كتاب : التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور
المؤلف : محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي

الْحَكِيمُ [62] فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ} [63].
جملة {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ} وما عطف عليها بالواو اعتراض لبيان ما اقتضاه قوله: {الْكَاذِبِينَ} [آل عمران: 61] لأنهم نفوا أن يكون عيسى عبد الله، وزعموا أنه غلب فإثبات أنه عبد هو الحق.
واسم الإشارة راجع إلى ما ذكر من نفي الإلهية عن عيسى.
والضمير في قوله {لَهُوَ الْقَصَصُ} ضمير فصل، ودخلت عليه لام الابتداء لزيادة التقوية التي أفادها ضمير الفصل؛ لأن اللام وحدها مفيدة تقوية الخبر وضمير الفصل يفيد القصر أي هذا القصص لا ما تقصه كتب النصارى وعقائدهم.
والقصص بفتح القاف والصاد اسم لما يقص، يقال: قص الخبر قصا إذا أخبر به، والقص أخص من الإخبار؛ فإن القص إخبار بخبر فيه طول وتفصيل وتسمى الحادثة التي من شأنها أن يخبر بها قصة بكسر القاف أي مقصوصة أي مما يقصها القصاص، ويقال للذي ينتصب لتحديث الناس بأخبار الماضين قصاص بفتح القاف. فالقصص اسم لما يقص: قال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} وقيل: هو اسم مصدر وليس هو مصدرا، ومن جرى على لسانه من أهل اللغة أنه مصدر فذلك تسامح من تسامح الأقدمين، فالقص بالإدغام مصدر، والقصص بالفك اسم للمصدر واسم للخبر المقصوص.
وقوله: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ} تأكيد لحقية هذا القصص. ودخلت من الزائدة بعد حرف النفي تنصيصا على قصد نفي الجنس لتدل الجملة على التوحيد، ونفي الشريك بالصراحة، ودلالة المطابقة، وأن ليس المراد نفي الوحدة عن غير الله، فيوهم أنه قد يكون إلاهان أو أكثر في شق آخر، وإن كان هذا يؤول إلى نفي الشريك لكن بدلالة الالتزام.
وقوله: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فيه ما في قوله: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ} فأفاد تقوية الخبر عن الله تعالى بالعزة والحكم، والمقصود إبطال إلهية المسيح على حسب اعتقاد المخاطبين من النصارى، فإنهم زعموا أنه قتله اليهود وذلك ذلة وعجز لا يلتئمان مع الإلهية فكيف يكون إله وهو غير عزيز وهو محكوم عليه، وهو أيضا لإبطال لإلهيته على اعتقادنا؛ لأنه كان محتاجا لإنقاذه من أيدي الظالمين.
وجملة {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ} عطف على قوله: {فَقُلْ تَعَالَوْا} [آل عمران:

61] وهذا تسجيل عليهم إذ نكصوا عن المباهلة، وقد علم بذلك أنهم قصدوا المكابرة ولم يتطلبوا الحق، روي أنهم لما أبوا المباهلة قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم "فإن أبيتم فأسلموا" فأبوا فقال "فإن أبيتم فأعطوا الجزية عن يد" فأبوا فقال لهم "فإني أنبذ إليكم على سواء" أي أترك لكم العهد الذي بيننا فقالوا: ما لنا طاقة بحرب العرب، ولكنا نصالحك على ألا تغزونا ولا تخيفنا ولا تردنا عن ديننا 1 على أن نؤدي إليك كل عام ألفي حلة حمراء ألفا في صفر وألفا في رجب وثلاثين درعا عادية من حديد وطلبوا منه أن يبعث معهم رجلا أمينا يحكم بينهم فقال: "لأبعثن معكم أمينا حق أمين" فبعث معهم أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، ولم أقف على ما دعاهم إلى طلب أمين ولا على مقدار المدة التي مكث فيها أبو عبيدة بينهم.
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [64].
رجوع إلى المجادلة، بعد انقطاعها بالدعاء إلى المباهلة، بعث عليه الحرص على إيمانهم، وإشارة إلى شيء من زيغ أهل الكتابين عن حقيقة إسلام الوجه لله كما تقدم بيانه. وقد جيء في هذه المجادلة بحجة لا يجدون عنها موئلا وهي دعوتهم إلى تخصيص الله بالعبادة ونبذ عقيدة إشراك غيره في الإلهية. فجملة {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} بمنزلة التأكيد لجملة {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا} [آل عمران: 61] لأن مدلول الأولى احتجاج عليهم بضعف ثقتهم بأحقية اعتقادهم، ومدلول هذه احتجاج عليهم بصحة عقيدة الإسلام، ولذلك لم تعطف هذه الجملة. والمراد بأهل الكتاب هنا النصارى: لأنهم هم الذين اتخذوا المخلوق ربا وعبدوه مع الله.
وتعالوا هنا مستعملة في طلب الاجتماع على كلمة سواء وهو تمثيل: جعلت الكلمة المجتمع عليها بشبه المكان المراد الاجتماع عنده. وتقدم الكلام على تعالوا قريبا.
والكلمة هنا أطلقت على الكلام الوجيز كما في قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون: 100].
ـــــــ
أي بالإكراه.

وسواء هنا اسم مصدر الاستواء، قيل بمعنى العدل، وقيل بمعنى قصد لا شطط فيها، وهذان يكونان من قولهم: مكان سواء وسوى وسوى بمعنى متوسط قال تعالى: {فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 55]. وقال ابن عطية: بمعنى ما يستوي فيه جميع الناس، فإن اتخاذ بعضهم بعضا أربابا، لا يكون على استواء حال وهو قول حسن. وعلى كل معنى فالسواء غير مؤنث، وصف به {كلمة} ، وهو لفظ مؤنث، لأن الوصف بالمصدر واسم المصدر لا مطابقة فيه.
و {ألا نعبد} بدل من {كلمة} ، وقال جماعة: هو بدل من سواء، ورده ابن هشام، في النوع الثاني من الجهة السادسة من جهات قواعد الإعراب من مغني اللبيب، واعترضه الدمامينى وغيره.
والحق أنه مردود من جهة مراعاة الاصطلاح لا من جهة المعنى؛ لأن سواء وصف لكلمة وألا نعبد لو جعل بدلا من سواء آل إلى كونه في قوة الوصف لكلمة ولا يحسن وصف كلمة به.
وضمير بيننا عائد على معلوم من المقام: وهو النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون، ولذلك جاء بعده {فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} .
ويستفاد من قوله: {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ} إلا آخره، التعريض بالذين عبدوا المسيح كلهم.
وقوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا} جيء في هذا الشرط بحرف إن لأن التولي بعد نهوض هذه الحجة وما قبلها من الأدلة غريب الوقوع، فالمقام مشتمل على ما هو صالح لاقتلاع حصول هذا الشرط، فصار فعل الشرط من شأنه أن يكون نادر الوقوع مفروضا، وذلك من مواقع إن الشرطية فإن كان ذلك منهم فقد صاروا بحيث يؤيس من إسلامهم فأعرضوا عنهم، وأمسكوا أنتم بإسلامكم، وأشهدوهم أنكم على إسلامكم. ومعنى هذا الإشهاد التسجيل عليهم لئلا يظهروا إعراض المسلمين عن الاسترسال في محاجتهم في صورة العجز والتسليم بأحقية ما عليه أهل الكتاب فهذا معنى الإشهاد عليهم بأنا مسلمون.
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إبراهيم وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْأِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ[65] هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [66]

استئناف ابتدائي للانتقال من دعائهم لكلمة الحق الجامعة لحق الدين، إلى الإنكار عليهم محاجتهم الباطلة للمسلمين في دين إبراهيم، وزعم كل فريق منهم أنهم على دينه توصلا إلى أن الذي خلف دينهم لا يكون على دين إبراهيم كما يدعي النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فالمحاجة فرع عن المخالفة في الدعوى. وهذه المحاجة عن طريق قياس المساواة في النفي، أو محاجتهم النبي في دعواه أنه على دين إبراهيم، محاجة يقصدون منها إبطال مساواة دينه لدين إبراهيم، بطريقة قياس المساواة في النفي أيضا.
فيجوز أن تكون هذه الجملة من مقول القول المأمور به الرسول في قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا} أي قل لهم: يا أهل الكتاب لم تحاجون. ويجوز أن يكون الاستئناف من كلام الله تعالى عقب أمره الرسول بأن يقول: {تعالوا} فيكون توجيه خطاب إلى أهل الكتاب مباشرة، ويكون جعل الجملة الأولى من مقول الرسول دون هذه لأن الأولى من شؤون الدعوة، وهذه من طرق المحاجة، وإبطال قولهم، وذلك في الدرجة الثانية من الدعوة. والكل في النسبة إلى الله سواء.
ومناسبة الانتقال من الكلام السابق إلى هذا الكلام نشأت من قوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64] لأنه قد شاع فيما نزل من القرآن في مكة وبعدها أن الإسلام الذي جاء به محمد عليه السلام يرجع إلى الحنيفية دين إبراهيم كما تقدم تقريره في سورة البقرة وكما في سورة النحل [123] {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبراهيم حَنِيفاً} وسيجيء أن إبراهيم كان حنيفا مسلما، وقد اشتهر هذا وأعلن بين المشركين في مكة، وبين اليهود في المدينة، وبين النصارى في وفد نجران، وقد علم أن المشركين بمكة كانوا يدعون أنهم ورثة شريعة إبراهيم وسدنة بيته، وكان أهل الكتاب قد ادعوا أنهم على دين إبراهيم، ولم يتبين لي أكان ذلك منهم ادعاء قديما أم كانوا قد تفطنوا إليه من دعوة محمد صلى الله عليه وسلم، فاستيقظوا لتقليده في ذلك، أم كانوا قالوا ذلك على وجه الإفحام للرسول حين حاجهم بأن دينه الحق، وأن الدين عند الله الإسلام فألجئوه إلى أحد أمرين: إما أن تكون الزيادة على دين إبراهيم غير مخرجة عن اتباعه، فهو مشترك الإلزام في دين اليهودية والنصرانية، وإما أن تكون مخرجة عن دين إبراهيم فلا يكون الإسلام تابعا لدين إبراهيم.
وأحسب أن ادعاءهم أنهم على ملة إبراهيم إنما انتحلوه لبث كل من الفريقين الدعوة إلى دينه بين العرب، ولاسيما النصرانية؛ فإن دعاتها كانوا يحاولون انتشارها بين العرب

فلا يجدون شيئا يروج عندهم سوى أن يقولوا: إنها ملة إبراهيم، ومن أجل ذلك اتبعت في بعض قبائل العرب، وهنالك أخبار في أسباب النزول تثير هذه الاحتمالات: فروي أن وفد نجران قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم حين دعاهم إلى اتباع دينه: على أي دين أنت قال: "على ملة إبراهيم" قالوا: فقد زدت فيه ما لم يكن فيه فعلى هذه الرواية يكون المخاطب بأهل الكتاب هنا خصوص النصارى كالخطاب الذي قبله. وروي: أنه تنازعت اليهود ونصارى نجران بالمدينة، عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأدعى كل فريق أنه على دين إبراهيم دون الآخر، فيكون الخطاب لأهل الكتاب كلهم، من يهود ونصارى.
ولعل اختلاف المخاطبين هو الداعي لتكرير الخطاب.
وقوله: {وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْأِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ} يكون على حسب الرواية الأولى منعا لقولهم: فقد زدت فيه ما ليس منه، المقصود منه إبطال أن يكون الإسلام هو دين إبراهيم. وتفصيل هذا المنع: إنكم لا قبل لكم بمعرفة دين إبراهيم، فمن أين لكم أن الإسلام زاد فيما جاء به على دين إبراهيم، فأنكم لا مستند لكم في عملكم بأمور الدين إلا التوراة والإنجيل، وهما قد نزلا من بعد إبراهيم، فمن أين يعلم ما كانت شريعة إبراهيم حتى يعلم المزيد عليها، وذكر التوراة على هذا لأنها أصل الإنجيل. ويكون على حسب الرواية الثانية نفيا لدعوى كل فريق منهما أنه على دين إبراهيم؛ بأن دين اليهود هو التوراة، ودين النصارى هو الإنجيل، وكلاهما نزل بعد إبراهيم، فكيف يكون شريعة له. قال الفخر: يعني ولم يصرح في أحد هذين الكتابين بأنه مطابق لشريعة إبراهيم، فذكر التوراة والإنجيل على هذا نشر بعد اللف: لأن أهل الكتاب شمل الفريقين، فذكر التوراة لإبطال قول اليهود، وذكر الإنجيل لإبطال قول النصارى، وذكر التوراة والإنجيل هنا لقصد جمع الفريقين في التخطئة، وإن كان المقصود بادئ ذي بدء هم النصارى الذي مساق الكلام معهم.
والأظهر عندي في تأليف المحاجة ينتظم من مجموع قوله: {وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْأِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ} وقوله: {فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} وقوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} فيبطل بذلك دعواهم أنهم على دين إبراهيم، ودعواهم أن الإسلام ليس على دين إبراهيم، ويثبت عليهم أن الإسلام على دين إبراهيم: وذلك أن قوله: {وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْأِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ} يدل على أن علمهم في الدين منحصر فيهما، وهما نزلا بعد إبراهيم فلا جائز أن يكونا عين صحف إبراهيم.

وقوله: {فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} يبطل قولهم: إن الإسلام زاد على دين إبراهيم، ولا يدل على أنهم على دين إبراهيم؛ لأن التوراة والإنجيل لم يرد فيهما التصريح بذلك، وهذا هو الفارق بين انتساب الإسلام إلى إبراهيم وانتساب اليهودية والنصرانية إليه، فلا يقولون وكيف يدعى أن الإسلام دين إبراهيم مع أن القرآن أنزل من بعد إبراهيم كما أنزلت كما أنزلت التوراة والإنجيل من بعده.
وقوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ} يدل على أن الله أنبأ في القرآن بأنه أرسل محمدا بالإسلام دين إبراهيم وهو أعلم منكم بذلك، ولم يسبق أن امتن عليكم بمثل ذلك في التوراة والإنجيل فأنتم لا تعلمون ذلك، فلما جاء الإسلام وأنبأ بذلك أردتم أن تتخلوا هذه المزية، واستيقظتم لذلك حسدا على هذه النعمة، فنهضت الحجة عليهم، ولم يبق لهم معذرة في أن يقولوا: إن مجيء التوراة والإنجيل من بعد إبراهيم مشترك الإلزام لنا ولكم؛ فإن القرآن أنزل بعد إبراهيم، ولولا انتظام الدليل على الوجه الذي ذكرنا لكان مشترك الإلزام.
والاستفهام في قوله: {فَلِمَ تُحَاجُّونَ} مقصود منه التنبيه على الغلط.
وقد أعرض في هذا الاحتجاج عليهم عن إبطال المنافاة بين الزيادة الواقعة في الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم على الدين الذي جاء به إبراهيم، وبين وصف الإسلام بأنه ملة إبراهيم: لأنهم لم يكن لهم من صحة النظر ما يفرقون به بين زيادة الفروع، واتحاد الأصول، وأن مساواة الدينين منظور فيها إلى اتحاد أصولهما سنبينها عند تفسير قوله تعالى: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ} [آل عمران: 20] وعند قوله: {مَا كَانَ إبراهيم يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً} فاكتفي في المحاجة بإبطال مستندهم في قولهم فقد زدت فيه ما ليس فيه على طريقة المنع، ثم يقوله {مَا كَانَ إبراهيم يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً} [آل عمران: 67] على طريقة الدعوى بناء على أن انقطاع المعترض كاف في اتجاه دعوى المستدل.
وقوله: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ} تقدم القول في نظيره عند قوله تعالى: {ثُُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} في سورة البقرة [85].
وقرأ الجمهور: ها أنتم بإثبات ألف ها وبتخفيف همزة أنتم، وقرأه قالون، وأبو عمرو، ويعقوب: بإثبات الألف وتسهيل همزة أنتم، وقرأه ورش بحذف ألف ها وبتسهيل همزة أنتم وبإبدالها ألفا أيضا مع المد، وقرأه قنبل بتخفيف الهمزة دون ألف.

ووقعت ما الاستفهامية بعد لام التعليل فيكون المسؤول عنه هو سبب المحاجة مجهول؛ لأنه ليس من شأنه ان يعلم لأنه لا وجود له، فلا يعلم، فالاستفهام عنه كناية عن عدمه، وهذا قريب من معنى الاستفهام الإنكاري، وليس عينه.
وحذفت ألف ما الاستفهامية على ما هو الاستعمال فيها إذا وقعت مجرورة بحرف نحو {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} [النبأ: 1] وقول ابن معد يكرب:
علام تقول الرمح يثقل عاتقي
والألفات التي تكتب في حروف الجر على صورة الياء. إذا جر بواحد من تلك الحروف ما هذه يكتبون الألف على صورة الألف: لأن ما صارت على حرف واحد فأشبهت جزء الكلمة فصارت الألفات كالتي في أواسط الكلمات.
وقوله: {في إبراهيم} معناه في شيء من أحواله، وظاهر أن المراد بذلك هنا دينه، فهذا من تعليق الحكم بالذات، والمراد حال من أحوال الذات يتعين من المقام كما تقدم في تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ} في سورة البقرة [173].
وها من قوله: {ها أنتم} تنبيه، وأصل الكلام أنتم حاججتم، وإنما يجيء مثل هذا التركيب في محل التعجب والتنكير والتنبيه ونحو ذلك، ولذلك يؤكد غالبا باسم إشارة بعده فيقال ها أنا ذا، وها أنتم أولاء أو هؤلاء.
{وحاججتم} خبر {أنتم} ولك أن تجعل جملة حاججتم حالا هي محل التعجيب باعتبار ما عطف عليها من قوله: {فَلِمَ تُحَاجُّونَ} : لأن الاستفهام فيه إنكاري، فمعناه: فلا تحاجون.
وسيأتي بيان مثله في قوله تعالى: {هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ} [آل عمران: 119].
وقوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} تكميل للحجة أي أن القرآن الذي هو من عند الله أثبت أنه ملة إبراهيم، وأنتم لم تهتدوا لذلك لأنكم لا تعلمون، وهذا كقوله في سورة البقرة [140] {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إبراهيم وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} .
{مَا كَانَ إبراهيم يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ

الْمُشْرِكِينَ} [67].
نتيجة للاستدلال إذ قد تحصحص من الحجة الماضية أن اليهودية والنصرانية غير الحنيفية، وأن موسى وعيسى، عليهما السلام، لم يخبرا بأنهما على الحنيفية، فأنتج أن إبراهيم لم يكن على حال اليهودية أو النصرانية؛ إذ لم يؤثر ذلك عن موسى ولا عيسى، عليهما السلام، فهذا سنده خلو كتبهم عن ادعاء ذلك. وكيف تكون اليهودية أو النصرانية من الحنيفية مع خلوها من فريضة الحج، وقد جاء الإسلام بذكر فرضه لمن تمكن منه، ومما يؤيد هذا ما ذكره ابن عطية في تفسير قوله تعالى في هذه السورة: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136] عن عكرمة قال لما نزلت الآية قال أهل الملل قد أسلمنا قبلك، ونحن المسلمون فقال الله له: فحجهم يا محمد وأنزل الله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] الآية فحج المسلمون وقعد الكفار. ثم تمم الله ذلك بقوله: وما كان من المشركين، فأبطلت دعاوى الفرق الثلاث.
والحنيف تقدم عند قوله تعالى: {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إبراهيم حَنِيفاً} في سورة البقرة [135].
وقوله: {وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} أفاد الاستدراك بعد نفي الضد حصرا لحال إبراهيم فيما يوافق أصول الإسلام، ولذلك بين حنيفا بقوله: {مسلما} لأنهم يعرفون معنى الحنيفية ولا يؤمنون بالإسلام، فأعلمهم أن الإسلام هو الحنيفية، وقال: {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} فنفي عن إبراهيم موافقة اليهودية، وموافقة النصرانية، وموافقة المشركين، وإنه كان مسلما، فثبتت موافقة الإسلام، وقد تقدم في سورة البقرة [135] في مواضع أن إبراهيم سأل أن يكون مسلما، وأن الله أمره أن يكون مسلما، وأنه كان حنيفا، وأن الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو الذي جاء به إبراهيم {وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إبراهيم حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وكل ذلك لا يبقى شكا في أن الإسلام هو إسلام إبراهيم.
وقد بينت آنفا عند قوله تعالى: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ} [آلعمران: 20] الأصول الداخلة تحت معنى {أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ} فلنفرضها في معنى قول إبراهيم: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [الأنعام: 79] فقد جاء إبراهيم بالتوحيد، وأعلنه إعلانا لم يترك للشرك مسلكا إلى نفوس الغافلين، وأقام هيكلا وهو الكعبة، أول بيت وضع الناس، وفرض حجه على الناس: ارتباطا بمغزاة، وأعلن تمام العبودية لله

تعالى بقوله: {وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً} [الأنعام: 80] وأخلص القول والعمل لله تعالى فقال: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً} [الأنعام: 81] وتطلب الهدى بقولهك {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} [البقرة: 128] {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا} [البقرة: 128] وكسر الأصنام بيده {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً} [الأنبياء: 58]، وأظهر الانقطاع لله بقوله: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} [الشعراء: 78- 81]، وتصدى للاحتجاج على الوحدانية وصفات الله قال إبراهيم: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة: 258] {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إبراهيم عَلَى قَوْمِه} [الأنعام: 83] ِ {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ} [الأنعام: 80].
وعطف قوله: {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} لييأس مشركو العرب من أن يكونوا على ملة إبراهيم، وحتى لا يتوهم متوهم أن القصر المستفاد من قوله ولكن حنيفا مسلما قصر إضافي بالنسبة لليهودية والنصرانية، حيث كان العرب يزعمون أنهم على ملة إبراهيم لكنهم مشركون.
{إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإبراهيم لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [68].
استئناف ناشئ عن نفي اليهودية والنصرانية عن إبراهيم، فليس اليهود ولا النصارى ولا المشركون بأولى الناس به، وهذا يدل على أنهم كانوا يقولون: نحن أولى بدينكم.
وأولى اسم تفضيل أي أشد وليا أي قربا مشتق من ولي إذا صار وليا، وعدي بالباء لتضمنه معنى الاتصال أي أخص الناس بإبراهيم وأقربهم منه. ومن المفسرين من جعل أولى هنا بمعنى أجدر فيضطر إلى تقدير مضاف قبل قوله {بإبراهيم} أي بدين إبراهيم.
والذين اتبعوا إبراهيم هم الذين اتبعوه في حياته: مثل لوط وإسماعيل وإسحاق، ولا اعتداد بمحاولة الذين حاولوا اتباع الحنيفية ولم يهتدوا إليها، مثل زيد بن عمرو بن نفيل، وأمية ابن أبي الصلت، وأبيه أبي الصلت، وأبي قيس صرمة بن أبي أنس من بني النجار، وقال النبي صلى الله عليه وسلم "كاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم" وهو لم يدرك الإسلام فالمعنى كاد أن يكون حنيفا، وفي صحيح البخاري : أن زيد بن عمرو بن نفيل خرج إلى الشام يسأل

عن الدين فلقي عالما من اليهود، فسأله عن دينه فقال له: إنا أريد أن أكون على دينك، فقال اليهودي: إنك لا تكون على ديننا حتى تأخذ نصيبك من غضب الله، قال زيد: أفر إلا من غضب الله، ولا أحمل من غضب الله شيئا أبدا وأنا أستطيع، فهل تدلني على دين ليس فيه هذا ? قال: لا أعلمه إلا أن تكون حنيفا، قال: وما الحنيف ? قال: دين إبراهيم لم يكن يهوديا ولا نصرانيا لا يعبد إلا الله، فخرج من عنده فلقي عالما من النصارى فقاوله مثل مقاولة اليهودي، غير أن النصراني قال: أن تأخذ بنصيبك من لعنة الله، فخرج من عنده وقد اتفقا له على دين إبراهيم، فلم يزل رافعا يديه إلى السماء وقال: اللهم أشهد أنا على دين إبراهيم وهذه أمنية منه لا تصادف الواقع. وفي صحيح البخاري ، عن أسماء بنت أبي بكر: قالت: رأيت زيد بن عمرو بن نفيل قبل الإسلام مسندا ظهره إلى الكعبة وهو يقول يا معشر قريش ليس منكم على دين إبراهيم غيري وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح قبل أن ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي فقدمت إلى النبي سفرة فأبى زيد بن عمرو أن يأكل منها وقال: إني لست آكل مما تذبحون على أنصابكم ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه وهذا توهم منه أن النبي صلى الله عليه وسلم يفعل كما تفعل قريش. وأن زيدا كان يعيب على قريش ذبائحهم ويقول: الشاة خلقها الله وأنزل لها من السماء الماء وأنبت لها من الأرض ثم تذبحونها على غير اسم الله.
واسم الإشارة في قوله: {وهذا النبي} مستعمل مجازا في المشتهر بوصف بين المخاطبين كقوله في الحديث "فجعل الفراش وهذه الدواب تقع في النار" فالإشارة استعملت في استحضار الدواب المعروفة بالتساقط على النار عند وقودها، والنبي ليس بمشاهد للمخاطبين بالآية، حينئذ، ولا قصدت الإشارة إلى ذاته. ويجوز أن تكون الإشارة مستعملة في حضور التكلم باعتبار كون النبي هو الناطق بهذا الكلام، فهو كقول الشاعر: نجوت وهذا تحملين طليق أي والمتكلم الذي تحملينه. والاسم الواقع بعد اسم الإشارة، بدلا منه، هو الذي يعين جهة الإشارة ما هي. وعطف النبي على الذين اتبعوا إبراهيم للاهتمام بع وفيه إيماء إلى أن متابعته إبراهيم عليه السلام ليست متابعة عامة فكون الإسلام من النيفية أنه موافق لها في أصولها. والمراد بالذين آمنوا المسلمون. فالمقصود معناه اللقبي، فإن وصف الذين آمنوا صار لقبا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولذلك كثر خطابهم في القرآن بيا أيها الذين آمنوا.
ووجه كون هذا النبي والذين آمنوا أولى الناس بإبراهيم، مثل الذين اتبعوه،

إنهم قد تخلقوا بأصول شرعه، وعرفوا قدره، وكانوا له لسان صدق دائبا بذكره، فهؤلاء أحق به ممن انتسبوا إليه لكنهم نقضوا أصول شرعه وهم المشركون، ومن الذين انتسبوا إليه وأنسوا ذكر شرعه، وهم اليهود والنصارى، ومن هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم، لما سأل عن صوم اليهود يوم عاشوراء فقالوا: "هو يوم نجى الله فيه موسى" فقال "نحن أحق بموسى منهم" وصامه وأمر المسلمين بصومه.
وقوله: {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} تذييل أي هؤلاء هم أولى الناس بإبراهيم، والله ولي إبراهيم، والذين اتبعوه، وهذا النبي، والذين آمنوا؛ لأن التذييل يشمل المذيل قطعا، ثم يشمل غيره تكميلا كالعام على سبب خاص. وفي قوله: {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} بعد قوله: {كَانَ إبراهيم يَهُودِيّاً} [آل عمران: 67] تعريض بأن الذين لم يكن إبراهيم ليس منهم ليسوا بمؤمنين.
{وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [69].
استئناف مناسبته قوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} وقوله: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإبراهيم} [آل عمران: 64- 68] الخ. والمراد بأهل الكتاب هنا اليهود خاصة، ولذلك عبر عنهم بطائفة من أهل الكتاب لئلا يتوهم أنهم أهل الكتاب الذين كانت معهم في الآيات السابقة.
والمراد بالطائفة جماعة منهم من قريضة، والنضير، وقينقاع، دعوا عمار بن ياسر، ومعاذ بن جبل، وحذيفة بن اليمان، إلى الرجوع إلى الشرك.
وجملة لو يضلونكم مبينة لمضمون جملة ودت على طريقة الإجمال والتفصيل. فلو شرطية مستعملة في التمني مجازا لأن التمني من لوازم الشرط الامتناعي. وجواب لا شرط محذوف يدل عليه فعل ودت تقديره: لو يضلونكم لحصل مودودهم، والتحقيق أن التمني عارض من عوارض لو الامتناعية في بعض المقامات. وليس هو معنى أصليا من معاني لو. وقد تقدم نظير هذا في قوله تعالى: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} في سورة البقرة [96].
وقوله: {لَوْ يُضِلُّونَكُمْ} أي ودوا إضلالكم وهو يحتمل أنهم ودوا أن يجعلوهم على غير هدى في نظر أهل الكتاب: أي يذبذبوهم، ويحتما أن المراد الإضلال في نفس

الأمر، وإن كان ود أهل الكتاب أن يهودوهم. وعلى الوجهين يحتمل قوله تعالى: {وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} أن يكون معناه: إنهم إذا أضلوا الناس فقد صاروا هم أيضا ضالين؛ لأن الإضلال ضلال، وأن يكون معناه: إنهم كانوا من قبل ضالين برضاهم بالبقاء على دين منسوخ وقوله: {وَمَا يَشْعُرُونَ} يناسب الاحتمالين لأن العلم بالحالتين دقيق.
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ[70] يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [72].
التفات إلى خطاب اليهود. والاستفهام إنكاري. والآيات: المعجزات، ولذلك قال وأنتم تشهدون. وإعادة ندائهم بقوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} ثانية لقصد التوبيخ وتسجيل باطلهم عليهم. ولبس الحق بالباطل تلبيس دينهم بما أدخلوا فيه من الأكاذيب والخرافات والتأويلات الباطلة، حتى ارتفعت لا ثقة بجميعه. وكتمان الحق يحتمل أن يراد به كتمانهم تصديق محمد صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يراد به كتمانهم ما في التوراة من الأحكام التي أماتوها وعوضوها بأعمال أحبارهم وآثار تأويلاتهم، وهم يعلمونها ولا يعملون بها.
{وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ[72] وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [73] يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [74].
{وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ[72] وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ}.
عطف على {وَدَّتْ طَائِفَةٌ} [آل عمران: 69]. فالطائفة الأولى حاولت الإضلال بالمجاهرة، وهذه الطائفة حاولته بالمخادعة: قيل أشير إلى طائفة من اليهود منهم كعب بن الأشرف، ومالك بن الصيف، وغيرهما من يهود خيبر، أغواهم العجب بدينهم فتوهموا أنهم قدوة للناس، فلما أعيتهم المجاهرة بالمكابرة دبروا للكيد مكيدة أخرى، فقالوا لطائفة من أتباعهم: آمنوا بمحمد أول لانهار مظهرين أنكم صدقتموه ثم اكفروا آخر النهار ليظهر أنكم كفرتم به عن بصيرة وتجربة فيقول المسلمون ما صرف هؤلاء عنا إلا ما انكشف لهم من حقيقة أمر هذا لادين، وأنه ليس هو الدين لا مبشر به في لا كتب السالفة ففعلوا ذلك.

