كتاب : التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور
المؤلف : محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي

شكروا تلك النعمة ولم يكفروها كما كفرها المشركون الذين بوأهم الله حرما آمنا تجبى إليه ثمرات كل شيء، فجعلوا لله شركاء، ثم كفروا بالرسول المرسل إليهم. فوقع في الكلام إيجاز حذف. وتقدير معناه: فشكروا النعمة واتبعوا وصايا الأنبياء وما خالفوا ذلك إلا من بعد ما جاءهم العلم.
والاختلاف افتعال أريد به شدة التخالف ولا يعرف لمادة هذا المعنى فعل مجرد. وهي مشتقة من الاسم الجامد وهو الخلف لمعنى الوراء فتعين أن زيادة التاء للمبالغة مثل "اكتسب" مبالغة في"كسب"، فيحمل على خلاف تشديد وهو مضادة ما جاء به الدين وما دعا إليه الرسول صلى الله عليه وسلم وهو المناسب للسياق فإن الكلام ثناء مردف بغاية تؤذن أن ما بعد الغاية نهاية للثناء وإثبات للوم إذ قد نفى عنهم الاختلاف إلى غاية تؤذن بحصول الاختلاف منهم عند تلك الغاية فالذين لم يختلفوا هم الذين بوأهم الله مبوأ صدق. وقد جاءوا بعدهم إلى أن جاء الذين اختلفوا على الأنبياء. وهؤلاء ما صدق ضمير الرفع في قوله: {جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} [آل عمران: 19].
وما جاءهم من العلم يجوز أن يكون ما جاءهم به الأنبياء من شرع الله فلم يعلموا بما جاؤوهم به، وأعظم ذلك تكذيبهم بمحمد - عليه الصلاة والسلام -.
فعن ابن عباس: هم اليهود الذين كانوا في زمن النبيء محمد صلى الله عليه وسلم كانوا قبل مبعثه مقرين بنبي يأتي، فلما جاءهم العلم، وهو القرآن اختلفوا في تصديق محمد - عليه الصلاة والسلام -، قال ابن عباس: هم قريظة والنضير وبنو قينقاع.
ويجوز أن يكون العلم هو القرآن، وعلى هذا الوجه يكون معنى الآية كمعنى قوله: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} [آل عمران: 19]، وقوله: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة: 4] فإن البينة هي محمد صلى الله عليه وسلم لأن قبل هذا قوله: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُطَهَّرَةً} [البينة: 1, 2] الآية. وقال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة: 89].
وهذا المحمل هو المناسب لحرف "حتى" في قوله تعالى: {فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} .
وتعقيب {فَمَا اخْتَلَفُوا} بالغاية يؤذن بأن ما بعد الغاية منتهى حالة الشكر، أي فبقوا

في ذلك المبوأ، وفي تلك النعمة، حتى اختلفوا فسلبت نعمتهم فان الله سلبهم أوطانهم.
وجملة: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} تذييل وتوعد، والمقصود منه: أن أولئك قوم مضوا بما عملوا وأن أمرهم إلى ربهم كقوله: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة: 134]، وفيه إيماء إلى أن على الحاضرين اليوم أن يفكروا في وسائل الخلاص من الضلال والوقوع في المؤاخذة يوم القيامة.
و"بين" ظرف مكان للقضاء المأخوذ من فعل "يقضي" ففعل القضاء كأنه متخلل بينهم لأنه متعلق بتبيين المحق والمبطل.
وضمير {بَيْنَهُمْ} عائد إلى ما يفهم من قوله: {فَمَا اخْتَلَفُوا} من وجود مخالف بكسر اللام ومخالف "بفتحها".
{فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ}
تفريع على سياق القصص التي جعلها الله مثلا لأهل مكة وعظة بما حل بأمثالهم. انتقل بهذا التفريع من أسلوب إلى أسلوب كلاهما تعريض بالمكذبين، فالأسلوب السابق تعريض بالتحذير من أن يحل ما حل بالأمم المماثلة لهم، وهذا الأسلوب الموالي تعريض لهم بشهادة أهل الكتاب على تلك الحوادث، وما في الكتب السابقة من الأنباء برسالة محمد صلى الله عليه وسلم. فالمراد من {مَا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} هو المنزل الذي تفرع عليه هذا الكلام وهو ما أنزل في هذه السورة من القصص.
ثم إن الآية تحتمل معنيين لا يستقيم ما سواهما؛ أولهما أن تبقى الظرفية التي دلت عليها "في" على حقيقتها، ويكون الشك قد أطلق وأريد به أصحابه، أي فإن كنت في قوم أهل شك مما أنزلنا إليك، أي يشكون في وقوع هذه القصص، كما يقال: دخل في الفتنة، أي في أهلها. ويكون معنى {فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} فاسأل أهل الكتاب سؤال تقرير وإشهاد عن صفة تلك الأخبار يخبروا بمثل ما أخبرتهم به، فيزول الشك من نفوس أهل الشك إذ لا يحتمل تواطؤك مع أهل الكتاب على صفة واحدة لتلك الأخبار. فالمقصود من الآية إقامة الحجة على المشركين بشهادة أهل الكتاب من اليهود والنصارى قطعا لمعذرتهم.

وثانيهما: أن تكون "في" للظرفية المجازية كالتي في قوله تعالى: {فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ} [هود: 109] ويكون سوق هذه المحاورة إلى النبيء صلى الله عليه وسلم على طريقة التعريض لقصد أن يسمع ذلك المشركون فيكون استقرار حاصل المحاورة في نفوسهم أمكن مما لو ألقي إليهم مواجهة. وهذه طريقة في الإلقاء التعريضي يسلكها الحكماء وأصحاب الأخلاق متى كان توجيه الكلام إلى الذي يقصد به مظنة نفور كما في قوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65] أو كان في ذلك الإلقاء وفق بالذي يقصد سوق الكلام إليه كما في قصة الخصم من اللذين اختصما إلى داود المذكورة في سورة ص~.
وكلا الاحتمالين يلاقي قوله: {فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} فإنه يقتضي أن المسؤول عنه مما لا يكتمه أهل الكتاب، وأنهم يشهدون به، وإنما يستقيم ذلك في القصص الموافقة لما في كتبهم فإنهم لا يتحرجون من إعلانها والشهادة بها. وغير هذين الاحتمالين يعكر عليه بعض ما في الآية، ويقتضي أن المخاطب النبيء صلى الله عليه وسلم لمكان قوله: {مِنْ قَبْلِكَ} .
وليس المراد بضمائر الخطاب كل من يصح أن يخاطب، لأن قوله: {مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} يناكد ذلك إلا بتعسف.
وإنما تكون جملة: {فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} جوابا للشرط باعتبار ما تفيده مادة السؤال من كونهم يجيبون بما يزيل الشك، فبذلك يلتئم التلازم بين الشرط والجواب، كما دلت عليه جملة: {لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} .
وقرأ الجمهور {فَاسْأَلِ} بهمزة وصل وسكون السين وهمزة بعد السين. وقرأه ابن كثير والكسائي {فسل} بفتح السين دون همزة الوصل وبحذف الهمزة التي بعد السين مخفف سأل.
فجملة {لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} مستأنفة استئنافا بيانيا لجواب سؤال ناشئ عن الشرط وجوابه، كأن السامع يقول: فإذا سألتهم ماذا يكون، فقيل:لقد جاءك الحق من ربك.
ولما كان المقصود من ذلك علم السامعين بطريق التعريض لا علم الرسول عليه الصلاة والسلام لأنه ليس بمحل الحاجة لإعلامه بأنه على الحق قرنت الجملة بحرفي

التأكيد، وهما: لام القسم وقد، لدفع إنكار المعرض بهم.
وبذلك كان تفريع: {فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} تعريضا أيضا بالمشركين بأنهم بحيث يحذر الكون منهم.
والامتراء: الشك فيما لا شبهة للشك فيه. فهو أخص من الشك.
وكذلك عطف {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ} وهو أصرح في التعريض بهم: {فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [م: 65]. وهذا يقتضي أنهم خاسرون. ونظيره: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ، وحاصل المعنى: فان كنتم شاكين في صدق ما أنزلنا على محمد مما أصاب المكذبين قبلكم فاسألوا أهل الكتاب يخبروكم بأن ذلك صدق، لقد جاءكم الحق من رب محمد صلى الله عليه وسلم فلا تكونوا شاكين ولا تكذبوا بآيات الله فتكونوا خاسرين.
[96, 97] {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ}
تبين تناسب هذه الآية مع التي قبلها بما فسرنا به الآية السابقة فإنه لما سبق التعريض إلى المشركين الشاكين في صدق صلى الله عليه وسلم والاستشهاد عليهم في صدقه بشهادة أهل الكتاب أعقب ذلك بأنهم من زمرة الفرق الذين حقت عليهم كلمة الله أن لا يؤمنوا، فهم لا تجدي فيهم الحجة لأنهم أهل مكابرة، وليسوا طالبين للحق لأن الفطرة التي فطرت عليها عقولهم غير قابلة لحقائق الإيمان، فالذين لم يؤمنوا بما يجيء من الآيات هم ممن علم الله أنهم لا يؤمنون، تلك أماراتهم. وهذا مسوق مساق التأييس من إيمانهم.
ومعنى "حقت" ثبتت. و"على" للاستعلاء المجازي، وهو تمكن الفعل الذي تعلقت به. والمراد بكلمات الله: أمر التكوين، وجمعت الكلمات بالنظر إلى أن متعلقها ناس كثيرون، فكل واحد منهم تحق عليه كلمة.
وقرأ غير نافع، وابن عامر: {كَلِمَةُ رَبِّكَ} على مراعاة الجنس إذ تحق على كل أمة كلمة، وهذا الكلام عظة للمشركين. قال غيرهم: وتحذير من أن يكونوا مظهرا لمن حقت عليهم كلمة الشقوة وإنذار بوشك حلول العذاب بهم.
فالموصول على هذا التفسير مراد به معهود، والجملة كلها مستأنفة، و"إن" للتوكيد

المقصود به التحقيق، أي لا شك أن هؤلاء من أولئك فقد اتضح أمرهم واليأس من إيمانهم.
ويحتمل أن تجعل الجملة في موضع التعليل للقصص السابقة فتكون بمنزلة التذييل، والموصول للعموم الجامع جميع الأمم التي هي بمثابة الأمم المتحدث عنهم وتكون "إن" لمجرد الاهتمام بالخبر، فتفيد التعليل والربط، وتغني عن فاء التفريع كالتي في قول بشار:
إن ذاك النجاح في التبكير
كما تقدم غير مرة ويكون في الآية تعريض آخر بالمشركين.
و"لو" وصلية للمبالغة، أي لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية فكيف إذا لم تجئهم إلا بعض الآيات.
و"كل" مستعملة في معنى الكثرة، وهو استعمال كثير في القرآن. كما سيأتي عند قوله تعالى: {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} في سورة الحج[31] وقوله: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} في سورة البقرة[27]، أي ولو جاءتهم آيات كثيرة تشبه في الكثرة استغراق جميع الآيات الممكن وقوعها. وقد تقدم نظير ذلك آنفا.
ورؤية العذاب، كناية عن حلوله بهم.
والمعنى: أنهم لا يؤمنون إلا حين لا ينفعهم الإيمان، لأن نزول العذاب هو ابتداء مجازاتهم على كفرهم، وليس بعد الشروع في المجازاة عفو.
ومن بركة هذا الدين أن الذين كفروا به قد هداهم الله قبل أن ينزل بهم عذابا.
[98] {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ}
الفاء لتفريع التغليط على امتناع أهل القرى من الإيمان بالرسل قبل أن ينزل بهم العذاب على الإخبار بأن الذين حقت عليهم كلمة الله أن لا يؤمنوا لا يؤمنون حتى يروا العذاب فان أهل القرى من جملة الذين حقت عليهم الكلمة بأن لا يؤمنوا. والغرض من ذكر أهل القرى التعريض بالمقصود، وهم أهل مكة فإنهم أهل قرية فكان ذلك كالتخلص بالتعريض إلى المخصوصين به، وللإفضاء به إلى ذكر قوم يونس فإنهم أهل قرية.

و"لولا" حرف يرد لمعان منها التوبيخ، وهو هنا مستعمل في لازم التوبيخ كناية عن التغليط، لأن أهل القرى قد انقضوا، وذلك أن أصل معنى "لولا" التحضيض، وهو طلب الفعل بحث، فإذا دخلت على فعل قد فات وقوعه كانت مستعملة في التغليط والتنديم والتوبيخ على تفويته، ويكون ما بعدها في هذا الاستعمال فعل مضي مثل قوله تعالى: {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا} [يونسالنور 16]. وإذا توجه الكلام الذي فيه "لولا" إلى غير صاحب الفعل الذي دخلت عليه كانت مستعملة في التعجيب من حال المتحدث عنه، كقوله: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 13] وقوله: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام: 43] وهذه الآية أصرح في ذلك لوجود "كان" الدالة على المضي والانقضاء. والمقصود: التعريض بأن مشركي أهل مكة يوشك أن يكونوا على سنن أهل القرى. قال تعالى: {مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} ، ونظير هذه الآية استعمالا ومعنى قوله تعالى: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} [هود: 116]، وذلك تعريض بتحريض أهل مكة على الإيمان قبل نزول العذاب.
والمستخلص من الروايات الواردة في قوم يونس أنهم بادروا إلى الإيمان بعد أن فارقهم يونس، توقعا لنزول العذاب، وقبل أن ينزل بهم العذاب، وذلك دليل على أن معاملة الله إياهم ليست مخالفة لما عامل به غيرهم من أهل القرى، وأن ليست لقوم يونس خصوصية، وبذلك لا يكون استثنائهم استثناءا منقطعا.
وإذ كان الكلام تغليطا لأهل القرى المعرضين عن دعوة الرسل، وتعريضا بالتحذير مما وقعوا فيه. كان الكلام إثباتا صريحا ووقوع قرية وهو نكرة في مساق الإثبات أفاد العموم بقرينة السياق مثل قول الحريري: "يا أهل ذا المغنى وقيتم ضرا" أي كل ضر لا ضرا معينا، وبقرينة الاستثناء فإنه معيار العموم، وهذا الاستثناء من كلام موجب فلذلك انتصب قوله: {إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ} فهذا وجه تفسير الآية. وجرى عليه كلام العكبري في "إعراب القرآن"، والكواشي في "التخليص" وجمهور المفسرين جعلوا جملة: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ} في قوة المنفية، وجعلوا الاستثناء منقطعا منصوبا ولا داعي إلى ذلك.
وجملة: {لَمَّا آمَنُوا} مستأنفة لتفصيل مجمل معنى الاستثناء. وفي الآية إيماء إلى أن أهل مكة يعاملهم الله معاملة قوم يونس إذ آمنوا عند رؤية العذاب. وذلك حالهم عندما تسامعوا بقدوم جيش غزوة الفتح الذي لا قبل لهم به عدة وعدة، فيكاد يحل بهم عذاب

استئصال لولا أنهم عجلوا بالإيمان يوم الفتح. فقال لهم النبيء صلى الله عليه وسلم: "أنتم الطلقاء" .
وقوم يونس هم أهل قرية نينوى"1" من بلاد العراق. وهم خليط من الآشوريين واليهود الذين كانوا في أسر ملوك بابل بعد بختنصر. وكانت بعثة يونس إليهم في أول القرن الثامن قبل المسيح. وقد تقدم ذكر يونس وترجمته في سورة الأنعام.
ولما كذبه أهل نينوى توعدهم بخسف مدينتهم بعد أربعين يوما، وخرج من المدينة غاضبا عليهم، فلما خرج خافوا نزول العذاب بهم فتابوا وآمنوا بالله فقبل الله إيمانهم ولم يعذبهم. والمذكور أنهم رأوا غيما أسود بعد مضي خمسة وثلاثين يوما من حين توعدهم يونس عليه السلام بحلول العذاب فعلموا أنه مقدمة العذاب فآمنوا وخضعوا لله تعالى فأمسك عنهم العذاب. وسيجيء ذكر ما حل بيونس عليه السلام في خروجه ذلك من ابتلاع الحوت إياه في سورة الأنبياء.
والكشف: إزالة ما هو ساتر لشيء، وهو هنا مجاز في الرفع. والمراد: تقدير الرفع وإبطال العذاب قبل وقوعه فعبر عنه بالكشف تنزيلا لمقاربة الوقوع منزلة الوقوع.
والخزي: الإهانة والذل. وإضافة العذاب إلى الخزي يجوز كونها بيانية لأن العذاب كله خزي، إذ هو حالة من الهلاك غير معتادة فإذا قدرها الله لقوم فقد أراد إذلالهم، ويجوز أن تكون الإضافة حقيقية للتخصيص، ويكون المراد من الخزي الحالة المتصورة من حلوله. وهي شناعة الحالة لمن يشاهدهم مثل الخسف والحرق والغرق، وأشنع الخزي ما كان بأيدي أناس مثلهم، وهو عذاب السيف الذي حل بصناديد قريش يوم بدر، والذي كاد أن يحل بجميع قريش يوم فتح مكة فنجاهم الله منه كما نجى قوم يونس.
و {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} صفة ل {عَذَابَ الْخِزْيِ} للإشارة إلى أن العذاب الذي يحل بالأمم الكافرة هو عقاب في الدنيا وبعده عقاب في الآخرة، وأن الأمم التي لم تعذب في الدنيا قد ادخر لها عذاب الآخرة.
والتمتيع: الإمهال.
ـــــــ
(1) بفتح النونين بينهما ياء تحتية ساكنة وبعد النون الثانية واو مفتوحة بعدها ألف, هي إحدى مدن بلاد أشور من العراق كائنة على الضفة اليسرى من الدجلة بناها الملك أشور سنة 2229 قبل الميلاد وكانت مصطافا لملوك أشور من عهد شلمناصر الأول.

وإبهام {حِينٍ} لأنه مختلف باختلاف آجال آحادهم، والمراد به التمتيع بالحياة لا بكشف العذاب، لأنهم بعد موتهم ناجون من العذاب إذ كانوا قد آمنوا وأخلصوا.
ولعل الحكمة في نجاة قوم يونس تتمثل في أمرين:
أحدهما: أن الله علم أن تكذيبهم يونس - عليه السلام- في ابتداء دعوته لم يكن ناشئا عن تصميم على الكفر واستخفاف بعظمة الله، ولكنه كان شكا في صدق يونس - عليه السلام- . ولعل ذلك أنهم كانوا على بقية من شريعة موسى - عليه السلام - وإنما حرفوا وحادوا عن طريق الإيمان مما يعلمه الله، فإن في نينوى كثيرا من أسرى بني إسرائيل الذين كانوا في أسر الآشوريين كما علمت آنفا، فلما أوعدهم يونس - عليه السلام - بالعذاب بعد أربعين يوما ورأوا أماراته بعد خمسة وثلاثين يوما اهتدوا وآمنوا إيمانا خالصا.
وثانيهما: أن يونس - عليه السلام - لما صدرت منه فلتة المغاضبة كان قد خلط في دعوته شيئا من حظ النفس وإن كان لفائدة الدين، فقدر الله إيمان قومه لعلمه كمال الإيمان والصبر والتسليم لله، وهذا عتاب وتأديب بينه وبين ربه، ولذلك حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمة من توهم أن ما جرى ليونس - عليه السلام - من المغاضبة والمعاقبة ينقص من قدره فقال صلى الله عليه وسلم: "لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متى" يعني في صحة الرسالة لا في التفاضل فيها.
وقد كان حال أهل مكة كحال قوم يونس إذ بادروا إلى الإيمان بمجرد دخول جيش الفتح مكة وقبل أن يقعوا في قبضة الأسر، ولذلك لم ينج منهم عبد الله بن خطل، لأنه لم يأت مؤمنا قبل أن يتمكن منه المسلمون ولم ينفعه التعلق بأستار الكعبة لأن ذلك التعلق ليس بإيمان وإنما هو من شعار العوذ في الجاهلية بما أبطله الإسلام إذ قال النبيء صلى الله عليه وسلم: "إن الحرم لا يعيذ عاصيا" . وقد بينا في آخر سورة غافر[84] عند قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} إلى آخر السورة فانظره.
[99] {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}
عطف على جملة: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 97] لتسلية النبيء صلى الله عليه وسلم على ما لقيه من قومه. وهذا تذييل لما تقدم من مشابهة حال قريش مع النبيء صلى الله عليه وسلم بحال قوم نوح وقوم موسى وقوم يونس. وهذه الجملة كالمقدمة الكلية للجملة التي بعدها،

وهي جملة: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ} المفرعة على الجملة الأولى، وهي المقصود من التسلية.
والناس: العرب، أو أهل مكة منهم، وذلك إيماء إلى أنهم المقصود من سوق القصص الماضية كما بيناه عند قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ} [يونس: 71].
والتأكيد ب {كُلُّهُمْ} للتنصيص على العموم المستفاد من "من" الموصولة فإنها للعموم، والتأكيد ب {جَمِيعاً} لزيادة رفع احتمال العموم العرفي دون الحقيقي.
والمعنى: لو شاء الله لجعل مدارك الناس متساوية منساقة إلى الخير، فكانوا سواء في قبول الهدى والنظر الصحيح.
و"لو" تقتضي انتفاء جوابها لانتفاء شرطها. فالمعنى: لكنه لم يشأ ذلك، فاقتضت حكمته أن خلق عقول الناس متأثرة ومنفعلة بمؤثرات التفاوت في إدراك الحقائق فلم يتواطؤا على الإيمان، وما كان لنفس أن تؤمن إلا إذا استكملت خلقة عقلها ما يهيئها للنظر الصحيح وحسن الوعي لدعوة الخير ومغالبة الهدى في الاعتراف بالحق.
وجملة: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ} الخ مفرعة على التي قبلها، لأنه لما تقرر أن الله لم تتعلق مشيئته باتفاق الناس على الإيمان بالله تفرع على ذلك إنكار ما هو كالمحاولة لتحصيل إيمانهم جميعا.
والاستفهام في {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ} إنكاري، فنزل النبيء صلى الله عليه وسلم لحرصه على إيمان أهل مكة وحثيث سعيه لذلك بكل وسيلة صالحة منزلة من يحاول إكراههم على الإيمان حتى ترتب على ذلك التنزيل إنكاره عليه.
ولأجل كون هذا الحرص الشديد هو محل التنزيل ومصب الإنكار وقع تقديم المسند إليه على المسند الفعلي، فقيل: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ} دون أن يقال: أفتكره الناس، أو أفأنت مكره الناس، لأن تقديم المسند إليه على مثل هذا المسند يفيد تقوي الحكم فيفيد تقوية صدور الإكراه من النبيء صلى الله عليه وسلم لتكون تلك التقوية محل الإنكار. وهذا تعريض بالثناء على النبيء ومعذرة له على عدم استجابتهم إياه، ومن بلغ المجهود حق له العذر.
وليس تقديم المسند إليه هنا مفيدا للتخصيص، أي القصر، لأن المقام غير صالح لاعتبار القصر، إذ مجرد تنزيل النبيء صلى الله عليه وسلم منزلة من يستطيع إكراه الناس على الإيمان كاف في الإشارة إلى تشبيه حرصه على إيمانهم بحرص من يستطيع إكراههم عليه. فما وقع في "الكشاف" من الإشارة إلى معنى الاختصاص غير وجيه، لأن قرينة التقوي واضحة كما

أشار إليه السكاكي.
والإكراه: الإلجاء والقسر.
[100] {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ}
عطف على جملة: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ} [يونس: 99] لتقرير مضمونها لأن مضمونها إنكار أن يقدر النبيء صلى الله عليه وسلم على إلجاء الناس إلى الإيمان لأن الله هو الذي يقدر على ذلك.
ويجوز أن تكون الواو للحال من ضمير المخاطب، أي كيف يمكنك أن تكره الناس على الإيمان والحال أنه لا تستطيع نفس أن تؤمن إلا بإذن الله لها بالإيمان.
والإذن: هنا إذن تكوين وتقدير. فهو خلق النفس مستعدة لقبول الحق مميزة بين الحق والباطل، والصلاح والفساد، متوصلة بالنظر الصحيح إلى معرفة ما ينبغي أن يتبع وما لا ينبغي، متمكنة بصحة الإرادة من زجر داعية الهوى والأعراض العاجلة ومن اتباع داعية الحق والعاقبة الدائمة حتى إذا وجه إليها الإرشاد حصل فيها الهدى.
ويومئ إلى هذا المعنى من الإذن قوله في مقابلة {وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} فقابل هذه الحالة بحالة الذين لا يعقلون فعلم أن حالة الإيمان حالة من يعقلون، فبينت آية: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ} [يونس: 99] أن إيمان من لم يؤمن هو لعدم مشيئة الله إيمانه. وبينت هذه الآية أن إيمان من آمن هو بمشيئة الله إيمانه، وكلاهما راجع إلى تقدير التكوين في النفوس والعقول.
والرجس: حقيقته الخبث والفساد. وأطلق هنا على الكفر، لأنه خبث نفساني، والقرينة مقابلته بالإيمان كالمقابلة التي في قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً} إلى قوله: {فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ} [يونس: 124, 125]. والمعنى: ويوقع الكفر على الذين لا يعقلون. والمراد نفي العقل المستقيم، أي الذين لا تهتدي عقولهم إلى إدراك الحق ولا يستعملون عقولهم بالنظر في الأدلة.
و {عَلَى} للاستعلاء المجازي المستعمل في التمكن.
وقرأ الجمهور {وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ} بياء الغيبة، والضمير عائد إلى اسم الجلالة الذي قبله. وقرأه أبو بكر عن عاصم {وَنَجْعَلُ} بنون العظمة.

[101] {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ}
استئناف ناشئ عن قوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ} الخ. قسم الناس إلى قسمين: مؤمنين وكافرين، أي فادعهم إلى النظر في دلائل الوحدانية والإرشاد إلى تحصيل أسباب الإيمان ودفع غشاوات الكفر، وذلك بالإرشاد إلى النظر والاستدلال بما هو حول الإنسان من أحوال الموجودات وتصاريفها الدالة على الوحدانية، مثل أجرام الكواكب، وتقادير مسيرها، وأحوال النور والظلمة والرياح والسحاب والمطر، وكذلك البحار والجبال.
وافتتحت الجملة ب {قُلِ} للاهتمام بمضمونها. وقد عمم ما في السماوات والأرض لتتوجه كل نفس إلى ما هو أقرب إليها وأيسر استدلالا عليه لديها.
والنظر: هنا مستعمل فيما يصلح للنظر القلبي والنظر البصري، ولذلك عدل عن إعماله عمل أحد الفعلين لكيلا يتمحض له، فجيء بعده بالاستفهام المعلق لكلا الفعلين بحيث أصبح حمل النظر على كليهما على حد السواء فصار صالحا للمعنيين الحقيقي والمجازي، وذلك من مقاصد القرآن.
و {مَاذَا} بمعنى ما الذي، و"ما" استفهام، و"ذا" أصله اسم إشارة، وهو إذا وقع بعد "ما" قام مقام اسم موصول. و {فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} قائم مقام صلة الموصول. وأصل وضع التركيب: ما هذا في السماوات والأرض، أي ما المشار إليه حال كونه في السماوات والأرض، فكثر استعماله حتى صار في معنى: ما الذي. والمقصود: انظروا ما يدلكم على جواب هذا الاستفهام، فكل شيء له حالة فهو مراد بالنظر العقلي بتركيبه في صورة مفعولين، نحو: انظروا الشمس طالعة، وانظروا السحاب ممطرا، وهكذا، وكل شيء هو في ذاته آية فهو مراد بالنظر البصري نحو: انظروا إنبات الأرض بعد جدبها فهو آية على وقوع البعث. ف"ذا" لما قام مقام اسم الموصول صار من صيغ العموم تشمل جميع الأجرام وأعراضها الدالة على وحدانية الله وحكمته، وأخص ذلك التأمل في خلق النبيء صلى الله عليه وسلم ونشأة دعوته، والنظر فيما جاء به. فكل ذلك دلائل على كماله وصدقه.
وقد طوي في الكلام جواب الأمر لوقوع الأمر عقب أسباب الإيمان، فالتقدير: انظروا تروا آيات موصلة إلى الإيمان.

وجملة: {وَمَا تُغْنِي الْآياتُ} معترضة ذيلت بها جملة: {انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فيجوز أن تكون متممة لمقول القول مما أمر النبيء صلى الله عليه وسلم أن يقوله لهم ويجوز أن تكون استئناف كلام من الله تعالى. والمعنى أبلغهم ما أمرت بتبليغه إليهم وليست تغني الآيات عن قوم لا يؤمنون، أي الذين جعل الله نفوسهم لا تؤمن، ولما كان قوله: {انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} مفيدا أن ذلك آيات كما تقدم حسن وقع التعبير عنها بالآيات هنا، فمعنى: {وَمَا تُغْنِي الْآياتُ} : وما يغني ما في السماوات والأرض عن قوم لا يؤمنون، فكان التعبير بالآيات كالإظهار في مقام الإضمار. وزيدت "النذر" فعطفت على الآيات لزيادة التعميم في هذه الجملة حتى تكون أوسع دلالة من التي قبلها لتكون كالتذييل لها، وذلك أن القرآن جاء للناس بالاستدلال وبالتخويف ثم سجل على هذا الفريق بأنه لا تنجع فيه الآيات والأدلة ولا النذر والمخوفات.
ولفظ {قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} يفيد أن انتفاء الإيمان عنهم وصف عرفوا به وأنه مستقر من نفوسهم، لأن اجتلاب لفظ {قَوْمٍ} هنا مع صحة حلول غيره محله يشير إلى أن الوصف المذكور بعده من مقومات قوميتهم لأنه صار من خصائصهم، بخلاف ما لو قيل: عمن لا يؤمنون. ألا ترى إلى قول العنبري:
قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم
... طاروا إليه زرافات ووحدانا
أي قوم هذه سجيتهم. وقد تقدم عند قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} إلى قوله: {لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} في سورة البقرة [164]. وتقدم في هذه السورة غير مرة آنفا. وهو هنا أبدع لأنه عدل به عن الإضمار. وهذا من بدائع الإعجاز هنا.
[102, 103] {فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ}
تفريع على جملة {وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ} [يونس: 101] باعتبار ما اشتملت عليه من ذكر النذر. فهي خطاب من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أي يتفرع على انتفاء بالآيات والنذر وعلى إصرارهم أن يسأل عنهم: ماذا ينتظرون، ويجاب بأنهم ما ينتظرون إلا مثل ما حل بمن قبلهم ممن سيقت قصصهم في الآيات الماضية، ووقع الاستفهام ب {هَلْ}

لإفادتها تحقيق السؤال وهو باعتبار تحقيق المسؤول عنه وأنه جدير بالجواب بالتحقيق.
والاستفهام مجاز تهكمي إنكاري، نزلوا منزلة من ينتظرون شيئا يأتيهم ليؤمنوا، وليس ثمة شيء يصلح لأن ينتظروه إلا أن ينتظروا حلول مثل أيام الذين خلوا من قبلهم التي هلكوا فيها. وضمن الاستفهام معنى النفي بقرينة الاستثناء المفرغ. والتقدير: فهل ينتظرون شيئا ما ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم.وأطلقت الأيام على ما يقع فيها من الأحداث العظيمة. ومن هذا إطلاق: "أيام العرب" على الوقائع الواقعة فيها.
وجملة: {قُلْ فَانْتَظِرُوا} مفرعة على جملة: {فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ} . وفصل بين المفرع والمفرع عليه ب {قُلْ} لزيادة الاهتمام. ولينتقل من مخاطبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم إلى مخاطبة الرسول صلى الله عليه وسلم قومه وبذلك يصير التفريع بين كلامين مختلفي القائل شبيها بعطف التلقين الذي في قوله تعالى: {قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [البقرة: 124]. على أن الاختلاف بين كلام الله وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم في مقام الوحي والتبليغ اختلاف ضعيف لأنهما آئلان إلى كلام واحد. وهذا موقع غريب لفاء التفريع.
وبهذا النسج حصل إيجاز بديع لأنه بالتفريع اعتبر ناشئا عن كلام الله تعالى فكأن الله بلغه النبيء صلى الله عليه وسلم ثم أمر النبيء صلى الله عليه وسلم بأن يبلغه قومه فليس له إلا التبليغ، وهو يتضمن وعد الله نبيه بأنه يرى ما ينتظرهم من العذاب، فهو وعيد وهو يتضمن النصر عليهم. وسيصرح بذلك في قوله: {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا} .
وجملة: {إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} استئناف بياني ناشئ عن جملة: {انْتَظِرُوا} لأنها تثير سؤال سائل يقول: ها نحن أولاء ننتظر وأنت ماذا تفعل. وهذا مستعمل كناية عن ترقبه النصر إذ لا يظن به أنه ينتظر سوءا فتعين أنه ينتظر من ذلك ضد ما يحصل لهم، فالمعية في أصل الانتظار لا في الحاصل بالانتظار.و"مع" حال مؤكدة. و {مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} خبر "إن" ومفاده مفاد "مع" إذ ما صدق المنتظرين هم المخاطبون المنتظرون.
و {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا} عطف على جملة: {فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا} لأن مثل تلك الأيام يوم عذاب. ولما كانوا مهددين بعذاب يحل بموضع فيه الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون عجل الله البشارة للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأنه ينجيهم من ذلك العذاب بقدرته كما أنجى الرسل من قبله.
وجملة: {كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ} تذييل. والإشارة ب {كَذَلِكَ} إلى

الإنجاء المستفاد من {ثُمَّ نُنَجِّي} .
و {حَقّاً عَلَيْنَا} جملة معترضة لأن المصدر يدل من الفعل، أي حق ذلك علينا حقا.
وجعله الله حقا عليه تحقيقا للتفضل به والكرامة حتى صار كالحق عليه.
وقرأ الجمهور {نُنَجّي المؤمنين} بفتح النون الثانية وتشديد الجيم على وزان {نُنَجِّي رُسُلَنَا} . وقرأ الكسائي، وحفص عن عاصم {نُنْجي المؤمنين} بسكون النون الثانية وتخفيف الجيم من الإنجاء. فالمخالفة بينه وبين نظيره الذي قبله تفنن، والمعنى واحد.
وكتب في المصحف: {نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ} بدون ياء بعد الجيم على صورة النطق بها لالتقاء الساكنين.
[104] {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}
هذه الجملة متصلة المعنى بجملة {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ، إذ المقصود من النظر المأمور به هنالك النظر للاستدلال على إثبات الوحدانية، فإن جحودهم إياها هو الذي أقدمهم على تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: إن الله بعثه بإثباتها وأبطل الإشراك، فلما أمرهم بالنظر المؤدي إلى إثبات انفراده تعالى بالإلهية أعقبه بأن يخبرهم بأنهم إن استمروا على الشك فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فإن الرسول صلى الله عليه وسلم ثابت على ما جاء به وأن دلائل صحة دينه بينة للناظرين. والمراد بـ"الناس" في هذا الخطاب المشركون من أهل مكة، أو جميع أمة الدعوة الذين لما يستجيبوا للدعوة.
و"في" من قوله: {فِي شَكٍّ} للظرفية المجازية المستعملة في التمكن تشبيها لتمكن الصفة بتمكن الظرف من المظروف من جهة الإحاطة.
وعلق الظرف بذات الدين، والمراد الشك في حالة من أحواله وهي الحالة الملتبسة بهم أعنى حالة حقيته.
و"من" في قوله: {مِنْ دِينِي} للابتداء المجازي، أي شك آت من ديني. وهو ابتداء يؤول إلى معنى السببية، أي أن كنتم شاكين شكا سببه ديني، أي يتعلق بحقيته، لأن الشك يحمل في كل مقام على ما يناسبه، كقوله: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} . وقد تقدم آنفا. وقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة: 23].

والشك في الدين هو الشك في كونه حقا، وكونه من عند الله. وإنما يكون هذا الشك عند عدم تصور حقيقة هذا الدين بالكنه وعدم الاستدلال عليه، فالشك في صدقه يستلزم الشك في ماهيته لأنهم لو أدركوا كنهه لما شكوا في حقيته.
وجملة: {فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} واقعة موقع جواب الشرط ودالة عليه في المعنى. فتقدير الجواب: فأنا على يقين من فساد دينكم، فلا أتبعه، فلا أعبد الذين تعبدونهم ولكن أعبد الله.
ولما كان مضمون هذه الجملة هو أصل دين الإسلام. فيجوز أن يكون في الآية معنى ثان، أي إن كنتم في شك من معرفة هذا الدين فخلاصته أني لا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكني أعبد الله وحده، فيكون في معنى قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون: 1, 2] ثم قوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6] فيتأتى في هذه الآية غرضان. فيكون المراد بالناس في قوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ} جميع أمة الدعوة الذين لم يسلموا.
والذين يعبدونهم الأصنام. وعوملت الأصنام معاملة العقلاء فأطلق عليها اسم الموصول الذي لجماعة العقلاء مجاراة لما يعتقدونه فيها من العقل والتدبير. ونظير هذا في القرآن كثير.
واختيار صلة التوفي هنا في نعت اسم الجلالة لما فيها من الدلالة على كمال التصرف في المخلوق فإن المشركين لم يبلغ بهم الإشراك إلى ادعاء أن الأصنام تحيي وتميت. واختيار ذلك من بين الصفات الخاصة بالله تعالى تعريض بتذكيرهم بأنهم معرضون للموت فيقصرون من طغيانهم.
والجمع بين نفي أن يعبد الأصنام وبين إثبات أنه يعبد الله يقوم مقام صيغة القصر لو قال: فلا أعبد إلا الله، فوجه العدول عن صيغة القصر: أن شأنها أن يطوى فيها الطرف المنفي للاستغناء عنه بالظرف المثبت لأنه المقصود. وذلك حين يكون الغرض الأصلي هو طرف الإثبات، فأما إذا كان طرف النفي هو الأهم كما هنا وهو إبطال عبادة الأصنام أولا عدل عن صيغة القصر إلى ذكر صيغتي نفي وإثبات. فهو إطناب اقتضاه المقام، كقول عبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي أو السمؤال:
تسيل على حد الظبات نفوسنا ... وليست على غير الظبات تسيل

{وَأُمِرْتُ} عطف على جملة: {فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} .
و {أَنْ أَكُونَ} متعلق ب {وَأُمِرْتُ} بحذف حرف الجر. وهو الباء التي هي لتعدية فعل "أمرت"، و"أن" مصدرية لأن نصب الفعل المضارع بعدها يعين أنها مصدرية ويمنع احتمال أنها تفسيرية.
وأريد بالمؤمنين عقائب هذا اللقب الذين آمنوا بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم وبالقرآن والبعث فإذا أطلق لفظ المؤمنين انصرف إلى القوم الذين اتصفوا بالإسلام، ولذلك لا يقدر للمؤمنين متعلق. وفي جعل النبيء صلى الله عليه وسلم من جملة المؤمنين تشريف لهذا الجمع وتنويه به.
[105] {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}
{وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً}
موقع هذه الجملة معضل لأن الواو عاطفة لا محالة، ووقعت بعدها "أن". فالأظهر أن تكون "أن" مصدرية، فوقوع فعل الطلب بعدها غير مألوف لأن حق صلة: {أن} أن تكون جملة خبرية. قال في "الكشاف": قد سوغ سيبويه أن توصل "أن" بالأمر والنهي، لأن الغرض وصل "أن" بما تكون معه في معنى المصدر، وفعلا الأمر والنهي دالان على المصدر لأنه غيرهما من الأفعال ا ه. يشير إلى ما في كتاب سيبويه "باب تكون: "أن" فيه بمنزلة: "أي"". فالمعنى: وأمرت بإقامة وجهي للدين حنيفا، ويكون العطف عطف مفرد على مفرد.
وقيل الواو عطفت فعلا مقدرا يدل عليه فعل "أمرت". والتقدير: وأوحي إلي، وتكون "أن" مفسرة للفعل المقدر، لأنه فيه معنى القول دون حروفه.
وعندي: أن أسلوب نظم الآية على هذا الوجه لم يقع إلا لمقتضى بلاغي، فلا بد من أن يكون لصيغة {أَقِمْ وَجْهَكَ} خصوصية في هذا المقام، فلنعرض عما وقع في "الكشاف" وعن جعل الآية مثالا لما سوغه سيبويه ولنجعل الواو متوسعا في استعمالها بأن استعملت نائبة مناب الفعل الذي عطفت عليه، أي فعل {أُمِرْتُ} [يونس: 104] دون قصد تشريكها لمعطوفها مع المعطوف عليه بل استعملت لمجرد تكريره. والتقدير: أمرت أن أقم وجهك فتكون "أن" تفسيرا لما في الواو من تقدير لفظ فعل "أمرت" لقصد حكاية اللفظ الذي أمره به بلفظه، وليتأتى عطف: {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} عليه. وهذا من عطف الجمل لا من عطف المفردات، وقد سبق مثل هذا عند قوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا

أَنْزَلَ اللَّهُ} في سورة العقود [49]، وهو هنا أوعب.
والإقامة: جعل الشيء قائما. وهي هنا مستعارة لإفراد الوجه بالتوجه إلى شيء معين لا يترك وجهه ينثني إلى شيء آخر. واللام للعلة، أي لأجل الدين، فيصير المعنى: محض وجهك للدين لا تجعل لغير الدين شريكا في توجهك. وهذه التمثيلية كناية عن توجيه نفسه بأسرها لأجل ما أمره الله به من التبليغ وإرشاد الأمة وإصلاحها. وقريب منه قوله: {أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ} في سورة آل عمران [20].
و {حَنِيفاً} حال من {الدين} وهو دين التوحيد، لأنه حنف أي مال عن الآلهة وتمحض لله. وقد تقدم عند قوله تعالى: {قل بل ملة إبراهيم حنيفا} في سورة البقرة [135].
{وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} نهي مؤكد لمعنى الأمر الذي قبله تصريحا بمعنى: {حَنِيفاً} . وتأكيد الفعل المنهي عنه بنون التوكيد للمبالغة في النهي عنه اعتناء بالتبرؤ من الشرك.
وقد تقدم غير مرة أن قوله: {مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ونحوه أبلغ في الاتصاف من نحو: لا تكن مشركا، لما فيه من التبرؤ من الطائفة ذات نحلة الإشراك.
[106] {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ}
عطف على: {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يونس: 105]. ولم يؤكد الفعل بنون التوكيد لئلا يمنع وجودها من حذف حرف العلة بأن حذفه تخفيف وفصاحة، ولأن النهي لما اقترن بما يومئ إلى التعليل كان فيه غنية عن تأكيده لأن الموصول في قوله: {مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ} يومئ إلى وجه النهي عن دعائك، إذ دعاء أمثالها لا يقصده العاقل.
و {مِنْ دُونِ اللَّهِ} اعتراض بين فعل {تَدْعُ} ومفعوله، وهو إدماج للحث على دعائه الله.
وتفريع {فَإِنْ فَعَلْتَ} على النهيين للإشارة إلى أنه لا معذرة لمن يأتي ما نهي عنه بعد أن أكد نهيه وبينت علته، فمن فعله فقد ظلم نفسه واعتدى على حق ربه.

