلام وذلك الذي درج عليه المفسرون ولنا في ذلك كلام سيأتي.
ومما لم يذكره الفخر من وجه الإشكال: أن المشاهدة دلت على أن الذين كفروا لم ينفكوا عن الكفر في زمن ما، وأن نصب المضارع بعد حتى ينادي على أنه منصوب ب {أن} مضمرة بعد {حتى} فيقتضي أن إتيان البينة مستقبل وذلك لا يستقيم فإن البينة فسرت ب {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ} وإتيان الرسول وقع قبل نزول هذه الآيات بسنين وهم مستمرون على ما هم عليه: هؤلاء على كفرهم، وهؤلاء على شركهم.
وإذ قد تقرر وجه الإشكال وكان مظنونا أنه ملحوظ للمفسرين إجمالا أو تفصيلا فقد تعين أن هذا الكلام ليس واردا على ما يتبادر من ظاهره في مفرداته أو تركيبه، فوجب صرفه عن ظاهره، إما بصرف تركيب الخبر عن ظاهر الإخبار وهو إفادة المخاطب النسبة الخبرية التي تضمنها التركيب، بأن يصرف الخبر إلى أنه مستعمل في معنى مجازي للتركيب، وإما بصرف بعض مفرداته التي اشتمل عليها التركيب عن ظاهر معناها إلى معنى مجاز أو كناية.
فمن المفسرين من سلك طريقة صرف الخبر عن ظاهره. ومنهم من أبقوا الخبر على

ظاهر استعماله وسلكوا طريقة صرف بعض كلماته عن ظاهر معانيها وهؤلاء منهم من تأول لفظ {مُنْفَكِّينَ} ومنهم من تأول معنى {حتى} ومنهم من تأول {رسول} ، وبعضهم جوز في {البينة} وجهين.
وقد تعددت أقوال المفسرين فبلغت بضعة عشر قولا ذكر الآلوسي أكثرها وذكر القرطبي معظمها غير معزو، وتداخل بعض ما ذكره الآلوسي وزاد أحدهما ما لم يذكره الآخر.
ومراجع تأويل الآية تؤول إلى خمسة.
الأول: تأويل الجملة بأسرها بأن يؤول الخبر إلى معنى التوبيخ والتعجيب، وإلى هذا ذهب الفراء ونفطويه والزمخشري.
الثاني: تأويل معنى {مُنْفَكِّينَ} بمعنى الخروج عن إمهال الله إياهم ومصيرهم إلى مؤاخذتهم، وهو لابن عطية.
الثالث: تأويل متعلق {مُنْفَكِّينَ} بأنه عن الكفر وهو لعبد الجبار، أو عن الاتفاق على الكفر وهو للفخر وأبي حيان. أو منفكين عن الشهادة للرسول صلى الله عليه وسلم بالصدق قبل بعثته وهو لابن كيسان عبد الرحمان الملقب بالأصم، أو منفكين عن الحياة، أي هالكين، وعزي إلى بعض اللغويين.
الرابع: تأويل {حتى} أنها بمعنى {إن} الاتصالية. والتقدير: وإن جاءتهم البينة.
الخامس: تأويل {رسول} بأنه رسول من الملائكة يتلو عليهم صحفا من عند الله فهو في معنى قوله تعالى: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ} [النساء: 153] وعزاه الفخر إلى أبي مسلم وهو يقتضي صرف الخبر إلى التهكم.
هذا والمراد ب {الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} أنهم كفروا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم مثل ما في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [الحشر: 11].
وأنت لا يعوزك إرجاع أقوال المفسرين إلى هذه المعاقد فلا نحتاج إلى التطويل بذكرها فدونك فراجعها إن شئت. فبنا أن نهتم بتفسير الآية على الوجه البين.
إن هذه الآيات وردت مورد إقامة الحجة على الذين لم يؤمنوا من أهل الكتاب وعلى

المشركين بأنهم متنصلون من الحق متعللون للإصرار على الكفر عنادا، فلنسلك بالخبر مسلك مورد الحجة لا مسلك إفادة النسبة الخبرية فتعين علينا أن نصرف التركيب عن استعمال ظاهره إلى استعمال مجازي على طريقة المجاز المرسل المركب من قبيل استعمال الخبر في الإنشاء والاستفهام في التوبيخ ونحو ذلك الذي قال فيه التفتزاني في المطول: إن بيان أنه من أي أنواع النجاز هو مما لم يحم أحد حوله، والذي تصدى السيد الشريف لبيانه بما لا يبقي فيه شبهة.
فهذا الكلام مسوق مساق نقل الأقوال المستغربة المضطربة الدالة على عدم ثبات آراء أصحابها، فهو من الحكاية لما كانوا يعدون به فهو حكاية بالمعنى كأنه قيل: كنتم تقولون لا نترك ما نحن عليه حتى تأتينا البينة، وهذا تعريض بالتوبيخ بأسلوب الإخبار المستعمل في إنشاء التعجيب أو الشكاية من صلف المخبر عنه، وهو استعمال عزيز بديع وقريب منه قوله تعالى: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ} [التوبة:64] إذ عبر بصيغة يحذر وهم إنما تظاهروا بالحذر ولم يكونوا حاذرين حقا ولذلك قال الله تعالى: {قُلِ اسْتَهْزِئُوا} .
فالخبر موجه لكل سامع، ومضمونه قول كان صدر من أهل الكتاب وأشتهر عنهم وعرفوا به وتقرر تعلل المشركين به لأهل الكتاب حين يدعونهم إلى اتباع اليهودية أو النصرانية فيقولوا: لم يأتنا رسول كما أتاكم قال تعالى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ، أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ} [الأنعام: 157].
وتقرر تعلل أهل الكتاب به حين يدعوهم النبي صلى الله عليه وسلم للإسلام، قال تعالى: {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ} [آل عمران: 183] الآية.
وشيوعه عن الفريقين قرينة على أن المراد من سياقه دمغهم بالحجة وبذلك كان التعبير بالمضارع المستقبل في قوله: {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} مصادفا المحز فإنهم كانوا يقولون ذلك قبل مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقريب من قوله تعالى في أهل الكتاب {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة: 89].

وحاصل المعنى: أنكم كنتم تقولون لا نترك ما نحن عليه من الدين حتى تأتينا البينة، أي العلامة التي وعدنا بها.
وقد جعل ذلك تمهيدا وتوطئة لقوله بعده {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُطَهَّرَةً} الخ.
وإذ اتضح موقع هذه الآية وانقشع أشكالها فلننتقل إلى تفسير ألفاظ الآية.
فالانفكاك: الإقلاع، وهو مطاوع فكه إذا فصله وفرقه ويستعار لمعنى أقلع عنه ومتعلق {مُنْفَكِّينَ} محذوف دل عليه وصف المتحدث عنهم بصلة {الَّذِينَ كَفَرُوا} والتقدير: منفكين عن كفرهم وتاركين له، سواء كان كفرهم إشراكا بالله مثل كفر المشركين أو كان كفرا بالرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا القول صادر من اليهود الذين في المدينة والقرى التي حولها ويتلقفه المشركون بمكة الذين لم ينقطعوا عن الاتصال بأهل الكتاب منذ ظهرت دعوة الإسلام يستفتونهم في ابتكار مخلص يتسللون به عن ملام من يلومهم على الإعراض عن الإسلام، وكذلك المشركون الذين حول المدينة من الأعراب مثل جهينة وغطفان، ومن أفراد المنتصرين بمكة أو بالمدينة.
وقد حكى الله عن اليهود أنهم قالوا {إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ} [آل عمران: 183]، وقال عنهم {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة: 89]. وحكى عن النصارى بقوله تعالى حكاية عن عيسى {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الصف: 6]. وقال عن الفريقين {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة: 109]، وحكى عن المشركين بقوله: {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى} [القصص: 48] وقولهم {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} [الانبياء: 5].
ولم يختلف أهل الكتابين في أنهم أخذ عليهم العهد بانتظار نبي ينصر الدين الحق وجعلت علاماته دلائل تظهر من دعوته كقول التوراة في سفر التثنية أقيم لهم نبيا من وسط إخوتهم مثلك وأجعل كلامي في فمه. ثم قولها فيه وأما النبي الذي يطغى فيتكلم كلاما لم أوصه أن يتكلم به فيموت ذلك النبي وإن قلت في قلبك كيف نعرف الكلام الذي لم يتكلم به الرب فما تكلم به النبي باسم الرب ولم يحدث ولم يصر فهو

الكلام الذي لم يتكلم به الرب الإصحاح الثامن عشر. وقول الإنجيل وأنا أطلب من الأب فيعطيكم معزيا آخر لينكف معكم إلى الأبد أي شريعته لأن ذات النبي لا تمكث إلى الأبد روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله لأنه لا يرى ولا يعرفه يوحنا الإصحاح الرابع عشر الفقرة 6 وأما المعزي الروح القدس الذي سيرسله الأب باسمي فهو يعلمكم بكل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم يوحنا الإصحاح الرابع عشر فقره 26.
وقوله ويقوم أنبياء كذبة كثيرون، أي بعد عيسى ويضلون كثيرين ولكن الذي يصبر إلى المنتهى أي يبقى إلى انقراض الدنيا وهو مؤول في بقاء دينه إذ لا يبقى أحد إلى انقراض الدنيا فهذا يخلص ويكرز ببشارة الملكوت هذه في كل المسكونة شهادة لجميع الأمم ثم يأتي المنتهى، أي نهاية الدنيا متى الإصحاح الرابع والعشرون، أي فهو خاتم الرسل كما هو بين.
وكان أحبارهم قد أساءوا التأويل للبشارات الواردة في كتبهم بالرسول المقفي وأدخلوا علامات يعرفون بها الرسول صلى الله عليه وسلم الموعود به هي من المخترعات الموهومة فبقي من خلفهم ينتظرون تلك المخترعات فإذا لم يجدوها كذبوا المبعوث إليهم.
و { البينة} : الحجة الواضحة والعلامة على الصدق وهو اسم منقول من الوصف جرى على التأنيث لأنه مؤول بالشهادة أو الآية.
ولعل إيثار التعبير بها هنا لأنها أحسن ما تترجم به العبارة الواقعة في كتب أهل الكتاب مما يحوم حول معنى الشهادة الواضحة لكل متبصر كما وقع في إنجيل متى لفظ شهادة لجميع الأمم، ولعل التزام هذه الكلمة هنا مرتين كان لهذه الخصوصية وقد ذكرت مع ذكر الصحف الأولى في قوله: {وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى} [طه:133].
والظاهر أن التعريف في {البينة} تعريف العهد الذهني، وهو أن يراد معهود بنوعه لا بشخصه كقولهم: ادخل السوق، لا يريدون سوقا معينة بل ما يوجد فيه ماهية سوق، ومنه قول زهير:
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم
ولذلك قال علماء البلاغة: إن المعرف بهذه اللام هو في المعنى نكرة فكأنه قيل حتى تأتيهم بينة.