وقوله: {عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا} يحتمل أنه من لفظ الحكاية بأن يكون اليهود قالوا آمنوا بالذي أنزل على أتباع محمد فحوله الله تعالى فقال على الذين آمنوا تنويها بصدق إيمانهم. ويحتمل أنه من المحكي بأن يكون اليهود أطلقوا هذه الصلة على أتباع محمد إذ صارت علما بالغلبة عليهم. ووجه النهار أوله وتقدم آنفا عند قوله تعالى: {وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [آل عمران: 45].
وقوله: {وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} من كلام الطائفة من أهل الكتاب قصدوا به الاحتراس ألا يظنوا من قولهم آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار أنه إيمان حق، فالمعنى ولا تؤمنوا إيمانا حقا إلا لمن تبع دينكم، فأما محمد فلا تؤمنوا به لأنه لم تبع دينكم فهذا تعليل للنهي.
وهذا اعتذار عن إلزامهم بأن كتبهم بشرت بمجيء رسول مقف فتوهموا أنه لا يجيء إلا بشريعة التوراة، وضلوا عن عدم الفائدة في مجيئه بما في التوراة لأنه من تحصيل الحاصل، فيتنزه فعل الله عنه، فالرسول لا ذي يجيء بعد موسى لا يكون إلا ناسخا لبعض شريعة التوراة فجمعهم بين مقالة: {آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا} وبين مقالة: {وَلا تُؤْمِنُوا} مثل {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} [الأنفال: 17].
وقوله: {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} كلام معترض، أمر النبي عليه الصلاة والسلام أن يقوله لهم. كناية ع استبعاد حصول اهتدائهم، وأن الله لم يهدهم، لأن هدى غيره أي محاولته هدى الناس لا يحصل منه المطلوب، إذا لم يقدره الله. فالقصر حقيقي: لأن ما لم يقدره الله فهو صورة الهدى وليس بهدى وهو مقابل قولهم: آمنوا بالذي أنزل ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، إذ أرادوا صورة الإيمان، وما هو بإيمان، وفي هذا لا جواب إظهار الاستغناء عن متابعتهم.
{أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ}
أشكل موقع هذه الآية بعد سابقتها وصف نظمها، ومصرف معناها: إلى أي فريق. وقال القرطبي: إنها أشكل آية في هذه السورة. وذكر ابن عطية وجوها ثمانية. ترجع إلى احتمالين أصليين.
الاحتمال الأول أنها تكملة لمحاورة الطائفة من أهل الكتاب بعضهم بعضا، وأن جملة {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} معترضة في أثناء ذلك الحوار، وعلى هذا الاحتمال تأني

وجوه نقتصر منها على وجهين واضحين:
أحدهما: أنهم أرادوا تعليل قولهم: {وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} على أن سياق الكلام يقتضي إرادتهم استحالة نسخ شريعة التوراة، واستحالة بعثة رسول بعد موسى، وأنه يقدر لام تعليل محذوف قبل أن المصدرية وهو حذف شائع مثله. ثم إما أن يقدر حرف نفي بعد أن يدل عليه السياق ويقتضيه لفظ أحد المراد منه شمول كل أحد: لأن ذلك اللفظ لا يستعمل مرادا منه الشمول إلا في سياق النفي، وما في معنى النفي مثل استفهام الإنكار، فأما إذا استعمل أحد في الكلام الموجب فإنه يكون بمعنى الوصف بالوحدة، وليس ذلك بمناسب في هذه الآية.
فتقدير الكلام لأن لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم. وحذف حرف النفي بعد لام التعليل، ظاهرة ومقدرة، كثير في الكلام، ومنه قوله تعالى: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176] أي لئلا تضلوا.
والمعنى: أن قصدهم من هذا الكلام تثبيت أنفسهم على ملازمة دين اليهودية، لأن اليهود لا يجوزون نسخ أحكام الله ويتوهمون أن النسخ يقتضي البداء.
الوجه الثاني: أنهم أرادوا إنكار أن يؤتى أحد بالنبوة كما أوتيها أنبياء بني إسرائيل، فيكون لا كلام استفهاما إنكاريا حذفت منه أداة الاستفهام لدلالة لا سياق؛ ويؤيده قراءة ابن كثير قوله: {أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ} بهمزتين.
وأما قوله: أو يحاجوكم عند ربكم فحرف أو فيه للتقسيم مثل {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} [الإنسان: 24]، وما بعد أو معطوف على النفي، أو على الاستفهام الإنكاري: على اختلاف التقديرين، والمعنى: ولا يحاجوكم عند ربكم أو وكيف يحاجوكم عند ربكم، أي لا حجة لهم عليكم عند الله.
واو الجمع في {يحاجوكم} ضمير عائد إلى أحد لدلالته على العموم في سياق النفي أو الإنكار.
وفائدة الاعتراض في أثناء كلامهم المبادرة بما يفيد ضلالهم لأن الله حرمهم التوفيق.
الاحتمال الثاني أن تكون الجملة مما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقوله لهم بقية لقوله إن الهدى هدى الله.

والكلام على هذا رد على قولهم: {آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ} وقولهم: {وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} على طريقة اللف والنشر المعكوس، فقوله: {أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ} إبطال لقولهم: {وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} أي قلتم ذلك حسدا من {أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ} وقوله: {أو يحاجوكم} رد لقولهم {آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ} على طريقة التهكم، أي مرادكم التنصل من أن يحاجوكم أي الذين آمنوا عند الله يوم القيامة، فجمعتم بين الإيمان بما آمن به المسلمون، حتى إذا كان لهم الفوز يوم القيامة لا يحاجونكم عند الله بأنكم كافرون، وإذا كان الفوز لكم كنتم قد أخذتم بالحزم إذ لم تبطلوا دين اليهودية، وعلى هذا فواو الجماعة في قوله: {أو يحاجوكم} عائد إلى الذين آمنوا. وهذا الاحتمال أنسب نظما بقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ} ليكون لكل كلام حكي عنهم تلقين جواب عنه: فجواب قولهم: {آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا} الآية قوله: {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} . وجواب قولهم: {وَلا تُؤْمِنُوا} الخ قوله: قل إن الفضل بيد الله الخ. فهذا ملك الوجوه، ولا نطيل باستيعابها إذ ليس من غرضنا في هذا لا تفسير.
وكلمة {أحد} اسم نكرة غلب استعمالها في سياق النفي ومعناها شخص أو إنسان وهو معدود من الأسماء التي لا تقع إلا في حيز النفي فيفيد العموم مثل عريب وديار ونحوهما وندر وقوعه في حيز الإيجاب، وهمزته مبدلة من الواو وأصله وحد بمعنى واحد ويرد وصفا بمعنى واحد.
وقرأ الجمهور {أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ} بهمزة واحدة هي جزء من حرف أن. وقرأه ابن كثير بهمزتين مفتوحتين أولاهما همزة استفهام والثانية جزء من حرف أن وسهل الهمزة الثانية.
{قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ[73] يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [74].
زيادة تذكير لهم وإبطال لإحالتهم أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم رسولا من الله، وتذكير لهم على طرح الحسد على نعم الله تعالى أي كما أعطى الله الرسالة موسى كذلك أعطاها محمدا، وهذا كقوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إبراهيم الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء: 54].
وتأكيد الكلام بـ "إن" لتنزيلهم منزلة من ينكر أن الفضل بيد الله ومن يحسب أن

الفضل تبع لشهواتهم وجملة {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} عطف على جملة أن الفضل بيد الله وهو لا يخفى عليه من هو أهل لنوال فضله.
و {واسع} اسم فاعل الموصوف بالسعة.
وحقيقة السعة امتداد فضاء الحيز من مكان أو ظرف امتدادا يكفي لإيواء ما يحويه ذلك الحيز بدون تزاحم ولا تداخل بين أجزاء المحوي، يقال أرض واسعة وإناء واسع وثوب واسع، ويطلق الاتساع وما يشتق منه على وفاء الشيء بالعمل الذي يعمله نوعه دون مشقة يقال: فلان واسع البال، وواسع الصدر، وواسع العطاء. وواسع الخلق، فتدل على شدة أو كثرة ما يسند إليه أو يوصف به أو يتعلق به من أشياء ومعان، وشاع ذلك حتى صار معنى ثانيا.
و {واسع} من صفات الله وأسمائه الحسنى وهو بالمعنى المجازي لا محالة لاستحالة المعنى الحقيقي في شأنه تعالى، ومعنى هذا الاسم عدم تناهي التعلقات لصفاته ذات التعلق فهو واسع العلم، واسع الرحمة، واسع العطاء، فسعة صفاته تعالى أنها لا حد لتعلقاتها، فهو أحق الموجودات بوصف واسع، لأنه الواسع المطلق.
وإسناد وصف واسع إلى اسمه تعالى إسناد مجازي أيضا لأن الواسع صفاته ولذلك يؤتى بعد هذا الوصف أو ما في معناه من فعل السعة بما يميز جهة السعة من تمييز نحو: وسع كل شيء علما، ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما. فوصفه في هذه الآية بأنه واسه هو سعة الفضل لأنه وقع تذييلا لقوله: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
وأحسب أن وصف الله بصفة واسع في العربية من مبتكرات القرآن.
وقوله: {عليم} صفة ثانية بقوة علمه أي كثرة متعلقات صفة علمه تعالى.
ووصفه بأنه عليم هنا لإفادة أنه عليم بمن يستأهل أن يؤتيه فضله ويدل على علمه بذلك ما يظهر من آثار إرادته وقدرته الجارية على وفق علمه متى ظهر للناس ما أودعه الله من فضائل في بعض خلقه، قال تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124].
وجملة {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} بدل بعض من كل لجملة {إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} فإن رحمته بعض مما هو فضله.
وجملة {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} تذييل وتقدم تفسير نظيره عند قوله تعالى: {وَاللَّهُ

يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} في سورة البقرة [105].
{وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [75] بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [76].
عطف على قوله: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [آل عمران: 72] أو على قوله: {وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ} [آل عمران: 69] عطف القصة على القصة والمناسبة بيان دخائل أحوال اليهود في معاملة المسلمين الناشئة عن حسدهم وفي انحرافهم عن ملة إبراهيم مع ادعائهم أنهم أولى الناس به، فقد حكى في هذه الآية خيانة فريق منهم.
وقد ذكر الله هنا في أهل الكتاب فريقين: فريقا يؤدي الأمانة تعففا عن الخيانة وفريقا لا يؤدي الأمانة متعللين لإباحة الخيانة في دينهم، قيل: ومن الفريق الأول عبد الله بن سلام، ومن الفريق الثاني فنحاص بن عازوراء وكلاهما من يهود يثرب. والمقصود من الآية ذم الفريق الثاني إذ كان من دينهم في زعمهم إباحة الخون قال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} فلذلك كان المقصود هو قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} الخ ولذلك طول الكلام فيه.
وإنما قدم عليه قوله: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ} إنصافا لحق هذا الفريق، لأن الإنصاف مما أشتهر به الإسلام، وغذ كان في زعمهم أن دينهم يبيح لهم خيانة غيرهم، فقد صار النعي عليهم، والتعبير بهذا القول لازما لجميعهم أمينهم وخائنهم، لأن الأمين حينئذ لا مزية له إلا في أنه ترك حقا يبيح له دينه أخذه، فترفع عن ذلك كما يترفع المتغالي في المروءة عن بعض المباحات.
وتقديم المسند في قوله: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} في الموضعين للتعجيب من مضمون صلة المسند إليهما: ففي الأول للتعجيب من قوة الأمانة، مع إمكان الخيانة ووجود العذر له في عادة أهل دينه، والثاني للتعجيب من أن يكون الخون خلقا لمتبع كتاب من كتب الله، ثم يزيد التعجيب عند قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا} فيكسب المسند إليهما زيادة عجب حال.

وعدي {تأمنه} مع إن مثله يتعدى بعلى كقوله: {هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ} [يوسف: 64]، لتضمينه معنى تعامله بقنطار ليشمل الأمانة بالوديعة، والأمانة بالمعاملة على الاستيمان، وقيل الباء فيه بمعنى على كقول أبي ذر أو عباس بن مرداس:
أرب يبول الثعلبان برأسه
وهو محمل بعيد، لأن الباء في البيت للظرفية كقوله تعالى: {بِبَطْنِ مَكَّةَ} [الفتح: 24].
وقرأ الجمهور {يؤده} إليك بكسر الهاء من يؤده على الأصل في الضمائر.
وقرأه أبو عمرو، وحمزة، وأبو بكر عن عاصم، وأبو جعفر: بإسكان هاء لا ضمير في يؤده فقال الزجاج: هذا الإسكان الذي روي عن هؤلاء غلط بين لأن الهاء لا ينبغي أن تجزم وإذا لم تجزم فلا يجوز أن تكسر في الوصل هكذا نقله ابن عطية ومعناه أن جزم الجواب لا يظهر على هاء الضمير بل على آخر حرف من الفعل ولا يجوز تسكينها في الوصل كما في أكثر الآيات التي سكنوا فيها الهاء. وقيل هو إجراء للوصل مجرى الوقف وهو قليل، قال الزجاج: وأما أبو عمرو فأراه كان يختلس الكسر فغلط عليه من نقله وكلام الزجاج مردود لأنه راعى فيه لا مشهور من الاستعمال المقيس، واللغة أوسع من ذلك، والقرآن حجة. وقرأه هشام عن ابن عامر، ويعقوب باختلاس الكسر.
وحكى القرطبي عن الفراء: أن مذهب بعض العرب يجزمون الهاء إذا تحرك ما قبلها يقولون ضربته كما يسكنون ميم أنتم وقمتم وأصله لا رفع وهذا كما قال الراجز:
لما رأى ألا دعه ولا شبع ... مال إلى أرطاة حقف فاضطجع
والقنطار تقدم آنفا في قوله تعالى: {وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} [آل عمران: 14].
والدينار اسم للمسكوك من الذهب الذي وزنه اثنتان وسبعون حبة من الشعير المتوسط وهو معرب دنار من الرومية.
وقد جعل القنطار والدينار مثلين للكثرة والقلة، والمقصود ما يفيده الفحوى من أداء الأمانة فيما هو دون القنطار، ووقوع الخيانة فيما هو فوق الدينار.
وقوله: {إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً} أطلق القيام هنا على الحرص والمواظبة: كقوله

{قَائِماً بِالْقِسْطِ} [آل عمران: 18] أي لا يفعل إلا العدل.
وعدي قائما بحرف على لأن القيام مجاز على الإلحاح والترداد فتعديته بحرف الاستعلاء قرينة وتجريد للاستعارة.
وما من قوله: {إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً} قائما حرف مصدري يصير الفعل بعده في تأويل مصدر، ويكثر أن يقدر معها اسم زمان ملتزم حذفه يدل عليه سياق الكلام فحينئذ يقال ما ظرفية مصدرية. وليست الظرفية مدلولها بالأصالة ولا هي نائبة عن الظرف، ولكنها مستفادة من موقع ما في سياق كلام يؤذن بالزمان، ويكثر ذلك في دخول ما على الفعل المتصرف من مادة دام ومرادفها.
وما في هذه الآية كذلك فالمعنى: لا يؤده إليك إلا في مدة دوام قيامك عليه أي إلحاحك عليه. والدوام حقيقته استمرار الفعل وهو هنا مجاز في طول المدة، لتعذر المعنى الحقيقي مع وجود أداة الاستثناء، لأنه إذا انتهى العمر لم يحصل الإلحاح بعد الموت.
والاستثناء من قوله: {إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً} يجوز أن يكون استثناءا مفرغا من أوقات يدل عليها موقع ما والتقدير لا يؤده إليك في جميع الأزمان إلا زمانا تدوم عليه فيه قائما فيكون ما بعد إلا نصبا على الظرف، ويجوز أن يكون مفرغا من مصادر يدل عليها معنى ما المصدرية، فيكون ما بعده منصوبا على الحال لأن المصدر يقع حالا.
وقدم المجرور على متعلقه في قوله: {عَلَيْهِ قَائِماً} للإهتمام بمعنى المجرور، ففي تقديمه معنى الإلحاح أي إذا لم يكن قيامك عليه لا يرجع لك أمانتك.
والإشارة في قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا} قالوا إلى الحكم المذكور وهو {إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} وإنما أشير إليه لكمال العناية بتمييزه لاختصاصه بهذا الشأن العجيب.
والباء للسبب أي ذلك مسبب عن أقوال اختلقوها، وعبر عن ذلك بالقول، لأن القول يصدر عن الاعتقاد، فلذا ناب منابه فأطلق على الظن في مواضع من كلام العرب.
وأرادوا بالأميين من ليسوا من أهل الكتاب في القديم، وقد تقدم بيان معنى الأمي في سورة البقرة.
وحرف في هنا للتعليل. وإذ قد كان التعليل لا يتعلق بالذوات، تعين تقدير مضاف

مجرور بحرف في والتقدير في معاملة الأميين.
ومعنى ليس علينا في الأميين سبيل ليس علينا في أكل حقوقهم حرج ولا إثم، فتعليق الحكم بالأميين أي ذواتهم مراد منه أعلق أحوالهم بالغرض الذي سيق له الكلام.
فالسبيل هنا طريق المؤاخذة، ثم أطلق السبيل في كلام العرب مجازا مشهورا على المؤاخذة قال تعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91] وقال: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ} [التوبة: 93] وربما عبر عنه العرب بالطريق قال حميد بن ثور:
وهل أنا إن عللت نفسي بسرحة ... من السرح موجود علي طريق
وقصدهم من ذلك أن يحقروا المسلمين، ويتطاولوا بما أتوه من معرفة القراءة والكتابة من قبلهم. أو أرادوا الأميين بمعرفة التوراة، أي الجاهلين: كناية عن كونهم ليسوا من أتباع دين موسى عليه السلام.
وأياما كان فقد أنبأ هذا عن خلق عجيب فيهم، وهو استخفافهم بحقوق المخالفين لهم في الدين، واستباحة ظلمهم مع اعتقادهم أن الجاهل أو الأمي جدير بأن يدحض حقه. والظاهر أن الذي جرأهم على هذا سوء فهمهم في التوراة، فإن التوراة ذكرت أحكاما فرقت فيها بين الإسرائيلي وغيره في الحقوق، غير أن ذلك فيما يرجع إلى المؤاساة والمخالطة بين الأمة، فقد جاء في سفر التثنية الإصحاح الخامس عشر في آخر سبع سنين تعمل إبراء يبرئ كل صاحب دين يده مما أقرض صاحبه. الأجنبي تطالب، وأما ما كان لك عند أخيك فتبرئه وجاء في الإصحاح 23 منه لا تقرض أخاك بربا فضة أو ربا طعام وللأجنبي تقرض بربا ولكن شتان بين الحقوق والمؤاساة فإن تحريم الربا إنما كان لقصد المؤاساة، والمؤاساة غير مفروضة مع غير أهل الملة الواحدة. وعن ابن الكلبي قالت اليهود: الأموال كلها كانت لنا، فما في أيدي العرب منها فهو لنا، وإنهم ظلمونا وغصبونا فلا إثم علينا في أخذ أموالنا منهم. وهذان الخلقان الذميمان اللذان حكاهما الله عن اليهود قد اتصف بهما كثير من المسلمين، فاستحل بعضهم حقوق أهل الذمة، وتأولوها بأنهم صاروا أهل حرب، في حين لا حرب ولا ضرب.
وقد كذبهم الله تعالى في هذا الزعم فقال: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} قال المفسرون: إنهم ادعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم. وروي عن سعيد بن جبير أنه لما نزل قوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ} إلى قوله: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} قال:

النبي صلى الله عليه وسلم: "كذب أعداء الله ما من شيء كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي هاتين إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر" .
وقوله: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} حال أي يتعمدون الكذب: إما لأنهم علموا أن ما قاسوه على ما في كتابهم ليس القياس فيه صحيح، وإما لأن التأويل الباطل بمنزلة العلم بالكذب، إذ الشبهة الضعيفة كالعهد.
وبلى حرف جواب وهو مختص بإبطال النفي فهو هنا لإبطال قولهم: {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} [آل عمران: 75].
وبلى غير مختصة بجواب استفهام المنفي بل يجاب بها عن قصد الإبطال، وأكثر مواقعها في جواب الاستفهام المنفي، وجيء في الجواب بحكم عام ليشمل المقصود وغيره: توفيرا للمعنى، وقصدا في اللفظ، فقال: {مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ} أي لم يخن، لأن الأمانة عهد، {واتقى} ربه فلم يدحض حق غيره فإن الله يحب المتقين أي الموصوفين بالتقوى، والمقصود نفي محبة الله عن ضد المذكور بقرينة المقام.
{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [77].
مناسبة هذه الآية لما قبلها أن في خيانة الأمانة إبطالا للعهد، وللحلف الذي بينهم، وبين المسلمين، وقريش. والكلام استئناف قصد منه ذكر الخلق الجامع لشتات مساوئ أهل الكتاب من اليهود، دعا إليه قوله ودت طائفة من أهل الكتاب وما بعده.
وقد جرت أمثال هذه الأوصاف على اليهود مفرقة في سورة البقرة [40]: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي} . {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} [البقرة: 41]. {مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة: 102]. {وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ} [البقرة: 174]. فعلمنا أنهم المراد بذلك هنا. وقد بينا هنالك وجه تسمية دينهم بالعهد وبالميثاق، في مواضع، لأن موسى عاهدهم على العمل به، وبينا معاني هذه الأوصاف والأخبار.
ومعنى: {وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} غضبه عليهم إذ قد شاع نفي

الكلام في الكناية عن الغضب، وشاع استعمال النظر في الإقبال والعناية، ونفي النظر في الغضب فالنظر المنفي هنا نظر خاص. وهاتان الكنايتان يجوز معهما إرادة المعنى الحقيقي.
وقوله: {وَلا يُزَكِّيهِمْ} أي لا يطهرهم من الذنوب ولا يقلعون عن آثامهم، لأن من بلغ من رقة الديانة إلى حد أن يشتري بعهد الله وأيمانه ثمنا قليلا، فقد بلغ الغاية القصوى في الجرأة على الله، فكيف يرجى له صلاح بعد ذلك، ويحتمل أن يكون المعنى ولا ينميهم أي لا يكثر حظوظهم في الخيرات.
وفي مجيء هذا الوعيد، عقب الصلة، وهي يشترون بعهد الله الآية، إيذان بأن من شابههم في هذه الصفات فهو لاحق بهم، حتى ظن بعض السلف أن هذه الآية نزلت فيمن حلف يمينا باطلة، وكل يظن أنها نزلت فيما يعرفه من قصة يمين فاجرة، ففي البخاري ، عن أبي وائل، عن عبد الله بن مسعود، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حلف يمين صبر ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان" فأنزل الله تصديق ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ} الآية فدخل الأشعث بن قيس وقال: ما يحدثكم أبو عبد الرحمن قلنا: كذا وكذا. قال في أنزلت كانت لي بئر في أرض ابن عم لي فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينتك أو يمينك" قلت: إذن يحلف فقال رسول الله: "من حلف على يمين صبر" الحديث.
وفي البخاري ، عن عبد الله بن أبي أوفى: أن رجلا أقام سلعة في السوق فحلف لقد أعطي بها ما لم يعطه ليوقع فيها رجلا من المسلمين فنزلت {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً } الآية.
وفي عن ابن عباس أنه قرأ هاته الآية في قصة وجبت فيها يمين لرد دعوى.
{وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [78].
أي من اليهود طائفة تخيل للمسلمين أشياء أنها مما جاء في التوراة، وليست كذلك، إما في الاعتذار عن بعض أفعالهم الذميمة، كقولهم: ليس علينا في الأميين سبيل، وإما للتخليط على المسلمين حتى يشككوهم فيما يخالف ذلك مما ذكره القرآن، أو لإدخال

الشك عليهم في بعض ما نزل به القرآن، فاللي مجمل، ولكنه مبين بقوله: {لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ} وقوله: {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} .
واللي في الأصل: الإراغة أي إدارة الجسم غير المتصلب إلى غير الصوب الذي هو ممتد إليه: فمن ذلك لي الحبل، ولي العنان للفرس لإدارته إلى جهة غير صوب سيره، ومنه لي لاعنق، ولي الرأس بمعنى الالتفات الشزر أو الإعراض قال تعالى: {لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ} [المنافقون: 5].
والذي في هذه الآية يحتمل أن يكون حقيقة بمعنى تحريف اللسان عن طريق حرف من حروف الهجاء إلى طريق حرف آخر يقاربه لتعطي الكلمة في أذن السامع جرس كلمة أخرى، وهذا مثل ما حكى الله عنهم في قولهم راعنا وفي الحديث من قولهم في السلام على النبي السام عليك أي الموت أو السلام بكسر السين عليك وهذا اللي يشابه الإشمام والاختلاس ومنه إمالة الألف إلى الياء، وقد تتغير الكلمات بالترقيق والتفخيم وباختلاف صفات الحروف، والظاهر أن الكتاب التوراة فلعلهم كانوا إذا قرؤوا بعض التوراة بالعربية نطقوا بحروف من كلماتها بين بين ليوهموا المسلمين معنى غير المعنى المراد، وقد كانت لهم مقدرة ومراس في هذا.
وقريب من هذا ما ذكره المبرد في الكامل أن بعض الأزارقة أعاد بيت عمر ابن أبي ربيعة في مجلس بن عباس.
رأت رجلا أما إذا الشمس عارضت ... فيضحى وأما بالعشي فيحضر
فجعل يضحى يحزى وجعل يحضر يخسر بالسين ليشوه المعنى لأنه غضب من إقبال ابن عباس على سماع شعره. وفي الأحاجي والألغاز من هذا كقولهم: إن للآهي إلها فوقه فيقولها أحد بحضرة ناس ولا يشبع كسرة اللآهي يخالها السامع لله فيظنه كفر. أو لعلهم كانوا يقرؤون ما ليس من التوراة بالكيفيات أو اللحون التي كانوا يقرؤون بها التوراة ليخيلوا للسامعين أنهم يقرؤون التوراة.
ويحتمل أن يكون اللي هنا مجازا عن صرف المعنى إلى معنى آخر كقولهم: لوى الحجة أي ألقى بها على غير وجهها، وهو تحريف الكلم عن مواضعه: بالتأويلات الباطلة، والأقيسة الفاسدة، والموضوعات الكاذبة، وينسبون ذلك إلى الله، وأياما كان فهذا اللي يقصدون منه التمويه على المسلمين لغرض، كما فعل ابن صوريا في إخفاء

حكم رجم الزاني في التوراة وقوله: نحمم وجهه.
والمخاطب يتحسبوه المسلمين دون النبي صلى الله عليه وسلم، أو هو والمسلمون في ظن اليهود.
وجيء بالمضارع في هاته الفعال: يلوون، يقولون، للدلالة على تجدد ذلك وأنه دأبهم.
وتكرير الكتاب في الآية مرتين، واسم الجلالة أيضا مرتين، لقصد الاهتمام بالاسمين، وذلك يجر إلى الاهتمام بالخبر المتعلق بهما، والمتعلقين به، قال المرزوقي في شرح لا حماسة في باب الأدب عند قول يحيى بن زياد:
لما رأيت الشيب لاح بياضه ... بمفرق رأسي قلت للشيب مرحبا
كان الواجب أن يقول: قلي له مرحبا لكنهم يكررون الأعلام وأسماء الأجناس كثيرا والقصد بالتكرير التفخيم قلت ومنه قول الشاعر:
لا أرى الموت يسبق الموت شيء ... قهر الموت ذا الغنى والفقيرا
وقد تقدم تفصيل ذلك في سورة البقرة: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .
والقراءة المعرفة يلوون: بفتح التحتية وسكون اللام وتخفيف الواو مضارع لوى، وذكر ابن عطية أن أبا جعفر قرأه: يلوون بضم ففتح فواو مشددة مضارع لوى بوزن فعل للمبالغة ولم أر نسبة هذه القراءة إلى أبي جعفر في كتب القراءات.
{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ[79] وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [80].
اعتراض واستطراد: فإنه لما ذكر لي اليهود ألسنتهم بالتوراة، وهو ضرب من التحريف، استطرد بذكر التحريف الذي عند النصارى لمناسبة التشابه في التحريف إ تقول النصارى على المسيح أنه أمرهم بعبادته فالمراد بالبشر عيسى عليه السلام، والمقصود تنزيه عيسى عن أن يكون قال ذلك، ردا على النصارى، فيكون رجوعا إلى الغرض الذي في قوله: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ} إلى قوله: {بأنا مسلمون} [آل عمران: 64].

وفي الكشاف قيل نزلت لأن رجلا قال: يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك. قال: "لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله، ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله". قلت أخرجه عبد بن حميد عن الحسن، فعلى تقدير كونه حديثا مقبولا فمناسبة ذكر هذه الآية هنا أنها قصد منها الرد على جميع هذه المعتقدات. ووقع في أسباب النزول للواحدي من رواية الكلبي، عن ابن عباس: أن أبا رافع اليهودي والسيد من نصارى نجران قالا يا محمد أتريد أن نعبدك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "معاذ الله أن يعبد غير الله" ونزلت هذه الآية.
وقوله: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ} نفي لاستحقاق أحد لذلك القول واللام فيه للاستحقاق. وأصل هذا التركيب في الكلام ما كان فلان فاعلا كذا، فلما أريد المبالغة في النفي عدل عن نفي الفعل إلى نفي المصدر الدال على الجنس، وجعل نفي الجنس عن الشخص بواسطة نفي الاستحقاق إذ لا طريقة لحمل اسم ذات على اسم ذات إلا بواسطة بعض الحروف، فصار التركيب: ما كان له أن يفعل، ويقال أيضا: ليس له أن يفعل، ومثل ذلك في الإثبات كقوله تعالى {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى} [طه: 118].
فمعنى الآية: ليس قول: {كُونُوا عِبَاداً لِي} حقا لبشر أي بشر كان. وهذه اللام هي أصل لام الجحود التي نحو {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ} [الأنفال: 33]، فتراكيب لام الجحود كلها من قبيل قلب مثل هذا التركيب لقصد المبالغة في النفي، بحيث ينفى أن يكون وجود المسند إليه مجعولا لأجل فعل كذا، أي فهو بريء منه بأصل الخلقة ولذلك سميت جحودا.
والمنفي في ظاهر هذه الآية إيتاء الحكم والنبوءة، ولكن قد علم أن مصب النفي هو المعطوف من قوله: {ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي} أي ما كان له أن يقول كونوا عبادا لي إذا آتاه الله الكتاب الخ.
والعباد جمع عبد كالعبيد، وقال ابن عطية الذي استقريت في لفظ العباد أنه جمع عبد لا يقصد معه التحقير، والعبيد يقصد منه، ولذلك قال تعالى: {يا عبادي} وسمت العرب طوائف من العرب سكنوا الحيرة ودخلوا تحت حكم كسرى بالعباد، وقيل لأنهم تنصروا فسموهم بالعباد، بخلاف جمعه على عبيد كقولهم: هم عبيد العصا، وقال حمزة بن المطلب هل أنتم إلا عبيد لأبي ومنه قوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46]؛ لأنه تشفيق وإعلام بقلة مقدرتهم وانه تعالى ليس بظلام لهم مع ذلك، ولما

كان لفظة العباد تقتضي الطاعة لم تقع هنا، ولذلك آنس بها في قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الزمر: 53] فهذا النوع من النظر يسلك به سبل العجائب في ميزة فصاحة القرآن على الطريقة العربية السليمة اهـ.
وقوله: {من دون الله} قيد قصد منه تشنيع القول بأن يكونوا عباد للقائل بأن ذلك يقتضي أنهم انسلخوا عن العبودية لله تعالى إلى عبودية البشر، لأن حقيقة العبودية لا تقبل التجزئة لمعبودين، فإن النصارى لما جعلوا عيسى ربا لهم، وجعلوه ابنا لله، قد لزمهم أنهم انخلعوا عن عبودية الله فلا جدوى لقولهم: نحن عبيد الله وعبيد عيسى، فلذلك جعلت مقالتهم مقتضية أن عيسى أمرهم بأن يكونوا عبادا له من دون الله، والمعنى أن لآمر بأن يكون الناس عبادا له هو آمر بانصرافهم عن عبادة الله. {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} أي ولكن يقول كونوا منسوبين للرب، وهو الله تعالى، لأن النسب إلى الشيء إنما يكون لمزيد اختصاص المنسوب بالمنسوب إليه.
ومعنى أن يكونوا مخلصين لله دو ن غيره.
والرباني نسبة إلى الرب على غير قياس كما يقال اللحياني لعظيم اللحية، والشعراني لكثير الشعر.
وقوله: {بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ} أي لأن علمكم الكتاب من شأنه أن يصدكم عن إشراك العبادة، فإن فائدة العلم العمل.
وقرأ الجمهور: بما كنتم تعلمون بفتح الثناة الفوقية وسكون العين وفتح اللام مضارع علم، وقرأه عامر، و حمزة، وعاصم، والكسائي، وخلف: بضم ففتح فلام مشددة مكسورة مضارع علم المضاعف.
{وتدرسون} معناه تقرؤون أي قراءة بإعادة وتكرير: لأن مادة درس في كلام العرب تحوم حول معاني التأثر من تكرر عمل يعمل في أمثاله، فمنه قوله: درست الريح رسم الدار إذا عفته وأبلته، فهو دارس، يقال منزل دارس، والطريق الدارس العافي الذي لا يتبين. وثوب دارس خلق، وقالوا: درس الكتاب إذا قرأه بتمهل لحفظه، أو للتدبر، وفي الحديث "ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة" الخ رواه الترمذي فعطف التدارس على القراءة فعلم أن الدراسة أخص من القراءة. وسموا بيت قراءة اليهود مدراسا كما في الحديث: إن النبي صلى الله عليه وسلم خرج

