كتاب : التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور
المؤلف : محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي

الآتي {وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ} [التوبة:74] وهذا من لطائف القرآن.
{لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} .
جاءت هذه الجملة على عادة القرآن في تعقيب النذارة بالتبشير للراغب في التوبة تذكيرا له بإمكان تدارك حاله.
ولما كان حال المنافقين عجيبا كانت البشارة لهم مخلوطة ببقية النذارة، فأنبأهم أن طائفة منهم قد يعفى عنها إذا طلبت سبب العفو: بإخلاص الإيمان، وإن طائفة تبقى في حالة العذاب، والمقام دال على أن ذلك لا يكون عبثا ولا ترجيحا بدون مرجح، فما هو إلا أن طائفة مرجوة الإيمان، فيغفر عما قدمته من النفاق، وأخرى تصر على النفاق حتى الموت، فتصير إلى العذاب. والآيات الواردة بعد هذه تزيد ما دل عليه المقام وضوحا من قوله: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} - إلى قوله - {عَذَابٌ مُقِيمٌ} [التوبة:67 ،68]. وقوله بعد ذلك: {فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُنْ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [التوبة:74].
وقد آمن بعض المنافقين بعد نزول هذه الآية، وذكر المفسرون من هذه الطائفة مخشيا(1) بن حميّر الأشجعي لما سمع هذه الآية تاب من النفاق، وحسن إسلامه، فعد من الصحابة، وقد جاهد يوم اليمامة واستشهد فيه، وقد قيل: إنه المقصود "بالطائفة" دون غيره فيكون من باب إطلاق لفظ الجماعة على الواحد في مقام الإخفاء والتعمية كقوله صلى الله عليه وسلم "ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله" . وقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي المدينة بقية من المنافقين وكان عمر بن الخطاب في خلافته يتوسمهم.
والباء في {بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} للسببية، والمجرم الكافر.
وقرأ الجمهور {يُعفَ و تُعذبْ} ببناء الفعلين إلى النائب، وقرأه عاصم بالبناء للفاعل وبنون العظمة في الفعلين ونصب {طَائِفَةً} الثاني.
[67] {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ
ـــــــ
(1) بميم مفتوحة وخاء معجمة ساكنة وياء مشدّدة، وحمير بحاء مهملة مضمومة وميم مفتوحة وتحتية مشددة. وفي "سيرة ابن إسحاق" ومخشن بنون من آخره وبفتح الشين وقد ذكر اسمه آنفاً عند تفسير قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة: 65].

الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} .
يظهر أن تكون هذه الآية احتراسا عن أن يظن المنافقون أن العفو المفروض لطائفة منهم هو عفو ينال فريقا منهم باقين على نفاقهم، فعقب ذلك ببيان أن النفاق حالة واحدة وأن أصحابه سواء، ليعلم بذلك أن افتراق أحوالهم بين عفو وعذاب لا يكون إلا إذا اختلفت أحوالهم بالإيمان والبقاء على النفاق، إلى ما أفادته الآية أيضا من إيضاح بعض أحوال النفاق وآثاره الدالة على استحقاق العذاب، ففصل هاته الجملة عن التي قبلها: إما لأنها كالبيان للطائفة المستحقة العذاب، وإما أن تكون استئنافا ابتدائيا في حكم الاعتراض كما سيأتي عند قوله تعالى: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [التوبة:69] وإما أن تكون اعتراضا هي والتي بعدها بين الجملة المتقدمة وبين جملة {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً} [التوبة:69] كما سيأتي هنالك.
وزيد في هذه الآية ذكر {وَالْمُنَافِقَاتُ} تنصيصا على تسوية الأحكام لجميع المتصفين بالنفاق: ذكورهم وإناثهم، كيلا يخطر بالبال أن العفو يصادف نساءهم، والمؤاخذة خاصة بذكرانهم، ليعلم الناس أن لنساء المنافقين حظا من مشاركة رجالهن في النفاق فيحذروهن.
و {مِنْ} في قوله: {بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} اتصالية دالة على معنى اتصال شيء بشيء وهو تبعيض مجازي معناه الوصلة والولاية، ولم يطلق على ذلك اسم الولاية كما أطلق على اتصال المؤمنين بعضهم ببعض في قوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71] لما سيأتي هنالك.
وقد شمل قوله: {بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} جميع المنافقين والمنافقات، لأن كل فرد هو بعض من الجميع، فإذا كان كل بعض متصلا ببعض آخر، علم أنهم سواء في الأحوال.
وجملة {يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ} مبينة لمعنى الاتصال والاستواء في الأحوال.
والمنكر: المعاصي لأنها ينكرها الإسلام.
والمعروف: ضدها، لأن الدين يعرفه، أي يرضاه، وقد تقدما في قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ} في سورة آل عمران[104].
وقبض الأيدي: كناية عن الشح، وهو وصف ذم لدلالته على القسوة، لأن المراد الشح على الفقراء.

والنسيان منهم مستعار للإشراك بالله، أو للإعراض عن ابتغاء مرضاته وامتثال ما أمر به، لأن الإهمال والإعراض يشبه نسيان المعرض عنه.
ونسيان الله إياهم مشاكلة أي حرمانه إياهم مما أعد للمؤمنين، لأن ذلك يشبه النسيان عند قسمة الحظوظ.
وجملة {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} فذلكة للتي قبلها فلذلك فصلت لأنها كالبيان الجامع.
وصيغة القصر في {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} قصر ادعائي للمبالغة لأنهم لما بلغوا النهاية في الفسوق جعل غيرهم كمن ليس بفاسق.
والإظهار في مقام الإضمار في قوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ} لزيادة تقريرهم في الذهن لهذا الحكم. ولتكون الجملة مستقلة حتى تكون كالمثل.
[68] {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} .
هذه الجملة إما استئناف بياني ناشئي عن قوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة:67]، وإما مبينة لجملة {فَنَسِيَهُمْ} [التوبة:67]. لأن الخلود في جهنم واللعن بيان للمراد من نسيان الله إياهم.
والوعد أعم من الوعيد، فهو يطلق على الإخبار بالتزام المخبر للمخبر بشيء في المستقبل نافع أو ضار أو لا نفع فيه ولا ضر {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَانُ} [يس:52]. والوعيد خاص بالضار.
وفعل المضي هنا: إما للإخبار عن وعيد تقدم وعده الله المنافقين والمنافقات تذكيرا به لزيادة تحقيقه وإما لصوغ الوعيد في الصيغة التي تنشأ بها العقود مثل (بعت ووهبت) إشعارا بأنه وعيد لا يتخلف مثل العقد والالتزام.
والإظهار في مقام الإضمار لتقرير المحكوم عليه في ذهن السامع حتى يتمكن اتصافهم بالحكم.
وزيادة ذكر {َالْكُفَّارَ} هنا للدلالة على أن المنافقين ليسوا بأهون حالا من المشركين إذ قد جمع الكفر الفريقين.

ومعنى {هِيَ حَسْبُهُمْ} أنها ملازمة لهم. وأصل حسب أنه بمعنى الكافي، ولما كان الكافي يلازمه المكفي كني به هنا عن الملازمة، ويجوز أن يكون {حَسِبَ} على أصله ويكون ذكره في هذا المقام تهكما بهم، كأنهم طلبوا النعيم، فقيل: حسبهم نار جهنم.
واللعن: الإبعاد عن الرحمة والتحقير والغضب.
والعذاب المقيم: إن كان المراد به عذاب جهنم فهو تأكيد لقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ} لدفع احتمال إطلاق الخلود على طول المدة، وتأكيد للكناية في قوله: {هِيَ حَسْبُهُمْ} وإن كان المراد به عذابا آخر تعين أنه عذاب في الدنيا وهو عذاب الخزي والمذلة بين الناس.
وفي هذه الآية زيادة تقرير لاستحقاق المنافقين العذاب، وأنهم الطائفة التي تعذب إذا بقوا على نفاقهم، فتعين أن الطائفة المعفو عنها هم الذين يؤمنون منهم.
[69] {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَدًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاَقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ} .
قيل هذا الخطاب التفات، عن ضمائر الغيبة الراجعة إلى المنافقين، إلى خطابهم لقصد التفريع والتهديد بالموعظة، والتذكير عن الغرور بما هم فيه من نعمة الإمهال بأن آخر ذلك حبط الأعمال في الدنيا والآخرة، وأن يحق عليهم الخسران.
فكاف التشبيه في موضع الخبر عن مبتدأ محذوف دل عليه ضمير الخطاب، تقديره: أنتم كالذين من قبلكم، أو الكاف في موضع نصب بفعل مقدر، أي: فعلتم كفعل الذين من قبلكم، فهو في موضع المفعول المطلق الدال على فعله، ومثله في حذف الفعل والإتيان بما هو مفعول الفعل المحذوف قول النمر بن تولب:
حتى إذا الكلاب قال لها ... كاليوم مطلوبا ولا طالبا
أراد: لم أر كاليوم، إلا أن عامل النصب مختلف بين الآية والبيت.
وقيل هذا من بقية المقول المأمور بأن يبلغه النبي صلى الله عليه وسلم إيّاهم من قوله: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة:65] الآية. فيكون ما بينهما اعتراضا بقوله:

{الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} [التوبة:67] الخ فضمير الخطاب لهم جار على مقتضى الظاهر بدون التفات والكلام مسوق لتشبيه حالهم في مصيرهم إلى النار.
والإتيان بالموصول لأنه أشمل وأجمع للأمم التي تقدمت مثل عاد وثمود ممن ضرب العرب بهم المثل في القوة.
و {أَشَدَّ} معناه أقوى، والقوة هنا القدرة على الأعمال الصعبة كقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت:15] أو يراد بها العزة وعدة الغلب باستكمال العدد والعدد، وبهذا المعنى أوقعت القوة تمييز ال {أَشَدَّ} كما أوقعت مضافا إليه شديد في قوله تعالى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:5].
وكثرة الأموال لها أسباب كثيرة: منها طيب الأرض للزرع والغرس ورعي الأنعام والنحل، ومنها وفرة التجارة بحسن موقع الموطن بين مواطن الأمم، ومنها الاقتراب من البحار للسفر إلى الأقطار وصيد البحر، ومنها اشتمال الأرض عل المعادن من الذهب والفضة والحديد والمواد الصناعية والغذائية من النبات، كأشجار التوابل ولحاء الدبغ والصبغ والأدوية والزراريع والزيوت.
وكثرة الأولاد تأتي من الأمن بسبب بقاء الأنفس، ومن الخصب المؤثر قوة الأبدان والسلامة من المجاعات المعقبة للموتان، ومن حسن المناخ بالسلامة من الأوبئة المهلكة، ومن الثروة بكثرة الأزواج والسراري والمراضع.
والاستمتاع: التمتع، وهو نوال أحد المتاع الذي به التذاذ الإنسان وملائمه وتقدم عند قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} في سورة الأعراف[24].
والسين والتاء فيه للمبالغة في قوة التمتع.
والخلاق: الحظ من الخير وقد تقدم عند قوله تعالى: { فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ} في سورة البقرة [200].
وتفرع {فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاَقِكُمْ} على {كَانُوا أَشَدَّ} : لأن المقصود إدخاله في الحالة المشبه بها كما سيأتي.
وتفرّع {فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاَقِكُمْ} على ما أفاده حرف الكاف بقوله: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} من معنى التشبيه، ولذلك لم تعطف جملة {فَاسْتَمْتَعْتُمْ} بواو العطف، فإنّ هذه

الجملة هي المقصد من التشبيه وما تفرع عليه، وقد كان ذكر هذه الجملة يغني عن ذكر جملة {فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاَقِكُمْ} لولا قصد الموعظة بالفريقين: المشبه بهم، والمشبهين، في إعراض كليهما عن أخذ العدة للحياة الدائمة وفي انصبابهما على التمتع العاجل فلم يكتف في الكلام بالاقتصار على حال أحد الفريقين، قصدا للاعتناء بكليهما فذلك الذي اقتضى هذا الإطناب ولو اقتصر على قوله: {فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ} ولم يذكر قبله {فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاَقِهِمْ} حصل أصل المعنى ولم يستفد قصد الاهتمام بكلا الفريقين.
ولذلك لما تقرر هذا المقصد في أنفس السامعين لم يحتج إلى نسج مثل هذا النظم في قوله: {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} .
وقوله: {كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ} تأكيد للتشبيه الواقع في قوله: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ - إلى قوله - فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاَقِكُمْ} للتنبيه على أن ذلك الجزء بخصوصه، من بين الحالة المشبهة والحالة المشبه بها، هو محل الموعظة والتذكير، فلا يغرهم ما هم فيه من نعمة الإمهال والاستدراج، فقدم قوله: {فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاَقِهِمْ} وأتى بقوله: {كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} مؤكدا له دون أن يقتصر على هذا التشبيه الأخير، ليتأتى التأكيد، ولأن تقديم ما يتمم تصوير الحالة المشبه بها المركبة، قبل إيقاع التشبيه، أشد تمكينا لمعنى المشابهة عند السامع.
وقوله: {كَالَّذِي خَاضُوا} تشبيه لخوض المنافقين بخوض أولئك وهو الخوض الذي حكي عنهم في قوله: {لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة:65] ولبساطة هذا التشبيه لم يؤت فيه بمثل الأسلوب الذي أتي به في التشبيه السابق له. أي: وخضتم في الكفر والاستهزاء بآيات الله ورسوله كالخوض الذي خاضوه في ذلك، فأنتم وهم سواء، فيوشك أن يحيق بكم ما حاق بهم، وكلامنا في هذين التشبيهين أدق ما كتب فيهما.
و {الَّذِي} اسم موصول، مفرد، وإذ كان عائد الصلة هنا ضمير جمع تعين أن يكون المراد بـ {الَّذِي} تأويله بالفريق أو الجمع، ويجوز أن يكون {الَّذِي} هنا أصله الذين فخفف بحذف النون على لغة هذيل وتميم كقول الأشهب بن زميلة النهشلي:
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم ... هم القوم كل القوم يا أم خالد
ونحاة البصرة يرون هذا الاستعمال خاصا بحالة أن تطول الصلة كالبيت فلا ينطبق

عندهم على الآية، ونحاة الكوفة يجوزونه ولو لم تطل الصلة، كما في الآية، وقد ادعى الفراء: أن {الَّذِي} يكون موصولا حرفيا مؤولا بالمصدر، واستشهد له بهذه الآية، وهو ضعيف.
ولما وصفت حالة المشبه بهم من الأمم البائدة أعقب ذلك بالإشارة إليهم للتنبيه على أنهم بسبب ذلك كانوا جديرين بما سيخبر به عنهم، فقال تعالى: {أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ} وفيه تعريض بأن الذين شابهوهم في أحوالهم أحرياء بأن يحل بهم ما حل بأولئك، وفي هذا التعريض من التهديد والنذارة معنى عظيم.
والخوض: تقدمت الحوالة على معرفته آنفا.
والحبط: الزوال والبطلان، وتقدم في قوله تعالى: {فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} في سورة البقرة[217].
والمراد بأعمالهم: ما كانوا يعملونه ويكدحون فيه: من معالجة الأموال والعيال والانكباب عليهما، ومعنى حبطها في الدنيا استئصالها وإتلافها بحلول مختلف العذاب بأولئك الأمم، وفي الآخرة بعدم تعويضها لهم، كقوله تعالى: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} [مريم:80] - أي في الدنيا - {وَيَأْتِينَا فَرْدًا} [مريم:80] - أي في الآخرة - لا مال له ولا ولد، كقوله: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ} [الحاقة:29،28].
وفي هذا كله تذكرة للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأن لا يظنوا أن الله لما أمهل المنافقين قد عفا عنهم.
ولما كانت خسارتهم جسيمة جعل غيرهم من الخاسرين كلا خاسرين فحصرت الخسارة في هؤلاء بقوله: {وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ} قصرا مقصودا به المبالغة.
وإعادة اسم الإشارة للاهتمام بتمييز المتحدث عنهم لزيادة تقرير أحوالهم في ذهن السامع.
[70] {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} .
عاد الكلام على المنافقين: فضمير {أَلَمْ يَأْتِهِمْ} و {مِنْ قَبْلِهِمْ} عائدان إلى

المنافقين الذين عاد عليهم الضمير في قوله: { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} التوبة:65]، أو الضمير في قوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [التوبة:68].
والاستفهام موجه للمخاطب تقريرا عنهم، بحيث يكون كالاستشهاد عليهم بأنهم أتاهم نبأ الذين من قبلهم.
والإتيان مستعمل في بلوغ الخبر كقوله تعالى: {يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ} وقد تقدم في سورة العقود[41]، شبه حصول الخبر عند المخبر بإتيان الشخص، بجامع الحصول بعد عدمه، ومن هذا القبيل قولهم: بلغه الخبر، قال تعالى: {ِلأَنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} في سورة الأنعام[19].
والنبأ الخبر وقد تقدم في قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} في سورة الأنعام [34].
وقوم نوح تقدم الكلام عليهم عند قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} في سورة الأعراف[59].
ونوح: تقدم ذكره عند قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا} في سورة آل عمران [33].
وعاد: تقدم الكلام عليهم عند قوله تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} في سورة الأعراف [65].
وكذلك ثمود. وقوم إبراهيم هم الكلدانيون، وتقدم الكلام على إبراهيم وعليهم عند قوله تعالى: {وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} في سورة البقرة[124].
وإضافة {أَصْحَابِ} إلى {مَدْيَنَ} باعتبار إطلاق اسم مدين على الأرض التي كان يقطنها بنو مدين، فكما أن مدين اسم للقبيلة كما في قوله تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} [الأعرف:85]. كذلك هو اسم لموطن تلك القبيلة. وقد تقدم ذكر مدين عند قوله: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} في الأعراف[85].
{وَالْمُؤْتَفِكَاتِ} عطف على {أَصْحَابِ مَدْيَنَ} ، أي نبأ المؤتفكات، وهو جمع مؤتفكة: اسم فاعل من الائتفاك وهو الانقلاب. أي القرى التي انقلبت والمراد بها: قرى صغيرة كانت مساكن قوم لوط وهي: سدوم، وعمورة، وأدمة، وصبويم، وكانت قرى

متجاورة فخسف بها وصار عاليها سافلها. وكانت في جهات الأردن حول البحر الميت، ونبأ هؤلاء مشهور معلوم، وهو خبر هلاكهم واستئصالهم بحوادث مهولة.
وجملة {أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ} تعليل أو استئناف بياني نشأ عن قوله: {نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي أتتهم رسلهم بدلائل الصدق والحق.
وجملة {فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} تفريع على جملة {أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ} ، والمفرع هو مجموع الجملة إلى قوله: {يَظْلِمُونَ} لأن الذي تفرع على إتيان الرسل: أنهم ظلموا أنفسهم بالعناد، والمكابرة، والتكذيب للرسل، وصم الآذان عن الحق، فأخذهم الله بذلك، ولكن نظم الكلام على هذا الأسلوب البديع إذ ابتدئ فيه بنفي أن يكون الله ظلمهم اهتماما بذلك لفرط التسجيل عليهم بسوء صنعهم حتى جعل ذلك كأنه هو المفرع وجعل المفرع بحسب المعنى في صورة الاستدراك.
ونفي الظلم عن الله تعالى بأبلغ وجه، وهو النفي المقترن بلام الجحود، بعد فعل الكون المنفي، وقد تقدم الكلام عليه عند قوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ} في سورة العقود[6].
وأثبت ظلمهم أنفسهم لهم بأبلغ وجه إذ أسند إليهم بصيغة الكون الماضي، الدال على تمكن الظلم منهم منذ زمان مضى، وصيغ الظلم الكائن في ذلك الزمان بصيغة المضارع للدلالة على التجدد والتكرر، أي على تكرير ظلمهم أنفسهم في الأزمنة الماضية.
[71] {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} .
هذه تقابل قوله: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} [التوبة:67] لبيان أن الطائفة التي ينالها العفو هي الملتحقة بالمؤمنين.
فالجملة معطوفة على جملة {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} [التوبة:67] وما بينهما جمل تسلسل بعضها عن بعض.
وقوله: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} مقابل قوله: في المنافقين {بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} [التوبة:67].
وعبر في جانب المؤمنين والمؤمنات بأنهم أولياء بعض للإشارة إلى أن اللحمة

الجامعة بينهم هي ولاية الإسلام، فهم فيها على السواء ليس واحد منهم مقلدا للآخر ولا تابعا له على غير بصيرة لما في معنى الولاية من الإشعار بالإخلاص والتناصر بخلاف المنافقين فكأن بعضهم ناشئ من بعض في مذامهم.
وزيد في وصف المؤمنين هنا {وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ} تنويها بأن الصلاة هي أعظم المعروف.
وقوله: {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} مقابل قوله في المنافقين {وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} التوبة:67].
وقوله: {وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} مقابل قوله في المنافقين {نَسُوا اللَّهَ} [التوبة:67] لأن الطاعة تقتضي مراقبة المطاع فهي ضد النسيان.
وقوله: {أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} مقابل قوله في المنافقين {فَنَسِيَهُمْ} [التوبة:67].
والسين لتأكيد حصول الرحمة في المستقبل، فحرف الاستقبال يفيد مع المضارع ما تفيد (قد) مع الماضي كقوله: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:5].
والإشارة للدلالة على أن ما سيرد بعد اسم الإشارة صاروا أحرياء به من أجل الأوصاف المذكورة قبل اسم الإشارة.
وجملة {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} تعليل لجملة {سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} أي: أنه تعالى لعزته ينفع أولياءه وأنه لحكمته يضع الجزاء لمستحقه.
[72] {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:72].
موقع هذه الجملة بعد قوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ} [التوبة:71]، كموقع جملة {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ} [التوبة:68] بعد قوله: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} [التوبة:67] الآية. وهي أيضا كالاستئناف البياني الناشئ عن قوله: {أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} [التوبة:71] مثل قوله في الآية السابقة {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ} [التوبة:21] الآية.
وفعل المضي في قوله: {وَعَدَ اللَّهُ} إما لأنه إخبار عن وعد تقدم في آي القرآن قصد من الإخبار به التذكير به لتحقيقه، وإما أن يكون قد صيغ هذا الوعد بلفظ المضي على طريقة صيغ العقود مثل بعت وتصدقت لكون، تلك الصيغة معهودة في الالتزام الذي لا

يتخلف. وقد تقدم نظيره آنفا في قوله: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ} التوبة:68].
والإظهار في مقام الإضمار دون أن يقال: وعدهم الله: لتقريرهم في ذهن السامع ليتمكن تعلق الفعل بهم فضل تمكن في ذهن السامع.
وتقدم الكلام على نحو قوله: {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} عند قوله تعالى: {وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} في سورة البقرة[25].
وعطف {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} على {جَنَّاتٍ} للدلالة على أن لهم في الجنات قصورا ومساكن طيبة، أي ليس فيها شيء من خبث المساكن من الأوساخ وآثار علاج الطبخ ونحوه نظير قوله: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} [البقرة: 25].
و(العدن) الخلد والاستقرار المستمر، فجنات عدن هي الجنات المذكورة قبل، فذكرها بهذا اللفظ من الإظهار في مقام الإضمار مع التفنن في التعبير والتنويه بالجنات، ولذلك لم يقل: ومساكن طيبة فيها.
وجملة {وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ أَكْبَرُ} معطوفة على جملة {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ} . والرضوان - بكسر الراء - ويجوز ضمها. وكسر الراء لغة أهل الحجاز، وضمها لغة تميم. وقرأه الجمهور - بكسر الراء - وقرأه أبو بكر عن عاصم بضم الراء ونظيره بالكسر قليل في المصادر ذات الألف والنون. وهو مصدر كالرضي وزيادة الألف والنون فيه تدل على قوته، كالغفران والشكران.
والتنكير في {وَرِضْوَانٌ} للتنويع، يدل على جنس الرضوان، وإنما لم يقرن بلام تعريف الجنس ليتوسل بالتنكير إلى الإشعار بالتعظيم فإن رضوان الله تعالى عظيم.
و {أَكْبَرُ} تفضيل لم يذكر معه المفضل عليه لظهوره من المقام، أي أكبر من الجنات لأن رضوان الله أصل لجميع الخيرات. وفيه دليل على أن السعادات الروحانية أعلى وأشرف من الجثمانية.
و {ذَلِكَ} إشارة إلى جميع ما ذكر من الجنات والمساكن وصفاتهما والرضوان الإلهي.

والقصر في {هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} قصر حقيقي باعتبار وصف الفوز بعظيم.
[73] {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} .
لما أشعر قوله تعالى في الآية السابقة {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [التوبة:68]. بأن لهم عذابين عذابا أخرويا وهو نار جهنم، تعين أن العذاب الثاني عذاب دنيوي وهو عذاب القتل، فلما أعقب ذلك بشنائع المنافقين وبضرب المثل لهم بالأمم البائدة، أمر نبيه بجهاد المنافقين وهذا هو الجهاد الذي أنذروا به في سورة الأحزاب [61،60] في قوله: {ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً} فبعد أن أنذرهم الله بذلك فلم يرتدعوا ومضى عليهم من المدة ما كشفت فيه دخيلتهم بما تكرر منهم من بوادر الكفر والكيد للمسلمين، أنجز الله ما أنذرهم به بأن أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بجهادهم. والجهاد القتال لنصر الدين، وتقدم في قوله تعالى: {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ} في سورة العقود[54].
وقرن المنافقون هنا بالكفار: تنبيها على أن سبب الأمر بجهاد الكفار قد تحقق في المنافقين، فجهادهم كجهاد الكفار، ولأن الله لما قرنهم في الوعيد بعذاب الآخرة إذ قال: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ} [التوبة:68] وأومأ قوله هنالك بأن لهم عذابا آخر، لا جرم جمعهم عند شرع هذا العذاب الآخر لهم.
فالجهاد المأمور للفريقين مختلف، ولفظ (الجهاد) مستعمل في حقيقته ومجازه. وفائدة القرن بين الكفار والمنافقين في الجهاد: إلقاء الرعب في قلوبهم، فإن كل واحد منهم يخشى أن يظهر أمره فيعامل معاملة الكفار المحاربين فيكون ذلك خاضدا شوكتهم.
وأما جهادهم بالفعل فمتعذر، لأنهم غير مظهرين الكفر، ولذلك تأول أكثر المفسرين الجهاد بالنسبة إلى المنافقين بالمقاومة بالحجة وإقامة الحدود عند ظهور ما يقتضيها، وكان غالب من أقيم عليه الحد في عهد النبوءة من المنافقين. وقال بعض السلف جهادهم ينتهي إلى الكشر في وجوههم. وحملها الزجاج والطبري على ظاهر الأمر بالجهاد، ونسبه الطبري إلى عبد الله بن مسعود، ولكنهما لم يأتيا بمقنع من تحقيق المعنى.

وهذه الآية إيذان للمنافقين بأن النفاق يوجب جهادهم قطعا لشافتهم من بين المسلمين، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم ويعرفهم لحذيفة بن اليمان، وكان المسلمون يعرفون منهم من تكررت بوادر أحواله، وفلتات مقاله. وإنما كان النبي ممسكا عن قتلهم سدا لذريعة دخول الشك في الأمان على الداخلين في الإسلام كما قال لعمر: "لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه" لأن العامة والغائبين عن المدينة لا يبلغون بعلمهم إلى معرفة حقائق الأمور الجارية بالمدينة، فيستطيع دعاة الفتنة أن يشوهوا الأعمال النافعة بما فيها من صورة بشيعة عند من لا يعلم الحقيقة، فلما كثر الداخلون في الإسلام واشتهر من أمان المسلمين ما لا شك معه في وفاء المسلمين، وشاع من أمر المنافقين وخيانتهم ما تسامعته القبائل وتحققه المسلم والكافر، تمحضت المصلحة في استئصال شافتهم، وانتفعت ذريعة تطرق الشك في أمان المسلمين، وعلم الله أن أجل رسوله عليه الصلاة والسلام قد اقترب، وأنه إن بقيت بعده هذه الفئة ذات الفتنة تفاقم أمرها وعسر تداركها، واقتدى بها كل من في قلبه مرض، لا جرم آذنهم بحرب ليرتدعوا ويقلعوا عن النفاق. والذي يوجب قتالهم أنهم صرحوا بكلمات الكفر، أي صرح كل واحد بما يدل على إبطانه الكفر وسمعها الآخرون فرضوا بها، وصدرت من فريق منهم أقوال وأفعال تدل على أنهم مستخفون بالدين، وقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بقرب نزول هذه الآية. ولعل من حكمة الإعلام بهذا الجهاد تهيئة المسلمين لجهاد كل قوم ينقضون عرى الإسلام وهم يزعمون أنهم مسلمون، كما فعل الذين منعوا الزكاة وزعموا أنهم لم يكفروا وإنما الزكاة حق الرسول في حياته، وما ذلك إلا نفاق من قادتهم أتبعه دهماؤهم، ولعل هذه الآية كانت سببا في انزجار معظم المنافقين عن النفار وإخلاصهم الإيمان كما ورد في قصة الجلاس بن سويد. وكان قد كفى الله شر متولي كبر النفاق عبد الله بن أبي بن سلول بموته فكان كل ذلك كافيا عن إعمال الأمر بجهادهم في هذه الآية. {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} [الأحزاب:25].
وهذه الآية تدل على التكفير بما يدل على الكفر من قائله أو فاعله دلالة بينة، وإن لم يكن أعلن الكفر.
{وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} أمر بأن يكون غليظا معهم. والغلظة يأتي معناها: عند قوله: {وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} في هذه السورة [123].
وإنما وجه هذا الأمر إلى الرسول - عليه الصلاة والسلام - لأنه جبل على الرحمة

فأمر بأن يتخلى عن جبلته في حق الكفار والمنافقين وأن لا يغضي عنهم كما كان شأنه من قبل.
وهذه الآية تقتضي نسخ إعطاء الكفار المؤلفة قلوبهم على الإسلام وإنما يبقى ذلك للداخلين في الإسلام حديثا.
وجملة {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} تذييل. وتقدم نظيره مرات. والمأوى ما يأوي إليه المرء من المكان، أي يرجع إليه.
والمصير المكان الذي يصير إليه المرء، أي يرجع فالاختلاف بينه وبين المأوى بالاعتبار، والجمع بينهما هنا تفنن.
[74] {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُنْ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} .
{يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} .
لما كان معظم ما أخذ على المنافقين هو كلمات دالة على الطعن في الرسول صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك من دلائل الكفر وكانوا إذا نقل ذلك عنهم تنصلوا منه بالأيمان الكاذبة، عقبت آية الأمر بجهادهم بالتنبيه على أن ما يتنصلون به تنصل كاذب وأن لا ثقة بحلفهم، وعلى إثبات أنهم قالوا ما هو صريح في كفرهم. فجملة {يَحْلِفُونَ} مستأنفة استئنافا بيانيا يثيره الأمر بجهادهم مع مشاهدة ظاهر أحوالهم من التنصل مما نقل عنهم، إن اعتبر المقصود من الجملة تكذيبهم في حلفهم.
وقد تكون الجملة في محل التعليل للأمر بالجهاد إن اعتبر المقصود منها قوله: {وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ} وما بعده، وأن ذلك إنما أخر للاهتمام بتكذيب أيمانهم ابتداء، وأتي بالمقصود في صورة جملة حالية. ومعلوم أن القيد هو المقصود من الكلام المقيد. ويرجح هذا أن معظم ما في الجملة هو شواهد كفرهم ونقضهم عهد الإسلام، إذ لو كان المقصود خصوص تكذيبهم فيما حلفوا لاقتصر على إثبات مقابله وهو {وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ

الْكُفْرِ} ، ولم يكن لما بعده مزيد اتصال به.
وأياما كان فالجملة مستحقة الفصل دون العطف.
ومفعول ما قالوا محذوف دل عليه قوله: {وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ} .
وأكّد صدور كلمة الكفر منهم، في مقابلة تأكيدهم نفي صدورها، بصيغة القسم ليكون تكذيب قولهم مساويا لقولهم في التأكيد.
وكلمة الكفر الكلام الدال عليه، وأصل الكلمة اللفظ الواحد الذي يتركب منه ومن مثله الكلام المفيد، وتطلق الكلمة على الكلام إذا كان كلاما جامعا موجزا كما في قوله تعالى: {كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون:100] وفي الحديث "أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل"
فكلمة الكفر جنس لكل كلام فيه تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم، كما أطلقت كلمة الإسلام على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. فالكلمات الصادرة عنهم على اختلافها، ما هي إلا أفراد من هذا الجنس كما دل عليه إسناد القول إلى ضمير جماعة المنافقين. فعن قتادة: لا علم لنا بأن ذلك من أي إذ كان لا خبر يوجب الحجة ونتوصل به إلى العلم.
وقيل: المراد كلمة صدرت من بعض المنافقين تدل على تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم فعن عروة بن الزبير، ومجاهد، وابن إسحاق أن الجلاس - بضم الجيم وتخفيف اللام - بن سويد بن الصامت قال: لئن كان ما يقول محمد حقا لنحن أشر من حميرنا هذه التي نحن عليها، فأخبر عنه ربيبه النبي فدعاه النبي وسأله عن مقالته، فحلف بالله ما قال ذلك، وقيل: بل نزلت في عبد الله بن أبي بن سلول لقوله الذي حكاه الله عنه بقوله: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون:8] فسعى به رجل من المسلمين فأرسل إليه رسول الله فسأله فجعل يحلف بالله ما قال ذلك.
فعلى هذه الروايات يكون إسناد القول إلى ضمير جمع كناية عن إخفاء اسم القائل كما يقال ما بال أقوام يفعلون كذا. وقد فعله واحد، أو باعتبار قول واحد وسماع البقية فجعلوا مشاركين في التبعة كما يقال: بنو فلان قتلوا فلانا وإنما قتله واحد من القبيلة، وعلى فرض صحة وقوع كلمة من واحد معين فذلك لا يقتضي أنه لم يشاركه فيها غيره لأنهم كانوا يتآمرون على ما يختلقونه. وكان ما يصدر من واحد منهم يتلقفه جلساؤه

وأصحابه ويشاركونه فيه.
وأما إسناد الكفر إلى الجمع في قوله: {وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ} فكذلك.
ومعنى {بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ} بعد أن أظهروا الإسلام في الصورة، ولذلك أضيف الإسلام إليهم كما تقدم في قوله تعالى: {لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:66].
والهم نية الفعل سواء فعل أم لم يفعل.
ونوال الشيء حصوله، أي هموا بشيء لم يحصلوه والذي هموا به هو الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم عند مرجعه من تبوك تواثق خمسة عشر منهم على أن يترصدوا له في عقبة بالطريق تحتها واد فإذا اعتلاها ليلا يدفعونه عن راحلته إلى الوادي وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سائرا وقد أخذ عمار بن ياسر بخطام راحلته يقودها. وكان حذيفة بن اليمان يسوقها فأحس حذيفة بهم فصاح بهم فهربوا.
وجملة {وَمَا نَقَمُوا} عطف على {وَلَقَدْ قَالُوا} أي والحال أنهم ما ينقمون على النبي صلى الله عليه وسلم ولا على دخول الإسلام المدينة شيئا يدعوهم إلى ما يصنعونه من آثار الكراهية والعداوة.
والنقم الامتعاض من الشيء واستنكاره وتقدم في قوله تعالى: {وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا} في سورة الأعراف [126].
قوله: {إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} استثناء تهكمي. وهو من تأكيد الشيء بما يشبه ضده كقول النابغة:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
ونكتته أن المتكلم يظهر كأنه يبحث عن شيء ينقض حكمه الخبري ونحوه فيذكر شيئا هو من مؤكدات الحكم للإشارة إلى أنه استقصى فلم يجد ما ينقضه.
وإنما أغناهم الله ورسوله بما جلبه حلول النبي عليه الصلاة والسلام بينهم من أسباب الرزق بكثرة عمل المهاجرين وبوفرة الغنائم في الغزوات وبالأمن الذي أدخله الإسلام فيهم إذ جعل المؤمنين إخوة فانتفت الضغائن بينهم والثارات، وقد كان الأوس والخزرج قبل الإسلام أعداء وكانت بينهم حروب تفانوا فيها قبيل الهجرة وهي حروب بعاث.

والفضل: الزيادة في البذل والسخاء. و {مِنْ} ابتدائية. وفي جعل الإغناء من الفضل كناية عن وفرة الشيء المغني به لأن ذا الفضل يعطي الجزل.
وعطف الرسول على اسم الجلالة في فعل الإغناء لأنه السبب الظاهر المباشر.
[74] {فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُنْ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} .
التفريع على قوله: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} [التوبة:73] على عادة القرآن في تعقيب الوعيد بالوعد والعكس فلما أمر بجهادهم والغلظة عليهم وتوعدهم بالمصير إلى النار، فرع على ذلك الإخبار بأن التوبة مفتوحة لهم وأن تدارك أمرهم في مكنتهم، لأن المقصود من الأمر بجهادهم قطع شافة مضرتهم أو أن يصلح حالهم.
والتوبة هي إخلاصهم الأيمان. والضمير يعود إلى الكفار والمنافقين، والضمير في {يَكُ} عائد إلى مصدر {يَتُوبُوا} وهو التوب.
والتولي: الإعراض والمراد به الإعراض عن التوبة. والعذاب في الدنيا عذاب الجهاد والأسر، وفي الآخرة عذاب النار.
وجيء بفعل {يَكُ} في جواب الشرط دون أن يقال فإن يتوبوا فهو خير لهم لتأكيد وقوع الخير عند التوبة، والإيماء إلى أنه لا يحصل الخير إلا عند التوبة لأن فعل التكوين مؤذن بذلك.
وحذف نون "يكن" للتخفيف لأنها لسكونها تهيأت للحذف وحسنه وقوع حركة بعدها والحركة ثقيلة فلذلك شاع حذف هذه النون في كلامهم كقوله: {وَإِنْ تَكُنْ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} في سورة النساء [40].
وجملة {وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} عطف على جملة {يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ} الخ فتكون جوابا ثانيا للشرط، ولا يريبك أنها جملة اسمية لا تصلح لمباشرة أداة الشرط بدون فاء رابطة. لأنه يغتفر في التوابع ما لا يغتفر في المتبوعات فإن حرف العطف كاف في ربط الجملة تبعا للجملة المعطوف عليها.
والمعنى أنهم إن تولوا لم يجدوا من ينصرهم من القبائل إذ لم يبق من العرب من لم يدخل في الإسلام إلا من لا يعبأ بهم عددا وعددا. والمراد نفي الولي النافع كما هو

مفهوم الولي وأما من لا ينفع فهو حبيب وودود وليس بالولي.
[75-77] {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنْ الصَّالِحِينَ ,فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ,فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} .
قيل: نزلت في ثعلبة بن حاطب من المنافقين سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو له بسعة الرزق فدعا له فأثرى إثراء كثيرا فلما جاءه المصدقون ليعطي زكاة أنعامه امتنع من ذلك ثم ندم فجاء بصدقته فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبلها منه. وذكروا من قصته أنه تاب ولكن لم تقبل صدقته في زمن النبي ولا في زمن الخلفاء الثلاثة بعده عقوبة له وإظهار للاستغناء عنه حتى مات في خلافة عثمان، وقد قيل: إن قائل ذلك هو معتب بن قشير، وعلى هذا فضمائر الجمع في لنصدقن وما بعده مراد بها واحد وإنما نسبت الفعل إلى جماعة المنافقين على طريقة العرب في إلصاق فعل الواحد بقبيلته. ويحتمل أن ثعلبة سأل ذلك فتبعه بعض أصحابه مثل معتب بن قشير فأوتي مثل ما أوتي ثعلبة وبخل مثل ما بخل وإن لم تجيء فيه قصة كما تقدم آنفا.
وجملة {لَنَصَّدَّقَنَّ} بيان لجملة {عَاهَدَ اللَّهَ} وفعل {لَنَصَّدَّقَنَّ} أصله لنتصدقن فأدغم للتخفيف.
والإعراض: إعراضهم عن عهدهم وعن شكر نعمة ربهم.
و {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا} جعل نفاقا عقب ذلك أي إثره ولما ضمن أعقب معنى أعطى نصب مفعولين والأصل أعقبهم بنفاق.
والضمير المستتر في أعقبهم للمذكور من أحوالهم، أو للبخل المأخوذ من بخلوا، فإسناد الإعقاب مجاز عقلي، أو يعود إلى اسم الله تعالى في قوله: {مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} أي جعل فعلهم ذلك سببا في بقاء النفاق في قلوبهم إلى موتهم، وذلك جزاء تمردهم على النفاق. وهذا يقتضي إلى أن ثعلبة أو معتبا مات على الكفر وأن حرصه على دفع صدقته رياء وتقية وكيف وقد عد كلاهما في الصحابة وأولهما فيمن شهد بدرا، وقيل: هما آخران غيرهما وافقا في الاسم. فيحتمل أن يكون أطلق النفاق على ارتكاب المعاصي في حالة الإسلام وهو إطلاق موجود في عصر النبوءة كقول حنظلة بن الربيع للنبي صلى الله عليه وسلم.: يا رسول الله "نافق حنظلة". وذكر ارتكابه في خاصته ما ظنه معصية ولم يغير عليه النبي صلى الله عليه وسلم ولكن

بين له أن ما توهمه ليس كما توهمه، فيكون المعنى أنهم أسلموا وبقوا يرتكبون المعاصي خلاف حال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقد يومئ إلى هذا تنكير {نِفَاقًا} المفيد أنه نفاق جديد وإلا فقد ذكروا منافقين فكيف يكون النفاق حاصلا لهم عقب فعلهم هذا.
واللقاء مصادفة الشيء شيئا في مكان واحد. فمعنى إلى يوم يلقونه إلى يوم الحشر لأنه يوم لقاء الله للحساب، أو إلى يوم الموت لأن الموت لقاء الله كما في الحديث من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ، وفسره بأنه محبة تعرض للمؤمن عند الاحتضار. وقال بعض المتقدمين من المتكلمين: إن اللقاء يقتضي الرؤية، فاستدل على ثبوت رؤية الله تعالى بقوله تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ} في سورة الأحزاب [44] فنقض عليهم الجبائي بقوله: {إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} في هذه الآية فإن الاتفاق على أن المنافقين لا يرون الله. وقد تصدى الفخر لإبطال النقض بما يصير الاستدلال ضعيفا، والحق أن اللقاء لا يستلزم الرؤية. وقد ذكر في "نفح الطيب" في ترجمة أبي بكر بن العربي قصة في الاستدلال بآية الأحزاب على بعض معتزلة الحنابلة ونقض الحنبلي المعتزلي عليه بهذه الآية.
والباء للسببية أو للتعليل، أي بسبب أخلافهم وعد ربهم وكذبهم.
وعبّر عن كذبهم بصيغة {كَانُوا يَكْذِبُونَ} لدلالة كان على أن الكذب كائن فيهم ومتمكن منهم ودلالة المضارع على تكرره وتجدده.
وفي هذا دلالة على وجوب الحذر من أحداث الأفعال الذميمة فإنها تفسد الأخلاق الصالحة ويزداد الفساد تمكنا من النفس بطبيعة التولد الذي هو ناموس الوجود.
[78] {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ} .
استئناف لأجل التقرير. والكلام تقرير للمخاطب عنهم لأن كونهم عالمين بذلك معروف لدى كل سامع. والسر ما يخفيه المرء من كلام وما يضمر في نفسه فلا يطلع عليه الناس وتقدم في قوله: {سِرًّا وَعَلاَنِيَةً} في سورة البقرة [274].
والنجوى: المحادثة بخفاء أي يعلم ما يضمرونه في أنفسهم وما يتحادثون به حديث سر لئلا يطلع عليه غيرهم.