وأكد الكون من الظالمين على ذلك التقدير ب"إنّ" لزيادة التحذير، وأتي ب"إذن" للإشارة إلى سؤال مقدر كأن سائلا سأل: فإن فعلت فماذا يكون?.
وفي قوله: {مِنَ الظَّالِمِينَ} من تأكيد مثل ما تقدم في قوله: {مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يونس: 105] ونظائره.
والمقصود من هذا الفرض تنبيه الناس على فظاعة عظم هذا الفعل حتى لو فعله أشرف المخلوقين لكان من الظالمين، على حد قوله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65].
[107] {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}
عطف على جملة: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ} [يونس: 106] لقصد التعريض بإبطال عقيدة المشركين أن الأصنام شفعاء عند الله، فلما أبطلت الآية السابقة أن تكون الأصنام نافعة أو ضارة، وكان إسناد النفع أو الضر أكثر ما يقع على معنى صدورهما من فاعلهما ابتداء، ولا يتبادر من ذلك الإسناد معنى الوساطة في تحصيلهما من فاعل، عقبت جملة: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ} [يونس: 106] بهذه الجملة للإعلام بأن إرادة الله النفع أو الضر لأحد لا يستطيع غيره أن يصرفه عنها أو يتعرض فيها إلا من جعل الله له ذلك بدعاء أو شفاعة.
ووجه عطفها على الجملة السابقة لما بينهما من تغاير في المعنى بالتفصيل والزيادة، وبصيغتي العموم في قوله: {فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} وفي قوله: {فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} الداخل فيهما أصنامهم وهي المقصودة، كما صرح به في قوله تعالى في سورة الزمر [38]: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} .
وتوجيه الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه أولى الناس بالخير ونفي الضر. فيعلم أن غيره أولى بهذا الحكم وهذا المقصود.
والمس: حقيقته وضع اليد على جسم لاختبار ملمسه، وقد يطلق على الإصابة مجازا مرسلا. وقد تقدم عند قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ}

في آخر سورة الأعراف [201].
والإرادة بالخير: تقديره والقصد إليه. ولما كان الذي لا يعجزه شيء ولا يتردد علمه فإذا أراد شيئا فعله، فإطلاق الإرادة هنا كناية عن الإصابة كما يدل عليه قوله بعده: {يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} . وقد عبر بالمس في موضع الإرادة في نظيرها في سورة الأنعام: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . ولكن عبر هنا بالإرادة مبالغة في سلب المقدرة عمن يريد معارضة مراده تعالى كائنا من كان بحيث لا يستطيع التعرض لله في خيره ولو كان بمجرد إرادته قبل حصول فعله، فإن التعرض حينئذ أهون لأن الدفع أسهل من الرفع، وأما آية سورة الأنعام[17] فسياقها في بيان قدرة الله تعالى لا في تنزيهه عن المعارض والمعاند.
والفضل: هو الخير، ولذلك فإيقاعه موقع الضمير للدلالة على أن الخير الواصل إلى الناس فضل من الله لا استحقاق لهم به لأنهم عبيد إليه يصيبهم بما يشاء.
وتنكير "ضر" و"خير" للنوعية الصالحة للقلة والكثرة.
وكل من جملة؛ {فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} وجملة: {فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} جواب للشرط المذكور معها، وليس الجواب بمحذوف.
وجملة: {يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} واقعة موقع البيان لما قبلها والحوصلة له، فلذلك فصلت عنها.
والضمير المجرور بالباء عائد إلى الخير، فيكون امتنانا وحثا على التعرض لمرضاة الله حتى يكون مما حقت عليهم مشيئة الله أن يصيبهم بالخير، أو يعود إلى ما تقدم من الضر، والضمير باعتبار أنه مذكور فيكون تخويفا وتبشيرا وتحذيرا وترغيبا.
وقد أجملت المشيئة هنا ولم تبين أسبابها ليسلك لها الناس كل مسلك يأملون منه تحصيلها في العطاء وكل مسلك يتقون بوقعهم فيها في الحرمان.
والإصابة: اتصال شيء بآخر ووروده عليه، وهي في معنى المس المتقدم، فقوله: {يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ} هو في معنى قوله في سورة الأنعام[17] {وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
والتذييل بجملة {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} يشير إلى أن إعطاء الخير فضل من الله

ورحمة وتجاوز منه تعالى عن سيئات عباده الصالحين، وتقصيرهم وغفلاتهم، فلو شاء لما تجاوز لهم عن شيء من ذلك فتورطوا كلهم.
ولولا غفرانه لما كانوا أهلا لإصابة الخير، لأنهم مع تفاوتهم في الكمال لا يخلون من قصور عن الفضل الخالد الذي هو الكمال عند الله، كما أشار إليه النبيء صلى الله عليه وسلم بقوله: "إني ليغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم سبعين مرة" .
ويشير أيضا إلى أن الله قد تجاوز عن كثير من سيئات عباده المسرفين ولم يؤاخذهم إلا بما لا يرضى عنه بحال كما قال: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: 7] ، وأنه لولا تجاوزه عن كثير لمسهم الله بضر شديد في الدنيا والآخرة.
[108] {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ}
استئناف ابتدائي هو كذيل لما مضى في السورة كلها وحوصلة لما جرى من الاستدلال والمجادلة والتخويف والترغيب، ولذلك جاء ما في هذه الجملة كلاما جامعا وموادعة قاطعة.
وافتتاحها ب{قُلْ} للتنبيه على أنه تبليغ عن الله تعالى فهو جدير بالتلقي.
وافتتاح المقول بالنداء لاستيعاء سماعهم لأهمية ما سيقال لهم، والخطاب لجميع الناس من مؤمن وكافر، والمقصود منه ابتداء المشركون، ولذلك أطيل الكلام في شأنهم. وقد ذكر معهم من اهتدى تشريفا لهم.
وأكد الخبر بحرف {قَدْ} تسجيلا عليهم بأن ما فيه الحق قد أبلغ إليهم وتحقيقا لكونه حقا.
والحق: هو الدين الذي جاء به القرآن، ووصفه ب {مِنْ رَبِّكُمْ} للتنويه بأنه حق مبين لا يخلطه باطل ولا ريب، فهو معصوم من ذلك.
واختيار وصف الرب المضاف إلى ضمير {النَّاسُ} على اسم الجلالة للتنبيه على أنه إرشاد من الذي يحب صلاح عباده ويدعوهم إلى ما فيه نفعهم شأن من يرب، أي يسوس ويدبر.
وتفريع جملة: {فَمَنِ اهْتَدَى} على جملة: {قَدْ جَاءَكُمُ} للإشارة إلى أن مجيء

الحق الواضح يترتب عليه أن إتباعه غنم لمتبعه وليس مزية له على الله، ليتوصل من ذلك إلى أن المعرض عنه قد ظلم نفسه، ورتب عليها تبعة الإعراض.
واللام في قوله: {لِنَفْسِهِ} دالة على أن الاهتداء نعمة وغنى وأن الإعراض ضر على صاحبه.
ووجه الإتيان بطريقتي الحصر في {فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} وفي {فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} للرد على المشركين إذ كانوا يتمطون في الاقتراح فيقولون: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً} [الإسراء: 90] ونحو ذلك مما يفيد أنهم يمنون عليه لو أسلموا، وكان بعضهم يظهر أنه يغيظ النبيء صلى الله عليه وسلم بالبقاء على الكفر فكان القصر مفيدا أن اهتداءه مقصور على تعلق اهتدائه بمعنى اللام في قوله: {لِنَفْسِهِ} أي بفائدة نفسه لا يتجاوزه إلى التعلق بفائدتي. وأن ضلاله مقصور على التعلق بمعنى على نفسه، أي لمضرتها لا يتجاوزه إلى التعلق بمضرتي.
وجملة: {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} معطوفة على جملة: {فَمَنِ اهْتَدَى} فهي داخلة في حيز التفريع، وإتمام للمفرع، لأنه إذا كان اهتداء المهتدي لنفسه وضلال الضال على نفسه تحقق أن النبيء صلى الله عليه وسلم غير مأمور من الله بأكثر من التبليغ وأنه لا نفع لنفسه في اهتدائهم ولا يضره ضلالهم، فلا يحسبوا حرصه لنفع نفسه أو دفع ضر عنها حتى يتمطوا ويشترطوا، وأنه ناصح لهم ومبلغ ما في اتباعه خيرهم والإعراض عنه ضرهم.
والإتيان بالجملة الاسمية المنفية للدلالة على دوام انتفاء ذلك الحكم وثباته في سائر الأحوال.
ومعنى الوكيل: الموكول إليه تحصيل الأمر. و {عَلَيْكُمْ} بمعنى على اهتدائكم فدخل حرف الجر على الذات والمراد بعض أحوالها بقرينة المقام.
[109] {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ}
عطف على {قُلْ} أي بلغ الناس ذلك القول: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ} ، أي اتبع في نفسك وأصحابك ما يوحى إليك. و {اصْبِرْ} أي على معاندة الذين لم يؤمنوا بقرينة الغاية بقوله: {حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ} فإنها غاية لهذا الصبر الخاص لا لمطلق الصبر.
ولما كان الحكم يقتضي فريقين حذف متعلقه تعويلا على قرينة السياق، أي حتى

حكم الله بينك وبينهم.
وجملة: {وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} ثناء وتذييل لما فيه من العموم، أي وهو خير الحاكمين بين كل خصمين في هذه القضية وفي غيرها، فالتعريف في {الْحَاكِمِينَ} للاستغراق بقرينة التذييل.
و {خَيْرُ} تفضيل، أصله أخير فحذفت الهمزة لكثرة الاستعمال. والأخيرية من الحاكمين أخيرية وفاء الإنصاف في إعطاء الحقوق. وهي هنا كناية عن معاقبة الظالم، لأن الأمر بالصبر مشعر بأن المأمور به معتدى عليه، ففي الإخبار بأن الله خير الحاكمين إيماء بأن الله ناصر رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على الذين كذبوا وعاندوا. وهذا كلام جامع فيه براعة المقطع.

سورة الهود
...
بسم الله الرحمن الرحيم
11- سورة هود
سميت في جميع المصاحف وكتب التفسير والسنة سورة هود، ولا يعرف لها اسم غير ذلك، وكذلك وردت هذه التسمية عن النبيء صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس أن أبا بكر قال: "طيا رسول الله قد شبت، قال: شيبتني هود، والواقعة، والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت" . رواه الترمذي بسند حسن في كتاب التفسير من سورة الواقعة. وروي من طرق أخرى بألفاظ متقاربة يزيد بعضها على بعض.
وسميت باسم هود لتكرر اسمه فيها خمس مرات، ولأن ما حكي عنه فيها أطول مما حكي عنه في غيرها، ولأن عادا وصفوا فيها بأنهم قوم هود في قوله: {أَلا بُعْداً لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} [هود: 60]، وقد تقدم في تسمية سورة يونس وجه آخر للتسمية ينطبق على هذه وهو تمييزها من بين السور ذوات الافتتاح ب {ألر} .
وهي مكية كلها عند الجمهور. وروي ذلك عن ابن عباس وابن الزبير، وقتادة إلا آية واحدة وهي {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} إلى قوله: {لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 114]. وقال ابن عطية: هي مكية إلا ثلاث آيات نزلت بالمدينة. وهي قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ} [هود: 12]، وقوله: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} إلى قوله: {أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} قيل نزلت في عبد الله بن سلام، وقوله: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} [هود: 114] الآية. قيل نزلت في قصة أبي اليسر كما سيأتي، والأصح أنها كلها مكية وأن ما روي من أسباب النزول في بعض آيها توهم لاشتباه الاستدلال بها في قصة بأنها نزلت حينئذ كما يأتي، على أن الآية الأولى من هذه الثلاث واضح أنها مكية.
نزلت هذه السورة بعد سورة يونس وقبل سورة يوسف. وقد عدت الثانية والخمسين في ترتيب نزول السور. ونقل ابن عطية في أثناء تفسير هذه السورة أنها نزلت قبل سورة

يونس لأن التحدي فيها وقع بعشر سور وفي سورة يونس وقع التحدي بسورة، وسيأتي بيان هذا.
وقد عدت آياتها مائة وإحدى وعشرين في العدد المدني الأخير. وكانت آياتها معدودة في المدني الأول مائة واثنتين وعشرين، وهي كذلك في عدد أهل الشام وفي عدد أهل البصرة وأهل الكوفة مائة وثلاث وعشرون.
وأغراضها: ابتدأت بالإيماء إلى التحدي لمعارضة القرآن بما تومئ إليه الحروف المقطعة في أول السورة.
وباتلائها بالتنويه بالقرآن.
وبالنهي عن عبادة غير الله تعالى.
وبأن الرسول عليه الصلاة والسلام نذير للمشركين بعذاب يوم عظيم وبشير للمؤمنين بمتاع حسن إلى أجل مسمى.
وإثبات الحشر.
والإعلام بأن الله مطلع على خفايا الناس.
وأن الله مدبر أمور كل حي على الأرض.
وخلق العوالم بعد أن لم تكن.
وأن مرجع الناس إليه، وأنه ما خلقهم إلا للجزاء.
وتثبيت النبيء صلى الله عليه وسلم وتسليته عما يقوله المشركون وما يقترحونه من آيات على وفق هواهم {أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ} [هود: 12].
وأن حسبهم آية القرآن الذي تحداهم بمعارضته فعجزوا عن معارضته فتبين خذلانهم فهم أحقاء بالخسارة في الآخرة.
وضرب مثل لفريقي المؤمنين والمشركين.
وذكر نظرائهم من الأمم البائدة من قوم نوح وتفصيل ما حل بهم وعاد وثمود، وإبراهيم، وقوم لوط، ومدين، ورسالة موسى، تعريضا بما في جميع ذلك من العبر وما ينبغي منه الحذر فإن أولئك لم تنفعهم آلهتهم التي يدعونها.

وأن في تلك الأنباء عظة للمتبعين بسيرهم.
وأن ملاك ضلال الضالين عدم خوفهم عذاب الله في الآخرة فلا شك في أن مشركي العرب صائرون إلى ما صار إليه أولئك.
وانفردت هذه السورة بتفصيل حادث الطوفان وغيضه.
ثم عرض باستئناس النبيء صلى الله عليه وسلم وتسليته باختلاف قوم موسى في الكتاب الذي أوتيه فما على الرسول وأتباعه إلا أن يستقيم فيما أمره الله وأن لا يركنوا إلى المشركين، وأن عليهم بالصلاة والصبر والمضي في الدعوة إلى الصلاح فإنه لا هلاك مع الصلاح.
وقد تخلل ذلك عظات وعبر والأمر بإقامة الصلاة.
[1] {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}
{الر}
تقدم القول على الحروف المقطعة الواقعة في أوائل السور في أول سورة البقرة وغيرها من نظرائها وما سورة يونس ببعيد.
{كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}
القول في الافتتاح بقوله: {كِتَابٌ} وتنكيره مماثل لما في قوله: {كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ} في سورة الأعراف[2].
والمعنى أن القرآن كتاب من عند الله فلماذا يعجب المشركون من ذلك ويكذبون به. ف"كتاب" مبتدأ، سوغ الابتداء ما فيه من التنكير للنوعية.
و {مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} خبر و {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} صفة ل"كِتَابٌ"، ولك أن تجعل {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} صفة مخصصة، وهي مسوغ الابتداء. ولك أن تجعل "أُحْكِمَتْ" هو الخبر. وتجعل {مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} ظرفا لغوا متعلقا ب {أُحْكِمَتْ} و {فُصِّلَتْ} .
والإحكام: إتقان الصنع، مشتق من الحكمة بكسر الحاء وسكون الكاف. وهي إتقان الأشياء بحيث تكون سالمة من الأخلال التي تعرض لنوعها، أي جعلت آياته كاملة في نوع الكلام بحث سلمت من مخالفة الواقع ومن أخلال المعنى واللفظ. وتقدم عند قوله تعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} في أول سورة آل عمران [7]. وبهذا المعنى تنبي المقابلة

بقوله: {مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ} .
وآيات القرآن: الجمل المستقلة بمعانيها المختتمة بفواصل. وقد تقدم وجه تسمية جمل القرآن بالآيات عند قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} في أوائل سورة البقرة [39] ، وفي المقدمة الثامنة من مقدمات هذا التفسير.
والتفصيل: التوضيح والبيان. وهو مشتق من الفصل بمعنى التفريق بين الشيء وغيره بما يميزه، فصار كناية مشهورة عن البيان لما فيه من فصل المعاني. وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} في سورة الأنعام [55].
ونظيره: الفرق، كنى به عن البيان فسمي القرآن فرقانا. وعن الفصل فسمي يوم بدر يوم الفرقان، ومنه في ذكر ليلة القدر {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4].
و"ثم" للتراخي في الرتبة كما هو شأنها في عطف الجمل لما في التفصيل من الاهتمام لدى النفوس لأن العقول ترتاح إلى البيان والإيضاح.
و {مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} أي من عند الموصوف بإبداع الصنع لحكمته، وإيضاح التبيين لقوة علمه. والخبير: العالم بخفايا الأشياء، وكلما كثرت الأشياء كانت الإحاطة بها أعز، فالحكيم مقابل ل {أُحْكِمَتْ} ، والخبير مقابل ل {فُصِّلَتْ} . وهما وإن كانا متعلق العلم ومتعلق القدرة إذ القدرة لا تجري إلا على وفق العلم، إلا أنه روعي في المقابلة الفعل الذي هو أثر إحدى الصفتين أشد تبادرا فيه للناس من الآخر وهذا من بليغ المزاوجة.
[2] {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ}
"أن" تفسيرية لما في معنى {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} [هود: 1] من الدلالة على أقوال محكمة ومفصلة فكأنه قيل: أوحي إليك في هذا الكتاب أن لا تعبدوا إلا الله، فهذه الجملة تفسيرية لما أحكم من الآيات لأن النهي عن عبادة غير الله وإيجاب عبادة الله هو أصل الدين، وإليه مرجع جميع الصفات التي ثبتت لله تعالى بالدليل، وهو الذي يتفرع عنه جميع التفاصيل، ولذلك تكرر الأمر بالتوحيد والاستدلال عليه في القرآن، وأن أول آية نزلت كان فيها الأمر بملابسة اسم الله لأول قراءة القرآن في قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1].

والخطاب في {أَلَّا تَعْبُدُوا} وضمائر الخطاب التي بعده موجهة إلى الذين لم يؤمنوا وهم كل من يسمع هذا الكلام المأمور بإبلاغه إليهم.
وجملة: {إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} معترضة بين جملة {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [هود: 1] وجملة {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} [هود: 3] الآية، وهو اعتراض للتحذير من مخالفة الني والتحريض على امتثاله.
ووقوع هذا الاعتراض عقب الجملة الأولى التي هي من الآيات المحكمات إشعار بأن مضمونه من الآيات المحكمات وإن لم تكن الجملة تفسيرية وذلك لأن شأن الاعتراض أن يكون مناسبا لما وقع بعده وناشئا منه فإن مضمون البشير والنذير هو جامع عمل الرسول صلى الله عليه وسلم في رسالته فهو بشير لمن آمن وأطاع، ونذير لمن أعرض وعصى، وذلك أيضا جامع للأصول المتعلقة بالرسالة وأحوال الرسل وما أخبروا به من الغيب فاندرج في ذلك العقائد السمعية،وهذا عين الإحكام.
و"من" في قوله: {إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ} ابتدائية، أي أني نذير وبشير لكم جائيا من عند الله.
والجمع بين النذارة والبشارة لمقابلة ما تضمنته الجملة الأولى من طلب ترك عبادة غير الله بطريق النهي وطلب عبادة الله بطريق الاستثناء، فالنذارة ترجع إلى الجزء الأول، والبشارة ترجع إلى الجزء الثاني.
[3] {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ}
{وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ}
عطف على جملة: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [هود: 2] وهو تفسير ثان يرجع إلى ما في الجملة الأولى من لفظ التفصيل، فهذا ابتداء التفصيل لأنه بيان وإرشاد لوسائل نبذ عبادة ما عدا الله تعالى، ودلائل على ذلك وأمثال ونذر، فالمقصود: تقسيم التفسير وهو وجه إعادة حرف التفسير في هذه الجملة وعدم الاكتفاء بالذي في الجملة المعطوف عليها.
والاستغفار: طلب المغفرة، أي طلب عدم المؤاخذة بذنب مضى، وذلك الندم.

والتوبة: الإقلاع عن عمل ذنب، والعزم على أن لا يعود إليه.
و"ثم" للترتيب الرتبي، لأن الاعتراف بفساد ما هم فيه من عبادة الأصنام أهم من طلب المغفرة، فأن تصحيح العزم على عدم العودة إليها هو مسمى التوبة، وهذا ترغيب في نبذ عبادة الأصنام وبيان لما في ذلك من الفوائد في الدنيا والآخرة.
والمتاع: اسم مصدر التمتيع لما يتمتع به، أي ينتفع. ويطلق على منافع الدنيا. وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} في سورة الأعراف [24].
والحسن: تقييد لنوع المتاع بأنه الحسن في نوعه، أي خالصا من المكدرات طويلا بقاؤه لصاحبه كما دل عليه قوله: {إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} . والمراد بالمتاع: الإبقاء، أي الحياة، والمعنى أنه لا يستأصلهم. ووصفه بالحسن لإفادة أنها حياة طيبة.
و {إِلَى أَجَلٍ} متعلق ب {يُمَتِّعْكُمْ} وهو غاية للتمتيع، وذلك موعظة وتنبيه على أن هذا المتاع له نهاية، فعلم أنه متاع الدنيا. والمقصود بالأجل: أجل كل واحد وهو نهاية حياته، وهذا وعد بأنه نعمة باقية طول الحياة.
وجملة: {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} عطف على جملة: {يُمَتِّعْكُمْ} . والإيتاء: الإعطاء، وذلك يدل على أنه من المتاع الحسن، فيعلم أنه إعطاء نعيم الآخرة. والفضل: إعطاء الخير. سمي فضلا لأن الغالب أن فاعل الخير يفعله بما هو فاضل عن حاجته، ثم تنوسي ذلك فصار الفضل بمعنى إعطاء الخير.
والفضل الأول: العمل الصالح، بقرينة مقابلته بفضل الله الغني عن الناس.
والفضل الثاني المضاف إلى ضمير الجلالة هو ثواب الآخرة، بقرينة مقابلته بالمتاع في الدنيا. والمعنى: ويؤت الله فضله كل ذي فضل في عمله.
ولما علق الإيتاء بالفضلين علم أن مقدار الجزاء بقدر المجزي عليه، لأنه علق بذي فضل وهو في قوة المشتق، ففيه إشعار بالتعليل وبالتقدير. وضبط ذلك لا يعلمه إلا الله، وهو سر بين العبد وربه. ونظير هذا مع اختلاف في التقديم والتأخير وزيادة بيان، قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].

{وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ}
عطف على: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} فهو من تمام ما جاء تفسيرا ل {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} وهو مما أوحي به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبلغه إلى الناس.
وتولوا: أصله تتولوا، حذفت إحدى التائين تخفيفا.
وتأكيد حملة الجزاء ب {إِنْ} وبكون المسند إليه فيها اسما مخبرا عنه بالجملة الفعلية لقصد شدة تأكيد توقع العذاب.
وتنكير {يَوْمٍ} للتهويل، لتذهب نفوسهم للاحتمال الممكن أن يكون يوما في الدنيا أو في الآخرة، لأنهم كانوا ينكرون الحشر، فتخويفهم بعذاب الدنيا أوقع في نفوسهم. وبذلك يكون تنكير: {يَوْمٍ} صالحا لإيقاعه مقابلا للجزاءين في قوله: {يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} ، فيقدر السامع: إن توليتم فإني أخاف عليكم عذابين كما رجوت لكم إن استغفرتم ثوابين.
ووصفه بالكبير لزيادة تهويله، والمراد بالكبر الكبر المعنوي، وهو شدة ما يقع فيه، أعني العذاب، فوصف اليوم بالكبر مجاز عقلي.
[4] {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
جملة في موضع التعليل للخوف عليهم، فلذلك فصلت. والمعنى: أنكم صائرون إلى الله، أي إلى قدرته غير منفلتين منه فهو مجازيكم على توليكم عن أمره.
فالمرجع: مصدر ميمي بمعنى الرجوع. وهو مستعمل كناية عن لازمه العرفي وهو عدم الانفلات وإن طال الزمن، وذلك شامل للرجوع بعد الموت. وليس المراد إياه خاصة لأن قوله: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أنسب بالمصير الدنيوي لأنه المسلم عندهم، وأما المصير الأخروي فلو اعترفوا به لما كان هنالك قوي مقتض لزيادة {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
وتقديم المجرور على عامله للاهتمام والتقوي، وليس المراد منه الحصر إذ هم لا يحسبون أنهم مرجعون بعد الموت بله أن يرجعوا إلى غيره.
وجملة: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} معطوفة على جملة: {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ} ، أي

فما ظنكم برجوعكم إلى القادر على كل شيء وقد عصيتم أمره أليس يعذبكم عذابا كبيرا.
[5] {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}
حول أسلوب الكلام عن مخاطبة النبيء - عليه الصلاة والسلام - بما أمر بتبليغه إلى إعلامه بحال من أحوال الذين أمر بالتبليغ إليهم في جهلهم بإحاطة علم الله تعالى بكل حال من الكائنات من الذوات والأعمال ظاهرها وخفيها، فقدم لذلك إبطال وهم من أوهام أهل الشرك أنهم في مكنة من إخفاء بعض أحوالهم عن الله تعالى، فكان قوله: {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} إلخ تمهيدا لقوله: {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} ، جمعا بين إخبارهم بإحاطة علم الله بالأشياء وبين إبطال توهماتهم وجهلهم بصفات الله. وقد نشأ هذا الكلام عن قوله تعالى: {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} لمناسبة أن المرجوع إليه لما كان موصوفا بتمام القدرة على كل شيء هو أيضا موصوف بإحاطة علمه بكل شيء للتلازم بين تمام القدرة وتمام العلم.
وافتتاح الكلام بحرف التنبيه {أَلا} للاهتمام بمضمونه لغرابة أمرهم المحكي وللعناية بتعليم إحاطة علم الله تعالى.
وضمائر الجماعة الغائبين عائدة إلى المشركين الذين أمر النبيء صلى الله عليه وسلم بالإبلاغ إليهم في قوله: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [هود: 2] وليس بالتفات. وضمائر الغيبة للمفرد عائدة إلى اسم الجلالة في قوله: {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ} [هود: 4].
والثني: الطي، وأصل اشتقاقه من اسم الاثنين. يقال: ثناه بالتخفيف، إذا جعله ثانيا، يقال: هذا واحد فاثنه، أي كن ثانيا له، فالذي يطوي الشيء يجعل أحد طاقيه ثانيا للذي قبله؛ فثني الصدور: إمالتها وحنيها تشبيها بالطي. ومعنى ذلك الطأطأة.
وهذا الكلام يحتمل الإجراء على حقيقة ألفاظه من الثني والصدور. ويحتمل أن يكون تمثيلا لهيئة نفسية بهيئة حسية.
فعلى الاحتمال الأول يكون ذلك تعجيبا من جهالة أهل الشرك إذ كانوا يقيسون صفات الله تعالى على صفات الناس فيحسبون أن الله لا يطلع على ما يحجبونه عنه. وقد روي أن الآية أشارت إلى ما يفعله المشركون أن أحدهم يدخل بيته ويرخي الستر عليه

ويستغشي ثوبه ويحني ظهره ويقول: هل يعلم الله ما في قلبي? وذلك من جهلهم بعظمة الله.
ففي "البخاري" عن ابن مسعود: اجتمع عند البيت قريشيان وثقفي كثيرة شحم بطونهم قليلة فقه قلوبهم، فقال أحدهم: أترون أن الله يسمع ما نقول? قال الآخر: يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا. وقال الآخر: إن كان يسمع إذا جهرنا فإنه يسمع إذا أخفينا. فأنزل الله تعالى: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت: 22, 23].
وجميع أخطاء أهل الضلالة في الجاهلية والأديان الماضية تسري إلى عقولهم من النظر السقيم، والأقيسة الفاسدة، وتقدير الحقائق العالية بمقادير متعارفهم وعوائدهم، وقياس الغائب على المشاهد. وقد ضل كثير من فرق المسلمين في هذه المسالك لولا أنهم ينتهون إلى معلومات ضرورية من الدين تعصمهم عند الغاية عن الخروج عن دائرة الإسلام وقد جاء بعضهم وأوشك أن يقع.
وعلى الاحتمال الثاني فهو تمثيل لحالة إضمارهم العداوة للنبي صلى الله عليه وسلم في نفوسهم وتمويه ذلك عليه وعلى المؤمنين به بحال من يثني صدره ليخفيه ومن يستغشي ثوبه على ما يريد أن يستره به. وهذا الاحتمال لا يناسب كون الآية مكية إذ لم يكن المشركون يومئذ بمصانعين للنبي صلى الله عليه وسلم. وتأويلها بإرادة أهل النفاق يقتضي أن تكون الآية مدنية. وهذا نقله أحد من المفسرين الأولين. وفي "أسباب النزول" للواحدي أنها نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة وكان رجلا حلو المنطق، وكان يظهر المودة للنبي صلى الله عليه وسلم وهو منطو على عداوته، أي عداوة الدين، فضرب الله ثني الصدور مثلا لإضماره بغض النبيء صلى الله عليه وسلم. فهو تمثيل وليس بحقيقة. وصيغة الجمع على هذا مستعملة في إرادة واحدة لقصد إبهامه على نحو قوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} [آل عمران: 173] قيل فإنه هو الأخنس بن شريق.
ووقع في "صحيح البخاري" أن ابن عباس سئل عن هذه الآية فقال: كان ناس من المسلمين يستخفون أن يتخلوا فيفضوا إلى السماء وأن يجامعوا نساءهم فيفضوا إلى السماء فنزلت هذه الآية. وهذا التفسير لا يناسب موقع الآية ولا اتساق الضمائر. فلعل مراد ابن عباس أن الآية تنطبق على صنيع هؤلاء وليس فعلهم هو سبب نزولها. واعلم أن شأن

دعوة الحق أن لا تذهب باطلا حتى عند من لم يصدقوا بها ولم يتبعوها، فإنها تلفت عقولهم إلى فرض صدقها أو الاستعداد إلى دفعها، وكل ذلك يثير حقيقتها ويشيع دراستها. وكم من معرضين عن دعوة حق ما وسعهم إلا التحفز لشأنها والإفاقة من غفلتهم عنها. وكذلك كان شأن المشركين حين سمعوا دعوة القرآن إذ أخذوا يتدبرون وسائل مقاومتها ونقضها والتفهم في معانيها لإيجاد دفعها، كحال العاصي بن وائل قال لخباب بن الأرت حين تقاضاه أجر سيف صنعه فقال له: لا أقضيكه حتى تكفر بمحمد. فقال خباب: لا أكفر به حتى يميتك الله ثم يحييك. فقال العاصي له: إذا أحياني الله بعد موتي فسيكون لي مال فأقضيك منه. فنزل فيهة قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً} [مريم: 77]. وهذا من سوء فهمه لمعنى البعث وتوهمه أنه يعاد لما كان حاله في الدنيا من أهل ومال.
والاستخفاء: الاختفاء، فالسين والتاء فيه للتأكيد مثل استجاب واستأخر.
وجملة: {أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ} الخ يجوز أن تكون إتماما لجملة {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} متصلة بها فيكون حرف {أَلا} الثاني تأكيدا لنظيره الذي في الجملة قبله لزيادة تحقيق الخبر، فيتعلق ظرف "حين" بفعل {يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} ويتنازعه مع فعل {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ} وتكون الحالة الموصوفة حالة واحدة مركبة من ثني الصدور واستغشاء الثياب.
والاستغشاء: التغشي بما يغشي، أي يستر، فالسين والتاء فيه للتأكيد مثل قوله: {وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ} [نوح: 7] ، ومثل استجاب.
وزيادة {وَمَا يُعْلِنُونَ} تصريح بما فهم من الكلام السابق لدفع توهم علمه بالخفيات دون الظاهر.
وجملة: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} نتيجة وتعليل للجملة قبله، أي يعلم سرهم وجهرهم لأنه شديد العلم بالخفي في النفوس وهو يعلم الجهر بالأولى.
فذات الصدور صفة لمحذوف يعلم من السياق من قوله: {عَلِيمٌ} أي الأشياء التي هي صاحبة الصدور.
وكلمة "ذات" مؤنث "ذو" يتوصل بها إلى الوصف بأسماء الأجناس، وقد تقدم الكلام على ذلك عند قوله تعالى: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} وقوله: {وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} في سورة الأنفال [1].

والصدور مراد بها النفوس لأن العرب يعبرون عن الحواس الباطنية بالصدر.
واختيار مثال للمبالغة وهو {عَلِيمٌ} لاستقصاء التعبير عن إحاطة العلم بكل ما تسعه اللغة الموضوعة لمتعارف الناس فتقصر عن ألفاظ تعبر عن الحقائق العالية بغير طريقة استيعاب ما يصلح من المعبرات لتحصيل تقريب المعنى المقصود.
وذات الصدور: الأشياء المستقرة في النفوس التي لا تعدوها. فأضيفت إليها.
[6] {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}
عطف على جملة: {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} [هود: 5]. والتقدير: وما من دابة إلا يعلم مستقرها ومستودعها، وإنما نظم الكلام على هذا الأسلوب تفننا لإفادة التنصيص على العموم بالنفي المؤكد ب {من} ، ولإدماج تعميم رزق الله كل دابة في الأرض في أثناء إفادة عموم علمه بأحوال كل دابة، فلأجل ذلك آخر الفعل المعطوف لأن في التذكير بأن الله رازق الدواب التي لا حيلة لها في الاكتساب استدلالا على أنه عليم بأحوالها، فإن كونه رازقا للدواب قضية من الأصول الموضوعة المقبولة عند عموم البشر، فمن أجل ذلك جعل رزق الله إياها دليلا على علمه بما تحتاجه.
والدابة في اللغة اسم لما يدب أي يمشي على الأرض غير الإنسان.
وزيادة {فِي الْأَرْضِ} تأكيد لمعنى {دَابَّةٍ} في التنصيص على أن العموم مستعمل في حقيقته.
والرزق: الطعام، وتقدم في قوله تعالى: {وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً} [آل عمران: 37].
والاستثناء من عموم الأحوال التابع لعموم الذوات والمدلول علي بذكر رزقها الذي هو من أحوالها.
وتقديم {عَلَى اللَّهِ} قبل متعلقة وهو: {رِزْقُهَا} لإفادة القصر، أي على الله لا على غيره، ولإفادة تركيب {عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} معنى أن الله تكفل برزقها ولم يهمله، لأن "على" تدل على اللزوم والمحقوقية، ومعلوم أن الله لا يلزمه أحد شيئا، فما أفاد معنى اللزوم فإنما هو التزامه بنفسه بمقتضى صفاته المقتضية ذلك له كما أشار إليه قوله تعالى: {وَعْداً عَلَيْنَا} [الأنبياء: 104] وقوله: {حَقّاً عَلَيْنَا} [يونس: 103].

والاستثناء من عموم ما يسند إليه رزق الدواب في ظاهر ما يبدو للناس أنه رزق من أصحاب الدواب ومن يربونها، أي رزقها على الله لا على غيره، فالمستثنى هو الكون على الله والمستثنى منه مطلق الكون مما يتخيل أنه رزاق فحصر الرزق في الكون على الله مجاز عقلي في العرف باعتبار أن الله مسبب ذلك الرزق ومقدره.
وجملة: {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} عطف على جملة الاستثناء لا على المستثنى، أي والله يعلم مستقر كل دابة ومستودعها. فليس حكم هذه الجملة بداخل في حيز الحصر.
والمستقر: محل استقرارها. والمستودع: محل الإيداع، والإيداع: الوضع والدخر. والمراد به مستودعها في الرحم قبل بروزها إلى الأرض كقوله: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} في سورة الأنعام [98].
وتنوين {كُلٌّ} تنوين عوض عن المضاف إليه اختصار، أي كل رزقها ومستقرها ومستودعها في كتاب مبين، أي كتابة، فالكتاب هنا مصدر كقوله: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [النساء: 24]. وهو مستعمل في تقدير العلم وتحقيقه بحيث لا يقبل زيادة ولا نقصانا ولا تخلفا. كما أن الكتابة يقصد منها أن لا يزاد في الأمر ولا ينقص ولا يبطل. قال الحارث بن حلزة:
حذر الجور والتطاخي وهل ينق ... ض ما في المهارق الأهواء
والمبين: اسم فاعل أبان بمعنى أظهر، وهو تخييل لاستعارة الكتاب للتقدير. وليس المراد أنه موضح لمن يطالعه لأن علم الله وقدره لا يطلع عليه أحد.
[7] {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}
{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}
عطف على جملة {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6]. والمناسبة أن خلق السماوات والأرض من أكبر مظاهر علم الله وتعلقات قدرته وإتقان الصنع،

فالمقصود من هذا الخبر لازمه وهو الاعتبار بسعة علمه وقدرته، وقد تقدم القول في نظيرها في قوله: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} في سورة الأعراف [54].
وجملة {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} يجوز أن تكون حالا وأن تكون اعتراضا بين فعل "خَلَقَ" ولام التعليل. وأما كونها معطوفة على جملة {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] المسوقة مساق الدليل على سعة علم الله وقدرته فغير رشيق لأن مضمون هذه الجملة ليس محسوسا ولا متقررا لدى المشركين إذ هو من المغيبات وبعضه طرأ عليه تغيير بخلق السماوات فلا يحسن جعله حجة على المشركين لإثبات سعة علم الله وقدرته المأخوذ من جملة: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ} [هود: 6] الخ. والمعنى أن العرش كان مخلوقا قبل السماوات وكان محيطا بالماء أو حاويا للماء. وحمل العرش على أنه ذات مخلوقه فوق السماوات هو ظاهر الآية. وذلك يقتضي أن العرش مخلوق قبل ذلك وأن الماء مخلوق قبل السماوات والأرض. وتفصيل ذلك وكيفيته وكيفية الاستعلاء مما لا قبل للأفهام به إذ التعبير عنه تقريب.
ويجوز أن يكون المراد من العرش ملك الله وحكمه تمثيلا بعرش السلطان، أي كان ملك الله قبل خلق السماوات والأرض ملكا على الماء.
وقوله: {لِيَبْلُوَكُمْ} متعلق ب {خَلَقَ} واللام للتعليل. والبلو: الابتلاء، أي اختبار شيء لتحصيل علم بأحواله، وهو مستعمل كناية عن ظهور آثار خلقه تعالى للمخلوقات، لأن حقيقة البلو مستحيلة على الله لأنه العليم بكل شيء، فلا يحتاج إلى اختباره على نحو قوله: {إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} في سورة البقرة [143].
وجعل البلو علة لخلق السماوات والأرض لكونه من حكمة خلق الأرض باعتبار كون الأرض من مجموع هذا الخلق، ثم إن خلق الأرض يستتبع خلق ما جعلت الأرض عامرة به، واختلاف أعمال المخاطبين من جملة الأحوال التي اقتضاها الخلق فكانت من حكمة خلق السماوات والأرض، وكان التعليل هنا بمراتب كثيرة، وعلة العلة علة.
و {أَيُّكُمْ} : اسم استفهام، فهو مبتدأ، وجملة المبتدأ والخبر سادة مسد الحال اللازم ذكرها بعد ضمير الخطاب في {يَبْلُوَكُمْ} ، نظرا إلى أن الابتلاء لا يتعلق بالذوات، فتعدية فعل "يبلو" إلى ضمير الذوات ليس فيه تمام الفائدة فكان محتاجا إلى ذكر حال تقيد متعلق الابتلاء، وهذا ضرب من التعليق وليس عينه.