في طائفة من أصحابه حتى أتى مدارس اليهود فقرا عليهم القرآن ودعاهم الخ. ومادة درس تستلزم التمكن من المفعول فلذلك صار درس الكتاب مجازا في فهمه وإتقانه ولذلك عطف في هذه الآية {وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} على {بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ} .
وفعله من باب نصر،ومصدره في غالب معانيه الدرس، ومصدر درس بمعنى قرأ يجيء على الأصل درسا ومنه سمي تعليم العلم درسا.
ويجيء على وزن الفعالة دراسة وهي زنة تدل على معالجة الفعل، مثل الكتابة والقراءة، إلحاقا لذلك بمصادر الصناعات كالتجارة والخياطة.
وفي قوله: {ولا يأمركم} التفات من الغيبة إلى الخطاب.
وقرأ الجمهور يأمركم بالرفع على ابتداء الكلام، وهذا الأصل فيما إذا أعيد حرف النفي، فإنه لما وقع بعد فعل منفي، ثم انتقض نفيه بلكن، احتيج إلى إعادة حرف النفي، والمعنى على هذه القراءة واضح: أي ما كان لبشر أن يقول للناس كونوا الخ ولا هو يأمرهم أن يتخذوا الملائكة أربابا. وقرأه ابن عامر، وحمزة، ويعقوب، وخلف: بالنصب عطفا على أن يقول ولا زائدة لتأكيد النفي الذي في قوله: {ما كان لبشر} وليست معمولة لأن: لاقتضاء ذلك أن يصير المعنى: لا ينبغي لبشر أوتي الكتاب ألا يأمركم أن تتخذوا، والمقصود عكس هذا المعنى، إذ المقصود هنا أنه لا ينبغي له أن يأمر، فلذلك أضطر في تخريج هذه القراءة إلى جعل لا زائدة لتأكيد النفي وليست لنفي جديد. وقرأه الدوري عن أبي عمرو باختلاس الضمة إلى السكون.
ولعل المقصود من قوله: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً} : أنهم لما بالغوا في تعظيم بعض الأنبياء والملائكة، فصوروا صور النبيين، مثل يحيى ومريم، وعبدوهما، وصوروا صور الملائكة، واقترن التصوير مع الغلو في تعظيم الصورة والتعبد عندها، ضرب من الوثنية.
قال ابن عرفة: إن قيل نفي الأمر أعم من النهي فهلا قيل وينهاكم. والجواب أن ذلك باعتبار دعواهم وتقولهم على الرسل. وأقول: لعل التعبير بلا يأمركم مشاكلة لقوله: {ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ} لأنهم زعموا أن المسيح قال: إنه ابن الله فلما نفي أنه يقول ذلك نفي ما هو مثله وهو أن يأمرهم باتخاذ الملائكة أربابا، أو لأنهم لما كانوا يدعون التمسك بالدين كان سائر أحوالهم محمولة على أنهم تلقوها منه، أو لأن المسيح لم ينههم عن

ذلك في نفس الأمر، إذ هذا مما لا يخطر بالبال أن تتلبس به أمة متدينة فاقتصر، في الرد على الأمة، على أن أنبياءهم لم يأمروهم به ولذلك عقب بالاستفهام الإنكاري، وبالظرف المفيد مزيد الإنكار على ارتكابهم هذه الحالة، وهي قوله {أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}.
فهنالك سببان لإنكار أن يكون ما هم عليه مرضيا أنبياءهم؛ فإنه كفر، وهم لا يرضون بالكفر. فما كان من حق من يتبعونهم التلبس بالكفر بعد أن خرجوا منه.
والخطاب في قوله {ولا يأمركم} التفات من طريقة الغيبة في قوله: {ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} فالمواجه بالخطاب هم الذين زعموا أن عيسى قال لهم: كونوا عبادا لي من دون الله.
فمعنى: {أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} يقتضي أنهم كانوا مسلمين والخطاب للنصارى وليس دينهم يطلق عليه أنه إسلام. فقيل: أريد بالإسلام الإيمان أي غير مشركين بقرينة قوله: {بالكفر}.
وقيل: الخطاب للمسلمين بناء على ظاهر قوله: {إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} لأن اليهود والنصارى لم يوصفوا بأنهم مسلمون في القرآن، فهذا الذي جرأ من قالوا: إن الآية نزلت لقول رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم ألا نسجد لك، ولا أراه لو كان صحيحا أن تكون الآية قاصدة إياه؛ لأنه لو أريد ذلك لقيل: ثم يأمر الناس بالسجود إليه، ولما عرج على الأمر بأن يكونوا عبادا له من دون الله ولا بان يتخذوا الملائكة والنبيين أربابا.
{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [81] فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [82].
عطف {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ} على {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ} [آل عمران: 80] أي ما أمركم الأنبياء بشيء مما تقولتم عليهم وقد أمروكم بغير ذلك فأضعنموه حين أخذ الله ميثاقهم ليبلغوه إليكم، فالمعطوف هو ظرف إذ وما تعلق به.
ويجوز أن يتعلق إذ بقوله: {أأقررتم} مقدما عليه، ويصح أن تجعل إذ بمعنى

زمان غير ظرف والتقدير: واذكر إذ أخذ الله ميثاق النبيين، فالمقصود الحكاية عن ذلك الزمان وما معه فيكون {قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ} معطوفا بحذف العاطف. كما هو الشأن في جمل المحاورة وكذلك قوله: {قَالُوا أَقْرَرْنَا} .
ويصح أن تكون جملة {قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ} وما بعدها بيانا لجملة أخذ الله ميثاق النبيين باعتبار ما يقتضيه فعل {أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} : من أن النبيين أعطوا ميثاقا لله فقال: أأقررتم قالوا: أقررنا الخ. ويكون قوله: {لما آتيناكم} إلى قوله {ولتنصرنه} هو صيغة الميثاق.
وهذا الميثاق أخذه الله على جميع الأنبياء، يؤذونهم فيه بأن رسولا يجيء مصدقا لما معهم، ويأمرهم بالإيمان به وبنصره، والمقصود من ذلك إعلام أممهم بذلك ليكون الميثاق محفوظا لدى سائر الأجيال، بدليل قوله: {فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ} الخ إذ لا يجوز على الأنبياء التولي والفسق ولكن المقصود أممهم كقوله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} . وبدليل قوله قال: {فاشهدوا} أي على أممكم. وإلى هذا يرجع ما ورد في القرآن من دعوة إبراهيم عليه السلام {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ} [البقرة: 129]، وقد جاء في سفر التثنية قول موسى عليه السلام قال لي الرب أقيم لهم نبيا منهم من وسط إخوتهم مثلك وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به. وإخوة بني إسرائيل هم بنو إسماعيل، ولو كان المراد نبيا إسرائيليا لقال أقيم لهم نبيا منهم على ما في ترجمة التوراة من غموض ولعل النص الأصلي أصلح من هذا المترجم.
والبشارات في كتب أنبياء بني إسرائيل وفي الإنجيل كثيرة ففي متى قول المسيح وتقوم أنبياء كذبة كثيرون ويضلون كثيرون ولكن الذي يصبر أي يبقى أخيرا إلى المنتهى فهذا يخلص ويكرز1 ببشارة الملكوت هذه في كل المسكونة شهادة لجميه الأمم ثم يأتي المنتهى وفي إنجيل يوحنا قول المسيح وأنا أطلب من الأب فيعطيكم معزيا أخر ليمكث معكم إلى الأبد وأما المعزي الروح القدس الذي سيرسله الرب باسمي فهو يعلمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم ومتى جاء المعزي روح الحق الذي من عند الأب ينبثق فهو يشهد لي إلى غير ذلك.
وفي أخذ العهد على الأنبياء زيادة تنويه برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا المعنى هو ظاهر
ـــــــ
1 وقعت كلمة يكرز في ترجمة إنجيل متى، ولعل معناها ويحسن تبليغ الدين

الآية، وبه فسر محقق والمفسرين من السلف منهم علي بن أبي طالب، وابن عباس، وطاووس، والسدي.
ومن العلماء من استبعد أن يكون أخذ العهد على الأنبياء حقيقة نظرا إلى قوله: {فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} توهموه متعينا لأن يكون المراد بمن تولى من النبيين المخاطبين، وستعلم أنه ليس كذلك فتأولوا الآية بأن المراد من أخذ العهد على أممهم، وسلكوا مسالك مختلفة من التأويل فمنهم من جعل إضافة الميثاق للنبيين إضافة تشبه إضافة المصدر إلى فاعله أي أخذ الله على الأمم ميثاق أنبياءهم منهم، ومنهم من قدر حذف المضاف أي أمم النبيين أو أولاد النبيين وإليه مال قول مجاهد والربيع، واحتجوا بقراءة أبي، وابن مسعود، وهذه الآية: وغذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لما آتيناكم من كتاب، ولم يقرأ ميثاق النبيئين، وزاد مجاهد فقال: إن قراءة أبي هي القرآن، وإن لفظ النبيين غلط من الكتاب، ورده ابن عطية وغيره بإجماع الصحابة والأمة على مصحف عثمان.
وقوله: {لما آتيناكم} قرأ الجمهور لما بفتح اللام وتخفيف الميم فاللام موطئة للقسم، ولأن أخذ الميثاق في معنى اليمين وما موصولة مبتدأ {وآتيناكم} صلته وحذف العائد المنصوب جرى على الغالب في مثله و من كتاب بيان للموصول وصلته، وعطف {ثم جاءكم} على {آتيناكم} أي الذي آتيناكموه وجاءكم بعده رسول. ولتؤمنن اللام فيه لام جواب القسم والجواب سد مسد خبر المبتدأ كما هو المعروف وضمير به عائد على الرسول وحذف ما يعود على ما آتيناكم لظهوره.
وقرأه حمزة: بكسر لام لما فتكون اللام للتعليل متعلقة بقوله: {لتؤمنن به} أي شكرا على ما آتيتكم وعلى أن بعثت إليكم رسولا مصدقا لما كنتم عليه من الدين ولا يضر عمل ما بعد لام القسم فيما قبلها فأخذ الميثاق عليهم مطلقا ثم علل جواب القسم بأنه من شكر نعمة الإيتاء والتصديق، ولا يصح من جهة المعنى تعليق {لما آتيناكم} بفعل القسم المحذوف، لأن الشكر علة للجواب، لا لأخذ العهد.
ولام {لتؤمنن} لام جواب القسم، على الوجه الأول، وموطئة للقسم على الوجه الثاني.

وقرأ نافع، وأبو جعفر: آتيناكم بنون العظمة وقرأه الباقون {آتيتكم} بتاء المتكلم.
وجملة قال: {أأقررتم} بدل اشتمال من جملة {أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} .
والإقرار هنا مستعمل في معنى التحقيق بالوفاء مما أخذ من الميثاق.
والإصر: بكسر الهمزة، العهد المؤكد الموثق واشتقاقه من الإصار بكسر الهمزة وهو ما يعقد ويسد به، وقد تقدم الكلام على حقيقته ومجازه في قوله تعالى: {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً} في سورة البقرة [286].
وقوله: {فاشهدوا} إن كان شهادة على أنفسهم فهي بمعنى التوثق والتحقيق وكذلك قوله: {وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} كقوله: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [آلا عمران: 18] وإن كانت شهادة على أممهم بذلك، والله شاهد على الجميع كما شهد النبيون على الأمم.
وقوله: {فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ} أي من تولى ممن شهدتم عليهم، وهم الأمم، ولذلك لم يقل فمن تولى بعد ذلك منكم كما قال في الآية التي خوطب فيها بنو إسرائيل في سورة المائدة {فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} .
ووجه الحصر في قوله: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} أنه للمبالغة لأن فسقهم في هذه الحالة أشد فسق فجعل غيره من الفسق كالعدم.
[83 ]{أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}
تفريع عن التذكير بما كان عليه الأنبياء.
والاستفهام للتوبيخ والتحذير.
وقرأه الجمهور {تبغون} بتاء خطاب لأهل الكتاب جار على طريقة الخطاب في قوله آنفا: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ} [آل عمران: 80] وقرأه أبو عمرو، وحفص، ويعقوب: بياء الغيبة فهو التفات من الخطاب إلى الغيبة، إعراضا عن مخاطبتهم إلى مخاطبة المسلمين بالتعجيب من أهل الكتاب. وكله تفريع ذكر أحوال خلف أولئك الأمم كيف اتبعوا غير ما أخذ عليهم العهد به. والاستفهام حينئذ للتعجيب.

ودين الله هو الإسلام لقوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} [آل عمران: 19] وإضافته إلى الله لتشريفه على غيره من الأديان، أو لأن غيره يومئذ قد نسخ بما هو دين الله.
ومعنى {تبغون} تطلبون يقال بغى الأمر يبغيه بغاء بضم الباء وبالمد، ويقصر والبغية بضم الباء وكسرها وهاء في آخره قيل مصدر، وقيل اسم، ويقال ابتغى بمعنى بغى، وهو موضوع للطلب ويتعدى إلى مفعول واحد. وقياس مصدره البغي، لكنه لم يسمع البغي إلا في معنى الاعتداء والجور، وذلك فعله قاصر، ولعلهم أرادوا التفرقة بين الطلب وبين الاعتداء، فأماتوا المصدر القياسي لبغى بمعنى طلب وخصوه ببغى بمعنى اعتدى وظلم: قال تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الشورى: 42] ويقال تبغى بمعنى ابتغى.
وجملة {وله أسلم} حال من اسم الجلالة وتقدم تفسير معنى الإسلام لله عند قوله تعالى: {فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ} [آل عمران: 20].
ومعنى: {طَوْعاً وَكَرْهاً} أن من العقلاء من أسلم عن اختيار لظهور الحق له، ومنهم من أسلم بالجبلة والفطرة كالملائكة، أو الإسلام كرها هو الإسلام بعد الامتناع أي أكرهته الأدلة والآيات أو هو إسلام الكافرين عند الموت ورؤية سوء العاقبة، أو هو الإكراه على الإسلام قبل نزول آية لا إكراه في الدين.
والكره بفتح الكاف هو الإكراه، والكره بضم الكاف المكروه.
ومعنى: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أنه يرجعكم إليه ففعل رجع: المتعدي أسند إلى المجهول لظهور فاعله، أي يرجعكم الله بعد الموت، وعند القيامة، ومناسبة ذكر هذا، عقب التوبيخ والتحذير، أن الرب الذي لا مفر من حكمه لا يجوز للعاقل أن يعدل عن دين أمره به، وحقه أن يسلم إليه نفسه مختارا قبل أن يسلمها اضطرارا.
وقد دل قوله: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} على المراد من قوله: {وكرها}.
وقرأ الجمهور: {إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} بتاء المخاطبة، وقرأه حفص بياء الغيبة.
{قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إبراهيم وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ

وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [84]
المخاطب بفعل قل هو النبي صلى الله عليه وسلم، ليقول ذلك بمسمع من الناس: مسلمهم، وكافرهم، ولذلك جاء في هذه الآية قوله: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} أي أنزل علي لتبليغكم فجعل إنزاله على الرسول والأمة لاشتراكهم في وجوب العمل بما أنزل، وعدى فعل أنزل هنا بحرف على باعتبار أن الإنزال يقتضي علوا فوصول الشيء المنزل وصول استعلاء وعدي في آية سورة البقرة بحرف إلى باعتبار أن الإنزال يتضمن الوصول وهو يتعدى بحرف إلى. والجملة اعتراض، واستئناف: لتلقين النبي عليه السلام والمسلمين كلاما جامعا لمعنى الإسلام ليدوموا عليه، ويعلن به للأمم، نشأ عن قوله: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} [آل عمران: 83].
ومعنى: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} أننا لا نعادي الأنبياء، ولا يحملنا حب نبينا على كراهتهم، وهذا تعريض باليهود والنصارى، وحذف المعطوف وتقديره لا نفرق بين أحد وآخر، وتقدم نظير هذه الآية في سورة البقرة. وهذه الآية شعار الإسلام وقد قال الله تعالى: {وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ} [آل عمران: 119].
وهنا انتهت المجادلة مع نصارى نجران.
{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الخاسِرِينَ} [85].
عطف على جملة {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} وما بينهما اعتراض، كما علمت، وهذا تأييس لأهل الكتاب من النجاة في الآخرة، ورد لقولهم: نحن على ملة إبراهيم، فنحن ناجون على كل حال. والمعنى من يبتغ غير الإسلام بعد مجيء الإسلام. وقرأه الجميع بإظهار حرفي الغين من كلمة {من يبتغ} وكلمة {غير} وروى السوسي عن أبي عمرو إدغام إحداهما في الأخرى وهو الإدغام الكبير.
{كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [86].
استئناف ابتدائي يناسب ما سبقه من التنويه بشرف الإسلام.
وكيف استفهام إنكاري والمقصود إنكار أن تحصل لهم هداية خاصة وهي إما

الهداية الناشئة عن عناية الله بالعبد ولطفه به، وإسنادها إلى الله ظاهر؛ وإما الهداية الناشئة عن إعمال الأدلة والاستنتاج منها، وإسنادها إلى الله لأنه موجد الأسباب ومسبباتها. ويجوز أن يكون الاستفهام مستعملا في الاستبعاد، فإنهم آمنوا وعلموا ما في كتب الله، ثم كفروا بعد ذلك بأنبيائهم، إذ عبد اليهود الأصنام غير مرة، وعبد النصارى المسيح، وقد شهدوا أن محمدا صادق لقيام دلائل الصدق، ثم كابروا، وشككوا الناس. وجاءتهم الآيات فلم يتعظوا، فلا مطمع في هديهم بعد هذه الأحوال، وإنما تسري الهداية لمن أنصف وتهيأ لإدراك الآيات دون القوم الذين ظلموا أنفسهم. وقيل نزلت في اليهود خاصة. وقيل نزلت في جماعة من العرب أسلموا ثم كفروا ولحقوا بقريش ثم ندموا فراسلوا قومهم من المسلمين يسألونهم هل من توبة فنزلت، ومنهم الحارث بن سويد، وأبو عامر الراهب، وطعيمة بن أبيرق.
وقوله: {وشهدوا} عطف على {إيمانهم} أي وشهادتهم، لأن الاسم الشبيه بالفعل في الاشتقاق يحسن عطفه على الفعل وعطف الفعل عليه.
[87، 89]{ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ} .
الإشارة للتنبيه على أنهم أحرياء بما يرد بعد اسم الإشارة من الحكم عليهم. وتقدم معنى: {لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ} إلى قوله: {أجمعين} في سورة البقرة [161]. وتقدم أيضا معنى: {إِلَّا الَّذِينَ وَأَصْلَحُوا} في سورة البقرة [160]، ومعنى: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} الكناية عن المغفرة لهم. قيل نزلت في الحارث بن سويد الأنصاري من بني عمرو بن عوف الذي ارتد ولحق بقريش وقيل بنصارى الشام، ثم كتب إلى قومه ليسألهم هل من توبة، فسألوا رسول الله فنزلت هذه الآية فأسلم ورجع إلى المدينة وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} علة لكلام محذوف تقديره الله يغفر لهم لأنه غفور رحيم.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ} [90]
قال قتادة، وعطاء، والحسن: نزلت هذه الآية في اليهود، وعليه فالموصول بمعنى لام العهد، فاليهود بعد أن آمنوا بموسى كفروا بعيسى وازدادوا كفرا بمحمد صلى الله عليه وسلم.

وقيل أريد به اليهود والنصارى: فاليهود كما علمت، والنصارى آمنوا بعيسى ثم كفروا فعبدوه وألهوه ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلى الله عليه وسلم.
وتأويل {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} إما انه كناية عن أنهم لا يتوبون فتقبل توبتهم كقوله تعالى: {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} [البقرة: 48] أي لا شفاعة لها فتقبل وهذا كقول امرئ القيس.
على لاحب لا يهتدى بمناره
أي لا منار له، إذ قد علم من الأدلة أن التوبة مقبولة ودليله الحصر المقصود به المبالغة في قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ} . وإما أن الله نهى نبيه عن الاغترار بما يظهرونه من الإسلام نفاقا، فالمراد بعدم القبول عدم تصديقهم في إيمانهم، وإما الإخبار بأن الكفر قد رسخ في قلوبهم فصار لهم سجية لا يحولون عنها، فإذا أظهروا التوبة فهم كاذبون، فيكون عدم القبول بمعنى عدم الاطمئنان لهم، وأسرارهم موكولة إلى الله تعالى. وقد أسلم بعض اليهود قبل نزول الآية: مثل عبد الله بن سلام، فلا إشكال فيه، وأسلم بعضهم بعد نزول الآية.
وقيل المراد الذين ارتدوا من المسلمين وماتوا على الكفر، فالمراد بالازدياد الاستمرار وعدم الإقلاع. والقول في معنى لن تقبل توبتهم كما تقدم. وعليه يكون قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا} توكيدا لفظيا بالمرادف، وليبنى عليه التفريع بقوله: {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلءُ الْأَرْضِ ذَهَباً} وأياما كان فتأويل الآية متعين: لأن ظاهرها تعارضه الأدلة القاطعة على أن إسلام الكافر مقبول. ولو تكرر منه الكفر، وأن توبة العصاة مقبولة، ولو وقع نقضها على أصح الأقوال وسيجيء مثل هذه الآية في سورة النساء [137] وهو قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً} .
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [91].
استئناف لبيان حال الكافرين الذين ماتوا على كفرهم، نشأ عن حكم فريق من الكفار تكرر منهم الكفر حتى رسخ فيهم وصار لهم ديدنا. وإن كان المراد في الآية السابقة من الذين ازدادوا كفرا الذين ماتوا على الكفر، كانت هذه الآية كالتوكيد اللفظي للأولى

أعيدت ليبنى عليها قوله: {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلءُ الْأَرْضِ ذَهَباً} . وأيا ما كان فالمراد بالموصول هنا العموم مثل المعرف بلام الاستغراق.
والفاء في قوله: {فلن يقبل} مؤذنة بمعاملة الموصول معاملة اسم الشرط ليدل على أن الصلة هي علة عدم قبول التوبة، ولذلك لم يقترن خبر الموصول بالفاء في الجملة التي قبلها: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} [آل عمران: 90] لأنهم إذا فعلوا ذلك ولم يموتوا كافرين قبلت توبتهم، بخلاف الذين يموتون على الكفر فسبب عدم قبول التوبة منهم مصرح به، وعليه فجملة فلن يقبل من أحدهم إلى آخرها في موضع خبر إن وجملة {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} مستأنفة استئنافا بيانيا ناشئا عن الإخبار بأنه لن يقبل من أحدهم فدية ويجوز أن تكون جملة {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ} إلى آخرها معترضة بين اسم إن وخبرها مقترنة بالفاء كالتي في قوله تعالى: {ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ} [الأنفال: 14] وتكون جملة {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} خبر إن.
ومعنى {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلءُ الْأَرْضِ ذَهَباً} لن يقبل منهم بشيء يفتدون به في الآخرة لظهور أن ليس المراد نفي قبول الافتداء في الدنيا. ضرورة أنهم وصفوا بأنهم ماتوا وهم كفار. والملء بكسر الميم ما يملأ وعاء، وملء الأرض في كلامهم كناية عن الكثرة المتعذرة، لأن الأرض لا يملؤها شيء من الموجودات المقدرة، وهذا كقولهم عدد رمال الدهناء، وعدد الحصى، وميز هذا المقدار بذهبا لعزة الذهب وتنافس الناس في اقتنائه وقبول حاجة من بذله قال الحريري:
وقارنت نجح المساعي خطرته
وقوله: {وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} جملة في موقع الحال، والواو واو الحال، أي لا يقبل منهم ولو في حال فرض الافتداء به، وحرف لو للشرط وحذف جوابه لدلالة ما قبله عليه، ومثل هذا الاستعمال شائع في كلام العرب، ولكثرته قال كثير من النحاة: إن لو وإن الشرطيتين في مثله مجردتان عن معنى الشرط لا يقصد بهما إلا المبالغة، ولقبوهما بالوصليتين: أي أنهما لمجرد الوصل والربط في مقام التأكيد. وترددوا أيضا في إعراب الجملة الواقعة هذا الموقع، وفي الواو المقترنة بها، والمحققون على أنها واو الحال وإليه مال الزمخشري، وابن جني، والمرزوقي. ومن النحاة من جعل الواو عاطفة على شرط محذوف هو ضد الشرط المذكور: كقوله تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135]. ومن النحاة من جعل الواو للاستئناف، ذكره الرضي رادا

عليه، وليس حقيقا بالرد: فإن للاستئناف البياني موقعا مع هذه الواو.
هذا وإن مواقع هذه الواو تؤذن بأن الشرط الذي بعدها شرط مفروض هو غاية ما يتوقع معه انتفاء الحكم الذي قبلها، فيذكره المتكلم لقصد تحقق الحكم في سائر الأحوال كقول عمرو بن معد يكرب:
ليس الجمال بمئزر ... فاعلم وإن رديت بردا
ولذاك جرت عادة النحاة أن يقدروا قبلها شرطا هو نقيض الشرط الذي بعدها فيقولون في مثل قوله: وإن رديت بردا إن لم ترد بردا بل وإن رديت بردا وكذا قول النابغة:
سأكعم كلبي أن يريبك نبحه ... ولو كنت أرعى مسحلان فحامرا
ولأجل ذلك، ورد إشكال على هذه الآية: لأن ما بعد {ولو} فيها هو عين ما قبلها، إذ الافتداء هو عين بذل ملء الأرض ذهبا، فلا يستقيم تقدير إن لم يفتد به بل ولو افتدى به، ولذلك احتاج المفسرون إلى تأويلات في هذه الآية: فقال الزجاج المعنى لن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ينفقه في الدنيا ولو افتدى به في الآخرة، أي لا يفديهم من العذاب، وهذا الوجه بعيد، إذ لا يقدر أن في الآخرة افتداء حتى يبالغ عليه، وقال قوم: الواو زائدة، وقال في الكشاف : هو محمول على المعنى كأنه قيل: فلن تقبل من أحدهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهبا، يريد أن كلمة ملء الأرض في قوة كلمة فدية واختصر بعد ذلك بالضمير، قال ويجوز أن يقدر كلمة مثل، قبل الضمير المجرور: أي ولو افتدى بمثله أي ولو زاد ضعفه كقوله: {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ} [الزمر: 47].
وعندي أن موقع هذا الشرط في الآية جار على استعمال غفل أهل العربية عن ذكره وهو أن يقع الشرط استئنافا بيانيا جوابا لسؤال، محقق أو مقدر، يتوهمه المتكلم من المخاطب فيريد تقديره، فلا يقتضي أن شرطها هو غاية للحكم المذكور قبله، بل قد يكون كذلك، وقد يكون السؤال مجرد استغراب من الحكم فيقع بإعادة ما تضمنه الحكم تثبيتا على المتكلم على حد قولهم: ادر ما تقول فيجيب المتكلم بإعادة السؤال تقريرا له وإيذانا بأنه تكلم عن بينة، نعم إن الغالب أن يكون السؤال عن الغاية وذلك كقول رؤبة، وهو من شواهد هذا:

قالت بنات العم يا سلمى وإن ... كان فقيرا معدما قالت وإن
وقد يحذف السؤال ويبقى الجواب كقول كعب بن زهير:
لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم ... أذنب وإن كثرت في الأوقاويل
وقد يذكر السؤال ولا يذكر الجواب كقوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ} [الزمر: 43] فلو ذكر الجواب من قبل المشركين لأجابوا بتقرير ذلك.
فقوله: {وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} جواب سؤال متعجب من الحكم وهو قوله: {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ} فكأنه قال ولو افتدى به فأجيب بتقرير ذلك على حد بيت كعب. فمفاد هذا الشرط حينئذ مجرد التأكيد.
ويجوز أن يكون الشرط عطفا على محذوف دل عليه افتدى: أي لن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا يجعله رهينة. ولو بذله فدية، لأن من عادة العرب أن المطلوب بحق قد يعطي فيه رهنا إلى أن يقع الصلح أو العفو، وكذلك في الديون، وكانوا إذا تعاهدوا على صلح أعطت القبائل رهائن منهم كما قال الحارث:
واذكروا حلف ذي المجاز وما قدم ... فيه العهود والكفلاء
ووقع في حديث أبي رافع اليهودي أن محمد بن مسلمة قال لأبي رافع نرهنك السلاح واللامة.
وجملة {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} فذلكة للمراد من قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} [آل عمران: 90] الآيتين.
وقوله: {وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} تكميل لنفي أحوال الغناء عنهم وذلك أن المأخوذ بشيء قد يعطي فدية من مال، وقد يكفله من يوثق بكفالتهم، أو يشفع له من هو مسموع الكلمة، وكل من الكفيل والشفيع ناصر.
{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [92].
استئناف وقع معترضا بين جملة: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ} [آل عمران: 91] الآية، وبين جملة {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ} [آل عمران: 93].

وافتتاح الكلام ببيان بعض وسائل البر إيذان بأن شرائع الإسلام تدور على محور البر، وأن البر معنى نفساني عظيم لا يخرم حقيقته إلا ما يفضي إلى نقض أصل من أصول الاستقامة النفسانية، فالمقصود من هذه الآية أمران: أولهما التحريض على الإنفاق والتنويه بأنه من البر، وثانيهما التنويه بالبر الذي الإنفاق خصلة من خصاله.
ومناسبة موقع هذه الآية تلو سابقتها أن الآية السابقة لما بينت أن الذين كفروا لن يقبل من أحدهم أعظم ما ينفقه، بينت هذه الآية ما ينفع أهل الإيمان من بذل المال، وأنه يبلغ بصاحبه مرتبة البر، فبين الطرفين مراتب كثيرة قد علمها الفطناء من هذه المقابلة. والخطاب للمؤمنين لأنهم المقصود من كل خطاب لم يتقدم قبله ما يعين المقصود منه.
والبر كمال الخير وشموله في نوعه: إذ الخير قد يعظم بالكيفية، وبالكمية، وبهما معا، فبذل النفس في نصر الدين يعظم بالكيفية في ملاقاة العدو الكثير بالعدد القليل، وكذلك إنقاذ الغريق في حالة هول البحر، ولا يتصور في ذلك تعدد، وإطعام الجائع يعظم بالتعدد، والإنفاق يعظم بالأمرين جميعا، والجزاء على فعل الخير إذا بلغ كمال الجزاء وشموله كان برا أيضا.
وروى النواس بن سمعان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "البر حسن الخلق والإثم ما حاك في النفس وكرهت أن يطلع عليه الناس" رواه مسلم.
ومقابلة البر بالإثم تدل على أن البر ضد الإثم. وتقدم عند قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [البقرة: 177]
وقد جعل الإنفاق من نفس المال المحب غاية لانتفاء نوال البر، ومقتضى الغاية أن نوال البر لا يحصل بدونها، وهو مشعر بأن قبل الإنفاق مسافات معنوية في الطريق الموصلة إلى البر، وتلك هي خصال البر كلها، بقيت غير مسلوكة، وإن البر لا يحصل إلا بنهايتها وهو الإنفاق من المحبوب، فظهر لحتى هنا موقع من البلاغة لا يخلفها فيه غيرها: لأنه لو قيل إلا أن تنفقوا مما تحبون، لتوهم السامع أن الإنفاق من المحب وحده يوجب نوال البر، وفاتت الدلالة على المسافات والدرجات التي أشعرت بها حتى الغائية.
وتنالوا مشتق من النوال وهو التحصيل على الشيء المعطى.
والتعريف في البر تعريف الجنس: لأن هذا الجنس مركب من أفعال كثيرة منها

الإنفاق المخصوص، فبدونه لا تتحقق هذه الحقيقة.
والإنفاق: إعطاء المال والقوت والكسوة.
وما صدق ما في قوله: {مما تحبون} المال: أي المال النفيس العزيز على النفس، وسوغ هذا الإبهام هنا وجود تنفقوا إذ الإنفاق لا يطلق على غير بذل المال فمن للتبعيض لا غير، ومن جوز أن تكون من للتبيين فقد سها لأن التبيينية لا بد أن تسبق بلفظ مبهم.
والمال المحبوب يختلف باختلاف أحوال المتصدقين، ورغباتهم، وسعة ثرواتهم، والإنفاق منه أي التصدق دليل على سخاء لوجه الله تعالى، وفي ذلك تزكية للنفس من بقية ما فيها من الشح، قال تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] وفي ذلك صلاح عظيم للأمة إذ تجود أغنياؤها على فقرائها بما تطمح إليه نفوسهم من نفائس الأموال فتشتد بذلك أواصر الأخوة، ويهنأ عيش الجميع.
روى مالك في الموطأ ، عن أنس بن مالك، قال: كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة مالا، وكان أحب أمواله بئر حاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، فلما نزل قوله: تعالى {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} جاء أبو طلحة، فقال: يا رسول الله إن الله قال: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} ، وإن أحب أموالي بئر حاء وإنها صدقة لله وأرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، فقال: النبي صلى الله عليه وسلم "فبخ1 ذلك مال رابح، ذلك مال رابح"، وقد سمعت ما قلت وإني أرى أن تجعلها في الأقربين، فقال: أفعل يا رسول الله. فجعلها لحسان بن ثابت، وأبي بن كعب.
وقد بين الله خصال البر في قوله: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} في سورة البقرة [177].
ـــــــ
1 في رواية يحيى بن يحيى عن مالك فبخ بفاء الباء الموحدة ووقع في رواية عبد الله بن يوسف عن مالك في صحيح البخاري بخ بدون الفاء.

