كتاب : التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور
المؤلف : محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي

ونسقي الحاج ونقري الضيف، كما أشار إليه قوله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} يعدون أعمالا من أفعال الخيرات فكانت هذه الآيات إبطالا لحسابهم، قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} وقد أعلمناك أن هذه السورة نزل أكثرها عقب الهجرة وذلك حين كان المشركون يتعقبون أخبار المسلمين في مهاجرهم ويتحسسون ما نزل من القرآن.
والجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا} مبتدأ وخبره جملة {أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ} الخ. وجعل المسند إليه ما يدل على ذوات الكافرين ثم بني عليه مسند إليه آخر وهو {أَعْمَالُهُمْ} . ولم يجعل المسند إليه أعمال الذين كفروا من أول وهلة لما في الافتتاح بذكر الذين كفروا من التشويق إلى معرفة ما سيذكر من شؤونهم ليتقرر في النفس كمال التقرر وليظهر أن للذين كفروا حظا في التمثيل بحيث لا يكون المشبه أعمالهم خاصة.
وفي الإتيان بالموصول وصلته إيماء إلى وجه بناء الخير. وهو أنه من جزاء كفرهم بالله. على أنه قد يكون عنوان الذين كفروا قد غلب على المشركين من أهل مكة فيكون افتتاح الكلام بهذا الوصف إشارة إلى أنه إبطال لشيء اعتقده الذين كفروا. فتشبيه الكافرين وأعمالهم تشبيه تمثيلي: شبهت حالة كدهم في الأعمال وحرصهم على الاستكثار منها مع ظنهم أنها تقربهم إلى رضى الله ثم تبين أنها لا تجديهم بل يلقون العذاب في وقت ظنهم الفوز؛ شبه ذلك بحالة ظمآن يري السراب فيحسبه ماء فيسعى إليه فإذا بلغ المسافة التي خال أنها موقع الماء لم يجد ماء ووجد هنالك غريما يأسره ويحاسبه على ما سلف من أعماله السيئة.
واعلم أن الحالة المشبهة مركبة من محسوس ومعقول والحالة المشبه بها حالة محسوسة. أي داخلة تحت إدراك الحواس.
والسراب: رطوبة كثيفة تصعد على الأرض ولا تعلو في الجو تنشأ من بين رطوبة الأرض وحرارة الجو في المناطق الحارة الرملية فيلوح من بعيد كأنه ماء. وسبب حدوث السراب اشتداد حرارة الرمال في أرض مستوية فتشتد حرارة طبقة الهواء الملاصة للرمل وتحر الطبقة الهوائية التي فوقها حرا أقل من حرارة الطبقة الملاصقة، وهكذا تتناقص الحرارة في كل طبقة من الهواء عن حرارة الطبقة التي دونها، وبذلك تزداد كثافة الهواء بزيادة الارتفاع عن سطح الأرض. وبحرارة الطبقة السفلى التي تلي الأرض تحدث فيها

حركات تموجية فيصعد جزء منها إلى ما فوقها من الطبقات وهكذا.. فتكون كل طبقة أكثف من التي تحتها. فإذا انعكس على تلك الأشعة نور الجو من قرب طلوع الشمس إلى بقية النهار تكيفت تلك الأشعة بلون الماء. ففي أول ظهور النور يلوح السراب كأنه الماء الراكد أو البحر وكلما اشتد الضياء ظهر في السراب ترقرق كأنه ماء جار.
ثم قد يطلق السراب على هذا الهواء المتموج في سائر النهار من الغدوة إلى العصر. وقد يخص ما بين أول النهار إلى الضحى باسم الآل ثم سراب. وعلى هذا قول أكثر أهل اللغة والعرب يتسامحون في إطلاق أحد اللفظين مكان الآخر. وقد شاهدته في شهر نوفمبر فيما بين الفجر وطلوع الشمس بمقربة من موضع يقال له: أم العرائس من جهات توزر، وأنا في قطار السكة الحديدية فخلت أول النظر أنا أشرفنا على بحر.
وقوله: {بِقِيعَةٍ} الباء بمعنى في وقيعة أرض، والجار والمجرور وصف لسراب وهو وصف كاشف لأن السراب لا يتكون إلا في قيعة. وهذا كقولهم في المثل للذليل هو فقع في قرقر فإن الفقع لا ينبت إلا في قرقر. والقيعة: الأرض المنبسطة ليس فيها ربى ويرادفها القاعة. وقيل قيعة جمع قاع مثل جيرة جمع جار، ولعله غلب لفظ الجمع فيه حتى ساوى المفرد.
وقوله: {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً} يفيد وجه الشبه ويتضمن أحد أركان التمثيل وهو الرجل العطشان وهو مشابه الكافر صاحب العمل.
وحتى ابتدائية فهي بمعنى فاء التفريع. ومجيء الظمآن إلى السراب يحصل بوصوله إلى مسافة كان يقدرها مبدأ الماء بحسب مرأى تخيله، كأن يحدده بشجرة أو صخرة. فلما بلغ إلى حيث توهم وجود الماء لم يجد الماء فتحقق أن ما لاح له سراب. فهذا معنى قوله: {حَتَّى إِذَا جَاءَهُ} ، أي إذا جاء الموضع الذي تخيل أنه إن وصل إليه يجد ماء. وإلا فإن السراب لا يزال يلوح له بعد كلما تقدم السائر في سيره. فضرب ذلك مثلا لقرب زمن إفضاء الكافر إلى عمله وقت موته حين يرى مقعده أو في وقت الحشر.
وقوله: {لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} أي لم يجد ما كان يخيل إلى عينه أنه ماء لم يجده شيئا.
والشيء: هو الموجود وجودا معلوما للناس، والسراب موجود ومرئي، فقوله: {شَيْئاً} أي شيئا من ماء بقرينة المقام. وهذا التمثيل كقوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا

مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} .
وإذا هنا ظرف مجرد عن الشرطية. والمعنى: زمن مجيئه إلى السراب، أي وصوله إلى الموضع.
وقوله: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ} هو من تمام التمثيل، أي لم يجد الماء ووجد في مظنة الماء الذي ينتفع به وجد من إن أخذ بناصيته لم يفلته، أي هو عند ظنه الفوز بمطلوبه فاجأه من يأخذه للعذاب، وهو معنى قوله: {فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} أي أعطاه جزاء كفره وافيا. فمعنى {فَوَفَّاهُ} أنه لا تخفيف فيه، فهو قد تعب ونصب في العمل فلم يجد جزاء إلا العذاب بمنزلة من ورد الماء للسقي فوجد من له عنده ترة فأخذه.
وجملة {وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} تذييل. والسريع: ضد البطيء. والمعنى: أنه لا يماطل الحساب ولا يؤخره عند حلول مقتضيه، فهو عام في حساب الخير والشر ولذلك كان تذييلا.
واعلم أن هذا التمثيل العجيب صالح لتفريق أجزائه في التشبيه بأن ينحل إلى تشبيهات واستعارات. فأعمال الكافرين شبيهة بالسراب في أن لها صورة الماء وليست بماء. والكافر يشبه الظمآن في الاحتياج إلى الانتفاع بعمله، ففي قوله: {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ} استعارة مصرحة، وخيبة الكافر عند الحساب تشبه خيبة الظمآن عند مجيئه السراب ففيه استعارة مصرحة، ومفاجأة الكافر بالأخذ والعتل من جند الله أو بتكوين الله تشبه مفاجأة من حسب أنه يبلغ الماء للشراب فبلغ إلى حيث تحقق أنه لا ماء فوجد عند الموضع الذي بلغه من يترصد له لأخذه أو أسره. فهنا استعارة مكنية إذ شبه أمر الله أو ملائكته بالعدو، ورمز إلى العدو بقوله: {فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} . وتعدية فعل وجد إلى اسم الجلالة على حذف مضاف هي تعدية المجاز العقلي.
[40] {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ}
شأن أو إذا جاءت في عطف التشبيهات أن تدل على تخيير السامع أن يشبه بما قبلها وربما بعدها. وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} في سورة البقرة، أي مع اتحاد وجه الشبه. ومنه قول امرىء القيس:

يضيء سناه أو مصابيح راهب ... ..........................
وقول لبيد:
أفتلك أم وحشية مسيوعة ... خذلت وهادية الصوار قوامها
فإذا كان الكلام هنا جاريا على ذلك الشأن كان المعنى تمثيل الذين كفروا في أعمالهم التي يظنون أنهم يتقربون بها إلى الله بحال ظلمات ليل غشيت ماخرا في بحر شديد الموج قد اقتحم ذلك البحر ليصل إلى غاية مطلوبة، فحالهم في أعمالهم تشبه حال سابح في ظلمات ليل في بحر عميق يغشاه موج يركب بعضه بعضا لشدة تعاقبه، وإنما يكون ذلك عند اشتداد الرياح حتى لا يكاد يرى يده التي هي أقرب شيء إليه وأوضحه في رؤيته فكيف يرجو النجاة.
وإن كان الكلام جاريا على التخيير في التشبيه مع اختلاف وجه التشبيه كان المعنى تمثيل حال الذين كفروا في أعمالهم التي يعملونها وهي غير مؤمنين وحال من ركب البحر يرجو بلوغ غاية فإذا هو في ظلمات لا يهتدي معها طريقا، فوجه الشبه هو ما حف بأعمالهم من ضلال الكفر الحائل دون حصول مبتغاهم.
ويرجح هذا الوجه تذييل التمثيل بقوله: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} .
وعلى الوجهين فقوله: {كَظُلُمَاتٍ} عطف على {كَسَرَابٍ} والتقدير: والذين كفروا أعمالهم كظلمات.
وهذا التمثيل من قبيل تشبيه حالة معقولة بحالة محسوسة كما يقال: شاهدت سواد الكفر في وجه فلان.
والظلمات: الظلمة الشديدة. والجمع مستعمل في لازم الكثرة وهو الشدة، فالجمع كناية لأن شدة الظلمة يحصل من تظاهر عدة ظلمات. ألا ترى أن ظلمة بين العشاءين أشد من ظلمة عقب الغروب وظلمة العشاء أشد مما قبلها.
وقد ذكرنا فيما مضى أن لفظ ظلمة بالإفراد لم يرد في القرآن انظر أول سورة الأنعام. ومعنى كونها {فِي بَحْرٍ} أنها انطبع سوادها على ماء بحر فصار كأنها في البحر كقوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ} . وقد تقدم في سورة البقرة إذ جعل الظلمات في الصيب.

واللجي منسوب إلى اللجة، واللج: هو معظم البحر، أي في بحر عميق، فالنسب مستعمل في التمكن من الوصف كقول أبي النجم: والدهر بالإنسان دواري أي دوار، وكقولهم: رجل مشركي ورجل غلابي، أي قوي الشرك وكثير الغلب.
والموج: اسم جمع موجة. والموجة: مقدار يتصاعد من ماء البحر أو النهر عن سطح مائه بسبب اضطراب في سطحه بهبوب ريح من جانبه يدفعه إلى الشاطئ. وأصله مصدر: ماج البحر، أي اضطرب وسمي به ما ينشأ عنه.
ومعنى {مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ} أن الموج لا يتسكر حتى يلحقه موج آخر من فوقه وذلك أبقى لظلمته.
والسحاب تقدم في سورة الرعد. والسحاب يزيد الظلمة إظلاما لأنه يحجب ضوء النجم والهلال.
وقوله: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} استئناف. والتقدير: هي ظلمات. والمراد بالظلمات التي هنا غير المراد بقوله: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ} لأن الجمع هنا جمع أنواع وهنالك جمع أفراد من نوع واحد.
وقرأ الجمهور {سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ} بالتنوين فيهما.
وقرأ البزي عن ابن كثير {مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ} بترك بالتنوين في {سَحَابٌ} وبإضافته إلى {ظُلُمَاتٌ} . وقرأه قنبل عن ابن كثير برفع سحاب منونا وبجر ظلمات على البدل من قوله: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ} .
وقوله: {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} هو من قبيل قوله: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} . وقد تقدم وجه هذا الاستعمال في سورة البقرة وما فيه من قصة بيت ذي الرمة.
وجملة: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} تذييل للتمثيل، أي هم باءوا بالخيبة فيما ابتغوا مما عملوا وقد حفهم الضلال الشديد فيما عملوا حتى عدموا فائدته لأن الله لم يخلق في قلوبهم الهدى حين لم يوفقهم إلى الإيمان، أي أن الله جبلهم غير قابلين للهدى فلم يجعل لهم قبوله في قلوبهم فلا يحل بها شيء من الهدى.
وفيه تنبيه على أن الله تعالى متصرف بالإعطاء والمنع على حسب إرادته وحكمته وما

سبق من نظام تدبيره.
وهذا التمثيل صالح لاعتبار التفريق في تشبيه أجزاء الهيئة المشبهة بأجزاء الهيئة المشبه بها؛ فالضلالات تشبه الظلمات، والأعمال التي اقتحمها الكافر لقصد التقرب بها تشبه البحر، وما يخالط أعماله الحسنة من الأعمال الباطلة كالبحيرة، والسائبة يشبه الموج في تخليطه العمل الحسن وتخلله فيه وهو الموج الأول. وما يرد على ذلك من أعمال الكفر كالذبح للأصنام يشبه الموج الغامر الآتي على جميع ذلك بالتخلل والإفساد وهو الموج الثاني، وما يحف اعتقاده من الحيرة في تمييز الحسن من العبث ومن القبيح يشبه السحاب الذي يغشى ما بقي في السماء من بصيص أنوار النجوم، وتطلبه الانتفاع من عمله يشبه إخراج الماخر يده لإصلاح أمر سفينته أو تناول ما يحتاجه فلا يرى يده بله الشيء الذي يريد تناوله.
[41] {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} .
أعقب تمثيل ضلال أهل الضلالة وكيف حرمهم الله الهدى في قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} إلى قوله: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} بطلب النظر والاعتبار كيف هدى الله تعالى كثيرا من أهل السماوات والأرض إلى تنزيه الله المقتضي الإيمان به وحده، وبما ألهم الطير إلى أصواتها المعربة عن بهجتها بنعمة وجودها ورزقها الناشئين عن إمداد الله إياها بهما فكانت أصواتها دلائل حال على تسبيح الله وتنزيهه عن الشريك، فأصواتها تسبيح بلسان الحال.
والجملة استئناف ابتدائي ومناسبته ما عملت.
وجملة {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} استئناف ثان وهو من تمام العبرة إذ أودع الله في جميع أولئك ما به ملازمتهم لما فطروا عليه من تعظيم الله وتنزيهه.
فتسبيح العقلاء حقيقة. وتسبيح الطير مجاز مرسل في الدلالة على التنزيه. وفيه استعمال لفظ التسبيح في حقيقته ومجازه، ولذلك خولف بينهما في الجملة الثانية فعبر بالصلاة والتسبيح مراعاة لاختلاف حال الفريقين: فريق العقلاء، وفريق الطير وإن جمعتهما كلمة كل، فأطلق على تسبيح العقلاء اسم الصلاة لأنه تسبيح حقيقي. فالمراد بالصلاة الدعاء وهو من خصائص العقلاء، وليس في أحوال الطير ما يستقيم إطلاق الدعاء

عليه على وجه المجاز وأبقي لدلالة أصوات الطير اسم التسبيح لأنه يطلق مجازا على الدلالة بالصوت بعلاقة الإطلاق وذلك على التوزيع؛ ولولا إرادة ذلك لقيل: كل قد علم تسبيحه، أو كل قد علم صلاته.
والخطاب في قوله: {أَلَمْ تَرَ} للنبي صلى الله عليه وسلم. والمراد من يبلغ إليه، أو الخطاب لغير معين فيعم كل مخاطب كما هو الشأن في أمثاله.
والاستفهام مستعمل كناية عن التعجيب من حال فريق المشركين الذين هم من أصحاب العقول ومع ذلك قد حرموا الهدى لما لم يجعله الله فيهم. وقد جعل الهدى في العجماوات إذ جبلها على إدراك أثر نعمة الوجود والرزق. وهذا في معنى قوله تعالى: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} .
والصافات: من صفات الطير: يراد به صفهن أجنحتهن في الهواء حين الطيران. وتخصيص الطير بالذكر من بين المخلوقات للمقابلة بين مخلوقات الأرض والسماء بذكر مخلوقات في الجو بين السماء والأرض ولذلك قيدت ب {صَافَّاتٍ} .
وفعل {عَلِمَ} مراد به المعرفة لظهور الفرق بين علم العقلاء بصلاتهم وعلم الطير بتسبيحها فإن الثاني مجرد شعور وقصد للعمل.
وضمائر {عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} راجعة إلى {كُلُّ} لا محالة.
ولو كان المراد بها التوزيع على من في السماوات والأرض والطير من جهة وعلى اسم الجلالة من جهة لوقع ضمير فصل بعد {عَلِمَ} فلكان راجعا إلى الله تعالى.
والرؤية هنا بصرية لأن تسبيح العقلاء مشاهد لكل ذي بصر، وتسبيح الطير مشاهد باعتبار مسماه فما على الناظر إلا أن يعلم أن ذلك المسمى جدير باسم التسبيح.
وعلى هذا الاعتبار كان الاستفهام الإنكاري مكين الوقع.
وإن شئت قلت: إن جملة {أَلَمْ تَرَ} جارية مجرى الأمثال في كلام البلغاء فلا التفات فيها إلى معنى الرؤية.
وقيل: الرؤية هنا قلبية. وأغنى المصدر عن المفعولين.
وجملة {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} تذييل وهو إعلام بسعة علم الله تعالى الشامل للتسبيح وغيره من الأحوال.

والإتيان بضمير جمع العقلاء تغليب. وقد تقدم في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} في سورة البقرة وقوله: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ} في سورة الأنعام.
[42] {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} .
تحقيق لما دل عليه الكلام السابق من إعطائه الهدى للعجماوات في شؤونه وحرمانه إياه فريقا من العقلاء فلو كان ذلك جاريا على حسب الاستحقاق لكان هؤلاء أهدى من الطير في شأنهم.
وتقديم المعمولين للاختصاص، أي أن التصرف في العوالم لله لا لغيره.
وفي هذا انتقال إلى دلالة أحوال الموجودات على تفرد الله تعالى بالخلق ولذلك أعقب بقوله:
[43] {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} .
أعقب الدلالة على إعطاء الهدى في قوانين الإلهام في العجاوات بالدلالة على خلق الخصائص في الجماد بحيث تسير على السير الذي قدره الله لها سيرا لا يتغير، فهي بذلك أهدى من فريق الكافرين الذين لهم عقول وحواس لا يهتدون بها إلى معرفة الله تعالى والنظر في أدلتها، وفي ذلك دلالة على عظم القدرة وسعة العلم ووحدانية التصرف. وهذا استدلال بنظام بعض حوادث الجو حتى آل إلى قوله: {فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ} .
وقد حصل من هذا حسن التخلص للانتقال إلى الاستدلال على عظم القدرة وسمو الحكمة وسعة العلم الإلهي.
و {يُزْجِي} يسوق. يقال: أزجى الإبل إزجاء.
وأطلق الإزجاء على دنو بعض السحاب من بعض بتقدير الله تعالى الشبيه بالسوق حتى يصير سحابا كثيفا، فانضمام بعض السحاب إلى بعض عبر عنه بالتأليف بين أجزائه

بقوله تعالى: {ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ} إلخ.
وتقدم الكلام على السحاب في سورة البقرة في قوله: {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ} وفي أول سورة الرعد.
ودخلت بين على ضمير السحاب لأن السحاب ذو أجزاء كقول امرىء القيس:
بين الدخول فحومل
أي يؤلف بين السحابات منه.
والركام: مشتق من الركم. والركم: الجمع والضم. ووزن فعال وفعالة يدل على معنى المفعول. فالركام بمعنى المركوم كما جاء في قوله تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطاً يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ} في سورة الطور.
فإذا تراكم السحاب بعضه على بعض حدث فيه ما يسمى في علم حوادث الجو بالسيال الكهربائي وهو البرق. فقال بعض المفسرين: هو الودق. وأكثر المفسرين على أن الودق هو المطر، وهو الذي اقتصرت عليه دواوين اللغة، والمطر يخرج من خلال السحاب.
والخلال: الفتوق، جمع خلل كجبل وجبال. وتقدم {خِلالَ الدِّيَارِ} في سورة الإسراء.
ومعنى {يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ} يسقط من علو إلى سفل، أي ينزل من جو السماء إلى الأرض. والسماء: الجو الذي فوق جهة الأرض.
وقوله: {مِنْ جِبَالٍ} بدل من {السَّمَاءِ} بإعادة حرف الجر العامل في المبدل منه وهو بدل بعض لأن المراد بالجبال سحاب أمثال الجبال.
وإطلاق الجبال في تشبيه الكثرة معروف، يقال: فلان جبل علم، وطود علم. وفي حديث البخاري من طريق أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو كان لي مثل أحد ذهبا لسرني أن لا تمر علي ثلاث ليال وعندي منه شيء إلا شيئا أرصده لدين" . أي: ما كان يسرني، فالكلام بمعنى النفي، أي لما سرني، أو لما كان سرني الخ.
وحرف من الأول للابتداء ومن الثاني كذلك ومن في قوله: {مِنْ بَرَدٍ} مزيدة في الإثبات على رأي الذين جوزوا زيادة من في الإثبات. أو تكون من اسما

بمعنى بعض.
ومفعول {يُنَزِّلُ} محذوف يدل عليه قوله: {فِيهَا مِنْ بَرَدٍ} . والتقدير: ينزل بردا.
ووقوع من زائدة لقصد مشاكلة قوله: {مِنْ جِبَالٍ} .
وقوله: {فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ} جعل نزول البرد إصابة لأن الإصابة إذا أطلقت في كلامهم دلت على إنها حلول مكروه. ومن ذلك سميت المصيبة الحادثة المكروهة. وأما قوله تعالى: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ} فلأن قوله: {حَسَنَةٌ} قرينة على إطلاق الإصابة على مطلق الحدوث إما مجازا مرسلا وإما مشتركا لفظيا أو مشتركا معنويا فإن أصاب مشتق من الصوب وهو النزول ومنه صوب المطر، فجعل نزول البرد إصابة لأنه يفسد الزرع والثمرة، فضمير به للبرد.
وجملة {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} وصف ل {سَحَابَاً} . وضمير {بَرْقِهِ} عائد إلى {سَحَابَاً} . وفائدة هذه الصفة تنبيه العقول إلى التدبر في هذه التغيرات إذ كان شعور الناس بحدوث البرق أوضح وأكثر من شعورهم بتكون السحاب وتراكمه ونزول المطر والبرد، إذ قد يغفل الناس عن ذلك لكثرة حدوثه وتعودهم به بخلاف اشتداد البرق فإنه لا يخلو أحد من أن يكون قد عرض له مرات، فإن أصحاب الأبصار التي حركها خفق البرق يتذكرون تلك الحالة العجيبة الدالة على القدرة. ولهذه النكتة خصصت هذه الحالة من أحوال البرق بالذكر.
والسنا مقصورا: ضوء البرق وضوء النار. وأما السناء الممدود فهو الرفعة. قال ابن دريد في أبيات له في متشابه المقصور والممدود:
زال السنا عن ناظريه ... وزال عن شرف السناء
ولام التعرف في {الأَبْصَارِ} لام الحقيقة، وقوله: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} وهو كقوله في سورة البقرة {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} سوى ان هذه الآية زيد فيها لفظ سنا لأن هذه الآية واردة في مقام الاعتبار بتكوين السحاب وإنزال الغيث فكان المقام مقتضيا للتنويه بهذا البرق وشدة ضيائه حتى يكون الاعتبار بأمرين: بتكوين البرق في السحاب، وبقوة ضيائه حتى يكاد يذهب بالأبصار، وآية البقرة واردة في مقام التهديد والتشويه لحالهم حين كانوا مظهرين الإسلام ومنطوين على الكفر والجحود فكانت حالهم كحالة الغيث المشتمل على صواعق ورعد وبرق فظاهره منفعة وفي باطنه

قوارع ومصائب.
ومن أجل اختلاف المقامين وضع التعبير هنا ب{يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} وهنالك بقوله: {يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} لأن في الخطف من معنى النكاية بهم والتسلط عليهم ما ليس في {يَذْهَبُ} إذ هو مجرد الاستلاب.
وأما التعبير هنا بالأبصار معرفا باللام فلأن المقصود أن البرق مقارب أن يزيل طائفة من جنس الأبصار إذ اللام هنا لام الحقيقة كما في قوله: {أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ} وقولهم: ادخل السوق، لأن الحكم على حالة البرق الشديد من حيث هي. بخلاف آية البقرة فإنها في مقام التوبيخ لهم بأن ما شأنه أن ينتفع الناس به قد أشرف على الضر بهم فلذلك ذكر لفظ أبصار مضافا إلى ضميرهم مع ما في هذا التخالف من تفنين الكلام الواحد على أفانين مختلفة حتى لا يكون الكلام معادا وإن كان المعنى متحدا ولا تجد حق الإيجاز فائتا فإن هذين الكلامين في حد التساوي في الحرف والنطق. وهكذا نرى بلاغة القرآن وإعجازه وحلاوة نظمه.
وقرأ الجمهور {يَذْهَبُ} بفتح التحتية وفتح الهاء، فالباء للتعدية، أي يذهب الأبصار. وقرأه أبو جعفر وحده بضم التحتية وكسر الهاء فتكون الباء مزيدة لتأكيد اللصوق مثل: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} .
[44] {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} .
التقليب تغيير هيئة إلى ضدها. ومنه {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا} أي يدير كفيه من ظاهر إلى باطن، فتقليب الليل والنهار تغيير الأفق من حالة الليل إلى حالة الضياء ومن حالة النهار إلى حالة الظلام، فالمقلب هو الجو بما يختلف عليه من الأعراض ولكن لما كانت حالة ظلمة الجو تسمى ليلا وحالة نوره تسمى نهارا عبر عن الجو في حالتيه بهما، وعدي التقليب إليهما بهذا الاعتبار.
ومما يدخل في معنى التقليب تغيير هيئة الليل والنهار بالطول والقصر. ولرعي تكرر التقلب بمعنييه عبر بالمضارع المقتضي للتكرر والتجدد.
والكلام استئناف. وجيء به مستأنفا غير معطوف على آيات الاعتبار المذكور قبله لأنه أريد الانتقال من الاستدلال بما قد يخفى على بعض الأبصار إلى الاستدلال بما يشاهده كل ذي بصر كل يوم وكل شهر فهو لا يكاد يخفى على ذي بصر. وهذا تدرج في

موقع هذه الجملة عقب جملة {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} كما أشرنا إليه آنفا. ولذلك فالمقصود من الكلام هو جملة {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} ، ولكن بني نظم الكلام على تقديم الجملة الفعلية لما تقتضيه من إفادة التجدد بخلاف أن يقال: إن في تقليب الليل والنهار لعبرة.
والإشارة الواقعة في قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ} إلى ما تضمنه فعل {يُقَلِّبُ} من المصدر. أي إن في التقليب. ويرجح هذا القصد ذكر العبرة بلفظ المفرد المنكر.
والتأكيد بإن إما لمجرد الاهتمام بالخبر وإما لتنزيل المشركين في تركهم الاعتبار بذلك منزلة من ينكر أن في ذلك عبرة.
وقيل: الإشارة بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ} إلى جميع ما ذكر آنفا ابتداء من قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً} فيكون الإفراد في قوله: {لَعِبْرَةً} ناظرا إلى أن مجموع ذلك يفيد جنس العبرة الجامعة لليقين بأن الله هو المتصرف في الكون.
ولم ترد العبرة في القرآن معرفة بلام الجنس ولا مذكورة بلفظ الجمع.
[45] {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
لما كان الاعتبار بتساوي أجناس الحيوان في أصل التكوين من ماء التناسل مع الاختلاف في أول أحوال تلك الأجناس في آثار الخلقة وهو حال المشي إنما هو باستمرار ذلك النظام بدون تخلف وكان ذلك محققا كان إفراغ هذا المعنى بتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي مفيدا لأمرين: التحقق بالتقديم على الخبر الفعلي، والتجدد يكون الخبر فعليا.
وإظهار اسم الجلالة دون الإضمار للتنويه بهذا الخلق العجيب.
واختير فعل المضي للدلالة على تقرير التقوي بأن هذا شأن متقرر منذ القدم مع عدم فوات الدلالة على التكرير حيث عقب الكلام بقوله: {يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} .
وقرأ الجمهور {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ} بصيغة فعل المضي ونصب كل. وقرأه الكسائي والله خالق كل دابة بصيغة اسم الفاعل وجر كل بإضافة اسم الفاعل إلى مفعوله.

والدابة: ما دب على وجه الأرض، أي مشى. وغلب هنا الإنسان فأتي بضمير العقلاء مرادا به الإنسان وغيره مرتين.
وتنكير ماء لإرادة النوعية تنبيها على اختلاف صفات الماء لكل نوع من الدواب إذ المقصود تنبيه الناس إلى اختلاف النطف للزيادة في الاعتبار.
وهذا بخلاف قوله: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} إذ قصد ثمة إلى أن أجناس الحيوان كلها مخلوقة من جنس الماء وهو جنس واحد اختلفت أنواعه، فتعريف الجنس هناك إشارة إلى ما يعرفه الناس إجمالا ويعهدونه من أن الحيوان كله مخلوق من نطف أصوله. وهذا مناط الفرق بين التنكير كما هنا وبين تعريف الجنس كما في آية {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} .
ومن ابتدائية متعلقة بخلق.
ورتب ذكر الأجناس في حال المشي على ترتيب قوة دلالتها على عظم القدرة لأن الماشي بلا آلة مشي متمكنة أعجب من الماشي على رجلين، وهذا المشي زحفا. أطلق المشي على الزحف بالبطن للمشاكلة مع بقية الأنواع. وليس في الآية ما يقتضي حصر المشي في هذه الأحوال الثلاثة لأن المقصود الاعتبار بالغالب المشاهد.
وجملة {يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} زيادة في العبرة، أي يتجدد خلق الله ما يشاء أن يخلقه مما علمتم وما لم تعلموا، فهي جملة مستأنفة.
وجملة: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} تعليل وتذييل. ووقع فيه إظهار اسم الجلالة في مقام الإضمار ليكون كاملا مستقلا بذاته لأن شأن التذييل أن يكون كالمثل.
[46] {لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}
تذييل للدلائل والعبر السالفة وهو نتيجة الاستدلال ولذلك ختم بقوله: {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ، أي إن لم يهتد بتلك الآيات أهل الضلالة فذلك لأن الله لم يهدهم لأنه يهدي من يشاء. والمراد بالآيات هنا آيات القرآن كما يقتضيه فعل {أَنْزَلْنَا} ولذلك لم تعطف هذه الجملة على ما قبلها بعكس قوله السابق: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} .
ولما كان المقصود من هذا إقامة الحجة دون الامتنان لم يقيد إنزال الآيات بأنه إلى

المسلمين كما قيد في قوله تعالى قبله: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} كما تقدم.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر ويعقوب مبينات بفتح الياء على صيغة اسم المفعول، أي بينها الله ووضحها ببلاغتها وقوة حجتها. وقرأ الباقون بكسر الياء على صيغة اسم الفاعل، فإسناد التبيين إلى الآيات على هذه القراءة مجاز عقلي لأنها سبب البيان.
والمعنى أن دلائل الحق ظاهرة ولكن الله يقدر الهداية إلى الحق لمن يشاء هدايته.
[50,47] {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}
عطف جملة {وَيَقُولُونَ} على جملة {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} لما تتضمنه جملة {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} من هداية بعض الناس وحرمان بعضهم من الهداية كما هو مقتضى {مَنْ يَشَاءُ} . وهذا تخلص إلى ذكر بعض ممن لم يشأ الله هدايتهم وهم الذين أبطنوا الكفر وأظهروا الإسلام وهم أهل النفاق. فبعد أن ذكرت دلائل انفراد الله تعالى بالإلهية وذكر الكفار الصرحاء الذين لم يهتدوا بها في قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} الآيات تهيأ المقام لذكر صنف آخر من الكافرين الذين لم يهتدوا بآيات الله وأظهروا أنهم اهتدوا بها.
وضمير الجمع عائد إلى معروفين عند السامعين وهم المنافقون لأن ما ذكر بعده هو من أحوالهم، وعود الضمير إلى شيء غير مذكور كثير في القرآن، على انهم قد تقدم ما يشير إليهم بطريق التعريض في قوله: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} .
وقد أشارت الآية إلى المنافقين عامة، ثم إلى فريق منهم أظهروا عدم الرضى بحكم الرسول صلى الله عليه وسلم فكلا الفريقين موسوم بالنفاق، ولكن أهما استمر على النفاق والمواربة وفريقا لم يلبثوا أن أظهروا الرجوع إلى الكفر بمعصية الرسول علنا.

ففي قوله: {وَيَقُولُونَ} إيماء إلى أن حظهم من الإيمان مجرد القول دون الاعتقاد كما قال تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} .
وعبر بالمضارع لإفادة تجدد ذلك منهم واستمرارهم عليه لما فيه من تكرر الكذب ونحوه من خصال النفاق التي بينتها في سورة البقرة. ومفعول {أَطَعنَا} محذوف دل عليه ما قبله، أي أطعنا الله والرسول.
والإشارة في قوله: {وَمَا أُولَئِكَ} إلى ضمير يقولون، أي يقولون آمنا وهم كاذبون في قولهم. وإنما يظهر كفرهم عندما تحل بهم النوازل والخصومات فلا يطمئنون بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا يصح جعله إشارة إلى فريق من قوله: {إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} لأن إعراضهم كاف في الدلالة على عدم الإيمان.
فالضمير في قوله: {وَإِذَا دُعُوا} عائد إلى معاد ضمير يقولون. وإسناد فعل دُعُوا إلى جميعهم وإن كان المعرضون فريقا منهم لا جميعهم للإشارة إلى أنهم سواء في التهيؤ إلى الإعراض ولكنهم لا يظهرونه إلا عندما تحل بهم النوازل فالمعرضون هم الذين حلت بهم الخصومات.
وقد شملت الآية نفرا من المنافقين كانوا حلت بهم خصومات فأبوا حكم النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يحكم عليهم أو بعدما حكم عليهم فلم يرضهم حكمه، فروى المفسرون أن بشرا أحد الأوس أو الخزرج تخاصم إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع يهودي فلما حكم النبي لليهودي لم يرض بشر بحكمه ودعاه إلى الحكم عند كعب بن الأشرف اليهودي فأبى اليهودي وتساوقا إلى عمر بن الخطاب فقصا عليه القضية فلما علم عمر أن بشرا لم يرض بحكم النبي قال لهما: مكانكما حتى آتيكما. ودخل بيته فأخرج سيفه وضرب بشرا بالسيف فقتله. فروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لقب عمر يومئذ الفاروق لأنه فرق بين الحق والباطل، أي فرق بينهما بالمشاهدة. وقيل إن أحد المنافقين اسمه المغيرة بن وائل من الأوس من بني أمية بن زيد الأوسي تخاصم مع علي بن أبي طالب في أرض اقتسماها ثم كره أمية القسم الذي أخذه فرام نقض القسمة وأبى علي نقضها ودعاه إلى الحكومة لدى النبي صلى الله عليه وسلم. فقال المغيرة: أما محمد فلست آتيه لأنه يبغضني وأنا أخاف أن يحيف علي، فنزلت هذه الآية. وتقدم ذلك عند قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} الآية في سورة النساء [60].

ومن سماجة الأخبار ما نقله الطبرسي الشيعي في تفسيره المسمى "مجمع البيان" عن البلخي: أنه كانت بين علي وعثمان منازعة في أرض اشتراها من علي فخرجت فيها أحجار وأراد ردها بالعيب فلم يأخذها فقال: بيني وبينك رسول الله. فقال له الحكم بن أبي العاص إن حاكمته إلى ابن عمه يحكم له فلا تحاكمه إليه، فنزلت الآيات. وهذا لم يروه أحد من ثقات المفسرين ولا أشك في أنه مما اعتيد إلصاقه ببني أمية من تلقاء المشوهين لدولتهم تطلعا للفتنة والحكم بن أبي العاص أسلم يوم الفتح وسكن المدينة وهل يظن به أن يقول مثل هذه المقالة بين مسلمين.
وإنما جعل الدعاء إلى الله ورسوله كليهما مع أنهم دعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن حكم الرسول حكم الله لأنه لا يحكم إلا عن وحي. ولهذا الاعتبار أفرد الضمير في قوله: {لِيَحْكُمَ} العائد إلى أقرب مذكور ولم يقل: ليحكما.
وقوله: {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ} أي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومعنى {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ} أنه يكون في ظن صاحب الحق ويقينه أنه على الحق. ومفهومه أن من لم يكن له الحق منهم وهو العالم بأنه مبطل لا يأتي إذا دعي إلى الرسول عليه الصلاة، فعلم منه أن الفريق المعرضين هم المبطلون. وكذلك شأن كل من هو على الحق أنه لا يأبى من القضاء العادل، وشأن المبطل أن يأبى العدل لأن العدل لا يلائم حبه الاعتداء على حقوق الناس، فسبب إعراض المعرضين علمهم بأن في جانبهم الباطل وهم قد تحققوا أن الرسول لا يحكم إلا بصراح الحق.
وهذا وجه موقع جملة {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} إلى آخرها.
ووقع حرف إذا المفاجأة في جواب إذا الشرطية لإفادة مبادرتهم بالإعراض دون تريث لأنهم قد أيقنوا من قبل بعدالة الرسول وأيقنوا بأن الباطل في جانبهم فلم يترددوا في الإعراض.
والإذعان: الانقياد والطاعة.
ولما كان هذا شأنا عجيبا استؤنف عقبه بالجملة ذات الاستفهامات المستعملة في التنبيه على أخلاقهم ولفت الأذهان إلى ما انطووا عليه والداعي إلى ذلك أنها أحوال خفية لأنهم كانوا يظهرون خلافها.
وأتبع بعض الاستفهامات بعضا بحرف أم المنقطعة التي هي هنا للإضراب

الانتقالي كشأنها إذا عطفت الجمل الاستفهامية فإنها إذا عطفت الجمل لم تكن لطلب التعيين كما هي في عطف المفردات لأن المتعاطفات بها حينئذ ليست مما يطلب تعيين بعضه دون بعض، وأما معنى الاستفهام فملازم لها لأنه يقدر بعد أم.
والانتقال هنا تدرج في عد أخلاقهم. فالمعنى انه سأل سائل عن اتصافهم بخلق من هذه المذكورات علم المسؤول أنهم متصفون به، فكان الاستفهام المكرر ثلاث مرات مستعملا في التنبيه مجازا مرسلا، ومنه قوله تعالى: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} في سورة الأعراف.
والقلوب: العقول. والمرض مستعار للفساد أو للكفر قال تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً} أو للنفاق.
وأتي في جانب هذا الاستفهام بالجملة الاسمية للدلالة على ثبات المرض في قلوبهم وتأصله فيها بحيث لم يدخل الإيمان في قلوبهم.
والارتياب: الشك. والمراد: ارتابوا في حقية الإسلام، أي حدث لهم ارتياب بعد أن آمنوا إيمانا غير راسخ.
وأتي في جانبه بالجملة الفعلية المفيدة للحدوث والتجدد، أي حدث لهم ارتياب بعد أن اعتقدوا الإيمان اعتقادا مزلزلا. وهذا يشير إلى أنهم فريقان: فريق لم يؤمنوا ولكنهم أظهروا الإيمان وكتموا كفرهم، وفريق آمنوا إيمانا ضعيفا ثم ظهر كفرهم بالإعراض.
والحيف: الظلم والجور في الحكومة. وجيء في جانبه بالفعلين المضارعين للإشارة إلى أنه خوف في الحال من الحيف في المستقبل كما يقتضيه دخول أن، وهي حرف الاستقبال، على فعل {يَحِيفَ} . فهم خافوا من وقوع الحيف بعد نشر الخصومة فمن ثمة أعرضوا عن التحاكم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأسند الحيف إلى الله ورسوله بمعنى أن يكون ما شرعه الإسلام حيفا لا يظهر الحقوق. وهذا كناية عن كونهم يعتقدون أنه غير منزل من الله وأن يكون حكم الرسول بغير ما أمر الله، فهم يطعنون في الحكم وفي الحاكم وما ذلك إلا لأنهم لا يؤمنون بأن شريعة الإسلام منزلة من الله ولا يؤمنون بأن محمدا عليه الصلاة والسلام مرسل من عند الله، فالكلام كناية عن إنكارهم أن تكون الشريعة إلهية وأن يكون الآتي بها صادقا فيما أتى به.