وفي الآية إشارة إلى أن من حكمة خلق الأرض صدور الأعمال الفاضلة من شرف المخلوقات فيها. ثم إن ذلك يقتضي الجزاء على الأعمال إكمالا لمقتضى الحكمة ولذلك أعقبت بقوله: {وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ} الخ.
{وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}
يظهر أن الواو واو الحال والجملة حال من فاعل {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} باعتبار ما تعلق بالفعل من قوله في {سِتَّةِ أَيَّامٍ} ، وقوله: {لِيَبْلُوَكُمْ} ، والتقدير: فعل ذلك الخلق العجيب والحال أنهم ينكرون ما هو دون ذلك وهو إعادة خلق الناس. ويجهلون أنه لولا الجزاء لكان هذا الخلق عبثا كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} [الدخان: 38]. فإن حمل الخبر في قوله: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} على ظاهر الإخبار كانت الحال مقدرة من فاعل {خَلَقَ} أي خلق ذلك مقدرا أنكم تنكرون عظيم قدرته، وإن حمل الخبر على أنه مستعمل في التنبيه والاعتبار بقدرة الله كانت الحال مقارنة.
ووجه جعلها جملة شرطية إفادة تجدد التكذيب عند كل إخبار بالبعث، واللام موطئة للقسم، وجواب القسم {لَيَقُولَنَّ} الخ، فاللام فيه لام جواب القسم. وجواب "إن" محذوف أغنى عنه جواب القسم كما هو الشأن عند اجتماع شرط وقسم أن يحذف جواب المتأخر منهما.
وتأكيد الجملة باللام الموطئة للقسم وما يتبعه من نون التوكيد لتنزيل السامع منزلة المتردد في صدور هذا القول منهم لغرابة صدوره من العاقل، فيكون التأكيد القوي والتنزيل مستعملا في لازم معناه وهو التعجيب من حال الذين كفروا أن يحيلوا إعادة الخلق وقد شاهدوا آثار بدء الخلق وهو أعظم وأبدع.
وقرأ الجمهور {إِلَّا سِحْرٌ} على أن {هَذَا} إشارة إلى المدلول عليه ب"قلت"، ومعنى الإخبار عن القول بأنه سحر أنهم يزعمون أنه كلام من قبيل الأقوال التي يقولها السحرة لخصائص تؤثر في النفوس.
وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف {إِلَّا سَاحِرٌ} فالإشارة بقوله: {هَذَا} إلى الرسول صلى الله عليه وسلم المفهوم من ضمير {قُلْتَ} أي أنه يقول كلاما يسحرنا بذلك.

ووجه جعلهم هذا القول سحرا أن في معتقداتهم وخرافاتهم أن من وسائل السحر الأقوال المستحيلة والتكاذيب البهتانية، والمعنى أنهم يكذبون بالبعث كلما أخبروا به لا يترددون في عدم إمكان حصوله بله إيمانهم به.
و {مُبِينٌ} اسم فاعل أبان المهموز الذي هو بمعنى بان المجرد، أي بين واضح أنه سحر أو أنه ساحر.
[8] {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}
{وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ}
مناسبته لما قبله أن في كليهما وصف فن من أفانين عناد المشركين وتهكمهم بالدعوة الإسلامية، فإذا خبرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالبعث وأن شركهم سبب لتعذيبهم جعلوا كلامه سحرا، وإذا أنذرهم بعقوبة العذاب على الإشراك استعجلوه، فإذا تأخر عنهم إلى أجل اقتضته الحكمة الربانية استفهموا عن سبب حبسه عنهم استفهام تهكم ظنا أن تأخره عجز.
واللام موطئة للقسم. وجملة {لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ} جواب القسم مغنية عن جواب الشرط.
والأمة: حقيقتها الجماعة الكثيرة من الناس الذين أمرهم واحد، وتطلق على المدة كأنهم راعوا أنها الأمد الذي يظهر فيه جيل فأطلقت على مطلق المدة، أي بعد مدة.
و {مَعْدُودَةٍ} معناه مقدرة، أي مؤجلة. وفيه إيماء إلى أنها ليست مديدة لأنه شاع في كلام العرب إطلاق العد والحساب ونحوهما على التقليل، لأن الشيء القليل يمكن ضبطه بالعدد، ولذلك يقولون في عكسه: بغير حساب، مثل {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [البقرة: 212].
والحبس: إلزام الشيء مكانا لا يتجاوزه. ولذلك يستعمل في معنى المنع كما هنا، أي ما يمنع أن يصل إلينا ويحل بنا وهم يريدون التهكم.
{أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}
هذه الجملة واقعة موقع الجواب عن كلامهم إذ يقولون ما يحبس عنا العذاب، فلذلك فصلت كما تفصل المحاورة. وهذا تهديد وتخويف بأنه لا يصرف عنهم ولكنه

مؤخر.
وافتتح الكلام بحرف التنبيه للاهتمام بالخبر لتحقيقه وإدخال الروع في ضمائرهم.
وتقديم الظرف للإيماء بأن إتيان العذاب لا شك فيه حتى أنه يوقت بوقت.
والصرف: الدفع والإقصاء.
والحوق: الإحاطة.
والمعنى أنه حال بهم حلولا لا مخلص منه بحال.
وجملة {وَحَاقَ بِهِمْ} في موضع الحال أو معطوفة على خبر: {لَيْسَ} .
وصيغة المضي مستعملة في معنى التحقق، وهذا عذاب القتل يوم بدر.
وما صدق {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} هو العذاب، وباء: {بِهِ} سببية أي بسبب ذكره فإن ذكر العذاب كان سببا لاستهزائهم حين توعدهم به النبيء صلى الله عليه وسلم.
والإتيان بالموصول في موضع الضمير للإيماء إلى أن استهزاءهم كان من سباب غضب الله عليهم. وتقديره إحاطة العذاب بهم بحيث لا يجدون منه مخلصا.
[9] {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُوسٌ كَفُورٌ}
عطف على جملة: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ} [هود: 8]. فإنه لما ذكر أن ما هم فيه متاع إلى أجل معلوم عند الله. وأنهم بطروا نعمة التمتيع فسخروا بتأخير العذاب، بينت هذه الآية أن أهل الضلالة راسخون في ذلك لأنهم لا يفكرون في غير اللذات الدنيوية فتجري انفعالاتهم على حسب ذلك دون رجاء لتغير الحال، ولا يتفكرون في أسباب النعيم والبؤس وتصرفات خالق الناس ومقدر أحوالهم، ولا يتعظون بتقلبات أحوال الأمم، فشأن أهل الضلالة أنهم إن حلت بهم الضراء بعد النعمة ملكهم اليأس من الخير ونسوا النعمة فجحدوها وكفروا منعمها، فإن تأخير العذاب رحمة وإتيان العذاب نزع لتلك الرحمة، وهذه الجملة في قوة التذييل. فتعريف "الإنسان" تعريف الجنس مراد به الاستغراق، وبذلك اكتسبت الجملة قوة التذييل. فمعيار العموم الاستثناء في قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [هود: 11] كما يأتي، فيكون الاستغراق عرفيا جاريا

على اصطلاح القرآن من إطلاق لفظ الإنسان أو الناس، ولأن وصفي {يَؤُوسٌ كَفُورٌ} يناسبان المشركين فيتخصص العام بهم.
وقيل التعريف في {الْأِنْسَانَ} للعهد مراد منه إنسان خاص، فروى الواحدي عن ابن عباس أنها نزلت في الوليد بن المغيرة. وعنه أنها نزلت في عبد الله بن أبي أمية المخزومي. ويجوز أن يكون المراد كل إنسان إذا حل به مثل ذلك على تفاوت في الناس في هذا اليأس.
واللام موطئة للقسم.
والإذاقة مستعملة في إيصال الإدراك على وجه المجاز، واختيرت مادة الإذاقة لما تشعر به من إدراك أمر محبوب لأن المرء لا يذوق إلا ما يشتهيه.
والرحمة أريد بها رحمة الدنيا. وأطلقت على أثرها وهو النعمة كالصحة والأمن والعافية، والمراد النعمة السابقة قبل نزول الضر.
والنزع حقيقته خلع الثوب عن الجسد. واستعمل هنا في سلب النعمة على طريقة الاستعارة، ولذلك عدي بحرف "من" دون "عن" لأن المعنى على السلب والافتكاك، فذكر "من" تجريد للمجاز.
وجملة: {إِنَّهُ لَيَؤُوسٌ كَفُورٌ} جواب القسم، وجردت من الافتتاح باللام استغناء عنها بحرف التوكيد وبلام الابتداء في خبر "إن". واستغني بجواب القسم عن جواب الشرط المقارن له كما هو شأن الكلام المشتمل على شرط وقسم كما تقدم في قوله: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ} [هود: 8] إلى آخره.
واليؤوس والكفور مثالا مبالغة في الآيس وكافر النعمة، أي جاحدها، والمراد بالكفور منكر نعمة الله لأنه تصدر منه أقوال وخواطر من السخط على ما انتابه كأنه لم ينعم عليه قط.
وتأكيد الجملة باللام الموطئة للقسم وبحرف التوكيد في جملة جواب القسم لقصد تحقيق مضمونها وأنه حقيقة ثابتة لا مبالغة فيها ولا تغليب.
[10] {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ}.

هذه الجملة تتميم للتي قبلها لأنها حكت حالة ضد الحالة في التي قبلها، وهي جملة قسم وشرط وجواب قسم كما تقدم في نظائرها.
وضمير {أَذَقْنَاهُ} المنصوب عائد إلى الإنسان فتعريفه كتعريف معاده للاستغراق بالمعنى المتقدم.
والنعماء - بفتح النون - وبالمد النعمة واختير هذا اللفظ هنا وإن كان لفظ النعمة أشهر لمحسن رعي النظير في زنة اللفظين النعماء والضراء. والمراد هنا النعمة الحاصلة بعد الضراء.
والمس مستعمل في مطلق الإصابة على وجه المجاز. واختيار فعل الإذاقة لما تقدم، واختيار فعل المس بالنسبة إلى إدراك الضراء إيماء إلى أن إصابة الضراء أخف من إصابة النعماء، وأن لطف الله شامل لعباده في كل حال.
وأكدت الجملة باللام الموطئة للقسم وبنون التوكيد في جملة جواب القسم لمثل الغرض الذي بيناه في الجملة السابقة.
وجعل جواب القسم القول للإشارة إلى أنه تبجح وتفاخر، فالخبر في قوله: {ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي} مستعمل في لا ازدهاء والإعجاب، وذلك هو مقتضى زيادة {عَنِّي} متعلقا ب {ذَهَبَ} للإشارة إلى اعتقاد كل واحد أنه حقيق بأن تذهب عنه السيئات غرورا منه بنفسه، كما في قوله: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} [فصلت: 50].
وجملة: {إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} استئناف ابتدائي للتعجيب من حاله، و {فَرِحٌ فَخُورٌ} مثالا مبالغة، أي لشديد الفرح شديد الفخر. وشدة الفرح: تجاوزه الحد وهو البطر والأشر، كما في قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص: 76].
والفخر: تباهي المرء على غيره بما له من الأشياء المحبوبة للناس.
والمعنى أنه لا يشكر الله على النعمة بعد البأساء وما كان فيه من الضراء فلا يتفكر في وجود خالق الأسباب وناقل الأحوال، والمخالف بين أسبابها. وفي معنى الآيتين قوله في سورة الشورى[48]: {وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْأِنْسَانَ كَفُورٌ} .

[11] {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ}
احتراس باستثناء من "الإنسان". والمراد بالذين صبروا المؤمنون بالله لأن الصبر من مقارنات الإيمان فكني بالذين صبروا عن المؤمنين فإن الإيمان يروض صاحبه على مفارقة الهوى ونبذ معتاد الضلالة. قال تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [الع: 3].
ومن معاني الصبر انتظار الفرج ولذلك أوثر هنا وصف "صَبَرُوا" دون "آمَنُوا" لأن المراد مقابلة حالهم بحال الكفار في قوله: {إِنَّهُ لَيَؤُوسٌ كَفُورٌ} [هود: 9]. ودل الاستثناء على أنهم متصفون بضد صفات المستثنى منهم. وفي هذا تحذير من الوقوع فيما يماثل صفات الكافرين على اختلاف مقادير. وقد نسجت الآية على هذا المنوال من الإجمال لتذهب نفوس السامعين من المؤمنين في طرق الحذر من صفتي اليأس وكفران النعمة، ومن صفتي الفرح والفخر كل مذهب ممكن.
وجملة {أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} مستأنفة ابتدائية. والإتيان باسم الإشارة عقب وصفهم بما دل عليه الاستثناء وبالصبر وعمل الصالحات تنبيه على أنهم استحقوا ما يذكر بعد اسم الإشارة لأجل ما ذكر قبله من الأوصاف كقوله: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 5].
[12] {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}
تفريع على قوله: {وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ} إلى قوله: {يَسْتَهْزِئُونَ} [هود: 7, 8] من ذكر تكذيبهم وعنادهم. يشير هذا التفريع إلى أن مضمون الكلام المفرع عليه سبب لتوجيه هذا التوقع لأن من شأن المفرع عليه اليأس من ارعوائهم لتكرر التكذيب والاستهزاء يأسا قد يبعث على ترك دعائهم، فذلك كله أفيد بفاء التفريع.
والتوقع المستفاد من "لعل" مستعمل في تحذير من شأنه التبليغ. ويجوز أن يقدر استفهام حذفت أداته. والتقدير: ألعلك تارك. ويكون الاستفهام مستعملا في النفي للتحذير، وذلك نظير قوله تعالى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3].
والاستفهام كناية عن بلوغ الحالة حدا يوجب توقع الأمر المستفهم عنه حتى أن

المتكلم يستفهم عن حصوله. وهذا أسلوب يقصد به التحريك من همة المخاطب وإلهاب همته لدفع الفتور عنه، فليس في هذا تجويز ترك النبيء صلى الله عليه وسلم تبليغ بعض ما يوحى إليه، وذلك البعض هو ما فيه دعوتهم إلى الإيمان وإنذارهم بالعذاب وإعلامهم بالبعث كما يدل عليه قوله تعالى في آية أخرى: {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا} [الأعراف: 23]. والمعنى تحذيره من التأثر بعنادهم وتكذيبهم واستهزائهم، ويستتبع ذلك تأييس المشركين من تركه ذكر البعث والإنذار بالعذاب، فالخطاب مستعمل في حقيقته ومراد منه مع ذلك علم السامعين بمضمونه.
{وَضَائِقٌ} : اسم فاعل من ضاق. وإنما عدل عن أن يقال "ضيق" هنا إلى {ضَائِقٌ} لمراعاة النظير مع قوله: "تَارِكٌ" لأن ذلك أحسن فصاحة. ولأن {ضَائِقٌ} لا دلالة فيه على تمكن وصف الضيق من صدره بخلاف ضيق، إذ هو صفة مشبهة وهي دالة على تمكن الوصف من الموصوف، وإيماء إلى أن أقصى ما يتوهم توقعه في جانبه صلى الله عليه وسلم هو ضيق قليل يعرض له.
والضيق مستعمل مجازا في الغم والأسف، كما استعمل ضده وهو الانشراح في الفرح والمسرة.
و {ضَائِقٌ} عطف على {تَارِكٌ} فهو وفاعله جملة خبر عن "لعلك" فيتسلط عليه التفريع.
والباء في {بِهِ} للسببية، والضمير المجرور بالباء عائد على ما بعده وهو {أَنْ يَقُولُوا} . و {أَنْ يَقُولُوا} بدل من الضمير. ومثل ذلك مستعمل في الكلام كقوله تعالى: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الأنبياء: 3]، فيكون تحذيرا من أن يضيق صدره لاقتراحهم الآيات بأن يقولوا: {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ} ، ويحصل مع ذلك التحذير من أن يضيق صدره من قولهم: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [هود: 7]، ومن قولهم: ما يحبس العذاب عنا، بواسطة كون {ضَائِقٌ} داخلا في تفريع التحذير على قوليهم السابقين. وإنما جيء بالضمير ثم أبدل منه لقصد الإجمال الذي يعقبه التفصيل ليكون أشد تمكنا في الذهن، ولقصد تقديم المجرور المتعلق باسم الفاعل على فاعله تنبيها على الاهتمام بالمتعلق لأنه سبب صدور الفعل عن فاعله فجيء بالضمير المفسر فيما بعد لما في لفظ التفسير من الطول، فيحصل بذكره بعد بين اسم الفاعل ومرفوعه، فلذلك اختصر في ضمير يعود عليه، فحصل الاهتمام وقوي الاهتمام بما يدل على تمكنه في الذهن.

ومعظم المفسرين جعلوا ضمير {بِهِ} عائدا إلى {بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ} . على أن ما يوحى إليه سبب لضيق صدره، أي لا يضيق له صدرك، وجعلوا: {أَنْ يَقُولُوا} مجرورا بلام التعليل مقدرة. وعليه فالمضارع في قوله: {أَنْ يَقُولُوا} بمعنى المضي لأنهم قالوا ذلك. واللام متعلقة ب {ضَائِقٌ} وليس المعنى عليه بالمتين.
و {لَوْلا} : للتحضيض. والكنز: المال المكنوز أي المخبوء.
وإنزاله: إتيانه من مكان عال أي من السماء.
وهذا القول صدر من المشركين قبل نزول هذه الآية فلذلك فالفعل المضارع مراد به تجدد هذا القول وتكرره منهم بقرينة العلم بأنه صدر منهم في الماضي، وبقرينة التحذير من أن يكون ذلك سببا في ضيق صدره لأن التحذير إنما يتعلق بالمستقبل.
ومرادهم ب {جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ} أن يجيء ملك من الملائكة شاهدا برسالته، وهذا من جهلهم بحقائق الأمور وتوهمهم أن الله يعبأ بإعراضهم ويتنازل لإجابة مقترح عنادهم، ومن قصورهم عن فهم المعجزات الإلهية ومدى التأييد الرباني.
وجملة {إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ} في موقع العلة للتحذير من تركه بعض ما يوحى إليه وضيق صدره من مقالتهم. فكأنه قيل لا تترك إبلاغهم بعض ما يوحى إليك ولا يضق صدرك من مقالهم لأنك نذير لا وكيل على تحصيل إيمانهم، حتى يترتب على يأسك من إيمانهم ترك دعوتهم.
والقصر المستفاد من {إِنَّمَا} قصر إضافي، أي أنت نذير لا موكل بإيقاع الإيمان في قلوبهم إذ ليس ذلك إليك بل هو الله، كما دل عليه قوله قبله: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} فهو قصر قلب. وفيه تعريض بالمشركين برد اعتقادهم أن الرسول يأتي بما يسأل عنه من الخوارق فإذا لم يأتهم به جعلوا ذلك سندا لتكذيبهم إياه ردا حاصلا من مستتبعات الخطاب، كما تقدم عند قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ} إذ كثر في القرآن ذكر نحو هذه الجملة في مقام الرد على المشركين والكافرين الذين سألوا الإيتان بمعجزات على وفق هواهم.
وجملة: {اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} تذييل لقوله: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ} إلى هنا، وهي معطوفة على جملة: {إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ} لما اقتضاه القصر من إبطال أن يكون وكيلا على إلجائهم للإيمان. ومما شمله عموم: {كُلِّ شَيْءٍ} أن الله وكيل على قلوب

المكذبين وهم المقصود، وإنما جاء الكلام بصيغة العموم ليكون تذييلا وإتيانا للغرض بما هو كالدليل، ولينتقل من ذلك العموم إلى تسلية النبيء صلى الله عليه وسلم بأن الله مطلع على مكر أولئك، وأنه وكيل على جزائهم وأن الله عالم ببذل النبيء جهده في التبليغ.
[13] {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}
{أَمْ} هذه منقطعة بمعنى "بل" التي للإضراب للانتقال من غرض إلى آخر، إلا أن "أم" مختصة بالاستفهام فتقدر بعدها همزة الاستفهام. والتقدير: بل أيقولون افتراه. والإضراب الانتقالي في قوة الاستئناف الابتدائي، فللجملة حكم الاستئناف. والمناسبة ظاهرة، لأن الكلام في إبطال مزاعم المشركين، فإنهم قالوا: هذا كلام مفترى، وقرعهم بالحجة. والاستفهام إنكاري.
والافتراء: الكذب الذي لا شبهة لصاحبه، فهو الكذب عن عمد، كما تقدم في قوله: {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} في سورة العقود [103].
وجملة {قُلْ فَأْتُوا} جواب لكلامهم فلذلك فصلت على ما هو مستعمل في المحاورة سواء كانت حكاية المحاورة بصيغة حكاية القول أو كانت أمرا بالقول كما تقدم عند قوله تعالى: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} [البقرة: 30]. والضمير المستتر في "افتراه" عائد إلى النبيء صلى الله عليه وسلم المذكور في قوله: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ} [هود: 12]. وضمير الغائب البارز المنصوب عائد إلى القرآن المفهوم من قوله: {بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ} [هود: 12].
والإتيان بالشيء: جلبه، سواء كان بالاسترفاد من الغير أم بالاختراع من الجالب وهذا توسعة عليهم في التحدي.
وتحداهم هنا بأن يأتوا بعشر سور خلاف ما تحداهم في غير هذا المكان بأن يأتوا بسورة مثله، كما في سورة البقرة وسورة يونس. فقال ابن عباس وجمهور المفسرين: كان التحدي أول الأمر بأن يأتوا بعشر سور مثل القرآن. وهو ما وقع في سورة هود، ثم نسخ بأن يأتوا بسورة واحدة كما وقع في سورة البقرة وسورة يونس. فتخطى أصحاب هذا القول إلى أن قالوا إن سورة هود نزلت قبل سورة يونس، وهو الذي يعتمد عليه.

وقال المبرد: تحداهم أولا بسورة ثم تحداهم هنا بعشر سور لأنهم قد وسع عليهم هنا بالاكتفاء بسور مفتريات فلما وسع عليهم في صفتها أكثر عليهم عددها. وما وقع من التحدي بسورة اعتبر فيه مماثلتها لسور القرآن في كمال المعاني، وليس بالقوي.
ومعنى {مُفْتَرَيَاتٍ} أنها مفتريات المعاني كما تزعمون على القرآن أي بمثل قصص أهل الجاهلية وتكاذيبهم. وهذا من إرخاء العنان والتسليم الجدلي، فالمماثلة في قوله {مِثْلِهِ} هي المماثلة في بلاغة الكلام وفصاحته لا في سداد معانيه. قال علماؤنا: وفي هذا دليل على أن إعجازه وفصاحته بقطع النظر عن علو معانيه وتصديق بعضه بعضا. وهو كذلك.
والدعاء: النداء لعمل. وهو مستعمل في الطلب مجازا ولو بدون نداء.
وحذف المتعلق لدلالة المقام، أي وادعوا لذلك. والأمر فيه للإباحة، أي إن شئتم حين تكونون قد عجزتم عن الإتيان بعشر سور من تلقاء أنفسكم فلكم أن تدعوا من تتوسمون فيه المقدرة على ذلك ومن ترجون أن ينفحكم بتأييده من آلهتكم وبتيسير الناس ليعاونكم كقوله: {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 23].
و {مِنْ دُونِ اللَّهِ} وصف ل {مَنِ اسْتَطَعْتُمْ} ، ونكتة ذكر هذا الوصف التذكير بأنهم أنكروا أن يكون من عند الله، فلما عمم لهم في الاستعانة بمن استطاعوا أكد أنهم دون الله فإن عجزوا عن الإتيان بعشر سور مثله مع تمكنهم من الاستعانة بكل من عدا الله تبين أن هذا القرآن من عند الله.
ومعنى {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أي في قولكم: {افْتَرَاهُ} ، وجواب الشرط هو قوله: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ} . ووجه الملازمة بين الشرط وجزائه أنه إذا كان الافتراء يأتي بهذا القرآن فما لكم لا تفترون أنتم مثله فتنهض حجتكم.
[14 ]{فإلم فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}
تفريع على: {وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ} [هود: 13] أي فإن لم يستجب لكم من تدعو لهم فأنتم أعجز منهم لأنكم ما تدعونهم إلا حين تشعرون بعجزكم دون معاون فلا جرم يكون عجز هؤلاء موقعا في يأس الداعين من الإتيان بعشر سور.

والاستجابة: الإجابة، والسين والتاء فيه للتأكيد. وهي مستعملة في المعاونة والمظاهرة على الأمر المستعان فيه، وهي مجاز مرسل لأن المعاونة تنشأ عن النداء إلى الإعانة غالبا فإذا انتدب المستعان به إلى الإعانة أجاب النداء بحضوره فسميت استجابة.
والعلم: الاعتقاد اليقين، أي فأيقنوا أن القرآن ما أنزل إلا بعلم الله، أي ملابسا لعلم الله. أي لأثر العلم، وهو جعله بهذا النظم للبشر لأن ذلك الجعل أثر لقدرة الله الجارية على وفق علمه. وقد أفادت "أنما" الحصر، أي حصر أحوال القرآن في حالة إنزاله من عند الله. {أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} عطف على {مَا أُنْزِلَ} لأنهم إذا عجزوا فقد ظهر أن من استنصروهم لا يستطيعون نصرهم. ومن جملة من يستنصرونهم بطلب الإعانة على المعارضة بين الأصنام عن إعانة أتباعهم فدل ذلك على انتفاء الإلهية عنهم.
والفاء في {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} للتفريع على {فَاعْلَمُوا} . والاستفهام مستعمل في الحث على الفعل وعدم تأخيره كقوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] أي عن شرب الخمر وفعل الميسر. والمعنى: فهل تسلمون بعد تحققكم أن هذا القرآن من عند الله.
وجيء بالجملة الاسمية الدالة على دوام الفعل وثباته. ولم يقل فهل تسلمون لأن حالة عدم الاستجابة تكسب اليقين بصحة الإسلام فتقتضي تمكنه من النفوس وذلك التمكن تدل عليه الجملة الاسمية.
[15] [16] {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
استئناف اعتراضي بين الجملتين ناشئ عن جملة: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [هود: 14] لأن تلك الجملة تفرعت على نهوض الحجة فإن كانوا طالبين الحق والفوز فقد استتب لهم ما يقتضي تمكن الإسلام من نفوسهم، وإن كانوا إنما يطلبون الكبرياء والسيادة في الدنيا ويأنفون من أن يكونوا تبعا لغيرهم فهم مريدون الدنيا فلذلك حذروا من أن يغتروا بالمتاع العاجل وأعلموا بأن وراء ذلك العذاب الدائم وأنهم على الباطل، فالمقصود من هذا الكلام هو الجملة الثانية، أعني جملة: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ} الخ... وما قبل ذلك تمهيد وتنبيه على بوارق الغرور ومزالق الذهول.
ولما كان ذلك هو حالهم كان في هذا الاعتراض زيادة بيان لأسباب مكابرتهم

وبعدهم عن الإيمان، وفيه تنبيه المسلمين بأن لا يغتروا بظاهر حسن حال الكافرين في الدنيا، وأن لا يحسبوا أيضا أن الكفر يوجب تعجيل العذاب فأوقظوا من هذا التوهم، كما قال تعالى: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران: 196, 197].
وفعل الشرط في المقام الخطابي يفيد اقتصار الفاعل على ذلك الفعل، فالمعنى من كان يريد الحياة الدنيا فقط بقرينة قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ} إذ حصر أمرهم في استحقاق النار وهو معنى الخلود. ونظير هذه الآية: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً} [الإسراء: 18, 19]. فالمعنى من كان لا يطلب إلا منافع الحياة وزينتها. وهذا لا يصدر إلا عن الكافرين لأن المؤمن لا يخلو من إرادة خير الآخرة وما آمن إلا لذلك، فمورد هذه الآيات ونظائرها في حال الكافرين الذين لا يؤمنون بالآخرة.
فأما قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النبيء قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب: 28, 29] فذلك في معنى آخر من معاني الحياة وزينتها وهو ترف العيش وزينة اللباس، خلافا لما يقتضيه إعراض الرسول صلى الله عليه وسلم عن كثير من ذلك الترف وتلك الزينة.
وضمير {إِلَيْهِمْ} عائد إلى {مَنْ} الموصولة لأن المراد بها الأقوام الذين اتصفوا بمضمون الصلة.
والتوفية: إعطاء الشيء وافيا، أي كاملا غير منقوص، أي نجعل أعمالهم في الدنيا وافية ومعنى وفائها أنها غير مشوبة بطلب تكاليف الإيمان والجهاد والقيام بالحق، فإن كل ذلك لا يخلو من نقصان في تمتع أصحاب تلك الأعمال بأعمالهم وهو النقصان الناشئ عن معاكسة هوى النفس، فالمراد أنهم لا ينقصون من لذاتهم التي هيأوها لأنفسهم على اختلاف طبقاتهم في التمتع بالدنيا، بخلاف المؤمنين فانهم تتهيأ لهم أسباب التمتع بالدنيا على اختلاف درجاتهم في ذلك التهيؤ فيتركون كثيرا من ذلك لمراعاتهم مرضاة الله تعالى وحذرهم من تبعات ذلك في الآخرة على اختلاف مراتبهم في هذه المراعاة.
وعدى فعل {نُوَفِّ} بحرف "إلى" لتضمنه معنى نوصل أو نبلغ لإفادة معنيين.

فليس معنى الآية أن من أراد الحياة وزينتها أعطاه الله مراده لأن ألفاظ الآية لا تفيد ذلك لقوله: {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ} ، فالتوفية: عدم النقص. وعلقت بالأعمال وهي المساعي. وإضافة الأعمال إلى ضمير {هُمْ} تفيد أنها الأعمال التي عنوا بها وأعدوها لصالحهم أي نتركها لهم كما أرادوا لا ندخل عليهم نقصا في ذلك. وهذه التوفية متفاوتة والقدر المشترك فيها بينهم هو خلوهم من كلف الإيمان ومصاعب القيام بالحق والصبر على عصيان الهوى، فكأنه قيل نتركهم وشأنهم في ذلك.
وقوله: {وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ} أي في الدنيا لا يجازون على كفرهم بجزاء سلب بعض النعم عنهم بل يتركون وشأنهم استدراجا لهم وإمهالا. فهذا كالتكملة لمعنى جملة: {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} ، إذ البخس هو الحط من الشيء والنقص منه على ما ينبغي أن يكون عليه ظلما. وفي هذه الآية دليل لما رآه الأشعري أن الكفر لا يمنع من نعمة الله.
وضمير {فِيهَا} يجوز أن يعود إلى {الْحَيَاةَ} وأن يعود إلى "الأعمال".
وجملة {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ} مستأنفة، ولكن اسم الإشارة يربط بين الجملتين، وأتي باسم الإشارة لتمييزهم بتلك الصفات المذكورة قبل اسم الإشارة. وفي اسم الإشارة تنبيه على أن المشار إليه استحق ما يذكر بعد اختياره من الحكم من أجل الصفات التي ذكرت قبل اسم الإشارة كما تقدم في قوله: { أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} في سورة البقرة[5].
و {إِلَّا النَّارُ} استثناء مفرغ من {لَيْسَ لَهُمْ} أي ليس لهم شيء مما يعطاه الناس في الآخرة إلا النار، وهذا يدل على الخلود في النار فيدل على أن هؤلاء كفار عندنا.
والحبط: البطلان أي الانعدام.
والمراد ب {مَا صَنَعُوا} ما عملوا، ومن الإحسان في الدنيا كإطعام العفاة ونحوه من مواساة بعضهم بعضا، ولذلك عبر هنا ب {صَنَعُوا} لأن الإحسان يسمى صنيعة.
وضمير {فِيهَا} يجوز أن يعود إلى {الدُّنْيَا} المتحدث عنها فيتعلق المجرور بفعل {صَنَعُوا} . ويجوز أن يعود إلى {الْآخِرَةِ} فيتعلق المجرور بفعل "بطل"، أي انعدم أثره. ومعنى الكلام تنبيه على أن حظهم من النعمة هو ما يحصل لهم في الدنيا وأن رحمة الله بهم لا تعدو ذلك. وقد قال النبيء صلى الله عليه وسلم لعمر لما ذكر له فارس والروم وما هم فيه من المتعة "أولئك عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا" .

والباطل: الشيء الذي يذهب ضياعا وخسرانا.
[17] {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ}.
{أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ}
أغلقت معاني هذه الآية لكثرة الاحتمالات التي تعتورها من جهة معاد الضمائر واسم الإشارة، ومن جهة إجمال المراد من الموصول، وموقع الاستفهام، وموقع فاء التفريع. وقد حكى ابن عطية وجوها كثيرة في تفسيره بما لم يلخصه أحد مثله وتبعه القرطبي في حكاية بعضها. والاختلاف في ما صدق {مَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} . وفي المراد من {بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} ، وفي المعني ب {يَتْلُوهُ} . وفي المراد من {شَاهِدٌ} . وفي معاد الضمير المنصوب في قوله: {يَتْلُوهُ} . وفي معنى "من" من قوله: {مِنْهُ} ، وفي معاد الضمير المجرور ب"من". وفي موقع قوله: {مِنْ قَبْلِهِ} من قوله: {كِتَابُ مُوسَى} . وفي مرجع اسم الإشارة من قوله: {أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} . وفي معاد الضمير المجرور بالباء من قوله: {يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ} الخ فهذه مفاتيح تفسير هذه الآية.
والذي تخلص لي من ذلك ومما فتح الله به مما هو أوضح وجها وأقرب بالمعنى المقصود شبها: أن الفاء للتفريع على جملة: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} إلى قوله: { فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [هود: 13, 14] وأن ما بينهما اعتراض لتقرير توغلهم في المكابرة وابتعادهم عن الإيمان، وهذا التفريع تفريع الضد على ضده في إثبات ضد حكمه له، أي إن كان حال أولئك المكذبين كما وصف فثم قوم هم بعكس حالهم قد نفعتهم البينات والشواهد، فهم يؤمنون بالقرآن وهم المسلمون وذلك مقتضى قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [هود: 14]، أي كما أسلم من كانوا على بينة من ربهم منكم ومن أهل الكتاب.
والهمزة للاستفهام التقريري، أي إن كفر به هؤلاء أفيؤمن به من كان على يبنة من ربه، وهذا على نحو نظم قوله تعالى: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} [الزمر: 19] أي أنت تنقذ من النار الذي حق عليه كلمة العذاب.
و {مَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ} لا يراد بها شخص معين. فكلمة "من" هنا تكون كالمعرف

بلام العهد الذهني صادقة على من تحققت له الصلة، أعني أنه على بينة من ربه. وبدون ذلك لا تستقيم الإشارة. وإفراد ضمائر {كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} مراعاة للفظ "من" الموصولة وذلك أحد استعمالين. والجمع في قوله: {أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ} مراعاة لمعنى "من" الموصولة وذلك استعمال آخر. والتقدير: أفمن كانوا على بينة من ربهم أولئك يؤمنون به. ونظير هذه الآية قوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} في سورة القتال [14].
والذين هم على بينة من ربهم يجوز أن يكونوا النصارى فقط فإنهم كانوا منتشرين في العرب ويعرف أهل مكة كثيرا منهم، وهم الذين عرفوا أحقية الإسلام مثل ورقة بن نوفل ودحية الكلبي، ويجوز أن يراد النصارى واليهود مثل عبد الله ابن سلام ممن آمن بعد الهجرة فدلوا على تمكنهم من معرفة البينة لصحة أفهامهم ولوضوح دلالة البينة، فأصحابها مؤمنون بها.
والمراد بالبينة حجة مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم المبشر به في التوراة والإنجيل. فكون النصارى على بينة من ربهم قبل مجيء الإسلام ظاهر لأنهم لم يكذبوا رسولا صادقا. وكون اليهود على بينة إنما هو بالنسبة لانتظارهم رسولا مبشرا به في كتابهم وإن كانوا في كفرهم بعيسى عليه السلام ليسوا على بينة. فالمراد على بينة خاصة يدل عليها سياق الكلام السابق من قوله: {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} [هود: 14]، ويعنيها اللاحق من قوله: {أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ} أي بالقرآن.
و"من" في قوله: {مِنْ رَبِّهِ} ابتدائية ابتداء مجازيا. ومعنى كونها من ربه أنها من وحي الله ووصايته التي أشار إليها قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النبيءينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} [آل عمران: 81] وقوله: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النبيء الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ} [الأعراف: 157]. وذكر كتاب موسى وأنه من قبله يشير إلى أن البينة المذكورة هنا من الإنجيل، ويقوي أن المراد ب {مَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} النصارى.
وفعل "يتلوه" مضارع التلو وهو الاتباع وليس من التلاوة، أي يتبعه. والاتباع مستعار للتأييد والاقتداء فإن الشاهد بالحق يحضر وراء المشهود له. وضمير الغائب المنصوب في قوله: {يَتْلُوهُ} عائد إلى {مَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} .
والمراد ب {شَاهِدٌ مِنْهُ} شاهد من ربه، أي شاهد من الله وهو القرآن لأنه لإعجازه

المعاندين عن الإتيان يعشر سور مثله كان حجة على أنه آت من جانب الله.
و {مِنْ} ابتدائية. وضمير {مِنْهُ} عائد إلى {رَبِّهِ} . ويجوز أن يعود إلى {شَاهِدٌ} . أي شاهد على صدقه كائن في ذاته وهو إعجازه إياهم عن الإتيان يمثله.
و {مِنْ قَبْلِهِ} حال من {كِتَابُ مُوسَى} . و {كِتَابُ مُوسَى} عطف على {شَاهِدٌ مِنْهُ} والمراد تلوه في الاستدلال بطريق الارتقاء فإن النصارى يهتدون بالإنجيل ثم يستظهرون على ما في الإنجيل بالتوراة لأنها أصله وفيها بيانه، ولذلك لما عطف {كِتَابُ مُوسَى} على {شَاهِدٌ} الذي هو معمول {يَتْلُوهُ} قيد كتاب موسى بأنه من قبله، أي ويتلوه شاهد منه. ويتلوه كتاب موسى حالة كونه من قبل الشاهد أي سابقا عليه في النزول. وإذا كان المراد ب {مَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} النصارى خاصة كان لذكر {كِتَابُ مُوسَى} إيماء إلى أن كتاب موسى - عليه السلام - شاهد على صدق محمد صلى الله عليه وسلم ولم يذكر أهل ذلك الكتاب وهم اليهود لأنهم لم يكونوا على بينة من ربهم كاملة من جهة عدم تصديقهم بعيسى عليه السلام.
و {إماما ورحمة} حالان ثناء على التوراة بما فيها من تفصيل الشريعة فهو إمام يهتدى به ورحمة للناس يعملون بأحكامها فيرحمهم الله في الدنيا بإقامة العدل وفي الآخرة بجزاء الاستقامة إذ الإمام ما يؤتم به ويعمل على مثاله.
والإشارة ب {أُولَئِكَ} إلى {مَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} ، أي أولئك الذين كانوا على بينة من ربهم يؤمنون بالقرآن وليسوا مثلكم يا معشر المشركين، وذلك في معنى قوله تعالى: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام: 89].
وإقحام {أُولَئِكَ} هنا يشبه إقحام ضمير الفصل، وفيه تنبيه على أن ما بعده من الخبر مسبب على ما قبل اسم الإشارة من الأوصاف وهي كونهم على بينة من ربهم معضدة بشواهد من الإنجيل والتوراة.
وجملة: {أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} خبر {مَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} .
وضمير {به} عائد إلى القرآن المعلوم من المقام أو من تقدم ضميره في قوله: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} [هود: 13].
وبه ينتظم الكلام مع قوله: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} إلى قوله: {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} [هود: 13, 14] أي يؤمنون بكون القرآن من عند الله.