فالبر هو الوفاء بما جاء به الإسلام مما يعرض للمرء في أفعاله، وقد جمع الله بينه وبين التقوى في قوله: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] فقابل البر بالإثم كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث النواس بن سمعان المتقدم آنفا.
وقوله: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} تذييل قصد به تعميم أنواع الإنفاق، وتبيين أن الله لا يخفى عليه شيء من مقاصد المنفقين، وقد يكون الشيء القليل نفيسا بحسب حال صاحبه كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} [التوبة: 79].
وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} مراد به صريحه أي يطلع على مقدار وقعه مما رغب فيه، ومراد به الكناية عن الجزاء عليه.
{كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [93] فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [94] قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إبراهيم حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [95].
هذا يرتبط بالآي السابقة في قوله تعالى: {مَا كَانَ إبراهيم يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً} [آل عمران: 67] وما بينهما اعتراضات وانتقالات في فنون الخطاب.
وهذه حجة جزئية بعد الحجج الأصلية على أن دين اليهودية ليس من الحنيفية في شيء، فإن الحنيفية لم يكن ما حرم من الطعام بنص التوراة محرما فيها، ولذلك كان بنوا إسرائيل قبل التوراة على شريعة إبراهيم، فلم يكن محرما عليهم ما حرم من الطعام إلا طعاما حرمه يعقوب على نفسه. والحجة ظاهرة ويدل لهذا الارتباط قوله في آخرها: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إبراهيم حَنِيفاً} [آل عمران: 95].
ويحتمل أن اليهود مع ذلك طعنوا في الإسلام، وأنه لم يكن على شريعة إبراهيم، إذ أباح للمسلمين أكل المحرمات على اليهود، جهلا منهم بتاريخ تشريعهم، أو تضليلا من أحبارهم لعامتهم، تنفيرا عن الإسلام، لأن الأمم في سذاجتهم إنما يتعلقون بالمألوفات، فيعدونها كالحقائق، ويقيمونها ميزانا للقبول والنقد، فبين لهم أن هذا مما لا يلتفت إليه عند النظر في بقية الأديان، وحسبكم أن دينا عظيما وهو دين إبراهيم، وزمرة من الأنبياء من بنيه وحفدته، لم يكونوا يحرمون ذلك.

وتعريف الطعام تعريف الجنس. وكل للتنصيص على العموم.
وقد استدل القرآن عليهم بهذا الحكم لأنه أصرح ما في التوراة دلالة على وقوع النسخ فإن التوراة ذكرت في سفر التكوين ما يدل على أن يعقوب حرم على نفسه أكل عرق النسا الذي على الفخذ، وقد قيل: إنه حرم على نفسه لحوم الإبل وألبانها، فقيل: إن ذلك على وجه النذر، وقيل: إن الأطباء نهوه عن أكل ما فيه عرق النسا لأنه كان مبتلى بوجع نساه، وفي الحديث أن يعقوب كان في البدو فلم تستقم عافيته بأكل اللحم الذي فيه النسا. وما حرمه يعقوب على نفسه من الطعام: ظاهر الآية أنه لم يكن ذلك بوحي من الله إليه، بل من تلقاء نفسه، فبعضه أراد به تقربا إلى الله بحرمان نفسه من بعض الطيبات المشتهاة، وهذا من جهاد النفس، وهو من مقامات الزاهدين، وكان تحرم ذلك على نفسه بالنذر أو بالعزم. وليس في ذلك دليل على جواز الاجتهاد للأنبياء في التشريع لأن هذا من تصرفه في نفسه فيما أبيح له، ولم يدع إليه غيره، ولعل أبناء يعقوب تأسوا بأبيهم فيما حرمه على نفسه فاستمر ذلك فيهم.
وقوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ} تصريح بمحل الحجة من الرد إذ المقصود تنبيههم على ما تناسوه فنزلوا منزلة الجاهل بكون يعقوب كان قبل موسى، وقال العصام: يتعلق قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ} بقوله: {حلا} لئلا يلزم خلوه عن الفائدة، وهو غير مجد لأنه لما تأخر عن الاستثناء من قوله: {حلا} وتبين من الاستثناء أن الكلام على زمن يعقوب، صار ذكر القيد لغوا لو لا تنزيلهم منزلة الجاهل، وقصد إعلان التسجيل بخطئهم والتعريض بغباوتهم.
وقوله: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أي في زعمكم أن الأمر ليس كما قلناه أو إن كنتم صادقين في جميع ما تقدم: من قولكم إن إبراهيم كان على دين اليهودية، وهو أمر للتعجيز، إذ قد علم أنهم لا يأتون بها إذا استدلوا على الصدق.
والفاء في قوله: {فأتوا} فاء التفريع.
وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} شرط حذف جوابه لدلالة التفريع الذي قبله عليه. والتقدير: إن كنتم صادقين فأتوا بالتوراة.
وقوله: {فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} نهاية لتسجيل كذبهم أي من استمر على الكذب على الله، أي فمن افترى منكم بعد أن جعلنا

التوراة فيصلا بيننا، إذ لم يبق لهم ما يستطيعون أن يدعوه شبهة لهم في الاختلاق، وجعل الافتراء على الله لتعلقه بدين الله. والفاء للتفريع على الأمر.
والافتراء: الكذب، وهو مرادف الاختلاق. والافتراء مأخوذ من الفري، وهو قطع الجلد قطعا ليصلح به مثل أن يحذي النعل ويصنع النطع أو القربة. وافترى افتعال من فرى لعله لإفادة المبالغة في الفري، يقال: افترى الجلد كأنه اشتد في تقطيعه أو قطعه تقطيع إفساد، وهو أكثر إطلاق افترى. فأطلقوا على الإخبار عن شيء بأنه وقع ولم يقع اسم الافتراء بمعنى الكذب، كأن أصله كناية عن الكذب وتلميح، شاع ذلك حتى صار مرادفا للكذب، ونظيره إطلاق اسم الاختلاق على الكذب، فالافتراء مرادف للكذب، وإردافه بقوله هنا الكذب تأكيد للافتراء، وتكررت نظائر هذا الإرداف في آيات كثيرة.
فانتصب الكذب على المفعول المطلق المؤكد لفعله. واللام في الكذب لتعريف الجنس فهو كقوله: {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} [سبأ: 8].
والكذب: الخبر المخالف لما هو حاصل في نفس الأمر من غير نظر إلى كون الخبر موافقا لاعتقاد المخبر أو هو على خلاف ما يعتقده، ولكنه إذا اجتمع في الخبر المخالفة للواقع والمخالفة لاعتقاد المخبر كان ذلك مذموما ومسبة؛ وإن كان معتقدا وقوعه لشبهة أو سوء تأمل فهو مذموم ولكنه لا يحقر المخبر به، والأكثر في كلام العرب أن يعنى بالكذب ما هو مذموم.
ثم أعلن أن المتعين في جانبه الصدق هو خبر الله تعالى للجزم بأنهم لا يأتون بالتوراة، وهذا كقوله: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً} [البقرة: 95] وبعد أن فرغ من إعلان كذبهم بالحجة القاطعة قال: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ} وهو تعريض بكذبهم لان صدق أحد الخبرين المتنافيين يستلزم كذب الآخر، فهو مستعمل في معناه الأصلي والكنائي.
والتفريع في قوله: {فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إبراهيم حَنِيفاً} تفريع على {صَدَقَ اللَّهُ} لان اتباع الصادق فيما أمر به منجاة من الخطر.
{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ[96] فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إبراهيم وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [97].

{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ[96] فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إبراهيم وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} .
هذا الكلام واقع موقع التعليل للأمر في قوله: {فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إبراهيم حَنِيفاً} [آل عمران: 95] لأن هذا البيت المنوه بشأنه كان مقاما لإبراهيم ففضائل هذا البيت تحقق فضيلة شرع بانيه في متعارف الناس، فهذا الاستدلال خطابي، وهو أيضا إخبار بفضيلة الكعبة وحرمتها فيما مضى من الزمان.
وقد آذن بكون الكلام تعليلا موقع إن في أوله فإن التأكيد بإن هنا لمجرد الاهتمام وليس لرد إنكار منكر، أو شك شاك.
ومن خصائص إن إذا وردت في الكلام لمجرد الاهتمام، أن تغني غناء فاء التفريع وتفيد التعليل والربط، كما في دلائل الإعجاز.
ولما في هذه من إفادة الربط استغني عن العطف لكون إن مؤذنة بالربط. وبيان وجه التعليل أن هذا البيت لما كان أول بيت وضع للهدى وإعلان توحيد الله ليكون علما مشهودا بالحس على معنى الوحدانية ونفي الإشراك، فقد كان جامعا لدلائل الحنيفية، فاذا ثبت له شرف الأولية ودوام الحرمة على ممر العصور، دون غيره من الهياكل الدينية التي نشأت بعده، وهو ماثل، كان ذلك دلالة إلهية على أنه بمحل العناية من الله تعالى، فدل على أن الدين الذي قارن إقامته هو الدين المراد لله، وهذا يؤول إلى معنى قوله: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} [آل عمران: 19].
وهذا التعليل خطابي جار على طريقة اللزوم العرفي.
وقال الواحدي، عن مجاهد: تفاخر المسلمون واليهود، فقالت اليهود: بيت المقدس أفضل وأعظم من الكعبة لأنه مهاجر الأنبياء وفي الأرض المقدسة. وقال المسلمون: بل الكعبة أفضل. فأنزل الله هذه الآية.
و {أول} اسم للسابق في فعل ما فإذا أضيف إلى اسم جنس فهو السابق من جنس ذلك المضاف إليه في الشأن المتحدث عنه.
والبيت بناء يأوي واحدا أو جماعة، فيكون بيت سكنى، وبيت صلاة، وبيت ندوة، ويكون مبنيا من حجر أو من أثواب نسيج شعر أو صوف، ويكون من أدم فيسمى قبة قال تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتاً} [النحل: 81].

ومعنى {وضع} أسس وأثبت، ومنه سمي المكان موضعا، وأصل الوضع أنه الحط ضد الرفع، ولما كان الشيء المرفوع لمعنى الإدناء للمتناول، والتهيئة للانتفاع.
والناس تقدم في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} في سورة البقرة [8].
و {بكة} اسم مكة. وهو لغة بإبدال الميم باء في كلمات كثيرة عدت من المترادف: مثل لازب في لازم، وأربد وأرمد أي في لون لرماد، وفي سماع ابن القاسم من العتبية عن مالك: أن بكة بالباء اسم موضع البيت، وأن مكة بالميم اسم بقية الموضوع، فتكون باء الجر هنا لظرفية مكان البيت خاصة. لا لسائر البلد الذي فيه البيت، والظاهر عندي أن بكة اسم بمعنى البلدة وضعه إبراهيم علما على المكان الذي عينه لسكنى ولده بنية أن يكون بلدا، فيكون أصله من اللغة الكلدانية، لغة إبراهيم، ألا ترى أنهم سموا مدينة بعلبك أي بلد بعل وهو معبود الكلدانيين، ومن أعجاز القرآن هذا اللفظ عند ذكر كونه أول بيت، فلاحظ أيضا الاسم الأول، ويؤيد قوله: {رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ} [النمل: 91] وقوله: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً} [إبراهيم: 35]. وقد قيل: إن بكة مشتق من البك وهو الازدحام، ولا أحسب قصد ذلك لواضع الاسم.
وعدل عن تعريف البيت باسمه العلم بالغلبة، وهو الكعبة، إلي تعريفه بالموصولية بأنه الذي ببكة: لان هذه الصلة صارت أشهر في تعينه عند السامعين، إذ ليس في مكة يومئذ بيت للعبادة غيره، بخلاف اسم الكعبة: فقد أطلق اسم الكعبة على القليس الذي بناه الحبشة في صنعاء لدين النصرانية ولقبوه الكعبة اليمانية.
والمقصود إثبات سبق الكعبة في الوجود قبل بيوت أخر من نوعها. وظاهر الآية ان الكعبة أول البيوت المبنية في الأرض، فتمسك بهذا الظاهر مجاهد، وقتادة، والسدي، وجماعة، فقالوا: هي أول بناء، وقالوا: أنها كانت مبنية من عهد آدم عليه السلام ثم درست، فجددها إبراهيم، قال ابن عطية: ورويت في هذا أقاصيص أسانيدها ضعاف فلذلك تركتها، وقد زعموا أنها كانت تسمى الضراح بوزن غراب ولكن المحققين وجمهور أهل العلم لم يأخذوا بهذا الظاهر، وتأولوا الآية. قال علي رضي الله عنه كان قبل البيت بيوت كثيرة ولا شك أن الكعبة بناها إبراهيم وقد تعدد في القرآن ذكر ذلك، ولو كانت من بناء الأنبياء قبله لزيد ذكر ذلك زيادة في التنويه بشأنها، وإذا كان

كذلك فلا يجوز أن يكون أول بناء وقع في الأرض كان في عهد إبراهيم، لان قبل إبراهيم أمما وعصورا كان فيها البناء، وأشهر ذلك برج بابل، بنى اثر الطوفان، وما بناه المصريون قبل عهد إبراهيم، وما بناه الكلدان في بلد إبراهيم قبل رحلته إلى مصر، ومن ذلك بيت أصنامهم، وذلك قبل أن تصير إليه هاجر التي أهداها له ملك مصر، وقد حكى القرآن عنهم {قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ} [الصافات: 97] فتعين تأويل الآية بوجه ظاهر، وقد سلك العلماء مسالك فيه: وهي راجعة إلى تأويل الأول، أو تأويل البيت، أو تأويل فعل وضع، أو تأويل الناس، أو تأويل نظم الآية. والذي أراه في التأويل أن القرآن كتاب دين وهدى، فليس غرض الكلام فيه ضبط أوائل التاريخ، ولكن أوائل أسباب الهدى، فالأولية في الآية على بابها، والبيت كذلك، والمعنى أنه أول بيت عبادة حقة وضع لإعلان التوحيد، بقرينة المقام، وبقرينة قوله: {وُضِعَ لِلنَّاسِ} المقتضي أنه من وضع واضع لمصلحة الناس، لأنه لو كان بيت سكنى لقيل وضعه الناس، وبقرينة مجيء الحالين بعد؛ وهما قوله: {مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ} . وهذا تأويل في معنى بيت، وإذا كان أول بيت عبادة حق، كان أول معهد للهدى، فكان كل هدى مقتبسا منه فلا محيص لكل قوم كانوا على هدى من الاعتراف به وبفضله، وذلك يوجب اتباع الملة المبنية على أسس ملة بانية، وهذا المفاد من تفريغ قوله: {فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} [البقرة: 95] وتأول الآية علي بن أبي طالب، فروى عنه أن رجلا سأله: أهو أول بيت? قال: لا، قد كان قبله بيوت، ولكنه أول بيت وضع للناس مباركا وهدى فجعل مباركا وهدى حالين من الضمير في {وضع} لا من اسم الموصول، وهذا تأويل في النظم لا ينساق إليه الذهن إلا على معنى انه أول بيت من بيوت الهدى كما قلنا، وليس مراده أن قوله: {وضع} هو الخبر لتعين او الخبر هو قوله: {للذي ببكة} بدليل دخول اللام عليه.
وعن مجاهد قالت اليهود: بيت المقدس أفضل من لكعبة لأنها مهاجر الأنبياء، وقال المسلمون: الكعبة، فأنزل اله هذه الآية، وهذا تأويل {أول} بأنه الأول من شيئين لا من جنس البيوت كلها.
وقبل: أراد بالأول الأشرف مجازا.
وعندي أنه يجوز أن يكون المراد من الناس المعهودين وهم أهل الكتب أعني اليهود والنصارى والمسلمين، وكلهم يعترف بأصالة دين إبراهيم عليه السلام فأول معبد بإجماعهم هو الكعبة فيلزمهم الاعتراف بأنه أفضل مما سواه من بيوت عبادتهم.

وإنما كانت الأولية موجبة التفضيل لان مواضع العبادة لا تتفاضل من جهة العبادة، إذ هي في ذلك سواء، ولكنها تتفاضل بما يحف بذلك من طول أزمان التعبد فيها، وبنسبتها إلى بانيها، وبحسن المقصد في ذلك، وقد قال تعالى في مجسد قباء {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} [التوبة: 108].
وقد جمعت الكعبة جميع هذه المزايا فكانت أسبق بيوت العبادة الحق، وهي أسبق من بيت المقدس بتسعة قرون. فان إبراهيم بني الكعبة في حدود سنة 1900 قبل المسيح وسليمان بني بيت المقدس سنة 1000 قبل المسيح، والكعبة بناها إبراهيم بيده فهي مبنية بيد رسول. وأما بيت المقدس فبناها العملة لسليمان بأمره. وروى في صحيح مسلم ، عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي مسجد وضع أول ? قال: "المسجد الحرام"، قلت: ثم أي? قال: "المسجد الأقصى"، قلت: كم كان بينهما? قال: "أربعون سنة"، فاستشكله العلماء بأن بين إبراهيم وسليمان قرونا فكيف تكون أربعين سنة، وأجاب بعضهم بإمكان أن يكون إبراهيم بنى مسجدا في موضع بيت المقدس ثم درس فجدده سليمان.
وأقول: لاشك أن بيت المقدس من بناء سليمان كما هو نص كتاب اليهود، وأشار إليه القرآن في قوله: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ} [سبأ: 13] الآية، فالظاهر أن إبراهيم لما مر ببلاد الشام ووعده الله أن يورث تلك الأرض نسله عين الله له الموضع الذي سيكون به أكبر مسجد تبنيه ذريته، فأقام هنالك مسجدا صغيرا شكرا لله تعالى، وجعله على الصخرة المجعولة مذبحا للقربان. وهي الصخرة التي بنى سليمان عليها المسجد، فلما كان أهل ذلك البلد يومئذ مشركين دثر ذلك البناء حتى هدى الله سليمان إلى إقامة المسجد الأقصى عليه، وهذا من العلم لذي أهملته كتب اليهود، وقد ثبت في سفر التكوين إن إبراهيم بنى مذابح في جهات مر عليها من أرض الكنعانيين لأن الله أخبره أنه يعطي تلك الأرض لنسله، فالظاهر أنه بنى أيضا بموضع مسجد أرشليم مذبحا.
و {مباركا} اسم مفعول من بارك الشيء إذا جعل له بركة وهي زيادة في الخير. أي جعلت البركة فيه بجعل الله تعالى، إذ قدر أن يكون داخله مثابا ومحصلا على خير يبلغه على مبلغ نيته، وقدر لمجاوريه وسكان بلده أن يكونوا ببركة زيادة الثواب ورفاهية الحال، وأمر بجعل داخله آمنا، وقدر ذلك بين الناس فكان ذلك كله بركة. وسيأتي معنى البركة عند قوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} في سورة

الأنعام [92].
ووصفه بالمصدر في قوله: {وهدى} مبالغة لأنه سبب هدى.
وجعل هدى للعالمين كلهم: لان شهرته، وتسامع الناس به، يحملهم على التساؤل عن سبب وضعه، وأنه لتوحيد الله، وتطهير النفوس من خبث الشرك، فيتهدي بذلك المهتدي، ويرعوي المتشكك.
ومن بركة ذاته أن حجارته وضعتها عند بنائه يد إبراهيم، ويد إسماعيل، ثم يد محمد صلى الله عليه وسلم، ولاسيما الحجر الأسود. وانتصب {مُبَارَكاً وَهُدىً} على الحال من الخبر، وهو اسم الموصول.
وجملة {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} استئناف ثناء على هذا البيت بما حف به من المناقب والمزايا فغير الأسلوب للاهتمام، ولذلك لم تجعل الجملة حالا، فتعطف على الحالين قبلها، لان مباركا وهدى وصفان ذاتيان له، وحالان مقارنان، والآيات عوارض عرضت في أوقات متفاوتة، أو هي حال ثالثة ولم تعطف بالواو لأنها جميلة وما قبلها مفردان ولئلا يتوهم أن الواو فيها واو الحال، فتكون في صورتها جارية على غير صورة الأفصح في مثلها من عدم الاقتران بالواو، على ما حققه الشيخ عبدالقاهر، فلو قرنت بواو العطف لالتبست بواو الحال، فكرهت في السمع، فيكون هذا من القطع لدفع اللبس، أو نقول هي حال ولم تعطف على الأحوال الأخرى لأنها جملة، فاستغنت بالضمير عن رابط العطف.
ووصف الآيات ببينات لظهورها في علم المخاطبين. وجماع هذه الآيات هي ما يسره الله لسكان الحرم وزائريه من طرق الخير، وما دفع عنهم من الأضرار، على حالة اتفق عليها سائر العرب، وقمعوا بها أنفسهم وشهواتهم، مع تكالبهم على إرضاء نفوسهم. وأعظمها الأمن، الذي وطن عليه نفوس جميع العرب في الجاهلية مع عدم تدينهم، فكان الرجل يلاقي قاتل أبيه في الحرم فلا يناله بسوء، وتواضع مثل هذا بين مختلف القبائل، ذات اختلاف الأنساب والعوائد والاديان، آية على أن الله تعالى وقر ذلك في نفوسهم. وكذلك تأمين وحشه مع افتتان العرب بحب الصيد. ومنها ما شاع بين العرب من قصم كل من رامه بسوء، وما انصراف الأحباش عنه بعد امتلاكهم جميع اليمن وتهامة الا آية من آيات الله فيه. ومنها انبثاق الماء فيه لإسماعيل حين إشرافه على الهلاك. وافتداء الله تعالى إياه بذبح عظيم حين أراد أبوه إبراهيم عليه السلام قربانه. ومنها ما شاع بين العرب

وتوارثوا خره أبا عن جد من نزول الحجر الأسود من السماء على أبي قبيس بمرأى إبراهيم، ولعله حجر كوكبي. ومنها تيسير الرزق لساكنيه مع قحولة أرضه، وملوحة مائه.
وقوله: {مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ} أصل المقام أنه مفعل من القيام، والقيام يطلق على المعنى الشائع وهو ضد القعود، ويطلق على خصوص القيام للصلاة والدعاء، فعلى الوجه الثاني فرفع مقام على انه خبر لضمير محذوف يعود على {لَلَّذِي بِبَكَّةَ} ، أي هو مقام إبراهيم: أي البيت الذي ببكة. وحذف المسند إليه هنا جاء على الحذف الذي سماه علماء المعاني، التابعين لاصطلاح السكاكي، بالحذف للاستعمال الجاري على تركه، وذلك في الرفع على المدحن أو الذم، أو الترحم، بعد أن يجري على المسند إليه من الأوصاف قبل ذلك ما يبين المراد منه كقول أبي الطمحان القيني:
فإن بني لأم بن عمرو أرومة ... سمت فوق صعب لا تنال مراقبه
نجوم سماء كلما انقض كوكب ... بدا كوكب تأوي إليه كواكبه
هذا هو الوجه في موقع قوله تعالى: {مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ} .
وقد عبر عن المسجد الحرام بأنه مقام إبراهيم أي محل قيامه للصلاة والطواف قال تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} [البقرة: 125] ويدل لذلك قوله زيد بن عمرو بن نفيل:
عذت بما عاذ به إبراهيم ... مستقبل الكعبة وهو قائم
وعلى الوجه الأول يكون المراد الحجر الذي فيه أثر قدمي إبراهيم عليه السلام في الصخرة التي ارتقى عليها ليرفع جدران الكعبة، وبذلك فسر الزجاج، وتبعه على ذلك الزمخشري، وأجاب الزمخشري عما يعترض به من لزوم تبين الجمع بالمفرد بأن هذا المفرد في قوة جماعة من الآيات، لأن أثر القدم في الصخرة آية، وغوصه فيها إلى الكعبين آية، وإلانه بعض الصخر دون بعض آية، وأنا أقول: إنه آيات لدلالته على نبوة إبراهيم بمعجزة له وعلى علم الله وقدرته، وان بقاء ذلك الأثر مع تلاشي آثار كثيرة في طيلة القرون آية أيضا.
وقوله: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} عطف على مزايا البيت وفضائله من الأمن فيه على العموم، وامتنان بما تقرر في ماضي العصور، فهو خبر لفظا مستعمل في الامتنان، فان الأمن فيه قد تقرر واطرد، وهذا الامتنان كما امتن الله على الناس بأنه خلق لهم أسماعا

وأبصارا فان ذلك لا ينقض بمن ولد أكمله أو عرض له ما أزال بعض ذلك.
قال ابن العربي: هذا خبر عما كان وليس فيه إثبات حكم وإنما هو تنبيه على آيات ونعم متعددات؛ أن الله سبحانه قد كان صرف القلوب عن القصد إلى معارضته، وصرف الأيدي عن إذابته. وروي هذا عن الحسن. وإذا كان ذلك خبرا فهو خبر عما مضى قبل مجيء شريعة الإسلام حين لم يكن لهم في الجاهلية وازع فلا ينتقض بما وقع فيه من اختلال الأمن في القتال بين الحجاج وابن الزبير وفي فتنة القرامطة، وقد ذكرنا ذلك في تفسير قوله تعالى: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} أول هذه السورة [7].
ومن العلماء من حمل قوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} أنه خبر مستعمل في الأمر بتأمين داخله من أن يصاب بأذى، وروى عن ابن عباس، وابن عمر، وسعيد بن جبير، وعطاء، وطاوس، والشعبي.
وقد اختلف الصائرون إلى هذا المعنى في محمل بهذا الأمر؛ فقال جماعة: هذا حكم نسخ، يعنون نسخته الأدلة التي دلت على أن الحرام لا يعيذ عاصيا. روى البخاري، عن أبي شريح الكعبي، أنه قال لعمر بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة أي لحرب ابن الزبير: ائذن لي أيها الأمير أحدثك قولا قام به رسول الله الغد من يوم الفتح، سمعته أذناي ووعاه قلبي وأبصرته عيناي حين تكلم به: انه حمد الله وأثنى عليه ثم قال "أن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس؛ لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما، ولا يعضد بها شجرة". فان أحد ترخص لقتال رسول الله فيها فقولوا له: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس وليبلغ الشاهد الغائب قال: فقال لي عمرو: أنا أعلم بذلك منك، يا أبا شريح إن الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارا بدم ولا فارا بخربة الخربة بفتح الخاء وسكون الراء الجنابة والبلية التي تكون على الناس وبما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بأن يقتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة يوم الفتح.
وقد قال مالك، والشافعي: أن من أصاب جناية في الحرم أو خارجه ثم عاذ بالحرم يقام عليه الحد في الحرم ويقاد منه.
وقال أبو حنيفة: وأصحابه الأربعة: لا يقتص في الحرم من اللاجئ إليه من خارجه مادام فيه؛ لكنه لا يبايع ولا يؤاكل ولا يجالس إلى أن يخرج من الحرم. ويروون ذلك عن ابن عباس، وابن عمر، ومن ذكرناه معهما آنفا.

وفي أحكام ابن الفرس أن عبد الله ابن عمر قال: من كان خائفا من الاحتيال عليه فليس بآمن ولا تجوز إذايته بالامتناع من مكالمته.
وقال فريق: هو حكم محكم غير منسوخ، فقال فريق منهم: قوله: {وَمَنْ دَخَلَهُ} يفهم منه أنه أتى ما يوجب العقوبة خارج الحرم فإذا جنى في الحرم أقيد منه، وهذا قول الجمهور منهم، ولعل مستندهم قوله تعالى: {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} [البقرة: 194] أو استندوا إلى أدلة من القياس، وقال شذوذ: لا يقام الحد في الحرم، ولو كان الجاني جنى في الحرم وهؤلاء طردوا دليلهم.
وقد ألممنا بذلك عند قوله تعالى: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} [البقرة: 191].
وقد جعل الزجاج جملة {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} آية ثانية من الآيات البينات فهي بيان لآيات، وتبعه الزمخشري، وقال: يجوز أن يطلق لفظ الجمع على المثنى كقوله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4]. وإنما جاز بيان المفرد بجملة لأن هذه الجملة في معنى المفرد إذ التقدير: مقام إبراهيم وأمن من دخله. ولم ينظر ذلك بما استعمل من كلام العرب حتى يقرب هذا الوجه. وعندي في نظيره قول الحرث بن حلزة:
من لنا عنده من الخير آيات ... ثلاث في كلهن القضاء
آية شارق الشقيقة إذ جاءت ... معد لكل حي لواء
ثم قال:
ثم حجرا أعني ابن أم قطام ... وله فارسية خضراء
ثم قال:
وفككنا غل امرئ القيس عنه ... بعد ما طال حبسه والعناء
فجعل وفككنا هي الآية الرابعة باتفاق الشراح اذ التقدير: وفكنا غل امرئ القيس.
وجوز الزمخشري أن يكون آيات باقيا على معنى الجمع وقد بين بآيتين وتركت الثالثة
كقول جرير:
كانت حنيفة أثلاثا فثلثهم ... من العبيد وثلث من مواليها

أي ولم يذكر الثلث الثالث.
وهو تنظير ضعيف لأن بيت جرير ظهر منه الثلث الثالث، فهم الصميم، بخلاف الآية فان بقية الآيات لم يعرف. ويجوز أن نجعل قوله تعالى: {وََلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} الخ متضمنا الثالثة من الآيات البينات.
{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}
حكم أعقب به الامتنان: لما في هذا الحكم من التنويه بشأن البيت فلذلك حسن عطفه. والتقدير: مباركا، وهدى، وواجبا حجه. فهو عطف على الأحوال.
والحج تقدم عند قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} في سورة البقرة [197]، وفيه لغتان فتح الحاء وكسرها ولم يقرأ في جميع مواقعه في القرآن بكسر الحاء إلا في هذه الآية: قرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، وأبو جعفر بكسر الحاء.
ويتجه أن تكون هذه الآية هي التي فرض بها الحج على المسلمين، وقد استدل بها علماؤنا على فرضية الحج، فما كان يقع من حج النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، قبل نزولها، فإنما كان تقربا إلى الله، واستصحابا للحنفية. وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم حج مرتين بمكة قبل الهجرة ووقف مع الناس، فأما أيجاب الحج في الشريعة الإسلامية فلا دليل على وقوعه إلا هذه الآية وقد تمالأ علماء الإسلام على الاستدلال بها على وجوب الحج، فلا يعد ما وقع من الحج قبل نزولها، وبعد البعثة إلا تحنثا وتقربا، وقد صح أنها نزلت سنة ثلاث من الهجرة، عقب غزوة أحد، فيكون الحج فرض يومئذ. وذكر القرطبي الاختلاف في وقت فرضية الحج على ثلاثة أقوال: فقيل: سنة خمس، وقيل: سنة خمس، وقيل: سنة سبع، وقيل: سنة تسع، ولم يعز الأقوال إلى أصحابها، سوى أنه ذكر عن ابن هشام، عن أبي عبيد الواقدي أنه فرض عام الخندق، بعد انصراف الأحزاب، وكان انصرافهم آخر سنة خمس. قال ابن إسحاق: وولي تلك الحجة المشركون. وفي مقدمات ابن رشد ما يقتضي أن الشافعي يقول: ان الحج وجب سنة تسع، وأظهر من هذه الأقوال قول رابع تمالأ عليه الفقهاء وهو أن دليل وجوب قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} . وقد استدل الشافعي بها على ان وجوبه على التراخي، فيكون وجوبه على المسلمين قد تقرر سنة ثلاث، وأصبح المسالمون منذ يومئذ محصرين عن أداء هذه الفريضة إلى أن فتح الله مكة ووقعت حجة سنة تسع.