ويجوز أن يكون التعريف لمعهود عند المخبر عنهم، أي البينة التي هي وصايا أنبيائهم فهي معهودة عند كل فريق منهم وإن اختلفوا في تخيلها وابتعدوا في توهمها بما تمليه عليه تخيلاتهم واختلاقهم.
وأوثرت كلمة {البينة} لأنها تعبر عن المعنى الوارد في كلامهم ولذلك نرى مادتها متكررة في آيات كثيرة من القرآن في هذا الغرض كما في قوله: {أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى} [طه:133]. وقوله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الصف: 6] وقوله: {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة: 109]، وقال عن القرآن {هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185].
و {من} في قوله: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} بيانية بيان للذين كفروا.
وإنما قدم أهل الكتاب على المشركين هنا مع أن كفر المشركين أشد من كفر أهل الكتاب لأن لأهل الكتاب السبق في هذا المقام فهم الذين بثوا بين المشركين شبهة انطباق البينة الموصوفة بينهم فأيدوا المشركين في إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلمبما هو أتقن من ترهات المشركين إذ كان المشركون أميين لا يعلمون شيئا من أحوال الرسل والشرائع، فلما صدمتهم الدعوة المحمدية فزعوا إلى اليهود ليتلقوا منهم ما يردون به تلك الدعوة وخاصة بعدما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
فالمقصود بالإبطال ابتداء هو دعوى أهل الكتاب، وأما المشركون فتبع لهم.
واعلم أنه يجوز أن يكون الكلام انتهى عند قوله: {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} ، فيكون الوقف هناك ويكون قوله: {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ} إلى آخرها جملة مستأنفة استئنافا بيانيا وهو قول الفراء، أي هي رسول من الله، يعني لأن ما في البينة من الإبهام يثير سؤال سائل عن صفة هذه البينة، وهي جملة معترضة بين جملة {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ .... مُنْفَكِّينَ} إلى آخرها وبين جملة {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [البينة: 4].
ويجوز أن يكون {رسول} بدلا من {البينة} فيقتضي أن يكون من تمام لفظ {بينة} فيكون من حكاية ما زعموه. أريد إبطال معاذيرهم وإقامة الحجة عليهم بأن البينة التي ينتظرونها قد حلت ولكنهم لا يتدبرون أو لا ينصفون أو لا يفقهون، قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة: 89].
وتنكير {رسول} للنوعية المراد منها تيسير ما يستصعب كتنكير قوله تعالى: {أَيَّاماً

مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 184] وقول { المص، كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [الأعراف: 1-2].
وفي هذا التبيين إبطال لمعاذيرهم كأنه قيل: فقد جاءتكم البينة، على حد قوله تعالى: {أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ} [المائدة: 19]، وهو يفيد أن البينة هي الرسول وذلك مثل قوله تعالى: {قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً، رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ} [الطلاق: 10-11].
فأسلوب هذا الرد مثل أسلوب قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً، أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً، أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً، أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَأُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً، وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً} [الاسراء:90-94].
وفي هذا تذكير بغلطهم فإن كتبهم ما وعدت إلا بمجيء رسول معه شريعة وكتاب مصدق لما بين يديه وذلك مما يندرج في قولة التوراة وأجعل كلامي في فمه.
وقول الإنجيل ويذكركم بكل ما قلته لكم كما تقدم آنفا، وهو ما أشار إليه قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ} [المائدة: 48] لأن التوراة والإنجيل لم يصفا النبي الموعود به إلا بأنه مثل موسى أو مثل عيسى، أي في أنه رسول يوحي الله إليه بشريعة، وأنه يبلغ عن الله وينطق بوحيه، وأن علامته هو الصدق كما تقدم آنفا. قال حجة الإسلام في كتاب المنقذ من الضلال إن مجموع الأخلاق الفاضلة كان بالغا في نبينا إلى حد الإعجاز وأن معجزاته كانت غاية في الظهور والكثرة.
و {من الله} متعلق ب {رسول} ولم يسلك طريق الإضافة ليتأتى تنوين {رسول} فيشعر بتعظيم هذا الرسول.
وجملة {يَتْلُو صُحُفاً} الخ صفة ثانية أو حال، وهي إدماج بالثناء على القرآن إذ الظاهر أن الرسول الموعود به في كتبهم لم يوصف بأنه يتلو صحفا مطهرة.
والتلاوة: إعادة الكلام دون زيادة عليه ولا نقص منه سواء كان كلاما مكتوبا أو محفوظا عن ظهر قلب، ففعل {يتلو} مؤذن بأنه يقرأ عليهم كلاما لا تبدل ألفاظه وهو الوحي المنزل عليه.

والصحف: الأوراق والقراطيس التي تجعل لأن يكتب فيها، وتكون من رق أو جلد، أو من خرق. وتسمية ما يتلوه الرسول {صُحُفاً} مجاز بعلاقة الأيلولة لأنه مأمور بكتابته فهو عند تلاوته سيكون صحفا، فهذا المجاز كقوله: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً} [يوسف: 36]. وهذا إشارة إلى أن الله أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بكتابة القرآن في الصحف وما يشبه الصحف من أكتاف الشاء والخرق والحجارة، وأن الوحي المنزل على الرسول سمي كتابا في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت: 51] لأجل هذا المعنى.
وتعدية فعل {يتلو} إلى {صُحُفاً} مجاز مرسل مشهور ساوى الحقيقة قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ} [العنكبوت: 48]، وهو باعتبار كون المتلو مكتوبا، وإنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو عليهم القرآن عن ظهر قلب ولا يقرأه من صحف فمعنى {يَتْلُو صُحُفاً} يتلو ما هو مكتوب في صحف والقرينة ظاهرة وهي اشتهار كونه صلى الله عليه وسلم أميا.
ووصف الصحف ب {مطهرة} وهو وصف مشتق من الطهارة المجازية، أي كون معانيه لا لبس فيها ولا تشتمل على ما فيه تضليل، وهذا تعريض ببعض ما في أيدي أهل الكتاب من التحريف والأوهام.
ووصف الصحف التي يتلوها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن فيها كتبا، والكتب: جمع كتاب، وهو فعال اسم بمعنى المكتوب، فمعنى كون الكتب كائنة في الصحف أن الصحف التي يكتب فيها القرآن تشتمل على القرآن وهو يشتمل على ما تضمنته كتب الرسل السابقين مما هو خالص من التحريف والباطل، وهذا كما قال تعالى: {مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [البقرة: 97] وقال {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى، صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى:18-19] ، فالقرآن زبدة ما في الكتب الأولى ومجمع ثمرتها، فأطلق على ثمرة الكتب اسم كتب على وجه مجاز الجزئية.
والمراد بالكتب أجزاء القرآن أو سورة فهي بمثابة الكتب.
والقيمة: المستقيمة، أي شديدة القيام الذي هو هنا مجاز في الكمال والصواب وهذا من تشبيه المعقول بالمحسوس تشبيها بالقائم لاستعداده للعمل النافع، وضده العوج قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} [الكهف:1]، أي لم يجعل فيه نقص الباطل والخطأ، فالقيمة مبالغة في القائم مثل السيد للسائد والميت للمائت.

وتأنيث الوصف لاعتبار كونه وصفا لجمع.
[4] {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} .
ارتقاء في الإبطال وهو إبطال ثان لدعواهم بطريق النقض الجدلي المسمى بالمعارضة وهو تسليم الدليل والاستدلال لما ينافي ثبوت المدلول، وهذا إبطال خاص بأهل الكتاب اليهود والنصارى، ولذلك أظهر فاعل {تفرق} ولم يقل: وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءتهم البينة، إذ لو أضمر لتوهمت إرادة المشركين من جملة معاد الضمير، بعد أن أبطل زعمهم بقوله: {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُطَهَّرَةً} [البينة:2] ارتقى إلى إبطال مزاعمهم إبطالا مشوبا بالتكذيب وبشهادة ما حصل في الأزمان الماضية.
فيجوز أن تكون الواو للعطف عاطفة إبطالا على إبطال، ويجوز أن تكون واو الحال.
والمعنى: كيف يزعمون أن تمسكهم بما هم عليه من الدين مغيا بوقت أن تأتيهم البينة والحال أنهم جاءتهم بينة من قبل ظهور الإسلام وهي بينة عيسى عليه السلام فتفرقوا في الإيمان به فنشأ من تفرقهم حدوث ملتين اليهودية والنصرانية.
والمراد بهذه البينة الثانية مجيء عيسى عليه السلام فإن الله أرسله كما وعدهم أنبياؤهم أمثال إلياس واليسع وأشعياء. وقد أجمع اليهود على النبي الموعود به تجديد الدين الحق وكانوا منتظرين المخلص، فلما جاءهم عيسى كذبوه، أي فلا يطمع في صدقهم فيما زعموا من انتظار البينة بعد عيسى وهم قد كذبوا ببينة عيسى، فتبين أن الجحود والعناد شنشنة فيهم معروفة.
والمراد بالتفرق: تفرق بين إسرائيل بين مكذب لعيسى ومؤمن به وما أمن به إلا نفر قليل من اليهود.
وجعل التفرق كناية عن إنكار البينة لأن تفرقهم كان اختلافا في تصديق بينة عيسى عليه السلام، فاستعمل التفرق في صريحه وكنايته لقصد إدماج مذمتهم بالاختلاف بعد ظهور الحق كقوله: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} [آل عمران: 19].
فالتعريف في {البينة} المذكورة ثانيا يجوز أن يكون للعهد الذهني، أو للمعهود بين

المتحدث عنهم، وهي بينة أخرى غير الأولى وإعادتها من إعادة النكرة نكرة مثلها إذ المعروف بلام العهد الذهني بمنزلة النكرة، أو من إعادة المعرفة المعهودة معرفة مثلها، وعلى كلا الوجهين لا تكون المعادة عين التي قبلها.
وقد أطبقت كلمات المفسرين على أن معنى قوله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} أنهم ما تفرقوا عن اتباع الإسلام، أي تباعدوا عنه إلا من بعد ما جاء محمد صلى الله عليه وسلم. وهذا تأويل للفظ التفرق وهو صرف عن ظاهره بعيد فأشكل عليهم وجه تخصيص أهل الكتاب بالذكر مع أن التباعد عن الإسلام حاصل منهم ومن المشركين، وجعلوا المراد ب {البينة} الثانية عين المراد بالأولى وهي بينة محمد صلى الله عليه وسلم، سوى أن الفخر ذكر كلمات تنبئ عن مخالفة المفسرين في محمل تفرق الذين أوتوا الكتاب فإنه بعد أن قرر المعنى بما يوافق كلام بقية المفسرين تى بما يقتضي حمل التفرق على حقيقته، وحمل البينة الثانية على معنى مغاير لمحمل {البينة} الأولى، إذ قال: المقصود من هذه الآية تسلية محمد صلى الله عليه وسلم، أي لا يغمنك تفرقهم فليس ذلك لقصور في الحجة بل لعنادهم فسلفهم هكذا كانوا لم يتفرقوا في السبب وعبادة العجل إلا بعد ما جاءتهم البينة، فهي عادة قديمة لهم ، وهو معارض لأول كلامه، ولعله بدا له هذا الوجه وشغله عن تحريره شاغل وهذا مما تركه الفخر في المسودة.
[5] {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} .
هذا إبطال ثالث لتنصلهم من متابعة الإسلام بعلة أنهم لا يتركون ما هم عليه حتى تأتيهم البينة وزعمهم أن البينة لم تأتهم.
وهو إبطال بطريق القول بالموجب في الجدل، أي إذا سلمنا أنكم موصون بالتمسك بما أنتم عليه لا تنفكون عنه حتى تأتيكم البينة، فليس في الإسلام ما ينافي ما جاء به كتابكم يأمر بما أمر به القرآن، وهو عبادة الله وحده دون إشراك، وذلك هو الحنيفية وهي دين إبراهيم الذي أخذ عليهم العهد به، فذلك دين الإسلام وذلك ما أمرتهم به في دينكم.
فلك أن تجعل الواو عاطفة على جملة {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة:4]. الخ.