واعلم أن المنافقين اتصفوا بهذه الأمور الثلاثة وكلها ناشئة عن عدم تصديقهم الرسول سواء في ذلك من حلت به قضية ومن لم تحل.
وفيما فسرنا به قوله تعالى: {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} ما يثلج صدر الناظر ويخرج به من سكوت الساكت وحيرة الحائر.
وبل للإضراب الانتقالي من الاستفهام التنبيهي إلى خبر آخر. ولم يؤت في هذا الإضراب بأم لأن أم لا بد معها من معنى الاستفهام، وليس المراد عطف كونهم ظالمين على الاستفهام المستعمل في التنبيه بل المراد به إفادة اتصافهم بالظلم دون غيرهم لأنه قد اتضح حالهم فلا داعي لإيراده بصيغة استفهام التنبيه. وليست بل هنا للإبطال لأنه لا يستقيم إبطال جميع الأقسام المتقدمة فإن منها مرض قلوبهم وهو ثابت، ولا دليل على قصد إبطال القسم الأخير خاصة، ولا على إبطال القسمين الآخرين.
وجملة {أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} مستأنفة استئنافا بيانيا لأن السامع بعد أن ظنت بأذنه تلك الاستفهامات الثلاثة ثم أعقبت بحرف الإضراب يترقب ماذا سيرسي عليه تحقيق حالهم فكان قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} بيانا لما يترقبه السامع.
والمعنى: أنهم يخافون أن يحيف الرسول عليهم ويظلمهم. وليس الرسول بالذي يظلم بل هم الظالمون. فالقصر الحاصل من تعريف الجزأين ومن ضمير الفصل حسر مؤكد، أي هم الظالمون لا شرع الله ولا حكم رسوله.
وزار اسم الإشارة تأكيدا للخبر فحصل فيه أربعة مؤكدات: اثنان من صيغة الحصر إذ ليس الحصر والتخصيص إلا تأكيدا على تأكيد، والثالث ضمير الفصل، والرابع اسم الإشارة.
واسم الإشارة الموضوع للتمييز استعمل هنا مجازا لتحقيق اتصافهم بالظلم، فهم يقيسون الناس على حسب مايقيسون أنفسهم، فلما كانوا أهل ظلم ظنوا بمن هو أهل الإنصاف أنه ظالم كما قال أبو الطيب:
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه ... وصدق ما يعتاده من توهم
ولا تعلق لهذه الآية بحكم من دعي إلى القاضي للخصومة فامتنع لأن الذم والتوبيخ فيها كانا على امتناع ناشئ عن كفرهم ونفاقهم.

[51] {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}
استئناف بياني لأن الإخبار عن الذين يعرضون عندما يدعون إلى الحكومة بأنهم ليسوا بالمؤمنين في حين أنهم يظهرون الإيمان يثير سؤال سائل عن الفاصل الذي يميز بين المؤمن الحق وبين الذي يرائي بإيمانه في حين يدعى إلى الحكومة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقتضي أن يبين للسائل الفرق بين الحالين لئلا يلتبس عنده الإيمان المزور بالإيمان الصادق، فقد كان المنافقون يموهون بأن إعراض من أعرض منهم عن التحاكم عند رسول الله ليس لتزلزل في إيمانه بصدق الرسول ولكنه إعراض لمراعاة أعراض من العلائق الدنيوية كقول بشر: إن الرسول يبغضني. فبين الله بطلان ذلك بأن المؤمن لا يرتاب في عدل الرسول وعدم مصانعته.
وقد أفاد هذا الاستئناف أيضا الثناء على المؤمنين الأحقاء بضد ما كان ذما للمنافقين. وذلك من مناسبات هذا الاستئناف على عادة القرآن في إرداف التوبيخ بالترغيب والوعيد بالوعد والنذارة بالبشارة والذم بالثناء.
وجيء بصيغة الحصر بإنما لدفع أن يكون مخالف هذه الحالة في شيء من الإيمان وإن قال بلسانه إنه مؤمن، فهذا القصر إضافي، أي هذا قول المؤمنين الصادقين في إيمانهم لا كقول الذي أعرضوا عن حكم الرسول حين قالوا: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا} فلما دعوا إلى حكم الرسول عصوا أمره فإن إعراضهم نقيض الطاعة، وسيأتي بيانه قريبا. وليس قصرا حقيقيا لأن أقوال المؤمنين حين يدعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحكم بينهم غير منحصرة في قول {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} ولا في مرادفه، فلعل منهم من يزيد على ذلك.
وفي الموطإ من حديث زيد بن خالد الجهني: أن رجلين اختصما إلى رسول الله. فقال أحدهما: يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله يعني وهو يريد أن رسول الله يقضي له كما وقع التصريح في رواية الليث بن سعد في البخاري: أن رجلا من الأعراب أتى رسول الله فقال: أنشدك بالله إلا قضيت لي بكتاب الله. وقال الآخر وهو أفقههما: أجل يا رسول الله فاقض بيننا بكتاب الله وأذن لي أن أتكلم يريد لا تقض له علي فأذن لي أن أبين فقال رسول الله: "تكلم.. " إلخ.

وليس المراد بقول {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} خصوص هذين اللفظين بل المراد لفظهما أو مرادفهما للتسامح في مفعول فعل القول أن لا يحكى بلفظه كما هو مشهور. وإنما خص هذان اللفظان بالذكر هنا من أجل أنهما كلمة مشهورة تقال في مثل هذه الحالة وهي مما جرى المثل كما يقال أيضا سمع وطاعة بالرفع وسمعا وطاعة بالنصب. وقد تقدم الكلام على ذلك عند قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} في سورة النساء. وفي حديث أبي هريرة قال النبي للأنصار: "تكفوننا المؤونة ونشرككم في الثمرة" . فقال الأنصار: سمعنا وأطعنا.
و {قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ} خبر {كَانَ} و {أَنْ يَقُولُوا} هو اسم كان وقدم خبر كان على اسمها متابعة للاستعمال العربي لأنهم إذا جاءوا بعد كان بأن والفعل لم يجيئوا بالخبر إلا مقدما على الاسم نظرا إلى كون المصدر المنسبك من أن والفعل أعرف من المصدر الصريح، ولم يجيئوا بالخبر إلا مقدما كراهية توالي أداتين وهما: كان وأن. ونظائر هذا الاستعمال كثيرة في القرآن. وتقدم عند قوله تعالى: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} في سورة آل عمران.
وجيء في وصف المؤمنين بالفلاح بمثل التركيب الذي وصف به المنافقون بالظلم بصيغة القصر المؤكد ليكون الثناء على المؤمنين ضدا لمذمة المنافقين تاما.
واعلم أن القصر المستفاد من إنما هنا قصر إفراد لأحد نوعي القول. فالمقصود منه الثناء على المؤمنين برسوخ إيمانهم وثبات طاعتهم في المنشط والمكروه. وفيه تعريض بالمنافقين إذ يقولون كلمة الطاعة ثم ينقضونها بضدها من كلمات الإعراض والارتياب. ونظير هذه الآية في طريق قصر بإلا قوله تعالى: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} في سورة آل عمران.
[52] {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ}
الواو اعتراضية أو عاطفة على جملة {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . والتقدير: وهم الفائزون. فجاء نظم الكلام على هذا الإطناب ليحصل تعميم الحكم والمحكوم عليه. وموقع هذه الجملة موقع تذييل لأنها تعم ما ذكر قبلها من قول المؤمنين {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} وتشمل غيره من الطاعات بالقول أو بالفعل.
ومن شرطية عامة، وجملة {فَأُولَئِكَ} جواب الشرط. والفوز: الظفر بالمطلوب

الصالح. والطاعة: امتثال الأوامر واجتناب النواهي.
والخشية: الخوف. وهي تتعلق بالخصوص بما عسى أن يكون قد فرط فيه من التكاليف على إنها تعم التقصير كله.
والتقوى: الحذر من مخالفة التكاليف في المستقبل.
فجمعت الآية أسباب الفوز في الآخرة وأيضا في الدنيا.
وصيغة الحسر للتعريض بالذين أعرضوا إذا دعوا إلى الله ورسوله وهي على وزان صيغة القصر التي تقدمتها.
[53] {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} عطف على جملة {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ} . أتبعت حكاية قولهم ذلك بحكاية قسم أقسموه بالله ليتنصلوا من وصمة أن يكون إعراضهم عن الحكومة عند الرسول صلى الله صلى عليه وسلم فجاءوه فأقسموا إنهم لا يضمرون عصيانه فيما يقضي به فإنه لو أمرهم الرسول بأشق شيء وهو الخروج للقتال لأطاعوه. قال ابن عطية: وهذه في المنافقين الذين تولوا حين دعوا إلى الله ورسوله. وقال القرطبي: لما بين كراهتهم لحكم النبي أتوه فقالوا: والله لو أمرتنا أن نخرج من ديارنا وأموالنا لخرجنا ولو أمرتنا بالجهاد لجاهدنا. فنزلت هذه الآية.
وكلام القرطبي يقتضي أنهم ذكروا خروجين. وبذلك يكون من الإيجاز في الآية حذف متعلق الخروج ليشمل ما يطلق عليه لفظ الخروج من حقيقة ومجاز بقرينة ما هو معروف من قصة سبب نزول الآية يومئذ، فإنه بسبب خصومة في مال فكان معنى الخروج من المال أسبق في القصد. واقتصر جمهور المفسرين على أن المراد ليخرجن من أموالهم وديارهم. واقتصر الطبري عل أن المراد ليخرجن إلى الجهاد على اختلاف الرأيين في سبب النزول.
والإقسام: النطق بالقسم، أي اليمين.
وضمير {وَأَقْسَمُوا} عائد إلى ما عاد إليه ضمير {وَيَقُولُونَ} . بفعل المضي هنا لأن ذلك شيء وقع وانقضى.

والجهد بفتح الجيم وسكون الهاء: منتهى الطاقة. ولذلك يطلق على المشقة كما في حديث بدء الوحي: فغطني حتى بلغ مني الجهد لأن الأمر الشاق لا يعمل إلا بمنتهى الطاقة. وهو مصدر جهد كمنع متعديا إذا أتعب غيره.
ونصب {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} يجوز أن يكون على الحال من ضمير {أَقْسَمُوا} على تأويل المصدر باسم الفاعل كقوله: {لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً} ، أي جاهدين. والتقدير: جاهدين أنفسهم، أي بالغين بها أقصى الطاقة. وهذا على طريقة التجريد. ومعنى ذلك: أنهم كرروا الأيمان وعددوا عباراتها حتى أتعبوا أنفسهم ليوهموا أنهم صادقون في أيمانهم. وإضافة {جَهْدَ} إلى {أَيْمَانِهِمْ} على هذا الوجه إضافة على معنى من، أي جهدا ناشئا من أيمانهم.
ويجوز أن يكون {جَهْدَ} منصوبا على المفعول المطلق الواقع بدلا من فعله. والتقدير: جهدوا أيمانهم جهدا، والفعل المقدر في موضع الحال من ضمير أقسموا. والتقدير: أقسموا يجهدون أيمانهم جهدا. وإضافة {جَهْدَ} إلى {أَيْمَانِهِمْ} على هذا الوجه من إضافة المصدر إلى مفعوله؛ جعلت الأيمان كالشخص الذي له جهد، ففيه استعارة مكنية، ورمز إلى المشبه به بما هو من روادفه وهو أن أحدا يجهده، أي يستخرج منه طاقته فإن كل إعادة لليمين هي كتكليف لليمين بعمل متكرر كالجهد له، فهذا أيضا استعارة.
وتقدم الكلام على شيء من هذا عند قوله تعالى: {أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} في سورة العقود وقوله: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ } في سورة الأنعام.
وجملة {لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ} الخ بيان لجملة {أَقْسَمُوا} . وحذف مفعول {أَمَرْتَهُمْ} لدلالة قوله: {لَيَخْرُجُنَّ} . والتقدير: لئن أمرتهم بالخروج ليخرجن.
فأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم هذه الكلمات ذات المعاني الكثيرة وهي {لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} . وذلك كلام موجه لأن نهيهم عن أن يقسموا بعد أن صدر القسم يحتمل أن يكون نهيا عن إعادته لأنهم كانوا بصدد إعادته، بمعنى: لا حاجة بكم إلى تأكيد القسم، أي فإن التأكيد بمنزلة المؤكد في كونه كذبا.
ويحتمل أن يكون النهي مستعملا في معنى عدم المطالبة بالقسم، أي ما كان لكم أن

تقسموا إذ لا حاجة إلى القسم لعدم الشك في أمركم.
ويحتمل أن يكون النهي مستعملا في التسوية مثل {فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ} .
ويحتمل أن يكون النهي مستعملا في حقيقته والمقسم عليه محذوف، أي لا تقسموا على الخروج من دياركم وأموالكم فإن الله لا يكلفكم بذلك. ومقام مواجهة نفاقهم أن تكون هذه الاحتمالات مقصودة.
وقوله: {طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} كلام أرسل مثلا وتحته معان جمة تختلف باختلاف الاحتمالات المتقدمة في قوله: {لا تُقْسِمُوا} .
وتنكير {طَاعَةٌ} لأن المقصود به نوع الطاعة وليست طاعة معينة فهو من باب: تمرة خير من جرادة، و {مَعْرُوفَةٌ} خبره.
فعلى احتمال أن يكون النهي عن القسم مستعملا في النهي عن تكريره يكون المعنى من قبيل التهكم، أي لا حرمة للقسم فلا تعيدوه فطاعتكم معروفة، أي معروف وهنها وانتفاؤها.
وعلى احتمال استعمال النهي في عدم المطالبة باليمين يكون المعنى: لماذا تقسمون أفأنا أشك في حالكم فإن طاعتكم معروفة عندي، أي أعرف عدم وقوعها، والكلام تهكم أيضا.
وعلى احتمال استعمال النهي في التسوية فالمعنى: قسمكم ونفيه سواء لأن أيمانكم فاجرة وطاعتكم معروفة.
أو يكون {طَاعَةٌ} مبتدأ محذوف الخبر، أي طاعة معروفة أولى من الأيمان، ويكون وصف {مَعْرُوفَةٌ} مشتقا من المعرفة بمعنى العلم، أي طاعة تعلم وتتحقق أولى من الأيمان على طاعة غير واقعة، وهو كالعرفان في قولهم: لا أعرفنك تفعل كذا.
وإن كان النهي مستعملا في حقيقته فالمعنى: لا تقسموا هذا القسم، أي على الخروج من دياركم وأموالكم لأن الله لا يكلفكم الطاعة إلا في معروف، فيكون وصف {مَعْرُوفَةٌ} مشتقا من العرفان، أي عدم النكران كقوله تعالى: {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} .

وجملة {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} صالحة لتذييل الاحتمالات المتقدمة، وهي تعليل لما قبلها.
{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} تلقين آخر للرسول عليه الصلاة والسلام بما يرد بهتانهم بقلة الاكتراث بمواعيدهم الكاذبة وأن يقتصروا من الطاعة على طاعة الله ورسوله فيما كلفهم دون ما تبرعوا به كذبا، ويختلف معنى {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} بين معاني الأمر بإيجاد الطاعة المفقودة أو إيهام طلب الدوام على الطاعة على حسب زعمهم.
وأعيد الأمر بالقول للاهتمام بهذا القول فيقع كلاما مستقلا غير معطوف.
وقوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا} يجوز أن يكون تفريعا على فعل {أَطِيعُوا} فيكون فعل {تَوَلَّوْا} من جملة ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقوله لهم ويكون فعلا مضارعا بتاء الخطاب. وأصله: تتولوا بتاءين حذفت منهما تاء الخطاب للتخفيف وهو حذف كثير في الاستعمال. والكلام تبليغ عن الله تعالى إليهم، فيكون ضميرا {عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ} عائدين إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.
ويجوز أن يكون تفريعا على فعل قل، أي فإذا قلت ذلك فتولوا ولم يطيعوا الخ، فيكون فعل {تَوَلُّوْا} ماضيا بتاء واحدة مواجها به النبي صلى الله عليه وسلم، أي فأن تولوا ولم يطيعوا فإنما عليك ما حملت من التبليغ وعليهم ما حملوا من تبعة التكليف. كمعنى قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} في سورة النحل فيكون في ضمائر {فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} التفات. وأصل الكلام: فإنما عليك ما حملت وعليهم ما حملوا. والالتفات محسن لا يحتاج إلى نكتة.
وبهذين الوجهين تكون الآية مفيدة معنيين: معنى من تعلق خطاب الله تعالى بهم وهو تعريض بتهديد ووعيد، ومعنى من موعظة النبي صلى الله عليه وسلم إياهم وموادعة بهم. وهذا كله تبكيت لهم ليعلموا أنهم لايضرون لتوليهم إلا أنفسهم. ونظيره قوله في سور آل عمران: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ} هم اليهود {يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ} إلى قوله: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} .

واعلم أن هذين الاعتبارين لا يتأتيان في المواضع التي يقع فيها الفعل المضارع المفتتح بتاءين في سياق النهي نحو قوله تعالى: {وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} وقوله: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} وقوله: {وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} في سورة الأنفال، وأما قوله تعالى في سورة القتال: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} فثبتت فيه التاءان لأن الكلام فيه موجه إلى المؤمنين فلم يكن فيه ما يقتضي نسج نظمه بما يصلح لإفادة المعنيين المذكورين في سورة النور وفي سور آل عمران.
والبلاغ: اسم مصدر بمعنى التبليغ كالأداء بمعنى التأدية. ومعنى كونه مبينا أنه فصيح واضح.
وجملة {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} إرداف الترهيب الذي تضمنه قوله: {وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} بالترغيب في الطاعة استقصاء في الدعوة إلى الرشد.
وجملة {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} بيان لإبهام قوله: {مَا حُمِّلَ} .
[55] {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}
والأشبه أن هذا الكلام استئناف ابتدائي انتقل إليه بمناسبة التعرض إلى أحوال المنافقين الذين أبقاهم على النفاق ترددهم في عاقبة أمر المسلمين، وخشيتهم أن لا يستقر بمسلمين المقام بالمدينة حتى يغزوهم المشركون، أو يخرجهم المنافقون حين يجدون الفرصة لذلك كما حكى الله تعالى من قول عبد الله بن أبي: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} ، فكانوا يظهرون الإسلام اتقاء من تمام أمر الإسلام ويبطنون الكفر ممالاة لأهل الشرك حتى إذا ظهروا على المسلمين لم يلمزوا المنافقين بأنهم قد بدلوا دينهم، مع ما لهذا الكلام من المناسبة مع قوله: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} . فيكون المعنى: وإن تطيعوه تهتدوا وتنصروا وتأمنوا. ومع ما روي من حوادث تخوف المسلمين ضعفهم أمام أعدائهم فكانوا مشفقين من غزو أهل الشرك ومن كيد المنافقين ودلالتهم المشركين على عورات المسلمين فقيل كانت تلك الحوادث سببا لنزول هذه الآية.

قال أبو العالية: مكث رسول الله بمكة عشر سنين بعد ما أوحي إليه خائفا هو وأصحابه ثم أمر بالهجرة إلى المدينة وكانوا فيها خائفين يصبحون ويمسون في السلاح فقال رجل: يا رسول الله أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح? فقال رسول الله: "لا تغبرون أي لا تمكثون إلا قليلا حتى يجلس الرجل منكم في الملإ العظيم محتبيا ليس عليه حديدة" .ونزلت هذه الآية.
فكان اجتماع هذه المناسبات سببا لنزول هذه الآية في موقعها هذا بما اشتملت عليه من الموعود به الذي لم يكن مقتصرا على إبدال خوفهم أمنا كما اقتضاه أثر أبي العالية، ولكنه كان من جملة الموعود كما كان سببه من عداد الأسباب.
وقد كان المسلمون واثقين بالأمن ولكن الله قدم على وعدهم بالأمن أن وعدهم بالاستخلاف في الأرض وتمكين الدين والشريعة فيهم تنبيها لهم بأن سنة الله أنه لا تأمن أمة بأس غيرها حتى تكون قوية مكينة مهيمنة على أصقاعها. ففي الوعد بالاستخلاف والمكين وتبديل الخوف أمنا إيماء إلى التهيؤ لتحصيل أسبابه مع ضمان التوفيق لهم والنجاح إن هم أخذوا في ذلك، وأن ملاك ذلك هو طاعة الله والرسول صلى الله عليه وسلم {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} ، وإذا حل الاهتداء في النفوس نشأت الصالحات فأقبلت مسبباتها تنهال على الأمة، فالأسباب هي الإيمان وعمل الصالحات.
والموصول عام لا يختص بمعين، وعمومه عرفي، أي غالب فلا يناكده ما يكون في الأمة من مقصرين في عمل الصالحات فإن تلك المنافع عائدة على مجموع الأمة.
والخطاب في {مِنْكُمْ} لأمة الدعوة بمشركيها ومنافقيها بأن الفريق الذي يتحقق فيه الإيمان وعمل الصالحات هو الموعود بهذا الوعد.
والتعريف في {الصَّالِحَاتِ} للاستغراق، أي عملوا جميع الصالحات، وهي الأعمال التي وصفها الشرع بأنها صلاح، وترك الأعمال التي وصفها الشرع بأنها فساد لأن إبطال الفساد صلاح.
فالصالحات جمع صالحة: وهي الخصلة والفعلة ذات الصلاح، أي التي شهد الشرع بأنها صالحة. وقد تقدم في أول البقرة.
واستغراق {الصَّالِحَاتِ} استغراق عرفي، أي عمل معظم الصالحات ومهماتها ومراجعها مما يعود إلى تحقيق كليات الشريعة وجري حالة مجتمع الأمة على مسلك الاستقامة، وذلك يحصل بالاستقامة في الخويصة وبحسن التصرف في العلاقة المدنية بين

الأمة على حسب ما أمر به الدين أفراد الأمة كل فيما هو من عمل أمثاله الخليفة فمن دونه، وذلك في غالب أحوال تصرفاتهم، ولا التفات إلى الفلتات المناقضة فإنها معفو عنها إذا لم يسترسل عليها وإذا ما وقع السعي في تداركها.
والاستقامة في الخويصة هي موجب هذا الوعد وهي الإيمان وقواعد الإسلام، والاستقامة في المعاملة هي التي بها تيسير سبب الموعود به.
وقد بين الله تعالى أصول انتظام أمور الأمة في تضاعيف كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم مثل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} . وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} وقوله في سياق الذم: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ } وقوله: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} وبين الرسول عليه الصلاة والسلام تصرفات ولاة الأمور في شؤون الرعية ومع أهل الذمة ومع الأعداء في الغزو والصلح والمهادنة والمعاهدة، وبين أصول المعاملات بين الناس.
فمتى اهتم ولاة الأمور وعموم الأمة باتباع ما وضح لهم الشرع تحقق وعد الله إياهم بهذا الوعد الجليل.
وهذه التكاليف التي جعلها الله لصلاح أمور الأمة ووعد عليها بإعطاء الخلافة والتمكين والأمن صارت بترتيب تلك الموعدة عليها أسبابا لها، وكانت الموعدة كالمسبب عليها فشابهت من هذه الحالة خطاب الوضع، وجعل الإيمان عمودها وشرطا للخروج من عهدة التكليف بها وتوثيقا لحصول آثارها بأن جعله جالب رضاه وعنايته. فبه يتيسر للأمة تناول أسباب النجاح، وبهي يحف اللطف الإلهي بالأمة في أطوار مزاولتها واستجلابها بحيث يدفع عنهم العراقيل والموانع، وربما حف بهم اللطف والعناية عند تقصير لهم في القيام بها. وعند تخليطهم الصلاح بالفساد فرفق بهم ولم يعجل لهم الشر وتلوم لهم في إنزال العقوبة. وقد أشار إلى هذا قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عَابِدِينَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} يريد بذلك كله المسلمين. وقد مضى الكلام على ذلك في سورة الأنبياء كقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} في سورة الحج.

فلو أن قوم غير مسلمين عملوا في سيرتهم وشؤون رعيتهم بمثل ما أمر الله به المسلمين من الصالحات بحيث لم يعوزهم إلا الإيمان بالله ورسوله لاجتنبوا من سيرتهم صورا تشبه الحقائق التي يجتنيها المسلمون لأن تلك الأعمال صارت أسبابا وسننا تترتب عليها آثارها التي جعلها الله سننا وقوانين عمرانية سوى أنهم لسوء معاملتهم ربهم بجحوده أو بالإشراك به أو بعدم تصديق رسوله يكونون بمنأى عن كفالته وتأييده إياهم ودفع العوادي عنهم، بل يكلهم إلى أعمالهم وجهودهم على حسب المعتاد. ألا ترى أن القادة الأوربيين بعد أن اقتبسوا من الإسلام قوانينه ونظامه بما مارسوه من شؤون المسلمين في خلال الحروب الصليبية ثم بما اكتسبوه من ممارسة كتب التاريخ الإسلامي والفقه الإسلامي والسيرة النبوية قد نظموا ممالكهم على قواعد العدل والإحسان والمواساة وكراهة البغي والعدوان فعظمت دولهم واستقامة أمورهم. ولا عجب في ذلك فقد سلط الله الآشوريين وهم مشركون على بني إسرائيل لفسادهم فقال: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً} وقد تقدم في سورة الإسراء.
والاستخلاف: جعلهم خلفاء، أي عن الله في تدبير شؤون عباده كما قال: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} وقد تقدم في سورة البقرة. والسين والتاء للتأكيد. وأصله: ليخلفنهم في الأرض.
وتعليق فعل الاستخلاف بمجموع الذين آمنوا وعملوا الصالحات وإن كان تدبير شؤون الأمة منوطا بولاة الأمور لا بمجموع الأمة من حيث إن لمجموع الأمة انتفاعا بذلك وإعانة عليه كل بحسب مقامه في المجتمع، كما حكى تعالى قول موسى لبني إسرائيل: {وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً} كما تقدم في سورة العقود [20].
ولهذا فالوجه أن المراد من الأرض جميعها، وان الظرفية المدلولة بحرف في ظاهرة في جزء من الأرض وهو موطن حكومة الأمة وحيث تنال أحكامها سكانه. والأصل في الظرفية عدم استيعاب المظروف الظرف كقوله تعالى: {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود].
وإنما صيغ الكلام في هذا النظم ولم يقتصر على قوله: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ} دون تقييد بقوله: {فِي الْأَرْضِ} ل {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ} للإيماء إلى أن الاستخلاف يحصل في معظم

الأرض. وذلك يقبل الامتداد والانقباض كما كان الحال يوم خروج بلاد الأندلس من حكم الإسلام. ولكن حرمة الأمة واتقاء بأسها ينتشر في المعمورة كلها بحيث يخافهم من عداهم من الأمم في الأرض التي لم تدخل تحت حكمهم ويسعون الجهد في مرضاتهم ومسالمتهم. وهذا استخلاف كامل ولذلك نظر بتشبيهه باستخلاف الذين من قبلهم يعني الأمم التي حكمت معظم العالم وأخافت جميعه مثل الآشوريين والمصريين والفينيقيين واليهود زمن سليمان، والفرس، واليونان، والرومان.
وعن مالك: أن هذه الآية نزلت في أبي بكر وعمر فيكون موصول الجمع مستعملا في معنى المثنى. وعن الضحاك: هذه الآية تتضمن خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي. ولعل هذا مراد مالك. وعلى هذا فالمراد بالذين من قبلهم صلحاء الملوك مثل: يوسف، وداود، وسليمان، وأنو شروان، وأصحمة النجاشي، وملكي صادق الذي كان في زمن إبراهيم ويدعى حمورابي، وذي القرنين، وإسكندر المقدوني، وبعض من ولي جمهورية اليونان.
وفي الآية دلالة واضحة على أن خلفاء الأمة مثل: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والحسن ومعاوية كانوا بمحل الرضى من الله تعالى لأنه استخلفهم استخلافا كاملا كما استخلف الذين من قبلهم وفتح لهم البلاد من المشرق إلى المغرب وأخاف منهم الأكاسرة والقياصرة.
وجملة {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ} بيان لجملة {وَعَدَ} لأنها عين الموعود به. ولما كانت جملة قسم وهو من قبيل القول كانت إحداهما بيانا للأخرى.
وقرأ الجمهور {كَمَا اسْتَخْلَفَ} بالبناء للفاعل، أي كما استخلف الله الذين من قبلهم. وقرأه أبو بكر عن عاصم بالبناء للنائب فيكون {الَّذِينَ} نائب فاعل.
وتمكين الدين: انتشاره في القبائل والأمم وكثرة متبعيه. استعير التمكين الذي حقيقته التثبيت والترسيخ لمعنى الشيوع والانتشار لأنه إذا انتشر لم يخش عليه الانعدام فكان كالشيء المثبت المرسخ، وإذا كان متبعوه في قلة كان كالشيء المضطرب المتزلزل. وهذا الوعد هو الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة منها حديث الحديبية إذ جاء فيه قوله: "وإن هم أبوا" أي إلا القتال "فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي" أي ينفصل مقدم العنق عن الجسد ولينفذن الله أمره.

وقوله: {لَهُمْ} مقتضى الظاهر فيه أن يكون بعد قوله: {دِينَهُمْ} لأن المجرور بالحرف أضعف تعلقا من مفعول الفعل، فقدم {لَهُمْ} عليه للإيماء إلى العناية بهم، أي بكون التمكين لأجلهم، كتقديم المجرور على المفعولين في قوله: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ} .
وإضافة الدين إلى ضميرهم لتشريفهم به لأنه دين الله كما دل عليه قوله عقبه: {الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} ، أي الذي اختاره ليكون دينهم، فيقتضي ذلك أنه اختارهم أيضا ليكونوا أتباع هذا الدين. وفيه إشارة إلى أن الموصوفين بهذه الصلة هم الذين ينشرون هذا الدين في الأمم لأنه دينهم فيكون تمكنه في الناس بواسطتهم.
وإنما قال: {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} ولم يقل: وليؤمننهم، كما قال في سابقيه لأنهم ما كانوا يطمحون يومئذ إلى الأمن، كما ورد في حديث أبي العالية المتقدم آنفا، فكانوا في حالة هي ضد الأمن ولو أعطوا الأمن دون أن يكونوا في حالة خوف لكان الأمن منة واحدة. وإضافة الخوف إلى ضميرهم للإشارة إلى أنه خوف معروف مقرر.
وتنكير {أَمْناً} للتعظيم بقرينة كونه مبدلا من بعد خوفهم المعروف بالشدة. والمقصود: الأمن من أعدائهم المشركين والمنافقين. وفيه بشارة بأن الله مزيل الشرك والنفاق من الأمة. وليس هذا الوعد بمقتضى أن لا تحدث حوادث خوف في الأمة في بعض الأقطار كالخوف الذي اعترى أهل المدينة من ثورة أهل مصر الذين قادهم الضال مالك الأشتر النخعي، ومثل الخوف الذي حدث في المدينة يوم الحرة وغير ذلك من الحوادث، وإنما كانت تلك مسببات عن أسباب بشرية وإلى الله إيابهم وعلى الله حسابهم.
وقرأ الجمهور {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ} بفتح الموحدة وتشديد الدال. وقرأه ابن كثير وأبو بكر عن عاصم ويعقوب بسكون الموحدة وتخفيف الدال والمعنى واحد.
وجملة {يَعْبُدُونَنِي} حال من ضمائر الغيبة المتقدمة، أي هذا الوعد جرى في حال عبادتهم إياي. وفي هذه الحال إيذان بأن ذلك الوعد جزاء لهم، أي وعدتهم هذا الوعد الشامل لهم والباقي في خلفهم لأنهم يعبدونني عبادة خالصة عن الإشراك.
وعبر بالمضارع لإفادة استمرارهم على ذلك تعريضا بالمنافقين إذ كانوا يؤمنون ثم ينقلبون.

وجملة {لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} حال من ضمير الرفع في {يَعْبُدُونَنِي} تقييدا للعبادة بهذه الحالة لأن المشركين قد يعبدون الله ولكنهم يشركون معه غيره. وفي هاتين الجملتين ما يؤيد ما قدمناه آنفا من كون الإيمان هو الشريطة في كفالة الله للأمة هذا الوعد.
وجملة {وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} تحذير بعد البشارة على عادة القرآن في تعقيب البشارة بالنذارة والعكس دفعا للاتكال.
والإشارة في قوله: {بَعْدَ ذَلِكَ} إلى الإيمان المعبر عنه هنا ب {يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} والمعبر عنه في أول الآيات بقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} ، أي ومن كفر بعد الإيمان وما حصل له من البشارة عليه فهم الفاسقون عن الحق.
وصيغة الحسر المأخوذة من تعريف المسند بلام الجنس مستعملة مبالغة للدلالة على أنه الفسق الكامل.
ووصف الفاسقين له رشيق الموقع، لأن مادة الفسق تدل على الخروج من المكان من منفذ ضيق.
[56] {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} .
عطف على جملة {يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} لما فيها من معنى الأمر بترك الشرك، فكأنه قيل: اعبدوني ولا تشركوا وأقيموا الصلاة، لأن الخبر إذا كان يتضمن معنى الأمر كان في قوة فعل الأمر حتى أنه قد يجزم جوابه كما في قوله تعالى: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} إلى قوله: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} بجزم يغفر لأن قوله: {تُؤْمِنُونَ} في قوة أن يقول: آمنوا بالله.
والخطاب موجه للذين آمنوا خاصة بعد أن كان موجها لأمة الدعوة على حد قوله تعالى: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ} ، فالطاعة المأمور بها هنا غير الطاعة التي في قوله: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا} الخ لأن تلك دعوة للمعرضين وهذه ازدياد للمؤمنين.
وقد جمعت هذه الآية جميع الأعمال الصالحات فأهمها بالتصريح وسائرها بعموم حذف المتعلق بقوله: {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}، أي في كل ما يأمركم وينهاكم.
ورتب على ذلك رجاء حصول الرحمة لهم، أي في الدنيا بتحقيق الوعد الذي من

رحمته الأمن وفي الآخرة بالدرجات العلى. والكلام على لعل تقدم في غير موضع في سورة البقرة.
{لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ} .
استئناف ابتدائي لتحقيق ما اقتضاه قوله: {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} ، فقد كان المشركون يومئذ لم يزالوا في قوة وكثرة، وكان المسلمون لم يزالوا يخافون بأسهم فربما كان الوعد بالأمن من بأسهم متلقى بالتعجب والاستبطاء الشبيه بالتردد فجاء قوله: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ} تطمينا وتسلية.
والخطاب لمن قد يخامره التعجب والاستبطاء دون تعيين.
والمقصود من النهي عن هذا الحسبان التنبيه على تحقيق الخبر.
وقراءة الجمهور {تَحْسَبَنَّ} بتاء الخطاب. وقرأ ابن عامر وحمزة وحده بياء الغيبة فصار {الَّذِينَ كَفَرُوا} فاعل يحسبن فيبقى ليحسبن مفعول واحد هو {مُعْجِزِينَ} . فقال أبو حاتم والنحاس والفراء: هي خطأ أو ضعيفة لأن فعل الحسبان يقتضي مفعولين. وهذا القول جرأة على قراءة متواترة. وقال الزجاج: المفعول الأول محذوف تقديره: أنفسهم، وقد وفق لأن الحذف ليس بعزيز في الكلام. وفي الكشاف أن {فِي الْأَرْضِ} هو المفعول الثاني، أي لا يحسبوا ناسا معجزين في الأرض يعني ما من كائن في الأرض إلا وهو في متناول قدرة الله إن شاء أخذه، أي فلا ملجأ لهم في الأرض كلها قال: وهذا معنى قوي جيد.
والمعجز: الذي يعجز غيره، أي يجعله عاجزا عن غلبه. وقد تقدم عند قوله تعالى: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} في سورة الأنعام. وكذلك المعاجز بمعنى المحاول عجز ضده تقدم في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ} في سورة الحج.
والأرض: هي أرض الدنيا، أي هم غير غالبين في الدنيا كما حسبوا أنه ليس ثمة عالم آخر. و {فِي الأَرْضِ} متعلق بمعجزين على قراءة الجمهور وعلى بعض التوجيهات من قراءة حمزة وابن عامر، أو هو مفعول ثان على بعض التوجيهات كما

علمت.
وقوله: {وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ} أي هم في الآخرة معلوم أن مأواهم النار فقد خسروا الدارين.
[59,58] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} .
استئناف انتقالي إلى غرض من أحكام المخالطة والمعاشرة. وهو عود إلى الغرض الذي ابتدئت به السورة وقطع عند قوله: {وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} كما تقدم.
وقد ذكر في هذه الآية شرع الاستئذان لأتباع العائلة ومن هو شديد الاختلاط إذا أراد دخول بيت، فهو من متممات ما ذكر في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} وهو بمفهوم الزمان يقتضي تخصيص عموم قوله: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} الآيات لأن ذلك عام في الأعيان والأوقات فكان قوله: {الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ} إلى قوله: {وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ} تشريعا لاستئذانهم في هذه الأوقات وهو يقتضي عدم استئذانهم في غير تلك الأوقات الثلاثة، فصار المفهوم مخصصا لعموم النهي في قوله: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} . وأيضا هذا الأمر مخصص بعموم {مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} وعموم {الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} من قوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} الخ المتقدم آنفا.
وقد روى أن أسماء بنت مرثد دخل عليها عبد لها كبير في وقت كرهت دخوله فيه فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إنما خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حالة نكرهها. فنزلت الآية، يعني أنها اشتكت إباحة ذلك لهم. ولو صحت هذه الرواية لكانت هذه الآية نسخا لعموم {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} وعموم {أَوِ الطِّفْلِ} لأنها تقتضي أنه وقع العمل بذلك العموم ثم خصص بهذه الآية. والتخصيص إذا ورد بعد العمل بعموم العام صار

نسخا.
والأمر في قوله: {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ} للوجوب عند الجمهور. وقال أبو قلابة: هو ندب.
فأما المماليك فلأن في عرف الناس أن لا يتحرجوا من اطلاع المماليك عليهم إذ هم خول وتبع. وقد تقدم ذلك آنفا عند قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} . وأما الأطفال فلأنهم لا عناية لهم بتطلع أحوال الناس. وتقدم آنفا عند قوله: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} .
كانت هذه الأوقات أوقاتا يتجرد فيها أهل البيت من ثيابهم كما آذن به قوله تعالى: {وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ} فكان من القبيح أن يرى مماليكهم وأطفالهم عوراتهم لأن ذلك منظر يخجل منه المملوك وينطبع في نفس الطفل لأنه لم يعتد رؤيته، ولأنه يجب ان ينشأ الأطفال على ستر العورة حتى يكون ذلك كالسجية فيهم إذا كبروا.
ووجه الخطاب إلى المؤمنين وجعلت صيغة الأمر موجهة إلى المماليك والصبيان على معنى: لتأمروا الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم أن يستأذنوا عليكم، لأن على أرباب البيوت تأديب أتباعهم، فلا يشكل توجيه الأمر إلى الذين لم يبلغوا الحلم.
وقوله: {الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} يشمل الذكور والإناث لمالكيهم الذكور والإناث.
وأما مسألة النظر وتفصيلها في الكبير والصغير والذكر والأنثى فهي من علائق ستر العورة المفصلة في كتب الفقه. وقد تقدم شيء من ذلك عند قوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} إلى قوله: {عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} فلا ينبغي التصدي بإيراد صورها في هذه الآية.
وتعيين الاستيذان في هذه الأوقات الثلاثة لأنها أوقات خلوة الرجال والنساء وأوقات التعري من الثياب، وهي أوقات نوم وكانوا غالبا ينامون مجردين من الثياب اجتراء بالغطاء، وقد سماها الله تعالى {عَورَاتِ} .
وما بعد صلاة العشاء هو الليل كله إلى حين الهبوب من النوم قبل الفجر. وانتصب {ثَلاثَ مَرَّاتٍ} على أنه مفعول مطلق {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ} لأن مرات في قوة استئذانات.
وقوله: {مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ} ظرف مستقر في محل نصب على البدل من {ثَلاثَ مَرَّاتٍ} بدل مفصل من مجمل. وحرف من مزيد للتأكيد.