وفي هذه الآية من صيغ الوجوب صيغتان: لام الاستحقاق، وحرف على الدال على تقرر حق في ذمة المجرور بها. وقد تعسر أو تعذر قيام المسلمين بأداء الحج عقب نزولها، لأن المشركين كانوا لا يسمحون لهم بذلك، فلعل حكمة إيجاب الحج يومئذ أن يكون المسلمون على استعداد لأداء الحج مهما تمكنوا من ذلك، ولتقوم الجحة على المشركين بأنهم يمنعون هذه العبادة، ويصدون عن المسجد الحرام، ويمنعون مساجد الله أن يذكر فيها اسمه.
وقوله: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} بدل من الناس لتقييد حال الوجوب، وجوز الكسائي أن يكون فاعل حج، ود بأنه يصير الكلام: لله على سائر الناس أن يحج المستطيع منهم، ولا معنى لتكليف جميع الناس بفعل بعضهم، وألحقأن هذا الرد لا يتجه لأن العرب تتفنن في الكلام لعلم السامع بأن فرض ذلك على الناس فرض مجمل يبينه فاعل حج، وليس هو كقولك: استطاع الصوم، أو استطاع حمل الثقل، ومعنى: {اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} وجد سبيلا وتمكن منه، والكلام بأواخره. والسبيل هنا مجاز فيما يتمكن به المكلف من الحج.
وللعلماء في تفسير السبيل أقوال اختلفت ألفاظها، واتحدت أغراضها، فلا ينبغي بقاء الخلاف بينهم لأجلها مثبتا في كتب التفسير وغيرها، فسبيل القريب من البيت الحرام سهل جدا، وسبيل البعيد الراحلة والزاد، ولذلك قال مالك: السبيل القدرة والناس على قدر طاقتهم وسيرهم وجلدهم. واختلف فيمن لا زاد له ويستطيع الاحتراف في طريقه: فقال مالك: إذا كان ذلك لا يزري فليسافر ويكتسب في طريقه، وقال بمثله ابن الزبير، والشعبي، وعكرمة. وعن مالك كراهية السفر في البحر للحج إلا لمن لا يجد طريقا غيره كأهل الأندلس، واحتج بأن الله تعالى قال: {يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج: 27] ولم اجد للبحر ذكرا. قال الشيخ ابن عطية: هذا تأنيس من مالك وليست الآية بالتي تقتضي سقوط سفر البحر. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر" وهل الجهاد إلا عبادة كالحج، وكره مالك للمرأة السفر في البحر لأنه كشفة لها، وكل هذا إذا كانت السلامة هي الغالب وإلا لم يجز الإلقاء إلى التهلكة، وحال سفر البحر اليوم أسلم من سفر البر إلا في أحوال عارضة في الحروب إذا شملت البحار.
وظاهر قوله تعالى: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} أن الخطاب بالحج والاستطاعة للمرء

في عمله لا في عمل غيره، ولذلك قال مالك: لا تصح في الحج في الحياة لعذر، فالعاجز يسقط عنه الحج عنده لم ير فيه إلا أن الرجل أن يوصي بأن يحج عنه بعد موته حج التطوع، وقال الشافعي، وأحمد، وإسحاق ابن راهويه: إذا كان له عذر مانع من الحج وكان له من يطيعه لو أمره بأن يحج عنه، أو كان له مال يستأجر به من يحج عنه، صار قادرا في الجملة، فيلزمه الحج، واحتج بحديث ابن عباس: أن امرأة من خثعم سألت النبي صلى الله عليه وسلم يوم حجة الوداع فقالت: إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يثبت على الراحلة أفيجيزئ أن أحج عنه? قال: "نعم، حجي عنه أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيته?" قالت: نعم، قال: "فدين الله أحق أن يقضى". وأجاب عنه المالكية بأن الحديث لم يدل على الوجوب بل أجابها بما فيه حث على طاعة أبيها، وطاعة ربها.
قال علي بن أبي طالب، وسفيان الثوري، وأبو حنيفة، وابن المبارك. لا تجزئ إلا إنابة دون إنابة الطاعة.
وظاهر الآية أنه إذا تحققت الاستطاعة وجب الحج على المستطيع على الفور، وذلك يندرج تحت مسألة اقتضاء الأمر الفور أو عدم اقتضائه إياه، وقد اختلف علماء الإسلام في أن الحج واجب على الفور أو على التراخي. فذهب إلى أنه على الفور البغداديون من المالكية: ابن القصار، وإسماعيل بن حماد، وغيرهما، وتأولوه من قول مالك، وهو الصحيح من مذهب أبي حنيفة، وهو قول أحمد بن حنبل، وداوود الظاهري. وذهب جمهور العلماء إلى أنه على التراخي وهو الصحيح من مذهب مالك ورواية ابن نافع وأشهب عنه وهو قول الشافعي وأبي يوسف. واحتج الشافعي بأن الحج فرض قبل حج النبي صلى الله عليه وسلم بسنين، فلو كان على الفور لما أخره، ولو أخره لعذر لبينه أي لأنه قدوة للناس. وقال جماعة: إذا بلغ المرء الستين وجب عليه الفور بالحج إن كان مستطيعا خشية الموت، وحكاه ابن خويز منداد عن ابن القاسم.
ومعنى الفور أن يوقعه المكلف في الحجة التي يحين وقتها أولا عند استكمال شرط الاستطاعة.
وقوله: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} ظاهره أنه مقابل قوله: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} فيكون المراد بمن كفر من لم يحج مع الاستطاعة، ولذلك قال جمع من المحققين: إن الإخبار عنه بالكفر هنا تغليط لأمر ترك الحج. والمراد كفر النعمة. ويجوز

أيضا أن يراد تشويه صنعه بأنه كصنيع من لا يؤمن بالله ورسله وفضيلة حرمه. وقال قوم: أراد ومن كفر بفرض الحج، وقال قوم بظاهره: إن ترك الحج مع القدرة عليه كفر. ونسب للحسن. ولم يلتزم جماعة من المفسرين أن يكون العطف للمقابلة وجعلوها جملة مستقلة. كالتذييل، بين بها عدم اكتراث الله بمن كفر به.
وعندي أنه يجوز أن يكون المراد بمن كفر من كفر بالإسلام، وذلك تعريض بالمشركين من أهل مكة بأنه لا اعتداد بحجهم عند الله وإنما يريد الله أن يحج المؤمنون به والموحدون له.
وفي قوله: {غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} رمز إلى نزعه ولاية الحرم من أيديهم: لأنه لما فرض الحج وهم يصدون عنه، وأعلمنا أنه غني عن الناس، فهو لا يعجزه من يصد الناس عن مراده تعالى.
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ[98] قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [99].
ابتداء كلام رجع به إلى مجادلة أهل الكتاب وموعظتهم فهو مرتبط بقوله تعالى: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ} الآية.
أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بالصدع بالإنكار على أهل الكتاب، بعد أن مهد بين يدي ذلك دلائل صحة هذا الدين ولذلك افتتح بفعل {قل} اهتماما بالمقول، وافتتح المقول بنداء يا أهل الكتاب تسجيلا عليهم. والمراد بآيات الله: إما القرآن، وأما دلائل صدق الرسول صلى الله عليه وسلم. والكفر على هذين الوجهين بمعناه الشضرعي واضح، وإما آيات فضيلة المسجد الحرام على غيره، والكفر على هذا الوجه بمعناه اللغوي. والاستفهام إنكار.
وجملة {وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ} في موضع الحال لأن أهل الكتاب يوقنون بعموم علم الله تعالى، وأنه لا يخفى عليه شيء فجحدهم لآياته مع ذلك اليقين أشد إنكارا، ولذلك لم يصح جعل {وَاللَّهُ شَهِيدٌ} مجرد خبر إلا إذا نزلوا منزلة الجاهل.
وقوله: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ} توبيخ ثان وإنكار على مجادلتهم لإضلالهم

المؤمنين بعد أن أنكر عليهم ضلالهم في نفوسهم، وفصل بلا عطف للدلالة على استقلاله بالقصد، ولو عطف لصح العطف.
والصد يستعمل قاصرا ومتعديا: يقال صده عن كذا فصد عنه. وقاصره بمعنى الاعراض. فمتعديه بمعنى جعل المصدود معرضا أي صرفه، ويقال: أصده عن كذا، وهو ظاهر.
وسبيل الله مجاز في الأطوال والأدلة الموصلة إلى الدين والحق. والمراد بالصد عن سبيل الله إما محاولة إرجاع المؤمنين إلى الكفر بإلقاء التشكيك عليهم. وهذا المعنى يلاقي معنى الكفر في قوله: {لِمَ تَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ} على وجهيه الراجعين للمعنى الشرعي. وإما صد الناس عن الحج أي صد أتباعهم عن حج الكعبة، وترغيبهم عن حج بيت المقدس، بتفضيله على الكعبة، وهذا يلاقي الكفر بمعناه اللغوي المتقدم، ويجوز أن يكون إشارة إلى إنكارهم القبلة في قولهم: {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة: 142] لأن المقصود به صد المؤمنين عن استقبال الكعبة.
وقوله: {تَبْغُونَهَا عِوَجاً} أي تبغون السبيل فأنث ضميره لأن السبيل يذكر ويؤنث: قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} [يوسف: 108]. والبغي الطلب أي تطلبون. والعوج بكسر العين وفتح الواو ضد الاستقامة وهو اسم مصدر عوج كفرح، ومصدره العوج كالفرح. وقد خص الاستعمال غالبا المصدر بالاعوجاج في الأشياء المحسوسة، كالحائط والقناة. وخص إطلاق اسم المصدر بالاعوجاج الذي لا يشاهد كاعوجاج الأرض والسطح، وبالمعنويات كالدين.
ومعنى {تَبْغُونَهَا عِوَجاً} يجوز أن يكون {عوجا} باقيا على معنى المصدرية، فيكون {عوجا} مفعول {تبغونها} ، ويكون ضمير النصب في تبغونها على نزع الخافض كما قالوا: شكرتك وبعتك كذا: أي شكرت لك وبعت لك، والتقدير: وتبغون لها عوجا، أي تتطلبون نسبة العوج إليها، وتصورونها باطلة زائلة. ويجوز أن يكون عوجا وصفا للسبيل على طريقة الوصف بالمصدر للمبالغة، أي تبغونها عوجاء شديدة العوج فيكون ضمير النصب في {تبغونها} مفعول {تبغون} ، ويكون عوجا حالا من ضمير النصب أي ترومونها معوجة أي تبغون سبيلا معوجة وهي سبيل الشرك.
والمعنى: تصدون عن السبيل المستقيم وتريدون السبيل المعوج ففي ضمي {تبغونها} استخدام لأن سبيل الله المصدود عنها هي الإسلام، والسبيل التي يريدونها هي

ما هم عليه من الدين بعد نسخه وتحريفه.
وقوله: {وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ} حال أيضا توازن الحال في قوله قبلها: {وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ} ومعناه وأنتم عالمون أنها سبيل الله. وقد أحالهم في هذا الكلام على ما في ضمائرهم مما لا يعلمه إلا الله لأن ذلك هو المقصود من وخز قلوبهم، وانثنائهم باللائمة على أنفسهم، ولذلك عقبه بقوله: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } وهو وعيد وتهديد وتذكير لأنهم يعلمون أن الله يعلم ما تخفي الصدور وهو بمعنى قوله في موعظتهم السابقة {وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ} إلا أن هذا أغلظ في التوبيخ لما فيه من إبطال اعتقاد غفلته سبحانه، لأن حالهم كانت بمنزلة حال من يعتقد ذلك.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ[100] وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [101].
إقبال على خطاب المؤمنين لتحذيرهم من كيد أهل الكتاب وسوء دعائهم المؤمنين، وقد تفضل الله على المؤمنين بأن خاطبهم بغير واسطة خلاف خطابه أهل الكتاب إذ قال {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} [آل عمران: 98] ولم يقل: قل يا أيها الذين آمنوا.
والفريق: الجماعة من الناس، وأشار به هنا إلى فريق من اليهود وهم شاس ابن قيس وأصحابه، أو أراد شاسا وحده، وجعله فريقا كما جعل أبا سفيان ناسا في قوله {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} وسياق الآية مؤذن بأنها جرت على حادثة حدثت وأن لنزولها سببا. وسبب نزول هذه الآية: أن الأوس والخزرج كانوا في الجاهلية قد تخاذلوا وتحاربوا حتى تفانوا، وكانت بينهم حروب وآخرها يوم بعاث التي أنتهت قبل الهجرة بثلاث سنين، فلما اجتمعوا على الإسلام زالت تلك الأحقاد من بينهم وأصبحوا عدة لإسلام، فساء ذلك يهود يثرب فقام شاس بن قيس اليهودي، وهو شيخ قديم منهم، فجلس إلى الأوس والخزرج، أو أرسل إليهم من جلس إليهم يذكرهم حروب بعاث، فكادوا أن يقتتلوا، ونادى كل فريق: يا للأوس ويا للخزرج وأخذوا السلاح، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فدخل بينهم وقال: "أتدعون الجاهلية وأنا بين أظهركم?" وفي رواية: "أبدعوى الجاهلية?" أي أتدعون بدعوى الجاهلية وقرأ هذه الآية، فما فرغ منها حتى ألقوا السلاح، وعانق بعضهم بعضا، قال جابر بن عبد الله: ما كان طالع أكره إلينا من طلوع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أصلح الله بيننا

ما كان شخص أحب إلينا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما رأيت يوما أقبح ولا أوحش أولا وأحسن آخرا من ذلك اليوم.
وأصل الرد الصرف والإرجاع قال تعالى: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} [الحج: 5] وهو هنا مستعار لتغير الحال بعد المخالطة فيفيد معنى التصيير كقول الشاعر فيما أنشده أهل اللغة:
فرد شعورهن السود بيضا ... ورد وجوههن البيض سودا
و {كافرين} مفعوله الثاني، وقوله: {بعد إيمانكم} تأكيد لما أفاده قوله: {يردوكم} والقصد من التصريح توضيح فوات نعمة عظيمة كانوا فيها لو يكفرون.
وقوله: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ} استفهام مستعمل في الاستبعاد استبعادا لكفرهم ونفي له، كقول جرير:
كيف الهجاء وما تنفك صالحة ... من آل لأم بظهر الغيب تأتيني
وجملة {وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ} حالية، وهي محط الاستبعاد والنفي لأن كلا من تلاوة آيات الله وإقامة الرسول عليه الصلاة والسلام فيهم وازع لهم عن الكفر، وأي وازع، فالآيات هنا هي القرآن ومواعظه.
والظرفية في قوله: {وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} حقيقية ومؤذنة بمنقبة عظيمة، ومنة جليلة، وهي وجود هذا الرسول العظيم بينهم، تلك المزية التي فاز بها أصحابه المخاطبون، وبها يظهر معنى قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي عن أبي سعيد الخدري "لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه" النصيف نصف مد.
وفي الآية دلالة على عظم قدر الصحابة وأن لهم وازعين عن مواقعة الظلال: سماع القرآن، ومشاهدة أنوار الرسول عليه السلام، فإن وجوده عصمة من ضلالهم. قال قتادة: أما الرسول فقد مضى إلى رحمة الله، وأما الكتاب فباق على وجه الدهر.
وقوله: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي من يتمسك بالدين فلا يخشى عليه الضلال. فالاعتصام هنا استعارة للتمسك.
وفي هذا إشارة إلى التمسك بكتاب الله ودينه لسائر المسلمين الذين لم يشهدوا حياة

رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[102] وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [103].
انتقل من تحذير المخاطبين من الانخداع لوساوس بعض أهل الكتاب، إلى تحريضهم على تمام التقوى، لأن في ذلك زيادة صلاح لهم ورسوخا لإيمانهم، وهو خطاب لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ويسري إلى جميع من يكون بعدهم.
وهذه الآية أصل عظيم من أصول الأخلاق الإسلامية. والتقوى تقدم تفسيرها عند قوله تعالى: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} . وحاصل امتثال الأمر، واجتناب المنهي عنه، في الأعمال الظاهرة، والنوايا الباطلة. وحق التقوى هو أن لا يكون فيها تقصير، وتظاهر بما ليس من عمله، وذلك هو معنى قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] لأن الاستطاعة هي القدرة، والتقوى مقدور للناس. وبذلك إن لم يكن تعارض بين الآيتين، ولا نسخ، وقيل: هاته منسوخة بقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} لأن هاته دلت على تقوى كاملة كما فسرها ابن مسعود: أن يطاع فلا يعصي، ويشكر فلا يكفر، ويذكر فلا ينسى، ورووا أن هذه الآية لما نزلت قالوا: يا رسول الله من يقوى لهذا فنزل قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} فنسخ هذه بناء على أن الأمر في الآيتين في الوجوب، وعلى اختلاف المراد من التقويين. والحق أن هذا بيان لا نسخ، كما حققه المحققون، ولكن شاع عند المتقدمون إطلاق النسخ على ما يشمل البيان.
والتقاة اسم مصدر. اتقى وأصله وقية ثم وقاة تم أبدلت الواو تاء تبعا لإبدالها في الافتعال إبدالا قصدوا منه الإدغام. كما تقدم في قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: 28].
وقوله: {وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} نهي عن أن أن يموتوا على حالة في الدين إلا على حالة الإسلام فمحط النهي هو القيد: أعني المستثنى منه المحذوف والمستثنى هو جملة الحال، لأنها استثناء من أحوال، وهذا المركب مستعمل في غير معناه لأنه مستعمل في النهي عن مفارقة الدين بالإسلام مدة الحياة، وهو مجاز تمثيلي علاقته اللزوم، لما

شاع بين الناس من أن ساعة الموت أمر غير معلوم كما قال الصديق:
كل امرئ مصبح في أهله ... والموت أدنى من شراك نعله
فالنهي عن الموت على غير الإسلام يستلزم النهي عن مفارقة الإسلام في سائر أحيان الحياة، ولو كان المراد به معناه الأصلي لكان ترخيصا في مفارقة الإسلام إلا عند حضور الموت، وهو معنى فاسد وقد تقدم ذلك في قوله تعالى {وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} .
وقوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} ثنى أمرهم بما فيه صلاح أنفسهم لأخراهم، بأمرهم بما فيه صلاح حالهم في دنياهم، وذلك بالاجتماع على هذا الدين وعدم التفرق ليكتسبوا باتحادهم قوة ونماء. والاعتصام افتعال من عصم وهو طلب ما يعصم أي يمنع.
والحبل: ما يشد به للارتقاء، أو التدلي، أو للنجاة من غرق، أو نحوه، والكلام تمثيل لهيئة اجتماعهم والتفاتهم على دين الله ووصاياه وعهوده بهيئة استمساك جماعة بحبل ألقي إليهم منقذ لهم من غرق أو سقوط، وإضافة الحبل إلى الله قرينة هذا التمثيل. وقوله: {جميعا} حال وهو الذي رجح إرادة التمثيل، إذ ليس المقصود الأمر باعتصام كل مسلم في حال انفراده اعتصاما بهذا الدين، بل المقصود الأمر باعتصام الأمة كلها، ويحصل في ضمن ذلك أمر كل واحد بالتمسك بهذا الدين، فالكلام أمر لهم بأن يكونوا على هاته الهيئة، وهذا هو الوجه المناسب لتمام البلاغة لكثرة ما فيه من المعاني. ويجوز أن يستعار الاعتصام للتوثيق بالدين وعهوده، وعدم الانفصال عنه، ويستعار الحبل للدين والعهود كقوله {إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} [آل عمران: 112] ويكون كل من الاستعارتين ترشيحا للأخرى، لأن مبني الترشيح على اعتبار تقوية التشبيه في نفس السامع، وذلك يحصل له بمجرد سماع لفظ ما هو من ملائمات المستعار، بقطع النظر عن كون ذلك الملائم معتبرة فيه استعارة أخرى، إذ لا يزيده ذلك الاعتبار إلا قوة، ليست الاستعارة بوضع اللفظ في معنى جديد حتى يتوهم متوهم أن تلك الدلالة الجديدة، الحاصلة في الاستعارة الثانية، صارت غير ملائمة لمعنى المستعار في الاستعارة الأخرى، وإنما هي اعتبارات لطيفة تزيد كثرتها الكلام حسنا. وقريب من هذا التورية، فإن فيها حسنا بإيهام أحد المعنيين مع إرادة غيره، ولا شك أنه عند إرادة غيره لا يكون المعنى الآخر مقصودا، وفي هذا الوجه لا يكون الكلام صريحا في الأمر بالاجتماع على الدين

بل ظاهرة انه امر للمؤمنين بالتمسك بالدين فيؤول إلى أمر كل واحد منهم بذلك على ما هو الأصل في معنى مثل هذه الصيغة ويصير قوله: {جميعا} محتملا لتأكيد العموم المستفاد من واو الجماعة.
وقوله: {ولا تفرقوا} تأكيد لمضمون اعتصموا جميعا كقوله: ذممت ولم تحمد. على الوجه الأول في تفسير {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً} . وأما على الوجه الثاني فيكون قوله: {ولا تفرقوا} أمرا ثانيا للدلالة على طلب الاتحاد في الدين، وقد ذكرنا أن الشيء قد يؤكد بنفي ضده عند قوله تعالى: {قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} في سورة الأنعام [140] وفي الآية دليل على أن الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضده.
وقوله: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} تصويرا لحالهم التي أمروا بأن يكونوا عليها وهي الاعتصام جمعيا بجامعة الإسلام الذي كان سبب نجاتهم من تلك الحالة، وفي ضمن ذلك تذكير بنعمة الله تعالى، الذي اختار لهم هذا الدين، وفي ذلك تحريض على إجابة أمره تعالى إياهم بالاتفاق. والتذكير بنعمة الله تعالى طريق من طرق مواعظ الرسل. قال تعالى حكاية عن هود {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} [الأعراف: 69] وقال عن شعيب {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ} [الأعراف: 86] وقال الله لموسى: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} [إبراهيم"5]. وهذا التذكير خاص بمن أسلم بعد أن كان في الجاهلية، لأن الآية خطاب للصحابة ولكن المنة به مستمرة على سائر المسلمين، لأن كل جبل يقدر أن لو لم يسبق إسلام الجيل الذي قبله لكانوا هم أعداء وكانوا على شفا حفرة من النار.
والظرفية في قوله: {إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً} معتبر فيها التعقيب من قوله: {فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} إذ النعمة لم تكن عند العداوة، ولكن عند حصول التأليف عقب تلك العداوة.
والخطاب للمؤمنين وهم يومئذ المهاجرين والأنصار وأفراد قليلون من بعض القبائل القريبة، وكان جميعهم قبل الإسلام في عداوة وحروب، فالأوس والخرج كانت بينهم حروب دامت مائة وعشرين سنة قبل الهجرة، ومنهما كان يوم بعاث، والعرب كانوا في حروب وغارات1 بل وسائر الأمم التي دعاها الإسلام كانوا في تفرق وتخاذل فصار
ـــــــ
1 كانت قبائل العرب أعداء بعضهم لبعض فما وجدت قبيلة غرّة من الأخرى إلا شنت عليها الغارة.
وما وجدت الأخرى فرصة إلا نادت بالثارة. وكذلك تجد بطون القبيلة الواحدة وكذلك تجد بني

الذين دخلوا في الإسلام إخوانا وأولياء بعضهم لبعض، لا يصدهم عن ذلك اختلاف أنساب، ولا تباعد مواطن، ولقد حاولت حكماؤهم وأولو الرأي منهم التأليف بينهم، وإصلاح ذات بينهم، بأفانين الدعاية من خطابة وجاه وشعر1 فلم يصلوا إلى ما ابتغوا حتى ألف الله بين قلوبهم بالإسلام فصاروا بذلك التأليف بمنزلة الأخوان.
والخوان جمع الأخ، مثل الأخوة، وقيل: يختص الأخوان بالأخ المجازي والأخوة بالأخ الحقيقي، ولي بصحيح قال تعالى: {أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ} [النور: 61] وقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] وليس يصح أن يكون للمعنى المجازي صيغة خاصة في الجمع أو المفرد وإلا لبطل كون اللفظ مجازا وصار مشتركا، لكن للاستعمال أن يغلب إطلاق إحدى الصيغتين الموضوعتين لمعنى واحد فيغلبها في المعنى المجازي والأخرى في الحقيقي.
وقد امتن الله عليهم بتغيير أحوالهم من أشنع حالة إلى أحسنها: فحالة كانوا عليها هي حالة العداوة والتفاني والتقاتل، وحالة أصبحوا عليها وهبي حالة الأخوة ولا يدرك الفرق بين الحالين إلا من كانوا في السوأى فأصبحوا في الحسنى، والناس إذا كانوا في حالة بؤس وضنك واعتادوها صار الشقاء دأبهم، وذلت له نفوسهم فلم يشعروا بما هم فيه، ولا يتفطنوا لوخيم عواقبه، حتى إذا هيئ لهم الصلاح، وأخذ يتطرق إليهم استفاقوا من شقوتهم، وعلموا سوء حالتهم، ولأجل هذا المعنى جمعت لهم هذه الآية في الامتنان بين ذكر الحالتين وما بينهما فقالت: {إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ ق2لُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ
ـــــــ
العم من بطن واحد أعداء متغابين على المواريث والسؤدد قال أرطأة بن سهية الذبياني من شعراء الأموية:
ونحن بنو عم على ذات بيننا
زرابي فيها بعضه وتنافس
1 مثل خطاب شيوخ بني سعد لامرىء القيس حين عزم على قتالهم أخذا بثأره.
ومثل توسط هرم بن سنان والحارث بن عوف.
وقال زهير:
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم
الأبيات.
وقال النابغة:
ألا يا ليتني والمرء ميت
الأبيات.

إِخْوَاناً} .
وقوله: {بنعمته} الباء فيه للملابسة بمعنى مع أي أصبحتم إخوانا مصاحبين نعمة الله وهي نعمة الأخوة، كقول الفضل بن عباس بن عتبة اللهبي:
كلله نية في بغض صاحبه ... بنعمة الله نقليكم وتقلونا
وقوله: {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} عطف على {كنتم أعداء} فهو نعمة أخرى وهي نعمة الإنقاذ من حالة أخرى بئيسة وهي حالة الإشراف على المهلكات.
والشفا مثل الشفة هو حرف القليب وطرفه، وألف مبدله واو. وأما واو شفة فقد حذفت وعوضت عنها الهاء مثل سنة وعزة إلا أنهم لم يجمعوه على شفوات ولا على شفتين بل قالوا شفاه كأنهم اعتدوا بالهاء كالأصل.
فأرى أن شفا حفرة النار هنا تمثيل لحالهم في الجاهلية حين كانوا على وشك الهلاك والتفاني الذي عبر عنه زهير بقوله:
تفانوا ودقوا بينهم منشم
بحال قوم بلغ بهم المشي إلى شفا حفير من النار كالأخدود فليس بينهم وبين الهلاك السريع التام إلا خطوة قصيرة، واختيار الحالة المشبه بها هنا لأن النار أشد المهلكات إهلاكا، وأسرعها، وهذا هو المناسب في حمل الآية ليكون الامتنان بنعمتين محسوستين هما: نعمة الأخوة بعد العداوة، ونعمة السلامة بعد الخطر، كما قال أبو الطيب:
نجاة من البأساء بعد وقوع
والإنقاذ من حالتين شنيعتين. وقال جمهور المفسرين: أراد نار جهنم وعلى قولهم هذا يكون قوة {شَفَا حُفْرَةٍ} مستعارا للاقتراب استعارة المحسوس للمعقول. والنار حقيقة، ويبعد هذا المحمل قوله تعالى {حفرة} إذ ليست جهنم حفرة بل عالم عظيم للعذاب. ورد في الحديث "فإذا هي مطوية كطي البئر وإذا لها قرنان" ولكن ذلك رؤيا جاءت على وجه التمثيل وإلا فهي لا يحيط بها النظر. ويكون الامتنان على هذا امتنانا عليهم بالإيمان بعد الكفر وهم ليقينهم بدخول الكفرة النار علموا أنهم كانوا على شفاها. وقيل: أراد نار الحرب وهو بعيد جدا لأن نار الحرب لا توقد في حفرة بل توقد في العلياء ليراها من كان بعيدا كما قال الحارث:

وبعينيك أوقدت هند النار ... عشاء تلوى بها العلياء
فتنورت نارها من بعيد ... بخزازي أيان منك الصلاء
ولأنهم كانوا ملابسين لها ولم يكونوا على مقاربتها.
والضمير في {منها} للنار على التقادير الثلاثة. ويجوز على التقدير الأول أن يكون لشفا حفرة وعاد عليه بالتأنيث من المضاف إليه كقول الأعشى:
وتشرق بالقول الذي قد أذعته ... كما شرقت صدر القناة من الدم
وقوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ} نعمة أخرى وهي نعمة التعليم والإرشاد، وإيضاح الحقائق حتى تكمل عقولهم، ويتبينوا ما فيه صلاحهم. والبيان هنا بمعنى الإظهار والإيضاح. والآيات يجوز أن يكون المراد بها النعم، كقول الحرث بن حلزة:
من لنا عنده من الخير آيات ... ثلاث في كلهن القضاء
ويجوز أن يراد بها دلائل عنايته تعالى بهم وتثقيف عقولهم وقلوبهم بأنوار المعارف الإلهية. وأن يراد بها آيات القرآن فإنها غاية في الإفصاح عن المقاصد وإبلاغ المعاني إلى الأذهان.
{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [104] وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [105].
هذا مفرع عن الكلام السابق: لأنه لما أظهر لهم نعمة نقلهم من حالتي شقاء وشناعة إلى حالتي نعيم وكمال، وكانوا قد ذاقوا بين الحالتين الأمرين ثم الأحلوين، فحلبوا الدهر أشطريه، كانوا أحرياء بأن يسعوا بكل عزمهم إلى انتشال غيرهم من سوء ما هو فيه إلى حسنى ما هم عليه حتى يكون الناس أمة واحدة خيرة. وفي غريزة البشر حب المشاركة في الخير لذلك تجد الصبي إذا رأى شيئا أعجبه نادى من هو حوله ليراه معه.
ولذلك كان هذا الكلام حريا بأن يعطف بالفاء، ولو عطف بها لكان أسلوبا عربيا إلا أنه عدل عن العطف بالفاء تنبيها على أن مضمون هذا الكلام مقصود لذاته بحيث لو لم يسبقه الكلام السابق لكان هو حريا بأن يؤمر به فلا يكون مذكورا لأجل التفرع عن غيره والتبع.

