كتاب : التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور
المؤلف : محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي

الكلام يشبه نهيق الحمير فله حظ من النكارة.
و {أَنْكَرَ} : اسم تفضيل في كون الصوت منكورا، فهو تفضيل مشتق من الفعل المبني للمجهول ومثله سماعي وغير شاذ، ومنه قولهم في المثل "أشغل من ذات النحيين" أي أشد مشغولية من المرأة التي أريدت في هذا المثل.
وإنما جمع {الْحَمِيرِ} في نظم القرآن مع أن {صَوْتُ} مفردا ولم يقل الحمار لأن المعرف بلام الجنس يستوي مفرده وجمعه. ولذلك يقال: إن لام الجنس إذا دخلت على جمع أبطلت منه معنى الجمعية. وإنما أوثر لفظ الجمع لأن كلمة الحمير أسعد بالفواصل لأن من محاسن الفواصل والأسجاع أن تجري على أحكام القوافي، والقافية المؤسسة بالواو أو الياء لا يجوز أن يرد معها ألف تأسيس فإن الفواصل المتقدمة من قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} [لقمان: 12] هي: حميد، عظيم، المصير، خبير، الأمور، فخور، الحمير، وفواصل القرآن تعتمد كثيرا على الحركات والمدود والصيغ دون تماثل الحروف وبذلك تخالف قوافي القصائد. وهذا وفاء بما وعدت به عند الكلام على قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} من ذكر ما انتهي إليه تتبعي لما أثر من حكمة لقمان غير ما في هذه السورة وقد ذكر الألوسي في "تفسيره" منها ثمانيا وعشرين حكمة وهي:
قوله لابنه: أي بني إن الدنيا بحر عميق، وقد غرق فيها أناس كثير فاجعل سفينتك فيها تقوي الله تعالى، وحشوها الإيمان، وشراعها التوكل على الله تعالى لعلك أن تنجو ولا أراك ناجيا.
وقوله: من كان له من نفسه واعظ كان له من الله عز وجل حافظ، ومن أنصف الناس من نفسه زاده الله تعالى بذلك عزا، والذل في طاعة الله تعالى أقرب من التعزز بالمعصية.
وقوله: ضرب الوالد لولده كالسماد للزرع.
وقوله: يا بني إياك والدين فإنه دل النهار وهم الليل.
وقوله: يا بني ارج الله عز وجل رجاء لا يجريك على معصيته تعالى، وخف الله سبحانه خوفا لا يؤسك من رحمته تعالى شأنه.
وقوله: من كذب ذهب ماء وجهه، ومن ساء خلقه كثر غمه، ونقل الصخور من مواضعها أيسر من إفهام من لا يفهم.

وقوله: يا بني حملت الجندل والحديد وكل شيء ثقيل فلم أحمل شيئا هو أثقل من جار السوء، وذقت المرار فلم أذق شيئا هو أمر من الفقر.
يا بني لا ترسل رسوله جاهلا فإن لم تجد حكيما فكن رسول نفسك.
يا بني إياك والكذب فإنه شهي كالحم العصفور عما قليل يغلي صاحبه.
يا بني احضر الجنائز ولا تحضر العرس فإن الجنائز تذكرك الآخرة والعرس يشهيك الدنيا.
يا بني لا تأكل شبعا على شبع فإن إلقاءك إياه للكلب خير من أن تأكله.
يا بني لا تكن حلوا فتبلع ولا تكن مرا فتلفظ.
وقوله لابنه: لا يأكل طعامك إلا الأتقياء، وشاور في أمرك العلماء.
وقوله: لا خير لك في أن تتعلم ما لم تعلم ولما تعمل بما قد علمت فإن مثل ذلك مثل رجل احتطب حطبا فحمل حزمة وذهب يحملها فعجز عنها فضم إليها أخرى.
وقوله: يا بني إذا أردت أن تواخي رجلا فأغضبه قبل ذلك فإن أنصفك عند غضبه وإلا فاحذره.
وقوله: لتكن كلمتك طيبة، وليكن وجهك بسطا تكن أحب إلى الناس ممن يعطيهم العطاء.
وقوله: يا بني أنزل نفسك من صاحبك منزلة من لا حاجة له بك ولا بد لك منه.
يا بني كن كمن لا يبتغي محمدة الناس ولا يكسب ذمهم فنفسه منه في عناء والناس منه في راحة.
وقوله: يا بني امتنع بما يخرج من فيك فإنك ما سكت سالم، وإنما ينبغي لك من القول ما ينفعك.
وأنا أقفي عليها ما لم يذكره الآلوسي. فمن ذلك ما في "الموطأ" فيما جاء في طلب العلم من كتاب "الجامع" : مالك أنه بلغه أن لقمان الحكيم أوصى ابنه فقال: يا بني جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك فإن الله يحيي القلوب بنور العلم كما يحيي الأرض الميتة

بوابل السماء. وفيه فيما جاء في الصدق والكذب من كتاب "الجامع" أنه بلغه أنه قيل للقمان ما بلغ بك ما نرى يريدون الفضل فقال: صدق الحديث، وأداء الأمانة، وترك ما لا يعنيني.
وفي "جامع المستخرجة" للعتبي قال مالك: بلغني أن لقمان قال لابنه: يا بني ليكن أول ما تفيد من الدنيا بعد خليل صالح امرأة صالحة. وفي "أحكام القرآن" لابن العربي عن مالك: أن لقمان قال لابنه: يا بني إن الناس قد تطاول عليهم ما يوعدون وهم إلى الآخرة سراعا يذهبون، وإنك قد استدبرت الدنيا منذ كنت واستقبلت الآخرة، وإن دارا تسير إليها أقرب إليك من دار تخرج عنها. وقال: ليس غني كصحة، ولا نعمة كطيب نفس. وقال: يا بني لا تجالس الفجار ولا تماشهم اتق أن ينزل عليهم عذاب من السماء فيصيبك معهم، وقال: يا بني جالس العلماء وماشهم عسى أن تنزل عليهم رحمة فتصيبك معهم. وفي "الكشاف" : أنه قال لرجل ينظر إليه: إن كنت تراني غليظ الشفتين فإنه يخرج من بينهما كلام رقيق، وإن كنت تراني أسود فقلبي أبيض. وأن مولاه أمره بذبح شاة وأن يأتيه بأطيب مضغتين فأتاه باللسان والقلب، ثم أمره بذبح أخرى وأن ألق منها أخبث مضغتين، فألقى اللسان والقلب؛ فسأله عن ذلك، فقال: هما أطيب ما فيها إذا طابا وأخبت ما فيها إذا خبثا.
ودخل على داود وهو يسرد الدروع فأراد أن يسأله عماذا يصنع فأدركته الحكمة فسكت، فلما أتمها داود لبسها وقال: نعم لبوس الحرب أنت. فقال لقمان: الصمت حكمة وقليل فاعله. وفي "تفسير ابن عطية": قيل لقمان: أي الناس شر? فقال: الذي لا يبالي أن يراه الناس سيئا أو مسيئا.
وفي "تفسير القرطبي" : كان لقمان يفتي قبل مبعث داود فلما بعث داود قطع الفتوى. فقيل له. فقال: ألا أكتفي إذا كفيت. وفيه: إن الحاكم بأشد المنازل وكدرها يغشاه المظلوم من كل مكان إن يصب فبالحري أن ينجو وإن أخطأ أخطأ طريق الجنة. ومن يكن في الدنيا ذليلا خير من أن يكون شريفا. ومن يختر الدنيا على الآخرة تفته الدنيا ولا يصب الآخرة. وفي "تفسير البيضاوي" : أن داود سأل لقمان: كيف أصبحت? فقال: أصبحت في يدي غيري. وفي "درة التنزيل" المنسوب لفخر الدين الرازي: قال لقمان لابنه: إن الله رضيني لك فلم يوصني بك ولم يرضك لي فأوصاك بي. وفي "الشفاء" لعياض: قال لقمان لابنه: إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة وخرست الحكمة وقعدت الأعضاء عن العبادة.

وفي كتاب "آداب النكاح" لقاسم بن يأمون التليدي الأخماسي1: أن من وصية لقمان: يا بني إنما مثل المرأة الصالحة كمثل الدهن في الرأس يلين العروق ويحسن الشعر، ومثلها كمثل التاج على رأس الملك، ومثلها كمثل اللؤلؤ والجوهر لا يدري أحد ما قيمته. ومثل المرأة السوء كمثل السيل لا ينتهي حتى يبلغ منتهاه: إذا تكلمت أسمعت، وإذا مشت أسرعت، وإذا قعدت رفعت، وإذا غضبت أسمعت. وكل داء يبرأ إلا داء امرأة السوء.
يا بني لأن تساكن الأسد والأسود2 خير من أن تساكنها: تبكي وهي الظالمة، وتحكم وهي الجائرة، وتنطق وهي الجاهلة وهي أفعى بلدغها.
وفي "مجمع البيان" للطبرسي: يا بني سافر بسيفك وخفك وعمامتك وخبائك وسقائك وخيوطك ومخرزك، وتزود معك من الأدوية ما تنتفع به أنت ومن معك، وكن لأصحابك موافقا إلا في معصية الله عز وجل. يا بني إذا سافرت مع قوم فأكثر استشارتهم في أمرك وأمورهم، وأكثر التبسم في وجوههم وكن كريما على زادك بينهم، فإذا دعوك فأجبهم وإذا استعانوا بك فأعنهم، واستعمل طول الصمت وكثرة الصلاة، وسخاء النفس بما معك من دابة أو ماء أو زاد، وإذا استشهدوك على الحق فاشهد لهم، واجهد رأيك لهم إذا استشاروك، ثم لا تعزم حتى تثبت وتنظر، ولا تجب في مشورة حتى تقوم فيها وتقعد وتنام وتأكل وتصلي وأنت مستعمل فكرتك وحكمتك في مشورته، فإن من لم يمحض النصيحة من استشاره سلبه الله رأيه، وإذا رأيت أصحابك يمشون فامش معهم، فإذا رأيتهم يعملون فاعمل معهم، واسمع لمن هو أكبر منك سنا. وإذا أمروك بأمر وسألوك شيئا فقل نعم ولا تقل "لا" فإن "لا" عي ولؤم، وإذا تحيرتم في الطريق فأنزلوا، وإذا شككتم في القصد فقفوا وتآمروا، وإذا رأيتم شخصا واحدا فلا تسألوه عن طريقكم ولا تسترشدوه فإن الشخص الواحد في الفلاة مريب لعله يكون عين اللصوص أو يكون هو الشيطان الذي حيركم. واحذروا الشخصين أيضا إلا أن تروا ما لا أرى لأن العاقل إذا أبصر بعينه شيئا عرف الحق منه والشاهد يرى ما لا يرى الغائب.
يا بني إذا جاء وقت الصلاة فلا تؤخرها لشيء، صلها واسترح منها فإنها دين، وصل في جماعة ولو على رأس زج. وإذا أردتم النزول فعليكم من بقاع الأرض بأحسنها
ـــــــ
1 بالمكتبة الأحمدية عدد 2128 وطبع في فاس سنة 1317.
2 يريد ذَكَر الحيّات.

لونا وألينها تربة وأكثرها عشبا. وإذا نزلت فصل ركعتين قبل أن تجلس، وإذا أردت قضاء حاجتك فأبعد المذهب عن الأرض. وإذا ارتحلت فصل ركعتين ثم ودع الأرض التي حللت بها وسلم على أهلها فإن لكل بقعة أهلا من الملائكة، وإن استطعت أن لا تأكل طعاما حتى تبتدئ فتتصدق منه فافعل. وعليك بقراءة كتاب الله -لعله يعني الزبور- ما دمت راكبا، وعليك بالتسبيح ما دمت عاملا عملا، وعليك بالدعاء ما دمت خاليا. وإياك والسير في أول الليل إلى آخره. وإياك ورفع الصوت في مسيرك. فقد استتقصينا ما وجدنا من حكمة لقمان مما يقارب سبعين حكمة.
[20، 21] {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِير وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ}.
{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً}.
رجوع إلى تعداد دلائل الوحدانية وما صحب ذلك من منة على الخلق، فالكلام استئناف ابتدائي عن الكلام السابق ورجوع إلى ما سلف في أول السورة في قوله تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ} [لقمان: 10] فإنه بعد الاستدلال بخلق السماوات والأرض والحيوان والأمطار عاد هنا الاستدلال والامتنان بأن سخر لنا ما في السماوات وما في الأرض. وقد مضى الكلام على هذا التسخير في تفسير قوله تعالى: {اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} الآيات من سورة إبراهيم [32]، وكذلك في سورة النحل [3].
ومعنى {سَخَّرَ لَكُمْ} لأجلكم لأن من جملة ذلك التسخير ما هو منافع لنا من الأمطار والرياح ونور الشمس والقمر ومواقيت البروج والمنازل والاتجاه بها. والخطاب في {أَلَمْ تَرَوْا} يجوز أن يكون لجميع الناس مؤمنهم ومشركهم لأنه امتنان، ويجوز أن يكون لخصوص المشركين باعتبار أنه استدلال.
والاستفهام في {أَلَمْ تَرَوْا} تقرير أو إنكار لعدم الرؤية بتنزيلهم منزلة من لم يروا آثار ذلك التسخير لعدم انتفاعهم بها في إثبات الوحدانية. والرؤية بصرية. ورؤية التسخير رؤية آثاره ودلائله. ويجوز أن تكون الرؤية علمية كذلك، والخطاب للمشركين كما في قوله: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} .

وإسباغ النعم: إكثارها. وأصل الإسباغ: جعل ما يلبس سابغا، أي وافيا في الستر. ومنه قولهم: درع سابغة. ثم استعير للإكثار لأن الشيء السابغ كثير فيه ما يتخذ منه من سرد أو شقق أثواب، ثم شاع ذلك حتى ساوى الحقيقيى فقيل: سوابغ النعم.
والنعمة: المنفعة التي يقصد بها فاعلها الإحسان إلى غيره.
وقرأ نافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم وأبو جعفر {نِعَمَهُ} بصيغة جمع نعمة مضاف إلى ضمير الجلالة، وفي الإضافة إلى ضمير الله تنويه بهذه النعم. وقرأ الباقون {نِعَمَهُ} بصيغة المفرد، ولما كان المراد الجنس استوى فيه الواحد والجمع.
والتنكير فيها للتعظيم فاستوى القراءتان في إفادة التنويه بما أسبغ الله عليهم. وانتصب {ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} على الحال على قراءة نافع ومن معه، وعلى الصفة على قراءة البقية.
والظاهرة: الواضحة. والباطنة: الخفية وما لا يعلم إلا بدليل أو لا يعلم أصلا.
وأصل الباطنة المستقرة في باطن الشيء أي داخله، قال تعالى {بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ} [الحديد: 13] فكم في بدن الإنسان وأحواله من نعم يعلمها الناس أو لا يعلمها بعضهم، أو لا يعلمها إلا العلماء، أو لا يعلمها أهل عصر ثم تنكشف لمن بعدهم، وكلا النوعين أصناف دينية ودنيوية.
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِير}
الواو في قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ} واو الحال. والمعنى: قد رأيتم أن الله سخر لكم ما في السماوات وأنعم عليكم نعما ضافية في حال أن بعضكم يجادل في وحدانية الله ويتعامى عن دلائل وجدانيته. وجملة الحال هنا خبر مستعمل في التعجيب من حال هذا الفريق. ولك أن تجعل الواو اعتراضية والجملة معترضة بين جملة {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ} وبين جملة {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [لقمان: 25].
وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ} من الإظهار في مقام الإضمار كأنه قيل: ومنكم، و {مِنَ} تبعيضية. والمراد بهذا الفريق: هم المتصدون لمحاجة النبيء صلى الله عليه وسلم والتمويه على قومهم مثل النضر بن الحارث، وأمية بن خلف، وعبد الله بن الزبعري.

وشمل قوله: {بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} مراتب اكتساب العلم وهي إما: الاجتهاد والاكتساب، أو التلقي من العالم، أو مطالعة الكتب الصائبة. وتقدم تفسير نظير هذه الآية في سورة الحج [8].
وجملة {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} الخ عطف على صلة {مِنْ} ، أي من حالهم هذا وذاك، وتقدم نظير هذه الجملة في سورة البقرة [170].
والضمير المنصوب في قوله: {يَدْعُوهُمْ} عائد إلى الآباء، أي أيتبعون آباءهم ولو كان الشيطان يدعو الآباء إلى العذاب فهم يتبعونهم إلى العذاب ولا يهتدون. و {لَوْ} وصلية، والواو معه للحال.
والاستفهام تعجيبي من فظاعة ضلالهم وعماهم بحيث يتبعون من يدعوهم إلى النار، وهذا ذم لهم. وهو وزان قوله في آية البقرة [170]: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً} . والدعاء إلى عذاب السعير: الدعاء إلى أسبابه. والسعير تقدم في قوله تعالى: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً} في سورة الإسراء [97].
[22] {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}
هذا مقابل قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [لقمان: 20] إلى قوله: {يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [لقمان: 21]، فأولئك الذين اتبعوا ما وجدوا آباءهم عليه من الشرك على غير بصيرة فوقعوا في العذاب، وهؤلاء الذين لم يتمسكوا بدين آباءهم وأسلموا لله لما دعاهم إلى الإسلام فلم يصدهم عن اتباع الحق إلف ولا تقديس آباء، فأولئك تعلقوا بالأوهام واستمسكوا بها لإرضاء أهوائهم، وهؤلاء استمسكوا بالحق إرضاء للدليل وأولئك أرضوا الشيطان وهؤلاء اتبعوا رضى الله.
وإسلام الوجه إلى الله تمثيل لإفراده تعالى بالعبادة كأنه لا يقبل بوجهه على غير الله، وقد تقدم في قوله تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} في سورة البقرة [112]، وقوله: {فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ} في سورة آل عمران [20].
وتعدية فعل {يُسْلِمْ} بحرف {إِلَى} هنا دون اللام كما في آيتي سورة البقرة [112] وسورة آل عمران [20] عند الزمخشري مجاز في الفعل بتشبيه نفس الإنسان بالمتاع الذي

يدفعه صاحبه إلى آخر ويكله إليه. وحقيقته أن يعدى بالملام، أي وجهه وهو ذاته سالما لله، أي خالصا له كما في قوله تعالى: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ} في سورة آل عمران [20].
والإحسان: العمل الصالح والإخلاص في العبادة. وفي الحديث: "الإحسان أن تعبد الله كأنه تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك" . والمعنى: ومن يسلم إسلاما لا نفاق فيه ولا شك فقد أخذ بما يعتصم به من الهوي أو التزلزل.
وقوله: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} مصي الكلام على نظيره عند قوله تعالى: {يِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} في سورة البقرة [25]، وهو ثناء على المسلمين. وتذييل هذا بقوله: {وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} إيماء إلى وعدهم بلقاء الكرامة عند الله في آخر أمرهم وهو الحياة الآخرة.
والتعريف في {الْأُمُورِ} للاستغراق، وهو تعميم يراد به أن أمور المسلمين التي هي من مشمولات عموم الأمور صائرة إلى الله وموكولة إليه فجزاؤهم بالخير مناسب لعظمة الله.
والعاقبة: الحالة الخاتمة والنهاية. و {الْأُمُورِ} : جمع أمر وهو الشأن.
وتقديم {إِلَى اللَّهِ} للاهتمام والتنبيه إلى أن الراجع إليه يلاقي جزاءه وافيا.
[23] {وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} .
لما خلا ذم الذين كفروا عن الوعيد وانتقل منه إلى مدح المسلمين ووعدهم عطف عنان الكلام إلى تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم بتهوين كفرهم عليه تسلية له وتعريضا بقلة العبء بهم لأن مرجعهم إلى الله فيريهم الجزاء المناسب لكفرهم، فهو تعريض لهم بالوعيد.
وأسند النهي إلى كفرهم عن أن يكون محزنا للرسول صلى الله عليه وسلم مجازا عقليا في نهي الرسول عليه الصلاة والسلام عن مداومة الفكر بالحزن لأجل كفرهم لأنه إذا قلع ذلك من نفسه انتفى إحزان كفرهم إياه.
وقرأ نافع {يُحْزُنْكَ} -بضم التحتية وكسر الزاي- مضارع أحزنه إذا جعله حزينا. وقرأ البقية {يَحْزُنْكَ} -بفتح التحتية وضم الزاي- مضارع حزنه بذلك المعنى، وهما لغتان: الأولى لغة تميم، والثانية لغة قريش، والأولى أقيس وكلتاهما فصحى ولغة تميم من اللغات التي نزل بها القرآن وهي لغة عليا تميم وهم بنو دارم كما

تقدم في المقدمة السادسة. وزعم أبو زيد والزمخشري: أن المستفيض أحزن في الماضي ويحزن في المستقبل، يريدان الشائع على ألسنة الناس، والقراءة رواية وسنة. وتقدم في سورة يوسف [13] {إِنِّي لَيَحْزُنُنِي} وفي سورة الأنعام [33] {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} .
وجملة {إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} واقعة موقع التعليل للنهي، وهي أيضا تمهيد لوعد الرسول صلى الله عليه وسلم بأن الله يتولى الانتقام منهم المدلول عليه بقوله: {فَنُنَبِّئُهُمْ} مفرعا على جملة {إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} كناية عن المجازاة؛ استعمل الإنباء وأريد لازمه وهو الإظهار كما تقدم آنفا.
وجملة {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} تعليل لجملة {فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا} ، فموقع حرف {إِنَّ} هنا مغن عن فاء التسبب كما في قول بشار:
إن ذاك النجاح في التبكير
و {بِذَاتِ الصُّدُورِ} : هي النوايا وأعراض النفس من نحو الحقد وتدبير المكر والكفر. ومناسبته هنا أن كفر المشركين بعضه إعلان وبعضه إسرار قال تعالى {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الملك: 13]، وتقدم في قوله تعالى: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} في سورة الأنفال [43].
[24] {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ}
استئناف بياني لأن قوله: {إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا} [لقمان: 23] يثير في نفوس السامعين سؤالا عن عدم تعجيل الجزاء إليهم، فبين بأن الله يمهلهم زمنا ثم يوقعهم في عذاب لا يجدون منه منجي. وهذا الاستئناف وقع معترضا بين الجمل المتعاطفة.
والتمتيع: العطاء الموقت فهو إعطاء المتاع، أي الشيء القليل. و {قَلِيلاً} صفة لمصدر مفعول مطلق، أي تمتيعا قليلا، وقلته بالنسبة إلى ما أعد الله للمسلمين أو لقلة مدته في الدنيا بالنسبة إلى مدة الآخرة، وتقدم عند قوله: {وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} في الأعراف [24].
والاضطرار: الإلجاء، وهو جعل الغير ذا ضرورة، أي لزوم، وتقدم عند قوله تعالى: {ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ} في سورة البقرة [126].

والغليظ: من صفات الأجسام وهو القوي الخشن، وأطلق على الشديد من الأحوال على وجه الاستعارة بجامع الشدة على النفس وعدم الطاقة على احتماله. وتقدم قوله: {وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} في سورة هود [58] كما أطلق الكثير على القوي.
[25] {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ}.
عطف على جملة {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [لقمان: 21] باعتبار أن ما وجدوا عليه آباءهم هو الإشراك مع الله في الإلهية، وإن سألهم سائل: من خلق السماوات والأرض يقولوا خلقهن الله، وذلك تسخيف لعقولهم التي تجمع بين الإقرار لله بالخلق وبين اعتقاد إلهية غيره.
والمراد بالسماوات والأرض: ما يشمل ما فيها من المخلوقات ومن بين ذلك حجارة الأصنام، وتقدم نظيرها في سورة العنكبوت. وعبر هنا بـ {لا يَعْلَمُونَ} وفي سورة العنكبوت [63] بـ {لا يَعْقِلُونَ} تفننا في المخالفة بين القصتين مع اتحاد المعنى.
[26] {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} .
موقع هذه الجملة من التي قبلها موقع النتيجة من الدليل في قوله: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} فلذلك فصلت ولم تعطف لأنها بمنزلة بدل الاستمال من التي قبلها، كما تقدم آنفا في قوله: {يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان: فإنه لما تقرر إقرارهم لله بخلق السماوات والأرض لزمهم إنتاج أن ما في السماوات والأرض ملك لله ومن جملة ذلك أصنامهم. والتصريح بهذه النتيجة لقصد التهاون بهم في كفرهم بأن الله يملكهم ويملك ما في السماوات والأرض، فهو غني عن عبادتهم محمود من غيرهم.
وضمير {هُوَ} ضمير فصل مفاده اختصاص الغني والحمد بالله تعالى، وهو قصر قلب، أي ليس لآلهتهم المزعومة غني ولا تستحق حمدا. وتقدم الكلام على الغني الحميد عند قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} في أول السورة لقمان [12].
[27] {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.

تكرر فيما سبق من هذه السورة وصف الله تعالى بإحاطة العلم بجميع الأشياء ظاهرة وخفية فقال فيما حكى من وصية لقمان {إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ} إلى قوله: {لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 16] وقال بعد ذلك {فننبئهم بما عملوا إن الله عليم بذات الصدور} [لقمان: 23] فعقب ذلك بإثبات أن لعلم الله تعالى مظاهر يبلغ بعضها إلى من اصطفاه من رسله بالوحي مما تقتضي الحكمة إبلاغه، وأنه يستأثر بعلم ما اقتضت حكمته عدم إبلاغه، وأنه لو شاء أن يبلغ ما في علمه لما وفت به مخلوقاته الصالحة لتسجيل كلامه بالكناية فضلا على الوفاء بإبلاغ ذلك بواسطة القول. وقد سلك في هذا مسلك التقريب بصرب هذا المثل؛ وقد كان ما قص من أخبار الماضين موطئا لهذا فقد جرت قصة لقمان في هذه السورة كما جرت قصة أهل الكهف وذي القرنين في سورة الكهف [109] فعقبتا بقوله في آخر السورة {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} وهي مشابهة للآية التي في سورة لقمان. فهذا وجه اتصال هذه الآية بما قبلها من الآيات المتفرقة.
ولما في اتصال الآية بما قبلها من الخفاء أخذ أصحاب التأويل من السلف من أصحاب ابن عباس في بيان إيقاع هذه الآية في هذا الموقع. فقيل: سبب نزولها ما ذكره الطبري وابن عطية والواحدي عن سعيد بن جبير وعكرمة وعطاء بن يسار بروايات متقاربة: أن اليهود سألوا رسول الله أو أغروا قريشا بسؤاله لما سمعوا قول الله تعالى في شأنهم {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء: 85] فقالوا: كيف وأنت تتلو فيما جاءك أنا قد أوتينا التوراة وفيها تبيان كل شيء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن سألوه: هي في علم الله قليل، ثم أنزل الله {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ} الآيتين أو الآيات الثلاث.
وعن السدي قالت قريش: ما أكثر كلام محمد فنزلت {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ} الآية.
وعن قتادة قالت قريش: سيتم هذا الكلام لمحمد وينحسر - أي محمد صلى الله عليه وسلم فلا يقول بعده كلاما -. وفي رواية سنفد هذا الكلام. وهذه يرجع بعضها إلى أن هذه الآية نزلت بالمدينة فيلزم أن يكون وضعها في هذا الموضع في السورة بتوقيف نبوي للمناسبة التي ذكرناها آنفا، وبعضها يرجع إلى أنها مكية فيقتضي أن تكون نزلت في أثناء نزول سورة لقمان على أن توضع عقب الآيات التي نزلت قبلها.

و {كَلِمَاتُ} جمع كلمة بمعنى الكلام كما في قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون: 100] أي: الكلام المنبئ عن مراد الله من بعض مخلوقاته مما يخاطب به ملائكته وغيرهم من المخلوقات والعناصر المعدودة للتكون التي يقال لها: كن فتكون، ومن ذلك ما أنزله من الوحي إلى رسله وأنبيائه من أول أزمنة الأنبياء وما سينزله على رسوله صلى الله عليه وسلم، أي لو فرض إرادة الله أن يكتب كلامه كله صحفا ففرضت الأشجار كلها مقسمة أقلاما، وفرض أن يكون البحر مدادا فكتب بتلك الأقلام وذلك المداد لنفد البحر ونفدت الأقلام وما نفدت كلمات الله في نفس الأمر.
وأما قوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} [الأنعام: 115] فالتمام هنالك بمعنى التحقق والنفوذ، وتقدم قوله تعالى: {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} في سورة الأنفال [7]. وقد نظمت هذه الآية بإيجاز بديع إذ ابتدئت بحرف {لَوْ} فعلم أن مضمونها أمر مفروض، وأن لـ {لَوْ} استعمالات كما حققه في "مغنى اللبيب" عن عبارة سيبويه. وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} في سورة الأنفال [23].
و {مِنْ شَجَرَةٍ} بيان لـ {مَا} الموصولة وهو في معنى التمييز فحقه الإفراد، ولذلك لم يقل: من أشجار, والأقلام: جمع قلم وهو العود المشقوق ليرفع به المداد ويكتب به، أي لو تصير كل شجرة أقلاما بمقدار ما فيها من أغصان صالحة لذلك. والأقلام هو الجمع الشائع لقلم فيرد للكثرة والقلة.
و {يَمُدُّهُ} بفتح الياء التحتية وضم الميم، أي: يزيده مدادا. والمداد - بكسر الميم - الحبر الذي يكتب به. يقال: مد الدواة يمدها. فكان قوله: {يَمُدُّهُ} متضمنا فرض أن يكون البحر مدادا ثم يزاد فيه إذا نشف مداده سبعة أبحر، ولو قيل: يمده، بضم الميم من أمد لفات هذا الإيجاز.
والسبعة: تستعمل في الكناية عن كثرة كثيرا كقول النبيء صلى الله عليه وسلم "والكافر يأكل في سبعة أمعاء" فليس لهذا العدد مفهوم، أي والبحر يمده أبحر كثيرة.
ومعنى {مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} ما انتهت، أي فكيف تحسب اليهود ما في التوراة هو منتهى كلمات الله، أو كيف يحسب المشركون أن ما نزل من القرآن أوشك أن يكون انتهاء القرآن، فيكون المثل على هذا الوجه الآخر واردا مورد المبالغة في كثرة ما سينزل من القرآن إغاظة للمشركين، فتكون {كَلِمَاتُ اللَّهِ} هي القرآن لأن المشركين لا يعرفون كلمات الله التي لا يحاط بها.
وجملة {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} تذييل، فهو لعزته لا يغلبه الذين يزعمون عدم الحاجة

إلى القرآن ينتزرون انفحام الرسول صلى الله عليه وسلم وهو لحكمته لا تنحصر كلماته لأن الحكمة الحق لا نهاية لها.
وقرأ الجمهور برفع {وَالْبَحْرُ} على أن الجملة الاسمية في موضع الحال والواو واو الحال وهي حال من {مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ} ، أي تلك الأشجار كائنة في حال كون البحر مدادا لها، والواو يحصل بها من الربط والاكتفاء عن الضمير لدلالتها على المقارنة. وقرأ أبو عمرو ويعقوب {وَالْبَحْرُ} بالنصب عطفا على اسم "إن".
[28] {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}
استئناف بياني متعلق بقوله: {إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا} [لقمان: 23] لأنه كلما ذكر أمر البعث هجس في نفوس المشركين استحالة إعادة الأجسام بعد اضمحلالها فيكثر في القرآن تعقيب ذكر البعث بالإشارة إلى إمكانه وتقريبه. وكانوا أيضا يقولون: إن الله خلقنا أطوارا نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم لحما وعظما فكيف يبعثنا خلقا جديدا في ساعة واحدة وكيف يحيي جميع الأمم والأجيال التي تضمنته الأرض في القرون الكثيرة، وكان أبي بن خلف وأبو الأسد - أو أبو الأسدين - ونبيه، ومنبه، ابنا الحجاج من بني سهم, يقولون ذلك وربما أسر به بعضهم. وضميرا المخاطبين مراد بهما جميع الخلق فهما بمنزلة الجنس، أي ما خلق جميع الناس أول مرة ولا بعثهم، أي خلقهم ثاني مرة إلا كخلق نفس واحدة لأن خلق نفس واحدة هذا الخلق العجيب دال على تمام قدرة الخالق تعالى فإذا كان كامل القدرة استوى في جانب قدرته القليل والكثير والبدء والإعادة.
وفي قوله: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ} التفات من الغيبة إلى الخطاب لقصد مجابهتهم بالاستدلال المفحم.
وفي قوله: {كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} حذف مضاف دل عليه {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ} . والتقدير: إلا كخلق وبعث نفس واحدة. وذلك إيجاز كقول النابغة:
وقد خفت حتى ما تزيد مخافتي ... على وعل في ذي المطارة عاقل
التقدير: على مخافة وعل. والمقصود: إن الخلق الثاني كالخلق الأول في جانب القدرة.
وجملة {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} : إما واقعة موقع التعليل لكمال القدرة على ذلك الخلق العجيب استدلالا بإحاطة علمه تعالى بالأشياء والأسباب وتفاصيلها وجزئياتها ومن

شأن العالم أن يتصرف في المعلومات كما يشاء لأن العجز عن إيجاد بعض ما تتوجه إليه الإرادة يتأتى من خفاء السبب الموصل إلى إيجاده، وإذ قد كان المشركون أو عقلاؤهم يسلمون أن الله يعلم كل شيء جعل تسليمهم ذلك وسيلة إلى إقناعهم بقدرته تعالى على كل شيء، وإما واقعة موقع الاستئناف البياني لما ينشأ عن الإخبار بأن بعثهم كنفس من تعجب فريق ممن أسروا إنكار البعث في نفوسهم الذين أومأ إليهم قوله آنفا: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [لقمان: 23]، ولأجل هذا لم يقل: إن الله عليم قدير.
[29] {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [29]}
استدلال على ما تضمنته الآية قبلها من كون الخلق الثاني وهو البعث في متناول قدرة الله تعالى بأنه قادر على تغيير أحوال ما هو أعظم حالا من الإنسان، وذلك بتغيير أحوال الأرض وأفقها بين ليل ونهار في كل يوم وليلة تغييرا يشبه طرو الموت على الحياة في دخول الليل في النهار، وطرو الحياة على الموت في دخول النهار على الليل، وبأنه قادر على أعظم من ذلك بما سخره من سير الشمس والقمر.
فهذا الاستدلال على إمكان البعث بقياس التمثيل بإمكان ما هو أعظم منه من شؤون المخلوقات بعد أن استدل عليه بالقياس الكلي الذي اقتضاه قوله: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [لقمان: 28] من إحاطة العلم الإلهي بالمعلومات المقتضي إحاطة قدرته بالممكنات لأنها جزئيات المعلومات وفرع عنها. والخطاب لغير معين، والمقصود به المشركون بقرينة {وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} . والرؤية علمية. والاستفهام لإنكار عدم الرؤية بتنزيل العالمين منزلة غير عالمين لعدم انتفاعهم بعلمهم.
والإيلاج: الإدخال. وهو هنا تمثيل لتعاقب الظلمة والضياء بولوج أحدهما في الآخر كقوله: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} [يس: 37].
وتقدم الكلام على نظيره في قوله: {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ} أول آل عمران [27]، وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ} الآية في سورة الحج [61] مع اختلاف الغرضين.
والابتداء بالليل لأن أمره أعجب كيف تغشى ظلمته تلك الأنوار النهارية، والجمع بين إيلاج الليل وإيلاج النهار لتشخيص تمام القدرة بحيث لا تلازم عملا متماثلا. والكلام على تسخير الشمس والقمر مضى في سورة الأعراف.

وتنوين {كُلٌّ} هو المسمى تنوين العوض عن المضاف إليه، والتقدير: كل من الشمس والقمر يجري إلى أجل.
والجري: المشي السريع؛ استعير لانتقال الشمس في فلكها وانتقال الأرض حول الشمس وانتقال القمر حول الأرض، تشبيها بالمشي السريع لأجل شسوع المسافات التي تقطع في خلال ذلك.
وزيادة قوله: {إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} للإشارة إلى أن لهذا النظام الشمسي أمدا يعلمه الله فإذا انتهى ذلك الأمد بطل ذلك التحرك والتنقل، وهو الوقت الذي يؤذن بانقراض العالم؛ فهذا تذكير بوقت البعث. فيجوز أن يكون {إِلَى أَجَلٍ} ظرفا لغوا متعلقا بفعل {يَجْرِي} ، أي: ينتهي جريه، أي سيره عند أجل معين عند الله لانتهاء سيرهما. ويجوز أن يكون {إِلَى أَجَلٍ} متعلقا بفعل {سَخَّرَ} أي: جعل نظام تسخير الشمس والقمر منتهيا عند أجل مقدر.
وحرف {إِلَى} على التقديرين للانتهاء. وليست {إِلَى} بمعنى اللام عند صاحب "الكشاف" هنا خلافا لبن مالك وابن هشام، وسيأتي بيان ذلك عند قوله تعالى: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً} في سورة فاطر[13].
و {أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} عطف على {أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ} ، فهو داخل في الاستفهام الإنكاري بتنزيل العالم منزلة غيره لعدم جريه على موجب العلم، فهم يعلمون أن الله خبير بما يعملون ولا يجرون على ما يقتضيه هذا العلم في شيء من أحوالهم.
[30] {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}
كاف الخطاب المتصل باسم الإشارة موجه إلى غير معين، والمقصود به المشركون بقرينة قوله: {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ} بتاء الخطاب في قراءة نافع وابن كثير وابن عامر وأبي بكر عن عاصم. والمشار إليه هو المذكور آنفا وهو الإيلاج والتسخير. وموقع هذه الجملة موقع النتيجة من الدليل فلها حكم بدل الاشتمال ولذلك فصلت ولم تعطف فإنهم معترفون بأن الله هو فاعل ذلك فلزمهم الدليل ونتيجته.