ولك أن تجعل الواو للحال فتكون الجملة حالا من الضمير في قوله: {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة: 1]. والمعنى: والحال أن البينة قد أتتهم إذ جاء الإسلام بما صدق قول الله تعالى لموسى عليه السلام أقيم لهم نبيئا من وسط إخوتهم وأجعل كلامي في فمه ، وقول عيسى عليه السلام فهو يعلمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم.
والتعبير بالفعل المسند للمجهول مفيد معنيين، أي ما أمروا في كتابهم إلا بما جاء به الإسلام. فالمعنى: وما أمروا في التوراة والإنجيل إلا أن يعبدوا الله مخلصين إلى آخره، فإن التوراة أكدت على اليهود تجنب عبادة الأصنام، وأمرت بالصلاة، وأمرت بالزكاة أمرا مؤكدا مكررا. وتلك هي أصول دين الإسلام قبل أن يفرض صوم رمضان والحج، والإنجيل لم يخالف التوراة أو المعنى وما أمروا في الإسلام إلا بمثل ما أمرهم به كتابهم، فلا معذرة لهم في الإعراض عن الإسلام على كلا التقديرين.
ونائب فاعل {أمروا} محذوف للعموم، أي ما أمروا بشيء إلا بأن يعبدوا الله.
واللام في قوله: {لِيَعْبُدُوا اللَّهَ} هي اللام التي تكثر زيادتها بعد فعل الإرادة وفعل الأمر وتقدم ذكرها عند قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} في [سورة النساء: 26] وقوله: {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} في [سورة الأنعام: 71]، وسماها بعض النحاة لام {أن}.
والاخلاص: التصفية والإنقاء، أي غير مشاركين في عبادته معه غيره.
والدين: الطاعة قال تعالى: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي} [الزمر:14].
وحنفاء: جمع حنيف، وهو لقب للذي يؤمن بالله وحده دون شريك قال تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:161].
وهذا الوصف تأكيد لمعنى {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} مع التذكير بأن ذلك هو دين إبراهيم عليه السلام الذي ملئت التوراة بتمجيده واتباع هديه.
وإقامة الصلاة من أصول شريعة التوراة كل صباح ومساء.
وإيتاء الزكاة: مفروض في التوراة فرضا مؤكدا.
واسم الإشارة في قوله: {وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} متوجه إلى ما بعد حرف الاستثناء فإنه مقترن باللام المسماة لام أن المصدرية فهو في تأويل مفرد، أي إلا بعبادة الله وإقامة

الصلاة وإيتاء الزكاة، أي والمذكور دين القيمة.
و {دِينُ الْقَيِّمَةِ} يجوز أن تكون إضافة على بابها فتكون {القيمة} مرادا به غير المراد بدين مما هو مؤنث اللفظ مما يضاف إليه دين أي دين الأمة القيمة أو دين الكتب القيمة. ويرجح هذا التقدير أن دليل المقدر موجود في اللفظ قبله. وهذا إلزام لهم بأحقية الإسلام وأنه الدين القيم قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ، مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [الروم:30-31].
ويجوز أن تكون الإضافة صورية من إضافة الموصوف إلى الصفة وهي كثيرة الاستعمال، وأصله الدين القيم، فأنث الوصف على تأويل دين بملة أو شريعة، أو على أن التاء للمبالغة في الوصف مثل تاء علامة والمآل واحد، وعلى كلا التقديرين فالمراد بدين القيمة دين الإسلام.
والقيمة: الشديدة الاستقامة وقد تقدم آنفا.
فالمعنى: وذلك المذكور هو دين أهل الحق من الأنبياء وصالحي الأمم وهو عين ما جاء به الإسلام قال تعالى: {وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً} [آل عمران: 67] وقال عنه وعن إسماعيل {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} [البقرة: 128]. وحكى عنه وعن يعقوب قولهما {فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132]، وقال سليمان {وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} [النمل: 42].
وقد مضى القول في ذلك عند قوله تعالى: {فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} في [سورة البقرة: 132].
والإشارة بذلك إلى الذي أمروا به أي مجموع ما ذكر هو دين الإسلام، أي هو الذي دعاهم إليه الإسلام فحسبوه نقضا لدينهم، فيكون مهيع الآية مثل قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64] وقوله: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ} [المائدة: 59].
والمقصود إقامة الحجة على أهل الكتاب وعلى المشركين تبعا لهم بأنهم أعرضوا

عما هم يتطلبونه فإنهم جميعا مقرون بأن الحنيفية هي الحق الذي أقيمت عليه الموسوية والعيسوية، والمشركون يزعمون أنهم يطلبون الحنيفية ويأخذون بما أدركوه من بقاياها ويزعمون أن اليهودية والنصرانية تحريف للحنيفية، فلذلك كان عامة العرب غير متهودين ولا متنصرين ويتمسكون بما وجدوا آباءهم متمسكين به وقل منهم من تهودوا أو تنصروا، وذهب نفر منهم يتطلبون آثار الحنيفية مثل زيد بن عمرو بن نفيل، وأمية بن أبي الصلت.
وخص الضمير ب"أهل الكتاب" لأن المشركين لم يؤمروا بذلك قبل الإسلام قال تعالى: {لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} [القصص: 46].
[6] {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} .
بعد أن أنحى على أهل الكتاب والمشركين معا خص أهل الكتاب بالطعن في تعللاتهم والإبطال لشبهاتهم التي يتابعهم المشركون عليها، أعقبه بوعيد الفريقين جمع بينهما كما ابتدأ الجمع بينهما في أول السورة لأن ما سبق من الموعظة والدلالة كاف في تدليل أنفسهم للموعظة.
فالجملة استئناف ابتدائي، وقدم أهل الكتاب على المشركين في الوعيد استتباعا لتقديمهم عليهم في سببه كما تقدم في أول السورة، ولأن معظم الرد كان موجها إلى أحوالهم في قوله: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} إلى قوله: {دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 4-5]، ولأنه لو آمن أهل الكتاب لقامت الحجة على أهل الشرك.
و {من} بيانية مثل التي في قوله: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} [البينة:1].
وتأكيد الخبر ب {إن} للرد على أهل الكتاب الذين يزعمون أنهم لا تمسهم النار إلا أياما معدودة، فإن الظرفية التي اقتضتها {في} تفيد أنهم غير خارجين منها، وتأكد ذلك بقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا} ، وأما المشركون فقد أنكروا الجزاء رأسا.
والإخبار عنهم بالكون في نار جهنم إخبار بما يحصل في المستقبل بقرينة مقام الوعيد فإن الوعيد كالوعد يتعلق بالمستقبل وإن كان شأن الجملة الاسمية غير المقيدة بما يعين زمان وقوعها أن تفيد حصول مضمونها في الحال كما تقول: زيد في نعمة.

وجملة {أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} كالنتيجة لكونهم في نار جهنم خالدين فيها فلذلك فصلت عن الجملة التي قبلها وهو إخبار بسوء عاقبتهم في الآخرة وأريد بالبريئة هنا البريئة المشهورة في الاستعمال وهم البشر، فلا اعتبار للشياطين في هذا الاسم وهذا يشبه الاستغراق العرفي.
والبريئة: فعلية من برأ الله الخلق، أي صورهم.
ومعنى كونهم {شَرُّ الْبَرِيَّةِ} أنهم أشد الناس شرا، ف {شر} هنا أفعل تفضيل أصله أشر مثل خير الذي هو بمعنى أخير، فإضافة {شر} إلى {الْبَرِيَّةِ} على نية {من} التفضيلية.
وإنما كانوا كذلك لأنهم ضلوا بعد تلبسهم بأسباب الهدى، فأما أهل الكتاب فلأن لديهم كتابا فيه هدى ونور فعدلوا عنه، وأما المشركون فلأنهم كانوا على الحنيفية فأدخلوا فيها عبادة الأصنام ثم إنهم أصروا على دينهم بعد ما شاهدوا من دلائل صدق محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به القرآن من الإعجاز والإنباء بما في كتب أهل الكتاب، وذلك مما لم يشاركهم فيه غيرهم فقد اجتنوا لأنفسهم الشر من حيث كانوا أهلا لنوال الخير فحسرتهم على أنفسهم يوم القيامة أشد من حسرة من عداهم فكان الفريقان شرا من الوثنيين والزنادقة في استحقاق العقاب لا فيما يرجى منهم من الاقتراب.
وأقحم اسم الإشارة بين اسم {إن} وخيرها للتنبيه على أنهم أحرياء بالحكم الوارد بعد اسم الإشارة من أجل الأوصاف التي قبل اسم الإشارة كما في قوله: {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:5]. وتوسيط ضمير الفصل لإفادة اختصاصهم بكونهم شر البرية لا يشاركهم في ذلك غيرهم من فرق أهل الكفر لما علمت آنفا. ولا يرد أن الشياطين أشد شرا منهم لما علمت أن اسم البريئة أعتبر إطلاقه على البشر.
و {الْبَرِيَّةِ} قرأه نافع وحده وابن ذكوان عن أبن عامر بهمز بعد الياء فعيلة من برأ الله، إذا خلق.
وقرأه بقية العشرة بياء تحتية مشددة دون همز على تسهيل الهمزة بعد الكسرة ياء وإدغام الياء الأولى في الياء الثانية تخفيفا.
وإثبات الهمزة لغة أهل الحجاز، والتخفيف لغة بقية العرب، كما تركوا الهمز في الدرية والنبي. قال سيبويه: ليس أحد من العرب إلا ويقول: تنبأ مسيلمة بالهمز غير أنهم

تركوا الهمز في النبي كما تركوه في الدرية والبرية إلا أهل مكة فإنهم يهمزونها ويخالفون العرب في ذلك.
[7-8] {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ، جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} .
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ، جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} .
قوبل حال الكفرة من أهل الكتاب وحال المشركين بحال الذين منوا بعد أن أشير إليهم بقوله: {وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5]، استيعابا لأحوال الفرق في الدنيا والآخرة وجريا على عادة القرآن في تعقيب نذارة المنذرين ببشارة المطمئنين وما ترتب على ذلك من الثناء عليهم، وقدم الثناء عليهم على بشارتهم على عكس نظم الكلام المتقدم في ضدهم ليكون ذكر وعدهم كالشكر لهم على إيمانهم وأعمالهم فإن الله شكور.
والجملة استئناف بياني ناشئ عن تكرر ذكر الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين فإن ذلك يثير في نفوس الذين آمنوا من أهل الكتاب والمشركين تساؤلا عن حالهم لعل تأخر إيمانهم إلى ما بعد نزول الآيات في التنديد عليهم يجعلهم في انحطاط درجة، فجاءت هذه الآية مبينة أن من آمن منهم هو معدود في خير البريئة.
والقول في اسم الإشارة ، وضمير الفصل والقصر وهمزة البريئة كالقول في نظيره المتقدم.
واسم الإشارة والجملة المخبر بها عنه جميعها خبر عن اسم {إن} .
وجملة {جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ} إلى آخرها مبينة لجملة {أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} .
و {عِنْدَ رَبِّهِمْ} ظرف وقع اعتراضا بين {جَزَاؤُهُمْ} ، وبين {جَنَّاتُ عَدْنٍ} للتنويه بعظم الجزاء بأنه مدخر لهم عند ربهم تكرمة لهم لما في {عند} من الإيماء إلى الحظوة والعناية، وما في لفظ ربهم من الإيماء إلى إجزال الجزاء بما يناسب عظم المضاف إليه {عند} ، وما يناسب شأن من يرب أن يبلغ بمربوبه عظيم الإحسان.

وإضافة: {جنات} إلى {عدن} لإفادة أنها مسكنهم لأن العدن الإقامة، أي ليس جزاؤهم تنزها في الجنات بل أقوى من ذلك بالإقامة فيها.
وقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} بشارة بأنها مسكنهم الخالد.
ووصف الجنات ب {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} لبيان منتهى حسنها.
وجري النهر مستعار لانتقال السيل تشبيها لسرعة انتقال الماء بسرعة المشي.
والنهر: أخدود عظيم في الأرض يسيل فيه الماء فلا يطلق إلا على مجموع الأخدود ومائه. وإسناد الجري إلى الأنهار توسع في الكلام لأن الذي يجري هو ماؤها وهو المعتبر في ماهية النهر.
وجعل جزاء الجماعة جمع الجنات فيجوز أن يكون على وجه التوزيع، أي لكل واحد جنة كقوله تعالى: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} [البقرة:19] وقولك: ركب القوم دوابهم، ويجوز أن يكون لكل أحد جنات متعددة والفضل لا ينحسر قال تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46].
وجملة {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} حال من ضمير {خَالِدِينَ} ، أي خالدين خلودا مقارنا لرضى الله عنهم، فهم في مدة خلودهم فيها محفوفون بآثار رضا الله عنهم، وذلك أعظم مراتب الكرامة قال تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة:72] ورضا الله تعلق إحسانه وإكرامه لعبده.
وأما الرضى في قوله: {وَرَضُوا عَنْهُ} فهو كناية عن كونهم نالهم من إحسان الله ما لا مطلب لهم فوقه كقول أبي بكر في حديث الغار "فشرب حتى رضيت" وقول مخرمة حين أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم قباء "رضي مخرمة". وزاده حسن وقع هنا ما فيه من المشاكلة.
{ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ}
تذييل آت على ما تقدم من الوعد للذين آمنوا والوعيد للذين كفروا بين به سبب العطاء وسب الحرمان وهو خشية الله تعالى بمنطوق الصلة ومفهومها.
والإشارة إلى الجزاء المذكور في قوله: {جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} يعني أن السبب الذي أنالهم ذلك الجزاء هو خشيتهم الله فإنهم لما خشوا الله توقعوا غضبه إذا لم يصغوا إلى من

يقول لهم: إني رسول الله إليكم، فأقبلوا على النظر في دلائل صدق الرسول فاهتدوا وآمنوا، وأما الذين آثروا حظوظ الدنيا فأعرضوا عن دعوة رسول من عند الله ولم يتوقعوا غضب مرسله فبقوا في ضلالهم.
فما صدق "من خشي ربه" هم المؤمنون، واللام للملك، أي ذلك الجزاء للمؤمنين الذين خشوا ربهم فإذا كان ذلك ملكا لهم لم يكن شيء منه ملكا لغيرهم فأفاد حرمان الكفرة المتقدم ذكرهم وتم التذييل.
وفي ذكر الرب هنا دون أن يقال: ذلك لمن خشي الله، تعريض بأن الكفار لم يرعوا حق الربوبية إذا لم يخشوا ربهم فهم عبيد سوء.