وعطف عليه {وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ} والظهيرة: وقت الظهر وهو انتصاف النهار.
وقوله: {ثَلاثُ عَوْرَاتٍ} قرأ الجمهور مرفوعا على أنه خبر مبتدأ محذوف أي ثلاث عورات، أي أوقات ثلاث عورات. وحذف المسند إليه هنا مما اتبع فيه الاستعمال في كل إخبار عن شيء تقدم الحديث عنه.
و {لَكُمْ} متعلق ب {عَوْرَاتٍ} . وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم بالنصب على البدل من {ثَلاثَ مَرَّات} .
والعورة في الأصل: الخلل والنقص. وفيه قيل لمن فقدت عينه أعور وعورت عينه، ومنه عورة الحي وهي الجهة غير الحصينة منه بحيث يمكن الدخول منها كالثغر، قال لبيد:
وأجن عورات الثغور ظلامها
وقال تعالى: {يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} . ثم أطلقت على ما يكره انكشافه كما هنا وكما سمي ما لا يحب الإنسان كشفه من جسده عورة. وفي قوله: {ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ} نص على علة إيجاب الاستئذان فيها.
وقوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ} تصريح بمفهوم الظروف في قوله: {مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ} وما عطف عليه، أي بعد تلك الأوقات المحددة. فصلاة الفجر حد معلوم، وحالة وضع الثياب من الظهيرة تحديد بالعرف، وما بعد صلاة العشاء من الحصة التي تسع في العرف تصرف الناس في التهيؤ إلى النوم.
ولك أن تجعل بعد بمعنى دون، أي في غير تلك الأوقات الثلاثة كقوله تعالى: {فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} ، وضمير {بَعْدَهُنَّ} عائد إلى ثلاث عورات، أي بعد تلك الأوقات.
ونفي الجناح عن المخاطبين في قوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ} بعد أن كان الكلام على استئذان المماليك والذين لم يبلغوا الحلم إيماء إلى لحن خطاب حاصل من قوله: {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ} فإن الأمر باستئذان هؤلاء عليهم يقتضي أمر أهل البيت بالاستئذان على الذين ملكت أيمانهم إذا دعاهم داع إلى الدخول عليهم في تلك الأوقات كما يرشد السامع إليه قوله: {ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ} . وإنما لم يصرح بأمر المخاطبين بأن يستأذنوا على الذين ملكت أيمانهم لندور دخول السادة

على عبيدهم أو على غلمانهم إذ الشأن أنهم إذا دعتهم حاجة إليهم أن ينادوهم فأما إذا دعت الحاجة إلى الدخول عليهم فالحكم فيهم سواء. وقد أشار إلى العلة قوله تعالى: {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} .
وقوله: {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ} خبر مبتدأ محذوف تقديره: هم طوافون، يعود على {الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ} .
والكلام استئناف بياني، أي إنما رفع الجناح عليهم وعليكم في الدخول بدون استئذان بعد تلك الأوقات الثلاثة لأنهن طوافون عليكم فلو وجب أن يستأذنوا كان ذلك حرجا عليهم وعليكم.
وفي الكلام اكتفاء. تقديره: وأنتم طوافون عليهم دل عليه قوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ} وقوله عقبه: {بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} .
و {بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} جملة مستأنفة أيضا. ويجعل {بَعْضُكُمْ} مبتدأ، ويتعلق قوله: {عَلَى بَعْضٍ} بخبر محذوف تقديره: طواف على بعض. وحذف الخبر وبقي المتعلق به وهو كون خاص حذف لدلالة {طَوَّافُونَ} عليه. والتقدير: بعضكم طواف على بعض. ولا يحسن من جعل {بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} بدلا من الواو في {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ} لأنه عائد إلى {الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ} فلا يحسن أن يبدل منه بعض المخاطبين وهم ليسوا من الفريقين إلا بتقدير.
وقوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ} أي مثل ذلك البيان الذي طرق أسماعكم يبين الله لكم الآيات، فبيانه بالغ الغاية في الكمال حتى لو أريد تشبيهه لما شبه إلا بنفسه. وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} في سورة البقرة.
والتعريف في {الْآياتِ} تعريف الجنس. والمراد بالآيات القرآن فإن ما يقع فيه إجمال منها يبين بآيات أخرى، فالآيات التي أولها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} .
وجملة {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} معترضة. والمعنى: يبين الله لكم الآيات بيانا كاملا وهو عليم حكيم، فبيانه بالغ غاية الكمال لا محالة.
ووقع قوله: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ} في موقع التصريح بمفهوم الصفة في

قوله: {وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ} ليعلم أن الأطفال إذ بلغوا الحلم تغير حكمهم في الاستئذان إلى حكم استئذان الرجال الذي في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} الآيات، فالمراد بقوله: {الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} فيما ذكر من الآية السابقة أو الذين كانوا يستأذنون من قبلهم وهم كانوا رجالا قبل أن يبلغ أولئك الأطفال مبلغ الرجال.
وقوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} القول فيه كالقول في نظيره المتقدم آنفا، وهو تأكيد له بالتكرير لمزيد الاهتمام والامتنان. وإنما أضيفت الآيات هنا لضمير الجلالة تقننا ولتقوية تأكيد معنى كمال التبيين الحاصل من قوله: {كَذَلِكَ} . وتأكيد معنى الوصفين العليم الحكيم، أي هي آيات من لدن من هذه صفاته ومن تلك صفات بيانه.
[60] {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}
هذه الآية مخصصة لقوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} إلى قوله: {عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} .
ومناسبة هذا التخصيص هنا أنه وقع بعد فرض الاستئذان في الأوقات التي يضع الرجال والنساء فيها ثيابهم عن أجسادهم، فعطف الكلام إلى نوع من وضع الثياب عن لابسها وهو وضع النساء القواعد بعض ثيابهن عنهن فاستثني من عموم النساء النساء المتقدمات في السن بحيث بلغن إبان الإياس من المحيض فرخص لهن أن لا يضربن بخمرهن على جيوبهن، وأن لا يدنين عليهن من جلابيبهن. فعن ابن مسعود وابن عباس: الثياب الجلباب، أي الرداء والمقنعة التي فوق الخمار. وقال السدي: يجوز لهن وضع الخمار أيضا.
والقواعد: جمع قاعد بدون هاء تأنيث مثل: حامل وحائض لأنه وصف نقل لمعنى خاص بالنساء وهو القعود عن الولادة وعن المحيض. استعير القعود لعدم القدرة لأن القعود يمنع الوصول إلى المرغوب وإنما رغبة المرأة في الولد والحيض من سبب الولادة فلما استعير لذلك وغلب في الاستعمال صار وصف قاعد بهذا المعنى خاصا بالمؤنث فلم تلحقه هاء التأنيث لانتفاء الداعي إلى الهاء من التفرقة بين المذكر والمؤنث وقد بينه قوله:

{اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً} ، وذلك من الكبر.
وقوله: {اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً} وصف كاشف لالقواعدوليس قيدا.
واقتران الخبر بالفاء في قوله: {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ} لأن الكلام بمعنى التسبب والشرطية، لأن هذا المبتدأ يشعر بترقب ما يرد بعده فشابه الشرط كما تقدم في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} . ولا حاجة إلى ادعاء أن ال فيه موصولة إذ لا يظهر معنى الموصول لحرف التعريف وإن كثر ذلك في كلام النحويين. ووان يضعن متعلق بجناح بتقدير في.
والمراد بالثياب بعضها وهو المأمور بإدنائه على المرأة بقرينة مقام التخصيص.
والوضع: إناطة شيء على شيء، وأصله أن يعدى بحرف على وقد يعدي بحرف عن إذا أريد أنه أزيل عن مكان ووضع على غيره وهو المراد هنا كفعل ترغبون في قوله تعالى: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} في سورة النساء، أي أن يزلن عنهن ثيابهن فيضعنها على الأرض أو على المشجب. وعلة هذه الرخصة هي أن الغالب أن تنتفي أو تقل رغبة الرجال في أمثال هذه القواعد لكبر السن. فلما كان في الأمر بضرب الخمر على الجيوب أو إدناء الجلابيب كلفة النساء المؤمورات اقتضاها سد الذريعة، فلما انتفت الذريعة رفع ذلك الحكم رحمة من الله، فإن الشريعة ما جعلت في حكم مشقة لضرورة إلا رفعت تلك المشقة بزوال الضرورة وهذا معنى الرخصة.
ولذلك عقب هذا الترخيص بقوله: {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ} .
والاستعفاف: التعفف، فالسين والتاء فيه للمبالغة مثل استجاب، أي تعففهن عن وضع الثياب عنهن أفضل لهن ولذلك قيد هذا الإذن بالحال وهو {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} أي وضعا لا يقارنه تبرج بزينة.
والتبرج: التكشف. والباء في {بِزِينَةٍ} للملابسة فيؤول إلى أن لا يكون وضع الثياب إظهارا لزينة كانت مستورة. والمراد: إظهار ما عادة المؤمنات ستره. قال تعالى: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} فإن المرأة إذا تجلت بزينة من شأنها إخفاؤها إلا عن الزوج فكأنها تعرض باستجلاب استحسان الرجال إياها وإثارة رغبتهم فيها، وهي وإن كانت من القواعد فإن تعريضها بذلك يخالف الآداب ويزيل وقار سنها، وقد يرغب فيها بعض أهل الشهوات لما في التبرج بالزينة من الستر على عيوبها أو الإشغال عن

عيوبها بالنظر في محاسن زينتها.
فالتبرج بالزينة: التحلي بما ليس من العادة التحلي به في الظاهر من تحمير وتبييض وكذلك الألوان النادرة، قال بشار:
وإذا خرجت تقنعي ... بالحمر إن الحسن أحمر
وسئلت عائشة أم المؤمنين عن الخضاب والصباغ والتمايم أي حقاق من فضة توضع فيها تمايم ومعاذات تعلقها المرأة والقرطين والخلخال وخاتم الذهب ورقاق الثياب؟ فقالت: أحل الله لكن الزينة غير متبرجات لمن لا يحل لكن أن يروا منكن محرما. فأحالت الأمر على المعتاد والمعروف، فيكون التبرج بظهور ما كان يحجبه الثوب المطروح عنها كالوشام في اليد أو الصدر والنقش بالسواد في الجيد أو الصدر المسمى في تونس بالحرقوص غير عربية. وفي الموطأ:دخلت حفصة بنت عبد الرحمان بن أبي بكر على عائشة أم المؤمنين وعلى حفصه خمار رقيق فشقته عائشة وكستها خمارا كيفا، أي: شقته لئلا تخمر به فيما بعد.
وقيل: إن المعني بقوله: {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} غير متكشفات من منازلهن بالخروج في الطريق، أي أن يضعن ثيابهن في بيوتهن، أي فإذا خرجت فلا يحل لها ترك جلبابها، فيؤول المعنى إلى أن يضعن ثيابهن في بيوتهن، ويكون تأكيدا لما تقدم في قوله تعالى: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} أي كونهن من القواعد لا يقتضي الترخيص لهن إلا في وضع ثيابهن وضعا مجردا عن قصد ترغيب فيهن.
وجملة {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} مسوقة مساق التذييل للتحذير من التوسع في الرخصة أو جعلها ذريعة لما لا يحمد شرعا، فوصف السميع تذكير بأنه يسمع ما تحدثن به أنفسهن من المقاصد، ووصف العليم تذكير بأنه يعلم أحوال وضعهن الثياب وتبرجهن ونحوها.
[61] {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً

كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}.
{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} .
اختلف في أن قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ} الخ منفصل عن قوله: {وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} وأنه في غرض غير غرض الأكل في البيوت، أي فيكون من تمام آية الاستئذان، أو متصل بما بعده في غرض واحد.
فقال بالأول: الحسن وجابر بن زيد وهو مختار الجبائي وابن عطية وابن العربي وأبي حيان. وقال ابن عطية: إنه ظاهر الآية. وهو الذي نختاره تفاديا من التكلف الذي ذكره مخالفوهم لبيان اتصاله بما بعده في بيان وجه الرخصة لهؤلاء الثلاثة الأصناف في الطعام في البيوت المذكورة، ولأن في قوله: {أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} إلى آخر المعدودات لا يظهر اتصاله بالأعمى والأعرج والمريض، فتكون هذه الآية نفيا للحرج عن هؤلاء الثلاثة فيما تجره ضرارتهم إليهم من الحرج من الأعمال، فالحرج مرفوع عنهم في كل ما تضطرهم إليه أعذارهم، فتقتضي نيتهم الإتيان فيه بالإكمال ويقتضي العذر أن يقع منهم. فالحرج منفي عن الأعمى في التكليف الذي يشترط فيه البصر، وعن الأعرج فيما يشترط فيه المشي والركوب، وعن المريض في التكليف الذي يؤثر المرض في إسقاطه كالصوم وشروط الصلاة والغزو. ولكن المناسبة في ذكر هذه الرخصة عقب الاستئذان أن المقصد الترخيص للأعمى أنه لا يتعين عليه استئذان لانتفاء السبب الموجبة. ثم ذكر الأعرج والمريض إدماجا وإتماما لحكم الرخصة لهما للمناسبة بينهما وبين الأعمى.
وقال بالثاني: جمهور المفسرين وقد تكلفوا لوجه عد هذه الأصناف الثلاثة في عداد الآكلين من الطعام الذي في بيوت من ذكروا في الآية الموالية.
والجملة على كلا الوجهين مستأنفة استئنافا ابتدائيا.
{وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً} .
مناسبة عطف هذه الرخص على رخصة الأعمى، على تقدير أنه منفصل عنه كما تقدم وهو المختار عند المحققين، هو تعلق كليهما بالاستئذان والدخول للبيوت سواء كان

لغرض الطعام فيها أو كان للزيارة ونحوها لاشتراك الكل في رفع الحرج، وعلى تقدير أنه متصل به على قول الجمهور فاقتران الجميع في الحكم هو الرخصة للجميع في الأكل، فأذن الله للأعمى والأعرج والمريض أن يدخلوا للأكل لأنهم محاويج لا يستطيعون التكسب وكان التكسب زمانئذ بعمل الأبدان فرخص لهؤلاء أن يدخلوا بيوت المسلمين لشبع بطونهم.
هذا أظهر الوجوه في توجيه عد هؤلاء الثلاثة مع من عطف عليهم. وقد ذكر المفسرون وجوها أخر أنهاها أبو بكر ابن العربي في أحكام القرآن إلى ثمانية ليست منها واحد ينثلج له الصدر، ولا نطيل بها.
وأعيد حرف لا مع المعطوف على المنفي قبله تأكيدا لمعنى النفي وهو استعمال كثير.
والمقصود بالأكل هنا الأكل بدون دعوة وذلك إذا كان الطعام محضرا دون المختزن.
والمراد بالأنفس ذوات المخاطبين بعلامات الخطاب فكأنه قيل: ولا عليكم جناح أن تأكلوا إلى آخره، فالمخاطب للأمة.
والمراد بأكل الإنسان من بيته الأكل غير المعتاد، أي أن يأكل أكلا لا يشاركه فيع بقية أهله كأن يأكل الرجل وزوجته غائبة، أو أن تأكل هي وزوجها غائب فهذه أثرة مرخص فيها.
وعطف على بيوت أنفسهم بيوت آبائهم، ولم يذكر بيوت أولادهم مع أنهم أقرب إلى الآكلين من الآباء فهم أحق بأن يأكلوا من بيوتهم. قيل: لأن الأبناء كائنون مع الآباء في بيوتهم، ولا يصح فقد كان الابن إذا تزوج بنى لنفسه بيتا كما في خبر عبد الله بن عمر. فالوجه أن بيوت الأبناء معلوم حكمها بالأولى من البقية لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنت ومالك لأبيك" .
وهؤلاء المعدودون في الآية بينهم من القربة أو الولاية أو الصداقة ما يعتاد بسببه التسامح بينهم في الحضور للأكل بدون دعوة لا يتحرج أحد منهم من ذلك غالبا.
وما في قوله: {مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} موصولة صادقة على المكان أو الطعام، عطف على {بُيُوتِ خَالاتِكُمْ} لا على {أَخْوَالِكُمْ} ولهذا جيء بما الغالب استعمالها في غير

العاقل.
وملك المفاتيح أريد به حفظها بقرينة إضافته إلى المفاتيح دون الدور أو الحوائط. والمفاتح: جمع مفتح وهو اسم آلة الفتح. ويقال فيها مفتاح ويجمع على مفاتيح.
وهذه رخصة للوكيل والمختزن للطعام وناطور الحائط ذي الثمر أن يأكل مل منهم ما تحت يده بدون إذن ولا يتجاوز شبع بطنه ذلك للعرف بأن ذلك كالإجازة فلذلك قال الفقهاء: إذا كان لواحد من هؤلاء أجرة على عمله لم يجز له الأكل مما تحت يده.
وصديق هنا المراد به الجنس الصادق بالجماعة بقرينة إضافته إلى ضمير جماعة المخاطبين، وهو اسم تجوز فيه المطابقة لمن يجري عليه إن كان وصفا أو خبرا في الإفراد والتثنية والجمع والتذكير والتأنيث وهو الأصل، والغالب في فصيح الاستعمال أن يلزم حالة واحدة قال تعالى: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} ومثله الخليط والقطين.
والصديق: فعيل بمعنى فاعل وهو الصادق في المودة. وقد جعل في مرتبة القرابة مما هو موقور في النفوس من محبة الصلة مع الأصدقاء. وسئل بعض الحكماء: أي الرجلين أحب إليك أخوك أم صديقك? فقال: إنما أحب أخي إذا كان صديقي.
وأعيدت جملة {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} تأكيدا للأولى في قوله: {وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} إذ الجناح والحرج كالمترادفين. وحسن هذا التأكيد بعد ما بين الحال وصاحبها وهو واو الجماعة في قوله: {أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} ، ولأجل كونها تأكيدا فصلت بلا عطف.
والجميع: المجتمعون على أمر.
والأشتات: الموزعون فيما الشأن اجتماعهم فيه، قال تعالى تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى.
والأشتات: جمع شت، وهو مصدر شت إذا تفرق. وأما شتى فجمع شتيت.
والمعنى: لاجناح عليكم أن يأكل الواحد منكم مع جماعة جاءوا للأكل مثله: أو أن يأكل وحده متفرقا عن مشارك، لئلا يحسب أحدهم أنه إن وجد من سبقه للأكل أن يترك الأكل حتى يخرج الذي سبقه، أو أن يأكل الواحد منكم مع أهل البيت. أو أن يأكل وحده.

وتقدم قراءة بيوت بكسر الباء للجمهور وبضمها لورش وحفص عن عاصم عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} في هذه السورة.
{فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}
تفريع على الإذن لهم في الأكل من هذه البيوت بأن ذكرهم بأدب الدخول المتقدم في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} لئلا يجعلوا القرابة والصداقة والمخالطة مبيحة لإسقاط الآداب فإن واجب المرء أن يلازم الآداب مع القريب والبعيد ولا يغرنه قول الناس: إذا استوى الحب سقط الأدب.
ومعنى {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} فليسلم بعضكم على بعض، كقوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} .
ولقد عكف قوم على ظاهر هذا اللفظ وأهملوا دقيقته فظنوا أن الداخل يسلم على نفسه إذا لم يجد أحدا وهذا بعيد من أغراض التكليف والآداب. وأما ما ورد في التشهد من قوله: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فذلك سلام بمعنى الدعاء بالسلامة جعله النبي صلى الله عليه وسلم لهم عوضا عما كانوا يقولون: السلام على الله، السلام على النبي، السلام على جبريل ومكائيل، السلام على فلان وفلان. فقال لهم رسول الله: "إن الله هو السلام" ، إبطالا لقولهم: السلام على الله. ثم قال لهم: "قولوا السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فإنكم إذا قلتموها أصابت كل عبد الله صالح في السماء وفي الأرض" .
وأما السلام في هذه الآية فهو التحية كما فسره بقوله: {تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} ولا يؤمر أحد بأن يسلم على نفسه.
والتحية: أصلها مصدر حياة تحية ثم أدغمت الياءان تخفيفا وهي قول: حياك الله. وقد وتقدم في قوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا} في سورة النساء.
فالتحية مصدر فعل مشتق من الجملة المشتملة على فعل حيا مثل قولهم: جزاه، إذا قال له: جزاك الله خيرا، كما تقدم في فعل: {وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} آنفا. وكان هذا اللفظ تحية العرب قبل الإسلام تحية العامة قال النابغة:
حياك ربي فإنا لا يحل لنا ... لهو النساء وإن الدين قد عزما

وكانت تحية الملوك عم صباحا فجعل الإسلام التحية كلمة السلام عليكم، وهي من جوامع الكلم لأن المقصود من التحية تأنيس الداخل بتأمينه إن كان لا يعرفه، وباللطف له إن كان معروفا.
ولفظ السلام يجمع المعنيين لأنه مشتق من السلامة فهو دعاء بالسلامة وتأمين بالسلام لأنه إذا دعا له بالسلامة فهو مسلم له فكان الخبر كناية عن التأمين، وإذا تحقق الأمران حصل خير كثير لأن السلامة لا تجامع شيئا من الشر في ذات السالم، والأمان لا يجامع شيئا من الشر يأتي من قبل المعتدي فكانت دعاء ترجى إجابته وعهدا بالأمن يجب الوفاء به. وفي كلمة {عَلَيكُمْ} معنى التمكن، أي السلامة مستقرة عليكم.
ولكون كلمة السلام جامعة لهذا المعنى امتن الله على المسلمين بها بأن جعلها من عند الله إذ هو الذي علمها رسوله بالوحي.
وانتصب {تَحِيَّةً} على الحال من التسليم الذي يتضمنه {فَسَلِّمُوا} نظير عود الضمير على المصدر في قوله: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} .
والمباركة: المجعولة فيها البركة. والبركة: وفرة الخير. وإنما كانت هذه التحية مباركة لما فيها من نية المسالمة وحسن اللقاء والمخالطة وذلك يوفر خير الأخوة الإسلامية.
والطيبة: ذات الطيب، وهو طيب مجازي بمعنى النزاهة والقبول في نفوس الناس. ووجه طيب التحية أنها دعاء بالسلامة وإيذان بالمسالمة والمصافاة. ووزن {طَيِّبَةً} فيعلة مبالغة في الوصف مثل: الفيصل. وتقدم في قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} في آل عمران وفي قوله: {وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} في سورة يونس.
والمعنى أن كلمة السلام عليكم تحية خير من تحية أهل الجاهلية. وهذا كقوله تعالى: {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} أي تحيتهم هذا اللفظ.
وجملة {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ} تكرير للجملتين الواقعتين قبلها في آية الاستئذان لأن في كل ما وقع قبل هذه الجملة بيانا لآيات القرآن اتضحت به الأحكام التي تضمنتها وهو بيان يرجى معه أن يحصل لكم الفهم والعلم بما فيه كمال شأنكم.

[62] {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
لما جرى الكلام السابق في شأن الاستئذان للدخول عقب ذلك بحكم الاستئذان للخروج ومفارقة المجامع فاعتني من ذلك بالواجب منه وهو استئذان الرسول صلى الله عليه وسلم في مفارقة مجلسه أو مفارقة جمع جمع عن إذنه لأمر مهم كالشورى والقتال والاجتماع للوعظ ونحو ذلك.
وكان من أعمال المنافقين أن يحضروا هذه المجامع ثم يتسللوا منها تفاديا من عمل يشق أو سآمة من سماع كلام لا يهتبلون به، فنعى الله عليهم فعلهم هذا وأعلم بمنافاته للإيمان وأنه شعار النفاق، بأن أعرض عن وصف نفاق المنافقين واعتنى باتصاف المؤمنين الأحقاء بضد صفة المنافقين قال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} ولذلك جاء في أواخر هذه الآيات قوله: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً} .
فالقصر المستفاد من إنما قصر موصوف على صفة. والتعريف في المؤمنون تعريف الجنس أو العهد، أي أن جنس المؤمنين أو أن الذين عرفوا بوصف الإيمان هم الذين آمنوا بالله ورسوله ولم ينصرفوا حتى يستأذنوه. فالخبر هو مجموع الأمور الثلاثة وهو قصر إضافي قصر إفراد، أي لا غير أصحاب هذه الصفة من الذين أظهروا الإيمان ولا يستأذنون الرسول عند إرادة الانصراف، فجعل هذا الوصف علامة مميزة المؤمنين الأحقاء عن المنافقين يومئذ إذ لم يكن في المؤمنين الأحقاء يومئذ من ينصرف عن مجلس النبي بدون إذنه، فالمقصود: إظهار علامة المؤمنين وتمييزهم عن علامة المنافقين. فليس سياق الآية لبيان حقيقة الإيمان لأن للإيمان حقيقة معلومة ليس استئذان النبي صلى الله عليه وسلم عند إرادة الذهاب من أركانها، فعلمت أن ليس المقصود من هذا الحصر سلب الإيمان عن الذي ينصرف دون إذن من المؤمنين الأحقاء لو وقع منه ذلك عن غير قصد الخذل للنبي صلى الله عليه وسلم أو أذاه، إذ لا يعدو ذلك لو فعله أحد المؤمنين عن أن يكون تقصيرا في الأدب يستحق التأديب والتنبيه على تجنب ذلك لأنه خصلة من النفاق كما ورد التحذير من خصال النفاق في أحاديث كثيرة.

وعلمت أيضا أن ليس المقصود من التعريف في {الْمُؤْمِنُونَ} معنى الكمال لأنه لو كان كذلك لم يحصل قصد التشهير بنفاق المنافقين.
والأمر: الشأن والحال المهم. وتقدم في قوله: {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} في سورة النساء.
والجامع: الذي من شأنه أن يجتمع الناس لأجله للتشاور أو التعلم. والمراد: ما يجتمع المسلمون لأجله حول الرسول عليه الصلاة والسلام في مجلسه أو في صلاة الجماعة. وهذا ما يقتضيه مع وعلى من قوله: {مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ} لإفادة مع معنى المشاركة وإفادة على معنى التمكن منه.
ووصف الأمر ب {جَامِعٍ} على سبيل المجاز العقلي لأنه سبب الجمع. وتقدم في قوله تعالى: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ} في سورة يونس.
وعن مالك: أن هذه الآية نزلت في المنافقين يوم الخندق وذلك سنة خمس كان المنافقون يتسللون من جيش الخندق ويعتذرون بأعذار كاذبة.
وجملة {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ} إلى آخرها تأكيد لجملة {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} لأن مضمون معنى هذه الجملة هو مضمون معنى جملة {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآية. وقد تفنن في نظم الجملة الثانية بتغيير أسلوب الجملة الأولى فجعل مضمون المسند في الأولى مسندا إليه في الثانية والمسند إليه الأولى مسندا في الثانية ومآل الأسلوبين واحد لأن المآل الإخبار بأن هذا هو ذاك على حد: وشعر شعري، تنويها بشأن الاستئذان، وليبني عليها تفريع {فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ} ليعلم المؤمنين الأعذار الموجبة للاستئذان، أي ليس لهم أن يستأذنوا في الذهاب إلا لشأن مهم من شؤونهم.
ووقع الالتفات من الغيبة إلى الخطاب في قوله: {يَسْتَأْذِنُونَكَ} تشريفا للرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الخطاب.
وقد خير الله رسوله في الإذن لمن استأذنه من المؤمنين لأنه أعلم بالشأن الذي قضاؤه أرجح الأمر الجامع لأن مشيئة النبي لاتكون عن هوى ولكن لعذر ومصلحة.
وقوله: {وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ} مؤذن بأن ذلك الانصراف خلاف ما ينبغي لأنه لترجيح

حاجته على الإعانة على حاجة الأمة.
وهذه الآية أصل من نظام الجماعات في مصالح الأمة لأن من السنة أن يكون لكل اجتماع إمام ورئيس يدير أمر ذلك الاجتماع. وقد أشارت مشروعية الإمامة إلى ذلك النظام. ومن السنة أن لا يجتمع جماعة إلا أمروا عليهم أميرا فالذي يترأس الجمع هو قائم مقام ولي أمر المسلمين فهو في مقام النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينصرف أحد عن اجتماعه إلا بعد أن يستأذنه، لأنه لو جعل أمر الانسلال لشهوة الحاضر لكان ذريعة لانفضاض الاجتماعات دون حصول الفائدة التي جمعت لأجلها، وكذلك الأدب أيضا في التخلف عن الاجتماع عند الدعوة إليه كاجتماع المجالس النيابية والقضائية والدينية أو التخلف عن ميقات الاجتماع المتفق عليه إلا لعذر واستئذان.
[63] {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
لما كان الاجتماع للرسول في الأمور يقع بعد دعوته الناس للاجتماع وقد أمرهم الله أن لا ينصرفوا عن مجامع الرسول صلى الله عليه وسلم إلا لعذر بعد إذنه أنبأهم بهذه الآية وجوب استجابة دعوة الرسول إذا دعاهم. وقد تقدم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} في سورة الأنفال. والمعنى: لا تجعلوا دعوة الرسول إياكم للحضور لديه مخيرين في استجابتها كما تتخيرون في استجابة دعوة بعضكم بعضا، فوجه الشبه المنفي بين الدعوتين هو الخيار في الإجابة. والغرض من هذه الجملة أن لا يتوهموا أن الواجب هو الثبات في مجامع الرسول إذا حضروها، وأنهم في حضورها إذا دعوا إليها بالخيار، فالدعاء على هذا التأويل مصدر دعاه إذا ناداه أو أرسل إليه ليحضر.
وإضافة {دُعَاءَ} إلى {الرَّسُولِ} من إضافة المصدر إلى فاعله. ويجوز أن تكون إضافة {دُعَاءَ} من إضافة المصدر إلى مفعوله الفاعل المقدر ضمير المخاطبين. والتقدير: لا تجعلوا دعاءكم الرسول، فالمعنى نهيهم.
ووقع الالتفات من الغيبة إلى خطاب المسلمين حثا على تلقي الجملة بنشاط فهم، فالخطاب للمؤمنين الذي تحدث عنهم بقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ} الخ. نهوا عن أن يدعوا الرسول عند

مناداته كما يدعو بعضهم بعضا في اللفظ أو في الهيئة. فأما في اللفظ فبأن لا يقولوا: يامحمد، أو يا بن عبد الله، أو يابن عبد المطلب، ولكن يا رسول الله، أو يا نبي الله، أو بكنية يا أبا القاسم. وأما في الهيئة فبأن لا يدعوه من وراء الحجرات، وأن لا يلحوا في دعائه إذا لم يخرج إليهم، كما جاء في سورة الحجرات، لأن ذلك كله من الجلافة التي لا تليق بعظمة قدر الرسول صلى الله عليه وسلم. فهذا أدب للمسلمين وسد لأبواب الأذى عن المنافقين. وإذا كانت الآية تحتمل ألفاظها هذا المعنى صح للمتدبر أن ينتزع هذا المعنى منها إذ يكفي أن يأخذ من لاح له معنى ما لاح له.
و {بَيْنَكُمْ} ظرف إما لغو متعلق ب {تَجْعَلُوا} ، أو مستقر صفة ل {دُعَاءَ} ، أي دعاءه في كلامكم. وفائدة ذكره على كلا الوجهين التعريض بالمنافقين الذين تمالؤوا بينهم على التخلف عن رسول الله إذا دعاهم كلما وجدوا لذلك سبيلا كما أشار إليه قوله تعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ} . فالمعنى: لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كما جعل المنافقون بينهم وتواطأوا على ذلك، وهذه الجملة معترضة بين جملة {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} وما تبعها وبين جملة {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً} .
وجملة {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً} استئناف تهديد للذين كانوا سبب نزول آية {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآية، أي أولئك المؤمنون وضدهم المعرض بهم ليسوا بمؤمنين. وقد علمهم الله وأطلع على تسللهم.
و {قَدْ} لتحقيق الخبر لأنهم يظنون أنهم إذا تسللوا متسترين لم يطلع عليهم النبي فأعلمهم الله أنه علمهم، أي أنه أعلم رسوله بذلك.
ودخول {قَدْ} على المضارع يأتي للتكثير كثيرا لأن {قَدْ} فيه بمنزلة رب تستعمل في التكثير، ومنه قوله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ} وقول زهير:
أخو ثقة لا تهلك الخمر ماله ... ولكنه قد يهلك المال نائله
و {الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ} هم المنافقون. والتسلل: الانسلال من صبرة، أي الخروج منه بخفية خروجا كأنه سل شيء من شيء. يقال: تسلل، أي تكلف الانسلال مثل ما يقال: تدخل إذا تكلف إدخال نفسه. واللواذ: مصدر لاوذه، إذا لاذ به الآخر. شبه تستر بعضهم ببعض عن اتفاق

وتآمر عند الانصراف خفية بلوذ بعضهم ببعض لأن الذي ستر الخارج حتى يخرج هو بمنزلة من لاذ به أيضا فجعل حصول فعله مع فعل اللائذ كأنه مفاعلة من اللوذ.
وانتصب {لِوَاذَاً} على الحال لأنه في تأويل اسم الفاعل.
و{مِنْكُمْ} متعلق ب {يَتَسَلَّلُونَ} . وضمير {مِنْكُمْ} خطاب للمؤمنين، أي قد علم الله الذين يخرجون من جماعتكم متسللين ملاوذين.
وفرع على ما تضمنته جملة {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً} تحذير من مخالفة ما نهى الله عنه بقوله: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ} الآية بعد التنبيه على أنه تعالى مطلع على تسللهم.
والمخالفة: المغايرة في الطريق التي يمشي فيها بأن يمشي الواحد في طريق غير الطريق الذي مشى فيه الآخر، ففعلها متعد. وقد حذف مفعوله هنا لظهور أن المراد الذين يخالفون الله، وتعدية فعل المخالف بحرف عن لأنه ضمن معنى الصدود كما عدي بإلى في قوله تعالى: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} لما ضمن معنى الذهاب. يقال: خالفه إلى الماء، إذا ذهب إليه دونه، ولو تركت تعديته بحرف جر لإفادة أصل المخالفة في الغرض المسوق له الكلام.
وضمير {عَنْ أَمْرِهِ} عائد إلى الله تعالى. والأمر هو ما تضمنه قوله: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} فإن النهي عن الشيء يستلزم الأمر بضده فكأنه قال: اجعلوا لدعاء الرسول الامتثال في العلانية والسر. وهذا كقول ابن أبي ربيعة:
فقلن لها سرا فديناك لا يرح ... صحيحا وإن لم تقتليه فألمم
فجعل قولهن: لا يرح صحيحا وهو نهي في معنى: اقتليه، فبنى عليه قوله: وإن لم تقتليه فألمم.
والحذر: تجنب الشيء المخيف. والفتنة: اضطراب حال الناس، وقد تقدمت عند قوله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} في البقرة. والعذاب الأليم هنا عذاب الدنيا، وهو عذاب القتل.
[64] {أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .

تذييل لما تقدم في هذه السورة كلها. وافتتاحه بحرف التنبيه إيذان بانتهاء الكلام وتنبيه للناس ليعوا ما يرد بعد حرف التنبيه، وهو أن الله مالك ما في السماوات والأرض، فهو يجازي عباده بما يستحقون وهو عالم بما يفعلون.
ومعنى {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} الأحوال الملابسين لها من خير وشر، فحرف الاستعلاء مستعار للتمكن.
وذكرهم بالمعاد إذ كان المشركون والمنافقون منكرينه.
وقوله: {فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا} كناية عن الجزاء لأن إعلامهم بأعمالهم لو لم يكن كناية عن الجزاء لما كانت له جدوى.
وقوله: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} تذييل لجملة {قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} لأنه أعم منه.
وفي هذه الآية لطيفة الاطلاع على أحوالهم لأنهم كانوا يسترون نفاقهم.

المجلد التاسع عشر
سورة الفرقان...
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الفرقان
سميت هذه السورة سورة الفرقان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبمسمع منه. ففي صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب أنه قال: "سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله فكدت أساوره في الصلاة فتصبرت حتى سلم فلبيته بردائه فانطلقت به أقوده إلى رسول الله فقلت: إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها.." الحديث.
ولا يعرف لهذه السورة اسم غير هذا. والمؤدبون من أهل تونس يسمونها "تبارك الفرقان" كما يسمون "سورة الملك" تبارك، وتبارك الملك.
ووجه تسميتها "سورة الفرقان" لوقوع لفظ الفرقان فيها. ثلاث مرات في أولها ووسطها وآخرها.
وهي مكية عند الجمهور. وروي عن ابن عباس أنه استثنى منها ثلاث آيات نزلت بالمدينة وهي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} إلى قوله: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الفرقان: 68 - 70]. والصحيح عنه أن هذه الآيات الثلاث مكية كما في صحيح البخاري في تفسير الفرقان: عن القاسم بن أبي بزة أنه سأل سعيد بن جيبر: هل لمن قتل مؤمنا متعمدا من توبة? فقرأت عليه: {وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الفرقان: 68]. فقال سعيد: قرأتها على ابن عباس كما قرأتها علي? فقال: هذه مكية نسختها" آية مدنية التي في سورة النساء. يريد قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً} [النساء: 93]. وعن الضحاك: أنها مدنية إلا الآيات الثلاث من أولها إلى قوله: {وَلا نُشُوراً} [الفرقان: 3]. وأسلوب السورة وأغراضها شاهدة بأنها مكية.

وهي السورة الثانية والأربعون في ترتيب النزول، نزلت بعد سورة يس وقبل سورة فاطر، وعدد آياتها سبع وسبعون باتفاق أهل العدد.
أغراض هذه السورة
واشتملت هذه السورة على الابتداء بتحميد الله تعالى وإنشاء الثناء عليه، ووصفه بصفات الإلهية والوحدانية فيها.
وأدمج في ذلك التنويه بالقرآن، وجلال منزله، وما فيه من الهدى، وتعريض بالامتنان على الناس بهديه وإرشاده إلى اتقاء المهالك، والتنويه بشأن النبي صلى الله عليه وسلم.
وأقيمت هذه السورة على ثلاث دعائم:
الأولى: إثبات أن القرآن منزل من عند الله، والتنويه بالرسول المنزل عليه صلى الله عليه وسلم، ودلائل صدقه، ورفعة شأنه عن أن تكون له حظوظ الدنيا، وأنه على طريقة غيره من الرسل، ومن ذلك تلقى قومه دعوته بالتكذيب.
الدعامة الثانية: إثبات البعث والجزاء، والإنذار بالجزاء في الآخرة، والتبشير بالثواب فيها للصالحين، وإنذار المشركين بسوء حظهم يومئذ، وتكون لهم الندامة على تكذيبهم الرسول وعلى إشراكهم واتباع أئمة كفرهم.
الدعامة الثالثة: الاستدلال على وحدانية الله، وتفرده بالخلق، وتنزيهه عن أن يكون له ولد أو شريك، وإبطال إلهية الأصنام، وإبطال ما زعموه من بنوة الملائكة لله تعالى.
وافتتحت في آيات كل دعامة من هذه الثلاث بجملة "تبارك الذي" الخ.
قال الطيبي: مدار هذه السورة على كونه صلى الله عليه وسلم مبعوثا إلى الناس كافة ينذرهم ما بين أيديهم وما خلفهم ولهذا جعل براعة استهلالها {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان: 1] .
وذكر بدائع من صنعه تعالى جمعا بين الاستدلال والتذكير.
وأعقب ذلك بتثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم على دعوته ومقاومته الكافرين.
وضرب الأمثال للحالين ببعثة الرسل السابقين وما لقوا من أقوامهم مثل قوم موسى وقوم نوح وعاد وثمود وأصحاب الرس وقوم لوط.

والتوكل على الله، والثناء على المؤمنين به، ومدح خصالهم ومزايا أخلاقهم، والإشارة إلى عذاب قريب يحل بالمكذبين.
[1] {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} .
افتتاح بديع لندرة أمثاله في كلام بلغاء العرب لأن غالب فواتحهم أن تكون بالأسماء مجردة أو مقترنة بحرف غير منفصل، مثل قول طرفة:
لخولة أطلال ببرقة ثهمد
أو بأفعال المضارعة ونحوها كقول امرئ القيس:
قفا نبك البيت
أو بحروف التأكيد أو الاستفهام أو التنبيه مثل "إن" و "قد" والهمزة و "هل". ومن قبيل هذا الافتتاح قول الحارث بن حلزة:
آذنتنا ببينها أسماء
وقوله النابغة:
كتمتك ليلا بالجمومين ساهرا
...
وهمين هما مستكنا وظاهرا
وبهذه الندرة يكون في طالع هذه السورة براعة المطلع لأن الندرة من العزة، والعزة من محاسن الألفاظ وضدها الابتذال.
وتبارك: تعاظم خيره وتوفر، والمراد بخيره كمالاته وتنزهاته. وتقدم في قوله تعالى {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} في سورة الأعراف [54].
والبركة: الخير، وتقدم عند قوله تعالى {اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ} في سورة هود [48] وعند قوله {تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} في سورة النور [61].
وظاهر قوله {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ} أنه إخبار عن عظمة الله وتوفر كمالاته فيكون المقصود به التعليم والإيقاظ، ويجوز مع ذلك أن يكون كناية عن إنشاء ثناء على الله تعالى أنشأ الله به ثناء على نفسه كقوله {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1] على طريقة الكلام العربي في إنشاء التعجب من صفات المتكلم في مقام الفخر والعظمة، أو إظهار غرائب صدرت، كقول امرئ القيس:
ويوم عقرت للعذارى مطيتي
...
فيا عجبا من كورها المتحمل

وإنما يتعجب من إقدامه على أن جعل كور المطية يحمله هو بعد عقرها. ومنه قول الفند الزماني:
أيا طعنة ما شيخ
...
كبير بفن بالي
يريد طعنة طعنها قرنه.
والذي نزل الفرقان هو الله تعالى. وإذ قد كانت الصلة من خصائص الله تعالى كان الفعل كالمسند إلى ضمير المتكلم فكأنه قيل: تباركت.
والموصول يومئ إلى علة ما قبله فهو كناية عن تعظيم شأن الفرقان وبركته على الناس من قوله {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} . فتلك منة عظيمة توجب الثناء على الله. وهو أيضا كناية عن تعظيم شأن الرسول عليه الصلاة والسلام.
والتعريف بالموصول هنا لكون الصلة من صفات الله في نفس الأمر وعند المؤمنين وإن كان الكفار ينكرونها لكنهم يعرفون أن الرسول أعلنها فالله معروف بذلك عندهم معرفة بالوجه لا بالكنه الذي ينكرونه.
والفرقان: القرآن وهو في الأصل مصدر فرق، كما في قوله {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ} [الأنفال: 41] وقوله {يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً} [الأنفال: 29]. وجعل علما بالغلبة على القرآن لأنه فرق بين الحق والباطل لما بين من دلائل الحق ودحض الباطل. وقد تقدم في قوله تعالى {وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} في [سورة آل عمران: 4].
وإيثار اسم الفرقان بالذكر هنا للإيماء إلى أن ما سيذكر من الدلائل على الوحدانية وإنزال القرآن دلائل قيمة تفرق بين الحق والباطل.
ووصف النبي بـ {عَبْدِهِ} تقريب له وتمهيد لإبطال طلبهم منه في قوله {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ} [الفرقان: 7] الآية.
والمراد ب {الْعَالَمِينَ} جميع الأمم من البشر لأن العالم يطلق على الجنس وعلى النوع وعلى الصنف بسب ما يسمح به المقام، والنذارة لا تكون إلا للعقلاء ممن قصدوا بالتكليف. وقد مضى الكلام على لفظ {الْعَالَمِينَ} في [سورة الفاتحة: 2].
والنذير: المخبر بسوء يقع، وهو فعيل بمعنى مفعل بصيغة اسم الفاعل مثل الحكيم. والاقتصار في وصف الرسول هنا على النذير دون البشر كما في قوله {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا

كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} [سبأ: 28] لأن المقام هنا لتهديد المشركين إذ كذبوا بالقرآن وبالرسول عليه الصلاة والسلام. فكان مقتضيا لذكر النذارة دون البشارة، وفي ذلك اكتفاء لأن البشارة تخطر ببال السامع عند ذكر النذارة. وسيجيء {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً} في هذه السورة [56].
وفي هذه الآية جمع بين التنويه بشأن القرآن وأنه منزل من الله وتنويه بشأن النبي عليه الصلاة والسلام ورفعة منزلته عند الله وعموم رسالته.
[2] {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} .
أجريت على اسم الله تعالى هذه الصفات الأربع بطريق تعريف الموصولية لأن بعض الصلات معروف عند المخاطبين اتصاف الله به وهما الصفتان الأولى والرابعة؛ وإذا قد كانتا معلومتين كانت الصلتان الأخريان المذكورتان معهما في حكم المعروف لأنهما أجريتا على من عرف بالصلتين الأولى والرابعة فإن المشركين ما كانوا يمترون في أن الله هو مالك السماوات والأرض ولا في أن الله هو خالق كل شيء كما في قوله {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} الآيات من سورة المؤمنين، ولكنهم يثبتون لله ولدا وشريكا في الملك.
ومن بديع النظم أن جعل الوصفان المختلف فيهما معهم متوسطين بين الوصفين اللذين لا مرية فيهما حتى يكون الوصفان المسلمين كالدليل أولا والنتيجة آخرا، فإن الذي له ملك السماوات والأرض لا يليق به أن يتخذ ولدا ولا أن يتخذ شريكا لأن ملكه العظيم يقتضي غناه المطلق فيقتضي أن يكون اتخاذه ولدا وشريكا عبثا إذ لا غاية له، وإذا كانت أفعال العقلاء تصان عن العبث فكيف بأفعال أحكم الحكماء تعالى وتقدس.
فقوله {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} بدل من {الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ} .
وإعادة اسم الموصول لاختلاف الغرض من الصلتين لأن الصلة الأولى في غرض الامتنان بتنزيل القرآن للهدى، والصلة الثانية في غرض اتصاف الله تعالى بالوحدانية.
وفي الملك إيماء إلى أن الاشتراك في الملك ينافي حقيقة الملك التامة التي لا يليق به غيرها.