والمعنى: أن إيلاج الليل في النهار وعكسه وتسخير الشمس والقمر مسبب عن انفراد الله تعالى بالإلهية، فلباء للسببية، وهو ظرف مستقر خبر عن اسم الإشارة. وضمير الفصل مفيد للاختصاص، أي: هو الحق لا أصنامكم ولا غيرها مما يدعي إلهية غيره تعالى.
و {الْحَقُّ} : هنا بمعنى الثابت، ويفهم أن المراد حقية ثبوت إلهية بقرينة السياق ولمقابلته بقوله: {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ} ، والمعنى: لما كان ذلك الصنع البديع مسببا عن انفراد الله بالإلهية كان ذلك أيضا دليلا على انفراد الله بالإلهية للتلازم بين السبب والمسبب. والتعريف في {الْحَقُّ} و {الْبَاطِلُ} تعريف الجنس. وإنما لم يؤت بضمير الفصل في الشق الثاني لأن ما يدعونه من دون الله من أصنامهم يشترك معها في أنه باطل. وذكر ضمير الفصل في نظيره من سورة الحج [73] لاقتضاء المقام ذلك كما تقدم.
والظاهر أنا إذا جعلنا الباء في {بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} باء السببية أن يكون قوله: {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ} عطفا على الخبر وهو مجموع {بِأَنَّ اللَّهَ} . فالتقدير: ذلك أن ما تدعون من دونه الباطل. ويقدر حرف جر مناسب للمعنى حذف قبل {أَنَّ} وهو حرف "على" أي: ذلك دال. وهذا كما قدر حرف "عن" في قوله تعالى: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} [النساء: 127] ولا يكون عطفا على مدخول باء السببية إذ ليس لبطلان آلهتهم أثر في إيلاج الليل في النهار وتسخير الشمس والقمر، أو تقدر لام العلة، أي ذلك، لأن ما تدعونه باطل، فلذلك لم يكن لها حظ في إيلاج الليل والنهار وتسخير الشمس والقمر باعتراف المشركين. وقوله: {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} واقع موقع الفذلكة لما تقدم من دلالة إيلاج الليل والنهار وتسخير الشمس والقمر لأنه إذا استقر أن ما ذكر دال على أن الله هو الحق بالإلهية، ودال على أن ما يدعونه باطل، ثبت أنه العلي الكبير دون أصنامهم. وقد أجتلب ضمير الفصل هنا للدلالة على الاختصاص وسلب العلو والعظمة عن أصنامهم.
والأحسن أن نجعل الباء للملابسة أو المصاحبة وهي ظرف مستقر خبر عن اسم الإشارة، فإن شأن الباء التي للملابسة أن تكون ظرفا مستقرا بل قال الرضي: إنها لا تكون إلا كذلك، أي أنها لا تتعلق إلا بنحو الخبر أو الحال كما قال:
وما لي بحمد الله لحم ولا دم
أي: حالة كوني ملابسا حمد الله، أي غير ساخط من قضائه، ويقال: أنت بخير النظرين، أي مستقر. فالتقدير: ذلك المذكور من الإيلاج والتسخير ملابس لحقية إلهية

الله تعالى، ويكون المعطوفان معطوفين على المجرور بالياء، أي ملابس لكون الله إلها حقا، ولكون ما تدعون من دونه باطل الإلهية ولكون الله هو العلي الكبير. والملابسة المفادة بالباء هي ملابسة الدليل للمدلول وبذلك يستقيم النظم بدون تكلف، ويزداد وقوع جملة {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} إلى آخرها في موقع النتيجة وضوحا.
وضمير الفصل في قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} للاختصاص كما تقدم في قوله: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [لقمان: 26].
و {الْعَلِيُّ} : صفة مشتقة من العلو المعنوي المجازي وهو القدسية والشرف.
و {الْكَبِيرُ} : وصف مشتق من الكبر المجازي وهو عظمة الشأن. وتقدم نظير هذه الآية في سورة الحج [63] مع زيادة ضمير الفصل في قوله: {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ} .
[31، 32] {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [31] وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ}
استئناف جاء على سنن الاستئنافين اللذين قبله في قوله: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [لقمان: 20] وقوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ} [لقمان: 29]، وجيء بها غير متعاطفة لئلا يتوهم السامع أن العطف على ما تخلل منها، وجاء هذا الاستئناف الثالث دليلا ثالثا على عظيم حكمة الله في نظام هذا العالم وتوفيق البشر للانتفاع بما هيأه الله لانتفاعهم به. فلما أتى الاستئنافان الأولان على دلائل صنع الله في السماوات والأرض جاء في هذا الثالث دليل على بديع صنع الله بخلق البحر وتيسير الانتفاع به في إقامة نظام المجتمع البشري. وتخلص منه إلى اتخاذ فريق من الناس موجبات الشكلا دواعي كفر.
فكان خلق البحر على هذه الصفة العظيمة ميسرا للانتفاع بالأسفار فيه حين لا تغني طرق البر في التنقل غناء فجعله قابلا لحمل المراكب العظيمة، وألهم الإنسان لصنع تلك المراكب على كيفية تحفظها من الغرق في عباب البحر، وعصمهم من توالي الرياح والموج في أسفارهم، وهداهم إلى الحيلة في مصانعتها إذا طرأت حتى تنجلي، ولذلك وصف هذا الجري بملابسة نعمة الله فإن الناس كلما مخرت بهم الفلك في البحر كانوا

ملابسين لنعمة الله عليهم بالسلامة إلا في أحوال نادرة، وقد سميت هذه النعمة أمرا في قوله: {وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} في سورة الحج [65]، أي: بتقديره ونظام خلقه.
وتقدم تفصيله في قوله: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ} في سورة العنكبوت [65]، وفي قوله: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} الآيات من سورة يونس [22] وقوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} في سورة الحج [65].
ويتعلق {لِيُرِيَكُمْ} بـ {تَجْرِي} أي تجري في البحر جريا، علة خلقه أن يريكم الله بعض آياته، أي: آياته لكم فلم يذكر متعلق الآيات لظهوره من قوله: {لِيُرِيَكُمْ} وجري الفلك في البحر آية من آيات القدرة في بديع الصنع أن خلق ماء البحر بنظام، وخلق الخشب بنظام، وجعل لعقول الناس نظاما فحصل من ذلك كله إمكان سير الفلك فوق عباب البحر. والمعنى: أن جري السفن فيه حكم كثيرة مقصودة من تسخيره، منها أن يكون آية للناس على وجود الصانع ووحدانيته وعلمه وقدرته. وليس يلزم من لام التعليل انحصار الغرض من المعلل في مدخولها لأن العل جزئية لا كلية.
وجملة {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} لها موقع التعليل لجملة {ليُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ} . ولها موقع الاستئناف البياني إذ يخطر ببال السامع أن يسأل: كيف لم يهتد المشركون بهذه الآيات؟ فأفيد أن الذي ينتفع بدلالتها على مدلولها هو {كُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} ثناء على هذا الفريق صريحا، وتعريضا بالذين لم ينتفعوا بدلالتها. واقتران الجملة بحرف {إِنَّ} لأنه يفيد في مثل هذا المقام معنى التعليل والتنسيب. وجعل ذلك عدة آيات لأن في ذلك دلائل كثيرة، أي الذين لا يفارقهم الوصفان.
والصبار: مبالغة في الموصوف بالصبر، والشكور كذلك، أي: الذين لا يفارقهم الوصفان. وهذان وصفان للمؤمنين الموحين في الصبر للضراء والشكر للسراء إذ يرجون بهم رضى الله تعالى الذي لا يتوكلون إلا عليه في كشف الضر والزيادة من الخير. وقد تخلقوا بذلك بما سمعوا من الترغيب في الوصفين والتحذير من ضديهما قال {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} [البقرة: 177] وقال {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7] فهم بين رجاء الثواب وخوف العقاب لأنهم آمنوا بالحياة الخالدة ذات الجزاء وعلموا أن مصيرهم إلى الله الذي أمر ونهى، فصارا لهم خلقا تطبعوا عليه فلم يفارقاهم البتة أو إلا نادرا؛ فأما المشركون فنظرهم فأصر على الحياة الحاضرة فهم أسراء العالم الحسي فإذا أصابهم ضر ضجروا وإذا أصابهم نفع بطروا، فهم أخلياء من الصبر والشكر، فلذلك كان

قوله: {لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} كناية رمزية عن المؤمنين وتعريضا رمزيا بالمشركين. ووجه إيثار خلقي الصبر والشكر هنا للكناية بهما، من شعب الإيمان، أنهما أنسب بمقام السير في البحر إذ راكب البحر بين خطر وسلامة وهما مظهر الصبر والشكر، كما تقدم في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ} الآية في سورة يونس [22].
وفي قوله: {لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} حسن التخلص إلى التفصيل الذي عقبه في قوله: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ} الآية، فعطف على آيات سير الفلك إشارة إلى أن الناس يذكرون الله عند تلك الآيات عند الاضطرار، وغفلتهم عنها في حال السلامة، وهو ما تقدم مثله في قوله في سورة العنكبوت [65] {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} وقوله في سورة يونس [22]: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} الآيات.
والغشيان: مستعار للمجيء لأنه يشبه التغطية، وتقدم في قوله تعالى: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} في سورة الأعراف.
والظلل: بضم الظاء وفتح اللام: جمع ظلة بالضم وهي: ما أظل من سحاب.
والفاء في قوله: {فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} تدل على مقدر كأنه قيل: فلما نجاهم انقسموا فمنهم مقتصد ومنهم غيره كما سيأتي. وجعل ابن مالك الفاء داخلة على جواب {لَمٌا} أي رابطة للجواب ومخالفوه يمنعون اقتران جواب {لَمٌا} بالفاء كما في "مغني اللبيب" .
والمقتصد: الفاعل للقصد وهو التوسط بين طرفين، والمقام دليل على أن المراد الاقتصاد في الكفر لوقوع تذييله بقوله: {وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} ولقوله في نظيره في سورة العنكبوت [65] {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} ، وقد يطلق المقصد على الذي يتوسط حاله بين الصلاح وضده. كما قال تعالى {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} [المائدة: 66].
والجاحد الكفور: هو المفرط في الكفر والجحد. والجحود: الإنكار والنفي. وتقدم عند قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} في سورة الأنعام [33]. وعلم أن هنالك قسما ثالثا وهو الموقن بالآيات الشاكر للنعمة وأولئك هم المؤمنون قال في سورة فاطر [32] {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} وهذا الاقتصار

كقول جرير:
كانت حنيفة أثلاثا فثلثهم ... من العبيد وثلث من مواليها
أي: والثلث الآخر من أنفسهم.
والختار: الشديد الختر، والختر: أشد الغدر.
وجملة {وَمَا يَجْحَدُ} إلى آخرها تذييل لأنها تعم كل جاحد سواء من جحد آية سير الفلك وهول البحر ويجحد نعمة الله عليه بالنجاة ومن يجحد غير ذلك من آيات الله ونعمه. والمعنى: ومنهم جاحد بآياتنا. وفي الانتقال من الغيبة إلى التكلم في قوله: {بِآيَاتِنَا} التفات.
والباء في {بِآيَاتِنَا} لتأكيد تعدية الفعل إلى المفعول مثل قوله: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة: 6] وقول النابعة:
لك الخير إن وارت بك الأرض واحدا
وقوله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً} [الإسراء: 59].
[33] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ}
إن لم يكن {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} خطابا خاصا بالمشركين فهو عام لجميع الناس كما تقرر في أصول الفقه، فيعم المؤمن والمشرك والمعطل في ذلك الوقت وفي سائر الأزمان إذ الجميع مأمورون بتقوى الله وأن الخطوات الموصلة إلى التقوى متفاوتة على حسب تفاوت بعد السائرين عنها، وقد كان فيما سبق من السورة حظوظ للمؤمنين وحظوظ للمشركين فلا يبعد أن تعقب بما يصلح لكلا الفريقين، وإن كان الخطاب خاصا بالمشركين جريا على ما روي عن ابن عباس أن {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} خطاب لأهل مكة، فالمراد بالتقوى: الإقلاع عن الشرك.
وموقع هذه الآية بعد ما تقدمها من الآيات موقع مقصد الخطبة بعد مقدماتها إذ كانت المقدمات الماضية قد هيأت النفوس إلى قبول الهداية والتأثر بالموعظة الحسنة، وإن لاصطياد الحكماء فرصا يحرصون على عدم إضاعتها، وأحسن مثلها قول الحريري في

"المقامة الحادية عشرة" : "فلما ألحدوا الميت، وفات قول ليت، أشرف شيخ من رباوة، متخصر بهراوة، فقال: لمثل هذا فليعمل العاملون، فاذكروا أيا أيها الغافلون، وشمروا أيها المقصرون" الخ... فأما القلوب القاسية، والنفوس المتعاضية، فلن تأسوها آسية. ولاعتبار هذا الموقع جعلت الجملة استئنافا لأنها بمنزلة الفذلكة والنتيجة.
والتقوى تبتدئ من الاعتراف بوجود الخالق وحدانيته وتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم وتنتهي إلى اجتناب المنهيات وامتثال المأمورات في الظاهر والباطن في سائر الأحوال. وتقدم تفصيلها عند قوله تعالى: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} في سورة البقرة [2] وتقدم نظير هذا في سورة الحج [32].
وخشية اليوم: الخوف من أهوال ما يقع فيه إذ الزمان لا يخشى لذاته، فانتصب {يَوْماً} على المفعول به. والأمر بخشيته تتضمن وقوعه فهو كناية عن إثبات البعث وذلك حظ المشركين منه الذين لا يؤمنون به حتى صار سمة عليهم قال تعالى {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} [الفرقان: 21].
وجملة {لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ} الخ صفة يوم وحذف منها العائد المجرور بـ"في" توسعا بمعاملته معاملة العائد المنصوب كقوله: {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً} في سورة البقرة [48].
وجزى إذا عدي بـ {عَنْ} فهو بمعنى قضى عنه ودفع عنه، ولذلك يقال للمتقاضي: المتجازي.
وجملة {وَلا مَوْلُودٌ} الخ عطف على الصفة و {مَوْلُودٌ} مبتدأ. و {هُوَ} ضمير فصل. و {جَازٍ} خبر المبتدأ.
وذكر الوالد والولد هنا لأنهما أشد محبة وحمية من غيرهما فيعلم أن غيرهما أولى بهذا النفي, قال تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ} الآية [عبس: 34، 35].
وابتدئ بـ"الوالد" لأنه أشد شفقة على ابنه فلا يجد له مخلصا من سوء إلا فعله. ووجه اختيار هذه الطريقة في إفادة عموم النفي هنا دون طريقة قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً} في سورة البقرة [123], أن هذه الآية نزلت بمكة وأهلها يومئذ خليط من مسلمين وكافرين، وربما كان الأب مسلما والوالد كافرا وربما كان

العكس، وقد يتوهم بعض الكافرين حين تداخلهم الظنون في مصيرهم بعد الموت أنه إذا ظهر صدق وعيد القرآن إياهم فإن من له أب مسلم أو ابن مسلم يدفع عنه هنالك بما يدل به على رب هذا الدين، وقد كان قارا في نفوس العرب التعويل على المولى والنصير تعويلا على أن الحمية والأنفة تدفعهم إلى الدفاع عنهم في ذلك الجمع وإن كانوا من قبل مختلفين لهم لضيق عطن أفهامهم يقيسون الأمور على معتادهم. وهذا أيضا وجه الجمع بين نفي جزاء الوالد عن ولده وبين نفي جزاء الولد عن والده ليشمل الفريقين في الحالتين فلا يتوهم أن أحد الفريقين أرجى في المقصود.
ثم أوثرت جملة {وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً} بطرق من التوكيد لم تشتمل على مثلها جملة {لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ} ؛ فإنها نظمت جملة أسمية، ووسط فيها ضمير الفصل، وجعل النفي فيها منصبا إلى الجنس. ونكتة هذا الإيثار مبالغة تحقيق عدم جزء هذا الفريق عن الآخر إذ كان معظم المؤمنين من الأبناء والشباب، وكان آباؤهم وأمهاتهم في الغالب على الشرك مثل أبي قحافة والد أبي بكر، وأبي طالب والد علي، وأم سعد بن أبي وقاص، وأم أسماء بنت أبي بكر، فأريد حسم أطماع آبائهم وما عسى أن يكون من أطماعهم أن ينفعوا آباءهم في الآخرة بشيء. وعبر فيها بـ {مَوْلُودٌ} دون "ولد" لإشعار {مَوْلُودٌ} بالمعنى الاشقاقي دون "ولد" الذي هو اسم بمنزلة الجوامد لقصد التنبيه على أن تلك الصلة الرقيقة لا تخول صاحبها التعرض لنفع أبيه المشرك في الآخرة وفاء له بما تومئ إليه المولودية من تجشم المشقة من تربيته، فلعله يتجشم الإلحاح في الجزاء عنه في الآخرة حسما لطمعه في الجزاء عنه، فهذا تعكيس للترقيق الدنيوي في قوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء: 24] وقوله: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان: 15].
وجملة {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} علة لجملتي {اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً} . ووعد الله: هو البعث، قال تعالى {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ} [سبأ: 29، 30].
وأكد الخبر ب {إِنَّ} مراعاة المنكري البعث، وإذ قد كانت شبهتهم في إنكاره مشاهدة الناس يموتون ويخلقهم أجيال آخرون ولم يرجع أحد ممن مات منهم {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24] وقالوا: {وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [الأنعام: 29].

فرع على هذا التأكيد إبطال شبهتهم بقوله: {فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} ، أي لا تغرنكم حالة الحياة الدنيا بأن تتوهموا الباطل حقا والضر نفعا، فإسناد التغرير إلى الحياة الدنيا مجاز عقلي لأن الدنيا ظرف الغرور أو شبهته، وفاعل التغرير حقيقة هم الذين يضلونهم بالأقيسة الباطلة فيشبهون عليهم إبطاء الشيء باستحالته فذكرت هنا وسيلة التغرير وشبهته ثم ذكر بعده الفاعل الحقيقي للتغرير وهو الغرور. و {الغرور} - بفتح الغين-: من يكثر منه التغرير، والمراد به الشيطان بوسوسته وما يليه في نفوس دعاة الضلالة من شبه التمويه للباطل في صورة وما يلقيه في نفوس أتباعهم من قبول تغريرهم.
وعطف {وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} لأنه أدخل في تحذيرهم ممن يلقون إليهم الشبه أو من أوهام أنفسهم التي تخيل لهم الباطل حقا ليهموا آراءهم. وإذا أريد بالغرور الشيطان أو ما يشمله فذلك أشد في التحذير لما تقرر من عداوة الشيطان للإنسان، كما قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} [لأعراف: 27] وقال: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} [فاطر: 6]، ففي التحذير شوب من التنفير.
والباء في قوله: {وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ} هي كالباء في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار: 6]. وقرر في "الكشاف" في سورة الانفطار معنى الباء بما يقتضي أنها للسببية، وبالضرورة يكون السبب شأنا من شؤون الله يناسب المقام لا ذات الله تعالى. والذي يناسب عنا أن يكون النهي عن الاغترار بما يسوله الغرور للمشركين كنوهم أن الأصنام شفعاء لهم عند الله في الدنيا واقتناعهم بأنه إذا ثبت البعث عن احتمال مرجوح عندهم شفعت لهم يومئذ أصنامهم، أو يغرهم بأن الله لو أراد البعث كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم لبعث آباءهم وهم ينظرون، أو أن يغرهم بأن الله لو أراد بعث الناس لعجل لهم ذلك وهو ما حكى الله عنهم: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس: 48] فذلك كله غرور لهم مسبب يشؤون الله تعالى ففي هذا ما يوضح معنى الباء في قوله: {وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} . وقد جاء مثله في سورة الحديد [14]. وهذا الاستعمال في تعدية فعل الغرور بالباء قريب من تعديته بـ"من" الابتدائية في قول امرئ القيس:
أغرك مني أن حبك قاتلي
أي: لا يغرنك من معاملتي معك أن حبك قاتلي.
[34] {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي

نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [34]} كان من جملة غرورهم في نفي البعث أنهم يجعلون عدم إعلام الناس بتعيين وقته أمارة على أنه غير واقع، قال تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس: 48] وقال: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا} [الشورى: 17، 18], فلما جرى في الآيات قبلها ذكر يوم القيامة أعقبت بأن وقت الساعة لا يعلمه إلا الله.
فجملة {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} مستأنفة استئنافا بيانيا لوقوعها جوابا عن سؤال مقدر في نفوس الناس. والجمل الأربع التي بعدها إدماج لجمع نظائرها تعليما للأمة. وقال الواحدي والبغوي: إن رجلا من محارب حصفة من أهل البادية سماه في "الكشاف" الحارث بن عمرو وقع في "تفسير القرطبي" وفي "أسباب النزول" للواحدي تسميته الوارث بن عمرو بن حارثة جاء إلى النبيء صلى الله عليه وسلم فقال: متى الساعة? وقد أجدبت بلادنا فمتى تخصب? وتركت امرأتي حبلى فما تلد? وماذا اكسب غدا? وبأي أرض أموت؟، فنزلت هذه الآية، ولا يدري سند هذا. ونسب إلى عكرمة ومقاتل، ولو صح لم يكن منافيا لاعتبار هذه الجملة استئنافا بيانيا فإنه مقتضى السياق.
وقد أفاد التأكيد بحرف {إِنَّ} تحقيق علم الله تعالى بوقت الساعة وذلك يتضمن تأكيد وقوعها. وفي كلمة {عِنْدَهُ} إشارة إلى اختصاصه تعالى بذلك العلم لأن العندية شأنها الاستئثار. وتقديم {عِنْدَ} وهو ظرف مسند على المسند إليه يفيد التخصص بالقرينة الدالة على أنه ليس مراد به مجرد التقوي.
وجملة {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} عطف على جملة الخبر. والتقدير: وإن الله ينزل الغيث، فيفيد التخصيص بتنزيل الغيث. والمقصود أيضا عنده علم وقت نزول الغيث وليس المقصود مجرد الإخبار بأنه ينزل الغيث لأن ذلك ليس مما ينكرونه ولكن نظمت الجملة بأسلوب الفعل المضارع ليحصل مع الدلالة على الاستئثار بالعلم به الامتنان بذلك المعلوم الذي هو نعمة.
وفي اختيار الفعل المضارع إفادة أنه يجدد إنزال الغيث المرة بعد المرة عند احتياج الأرض. ولا التفات إلى من قدروا: {يُنَزِّلُ الْغَيْثَ} ، بتقدير "أن" المصدرية على طريقة قول طرفة:

ألا أيهذا الزاجري احضر الوغى
للبون بين المقامين وتفاوت الدرجتين في البلاغة. وإذ قد جاء هذا نسقا في عداد الحصر كان الإتيان بالمسند فعلا خبرا عن مسند إليه مقدم مفيدا للاختصاص بالقرينة؛ فالمعنى: وينفرد بعلم وقت نزول الغيث من قرب وبعد وضبط وقت.
وعطف عليه {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} أي: ينفرد بعلم جميع أطواره من نطفة وعلقة ومضغة ثم من كونه ذكرا أو أنثى وإبان وضعه بالتدقيق. وجيء بالمضارع لإفادة تكرر العلم بتبدل تلك الأطوار والأحوال. والمعنى: ينفرد بعلم جميع تلك الأطوار التي لا يعلمها الناس لأنه عطف على ما قصد منه الحصر فكان المسند الفعلي المتأخر عن المسند إليه مفيدا للاختصاص بالقرينة كما قلنا في قوله تعالى: {وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} .
وأما قوله: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} فقد نسج على منوال آخر من النظم فجعل سداه نفي علم أية نفس بأخص أحوالها وهو حال اكتسابها القريب منها في اليوم الموالي يوم تأملها ونظرها، وكذلك مكان انقضاء حياتها للنداء عليهم بقلة علمهم؛ فإذا كانوا بهذه المثابة في قلة العلم فكيف يتطلعون إلى علم أعظم حوادث هذا العالم وهو حادث فنائه وانقراضه واعتياضه بعالم الخلود. وهذا النفي للدراية بهذين الأمرين عن كل نفس فيه كناية عن إثبات العلم بما تكسب كل نفس والعلم بأي أرض تموت فيها كل نفس إلى الله تعالى، فحصلت إفادة اختصاص الله تعالى بهذين العلمين فكانا في صميمة ما انتظم معهما مما تقدمهما.
وعبر في جانب نفي معرفة الناس بفعل الدراية لأن الدراية علم فيه معالجة للاطلاع على المعلوم ولذلك لا يعبر بالدراية عن علم الله تعالى فلا يقال: الله يدري كذا، فيفيد: انتفاء علم الناس بعد الحرص على علمه. والمعنى: لا يعلم ذلك إلا الله تعالى بقرينة مقابلتهما بقوله: {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} . وقد علق فعل الدراية عن العمل في مفعولين بوقوع الاستفهامين بعدهما، أي ما تدري هذا السؤال، أي جوابه. وقد حصل إفادة اختصاص الله تعالى بعلم هذه الأمور الخمسة بأفانين بديعة من أفانين الإيجاز البالغ حد الإعجاز.
ولقبت هذه الخمسة في كلام النبيء صلى الله عليه وسلم بمفاتح الغيب وفسر بها قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام: 59]، ففي "صحيح البخاري" من حديث ابن عمر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "مفاتح الغيب خمس" ثم قرأ: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} .

الآية، ومن حديث أبي هريرة: "... في خمس لا يعلمهن إلا الله إن الله عنده علم الساعة جوابا عن سؤال جبريل متى الساعة?..." .
ومعنى حصر مفاتح الغيب في هذه الخمسة: أنها هي الأمور المغيبة المتعلقة بأحوال الناس في هذا العالم وأن التعبير عنها بالمفاتح أنها تكون مجهولة للناس فإذا وقعت فكأن وقوعها فتح لما كان مغلقا وأما بقية أحوال الناس فخفاؤها عنهم متفاوت ويمكن لبعضهم تعيينها مثل تعيين يوم كذا للزفاف ويوم كذا للغزو وهكذا مواقيت العبادات والأعياد، وكذلك مقارنات الأزمنة مثل: يوم كذا مدخل الربيع؛ فلا تجد مغيبات لا قبل لأحد بمعرفة وقوعها من أحوال الناس في هذا العالم غير هذه الخمسة فأما في العوالم الأخرى وفي الحياة الآخرة فالمغيبات عن علم الناس كثيرة وليست لها مفاتح علم في هذا العالم.
وجملة {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} مستأنفة ابتدائية واقعة موقع النتيجة لما تضمنه الكلام السابق من إبطال شبهة المشركين بقوله تعالى: {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [لقمان: 33] كموقع قوله في قصة [لقمان: 16]: {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} عقب قوله: {إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ} الآية [لقمان: 16].
والمعنى: أن الله عليم بمدى وعده خبير بأحوالكم مما جمعه قوله: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً} الخ ولذا جمع بين الصفتين: صفة {عَلِيمٌ} وصفة {خَبِيرٌ} لأن الثانية أخص.

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة السجدةأشهر أسماء هذه السورة هوسورة السجدة، وهو أخصر أسمائها، وهو المكتوب في السطر المجعول لاسم السورة من المصاحف المتداولة. وبهذا الاسم ترجم لها الترمذي في "جامعه" وذلك بإضافة كلمة سورة إلى كلمة السجدة. ولا بد من تقدير كلمة {ألم} محذوفة للاختصار إذ لا يكفي مجرد إضافة سورة إلى السجدة في تعريف هذه السورة، فإنه لا تكون سجدة من سجود القرآن إلا في سورة من السور.
وتسمى أيضا {ألم تَنْزِيلُ} ؛ روى الترمذي عن جابر بن عبد الله: "إن النبيء صلى الله عليه وسلم كان لا ينام حتى يقرأ {ألم تَنْزِيلُ} [السجدة: 1, 2] و {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك: 1].
وتسمى "ألم تنزيل السجدة". وفي "صحيح البخاري" عن أبي هريرة: "كان النبيء صلى الله عليه وسلم يقرأ يوم الجمعة في صلاة الفجر "ألم تنزيل السجدة" و {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ} [الانسان: 1]. قال شارحو "صحيح البخاري" ضبط اللام من كلمة {تَنْزِيلُ} بضمة على الحكاية، وأما لفظ "السجدة" في هذا الحديث فقال ابن حجر: هو بالنصب. وقال العيني والقسطلاني بالنصب على أنه عطف بيان- يعني أنه بيان للفظ {ألم تَنْزِيلُ} -، وهذا بعيد لأن لفظ السجدة ليس اسما لهذه السورة إلا بإضافة "سورة" إلى "السجدة"، فالوجه أن يكون لفظ "السجدة" في كلام أبي هريرة مجرورا بإضافة مجموع {ألم تَنْزِيلُ} إلى لفظ "السجدة"، وسأبين كيفية هذه الإضافة.
وعنونها البخاري في "صحيحه" : "سورة تنزيل السجدة". ويجب أن يكون {تَنْزِيلُ} مضمونا على حكاية لفظ القرآن، فتميزت هذه السورة بوقوع سجدة تلاوة فيها من بين السور المفتتحة بـ {ألم} ، فلذلك فمن سماها سورة السجدة عنى تقدير مضاف أي سورة "ألم السجدة".
ومن سماها تنزيل السجدة فهو على تقدير "ألم تنزيل السجدة" بجعل

{ألم تَنْزِيلُ} اسما مركبا ثم أضافته إلى السجدة، أي ذات السجدة، لزيادة التمييز والإيضاح، وإلا فإن ذكر كلمة {تَنْزِيلُ} كاف في تمييزها عما عداها من ذوات {ألم} ثم اختصر بحذف {ألم} وإبقاء {تَنْزِيلُ} ، واضيف {تَنْزِيلُ} إلى "السجدة" على ما سيأتي في توجيه تسميتها "ألم تنزيل السجدة".
ومن سماها "إلم السجدة" فهو على إضافة "ألم" إلى "السجدة" إضافة على معنى اللام وجعل "ألم" اسما للسورة. ومن سموها "ألم تنزيل السجدة" لم يتعرضوا لضبطها في "شروح صحيح البخاري" ولا في النسخ الصحيحة من "الجامع الصحيح" ، ويتعين أن يكون {ألم} مضافا إلى {تَنْزِيلُ} على أن مجموع المضاف والمضاف إليه اسم لهذه السورة محكي لفظه؛ فتكون كلمة {تَنْزِيلُ} مضمونه على حكاية لفظها القرآني، وأن يعتبر هذا المركب الإضافي اعتبار العلم مثل: عبد الله، ويعتبر مجموع ذلك المركب الإضافي مضافا إلى السجدة إضافة المفردات، وهو استعمال موجود، ومنه قول تأبط شرا:
إني لمهد من ثنائي فقاصد ... به لبن عم الصدق شمس بن مالك
إذ أضاف مجموع "ابن عم" إلى "الصدق"، ولم يرد إضافة عم إلى الصدق. وكذلك قول أحد الطائيين في "ديوان الحماسة" :
داو ابن السوء بالنأي والغنى ... كفى بالغنى والنأي عنه مداويا
فإنه ما أراد وصف عمه بالسوء ولكنه أراد وصف ابن عمه بالسوء. فأضاف مجموع ابن عم إلى السوء، ومثله قول رجل من كلب في "ديوان الحماسة" :
هنيئا لابن عم السوء أني
مجاوره بني ثعل لبوني
وقال عيينة بن مرداس في "الحماسة" :
فلما عرفت اليأس منه وقد بدت ... أيادي سبا الحاجات للمتذكر
فأضاف مجموع "أيادي سبا" وهو كالمفرد لأنه جرى مجرى المثل إلى الحاجات. وقال بعض رجازهم:
أنا ابن عم الليل وابن خاله
إذا دجى دخلت في سرباله
فأضاف "ابن عم" إلى لفظ "الليل"، وأضاف "ابن خال" إلى ضمير "الليل" على معنى أنا مخالط الليل، ولا يريد إضافة عم ولا خال إلى الليل. ومن هذا اسم عبد الله بن قيس الرقيات، فالمضاف إلى "الرقيات" هو مجموع المركب إما "عبد الله"، أو "ابن قيس"

لا أحد مفرداته. وهذه الإضافة قريبة من إضافة العدد المركب إلى من يضاف إليه مع بقاء اسم العدد على بنائه كما تقول: أعطه خمسة عشره.
وتسمى هذه السورة أيضا سورة المضاجع لوقوع لفظ "المضاجع" في قوله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة: 16].
وفي "تفسير القرطبي" عن "مسند الدرامي" أن خالد بن معدان1 سماها: المنجية. قال: بلغني أن رجلا يقرؤها ما يقرأ شيئا غيرها، وكان كثير الخطايا فنشرت جناحها وقالت: رب اغفر له فإنه كان يكثر من قراءتي فشفعها الرب فيه وقال: اكتبوا له بكل خطيئة حسنة وارفعوا له درجة اهـ. وقال الطبرسي: تسمى "سورة سجدة لقمان" لوقوعها بعد سورة لقمان لئلا تلتبس بسورة "حم السجدة"، أي كما سموا سورة "حم السجدة" وهي سورة فصلت "سورة سجدة المؤمن" لوقوعها بعد سورة المؤمنين.
وهي مكية في إطلاق أكثر المفسرين وإحدى روايتين عن ابن عباس، وفي رواية أخرى عنه استثناء ثلاث آيات مدنية وهي: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً} إلى {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [السجدة: 18- 21]. قيل نزلت يوم بدر في علي بن أبي طالب والوليد ابن عقبة وسيأتي إبطاله. وزاد بعضهم آيتين {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} إلى {بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 16، 17] لما روي في سبب نزولها وهو ضعيف. والذي نعول عليه أن السورة كلها مكية وأن ما خالف ذلك إن هو إلا تأويل أو إلحاق خاص بعام كما أصلنا في المقدمة الخامسة. نزلت بعد سورة النحل وقبل سورة نوح، وقد عدت الثالثة والسبعين في النزول. وعدت آياتها عند جمهور العادين ثلاثين، وعدها البصريون سبعا وعشرين.
من أغراض هذه السورة
أولها التنويه بالقرآن أنه منزل من عند الله، وتوبيخ المشركين على ادعائهم أنه مفترى بأنهم لم يسبق لهم التشرف بنزول كتاب. والاستدلال على إبطال إلهية أصنامهم بإثبات انفراد الله بأنه خالق السماوات والأرض ومدبر أمورهما. وذكر البعث والاستدلال على كيفية بدء خلق الإنسان ونسله، وتنظيره بإحياء الأرض، وأدمج في ذلك أن إحياء الأرض نعمة عليهم كفروا بمسديها. والإنحاء على الذين أنكروه ووعيدهم. والثناء على المصدقين
ـــــــ
1 خالد بن معدان الكلاعي الحمصي أبو عبد الله من فقهاء التابعين. توفي سنة ثلاث أو أربع أو ثمان ومائة, روى عن جماعة من الصحابة مرسلا.

بآيات الله ووعدهم، ومقابلة إيمانهم بكفر المشركين، ثم إثبات رسالة رسول عظيم قبل محمد صلى الله عليه وسلم هدى به أمة عظيمة. والتذمير بما حل بالمكذبين السابقين ليكون ذلك عظة للحاضرين، وتهديدهم بالنصر الحاصل للمؤمنين. وختم ذلك بانتظار النصر. وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالإعراض عنه تحقيرا لهم، ووعده بانتظار نصره عليهم.
ومن مزايا هذه السورة وفضائلها ما رواه الترمذي والنسائي وأحمد والدرامي عن جابر بن عبد الله قال: "كان النبيء صلى الله عليه وسلم لا ينام حتى يقرأ {الم تَنْزِيلُ} [السجدة: 1، 2] و {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك: 1].
[1] {الم}
تقدم ما في نظائره.
[2] {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
افتتحت السورة بالتنويه بشأن القرآن لأنه جامع الهدى الذي تضمنته هذه السورة وغيرها ولأن جماع ضلال الضالين هو التكذيب بهذا الكتاب، فالله جعل القرآن هدى للناس وخص العرب بأن شرفهم بجعلهم أول من يتلقى هذا الكتاب، وبأن أنزله بلغتهم، فكان منهم أشد المكذبين بما جاء به، لا جرم أن تكذيب أولئك المكذبين أعرق في الضلالة وأوغل في أفن الرأي. وافتتاح الكلام بالجملة الاسمية لدلالتها على الدوام والثبات.
وجيء بالمسند إليه معرفا بالإضافة لإطالته ليحصل بتطويله ثم تعقيبه بالجملة المعترضة التشويق إلى معرفة الخبر وهو قوله: {مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ولولا ذلك لقيل: قرآن منزل من رب العالمين أو نحو ذلك. وإنما عدل عن أسلوب قوله: {ألم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} في سورة البقرة [1، 2] لأن تلك السورة نازلة بين ظهراني المسلمين ومن يرجى إسلامهم من أهل الكتاب وهم {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} [البقرة: 4]؛ وأما هذه السورة فقد جابه الله بها المشركين الذين لا يؤمنون بالإله الواحد ولا يوقنون بالآخرة فهم أصلب عودا، وأشد كفرا وصدودا.
فقوله: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ} مبتدأ، وقوله: {لا رَيْبَ فِيهِ} جملة هي صفة للكتاب أو حال أو هي معترضة. وقوله: {مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} خبر عن المبتدأ و {مِنْ} ابتدائية.

والمعنى: من عنده ووحيه، كما تقول: جاءني كتاب من فلان. ووقعت جملة {لا رَيْبَ فِيهِ} بأسلوب المعلوم المقرر فلم تجعل خبرا ثانيا عن المبتدأ لزيادة التشويق إلى الخبر ليقرر كونه من رب العالمين.
ومعنى {لا رَيْبَ فِيهِ} أنه ليس أهلا لأن يرتاب أحد في تنزيله من رب العالمين لما حف بتنزيله من الدلائل القاطعة بأنه ليس من كلام البشر بسبب إعجاز أقصر سورة منه فضلا عن مجموعه، وما عضده من حال المرسل به من شهرة الصدق والاتسقامة، ومجئ مثله من مثله مع ما هو معلوم من وصف الأمية. فمعنى نفي أن يكون الريب مظروفا في هذا الكتاب أنه لا يشتمل على ما يثير الريب، فالذين ارتابوا بل كذبوا أن يكون من عند الله فهم لا يعدون أن يكونوا متعنتين على علم، أو جهالا يقولون قبل أن يتأملوا وينتظروا، والأولون زعماؤهم والأخيرون دهماؤهم، وقد تقدم ذلك في أول سورة البقرة.
واستحضار الجلالة بطريق الإضافة بوصف {رَبِّ الْعَالَمِينَ} دون الاسم العلم وغيره من طرق التعريف لما فيه من الإيماء إلى عموم الشريعة وكون كتابها منزلا للناس كلهم بخلاف ما سبق من الكتب الإلهية، كما قال تعالى: {مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} [المائدة: 48]. وفيه إيماء إلى أن من جملة دواعي تكذيبهم به أنه كيف خص الله برسالته بشرا منهم حسدا من عند أنفسهم لأن ربوبية الله للعالمين تنبئ عن أنه لا يسأل عما يفعل وأنه أعلم حيث يجعل رسالاته.
[3] {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} .
جاءت {أَمْ} للإضراب عن الكلام السابق إضراب انتقال، وهي {أَمْ} المنقطعة التي بمعنى بل التي للإضطراب. وحيثما وقعت {أَمْ} فهي مؤذنة باستفهام بالهمزة بعدها الملتزم حذفها بعد {أَمْ} . والاستفهام المقدر بعدها هنا تعجيبي لأنهم قالوا هذا القول الشنيع وعلمه الناس عنهم فلا جرم كانوا أحقاء بالتعجيب من حالهم ومقالهم لأنهم أبدوا به أمرا غريبا يقضي منه العجب لدى العقلاء وذوي الأحلام الراجحة والنفوس المنصفة، إذ دلائل انتفاء الريب عن كونه من رب العالمين واضحة بله الجزم بأنه مفترى على الله تعالى.
وصيغ الخبر عن قولهم العجيب بصيغة المضارع لاستحضار حالة ذلك القول تحقيقا

للتعجيب منه حتى لا تغفل عن حال قولهم أذهان السامعين كلفظ "تقول" في بيت هذلول العنبري من شعراء الحماسة:
تقول وصكت صدرها بيمينها ... أبعلي هذا بالرحى المتقاعس
وفي المضارع مع ذلك إيذان بتجدد مقالتهم هذه وأنهم لا يقلعون عنها على الرغم مما جاءهم من البينات ورغم افتضاحهم بالعجز عن معارضته.
والضمير المرفوع في {افْتَرَاهُ} عائد إلى النبيء صلى الله عليه وسلم لأنه معلوم من مقام حكاية مقالهم المشتهر بين الناس، والضمير المنصوب عائد إلى {الْكِتَابُ} [السجدة: 2]. وأضرب على قولهم {افْتَرَاهُ} إضراب إبطال بـ {بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} لإثبات أن القرآن حق، ومعنى الحق: الصدق، أي فيما اشتمل عليه الذي منه أنه منزل من الله تعالى. وتعريف {الْحَقُّ} تعريف الجنس المفيد تحقيق الجنسية فيه. أي هو حق ذلك الحق المعروفة ماهيته من بين الأجناس والمفارق لجنس الباطل. وفي تعريف المسند بلام الجنس ذريعة إلى اعتبار كمال هذا الجنس في المسند إليه وهو معنى القصر الادعائي للمبالغة نحو: أنت الحبيب وعمرو الفارس.
و {مِنْ رَبِّكَ} في موضع حال من {الْحَقُّ} ، والحق الوارد من قبل الله لا جرم أنه أكمل جنس الحق. وكاف الخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم. واستحضرت الذات العلية هنا بعنوان {رَبِّكَ} لأن الكلام جاء ردا على قولهم {افْتَرَاهُ} يعنون النبيء صلى الله عليه وسلم فكان مقام الرد مقتضيا تأييد من ألصقوا به ما هو بريء منه بإثبات أن الكتاب حق من رب من ألصقوا به الافتراء تنويها بشأن الرسول عليه الصلاة والسلام وتخلصا إلى تصديقه لأنه إذا كان الكتاب الذي جاء به حقا من عند الله فهو رسول الله حقا.
وقد جاءت هذه الآية على أسلوب بديع الإحكام إذ ثبت أن الكتاب تنزيل من رب جميع الكائنات، وأنه يحق أن لا يرتاب فيه مرتاب، ثم انتقل إلى الإنكار والتعجيب من الذين جزموا بأن الجائي به مغتر على الله، ثم رد عليهم بإثبات أنه الحق الكامل من رب الذي نسبوا إليه افتراءه فلو كان افتراه لقدر الله على إظهار أمره كما قال تعالى {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 44- 47] ثم جاء بما هو أنكى للمكذبين وأبلغ في تسفيه أحلامهم وأوغل في النداء على إهمالهم النظر في دقائق المعاني، فبين ما فيه تذكرة لهم ببعض المصالح التي جاء لأجلها هذا الكتاب بقوله: {لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ

قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} فقد جمعوا من الجهالة ما هو ضغث على إبالة، فإن هذا الكتاب، على أن حقيته مقتضية المنافسة في الانتفاع به ولو لم يلفتوا إلى تقلده وعلى أنهم دعوا إلى الأخذ به وذلك مما يتوجب التأمل في حقيته؛ على ذلك كله فهم كانوا أحوج إلى اتباعه من اليهود والنصارى والمجوس لأن هؤلاء لم تسبق لهم رسالة مرسل فكانوا أبعد عن طرق الهدى بما تعاقب عليهم من القرون دون دعوة رسول فكان ذلك كافيا في حرصهم على التمسك به وشعورهم بمزيد الحاجة إليه رجاء منهم أن يهتدوا، قال تعالى {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا} [الأنعام: 155- 157], فمثل هؤلاء المكذبين كمثل قول المعري:
هل تزجرنكم رسالة مرسل ... أم ليس ينفع في أولاك ألوك
والقوم: الجماعة العظيمة الذين يجمعهم أمر هو كالقوام لهم من نسب أو موطن أو غرض تجمعوا بسببه. وأكثر إطلاقه على الجماعة الذين يرجعون في النسب إلى جد اختصوا بالانتساب إليه. وتميزوا بذلك عمن يشاركهم في جد هو أعلى منه، فقريش مثلا قوم اختصوا بالانتساب إلى فهر بن مالك بن النضر بن كنانة فتميزوا عمن عداهم من عقب كنانة فيقال: فلان قرشي وفلان كناني ولا يقال لمن هو من أبناء قريش كناني.
ووصف القوم بأنهم {مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ} قبل النبيء صلى الله عليه وسلم والنبيء حينئذ يدعو أهل مكة ومن حولها إلى الإسلام وربما كانت الدعوة شملت أهل يثرب وكلهم من العرب فظهر أن المراد بالقوم العرب الذين لم يأتهم رسول قبل محمد عليه الصلاة والسلام فإما أن يكون المراد قريشا خاصة، أو عرب الحجاز أهل مكة والمدينة وقبائل الحجاز، وعرب الحجاز جذمان عدنانيون وقحطانيون؛ فأما العدنانيون فهم أبناء عدنان وهم من ذرية إسماعيل وإنما تقومت قوميتهم في أبناء عدنان: وهم مضر، وربيعة، وأنمار، وإياد. وهؤلاء لم يأتهم رسول منذ تقومت قوميتهم. وأما جدهم إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام فإنه وإن كان رسولا نبيا كما وصفه الله تعالى في سورة مريم فإنما كانت رسالته خاصة بأهله وأصهاره من جرهم ولم يكن مرسلا إلى الذين وجدوا بعده لأن رسالته لم تكن دائمة ولا منتشرة، قال تعالى {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ} [مريم: 55].
وأما القحطانيون القاطنون بالحجاز مثل الأوس والخزرج وطيء فإنهم قد تغيرت