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الزلزلة
سميت هذه السورة في كلام الصحابة سورة {إِذَا زُلْزِلَتِ} روى الواحدي في "أسباب النزول" عن عبد الله بن عمرو: "نزلت إذا زلزلت وأبو بكر قاعد فبكى" الحديث1 وفي حديث أنس بن مالك مرفوعا عند الترمذي {إِذَا زُلْزِلَتِ} تعدل نصف القرآن، وكذلك عنونها البخاري والترمذي.
وسميت في كثير من المصاحف ومن كتب التفسير "

سورة الزلزال
".
وسميت في مصحف بخط كوفي قديم من مصاحف القيروان "زلزلت" وكذلك سماها في "الإتقان" في السور المختلف في مكان نزولها، وكذلك تسميتها في "تفسير ابن عطية"، ولم يعدها في "الإتقان" في عداد السور ذوات أكثر من أسم فكأنه لم ير هذه ألقابا لها بل جعلها حكاية بعض ألفاظها ولكن تسميتها سورة الزلزلة تسمية بالمعنى لا بحكاية بعض كلماتها.
واختلف فيها فقال ابن عباس وابن مسعود ومجاهد وعطاء والضحاك هي مكية. وقال قتادة ومقاتل: مدنية ونسب إلى ابن عباس أيضا. والأصح أنها مكية واقتصر عليه البغوي وابن كثير ومحمد بن الحسن النيسابوري في تفاسيرهم. وذكر القرطبي عن جابر أنها مكية ولعله يعني: جابر بن عبد الله الصحابي لأن المعروف عن جابر بن زيد أنها مدنية فإنها معدودة في نول السور المدنية فيما روي عن جابر بن زيد. وقال ابن عطية: آخرها وهو {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه} [الزلزلة:7] الآية نزل في رجلين كانا بالمدينة
ـــــــ
1 تمامه: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مايبكيك يا أبابكر؟" فقال: أبكاني هذه السورة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو أنكم لا تخطئون ولا تذنبون لخلق الله أمة بعدكم يخطئون ويذنبون ويستغفرون فيغفر لهم" .

اهـ. وستعلم أنه لا دلالة فيه على ذلك.
وقد عدت الرابعة والتسعين في عداد نزول السور فيما روي عن جابر بن زيد ونظمه الجعبري وهو بناء على أنها مدنية جعلها بعد سورة النساء وقبل سورة الحديد.
وعدد آيها تسع عند جمهور أهل العدد، وعدها أهل الكوفة ثماني للاختلاف في أن قوله: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} [الزلزلة:6] آيتان أو آية واحدة.
أغراضها
إثبات البعث وذكر أشراطه وما يعتري الناس عند حدوثها من الفزع.
وحضور الناس للحشر وجزائهم على أعمالهم من خير أو شر وهو تحريض على فعل الخير واجتناب الشر.
[1-6] {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا، وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا، وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا، يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا، بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا، يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} .
افتتاح الكلام بظرف الزمان مع إطالة الجمل المضاف إليها الظرف تشويق إلى متعلق الظرف إذ المقصود ليس توقيت صدور الناس أشتاتا ليروا أعمالهم بل الإخبار عن وقوع ذلك وهو البعث، ثم الجزاء، وفي ذلك تنزيل وقوع البعث منزلة الشيء المحقق المفروغ منه بحيث لا يهم الناس إلا معرفة وقته وأشراطه فيكون التوقيت كناية عن تحقيق وقوع الموقت.
ومعنى {زُلْزِلَتِ} : حركت تحريكا شديدا حتى يخيل للناس أنها خرجت من حيزها لأن فعل زلزل مأخوذ من الزلل وهو زلق الرجلين، فلما عنوا شدة الزلل ضاعفوا الفعل للدلالة بالتضعيف على شدة الفعل كما قالوا: كبكبه، أي كبه ولملم بالمكان من اللم.
والزلزال: بكسر الزاي الأولى مصدر زلزل، وأما الزلزال بفتح الزاي فهو اسم مصدر كالوسواس والقلقال. وتقدم الكلام على الزلزال في سورة الحج.
وإنما بني فعل {زُلْزِلَتِ} بصيغة النائب عن الفاعل لأنه معلوم فاعله وهو الله تعالى.
وانتصب {زِلْزَالَهَا} على المفعول المطلق المؤكد لفعله إشارة إلى هول ذلك الزلزال

فالمعنى: إذا زلزلت الأرض زلزالا.
وأضيف {زِلْزَالَهَا} إلى ضمير الأرض لإفادة تمكنه منها وتكرره حتى كأنه عرف بنسبته إليها لكثرة اتصاله بها كقول النابغة:
أسائلتي سفاهتها وجهلا ... على الهجران أخت بني شهاب
أي سفاهة لها، أي هي معرفة بها، وقول أبي خالد القناني:
والله أسماك سمى مباركا ... آثرك الله به إيثاركا
يريد إيثارا عرفت به واختصصت به. وفي كتب السيرة أن من كلام خطر بن مالك الكاهن يذكر شيطانه حين رجم "بلبله بلباله" أي بلبال متمكن منه. وإعادة لفظ الأرض في قوله: {وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا} إظهار في مقام الإضمار لقصد التهويل.
والأثقال: جمع ثقل بكسر المثلثة وسكون القاف وهو المتاع الثقيل، ويطلق على المتاع النفيس.
وإخراج الأرض أثقالها ناشئ عن انشقاق سطحها فتقذف ما فيها من معادن ومياه وصخر.
وذلك من تكرر الانفجارات الناشئة عن اضطراب داخل طبقاتها وانقلاب أعاليها أسافل والعكس.
والتعريف في {الإِنسَانُ} تعريف الجنس المفيد للاستغراق، أي وقال الناس ما لها، أي الناس الذين هم أحياء ففزعوا وقال بعضهم لبعض، أو قال كل أحد في نفسه حتى استوى في ذلك الجبان والشجاع، والطائش والحكيم، لأنه زلزال تجاوز الحد الذي يصبر على مثله الصبور.
وقول {مَا لَهَا} استفهام عن الشيء الذي ثبت للأرض ولزمها لأن اللام تفيد الاختصاص، أي ما للأرض في هذا الزلزال، أو ما لها زلزلت هذا الزلزال، أي ماذا ستكون عاقبته. نزلت الأرض منزلة قاصد مريد يتساءل الناس عن قصده من فعله حيث لم يتبين غرضه منه، وإنما يقع مثل هذا الاستفهام غالبا مردفا بما يتعلق بالاستقرار الذي في الخبر مثل أن يقال: ما له يفعل كذا، أو ما له في فعل كذا، أو ما له وفلانا، أي معه، فلذلك وجب أن يكون هنا مقدر، أي ما لها زلزلت، أو ما لها في هذا الزلزال، أو ما لها

وإخراج أثقالها.
وجملة {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} الخ جواب {إذا} باعتبار ما أبدل منها من قوله: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ} فيومئذ بدل من {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} .
واليوم يطلق على النهار مع ليله فيكون الزلزال نهارا وتتبعه حوادث في الليل مع انكدار النجوم وانتشارها وقد يراد باليوم مطلق الزمان.
و {تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} هو العامل في {يَوْمَئِذٍ} وفي البدل، والتقدير يوم إذ تزلزل الأرض وتخرج أثقالها ويقول الناس: ما لها تحدث أخبارها الخ.
و {أَخْبَارَهَا} مفعول ثان لفعل {تُحَدِّثُ} لأنه مما ألحق بظن لإفادة الخبر علما، وحذف مفعوله الأول لظهوره، أي تحدث الإنسان لأن الغرض من الكلام هو إخبارها لما فيه من التهويل.
وضمير {تُحَدِّثُ} عائد إلى {الأَرْضُ} .
والتحديث حقيقته: أن يصدر كلام بخبر عن حدث. وورد في حديث الترمذي عن أبي هريرة قال قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} قال: "أتدرون ما أخبارها?" قالوا: الله ورسوله أعلم قال: "فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها تقول: عمل يوم كذا وكذا فهذه أخبارها" اهـ.
وجمع {أَخْبَارَهَا} باعتبار تعدد دلالتها على عدد القائلين {مَا لَهَا} وإنما هو خبر واحد وهو المبين بقوله: {بأن ربك أوحى لها} .
وانتصب {أَخْبَارَهَا} على نزع الخافض وهو باء تعدية فعل {تُحَدِّثُ} .
وقوله: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} يجوز أن يتعلق بفعل {تُحَدِّثُ} والباء للسببية، أي تحدث أخبارها بسبب أن الله أمرها أن تحدث أخبارها.
ويجوز أن يكون بدلا من {أَخْبَارَهَا} وأظهرت الباء في البدل لتوكيد تعدية فعل {تُحَدِّثُ} إليه، وعلى كلا الوجهين قد أجملت أخبارها وبينها الحديث السابق.
وأطلق الوحي على أمر التكوين، أي أوجد فيها أسباب إخراج أثقالها فكأنه أسر إليها بكلام كقوله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتًا} [النحل:68] الآيات.

وعدي فعل {أَوْحَى} باللام لتضمين {أَوْحَى} معنى قال كقوله تعالى: {فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} [فصلت:11]، وإلا فإن حق {أَوْحَى} أن يتعدى بحرف {إلى} .
والقول المضمن هو قول التكوين قال تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40].
وإنما عدل عن فعل: قال لها إلى فعل {أَوْحَى لَهَا} لأنه حكاية عن تكوين لا عن قول لفظي.
وقوله: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا} بدل من جملة {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} والجواب هو فعل و {يَصْدُرُ النَّاسُ} وقوله: {يَوْمَئِذٍ} يتعلق به، وقدم على متعلقه للاهتمام. وهذا الجواب هو المقصود من الكلام لأن الكلام مسوق لإثبات الحشر والتذكير به والتحذير من أهواله فإنه عند حصوله يعلم الناس أن الزلزال كان إنذارا بهذا الحشر.
وحقيقة {يَصْدُرُ النَّاسُ} الخروج من محل اجتماعهم، يقال: صدر عن المكان، إذا تركه وخرج منه صدورا وصدرا بالتحريك. ومنه الصدر عن الماء بعد الورد، فأطلق هنا فعل {يَصْدُرُ} على خروج الناس إلى الحشر جماعات، أو انصرافهم من المحشر إلى مأواهم من الجنة أو النار، تشبيها بانصراف الناس عن الماء بعد الورد.
وأشتات: جمع شت بفتح الشين وتشديد الفوقية وهو المتفرق، والمراد: يصدرون متفرقين جماعات كل إلى جهة بحسب أعمالهم وما عين لهم من منازلهم.
وأشير إلى أن تفرقهم على حسب تناسب كل جماعة في أعمالها من مراتب الخير ومنازل الشر بقوله: {لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} ، أي يصدرون لأجل تلقي جزاء الأعمال التي عملوها في الحياة الدنيا فيقال لكل جماعة: انظروا أعمالكم ، أو انظروا مآلكم.
وبني فعل {لِيُرَوْا} إلى النائب لأن المقصود رؤيتهم أعمالهم لا تعيين من يريهم إياها. وقد أجمع القراء على ضم التحتية.
فالرؤية مستعملة في رؤية البصر والمرئي هو منازل الجزاء، ويجوز أن تكون الرؤية مستعملة في العلم بجزاء الأعمال فإن الأعمال لا ترى ولكن يظهر لأهلها جزاؤها.