وفيه من حسن المقابلة في التقسيم ضرب من ضروب الخطابة: وذلك أنه أنكر على أهل الكتاب كفرهم وصدهم الناس عن الإيمان، فقال: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [آل عمران: 98، 99] الآية.
وقابل ذلك بأن أمر المؤمنين بالإيمان والدعاء إليه إذ قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102]وقوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخيْرِ} الآية.
وصيغة {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ} صيغة وجوب لأنها أصرح في الأمر من صيغة افعلوا لأنها أصلها. فإذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غير معلوم بينهم من قبل نزول هذه الآية، فالأمر لتشريع الوجوب، وإذا كان ذلك حاصلا بينهم من قبل كما يدل عليه قوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110] فالأمر لتأكيد ما كانوا يفعلونه ووجوبه، وفيه زيادة الأمر بالدعوة إلى الخير وقد كان الوجوب مقررا من قبل بآيات أخرى مثل {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 3]، أو بأوامر نبوية. فالأمر لتأكيد الوجوب أيضا للدلالة على الدوام والثبات عليه، مثل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ} [النساء: 136].
والأمة الجماعة والطائفة كقوله تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف: 38].
وأصل الأمة من كلام العرب الطائفة من الناس التي تؤم قصدا واحدا: من نسب أو موطن أو دين، أو مجموع ذلك، ويتعين ما يجمعها بالإضافة أو الوصف كقولهم: أمة العرب وأمة غسان وأمة النصارى.
والمخاطب بضمير منكم إن كان هم أصحاب رسول الله كما هو ظاهر الخطابات السابقة آنفا جاز أن تكون من بيانيه وقدم البيان على المبين ويكون ما صدق الأمة نفس الصحابة، وهم أهل العصر الأول من المسلمين فيكون المعنى: ولتكونوا أمة يدعون إلى الخير فهذه الأمة أصحاب هذا الوصف قد أمروا بأن يكونوا من مجموعهم الأمة الموصوفة بأنهم يدعون إلى الخير، والمقصود تكوين هذا الوصف لأن الواجب عليهم هو التخلق بهذا الخلق فإذا تخلقوا به تكونت الأمة المطلوبة. وهي أفضل الأمم. وهي أهل المدينة الفاضلة المنشودة للحكماء من قبل، فجاءت الآية بهذا الأمر على هذا الأسلوب البليغ الموجز.

وفي هذا محسن التجريد: جردت من المخاطبين أمة أخرى للمبالغة في هذا الحكم كما يقال: لفلان من بنيه أنصار. والمقصود: ولتكونوا آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر حتى تكونوا أمة هذه صفتها، وهذا هو الأظهر فيكون جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خوطبوا بأن يكونوا دعاة إلى الخير، ولا جرم فهو الذين تلقوا الشريعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة، فهم أولى الناس بتبليغها. وأعلم بمشاهدها وأحوالها، ويشهد لهذا قوله صلى الله عليه وسلم في مواطن كثيرة "ليبلغ الشاهد الغائب ألا هل بلغت" وإلى هذا المحمل مال الزجاج وغير واحد من المفسرين، كما قاله ابن عطية.
ويجوز أيضا، على اعتبار الضمير خطابا لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، أن تكون من للتبعيض، والمراد من الأمة الجماعة والفريق، أي: وليكن بعضكم فريقا يدعون إلى الخير فيكون الوجوب على جماعة من الصحابة فقد قال ابن عطية: قال الضحاك، والطبري: أمر المؤمنين أن تكون منهم جماعة بهذه الصفة. فهم خاصة أصحاب الرسول وهم خاصة الرواة.
وأقول: على هذا يثبت حكم الوجوب على كل جيل بعدهم بطريق القياس لئلا يتعطل الهدى. ومن الناس من لا يستطيع الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف،والنهي عن المنكر، قال تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ} [التوبة: 122] الآية.
وإن كان الخطاب بالضمير لجميع المؤمنين تبعا لكون المخاطب بيا أيها الذين آمنوا إياهم أيضا، كانت من للتبعيض لا محالة، وكان المراد بالأمة الطائفة، إذ لا يكون المؤمنون كلهم مأمورين بالدعاء إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، بل يكون الواجب على الكفاية وإلى هذا المعنى ذهب ابن عطية، والطبري، ومن تبعهم، وعلى هذا فيكون المأمور جماعة غير معينة وإنما المقصود حصول هذا الفعل الذي فرض على الأمة وقوعه.
على أن الاعتبار لا يمنع من أن تكون من بيانية بمعنى أن يكونوا هم الأمة، ويكون المراد بكونهم يدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، إقامة ذلك فيهم وأن لا يخلوا عن ذلك على حسب الحاجة، ومقدار الكفاءة للقيام بذلك، ويكون هذا جاريا على المعتاد عند العرب من وصف القبيلة بالصفات الشائعة فيها الغالبية على أفرادها كقولهم: باهلة لئام، وعذرة عشاق.

وعلى هذه الاعتبارات تجري الاعتبارات في قوله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا} كما سيأتي.
إن الدعوة إلى الخير تتفاوت: فمنها ما هو بين يقوم به كل مسلم، ومنها ما يحتاج إلى علم فيقوم به أهله، وهذا هو المسمى بفرض الكفاية، يعني إذ قام به بعض الناس كفى عن قيام الباقين، وتتعين الطائفة التي تقوم بها بتوفر شروط القيام بمثل ذلك الفعل فيها. كالقوة على السلاح في الحرب، وكالسباحة في إنقاذ الغريق، والعلم بأمور الدين في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكذلك تعين العدد الذي يكفي للقيام بذلك الفعل مثل كون الجيش نصف عدد جيش العدو، ولما كان الأمر يستلزم متعلقا فلمأمور في فرض الكفاية الفريق الذين فيهم الشروط، ومجموع أهل البلد، أو القبيلة، لتنفيذ ذلك، فإذا قام به العدد الكافي ممن فيهم الشروط سقط التكليف عن الباقين، وإذا لم يقوموا به كان الإثم على البلد أو القبيلة، لسكوت جميعهم، ولتقاعس الصالحين للقيام بذلك، مع سكوتهم أيضا ثم إذا قام به البعض فإنما يثاب ذلك البعض خاصة.
ومعنى الدعاء إلى الخير الدعاء إلى الإسلام، وبث دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الخير اسم يجمع خصال الإسلام: ففي حديث حذيفة بن اليمان "قلت: يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر" الحديث، ولذلك يكون عطف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عليه من عطف الشيء على مغايره، وهو أصل العطف. وقيل: أريد بالخير ما يشمل جميع الخيرات، ومنها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيكون العطف من عطف الخاص على العام للاهتمام به.
وحذفت مفاعيل يدعون ويأمرون وينهون لقصد التعميم أي يدعون كل أحد كما في قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ} [يونس: 25].
والمعروف هو ما يعرف وهو مجاز في المقبول المرضي به، لأن الشيء إذا كان معروفا كان مألوفا مقبولا مرضيا به، وأريد به هنا ما يقبل عند أهل العقول، وفي الشرائع، وهو الحق والصلاح، لأن ذلك مقبول عند انتفاء العوارض.
والمنكر مجاز في المكروه، والكره لازم للإنكار لأن المنكر في أصل اللسان هو الجهل ومنه تسمية غير المألوف نكرة، وأريد به هنا الباطل والفساد، لأنهما من المكروه في الجبلة عند انتفاء العوارض.

والتعريف في الخير، والمعروف، والمنكر تعريف الاستغراق، فيفيد العموم في المعاملات بحسب ما ينتهي إليه العلم والمقدرة فيشبه الاستغراق العرفي.
ومن المفسرين من عين جعل من في قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ} للبيان، وتأول الكلام بتقدير تقديم البيان على المبين فيصير المعنى: ولتكن أمة هي انتم أي ولتكونوا أمة يدعون، محاولة للتسوية بين مضمون هذه الآية، ومضمون قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} [آل عمران: 110] ومساواة معنيي الآيتين غير متعينة لجواز ان يكون المراد من خير أمة هاته الأمة، التي قامت بالأمر بالمعروف، على ماسنبينه هنالك.
والآية أوجبت أن تقوم طائفة من المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولاشك أن الأمر والنهي من أقسام القول والكلام، فالمكلف به هو بيان المعروف، والأمر به، وبيان المنكر، والنهي عنه، وأما امتثال المأمورين والمنهيين لذلك، فموكول إليهم أو إلى ولاة الأمور الذين يحملونهم على فعل ما أمروا به، وأما ما وقع في الحديث "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فأن لم يستطيع فبلسانه فأن لم يستطع فبقلبه" فذلك مرتبة التغيير، والتغيير يكون باليد، ويكون بالقلب أي تمني التغيير، وأما الأمر والنهي فلا يكونان بهما.
والمعروف والمنكر إن كانا ضروريين كان لكل مسلم أن يأمر وينهي فيهما، وان كانا نظريين، فأنما يقوم بالأمر والنهي فيهما أهل العلم.
وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شروط مبينة في الفقه والآداب الشرعية، ألا أني أنبه إلى شرط ساء فهم بعض الناس فيه وهو قول بعض الفقهاء: يشترط ألا يجر النهي إلى منكر أعظم. وهذا شرط قد خرم مزية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأتخذه المسلمون ذريعة لترك هذا الواجب. ولقد ساء فهمهم فيه إذ مراد مشترطه أن يتحقق الأمر أن أمره يجر إلى منكر أعظم لا أن يخاف أن يتوهم إذ الوجوب قطعي لا يعارضه إلا ظن أقوى.
ولما كان تعيين الكفاءة للقيام بهذا الفرض، في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لتوقفه على مراتب العلم بالمعروف والمنكر، ومراتب القدرة على التغيير، وإفهام الناس ذلك، رأى أئمة المسلمين تعيين ولاة للبحث عن المناكر وتعيين كيفية القيام بتغييرها، وسموا تلك الولاية بالحسبة، وقد أولى عمر بن الخطاب في هاته الولاية أم الشفاء،

وأشهر من وليها في الدولة العباسية أبن عائشة، وكان رجلا صلبا في الحق، وتسمى هذه الولاية في المغرب ولاية السوق وقد ولياها في قرطبة الأمام محمد بن خالد بن مرتنيل القرطبي المعروف بالأشج من أصحاب أبن القاسم توفي سنة 220. وكانت في الدولة الحفصية ولاية الحسبة من الولايات النبيهة وربما ضمت إلى القضاء كما كان الحال في تونس بعد الدولة الحفصية.
وجملة {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} معطوفة على صفات أمة وهي التي تضمنتها جمل {يَدْعُونَ إِلَى الخيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} والتقدير: وهم مفلحون: لأن الفلاح لما كان مسببا على تلك الصفات الثلاث جعل بمنزلة صفة لهم، ويجوز جعل جملة {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} حالا من أمة، والواو للحال.
والمقصود بشارتهم بالفلاح الكامل إن فعلوا ذلك. وكان مقتضى الظاهر فصل هذه الجملة عما قبلها بدون عطف، مثل فصل جملة {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 5] لكن هذه عطفت أو جاءت حالا لأن مضمونها جزاء عن الجمل التي قبلها، فهي أجدر بأن تلحق بها.
ومفاد هذه الجملة قصر صفة الفلاح عليهم، فهو أما قصر إضافي بالنسبة لمن لم يقم بذلك مع المقدرة عليه، وأما قصر أريد به المبالغة لعدم الاعتداد في هذا المقام بفلاح غيرهم، وهو معنى قصد الدلالة على معنى الكمال.
وقوله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا} معطوف على قوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ} وهو يرجع إلى قوله قبل: {وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] لما فيه من تمثيل حال التفرق في أبشع صوره المعروفة لديهم من مطالعة أخوال اليهود. وفيه إشارة إلى أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يفضي إلى التفرق والاختلاف إذ تكثر النزعات والنزغات وتنشق الأمة بذلك انشقاقا شديدا.
والمخاطب به يجري على الاحتمالين المذكورين في المخاطب بقوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ} مع انه لاشك في أن حكم هذه الآية يعم سائر المسلمين: أما بطريق اللفظ، وإما بطريق لحن الخطاب، لأن المنهي عنه هو الحالة الشبيهة بحال اللذين تفرقوا واختلفوا.
وأريد بالذين تفرقوا واختلفوا في أصول الدين، من اليهود والنصارى، من بعد ما جاءهم من الدلائل المانعة من الاختلاف والافتراق. وقدم الافتراق على

الاختلاف للإيذان بأن الاختلاف علة التفرق وهذا من المفادات الحاصلة من ترتيب الكلام وذكر الأشياء مع مقارنتها، وفي عكسه قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 282].
وفيه إشارة إلى أن الاختلاف المذموم والذي يؤدي إلى الافتراق، وهو الاختلاف في أصول الديانة الذي يفضي إلى تكفير بعض الأمة بعضا، أو تفسيقه، دون الاختلاف في الفروع المبينة على اختلاف مصالح الأمة في الأقطار والأعصار، وهو المعبر عنه بالاجتهاد. ونحن إذا تقصينا تاريخ المذاهب الإسلامية لا نجد افتراقا نشأ بين المسلمين إلا عن اختلاف في العقائد والأصول، دون الاختلاف في الاجتهاد في فروع الشريعة.
والبينات: الدلائل التي فيها عصمة من الوقوع في الاختلاف لو قيضت لها أفهام.
وقوله: {وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} مقابل قوله في الفريق الآخر: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} فالقول فيه كالقول في نظيره، وهذا جزاء على التفرق والاختلاف وعلى تفريطهم في تجنب أسبابه.
{يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ[106] وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [107].
يجوز أن يكون {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ} منصوبا على الظرف، متعلقا بما في قوله: {لَهُمْ عَذَابٌ} من معنى كائن أو مستقر: أي يكون عذاب لهم يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، وهذا هو الجاري على أكثر الاستعمال في إضافة أسماء الزمان إلى الجمل. ويجوز أن يكون منصوبا على المفعول به لفعل أذكر محذوفا، وتكون جملة {تَبْيَضُّ وُجُوهٌ} صفة ليوم على تقدير: تبيض فيه وجوه وتسود فيه وجوه.
وفي تعريف هذا اليوم بحصول بياض وجوه وسواد وجوه فيه، تهويل لأمره، وتشويق لما يرد بعده من تفصيل أصحاب الوجوه المبيضة، والوجوه المسودة: ترعيبا لفريق وترغيبا لفريق آخر. والأظهر أن علم السامعين بوقوع تبييض وجوه وتسويد وجوه في ذلك اليوم حاصل من قبل: في الآيات النازلة قبل هذه الآية، مثل قوله تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} [الزمر: 60] وقوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} [عبس: 38، 41].

والبياض والسواد بياض وسواد حقيقيان يوسم بهما المؤمن والكافر يوم القيامة، وهما بياض وسواد خاصان لأن هذا من أحوال الآخرة فلا داعي لصرفه عن حقيقته.
وقوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} تفصيل للأجمال السابق، سلك فيه طريق النشر المعكوس، وفيه أيجاز لأن أصل الكلام، فأما الذين اسودت وجوههم فهم الكافرون يقال لهم أكفرتم إلى آخره: وأما الذين ابيضت وجوههم فهم المؤمنون وفي رحمة الله هم فيها خالدون.
وقدم عند وصف اليوم ذكر البياض، الذي هو شعار أهل النعيم، تشريفا لذلك اليوم بأنه يوم ظهور رحمة الله ونعمته، ولأن رحمة الله سبقت غضبه، ولأن في ذكر سمة أهل النعيم، عقب وعيد غيرهم بالعذاب، حسرة عليهم، إذ يعلم السامع أن لهم عذابا عظيما في يوم فيه نعيم عظيم. ثم قدم في التفصيل ذكر سمة أهل العذاب تعجيلا بمساءتهم.
وقوله: {أكفرتم} مقول قول محذوف يحذف مثله في الكلام لظهوره: لأن الاستفهام لا يصدر إلا من مستفهم، وذلك القول هو جواب أما، ولذلك لم تدخل الفاء على {أكفرتم} ليظهر أن ليس هو الجواب وان الجواب حذف برمته.
وقائل هذا القول مجهول، إذ لم يتقدم ما يدل عليه، فيحتمل أن ذلك يقوله أهل المحشر لهم وهم الذين عرفوهم في الدنيا مؤمنين، ثم رأوهم وعليهم سمة الكفر، كما ورد في حديث الحوض "فليردن على أقوام أعرفهم ثم يختلجون دوني، فأقول: أصحابي، فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك" والمستفهم سلفهم من قومهم أو رسولهم، فالاستفهام على حقيقته مع كنايته عن معنى التعجب.
ويحتمل انه بقوله تعالى لهم، فالاستفهام مجاز عن الإنكار والتغليط، ثم ان كان المراد بالذين اسودت وجوههم أهل الكتاب فمعنى كفرتم بعد إيمانهم تغييرهم شريعة أنبيائهم وكتمانهم ما كتموه فيها، أو كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد أيمانهم بموسى وعيسى، كما تقدم في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} [آل عمران: 90] وهذا هو المحمل البين، وسياق الكلام ولفضه يقتضيه، فإنه مسوق لوعيد أولئك. ووقعت تأويلات من المسلمين وقعوا بها فيما حذرهم منه القرآن، فتفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات: الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم "فلا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض" مثل أهل الردة الذين ماتوا على ذلك، فمعنى الكفر بعد الأيمان حينئذ ظاهر، وعلى هذا المعنى تأول الآية مالك بن أنس فيما روى عنه ابن القاسم وهو في ثالثة المسائل من سماعه من كتاب

المرتدين والمحاربين من العتبية قال ما آية في كتاب الله أشد على أهل الاختلاف من أهل الأهواء من هذه الآية يوم تبيض وجوه وتسود وجوه قال مالك: إنما هذه لأهل القبلة. يعني أنها ليست للذين تفرقوا واختلفوا من الأمم قبلنا بدليل قوله: {أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} . ورواه أبو غسان مالك الهروي عن مالك عن أبن عمر، وروي مثل هذا عن ابن عباس، وعلة هذا الوجه فالمراد الذين أحدثوا بعد إيمانهم كفرا بالردة أو بشنيع الأقوال التي تفضي إلى الكفر ونقض الشريعة، مثل الغرابية من الشيعة الذين قالوا بأن النبوة لعلي، ومثل غلاة الإسماعيلية أتباع حمزة بن علي، وأتباع الحاكم العبيدي، بخلاف من لم تبلغ به مقالته إلى الكفر تصريحا ولا لزوما بينا مثل الخوارج والقدرية كما هو مفصل في كتب الفقه والكلام في حكم المتأولين ومن يؤول قولهم إلى لوازم سيئة.
وذوق العذاب مجاز للإحساس وهو مجاز مشهور علاقته التقييد.
{تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ[108] وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} [109].
تذييلات، والإشارة في قوله {تلك} إلى طائفة من آيات القرآن السابقة من هذه السورة كما اقتضاه قوله: {نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ} .
والتلاوة أسم لحكاية كلام لإرادة تبليغه بلفظة وهي كالقراءة إلا أن القراءة تختص بحكاية كلام مكتوب فيتجه أن تكون الطائفة المقصودة بالإشارة هي الآيات المبدوئة بقوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ} [آل عمران: 59] إلى هنا لأن ما قبله ختم بتذييل قريب من هذا التذييل، وهو قوله: {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ} [آل عمران: 58] فيكون كل تذييل مستقلا بطائفة الجمل التي وقع هو عقبها.
وخصت هذه الطائفة من القرآن بالإشارة لما فيها من الدلائل المثبتة صحة عقيدة الإسلام، والمبطلة لدعاوى الفرق الثلاث من اليهود والنصارى والمشركين، مثل قوله: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ} [آل عمران: 59] وقوله: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} [المائدة: 74] الآية. وقوله: {فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} [آل عمران: 66] الآية. وقوله: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} [آل عمران: 68] الآية. وقوله: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} [آل عمران: 79] والحكم والنبوة الآية. وقوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} [آل عمران: 81] الآية. وقوله: {فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا} [آل عمران: 93] فأتلوها. وقوله: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ

لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً} [آل عمران: 96] وما تخلل ذلك من أمثال ومواعظ وشواهد.
والباء في قوله: {بالحق} للملابسة، وهي ملابسة الأخبار للمخبر عنه، أي لما في نفس الأمر والواقع، فهذه الآيات بينت عقائد أهل الكتاب وفصلت أحوالهم في الدنيا والآخرة.
ومن الحق استحقاق كلا الفريقين لما عومل به عدلا من الله، ولذلك قال: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعَالَمِينَ} أي لا يريد أن يظلم الناس ولو شاء ذلك لفعله، لكنه وعد بأن لا يظلم أحد فحق وعده، وليس في الآية دليل للمعتزلة على استحالة إرادة الله تعالى الظلم إذ لا خلاف بيننا وبين المعتزلة في انتفاء وقوعه، وإنما الخلاف في جواز ذلك واستحالته.
وجئ بالمسند فعلا لإفادة تقوى الحكم، وهو انتفاء إرادة ظلم العالمين عن الله تعالى، وتنكير ظلما في سياق النفي يدل على انتفاء جنس الظلم عن أن تتعلق به إرادة الله، فكل ما يعد ظلما في مجال العقول السليمة منتف أن يكون مراد الله تعالى.
وقوله: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [البقرة: 284] عطف على التذييل: لأنه إذا كان له ما في السماوات وما في الأرض فهو يريد صلاح حالهم، ولا حاجة له بإضرارهم إلا للجزاء على أفعالهم. فلا يريد ظلمهم، واليه ترجع الأشياء كلها فلا يفوته ثواب محسن ولا جزاء مسيء.
وتكرير أسم الجلالة ثلاث مرات في الجمل الثلاث التي بعد الأولى بدون إضمار للقصد إلى ان تكون كل جملة مستقلة الدلالة بنفسها، غير متوقفة على غيرها، حتى تصلح لأن يتمثل بها، وتستحضرها النفوس وتحفضها الأسماع.
{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [110].
{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}
يتنزل هذا منزلة التعليل لأمرهم بالدعوة إلى الخير وما بعده فإن قوله: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} حال من ضمير كنتم، فهو مؤذن بتعليل كونهم خير أمة فيترتب عليه إن ما كان فيه خيريتهم يجدر أن يفرض عليهم، إن لم يكن مفروضا من قبل، وأن يؤكد عليهم

فرضه، إن كان قد فرض عليهم من قبل.
والخطاب في قوله: {كنتم} إما لأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ونقل ذلك عن عمر بن الخطاب، وأبن عباس. قال عمر: هذه لأولنا ولا تكون لآخرنا. وإضافة خير إلى أمة من إضافة الصفة إلى الموصوف: أي كنتم أمة خير أمة أخرجت للناس، فالمراد بالأمة الجماعة، وأهل العصر النبوي، مثل القرن، وهو إطلاق مشهور ومنه قوله تعالى: {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف: 45] أي بعد مدة طويلة كمدة عصر كامل. ولا شك أن الصحابة كانوا أفضل القرون التي ظهرت في العالم، لأن رسولهم أفضل الرسل، ولأن الهدى الذي كانوا عليه لا يماثله هدى أصحاب الرسل الذين مضوا، فإن أخذت الأمة باعتبار الرسول فيها فالصحابة أفضل أمة من الأمم مع رسولها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "خير القرون قرني" . والفضل ثابت للجموع على المجموع، وإن أخذت الأمة من عدا الرسول، فكذلك الصحابة أفضل الأمم التي مضت بدون رسلها، وهذا تفضيل للهدى الذي اهتدوا به، وهو هدى رسولهم محمد صلى الله عليه وسلم وشريعته.
وإما أن يكون الخطاب بضمير {كنتم} للمسلمين كلهم في كل جيل ظهروا فيه، ومعنى تفضيلهم بالأمر بالمعروف مع كونه من فروض الكفايات لا تقوم به جميع أفراد الأمة أنه لا يخلو مسلم من القيام بما يستطيع القيام به من هذا الأمر، على حسب مبلغ العلم ومنتهى القدرة، فمن التغيير على الأهل والولد إلى التغيير على جميع أهل البلد، أو لأن وجود طوائف القائمين بهذا الأمر في مجموع الأمة أوجب فضيلة لجميع الأمة، لكون هذه الطوائف منها كما كانت القبيلة تفتخر بمحامد طوائفها، وفي هذا ضمان من الله تعالى بأن ذلك لا ينقطع من المسلمين إن شاء الله تعالى.
وفعل كان يدل على وجود ما يسند إليه في زمن مضى، دون دلالة على استمرار، ولا على انقطاع، قال تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [النساء: 96] أي وما زال فمعنى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} وجدتم على حالة الأخيرية على جميع الأمم، أي حصلت لكم هذه الأخيرية بحصول أسبابها ووسائلها، ولأنهم اتصفوا بالإيمان، والدعوة للأسلام، وإقامته على وجهه، والذب عن النقصان والإضاعة لتحقق أنهم لما جعل ذلك من واجبهم، وقد قام كل بما استطاع، فقد تحقق منهم القيام به، أو قد ظهر منهم العزم على امتثاله، كلما سنح سانح يقتضيه، فقد تحقق أنهم خير أمة على الأجمال فأخبر عنهم بذلك. هذا إذا بينا على كون الأمر في قوله آنفا: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ

وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 104] وما بعده من النهي في قوله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 105] الآية، لم يكن حاصلا عندهم من قبل.
ويجوز أن يكون المعنى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} موصوفين بتلك الصفات فيما مضى تفعلونها أما من تلقاء أنفسكم حرصا على إقامة الدين واستحسانا وتوفيقا من الله في مصادفتكم لمرضاته ومراده، وأما بوجوب سابق حاصل من آيات أخرى مثل قوله: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} [العصر: 3] وحينئذ فلما أمرهم بذلك على سبيل الجزم، أثنى عليهم بأنهم لم يكونوا تاركيه من قبل، وهذا إذا بينا على ان الأمر في قوله: {وََلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ} [آل عمران: 104] تأكيد لما كانوا يفعلونه، وإعلام بأنه واجب، أو بتأكيد وجوبه على الوجوه التي قدمتها عند قوله: {وََلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ} .
ومن الحيرة التجاء جمع من المفسرين إلى جعل الإخبار عن المخاطبين بكونهم فيما مضى من الزمان خير أمة بمعنى كونهم كذلك في علم الله تعالى وقدره أو ثبوت هذا الكون في اللوح المحفوظ أو جعل كان بمعنى صار.
والمراد بأمة عموم الأمم كلها على ما هو المعروف في إضافة أفعل التفضيل إلى النكرة أن تكون للجنس فتفيد الاستغراق.
وقوله: {أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} الإخراج مجاز في الإيجاد والأظهر كقوله تعالى: {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ} [طه: 88] أي أظهر بصوغه عجلا جسدا.
والمعنى: كنتم خير الأمم التي وجدت في عالم الدنيا. وفاعل {أخرجت} معلوم وهو الله موجد الأمم، والسائق إليها ما به تفاضلها. والمراد بالناس جميع البشر من أول الخليقة.
وجملة {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} حال في معنى التعليل إذ مدلولها ليس من الكيفيات المحسوسة حتى تحكي الخيرية في حال مقارنتها لها، بل هي من الأعمال النفسية الصالحة للتعليل لا للتوصيف، ويجوز أن يكون استئنافا لبيان كونهم خير أمة. ويجوز كونها خبرا ثانيا لكان، وهذا ضعيف لأنه يفيت قصد التعليل. والمعروف والمنكر تقدم بيانها قريبا.
وإنما قدم {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} على قوله: {وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} لأنهما الأهم في هذا المقام المسوق للتنويه بفضيلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الحاصلة من قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ

عَنِ الْمُنْكَرِ} والاهتمام الذي هو سبب التقديم يختلف باختلاف مقامات الكلام ولا ينظر فيه إلى ما في نفس الأمر لأن إيمانهم ثابت محقق من قبل.
وإنما ذكر الإيمان بالله في عداد الأحوال التي استحقوا بها التفصيل على الأمم، لأن لكل من تلك الأحوال الموجبة للأفضلية أثرا في التفضيل على بعض الفرق، فالإيمان قصد به التفضيل على المشركين الذين كانوا يفتخرون بأنهم أهل حرم الله وسدنة بيته وقد رد الله ذلك صريحا في قوله: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ} [التوبة: 19] وذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قصد به التفضيل على أهل الكتاب، الذين أضاعوا ذلك بينهم، وقد قال تعالى فيهم: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} [المائدة: 79].
فإن قلت إذا كان وجه التفضيل على الأمم هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله، فقد شاركنا في هذه الفضيلة بعض الجماعات من صالحي الأمم الذين قبلنا. لأنهم آمنوا بالله على حسب شرائعهم، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، لتعذر أن يترك الأمم الأمر بالمعروف لأن الغيرة على الدين أمر مرتكز في نفوس الصادقين من أتباعه. قلت: لم يثبت أن صالحي الأمم كانوا يلتزمون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إما لأنه لم يكن واجبا عليهم، أو لأنهم كانوا يتوسعون في حال التقية، وهذا هارون في زمن موسى عبدت بنو إسرائيل العجل بمرأى منه ومسمع فلم يغير عليهم، وقد حكى الله محاورة موسى معه بقوله قال قَالَ: {يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه: 92، 94] وأما قوله تعالى: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 113، 114] الآية فتلك فئة قليلة من أهل الكتاب هم الذين دخلوا في الإسلام مثل عبد الله بن سلام، وقد كانوا فئة قليلة بين قومهم فلم يكونوا جمهرة الأمة.
وقد شاع عند العلماء الاستدلال بهذه الآية على حجية الإجماع وعصمته من الخطأ بناء على أن التعريف في المعروف والمنكر للاستغراق، فإذا أجمعت الأمة على حكم، لم يجز أن يكون ما أجمعوا عليه منكرا، وتعين أن يكون معروفا، لأن الطائفة المأمورة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في ضمنهم، ولا يجوز سكوتها عن منكر يقع، ولا عن معروف يترك، وهذا الاستدلال إن كان على حجية الإجماع بمعنى الشرع المتواتر المعلوم من

الدين بالضرورة فهو استدلال صحيح لأن المعروف والمنكر في هذا النوع بديهي ضروري، وان كان استدلالا على حجية الإجماعات المنعقدة عن اجتهاد، وهو الذي يقصده المستدلون بالآية، فاستدلالهم بها عليه سفسطائي لأن المنكر لا يعتبر منكرا إلا بعد إثبات حكمه شرعا، وطريق إثبات حكمه الإجماع، فلو أجمعوا على منكر عند الله خطأ منهم لما كان منكرا حتى ينهي عنه طائفة منهم لأن اجتهادهم هو غاية وسعهم.
{وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [110].
عطف على قوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} لأن ذلك التفضيل قد غمر أهل الكتاب من اليهود وغيرهم فنبههم هذا العطف إلى إمكان تحصيلهم على هذا الفضل، مع ما فيه من التعريض بهم بأنهم مترددون في أتباع الإسلام، فقد كان مخيريق مترددا زمانا ثم أسلم، وكذلك وفد نجران ترددوا في أمر الإسلام.
وأهل الكتاب يشمل اليهود والنصارى، لكن المقصود الأول هنا هم اليهود، لأنهم كانوا مختلطين بالمسلمين في المدينة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم دعاهم إلى الإسلام، وقصد بيت مدراسهم، ولأنهم قد أسلم منهم نفر قليل وقال النبي صلى الله عليه وسلم "لو آمن بي عشرة من اليهود لآمن بي اليهود كلهم" .
ولم يذكر متعلق آمن هنا لأن المراد لو اتصفوا بالإيمان الذي هو لقب لدين الإسلام وهو الذي منه أطلقت صلة الذين آمنوا على المسلمين فصار كالعلم بالغلبة، وهذا كقولهم أسلم، وصبأ، وأشرك، ولحد، دون ذكر متعلقات لهاته الأفعال لأن المراد أنه أتصف بهذه الصفات التي صارت أعلاما على أديان معروفة، فالفعل نزل منزلة اللازم، وأظهر منه: تهود، تنصر، وتزندق، وتحنف، والقرينة على هذا المعنى ظاهرة وهي جعل إيمان أهل الكتاب في شرط الامتناع، مع أن أيمانهم بالله معروف لا ينكره أحد. ووقع في الكشاف أن المراد: لو آمنوا الإيمان الكامل، وهو تكلف ظاهر، وليس المقام مقامه. وأجمل وجه كون الإيمان خير لهم لتذهب نفوسهم كل مذهب في الرجاء والإشفاق. ولما أخبر عن أهل الكتاب بامتناع الإيمان منهم بمقتضى جعل إيمانهم في حيز شرط لو الامتناعية، تعين لان المراد من بقي بوصف أهل الكتاب، وهو وصف لا يبقي وصفهم به بعد أن يتدينوا بالإسلام، وكان قد يتوهم أن وصف أهل الكتاب يشمل من كان قبل ذلك منهم ولو دخل في الإسلام، وجيء بالاحتراس بقوله: {مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} أي منهم من آمن بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم فصدق عليه لقب المؤمن، مثل عبد الله بن

سلام، وكان أسمه حصينا وهو من بني قينقاع، وأخيه، وعمته، خالدة، وسعيه أو سنعة بن غريض بن عاديا التيماوي، وهو أبن أخي السموأل ابن عاديا، وثعلبة بن سعيا، وأسد بن سعيه القرضي، وأسد بن عبيد القرضي، ومخيريق من بني النضير أو من بني قينقاع، ومثل أصحمة النجاشي، فإنه آمن بقلبه وعوض عن إظهاره أعمال الإسلام نصره للمسلمين، وحمايته لهم ببلده، حتى ظهر دين الله، فقبل الله منه ذلك، ولذلك أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه بأنه كان مؤمنا وصلى عليه حين أوحى إليه بموته. ويحتمل إن يكون المعني من أهل الكتاب فريق متق في دينه، فهو قريب من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء مثل من بقي مترددا في الإيمان من دون أن يتعرض لأذى المسلمين، مثل النصارى من نجران ونصارى الحبشة، ومثل مخيريق اليهودي قبل أن يسلم، على الخلاف في إسلامه، فإنه أوصى بماله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمراد بإيمانهم صدق الأيمان بالله وبديهم، وفريق منهم فاسق عن دينه، محرف له، مناوأ لأهل الخير، كما قال تعالى: {وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ} مثل الذين سموا الشاة لرسول الله يوم خيبر، والذين حاولوا أن يرموا عليه صخرة.
{لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} [111].
استئناف نشأ عن قوله: {وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 110]، لأن الإخبار عن أكثرهم بأنهم غير مؤمنين يؤذون بمعاداتهم للمؤمنين، وذلك من شأنه أن يوقع في نفوس المسلمين خشية من بأسهم، وهذا يختص باليهود، فإنهم كانوا منتشرين حيال المدينة في خيبر، والنضير، وقينقاع، وقريظة، وكانوا أهل مكر، وقوة، ومال، وعدة، وعدد، والمسلمون يومئذ في قلة فطمأن الله المسلمين بأنهم لا يخشون بأس أهل الكتاب، ولا يخشون ضرهم، لكن أذاهم.
أما النصارى فلا ملابسة بينهم وبين المسلمين حتى يخشوهم. والأذى هو الألم الخفيف وهو لا يبلغ حد الضر الذي هو الألم، وقد قيل هو الضر بالقول فيكون كقول إسحاق بن خلف:
أخشى فظاظة عم أو جفاء أخ ... وكنت أبقي عليها من أذى الكلم
ومعنى {يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ} يفرون منهزمين.