والخلق: الإيجاد، أي أوجد كل موجود من عظيم الأشياء وحقيرها. وفرع على {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} لأنه دليل على إتقان الخلق إتقانا يدل على أن الخالق متصف بصفات الكمال.
ومعنى {قَدَّرَهُ} جعله على مقدار وحد معين لا مجرد مصادفة، أي خلقه مقدرا، أي محكما مضبوطا صالحا لما خلق لأجله لا تفاوت فيه ولا خلل. وهذا يقتضي أنه خلقه بإرادة وعلم على كيفية أرادها وعينها كقوله {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49]. وقد تقدم في قوله {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} في [سورة الرعد: 17]. وتأكيد الفعل بالمفعول المطلق بقوله {تَقْدِيراً} للدلالة على أنه تقدير كامل في نوع التقادير.
وما جاء من أول السورة إلى هنا براعة استهلال بأغراضها وهو يتنزل منزلة خطبة الكتاب أو الرسالة.
[3] {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} .
استطراد لانتهاز الفرصة لوصف ضلال أهل الشرك وسفالة تفكيرهم، فهو عطف على جملة {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الفرقان: 2] وما تلاها مما هو استدلال على انفراده تعالى بالإلهية، وأردفت بقوله {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [الفرقان: 2] الشامل لكون ما اتخذوه من الآلهة مخلوقات فكان ما تقدم مهيئا للتعجيب من اتخاذ المشركين آلهة دون ذلك الإله المنعوت بصفات الكمال والجلال.
فالخبر غير مقصود به الإفادة بل هو للتعجيب من حالهم كيف قابلوا نعمة إنزال الفرقان بالجحد والطغيان وكيف أشركوا بالذي تلك صفاته آلهة أخرى صفاتهم على الضد من صفات من أشركوهم به، وإلا فإن اتخاذ المشركين آلهة أمر معلوم لهم وللمؤمنين فلا يقصد إفادتهم لحكم الخبر.
وبين قوله {وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً} [الفرقان: 2] وقوله {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} محسن الطباق.
وضمير {اتَّخَذُوا} عائد إلى المشركين ولم يسبق لهم ذكر في الكلام وإنما هم

معروفون في مثل هذا المقام وخاصة من قوله {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} .
وجملة {لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً} مقابلة جملة {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} . وجملة {وَهُمْ يُخْلَقُونَ} مقابلة جملة {وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً} لأن ولد الخالق يجب أن يكون متولدا منه فلا يكون مخلوقا.
وجملة {وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً} مقابلة جملة {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} لأن الشركة في الملك تقتضي الشركة في التصرف.
وضمير {لِأَنْفُسِهِمْ} يجوز أن يعود إلى {آلِهَةً} أي لا تقدر الأصنام ونحوها على ضر أنفسهم ولا على نفعهم. ويجوز أن يعود إلى ما عاد إليه ضمير {وَاتَّخَذُوا} أي لا تقدر الأصنام على نفع الذين عبدوهم ولا على ضرهم.
واعلم أن {ضَرّاً وَلا نَفْعاً} هنا جرى مجرى المثل لقصد الإحاطة بالأحوال، فكأنه قيل: لا يملكون التصرف بحال من الأحوال. وهذا نظير أن يقال: شرقا وغربا، وليلا ونهارا. وبذلك يندفع ما يشكل في بادىء الرأي من وجه نفي قدرتهم على إضرار أنفسهم بأنه لا تتعلق إرادة أحد بضر نفسه، وبذلك أيضا لا يتطلب وجه لتقديم الضر على النفع، لأن المقام يقتضي التسوية في تقديم أحد الأمرين، فالمتكلم مخير في ذلك والمخالفة بين الآيات في تقديم أحد الأمرين مجرد تفنن.
والمجرور في {لِأَنْفُسِهِمْ} متعلق بـ {يَمْلِكُونَ} .
والضر - بفتح الضاد - مصدر ضره، إذا أصابه بمكروه. وقد تقدم نظيره في قوله تعالى {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلا نَفْعاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} في [سورة يونس: 49].
وجملة {وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} مقابلة جملة {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} [الفرقان: 2] لأن أعظم مظاهر تقدير الخلق هو مظهر الحياة والموت، وذلك من المشاهدات. وأما قوله {وَلا نُشُوراً} فهو تكميل لقرع المشركين نفاة البعث لأن نفي أن يكون الآلهة يملكون نشورا يقتضي إثبات حقيقة النشور في نفس الأمر إذ الأكثر في كلام العرب أن نفي الشيء يقتضي تحقيق ماهيته. وأما نحو قول امرئ القيس:
على لاحب لا يهتدي بمناره

يريد لا منار فيه. وقول ابن أحمر:
لا تفزع الأرنب أهوالها
...
ولا ترى الضب بها ينجحر
أراد: إنها لا أرنب فيها ولا ضب. فهو من قبيل التمليح.
ذُكر في هذه الآية من أقوالهم المقابلة للجمل الموصوف بها الله تعالى اهتماما بإبطال كفرهم المتعلق بصفات الله لأن ذلك أصل الكفر ومادته.
واعلم أن معنى {وَهُمْ يُخْلَقُونَ} وهم يصنعون، أي يصنعهم الصانعون لأن أصنامهم كلها حجارة منحوته فقد قومتها الصنعة، فأطلق الخلق على التشكيل والنحت من فعل الناس، وإن كان الخلق شاع في الإيجاد بعد العدم؛ إما اعتبارا بأصل مادة الخلق وهو تقدير مقدار الجلد قبل فريه كما قال زهير:
ولأنت تفري ما خلقت وبعض ... الناس يخلق ثم لا يفري
فأطلق الخلق على النحت؛ إما على سبيل المجاز المرسل، وإما مشاكلة لقوله {لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً} .
والملك في قوله {لا يَمْلِكُونَ} مستعمل في معنى القدرة والاستطاعة كما تقدم في قوله تعالى {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} في [سورة العقود: 17]، وقوله فيها {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً} [المائدة: 76]، أي من لا يقدر على ضركم ولا نفعكم. فقوله هنا {لِأَنْفُسِهِمْ} متعلق بـ {يَمْلِكُونَ} ، واللام فيه لام التعليل، أي لا يملكون لأجل أنفسهم، أي لفائدتها.
ثم إن المراد ب {أَنْفُسَهُمْ} يجوز أن يكون الجمع فيه باعتبار التوزيع على الآحاد المفادة بضمير {يَمْلِكُونَ} أي لا يملك كل واحد لنفسه ضرا ولا نفعا، ويكون المراد بالضر دفعه على تقدير مضاف دل عليه المقام لأن الشخص لا يتعلق غرضه بضر نفسه حتى يقرع بأنه عاجز عن ضر نفسه.
وتنكير {موتا - وحياة} في سياق النفي للعموم، أي موت أحد من الناس ولا حياته.
والنشور: الإحياء بعد الموت. وأصله نشر الشيء المطوي.
[4] {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُ

ظُلْماً وَزُوراً} .
انتقال من ذكر كفرهم في أفعالهم إلى ذكر كفرهم بأقوالهم الباطلة.
والإظهار هنا لإفادة أن مضمون الصلة هو علة قولهم هذا، أي ما جرأهم على هذا البهتان إلا إشراكهم وتصلبهم فيه، ليس ذلك لشبهة تبعثهم على هذه المقالة لانتفاء شبهة ذلك، بخلاف ما حكي آنفا من كفرهم بالله فإنهم تلقوه من آبائهم، فالوصف الذي أجري عليهم هنا مناسب لمقالتهم لأنها أصل كفرهم.
وهذه الجملة مقابلة جملة {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان: 1] فهي المقصود من افتتاح الكلام كما آذنت بذلك فاتحة السورة. وإنما أخرت هذه الجملة التي تقابل الجملة الأولى مع أن مقتضى ظاهر المقابلة أن تذكر هذه الجملة قبل جملة {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} [الفراقن: 3] اهتماما بإبطال الكفر المتعلق بصفات الله كما تقدم آنفا.
والقصر المشتمل عليه كلامهم المستفاد من "إن" النافية و"لا" قصر قلب؛ زعموا به رد دعوى أن القرآن منزل من عند الله.
وممن قال هذه المقابلة النضر بن الحارث، وعبد الله بن أمية، ونوفل بن خويلد. فإسناد هذا القول إلى جميع الكفار لأنه واقع بين ظهرانيهم وكلهم يتناقلونه. وهذه طريقة مألوفة في نسبة أمر إلى القبيلة كما يقال: بنو أسد قتلوا حجرا.
واسم الإشارة إلى القرآن حكاية لقولهم حين يسمعون آيات القرآن.
والضمير المرفوع في {افْتَرَاهُ} عائد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم المعلوم من قوله {عَلَى عَبْدِهِ} .
والإفك: الكذب. وتقدم عند قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ} في سورة النور. والافتراء: اختلاق الأخبار، أي ابتكارها وهو الكذب عن عمد، وتقدم في قوله {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} في [سورة العقود: 103].
{وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ} أي على ما يقوله من القرآن قوم آخرون لقنوه بعض ما يقوله. وأرادوا بالقوم الآخرين اليهود. روي هذا التفسير عن مجاهد وعن ابن عباس: أشاروا إلى عبيد أربعة كانوا للعرب من الفرس وهم: عداس مولى حويطب ابن عبد العزى، ويسار أبو

فكيهة الرومي مولى العلاء بن الحضرمي، وفي سيرة ابن هشام أنه مولى صفوان بن أمية بن محرث، وجبر مولى عامر. وكان هؤلاء من موالي قريش بمكة ممن دانوا بالنصرانية وكانوا يعرفون شيئا من التوراة والإنجيل ثم أسلموا، وقد مر ذلك في سورة النحل، فزعم المشركون أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتردد إلى هؤلاء سرا ويستمد منهم أخبار ما في التوراة والإنجيل.
والقصر المستفاد من قوله {إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} متسلط على كلتا الجملتين، أي لا يخلو هذا القرآن من مجموع الأمرين، هما: أن يكون افترى بعضه من نفسه، وأعانه قوم على بعضه.
وفرع على حكاية قولهم هذا ظهور أنهم ارتكبوا بقولهم ظلما وزورا لأنهم حين قالوا ذلك ظهر أن قولهم زور وظلم لأنه اختلاق واعتداء.
و {جَاءُو} مستعمل في معنى "عملوا" وهو مجاز في العناية بالعمل والقصد إليه لأن من اهتم بتحصيل شيء مشى إليه، وبهذا الاستعمال صح تعديته إلى مفعول كما في هذه الآية.
والظلم: الاعتداء بغير حق بقول أو فعل قال تعالى {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} وتقدم في قوله {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ} في سورة البقرة. والظلم الذي أتوه هو نسبتهم الرسول إلى الاختلاق فإنه اعتداء على حقه الذي هو الصدق.
والزور: الكذب، وأحسن ما قيل في الزور: إنه الكذب المحسن المموه بحيث يشتبه بالصدق.
وكون قولهم ذلك كذبا ظاهر لمخالفته الواقع فالقرآن ليس فيه شيء من الإفك، والذين زعموهم معينين عليه لا يستطيع واحد منهم أن يأتي بكلام عربي بالغ غاية البلاغة ومرتق إلى حد الإعجاز، وإذا كان لبعضهم معرفة ببعض أخبار الرسل فما هي إلا معرفة ضئيلة غير محققة كشأن معرفة العامة والدهماء.
[5] {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} .
الضمير عائد إلى الذين كفروا، فمدلول الصلة مراعى في هذا الضمير إيماء إلى أن

هذا القول من آثار كفرهم.
الأساطير: جمع أسطورة بضم الهمزة كالأحدوثة والأحاديث، والأغلوطة والأغاليط، وهي القصة المسطورة. وقد تقدم معناها مفصلا عند قوله {حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} في [سورة الأنعام: 25]. وقائل هذه المقالة هو النضر بن الحارث العبدري قال: إن القرآن قصص من قصص الماضين. وكان النضر هذا قد تعلم بالحيرة قصص ملوك الفرس وأحاديث رستم واسفنديار فكان يقول لقريش: أنا والله يا معشر قريش أحسن حديثا من محمد فهلم أحدثكم؛ وكان يقول في القرآن: هو أساطير الأولين. قال ابن عباس: كل ما ذكر فيه أساطير الأولين في القرآن فالمقصود منه قول النضر بن الحارث. وقد تقدم هذا في سورة الأنعام وفي أول سورة يوسف.
وجملة {اكْتَتَبَهَا} نعت أو حال لـ {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} .
والاكتتاب: افتعال من الكتابة، وصيغة الافتعال تدل على التكلف لحصول الفعل، أي حصوله من فاعل الفعل، فيفيد قوله {اكْتَتَبَهَا} أنه تكلف أن يكتبها. ومعنى هذا التكلف أن النبي عليه الصلاة والسلام لما كان أميا كان إستاد الكتابة إليه إسنادا مجازيا فيؤول المعنى: أنه سأل من يكتبها له، أي ينقلها، فكان إسناد الاكتتاب إليه إسنادا مجازيا لأنه سببه، والقرينة ما هو مقرر لدى الجميع من أنه أمي لا يكتب، ومن قوله {فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ} لأنه لو كتبها لنفسه لكان يقرأها بنفسه. فالمعنى: استنسخها. وهذا كله حكاية لكلام النضر بلفظه أو معناه. ومراد النضر بهذا الوصف ترويج بهتانه لأنه علم أن هذا الزور مكشوف قد لا يقبل عند الناس لعلمهم بأن النبي أمي فكيف يستمد قرآنه من كتب الأولين فهيأ لقبول ذلك أنه كتبت له، فاتخذها عنده فهو يناولها لمن يحسن القراءة فيملي عليه ما يقصه القرآن.
والإملاء: هو الإملال وهو إلقاء الكلام لمن يكتب ألفاظه أو يرويها أو يحفظها. وتفريع الإملاء على الاكتتاب كان بالنظر أن إملاءها عليه ليقرأها أو ليحفظها.
والبُكْرة: أول النهار. والأصيل: آخر المساء، وتقد م في قوله {بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} في آخر [سورة الأعراف: 205]، أي تملى عليه طرفي النهار. وهذا مستعمل كناية عن كثرة الممارسة لتلقي الأساطير.

[6] {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} .
لقن الله رسوله الجواب لرد بهتان القائلين إن هذا القرآن إلا إفك، وإنه أساطير الأولين، بأنه أنزله الله على رسوله.
وعبر عن منزل القرآن بطريق الموصول لما تقتضيه الصلة من استشهاد الرسول الله على ما في سره لأن الله يعلم كل سر في كل مكان.
فجملة الصلة مستعملة في لازم الفائدة وهو كون المتكلم، أي الرسول، عالما بذلك. وفي ذلك كناية عن مراقبته الله فيما يبلغه عنه. وفي ذلك إيقاظ لهم بأن يتدبروا في هذا الذي زعموه إفكا أو أساطير الأولين ليظهر لهم اشتماله على الحقائق الناصعة التي لا يحيط بها إلا الله الذي يعلم السر، فيوقنوا أن القرآن لا يكون إلا من إنزاله، وليعلموا براءة الرسول صلى الله عليه وسلم من الاستعانة بمن زعموهم يعينونه.
والتعريف في {السِّرَّ} تعريف الجنس يستغرق كل سر، ومنه إسرار الطاعنين في القرآن عن مكابرة وبهتان، أي يعلم أنهم يقولون في القرآن ما لا يعتقدونه ظلما وزورا منهم، وبهذا يعلم موقع جملة {إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} ترغيبا لهم في الإقلاع عن هذه المكابرة وفي اتباع دين الحق ليغفر الله لهم ويرحمهم، وذلك تعريض بأنهم إن لم يقلعوا ويتوبوا حق عليهم الغضب والنقمة.
[7 - 9] {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} .
انتقال من حكاية مطاعنهم في القرآن وبيان إبطالها إلى حكاية مطاعنهم في الرسول عليه الصلاة والسلام.

والضمير عائد إلى الذين كفروا، فمدلول الصفة مراعى كما تقدم.
وقد أوردوا طعنهم في نبوة النبي صلى الله عليه وسلم بصيغة الاستفهام عن الحالة المختصة به إذ أوردوا اسم الاستفهام ولام الاختصاص والجملة الحالية التي مضمونها مثار الاستفهام.
والاستفهام تعجيبي مستعمل في لازمه وهو بطلان كونه رسولا بناء على أن التعجب من الدعوى يقتضي استحالتها أو بطلانها.وتركيب {مَا لِهَذَا} ونحوه يفيد الاستفهام عن أمر ثابت له، فاسم الاستفهام مبتدأ و {لِهَذَا} خبر عنه فمثار الاستفهام في هذه الآية هو ثبوت حال أكل الطعام والمشي في الأسواق للذي يدعي الرسالة من الله.
فجملة: {يَأْكُلُ الطَّعَامَ} جملة حال. وقولهم: {لِهَذَا الرَّسُولُ} أجروا عليه وصف الرسالة مجاراة منهم لقوله وهم لا يؤمنون به ولكنهم بنوا عليه ليتأنى لهم التعجب والمراد منه الإحالة والإبطال.
والإشارة إلى حاضر في الذهن، وقد بين الإشارة ما بعدها من اسم معرف بلام العهد وهو الرسول.
وكنوا بأكل الطعام والمشي في الأسواق عن مماثلة أحواله لأحوال الناس تذرعا منهم إلى إبطال كونه رسولا لزعمهم أن الرسول عن الله تكون أحواله غير مماثلة لأحوال الناس، وخصوا أكل الطعام والمشي في الأسواق لأنهما من الأحوال المشاهدة المتكررة. ورد الله عليهم قولهم هذا بقوله {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} . ثم انتقلوا إلى اقتراح أشياء تؤيد رسالته فقالوا {لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً} . وخصوا من أحوال الرسول حال النذارة لأنها التي أنبتت حقدهم عليه.
و"لولا" حرف تحضيض مستعمل في التعجيز، أي لو أنزل إليه ملك لاتبعناه.
وانتصب "فيكون" على جواب التحضيض.
و"أو" للتخيير في دلائل الرسالة في وهمهم.
ومعنى {يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ} أي ينزل إليه كنز من السماء، غذ كان الغنى فتنة لقلوبهم. والإلقاء: الرمي، وهو هنا مستعار للإعطاء من عند الله لأنهم يتخيلون اللع تعالى في السماء.

والكنز تقدم في قوله تعالى {أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ} في سورة هود. وجعلوا إعطاء جنة له علامة على النبوة لأن وجود الجنة في مكة خارق للعادة.
وقرأ الجمهور {يَأْكُلُ مِنْهَا} بياء الغائب، والضمير المستتر عائد إلى {هَذَا الرَّسُولِ} .
وقرأ حمزة والكسائي وخلف {نَأْكُلَ مِنْهَا} بنون الجماعة. والمعنى: ليتيقنوا أن ثمرها حقيقة لا سحر.
ذكر أصحاب السير أن هذه المقالة صدرت من كبراء المشركين وفي مجلس لهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جمع عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبا سفيان بن حرب، وأبا البختري، والأسود بن عبد المطلب، وزمعة بن الأسود، والوليد بن المغيرة، وأبا جهل بن هشام، وأمية بن خلف ،وعبد الله بن أبي أمية، والعاصي بن وائل، ونبيه بن الحجاج ومنبه بن الحجاج، والنضر بن الحارث، وأن هذه الأشياء التي ذكروها تداولها أهل المجلس إذ لم يعين أهل السير قائلها.
قال ابن عطية: وأشاعوا ذلك في الناس فنزلت هذه الآية في ذلك. وقد تقدم شيء من هذا في سورة الإسراء.
وكتبت لام {مَالِ هَذَا} منفصلة عن اسم الإشارة الذي بعدها في المصحف الإمام فاتبعته المصاحف لأن رسم المصحف سنة فيه، كما كتب {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً} في [سورة الكهف: 49]، وكما كتب {مال الذين كفروا قبلك مهطعين} في [سورة سال سائل: 36]، كما كتب {فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ} في [سورة النساء: 78]. ولعل وجه هذا الانفصال أنه طريقة رسم قديم كانت الحروف تكتب منفصلا بعضها عن بعض ولا سيما حروف المعاني فعاملوا ما كان على حرف واحد معاملة ما كان على حرفين فبقيت على يد أحد كتاب المصحف آثاره من ذلك، وأصل حروف الهجاء كلها الانفصال، وكذلك هي في الخطوط القديمة للعرب وغيرهم. وكان وصل حروف الكلمة الواحدة تحسينا للرسم وتسهيلا لتبادر المعنى، وأما ما كان من كلمتين فوصله اصطلاح. وأكثر ما وصلوا منه الكلمة الموضوعة على حرف واحد مثل حروف القسم أو كالواحد مثل "ال".
{وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا

فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً}
الظالمون: هم المشركون، فغير عنوانهم الأول إلى عنوان الظلم وهم هم تنبيها على أن في هذا القول اعتداء على الرسول بنبزه بما هو بريء منه وهم يعلمون أنه ليس كذلك فظلمهم له أشد ظلم وصلى الله عليه وسلم.
ذكر الماوردي: أن قائل {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً} هو عبد الله ابن الزبعرى، أي هو مبتكر هذا البهتان وإنما أسند القول إلى جميع الظالمين لأنهم تلقفوه ولهجوا به.
والمسحور: الذي أصابه السحر، وهو يورث اختلال العقل عندهم، أي ما تتبعون إلا رجلا أصابه خلل العقل فهو يقول ما لا يقول مثله العقلاء.
وذكر {رَجُلاً} هنا لتمهيد استحالة كونه رسولا لأنه رجل من الناس. وهذا الخطاب خاطبوا به المسلمين الذين اتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم.
ومعنى {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا} : أنهم ضربوا لك الأمثال الباطلة بأن مثلوك برجل مسحور.
وقوله {انْظُرْ} مستعار لمعنى العلم تشبيها للأمر المعقول بالأمر المرئي لشدة وضوحه.
و {كَيْفَ} اسم للكيفية والحالة مجرد هنا عن معنى الاستفهام.
وفرع على هذا التعجيب إخبار عنهم بأنهم ضلوا في تلفيق المطاعن في رسالة الرسول فسلكوا طرائق لا تصل بهم إلى دليل مقنع على مرادهم، ففعل {ضَلُّوا} مستعمل في معنييه المجازيين هما: معنى عدم التوفق في الحجة، ومعنى عدو الوصول للدين الحق، وهو هنا تعجيب من خطلهم وإعراض عن مجاوبتهم.
[10] {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً}
ابتدئت السورة بتعظيم الله وثنائه على أن أنزل الفرقان على رسوله، وأعقب ذلك بما تلقى به المشركون هذه المزية من الجحود والإنكار الناشئ عن تمسكهم بما اتخذوه من آلهة من صفاتهم ما ينافي الإلهية، ثم طعنوا في القرآن والذي جاء به بما هو كفران للنعمة ومن جاء بها.

فلما أريد الإعراض عن باطلهم والإقبال على خطاب الرسول بتثبيته وتثبيت المؤمنين أعيد اللفظ الذي ابتدئت به السورة على طريقة وصل الكلام بقوله {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذَلِكَ} .
وهذه الجملة استئناف واقع موقع الجواب عن قولهم {أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ} الخ، أي إن شاء جعل لك خيرا من الذي اقترحوه، أي أفضل منه، أي إن شاء عجله لك في الدنيا، فالإشارة إلى المذكور من قولهم، فيجوز أن يكن المراد بالجنات والقصور جنات في الدنيا وقصورا فيها، أي خيرا من الذي اقترحوه دليلا على صدقك في زعمهم بأن تكون عدة جنات وفيها قصور. وبهذا فسر جمهور المفسرين. وعلى هذا التأويل تكون "إن" الشرطية واقعة موقع "لو"، أي أنه لم يشأ ولو شاءه لفعله ولكن الحكمة اقتضت عدم البسط للرسول في هذه الدنيا ولكن المشركين لا يدركون المطالب العالية.
وقال ابن عطية: يحتمل أن يكون المراد بالجنات والقصور ليست التي في الدنيا، أي هي جنات الخلد وقصور الجنة فيكون وعد من الله لرسوله.
واقترن هذا الوعد بشرط المشيئة جار على ما تقتضيه العظمة الإلهية وإلا فسياق الوعد يقتضي الجزم بحصوله، فالله شاء ذلك لا محالة، بأن يقال: تبارك الذي جعل لك خيرا من ذلك. فموقع {إِنْ شَاءَ} اعتراض.
وأصل المعنى: تبارك الذي جعل لك خيرا من ذلك جنات إلى آخره. ويساعد هذا قراءة ابن كثير وابن عامر وأبي بكر عن عاصم {وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً} برفع {يَجْعَلْ} على الاستئناف دون إعمال حرف الشرط، وقراءة الأكثر بالجزم عطفا على فعل الشرط وفعل الشرط محقق الحصول بالقرينة، وهذا المحمل أشد تبكيتا للمشركين وقطعا لمجادلتهم، وقرينة ذلك قوله بعده {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً} [الفرقان: 11]، وهو ضد ومقابل لما أعده لرسوله والمؤمنين.
والقصور: المباني العظيمة الواسعة على وجه الأرض وتقدم في قوله {تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُوراً} في سورة الأعراف، وقوله {وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} في [سورة الحج: 45].
[11] {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً} .
{بَلْ} للإضراب، فيجوز أن يكون إضراب انتقال من ذكر ضلالهم في صفة

الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ذكر ضلالهم في إنكار البعث على تأويل الجمهور قوله {إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذَلِكَ} كما تقدم.
ويجوز أن يكون إضراب إبطال لما تضمنه قوله: {إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذَلِكَ} على تأويل ابن عطية من الوعد بإيتائه ذلك في الآخرة، أي بل هم لا يقنعون بأن حظ الرسول عند ربه ليس في متاع الدنيا الفاني الحقير ولكنه في خيرات الآخرة الخالدة غير المتناهية، أي أن هذا رد عليهم ومقنع لهم لو كانوا يصدقون بالساعة ولكنهم كذبوا بها فهم متمادون على ضلالهم لا تقنعهم الحجج.
والساعة: اسم غلب على عالم الخلود، تسمية باسم مبدئه وهو ساعة البعث. وإنما قصر تكذيبهم على الساعة لأنهم كذبوا بالبعث فهم بما وراءه أحرى تكذيبا.
وجملة {وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً} معترضة بالوعيد لهم، وهو لعمومه يشمل المشركين المتحدث عنهم، فهو تذييل. ومن غرضه مقابلة ما أعد الله للمؤمنين في العاقبة بما أعده للمشركين.
والسعير: الالتهاب، وهو فعيل بمعنى مفعول، أي مسعور، أي زيد فيها الوقود، وهو معامل معاملة المذكر لأنه من أحوال اللهب، وتقدم في قوله تعالى {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً} في [سورة الإسراء: 97]. وقد يطلق علما بالغلبة على جهنم وذلك على حذف مضاف، أي ذات سعير.
[12 - 14] {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً} .
تخلص من اليأس من اقتناعهم إلى وصف السعير الذي أعد لهم، وأجري على السعير ضمير {رَأَتْهُمْ} بالتأنيث لتأويل السعير بجهنم إذ هو علم عليها بالغلبة كما تقدم.
وإسناد الرؤية إلى النار استعارة. والمعنى: إذا سيقوا إليها فكانوا من النار بمكان ما يرى الرائي من وصل إليه سمعوا لها تغيظا وزفيرا من مكان بعيد، ويجوز أن يكون معنى {رأتهم} رآهم ملائكتها أطلقوا منافذها فانطلقت ألسنتها بأصوات اللهيب كأصوات المتغيظ وزفيره فيكون إسناد الرؤية إلى جهنم مجازا عقليا.

والتغيظ: شدة الغيظ. والغيظ: الغضب الشديد، وتقدم عند قوله {عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ} في [سورة آل عمران: 119]. فصيغة التفعل هنا الموضوعة في الأصل لتكلف الفعل مستعملة مجازا في قوته لأن المتكلف لفعل يأتي به كأشد ما يكون.
والمراد به هنا صوت المتغيظ، بقرينة تعلقه بفعل {سَمِعُوا} فهو تشبيه بليغ.
والزفير: امتداد النفس من شدة الغيظ وضيق الصدر، أي صوتا كالزفير فهو تشبيه بليغ أيضا. ويجوز أن يكون الله قد خلق لجهنم إدراكا للمرئيات بحيث تشدد أحوالها عند انطباع المرئيات فيها فتضطرب وتفيض وتتهيأ لالتهام بعثها فتحصل منها أصوات التغيظ والزفير فيكون إسناد الرؤية والتغيظ والزفير حقيقة، وأمور العالم الأخرى لا تقاس على الأحوال المتعارفة في الدنيا.
وعلى هذين الاحتمالين يحمل ما ورد في القرآن والحديث نحو قوله تعالى {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "اشتكت النار إلى ربها فقالت يا رب أكل بعضي بعضا، فأذن لها بنفسين نفس في الصيف ونفس في الشتاء" رواه في الموطأ. زاد في رواية مسلم "فما ترون من شدة البرد فذلك من زمهريرها وما ترون من شدة الحر فهو من سمومها" .
وجُعل إزجاؤهم إلى النار من مكان بعيد زيادة في النكاية بهم لأن بعد المكان يقتضي زيادة المشقة إلى الوصول ويقتضي طول الرعب مما سمعوا.
ووصف وصولهم إلى جهنم من مكان بعيد ووضعهم فيها بقوله: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً} فصيغ نظمه في صورة توصيف ضجيج أهل النار من قوله : {دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً} وأدمج في خلال ذلك وصف داخل جهنم ووصف وضع المشركين فيها بقوله {مَكَاناً ضَيِّقاً} وقوله {مُقَرَّنِينَ} تفننا في أسلوب الكلام.
والإلقاء: الرمي، وهو هنا كناية عن الإهانة.
وانتصب {مَكَاناً} على نزع الخافض، أي في مكان ضيق.
وقرأ الجمهور {ضَيِّقاً} بتشديد الياء. وقرأه ابن كثير {ضَيِّقاً} بسكون الياء وكلاهما للمبالغة في الوصف مثل: ميت وميت، لأن الضيق بالتشديد صيغة تمكن الوصف من الموصوف، والضيق بالسكون وصف بالمصدر.

و {مُقَرَّنِينَ} حال من ضمير {أُلْقُوا} أي مقرنا بعضهم في بعض كحال الأسرى والمساجين أن يقرن عدد منهم في وثاق واحد، كما قال تعالى {وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ} . والمقرن: المقرون، صيغت له مادة التفعيل للإشارة إلى شدة القرن.
والدعاء: النداء بأعلى الصوت، والثبور: الهلاك، أي نادوا: يا ثبورنا، أو واثبوراه بصيغة الندبة، وعلى كلا الاحتمالين فالنداء كناية عن التمني، أي تمنوا حلول الهلاك فنادوه كما ينادي من يطلب حضوره، أو ندبوه كما يندب من يتحسر على فقده، أي تمنوا الهلاك للاستراحة من فضيع العذاب.
وجملة {لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً} إلى آخرها مقولة لقول محذوف، أي يقال لهم، ووصف الثبور بالكثير إما لكثرة ندائه بالتكرير وهو كناية عن عدم حصول الثبور لأن انتهاء النداء يكون بحضور المنادى، أو هو يأس يقتضي تكرير التمني أو التحسر.
[15 - 16] {قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيراً لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُولاً} .
الأمر بالقول يقتضي مخاطبا مقولا لهم ذلك، فيجوز ان يقصد: قل لهم، أي للمشركين الذين يسمعون الوعيد والتهديد السابق: "ألك خير أم الجنة" ? فالجمل متصلة السياق، والاستفهام حينئذ للتهكم إذ لا شبهة في كون الجنة الموصوفة خيرا. ويجوز أن يقصد: قل للمؤمنين، فالجملة معترضة بين آيات الوعيد لمناسبة إبداء البون بين حال المشركين وحال المؤمنين. والاستفهام حينئذ مستعمل في التلميح والتلطف. وهذا كقوله {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} في [سورة الصافات: 62].
والإشارة إلى المكان الضيق في جهنم.
و {خَيْرٌ} اسم تفضيل، وأصله أخير بوزن اسم التفضيل فحذفت الهمزة لكثرة الاستعمال. والتفضيل على المحمل الأول في موقع الآية مستعمل للتهكم بالمشركين، وعلى المحمل الثاني مستعمل للتلميح في خطاب المؤمنين وإظهار المنة عليهم.
ووصف الموعودين بأنهم متقون على المحمل الأول جار على مقتضى الظاهر، على المحمل الثاني جار على خلاف مقتضى الظاهر لأن مقتضى الظاهر أن يوتى بضمير الخطاب، فوجه العدول إلى الإظهار ما يفيده {الْمُتَّقُونَ} من العموم للمخاطبين ومن

يجيء بعدهم.
وجملة {كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيراً} تذييل لجملة {جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} لما فيها من التنويه بشأن الجنة بتنكير {جَزَاءً وَمَصِيراً} مع الإيماء إلى أنهم وعدوا بها وعد مجازاة على نحو قوله تعالى {نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً} وقوله {بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً} في [سورة الكهف: 31 - 29].
وجملة {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ} ، حال من {جَنَّةُ الْخُلْدِ} ، أو صفة ثانية. وجملة {كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُولاً} حال ثانية والرابط محذوف إذ التقدير: وعدا لهم.
والضمير المستتر في {كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْداً} عائدا إما إلى الوعد المفهوم من قوله {الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} ، أي كان الوعد وعدا مسؤولا. وأخبر عن الوعد بـ {وَعْداً} وهو عينه ليبنى عليه {مَسْؤُولاً} .
ويجوز أن يعود الضمير إلى {مَا يَشَاءُونَ} والإخبار عنه بـ {وَعْداً} من الإخبار بالمصدر والمراد المفعول كالخلق بمعنى المخلوق.
ويتعلق {عَلَى رَبِّكَ} بـ {وَعْداً} لتضمين {وَعْداً} معنى "حقا" لإفادة أنه {وَعْداً} لا يخلف كقوله تعالى {وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 104].
والمسؤول: الذي يسأله مستحقه ويطالب به، أي حقا للمتقين أن يترقبوا حصوله كأنه أجر لهم عن عمل. وهذا مسوق مساق المبالغة في تحقيق الوعد والكرم كما يشكرك شاكر على إحسان فتقول: ما أتيت إلا واجبا، إذ لايتبادر هنا غير هذا المعنى، إذ لا معنى للوجوب على الله تعالى سوى أنه تفضل وتعهد به، ولا يختلف في هذا أهل الملة وإنما اختلفوا في جواز إخلاف الوعد.
[17 - 18] {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْماً بُوراً} .
عطف {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ} إما على جملة {قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ} إن كان المراد: قل للمشركين، أو عطف على جملة {وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً} على جواز أن المراد: قل للمؤمنين.

وعلى كلا الوجهين فانتصاب {يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ} على المفعولية لفعل محذوف معلوم في سياق أمثاله، تقديره: اذكر ذلك اليوم لأنه لما توعدهم بالسعير وما يلاقون من هولها بين لهم حال ما قبل ذلك وهو حالهم في الحشر مع أصنامهم. وهذا مظهر من مظاهر الهول لهم في المحشر إذ يشاهدون خيبة آمالهم في آلهتهم إذ يرون حقارتها بين يدي الله وتبرؤها من عبادها وشهادتها عليهم بكفرانهم نعمة الله وإعراضهم عن القرآن، وإذ يسمعون تكذيب من عبدوهم من العقلاء من الملائكة وعيسى عليهم السلام والجن ونسبوا إليهم أنهم أمروهم بالضلالات.
وعموم الموصول من قوله {وَمَا يَعْبُدُونَ} شامل لأصناف المعبودات التي عبدوها ولذلك أوثرت "ما" الموصولة لأنها تصدق على العقلاء وغيرهم. على ان التغليب هنا لغير العقلاء. والخطاب في {أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ} للعقلاء بقرينة توجيه الخطاب.
فجملة {قَالُوا سُبْحَانَكَ} جواب عن سؤال الله إياهم: {أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ} ، فهو استئناف ابتدائي ولا يتعلق به {يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ} .
وقرأ الجمهور {نَحْشُرُهُمْ} بالنون و {يَقُولُ} بالياء ففيه التفات من التكلم إلى الغيبة. وقرأه ابن كثير وأبو جعفر ويعقوب {يَحْشُرُهُمْ - يَقُولُ} كليهما بالياء. وقرأ ابن عامر {يَحْشُرُهُمْ - يَقُولُ} كليهما بالنون.
والاستفهام تقريري للاستنطاق والاستشهاد. والمعنى: أأنتم أضللتموهم أم ضلوا من تلقاء أنفسهم دون تضليل منكم. ففي الكلام حذف دل عليه المذكور.
وأخبر بفعل {أَضْلَلْتُمْ} عن ضمير المخاطبين المنفصل وبفعل {ضَلُّوا} عن ضمير الغائبين المنفصل ليفيد تقديم المسند إليهما عل الخبرين الفعليين تقوي الحكم المقرر به لإشعارهم بأنهم لا مناص لهم من الإقرار بأحد الأمرين وأن أحدهم محقق الوقوع لا محالة. فالمقصود بالتقوية هو معادل همزة الاستفهام وهو {أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ} .
والمجيبون هم العقلاء من المعبودين الملائكة وعيسى عليهم السلام.
وقولهم {سُبْحَانَكَ} كلمة تنزيه كني بها عن التعجب من قول فظيع، كقول الأعشى:
قد قلت لما جاءني فخره
...
سبحان من علقمة الفاخر.
وتقدم في [سورة النور: 16] {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} . واعلم أن ظاهر ضمير

{نَحْشُرُهُمْ} أن يعود على المشركين الذين قرعتهم الآية بالوعيد وهم الذين قالوا {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ} إلى قوله {مَسْحُوراً} "الفرقان: 7 - 8"؛ لكن ما يقتضيه وصفهم بـ {الظَّالِمُونَ} والإخبار عنهم بأنهم كذبوا بالساعة وما يقتضيه ظاهر الموصول في قوله {لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ} من شمول كل من تحقق فيه مضمون الصلة، كل ذلك يقتضي أن يكون ضمير {نحشرهم} عائدا إلى {مَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ} فيشمل المشركين الموجودين في وقت نزول الآية ومن انقرض منهم بعد بلوغ الدعوة المحمدية ومن سيأتي بعدهم من المشركين.
ووصف العباد هنا تسجيل على المشركين بالعبودية وتعريض بكفرانهم حقها.
والإشارة إليهم لتمييزهم من بين بقية العباد.
وهذا أصل في أداء الشهادة على عين المشهود عليه لدى القاضي.
وإسناد القول إلى ما يعبدون من دون الله يقتضي أن الله يجعل في الأصنام نطقا يسمعه عبدتها، أما غير الأصنام من عبد من العقلاء فالقول فيهم ظاهر.
وإعادة فعل {ضَلُّوا} في قوله {أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ} ليجري على ضميرهم مسند فعلي فيفيد التقوي في نسبة الضلال إليهم. والمعنى: أم هم ضلوا من تلقاء أنفسهم دون تضليل منكم. وحق الفعل أن يعدى بـ"عن" ولكنه عدي بنفسه لتضمنه معنى "أخطؤوا"، أو على نزع الخافض.
و {سُبْحَانَكَ} تعظيم لله تعالى في مقام الاعتراف بأنهم ينزهون الله هن أن يدعوا لأنفسهم مشاركته في الإلهية.
ومعنى {مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا} ما يطاوعنا طلب أن نتخذ عبدة لأن "انبغى" مطاوع "بغاه" إذا طلبه. فالمعنى: لا يمكن لنا اتخاذنا أولياء، أي عبادا، قال تعالى {وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص: 35]. وقد تقدم في قوله تعالى {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً} في [سورة مريم: 92]. وهو هنا كناية عن انتفاء طلبهم هذا الاتخاذ انتفاء شديدا، أي نتبرأ من ذلك، لأن نفي"كان" وجعل المطلوب نفيه خبرا عن "كان" أقوى في النفي ولذلك يسمى جحودا. والخبر مستعمل في لازم فائدته، أي نعلم أنه لا ينبغي لنا فكيف نحاوله.
و"من" في قوله {مِنْ دُونِكَ} للابتداء لأن أصل "دون" أنه اسم للمكان، ويقدر

مضاف محذوف يضاف إليه "دون" نحو: جلست دون، أي دون مكانه، فموقع "من" هنا موقع الحال من {أَوْلِيَاءَ} . وأصلها صفة لـ {أَوْلِيَاءَ} فلما قدمت الصفة على الموصوف صارت حالا. والمعنى: لا نتخذ أولياء لنا موصوفين بأنهم من جانب دون جانبك، أي أنهم لا يعترفون لك بالوحدانية في الإلهية فهم يشركون معك في الإلهية.
وعن ابن جني: أن "من" هنا زائدة. وأجاز زيادة "من" في المفعول.
و"من" في قوله {أَوْلِيَاءَ} مزيدة لتأكيد عموم النفي، أي استغراقه لأنه نكرة في سياق النفي.
والأولياء: جمع الولي بمعنى التابع في الولاء فإن الولي يرادف المولى فيصدق على كلا طرفي الولاء، أي على السيد والعبد، أو الناصر والمنصور. والمراد هنا: الولي التابع كما في قوله {فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً} في [سورةمريم: 45] ، أي لا نطلب من الناس أن يكونوا عابدين لنا.
وقرأ الجمهور {نَتَّخِذَ} بالبناء للفاعل. وقرأه أبو جعفر {نَتَّخِذَ} بضم النون وفتح الخاء على البناء للمفعول، أي أن يتخذنا الناس أولياء لهم من دونك. فموقع {مِنْ دُونِكَ} موقع الحال من ضمير {نَتَّخِذَ} . والمعنى عليه: أنهم يتبرؤون من أن يدعوا الناس لعبادتهم، وهذا تسفيه للذين عبدوهم ونسبوا إليهم موالاتهم. والمعنى: لا نتخذ من يوالينا دونك، أي من يعبدنا دونك.
والاستدراك الذي أفاده "لكن" ناشئ عن التبرؤ من أن يكونوا هم المضلين لهم بتعقيبه ببيان سبب ضلالهم لئلا يتوهم أن تبرئة أنفسهم من إضلالهم يرفع تبعة الضلال عن الضالين. والمقصود بالاستدراك ما بعد "حتى" وهو {نَسُوا الذِّكْرَ} ، وأما ما قبلها فقد أدمج بين حرف الاستدراك ومدخوله ما يسجل عليهم فظاعة ضلالهم بأنهم قابلوا رحمة الله ونعمته عليهم وعلى آبائهم بالكفران، فالخبر عن الله بأنه متع الضالين وآباءهم مستعمل في الثناء على الله بسعة الرحمة، وفي الإنكار على المشركين مقابلة النعمة بالكفران غضبا عليهم.
وجعل نسيانهم الذكر غاية للتمتع للإيماء إلى أن ذلك التمتع أفضى إلى الكفران لخبث نفوسهم فهو كجود في أرض سبخة قال تعالى {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82].