[7-8] {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} .
تفريع على قوله: {لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} [الزلزلة:6] تفريع الفذلكة، انتقالا للترغيب والترهيب بعد الفراغ من إثبات البعث والجزاء، والتفريع قاض بأن هذا يكون عقب ما يصدر الناس أشتاتا.
والمثقال: ما يعرف به ثقل الشيء، وهو ما يقدر به الوزن وهو كميزان زنة ومعنى.
والذرة: النملة الصغيرة في ابتداء حياتها.
و {مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} مثل في أقل القلة وذلك للمؤمنين ظاهر وبالنسبة إلى الكافرين فالمقصود ما عملوا من شر، وأما بالنسبة إلى أعمالهم من الخير فهي كالعدم فلا توصف بخير عند الله لأن عمل الخير مشروط بالإيمان قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النور:39].
وإنما أعيد قوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ} دون الاكتفاء بحرف العطف لتكون كل جملة مستقلة الدلالة على المراد لتختص كل جملة بغرضها من الترغيب أو الترهيب فأهمية ذلك تقتضي التصريح والإطناب.
وهذه الآية معدودة من جوامع الكلم وقد وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بالجامعة الفاذة ففي الموطأ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الخيل لثلاثة" الحديث. فسئل عن الحمر فقال: "لم ينزل علي فيها إلا هذه الآية الجامعة الفاذة {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} " . وعن عبد الله بن مسعود أنه قال: هذه أحكم آية في القرآن، وقال الحسن: قدم صعصعة بن ناجية جد الفرزدق على النبي صلى الله عليه وسلم يستقرئ النبي القرآن فقرأ عليه هذه الآية فقال صعصعة: حسبي فقد انتهت الموعظة لأبالي أن لا أسمع من القرآن غيرها. وقال كعب الأحبار لقد أنزل على محمد آيتين أحصتا ما في التوراة والإنجيل والزبور والصحف {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} .
وإذ قد كان الكلام مسوقا للترغيب والترهيب معا أوثر جانب الترغيب بالتقديم في التقسيم تنويها بأهل الخير.

وفي "الكشاف": يحكى أن أعرابيا أخر خيرا يره فقيل قدمت وأخرت فقال:
خذا بطن هرشي أو قفاها فإنه ... كلا جانبي هرشي لهن طريق اه.
وقد غفل هذا الإعرابي عن بلاغة الآية المقتضية التنويه بأهل الخير.
روى الواحدي عن مقاتل: أن هذه الآية نزلت في رجلين كانا بالمدينة أحدهما لا يبالي من الذنوب الصغائر ويركبها، والآخر يحب أن يتصدق فلا يجد إلا اليسير فيستحيي من أن يتصدق به فنزلت الآية فيهما.
ومن أجل هذه الرواية قال جمع: إن السورة مدنية، ولو صح هذا الخبر لما كان مقتضيا أن السورة مدنية لأنهم كانوا إذا تلوا آية من القرآن شاهدا يظنها بعض السامعين نزلت في تلك القصة كما بيناه في المقدمة الخامسة.

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة العادياتسميت في المصاحف القيروانية العتيقة والتونسية والمشرقية "سورة العاديات" بدون واو، وكذلك في بعض التفاسير فهي تسمية لما ذكر فيها دون حكاية لفظه. وسميت في بعض كتب التفسير "سورة والعاديات" بإثبات الواو.
واختلف فيها فقال ابن مسعود وجابر بن زيد وعطاء والحسن وعكرمة: هي مكية. وقال أنس بن مالك وابن عباس وقتادة: هي مدنية.
وعدت الرابعة عشرة في ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد على أنها مكية نزلت بعد سورة العصر وقبل سورة الكوثر.
وآيها إحدى عشرة.
ذكر الواحدي في "أسباب النزول" عن مقاتل وعن غيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خيلا سرية إلى بني كنانة وأمر عليها المنذر بن عمرو انصاري فأسهبت أي أمعنت في سهب وهي الأرض الواسعة شهرا وتأخر خيرهم فارجف المنافقون وقالوا: قتلوا جميعا، فأخبر الله عنهم بقوله: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} [العاديات:1] الآيات، إعلاما بأن خيلهم قد فعلت جميع ما في تلك الآيات.
وهذا الحديث قال في "الإتقان" رواه الحاكم وغيره. وقال أبن كثير: روى أبو بكر البزاز هنا حديثا غريبا جدا وساق الحديث قريبا مما للواحدي.
وأقول غرابة الحديث لا تناكد قبوله وهو مروي عن ثقات إلا أن في سنده حفص بن جميع وهو ضعيف. فالراجع أن السورة مدنية.

أغراضها
ذم خصال تفضي بأصحابها إلى الخسران في الآخرة، وهي خصال غالية على المشركين والمنافقين، ويراد تحذير المسلمين منها.
ووعظ الناس بأن وراءهم حسابا على أعمالهم بعد الموت ليتذكره المؤمن ويهدد به الجاحد. وأكد ذلك كله بأن افتتح بالقسم، وأدمج في القسم التنويه بخيل الغزاة أو رواحل الحجيج.
[1-8] {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا، فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا، فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا، فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا، فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا، إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ، وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ، وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} .
أقسم الله ب {الْعَادِيَاتِ} جمع العادية، وهو اسم فاعل من العدو وهو السير السريع يطلق على سير الخيل والإبل خاصة.
وقد يوصف به سير الإنسان وأحسب أنه على التشبيه بالخيل ومنه عداءو العرب، وهم أربعة: السليك بن السلكة، والشنفري، وتأبط شرا، وعمرو بن أمية الضمري. يضرب بهم المثل في العدو.
وتأنيث هذا الوصف هنا لأنه من صفات ما لا يعقل.
والضبح: اضطراب النفس المتردد في الحنجرة دون أن يخرج من الفم وهو من أصوات الخيل والسباع. وعن عطاء: سمعت ابن عباس يصف الضبح أح أح.
وعن ابن عباس ليس شيء من الدواب يضبح غير الفرس والكلب والثعلب، وهذا قول أهل اللغة واقتصر عليه في "القاموس". روى ابن جرير بسنده إلى ابن عباس قال: بينما أنا جالس في الحجر جاءني رجل فسألني عن {الْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} فقلت له: الخيل حين تغير في سبيل الله ثم تأوي إلى الليل فيصنعون طعامهم ويورون نارهم، فانفتل عني فذهب إلى علي ابن أبي طالب وهو تحت سقاية زمزم فسأله عنها، فقال: سألت عنها أحد قبلي? قال : نعم، سألت ابن عباس فقال: الخيل تغزو في سبيل الله، قال اذهب فادعه لي، فلما وقفت عند رأسه، قال: تفتي الناس بما لا علم لك به والله لكانت أول غزوة في الإسلام لبدر وما كان معنا إلا فرسان فرس للزبير وفرس للمقداد فكيف تكون

العاديات ضبحا، إنما العاديات ضبحا الإبل من عرفة إلى المزدلفة ومن المزدلفة إلى منى يعني بذلك أن السورة مكية قبل ابتداء الغزو الذي أوله غزوة بدر قال ابن عباس: فنزعت عن قولي ورجعت إلى الذي قال علي.
وليس في قول علي رضي الله عنه تصريح بأنها مكية ولا مدنية وبمثل ما قال علي قال ابن مسعود وإبراهيم ومجاهد وعبيد بن عمير.
والضبح لا يطلق على صوت الإبل في قول أهل اللغة. فإذا حمل {الْعَادِيَاتِ} على أنها الإبل، فقال المبرد وبعض أهل اللغة: من جعلها للإبل جعل {ضَبْحًا} بمعنى ضبعا، يقال: ضبحت الناقة في سيرها وضبعت، إذا مدت ضبعيهات في السير وقال أبو عبيدة: ضبحت الخيل وضبعت، إذا عدت وهو أن يمد الفرس ضبعيه إذا عدا، أي فالضبح لغة في الضبع وهو من قلب العين حاء. قال في الكشاف وليس بثبت. ولكن صاحب القاموس اعتمده وعلى تفسير {الْعَادِيَاتِ} بأنها الإبل يكون الضبح استعير لصوت الإبل، أي من شدة العدو قويت الأصوات المترددة في حناجرها حتى أشبهت ضبح الخيل أو أريد بالضبح الضبع على لغة الإبدال.
وانتصب {ضَبْحًا} فيجوز أن يجعل حالا من {الْعَادِيَاتِ} إذا أريد به الصوت الذي يتردد في جوفها حين العدو، أو يجعل مبينا لنوع العدو إذا كان أصله: ضبحا.
وعلى وجه أن المقسم به رواحل الحج فالقسم بها لتعظيمها بنا تعين به على مناسك الحج. واختير القسم بها لأن السامعين يوقنون أن ما يقسم عليه بها محقق، فهي معظمة عند الجميع من المشركين والمسلمين.
والموريات: التي توري، أي توقد.
والقدح: حك جسم على آخر ليقدح نارا، يقال: قدح فأورى. وانتصب {قَدْحًا} على أنه مفعول مطلق مؤكد لعامله. وكل من سنابك الخيل ومناسم الإبل تقدح إذا صكت الحجر الصوان نارا تسمى نار الحباحب، قال الشنفري يشبه نفسه في العدو ببعير:
إذا الأمغر الصوان لاقى مناسمي ... تطاير منه قادح ومفلل
وذلك كناية عن الإمعان في العدو وشدة السرعة في السير.
ويجوز أن يراد قدح النيران بالليل حين نزولهم لحاجتهم وطعامهم، وجوز أن يكون {الْمُورِيَاتِ قَدْحًا} مستعار لإثارة الحرب لأن الحرب تشبه بالنار. قال تعالى: {كُلَّمَا

أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} [المائدة:64]، فيكون {قَدْحًا} ترشيحا لاستعارة {الْمُورِيَاتِ} ومنصوبا على المفعول المطلق ل {الْمُورِيَاتِ} ومنصوبا على المفعول المطلق ل {الْمُورِيَاتِ} وجوز أن يكون {قَدْحًا} بمعنى استخراج المرق من القدر في القداح لإطعام الجيش أو الركب، وهو مشتق من اسم القدح،وهو الصحفة فيكون {قَدْحًا} مصدرا منصوبا على المفعول لأجله.
والمغيرات: اسم فاعل من: أغار، والإغارة تطلق غزو الجيش دارا وهو أشهر إطلاقها فإسناد الإغارة إلى ضمير {الْعَادِيَاتِ} مجاز عقلي فإن المغيرين راكبوها ولكن الخيل أو إبل الغزو أسباب للإغارة ووسائل.
وتطلق الإغارة على الاندفاع في السير.
و {صُبْحًا} ظرف زمان فإذا فسر {المغيرات} بخيل الغزاة فتقييد ذلك بوقت الصبح لأنهم كانوا إذا غزوا لا يغيرون على القوم إلا بعد الفجر ولذلك كان منذر الحي إذا أنذر قومه بمجيء العدو نادى: يا صباحاه، قال تعالى: {فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ} [الصافات:177].
وإذا فسر {المغيرات} بالإبل المسرعات في السير، فالمراد: دفعها من مزدلفة إلى منى صباح يوم النحر وكانوا يدفعون بكرة تشرق الشمس على ثبير ومن أقوالهم في ذلك أشرق ثبير كما نغير.
"وأثرن به نقعا": أصعدن غبار من الأرض من شدة عدوهن، والإثارة: الإهاجة، والنقع: الغبار.
والباء في {به} يجوز أن تكون سببية، والضمير المجرور عائد إلى العدو المأخوذ من {الْعَادِيَاتِ} . ويجوز كون الباء ظرفية والضمير عائد إلى {صُبْحًا} ، أي أثرن في ذلك الوقت وهو وقت إغارتها.
ومعنى "وسطن": كن وسط الجمع، يقال: وسط القوم، إذا كان بينهم.
و {جَمْعًا} مفعول "وسطن" وهو اسم لجماعة الناس، أي صرن في وسط القوم المغزوون. فأما بالنسبة إلى الإبل فيتعين أن يكون قوله: {جَمْعًا} بمعنى المكان المسمى {جَمْعًا} وهو المزدلفة فيكون إشارة إلى حلول الإبل في مزدلفة قبل أن تغير صبحا منها إلى عرفة إذ ليس ثمة جماعة مستقرة في مكان تصل إليه هذه الرواحل.