والباء للتعدية لا للسببية، فتعدية فعل {يُؤْمِنُونَ} إلى ضمير القرآن من باب إضافة الحكم إلى الأعيان وإرادة أوصافها مثل {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23]، أي يؤمنون بما وصف به القرآن من أنه من عند الله.
وحاصل معنى الآية وارتباطها بما قبلها {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [هود: 14] فإن الذين يؤمنون به هم الذين كانوا على بينة من ربهم مؤيدة بشاهد من ربهم ومعضودة بكتاب موسى عليه السلام من قبل بينتهم.
وقريب من معنى الآية قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ} [الأحقاف: 10] فاستقام تفسير الآية تمام الاستقامة، وأنت لا يعوزك تركيب الوجوه التي تأول بها المفسرون مما يخالف ما ذكرناه كلا أو بعضا فبصرك فيها حديد، وبيدك لفتح مغالقها مقاليد.
وجملة: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ} عطف على جملة: {أفمن كان على بينة من ربه} لأنه لما حرض أهل مكة على الإسلام بقوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [هود: 14]، وأراهم القدوة بقوله: {أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} ، عاد فحذر من الكفر بالقرآن فقال: {مَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ} ، وأعرض عما تبين له من بينة ربه وشواهد رسله فالنار موعده.
والأحزاب: هم جماعات الأمم الذين يجمعهم أمر يجتمعون عليه، فالمشركون حزب، واليهود حزب، والنصارى حزب، قال تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ لْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ} [ص: 12, 13].
والباء في {يَكْفُرْ بِهِ} كالباء في {يُؤْمِنُونَ بِهِ} .
والموعد: ظرف للوعد من مكان أو زمان. وأطلق هنا على المصير الصائر إليه لأن شأن المكان المعين لعمل أن يعين به بوعد سابق.
{فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ}
تفريع على جملة: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والنهي مستعمل كناية تعريضية بالكافرين بالقرآن لأن النهي يقتضي فساد المنهي عنه ونقصه، فمن لوازمه ذم المتلبس بالمنهي عنه. ولما كان المخاطب غير مظنة للتلبس بالمنهي عنه فيطلب منه تركه ويكون النهي طلب تحصيل الحاصل، تعين أن يكون النهي

غير مراد به الكف والإقلاع عن المنهي عنه فيكون مستعملا في لازم ذلك بقرينة المقام، ومما يزيد ذلك وضوحا قوله تعالى في سورة آلم السجدة[23] {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ} فإنه لو كان المقصود تحذير النبيء صلى الله عليه وسلم من الامتراء في اللوح لما كان لتفريع ذلك على إيتاء موسى - عليه السلام - الكتاب ملازمة، ولكن لما كان المراد التعريض بالذين أنكروا الوحي قدم إليهم احتجاج سبق الوحي لموسى - عليه السلام -.
و {فِي} للظرفية المجازية المستعملة في تمكن التلبس نظرا لحال الذين استعمل النهي كناية عن ذمهم فإنهم متلبسون بمزية شديدة في شأن القرآن.
وضميرا الغيبة عائدان إلى القرآن الذي عاد إليه ضمير {افْتَرَاهُ} [هود: 13].
وجملة: {إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} مستأنفة تأكيد لما دلت عليه جملة: {فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ} من أنه لوضوح حقيته لا ينبغي أن يمترى في صدقه. وحرف التأكيد يقوم مقام الأمر باعتقاد حقيته لما يدل عليه التأكيد من الاهتمام.
والمرية: الشك. وهي مرادفة الامتراء المتقدم في أول الأنعام. واختير النهي على المرية دون النهي عن اعتقاد أنه كذب كما هو حال المشركين، لأن النهي عن الامتراء فيه يقتضي النهي عن الجزم بالكذب بالأولى، وفيه تعريض بأن ما فيه المشركون من اليقين بكذب القرآن أشد ذما وشناعة.
و {مِنْ} ابتدائية، أي في شك ناشئ عن القرآن، وإنما ينشأ الشك عنه باعتبار كونه شكا في ذاته وحقيقته لأن حقيقة القرآنية أنه كتاب من عند الله، فالشك الناشئ على نزوله شك في مجموع حقيقته، وهذا مثل الضمير في قوله: {يؤمنون به} من غير احتياج إلى تقدير مضاف يؤول به إلى إضافة الحكم إلى الأعيان المراد أوصافها.
وتعريف {الْحَقُّ} لإفادة قصر جنس الحق على القرآن. وهو قصر مبالغة لكمال جنس الحق فيه حتى كأنه لا يوجد حق غيره مثل قولك: حاتم الجواد.
والاستدراك بقوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} ناشئ على حكم الحصر، فإن الحصر يقتضي أن يؤمن به كل من بلغه ولكن أكثر الناس لا يؤمنون.
والإيمان هو التصديق بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الدين.

وحذف متعلق {يُؤْمِنُونَ} لأن المراد انتفاء حقيقة الإيمان عنهم في كل ما طلب الإيمان به من الحق، أي أن في طباع أكثر الناس تغليب الهوى على الحق فإذا جاء ما يخالف هواهم لم يؤمنوا.
[18, 19] {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} .
لما انقضى الكلام من إبطال زعمهم أن النبيء صلى الله عليه وسلم افترى القرآن ونسبه إلى الله. وتعجيزهم عن برهان لما زعموه، كر عليهم أن قد وضح أنهم المفترون على الله عدة أكاذيب، منها نفيهم أن يكون القرآن منزلا من عنده.
فعطفت جملة: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى} على جملة: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} [هود: 17] لبيان استحقاقهم النار على كفرهم بالقرآن لأنهم كفروا به افتراء على الله إذ نسبوا القرآن إلى غير من أنزله، وزعموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم افتراه، فكانوا بالغين غاية الظلم حتى لقد يسأل عن وجود فريق أظلم منهم سؤال إنكار يؤول إلى معنى النفي، أي لا أحد أظلم. وقد تقدم نظيره في قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ} في سورة البقرة[114]. وفي سورة الأعراف[37] في قوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ} .
وافتراؤهم على الله هو ما وضعوه من دين الشرك، كقولهم: إن الأصنام شفعاؤهم عند الله، وقولهم في كثير من أمور دينهم {وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} [الأعراف: 28]. وقال تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [المائدة: 103] أي إذ يقولون: أمرنا الله بذلك.
وجملة: {أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ} استئناف. وتصديرها باسم الإشارة للتنبيه على أنهم أحرياء بما سيرد بعد اسم الإشارة من الخبر بسبب ما قبل اسم الإشارة من الوصف، وهذا أشد الظلم كما تقدم في {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} في سورة البقرة[5].
ولما يؤذن به اسم الإشارة من معنى تعليل ما قبله فيما بعده علم أن عرضهم على ربهم عرض زجر وانتقام.

والعرض إذا عدي بحرف "على" أفاد معنى الإحضار بإرادة.
واختيار وصف السبب للإيماء إلى القدرة عليهم.
وعطف فعل "يقول" على فعل "يعرضون" الذي هو خبر، فهو عطف على جزء الجملة السابقة وهو هنا ابتداء عطف جملة على جملة فكلا الفعلين مقصود بالإخبار عن اسم الإشارة.
والمعنى أولئك يعرضون على الله للعقاب ويعلن الأشهاد بأنهم كذبوا على ربهم فضحا لهم.
والأشهاد: جمع شاهد بمعنى حاضر،أو جمع شهيد بمعنى المخبر بما عليهم من الحق. وهؤلاء الأشهاد من الملائكة.
واستحضارهم بطريق اسم الإشارة لتمييزهم للناس كلهم حتى يشتهر ما سيخبر به عن حالهم، والمقصود من ذلك شهرتهم بالسوء وافتضاحهم.
والإتيان بالموصول في الخبر عنهم إيماء إلى سببية ذلك الوصف الذي في الصلة فيما يرد عليهم من الحكم وهو {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} ، على أن المقصود تشهيرهم دون الشهادة. والمقصود من إعلان هذه الصفة التشهير والخزي لا إثبات كذبهم لأن إثبات ذلك حاصل في صحف أعمالهم ولذلك لم يسند العرض إلى أعمالهم وأسند إلى ذواتهم في قوله: {أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ} .
وجملة: {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} من بقية قول الأشهاد. وافتتاحها بحرف التنبيه يناسب مقام التشهير. والخبر مستعمل في الدعاء خزيا وتحقيرا لهم، ومما يؤيد أنه من قول الأشهاد وقوع نظيره في سورة الأعراف[44] مصرحا فيه بذلك {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} الآية.
وقوله: {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} تقدم نظيره في سورة الأعراف[45].
وضمير المؤنث في قوله: {يَبْغُونَهَا} عائد إلى سبيل الله لأن سبيل يجوز اعتباره مؤنثا.
والمعنى: أنهم يبغون أن تصير سبيل الله عوجاء، فعلم أن سبيل الله مستقيمة وأنهم

يحاولون أن يصيروها عوجاء لأنهم يريدون أن يتبع النبيء صلى الله عليه وسلم دينهم ويغضبون من مخالفته إياه. وهنا انتهى كلام الأشهاد لأن نظيره الذي في سورة الأعراف[44] في قوله: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} الآية انتهى بما يماثل آخر هذه الآية.
واختصت هذه الآية على نظيرها في الأعراف بزيادة "هم" في قوله: {هُمْ كَافِرُونَ} وهو توكيد يفيد تقوي الحكم لأن المقام هنا مقام تسجيل إنكارهم البعث وتقريره إشعارا بما يترقبهم من العقاب المناسب فحكي به من كلام الأشهاد ما يناسب هذا، وما في سورة الأعراف حكاية لما قيل في شأن قوم أدخلوا النار وظهر عقابهم فلا غرض لحكاية ما فيه تأكيد من كلام الأشهاد، وكلا المقالتين واقع وإنما يحكي البليغ فيما يحكيه ما له مناسبة لمقام الحكاية.
[20] {أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ}
{أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ}
استئناف بياني ناشئ عن الاقتصار في تهديدهم على وصف بعض عقابهم في الآخرة فإن ذلك يثير في نفس السامع أن يسأل: هل هم سالمون من عذاب الدنيا. فأجيب بأنهم لم يكونوا معجزين في الدنيا، أي لا يخرجون عن مقدرة الله على تعذيبهم في الدنيا إذا اقتضت حكمته تعجيل عذابهم.
وإعادة الإشارة إليهم بقوله: "أولئك " بعد أن أشير إليهم بقوله: {أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِم} لتقرير فائدة اسم الإشارة السابق. والمعنى: أنهم يصيرون إلى حكم ربهم في الآخرة ولم يكونوا معجزيه أن يعذبهم في الدنيا متى شاء تعذيبهم ولكنه أراد إمهالهم.
والمعجز هنا الذي أفلت ممن يروم إضراره. وتقدم بيانه عند قوله تعالى: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} في سورة الأنعام[134].
والأرض: الدنيا. وفائدة ذكره أنهم لا ملجأ لهم من الله لو أراد الانتقام منهم فلا يجدون موضعا من الأرض يستعصمون به. فهذا نفي للملاجئ والمعاقل التي يستعصم فيها الهارب. وعندي أن مقارنة "في الأرض" ب"معجزين" جرى مجرى المثل في القرآن

كما في قوله تعالى: {وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ} [الأحقاف: 32] ولعله مما جرى كذلك في كلام العرب كما يؤذن به قول إياس ابن قبيصة الطائي من شعراء الجاهلية:
ألم تر أن الأرض رحب فسيحة ... فهل تعجزني بقعة من بقاعها
{وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ} .
يجوز أن يكون المراد بالأول الأنصار، أي ما لهم ناصر ينصرهم من دون الله. فجمع لهم نفي سببي النجاة من عذاب القادر وهما المكان الذي لا يصل إليه القادر أو معارضة قادر آخر إياه يمنعه من تسليط عقابه. و {مِنْ دُونِ اللَّهِ} متعلق ب"أولياء" لما في الولي هنا ومن معاني الحائل والمباعد بقوله: {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً} [النساء: 119].
ويجوز أن يراد بالأولياء الأصنام التي تولوها، أي أخلصوا لا المحبة والعبادة.
ومعنى نفي الأولياء عنهم بهذا المعنى نفي أثر هذا الوصف، أي لم تنفعهم أصنامهم وآلهتهم.
و {مِنْ دُونِ اللَّهِ} على هذا الوجه بمعنى من غير الله، ف"دون" اسم غير ظرف، و"من" الجارة ل"دون" زائدة تزاد في الظروف غير المتصرفة، و"من" الجارة ل"أولياء" زائدة لاستغراق الجنس المنفي، أي ما كان لهم فرد من أفراد جنس الأولياء.
والعذاب المضاعف هو عذاب الآخرة بقرينة قوله: {لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ} المشعر بتأخير العذاب عنهم في الدنيا لا عن عجز.
{يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ}
خبر عن اسم الإشارة. ويجوز أن تكون جملة: {لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ} خبرا أولا وجملة: {يُضَاعَفُ} خبرا ثانيا. ويجوز أن تكون جملة: {لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ} حالا وجملة: {يُضَاعَفُ} خبرا أول.
{مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ}
يجوز أن يكون هذا خبرا عن اسم الإشارة أو حالا منه فتكون استطاعة السمع

المنفية عنهم مستعارة لكراهيتهم سماع القرآن وأقوال النبيء صلى الله عليه وسلم كما نفيت الإطاقة في قول الأعشى:
وهل تطيق وداعا أيها الرجل
أراد بنفي إطاقة الوداع عن نفسه أنه يحزن لذلك الحزن من الوداع فأشبه الشيء غير المطاق وعبر هنا بالاستطاعة لأن النبيء صلى الله عليه وسلم كان يدعوهم إلى استماع القرآن فيعرضون لأنهم يكرهون أن يسمعوه. قال تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا} [الجاثية: 8] {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26] لأنهم لو سمعوا ووعوا لاهتدوا لأن الكلام المسموع مشتمل على تركيب الأدلة ونتائجها فسماعه كاف فيحصول الاهتداء.
والإبصار المنفى هو النظر في المصنوعات الدالة على الوحدانية، أي ما كانوا يوجهون أنظارهم إلى المصنوعات توجيه تأمل واعتبار بل ينظرون إليها نظر الغافل عما فيها من الدقائق، ولذلك لم يقل هنا: وما كانوا يستطيعون أن يبصروا، لأنهم كانوا يبصرونها ولكن مجرد الإبصار غير كاف في حصول الاستدلال حتى يضم إليه عمل الفكر بخلاف السمع في قوله: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ} .
ويجوز أن تكون الجملة حالا ل"أولياء"، وسوغ كونها حالا من النكرة أن النكرة وقعت في سياق النفي. والمعنى: أنهم جعلوها آلهة لهم في حال أنها لا تستطيع السمع ولا الإبصار.
وإعادة ضمير جمع العقلاء على الأصنام على هذا الوجه منظور فيه إلى أن المشركين اعتقدوها تعقل، ففي هذا الإضمار مع نفي السمع والبصر عنها ضرب من التهكم بهم.
والإتيان بأفعال الكون في هذه الجمل أربع مرات ابتداء من قوله: {أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ} إلى قوله: {وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} لإفادة ما يدل عليه فعل الكون من تمكن الحدث المخبر به فقوله: {لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ} آكد من لا يعجزون وكذلك أخواته.
والاختلاف بين صيغ أفعال الكون إذ جاء أولها بصيغة المضارع والثلاثة بعده بصيغة الماضي لأن المضارع المجزوم بحرف "لم" له معنى المضي فليس المخالفة منها إلا تفننا.
[21] [22] {أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ لا

جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ} .
استئناف، واسم الإشارة هنا تأكيد ثان لاسم الإشارة في قوله: {أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ} [هود: 18].
والموصول في {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} مراد به الجنس المعروف بهذه الصلة، أي أن بلغكم أن قوما خسروا أنفسهم فهم المفترون على الله كذبا، وخسارة أنفسهم عدم الانتفاع بها في الاهتداء، فلما ضلوا فقد خسروها.
وتقدم الكلام على {خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} عند قوله تعالى: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} في سورة الأنعام[12].
والضلال: خطأ الطريق المقصود.
و {مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} ما كانوا يزعمونه من أن الأصنام تشفع لهم وتدفع عنهم الضر عند الشدائد، قال تعالى: {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأحقاف: 28].
وفي إسناد الضلال إلى الأصنام تهكم على أصحابها. شبهت أصنامهم بمن سلك طريقا ليلحق بمن استنجد به فضل في طريقه.
وجملة: {لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ} مستأنفة فذلكة ونتيجة للجمل المتقدمة من قوله: {أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ} لأن ما جمع لهم من الزج للعقوبة ومن افتضاح أمرهم ومن إعراضهم عن استماع النذر وعن النظر في دلائل الوحدانية يوجب اليقين بأنهم الأخسرون في الآخرة.
و"لا جرم" كلمة جزم ويقين جرت مجرى المثل، وأحسب أن "جرم" مشتق مما تنوسي، وقد اختلف أئمة العربية في تركيبها، وأظهر أقوالهم أن تكون "لا" من أول الجملة و"جرم" اسم بمعنى محالة أي لا محالة أو بمعنى بد أي لا بد. ثم يجيء بعدها أن واسمها وخبرها فتكون "أنّ" معمولة لحرف جر محذوف. والتقدير: لا جرم من أن الأمر كذا.ولما فيها من معنى التحقيق والتوثيق وتعامل معاملة القسم فيجيء بعدها في ما يصلح لجواب قسم نحو: لا جرم لأفعلن. قاله عمرو بن معد يكرب لأبي بكر.
وعبر عما لحقهم من الضر بالخسارة استعارة لأنه ضر أصابهم من حيث كانوا

يرجون المنفعة فهم مثل التجار الذين أصابتهم الخسارة من حيث أرادوا الربح.
وإنما كانوا أخسرين، أي شديدي الخسارة لأنهم قد اجتمع لهم من أسباب الشقاء والعذاب ما افترق بين الأمم الضالة. ولأنهم شقوا من حيث كانوا يحسبونه سعادة قال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف: 103, 104] فكانوا أخسرين لأنهم اجتمعت لهم خسارة الدنيا والآخرة.
وضمير {هُمُ الْأَخْسَرُونَ} ضمير فصل يفيد القصر، وهو قصر ادعائي، لأنهم بلغوا الحد الأقصى في الخسارة، فكأنهم انفردوا بالأخسرية.
[23] {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}
لما ذكر أحوال البالغين أقصى غايات الخسارة ذكر مقابلهم الذين بلغوا أعلى درجات السعادة. فالجملة مستأنفة استئنافا بيانيا لأن النفوس تشرئب عند سماع حكم الشيء إلى معرفة حكم ضده.
والإخبات: الخضوع والتواضع، أي أطاعوا ربهم أحسن طاعة.
وموقع {أُولَئِكَ} هنا مثل موقعه في الآية قبلها.
وجملة {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} في موقع البيان لجملة {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} لأن الخلود في المكان هو أحق الأحوال بإطلاق وصف الصاحب على الحال بذلك المكان إذ الأمكنة لا تقصد إلا لأجل الحلول فيها فتكون الجملة مستأنفة لبيان ما قبلها فمنزلتها منزلة عطف البيان، ولا تعرب في موضع خبر ثان عن اسم الإشارة. وقد تقدم نظيرها في سورة البقرة[82] في قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} . فعد إليه وزد إليه ما هنا.
[24] {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ} .
بعد أن تبين الاختلاف بين حال المشركين المفترين على الله كذبا وبين حال الذين

آمنوا وعملوا الصالحات في منازل الآخرة أعقب ببيان التنظير بين حالي الفريقين المشركين والمؤمنين بطريقة تمثيل ما تستحقه من ذم ومدح.
فالجملة فذلكة للكلام وتحصيل له وللتحذير من مواقعة سببه.
والمثل، بالتحريك: الحالة والصفة كما في قوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} الآية من سورة الرعد[35]، أي حالة الفريقين المشركين والمؤمنين تشبه حال الأعمى الأصم من جهة وحال البصير السميع من الجهة الأخرى، فالكلام تشبيه وليس استعارة لوجود كاف التشبيه وهو أيضا تشبيه مفرد لا مركب.
والفريقان هما المعهودان في الذكر في هذا الكلام، وهما فريق المشركين وفريق المؤمنين، إذ قد سبق ما يؤذن بهذين الفريقين من قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} [هود: 18]. ثم قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ} [هود: 23] الآية.
والفريق: الجماعة التي تفارق، أي يخالف حالها حال جماعة أخرى في عمل أو نحلة. وتقدم عند قوله تعالى: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} في سورة الأنعام[81].
شبه حال فريق الكفار في عدم الانتفاع بالنظر في دلائل وحدانية الله الواضحة من مخلوقاته بحال الأعمى، وشبهوا في عدم الانتفاع بأدلة القرآن بحال من هو أصم.
وشبه حال فريق المؤمنين في ضد ذلك بحال من كان سليم البصر، سليم السمع فهو في هدى ويقين من مدركاته.
وترتيب الحالين المشبه بهما في الذكر على ترتيب ذكر الفريقين فيما تقدم ينبي بالمراد من كل فريق على طريقة النشر المرتب. والترتيب في اللف والنشر هو الأصل والغالب.
وقد علم أن المشبهين بالأعمى والأصم هم الفريق المقول فيهم: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} [هود: 20].
والواو في قوله: {وَالْأَصَمِّ} للعطف على {الْأَعْمَى} عطف أحد المشبهين على الآخر. وكذلك الواو في قوله: {وَالسَّمِيعِ} للعطف على {وَالْبَصِيرِ} .

وأما الواو في قوله: {وَالْبَصِيرِ} فهي لعطف التشبيه الثاني على الأول، وهو النشر بعد اللف. فهي لعطف أحد الفريقين على الآخر، والعطف بها للتقسيم والقرينة واضحة.
وقد يظن الناظر أن المناسب ترك عطف صفة {الْأَصَمِّ} على صفة {الْأَعْمَى} كما لم يعطف نظيراتهما في قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} في سورة البقرة[8] ظنا بأن مورد الآيتين سواء في أن المراد تشبيه من جمعوا بين الصفتين. وذلك أحد وجهين ذكرهما صاحب الكشاف. وقد أجاب أصحاب حواشي الكشاف بأن العطف مبني على تنزيل تغاير الصفات منزلة تغاير الذوات. ولم يذكروا لهذا التنزيل نكتة ولعلهم أرادوا أنه مجرد استمال في الكلام كقول ابن زيابة:
يا لهف زيابة للحارب ال ... صابح فالغانم فالآيب
والوجه عندي في الداعي إلى عطف صفة {الْأَصَمِّ} على صفة {الْأَعْمَى} أنه ملحوظ فيه أن لفريق الكفار حالين كل حال منهما جدير بتشبيهه بصفة من تينك الصفتين على حدة، فهم يشبهون الأعمى في عدم الاهتداء إلى الدلائل التي طريق إدراكها البصر، ويشبهون الأصم في عدم فهم المواعظ النافعة التي طريق فهمها السمع، فهم في حالتين كل حال منهما مشبه به، ففي قوله تعالى: {كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ} تشبيهان مفرقان كقول امرئ القيس:
كأن قلوب الطير رطبا ويابسا
... لدى وكرها العناب والحشف البالي
والذي في الآية تشبيه معقولين بمحسوسين، واعتبار كل حال من حالي فريق الكفار لا محيد عنه لأن حصول أحد الحالين كاف في جر الضلال إليهم بله اجتماعهما، إذ المشبه بهما أمر عدمي فهو في قوة المنفي.
وأما الداعي إلى العطف في صفتي {الْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ} بالنسبة لحال فريق المؤمنين فبخلاف ما قررنا في حال فريق الكافرين لأن حال المؤمنين تشبه حالة مجموع صفتي {الْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ} ، إذ الاهتداء يحصل بمجموع الصفتين فلو ثبتت إحدى الصفتين وانتفت الأخرى لم يحصل الاهتداء إذ الأمران المشبه بهما أمران وجوديان، فهما في قوة الإثبات؛ فتعين أن الكون الداعي إلى عطف: {السَّمِيعِ} على {الْبَصِيرِ} في تشبيه حال فريق المؤمنين هو المزاوجة في العبارة لتكون العبارة عن حال المؤمنين مماثلة للعبارة عن حال الكافرين في سياق الكلام، والمزاوجة من محسنات الكلام ومرجعها إلى فصاحته.

وجملة {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً} واقعة موقع البيان للغرض من التشبيه وهو نفي استواء حالهما، ونفي الاستواء كناية عن التفضيل والمفضل منهما معلوم من المقام، أي معلوم تفضيل الفريق الممثل بالسميع والبصير على الفريق الممثل بالأعمى والأصم. والاستفهام إنكاري.
وانتصب {مَثَلاً} على التمييز، أي من جهة حالهما، والمثل: الحال.
والمقصود تنبيه المشركين لما هم فيه من الضلالة لعلهم يتداركون أمرهم فلذلك فرع عليه بالفاء جملة {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} .
والهمزة استفهام وإنكار انتفاء تذكرهم واستمرارهم في ضلالهم.
وقرأ الجمهور "تذكرون" بتشديد الذال. وأصله تتذكرون، فقلبت التاء دالا لقرب مخرجيهما وليتأتى الإدغام تخفيفا. وقرأه حفص، وحمزة، والكسائي بتخفيف الذال على حذف إحدى التاءين من أول الفعل.
وفي مقابلة {الْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ} ب {الْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ} محسن الطباق.
[25] [26] {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} .
انتقال من إنذار المشركين ووصف أحوالهم وما ناسب ذلك إلى موعظتهم بما أصاب المكذبين قبلهم من المصائب، وفي ذلك تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم بما لاقاه الرسل عليهم السلام قبله من أقوامهم.
فالعطف من عطف القصة على القصة وهي التي تسمى الواو الابتدائية.
وأكدت الجملة بلام القسم و {قَدْ} لأن المخاطبين لما غفلوا عن الحذر مما بقوم نوح مع مماثلة حالهم نزلوا منزلة المنكر لوقوع رسالته.
وقرأ نافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة {إِنِّي} بكسر الهمزة على أنه محكي بفعل قول محذوف في محل حال، أي قائلا.
وقرأه ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي، وأبو جعفر، ويعقوب، وخلف بفتح الهمزة على تقدير حرف جر وهو الباء للملابسة، أي أرسلناه متلبسا بذلك، أي بمعنى

المصدر المنسبك من "أني نذير"، أي متلبسا بالنذارة البينة.
وتقدم الكلام على نوح - عليه السلام - وقومه عند قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً} في آل عمران[33]. وعند قوله: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ } في سورة الأعراف[59].
وجملة: {أَلا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} مفسرة لجملة {أَرْسَلْنَا} لأن الإرسال فيه معنى القول دون حروفه، ويجوز كونها تفسيرا ل {نَذِيرٌ} لما في {نَذِيرٌ} من معنى القول، كقوله في سورة نوح[2, 3] {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ} . وهذا الوجه متعين على قراءة فتح همزة "أني" إذا اعتبرت "أن" تفسيرية. ويجوز جعل "أن" مخففة من الثقيلة فيكون بدلا من {أَنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} على قراءة -فتح الهمزة- واسمها ضمير شأن محذوفا، أي أنه لا تعبدوا إلا الله.
وجملة {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} تعليل ل {نَذِيرٌ} لأن شأن النذارة أن تثقل على النفوس وتخزهم فكانت جديرة بالتعليل لدفع حرج ما يلاقونه.
ووصف اليوم بالأليم مجاز عقلي، وهو أبلغ من أن يوصف العذاب بالأليم، لأن شدة العذاب لما بلغت الغاية جعل زمانه أليما، أي مؤلما.
وجملة {أَخَافُ عَلَيْكُمْ} ونحوها مثل أخشى عليك، تستعمل للتوقع في الأمر المظنون أو المقطوع به باعتبار إمكان الانفلات من المقطوع به، كقول لبيد:
أخشى على أربد الحتوف ولا
... أخشى عليه الرياح والمطرا
فيتعدى الفعل بنفسه إلى الخوف منه ويتعدى إلى المخوف عليه بحرف على كما في الآية وبيت لبيد.
و"العذاب" هنا نكرة في المعنى، لأنه أضيف إلى نكرة فكان محتملا لعذاب الدنيا وعذاب الآخرة. فأما عذاب الدنيا فليس مقطوعا بنزوله بهم ولكنه مظنون من نوح عليه السلام بناء على ما علمه من عناية الله بإيمان قومه وما أوحي إليه من الحرص في التبليغ، فعلم أن شأن ذلك أن لا يترك من عصوه دون عقوبة. ولذلك قال في كلامه الآتي: {إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ} [هود: 33] على ما يأتي هنالك. وكان العذاب شاملا لعذاب الآخرة أيضا إن بقوا على الكفر، وهو مقطوع به لأن الله يقرن الوعيد بالدعوة، فلذلك قال نوح عليه السلام في كلامه الآتي: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [هود: 33]، وقد تبادر إلى أذهان

قومه عذاب الدنيا لأنهم لا يؤمنون بالبعث فلذلك قالوا في كلامهم الآتي: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [هود: 32]. ولعل في كلام نوح - عليه السلام - ما تفيدهم أنه توعدهم بعذاب في الدنيا وهو الطوفان.
[27] {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} .
عطف قول الملأ من قومه بالفاء على فعل {أَرْسَلْنَا} [هود: 25] للإشارة إلى أنهم بادروه بالتكذيب والمجادلة الباطلة لما قال لهم: {إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [هود: 25] إلى آخره. ولم تقع حكاية ابتداء محاورتهم إياه ب"قال" مجردا عن الفاء كما وقع في الأعراف لأن ابتداء محاورته إياهم هنا لم يقع بلفظ القول فلم يحك جوابهم بطريقة المحاورات بخلاف آية الأعراف.
والملأ: سادة القوم. وتقدم عند قوله تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} في سورة الأعراف[60].
جزموا بتكذيبه فقدموا لذلك مقدمات استخلصوا منها تكذيبه، وتلك مقدمات باطلة أقاموها على ما شاع بينهم من المغالطات الباطلة التي روجها الإلف والعادة فكانوا يعدون التفاضل بالسؤدد وهو شرف مصطلح عليه قوامه الشجاعة والكرم، وكانوا يجعلون أسباب السؤدد أسبابا مادية جسدية، فيسودون أصحاب الأجسام البهجة كأنهم خشب مسندة لأنهم ببساطة مداركهم العقلية يعظمون حسن الذوات، ويسودون أهل الغنى لأنهم يطمعون في نوالهم، ويسودون الأبطال لأنهم يعدونهم لدفاع أعدائهم. ثم هم يعرفون أصحاب تلك الخلال إما بمخالطتهم وإما بمخالطة أتباعهم فإذا تسامعوا بسيد قوم ولم يعرفوه تعرفوا أتباعه وأنصاره، فإن كانوا من الأشراف والسادة علموا أنهم ما اتبعوه إلا لما رأوا فيه من موجبات السيادة؛ وهذه أسباب ملائمة لأحوال أهل الضلالة إذ لا عناية لهم بالجانب النفساني من الهيكل الإنساني.
فلما دعاهم نوح - عليه السلام - دعوة علموا منها أنه يقودهم إلى طاعته ففكروا وقدروا فرأوا الأسباب المألوفة بينهم للسؤدد مفقودة من نوح - عليه السلام - ومن الذين اتعبوه فجزموا بأنه غير حقيق بالسيادة عليهم فجزموا بتكذيبه فيما ادعاه من الرسالة بسيادة

للأمة وقيادة لها.
وهؤلاء لقصور عقولهم وضعف مداركهم لم يبلغوا إدراك أسباب الكمال الحق، فذهبوا يتطلبون الكمال من أعراض تعرض للناس بالصدفة من سعة مال، أو قوة أتباع، أو عزة قبيلة. وتلك أشياء لا يطرد أثرها في جلب النفع العام ولا إشعار لها بكمال صاحبها إذ يشاركه فيها أقل الناس عقولا، والحيوان الأعجم مثل البقرة بما في ضرعها من لبن، والشاة بما على ظهرها من صرف، بل غالب حالها أنها بضد ذلك.
وربما تطلبوا الكمال في أجناس غير مألوفة كالجن، أو زيادة خلقة لا أثر لها في عمل المتصف بها مثل جمال الصورة وكمال القامة، وتلك وإن كانت ملازمة لموصوفاتها لكنها لا تفيدهم أن يكونوا مصادر كمالات، فقد يشاركهم فيها كثير من العجماوات كالظباء والمها والطواويس، فإن ارتقوا على ذلك تطلبوا الكمال في أسباب القوة والعزة من بسطة الجسم وإجادة الرماية والمجالدة والشجاعة على لقاء العدو. وهذه أشبه بأن تعد في أسباب الكمال ولكنها مكملات للكمال الإنساني لأنها آلات لإنقاذ المقاصد السامية عند أهل العقول الراجحة والحكمة الإلهية كالأنبياء والملوك الصالحين وبدون ذلك تكون آلات لإنفاذ المقاصد السيئة مثل شجاعة أهل الحرابة وقطاع الطريق والشطار، ومثل القوة على خلع الأبواب لاقتحام منازل الآمنين.
وإنما الكمال الحق هو زكاء النفس واستقامة العقل، فهما السبب المطرد لإيصال المنافع العامة لما في هذا العالم، ولهما تكون القوى المنفذة خادمة كالشجاعة للمدافعين عن الحق والملجئين للطغاة على الخنوع إلى الدين، على أن ذلك معرض للخطأ وغيبة الصواب فلا يكون له العصمة من ذلك إلا إذا كان محفوفا بالإرشاد الإلهي المعصوم، وهو مقام النبوءة والرسالة.
فهؤلاء الكفرة من قوم نوح لما قصروا عن إدراك أسباب الكمال وتطلبوا الأسباب من غير مكانها نظروا نوحا عليه السلام وأتباعه فلم يروه من جنس غير البشر، وتأملوه وأتباعه فلم يروا في أجسامهم ما يميزهم عن الناس وربما كان في عموم الأمة من هم أجمل وجوها أو أطول أجساما.
من أجل ذلك أخطأوا الاستدلال فقالوا: {مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنَا} ، فأسندوا الاستدلال إلى الرؤية. والرؤية هنا رؤية العين لأنهم جعلوا استدلالهم ضروريا من المحسوس من أحوال الأجسام، أي ما نراك غير إنسان، وهو مماثل للناس لا يزيد عليهم

جوارح أو قوائم زائدة.
والبشر –محركة -: الإنسان ذكرا أو أنثى، واحدا كان أو جمعا. قال الراغب: "عبر عن الإنسان بالبشر اعتبارا بظهور بشرته وهي جلده من الشعر بخلاف الحيوانات التي عليها الصوف والشعر والوبر" أي والريش. والبشر مرادف الإنسان فيطلق كما يطلق الإنسان على الواحد والأكثر والمؤنث والمذكر. وقد يثنى كما في قوله تعالى: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} [المؤمنون: 47].
وقالوا: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} فجعلوا أتباع الناس المعدودين في عادتهم أراذل محقورين دليلا على أنه لا ميزة له على سادتهم الذين يلوذ بهم أشراف القوم وأقوياؤهم. فنفوا عنه سبب السيادة من جهتي ذاته وأتباعه، وذلك تعريض بأنهم لا يتبعونه لأنهم يترفعون عن مخالطة أمثالهم وأنه لو أبعدهم عنه لاتبعوه، ولذلك ورد بعده {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا} [هود: 29] الآية.
والأرذال: جمع أرذل المجعول اسما غير صفة كذلك على القياس، أو جمع رذيل على خلاف القياس. والرذيل: المحتقر. وأرادوا أنهم من لفيف القوم غير سادة ولا أثرياء. وإضافة أراذل إلى ضمير جماعة المتكلمين لتعيين القبيلة، أي أراذل قومنا. وعبر عنهم بالموصول والصلة دون أن يقال: إلا أراذلنا لحكاية أن في كلام الذين كفروا إيماء إلى شهرة أتباع نوح عليه السلام بين قومهم بوصف الرذالة والحقارة، وكان أتباع نوح عليه السلام من ضعفاء القوم ولكنهم من أزكياء النفوس ممن سبق لهم الهدى.
و {بَادِيَ} قرأه الجمهور بياء تحتية في آخره على أنه مشتق من بدا المقصور إذا ظهر، وألفه منقلبة عن الواو لما تحركت وانفتح ما قبلها، فلما صيغ منه وزن فاعل وقعت الواو متطرفة إثر كسرة فقلبت ياء. والمعنى فيما يبدو لهم من الرأي دون بحث عن خفاياه ودقائقه.
وقرأه أبو عمرو وحده بهمزة في آخره على أنه مشتق من البداء، وهو أول الشيء.
والمعنى: فيما يقع أول الرأي، أي دون إعادة النظر لمعرفة الحق من التمويه، ومآل المعنيين واحد.
والرأي: نظر العقل، مشتق من فعل رأي، كما استعمل رأي بمعنى ظن وعلم.

يعنون أن هؤلاء قد غرتهم دعوتك فتسرعوا إلى متابعتك ولو أعادوا النظر والتأمل لعلموا أنك لا تستحق أن تتبع.
وانتصاب {بَادِيَ الرَّأْيِ} بالنيابة عن الظرف، أي في وقت الرأي دون بحث عن خفيه، أو في الرأي الأول دون إعادة نظر.
وإضافة {بَادِيَ} إلى {الرَّأْيِ} من إضافة الصفة إلى الموصوف، ومعنى كلامهم: لا يبلث أن يرجع إلى متبعيك رشدهم فيعيدوا التأمل في وقت آخر ويكشف لهم خطؤهم.
ولما وصفوا كل فريق من التابع والمتبوع بما ينفي سيادة المتبوع وتزكية التابع جمعوا الوصف الشامل لهما. وهو المقصود من الوصفين المفرقين. وذلك قولهم: {وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ} فنفوا أن يكون لنوح عليه السلام وأتباعه فضل على الذين لم يؤمنوا به حتى يكون نوح عليه السلام سيدا لهم ويكون أتباعه مفضلين بسيادة متبوعهم.
والفضل: الزيادة في الشرف والكمال، والمراد هنا آثاره وعلاماته لأنها التي ترى، فجعلوا عدم ظهور فضل لهم عليهم دليلا على انتفاء فضلهم، لأن الشيء الذي لا تخفى آثاره يصح أن يجعل انتفاء رؤيتها دليلا على انتفائها إذ لو ثبتت لريئت.
وجملة {بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} إبطال للمنفي كله الدال على صدقه في دعواه بإثبات ضد المنفي، وهو ظنهم إياهم كاذبين لأنه إذا بطل الشيء ثبت ضده، فزعموا نوحا - عليه السلام - كاذبا في دعوى الرسالة وأتباعه كاذبين في دعوى حصول اليقين بصدق نوح - عليه السلام -، بل ذلك منهم اعتقاد باطل، وهذا الظن الذي زعموه مستند إلى الدليل المحسوس في اعتقادهم.
واستعمل الظن هنا في العلم كقوله: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ} وهو إطلاق شائع في الكلام.
[28] {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} .
فصلت جملة: {قَالَ يَا قَوْمِ} عن التي قبلها على طريقة حكاية الأقوال في المحاورات كما قدمناه عند قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} في سورة البقرة[30]، فهذه لما وقعت مقابلا لكلام محكي يقال فصلت الجملة

ولم تعطف بخلاف ما تقدم آنفا في قوله: {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ} [هود: 27].
وافتتاح مراجعته بالنداء لطلب إقبال أذهانهم لوعي كلامه، كما تقدم في نظيرها في سورة الأعراف، واختيار استحضارهم بعنوان قومه لاستنزال طائر نفورهم تذكيرا لهم بأنه منهم فلا يريد لهم إلا خيرا.
وإذ قد كان طعنهم في رسالته مدللا بأنهم ما رأوا له مزية وفضلا، وما رأوا أتباعه إلا ضعفاء قومهم وإن ذلك علامة كذبه وضلال أتباعه، سلك نوح عليه السلام في مجادلتهم مسلك إجمال لإبطال شبهتهم ثم مسلك تفصيل لرد أقوالهم، فأما مسلك الإجمال فسلك فيه مسلك القلب بأنهم إن لم يروا فيه وفي أتباعه ما يحمل على التصديق برسالته، فكذلك هو لا يستطيع أن يحملهم على رؤية المعاني الدالة على صدقه ولا يستطيع منع الذين آمنوا به من متابعته والاهتداء بالهدي الذي جاء به.
فقوله: {أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} إلى آخره. معناه إن كنت ذا برهان واضح، ومتصفا برحمة الله بالرسالة بالهدى فلم تظهر لكم الحجة ولا دلائل الهدى، فهل ألزمكم أنا وأتباعي بها، أي بالإذعان إليها والتصديق بها إن أنتم تكرهون قبولها. وهذا تعريض بأنهم لو تأملوا تأملا بريئا من الكراهية والعداوة لعلموا صدق دعوته.
و {أَرَأَيْتُمْ} ، استفهام عن الرؤية بمعنى الاعتقاد. وهو استفهام تقريري إذا كان فعل الرؤية غير عامل في مفرد فهو تقرير على مضمون الجملة السادة مسد مفعولي "رأيتم"، ولذلك كان معناه آيلا إلى معنى أخبروني، ولكنه لا يستعمل إلا في طلب من حاله حال من يجحد الخبر، وقد تقدم معناه في قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً} في سورة الأنعام[47].
وجملة: {إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} إلى قوله: {فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ} معترضة بين فعل {أَرَأَيْتُمْ} وما سد مسد مفعوليه.
والاستفهام في {أَنُلْزِمُكُمُوهَا} إنكاري، أي لا نكرهكم على قبولها، فعلق الإلزام بضمير البينة أو الرحمة. والمراد تعليقه بقبولها بدلالة القرينة.
والبينة: الحجة الواضحة، وتطلق على المعجزة، فيجوز أن تكون معجزته الطوفان، ويجوز أن تكون له معجزات أخرى لم تذكر، فإن بعثة الرسل - عليهم السلام - لا تخلو من معجزات.