والتعرض إلى تمتيع آبائهم هنا مع أن نسيان الذكر إنما حصل من المشركين الذين بلغتهم الدعوة المحمدية ونسوا الذكر، أي القرآن، هو زيادة تعظيم نعمة التمتيع عليهم بأنها نعمة متأثلة تليدة، مع الإشارة إلى أن كفران النعمة قد انجر لهم من آبائهم الذين سنوا لهم عبادة الأصنام. ففيه تعريض بشناعة الإشراك ولو قبل مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم.
وبهذا يظهر أن ضمير {نَسُوا} وضمير {كَانُوا} عائدان إلى الظالمين المكذبين بالإسلام دون آبائهم لأن الآباء لم يسمعوا الذكر.
والنسيان مستعمل في الإعراض عن عمد على وجه الاستعارة لأنه إعراض بشبه النسيان في كونه عن غير تأمل ولا بصيرة. وتقدم في قوله تعالى {وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} في [سورة الأنعام: 41].
والذكر: القرآن لأنه يتذكر به الحق، وقد تقدم في قوله تعالى: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} في [سورة الحجر: 6].
والبور: جمع بائر كالعوذ جمع عائذ، والبائر: هو الذي أصابه البوار، أي الهلاك. وتقدم في قوله تعالى {وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [سورة إبراهيم: 28] أي الموت. وقد استعير البور لشدة سوء الحالة بناء على العرف الذي يعد الهلاك آخر ما يبلغ إليه الحي من سوء الحال كما قال تعالى {يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ} [سورة التوبة: 42]، أي سوء حالهم في نفس الأمر وهم عنه غافلون. وقيل: البوار الفساد في لغة الأزد وأنه وما اشتق منه مما جاء في القرآن بغير لغة مضر.
واجتلاب فعل "كان" وبناء {بُوراً} على {قَوْماً} دون أن يقال: حتى نسوا الذكر وباروا للدلالة على تمكن البوار منهم بما تقتضيه "كان" من تمكن معنى الخبر، وما يقتضيه "قوما" من كون البوار من مقومات قوميتهم كما تقدم عند قوله تعالى {لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} في [سورة البقرة: 164].
[19] {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً} .
الفاء فصيحة، أي إفصاح عن حجة بعد تهيئة ما يقتضيها، وهو إفصاح رائع وزاده

الالتفات في قوله {كَذَّبُوكُمْ} .
وفي الكلام حذف فعل قول يدل عليه المقام. والتقدير: إن قلتم هؤلاء آلهتنا فقد كذبوكم، وقد جاء التصريح بما يدل على القول المحذوف في قول عباس بن الأحنف.
قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا
ثم القفول فقد جئنا خراسانا.
أي إن قلتم ذلك فقد جئنا خراسان. وفي حذف فعل القول في هذه الآية استحضار لصورة المقام كأنه مشاهد غير محكي وكأن السامع آخر الآية قد سمع لهذه المحاورة مباشرة دون حكاية فقرع سمعه شهادة الأصنام عليهم ثم قرع سمعه توجه خطاب التكذيب إلى المشهود عليهم، وهو تفنن بديع في الحكاية يعتمد على تخييل المحكي واقعا، ومنه قوله تعالى {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} [سورة القمر: 48]. فجملة {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ} الخ مستأنفة ابتدائية هو إقبال على خطاب الحاضرين وهو ضرب من الالتفات مثل قوله تعالى {وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ} بعد قوله {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} [سورة يوسف: 29].
والباء في قوله {بِمَا تَقُولُونَ} يجوز أن تكون بمعنى "في" للظرفية المجازية، أي كذبوكم تكذيبا واقعا فيما تقولون، ويجوز أن تكون للسببية، أي كذبوكم بسبب ما تقولون.
و"ما" موصولة. والذي قالوه هو ما يستفاد من السؤال والجواب وهو أنهم قالوا إنهم دعوهم إلى أن يعبدوهم.
وفرع على الإعلان بتكذيبهم إياهم تأييسهم من الانتفاع بهم في ذلك الموقف إذ بين لهم أنهم لا يستطيعون صرفا، أي صرف ضر عنهم، ولا نصرا، أي إلحاق ضر بمن يغلبهم. ووجه التفريع ما دل عليه قولهم {سُبْحَانَكَ} [الفرقان: 18] الذي يقتضي أنهم في موقف العبودية والخضوع.
وقرأ الجمهور {يَسْتَطِيعُونَ} بياء الغائب، وقرأه حفص بتاء الخطاب على أنه خطاب للمشركين الذين عبدوا الأصنام من دون الله.
{وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً} .
تذييل للكلام يشمل عمومه جميع الناس، ويكون خطاب {مِنْكُمْ} لجميع المكلفين. ويفيد ذلك أن المشركين المتحدث عنهم معذبون عذابا كبيرا: والعذاب الكبير هو عذاب جهنم.

[20] {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً} .
{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ}
وهذا رد على قولهم {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} [سورة الفرقان: 7] بعد أن رد عليهم قولهم {أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} [سورة الفرقان: 8] بقوله {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذَلِكَ} [سورة الفرقان: 10]، ولكن لما كان قولهم {أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ} حالة لم تعط للرسل في الدنيا كان رد قولهم فيها بأن الله أعطاه خيرا من ذلك في الآخرة.
وأما قولهم {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} فقد توسلوا به إلى إبطال رسالته بثبوت صفات البشر له، فكان الرد عليهم بأن جميع الرسل كانوا متصفين بصفات البشر، ولم يكن المشركون منكرين وجود رسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم، فقد قالوا {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} [سورة الأنبياء: 5]، وإذ كانوا موجودين فبالضرورة كانوا يأكلون الطعام إذ هم من البشر ويمشون في أسواق المدن والبادية لأن الدعوة تكون في مجامع الناس. وقد قال موسى {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحىً} [سورة طه: 59]. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعوا قريشا في مجامعهم ونواديهم ويدعوا سائر العرب في عكاظ وفي أيام الموسم.
وجملة {لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} في موضع الحال لأن المستثنى منه عموم الأحوال. والتقدير: وما أرسلنا قبلك من المرسلين في حال إلا في حال {إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} . والتوكيد بـ"إن" واللام لتحقيق وقوع الحال تنزيلا للمشركين في تناسيهم أحوال الرسل منزلة من ينكر أن يكون الرسل السابقون يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق. ولم تقترن جملة الحال بالواو لأن وجود أداة الاستثناء كاف في الربط ولا سيما وقد تأكد الربط بحرف التوكيد فلا يزاد حرف آخر فيتوالى إلى أربعة حروف وهي: إلا، وإن، واللام، ويزاد الواو بخلاف قوله تعالى {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ} [سورة الحجر: 4]. وقوله {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ} [الشعراء: 208].
وإنما أبقى الله الرسل على الحالة المعتادة للبشر فيما يرجع إلى أسباب الحياة المادية إذ لا حكمة في تغيير حالهم عن ذلك وإنما يغير الله حياتهم النفسية لأن في تغييرها

إعداد نفوسهم لتلقي الفيوضات الإلهية.
ولله تعالى حفاظ على نواميس نظام الخلائق والعوالم لأنه ما خلقها عبثا فهو لا يغيرها إلا بمقدار ما تتعلق به إرادته من تأييد الرسل بالمعجزات ونحو ذلك.
{وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً} .
تذييل، فضمير الخطاب في قوله {بَعْضَكُمْ} يعم جميع الناس بقرينة السياق، وكلا البعضين مبهم يبينه المقام. وحال الفتنة في كلا البعضين مختلف، فبعضها فتنة في العقيدة، وبعضها فتنة في الأمن، وبعضها فتنة في الأبدان.
والإخبار عنه بـ {فِتْنَةً} مجازي لأنه سبب الفتنة، وشمل أحد البعضين النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه، والبعض الآخر المشركين؛ فكان حال الرسول فتنة للمشركين إذ زعموا أن حاله مناف للرسالة فلم يؤمنوا به وكان حال المؤمنين في ضعفهم فتنة للمشركين إذ ترفعوا عن الإيمان الذي يسويهم بهم، فقد كان أبو جهل والوليد بن المغيرة والعاصي بن وائل وإضرابهم يقولون: إن أسلمنا وقد أسلم قبلنا عمار بن ياسر وصهيب وبلال ترفعو علينا إدلالا بالسابقة. وهذا كقول صناديد قوم نوح لا نؤمن حتى تطرد الذي آمنوا بك فقال: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [هود: 29 - 30].
وقال تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 52 - 53].
والكلام تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عن إعراض بعض قومه عن الإسلام، ولذلك عقب بقوله {أَتَصْبِرُونَ} ، وهو استفهام مستعمل في الحث والأمر كقوله {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91].
وموقع {وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً} موقع الحث على الصبر المأمور به، أي هو عليهم بالصابرين، وإيذان بأن الله لا يضيع جزاء الرسول على ما يلاقيه من قومه وأنه ناصره عليهم.
وفي الإسناد إلى وصف الرب مضافا إلى ضمير النبي إلماع إلى هذا الوعد فإن

الرب لا يضيع أولياءه كقوله {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} أي النصر المحقق.
[21] {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً} .
حكاية مقالة أخرى من مقالات تكذيبهم الرسول عليه الصلاة والسلام، وقد عنون عليها في هذه المقالة بـ {الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} وعنون عليهم في المقالات السابقة بـ {الَّذِينَ كَفَرُوا} وبـ {الظَّالِمُونَ} لأن بين هذا الوصف وبين مقالتهم انتقاض، فهم كذبوا بلقاء الآخرة بما فيه من رؤية الله والملائكة، وطلبوا رؤية الله في الدنيا، ونزول الملائكة عليهم في الدنيا، وأرادوا تلقي الدين من الملائكة أو من الله مباشرة، فكان في حكاية قولهم وذكر وصفهم تعجيب من تناقض مداركهم.
واعلم أن أهل الشرك شهدوا أنفسهم بإنكار البعث وتوهموا أن شبهتهم في إنكاره أقوى حجة لهم في تكذيب الرسل، فمن أجل ذلك أيضا جعل قولهم ذلك طريقا لتعريفهم بالموصول كما قال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} في [سورة يونس: 15].
و {لَوْلا} حرف تحضيض مستعمل في التعجيز والاستحالة، أي هلا أنزل علينا الملائكة فنؤمن بما جئت به، يعنون أنه إن كان صادقا فليسأل من ربه وسيلة أخرى لإبلاغ الدين إليهم.
ومعنى {لا يَرْجُونَ} لا يظنون ظنا قريبا، أي يعدون لقاء الله محالا. ومقصدهم من مقالهم أنهم أعلى من أن يتلقوا الدين من رجل مثلهم ولذلك عقب بقوله {لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً} على معنى التعجيب من ازدهائهم وغرورهم الباطل.
والجملة استئناف يتنزل منزلة جواب عن قولهم. والتأكيد بلام القسم لإفادة معنى التعجيب لأن القسم يستعمل في التعجب كقول أحد بني كلاب أو بني نمير أنشده ثعلب في "مجالسه" والقالي في "أماليه":
ألا يا سنا برق على قلل الحمى
...
لهنك من برق علي كريم

فإن قوله: من برق، في قوة التمييز وإنما يكون التمييز فيه لما فيه من معنى التعجب.
والاستكبار: مبالغة في التكبر، فالسين والتاء للمبالغة مثل استجاب.
و {فِي} للظرفية المجازية؛ شبهت أنفسهم بالظروف في تمكن المظروف منها، أي هو استكبار متمكن منهم كقوله تعالى {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} .
ويجوز أن تكون {فِي} للتعليل كما في الحديث: "دخلت امرأة النار في هرة حبستها" الحديث، أي استكبروا لأجل عظمة أنفسهم في زعمهم. وليست الظرفية حقيقية لقلة جدوى ذلك؛ إذ من المعلوم أن الاستكبار لا يكون إلا في النفس لأنه من الأفعال النفسية.
والعتو: تجاوز الحد في الظلم، وتقدم في قوله تعالى {وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ} في الأعراف. وإنما كان هذا ظلما لأنهم تجاوزوا مقدار ما خولهم الله من القابلية.
وفي هذا إيماء إلى أن النبوة لا تكون بالاكتساب وإنما هي إعداد من الله تعالى قال {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124].
[22] {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً} .
استئناف ثان جواب عن مقالتهم، فبعد إبداء التعجيب منها عقب بوعيد لهم فيه حصول بعض ما طلبوا حصوله الآن، أي هم سيرون الملائكة ولكنها رؤية تسوءهم حين يرون زبانية العذاب يسوقونهم إلى النار، ففي هذا الاستئناف تمليح وتهكم بهم لأن ابتداءه مطمع بالاستجابة وآخره مؤيس بالوعيد، فالكلام جرى على طريقة الغيبة لأنه حكاية عن توركهم، والمقصود إبلاغه لهم حين يسمعونه. وانتصب {يَوْمَ يَرَوْنَ} على الظرفية لـ {لا بُشْرَى} . وتقديم الظرف للاهتمام به لإثارة الطمع وللتشويق إلى تعيين إبانه حتى إذا ورد ما فيه خيبة طمعهم كان له وقع الكآبة على نفوسهم حينما يسمعونه وإعادة {يَوْمَئِذٍ} تأكيد.
وذكر وصف المجرمين إظهار في مقام الإضمار للتسجيل عليهم بأنهم مجرمون بعد أن وصفوا بالكفر والظلم واليأس من لقاء الله. وانتفاء البشرى مستعمل في إثبات ضده وهو الحزن.
و"حجر" - بسكر الحاء وسكون الجيم، ويقال بفتح الحاء وضمها على الندرة - فهي

كلمة يقولونها عند رؤية ما يخاف من إصابته بمنزلة الاستعاذة. قال الخليل وأبو عبيدة: كان الرجل إذا رأى الرجل الذي يخاف منه أن يقتله في الأشهر الحرم يقول له: {حِجْراً مَحْجُوراً} ، أي حرام قتلي، وهي عوذة.
و"حجر" مصدر: حجره، إذا منعه قال تعالى {وَحَرْثٌ حِجْرٌ} [الأنعام: 138]، وهو في هذا الاستعمال لازم النصب على المفعول المطلق المنصوب بفعل مضمر مثل: معاذ الله، وأما رفعه في قول الراجز:
قال فيها حيدة وذعر
عوذ بربي منكم وحجر
فهو تصرف فيه، ولعله عند سيبويه ضرورة لأنه لم يذكر الرفع في استعمال هذه الكلمات في هذا الغرض وهو الذي حكاه الراجز. وأما رفع "حجر" في غير حالة استعماله للتعوذ فلا مانع منه لأنه الأصل وقد جاء في القرآن منصوبا لا على المفعولية المطلقة في قوله تعالى {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً} [الفرقان: 53]، فإنه معطوف على مفعول {وَجَعَلَ} وسننبه عليه قريبا.
و {مَحْجُوراً} وصف لـ {حِجْراً} مشتق من مادته للدلالة على تمكن المعنى المشتق منه كما قالوا: ليل أليل. وذيل ذائل، وشعر شاعر.
[23] {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} .
كانوا في الجاهلية يعدون الأعمال الصالحة مجلبة لخير الدنيا لأنها ترضي الله تعالى فيجازيهم بنعم في الدنيا إذا كانوا لا يؤمنون بالبعث، وقد قالت خديجة للنبي صلى الله عليه وسلم حين تحير في أمر ما بدأه من الوحي وقال لها: "لقد خشيت على نفسي"، فقالت "والله لا يخزيك الله أبدا. إنك لتصل الرحم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق". فالظاهر أن المشركين إذا سمعوا آيات الوعيد يقولون في أنفسهم: لئن كان البعث حقا لنجدن أعمالا عملناها من البر تكون سببا لنجاتنا، فعلم الله ما في نفوسهم فأخبر بأن أعمالهم تكون كالعدم يومئذ.
والقدوم مستعمل في معنى العمد والإرادة، وأفعال المشي والمجىء تجيء في الاستعمال لمعاني القصد والعزم والشروع مثل: قام يفعل، وذهب يقول، وأقبل، ونحوها. وأصل ذلك ناشئ عن تمثيل حال العامد إلى فعل باهتمام بحال من يمشي إليه، فموقعه في الكلام أرشق من أن يقول: وعمدناه، أو أردنا إلى ما عملوا.

و {مِنْ} في قوله {مِنْ عَمَلٍ} بيانية لإبهام {مَا} وتنكير {عَمَلٍ} للنوعية والمراد به عمل الخير، أي إلى ما عملوه من جنس عمل الخير.
والهباء: كائنات جسمية دقيقة لا ترى إلا في أشعة الشمس المنحصرة في كوة ونحوها، تلوح كأنها سابحة في الهواء وهي أدق من الغبار، أي فجعلناه كهباء منثور، وهو تشبيه لأعمالهم في عدم الانتفاع بها مع كونها موجودة بالهباء في عدم إمساكه مع كونه موجودا، وهذا تشبيه بليغ وهو هنا رشيق. ونظيره قوله تعالى {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثّاً} [الواقعة: 5 - 6].
والمنثور: غير المنتظم، وهو وصف كاشف لأن الهباء لا يكون إلا منثورا، فذكر هذا الوصف للإشارة إلى ما في الهباء من الحقارة ومن التفرق.
[24] {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} .
استئناف ابتدائي جيء به لمقابلة حال المشركين في الآخرة بضدها من حال أصحاب الجنة وهم المؤمنون لأنه لما وصف حال المشركين في الآخرة علم أن لا حظ لهم في الجنة فتعينت الجنة لغير المشركين يومئذ وهم المؤمنون، إذ أهل مكة في وقت نزول هذه الآية فريقان مشركون مؤمنون. فمعنى الكلام: المؤمنون يومئذ هم أصحاب الجنة وهم {خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} .
والخير هنا: تفضيل، وهو تهكم بالمشركين، وكذلك {أَحْسَنُ} .
والمستقر: مكان الاستقرار.
والمقيل: المكان الذي يؤوى إليه في القيلولة والاستراحة في ذلك الوقت من عادة المترفين.
[25 - 26] {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً} .
عطف على جملة {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ} [الفرقان: 22]. والمقصود تأييسهم من الانتفاع بأعمالهم وبآلهتهم وعيدهم. وأدمج في ذلك وصف بعض شؤون ذلك اليوم، وأنه يوم تنزيل الملائكة بمرأى من الناس.

وأعيد لفظ {يَوْمَ} على طريقة الإظهار في مقام الإضمار وإن كان ذلك يوما واحدا لبعد ما بين المعاد ومكان الضمير.
والتشقق: التفتح بين أجزاء ملتئمة، ومنه {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1]. ولعله انخراق يحصل في كور تلك العوالم، والذين قالوا: السماوات لا تقبل الخرق ثم الالتئام بنوه على تخيلهم إياها كقباب من معادن صلبة، والحكماء لم يصلوا إلى حقيقتها حتى الآن.
وتشقق السماء حالة عجيبة تظهر يوم القيامة، ومعناه زوال الحواجز والحدود التي كانت تمنع الملائكة من مبارحة سماواتهم إلا من يؤذن له بذلك، فاللام في الملائكة للاستغراق، أي بين جمع الملائكة فهو بمنزلة أن يقال: يوم تفتح أبواب السماء. قال {وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَاباً} [النبأ: 19]؛ على أن التشقق يستعمل في معنى انجلاء النور كما قال النابغة:
فانشق عنهاعمود الصبح جافلة
...
عدو النحوص تخاف القانص اللحما
وحاصل المعنى: أن هنالك انبثاقا وانتفاقا يقارنه نزول الملائكة لأن ذلك الانشقاق إذن للملائكة بالحضور إلى موقع الحشر والحساب.
والتعبير بالتنزيل يقتضي أن السماوات التي تنشق عن الملائكة أعلى من مكان حضور الملائكة.
وقرأ الجمهور {تَشَقَّقُ} بتشديد الشين. وقرأه أبو عمرو وحمزة والكسائي وخلف بتخفيف الشين.
والغمام: السحاب الرقيق. وهو ما يغشى مكان الحساب قال تعالى {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ} تقدم في سورة البقرة.
والباء في قوله {بِالْغَمَامِ} قيل بمعنى "عن"، أي تشقق عن غمام يحف بالملائكة. وقيل للسببية، أي يكون غمام يخلقه الله فيه قوة تنشق بها السماء لينزل الملائكة مثل قوة البرق التي تشق السحاب. وقيل الباء للملابسة، أي تشقق ملابسة لغمام يظهر حينئذ. وليس في الآية ما يقتضي مقارنة التشقق لنزول الملائكة ولا مقارنة الغمام للملائكة، فدع الفهم يذهب في ترتيب ذلك كل مذهب ممكن.

وأكدَ {نُزِّلَ الْمَلائِكَةُ} بالمفعول المطلق لإفادة أنه نزول بالذات لا بمجرد الاتصال النوراني مثل الخواطر الملكية التي تشعشع في نفوس أهل الكمال.
وقرأ الجمهور {وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ} بنون واحدة وتشديد الزاي وفتح اللام ورفع {الْمَلائِكَةُ} مبنيا للنائب. وقراه ابن كثير {وَ نُنَزِّلُ} بنونين أولاهما مضمومة والثانية ساكنة وبضم اللام ونصب {الْمَلائِكَةُ} .
وقوله {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ} هو صدر الجملة المعطوفة فيتعلق به {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} ، وإنما قدم عليه للوجه المذكور في تقديم قوله {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ} [الفرقان: 22] وكذلك القول في تكرير {يَوْمَئِذٍ} .
و {الْحَقُّ} : الخالص، كقولك: هذا ذهب حقا. وهو الملك الظاهر أنه لا يماثله ملك لأن حالة الملك في الدنيا متفاوتة. والملك الكامل إنما هو لله، ولكن العقول قد لا تلتفت إلى ما في الملوك من نقص وعجز وتبهرهم بهرجة تصرفاتهم وعطاياهم فينسون الحقائق، فأما في ذلك اليوم فالحقائق منكشفة وليس ثمة من يدعي شيئا من التصرف، وفي الحديث ثم يقول الله: أنا الملك أين ملوك الأرض .
ووصف اليوم بعسير باعتبار ما فيه من أمور عسيرة على المشركين.
وتقديم {عَلَى الْكَافِرِينَ} للحصر. وهو قصر إضافي، أي دون المؤمنين.
[27 - 29] {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً} .
هذا هو ذلك اليوم أعيد الكلام عليه باعتبار حال آخر من أحوال المشركين فيه، أو باعتبار حال بعض المشركين المقصود من الآية.
والتعريف في {الظَّالِمُ} يجوز أن يكون للاستغراق. والمراد بالظلم الشرك فيعم جميع المشركين الذين أشركوا بعد ظهور الدعوة المحمدية بقرينة قوله {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً} ، ويكون قوله {لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً} إعلاما بما لا تخلو عنه صحبة بعضهم مع بعض وإغراء بعضهم بعضا على مناواة الإسلام.
ويجوز أن يكون للعهد المخصوص. والمراد بالظلم الاعتداء الخاص المعهود من

قصة معينة وهي قصة عقبة بن أبي معيط وما أغراه به أبي بن خلف. قال الواحدي وغيره عن الشعبي وغيره: كان عقبة بن أبي معيط خليلا لأمية بن خلف، وكان عقبة لا يقدم من سفر إلا صنع طعاما ودعا إليه أشراف قومه، وكان يكثر مجالسة النبي صلى الله عليه وسلم، فقدم من بعض أسفاره فصنع طعاما ودعا رسول الله فلما قربوا الطعام قال رسول الله: ما أنا بآكل من طعامك حتى تشهد أن لا اله إلا الله، فقال عقبة: أشهد أن لا اله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فأكل رسول الله من طعامه. وكان أبي بن خلف غائبا فلما قدم أخبر بقضيته، فقال: صبأت يا عقبة. قال: والله ما صبأت ولكن دخل علي رجل فأبي أن يأكل من طعامي حتى أشهد له فاستحييت أن يخرج من بيتي ولم يطعم فشهدت له فطعم، فقال أبي: ما أنا بالذي أرضى عنك أبدا إلا أن تأتيه فتبصق في وجهه، فكفر عقبة وأخذ في امتثال ما امره به أمية بن خلف، فيكون المراد بـ"فلان" الكناية عن أبي بن خلف فخصوصه يقتضي لحاق أمثاله من المشركين الذين أطاعوا أخلتهم في الشرك ولم يتبعوا سبيل الرسول، ولا يخلو أحد من المشركين عن خليل مشرك مثله يصده عن متابعة الإسلام إذا هم بها ويثبته على دين الشرك فيتندم يوم الجزاء على طاعته ويذكره باسمه.
والعض: الشد بالأسنان على الشيء ليؤلمه أو ليمسكه، وحقه التعدية بنفسه إلا أنه كثرت تعديته بـ {عَلَى} لإفادة التمكن من المعضوض إذا قصدوا عضا شديدا كما في هذه الآية.
والعض على اليد كناية عن الندامة لأنهم تعارفوا في بعض أغراض الكلام أن يصحبوها بحركات بالجسد مثل التشذر، وهو رفع اليد عن كلام الغضب قال لبيد:
غلب تشذر بالدخول كأنهم
...
جن البدي رواسيا أقدامها
ومثل وضع اليد على الفم عند التعجب قال تعالى {فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ} [إبراهيم: 9]. ومنه في الندم قرع السن بالأصبع، وعض السبابة، وعض اليد. ويقال: حرق أسنانه وحرق الأرم "بوزن ركع" الأضراس أو أطراف الأصابع، وفي الغيض عض الأنامل قال تعالى {عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ} [آل عمران: 119] في سورة آل عمران، وكانت كنايات بناء على ما يلازمها في العرف من معان نفسية، وأصل نشأتها عن تهيج القوة العصبية من جراء غضب أو تلهف.
والرسول: هو المعهود وهي محمد صلى الله عليه وسلم.

واتخاذ السبيل: أخذه، وأصل الأخذ: التناول باليد، فأطلق هنا على قصد السير فيه قال تعالى {سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ} .
و {مَعَ الرَّسُولِ} أي متابعا للرسول كما يتابع المسافر دليلا يسلك به أحسن الطرق وأفضاها إلى المكان المقصود. وإنما عدل عن الإتيان بفعل الاتباع ونحوه بأن يقال: يا ليتني اتبعت الرسول، إلى هذا التركيب المطنب لأن في هذا التركيب تمثيل هيئة الاقتداء بهيئة مسايرة الدليل تمثيلا محتويا على تشبيه دعوة الرسول بالسبيل، ومتضمنا تشبيه ما يحصل عن سلوك ذلك السبيل من النجاة ببلوغ السائر إلى الموضع المقصود فكان حصول هذه المعاني صائرا بالإطناب إلى إيجاز، وأما لفظ المتابعة فقد شاع إطلاقه على الاقتداء فهو غير مشعر بهذا التمثيل. وعلم أن هذا السبيل سبيل نجاح من تمناه لأن التمني طلب الأمر المحجوب العزيز المنال.
و {يَا لَيْتَنِي} نداء للكلام الدال على التمني بتنزيل الكلمة منزلة العاقل الذي يطلب حضوره لأن الحاجة تدعو إليه في حالة الندامة، كأنه يقول: هذا مقامك فاحضري، على نحو قوله {يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} في [سورة الأنعام: 31]. وهذا النداء يزيد المتمني استبعادا للحصول.
وكذلك قوله {يَا وَيْلَتَا} هو تحسر بطريق نداء الويل. والويل: سوء الحال، والألف عوض عن ياء المتكلم، وهو تعويض مشهور في نداء المضاف إلى ياء المتكلم.
وقد تقدم الكلام على الويل في قوله تعالى {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ} في سورة البقرة. وعلى {يَا وَيْلَتَنَا} في قوله {يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ} في سورة الكهف.
وأتبع التحسر بتمني أن لا يكون اتخذ فلانا خليلا.
وجملة {لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً} بدل من جملة {لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً} بدل اشتمال لأن اتباع سبيل الرسول يشتمل على نبذ خلة الذين يصدون عن سبيله فتمني وقوع أولهما يشتمل على تمني وقوع الثاني.
وجملة {يَا وَيْلَتَا} معترضة بين جملة {لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً} وجملة {لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً} .
و"فلان": اسم يكنى عمن لا يذكر اسمه العلم، كما يكنى بـ"فلانة" عمن لا يراد

ذكر اسمها العلم سواء كان ذلك في الحكاية أم في غيرها. قاله ابن السكيت وابن مالك خلافا لابن السراج وابن الحاجب في اشتراط وقوعه في حكاية بالقول، يعامل "فلان" معاملة العلم المقرون بالنون الزائدة و "فلانة" معاملة العلم المقترن بهاء التأنيث، وقد جمعهما قول الشاعر:
ألا قاتل الله الوشاة وقولهم
...
فلانة أضحت خلة لفلان
أراد نفسه وحبيبته.
وقال المرار العبسي:
وإذا فلان مات عن أكرومة
...
دفعوا معاوز فقده بفلان
أرادا: إذا مات من له اسم منهم أخلفوه بغيره في السؤدد، وكذلك قول معن بن أوس:
وحتى سألت القرض من كل ذي
...
الغنى ورد فلان حاجتي وفلان
قال أبو زيد في "نوادره": أنشدني المفضل لرجل من ضبة هلك منذ أكثر من مائة سنة، أي في أواسط القرن الأول للهجرة:
إن لسعد عندنا ديوانا
...
يخزي فلانا وابنه فلانا
والداعي إلى الكناية بفلان إما قصد إخفاء اسمه خيفة عليه أو خيفة من أهلهم أو للجهل به، أو لعدم الفائدة لذكره، أو لقصد نوع من له اسم علم. وهذان الأخيران هما اللذان يجريان في هذه الآية إن حملت على إرادة خصوص عقبة وأبي أو حملت على إرادة كل مشرك له خليل صده عن اتباع الإسلام.
وإنما تمنى أن لا يكون اتخذه خليلا دون تمني أن يكون عصاه فيما سول له قصدا للاشمئزاز من خلته من أصلها إذ كان الإضلال من أحوالها.
وفيه إيماء إلى أن شان الخلة الثقة بالخليل وحمل مشورته على النصح فلا ينبغي أن يضع المرء خلته إلا حيث يوقن بالسلامة من إشارات السوء قال الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} [آل عمران: 118] فعلى من يريد اصطفاء خليل أن يسير سيرته في خويصته فإنه سيحمل من يخاله عل ما يسير به لنفسه، وقد قال خالد بن زهير وهو ابن أخت أبي ذؤيب الهذلي:

فأول راض سنة من يسيرها
وهذا عندي هو محمل قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلا" فإن مقام النبوءة يستدعي من الأخلاق ما هو فوق مكارم الأخلاق المتعارفة في الناس فلا يليق به إلا متابعة ما لله من الكمالات بقدر الطاقة ولهذا قالت عائشة: كان خلقه القرآن. وعلمنا بهذا أن أبا بكر أفضل الأمة مكارم أخلاق بعد النبي صلى الله عليه وسلم لأن النبي جعله المخير لخلته لو كان متخذا خليلا غير الله.
وجملة {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي} تعليلة لتمنيه أن لا يكون اتخذ فلانا خليلا بأنه قد صدر عن خلته أعظم خسران لخليله إذ أضله عن الحق بعد أن كاد يتمكن منه.
وقوله {أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ} معناه سول لي الانصراف عن الحق. والضلال: إضاعة الطريق وخطؤه بحيث يسلك طريقا غير المقصود فيقع في غير المكان الذي أراده وإنما وقع في أرض العدو أو في مسبعة. ويستعار الضلال للحياد عن الحق والرشد إلى الباطل والسفه كما يستعار ضده وهو الهدى "الذي هو إصابة الطريق" لمعرفة الحق والصواب حتى تساوى المعنيان الحقيقان والمعنيان المجازيان لكثرة الاستعمال، ولذلك سموا الدليل الذي يسلك بالركب الطريق المقصود هاديا.
والإضلال مستعار هنا للصرف عن الحق لمناسبة استعاره السبيل لهدى الرسول وليس مستعملا هنا في المعنى الذي غلب على الباطل بقرينة تعديته بحرف {عَنْ} في قوله {عَنِ الذِّكْرِ} فإنه لو كان الإضلال هو تسويل الضلال لما احتاج إلى تعديته ولكن أريد هنا متابعة التمثيل السابق. ففي قوله {أَضَلَّنِي} مكنية تقتضي تشبيه الذكر بالسبيل الموصول إلى المنجى، وإثبات الإضلال عنه تخييل كإثبات الأظفار للمنية فهذه نكت من بلاغة نظم الآية.
{الذِّكْرِ} : هو القرآن، أي نهاني عن التدبر فيه والاستماع له بعد أن قاربت فهمه.
والمجيء في قوله {إِذْ جَاءَنِي} مستعمل في إسماعه القرآن فكأن القرآن جاء حل عنده. ومنه قولهم: أتاني نبأ كذا، قال النابغة:
أتاني أبيت اللعن أنك لمتني
فإذا حمل الظالم في قوله {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} على معين وهو عقبة بن

أبي معيط فمعنى مجيء الذكر إياه أنه كان يجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويأنس إليه حتى صرفه عن ذلك أبي بن خلف وحمله على عداوته وأذاته، وإذا حمل الظالم على العموم فمجيء الذكر هو شيوع القرآن بينهم، وإمكان استماعهم إياه. وإضلال خلانهم إياهم صرف كل واحد خليله عن ذلك، وتعاون بعضهم على بعض في ذلك.
وقيل {الذِّكْرِ} : كلمة الشهادة، بناء على تخصيص الظالم بعقبة بن أبي معيط كما تقدم، وتأتي في ذلك الوجوه المتقدمة؛ فإن كلمة الشهادة لما كانت سبب النجاة مثلت بسبيل الرسول الهادي، ومثل الصرف عنها بالإضلال عن السبيل.
و {إِذْ} ظرف للزمن الماضي، أي بعد وقت جاءني فيه الذكر، والإتيان بالظرف هنا دون أن يقال: بعد ما جاءني، أو بعد أن جاءني، للإشارة إلى شدة التمكن من الذكر لأنه قد استقر في زمن وتحقق، ومنه قوله تعالى {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ} أي تمكن هديه منهم.
وجملة {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً} تذييل من كلام الله تعالى لا من كلام الظالم تنبيها للناس على أن كل هذا الإضلال من عمل الشيطان فهو الذي يسول لخليل الظالم إضلال خليله لأن الشيطان خذول الإنسان، أي مجبول على شدة خذله.
والخذل: ترك نصر المستنجد مع القدرة على نصره، وقد تقدم عند قوله تعالى {وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ} في [سورة آل عمران: 160].
فإذا أعان على الهزيمة فهو أشد الخذل، وهو المقصود من صيغة المبالغة في وصف الشيطان بخذل الإنسان لأن الشيطان يكيد الإنسان فيورطه في الضر فهو خذول.
[30] {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} .
عطف على أقوال المشركين ومناسبته لقوله {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ} أن الذكر هو القرآن فحكيت شكاية الرسول إلى ربه قومه من نبذهم القرآن بتسويل زعمائهم وسادتهم الذين أضلوهم عن القرآن، أي عن التأمل فيه بعد أن جاءهم وتمكنوا من النظر، وهذا القول واقع في الدنيا والرسول محمد صلى الله عليه وسلم. وهو خبر مستعمل في الشكاية.
والمقصود من حكاية قول الرسول إنذار قريش بان الرسول توجه إلى ربه في هذا الشأن فهو يستنصر به ويوشك أن ينصره، وتأكيده بـ {إِنَّ} للاهتمام به ليكون التشكي

أقوى. والتعبير عن قريش بـ {قَوْمِي} لزيادة التذمر من فعلهم معه لأن شأن قوم الرجل أن يوافقوه.
وفعل الاتخاذ إذا قيد بحالة يفيد شدة اعتناء المتخذ بتلك الحالة بحيث ارتكب الفعل لأجلها وجعله لها قصدا. فهذا أشد مبالغة في هجرهم القرآن من أن يقال: إن قومي هجروا القرآن.
واسم الإشارة في {هَذَا الْقُرْآنُ} لتعظيمه وأن مثله لا يتخذ مهجورا بل هو جدير بالإقبال عليه والانتفاع به.
والمهجور: المتروك والمفارق. والمراد هنا ترك الاعتناء به وسماعه.
[31] {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} .
هذه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم بأن ما لقيه من بعض قومه هو سنة من سنن الأمم مع أنبيائهم. وفيه تنبيه للمشركين ليعرضوا أحوالهم على هذا الحكم التاريخي فيعلموا أن حالهم كحال من كذبوا من قوم نوح وعاد وثمود.
والقول في قوله {وَكَذَلِكَ} تقدم في قوله تعالى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: 143]. والعدو: اسم يقع على المفرد والجمع والمراد هنا الجمع.
ووصف أعداء الأنبياء بأنهم من المجرمين، أي من جملة المجرمين، فإن الإجرام أعم من عداوة الأنبياء وهو أعظمها. وإنما أريد هنا تحقيق انضواء أعداء الأنبياء في زمرة المجرمين، لأن ذلك أبلغ في الوصف من أن يقال: عدوا مجرمين كما تقدم عند قوله تعالى {قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} في [سورة البقرة: 67].
وأعقب التسلية بالوعد بهداية كثير ممن هم يومئذ معرضون عنه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده" وبأنه ينصره على الذين يصرون على عداوته لأن قوله {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} تعريض بأن يفوض الأمر إليه فإنه كاف في الهداية والنصر.
والباء في قوله {بِرَبِّكَ} تأكيد لاتصال الفاعل بالفعل. وأصله: كفى ربك في هذه الحالة.