ومن بديع النظم وإعجازه إيثار كلمات "العاديات وضبحا والموريات وقدحا، والمغيرات وصبحا، ووسطن وجمعا" دون غيرها لأنها برشاقتها تتحمل أن يكون المقسم به خيل الغزو ورواحل الحج.
وعطف هذه الأوصاف الثلاثة الأولى بالفاء لأن أسلوب العرب في عطف الصفات وعطف الأمكنة أن يكون بالفاء وهي للتعقيب، والأكثر أن تكون لتعقيب الحصول كما في هذه الآية، وكما في قول ابن زيابة:
يا لهف زيابة للحارث الص ... ابح فالغانم فالآيب1
وقد يكون لمجرد تعقيب الذكر كما في سورة الصافات.
والفاء العاطفة لقوله: {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا} عاطفة على وصف {الْمُغِيرَاتِ} . والمعطوف بها من آثار وصف المغيرات. وليست عاطفة على صفة مستقلة مثل الصفات الثلاث التي قبلها لأن إثارة النقع وتوسط الجمع من آثار الإغارة صبحا، وليس مقسما بهما أصالة وإنما القسم بالأوصاف الثلاثة الأولى.
فلذلك غير الأسلوب في قول {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا} ، فجيء بهما فعلين ماضيين ولم يأتيا على نسق الأوصاف قبلهما بصيغة اسم الفاعل للإشارة إلى أن الكلام انتقل من القسم إلى الحكاية عن حصول ما ترتب على تلك الأوصاف الثلاثة ما قصد منها بالظفر المطلوب الذي لإجله كان العدو والإيراء والإغارة عقبه وهي الحلول بدار القوم الذين غزوهم إذا كان المراد ب {الْعَادِيَاتِ} الخيل، أو بلوغ تمام الحج بالدفع عن عرفة إذا كان المراد ب {الْعَادِيَاتِ} رواحل الحجيج، فإن إثارة النقع يشعرون بها عند الوصول حين تقف الخيل والإبل دفعة، فتثير أرجلها نقعا شديدا فيما بينهما، وحينئذ تتوسطن الجمع من الناس. وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون المراد بقوله: {جَمْعًا} اسم المزدلفة حيث المشعر الحرام.
ومناسبة القسم بهذه الموصوفات دون غيرها إن أريد رواحل الحجيج وهو الوجه الذي فسر به علي بن أبي طالب وهو أن يصدق المشركون بوقوع المقسم عليه لأن القسم بشعائر الحج لا يكون إلا بارا حيث هم لا يصدقون بأن القرآن كلام الله ويزعمونه قول
ـــــــ
1 يعني: زيابة أمه. واسمه سلمة بن ذهل التيمي. والحارث هو ابن همام الشيباني الذي هدد ابن زيابة فأجابه ابن زيابة متهكما.

النبي صلى الله عليه وسلم.
وإن أريد ب {الْعَادِيَاتِ} وما عطف عليها خيل الغزاة، فالقسم بها لأجل التهويل والترويع لإشعار المشركين بأن غارة تترقبهم وهي غزوة بدر، مع تسكين نفس النبي صلى الله عليه وسلم من التردد في مصير السرية التي بعث بها مع المنذر بن عمرو إذا صح خبرها فيكون القسم بخصوص هذه الخيل إدماجا للاطمئنان.
وجملة {إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} جواب القسم.
والكنود: وصف من أمثلة المبالغة من كند ولغات العرب مختلفة في معناه فهو في لغة مضر وربيعة: الكفور بالنعمة، وبلغة كنانة: البخيل، وفي لغة كندة وحضرموت: العاصي، والمعنى: الشديد الكفران لله.
والتعريف في {الإِنسَانَ} تعريف الجنس وهو يفيد الاستغراق غالبا، أي أن في طبع الإنسان الكنود لربه، أي كفران نعمته، وهذا عارض يعرض لكل إنسان على تفاوت فيه ولا يسلم منه إلا الأنبياء وكمل أهل الصلاح لأنه عارض ينشأ عن إيثار المرء نفسه وهو أمر ي الجبلة لا تدفعه إلا المراقبة لنفسية وتذكر حق غيره. وبذلك قد يذهل أو ينسى حق الله، والإنسان يحس بذلك من نفسه في خطراته، ويتوانى أو يغفل عن مقاومته لأنه يشتغل بإرضاء داعية نفسه والأنفس متفاوتة في تمكن هذا الخلق منها، والعزائم متفاوتة في استطاعة مغالبته.
وهذا ما أشار إليه قوله تعالى: {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} فلذلك كان الاستغراق عرفيا أو عاما مخصوصا، فالإنسان لا يخلو من أحوال مآلها إلى كفران النعمة، بالقول والقصد، أو بالفعل والغفلة، فالإشراك كنود، والعصيان كنود، وقلة ملاحظة صرف النعمة فيما أعطيت لأجله كنود، وهو متفاوت، فهذا خلق متأصل في الإنسان فلذلك أيقظ الله له الناس ليريضوا أنفسهم على أمانة هذا الخلق من نفوسهم كما في قوله تعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} [المعارج:19] الآية وقوله: {خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء:37] وقوله: {إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6-7] وقد تقدمت قريبا.
وعن ابن عباس: تخصيص الإنسان هنا بالكافر فهو من العموم العرفي.
وروي عن أبي أمامة الباهلي بسند ضعيف قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الكنود هو الذي يأكل وحده ويمنع رفده ويضرب عبده" وهو تفسير لأدنى معاني الكنود فإن أكله

وحده، أي عدم إطعامه أحدا معه، أو عدم إطعامه المحاويج إغضاء عن بعض مراتب شكر النعمة، وكذلك منعه الرفد، ومثله: ضربه عبده فإن فيه نسيانا لشكر الله الذي جعل العبد ملكا له ولم يجعله ملكا للعبد فيدل على أن ما هو أشد من ذلك أولى بوصف الكنود.
وقيل التعريف في {الإِنسَانَ} للعهد، وأن المراد به الوليد بن المغيرة، وقيل: قرطة بن عبد عمرو بن نوفل القرشي.
واللام في {لِرَبِّهِ} لام التقوية لأن "كنود" وصف ليس أصيلا في العمل وإنما يتعلق بالمعمولات لمشابهته الفعل في الاشتقاق فيكثر أن يقترن مفعوله بلام التقوية، ومع تأخيره عن معموله.
وتقديم {لِرَبِّهِ} لإفادة الاهتمام بمتعلق هذا الكنود لتشنيع هذا الكنود بأنه للرب الذي هو أحق الموجودات بالشكر وأعظم ذلك شرك المشركين، ولذلك أكد الكلام بلام الابتداء الداخلة على خبر "إن" للتعجيب من هذا الخبر.
وتقديم {لِرَبِّهِ} على عامله المقترن بلام الابتداء وهي من ذوات الصدر لأنهم يتوسعون في المجرورات والظروف، وابن هشام يرى أن لام الابتداء الواقعة في خبر "إن" ليست بذات صدارة.
وضمير {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} عائد ألى الإنسان على حسب الظاهر الذي يقتضيه انتساق الضمائر واتحاد المتحدث عنه وهو قول الجمهور.
والشهيد: يطلق على الشاهد هو الخبر بما يصدق دعوى مدع، ويطلق على الحاضر ومنه جاء إطلاقه على العالم الذي لا يفوته المعلوم، ويطلق على المقر لأنه شهد على نفسه.
والشهيد هنا: إما بمعنى المقر كما في "أشهد أن لا إله إلا الله".
والمعنى: أن الإنسان مقر بكنوده لربه من حيث لا يقصد الإقرار، وذلك في فلتات الأقوال مثل قول المشركين في أصنامهم {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]. وهذا قول يلزمه اعترافهم بأنهم عبدوا ما لا يستحق أن يعبد وأشركوا في العبادة مع المستحق للانفراد بها، أليس هذا كنودا لربهم، قال تعالى: {وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} [الأنعام:130]، وفي فلتات الأفعال كما يعرض للمسلم في المعاصي.

والمقصود في هذه الجملة تفظيع كنود الإنسان بأنه معلوم لصاحبه بأدنى تأمل في أقواله وأفعاله. وعلى هذا فحرف {على} متعلق ب"شهيد" واسم الإشارة مشار به إلى الكنود المأخوذ من صفة "كنود".
ويجوز أن يكون "شهيد" بمعنى "عليم" كقول الحارث بن حلزة في عمرو بن هند:
وهو الرب والشهيد على يو ... م الخيارين والبلاء بلاء
ومتعلق "شهيد" محذوفا دل عليه المقام، أي عليم بأن الله ربه، أي بدلائل الربوبية، ويكون قوله: {عَلَى ذَلِكَ} بمعنى: مع ذلك، أي مع ذلك الكنود هو عليم بأنه ربه مستحق للشكر والطاعة لا للكنود، فحرف {على} بمعنى "مع" كقوله: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} [البقرة:177] و {يُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} [الإنسان:8] وقول الحارث بن حلزة:
فبقينا على الشناءة تنم ... نا حصون وعزة قعساء
والجار والمجرور في موضع الحال وذلك زيادة في التعجب من كنود الإنسان.
وقال ابن عباس والحسن وسفيان: ضمير {وأنه} عائد إلى "ربه"، أي وأن الله على ذلك لشهيد، والمقصود أن الله يعلم ذلك في نفس الإنسان، وهذا تعريض بالتحذير من الحساب عليه. وهذا يسوغه أن الضمير عائد إلى أقرب مذكور ونقل عن مجاهد وقتادة كلا الوجهين فلعلهما رأيا جواز المحملين وهو أولي.
وتقديم {عَلَى ذَلِكَ} على "شهيد" للاهتمام والتعجب ومراعاة الفاصلة.
والشديد: البخيل. قال أبو ذؤيب راثيا:
حذرناه بأثواب في قعر هوة ... شديد على ما ضم في اللحد جولها
والجول بالفتح والضم: التراب، كما يقال للبخيل المتشدد أيضا قال طرفة:
عقيلة مال الفاحش المتشدد
واللام في {لِحُبِّ الْخَيْرِ} لام التعليل، والخير: المال قال تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} [البقرة:180].
والمعنى إن في خلق الإنسان الشح لأجل حبه المال، أي الازدياد منه قال تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9].
وتقديم {لِحُبِّ الْخَيْرِ} على متعلقه للاهتمام بغرابة هذا المتعلق ولمراعاة الفاصلة،

وتقديمه على عامله المقترن بلام الابتداء، وهي من ذوات الصدر لأنه مجرور كما علمت في قوله: {لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} .
وحب المال يبعث على منع المعروف، وكان العرب يعيرون بالبخل وهم مع ذلك يبخلون في الجاهلية بمواساة الفقراء والضعفاء ويأكلون أموال اليتامى ولكنهم يسرفون في الإنفاق في مظان السمعة ومجالس الشرب وفي الميسر قال تعالى: {وَلاَ تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ، وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمًّا وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} [الفجر:18-20].
[9-10] {أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ، وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} .
فرع على الإخبار بكنود الإنسان وشحه استفهام إنكاري عن عدم علم الإنسان بوقت بعثرة ما في القبور وتحصيل ما في الصدور فإنه أمر عجيب كيف يغفل عنه الإنسان. وهمزة الاستفهام قدمت على فاء التعريف لأن الاستفهام صدر الكلام.
وانتصب {إذا} على الظرفية لمفعول {يَعْلَمُ} المحذوف اقتصارا، ليذهب السامع في تقديره كل مذهب ممكن قصدا للتهويل.
والمعنى: ألا يعلم العذاب جزاء له على ما في كنوده وبخله من جناية متفاوتة المقدار إلى حد أيجاب الخلود في النار.
وحذف مفعولا {يَعْلَمُ} ولا دليل في اللفظ على تعيين تقديرهما فيوكل إلى السامع تقدير ما يقتضيه المقام من الوعيد والتهويل ويسمى هذا الحذف عند النحاة الحذف الاقتصاري، وحذف كلا المفعولين اقتصارا جائز عند جمهور النحاة وهو التحقيق وإن كان سيبويه يمنعه.
وبعثر: معناه قلب من سفل إلى علو، والمراد به إحياء ما في القبور من الأموات الكاملة الأجساد أو أجزائها، وتقدم بيانه عند قوله تعالى: {وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ} في سورة التكوير [4].
وحصل: جمع وأحصي. وما في الصدور: هو ما في النفوس من ضمائر وأخلاق، أي جمع عده والحساب عليه.
[11] {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} .