وقوله: {ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} احتراس أي يولوكم الأدبار تولية منهزمين لا تولية متحرفين لقتال أو متحيزين إلى فئة، أو متأملين في الأمر. وفي العدول عن جعله معطوفا على جملة الجواب إلى جعله معطوفا على جملتي الشرط وجزائه معا، إشارة إلى أن هذا ديدنهم وهجيراهم، لو قاتلوكم، وكذلك في قتالهم غيركم.
وثم لترتيب الأخبار دالة على تراخي الرتبة. ومعنى تراخي الرتبة كون رتبة معطوفها أعظم من رتبة المعطوف عليه في الغرض المسوق له الكلام. وهو غير التراخي المجازي، لأن التراخي المجازي أن يشبه ما ليس بمتأخر عن المعطوف بالمتأخر عنه.
وهذا كله وعيد لهم بأنهم سيقاتلون المسلمين، وأنهم ينهزمون، وإغراء للمسلمين بقتالهم.
{ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [113].
{ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ}
يعود ضمير عليهم إلى {وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 110] وهو خاص باليهود لا محالة، وهو كالبيان لقوله: {ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} .
والجملة بيانية لذكر حال شديد من شقائهم في الدنيا.
ومعنى ضرب الذلة اتصالها بهم وأحاطتها، ففيه استعارة مكنية وتبعية شبهت الذلة، وهي أمر معقول، بقبة أو خيمة شملتهم وشبه اتصالها وثباتها بضرب القبة وشدة أطنابها، وقد تقدم نظيره في البقرة.
و {ثقفوا} في الأصل أخذوا في الحرب {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ} [الأنفال: 57] وهذه المادة تدل على تمكن من أخذ الشيء، وتصرف فيه بشدة، ومنها سمي الأسر ثقافا. والثقاف آلة كالكلوب تكسر به أنابيب قنا الرماح. قال النابغة:
عض الثقاف على صم الأنابيب
والمعنى هنا: أينما عثر عليهم، أو أينما وجدوا، أي هم لا يوجدون إلا محكومين،

شبه حال ملاقاتهم في غير الحرب بحال أخذ الأسير لشدة ذلهم.
وقوله: {إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} الحبل مستعار للعهد، وتقدم ما يتعلق بذلك عند قوله تعالى: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} في سورة البقرة [256] وعهد الله ذمته، وعهد الناس حلفهم، ونصرهم، والاستثناء من عموم الأحوال وهي أحوال دلت عليها الباء التي للمصاحبة. والتقدير: ضربت عليهم الذلة متلبسين بكل حال إلا متلبسين بعهد من الله وعهد من الناس، فالتقدير: فذهبوا بذلة إلا بحبل من الله.
والمعنى لا يسلمون من الذلة إلا إذا تلبسوا بعهد من الله، أي ذمة الإسلام، أو إذا استنصروا بقبائل أولي بأس شديد، وأما هم في أنفسهم فلا نصر لهم. وهذا من دلائل النبوة فإن اليهود كانوا أعزة بيثرب وخيبر والنضير وقريظة، فأصبحوا أذلة وعمتهم المذلة في سائر أقطار الدنيا.
{وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} أي رجعوا وهو مجاز لمعنى صاروا إذ لا رجوع هنا.
والمسكنة الفقر الشديد مشتقة من أسم المسكين وهو الفقير، ولعل اشتقاقه من السكون وهو سكون خيالي أطلق على قلة الحيلة في العيش. والمراد بضرب المسكنة عليهم تقديرها لهم وهو إخبار بمغيب لأن اليهود المخبر عنهم قد أصابهم الفقر حين أخذت منازلهم في خيبر والنضير وقينقاع وقريظة، ثم في إجلائهم بعد ذلك في زمن عمر.
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ}
الإشارة إلى ضرب الذلة المأخوذ من {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ} . ومعنى {يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ} تقدم عند قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ} [آل عمران: 21] أوائل هذه السورة.
وقوله: {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} يحتمل أن يكون إشارة إلى كفرهم وقتلهم الأنبياء بغير حق، فالباء سبب السبب، ويحتمل أن يكون إشارة ثانية إلى ضرب الذلة والمسكنة فيكون سببا ثانيا. وما مصدرية أي بسبب عصيانهم واعتدائهم، وهذا نشر على ترتيب اللف فكفرهم بالآيات سببه العصيان، وقتلهم الأنبياء سببه الاعتداء.
{لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ

اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ[113] يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الخيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} [114].
استئناف قصد به أنصاف طائفة من أهل الكتاب، بعد الحكم على معظمهم بصيغة تعمهم، تأكيدا لما أفاده قوله: {مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 110] فالضمير في قوله: {ليسوا} لأهل الكتاب المتحدث عنهم آنفا، وهم اليهود، وهذه الجملة تتنزل من التي بعدها منزلة التمهيد.
وسواء أسم بمعنى المماثل وأصله مصدر مشتق من التسوية.
وجملة {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} الخ... مبينة لإبهام {لَيْسُوا سَوَاءً} والإظهار في مقام الإضمار للاهتمام بهؤلاء الأمة. فالأمة هنا بمعنى الفريق.
وإطلاق أهل الكتاب عليهم مجاز باعتبار ما كان كقوله تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 2] لأنهم صاروا من المسلمين.
وعدل عن أن يقال: منهم أمة قائمة إلى قوله من أهل الكتاب: ليكون هذا الثناء شاملا لصالحي اليهود، وصالحي النصارى، فلا يختص بصالحي اليهود، فإن صالحي اليهود قبل بعثة عيسى كانوا متمسكين بدينهم، مستقيمين عليه، ومنهم الذين آمنوا بعيسى وأتبعوه، وكذلك صالحوا النصارى قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم كانوا مستقيمين على شريعة عيسى، وكثير منهم أهل تهجد في الأديرة والصوامع وقد صاروا مسلمين بعد البعثة المحمدية.
والأمة: الطائفة والجماعة.
ومعنى قائمة أنه تمثيل للعمل بدينها على الوجه الحق، كما يقال: سوق قائمة وشريعة قائمة.
والآناء أصله أأناء بهمزتين بوزن أفعال، وهو جمع إني بكسر الهمزة وفتح النون مقصورا ويقال أني بفتح الهمزة قال تعالى {غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} [الأحزاب: 53] أي غير منتظرين وقته.
وجملة {وَهُمْ يَسْجُدُونَ} حال، أي يتهجدون في الليل بتلاوة كتابهم، فقيدت تلاوتهم الكتاب بحالة سجودهم. وهذا الأسلوب أبلغ وأبين من أن يقال: يتهجدون لأنه يدل على صورة فعلهم.

ومعنى {يُسَارِعُونَ فِي الخيْرَاتِ} يسارعون إليها أي يرغبون في الاستكثار منها. والمسارعة مستعارة للاستكثار من الفعل، والمبادرة إليه، تشبيها للاستكثار والاعتناء بالسير السريع لبلوغ المطلوب. وفي للظرفيه المجازية، وهي تخييلية تؤذن بتشبيه الخيرات بطريق يسير فيه السائرون، ولهؤلاء مزية السرعة في قطعه. ولك أن تجعل مجموع المركب من قوله: {وَيُسَارِعُونَ فِي الخيْرَاتِ} تمثيلا لحال مبادرتهم وحرصهم على فعل الخيرات بحال السائر الراغب في البلوغ إلى قصده يسرع في سيره. وسيأتي نظيره عند قوله تعالى: {لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} في سورة العقود [176].
والإشارة بأولئك إلى الأمة القائمة الموصوفة بتلك الأوصاف. وموقع أسم الإشارة التنبيه على أنهم استحقوا الوصف المذكور بعد أسم الإشارة بسبب ما سبق أسم الإشارة من الأوصاف.
{وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} [115].
تذييل للجمل المفتتحة بقوله تعالى: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} [آل عمران: 113] إلى قوله تعالى: {مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 114]. وقرأ الجمهور: تفعلوا بالفوقيه فهو وعد للحاضرين، ويعلم منه ان الصالحين السابقين مثلهم، بقرينة مقام الامتنان، ووقوعه عقب ذكرهم، فكأنه قيل: وما تفعلوا من خير ويفعلوا. ويجوز أن يكون التفاتا لخطاب أهل الكتاب. وقرأه حمزة، والكسائي، وحفص، وخلف بياء الغيبه عائدا إلى أمة قائمة.
والكفر: ضد الشكر أي هو إنكار وصول النعمة الواصلة. قال عنترة:
نبئت عمرا غير شاكر نعمتي ... والكفر مخبشة لنفس المنعم
وقال تعالى: {وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} وأصل الشكر والكفر أن يتعديا إلى واحد، ويكون مفعولهما النعمة كما في البيت. وقد يجعل مفعولهما المنعم على التوسع في حذف حرف الجر، لأن الأصل شكرت له وكفرت له. قال النابغة:
شكرت لك النعمى
وقد جمع بين الاستعمالين قوله تعالى: {وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152] وقد عدي {تكفروه} إلى مفعولين: أحدهما نائب الفاعل، لأن الفاعل ضمن معنى الحرمان. والضمير المنصوب عائد إلى خير بتأويل خير بجزاء فعل الخير على طريقة الاستخدام. وأطلق الكفر هنا على ترك جزاء فعل الخير، تشبيها لفعل الخير بالنعمة. كأن

فاعل الخير أنعم على الله تعالى بنعمته مثل قوله: {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} [التغابن: 17] فحذف المشبه ورمز إليه بما هو من لوازمه العرفية. وهو الكفر. على أن في القرينة استعارة مصرحة مثل {يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ} [البقرة: 27] وقد امتن الله علينا إذ جعل طاعتنا إياه كنعمة عليه تعالى، وجعل ثوابها شكرا، وترك ثوابها كفرا فنفاه. وسمى نفسه الشكور.
وقد عدي الكفران هنا إلى النعمة على أصل تعديته.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [116].
استئناف ابتدائي للانتقال إلى ذكر وعيد المشركين بمناسبة ذكر وعد الذين آمنوا من أهل الكتاب.
وإنما عطف الأولاد هنا لأن الغناء في متعارف الناس يكون بالمال والولد، فالمال يدفع به المرء عن نفسه في فداء أو نحوه، والولد يدافعون عن أبيهم بالنصر، وقد تقدم القول في مثله في طالعه هذه السورة.
وكرر حرف النفي مع المعطوف في قوله: {وَلا أَوْلادُهُمْ} لتأكيد عدم غناء أولادهم عنهم لدفع توهم ما هو متعارف من أن الأولاد لا يقعدون عن الذب عن آبائهم.
ويتعلق {من الله} بفعل {لن تغني} على معنى من الابتدائية أي غناء يصدر من جانب الله بالعفو عن كفرهم.
وانتصب شيئا على المفعول المطلق لفعل {لن تغني} أي شيئا من غناء. وتنكير شيئا للتقليل.
وجملة {وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ} عطف على جملة {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ} . وجيء بالجملة معطوفة، على خلاف الغالب في أمثالها أن يكون بدون عطف، لقصد أن تكون الجملة منصبا عليها التأكيد بحرف إن فيكمل لها من أدلة تحقيق مضمونها خمسة أدلة هي: التأكيد بـ {أن} ، وموقع أسم الإشارة، والأخبار عنهم بأنهم أصحاب النار، وضمير الفصل، ووصف خالدون.
{مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ

قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [117].
استئناف بياني لأن قوله: {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ...} الخ يثير سؤال سائل عن إنفاقهم الأموال في الخير من إغاثة الملهوف وإعطاء الديات في الصلح عن القتلى.
ضربت لأعمالهم المتعلقة بالأموال مثلا، فشبه هيئة إنفاقهم المعجب ظاهريا، المخيب آخرها، حين يحبطها الكفر، بهيئة زرع أصابته ريح باردة فأهلكته، تشبه المعقول بالمحسوس. ولما كان التشبيه تمثيليا لم يتوخ فيه موالاة ما شبه به إنفاقهم لأداة التمثيل، فقيل: كمثل ريح، ولم يقل كمثل حرث ثوم.
والكلام على الريح تقدم عند قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} في سورة البقرة [164].
والصر: البرد الشديد المميت لكل زرع أو ورق يهب عليه فيتركه كالمحترق، ولم يعرف في كلام العرب إطلاق الصر على الريح الشديد البرد وإنما الصر أسم البرد. وأما الصرصر فهو الريح الشديدة وقد تكون باردة. ومعنى الآية غني عن التأويل، وجوز في الكشاف أن يكون الصر هنا اسما للريح الباردة وجعله مرادف الصرصر. وقد أقره الكاتبون عليه ولم يذكر هذا الإطلاق في الأساس ولا ذكره الراغب.
وفي قوله: {فيها صر} إفادة شدة برد هذه الريح، حتى كأن الصر مظروف فيها، وهي تحمله إلى الحرث.
والحرث هنا مصدر بمعنى المفعول: أي محروث قوم أي أرضا محروثة والمراد أصابت زرع حرث. ونقدم الكلام على معاني الحرث عند قوله تعالى: {وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} [آل عمران: 14] في أول السورة.
وقوله: {ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} إدماج في خلال التمثيل يكسب التمثيل تفظيعا وتشويها وليس جزءا من الهيئة المشبه بها. وقد يذكر البلغاء مع المشبه به صفات لا يقصدون منها غير التحسين أو التقبيح كقول كعب بن زهير:
شجت بذي شبم من ماء محنية ... صاف بأبطح أضحى وهو مشمول
تنفي الرياح القذى عنه وأفرطه ... من صوب سارية بيض يعاليل
فأجرى على الماء الذي هو جزء المشبه به صفات لا أثر لها في التشبيه.

والسامعون عالمون بأن عقاب الأقوام الذين ظلموا أنفسهم غاية في الشدة، فذكر وصفهم بظلم أنفسهم لتذكير السامعين بذلك على سبيل الموعظة، وجيء بقوله: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ} غير معطوف على ما قبله لأنه كالبيان لقوله {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ} .
وقوله: {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} الضمائر فيه عائدة على الذين كفروا. والمعنى أن الله لم يظلمهم حين لم يتقبل نفقاتهم بل هم تسببوا في ذلك، إذ لم يؤمنوا لأن الإيمان جعله الله شرطا في قبول الأعمال، فلما أعلمهم بذلك وأنذرهم لم يكن عقابه بعد ذلك ظلما لهم، وفيه إيذان بأن الله لا يخلف وعده من نفي الظلم عن نفسه.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [118].
الآن إذ كشف الله دخائل من حول المسلمين من أهل الكتاب، أتم كشف، جاء موقع التحذير من فريق منهم، والتحذير من الاغترار بهم، والنهي عن الإلقاء إليهم بالمودة، وهؤلاء هم المنافقون، للإخبار عنهم بقوله: {وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا} [آل عمرات: 119] الخ... وأكثرهم من اليهود، دون الذين كانوا مشركين من الأوس والخزرج. وهذا موقع الاستنتاج في صناعة الخطابة بعد ذكر التمهيدات والإقتناعات. وحقه الاستئناف الابتدائي كما هنا.
والبطانة بكسر الباء في الأصل داخل الثوب، وجمعها بطائن، وفي القرآن {بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} [الرحمن: 54] وظاهر الثوب يسمى الظهارة بكسر الظاء والبطانة أيضا الثوب الذي يجعل تحت ثوب آخر، ويسمى الشعار، وما فوقه الدثار، وفي الحديث الأنصار شعار والناس دثار ثم أطلقت البطانة على صديق الرجل وخصيصه الذي يطلع على شؤونه، تشبيها ببطانة الثياب في شدة القرب من صاحبها.
ومعنى اتخاذهم بطانة أنهم كانوا يخالفونهم ويودونهم من قبل الإسلام فلما أسلم من أسلم من الأنصار بقيت المودة بينهم وبين من كانوا أحلافهم من اليهود، ثم كان من اليهود من أظهروا الإسلام، ومنهم من بقى على دينه.
وقوله: {من دونكم} يجوز أن تكون من فيه زائدة و دون اسم مكان بمعنى حولكم، وهو الاحتمال الأظهر كقوله تعالى في نظيره {وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا

رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} [التوبة: 16] ويجوز أن تكون من للتبغيض و دون بمعنى غير كقوله تعالى: {وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} [الفتح: 27] من غير أهل ملتكم، وقد علم السامعون أن المنهي عن اتخاذهم بطانة هم الذين كانوا يموهون إلى المؤمنين بأنهم منهم، ودخائلهم تقتضي التحذير من استبطانهم.
وجملة {لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} صفة لبطانة على الوجه الأول، وهذا الوصف ليس من الأوصاف الظاهرة التي تفيد تخصيص النكرة عما شاركها، لكنه يظهر بظهور آثاره للمتوسمين. فنهى الله المسلمين عن اتخاذ بطانة هذا شأنها وسمتها، ووكلهم إلى توسم الأحوال والأعمال، ويكون قوله: {وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} وقوله: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ} جملتين في محل الوصف أيضا على طريقة ترك عطف الصفات، ويومئ إلى ذلك قوله: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} أي: قد بينا لكم علامات عداوتهم بتلك الصفات إن كنتم تعقلون فتتوسمون تلك الصفات، كما قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} وعلى الاحتمال الثاني يجعل {من دونكم} وصفا، وتكون الجمل بعده مستأنفات واقعة موقع التعليل للنهي عن اتخاذ بطانة من غير أهل ملتنا، وهذه الخلال ثابتة لهم فهي صالحة للتوصيف، ولتعليل النهي. ذلك لأن العداوة الناشئة عن اختلاف الدين عداوة متأصلة لاسيما عداوة قوم يرون هذا الدين قد أبطل دينهم. وأزال حظوظهم كما سنبينه.
ومعنى {لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} لا يقصرون في خبالكم، والألو التقصير والترك، وفعله ألا يألو، وقد يتوسعون في هذا الفعل فيعدي إلى مفعولين، لأنهم ضمنوه معنى المنع فيما يرغب فيه المفعول، فقالوا لا آلوك جهدا، كما قالوا لا أدخرك نصحا، فالظاهر انه شاع ذلك الاستعمال حتى صار التضمين منسيا، فلذلك تعدى إلى ما يدل على الشر كما يعدى إلى ما يدل على الخير، فقال هنا {لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} أي لا يقصرون في خبالكم، وليس المراد لا يمنعونكم، لأن الخبال لا يرغب فيه ولا يسأل.
ويحتمل أنه استعمل في هذه الآية على سبيل التهكم بالبطانة، لأن شأن البطانة أن يسعوا إلى ما فيه خير من استبطنهم، فلما كان هؤلاء بضد ذلك عبر عن سعيهم بالضر، بالفعل الذي من شأنه أن يستعمل في السعي بالخير.
والخبال اختلاف الأمر وفساده، ومنه سمي فساد العقل خبالا، وفساد الأعضاء.
وقوله: {وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} الود: المحبة، والعنت: التعب الشديد، أي رغبوا فيما يعنتكم وما هنا مصدرية، غير زمانية، ففعل {عنتم} لما صار بمعنى المصدر زالت

دلالته على المضي.
ومعنى {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} ظهرت من فلتات أقوالهم كما قال تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} فعبر بالبغضاء عن دلائلها.
وجملة {وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} حالية.
والآيات في قوله: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ} بمعنى دلائل سوء نوايا هذه البطانة كما قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر: 75] ولم يزل القرآن يربي هذه الأمة على أعمال الفكر، والاستدلال، وتعرف المسببات من أسبابها، في سائر أحوالها: في التشريع، والمعاملة لينشئها أمة علم وفطنة.
ولكون هذه الآيات آيات فراسة وتوسم، قال: {إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} ولم يقل: إن كنتم تعلمون أو تفقهون، لأن العقل أعم من العلم والفقه.
وجملة {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ} مستأنفة
{هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [119].
{هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ}.
استئناف ابتدائي، قصد منه المقابلة بين خلق الفريقين، فالمؤمنون يحبون أهل الكتاب، وأهل الكتاب يبغضونهم، وكل إناء بما فيه يرشح، والشأن أن المحبة تجلب المحبة إلا إذا اختلفت المقاصد والأخلاق.
وتركيب ها أنتم أولاء ونظائره مثل هأنا تقدم في قوله تعالى في سورة البقرة [85] {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} . ولما كان التعجيب في الآية من مجموع الحالين قبل {هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ} فالعجب من محبة المؤمنين إياهم في حال بغضهم المؤمنين، ولا يذكر بعد أسم الإشارة جملة في هذا التركيب إلا والقصد التعجب من مضمون تلك الجملة.
وجملة {وَلا يُحِبُّونَكُمْ} جملة حال من الضمير المرفوع في قوله: {تحبونهم} لأن محل التعجب هو مجموع الحالين.

وليس في هذا التعجيب شيء من التغليط، ولكنه مجرد أيقاظ، ولذلك عقبه بقوله: {وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ} فإنه كالعذر للمؤمنين في استبطانهم أهل الكتاب بعد أيمان المؤمنين، لأن المؤمنين لما آمنوا بجميع رسل الله وكتبهم كانوا ينسبون أهل الكتاب إلى هدى ذهب زمانه، وأدخلوا فيه التحريف بخلاف أهل الكتاب إذ يرمقون المسلمين بعين الازدراء والضلالة واتباع ما ليس بحق. وهذان النظران، منا ومنهم، هما أصل تسامح المسلمين مع قوتهم، وتصلب أهل الكتابين مع ضعفهم.
{وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ}.
جملة {وتؤمنون} معطوفة على {تحبونهم} كما أن جملة {وَإِذَا لَقُوكُمْ} ، معطوفة على {ولا يحبونكم} وكلها أحوال موزعة على ضمائر الخطاب وضمائر الغيبة.
والتعريف في {الكتاب} للجنس وأكد بصيغة المفرد مراعاة للفظه، وأراد بهذا جماعة من منافقي اليهود أشهرهم زيد بن الصتيت القينقاعي.
والعض: شد الشيء بالأسنان. وعض الأنامل كناية عن شدة الغيظ والتحسر، وأن لم يكن عض أنامل محسوسا، ولكن كني به عن لازمه في المتعارف، فإن الإنسان إذا اضطرب باطنه من الانفعال صدرت عنه أفعال تناسب ذك الانفعال، فقد تكون معينة على دفع انفعاله كقتل عدوه، وفي ضده تقبيل من يحبه، وقد تكون قاصرة عليه يشفي بها بعض انفعاله، كتخبط الصبي في الأرض إذا غضب، وضرب الرجل نفسه من الغضب، وعضه أصابعه من الغيظ، وقرعه سنه من الندم، وضرب الكف بالكف من التحسر، ومن ذلك التأوه والصياح ونحوها، وهي ضروب من علامات الجزع، وبعضها جبلي كالصياح، وبعضها عادي يتعارفه الناس ويكثر بينهم، فيصيرون يفعلونه بدون تأمل، وقال الحارث بن ظالم المري:
فأقبل أقوام لئام أذلة ... يعضون من غيظ رؤوس الأباهم
وقوله: {عليكم} على فيه للتعليل، والضمير المجرور ضمير المسلمين، وهو من تعليق الحكم بالذات بتقدير حالة معينة، أي على التآمكم وزوال البغضاء، كما فعل شاس بن قيس اليهودي فنزل فيه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} [آل عمران: 100] ونظير هذا التعليق قول الشاعر:

لتقرعن على السن من ندم ... إذا تذكرت يوما بعض أخلاقي
و {من الغيظ} من للتعليل. والغيظ: غضب شديد يلازمه إرادة الانتقام.
وقوله: {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ} كلام لم يقصد به مخاطبون معينون لأنه دعاء على الذين يعضون الأنامل من الغيظ، وهم يفعلون ذلك إذا خلوا، فلا يتصور مشافهتهم بالدعاء على التعيين ولكنه كلام قصد أسماعه لكل من يعلم من نفسه الاتصاف بالغيظ على المسلمين، وهو قريب من الخطاب الذي يقصد به عموم كل مخاطب، نحو {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ} [السجدة: 12].
والدعاء عليهم بالموت بالغيظ صريحة طلب موتهم بسبب غيظهم، وهو كناية عن ملازمة الغيظ لهم طول حياتهم إن طالت أو قصرت، وذلك كناية عن دوام سبب غيظهم، وهو حسن حال المسلمين، وانتظام أمرهم، وازدياد خيرهم، وفي هذا الدعاء عليهم بلزوم ألم الغيظ لهم، وبتعجيل موتهم به، وكل من المعنيين المكني بهما مراد هنا، والتكني بالغيظ وبالحسد عن كمال المغيظ منه المحسود مشهور، والعرب تقول: فلان محسد، أي هو في حالة نعمة وكمال.
{إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}.
تذييل لقوله: {عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ} وما بينها كالاعتراض أي أن الله مطلع عليهم وهو مطلعك على دخائلهم.
{إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [120].
{إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا}.
زاد الله كشفا لما في صدورهم بقوله: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ} أي تصبكم حسنة والمس الإصابة، ولا يختص أحدهما بالخير والآخر بالشر، فالتعبير بأحدهما في جانب الحسنة، وبالآخر في جانب السيئة، تفنن، وتقدم عند قوله تعالى: {كَالَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} في سورة البقرة [275].
والحسنة والسيئة هنا الحادثة أو الحالة التي تحسن عند صاحبها أو تسؤ وليس المراد بهما هنا الاصطلاح الشرعي.

{وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [120].
أرشد الله المؤمنين إلى كيفية تلقي أذى العدو: بأن يتلقوه بالصبر والحذر، وعبر عن الحذر بالاتقاء أي اتقاء كيدهم وخداعهم، وقوله: {لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} أي بذلك ينتفي الضر كله لأنه أثبت في أول الآيات أنهم لا يضرون المؤمنين إلا أذى، فالأذى ضر خفيف، فلما انتفى الضر الأعظم الذي يحتاج في دفعه إلى شديد مقاومة من قتال وحراسة وإنفاق، كان انتفاء ما بقي من الضر هينا، وذلك بالصبر على الأذى إلى ما يوصل ضرا عظيما. وفي الحديث لا أحد أصبر على أذى يسمعه من الله يدعون له ندا وهو يرزقهم.
وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب {لا يضركم} بكسر الضاد وسكون الراء من ضاره يضيره بمعنى أضره. وقرأه ابن عامر، وحمزة، وعاصم، والكسائي، وأبو جعفر، وخلف بضم الضاد وضم الراء مشددة من ضره يضره، والضمة ضمة أتباع لحركة العين عند الإدغام للتخلص من التقاء الساكنين: سكون الجزم وسكون الإدغام، ويجوز في مثله من المضموم العين في المضارع ثلاثة وجوه في العربية: الضم لإتباع حركة العين، والفتح لخفته، والكسر لأنه الأصل في التخلص من التقاء الساكنين، ولم يقرأ إلا بالضم في المتواتر.
{وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ[121] إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [122].
وجود حرف العطف في قوله: {وَإِذْ غَدَوْتَ} مانع من تعليق الظرف ببعض الأفعال المتقدمة مثل {وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} [آل عمران: 118] {ومثل يَفْرَحُوا بِهَا} [آل عمران: 120] وعليه فهو آت كما أتت نظائره في أوائل الآي والقصص القرآنية، وهو من عطف جملة على جملة وقصة على قصة وذلك انتقال اقتضابي فالتقدير: واذكر إذ غدوت. ولا يأتي في هذا تعلق الظرف بفعل مما بعده لأن قوله: {تُبَوِّئُ} لا يستقيم أن يكون مبدأ الغرض، وقوله: {هَمَّتْ} لا يصلح لتعليق {إذ غدوت} لأنه مدخول إذ أخرى.
ومناسبة ذكر هذه الوقعة عقب ما تقدم أنها من أوضح مظاهر كيد المخالفين في الدين، والمنافقين، ولما كان شأن المنافقين وأهل يثرب واحدا، ودخيلتهما

سواء، وكانوا يعملون على ما تدبره اليهود، جمع الله مكائد الفريقين بذكر غزوة أحد، وكان نزول هذه السورة عقب غزوة أحد كما تقدم. فهذه الآيات تشير إلى وقعة أحد الكائنة في شوال سنة ثلاث من الهجرة، حين نزل مشركو مكة ومن معهم من أحلافهم سفح جبل أحد، حول المدينة، لأخذ الثأر بما نالهم يوم بدر من الهزيمة، فأستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه فيما يفعلون وفيهم عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين، فأشار جمهورهم بالتحصن بالمدينة حتى إذا دخل عليهم المشركون المدينة قاتلوهم في الديار والحصون فغلبوهم، وإذا رجعوا رجعوا خائبين، وأشار فريق بالخروج ورغبوا في الجهاد وألحوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم برأي المشيرين بالخروج، ولبس لامته ثم عرض للمسلمين تردد في الخروج فراجعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لا ينبغي لنبي أن يلبس لامته فيضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه" . وخرج بالمسلمين إلى جبل أحد وكان الجبل ورائهم، وصفهم للحرب، وانكشفت الحرب عن هزيمة خفيفة لحقت المسلمين بسبب مكيدة عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين، إذ انخزل هو وثلث الجيش، وكان عدد جيش المسلمين سبعمائة، وعدد جيش أهل مكة ثلاثة الآف، وهمت بنو سلمة وبنو حارثة من المسلمين بالانخزال، ثم عصمهم الله، فذلك قوله تعالى: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} أي ناصرهما على ذلك الهم الشيطاني، الذي لو صار عزما لكان سبب شقائهما، فلعناية الله بهما برأهما الله من فعل ما همتا به، وفي البخاري عن جابر بن عبد الله قال: "نحن الطائفتان بنو حارثة وبنو سلمة وفينا نزلت: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا} وما يسرني أنها لم تنزل والله يقول: {وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} وانكشفت الواقعة عن مرجوحية المسلمين إذ قتل منهم سبعون، وقتل من المشركين نيف وعشرون وقال أبو سفيان يومئذ أعل هبل يوم بيوم بدر والحرب سجال" وقتل حمزة رضي الله عنه ومثلت به هند بنت عتبة ابن ربيعة، زوج أبي سفيان، إذ بقرت عن بطنه وقطعت قطعة من كبده لتأكلها لإحنة كانت في قلبها عليه إذ قتل أباها عتبة يوم بدر، ثم أسلمت بعد وحسن إسلامها. وشج وجه النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ وكسرت رباعيته. والغدو: الخروج في وقت الغداة.
ومن في قوله: {مِنْ أَهْلِكَ} ابتدائية.
والأهل: الزوج. والكلام بتقدير مضاف يدل عليه فعل {غَدَوْتَ} أي من بيت أهلك وهو بيت عائشة رضي الله عنها.
و {تبوئ} تجعل مباء أي مكان بوء.