[32] {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} .
عود إلى معاذيرهم وتعلالاتهم الفاسدة إذ طعنوا في القرآن بأنه نزل منجما وقالوا: لو كان من عند الله لنزل كتابا جملة واحدة. وضمير {قَالَ} ظاهر في أنه عائد إلى المشركين، وهذه جهالة منهم بنسبة كتب الرسل فإنها لم ينزل شيء منها جملة واحدة وإنما كانت وحيا مفرقا؛ فالتوراة التي أنزلت على موسى عليه السلام في الألواح هي عشرة كلمات بمقدار سورة الليل في القرآن، وما كان الإنجيل إلا أقوالا ينطق بها عيسى عليه السلام في الملأ، وكذلك الزبور نزل قطعا كثيرة، فالمشركون نسبوا ذلك أو جهلوا فقالوا: هلا نزل القرآن على محمد جملة واحدة فنعلم أنه رسول الله. وقيل: إن قائل هذا اليهود أو النصارى فإن صح ذلك فهو بهتان منهم لأنهم يعلمون أنه لم تنزل التوراة والإنجيل والزبور إلا مفرقة. فخوض المفسرين في بيان الفرق بين حالة رسولنا من الأمية وحالة الرسل الذين أنزلت عليهم الكتب اشتغال بما لا طائل فيه فإن تلك الكتب لم تنزل أسفارا تامة قط.
و {نُزِّلَ} هنا مرادف انزل وليس فيه إيذان بما يدل عليه التفعيل من التكثير كما تقدم في المقدمة الأولى من مقدمات هذا التفسير بقرينة قولهم {جُمْلَةً وَاحِدَةً} .
وقد جاء قوله {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} ردا على طعنهم فهو كلام مستأنف فيه رد لما أرادوه من قولهم {لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} . وعدل فيه عن خطابهم إلى خطاب الرسول عليه الصلاة والسلام إعلاما له بحكمة تنزيله مفرقا، وفي ضمنه امتنان على الرسول بما فيه تثبيت قلبه والتيسير عليه.
وقوله {كَذَلِكَ} جواب عن قولهم {لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} إشارة إلى الإنزال المفهوم من {لولا نزل عليهم القرآن} وهو حالة إنزال القرآن منجما، أي أنزلناه كذلك الإنزال، أي المنجم، أي كذلك الإنزال الذي جهلوا حكمته، فاسم الإشارة في محل نصب على أنه نائب عن مفعول مطلق جاء بدلا عن الفعل. فالتقدير: أنزلناه إنزالا كذلك الإنزال المنجم. فموقع جملة {كَذَلِكَ} موقع الاستئناف في المحاورة. واللام في {لِنُثَبِّتَ} متعلقة بالفعل المقدر الذي دل عليه {كَذَلِكَ} . والتثبيت: جعل الشيء ثابتا. والثبات: استقرار الشيء في مكانه غير متزلزل قال تعالى {كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ} .

ويستعار الثبات لليقين وللاطمئنان بحصول الخير لصاحبه قال تعالى {لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} ، وهي استعارات شائعة مبنية على تشبيه حصول الاحتمالات في النفس باضطراب الشيء في المكان تشبيه معقول بمحسوس. والفؤاد: هنا العقل. وتثبيته بذلك الإنزال جعله ثابتا في ألفاظه ومعانيه لا يضطرب فيه.
وجاء في بيان حكمة إنزال القرآن منجما بكلمة جامعة وهي {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} لأن تثبيت الفؤاد يقتضي كل ما به خير للنفس، فمنه ما قاله الزمخشري: الحكمة في تفريقه أن نقوي بتفريقه فؤادك حتى تعيه وتحفظه، لأن المتلقن إنما يقوي قلبه على حفظ العلم يلقى إليه إذ ألقي إليه شيئا بعد شيء وجزءا عقب جزء، وما قاله أيضا "أنه كان ينزل على حسب الدواعي والحوادث وجوابات السائلين" اهـ، أي فيكونون أوعى لما ينزل فيه لأنهم بحاجة إلى علمه، فيكثر العمل بما فيه وذلك مما يثبت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم ويشرح صدره.
وما قاله بعد ذلك "إن تنزيله مفرقا وتحديهم بأن يأتوا ببعض تلك التفارق كلما نزل شيء منها، أدخل في الإعجاز وأنور للحجة من أن ينزل كله جملة" اهـ.
ومنه ما قال الجد الوزير رحمه الله: إن القرآن لو لم ينزل منجما على حسب الحوادث لما ظهر في كثير من آياته مطابقتها لمقتضى الحال ومناسبتها للمقام وذلك من تمام إعجازها. وقلت: إن نزوله منجما أعون لحفاظه على فهمه وتدبره.
وقوله {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} عطف على قوله {كَذَلِكَ} ، أنزلناه منجما ورتلناه، والترتيل يوصف به الكلام إذا كان حسن التأليف بين الدلالة. واتفقت أقوال أئمة اللغة على أن هذا الترتيل مأخوذ من قولهم: ثغر مرتل ورتل، وإذا كانت أسنانه مفلجة تشبه نور الأقحوان. ولم يوردوا شاهدا عليه من كلام العرب.
والترتيل يجوز أن يكون حالة لنزول القرآن، أي نزلنا مفرقا منسقا في ألفاظه ومعانيه غير متراكم فهو مفرق في الزمان فإذا كمل إنزال سورة جاءت آياتها مرتبة متناسبة كأنها أنزلت جملة واحدة، ومفرق في التأليف بأنه مفصل واضح. وفي هذا إشارة إلى أن ذلك من دلائل أنه من عند الله لأن شأن كلام الناس إذا فرق تأليفه على أزمنة متباعدة أن يعتوره التفكك وعدم تشابه الجمل.
ويجوز أن يراد بـ {رَتَّلْنَاهُ} أمرنا بترتيله، أي بقراءته مرتلا، أي بتمهل بأن لا يعجل في قراءته بأن تبين جميع الحروف والحركات بمهل، وهو المذكور في سورة المزمل

في قوله تعالى {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} .
و {تَرْتِيلاً} مصدر منصوب على المعفول المطلق قصد به ما في التنكير من معنى التعظيم فصار المصدر مبنيا لنوع الترتيل.
[33] {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} .
لما استقصى أكثر معاذيرهم وتعللاتهم وألقمهم أحجار الرد إلى لهواتهم عطف على ذلك فذلكة جامعة تعم ما تقدم وما عسى أن يأتوا به من الشكوك والتمويه بأن كل ذلك مدحوض بالحجة الواضحة الكاشفة لترهاتهم.
والمثل: المشابه. وفعل الإتيان مجاز في أقوالهم والمحاجة به، وتنكير "مثل" في سياق النفي للتعميم، أي بكل مثل. والمقصود: مثل من نوع ما تقدم من أمثالهم المتقدمة ابتداء من قوله {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} [الفرقان: 4]، {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [النحل: 24] بقرينة سوق هذه الجملة عقب استقصاء شبهتهم، {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ} [الفرقان: 7] {وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً} [الفرقان: 8] {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ} [الفرقان: 21] {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الفرقان: 32]. ودل على إرادة هذا المعنى من قوله {بِمِثْلِ} قوله آنفا {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ} [الفرقان: 9] عقب قوله {وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً} [الفرقان: 8]. وتعدية فعل {يَأْتُونَكَ} إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم لإفادة أن إتيانهم الأمثال يقصدون به أن يفحموه.
والإتيان مستعمل مجازا في الإظهار. والمعنى: لا يأتونك بشبه يشبهون به حالا من أحوالك يبتغون إظهار أن حالك لا يشبه حال رسول من الله إلا أبطلنا تشبيههم وأريناهم أن حالة الرسالة عن الله لا تلازم ما زعموه سواء كان ما أتوا به تشبيها صريحا بأحوال غير الرسل كقولهم {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا} [الفرقان: 5] وقولهم {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان: 7]، وقولهم {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً} [الفرقان: 8] أم كان نفي مشابهة حاله بأحوال الرسل في زعمهم فإن نفي مشابهة الشيء يقتضي إثبات ضده كقولهم {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا} [الفرقان: 21] وكذلك قولهم {لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الفرقان: 32] إذا كانوا قالوه على معنى أنه

مخالف لحال نزول التوراة والإنجيل. فهذا نفي تمثيل حال الرسول صلى الله عليه وسلم بحال الرسل الأسبقين في زعمهم، ويدخل في هذا النوع ما يزعمون أنه تقتضيه النبوءة من المكانة عند الله أن يسأله، فيجاب إليه كقولهم {لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} [الفرقان: 7 - 8].
وصيغة المضارع في قوله {وَلا يَأْتُونَكَ} تشمل ما عسى أن يأتوا به من هذا النوع كقولهم {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً} [الإسراء: 92].
والاستثناء في قوله {إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ} استثناء من أحوال عامة يقتضيها عموم الأمثال لأن عموم الأشخاص يستلزم عموم الأحوال.
وجملة {جِئْنَاكَ} حالية كما تقدم في قوله {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} [الفرقان: 20].
وقوله {جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ} مقابل قوله {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ} وهو مجيء مجازي ومقابلة {جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ} لقوله {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ} إشارة إلى أن ما يأتون به باطل. مثال ذلك أن قولهم {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان: 7] ، أبطله قوله {وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق} [الفرقان: 20].
والتعبير في جانب ما يؤيده الله من الحجة بـ {جِئْنَاكَ} دون: أتيناك، كما عبر عما يجيئون به بـ {يَأْتُونَكَ} ، إما لمجرد التفنن، وإما لأن فعل الإتيان إذا استعمل مجازا كثر فيما يسوء وما يكره، كالوعيد والهجاء قال شقيق بن شريك الأسدي:
أتاني من أبي أنس وعيد
...
فسل لغيظة الضحاك جسمي
وقول النابغة:
أتاني - أبيت اللعن - أنك لمتني
وقوله:
فليأتينك قصائد وليدفعن
...
جيشا إليك قوادم الأكوار
يريد قصائد الهجاء. وقول الملائكة للوط {وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ} [الحجر: 64] أي عذاب قومه ولذلك قالوا له في المجيء الحقيقي {قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ} . وتقدم في

سورة الحجر، وقال الله تعالى {أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً} [يونس: 24] {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1 ]{فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} [الحشر: 2]. بخلاف فعل المجيء إذا استعمل في مجازه فأكثر ما يستعمل في وصول الخير والوعد والنصر والشيء العظيم، قال تعالى {قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ} {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [الفجر: 22] {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} [النصر: 1]، وفي حديث الإسراء: ..مرحبا به ونعم المجيء جاء ، {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} [الإسراء: 81]، وقد يكون متعلق الفعل ذا وجهين باختلاف الاعتبار فيطلق كلا الفعلين نحو {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ} [هود: 40]، فإن الأمر هنا منظور فيه إلى كونه تأييدا نافعا لنوح.
والتفسير: البيان والكشف عن المعنى، وقد تقدم ما يتعلق به مفصلا في المقدمة الأولى من مقدمات هذا الكتاب، والمراد هنا كشف الحجة والدليل.
ومعنى كونه {أَحْسَنُ} ، أنه أحق في الاستدلال، فالتفضيل للمبالغة إذ ليس في حجتهم حسن أو يراد بالحسن ما يبدو من بهرجة سفسطتهم وشبههم فيجيء الكشف عن الحق أحسن وقعا في نفوس السامعين من مغالطاتهم، فيكون التفضيل بهذا الوجه على حقيقته فهذه نكتة من دقائق الاستعمال ودقائق التنزيل.
[34] {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً} .
استئناف ابتدائي لتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم، ولوعيد المشركين وذمهم.
والموصول واقع موقع الضمير كأنه قيل: هم يحشرون على وجوههم، فيكون الضمير عائدا إلى الذين كفروا من قوله {لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} إظهار في مقام الإضمار لتحصيل فائدة أن أصحاب الضمير ثبت لهم مضمون الصلة، وليبني على الصلة موقع اسم الإشارة، ومقتضى ظاهر النظم أن يقال: ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا هم شر مكانا وأضل سبيلا ونحشرهم على وجوههم إلى جهنم، كما قال في سورة [الإسراء: 97] {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} عقب قوله {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً} [الإسراء: 94] ويعلم من السياق بطريق التعريض أن الذين يحشرون على وجوههم هم الذين يأتون بالأمثال تكذيبا للنبي صلى الله عليه وسلم. وإذ كان قصدهم مما يأتون به من

الأمثال تنقيص شأن النبي ذكروا بأنهم أهل شر المكان وضلال السبيل دون النبي صلى الله عليه وسلم. فالموصول مبتدأ واسم الإشارة خبر عنه.
وقد تقدم معنى {يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ} في سورة [الإسراء: 97]عند قوله {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} . وتقدم ذكر الحديث في السؤال عن كيف يمشون على وجوههم.
وشر: اسم تفضيل. وأصله أشر وصيغتا التفضيل في قوله {شَرٌّ، وَأَضَلُّ} مستعملتان للمبالغة في الاتصاف بالشر والضلال كقوله {قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَاناً} [يوسف: 77] في جواب قوله اخوة يوسف {إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} [يوسف: 77].
وتعريف جزأي الجملة يفيد القصر وهو قصر للمبالغة بتنزيلهم منزلة من انحصر الشر والضلال فيهم. وروي عن مقاتل أن الكفار قالوا للمسلمين: هم شر الخلق فنزلت هذه الآية فيكون القصر قصر قلب، أي هم شر مكانا وأضل سبيلا لا المسلمون، وصيغتا التفضيل مسلوبتا المفاضلة على كلا الوجهين.
والمكان: المقر. والسبيل: الطريق، مكانهم جهنم، وطريقهم الطريق الموصول إليها وهو الذي يحشرون فيه على وجوههم.
والإتيان باسم الإشارة عقب ما تقدم للتنبيه على أن المشار إليهم أحرياء بالمكان الأشر والسبيل الأضل، لأجل ما سبق من أحوالهم التي منها قولهم {لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الفرقان: 32].
و {سبيلا} تمييز محول عن الفاعل، فأصله: وضل سبيلهم. وإسناد الضلال إلى السبيل في التركيب المحول عنه مجاز عقلي لأن السبيل سبب ضلالهم.
[35 - 36] {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيراً فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً} .
لما جرى الوعيد والتسلية بذكر حال المكذبين للرسول عليه الصلاة والسلام عطف على ذلك تمثيلهم بالأمم المكذبين رسلهم ليحصل من ذلك موعظة هؤلاء وزيادة تسلية الرسول والتعريض بوعده بالانتصار له.
وابتدئ بذكر موسى وقومه لأنه أقرب زمنا من الذين ذكروا بعده ولأن بقايا شرعه

وأمته لم تزل معروفة عند العرب فإن صح ما روي أن الذين قالوا: {لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الفرقان: 32] اليهود فوجه الابتداء بذكر ما أوتى موسى أظهر.
وحرف التحقيق ولام القسم لتأكيد الخبر باعتبار ما يشتمل عليه من الوعيد بتدميرهم. وأريد بالكتاب الوحي الذي يكتب ويحفظ وذلك من أول ما ابتدئ بوحيه إليه، وليس المراد بالكتاب الألواح لأن إيتاءه الألواح كان بعد زمن قوله {اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ} ، فقوله {فَقُلْنَا اذْهَبَا} مفرع عن إيتاء الكتاب فالإيتاء متقدم عليه.
وفي وصف الوحي بالكتاب تعريض بجهالة المشركين القائلين {لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} ، فإن الكتب التي أوتيها الرسل ما كانت إلا وحيا نزل منجما فجمعه الرسل وكتبه أتباعهم.
والتعريض هنا إلى تأييد موسى بهارون وتعريض بالرد على المشركين إذ قالوا {لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ َيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً} [الفرقان: 32] فإن موسى لما اقتضت الحكمة تأييده لم يؤيد بملك ولكنه أيد برسول مثله.
والوزير: المؤازر وهو المعاون المظاهر، مشتق من الأزر وهو القوة. وأصل الأزر: شد الظهر بإزار عند الإقبال على عمل ذي تعب، وقد تقدم في سورة طه. وكان هارون رسولا ثانيا وموسى هو الأصل. والقوم هم قبط مصر قوم فرعون.
و {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا} وصف للقوم وليس هو من المقول لموسى وهارون لأن التكذيب حينئذ لما يقع منهم، ولكنه وصف لإفادة قراء القرآن أن موسى وهارون بلغا الرسالة وأظهر الله منها الآيات فكذب بها قوم فرعون فاستحقوا التدمير تعريضا بالمشركين في تكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم، وتمهيدا للتفريع بـ {دمرناهم تدميرا} الذي هو المقصود من الموعظة والتسلية.
والموصول في قوله {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا} للإيماء إلى علة الخبر عنهم بالتدمير.
وقد حصل بهذا النظم إيجاز عجيب اختصرت به القصة فذكر منها حاشيتاها: أولها وآخرها لأنهما المقصود بالقصة وهو استحقاق الأمم التدمير بتكذيبهم رسلهم.
والتدمير: الإهلاك، والهلاك: دمور.
وإتباع الفعل بالمفعول المطلق لما في تنكير المصدر من تعظيم التدمير وهو الإغراق

في اليم.
[37] {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَاباً أَلِيماً} .
عطف على جملة {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} [الفرقان: 35] باعتبار أن المقصود وصف قومه بالتكذيب والإخبار بالتدمير.
وانتصب {قَوْمَ نُوحٍ} بفعل محذوف يفسره {أَغْرَقْنَاهُمْ} على طريقة الاشتغال. ولا يضر الفصل بكلمة {لَمَّا} لأنها كالظرف، وجوابها محذوف دل عليه مفسر الفعل المحذوف. وفي هذا النظم اهتمام بقوم نوح لأن حالهم هو محل العبرة فقدم ذكرهم ثم أكد بضميرهم.
ويجوز أن يكون {قَوْمَ نُوحٍ} عطفا على ضمير النصب في قوله {فَدَمَّرْنَاهُمْ} أي ودمرنا قوم نوح، وتكون جملة {لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ} مبينة لجملة {دَمَّرْنَاهُمْ} .
والآية: الدليل، أي جعلناهم دليلا على مصير الذين يكذبون رسلهم. وجعلهم آية: هو تواتر خبرهم بالغرق آية.
وجعل قوم نوح مكذبين الرسل مع أنهم كذبوا رسولا واحدا لأنهم استندوا في تكذيبهم رسولهم إلى إحالة أن يرسل الله بشرا لأنهم قالوا {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} فكان تكذيبهم مستلزما تكذيب عموم الرسل ولأنهم أول من كذب رسولهم، فكانوا قدوة للمكذبين من بعدهم وقصة قوم نوح تقدمت في سورة الأعراف وسورة هود.
وجملة {وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَاباً أَلِيماً} عطف على {أَغْرَقْنَاهُمْ} . والمعنى: عذبناهم في الدنيا بالغرق وأعتدنا لهم عذابا أليما في الآخرة. ووقع الإظهار في مقام الإضمار فقيل {لِلظَّالِمِينَ} عوضا عن: أعتدنا لهم، لإفادة أن عذابهم جزاء على ظلمهم بالشرك وتكذيب الرسول.
[38 - 39] {وَعَاداً وَثَمُودَا وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً وَكُلّاً ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلّاً تَبَّرْنَا تَتْبِيراً} .

انتصبت الأسماء الأربعة بفعل محذوف دل عليه {تَبَّرْنَا} . وفي تقديمها تشويق إلى معرفة ما سيخبر به عنها. ويجوز أن تكون هذه الأسماء منصوبة بالعطف على ضمير النصب من قوله {فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً} [الفرقان: 36].
وتنوين {وَعَاداً وَثَمُودَا} مع أن المراد الامتنان. فأما تنوين {عَاداً} فهو وجه وجيه لأنه اسم عري عن علامة التأنيث وغير زائد على ثلاثة أحرف فحقه الصرف. وأما صرف {ثَمُودَا} في قراءة الجمهور فعلى اعتبار اسم الأب، والأظهر عندي أن تنوينه للمزاوجة مع {عَاداً} كما قال تعالى {سَلاسِلا وَأَغْلالاً وَسَعِيراً} [الإنسان: 4].
وقرأه حمزة وحفص ويعقوب بغير تنوين على ما يقتضيه ظاهر اسم الأمة من التأنيث المعنوي. وتقدم ذكر عاد في سورة الأعراف.
وأما أصحاب الرس فقد اختلف المفسرون في تعيينهم واتفقوا على أن الرس بئر عظيمة أو حفير كبير. ولما كان اسما لنوع من أماكن الأرض أطلقه العرب على أماكن كثيرة في بلاد العرب.
قال زهير:
بكرن بكورا واستحرن بسحرة
...
فهن ووادي الرس كاليد للفم
وسموا بالرس ما عرفوه من بلاد فارس، وإضافة {أَصْحَابُ} إلى {الرَّسِّ} إما لأنهم أصابهم الخسف في رس، وإما لأنهم نازلون على رس، وإما لأنهم احتفروا رسا، كما سمي أصحاب الأخدود الذين خدوه وأضرموه. والأكثر على أنه من بلاد اليمامة ويسمى "فلجاً"1.
واختلف في المعنى من {أَصْحَابُ الرَّسِّ} في هذه الآية فقيل هم قوم من بقايا ثمود. وقال السهيلي: هم قوم كانوا في عدن أرسل إليهم حنظلة بن صفوان رسولا. وكانت العنقاء هي طائر أعظم ما يكون من الطير "سميت العنقاء لطول عنقها" وكانت تسكن في جبل يقال له "فتح"2، وكانت تنقض على صبيانهم فتخطفهم إن أعوزها الصيد
ـــــــ
1 فَلج بفتحتين. وقال ياقوت: بفتح فسكون اسم بلد، ويقال: بطن فَلج من همى ضريَّة.
2 وهو أول الدهناء بفاء أخت القاف ومثناة فوقية بعدها معجمة، وقيل حاء معملة: جبل أو قرية لأهل الرسّ لم يذكره ياقوت، وذكر فِتاح وقال: جمع فتح وقال: أرض بالدهناء ذات رمال.

فدعا عليها حنظلة فأهلكها الله بالصواعق. وقد عبدوا الأصنام وقتلوا نبيهم فأهلكهم الله. قال وهب بن منبه: خسف بهم وبديارهم. وقيل: هم قوم شعيب. وقيل: قوم كانوا مع قوم شعيب، وقال مقاتل والسدي: الرس بئر بإنطاكية، وأصحاب الرس أهل إنطاكية بعث إليهم حبيب النجار فقتلوه ورسوه في بئر وهو المذكور في سورة [يس: 20] {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} الآيات. وقيل: الرس واد في "أذربيجان" في "أران" يخرج من "قاليقلا" ويصب في بحيرة "جرجان" ولا أحسب أنه المراد في هذه الآية. ولعله من تشابه الأسماء يقال: كانت عليه ألف مدينة هلكت بالخسف وقيل غير ذلك مما هو أبعد.
والقرون : الأمم فإن القرن يطلق على الأمة، وقد تقدم عند قوله تعالى {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ} في أول [الأنعام: 6]. وفي الحديث: "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم" الحديث.
والإشارة في قوله {بَيْنَ ذَلِكَ} إلى المذكور من الأمم. ومعنى {بَيْنَ ذَلِكَ} أن أمما تخللت تلك الأقوام ابتداء من قوم نوح.
وفي هذه الآية إيذان بطول مدد هذه القرون وكثرتها.
والتنوين في {كُلّاً} تنوين عوض عن المضاف إليه. والتقدير: وكلهم ضربنا له الأمثال. وانتصب {كُلّاً} الأول بإضمار فعل يدل عليه {ضَرَبْنَا لَهُ} تقديره: خاطبنا أو حذرنا كلا وضربنا له الأمثال، وانتصب {كُلّاً} الثاني بإضمار فعل يدل عليه {تَبَّرْنَا} وكلاهما من قبيل الاشتغال.
والتتبير: التفتيت للأجسام الصلبة كالزجاج والحديد. وأطلق التتبير على الإهلاك على طريقة الاستعارة تبعية في {تَبَّرْنَا} وأصلية في {تَتْبِيراً} ، وتقدم في قوله تعالى {إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ} في سورة [الأعراف: 139]، وقوله {وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً} في سورة [الإسراء: 7]. وانتصب {تَتْبِيراً} على أنه مفعول مطلق مؤكد لعامله لإفادة شدة هذا الإهلاك.
ومعنى ضرب الأمثال: قولها وتبيينها. وتقدم عند قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا} في سورة [البقرة: 26].
والمثل: النظير والمشابه، أي بينا لهم الأشباه والنظائر في الخير والشر ليعرضوا

حال أنفسهم عليها. قال تعالى {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ} [إبراهيم: 45].
[40] {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً} .
لما كان سوق خبر قوم نوح وعاد وثمود وأصحاب الرس وما بينهما من القرون مقصودا لاعتبار قريش بمصائرهم نقل نظم الكلام هنا إلى إضاعتهم الاعتبار بذلك وبما هو أظهر منه لأنظارهم، وهو آثار العذاب الذي نزل بقرية قوم لوط.
واقتران الخبر بلام القسم لإفادة معنى التعجيب من عدم اعتبارهم كما تقدم في قوله {لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ} [الفرقان: 21]. وكانت قريش يمرون بديار قوم لوط في أسفارهم للتجارة إلى الشام فكانت ديارهم يمر بها طريقهم قال تعالى {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الصافات: 137 - 138]. وكان طريق تجارتهم من مكة على المدينة ويدخلون أرض فلسطين فيمرون حذو بحيرة لوط التي على شافتها بقايا مدينة "سدوم" ومعظمها غمرها الماء. وتقدم ذكر ذلك عند قوله تعالى {وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} في سورة [الحجر: 79].
والإتيان: المجيء. وتعديته بـ {عَلَى} لتضمينه معنى: مروا، لأن المقصود من التذكير بمجيء القرية التذكير بمصير أهلها فكأن مجيئهم إياها مرور بأهلها، فضمن المجيء بمعنى المرور لأنه يشبه المرور فإن المرور يتعلق بالسكان والمجيء يتعلق بالمكان فيقال: جئنا خراسان، ولا يقال: مررنا بخراسان. وقال تعالى {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الصافات: 137 - 138].
ووصف القرية بـ {الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ} لأنها اشتهرت بمضمون الصلة بين العرب أهل الكتاب. وهذه القرية هي المسماة "سدوم" بفتح السين وتخفيف الدال وكانت لقوم لوط قرى خمس أعظمها "سدوم". وتقدم ذكرها عند قوله تعالى {ولوطا إذ قال لقومه} في سورة [الأعراف: 80].
و {مَطَرَ السَّوْءِ} هو عذاب نزل عليهم من السماء وهو حجارة من كبريت ورماد، وتسميته مطرا على طريقة التشبيه لأن حقيقة المطر ماء السماء.

والسوء بفتح السين: الضر والعذاب، وأما بضم السين فهو ما يسوء. والفتح هو الأصل في مصدر ساءه؛ وأما السوء بالضم فهو اسم مصدر، فغلب استعمال المصدر في الذي يسوء بضر، واستعمال اسم المصدر في ضد الإحسان.
وتفرع على تحقيق إتيانهم على القرية مع عدم انتفاعهم به استفهام صوري عن انتفاء رؤيتهم إياها حينما يأتون عليها، لأنهم لما لم يتعظوا بها كانوا بحال من يسأل عنهم: هل رأوها، فكان الاستفهام لإيقاظ العقول للبحث عن حالهم. وهو استفهام إما مستعمل في الإنكار والتهديد، وإما مستعمل في الإيقاظ سبب عدم اتعاظهم.
وقوله {بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً} يجوز أن يكون {بَلْ} للإضراب الانتقالي انتقالا من وصف تكذيبهم بالنبي صلى الله عله وسلم وعدم اتعاظهم بما حل بالمكذبين من الأمم إلى ذكر تكذيبهم بالبعث، فيكون انتهاء الكلام عند قوله {أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا} وهو الذي يجري على الوجه الأول في الاستفهام. وعبر عن إنكارهم البعث بعدم رجائه لأن منكر البعث لا يرجو منه نفعا ولا يخشى منه ضرا، فعبر عن إنكار البعث بأحد شقي الإنكار تعريضا بأنهم ليسوا مثل المؤمنين يرجون رحمة الله .
والنشور: مصدر نشر الميت أحياه، فنشر، أي حيي. وهو من الألفاظ التي جرت في كلام العرب على معنى التخيل لأنهم لا يعتقدونه، ويروي للمهلهل في قتاله لبني بكر بن وائل الذي قتلوا أخاه كليبا قوله:
يا لبكر انشروا لي كليبا
...
يا لبكر أين أين الفرار
فإذا صحت نسبة البيت إليه كان مراده من ذلك تعجيزهم ليتوسل إلى قتالهم.
والمعنى: أنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث فلم يكن لهم استعداد للاعتبار، لأن الاعتبار ينشأ عن المراقبة ومحاسبة النفس لطلب النجاة، وهؤلاء المشركون لما نشأوا على إهمال الاستعداد لما بعد الموت قصرت أفهامهم على هذا العالم العاجل فلم يعنوا إلا بأسباب وسائل العاجلة، فهم مع زكانتهم في تفرس الذوات والشيات ومراقبة سير النجوم وأنواء المطر والريح ورائحة أتربة منازل الأحياء، هم مع ذلك كله معرضون بأنظارهم عن توسم الالهيات وحياة الأنفس ونحو ذلك. وأصل ذلك الضلال كله انجر لهم من إنكار البعث فلذلك جعل هنا علة لانتفاء اعتبارهم بمصير أمة كذبت رسولها وعصت ربها. وفي هذا المعنى جاء قوله تعالى {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} أي دون من لا

يتوسمون.
[41 - 42] {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً} .
كان ما تقدمت حكايته من صنوف أذاهم الرسول عليه الصلاة والسلام أقوالا في مغيبه، فعطف عليها في هذه الآية أذى خاص وهو الأذى حين يرونه. وهذا صنف من الأذى تبعثهم إليه مشاهدة الرسول في غير زي الكبراء والمترفين لا يجر المطارف ولا يركب النجائب ولا يمشي مرحا ولا ينظر خيلاء ويجالس الصالحين ويعرض عن المشركين، ويرفق بالضعفاء ويواصل الفقراء، وأولئك يستخفون بالخلق الحسن، لما غلب على آرائهم من أفن، لذلك لم يخل حاله عندهم من الاستهزاء به إذا رأوه بأن حاله ليست حال من يختاره الله لرسالته دونهم، ولا هو أهل لقيادتهم وسياستهم. وهذا الكلام صدر من أبي جهل وأهل ناديه.
و {إِذَا} ظرف زمان مضمن معنى الشرط فلذلك يجعل متعلقه جوابا له. بجملة {إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً} جواب {إِذَا} . والهزؤ بضمتين: مصدر هزأ به. وتقدم في قوله {إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً} في سورة [البقرة: 67]. والوصف للمبالغة في استهزائهم به حتى كأنه نفس الهزؤ لأنهم محضوه لذلك، وإسناد {يَتَّخِذُونَكَ} إلى ضمير الجمع للدلالة على أن جماعاتهم يستهزئون به إذا رأوه وهم في مجالسهم ومنتدياتهم. وصيغة الحصر للتشنيع عليهم بأنهم انحصر اتخاذهم إياه في الاستهزاء به يلازمونه ويدأبون عليه ولا يخلطون معه شيئا من تذكر أقواله ودعوته، فالاستثناء من عموم الأحوال المنفية، أي لا يتخذونك في حالة إلا في حالة الاستهزاء.
وجملة {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً} بيان لجملة {إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً} لأن الاستهزاء من قبيل القول فكان بيانه بما هو من أقوالهم ومجاذبتهم الأحاديث بينهم.
والاستفهام إنكار لأن يكون بعثه الله رسولا.
واسم الإشارة مستعمل في الاستصغار كما علمت في أول تفسير هذه الآية.
والمعنى: إنكار أن يكون المشار إليه رسولا لأن في الإشارة إليه ما يكفي للقطع

بانتفاء أنه رسول الله في زعمهم، وقد تقدم قريب من هذه الجملة في قوله تعالى {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} في سورة [الأنبياء: 36]، سوى أن الاستفهام هنالك تعجبي فأنظره.
أما قولهم {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا} فالمقصود منه تفاخرهم بتصلبهم في دينهم وأنهم كادوا أن يتبعوا دعوة الرسول بما يلقيه إليهم من الإقناع والإلحاح فكان تأثر أسماعهم بأقواله يوشك بهم ان يرفضوا عبادة الأصنام لو لا أنهم تريثوا، فكان في الريث أن أفاقوا من غشاوة أقواله وخلابة استدلاله واستبصروا مرآة فانجلى لهم أنه لا يستأهل أن يكون مبعوثا من عند الله، فقد جمعوا من كلامهم بين تزييف حجته وتنويه ثباتهم في مقام يستفز غير الراسخين في الكفر. وهذا الكلام مشوب بفساد الوضع ومؤلف على طرائق الدهماء إذ يتكلمون كما يشتهون ويستبلهون السامعين. ومن خلابة المغالطة إسنادهم مقاربة الإضلال إلى الرسول دون أنفسهم ترفعا على أن يكونوا قاربوا الضلال عن آلهتهم مع أن مقاربته إضلالهم تستلزم اقترابهم من الضلال.
و {إِنْ} مخففة من {إنّ} المشددة، والأكثر في الكلام إهمالهم، أي ترك عملها نصب الاسم ورفع الخبر، والجملة التي تليها يلزم أن تكون مفتتحة بفعل من أخوات كان أو أخوات ظن وهذا من غرائب الاستعمال. ولو ذهبنا إلى أن اسمها ضمير شأن وأن الجملة التي بعدها خبر عن ضمير الشأن كما ذهبوا إليه في {أن} المفتوحة الهمزة إذا خففت لما كان ذلك بعيدا. وفي كلام صاحب "الكشاف" ما يشهد له في تفسير قوله تعالى {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} في سورة [آل عمران: 164]والجملة بعدها مستأنفة، واللام في قوله {ليضلنا} هي الفارقة بين {إن} المخففة وبين {إن} النافية.
والصبر: الاستمرار على ما يشق عمله على النفس. ويعدي فعله بحرف "على" لما يقتضيه من التمكن من الشيء المستمر عليه.
و {لَوْلا} حرف امتناع لوجود، أي امتناع وقوع جوابها لأجل وجود شرطها فتقتضي جوابا لشرطها، والجواب هنا محذوف لدلالة ما قبل {لَوْلا} عليه، وهو {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا} . وفائدة نسبح الكلام على هذا المنوال دون أن يؤتي بأداة الشرط ابتداء متلوة بجوابها قصد العناية بالخبر ابتداء بأنه حاصل ثم يوتى بالشرط بعده تقييدا لإطلاق الخبر فالصناعة النحوية تعتبر المقدم دليل الجواب، والجواب محذوفا لأن نظر النحوي لإقامة أصل التركيب؛ فأما أهل البلاغة فيعتبرون ذلك للاهتمام وتقييد الخبر بعد إطلاقه، ولذا

قال في الكشاف: " {لَوْلا} في مثل هذا الكلام جار مجرى التقييد للحكم المطلق من حيث المعنى لا من حيث الصنعة" فهذا شأن الشروط الواقعة بعد كلام مقصود لذاته كقوله تعالى {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} إلى قوله {إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي} فإن قوله {كُنْتُمْ} قيد في المعنى للنهي عن موالاة أعداء الله. وتأخير الشرط ليظهر أنه قيد للفعل الذي هو دليل الجواب. قال في الكشاف " {إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ} متعلق بـ {لا تَتَّخِذُوا} يعني: لا تتولوا إن كنتم أوليائي. وقول النحويين في مثله هو شرط جوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه" اهـ. وكذلك ما قدم فيه على الشرط ما حقه أن يكون جوابا للشرط تقديما لقصد الاهتمام بالجواب كقوله تعالى {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .
{وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا} .
هذا جواب قولهم {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا} المتضمن أنهم على هدى في دينهم، وكان الجواب بقطع مجادلتهم وإحالتهم على حين رؤيتهم العذاب ينزل بهم، فتضمن ذلك وعيدا بعذاب. والأظهر أن المراد عذاب السيف النازل بهم يوم بدر، وممن رآه أبو جهل سيد أهل الوادي، وزعيم القالة في ذلك النادي.
ولما كان الجواب بالإعراض عن المحاجة ارتكب فيه أسلوب التهكم بجعل ما ينكشف عنه المستقبل هو معرفة من هو أشد ضلال من الفريقين على طريقة المجاراة وإرخاء العنان للمخطئ إلى أن يقف على خطئه وقد قال أبو جهل يوم بدر وهو مثخن بالجراح في حالة النزع لما قال له عبد الله بن مسعود: أنت أبو جهل? فقال "وهل أعمد من رجل قتله قومه".
و {مَنْ} الاستفهامية أوجبت تعليق فعل {يَعْلَمُونَ} عن العمل.
[43] {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} .
استئناف خوطب به الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يخطر بنفسه من الحزن على تكرر إعراضهم عن دعوته إذ كان حريصا على هداهم والإلحاح في دعوتهم، فأعلمه بأن مثلهم لا يرجى اهتداؤه لأنهم جعلوا هواهم إلههم، فالخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم.
وفعل {اتَّخَذَ} يتعدى إلى مفعولين وهو من أفعال التصيير الملحقة بأفعال الظن في

العمل، وهو إلى باب كسا وأعطى أقرب منه إلى باب ظن، فإن {اتَّخَذَ} معناه صير شيئا إلى حالة غير ما كان عليه أو إلى صورة أخرى. والأصل فيه أن مفعوله الأول هو الذي أدخل عليه التغيير إلى حال المفعول الثاني فكان الحق أن لا يقدم مفعوله الثاني على مفعوله الأول إلا إذا لم يكن في الكلام لبس يلتبس فيه المعنى فلا يدري أي المفعولين وقع تغييره إلى مدلول المفعول الآخر، أو كان المعنى الحاصل من التقديم مساويا للمعنى الحاصل من الترتيب في كونه مرادا للمتكلم.
فقوله تعالى {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} إذا أجري على الترتيب كان معناه جعل إلهه الشيء الذي يهوى عبادته، أي ما يحب أن يكون إلها له، أي لمجرد الشهوة لا لأن إلهه مستحق للإلهية، فالمعنى: من اتخذ ربا له محبوبه فإن الذين عبدوا الأصنام كانت شهوتهم في أن يعبدوها وليست لهم حجة على استحقاقها العبادة. فإطلاق {إِلَهَهُ} على هذا الوجه إطلاق حقيقي. وهذا يناسب قوله قبله {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا} [الفرقان: 42]، ومعناه منقول عن سعيد بن جبير. واختاره ابن عرفة في تفسيره وجزم بأنه الصواب دون غيره وليس جزمه بذلك بوجيه وقد بحث معه بعض طلبته.
وإذا أجري على اعتبار تقديم المفعول الثاني كان المعنى: من اتخذ هواه قدوة له في أعماله لا يأتي عملا إلا إذا كان وفاقا لشهوته فكأن هواه إلهه. وعلى هذا يكون معنى {إِلَهَهُ} شبيها بإلهه في إطاعته على طريقة التشبيه البليغ.
وهذا المعنى أشمل في الذم لأنه يشمل عبادتهم الأصنام ويشمل غير ذلك من المنكرات والفواحش من أفعالهم. ونحا إليه ابن عباس، وإلى هذا المعنى ذهب صاحب الكشاف وابن عطية. وكلا المعنيين ينبغي أن يكون محملا للآية.
واعلم أنه كان مجموع جملتي {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} كلاما واحدا متصلا ثانيه بأوله اتصال المفعول بعامله، تعين فعل "أرأيت" لأن يكون فعلا قلبيا بمعنى العلم وكان الاستفهام الذي في الجملة الأولى بقوله {أَرَأَيْتَ} إنكاريا كالثاني في قوله {أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} وكان مجموع الجملتين كلاما على طريقة الإجمال ثم التفصيل. والمعنى: أرأيتك تكون وكيلا على من اتخذ إلهه هواه، وتكون الفاء في قوله {أَفَأَنْتَ} فاء الجواب للموصول لمعاملته معاملة الشرط، وهمزة الاستفهام الثانية تأكيد للاستفهام الأول كقوله {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} على قراءة إعادة همز الاستفهام، وتكون جملة {أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً}

عوضا عن المفعول الثاني لفعل {أَرَأَيْتَ} ، والفعل معلق عن العمل فيه بسبب الاستفهام عن نحو قوله تعالى {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} [الزمر: 19] وعليه لا يوقف على قوله {هَوَاهُ} بل يوصل الكلام. وهذا النظم هو الذي مشى عليه كلام "الكشاف".
وإن كانت كل جملة من الجملتين مستقلة عن الأخرى في نظم الكلام كان الاستفهام الذي في الجملة الأولى مستعملا في التعجيب من حال الذين اتخذوا إلههم هواهم تعجيبا مشوبا بالإنكار، وكانت الفاء في الجملة الثانية للتفريع على ذلك التعجيب والإنكار، وكان الاستفهام الذي في الجملة الثانية من قوله {أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} إنكاريا بمعنى: إنك لا تستطيع قلعه عن ضلاله كما أشار إليه قوله قبله {مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان: 42].
و {من} صادقة على الجمع المتحدث عنه في قوله {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} [الفرقان: 42]، وروعي في ضمائر الصلة لفظ {من} فأفردت الضمائر. والمعنى: من اتخذوا هواهم إلها لهم أو من اتخذوا آلهة لأجل هواهم.
و"إله" جنس يصدق بعدة آلهة إن أريد معنى اتخذوا آلهة لأجل هواهم. وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في قوله {أَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} للتقوي إشارة إلى إنكار ما حمل الرسول عليه الصلاة والسلام نفسه من الحرص والحزن في طلب إقلاعهم عن الهوى كقوله تعالى {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99]. والمعنى: تكون وكيلا عليه في حال إيمانه بحيث لا تفارق إعادة دعوته إلى الإيمان حتى تلجئه إليه.
[44] {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} .
انتقال عن التأييس من اهتادئهم لغلبة الهوى على عقولهم إلى التحذير من أن يظن بهم إدراك الدلائل والحجج، وهذا توجيه ثان للإعراض عن مجادلتهم التي أنبأ عنها قوله تعالى {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان: 42]، فـ {أَمْ} منقطعة للإضراب الانتقالي من إنكار على إنكار وهي مؤذنة باستفهام عطفته على الاستفهام الذي قبلها. والتقدير: أم أتحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون.
والمراد من نفي {أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ} نفي أثر السماع وهو فهم الحق لأن ما يلقيه الرسول صلى الله عليه وسلم لا يرتاب فيه إلا من هو كالذي لم يسمعه. وهذا كقوله تعالى {وَلا

تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} .
وعطف {أَوْ يَعْقِلُونَ} على {يَسْمَعُونَ} لنفي أن يكونوا يعقلون الدلائل غير المقالية وهي دلائل الكائنات قال تعالى {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} .
وإنما نفي فهم الأدلة السمعية والعقلية عن أكثرهم دون جميعهم، لأن هذا حال دهمائهم ومقلديهم، وفيهم معشر عقلاء يفهمون ويستدلون بالكائنات ولكنهم غلب عليهم حب الرئاسة وأنفوا من ان يعودوا أتباعا للنبي صلى الله عليه وسلم ومساوين للمؤمنين من ضعفاء قريش وعبيدهم مثل عمار، وبلال.
وجملة {إِنْ هُمْ إِلَّا 74كَالْأَنْعَامِ} مستأنفة استئنافا بيانيا لأن ما تقدم إنكار أنهم يسمعون يثير في نفس السامعين سؤالا عن نفي فهمهم لما يسمعون مع سلامة حواس السمع منهم، فكان تشبيههم بالأنعام تبيينا للجمع بين حصول اختراق أصوات الدعوى آذانهم مع عدم انتفاعهم بها لعدم تهيئهم للاهتمام بها، فالغرض من التشبيه التقريب والإمكان كقول أبي الطيب:
فإن تفق الأنام وأنت منهم
...
فإن المسك بعض دم الغزال
وضمائر الجمع عائدة إلى أكثرهم باعتبار معنى لفظه كما عاد عليه ضمير {يَسْمَعُونَ} .
وانتقل في صفة حالهم إلى ما هو أشد من حال الأنعام بأنهم أضل سبيلا من الأنعام. وضلال السبيل عدم الاهتداء للمقصود لأن الأنعام تفقه بعض ما تسمعه من أصوات الزجر ونحوها من رعاتها وسائقيها وهؤلاء لا يفقهون شيئا من أصوات مرشدهم وسائسهم وهو الرسول عليه الصلاة والسلام. وهذا كقوله تعالى {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ} [البقرة: 74] الآية.
[45 - 46] {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً} .
استئناف ابتدائي فيه انتقال من إثبات صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وإثبات ان القرآن من عند الله أنزله على رسوله، وصفات الرسل وما تخلل ذلك من الوعيد وهو من هذا الاعتبار

متصل بقوله {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الفرقان: 32] الآية.
وفيه انتقال إلى الاستدلال على بطلان شركهم وإثبات الوحدانية لله وهو من هذه الجهة متصل بقوله في أول السورة {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً} [الفرقان: 3] الآية.
وتوجيه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقتضي أن الكلام متصل بنظيره من قوله تعالى {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الفرقان: 20]. وما عطف عليه {قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ} {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً} [الفرقان: 31] فكلها مخاطبات للنبي صلى الله عليه وسلم. وقد جعل مد الظل وقبضه تمثيلا لحكمه التدريج في التكوينات الإلهية والعدول بها عن الطفرة في الإيجاد ليكون هذا التمثيل بمنزلة كبرى القياس للتدليل على أن تنزيل القرآن منجما جار على حكمة التدرج لأنه أمكن في حصول المقصود، وذلك ما دل عليه قوله سابقا {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} [الفرقان: 32]. فكان في قوله {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ..} [الفرقان: 45] الآية زيادة في التعليل على ما في قوله {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} [الفرقان: 32] .
ويستتبع هذا إيماء إلى تمثيل نزول القرآن بظهور شمس في المواضع التي كانت مظللة إذ قال تعالى {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً} فإن حال الناس في الضلالة قبل نزول القرآن تشبه بحال امتداد ظلمة الظل، وصار ما كان مظللا ضاحيا بالشمس وكان زوال ذلك الظل تدريجا حتى ينعدم الفيء.
فنظم الآية بما اشتمل عليه من التمثيل أفاد تمثيل هيئة تنزيل القرآن منجما بهيئة مد الظل مدرجا ولو شاء لجعله ساكنا.
وكان نظمها بجمله على حقيقة تركيبه مفيدا العبرة بمد الظل وقبضة في إثبات دقائق قدرة الله تعالى، وهذان المفادان من قبيل استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه الذي ذكرناه في المقدمة التاسعة. وكان نظم الكلام بمعنى ما فيه من الاستعارة التصريحية من تشبيه الهداية بنور الشمس. وبهذا النكتة عطف قوله {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً} إلى قوله {وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً} [الفرقان: 47].
والاستفهام تقرير فهو صالح لطبقات السامعين: من غافل يسأل عن غفلته ليقر بها

تحريضا على النظر، ومن جاحد ينكر عليه إهماله النظر، ومن موفق يحث على زيادة النظر.
والرؤية بصرية، وقد ضمن الفعل معنى النظر فعدي إلى المرئي بحرف "إلى". والمد: بسط الشيء المنقبض المتداخل يقال: مد الحبل ومد يده، ويطلق المد على الزيادة في الشيء وهو استعارة شائعة، وهو هنا الزيادة في مقدار الظل.
ثم إذا كان المقصود بفعل الرؤية حالة من أحوال الذات تصح رؤيتها فلك تعدية الفعل إلى الحالة كقوله تعالى {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل: 1] {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً} [نوح: 15]، وصح تعديته إلى اسم الذات مقيدة بالحالة المقصودة بحال أو ظرف صلة نحو {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية: 17] {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ} [البقرة: 258] {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً} [البقرة: 246].
والفرق بين التعديتين أن الأولى يقصد منها العناية بالحالة لا بصاحبها؛ فالمقصود من آية سورة الفيل: الامتنان على أهل مكة بما حل بالذين انتهكوا حرمتها من الاستئصال، والمقصود من آية سورة الغاشية العبرة بكيفية خلقه الإبل لما تشتمل عليه من عجيب المنافع، وكذلك الآيتان الأخيرتان، وإذ قد كان المقام هنا مقام إثبات الوحدانية والإلهية الحق لله تعالى، أوثر تعلق الرؤية باسم الذات ابتداء ثم مجيء الحال بعد ذلك مجيئا كمجيء بدل الاشتمال بعد ذكر المبدل منه.
وأما قوله في سورة [نوح 15] {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ} دون أن يقال: ألم تروا ربكم كيف خلق، لأن قومه كانوا متصلبين في الكفر وكان قد جادلهم في الله غير مرة فعلم أنه إن ابتدأهم بالدعوة إلى النظر في الوحدانية جعلوا أصابعهم في آذانهم فلم يسمعوا إليه فبادأهم باستدعاء النظر إلى كيفية الخلق.
وعلى كل فإن {كَيْفَ} هنا مجردة عن الاستفهام وهي اسم دال على الكيفية فهي في محل بدل الاشتمال من {رَبِّكَ} ، والتقدير: ألم تر إلى ربك إلى هيئة مده الظل. وقد تقدم ذكر خروج "كيف" عن الاستفهام عند قوله تعالى {هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء} في سورة آل عمران، فإنه لا يخلو النهار من وجود الظل.
وفي وجود الظل دقائق من أحوال النظام الشمسي فإن الظل مقدار محدد من الظلمة

يحصل من حيلولة جسم بين شعاع الشمس وبين المكان الذي يقع عليه الشعاع فينطبع على المكان مقدار من الظل مقدر بمقدار كيفية الجسم الحائل بين الشعاع وبين موقع الشعاع على حسب اتجاه ذلك الجسم الحائل من جهته الدقيقة أو الضخمة، ويكون امتداد تلك الظلمة المكيفية بكيفية ذلك الجسم متفاوتا على حسب تفاوت بعد اتجاه الأشعة من موقعها ومن الجسم الحائل ومختلفا باستواء المكان وتحدبه، فذلك التفاوت في مقادير ظل الشيء الواحد هو المعبر عنه بالمد في هذه الآية لأنه كلما زاد مقدار الظلمة المكيفية لكيفية الحائل زاد امتداد الظل. فتلك كلها دلائل كثيرة من دقائق التكوين الإلهي والقدرة العظيمة.
وقد أفاد هذا المعنى كاملا فعل {مَدَّ} .
وهذا الامتداد يكثر على حسب مقابلة الأشعة للحائل فكلما اتجهت الأشعة إلى الجسم من أخفض جهة كان الظل أوسع، وإذا اتجهت إليه مرتفعة عنه تقلص ظله رويدا رويدا إلى أن تصير الأشعة مسامتة أعلى الجسم ساقطة عليه فيزول ظلمه تماما أو يكاد يزول، وهذا المعنى قوله تعالى {وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً} أي غير متزايد لأنه لما كان مد الظل يشبه صورة التحرك أطلق على انتفاء الامتداد اسم السكون بأن يلازم مقدارا واحدا لا ينقص ولا يزيد، أي لو شاء الله لجعل الأرض ثابتة في سمت واحد تجاه أشعة الشمس فلا يختلف مقدار ظل الأجسام التي على الأرض وتلزم ظلالها حالة واحدة فتنعدم فوائد عظيمة.
ودلت مقابلة قوله {مَدَّ الظِّلَّ} بقوله {لَجَعَلَهُ سَاكِناً} على حالة مطوية من الكلام، وهي حالة عموم الظل جميع وجه الأرض، أي حالة الظلمة الأصلية التي سبقت اتجاه أشعة الشمس الى وجه الأرض كما أشار إليه قول التوراة "وكانت الأرض خالية، وعلى وجه القمر ظلمة" ثم قال "وقال الله ليكن نور فكان نور...". وفصل الله بين النور والظلمة "إصحاح واحد من سفر الخروج"، فاستدلال القرآن بالظل أجدى من الاستدلال بالظلمة لأن الظلمة عدم لا يكاد يحصل الشعور بجمالها بخلاف الظل فهو جامع بين الظلمة والنور فكلا دلالتيه واضحة.
وجملة {وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً} معترضة للتذكير بأن في الظل منة.
وقوله {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً} عطف على جملة {مَدَّ الظِّلَّ} وأفادت {ثُمَّ} أن مدلول المعطوب بها متراخ في الرتبة عن مدلول المعطوف عليه شأن {ثُمَّ} إذا عطفت الجملة. ومعنى تراخي الرتبة أنها أبعد اعتبارا، أي أنها أرفع في التأثير أو في الوجود فإن وجود الشمس هو علة وجود الظل للأجسام التي على الأرض والسبب أرفع رتبة من المسبب، أي أن الله مد الظل بأن جعل الشمس دليلا على مقادير امتداده. ولم

يفصح المفسرون عن معنى هذه الجملة إفصاحا شافيا.
والالتفات من الغيبة إلى التكلم في قوله {ثُمَّ جَعَلْنَا} لأن ضمير المتكلم أدخل في الامتنان من ضمير الغائب فهو مشعر بأن هذا الجعل نعمة وهي نعمة النور الذي به تمييز أحوال المرئيات وعليه فقوله {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً} ارتقاء في المنة.
والدليل: المرشد إلى الطريق والهادي إليه، فجعل امتداد الظل لاختلاف مقاديره كامتداد الطريق وعلامات مقادير مثل صوى الطريق، وجعلت الشمس من حيث كانت سببا في ظهور مقادير الظل كالهادي إلى مراحل، بطريقة التشبيه البليغ، فكما أن الهادي يخبر السائر أين ينزل من الطريق، كذلك الشمس بتسببها في مقادير امتداد الظل تعرف المستدل بالظل بأوقات أعماله ليشرع فيها.
وتعدية {دَلِيلاً} بحرف "على" تفيد أن دلالة الشمس على الظل هنا دلالة تنبيه على شيء قد يخفى كقول الشاعر:
إلا عليّ دليل1.
وشمل هذا حالتي المد والقبض.
وجملة {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا} الخ عطف على جملة {مَدَّ الظِّلَّ} ، أو على جملة {جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً} لأن قبض الظل من آثار جعل الشمس دليلا على الظل.
و {ثُمَّ} الثانية مثل الأولى مفيدة التراخي الرتبي، لأن مضمون جملة {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً} أهم في الاعتبار بمضمونها من مضمون {جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً} ، إذ في قبض دلالة من دلالة الشمس هي عكس دلالتها على امتداده فكانت أعجب إذ هي عمل ضد للعمل الأول، وصدور الضدين من السبب الواحد أعجب من صدور أحدهما السابق في الذكر.
والقبض: ضد المد فهو مستعمل في معنى النقص، أي نقصنا امتداده، والقبض هنا استعارة للنقص. وتعديته بقوله {إِلَيْنَا} تخييل، شبه الظل بحبل أو ثوب طواه صاحبه بعد أن بسطه على طريقة المكنية، وحرف "إلى" ومجروره تخييل.
ـــــــ
1 أوله:
إلى الله أشكو أنني لست ماشيًا
...
ولا جائيًا إلى علىّ دليل
أي: رقيب يدل عليَّ.

وموقع وصف القبض بيسير هنا أريد أن هذا القبض يحصل ببطء دون طفرة، فإن في التريث تسهيلا لقبضه لأن العمل المجزأ أيسر على النفوس من المجتمع غالبا، فأطلق اليسر وأريد به لازم معناه عرفا، وهو التدريج ببطء، على طريقة الكناية، ليكون صالحا لمعنى آخر سنتعرض إليه في آخر كلامنا.
وتعدية القبض بـ {إِلَيْنَا} لأنه ضد المد الذي أسند إلى الله في قوله {مَدَّ الظِّلَّ} . وقد علم من معنى {قَبَضْنَاهُ} أن هذا القبض واقع بعد المد فهو متأخر عنه.
وفي مد الظل وقبضه نعمة معرفة أوقات النهار للصلوات وأعمال الناس، ونعمة التناوب في انتفاع الجماعات والأقطار بفوائد شعاع الشمس وفوائد الفيء بحيث إن الفريق الذي كان تحت الأشعة يتبرد بحلول الظل، والفريق الذي كان في الظل ينتفع بانقباضه.
هذا محل العبرة والمنة اللتين تتناولهما عقول الناس على اختلاف مداركهم. ووراء ذلك عبرة علمية كبرى توضحها قواعد النظام الشمسي وحركة الأرض حول الشمس وظهور الظلمة والضياء، فليس الظل إلا أثر الظلمة فأن الظلمة هي أصل كيفيات الأكوان ثم انبثق النور بالشمس ونشأ عن تداول الظلمة والنور نظام الليل والنهار وعن ذلك نظام الفصول وخطوط الطول والعرض للكرة الأرضية وبها عرفت مناطق الحرارة والبرودة.
ومن وراء ذلك إشارة إلى أصل المخلوقات كيف طرأ عليها الإيجاد بعد أن كانت عدما، وكيف يمتد وجودها في طور نمائها، ثم كيف تعود إلى العدم تدريجا في طور انحطاطها إلى أن تصير إلى العدم، فذلك مما يشير إليه {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً} فيكون قد حصل من التذكير بأحوال الظل في هذه الآية مع المنة والدلالة على نظام القدرة تقريب لحالة إيجاد الناس وأحوال الشباب وتقدم السن، وأنهم عقب ذلك صائرون إلى ربهم يوم البعث مصيرا لا إحالة فيه ولا بعد، كما يزعمون، فلما صار قبض الظل مثلا لمصير الناس إلى الله بالبعث وصف القبض بيسير تلميحا إلى قوله {ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} [ق: 44].
وفي هذا التمثيل إشارة إلى أن الحياة في الدنيا كظل يمتد وينقبض وما هو إلا ظل.
فهذان المحملان في الآية من معجزات القرآن العلمية.
[47] {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً} .

مناسبة الانتقال من الاستدلال باعتبار أحوال الظل والضحاء إلى الاعتبار بأحوال الليل والنهار ظاهرة فالليل يشبه الظل في أنه ظلمة تعقب نور الشمس.
ومورد الاستدلال المقصد المستفاد من تعريف جزأي الجملة وهو قصر إفراد، أي لا يشركه غيره في جعل الليل والنهار. أما كون الجعل المذكور بخلق الله فهم يقرون به؛ ولكنهم لما جعلوا له شركاء على الإجمال أبطلت شركتهم بقصر التصرف في الأزمان على الله تعالى لأنه إذا بطل تصرفهم في بعض الموجودات اختلت حقيقة الإلهية عنهم إذ الإلهية لا تقبل التجزئة.
و {لَكُمُ} متعلق بـ {جَعَلَ} أي من جملة ما خلق له الليل أنه يكون لباسا لكم. وهذا لا يقتضي أن الليل عود الظلمة إلى جانب من الكرة الأرضية المحتجب عن شعاع الشمس باستداراته فتحصل من ذلك فوائد جمة منها ما في قوله تعالى بعد هذا {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ...} الخ.
وقد رجع أسلوب الكلام من المتكلم إلى الغيبة على طريقة الالتفات.
و {لِبَاساً} مشبه به على طريقة التشبيه البليغ، أي ساترا لكم يستر بعضكم عن بعض، وفي هذا الستر منن كثيرة لقضاء الحوائج التي يجب إخفاؤها.
وتقديم الاعتبار بحالة ستر الليل على الاعتبار بحالة النوم لرعي مناسبة الليل بالظل كما تقدم، بخلاف قوله {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً} في سورة [النبأ: 8 - 10]، فإن نعمة النوم أهم من نعمة الستر، ولأن المناسبة بين نعمة خلق الأزواج وبين النوم أشد.
وقد جمعت الآية استدلالا وامتنانا فهي دليل على عظم قدرة الخالق، وهي أيضا تذكير بنعمه، فإن في اختلاف الليل والنهار آيات جمة لما يدل عليه حصول الظلمة من دقة نظام دوران الأرض حول الشمس ومن دقة نظام خلق الشمس، ولما يتوقف عليه وجود النهار من تغير دوران الأرض ومن فوائد نور الشمس، ثم ما في خلال ذلك من نظام النوم المناسب للظلمة حين ترتخي أعصاب الناس فيحصل لهم بالنوم تجدد نشاطهم، ومن الاستعانة على التستر بظلمة الليل ومن نظام النهار من تجدد النشاط وانبعاث الناس للعمل وسآمتهم من الدعة، مع ما هو ملائم لذلك من النور الذي به إبصار ما يقصده العاملون.
والسبات له معان متعددة في اللغة ناشئة عن التوسع في مادة السبت وهو القطع.

وأنسب المعاني بمقام الامتنان هو معنى الراحة وإن كان في كلا المعنيين اعتبار بدقيق صنع الله تعالى. وفسر الزمخشري السبات بالنوم على طريقة التشبيه البليغ ناظرا في ذلك إلى مقابلته بقوله {وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً} .
وإعادة فعل {جَعَلَ} في قوله {وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً} دون أن يعاد في قوله {وَالنَّوْمَ سُبَاتاً} مشعرة بأنه تنبيه إلى أنه جعل مخالف لجعل الليل لباسا. وذلك أنه أخبر عنه بقوله {نُشُوراً} ، والنشور: بعث الأموات، وهو إدماج للتذكير بالبعث وتعريض بالاستدلال على من أحالوه، بتقريبه بالهبوب في النهار. وفي هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم إذا أصبح "الحمد لله الذي أحيانا بعد إذ أماتنا وإليه النشور".
والنشور: الحياة بعد الموت، وتقدم قريبا عند قوله تعالى {بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً} [الفرقان: 40]. وهو هنا يحتمل عنيين أن يكون مرادا به البروز والانتشار فيكون ضد اللباس في قوله {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً} فيكون الإخبار به عن النهار حقيقيا، والمنة في أن النهار ينتشر فيه الناس لحوائجهم واكتسابهم. ويحتمل أن يكون مرادا به بعث الأجساد بعد موتها فيكون الإخبار على طريقة التشبيه البليغ.
[48 - 50] {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً} .
استدلال على الانفراد بالخلق وامتنان بتكوين الرياح والأسحبة والمطر. ومناسبة الانتقال من حيث ما في الاستدلال الذي قبله من ذكر حال النشور والامتنان به فانتقل إلى ما في الرياح من النشور بذكر وصفها بأنها نشر على قرأه الجمهور، أو لكونها كذلك في الواقع على قراءة عاصم. ومردود الاستدلال قصر إرسال الرياح وما عطف عليه على الله تعالى إبطالا لا دعاء الشركاء له في الإلهية بنفي الشركة في التصرف في هذه الكائنات وذلك ما لا ينكره المشركون كما تقدم مثله في قوله {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً} الخ...
وأطلق على تكوين الرياح فعل {أَرْسَلَ} الذي هو حقيقته في بعث شيء وتوجيهه، لأن حركة الرياح تشبه السير. وقد شاع استعمال الإرسال في إطلاق العنان لخيل السباق.
وهذا استدلال بدقيق خلق الله في تكوين الرياح، فالعامة يعتبرون بما هو داخل تحت

مشاهدتهم من ذلك، والخاصة يدركون كيفية حدوث الرياح وهبوبها واختلافها، وذلك ناشىء عن التقاء حرارة جانب من الجو ببرودة جانب آخر. ثم إن الرياح بهبوبها حارة مرة وباردة أخرى تكون الأسحبة وتؤذن بالمطر فلذلك وصفت بأنها: نشر بين يدي المطر.
قرأ الجمهور {أَرْسَلَ الرِّيَاحَ} بصيغة الجمع. وقرأ ابن كثير {الرِّيحُ} بصيغة الإفراد على معنى الجنس. والقرأتان متحدتان في المعنى، ولكن غلب جمع الريح في ريح الخير وإفراد الريح في ريح العذاب قاله ابن عطية. وتقدم في قوله تعالى {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ} في سورة البقرة.
وقرأ الجمهور {بُشْراً} بنون في أوله وبضمتين جمع نشور كرسول ورسل. وقرأ ابن عامر بضم فسكون على تخفيف الحركة. وقرأ حمزة والكسائي وخلف بفتح النون وسكون الشين على أنه من الوصف بالمصدر، وكلها من النشر وهو البسط كما ينشر الثوب المطوي لأن الرياح تنشر السحاب. وقرأ عاصم بباء موحدة وسكون الشين جمع بشور من التبشير لأنها تبشر بالمطر. وتقدم قوله {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} في سورة [الأعراف: 57].
والالتفات من الغيبة إلى المتكلم في قوله {وَأَنْزَلْنَا - لِنُحْيِيَ - وَنُسْقِيَهُ - وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ} للداعي الذي قدمناه في قوله آنفا {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً} [الفرقان: 45 - 46].
والمراد بـ {رَحْمَتِهِ} المطر لأنه رحمة للناس والحيوان بما ينبته من الشجر والمرعى.
وجملة {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} عطف على جملة {أَرْسَلَ الرِّيَاحَ} الخ، فهي داخلة في حيز القصر، أي وهو الذي أنزل من السماء ماء طهور. وضمير {وَأَنْزَلْنَا} التفات من الغيبة إلى التكلم لأن التكلم أليق بمقام الامتنان. وتقدم معنى إنزال الماء من السماء عند قوله {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} في سورة [البقرة: 19].
والطهور بفتح الطاء من أمثلة المبالغة في الوصف بالمصدر كما يقال: رجل صبور. وماء المطر بالغ منتهى الطهارة إذ لم يختلط به شيء يكدره أو يقذره وهو في علم الكيمياء أنقى المياه لخلوه عن جميع الجراثيم فهو الصافي حقا. والمعنى: أن الماء النازل من السماء هو بالغ نهاية الطهارة في جنسه من المياه ووصف الماء بالطهور يقتضي أنه مطهر لغيره إذ العدول عن صيغة فاعل إلى صيغة فعول لزيادة معنى في الوصف، فاقتضاؤه في

هذه الآية أنه مطهر لغيره اقتضاء التزامي ليكون مستكملا وصف الطهارة القاصرة والمتعدية، فيكون ذكر هذا الوصف إدماجا لمنة في أثناء المنن المقصودة، كقوله تعالى {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11] وصف الطهارة الذاتية وتطهيره، فيكون هذا الوصف إدماجا ولولا ذلك لكان الأحق بمقام الامتنان وصف الماء بالصفاء أو نحو ذلك.
والبلدة: الأرض. ووصفها بالحياة والموت مجازان للري والجفاف لأن ري الأرض ينشأ عنه النبات وهو يشبه الحي وجفاف الأرض يجف به النبات فيشبه الميت.
ولماء المطر خاصية الإحياء لكل أرض لأنه لخلوه من الجراثيم ومن بعض الأجزاء المعدنية والترابية التي تشتمل عليها مياه العيون ومياه الأنهار والأودية كان صالحا بكل أرض وبكل نبات على اختلاف طباع الأرضين والمنابت.
والبلدة: البلد. والبلد يذكر ويؤنث مثل كثير من أسماء أجناس البقاع كما قالوا: دار ودارة. ووصفت البلدة بميت، وهو وصف مذكر لتأويل {بَلْدَةً} بمعنى مكان لقصد التخفيف. وقال في "الكشاف" ما معناه: إنه لما دل على المبالغة في الاتصاف بالموت ولم يكن جاريا على أمثلة المبالغة نزل منزلة الاسم الجاد "أي فلم يغير". وأحسن من هذا أنه أريد به اسم الميت، ووصف البلدة به وصف على معنى التشبيه البليغ.
وفي قوله {لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً} إيماء إلى تقريب إمكان البعث.
{وَنُسْقِيَهُ} بضم النون مضارع أسقى مثل الذي بفتح النون فقيل هما لغتان يقال: أسقى وسقى. قال تعالى {قَالَتَا لا نَسْقِي} [القصص: 23] بفتح النون. وقيل: سقى: أعطى الشراب، وأسقى: هيأ الماء للشرب. وهذا القول أسد لأن الفروق بين معاني الألفاظ من محاسن اللغة فيكون المعنى هيأناه لشرب الأنعام والأناسي فكل من احتاج للشرب شرب منه سواء من شرب ومن لم يشرب.
و {أَنْعَاماً} مفعول ثان لـ {وَنُسْقِيَهُ} . وقوله {مِمَّا خَلَقْنَا} حال من {أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ} . و"من" تبعيضية. و"ما" موصولة، أي بعض ماخلقناه، والموصول للإيماء إلى علة الخبر، أي نسقيهم لأنهم مخلوقات. ففائدة هذا الحال الإشارة إلى رحمة الله بها لأنها خلقه. وفيه إشارة إلى أن أنواعا أخرى من الخلائق تسقى بماء السماء، ولكن الاقتصار على ذكر الأنعام والأناسي لأنهما موقع المنة؛ فالأنعام بها صلاح حال البادين

بألبانها وأصوافها وأشعارها ولحومها، وهي تشرب من مياه المطر من الأحواض والغدران.
والأناسي: جمع إنسي، وهو مرادف إنسان. فالياء فيه ليست للنسب. وجمع على فعالي مثل كرسي وكراسي. ولو كانت ياؤه نسب لجمع على أناسية كما قالوا: صيرفي وصيارفة. ووصف الأناسي بـ {كَثِيراً} لأن بعض الأناسي لا يشربون من ماء السماء وهم الذين يشربون من مياه الأنهار كالنيل والفرات، والآبار والصهاريج، ولذلك وصف العرب بأنهم بنو ماء السماء. فالمنة أخص بهم، قال زيادة الحارثي1:
ونحن بنو ماء السماء فلا نرى
...
لأنفسنا من دون مملكة قصرا2
وفي أحاديث ذكر هاجر زوج إبراهيم عليه السلام قال أبو هريرة "فتلك أمكم يا بني ماء السماء" يعني العرب. وماء المطر لنقاوته التي ذكرناها صالح بأمعاء كل الناس وكل الأنعام دون بعض مياه العيون والأنهار.
ووصف أناسي وهو جمع بكثير وهو مفرد لأن فعيلا قد يراد به المتعدد مثل رفيق وكذلك قليل قال تعالى {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً} [الأعراف: 86].
وتقديم ذكر الأنعام على الأناسي اقتضاه نسج الكلام على طريقة الأحكام في تعقيبه بقوله {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا} ، ولو قدم ذكر {أناسيَّ} لتفكك النظم. ولم يقدم ذكر الناس في قوله تعالى {مَتَاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} في سورة [النازعات: 33] لانتفاء الداعي للتقديم فجاء على أصل الترتيب.
وضمير {صَرَّفْنَاهُ} عائد إلى {مَاءً طَهُوراً} . والتصريف: التغيير. والمراد هنا تغيير أحوال الماء، أي مقاديره ومواقعه.
وتوكيد الجملة بلام القسم و"قد" لتحقيق التعليل لأن تصرف المطر محقق لا يحتاج إلى التأكيد وإنما الشيء الذي لم يكن لهم علم به هو ان من حكمة تصريفه بين الناس أن يذكروا نعمة الله تعالى عليهم مع نزوله عليهم وفي حالة إمساكه عنهم، لأن كثير من الناس لا يقدر قدر النعمة إلا عند فقدها فيعلموا أن الله هو الرب الواحد المختار في خلق
ـــــــ
1 هو من قضاعة، إسلامي مات قتيلاً في خلافة معاوية، قتله هُدية بن خثرم.
2 المملكة: التملك، أي العزة، وهي بفتح الميم واللام، والقصر: الغاية.

الأسباب والمسببات وقد كانوا لا يتدبرون حكمة الخالق ويسندون الآثار إلى مؤثرات وهمية أو صورية.
ولما كن التذكر شاملا لشكر المنعم عليهم بإصابة المطر ولتفطن المحرومين إلى سبب حرمانهم إياه لعلهم يستغفرون، جيء في التعليل بفعل {لِيَذَّكَّرُوا} ليكون علة لحالتي التصريف بينهم.
وقوله {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً} تركيب جرى بمادته وهيئته مجرى المثل في الإخبار عن تصميمي المخبر عنه على ما بعد حرف الاستثناء، وذلك يقتضي وجود الصارف عن المستثنى، أي فصمموا على الكفور لا يرجعون عنه لأن الاستثناء من عموم أشياء مبهمة جعلت كلها مما تعلق به الإباء كأن الآبين قد عرضت عليهم من الناس أو من خواطرهم أمور وراجعوا فلم يقبلوا منها إلا الكفور وإن لم يكن هنالك عرض ولا إباء، ومنه قوله تعالى في سورة براءة {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} ؛ ألا ترى أن ذلك استعمل هنا في مقام معارضة المشركين للتوحيد في سورة براءة في مقام معارضة أهل الكتاب للإسلام. وشدة الفريقين في كفرهم معلومة مكشوفة ولم يستعمل في قوله تعالى في سورة [الصف: 8] {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ} .
والكفور: مصدر بمعنى الكفر. وتقديم نظير في سورة الإسراء، أي أبوا إلا الإشراك بالله وعدم التذكر.
وقرأ الجمهور {لِيَذَّكَّرُوا} بتشديد الذال وتشديد الكاف مدغمة فيها التاء وأصله ليتذكروا. وقرأ حمزة والكسائي وخلف بسكون الذال وتخفيف الكاف مضمومة، أي ليذكروا ما هم عنه غافلون.
ويؤخذ من الآية أن الماء المنزل من السماء لا يختلف مقداره وإنما تختلف مقادير توزيعه على مواقع القطر، فعن ابن عباس: ما عام أقل مطرا من عام ولكن الله قسم ذلك بين عباده على ما شاء. وتلا هذه الآية. وذكر القرطبي عن ابن مسعود عن النبي صلى اله عليه وسلم أنه قال: "ما من سنة بأمطر من أخرى ولكن إذا عمل قوم المعاصي صرف الله ذلك إلى غيرهم فإذا عصوا جميعا صرف الله ذلك إلى الفيافي والبحار" اهـ. فحصل من هذا أن المقدار الذي تفضل الله به من المطر على هذه الأرض لا تختلف كميته وإنما يختلف توزيعه. وهذه حقيقة قررها علماء حوادث الجو في القرن الحاضر، فهو من معجزات القرآن العلمية الراجعة إلى الجهة الثالثة من المقدمة العاشرة لهذا التفسير.

وجوز فريق أن يكون ضمير {صَرَّفْنَاهُ} عائدا إلى غير مذكور معلوم في المقام مراد به القرآن؛ قالوا لأنه المقصود في هذه السورة فإنها افتتحت بذكره، وتكرر في قوله {إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} . وأصل هذا التأويل مروي عن عطاء. ولقوله بعده {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً} .
وقيل الضمير عائد إلى الكلام المذكور، أي ولقد صرفنا هذا الكلام وكررناه على ألسنة الرسل ليذكروا.
[51 - 52] {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً} .
جملة اعتراض بين ذكر دلائل تفرد الله بالخلق وذكر منته على الخلق. ومناسبة موقع هذه الجملة وتفريعها بموقع الآية التي قبلها خفية. وقال ابن عطية في قوله {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً} : اقتضاب يدل عليه ما ذكر. تقديره: ولكنا أفردناك بالنذارة وحملناك {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ} اهـ.
فإن كان عنى بقوله: اقتضاب، معنى الاقتضاب الاصطلاحي بين علماء الأدب والبيان، وهو عدم مراعاة المناسبة بين الكلام المنتقل منه والكلام المنتقل إليه، كان عدولا عن التزام تطلب المناسبة بين هذه الآية والآية التي قبلها، وليس الخلو عن المناسبة ببدع فقد قال صاحب "تلخيص المفتاح" "وقد ينقل منه "أي مما شبب به الكلام" إلى ما لا يلائمه "أي لا يناسب المنتقل منه" ويسمى الاقتضاب وهو مذهب العرب ومن يليهم من المخضرمين" الخ. وإذا كان ابن عطية عنى بالاقتضاب معنى القطع "أي الحذف من الكلام" أي إيجاز الحذف كما يشعر به قوله "يدل عليه ما ذكر تقديره الخ"، كان لم يعرج على اتصال هذه الآية بالتي قبلها.
وفي الكشاف: "ولو شئنا لخففنا عنك أعباء نذارة جمع القرى ولبعثنا في كل قرية نبيا ينذرها، وإنما قصرنا الأمر عليك وعظمناك على سائر الرسل "أي بعموم الدعوة" فقابل ذلك بالتصبر" اهـ. وقد قال الطيبي: "ومدار السورة على كونه صلى الله عليه وسلم مبعوثا إلى الناس كافة ولذلك افتتحت بما يثبت عموم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس بقوله تعالى {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان: 1].
وليس في كلام "الكشاف" والطيبي إلا بيان مناسبة الآية لمهم أغراض السورة دون

بيان مناسبتها للتي قبلها.
والذي أختاره أن هذه الآية متصلة بقوله تعالى {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} الآية، فيعد أن بين إبطال طعنهم فقال {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} انتقل إلى تنظير القرآن بالكتاب الذي أوتيه موسى عليه السلام وكيف استأصل الله من كذبوه، ثم استطرد بذكر أمم كذبوا رسلهم، ثم انتقل إلى استهزاء المشركين بالنبي صلى الله عليه وسلم وأشار إلى تحرج النبي صلى الله عليه وسلم من إعراض قومه عن دعوته بقوله {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} .
وتسلسل الكلام بضرب المثل بمد الظل وقبضه، وبحال الليل والنهار، وبإرسال الرياح. أمارة على رحمة غيثه الذي تحيا به الموت حتى انتهى إلى قوله {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً} ويؤيد ما ذكرنا اشتمال التفريع على ضمير القرآن في قوله {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ} .
ومما يزيد هذه الآية اتصالا بقوله تعالى {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} أن بعث نذير إلى كل قرية ما هو أشد من تنزيل القرآن مجزأ؛ فلو بعث الله في كل قرية نذيرا لقال الذين كفروا: لو لا أرسل رسول واحد إلى الناس جميعا فإن مطاعنهم لا تقف عند حد كما قال تعالى {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} في سورة [حم فصلت: 44].
وتفريع {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ} على جملة {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً} لأنها تتضمن أنه مرسل إلى المشركين من أهل مكة وهم يطلبون منه الكف عن دعوتهم وعن تنقص أصنامهم.
والنهي مستعمل في التحذير والتذكير، وفعل {تُطِعِ} في سياق النهي يفيد عموم التحذير من أدنى طاعة.
والطاعة: عمل المرء بما يطلب منه، أي فلا تهن في الدعوة رعيا لرغبتهم أن تلين لهم.
وبعد أن حذره من الوهن في الدعوة أمره بالحرص والمبالغة فيها. وعبر عن ذلك بالجهاد وهو الاسم الجامع لمنتهى الطاقة. وصيغة المفاعلة فيه ليفيد مقابلة مجهودهم بمجهوده فلا يهن ولا يضعف ولذلك وصف بالجهاد الكبير، أي الجامع لكل مجاهدة.

وضمير {بِهِ} عائد إلى غير مذكور: فإما أن يعود إلى القرآن لأنه مفهوم من مقام النذارة، وإما أن يعود إلى المفهوم من {َلا تُطِعِ} وهو الثبات على دعوته بأن يعصيهم، فإن النهي عن الشيء أمر بضده كما دل قول أبي حية النميري:
فقلن لها سرا فديناك لا يرح
...
صحيحا وإن لم تقتليه فألمم
فقابل قوله "لا يرح صحيحا" بقوله "وإن لم تقتليه فألمم" كأنه قال: فديناك فاقتليه.
والمعنى: قاومهم بصبرك. وكبر الجهاد تكريره والعزم فيه وشدة ما يلقاه في ذلك من المشقة. وهذا كقول النبي صلى الله عليه سلم لأصحابه عند قفوله من بعض غزواته "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر. قالوا "وما الجهاد الأكبر"? - قال مجاهدة العبد هواه". رواه البيهقي بسند ضعيف.
[53] {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً} .
عود إلى الاستدلال على تفرده تعالى بالخلق. جمعت هذه الآية استدلالا وتمثيلا وتثبيتا ووعدا، فصريحها استدلال على شيء عظيم من آثار القدرة الإلهية وهو التقاء الأنهار والأبحر كما سيأتي، وفي ضمنها تمثيل لحال دعوة الإسلام في مكة يومئذ واختلاط المؤمنين مع المشركين بحال تجاوز البحرين: أحدهما عذب فرات والآخر ملح أجاج. وتمثيل الإيمان بالعذب الفرات والشرك بالملح الأجاج، وأن الله تعالى كما جعل بين البحرين برزخا يحفظ العذب من أن يكدره الأجاج، وكذلك حجز بين المسلمين والمشركين فلا يستطيع المشركون أن يدسوا كفرهم بين المسلمين. وفي هذا تثبيت للمسلمين بأن الله يحجز عنهم ضر المشركين لقوله {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً} [آل عمران: 111]. وفي ذلك تعريض كنائي بأن الله ناصر لهذا الدين من أن يكدره الشرك.
ولأجل ما فيها من التمثيل والتثبيت والوعد كان لموقعها عقب جملة {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً} [الفرقان: 52] أكمل حسن. وهي معطوفة على جملة {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [الفرقان: 48] ومناسبة وقوعها عقب التي قبلها أن كلتيهما استدلال بآثار القدرة في تكوين المياه المختلفة. ومفاد القصر هنا نظير ما تقدم في الآيتين السابقتين .

والمزج: الخلط. واستعير هنا لشدة المجاورة، والقرينة قوله {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً} . والبحر: الماء المستبحر، أي الكثير العظيم. والعذاب: الحلو. والفرات: شديد الحلاوة. والملح بكسر الميم وصف به بمعنى الملح، ولا يقال في الفصيح إلا ملح وأما مالح فقليل. وأريد هنا ملتقى ماء نهري الفرات والدجلة مع ماء بحر خليج العجم.
والبرزخ: الحائل بين شيئين. والمراد بالبرزخ تشبيه ما في تركيب الماء الملح مما يدفع تخلل الماء العذب فيه بحيث لا يخلط أحدهما بالآخر ويبقى كلاهما حافظا لطعمه عند المصب.
و {حِجْراً} مصدر منصوب على المفعولية به لأنه معطوف على مفعول {جَعَلَ} . وليس هنا مستعملا في التعوذ كالذي تقدم آنفا في قوله تعالى {حِجْراً مَحْجُوراً} . و {مَحْجُوراً} وصف لـ {حِجْراً} مشتق من مادته للدلالة على تمكن المعنى المشتق منه كما قالوا: ليل أليل. وقد تقدم في هذه السورة. ووقع في الكشاف تكلف بجعل {حِجْراً مَحْجُوراً} هنا بمعنى التعوذ كالذي في قوله {وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً} ولا داعي إلى ذلك لأن ما ذكروه من استعمال {حِجْراً مَحْجُوراً} في التعوذ لا يقتضي أنه لا يستعمل إلا كذلك.
[54] {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً} .
مناسبة موقع هذا الاستدلال بعد ما قبله أنه استدلال بدقيق آثار القدرة في تكوين المياه وجعلها سبب حياة مختلفة الأشكال والأوضاع. ومن أعظمها دقائق الماء الذي خلق منه أشرف الأنواع التي على الأرض وهو نطفة الإنسان بأنها سبب تكوين النسل للبشر فإنه يكون أول أمره ماء ثم يتخلق منه البشر العظيم، فالتنوين في قوله {بَشَراً} للتعظيم.
والقصر المستفاد من تعريف الجزئين قصر إفراد لإبطال دعوى شركة الأصنام لله في الإلهية.
والبشر: الإنسان. وقد تقدم في قوله تعالى {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً} في [سورة مريم: 17]. والضمير المنصوب في {فَجَعَلَهُ} عائد إلى البشر، أي فجعل البشر الذي خلقه من الماء نسبا وصهرا، أي قسم الله البشر قسمين نسب، وصهر. فالواو للتقسيم بمعنى "أو" والواو أجود من "أو" في التقسيم.