وإنما عطفت النجوى على السر مع أنه أعم منها لينبئهم باطلاعه على ما يتناجون به من الكيد والطعن.
ثم عمم ذلك بقوله: {وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ} أي قوي علمه لجميع الغيوب.
والغيوب جمع غيب وهو ما خفي وغاب عن العيان. وتقدم قوله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} في سورة البقرة[3].
[79] {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
استئناف ابتدائي، نزلت بسبب حادث حدث في مدة نزول السورة، ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حث الناس على الصدقة فجاء عبد الرحمان بن عوف بأربعة آلاف درهم، وجاء عاصم بن عدي بأوسق كثيرة من تمر، وجاء أبو عقيل بصاع من تمر، فقال المنافقون: ما أعطى عبد الرحمان وعاصم إلا رياء وأحب أبو عقيل أن يذكر بنفسه ليعطى من الصدقات فأنزل الله فيهم هذه الآية.
فالذين يلمزون مبتدأ وخبره جملة {سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} .
واللمز: الطعن. وتقدم في هذه السورة في قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة:58]. وقرأه يعقوب - بضم الميم - كما قرأ قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة:58].
و {الْمُطَّوِّعِينَ} أصله المتطوعين، أدغمت التاء في الطاء لقرب مخرجيهما.
و {فِي} للظرفية المجازية بجعل سبب اللمز كالظرف للمسبب.
وعطف الذين لا يجدون إلا جهدهم على المطوعين وهم منهم، اهتماما بشأنهم. والجهد - بضم الجيم - الطاقة. وأطلقت الطاقة على مسببها الناشئ عنها.
وحذف مفعول {يَجِدُونَ} لظهوره من قوله: {الصَّدَقَاتِ} أي لا يجدون ما يتصدقون به إلا جهدهم.
والمراد لا يجدون سبيلا إلى إيجاد ما يتصدقون به إلا طاقتهم، أي جهد أبدانهم. أو يكون وجد هنا هو الذي بمعنى كان ذا جدة، أي غنى فلا يقدر له مفعول، أي الذين

لا مال لهم إلا جهدهم وهذا أحسن.
وفيه ثناء على قوة البدن والعمل وأنها تقوم مقام المال.
وهذا أصل عظيم في اعتبار أصول الثروة العامة والتنويه بشأن العامل.
والسخرية: الاستهزاء. يقال: سخر منه، أي حصلت السخرية له من كذا، فمن اتصالية.
واختير المضارع في يلمزون ويسخرون للدلالة على التكرر.
وإسناد سخر إلى الله تعالى على سبيل المجاز الذي حسنته المشاكلة لفعلهم، والمعنى أن الله عاملهم معاملة تشبه سخرية الساخر، على طريقة التمثيل، وذلك في أن أمر نبيه بإجراء أحكام المسلمين على ظاهرهم زمنا ثم أمره بفضحهم.
ويجوز أن يكون إطلاق سخر الله منهم على طريقة المجاز المرسل، أي احتقرهم ولعنهم ولما كان كل ذلك حاصلا من قبل عبر عنه بالماضي في {سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} .
وجملة {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} عطف على الخبر، أي سخر منهم وقضى عليهم بالعذاب في الآخرة.
[80] {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} .
هذا استئناف ابتدائي ليس متصلا بالكلام السابق، وإنما كان نزوله لسبب حدث في أحوال المنافقين المحكية بالآيات السالفة، فكان من جملة شرح أحوالهم وأحكامهم، وفي الآية ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستغفر لهم.
روى المفسرون عن ابن عباس أنه لما نزلت بعض الآيات السابقة في أحوالهم إلى قوله: {سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة:79]. قال فريق منهم: استغفر لنا يا رسول الله، أي ممن صدر منه عمل وبخوا عليه في القرآن دون تصريح بأن فاعله منافق فوعدهم النبي عليه الصلاة والسلام بأن يستغفر للذين سألوه. وقال الحسن: كانوا يأتون رسول الله فيعتذرون إليه، ويقولون: إن أردنا إلا الحسنى. وذلك في معنى الاستغفار، أي طلب محوما عد عليهم أنه ذنب، يريدون أنه استغفار من ظاهر إيهام أفعالهم. وعن الأصم أن عبد الله بن أبي بن سلول لما ظهر ما ظهر من نفاقه وتنكر الناس له من كل جهة لقيه

رجل من قومه فقال له: ارجع إلى رسول الله يستغفر لك، فقال: ما أبالي استغفر لي أم لم يستغفر لي. فنزل فيه قوله تعالى في سورة المنافقين [6،5]: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَاسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} يعني فتكون هذه الآية مؤكدة لآية سورة المنافقين عند حدوث مثل السبب الذي نزلت فيه آية سورة المنافقين جمعا بين الروايات.
وعن الشعبي، وعروة، ومجاهد، وابن جبير، وقتادة أن عبد الله ابن أبي ابن سلول مرض فسأل ابنه عبد الله بن عبد الله النبي صلى الله عليه وسلم أن يستغفر له ففعل. فنزلت. فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن الله قد رخص لي فسأزيد على السبعين فنزلت {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَاسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [المنافقون:6].
والذي يظهر لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أوحي إليه بآية سورة المنافقين، وفيه أن استغفاره وعدمه سواء في حقهم. تأول ذلك على الاستغفار غير المؤكد وبعثته رحمته بالناس وحرصه على هداهم وتكدره من اعتراضهم عن الإيمان أن يستغفر للمنافقين استغفارا مكررا مؤكدا عسى أن يغفر الله لهم ويزول عنهم غضبه تعالى فيهديهم إلى الإيمان الحق. بما أن مخالطتهم لأحوال الإيمان ولو في ظاهر الحال قد يجر إلى تعلق هديه بقلوبهم بأقل سبب، فيكون نزول هذه الآية تأييسا من رضى الله عنهم، أي عن البقية الباقية منهم تأييسا لهم ولمن كان على شاكلتهم ممن أطلع على دخائلهم فاغتبط بحالهم بأنهم انتفعوا بصحبة المسلمين والكفار، فالآية تأييس من غير تعيين.
وصيغة الأمر في قوله: {اسْتَغْفِرْ} مستعملة في معنى التسوية المراد منها لازمها وهو عدم الحذر من الأمر المباح، والمقصود من ذلك إفادة معنى التسوية التي ترد صيغة الأمر لإفادتها كثيرا، وعد علماء أصول الفقه في معاني صيغة الأمر معنى التسوية ومثلوه بقوله تعالى: {اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لاَ تَصْبِرُوا} [الطور:16].
فأما قوله: {أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} فموقعه غريب ولم يعن المفسرون والمعربون ببيانه فإن كونه بعد {لاَ} مجزوما يجعله في صورة النهي، ومعنى النهي لا يستقيم في هذا المقام إذ لا يستعمل النهي في معنى التخيير والإباحة. فلا يتأتى منه معنى يعادل معنى التسوية التي استعمل فيها الأمر. ولذلك لم نر علماء الأصول يذكرون التسوية في معاني صيغة النهي كما ذكروها في معاني صيغة الأمر.
وتأويل الآية:

إمّا أن تكون {لاَ} نافية ويكون جزم الفعل بعدها لكونه معطوفا على فعل الأمر فإن فعل الأمر مجزوم بلام الأمر المقدرة على التحقيق وهو مذهب الكوفيين واختاره الأخفش من البصريين، وابن هشام الأنصاري وأبو علي بن الأحوص، شيخ أبي حيان، وهو الحق لأنه لو كان مبنيا للزم حالة واحدة، ولأن أحوال آخره جارية على أحوال علامات الجزم فلا يبعد أن يكون ذلك التقدير ملاحظا في كلامهم فيعطف عليه بالجزم على التوهمّ.
ولا يصح كون هذا من عطف الجمل لأنه لا وجه لجزم الفعل لو كان كذلك، لا سيما والأمر مؤول بالخبر، ثم إن ما أفاده حرف التخيير قد دل على تخيير المخاطب في أحد الأمرين مع انتفاء الفائدة على كليهما.
وإما أن تكون صيغة النهي استعملت لمعنى التسوية لأنها قارنت الأمر الدال على إرادة التسوية ويكون المعنى: أمرك بالاستغفار لهم ونهيك عنه سواء، وذلك كناية عن كون الآمر والناهي ليس بمغير مراده فيهم سواء فعل المأمور أو فعل المنهي ويجوز أن يكون الفعلان معمولين لفعل قول محذوف. والتقدير: نقول لك: استغفر لهم، أو نقول لا تستغفر لهم.
و {سَبْعِينَ مَرَّةً} غير مراد به المقدار من العدد بل هذا الاسم من أسماء العدد التي تستعمل في معنى الكثرة. قال "الكشاف": السبعون جار مجرى المثل في كلامهم للتكثر. ويدل له قول النبي صلى الله عليه وسلم "لو أعلم أني لو زدت على السبعين غفر له لزدت" . وهو ما رواه البخاري والترمذي من حديث عمر بن الخطاب. وأما ما رواه البخاري من حديث أنس بن عياض وأبي أسامة عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وسأزيد على السبعين" فهو توهم من الراوي لمنافاته رواية عمر بن الخطاب، ورواية عمر أرجح لأنه صاحب القصة، ولأن تلك الزيادة لم ترو من حديث يحيى بن سعيد عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عند الترمذي وابن ماجة والنسائي.
وانتصب {سَبْعِينَ مَرَّةً} على المفعولية المطلقة لبيان العدد. وتقدم الكلام على لفظ مرة عند قوله تعالى: {وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} في هذه السورة [13].
وضمائر الغيبة راجعة إلى المنافقين الذين علم الله نفاقهم وأعلم نبيه - عليه الصلاة والسلام - بهم. وكان المسلمون يحسبونهم مسلمين اغترارا بظاهر حالهم. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجري عليهم أحكام ظاهر حالهم بين عامة المسلمين، والقرآن ينعتهم بسيماههم كيلا يطمئن لهم المسلمون وليأخذوا الحذر منهم، فبذلك قضي حق المصالح كلها.

ومن أجل هذا الجري على ظاهر الحال اختلف أسلوب التأييس من المغفرة بين ما في هذه الآية وبين ما في آية {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة:113] لأن المشركين كفرهم ظاهر فجاء النهي عن الاستغفار لهم صريحا، وكفر المنافقين خفي فجاء التأييس من المغفرة لهم منوطا بوصف يعلمونه في أنفسهم ويعلمه الرسول - عليه الصلاة والسلام - ولأجل هذا كان يستغفر لمن يسأله الاستغفار من المنافقين لئلا يكون امتناعه من الاستغفار له إعلاما بباطن حاله الذي اقتضت حكمة الشريعة عدم كشفه. وقال في أبي طالب: "لأستغفرن لك ما لم أنه عنك" . فلما نهاه الله عن ذلك أمسك عن الاستغفار له.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة الجنازة على من مات من المنافقين لأن صلاة الجنازة من الاستغفار ولما مات عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين بعد نزول هذه الآية وسأل ابنه عبد الله بن عبد الله النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي عليه، فصلى عليه كرامة لابنه وقال عمر للنبي صلى الله عليه وسلم قد نهاك ربك أن تصلي عليه، قال له على سبيل الرد "إنما خيرني الله" ، أي ليس في هذه الآية نهي عن الاستغفار، فكان لصلاته عليهم واستغفاره لهم حكمة غير حصول المغفرة بل لمصالح أخرى، ولعل النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بأضعف الاحتمالين في صيغة {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ} وكذلك في لفظ عدد {سَبْعِينَ مَرَّةً} استقصاء لمظنة الرحمة على نحو ما أصلناه في المقدمة التاسعة من مقدمات هذا التفسير.
والإشارة في قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا} لانتفاء الغفران المستفاد من قوله: {فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} .
والباء للسببية، وكفرهم بالله هو الشرك. وكفرهم برسوله جحدهم رسالته صلى الله عليه وسلم وفي هذه الآية دليل على أن جاحد نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم يطلق عليه كافر.
ومعنى {وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} أن الله لا يقدر لهم الهدي إلى الإيمان لأجل فسقهم، أي بعدهم عن التأمل في أدلة النبوءة، وعن الإنصاف في الاعتراف بالحق فمن كان ذلك ديدنه طبع على قلبه فلا يقبل الهدى فمعنى {لاَ يَهْدِي} لا يخلق الهدى في قلوبهم.
[81] {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لاَ تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} .

استئناف ابتدائي، وهذه الآية تشير إلى ما حصل للمنافقين عند الاستنفار لغزوة تبوك فيكون المراد بالمخلفين خصوص من تخلف عن غزوة تبوك من المنافقين.
ومناسبة وقوعها في هذا الموضع أن فرحهم بتخلفهم قد قوي لما استغفر لهم النبي صلى الله عليه وسلم وظنوا أنهم استغفلوه فقضوا مأربهم ثم حصلوا الاستغفار ظنا منهم بأن معاملة الله إياهم تجري على ظواهر الأمور.
فالمخلفون هم الذين تخلفوا عن غزوة تبوك استأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم فأذن لهم وكانوا من المنافقين فلذلك أطلق عليهم في الآية وصف المخلفين بصيغة اسم المفعول لأن النبي خلفهم، وفيه إيماء إلى أنه ما أذن لهم في التخلف إلا لعلمه بفساد قلوبهم وأنهم لا يغنون عن المسلمين شيئا كما قال: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً} [التوبة:47].
وذكر فرحهم دلالة على نفاقهم لأنهم لو كانوا مؤمنين لكان التخلف نكدا عليهم ونغصا كما وقع للثلاثة الذين خلفوا فتاب الله عليهم.
والمقعد هنا مصدر ميمي أي بقعودهم.
و {خِلاَفَ} لغة في خلف. يقال: أقام خلاف الحي بمعنى بعدهم، أي ظعنوا ولم يظعن. ومن نكتة اختيار لفظ خلاف دون خلف أنه يشير إلى أن قعودهم كان مخالفة لإرادة رسول الله حين استنفر الناس كلهم للغزو، ولذلك جعله بعض المفسرين منصوبا على المفعول له، أي بمقعدهم لمخالفة أمر الرسول.
وكراهيتهم الجهاد بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله خصلة أخرى من خصال النفاق لأن الله أمر بذلك في الآية المتقدمة {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:41] الآية، ولكونها خصلة أخرى جعلت جملتها معطوفة ولم تجعل مقترنة بلام التعليل مع أن فرحهم بالقعود سببه هو الكراهية للجهاد.
وقولهم: {تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ} خطاب بعضهم بعضا وكانت غزوة تبوك في وقت الحر حين طابت الظلال.
وجملة: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا} مستأنفة ابتدائية خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمقصود قرع أسماعهم بهذا الكلام.
وكون نار جهنم أشد حرا من حر القيظ أمر معلوم لا يتعلق الغرض بالإخبار عنه.

فتعين أن الخبر مستعمل في التذكير بما هو معلوم تعريضا بتجهيلهم لأنهم حذروا من حر قليل وأقحموا أنفسهم فيما يصير بهم إلى حر أشد. فيكون هذا التذكير كناية عن كونهم واقعين في نار جهنم لأجل قعودهم عن الغزو في الحر، وفيه كناية عرضية عن كونهم صائرين إلى نار جهنم.
وجملة: {لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} تتميم، للتجهيل والتذكير، أي يقال لهم ذلك لو كانوا يفقهون الذكرى، ولكنهم لا يفقهون، فلا تجدي فيهم الذكرى والموعظة، إذ ليس المراد لو كانوا يفقهون أن نار جهنم أشد حرا لأنه لا يخفي عليهم ولو كانوا يفقهون أنهم صائرون إلى النار ولكنهم لا يفقهون ذلك.
[82] {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} .
تفريع كلام على الكلام السابق من ذكر فرحهم، ومن إفادة قوله: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا} [التوبة:81] من التعريض بأنهم أهلها وصائرون إليها.
والضحك هنا كناية عن الفرح أو أريد ضحكهم فرحا لاعتقادهم ترويج حيلتهم على النبي صلى الله عليه وسلم إذ أذن لهم بالتخلف.
والبكاء كناية عن حزنهم في الآخرة فالأمر بالضحك وبالبكاء مستعمل في الإخبار بحصولهما قطعا إذ جعلا من أمر الله أو هو أمر تكوين مثل قوله: {فَقَالَ لَهُمْ اللَّهُ مُوتُوا} [البقرة:243] والمعنى أن فرحهم زائل وأن بكاءهم دائم.
والضحك: كيفية في الفم تتمدد منها الشفتان وربما أسفرتا عن الأسنان وهي كيفية تعرض عند السرور والتعجب من الحسن.
والبكاء: كيفية في الوجه والعينين تنقبض بها الوجنتان والأسارير والأنف. ويسيل الدمع من العينين، وذلك يعرض عند الحزن والعجز عن مقاومة الغلب.
وقوله: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} حال من ضميرهم، أي جزاء لهم، والمجعول جزاء هو البكاء المعاقب للضحك القليل لأنه سلب نعمة بنقمة عظيمة.
وما كانوا يكسبون هو أعمال نفاقهم، واختير الموصول في التعبير عنه لأنه أشمل مع الإيجاز.
وفي ذكر فعل الكون وصيغة المضارع في {يَكْسِبُونَ} ما تقدم في قوله: {وَلَكِنْ

كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [التوبة:70].
[83] {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ} .
الفاء للتفريع على ما آذن به قوله: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا} [التوبة:81] إذ فرّع على الغضب عليهم وتهديدهم عقاب آخر لهم، بإبعادهم عن مشاركة المسلمين في غزواتهم.
وفعل رجع يكون قاصرا ومتعديا مرادفا لأرجع. وهو هنا متعد، أي أرجعك الله.
وجعل الإرجاع إلى طائفة من المنافقين المخلفين على وجه الإيجاز لأن المقصود الإرجاع إلى الحديث معهم في مثل القصة المتحدث عنها بقرينة قوله: {فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ} ولما كان المقصود بيان معاملته مع طائفة، اختصر الكلام، فقيل: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ} ، وليس المراد الإرجاع الحقيقي كما جرت عليه عبارات أكثر المفسرين وجعلوه الإرجاع من سفر تبوك مع أن السورة كلها نزلت بعد غزوة تبوك بل المراد المجازي، أي تكرر الخوض معهم مرة أخرى.
والطائفة: الجماعة وتقدمت في قوله تعالى: {يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ} في سورة آل عمران [154]. أو قوله: {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} في سورة النساء[102].
والمراد بالطائفة هنا جماعة من المخلفين دل عليها قوله: {فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ} أي إلى طائفة منهم يبتغون الخروج للغزو، فيجوز أن تكون هذه الطائفة من المنافقين أرادوا الخروج للغزو طمعا في الغنيمة أو نحو ذلك. ويجوز أن يكون طائفة من المخلفين تابوا وأسلموا فاستأذنوا للخروج للغزو. وعلى الوجهين يحتمل أن منعهم من الخروج للخوف من غدرهم إن كانوا منافقين أو لمجرد التأديب لهم إن كانوا قد تابوا و آمنوا.
وما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقوله لهم صالح للوجهين.
والجمع بين النفي ب {لَنْ} وبين كلمة {أَبَدًا} تأكيد لمعنى لن لانتفاء خروجهم في المستقبل إلى الغزو مع المسلمين.
وجملة: {إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} مستأنفة للتعداد عليهم والتوبيخ، أي أنكم تحبون القعود وترضون به فقد زدتكم منه.
وفعل: {رَضِيتُمْ} يدل على أن ما ارتكبوه من القعود عمل من شأنه أن يأباه الناس

حتى أطلق على ارتكابه فعل رضي المشعر بالمحاولة والمراوضة. جعلوا كالذي يحاول نفسه على عمل وتأبى حتى يرضيها كقوله تعالى: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ} [التوبة:38] وقد تقدم ذلك.
وانتصب {أَوَّلَ مَرَّةٍ} هنا على الظرفية لأن المرة هنا لما كانت في زمن معروف لهم وهو زمن الخروج إلى تبوك ضمنت معنى الزمان. وانتصاب المصدر بالنيابة عن اسم الزمان شائع في كلامهم، بخلاف انتصابها في قوله: {وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [التوبة:13] وفي قوله: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} [التوبة:80] كما تقدم. و {أَوَّلَ مَرَّةٍ} هي غزوة تبوك التي تخلفوا عنها.
وأفعل التفضيل إذا أضيف إلى نكرة اقتصر على الإفراد والتذكير ولو كان المضاف إليه غير مفرد ولا مذكر لأن في المضاف إليه دلالة على المقصود كافية.
والفاء في {فَاقْعُدُوا} تفريع على {إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ} ، أي لما اخترتم القعود لأنفسكم فاقعدوا الآن لأنكم تحبون التخلف.
و {الْخَالِفِينَ} جمع خالف وهو الذي يخلف الغازي في أهله وكانوا يتركون لذلك من لا غناء له في الحرب. فكونهم مع الخالفين تعيير لهم.
[84] {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} .
لما انقضى الكلام على الاستغفار للمنافقين الناشيء، عن الاعتذار والحلف الكاذبين وكان الإعلام بأن الله لا يغفر لهم مشوبا بصورة التخيير في الاستغفار لهم، وكان ذلك يبقي شيئا من طمعهم في الانتفاع بالاستغفار لأنهم يحسبون المعاملة الربانية تجري على ظواهر الأعمال والألفاظ كما قدمناه في قوله: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ} [التوبة:81]، تهيأ الحال للتصريح بالنهي عن الاستغفار لهم والصلاة على موتاهم، فإن الصلاة على الميت استغفار.
فجملة {وَلاَ تُصَلِّ} عطف على جملة {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة:80] عطف كلام مراد إلحاقه بكلام آخر لأن القرآن ينزل مراعى فيه مواقع وضع الآي.
وضمير {مِنْهُمْ} عائد إلى المنافقين الذين عرفوا بسيماهم وأعمالهم الماضية الذكر.

وسبب نزول هذه الآية ما رواه البخاري والترمذي من حديث عبد الله بن عباس عن عمر بن الخطاب قال: "لما مات عبد الله بن أبي بن سلول دعي له رسول الله ليصلي عليه، فلما قام رسول الله وثبت إليه فقلت: يا رسول الله أتصلي على ابن أبيّ وقد قال يوم كذا وكذا، كذا وكذا أعدّد عليه قوله، فتبسم رسول الله وقال: "أخر عني يا عمر" فلما أكثرت عليه قال: "إني خيّرت فاخترت، لو أعلم أني لو زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها" . قال: فصلى عليه رسول الله ثم انصرف فلم يمكث إلا يسيرا حتى نزلت الآيتان من براءة {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} إلى قوله: {وَهُمْ فَاسِقُونَ} قال: فعجبت بعد من جرأتي على رسول الله والله ورسوله أعلم اه". وفي رواية أخرى فلم يصل رسول الله على أحد منهم بعد هذه الآية حتى قبض صلى الله عليه وسلم وإنما صلى عليه وأعطاه قميصه ليكفن فيه إكراما لابنه عبد الله وتأليفا للخزرج.
وقوله: {مِنْهُمْ} صفة {أَحَدٍ} . وجملة {مَاتَ} صفة ثانية ل {أَحَدٍ} .
ومعنى {وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} لا تقف عليه عند دفنه لأن المشاركة في دفن المسلم حق على المسلم على الكفاية كالصلاة عليه فترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عليهم وحضور دفنهم إعلان بكفر من ترك ذلك له.
وجملة: {إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} تعليلية ولذلك لم تعطف وقد أغنى وجود (إن) في أولها عن فاء التفريع كما هو الاستعمال.
والفسق مراد به الكفر فالتعبير ب {فَاسِقُونَ} عوض (كَافِرُونَ) مجرد تفنن. والأحسن أن يفسر الفسق هنا بالخروج عن الإيمان بعد التلبس به، أي بصورة الإيمان فيكون المراد من الفسق معنى أشنع من الكفر.
وضمائر {إِنَّهُمْ كَفَرُوا} {وَمَاتُوا} {وَهُمْ فَاسِقُونَ} عائدة إلى {أَحَدٍ} لأنّه عام لكونه نكرة في سياق النهي والنهي كالنفي. وأما وصفه بالإفراد في قوله: {مَاتَ} فجرى على لفظ الموصوف لأن أصل الصفة مطابقة الموصوف.
[85] {وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ}.
الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمقصود به المسلمون، أي لا تعجبكم. والجملة معطوفة على

جملة النهي عن الصلاة عليهم.
ومناسبة ذكر هذا الكلام هنا أنه لما ذكر ما يدل على شقاوتهم في الحياة الآخرة كان ذلك قد يثير في نفوس الناس أن المنافقين حصلوا سعادة الحياة الدنيا بكثرة الأموال والأولاد وخسروا الآخرة. وربما كان في ذلك حيرة لبعض المسلمين أن يقولوا: كيف من الله عليهم بالأموال والأولاد وهم أعداؤه وبغضاء نبيه. وربما كان في ذلك أيضا مسلاة لهم بين المسلمين، فأعلم الله المسلمين أن تلك الأموال والأولاد وإن كانت في صورة النعمة فهي لهم نقمة وعذاب، وأن الله عذبهم بها في الدنيا بأن سلبهم طمأنينة البال عليها لأنهم لما اكتسبوا عداوة الرسول والمسلمين كانوا يحذرون أن يغري الله رسوله بهم فيستأصلهم، كما قال: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً} [الأحزاب:61،60]، ثم جعل ذلك مستمرا إلى موتهم على الكفر الذي يصيرون به إلى العذاب الأبدي.
وقد تقدم نظير هذه الآية في هذه السورة عند ذكر شحهم بالنفقة في قوله: {قُلْ أَنفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} [التوبة:53] الآيتين، فأفيد هنالك عدم انتفاعهم بأموالهم وأنها عذاب عليهم في الدنيا، ثم أعيدت الآية بغالب ألفاظها هنا تأكيدا للمعنى الذي اشتملت عليه إبلاغا في نفي الفتنة والحيرة عن الناس.
ولكن هذه الآية خالفت السابقة بأمور:
أحدها: أن هذه جاء العطف في أولها بالواو والأخرى عطفت بالفاء. ومناسبة التفريع هنالك تقدم بيانها، ومناسبة عدم التفريع هنا أن معنى الآية هذه ليس مفرعا على معنى الجملة المعطوف عليها ولكن بينهما مناسبة فقط.
ثانيهما: أن هذه الآية عطف فيها الأولاد على الأموال بدون إعادة حرف النفي، وفي الآية السالفة أعيدت (لا) النافية، ووجه ذلك أن ذكر الأولاد في الآية السالفة لمجرد التكملة والاستطراد إذ المقام مقام ذم أموالهم إذ لم ينتفعوا بها فلما كان ذكر الأولاد تكملة كان شبيها بالأمر المستقل فأعيد حرف النفي في عطفه، بخلاف مقام هذه الآية فإن أموالهم وأولادهم معا مقصود تحقيرهما في نظر المسلمين.
ثالثهما: أنه جاء هنا قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ} بإظهار {أَنْ} دون لام، وفي

الآية السالفة {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ لِيُعَذِّبَهُمْ} [التوبة:55] بذكر لام التعليل وحذف (أَنْ) بعدها وقد اجتمع الاستعمالان في قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} - إلى قوله - {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} في سورة النساء [27،26]. وحذف حرف الجر مع (أن) كثير. وهنالك قدرت أن بعد اللام وتقدير (أن) بعد اللام كثير. ومن محاسن التأكيد الاختلاف في اللفظ وهو تفنن على أن تلك اللام ونحوها قد اختلف فيها فقيل هي زائدة، وقيل: تفيد التعليل. وسماها بعض أهل اللغة {لامَ أنْ} ، وتقدم الكلام عليها عند قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} في سورة النساء [26].
رابعها: أنه جاء في هذه الآية {أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا} وجاء في الآية السالفة {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [التوبة:55] ونكتة ذلك أن الآية السالفة ذكرت حالة أموالهم في حياتهم فلم تكن حاجة إلى ذكر الحياة. وهنا ذكرت حالة أموالهم بعد مماتهم لقوله: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} [التوبة:84] فقد صاروا إلى حياة أخرى وانقطعت حياتهم الدنيا وأصبحت حديثا.
وبقية تفسير هذه الآية كتفسير سالفتها.
[86] {وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ} .
هذا عطف غرض على غرض قصد به الانتقال إلى تقسيم فرق المتخلفين عن الجهاد من المنافقين وغيرهم وأنواع معاذيرهم ومراتبها في القبول. دعا إليه الإغلاظ في تقريع المتخلفين عن الجهاد نفاقا وتخذيلا للمسلمين، ابتداء من قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ} [التوبة:38] ثم قوله: {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا} [التوبة:42] وكل ذلك مقصود به المنافقون.
ولأجل كون هذه الآية غرضا جديدا ابتدئت بذكر نزول سورة داعية إلى الإيمان والجهاد. والمراد بها هذه السورة، أي سورة براءة، وإطلاق اسم السورة عليها في أثنائها قبل إكمالها مجاز متسع فيه كإطلاق الكتاب على القرآن في أثناء نزوله في نحو قوله: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:2] وقوله: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} [الأنعام:92] فهذا الوصف وصف مقدر شبيه بالحال المقدرة.
وابتدئي بذكر المتخلّفين من المنافقين بقوله: {اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ} .

والسورة طائفة معينة من آيات القرآن لها مبدأ ونهاية وقد مضى الكلام عليها آنفا وقبيل هذا.
ولماّ كانت السورة ألفاظا وأقوالا صح بيانها ببعض ما حوته وهو الأمر بالإيمان والجهاد فقوله: {أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ} تفسير للسورة و {أَنْ} فيه تفسيرية كالتي في قوله تعالى حكاية عن عيسى {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة:117] ويجوز تفسير الشيء ببعضه شبه بدل البعض من الكل.
وليس المراد لفظ {آمِنُوا} وما عطف عليه بل ما يراد فهما مثل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:38] الآيات وقوله: {لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ} [التوبة:44]. والطول السعة في المال قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء:25]. وقد تقدم. والاقتصار على الطول يدل على أن أولي الطول مراد بهم من له قدرة على الجهاد بصحة البدن. فبوجود الطول انتفى عذرهم إذ من لم يكن قادرا ببدنه لا ينظر إلى كونه ذا طول كما يدل عليه قوله بعد {وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ} [التوبة:91]. والمراد بأولي الطول أمثال عبد الله بن أبي بن سلول، ومعتب بن قشير، والجد بن قيس.
وعطف {وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ} على {اسْتَأْذَنَكَ} لما بينهما من المغايرة في الجملة بزيادة في المعطوف لأن الاستئذان مجمل، وقولهم المحكي فيه بيان ما استأذنوا فيه وهو القعود. وفي نظمه إيذان بتلفيق معذرتهم وأن الحقيقة هي رغبتهم في القعود ولذلك حكي قولهم بأن ابتدئ ب {ذَرْنَا} المقتضي الرغبة في تركهم بالمدينة. وبأن يكونوا تبعا للقاعدين الذين فيهم العجز والضعفاء والجبناء، لما تؤذن به كلمة {مَعَ} من الإلحاق والتبعية.
وقد تقدم أن (ذر) أمر من فعل ممات وهو (وذر) استغنوا عنه بمرادفه وهو (ترك) في قوله تعالى: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا} في سورة الأنعام[70].
[87] {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ} .

استئناف قصد منه التعجيب من دناءة نفوسهم وقلة رجلتهم بأنهم رضوا لأنفسهم بأن يكونوا تبعا للنساء. وفي اختيار فعل {رَضُوا} إشعار بأن ما تلبسوا به من الحال من شأنه أن يتردد العاقل في قبوله كما تقدم في قوله تعالى: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ} [التوبة:38] وقوله: {إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [التوبة:83].
والخوالف: جمع خالفة وهي المرأة التي تتخلف في البيت بعد سفر زوجها فإن سافرت معه فهي الظعينة، أي رضوا بالبقاء مع النساء.
والطبع تمثيل لحال قلوبهم في عدم قبول الهدى بالإناء أو الكتاب المختوم. والطبع مرادف الختم. وقد تقدم بيانه عند قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} في سورة البقرة[7]. وأسند الطبع إلى المجهول إما للعلم بفاعله وهو الله، وإما للإشارة إلى أنهم خلقوا كذلك وجبلوا عليه وفرع على الطبع انعدام علمهم بالأمور التي يختص بعلمها أهل الأفهام، وهو العلم المعبر عنه بالفقه، أي إدراك الأشياء الخفية، أي فآثروا نعمة الدعة على سمعة الشجاعة وعلى ثواب الجهاد إذ لم يدركوا إلا المحسوسات فلذلك لم يكونوا فاقهين وذلك أصل جميع المضار في الدارين.
وجيء في إسناد نفي الفقاهة عنهم بالمسند الفعلي للدلالة على تقوي الخبر وتحقيق نسبته إلى المخبر عنهم وتمكنه منهم.
[88] {لَكِنْ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} .
افتتاح الكلام بحرف الاستدراك يؤذن بأن مضمون هذا الكلام نقيض مضمون الكلام الذي قبله أصلا وتفريعا. فلما كان قعود المنافقين عن الجهاد مسببا على كفرهم بالرسول صلى الله عليه وسلم، كان المؤمنون على الضد من ذلك. وابتدئ وصف أحوالهم بوصف حال الرسول لأن تعلقهم به واتباعهم إياه هو أصل كمالهم وخيرهم، فقيل: {لَكِنْ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا} .
وقوله: {بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ} مقابل قوله: {اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ} [التوبة:86].
وقوله: {وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} مقابل قوله: {وَطُبِعَ عَلَى

قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ} [التوبة:87] كما تقدّم.
وفي حرف الاستدراك إشارة إلى الاستغناء عن نصرة المنافقين بنصرة المؤمنين الرسول كقوله: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاَءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام:89].
وقد مضى الكلام على الجهاد بالأموال عند قوله تعالى: {انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} [التوبة:41].
وفي قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} تعريض بأن الذين لم يجاهدوا دون عذر ليسوا بمؤمنين.
و {مَعَهُ} في موضع الحال من {الَّذِينَ} لتدل على أنهم أتباع له في كل حال وفي كل أمر، فإيمانهم معه لأنهم آمنوا به عند دعوته إياهم، وجهادهم بأموالهم وأنفسهم معه، وفيه إشارة إلى أن الخيرات المبثوثة لهم في الدنيا والآخرة تابعة لخيراته ومقاماته.
وعطفت جملة: {وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ الْخَيْرَاتُ} على جملة {جَاهَدُوا} ولم تفصل مع جواز الفصل ليدل بالعطف على أنها خبر عن الذين آمنوا، أي على أنها من أوصافهم وأحوالهم لأن تلك أدل على تمكن مضمونها فيهم من أن يؤتى بها مستأنفة كأنها إخبار مستأنف.
والإتيان باسم الإشارة لإفادة أن استحقاقهم الخيرات والفلاح كان لأجل جهادهم.
والخبرات: جمع خير على غير قياس. فهو مما جاء على صيغة جمع التأنيث مع عدم التأنيث ولا علامته مثل سرادقات وحمامات.
وجعله كثير من اللغويين جمع (خَيْرَة) بتخفيف الياء مخفف (خَيّرة) المشدد الياء التي هي أنثى (خَيِّر)، أو هي مؤنث (خَيْر) المخفف الياء الذي هو بمعنى أخير. وإنما أنثوا وصف المرأة منه لأنهم لم يريدوا به التفضيل، وعلى هذا كله يكون خيرات هنا مؤولا بالخصال الخيرة، وكل ذلك تكلف لا داعي إليه مع استقامة الحمل على الظاهر. والمراد منافع الدنيا والآخرة. فاللام فيه للاستغراق. والقول في {وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} كالقول في نظيره في أول سورة البقرة.
[89] {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} .

استئناف بياني لجواب سؤال ينشأ عن الإخبار ب {وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ الْخَيْرَاتُ} [التوبة:88].
والإعداد: التهيئة. وفيه إشعار بالعناية والتهمم بشأنهم. وتقدم القول في نظير هذه الآية في قوله قبل {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً} [التوبة:72] الآية.
[90] {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنْ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
عطفت جملة: {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ} على جملة {رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُوا الطَّوْلِ} [التوبة:86]، وما بينهما اعتراض، فالمراد بالمعذرين فريق من المؤمنين الصادقين من الأعراب، كما تدل عليه المقابلة بقوله: {وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} . وعلى هذا المعنى فسر ابن عباس، ومجاهد، وكثير. وجعلوا من هؤلاء غفارا، وخالفهم قتادة فجعلهم المعتذرين كذبا وهم بنو عامر رهط عامر بن الطفيل، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إن خرجنا معك أغارت أعراب طيء على بيوتنا. ومن المعذرين الكاذبين أسد، وغطفان.
وعلى الوجهين في التفسير يختلف التقدير في قوله: {الْمَعْذُورُونَ} فإن كانوا المحقين في العذر فتقدير {الْمُعَذِّرُونَ} أن أصله المعتذرون، من اعتذر أدغمت التاء في الذال لتقارب المخرجين لقصد التخفيف، كما أدغمت التاء في الصاد في قوله: {وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} [يس:49]، أي يختصمون.
وإن كانوا الكاذبين في عذرهم فتقدير المعذرون: أنه اسم فاعل من عذر بمعنى تكلف العذر فعن ابن عباس: لعن الله المعذرين. قال الأزهري: ذهب إلى أنهم الذين يعتذرون بلا عذر فكأن الأمر عنده أن المعذّر بالتشديد هو المظهر للعذر اعتلالاً وهو لا عذر له اه. وقال شارح "ديوان النابغة" عند قول النابغة:
ودع أمامة والتوديع تعذير ... أي لا يجد عذرا غير التوديع.
ويجوز أن يكون اختيار صيغة المعذرين من لطائف القرآن لتشمل الذين صدقوا في العذر والذين كذبوا فيه.
والاعتذار افتعال من باب ما استعمل فيه مادة الافتعال للتكلف في الفعل والتصرف

مثل الاكتساب والاختلاق. وليس لهذا المزيد فعل مجرد بمعناه وإنما المجرد هو عذر بمعنى قبل العذر. والعذر البينة والحالة التي يتنصل بها من تبعة أو ملام عند من يتعذر إليه.
وقرأ يعقوب {الْمُعَذِّرُونَ} - بسكون العين وتخفيف الذال -، من أعذر إذا بالغ في الاعتذار.
والأعراب اسم جمع يقال في الواحد: أعرابي - بياء النسب - نسبة إلى اسم الجمع كما يقال مجوسي لواحد المجوس. وصيغة الأعراب من صيغ الجموع ولكنه لم يكن جمعا لأنه لا واحد له من لفظ جمعه فلذلك جعل اسم جمع. وهم سكان البادية.
وأما قوله: {وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} فهم الذين أعلنوا بالعصيان في أمر الخروج إلى الغزو من الأعراب أيضا كما ينبي عنه السياق، أي قعدوا دون اعتذار. فالقعود هو عدم الخروج إلى الغزو. وعلم أن المراد القعود دون اعتذار من مقابلته بقوله: {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنْ الأَعْرَابِ} .
وجملة {وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} عطف على جملة {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنْ الأَعْرَابِ} وهذا فريق آخر من الأعراب خليط من مسلمين ومنافقين {كَذَبُوا} بالتخفيف، أي كانوا كاذبين. والمراد أنهم كذبوا في الإيمان الذي أظهروه من قبل، ويحتمل أنهم كذبوا في وعدهم النصر ثم قعدوا دون اعتذار بحيث لم يكن تخلفهم مترقبا لأن الذين اعتذروا قد علم النبي - عليه الصلاة والسلام - أنهم غير خارجين معه بخلاف الآخرين فكانوا محسوبين في جملة الجيش. وتخلفهم أشد إضرار لأنه قد يفل من حدة كثير من الغزاة.
وجملة {سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا} مستأنفة لابتداء وعيد.
وضمير {مِنْهُمْ} يعود إلى المذكورين فهو شامل للذين كذبوا الله ورسوله ولمن كان عذره ناشئا عن نفاق وكذب.
وتنكير عذاب للتهويل والمراد به عذاب جهنم.
[91] {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.