فرقهم ومواطنهم بعد سيل العرم وانقسموا أقواما جددا ولم يأتهم نذير منذ ذلك الزمن وإن كان المنذرون قد جاءوا أسلافهم مثل هود وصالح وتبع، فذلك كان قبل تقوم قوميتهم الجديدة.
وإما أن يكون المراد العرب كلهم بما يشمل أهل اليمن واليمامة والبحرين وغيرهم ممن شملتهم جزيرة العرب وكلهم لا يعدون أن يرجعوا إلى ذينك الجذمين، وقد كان انقسامهم أقواما ومواطن بعد سيل العرم ولم يأتهم نذير بعد ذلك الانقسام كما تقدم في حال القحطانين من أهل الحجاز. وأما ما ورد من ذكر حنظلة بن صفوان صاحب أهل الرس، وخالد بن سنان صاحب بني عبس فلم يثبت أنهما رسولان واختلف في نبوتهما. وقد روي أن ابنة خالد بن سنان وفدت إلى النبيء صلى الله عليه وسلم وهي عجوز وأنه قال لها: "مرحبا بابنة نبي ضيعه قومه". وليس لذلك سند صحيح. وأيا ما كان فالعرب كلهم أو الذين شملتهم دعوة الإسلام يومئذ يحق عليهم وصف {مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ} من وقت تحقق قوميتهم.
والمقصود به: تذكيرهم بأنهم أحوج الأقوام إلى نذير، إذ لم يكونوا على بقية من هدى وأثارة هممهم لاغتباط أهل الكتاب ليتقبلوا الكتاب الذي أنول إليهم ويسبقوا أهل الكتاب إلى اتباعه؛ فيكون للمؤمنين منه السبق في الشرع الأخير كما كان لمن لم يسلم من أهل الكتاب السبق ببعض الاهتداء وممارسة الكتاب السابق. وقد اهتم بعض أهل الأحلام من العرب بتطلب الدين الحق فتهود كثير من عرب اليمن، وتنصرت طيء، وكلب، وتغلب وغيرهم من نصارى العرب، وتتبع الحنيفية نفر مثل قس بن ساعدة، وزيد بن عمرو بن نفيل، وأمية بن أبي الصلت، وكان ذلك تطلبا للكمال ولم يأتهم رسول بذلك.
وهذا التعليل لا يقتضي اقتصار الرسالة الإسلامية على هؤلاء القوم ولا ينافي عموم الرسالة لمن أتاهم نذير، لأن لام العلة لا تقتضي إلا كون ما بعدها باعثا على وقوع الفعل الذي تعلقت به دون انحصار باعث الفعل في تلك العلة، فإن الفعل الواحد قد يكون له بواعث كثيرة، وأفعال الله تعالى منوطة بحكم عديدة، ودلائل عموم الرسالة متواترة من صريح القرآن والسنة ومن عموم الدعوة.
وقيل: أريد بالقوم الذين لم يأتهم نذير من قبل جميع الأمم، وأن المراد بأنهم لم يأتهم نذير أنهم كلهم لم يأتهم نذير بعد أن ضلوا، سواء منهم من ضل في شرعه مثل أهل الكتاب، ومن ضل بالخلو عن شرع كالعرب. وهذا الوجه بعيد عن لفظ "قوم" وعن فعل {أَتَاهُمْ} ومفيت للمقصود من هذا الوصف كما قدمناه. وأما قضية عموم الدعوة المحمدية

فدلائلها كثيرة من غير هذه الآية. "ولعل" مستعارة تمثيلا لإرادة اهتدائهم والحرص على حصوله.
[4] {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ}
لما كان الركن الأعظم من أركان هدى الكتاب هو إثبات الوحدانية للإله وإبطال الشرك عقب الثناء على الكتاب بإثبات هذا الركن.
وجيء باسم الجلالة مبتدأ لإحضاره في الأذهان بالاسم المختص به قطعا الدابر عقيدة الشريك في الإلهية، وخبر المبتدأ جملة {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} ، ويكون قوله: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا} صفة لاسم الجلالة.
وجيء باسم الموصول للإيماء إلى وجه بناء الخبر وأنه الانفراد بالربوبية لجميع الخلائق في السماوات والأرض وما بينهما، ومن أولئك المشركون المعنيون بالخبر. والخطاب موجه إلى المشركين على طريقة الالتفات.
والولي: مشتق من الولاء بمعنى العهد والحلف والقرابة. ومن لوازم حقيقة الولاء النصر والدفاع عن المولى. وأريد بالولي المشارك في الربوبية.
والشفيع: الوسيط في قضاء الحوائج من دفع ضر أو جلب نفع. والمشركون زعموا أن الأصنام آلهة ركاء لله في الإلهية ثم قالوا: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18] وقالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3].
و {مِنْ} في قوله: {مِنْ دُونِهِ} ابتدائية في محل الحال من ضمير {لَكُمْ} ، و"دون" بمعنى غير، و {مِنْ} في قوله: { مِنْ وَلِيٍّ} زائدة لتأكيد النفي، أي: لا ولي لكم ولا شفيع لكم غير الله فلا ولاية للأصنام ولا شفاعة لها إبطالا لما زعموه لأصنامهم من الوصفين إبطالا راجعا إلى إبطال الإلهية عنها. وليس المراد أنهم لا نصير لهم ولا شفيع إلا الله لأن الله لا ينصرهم على نفسه ولا يشفع لهم عند نفسه، قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد: 11] وقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255].
وتقدم تفسير نظيره {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ

اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} وبيان تأويل {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} في سورة الأعراف [54].
وفرع على هذا الدليل إنكار على عدم تدبرهم في ذلك وإهمالهم النظر بقوله: {أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} فهو استفهام إنكاري. والتذكر: مشتق من الذكر الذي هو يضم الذال وهو التفكر والنظر بالعقل.
[5] {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} .
جملة {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} في موضع الحال من اسم الجلالة في قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [السجدة: 4], أي: خلق تلك الخلائق مدبرا أمرها. ويجوز أن تكون الجملة استئنافا، وقوله: {مِنَ السَّمَاءِ} متعلق بـ {يُدَبِّرُ} أو صفة للأمر أو حال منه، و {مِنَ} ابتدائية. والمقصود من حرفي الابتداء والانتهاء شمول تدبير الله تعالى الأمور كلها في العالمين العلوي والسفلي تدبيرا شاملا لها من السماء إلى الأرض، فأفاد حرف الانتهاء شمول التدبير لأمور كل ما في السماوات والأرض وفيما بينهما.
والتدبير: حقيقته التفكير في إصدار فعل متقن أوله وآخره وهو، مشتق من دبر الأمر، أي آخره لأن التدبير النظر في استقامة الفعل ابتداء ونهاية. وهو إذا وصف به الله تعالى كناية عن لازم حقيقته وهو تمام الإتقان، وتقدم شيء من هذا في أول سورة يونس وأول سورة الرعد.
و {الْأَمْرَ} : الشأن للأشياء ونظامها وما به تقومها. والتعريف فيه للجنس وهو مفيد لاستغراق الأمور كلها لا يخرج عن تصرفه شيء منها، فجميع ما نقل عن سلف المفسرين في تفسير {الْأَمْرَ} يرجع إلى بعض هذا العموم.
والعروج: الصعود. وضمير {يَعْرُجُ} عائد على {الْأَمْرَ} ، وتعديته بحرف الانتهاء مفيدة أن تلك الأمور المدبرة تصعد إلى الله تعالى؛ فالعروج هنا مستعار للمصير إلى تصرف الخالق دون شائبة تأثير من غيره ولو في الصورة كما في أحوال الدنيا من تأثير الأسباب. ولما كان الجلال يشبه بالرفعة في مستعمل الكلام شبه المصير إلى ذي الجلال بانتقال الذوات إلى المكان المرتفع وهو المعبر عنه في اللغة بالعروج، كما قال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]، أي يرفعه إليه.

و {ثُمَّ} للتراخي الرتبي لأن مرجع الأشياء إلى تصرفه بعد صدورها من لدنه أعظم وأعجب.
وقد أفاد التركيب أن تدبير الأمور من السماء إلى الأرض من وقت خلقهما وخلق ما بينهما يستقر على ما دبر عليه كل بحسب ما يقتضيه حال تدبيره من استقراره، ويزول بعضه ويبقى بعضه ما دامت السماوات والأرض، ثم يجمع ذلك كله فيصير إلى الله مصيرا مناسبا لحقائقه؛ فالذوات تصير مصير الذوات والأعراض والأعمال تصير مصير أمثالها، أي يصير وصفها ووصف أصحابها إلى علم الله وتقدير الجزاء، فذلك المصير هو المعبر عنه بالعروج إلى الله فيكون الحساب على جميع المخلوقات يومئذ.
واليوم من قوله: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} هو اليوم الذي جاء ذكره في آية سورة الحج [47] بقوله: {وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} .
ومعنى تقديره بألف سنة أنه تحصل فيه من تصرفات الله في كائنات السماء والأرض ما لو كان من عمل الناس لكان حصول مثله في ألف سنة، فلك أن تقدر ذلك بكثرة التصرفات، أو بقطع المسافات، وقد فرضت في ذلك عدة احتمالات. والمقصود: التنبيه على عظم القدرة وسعة ملكوت الله وتدبيره. ويظهر أن هذا اليوم هو يوم الساعة، أي ساعة اضمحلال العالم الدنيوي، وليس اليوم المذكور هنا هو يوم القيامة المذكور في سورة المعارج قاله ابن عباس: ولم يعين واحدا منهما، وليس من غرض القراء تعيين أحد اليومين ولكن حصول العبرة بأهوالهما.
وقوله: {فِي يَوْمٍ} يتنازعه كل من فعلي {يُدَبِّرُ} و {يَعْرُجُ} ، أي يحصل الأمران في يوم.
و {أَلْفَ} عند العرب منتهى أسماء العدد وما زاد على ذلك من المعدودات يعبر عنه بأعداد أخرى مع عدد الألف كما يقولون خمسة آلاف، ومائة ألف، وألف ألف.
و {أَلْفَ} يجوز أن يستعمل كناية عن الكثرة الشديدة كما يقال: زرتك ألف مرة، وقوله تعالى: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} [البقرة: 96]، وهو هنا بتقدير كاف التشبيه أو كلمة نحو، أي كان مقداره كألف سنة أو نحو ألف سنة كما في قوله: {وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج: 47]. ويجوز أن يكون {أَلْفَ} مستعملا في صريح معناه. وقوله: {مِمَّا تَعُدُّونَ} ، أي: مما تحسبون في أعدادكم، و {مَّا} مصدرية أو موصولية وهو وصف لـ{أَلْفَ سَنَةٍ} . وهذا الوصف لا يقتضي كون اسم {أَلْفَ} مستعملا

في صريح معناه لأنه يجوز أن يكون إيضاحا للتشبيه فهو قريب من ذكر وجه الشبه مع التشبيه، وقد يترجح أن هذا الوصف لما كان في معنى الموصوف صار بمنزلة التأكيد اللفظي لمدلوله فكان رافعا لاحتمال المجاز في العدد.
[6] {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}
جيء بالإشارة إلى اسم الجلالة بعدما أجري عليه من أوصاف التصرف بخلق الكائنات وتدبير أمورها للتنبيه على أن المشار إليه باسم الإشارة حقيق بما يرد بعد اسم الإشارة من أجل تلك الصفات المتقدمة كما تقدم في قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} في سورة البقرة [5]، لا جرم أن المتصرف بذلك الخلق والتدبير عالم بجميع مخلوقاته ومحيط بجميع شؤونها فهو عالم الغيب، أي: ما غاب عن حواس الخلق، وعالم الشهادة، وهو ما يدخل تحت إدراك الحواس، فالمراد بالغيب والشهادة: كل غائب وكل مشهود. والمقصود هو علم الغيب لأنهم لما أنكروا البعث وإحياء الموتى كانت شبهتهم في إحالته أن أجزاء الأجسام تفرقت وتخللت الأرض، ولذلك عقب بقوله بعده {وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [السجدة: 10]. وأما عطف {وَالشَّهَادَةِ} فهو تكميل واحتراس.
ومناسبة وصفه تعالى بـ {الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} عقب ما تقدم أنه خلق الخلق بمحض قدرته بدون معين، فالعزة وهي الاستغناء عن الغير ظاهرة، وأنه خلقهم على أحوال فيها لطف بهم فهو رحيم بهم فيما خلقهم إذ جعل أمور حياتهم ملائمة لهم فيها نعيم لهم وجنبهم الآلام فيها. فهذا سبب الجمع بين صفتي {الْعَزِيزُ} و {الرَّحِيمُ} هنا على خلاف الغالب من ذكر الحكيم مع العزيز.
و {الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} يجوز كونهما خبرين آخرين عن اسم الإشارة أو وصفين لـ {عَالِمُ الْغَيْبِ} .
[7- 9] {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْأِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ}
خبر آخر عن اسم الإشارة أو وصف آخر لـ {عَالِمُ الْغَيْبِ} [السجدة: 6], وهو ارتقاء في الاستدلال مشوب بامتنان على الناس أن أحسن خلقهم في جملة إحسان خلق كل شيء

وبتخصيص خلق الإنسان بالذكر. والمقصود: أنه الذي خلق كل شيء وخاصة الإنسان خلقا بعد أن لم يكن شيئا مذكورا، وأخرج أصله من تراب ثم كون فيه نظام النسل من ماء، فكيف تعجزه إعادة أجزائه.
والإحسان: جعل الشيء حسنا، أي محمودا غير معيب، وذلك بأن يكون وافيا بالمقصود منه فإنك إذا تأملت الأشياء رأيتها مصنوعة على ما ينبغي، فصلابة الأرض مثلا للسير عليها، ورقة الهواء ليسهل انتشاقه للتنفس، وتوجه لهيب النار إلى فوق لأنها لو كانت مثل الماء تلتهب يمينا وشمالا لكثرت الحرائق فأما الهواء فلا يقبل الاحتراق.
وقوله: {خَلَقَهُ} قرأه نافع وعاصم وحمزة والكسائي وخلف بصيغة فعل المضي على أن الجملة صفة لـ {شَيْءٍ} أي كل شيء من الموجودات التي خلقها وهم يعرفون كثيرا منها. وقرأه الباقون بسكون اللام على أنه اسم هو بدل من {كُلَّ شَيْءٍ} بدل اشتمال. وتخلص من هذا الوصف العام إلى خلق الإنسان لأن في خلقة الإنسان دقائق في ظاهره وباطنه وأعظمها العقل.
و {الْأِنْسَانِ} أريد به الجنس، وبدء خلقه هو خلق أصله آدم كما في قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} [لأعراف: 11]، أي: خلقنا أباكم ثم صورناه ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم. ويدل على هذا المعنى هنا قوله: {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ} فإن ذلك بدئ من أول نسل لآدم وحواء، وقد تقدم خلق آدم في سورة البقرة. و {مِنْ} في قوله: {مِنْ طِينٍ} ابتدائية.
والنسل: الأبناء والذرية. سمي نسلا لأنه ينسل، أي: ينفصل من أصله وهو مأخوذ من نسل الصوف والوبر إذا سقط عن جلد الحيوان، وهو من بابي كتب وضرب.
و {مِنْ} في قوله: {مِنْ سُلالَةٍ} ابتدائية. وسميت النطفة التي يتقوم منها تكوين الجنين سلالة كما في الآية لأنها تنفصل عن الرجل، فقوله: {مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} بيان لـ {سُلالَةٍ} . و {مِنْ} بيانية فالسلالة هي الماء المهين، هذا هو الظاهر لمتعارف الناس؛ ولكن في الآية إيماء علمي لم يدركه الناس إلا في هذا العصر وهو أن النطفة يتوقف تكون الجنين عليها لأنه يتكون من ذرات فيها تختلط مع سلالة من المرأة وما زاد على ذلك يذهب فضله، فالسلالة التي تنفرز من الماء المهين هي النسل لا جميع الماء المهين، فتكون {مِنْ} في قوله: {مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} للتبعيض أو للابتداء.

والمهين: الشيء الممتهن الذي لا يعبأ به. والغرض من إجراء هذا الوصف عليه الاعتبار بنظام التكوين إذ جعل الله تكوين هذا الجنس المكتمل التركيب العجيب الآثار من نوع ماء مهراق لا يعبأ به ولا يصان.
والتسوية: التقويم، قال تعالى {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4]. والضمير المنصوب في {سَوَّاهُ} عائد إلى {نَسْلَهُ} لأنه أقرب مذكور ولأنه ظاهر العطف بـ {ثُمَّ} وإن كان آدم قد سوي ونفخ فيه من الروح، قال تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [ص: 72]. وذكر التسوية ونفخ الروح في جانب النسل يؤذن بأن أصله كذلك، فالكلام إيجاز.
وإضافة الروح إلى ضمير الجلالة للتنويه بذلك السر العجيب الذي لا يعلم تكوينه إلا هو تعالى، فالإضافة تفيد أنه من أشد المخلوقات اختصاصا بالله تعالى وإلا فالمخلوقات كلها لله.
والنفخ: تمثيل لسريان اللطيفة الروحانية في الكثيفة الجسدية مع سرعة الإيداع، وقد تقدم في قوله تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} في سورة الحجر [29].
والانتقال من الغيبة إلى الخطاب في قوله: {وَجَعَلَ لَكُمُ} التفات لأن المخاطبين من أفراد الناس وجعل السمع والأبصار والأفئدة للناس كلهم غير خاص بالمخاطبين فلما انتهض الاستدلال على عظيم القدرة وإتقان المراد من المصنوعات المتحدث عنهم بطريقة الغيبة الشامل للمخاطبين وغيرهم ناسب أن يلتفت إلى الحاضرين بنقل الكلام إلى الخطاب لأنه آثر بالامتنان وأسعد بما يرد بعده من التعريض بالتوبيخ في قوله: {قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} . والامتنان بقوى الحواس وقوى العقل أقوى من الامتنان بالخلق وتسويته لأن الانتفاع بالحواس والإدراك متكرر متجدد فهو محسوس بخلاف التكوين والتقويم فهو محتاج إلى النظر في آثاره.
والعدول عن أن يقال: وجعلكم سامعين مبصرين عالمين إلى {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} لأن ذلك أعرق في الفصاحة، ولما تؤذن به اللام من زيادة المنة في هذا الجعل إذ كان جعلا لفائدتهم ولأجلهم، ولما في تعليق الأجناس من السمع والأبصار والأفئدة بفعل الجعل من الروعة والجلال في تمكن التصرف، ولأن كلمة {الْأَفْئِدَةَ} أجمع من كلمة عاقلين لأن الفؤاد يشمل الحواس الباطنة كلها والعقل بعض منها

وأفرد {السَّمْعَ} لأنه مصدر لا يجمع، وجمع {وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} باعتبار تعدد الناس. وتقديم السمع على البصر تقدم وجهه عند قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} في سورة البقرة [7]. وتقديم {السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} على {وَالْأَفْئِدَةَ} هنا عكس آية البقرة لأنه روعي هنا ترتيب حصولها في الوجود فإنه يكتسب المسموعات والمبصرات قبل اكتساب التعقل.
و {قَلِيلاً} اسم فاعل منتصب على الحال من ضمير {لَكُمُ} ، و {مَا تَشْكُرُونَ} في تأويل مصدر وهو مرتفع على الفاعلية بـ {قَلِيلاً} ، أي: أنعم عليكم بهذه النعم الجليلة وحالكم قلة الشكر. ثم يجوز أن يكون {قَلِيلاً} مستعملا في حقيقته وهي كون الشيء حاصلا ولكنه غير كثير. ويجوز أن يكون كناية عن العدم كقوله تعالى: {فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء: 46]. وعلى الوجهين يحصل التوبيخ لأن النعم المستحقة للشكر وافرة دائمة فالتقصير في شكرها وعدم الشكر سواء.
[10] {وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ} .
الواو للحال، والحال للتعجيب منهم كيف أحالوا إعادة الخلق وهم يعلمون النشأة الأولى، وليست الإعادة بأعجب من بدء الخلق وخاصة بدء خلق آدم عن عدم، وخلو الجملة الماضوية عن حرف "قد" لا يقدح في كونها حالا على التحقيق.
والاستفهام في {أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي} للتعجب والإحالة، أي أظهروا في كلامهم استبعاد البعث بعد فناء الأجساد واختلاطها بالتراب، مغالطة للمؤمنين وترويجا لكفرهم. والضلال: الغياب، ومنه: ضلال الطريق، والضالة: الدابة التي ابتعدت عن أهلها فلم يعرف مكانها. وأرادوا بذلك إذا تفرقت أجزاء أجسادنا في خلال الأرض واختلطت بتراب الأرض. وقيل: الضلال في الأرض: الدخول فيها بناء على أنه يقال: أضل الناس الميت، أي: دفنوه. وأنشدوا قول النابغة في رثاء النعمان بن الحارث الغساني:
فآب مضلوه بعين جلية ... وغودر بالجولان حزم ونائل
وقرأه نافع والكسائي ويعقوب: {إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} بهمزة واحدة على الإخبار اكتفاء بدخول الاستفهام على أول الجملة ومتعلقها. وقرأ الباقون {أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} بهمزتين أولاهما للاستفهام والثانية تأكيد لهمزة الاستفهام الداخلة على {أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي

الْأَرْضِ} . وقرأ ابن عامر بترك الاستفهام في الموضعين على أن الكلام خبر مستعمل في التهكم.
وتأكيد جملة {إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} بحرف {إِنَّ} لأنهم حكوا القول الذي تعجبوا منه وهو ما في القرآن من تأكيد تجديد الخلق فحكوه بالمعنى كما في الآية الأخرى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [سبأ: 7]، أي: يحقق لكم ذلك.
و {إِذَا} ظرف وهو معمول لما في جملة {إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} من معنى الكون. والخلق: مصدر. و {فِي} للظرفية المجازية ومعناها المصاحبة.
والجديد: المحدث، أي غير خلقنا الذي كنا فيه.
و {بَلْ} من {بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ} إضراب عن كلامهم، أي ليس إنكارهم البعث للاستبعاد والاستحالة لأن دلائل إمكانه واضحة لكل متأمل ولكن الباعث على إنكارهم إياه هو كفرهم بلقاء الله، أي كفرهم الذي تلقوه عن أئمتهم عن غير دليل، فالمعنى: بل هم قد أيقنوا بانتفاء البعث فهم متعنتون في الكفر مصرون عليه لا تنفعهم الآيات والأدلة. فالكفر المثبت هنا كفر خاص وهو غير الكفر الذي دل عليه قولهم {أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} فإنه كفر بلقاء الله لكنهم أظهروه في صورة الاستبعاد تشكيكا للمؤمنين وترويجا لكفرهم.
وتقديم المجرور على {كَافِرُونَ} للرعاية على الفاصلة. والإتيان بالجملة الاسمية لإفادة الدوام على كفرهم والثبات عليه.
[11] {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ}
استئناف ابتدائي جار على طريقة حكاية المقاولات لأن جملة {قُلْ} في معنى جواب لقولهم {أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [السجدة: 10]؛ أمر الرسول عليه الصلاة والسلام أن يعيد إعلامهم بأنهم مبعوثون بعد الموت. فالمقصود من الجملة هو قوله: {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} إذ هو مناط إنكارهم، وأما أنهم يتوفاهم ملك الموت فذكره لتذكيرهم بالموت وهم لا ينكرون ذلك ولكنهم ألهتهم الحياة الدنيا عن النظر في إمكان البعث والاستعداد له فذكروا به ثم أدمج فيه ذكر ملك الموت لزيادة التخويف من الموت والتعريض بالوعيد من قوله: {الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} فإنه موكل بكل ميت بما يناسب معاملته عند

قبض روحه. وفيه إبطال لجهلهم بأن الموت بيد الله تعالى وأنه كما خلقهم يميتهم وكما يميتهم يحييهم، وأن الإماتة والإحياء بإذنه وتسخير ملائكته في الحالين. وذلك إبطال لقوله: {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا} [الجاثية: 24] فأعلمهم الله أنهم لا يخرجون عن قبضة تصرفه طرفة عين لا في حال الحياة ولا في حال الممات. وإذا كان موتهم بفعل ملك الموت الموكل من الله بقبض أرواحهم ظهر أنهم مردودة إليهم أرواحهم متى شاء الله.
والتوفي: الإماتة. وتقدم في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ} في سورة الأنعام [60]، وقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ} في سورة الأنفال [50].
وملك الموت هو الملك الموكل بقبض الأرواح وقد ورد ذكره في القرآن مفردا كما هنا وورد مجموعا في قوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ} في سورة الأنفال [50], وقوله: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} في سورة الأنعام [61]، وذلك أن الله جعل ملائكة كثيرين لقبض الأرواح وجعل مبلغ أمر الله بذلك عزرائيل فإسناد التوفي إليه كإسناده إلى الله في قوله: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ} [الزمر: 42]، وجعل الملائكة الموكلين بقبض الأرواح أعوانا له وأولئك يسلمون الأرواح إلى عزرائيل فهو يقبضها ويودعها في مقارها التي أعدها الله لها، ولم يرد اسم عزرائيل في القرآن. وقيل: إن ملك الموت في هذه الآية مراد به الجنس فتكون كقوله: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} [الأنعام: 61].
[12] {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ}
أردف ذكر إنكارهم البعث بتصوير حال المنكرين أثر البعث وذلك عند حشرهم إلى الحساب، وجيء في تصوير حالهم بطريقة حذف جواب {لَوْ} حذفا يرادفه أن تذهب نفس السامع كل مذهب من تصوير فظاعة حالهم وهول موقفهم بين يدي ربهم، وبتوجيه الخطاب إلى غير معين لإفادة تناهي حالهم في الظهور حتى لا يختص به مخاطب. والمعنى: لو ترى أيها الرائي لرأيت أمرا عظيما.
و {الْمُجْرِمُونَ} هم الذين قالوا {أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [السجدة: 10]، فهو إظهار في مقام الإضمار لقصد التسجيل عليهم بأنهم في قولهم ذلك مجرمون، أي آتون بجرم وهو جرم تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم وتعطيل الدليل.

والناكس: الذي يجعل أعلى شيء إلى أسفل، يقال: نكس رأسه، إذا طأطأه لأنه كمن جعل أعلى الشيء إلى أسفل. ونكس الرؤوس علامة الذل والندامة، وذلك مما يلاقون من التقريع والإهانة.
والعندية عندية السلطة، أي وهم في حكم ربهم لا يستطيعون محيدا عنه، فشبه ذلك بالكون في مكان مختص بربهم في أنهم لا يفلتون منه.
وجملة {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا} إلى آخر مقول قول محذوف دل عليه السياق هو في موضع الحال، أي ناكسوا رؤوسهم يقولون أو قائلين: أبصرنا وسمعنا، وهم يقولون ذلك ندامة وإقرارا بأن ما توعدهم القرآن به حق.
وحذف مفعول {أَبْصَرْنَا} ومفعول {سَمِعْنَا} لدلالة المقام، أي أبصرنا من الدلائل المبصرة ما يصدق ما أخبرنا به -فقد رأوا البعث من القبور ورأوا ما يعامل به المكذبون-، وسمعنا من أقوال الملائكة ما فيه تصديق الوعيد الذي توعدنا به، أي: فعلمنا أن ما دعانا إليه الرسول هو الحق الذي به النجاة من العذاب فأرجعنا إلى الدنيا نعمل صالحا كما قالوا في موطن آخر {رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ} [إبراهيم: 44].
وقوله: {إِنَّا مُوقِنُونَ} تعليل لتحقيق الوعد بالعمل الصالح بأنهم صاروا موقنين بحقية ما يدعوهم الرسول صلى الله عليه وسلم إليه فكانت {إِنَّ} مغنية غناء فاء التفريع المفيدة للتعليل، أي ما يمنعنا من تحقيق ما وعدنا به شك ولا تكذيب، إنا أيقنا الآن أن ما دعينا إليه حق. فاسم الفاعل في قوله: {مُوقِنُونَ} واقع زمان الحال كما هو أصله.
[13] {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}
اعتراض بين القول المقدر قبل قوله: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا} [السجدة: 12] وبين الجواب عنه بقوله: {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ} [السجدة: 14] فالواو التي في صدر الجملة اعتراضية، وهي من قبيل واو الحال.
ومفعول فعل المشيئة محذوف على ما هو الغالب في فعل المشيئة الواقع شرطا استغناء عن المفعول بما يدل عليه جواب الشرط. والمعنى: لو شئنا لجبلنا كل نفس على الانسياق إلى الهدى بدون اختيار كما جبلت العجماوات على ما ألهمت إليه من نظام حياة

أنواعها فلكانت النفوس غير محتاجة إلى النظر في الهدى وضده، ولا إلى دعوة من الله إلى طريق الهدى، ولكن الله لما أراد أن يكل إلى نوع الإنسان تعمير هذا العالم، وأن يجعله عنوانا لعلمه وحكمته، وأن يفضله على جميع الأنواع والأجناس العامرة لهذا العالم؛ اقتضى لتحقيق هذه الحكمة أن يخلق في الإنسان عقلا يدرك به النفع والضر، والكمال والنقص، والصلاح والفساد، والتعمير والتخريب، وتنكشف له بالتدبر عواقب الأعمال المشتبهة والمموهة بحيث يكون له اختيار ما يصدر عنه من أجناس وأنواع الأفعال التي هي في مكنته بإرادة تتوجه إلى الشيء وضده، وخلق فيه من أسباب العمل وآلاته من الجوارح والأعضاء إذا كانت سليمة فكان بذلك مستطيعا لأن يعمل وأن لا يعمل على وفاق ميله واختياره وكسبه. وهذا المعنى هو الذي سماه الأشعري بالكسب وبالاستطاعة وتكفل له بإعانته على ما خلق له من الإدراك يدعوه إلى ما يريده الله منه من الهدى والصلاح في هذا العالم بواسطة رسل من نوعه يبلغون إليه مراد ربهم فطردهم على الصفات الملكية وجعلهم وسائط بينه وبين الناس في إبلاغ مراد ربهم إليهم. ووعده الناس بالجزاء على فعل الخير وفعل الشر بما فيه باعث على الخير ورادع عن الشر.
وقد أراد الله أن يفضل هذا النوع بأن يجعل منه عمارا لعالم الكمال الخالد عالم الروحانيات فجعل لأهل الكمال الديني مراتب سامية متفاوتة في عالم الخلد على تفاوت نفوسهم في ميدان السبق إلى الكمالات، وجعل أضداد هؤلاء عمارا لهوة النقائص فملأ منهم تلك الهوة المسماة جهنم.
فهذا معنى قوله: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} البالغ من الإيجاز مبلغ الإعجاز، إذ حذف معظم ما أريد بحرف الاستدراك الوارد على قوله: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} ؛ فإن مقتضى الاستدراك أن يقدر: ولكنا لم نشأ ذلك بل شئنا أن نخلق الناس مختارين بين طريقي الهدى والضلال، ووضعنا لهم دواعي الرجاء والخوف، وأريناهم وسائل النجاة والارتباك بالشرائع قال تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10]، أي: الطريقين، وحققنا الأخبار عن الجزاءين بالوعد والوعيد بالجنة وجهنم فلأملأن جهنم بأهل الضلال من الجنة والناس أجمعين، فدخل هذا في قوله [تعالى]: {حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} بما يشبه دلالة الاقتضاء، وقد أومأ إلى هذا قول النبيء صلى الله عليه وسلم: "إن الله خلق الجنة وخلق لها ملأها وخلق النار وخلق لها ملأها" . وإنما اختير الاقتصار في المنطوق به الدال على المحذوف على

شق مصير أهل الضلال لأنه الأنسب بسياق الاعتراض إثر كلام أهل الضلالة في يوم الجزاء، ولأنه أظهر في تعلق مضمون جملة الاعتراض بمضمون اقتراحهم، أي لو كان إرجاعهم إلى الدنيا ليعملوا الصالحات مقتضى لحكمتنا لكنا جبلناهم على الهدى في حياتهم الدنيا فكانوا يأتون الصالحات بالقسر والإلجاء. فالمراد {الْقَوْلُ} ما أوعد الله به أهل الشرك والضلال.
و {الْجِنَّةِ} : الجن وهم شياطين.
وجعل جمهور المفسرين قوله: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} إلى آخره جوابا موجها من قبل الله تعالى إلى المجرمين عن قولهم {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا} [السجدة: 12] الخ.
ووجود الواو في أول هذا الكلام ينادي على أنه ليس جوابا لقول المشركين يومئذ فهم أقل من أن يجعلوا أهلا لتلقي هذه الحكمة بل حقهم الإعراض عن جوابهم كما جاء في آية سورة المؤمنين [106- 108] {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ قَالَ اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} ، ولأنه لا يلاقي سؤالهم لأنهم سألوا الرجوع ليعملوا صالحا ولم يكن كلامهم اعتذارا عن ضلالهم بأن الله لم يؤتهم الهدى في الحياة الدنيا، وإنما هذا بيان من الله ساقه للرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين ليحيطوا علما بدقائق الحكمة الربانية.
وعدل عن الإضافة في {حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} فلم يقل: حق قولي، لأنه أريد الإشارة إلى قول معهود وهو ما في سورة ص [85]: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} أي حق القول المعهود. واجتلبت {مِنَ} الابتدائية لتعظيم شأن هذا القول بأنه من الله. وعدل عن ضمير العظمة إلى ضمير النفس لإفادة الانفراد بالتصرف ولأنه الأصل، مع ما في هذا الاختلاف من التفنن.
[14] {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.
هذا جواب عن قولهم {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا} [السجدة: 12] الذي هو إقرار بصدق ما كانوا يكذبون به، المؤذن به قولهم: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا} . فالفاء لتفريع جواب عن إقرارهم إلزاما لهم بموجب إقرارهم، أي فيتفرع على اعترافكم بحقية ما كان الرسول يدعوكم إليه أن يلحقكم عذاب النار.

ومجيء التفريع من المتكلم على ما هو من كلام المخاطب فيه إلزام بالحجة كالفاءات في قوله تعالى: {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} [الحجر: 34] وقوله: {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 79- 82] وقوله: {فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 48، 49]؛ فهذه خمس فاءات كل فاء منها هي تفريع من المتكلم بها على كلام غيره. وقد تقدم ذلك في العطف بالواو عند قوله تعالى: {قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} في سورة البقرة [124].
واستعمال الذوق بمعنى مطلق الإحساس مجاز مرسل تقدم عند قوله تعالى: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} في سورة العقود [95]. ومفعول "ذوقوا" محذوف دل عليه السياق، أي فذوقوا ما أنتم فيه مما دعاكم إلى أن تسألوا الرجوع إلى الدنيا.
والنسيان الأول: الإهمال والإضاعة، وتقدم في قوله تعالى: {فَنَسِيَ} في سورة طه [88].
والباء للسببية، أي بسبب إهمالكم الاستعداد لهذا اليوم. والنسيان في قوله: {نَسِينَاكُمْ} مستعمل في الحرمان من الكرامة مع المشاكلة.
واللقاء: حقيقته العثور على ذات، فمنه لقاء الرجل غيره وتجيء منه الملاقاة، ومنه: لقاء المرء ضالة أو نحوها. وقد جاء منه: شيء لقى، أي مطروح. ولقاء اليوم في هذه الآية مجاز في حلول اليوم ووجوده على غير ترقب كأنه عثر عليه.
وإضافة "يوم" إلى ضمير المخاطبين تهكم بهم لأنهم كانوا ينكرونه فلما تحققوه جعل كأنه أشد اختصاصا بهم على طريقة الاستعارة التهكمية لأن اليوم إذا أضيف إلى القوم أو الجماعة إذا كان يوم انتصار لهم على عدوهم قال السموأل:
وأيامنا مشهورة في عدونا ... لها غرر معلومة وحجول
ويقولون: أيام بني فلان على بني فلان، أي أيام انتصارهم. وسبب ذلك أن تقدير الإضافة على معنى اللام وهي تفيد الاختصاص المنتزع من الملك، قال عمرو بن كلثوم:
وأيام لنا غر طوال
وقال تعالى {ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ} [النبأ: 39]، أي يوم نصر المؤمنين على المشركين في الآخرة نصرا مؤبدا، أي ليس كأيامكم في الدنيا التي هي أيام نصر زائل.

والإشارة بـ {هَذَا} إلى اليوم تهويلا له.
وجملة {إِنَّا نَسِينَاكُمْ} مستأنفة استئنافا بيانيا لأن المجرمين إذا سمعوا ما علموا منه أنهم ملاقو العذاب من قوله: {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} تطلعوا إلى معرفة مدى هذا العذاب المذوق وهل لهم منه مخلص وهل يجابون إلى ما سألوا من الرجعة إلى الدنيا ليتداركوا ما فاتهم من التصديق، فأعلموا بأن الله ممهل شأنهم، أي لا يستجيب لهم وهو كناية عن تركهم فيما أذيقوه. وقد تقدم في سورة طه [126] قوله: {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} فشبه بالنسيان إظهارا للعدل في الجزاء وأنه من جنس العمل المجازى عنه. وقد حقق هذا الخبر بمؤكدات وهي حرف التوكيد. وإخراج الكلام في صيغة الماضي على خلاف مقتضى الظاهر من زمن الحال لإفادة تحقق الفعل حتى كأنه مضى ووقع.
وقوله: {وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} عطف على {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ} ، وهو وإن أفاد تأكيد تسليط العذاب عليهم فإن عطفه مراعى فيه ما بين الجملتين من المغايرة بالمتعلقات والقيود مغايرة اقتضت أن تعتبر الجملة الثانية مفيدة فائدة أخرى؛ فالجملة الأولى تضمنت أن من سبب استحقاقهم تلك الإذاقة إهمالهم التدبر في حلول هذا اليوم، والجملة الثانية تضمنت أن ذلك العذاب مستمر وأن سبب استمرار العذاب وعدم تخفيفه أعمالهم الخاطئة وهي أعم من نسيانهم لقاء يومهم ذلك.
[15- 17] {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ [15] تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [16] فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [17]}
استئناف ناشئ عن قوله: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} الآية [السجدة: 3]، تفرغ المقام له بعد أن أنحى بالتقريع والوعيد للكافرين على كفرهم بلقاء الله، بما أفادت اسمية جملة {بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ} [السجدة: 10] من أنهم ثابتون على الكفر بلقاء الله دائمون عليه، وهو مما أنذرتهم به آيات القرآن، فالتكذيب بلقاء الله تكذيب بما جاء به القرآن فهم لا يؤمنون، وإنما يؤمن بآيات الله الذين ذكرت أوصافهم هنا.
والمراد بالآيات هنا آيات القرآن بقرينة قوله: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا} بتشديد الكاف، أي أعيد ذكرها عليهم وتكررت تلاوتها على مسامعهم.