جملة مستأنفة استئنافا بيانيا ناشئا عن الإنكار، أي كان شأنهم ن يعلموا اطلاع الله عليهم إذا بعثر ما في القبور، وأن يذكروه لأن وراءهم الحساب المدقق، وتفيد هذه الجملة مفاد التذييل.
وقوله: {يَوْمَئِذٍ} متعلق بقوله: {لَخَبِيرٌ} ، أي عليم.
والخبير: مكنى به عن المجازي بالعقاب والثواب، بقرينة تقييده بيومئذ لأن علم الله بهم حاصل من وقت الحياة الدنيا، وأما الذي يحصل من علمه بهم يوم بعثرة القبور، فهو لعلم الذي يترتب عليه الجزاء.
وتقديم {بهم} على عامله وهو {لَخَبِيرٌ} للاهتمام به ليعلموا أنهم المقصود بذلك. وتقديم المجرور على العامل المقترن بلام الابتداء مع أن لها الصدر سائغ لتوسعهم في المجرورات والظرف كما تقدم آنفا في قوله: {لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [العاديات:6] وقوله: {عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} [العاديات:7] وقوله: {لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات:8]. وقد علمت أن ابن هشام ينازع في وجوب صدارة لام الابتداء التي في خبر {إن} .

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة القارعةاتفقت المصاحف وكتب التفسير وكتب السنة على تسمية هذه السورة "سورة القارعة" ولم يرو شيء في تسميتها من كلام الصحابة والتابعين.
واتفق على أنها مكية.
وعدت الثلاثين في عداد نزول السور نزلت بعد سورة قريش وقبل سورة القيامة.
وآيها عشر في عد أهل المدينة وأهل مكة، وثمان في عد أهل الشام والبصرة، وإحدى عشرة في عد أهل الكوفة.
أغراضها
ذكر فيها إثبات وقوع البعث وما يسبق ذلك من الأهوال.
وإثبات الجزاء على الأعمال وأن أهل الأعمال الصالحة المعتبرة عند الله في نعيم، وأهل الأعمال السيئة التي لا وزن لها عند الله في قعر الجحيم.
[1-3] {الْقَارِعَةُ، مَا الْقَارِعَةُ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ} .
الافتتاح بلفظ {الْقَارِعَةُ} افتتاح مهول، وفيه تشويق إلى معرفة ما سيخبر به.
وهو مرفوع إما على الابتداء {مَا الْقَارِعَةُ} خبره ويكون هنالك منتهى الآية.
فالمعنى: القارعة شيء عظيم هي. وهذا يجري على أن الآية الأولى تنتهي بقوله: {مَا الْقَارِعَةُ} .
وإما أن تكون {الْقَارِعَةُ} الأول مستقلا بنفسه، وعد آية عند أهل الكوفة فيقدر خبر

عنه محذوف نحو: القارعة قريبة، أو يقدر فعل محذوف نحو أتت القارعة، ويكون قوله: {مَا الْقَارِعَةُ} استئنافا للتهويل، وجعل آية ثانية عند أهل الكوفة، وعليه فالسورة مسمطة من ثلاث فواصل في أولها وثلاث في آخرها وفاصلتين وسطها.
وإعادة لفظ {الْقَارِعَةُ} إظهار في مقام الإضمار عدل عن أن يقال: القارعة ما هيه، لما في لفظ القارعة من التهويل والترويع، وإعادة لفظ المبتدأ أغنت عن الضمير الرابط بين المبتدأ وجملة الخبر.
والقارعة: وصف من القرع وهو ضرب الجسم بآخر بشدة لها صوت. وأطلق القرع مجازا على الصوت الذي يتأثر به السامع تأثر خوف أو اتعاظ، يقال: قرع فلانا، أي زجره وعنفه بصوت غضب. وفي المقامة الأولى: ويقرع الأسماع بزواجر وعظه.
وأطلقت {الْقَارِعَةُ} على الحدث العظيم وإن لم يكن من الأصوات كقوله تعالى: {وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ} [الرعد:31] وقيل تقول العرب: قرعت القوم قارعة، إذا نزل بهم أمر فظيع ولم أقف عليه فيما رأيت من كلام العرب قبل القرآن.
وتأنيث {الْقَارِعَةُ} لتأويلها بالحادثة أو الكائنة.
و {ما} استفهامية، والاستفهام مستعمل في التهويل على طريقة المجاز المرسل المركب لأن هول الشيء يستلزم تساؤل الناس عنه.
ف {الْقَارِعَةُ} هنا مراد بها حادثة عظيمة. وجمهور المفسرين على أن هذه الحادثة هي الحشر فجعلوا القارعة من أسماء يوم الحشر مثل القيامة، وقيل: أريد بها صيحة النفخة في الصور، وعن الضحاك: القارعة النار ذات الزفير، كأنه يريد أنها اسم جهنم.
وهذا التركيب نظير قوله تعالى: {الْحَاقَّةُ، مَا الْحَاقَّةُ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة: 1-3] وقد تقدم.
ومعنى {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ} زيادة تهويل أمر القارعة و {ما} استفهامية صادقة على شخص، والتقدير: وأي شخص أدراك، وهو مستعمل في تعظيم حقيقتها وهولها لأن هول الأمر يستلزم البحث عن تعرفه. وأدراك: بمعنى أعلمك.
و {مَا الْقَارِعَةُ} استفهام آخر مستعمل في حقيقته، أي ما أدراك جواب هذا الاستفهام. وسد الاستفهام مسد مفعولي {أَدْرَاكَ} .

وجملة {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ} عطف على جملة {مَا الْقَارِعَةُ} .
والخطاب في {أَدْرَاكَ} لغير معين، أي وما أدراك أيها السامع.
وتقدم نظير هذا عند قوله تعالى: {الْحَاقَّةُ، مَا الْحَاقَّةُ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة: 1-3] وتقدم بعضه عند قوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} في سورة الانفطار [17].
[4-5] {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ، وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ} .
{يوم} مفعول فيه منصوب بفعل مضمر دل عليه وصف القارعة لأنه في تقدير: تقرع، أو دل عليه الكلام كله فيقدر: تكون، أو تحصل، يوم يكون الناس كالفراش.
وجملة {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ} مع متعلقها المحذوف بيان للإبهامين الذين في قوله: {مَا الْقَارِعَةُ} [القارعة:2] وقوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ} [القارعة:3].
وليس قوله: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ} خبر عن {الْقَارِعَةُ} إذ ليس سياق الكلام لتعيين يوم وقوع القارعة.
والمقصود بهذا التوقيت زيادة التهويل بما أضيف إليه {يوم} من الجملتين المفيدتين أحوالا هائلة، إلا أن شأن التوقيت أن يكون بزمان معلوم، وإذ قد كان هذا الحال الموقت بزمانه غير معلوم مداه. كان التوقيت له إطماعا في تعيين وقت حصوله إذ كانوا يسألون متى هذا الوعد، ثم توقيته بما هو مجهول لهم إبهاما آخر للتهويل والتحذير من مفاجأته، وأبرز في صورة التوقيت للتشويق إلى البحث عن تقديره، فإذا باء الباحث بالعجز عن أخذ بحيطة الاستعداد لحلوله بما ينجيه من مصائبه التي قرعت به الأسماع في آي كثيرة.
فحصل في هذه الآية تهويل شديد بثمانية طرق: وهي الابتداء باسم القارعة، المؤذن بأمر عظيم، والاستفهام المستعمل في التهويل، والإظهار في مقام الإضمار أول مرة، والاستفهام عما ينبئ بكنه القارعة، وتوجيه الخطاب إلى غير معين، والإظهار في مقال الإضمار ثاني مرة، والتوقيت بزمان مجهول حصوله وتعريف ذلك الوقت بأحوال مهولة.
والفراش: فرخ الجراد حين يخرج من بيضه من الأرض يركب بعضه بعضا وهو ما في قوله تعالى: {يَخْرُجُونَ مِنْ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ} [القمر:7]. وقد يطلق الفراش على ما يطير من الحشرات ويتساقط على النار ليلا وهو إطلاق آخر لا يناسب تفسير لفظ

الآية هنا به.
والمبثوث: المتفرق على وجه الأرض.
وجملة {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ} معترضة بين جملة {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} وجملة {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} [القارعة:6] الخ. وهو إدماج لزيادة التهويل.
ووجه الشبه كثرة الاكتظاظ على أرض المحشر.
والعهن: الصوف، وقيل: يختص بالمصبوغ الأحمر، أو ذي الألوان، كما في قول زهير:
كأن فتات العهن في كل منزل ... نزلن به حب الفنا لم يحطم
لأن الجبال مختلفة الألوان بحجارتها ونبتها قال تعالى: {وَمِنْ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا} [فاطر:27].
والمنفوش: المفرق بعض أجزاءه عن بعض ليغزل أو تحشى به الحشايا، ووجه الشبه تفرق الأجزاء لأن الجبال تندك بالزلازل ونحوها فتتفرق أجزاء.
وإعادة كلمة {تكون} مع حرف العطف للإشارة إلى اختلاف الكونين فإن أولهما كون إيجاد، والثاني كون اضمحلال، وكلاهما علامة على زوال عالم وظهور عالم آخر.
وتقدم قوله تعالى: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ} في سورة المعارج [9].
[6-11] {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ، فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ، وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ، فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَه،ْ نَارٌ حَامِيَةٌ} .
تفصيل لما في قوله: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} [القارعة:4] من إجمال حال الناس حينئذ، فذلك هو المقصود بذكر اسم الناس الشامل لأهل السعادة وأهل الشقاء فلذلك كان تفصيله بحالين: حال حسن وحال فضيع.
وثقل الموازين كناية عن كونه بمحل الرضا من الله تعالى لكثرة حسناته، لأن ثقل الميزان يستلزم ثقل الموزون وإنما توزن الأشياء المرغوب في اقتناءها، وقد شاع عند العرب الكناية عن الفضل والشرف وأصالة الرأي بالوزن ونحوه، وبضد ذلك يقولون:

فلان لا يقام له وزن، قال تعالى: {فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف:105]، وقال النابغة:
وميزانه في سورة المجد ماتع
أي راجح وهذا متبادر في العربية فلذلك لم يصرح في اية بذكر ما يثقل الموازين لظهور أنه العمل الصالح.
وقد ورد ذكر الميزان للأعمال يوم القيامة كثيرا في القرآن قال ابن العربي في العواصم: لم يرد حديث صحيح في الميزان. والمقصود عدم فوات شيء من الأعمال، والله قادر على أن يجعل ذلك يوم القيامة بآلة أو بعمل الملائكة أو نحو ذلك.
والعيشة: اسم مصدر العيش كالخيفة اسم للخوف، أي في حياة.
ووصف الحياة ب {رَاضِيَةٍ} مجاز عقلي لأن الراضي صاحبها راض بها فوصفت به العيشة لأنها سبب الرضى أو زمان الرضى.
وقوله: {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} إخبار عنه بالشقاء وسوء الحال، فالأم هنا يجوز أن تكون مستعملة في حقيقتها. وهاوية: هالكة، والكلام تمثيل لحال من خفت موازينه يومئذ بحال الهالك في الدنيا لأن العرب يكنون عن حال المرء بحال أمه في الخير والشر لشدة محبتها ابنها فهي أشد سرورا بسروره وأشد حزنا بما يحزنه. صلى أعرابي وراء إمام فقرأ الإمام {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} [النساء:125] فقال الأعرابي: لقد قرت عين أم إبراهيم ومنه قول ابن زيابة حين تهدده الحارث بن همام الشيباني:
يا لهف زيابة للحارث الصا ... بح فالغانم فالآيب
ويقول في الشر: هوت أمه، أي أصابه ما تهلك به أمه، وهذا كقولهم: ثكلته أمه، في الدعاء، ومنه ما يستعمل في التعجب وأصله الدعاء كقول كعب ابن سعد الغنوي في رثاء أخيه أبي المغوار:
هوت أمه ما يبعث الصبح غاديا ... وماذا يرد الليل حين يؤوب
أي ماذا يبعث الصبح منه غاديا وما يرد الليل حين يؤوب غانما، وحذف منه في الموضعين اعتمادا على قرينة رفع الصبح والليل وذكر: غاديا ويؤوب و"من" المقدرة تجريدية فالكلام عل التجريد مثل: لقيت منه أسدا.