استئناف بياني لجواب سؤال مقدر ينشأ عن تهويل القعود عن الغزو وما توجه إلى المخلفين من الوعيد. استيفاء لأقسام المخلفين من ملوم ومعذور من الأعراب أو من غيرهم.
وإعادة حرف النفي في عطف الضعفاء والمرضى لتوكيد نفي المؤاخذة عن كل فريق بخصوصه.
والضعفاء: جمع ضعيف وهو الذي به الضعف وهو وهن القوة البدنية من غير مرض.
والمرضى: جمع مريض وهو الذي به مرض. والمرض تغير النظام المعتاد بالبدن بسبب اختلال يطرأ في بعض أجزاء المزاج، ومن المرض المزمن كالعمى والزمانة وتقدم في قوله: {وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} في سورة النساء [43].
والحرج: الضيق ويراد به ضيق التكليف، أي النهي.
والنصح: العمل النافع للمنصوح وقد تقدم عند قوله تعالى: {لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ} في سورة الأعراف [79] وتقدم وجه تعديته باللام وأطلق هنا على الإيمان والسعي في مرضاة الله ورسوله والامتثال والسعي لما ينفع المسلمين، فإن ذلك يشبه فعل الموالي الناصح لمنصوحه.
وجملة: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} واقعة موقع التعليل لنفي الحرج عنهم وهذه الجملة نظمت نظم الأمثال. فقوله: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} دليل على علة محذوفة. والمعنى ليس على الضعفاء ولا على من عطف عليهم حرج إذا نصحوا لله ورسوله لأنهم محسنون غير مسيئين وما على المحسنين من سبيل، أي مؤاخذة أو معاقبة. والمحسنون الذين فعلوا الإحسان وهو ما فيه النفع التام.
والسبيل: أصله الطريق ويطلق على وسائل وأسباب المؤاخذة باللوم والعقاب لأن تلك الوسائل تشبه الطريق الذي يصل منه طالب الحق إلى مكان المحقوق ولمراعاة هذا الإطلاق جعل حرف الاستعلاء في الخبر عن السبيل دون حرف الغاية. ونظيره قوله تعالى: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} [النساء:34] وقوله: {فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} كلاهما في سورة النساء [90]. فدخل في المحسنين هؤلاء الذين نصحوا لله

ورسوله. وليس ذلك من وضع المظهر موضع المضمر لأن هذا مرمى آخر هو أسمى وأبعد غاية.
و {مِنْ} مؤكدة لشمول النفي لكل سبيل.
وجملة {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} تذييل والواو اعتراضية، أي شديد المغفرة ومن مغفرته أن لم يؤاخذ أهل الأعذار بالقعود عن الجهاد. شديد الرحمة بالناس ومن رحمته أن لم يكلف أهل الإعذار ما يشق عليهم.
[92] {وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ} .
عطف على {الضُّعَفَاءِ} و {الْمَرْضَى} . وإعادة حرف النفي بعد العاطف للنكتة المتقدمة هنالك.
والحمل يطلق على إعطاء ما يحمل عليه، أي إذا أتوك لتعطيهم الحمولة، أي ما يركبونه ويحملون عليه سلاحهم ومؤنهم من الإبل.
وجملة: {قُلْتَ لاَ أَجِدُ} الخ إما حال من ضمير المخاطب في {أَتَوْكَ} وإما بدل اشتمال من فعل {أَتَوْكَ} لأن إتيانهم لأجل الحمل يشتمل على إجابة، وعلى منع.
وجملة {تَوَلَّوا} جواب {إِذَا} ، والمجموع صلة الذين.
والتولي الرجوع. وقد تقدم عند قوله تعالى: {مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ} [البقرة:142] وقوله: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ} في سورة البقرة [205].
والفيض والفيضان خروج الماء ونحوه من قراره ووعائه، ويسند إلى المائع حقيقة. وكثيرا ما يسند إلى وعاء المائع، فيقال: فاض الوادي، وفاض الإناء. ومنه فاضت العين دمعا وهو أبلغ من فاض دمعهما، لأن العين جعلت كأنها كلها دمع فائض، فقوله: {تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} جرى على هذا الأسلوب.
و{مِنَ} لبيان ما منه الفيض. والمجرور بها في معنى التمييز. وقد تقدم في قوله تعالى: {تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ} في سورة المائدة [83].
و {حَزَنًا} نصب على المفعول لأجله، و {أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ} مجرور بلام جرّ

محذوف أي حزنوا لأنهم لا يجدون ما ينفقون.
والآية نزلت في نفر من الأنصار سبعة وقيل: فيهم من غير الأنصار واختلف أيضا في أسمائهم بما لا حاجة إلى ذكره ولقبوا بالبكائين لأنهم بكوا لما لم يجدوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الحملان حزنا على حرمانهم من الجهاد. وقيل: نزلت في أبي موسى الأشعري ورهط من الأشعريين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك يستحملونه فلم يجد لهم حمولة وصادفوا ساعة غضب من النبي صلى الله عليه وسلم فخلف أن لا يحملهم ثم جاءه نهب إبل فدعاهم وحملهم وقالوا: استغفلنا رسول الله يمينه لا نفلح أبدا، فرجعوا وأخبروه فقال: "ما أنا حملتكم ولكن الله حملكم وإني والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرت عن يميني وفعلت الذي هو خير" والظاهر أن هؤلاء غير المعنيين في هذه الآية لأن الأشعريين قد حملهم النبي - عليه الصلاة والسلام - وعن مجاهد أنهم بنو مقرن من مزينه، وهم الذين قيل: إنه نزل فيهم قوله تعالى: {وَمِنْ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة:99] الآية.
[93] {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} .
لما نفت الآيتان أن يكون سبيل على المؤمنين الضعفاء والمرضى والذين لا يجدون ما ينفقون والذين لم يجدوا حمولة، حصرت هذه الآية السبيل في كونه على الذين يستأذنون في التخلف وهم أغنياء، وهو انتقال بالتخلص إلى العودة إلى أحوال المنافقين كما دل عليه قوله بعدُ {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ} [التوبة:94]، فالقصر إضافي بالنسبة للأصناف الذين نفي أن يكون عليهم سبيل.
وفي هذا الحصر تأكيد للنفي السابق، أي لا سبيل عقاب إلا على الذين يستأذنونك وهم أغنياء. والمراد بهم المنافقون بالمدينة الذين يكرهون الجهاد إذ لا يؤمنون بما وعد الله عليه من الخيرات وهم أولو الطول المذكورون في قوله: {وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ} [التوبة:86] الآية.
والسبيل: حقيقته الطريق. ومر في قوله: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة:91]، وقوله: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ} مستعار لمعنى السلطان والمؤاخذة بالتبعة، شبه السلطان والمؤاخذة بالطريق لأن السلطة يتوصل بها من هي له إلى

تنفيذ المؤاخذة في الغير. ولذلك عدي بحرف (على) المفيد لمعنى الاستعلاء، وهو استعلاء مجازي بمعنى التمكن من التصرف في مدخول
(على). فكان هذا التركيب استعارة مكنية رمز إليها بما هو من ملائمات المشبه به وهو حرف (على). وفيه استعارة تبعية.
والتعريف باللام في قوله: {إِنَّمَا السَّبِيلُ} تعريف العهد، والمعهود هو السبيل المنفي في قوله تعالى: {عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة:91] على قاعدة النكرة إذا أعيدت معرفة، أي إنما السبيل المنفي عن المحسنين مثبت للذين يستأذنوك وهم أغنياء. ونظير هذا قوله تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} في سورة الشورى [42]. فدل ذلك على أن المراد بالسبيل العذاب.
والمعنى ليست التبعة والمؤاخذة إلا على الذين يستأذنوك وهم أغنياء، الذين أرادوا أن يتخلفوا عن غزوة تبوك ولا عذر لهم يخولهم التخلف. وقد سبقت آية {فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} من سورة النساء [90]، وأحيل هنالك تفسيرها على ما ذكرناه في هذه الآية.
وجملة: {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ} مستأنفة لجواب سؤال ينشأ عن علة استيذانهم في التخلف وهو أغنياء، أي بعثهم على ذلك رضاهم بأن يكونوا مع الخوالف من النساء. وقد تقدم القول في نظيره آنفا.
وأسند الطبع على قلوبهم إلى الله في هذه الآية بخلاف ما في الآية السابقة {وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [التوبة:87] لعله للإشارة إلى أنه طبع غير الطبع الذي جبلوا عليه بل هو طبع على طبع أنشأه الله في قلوبهم لغضبه عليهم فحرمهم النجاة من الطبع الأصلي وزادهم عماية، ولأجل هذا المعنى فرع عليه {َهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} لنفي أصل العلم عنهم، أي يكادون أن يساووا العجماوات.
[94] {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لاَ تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} .
استئناف ابتدائي لأن هذا الاعتذار ليس قاصرا على الذين يستأذنوك في التخلف فإن الإذن لهم يغنيهم عن التبرؤ بالحلف الكاذب، فضمير {يَعْتَذِرُونَ} عائد إلى أقرب معاد

وهو قوله: {وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [التوبة:90] فإنهم فريق من المنافقين فهم الذين اعتذروا بعد رجوع الناس من غزوة تبوك وجعل المسند فعلا مضارعا لإفادة التجدد والتكرير.
و {إِذَا} هنا مستعملة للزمان الماضي لأن السورة نزلت بعد القفول من غزوة تبوك وجعل الرجوع إلى المنافقين لأنهم المقصود من الخبر الواقع عند الرجوع.
والخطاب للمسلمين لأن المنافقين يقصدون بأعذارهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويعيدونها مع جماعات المسلمين. والنهي في قوله: {لاَ تَعْتَذِرُوا} مستعمل في التأييس.
وجملة: {لَنْ نُؤْمِنَ} في موضع التعليل للنهي عن الاعتذار لعدم جدوى الاعتذار، يقال: آمن له إذا صدقه. وقد تقدم في هذه السورة [61] قوله تعالى: {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ}
وجملة: {قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ} تعليل لنفي تصديقهم، أي قد نبأنا الله من أخباركم بما يقتضي تكذيبكم، فالإبهام في المفعول الثاني ل {نَبَّأَنَا} الساد مسد مفعولين تعويل على أن المقام يبينه.
و {مِنْ} اسم بمعنى بعض، أو هي صفة لمحذوف تقديره: قد نبأنا الله اليقين من أخباركم.
وجملة: {وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} عطف على جملة {لاَ تَعْتَذِرُوا} ، أي لا فائدة في اعتذاركم فإن خشيتم المؤاخذة فاعملوا الخير للمستقبل فسيرى الله عملكم ورسوله إن أحسنتم؛ فالمقصود فتح باب التوبة لهم، والتنبيه إلى المكنة من استدراك أمرهم. وفي ذلك تهديد بالوعيد إن لم يتوبوا.
فالإخبار برؤية الله ورسوله عملهم في المستقبل مستعمل في الكناية عن الترغيب في العمل الصالح، والترهيب من الدوام على حالهم. والمراد: تمكنهم من إصلاح ظاهر أعمالهم، ولذلك أردف بقوله: {ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} ، أي تصيرون بعد الموت إلى الله. فالرد بمعنى الإرجاع، كما في قوله تعالى: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاَهُمْ الْحَقِّ} في سورة الأنعام [62].
والرد: الإرجاع. والمراد به هنا مصير النفوس إلى عالم الخلد الذي لا تصرف فيه لغير الله ولو في ظاهر الأمر. ولما كانت النفوس من خلق الله وقد أنزلها إلى عالم الفناء

الدنيوي فاستقلت بأعمالها مدة العمر كان مصيرها بعد الموت أو عند البعث إلى تصرف الله فيها شبيها برد شيء إلى مقره أو إرجاعه إلى مالكه.
والغيب: ما غاب عن علم الناس. والشهادة: المشاهدة. واللام في {الْغَيْبِ} و {وَالشَّهَادَةِ} للاستغراق، أي كل غيب وكل شهادة.
والعدول عن أن يقال: لم تردون إليه، أي إلى الله، لما في الإظهار من التنبيه على أنه لا يعزب عنه شيء من أعمالهم، زيادة في الترغيب والترهيب ليعلموا انه لا يخفى على الله شيء.
والإنباء: الإخبار. وما كنتم تعملون: علم كل عمل عملوه.
واستعمل {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} في لازم معناه، وهو المجازاة على كل ما عملوه، أي فتجدونه عالما بكل ما عملتموه. وهو كناية؛ لأن ذكر المجازاة في مقام الإجرام والجناية لازم لعموم علم ملك يوم الدين بكل ما عملوه.
[95] {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} .
الجملة مستأنفة ابتدائية تعداد لأحوالهم. ومعناها ناشئ عن مضمون جملة {لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ} [التوبة:94] تنبيها على أنهم لا يرعوون عن الكذب ومخادعة المسلمين، فإذا قيل لهم {لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ} [التوبة:94] حلفوا على أنهم صادقون ترويجا لخداعهم: وهذا إخبار بما سيلاقي به المنافقون المسلمين قبل وقوعه وبعد رجوع المسلمين من الغزو.
و {إِذَا} هنا ظرف للزمن الماضي.
وحذف المحلوف عليه لظهوره، ولتقدم نظيره في قوله: {وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوْ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} [التوبة:42] إلا أن ما تقدم في حلفهم قبل الخروج.
والانقلاب: الرجوع، وتقدم في قوله: {انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} في آل عمران[144].
وصرح بعلة الحلف هنا أنه لقصد إعراض المسلمين عنهم، أي عن عتابهم وتقريعهم، للإشارة إلى أنهم لا يقصدون تطبيب خواطر المسلمين ولكن أرادوا التملص من مسبة العتاب ولذعه. ولذلك قال في الآيتين الأخريين {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ}

[التوبة:62] {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ} [التوبة:96] لأن ذلك كان قبل الخروج إلى الغزو فلما فات الأمر وعلموا أن حلفهم لم يصدقه المسلمون صاروا يحلفون لقصد أن يعرض المسلمون عنهم.
وأدخل حرف (عن) على ضمير المنافقين بتقدير مضاف يدل عليه السياق لظهور أنهم يريدون الإعراض عن لومهم. ففي حذف المضاف تهيئة لتفريع التقريع الواقع بعده بقوله: {فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ} ، أي فإذا كانوا يرومون الإعراض عنهم فأعرضوا عنهم تماماً.
وهذا ضرب من التقريع فيه إطماع للمغضوب عليه الطالب بأنه أجيبت طلبته حتى إذا تأمل وجد ما طمع فيه قد انقلب عكس المطلوب فصار يأسا لأنهم أرادوا الإعراض عن المعاتبة بالإمساك عنها واستدامة معاملتهم معاملة المسلمين، فإذا بهم يواجهون بالإعراض عن مكالمتهم ومخالطتهم وذلك أشد مما حلفوا للتفادي عنه. فهو من تأكيد الشيء بما يشبه ضده أو من القول بالموجب.
وجملة: {إِنَّهُمْ رِجْسٌ} تعليل للأمر بالإعراض. ووقوع (إن) في أولها مؤذن بمعنى التعليل.
والرجس: الخبث. والمراد تشبيههم بالرجس في الدناءة ودنس النفوس. فهو رجس معنوي. كقوله: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:90].
والمأوى: المصير والمرجع.
و {جَزَاءً} حال من {جَهَنَّمُ} ، أي مجازاة لهم على ما كانوا يعملون.
[96] {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَرْضَى عَنْ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} .
هذه الجملة بدل اشتمال من جملة {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ} [التوبة:95] لأنهم إذا حلفوا لأجل أن يعرض عنهم المسلمون فلا يلومونهم، فإن ذلك يتضمن طلبهم رضى المسلمين.
وقد فرع الله على ذلك أنه إن رضي المسلمون عنهم وأعرضوا عن لومهم فإن الله لا يرضى عن المنافقين. وهذا تحذير للمسلمين من الرضى عن المنافقين بطريق الكناية إذ قد

علم المسلمون أن ما لا يرضي الله لا يكون للمسلمين أن يرضوا به.
والقوم الفاسقون هم هؤلاء المنافقون. والعدول عن الإتيان بضمير (هم) إلى التعبير بصفتهم للدلالة على ذمهم وتعليل عدم الرضى عنهم، فالكلام مشتمل على خبر وعلى دليله فأفاد مفاد كلامين لأنه ينحل إلى: فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عنهم لأن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين.
[97] {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} .
استئناف ابتدائي رجع به الكلام إلى أحوال المعذرين من الأعراب والذين كذبوا الله ورسوله منهم، وما بين ذلك استطراد دعا إليه قرن الذين كذبوا الله ورسوله في الذكر مع الأعراب. فلما تقضى الكلام على أولئك تخلص إلى بقية أحوال الأعراب. وللتنبيه على اتصال الغرضين وقع تقديم المسند إليه، وهو لفظ (الأعراب) للاهتمام به من هذه الجهة، ومن وراء ذلك تنبيه المسلمين لأحوال الأعراب لأنهم لبعدهم عن الاحتكاك بهم والمخالطة معهم قد تخفى عليهم أحوالهم ويظنون بجميعهم خيرا.
و(أشد) و(أجدر) اسما تفضيل ولم يذكر معهما ما يدل على مفضل عليه، فيجوز أن يكونا على ظاهرهما فيكون المفضل عليه أهل الحضر، أي كفار ومنافقي المدينة. وهذا هو الذي تواطأ عليه جميع المفسرين.
وازديادهم في الكفر والنفاق هو بالنسبة لكفار ومنافقي المدينة. ومنافقوهم أشد نفاقا من منافقي المدينة.
وهذا الازدياد راجع إلى تمكن الوصفين من نفوسهم، أي كفرهم أمكن في النفوس من كفر كفار المدينة، ونفاقهم أمكن من نفوسهم كذلك، أي أمكن في جانب الكفر منه والبعد عن الإقلاع عنه وظهور بوادر الشر منهم، وذلك أن غلظ القلوب وجلافة الطبع تزيد النفوس السيئة وحشة ونفورا. ألا تعلم أن ذا الخويصرة التميمي، وكان يدعي الإسلام، لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الاقرع بن حابس ومن معه من صناديد العرب من ذهب قسمه قال ذو الخويصرة مواجها النبي صلى الله عليه وسلم "اعدل" فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "ويحك ومن يعدل إن لم أعدل" .
فإن الإعراب لنشأتهم في البادية كانوا بعداء عن مخالطة أهل العقول المستقيمة وكانت أذهانهم أبعد عن معرفة الحقائق وأملأ بالأوهام، وهم لبعدهم عن مشاهدة أنوار

النبي صلى الله عليه وسلم وأخلاقه وآدابه وعن تلقي الهدى صباح مساء أجهل بأمور الديانة وما به تهذيب النفوس، وهم لتوارثهم أخلاق أسلافهم وبعدهم عن التطورات المدنية التي توثر سموا في النفوس البشرية، وإتقانا في وضع الأشياء في مواضعها، وحكمة تقليدية تتدرج بالأزمان، يكونون أقرب سيرة بالتوحش وأكثر غلظة في المعاملة وأوضع للتراث العلمي والخلقي؛ ولذلك قال عثمان لأبي ذر لما عزم على سكنى الربذة: تعهد المدينة كيلا ترتد أعرابيا.
فأما في الأخلاق التي تحمد فيها الخشونة والغلظة والاستخفاف بالعظائم مثل الشجاعة؛ والصراحة وإباء الضيم والكرم فإنها تكون أقوى في الأعراب بالجبلة، ولذلك يكونون أقرب إلى الخير إذا اعتقدوه وآمنوا به.
ويجوز أن يكون {أَشَدُّ} و {أَجْدَرُ} مسلوبي المفاضلة مستعملين لقوة الوصفين في الموصوفين بهما على طريقة قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف:33]. فالمعنى أن كفرهم شديد التمكن من نفوسهم ونفاقهم كذلك، من غير إرادة أنهم أشد كفرا ونفاقا من كفار أهل المدينة ومنافقيها. وعلى كلا الوجهين فإن {كُفْرًا وَنِفَاقًا} منصوبان على التمييز لبيان الإبهام الذي في وصف {أَشَدُّ} . سلك مسلك الإجمال ثم التفصيل ليتمكن المعنى أكمل تمكن.
والأجدر: الأحق. والجدارة: الأولوية. وإنما كانوا أجدر بعدم العلم بالشريعة لأنهم يبعدون عن مجالس التذكير ومنازل الوحي، ولقلة مخالطتهم أهل العلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحذفت الباء التي يتعدى بها فعل الجدارة على طريقة حذف حرف الجر مع (أن) المصدرية.
والحدود: المقادير والفواصل بين الأشياء. والمعنى أنهم لا يعلمون فواصل الأحكام وضوابط تمييز متشابهها.
وفي هذا الوصف يظهر تفاوت أهل العلم والمعرفة. وهو المعبر عنه في اصطلاح العلماء بالتحقيق أو بالحكمة المفسرة بمعرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه، فزيادة قيد (على ما هي عليه) للدلالة على التمييز بين المختلطات والمتشابهات والخفيات.
وجملة: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} تذييل لهذا الإفصاح عن دخيلة الأعراب وخلقهم، أي عليم بهم وبغيرهم، وحكيم في تمييز مراتبهم.
[98] {وَمِنْ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ

السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} .
هذا فريق من الأعراب يظهر الإيمان وينفق في سبيل الله. وإنما يفعلون ذلك تقية وخوفا من الغزو أو حبا للمحمدة وسلوكا في مسلك الجماعة، وهم يبطنون الكفر وينتظرون الفرصة التي تمكنهم من الانقلاب على أعقابهم. وهؤلاء وإن كانوا من جملة منافقي الأعراب فتخصيصهم بالتقسيم هنا منظور فيه إلى ما اختصوا به من أحوال النفاق، لأن التقاسيم في المقامات الخطابية والمجادلات تعتمد اختلافا ما في أحوال المقسم، ولا يعبأ فيها بدخول القسم في قسيمه.
فقوله: {وَمِنْ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا} هو في التقسيم كقوله: {وَمِنْ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة:99]. ومعنى {يَتَّخِذُ} يعد ويجعل، لأن اتخذ من أخوات جعل. والجعل يطلق بمعنى التغيير من حالة إلى حالة نحو جعلت الشقة بردا. ويطلق بمعنى العد والحسبان نحو {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} [النحل:91] فكذلك {يَتَّخِذُ} هنا.
والمغرم: ما يدفع من المال قهرا وظلما، فهؤلاء الأعراب يؤتون الزكاة وينفقون في سبيل الله ويعدون ذلك كالاتاوات المالية والرزايا يدفعونها تقية. ومن هؤلاء من امتنعوا من إعطاء الزكاة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال قائلهم من طيء في زمن أبي بكر لما جاءهم الساعي لإحصاء زكاة الأنعام:
فقولا لهذا المرء ذو جاء ساعيا ... هلم فان المشرفي الفرائض
أي فرائض الزكاة هي السيف، أي يعطون الساعي ضرب السيف بدلا عن الزكاة.
والتربص: الانتظار. والدوائر: جمع دائرة وهي تغير الحالة من استقامة إلى اختلال. وتقدم الكلام عليها عند قوله تعالى: {يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} في سورة العقود [52].
والباء للسببية كقوله تعالى: {نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور:30] وجعل المجرور بالباء ضمير المخاطبين على تقدير مضاف. والتقدير: ويتربص بسبب حالتكم الدوائر عليكم لظهور أن الدوائر لا تكون سببا لانتظار الانقلاب بل حالهم هي سبب تربصهم أن تنقلب عليهم الحال لأن حالتهم الحاضرة شديدة عليهم.
فالمعنى أنهم ينتظرون ضعفكم وهزيمتكم أو ينتظرون وفاة نبيكم فيظهرون ما هو

كامن فيهم من الكفر. وقد أنبأ الله بحالهم التي ظهرت عقب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وهم أهل الردة من العرب.
وجملة: {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} دعاء عليهم وتحقير، ولذلك فصلت. والدعاء من الله على خلقه: تكوين وتقدير مشوب بإهانة لأنه لا يعجزه شيء فلا يحتاج إلى تمني ما يريده. وقد تقدم الكلام عليه عند قوله تعالى: {فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} في سورة البقرة [89].
وقد كانت على الأعراب دائرة السوء إذ قاتلهم المسلمون في خلافة أبي بكر عام الردة وهزموهم فرجعوا خائبين.
وإضافة {دَائِرَةُ} إلى {السَّوْءِ} من الإضافة إلى الوصف اللازم كقولهم: عشاء الآخرة. إذ الدائرة لا تكون إلا في السوء. قال أبو علي الفارسي: لو لم تضف الدائرة إلى السوء عرف منها معنى السوء لأن دائرة الدهر لا تستعمل إلا في المكروه. ونظيره إضافة السوء إلى ذئب في قول الفرزدق:
فكنت كذئب السوء حين رأى دما ... بصاحبه يوما أحال على الدم
إذ الذئب متمحض للسوء إذ لا خير فيه للناس. والسوء - بفتح السين - المصدر، وبضمها الاسم. وقد قرأ الجمهور بفتح السين. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحدهما بضم السين. والمعنى واحد.
وجملة: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} تذييل، أي سميع ما يتناجون به وما يدبرونه من الترصد، عليم بما يبطنونه ويقصدون إخفاءه.
[99] {وَمِنْ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلاَ إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمْ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
هؤلاء هم المؤمنون من الأعراب وفاهم الله حقهم من الثناء عليهم، وهم أضداد الفريقين الآخرين المذكورين في قوله: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا} [التوبة:97] - وقوله - {وَمِنْ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا} [التوبة:98]. قيل: هم بنو مقرن من مزينة الذين نزل فيهم قوله تعالى: {وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} [التوبة:92] الآية كما تقدم. ومن هؤلاء عبد الله ذو البجادين المزني - هو ابن مغفل. والإنفاق هنا هو الإنفاق هناك.
وتقدم قريبا معنى {يَتَّخِذُ} .

و {قُرُبَاتٍ} - بضم القاف وضم الراء -: جمع قربة بسكون الراء. وهي تطلق بمعنى المصدر، أي القرب وهو المراد هنا، أي يتخذون ما ينفقون تقربا عند الله. وجمع قربات باعتبار تعدد الإنفاق، فكل إنفاق هو قربة عند الله لأنه يوجب زيادة القرب. قال تعالى: {يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء:57]. ف {قُرُبَاتٍ} هنا مجاز مستعمل في رضى الله ورفع الدرجات في الجنة، فلذلك وصفت ب {عِنْدَ} الدالة على مكان الدنو. و(عِنْدَ) مجاز في التشريف والعناية، فإن الجنة تشبه بدار الكرامة عند الله. قال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍفِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 55،54].
و {وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ} دعواته. وأصل الصلاة الدعاء. وجمعت هنا لأن كل إنفاق يقدمونه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو لهم بسببه دعوة، فبتكرر الإنفاق تتكرر الصلاة. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على كل من يأتيه بصدقته وإنفاقه امتثالا لما أمره الله بقوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة:103]. وجاء في حديث ابن أبي أوفى أنه لما جاء بصدقته قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم صل على آل أبي أوفى" .
ويجوز عطف {صَلَوَاتِ الرَّسُولِ} على اسم الجلالة معمولا ل {عِنْدَ} ، أي يتخذون الإنفاق قربة عند صلوات الرسول، أي يجعلونه تقربا كائنا في مكان الدنو من صلوات الرسول تشبيها للتسبب في الشيء بالاقتراب منه، أي يجعلون الإنفاق سببا لدعاء الرسول لهم. فظرف (عند) مستعمل في معنيين مجازيين. ويجوز أن يكون {وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ} عطفا على {قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ} ، أي يتخذ ما ينفق دعوات الرسول. أخبر عن الإنفاق باتخاذه دعوات الرسول لأنه يتوسل بالأنفاق إلى دعوات الرسول إذ أمر بذلك في قوله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة:103].
وجملة: {أَلاَ إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ} مستأنفة مسوقة مساق البشارة لهم بقبول ما رجوه.
وافتتحت الجملة بحرف الاستفتاح للاهتمام بها ليعيها السامع، وبحرف التأكيد لتحقيق مضمونها، والضمير الواقع اسم (إن) عائد إلى ما (ينفق) باعتبار النفقات. واللام للاختصاص، أي هي قربة لهم، أي عند الله وعند صلوات الرسول. وحذف ذلك لدلالة سابق الكلام عليه. وتنكير {قُرْبَة} لعدم الداعي إلى التعريف، ولأن التنكير قد يفيد التعظيم.
وجملة: {سَيُدْخِلُهُمْ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ} واقعة موقع البيان لجملة {إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ} ، لأن القربة عند الله هي الدرجات العلى ورضوانه، وذلك من الرحمة. والقربة عند صلوات

الرسول صلى الله عليه وسلم إجابة صلاته. والصلاة التي يدعو لهم طلب الرحمة، فمآل الأمرين هو إدخال الله إياهم في رحمته. وأوثر فعل الإدخال هنا لأنه المناسب للكون في الجنة، إذ كثيرا ما يقال: دخل الجنة. قال تعالى: {وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:30].
وجملة: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} تذييل مناسب لما رجوه وما استجيب لهم. وأثبت بحرف التأكيد للاهتمام بهذا الخبر، أي غفور لما مضى من كفرهم، رحيم بهم يفيض النعم عليهم.
وقرأ الجمهور {قُرْبَةٌ} بسكون الراء، وقرأه ورش وحده بضم الراء لاتباع القاف.
[100] {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} .
عقب ذكر الفرق المتلبسة بالنقائص على تفاوت بينها في ذلك بذكر القدوة الصالحة والمثل الكامل في الإيمان والفضائل والنصرة في سبيل الله ليحتذي متطلب الصلاح حذوهم، ولئلا يخلو تقسيم القبائل الساكنة بالمدينة وحواليها وبواديها، عن ذكر أفضل الأقسام تنويها به. وبهذا تم استقراء الفرق وأحوالها.
فالجملة عطف على جملة: {وَمِنْ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا} [التوبة:98].
والمقصود بالسبق السبق في الإيمان، لأن سياق الآيات قبلها في تمييز أحوال المؤمنين الخالصين، والكفار الصرحاء، والكفار المنافقين؛ فتعين أن يراد الذين سبقوا غيرهم من صنفهم، فالسابقون من المهاجرين هم الذين سبقوا بالإيمان قبل أن يهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، والسابقون من الأنصار هم الذين سبقوا قومهم بالإيمان، وهم أهل العقبتين الأولى والثانية.
وقد اختلف المفسرون في تحديد المدة التي عندها ينتهي وصف السابقين من المهاجرين والأنصار معا، فقال أبو موسى وابن المسيب وابن سيرين وقتادة: من صلى القبلتين. وقال عطاء: من شهد بدرا. وقال الشعبي: من أدركوا بيعة الرضوان. وهذه الأقوال الثلاثة تعتبر الواو في قوله: {وَالأَنصَارِ} للجمع في وصف السبق لأنه متحد بالنسبة إلى الفريقين، وهذا يخص المهاجرين. وفي "أحكام ابن العربي" ما يشبه أن رأيه

أن السابقين أصحاب العقبتين، وذلك يخص الأنصار. وعن الجبائي: أن السابقين من أسلموا قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. ولعله اختيار منه إذ لم يسنده إلى قائل.
واختار ابن عطية أن السابقين هم من هاجر قبل أن تنقطع الهجرة، أي بفتح مكة، وهذا يقصر وصف السبق على المهاجرين. ولا يلاقي قراءة الجمهور بفخض {وَالأَنصَارِ} .
و {مِنْ} للتبعيض لا للبيان.
والأنصار: جمع نصير، وهو الناصر. والأنصار بهذا الجمع اسم غلب على الأوس والخزرج الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته أو بعد وفاته وعلى أبنائهم إلى آخر الزمان. دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الوصف، فيطلق على أولاد المنافقين منهم الذين نشأوا في الإسلام كولد ابن صياد.
وقرأ الجمهور {وَالأَنصَارِ} بالخفض عطفا على المهاجرين، فيكون وصف السابقين صفة للمهاجرين والأنصار. وقرأ يعقوب {وَالأَنصَارُ} بالرفع، فيكون عطفا على وصف {وَالسَّابِقُونَ} ويكون المقسم إلى سابقين وغيرهم خصوص المهاجرين.
والمراد بالذين اتبعوهم بقية المهاجرين وبقية الأنصار اتبعوهم إلى الايمان، أي آمنوا بعد السابقين: ممن آمنوا بعد فتح مكة ومن آمنوا من المنافقين بعد مدة.
والإحسان: هو العمل الصالح. والباء للملابسة. وإنما قيد هذا الفريق خاصة لأن السابقين الأولين ما بعثهم على الإيمان إلا الإخلاص، فهم محسنون، وأما الذين اتبعوهم فمن بينهم من آمن اعتزازا بالمسلمين حين صاروا أكثر أهل المدينة، فمنهم من آمن وفي إيمانه ضعف وتردد، مثل المؤلفة قلوبهم، فربما نزل بهم إلى النفاق وربما ارتقى بهم إلى الإيمان الكامل، وهم المذكورون مع المنافقين في قوله تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [الأحزاب:60] فإذا بلغوا رتبة الإحسان دخلوا في وعد الرضى من الله وإعداد الجنات.
وجملة: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} خبر عن {وَالسَّابِقُونَ} . وتقديم المسند إليه على خبره الفعلي لقصد التقوي والتأكيد. ورضى الله عنهم عنايته بهم وإكرامه إياهم ودفاعه أعداءهم، وأما رضاهم عنه فهو كناية عن كثرة إحسانه إليهم حتى رضيت نفوسهم لما أعطاهم ربهم.
والإعداد: التهيئة. وفيه إشعار بالعناية والكرامة. وتقدم القول في معنى جري الأنهار.

وقد خالفت هذه الآية عند معظم القراء أخواتها فلم تذكر فيها (من) مع (تحتها) في غالب المصاحف وفي رواية جمهور القراء، فتكون خالية من التأكيد إذ ليس لحرف (من) معنى مع أسماء الظروف إلا التأكيد، ويكون خلو الجملة من التأكيد لحصول ما يغني عنه من إفادة التقوي بتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي، ومن فعل (أعد) المؤذن بكمال العناية فلا يكون المعد إلا أكمل نوعه.
وثبتت (من) في مصحف مكة، وهي قراءة ابن كثير المكي، فتكون مشتملة على زيادة مؤكدين.
[101] {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنْ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} .
كانت الأعراب الذين حول المدينة قد خلصوا للنبي صلى الله عليه وسلم وأطاعوه وهم جهينة، وأسلم، وأشجع، وغفار، ولحيان، وعصية، فأعلم الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن في هؤلاء منافقين لئلا يغتر بكل من يظهر له المودة.
وكانت المدينة قد خلص أهلها للنبي صلى الله عليه وسلم وأطاعوه فأعلمه الله أن فيهم بقية مردوا على النفاق لأنه تأصل فيهم من وقت دخول الإسلام بينهم.
وتقديم المجرور للتنبيه على أنه خبر، لا نعت. و(من) في قوله: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ} للتبعيض و(من) في قوله: {مِنْ الأَعْرَابِ} لبيان {مِنْ} الموصولة.
و(من) في قوله: {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ} اسم بمعنى بعض. و {مَرَدُوا} خبر عنه، أو تجعل (من) تبعيضية مؤذنة بمبعض محذوف، تقديره: ومن أهل المدينة جماعة مردوا، كما في قوله تعالى: {مِنْ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} في سورة النساء [46].
ومعنى مرد على الأمر مرن عليه ودرب به، ومنه الشيطان المارد، أي في الشيطنة.
وأشير بقوله: {لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} إلى أن هذا القل الباقي من المنافقين قد أراد الله الاستيثار بعلمه ولم يطلع عليهم رسوله صلى الله عليه وسلم كما أطلعه على كثير من المنافقين من قبل. وإنما أعلمه بوجودهم على الإجمال لئلا يغتر بهم المسلمون، فالمقصود هو قوله: {لاَ تَعْلَمُهُمْ} .
وجملة {نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} مستأنفة. والخبر مستعمل في الوعيد، كقوله: {وَسَيَرَى اللَّهُ

عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} [التوبة:94]، وإلا فإن الحكم معلوم للمخاطب فلا يحتاج إلى الإخبار به. وفيه إشارة إلى عدم الفائدة للرسول صلى الله عليه وسلم في علمه بهم، فإن علم الله بهم كاف. وفيه أيضا تمهيد لقوله بعده {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} .
وجملة: {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} استيناف بياني للجواب على سؤال يثيره قوله: {نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} ، وهو أن يسأل سائل عن أثر كون الله تعالى يعلمهم، فأعلم أنه سيعذبهم على نفاقهم ولا يفلتهم منه عدم علم الرسول - عليه الصلاة والسلام - بهم. والعذاب الموصوف بمرتين عذاب في الدنيا لقوله بعده {ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} .
وقد تحير المفسرون في تعيين المراد من المرتين. وحملوه كلهم على حقيقة العدد. وذكروا وجودها لا ينشرح لها الصدر. والظاهر عندي أن العدد مستعمل لمجرد قصد التكرير المفيد للتأكيد كقوله : {ثُمَّ ارْجِعْ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [الملك:4] أي تأمل تأملا متكررا. ومنه قول العرب: لبيك وسعديك، فأسم التثنية نائب مناب إعادة اللفظ. والمعنى: سنعذبهم عذابا شديدا متكررا مضاعفا، كقوله تعالى: {يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب:30] وهذا التكرر تختلف أعدداه باختلاف أحوال المنافقين واختلاف أزمان عذابهم.
والعذاب العظيم: هو عذاب جهنم في الآخرة.
[102] {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
الأظهر أن جملة: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا} عطف على جملة: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ} [التوبة:101]، أي وممن حولكم من الأعراب منافقون، ومن أهل المدينة آخرون أذنبوا بالتخلف فاعترفوا بذنوبهم بالتقصير. فقوله: {اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} إيجاز لأنه يدل على أنهم أذنبوا واعترفوا بذنوبهم ولم يكونوا منافقين لأن التعبير بالذنوب بصيغة الجمع يقتضي أنها أعمال سيئة في حالة الإيمان، وكذلك التعبير عن ارتكاب الذنوب بخلط العمل الصالح بالسيئ.
وكان من هؤلاء جماعة منهم الجد بن قيس، وكردم، وأرس بن ثعلبة، ووديعة ابن حزام، ومرداس، وأبو قيس، وأبو لبابة في عشرة نفر اعترفوا بذنبهم في التخلف عن غزوة تبوك وتابوا إلى الله وربطوا أنفسهم في سواري المسجد النبوي أياما حتى نزلت هذه الآية في توبة الله عليهم.