ومفاد {إِنَّمَا} قصر إضافي، أي يؤمن بآيات الله الذين إذا ذكروا بها تذكيرا بما سبق لهم سماعه لم يتريثوا عن إظهار الخضوع لله دون الذين قالوا {أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [السجدة: 10]، وهذا تأييس للنبيء صلى الله عليه وسلم من إيمانهم، وتعريض بهم بأنهم لا ينفعون المسلمين بإيمانهم ولا يغيظونهم بالتصلب في الكفر.
وأوثرت صيغة المضارع في {إِنَّمَا يُؤْمِنُ} لما تشعر به من أنهم يتجددون في الإيمان ويزدادون يقينا وقتا فوقتا، كما تقدم في قوله تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} في سورة البقرة [15]، وإلا فإن المؤمنين قد حصل إيمانهم فيما مضى ففعل المضي آثر بحكاية حالهم في الكلام التداول لولا هذه الخصوصية، ولهذا عرفوا بالموصولية والصلة الدال معناها على أنهم راسخون في الإيمان، فعبر عن إبلاغهم آيات القرآن وتلاوتها على أسماعهم بالتذكير المقتضي أن ما تتضمنه الآيات حقائق مقررة عندهم لا يفادون بها فائدة لم تكن حاصلة في نفوسهم ولكنها تكسبهم تذكيرا {فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذريات: 55]. وهذه الصفة التي تضمنتها الصلة هي حالهم التي عرفوا بها لقوة إيمانهم وتميزوا بها عن الذين كفروا، وليست تقتضي أن من لم يسجدوا عند سماع الآيات ولم يسبحوا بحمد ربهم من المؤمنين ليسوا ممن يؤمنون، ولكن هذه حالة أكمل الإيمان وهي حالة المؤمنين مع النبيء صلى الله عليه وسلم يومئذ عرفوا بها، وهذا كما تقول للسائل عن علماء البلد: هم الذين يلبسون عمائم صفتها كذا. جاء في ترجمة مالك بن أنس أنه ما أفتى حتى أجازه سبعون محنكا، أي عالما يجعل شقة من عمامته تحت حنكه وهي لبسة أهل الفقه والحديث. قال مالك رحمه الله: قلت لأمي: أذهب فأكتب العلم، فقلت: تعال فالبس ثياب العلم. فألبستني ثيابا مشمرة ووضعت الويلة على رأسي وعممتني فوقها.
والخرور: الهوي من علو إلى سفل.
والسجود: وضع الجبهة على الأرض إرادة التعظيم والخضوع.
وانتصب {سُجَّداً} على الحال المبينة للقصد من {خَرُّوا} ، أي: سجدا لله وشكرا له على ما حباهم به من العلم والإيمان كما دل عليه قرنه بقوله: {وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} . والباء فيه للملابسة وتقدم في سورة الإسراء [107]: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً} .
ودلت الجملة الشرطية على اتصال تعلق حصول الجواب بحصول الشرط وتلازمهما. وجيء في نفي التكبر عنهم بالمسند الفعلي لإفادة اختصاصهم بذلك، أي دون المشركين

الذين كان الكبر خلقهم فهم لا يرضون لأنفسهم بالانقياد للنبيء منهم وقالوا {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً} [الفرقان: 21].
وقوله تعالى: {وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} موضع سجدة من سجدات تلاوة القرآن رجاء أن يكون التالي من أولئك الذين أثنى الله عليهم بأنهم إذا ذكروا بآيات الله سجدوا، فالقارئ يقتدي بهم.
وجملة {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ} حال من الموصول، أي: الذين إذا ذكروا بها خروا ومن حالهم تتجافى جنوبهم عن المضاجع، أو استئناف. وجيء فيها بالمضارع لإفادة تكرر ذلك وتجدده منهم في أجزاء كثيرة من الأوقات المعدة لاضطجاع وهي الأوقات التي الشأن فيها النوم.
والتجافي: التباعد والمتاركة. والمعنى: أن تجافي جنوبهم عن المضاجع يتكرر في الليلة الواحدة، أي: يكثرون السهر بقيام الليل والدعاء لله؛ وقد فسره النبيء صلى الله عليه وسلم بصلاة الرجل في جوف الليل، كما سيأتي في حديث معاذ عند الترمذي.
و {الْمَضَاجِعِ} : الفرش جمع مضجع، وهو مكان الضجع، أي: الاستلقاء للراحة والنوم. وأل فيه عوض عن المضاف إليه، أي عم مضاجعهم كقوله تعالى: {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 41]. وهذا تعريض بالمشركين إذ يمضون ليلهم بالنوم لا يصرفه عنهم تفكر بل يسقطون كما تسقط الأنعام. وقد صرح بهذا المعنى عبد الله بن رواحة بقوله يصف النبيء صلى الله عليه وسلم، وهو سيد أصحاب هذا الشأن:
يبيت يجافي جنبه عن فراشه ... إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
وجملة {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} يجوز أن تكون حالا من ضمير {جُنُوبُهُمْ} والأحسن أن تجعل بدل اشتمال من جملة {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ} .
وانتصب {خَوْفاً وَطَمَعاً} على الحال بتأويل خائفين وطامعين، أي: من غضبه وطمعا في رضاه وثوابه، أي هاتان صفتان لهم. ويجوز أن ينتصبا على المفعول لأجله، أي لأجل الخوف من ربهم والطمع في رحمته.
ولما ذكر إيثارهم التقرب إلى الله على حظوظ لذاتهم الجسدية ذكر معه إيثارهم إياه على ما به نوال لذات أخرى وهو المال إذ ينفقون منه ما لو أبقوه لكان مجلبة راحة لهم فقال {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} أي: يتصدقون به ولو أيسر أغنياؤهم فقراءهم. ثم عظم الله

جزاءهم إذ قال {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} , أي: لا تبلغ نفس من أهل الدنيا معرفة ما أعد الله لهم قال النبيء صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: "أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر" فدل على أن المراد بـ {نَفْسٌ} في هذه الآية أصحاب النفوس البشرية فإن مدركات العقول منتهية إلى ما تدركه الأبصار من المرئيات من الجمال والزينة، وما تدركه الأسماع من محاسن الأقوال ومحامدها ومحاسن النغمات، وإلى ما تبلغ إليه المتخيلات من هيئات يركبها الخيال من مجموع ما يعهده من المرئيات والمسموعات مثل الأنهار من عسل أو خمر أو لبن، ومثل القصور والقباب من اللؤلؤ، ومثل الأشجار من زبرجد، والأزهار من ياقوت، وتراب من مسك وعنبر، فكل ذلك قليل في جانب ما أعد لهم في الجنة من هذه الموصوفات ولا تبلغه صفات الواصفين لأن منتهى الصفة محصور فيما تنتهي إليه دلالات اللغات مما يخطر على قلوب البشر فلذلك قال النبيء صلى الله عليه وسلم: "ولا خطر على قلب بشر" وهذا كقولهم في تعظيم شيء: هذا لا يعلمه إلا الله. قال الشاعر:
فلم يدر إلا الله ما هيجت لنا ... عشية آناء الديار وشامها
وعبر عن تلك النعم بـ {مَا أُخْفِيَ} لأنها مغيبة لا تدرك إلا في عالم الخلود.
وقرة الأعين: كناية عن المسرة كما تقدم في قوله تعالى: {وَقَرِّي عَيْناً} في سورة مريم [26].
وقرأ الجمهور {أُخْفِيَ} بفتح الياء بصيغة الماضي المبني للمجهول. وقرأ حمزة ويعقوب {أُخْفِيَ} بصيغة المضارع المفتتح بهمزة المتكلم والياء ساكنة، و {جَزَاءً} منصوب على الحال من {مَا أُخْفِيَ لَهُمْ} وقد فسر النبيء صلى الله عليه وسلم أنه جزاء على هذه الأعمال الصالحات في حديث أغر رواه الترمذي عن معاذ بن جبل قال: "قلت يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار. قال: لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه: تعبد الله لا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت" ثم قال: "ألا أدلك على أبواب الخير: الصوم جنة والصدقة تطفئ الخطايا كما يطفئ الماء النار وصلاة الرجل في جوف الليل ثم تلا {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} حتى بلغ {يَعْمَلُونَ} الحديث.
[18- 20] {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ [18] أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا

وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ}
فرع بالفاء على ما تقدم من الآيات من الوعد للمؤمنين والوعيد للكافرين استفهام بالهمزة مستعمل في إنكار المساواة بين المؤمن والكافر، وهو إنكار بتنزيل السامع منزلة المتعجب من البون بين جزاء الفريقين في ذلك اليوم فكان الإنكار موجها إلى ذلك التعجب في معنى الاستئناف البياني. والكاف للتشبيه في الجزاء.
وجملة {لا يَسْتَوُونَ} عطف بيان للمقصود من الاستفهام.
والفاسق هنا هو: من ليس بمؤمن بقرينة قوله بعده {فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} . فالمراد: الفسق عن الإيمان الذي هو الشرك وهو إطلاق كثير في القرآن. ثم أكد كلا الجزاءين بذكر مرادف لمدلوله مع زيادة فائدة، فجملة {فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى} إلى آخرها مؤكدة لمضمون جملة {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ} [السجدة: 17] إلى آخرها.
وجملة {فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ} إلى آخرها مؤكدة لمضمون جملة {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} إلى {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [السجدة: 14].
و {مَنْ} الموصولة في الموضعين عامة بقرينة التفصيل بالجمع في قوله: {أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا} الخ. و {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا} . فليست الآية نازلة في معين كما قيل.
و {الْمَأْوَى} : المكان الذي يؤوى إليه، أي يرجع إليه.
والتعريف باللام فيه للعهد، أي مأوى المؤمنين قال تعالى: {عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} [النجم: 15]. ولك أن تجعل اللام عوضا عن المضاف إليه، أي مأواهم بقرينة قوله في مقابلة {فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ} . وإضافة {جَنَّاتُ} إلى {الْمَأْوَى} من إضافة الموصوف إلى الصفة لقصد التخفيف وهي واقعة في الكلام وإن اختلف البصريون والكوفيون في تأويلها خلافا لا طائل تحته، وذلك مثل قولهم: مسجد الجامع، وقوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيّ} [القصص: 44]، وقولهم: عشاء الآخرة. والمعنى: فلهم الجنات المأوى لهم، أي الموعودون بها.

وانتصب {نُزُلاً} على الحال من {جَنَّاتُ الْمَأْوَى} . والنزل بضمتين مشتق من النزول فيطلق على ما يعد للنزيل من العطاء والقرى قال في "الكشاف" : النزل: عطاء النازل، ثم صار عاما ، أي يطلق على العطاء ولو بدون ضيافة مجازا مرسلا. قلت: ويطلق على محل نزول الضيف ولأجل هذه الإطلاقات يختلف المفسرون في المراد منه في بعض الآيات رعيا لما يناسب سياق الكلام. وفسره الزجاج في هذه الآية ونحوها بالمنزل، وفسره في قوله تعالى: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} [الصافات: 62] فقال: يقول أذلك خير في بابا الإنزال التي تمكن معها الإقامة أم نزل أهل النار وقد تقدم في آخر سورة آل عمران [163], والباء في {بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} للسببية.
وقوله: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} تقدم نظيره في سورة الحج [22].
ويتجه في هذه الآية أن يقال: لماذا أظهر اسم النار في قوله: {ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ} مع أن اسم النار تقدم في قوله: {فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ} فكان مقتضى الظاهر الإضمار بأن يقال: وقيل لهم ذوقوا عذابها. وهذا السؤال أورده ابن الحاجب في "أماليه" وأجاب بوجهين: أحدهما أن سياق الآية التهديد وفي إظهار لفظ النار من التخويف ما ليس في الإضمار الثاني: أن الجملة حكاية لما يقال لهم يومئذ فناسب أن يحكى كما قيل لهم وليس فيما يقال لهم تقدم ذكر النار.
[21] {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}
إخبار بأن لهم عذابا آخر لا يبلغ مبلغ عذاب النار الموعودين به في الآخرة فتعين أن العذاب الأدنى عذاب الدنيا. والمقصود من هذا: التعريض بتهديدهم لأنهم يسمعون هذا الكلام أو يبلغ إليهم. وهذا إنذار بما لحقهم بعد نزول الآية وهو ما محنوا به من الجوع والخوف وكانوا في أمن منهما وما يصيبهم يوم بدر من القتل والأسر ويوم الفتح من الذل.
وجملة {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} استئناف بياني لحكمة إذاقتهم العذاب الأدنى في الدنيا بأنه لرجاء رجوعهم، أي رجوعهم عن الكفر بالإيمان. والمراد: رجوع من يمكن رجوعه وهم الأحياء منهم. وإسناد الرجوع إلى ضمير جميعهم باعتبار القبيلة والجماعة، أي لعل جماعتهم ترجع. وكذلك كان فقد آمن كثير من الناس بعد يوم بدر وبخاصة بعد فتح مكة، فصار من تحقق فيهم الرجوع المرجو مخصوصين من عموم {الذين فسقوا} في قوله

تعالى: { وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا} [السجدة: 20] الآية، فبقي ذلك الوعيد للذين ماتوا على الشرك، وهي مسألة الموافاة عند الأشعري.
[22] {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} [22]}
عطف على جملة {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا} [السجدة: 15] إلى آخرها حيث اقتضت أن الذين قالوا: {أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [السجدة: 10] ليسوا كأولئك فانتقل إلى الإخبار عنهم بأنهم أشد الناس ظلما لأنهم يذكرون بآيات الله حين يتلى عليهم القرآن فيعرضون عن تدبرها ويلغون فيها، فآيات الله مراد بها القرآن.
وجيء في عطف جملة {أَعْرَضَ} بحرف {ثُمَّ} لقصد الدلالة على تراخي رتبة الإعراض عن الآيات بعد التذكير بها تراخي استبعاد وتعجيب من حالهم كقول جعفر بن علبة الحارثي:
لا يكشف الغماء إلا ابن حرة ... يرى غمرات الموت ثم يزورها
أي: عجيب إقدامه على مواقع الهلاك بعد مشاهدة غمرات الموت تغمر الذين أقدموا على تلك المواقع.
و {مَنْ} للاستفهام الإنكاري كقوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [البقرة: 114] أي: لا أظلم منه، أي لا أحد أظلم منه لأنه ظلم نفسه بحرمانها من التأمل فيما نفعه، وظلم الآيات بتعطيل نفعها في بعض من أريد انتفاعهم بها، وظلم الرسول عليه الصلاة والسلام بتكذيبه والإعراض عنه، وظلم حق ربه إذ لم يمتثل ما أراد منه.
وجملة {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} مستأنفة استئنافا بيانيا ناشئا عن تفظيع ظلم الذي ذكر بآيات ربه فأعرض عنها لأن السامع يترقب جزاء ذلك الظالم.
والمراد بالمجرمين هؤلاء الظالمون، عدل عن ذكر ضميرهم لزيادة تسجيل فظاعة حالهم بأنهم مجرمون مع أنهم ظالمون، وقد يقال: إن المجرمين أعم من الظالمين فيكون دخلوهم في الانتقام من المجرمين أحرويا وتصير جملة {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} تذييلا.
[23] {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدىً لِبَنِي

إِسْرائيلَ} .
لما جرى ذكر إعراض المشركين عن آيات الله وهي آيات القرآن في قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا} [السجدة: 22]، استطرد إلى تسلية النبيء صلى الله عليه وسلم بأن ما لقي من قومه هو نظير ما لقيه موسى من قوم فرعون الذين أرسل إليهم فالخبر مستعمل في التسلية بالتنظير والتمثيل. فهذه الجملة وما بعدها إلى قوله: {فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [السجدة: 25] معترضات. وموقع التأكيد بلام القسم وحرف التحقيق هو ما استعمل فيه الخبر من التسلية لا لأصل الأخبار لأنه أمر لا يحتاج إلى التأكيد، وبه تظهر رشاقة الاعتراض بتفريع {فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ} على الخبر الذي قبله.
وأريد بقوله: {آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} أرسلنا موسى، فذكر إيتائه الكتاب كناية عن إرساله، وإدماج ذكر {الْكِتَابَ} للتنويه بشأن موسى وليس داخلا في تنظير حال الرسول صلى الله عليه وسلم بحال موسى عليه السلام في تكذيب قومه إياه لأن موسى لم يكذبه قومه ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَجَعَلْنَاهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائيلَ} الآيات، وليتأتى من وفرة المعاني في هذه الآية ما لا يتأتى بدون ذكر {الْكِتَابَ} .
وجملة {فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ} معترضة وهو اعتراض بالفاء، ومثله وارد كثيرا في الكلام كما تقدم عند قوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} الآية في سورة النساء [135]. ويأتي عند قوله تعالى: {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} في سورة ص [57].
والمرية: الشك والتردد. وحرف الظرفية مجاز في شدة الملابسة، أي لا يكن الشك محيطا بك ومتمكنا منك، أي لا تكن ممتريا في أنك مثله سينالك ما ناله من قومه.
والخطاب يجوز أن يكون للنبيء صلى الله عليه وسلم، فالنهي مستعمل في طلب الدوام على انتفاء الشك فهو نهي مقصود منه التثبيت كقوله: {فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ} [هود: 10] وليس لطلب أحداث انكفاف عن المرية لأنها لم تقع من قبل.
واللقاء: اسم مصدر لقي وهو الغالب في الاستعمال دون لقى الذي هو المصدر القياسي. واللقاء: مصادفة فاعل هذا الفعل مفعوله، ويطلق مجازا على الإصابة كما يقال: لقيت عناء، ولقيت عرق القربة، وهو هنا مجاز، أي لا تكن في مرية في أن يصيبك ما أصابه، وضمير الغائب عائد إلى موسى. واللقاء مصدر مضاف إلى فاعله، أي مما لقي

موسى من قوم فرعون من تكذيب، أي من مثل ما لقي موسى، وهذا المضاف يدل عليه المقام أو يكون جاريا على التشبيه البليغ كقوله: هو البدر، أي: من لقاء كلقائه، فيكون هذا في معنى آيات كثيرة في هذا المعنى وردت في القرآن كقوله تعالى: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ} [الأنعام: 10] {فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} [الأنعام: 34] وقوله: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا} [الإسراء: 76, 77]. هذا أحسن تفسير للآية وقريب منه مأثور عن الحسن.
ويجوز أن يكون ضمير {لِقَائِهِ} عائدا إلى موسى على معنى: من مثل ما لقي موسى من إرساله وهو أن كانت عاقبة النصر له على قوم فرعون، وحصول الاهتداء بالكتاب الذي أوتيه، وتأييده باهتداء بني إسرائيل. فيكون هذا المعنى بشارة للنبيء صلى الله عليه وسلم بأن الله سيظهر هذا الدين.
ويجوز أن يكون ضمير {لِقَائِهِ} عائدا إلى الكتاب كما في "الكشاف" لكن على أن يكون المعنى: فلا تكن في شك من لقاء الكتاب، أي من أن تلقى من إيتائك الكتاب ما هو شنشنة تلقي الكتب الإلهية كما تلقاها موسى. فالنهي مستعمل في التحذير ممن ظن أن لا يلحقه في إيتاء الكتاب من المشقة ما لقيه الرسل من قبله، أي من جانب أذى قومه وإعراضهم. ويجوز أن يكون الخطاب في قوله: {فَلا تَكُنْ} لغير معين وهو موجه للذين امتروا في أن القرآن أنزل من عند الله سواء كانوا المشركين أو الذين يلقنونهم من أهل الكتاب، أي لا تمتروا في إنزال القرآن على بشر فقد أنزل الكتاب على موسى فلا تكونوا في مرية من إنزال القرآن على محمد. وهذا كقوله تعالى: { إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ} [الأنعام: 91]. فالنهي مستعمل في حقيقته من طلب الكف عن المرية في إنزال القرآن. وللمفسرين احتمالات أخرى كثيرة لا تسفر عن معنى بين، ومن أبعدها حمل اللقاء على حقيقته وعود ضمير الغائب لموسى وأن المراد لقاؤه ليلة الإسراء وعده الله به وحققه له في هذه الآية قبل وقوعه. قال ابن عطية: وقال المبرد حين امتحن أبا إسحاق الزجاج بهذه المسألة1.
وضمير النصب في {وَجَعَلْنَاهُ هُدىً} يجوز أن يعود على الكتاب أو على موسى وكلاهما سبب هدى، فوصف بأنه هدى للمبالغة في حصول الاهتداء به وهو معطوف على
ـــــــ
1 لعله امتحنة بذلك حين جاءه ليلازمه للأخذ عنه ولم أعثر على تفصيل ذلك.

{آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} وما بينهما اعتراض. وهذا تعريض بالمشركين إذ لم يشكروا نعمة الله على أن أرسل إليهم محمد بالقرآن ليهتدوا فأعرضوا وكانوا أحق بأن يحرصوا على الاهتداء بالقرآن وبهدي محمد صلى الله عليه وسلم.
[24] {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ}
أشير إلى ما من الله به على بني إسرائيل إذ جعل منهم أئمة يهدون بأمر الله والأمر يشمل الوحي بالشريعة لأنه أمر بها، ويشمل الانتصاب للإرشاد فإن الله أمر العلماء أن يبينوا الكتاب ويرشدوا إليه فإذا هدوا فإنما هدوا بأمره وبالعلم الذي آتاهم به أنبياؤهم وأحبارهم فأنعم الله عليهم بذلك لما صبروا وأيقنوا لما جاءهم من كتاب الله ومعجزات رسولهم فإن كان المراد من قوله: {بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} دلائل صدق موسى عليه السلام، فالمعنى: أنهم صبروا على مشاق التكليف والخروج بهم من أرض مصر وما لقوه من فرعون وقومه من العذاب والاضطهاد وتيههم في البرية أربعين سنة وتدبروا في الآيات ونظروا حتى أيقنوا.
وإن كان المراد من الآيات ما في التوراة من الشرائع والمواعظ فإطلاق اسم الآيات عليها مشاكلة تقديرية لما هو شائع بين المسلمين من تسمية جمل القرآن آيات لأنها معجزة في بلاغتها خارجة عن طوق تعبير البشر. فكانت دلالات على صدق محمد صلى الله عليه وسلم. وهذا نحو ما وقع في حديث رجم اليهوديين من قول الراوي: فوضع اليهودي يده على آية الرجم، أي الكلام الذي فيه حكم الرجم في التوراة فسماه الرواي آية مشاكلة لكلام القرآن. وفي هذا تعريض بالبشارة لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم يكونون أيمة لدين الإسلام وهداة للمسلمين إذ صبروا على ما لحقهم في ذات الله من أذى قومهم وصبروا على مشاق التكليف ومعاداة أهلهم وقومهم وظلمهم إياهم. وتقديم {بِآياتِنَا} على {يُوقِنُونَ} للاهتمام بالآيات.
وقرأ الجمهور {لَمَّا صَبَرُوا} بتشديد الميم وهي {لَمَّا} التي هي حرف وجود لوجود وتسمى التوقيتية، أي: جعلناهم أئمة حين صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون. وقرأ حمزة والكسائي وخلف ورويس عن يعقوب بتخفيف الميم على أنها مركبة من لام التعليل و"ما" المصدرية، أي جعلناهم أيمة لأجل صبرهم وإيقانهم.

[25] {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} .
استئناف بياني لأن قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [السجدة: 24] يثير سؤالا في نفس السامع من المؤمنين الذين سمعوا ما في القرآن من وصف اختلاف بني إسرائيل وانحرافهم عن دينهم وشاهد كثير منهم بني إسرائيل في زمانه غير متحلين بما يناسب ما قامت به أئمتهم من الهداية فيود أن يعلم سبب ذلك فكان في هذه الآية جواب ذلك تعليما للنبيء صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين.
والخطاب للنبيء. والمراد أمته تحذيرا من ذلك وإيماء إلى وجوب تجنب الاختلاف الذي لا يدعو إليه داع في مصلحة الأمة وفهم الدين.
والفصل: القضاء والحكم، وهو يقتضي أن اختلافهم أوقعهم في إبطال ما جاءهم من ا لهدى فهو اختلاف غير مستند إلى أدلة ولا جار في مهيع أصل الشريعة؛ ولكنه متابعة للهوى وميل لأعراض الدنيا كما وصفه القرآن في آيات كثيرة في سورة البقرة وغيرها كقوله تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 105].
وليس منه اختلاف أئمة الدين في تفاريع الأحكام وفي فهم الدين مما لا ينقض أصوله ولا يخالف نصوصه وإنما هو إعمال لأصوله ولأدلته في الأحوال المناسبة لها وحمل متعارضها بعضه على بعض فإن ذلك كله محمود غير مذموم؛ وقد اختلف أصحاب النبيء صلى الله عليه وسلم في حياته فلم يعنف أحدا، واختلفوا بعد وفاته فلم يعنف بعضهم بعضا. ويشمل ما كانوا فيه يختلفون ما كان اختلافا بين المهتدين والضالين منهم وما كان اتفاقا من جميع أمتهم على الضلالة فإن ذلك خلاف بين المجمعين وبين ما نطقت به شريعتهم وسنته أنبياؤهم، ومن أعظم ذلك الاختلاف كتمانهم الشهادة ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم وجحدهم ما أخذ عليهم من الميثاق من أنبيائهم.
وضمير {هُوَ} في قوله: {هُوَ يَفْصِلُ} ضمير فصل لقصر الفصل عليه تعالى إيماء إلى أن ما يذكر في القرآن من بيان بعض ما اختلفوا فيه على أنبيائهم ليس مطموعا منه أن يرتدعوا عن اختلافهم وإنما هو للتسجيل عليهم وقطع معذرتهم لأنهم لا يقبلون الحجة فلا يفصل بينهم إلا يوم القيامة.

[26] {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ}
عطف على جملة {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا} [السجدة: 22]، ولما كان ذلك التذكير متصلا كقوله: {وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ} [السجدة: 10] كان الهدي، أي العلم المستفهم عنه بهذا الاستفهام شاملا للهدي إلى دليل البعث وإلى دليل العقاب على الإعراض عن التذكير فأفاد قوله: {كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ} معنيين: أحدهما: إهلاك أمم كانوا قبلهم فجاء هؤلاء المشركون بعدهم، وذلك تمثيل للبعث وتقريب لإمكانه. وثانيهما: إهلاك أمم كذبوا رسلهم ففيهم عبرة لهم أن يصيبهم مثل ما أصابهم.
والاستفهام إنكاري، أي هم لم يهتدوا بدلائل النظر والاستدلال التي جاءهم بها القرآن فأعرضوا عنها ولا اتعظوا بمصارع الأمم الذين كذبوا أنبياءهم وفي مهلكهم آيات تزجر أمثالهم عن السلوك فيما سلكوه. فضمير {لَهُمْ} عائد إلى المجرمين أو إلى من ذكر بآيات ربه. و {يَهْدِ} من الهداية وهي الدلالة والإرشاد، يقال: هداه إلى كذا.
وضمن فعل {يَهْدِ} معنى يبين، فعدي باللام فأفاد هداية واضحة بينة. وقد تقدم نظيره في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ} في سورة [الأعراف: 100]. واختير فعل الهداية في هذه الآية لإرادة الدلالة الجامعة للمشاهدة ولسماع أخبار تلك الأمم تمهيدا لقوله في آخرها {أَفَلا يَسْمَعُونَ} ، ولأن كثرة ذلك المستفادة من {كَمْ} الخبرية إنما تحصل بترتيب الاستدلال في تواتر الأخبار ولا تحصل دفعة كما تحصل دلالة المشاهدات.
وفاعل {يَهْدِ} ما دلت عليه {كَمْ} الخبرية من معنى الكثرة: ولا يجوز عند الجمهور جعل {كَمْ} فاعل {يَهْدِ} لأن {كَمْ} الخبرية اسم له الصدارة في الاستعمال إذ أصله استفهام فتوسع فيه.
ويجوز جعل {كَمْ} فاعلا عند من لم يشترطوا أن تكون {كَمْ} الخبرية في صدر الكلام. وجوز في "الكشاف" أن يكون الفاعل جملة {كَمْ أَهْلَكْنَا} على معنى الحكاية لهذا القول، كما يقال: تعصم "لا إله إلا الله" الدماء والأموال، أي هذه الكلمة أي النطق بها لتقلد الإسلام. ويجوز أن يكون الفاعل ضمير الجلالة دالا عليه المقام، أي ألم يهد

الله لهم فإن الله بين لهم ذلك وذكرهم بمصارع المكذبين، وتكون جملة {كَمْ أَهْلَكْنَا} على هذا استئنافا، وتقدم {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ} في أول الأنعام [6].
ونيط الاستدلال هنا بالكثرة التي أفادتها {كَمْ} الخبرية لأن تكرر حدوث القرون وزوالها أقوى دلالة من مشاهدة آثار أمة واحدة.
و {يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ} حال من فاعل {أَوَلَمْ يَرَوْا} [السجدة: 27] والمعنى: أنهم يمرون على المواضع التي فيها بقايا مساكنهم مثل حجر ثمود وديار مدين فتعضد مشاهدة مساكنهم الأخبار الواردة عن استئصالهم وهي دلائل إمكان البعث كما قال تعالى {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ} [الواقعة: 60، 61], ودلائل ما يحيق بالمكذبين للرسل؛ وفي كل أمة وموطن دلائل كثيرة متماثلة أو متخالفة.
ولما كان الذي يؤثر من أخبار تلك الأمم وتقلبات أحوالها وزوال قوتها ورفاهيتها أشد دلالة وموعظة للمشركين فرع عليه {أَفَلا يَسْمَعُونَ} استفهاما تقريريا مشوبا بتوبيخ لأن اجتلاب المضارع وهو {يَسْمَعُونَ} مؤذن بأن استماع أخبار تلك الأمم متكرر متجدد فيكون التوبيخ على الإقرار المستفهم عنه أوقع بخلاف ما بعده من قوله: {أَفَلا يُبْصِرُونَ} [السجدة: 27]. وقد شاع توجيه الاستفهام التقريري إلى المنفي، وتقدم عند قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} في سورة الأنعام [130] وقوله: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ} في سورة الأعراف [148].
[27] {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ}.
عطف على {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ} [السجدة: 26]. ونيط الاستدلال هنا بالرؤية لأن إحياء الأرض بعد موتها ثم إخراج النبت منها دلالة مشاهدة. واختير المضارع في قوله: {نَسُوقُ} لاستحضار الصورة العجيبة الدالة على القدرة الباهرة.
والسوق: إزجاء الماشي من ورائه.
و {الْمَاءَ} : ماء المزن، وسوقه إلى الأرض هو سوق السحاب الحاملة إياه بالرياح التي تنقل السحاب من جو إلى جو؛ فشبهت هيئة الرياح والسحاب بهيئة السائق للدابة. والتعريف في {الْأَرْضِ} تعريف الجنس.

و {الْجُرُزِ} : اسم للأرض التي انقطع نبتها، وهو مشتق من الجرز، وهو: انقطاع النبت والحشيش، إما بسبب يبس الأرض أو بالرعي، والجرز: القطع. وسمي السيف القاطع جرازا، قال الراجز يصف أسنان ناقة:
تنحي على الشوك جرازا مقضبا ... والهرم تذريه إذدراء عجبا
فـ {الْأَرْضِ الْجُرُزِ} : التي انقطع نبتها. ولا يقال للأرض التي لا تنبت كالسباخ جرز. والزرع: ما نبت بسبب بذر حبوبه في الأرض كالشعير والبر والفصفصة وأكل الأنعام غالبه من الكلأ لا من الزرع فذكر الزرع بلفظه، ثم ذكر أكل الأنعام يدل على تقدير: وكلأ. ففي الكلام اكتفاء. والتقدير: ونخرج به زرعا وكلأ تأكل منه أنعامهم وأنفسهم. والمقصود: الاستدلال على البعث وتقريبه وإمكانه بإخراج النبت من الأرض بعد أن زال؛ فوجه الأول. وأدمج في هذا الاستدلال امتنان بقوله: {تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ} . ثم فرع عليه استفهام تقريري بجملة {أَفَلا يُبْصِرُونَ} . وتقدم بيان مثله آنفا في قوله: {أَفَلا يَسْمَعُونَ} [السجدة: 26]. ونيط الحكم بالإبصار هنا دلالة إحياء الأرض بعد موتها دلالة مشاهدة.
[28- 30] {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [28] قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ [29] فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ}
يجوز أن يكون عطفا على جملة {ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا} [السجدة: 22]، أي: أعرضوا عن سماع الآيات والتدبر فيها وتجاوزوا ذلك إلى التكذيب والتهكم بها. ومناسبة ذكر ذلك هنا أنه وقع عقب الإشارة إلى دليل وقوع البعث وهو يوم الفصل. ويجوز أن يعطف على جملة {وقالوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [السجدة: 10].
والمعنى: أنهم كذبوا بالبعث وما معه من الوعيد في الآخرة وكذبوا بوعيد عذاب الدنيا الذي منه قوله تعالى {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ} [السجدة: 21].
و {الْفَتْحُ} : النصر والقضاء. والمراد به: نصر أهل الإيمان بظهور فوزهم وخيبة أعدائهم فإن خيبة العدو نصر لضده وكان المسلمون يتحدون المشركين بأن الله سيفتح بينهم وينصرهم وتظهر حجتهم، فكان الكافرون يكررون التهكم بالمسلمين بالسؤال عن وقت هذا الفتح استفهاما مستعملا في التكذيب حيث لم يحصل المستفهم عنه. وحكاية قولهم بصيغة

المضارع لإفادة التعجيب منه كقوله تعالى: {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} [هود: 74] مع إفادة تكرر ذلك منهم واتخاذهم إياه. والمعنى: إن كنتم صادقين في أنه واقع فبينوا لنا وقته فإنكم إذ علمتم به دون غيركم فلتعلموا وقته. وهذا من السفسطة الباطلة لأن العلم بالشيء إجمالا لا يقتضي العلم بتفصيل أحواله حتى ينسب الذي لا يعلم تفصيله إلى الكذب في إجماله.
واسم الإشارة في {هَذَا الْفَتْحُ} مع إمكان الاستغناء عنه بذكر مبينه مقصود منه التحقير وقلة الاكتراث به كما في قول قيس بن الخطيم:
متى يأت هذا الموت لا يلف حاجة ... لنفسي إلا قد قضيت قضاءها
إنباء بقلة اكتراثه بالموت. ومنه قوله تعالى حكاية عنهم {أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} [الأنبياء: 36] فأمر الله الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يجيبهم على طريقة الأسلوب الحكيم بأن يوم الفتح الحق هو يوم القيامة وهو يوم الفصل وحينئذ ينقطع أمل الكفار في النجاة والاستفادة من الندامة والتوبة ولا يجدون إنظارا لتدارك ما فاتهم، أي إفادتهم هذه الموعظة خير لهم من تطلبهم معرفة وقت حلول يوم الفتح لأنهم يقولون يومئذ {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة: 12] مع ما في هذا الجواب من الإيماء إلى أن زمن حلوله غير معلوم للناس وأنه مما استأثر الله به فعلى من يحتاط لنجاة نفسه أن يعمل له من الآن فإنه لا يدري متى يحل به {لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} [الأنعام: 158}. ففي هذا الجواب سلوك الأسلوب الحكيم من وجهين: من وجه العدول عن تعيين يوم الفتح، ومن وجه العدول بهم إلى يوم الفتح الحق، وهم إنما أرادوا بالفتح نصر المسلمين عليهم في الحياة الدنيا.
وإظهار وصف {الَّذِينَ كَفَرُوا} في مقام الإضمار مع أنهم هم القائلون {مَتَى هَذَا الْفَتْحُ} لقصد التسجيل عليهم بأن كفرهم هو سبب خيبتهم. ثم فرع على جميع هذه المجادلات والدلالات توجيه الله خطابه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بان يعرض عن هؤلاء القائلين المكذبين وأن لا يزيد في الإلحاح عليهم تأييسا من إيمان المجادلين منهم المتصدين للتمويه على دهمائهم. وهذا إعراض متاركة عن الجدال وقتيا لا إعراض مستمر، ولا عن الدعوة إلى الله ولا علاقة له بأحكام الجهاد المشروع في غير هذه الآية.
والانتظار: الترقب. وأصله مشتق من النظر فكأنه مطاوع: أنظره، أي: أراه فانتظر، أي تكلف أن ينظر. وحذف مفعول {انْتَظِرْ} للتهويل، أي: انتظر أياما يكون لك فيها

النصر، ويكون لهم فيها الخسران مثل سني الجوع إن كان حصلت بعد نزول هذه السورة، ومثل يوم بدر ويوم فتح مكة وهما بعد نزول هذه السورة لا محالة، ففي الأمر بالانتظار تعريض بالبشارة للمؤمنين بالنظر، وتعريض بالوعيد للمشركين بالعذاب في الدارين.
وجملة {إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ} تعليل لما تضمنه الأمر بالانتظار من إضمار العذاب لهم. ومفعول {مُنْتَظِرُونَ} محذوف دل عليه السياق، أي منتظرون لكم الفرصة لحربكم أو لإخراجكم قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور: 30] وقال: {وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} [التوبة: 98] أي لم نكن ظالمين في تقدير العذاب لهم لأنهم بدأوا بالظلم.

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الأحزابهكذا سميت {سورة الأحزاب} في المصاحف وكتب التفسير والسنة، وكذلك رويت تسميتها عن ابن عباس وأبي بن كعب بأسانيد مقبولة. ولا يعرف لها اسم غيره. ووجه التسمية أن فيها ذكر أحزاب المشركين من قريش ومن تحزب معهم أرادوا غزو المسلمين في المدينة فرد الله كيدهم وكفى الله المؤمنين القتال. وهي مدنية بالاتفاق، وسيأتي عن ابن عباس أن آية {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ} [الأحزاب: 36] الخ نزلت في تزويج زينب بنت جحش من زيد بن حارثة في مكة. وهي التسعون في عداد السور النازلة من القرآن، نزلت بعد سورة الأنفال، وقبل سورة المائدة.
وكان نزولها على قول ابن إسحاق أواخر سنة خمس من الهجرة وهو الذي جرى عليه ابن رشد في "البيان والتحصيل" . وروى ابن وهب وابن القاسم عن مالك: أنها كانت سنة أربع وهي سنة غزوة الأحزاب وتسمى غزوة الخندق حين أحاط جماعات من قريش وأحابيشهم1 وكنانة وغطفان وكانوا عشرة آلاف وكان المسلمون ثلاثة آلاف وعقبتها غزوة قريظة والنضير. وعدد آيها ثلاث وسبعون باتفاق أصحاب العدد.
ومما يجب التنبيه عليه مما يتعلق بهذه السورة ما رواه الحاكم والنسائي وغيرهما عن زر بن حبيش قال: قال لي أبي بن كعب: كأين تعدون سورة الأحزاب? قال: قلت: ثلاثا وسبعين آية. قال: أقط - بهمزة استفهام دخلت على قط، أي: حسب - فوالذي يحلف به أبي: إن كانت لتعدل سورة البقرة. ولقد قرأنا فيها: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتية نكالا من الله والله عزيز حكيم" فرفع فيما رفع، أي: نسخ فيما نسخ من تلاوة
ـــــــ
1 أحابيش قريش: هم بنو المصطلق وبنو الهون اجتموا عند جبل بمكة يقال له: حبشي – بضم الحاء وسكون الباء – فحالفوا قريشا أنهم يد على غيرهم.

آياتها. وما رواه أبو عبيد القاسم بن سلام بسنده وابن الأنباري بسنده عن عائشة قالت: كانت سورة الأحزاب تقرأ في زمان النبيء صلى الله عليه وسلم مائتي آية فلما كتب عثمان المصاحف لم يقدر منها إلا على ما هو الآن. وكلام الخبرين ضعيف السند. ومحمل الخبر الأول عند أهل العلم أن أبيا حدث عن سورة الأحزاب قبل أن ينسخ منها ما نسخ. فمنه ما نسخت تلاوته وحكمه ومنه ما نسخت تلاوته خاصة مثل آية الرجم. وأنا أقول: إن صح عن أبي ما نسب إليه فما هو إلا أن شيئا كثيرا من القرآن كان أبي يلحقه بسورة الأحزاب وهو من سور أخرى من القرآن مثل كثير من سورة النساء الشبيه ببعض ما في سورة الأحزاب أغراضا ولهجة مما فيه ذكر المنافقين واليهود، فإن أصحاب رسول الله لم يكونوا على طريقة واحدة في ترتيب آي القرآن ولا في عدة سوره وتقسيم سوره كما تقدم في المقدمة الثامنة ولا في ضبط المنسوخ لفظه. كيف وقد أجمع حفاظ القرآن والخلفاء الأربعة وكافة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الذين شذوا على أن القرآن هو الذي في المصحف وأجمعوا في عدد آيات القرآن على عدد قريب بعضه من بعض كما تقدم في المقدمة الثامنة.
وأما الخبر عن عائشة فهو أضعف سندا وأقرب تأويلا فإن صح عنها، ولا إخاله، فقد تحدثت عن شيء نسخ من القرآن كان في سورة الأحزاب. وليس بعد إجماع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على مصحف عثمان مطلب لطالب.
ولم يكن تعويلهم في مقدار القرآن وسوره إلا على حفظ الحفاظ. وقد افتقد زيد ابن ثابت آية من سورة الأحزاب لم يجدها فيما دفع إليه من صحف القرآن فلم يزل يسأل عنها حتى وجدها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري وقد كان يسمع رسول الله يقرؤها، فلما وجدها مع خزيمة لم يشك في لفظها الذي كان عرفه. وهي آية {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} إلى قوله: {تَبْدِيلاً} [الأحزاب: 23]. وافتقد الآيتين من آخر سورة براءة فوجدهما عند أبي خزيمة بن أوس -المشتهر بكنيته-.
وبعد فخبر أبي بن كعب خبر غريب لم يؤثر عن أحد من أصحاب رسول الله فنوقن بأنه دخله وهم من بعض رواته. وهو أيضا خبر آحاد لا ينتقض به إجماع الأمة على المقدار الموجود من هذه السورة متواترا. وفي "الكشاف" : وأما ما يحكى أن تلك الزيادة التي رويت عن عائشة كانت مكتوبة في صحيفة في بيت عائشة فأكلتها الداجن، أي الشاة، فمن تأليفات الملاحدة والروافض ا هـ.
ووضع هذا الخبر ظاهر مكشوف فإنه لو صدق هذا لكانت هذه الصحيفة قد هلكت

في زمن النبيء صلى الله عليه وسلم أو بعده والصحابة متوافرون وحفاظ القرآن كثيرون فلو تلفت هذه الصحيفة لم يتلف ما فيها من صدور الحفاظ. وكون القرآن قد تلاشى منه كثير هو أصل من أصول الروافض ليطعنوا به في الخلفاء الثلاثة، والرافضة يزعمون أن القرآن مستودع عند الإمام المنتظر فهو الذي يأتي بالقرآن وقر بعير. وقد استوعب قولهم واستوفى إبطاله أبو بكر بن العربي في كتاب "العواصم من القواصم" .
أغراض هذه السورة
لكثير من آيات هذه السورة أسباب لنزولها، وأكثرها نزل للرد على المنافقين أقوالا قصدوا بها أذى النبيء صلى الله عليه وسلم.
وأهم أغراضها: الرد عليهم قولهم لما تزوج النبيء صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش بعد أن طلقها زيد بن حارثة فقالوا: تزوج محمد امرأة ابنه وهو ينهى الناس عن ذلك فأنزل الله تعالى إبطال التبني. وأن الحق في أحكام الله لأنه الخبير بالأعمال وهو الذي يقول الحق. وأن ولاية النبيء صلى الله عليه وسلم للمؤمنين أقوى ولاية، ولأزواجه حرمة الأمهات لهم، وتلك ولاية من جعل الله فهي أقوى وأشد من ولاية الأرحام. وتحريض المؤمنين على التمسك بما شرع الله لهم لأنه أخذ العهد بذلك على جميع النبيءين. والاعتبار بما أظهره الله من عنايته بنصر المؤمنين على أحزاب أعدائهم من الكفرة والمنافقين في وقعة الأحزاب ودفع كيد المنافقين. والثناء على صدق المؤمنين وثباتهم في الدفاع عن الدين. ونعمة الله عليهم بأن أعطاهم بلاد أهل الكتاب الذين ظاهروا الأحزاب.
وانتقل من ذلك إلى أحكام في معاشرة أزواج النبيء صلى الله عليه وسلم وذكر فضلهن وفضل آل النبيء صلى الله عليه وسلم وفضائل أهل الخير من المسلمين والمسلمات. وتشريع في عدة المطلقة قبل البناء.
وما يسوغ لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الأزواج. وحكم حجاب أمهات المؤمنين ولبسة المؤمنات إذا خرجن. وتهديد المنافقين على الإرجاف بالأخبار الكاذبة. وختمت السورة بالتنويه بالشرائع الإلهية فكان ختامها من رد العجز على الصدر لقوله في أولها: {و اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [الأحزاب: 2]، وتخلل ذلك مستطردات من الأمر بالائتساء بالنبيء صلى الله عليه وسلم. وتحريض المؤمنين على ذكر الله وتنزيهه شكرا له على هديه. وتعظيم قدر النبيء صلى الله عليه وسلم عند الله وفي الملأ الأعلى، والأمر بالصلاة عليه والسلام. ووعيد المنافقين الذين يأتون بما يؤذي الله ورسوله والمؤمنين. والتحذير من التورط في ذلك كيلا يقعوا فيما وقع فيه الذين آذوا موسى عليه السلام.