و {نَسَباً وَصِهْراً} مصدران سمي بهما صنفان من القرابة على تقدير: ذا نسب وصهر وشاع وذلك في الكلام.
والنسب لا يخلو من أبوة وبنوة وأخوة لأولئك وبنوة لتلك الأخوة.
وأما الصهر فهو: اسم لما بين المرء وبين قرابة زوجه وأقاربه من العلاقة، ويسمى أيضا مصاهرة لأنه يكون من وجتهين، وهو آصره اعتبارية تتقوم بالإضافة إلى ما تضاف إليه، فصهر الرجل قرابة امرأته، وصهر المرأة قرابة زوجها، ولذلك يقال: صاهر فلان فلانا إذا تزوج من قرابته ولو قرابة بعيدة كقرابة القبيلة. وهذا لا يخلوا عنه البشر المتزوج وغير المتزوج.
ويطلق الصهر على من له مع الآخرة علاقة المصاهرة من إطلاق المصدر في موضع الوصف فالأكثر حينئذ أن يخص بقريب زوج الرجل، وأما قريب زوج المرأة فهو ختن لها أو حم. ولا يخلو أحد عن آصرة صهر ولو بعيدا. وقد أشار إلى ما في هذا الخلق العجيب من دقائق نظام إيجاد طبيعي واجتماعي بقوله {وكان ربك قديرا} ، أي عظيم القدرة إذ أوجد من هذا الماء خلقا عظيما صاحب عقل وتفكير فاختص باتصال أواصر النسب وأواصر الصهر، وكان ذلك أصل نظام الاجتماع البشري لتكوين القبائل والشعوب وتعاونهم مما جاء بهذه الحضارة المرتقية مع العصور والأقطار قال تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13].
وفي تركيب {وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً} من دقيق الإيذان بأن قدرته راسخة واجبة له متصف بها في الأزل بما اقتضاه فعل كَانَ}، وما في صيغة {قَدِير} من الدلالة على قوة القدرة المقتضية تمام الإرادة والعلم.
[55] {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيراً} .
الواو للحال، وهذا مستعمل في التعجيب من استمرارهم في الشرك، وأعقب ذكر ما نفع الله به الناس من إلطافه بهم في تصاريف الكائنات إذ جعل لهم الليل والنهار، وخلق لهم الماء فأنبت به الزرع وسقى به الناس والأنعام، مع ما قارنه من دلائل القدرة بذكر عبادتهم ما لا ينفع الناس عودا إلى حكاية شيء من أحوال مشركي مكة.

ونفي الضر بعد نفي النفع للتنبيه على انتفاء شبهة عبدة الأصنام في شركهم لأن موجب العبادة إما رجاء النفع وإما اتقاء ضر المعبود وكلاهما منتف عن الأصنام بالمشاهدة.
والتعبير بالفعل المضارع للدلالة على تجدد عبادتهم الأصنام وعدم إجداء الدلائل المقلعة عنها في جانبهم.
وجملة {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيراً} تذييل لما قبله، فاللام في تعريف {الْكَافِرُ} للاستغراق، أي على كل كافر على ربه ظهير.
وجعل الخبر عن الكافر خبرا لـ {كَانَ} للدلالة على إن اتصافه بالخبر أمر متقرر معتاد من كل كافر.
والظهير: المظاهر، أي المعين، وتقدم في قوله تعالى {وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} في [سورة الإسراء: 88] وهو فعيل بمعنى مفاعل، أي مظاهر مثل حكيم بمعنى محكم، وعوين بمعنى معاون. وقول عمر بن معد يكرب:
أمن ريحانة الداعي السميع.
أي المسمع. قال في الكشاف "ومجيء فعيل بمعنى مفاعل غير عزيز". وهو مشتق من: ظاهر عليه، إذا أعان من يغالبه على غلبه، وأصله الأصيل مشتق من اسم جامد وهو اسم الظهر من الإنسان أو الدابة لأن المعاون أحدا على غلب غيره كأنه يحمل الغالب على المغلوب كما يحمل على ظهر الحامل، جعل المشرك في إشراكه مع وضوح دلالة عدم استئهال الأصنام للإلهية كأنه ينصر الأصنام على ربه الحق. وفي ذكر الرب تعريض بأن الكافر عاق لمولاه. وعن أبي عبيدة: ظهير بمعنى مظهور، أي كفر الكافر هين على الله، يعني أي فعيلا فيه بمعنى مفعول، أي مظهور عليه وعلى هذا يكون {عَلَى} متعلقا بفعل {كَانَ} أي كان على الله هينا.
[56 - 57] {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً}
لما أفضى الكلام بأفانين انتقالاته إلى التعجيب من استمرارهم على أن يعبدوا ما لا يضرهم ولا ينفعهم أعقب بما يومئ إلى استمرارهم على تكذيبهم محمد صلى الله عليه وسلم في دعوى

الرسالة بنسبة ما بلغه إليهم إلى الإفك، وأنه أساطير الأولين، وأنه سحر، فأبطلت دعاويهم كلها بوصف النبي بأنه مرسل من الله، وقصره على صفتي التبشير والنذارة. وهذا الكلام الوارد في الرد عليهم جامع بين إبطال إنكارهم لرسالته وبين تأنيس الرسول عليه الصلاة والسلام بأنه ليس بمضل ولكنه مبشرا ونذير. وفيه تعريض بأن لا يحزن لتكذيبهم إياه.
ثم أمره بأن يخاطبهم بأنه غير طامع من دعوتهم في أن يعتز باتباعهم إياه حتى يحسبوا أنهم إن أعرضوا عنه فقد بلغوا من النكاية به أملهم، بل ما عليه إلا التبليغ بالتبشير والنذارة لفائدتهم لا يريد منهم الجزاء على عمله ذلك.
والأجر: العوض على العمل ولو بعمل آخر يقصد به الجزاء.
والاستثناء تأكيد لنفي أن يكون يسألهم أجرا لأنه استثناء من أحوال عامة محذوف ما يدل عليها لقصد التعميم، والاستثناء معيار العموم فلذلك كثر في كلام العرب أن يجعل تأكيد الفعل في صورة الاستثناء، ويسمى تأكيد المدح بما يشبه الذم، وبعبارة أتقن تأكيد الشيء بما يشبه ضده وهو مرتبتان: منه ما هو تأكيد محض وهو ما كان المستثنى فيه منقطعا عن المستثنى منه أصلا كقول النابغة:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
...
بهن فلول من قراع الكتائب
فإن فلول سيفهم ليس من جنس العيب فيهم بحال؛ ومنه مرتبة ما هو تأكيد في الجملة وهو ما المستثنى فيه ليس من جنس المستثنى منه لكنه قريب منه بالمشابهة لم يطلق عليه اسم المشبه به بما تضمنه الاستثناء كما في قوله {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23]؛ ألا ترى أنه نفى أن يكون يسألهم أجرا على الإطلاق في قوله {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86]. فقوله تعالى {إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} من قبيل المرتبة الثانية لأن الكلام على حذف مضاف يناسب أجرا إذ التقدير: إلا عمل من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا، وذلك هو اتباع دين الإسلام. ولما كان هذا إجابة لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم أشبه الأجر على تلك الدعوة فكان نظير قوله {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23]. وقد يسمون هذا الاستثناء الاستثناء المنقطع ويقدرونه كالاستدراك.
والسبيل: الطريق. واتخاذ السبيل تقدم آنفا في قوله {لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً} [الفرقان: 27]. وجعل السبيل هنا إلى الله لأنه وسيلة إلى إجابته فيما دعاهم إليه وهذا

كقوله تعلى {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآباً} .
وذكر وصف الرب دون الاسم العلم للإشارة إلى استحقاقه السير إليه لأن العبد محقوق بأن يرجع إلى ربه وإلا كان آبقا.
[58] {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً} .
عطف على جملة {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [الفرقان: 57] أي قل لهم ذلك وتوكل على الله في دعوتك إلى الدين فهو الذي يجازيك على ذلك ويجازيهم.
والتوكل: الاعتماد وإسلام الأمور إلى المتوكل عليه وهو الوكيل، أي المتولي مهمات غيره، وقد تقدم في قوله {فإذا عزمت فتوكل على الله} في [آل عمران: 159].
و {الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} هو الله تعالى. وعدل عن اسم الجلالة إلى هذين الوصفين لما يؤذن به من تعليل الأمر بالتوكل عليه لأنه الدائم فيفيد ذلك معنى حصر التوكل في الكون عليه، فالتعريف في {الْحَيِّ} للكامل، أي الكامل حياته لأنها واجبة باقية مستمرة وحياة غيره معرضة للزوال بالموت ومعرضة لاختلال أثرها بالذهول كالنوم ونحوه فإنه من جنس الموت، فالتوكل على غيره معرض للاختلال وللانخرام. وفي ذكر الوصفين تعريض بالمشركين إذ ناطوا آمالهم بالأصنام وهي أموات غير أحياء.
وفي الآية إشارة إلى أن المرء الكامل لا يثق إلا بالله لأن التوكل على الأحياء المعرضين للموت وإن كان قد يفيد أحيانا لكنه لا يدوم.
وأما أمره بالتسبيح فهو تنزيه الله عما لا يليق به وأول ذلك الشركة في الإلهية أي إذا أهمك أمر إعراض المشركين عن دعوة الإسلام فعليك نفسك فنزه الله.
والباء في {بِحَمْدِهِ} للمصاحبة، أي سبحه تسبيحا مصاحبا للثناء عليه بما هو أهله. فقد جمع له في هذا الأمر التخلية والتحلية مقدما التخلية لأن شأن الإصلاح أن يبدأ بإزالة النقص.
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم يشمل الأمة ما لم دليل على الخصوصية.
وجملة {وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً} اعتراض في آخر الكلام، فيفيد معنى التذييل

لما فيه من الدلالة على عموم علمه تعالى بذنوب الخلق، ومن ذلك أحوال المشركين الذين هم غرض الكلام. ففي "ذنوب عباده" عمومان عموم ذنوبهم كلها لإفادة الجمع المضاف عموم إفراد المضاف، وعموم الناس لإضافة "عباد" إلى ضمير الجلالة، أي جميع عباده، مع ما في صيغة "خبير" من شدة العلم وهو يستلزم العموم فكان كعموم ثالث. والكفاية: الإجزاء، وفي فعل {وَكَفَى} لإفادة أنه لا يحتاج إلى غيره وهو مستعمل في الأمر بالاكتفاء بتفويض الأمر إليه.
والباء لتأكيد إسناد الفعل إلى الفاعل. وقد كثر دخول باء التأكيد بعد فعل الكفاية على فاعله أو مفعوله، وتقدم في قوله تعالى {كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} في [سورة الإسراء: 14]. و {خَبِيراً} حال من ضمير {بِهِ} أي كفى به من حيث الخبرة.
والعلم بالذنوب كناية عن لازمه وهو أن يجازيهم عن ذنوبهم، والشرك جامع الذنوب. وفي الكلام أيضا تعريض بتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم على ما يلاقيه من أذاهم.
[59] {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً}
أجريت هذه الصلة وصفا ثانيا لـ {الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان: 58] لاقتضائها سعة العلم وسعة القدرة وعظيم المجد، فصاحبها حقيق بأن يتوكل عليه ويفوض أمر الجزاء إليه. وهذا تخلص إلى العود إلى الاستدلال على تصرف الله تعالى بالخلق.
وتقدم الكلام على خلق السماوات والأرض في ستة أيام في سورة البقرة، وعلى الاستواء في سورة الأعراف.
و {الرَّحْمانِ} خبر مبتدأ محذوف، أي هو الرحمان. وهذا من حذف المسند إليه الغالب في الاستعمال عندما تتقدم أخبار أو أوصاف لصاحبها، ثم يراد الإخبار عنه بما هو إفصاح عن وصف جامع لما مضى أو أهم في الغرض مما تقدمه، فإن وصف الرحمان أهم في الغرض المسوق له الكلام وهو الأمر بالتوكل عليه فإنه وصف يقتضي أنه يدبر أمور من توكل عليه بقوي الإسعاف.
وفرع على وصفه بـ {الرَّحْمانِ} قوله {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} للدلالة على أن في رحمته من العظمة والشمول ما لا تفي فيه العبارة فيعدل عن زيادة التوصيف إلى الحوالة على

عليم بتصاريف رحمته مجرب لها متلق أحاديثها ممن علمها وجربها.
وتنكير {خَبِيراً} للدلالة على العموم، فلا يظن خبيرا معينا، لأن النكرة إذا تعلق بها فعل اقتضت عموما بدليل أي خبير سألته أعلمك.
وهذا يجري مجرى المثل، ولعله من مبتكرات القرآن نظير قول العرب "على الخبير سقطت" يقولها العارف بالشيء إذا سئل عنه. والمثلان وإن تساويا في عدد الحروف المنطوق بها فالمثل القرآني أفصح لسلامته من ثقل تلاقي القاف والطاء والتاء في "سقطت". وهو أيضا أشرف لسلامته من معنى السقوط، وهو أبلغ معنى لما فيه من عموم كل خبير، بخلاف قولهم: على الخبير سقطت، لأنها إنما يقولها الواحد المعين. وقريب من معنى {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} قول النابغة:
هلا سألت بني ذبيان ما حسبي
...
إذا الدخان تغشى الأشمط البرما
إلى قوله:
يخبرك ذو عرضهم عني وعالمهم
...
وليس جاهل شيء مثل من علما
والباء في {بِهِ} بمعنى "عن" أي فأسأل عنه كقول علقمة:
فإن تسألوني بالنساء فإنني
...
خبير بأدواء النساء طبيب
ويجوز أن تكون الباء متعلقة بـ {خَبِيراً} وتقديم المجرور للرعي على الفاصلة وللاهتمام، فله سببان.
[60] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً} .
لما جرى وصف الله تعالى بالرحمن مع صفات أخر استطرد ذكر كفر المشركين بهذا الوصف. وقد علمت عند الكلام على البسملة في أول هذا التفسير أن وصف الله تعالى باسم "الرحمان" هو من وضع القرآن ولم يكن معهودا للعرب، وأما قول شاعر اليمامة في مدح مسيلمة:
سموت بالمجد يابن الأكرمين أبا
...
وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا
فذلك بعد ظهور الإسلام في مدة الردة، ولذلك لما سمعوه من القرآن أنكروه قصدا بالتورك على النبي صلى الله عليه وسلم وليس ذلك عن جهل بمدلول هذا الوصف ولا بكونه جاريا على

مقاييس لغتهم ولا أنه إذا وصف الله به فهو رب واحد وأن التعدد في الأسماء؛ فكانوا يقولون: انظروا إلى هذا الصابئ ينهانا أن ندعو إلهين وهو يدعو الله ويدعو الرحمان. وفي ذلك نزل قوله تعالى {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} . وقد تقدم في آخر [سورة الإسراء: 110]. وهذه الآية تشير إلى آية سورة الإسراء.
والخبر هنا مستعمل كناية في التعجيب من عنادهم وبهتانهم، وليس المقصود إفادة الإخبار عنهم بذلك لأنه أمر معلوم من شأنهم.
والسجود الذي أمروا به سجود الاعتراف له بالوحدانية وهو شعار الإسلام، ولم يكن السجود من عبادتهم وإنما كانوا يطوفون بالأصنام، وأما سجود الصلاة التي هي من قواعد الإسلام فليس مرادا هنا إذ لم يكونوا ممن يؤمر بالصلاة ولا فائدة في تكليفهم بها قبل أن يسلموا. ويدل لذلك حديث معاذ بن جبل حين أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فأمره أن يدعوهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ثم قال: "فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة" الخ. ومسألة تكليف الكفار بفروع الشريعة لا طائل تحتها.
وواو العطف في قولهم {وَمَا الرَّحْمَنُ} لعطفهم الكلام الذي صدر منهم على الكلام الذي وجه إليهم في أمرهم بالسجود للرحمن، على طريقة دخول العطف بين كلامي متكلمين كما في قوله تعالى {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} . و {مَا} من قوله {وَمَا الرَّحْمَنُ} استفهامية.
والاستفهام مستعمل في الاستغراب، يعنون تجاهل هذا الاسم، ولذلك استفهموا عنه بما دون "من" باعتبار السؤال عن معنى هذا الاسم.
والاستفهام في {أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا} إنكار وامتناع، أي لا نسجد لشيء تأمرنا بالسجود له على أن {مَا} نكرة موصوفة، أو لا نسجد للذي تأمرنا بالسجود له إن كانت {مَا} موصولة. وحذف العائد من الصفة أو الصلة مع ما أتصل هو به لدلالة ما سبق عليه، ومقصدهم من ذلك إباء السجود لله لأن السجود الذي أمروا به سجود لله بنية انفراد الله دون غيره، وهم لا يجيبون إلى ذلك كما قال الله تعالى {وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم: 43]، أي فيأبون، وقال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} [المرسلات: 48]. ويدل على ذلك قوله {وَزَادَهُمْ نُفُوراً} فالنفور من السجود سابق قبل سماع

اسم الرحمن.
وقرأ الجمهور {تَأْمُرُنَا} بتاء الخطاب. وقرأه حمزة والكسائي بياء الغيبة على أن قولهم ذلك يقولونه بينهم ولا يشافهون به النبي صلى الله عليه وسلم.
والضمير المستتر في {زَادَهُمْ} عائد إلى القول المأخوذ من {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ} . والنفور: الفرار من الشيء. وأطلق هنا على لازمه وهو البعد. وإسناد زيادة النفور إلى القول لأنه سبب تلك الزيادة فهم كانوا أصحاب نفور من سجود لله فلما أمروا بالسجود للرحمان زادوا بعدا من الإيمان، وهذا كقوله في سورة نوح {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلَّا فِرَاراً} .
وهذا موضع سجدة من سجود القرآن بالاتفاق. ووجه السجود هنا إظهار مخالفة المشركين إذ أبوا السجود للرحمن، فلما حكي إباؤهم من السجود للرحمان في معرض التعجيب من شأنهم عزز ذلك بالعمل بخلافهم فسجد النبي صلى الله عليه وسلم هنا مخالفا لهم مخالفة بالفعل مبالغة في مخالفته لهم بعد أن أبطل كفرهم بقوله {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} الآيات الثلاث. وسن الرسول عليه السلام السجود في هذا الموضع.
[61] {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً} .
استئناف ابتدائي جعل تمهيدا لقوله {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} الآيات التي هي محصول الدعامة الثالثة من الدعائم الثلاث التي أقيم عليها بناء هذه السورة، وافتتحت كل دعامة منها بـ {تَبَارَكَ الَّذِي...} الخ كما تقدم في صدر السورة. وافتتح ذلك بإنشاء الثناء على الله بالبركة والخير لما جعله للخلق من المنافع. وتقدم {تَبَارَكَ} أول السورة وفي قوله {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} في [الأعراف: 54].
والبروج: منازل مرور الشمس فيما يرى الراصدون. وقد تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً} في أول [سورة الحجر: 16].
والامتنان بها لأن الناس يوقتون بها أزمانهم.
وقرأ الجمهور {سِرَاجاً} بصيغة المفرد. والسراج: الشمس كقوله {وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً} في [سورة نوح: 16]. ومناسبة ذلك لما يرد بعده من قوله {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ

اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً....} [الفرقان: 62]
وقرأ حمزة والكسائي {سِرَاجاً} بضم السين والراء جمع سراج فيشمل مع الشمس النجوم، فيكون امتنانا بحسن منظرها للناس كقوله { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [الملك: 5]. والامتنان بمحاسن المخلوقات وارد في القرآن قال تعالى {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل: 6].
والكلام جار على التشبيه البليغ لأن حقيقة السراج: المصباح الزاهر الضياء. والمقصود: أنه جعل الشمس مزيلة للظلمة كالسراج، أو خلق النجوم كالسراج في التلألؤ وحسن المنظر.
ودلالة خلق البروج والشمس والقمر على عظيم القدرة دلالة بينة للعاقل، وكذلك دلالته على دقيق الصنع ونظامه بحيث لا يختل ولا يختلف حتى تسنى للناس رصد أحوالها وإناطة حسابهم بها.
[62] {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} .
الاستدلال هذا بما في الليل والنهار من اختلاف الحال بين ظلمة ونور، وبرد وحر، مما يكون بعضه أليق ببعض الناس من بعض ببعض آخر، وهذا مخالف للاستدلال الذي في قوله {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً} [الفرقان: 47]، فهذه دلالة أخرى والحكم في المخلوقات كثيرة.
والقصر هنا قصر حقيقي وليس إضافيا فلذلك لا يراد به الرد على المشركين بخلاف صيغ القصر السابقة من قوله {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً} إلى قوله {وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً} [الفرقان: 45 - 47].
والخلفة بكسر الخاء وسكون اللام: اسم لما يخلف غيره في بعض ما يصلح له. صيغ هذا الاسم على زنة فعلة لأنه في الأصل ذو خلفة، أي صاحب حالة خلف فيها غيره ثم شاع استعماله فصار اسما، قال زهير:
بها العين والآرام يمشين خلفة
...
وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم
أي يمشي سرب ويخلفه سرب آخر ثم يتعاقب هكذا. فالمعنى: جعل الليل خلفة

والنهار خلفة: أي كل واحد منهما خلفة عن الآخر، أي فيما يعمل فيها من التدبر في أدلة العقيدة والتعبد والتذكر.
واللام في {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ} لام التعليل وهي متعلقة بـ {جَعَلَ} ، فأفاد ذلك أن هذا الجعل نافع من أراد أن يذكر أو أراد شكورا.
والتذكر: تفعل من الذكر، أي تكلف الذكر. والذكر جاء في القرآن بمعنى التأمل في أدلة الدين، وجاء بمعنى: تذكر فائت أو منسي، ويجمع المعنيين استظهار ما احتجب عن الفكر.
والشكور: بضم الشين مصدر مرادف الشكر، والشكر: عرفان إحسان المحسن. والمراد به هنا العبادة لأنها شكر لله تعالى.
فتفيد الآية معنى: لينظر في اختلافهما المتفكر فيعلم أن لابد لانتقالهما من حال إلى حال مؤثر حكيم فيستدل بذلك على توحيد الخالق ويعلم أنه عظيم القدرة فيوقن بأنه لا يستحق غيره الإلهية، وليشكر الشاكر على ما في اختلاف الليل والنهار من نعم عظيمة منها ما ذكر في قوله تعالى {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً} فيكثر الشاكرون على اختلاف أحوالهم ومناسباتهم، وتفيد معنى: ليتدارك الناسي ما فاته في الليل بسبب غلبة النوم أو التعب فيقضيه في النهار أو ما شغله عنه شواغل العمل في النهار فيقضيه بالليل عند التفرغ فلا يرزؤه ذلك ثواب أعماله. روي أن عمر بن الخطاب أطال صلاة الضحى يوما فقيل له: صنعت شيئا لم تكن تصنعه ? فقال: إنه بقى علي من وردي شيء فأحببت أن أقضيه وتلا قوله تعالى {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً} الآية. ولمن أراد أن يتقرب إلى الله شكرا له بصلاة أو صيام فيكون الليل أسعد ببعض ذلك والنهار أسعد ببعض، فهذا مفاد عظيم في إيجاز بديع.
وجيء في جانب المتذكرين بقوله {أَنْ يَذَّكَّرَ} لدلالة المضارع على التجدد. واقتصر في جانب الشاكرين على المصدر بقوله {أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} لأن الشكر يحصل دفعة. ولأجل الاختلاف بين النظمين أعيد فعل {أَرَادَ} إذ لا يلتئم عطف {شُكُوراً} على {أَنْ يَذَّكَّرَ} .
وقرأ الجمهور {أَنْ يَذَّكَّرَ} بتشديد الذال مفتوحة، وأصله: يتذكر فأدغمت التاء في الذال لتقاربهما. وقرأ حمزة وخلف {أَنْ يَذَّكَّرَ} بسكون الذال وضم الكاف وهو بمعنى

المشدد إلا أن المشدد أشد عملا، وكلا العملين يستدركان في الليل والنهار.
[63] {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} .
عطف جملة على جملة، فالجملة المعطوفة هي {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ} الخ، فهو مبتدأ وخبره {الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} الخ. وقيل: الخبر {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} [الفرقان: 75]. والجملة المعطوف عليها جملة {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً} [الفرقان: 62] الخ. فبمناسبة ذكر من أراد أن يذكر تخلص إلى خصال المؤمنين أتباع النبي صلى الله عليه وسلم حتى تستكمل السورة أغراض التنويه بالقرآن ومن جاء به ومن اتبعوه كما أشرنا إليه في الإلمام بأهم أغراضها في طالعة تفسيرها. وهذا من أبدع التخلص إذ كان مفاجئا للسامع مطمعا أنه استطراد عارض كسوابقه حتى يفاجئه ما يؤذن بالختام وهو {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي} [الفرقان: 77] الآية.
والمراد بـ {عِبَادُ الرَّحْمَنِ} بادئ ذي بدء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالصلات الثمان التي وصفوا بها في هذه الآية حكاية لأوصافهم التي اختصوا بها.
وإذ قد أجريت عليهم تلك الصفات في مقام الثناء والوعد بجزاء الجنة، علم أن من اتصف بتلك الصفات موعود بمثل ذلك الجزاء وقد شرفهم الله بأن جعل عنوانهم عباده، واختار لهم من الإضافة إلى اسمه اسم الرحمان لوقوع ذكرهم بعد ذكر الفريق الذين قيل لهم: {اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ. قَالُوا: وَمَا الرَّحْمَنُ} [الفرقان: 60]. فإذا جعل المراد من {عِبَادُ الرَّحْمَنِ} أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان الخبر في قوله {الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} إلى آخر المعطوفات وكان قوله الآتي {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} [الفرقان: 75] استئنافا لبيان كونهم أحرياء بما بعد اسم الإشارة.
وإذا كان المراد من {عِبَادُ الرَّحْمَنِ} جميع المؤمنين المتصفين بمضمون تلك الصلات كانت تلك الموصولات وصلاتها نعوتا لـ {عِبَادُ الرَّحْمَنِ} وكان الخبر اسم الإشارة في قوله {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ} الخ.
وفي الإطناب بصفاتهم الطيبة تعريض بأن الذين أبوا السجود للرحمن وزادهم نفورا هم على الضد من تلك المحامد، تعريضا تشعر به إضافة {عِبَادُ} إلى {الرَّحْمَنِ} .

واعلم أن هذه الصلات التي أجريت على {عِبَادُ الرَّحْمَنِ} جاءت على أربعة أقسام: قسم هو من التحلي بالكمالات الدينية وهي التي ابتدئ بها من قوله تعالى {الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} إلى قوله {سَلاماً} [الفرقان: 75].
وقسم هو من التخلي عن ضلالات أهل الشرك وهو الذي من قوله {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} [الفرقان: 68].
وقسم هو من الاستقامة على شرائع الإسلام وهو قوله {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً} [الفرقان: 64]، وقوله {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا} [الفرقان: 67] الآية، وقوله {وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ} إلى قوله {لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان: 68 - 72] الخ.
وقسم من تطلب الزيادة من صلاح الحال في هذه الحياة وهو قوله {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا} إلى قوله {لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان: 74].
وظاهر قوله {يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} أنه مدح لمشية بالأرجل وهو الذي حمل عليه جمهور المفسرين.
وجوز الزجاج أن يكون قوله {يَمْشُونَ} عبارة عن تصرفاتهم في معاشرة الناس فعبر عن ذلك بالانتقال في الأرض وتبعه ابن عطية وهذا الذي ذكره مأخوذ مما روي عن زيد بن أسلم كما سيأتي. فعلى الوجه الأول يكون تقييد المشي بأنه على الأرض ليكون في وصفه بالهون ما يقتضي أنهم يمشون كذلك اختيارا وليس ذلك عند المشي في الصعدات أو على الجنادل.
والهون: اللين والرفق. ووقع هنا صفة لمصدر المشي محذوف تقديره "مشياً" فهو منصوب على النيابة عن المفعول المطلق.
والمشي الهون: هو الذي ليس فيه ضرب بالأقدام وخفق النعال فهو مخالف لمشي المتجبرين المعجبين بنفوسهم وقوتهم. وهذا الهون ناشئ عن التواضع لله تعالى والتخلق بآداب النفس العالية وزوال بطر أهل الجاهلية فكانت هذه المشية من خلال الذين آمنوا على الضد من مشي أهل الجاهلية. وعن عمر بن الخطاب أنه رأى غلاما يتبختر في مشيته فقال له "إن البخترة مشية تكره إلا في سبيل الله". وقد مدح الله تعالى أقواما بقوله سبحانه {يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} فاقصد من مشيتك، وحكى الله تعالى عن لقمان لابنه {وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً} [الإسراء: 37].

والتخلق بهذا الخلق مظهر من مظاهر التخلق بالرحمة المناسب لعباد الرحمان لأن الرحمة ضد الشدة فالهون يناسب ماهيتها وفيه سلامة من صدم المارين.
وعن زيد بن أسلم قال: كنت أسأل عن تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} فما وجدت في ذلك شفاء فرأيت في المنام من جاءني فقال لي: {هم الذين لا يريدون أن يفسدوا في الأرض} . فهذا رأي لزيد بن أسلم ألهمه يجعل معنى {يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ} أنه استعارة للعمل في الأرض كقوله تعالى {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا} وأن الهون مستعار لفعل الخير لأنه هون على الناس كما يسمى بالمعروف.
وقُرن وصفهم بالتواضع في سمتهم وهو المشي على الأرض هونا بوصف آخر يناسب التواضع وكراهية التطاول وهو متاركة الذين يجهلون عليهم في الخطاب بالأذى والشتم وهؤلاء الجاهلون يومئذ هم المشركون إذ كانوا يتعرضون للمسلمين بالأذى والشتم فعلمهم الله متاركة السفهاء، فالجهل هنا ضد الحلم، ولذلك أشهر إطلاقاته عند العرب قبل الإسلام وذلك معلوم في كثير من الشعر والنثر.
وانتصب {سَلاماً} على المفعولية المطلقة. وذكرهم بصفة الجاهلين دون غيرها مما هو أشد مذمة مثل الكافرين لأن هذا الوصف يشعر بأن الخطاب الصادر منهم خطاب الجهالة والجفوة.
و"السلام" يجوز أن يكون مصدرا بمعنى السلامة، أي لا خير بيننا ولا شر فنحن مسلمون منكم. ويجوز أن يكون مرادا به لفظ التحية فيكون مستعملا في لازمه وهو المتاركة لأن أصل استعمال لفظ السلام في التحية أنه يؤذن بالتأمين، أي عدم الإهاجة، والتأمين: أول ما يلقى به المرء من يريد إكرامه، فتكون الآية في معنى قوله {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص: 55].
قال ابن عطية: وأريت في بعض التواريخ أن إبراهيم بن المهدي وكان من المائلين على علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال يوم بحضرة المأمون1 وعنده جماعة: كنت أرى علي بن أبي طالب في النوم فكنت أقول له: من أنت? فكان يقول: علي بن أبي
ـــــــ
1 لأن المأمون كان متشيعًا للعلويين.

طالب، فكنت أجيء معه إلى قنطرة فيذهب فيتقدمني في عبورها أقول: إنما تدعي هذا الأمر بامرأة ونحن أحق به منك، فما رأيت له في الجواب بلاغة كما يذكر عنه، قال المأمون: وبماذا جاوبك? قال: فكان يقول لي: سلاما. قال الراوي: فكأن إبراهيم بن المهدي لا يحفظ الآية أو ذهبت عنه في ذلك الوقت، فنبه المأمون على الآية من حضره وقال: هو والله يا عم علي بن أبي طالب وقد جاوبك بأبلغ جواب، فخزي إبراهيم واستحيا. ولأجل المناسبة بين الصيغتين عطفت هذه على الصلة الأولى. ولم يكرر اسم الموصول كما كرر في الصفات بعدها.
[64] {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً} .
عطف صفة أخرى على صفتيهم السابقتين على حد قول الشاعر:
إلى الملك القرم وابن الهمام
...
وليث الكتيبة في المزدحم
وإعادة الموصول لتأكيد أنهم يعرفون بهذه الصلة، والظاهر أن هذه الموصولات وصلاتها كلها أخبار أو أوصاف لعباد الرحمن. روي عن الحسن البصري أنه كان إذا قرأ {الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} قال: هذا وصف نهارهم ثم إذا قرأ {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً} قال: هذا وصف ليلهم.
والقيام: جمع قائم كالصحاب، والسجود والقيام ركنا الصلاة، فالمعنى: يبتون يصلون، فوق إطناب في التعبير عن الصلاة بركنيها تنويها بكليهما. وتقديم {سُجَّداً} على {قِيَاماً} للرعي على الفاصلة مع الإشارة إلى الاهتمام بالسجود وهو ما يبينه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيري التهجد كما أثنى الله عليهم بذلك بقوله {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} .
[65 - 66] {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً}
دعاؤهم هذا أمارة على شدة مخافتهم الذنوب فهم يسعون في مرضاة ربهم لينجوا من العذاب، فالمراد بصرف العذاب: إنجاؤهم منه بتيسير العمل الصالح وتوفيره واجتناب السيئات.
وجملة {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً} يجوز أن تكون حكاية من كلام القائلين. ويجوز أن

تكون من كلام الله تعالى معرضة بين اسمي الموصول، وعلى كل فهي تعليل لسؤال صرف عذابها عنهم.
والغرام: الهلاك الملح الدائم، وغلب إطلاقه على الشر المستمر.
وجملة {إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} يجوز أن تكون حكاية لكلام القائلين فتكون تعليلا ثانيا مؤكدا لتعليلهم الأول، وأن تكون من جانب الله تعالى دون التي قبلها فتكون تأيدا لتعليل القائلين. وأن تكون من كلام الله مع التي قبلها فتكون تكريرا للاعتراض.
والمستقر: مكان الاستقرار. والاستقرار: قوة القرار. والمقام: اسم مكان الإقامة، أي ساءت موضعا لمن يستقر فيها بدون إقامة مثل عصاة أهل الأديان ولمن يقيم فيها من المكذبين للرسل المبعوثين إليهم.
[67] {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} .
أفاد قوله {إِذَا أَنْفَقُوا} أن الإنفاق من خصالهم فكأنه قال: والذين ينفقون وإذا أنفقوا الخ. وأريد بالإنفاق هنا الإنفاق غير الواجب وذلك إنفاق المرء على أهل بيته وأصحابه لأن الإنفاق الواجب لا يذم الإسراف فيه، والإنفاق الحرام لا يحمد مطلقا بله أن يذم الإقتار فيه على أن في قوله {إِذَا أَنْفَقُوا} إشعارا بأنهم اختاروا أن ينفقوا ولم يكن واجبا عليهم.
والإسراف: تجاوز الحد الذي يقتضيه الإنفاق بحسب حال المنفق وحال المنفق عليه. وتقدم معنى الإسراف في قوله تعالى {وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً} في [سورة النساء: 6]، وقوله {وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} في [سورة الأنعام: 141].
والإقتار عكسه. وكان أهل الجاهلية يسرفون في النفقة في اللذات ويغلون السباء في الخمر ويتممون الأيسار في الميسر. وأقوالهم في ذلك كثيرة في أشعارهم وهي في معلقة طرفة وفي معلقة لبيد وفي ميمية النابغة، ويفتخرون بإتلاف المال ليتحدث العظماء عنهم بذلك، قال الشاعر مادحا:
مفيد ومتلاف إذا ما أتيته
...
تهلل واهتز اهتزاز المهند
وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر {وَلَمْ يَقْتُرُوا} بضم التحتية وكسر الفوقية من الإقتار وهو مرادف التقتير. وقرأه ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب بفتح التحتية وكسر الفوقية من قتر

من باب ضرب وهو لغة. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وخلف بفتح التحتية وضم الفوقية من فعل قتر من باب نصر.
والإقتار والقتر: الإحجاف والنقص مما تسعه الثروة ويقتضيه حال المنفق عليه. وكان أهل الجاهلية يقترون على المساكين والضعفاء لأنهم لا يسمعون ثناء العظماء في ذلك. وقد تقدم ذلك عند قوله {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ} [البقرة: 180].
والإشارة في قوله {بَيْنَ ذَلِكَ} إلى ما تقدم بتأويل المذكور، أي الإسراف والإقتار.
والقوام بفتح القاف: العدل والقصد بين الطرفين.
والمعنى أنهم يضعون النفقات مواضعها الصالحة كما أمرهم الله فيدوم إنفاقهم وقد رغب الإسلام في العمل الذي يدوم عليه صاحبه، وليسير نظام الجماعة على كفاية دون تعريضه للتعطيل فإن الإسراف من شأنه استنفاد المال فلا يدوم الإنفاق، وأما الإقتار فمن شأنه إمساك المال فيحرم من يستأهله.
وقوله {بَيْنَ ذَلِكَ} خبر {كَانَ} ، و {قَوَاماً} حال مؤكدة لمعنى {بَيْنَ ذَلِكَ} . وفيها إشعار بمدح ما بين ذلك بأنه الصواب الذي لا عوج فيه. ويجوز أن يكون {قَوَاماً} خبر {كَانَ} و {بَيْنَ ذَلِكَ} ظرفا متعلقا به. وقد جرت الآية على مراعاة الأحوال الغالبة في إنفاق الناس. قال القرطبي: والقوام في كل واحد بحسب عياله وحاله ولهذا ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق يتصدق بجميع ماله ومنع غيره من ذلك.
[68 - 69] {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً}
هذا قسم آخر من صفات عباد الرحمن وهو قسم التخلي عن المفاسد التي كانت ملازمة لقومهم من المشركين؛ فتنزه عباد الرحمن عنها بسبب إيمانهم، وذكر هنا تنزههم عن الشرك وقتل النفس والزنا، وهذه القبائح الثلاث كانت غالبة على المشركين.
ووصف النفس بـ {الَّتِي حَرَّمَ اللَّه} بيانا لحرمة النفس التي تقررت من عهد آدم فيما

حكى الله من محاورة ولد آدم بقوله {قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ} الآيات، فتقرر تحريم قتل النفس من أقدم أزمان البشر ولم يجهله أحد من ذرية آدم، فذلك معنى وصف النفس بالموصول في قوله {الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ} . وكان قتل النفس متفشيا في العرب بالعداوات والغارات وبالوأد في كثير من القبائل بناتهم، وبالقتل لفرط الغيرة، كما قال امرؤ القيس:
تجاوزت أحراسا إليها ومعشرا
...
علي حراصا لو يسرون مقتلي
وقال عنترة:
علقتها عرضا وأقتل قومها
...
زعما لعمر أبيك ليس بمزعم
وقوله {إِلَّا بِالْحَقِّ} المراد به يومئذ: قتل قاتل أحدهم، وهو تهيئة لمشروعية الجهاد عقب مدة نزول هذه السورة. ولم يكن بيد المسلمين يومئذ سلطان لإقامة القصاص والحدود. ومضى الكلام على الزنى في سورة سبحان.
وقد جُمع التخلي عن هذه الجرائم الثلاث في صلة موصول واحد ولم يكرر اسم الموصول كما كرر في ذكر خصال تحليهم، للإشارة إلى أنهم لما أقلعوا عن الشرك ولم يدعوا مع الله إلها آخر فقد أقلعوا عن أشد القبائح لصوقا بالشرك وذلك قتل النفس والزنى. فجل ذلك شبيه خصلة واحدة، وجعل في صلة موصول واحد.
وقد يكون تكرير {لا} مجزئا عن إعادة اسم الموصول وكافيا في الدلالة على أن كل خصلة من هذه الخصال موجبة لمضاعفة العذاب، ويؤيده ما في "صحيح مسلم" من حديث عبد الله ابن مسعود قال: قتل يا رسول الله أي الذنب أكبر?: قال أن تدعو لله ندا وهو خلقك. قلت: ثم أي? قال: أن تقتل ولدك خيفة أن يطعم معك. قلت ثم أي? قال: أن تزاني حليلة جارك. فأنزل الله تعالى تصديقا {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} وإلى {أَثَاماً} ، وفي رواية ابن عطية ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية.
وقد علمت أن هذه الآيات الثلاث إلى قوله {غَفُوراً رَحِيماً} [الفرقان: 68 - 70] قيل نزلت بالمدينة.
والإشارة بـ {ذَلِكَ} إلى ما ذكر من الكبائر على تأويله بالمذكور كما تقدم في نظيره آنفا، والمتبادر من الإشارة أنها إلى المجموع، أي من يفعل مجموع الثلاث ويعلم أن جزاء ما يفعل بعضها ويترك بعضا عدا الإشراك دون جزاء من يفعل جميعها، وأن البعض أيضا مراتب، وليس المراد من يفعل كل واحدة مما ذكر يلق أثاما لأن لقي الآثام بين هنا

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68