والاعتراف: افتعال من عرف. وهو للمبالغة في المعرفة، ولذلك صار بمعنى الإقرار بالشيء وترك إنكاره، فالاعتراف بالذنب كناية عن التوبة منه، لأن الإقرار بالذنب الفائت إنما يكون عند الندم والعزم على عدم العود إليه، ولا يتصور فيه الإقلاع الذي هو من أركان التوبة لأنه ذنب مضى، ولكن يشترط فيه العزم على أن لا يعود.
وخلطهم العمل الصالح والسيئ هو خلطهم حسنات أعمالهم بسيئات التخلف عن الغزو وعدم الإنفاق على الجيش.
وقوله: {خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} جاء ذكر الشيئين المختلطين بالعطف بالواو على اعتبار استوائهما في وقوع فعل الخلط عليهما. ويقال: خلط كذا بكذا على اعتبار أحد الشيئين المختلطين متلابسين بالخلط، والتركيبان متساويان في المعنى، ولكن العطف بالواو أوضح وأحسن فهو أفصح.
وعسى: فعل رجاء. وهي من كلام الله تعالى المخاطب به النبي صلى الله عليه وسلم فهي كناية عن وقوع المرجو، وأن الله قد تاب عليهم؛ ولكن ذكر فعل الرجاء يستتبع معنى اختيار المتكلم في وقوع الشيء وعدم وقوعه.
ومعنى: {أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} أي يقبل توبتهم، وقد تقدم عند قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ} في سورة البقرة[37].
وجملة: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} تذييل مناسب للمقام.
[103] {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} .
لما كان من شرط التوبة تدارك ما يمكن تداركه مما فات وكان التخلف عن الغزو مشتملا على أمرين هما عدم المشاركة في الجهاد، وعدم إنفاق المال في الجهاد، جاء في هذه الآية إرشاد لطريق تداركهم ما يمكن تداركه مما فات وهو نفع المسلمين بالمال، فالأنفاق العظيم على غزوة تبوك استنفد المال المعد لنوائب المسلمين، فإذا أخذ من المخلفين شيء من المال انجبر به بعض الثلم الذي حل بمال المسلمين.
فهذا وجه مناسبة ذكر هذه الآية عقب التي قبلها.وقد روي أن الذين اعترفوا بذنوبهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: هذه أموالنا التي بسببها تخلفنا عنك خذها فتصدق بها وطهرنا

واستغفر لنا، فقال لهم: لم أؤمر بأن آخذ من أموالكم. حتى نزلت هذه الآية فأخذ منهم النبي صلى الله عليه وسلم صدقاتهم، فالضمير عائد على آخرين اعترفوا بذنوبهم.
والتاء في {تُطَهِّرُهُمْ} تحتمل أن تكون تاء الخطاب نظرا لقوله: {خُذْ} ، وأن تكون تاء الغائبة عائدة إلى الصدقة.
وأياما كان فالآية دالة على أن الصدقة تطهر وتزكي.
والتزكية: جعل الشيء زكيا، أي كثير الخيرات. فقوله: {تُطَهِّرُهُمْ} إشارة إلى مقام التخلية عن السيئات. وقوله: {َتُزَكِّيهِمْ} إشارة إلى مقام التحلية بالفضائل والحسنات. ولا جرم أن التخلية مقدمة على التحلية. فالمعنى أن هذه الصدقة كفارة لذنوبهم ومجلبة للثواب العظيم.
والصلاة عليهم: الدعاء لهم. وتقدم آنفا عند قوله تعالى: {وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ} [التوبة:99]. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية إذا جاءه أحد بصدقته يقول: اللهم صل على آل فلان. كما ورد في حديث عبد الله بن أبي أوفى يجمع النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه في هذا الشأن بين معنى الصلاة وبين لفظها فكان يسأل من الله تعالى أن يصلي على المتصدق. والصلاة من الله الرحمة، ومن النبي الدعاء.
وجملة: {إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} تعليل للأمر بالصلاة عليهم بأن دعاءه سكن لهم، أي بسبب سكن لهم، أي خير. فإطلاق السكن على هذا الدعاء مجاز مرسل.
والسكن: بفتحتين ما يسكن إليه، أي يطمأن إليه ويرتاح به. وهو مشتق من السكون بالمعنى المجازي، وهو سكون النفس، أي سلامتها من الخوف ونحوه، لأن الخوف يوجب كثرة الحذر واضطراب الرأي فتكون النفس كأنها غير مستقرة، ولذلك سمي ذلك قلقا لأن القلق كثرة التحرك. وقال تعالى: {وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا} [الأنعام:96] وقال: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا} [النحل:80]، ومن أسماء الزوجة السكن، أو لأن دعاءه لهم يزيد نفوسهم صلاحا وسكونا إلى الصالحات لأن المعصية تردد واضطراب، كما قال تعالى: {فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} [التوبة:45]، والطاعة اطمئنان ويقين، كما قال تعالى: {أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].
وجملة: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} تذييل مناسب للأمر بالدعاء لهم. والمراد بالسميع هنا المجيب للدعاء. وذكره للإشارة إلى قبول دعاء النبي صلى الله عليه وسلم. ففيه إيماء إلى التنويه بدعائه. وذكر العليم إيماء إلى أنه ما أمره بالدعاء لهم إلا لأن في دعائه لهم خيرا عظيما وصلاحا

في الأمور.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر وأبو جعفر ويعقوب {صَلَوَاتِكَ} بصيغة الجمع. وقرأه حفص عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف {صَلاَتَكَ} بصيغة الإفراد. والقراءتان سواء، لأن المقصود جنس صلاته عليه الصلاة والسلام. فمن قرأ بالجمع أفاد جميع أفراد الجنس بالمطابقة لأن الجمع المعرف بالإضافة يعم، ومن قرأ بالإفراد فهمت أفراد الجنس بالالتزام.
[104] {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} .
إن كان الذين اعترفوا بذنوبهم وعرضوا أموالهم للصدقة قد بقي في نفوسهم اضطراب من خوف أن لا تكون توبتهم مقبولة وأن لا يكون الرسول عليه الصلاة والسلام قد رضي عنهم وكان قوله: {إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103] مشيرا إلى ذلك، وذلك الذي يشعر به اقتران قبول التوبة وقبول الصدقات هنا ليناظر قوله: {اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} [التوبة:102] وقوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة:103] كانت جملة: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ} استينافا بيانيا ناشئا عن التعليل بقوله: {إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ} [التوبة:103]، لأنه يثير سؤال من يسأل عن موجب اضطراب نفوسهم بعد أن تابوا، فيكون الاستفهام تقريرا مشوبا بتعجيب من ترددهم في قبول توبتهم. والمقصود منه التذكير بأمر معلوم لأنهم جروا على حال نسيانه، ويكون ضمير {يَعْلَمُوا} عائدا إلى الذين اعترفوا بذنوبهم.
وإن كان الذين اعترفوا بذنوبهم لم يخطر ببالهم شك في قبول توبتهم وكان قوله: {إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103] مجرد إرشاد من الله لرسوله إلى حكمة دعائه لهم بأن دعاءه يصلح نفوسهم ويقوي إيمانهم كان الكلام عليهم قد تم عند قوله: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة:103]، وكانت جملة: {أَلَمْ يَعْلَمُوا} مستأنفة استئنافا ابتدائيا على طريقة الاستطراد لترغيب أمثال أولئك في التوبة ممن تأخروا عنها، وكان ضمير {أَلَمْ يَعْلَمُوا} عائدا إلى ما هو معلوم من مقام التنزيل وهو الكلام على أحوال الأمة، وكان الاستفهام إنكاريا.
ونزل جميعهم منزلة من لا يعلم قبول التوبة، لأن حالهم حال من لا يعلم ذلك سواء

في ذلك من يعلم قبولها ومن لا يعلم حقيقة، وكان الكلام أيضا مسوقا للتحضيض.
وقوله: و {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} عطف على {أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ} ، تنبيها على أنه كما يجب العلم بأن الله يفعل ذلك يجب العلم بأن من صفاته العلى أنه التواب الرحيم، أي الموصوف بالإكثار من قبول توبة التائبين، الرحيم لعباده. ولا شك أن قبول التوبة من الرحمة فتعقيب {التَّوَّابُ} ب {الرَّحِيمُ} في غاية المناسبة.
[105] {وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} .
عطف على جملة: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ} [التوبة:104] الذي هو في قوة إخبارهم بأن الله يقبل التوبة وقل لهم اعملوا، أي بعد قبول التوبة، فإن التوبة إنما ترفع المؤاخذة بما مضى فوجب على المؤمن الراغب في الكمال بعد توبته أن يزيد من الأعمال الصالحة ليجبر ما فاته من الأوقات التي كانت حقيقة بأن يعمرها بالحسنات فعمرها بالسيئات فإذا وردت عليها التوبة زالت السيئات وأصبحت تلك المدة فارغة من العمل الصالح، فلذلك أمروا بالعمل عقب الإعلام بقبول توبتهم لأنهم لما توبتهم كان حقا عليهم أن يدلوا على صدق توبتهم وفرط رغبتهم في الارتقاء إلى مراتب الكمال حتى يلحقوا بالذين سبقوهم، فهذا هو المقصود، ولذلك كان حذف مفعول {اعْمَلُوا} لأجل التعويل على القرينة، ولأن الأمر من الله لا يكون بعمل غير صالح. والمراد بالعمل ما يشمل العمل النفساني من الاعتقاد والنية. وإطلاق العمل على ما يشمل ذلك تغليب.
وتفريع {فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} زيادة في التحضيض. وفيه تحذير من التقصير أو من ارتكاب المعاصي لأن كون عملهم بمرأى من الله مما يبعث على جعله يرضي الله تعالى.
وذلك تذكير لهم باطلاع الله تعالى بعلمه على جميع الكائنات. وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم في بيان الإحسان: "هو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك" .
وعطف {وَرَسُولُهُ} على اسم الجلالة لأنه عليه الصلاة والسلام هو المبلغ عن الله وهو الذي يتولى معاملتهم على حسب أعمالهم.
وعطف {َالْمُؤْمِنُونَ} أيضا لأنهم شهداء الله في أرضه ولأن هؤلاء لما تابوا قد رجعوا إلى حضيرة جماعة الصحابة فإن عملوا مثلهم كانوا بمحل الكرامة منهم وإلا كانوا ملحوظين منهم بعين الغضب والإنكار. وذلك مما يحذره كل أحد هو من قوم يرمقونه

شزرا ويرونه قد جاء نكرا.
والرؤية المسندة إلى الله تعالى رؤية مجازية. وهي تعلق العلم بالواقعات سواء كانت ذوات مبصرات أم كانت أحداثا مسموعات ومعاني مدركات، وكذلك الرؤية المسندة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين المعنى المجزي لقوله: {عَمَلَكُمْ} .
وجملة: {وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} من جملة المقول. وهو وعد ووعيد معا على حسب الأعمال، ولذلك جاء فيه {بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} وقد تقدم القول في نظيره آنفا.
[106] {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ ِلأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} .
هذا فريق آخر عطف خبره على خبر الفرق الآخرين. والمراد بهؤلاء من بقي من المخلفين لم يتب الله عليه، وكان أمرهم موقوفا إلى أن يقضي الله بما يشاء. وهؤلاء نفر ثلاثة، هم: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، وثلاثتهم قد تخلفوا عن غزوة تبوك. ولم يكن تخلفهم نفاقا ولا كراهية للجهاد ولكنهم شغلوا عند خروج الجيش وهم يحسبون أنهم يلحقونه وانقضت الأيام وأيسوا من اللحاق. وسأل عنهم النبي صلى الله عليه وسلم وهو في تبوك. فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم أتوه وصدقوه، فلم يكلمهم، ونهى المسلمين عن كلامهم ومخالطتهم، وأمرهم باعتزال نسائهم، فامتثلوا وبقوا كذلك خمسين ليلة، فهم في تلك المدة مرجون لأمر الله. وفي تلك المدة نزلت هذه الآية {ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [المائدة:71]. وأنزل فيهم قوله: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ - إلى قوله - وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:117-119].
وعن كعب ابن مالك في قصته هذه حديث طويل أغر في "صحيح البخاري". على التوبة والتنبيه إلى فتح بابها. وقد جوز المفسرون عود ضمير {أَلَمْ يَعْلَمُوا} [التوبة:104] إلى الفريقين اللذين أشرنا إليهما.
وقوله: {هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ} [التوبة:104] (هو) ضمير فصل مفيد لتأكيد الخبر. و {عَنْ عِبَادِهِ} [التوبة:104] متعلقة ب {يَقْبَلُ} لتضمنه معنى يتجاوز، إشارة إلى أن قبول التوبة هو التجاوز عن المعاصي المتوب منها.

فكأنه قيل: يقبل التوبة ويتجاوز عن عباده. وكان حق تعدية فعل (يقبل) أن يكون بحرف (من). ونقل الفخر عن القاضي عبد الجبار أنه قال: لعل (عن) أبلغ لأنه ينبئ عن القبول مع تسهيل سبيله إلى التوبة التي قبلت. ولم يبين وجه ذلك، وأحسب أنه يريد ما أشرنا إليه من تضمين معنى التجاوز.
وجيء بالخبر في صورة كلية لأن المقصود تعميم الخطاب، فالمراد ب {عِبَادِهِ} جميع الناس مؤمنهم وكافرهم لأن التوبة من الكفر هي الإيمان.
والآية دليل على قبول التوبة إذا كانت توبة صحيحة لأن الله أخبر بذلك في غير ما آية. وهذا متفق عليه بالنسبة لتوبة الكافر عن كفره لأن الأدلة بلغت مبلغ التواتر بالقول والعمل، ومختلف فيه بالنسبة لتوبة المؤمن من المعاصي لأن أدلته لا تعدو أن تكون دلالة ظواهر؛ فقال المحققون من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين. مقبولة قطعا. ونقل عن الأشعري وهو قول المعتزلة واختاره ابن عطية وأبوه وهو الحق. وادعى الإمام في "المعالم" الإجماع عليه وهي أولى بالقبول. وقال الباقلاني وإمام الحرمين والمازري: إنما يقطع بقبول توبة طائفة غير معينة، يعنون لأن أدلة قبول جنس التوبة على الجملة متكاثرة متواترة بلغت مبلغ القطع ولا يقطع بقبول توبة تائب بخصوصه. وكأن خلاف هؤلاء يرجع إلى عدم القطع بأن التائب المعين تاب توبة نصوحا. وفي هذا نظر لأن الخلاف في توبة مستوفية أركانها وشروطها. وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ(1) السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} الآية في سورة النساء [17].
والأخذ في قوله: {وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} [التوبة:104] مستعمل في معنى القبول، لظهور أن الله لا يأخذ الصدقة أخذا حقيقيا، فهو مستعار للقبول والجزاء على الصدقة.
وقرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم وأبو جعفر وخلف {مُرْجَوْنَ} بسكون الواو بدون همز على أنه اسم مفعول من أرجاه بالألف، وهو مخفف أرجأه بالهمز إذا أخره، فيقال في مضارعه المخفف: أرجيته بالياء، كقوله: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} [الأحزاب:51] بالياء، فأصل مرجون مرجيون. وقرأ البقية {مُرْجَئُونَ} بهمز بعد الجيم على أصل الفعل كما قرىء {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ} [الأحزاب:51]. واللام في قوله: {ِلأَمْرِ اللَّهِ} للتعليل، أي مؤخرون لأجل أمر الله في شأنهم. وفيه حذف مضاف، تقديره: لأجل انتظار
ـــــــ
(1) في المطبوعة (يعلمون) وهو خطأ.

أمر الله في شأنهم لأن التأخير مشعر بانتظار شيء.
وجملة: {إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} بيان لجملة: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ} باعتبار متعلق خبرها وهو {ِلأَمْرِ اللَّهِ} ، أي أمر الله الذي هو إما تعذيبهم، وإما توبته عليهم. ويفهم من قوله: {يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} أنهم تابوا.
والتعذيب مفيد عدم قبول توبتهم حينئذ لأن التعذيب لا يكون إلا عن ذنب كبير. وذنبهم هو التخلف عن النفير العام، كما تقدم عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ} [التوبة:38] الآية. وقبول التوبة عما مضى فضل من الله.
و {إِمَّا} حرف يدل على أحد شيئين أو أشياء. ومعناها قريب من معنى (أَوْ) التي للتخيير، إلا أن (إما) تدخل على كلا الاسمين المخير بين مدلوليهما وتحتاج إلى أن تتلى بالواو، و(أو) لا تدخلا إلا على ثاني الاسمين. وكان التساوي بين الأمرين مع (إما) أظهر منه مع (أو) لأن (أو) تشعر بأن الاسم المعطوف عليه مقصود ابتداء. وتقدم الكلام عليها عند قوله تعالى: {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ} في سورة الأعراف [115].
و {يُعَذِّبُهُمْ - و يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} فعلان في معنى المصدر حذفت (أن) المصدرية منهما فارتفعا كارتفاع قولهم: "تسمع بالمعيدي خير من أن تراه" لأن موقع ما بعد (إما) للاسم نحو {إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ} [مريم:75] و {الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا} [الكهف:86].
وجملة: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} تذييل مناسب لإبهام أمرهم على الناس، أي والله عليم بما يليق بهم من الأمرين، محكم تقديره حين تتعلق به إرادته.
[107،108] {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ. لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} .
هذا كلام على فريق آخر من المؤاخذين بأعمال عملوها غضب الله عليهم من

أجلها، وهم فريق من المنافقين بنوا مسجدا حول قباء لغرض سيء لينصرف إخوانهم عن مسجد المؤمنين وينفردوا معهم بمسجد يخصهم.
فالجملة مستأنفة ابتدائية على قراءة من قرأها غير مفتتحة بواو العطف، وهي قراءة نافع وابن عامر وأبي جعفر. ونكتة الاستئناف هنا التنبيه على الاختلاف بين حال المراد بها وبين حال المراد بالجملة التي قبلها وهم المرجون لأمر الله. وقرأها البقية بواو العطف في أولها، فتكون معطوفة على التي قبلها لأنها مثلها في ذكر فريق آخر مثل من ذكر فيما قبلها. وعلى كلتا القراءتين فالكلام جملة أثر جملة وليس ما بعد الواو عطف مفرد.
وقوله: {الَّذِينَ} مبتدأ وخبره جملة: {لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} كما قاله الكسائي. والرابط هو الضمير المجرور من قوله: {لاَ تَقُمْ فِيهِ} لأن ذلك الضمير عائد إلى المسجد وهو مفعول صلة الموصول فهو سببي للمبتدأ، إذ التقدير: لا تقم في مسجد اتخذوه ضرارا، أو في مسجدهم، كما قدره الكسائي. ومن أعربوا {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ} [التوبة:109] خبرا فقد بعدوا عن المعنى.
والآية أشارت إلى قصة اتخاذ المنافقين مسجدا قرب مسجد قباء لقصد الضرار، وهم طائفة من بني غنم بن عوف وبني سالم بن عوف من أهل العوالي. كانوا اثني عشر رجلا سماهم ابن عطية. وكان سبب بنائهم إياه أن أبا عامر واسمه عبد عمرو، ويلقب بالراهب من بني غنم بن عوف كان قد تنصر في الجاهلية فلما جاء الإسلام كان من المنافقين. ثم جاهر بالعداوة وخرج في جماعة من المنافقين فحزب الأحزاب التي حاصرت المدينة في وقعة الخندق فلما هزمهم الله أقام أبو عامر بمكة. ولما فتحت مكة هرب إلى الطائف، فلما فتحت الطائف وأسلمت ثقيف خرج أبو عامر إلى الشام يستنصر بقيصر، وكتب إلى المنافقين من قومه يأمرهم بأن يبنوا مسجدا ليخلصوا فيه بأنفسهم، ويعدهم أنه سيأتي في جيش من الروم ويخرج المسلمين من المدينة. فانتدب لذلك اثنا عشر رجلا من المنافقين بعضهم من بني عمرو بن عوف وبعضهم من أحلافهم من بني ضبيعة بن زيد وغيرهم، فبنوه بجانب مسجد قباء، وذلك قبيل مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك. وأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة ونحن نحب أن تصلي لنا فيه، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم "إني على جناح سفر وحال شغل وإذا قدمنا إن شاء الله صلينا فيه" . فلما قفل من غزوة تبوك سألوه أن يأتي مسجدهم فأنزل الله هذه الآية، وحلفوا أنهم ما أرادوا به إلا خيرا.

والضرار: مصدر ضار مبالغة في ضر، أي ضرارا لأهل الإسلام. والتفريق بيم المؤمنين هو ما قصدوه من صرف بني غنم وبني سالم عن قباء.
والأرصاد: التهيئة. والمراد بمن حارب الله ورسوله أبو عامر الراهب، لأنه حارب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الأحزاب وحاربه مع ثقيف وهوازن، فقوله: {مِنْ قَبْلُ} إشارة إلى ذلك، أي من قبل بناء المسجد.
وجملة: {وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى} معترضة، أو في موضع الحال. والحسنى: الخير.
وجملة: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} معترضة.
وجملة: {لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} هي الخبر عن اسم الموصول كما قدمنا. والمراد بالقيام الصلاة لأن أولها قيام.
ووجه النهي عن الصلاة فيه أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فيه تكسبه يمنا وبركة فلا يرى المسلمون لمسجد قباء مزية عليه فيقتصر بنو غنم وبنو سالم على الصلاة فيه لقربه من منازلهم، وبذلك يحصل غرض المنافقين من وضعه للتفريق بين جماعة المسلمين. فلما كانت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فيه مفضية إلى ترويج مقصدهم الفاسد صار ذلك وسيلة إلى مفسدة فتوجه النهي إليه. وهذا لا يطلع على مثله إلا الله تعالى. وهذا النهي يعم جميع المسلمين لأنه لما نهي النبي عن الصلاة فيه علم أن الله سلب عنه وصف المسجدية فصارت الصلاة فيه باطلة لأن النهي يقتضي فساد المنهي عنه، ولذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمار بن ياسر ووحشيا مولى المطعم بن عدي ومالك بن الدخشم ومعن بن عدي فقال: "انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وحرقوه" ، ففعلوا. وتحريقه تحريق الأعواد التي يتخذ منها السقف، والجذوع التي تجعل له أعمدة.
وقوله: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} احتراس مما يستلزمه النهي عن الصلاة فيه من إضاعة عبادة في الوقت الذي رغبوه للصلاة فيه فأمره الله بأن يصلي في ذلك الوقت الذي دعوه فيه للصلاة في مسجد الضرار أن يصلي في مسجده أو في مسجد قباء، لئلا يكون لامتناعه من الصلاة من حظوظ الشيطان أن يكون صرفه عن صلاة في وقت دعي للصلاة فيه، وهذا أدب نفساني عظيم.
وفيه أيضا دفع مكيدة المنافقين أن يطعنوا في الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه دعي إلى الصلاة في

مسجدهم فامتنع، فقوله: {أَحَقُّ} وإن كان اسم تفضيل فهو مسلوب المفاضلة لأن النهي عن صلاته في مسجد الضرار أزال كونه حقيقا بصلاته فيه أصلا.
ولعل نكتة الإتيان باسم التفضيل أنه تهكم على المنافقين بمجازاتهم ظاهرا في دعوتهم النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة فيه بأنه وإن كان حقيقا بصلاته بمسجد أسس على التقوى أحق منه، فيعرف من وصفه بأنه {أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى} أن هذا أسس على ضدها.
وثبت في "صحيح مسلم" وغيره عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن المراد من المسجد الذي أسس على التقوى في هذه الآية فقال: "هو مسجدكم هذا" . يعني المسجد النبوي بالمدينة. وثبت في الصحيح أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم بين الرجال الذين يحبون أن يتطهروا بأنهم بنو عمرو بن عوف أصحاب مسجد قباء. وذلك يقتضي أن المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم هو مسجدكم، لقوله: {فِيهِ رِجَالٌ} .
ووجه الجمع بين هذين عندي أن يكون المراد بقوله تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} المسجد الذي هذه صفته لا مسجدا واحدا معينا، فيكون هذا الوصف كليا انحصر في فردين المسجد النبوي ومسجد قباء، فأيهما صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الوقت الذي دعوه فيه للصلاة في مسجد الضرار كان ذلك أحق وأجدر، فيحصل النجاء من حظ الشيطان في الامتناع من الصلاة في مسجدهم، ومن مطاعنهم أيضا، ويحصل الجمع بين الحديثين الصحيحين. وقد كان قيام الرسول في المسجد النبوي هو دأبه.
ومن جليل المنازع من هذه الآية ما فيها من حجة لصحة آراء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جعلوا العام الذي كان فيه يوم الهجرة مبدأ التاريخ في الإسلام. وذلك ما انتزعه السهيلي في "الروض الأنف" في فصل تأسيس مسجد قباء إذ قال: "وفي قوله سبحانه {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} (وقد علم أنه ليس أول الأيام كلها ولا أضافه إلى شيء في اللفظ الظاهر فيه) من الفقه صحة ما اتفق عليه الصحابة رضوان الله عليهم مع عمر حين شاورهم في التاريخ، فاتفق رأيهم أن يكون التاريخ من عام الهجرة لأنه الوقت الذي عز فيه الإسلام وأمن فيه النبي صلى الله عليه وسلم فوافق هذا ظاهر التنزيل".
وجملة: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} ثناء على مؤمني الأنصار الذين يصلون بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبمسجد قباء. وجاء الضمير مفردا مراعاة للفظ (مسجد) الذي هو جنس، كالإفراد في قوله تعالى: {وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ} [آل عمران:119]. وفيه تعريض بأن

أهل مسجد الضرار ليسوا كذلك.
وقد كان المؤمنون من الأنصار يجمعون بين الاستجمار بالأحجار والغسل بالماء كما دل عليه حديث رواه الدار قطني عن أبي أيوب وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} فقال: "يا معشر الأنصار إن الله قد أثنى عليكم خيرا في الطهور فما طهوركم? قالوا: إن أحدنا إذا خرج من الغائط أحب أن يستنجي بالماء. قال: هو ذلك فعليكموه" ، فهذا يعم الأنصار كلهم. ولا يعارضه حديث أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل أهل قباء عن طهارتهم لأن أهل قباء هم أيضا من الأنصار، فسؤاله إياهم لتحقق اطراد هذا التطهر في قبائل الأنصار.
وأطلقت المحبة في قوله: {يُحِبُّونَ} كناية عن عمل الشيء المحبوب لأن الذي يحب شيئا ممكنا يعمله لا محالة. فقصد التنويه بهم بأنهم يتطهرون تقربا إلى الله بالطهارة وإرضاء لمحبة نفوسهم إياها، بحيث صارت الطهارة خلقا لهم فلو لم تجب عليهم لفعلوها من تلقاء أنفسهم.
وجملة {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} تذييل. وفيه إشارة إلى أن نفوسهم وافقت خلقا يحبه الله تعالى. وكفى بذلك تنويها بزكاء أنفسهم.
[109] {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} .
تفريع على قوله: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} [التوبة:108] لزيادة بيان أحقية المسجد المؤسس على التقوى بالصلاة فيه.
وبيان أن تفضيل ذلك المسجد في أنه حقيق بالصلاة فيه تفضيل مسلوب المشاركة لأن مسجد الضرار ليس حقيقا بالصلاة فيه بعد النهي، لأن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم لو وقعت لأكسبت مقصد واضعيه رواجا بين الامة وهو غرضهم التفريق بين جماعات المسلمين كما تقدم.
والفاء مؤخرة عن همزة الاستفهام لأحقية حرف الاستفهام بالتصدير. والاستفهام تقريري.
والتأسيس: بناء الأساس، وهو قاعدة الجدار المبني من حجر وطين أو جص.

والبنيان في الأصل مصدر بوزن الغفران والكفران، اسم لإقامة البيت ووضعه سواء كان البيت من أثواب أم من أدم أم كان من حجر وطين فكل ذلك بناء. ويطلق البنيان على المبني من الحجر والطين خاصة. وهو هنا مطلق على المفعول، أي المبني. وما صدق (من) صاحب البناء ومستحقه، فإضافة البنيان إلى ضمير (مَن) إضافة على معنى اللام. وشبه القصد الذي جعل البناء لأجله بأساس البناء، فاستعير له فعل {أُسِّسَ} في الموضعين.
ولما كان من شأن الأساس أن تطلب له صلابة الأرض لدوامه جعلت التقوى في القصد الذي بني له أحد المسجدين، فشبهت التقوى بما يرتكز عليه الأساس على طريقة المكنية، ورمز إلى المشبه به المحذوف بشيء من ملائماته وهو حرف الاستعلاء. وفهم أن هذا المشبه به شيء راسخ ثابت بطريق المقابلة في تشبيه الضد بما أسس على شفا جرف هار، وذلك بأن شبه المقصد الفاسد بالبناء بجرف جرف منهار في عدم ثبات ما يقام عليه من الأساس بله البناء على طريقة الاستعارة التصريحية. وحرف الاستعلاء ترشيح.
وفرع على هذه الاستعارة الأخيرة تمثيل حالة هدمه في الدنيا وإفضائه ببانيه إلى جهنم في الآخرة بانهيار البناء المؤسس على شفا جرف هار بساكنه في هوة. وجعل الانهيار به إلى نار جهنم إفضاء إلى الغاية من التشبيه. فالهيئة المشبهة مركبة من محسوس ومعقول وكذلك الهيئة المشبه بها. ومقصود أن البنيان الأول حصل منه غرض بانيه لأن غرض الباني دوام ما بناه. فهم لما بنوه لقصد التقوى ورضى الله تعالى ولم يذكر ما يقتضي خيبتهم فيه كما ذكر في مقابله علم أنهم قد اتقوا الله بذلك وأرضوه ففازوا بالجنة، كما دلت عليه المقابلة، وأن البنيان الثاني لم يحصل غرض بانيه وهو الضرار والتفريق فخابوا فيما قصدوه فلم يثبت المقصد، وكان عدم ثباته مفضيا بهم إلى النار كما يفضي البناء المنهار بساكنه إلى الهلاك.
والشفا بفتح الشين وبالقصر -: حرف البئر وحرف الحفرة.
والجرف بضمتين -: جانب الوادي وجانب الهوة.
وهار: اسم مشتق من هار البناء إذا تصدع، فقيل: أصله هور بفتحتين كما قالوا خلف في خالف. وليست الألف التي بعد الهاء ألف فاعل بل هي عين الكلمة منقلبة عن الواو لأن الواو متحركة والفتح ما قبلها فقلبت ألفا، وقيل هو اسم فاعل من هار البناء وأصل وزنه هاور، فوقع فيه قلب بين عينه ولامه تخفيفا. وقد وقع ذلك في ألفاظ كثيرة

من اللغة مثل قولهم: شاكي السلاح، أصله شائك. ورجل صات عالي الصوت أصله صائت. ويدل لذلك قولهم: انهار ولم يقولوا انهري. وهر مبالغة في هار.
وقرأ نافع وابن عامر وحدهما فعل {أُسِّسَ} في الموضعين بصيغة البناء للمفعول ورفع {بُنْيَانَهُ} في الموضعين. وقرأها الباقون بالبناء للفاعل ونصب {بُنْيَانَهُ} في الموضعين.
وقرأ الجمهور {جُرُفٍ} - بضم الراء -. وقرأه ابن عامر وحمزة وأبو بكر عن عاصم وخلف بسكون الراء -.
وجملة: {وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} تذييل، وهو عام يشمل هؤلاء الظالمين الذين بنوا مسجد الضرار وغيرهم.
[110] {لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} .
جملة: {لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ} يجوز أن تكون مستأنفة لتعداد مساوي مسجد الضرار بذكر سوء عواقبه بعد أن ذكر سوء الباعث عليه وبعد أن ذكر سوء وقعه في الإسلام بأن نهي الله رسوله عن الصلاة فيه وأمره بهدمه، لأنه لما نهاه عن الصلاة فيه فقد صار المسلمون كلهم منهيين عن الصلاة فيه، فسلب عنه حكم المساجد، ولذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهدمه. ويرجح هذا الوجه أنه لم يؤت بضمير المسجد أو البنيان بل جيء باسمه الظاهر.
ويجوز أن تكون خبرا ثانيا عن {الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَاراً} [التوبة:107] كأنه قيل: لا تقم فيه ولا يزال ريبة في قلوبهم، ويكون إظهار لفظ {بُنْيَانَهُ} لزيادة إيضاحه. والرابط هو ضمير {قُلُوبِهِمْ} .
والمعنى أن ذلك المسجد لما بنوه لغرض فاسد فقد جعله الله سببا لبقاء النفاق في قلوبهم ما دامت قلوبهم في أجسادهم.
وجعل البنيان ريبة مبالغة كالوصف بالمصدر. والمعنى أنه سبب للريبة في قلوبهم. والريبة: الشك، فإن النفاق شك في الدين، لأن أصحابه يترددون بين موالاة المسلمين والإخلاص للكافرين.

وقوله: {إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} استثناء تهكمي. وهو من قبيل تأكيد الشيء بما يشبه ضده كقوله تعالى: {وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف:40]، أي يبقى ريبة أبدا إلا أن تقطع قلوبهم منهم وما هي بمقطعة.
وجملة: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} تذييل مناسب لهذا الجعل العجيب والإحكام الرشيق. وهو أن يكون ذلك البناء سبب حسرة عليهم في الدنيا والآخرة.
وقرأ الجمهور {تُقَطَّعَ} بضم التاء. وقرأه ابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم وأبو جعفر ويعقوب {تَقَطَّعَ} بفتح التاء على أن أصله تتقطع. وقرأ يعقوب {إِلَى أَنْ تَقَطَّعَ} بحرف (إلى) التي للانتهاء.
[111] {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} .
استئناف ابتدائي للتنويه بأهل غزوة تبوك وهم جيش العسرة، ليكون توطئة وتمهيدا لذكر التوبة على الذين تخلفوا عن الغزوة وكانوا صادقين في أيمانهم، وإنباء الذين أضمروا الكفر نفاقا بأنهم لا يتوب الله عليهم ولا يستغفر لهم رسوله صلى الله عليه وسلم. والمناسبة ما تقدم من ذكر أحوال المنافقين الذين تسلسل الكلام عليهما ابتداء من قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ} [التوبة:38] الآيات، وما تولد على ذلك من ذكر مختلف أحوال المخلفين عن الجهاد واعتلالهم وما عقب ذلك من بناء مسجد الضرار.
وافتتحت الجملة بحرف التوكيد للاهتمام بالخبر، المتضمنة على أنه لما كان فاتحة التحريض على الجهاد بصيغة الاستفهام الإنكاري وتمثيلهم بحال من يستنهض لعمل فيتثاقل إلى الأرض في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ} [التوبة:38] ناسب أن ينزل المؤمنون منزلة المتردد الطالب في كون جزاء الجهاد استحقاق الجنة.
وجيء بالمسند جملة فعلية لإفادتها معنى المضي إشارة إلى أن ذلك أمر قد استقر من قبل، كما سيأتي في قوله: {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ} ، وأنهم

كالذين نسوه أو تناسوه حين لم يخفوا إلى النفير الذي استنفروه إشارة إلى أن الوعد بذلك قديم متكرر معروف في الكتب السماوية.
والاشتراء: مستعار للوعد بالجزاء عن الجهاد، كما دل عليه قوله: {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} بمشابهة الوعد الاشتراء في أنه إعطاء شيء مقابل بذل من الجانب الآخر.
ولما كان شأن الباء أن تدخل على الثمن في صيغ الاشتراء أدخلت هنا في {بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ} لمشابهة هذا الوعد الثمن. وليس في هذا التركيب تمثيل إذ ليس ثمة هيئة مشبهة وأخرى مشبه بها.
والمراد بالمؤمنين في الأظهر أن يكون مؤمني هذه الأمة. وهو المناسب لقوله بعد {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ} ويكون معنى قوله: {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ} ما جاء في التوراة والإنجيل من وصف أصحاب الرسول الذي يختم الرسالة. وهو ما أشار إليه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ - إلى قوله - ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ - إلى قوله - لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ} [الفتح:29].
ويجوز أن يكون جميع المؤمنين بالرسل عليهم الصلاة والسلام وهو أنسب لقوله: {فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ} ، وحينئذ فالمراد الذين أمروا منهم بالجهاد ومن أمروا بالصبر على اتباع الدين من اتباع دين المسيحية على وجهها الحق فإنهم صبروا على القتل والتعذيب. فإطلاق المقاتلة في سبيل الله على صبرهم على القتل ونحوه مجاز، وبذلك يكون فعل {يُقَاتِلُونَ} مستعملا في حقيقته ومجازه.
واللام في {لَهُمْ الْجَنَّةَ} للملك والاستحقاق. والمجرور مصدر، والتقدير: بتحقيق تملكهم الجنة، وإنما لم يقل بالجنة لأن الثمن لما كان آجلا كان هذا البيع من جنس السلم.
وجملة: {يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} مستأنفة استئنافا بيانيا، لأن اشتراء الأنفس والأموال لغرابته في الظاهر يثير سؤال من يقول: كيف يبذلون أنفسهم وأموالهم? فكان جوابه {يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الخ.
قال الطيبي: "فقوله: {يُقَاتِلُونَ} بيان، لأن مكان التسليم هو المعركة، لأن هذا البيع سلم، ومن ثم قيل {بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ} ولم يقل بالجنة. وأتي بالأمر في صورة الخبر ثم

ألزم الله البيع من جانبه وضمن إيصال الثمن إليهم بقوله: {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} ، أي لا إقالة ولا استقالة من حضرة العزة. ثم ما اكتفى بذلك بل عين الصكوك المثبت فيها هذه المبايعة وهي التوراة والإنجيل والقرآن" اهـ. وهو يرمي بهذا إلى أن تكون الآية تتضمن تمثيلا عكس ما فسرنا به آنفا.
وقوله: {فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} تفريع على {فَيَقْتُلُونَ} ، لأن حال المقاتل لا تخلو من أحد هذين الأمرين. وقرأ الجمهور {فَيَقْتُلُونَ} بصيغة المبني للفاعل وما بعده بصيغة المبني للمفعول. وقرأ حمزة والكسائي بالعكس. وفي قراءة الجمهور اهتمام بجهادهم بقتل العدو، وفي القراءة الأخرى اهتمام بسبب الشهادة التي هي أدخل في استحقاق الجنة.
و {وَعْدًا} منصوب على المفعولية المطلقة من {اشْتَرَى} ، لأنه بمعنى وعد إذ العوض مؤجل.
و {حَقًّا} صفة {وَعْدًا}. و {عَلَيْهِ} ظرف لغو متعلق ب {حَقًّا} ، قدم على عامله للاهتمام بما دل عليه حرف (على) من معنى الوجوب.
وقوله: {فِي التَّوْرَاةِ} حال من {وَعْدًا} . والظرفية ظرفية الكتاب للمكتوب، أي مكتوبا في التوراة والإنجيل والقرآن(1).
وجملة: {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ} في موضع الحال من الضمير المجرور في قوله: {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} ، أي وعدا حقا عليه ولا أحد أوفى بعهده منه، فالاستفهام إنكاري بتنزيل السامع منزلة من يجعل هذا الوعد محتملا للوفاء وعدمه كغالب الوعود فيقال: ومن أوفى بعهده من الله إنكارا عليه.
و {أَوْفَى} اسم تفضيل من وفى بالعهد إذا فعل ما عاهد على فعله.
و {مَنْ} تفضيلية، وهي للابتداء عند سيبوية، أي للابتداء المجازي. وذكر اسم الجلالة عوضا عن ضميره لإحضار المعنى الجامع لصفات الكمال. والعهد: الوعد بحلف والوعد الموكد، والبيعة عهد، والوصية عهد.
وتفرع على كون الوعد حقا على الله، وعلى أن الله أوفى بعهده من كل واعد، أن يستبشر المؤمنون ببيعهم هذا، فالخطاب للمؤمنين من هذه الأمة. وأضيف البيع إلى
ـــــــ
(1) من ذلك ما في الاصحاح العشرين من سفر التثنية فهو في أحكام الحرب وما في الاصحاح من سفر يوشع. وفي الفقرة (24) من الاصحاح الثامن عشر من أنجيل لوقا.