[1] {يَا أَيُّهَا النبيء اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً}
افتتاح السورة بخطاب النبيء صلى الله عليه وسلم وندائه بوصفه مؤذن بأن الأهم من سوق هذه السورة يتعلق بأحوال النبيء صلى الله عليه وسلم. وقد نودي فيها خمس مرات في افتتاح أغراض مختلفة من التشريع بعضها خاص به وبعضها يتعلق بغيره وله ملابسة له.
فالنداء الأول: لافتتاح غرض تحديد واجبات رسالته نحو ربه.
والنداء الثاني: لافتتاح غرض التنويه بمقام أزوجه واقترابه من مقامه.
والنداء الثالث: لافتتاح بيان تحديد تقلبات شؤون رسالته في معاملة الأمة.
والنداء الرابع: في طالعة غرض أحكام تزوجه وسيرته مع نسائه.
والنداء الخامس: في غرض تبليغه آداب النساء من أهل بيته ومن المؤمنات.
فهذا النداء الأول افتتح به الغرض الأصلي لبقية الأغراض وهو تحديد واجبات رسالته في تأدية مراد ربه تعالى على أكمل وجه دون أن يفسد عليه أعداء الدين أعماله، وهو نظير النداء الذي في قوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67] الآية، وقوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [المائدة: 41] الآيات.
ونداء النبيء عليه الصلاة والسلام بوصف النبوءة دون اسمه العلم تشريف له بفضل هذا الوصف ليربأ بمقامه عن أن يخاطب بمثل ما يخاطب به غيره ولذلك لم يناد في القرآن بغير {يَا أَيُّهَا النبيء} أو {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} [المائدة: 67] بخلاف الإخبار عنه فقد يجيء بهذا الوصف كقوله: {يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النبيء} [التحريم: 8] {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبّ} [الفرقان: 30] {قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [لأنفال: 1] {النبيء أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6]، ويجيء باسمه العلم كقوله: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} [الأحزاب: 40].
وقد يتعين إجراء العلم ليوصف بعده بالرسالة كقوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح: 29] وقوله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ} [آل عمران: 144]. وتلك مقامات يقصد فيها تعليم الناس بأن صاحب ذلك الاسم هو رسول الله، أو تلقين لهم بأن يسموه بذلك ويدعوه به، فإن علم أسمائه من الإيمان لئلا يلتبس بغيره، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لي خمسة

أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا المحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب" تعلينا للأمة. وقد أنهى أبو بكر ابن العربي أسماء النبيء صلى الله عليه وسلم إلى سبعة وستين وأنهاها السيوطي إلى ثلاثمائة. وذكر ابن العربي أن بعض الصوفية قال: أسماء النبيء ألفا اسم كما سيأتي عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النبيء إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} [الأحزاب: 45].
والأمر للنبيء بتقوى الله توطئة للنهي عن اتباع الكافرين والمنافقين ليحصل من الجملتين قصر تقواه على التعلق بالله دون غيره، فإن معنى {لا تُطِعِ} مرادف معنى: لا تتق الكافرين والمنافقين، فإن الطاعة تقوى؛ فصار مجموع الجملتين مفيدا معنى: يا أيها النبيء لا تتق إلا الله، فعدل عن صيغة القصر وهي أشهر في الكلام البليغ وأوجز إلى ذكر جملتي أمر ونهي لقصد النص على أنه قصر إضافي أريد به أن لا يطيع الكافرين والمنافقين لأنه لو اقتصر على أن يقال: لا تتق إلا الله لما أصاخت إليه الأسماع إصاخة خاصة لأن تقوى النبيء صلى الله عليه وسلم ربه أمر معلوم، فسلك مسلك الإطناب لهذا، كقول السمؤال:
تسيل على حد الظبات نفوسنا ... وليست على غير الظبات تسيل
فجاء بجملتي إثبات السيلان بقيد ونفيه في غير ذلك القيد للنص على أنهم لا يكرهون سيلان دمائهم على السيوف ولكنهم لا تسيل دماؤهم على غير السيوف.
فإن أصل صيغة القصر أنها مختصرة من جملتي إثبات ونفي، ولكون هذه الجملة كتكملة للتي قبلها عطفت عليها لاتحاد الغرض منهما. وقد تعين بهذا أن الأمر في قوله: {اتَّقِ اللَّهَ} والنهي في قوله: {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} مستعملان في طلب الاستمرار على ما هو ملازم له من تقوى الله، فأشعر ذلك أن تشريعا عظيما سيلقى إليه لا يخلو من حرج عليه فيه وعلى بعض أمته، وأنه سيلقى مطاعن الكافرين والمنافقين.
وفائدة هذا الأمر والنهي التشهير لهم بأن النبيء صلى الله عليه وسلم لا يقبل أقوالهم لييأسوا من ذلك لأنهم كانوا يدبرون مع المشركين المكايد ويظهرون أنهم ينصحون النبيء صلى الله عليه وسلم ويلحون عليه بالطلبات نصحا تظاهرا بالإسلام.
والمراد بالكافرين المجاهرون بالكفر لأنه قوبل بالمنافقين، فيجوز أن يكونوا المشركين كما هو غالب إطلاق هذا الوصف في القرآن والأنسب بما سيعقبه من قوله: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب: 4] إلى آخر أحكام التبني، والموافق لما

روي في سبب نزولها على ضعف فيه سنبينه؛ ويجوز أن يكونوا اليهود كما يقتضيه ما يروى في سبب النزول، ولو حمل على ما يعم نوعي الكافرين المجاهرين لم يكن بعيدا.
والطاعة: العمل على ما يأمر به الغير أو يشير به لأجل إجابة مرغوبة. وماهيتها متفاوتة مقول عليها بالتشكيك، ووقوع اسمها في سياق النهي يقتضي النهي عن كل ما يتحقق فيه أدنى ماهيتها، مثل أن يعدل عن تزوج مطلقة متبناه لقول المنافقين: إن محمدا ينهى عن تزوج نساء الأبناء وتزوج زوج ابنه زيد بن حارثه، وهو المعنى الذي جاء فيه قوله تعالى: {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب: 37] وقوله: {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ} [الأحزاب: 48] عقب قضية امرأة زيد. ومثل نقض ما كان للمشركين من جعل الظهار موجبا مصير المظاهرة أما للمظاهر حراما عليه قربانها أبدا، ولذلك أردفت الجملة بجملة {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} تعليلا للنهي.
والمعنى: أن الله حقيق بالطاعة له دون الكافرين والمنافقين لأنه عليم حكيم فلا يأمر إلا بما فيه الصلاح. ودخول {إِنَّ} على الجملة قائم مقام فاء التعليل ومغن غناءها على ما بين في غير موضع، وشاهده المشهور قول بشار:
بكرا صاحبي قبل الهجير ... إن ذاك النجاح في التبكير
وقد ذكر الواحدي في "أسباب النزول" والثعلبي والقشيري والماوردي في "تفاسيرهم" : أن قوله تعالى: {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} نزل بسبب أنه بعد وقعة أحد جاء إلى المدينة أبو سفيان بن حرب وعكرمة بن أبي جهل وأبو الأعور السلمي عمرو بن سفيان من قريش وأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمان في المدينة وأن ينزلوا عند عبد الله بن أبي بن سلول ثم جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عبد الله ابن أبي ومعتب بن قشير، والجد بن قيس، وطمعة بن أبيرق فسألوا رسول الله أن يترك ذكر آلهة قريش، فغضب المسلمون وهم عمر بقتل النفر القريشيين، فمنعه رسول الله لأنه كان أعطاهم الأمان، فأمرهم أن يخرجوا من المدينة فنزلت هذه الآية، أي: -اتق الله في حفظ الأمان ولا تطع الكافرين - وهم النفر القرشيون - والمنافقين - وهم عبد الله بن أبي ومن معه-. وهذا الخبر لا سند له ولم يعرج عليه أهل النقد مثل الطبري وابن كثير.
[2] {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً}
هذا تمهيد لما يرد من الوحي في شأن أحكام التبني وما يتصل بها، ولذلك جيء

بالفعل المضارع الصالح للاستقبال، وجرد من علامة الاستقبال لأنه قريب من زمن الحال. والمقصود من الأمر باتباعه أنه أمر باتباع خاص تأكيد للأمر العام باتباع الوحي. وفيه إيذان بأن ما سيوحي إليه قريبا هو ما يشق عليه وعلى المسلمين من إبطال حكم التبني لأنهم ألفوه واستقر في عوائدهم وعاملوا المتبنين معاملة الأبناء الحق.
ولذلك ذيلت جملة {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ} بجملة {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} تعليلا للأمر بالاتباع وتأنيسا به لأن الله خبير بما في عوائدكم ونفوسكم فإذا أبطل شيئا من ذلك فإن إبطاله من تعلق العلم بلزوم تغييره فلا تتريثوا في امتثال أمره في ذلك، فجملة {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} في موقع العلة فلذلك فصلت لأن حرف التوكيد مغن غناء فاء التفريع كما مر آنفا.
وفي إفراد الخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَاتَّبِعْ} وجمعه بما يشمله وأمته في قوله: {بِمَا تَعْمَلُونَ} إيماء إلى أن فيما سينزل من الوحي ما يشتمل على تكليف يشمل تغيير حالة كان النبيء عليه الصلاة والسلام مشاركا لبعض الأمة في التلبس بها وهو حكم التبني إذ كان النبيء متبنيا زيد بن حارثة من قبل بعثته.
وقرأ الجمهور {بِمَا تَعْمَلُونَ} بتاء الخطاب على خطاب النبيء صلى الله عليه وسلم والأمة لأن هذا الأمر أعلق بالأمة. وقرأ أبو عمرو وحده {بِمَا يَعْمَلُونَ} بالمثناة التحتية على الغيبة على أنه راجع للناس كلهم شامل للمسلمين والكافرين والمنافقين ليفيد مع تعليل الأمر بالاتباع تعريضا بالمشركين والمنافقين بمحاسبة الله إياهم على ما يبيتونه من الكيد، وكناية عن إطلاع الله رسوله على ما يعلم منهم في هذا الشأن كما سيجيء {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} [الأحزاب: 60]، أي: لنطلعنك على ما يكيدون به ونأذنك بافتضاح شأنهم. وهذا المعنى الحاصل من هذه القراءة لا يفوت في قراءة الجمهور بالخطاب لأن كل فريق من المخاطبين يأخذ حظه منه.
[3] {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً}
زيادة تمهيد وتوطئة لتلقي تكليف يترقب منه أذى من المنافقين مثل قولهم: إن محمدا نهى عن تزوج نساء الأبناء وتزوج امرأة ابنه زيد بن حارثة، وهو ما يشير إليه قوله تعالى: {وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} [الأحزاب: 48]؛ فأمره بتقوى ربه دون غيره، وأتبعه بالأمر باتباع وحيه، وعززه بالأمر بما فيه تأييده وهو أن يفوض أموره إلى الله.

والتوكل: إسناد المرء مهمه وشأنه إلى من يتولى عمله وتقدم عند قوله تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} في سورة آل عمران [159].
والوكيل: الذي يسند إليه غيره أمره، وتقدم عند قوله تعالى: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} في سورة آل عمران [173].
وقوله: {وَكِيلاً} تمييز نسبة، أي كفى الله وكيلا، أي وكالته، وتقدم نظيره في قوله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} في سورة النساء [81].
[4] {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ}.
{مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ}
استئناف ابتدائي ابتداء المقدمة للغرض بعد التمهيد له بما قبله، والمقدمة أخص من التمهيد لأنها تشتمل على ما يوضح المقصد بخلاف التمهيد؛ فهذا مقدمة لما أمر النبيء صلى الله عليه وسلم باتباعه مما يوحى إليه وهو تشريع الاعتبار بحقائق الأشياء ومعانيها، وأن مواهي الأمور لا تتغير بما يلصق بها من الأقوال المنافية للحقائق، وأن تلك الملصقات بالحقائق هي التي تحجب العقول عن التفهم في الحقائق الحق، وهي التي ترين على القلوب بتلبيس الأشياء.
وذكر ها هنا نوعان من الحقائق:
أحدهما : من حقائق المعتقدات لأجل إقامة الشريعة على العقائد الصحيحة، ونبذ الحقائق المصنوعة المخالفة للواقع لأن إصلاح التفكير هو مفتاح إصلاح العمل، وهذا ما جعل تأصيله إبطال أن يكون الله جعل في خلق بعض الناس نظاما لم يجعله في خلق غيرهم.
وثاني النوعين: من حقائق الأعمال لتقوم الشريعة على اعتبار مواهي الأعمال بما هي ثابتة عليه في نفس الأمر إلا بالتوهم والادعاء. وهذا يرجع إلى قاعدة أن حقائق الأشياء ثابتة وهو ما أشير إليه بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ} ، أي: لا يقول

الباطل مثل بعض أقوالكم من ذلك القبيل. والمقصود التنبيه إلى بطلان أمور كان أهل الجاهلية قد زعموها وادعوها. وابتدئ من ذلك بما دليل بطلانه الحس والاختبار ليعلم من ذلك أن الذين اختلقوا مزاعم يشهد الحس بكذبها يهون عليهم اختلاق مزاعم فيها شبه وتلبيس للباطل في صورة الحق فيتلقى ذلك بالإذعان والامتثال.
والإشارة بقوله: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} إلى أكذوبة من تكاذيب الجاهلية كانوا يزعمون أن جميل بن معمر -ويقال: ابن أسد- بن حبيب الجمحي الفهري -وكان رجلا داهية قوي الحفظ– أن له قلبين يعملان ويتعاونان وكانوا يدعونه ذا القلبين يريدون العقلين لأنهم كانوا يحسبون أن الإدراك بالقلب وأن القلب محل لعقل. وقد غره ذلك أو تغاور به فكان لشدة كفره يقول: "إن في جوفي قلبين أعمل بكل واحد منهما عملا أفضل من عمل محمد". وسموا بذي القلبين أيضا عبد الله بن خطل التيمي، وكان يسمى في الجاهلية عبد العزى وأسلم فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله ثم كفر وقتل صبرا يوم فتح مكة وهو الذي تعلق بأستار الكعبة فلم يعف عنه، فنفت الآية زعمهم نفيا عاما، أي ما جعل الله لأي رجل من الناس قلبين لا لجميل بن معمر ولا لابن خطل، فوقوع {رَجُلٍ} وهو نكرة في سياق النفي يقتضي العموم، ووقوع فعل {جَعَلَ} في سياق النفي يقتضي العموم لأن الفعل في سياق النفي مثل النكرة في سياق النفي. ودخول {مِنْ} على {قَلْبَيْنِ} للتنصيص على عموم قلبين في جوف رجل فدلت هذه العمومات الثلاثة على انتفاء كل فرد من أفراد الجعل لكل فرد مما يطلق عليه أنه قلبان، عن كل رجل من الناس، فدخل في العموم جميل بن معمر وغيره بحيث لا يدعى ذلك لأحد أيا كان.
ولفظ {رَجُلٍ} لا مفهوم له لأنه أريد به الإنسان بناء على ما تعارفوه في مخاطباتهم من نوط الأحكام والأوصاف الإنسانية بالرجال جريا على الغالب في الكلام ما عدا الأوصاف الخاصة بالنساء يعلم أيضا أنه لا يدعى لامرأة أن لها قلبين بحكم فحوى الخطاب أو لحن الخطاب.
والجعل المنفي هنا هو الجعل الجبلي، أي ما خلق الله رجلا بقلبين في جوفه وقد جعل إبطال هذا الزعم تمهيدا لإبطال ما تواضعوا عليه من جعل أحد ابنا لمن ليس هو بابنه، ومن جعل امرأة أما لمن هي ليست أمه بطريقة قياس التمثيل، أي أن هؤلاء الذين يختلقون ما ليس في الخلقة لا يتورعون عن اختلاق ما هو من ذلك القبيل من الأبوة والأمومة، وتفريعهم كل اختلاقهم جميع آثار الاختلاق، فإن البنوة والأمومة صفتان من

أحوال الخلقة وليستا مما يتواضع الناس عليه بالتعاقد مثل الولاء والحلف.
فأما قوله تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6] فهو على معنى التشبيه في أحكام البرور وحرمة التزويج؛ ألا ترى ما جاء في الحديث: "أن رسول الله لما خطب عائشة من أبي بكر قال له أبو بكر: يا رسول الله إنما أنا أخوك فقال رسول الله: أنت أخي وهي لي حلال" ، أي أن الأخوة لا تتجاوز حالة المشابهة في النصيحة وحسن المعاشرة ولا تترتب عليها آثار الأخوة الجبلية لأن تلك آثار مرجعها إلى الخلقة فذلك معنى قوله "أنت أخي وهي لي حلال".
والجوف: باطن الإنسان صدره وبطنه وهو مقر الأعضاء الرئيسية عدا الدماغ.
وفائدة ذكر هذا الظرف زيادة تصوير المدلول عليه بالقلب وتجليه للسامع فإذا سمع ذلك كان أسرع إلى الاقتناع بإنكار احتواء الجوف على قلبين، وذلك مثل قوله: {وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46] ونحوه من القيود المعلومة؛ وإنما يكون التصريح بها تذكيرا بما هو معلوم وتجديدا لتصوره، ومنه قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} وقد تقدم في سورة الأنعام [38].
{وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ}
عطف إبطال ثان لبعض مزاعمهم وهو ما كان في الجاهلية أن الرجل إذا أراد فراق زوجه فراقا لا رجعة فيه بحال يقول لها: "أنت علي كظهر أمي" هذه صيغته المعروفة عندهم، فهي موجبة طلاق المرأة وحرمة تزوجها من بعد لأنها صارت أما له، وليس المقصود هنا تشريع إبطال آثار التحريم به لأن ذلك أبطل في سورة المجادلة وهي مما نزل قبل نزول سورة الأحزاب كما سيأتي؛ ولكن المقصود أن يكون تمهيدا لتشريع إبطال التبني تنظيرا بين هذه الأوهام إلا أن هذا التمهيد الثاني أقرب إلى المقصود لأنه من الأحكام التشريعية.
و {اللَّاءِ} : اسم موصول لجماعة النساء فهو اسم جمع "التي" ، لأنه على غير قياس صيغ الجمع، وفيه لغات: اللاء - مكسور الهمزة أبدا - بوزن الباب، واللائي بوزن الداعي، والاء بوزن باب داخلة عليه لام التعريف بدون ياء.
وقرأ قالون عن نافع وقنبل عن ابن كثير وأبو جعفر {اللَّاءِ} - بهمزة مكسورة - غير مشبعة وهو لغة. وقرأه ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي وخلف {اللَّائِي} - بياء بعد

الهمزة - بوزن الداعي، وقرأه أبو عمرو والبزي عن ابن كثير ويعقوب و {اللَّايْ} بياء ساكنة بعد الألف بدلا عن الهمزة وهو بدل سماعي، قيل وهي لغة قريش. وقرأ ورش بتسهيل الهمزة بين الهمزة والياء مع المد والقصر. وروي ذلك عن أبي عمرو والبزي أيضا.
وذكر الظهر في قولهم: أنت علي كظهر أمي، تخييل للتشبيه المضمر في النفس على طريقة الاستعارة المكنية إذ شبه زوجه حين يغشاها بالدابة حين يركبها راكبها، وذكر تخييلا كما ذكر أظفار المنية في بيت أبي ذؤيب الهذلي المعروف، وسيأتي بيانه في أول تفسير سورة المجادلة.
وقولهم: أنت علي، فيه مضاف محذوف دل عليه ما في المخاطبة من معنى الزوجية والتقدير: غشيانك، وكلمة "علي" تؤذن بمعنى التحريم، أي: أنت حرام علي، فصارت الجملة بما لحقها من الحذف علامة على معنى التحريم الأبدي. ويعدى إلى اسم المرأة المراد تحريمها بحرف "من" الابتدائية لتضمينه معنى الانفصال منها.
فلما قال الله تعالى {اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ} علم الناس أنه يعني قولهم: أنت علي كظهر أمي.
والمراد بالجعل المنفي في قوله: {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ} الجعل الخلقي أيضا كالذي في قوله: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} أي: ما خلقهن أمهاتكم إذ لسن كذلك في الواقع، وذلك كناية عن انتفاء الأثر الشرعي الذي هو من آثار الجعل الخلقي لأن الإسلام هو الفطرة التي فطر الله الناس عليها، قال تعالى: {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُم} [المجادلة: 2]. وقد بسط الله ذلك في سورة المجادلة وبه نعلم أن سورة المجادلة هي التي ورد فيها إبطال الظهار وأحكام كفارته فنعلم أن آية سورة الأحزاب وردت بعد تقرير إبطال الظهار فيكون ذكره فيها تمهيدا لإبطال التبني بشبه أن كليهما ترتيب آثار ترتيبا مصنوعا باليد غير مبني على جعل إلهي. وهذا يوقننا بأن سورة الأحزاب نزلت بعد سورة المجادلة خلافا لما درج عليه ابن الضريس وابن الحصار وما أسنده محمد بن الحارث بن أبيض عن جابر بن زيد مما هو مذكور في نوع المكي والمدني في نوع أول ما أنزل من كتاب "الإتقان" . وقال السيوطي: في هذا الترتيب نظر. وسنذكر ذلك في تفسير سورة المجادلة إن شاء الله.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو {تُظَهِرُونَ} بفتح التاء وتشديد الظاء مفتوحة دون

ألف وتشديد الهاء مفتوحة. وقرأ حفص عن عاصم {تُظَاهِرُونَ} بضم التاء وفتح الظاء مخففة وألف وهاء مكسورة. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وخلف {تُظَاهِرُونَ} بفتح التاء وفتح الظاء مخففة بعدها ألف وفتح الهاء.
{وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ}.
هذا هو المقصود الذي وطئ بالآيتين قبله، ولذلك أسهب الكلام بعده بتفاصيل التشريع فيه. وعطفت هاته الجملة على اللتين قبلها لاشتراك ثلاثتها في أنها نفت مزاعم لا حقائق لها.
والقول في المراد من قوله: {مَا جَعَلَ} كالقول في نظيره من قوله: {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ} . والمعنى: أنكم تنسبون الأدعياء أبناء فتقولون للدعي: هو ابن فلان، للذي تبناه، وتجعلون له جميع ما للأبناء.
والأدعياء: جمع دعي بوزن فعيل بمعنى مفعول مشتقا من مادة الادعاء، والادعاء: زعم الزاعم الشيء حقا له من مال أو نسب أو نحو ذلك بصدق أو كذب، وغلب وصف الدعي على المدعي أنه ابن لمن يتحقق أنه ليس أبا له؛ فمن ادعي أنه ابن لمن يحتمل أنه أب له فذلك هو اللحيق أو المستلحق، فالدعي لم يجعله الله ابنا لمن ادعاه للعلم بأنه ليس أبا له، وأما المستلحق فقد جعله الله ابنا لمن استلحقه بحكم استلحاقه مع إمكان أبوته له. وجمع على أفعلاء لأنه معتل اللام فلا يجمع على فعلى، والأصح أن أفعلاء يطرد في جمع فعيل المعتل اللام سواء كان بمعنى فاعل أو بمعنى مفعول.
نزلت هذه الآية في إبطال التبني، أي: إبطال ترتيب آثار البنوة الحقيقة من الإرث، وتحريم القرابة، وتحريم الصهر، وكانوا في الجاهلية يجعلون للمتبنى أحكام البنوة كلها، وكان من أشهر المتبنين في عهد الجاهلية زيد بن حارثة تبناه النبيء صلى الله عليه وسلم، وعامر بن ربيعة تبناه الخطاب أبو عمر بن الخطاب، وسالم تبناه أبو حذيفة، والمقداد بن عمرو تبناه الأسود بن عبد يغوث، فكان كل واحد من هؤلاء الأربعة يدعى ابنا للذي تبناه.
وزيد بن حارثة الذي نزلت الآية في شأنه كان غريبا من بني كلب من وبرة، من أهل الشام، وكان أبوه حارثة توفي وترك ابنيه جبلة وزيدا فبقيا في حجر جدهما، ثم جاء عماهما فطلبا من الجد كفالتهما فأعطاهما جبلة وبقي زيد عنده فأغارت على الحي خيل من تهامة فأصابت زيدا فأخذ جده يبحث عن مصيره، وقال أبياتا منها:

بكيت على زيد ولم أدر ما فعل ... أحي فيرجى أم أتى دونه الأجل
وأنه علم أن زيدا بمكة وأن الذين سبوه باعوه بمكة فابتاعه حكيم بن حزام بن خويلد فوهبه لعمته خديجة بنت خويلد زوج النبيء صلى الله عليه وسلم فوهبته خديجة للنبيء صلى الله عليه وسلم فأقام عنده زمنا ثم جاء جده وعمه يرغبان في فدائه فأبى الفداء واختار البقاء على الرق عند النبيء فحينئذ أشهد النبيء قريشا أن زيدا ابنه يرث أحدهما الآخر فرضي أبوه وعمه وانصرفا فأصبح يدعى: زيد بن محمد، وذلك قبل البعثة. وقتل زيد في غزوة مؤتة من أرض الشام سنة ثمان من الهجرة.
{ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ}
استئناف اعتراضي بين التمهيد والمقصود من التشريع وهو فذلكة كما تقدم من الجمل الثلاث التي نفت جعلهم ما ليس بواقع واقعا، ولذلك فصلت الجملة لأنها تتنزل منزلة البيان بالتحصيل لما قبلها.
والإشارة إلى مذكور ضمنا من الكلام المتقدم، وهو ما نفي أن يكون الله جعله من وجود قلبين لرجل، ومن كون الزوجة المظاهر منها أما لمن ظاهر منها، ومن كون الأدعياء أبناء للذين تبنوهم. وإذ قد كانت تلك المنفيات الثلاثة ناشئة عن أقوال قالوها صح الإخبار عن الأمور المشار إليها بأنها أقوال باعتبار أن المراد أنها أقوال فحسب ليس لمدلولاتها حقائق خارجية تطابقها كما تطابق النسب الكلامية الصادقة النسب الخارجية، وإلا فلا جدوى في الإخبار عن تلك المقالات بأنها قول بالأفواه.
ولإفادة هذا المعنى قيد بقوله: {بِأَفْوَاهِكُمْ} فإنه من المعلوم أن القول إنما هو بالأفواه فكان ذكر {بِأَفْوَاهِكُمْ} مع العلم به مشيرا إلى أنه قول لا تتجاوز دلالته الأفواه إلى الواقع ونفس الأمر فليس له من أنواع الوجود إلا الوجود في اللسان والوجود في الأذهان دون الوجود في العيان، ونظير هذا قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون: 100] أي: لا تتجاوز ذلك الحد، أي: لا يتحقق مضمونها في الخارج وهو الإرجاع إلى الدنيا في قول الكافر: {رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون: 99، 100]، فعلم من تقييده {بِأَفْوَاهِكُمْ} أنه قول كاذب لا يطابق الواقع وزاده تصريحا بقوله: {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ} فأومأ إلى أن قولهم ذلك قول كاذب. ولهذا عطفت عليه جملة {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ} لأنه داخل في الفذلكة لما تقدم من قوله: {مَا جَعَلَ اللَّهُ} الخ. فمعنى كونها أقوالا: أن ناسا يقولون: جميل له قلبان، وناسا يقولون لأزواجهم:

أنت كظهر أمي، وناسا يقولون للدعي: فلان ابن فلان، يريدون من تبناه.
وانتصب {الْحَقَّ} على أنه صفة لمصدر محذوف مفعول به لـ {يقول} . تقديره: الكلام الحق، لأن فعل القول لا ينصب إلا الجمل أو ما هو في معنى الجملة نحو {إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون: 100]، فالهاء المضاف إليها "قائل" عائدة إلى {كَلِمَةٌ} وهي مفعول أضيف إليها. وفي الإخبار عن اسم الجلالة وضميره بالمسندين الفعليين إفادة قصر القلب، أي: هو يقول الحق لا الذين وضعوا لكم تلك المزاعم، وهو يهدي السبيل لا الذين أضلوا الناس بالأوهام. ولما كان الفعلان متعديين استفيد من قصرهما قصر معموليهما بالقرينة، ثم لما كان قول الله في المواضع الثلاثة هو الحق والسبيل كان كناية عن كون ضده باطلا ومجهلة. فالمعنى: وهم لا يقولون الحق ولا يهدون السبيل.
و {السَّبِيلَ} : الطريق السابلة الواضحة، أي: الواضح أنها مطروقة فهي مأمونة الإبلاغ إلى غاية السائر فيها. وإذا تقرر أن تلك المزاعم الثلاثة لا تعدو أن تكون ألفاظا ساذجة لا تحقق لمدلولاتها في الخارج اقتضى ذلك انتفاء الأمرين اللذين جعلا توطئة وتمهيدا للمقصود وانتفاء الأمر الثالث المقصود وهو التبني، فاشترك التمهيد والمقصود في انتفاء الحقية، وهو أتم في التسوية بين المقصود والتمهيد.
وهذا كله زيادة تحريض على تلقي أمر الله بالقبول والامتثال ونبذ ما خالفه.
[5] {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً}
{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} .
استئناف بالشروع في المقصود من التشريع لإبطال التبني وتفصيل لما يحق أن يجريه المسلمون في شأنه. وهذا الأمر إيجاب أبطل به ادعاء المتبني متبناه ابنا له. والمراد بالدعاء النسب. والمراد من دعوتهم بآبائهم ترتب آثار ذلك، وهي أنهم أبناء آبائهم لا أبناء من تبناهم.
واللام في {لِآبَائِهِمْ} لام الانتساب، وأصلها لام الاستحقاق. يقال: فلان لفلان، أي: هو ابنه، أي ينتسب له، ومنه قولهم: فلان لرشدة وفلان لغية، أي: نسبه لها،

أي: من نكاح أو من زنا، وقال النابغة:
لئن كان للقبرين قبر بجلق ... وقبر بصيداء الذي عند حارب
أي: من أبناء صاحبي القبرين. وقال علقمة بن عبد يمدح الملك الحارث:
فلست لأنسي ولكن لملاك ... تنزل من جو السماء يصوب
وفي حديث أبي قتادة: "صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاملا أمامة ابنة بنته زينب ولأبي العاص ابن ربيعة" فكانت اللام مغنية عن أن يقول وابنة أبي العاص.
وضمير {هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} عائد إلى المصدر المفهوم من فعل {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} أي: الدعاء للآباء. وجملة {هُوَ أَقْسَطُ} استئناف بياني كأن سائلا قال: لماذا لا ندعوهم للذين تبنوهم? فأجيب ببيان أن ذلك القسط فاسم التفضيل مسلوب المفاضلة، أي: هو قسط كامل وغيره جور على الآباء الحق والأدعياء، لأن فيه إضاعة أنسابهم الحق. والغرض من هذا الاستئناف تقرير ما دل عليه قوله: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب: 4] لتعلم عناية الله تعالى بإبطال أحكام الجاهلية في التبني، ولتطمئن نفوس المسلمين من التبنين والأدعياء ومن يتعلق بهم بقبول هذا التشريع الذي يشق عليهم إذ ينزع منهم إلفا ألفوه.
ولهذا المعنى الدقيق فرع عليه قوله: {فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} ، فجمع فيه تأكيدا للتشريع بعدم التساهل في بقاء ما كانوا عليه بعذر أنهم لا يعلمون آباء بعض الأدعياء، وتأنيسا للناس أن يعتاضوا عن ذلك الانتساب المكذوب اتصالا حقا لا يفوت به ما في الانتساب القديم من الصلة، ويتجافى به عما فيه من المفسدة فصاروا يدعون سالما متبنى أبي حذيفة: سالما مولى أبي حذيفة، وغيره، ولم يشذ عن ذلك إلا قول الناس للمقداد بن عمرو: المقداد بن الأسود، نسبة للأسود بن عبد يغوث الذي كان قد تبناه في الجاهلية كما تقدم.
قال القرطبي: لما نزلت هذه الآية قال المقداد: أن المقداد بن عمرو، ومع ذلك بقي الإطلاق عليه ولم يسمع فيمن مضى من عصى مطلق ذلك عليه ولو كان متعمدا ا هـ. وفي قول القرطبي: ولو كان متعمدا، نظر، إذ لا تمكن معرفة تعمد من يطلق ذلك عليه. ولعله جرى على ألسنة الناس المقداد بن الأسود فكان داخلا في قوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} لأن ما جرى على الألسنة مظنة النسيان، والمؤاخذة بالنسيان مرفوعة.

وارتفاع {إِخْوَانُكُمْ} على الإخبار عن مبتدأ محذوف هو ضمير الأدعياء، أي: فهم لا يعدون أن يوصفوا بالإخوان في الإسلام إن لم يكونوا موالي أو يوصفوا بالموالي إن كانوا موالي بالحلف أو بولاية العتاقة وهذا استقراء تام. والإخبار بأنهم إخوان وموال كناية عن الإرشاد إلى دعوتهم بأحد هذين الوجهين.
والواو للتقسيم وهي بمعنى "أو" فتصلح لمعنى التخيير، أي" فإن لم تعلموا آباءهم فادعوهم إن شئتم بإخوان وإن شئتم ادعوهم موالي إن كانوا كذلك. وهذا توسعة على الناس.
و {فِي} للظرفية المجازية، أي إخوانكم أخوة حاصلة بسبب الدين كما يجمع الظرف محتوياته، أو تجعل {فِي} للتعليل والتسبب، أي: إخوانكم بسبب الإسلام مثل قوله تعالى: {فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ} [العنكبوت: 10]، أي: لأجل الله لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10].
وليس في دعوتهم بوصف الأخوة ريبة أو التباس مثل الدعوة بالبنوة لأن الدعوة بالأخوة في أمثالهم ظاهرة لأن لوصف الأخوة فيهم تأويلا بإرادة الاتصال الديني بخلاف وصف البنوة فإنما هو ولاء وتحالف فالحق أن يدعوا بذلك الوصف، وفي ذلك جبر لخواطر الأدعياء ومن تبنوهم.
والمراد بالولاء في قوله: {وَمَوَالِيكُمْ} ولاء المحالفة لا ولاء العتق، فالمحالفة مثل الأخوة. وهذه الآية ناسخة لما كان جاريا بين المسلمين ومن النبيء صلى الله عليه وسلم من دعوة المتبنين إلى الذين تبنوهم فهو من نسخ السنة الفعلية والتقريرية بالقرآن. وذلك مراد من قال: إن هذه الآية نسخت حكم التبني.
قال في "الكشاف" : "وفي فصل هذه الجمل ووصلها من الحسن والفصاحة ما لا يعبئ عن عالم بطرق النظم". وبينه الطيبي فقال: يعني في إخلاء العاطف وإثباته من الجمل من مفتتح السورة إلى هنا. وبيانه: أن الأوامر والنهي في {اتَّقِ} [الأحزاب: 1] {وَلا تُطِعْ} [الأحزاب: 1] {وَاتَّبَعَ} [الأحزاب: 2] {وَتَوَكَّلْ} [الأحزاب: 3]، فإن الاستهلال بقوله: {يَا أَيُّهَا النبيء اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب: 1] دال على أن الخطاب مشتمل على أمر معني شأنه لائح منه الإلهاب، ومن ثم عطف عليه {وَلا تُطِعْ} كما يعطف الخاص على العام، وأردف به النهي، ثم أمر بالتوكل تشجيعا على مخالفة أعداء الدين، ثم عقب كلا من تلك الأوامر بما يطابقه على سبيل التتميم، وعلل {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ} بقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً

حَكِيماً} [الأحزاب: 1] تتميما للارتداع، وعلل قوله: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ} بقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} [الأحزاب: 2] تتميما، وذيل قوله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} بقوله: {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} [الأحزاب: 3] تقريرا وتوكيدا على منوال: فلان ينطق بالحق والحق أبلج، وفصل قوله: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } [الأحزاب: 4] على سبيل الاستئناف تنبيها على بعض من أباطيلهم. وقوله: {ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ} [الأحزاب: 4] فذلكة لتلك الأحوال آذنت بأنها من البطلان وحقيق بأن يذم قائله. ووصل قوله: {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب: 4] على هذه الفذلكة بجامع التضاد على منوال ما سبق في المحمل في {وَلا تُطِعِ} و {اتَّبَعَ} ، وفصل قوله: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} ، وقوله: {النبيء أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 6]، وهلم جرا إلى آخر السورة تفصيلا لقول الحق والاهتداء إلى السبيل القويم ا هـ.
{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} .
عطف على جملة {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} لأن الأمر فيها للوجوب فهو نهي عن ضده لتحريمه كأنه قيل: ولا تدعوهم للذين تبنوهم إلا خطأ.
والجناح: الإثم، وهو صريح في أن الأمر في قوله: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} أمر وجوب.
ومعنى {فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} ما يجري على الألسنة خارجا مخرج الغالب فيما اعتادوه أن يقولوا: فلان ابن فلان للدعي ومتبنيه، ولذلك قابله بقوله: {وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} أي: ما تعمدته عقائدكم بالقصد والإرادة إليه. وبهذا تقرر إبطال حكم التبني وأن لا يقول أحد لدعيه: هو ابني، ولا يقول: تبنيت فلانا، ولو قاله أحد لم يكن لقوله أثر ولا يعتبر وصية وإنما يعتبر قول الرجل: أنزلت فلانا منزلة ابن لي يرث ما يرثه ابني. وهذا هو المسمى بالتنزيل وهو خارج مخرج الوصية بمناب وارث إذا حمله ثلث الميت. وأما إذا قال لمن ليس بابنه: هو ابني، على معنى الاستلحاق فيجري على حكمه إن كان المنسوب مجهول النسب ولم يكن الناسب مريدا التطلف والتقريب. وعند أبي حنيفة وأصحابه من قال: هو ابني، وكان أصغر من القائل وكان مجهول النسب سنا ثبت نسبه منه، وإن كان عبده عتق أيضا، وإن كان لا يولد مثله لمثله لم يثبت النسب ولكنه يعتق عليه عند أبي حنيفة خلافا لصاحبيه فقالا: لا يعتق عليه. وأم معروف النسب فلا يثبت نسبه بالقائل فإن كان عبدا يعتق عليه لأن إطلاقه ممنوع إلا من جهة النسب فلو قال لعبده: هو أخي، لم

يعتق عليه إذا قال: لم أرد به أخوة النسب لأن ذلك يطلق في أخوة الإسلام بنص الآية وإذا قال أحد لدعيه: يا بني، على وجه التلطف فهو ملحق بالخطأ ولا ينبغي التساهل فيه إذا كانت فيه ريبة.
وقوله: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} يعود ضمير أمره إلى الأدعياء فلا يشمل الأمر دعاء الحفدة أبناء لأنهم أبناء. وقد قال النبيء صلى الله عليه وسلم في الحسن رضي الله عنه: "إن ابني هذا سيد" وقال: "لا تزرموا ابني" – أي: لا تقطعوا عليه بوله -. وكذلك لا يشمل ما يقوله أحد لآخر غير دعي له: يا ابني، تلطفا وتقربا، فليس به بأس لأن المدعو بذلك لم يكن دعيا للقائل ولم يزل الناس يدعون لداتهم بالأخ أو الأخت، قال الشاعر:
أنت أختي وأنت حرمة جاري ... وحرام علي خون الجوار
ويدعون من هو أكبر باسم العم كثيرا، قال النمر بن تولب:
دعاني الغواني عمهن وخلتني ... لي اسم فلا أدعى به وهو أول
يريد أنهن كن يدعونه: يا أخي.
ووقوع {جُنَاحَ} في سياق النفي بـ {لَيْسَ} يقتضي العموم فيفيد تعميم انتفاء الإثم عن العمل الخطأ بناء على قاعدة عدم تخصيص العام بخصوص سببه الذي ورد لأجله وهو أيضا معضود بتصرفات كثيرة في الشريعة، منها قوله تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]، وقول النبيء صلى الله عليه وسلم: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه" .
ويفهم من قوله: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} النهي عن أن ينسب أحد إلى غير أبيه بطريق لحن الخطاب. وفي الحديث: "من انتسب إلى غير أبيه فعليه لعنه الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا" .
ويخرج من النهي قول الرجل لآخر: أنت أبي وأنا ابنك على قصد التعظيم والتقريب وذلك عند انتفاء اللبس، كقول أبي الطيب يرقق سيف الدولة:
إنما أنت والد والأب القا ... طع أحنى من واصل الأولاد
وجملة {إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} [الأحزاب: 24] تعليل نفي الجناح عن الخطأ بأن نفي الجناح من آثار اتصاف الله تعالى بالمغفرة والرحمة بخلقه.