والمراد بالرحمة نعمة النبوءة والتفضيل عليهم الذي أنكروه، مع ما صحبها من البينة لأنها من تمامها، فعطف "الرحمة" على "البينة" يقتضي المغايرة بينهما، وهي مغايرة بالعموم والخصوص لأن الرحمة أعم من البينة إذ البينة على صدقه من جملة الرحمة به، ولذلك لما أعيد الضمير في قوله: {فَعُمِّيَتْ} أعيد على "الرحمة" لأنها أعم.
و {عَلَيْكُمْ} متعلقة ب"عميت" وهو حرف تتعدى به الأفعال الدالة على معنى الخفاء، مثل: خفي عليك. ولما كان عمي في معنى خفي عدي ب"على"، وهو للاستعلاء المجازي أي التمكن، أي قوة ملازمة البينة والرحمة له.
واختيار وصف الرب دون اسم الجلالة للدلالة على أن إعطاءه البينة والرحمة فضل من الله أراد به إظهار رفقه وعنايته به.
ومعنى {فَعُمِّيَتْ} فخفيت، وهو استعارة، إذ شبهت الحجة التي لم يدركها المخاطبون كالعمياء في أنها لم تصل إلى عقولهم كما أن الأعمى لا يهتدي للوصول إلى مقصده فلا يصل إليه. ولما ضمن معنى: الخفاء عدي فعل "عميت" بحرف "على" تجريدا للاستعارة. وفي ضد هذه الاستعارة جاء قوله تعالى: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} [ الإسراء: 59]، أي آتيناهم آية واضحة لا يستطاع جحدها لأنها آية محسوسة، ولذلك سمي جحدهم إياها ظلما فقال: {فَظَلَمُوا بِهَا} [الإسراء: 59].
ومن بديع هذه الاستعارة هنا أن فيها طباقا لمقابلة قولهم في مجادلتهم: {مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَراً - وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ - وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ} [هود: 27]. فقابل نوح - عليه السلام - كلامهم مقابلة بالمعنى واللفظ إذ جعل عدم رؤيتهم من قبيل العمى.
وعطف "عميت" بفاء التعقيب إيماء إلى عدم الفترة بين إيتائه البينة والرحمة وبين خفائها عليهم. وهو تعريض لهم بأنهم بادروا بالإنكار قبل التأمل.
وجملة {أَنُلْزِمُكُمُوهَا} سادة مسد مفعولي {أَرَأَيْتُمْ} لأن الفعل علق عن العمل بدخول همزة الاستفهام.
وجواب الشرط محذوف دل عليه فعل {أَرَأَيْتُمْ} وما سد مسد مفعوليه. وتقدير الكلام: قال يا قوم إن كنت على بينة من ربي إلى آخره أترون أنلزمكم قبول البينة وأنتم لها كارهون.
وجيء بضمير المتكلم المشارك هنا للإشارة إلى أن الإلزام لو فرض وقوعه لكان له

أعوان عليه وهم أتباعه فأراد أن لا يهمل ذكر أتباعه وأنهم أنصار له لو شاء أن يهيب بهم. والقصد من ذلك التنويه بشأنهم في مقابلة تحقير الآخرين إياهم.
والاستفهام إنكاري، أي ما كان لنا ذلك لأن الله لم يأمره بإكراههم إعراضا عن العناية بهم فترك أمرهم إلى الله، وذلك أشد في توقع العقاب العظيم.
والكاره: المبغض لشيء. وعدي باللام إلى مفعوله لزيادة تقوية تعلق الكراهية بالرحمة أو البينة، أي وأنتم مبغضون قبولها لأجل إعراضكم عن التدبر فيها.
وتقديم المجرور على {كَارِهُونَ} لرعاية الفاصلة مع الاهتمام بشأنها. والمقصود من كلامه بعثهم على إعادة التأمل في الآيات، وتخفيض نفوسهم، واستنزالهم إلى الإنصاف. وليس المقصود معذرتهم بما صنعوا ولا العدول عن تكرير دعوتهم.
[29] {وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ} .
إعادة الخطاب ب {يَا قَوْمِ} تأكيد لما في الخطاب به أول مرة من المعاني التي ذكرناها، وأما عطف النداء بالواو مع أن المخاطب به واحد وشأن عطف النداء أن يكون عند اختلاف المنادى كقول المعري:
يا ساهر البرق أيقظن راقد السمر ... لعل بالجزع أعوانا على السهر
ثم قال:
ويا أسيرة حجليها أرى سفها ... حمل الحلي بمن أعيا عن النظر
فأما إذا اتحد المنادى فالشأن عدم العطف كما في قصة إبراهيم عليه السلام في سورة مريم [42- 45] {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ} - إلى قوله -: {وَلِيّاً} فقد تكرر النداء أربع مرات.
فتعين هنا أن يكون العطف من مقول نوح عليه السلام لا من حكاية الله عنه. ثم يجوز أن يكون تنبيها على اتصال النداءات بعضها ببعض، وأن أحدها لا يغني عن الآخر، ولا يكون ذلك من قبيل الوصل لأن النداء افتتاح كلام فجملته ابتدائية وعطفها إذا عطفت مجرد عطف لفظي. ويجوز أن يكون ذلك تفننا عربيا في الكلام عند تكرر النداء استحسانا للمخالفة بين التأكيد والمؤكد. ويسجئ نظير هذا قريبا في قصة هود - عليه السلام - وقصة

شعيب - عليه السلام -.
ومنه ما وقع في سورة المؤمن [30-33] في قوله: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} ثم قال: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} [غافر: 38-41]. فعطف "ويا قوم" تارة وترك العطف أخرى.
وأما مع اختلاف الوصف المنادى به فقد جاء العطف وهو أظهر لما في اختلاف وصف المنادى من شبه التغاير كقول قيس بن عاصم، وقيل حاتم الطائي:
أيا ابنة عبد الله وابنة مالك ... ويا ابنة ذي البردين والفرس الورد
فقوله:
"ويا بنة ذي البردين"
عطف نداء على نداء والمنادى بهما واحد.
لما أظهر لهم نوح عليه السلام أنه يجبرهم على إيمان يكرهونه انتقل إلى تقريبهم من النظر في نزاهة ما جاءهم به، وأنه لا يريد نفعا دنيويا بأنه لا يسألهم على ما جاء به ما لا يعطونه إياه فماذا يتهمونه حتى يقطعون بكذبه.
والضمير في قوله: {عَلَيْهِ} عائد إلى المذكور بمنزلة اسم الإشارة في قوله: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} فإن الضمير يعامل معاملة اسم الإشارة.
وجملة {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} احتراس لأنه لما نفى أن يسألهم مالا، والمال أجر، نشأ توهم أنه لا يسأل جزاء على الدعوة فجاء بجملة {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} احتراسا. والمخالفة بين العبارتين في قوله: {مَالاً} و {أَجْرِيَ} تفيد أنه لا يسأل من الله مالا ولكنه يسأل ثوابا. والأجر: العوض على عمل. ويسمى ثواب الله أجرا لأنه جزاء على العمل الصالح.
وعطف جملة: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا} على جملة: {لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً} لأن مضمونها كالنتيجة لمضمون المعطوف عليها لأن نفي طمعه في المخاطبين يقتضي أنه لا يؤذي أتباعه لأجل إرضاء هؤلاء. ولذلك عبر عن أتباعه بطريق الموصولية بقوله: {الَّذِينَ

آمَنُوا} لما يؤذن به الموصول من تغليط قومه في تعريضهم له بأن يطردهم بما أنهم لا يجالسون أمثالهم إيذانا بأن إيمانهم يوجب تفضيلهم على غيرهم الذين لم يؤمنوا به والرغبة فيهم فكيف يطردهم. وهذا إبطال لما اقتضاه قولهم: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} [هود: 27] من التعريض بأنهم لا يماثلونهم في متابعته.
والطرد: الأمر بالبعد عن مكان الحضور تحقيرا أو زجرا. وتقدم عند قوله تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} في سورة الأنعام [52].
وجملة: {إِنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ} في موضع التعليل لنفي أن يطردهم بأنهم صائرون إلى الله في الآخرة فمحاسب من يطردهم، هذا إذا كانت الملاقاة على الحقيقة، أو أراد أنهم يدعون ربهم في صلاتهم فينتصر الله لهم إذا كانت الملاقاة مجازية، أو أنهم ملاقو ربهم حين يحضرون مجلس دعوتي لأني أدعو إلى الله لا إلى شيء يخصني فهم عند ملاقاتي كمن يلاقون ربهم لأنهم يتلقون ما أوحى الله إلي. وهذا كقول النبيء صلى الله عليه وسلم في قصة النفر الثلاثة الذين حضروا مجلس النبيء صلى الله عليه وسلم فجلس أحدهم، واستحيا أحدهم، وأعرض الثالث "أما الأول فآوى إلى الله فآواه الله، وأما الثاني فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الثالث فأعرض فأعرض الله عنه".
وتأكيد الخبر ب"إن" أن كان اللقاء حقيقة لرد إنكار قومه البعث، وإن كان اللقاء مجازا فالتأكيد للاهتمام بذلك اللقاء. وقد زيد هذا التأكيد تأكيدا بجملة {وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ} .
وموقع الاستدراك هو أن مضمون الجملة ضد مضمون التي قبلها وهي جملة: {إِنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ} أي لا ريب في ذلك ولكنكم تجهلون فتحسبونهم لا حضرة لهم وأن لا تبعة في طردهم.
وحذف مفعول {تَجْهَلُونَ} للعلم به، أي تجهلون ذلك.
وزيادة قوله: {قَوْماً} يدل على أن جهلهم صفة لازمة لهم كأنها من مقومات قوميتهم كما تقدم عند قوله تعالى: {لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} في سورة البقرة [164].
[30] {وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} .
إعادة {وَيَا قَوْمِ} مثل إعادته في الآية قبلها.

والاستفهام إنكاري. والنصر: إعانة المقاوم لضد أو عدو، وضمن معنى الإنجاء فعدي ب"من" أي من يخلصني، أي ينجيني من الله، أي من عقابه، لأن طردهم إهانة تؤذيهم بلا موجب معتبر عند الله، والله لا يحب إهانة أوليائه.
وفرع على ذلك إنكارا على قومه في إهمالهم التذكر، أي التأمل في الدلائل ومدلولاتها، والأسباب ومسبباتها.
وقرأ الجمهور {تَذَكَّرُونَ} - بتشديد الذال -.
وأصل {تَذَكَّرُونَ} ، تتذكرون فأبدلت التاء ذالا وأدغمت في الذال. وقرأه حفص: "تذكرون" بتخفيف الذال وبحذف إحدى التاءين. والتذكر تقدم عند قوله: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا} في آخر سورة الأعراف [201].
[31] {وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ} .
هذا تفصيل لما رد به مقالة قومه إجمالا، فهم استدلوا على نفي نبوته بأنهم لم يروا له فضلا عليهم، فجاء هو في جوابهم بالقول بالموجب أنه لم يدع فضلا غير الوحي إليه كما حكى الله عن أنبيائه عليهم السلام في قوله: {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [إبراهيم: 11] ، ولذلك نفى أن يكون قد ادعى غير ذلك. واقتصر على بعض ما يتوهمونه من لوازم النبوءة وهو أن يكون أغنى منهم، أو أن يعلم الأمور الغائبة. والقول بمعنى الدعوى، وإنما نفى ذلك بصيغة المضارع للدلالة على أنه منتف عنه ذلك في الحال، فأما انتفاؤه في الماضي فمعلوم لديهم حيث لم يقله، أي لا تظنوا أني مضمر ادعاء ذلك وإن لم أقله.
والخزائن: جمع خزانة بكسر الخاء وهي بيت أو مشكاة كبيرة يجعل لها باب، وذلك لخزن المال أو الطعام، أي حفظه من الضياع. وذكر الخزائن هنا استعارة مكنية؛ شبهت النعم والأشياء النافعة بالأموال النفيسة التي تدخر في الخزائن، ورمز إلى ذلك بذكر ما هو من روادف المشبه به وهو الخزائن. وإضافة {خَزَائِنُ} إلى {اللَّهِ} لاختصاص الله بها.

وأما قوله: {وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} فنفي لشبهة قولهم: {مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنَا} ولذلك أعاد معه فعل القول، لأنه إبطال دعوى أخرى ألصقوها به، وتأكيده ب {إن} لأنه قول لا يقوله قائله إلا مؤكدا لشدة إنكاره لو ادعاه مدع، فلما نفاه نفى صيغة إثباته. ولما أراد إبطال قولهم: { وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} [هود: 27] أبطله بطريقة التغليط لأنهم جعلوا ضعفهم وفقرهم سببا لانتفاء فضلهم، فأبطله بأن ضعفهم ليس بحائل بينهم وبين الخير من الله إذ لا ارتباط بين الضعف في الأمور الدنيوية من فقر وبين الحرمان من نوال الكمالات النفسانية والدينية، وأعاد معه فعل القول لأنه أراد من القول معنى غير المراد منه فيما قيل، فالقول هنا كناية عن الاعتقاد لأن المرء إنما يقول ما يعتقد، وهي تعريضية بالمخاطبين لأنهم يضمرون ذلك ويقدرونه.
والازدراء: من الزري وهو الاحتقار وإلصاق العيب، فأصله: ازتراء، قلبت تاء الافتعال دالا بعد الزاي كما قلبت في الازدياد.
وإسناد الازدراء إلى الأعين وإنما هو من أفعال النفس مجاز عقلي لأن الأعين سبب الازدراء غالبا، لأن الازدراء ينشأ عن مشاهدة الصفات الحقيرة عند الناظر. ونظيره إسناد الفرق إلى الأعين في قول الأعشى:
كذلك فافعل ما حييت إذا شتوا ... وأقدم إذا ما أعين الناس تفرق
ونظيره قوله تعالى: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ} [الأعراف: 116] وإنما سحروا عقولهم ولكن الأعين ترى حركات السحرة فتؤثر رؤيتها على عقول المبصرين.
وجيء في النفي بحرف {لَنْ} الدالة على تأكيد نفي الفعل في المستقبل تعريضا بقومه لأنهم جعلوا ضعف أتباع نوح عليه السلام وفقرهم دليلا على انتفاء الخير عنهم فاقتضى دوام ذلك ما داموا ضعفاء فقراء، فلسان حالهم يقول: لن ينالوا خيرا، فكان رده عليهم بأنه لا يقول: {لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً} .
وجملة: {اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ} تعليل لنفي أن يقول: {لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً} . ولذلك فصلت الجملة ولم تعطف، ومعنى {اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ} أن أمرهم موكول إلى ربهم الذي علم ما أودعه في نفوسهم من الخير والذي وفقهم إلى الإيمان، أي فهو يعاملهم بما يعلم منهم. وتعليقه بالنفوس تنبيه لقومه على غلطهم في قولهم: {وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ} [هود: 27] بأنهم نظروا إلى الجانب الجثماني الدنيوي وجهلوا الفضائل

والكمالات النفسانية والعطايا اللدنية التي الله أعلم بها.
واسم التفضيل هنا مسلوب المفاضلة مقصود منه شدة العلم.
وجملة: {إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ} تعليل ثان لنفي أن يقول: {لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً} . و {إذن} حرف جواب وجزاء مجازاة للقول، أي لو قلت ذلك لكنت من الظالمين، وذلك أنه يظلمهم بالقضاء عليهم بما لا يعلم من حقيقتهم، ويظلم نفسه باقتحام القول بما لا يصدق.
وقوله: {مِنَ الظَّالِمِينَ} أبلغ في إثبات الظلم من إني ظالم، كما تقدم في قوله تعالى: {قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} في سورة البقرة [67].
وأكده بثلاث مؤكدات: إن ولام الابتداء وحرف الجزاء، تحقيقا لظلم الذين رموا المؤمنين بالرذالة وسلبوا الفضل عنهم، لأنه أراد التعريض بقومه في ذلك. وسيجيء في سورة الشعراء ذكر موقف آخر لنوح عليه السلام مع قومه في شأن هؤلاء المؤمنين.
[32, 33] {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} فصلت هذه الجملة فصلا على طريقة حكاية الأقوال في المحاورات كما تقدم في قصة آدم عليه السلام من سورة البقرة.
والمجادلة: المخاصمة بالقول وإيراد الحجة عليه، فتكون في الخير كقوله: { يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} [هود: 74]، ويكون في الشر كقوله: {وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197]. وإنما أرادوا أنه جادلهم فيما هو شر فعبر عن مرادهم بلفظ الجدال الموجه، وقد مضى عند قوله تعالى: {وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} في سورة النساء [107].
وهذا قول وقع عقب مجادلته المحكية في الآية قبل هذه، فتعين أن تلك المجادلة كانت آخر مجادلة جادلها قومه، وأن ضجرهم وسآمتهم من تكرار مجادلته حصل ساعتئذ فقالوا قولهم هذا، فكانت كلها مجادلات مضت. وكانت المجادلة الأخيرة هي التي استفزت امتعاضهم من قوارع جدله حتى سئموا من تزييف معارضتهم وآرائهم شأن المبطل إذا دمغته الحجة، ولذلك أرادوا طي بساط الجدال، وأرادوا إفحامه بأن طلبوا تعجيل ما توعدهم من عذاب ينزل بهم كقوله آنفا: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [هود: 26].

وقولهم: {فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} خبر مستعمل في التذمر والتضجير والتأييس من الاقتناع أجابهم بالمبادرة لبيان العذاب لأن ذلك أدخل في الموعظة فبادر به ثم عاد إلى بيان مجادلته.
والإتيان بالشيء: إحضاره. وأرادوا به تعجيله وعدم إنظاره.
و {مَا تَعِدُنَا} مصداقه {عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [هود: 26].
والقصر في قوله: {إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ} قصر قلب بناء على ظاهر طلبهم، حملا لكلامهم على ظاهره على طريقة مجاراة الخصم في المناظرة، وإلا فإنهم جازمون بتعذر أن يأتيهم بما وعدهم لأنهم يحسبونه كاذبا وهم جازمون بأن الله لم يتوعدهم، ولعلهم كانوا لا يؤمنون بوجود الله. وقوله: {إِنْ شَاءَ} احتراس راجع إلى حمل العذاب على عذاب الدنيا.
ومعنى {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} ما أنتم بناجين وفالتين من الوعيد، يريد أن العذاب واقع لا محالة. ولعل نوحا عليه السلام لم يكن له وحي من الله بأن يحل بهم عذاب الدنيا، فلذلك فوضه إلى المشيئة؛ أو لعله كان يوقن بنزوله بهم فيكون التعليق ب {إن شاء} منظورا فيه إلى كون العذاب معجلا أو مؤخرا.
[34] {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} .
عطف على وعظهم بحلول العذاب وتوقعه بيان حال مجادلته إياهم التي امتعضوا منها بأنها مجادلة لنفعهم وصلاحهم، وفي ذلك تعريض بتحميقهم وتسفيه آرائهم حيث كرهوا ما هو نفع لهم.
والنصح: قول أو عمل يريد صاحبه صلاح المعمول لأجله. وأكثر ما يطلق على الأقوال النافعة المنقذة من الأضرار. ويكون بالعمل كقوله تعالى: {إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} في سورة التوبة [91]. وفي الحديث "الدين النصيحة لله ولرسوله" أي الإخلاص في العمل لهما لأن الله لا ينبأ بشيء لا يعلمه. وقد تقدم في قوله تعالى: {وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} في سورة الأعراف [79]. فالمراد بالنصح هنا هو ما سماه قومه بالجدال، أي هو أولى بأن يسمى نصحا لأن الجدال يكون للخير

والشر كما تقدم.
وجملة الشرط في قوله: { إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} هي المقصود من الكلام، فجوابها في معنى قوله: {لا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي} ، ولكن نظم الكلام بني على الإخبار بعدم نفع النصح اهتماما بذلك فجعل معطوفا على ما قبله وأتي بالشرط قيدا له.
وأما قوله: {إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ} فهو شرط معترض بين الشرط وبين دليل جوابه لأنه ليس هو المقصود من التعليق ولكنه تعليق على تعليق، وغير مقصود به التقييد أصلا، فليس هذا من الشرط في الشروط المفروضة في مسائل الفقه وأصوله في نحو قول القائل: إن أكلت إن شربت فأنت طالق، لأنها مفروضة في شرط مقيد لشرط آخر. على أن المقصود إذا اجتمع فعلا الشرطين حصل مضمون جوابهما. ومثلوه بقول الشاعر:
إن تستغيثوا بنا إن تذعروا تجدوا ... منا معاقل عز زانها كرم
فأما قوله: {إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} فكل من الشرطين مقصود التعليق به. وقد حذف جواب أحدهما لدلالة جواب الآخر عليه.
والتعليق بالشرط في قوله: {إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ} مؤذن بعزمه على تجديد النصح في المستقبل لأن واجبه هو البلاغ وإن كرهوا ذلك.
وأشار بقوله: {إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} إلى ما هم فيه من كراهية دعوة نوح عليه السلام سببه خذلان الله إياهم ولولاه لنفعهم نصحه، ولكن نوحا عليه السلام لا يعلم مراد الله من إغوائهم ولا مدى استمرار غوايتهم فلذلك كان عليه أن ينصح لهم إلى نهاية الأمر.
وتقدم الكلام على دخول اللام على مفعول "نصح" عند قوله تعالى: {إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} في براءة [91].
والإغواء: جعل الشخص ذا غواية، وهي الضلال عن الحق والرشد.
وجملة {هُوَ رَبُّكُمْ} ابتدائية لتعليمهم أن الله ربهم إن كانوا لا يؤمنون بوجود الله، أو لتذكيرهم بذلك إن كانوا يؤمنون بوجوده ويشركون معه ودا، وسواعا، ويغوث، ويعوق، ونسرا.
والتقديم في {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} للاهتمام ولرعاية الفاصلة وليس للقصر، لأنهم لا

يؤمنون بالبعث أصلا بله أن يزعموا أنهم يحضرون إلى الله وإلى غيره.
وتمثلت فيما قصة الله من قصة نوح - عليه السلام - مع قومه صورة واضحة من تفكير أهل العقول السخيفة التي ران عليها الضلال فقلب أفكارها إلى اعوجاج فظيع، وهي الصورة التي تتمثل في الأمم التي لم يثقف عقولها الإرشاد الديني فغلب عليها الانسياق وراء داعي لبهوى، وامتلكها الغرور بظن الخطأ صوابا، ومصانعة من تصأصئ عين بصيرته بلائح من النور، من يدعوه إلى إغماضها وعدمت الوازع النفساني فلم تعبأ إلا بالصور المحوسة ولم تهتم إلا باللذات وحب الذات ولا تزن بمعيار النقد الصحيح خلوص النفوس من دخل النقائص.
[35] {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ} .
جملة معترضة بين جملة أجزاء القصة وليست من القصة، ومن جعلها منها فقد أبعد، وهي تأكيد لنظيرها السابق في أول السورة. ومناسبة هذا الاعتراض أن تفاصيل القصة التي لا يعلمها المخاطبون تفاصيل عجيبة تدعو المنكرين إلى أن يتذكروا إنكارهم ويعيدوا ذكره.
وكون ذلك مطابقا لما حصل في زمن نوح عليه السلام وشاهدة به كتب بني إسرائيل يدل على صدق النبيء صلى الله عليه وسلم لأن علمه بذلك مع أميته وبعد قومه عن أهل الكتاب آية على أنه وحي من الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
فالاستفهام الذي يؤذن به حرف {أَمْ} المختص بعطف الاستفهام استفهام إنكاري. وموقع الإنكار بديع لتضمنه الحجة عليهم.
و {أَمْ} هنا للإضراب للانتقال من غرض لغرض.
وضمير النصب عائد إلى القرآن المفهوم من السياق.
وجملة: {قُلْ} مفصولة عن التي قبلها لوقوعها في سياق المحاورة كما تقدم غير مرة.
وأمر النبيء صلى الله عليه وسلم أن يعرض عن مجادلتهم بالدليل لأنهم ليسوا بأهل لذلك إذ قد أقيمت عليهم الحجة غير مرة فلم تغن فيهم شيئا، فلذلك أجيبوا بأنه لو فرض ذلك لكانت

تبعة افترائه على نفسه لا ينالهم منها شيء.
وتقديم "عليّ" مؤذن بالقصر، أي إجرامي علي لا عليكم فلماذا تكثرون ادعاء الافتراء كأنكم ستؤاخذون بتبعته. وهذا جار على طريقة الاستدراج لهم والكلام المنصف.
ومعنى جعل الافتراء فعلا للشرط: أنه إن كان وقع الافتراء كقوله: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} [المائدة: 116].
ولما كان الافتراء على الله إجراما عدل في الجواب عن التعبير بالافتراء مع أنه المدعى إلى التعبير بالإجرام فلا حاجة إلى تقدير: فعلي إجرام افترائي.
وذكر حرف "على" مع الإجرام مؤذن بأن الإجرام مؤاخذ به كما تقتضيه مادة الإجرام.
والإجرام: اكتساب الجرم وهو الذنب، فهو يقتضي المؤاخذة لا محالة.
وجملة {وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ} معطوفة على جملة الشرط والجزاء، فهي ابتدائية. وظاهرها أنها تذييل للكلام وتأييده بمقابله، أي فإجرامي علي لا عليكم كما أن إجرامكم لا تنالني منه تبعة. ولا حاجة إلى تقدير المضاف في قوله: {مِمَّا تُجْرِمُونَ} أي تبعته وإنما هو تقدير معنى لا تقدير إعراب، والشيء يؤكد بضده كقوله: {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون: 2, 3].
وفي هذه الجملة توجيه بديع وهو إفادة تبرئة نفسه من أن يفتري القرآن فإن افتراء القرآن دعوى باطلة ادعوها عليه فهي إجرام منهم عليه، فيكون المعنى وأنا بريء من قولكم الذي تجرمونه علي باطلا.
[36] {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} .
عطف على جملة {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا} [هود: 32] أي بعد ذلك أوحي إلي نوح - عليه السلام -: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} .
واسم "أن" ضمير الشأن دال على أن الجملة بعده أمرهم خطير لأنها تأييس له من إيمان بقية قومه كما دل حرف {لَنْ} المفيد تأييد النفي في المستقبل، وذلك شديد عليه

ولذلك عقب بتسليته بجملة {فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} فالفاء لتفريع التسلية على الخبر المحزن.
والابتئاس افتعال من البؤس وهو الهم والحزن، أي لا تحزن.
ومعنى الافتعال هنا التأثر بالبؤس الذي أحدثه الخبر المذكور. {وَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} هو إصرارهم على الكفر واعتراضهم عن النظر في الدعوة إلى وقت أن أوحي إليه هذا. قال الله تعالى حكاية عنه: {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلَّا فِرَاراً وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً} [نوح: 6, 7].
وتأكيد الفعل ب {قَدْ} في قوله: {مَنْ قَدْ آمَنَ} للتنصيص على أن المراد من حصل منهم الإيمان يقينا دون الذين ترددوا.
[37] {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} .
لما كان نهيه عن الابتئاس بفعلهم مع شدة جرمهم مؤذنا بأن الله ينتصر له أعقبه بالأمر بصنع الفلك لتهيئة نجاته ونجاة من قد أمن به من العذاب الذي قدره الله لقومه. كما حكى الله عنه: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ} [القمر: 10, 11] الآية. فجملة {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ} عطف على جملة {فَلا تَبْتَئِسْ} [هود: 36] وهي بذلك داخلة في الموحى به فتدل على أن الله أوحى إليه كيفية صنع الفلك كما دل عليه قوله: {وَوَحْيِنَا} ، ولذلك فنوح - عليه السلام - أول من صنع الفلك ولم يكن ذلك معروفا للبشر، وكان ذلك منذ قرون لا يحصيها إلا الله تعالى، ولا يعتد بما يوجد في الإسرائيليات من إحصاء قرونها.
والفلك اسم يستوي فيه المفرد والجمع. وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ} في سورة البقرة [164].
والباء في {بِأَعْيُنِنَا} للملابسة وهي في موضع الحال من ضمير "اصنع".
والأعين استعارة للمراقبة والملاحظة. وصيغة الجمع في {أَعْيُنِنَا} بمعنى المثنى، أي بعينينا، كما في قوله: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48]. والمراد الكناية بالمعنى المجازي عن لازمه وهو الحفظ من الخلل والخطأ في الصنع.

والمراد بالوحي هنا الوحي الذي به وصف كيفية صنع الفلك كما دل عليه عطفه على المجرور بباء الملابسة المتعلقة بالأمر بالصنع.
ودل النهي في قوله: {وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا} . على أن كفار قومه سينزل بهم عقاب عظيم لأن المراد بالمخاطبة المنهي عنها المخاطبة التي ترفع عقابهم فتكون لنفعهم كالشفاعة. وطلب تخفيف العقاب لا مطلق المخاطبة. ولعل هذا توطئة لنهيه عن مخاطبته في شأن ابنه الكافر قبل أن يخطر ببال نوح عليه السلام سؤال نجاته حتى يكون الرد عليه حين السؤال ألطف.
وجملة {إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} إخبار بما سيقع وبيان لسبب الأمر بصنع الفلك. وتأكيد الخبر بحرف التوكيد في هذه الآية مثال لتخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر بتنزيل غير السائل المتردد منزلة السائل إذا قدم إليه من الكلام مما يلوح إلى جنس الخبر فيستشرفه لتعيينه استشرافا يشبه استشراف السائل عن عين الخبر.
[38] [39] {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} .
عطف على جملة {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ} [هود: 37]. أي أوحي إليه {اصْنَعِ الْفُلْكَ} ، وصنع الفلك. وإنما عبر عن صنعه بصيغة المضارع لاستحضار الحالة لتخييل السامع أن نوحا عليه السلام بصدد العمل، كقوله: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً} [فاطر: 9] وقوله: {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} [هود: 74].
وجملة {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ} في موضع الحال من ضمير {يَصْنَعُ}.
و {كُلَّمَا} كلمة مركبة من "كل" و"ما" الظرفية المصدرية. وانتصبت "كل" على الظرفية لأنها اكتسبت الظرفية بالإضافة إلى الظرف، وهو متعلق {سَخِرُوا} ، وهو جوابه من جهة أخرى. والمعنى: وسخر منه ملأ من قومه في كل زمن مرورهم عليه.
و"لما" في "كلما" من العموم مع الظرفية أشربت معنى الشرط مثل "إذا" فاحتاجت إلى جواب وهو {سَخِرُوا مِنْهُ} .
وجملة {قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا} حكاية لما يجيب به سخريتهم، أجريت على طريقة

فعل القول إذا وقع في سياق المحاورة، لأن جملة {سَخِرُوا} تتضمن أقوالا تنبني عن سخريتهم أو تبين عن كلام في نفوسهم.
وجمع الضمير في قوله: {مِنَّا} يشير إلى أنهم يسخرون منه في عمل السفينة ومن الذين آمنوا به إذ كانوا حوله واثقين بأنه يعمل عملا عظيما، وكذلك جمعه في قوله: {فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ} .
والسخرية: الاستهزاء. وهو تعجب باحتقار واستحماق. وتقدم عند قوله تعالى: {فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ} في أول سورة الأنعام [10]، وفعلها يتعدى ب"من".
وسخريتهم منه حمل فعله على العبث بناء على اعتقادهم أن ما يصنعه لا يأتي بتصديق مدعاه.
وسخرية نوح - عليه السلام - والمؤمنين. من الكافرين من سفه عقولهم وجهلهم بالله وصفاته. فالسخريتان مقترنتان في الزمن.
وبذلك يتضح وجه التشبيه في قوله: {كَمَا تَسْخَرُونَ} فهو تشبيه في السبب الباعث على السخرية، وإن كان بين السببين بون.
ويجوز أن تجعل كاف التشبيه مفيدة معنى التعليل كالتي في قوله تعالى: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 198] فيفيد التفاوت بين السخريتين، لأن السخرية المعللة أحق من الأخرى، فالكفار سخروا من نوح عليه السلام لعمل يجهلون غايته، ونوح عليه السلام وأتباعه سخروا من الكفار لعلمهم بأنهم جاهلون في غرور، كما دل عليه قوله: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} فهو تفريع على جملة {فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ} أي سيظهر من هو الأحق بأن يسخر منه.
وفي إسناد "العلم" إلى ضمير المخاطبين دون الضمير المشارك بأن يقال: فسوف نعلم، إيماء إلى أن المخاطبين هم الأحق بعلم ذلك. وهذا يفيد أدبا شريفا بأن الواثق بأنه على الحق لا يزعزع ثقته مقابلة السفهاء أعماله النافعة بالسخرية، وأن عليه وعلى أتباعه أن يسخروا من الساخرين.
والخزي: الإهانة، وقد تقدم عند قوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} في آخر سورة آل عمران [192].

والعذاب المقيم: عذاب الآخرة، أي من يأتيه عذاب الخزي في الحياة الدنيا، والعذاب الخالد في الآخرة.
و {مَنْ} استفهامية معلقة لفعل العلم عن العمل، وحلول العذاب: حصوله؛ شبه الحصول بحلول القادم إلى المكان وهو إطلاق شائع حتى ساوى الحقيقة.
[40] {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} .
{حَتَّى} غاية ل {يَصْنَعُ الْفُلْكَ} [هود: 38] أي يصنعه إلى زمن مجيء أمرنا، ف {إِذَا} ظرف مضمن معنى الشرط ولذلك جيء له بجواب. وهو جملة: {قُلْنَا احْمِلْ} . وجعل الشرط وجوابه غاية باعتبار ما في حرف الشرط من معنى الزمان وإضافته إلى جملة الشرط، فحصل معنى الغاية عند حصول مضمون جملة الجزاء. وهو نظم بديع بإيجازه.
و {حَتَّى} ابتدائية.
والأمر هنا يحتمل أمر التكوين بالطوفان، ويحتمل الشأن وهو حادث الغرق، وإضافته إلى اسم الجلالة لتهويله بأنه فوق ما يعرفون.
ومجيء الأمر: حصوله.
والفوران: غليان القدر، ويطلق على نبع الماء بشدة، تشبيها بفوران ماء في القدر إذا غلي، وحملوه على ما جاء في آيات أخرى من قصة نوح عليه السلام مثل قوله: {وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً} [القمر: 12]. ولذلك لم يتضح لهم إسناده إلى التنور. فإن التنور هو الموقد الذي ينضج فيه الخبز، فكثرت الأقوال في تفسير التنور بلغت نسبة أقوال منها ما لا ينبغي قوله. ومنها ما له وجه وهو متفاوت.
فمن المفسرين من أبقى التنور على حقيقته، فجعل الفوران خروج الماء من أحد التنانير وأنه علامة جعلها الله لنوح عليه السلام إذ فار الماء من تنوره علم أن ذلك مبدأ الطوفان فركب الفلك وأركب من معه.
ومنهم من حمل التنور على المجاز المفرد ففسره بسطح الأرض. أي فار الماء من جميع الأرض حتى صار بسطح الأرض كفوهة التنور.
ومنهم من فسره بأعلى الأرض.

ومنهم من حمل {فَارَ} و {التَّنُّورُ} على الحقيقة، وأخرج الكلام مخرج التمثيل لاشتداد الحال، كما يقال: حمي الوطيس. وقع حكاية ذلك في تفسير ابن عطية في هذه الآية وفي الكشاف في تفسير سورة المؤمنون: وأنشد الطبرسي قول الشاعر. وهو النابغة الجعدي:
تفور علينا قدرهم فنديمها ... ونفثأها عنا إذا قدرها غلى
يريد بالقدر الحرب، ونفثأها، أي نسكنها، يقال: فثأ القدر إذا سكن غليانها بصب الماء فيها. وهذا أحسن ما حكي عن المفسرين.
والذي يظهر لي أن قوله: {وَفَارَ التَّنُّورُ} مثل لبلوغ الشيء إلى أقصى ما يتحمل مثله. كما يقال: بلغ السيل الزبى، وامتلأ الصاع، وفاضت الكأس وتفاقم.
والتنور: محفل الوادي، أي ضفته، فيكون مثل طما الوادي من قبيل بلغ السيل الزبى. والمعنى: بإن نفاذ أمرنا فيهم وبلغوا من طول مدة الكفر مبلغا لا يغتفر لهم بعد كما قال تعالى: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف: 55].
والتنور: اسم لموقد النار للخبز،. وزعمه الليث مما اتفقت فيه اللغات، أي كالصابون والسمور. ونسب الخفاجي في شفاء الغليل هذا إلى ابن عباس. وقال أبو منصور: كلام الليث يدجل على أنه في الأصل أعجمي.
والدليل على ذلك أنه فعول من تنر ولا نعرف تنر في كلام العرب لأنه مهمل، وقال غيره: ليس في كلام العرب نون قبل راء فإن نرجس معرب أيضا. وقد عد في الألفاظ المعربة الواقعة في القرآن. ونظمها ابن السبكي في شرحه على مختصر ابن الحاجب الأصلي ونسب ذلك إلى ابن دريد. قال أبو علي الفارسي: وزنه فعول. وعن ثعلب أنه عربي، قال: وزنه تفعول من النور "أي فالتاء زايدة" وأصله تنوور بواوين، فقلبت الواو الأولى همزة لانضمامها ثم حذفت الهمزة تخفيفا ثم شددت النون عوضا عما حذف أي مثل قوله تقضى البازي بمعنى تقضض.
وقرأ الجمهور {مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ} بإضافة {كُلِّ} إلى {زَوْجَيْنِ} .
والزوج: شيء يكون ثانيا لآخر في حالة. وأصله اسم لما ينضم إلى فرد فيصير زوجا له، وكل منهما زوج للآخر. والمراد ب {زَوْجَيْنِ} هنا الذكر والأنثى من النوع، كما يدل عليه إضافة {كُلِّ} إلى {زَوْجَيْنِ} ، أي احمل فيها من أزواج جميع الأنواع.

و {مِنْ} تبعيضية، و {اثْنَيْنِ} مفعول: {احْمِلْ} ، وهو بيان لئلا يتوهم أن يحمل كل زوجين واحدا منهما لأن الزوج هو واحد من اثنين متصلين، كما تقدم في قوله تعالى: {ثمانية أزواج} في سورة الأنعام [143]. ولئلا يحمل أكثر من اثنين من نوع لتضيق السفينة وتثقل.
وقرأه حفص: {مِنْ كُلٍّ} بتنوين {كُلٍّ} فيكون تنوين عوض عن مضاف إليه، أي من كل المخلوقات، ويكون {زَوْجَيْنِ} مفعول {احْمِلْ} ، ويكون {اثْنَيْنِ} صفة ل {زَوْجَيْنِ} أي لا تزد على اثنين.
وأهل الرجل قرابته وأهل بيته وهو اسم جمع لا واحد له. وزوجه أول من يبادر من اللفظ، ويطلق لفظ الأهل على امرأة الرجل قال تعالى: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ} [القصص: 29]، وقال: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ} [آل عمران: 121] أي من عند عائشة -رضي الله عنها -.
و {مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} أي من مضى قول الله عليه، أي وعيده. فالتعريف في {الْقَوْلُ} للعهد، يعني إلا من كان من أهلك كافرا. وما صدق هذا إحدى امرأتيه المذكورة في سورة التحريم وابنه منها المذكور في آخر هذه القصة. وكان لنوح - عليه السلام - امرأتان.
وعدي {سَبَقَ} بحرف {عَلَي} لتضمين {سَبَقَ} معنى: حكم، كما عدي باللام في قوله: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} [الصافات: 171] لتضمينه معنى الالتزام النافع.
و {مَنْ آمَنَ} كل المؤمنين.
وجملة: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} اعتراض لتكميل الفائدة من القصة في قلة الصالحين. قيل: كان جميع المؤمنين به من أهله وغيرهم نيفا وسبعين بين رجال ونساء، فكان معظم حمولة السفينة من الحيوان.
[41] {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} .
عطف على جملة {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا} [هود: 40] أي قلنا له ذلك. وقال نوح عليه السلام لمن أمر بحمله {ارْكَبُوا} .
وضمير {فِيهَا} لمفهوم من المقام، أي السفينة كقوله: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ

وَدُسُرٍ} [القمر: 13] أي سفينة.
وعدي فعل {ارْكَبُوا} ب"في" جريا على الفصيح فإنه يقال: ركب الدابة إذا علاها. وأما ركوب الفلك فيعدى ب"في" لأن إطلاق الركوب عليه مجاز، وإنما هو جلوس واستقرار فلا يقال: ركب السفينة، فأرادوا التفرقة بين الركوب الحقيقي والركوب المشابه له، وهي تفرقة حسنة.
والباء في {بِسْمِ اللَّهِ} للملابسة مثل ما تقدم في تفسير البسملة، وهي في موضع الحال من ضمير {ارْكَبُوا} أي ملابسين لاسم الله، وهي ملابسة القول لقائله، أي قائلين: باسم الله.
و {مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} بضم الميمين فيهما في قراءة الجمهور. وهما مصدرا أجرى السفينة إذا جعلها جارية، أي سيرها بسرعة، وأرساها إذا جعلها راسية أي واقفة على الشاطئ. يقال: رسا إذا ثبت في المكان.
وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، وخلف "مَجراها " فقط بفتح الميم على أنه مفعل للمصدر أو الزمان أو المكان. وأما {مُرْسَاهَا} - فبضم الميم - مثل الجمهور، لأنه لا يقال: مرساها - بفتح الميم -. والعدول عن الفتح في {مُرْسَاهَا} في كلام العرب مع أنه في القياس مماثل "مَجراها" وجهة دفع اللبس لئلا يلتبس باسم المرسى الذي هو المكان المعد لرسو السفن.
ويجوز أن يكون {مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} في محل نصب بالنيابة عن ظرف الزمان، أي وقت إجرائها ووقت إرسائها. ويجوز أن يكون في محل رفع على الفاعلية بالجار والمجرور لما فيه من معنى الفعل، وهو رأي نحاة الكوفة، وما هو ببعيد.
وجملة {إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} تعليل للأمر بالركوب المقيد بالملابسة لذكر اسم الله تعالى، ففي التعليل بالمغفرة والرحمة رمز إلى أن الله وعده بنجاتهم، وذلك من غفرانه ورحمته. وأكد ب {إِنَّ} ولام الابتداء تحقيقا لأتباعه بأن الله رحمهم بالإنجاء من الغرق.
[42] [43] {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ, قَالَ سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} .

{وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ}
جملة معترضة دعا إلى اعتراضها هنا ذكر "مجراها" إتماما للفائدة وصفا لعظم اليوم وعجيب صنع الله تعالى في تيسير نجاتهم.
وقدم المسند إليه على الخبر الفعلي لتقوي الحكم وتحقيقه.
وعدل عن الفعل الماضي إلى المضارع لاستحضار الحالة مثل قوله تعالى: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً} [فاطر: 9].
والموج: ما يرتفع من الماء على سطحه عند اضطرابه، وتشبيهه بالجبال في ضخامته. وذلك إما لكثرة الرياح التي تعلو الماء وإما لدفع دفقات الماء الواردة من السيول والتقاء الأدوية الماء السابق لها، فإن حادث الطوفان ما كان إلا عن مثل زلازل تفجرت بها مياه الأرض وأمطار جمة تلتقي سيولها مع مياه العيون فتختلط وتجتمع وتصب في الماء الذي كان قبلها حتى عم الماء جميع الأرض التي أراد الله إغراق أهلها، كما سيأتي.
{وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ قَالَ سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} .
عطفت جملة {وَنَادَى} على أعلق الجمل بها اتصالا وهي {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا} [هود: 41] لأن نداءه ابنه كان قبل جريان السفينة في موج كالجبال، إذ يتعذر إيقافها بعد جريها لأن الراكبين كلهم كانوا مستقرين في جوف السفينة.
وابن نوح هذا هو ابن رابع في أبنائه من زوج ثانية لنوح كان اسمها "واعلة" غرقت، وأنها المذكورة في آخر سورة التحريم. قيل كان اسم ابنه "ياما" وقيل اسمه: "كنعان" وهو غير كنعان بن حام جد الكنعانيين. وقد أهملت التوراة الموجودة الآن ذكر هذا الابن وقضية غرقه وهل كان ذا زوجة أو كان عزبا.
وجملة {وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ} حال من {ابْنَهُ} . والمعزل: مكان العزلة أي الانفراد، أي في معزل عن المؤمنين إما لأنه كان لم يؤمن بنوح - عليه السلام - فلم يصدق بوقوع الطوفان، وإما لأنه ارتد فأنكر وقوع الطوفان فكفر بذلك لتكذيبه الرسول.

وجملة: {يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا} بيان لجملة {نَادَى} وهي إرشاد له ورفق به.
وأما جملة {وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} فهي معطوفة على جملة {ارْكَبْ مَعَنَا} لإعلامه بأن إعراضه عن الركوب يجعله في صف الكفار إذ لا يكون إعراضه عن الركوب إلا أثرا لتكذيبه بوقوع الطوفان. فقول -نوح - عليه السلام - له: {ارْكَبْ مَعَنَا} كناية عن دعوته إلى الإيمان بطريقة العرض والتحذير. وقد زاد ابنه دلالة علة عدم تصديقه بالطوفان قوله متهكما: {قَالَ سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} .
و"بني" تصغير "ابن" مضافا إلى ياء المتكلم. وتصغيره هنا تصغير شفقة بحيث يجعل كالصغير في كونه محل الرحمة والشفقة. فأصله بنيو، لأن أصل ابن بنو، فلما حذفوا منه الواو لثقلها في آخر كلمة ثلاثية نقص عن ثلاثة أحرف فعوضوه همزة وصل في أوله، ومهما عادت له الواو المحذوفة لزوال داعي الحذف طرحت همزة الوصل، ثم لما أريد إضافة المصغر إلى ياء المتكلم لزم كسر الواو ليصير بنيوي، فلما وقعت الواو بين عدوتيها الياءين قلبت ياء وأدغمت في ياء التصغير فصار بنيي بياءين في آخره أولاهما مشددة، ولما كان المنادى المضاف إلى ياء المتكلم يجوز حذف ياء المتكلم منه وإبقاء الكسرة صار {بُنَيَّ} - بكسر الياء - مشددة في قراءة الجمهور. وقرأه عاصم {بُنَيَّ} بفتح ياء المتكلم المضاف إليها لأنها يجوز فتحها في النداء، وأصله يا بنيي بياءين أولاهما مكسورة مشددة وهي ياء التصغير مع لام الكلمة التي أصلها الواو ثم اتصلت بها ياء المتكلم وحذفت الياء الأصلية.
وفصلت جملة {قَالَ سَآوي} وجملة: {قَالَ لا عَاصِمَ} لوقوعهما في سياق المحاورة.
وقوله: {سَآوي إِلَى جَبَلٍ} قد كان قبل أن يبلغ الماء أعالي الجبال. و {آوي} : أنزل، ومصدره: الأوي - بضم الهمزة وكسر الواو وتشديد الياء -.
وجملة {يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} إما صفة ل"جبل" أي جبل عال، وإما استئناف بياني، لأنه استشعر أن نوحا عليه السلام يسأل لماذا يأوي إلى جبل إذ ابنه قد سمعه حين ينذر الناس بطوفان عظيم فظن الابن أن أرفع الجبال لا يبلغه الماء، وأن أباه ما أراد إلا بلوغ الماء غالب المرتفعات دون الجبال الشامخات.
ولذلك أجابه نوح - عليه السلام - بأنه {لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} ، أي مأموره

وهو الطوفان {إِلَّا مَنْ رَحِمَ} .
واستثناء {مَنْ رَحِمَ} من مفعول يتضمنه "عاصم" إذ العاصم يقتضي معصوما وهو المستثنى منه. وأراد ب {مَنْ رَحِمَ} من قدر الله له النجاة من الغرق برحمته. وهذا التقدير مظهره الوحي بصنع الفلك والإرشاد إلى كيفية ركوبه.
والموج: اسم جمع موجة، وهي: مقادير من ماء البحر أو النهر تتصاعد على سطح الماء من اضطراب الماء بسبب شدة رياح، أو تزايد مياه تنصب فيه ويقال: ماج البحر إذا اضطرب ماؤه. وقالوا: ماج القوم، تشبيها لاختلاط الناس واضطرابهم باضطراب البحر.
وحيلولة الموج بينهما في آخر المحاورة يشير إلى سرعة فيضان الماء في حين المحاولة.
وأفاد قوله: {فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} أنه غرق وغرق معه من توعده بالغرق، فهو إيجاز بديع.
[44] {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} .
لما أقاد قوله: {فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود: 43] وقوع الغرق الموعود به على وجه الإيجاز كما علمت انتقل الكلام إلى انتهاء الطوفان.
وبناء فعل {قِيلَ} للمفعول هنا اختصار لظهور فاعل القول، لأن مثله لا يصدر إلا من الله. والقول هنا أمر التكوين. وخطاب الأرض والسماء بطريقة النداء وبالأمر استعارة لتعلق أمر التكوين بكيفيات أفعال في ذاتيهما وانفعالهما بذلك كما يخاطب العاقل بعمل يعمله فيقبله امتثالا وخشية. فالاستعارة هنا في حرف النداء وهي تبعية.
والبلع حقيقته اجتياز الطعام والشراب إلى الحلق بدون استقرار في الفم. وهو هنا استعارة لإدخال الشيء في باطن شيء بسرعة، ومعنى: بلع الأرض ماءها دخوله في باطنها بسرعة كسرعة ازدراد البالع بحيث لم يكن جفاف الأرض بحرارة شمس أو رياح بل كان بعمل أرضي عاجل، وقد يكون ذلك بإحداث الله زلازل وخسفا انشقت به طبقة الأرض في مواضع كثيرة حتى غارت المياه التي كانت على سطح الأرض.

وإضافة {الْمَاءُ} إلى "الأرض" لأدنى ملابسة لكونه على وجهها.
وإقلاع السماء مستعار لكف نزول المطر منها لأنه إذا كف نزول المطر لم يخلف الماء الذي غار في الأرض، ولذلك قدم الأمر بالبلع لأنه السبب الأعظم لغيض الماء.
وفي قران الأرض والسماء محسن الطباق، وفي مقابلة "ابلعي" ب {أَقْلِعِي} محسن الجناس.
{وَغِيضَ الْمَاءُ} مغن عن التعرض إلى كون السماء أقلعت والأرض بلعت، وبني فعل {غِيضَ الْمَاءُ} للنائب لمثل ما بني فعل {وَقِيلَ} باعتبار سبب الغيض، أو لأنه لا فاعل له حقيقة لأن حصوله مسبب عن سبب والغيض: نضوبه في الأرض. والمراد: الماء الذي نشأ بالطوفان زائدا على بحار الأرض وأوديتها. وقضاء الأمر: إتمامه. وبناء الفعل للنائب للعلم بأن فاعله ليس غير الله تعالى.
والاستواء: الاستقرار.
والجودي: اسم جبل بين العراق وأرمينا، يقال له اليوم أراراط . وحكمة إرسائها على جبل أن جانب الجبل أمكن لاستقرار السفينة عند نزول الراكبين لأنها تخف عند ما ينزل معظمهم فإذا مالت استندت إلى جانب الجبل.
و {بُعْداً} مصدر "بعد" على مثال كرم وفرح، منصوب على المفعولية المطلقة. وهو نائب عن الفعل كما هو الاستعمال في مقام الدعاء ونحوه، كالمدح والذم مثل: تبا له، وسحقا، وسقيا، ورعيا، وشكرا. والبعد كناية عن التحقير بلازم كراهية الشيء، فلذلك يقال: بعد أو نحوه لمن فقد، إذا كان مكروها كما هنا. ويقال نفي البعد للمرغوب فيه وإن كان قد بعد، فيقال للميت العزيز كما قال مالك بن الريب:
يقولون لا تبعد وهم يدفنوني ... وأين مكان البعد إلا مكانيا
وقالت فاطمة بنت الأحجم:
إخوتي لا تبعدوا أبدا ... وبلى والله قد بعدوا
والأكثر أن يقال: "بعِد" بكسر العين في البعد المجازي بمعنى الهلاك والموت، و {بعُد} المضموم العين في البعد الحقيقي.
والقوم الظالمون هم الذين كفروا فغرقوا. والقائل: "بعداً" قد يكون من قول الله جريا

على طريقة قوله: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ} ، ويجوز أن يقوله المؤمنون تحقيرا للكفار وتشفيا منهم واستراحة، فبني فعل {وَقِيلَ} إلى المجهول لعدم الحاجة إلى معرفة قائله.
قال في "الكشاف" بعد أن ذكر نكتا مما أتينا على أكثره "ولما ذكرنا من المعاني والنكت استفصح علماء البيان هذه الآية ورقصوا لها رؤوسهم لا لتجانس الكلمتين {ابْلَعِي} و {أَقْلِعِي} وإن كان لا يخلي الكلام من حسن فهو كغير الملتفت إليه بإزاء تلك المحاسن التي هي اللب وما عداها قشور"اهـ.
وقد تصدى السكاكي في "المفتاح" في بحث البلاغة والفصاحة لبيان بعض خصائص البلاغة في هذه الآية، تقفية على الكلام "الكشاف" فيما نرى فقال:
"والنظر في هذه الآية من أربع جهات، من جهة علم البيان، ومن جهة علم المعاني...1 ومن جهة الفصاحة المعنوية ومن جهة الفصاحة اللفظية. أما النظر فيها من جهة علم البيان... فنقول: إنه عز وجل لما أراد أن يبين معنى أردنا أن نرد ما انفجر من الأرض إلى بطنها.. وأن نقطع طوفان السماء.. وأن نغيض الماء.. وأن نقضي أمر نوح - عليه السلام - وهو إنجاز ما كنا وعدنا من إغراق قومه.. وأن نسوي السفينة على الجودي.. وأبقينا الظلمة غرقى بني الكلام على تشبيه المراد بالمأمور... وتشبيه تكوين المراد بالأمر.. وأن السماوات والأرض... تابعة لإرادته... كأنها عقلاء مميزون... ثم بنى على تشبيهه هذا نظم الكلام فقال جل وعلا {قِيلَ} على سبيل المجاز عن الإرادة الواقع بسببها قول القائل، وجعل قرينة المجاز الخطاب للجماد...فقال: {يا أَرْضُ - ويَا سَمَاءُ} ... ثم استعار لغور الماء في الأرض البلع.. للشبه بينهما وهو الذهاب إلى مقر خفي، ثم استعار الماء للغذاء استعارة بالكناية تشبيها له بالغذاء لتقوي الأرض بالماء في الإنبات... تقوي الآكل بالطعام، وجعل قرينة الاستعارة لفظه (ابلعي)... ثم أمر على سبيل الاستعارة للشبه المقدم ذكره، وخاطب في الأمر ترشيحا لاستعارة النداء، ثم قال: {مَاءَكِ} بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز تشبيها لاتصال الماء بالأرض باتصال الملك بالمالك واختار ضمير الخطاب لأجل الترشيح، ثم اختار لاحتباس المطر الإقلاع الذي هو ترك الفاعل الفعل للشبه بينهما في عدم ما كان، ثم أمر على سبيل الاستعارة وخاطب في الأمر قائلا: {أَقْلِعِي} لمثل ما تقدم في {ابْلَعِي} ، ثم قال: {وَغِيضَ الْمَاءُ
ـــــــ
(1) النكت مواضع كلام اختصرناه.

وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ}. {وقيل بُعْدًا} فلم يصرح بمن غاض الماء، ولا بمن قضى الأمر وسوى السفينة وقال: {بُعْدًا} ، كما لم يصرح بقائل: {يَا أَرْضُ} و {يَا سَمَاءُ} في صدر الآية، سلوكا في كل واحد من ذلك لسبيل الكناية أن تلك الأمور العظام لا تتأتى إلا من ذي قدرة لا يكتنه قهار لا يغالب، فلا مجال لذهاب الوهم إلى أن يكون غيره جلت عظمته قائلا: {يَا أَرْضُ} و {يَا سَمَاءُ} ، ولا غائضا ما غاض، ولا قاضيا مثل ذلك الأمر الهائل، أو أن تكون تسوية السفينة وإقرارها بتسوية غيره وإقراره.
ثم ختم الكلام بالتعريض تنبيها لسالكي مسلكهم في تكذيب الرسل ظلما لأنفسهم لا غير ختم إظهار لمكان السخط ولجهة استحقاقهم إياه وأن قيامة الطوفان وتلك الصورة الهائلة إنما كانت لظلمهم.
وأما النظر فيها من حيث علم المعاني، وهو النظر في إفادة كل كلمة فيها، وجهة كل تقديم وتأخير فيما بين جملها، لذلك أنه اختير {يَا} دون سائر أخواتها لكونها أكثر في الاستعمال وأنها دالة على بعد المنادى الذي يستدعيه مقام إظهار العظمة.. وهو تبعيد المنادى المؤذن بالتهاون به...
واختير {ابْلَعِي} على ابتلعي لكونه أخصر، ولمجيء حظ التجانس بينه وبين {أَقْلِعِي} أوفر. وقيل: {مَاءَكِ} بالإفراد دون الجمع لما كان في الجمع من صورة الاستكثار المتأتي عنها مقام إظهار الكبرياء والجبروت.. وإنما لم يقل: {ابْلَعِي} بدون المفعول أن لا يستلزم تركه ما ليس بمراد من تعميم الابتلاع للجبال والتلال والبحار وساكنات الماء بأسرهن نظرا إلى مقام ولأ رود امر الذي هو مقام عظمة وكبرياء.
ثم إذ بين المراد اختصر الكلام مع {أَقْلِعِي} احترازا عن الحشو المستغنى عنه، وهو الوجه في أن لم يقل: قيل يا أرض ابلعي ماءك فبلعت، ويا سماء أقلعي فأقلعت.. وكذا الأمر دون أن يقال: أمر نوح عليه السلام وهو إنجاز ما كان الله وعد نوحا عليه السلام من إهلاك قومه لقصد الاختصار والاستغناء بحرف التعريف عن ذلك.
ثم قيل: {بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} دون أن يقال: ليبعد القوم، طلبا للتأكيد مع الاختصار وهو نزول {بُعْداً} منزلة ليبعدوا بعدا، مع فائدة أخرى وهي استعمال اللام مع "بعدا" الدال على معنى أن البعد يحق لهم.
ثم أطلق الظلم ليتناول كل نوع حتى يدخل فيه ظلمهم أنفسهم لزيادة التنبيه على

فظاعة سوء اختيارهم في تكذيب الرسل.
وأما من حيث النظر إلى ترتيب الجمل، فذلك أنه قد قدم النداء على الأمر، فقيل: {يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي} دون أن يقال: ابلعي يا أرض وأقلعي يا سماء، جريا على مقتضى اللازم فيمن كان مأمورا حقيقة من تقديم التنبيه ليتمكن الأمر الوارد عقيبه في نفس المنادى قصدا بذلك لمعنى الترشيح.
ثم قدم أمر الأرض على أمر السماء وابتدئ به لابتداء الطوفان منها، ونزولها لذلك في القصة منزلة الأصل، والأصل بالتقديم أولى، ثم أتبعها قوله: {وَغِيضَ الْمَاءُ} لاتصاله بغيضية الماء وأخذه بحجزتها؛ ألا ترى أصل الكلام: قيل يا أرض ابلعي ماءك فبلعت ماءها ويا سماء أقلعي عن إرسال الماء فأقلعت عن إرساله، وغيض الماء النازل من السماء فغاض، ثم أتبعه ما هو المقصود من القصة وهو قوله تعالى: {وَقُضِيَ الْأَمْرُ} أي أنجز الموعود.. ثم أتبعه حديث السفينة وهو قوله: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} ، ثم ختمت القصة بما ختمت ...وأما النظر فيها من جانب الفصاحة المعنوية فهي كما ترى نظم للمعاني لطيف وتأدية لها ملخصة مبينة، لا تعقيد يعثر الفكر في طلب المراد. ولا التواء يشيك الطريق إلى المرتاد، بل إذا جربت نفسك عند استماعها وجدت ألفاظها تسابق معانيها ومعانيها تسابق ألفاظها .
وأما النظر فيها من جانب الفصاحة اللفظية فألفاظها على ما ترى عربية مستعملة جارية على قوانين اللغة، سليمة عن التنافر، بعيدة عن البشاعة، عذبة على العذبات، سلسة على الأسلات...". هذه نهاية كلام المفتاح.
[45] [46- 47] {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} .
موقع الآية يقتضي أن نداء نوح عليه السلام هذا كان بعد استواء السفينة على الجودي نداء دعاه إليه داعي الشفقة فأراد به نفع ابنه في الآخرة بعد اليأس من نجاته في الدنيا، لأن الله أعلمه أنه لا نجاة إلا للذين يركبون السفينة، ولأن نوحا - عليه السلام - لما دعا ابنه إلى ركوب السفينة فأبى وجرت السفينة قد علم أنه لا وسيلة إلى نجاته فكيف

يسألها من الله فتعين أنه سأل له المغفرة ويدل لذلك قوله تعالى: {فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} كما سيأتي.
ويجوز أن يكون دعاء نوح - عليه السلام - هذا وقع قبل غرق الناس، أي نادى ربه أن ينجي ابنه من الغرق.
ويجوز أن يكون بعد غرق من غرقوا، أي نادى ربه أن يغفر لابنه وأن لا يعامله معاملة الكافرين في الآخرة.
والنداء هنا نداء دعاء فكأنه قيل: ودعا نوح ربه، لأن الدعاء يصدر بالنداء غالبا، والتعبير عن الجلالة بوصف الرب مضافا إلى نوح - عليه السلام - تشريف لنوح وإيماء إلى رأفة الله به وأن نهيه الوارد بعده نهي عتاب.
وجملة {فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} بيان للنداء، ومقتضى الظاهر أن لا تعطف بفاء التفريع كما لم يعطف البيان في قوله تعالى: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} [مريم: 3, 4]، وخولف ذلك هنا. ووجه في "الكشاف" اقترانه بالفاء بأن فعل {نَادَى} مستعمل في إرادة النداء، أي مثل فعل "قمتم" في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] الآية، يريد أن ذلك إخراج للكلام على خلاف مقتضى الظاهر فإن وجود الفاء في الجملة التي هي بيان للنداء قرينة على أن فعل {نَادَى} مستعار لمعنى إرادة النداء، أي أراد نداء ربه فأعقب إرادته بإصدار النداء، وهذا إشارة الى أنه أراد النداء فتردد في الإقدام عليه لما علم من قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} [هود: 40] فلم يطل تردده لما غلبته الشفقة على ابنه فأقدم على نداء ربه، ولذلك قدم الاعتذار بقوله: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} . فقوله: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} خبر مستعمل في الاعتذار والتمهيد لأنه يريد أن يسأل سؤالا لا يدري قبوله ولكنه اقتحمه لأن المسؤول له من أهله فله عذر الشفقة عليه. وتأكيد الخبر ب {إِنَّ} للاهتمام به.
وكذلك جملة {وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} خبر مستعمل في لازم الفائدة. وهو أنه يعلم أن وعد الله حق.
والمراد بالوعد ما في قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} [المؤمنون: 37] إذ أفاد ذلك أن بعض أهله قد سبق من الله تقدير بأنه لا يركب السفينة. وهذا الموصول متعين لكونه صادقا على ابنه إذ ليس غيره من أهله

طلب منه ركوب السفينة وأبى، وأن من سبق علم الله بأنه لا يركب السفينة من الناس فهو ظالم، أي كافر، وأنه مغرق، فكان عدم ركوبه السفينة وغرقه أمارة أنه كافر. فالمعنى: أن نوحا - عليه السلام - لا يجهل أن ابنه كافر، ولذلك فسؤال المغفرة له عن علم بأنه كافر، ولكنه يطمع لعل الله أن يعفو عنه لأجل قرابته به، فسؤاله له المغفرة بمنزلة الشفاعة له عند الله تعالى، وذلك أخذ بأقصى دواعي الشفقة والرحمة بابنه.
وقرينة ذلك كله قوله: {وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} المفيد أنه لا راد لما حكم به وقضاه، وأنه لا دالة عليه لأحد من خلقه، ولكنه مقام تضرع وسؤال ما ليس بمحال.
وقد كان نوح - عليه السلام - غير منهي عن ذلك، ولم يكن تقرر في شرعه العلم بعدم المغفرة للكافرين، فكان حال نوح عليه السلام كحال النبيء صلى الله عليه وسلم حين قال لأبي طالب لأستغفرن لك ما لم أنه عنك قبل أن ينزل قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 113] الآية.
والاقتصار على هذه الجمل الثلاث في مقام الدعاء تعريض بالمطلوب لأنه لم يذكره، وذلك ضرب من ضروب التأدب والتردد في الإقدام على المسؤول استغناء بعلم المسؤول كأنه يقول: أسألك أم أترك، كقول أمية بن أبي الصلت:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك أن شيمتك الحياء
ومعنى {أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} أشدهم حكما. واسم التفضيل يتعلق بماهية الفعل، فيفيد أن حكمه لا يجوز وأنه لا يبطله أحد.
ومعنى قوله تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} نفي أن يكون من أهل دينه واعتقاده، فليس ذلك إبطالا لقول نوح - عليه السلام -: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} ولكنه إعلام بأن قرابة الدين بالنسبة لأهل الإيمان هي القرابة، وهذا المعنى شائع في الاستعمال.
قال النابغة يخاطب عيينة بن حصن:
إذا حاولت في أسد فجورا ... فإني لست منك ولست مني
وقال تعالى: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} [التوبة: 56].

وتأكيد الخبر لتحقيقه لغرابته.
وجملة {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} تعليل لمضمون جملة {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} ف"إن" فيه لمجرد الاهتمام.
و {عَمَلٌ} في قراءة الجمهور بفتح الميم وتنوين اللام مصدر أخبر به للمبالغة وبرفع {غَيْرُ} على أنه صفة "عمل". وقرأه الكسائي، ويعقوب {عَمِلَ} بكسر الميم بصيغة الماضي وبنصب {غَيْرَ} على المفعولية لفعل "عمل". ومعنى العمل غير الصالح الكفر، وأطلق على الكفر "عمل" لأنه عمل القلب، ولأنه يظهر أثره في عمل صاحبه كامتناع ابن نوح من الركوب الدال على تكذيبه بوعيد الطوفان.
وتفرع على ذلك نهيه أن يسأل ما ليس له به علم نهي عتاب، لأنه لما قيل له: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} بسبب تعليله بأنه عمل غير صالح، سقط ما مهد به إجابة سؤاله، فكان حقيقا بأن لا يسأله وأن يتدبر ما أراد أن يسأله من الله.
وقرأه نافع، وابن عامر، وأبو جعفر "فلا تسألنّي" - بتشديد النون - وهي نون التوكيد الخفيفة ونون الوقاية أدغمتا. وأثبت ياء المتكلم من عدا ابن كثير من هؤلاء. أما ابن كثير فقرأ "فلا تسألن" - بنون مشددة مفتوحة -. وقرأه أبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي، ويعقوب، وخلف "فلا تسألن" - بسكون اللام وكسر النون مخففة - على أنه غير مؤكد بنون التوكيد ومعدى الى ياء المتكلم.
وأكثرهم حذف الياء في حالة الوصل. وأثبتها في الوصل ورش عن نافع وأبو عمرو.
ثم إن كان نوح - عليه السلام - لم يسبق له وحي من الله بأن الله لا يغفر للمشركين في الآخرة كان نهيه عن أن يسأل ما ليس له به علم، نهي تنزيه لأمثاله لأن درجة النبوءة تقتضي أن لا يقدم على سؤال ربه سؤلا لا يعلم إجابته. وهذا كقوله تعالى: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 23] وقوله: {لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً} [النبأ: 38]، وإن كان قد أوحي إليه بذلك من قبل، كما دل عليه قوله: {وإن وعدك الحق} . وكان سؤاله المغفرة لابنه طلبا تخصيصه من العموم. وكان نهيه نهي لوم وعتاب حيث لم يتبين من ربه جواز ذلك.
وكان قوله: {مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} محتملا لظاهره، ومحتملا لأن يكون كناية عن العلم بضده، أي فلا تسألني ما علمت أنه لا يقع.

ثم إن كان قول نوح - عليه السلام -: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} إلى آخره تعريضا بالمسؤول كان النهي في قوله: {فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} نهيا عن الإلحاح أو العود إلى سؤاله؛ وإن كان قول نوح - عليه السلام - مجرد تمهيد للسؤال لاختبار حال إقبال الله على سؤاله كان قوله تعالى: {فَلا تَسْأَلْنِ} نهيا عن الإفضاء بالسؤال الذي مهد له بكلامه. والمقصود من النهي تنزيهه عن تعريض سؤاله للرد.
وعلى كل الوجوه فقوله: {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} موعظة على ترك التثبت قبل الإقدام.
والجهل فيه ضد العلم، وهو المناسب لمقابلته بقوله: {مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} .
فأجاب نوح عليه السلام كلام ربه بما يدل على التنصل مما سأل فاستعاذ أن يسأل ما ليس له به علم، فإن كان نوح - عليه السلام - أراد بكلامه الأول التعريض بالسؤال فهو أمر قد وقع فالاستعاذة تتعلق بتبعة ذلك أو بالعود إلى مثله في المستقبل؛ وإن كان إنما أراد التمهيد للسؤال فالاستعاذة ظاهرة، أي الانكفاف عن الإفضاء بالسؤال.
وقوله: {وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} طلب المغفرة ابتداء لأن التخلية مقدمة على التحلية ثم أعقبها بطلب الرحمة لأنه إذا كان بمحل الرضى من الله كان أهلا للرحمة.
وقد سلك المفسرون في تفسيرهم هذه الآيات مسلك كون سؤال نوح عليه السلام سؤالا لإنجاء ابنه من الغرق فاعترضتهم سبل وعرة متنائية، ولقوا عناء في الاتصال بينها، والآية بمعزل عنها، ولعلنا سلكنا الجادة في تفسيرها.
[48] {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
فصلت الجملة ولم تعطف لوقوعها في سياق المحاورة بين نوح - عليه السلام - وربه، فإن نوحا عليه السلام لما أجاب بقوله: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} [هود: 47] إلى آخره خاطبه ربه إتماما للمحاورة بما يسكن جأشه.
وكان مقتضى الظاهر أن يقول: قال يا نوح اهبط، ولكنه عدل عنه إلى بناء الفعل للنائب ليجيء على وتيرة حكاية أجزاء القصة المتقدمة من قوله: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ

ابْلَعِي} ... وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}[هود: 44] فحصل بذلك البناء قضاء حق الإشارة إلى جزء القصة، كما حصل بالفصل قضاء حق الإشارة إلى أن ذلك القول جزء المحاورة.
ونداء نوح - عليه السلام - للتنويه به بين الملأ.
والهبوط: النزول. وتقدم في قوله: {اهْبِطُوا مِصْراً} في سورة البقرة[61]. والمراد: النزول من السفينة لأنها كانت أعلى من الأرض.
والسلام: التحية، وهو مما يخاطب بها عند الوداع أيضا، يقولون: اذهب بسلام، ومنه قول لبيد:
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما
وخطابه بالسلام حينئذ إيماء إلى أنه كان في ضيافة الله تعالى لأنه كان كافلا له النجاة، كما قال تعالى: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 13, 14].
وأصل السلام السلامة، فاستعمل عند اللقاء إيذانا بتأمين المرء ملاقيه وأنه لا يضمر له سوءا، ثم شاع فصار قولا عند اللقاء للإكرام. وبذلك نهى النبيء صلى الله عليه وسلم الذين قالوا: السلام على الله، فقوله هنا: {اهْبِطْ بِسَلامٍ} نظير قوله: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ} [الحجر: 46] فإن السلام ظاهر في التحية لتقييده ب"آمنين". ولو كان السلام مرادا به السلامة لكان التقييد ب"آمنين" توكيدا وهو خلاف الأصل.
و {مِنَّا} تأكيد لتوجيه السلام إليه لأن "من" ابتدائية، فالمعنى: بسلام ناشئ من عندنا، كقوله: {سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 58]. وذلك كثير في كلامهم. وهذا التأكيد يراد به زيادة الصلة والإكرام فهو أشد مبالغة من الذي لا تذكر معه "من".
والباء للمصاحبة، أي اهبط مصحوبا بسلام منا. ومصاحبة السلام الذي هو التحية مصاحبة مجازية.
والبركات: الخيرات النامية، واحدتها بركة، وهي من كلمات التحية مستعملة في الدعاء.
ولما كان الداعون بلفظ التحية إنما يسألون الله بدعاء بعضهم لبعض فصدور هذا الدعاء من لدنه قائم مقام إجابة الدعاء فهو إفاضة بركات على نوح - عليه السلام - ومن معه، فحصل بذلك تكريمهم وتأمينهم والإنعام عليهم.

و"عليك" يتعلق "بسلام" و"بركات" وكذلك {وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ} .
والأمم: جمع أمة. والأمة: الجماعة الكثيرة من الناس التي يجمعها نسب إلى جد واحد. يقال: أمة العرب، أو لغة مثل أمة الترك، أو موطن مثل أمة أمريكا، أو دين مثل الأمة الإسلامية، ف {أُمَمٍ} دال على عدد كثير من الأمم يكون بعد نوح عليه السلام. وليس الذين ركبوا في السفينة أمما لقلة عددهم لقوله: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود: 40]. وتنكير {أُمَمٍ} لأنه لم يقصد به التعميم تمهيدا لقوله: {وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ} .
و"مِن" في {مِمَّنْ مَعَكَ} ابتدائية، و"مَن" الموصولة صادقة على الذين ركبوا مع نوح - عليه السلام - في السفينة. ومنهم ابناؤه الثلاثة. فالكلام بشارة لنوح - عليه السلام - ومن معه بأن الله يجعل منهم أمما كثيرة يكونون محل كرامته وبركاته. وفيه إيذان بأن يجعل منهم أمما بخلاف ذلك، ولذلك عطف على هذه الجملة قوله: {وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
وهذا النظم يقتضي أن الله بدأ نوحا بالسلام والبركات وشرك معه فيهما أمما ناشئين ممن هم معه، وفيهم الناشئون من نوح - عليه السلام - لأن في جملة من معه أبناءه الثلاثة الذين انحصر فيهم نسله من بعده. فتعين أن الذين معه يشملهم السلام والبركات بادئ بدء قبل نسلهم إذ عنون عنهم بوصف معية نوح - عليه السلام - تنبيها على سبب كرامتهم. وإذ كان التنويه بالناشئين عنهم إيماء إلى أن اختصاصهم بالكرامة لأجل كونهم ناشئين عن فئة مكرمة بمصاحبة نوح - عليه السلام -، فحصل تنويه نوح - عليه السلام - وصحبته ونسلهم بطريق إيجاز بديع.
وجملة {وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ} إلخ، عطف على جملة: {اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا} إلى آخرها، وهي استئناف بياني لأنها تبيين لما أفاده التنكير في قوله: {وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ} من الاحتراز عن أمم آخرين. وهذه الواو تسمى استئنافية وأصلها الواو العاطفة وبعضهم يرجعها إلى الواو الزائدة، ويجوز أن تكون الواو للتقسيم، والمقصود: تحذير قوم نوح من اتباع سبيل الذين أغرقوا، والمقصود من حكاية ذلك في القرآن التعريض بالمشركين من العرب فإنهم من ذرية نوح ولم يتبعوا سبيل جدهم، فأشعروا بأنهم من الأمم التي أنبأ الله نوحا بأنه سيمتعهم ثم يمسهم عذاب أليم. ونظير هذا قوله تعالى: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً} [الإسراء: 3] أي وكان المتحدث عنهم غير شاكرين للنعمة.
وإطلاق المس على الإصابة القوية تقدم عند قوله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ

فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} في الأنعام[17].
وذكر {مِنَّا} مع {يَمَسُّهُمْ} لمقابلة قوله في ضده {بِسَلامٍ مِنَّا} ليعلموا أن ما يصيب الأمة من الأحوال الزائدة على المعتاد في الخير والشر هو إعلام من الله بالرضى أو الغضب لئلا يحسبوا ذلك من سنة ترتب المسببات العادية على أسبابها، إذ من حق الناس أن يتبصروا في الحوادث ويتوسموا في جريان أحوالهم على مراد الله تعالى منهم ويعلموا أن الله يخاطبهم بدلالة الكائنات عند انقطاع خطابه إياهم على ألسنة الرسل، فإن الرسل يبينون لهم طرق الدلالة ويكلون إليهم النظر في وضع المدلولات عند دلالاتها. ومثاله ما هنا فقد بين لهم على لسان نوح عليه السلام أنه يمتع أمما ثم يمسهم عذاب أليم بما يصنعون.
[49] {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} .
استئناف أريد منه الامتنان على النبيء - صلى الله عليه وسلم - والموعظة والتسلية.
فالامتنان من قوله: {مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا} .
والموعظة من قوله: {فَاصْبِرْ} إلخ.
والتسلية من قوله: {إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} .
والإشارة ب {تِلْكَ} إلى ما تقدم من خبر نوح عليه السلام، وتأنيث اسم الإشارة بتأويل أن المشار إليه القصة.
والأنباء: جمع نبأ، وهو الخبر. وأنباء الغيب الأخبار المغيبة عن الناس أو عن فريق منهم. فهذه الأنباء مغيبة بالنسبة إلى العرب كلهم لعدم علمهم بأكثر من مجملاتها، وهي أنه قد كان في الزمن الغابر نبي يقال له: نوح عليه السلام أصاب قومه طوفان، وما عدا ذلك فهو غيب كما أشار إليه قوله: {مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} ، فإنهم لم ينكروا ذلك ولم يدعوا علمه. على أن فيها ما هو غيب بالنسبة إلى جميع الأمم مثل قصة ابن نوح الرابع وعصيانه أباه وإصابته بالغرق، ومثل كلام الرب مع نوح - عليه السلام - عند هبوطه من السفينة، ومثل سخرية قومه به وهو يصنع الفلك، وما دار بين نوح - عليه السلام - وقومه من المحاورة، فإن ذلك كله مما لم يذكر في كتب أهل الكتاب.

وجملة {مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ - و نُوحِيهَا - و مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا} أخبار عن اسم الإشارة، أو بعضها خبر وبعضها حال. وضمير {أَنْتَ} تصريح بالضمير المستتر في قوله: {تَعْلَمُهَا} لتصحيح العطف عليه.
وعطف {وَلا قَوْمُكَ} من الترقي، لأن في قومه من خالط أهل الكتاب ومن كان يقرأ ويكتب ولا يعلم أحد منهم كثيرا مما أوحي إليه من هذه القصة.
والإشارة بقوله: {مِنْ قَبْلِ هَذَا} إما إلى القرآن، وإما إلى الوقت باعتبار ما في هذه القصة من الزيادة على ما ذكر في أمثالها مما تقدم نزوله عليها، وإما إلى {تِلْكَ} بتأويل النبأ، فيكون التذكير بعد التأنيث شبيها بالالتفات.
ووجه تفريع أمر الرسول بالصبر على هذه القصة أن فيها قياس حالة مع قومه على حال نوح عليه السلام مع قومه، فكما صبر نوح عليه السلام فكانت العاقبة له كذلك تكون العاقبة لك على قومك. وخبر نوح - عليه السلام - مستفاد مما حكي من مقاومة قومه ومن ثباته على دعوتهم، لأن ذلك الثبات مع تلك المقاومة من مسمى الصبر.
وجملة {إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} علة للصبر المأمور به، أي اصبر لأن داعي الصبر قائم وهو أن العاقبة الحسنة تكون للمتقين، فستكون لك وللمؤمنين معك.
والعاقبة: الحالة التي تعقب حالة أخرى. وقد شاعت عند الإطلاق في حالة الخير كقوله: {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132].
والتعريف في {الْعَاقِبَةُ} للجنس.
واللام في {لِلْمُتَّقِينَ} للاختصاص والملك، فيقتضي ملك المتقين لجنس العاقبة الحسنة، فهي ثابتة لهم لا تفوتهم وهي منتفية عن أضدادهم.
[50- 52] {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} .
عطف على {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ} [هود: 25]، فعطف {وَإِلَى عَادٍ} على {إِلَى قَوْمِهِ} [هود: 25]. وعطف {أَخَاهُمْ} على {نُوحاً} [هود: 25]، والتقدير: وأرسلنا إلى

عاد أخاهم هودا. وهو من العطف على معمولي عامل واحد.
وتقديم المجرور للتنبيه على أن العطف من عطف المفردات لا من عطف الجمل لأن الجار لا بد له من متعلق، وقضاء لحق الإيجاز ليحضر ذكر عاد مرتين بلفظه ثم بضميره.
ووصف "هود" بأنه أخو عاد لأنه كان من نسبهم كما يقال: يا أخا العرب، أي يا عربي.
وتقدم ذكر عاد وهود في سورة الأعراف.
وجملة {قَالَ} مبينة للجملة المقدرة وهي {أَرْسَلْنَا} [هود: 25].
ووجه التصريح بفعل القول لأن فعل "أرسلنا" محذوف، فلو بين بجملة {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا} كما بين في قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} لكان بيانا لمعدوم وهو غير جلي.
وافتتاح دعوته بنداء قومه لاسترعاء أسماعهم إشارة إلى أهمية ما سيلقى إليهم.
وجملة: {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} حال من ضمير {اعْبُدُوا} أو من اسم الجلالة. والإتيان بالحال لاستقصاد إبطال شركهم بأنهم أشركوا غيره في عبادته في حال أنهم لا إله لهم غيره، أو في حال أنه لا إله لهم غيره. وذلك تشنيع للشرك.
وجملة: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ} توبيخ وإنكار. فهي بيان لجملة {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} ، أي ما أنتم إلا كاذبون في ادعاء إلهية غير الله تعالى.
وجملة {يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} إن كان قالها مع الجملة التي قبلها فإعادة النداء في أثناء الكلام تكرير للأهمية يقصد به تهويل الأمر واسترعاء السمع اهتماما بما يستسمعونه، والنداء هو الرابط بين الجملتين؛ وإن كانت مقولة في وقت غير الذي قيلت فيه الجملة الأولى، فكونها ابتداء كلام ظاهر.
وتقدم تفسير {لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} في قصة نوح عليه السلام، أي لا أسألكم أجرا على ما قلته لكم.
والتعبير بالموصول {الَّذِي فَطَرَنِي} دون الاسم العلم لزيادة تحقيق أنه لا يسألهم على الإرشاد أجرا بأنه يعلم أن الذي خلقه يسوق إليه رزقه، لأن إظهار المتكلم علمه

بالأسباب يكسب كلامه على المسببات قوة وتحقيقا.
ولذلك عطف على ذلك قوله: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} بفاء التفريع عاطفة استفهاما إنكاريا عن عدم تعقلهم، أي تأملهم في دلالة حاله على صدقه فيما يبلغ ونصحه لهم فيما يأمرهم. والعقل: العلم.
وعطف جملة {وَيَا قَوْمِ} مثل نظيرها في قصة نوح - عليه السلام - آنفا.
والاستغفار: طلب المغفرة للذنب، أي طلب عدم المؤاخذة بما مضى منهم من الشرك، وهو هنا مكنى به عن ترك عقيدة الشرك لأن استغفار الله يستلزم الاعتراف بوجوده ويستلزم اعتراف المستغفر بذنب في جانبه ولم يكن لهم ذنب قبل مجيء هود عليه السلام إليهم غير ذنب الإشراك إذ لم يكن له شرع من قبل. وأما ذنب الإشراك فهو متقرر من الشرائع السابقة جميعها فكان معلوما بالضرورة فكان الأمر بالاستغفار جامعا لجميع هذه المعاني تصريحا وتكنية.
والتوبة: الإقلاع عن الذنب في المستقبل والندم على ما سلف منه. وفي ماهية التوبة العزم على عدم العود إلى الذنب فيؤول إلى الأمر بالدوام على التوحيد ونفي الإشراك.
و {ثُمَّ} للترتيب الرتبي، لأن الدوام على الإقلاع أهم من طلب العفو عما سلف.
و {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ} جواب الأمر من {اسْتَغْفِرُوا} .
والإرسال: بعث من مكان بعيد فأطلق الإرسال على نزول المطر لأنه حاصل بتقدير الله فشبه بإرسال شيء من مكان المرسل إلى المبعوث إليه.
والسماء من أسماء المطر تسمية للشيء باسم مصدره. وفي الحديث "خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أثر سماء" .
و {مِدْرَاراً} حال من السماء صيغة مبالغة من الدرور وهو الصب، أي غزيرا. جعل جزاءهم على الاستغفار والتوبة إمدادهم بالمطر لأن ذلك من أعظم النعم عليهم في الدنيا إذ كانت عاد أهل زرع وكروم فكانوا بحاجة إلى الماء، وكانوا يجعلون السداد لخزن الماء. والأظهر أن الله أمسك عنهم المطر سنين فتناقص نسلهم ورزقهم جزاء على الشرك بعد أن أرسل إليهم هودا - عليه السلام -؛ فيكون قوله: {يُرْسِلِ السَّمَاءَ} وعدا وتنبيها على غضب الله عليهم، وقد كانت ديارهم من حضرموت إلى الأحقاف مدنا وحللا وقبابا.