ضميرهم إظهارا لاغتباطهم به.
ووصفه بالموصول وصلته {الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ} تأكيدا لمعنى {بِبَيْعِكُمْ} ، فهو تأكيد لفظي بلفظ مرادف.
وجملة: {وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} تذييل جامع، فإن اسم الإشارة الواقع في أوله جامع لصفات ذلك البيع بعوضيه. وأكد بضمير الفصل وبالجملة الاسمية وبالوصف ب {الْعَظِيمُ} المفيد للأهمية.
[112] {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنْ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ} .
أسماء الفاعلين هنا أوصاف للمؤمنين من قوله: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة:111] فكان أصلها الجر، ولكنها قطعت عن الوصفية وجعلت أخبارا لمبتدأ محذوف هو ضمير الجمع اهتماما بهذه النعوت اهتماما أخرجها عن الوصفية إلى الخبرية، ويسمى هذا الاستعمال نعتا مقطوعا، وما هو بنعت اصطلاحي ولكنه نعت في المعنى.
ف {التَّائِبُونَ} مراد منه أنهم مفارقون للذنوب سواء كان ذلك من غير اقتراف ذنب يقتضي التوبة كما قال تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} [التوبة:117] الآية أم كان بعد اقترافه كقوله تعالى: {فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُنْ خَيْرًا لَهُمْ} [التوبة:74] بعد قوله: {وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ} [التوبة:74] الآية المتقدمة آنفا. وأول التوبة الإيمان لأنه إقلاع عن الشرك، ثم يدخل منهم من كان له ذنب مع الإيمان وتاب منه. وبذلك فارق النعت المنعوت وهو {الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 111].
و {الْعَابِدُونَ} : المؤدون لما أوجب الله عليهم.
و {الْحَامِدُونَ} : المعترفون لله تعالى بنعمه عليهم الشاكرون له.
و {السَّائِحُونَ} : مشتق من السياحة. وهي السير في الأرض. والمراد به سير خاص محمود شرعا. وهو السفر الذي فيه قربة لله وامتثال لأمره، مثل سفر الهجرة من دار الكفر أو السفر للحج أو السفر للجهاد. وحمله هنا على السفر للجهاد أنسب بالمقام وأشمل للمؤمنين المأمورين بالجهاد بخلاف الهجرة والحج.
و {الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ} : هم الجامعون بينهما، أي المصلون، إذ الصلاة المفروضة

لا تخلو من الركوع والسجود.
و {الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنْ الْمُنكَرِ} : الذين يدعون الناس إلى الهدى والرشاد وينهونهم عما ينكره الشرع ويأباه. وإنما ذكر الناهون عن المنكر بحرف العطف دون بقية الصفات، وإن كان العطف وتركه في الأخبار ونحوها جائزين، إلا أن المناسبة في عطف هذين دون غيرهما من الأوصاف أن الصفات المذكورة قبلها في قوله: {الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ} ظاهرة في استقلال بعضها عن بعض. ثم لما ذكر {الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ} علم أن المراد الجامعون بينهما، أي المصلون بالنسبة إلى المسلمين. ولأن الموصوفين بالركوع والسجود ممن وعدهم الله في التوراة والإنجيل كانت صلاة بعضهم ركوعا فقط، قال تعالى في شأن داود عليه السلام: {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص:24]، وبعض الصلوات سجودا فقط كبعض صلاة النصارى، قال تعالى: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران:43]. ولما جاء بعده {الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنْ الْمُنكَرِ} وكانا صفتين مستقلتين عطفتا بالواو لئلا يتوهم اعتبار الجمع بينهما كالوصفين اللذين قبلهما وهما {الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ} فالواو هنا كالتي في قوله تعالى: {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} [التحريم:5].
{وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} : صفة جامعة للعمل بالتكاليف الشرعية عند توجهها. وحقيقة الحفظ توخي بقاء الشيء في المكان الذي يراد كونه فيه رغبة صاحبه في بقائه ورعايته عن أن يضيع. ويطلق مجازا شائعا على ملازمة العمل بما يؤمر به على نحو ما أمر به وهو المراد هنا، أي والحافظون لما عين الله لهم، أي غير المضيعين لشيء من حدود الله.
وأطلقت الحدود مجازا على الوصايا والأوامر. فالحدود تشمل العبادات والمعاملات لما تقدم في قوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا} . في سورة البقرة [229]. ولذلك ختمت بها هذه الأوصاف. وعطفت بالواو لئلا يوهم ترك العطف أنها مع التي قبلها صفتان متلازمتان معدودتان بعد صفة الأمر بالمعروف.
وقال جمع من العلماء: إن الواو في قوله: {وَالنَّاهُونَ عَنْ الْمُنكَرِ} واو يكثر وقوعها في كلام العرب عند ذكر معدود ثامن، وسموها واو الثمانية. قال ابن عطية: ذكرها ابن خالويه في مناظرته لأبي علي الفارسي في معنى قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر:73]. وأنكرها أبو علي الفارسي. وقال ابن هشام في "مغني

اللبيب" "وذكرها جماعة من الأدباء كالحريري، ومن المفسرين كالثعلبي، وزعموا أن العرب إذا عدوا قالوا: ستة سبعة وثمانية، إيذانا بأن السبعة عدد تام وأن ما بعدها عدد مستأنف، واستدلوا بآيات إحداها: {سَيَقُولُونَ ثَلاَثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ - إلى قوله سبحانه - سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف:22]. ثم قال: الثانية آية الزمر [71] إذ قيل: {فُتِحَتْ} في آية النار لأن أبواب جهنم سبعة {وَفُتِحَتْ} [الزمر: 73] في آية الجنة إذ أبوابها ثمانية. ثم قال: الثالثة: {وَالنَّاهُونَ عَنْ الْمُنكَرِ} فإنه الوصف الثامن. ثم قال: والرابعة: {وَأَبْكَارًا} في آية التحريم [5] ذكرها القاضي الفاضل وتبجح باستخراجها وقد سبقه إلى ذكرها الثعلبي... وأما قول الثعلبي: أن منها الواو في قوله تعالى: {سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا} [الحاقة:7] فسهو بين وإنما هذه واو العطف ا هـ. وأطال في خلال كلامه بردود ونقوض.
وقال ابن عطية "وحدثني أبي عن الأستاذ النحوي أبي عبد الله الكفيف المالقي(1) وأنه قال: هي لغة فصيحة لبعض العرب من شأنهم أن يقولوا إذا عدوا: واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، خمسة، ستة، سبعة، وثمانية، تسعة، عشرة، فهكذا هي لغتهم. ومتى جاء في كلامهم أمر ثمانية أدخلوا الواو" اهـ.
وقال القرطبي: هي لغة قريش.
وأقول: كثر الخوض في هذا المعنى للواو إثباتا ونفيا، وتوجيها ونقضا. والوجه عندي أنه استعمال ثابت، فأما في المعدود الثامن فقد اطرد في الآيات القرآنية المستدل بها. ولا يريبك أن بعض المقترن بالواو فيها ليس بثامن في العدة لأن العبرة بكونه ثامنا في الذكر لا في الرتبة.
وأما اقتران الواو بالأمر الذي فيه معنى الثامن كما قالوا في قوله تعالى: {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر:73].
فإن مجيء الواو لكون أبواب الجنة ثمانية، فلا أحسبه إلا نكتة لطيفة جاءت اتفاقية. وسيجيء هذا عند قوله تعالى في سورة الزمر {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر:73].
وجملة: {وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ} عطف على جملة {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة:
ـــــــ
(1) قال ابن عطية وكان ممن اسطوطن غرناطة وقرأ فيها في مدة ابن حبوس (أي ديس بن حبوس الذي تملك غرناطة من سنة 320 إلى أن توفي سنة 465).

111] عطف إنشاء على خبر. ومما حسنه أن المقصود من الخبر المعطوف عليه العمل به فأشبه الأمر. والمقصود من الأمر بتبشيرهم إبلاغهم فكان كلتا الجملتين مرادا منها معنيان خبري وإنشائي. فالمراد بالمؤمنين هم المؤمنون المعهودون من قوله: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [التوبة:111].
والبشارة تقدمت مرارا.
[113] {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} .
استئناف نسخ به التخيير الواقع في قوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة:80] فإن في ذلك تسوية بين أن يستغفر النبي صلى الله عليه وسلم لهم وبين أن لا يستغفر في انتفاء أهم الغرضين من الاستغفار، وهو حصول الغفران، فبقي للتخيير غرض آخر وهو حسن القول لمن يرى النبي صلى الله عليه وسلم أنه أهل للملاطفة لذاته أو لبعض أهله، مثل قصة عبد الله بن عبد الله بن أبي، فأراد الله نسخ ذلك بعد أن درج في تلقية على عادة التشريع في غالب الأحوال. ولعل الغرض الذي لأجله أبقي التخيير في الاستغفار لهم قد ضعف ما فيه من المصلحة ورجح ما فيه من المفسدة بانقراض من هم أهل لحسن القول وغلبة الدهماء من المنافقين الذين يحسبون أن استغفار النبي صلى الله عليه وسلم لهم يغفر لهم ذنوبهم فيصبحوا فرحين بأنهم ربحوا الصفقتين وأرضوا الفريقين، فنهى الله النبي صلى الله عليه وسلم. ولعل المسلمين لما سمعوا تخيير النبي في الاستغفار للمشركين ذهبوا يستغفرون لأهليهم وأصحابهم من المشركين طمعا في إيصال النفع إليهم في الآخرة فأصبح ذلك ذريعة إلى اعتقاد مساواة المشركين للمؤمنين في المغفرة فينتفي التفاضل الباعث على الرغبة في الإيمان، فنهى الله النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معا عن الاستغفار للمشركين بعد أن رخصه للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة في قوله: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة:80].
وروى الترمذي والنسائي عن علي قال: سمعت رجلا يستغفر لأبويه المشركين قال: فقلت له: أتستغفر لأبويك وهما مشركان? فقال: أليس قد استغفر إبراهيم لأبويه وهما مشركان، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية، إلى قوله تعالى: {لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة:114]. قال الترمذي: حديث حسن.
وقال ابن العربي في "العارضة": هو أضعف ما روي في هذا الباب. وأما ما روي

في أسباب النزول أن هذه الآية نزلت في استغفار النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب، أو أنها نزلت في سؤاله ربه أن يستغفر لأمه آمنة حين زار قبرها بالأبواء. فهما خبران واهيان لأن هذه السورة نزلت بعد ذلك بزمن طويل.
وجاءت صيغة النهي بطريق نفي الكون مع لام الجحود مبالغة في التنزه عن هذا الاستغفار، كما تقدم عند قوله تعالى: {قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} في آخر سورة العقود [116].
ويدخل في المشركين المنافقون الذين علم النبي صلى الله عليه وسلم نفاقهم والذين علم المسلمون نفاقهم بتحقق الصفات التي أعلنت عليهم في هذه السورة وغيرها.
وزيادة {وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى} للمبالغة في استقصاء أقرب الأحوال إلى المعذرة، كما هو مفاد (لو) الوصلية، أي فأولى إن لم يكونوا أولى قربى. وهذه المبالغة لقطع المعذرة عن المخالف، وتمهيد لتعليم من اغتر بما حكاه القرآن من استغفار إبراهيم لأبيه في نحو قوله تعالى: {وَاغْفِرْ ِلأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنْ الضَّالِّينَ} [الشعراء:86]. ولذلك عقبه بقوله: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ ِلأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} [التوبة:114] الخ.
وقد تقدم الكلام على (لو) الاتصالية عند قوله تعالى: {وَلَوْ افْتَدَى بِهِ} في سورة آل عمران[91].
[114] {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ ِلأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} .
معطوفة على جملة {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ} [التوبة:113] الخ. وهي من تمام الآية باعتبار ما فيها من قوله: {وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى} [التوبة:113] إذ كان شأن ما لا ينبغي لنبينا محمد عليه الصلاة والسلام أن لا ينبغي لغيره من الرسل عليهم الصلاة والسلام لأن معظم أحكامهم متحدة إلا ما خص به نبينا من زيادة الفضل. وهذه من مسألة (أن شرع من قبلنا شرع لنا) فلا جرم كان ما ورد من استغفار إبراهيم قد يثير تعارضا بين الآيتين، فلذلك تصدى القرآن للجواب عنه. وقد تقدم آنفا ما روي أن هذه سبب نزول الآية.
والموعدة: اسم للوعد. والوعد صدر من أبي إبراهيم لا محالة، كما يدل عليه الاعتذار لإبراهيم لأنه لو كان إبراهيم هو الذي وعد أباه بالاستغفار وكان استغفاره له

للوفاء بوعده لكان يتجه من السؤال على الوعد بذلك وعلى الوفاء به ما اتجه على وقوع الاستغفار له. فالتفسير الصحيح أن أبا إبراهيم وعد إبراهيم بالإيمان، فكان بمنزلة المؤلفة قلوبهم بالاستغفار له لأنه ظنه مترددا في عبادة الأصنام لما قال له: {وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم:46] فسأل الله له المغفرة لعله يرفض عبادة الأصنام كما يدل عليه قوله: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} . وطريق تبين أنه عدو لله إما الوحي بأن نهاه الله عن الاستغفار له، وإما بعد أن مات على الشرك.
والتبرؤ: تفعل من بريء من كذا إذا تنزه عنه، فالتبرؤ مبالغة في البراءة.
وجملة: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} استئناف ثناء على إبراهيم. و {أَوَّاهٌ} فسر بمعان ترجع إلى الشفقة إما على النفس فتفيد الضراعة إلى الله والاستغفار، وإما على الناس فتفيد الرحمة بهم والدعاء لهم.
ولفظ {أَوَّاهٌ} مثال مبالغة: الذي يكثر قول أوه بلغاته الثلاث عشرة التي عدها في "القاموس"، وأشهرها أوه بفتح الهمزة وواو مفتوحة مشددة وهاء ساكنة. قال المرادي في شرح التسهيل: وهذه أشهر لغاتها. وهي اسم فعل مضارع بمعنى أتوجع لإنشاء التوجع، لكن الوصف بـ (أَوَّاهٌ) كناية عن الرأفة ورقة القلب والتضرع حين يوصف به من ليس به وجع. والفعل المشتق منه (أَوَّاهٌ) حقه أن يكون ثلاثيا لأن أمثلة المبالغة تصاغ من الثلاثي. وقد اختلف في استعمال فعل ثلاثي له، فأثبته قطرب وأنكره عليه غيره من النحاة.
وإتباع (لَأَوَّاهٌ) بوصف (حَلِيمٌ) هنا وفي آيات كثيرة قرينة على الكناية وإيذان بمثار التأوه عنده.
والحليم: صاحب الحلم. والحلم - بكسر الحاء-: صفة في النفس وهي رجاحة العقل وثباتة ورصانة وتباعد عن العدوان. فهو صفة تقتضي هذه الامور، ويجمعها عدم القسوة. ولا تنافي الانتصار للحق لكن بدون تجاوز للقدر المشروع في الشرائع أو عند ذوي العقول.
قال:
حليم إذا ما الحلم زين أهله ... مع الحلم في عين العدو مهيب
[115] {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ

إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .
عطف على جملة: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ ِلأَبِيهِ} [التوبة:114] لاعتذار عن النبي وإبراهيم - عليهما الصلاة والسلام - في استغفارهما لمن استغفرا لهما من أولي القربى كأبي طالب وآزر ومن الأمة كعبد الله بن أبي بن سلول بأن فعلهما ذلك ما كان إلا رجاء منهما هدى من استغفرا له، وإعانة له إن كان الله يريده، فلما تبين لهما الثابت على كفره إما بموته عليه أو باليأس من إيمانه تركا الاستغفار له، وذلك كله بعد أن أبلغا الرسالة ونصحا لمن استغفرا له. ولأجل هذا المعنى مهد الله لهما الاعتذار من قبل بقوله: {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113] وقوله: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة:114]. وفي ذلك معذرة للمؤمنين المستغفرين للمشركين من أولى قرابتهم قبل هذا النهي. فهذا من باب {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة:43].
وفيه تسجيل أيضا لكون أولئك المشركين أحرياء بقطع الاستغفار لهم لأن أنبياء الله ما قطعوه عنهم الأبعد أن أمهاوهم ووعدوهم وبينوا لهم وأعانوهم بالدعاء لهم فما زادهم ذلك إلا طغيانا.
ومعنى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا} أن ليس من شأنه وعادة جلاله أن يكتب الضلال لقوم بعد إذ هداهم بإرسال الرسل إليهم وإرشادهم إلى الحق حتى يبين لهم الأشياء التي يريد منهم أن يتقوها، أي يتجنبوها. فهنالك يبلغ رسله أن أولئك من أهل الضلال حتى يتركوا طلب المغفرة لهم كما قال لنوح - عليه السلام -: {فَلاَ تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [هود:46] ولا كان من شأنه تعالى أن يكتب الضلال لقوم بعد إذ هداهم للإيمان واهتدوا إليه لعمل عملوه حتى يبين لهم أنه لا يرضى بذلك العمل.
ثم إن لفظ الآية صالح لإفادة معنى أن الله لا يؤاخذ النبي صلى الله عليه وسلم ولا إبراهيم عليه السلام ولا المسلمين باستغفارهم لمن استغفروا له من قبل ورود النهي وظهور دليل اليأس من المغفرة، لأن الله لا يؤاخذ قوما هداهم إلى الحق فيكتبهم ضلالا بالمعاصي حتى يبين لهم أن ما عملوه معصية، فموقع هذه الآية بعد جميع الكلام المتقدم صيرها كلاما جامعا تذييلا.
وجملة {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} تذييل مناسب للجملة السابقة، ووقوع {إِنَّ} في أولها يفيد معنى التفريع. والتعليل مضمون للجملة السابقة، وهو أن الله لا يضل قوماً بعد

أن هداهم حتى يبين لهم الحق.
[116] {إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} .
تذييل ثان في قوة التأكيد لقوله: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التوبة:115]، ولذلك فصل بدون عطف لأن ثبوت ملك السماوات والأرض لله تعالى يقتضي أن يكون عليما بكل شيء لأن تخلف العلم عن التعلق ببعض المتملكات يفضي إلى إضاعة شؤونها.
فافتتاح الجملة ب(إن) مع عدم الشك في مضمون الخبر يعين أن (إن) لمجرد الاهتمام فتكون مفيدة معنى التفريع بالفاء والتعليل.
ومعنى الملك: التصرف والتدبير. وقد تقدم عند قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4].
وزيادة جملتي: {يُحْيِ وَيُمِيتُ} لتصوير معنى الملك في أتم مظاهره المحسوسة للناس المسلم بينهم أن ذلك من تصرف الله تعالى لا يستطيع أحد دفع ذلك ولا تأخيره.
وعطف جملة: {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} لتأييد المسلمين بأنهم منصورون في سائر الأحوال لأن الله وليهم فهو نصير لهم، ولإعلامهم بأنهم لا يخشون الكفار لأن الكافرين لا مولى لهم لأن الله غاضب عليهم فهو لا ينصرم. وذلك مناسب لغرض الكلام المتعلق باستغفارهم للمشركين بأنه لا يفيدهم.
وتقدم الكلام على الولي عند قوله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا} في أول سورة الأنعام [14].
والنصير: الناصر. وتقدم معنى النصر عند قوله تعالى: {وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} في سورة البقرة [48].
[117] {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} .
انتقال من التحريض على الجهاد والتحذير من التقاعس والتوبيخ على التخلف، وما

طرأ على ذلك التحريض من بيان أحوال الناس تجاه ذلك التحريض وما عقبه من أعمال المنافقين والضعفاء والجبناء إلى بيان فضيلة الذين انتدبوا للغزو واقتحموا شدائده، فالجملة استئناف ابتدائي.
وافتتاحها بحرف التحقيق تأكيد لمضمونها المتقرر فيما مضى من الزمان حسبما دل عليه الإتيان بالمسندات كلها أفعالا ماضية.
ومن المحسنات افتتاح هذا الكلام بما يؤذن بالبشارة لرضى الله على المؤمنين الذين غزوا تبوك.
وتقديم النبي صلى الله عليه وسلم في تعلق فعل التوبة بالغزاة للتنويه بشأن هذه التوبة وإتيانها على جميع الذنوب إذ قد علم المسلمون كلهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
ومعنى {تَابَ} عليه: غفر له، أي لم يؤاخذه بالذنوب سواء كان مذنبا أو لم يكنه، كقوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} [المزمل:20] أي فغفر لكم وتجاوز عن تقصيركم وليس هنالك ذنب ولا توبة. فمعنى التوبة على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه أن الله لا يؤاخذهم بما قد يحسبون أنه يسبب مؤاخذة كقول النبي صلى الله عليه وسلم "لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" .
وأما توبة الله على الثلاثة الذين خلفوا فهي استجابته لتوبتهم من ذنبهم.
والمهاجرون والأنصار: هم مجموع أهل المدينة، وكان جيش العسرة منهم ومن غيرهم من القبائل التي حول المدينة ومكة، ولكنهم خصوا بالثناء لأنهم لم يترددوا ولم يتثاقلوا ولا شحوا بأموالهم، فكانوا إسوة لمن أتسى بهم من غيرهم من القبائل.
ووصف المهاجرون والأنصار ب {الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} للإيماء إلى أن لصلة الموصول تسببا في هذه المغفرة.
ومعنى {اتَّبَعُوهُ} أطاعوه ولم يخالفوا عليه، فالاتباع مجازي.
والساعة: الحصة من الزمن.
والعسرة: اسم العسر، زيدت فيه التاء للمبالغة وهي الشدة. وساعة العسرة هي زمن استنفار النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلى غزوة تبوك. فهو الذي تقدمت الإشارة إليه بقوله: {يَا أَيُّهَا

الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ} [التوبة:38] فالذين انتدبوا وتأهبوا وخرجوا هم الذين اتبعوه، فأما ما بعد الخروج إلى الغزو فذلك ليس هو الاتباع ولكنه الجهاد. ويدل لذلك قوله: {مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ} اي من المهاجرين والأنصار، فإنه متعلق بـ {اتَّبَعُوهُ} أي اتبعوا أمره بعد أن خامر فريقا منهم خاطر التثاقل والقعود والمعصية بحيث يشبهون المنافقين، فان ذلك لا يتصور وقوعه بعد الخروج، وهذا الزيغ لم يقع ولكنه قارب الوقوع.
و {كَادَ} من أفعال المقاربة تعمل في اسمين عمل كان، واسمها هنا ضمير شأن مقدر، وخبرها هو جملة الخبر عن ضمير الشأن، وإنما جعل اسمها هنا ضمير شأن لتهويل شأنهم حين أشرفوا على الزيغ.
وقرأ الجمهور {تَزِيغُ} بالمثناة الفوقية. وقرأه حمزة، وحفص عن عاصم، وخلف بالمثناة التحتية. وهما وجهان في الفعل المسند لجمع تكسير ظاهر. والزيغ: الميل عن الطريق المقصود. وتقدم عند قوله تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا} في سورة آل عمران[8].
وجملة؛ {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} عطف على جملة {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ} أي تاب على غير هذا الفريق مطلقا، وتاب على هذا الفريق بعد ما كادت قلوبهم تزيغ، فتكون {ثُمَّ} على أصلها من المهلة. وذلك كقوله في نظير هذه الآية {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} [التوبة:118]. والمعنى تاب عليهم فأهموا به وخرجوا فلقوا المشقة والعسر، فالضمير في قوله: {عَلَيْهِمْ} لل {فَرِيقِ} . وجوز كثير من المفسرين أن تكون {ثُمَّ} للترتيب في الذكر، والجملة بعدها توكيدا لجملة {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ} ، فالضمير للمهاجرين والأنصار كلهم.
وجملة: {إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} تعليل لما قبلها على التفسيرين.
[119] {وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لاَ مَلْجَأَ مِنْ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} .
{وَعَلَى الثَّلاَثَةِ} معطوف {عَلَى النَّبِيِّ} [التوبة:117] بإعادة حرف الجر لبعد المعطوف عليه، أي وتاب على الثلاثة الذين خلفوا. وهؤلاء فريق له حالة خاصة من بين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك غير الذين ذكروا في قوله: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ} [التوبة:81] الآية، والذين ذكروا في قوله: {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ} [التوبة:90] الآية.

والتعريف في {الثَّلاَثَةِ} تعريف العهد فإنهم كانوا معروفين بين الناس، وهم: كعب ابن مالك من بني سلمة، ومرارة بن الربيع العمري من بني عمرو بن عوف، وهلال بن أمية الواقفي من بني واقف، كلهم من الأنصار تخلفوا عن غزوة تبوك بدون عذر. ولما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك سألهم عن تخلفهم فلم يكذبوه بالعذر ولكنهم اعتذروا بذنبهم وحزنوا. ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس عن كلامهم، وأمرهم بأن يعتزلوا نساءهم. ثم عفا الله عنهم بعد خمسين ليلة. وحديث كعب بن مالك في قصته هذه مع الآخرين في "صحيح البخاري" و"صحيح مسلم" طويل أغر وقد ذكره البغوي في "تفسيره".
و {خُلِّفُو} بتشديد اللام مضاعف خلف المخفف الذي هو فعل قاصر، معناه أنه وراء غيره، مشتق من الخلف بسكون اللام وهو الوراء. والمقصود بقي وراء غيره. يقال: خلف عن أصحابه إذا تخلف عنهم في المشي يخلف بضم اللام في المضارع، فمعنى {خُلِّفُو} خلفهم مخلف، أي تركهم وراءه وهم لم يخلفهم أحد وإنما تخلفوا بفعل أنفسهم. فيجوز أن يكون {خُلِّفُو} بمعنى خلفوا أنفسهم على طريقة التجريد. ويجوز أن يكون تخليفهم تخليفا مجازيا استعير لتأخير البت في شأنهم، أي الذين خلفوا عن القضاء في شأنهم فلم يعذرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أيسهم من التوبة كما أيس المنافقين. فالتخليف هنا بمعنى الإرجاء. وبهذا التفسير فسره كعب بن مالك في حديثه المروي في "الصحيح" فقال: وليس الذي ذكر الله مما خلفنا عن الغزو وإنما تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه. اهـ.
يعني ليس المعنى أنهم خلفوا أنفسهم عن الغزو وإنما المعنى خلفهم أحد، أي جعلهم خلفا وهو تخليف مجازي، أي لم يقض فيهم. وفاعل التخليف يجوز أن يراد به النبي صلى الله عليه وسلم أو الله تعالى.
وبناء فعل {خُلِّفُو} للنائب على ظاهره، فليس المراد أنهم خلفوا أنفسهم.
وتعليق التخليف بضمير {الثَّلاَثَةِ} من باب تعليق الحكم باسم الذاتز والمراد: تعليقه بحال من أحوالها يعلم من السياق، مثل {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ} [المائدة:3].
وهذا الذي فسر كعب به هو المناسب للغاية بقوله: {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} [التوبة:118] لأن تخيل ضيق الأرض عليهم وضيق أنفسهم هو غاية لإرجاء أمرهم انتهى عندها التخليف، وليس غاية لتخلفهم عن الغزو، لأن تخلفهم لا انتهاء له.

وضيق الأرض: استعارة، أي حتى كانت الأرض كالضيقة عليهم، أي عندهم. وذلك التشبيه كناية عن غمهم وتنكر المسلمين لهم. فالمعنى أنهم تخيلوا الأرض في أعينهم كالضيقة كما قال الطرماح:
ملأت عليه الأرض حتى كأنها ... من الضيق في عينيه كفة حابل
وقوله: {بِمَا رَحُبَتْ} حال من {الأَرْضُ} . والباء للملابسة، أي الأرض الملابسة لسعتها المعروفة. {ومَا} مصدرية.
و {رَحُبَتْ} اتسعت، أي تخيلوا الأرض ضيقة وهي الأرض الموصوفة بسعتها المعروفة.
وضيق أنفسهم: استعارة للغم والحزن لأن الغم يكون في النفس بمنزلة الضيق. ولذلك يقال للمحزون: ضاق صدره، وللمسرور: شرح صدره.
والظن مستعمل في اليقين والجزم، وهو من معانيه الحقيقية. وقد تقدم عند قوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُو رَبِّهِمْ} في سورة البقرة [46] - وعند قوله تعالى: {وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنْ الْكَاذِبِينَ} في سورة الأعراف[66]، أي وأيقنوا أن أمر التوبة عليهم موكول إلى الله دون غيره بما يوحي به إلى رسوله، أي التجأوا إلى الله دون غيره. وهذا كناية عن أنهم تابوا إلى الله وانتظروا عفوه.
وقوله: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} عطف على ضاقت عليهم الأرض وما بعده، أي حتى وقع ذلك كله ثم تاب عليهم بعده.
و {ثُمَّ} هنا للمهلة والتراخي الزمني وليست للتراخي الرتبي، لأن ما بعدها ليس أرفع درجة مما قبلها بقرينة السياق، وهو مغن عن جواب (إذا) لأنه يفيد معناه، فهو باعتبار العطف تنهية للغاية، وباعتبار المعطوف دال على الجواب.
واللام في {لِيَتُوبُوا} للتعليل، أي تاب عليهم لأجل أن يكفوا عن المخالفة ويتنزهوا عن الذنب، أي ليدوموا على التوبة، فالفعل مستعمل في معنى الدوام على التلبس بالمصدر لا على إحداث المصدر.
وليس المراد ليذنبوا فيتوبوا، إذ لا يناسب مقام التنويه بتوتتة عليهم. وجملة {إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} تذييل مفيد للامتنان.

[119] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} .
الظاهر أن هذه الآية خانمة للآي السابقة وليست فاتحة غرض جديد. ففي "صحيح البخاري" من حديث كعب بن مالك حين تخلف عن غزوة تبوك أنه قال: "فوالله ما أعلم أحدا.. أبلاه الله في صدق الحديث أحسن مما أبلاني ما تعمدت منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا كذبا وانزل الله على رسوله {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} إلى قوله: {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:117-119] اه. فهذه الآية بمنزلة التذييل للقصة فإن القصة مشتملة على ذكر قوم اتقوا الله فصدقوا في إيمانهم وجهادهم فرضي الله عنهم، وذكر قوم كذبوا في ذلك واختلقوا المعاذير وحلفوا كذبا فغضب الله عليهم، وقوم تخلفوا عن الجهاد وصدقوا في الاعتراف بعدم العذر فتاب الله عليهم، فلما كان سبب فوز الفائزين في هذه الأحوال كلها هو الصدق لا جرم أمر الله المؤمنين بتقواه وبأن يكونوا في زمرة الصادقين مثل أولئك الصادقين الذين تضمنتهم القصة.
والأمر ب { كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} أبلغ في التخلق بالصدق من نحو: اصدقوا. ونظيره {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43]. وكذلك جعله بعد {من} التبعيضية وقد تقدم ذلك في قوله تعالى: {أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} ومنه قوله: {قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة:67].
[120] {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} .
استئناف ابتدائي لإيجاب الغزو على أهل المدينة ومن حولهم من أهل باديتها الحافين بالمدينة إذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم للغزو. فهذا وجوب عيني على هؤلاء شرفهم الله بأن جعلهم جند النبي صلى الله عليه وسلم وحرس ذاته.
والذين من حول المدينة من الأعراب هم: مزينة، وأشجع، وغفار، وجهينة، وأسلم.

وصيغة {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ} خبر مستعمل في إنشاء الأمر على طريق المبالغة، إذ جعل التخلف ليس مما ثبت لهم، فهم براء منه فيثبت لهم ضده وهو الخروج مع النبي صلى الله عليه وسلم إذا غزا.
فيه ثناء على أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب لما قاموا به من غزو تبوك، فهو يقتضي تحريضهم على ذلك كما دل عليه قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ} الخ.
وفيه تعريض بالذين تخلفوا من أهل المدينة ومن الأعراب.وذلك يدل على إيجاب النفير عليهم إذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم للغزو. وقال قتادة وجماعة: هذا الحكم خاص بخروج النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره من الخلفاء والأمراء فهو محكم غير منسوخ. وبذلك جزم ابن بطال من المالكية. قال زيد بن أسلم وجابر ابن زيد: كان هذا حكما عاما في قلة الإسلام واحتياجه إلى كثرة الغزاة ثم نسخ لما قوي الإسلام بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [التوبة:122] فصار وجوب الجهاد على الكفاية. وقال ابن عطية: هذا حكم من استنفرهم الإمام بالتعيين لأنه لو جاز لهؤلاء التخلف لتعطل الخروج. واختاره فخر الدين.
والتخلف: البقاء في المكان بعد الغير ممن كان معه فيه، وقد تقدم عند قوله: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ} [التوبة:81].
والرغبة تعدى بحرف (في) فتفيد معنى مودة تحصيل الشيء والحرص فيه، وتعدى بحرف (عن) فتفيد معنى المجافاة للشيء، كما تقدم في قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ} [البقرة:130] وهي هنا معداة ب(عن). أريد برغبتهم عن نفسه محبتهم أنفسهم وحرصهم على سلامتها دون الحرص على سلامة نفس الرسول، فكأنهم رغبوا عن نفسه إذ لم يخرجوا معه ملابسين لأنفسهم، أي محتفظين بها لأنهم بمقدار من يتخلف منهم يزداد تعرض نفس الرسول من التلف قربا، فتخلف واحد منهم عن الخروج معه عون على تقريب نفس الرسول عليه الصلاة والسلام من التلف فلذلك استعير لهذا التخلف لفظ الرغبة عنه.
والباء في قوله: {بِأَنْفُسِهِمْ} للملابسة وهي في موضع الحال. نزل الضن بالأنفس والحذر من هلاكها بالتلبس بها في شدة التمكن فاستعمل له حرف باء للملابسة. وهذه ملابسة خاصة وإن كانت النفوس في كل حال متلبسا بها. وهذا تركيب بديع الإيجاز بالغ الإعجاز.

قال في "الكشاف": "أمروا أن يلقوا أنفسهم من الشدائد ما تلقاه نفسه علما بأنها أعز نفس عند الله وأكرمها عليه فإذا تعرضت مع كرامتها وعزتها للخوض في شدة وهول وجب على سائر الأنفس أن تتهافت فيما تعرضت له"اه. وهذا نهي بليغ وتوبيخ لهم وتهييج لمتابعته بأنفة وحمية.
والإشارة ب { ذَلِكَ} إلى نفي كون التخلف عن الرسول ثابتا لهم، أي أن ما ينالونه من فضل وثواب وأجر عظيم يقضي بأنه ما يكون لهم أن يتخلفوا عن رسول الله.
والباء في {بِأَنَّهُمْ} للسببية. والظمأ: العطش، والنصب: التعب، والمخصمة: الجوع. وتقدم في قوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ} في سورة العقود[3].
والوطء: الدوس بالأرجل. ولا موطئ: مصدر ميمي للوطء. والوطء في سبيل الله هو الدوس بحوافر الخيل وأخفاف الإبل وأرجل الغزاة في أرض العدو، فإنه الذي يغيظ العدو ويغضبه لأنه يأنف من وطء أرضه بالجيش، ويجوز أن يكون الوطء هنا مستعارا لإذلال العدو وغلبته وإبادته، كقول الحارث بن وعلة الذهلي من شعراء الحماسة:
ووطئتنا وطئا على حنق ... وطء المقيد نابت الهرم
وهو أوفق بإسناد الوطء إليهم.
والنيل: مصدر ينالون. يقال: نال منه إذا أصابه برزء. وبذلك لا يقدر له مفعول. وحرف {مِنْ} مستعمل في التبعيض المجازي المتحقق في الرزية. ورزء العدو يكون من ذوات الأعداء بالأسر، ويكون من متاعهم وأموالهم بالسبي والغنم.
والاستثناء مفرغ من عموم الأحوال. فجملة: {كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} في موضع الحال، وأغنى حرف الاستثناء عن اقترانها بقد. والضمير في (به) عائد على (نصَب) وما عطف عليه إما بتأويل المذكور وإما لأن إعادة حرف النفي جعلت كل معطوف كالمستقل بالذكر، فأعيد الضمير على كل واحد على البدل كما يعاد الضمير مفردا على المتعاطفات ب(أو) باعتبار أن ذلك المتعدد لا يكون في نفس الأمر إلا واحدا منه. ومعنى: {كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} أن يكتب لهم بكل شيء من أنواع تلك الأعمال عمل صالح، أي جعل الله كل عمل من تلك الأعمال عملا صالحا وإن لم يقصد به عاملوه تقربا إلى الله فإن تلك الأعمال تصدر عن أصحابها وهم ذاهلون في غالب الأزمان أو جميعها عن الغاية منها فليست لهم نيات بالتقرب بها إلى الله ولكن الله تعالى بفضله جعلها لهم قربات باعتبار

شرف الغاية منها. وذلك بأن جعل لهم عليها ثوابا كما جعل للأعمال المقصود بها القربة، كما ورد أن نوم الصائم عبادة. وقد دل على هذا المعنى التذييل الذي أفاد التعليل بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} .
ودل هذا التذييل على أنهم كانوا بتلك الأعمال محسنين فدخلوا في عموم قضية {إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} بوجه الإيجاز.
[121] {وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
عطف على جملة {لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ} ، وهو انتقال من عداد الكلف التي تصدر عنهم بلا قصد في سبيل الله إلى بعض الكلف التي لا تخلو عن استشعار من تحل بهم بأنهم لقوها في سبيل الله، فالنفقة في سبيل الله لا تكون إلا عن قصد يتذكر به المنفق أنه يسعى إلى ما هو وسيلة لنصر الدين، والنفقة الكبيرة أدخل في القصد، فلذلك نبه عليهما وعلى النفقة الصغيرة ليعلم بذكر الكبيرة حكم النفقة الصغيرة لأن العلة في الكبيرة أظهر وكان هذا الإطناب في عد مناقبهم في الغزو لتصوير ما بذلوه في سبيل الله.
وقطع الوادي: هو اجتيازه. وحقيقة القطع: تفريق أجزاء الجسم. وأطلق على الاجتياز على وجه الاستعارة.
والوادي: المنفرج يكون بين جبال أو إكام فيكون منفذا لسيول المياه، ولذلك اشتق من ودي بمعنى سال. وقطع الوادي أثناء السير من شأنه أن يتذكر السائرون بسببه أنهم سائرون إلى غرض ما لأنه يجدد حالة في السير لم تكن من قبل. ومن أجل ذلك ندب الحجيج إلى تجديد التلبية عندما يصعدون شرفا أو ينزلون واديا أو يلاقون رفاقا.
والضمير في {كُتِبَ} عائد إلى {عَمَلٌ صَالِحٌ} [التوبة: 120]. ولام التعليل متعلقة ب(كتب)، أي كتب الله لهم صالحا ليجزيهم عن أحسن أعمالهم.
ولما كان هذا جزاء عن عملهم المذكور علم أن عملهم هذا من أحسن أعمالهم.
وانتصب {أَحْسَنَ} على نزع الخافض، أي عن أحسن ما كانوا يعملون أو بأحسن ما كانوا يعملون كقوله تعالى: {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:38] وأما قوله: {لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص:25] فالظاهر أنه من غير هذا القبيل

وأن {أَجْرَ} مفعول مطلق.
وفي ذكر {كَانُوا} والإتيان بخبرها مضارعا إفادة أن مثل هذا العمل كان ديدنهم.
[122] {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} .
كان غالب ما تقدم من هذه السورة تحريضا على الجهاد وتنديدا على المقصرين في شأنه، وانتهى الكلام قبل هذا بتبرئة أهل المدينة والذين حولهم من التخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا جرم كانت قوة الكلام مؤذنة بوجوب تمحض المسلمين بعلم الدين وتثقيف أذهان المسلمين كي تصلح سياسة الأمة على ما قصده الدين منها، من أجل ذلك عقب التحريض على الجهاد بما يبين أن ليس من المصلحة تمحض المسلمين كلهم لأن يكونوا غزاة أو جندا، وأن ليس حظ القائم بواجب التعليم دون حظ الغازي في سبيل الله من حيث إن كليهما يقوم بعمل لتأييد الدين، فهذا يؤيده بتوسع سلطانه وتكثير أتباعه، والآخر يؤيده بتثبيت ذلك السلطان وإعداده لأن يصدر عنه ما يضمن انتظام أمره وطول دوامه، فإن اتساع الفتوح وبسالة الأمة لا يكفيان لاستبقاء سلطانها إذا هي خلت من جماعة صالحة من العلماء والساسة وأولي الرأي المهتمين بتدبير ذلك السلطان، ولذلك لم يثبت ملك اللمتونيين في الأندلس إلا قليلا حتى تقلص، ولم تثبت دولة التتار إلا بعد أن امتزجوا بعلماء المدن التي فتحوها ووكلوا أمر الدولة إليهم.
وإذ قد كانت الآية السابقة قد حرضت فريقا من المسلمين على الالتفاف حول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغزو لمصلحة نشر الإسلام ناسب أن يذكر عقبها نفر فريق من المؤمنين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم للتفقه في الدين ليكونوا مرشدين لأقوامهم الذين دخلوا في الإسلام.
ومن محاسن هذا البيان أن قابل صيغة التحريض على الغزو بمثلها في التحريض على العلم إذ افتتحت صيغة تحريض الغزو بلام الجحود في قوله: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ} الآية وافتتحت صيغة التحريض على العلم والتفقه بمثل ذلك إذ يقول: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} .
وهذه الجملة معطوفة على مجموع الكلام الذي قبلها فهي جملة ابتدائية مستأنفة لغرض جديد ناشئ عن قوله: {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا} [التوبة:38] ثم عن قوله: {مَا

كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا} [التوبة:120] الخ. ومعنى {أَنْ يَتَخَلَّفُوا} هو أن لا ينفروا، فناسب أن يذكر بعده {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} .
والمراد بالنفير في قوله: {لِيَنْفِرُوا} وقوله: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} الخروج إلى الغزو المأخوذ من قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} [التوبة:38] أي وما كان المؤمنون لينفروا ذلك النفر كلهم.
فضمير {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} يجوز أن يعود على قوله: {الْمُؤْمِنُونَ} ، أي ليتفقه المؤمنون. والمراد ليتفقه منهم طائفة وهي الطائفة التي لم تنفر، كما اقتضاه قوله: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} ، فهو عام مراد به الخصوص.
ويجوز أن يعود الضمير إلى مفهوم من الكلام من قوله: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} لأن مفهومه وبقيت طائفة ليتفقهوا في الدين، فأعيد الضمير على (طائفة) بصيغة الجمع نظرا إلى معنى طائفة، كقوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات:9] على تأويل اقتتل جمعهم.
ويجوز أن يكون المراد من النفر في قوله: {لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} نفرا آخر غير النفر في سبيل الله، وهو النفر للتفقه في الدين، وتكون إعادة فعل (ينفروا) و(نفر) من الاستخدام بقرينة قوله: {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} فيكون الضمير في قوله: {لِيَتَفَقَّهُوا} عائدا إلى {طَائِفَةٌ} ويكون قوله: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} تمهيدا لقوله: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} .
وقد نقل عن أيمة المفسرين وأسباب النزول أقوال تجري على الاحتمالين. والاعتماد في مراجع الضمائر على قرائن الكلام على عادة العرب في الإيجاز والاعتماد على فطنة السامع فإنهم أمة فطنة.
والإتيان بصيغة لام الجحود تأكيد للنفي، وهو خبر مستعمل في النهي فتأكيده يفيد تأكيد النهي، أي كونه نهيا جازما يقتضي التحريم. وذلك أنه كما كان النفر للغزو واجبا لأن في تركه إضاعة مصلحة الأمة كذلك كان تركه من طائفة من المسلمين واجبا لأن في تمحض جميع المسلمين للغزو إضاعة مصلحة للامة أيضا، فأفاد مجموع الكلامين أن النفر للغزو واجب على الكفاية أي على طائفة كافية لتحصيل المقصد الشرعي منه، وأن تركه متعين على طائفة كافية منهم لتحصيل المقصد الشرعي مما أمروا بالاشتغال به من العلم

في وقت اشتغال الطائفة الأخرى بالغزو. وهذا تقييد للإطلاق الذي في فعل (انْفِرُوا)، أو تخصيص للعموم الذي في ضمير (انْفِرُوا).
ولذلك كانت هذه الآية أصلا في وجوب طلب العلم على طائفة عظيمة من المسلمين وجوبا على الكفاية، أي على المقدار الكافي لتحصيل المقصد من ذلك الإيجاب. وأشعر نفي وجوب النفر على جميع المسلمين وإثبات إيجابه على طائفة من كل فرقة منهم بأن الذين يجب عليهم النفر ليسوا بأوفر عددا من الذين يبقون للتفقه والإنذار، وأن ليست إحدى الحالتين بأولى من الأخرى على الإطلاق فيعلم أن ذلك منوط بمقدار الحاجة الداعية للنفر، وأن البقية باقية على الأصل، فعلم منه أن النفير إلى الجهاد يكون بمقدار ما يقتضيه حال العدو المغزو، وأن الذين يبقون للتفقه يبقون بأكثر ما يستطاع، وأن ذلك سواء. ولا ينبغي الاعتماد على ما يخالف هذا التفسير من الأقوال في معنى الآية وموقعها من الآي السالفة.
ولو لا: حرف تحضيض.
والفرقة: الجماعة من الناس الذين تفرقوا عن غيرهم في المواطن؛ فالقبيلة فرقة، وأهل البلاد الواحدة فرقة.
والطائفة: الجماعة، ولا تتقيد بعدد. وتقدم عند قوله: {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} في سورة النساء[102].
وتنكير {طَائِفَةٌ} مؤذن بأن النفر للتفقه في الدين وما يترتب عليه من الإنذار واجب على الكفاية. وتعيين مقدار الطائفة وضبط حد التفقه موكول إلى ولاة أمور الفرق فتتعين الطائفة بتعيينهم فهم أدرى بمقدار ما تتطلبه المصلحة المنوط بها وجوب الكفاية.
والتفقه: تكلف الفقاهة، وهي مشتقة من فقه (بكسر القاف) إذا فهم ما يدق فهمه فهو فاقه. فالفقه أخص من العلم، ولذلك نجد في القرآن استعمال الفقه فيما يخفى علمه كقوله: {لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44]، ويجيء منه فقه بضم القاف إذا صار الفقه سجيته، فقاهة فهو فقيه.
ولما كان مصير الفقه سجية لا يحصل إلا بمزاولة ما يبلغ إلى ذلك كانت صيغة التفعل المؤذنة بالتكلف متعينة لأن يكون المراد بها تكلف حصول الفقه، أي الفهم في الدين. وفي هذا إيماء إلى أن فهم الدين أمر دقيق المسلك لا يحصل بسهولة، ولذلك جاء

في الحديث الصحيح "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين" ، ولذلك جزم العلماء بأن الفقه أفضل العلوم.
وقد ضبط العلماء حقيقة الفقه بأنه العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية بالاجتهاد.
والإنذار: الإخبار بما يتوقع منه شر. والمراد هنا الإنذار من المهلكات في الآخرة. ومنه النذير. وتقدم في قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً} في سورة البقرة[119]. فالإنذار هو الموعظة، وإنما اقتصر عليه لأنه أهم، لأن التخلية مقدمة على التحلية، ولأنه ما من إرشاد إلى الخير إلا وهو يشتمل على إنذار من ضده. ويدخل في معنى الإنذار تعليم الناس ما يميزون به بين الحق والباطل وبين الصواب والخطأ وذلك بأداء العالم بث علوم الدين للمتعلمين.
وحذف مفعول {يَحْذَرُونَ} للتعميم، أي يحذرون ما يحذر، وهو فعل المحرمات وترك الواجبات. واقتصر على الحذر دون العمل للإنذار لأن مقتضى الإنذار التحذير، وقد علمت أنه يفيد الأمرين.
[123] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} .
كان جميع بلاد العرب خلص للإسلام قبل حجة الوداع، فكانت تخوم بلاد الإسلام مجاورة لبلاد الشام مقر نصارى العرب، وكانوا تحت حكم الروم، فكانت غزوة تبوك أول غزوة للإسلام تجاوزت بلاد العرب إلى مشارف الشام ولم يكن فيها قتال ولكن وضعت الجزية على أيلة وبصري، وكانت تلك الغزوة إرهابا للنصارى، ونزلت سورة براءة عقبها فكانت هذه الآية كالوصية بالاستمرار على غزو بلاد الكفر المجاورة لبلاد الإسلام بحيث كلما استقر بلد للإسلام وكان تجاوره بلاد كفر كان حقا على المسلمين غزو البلاد المجاورة. ولذلك ابتدأ الخلفاء بفتح الشام ثم العراق ثم فارس ثم انثنوا إلى مصر ثم إلى إفريقية ثم الأندلس.
فالجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا تكملة للأمر بما يتعين على المسلمين في ذيول غزوة تبوك.