[6] {النبيء أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً}.
{النبيء أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ}.
استئناف بياني أن قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} [الأحزاب: 4] وقوله: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5] كان قد شمل في أول ما شمله إبطال بنوة زيد بن حارثة للنبيء صلى الله عليه وسلم فكان بحيث يثير سؤالا في نفوس الناس عن مدى صلة المؤمنين بنبيئهم صلى الله عليه وسلم وهل هي وعلقة الأجانب من المؤمنين بعضهم ببعض سواء فلأجل تعليم المؤمنين حقوق النبيء وحرمته جاءت هذه الآية مبينة أن النبيء أولى بالمؤمنين من أنفسهم. والمعنى: أنه أولى بكل مؤمن من أنفس المؤمنين. و {مِنْ} تفضيلية.
ثم الظاهر أن الأنفس مراد بها جمع النفس وهي اللطيفة الإنسانية كقوله: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي} [المائدة: 116]، وأن الجمع للتوزيع على كل مؤمن آيل إلى كل فرد من الأنفس، أي أن النبيء أولى بكل مؤمن من نفس ذلك المؤمن، أي: هو أشد ولاية، أي قربا لكل مؤمن من قرب نفسه إليه، وهو قرب معنوي يراد به آثار القرب من محبة ونصرة. فـ {أَوْلَى} اسم تفضيل من الولي وهو القرب، أي: أشد قربا. وهذا الاسم يتضمن معنى الأحقية بالشيء فيتعلق به متعلقه بباء المصاحبة والملابسة. والكلام على تقدير مضاف، أي أولى بمنافع المؤمنين أو بمصالح المؤمنين، فهذا المضاف حذف لقصد تعميم كل شأن من شؤون المؤمنين الصالحة.
والأنفس: الذوات، أي هو أحق بالتصرف في شؤونهم من أنفسهم في تصرفهم في شؤونهم. ومن هذا المعنى ما في الحديث الصحيح من قول عمر بن الخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم: "لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي التي بين جنبي" فقال له النبيء صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه. فقال: عمر والذي أنزل عليك الكتاب لأنت أحب إلي من نفسي" .
ويجوز أن يكون المراد بالأنفس مجموع نوعهم كقوله: {إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آل عمران: 164]، ويجوز أن يكون المراد بالأنفس الناس. والمعنى: أنه أولى بالمؤمنين من ولاية بعضهم لبعض، أي من ولاية جميعهم لبعضهم على نحو قوله تعالى:

{ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 85]، أي: يقتل بعضكم بعضا وقوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} [النساء: 29].
والوجه الأول أقوى وأعم في اعتبار حرمة النبيء صلى الله عليه وسلم وهو يفيد أولويته بمن عدا الأنفس من المؤمنين بدلالة فحوى الخطاب. وأما الاحتمال الثاني فإنه لا يفيد أنه أولى بكل مؤمن بنفس ذلك المؤمن إلا بدلالة قياس الأدون، ولذلك استثنى عمر ابن الخطاب بادئ الأمر نفسه فقال: لأنت أحب إلي إلا من نفسي التي بين جنبي. وعلى كلا الوجهين فالنبيء عليه الصلاة والسلام أولى بالمؤمنين من آبائهم وأبنائهم، وعلى الاحتمال الأول أولى بكل مؤمن من نفسه. وسننبه عليه عند قوله تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} فكانت ولاية النبيء صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين بعد إبطال التبني سواء على جميع المؤمنين.
وفي الحديث: "ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة اقرأوا إن شئتم {النبيء أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} " ، ولما علمت من أن هذه الولاية راجعة إلى حرمته وكرامته تعلم أنها لا تتعدى ذلك فيما هو من تصرفات الناس وحقوق بعضهم من بعض، مثل ميراث الميت من المسلمين فإن ميراثه لورثته، وقد بينه قول النبيء صلى الله عليه وسلم: "أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فأيما مؤمن ترك مالا فليرثه ورثته من كانوا، فإن ترك دينا أو ضياعا فليأتني فأنا مولاه" . وهذا ملاك معنى هذه الآية.
{وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ}
عطف على حقوق النبيء صلى الله عليه وسلم حقوق أزواجه على المسلمين لمناسبة جريان ذكر حق النبيء عليه الصلاة والسلام فجعل الله لهن ما للأمهات من تحريم التزوج بهن بقرينة ما تقدم من قوله: {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ} [الأحزاب: 4].
وأما ما عدا حكم التزوج من وجوه البر بهن ومواساتهن فذلك راجع إلى تعظيم أسباب النبيء صلى الله عليه وسلم وحرماته ولم يزل أصحاب النبيء والخلفاء الراشدون يتوخون حسن معاملة أزواج النبيء صلى الله عليه وسلم ويؤثرونهن بالخير والكرامة والتعظيم. وقال ابن عباس عند حمل جنازة ميمومة: "هذه زوج نبيكم فإذا رفعتم نعشها فلا تزعزعوا ولا تزلزلوا وارفقوا" رواه مسلم. وكذلك ما عدا حكم الزواج من وجوه المعاملة غير ما يرجع إلى التعظيم ولهذه النكتة جيء بالتشبيه البليغ للمبالغة في شبههن بالأمهات للمؤمنين مثل الإرث وتزوج بناتهن، فلا يحسب أن تركاتهن يرثها جميع المسلمين، ولا أن بناتهن أخوات للمسلمين في حرمة التزوج بهن.

وأما إطلاق وصف خال المؤمنين على الخليفة معاوية لأنه أخو أم حبيبة أم المؤمنين فذلك من قبيل التعظيم كما يقال: بنو فلان أخوال فلان، إذا كانوا قبيلة أمه.
والمراد بأزواجه اللآئي تزوجهن بنكاح فلا يدخل في ذلك ملك اليمين، وقد قال الصحابة يوم قريظة حين تزوج النبيء صلى الله عليه وسلم صفية بنت حيي: أهي إحدى ما ملكت يمينه أم هي إحدى أمهات المؤمنين? فقالوا: ننظر، فإذا حجبها فهي إحدى أمهات المؤمنين وإذا لم يحجبها فهي مما ملكت يمينه، فلما بنى بها ضرب عليها الحجاب، فعلموا أنها إحدى أمهات المؤمنين، ولذلك لم تكن مارية القبطية إحدى أمهات المؤمنين.
ويشترط في اعتبار هذه الأمومة أن يكون النبيء صلى الله عليه وسلم بنى بالمرأة، فأما التي طلقها قبل البناء مثل الجونية وهي أسماء بنت النعمان الكندية، وذكر ابن العربي أن امرأة كان عقد عليها النبيء صلى الله عليه وسلم تزوجت في خلافة عمر فهم عمر برجمها. فقالت: لم وما ضرب علي النبيء حجابا ولا دعيت أم المؤمنين. فكف عنها. وهذه المرأة هي ابنة الجون الكندية تزوجها الأشعث بن قيس. وهذا هو الأصح وهو مقتضى مذهب مالك وصححه إمام الحرمين والرافعي من الشافعية. وعن مقاتل: يحرم تزوج كل امرأة عقد عليها النبيء صلى الله عليه وسلم ولو لم يبن بها. وهو قول الشافعي وصححه في "الروضة" ، واللآء طلقهن الرسول عليه الصلاة والسلام بعد البناء بهن فاختلف فيهن على قولين، قيل: تثبت حرمة التزوج بهن حفظا لحرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: لا يثبت لهن ذلك، والأول أرجح. وقد أكد حكم أمومة أزواج النبيء صلى الله عليه وسلم للمؤمنين بقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب: 53]، وبتحريم تزوج إحداهن على المؤمنين بقوله [تعالى]: {وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً} [الأحزاب: 53]. وسيجيء بيان ذلك عند ذكر هاتين الآيتين في أواخر هذه السورة.
وروي أن ابن مسعود قرأ بعدها: وهو أب لهم. وروي مثله عن أبي بن كعب وعن ابن عباس. وروي عن عكرمة: كان في الحرف الأول "وهو أبوهم".
ومحملها أنها تفسير وإيضاح وإلا فقد أفاد قوله تعالى: {النبيء أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} أكثر من مفاد هذه القراءة.
{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً} .

أعقب نسخ أحكام التبني التي منها ميراث المتبني من تبناه والعكس بإبطال نظيره وهو المواخاة التي كانت بين رجال من المهاجرين مع رجال من الأنصار وذلك أن النبيء صلى الله عليه وسلم لما نزل بالمدينة مع من هاجر معه، جعل لكل رجل من المهاجرين رجلا أخا له من الأنصار فآخى بين أبي بكر الصديق وبين خارجة بن زيد، وبين الزبير وكعب بن مالك، وبين عبد الرحمان بن عوف وسعد بن الربيع، وبين سلمان وأبي الدرداء، وبين عثمان بن مظعون وأبي قتادة الأنصاري؛ فتوارث المتآخون منهم بتلك المؤاخاة زمانا كما يرث الإخوة ثم نسخ ذلك بهذه الآية، كما نسخ التوارث بالتبني بآية {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5]، فبينت هذه الآية أن القرابة هي سبب الإرث إلا الانتساب الجعلي.
فالمراد بأولي الأرحام: الإخوة الحقيقيون. وعبر عنهم بأولي الأرحام لأن الشقيق مقدم على الأخ للأب في الميراث وهم الغالب، فبينت الآية أن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض في الميراث من ولاية المتآخين المهاجرين والأنصار فعم هذا جميع أولي الأرحام وخصص بقوله: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ} على أحد وجهين في الآيتين في معنى {مِنَ} . وهو بمنزلة العام الوارد على سبب خاص وهو مطلق في الأولوية والمطلق من قبيل المجمل، وإذ لم يكن معه بيان فمحمل إطلاقه محمل العموم، لأن الأولوية حال من أحوال أولي الأرحام وعموم الأشخاص يستلزم عموم الأحوال، فالمعنى: أن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض في جميع الولايات إلا ما خصصه أو قيده الدليل.
والآية مبينة في أن القرابة الحقيقية أرجح من الأخوة الجعلية، وهي مجملة في تفصيل ذلك فيما بين أولي الأرحام، وذلك مفصل في الكتاب والسنة في أحكام المواريث. وتقدم الكلام على لفظ {أُولُو} عند قوله تعالى: {وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} في سورة البقرة [197].
ومعنى {فِي كِتَابِ اللَّهِ} فيما كتبه، أي فرضه وحكم به. ويجوز أن يراد به القرآن إشارة إلى ما تضمنته آية المواريث، وقد تقدم نظير هذه الآية في آخر سورة الأنفال. وتقدم الكلام في توريث ذوي الأرحام إن لم يكن للميت وارث معلوم سهمه.
و {أُولُو الْأَرْحَامِ} مبتدأ، و {بَعْضُهُمْ} مبتدأ ثان و {أَوْلَى} خبر الثاني والجملة خبر المبتدأ الأول، و {فِي كِتَابِ اللَّهِ} متعلق بـ {أولى} .
وقوله: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ} يجوز أن يتعلق باسم التفضيل وهو {أَوْلَى} فتكون {مِنْ} تفضيلية. والمعنى: أولوا الأرحام أولى بإرث ذوي أرحامهم من إرث

أصحاب ولاية الإيمان والهجرة بتلك الولاية، أي الولاية التي بين الأنصار والمهاجرين. وأريد بالمؤمنين خصوص الأنصار بقرينة مقابلته بعطف {وَالْمُهَاجِرِينَ} على معنى أصحاب الإيمان الكامل تنويها بإيمان الأنصار لأنهم سبقوا بإيمانهم قبل كثير من المهاجرين الذين آمنوا بعدهم فإن الأنصار آمنوا دفعة واحدة لما أبلغهم نقباؤهم دعوة محمد صلى الله عليه وسلم إياهم بعد بيعة العقبة الثانية. قال تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الحشر: 9] أي: من قبل كثير من فقراء المهاجرين عدا الذين سبق إيمانهم. فالمعنى: كل ذي رحم أولى بإرث قريبه من أن يرثه أنصاري إن كان الميت مهاجرا، أو أن يرثه مهاجر إن كان الميت من الأنصار، فيكون هذا ناسخا للتوارث بالهجرة الذي شرع بآية الأنفال [72] {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} ، فتوارث المسلمون بالهجرة فكان الأعرابي المسلم لا يرث قريبه المهاجر، ثم نسخ بآية هذه السورة.
ويجوز أن يكون قوله: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ظرفا مستقرا في موضع الصفة، أي: وأولوا الأرحام الكائنون من المؤمنين والمهاجرين، بعضهم أولى ببعض، أي: لا يرث ذو الرحم ذا رحمة إلا إذا كانا مؤمنين ومهاجرين، فتكون الآية ناسخة للتوارث بالحلف والمؤاخاة الذي شرع عند قدوم المهاجرين إلى المدينة، فلما نزلت هذه الآية رجعوا إلى مواريثهم فبينت هذه الآية أن القرابة أولى من الحلف والمواخاة، وأيا ما كان فإن آيات المواريث نسخت هذا كله. ويجوز أن تكون {مِنَ} بيانية، أي: وأولوا الأرحام المؤمنون والمهاجرون، أي: فلا يرث أولوا الأرحام الكافرون ولا يرث من لم يهاجر من المؤمنين لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [لأنفال: 73] ثم قال {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72].
والاستثناء بقوله: {إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفاً} منقطع، و {إِلَّا} بمعنى "لكن" لأن ما بعد {إِلَّا} ليس من جنس ما قبلها فإن الأولوية التي أثبتت لأولي الأرحام أولوية خاصة وهي أولوية الميراث بدلالة السياق دون أولوية حسن المعاشرة وبذل المعروف. وهذا استدراك على ما قد يتوهم من قطع الانتفاع بأموال الأولياء عن أصحاب الولاية بالإخاء والحلف فبين أن الذي أبطل ونسخ هو انتفاع الإرث وبقي حكم المواساة وإسداء المعروف بمثل الإنفاق والإهداء والإيصاء.
وجملة {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً} تذييل لهذه الأحكام وخاتمة لها مؤذنة بانتهاء الغرض من الأحكام التي شرعت من قوله: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5] إلى هنا،

فالإشارة بقوله: {ذَلِكَ} إلى المذكور من الأحكام المشروعة فكان هذا التذييل أعم مما اقتضاه قوله: {بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} . وبهذا الاعتبار لم يكن تكريرا له ولكنه يتضمنه ويتضمن غيره فيفيد تقريره وتوكيده تبعا وهذا شأن التذييلات.
والتعريف في {الكِتَابِ} للعهد، أي كتاب الله، أي: ما كتبه على الناس وفرضه كقوله: {كِتَابَ اللَّهِ عليكم} [النساء: 24]، فاستعير الكتاب للتشريع بجامع ثبوته وضبطه التغيير والتناسي، كما قال الحارث بين حلزة:
حذر الجور والتطاخي وهل ينـ ـقض ما في المهارق الأهواء
ومعنى ها مثل قوله تعالى: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} في سورة الأنفال [75]. فالكتاب: استعارة مكنية وحرف الظرفية ترسيخ للاستعارة.
والمسطور: المكتوب في سطور، وهو ترشيح أيضا للاستعارة وفيه تخييل للمكنية.
وفعل {كَانَ} في قوله: {كَانَ ذَلِكَ} لتقوية ثبوته في الكتاب مسطورا، لأن {كَانَ} إذا لم يقصد بها أن اسمها اتصف بخبرها في الزمن الماضي كانت للتأكيد غالبا مثل {وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الأحزاب: 4] أي: لم يزل كذلك.
[7، 8] {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيءينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً [7] لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً}
عطف على قوله: {يَا أَيُّهَا النبيء اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} إلى قوله: {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} [الأحزاب: 1- 3] فلذلك تضمن الأمر بإقامة الدين على ما أراده اله تعالى وأوحى به إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى نبذ سنن الكافرين الصرحاء والمنافقين من أحكام الهوى والأوهام.
فلما ذكر ذلك وعقب بمثل ثلاثة من أحكام جاهليتهم الضالة بما طال من الكلام إلى هنا ثني عنان الكلام إلى الإعلام بأن الذي أمره الله به هو من عهود أخذها الله على النبيءين والمرسلين من أول عهود الشرائع. وتربط هذا الكلام بالكلام الذي عطف هو عليه مناسبة قوله: {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً} [الأحزاب: 6]. وبهذا الارتباط بين الكلامين لم يحتج إلى بيان الميثاق الذي أخذه الله تعالى على النبيءئين، فعلم أن المعنى: وإذ أخذنا

من النبيءين ميثاقهم بتقوى الله وبنبذ طاعة الكافرين والمنافقين وباتباع ما أوحى الله به. وقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} [الأحزاب: 1] {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً} . فلما أمر النبيء صلى الله عليه وسلم بالاقتصار على تقوى الله وبالإعراض عن دعوى الكافرين والمنافقين. أعلم بأن ذلك شأن النبيءين من قبله، ولذلك عطف قوله: {وَمِنْكَ} عقب ذكر النبيءين تنبيها على أن شأن الرسل واحد وأن سنة الله فيهم متحدة، فهذه الآية لها معنى التذييل لآية {يَا أَيُّهَا النبيء اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب: 1] الآيات الثلاث ولكنها جاءت معطوفة بالواو لبعد ما بينها وما بين الآيات الثلاث المتقدمة.
وقوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيءينَ مِيثَاقَهُمْ} الآيتين لهما موقع المقدمة لقصة الأحزاب لأن مما أخذ الله عليه ميثاق النبيءين أن ينصروا الدين الذي يرسله الله به، وأن ينصروا دين الإسلام، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النبيءينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} [آل عمران: 81] فمحمد صلى الله عليه وسلم مأمور بالنصرة لدينه بمن معه من المسلمين لقوله في هذه الآية: {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً} . وقال في الآية الآتية في الثناء على المؤمنين الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب: 24] الآية.
وقد جاء قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيءينَ مِيثَاقَهُمْ} جاريا على أسلوب ابتداء كثير من قصص القرآن في افتتاحها بـ {إِذْ} على إضمار "اذكر". و {إِذْ} اسم للزمان مجرد عن معنى الظرفية. فالتقدير: واذكر وقتا، وبإضافة {إِذْ} إلى الجملة بعده يكون المعنى: اذكر وقت أخذنا ميثاقا على النبيءين. وهذا الميثاق مجمل هنا بينته آيات كثيرة. وجماعها أن يقولوا الحق ويبلغوا ما أمروا به دون ملاينة للكافرين والمنافقين، ولا خشية منهم، ولا مجاراة للأهواء، ولا مشاطرة مع أهل الضلال في الإبقاء على بعض ضلالهم. وأن الله واثقهم ووعدهم على ذلك بالنصر. ولما احتوت عليه هذه السورة من الأغراض مزيد التأثر بهذا الميثاق بالنسبة للنبيء صلى الله عليه وسلم وشديد المشابهة بما أخذ من المواثيق على الرسل من قبله. ومن ذلك على سبيل المثال قوله تعالى هنا: {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب: 4] وقوله في ميثاق أهل الكتاب {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} في سورة الأعراف [169].
وفي تعقيب أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالتقوى ومخالفة الكافرين والمنافقين والتثبيت على اتباع ما يوحي إليه، وأمره بالتوكل على الله، وجعلها قبل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ

اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ} [الأحزاب: 9] الخ... إشارة إلى أن ذلك التأييد الذي أيد الله به رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه إذ رد عنهم أحزاب الكفار والمنافقين بغيظهم لم ينالوا خيرا ما هو إلا أثر من آثار الميثاق الذي أخذه الله على رسوله حين بعثه.
والميثاق: اسم العهد وتحقيق الوعد، وهو مشتق من وثق، إذا أيقن وتحقق، فهو منقول من اسم آلة مجازا غلب على المصدر، وتقدم في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} في سورة البقرة [27]. وإضافة ميثاق إلى ضمير النبيءين من إضافة المصدر إلى فاعله على معنى اختصاص الميثاق بهم فيما ألزموا به وما وعدهم الله على الوفاء به. ويضاف أيضا إلى ضمير الجلالة في قوله: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ} [المائدة: 7].
وقوله: {وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} الخ هو من ذكر بعض أفراد العام للاهتمام بهم فإن هؤلاء المذكورين أفضل الرسل، وقد ذكر ضمير محمد صلى الله عليه وسلم قبلهم إيماء إلى تفضيله على جميعهم، ثم جعل ترتيب ذكر البقية على ترتيبهم في الوجود. ولهذه النكتة خص ضمير النبيء بإدخال حرف "من" عليه بخصوصه، ثم أدخل حرف "من" على مجموع الباقين فكان قد خص باهتمامين: اهتمام التقديم، واهتمام إظهار اقتران الابتداء بضمير بخصوصه غير مندمج في بقيتهم عليهم السلام.
وسيجيء أن ما في سورة الشورى [13] من تقديم {مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً} على {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الشورى: 13]طريق آخر هو آثر بالغرض الذي في تلك السورة من قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ} الآية [الشورى: 13].
وجملة {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} أعادت مضمون جملة {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيءينَ مِيثَاقَهُمْ} لزيادة تأكيدها، وليبنى عليها وصف الميثاق بالغليظ، أي: عظيما جليل الشأن في جنسه فإن كل ميثاق له عظم فلما وصف هذا بـ {غَلِيظاً} أفاد أن له عظما خاصا، وليعلق به لام التعليل من قوله: {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ} .
وحقيقة الغليظ: القوي المتين الخلق، قال تعالى: {فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} [الفتح: 29]. واستعير الغليظ للعظيم الرفيع في جنسه لأن الغليظ من كل صنف هو أمكنه في صفات جنسه.

واللام في قوله: {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ} لام كي، أي: أخذنا منهم ميثاقا غليظا لنعظم جزاء للذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق ولنشدد العذاب جزاء للذين يكفرون بما جاءتهم به رسل الله، فيكون من دواعي ذكر هذا الميثاق هنا أنه توطئة لذكر جزاء الصادقين وعذاب الكافرين زيادة على ما ذكرنا من دواعي ذلك آنفا. وهذه علة من علل أخذ الميثاق من النبيءين وهي آخر العلل حصولا فأشعر ذكرها بأن لهذا الميثاق عللا تحصل قبل أن يسأل الصادقون عن صدقهم، وهي ما في الأعمال المأخوذ ميثاقهم عليها من جلب المصالح ودرء المفاسد، وذلك هو ما يسأل العاملون عن عمله من خير وشر.
وضمير {يَسْأَلَ} عائد إلى الله تعالى على طريقة الالتفات من التكلم إلى الغيبة.
والمراد بالصادقين أمم الأنبياء الذين بلغهم ما أخذ على أنبيائهم من الميثاق، ويقابلهم الكافرون الذين كذبوا أنبياءهم أو الذين صدقوهم ثم نقضوا الميثاق من بعد، فيشملهم اسم الكافرين.
والسؤال: كناية عن المؤاخذة لأنها من ثواب جواب السؤال أعني إسداد الثواب للصادقين وعذاب الكافرين، وهذا نظير قوله تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء: 23]، أي: لا يتعقب أحد فعله ولا يؤاخذه على ما لا يلائمه، وقول كعب بن زهير:
وقيل: إنك منسوب ومسؤول
وجملة {وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ} عطف على جملة {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ} وغير فيها الأسلوب للدلالة على تحقيق عذاب الكافرين حتى لا يتوهم أنهم يسألون سؤال من يسمع جوابهم أو معذرتهم، ولإفادة أن إعداد عذابهم أمر مضى وتقرر في علم الله.
[9] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً}.
ابتداء لغرض عظيم من أغراض نزول هذه السورة والذي حف بآيات وعبر من ابتدائه ومن عواقبه تعليما للمؤمنين وتذكيرا ليزيدهم يقينا وتبصيرا. فافتتح الكلام بتوجيه الخطاب إليهم لأنهم أهله وأحقاء به، ولأن فيه تخليد كرامتهم ويقينهم وعناية الله بهم ولطفه لهم وتحقيرا لعدوهم ومن يكيد لهم، وأمروا أن يذكروا هذه النعمة ولا ينسوها لأن في ذكرها تجديدا للاعتزاز بدينهم والثقة بربهم والتصديق لنبيهم صلى الله عليه وسلم.
واختيرت للتذكير بهذا اليوم مناسبة الأمر بعدم طاعة الكافرين والمنافقين لأن من

النعم التي حفت بالمؤمنين في يوم الأحزاب أن الله رد كيد الكافرين والمنافقين فذكر المؤمنون بسابق كيد المنافقين في تلك الأزمة ليحذروا مكائدهم وأراجيفهم في قضية التبني وتزوج النبيء صلى الله عليه وسلم مطلقة متبناه، ولذلك خص المنافقون بقوله: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [الأحزاب: 12] الآيات؛ على أن قضية إبطال التبني وإباحة تزوج مطلق الأدعياء كان بقرب وقعة الأحزاب.
و {إِذْ} ظرف للزمن الماضي متعلق بـ {نِعْمَةَ} لما فيها من معنى الإنعام، أي: اذكروا ما أنعم الله به عليكم زمان جاءتكم جنود فهزمهم الله بجنود لو تروها.
وهذه الآية وما بعدها تشير إلى ما جرى من عظيم صنع الله بالمؤمنين في غزوة الأحزاب فلنأت على خلاصة ما ذكره أهل السير والتفسير ليكون منه بيان لمطاوي هذه الآيات.
وكان سبب هذه الغزوة أن قريشا بعد وقعة أحد تهادنوا مع المسلمين لمدة عام على أن يلتقوا ببدر من العام القابل فلم يقع قتال ببدر لتخلف أبي سفيان عن الميعاد، فلم يناوش أحد الفريقين الفريق الآخر إلا ما كان من حادثة غدر المشركين بالمسلمين وهي حادثة بئر معونة حين غدرت قبائل عصية، ورعل، وذكوان من بني سليم بأربعين من المسلمين إذ سأل عامر بن مالك رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوجههم إلى أهل نجد يدعونهم إلى الإسلام. وكان ذلك كيدا كاده عامر بن مالك وذلك بعد أربعة أشهر من انقضاء غزوة أحد.
فلما أجلى النبيء صلى الله عليه وسلم بني النضير لما ظهر من غدرهم به وخيسهم بالعهد الذي لهم مع المسلمين، هنالك اغتاظ كبراء يهود قريظة بعد الجلاء وبعد أن نزلوا بديار بني قريظة وبخيبر فخرج سلام بن أبي الحقيق - بتشديد لام سلام وضم حاء الحقيق وفتح قافه - وكنانة بن بيأبيأبأبي الحقيق، وحيي بن أخطب - بضم حاء حيي وفتح همزة وطاء أخطب - وغيرهم في نفر من بني النضير فقدموا على قريش لذلك وتآمروا مع غطفان على أن يغزوا المدينة فخرجت قريش وأحابيشها وبنو كنانة في عشرة آلاف وقائدهم أبو سفيان، وخرجت غطفان في ألف قائدهم عيينة بن حصن، وخرجت معهم هوازن وقائدهم عامر بن الطفيل.
وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم عزمهم على منازلة المدينة أبلغته إياه خزاعة وخاف المسلمون كثرة عدوهم، وأشار سلمان الفارسي أن يحفر خندق يحيط بالمدينة تحصينا لها من دخول العدو فاحتفره المسلمون والنبيء صلى الله عليه وسلم معهم يحفر وينقل التراب، وكانت غزوة الخندق سنة أربع في رواية ابن وهب وابن القاسم عن مالك. وقال ابن إسحاق: سنة خمس. وهو الذي اشتهر عند الناس وجرى عليه ابن رشد في "جامع البيان والتحصيل" اتباعا لما اشتهر، وقول مالك أصح.

وعندما تم حفر الخندق أقبلت جنود المشركين وتسموا بالأحزاب لأنهم عدة قبائل تحزبوا، أي: صاروا حزبا واحدا، وانضم إليهم بنو قريظة فكان ورود قريش من أسفل الوادي من جهة المغرب، وورود غطفان وهوازن من أعلى الوادي من جهة المشرق، فنزل جيش قريش بمجتمع الأسيال من رومة بين الجرف وزغابة - بزاي معجمة مضمومة وغين معجمة وبعضهم يرويه بالعين المهملة - وبعضهم يقول: والغابة، والتحقيق هو الأول كما في "الروض الأنف" ونزل جيش غطفان وهوازن بذنب نقمى إلى جانب أحد، وكان جيش المسلمين ثلاثة آلاف، وخرج المسلمون إلى خارج المدينة فعسكروا تحت جبل سلع وجعلوا ظهورهم إلى الجبل والخندق بينهم وبين العدو، وجعل المسلمون نساءهم وذراريهم في آطام المدينة. وأمر النبيء صلى الله عليه وسلم على المدينة عبد الله بن أم مكتوم، ودام الحال كذلك بضعا وعشرين ليلة لم تكن بينهم فيها حرب إلا مصارعة بين ثلاثة فرسان اقتحموا الخندق من جهة ضيقة على أفراسهم فتقاتلوا في السبخة بين الخندق وسلع وقتل أحدهم قتله علي بن أبي طالب وفر صاحباه، وأصاب سهم غرب سعد بن معاذ في أكحله فكان منه موته في المدينة. ولحقت المسلمين شدة من الحصار وخوف من كثرة جيش عدوهم حتى هم النبيء صلى الله عليه وسلم بأن يصالح الأحزاب على أن يعطيهم نصف ثمر المدينة في عامهم ذلك يأخذونه عند طيبه وكاد أن يكتب معهم كتابا في ذلك، فاستشار سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فقال سعد بن معاذ: قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك ولا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا قرى أو بيعا، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وأعزنا بك نعطيهم أموالنا والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم، فأبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان عزم عليه.
وأرسل الله على جيش المشركين ريحا شديدة فأزالت خيامهم وأكفأت قدورهم وأطفأت نيرانهم، واختل أمرهم، وهلك كراعهم وخفهم، وحدث تخاذل بينهم وبين قريظة وظنت قريش أن قريظة صالحت المسلمين وأنهم ينضمون إلى المسلمين على قتال الأحزاب، فرأى أهل الأحزاب الرأي في أن يرتحلوا فارتحلوا عن المدينة وانصرف جيش المسلمين راجعا إلى المدينة.
فقوله تعالى: {إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ} ذكر توطيئة لقوله: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً} الخ لأن ذلك هو محل المنة. والريح المذكورة هنا هي ريح الصبا وكانت باردة وقلعت الأوتاد والإطناب وسفت التراب في عيونهم وماجت الخيل بعضها في بعض وهلك كثير من خيلهم وإبلهم وشائهم. وفيها قال النبيء صلى الله عليه وسلم: "نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور" .
والجنود التي لم يروها هي جنود الملائكة الذين أرسلوا الريح وألقوا التخاذل بين

الأحزاب وكانوا وسيلة إلقاء الرعب في نفوسهم.
وجملة {وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} في موقع الحال من اسم الجلالة في قوله: {نِعْمَةَ اللَّهِ} ، وهي إيماء إلى أن الله نصرهم على أعدائهم لأنه عليم بما لقيه المسلمون من المشقة والمصابرة في حفر الخندق والخروج من ديارهم إلى معسكرهم خارج المدينة وبذلهم النفوس في نصر دين الله فجازاهم الله بالنصر المبين كما قال: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج: 40].
وقرأ الجمهور {بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} بتاء الخطاب. وقرأه أبو عمرو وحده بياء الغيبة ومحملها على الالتفات.
والجنود الأول جمع جند، وهو الجمع المتحد المتناصر ولذلك غلب على الجمع المجتمع لأجل القتال فشاع الجند بمعنى الجيش. وذكر جنود هنا بلفظ الجمع مع أن مفرده مؤذن بالجماعة مثل قوله تعالى: {جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ} [ص: 11] فجمعه هنا لأنهم كانوا متجمعين من عدة قبائل لكل قبيلة جيش خرجوا متساندين لغزو المسلمين في المدينة، ونظيره قوله تعالى: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ} في سورة البقرة [249].
والجنود الثاني جمع جند بمعنى الجماعة من صنف واحد. والمراد بهم ملائكة أرسلوا لنصر المؤمنين وإلقاء الرعب والخوف في قلوب المشركين.
[10، 11] {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً}
{إِذْ جَاءُوكُمْ} بدل من {إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ} [الأحزاب: 9] بدل مفصل من مجمل. والمراد بـ"فوق" و {أَسْفَلَ} فوق جهة المدينة وأسفلها.
و {وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ} عطف على البدل وهو من جملة التفصيل، والتعريف في {الْأَبْصَارُ} و {الْقُلُوبُ} و {الْحَنَاجِرَ} للعهد، أي: أبصار المسلمين وقلوبهم وحناجرهم، أو تجعل اللام فيها عوضا عن المضافات إليها، أي زاغت أبصاركم وبلغت قلوبكم حناجركم.
والزيغ: الميل عن الاستواء إلى الانحراف. فزيغ البصر أن لا يرى ما يتوجه إليه، أو أن يريد التوجه إلى صوب فيقع إلى صوب آخر من شدة الرعب والانذعار.
و {الْحَنَاجِرَ} : جمع حنجرة - بفتح الحاء المهملة وسكون النون وفتح الجيم -: منتهى الحلقوم وهي رأس الغلصمة. وبلوغ القلوب الحناجر تمثيل لشدة اضطراب القلوب من

الفزغ والهلع حتى كأنها لاضطرابها تتجاوز مقارها وترتفع طالبة الخروج من الصدور فإذا بلغت الحناجر لم تستطع تجازوها من الضيق؛ فشبهت هيئة قلب الهلوع المرعود بهيئة قلب $ تجاوز موضعه وذهب متصاعدا طالبا الخروج، فالمشبه القلب نفسه باعتبار اختلاف الهيئتين. وليس الكلام على الحقيقة فإن القلوب لا تتجاوز مكانها، وقريب منه قولهم: تنفس الصعداء، وبلغت الروح التراقي.
وجملة {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} يجوز أن تكون عطفا على جملة {زَاغَتِ الْأَبْصَارُ} ، ويجوز أن يكون الواو للحال وجيء بالفعل المضارع للدلالة على تجدد تلك الظنون بتجدد أسبابها كناية عن طول مدة هذا البلاء.
وفي صيغة المضارع معنى التعجيب من ظنونهم لإدماج العتاب بالامتنان فإن شدة الهلع الذي أزاغ الأبصار وجعل القلوب بمثل حالة أن تبلغ الحناجر، دل على أنهم أشفقوا من أن يهزموا لما رأوا من قوة الأحزاب وضيق الحصار أو خافوا طول مدة الحرب وفناء الأنفس، أو أشفقوا من أن تكون من الهزيمة جراءة للمشركين على المسلمين، أو نحو ذلك من أنواع الظنون وتفاوت درجات أهلها.
والمؤمن وإن كان يثق بوعد ربه لكنه لا يأمن غضبه من جراء تقصيره، ويخشى أن يكون النصر مرجأ إلى زمن آخر، فإن ما في علم الله وحكمته لا يحاط به.
وحذف مفعولا {تَظُنُّونَ} بدون وجود دليل يدل على تقديرهما فهو حذف لتنزيل الفعل منزلة اللازم، ويسمى هذا الحرف عند النحاة الحذف اقتصارا، أي: للاقتصار على نسبة فعل الظن لفاعله، والمقصود من هذا التنزيل أن تذهب نفس السامع كل مذهب ممكن، وهو حذف مستعمل كثيرا في الكلام الفصيح وعلى جوازه أكثر النحويين ومنه قوله تعالى: {أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى} [النجم: 35} وقوله: {وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ} [الفتح: 12]، وقول المثل: من يسمع يخل، ومنعه سيبويه والأخفش.
وضمن {تَظُنُّونَ} معنى تلحقون فعدي بالباء فالباء للملابسة. قال سيبويه: قولهم: ظننت به، معناه: جعلته موضع ظني. وليست الباء هنا بمنزلتها في {كَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} [النساء: 6]، أي: ليست زائدة، ومجرورها معمول للفعل قبلها كأنك قلت: ظننت في الدار، ومثله: شككت فيه، أي: فالباء عنده بمعنى "في". والوجه أنها للملابسة كقول دريد بن الصمة:
فقلت لهم: ظنوا بألفي مدجج ... سراتهم في الفارسي المسرد
وسيأتي تفصيل ذلك عند قوله تعالى: {فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} في سورة الصافات [87].

وانتصب {الظُّنُونَا} على المفعول المطلق المبين للعدد، وهو جمع ظن. وتعريفه باللام تعريف الجنس، وجمعه للدلالة على أنواع من الظن كما في قول النابغة:
أبيتك عاريا خلقا ثيابي ... على خوف تظن بي الظنون
وكتب {الظُّنُونَا} في الإمام بعد النون، زيدت هذه الألف في النطق للرعاية على الفواصل في الوقوف، لأن الفواصل مثل الأسجاع تعتبر موقوفا عليها لأن المتكلم أرادها كذلك. فهذه السورة بنيت على فاصلة الألف مثل القصائد المقصورة، كما زيدت الألف في قوله تعالى: {وَأَطَعْنَا الرَّسُولا} [الأحزاب: 66] وقوله: {فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} [الأحزاب: 67].
وعن أبي علي في "الحجة" : من أثبت الألف في الوصل لأنها في المصحف كذلك وهو رأس آية ورؤوس الآيات تشبه بالقوافي من حيث كانت مقاطع، فأما من طرح الألف في الوصل فإنه ذهب إلى أن ذلك في القوافي وليس رؤوس الآي بقواف.
فأما القراء فقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر بإثبات الألف في الوصل والوقف. وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم والكسائي بحذف الألف في الوصل وإثباتها في الوقف. وقرأ أبو عمرو وحمزة ويعقوب بحذف الألف في الوصل والوقف، وقرأ خلف بإثبات الألف بعد النون في الوقف وحذفها في الوصل. وهذا اختلاف من قبيل الاختلاف في وجوه الأداء لا في لفظ القرآن. وهي كلها فصيحة مستعملة والأحسن الوقف عليها لأن الفواصل كالأسجاع والأسجاع كالقوافي.
والإشارة بـ {هُنَالِكَ} إلى المكان الذي تضمنته قوله: {جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ} [الأحزاب: 9] وقوله: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} . والأظهر أن تكون الإشارة إلى الزمان الذي دلت عليه {إِذْ} في قوله: {وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ} . وكثيرا ما ينزل أحد الظرفين منزلة الآخر ولهذا قال ابن عطية: {هُنَالِكَ} : ظرف زمان والعامل فيه {ابْتُلِيَ} اهـ. قلت: ومنه دخول "لات" على "هنا" في قول حجل بن نضلة:
خنت نوار ولات هنا حنت ... وبدا الذي كانت نوار أجنت
فإن "لات" خاصة بنفي أسماء الزمان فكان "هنا" إشارة إلى زمان منكر وهو لغة في "هنا". ويقولون: يوم هنا، أي يوم أول، فيشيرون إلى زمن قريب، وأصل ذلك مجاز توسع فيه وشاع.
والابتلاء: أصله الاختبار، ويطلق كناية عن إصابة الشدة لأن اختبار حال الثبات والصبر لازم لها، وسمى الله ما أصاب المؤمنين ابتلاء إشارة إلى أنه لم يزعزع إيمانهم.
والزلزال: اضطراب الأرض، وهو مضاعف زل تضعيفا يفيد المبالغة، وهو هنا

استعارة لاختلال الحال اختلالا شديدا بحيث تخيل مضطربة اضطرابا شديدا كاضطراب الأرض وهو أشد اضطرابا للحاقه أعظم جسم في هذا العالم. ويقال: زلزل فلان، مبنيا للمجهول تبعا لقولهم: زلزلت الأرض، إذ لا يعرف فاعل هذا الفعل عرفا. وهذا هو غالب استعماله قال تعالى: {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ} الآية [البقرة: 214].
والمراد بزلزلة المؤمنين شدة الانزعاج والذعر لأن أحزاب العدو تفوقهم عددا وعدة.
[12، 13] {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً [12] وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النبيء يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً [13]}.
عطف على {وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ} [الأحزاب: 10] فإن ذلك كله مما ألحق بالمسلمين ابتلاء فبعضه من حال الحرب وبعضه من أذى المنافقين، ليحذروا المنافقين فيما بحدث من بعد، ولئلا يخشوا كيدهم فإن الله يصرفه كما صرف أشده يوم الأحزاب.
وقول المنافقين هذا يحتمل أن يكونوا قالوه علنا بين المسلمين قصدوا به إدخال الشك في قلوب المؤمنين لعلهم يردونهم عن دينهم فأوهموا بقولهم {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ} الخ... أنهم ممن يؤمن بالله ورسوله، فنسبة الغرور إلى الله ورسوله إما على معنى التشبيه البليغ وإما لأنهم بجهلهم يجوزون على الله أن يغر عباده، ويحتمل أنهم قالوا ذلك بين أهل ملتهم فيكون نسبة الوعد إلى الله ورسوله تهكما كقول فرعون {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء: 27].
والغرور: ظهور الشيء المكروه في صورة المحبوب، وقد تقدم عند قوله تعالى: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ} في سورة آل عمران [196]، وقوله تعالى: {زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} في سورة الأنعام [112]. والمعنى: أن الله وعدهم النصر فكان الأمر هزيمة وهم يعنون الوعد العام وإلا فإن وقعة الخندق جاءت بغتة ولم يرو أنهم وعدوا فيها بنصر. و {الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} هم الذين كانوا مترددين بين الإيمان والكفر فأخلصوا يومئذ النفاق وصمموا عليه.
والمراد بالطائفة الذين قالوا: {يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا} عبد الله ابن أبي بن سلول وأصحابه. كذا قال السدي. وقال الأكثر: هو أوس بن قيظي أحد بني حارثة،

وهو والد عرابة بن أوس الممدوح بقول الشماخ:
رأيت عرابة الأوسي يسمو ... إلى الخيرات منقطع القرين
في جماعة من منافقي قومه. والظاهر هو ما قاله السدي لأن عبد الله ابن أبي رأس المنافقين، فهو الذي يدعو أهل يثرب كلهم.
وقوله: {لا مُقَامَ لَكُمْ} قرأه الجمهور بفتح الميم وهو اسم لمكان القيام، أي: الوجود. وقرأه حفص عن عاصم بضم الميم، أي: محل الإقامة، والنفي هنا بمعنى نفي المنفعة فلما رأى هذا الفريق قلة جدوى وجودهم جعلها كالعدم، أي لا فائدة لكم في ذلك، وهو يروم تخزيل الناس كما فعل يوم أحد.
و {يَثْرِبَ} : اسم مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال أبو عبيدة يثرب: اسم أرض والمدينة في ناحية منها، أي: اسم أرض بما فيها من الحوائط والنخل واللمدينة في تلك الأرض سميت باسم يثرب من العمالقة، وهو يثرب من قانية الحفيد الخامس لإرم بن سام ابن نوح. وقد روي عن البراء بن عازب وابن عباس أن النبيء صلى الله عليه وسلم نهى عن تسميتها يثرب وسماها طابة.
وفي قوله: {يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ} محسن بديعي، وهو الاتزان لأن هذا القول يكون منه مصراع من بحر السريع من عروضه الثانية المخبولة المكشوفة إذ صارت مفعولات بمجموع الخبل والكشف إلى فعلن فوزنه مستفعلن مستفعلن فعلن.
والمراد بقوله: {فَرِيقٌ مِنْهُمُ} جماعة من المنافقين والذين في قلوبهم مرض، وليسوا فريقا من الطائفة المذكورة آنفا، بل هؤلاء هم أوس بن قيظي وجمع من عشيرته بني حارثة وكان بنو حارثة أكثرهم مسلمين وفيهم منافقون، فجاء منافقوهم يعتذرون بأن منازلهم عورة، أي: غير حصينة.
وجملة {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ} عطف على جملة {قَالَتْ طَائِفَةٌ} ، وجيء فيها بالفعل المضارع للإشارة إلى أنهم يلحون في الاستئذان ويكررونه ويجددونه.
والعورة: الثغر بين الجبلين الذي يتمكن العدو أن يتسرب منه إلى الحي، قال لبيد:
وأجن عورات الثغور ظلامها
والاستئذان: طلب الإذن وهؤلاء راموا الانخزال واستحيوا. ولم يذكر المفسرون أن النبيء صلى الله عليه وسلم أذن لهم. وذكر أهل السير أن ثمانين منهم رجعوا دون إذنه. وهذا يقتضي أنه لم يأذن لهم وإلا لما ظهر تميزهم عن غيرهم، وأيضا فإن في الفعل المضارع من قوله