فاستعمل المركب الذي يقال عند حال الهلاك وسوء المصير في الحال المشبهة بحال الهلاك، ورمز إلى التشبيه بذلك المركب، كما تضرب الأمثال السائرة.
ويجوز أن يكون "أمه" مستعارا لمقره ومآله لأنه يأوي أليه كما يأوي الطفل إلى أمه.
و {هَاوِيَةٌ} المكان المنخفض بين الجبلين الذي إذا سقط فيه إنسان أو دابة هلك يقال سقط في الهاوية.
وأريد بها جهنم، وقيل هي اسم لجهنم، أي فمأواه جهنم.
ويجوز أن يكون "أمه" على حذف مضاف، أي أم رأسه، وهي أعلى الدماغ، {هَاوِيَةٌ} ساقطة من قولهم سقط على أم رأسه أي هلك.
{وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ} : تهويل كما تقدم آنفا.
وضمير {هيه} عائد إلى {هَاوِيَةٌ} ، فعلى الوجه الأول يكون في الضمير استخدام، إذ معاد الضمير وصف هالكة، والمراد منه اسم جهنم كما في قول معاوية بن مالك الملقب معوذ الحكماء:
إذا نزل السماء بأرض قوم ... رعيناه وأن كانوا غضابا
وعلى الوجه الثاني يعود الضمير إلى {هَاوِيَةٌ} وفسرت بأنها قعر جهنم.
وعلى الوجه الثالث يكون في {هيه} استخدام أيضا كالوجه الأول.
والهاء التي لحقت ياء "هي" هاء السكت، هي هاء تجلب لأجل تخفيف اللفظ عند الوقف عليه، فمنه تخفيف واجب تجلب له هاء السكت لزوما، وبعضه حسن، وليس بلازم وذلك في كل اسم أو حرف بآخره حركة بناء دائمة مثل: هو، وهي، وكيف، وثم، وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ} في سورة الحاقة [19].
وجمهور القراء أثبتوا النطق بهذه الهاء في حالتي الوقف والوصل، وقرأ حمزة وخلف بإثبات الهاء في الوقف وحذفها في الوصل.
وجملة {نَارٌ حَامِيَةٌ} بيان لجملة {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ} ، والمعنى: هي نار حامية. وهذا من من حذف المسند إليه الذي اتبع في حذفه استعمال أهل اللغة.

ووصف {نَارٌ} ب {حَامِيَةٌ} من قبيل التوكيد اللفظي لأن النار لا تخلو عن الحمي فوصفها به وصف بما هو معنى لفظ {نَارٌ} فكان كذكر المرادف كقوله تعالى: {نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ} [الهمزة:6].

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة التكاثرقال الآلوسي أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن أبي هلال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمونها "المقبرة" اه.
وسميت في معظم المصاحف ومعظم التفاسير "سورة التكاثر" وكذلك عنونها الترمذي في "جامعه" وهي كذلك معنونة في بعض المصاحف العتيقة بالقيروان. وسميت في بعض المصاحف "سورة ألهاكم" وكذلك ترجمها البخاري في كتاب التفسير من "صحيحه".
وهي مكية عند الجمهور قال ابن عطية: هي مكية لا أعلم فيها خلافا.
وعن ابن عباس والكلبي ومقاتل: إنها نزلت في مفاخرة جرت بين بني عبد مناف وبني سهم في الإسلام كما يأتي قريبا وكانوا من بطون قريش بمكة ولأن قبور أسلافهم بمكة.
وفي "الإتقان": المختار: أنها مدنية. قال: ويدل له ما أخرجه ابن أبي حاتم أنها نزلت في قبيلتين من الأنصار تفاخروا، وما أخرجه البخاري عن أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لو أن لابن آدم واديا من ذهب أحب أن يكون له واديان ولن يملأ فاه إلا التراب ويتوب الله على من تاب" . قال أبي: كنا نرى هذا من القرآن حتى نزلت {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر:1] اهـ. يريد المستدل بهذا أن أبيا أنصاري وأن ظاهر قوله: حتى نزلت {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} ، أنها نزلت بعد أن كانوا يعدون "لو أن لابن آدم واديا من ذهب الخ من القرآن" وليس في كلام أبي دليل ناهض إذ يجوز أن يريد بضمير كنا المسلمين، أي كان من سبق منهم يعد ذلك من القرآن حتى نزلت سورة التكاثر وبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن ما كانوا يقولونه ليس بقرآن.

والذي يظهر من معاني السورة وغلظة وعيدها أنها مكية وأن المخاطب بها فريق من المشركين لأن ما ذكر فيها لا يليق بالمسلمين أيامئذ.
وسبب نزولها فيما قال الواحدي والبغوي عن مقاتل والكلبي والقرطبي عنهما وعن ابن عباس: أن بني عبد مناف وبني سهم من قريش تفاخروا فتعادوا السادة والأشراف من أيهم أكثر عددا فكثر بنو عبد مناف بنو سهم بثلاثة أبيات لأنهم كانوا أكثر عددا في الجاهلية.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي بريدة الجرمي قال: نزلت في قبيلتين من الأنصار بني حارثة وبني الحارث تفاخروا وتكاثروا بالأحياء ثم قالوا: انطلقوا بنا إلى القبور فجعلت إحدى الطائفتين تقول: فيكم مثل فلان، تشير إلى القبر. ومثل فلان، وفعل الآخرون مثل ذلك، فأنزل الله {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} .
وقد عدت السادسة عشرة في ترتيب نزول السور، ونزلت بعد سورة الكوثر وقبل سورة الماعون بناء على أنها مكية.
وعدد آيتها ثمان.
أغراضها
اشتملت على التوبيخ على اللهو عن النظر في دلائل القرآن ودعوة الإسلام بإيثار المال والتكاثر به والتفاخر بالأسلاف وعدم الإقلاع عن ذلك إلى أن يصيروا في القبور كما صار من كان قبلهم وعلى الوعيد على ذلك.
وحثهم على التدبير فيما ينجيهم من الجحيم.
وأنهم مبعوثون ومسؤولون عن إهمال شكر المنعم العظيم.
[1-4] {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ، حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ، كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ، ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} .
{أَلْهَاكُمُ} أي شغلكم عما يجب عليكم الاشتغال به لأن اللهو شغل يصرف عن تحصيل أمر مهم.
و {التَّكَاثُرُ} : تفاعل في الكثر أي التباري في الإكثار من شيء مرغوب في كثرته،

فمنه تكاثر في الأموال، ومنه تكاثر في العدد من الأولاد والأحلاف للاعتزاز بهم. وقد فسرت الآية بهما قال تعالى: {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَدًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [سبأ:35].
وقال الأعشى:
ولست بالأكثر منهم حصى ... وإنما العزة للكاثر
روى مسلم عن عبد الله بن الشخير قال انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} قال: "يقول ابن آدم مالي مالي، وهل لك يابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت" فهذا جار مجرى التفسير لمعنى من معاني التكاثر اقتضاه حال الموعظة ساعتئذ وتحتمه الآية.
والخطاب للمشركين بقرينة غلظة الوعيد بقوله: {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ، ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} وقوله: {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} [التكاثر:6] إلى آخر السورة، ولأن هذا ليس من خلق المسلمين يومئذ.
والمراد بالخطاب: سادتهم وأهل الثراء منهم لقوله: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر:8]، ولأن سادة المشركين هم الذين آثروا ما هم فيه من النعمة على التهمم بتلقي دعوة النبي صلى الله عليه وسلم فتصدوا لتكذيبه وإغراء الدهماء بعدم الإصغاء له. فلم يذكر الملهى عنه لظهور أنه القرآن والتدبر فيه، والإنصاف بتصديقه. وهذا الإلهاء حصل منهم وتحقق كما دل عليه حكايته بالفعل الماضي.
وإذا كان الخطاب للمشركين فلأن المسلمين يعلمون أن التلبس بشيء من هذا الخلق مذموم عند الله، وأنه من خصال أهل الشرك فيعلمون أنهم محذرون من التلبس بشيء من ذلك فيحذرون من أن يلهيهم حب المال عن شيء من فعل الخير، ويتوقعون أن يفاجئهم الموت وهم لهون عن الخير، قال تعالى يخاطب المؤمنين {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوالِ وَالأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} [الحديد:20] الآية.
وقوله: {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} غاية، فيحتمل أن يكون غاية لفعل {أَلْهَاكُمُ} كما في قوله تعالى: {قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} [طه:91]، أي دام إلهاء التكاثر إلى أن زرتم المقابر، أي استمر بكم طول حياتكم، فالغاية مستعملة في الإحاطة

بأزمان المغيا لا في تنهيته وحصول ضده لأنهم إذا صاروا إلى المقابر انقطعت أعمالهم كلها.
ولكون زيارة المقابر على هذا الوجه عبارة عن الحلول فيها، أي قبور المقابر. وحقيقة الزيارة الحلول في المكان حلولا غير مستمر، فأطلق فعل الزيارة هنا تعريضا بهم بأن حلولهم في المقابر يعقبهم خروج منها.
والتعبير بالفعل الماضي في {زُرْتُمُ} لتنزيل المستقبل منزلة الماضي لأنه محقق وقوعه مثل قوله: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل:1].
ويحتمل أن تكون الغاية للمتكاثر به الدال عليه التكاثر، أي بكل شيء حتى بالقبور تعدونها. وهذا يجري على ما روى مقاتل والكلبي أن بني عبد مناف وبني سهم تفاخروا بكثرة السادة منهم، كما تقدم في سبب نزولها آنفا، فتكون الزيارة مستعملة في معناها الحقيقي، أي زرتم المقابر لتعدوا القبور، والعرب يكنون بالقبر عن صاحبه قال النابغة:
لئن كان للقبرين قبر بجلق ... وقبر بصيداء الذي عند حارب
وقال عصام بن عبيد الزماني، أو همام الرقاشي:
لو عد قبر كنت أقربهم ... قبرا وأبعدهم من منزل الذام
أي كنت أقربهم منك قبرا، أي صاحب قبر.
والمقابر جمع مقبرة بجمع الموحدة وبضمها. والمقبرة الأرض التي فيها قبور كثيرة.
والتوبيخ الذي استعمل فيه الخبر أتبع بالوعيد على ذلك بعد الموت، وبحرف الزجر والإبطال بقوله: {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} فأفاد {كلا} زجرا وإبطالا لإنهاء التكاثر.
و {سَوْفَ} لتحقيق حصول العلم. وحذف مفعول {تَعْلَمُونَ} لظهور أن المراد: تعلمون سوء مغبة لهوكم بالتكاثر عن قبول دعوة الإسلام.
وأكد الزجر والوعيد بقوله: {ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} فعطف عطفا لفظيا بحرف التراخي أيضا للإشارة إلى تراخي رتبة هذا الزجر والوعيد عن رتبة الزجر والوعيد الذي قبله، فهذا زجر ووعيد مماثل للأول لكن عطفه بحرف {ثم} اقتضى كونه أقوى من الأول لأنه أفاد تحقيق الأول وتهويله.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68