وفي توجيه الخطاب للذين آمنوا دون النبي إيماء إلى أن النبي عليه الصلاة والسلام لا يغزو بعد ذلك وأن أجله الشريف قد اقترب. ولعل في قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} إيماء إلى التسلية على فقد نبيهم عليه الصلاة والسلام وأن الله معهم كقوله في الآية الأخرى {وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144].
والغلظة بكسر الغين: الشدة الحسية والخشونة، وهي مستعارة هنا للمعاملة الضارة، كقوله: {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة:73]. قال في "الكشاف": وذلك يجمع الجرأة والصبر على القتال والعنف في القتل والأسر. اه.
قلت: والمقصد من ذلك إلقاء الرعب في قلوب الأعداء حتى يخشوا عاقبة التصدي لقتال المسلمين.
ومعنى أمر المسلمين بحصول ما يجده الكافرون من غلظة المؤمنين عليهم هو أمر المؤمنين بأن يكونوا أشداء في قتالهم. وهذه مبالغة في الأمر بالشدة لأنه أمر لهم بأن يجد الكفار فيهم الشدة. وذلك الوجدان لا يتحقق إلا إذا كانت الغلطة بحيث تظهر وتنال العدو فيحس بها، كقوله تعالى لموسى {فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا} [طه: 16]. وإنما وقعت هذه المبالغة لما عليه العدو من القوة، فإن المقصود من الكفار هنا هم نصارى العرب وأنصارهم الروم، وهم أصحاب عدد وعدد فلا يجدون الشدة من المؤمنين إلا إذا كانت شدة عظيمة.
ومن وراء صريح هذا الكلام تعريض بالتهديد للمنافقين، إذ قد ظهر على كفرهم وهم أشد قربا من المؤمنين في المدينة. وفي هذا السياق جاء قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73].
وجملة: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} تأييد وتشجيع ووعد بالنصر إن اتقوا بامتثال الأمر بالجهاد.
وافتتحت الجملة ب {اعْلَمُوا} للاهتمام بما يراد العلم به كما تقدم في قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} في سورة الأنفال[41]. والمعية هنا معية النصر والتأييد، كقوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]. وهذا تأييد لهم إذ قد علموا قوة الروم.
[24, 25] {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا

الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} .
عطف على قوله: {وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ} [التوبة: 86] وهذا عود إلى بيان أحوال المنافقين وما بينهما اعتراضات.
وهذه الآية زيدت فيها (ما) عقب (إذا) وزيادتها للتأكيد، أي لتأكيد معنى (إذا) وهو الشرط، لأن هذا الخبر لغرابته كان خليقا بالتأكيد، ولأن المنافقين ينكرون صدوره منهم بخلاف الآية السابقة لأن مضمونها حكاية استيذانهم وهم لا ينكرونه.
ولم يذكر في هذه الآية إجمال ما اشتملت عليه السور التي أنزلت كما ذكر في قوله: {وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ} [التوبة: 86]. ووجه ذلك أن سور القرآن كلها لا تخلو عن دعاء إلى الإيمان والصالحات والأعجاز ببلاغتها. فالمراد إذا أنزلت سورة ما من القرآن. وضمير {فَمِنْهُمْ} عائد إلى المنافقين للعلم بالمعاد من المقام ومن أواخر الكلام في قوله: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} ، ولما في قوله قبل هذا {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123] من التعريض بالمنافقين كما تقدم، فالمنافقون خاطرون بذهن السامع فيكون الإتيان بضمير يعود عليهم تقوية لذلك التعريض.
وقولهم: {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً} خطاب بعضهم لبعض على سبيل التهكم بالمؤمنين وبالقرآن، لأن بعض آيات القرآن مصرحة بأن القرآن يزيد المؤمنين إيمانا قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} [الأنفال: 2]. ولعل المسلمين كانوا إذا سمعوا القرآن قالوا: قد ازددنا إيمانا، كقول معاذ بن جبل للأسود بن هلال: اجلس بنا نؤمن ساعة، يعني بمذاكرة القرآن وأمور الدين (رواه البخاري في كتاب الإيمان).
ولما كان الاستفهام في قولهم: {أَيُّكُمْ} للاستهزاء كان متضمنا معنى إنكار أن يكون نزول سور القرآن يزيد سامعيها إيمانا توهما منهم بأن ما لا يزيدهم إيمانا لا يزيد غيرهم إيمانا، يقيسون على أحوال قلوبهم.
والفاء في قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا} للتفريع على حكاية استفهامهم بحمله على ظاهر حاله وصرفه عن مقصدهم منه. وتلك طريقة الأسلوب الحكيم، وهو: تلقي المخاطب بغير ما يترقب بحمل كلامه على خلاف مراده لنكتة، وهي هنا إبطال ما قصدوه من نفي أن

تكون السورة تزيد أحدا إيمانا قياسا على أحوال قلوبهم فأجيب استفهامهم بهذا التفصيل المتفرع عليه، فأثبت أن للسورة زيادة في إيمان بعض الناس وأكثر من الزيادة، وهو حصول البشر لهم.
وارتقي في الجواب عن مقصدهم من الإنكار بأن السورة ليست منفيا عنها زيادة في إيمان بعض الناس فقط بل الأمر أشد إذ هي زائدة في كفرهم، فالقسم الأول المؤمنون زادتهم إيمانا وأكتسبتهم بشرى فحصل من السورة لهم نفعان عظيمان، والقسم الثاني الذين في قلوبهم مرض زادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون. فالوجه أن تكون جملة {وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} معطوفة على جملة: {فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً} وأن تكون جملة {وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} معطوفة على جملة {فَزَادَتْهُمْ رِجْساً} لأن مضمون كلتا الجملتين مما أثرته السورة. أما جملة: {وَهُمْ كَافِرُونَ} فهي حال من ضمير {مَاتُوا} .
وقوبل قوله: {وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} في جانب المؤمنين بقوله: {وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} في جانب المنافقين تحسينا بالازدواج، بحيث كانت للسورة فائدتان للمؤمنين ومصيبتان على المنافقين، فجعل موتهم على الكفر المتسبب على زيادة السورة في كفرهم بمنزلة مصيبة أخرى غير الأولى وإن كانت في الحقيقة زيادة في المصيبة الأولى.
هذا وجه نظم الآية على هذا النسج من البلاغة والبديع، وقد أغفل فيما رأيت من التفاسير، فمنها ما سكت عن بيانه. ومنها ما نشرت فيه معاني المفردات وترك جانب نظم الكلام.
والاستبشار: أثر البشرى في النفس، فالسين والتاء للتأكيد مثل استعجم، وتقدم في قوله تعالى: {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ} في آل عمران[171]، وتقدم آنفا في قوله: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ} [التوبة: 111].
والمراد بزيادة الإيمان وبزيادة الرجس الرسوخ والتمكن من النفس.
والرجس: هنا الكفر. وأصله الشيء الخبيث. كما تقدم عند قوله تعالى: {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} في سورة العقود[90]. وقوله: {كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} في سورة الإنعام[125].
والمرض في القلوب تقدم في قوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} في سورة البقرة[10].

وتعدية {زَادَتْهُمْ} ب{إِلَى}، لأن زاد قد ضمن معنى الضم.
ومعنى قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا} الخ مثل معنى قوله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً} [الإسراء: 82].
[126] {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} .
عطف على جملة {فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 125] إلى آخره فهي من تمام التفصيل.
وقدمت همزة الاستفهام على حرف العطف على طريقة تصدير أدوات الاستفهام. والتصدير للتنبيه على أن الجملة في غرض الاستفهام.
والاستفهام هنا إنكار وتعجيب لعدم رؤيتهم فتنتهم فلا تعقبها توبتهم ولا تذكرهم أمر ربهم. والغرض من هذا الإنكار هو الاستدلال على ما تقدم من ازدياد كفر المنافقين وتمكنه كلما نزلت سورة من القرآن بإيراد دليل واضح ينزل منزلة المحسوس المرئي حتى يتوجه الإنكار على من لا يراه.
والفتنة: اختلال نظام الحالة المعتادة للناس واضطراب أمرهم، مثل الأمراض المنتشرة، والتقاتل، واستمرار الخوف. وقد تقدم ذكرها عند قوله: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 191] وقوله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} في سورة البقرة[193].
فمعنى {أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ} أن الله يسلط عليهم المصائب والمضار تنال جماعتهم مما لا يعتاد تكرر أمثاله في حياة الأمم بحيث يدل تكرر ذلك على أنه مراد منه إيقاظ الله الناس إلى سوء سيرتهم في جانب الله تعالى، بعدم اهتدائهم إلى الإقلاع عما هم فيه من العناد للنبي صلى الله عليه وسلم فإنهم لو رزقوا التوفيق لأفاقوا من غفلتهم، فعلموا أن ما يحل بهم كل عام ما طرأ عليهم إلا من وقت تلبسهم بالنفاق.
ولا شك أن الفتنة التي أشارت إليها الآية كانت خاصة بأهل النفاق من أمراض تحل بهم، أو متآلف تصيب أموالهم، أو جوائح تصيب ثمارهم، أو نقص من أنفسهم ومواليدهم؛ فإذا حصل شيئان من ذلك في السنة كانت الفتنة مرتين.
وقرأ الجمهور {أَوَلا يَرَوْنَ} بالمثناة التحتية. وقرأ حمزة ويعقوب {أولا ترون}

والتهديد في القرآن. فلو أتي بالمصدر لم يكن مشيرا إلى عنت معين ولا إلى عنت وقع لآن المصدر لا زمان له بل كان محتملا أن يعز عليه بأن يجنبهم إياه، ولكن مجيء المصدر منسبكا من الفعل الماضي يجعله مصدرا مقيدا بالحصول في الماضي، ألا ترى أنك تقدره هكذا: عزيز عليه عنتكم الحاصل في ما مضى لتكون هذه الآية تنبيها على أن ما لقوه من الشدة إنما هو لاستصلاح حالهم لعلهم يخفضون بعدها من غلوائهم ويرعوون عن غيهم ويشعرون بصلاح أمرهم.
والحرص: شدة الرغبة في الشيء والجشع إليه. ولما تعدى إلى ضمير المخاطبين الدال على الذوات وليست الذوات هي متعلق الحرص هنا تعين تقدير مضاف فهم من مقام التشريع، فيقدر: على إيمانكم أو هديكم.
والرؤوف: الشديد الرأفة. والرحيم: الشديد الرحمة، لأنهما صيغتا مبالغة، وهما يتنازعان المجرور المتعلق بهما وهو { بالْمُؤْمِنِينَ} .
والرأفة: رقة تنشأ عند حدوث ضر بالمرءوف به. يقال: رؤوف رحيم. والرحمة: رقة تقتضي الإحسان للمرحوم، بينهما عموم وخصوص مطلق، ولذلك جمع بينهما هنا ولوازمهما مختلفة. وتقدمت الرأفة عند قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} في سورة البقرة[143]. والرحمة في سورة الفاتحة[3].
وتقديم المتعلق على عامليه المتنازعينه في قوله: {بالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} للاهتمام بالمؤمنين في توجه صفتي رأفته ورحمته بهم. وأما رحمته العامة الثابتة بقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبيياء: 107] فهي رحمة مشوبة بشدة على غير المؤمنين فهو بالنسبة لغير المؤمنين رائف وراحم، ولا يقال: بهم رؤوف رحيم.
والفاء في قوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا} للتفريع على إرسال النبي صلى الله عليه وسلم صاحب هذه الصفات إليهم فإن صفاته المذكورة تقتضي من كل ذي عقل سليم من العرب الإيمان به واتباعه لأنه من أنفسهم ومحب لخيرهم رؤوف رحيم بمن يتبعه منهم، فتفرع عليه أنهم محقوقون بالإيمان به فإن آمنوا فذاك وان لم يؤمنوا فإن الله حسيبه وكافيه. وقد دل الشرط على مقابله لأن {فَإِنْ تَوَلَّوْا} يدل على تقدير ضده وهو إن أذعنوا بالإيمان.
وبعد التفريع التفت الكلام من خطاب العرب إلى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم بما كان مقتضى الظاهر أن يخاطبوا هم به اعتمادا على قرينة حرف التفريع فقيل له {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ

اللَّهُ}. والتقدير: فإن توليتم عنه فحسبه الله وقل حسبي الله. فجيء بهذا النظم البديع الإيجاز مع ما فيه من براعة الإيماء إلى عدم تأهلهم لخطاب الله على تقدير حالة توليهم.
والتولي: الإعراض والأدبار: وهو مستعار هنا للمكابرة والعناد.
والحسب: الكافي، أي كافيك شر إعراضهم لأنهم إن أعرضوا بعد هذا فقد أعرضوا عن حسد وحنق. وتلك حالة مظنة السعي في الكيد والأذى.
ومعنى الأمر بأن يقول: {حَسْبِيَ اللَّهُ} أن يقول ذلك قولا ناشئا عن عقد القلب عليه، أي فاعلم أن حسبك الله وقل حسبي الله، لأن القول يؤكد المعلوم ويرسخه في نفس العالم به، ولأن في هذا القول إبلاغا للمعرضين عنه بأن الله كافيه إياهم.
والتوكل: التفويض. وهو مبالغة في وكل.
وهذه الآية تفيد التنويه بهذه الكلمة المباركة لأنه أمر بأن يقول هذه الكلمة بعينها ولم يؤمر بمجرد التوكل كما أمر في قوله: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} [النمل: 79].
ولا أخبر بأن الله حسبه مجرد إخبار كما في قوله: {فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ} [الأنفال: 62].
وجملة: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} مستأنفة للثناء، أو في موضع الحال وهي ثناء بالوحدانية.
وعطفت عليها جملة: {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} للثناء بعظيم القدرة لأن من كان ربا للعرش العظيم ثبت أنه قدير، لأنه قد اشتهر أن العرش أعظم المخلوقات، ولذلك وصف بالعظيم، فالعظيم في هذه الآية صفة للعرش، فهو مجرور.
وفي هاتين الآيتين إشعار بالإيداع والأعذار للناس، وتنبيه إلى المبادرة باغتنام وجود الرسول صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم ليتشرفوا بالإيمان به وهم يشاهدونه ويقتبسون من أنوار هديه، لأن الاهتداء بمشاهدته والتلقي منه أرجى لحصول كمال الإيمان والانتفاع بقليل من الزمان لتحصيل وافر الخير الذي لا يحصل مثله في أضعاف ذلك الزمان.
وفيهما أيضا إيماء إلى اقتراب أجل النبي صلى الله عليه وسلم لأن التذكير بقوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ} يؤذن بأن هذا المجيء الذي مضى عليه زمن طويل يوشك أن ينقضي، لأن كل وارد قفولا، ولكل طالع أفولا. وقد روي عن أبي بن كعب وقتادة أن هاتين الآيتين هما أحدث القرآن عهدا بالله عز وجل، أي آخر ما نزل من القرآن. وقيل: إن آخر القرآن نزولا آية الكلالة خاتمة سورة النساء. وقيل آخره نزولا قوله: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ

تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} من سورة البقرة[281].
في "صحيح البخاري" من طريق شعيب عن الزهري عن ابن السباق عن زيد بن ثابت في حديث جمع القرآن في زمن أبي بكر رضي الله عنه قال زيد حتى وجدت من سورة التوبة آيتين مع خزيمة الأنصاري لم أجدهما مع أحد غيره {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} إلى آخرهما. ومن طريق إبراهيم ابن سعد عن الزهري مع أبي خزيمة الأنصاري. ومعنى ذلك أنه بحث عن هاتين الآيتين في ما هو مكتوب من القرآن فلم يجدهما وهو يعلم أن في آخر سورة التوبة آيتين خاتمتين أو هو يحفظهما (فإن زيدا اعتنى في جمع القرآن بحفظه وبتتبع ما هو مكتوب بإملاء النبي صلى الله عليه وسلم وبقراءة حفاظ القرآن غيره) فوجد خزيمة أو أبا خزيمة يحفظهما. فلما أملاهما خزيمة أو أبو خزيمة عليه تذكر زيد لفظهما وتذكرهما من سمعهما من الصحابة حين قرأوهما، كيف وقد قال أبي بن كعب: إنهما آخر ما أنزل، فلفظهما ثابت بالإجماع، وتواترهما حاصل إذ لم يشك فيهما أحد وليس إثباتهما قاصرا على إخبار خزيمة أو أبي خزيمة.

بالمثناة الفوقية على أن الخطاب للمسلمين، فيكون من تنزيل الرائي منزلة غيره حتى ينكر عليه عدم رؤيته ما لا يخفى.
و {ثُمَّ} للترتيب الرتبي لأن المعطوف بها هو زائد في رتبة التعجيب من شأنه على المعطوف عليه، فإن حصول الفتنة في ذاته عجيب، وعدم اهتدائهم للتدارك بالتوبة والتذكر أعجب. ولو كانت (ثم) للتراخي الحقيقي لكان محل التعجيب من حالهم هو تأخر توبتهم وتذكرهم.
وأتي بجملة {وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} مبتدأة باسم أسند إليه فعل ولم يقل: ولا يذكرون، قصدا لإفادة التقوى، أي انتفاء تذكرهم محقق.
[127] {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} .
عطف على جملة: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً} [التوبة: 124]. والظاهر أن المقصود عطف جملة: {نظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} على جملة: {فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً} . وإنما أعيدت جملة الشرط لبعد ما بين الجملة المعطوفة وجملة الجزاء، أو للإشارة إلى اختلاف الوقت بالنسبة للنزول الذي يقولون عنده {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً} [التوبة: 124] وبالنسبة للسورة التي عند نزولها ينظر بعضهم إلى بعض، أو لاختلاف السورتين بأن المراد هنا سورة فيها شيء خاص بهم.
وموجب زيادة (ما) بعد (إذا) في الآيتين متحد لاتحاد مقتضيه.
ونظر بعضهم إلى بعض عند نزول السورة يدل على أنهم كانوا حينئذ في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم لأن نظر بعضهم إلى بعض تعلقت به أداة الظرفية، وهي (إذا). فتعين أن يكون نظر بعضهم إلى بعض حاصلا وقت نزول السورة. ويدل لذلك أيضا قوله: {ثُمَّ انْصَرَفُوا} أي عن ذلك المجلس. ويدل أيضا على أن السورة مشتملة على كشف أسرارهم وفضح مكرهم لأن نظر بعضهم إلى بعض هو نظر تعجب واستفهام. وقد قال تعالى في الآية السابقة {يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزئوا إن الله مخرج ما تحذرون} . ويدل أيضا على أنهم كاتمون تعجبهم من ظهور أحوالهم خشية الاعتراف بما نسب إليهم ولذلك اجتزوا بالتناظر دون الكلام. فالنظر هنا نظر دال على ما في ضمير الناظر من التعجب والاستفهام.

وجملة: {هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ} بيان لجملة {نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} لأن النظر تفاهموا به فيما هو سر بينهم؛ فلما كان النظر نظر تفاهم صح بيان جملته بما يدل على الاستفهام التعجيبي، ففي هذا النظم إيجاز حذف بديع دلت عليه القرينة. والتقدير: وإذا ما أنزلت سورة فيها فضيحة أمرهم نظر بعضهم إلى بعض بخائنة الأعين مستفهمين متعجبين من اطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على أسرارهم، أي هل يراكم من أحد إذا خلوتم ودبرتم أموركم، لأنهم بكفرهم لا يعتقدون أن الله أطلع نبيه - عليه الصلاة والسلام - على دخيلة أمرهم.
وزيادة جملة: {ثُمَّ انْصَرَفُوا} لإفادة أنهم لم يكتسبوا من نزول السورة التي أطلعت المؤمنين على أسرارهم عبرة ولا قربا من الإيمان، بل كان قصارى أمرهم التعجب والشك في أن يكون قد اطلع عليهم من يبوح بأسرارهم ثم انصرفوا كأن لم تكن عبرة. وهذا من جملة الفتن التي تحل بهم ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون.
وجملة: {صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} مستأنفة استئنافيا بيانيا، لأن ما أفاده قوله: {ثُمَّ انْصَرَفُوا} من عدم انتفاعهم بما في تلك السورة من الإخبار بالمغيبات الدال على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم يثير سؤال من يسأل عن سبب عدم انتفاعهم بذلك واهتدائهم، فيجاب بأن الله صرف قلوبهم عن الفهم بأمر تكويني فحرموا الانتفاع بأبلغ واعظ. وكان ذلك عقابا لهم بسبب أنهم {قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} ، أي لا يفهمون الدلائل، بمعنى لا يتطلبون الهدى بالتدبر فيفهموا.
وجعل جماعة من المفسرين قوله: {صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} دعاء عليهم، ولا داعي إليه لأن دعاء الله على مخلوقاته تكوين كما تقدم، ولأنه يأباه تسبيبه بقوله: {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} .
وقد أعرض المفسرون عن تفسير هذه الآية تفسيرا يبين استفادة معانيها من نظم الكلام فأتوا بكلام يخاله الناظر إكراها لها على المعنى المراد وتقديرات لا ينثلج لها الفؤاد.
[128, 129] {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ، فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} .
كانت هذه السورة سورة شدة وغلظة على المشركين وأهل الكتاب والمنافقين من

أهل المدينة ومن الأعراب، وأمرا للمؤمنين بالجهاد، وإنحاء على المقصرين في شأنه. وتخلل ذلك تنويه بالمتصفين بضد ذلك من المؤمنين الذين هاجروا والذين نصروا واتبعوا الرسول في ساعة العسرة.
فجاءت خاتمة هذه السورة آيتين بتذكيرهم بالمنة ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم والتنويه بصفاته الجامعة للكمال. ومن أخصها حرصه على هداهم، ورغبته في إيمانهم ودخولهم في جامعة الإسلام ليكون رؤوفا رحيما بهم ليعلموا أن ما لقيه المعرضون عن الإسلام من الإغلاظ عليهم بالقول والفعل ما هو إلا استصلاح لحالهم. وهذا من مظاهر الرحمة التي جعلها الله تعالى مقارنة لبعثة رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، بحيث جاء في هاتين الآيتين بما شأنه أن يزيل الحرج من قلوب الفرق التي نزلت فيهم آيات الشدة وعوملوا بالغلظة تعقيبا للشدة بالرفق وللغلظة بالرحمة، وكذلك عادة القرآن. فقد انفتح بهاتين الآيتين باب حظيرة الإيمان والتوبة ليدخلها من وفقه الله إليها.
فالجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا. وفي وقوعها آخر السورة ما يكسبها معنى التذييل والخلاصة.
فالخطاب بقوله: {جَاءَكُمْ} وما تبعه من الخطاب موجه إلى جميع الأمة المدعوة للإسلام.
والمقصود بالخطاب بادئ ذي بدءهم المعرضون من المشركين والمنافقين من العرب بقرينة قوله عقب الخطاب {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} وسيجيء أن المقصود العرب.
وافتتاحها بحرفي التأكيد وهما اللام و(قد) مع كون مضمونها مما لا يتطرق إليه الإنكار لقصد الاهتمام بهذه الجملة لأهمية الغرض الذي سيقت لأجله وهو الذي سنذكره، ولأن فيما تضمنته ما ينكره المنافقون وهو كونه رسولا من الله، ولأن في هذا التأكيد ما يجعل المخاطبين به منزلين منزلة المنكرين لمجيئه من حيث إنهم لم ينفعوا أنفسهم بهذا المجيء، ولأن في هذا التأكيد تسجيلا عليهم مرادا به الإيماء إلى اقتراب الرحيل، لأنه لما أعيد الإخبار بمجيئه وهو حاصل منذ أعوام طويلة كان ذلك كناية عن اقتراب انتهائه، وهو تسجيل منه على المؤمنين، وإيداع للمنافقين ومن بقي من المشركين. على أن آيات أخرى خوطب بها أهل الكتاب ونحوهم فأكدت بأقل من هذا التأكيد كقوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} [المائدة: 15]وكقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً} [النساء: 174] فما زيدت الجملة في هذه السورة مؤكدة إلا

لغرض أهم من إزالة الإنكار.
والمجيء: مستعمل مجازا في الخطاب بالدعوة إلى الدين. شبه توجهه إليهم بالخطاب الذي لم يكونوا يترقبونه بمجيء الوافد إلى الناس من مكان آخر. وهو استعمال شائع في القرآن.
والأنفس: جمع نفس، وهي الذات. ويضاف النفس إلى الضمير فيدل على قبيلة معاد الضمير، أي هو معدود من ذوي نسبهم وليس عداده فيهم بحلف أو ولاء أو إلصاق. يقال: هو قريشي من أنفسهم، ويقال: القريشي مولاهم أو حليفهم، فمعنى {مِنْ أَنْفُسِكُمْ} من صميم نسبكم، فتعين أن الخطاب للعرب لأن النازل بينهم القرآن يومئذ لا يعدون العرب ومن حالفهم وتولاهم مثل سلمان الفارسي وبلال الحبشي، وفيه امتنان على العرب وتنبيه على فضيلتهم، وفيه أيضا تعريض بتحريضهم على اتباعه وترك مناواته وأن الأجدر بهم الافتخار به والالتفاف حوله كما قال تعالى في ذكر القرآن: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44] أي يبقي منه لكم ذكر حسن.
والعزيز: الغالب. والعزة: الغلبة. يقال عزه إذا غلبه. ومنه {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص: 23]، فإذا عدي بعلي دل على معنى الثقل والشدة على النفس. قال بشر بن عوانة في ذكر قتله الأسد ومصارعته إياه:
فقلت له يعز علي أني ... قتلت مناسبي جلدا وقهرا
و {مَا} مصدرية. و {عَنِتُّمْ} : تعبتم. والعنت: التعب، أي شاق عليه حزنكم وشقاؤكم. وهذا كقوله: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3] وذكر هذا في صفة الرسول عليه السلام يفيد أن هذا خلق له فيكون أثر ظهوره الرفق بالأمة والحذر مما يلقي بهم إلى العذاب في الدنيا والآخرة. ومن آثار ذلك شفاعته للناس كلهم في الموقف لتعجيل الحساب. ثم إن ذلك يومي إلى أن شرعه جاء مناسبا لخلقه فانتفى عنه الحرج والعسر قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] وقال: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].
والعدول عن الإتيان بلفظ العنت الذي هو المصدر الصريح إلى الإتيان بالفعل مع {مَا} المصدرية السابكة للمصدر نكتة. وهي إفادة أنه قد عز عليه عنتهم الحاصل في الزمن الذي مضى، وذلك بما لقوه من قتل قومهم، ومن الأسر في الغزوات، ومن قوارع الوعيد

المجلد الحادي عشر
سورة يونس...
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة يونس
سميت في المصاحف وفي كتب التفسير والسنة سورة يونس لأنها انفردت بذكر خصوصية لقوم يونس، أنهم آمنوا بعد أن توعدهم رسولهم بنزول العذاب فعفا الله عنهم لما آمنوا. وذلك في قوله تعالى: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس: 98]. وتلك الخصوصية كرامة ليونس - عليه السلام - وليس فيها ذكر ليونس غير ذلك. وقد ذكر يونس في سورة الصافات بأوسع مما في هذه السورة ولكن وجه التسمية لا يوجبها.
والأظهر عندي أنها أضيفت إلى يونس تمييزا لها عن أخواتها الأربع المفتتحة ب"ألر". ولذلك أضيفت كل واحدة منها إلى نبي أو قوم نبي عوضا عن أن يقال: آلر الأولى وألر الثانية. وهكذا فإن اشتهار السور بأسمائها أول ما يشيع بين المسلمين بأولى الكلمات التي تقع فيها وخاصة إذا كانت فواتحها حروفا مقطعة فكانوا يدعون تلك السور بآل حم وآل ألر ونحو ذلك.
وهي مكية في قول الجمهور. وهو المروي عن ابن عباس في الأصح عنه. وفي "الإتقان" عن عطاء عنه أنها مدنية. وفي "القرطبي" عن ابن عباس أن ثلاث آيات منها مدنية وهي قوله تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} إلى قوله: {حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس: 96-95] وجزم بذلك القمي النيسابوري. وفي "ابن عطية" عن مقاتل إلا آيتين مدنيتين هما {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ} إلى قوله: {مِنَ الْخَاسِرِينَ} [يونس: 94-95]. وفيه عن الكلبي أن آية واحدة نزلت بالمدينة وهي قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ} إلى {أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ} [يونس: 40] نزلت في شأن اليهود.
وقال ابن عطية: قالت فرقة: نزل نحو من أربعين آية من أولها بمكة ونزل باقيها

بالمدينة. ولم ينسبه إلى معين. وأحسب أن هذه الأقوال ناشئة عن ظن أن ما في القرآن من مجادلة مع أهل الكتاب لم ينزل إلا بالمدينة، فإن كان كذلك فظن هؤلاء مخطئي. وسيأتي التنبيه عليه.
وعدد آيها مائة وتسع آيات في عد أكثر الأمصار، ومائة وعشر في عد أهل الشام.
وهي السورة الحادية والخمسون في ترتيب نزول السور. نزلت بعد سورة بني إسرائيل وقبل سورة هود. وأحسب أنها نزلت سنة إحدى عشرة بعد البعثة لما سيأتي عند قوله تعالى: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا} [يونس: 21].
أغراض هذه السورة
ابتدئت بمقصد إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بدلالة عجز المشركين عن معارضة القرآن، دلالة نبه عليها بأسلوب تعريضي دقيق بني على الكناية بتهجية الحروف المقطعة في أول السورة كما تقدم في مفتتح سورة البقرة، ولذلك أتبعت تلك الحروف بقوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} [يونس: 1] إشارة إلى أن إعجازه لهم هو الدليل على أنه من عند الله. وقد جاء التصريح بما كني عنه هنا في قوله: {قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} [يونس: 38].
وأتبع بإثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وإبطال إحالة المشركين أن يرسل الله رسولا بشرا.
وانتقل من ذلك إلى إثبات انفراد الله تعالى بالإلهية بدلالة أنه خالق العالم ومدبره، فأفضى ذلك إلى إبطال أن يكون لله شركاء في إلهيته، وإلى إبطال معاذير المشركين بأن أصنامهم شفعاء عند الله.
وأتبع ذلك بإثبات الحشر والجزاء. فذلك إبطال أصول الشرك.
وتخلل ذلك بذكر دلائل من المخلوقات، وبيان حكمة الجزاء، وصفة الجزاء، وما في دلائل المخلوقات من حكم ومنافع للناس.
ووعيد منكري البعث المعرضين عن آيات الله، وبضد أولئك وعد الذين آمنوا. فكان معظم هذه السورة يدور حول محور تقرير هذه الأصول.
فمن ذلك التنبيه على أن إمهال الله تعالى الكافرين دون تعجيل العذاب هو حكمة منه.

ومن ذلك التذكير بما حل بأهل القرون الماضية لما أشركوا وكذبوا الرسل.
والاعتبار بما خلق الله للناس من مواهب القدرة على السير في البر والبحر، وما في أحوال السير في البحر من الألطاف.
وضرب المثل للدنيا وبهجتها وزوالها، وأن الآخرة هي دار السلام.
واختلاف أحوال المؤمنين والكافرين في الآخرة، وتبرؤ الإلهة الباطلة من عبدتها.
وإبطال إلهية غير الله تعالى، بدليل أنها لا تغني عن الناس شيئا في الدنيا ولا في الآخرة.
وإثبات أن القرآن منزل من الله، وأن الدلائل على بطلان أن يكون مفترى واضحة.
وتحدي المشركين بأن يأتوا بسورة مثله، ولكن الضلالة أعمت أبصار المعاندين.
وإنذار المشركين بعواقب ما حل بالأمم التي كذبت بالرسل، وأنهم إن حل بهم العذاب لا ينفعهم إيمانهم، وأن ذلك لم يلحق قوم يونس لمصادفة مبادرتهم بالإيمان قبل حلول العذاب.
وتوبيخ المشركين على ما حرموه مما أحل الله من الرزق.
وإثبات عموم العلم لله تعالى.
وتبشير أولياء الله في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
وتسلية الرسول عما يقوله الكافرون.
وأنه لو شاء لآمن من في الأرض كلهم.
ثم تخلص إلى الاعتبار بالرسل السابقين نوح ورسل من بعده ثم موسى وهارون.
ثم استشهد على صدق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بشهادة أهل الكتاب.
وختمت السورة بتلقين الرسول عليه الصلاة والسلام مما يعذر به لأهل الشك في دين الإسلام، وأن اهتداء من اهتدى لنفسه وضلال من ضل عليها، وأن الله سيحكم بينه وبين معانديه.
[1] {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} .

{الر}
تقدم القول في الحروف الواقعة في فواتح بعض السور في أول سورة البقرة فهي بمنزلة الأعداد المسرودة، لا محل لها من الإعراب، ولا ينطق بها إلا على حال السكت، وحال السكت يعامل معاملة الوقف، فلذلك لا يمد اسم ما في الآية، وإن كان هو في اللغة بهمزة في آخره لأنه بالسكت تحذف الهمزة كما تحذف في الوقف لثقل السكوت على الهمزة في الوقف والسكت، فبذلك تصير الكلمة على حرفين فلا تمد. ولذلك أجمع القراء على عدم مد الحروف: را. ها. يا. طا. حا. التي في أوائل السور وإن كانت تلك الأسماء ممدودة في استعمال اللغة.
{تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ}
اسم الإشارة يجوز أن يكون مرادا به جميع آي القرآن التي نزلت قبل هذه السورة باعتبار حضور تلك الآيات في أذهان الناس من المؤمنين وغيرهم، فكأنها منظورة مشاهدة، فصحت الإشارة إليها إذ هي متلوة محفوظة فمن شاء أن يسمعها ويتدبرها أمكنه ذلك ولأن الخوض في شأنها هو حديث الناس في نواديهم وأسمارهم وشغلهم وجدالهم، فكانت بحيث تتبادر إلى الأذهان عند ورود الإشارة إليها.
واسم الإشارة يفسر المقصود منه خبره وهو {آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} كما فسره في قوله تعالى: {فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ} [الروم: 56] وقوله تعالى: {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ } [الكهف: 78]. قال في "الكشاف": تصور فراقا بينهما سيقع قريبا فأشار إليه بهذا.
وقد تقدم شيء من هذا المعنى عند قوله تعالى: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} في سورة الأنعام[88]. فالمقصود من الإشارة إما الحث على النظر في آيات القرآن ليتبين لهم أنه من عند الله ويعلموا صدق من جاءهم به. وإما إقناعهم من الآيات الدالة على صدق النبيء صلى الله عليه وسلم بآيات الكتاب الحكيم فإنهم يسألون النبيء آية على صدقه، كما دل عليه قوله في هذه السورة[يونس: 15] {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} فقيل لهم: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} ، أي ما هو آية واحدة بل آيات كثيرة، فإن الإعجاز حاصل بكل سورة منه.
ولأنه اشتمل على الحقائق السامية والهدى إلى الحق والحكمة؛ فرجل أمي ينشأ في أمة جاهلة يجيء بمثل هذا الهدى والحكمة لا يكون إلا موحى إليه بوحي إلهي، كما دل

عليه قوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت: 48].
وعليه فاسم الإشارة مبتدأ و {آيَاتُ} خبره. وإضافة {آيَاتُ} إلى {الْكِتَابِ} إضافة شبيهة بالبيانية وإن كان الكتاب بمنزلة الظرف للآيات باختلاف الاعتبار، وهو معنى الإضافة البيانية عند التحقيق.
ويجوز أن تجعل الإشارة ب {تِلْكَ} إلى حروف {ألر} لأن المختار في الحروف المقطعة في فواتح السور أن المقصود من تعدادها التحدي بالاعجاز، فهي بمنزلة التهجي للمتعلم. فيصح أن يجعل (ألر) في محل ابتداء ويكون اسم الإشارة خبرا عنه. والمعنى تلك الحروف آيات الكتاب الحكيم، أي من جنسها حروف الكتاب الحكيم، أي جميع تراكيبه من جنس تلك الحروف.
والمقصود تسجيل عجزهم عن معارضته بأن آيات الكتاب الحكيم كلها من جنس حروف كلامهم فما لكم لا تستطيعون معارضتها بمثلها إن كنتم تكذبون بأن الكتاب منزل من عند الله، فلولا أنه من عند الله لكان اختصاصه بهذا النظم المعجز دون كلامهم محالا إذ هو مركب من حروف كلامهم.
والكتاب: القرآن. فالتعريف فيه للعهد. ويجوز جعل التعريف دالا على معنى الكمال في الجنس، كما تقول: أنتَ الرجل.
والحكيم: وصف إما بمعنى فاعل، أي الحاكم على الكتب بتمييز صحيحها من محرفها، مثل قوله: {وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} [المائدة: 48]، وقوله: {وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة: 213].
وإما بمعنى مُفعَل بفتح العين، أي محكم، مثل عَتِيد، بمعنى مُعَد.
وإما بمعنى ذي الحكمة لاشتماله على الحكمة والحق والحقائق العالية، إذ الحكمة هي إصابة الحق بالقول والعمل فوصف بوصف ذي الحكمة من الناس على سبيل التوسع الناشئ عن البليغ كقول الأعشى:
وغريبة تأتي الملوك حكيمة
قد قلتها ليقال من ذا قالها
وإما أن يكون وصف بوصف منزله المتكلم به، كما مشى عليه صاحب "الكشاف" عند قوله تعالى: {يس~ وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ } [يس: 1, 3].