{يَسْتَأْذِنُ} إيماء إلى أنه لم يأذن لهم وستعلم ذلك، ومنازل بني حارثة كانت في أقصى المدينة قرب منازل بني سلمة فإنهما كانا حيين متلازمين قال تعالى: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا} [آل عمران: 122] هما بنو حارثة وبنو سلمة في غزوة أحد. وفي الحديث: أن بني سلمة راموا أن ينقلوا منازلهم قرب المسجد فقال النبيء صلى الله عليه وسلم: "يا بني سلمة ألا تحتسبون آثاركم" أي خطاكم. فهذا الفريق منهم يعتلون بأن منازلهم بعيدة عن المدينة وآطامها.
والتأكيد بحرف {إِنَّ} في قولهم {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} تمويه لإظهار قولهم {بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} في صورة الصدق. ولما علموا أنهم كاذبون وأن النبيء صلى الله عليه وسلم يعلم كذبهم جعلوا تكذيبه إياهم في صورة أنه يشك في صدقهم فأكدوا الخبر.
وجملة {وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ} إلى قوله: {مَسْئُولاً} [الأحزاب: 15] معترضة بين جملة {يَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ} الخ وجملة {لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ} [الأحزاب: 16]. فقوله: {وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ} تكذيب لهم فإن المدينة كانت محصنة يومئذ بخندق وكان جيش المسلمين حارسها. ولم يقرن هذا التكذيب بمؤكد لإظهار أن كذبهم واضح غير محتاج إلى تأكيد.
[14] {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيراً}
موقع هذه الآية زيادة تقرير لمضمون جملة {وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً} [الأحزاب: 13] فإنها لتكذيبهم في إظهارهم التخوف على بيوتهم، ومرادهم خذل المسلمين. ولم أجد فيما رأيت من كلام المفسرين ولا من أهل اللغة من أفصح عن معنى "الدخول" في مثل هذه الآية وما ذكروا إلا معنى الولوج إلى المكان مثل ولوج البيوت أو المدن، وهو الحقيقة. والذي أراه أن الدخول كثر إطلاقه على دخول خاص وهو إقتحام الجيش أو المغيرين أرضا أو بلدا لغزو أهله قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً} إلى قوله: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ} [المائدة: 21]، وأنه يعدى غالبا إلى المغزوين بحرف على. ومنه قوله تعالى: {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ} إلى قوله: {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا} [المائدة: 24] فإنه ما يصلح إلا معنى دخول القتال والحرب لقوله: {فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ} لظهور أنه لا يراد: إذا دخلتم دخول ضيافة أو تجول أو تجسس،فيفهم من الدخول في مثل هذا المقام معنى الغزو والفتح كما

نقول: عام دخول التتار بغداد، ولذلك فالدخول في قوله: {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ} هو دخول الغزو فيتعين أن يكون ضمير {دُخِلَتْ} عائدا إلى مدينة يثرب لا إلى البيوت من قولهم {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} [الأحزاب: 13]. والمعنى: لو غزيت المدينة من جوانبها الخ...
وقوله: {عَلَيْهِمْ} يتعلق بـ {دُخِلَتْ} لأن بناء {دُخِلَتْ} للنائب مقتض فاعلا محذوفا. فالمراد: دخول الداخلين على أهل المدينة كما جاء على الأصل في قوله: {ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ} في سورة العقود [23].
والأقطار: جمع قطر - بضم القاف وسكون الطاء - وهو الناحية من المكان. وإضافة "أقطار" وهو جمع تفيد العموم، أي: من جميع جوانب المدينة وذلك أشد هجوم العدو على المدينة كقوله تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} [الأحزاب: 10]. وأسند فعل {دُخِلَتْ} إلى المجهول لظهور أن فاعل الدخول قوم غزاة. وقد أبدى المفسرون في كيفية نظم هذه الآية احتمالات متفاوتة في معاني الكلمات وفي حاصل المعنى المراد، وأقربها ما قاله ابن عطية على غموض فيه، ويليه ما في "الكشاف" . والذي ينبغي التفسير به أن تكون جملة {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ} في موضع الحال من ضمير {يُرِيدُونَ} [الأحزاب: 13] أو من ضمير {وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ} زيادة في تكذيب قولهم {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} [الأحزاب: 13].
والضمير المستتر في {دُخِلَتْ} عائد إلى المدينة لأن إضافة الأقطار يناسب المدن والمواطن ولا يناسب البيوت. فيصير المعنى: لو دخل الغزاة عليهم المدينة وهم قاطنون فيها.
و {ثُمَّ} للترتيب الرتبي، وكان مقتضى الظاهر أن يعطف بالواو لا بـ {ثُمَّ} لأن المذكور بعد {ثُمَّ} هنا داخل في فعل شرط {لَوْ} ووارد عليه جوابها، فعدل عن الواو إلى {ثُمَّ} للتنبيه على أن ما بعد {ثُمَّ} أهم من الذي قبلها كشأن {ثُمَّ} في عطف الجمل، أي: أنهم مع ذلك يأتون الفتنة، و {الْفِتْنَةَ} هي أن يفتنوا المسلمين، أي: الكيد لهم وإلقاء التخاذل في جيش المسلمين. ومن المفسرين من فسر الفتنة بالشرك ولا وجه له ومنهم من فسرها بالقتال وهو بعيد.
والإتيان: القدوم إلى مكان. وقد أشعر هذا الفعل بأنهم يخرجون من المدينة التي كانوا فيها ليفتنوا المسلمين. وضمير النصب في {أتَوْهَا} عائد إلى {الْفِتْنَةَ} والمراد مكانها وهو مكان المسلمين، أي لأتوا مكانها ومظنتها. وضمير {بِهَا} للفتنة، والباء للتعدية.
وجملة {وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا} عطف على جملة {لَأتَوْهَا} . والتلبث: اللبث، أي:

الاستقرار في المكان وهو هنا مستعار للإبطاء، أي ما أبطاوا بالسعي في الفتنة ولا خافوا أن تؤخذ بيوتهم. والمعنى: لو دخلت جيوش الأحزاب المدينة وبقي جيش المسلمين خارجها - أي مثلا لأن الكلام على الفرض والتقدير - وسأل الجيش الداخل الفريق المستأذنين أن يلقوا الفتنة في المسلمين بالتفريق والتخزيل لخرجوا لذلك القصد مسرعين ولم يثبطهم الخوف على بيوتهم أن يدخلها اللصوص أو ينهبها الجيش: إما لأنهم آمنون من أن يلقوا سوءا من الجيش الداخل لأنهم أولياء له ومعاونون، فهم منهم وإليهم، وإما لأن كراهتهم الإسلام تجعلهم لا يكترثون بنهب بيوتهم.
والاستثناء في قوله: {إِلَّا يَسِيراً} يظهر أنه تهكم بهم فيكون المقصود تأكيد النفي بصورة الاستثناء. ويحتمل أنه على ظاهره، أي إلا ريثما يتأملون فلا يطيلون التأمل فيكون المقصود من ذكره تأكيد قلة الثلبت، فهذا هو التفسير المنسجم مع نظم القرآن أحسن انسجام.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو جعفر {لَأتَوْهَا} بهمزة تليها مثناة فوقية، وقرأ ابن عامر وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي ويعقوب وخلف {لَآتَوْهَا} بألف بعد الهمزة على معنى: لأعطوها، أي لأعطوا الفتنة سائليها، فإطلاق فعل {أتَوْهَا} مشاكلة لفعل {سُئِلُوا} .
[15] {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولاً}
هؤلاء هم بنو حارثة وبنو سلمة وهم الذين قال فريق منهم {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} [الأحزاب: 13] واستأذن النبيء صلى الله عليه وسلم، أي كانوا يوم أحد جبنوا ثم تابوا وعاهدوا النبيء صلى الله عليه وسلم أنهم لا يولون الأدبار في غزوة بعدها، وهم الذين نزل فيهم قوله تعالى: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} [آل عمران: 122]؛ فطرأ على نفر من بني حارثة نفاق وضعف في الإيمان فذكرهم الله بذلك وأراهم أن منهم فريقا قلبا لا يرعى عهدا ولا يستقر لهم اعتقاد وأن ذلك لضعف يقينهم وغلبة الجبن عليهم حتى يدعوهم إلى نبذ عهد الله. وهذا تنبيه للقبيلين ليزجروا من نكث منهم. وتأكيد هذا الخبر بلام القسم وحرف التحقيق وفعل كان، مع أن الكلام موجه إلى المؤمنين تنزيلا للسامعين منزلة من يتردد في أنهم عاهدوا الله على الثبات.

وزيادة {مِنْ قَبْلُ} للإشارة إلى أن ذلك العهد قديم مستقر وهو عهد يوم أحد. وجملة {لا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ} بيان لجملة {عَاهَدُوا} .
والتولية: التوجه بالشيء وهي مشتقة من الولي وهو القرب، قال تعالى {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144].
و {الْأَدْبَارَ} : الظهور. وتولية الأدبار: كناية عن الفرار فإن الذي استأذنوا لأجله في غزوة الخندق أرادوا منه الفرار ألا ترى قوله: {إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً} [الأحزاب: 13]، والفرار مما عاهدوا الله على تركه.
وجملة {وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولاً} تذييل لجملة {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا} الخ... والمراد بعهد الله: كل عهد يوثقه الإنسان مع ربه.
والمسؤول: كناية عن المحاسب عليه كقول النبيء صلى الله عليه وسلم: "وكلكم مسؤول عن رعيته" ، وكما تقدم آنفا عند قوله: {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ} [الأحزاب: 8]. وهذا تهديد.
[16] {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً} .
جواب عن قولهم {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} [الأحزاب: 13] ولذلك فصلت لأنها جرت على أسلوب التقاول والتجاوب، وما بين الجملتين من قوله: {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ} إلى قوله: {مَسْؤُولاً} [الأحزاب: 14- 15] اعتراض كما تقدم. وهذا يرجح أن النبيء صلى الله عليه وسلم لم يأذن لهم بالرجوع إلى المدينة وأنه رد عليهم بما أمره الله أن يقوله لهم، أي: قد علم الله أنكم ما أردتم إلا الفرار جبنا والفرار لا يدفع عنكم الموت أو القتل، فمعنى نفي نفعه: نفي ما يقصد منه لأن نفع الشيء هو أن يحصل منه ما يقصد له.
فقوله: {مِنَ الْمَوْتِ} يتعلق بـ {الْفِرَارُ} و {فَرَرْتُمْ} وليس متعلقا بـ {يَنْفَعَكُمُ} لأن متعلق {يَنْفَعَكُمُ} غير مذكور لظهوره من السياق، فالفائدة مستغنية عن المتعلق، أي: لن ينفعكم بالنجاة.
ومعنى نفي نفع الفرار وإن كان فيه تعاطي سبب النجاة، هذا السبب غير مأذون فيه لوجوب الثبات في وجه العدو مع النبيء صلى الله عليه وسلم فيتمحض في هذا الفرار مراعاة جانب الحقيقة وهو ما قدر للإنسان من الله إذ لا معارض له، فلو كان الفرار مأذونا فيه لجاز

مراعاة ما فيه من أسباب النجاة؛ فقد كان المسلمون مأمورين بثبات الواحد للعشرة من العدو فكان حينئذ الفرار من وجه عشرة أضعاف المسلمين غير مأذون فيه وأذن فيما زاد على ذلك، ولما نسخ الله ذلك بأن يثبت المسلمون لضعف عددهم من العدو فالفرار فيما زاد على ذلك مأذون فيه، وكذلك إذ كان المسلمون زحفا فإن الفرار حرام ساعتئذ.
وأحسب أن الأمر في غزوة الخندق كان قبل النسخ فلذلك وبخ الله الذين أضمروا الفرار فإن عدد جيش الأحزاب يومئذ كان بمقدار أربعة أمثال جيش المسلمين ولم يكن المسلمون يومئذ زحفا فإن الحالة حالة حصار. ويجوز أن يكون المعنى أيضا: أنكم إن فررتم فنجوتم من القتل لا ينفعكم الفرار من الموت بالأجل وعسى أن تكون آجالكم قريبة.
و {الْمَوْتِ} أريد به: الموت الزؤام وهو الموت حتف أنفه لأنه قوبل بالقتل. والمعنى: أن الفرار لا يدفع الموت الذي علم الله أنه يقع بالفار في الوقت الذي علم أن الفار يموت فيه ويقتل فإذا خيل إلى الفار أن الفرار قد دفع عنه خطرا فإنما ذلك في الأحوال التي علم الله أنها لا يصيب الفار فيها أذى ولا بد له من موت حتف أنفه أو قتل في الإبان الذي علم الله أنه يموت فيه أو يقتل. ولهذا عقب بجملة {وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً} جوابا عن كلام مقدر دل عليه المذكور، أي إن خيل إليكم أن الفرار نفع الذي فر في وقت ما فما هو إلا نفع زهيد لأنه تأخير في أجل الحياة وهو متاع قليل، أي: إعطاء الحياة مدة منتهية، فإن {إِذن} قد يكون جوابا لمحذوف دل عليه الكلام المذكور، كقول العنبري:
لو كنت من مأزن لم تستبح إبلي ... بنو اللقيطة من ذهل بن شيبان
إذن لقام بنصري معشر خشن ... عند الحفيظة إن ذو لوثة لانا
فإن قوله: إذن لقام بنصري، جواب وجزاء عن مقدر دل عليه: لم تستبح إبلي. والتقدير: فإن استباحوا إبلي إذن لقام بنصري معشر، وهو الذي أشعر كلام المرزوقي باختياره خلافا لما في "مغنى اللبيب" .
والأكثر أن {إِذن} إن وقعت بعد الواو والفاء العاطفتين أن لا ينصب المضارع بعدها، وورد نصبه نادرا.
والمقصود من الآية تخليق المسلمين بخلق استضعاف الحياة الدنيا وصرف هممهم إلى السعي نحو الكمال الذي به السعادة الأبدية سيرا وراء تعاليم الدين التي تقود النفوس إلى أوج الملكية.

[17] {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً}.
{قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً}.
يظهر أن هذه الجملة واقعة موقع التعليل لجملة {لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ} الآية [الأحزاب: 16]، فكأنه قيل: فمن ذا الذي يعصمكم من الله، أي: فلا عاصم لكم من نفوذ مراده فيكم. وإعادة فعل {قُلْ} تكرير لأجل الاهتمام بمضمون الجملة.
والمعنى: لأن قدرة الله وإرادته محيطة بالمخلوقات فمتى شاء عطل تأثير الأسباب أو عرقلها بالموانع فإن يشأ شرا حرم الانتفاع بالأسباب أو الاتقاء بالموانع فربما أتت الرزايا من وجوه الفوائد، ومتى شاء خيرا خاصا بأحد لطف له بتمهيد الأسباب وتيسيرها حتى يلاقي من التيسير ما لم يكن مترقبا، ومتى لم تتعلق مشيئته بخصوص أرسل الأحوال في مهيعها وخلى بين الناس وبين ما سببه في أحوال الكائنات فنال كل أحد نصيبا على حسب فطنته ومقدرته واهتدائه، فإن الله أودع في النفوس مراتب التفكير والتقدير؛ فأنتم إذا عصيتم الله ورسوله وخذلتم المؤمنين تتعرضون لإرادته بكم السوء فلا عاصم لكم من مراده، فالاستفهام إنكاري في معنى النفي لاعتقادهم أن الحيلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم تنفعهم وأن الفرار يعصمهم من الموت إن كان قتال.
وجملة {مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ} الخ جواب الشرط في قوله: {إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً} الخ، دليل الجواب عند نحاة البصرة.
والعصمة: الوقاية والمنع مما يكرهه المعصوم. وقوبل السوء بالرحمة لأن المراد سوء خاص وهو السوء المجعول عذابا لهم على معصية الرسول صلى الله عليه وسلم وهو سوء النقمة فهو سوء خاص مقدر من الله لأجل تعذيبهم إن أراده، فيجري على خلاف القوانين المعتادة.
وعطف {أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً} على {أَرَادَ بِكُمْ} المجعول شرطا يقتضي كلاما مقدرا في الجواب المتقدم، فإن إرادته الرحمة تناسب فعل {يَعْصِمُكُمْ} لأن ا لرحمة مرغوبة. فالتقدير: أو يحرمكم منه إن أراد بكم رحمة، فهو من دلالة الاقتضاء إيجازا للكلام، كقول الراعي:
إذا ما الغانيات برزن يوما ... وزججن الحواجب والعيونا

تقديره: وكحلن العيون، لأن العيون لا تزجج ولكنها تكحل حين تزجج الحواجب وذلك من التزين.
{وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} .
عطف على جملة {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ} ، أو هي معترضة بين أجزاء القول، والتقديران متقاربان لأن الواو الاعتراضية ترجع إلى العاطفة. والكلام موجه إلى النبيء صلى الله عليه وسلم وليس هو من قبيل الالتفات. والمقصود لازم الخبر وهو إعلام النبيء عليه الصلاة والسلام ببطلان تحيلاتهم وأنهم لا يجدون نصيرا غير الله وقد حرمهم الله النصر لأنهم لم يعقدوا ضمائرهم على نصر دينه ورسوله. والمراد بالولي: الذي يتولى نفعهم، وبالنصير: النصير في الحرب فهو أخص.
[18، 19] {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً}.
{قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ}.
استئناف بياني ناشئ عن قوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ} [الأحزاب: 17] لأن ذلك يثير سؤالا يهجس في نفوسهم أنهم يخفون مقاصدهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يشعر بمرادهم من الاستئذان، فأمر أن يقول لهم {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ} أي: فالله ينبئ رسوله بكم بأن فعل أولئك تعويق للمؤمنين. وقد جعل هذا الاستئناف تخلصا لذكر فريق آخر من المعوقين.
و {قَدْ} مفيد للتحقيق لأنهم لنفاقهم ومرض قلوبهم يشكون في لازم هذا الخبر وهو إنباء الله رسوله عليه الصلاة والسلام بهم، أو لأنهم لجهلهم الناشئ عن الكفر يظنون أن الله لا يعلم خفايا القلوب. وذلك ليس بعجيب في عقائد أهل الكفر. ففي "صحيح البخاري" عن ابن مسعود: "اجتمع عند البيت قرشيان وثقفي أو ثقفيان وقرشي كثيرة شحم بطونهم قليلة فقه قلوبهم، فقال أحدهم: أترون أن الله يسمع ما نقول? قال الآخر: يسمع

إذا جهرنا ولا يسمع إذا أخفينا. وقال الآخر: إن كان يسمع إذا جهرنا فإنه يسمع إذا أخفينا، فأنزل الله تعالى: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ} " [فصلت: 22]. فللتوكيد بحرف التحقيق موقع.
ودخول {قد} على المضارع لا يخرجها عن معنى التحقيق عند المحققين من أهل العربية، وأن ما توهموه من التقليل إنما دل عليه المقام في بعض المواضع لا من دلالة {قَدْ} ، ومثله إفادة التكثير، وتقدم ذلك عند قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} في سورة البقرة [144]، وقوله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} في آخر سورة النور[64].
والمعوق: اسم فاعل من عوق الدال على شدة حصول العوق. يقال: عاقه عن كذا، إذا منعه وثبطه عن شيء، فالتضعيف فيه للشدة والتكثير مثل: قطع الحبل، إذا قطعه قطعا كبيرة، {وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ} [يوسف: 23]، أي أحكمت غلقها. ويكون للتكثير في الفعل القاصر مثل: موت المال، إذا كثر الموت في الإبل، وطوف فلان، إذا أكثر الطواف، والمعنى: يعلم الله الذين يحرصون على تثبيط الناس عن القتال. والخطاب بقوله: {مِنْكُمْ} للمنافقين الذين خوطبوا بقوله: {لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ} [الأحزاب: 16].
ويجوز أن يكون القائلون لإخوانهم {هَلُمَّ إِلَيْنَا} هم المعوقين أنفسهم فيكون من عطف صفات الموصوف الواحد، كقوله:
إلى الملك القرم وابن الهمام
ويجوز أن يكونوا طائفة أخرى وإخوانهم هم الموافقون لهم في النفاق، فالمراد: الأخوة في الرأي والدين. وذلك أن عبد الله بن أبي، ومعتب بن قشير، ومن معهما من الذين انخزلوا عن جيش المسلمين يوم أحد فرجعوا إلى المدينة كانوا يرسلون إلى من بقي من المنافقين في جيش المسلمين يقولون لهم {هَلُمَّ إِلَيْنَا} أي: ارجعوا إلينا. قال قتادة: هؤلاء ناس من المنافقين يقولون لهم: ما محمد وأصحابه ألا أكلة رأس - أي نفر قليل يأكلون رأس بعير - ولو كانوا لحما لالتهمهم أبو سفيان ومن معه - تمثيلا بأنهم سهل تغلب أبي سفيان عليهم -.
و {هَلُمَّ} اسم فاعل أمر بمعنى أقبل في لغة أهل الحجاز وهي الفصحى، فلذلك تلزم هذه الكلمة حالة واحدة عندهم لا تتغير عنها، يقولون: هلم، للواحد والمتعدد المذكر والمؤنث، وهي فعل عند بني تميم فلذلك يلحقونها العلامات يقولون: هلم وهلمي

وهلما وهلموا وهلممن. وتقدم في قوله تعالى: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ} في سورة الأنعام [150]. والمعنى: انخزلوا عن جيش المسلمين وأقبلوا إلينا.
وجملة {وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً} كلام مستقل فيجوز أن تكون الجملة حالا من القائلين لإخوانهم {هَلُمَّ إِلَيْنَا} . ويجوز أن تكون عطفا على المعوقين والقائلين لأن الفعل يعطف على المشتق كقوله تعالى: {فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً فَأَثَرْنَ} [العاديات: 3, 4] وقوله: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ} [الحديد: 18]، فالتقدير هنا: قد يعلم الله المعوقين والقائلين وغير الآتين البأس، أو والذين لا يأتون البأس. وليس في تعدية فعل العلم إلى {لا يَأْتُونَ} إشكال لأنه على تأويل كما أن عمل الناسخ في قوله: {وَأَقْرَضُوا} [الحديد: 18] على تأويل، أي: يعلم الله أنهم لا يأتون البأس إلا قليلا، أي يعلم أنهم لا يقصدون بجمع إخوانهم معهم الاعتضاد بهم في الحرب ولكن عزلهم عن القتال.
ومعنى {إِلَّا قَلِيلاً} إلا زمانا قليلا، وهو زمان حضورهم مع المسلمين المرابطين، وهذا كقوله: {فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء: 46]، أي: إيمانا ظاهرا، ومثل قوله تعالى: {أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ} [الرعد: 33]. و {قَلِيلاً} صفة لمصدر محذوف، أي: إتيانا قليلا، وقلته تظهر في قلة زمانه وفي قلة غنائه.
و {الْبَأْسَ} : الحرب وتقدم في قوله تعالى: {لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ} في سورة الأنبياء [80]. وإتيان الحرب مراد به إتيان أهل الحرب أو موضعها. والمراد: اليأس مع المسلمين، أي: مكرا بالمسلمين لا جبنا.
و {أَشِحَّةً} جمع شحيح بوزن أفعلة على غير قياس وهو فصيح وقباسه أشحاء. وضمير الخطاب في قوله: {عَلَيْكُمْ} للرسول عليه الصلاة والسلام وللمسلمين، وهو انتقال من القول الذي أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بأن يقوله لهم إلى كشف أحوالهم للرسول والمسلمين بمناسبة الانتقال من الخطاب إلى الغيبة في قوله: {وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ} . وتقدم الشح عند قوله تعالى: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} في سورة النساء [128].
و {أَشِحَّةً} حال من ضمير {يَأْتُونَ} . والشح: البخل بما في الوسع مما ينفع الغير. وأصله: عدم بذل المال، ويستعمل مجازا في منع المقدور من النصر أو الإعانة، وهو يتعدى إلى الشيء المبخول به بالباء و بـ {عَلَى} قال تعالى: {أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ} ويتعدى إلى الشخص الممنوع بـ {عَلَى} أيضا لما في الشح من معنى الاعتداء فتعديته في قوله تعالى: {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ} من التعدية إلى الممنوع.

والمعنى: يمنعونكم ما في وسعهم من المال أو المعونة، أي: إذا حضروا البأس منعوا فائدتهم عن المسلمين ما استطاعوا ومن ذلك شحهم بأنفسهم وكل ما يشح به.
ويجوز جعل {عَلَى} هنا متعدية إلى المضنون به، أي كما في البيت الذي أنشده الجاحظ:
لقد كنت في قوم عليك أشحة ... بنفسك إلا أن ما طاح طائح
وجعل المعنى: أشحة في الظاهر، أي يظهرون أنهم يخافون عليكم الهلاك فيصدونكم عن القتال ويحسنون إليكم الرجوع عن القتال، وهذا الذي ذهب إليه في "الكشاف" . وفرع على وصفهم بالشح على المسلمين قوله: {فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ} إلى آخره.
والمجيء: مجاز مشهور من حدوث الشيء وحصوله. كما قال تعالى {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ} [الإسراء: 7].
و {الْخَوْفُ} : توقع القتال بين الجيشين، ومنه سميت صلاة الخوف. والمقصود: وصفهم بالجبن، أي: إذا رأوا جيوش العدو مقبلة رأيتهم ينظرون إليك. والظاهر أن الآية تشير إلى ما حصل في بعض أيام الأحزاب من القتال بين الفرسان الثلاثة الذين اقتحموا الخندق من أضيق جهاته وبين علي بن أبي طالب. ومن معه من المسلمين كما تقدم.
والخطاب في {رَأَيْتَهُمْ} للنبيء صلى الله عليه وسلم، وهو يقتضي أن هذا حكاية حالة وقعت لا فرض وقوعها ولهذا أتي بفعل {رَأَيْتَهُمْ} ولم يقل: فإذا جاء الخوف ينظرون إليك. ونظرهم إليه نظر المتفرس فيماذا يصنع ولسان حالهم يقول: ألسنا قد قلنا لكم إنكم لا قبل لكم بقتال الأحزاب فارجعوا، وهم يرونه أنهم كانوا على حق حين يحذرونه قتال الأحزاب، ولذلك خص نظرهم بأنه للنبيء صلى الله عليه وسلم ولم يقل: ينظرون إليكم. وجيء بصيغة المضارع ليدل على تكرر هذا النظر وتجدده.
وجملة {تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ} حال من ضمير {يَنْظُرُونَ} لتصوير هيئة نظرهم نظر الخائف المذعور الذي يحدق بعينيه إلى جهات يحذر أن تأتيه المصائب من إحداها.
والدور والدوران: حركة جسم رحوية - أي كحركة الرحى - منتقل من موضع إلى موضع فينتهي إلى حيث ابتدأ. وأحسب أن هذا الفعل وما تصرف منه مشتقات من اسم الدار، وهي المكان المحدود المحيط بسكانه بحيث يكون حولهم. ومنه سميت الدارة لكل أرض تحيط بها جبال. وقالوا: دارت الرحى حول قطبها. وسموا الصنم: دوارا - بضم

الدال وفتحها - لأنه يدور به زائروه كالطواف. وسميت الكعبة دوارا أيضا، وسموا ما يحيط بالقمر دارة. وسميت مصيبة الحرب دائرة لأنهم تخيلوها محيطة بالذي نزلت به لا يجد منها مفرا، قال عنترة:
ولقد خشيت بأن أموت ولم تدر ... في الحرب دائرة على ابني ضمضم
فمعنى {تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ} أنها تضطرب في أجفانها كحركة الجسم الدائرة من سرعة تنقلها محملقة إلى الجهات المحيطة. وشبه نظرهم بنظر الذي يغشى عليه بسبب النزع عند الموت فإن عينيه تضطربان.
وذهاب الخوف مجاز مشهور في الانقضاء، أي: زوال أسبابه بأن يترك القتال أو يتبين أن لا يقع قتال. وذلك عند انصراف الأحزاب عن محاصرة المدينة كما سيدل عليه قوله: {يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا} [الأحزاب: 20].
والسلق: قوة الصوت والصياح. والمعنى: رفعوا أصواتهم بالملامة على التعرض لخطر العدو الشديد وعدم الانصياع إلى إشارتهم على المسلمين بمسالمة المشركين، وفسر السلق بأذى اللسان. قيل: سأل نافع بن الأزرق عبد الله بن عباس عن {سَلَقُوكُمْ} فقال: الطعن باللسان. فقال نافع: هل تعرف العرب ذلك? فقال: نعم أما سمعت قول الأعشى:
فيهم الخصب والسماحة والنجـ ... ـدة فيهم والخاطب المسلاق
و {حِدَادٍ} : جمع حديد، وحديد: كل شيء نافذ فعل أمثاله قال تعالى {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق~: 22].
وانتصب {أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ} على الحال من ضمير الرفع في {سَلَقُوكُمْ} ، أي: خاصموكم ولاموكم وهم في حال كونهم أشحة على ما فيه الخير للمسلمين، أي أن خصامهم إياهم ليس كما يبدو خوفا على المسلمين واستبقاء عليهم ولكنه عن بغض وحقد؛ فإن بعض اللوم والخصام يكون الدافع إليه حب الملوم وإبداء النصيحة له، وأقوال الحكماء والشعراء في هذا المعنى كثيرة.
ويجوز أن يكون الخير هنا هو المال كقوله تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْراً} [البقرة: 180] وقوله: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8]، أي: هم في حالة السلم يسرعون إلى ملامكم ولا يواسونكم بأموالهم للتجهيز للعدو إن عاد إليكم. ودخلت {عَلَى} هنا على المبخول به.

{أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً}.
جيء باسم الإشارة لقصد تمييزهم بتلك الصفات الذميمة التي أجريت عليهم من قبل، وللتنبيه على أنهم أحرياء بما سيرد من الحكم بعد اسم الإشارة، كقوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} في سورة البقرة [5].
وقد أجري عليهم حكم انتفاء الإيمان عنهم بقوله: {أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا} كشفا لدخائلهم لأنهم كانوا يوهمون المسلمين أنهم منهم كما قال تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} في سورة البقرة [14]. ورتب على انتفاء إيمانهم أن الله أحبط أعمالهم.
والإحباط: جعل شيء حابطا، فالهمزة فيه للجعل مثل الإذهاب. والحبط حقيقته: أنه فساد ما يراد به الصلاح والنفع. ويطلق مجازا على إفساد ما كان نافعا أو على كون الشيء فاسدا ويظن أنه ينفع يقال: حبط حق فلان، إذا بطل. والإطلاق المجازي ورد كثيرا في القرآن. وفعله من بابي سمع وضرب. ومصدره: الحبط، واسم المصدر: الحبوط. ويقال: أحبط فلان الشيء، إذا أبطله، ومنه إحباط دم القتيل، أي إبطال حق القود به. فإحباط الأعمال: إبطال الاعتداد بالأعمال المقصود بها القربة والمظنون بها أنها أعمال صالحة لمانع منع من الاعتداد بها في الدين.
وقد صار لفظ الحبط والحبوط من الألفاظ الشرعية الاصطلاحية بين علماء الفقه والكلام، فأطلق على عدم الاعتداد بالأعمال الصالحة بسبب الردة، أي: الرجوع إلى الكفر، أو بسبب زيادة السيئات على الحسنات بحيث يستحق صاحب الأعمال العذاب بسبب زيادة سيئاته على حسناته بحسب ما قدر الله لذلك وهو أعلم به، ومن هذه الجهة عدت مسألة الحبوط مع المسائل الكلامية؛ أو بحيث ينظر في انتفاعه بما فعل من الواجبات عليه إذا ارتد عن الإسلام ثم عاد إلى الإسلام كمن حج ثم ارتد ثم رجع إلى الإسلام، ومن هذه الجهة تعد مسألة الحبوط في مسائل الفقه، فقال مالك وأبو حنيفة: الردة تحبط الأعمال بمجرد حصولها فإذا عاد إلى الإسلام وكان قد حج مثلا قبل ردته وجبت عليه إعادة الحج تمسكا بإطلاق هذه الآية إذ ناطت الحبوط بانتفاء الإيمان، ولم يريا أن هذا مما يحمل فيه المطلق على المقيد احتياطا لأن هذا الحكم راجع إلى الاعتقادات ولا يكفي فيها الظن. وقال الشافعي: إذا رجع إلى الإسلام رجعت إليه أعماله الصالحة التي عملها قبل الردة تمسكا بقوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ

كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} في سورة البقرة [217] حملا للمطلق في آية سورة الأحزاب ونحوها على المقيد في آية سورة البقرة تغليبا للجانب الفروعي في هذه المسألة على الجانب الاعتقادي.
وتعرف هذه المسألة بمسألة الموافاة، أي: استمرار المرتد على الردة إلى انقضاء حياته فيوافي يوم القيامة مرتدا. فمالك وأبو حنيفة لم يريا شرط الموافاة والشافعي اعتبر الموافاة. والمعتزلة قائلون بمثل ما قال به مالك وأبو حنيفة. وحكى الفخر عن المعتزلة اعتبار الموافاة على الكفر، وانظر ما تقدم في قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} في سورة البقرة [217]. والمعنى: أنهم لا تنفعهم قرباتهم ولا جهادهم.
وجملة {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً} خبر مستعمل في لازمه وهو تحقيرهم وأن الله لما أخرجهم من حظيرة الإسلام فأحبط أعمالهم لم يعبأ بهم ولا عد ذلك ثلمة في جماعة المسلمين.
وكان المنافقون يدلون بإظهار الإيمان ويحسبون أن المسلمين يعتزون بهم، قال تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات: 17].
[20] {يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً}.
لما ذكر حال المنافقين والذين في قلوبهم مرض من فتنتهم في المسلمين وإذا هم حين مجيء جنود الأحزاب وحين زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر ثني عنان الكلام الآن إلى حالهم حين أنعم الله على المسلمين بانكشاف جنود الأحزاب عنهم، فأفاد بأن انكشاف الأحزاب حصل على حين غفلة من المنافقين فلذلك كانوا يشتدون في ملام المسلمين ويسلقونهم بألسنة حداد على أن تعرضوا للعدو الكثير، وكان الله ساعتئذ قد هزم الأحزاب فانصرفوا وكفى الله المؤمنين شرهم، وليس للمنافقين وساطة في ذلك. ولعلهم كانوا لا يودون رجوع الأحزاب دون أن يأخذوا المدينة، فتكون جملة {يَحْسَبُونَ} استئنافا ابتدائيا مرتبطا بقوله: {اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً} [الأحزاب: 9] الخ... جاء عودا على بدء بمناسبة ذكر أحوال المنافقين، فإن قوله:

{يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا} يؤذن بانهزام الأحزاب ورجوعهم على أعقابهم، أي: وقع ذلك ولم يشعر به المنافقون. ويجوز أن يكون المعنى: أنهم كانوا يسلقون المؤمنين اعتزازا بالأحزاب لأن الأحزاب حلفاء لقريظة وكان المنافقون أخلاء لليهود فكان سلقهم المسلمين في وقت ذهاب الأحزاب وهم لا يعلمون ذلك ولو علموه لخفضوا من شدتهم على المسلمين، فتكون جملة {يَحْسَبُونَ} حالا من ضمير الرفع في {سَلَقُوكُمْ} [الأحزاب: 19] أي: فعلوا ذلك حاسبين الأحزاب محيطين بالمدينة ومعتزين بهم فظهرت خيبتهم فيما قدروا.
وأما قوله: {وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ} فهو وصف لجبن المنافقين، أي: لو جاء الأحزاب كرة أخرى لأخذ المنافقون حيطتهم فخرجوا إلى البادية بين الأعراب القاطنين حول المدينة وهم غفار وأسلم وغيرهم، قال تعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ} [التوبة: 120] الآية.
والود هنا مستعمل كناية عن السعي لحصول الشيء المودود لأن الشيء المحبوب لا يمنع من تحصيله إلا مانع قاهر فهو لازم للود.
والبادي: ساكن البادية. وتقدم عند قوله تعالى: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} في سورة الحج [25].
و{الْأَعْرَابِ}: هم سكان البوادي بالأصالة، أي: يودوا الالتحاق بمنازل الأعراب ما لم يعجزوا لما دل عليه قوله عقبه {وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً} ، أي: فلو لم يستطيعوا ذلك فكانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا.
و {لَوْ} حرف يفيد التمني بعد فعل ود ونحوه. أنشد الجاحظ وعبد القاهر:
يودون لو خاطوا عليك جلودهم ... ولا تمنع الموت النفوس الشحائح
وتقدم عند قوله تعالى: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} في سورة البقرة [96].
والسؤال عن الأنباء لقصد التجسس على المسلمين للمشركين وليسرهم ما عسى أن يلحق المسلمين من الهزيمة.
ومعنى {وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً} أنهم إذا فرض أن لا يتمكنوا من الخروج إلى البادية وبقوا في المدينة مع المسلمين ما قاتلوا مع المسلمين إلا قتالا قليلا، أي: ضعيفا لا يؤبه به وإنما هو تعلة ورياء، وتقدم نظيره آنفا.

والأنباء: جمع نبأ وهو: الخبر المهم، وتقدم عند قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ} في سورة الأنعام [34].
وقرأ الجمهور {يَسْأَلونَ} - بسكون السين فهمزة - مضارع سأل. وقرأ رويس عن يعقوب {يَسْاَءلونَ} - بفتح السين مشددة وألف بعدها الهمزة - مضارع تساءل، وأصله: يتساءلون أدغمت التاء في السين.
[21] {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} .
بعد توبيخ المنافقين والذين في قلوبهم مرض أقبل الكلام على خطاب المؤمنين في عموم جماعتهم ثناء على ثباتهم وتأسيهم بالرسول صلى الله عليه وسلم على تفاوت درجاتهم في ذلك الائتساء، فالكلام خبر ولكن اقترانه بحرفي التوكيد في {لَقَدْ} يومئ إلى تعريض بالتوبيخ للذين لم ينتفعوا بالإسوة الحسنة من المنافقين والذين في قلوبهم مرض فلذلك أتي بالضمير مجملا ابتداء من قوله: {لَكُمْ} ، ثم فصل بالبدل منه بقوله: {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} ، أي: بخلاف لمن لم يكن كأولئك، فاللام في قوله: {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ} توكيد للام التي في المبدل منه مثل قوله تعالى: {تَكُونُ لَنَا عِيداً لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا} [المائدة: 114]، فمعنى هذه الآية قريب من معنى قوله تعالى في سورة براءة في قصة تبوك {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ} [التوبة: 87, 88] الآية.
والإسوة بكسر الهمزة وضمها اسم لما يؤتسى به، أي: يقتدى به ويعمل مثل عمله. وحق الأسوة أن يكون المؤتسى به هو القدوة ولذلك فحرف {فِي} جاء على أسلوب ما يسمى بالتجريد المفيد للمبالغة إذ يجرد من الموصوف بصفة موصوف مثله ليكون كذاتين، كقول أبي خالد الخارجي:
وفي الرحمان للضعفاء كاف
أي الرحمان كاف. فالأصل: رسول الله إسوة، فقيل: في رسول الله إسوة. وجعل متعلق الائتساء ذات الرسول صلى الله عليه وسلم دون وصف خاص ليشمل الائتساء به في أقواله بامتثال أوامره واجتناب ما ينهى عنه، والائتساء بأفعاله من الصبر والشجاعة والثبات. وقرأ الجمهور {أُسْوَةٌ} بكسر الهمزة. وقرأ عاصم بضم الهمزة وهما لغتان.

و {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ} بدل من الضمير في {لَكُمْ} بدل بعض من كل أو شبه الاشتمال لأن المخاطبين بضمير {لَكُمْ} يشتملون على من يرجون الله واليوم الآخر، أو هو بدل مطابق إن كان المراد بضمير {لَكُمْ} خصوص المؤمنين، وفي إعادة اللام في البدل تكثير للمعاني المذكورة بكثرة الاحتمالات وكل يأخذ حظه منها.
فالذين ائتسوا بالرسول صلى الله عليه وسلم يومئذ ثبت لهم أنهم ممن يرجون الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا. وفيه تعريض بفريق من الذين صدهم عن الائتساء به ممن كانوا منافقين أو في قلوبهم مرض من الشك في الدين.
وفي الآية دلالة على فضل الاقتداء بالنبيء صلى الله عليه وسلم وأنه الإسوة الحسنة لا محالة ولكن ليس فيها تفصيل وتحديد لمراتب الائتساء والواجب منه والمستحب وتفصيله في أصول الفقه. واصطلاح أهل الأصول على جعل التأسي لقبا لاتباع الرسول في أعماله التي لم يطالب بها الأمة على وجه التشريع. وذكر القرطبي عن الخطيب البغدادي أنه روي عن عقبة بن حسان الهجري عن مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} قال: في جوع النبيء صلى الله عليه وسلم.
[22] {وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} .
لما ذكرت أقوال المنافقين والذين في قلوبهم مرض المؤذنة بما يداخل قلوبهم من الخوف وقلة الإيمان والشك فيما وعد الله به رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من النصر ابتداء من قوله: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [لأحزاب: 12] قوبلت أقوال أولئك بأقوال المؤمنين حينما نزلت بهم الأحزاب ورأوا كثرتهم وعددهم وكانوا على بصيرة من تفوقهم عليهم في القوة والعدد أضعافا وعلموا أنهم قد ابتلوا وزلزلوا، كل ذلك لم يخر عزائمهم ولا أدخل عليهم شكا فيما وعدهم الله من النصر.
وكان الله وعدهم النصر غير مرة منها قوله في سورة البقرة {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]. فلما رأى المسلمون الأحزاب وابتلوا وزلزلوا ورأوا مثل الحالة التي وصفت في تلك الآية علموا أنهم منصورون عليهم، وعلموا أن ذلك هو الوعد الذي وعدهم الله بآية سورة البقرة.