وكانوا أيضا معجبين بقوة أمتهم وقالوا: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت: 15] فلذلك جعل الله لهم جزاء على ترك الشرك زيادة قوتهم بكثرة العدد وصحة الأجسام وسعة الأرزاق، لأن كل ذلك قوة للأمة يجعلها في غنى عن الأمم الأخرى وقادرة على حفظ استقلالها ويجعل أمما كثيرة تحتاج إليها.
و {إِلَى قُوَّتِكُمْ} متعلق ب {يَزِدْكُمْ} . وإنما عدي ب {إِلَى} لتضمينه معنى يضم. وهذا وعد لهم بصلاح الحال في الدنيا - رضي الله عنهم -.
وعطف عليه {وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} تحذيرا من الرجوع إلى الشرك.
والتولي: الانصراف. وهو هنا مجاز عن الإعراض.
و {مُجْرِمِينَ} حال من ضمير {تَتَوَلَّوْا} أي متصفين بالإجرام، وهو الإعراض عن قبول أمر الله تعالى.
[53-56] {قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .
{قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} .
محاورة منهم لهود - عليه السلام - بجواب عن دعوته، ولذلك جردت الجملة عن العاطف.
وافتتاح كلامهم بالنداء يشير إلى الاهتمام بما سيقولونه، وأنه جدير بأن يتنبه له لأنهم نزلوه منزلة البعيد لغفلته فنادوه، فهو مستعمل في معناه الكنائي أيضا. وقد يكون مرادا منه مع ذلك توبيخه ولومه فيكون كناية ثانية، أو استعمال النداء في حقيقته ومجازه.
وقولهم: {مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ} بهتان لأنه أتاهم بمعجزات لقوله تعالى: {وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ} [هود: 59] وإن كان القرآن لم يذكر آية معينة لهود عليه السلام. ولعل آيته أنه وعدهم عند بعثته بوفرة الأرزاق والأولاد واطراد الخصب وفرة مطردة لا تنالهم في خلالها نكبة ولا مصيبة بحيث كانت خارقة لعادة النعمة في الأمم، كما يشير إليه

قوله تعالى: {وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت: 15].
وفي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من الأنبياء نبي إلا أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر" الحديث.
وإنما أرادوا أن البينات التي جاءهم بها هود عليه السلام لم تكن طبقا لمقترحاتهم. وجعلوا ذلك علة لتصميمهم على عبادة آلهتهم فقالوا: { وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ} . ولم يجعلوا {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي} مفرعا على قولهم: {مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ} .
و {عن} في {عَنْ قَوْلِكَ} للمجاوزة، أي لا نتركها تركا صادرا عن قولك، كقوله: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف: 82]. والمعنى على أن يكون كلامه علة لتركهم آلهتهم.
وجملة: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} استئناف بياني لأن قولهم: {وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} من شأنه أن يثير للسامع ومن معه في أنفسهم أن يقولوا إن لم تؤمنوا بما جاء به أنه من عند الله فماذا تعدون دعوته فيكم، أي نقول إنك ممسوس من بعض آلهتنا، وجعلوا ذلك من فعل بعض الآلهة تهديدا للناس بأنه لو تصدى له جميع الآلهة لدكوه دكا.
والاعتراء: النزول والإصابة. والباء للملابسة، أي أصابك بسوء. ولا شك أنهم يعنون أن آلهتهم أصابته بمس من قبل أن يقوم بدعوة رفض عبادتها لسبب آخر، وهو كلام غير جار على انتظام الحجة، لأنه كلام ملفق من نوع ما يصدر عن السفسطائيين، فجعلوه مجنونا وجعلوا سبب جنونه مسا من آلهتهم، ولم يتفطنوا إلى دخل كلامهم وهو أن الآلهة كيف تكون سببا في إثارة ثائر عليها.
والقول مستعمل في المقول اللساني، وهو يقتضي اعتقادهم ما يقولونه.
{قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .
لما جاءوا في كلامهم برفض ما دعاهم إليه وبجحد آياته وبتصميمهم على ملازمة عبادة أصنامهم وبالتنويه بتصرف آلهتهم أجابهم هود عليه السلام بأنه يشهد الله عليهم أنه أبلغهم وأنهم كابروا وجحدوا آياته.
وجملة {أُشْهِدُ اللَّهَ} إنشاء لإشهاد الله بصيغة الإخبار لأن كل إنشاء لا يظهر أثره في

الخلق من شأنه أن يقع بصيغة الخبر لما في الخبر من قصد إعلام السامع بما يضمره المتكلم، ولذلك كان معنى صيغ العقود إنشاء بلفظ الخبر. ثم حملهم شهادة له بأنه بريء من شركائهم مبادرة بإنكار المنكر وإن كان ذلك قد أتوا به استطرادا، فلذلك كان تعرضه لإبطاله كالاعتراض بين جملة {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ } وجملة {فَإِنْ تَوَلَّوْا} [هود: 57] بناء على أن جملة {فَإِنْ تَوَلَّوْا} إلى آخرها من كلام هود - عليه السلام -، وسيأتي. ومعنى إشهاده فيراد من شركائهم تحقيق ذلك وأنه لا يتردد على أمر جازم قد أوجبه المشهود عليه على نفسه. وأتى في إشهادهم بصيغة الأمر لأنه أراد مزاجة إنشاء الإشهاد دون رائحة معنى الإخبار.
و"ما" في قوله: {مِمَّا تُشْرِكُونَ} موصولة. والعائد محذوف. والتقدير: مما يشركونه.
وما صدق الموصول الأصنام، كما دل عليه ضمير الجمع المؤكد في قوله: {فَكِيدُونِي جَمِيعاً} . ولما كانت البراءة من الشركاء تقتضي اعتقاد عجزها عن إلحاق إضرار به فرع على البراءة جملة: {فَكِيدُونِي جَمِيعاً} . وجعل الخطاب لقومه لئلا يكون خطابه لما لا يعقل ولا يسمع، فأمر قومه بأن يكيدوه. وأدخل في ضمير الكائدين أصنامهم مجاراة لاعتقادهم واستقصاء لتعجيزهم، أي أنتم وأصنامكم، كما دل عليه التفريع على البراءة من أصنامهم.
والأمر ب"كيدوني" مستعمل في الإباحة كناية عن التعجيز بالنسبة للأصنام وبالنسبة لقومه، كقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ} [المرسلات: 39]. وهذا إبطال لقولهم: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} .
و {ثُمَّ} للتراخي الرتبي؛ تحداهم بأن يكيدوه ثم ارتقى في رتبة التعجيز والاحتقار فنهاهم عن التأخير بكيدهم إياه، وذلك نهاية الاستخفاف بأصنامهم وبهم وكناية عن كونهم لا يصلون إلى ذلك.
وجملة {إِنِّي تَوَكَّلْتُ} تعليل لمضمون {فَكِيدُونِي} وهو التعجيز والاحتقار. يعني: أنه واثق بعجزهم عن كيده لأنه متوكل على الله. فهذا معنى ديني قديم.
وأجري على اسم الجلالة صفة الربوبية استدلالا على صحة التوكل عليه في دفع ضرهم عنه، لأنه مالكهم جميعا يدفع ظلم بعضهم بعضا.
وجملة {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} في محل صفة لاسم الجلالة، أو حال

منه، والغرض منها مثل الغرض من صفة الربوبية.
والأخذ: الإمساك.
والناصية: ما انسدل على الجبهة من شعر الرأس. والأخذ بالناصية هنا تمثيل للتمكن، تشبيها بهيئة إمساك الإنسان من ناصيته حيث يكون رأسه بيد آخذه فلا يستطيع انفلاتا. وإنما كان تمثيلا لأن دواب كثيرة لا نواصي لها فلا يلتئم الأخذ بالناصية مع عموم {مَا مِنْ دَابَّةٍ} ، ولكنه لما صار مثلا صار بمنزلة: ما من دابة إلا هو متصرف فيها. ومن بديع هذا المثل أنه أشد اختصاصا بالنوع المقصود من بين عموم الدواب، وهو نوع الإنسان. والمقصود من ذلك المالك القاهر لجميع ما يدب على الأرض، فكونه مالك للكل يقتضي أن لا يفوته أحد منهم، وكونه قاهرا لهم يقتضي أن لا يعجزه أحد منهم.
وجملة {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} تعليل لجملة {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ} ، أي توكلت عليه لأنه أهل لتوكلي عليه، لأنه متصف بإجراء أفعاله على طريق العدل والتأييد لرسله.
و {عَلَى} للاستعلاء المجازي، مثل {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} مستعارة للتمكن المعنوي، وهو الاتصاف الراسخ الذي لا يتغير.
والصراط المستقيم مستعار للفعل الجاري على مقتضى العدل والحكمة لأن العدل يشبه بالاستقامة والسواء. قال تعالى: {فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً} [مريم: 43]. فلا جرم لا يسلم المتوكل عليه للظالمين.
[57] {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} .
تفريع على جملة {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ} [هود: 54]. وما بينهما اعتراض أوجبه قصد المبادرة بإبطال باطلهم لأن مضمون هذه الجملة تفصيل لمضمون جملة: {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ} بناء على أن هذا من كلام هود - عليه السلام -.
وعلى هذا الوجه يكون أصل {تَوَلَّوْا} تتولوا فحذفت إحدى التاءين اختصارا، فهو مضارع، وهو خطاب هود عليه السلام لقومه، وهو ظاهر إجراء الضمائر على وتيرة واحدة.

ويجوز أن تكون فعلا ماضيا، والواو لأهل مكة فيكون كالاعتراض في أجزاء القصة لقصد العبرة بمنزلة الاعتراض الواقع في قصة نوح عليه السلام بقوله: [ {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ} هود: 35] الآية. خاطب الله نبيه صلى الله عليه وسلم وأمره بأن يقول لهم: {قَدْ أَبْلَغْتُكُمْ} . والفاء الأولى لتفريع الاعتبار على الموعظة وتكون جملة {فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ} من كلام النبيء صلى الله عليه وسلم مقول قول مأمور به محذوف يدل عليه السياق. والتقدير: فقل قد أبلغتكم. وهذا الأسلوب من قبيل الكلام الموجه المحتمل معنيين غير متخالفين، وهو من بديع أساليب الإعجاز، ولأجله جاء فعل: {تَوَلَّوْا} بتاء واحدة بخلاف ما في قوله: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} [محمد: 38].
والتولي: الإعراض. وقد تقدم في قوله تعالى: {وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} ، في سورة النساء [80].
وجعل جواب شرط التولي قوله: {فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ} مع أن الإبلاغ سابق على التولي المجعول شرطا لأن المقصود بهذا الجواب هو لازم ذلك الإبلاغ، وهو انتفاء تبعة توليهم عنه وبراءته من جرمهم لأنه أدى ما وجب عليه من الإبلاغ، فإن كان من كلام هود عليه السلام ف{مَا أُرْسِلْتُ بِهِ} هو ما تقدم، وإن كان من كلام النبيء صلى الله عليه وسلم فما أرسل به هو الموعظة بقصة قوم هود - عليه السلام -.
وعلى كلا الوجهين فهو كناية عن الإنذار بتبعة التولي عليهم ونزول العقاب بهم، ولذلك عطف {وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ} أي يزيلكم ويخلفكم بقوم آخرين لا يتولون عن رسولهم، وهذا كقوله تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38].
وارتفاع {يَسْتَخْلِفُ} في قراءة الكافة لأنه معطوف على الجواب مجاز فيه الرفع والجزم. وإنما كان الرفع هنا أرجح لإعطاء الفعل حكم الكلام المستأنف ليكون مقصودا بذاته لا تبعا للجواب، فبذلك يكون مقصودا به إخبارهم لإنذارهم بالاستئصال.
وكذلك جملة: {وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً} والمراد لا تضرون الله بتوليكم شيئا. و {شَيْئاً} مصدر مؤكد لفعل {تَضُرُّونَهُ} المنفي.
وتنكيره للتقليل كما هو شأن تنكير لفظ الشيء غالبا. والمقصود من التأكيد التنصيص على العموم بنفي الضر لأنه نكرة في حيز النفي، أي فالله يلحق بكم الاستئصال، وهو

أعظم الضر، ولا تضرونه أقل ضر؛ فإن المعروف في المقارعات والخصومات أن الغالب المضر بعدوه لا يخلو من أن يلحقه بعض الضر من جراء المقارعة والمحاربة.
وجملة {إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} تعليل لجملة {وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً} فموقع {إِنَّ} فيها موقع فاء التفريع.
والحفيظ: أصله مبالغة الحافظ، وهو الذي يضع المحفوظ في حيث لا يناله أحد غير حافظه، وهو هنا كناية عن القدرة والقهر.
[58] {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} .
استعمال الماضي في قوله: {جَاءَ أَمْرُنَا} بمعنى اقتراب المجيء لأن الإنجاء كان قبل حلول العذاب.
والأمر أطلق على أثر الأمر، وهو ما أمر الله به أمر تكوين، أي لما اقترب مجيء أثر أمرنا، وهو العذاب، أي الربح العظيم.
ومتعلق {نَجَّيْنَا} الأول محذوف، أي من العذاب الدال عليه قوله: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا} . وكيفية إنجاء هود - عليه السلام - ومن معه تقدم ذكرها في تفسير سورة الأعراف.
والباء في {بِرَحْمَةٍ مِنَّا} للسببية، فكانت رحمة الله بهم سببا في نجاتهم. والمراد بالرحمة فضل الله عليهم لأنه لو لم يرحمهم لشملهم الاستئصال فكان نقمة للكافرين وبلوى للمؤمنين.
وجملة {وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} معطوفة على جملة {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا} . والتقدير وأيضا نجيناهم من عذاب شديد وهو الإنجاء من عذاب الآخرة وهو العذاب الغليظ. ففي هذا منة ثانية على إنجاء ثان، أي نجيناهم من عذاب الدنيا برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ في الآخرة، ولذلك عطف فعل {نَجَّيْنَاهُمْ} على {نَجَّيْنَا} ، وهذان الإنجاءان يقابلان جمع العذابين لعاد في قوله: {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} [هود: 60]. وقد ذكر هنا متعلق الإنجاء وحذف السبب عكس ما في الجملة الأولى لظهور أن الإنجاء من عذاب الآخرة كان بسبب الإيمان وطاعة الله كما دل عليه مقابلته بقوله: {وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ} [هود: 59].

والغليظ حقيقته: الخشن ضد الرقيق، وهو مستعار للشديد. واستعمل الماضي في {وَنَجَّيْنَاهُمْ} في معنى المستقبل لتحقق الوعد بوقوعه.
[59- 60] {وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} .
الإشارة ب {تِلْكَ} إلى حاضر في الذهن بسبب ما أجري عليه من الحديث حتى صار كأنه حاضر في الحس والمشاهدة. كقوله تعالى: {تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا} [الأعراف: 101] وكقوله: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 5]، وهو أيضا مثله في أن الإتيان به عقب الأخبار الماضية عن المشار إليهم للتنبيه على أنهم جديرون بما يأتي بعد اسم الإشارة من الخبر لأجل تلك الأوصاف المتقدمة.
وتأنيث اسم الإشارة بتأويل الأمة.
و {عَادٌ} بيان من اسم الإشارة.
وجملة {جَحَدُوا} خبر عن اسم الإشارة. وهو وما بعده تمهيد للمعطوف وهو {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} لزيادة تسجيل التمهيد بالأجرام السابقة، وهو الذي اقتضاه اسم الإشارة كما تقدم، لأن جميع ذلك من أسباب جمع العذابين لهم.
والجحد: الإنكار الشديد، مثل إنكار الواقعات والمشاهدات. وهذا يدل على أن هودا أتاهم بآيات فأنكروا دلالتها. وعدي {جَحَدُوا} بالباء مع أنه متعد بنفسه لتأكيد التعدية، أو لتضمينه معنى كفروا فيكون بمنزلة ما لو قيل: جحدوا آيات ربهم وكفروا بها، كقوله: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل: 14].
وجمع الرسل في قوله: {وَعَصَوْا رُسُلَهُ} وإنما عصوا رسولا واحدا، وهو هود عليه السلام لأن المراد ذكر إجرامهم فناسب أن يناط الجرم بعصيان جنس الرسل لأن تكذيبهم هودا لم يكن خاصا بشخصه لأنهم قالوا له: {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ} ، فكل رسول جاء بأمر ترك عبادة الأصنام فهم مكذبون به. ومثله قوله تعالى: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 123].
ومعنى اتباع الآمر: طاعة ما يأمرهم به، فالاتباع تمثيل للعمل بما يملى على المتبع،

لأن الآمر يشبه الهادي للسائر في الطريق، والممتثل يشبه المتبع للسائر.
والجبار: المتكبر. والعنيد: مبالغة في المعاندة، يقال: عند مثلث النون إذا طغى، ومن كان خلقه التجبر، والعنود لا يأمر بخير ولا يدعو إلا إلى باطل، فدل اتباعهم أمر الجبابرة المعاندين على أنهم أطاعوا دعاة الكفر والضلال والظلم.
و {كُلِّ} من صيغ العموم، فإن أريد كل جبار عنيد من قومهم فالعموم حقيقي، وإن أريد جنس الجبابرة ف {كُلِّ} مستعملة في الكثرة كقول النابغة:
بها كل ذيال وخنساء ترعوي
ومنه قوله تعالى: {يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} في سورة الحج [27].
وإتباع اللعنة إياهم مستعار لإصابتها إياهم إصابة عاجلة دون تأخير كما يتبع الماشي بمن يلحقه. ومما يزيد هذه الاستعارة حسنا ما فيها من المشاكلة ومن مماثلة العقاب للجرم لأنهم اتبعوا الملعونين فأتبعوا باللعنة.
وبني فعل {أُتْبِعُوا} للمجهول إذ لا غرض في بيان الفاعل، ولم يسند الفعل إلى اللعنة مع استيفائه ذلك على وجه المجاز ليدل على أن إتباعها لهم كان بأمر فاعل للإشعار بأنها تبعتهم عقابا من الله لا مجرد مصادفة.
واللعنة: الطرد بإهانة وتحقير.
وقرن الدنيا باسم الإشارة لقصد تهوين أمرها بالنسبة إلى لعنة الآخرة، كما في قول قيس بن الخطيم:
متى يأت هذا الموت لا يلف حاجة ... لنفسي إلا قد قضيت قضاءها
أومأ إلى أنه لا يكترث بالموت ولا يهابه.
وجملة {أَلا إِنَّ عَاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ} مستأنفة ابتدائية افتتحت بحرف التنبيه لتهويل الخبر ومؤكدة بحرف {إن} لإفادة التعليل بجملة {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ } تعريضا بالمشركين ليعتبروا بما أصاب عادا.
وعدي {كَفَرُوا رَبَّهُمْ} بدون حرف الجر لتضمينه معنى عصوا في مقابلة {وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} ، أو لأن المراد تقدير مضاف، أي نعمة ربهم لأن مادة الكفر لا تتعدى إلى الذات وإنما تتعدى إلى أمر معنوي.

وجملة {أَلا بُعْداً لِعَادٍ} ابتدائية لإنشاء ذم لهم. وتقدم الكلام على {بُعْداً} عند قوله في قصة نوح - عليه السلام -: {وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} .
و {قَوْمِ هُودٍ} بيان ل"عاد" أو وصف ل"عاد" باعتبار ما في لفظ {قَوْمِ} من معنى الوصفية. وفائدة ذكره الإيماء إلى أن له أثرا في الذم بإعراضهم عن طاعة رسولهم، فيكون تعريضا بالمشركين من العرب، وليس ذكره للاحتراز عن عاد أخرى وهم إرم كما جوزه صاحب "الكشاف" لأنه لا يعرف في العرب عاد غير قوم هود وهم إرم، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} [الفجر: 6, 7].
[61] {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} .
قوله تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً} الكلام فيه كالذي في قوله: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً} [هود: 50] الخ.
وذكر ثمود وصالح - عليه السلام - تقدم في سورة الأعراف.
وثمود اسم جد سميت به القبيلة، فلذلك منع من الصرف بتأويل القبيلة.
وجملة {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} في موضع التعليل للأمر بعبادة الله ونفي إلهية غيره، وكأنهم كانوا مثل مشركي قريش لا يدعون لأصنامهم خلقا ولا رزقا، فلذلك كانت الحجة عليهم ناهضة واضحة.
والإنشاء: الإيجاد والإحداث، وتقدم في قوله تعالى: {وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ} في الأنعام [6].
وجعل الخبرين عن الضمير فعلين دون: هو منشئكم ومستعمركم لإفادة القصر، أي لم ينشئكم من الأرض إلا هو ولم يستعمركم فيها غيره.
والإنشاء من الأرض خلق آدم من الأرض لأن إنشاءه إنشاء لنسله، وإنما ذكر تعلق خلقهم بالأرض لأنهم كانوا أهل غرس وزرع، كما قال في سورة الشعراء [146 - 148]: {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} ولأنهم كانوا ينحتون من جبال الأرض بيوتا ويبنون في الأرض قصورا، كما قال في الآية الأخرى: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً} [الأعراف: 74]،

فكانت لهم منافع من الأرض تناسب نعمة إنشائهم من الأرض فلأجل منافعهم في الأرض قيدت نعمة الخلق بأنها من الأرض التي أنشئوا منها، ولذلك عطف عليه: {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} .
والاستعمار: الإعمار، أي جعلكم عامرينها، فالسين والتاء للمبالغة كالتي في استبقى واستفاق. ومعنى الإعمار أنهم جعلوا الأرض عامرة بالبناء والغرس والزرع لأن ذلك يعد تعميرا للأرض حتى سمي الحرث عمارة لأن المقصود منه عمر الأرض.
وفرع على التذكير بهذه النعم أمرهم باستغفاره والتوبة إليه، أي طلب مغفرة إجرامهم، والإقلاع عما لا يرضاه من الشرك والفساد. ومن تفنن الأسلوب أن جعلت هذه النعم علة لأمرهم بعبادة الله وحده بطريق جملة التعليل، وجعلت علة أيضا للأمر بالاستغفار والتوبة بطريق التفريع.
وعطف الأمر بالتوبة بحرف التراخي للوجه المتقدم في قوله: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} [هود: 51] في الآية المتقدمة.
وجملة {إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} استئناف بياني كأنهم استعظموا أن يكون جرمهم مما يقبل الاستغفار عنه، فأجيبوا بأن الله قريب مجيب، وبذلك ظهر أن الجملة ليست بتعليل. وحرف {إِنَّ} فيها للتأكيد تنزيلا لهم في تعظيم جرمهم منزلة من يشك في قبول استغفاره.
والقرب: هنا مستعار للرأفة والإكرام، لأن البعد يستعار للجفاء والإعراض. قال جبير بن الأضبط.
تباعد عني مطحل إذ دعوته ... أمين فزاد الله ما بيننا بعدا
فكذلك يستعار ضده لضده. وتقدم في قوله: {إِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ} في سورة البقرة [186]. والمجيب هنا: مجيب الدعاء، وهو الاستغفار. وإجابة الدعاء: إعطاء السائل مسؤوله.
[62] {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} .
هذا جوابهم عن دعوته البليغة الوجيزة الملأى إرشادا وهديا. وهو جواب ملئ بالضلال والمكابرة وضعف الحجة.

وافتتاح الكلام بالنداء لقصد التوبيخ أو الملام والتنبيه، كما تقدم في قوله: {قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ} [هود: 53]. وقرينة التوبيخ هنا أظهر، وهي قولهم: {قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا} فإنه تعريض بخيبة رجائهم فيه فهو تعنيف.
و {قَدْ} لتأكيد الخبر.
وحذف متعلق {مَرْجُوّاً} لدلالة فعل الرجاء على أنه ترقب الخير، أي مرجوا للخير. أي والآن وقع اليأس من خيرك. وهذا يفهم منه أنهم يعدون ما دعاهم إليه شرا، وإنما خاطبوه بمثل هذا لأنه بعث فيهم وهو شاب "كذا قال البغوي في تفسير سورة الأعراف" أي كنت مرجوا لخصال السيادة وحماية العشيرة ونصرة آلهتهم.
والإشارة في {قَبْلَ هَذَا} إلى الكلام الذي خاطبهم به حين بعثه الله إليهم.
وجملة {أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} بيان لجملة {قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوّاً} باعتبار دلالتها على التعنيف، واشتمالها على اسم الإشارة الذي تبينه أيضا جملة {أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} .
والاستفهام: إنكار وتوبيخ.
وعبروا عن أصنامهم بالموصول لما في الصلة من الدلالة على استحقاق تلك الأصنام أن يعبدوها في زعمهم اقتداء بآبائهم لأنهم أسوة لهم، وذلك مما يزيد الإنكار اتجاها في اعتقادهم.
وجملة {وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ} معطوفة على جملة {يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوّاً} ، فبعد أن ذكروا يأسهم من صلاح حاله ذكروا أنهم يشكون في صدق أنه مرسل إليهم وزادوا ذلك تأكيدا بحرف التأكيد. ومن محاسن النكت هنا إثبات نون "إن" مع نون ضمير الجمع لأن ذلك زيادة إظهار لحرف التوكيد والإظهار ضرب من التحقيق بخلاف ما في سورة إبراهيم [9] من قول الأمم لرسلهم: {وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا} لأن الحكاية فيها عن أمم مختلفة في درجات التكذيب، ولأن ما في هاته الآية خطاب واحد، فكان {تَدْعُونَا} بنون واحدة هي نون المتكلم ومعه غيره فلم يقع في الجملة أكثر من ثلاث نونات بخلاف ما في سورة إبراهيم لأن الحكاية هنالك عن جمع من الرسل في "تدعوننا" فلو جاء "إننا" لاجتمع أربع نونات.
والمريب: اسم فاعل من أراب إذا أوقع في الريب. يقال: رابه وأرابه بمعنى,

ووصف الشك بذلك تأكيد كقولهم: جد جده.
[63] {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ} .
جواب عن كلامهم فلذلك لم تعطف جملة: {قال} وهو الشأن في حكاية المحاورات كما تقدم غير مرة.
وابتداء الجواب بالنداء لقصد التنبيه إلى ما سيقوله اهتماما بشأنه.
وخاطبهم بوصف القومية له للغرض الذي تقدم في قصة نوح.
والكلام على قوله: {أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً} كالكلام على نظيرها في قصة نوح.
وإنما يتجه هنا أن يسأل عن موجب تقديم {مِنْهُ} على {رَحْمَةً} هنا وتأخير {مِنْ عِنْدِهِ} [هود: 28] عن {رَحْمَةً} [هود: 28] في قصة نوح السابقة.
فالجواب لأن ذلك مع ما فيه من التفنن بعدم التزام طريقة واحدة في إعادة الكلام المتماثل، هو أيضا أسعد بالبيان في وضوح الدلالة ودفع اللبس. فلما كان مجرور "من" الابتدائية ظرفا وهو "عند" كان صريحا في وصف الرحمة بصفة تدل على الاعتناء الرباني بها وبمن أوتيها. ولما كان المجرور هنا ضمير الجلالة كان الأحسن أن يقع عقب فعل {آتَانِي} ليكون تقييد الإيتاء بأنه من الله مشير إلى إيتاء خاص ذي عناية بالمؤتى إذ لولا ذلك لكان كونه من الله تحصيلا لما أفيد من إسناد الإيتاء إليه، فتعين أن يكون المراد إيتاء خاصا، ولو أوقع {مِنْهُ} عقب {رَحْمَةً} لتوهم السامع أن ذلك عوض عن الإضافة، أي عن أن يقال: وآتاني رحمته، كقوله: {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا} [مريم: 21] أي ورحمتنا لهم، أي لنعظهم ونرحمهم.
وجملة {فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ} جواب الشرط وهو {إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ} .
والمعنى إلزام وجدل، أي إن كنتم تنكرون نبوءتي وتوبخونني على دعوتكم فأنا مؤمن بأني على بينة من ربي، أفترون أني أعدل عن يقيني إلى شككم، وكيف تتوقعون مني ذلك وأنتم تعلمون أن يقيني بذلك يجعلني خائفا من عذاب الله إن عصيته ولا أحد ينصرني.
والكلام على قوله: {مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ} كالكلام على قوله: {مَنْ

يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ} [هود: 30] في قصة نوح.
وفرع على الاستفهام الإنكاري جملة: {فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ} أي إذ كان ذلك فما دعاؤكم إياي إلا سعي في خسراني.
والمراد بالزيادة حدوث حال لم يكن موجودا لأن ذلك زيادة في أحوال الإنسان، أي فما يحدث لي إن اتبعتكم وعصيت الله إلا الخسران، كقوله تعالى حكاية عن نوح - عليه السلام -: {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلَّا فِرَاراً} [نوح: 6]، أي كنت أدعوهم وهم يسمعون فلما كررت دعوتهم زادوا على ما كانوا عليه ففروا، وليس المعنى أنهم كانوا يفرون فزادوا في الفرار لأنه لو كان كذلك لقيل هنالك: فلم يزدهم دعائي إلا من فرار، ولقيل هنا: فما تزيدونني إلا من تخسير.
والتخسير، مصدر خسر، إذا جعله خاسرا.
[64, 65] {وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} .
هذا جواب عن قولهم: {وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} فأتاهم بمعجزة تزيل الشك.
وإعادة {يَا قَوْمِ} لمثل الغرض المتقدم في قوله في قصة نوح: {وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ} [هود: 30].
والإشارة بهذه إلى الناقة حين شاهدوا انفلاق الصخرة عنها.
وإضافة الناقة إلى اسم الجلالة لأنها خلقت بقدرة الله الخارقة للعادة.
و {آيَةً} و {لَكُمْ} حالان من ناقة، وتقدم نظير هذه الحال في سورة الأعراف. وستجيء قصة في إعرابها عند قوله تعالى: {وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً} في هذه السورة [72].
وأوصاهم بتجنب الاعتداء عليها لتوقعه أنهم يتصدون لها من تصلبهم في عنادهم. وقد تقدم عقرها في سورة الأعراف.
والتمتع: الانتفاع بالمتاع. وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} في سورة

الأعراف [24].
والدار: البلد، وتقدم في قوله تعالى: {فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} في سورة الأعراف [78]، وذلك التأجيل استقصاء لهم في الدعوة إلى الحق.
والمكذوب: الذي يخبر به الكاذب. يقال: كذب الخبر، إذا اختلقه.
[66- 68] {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ} .
تقدم الكلام على نظائر بعض هذه الآية في قصة هود في سورة الأعراف.
ومتعلق {نَجَّيْنَا} محذوف.
وعطف {وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ} على متعلق {نَجَّيْنَا} المحذوف، أي نجينا صالحا عليه السلام ومن معه من عذاب الاستئصال ومن الخزي المكيف به العذاب فإن العذاب يكون على كيفيات بعضها أخزى من بعض. فالمقصود من العطف عطف منة على منة لا عطف إنجاء على إنجاء، ولذلك عطف المتعلق ولم يعطف الفعل، كما عطف في قصة عاد {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} [هود: 58] لأن ذلك إنجاء من عذاب مغاير للمعطوف عليه.
وتنوين {يَوْمِئِذٍ} تنوين عوض عن المضاف إليه. والتقدير: يوم إذ جاء أمرنا.
والخزي: الذل، وهو ذل العذاب، وتقدم الكلام عليه قريبا.
وجملة: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} معترضة.
وقد أكد الخبر بثلاث مؤكدات للاهتمام به. وعبر عن ثمود بالذين ظلموا للإيماء بالموصول إلى علة ترتب الحكم، أي لظلمهم وهو ظلم الشرك. وفيه تعريض بمشركي أهل مكة بالتحذير من أن يصيبهم مثل ما أصاب أولئك لأنهم ظالمون أيضا.
والصيحة: الصاعقة أصابتهم.
ومعنى {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} كأن لم يقيموا.
وتقدم شعيب في الأعراف.

وقرأ الجمهور {أَلا إِنَّ ثَمُوداً} – بالتنوين - على اعتبار ثمودا اسم جد الأمة. وقرأه حمزة، وحفص عن عاصم، ويعقوب، بدمن تنوين على اعتباره اسما للأمة أو القبيلة. وهما طريقتان مشهورتان للعرب في أسماء القبائل المسماة بأسماء الأجداد الأعلين.
وتقدم الكلام على {بُعْداً} في قصة نوح {وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [هود: 44].
[69- 73]} {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} .
عطف قصة على قصة.
وتأكيد الخبر بحرف "قد" للاهتمام به كما تقدم في قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ} [هود: 25].
والغرض من هذه القصة هو الموعظة بمصير قوم لوط إذ عصوا رسول ربهم فحل بهم العذاب ولم تغن عنهم مجادلة إبراهيم. وقدمت قصة إبراهيم لذلك وللتنويه بمقامه عند ربه على وجه الإدماج، ولذلك غير أسلوب الحكاية في القصص التي قبلها والتي بعدها نحو {وَإِلَى عَادٍ} [هود: 50] إلخ.
والرسل: الملائكة. قال تعالى: {جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً} [فاطر: 1].
والبشرى: اسم. للتبشير والبشارة. وتقدم عند قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} في أول سورة البقرة [25]. هذه البشرى هي التي في قوله: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ} لأن بشارة زوجه بابن بشارة له أيضا.
والباء في {بِالْبُشْرَى} للمصاحبة لأنهم جاءوا لأجل البشرى فهي مصاحبة لهم كمصاحبة الرسالة للمرسل بها.
وجملة {قَالُوا سَلاماً} في موضع البيان ل {الْبُشْرَى} ، لأن قولهم ذلك مبدأ البشرى، وإن ما اعترض بينها حكاية أحوال، وقد انتهى إليها في قوله: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ} إلى قوله: {إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} .

والسلام: التحية. وتقدم في قوله: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ} في سورة الأنعام [54].
و {سَلاماً} مفعول مطلق وقع بدلا من الفعل. والتقدير: سلمنا سلاما.
و {سَلامٌ} المرفوع مصدر مرفوع على الخبر لمبتدأ محذوف، تقديره: أمري سلام، أي لكم، مثل {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف: 18]. ورفع المصدر أبلغ من نصبه، لأن الرفع فيه تنامي معنى الفعل فهو أدل على الدوام والثبات. ولذلك خالف بينهما للدلالة على أن إبراهيم - عليه السلام - رد السلام بعبارة أحسن من عبارة الرسل زيادة في الإكرام.
قال ابن عطية: حيا الخليل بأحسن مما حيي به، أي نظرا إلى الأدب الإلهي الذي علمه لنا في القرآن بقوله: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} ، فحكي ذلك بأوجز لفظ في العربية أداء لمعنى كلام إبراهيم - عليه السلام - في الكلدانية.
وقرأ الجمهور {قَالَ سَلامٌ} - بفتح السين وبألف بعد اللام -. وقرأه حمزة، والكسائي، وخلف {قال سِلْم} - بكسر السين وبدون ألف بعد اللام - وهو اسم المسالمة. وسميت به التحية كما سميت بمرادفه "سلام" فهو من باب اتحاد وزن فعال وفعل في بعض الصفات مثل: حرام وحرم، وحلال وحل.
والفاء في قوله: {فَمَا لَبِثَ} للدلالة على التعقيب إسراعا في إكرام الضيف، وتعجيل القرى سنة عربية: ظنهم إبراهيم عليه السلام ناسا فبادر إلى قراهم.
واللبث في المكان يقتضي الانتقال عنه، أي فما أبطأ. و {أَنْ جَاءَ} يجوز أن يكون فاعل {لَبِثَ} ، أي فما لبث مجيئه بعجل حنيذ، أي فما أبطأ مجيئه مصاحبا له، أي بل عجل. ويجوز جعل فاعل {لَبِثَ} ضمير إبراهيم عليه السلام فيقدر جار ل {جَاءَ} . والتقدير: فما لبث بأن جاء به. وانتفاء اللبث مبالغة في العجل.
والحنيذ: المشوي، وهو المحنوذ. والشي أسرع من الطبخ، فهو أعون على تعجيل إحضار الطعام للضيف.
و {لا تَصِلُ إِلَيْهِ} أشد في عدم الأخذ من "لا تتناوله".
ويقال: نكر الشيء إذا أنكره أي كرهه.
وإنما نكرهم لأنه حسب أن إمساكهم عن الأكل لأجل التبرؤ من طعامه، وإنما يكون

ذلك في عادة الناس في ذلك الزمان إذا كان النازل بالبيت يضمر شرا لمضيفه، لأن أكل طعام القرى كالعهد على السلامة من الأذى، لأن الجزاء على الإحسان بالإحسان مركوز في الفطرة، فإذا الكف أحد عن تناول الإحسان فذلك لأنه لا يريد المسالمة ولا يرضى أن يكون كفورا للإحسان.
ولذلك عقب قوله: {نَكِرَهُمْ} ب {أَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} ، أي أحس في نفسه خيفة منهم وأضمر ذلك. ومصدره الإيجاس. وذلك أنه خشي أن يكونوا مضمرين شرا له، أي حبسهم قطاعا، وكانوا ثلاثة وكان إبراهيم - عليه السلام - وحده.
وجملة: {قَالُوا لا تَخَفْ} مفصولة عما قبلها، لأنها أشبهت الجواب، لأنه لما أوجس منهم خيفة ظهر أثرها على ملامحه، فكان ظهور أثرها بمنزلة قوله إني خفت منكم، ولذلك أجابوا ما في نفسه بقولهم: {لا تَخَفْ} ، فحكي ذلك عنهم بالطريقة التي تحكى بها المحاورات، أو هو جواب كلام مقدر دل عليه قوله: {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} ، أي وقال لهم: إني خفت منكم، كما حكي في سورة الحجر {قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} . ومن شأن الناس إذا امتنع أحد من قبول طعامهم أن يقولوا له: لعلك غادر أو عدو، وقد كانوا يقولون للوافد: أحرب أم سلم.
وقولهم: {إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} مكاشفة منهم إياه بأنهم ملائكة. والجملة استئناف مبينة لسبب مجيئهم.
والحكمة من ذلك كرامة إبراهيم عليه السلام وصدورهم عن علم منه.
وحذف متعلق {أُرْسِلْنَا} أي بأي شيء، إيجازا لظهوره من هذه القصة وغيرها.
وعبر عن الأقوام المراد عذابهم بطريق الإضافة {قَوْمِ لُوطٍ} إذ لم يكن لأولئك الأقوام اسم يجمعهم ولا يرجعون إلى نسب بل كانوا خليطا من فصائل عرفوا بأسماء قراهم، وأشهرها سدوم كما تقدم في الأعراف.
وجملة: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ} في موضع الحال من ضمير {أَوْجَسَ} ، لأن امرأة إبراهيم - عليه السلام - كانت حاضرة تقدم الطعام إليهم، فإن عادتهم كعادة العرب من بعدهم أن ربة المنزل تكون خادمة القوم. وفي الحديث "والعروس خادمهم". وقال مرة بن محكان التميمي:
يا ربة البيت قومي غير صاغرة ... ضمي إليك رجال القوم والغربا

وقد اختصرت القصة هنا اختصارا بديعا لوقوعها في خلال الحوار بين الرسل وإبراهيم عليه السلام، وحكاية ذلك الحوار اقتضت إتمامه بحكاية قولهم: {لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} . وأما البشرى فقد حصلت قبل أن يخبروه بأنهم أرسلوا إلى قوم لوط كما في آية سورة الذاريات [28] {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} . فلما اقتضى ترتيب المحاورة تقديم جملة: {قَالُوا لا تَخَفْ} حكيت قصة البشرى وما تبعها من المحاورة بطريقة الحال، لأن الحال تصلح للقبلية وللمقارنة وللبعدية، وهي الحال المقدرة.
وإنما ضحكت امرأة إبراهيم - عليه السلام - من تبشير الملائكة إبراهيم - عليه السلام - بغلام، وكان ضحكها ضحك تعجب واستبعاد. وقد وقع في التوراة في الإصحاح الثامن عشر من سفر التكوين "وقالوا له: أين سارة امرأتك? فقال: ها هي في الخيمة. فقالوا: يكون لسارة امرأتك ابن، وكانت سارة سامعة في باب الخيمة فضحكت سارة في باطنها قائلة: أفبالحقيقة ألد وأنا قد شخت? فقال الرب: لماذا ضحكت سارة? فأنكرت سارة قائلة لم أضحك، لأنها خافت، قال: لا بل ضحكت".
وتفريع {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ} على جملة {ضَحِكَتْ} باعتبار المعطوف وهو {وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} لأنها ما ضحكت إلا بعد أن بشرها الملائكة بابن، فلما تعجبت من ذلك بشروها بابن الابن زيادة في البشرى. والتعجيب بأن يولد لها ابن ويعيش وتعيش هي حتى يولد لابنها ابن. وذلك أدخل في العجب لأن شأن أبناء الشيوخ أن يكونوا مهزولين لا يعيشون غالبا إلا معلولين، ولا يولد لهم في الأكثر ولأن شأن الشيوخ الذين يولد لهم أن لا يدركوا يفع أولادهم بله أولاد أولادهم.
ولما بشروها بذلك صرحت بتعجبها الذي كتمته بالضحك، فقالت: {يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ} ، فجملة {قَالَتْ} جواب للبشارة.
و"يعقوب" مبتدأ {وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ} خبر، والجملة على هذا في محل الحال. وهذه قراءة الجمهور. وقرأ ابن عامر، وحمزة، وحفص {يَعْقُوبَ} بفتحة وهو حينئذ عطف على: {إِسْحَاقَ} . وفصل بين حرف العطف والمعطوف بالظرف وخطبه سهل وإن استعظمه ظاهرية النحاة كأبي حيان بقياس حرف العطف النائب هنا مناب الجار على الجار نفسه، وهو قياس ضعيف إذ كون لفظ بمعنى لفظ لا يقتضي إعطاءه جميع أحكامه كما في "مغنى اللبيب".