واختيار وصف {الْحَكِيمِ } من بين أوصاف الكمال الثابتة للقرآن لأن لهذا الوصف مزيد اختصاص بمقام إظهار الإعجاز من جهة المعنى بعد إظهار الإعجاز من جهة اللفظ بقوله: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} ، ولما اشتملت عليه السورة من براهين التوحيد وإبطال الشرك.
وإلى هذا المعنى يشير قوله بعد هذا {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [يونس: 16].
[2] {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ} .
{أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ}.
الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا لأن جملة: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} [يونس: 1] بما فيها من إبهام الداعي إلى التوقف على آيات الكتاب الحكيم تثير سؤالا عن ذلك الداعي فجاءت هذه الجملة تبين أن وجه ذلك هو استبعاد الناس الوحي إلى رجل من الناس استبعاد إحالة. وجاءت على هذا النظم الجامع بين بيان الداعي وبين إنكار السبب الذي دعا إليه وتجهيل المتسببين فيه، ولك أن تجعله استئنافا ابتدائيا، لأنه مبدأ الغرض الذي جاءت له السورة، وهو الاستدلال على صدق الرسول وإثبات البعث.
فالهمزة للاستفهام المستعمل في الإنكار، أي كيف يتعجبون من ذلك تعجب إحالة.
وفائدة إدخال الاستفهام الإنكاري على (كان) دون أن يقال: أعجب الناس، هي الدلالة على التعجيب من تعجبهم المراد به إحالة الوحي إلى بَشر.
والمعنى: أحدث وتقرر فيهم التعجب من وحينا، لأن فعل الكون يشعر بالاستقرار والتمكن فإذا عبر به أشعر بأن هذا غير متوقع حصوله.
و {لِلنَّاسِ} متعلق ب {كَانَ} لزيادة الدلالة على استقرار هذا التعجب فيهم، لأن أصل اللام أن تفيد الملك، ويستعار ذلك للتمكن، أي لتمكن الكون عجبا من نفوسهم.
و {عَجَباً} خبر {كَانَ} مقدم على اسمها للاهتمام به لأنه محل الإنكار.
و {أَنْ أَوْحَيْنَا} اسم كان، وجيء فيه ب(أَنْ) والفعل دون المصدر الصريح وهو وحينا

ليتوسل إلى ما يفيده الفعل من التجدد وصيغة المضي من الاستقرار تحقيقا لوقوع الوحي المتعجب منه وتجدده وذلك ما يزيدهم كمدا.
والعجب: مصدر عجب، إذا عد الشيء خارجا عن المألوف ناد الحصول. ولما كان التعجب مبدأ للتكذيب وهم قد كذبوا بالوحي إليه ولم يقتصروا على كونه عجيبا جاء الإنكار عليهم بإنكار تعجبهم من الإيحاء إلى رجل من البشر لأن إنكار التعجب من ذلك يؤول إلى إنكار التكذيب بالأولى ويقلع التكذيب من عروقه.
ويجوز أن يكون العجب كناية عن إحالة الوقوع، كما في قوله تعالى: {قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} في سورة هود [ 72, 73] وقوله: {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ} في سورة الأعراف [63]. وكانت حكاية تعجبهم بإدماج ما يفيد الرد عليهم بأن الوحي كان إلى رجل من الناس وذلك شأن الرسالات كلها كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ} [النحل: 43] وقال: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً} [الأنعام: 9] وقال: {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً} [الإسراء: 95].
وأطلق {النَّاسَ} على طائفة من البشر، والمراد المشركون من أهل مكة لأنهم المقصود من هذا الكلام. وهذا الإطلاق مثل ما في قوله: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} [آل عمران: 173]. وعن ابن عباس أنكرت طائفة من العرب رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فقالوا: الله أعظم من أن يكون له رسول بشرا، فأنزل الله تعالى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ} .
و {أَنْ} في قوله: {أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ} تفسيرية لفعل {أَوْحَيْنَا} لأن الوحي فيه معنى القول.
و {النَّاسَ} الثاني يعم جميع البشر الذين يمكن إنذارهم، فهو عموم عرفي. ولكون المراد ب {النَّاسَ} ثانيا غير المراد به أول ذكر بلفظه الظاهر دون أن يقال: أن أنذرهم.
ولما عطف على الأمر بالإنذار الأمر بالتبشير للذين آمنوا بقي {النَّاسَ} المتعلق بهم الإنذار مخصوصا بغير المؤمنين.
وحذف المنذر به للتهويل، ولأنه يعلم حاصله من مقابلته بقوله: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا

أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ} ، وفعل التبشير يتعدى بالباء، فالتقدير: وبشر الذين آمنوا بأن لهم قدم صدق، فحذف حرف الجر مع (أنْ) جريا على الغالب.
والقدم: اسم لما تقدم وسلف، فيكون في الخير والفضل وفي ضده. قال ذو الرمة:
لكم قدم لا ينكر الناس إلها ... مع الحسب العادي طمت على البحر
وذكر المازري في المعلم عن ابن الإعرابي: أن القدم لا يعبر به إلا عن معنى المقدم لكن في الشرف والجلالة. وهو فعل بمعنى فاعل مثل سلف وثقل. قال ابن عطية: ومن هذه اللفظة قول النبيء صلى الله عليه وسلم في صفة جهنم: "حتى يضع رب العزة فيها قدمه فتقول قط قط" - يشير إلى حديث أنس بن مالك قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "ما تزال جهنم تقول هل من مزيد حتى يضع رب العزة" - وفي رواية- " الجبار فيها قدمه فتقول قط قط، وعزتك" . ويروى بعضها إلى بعض. وهذا أحد تأويلين لمعنى "قدمه" . وأصل ذلك في "المعلم على صحيح مسلم" للمازري وعزاه إلى النضر بن شميل.
والمراد ب {قَدَمَ صِدْقٍ} في الآية قدم خير، وإضافة {قَدَمَ} إلى {صِدْقٍ} من إضافة الموصوف إلى الصفة. وأصله قدم صدق، أي صادق وهو وصف بالمصدر: فعلى قول الجمهور يكون وصف {صِدْقٍ} ل {قَدَمَ} وصفا مقيدا. وعلى قول ابن الإعرابي يكون وصفا كاشفا.
والصدق: موافقة الشيء لاعتقاد المعتقد، واشتهر في مطابقة الخبر. ويضاف شيء إلى (صِدْقٍ) بمعنى مصادفته للمأمول منه المرضي وأنه لا يخيب ظن آمل كقوله: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرائيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ} [يونس: 90] وقوله: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 55].
وقوله: {أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ} تفسير لفعل {أَوْحَيْنَا} . وإنما اقتصر على ذكر هذا الموحى به لأن ذلك هو الذي حملهم على التكذيب إذ صادف صرفهم عن ضلاله دينهم وسمعوا منه تفضيل المؤمنين عليهم. وأيضا في ذكر المفسر إدماج لبشارة المؤمنين بهذه المزية.
{قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ}.
هذه الجملة بدل اشتمال من جملة: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً} الخ. ووجه هذا الإبدال أن قولهم هذا ينبئ عن بلوغ التعجب من دعوى الوحي والرسالة من نفوسهم مزيد الإحالة والتكذيب حتى صاروا إلى القول: {إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ} [يونس: 76] أو: {إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ

مُبِينٌ} فاسم الإشارة راجع إلى ما تضمنته جملة: {أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا} .
وقرأه الجمهور: "لسحر" - بكسر السين وسكون الحاء على أن المراد به الحاصل بالمصدر، أي أن هذا الكلام كلام السحر، أي أنه كلام يسحر به. فقد كان من طرق السحر في أوهامهم أن يقول الساحر كلاما غير مفهوم للناس يوهمهم أن فيه خصائص وأسماء غير معروفة لغير السحرة، فالإشارة إلى الوحي.
وقرأه ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي {لَسَاحِرٌ} فالإشارة إلى رجل من قوله: {إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ} وهو النبيء -صلى الله عليه وسلم- وإن وصفهم إياه بالسحر ينبئ بأنهم كذبوا بكونه من عند الله ولم يستطيعوا أن يدعوه هذيانا وباطلا فهرعوا إلى ادعائه سحرا، وقد كان من عقائدهم الضالة أن من طرائق السحر أن يقول الساحر أقوالا تستنزل عقول المسحورين. وهذا من عجزهم عن الطعن في القرآن بمطاعن في لفظه ومعانيه.
والسحر: تخييل ما ليس بكائن كائنا. وقد تقدم عند قوله تعالى: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} في سورة البقرة[102].
والمبين: اسم فاعل من أبان الذي هو بمعنى بان، أي ظهر، أي سحر واضح ظاهر. وهذا الوصف تلفيق منهم وبهتان لأنه ليس بواضح في ذلك بل هو الحق المبين.
[3] {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} .
استئناف ابتدائي للاستدلال على تفرد الله تعالى بالإلهية. وإنما أوقع هنا لأن أقوى شيء بعث المشركين على ادعاء أن ما جاء به النبيء سحر هو أنه أبطل الشركاء لله في الإلهية ونفاها عن إلهتهم التي أشركوا بها فقالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5] فلا جرم أن أعقب إنكار إحالتهم ذلك بإقامة الدليل على ثبوته.
والخطاب للمشركين، ولذلك أكد الخبر بحرف التوكيد، وأوقع عقبه {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [يونس: 2]، فهو التفات من الغيبة في قوله: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً} وقوله: {قَالَ الْكَافِرُونَ} . وقد مضى القول في نظير صدر هذه الآية في سورة الأعراف إلى قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} .
وقوله: {اللَّهُ} خبر {إِنَّ} ، كما دل عليه قوله بعده {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} .

وجملة: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} في موضع الحال من اسم الجلالة، أو خبر ثان عن {رَبَّكُمُ} .
والتدبير: النظر في عواقب المقدرات وعوائقها لقصد إيقاعها تامة فيما لقصد له محمودة العاقبة.
والغاية من التدبير الإيجاد والعمل على وفق ما دبر. وتدبير الله الأمور عبارة عن تمام العلم بما يخلقها عليه، لأن لفظ التدبير هو أوفى الألفاظ اللغوية بتقريب إتقان الخلق.
والأمر: جنس يعم جميع الشؤون والأحوال في العالم. وتقدم في قوله: {وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورُ} في سورة براءة[48].
وفي إجراء هذه الصفات على الله تعالى تعريض بالرد على المشركين إذ جعلوا لأنفسهم إلهة لا تخلق ولا تعلم؛ كما قال تعالى: {لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [النحل: 20]. ولذلك حسن وقع جملة: {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} عقب جملة: {الَّذِي خَلَقَ} بتمامها، لأن المشركين جعلوا إلهتهم شفعاء فإذا أنذروا بغضب الله يقولون: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18]، أي حماتنا من غضبه. فبعد أن وصف الإله الحق بما هو منتف عن إلهتهم نفي عن إلهتهم وصف الشفاعة عند الله وحماية المغضوب عليهم منه.
وأكد النفي ب {مِنْ} التي تقع بعد حرف النفي لتأكيد النفي وانتفاء الوصف عن جميع أفراد الجنس الذي دخلت (مِنْ) على اسمه بحيث لم تبق لإلهتهم خصوصية.
وزيادة {إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} احتراس لإثبات شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم بإذن الله، قال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} . والمقصود من ذلك نفي الشفاعة لإلهتهم من حيث إنهم شركاء لله في الإلهية، فشفاعتهم عنده نافذة كشفاعة الند عند نده. والشفاعة تقدمت عند قوله تعالى: {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} في سورة البقرة[48]. وكذلك الشفيع تقدم عند قوله: {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ} في سورة الأعراف[53].
وموقع جملة: {مَا مِنْ شَفِيعٍ} مثل موقع جملة: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} .
وجملة: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ} ابتدائية فذلكة للجمل التي قبلها ونتيجة لها، وهي معترضة بين تلك الجمل وبين الجملة المفرعة عليها، وهي جملة: {فَاعْبُدُوهُ} ، وتأكيد لمضمون الجملة الأصلية وهي جملة: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ} .

والإتيان في صدرها باسم الإشارة لتمييزه أكمل تمييز، لأنهم امتروا في صفة الإلهية وضلوا فيها ضلالا مبينا، فكانوا أحرياء بالإيقاظ بطريق اسم الإشارة، وللتنبيه على أن المشار إليه حقيق بما سيذكر بعد اسم الإشارة من حيث إنه اتصف بتلك الأوصاف التي أشير إليه من أجلها، فإن خالق العوالم بغاية الإتقان والمقدرة ومالك أمرها ومدبر شؤونها والمتصرف المطلق مستحق للعبادة نظير الإشارة في قوله: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ}[ البقرة: 5] بعد قوله: {لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} إلى قوله: {هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 2-4].
وفرع على كونه ربهم أن أمروا بعبادته، والمفرع هو المقصود من الجملة وما قبله مؤكد لجملة {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ} تأكيدا بفذلكة وتحصيل. والتقدير: إن ربكم الله إلى قوله: {فَاعْبُدُوهُ} ، كقوله: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس: 58] إذ وقع قوله: {فَبِذَلِكَ} تأكيدا لجملة {بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ} . وأوقع بعده الفرع وهو (فَلْيَفْرَحُوا).والتقدير: قل بفضل الله وبرحمته فليفرحوا بذلك.
والمقصود من العبادة العبادة الحق التي لا يشرك معه فيها غيره، بقرينة تفريع الأمر بها على الصفات المنفرد بها الله دون معبوداتهم.
وجملة: {أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} ابتدائية للتقريع. وهو غرض جديد، فلذلك لم تعطف، فالاستفهام إنكار لانتفاء تذكرهم إذ أشركوا معه غيره ولم يتذكروا في أنه المنفرد بخلق العوالم وبملكها وبتدبير أحوالها.
والتذكر: التأمل. وهو بهذه الصيغة لا يطلق إلا على ذكر العقل لمعقولاته، أي حركته في معلوماته، فهو قريب من التفكر؛ إلا أن التذكر لما كان مشتقا من مادة الذكر التي هي في الأصل جريان اللفظ على اللسان، والتي يعبر بها أيضا عن خطور المعلوم في الذهن بعد سهوه وغيبته عنه كان مشعرا بأنه حركة الذهن في معلومات متقررة فيه من قبل.
فلذلك أوثر هنا دون {لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [البقرة: 219] للإشارة إلى أن الاستدلال على وحدانية الله تعالى قد تقرر في النفوس بالفطرة، وبما تقدم لهم من الدعوة والأدلة فيكفى في الاستدلال مجرد إخطار هذه الأدلة في البال.
[4] {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا

يَكْفُرُونَ}
وقع أمرهم بعبادته عقب ذكر الجزاء إنذارا وتبشيرا، فالجملة كالدليل على وجوب عبادته، وهي بمنزلة النتيجة الناشئة عن إثبات خلقه السماوات والأرض لأن الذي خلق مثل تلك العوالم من غير سابق وجود لا يعجزه أن يعيد بعض الموجودات الكائنة في تلك العوالم خلقا ثانيا. ومما يشير إلى هذا قوله: {إِنَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} ، فبدء الخلق هو ما سبق ذكره، وإعادته هي ما أفاده قوله: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً} ولذلك فصلت عن التي قبلها لما بينهما من شبه كمال الاتصال، على أنها يجوز كونها خبرا آخر عن قوله: {إِنَّ رَبَّكُمُ} ، أو عن قوله: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ} [يونس: 3].
وقد تضمنت هذه الجملة إثبات الحشر الذي أنكروه وكذبوا النبيء صلى الله عليه وسلم لأجله.
وفي تقديم المجرور في قوله: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ} إفادة القصر، أي لا إلى غيره، قطع لمطامع بعضهم القائلين في إلهتهم: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18] يريدون أنهم شفعاء على تسليم وقوع البعث للجزاء، فإذا كان الرجوع إليه لا إلى غيره كان حقيقا بالعبادة وكانت عبادة غيره باطلا.
والمرجع: مصدر ميمي بمعنى الرجوع. وقد تقدم في قوله: {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} في سورة العقود[105].
و {جَمِيعاً} حال من ضمير المخاطبين المضاف إليه المصدر العامل فيه.
وانتصب {وَعْدَ اللَّهِ} على المفعولية المطلقة توكيدا لمضمون الجملة المساوية له، ويسمى مؤكدا لنفسه في اصطلاح النحاة، لأن مضمون: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ} الوعد بإرجاعهم إليه وهو مفاد وعد الله، ويقدر له عامل محذوف لأن الجملة المؤكدة لا تصلح للعمل فيه. والتقدير: وعدكم الله وعدا حقا.
وانتصب {حَقّاً} على المفعولية المطلقة المؤكدة لمضمون جملة: {وَعْدَ اللَّهِ} باعتبار الفعل المحذوف. ويسمى في اصطلاح النحاة مؤكدا لغيره، أي مؤكدا لأحد معنيين تحتملهما الجملة المؤكدة.
وجملة: {إِنَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ} واقعة موقع الدليل على وقوع البعث وإمكانه بأنه قد ابتدأ خلق الناس، وابتداء خلقهم يدل على إمكان إعادة خلقهم بعد العدم، وثبوت إمكانه يدفع تكذيب المشركين به، فكان إمكانه دليلا لقوله: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً} , وكان الاستدلال

على إمكانه حاصلا من تقديم التذكير ببدء خلق السماوات والأرض كقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 17].
وموقع (إن) تأكيد الخبر نظرا لإنكارهم البعث، فحصل التأكيد من قوله: {ثُمَّ يُعِيدُهُ} أما كونه بدأ الخلق فلا ينكرونه.
وقرأ الجمهور: {إِنَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ} بكسر همزة (إِنَّهُ). وقرأه أبو جعفر بفتح الهمزة على تقدير لام التعليل محذوفة، أي حق وعده بالبعث لأنه يبدأ الخلق ثم يعيده فلا تعجزه الإعادة بعد الخلق الأول، أو المصدر مفعول مطلق منصوب بما نصب به {وَعْدَ اللَّهِ} أي وعد الله وعدا بدء الخلق ثم إعادته فيكون بدلا من {وَعْدَ اللَّهِ} بدلا مطابقا أو عطف بيان.
ويجوز أن يكون المصدر المنسبك من (أن) وما بعدها مرفوعا بالفعل المقدر الذي انتصب: (حقا) بإضماره. فالتقدير: حق حقا أنه يبدأ الخلق، أي حق بدؤه الخلق ثم إعادته.
والتعليل بقوله: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا} الخ إبداء لحكمة البعث وهي الجزاء على الأعمال المقترفة في الحياة الدنيا، إذ لو أرسل الناس على أعمالهم بغير جزاء على الحسن والقبيح لاستوى المحسن والمسيء، وربما كان بعض المسيئين في هذه الدنيا أحسن فيها حالا من المحسنين. فكان من الحكمة أن يلقى كل عامل جزاء عمله. ولم يكن هذا العالم صالحا لإظهار ذلك لأنه وضع نظامه على قاعدة الكون والفساد، قابلا لوقوع ما يخالف الحق ولصرف الخيرات عن الصالحين وانهيالها على المفسدين والعكس لأسباب وآثار هي أوفق بالحياة المقررة في هذا العالم، فكانت الحكمة قاضية بوجود عالم آخر متمحض للكون والبقاء وموضوعا فيه كل صنف فيما يليق به لا يعدوه إلى غيره إذ لا قبل فيه لتصرفات وتسببات تخالف الحق والاستحقاق. وقدم جزاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات لشرفه ولياقته بذلك العالم، ولأنهم قد سلكوا في عالم الحياة الدنيا ما خلق الله الناس لأجلهم ولم يتصرفوا فيه بتغليب الفساد على الصلاح.
والباء في {بِالْقِسْطِ} صالحة لإفادة معنى التعدية لفعل الجزاء ومعنى العوض. والقسط: العدل. وهو التسوية بين شيئين في صفة والجزاء بما يساوي المجزي عليه. وتقدم في قوله: {قَائِماً بِالْقِسْطِ} في أول آل عمران[18]. فتفيد الباء أنهم يجزون بما يعادل أعمالهم الصالحة فيكون جزاؤهم صلاحا هنالك وهو غاية النعيم، وأن ذلك الجزاء

مكافأة على قسطهم في أعمالهم في عدلهم فيها بأن عملوا ما يساوي الصلاح المقصود من نظام هذا العالم.
والإجمال هنا بين معنيي الباء مفيد لتعظيم شأن جزاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات مع الإشارة إلى أنه جزاء مماثل لصلاح أعمالهم.
وإنما خص بذلك جزاء المؤمنين مع أن الجزاء كله عدل، بل ربما كانت الزيادة في ثواب المؤمنين فضلا زائدا على العدل لأمرين: أحدهما تأنيس المؤمنين وإكرامهم بأن جزاءهم قد استحقوه بما عملوا، كقوله: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32]. ومن أعظم الكرم أن يوهم الكريم أن ما تفضل به على المكرم هو حقه وأن لا فضل له فيه.
الأمر الثاني: الإشارة إلى أن جزاء الكافرين دون ما يقتضيه العدل، ففيه تفضل بضرب من التخفيف لأنهم لو جوزوا على قدر جرمهم لكان عذابهم أشد، ولأجل هذا خولف الأسلوب في ذكر جزاء الذين كفروا فجاء صريحا بما يعم أحوال العذاب بقوله: {لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأنعام: 70]. وخص الشراب من الحميم بالذكر من بين أنواع العذاب الأليم لأنه أكره أنواع العذاب في مألوف النفوس.
وشراب الحميم تقدم في قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} في سورة الأنعام[70]. والباء في قوله:
وشراب الحميم تقدم في قوله تعالى: {بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} للعوض.
وجملة: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا} إلى آخرها استئناف بياني لأنه لما ورد ذكر جزاء المؤمنين على أنه العلة لرجوع الجميع إليه ولم يذكر في العلة ما هو جزاء الجميع لا جرم يتشوف السامع إلى معرفة جزاء الكافرين فجاء الاستئناف للإعلام بذلك.
ونكتة تغيير الأسلوب حيث لم يعطف جزاء الكافرين على جزاء المؤمنين فيقال: ويجزى الذين كفروا بعذاب الخ كما في قوله: {ليُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ} [الكهف: 2] هو الإشارة إلى الاهتمام بجزاء المؤمنين الصالحين وأنه الذي يبادر بالإعلام به وأن جزاء الكافرين جدير بالإعراض عن ذكره لولا سؤال السامعين.
[5] {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ

وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}.
هذا استئناف ابتدائي أيضا، فضمير (هو) عائد إلى اسم الجلالة في قوله: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ} [يونس: 3]. وهذا استدلال آخر على انفراده تعالى بالتصرف في المخلوقات، وهذا لون آخر من الاستدلال على الإلهية ممزوج بالامتنان على المحجوجين به لأن الدليل السابق كان متضمنا لعظيم أمر الخلق وسعة العلم والقدرة بذكر أشياء ليس للمخاطبين حظ في التمتع بها. وهذا الدليل قد تضمن أشياء يأخذ المخاطبون بحظ عظيم من التمتع بها وهو خلق الشمس والقمر على صورتهما وتقدير تنقلاتهما تقديرا مضبوطا ألهم الله البشر للانتفاع به في شؤون كثير من شؤون حياتهم.
فجعل الشمس ضياء لانتفاع الناس بضيائها في مشاهدة ما تهمهم مشاهدته بما به قوام أعمال حياتهم في أوقات أشغالهم. وجعل القمر نورا للانتفاع بنوره انتفاعا مناسبا للحاجة التي قد تعرض إلى طلب رؤية الأشياء في وقت الظلمة وهو الليل. ولذلك جعل نوره أضعف لينفع به بقدر ضرورة المنتفع، فمن لم يضطر إلى الانتفاع به لا يشعر بنوره ولا يصرفه ذلك عن سكونه الذي جعل ظلام الليل لحصوله، ولو جعلت الشمس دائمة الظهور للناس لاستووا في استدامة الانتفاع بضيائها فيشغلهم ذلك عن السكون الذي يستجدون به ما فتر من قواهم العصبية التي بها نشاطهم وكمال حياتهم.
والضياء: النور الساطع القوي، لأنه يضيء للرائي. وهو اسم مشتق من الضوء، وهو النور الذي يوضح الأشياء، فالضياء أقوى من الضوء. وياء: (ضياء) منقلبة عن الواو لوقوع الواو إثر كسرة الضاد فقلبت ياء للتخفيف.
والنور: الشعاع، وهو مشتق من اسم النار، وهو أعم من الضياء، يصدق على الشعاع الضعيف والشعاع القوي، فضياء الشمس نور ونور القمر ليس بضياء. هذا هو الأصل في إطلاق هذه الأسماء، ولكن يكثر في كلام العرب إطلاق بعض هذه الكلمات في موضع بعض آخر بحيث يعسر انضباطه. ولما جعل النور في مقابلة الضياء تعين أن المراد به نور ما.
وقوله: {ضِيَاءً} و {نُوراً} حالان مشيران إلى الحكمة والنعمة في خلقهما. والتقدير: جعل الأشياء على مقدار عند صنعها.
والضمير المنصوب في (قدره) إما عائد إلى النور فتكون المنازل بمعنى المراتب,

وهي مراتب نور القمر في القوة والضعف التابعة لما يظهر للناس نيرا من كرة القمر، كما في قوله تعالى: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس: 39]. أي حتى نقص نوره ليلة بعد ليلة فعاد كالعرجون البالي. ويكون {مَنَازِلَ} في موضع الحال من الضمير المنصوب في {قَدَّرَهُ} فهو ظرف مستقر، أي تقديرا على حسب المنازل، فالنور في كل منزلة له قدر غير قدره الذي في منزلة أخرى. وإما عائد إلى: (القمر) على تقدير مضاف، أي وقدر سيره، فتكون {مَنَازِلَ} منصوبا على الظرفية.
والمنازل: جمع منزل، وهو مكان النزول. والمراد بها هنا المواقع التي يظهر القمر في جهتها كل ليلة من الشهر. وهي ثمان وعشرون منزلة على عدد ليالي الشهر القمري. وإطلاق اسم المنازل عليها مجاز بالمشابهة وإنما هي سموت يلوح للناس القمر كل ليلة في سمت منها، كأنه ينزل بها. وقد رصدها البشر فوجدوها لا تختلف.
وعلم المهتدون منهم أنها ما وجدت على ذلك النظام إلا بصنع الخالق الحكيم.
وهذه المنازل أمارتها أنجم مجتمعة على شكل لا يختلف، فوضع العلماء السابقون لها أسماء. وهذه أسماؤها في العربية على ترتيبها في الطلوع عند الفجر في فصول السنة. والعرب يبتدئون ذكرها بالشرَطَان وهكذا، وذلك باعتبار حلول القمر كل ليلة في سمت منزلة من هذه المنازل، فأول ليلة من ليالي الهلال للشرطان وهكذا. وهذه أسماؤها مرتبة على حسب تقسيمها على فصول السنة الشمسية. وهي العَوَّاء، السِّمَاك الاعْزل، الغَفْر، الزُّبَاني، الاكليل، القَلْب، الشَّوْلَة، النَعَائم، البَلْدَة، سَعْد الذَّابِح، سَعْد بَلَع، سَعْد السُّعود، سَعْد الأخْبِيَة، الفَرْغ الأعلى، الفَرْغ الأسفل، الحُوت، الشَّرَطَانِ، البُطَيْن، الثُّرَيَا، الدَّبَران، الهَقْعَة، الهَنْعَة، ذِرَاع الأسَد، النَّشْرَة، الطَّرْف، الجَبْهَة، الزُّبْرَة، الصَّرْفَة.
وهذه المنازل منقسمة على البروج الاثني عشر التي تحل فيها الشمس في فصول السنة، فلكل برج من الاثني عشر برجا منزلتان وثلث، وهذا ضابط لمعرفة نجومها ولا علاقة له باعتبارها منازل للقمر.
وقد أنبأنا الله بعلة تقديره القمر منازل بأنها معرفة الناس عدد السنين والحساب، أي عدد السنين بحصول كل سنة باجتماع اثني عشر.
والحساب: مصدر حسب بمعنى عد. وهو معطوف على {عَدَدَ} ، أي ولتعلموا الحساب. وتعريفه للعهد، أي والحساب المعروف. والمراد به حساب الأيام والأشهر لأن

حساب السنين قد ذكر بخصوصه. ولما اقتصر في هذه الآية على معرفة عدد السنين تعين أن المراد بالحساب حساب القمر، لأن السنة الشرعية قمرية، ولأن ضمير {قَدَّرَهُ} عائد على {الْقَمَرَ} وإن كان للشمس حساب آخر وهو حساب الفصول. وقد تقدم في قوله تعالى: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً} [الأنعام: 96].
فمن معرفة الليالي تعرف الأشهر، ومن معرفة الأشهر تعرف السنة. وفي ذلك رفق بالناس في ضبط أمورهم وأسفارهم ومعاملات أموالهم وهو أصل الحضارة. وفي هذه الآية إشارة إلى أن معرفة ضبط التاريخ نعمة أنعم الله بها على البشر.
وجملة: {مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ} مستأنفة كالنتيجة للجملة السابقة كلها لأنه لما أخبر بأنه الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وذكر حكمة بعض ذلك أفضى إلى الغرض من ذكره وهو التنبيه إلى ما فيها من الحكمة ليستدل بذلك على أن خالقهما فاعل مختار حكيم ليستفيق المشركون من غفلتهم عن تلك الحكم، كما قال تعالى في هذه السورة
[7] {وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ} .
والباء للملابسة. و(الحق) هنا مقابل للباطل. فهو بمعنى الحكمة والفائدة، لأن الباطل من إطلاقاته أن يطلق على العبث وانتفاء الحكمة فكذلك الحق يطلق على مقابل ذلك. وفي هذا رد على المشركين الذين لم يهتدوا لما في ذلك من الحكمة الدالة على الوحدانية وأن الخالق لها ليس إلهتهم. قال تعالى: { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [ص: 27]. وقال: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الدخان: 38-39].
ولذلك أعقب هذا التنبيه بجملة {نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} ، فهذه الجملة مستأنفة ابتدائية مسوقة للامتنان بالنعمة، ولتسجيل المؤاخذة على الذين لم يهتدوا بهذه الدلائل إلى ما تحتوي عليه من البيان. ويجوز أن تكون الجملة في موضع الحال من اسم الجلالة في قوله: {مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ} . فعلى قراءة نفصل بالنون وهي لنافع والجمهور ورواية عن ابن كثير ففي ضمير صاحب الحال التفات، وعلى قراءة {يُفَصِّلُ } بالتحتية وهي لابن كثير في المشهور عنه وأبي عمرو وابن عامر ويعقوب أمرها ظاهر.
والتفصيل: التبيين، لأن التبيين يأتي على فصول الشيء كلها. وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} في سورة الأنعام [55].
والإتيان بالفعل المضارع لإفادة التكرار.

وجعل التفصيل لأجل قوم يعلمون، أي الذين من شأنهم العلم لما يؤذن به المضارع من تجدد العلم، وإنما يتجدد لمن هو ديدنه ودأبه، فإن العلماء أهل العقول الراجحة هم أهل الانتفاع بالأدلة والبراهين.
وذكر لفظ (قوم) إيماء إلى أنهم رسخ فيهم وصف العلم، فكان من مقومات قوميتهم كما تقدم في قوله: {لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} في سورة البقرة [164]. وفي هذا تعريض بأن الذين لم ينتفعوا بتفصيل الآيات ليسوا من الذين يعلمون ولا ممن رسخ فيهم العلم.
[6] {إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ}
استدلال آخر على انفراد الله تعالى بالخلق والتقدير. وهو استدلال بأحوال الضوء والظلمة وتعاقب الليل والنهار وفي ذلك عبرة عظيمة. وهو بما فيه من عطف قوله: {وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أعم من الدليل الأول لشموله ما هو أكثر من خلق الشمس والقمر ومن خلق الليل والنهار ومن كل ما في الأرض والسماء مما تبلغ إليه معرفة الناس في مختلف العصور وعلى تفاوت مقادير الاستدلال من عقولهم.
وتأكيد هذا الاستدلال بحرف {إِنَّ} لأجل تنزيل المخاطبين به الذين لم يهتدوا بتلك الدلائل إلى التوحيد منزلة من ينكر أن في ذلك آيات على الوحدانية بعدم جريهم على موجب العلم.
وتقدم القول في شبيهة هذه الآية وهو قوله {ِإِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ} الآية في سورة البقرة [164] وفي خواتم سورة آل عمران.
وشمل قوله: {وَمَا خَلَقَ اللَّهُ} الأجسام والأحوال كلها.
وجعلت الآيات هنا لقوم يتقون وفي آية البقرة [164] {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} وفي آية آل عمران [190] {لِأُولِي الْأَلْبَابِ} لأن السياق هنا تعريض بالمشركين الذين لم يهتدوا بالآيات ليعلموا أن بعدهم عن التقوى هو سبب حرمانهم من الانتفاع بالآيات، وأن نفعها حاصل للذين يتقون، أي يحذرون الضلال. فالمتقون هم المتصفون باتقاء ما يوقع في الخسران فيبعثهم على تطلب أسباب النجاح فيتوجه الفكر إلى النظر والاستدلال بالدلائل.

وقد مر تعليل ذلك عند قوله تعالى: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} في أول البقرة [2] على أنه قد سبق قوله في الآية قبلها: {نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [يونس: 5]، وأما آية البقرة وآية آل عمران فهما واردتان في سياق شامل للناس على السواء. وذكر لفظ (قوم) تقدم في الآية قبل هذه.
[7, 8] {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}
هذا استئناف وعيد للذين لم يؤمنوا بالبعث ولا فكروا في الحياة الآخرة ولم ينظروا في الآيات نشأ عن الاستدلال على ما كفروا به من ذلك جمعا بين الاستدلال المناسب لأهل العقول وبين الوعيد المناسب للمعرضين عن الحق إشارة إلى أن هؤلاء لا تنفعهم الأدلة وإنما ينتفع بها الذين يعلمون ويتقون وأما هؤلاء فهم سادرون في غلوائهم حتى يلاقوا العذاب. وإذ قد تقرر الرجوع إليه للجزاء تأتى الوعيد لمنكري البعث الذين لا يرجون لقاء ربهم والمصير إليه.
ولوقوع هذه الجملة موقع الوعيد الصالح لأن يعلمه الناس كلهم مؤمنهم وكافرهم عدل فيها عن طريقة الخطاب بالضمير إلى طريقة الإظهار، وجيء بالموصولية للإيماء إلى أن الصلة علة في حصول الخبر.
وقد جُعل عنوان الذين لا يرجون لقاءنا علامة عليهم فقد تكرر وقوعه في القرآن. ومن المواقع ما لا يستقيم فيه اعتبار الموصولية إلا للاشتهار بالصلة كما سنذكر عند قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا} في هذه السورة [15].
والرجاء: ظن وقوع الشيء من غير تقييد كون المظنون محبوبا وإن كان ذلك كثيرا في كلامهم لكنه ليس بمتعين. فمعنى {لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} لا يظنونه ولا يتوقعونه.
ومعنى {رَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أنهم لم يعملوا النظر في حياة أخرى أرقى وأبقى لأن الرضا بالحياة الدنيا والاقتناع بأنها كافية يصرف النظر عن أدلة الحياة الآخرة، وأهل الهدى يرون الحياة الدنيا حياة ناقصة فيشعرون بتطلب حياة تكون أصفى من أكدارها فلا يلبثون أن تطلع لهم أدلة وجودها، وناهيك بإخبار الصادق بها ونصب الأدلة على تعين حصولها، فلهذا جعل الرضي بالحياة الدنيا مذمة وملقيا في مهواة الخسران.

وفي الآية إشارة إلى أن البهجة بالحياة الدنيا والرضي بها يكون مقدار التوغل فيهما بمقدار ما يصرف عن الاستعداد إلى الحياة الآخرة. وليس ذلك بمقتض الإعراض عن الحياة الدنيا فإن الله أنعم على عباده بنعم كثيرة فيها وجب الاعتراف بفضله بها وشكره عليها والتعرف بها إلى مراتب أعلى هي مراتب حياة أخرى والتزود لها. وفي ذلك مقامات ودرجات بمقدار ما تهيأت له النفوس العالية من لذات الكمالات الروحية، وأعلاها مقام قول النبيء صلى الله عليه وسلم: "فقلت ما لي وللدنيا" .
والاطمئنان: السكون يكون في الجسد وفي النفس وهو الأكثر، قال تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} . وقد تقدم تصريف هذا الفعل عند قوله تعالى: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} في سورة البقرة [260].
ومعنى {اطْمَأَنُّوا بِهَا} سكنت أنفسهم وصرفوا هممهم في تحصيل منافعها ولم يسعوا لتحصيل ما ينفع في الحياة الآخرة، لأن السكون عند الشيء يقتضي عدم التحرك لغيره. وعن قتادة: إذا شئت رأيت هذا الموصوف صاحب دنيا، لها يرضى، ولها يغضب، ولها يفرح، ولها يهتم ويحزن.
والذين هم غافلون هم عين الذين لا يرجون اللقاء، ولكن أعيد الموصول للاهتمام بالصلة والإيماء إلى أنها وحدها كافية في استحقاق ما سيذكر بعدها من الخبر. وإنما لم يعد الموصول في قوله: {وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا} لأن الرضى بالحياة الدنيا من تكملة معنى الصلة التي في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا}.
والمراد بالغفلة: إهمال النظر في الآيات أصلا، بقرينة المقام والسياق وبما تومئ إليه الصلة بالجملة الاسمية {هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ} الدالة على الدوام، وبتقديم المجرور في قوله عن: {آيَاتِنَا غَافِلُونَ} من كون غفلتهم غفلة عن آيات الله خاصة دون غيرها من الأشياء فليسوا من أهل الغفلة عنها مما يدل مجموعه على أن غفلتهم عن آيات الله دأب لهم وسجية، وأنهم يعتمدونها فتؤول إلى معنى الإعراض عن آيات الله وإباء النظر فيها عنادا ومكابرة. وليس المراد من تعرض له الغفلة عن بعض الآيات في بعض الأوقات.
وأعقب ذلك باسم الإشارة لزيادة إحضار صفاتهم في أذهان السامعين، ولما يؤذن به مجيء اسم الإشارة مبتدأ عقب أوصاف من التنبيه على أن المشار إليه جدير بالخبر من أجل تلك الأوصاف كقوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} في سورة البقرة [5].