وكانت آية البقرة نزلت قبل وقعة الأحزاب بعام، كذا روي عن ابن عباس، وأيضا فإن النبيء صلى الله عليه وسلم أخبر المسلمين: أن الأحزاب سائرون إليكم بعد تسع أو عشر، فلما رأى المؤمنون الأحزاب وزلزلوا راجعهم الثبات الناشئ عن قوة الإيمان وقالوا: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ} ، أي: من النظر ومن الإخبار بمسير الأحزاب وصدقوا وعد الله إياهم بالنصر وإخبار النبيء صلى الله عليه وسلم بمسير الأحزاب، فالإشارة {بهَذَا} إلى ما شاهدوه من جيوش الأحزاب وإلى ما يتبع ذلك من الشدة والصبر عليها وكل ذلك وعد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. ثم أخبروا عن صدق الله ورسوله عليه الصلاة والسلام فيما أخبرا به وصدقوا الله فيما وعدهم من النصر خلافا لقول المنافقين {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً} [الأحزاب: 12] فالوعد راجع إلى الأمرين والصدق كذلك.
والوعد: إخبار مخبر بأنه سيعمل عملا للمخبر – بالفتح -
ففعل {صَدَقَ} فيما حكي من قول المؤمنين {وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} مستعمل في الخبر عن صدق مضى وعن صدق سيقع في المستقبل محقق وقوعه بحيث يجعل استقباله كالمضي مثل {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل: 1] فهو مستعمل في معنى التحقق. أو هو استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، ولا شك أن محمل الفعل على الصدق في المستقبل أنسب بمقام الثناء على المؤمنين وأعلق بإناطة قولهم بفعل {رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ} دون أن يقال: ولما جاءت الأحزاب. فإن أبيت استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه فاقصره على المجاز واطرح احتمال الإخبار عن الصدق الماضي.
وضمير {زَادَهُمْ} المستتر عائد إلى ما عاد إليه اسم الإشارة، أي: وما زادهم ما رأوا إلا إيمانا وتسليما، أي: بعكس حال المنافقين إذ زادهم شكا في تحقق الوعد، والمعنى: وما زاد ذلك المؤمنين إلا إيمانا، أي ما زاد في خواطر نفوسهم إلا إيمانا، أي لم يزدهم خوفا على الخوف الذي من شأنه أن يحصل لكل مترقب أن ينازله العدو الشديد، بل شغلهم عن الخوف والهلع شاغل الاستدلال بذلك على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخبرهم به وفيما وعدهم الله على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام من النصر فأعرضت نفوسهم عن خواطر الخوف إلى الاستبشار بالنصر المترقب.
والتسليم: الانقياد والطاعة لأن ذلك تسليم النفس للمنقاد إليه، وتقدم في قوله تعالى: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} في سورة النساء [65]. ومن التسليم هنا تسليم أنفسهم لملاقاة عدو شديد دون أن يتطلبوا الإلقاء بأيديهم إلى العدو وأن يصالحوه بأموالهم. فقد ذكر ابن

إسحاق وغيره أنه لما اشتد البلاء على المسلمين استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم السعدين سعد بن عبادة وسعد بن معاذ في أن يعطي ثلث ثمار المدينة تلك السنة عيينة بن حصن، والحارث بن عوف وهما قائدا غطفان على أن يرجعا عن المدينة، فقالا: يا رسول الله أهو أمر تحبه فنصنعه، أم شيء أمرك الله به لابد لنا من العمل به، أم شيء تصنعه لنا? قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل شيء أصنعه لكم والله ما أصنع ذلك إلا لأني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة وكالبوكم من كل جانب فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما. فقال سعد بن معاذ: يا رسول الله قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله لا نعبد الله ولا نعرفه وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة واحدة إلا قرى أو بيعا أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا إليه وأعزنا بك وبه نعطيهم أموالنا? ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنت وذاك. فهذا موقف المسلمين في تلك الشدة وهذا تسليم أنفسهم للقتال.
ومن التسليم الرضى بما يأمر به الرسول صلى الله عليه وسلم من الثبات معه كما قال تعالى: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء: 65].
وإذ قد علم أنهم مؤمنون لقوله: {وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ} إلى آخره... فقد تعين أن الإيمان الذي زادهم ذلك هو زيادة على إيمانهم، أي: إيمان مع إيمانهم.
والإيمان الذي زادهموه أريد به مظهر من مظاهر إيمانهم القوي، فجعل تكرر مظاهر الإيمان وآثاره كالزيادة في الإيمان لأن تكرر الأعمال بقوي الباعث عليها في النفس يباعد بين صاحبه وبين الشك والارتداد فكأنه يزيد في ذلك الباعث، وهذا من قبيل قوله تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: 4] وقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً} كما تقدم في سورة براءة [124]، فكذلك القول في ضد الزيادة وهو النقص، وإلا فإن حقيقة الإيمان وهو التصديق بالشيء إذا حصلت بمقوماتها فهي واقعة، فزيادتها تحصيل حاصل ونقصها نقص لها وانتفاء لأصلها. وهذا هو محمل ما ورد في الكتاب والسنة من إضافة الزيادة إلى الإيمان وكذلك ما يضاف إلى الكفر والنفاق من الزيادة، كقوله تعالى: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً} [التوبة: 97] وقوله: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 125]. وإلى هذا المحمل يرجع خلاف الأئمة في قبول الإيمان الزيادة والنقص فيؤول إلى خلاف لفظي.

[23] {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً}.
أعقب الثناء على جميع المؤمنين الخلص على ثباتهم ويقينهم واستعدادهم للقاء العدو الكثير يومئذ وعزمهم على بذل أنفسهم ولم يقدر لهم لقاؤه كما يأتي في قوله: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} [الأحزاب: 25] بالثناء على فريق منهم كانوا وفوا بما عاهدوا الله عليه وفاء بالعمل والنية، ليحصل بالثناء عليهم بذلك ثناء على إخوانهم الذين لم يتمكنوا من لقاء العدو يومئذ ليعلم أن صدق أولئك يؤذن بصدق هؤلاء لأن المؤمنين يد واحدة.
والإخبار عنهم برجال زيادة في الثناء لأن الرجل مشتق من الرجل وهي قوة اعتماد الإنسان كما اشتق الأبد من اليد، فإن كانت هذه الآية نزلت مع بقية آي السورة بعد غزوة الخندق فهي تذكير بما حصل من المؤمنين من قبل، وإن كانت نزلت يوم أحد فموضعها في هذه السورة إنما هو بتوقيف من النبيء صلى الله عليه وسلم فهو تنبيه على المعنى الذي ذكرناه على تقدير: أنها نزلت مع سورة الأحزاب. وأيا ما كان وقت نزول الآية فإن المراد منها: رجال من المؤمنين ثبتوا في وجه العدو يوم أحد وهم: عثمان بن عفان، وأنس بن النضر، وطلحة بن عبيد الله، وحمزة، وسعيد ابن زيد، ومصعب بن عمير. فأما أنس بن النضر وحمزة ومصعب بن عمير فقد استشهدوا يوم أحد، وأما طلحة فقد قطعت يده يومئذ وهو يدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما بقيتهم فقد قاتلوا ونجوا. وسياق الآية وموقعها يقتضيان أنها نزلت بعد وقعة الخندق. وذكر القرطبي رواية البيهقي عن أبي هريرة: "أن رسول الله حين انصرف من أحد مر على مصعب بن عمير وهو مقتول على طريقه فوقف ودعا له ثم تلا {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} الآية.
ومعنى {صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} أنهم حققوا ما عاهدوا عليه فإن العهد وعد وهو إخبار بأنه يفعل شيئا في المستقبل فإذا فعله فقد صدق. وفعل الصدق يستعمل قاصرا وهو الأكثر، ويستعمل متعديا إلى المخبر - بفتح الباء - يقال: صدقه الخبر، أي قال له في الصدق، ولذلك فإن تعديته هنا إلى {مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} إنما هو على نزع الخافض، أي: صدقوا فيما عاهدوا الله عليه، كقولهم في المثل: صدقني سن بكره، أي في سن بكره.
والنحب: النذر وما يلتزمه الإنسان من عهد ونحوه، أي: من المؤمنين من وفى بما

عاهد عليه من الجهاد كقول أنس بن النضر حين لم يشهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبر ذلك عليه وقال: أول مشهد شهده رسول الله غبت عنه، أما والله لئن أراني الله مشهدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بعد ليرين الله ما أصنع فشهد أحدا وقاتل حتى قتل. ومثل الذين شهدوا أيام الخندق فإنهم قضوا نحبهم يوم قريظة.
وقد حمل بعض المفسرين {قَضَى نَحْبَهُ} في هذه الآية على معنى الموت في الجهاد على طريقة الاستعارة بتشبيه الموت بالنذر في لزوم الوقوع، وربما ارتقى ببعض المفسرين ذلك إلى جعل النحب من أسماء الموت، ويمنع منه ما ورد في حديث الترمذي أن النبيء صلى الله عليه وسلم قال في طلحة بن عبيد الله: "إنه ممن قضى نحبه" ، وهو لم يمت في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما قوله: {وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} فهو في معنى {صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} وإنما ذكر هنا للتعريض بالمنافقين الذين عاهدوا الله لا يولون الأدبار ثم ولوا يوم الخندق فرجعوا إلى بيوتهم في المدينة. وانتصب {تَبْدِيلاً} على أنه مفعول مطلق مؤكد لـ {بَدَّلُوا} المنفي. ولعل هذا التوكيد مسوق مساق التعريض بالمنافقين الذين بدلوا عهد الإيمان لما ظنوا أن الغلبة تكون للمشركين.
[24] {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً}
لام التعليل يتنازعه من التعلق كل من {صَدَقُوا} و {مَا بَدَّلُوا} [الأحزاب: 23] أي: صدق المؤمنون عهدهم وبدله المنافقون ليجزي الله الصادقين ويعذب المنافقين. ولام التعليل بالنسبة إلى فعل {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ} مستعمل في حقيقة معناه، وبالنسبة إلى فعل {وَيُعَذِّبَ} مستعار لمعنى فاء العاقبة تشبيها لعاقبة فعلهم بالعلة الباعثة على ما اجترحوه من التبديل والخيس بالعهد تشبيها يفيد عنايتهم بما فعلوه من التبديل حتى كأنهم ساعون إلى طلب ما حق عليهم من العذاب على فعلهم، أو تشبيها إياهم في عنادهم وكيدهم بالعالم بالجزاء الساعي إليه وإن كان فيه هلاكه.
والجزاء: الثواب لأن أكثر ما يستعمل فعل جزى أن يكون في الخير، ولأن ذكر سبب الجزاء وهو {بِصِدْقِهِمْ} يدل على أنه جزاء إحسان، وقد جاء الجزاء في ضد ذلك في قوله تعالى: {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} في سورة الأنعام [93]. وإظهار اسم الجلالة

في مقام إضماره للدلالة على عظمة الجزاء.
وتعليق التعذيب على المشيئة تنبيه لهم بسعة رحمة الله وانه لا يقطع رجاءهم في السعي إلى مغفرة ما أتوه بأن يتوبوا فيتوب الله عليهم فلما قابل تعذيبه إياهم بتوبته عليهم تعين أن التعذيب باق عند عدم توبتهم لقوله في الآية الأخرى {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48]. والتوبة هنا هي التوبة من النفاق، أي هي إخلاص الإيمان، وقد تاب كثير من المنافقين بعد ذلك، منهم معتب بن قشير.
وجملة {إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} تعليل للجزاء والتعذيب كليهما على التوزيع، أي غفور للمذنب إذا أناب إليه، رحيم بالمحسن أن يجازيه على قدر نصبه.
وفي ذكر فعل {كَانَ} إفادة أن المغفرة والرحمة صفتان ذاتيتان له كما قدمناه غير مرة، من ذلك عند قوله تعالى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا} في أول سورة يونس [2].
[25] {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً}
عطف على جملة {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً} [الأحزاب: 9] وهو الأنسب بسياق الآيات بعدها، أي أرسل عليهم ريحا وردهم، أو حال من ضمير {يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا} [الأحزاب: 20]، أي: يحسبون الأحزاب لم يذهبوا وقد رد الله الأحزاب فذهبوا.
والرد: الإرجاع إلى المكان الذي صدر منه فإن ردهم إلى ديارهم من تمام النعمة على المسلمين بعد نعمة إرسال الريح عليهم لأن رجوعهم أعمل في اطمئنان المسلمين. وعبر عن الأحزاب بالذين كفروا للإيماء إلى أن كفرهم هو سبب خيبتهم العجيبة الشأن.
والباء في {بِغَيْظِهِمْ } للملابسة، وهو ظرف مستقر في موضع الحال، أي: ردهم مغيظين.
وإظهار اسم الجلالة دون ضمير المتكلم للتنبيه على عظم شأن هذا الرد العجيب كما تقدم في قوله تعالى: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ} [الأحزاب: 24].
والغيظ: الحنق والغضب، وكان غضبهم عظيما يناسب حال خيبتهم لأنهم تجشموا كلفة التجمع والإنفاق وطول المكث حول المدينة بلا طائل وخابت آمالهم في فتح المدينة وأكل ثمارها وإفناء المسلمين، وهم يحسبون أنها منازلة أيام قليلة، ثم غاظهم ما لحقهم من النكبة بالريح والانهزام الذي لم يعرفوا سببه.

وجملة {لَمْ يَنَالُوا خَيْراً} حال ثانية. ولك أن تجعل جملة {لَمْ يَنَالُوا خَيْراً} استئنافا بيانيا لبيان موجب غيظهم.
و {كَفَى} بمعنى أغنى، أي أراحهم من كلفة القتال بأن صرف الأحزاب. و {كَفَى} بهذا المعنى تتعدى إلى مفعولين يقال: كفيتك مهمك وليست هي التي تزاد الباء في مفعولها فتلك بمعنى: حسب.
وفي قوله: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} حذف مضاف، أي كلفة القتال، أو أرزاء القتال، فإن المؤمنين كانوا يومئذ بحاجة إلى توفير عددهم وعددهم بعد مصيبة يوم أحد ولو التقوا مع جيش المشركين لكانت أرزاؤهم كثيرة ولو انتصروا على المشركين.
والقول في إظهار اسم الجلالة في قوله: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} كالقول في {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ} .
وجملة {وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً} تذييل لجملة {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} إلى آخرها.
والقوة: القدرة، وقد تقدمت في قوله: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً} في سورة هود [80].
والعزة: العظمة والمنعة، وتقدمت في قوله تعالى: {أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْأِثْمِ} في سورة [البقرة: 206].
وذكر فعل {كَانَ} للدلالة على أن العزة والقوة وصفان ثابتان لله تعالى، ومن تعلقات قوته وعزته أن صرف ذلك الجيش العظيم خائبين مفتضحين وألقى بينه وبين أحلافه من قريظة الشك، وأرسل عليهم الريح والقر، وهدى نعيما بن مسعود الغطفاني إلى الإسلام دون أن يشعر قومه فاستطاع النصح للمسلمين بالكيد للمشركين. ذلك كله معجزة للنبيء صلى الله عليه وسلم.
[26، 27] {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَأُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً}
كان يهود قريظة قد أعانوا الأحزاب وحاصروا المدينة معهم وكان حيي بن أخطب من بني النضير منضما إليهم وهو الذي حرض أبا سفيان على غزو المدينة. فلما صرف الله الأحزاب أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يغزو قريظة وهم فريق من اليهود يعرفون ببني قريظة وكانت منازلهم وحصونهم بالجنوب الشرقي من المدينة تعرف قريتهم باسمهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم

قد عاد إلى المدينة من الخندق ظهرا وكان بصدد أن يغتسل ويستقر فلما جاءه الوحي بأن يغزو قريظة نادى في الناس أن لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة. وخرج الجيش الذي كان بالخندق معه فنزلوا على قرية قريظة واستعصم أهل القرية بحصونهم فحاصرهم المسلمون نحوا من عشرين ليلة، فلما جهدهم الحصار وخامرهم الرعب من أن يفتح المسلمون بلادهم فيستأصلوهم طمعوا أن يطلبوا أن يسلموا بلادهم على أن يحكم حكم في صفة ذلك التسليم. ويقال لهذا النوع من ا لمصالحة: النزول على حكم حكم، فأرسلوا شاس بن قيس إلى النبيء صلى الله عليه وسلم يعرضون أن ينزلوا على مثل ما نزلت عليه بنو النضير من الجلاء على أن لهم ما حملت الإبل إلا الحلقة، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبول ذلك وبعد مداولات نزلوا على حكم سعد بن معاذ، فحكم سعد أن تقتل المقاتلة وتسبى النساء والذراري وأن تكون ديارهم للمهاجرين دون الأنصار فأمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حكم به سعد كما هو مفصل في السيرة.
ومعنى {ظَاهَرُوهُمْ} ناصروهم وأعانوهم، وتقدم في قوله تعالى: {وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً} في سورة براءة [4].
والإنزال: الإهباط، أي: من الحصون أو من المعتصمات كالجبال.
والصياصي: الحصون، وأصلها أنها جمع صيصية وهي القرن للثور ونحوه. قال عبد بني الحسحاس:
فأصبحت الثيران غرقى وأصبحت ... نساء تميم يلتقطن الصياصيا
أي: القرون لبيعها كانوا يستعملون القرون في مناسج الصوف ويتخذون أيضا منها أوعية للكحل ونحوه فلما كان القرن يدافع به الثور عن نفسه سمي المعقل الذي يعتصم به الجيش صيصية والحصون صياصي.
والقذف: الإلقاء السريع، أي: جعل الله في قلوبهم الرعب بأمره التكويني فاستسلموا ونزلوا على حكم المسلمين. والفريق الذين قتلوا هم الرجال وكانوا زهاء سبعمائة والفريق الذين أسروا هم النساء والصبيان.
والخطاب من قوله: {فَرِيقاً تَقْتُلُونَ} إلى آخره... للمؤمنين تكملة للنعمة التي أنبأ عنها قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً} [الأحزاب: 9] الآية، أي: فأهلكنا الجنود وردهم الله بغيظهن وسلطكم على أحلافهم

وأنصارهم. وتقديم المفعول في {فَرِيقاً تَقْتُلُونَ} للاهتمام بذكره لأن ذلك الفريق هم رجال القبيلة الذين بقتلهم يتم الاستيلاء على الأرض والأموال والأسرى، ولذلك لم يقدم مفعول {تَأْسِرُونَ} إذ لا داعي إلى تقديمه فهو على أصله.
وقوله: {وَأَرْضاً لَمْ تَطَأُوهَا} أي: تنزلوا بها غزاة وهي أرض أخرى غير أرض قريظة وصفت بجملة {لَمْ تَطَأُوهَا} أي: لم تمشوا فيها. فقيل: إن الله بشرهم بأرض أخرى يرثونها من بعد. قال قتادة: كنا نحدث أنها مكة. وقال مقاتل وابن رومان: هي خيبر، وقيل: أرض فارس والروم. وعلى هذه التفاسير يتعين أن يكون فعل {أَوْرَثَكُمْ} مستعملا في حقيقته ومجازه؛ فأما في حقيقته فبالنسبة إلى مفعوله وهو {أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} ، وأما استعماله في مجازه فبالنسبة إلى تعديته إلى {وَأَرْضاً لَمْ تَطَأُوهَا} ، أي: أن يورثكم أرضا أخرى لم تطؤوها، من باب {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل: 1] أو يؤول فعل {أَوْرَثَكُمْ} بمعنى: قدر أن يورثكم. وأظهر هذه الأقوال أنها أرض خيبر فإن المسلمين فتحوها بعد غزوة قريظة بعام وشهر. ولعل المخاطبين بضمير {أَوْرَثَكُمْ} هم الذين فتحوا خيبر لم ينقص منهم أحد أو فقد منه القليل ولأن خيبر من أرض أهل الكتاب وهم ممن ظاهروا المشركين فيكون قصدها من قوله: {وَأَرْضاً} مناسبا تمام المناسبة.
وفي التذييل بقوله: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} إيماء إلى البشارة بفتح عظيم يأتي من بعده.
وعندي: أن المراد بالأرض التي لم يطؤوها أرض بني النضير وأن معنى {لَمْ تَطَأُوهَا} لم تفتحوها عنوة فإن الوطء يطلق على معنى الأخذ الشديد، قال الحارث بن وعلة الذهلي:
وطأتنا وطئا على حنق ... وطء المقيد نابت الهرم
ومنه قوله تعالى: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَأُوهُمْ} [الفتح: 25]، فإن أرض بني النضير كانت مما أفاء الله على رسوله من غير إيجاف.
[28، 29] {يَا أَيُّهَا النبيء قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً}
يستخلص مما ذكره ابن عطية رواية عن ابن الزبير ومما ذكره أبو حيان في "البحر

المحيط" وغير ذلك: أن وجه اتصال هذه الآيات بما قبلها أنه لما فتحت على المسلمين أرض قريظة وغنموا أموالهم وكانت أرض النضير قبيل ذلك فيئا للنبيء صلى الله عليه وسلم حسب أزواج رسول الله أن مثله أحد من الرجال إذا وسع عليهم الرزق توسعوا فيه هم وعيالهم فلم يكن أزواج النبيء عليه الصلاة والسلام يسألنه توسعة قبل أن يفيء الله عليه من أهل النضير وقبل أن يكون له الخمس من الغنائم، فلما رأين النبيء صلى الله عليه وسلم جعل لنفسه ولأزواجه أقواتهم من مال الله ورأين وفرة ما أفاء الله عليه من المال حسبن أنه يوسع في الإنفاق فصار بعضهن يستكثرنه من النفقة كما دل عليه قول عمر لحفصة ابنته أم المؤمنين: "لا تستكثري النبيء ولا تراجعيه في شيء وسليني ما بدا لك". ولكن الله أقام رسوله صلى الله عليه وسلم مقاما عظيما فلا يتعلق قلبه بمتاع الدنيا إلا بما يقتضيه قوام الحياة وقد كان يقول: "ما لي وللدنيا" وقال: "حبب إلي من دنياكم النساء والطيب" . وقد بينت وجه استثناء هذين في رسالة كتبتها في الحكمة الإلهية من رياضة الرسول عليه الصلاة والسلام نفسه بتقليل الطعام.
وقال عمر: "كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف المسلمون عليه من خيل و لا ركاب فكانت لرسول الله خالصة ينفق منها على أهله نفقة سنتهم ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة للمسلمين". وقد علمت أن أرض قريظة قسمت على المهاجرين بحكم سعد بن معاذ فلعل المهاجرين لما اتسعت أرزاقهم على أزواجهم أمل أزواج النبيء صلى الله عليه وسلم أن يكن كالمهاجرين فأراد الله أن يعلمهن سيرة الصالحات في العيش وغيره. وقد روي أن بعضهن سألنه أشياء من زينة الدنيا فأوحى إلى رسوله بهذه الآيات المتتابعات. وهذا مما يؤذن به وقع هذه الآيات عقب ذكر وقعة قريظة وذكر الأرض التي لم يطؤوها وهي أرض بني النضير. وإذ قد كان شأن هذه السيرة أن يشق على غالب الناس وخاصة النساء أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أن ينبئ أزواجه بها ويخيرهن عن ا لسير عليها تبعا لحاله وبين أن يفارقهن. لذا فافتتاح هذه الأحكام بنداء النبيء صلى الله عليه وسلم بـ: {يَا أَيُّهَا النبيء} تنبيه على أن ما سيذكر بعد النداء له مزيد اختصاص به وهو غرض تحديد سيرة أزواجه معه سيرة تناسب مرتبة النبوءة، وتحديد تزوجه وهو الغرض الثاني من الأغراض التي تقدم ذكرها في قوله: {يَا أَيُّهَا النبيء اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب: 1].
والأزواج المعنيات في هذه الآية هن أزواجه التسع اللاتي توفي عليهن. وهن: عائشة بنت أبي بكر الصديق، وحفصة بنت عمر بن الخطاب، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وأم سلمة بنت أمية المخزومية، وجويرية بنت الحارث الخزاعية، وميمونة بنت الحارث

الهلالية من بني عامر بن صعصعة، وسودة بنت زمعة العامرية القرشية، وزينب بنت جحش الأسدية، وصفية بن حيي النضيرية. وأما زينب بنت خزيمة الهلالية الملقبة أم المساكين فكانت متوفاة وقت نزول هذه الآية.
ومعنى {إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} : إن كنتن تؤثرن ما في الحياة من الترف على الاشتغال بالطاعات والزهد، فالكلام على حذف مضاف يقدر صالحا للعموم إذ لا دليل على إرادة شأن خاص من شؤون الدنيا. وهذه نكتة تعدية فعل {تُرِدْنَ} إلى اسم ذات {الْحَيَاةَ} دون حال من شؤونها.
وعطف {زِينَتَهَا} عطف خاص على عام، وفي عطفه زيادة تنبيه على أن المضاف المحذوف عام، وأيضا ففعل {تُرِدْنَ} يؤذن باختيار شيء على غيره فالمعنى: إن كنتن تردن الانغماس في شؤون الدنيا، وقد دلت على هذا مقابلته بقوله: {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} كما سيأتي.
و {تَعَالَيْنَ} : اسم فعل أمر بمعنى: أقبلن، وهو هنا مستعمل تمثيلا لحال تهيؤ الأزواج لأخذ التمتيع وسماع التسريح بحال من يحضر إلى مكان المتكلم. وقد مضى القول على "تعال" عند قوله تعالى: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ} في سورة آل عمران [61].
والتمتيع: أن يعطي الزوج امرأته حين يطلقها عطية جبرا لخاطرها لما يعرض لها من الانكسار. وتقدم الكلام عليها مفصلا عند قوله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ} في سورة البقرة [236]. وجزم {أُمَتِّعْكُنَّ} في جواب {تَعَالَيْنَ} وهو اسم فعل أمر وليس أمرا صريحا فجزم جوابه غير واجب فجيء به مجزوما ليكون فيه معنى الجزاء فيفيد حصول التمتيع بمجرد إرادة إحداهن الحياة الدنيا.
والسراح: الطلاق، وهو من أسمائه وصيغه، قال تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231].
والجميل: الحسن حسنا بمعنى القبول عند النفس، وهو الطلاق دون غضب ولا كراهية لأنه طلاق مراعى فيه اجتناب تكليف الزوجة ما يشق عليها. وليس المذكور في الآية من قبيل التخيير والتمليك اللذين هما من تفويض الطلاق إلى الزوجة، وإنما هذا تخيير المرأة بين شيئين يكون اختيارها أحدهما داعيا زوجها لأن يطلقها إن أراد ذلك.

ومعنى {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} إن كنتن تؤثرن الله على الحياة الدنيا، أي: تؤثرن رضى الله لما يريده لرسوله، فالكلام على حذف مضاف. وإرضاء الله: فعل ما يحبه الله ويقرب إليه، فتعدية فعل {تُرِدْنَ} إلى اسم ذات الله تعالى على تقدير تقتضيه صحة تعلق الإرادة باسم ذات لأن الذات لا تراد حقيقة فوجب تقدير مضاف ولزم أن يقدر عاما كما تقدم.
وإرادة رضى الرسول صلى الله عليه وسلم كذلك على تقدير، أي: كل ما يرضي الرسول عليه الصلاة والسلام، وأول ذلك أن يبقين في عشرته طيبات الأنفس.
وإرادة الدار الآخرة: إرادة فوزها، فالكلام على حذف مضاف يقتضيه المقام أيضا، فأسلوب الكلام جرى على إناطة الحكم بالأعيان وهو أسلوب يقتضي تقديرا في الكلام من قبيل دلالة الاقتضاء. وفي حذف المضافات وتعليق الإرادة بأسماء الأعيان الثلاثة مقصد أن تكون الإرادة متعلقة بشؤون المضاف إليه التي تتنزل منزلة ذاته مع قضاء حق الإيجاز بعد قضاء حق الإعجاز. فالمعنى: إن كنتن تؤثرن ما يرضي الله ويحبه رسوله وخير الدار الآخرة فتخترن ذلك على ما يشغل عن ذلك كما دلت عليه مقابلة إرادة الله ورسوله والدار الآخرة بإرادة الحياة الدنيا وزينتها، فإن المقابلة تقتضي إرادتين يجمع بين إحداهما وبين الأخرى، فإن التعلق بالدنيا يستدعي الاشتغال بأشياء كثيرة من شؤون الدنيا لا محيص من أن تلهي صاحبها عن الاشتغال بأشياء عظيمة من شؤون ما يرضي الله وما يرضي رسوله عليه الصلاة والسلام وعن التملي من أعمال كثيرة مما يكسب الفوز في الآخرة فإن الله يحب أن ترتقي النفس الإنسانية إلى مراتب الملكية والرسول صلى الله عليه وسلم يبتغي أن يكون أقرب الناس إليه وأعقلهم به سائرا على طريقته لأن طريقته هي التي اختارها الله له. وبمقدار الاستكثار من ذلك يكثر الفوز بنعيم الآخرة، فالناس متسابقون في هذا المضمار وأولاهم بقصب السبق فيه أشدهم تعلقا بالرسول صلى الله عليه وسلم وكذلك كانت همم أفاضل السلف، وأولى الناس بذلك أزواج الرسول عليه الصلاة والسلام وقد ذكرهن الله تذكيرا بديعا بقوله: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب: 34] كما سيأتي.
ولما كانت إرادتهن الله ورسوله والدار الآخرة مقتضية عملهن الصالحات وكان ذلك العمل متفاوتا، وجعل الجزاء على ذلك بالإحسان فقال: {فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} ليعلمن أن هذا الأجر حاصل لهن على قدر إحسانهن، فهذا وجه ذكر وصف المحسنات وليس هو للاحتراز. وفي ذكر الإعداد إفادة العناية بهذا الأجر والتنويه به زيادة

على وصفه بالعظيم.
وتوكيد جملة الجزاء بحرف {إِنْ} الذي ليس هو لإزالة التردد إظهار للاهتمام بهذا الأجر. وقد جاء في كتب السنة: أنه لما نزلت هذه الآية ابتدأ النبيء صلى الله عليه وسلم بعائشة فقال لها: "إني ذاكر لك أمرا فلا عليك أن لا تستعجلي حتى تستأمري أبويك، ثم تلا هذه الآية، فقالت عائشة: أفي هذا أستأمر أبوي فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة، وقال لسائر أزواجه مثل ذلك فقلن مثل ما قالت عائشة" .
ولا طائل تحت الاشتغال بأن هذا التخيير هل كان واجبا على النبيء صلى الله عليه وسلم، أو مندوبا فإنه أمر قد انقضى ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي يخالف أمر الله تعالى بالوجوب أو الندب.
[30] {يَا نِسَاءَ النبيء مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً}
تولى الله خطابهن بعد أن أمر رسوله بتخييرهن فخيرهن فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة فخاطبهن ربهن خطابا لأنهن أصبحن على عهد مع الله تعالى أن يؤتيهن أجرا عظيما. وقد سماه عمر عهدا فإنه كان كثيرا ما يقرأ في صلاة الصبح سورة الأحزاب فإذا بلغ هذه الآية رفع بها صوته فقيل له في ذلك فقال: أذكرهن العهد، ولما كان الأجر الموعود منوطا بالإحسان أريد تحذيرهن من المعاصي بلوغا بهن إلى مرتبة الملكية مبالغة في التحذير إذ جعل عذاب المعصية على فرض أن تأتيها إحداهن عذابا مضاعفا. ونداؤهن للاهتمام بما سيلقى إليهن. وناداهن بوصف {نِسَاءَ النبيء} ليعلمن أن ما سيلقى إليهن خبر يناسب علو أقدارهن. والنساء هنا مراد به الحلائل، وتقدم في قوله تعالى: {وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ} في سورة آل عمران [61]. وقرأ الجمهور {يَأْتِ} بتحتية في أوله مراعاة لمدلول {مَنْ} الشرطية لأن مدلولها شيء فأصله عدم التأنيث. وقرأه يعقوب {مَنْ يَأْتِ} بفوقية في أوله مراعاة لما صدق {من} أي: إحدى النساء. وقرأ الجمهور {يُضَاعَفْ} بتحتية في أوله للغائب وفتح العين مبنيا للنائب ورفع {الْعَذَابُ} على أنه نائب فاعل. وقرأه ابن كثير وابن عامر {نضَعًفْ} بنون العظمة وبتشديد العين مكسورة ونصب {الْعَذَابُ} على المفعولية، فيكون إظهار اسم الجلالة في قوله بعده: {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً} إظهارا في مقام الإضمار. وقرأه أبو عمر ويعقوب {يُضَعًفْ} بتحتية للغائب

وتشديد العين مفتوحة. ومفاد هذه القراءات متحد المعنى على التحقيق.
وروى الطبري عن أبي عمرو بن العلاء وعن أبي عبيدة معمر بن المثنى: أن بين ضاعف وضعف فرقا، فأما ضاعف فيفيد جعل الشيء مثليه فتصير ثلاثة أعذبه وأما ضعف المشدد فيفيد جعل الشيء مثله. قال الطبري: وهذا التفريق لا نعلم أحدا من أهل العلم ادعاه غيرهما. وصيغة التثنية في قوله: {ضِعْفَيْنِ} مستعملة في إرادة الكثرة كقوله تعالى: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك: 4] لظهور أن البصر لا يرجع خاسئا وحسيرا من تكرر النظر مرتين، والتثنية ترد في كلام العرب كناية عن التكرير، كقولهم: لبيك وسعديك، وقولهم: دواليك، ولذلك لا نشتغل بتحديد المضاعفة المرادة في الآية بأنها تضعيف مرة واحدة بحيث يكون هذا العذاب بمقدار ما هو لأمثال الفاحشة مرتين أو بمقدار ذلك ثلاث مرات وذلك ما لم يشتغل به أحد من المفسرين، وما إعراضهم عنه إلا لأن أفهامهم سبقت إلى الاستعمال المشهور في الكلام، فما روي عن أبي عمرو وأبي عبيدة لا يلتفت إليه.
والفاحشة: المعصية قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف: 33] وكلما وردت الفاحشة في القرآن نكرة فهي المعصية وإذا وردت معرفة فهي الزنا ونحوه.
والمبينة: بصيغة اسم الفاعل مبالغة في بيان كونها فاحشة ووضوحه حتى كأنها تبين نفسها وكذلك قرأها الجمهور. وقرأ ابن كثير وأبو بكر بفتح الياء، أي: يبينها فاعلها.
والمضاعفة: تكرير شيء ذي مقدار بمثل مقداره.
والضعف: مماثل عدد ما. وتقدم في قوله تعالى: {فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ} في سورة الأعراف [38]. ومعنى مضاعفة العذاب: أنه يكون ضعف العذاب عذاب أمثال تلك المعصية إذا صدرت من غيرهن، وهو ضعف في القوة وفي المدة، وأريد عذاب الآخرة.
وجملة {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً} معترضة، وتقدم القول في نظيرها آنفا. والمعنى: أن الله يحقق وعيده ولا يمنعه من ذلك أنها زوجة نبيء، قال تعالى {كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ} إلى قوله: {فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} [التحريم: 10].
والتعريف في {الْعَذَابُ} تعريف العهد، أي: العذاب الذي جعله الله للفاحشة.

[31] {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً} .
أعقب الوعيد بالوعد جريا على سنة القرآن كما تقدم في المقدمة العاشرة.
والقنوت: الطاعة، والقنوت للرسول على طاعته واجتلاب رضاه لأن في رضاه رضى الله تعالى، قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80].
وقرأ الجمهور {يَقْنُتْ} بتحتية في أوله مراعاة لمدلول {مَنْ} الشرطية كما تقدم في {مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ} [الأحزاب: 30]. وقرأه يعقوب بفوقية في أوله مراعاة لما صدق {مَنْ} ، أي إحدى النساء، كما تقدم في قوله تعالى: {مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ} .
وأسند فعل إيتاء أجرهن إلى ضمير الجلالة بوجه صريح تشريفا لإيتائهن الأجر لأنه المأمول بهن، وكذلك فعل {وَأَعْتَدْنَا} .
ومعنى {مَرَّتَيْنِ} توفير الأجر وتضعيفه كما تقدم في قوله تعالى: {ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 30].
وضمير {أَجْرَهَا} عائد إلى {مَنْ} باعتبار أنها صادقة على واحدة من نساء النبيء صلى الله عليه وسلم. وفي إضافة الأجر إلى ضميرها إشارة إلى تعظيم ذلك الأجر بأنه يناسب مقامها وإلى تشريفها بأنها مستحقة ذلك الأجر. ومضاعفة الأجر لهن على الطاعات كرامة لقدرهن، وهذه المضاعفة في الحالين من خصائص أزواج النبيء صلى الله عليه وسلم لعظم قدرهن لأن زيادة قبح المعصية تتبع زيادة فضل الآتي بها. ودرجة أزواج النبيء صلى الله عليه وسلم عظيمة.
وقرأ الجمهور: {وَتَعْمَلْ} بالتاء الفوقية على اعتبار معنى {مَنْ} الموصولة المراد بها أحد النساء وحسنه معطوف على فعل {يَقْنُتْ} بعد أن تعلق به الضمير المجرور وهو ضمير نسوة. وقرأ حمزة والكسائي وخلف {وَيعْمَلْ} بالتحتية مراعاة لمدلول {مَنْ} في أصل الوضع. وقرأ الجمهور {نُؤْتِهَا} بنون العظمة. وقرأه حمزة والكسائي وخلف بالتحتية على اعتبار ضمير الغائب عائدا إلى اسم الجلالة في قوله قبله {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً} [الأحزاب: 30].
والقول في {أَعْتَدْنَا لَهَا} كالقول في {فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ} [الأحزاب: 29]. والتاء في {أَعْتَدْنَا} بدل عن أحد الدالين من "أعد" لقرب مخرجيها وقصد التخفيف.

والعدول عن المضارع إلى فعل ماضي في قوله: {أَعْتَدْنَا} إفادة تحقيق وقوعه.
والرزق الكريم: هو زرق الجنة قال تعالى {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً} [البقرة: 25] الآية. ووصفه بالكريم لأنه أفضل جنسه. وقد تقدم في قوله تعالى: {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} في سورة النمل [29].
[32] {يَا نِسَاءَ النبيء لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} .
{يَا نِسَاءَ النبيء لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ}
أعيد خطابهن من جانب ربهن وأعيد نداءهن للاهتمام بهذا الخبر اهتماما يخصه.
وأحد: اسم بمعنى واحد مثل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الاخلاص: 1] وهمزته بدل من الواو. وأصله: وحد بوزن فعل، أي متوحد، كما قالوا: فرد بمعنى منفرد. قال النابغة يذكر ركوبه راحلته:
كان رحلي وقد زاد النهار بنا ... يوم الجليل على مستأنس وحد
يريد على ثور وحشي منفرد. فلما ثقل الابتداء بالواو شاع أن يقولوا: أحد، وأكثر ما يستعمل في سياق النفي، قال تعالى: {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 47] فإذا وقع في سياق النفي دل على نفي كل واحد من الجنس.
ونفي المشابهة هنا يراد به نفي المساواة مكنى به عن الأفضلية على غيرهن مثل نفي المساواة في قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء: 95]، فلولا قصد التفضيل ما كان لزيادة {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} وجد ولا لسبب نزولها داع كما تقدم في سورة النساء [95]. فالمعنى: أنتن أفضل النساء، وظاهرة تفضيل لجملتهن على نساء هذه الأمة، وسبب ذلك أنهن اتصلن بالنبيء عليه الصلاة والسلام اتصالا قريبا من كل اتصال وصرن أنيساته ملازمات شؤونه فيختصصن باطلاع ما لم يطلع عليه غيرهن من أحواله وخلقه في المنشط والمكره، ويتخلقن بخلقه أكثر مما يقتبس منه غيرهن، ولأن إقباله عليهن إقبال خاص، ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "حبب إليكم من دنياكم النساء والطيب" ، وقال تعالى: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ} [النور: 26]. ثم إن نساء النبيء عليه الصلاة والسلام يتفاضلن بينهن.

والتقييد بقوله: {إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} ليس لقصد الاحتراز عن ضد ذلك وإنما هو الهاب وتحريض على الازدياد من التقوى، وقريب من هذا المعنى قول النبيء صلى الله عليه وسلم لحفصة: "إن عبد الله - يعني أخاها - رجل صالح لو كان يقوم الليل" ، فلما أبلغت حفصة ذلك عبد الله بن عمر لم يترك قيام الليل بعد ذلك لأنه علم أن المقصود التحريض على القيام.
وفعل الشرط مستعمل في الدلالة على الدوام، أي إن دمتن على التقوى فإن نساء النبيء صلى الله عليه وسلم متقيات من قبل، وجواب الشرط عليه ما قبله. واعلم أن ظاهر هذه الآية تفضيل أزواج النبيء صلى الله عليه وسلم على جميع نساء هذه الأمة. وقد أختلف في التفاضل بين الزوجات وبين بنات النبيء صلى الله عليه وسلم. وعن الأشعري الوقف في ذلك، ولعل ذلك لتعارض الأدلة السمعية ولاختلاف جهات أصول التفضيل الدينية والروحية بحيث يعسر ضبطها بضوابط. أشار إلى جملة منها أبو بكر بن العربي في "شرح الترمذي" في حديث رؤيا رجل من أصحاب النبيء صلى الله عليه وسلم: أنه رأى ميزانا نزل من السماء فوزن النبيء صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، فرجح النبيء صلى الله عليه وسلم، ووزن أبو بكر وعمر فرجح أبو بكر، ووزن عمر وعثمان فرجح عمر، ثم رفع الميزان. والجهات التي بني عليها أبو بكر بن العربي أكثرها من شؤون الرجال. وليس يلزم أن تكون بنات النبيء صلى الله عليه وسلم على أزواجه وبخاصة فاطمة رضي الله عنها وهو ظاهر كلام التفتزاني في كتاب "المقاصد" . وهي مسألة لا يترتب على تدقيقها عمل فلا ينبغي تطويل البحث فيها.
والأحسن أن يكون الوقف على {إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} ، وقوله: {فَلا تَخْضَعْنَ} ابتداء تفريع وليس هو جواب الشرط.
{فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً}
فرع على تفضيلهن وترفيع قدرهن إرشادهن إلى دقائق من الأخلاق قد تقع الغفلة عن مراعاتها لخفاء الشعور بآثارها، ولأنها ذرائع خفية نادرة تفضي إلى ما لا يليق بحرمتهن في نفوس بعض ممن اشتملت عليه الأمة، وفيها منافقوها.
وابتدئ من ذلك بالتحذير من هيئة الكلام فأن الناس متفاوتون في لينه، والنساء في كلامهن رقة طبيعية وقد يكون لبعضهن من اللطافة ولين النفس ما إذا انضم إلى لينها الجبلي قربت هيئته الهيئة التدلل لقلة اعتياد مثله إلا في تلك الحالة. فإذا بدا ذلك على

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68