والنداء في {يَا وَيْلَتَى} استعارة تبعية بتنزيل الويلة منزلة من يعقل حتى تنادى، كأنها تقول: يا ويلتي احضر هنا فهذا موضعك.
والويلة: الحادثة الفظيعة والفضيحة. ولعلها المرة من الويل. وتستعمل في مقام التعجب، يقال: يا ويلتي.
واتفق القراء على قراءة {يَا وَيْلَتَى} - بفتحة مشبعة في آخره بألف -. والألف التي في آخر {يَا وَيْلَتَى} هنا يجوز كونها عوضا عن ياء المتكلم في النداء. والأظهر أنها ألف الاستغاثة الواقعة خلفا عن لام الاستغاثة. وأصله: يا لويلة. وأكثر ما تجيء هذه الألف في التعجب بلفظ عجب، نحو: يا عجبا، وباسم شيء متعجب منه، نحو: يا عشبا.
وكتب في المصحف بإمالة ولم يقرأ بالإمالة، قال الزجاج: كتب بصورة الياء على أصل ياء المتكلم.
والاستفهام في {أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ} مستعمل في التعجب. وجملة {أَنَا عَجُوزٌ} في موضع الحال، وهي مناط التعجب.
والبعل: الزوج. وسيأتي بيانه عند تفسير قوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} في سورة النور [31]، فانظره.
وزادت تقرير التعجب بجملة {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ} وهي جملة مؤكدة لصيغة التعجب فلذلك فصلت عن التي قبلها لكمال الاتصال، وكأنها كانت مترددة في أنهم ملائكة فلم تطمئن لتحقيق بشراهم.
وجملة {هَذَا بَعْلِي} مركبة من مبتدأ وخبر لأن المعنى هذا المشار إليه هو بعلي، أي كيف يكون له ولد وهو كما ترى. وانتصب {شَيْخاً} على الحال من اسم الإشارة مبينة للمقصود من الإشارة.
وقرأ ابن مسعود {وَهَذَا بَعْلِي شَيْخ} - برفع شيخ - على أن "بعلي" بيان من "هذا" و"شيخ" خبر المبتدأ. ومعنى القراءتين واحد.
وقد جرت على هذه القراءة نادرة لطيفة وهي ما أخبرنا شيخنا الأستاذ الجليل سالم أبو حاجب أن أبا العباس المبرد دعي عند بعض الأعيان في بغداد إلى مأدبة، فلما فرغوا من الطعام غنت من وراء الستار جارية لرب المنزل ببيتين:

وقالوا لها هذا حبيبك معرض ... فقالت: ألا إعراضا أهون الخطب
فما هي إلا نظرة وابتسامة ... فتصطك رجلاه ويسقط للجنب
فطرب كل من بالمجلس إلا أبا العباس المبرد فلم يتحرك، فقال له رب المنزل: ما لك لم يطربك هذا?.
فقالت الجارية: معذور يحسبني لحنت في أن قلت: معرض بالرفع ولم يعلم أن عبد الله بن مسعود قرأ "وهذا بعلي شيخ" فطرب المبرد لهذا الجواب"1".
وجواب الملائكة إياها بجملة {أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} إنكار لتعجبها لأنه تعجب مراد منه الاستبعاد. و {أَمْرِ اللَّهِ} هو أمر التكوين، أي أتعجبين من قدرة الله على خرق العادات. وجوابهم جار على ثقتهم بأن خبرهم حق منبي عن أمر الله.
وجملة {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ} تعليل لإنكار تعجبها، لأن الإنكار في قوة النفي، فصار المعنى: لا عجب من أمر الله لأن إعطاءك الولد رحمة من الله وبركة، فلا عجب في تعلق قدرة الله بها وأنتم أهل لتلك الرحمة والبركة فلا عجب في وقوعها عندكم.
ووجه تعليل نفي العجب بهذا أن التعجب إما أن يكون من صدور هذا من عند الله وإما أن يكون في تخصيص الله به إبراهيم عليه السلام وامرأته فكان قولهم: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ} مفيدا تعليل انتفاء العجبين.
وتعريف {الْبَيْتِ} تعريف حضور، وهو البيت الحاضر بينهم الذي جرى فيه هذا التحاور، أي بيت إبراهيم - عليه السلام -. والمعنى أهل هذا البيت.
والمقصود من النداء التنويه بهم ويجوز كونه اختصاصا لزيادة بيان المراد من ضمير الخطاب.
وجملة: {إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} تعليل لتوجه رحمته وبركاته إليهم بأن الله يحمد من يطيعه، وبأنه مجيد، أي عظيم الشأن لا حد لنعمه فلا يعظم عليه أن يعطيها ولدا، وفي اختيار وصف الحميد من بين الأسماء الحسنى كناية عن رضى الله تعالى على إبراهيم - عليه
ـــــــ
1 - رأيت هذه النادرة في الباب الثاني من كتاب "الكنايات" لأبي العباس الجرجاني طبع السعادة بالقاهرة سنة 1326 واحسبها دخيلة فيه.

السلام - وأهله.
[64- 76] {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} .
التعريف في {الرَّوْعُ} وفي {الْبُشْرَى} تعريف العهد الذكري، وهما المذكوران آنفا، فالروع: مرادف الخيفة.
وقوله: {يُجَادِلُنَا} هو جواب {لَمَّا} صيغ بصيغة المضارع لاستحضار الحالة العجيبة كقوله: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ} [هود: 38]. والمجادلة: المحاورة. وقد تقدمت في قوله: {وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} في سورة النساء [107].
وقوله: {في قَوْمِ لُوطٍ} على تقدير مضاف، أي في عقاب قوم لوط. وهذا من تعليق الحكم باسم الذات، والمراد حال من أحوالها يعينه المقام، كقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] أي أكلها.
والمجادلة هنا: دعاء ومناجاة سأل بها إبراهيم عليه السلام ربه العفو عن قوم لوط خشية إهلاك المؤمنين منهم.
وقد تكون المجادلة مع الملائكة. وعديت إلى ضمير الجلالة لأن المقصود من جدال الملائكة التعرض إلى أمر الله بصرف العذاب عن قوم لوط.
وال {حَلِيمٌ} الموصوف بالحلم وهو صفة تقتضي الصفح واحتمال الأذى.
وال {أَوَّاهٌ} أصله الذي يكثر التأوه، وهو قول: أوه. وأوه: اسم فعل نائب مناب أتوجع، وهو هنا كناية عن شدة اهتمامه بهموم الناس.
وال {مُنِيبٌ} من أناب إذا رجع، وهو مشتق من النوب وهو النزول. والمراد التوبة من التقصير، أي محاسب نفسه على ما يحذر منه.
وحقيقة الإنابة: الرجوع إلى الشيء بعد مفارقته وتركه.
وجملة {يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} مقول محذوف دل عليه المقام وهو من بديع الإيجاز، وهو وحي من الله إلى إبراهيم - عليه السلام -، أو جواب الملائكة إبراهيم - عليه

السلام -. فإذا كان من كلام الله فقوله: {أَمْرُ رَبِّكَ} إظهار في مقام الإضمار لإدخال الروع في ضمير السامع.
و {أَمْرُ الله} قضاؤه، أي أمر تكوينه.
[77] {ولما وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} .
قد علم أن الملائكة ذاهبون إلى قوم لوط من قوله: {إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} [هود: 70]. فالتقدير: ففارقوا إبراهيم وذهبوا غلى لوط عليهما السلام فلما جاءوا لوطا، فحذف ما دل عليه المقام إيجازا قرآنيا بديعا.
وقد جاءوا لوطا كما جاءوا إبراهيم - عليهما السلام - في صورة البشر، فظنهم ناسا وخشي أن يعتدي عليهم قومه بعادتهم الشنيعة، فلذلك سيء بهم.
ومعنى {ضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً} ضاق ذرعه بسببهم، أي بسبب مجيئهم فحول الإسناد إلى المضاف إليه وجعل المسند إليه تمييزا لأن إسناد الضيق إلى صاحب الذرع أنسب بالمعنى المجازي، وهو أشبه بتجريد الاستعارة التمثيلية.
والذرع: مد الذراع فإذا أسند إلى الآدمي فهو تقدير المسافة. وإذا أسند إلى البعير فهو مد ذراعيه في السير على قدر سعة خطوته، فيجوز أن يكون: ضاق ذرعا تمثيلا بحال الإنسان الذي يريد مد ذراعه فلا يستطيع مدها كما يريد فيكون ذرعه أضيق من معتاده. ويجوز أن يكون تمثيلا بحال البعير المثقل بالحمل أكثر من طاقته فلا يستطيع مد ذراعيه كما اعتاده. وأياما كان فهو استعارة تمثيلية لحال من لم يجد حيلة في أمر يريد عمله بحال الذي لم يستطع مد ذراعه كما يشاء.
وقوله: {هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} قاله في نفسه كما يناجي المرء نفسه إذا اشتد عليه أمر.
والعصيب: الشديد فيما لا يرضي. يقال: يوم عصيب إذا حدث فيه أمر عظيم من أحوال الناس أو أحوال الجو كشدة البرد وشدة الحر. وهو بزنة فعيل بمعنى فاعل ولا يعرف له فعل مجرد وإنما يقال: اعصوصب الشر اشتد. قالوا: هو مشتق من قولك: عصيت الشيء إذا شددته. وأصل هذه المادة يفيد الشد والضغط، يقال: عصب الشيء إذا لواه، ومنه العصابة. ويقال: عصبتهم السنون إذا أجاعتهم. ولم أقف على فعل مجرد

لوصف اليوم بعصيب. وأراد: أنه سيكون عصيبا لما يعلم من عادة قومه السيئة وهو مقتض أنهم جاءوه نهارا.
ومن بديع ترتيب هذه الجمل أنها جاءت على ترتيب حصولها في الوجود، فإن أول ما يسبق إلى نفس الكاره للأمر أن يساء به ويتطلب المخلص منه، فإذا علم أنه لا مخلص منه ضاق به ذرعا، ثم يصدر تعبيرا عن المعاني وترتيبا عنه كلاما يريح به نفسه.
وتصلح هذه الآية لأن تكون مثالا لإنشاء المنشئ إنشاءه على حسب ترتيب الحصول في نفس الأمر، هذا أصل الإنشاء ما لم تكن في الكلام دواعي التقديم والتأخير ودواعي الحذف والزيادة.
[78] {وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} .
أي جاءه بعض قومه. وإنما أسند المجيء إلى القوم لأن مثل ذلك المجيء دأبهم وقد تمالؤوا على مثله، فإذا جاء بعضهم فسيعقبه مجيء آخر في وقت آخر. وهذا من إسناد الفعل إلى القبيلة إذا فعله بعضهما، كقول الحارث ابن وعلة الجرمي:
قومي هم قتلوا أميمة أخي ... فإذا رميت يصيبني سهمي
و {يُهْرَعُونَ} - بضم الياء وفتح الراء على صيغة المبني للمفعول- فسروه بالمشي الشبيه بمشي المدفوع، وهو بين الخبب والجمز، فهو لا يكون إلا مبنيا للمفعول لأن أصله مشي الأسير الذي يسرع به. وهذا البناء يقتضي أن الهرع هو دفع الماشي حين مشيه. إلا أن ذلك تنوسي وبقي أهرع بمعنى سار سيرا كسير المدفوع، ولذلك قال جمع من أهل اللغة: إنه من الأفعال التي التزموا فيها صيغة المفعول لأنها في الأصل مسندة إلى فاعل غير معلوم. وفسره في "الصحاح" و"القاموس" بأنه الارتعاد من غضب أو خوف، وعلى الوجهين فجملة {يُهْرَعُونَ} حال.
وقد طوى القرآن ذكر الغرض الذي جاؤوا لأجله مع الإشارة إليه بقوله: {وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} فقد صارت لهم دأبا لا يسعون إلا لأجله.
وجملة {قَالَ يَا قَوْمِ} الخ مستأنفة استئنافا بيانيا ناشئا عن جملة {وَجَاءَهُ قَوْمُهُ} ، إذ قد علم السامع غرضهم من مجيئهم، فهو بحيث يسأل عما تلقاهم به.

وبادرهم لوط عليه السلام بقوله: {يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} . وافتتاح الكلام بالنداء وبأنهم قومه ترقيق لنفوسهم عليه، لأنه يعلم تصلبهم في عادتهم كما دل عليه قولهم: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ} [هود: 79]، كما سيأتي. والإشارة ب {هَؤُلاءِ} إلى {بَنَاتِي} . و {بَنَاتِي} بدل من اسم الإشارة، والإشارة مستعملة في العرض، والتقدير: فخذوهن.
وجملة {هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} تعليل للعرض. ومعنى {هُنَّ أَطْهَرُ} أنهن حلال لكم يحلن بينكم وبين الفاحشة، فاسم التفضيل مسلوب المفاضلة قصد به قوة الطهارة.
و {هَؤُلاءِ} إشارة إلى جمع، إذ بين بقوله: {بَنَاتِي} .
وقد روي أنه لم يكن له إلا ابنتان، فالظاهر أن إطلاق البنات هنا من قبيل التشبيه البليغ، أي هؤلاء نساؤهن كبناتي. وأراد نساء من قومه بعدد القوم الذين جاؤوا يهرعون إليه. وهذا معنى ما فسر به مجاهد، وابن جبير، وقتادة، وهو المناسب لجعلهن لقومه إذ قال: {هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} ، فإن قومه الذين حضروا عنده كثيرون، فيكون المعنى: هؤلاء النساء فتزوجوهن. وهذا أحسن المحامل.
وقيل: أراد بنات صلبه، وهو رواية عن قتادة. وإذ كان المشهور أن لوطا عليه السلام له ابنتان صار الجمع مستعملا في الاثنين بناء على أن الاثنين تعامل معاملة الجمع في الكلام كقوله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [هود: 4].
وقيل: كان له ثلاث بنات.
وتعترض هذا المحمل عقبتان.
الأولى: أن القوم كانوا عدد كثيرا فكيف تكفيهم بنتان أو ثلاث?!
الثانية: أن قوله: {هَؤُلاءِ بَنَاتِي} عرض عليهم كما علمت آنفا، فكيف كانت صفة هذه التخلية بين القوم وبين البنات وهم عدد كثير، فإن كان تزويجا لم يكفين القوم وإن كان غير تزويج فما هو?.
والجواب عن الأول: أنه يجوز أن يكون عدد القوم الذين جاؤوه بقدر عدد بناته أو أن يكون مع بناته حتى من قومه. وعن الثاني: أنه يجوز أن يكون تصرف لوط - عليه السلام - في بناته بوصف الأبوة، ويجوز أن يكون تصرفا بوصف النبوة بالوحي للمصلحة

أن يكون من شرع لوط - عليه السلام - إباحة تمليك الأب بناته إذا شاء، فإن كان أولئك الرهط شركاء في ملك بناته كان استمتاع كل واحد بكل واحدة منهن حلالا في شريعته على نحو ما كان البغاء من بقايا الجاهلية في صدر الإسلام قبل أن ينسخ.
وأما لحاق النسب في أولاد من تحمل منهن فيجوز أن يكون الولد لاحقا بالذي تليطه أمه به من الرجال الذين دخلوا عليها، كما كان الأمر في البغايا في صدر الإسلام، ويجوز أن لا يلحق الأولاد بآباء فيكونوا لاحقين بأمهاتهم مثل ابن الزنى وولد اللعان، ويكون هذا التحليل مباحا ارتكابا لأخف الضررين، وهو مما يشرع شرعا مؤقتا مثل ما شرع نكاح المتعة في أول الإسلام على القول بأنه صار محرما وهو قول الجمهور.
وقد اشتغل المفسرون عن تحرير هذا بمسألة تزويج المؤمنات بالكفار وهو فضول.
وفرع على قوله: {هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} أن أمرهم بتقوى الله لأنهم إذا امتثلوا ما عرض لهم من النساء فاتقوا الله.
وقرأ الجمهور {وَلا تُخْزُونِ} بحذف ياء المتكلم تخفيفا. وأثبتها أبو عمرو.
والخزي: الإهانة والمذلة. وتقدم آنفا. وأراد مذلته.
و {فِي} للظرفية المجازية. جعل الضيف كالظرف، أي لا تجعلوني مخزيا عند ضيفي إذ يلحقهم أذى في ضيافتي، لأن الضيافة جوار عند رب المنزل، فإذا لحقت الضيف إهانة كانت عارا على رب المنزل.
والضيف: الضائف، أي النازل في منزل أحد نزولا غير دائم، لأجل مرور في سفر أو إجابة دعوة.
وأصل ضيف مصدر فعل ضاف يضيف، ولذلك يطلق على الواحد وأكثر، وعلى المذكر والمؤنث بلفظ واحد، وقد يعامل معاملة غير المصدر فيجمع كما قال عمرو بن كلثوم:
نزلتم منزل الأضياف منا
وقد ظن لوط - عليه السلام - الملائكة رجالا مارين ببيته عنده للاستراحة والطعام والمبيت.
والاستفهام في {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} إنكار وتوبيخ لأن إهانة الضيف مسبة لا

يفعلها إلا أهل السفاهة.
وقوله: {مِنْكُمْ} بمعنى بعضكم أنكر عليهم تمالؤهم على الباطل وانعدام رجل رشيد من بينهم، وهذا إغراء لهم على التعقل ليظهر فيهم من يتفطن إلى فساد ما هم فيه فينهاهم، فإن ظهور الرشيد في الفئة الضالة يفتح باب الرشاد لهم.وبالعكس تمالؤهم على الباطل يزيدهم ضراوة به.
[79, 80] { قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} .
فصلت جملة {قالوا} عن التي قبلها لوقوعها موقع المحاورة مع لوط - عليه السلام -.
و {لَقَدْ عَلِمْتَ} تأكيد لكونه يعلم، فأكد بتنزيله منزلة من ينكر أنه يعلم لأن حاله في عرضه بناته عليهم كحال من لا يعلم خلقهم، وكذلك التوكيد في {وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} ، وكلا الخبرين مستعمل في لازم فائدة الخبر، أي نحن نعلم أنك قد علمت ما لنا رغبة في بناتك وإنك تعلم مرادنا.
ومثله قول حكاية عن قوم إبراهيم: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: 65].
و {مَا} الأولى نافية معلقة لفعل العلم عن العمل، و {مَا} الثانية موصولة.
والحق: ما يحق، أي يجب لأحد أو عليه، فيقال: له حق في كذا، إذا كان مستحقا له، ويقال: ما له حق في كذا بمعنى لا يستحقه، فالظاهر أنه أطلق هنا كناية عن عدم التعلق بالشيء وعن التجافي عنه. وهو إطلاق لم أر مثله، وقد تحيز المفسرون في تقريره. والمعنى: ما لنا في بناتك رغبة.
وجوابه ب {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً} جواب يائس من ارعوائهم.
و {لَوْ} مستعملة في التمني، وهذا أقصى ما أمكنه في تغيير هذا المنكر.
والباء في {بِكُمْ} للاستعلاء، أي عليكم. يقال: ما لي به قوة وما لي به طاقة. ومنه قوله تعالى: {قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ} [البقرة: 249].
ويقولون: ما لي بهذا الأمر يدان، أي قدرة أو حيلة عليه.

والمعنى: ليت لي قوة أدفعكم بها، ويريد بذلك قوة أنصار لأنه كان غريبا بينهم.
ومعنى {أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} أو أعتصم بما فيه منعة، أي بمكان أو ذي سلطان يمنعني منكم.
والركن: الشق من الجبل المتصل بالأرض.
[81] {قالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} .
هذا كلام الملائكة للوط عليه السلام كاشفوه بأنهم ملائكة مرسلون من الله تعالى. وإذ قد كانوا في صورة البشر وكانوا حاضري المجادلة حكى كلامهم بمثل ما تحكى به المحاورات فجاء قولهم بدون حرف العطف على نحو ما حكي قول لوط - عليه السلام - وقول قومه. وهذا الكلام الذي كلموا به لوطا عليه السلام وحي أوحاه الله إلى لوط - عليه السلام - بواسطة الملائكة، فإنه لما بلغ بلوط توقع أذى ضيفه مبلغ الجزع ونفاد الحيلة جاءه نصر الله على سنة الله تعالى مع رسله: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} [يوسف: 110].
وابتدأ اللائكة خطابهم لوطا عليه السلام بالتعريف بأنفسهم لتعجيل الطمأنينة إلى نفسه لأنه إذا علم أنهم ملائكة علم أنهم ما نزلوا إلا لإظهار الحق. قال تعالى: {مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ} [الحجر: 8]. ثم ألحقوا هذا التعريف بالبشارة بقولهم: {لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} . وجيء بحرف تأكيد النفي للدلالة على أنهم خاطبوه بما يزيل الشك من نفسه. وقد صرف الله الكفار عن لوط - عليه السلام - فرجعوا من حيث أتوا، ولو أزال عن الملائكة التشكل بالأجساد البشرية فأخفاهم عن عيون الكفار لحسبوا إن لوطا - عليه السلام - أخفاهم فكانوا يؤذون لوطا - عليه السلام -. ولذلك قال له الملائكة: {لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} ولم يقولوا لن ينالوا، لأن ذلك معلوم فإنهم لما أعلموا لوطا - عليه السلام - بأنهم ملائكة ما كان يشك في أن الكفار لا ينالونهم، ولكنه يخشى سورتهم أن يتهموه بأنه أخفاهم.
ووقع في التوراة أن الله أعمى أبصار المراودين لوطا - عليه السلام - عن ضيفه حتى قالوا: إن ضيف لوط سحرة فانصرفوا. وذلك ظاهر قوله تعالى: في سورة القمر [37]

{وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ} .
وجملة {لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} مبينة لإجمال جملة {إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ} ، فلذلك فصلت فلم تعطف لأنها بمنزلة عطف البيان.
وتفريع الأمر بالسرى على جملة {لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} لما في حرف {لَنْ} من ضمان سلامته في المستقبل كله، فلما رأى ابتداء سلامته منهم بانصرافهم حسن أن يبين له وجه سلامته في المستقبل منهم باستئصالهم وبنجاته، فلذلك موقع فاء التفريع.
و"اسر" أمر بالسرى – بضم السين والقصر -. وهو اسم مصدر للسير في الليل إلى الصباح. وفعله: سرى يقال بدون همزة في أوله ويقال: أسرى بالهمزة.
قرأ نافع، وابن كثير. وأبو جعفر - بهمزة وصل - على أنه أمر من سرى. وقرأه الباقون بهمزة قطع على أنه من أسرى.
وقد جمعوه في الأمر مع أهله لأنه إذا سرى بهم فقد سرى بنفسه إذ لو بعث أهله وبقي هو لما صح أن يقال: اسر بهم للفرق بين أذهبت زيدا وبين ذهبت به.
والقطع بكسر القاف: الجزء من الليل.
وجملة {وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ} معترضة بين المستثنى والمستثنى منه. والالتفات المنهي عنه هو الالتفات إلى المكان المأمور بمغادرته كما دلت عليه القرينة.
وسبب النهي عن الالتفات التقصي في تحقيق معنى الهجرة غضبا لحرمات الله بحيث يقطع التعلق بالوطن ولو تعلق الرؤية. وكان تعيين الليل للخروج كيلا يلاقي ممانعة من قومه أو من زوجه فيشق عليه دفاعهم.
و {إِلَّا امْرَأَتَكَ} استثناء من {أَهْلِكَ} ، وهو منصوب في قراءة الجمهور اعتبارا بأنه مستثنى من {أَهْلِكَ} وذلك كلام موجب، والمعنى: لا تسر بها، أريد أن لا يعلمها بخروجه لأنها كانت مخلصة لقومها فتخبرهم عن زوجها. وقرأه ابن كثير، وأبو عمرو – برفع - {امْرَأَتَكَ} على أنه استثناء من {أَحَدٌ} الواقع في سياق النهي، وهو في معنى النفي. قيل: إن امرأته خرجت معهم ثم التفتت إلى المدينة فحنت إلى قومها فرجعت إليهم. والمعنى انه نهاهم عن الالتفات فامتثلوا ولم تمتثل امرأته للنهي فالتفتت، وعلى هذا الوجه فالاستثناء من كلام مقدر دل عليه النهي. والتقدير: فلا يلتفتون إلا امرأتك

تلتفت.
وجملة {إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ} استئناف بياني ناشئ عن الاستثناء من الكلام المقدر.
وفي قوله: {مَا أَصَابَهُمْ} استعمال فعل المضي في معنى الحال، ومقتضى الظاهر أن يقال: ما يصيبهم، فاستعمال فعل المضي لتقريب زمن الماضي من الحال نحو قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] الآية، أو في معنى الاستقبال تنبيها على تحقق وقوعه نحو قوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل: 1].
وجملة {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ} مستأنفة ابتدائية قطعت عن التي قيلها اهتماما وتهويلا.
والموعد: وقت الوعد. والوعد أعم من الوعيد فيطلق على تعيين الشر في المستقبل. والمراد بالموعد هنا موعد العذاب الذي علمه لوط عليه السلام إما بوحي سابق، وإما بقرينة الحال، وإما بإخبار من الملائكة في ذلك المقام طوته الآية هنا إيجازا، وبهذه الاعتبارات صح تعريف الوعد بالإضافة إلى ضميرهم.
وجملة {أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} استئناف بياني صدر من الملائكة جوابا عن سؤال يجيش في نفسه من استبطاء نزول العذاب.
والاستفهام تقريري، ولذلك يقع في مثله التقرير على النفي إرخاء للعنان مع المخاطب المقرر ليعرف خطأه. وإنما قالوا ذلك في أول الليل.
[82, 83] {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} .
تقدم الكلام على نظير {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا} .
وقوله {جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} تعود الضمائر الثلاثة المجرورة بالإضافة وبحرف "على" على القرية المفهومة من السياق.
والمعنى أن القرية انقلبت عليهم انقلاب خسف حتى صار عالي البيوت سافلا. أي وسافلها عاليا، وذلك من انقلاب الأرض بهم.

وإنما اقتصر على ذكر جعل العالي سافلا لأنه أدخل في الإهانة.
والسجيل: فسر بواد نار في جهنم يقال: سجيل باللام، وسجين بالنون. و {مِنْ} تبعيضية، وهو تشبيه بليغ، أي بحجارة كأنها من سجيل جهنم، كقول كعب بن زهير:
وجلدها من أطوم البيت
وقد جاء في التوراة: أن الله أرسل عليهم كبريتا ونارا من السماء. ولعل الخسف فجر من الأرض براكين قذفت عليهم حجارة معادن محرقة كالكبريت، أو لعل بركانا كان قريبا من مدنهم انفجر باضطرابات أرضية ثم زال من ذلك المكان بحوادث تعاقبت في القرون، أو طمى عليه البحر وبقي أثر البحر عليها حتى الآن، وهو المسمى بحيرة لوط أو البحر الميت.
وقيل: سجيل معرب "سنك جبل" عن الفارسية أي حجر مخلوط بطين.
والمنضود: الموضوع بعضه على بعض. والمعنى هنا أنها متتابعة متتالية في النزول ليس بينها فترة. والمراد وصف الحجارة بذلك إلا أن الحجارة لما جعلت من سجيل أجري الوصف على سجيل وهو يفضي إلى وصف الحجارة لأنها منه.
والمسومة: التي لها سيما، وهي العلامة. والعلامات توضع لأغراض، منها عدم الاشتباه، ومنها سهولة الإحضار، وهو هنا مكنى به عن المعدة المهيئة لأن الإعداد من لوازم التوسيم بقرينة قوله: {عِنْدَ رَبِّكَ} لأن تسويمها عند الله هو تقديره إياها لهم.
وضمير {وَمَا هِيَ} يصلح لأن يعود إلى ما عادت إليه الضمائر المجرورة قبله وهي المدينة، فيكون المعنى وما تلك القرية ببعيد عن المشركين، أي العرب، فمن شاء فليذهب إليها فينظر مصيرها، فالمراد البعد المكاني. ويصلح لأن يعود إلى الحجارة، أي وما تلك الحجارة ببعيد، أي أن الله قادر على أن يرمي المشركين بمثلها. والبعد بمعنى تعذر الحصول ونفيه بإمكان حصوله. وهذا من الكلام الموجه مع صحة المعنيين وهو بعيد.
وجرد {بَعِيدٍ} عن تاء التأنيث مع كونه خبرا عن الحجارة وهي مؤنث لفظا، ومع كون {بَعِيدٍ} هنا بمعنى فاعل لا بمعنى مفعول، فالشأن أن يطابق موصوفه في تأنيثه، ولكن العرب قد يجرون فعيلا الذي بمعنى فاعل مجرى الذي بمعنى مفعول إذا جرى على مؤنث غير حقيقي التأنيث زيادة في التخفيف، كقوله تعالى في سورة الأعراف [56] {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} وقوله: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً} [الأحزاب:

63] وقوله: {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78]. وقيل: إن قوله: {وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} [مرسم: 28] من هذا القبيل، أي باغية. وقيل: أصله فعول بغوي فوقع إبدال وإدغام. وتأول الزمخشري ما هنا على أنه صفة لمحذوف، أي بمكان بعيد، أو بشيء بعيد على الاحتمالين في معاد ضمير {هِيَ} .
[84- 86] {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} .
قوله: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً} إلى قولهك {مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} نظير قوله: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً} [هود: 61] الخ.
أمرهم بثلاثة أمور:
أحدها: إصلاح الاعتقاد، وهو من إصلاح العقول والفكر.
وثالثها: صلاح الأعمال والتصرفات في العالم بأن لا يفسدوا في الأرض.
ووسط بينهما الثاني: وهو شيء من صلاح العمل خص بالنهي لأن إقدامهم عليه كان فاشيا فيهم حتى نسوا ما فيه من قبح وفساد وهذا هو الكف عن نقص المكيال والميزان.
فابتدأ بالأمر بالتوحيد لأنه أصل الصلاح ثم أعقبه بالنهي عن مظلمة كانت متفشية فيهم وهي خيانة المكيال والميزان. وقد تقدم ذلك في سورة الأعراف. وهي مفسدة عظيمة لأنها تجمع خصلتي السرقة والغدر، لأن المكتال مسترسل مستسلم. ونهاهم عن الإفساد في الأرض وعن نقص المكيال والميزان فعززه بالأمر بضده وهو إيفاؤهما.
وجملة {إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} تعليل للنهي عن نقص المكيال والميزان. والمقصود من {إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} أنكم بخير. وإنما ذكر رؤيته ذلك لأنها في معنى الشهادة عليهم بنعمة الله عليهم فحق عليهم شكرها. والباء في {بِخَيْرٍ} للملابسة.
والخير: حسن الحالة. ويطلق على المال كقوله: {إِنْ تَرَكَ خَيْراً} [البقرة: 180].

والأولى حمله عليه هنا ليكون أدخل في تعليل النهي، أي أنكم في غنى عن هذا التطفيف بما أوتيتم من النعمة والثروة. وهذا التعليل يقتضي قبح ما يرتكبونه من التطفيف في نظر أهل المرؤءة ويقطع منهم العذر في ارتكابه. وهذا حث على وسيلة بقاء النعمة.
ثم ارتقى في تعليل النهي بأنه يخاف عليهم عذابا يحل بهم إما يوم القيامة وإما في الدنيا. ولصلوحيته للأمرين أجمله بقوله: {عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} . وهذا تحذير من عواقب كفران النعمة وعصيان واهبها.
و {مُحِيطٍ} وصف ل {يَوْمٍ} على وجه المجاز العقلي، أي محيط عذابه، والقرينة هي إضافة العذاب إليه.
وإعادة النداء في جملة {وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ} لزيادة الاهتمام بالجملة والتنبيه لمضمونها، وهو الأمر بإيفاء المكيال والميزان. وهذا الأمر تأكيد للنهي عن نقصهما. والشيء يؤكد بنفي ضده، كقوله تعالى: {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} [طه: 79]. لزيادة الترغيب في الإيفاء بطلب حصوله بعد النهي عن ضده.
والباء في قوله: {بِالْقِسْطِ} للملابسة. وهو متعلق ب {أَوْفُوا} فيفيد إن الإيفاء يلابسه القسط، أي العدل تعليلا للأمر به، لأن العدل معروف حسن، وتنبيها على أن ضده ظلم وجور وهو قبيح منكر.
والقسط تقدم في قوله تعالى: {قَائِماً بِالْقِسْطِ} في آل عمران [18].
والبخس: النقص. وتقدم في قصته في سورة الأعراف مفسرا. وذكر ذلك بعد النهي عن نقص المكيال والميزان تذييل بالتعميم بعد تخصيص. لأن التطفيف من بخس الناس في أشيائهم، وتعدية {تَبْخَسُوا} إلى مفعولين باعتباره ضد أعطى فهو من باب كسا.
والعثي – بالياء - من باب سعى ورمى ورضي، وبالواو كدعا، هو: الفساد. ولذلك فقوله: {مُفْسِدِينَ} حال مؤكدة لعاملها مثل التوكيد اللفظي مبالغة في النهي عن الفساد.
والمراد: النهي عن الفساد كله، كما يدل عليه قوله: {فِي الْأَرْضِ} المقصود منه تعميم أماكن الفساد.
والفساد تقدم في قوله تعلى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} في أول سورة البقرة [11].

وقد حصل النهي عن الأعم بعد النهي عن العام، وبه حصلت خمسة مؤكدات: بالأمر بعد النهي عن الفساد الخاص، ثم بالتعميم بعد التخصيص، ثم بزيادة التعميم، ثم بتأكيد التعميم الأعم بتعميم المكان، ثم بتأكيده بالمؤكد اللفظي.
وسلك في نهيهم عن الفساد مسلك التدرج فابتدأه بنهيهم عن نوع من الفساد فاش فيهم وهو التطفيف. ثم ارتقى فنهاهم عن جنس ذلك النوع وهو أكل أموال الناس. ثم ارتقى فنهاهم عن الجنس الأعلى للفساد الشامل لجميع أنواع المفاسد وهو الإفساد في الأرض كله. وهذا من أساليب الحكمة في تهيئة النفوس بقبول الإرشاد والكمال.
وإذ قد كانت غاية المفسد من الإفساد اجتلاب ما فيه نفع عاجل له من نوال ما يحبه أعقب شعيب موعظته بما أدخره الله من الثواب على امتثال أمره وهو النفع الباقي هو خير لهم مما يقترفونه من المتاع العاجل.
ولفظ {بَقِيَّت} كلمة جامعة لمعان في كلام العرب، منها: الدوام، ومؤذنة بضده وهو الزوال، فأفادت أن ما يقترفونه متاع زائل، وما يدعوهم إليه حظ باق غير زائل، وبقاؤه دنيوي وأخروي.
فأما كونه دنيويا فلأن الكسب الحلال ناشئ عن استحقاق شرعي فطري، فهو حاصل من تراض بين الأمة فلا يحنق المأخوذ منه على آخذه فيعاديه ويتربص به الدوائر فبتجنب ذلك تبقى الأمة في أمة من توثب بعضها على بعض، ومن أجل ذلك قرن الأموال بالدماء في خطبة حجة الوداع إذ قال النبيء صل الله عليه وسلم: "إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام" فكما أن إهراق الدماء بدون حق يفضي إلى التقاتل والتفاني بين الأمة فكذلك انتزاع الأموال بدون وجهها يفضي إلى التواثب والتثاور فتكون معرضة للابتزاز والزوال. وأيضا فلأن نوالها بدون رضى الله عن وسائل أخذها كفران لله يعرض إلى تسليط عقابه بسلبها من أصحابها. قال ابن عطاء الله: "من لم يشكر النعم فقد تعرض لزوالها ومن شكرها فقد قيدها بعقالها".
وأما كونه أخرويا فلأن نهي الله عنها مقارنا للوعد بالجزاء على تركها، وذلك الجزاء من النعيم الخالد كما في قوله تعالى: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَرَدّاً} [مريم: 76].
على أن لفظ "لبقية" يتحمل معنى آخر من الفضل في كلام العرب، وهو معنى الخير

والبركة لأنه لا يبقى إلا ما يحتفظ به أصحابه وهو النفائس، ولذلك أطلقت "البقية" على الشيء النفيس المبارك كما في قوله تعالى: {فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ} [البقرة: 248]، وقوله: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ} [هود: 116] وقال عمرو بن معد يكرب أو رويشد الطائي:
إن تذنبوا ثم تأتيني بقيتكم ... فما علي بذنب منكم فوت
قال المرزوقي: المعنى ثم يأتيني خياركم وأماثلكم يقيمون المعذرة وهذا كما يقال: فلان من بقية أهل، أي من أفاضلهم.
وفي كلمة "البقية" معنى آخر وهو الإبقاء عليهم، والعرب يقولون عند طلب الكف عن القتال: ابقوا علينا، ويقولون البقية البقية بالنصب على الإغراء، قال الأعشى:
قالوا -البقية والهندي يحصدهم- ... -ولا بقية إلا الثار- وانكشفوا
وقال مسور بن زيادة الحارثي:
أذكر بالبقيا على من أصابني ... وبقياي أني جاهد غير مؤتلي
والمعنى إبقاء الله عليكم ونجاتكم من عذاب الاستئصال خيرلكم من هذه الأعراض العاجلة السيئة العاقبة، فيكون تعريضا بوعيد الاستئصال. وكل هذه المعاني صالحة هنا. ولعل كلام شعيب - عليه السلام - قد اشتمل على جميعها فحكاه القرآن بهذه الكلمة الجامعة.
وإضافة "بقية" إلى اسم الجلالة على المعاني كلها جمعا وتفريقا إضافة تشريف وتيمن. زهي إضافة على معنى اللام لأن البقية من فضله أو مما أمر به.
ومعنى {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} إن كنتم مصدقين بما أرسلت به إليكم، لأنهم لا يتركون مفاسدهم ويرتكبون ما أمروا به إلا إذا صدقوا بأن ذلك من عند الله، فهنالك تكون بقية الله خيرا لهم، فموقع الشرط هو كون البقية خيرا لهم، أي لا تكون البقية خيرا إلا للمؤمنين.
وجاء باسم الفاعل الذي هو حقيقة في الاتصاف بالفعل في زمان الحال تقريبا لإيمانهم بإظهار الحرص على حصوله في الحال واستعجالا بإيمانهم لئلا يفجأهم العذاب فيفوت التدارك.
وجملة {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} في موضع الحال من ضمير {اعْبُدُوا} ونظائره، أي

افعلوا ذلك باختياركم لأنه لصلاحكم ولست مكرهكم على فعله.
والحفيظ: المجبر، كقوله: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} [الشورى: 48] وتقدم عند قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} في سورة الأنعام [107]. والمقصود من ذلك استنزال طائرهم لئلا يشمئزوا من الأمر. وهذا استقصاء في الترغيب وحسن الجدال.
[87] {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} .
كانت الصلاة من عماد الأديان كلها. وكان المكذبون الملحدون قد تمالؤوا في كل أمة على إنكارها والاستهزاء بفاعلها {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات: 53]، فلما كانت الصلاة أخص أعماله المخالفة لمعتادهم جعلوها المشيرة عليه بما بلغه إليهم من أمور مخالفة لمعتادهم بناء على التناسب بين السبب والمسبب في مخالفة المعتاد قصدا للتهكم به والسخرية عليه تكذيبا له فيما جاءهم به، فإسناد الأمر إلى الصلوات غير حقيقي إذ قد علم كل العقلاء أن الأفعال لا تأمر. والمعنى أن صلاته تأمره بأنهم يتركون، أي تأمره بأن يحملهم على ترك ما يعبد آباؤهم. إذ معنى كونه مأمورا بعمل غيره أنه مأمور بالسعي في ذلك بأن يأمرهم بأشياء.
و {مَا} في قوله: {مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} موصولة صادقة على المعبودات. ومعنى تركها ترك عبادتها كما يؤذن به فعل {يَعْبُدُ} . ويجوز أن تكون {مَا} مصدرية بتقدير: أن نترك مثل عبادة آبائنا.
وقرأ الجمهور {أَصَلاتُكَ} بصيغة جمع صلاة. وقرأه حمزة، والكسائي، وحفص، وخلف: {أصلاتك} بصيغة المفرد.
و {أَوْ} من قوله: {أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} لتقسيم ما يأمرهم به لأن منهم من لا يتجر فلا يطفف في الكيل والميزان فهو قسم آخر متميز عن بقية الأمة بأنه مأمور بترك التطفيف. فقوله: {أَنْ نَفْعَلَ} عطف على {مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} ، أي أن نترك فعل ما نشاء في أموالنا فنكون طوع أمرك نفعل ما تأمرنا بفعله ونترك ما تأمرنا بتركه.
وبهذا تعلم أن لا داعي إلى جعل {أَوْ} بمعنى واو الجمع، كما درج عليه كثير من

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68