والمأوى: اسم مكان الإيواء، أي الرجوع إلى مصيرهم ومرجعهم.
والباء للسببية. والإتيان ب(ما) الموصولة في قوله: {بِمَا كَسَبُوا} للإيماء إلى علة الحكم، أي أن مكسوبهم سبب في مصيرهم إلى النار، فأفاد تأكيد السببية المفادة بالباء.
والإتيان ب(كان) للدلالة على أن هذا المكسوب ديدنهم.
والإتيان بالمضارع للدلالة على التكرير، فيكون ديدنهم تكرير ذلك الذي كسبوه.
[9, 10] {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
جاءت هذه الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا لتكون أحوال المؤمنين مستقلة بالذكر غير تابعة في اللفظ لأحوال الكافرين، وهذا من طرق الاهتمام بالخبر. ومناسبة ذكرها مقابلة أحوال الذين يكذبون بلقاء الله بأضدادها تنويها بأهلها وإغاضة للكافرين.
وتعريف المسند إليه بالموصولية هنا دون اللام للإيماء بالموصول إلى علة بناء الخبر وهي أن إيمانهم وعملهم هو سبب حصول مضمون الخبر لهم.
والهداية: الإرشاد على المقصد النافع والدلالة عليه. فمعنى {يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ} يرشدهم إلى ما فيه خيرهم. والمقصود الإرشاد التكويني، أي يخلق في نفوسهم المعرفة بالأعمال النافعة وتسهيل الإكثار منها. وأما الإرشاد الذي هو الدلالة بالقول والتعليم فالله يخاطب به المؤمنين والكافرين.
والباء في {بِإِيمَانِهِمْ} للسببية، بحيث إن الإيمان يكون سببا في مضمون الخبر وهو الهداية فتكون الباء لتأكيد السببية المستفادة من التعريف بالموصولية نظير قوله: {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} إلى {بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يونس: 7, 8] في تكوين هدايتهم إلى الخيرات بجعل الله تعالى، بأن يجعل الله للإيمان نورا يوضع في عقل المؤمن ولذلك النور أشعة نورانية تتصل بين نفس المؤمن وبين عوالم القدس فتكون سببا مغناطيسيا لانفعال النفس بالتوجه إلى الخير والكمال لا يزال يزداد يوما فيوما، ولذلك يقترب من الإدراك الصحيح المحفوظ من الضلال بمقدار مراتب الإيمان والعمل الصالح. وفي الحديث: "قد يكون

في الأمم محدثون فإن يك في أمتي أحد فعمر بن الخطاب(1)" . قال ابن وهب: تفسير محدثون ملهمون الصواب، وفي الحديث: "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله" 2. ولأجل هذا النور كان أصحاب النبيء صلى الله عليه وسلم أكمل الناس إيمانا لأنهم لما تلقوا الإيمان عن النبيء صلى الله عليه وسلم كانت أنواره السارية في نفوسهم أقوى وأوسع.
وفي العدول عن اسم الجلالة العلم إلى وصف الربوبية مضافا إلى ضمير {الَّذِينَ آمَنُوا} تنويه بشأن المؤمنين وشأن هدايتهم بأنها جعل مولى لأولياته فشأنها أن تكون عطية كاملة مشوبة برحمة وكرامة.
والإتيان بالمضارع للدلالة على أن هذه الهداية لا تزال متكررة متجددة.
وفي هذه الجملة ذكر تهيؤ نفوسهم في الدنيا لعروج مراتب الكمال.
وجملة: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} خبر ثان لذكر ما يحصل لهم من النعيم في الآخرة بسبب هدايتهم الحاصلة لهم في الدنيا. وتقدم القول في نظير {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ} في سورة البقرة [25]. والمراد من تحت منازلهم. والجنات تقدم. والنعيم تقدم في قوله تعالى: {لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ} في سورة براءة [21].
وجملة: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} وما عطف عليها أحوال من ضمير {الَّذِينَ آمَنُوا} .
والدعوى: هنا الدعاء. يقال: دعوة بإلهاء، ودعوى بألف التأنيث.
وسبحان: مصدر بمعنى التسبيح، أي التنزيه. وقد تقدم عند قوله تعالى: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا} في سورة البقرة [32].
{اللَّهُمَّ} نداء لله تعالى، فيكون إطلاق الدعاء على هذا التسبيح من أجل أنه أريد به خطاب الله لإنشاء تنزيهه، فالدعاء فيه بالمعنى اللغوي. ويجوز أن تكون تسمية هذا التسبيح دعاء من حيث إنه ثناء مسوق للتعرض إلى إفاضة الرحمات والنعيم، كما قال أمية بن أبي الصلت:
إذا أثنى عليك المرء يوما ... كفاه عن تعرضه الثناء
ـــــــ
(1) أخرجه الشيخان والترمذي. واللفظ له.
(2) رواه الترمذي في "جامعه".

واعلم أن الاقتصار على كون دعواهم فيها كلمة {سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} يشعر بأنهم لا دعوى لهم في الجنة غير ذلك القول، لأن الاقتصار في مقام البيان يشعر بالقصر، (وإن لم يكن هو من طرق القصر لكنه يستفاد من المقام) ولكن قوله: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} يفيد أن هذا التحميد من دعواهم، فتحصل من ذلك أن لهم دعوى وخاتمة دعوى.
ووجه ذكر هذا في عدد أحوالهم أنها تدل على أن ما هم فيه من النعيم هو غايات الراغبين بحيث إن أرادوا أن ينعموا بمقام دعاء ربهم الذي هو مقام القرب لم يجدوا أنفسهم مشتاقين لشيء يسألونه فاعتاضوا عن السؤال بالثناء على ربهم فألهموا إلى التزام التسبيح لأنه أدل لفظ على التمجيد والتنزيه، فهو جامع للعبارة عن الكمالات.
والتحية: اسم جنس لما يفاتح به عند اللقاء من كلمات التكرمة. وأصلها مشتقة من مصدر حياه إذا قال له عند اللقاء أحياك الله. ثم غلبت في كل لفظ يقال عند اللقاء، كما غلب لفظ السلام، فيشمل: نحو حياك الله، وعم صباحا، وعم مساء وصبحك الله بخير، وبت بخير. وتقدم الكلام عليها عند قوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا} في سورة النساء [86].
ولهذا أخبر عن تحيتهم بأنها سلام، أي لفظ سلام، إخبارا عن الجنس بفرد من أفراده، أي جعل الله لهم لفظ السلام تحية لهم.
والظاهر أن التحية بينهم هي كلمة (سلام)، وأنها محكية هنا بلفظها دون لفظ السلام عليكم أو سلام عليكم، لأنه لو أريد ذلك لقيل وتحيتهم فيها السلام بالتعريف ليتبادر من التعريف أنه السلام المعروف في الإسلام، وهو كلمة السلام عليكم. وكذلك سلام الله عليهم بهذا اللفظ قال تعالى: {سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 58] وأما قوله: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ} [الرعد: 23, 24] فهو تلطف معهم بتحيتهم التي جاءهم بها الإسلام.
ونكتة حذف كلمة (عليكم) في سلام أهل الجنة بعضهم على بعض أن التحية بينهم مجرد إيناس وتكرمة فكانت أشبه بالخير والشكر منها بالدعاء والتأمين كأنهم يغتبطون بالسلامة الكاملة التي هم فيها في الجنة فتنطلق ألسنتهم عند اللقاء معبرة عما في ضمائرهم، بخلاف تحية أهل الدنيا فإنها تقع كثيرا بين المتلاقين الذين لا يعرف بعضهم بعضا فكانت فيها بقية من المعنى الذي أحدث البشر لأجله السلام، وهو معنى تأمين

الملاقي من الشر المتوقع من بين كثير من المتناكرين. ولذلك كان اللفظ الشائع هو لفظ السلام الذي هو الأمان، فكان من المناسب التصريح بأن الأمان على المخاطب تحقيقا لمعنى تسكين روعه، وذلك شأن قديم أن الذي يضمر شرا لملاقيه لا يفاتحه بالسلام، ولذلك جعل السلام شعار المسلمين عند اللقاء تعميما للأمن بين الأمة الذي هو من آثار الاخوة الإسلامية. وكذلك شأن القرى في الحضارة القديمة فإن الطارق إذا كان طارق شر أو حرب يمتنع عن قبول القرى، كما حكى الله تعالى عن إبراهيم: {فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} [هود: 70].
وفيه تنويه بشأن هذا اللفظ الذي هو شعار المسلمين عند ملاقاتهم لما فيه من المعاني الجامعة للإكرام، إذ هو دعاء بالسلامة من كل ما يكدر، فهو أبلغ من أحياك الله لأنه دعاء بالحياة وقد لا تكون طيبة، والسلام يجمع الحياة والصفاء من الأكدار العارضة فيها.
وإضافة التحية إلى ضمير (هم) معناها التحية التي تصدر منهم، أي من بعضهم لبعض.
ووجه ذكر تحيتهم في هذه الآية الإشارة إلى أنهم في أنس وحبور، وذلك من أعظم لذات النفس.
وجملة: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ} بقية الجمل الحالية. وجعل حمد الله من دعائهم كما اقتضته {أن} التفسيرية المفسرة به: {آخِرُ دَعْوَاهُمْ} لأن في دعواهم معنى القول إذ جعل آخر أقوال.
ومعنى: {آخِرُ دَعْوَاهُمْ} أنهم يختمون به دعاءهم فهم يكررون {سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} فإذا أرادوا الانتقال إلى حالة أخرى من أحوال النعيم نهوا دعاءهم بجملة {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
وسياق الكلام وترتيبه مشعر بأنهم يدعون مجتمعين، ولذلك قرن ذكر دعائهم بذكر تحيتهم، فلعلهم إذا تراءوا ابتدروا إلى الدعاء بالتسبيح فإذا اقترب بعضهم من بعض سلم بعضهم على بعض. ثم إذا راموا الافتراق ختموا دعاءهم بالحمد، فأن تفسيرية لآخر دعواهم، وهي مؤذنة بأن آخر الدعاء هو نفس الكلمة {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
وقد دل على فضل هاتين الكلمتين قول النبيء صلى الله عليه وسلم: "كلمتان حبيبتان إلى الرحمان

خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم".
[11] {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}
مجيء حرف العطف في صدر هذه الآية يقتضي في علم البلاغة خصوصية لعطفها على ما قبلها ومزيد اتصالها بما قبلها فتعين إيضاح مناسبة موقعها. والظاهر أن المشركين كانوا من غرورهم يحسبون تصرفات الله كتصرفات الناس من الاندفاع إلى الانتقام عند الغضب اندفاعا سريعا، ويحسبون الرسل مبعوثين لإظهار الخوارق ونكاية المعارضين لهم، ويسوون بينهم وبين المشعوذين والمتحدين بالبطولة والعجائب، فكانوا لما كذبوا النبيء صلى الله عليه وسلم وركبوا رؤوسهم ولم تصبهم بأثر ذلك مصائب من عذاب شامل أو موتان عام ازدادوا غرورا بباطلهم وإحالة لكون الرسول صلى الله عليه وسلم مرسلا من قبل الله تعالى. وقد دلت آيات كثيرة من القرآن على هذا كقوله: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32] وقوله: {يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} [الحج: 47] وقوله: {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ} [الذاريات: 59] وقد بينا ذلك في سورة الأنعام وفي سورة الأنفال.
وكان المؤمنون ربما تمنوا نزول العذاب بالمشركين واستبطأوا مجيء النصر للنبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه كما جاء في الحديث: أن المسلمين قالوا: إلا تستنصر. وربما عجب بعضهم من أن يرزق الله المشركين وهم يكفرون به. فلما جاءت آيات هذه السورة بقوارع التهديد للمشركين أعقبت بما يزيل شبهاتهم ويطمئن نفوس المؤمنين بما يجمعه قوله: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} .
وهو إجمال ينبئ بأن الله جعل نظام هذا العالم على الرفق بالمخلوقات واستبقاء الأنواع إلى آجال أرادها، وجعل لهذا البقاء وسائل الإمداد بالنعم التي بها دوام الحياة، فالخيرات المفاضة على المخلوقات في هذا العالم كثيرة، والشرور العارضة نادرة ومعظمها مسبب عن أسباب مجعولة في نظام الكون وتصرفات أهله، ومنها ما يأتي على خلاف العادة عند محل آجاله التي قدرها الله تعالى بقوله: {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} [يونس: 49] وقوله: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} [الرعد: 38].

فهذه الجملة معطوفة على جملة: {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} [يونس: 7] الآية، فحيث ذكر عذابهم الذي هم أيلون إليه ناسب أن يبين لهم سبب تأخير العذاب عنهم في الدنيا لتكشف شبهة غرورهم وليعلم الذين آمنوا حكمة من حكم تصرف الله في هذا الكون. والقرينة على اتصال هذه الجملة بجملة {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} [يونس: 7] قوله في آخر هذه {فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} .
فبينت هذه الآية أن الرفق جعله الله مستعمرا على عباده غير منقطع عنهم لأنه أقام عليه نظام العالم إذ أراد ثبات بنائه، وأنه لم يقدر توازي الشر في هذا العالم بالخير لطفا منه ورفقا، فالله لطيف بعباده، وفي ذلك منة عظيمة عليهم، وأن الذين يستحقون الشر لو عجل لهم ما استحقوه لبطل النظام الذي وضع عليه العالم.
والناس: اسم عام لجميع الناس، ولكن لما كان الكلام على إبطال شبهة المشركين وكانوا المستحقين للشر كانوا أول من يتبادر من عموم الناس، كما زاده تصريحا قوله: {فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} .
وقد جاء نظم الآية على إيجاز محكم بديع، فذكر في جانب الشر {يُعَجِّلُ} الدال على أصل جنس التعجيل ولو بأقل ما يتحقق فيه معناه، وعبر عن تعجيل الله الخير لهم بلفظ {اسْتِعْجَالَهُمْ} الدال على المبالغة في التعجيل بما تفيده زيادة السين والتاء لغير الطلب إذ لا يظهر الطلب هنا، وهو نحو قولهم: استأخر واستقدم واستجلب واستقام واستبان واستجاب واستمتع واستكبر واستخفى وقوله تعالى: {وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ} [نوح: 7]. ومعناه: تعجلهم الخير، كما حمله عليه في "الكشاف" للإشارة إلى أن تعجيل الخير من لدنه.
فليس الاستعجال هنا بمعنى طلب التعجيل لأن المشركين لم يسألوا تعجيل الخير ولا سألوه فحصل، بل هو بمعنى التعجل الكثير، كما في قول سلمى بن ربيعة:
وإذا العذارى بالدخان تقنعت ... واستعجلت نصب القدور فملت
(أي تعجلت) ، وهو في هذا الاستعمال مثله في الاستعمال الآخر يتعدى إلى مفعول، كما في البيت وكما في الحديث: "فاستعجل الموت" .
وانتصب {اسْتِعْجَالَهُمْ} على المفعولية المطلقة المفيدة للتشبيه، والعامل فيه {يُعَجِّلُ} .

والمعنى: ولو يعجل الله للناس الشر كما يجعل لهم الخير كثيرا، فقوله: {اسْتِعْجَالَهُمْ} مصدر مضاف إلى مفعوله لا إلى فاعله، وفاعل الاستعجال هو الله تعالى كما دل عليه قوله: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ} .
والباء في قوله: {بِالْخَيْرِ} لتأكيد اللصوق، كالتي في قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة: 6]. وأصله: استعجالهم الخير، فدلت المبالغة بالسين والتاء وتأكيد اللصوق على الامتنان بأن الخير لهم كثير ومكين. وقد كثر اقتران مفعول فعل الاستعجال بهذه الباء ولم ينبهوا عليه في مواقعه المتعددة. وسيجيء في النحل.
وقد جعل جواب (لو) قوله: {لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} ، وشأن جواب (لو) أن يكون في حيز الامتناع، أي وذلك ممتنع لأن الله قدر لآجال انقراضهم ميقاتا معينا {مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} [الحجر: 5].
والقضاء: التقدير.
والأجل: المدة المعينة لبقاء قوم. والمعنى: لقضي إليهم حلول أجلهم. ولما ضمن: (قضي) معنى بلغ ووصل عدي ب(إلى). فهذا وجه تفسير الآية وسر نظمها ولا يلتفت إلى غيره في فهمها. وهذا المعنى مثل معنى: {قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ كم} في سورة الأنعام [58].
وجملة: {فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} الخ مفرعة على جملة: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ} إلى آخرها.
وقرأ الجمهور {لَقُضِيَ} بالبناء للنائب ورفع {أَجَلُهُمْ} على أنه نائب الفاعل. وقرأه ابن عامر ويعقوب بفتح القاف والضاد ونصب {أَجَلُهُمْ} على أن في (قضى) ضميرا عائدا إلى اسم الجلالة في قوله: { وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ} الخ.
وجملة: {فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} مفرعة على جملة (لو) وجوابها المفيدة انتفاء أن يعجل الله للناس الشر بانتفاء لازمه وهو بلوغ أجلهم إليهم، أي فإذا انتفى التعجيل فنحن نذر الذين لا يرجون لقاءنا يعمهون، أي نتركهم في مدة تأخير العذاب عنهم متلبسين بطغيانهم، أي فرط تكبرهم وتعاظمهم.
والعمة: عدم البصر. وإنما لم ينصب الفعل بعد الفاء لأن النصب يكون في جواب النفي المحض، وأما النفي المستفاد من (لو) فحاصل بالتضمن، ولان شأن جواب النفي

أن يكون مسببا على المنفي لا على النفي، والتفريع هنا على مستفاد من النفي. وأما المنفي فهو تعجيل الشر فهو لا يسبب أن يترك الكافرين يعمهون، وبذلك تعرف أن قوله: {فَنَذَرُ} ليس معطوفا على كلام مقدر وإنما التقدير تقدير معنى لا تقدير إعراب، أي فنترك المنكرين للبعث في ضلالهم استدراجا لهم.
وقوله: {فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} تقدم نظيره في قوله: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} في سورة البقرة [15]. والطغيان: الكفر.
والإتيان بالموصولية في تعريف الكافرين للدلالة على أن الطغيان أشده إنكارهم البعث، ولأنه صار كالعلامة عليهم كما تقدم آنفا.
[12] {وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
عطف على جملة: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ} [يونس: 11] الآية، لأن الغرض الأهم من كلتيهما هو الاعتبار بذميم أحوال المشركين تفظيعا لحالهم وتحذيرا من الوقوع في أمثالها بقرينة تنهية هذه الآية بجملة {كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . فلما بين في الآية السابقة وجه تأخير عذاب الاستئصال عنهم وإرجاء جزائهم إلى الآخرة بين في هذه الآية حالهم عندما يمسهم شيء من الضر وعندما يكشف الضر عنهم.
فالإنسان مراد به الجنس، والتعريف باللام يفيد الاستغراق العرفي، أي الإنسان الكافر، لأن جمهور الناس حينئذ كافرون، إذ كان المسلمون قبل الهجرة لا يعدون بضعة وسبعين رجلا مع نسائهم وأبنائهم الذين هم تبع لهم. وبهذا الاعتبار يكون المنظور إليهم في هذا الحكم هم الكافرون، كما في قوله تعالى: {وَيَقُولُ الْأِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً} [مريم: 66] وقوله:- {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ} [الانفطار: 6, 7]. ويأخذ المسلمون من هذا الحكم ما يناسب مقدار ما في آحادهم من بقايا هذه الحال الجاهلية فيفيق كل من غفلته.
وعدل عن الإتيان بالضمير الراجع إلى (الناس) من قوله: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ} لأن في ذكر لفظ الإنسان إيماء إلى التذكير بنعمة الله عليهم إذ جعلهم، من أشرف الأنواع الموجودة على الأرض. ومن المفسرين من جعل اللام في الإنسان للعهد وجعل المراد به أبا حذيفة بن المغيرة المخزومي، واسمه مهشم، وكان مشركا،

وكان أصابه مرض. والضر تقدم في قوله: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ} في سورة الأنعام [17].
والدعاء: هنا الطلب والسؤال بتضرع.
واللام في قوله: {لِجَنْبِهِ} بمعنى (على) كقوله تعالى: {يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ} [الإسراء: 109] وقوله: {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات: 103]. ألا ترى أنه جاء في موضع اللام حرف (على) في قوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} [النساء: 103] وقوله: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 190]. ونحوه قول جابر بن جني التغلبي:
تناوله بالرمح ثم انثنى به ... فخر صريعا لليدين وللفم
أي على اليدين وعلى الفم، وهو متولد من معنى الاختصاص الذي هو أعم معاني اللام، لأن الاختصاص بالشيء يقع بكيفيات كثيرة منها استعلاؤه عليه.
وإنما سلك هنا حرف الاختصاص للإشارة إلى أن الجنب مختص بالدعاء عند الضر ومتصل به فبالأولى غيره. وهذا الاستعمال منظور إليه في بيت جابر والآيتين الأخريين كما يظهر بالتأمل، فهذا وجه الفرق بين الاستعمالين.
وموضع المجرور في موضع الحال، ولذلك عطف {أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً} بالنصب. وإنما جعل الجنب مجرورا باللام ولم ينصب فيقال مثلا مضطجعا أو قاعدا أو قائما لتمثيل التمكن من حالة الراحة بذكر شق من جسده لأن ذلك أظهر في تمكنه، كما كان ذكر الإعطاء في الآيتين الأخريين وبيت جابر أظهر في تمثيل الحالة بحيث جمع فيها بين ذكر الأعضاء وذكر الأفعال الدالة على أصل المعنى للدلالة على أنه يدعو الله في أندر الأحوال ملابسة للدعاء، وهي حالة تطلب الراحة وملازمة السكون. ولذلك ابتدئ بذكر الجنب، وأما زيادة قوله: {أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً} فلقصد تعميم الأحوال وتكميلها، لأن المقام مقام الإطناب لزيادة تمثيل الأحوال، أي دعانا في سائر الأحوال لا يلهيه عن دعائنا شيء.
والجنب: واحد الجنوب. وتقدم في قوله: {فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ} في سورة براءة [35].
والقعود: الجلوس.
والقيام: الانتصاب. وتقدم في قوله: {وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} في سورة البقرة [20].

"إذا" وهنا لمجرد الظرفية وتوقيت جوابها بشرطها، وليست للاستقبال كما هو غالب أحوالها لأن المقصود هنا حكاية حال المشركين في دعائهم الله عند الاضطرار وإعراضهم عنه إلى عبادة إلهتهم عند الرخاء، بقرينة قوله: {كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} إذ جعلها حالا للمسرفين. وإذ عبر عن عملهم بلفظ {كَانُوا} الدال على أنه عملهم في ماضي أزمانهم، ولذلك جيء في شرطها وجوابها وما عطف عليهما بأفعال المضي لأن كون ذلك حالهم فيما مضى أدخل في تسجيله عليهم مما لو فرض ذلك من حالهم في المستقبل إذ لعل فيهم من يتعظ بهذه الآية فيقطع عن عمله هذا أو يساق إلى النظر في الحقيقة.
ولهذا فرع عليه جملة: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ} لأن هذا التفريع هو المقصود من الكلام إذ الحالة الأولى وهي المفرع عليها حالة محمودة لولا ما يعقبها.
والكشف: حقيقته إظهار شيء عليه ساتر أو غطاء. وشاع إطلاقه على مطلق الإزالة. إما على طريقة المجاز المرسل بعلاقة الإطلاق، وإما على طريقة الاستعارة بتشبيه المزال بشيء ساتر لشيء.
والمرور: هنا مجازي بمعنى استبدال حالة بغيرها. شبه الاستبدال بالانتقال من مكان إلى آخر لأن الانتقال استبدال، أي انتقل إلى حال كحال من لم يسبق له دعاؤنا، أي نسي حالة اضطراره واحتياجه إلينا فصار كأنه لم يقع في ذلك الاحتياج.
و"كأن" مخففة كأن، واسمها ضمير الشأن حذف على ما هو الغالب. وعدي الدعاء بحرف "إلى" في قوله: {إِلَى ضُرٍّ} دون اللام كما هو الغالب في نحو قوله:
دعوت لما نابني مسورا
على طريقة الاستعارة التبعية بتشبيه الضر بالعدو المفاجئ الذي يدعو إلى من فاجأه ناصرا إلى دفعه.
وجعل "إلى" بمعنى اللام بعد عن بلاغة هذا النظم وخلط للاعتبارات البلاغية.
وجملة: {كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} تذييل يعم ما تقدم وغيره، أي هكذا التزيين الشيطاني زين لهم ما كانوا يعملون من أعمالهم في ماضي أزمانهم في الدعاء وغيره من ضلالاتهم.
وتقدم القول في معنى وموقع "كذلك" في أمثال هذه الآية عند قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ

جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} في سورة البقرة [143] وقوله: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} في سورة الأنعام [108]، فالإشارة إلى التزيين المستفاد هنا وهو تزيين إعراضهم عن دعاء الله في حالة الرخاء، أي مثل هذا التزيين العجيب زين لكل مسرف عمله.
والإسراف: الإفراط والإكثار في شيء غير محمود. فالمراد بالمسرفين هنا الكافرون. واختير لفظ: {الْمُسْرِفِينَ } لدلالته على مبالغتهم في كفرهم، فالتعريف في المسرفين للاستغراق ليشمل المتحدث عنهم وغيرهم.
وأسند فعل التزيين إلى المجهول لأن المسلمين يعلمون أن المزين للمسرفين خواطرهم الشيطانية، فقد أسند فعل التزيين إلى الشيطان غير مرة، أو لأن معرفة المزين لهم غير مهمة هاهنا وإنما المهم الاعتبار والاتعاظ باستحسانهم أعمالهم الذميمة استحسانا شنيطا.
والمعنى أن شأن الأعمال الذميمة القبيحة إذا تكررت من أصحابها أن تصير لهم دربة تحسن عندهم قبائحها فلا يكادون يشعرون بقبحها فكيف يقلعون عنها كما قيل:
يقضى على المرء في أيام محنته ... حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن
[13] {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ}
عاد الخطاب إلى المشركين عودا على بدئه في قوله: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ} إلى قوله: {لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [يونس: 3-5] بمناسبة التماثل بينهم وبين الأمم قبلهم في الغرور بتأخير العذاب عنهم حتى حل بهم الهلاك فجأة. وهذه الآية تهديد وموعظة بما حل بأمثالهم.
والجملة معطوفة على جملة: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ} [يونس: 11] بما تضمنته من الإنذار بأن الشر قد ينزل بهم ولكن عذاب الله غير معجل، فضرب لهم مثلا بما نزل بالأمم من قبلهم فقضى إليهم بالعذاب أجلهم وقد كانوا يعرفون أمما منهم أصابهم الاستئصال مثل عاد وثمود وقوم نوح.
ولتوكيد التهديد والوعيد أكدت الجملة بلام القسم وقد التي للتحقيق.
والإهلاك: الاستئصال والإفناء.

والقرون: جمع قرن وأصله مدة طويلة من الزمان، والمراد به هنا أهل القرون. وتقدم بيانه عند قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ} في سورة الأنعام [6].
وقوله: {مِنْ قَبْلِكُمْ} حال من القرون.
و {لَمَّا} اسم زمان بمعنى حين على التحقيق، وتضاف إلى الجملة.
والعرب أكثروا في كلامهم تقديم "لما" في صدر جملتها فأشمت بذلك التقديم رائحة الشرطية فأشبهت الشروط لأنها تضاف إلى جملة فتشبه جملة الشرط، ولأن عاملها فعل مضي فبذلك اقتضت جملتين فأشبهت حروف الشرط.
والمعنى: أهلكناهم حينما ظلموا، أي أشركوا وجاءتهم رسلهم بالبينات مثل هود وصالح ولم يؤمنوا.
وجملة: {وَجَاءَتْهُمْ} معطوفة على جملة: {ظَلَمُوا} .
والبينات: جمع بينة، وهي الحجة على الصدق، وقد تقدم عند قوله تعالى: {فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} في سورة الأنعام [157].
وجملة: {وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا} معطوفة عليها. ومجموع الجمل الثلاث هو ما وقت به الإهلاك: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً} .
وعبر عن انتفاء إيمانهم بصيغة لام الجحود مبالغة في انتفائه إشارة إلى اليأس من إيمانهم.
وجملة: {كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} تذييل. والتعريف في {الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} للاستغراق فلذلك عم القرون الماضية وعم المخاطبين، وبذلك كان إنذارا لقريش بأن ينالهم ما نال أولئك. والمراد بالإجرام أقصاه، وهو الشرك.
والقول في: {كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} كالقول في نظيره آنفا. وكذلك ذكر لفظ: {القوم} فهو كما في نظيره في هذه السورة وفي البقرة.
[14] {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}
عطف على {أَهْلَكْنَا} وحرف "ثم" مؤذن ببعد ما بين الزمنين، أي ثم

جعلناكم تخلفونهم في الأرض. وكون حرف "ثم" هنا عاطفا جملة على جملة تقتضي التراخي الرتبي لأن جعلهم خلائف أهم من إهلاك القرون قبلهم لما فيه من المنة عليهم، ولأنه عوضهم بهم.
والخلائف: جمع خليفة. وتقدم في قوله: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ} في سورة الأنعام [165]. والمراد ب {الْأَرْضِ} بلاد العرب، فالتعريف فيه للعهد لأن المخاطبين خلفوا عادا وثمودا وطسما وجديسا وجرهما في منازلهم على الجملة.
والنظر: مستعمل في العلم المحقق، لأن النظر أقوى طرق المعرفة، فمعنى {لِنَنْظُرَ} لنعلم، أي لنعلم علما متعلقا بأعمالكم. فالمراد بالعلم تعلقه التنجيزي.
و {كَيْفَ} اسم استفهام معلق لفعل العلم عن العمل، وهو منصوب ب {نَنْظُرَ} ، والمعنى في مثله: لنعلم جواب كيف تعملون، قال إياس بن قبيصة:
وأقبلت والخطى يخطر بيننا ... لأعلم من جبانها من شجاعها
أي "لا أعلم" جواب من "جبانها" .
وإنما جعل استخلافهم في الأرض علة لعلم الله بأعمالهم كناية عن ظهور أعمالهم في الواقع إن كانت مما يرضي الله أو مما لا يرضيه فإذا ظهرت أعمالهم علمها الله علم الأشياء النافعة وإن كان يعلم أن ذلك سيقع علما أزليا، كما أن بيت إياس بن قصيبة معناه ليظهر الجبان من الشجاع. وليس المقصود بتعليل الإقدام حصول علمه بالجبان والشجاع ولكنه كنى بذلك عن ظهور الجبان والشجاع. وقد تقدم نظير هذا في قوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} في سورة آل عمران [140].
[15] {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}
عطف على جملة: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ} [يونس: 11] الخ لأن ذلك ناشئ عن قولهم: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32] كما تقدم فذلك أسلوب من أساليب التكذيب. ثم حكي في هذه الآية أسلوب آخر من أساليب تكذيبهم النبيء صلى الله عليه وسلم أن يكون القرآن موحى إليه من الله تعالى

فهم يتوهمون أن القرآن وضعه النبيء صلى الله عليه وسلم من تلقاء نفسه، ولذلك جعلوا من تكذيبهم أن يقولوا له: {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} إطماعا له بأن يؤمنوا به مغايرا أو مبدلا إذا وافق هواهم.
ومعنى: {غَيْرِ هَذَا} مخالفه. والمراد المخالفة للقرآن كله بالإعراض عنه وابتداء كتاب آخر بأساليب أخرى، كمثل كتب قصص الفرس وملاحمهم إذ لا يحتمل كلامهم غير ذلك، إذ ليس مرادهم أن يأتي بسور أخرى غير التي نزلت من قبل لأن ذلك حاصل، ولا غرض لهم فيه إذا كان معناها من نوع ما سبقها.
ووصف الآيات ب {بَيِّنَاتٍ} لزيادة التعجيب من طلبهم تبديلها لا بطلب تبديله إذ لا طمع في خير منه.
والتبديل: التغيير. وقد يكون في الذوات، كما تقول: بدلت الدنانير دراهم. ويكون في الاوصاف، كما تقول: بدلت الحلقة خاتما. فلما ذكر الإتيان بغيره من قبل تعين أن المراد بالتبديل المعنى الآخر وهو تبديل الوصف، فكان المراد بالغير في قولهم: {غَيْرِ هَذَا} كلاما غير الذي جاء به من قبل لا يكون فيه ما يكرهونه ويغيظهم. والمراد بالتبديل أن يعمد إلى القرآن الموجود فيغير الآيات المشتملة على عبارات ذم الشرك بمدحه، وعبارات ذم أصنامهم بالثناء عليها، وعبارات البعث والنشر بضدها، وعبارات الوعيد لهم بعبارات بشارة.
وسموا ما طلبوا الإتيان به قرآنا لأنه عوض عن المسمى بالقرآن، فإن القرآن علم على الكتاب الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم أي ائت بغير هذا مما تسميه قرآنا.
والضمير في {بَدِّلْهُ} عائد إلى اسم الإشارة، أي أو بدل هذا.
وأجمل المراد بالتبديل في الآية لأنه معلوم عند السامعين.
ثم إن قولهم يحتمل أن يكون جدا ويحتمل أن يريدوا به الاستهزاء، وعلى الاحتمالين فقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يجيبهم بما يقلع شبهتهم من نفوسهم إن كانوا جادين، أو من نفوس من يسمعونهم من دهمائهم فيحسبوا كلامهم جدا فيترقبوا تبديل القرآن.
وضمير الغيبة في قوله: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ} راجع إلى الناس المراد منهم المشركون أو راجع إلى: {الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} .
وتقديم الظرف في قوله: {إِذَا تُتْلَى} على عامله وهو {قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا}

للاهتمام بذكر ذلك الوقت الذي تتلى فيه الآيات عليهم فيقولون فيه هذا القول تعجيبا من كلامهم ووهن أحلامهم.
ولكون العامل في الظرف فعلا ماضيا علم أن قولهم هذا واقع في الزمن الماضي، فكانت إضافة الظرف المتعلق به إلى جملة فعلها مضارع وهو {تُتْلَى} دالة على أن ذلك المضارع لم يرد به الحال أو الاستقبال إذ لا يتصور أن يكون الماضي واقعا في الحال أو الاستقبال فتعين أن اجتلاب الفعل المضارع لمجرد الدلالة على التكرر والتجدد، أي ذلك قولهم كلما تتلى عليهم الآيات.
وما صدق {الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} هو ما صدق الضمير في قوله: "عليهم"، فكان المقام للإضمار، فما كان الإظهار بالموصولية إلا لأن الذين لا يرجون لقاء الله اشتهر به المشركون فصارت هذه الصلة كالعلم عليهم. كما أشرنا إليه عند قوله آنفا: {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس: 7]، وليس بين الصلة وبين الخبر هنا علاقة تعليل فلا يكون الموصول للإيماء إلى وجه بناء الخبر.
ولما كان لاقتراحهم معنى صريح، وهو الإتيان بقرآن آخر أو تبديل آيات القرآن الموجود، ومعنى التزامي كنائي، وهو أنه غير منزل من عند الله وان الذي جاء به غير مرسل من الله، كان الجواب عن قولهم جوابين، أحدهما: ما لقنه الله بقوله: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} وهو جواب عن صريح اقتراحهم، وثانيهما: ما لقنه بقوله: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ} [يونس: 16] وهو جواب عن لازم كلامهم.
وعن مجاهد تسمية أناس ممن قال هذه المقالة وهم خمسة: عبد الله بن أمية، والوليد بن المغيرة، ومكرز بن حفص، وعمرو بن عبد الله بن أبي قيس، والعاص ابن عامر، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ائت بقرآن ليس فيه ترك عبادة الأصنام واللات والعزى ومناة وهبل، وليس فيه عيبها.
وقد جاء الجواب عن اقتراحهم كلاما جامعا قضاء لحق الإيجاز البديع، وتعويلا على أن السؤال يبين المراد من الجواب، فأحسوا بامتناع تبديل القرآن من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم. وهذا جواب كاف، لأن التبديل يشمل الإتيان بغيره وتبديل بعض تراكيبه. على أنه إذا كان التبديل الذي هو تغيير كلمات منه وأغراض ممتنعا كان إبطال جميعه والإتيان بغيره أجدر بالامتناع.

وقد جاء الجواب بأبلغ صيغ النفي وهو {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ} أي ما يكون التبديل ملكا بيدي.
و {تِلْقَاءِ} صيغة مصدر على وزن التفعال. وقياس وزن التفعال الشائع هو فتح التاء وقد شذ عن ذلك تلقاء، وتبيان، وتمثال، بمعنى اللقاء والبيان والمثول فجاءت بكسر التاء لا رابع لها، ثم أطلق التلقاء على جهة التلاقي ثم أطلق على الجهة والمكان مطلقا كقوله تعالى: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ} [القصص: 22]. فمعنى {مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} من جهة نفسي. وهذا المجرور في موضع الحال المؤكدة لجملة {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ} وهي المسماة مؤكدة لغيرها إذ التبديل لا يكون إلا من فعل المبدل فليست تلك الحال للتقييد إذ لا يجوز فرض أن يبدل من تلقاء الله تعالى التبديل الذي يرومونه، فالمعنى أنه مبلغ لا متصرف.
وجملة: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} تعليل لجملة { مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ} ، أي ما أتبع إلا الوحي وليس لي تصرف بتغيير. و {مَا} مصدرية. واتباع الوحي: تبليغ الحاصل به، وهو الموصى به.
والإتباع مجاز في عدم التصرف، بجامع مشابهة ذلك للإتباع الذي هو عدم تجاوز الاقتفاء في المشي.
واقتضت "إن" النافية وأداة الاستثناء قصر تعلق الاتباع على ما أوحى الله وهو قصر إضافي، أي لا أبلغ إلا ما أوحي إلي دون أن يكون المتبع شيئا مخترعا حتى أتصرف فيه بالتغيير والتبديل، وقرينة كونه إضافيا وقوعه جوابا لرد اقتراحهم.
فمن رام أن يحتج بهذا القصر على عدم جواز الاجتهاد للنبي صلى الله عليه وسلم فقد خرج بالكلام عن مهيعه.
وجملة: {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي} الخ في موضع التعليل لجملة {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} ولذلك فصلت عنها. واقترنت بحرف "إن" للاهتمام، و"إنّ" تؤذن بالتعليل.
وقوله: {إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي} ، أي عصيته بالإتيان بقرآن آخر وتبديله من تلقاء نفسي.
ودل سياق الكلام على أن الإتيان بقرآن آخر غير هذا بمعنى إبطال هذا القرآن وتعويضه بغيره، وأن تبديله بمعنى تغيير معاني وحقائق ما اشتمل عليه ممتنع.
ولذلك لم يلقن الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول هنا: إلا ما شاء الله، أو نحو ذلك.
[16] {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ

عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} .
هذا جواب عن لازم اقتراحهم وكنايته عن رميهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالكذب عن الله فيما ادعى من إرساله وإنزال القرآن عليه كما تقدم في الجواب قبله. ولكونه جوابا مستقلا عن معنى قصدوه من كلامهم جاء الأمر به مفصولا عن الأول غير معطوف عليه تنبيها على استقلاله وأنه ليس بتكملة للجواب الأول.
وفي هذا الجواب استدلال على أنه مرسل من الله تعالى، وأنه لم يختلق القرآن من عنده بدليل التفت في مطاويه أدلة، وقد نظم فيه الدليل بانتفاء نقيض المطلوب على إثبات المطلوب إذ قوله: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ} تقديره لو شاء الله أن لا أتلوه عليكم ما تلوته، فإن فعل المشيئة يكثر حذف مفعوله في جملة الشرط لدلالة الجزاء عليه، وإنما بني الاستدلال على عدم مشيئة الله نفي تلاوته لأن ذلك مدعى الكفار لزعمهم أنه ليس من عند الله، فكان الاستدلال إبطالا لدعواهم ابتداء وإثباتا لدعواه مالا. وهذا الجمع بين الأمرين من بديع الاستدلال، أي لو شاء الله أن لا آتيكم بهذا القرآن لما أرسلني به ولبقيت على الحالة التي كنت عليها من أول عمري.
والدليل الثاني مطوي هو مقتضى جواب "لو"، فأن جواب "لو" يقتضي استدراكا مطردا في المعنى بأن يثبت نقيض الجواب، فقد يستغني عن ذكره وقد يذكر، كقول أبي بن سلمى بن ربيعة:
فلو طار ذو حافر قبلها ... لطارت ولكنه لم يطر
فتقديره هنا: لو شاء الله ما تلوته لكنني تلوته عليكم. وتلاوته هي دليل الرسالة لأن تلاوته تتضمن إعجازه علميا إذ جاء به من لم يكن من أهل العلم والحكمة، وبلاغيا إذ جاء كلاما أعجز أهل اللغة كلهم مع تضافرهم في بلاغتهم وتفاوت مراتبهم، وليس من شأن أحد من الخلق أن يكون فائقا على جميعهم ولا من شأن كلامه أن لا يستطيع مثله أحد منهم.
ولذلك فرعت على الاستدلال جملة: {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} تذكيرا لهم بقديم حاله المعروفة بينهم وهي حال الامية، أي قد كنت بين ظهرانيكم مدة طويلة، وهي أربعون سنة، تشاهدون أطوار نشأتي فلا ترون فيها حالة تشبه حالة العظمة والكمال المتناهي الذي صار إليه لما أوحى الله إليه بالرسالة، ولا بلاغة قول واشتهارا

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68