والبوء: الرجوع، وهو هنا المقر لأنه يبوء إليه صاحبه. وانتصب {المؤمنين} على انه مفعول أول لتبوئ ومقاعد مفعول ثاني إجراء لفعل تبوئ مجرى تعطي. والمقاعد جمع مقعد. وهو مكان القعود أي الجلوس على الأرض، والقعود ضد الوقوف والقيام، وإضافة مقاعد لأسم {القتال} قرينة على انه أطلق على المواضع اللائقة بالقتال التي يثبت فيها الجيش ولا ينتقل عنها لأنها لائقة بحركاته، فأطلق المقاعد هنا على مواضع القرار كناية، أو مجازا مرسلا بعلاقة الإطلاق، وشاع ذلك في الكلام حتى ساوى المقر والمكان، ومنه قوله تعالى: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ} [القمر: 55].
واعلم أن كلمة مقاعد جرى فيها على الشريف الرضي نقد إذ قال في رثاء أبي إسحاق الصابئ:
أعزز علي بأن أراك وقد خلا ... عن جانبيك مقاعد العواد
ذكر ابن الأثير في المثل السائر أن ابن سنان قال: إيراده هذه اللفظة في هذا الموضع صحيح إلا انه موافق لما يكره ذكره لاسيما وقد أضافه إلى من تحتمل إضافته إليه وهم العواد، ولو أنفرد لكان الأمر سهلا. وقال أبن الأثير: قد جاءت هذه اللفظة في القرآن فجاءت مرضية وهي قوله تعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ } ألا ترى أنها في هذه الآية غير مضافة إلى من تقبح أضافتها إليه.
{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ[123] إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ[124] بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةُ مُسَوِّمِينَ} [125].
إذ قد كانت وقعة أحد لم تنكشف عن نصر المسلمين، عقب الله ذكرها بأن ذكرهم الله تعالى نصره إياهم النصر الذي قدره لهم يوم بدر، وهو نصر عظيم إذ كان نصر فئة قليلة على جيش كثير، ذي عدد وافرة، وكان قتلى المشركين يومئذ سادة قريش، وأئمة الشرك، وحسبك بأبي جهل ابن هشام، ولذلك قال تعالى: {وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} أي ضعفاء. والذل ضد العز فهو الوهن والضعف. وهذا تعريض بأن انهزام يوم أحد لا يفل حدة المسلمين لأنهم صاروا أعزة. والحرب سجال.
وقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} اعتراض بين جملة {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ}

ومتعلق فعلها أعني {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ} . والفاء للتفريع والفاء تقع في الجملة المعترضة على الأصح، خلافا لمن منع ذلك من النحويين.. فأنه لما ذكرهم بتلك المنة العظيمة ذكرهم بأنها سبب للشكر فأمرهم بالشكر بملازمة التقوى تأدبا بنسبة قوله تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 70].
ومن الشكر على ذلك النصر أن يثبتوا في قتال العدو، وامتثال أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وأن لا تفل حدتهم هزيمة يوم أحد.
وظرف {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ} زماني وهو متعلق بنصركم لأن الوعد بنصره الملائكة والمؤمنين كان يوم بدر لا يوم أحد. هذا قول جمهور المفسرين.
وخص هذا الوقت بالذكر لأنه كان وقت ظهور هذه المعجزة وهذه النعمة، فكان جديرا بالتذكير والامتنان.
والمعنى: إذ تعد المؤمنين بإمداد الله بالملائكة، فما كان قول النبي صلى الله عليه وسلم لهم تلك المقالة إلا بوعد أوحاه الله إليه أن يقوله.
والاستفهام في قوله: {أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ} تقريري، والتقريري يكثر أن يورد على النفي، كما قدمنا بيانه عند قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} في سورة البقرة [243].
وإنما جيء في النفي بحرف لن الذي يفيد تأكيد النفي للإشعار بأنهم كانوا يوم بدر لقلتهم، وضعفهم، مع كثرة عدوهم، وشوكته، كالآيسين من كفاية هذا المدد من الملائكة، فأوقع الاستفهام التقريري على ذلك ليكون تلقينا لمن يخالج نفسه اليأس من كفاية ذلك العدد من الملائكة، بأن يصرح بما في نفسه، والمقصود من ذلك لازمة، وهذا إثبات أن ذلك العدد كاف.
ولأجل كون الاستفهام غير حقيقي كان جوابه من قبل السائل بقوله: {بلى} لأنه مما لاتسع المماراة فيه كما سيأتي في قوله تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} في سورة الأنعام [19]، فكان بلى إبطالا للنفي، وإثباتا لكون ذلك العدد كافيا، وهو من تمام مقالة النبي صلى الله عليه وسلم للمؤمنين.
وقد جاء في سورة الأنفال عند ذكره وقعة بدر أن الله وعدهم بمدد من الملائكة عدده ألف بقوله: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ

الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} وذكر هنا أن الله وعدهم بثلاثة آلاف ثم صيرهم إلى خمسة آلاف. ووجه الجمع بين الآيتين أن الله وعدهم بألف من الملائكة وأطمعهم بالزيادة بقوله: {مردفين} [الأنفال: 9] أي مردفين بعدد آخر، ودل كلامه هنا على أنهم لم يزالوا وجلين من كثرة عدد العدو، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم "ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين" أراد الله بذلك زيادة تثبيتهم ثم زادهم ألفين إن صبروا واتقوا. وبهذا الوجه فسر الجمهور، وهو الذي يقتضيه السياق. وقد ثبت أن الملائكة نزلوا يوم بدر لنصرة المؤمنين، وشاهد بعض الصحابة طائفة منهم، وبعضهم شهد آثار قتلهم رجالا من المشركين.
ووصف الملائكة بمنزلين للدلالة على أنهم ينزلون إلى الأرض في موقع القتال عناية بالمسلمين قال تعالى: {مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الحجر: 8].
وقرأ الجمهور: منزلين بسكون النون وتخفيف الزاي وقرأه ابن عامر – بفتح النون وتشديد الزاي – وأنزل ونزل بمعنى واحد.
فالضميران: المرفوع والمجرور، في قوله: {وََيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ} عائدان إلى الملائكة الذين جرى الكلام عليهم، كما هو الظاهر، وعلى هذا حمله جمع من المفسرين.
وعليه فموقع قوله: {ويأتوكم} موقع وعد، فهو في المعنى معطوف على {يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ} وكان حقه أن يرد بعده، ولكنه قدم على المعطوف عليه، تعجيلا للطمأنينة إلى نفوس المؤمنين، فيكون تقديمه من تقديم المعطوف على المعطوف عليه، وإذا جاز ذلك التقديم في عطف المفردات كما في قول صنان بن عباد اليشكري:
ثم اشتكيت لأشكاني وساكنه ... قبر بسنجار أو قبر على قهد
قال ابن جني في شرح أبيات الحماسة: قدم المعطوف على المعطوف عليه، وحسنة شدة الاتصال بين الفعل ومرفوعه أي فالعامل وهو الفعل آخذ حظه من التقديم ولا التفات لكون المعطوف عليه مؤخرا عن المعطوف ولو قلت: ضربت وزيدا عمرا كان أضعف، لأن اتصال المفعول بالفعل ليس في قوة اتصال الفاعل به، ولكن لو قلت: مررت وزيد بعمرو، لم يجز من جهة أنك لم تقدم العامل، وهو الباء، على حرف العطف. ومن تقديم المفعول به قول زيد:

جمعت وعيبا غيبة ونميمة ... ثلاث خصال لست عنها بمرعوي
ومنه قول آخر:
لعن الإله وزوجها معها ... هند الهنود طويلة الفعل
ولا يجوز وعيبا جمعت غيبة ونميمة. وأما قوله:
عليك ورحمة الله السلام
فمما قرب مأخذه عن سيبويه، ولكن الجماعة لم تتلق هذا البيت إلا على اعتقاد التقديم فيه، ووافقه المرزوقي على ذلك، وليس في كلامهما أن تقديم المعطوف في مثل ما حسن تقديمه فيه خاص بالضرورة في الشعر، فلذلك خرجنا عليه هذا الوجه في الآية وهو من عطف الجمل، على أن عطف الجمل أوسع من عطف المفردات لأنه عطف صوري.
ووقع في "مغنى اللبيب" في حرف الواو أن تقديم معطوفها على المعطوف عليه ضرورة، وسبقه إلى ذلك ابن السيد في شرح أبيات الجمل، والتفتزاني في شرح المفتاح، كما نقله عنه الدماميني في "تحفة الغريب" .
وجعل جمع من المفسرين ضميري الغيبة في قوله: {وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ} عائدين إلى طائفة من المشركين، بلغ المسلمين أنهم سيمدون جيش العدو يوم بدر، وهم كرز بن جابر المحاربي، ومن معه، فشق ذلك على المسلمين وخافوا، فأنزل الله تعالى: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ} الآية، وعليه درج الكشاف ومتابعوه. فيكون معاد الضميرين غير مذكور في الكلام، ولكنه معلوم للناس الذين حضروا يوم بدر، وحينئذ يكون و {يأتوكم} معطوفا على الشرط: أي إن صبرتم واتقيتم وأتاكم كرز وأصحابه يعاونون المشركين عليكم يمددكم ربكم بأكثر من ألف ومن ثلاثة آلاف بخمسة آلاف، قالوا فبلغت كرزا وأصحابه هزيمة المشركين يوم بدر فعدل عن إمدادهم فلم يمدهم الله بالملائكة، أي بالملائكة الزائدين على الألف. وقيل: لم يمدهم بملائكة أصلا، والآثار تشهد بخلاف ذلك.
وذهب بعض المفسرين الأولين: مثل مجاهد، وعكرمة، والضحاك والزهري: إلى أن القول المحكي في قوله تعالى: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ} قول صادر يوم أحد، قالوا وعدهم الله بالمدد من الملائكة على شرط أن يصبروا، فلما لم يصبروا واستبقوا إلى طلب الغنيمة لم يمددهم الله ولا بملك واحد، وعلى هذا التفسير يكون {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ}

بدلا من {وإذ غدوت} وحينئذ يتعين أن تكون جملة {ويأتوكم} مقدمة على المعطوفة هي عليها، للوجه المتقدم من تحقيق سرعة النصر، ويكون القول في إعراب {ويأتوكم} على ما ذكرناه آنفا من الوجهين.
ومعنى {مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا} المبادرة السريعة، فإن الفور المبادرة إلى الفعل، وإضافة الفور إلى ضمير الآتين لإفادة شدة اختصاص الفور بهم، أي شدة اتصافهم به حتى صار يعرف بأنه فورهم، ومن هذا القبيل قولهم خرج من فوره. ومن لابتداء الغاية.
والإشارة بقوله هذا إلى الفور تنزيلا له منزلة المشاهد القريب، وتلك كناية أو استعارة لكونه عاجلا.
{ومسومين} قرأه الجمهور بفتح الواو على صيغة أسم المفعول من سومه، وقرأه ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، ويعقوب بكسر الواو بصيغة أسم الفاعل. وهو مشتق من السومة بضم السين وهي العلامة مقلوب سمة لأن أصل سمة وسمة. وتطلق السومة على علامة يجعلها البطل لنفسه في الحرب من صوف أو ريش ملون، يجعلها على رأسه أو على رأس فرسه، يرمز بها إلى انه لا يتقي أن يعرفه أعداؤه، فيسددوا إليه سهامهم، أو يحملون عليه بسيوفهم، فهو يرمز بها إلى أنه واثق بحمايته نفسه بشجاعته، وصدق لقائه، وأنه لا يعبأ بغيره من العدو، وتقدم الكلام عليها في تفسير قوله تعالى: {وَالخيْلِ الْمُسَوَّمَةِ} [آل عمران: 14] في أول هذه السورة. وصيغة التفعيل والاستفعال تكثران في اشتقاق الأفعال من الأسماء الجامدة.
ووصف الملائكة بذلك كناية على كونهم شدادا.
وأحسب أن الأعداد المذكورة هنا مناسبة لجيش العدو لأن جيش العدو يوم بدر كان ألفا فوعدهم الله بمدد ألف من الملائكة فلما خشوا أن يلحق بالعدو مدد من كرز المحاربي. وعدهم الله بثلاثة آلاف أي بجيش له قلب.
وميمنة وميسرة كل ركن منها ألف، ولما لن تنقشع خشيتهم من إمداد المشركين لأعدائهم وعدهم الله بخمسة آلاف، وهو جيش عظيم له قلب وميمنة وميسره ومقدمة وساقة، وذلك هو الخميس، وهو أعظم تركيبا وجعل كل ركن مه مساويا لجيش العدو كله.
{وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ

عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ[126] لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ[127] لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [128].
يجوز أن تكون جملة {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى} في موضع الحال من اسم الجلالة في قوله: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ} [البقرة: 123] والمعنى لقد نصركم الله ببدر حين تقول للمؤمنين ما وعدك الله به في حال أن الله ما جعل ذلك الوعد إلا بشرى لكم وإلا فإنه وعدكم النصر كما في قوله تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} [الأنفال: 70] الآية.
ويجوز أن يكون الواو للعطف عطف الإخبار على التذكير والامتنان. وإظهار اسم الجلالة في مقام الإضمار للتنويه بهذه العناية من الله بهم، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين.
وضمير النصب في قوله: {جعله} عائد إلى الإمداد المستفاد من {يمددكم} أو إلى الوعد المستفاد من قوله: {إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا} [آل عمران: 125] الآية.
والاستثناء مفرغ. و {بشرى} مفعول ثان لجعله أي ما جعل الله الإمداد والوعد به إلا أنه بشرى، أي جعله بشرى، ولم يجعله غير ذلك.
ولكم متعلق ببشرى. وفائدة التصريح به مع ظهور أن البشرى إليهم هي الدلالة على تكريمه الله تعالى إياهم بأن بشرهم بشرى لأجلهم كما في التصريح بذلك في قوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1].
والبشرى اسم لمصدر بشر كالرجعي، والبشرى خبر بحصول ما فيه نفع ومسرة للمخبر به، فإن الله لما وعدهم بالنصر أيقنوا به فكان في تبيين سببه وهو الإمداد بالملائكة طمأنة لنفوسهم لأن النفوس تركن إلى الصور المألوفة.
والطمأنة والطمأنينة: السكون وعدم الاضطراب، واستعيرت هنا ليقين النفس بحصول الأمر تشبيها للعلم الثابت النفس أي عدم اضطرابها، وتقدمن عند قوله تعالى: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} في سورة البقرة [260].
وعطف {ولتطمئن} على {بشرى} فكان داخلا في حيز الاستثناء فيكون استثناء من علل، أي ما جعل الله لأجل أن تطمئن قلوبكم به.

وجملة {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} تذييل أي كل نصر هو من عند الله لا من الملائكة. وإجراء وصفي العزيز الحكيم هنا لأنهما أولى بالذكر في هذا المقام، لأن العزيز ينصر من يريد نصره، والحكيم يعلم من يستحق نصره وكيف يعطاه.
وقوله: {لِيَقْطَعَ طَرَفاً} متعلق بالنصر باعتبار أنه علة لبعض أحوال النصر، أي ليقطع يوم بدر طرفا من المشركين.
والطرف بالتحريك يجوز أن يكون بمعنى الناحية، ويخص بالناحية التي هي منتهى المكان، قال أبو تمام:
كانت هي الوسط المحمي فاتصلت ... بها الحوادث حتى أصبحت طرفا
فيكون استعارة لطائفة من المشركين كقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الرعد: 41] ويجوز أن يكون بمعنى الجزء المتطرف من الجسد كاليدين والرجلين والرأس فيكون لأشراف المشركين، أي ليقطع من جسم الشرك أهم أعضائه، أي ليستأصل صناديد الذين كفروا. وتنكير طرفا للتفخيم، ويقال: هو من أطراف العرب، أي من أشرافها وأهل بيوتاتها.
ومعنى {أو يكبتهم} يصيبهم بغم وكمد، وأصل كبت كبد بالدال إذا أصابه في كبده. كقولهم: صدره، وكلي إذا أصيب في كليتيه، ومتن إذا أصيب في متنه، ورئي إذا أصيب في رئته، فأبدلت الدال تاء وقد تبدل التاء دالا كقولهم: سبد رأسه وسبته أي حلقه. والعرب تتخيل الغم والحزن مقره الكبد، والغضب مقره الصدر وأعضاء التنفس. قال أبو الطيب يمدح سيف الدولة حين سفره عن أنطاكية:
لأكبت حاسدا وأري عدوا ... كأنهما وداعك والرحيل
وقد استقرى أحوال الهزيمة فإن فريقا قتلوا فقطع بهم طرف من الكافرين، وفريقا كبتوا وانقلبوا خائبين، وفريقا من الله عليهم بالإسلام، فاسلموا، وفريقا عذبوا بالموت على الكفر بعد ذلك، أو عذبوا في الدنيا بالذل، والصغار، والأسر، والمن عليهم يوم الفتح، بعد أخذ بلدهم و أو بين هذه الأفعال للتقسيم.
وهذا القطع والكبت قد مضيا يوم بدر قبل نزول هذه الآية بنحو سنتين، فالتعبير عنهما بصيغة المضارع لقصد استحضار الحالة العجيبة في ذلك النصر المبين العزيز النظير.
وجملة {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} معترضة بين المتعاطفات، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم،

فيجوز أن تحتمل على صريح لفظها، فيكون المعنى نفي أن يكون للنبي، لقتاله الكفار بجيشه من المسلمين، تأثير في حصول النصر يوم بدر، فإن المسلمين كانوا في قلة من كل جانب من جوانب القتال، أي فالنصر حصل بمحض فضل الله على المسلمين، وهذا من معنى قوله: {فََلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17]. ولفظ الأمر من قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} معناه الشأن، وال فيه للعهد، أي من الشأن الذي عرفتموه وهو النصر.
ويجوز أن تحمل الجملة على أنها كناية عن صرف النبي عليه الصلاة والسلام عن الاشتغال بشأن ما صنع الله بالذين كفروا، من قطع طرفهم، وكبتهم أو توبة عليهم، أو تعذيب لهم: أي فلذلك موكول إلينا نحققه متى أردنا، ويتخلف متى أردنا، على حسب ما تقتضيه حكمتنا، وذلك كالاعتذار عن تخلف نصر المسلمين يوم أحد.
فلفظ الأمر بمعنى شأن المشركين. والتعريف فيه عوض عن المضاف إليه، أي ليس لك من أمرهم اهتمام. وهذا تذكير بما كان للنبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر من تخوف ظهور المشركين عليه، وإلحاحه في الدعاء بالنصر. ولعل النبي صلى الله عليه وسلم كان يود استئصال جميع المشركين يوم بدر حيث وجد مقتضى ذلك وهو نزول الملائكة لإهلاكهم،فذكره الله بذلك أنه لم يقدر استئصالهم جميعا بل جعل الانتقام منهم ألوانا فانتقم من طائفة بقطع طرف منهم، ومن بقيتهم بالكبت، وهو الحزن على قتلاهم، وذهاب رؤسائهم، واختلال أمورهم، واستبقى طائفة ليتوب عليهم ويهديهم، فيكونوا قوة للمسلمين فيؤمنوا بعد ذلك، وهم من آمن من أهل مكة قبل الفتح، ويوم الفتح: مثل أبي سفيان، والحارث بن هشام أخي أبي جهل، وعكرمة ابن أبي جهل، وصفوان بن أمية، وخالد بن الوليد، وعذب طائفة عذاب الدنيا بالأسر، أو بالقتل: مثل أبن خطل، والنضر بن الحارث، فلذلك قيل له ليس لك من الأمر شيء. ووضعت هذه الجملة بين المتعاطفات ليظهر أن المراد من الأمر الدائر بين هذه الأحوال الأربعة من أحوال المشركين، أي ليس لك من أمر هذه الأحوال الأربعة شيء ولكنه موكول إلى الله، هو أعلم بما سيصيرون إليه وجعل هذه الجملة قبل قوله: {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} استئناس للنبي صلى الله عليه وسلم،إذ قدم ما يدل على الانتقام منهم لأجله، ثم أردف بما يدل على العفو عنهم، ثم أردف بما يدل على عقابهم، ففي بعض هذه الأحوال إرضاء له من جانب الانتصار له، وفي بعضها إرضاء له من جانب تطويعهم له. ولأجل هذا المقصد عاد الكلام إلى بقية عقوبات المشركين بقوله تعالى:

{أَوْ يُعَذِّبَهُمْ}.
ولكون التذكير بيوم بدر وقع في خلال الإشارة إلى وقعة أحد، كأن في هذا التقسيم إيماء إلى ما يصلح بيانا لحكمة الهزيمة اللاحقة المسلمين يوم أحد، إذ كان في استبقاء كثير من المشركين، لم يصبهم القتل يومئذ، ادخار فريق عظيم منهم للإسلام فيما بعد، بعد أن حصل رعبهم من المسلمين بوقعة بدر، وإن حسبوا للمسلمين أي حساب بما شاهدوه من شجاعتهم يوم أحد، وإن لم ينتصروا. ولا يستقيم أن يكون قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} متعلقا بأحوال يوم أحد: لأن سياق الكلام ينبو عنه، وحال المشركين يوم أحد لا يناسبه قوله: {لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} إلى قوله: {خائبين} .
ووقع في "صحيح مسلم" ، عن أنس بن مالك: أن النبي صلى الله عليه وسلم شج وجهه، وكسرت رباعيته يوم أحد، وجاء المسلمون يمسحون الدم عن وجه نبيهم، فقال النبي عليه السلام "كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم" أي في حال أنه يدعوهم إلى الخير عند ربهم، فنزلت الآية، ومعناه: لا تستبعد فلاحهم. ولا شك أن قوله فنزلت هذه الآية متأول على إرادة: فذكر النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الآية، لظهور أن ما ذكروه غير صالح لأن يكون سببا لأن النبي تعجب من فلاحهم أو أستبعده، ولم يدع لنفسه شيئا، أو عملا، حتى يقال ليس لك من الأمر شيء. وروى الترمذي: أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على أربعة من المشركين، وسمى أناسا، فنزلت هذه الآية لنهيه عن ذلك، ثم أسلموا. وقيل: إنه هم بالدعاء، أو أستأذن الله أن يدعو عليهم بالاستيصال، فنهي. ويرد هذه الوجوه ما في صحيح مسلم، عن ابن مسعود، قال: كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبيا من الأنبياء ضربه قومه، وهو يمسح الدم عن وجهه، وهو يقول: رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون. وورود أنه لما شج وجهه يوم أحد قال له أصحابه: لو دعوت عليهم، فقال: "إني لم أبعث لعانا، ولكني بعثت داعيا ورحمة، اللهم أهد قومي فإنهم لا يعلمون". وما ثبت من خلقه صلى الله عليه وسلم: أنه كان لا ينتقم لنفسه.
وأغرب جماعة فقالوا نزل قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} نسخا لما كان يدعو به النبي صلى الله عليه وسلم في قنوته على رعل، وذكوان، وعصبة، ولحيان، الذين قتلوا أصحاب بئر معونة، وسندهم في ذلك ما وقع في البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يدعو عليهم، حتى أنزل الله {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} . قال ابن عطية: وهذا كلام ضعيف كله وليس هذا من مواضع الناسخ والمنسوخ. وكيف يصح أن تكون نزلت لنسخ ذلك وهي متوسطة بين

علل النصر الواقع يوم بدر. وتفسير ما وقع في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة: أن النبي ترك الدعاء على المشركين بعد نزول هذه الآية أخذا لكامل الأدب، لأن الله لما أعلمه في هذا بما يدل على أن الله أعلم بما فيه نفع الإسلام، ونقمة الكفر، ترك الدعاء عليهم إذ لعلهم أن يسلموا. وإذ جعلنا دعاءه صلى الله عليه وسلم على قبائل من المشركين في القنوت شرعا تقرر بالاجتهاد في موضع الإباحة لأن أصل الدعاء على العدو مباح، فتركه لذلك بعد نزول هذه الآية، من قبيل النسخ بالقياس، نسخت حكم الإباحة التي هي استواء الفعل والترك بإثبات حكم أولوية الفعل.
ومنهم من أبعد المرمى، وزعم أن قوله: {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} منصوب بأن مضمرة وجوبا، وأن أو بمعنى حتى: أي ليس لك من أمر إيمانهم شيء حتى يتوب الله عليهم، وهل يجهل هذا أحد حتى يحتاج إلى بيانه، على أن وقعت بين علل النصر، فكيف يشتت الكلام، وتنتشر المتعاطفات.
ومنهم من جعل {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} عطفا على قوله: {الأمر} أو على قوله: {شيء} ، من عطف الفعل على أسم خالص بإضمار أن على سبيل الجواز، أي ليس لك من أمرهم أو توبتهم شيء، أو ليس لك من الأمر شيء أو توبة عليهم.
فإن قلت: هلا جمع العقوبات متوالية: فقال ليقطع طرفا من الذين كفروا، أو يكبتهم فينقلبوا خائبين، أو يتوب عليهم، أو يعذبهم، قلت: روعي قضاء حق جمع النظير أولا، وجمع الضدين ثانيا، بجمع القطع والكبت، ثم جمع التوبة والعذاب، على نحو ما أجاب به أبو الطيب عن نقد قوله في سيف الدولة:
وقفت وما في الموت شك لواقف ... كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال كلمى حزينة ... ووجهك وضاح وثغرك باسم
إذ قدم من صفتيه تشبيهه بكونه في جفن الردى لمناسبة الموت، وأخر الحال وهي ووجهك وضاح قوله كلمى حزينة، في قصة مذكورة في كتب الأدب.
واللام الجارة لام الملك، وكاف الخطاب لمعين، وهو الرسول عليه الصلاة والسلام.
وهذه الجملة تجري مجرى المثل إذ ركبت تركيبا وجيزا محذوفا منه بعض الكلمات، ولم أظفر، فيما حفظت من غير القرآن، بأنها كانت مستعملة عند العرب، فلعلها من

مبتكرات القرآن، وقريب منها قولهك {وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [الممتحنة: 4] وسيجيء قريب منها في قوله الآتي: {يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ} [آل عمران: 154] {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} [آل عمران: 154] فإن كانت حكاية قولهم بلفظه، فقد دل على أن هذه الكلمة مستعملة عند العرب، وإن كان حكاية بالمعنى فلا.
وقوله: {فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} إشارة إلى أنهم بالعقوبة أجدر، وأن التوبة عليهم إن وقعت فضل من الله تعالى.
{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [129] تذييل لقوله: {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ} مشير إلى أن هذين الحالين على التنويع بين المشركين، ولما كان مظنة التطلع لمعرفة تخصيص فريق دون فريق، أو تعميم العذاب، ذيله بالحوالة على إجمال حضرة الإطلاق الإلهية، لأن أسرار تخصيص كل أحد بما يعين له، أسرار خفية لا يعلمها إلا الله تعالى، وكل ميسر لما خلق الله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[130] وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ[131] وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [132].
لولا أن الكلام على يوم أحد لم يكمل، إذ هو سيعاد عند قوله تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} إلى قوله: {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ..} [آل عمران: 171] الآية لقلنا إن قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا} اقتضاب تشريع، ولكنه متعين لأن نعتبره استطرادا في خلال الحديث عن يوم أحد، ثم لم يظهر وجه المناسبة في وقوعه في هذا الأثناء. قال ابن عطية: ولا أحفظ سببا في ذلك مرويا. وقال الفخر: من الناس من قال: لما أرشد الله المؤمنين إلى الأصلح لهم في أمر الدين والجهاد أتبع ذلك بما يدخل في الأمر والنهي فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا} فلا تعلق لها بما قبلها.
وقال الفقهاء: لما أتفق المشركون على جيوشهم أموالا جمعوها من الربا، خيف أن يدعو ذلك المسلمين إلى الإقدام على الربا. وهذه مناسبة مستبعدة. وقال أبن عرفة: لما ذكر اله وعيد الكفار عقبه ببيان أن الوعيد لا يخصهم بل يتناول العصاة، وذكر أحد صور

العصيان وهي أكل الربا. وهو في ضعف ما قبله، وعندي مبادئ ذي بدء أن لا حاجة إلى اطراد المناسبة، فإن مدة نزول السورة قابلة لأن تحدث في خلالها حوادث ينزل فيها قرآن فيكون من جملة تلك السورة، كما بيناه في المقدمة الثامنة، فتكون هاته الآية نزلت عقب ما نزل قلها فكتبت هنا ولا تكون بينهما مناسبة إذ هو ملحق إلحاقا بالكلام.
ويتجه أن يسأل سائل عن وجه إعادة النهي عن الربا في هذه السورة بعد ما سبق من آيات سورة البقرة بما هو أوفى مما في هذه السورة، فالجواب: أن الظاهر أن هذه الآية نزلت قبل نزول آية سورة البقرة فكانت هذه تمهيدا لتلك، ولم يكن النهي فيها بالغا ما في سورة البقرة وقد روي أن آية البقرة نزلت بعد أن حرم الله الربا وأن ثقيفا قالوا: كيف ننهى عن الربا، وهو مثل البيع، ويكون وصف الربا {أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً} بمضاعفة نهيا عن الربا الفاحش وسكت عما دون ذلك مما لا يبلغ مبلغ الأضعاف، ثم نزلت الآية التي في سورة البقرة ويحتمل أن يكون بعض المسلمين داين بعضا بالمراباة عقب غزوة أحد فنزل تحريم الربا في مدة نزول قصة تلك الغزوة. وتقدم الكلام على معنى أكل الربا، وعلى معنى الربا، ووجه تحريمه، في سورة البقرة.
وقوله: {أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً} حال من {الربا} والأضعاف جمع ضعف بكسر الضاد وهو معادل في المقدار إذا كان الشيء ومماثلة متلازمين، لا تقول: عندي ضعف درهمك، إذ ليس الأصل عندك، بل يحسن أن تقول: عندي درهمان، وإنما تقول: عندي درهم وضعفه، إذا كان أصل الدرهم عندك، وتقول: لك درهم وضعفه إذا فعلت كذا.
والضعف يطلق على الواحد إذا كان غير معرف بأل نحو ضعفه، فإذا أريد الجمع جيء به بصيغة الجمع كما هنا، وإذا عرف الضعف بأل صح اعتبار العهد واعتبار الجنس، كقوله تعالى: {فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا} [سبأ37] فإن الجزاء أضعاف، كما جاء في الحديث إلى سبعمائة ضعف.
وقوله: {مضاعفة} صفة للأضعاف أي هي أضعاف يدخلها التضعيف، وذلك أنهم كانوا إذا داينوا أحد إلى أجل داينوه بزيادة، ومتى أعسر عند الأجل أو رام التأخير زاد مثل تلك الزيادة، فيصير الضعف ضعفا، ويزيد، وهكذا، فيصدق بصورة أن يجمعوا الدين مضاعفا بمثله إلى الأجل، وإذا ازداد ثانيا زاد مثل جميع ذلك، فالأضعاف من أول التداين للأجل الأول، ومضاعفتها في الآجال الموالية، ويصدق بأن يداينوا بمراباة دون الدين ثم تزيد بزيادة الآجال، حتى يصير الدين أضعافا، وتصير الأضعاف أضعافا،

فإن كان الأول فالحال واردة لحكاية الواقع فلا تفيد مفهوما: لأن شرط استفادة المفهوم من القيود أن لا يكون القيد الملفوظ به جرى لحكاية الواقع، وإن كان الثاني فالحال وارد لقصد التشنيع وإرادة هذه العاقبة الفاسدة. وإذ قد كان غالب المدينين تستمر حاجتهم آجالا طويلة، كان الوقوع في هذه العاقبة مطردا، وحينئذ فالحال لا تفيد مفهوما كذلك إذ ليس القصد منها التقييد بل التشنيع، فلا يقتصر التحريم بهذه الآية على الربا البالغ أضعافا كثيرة، حتى يقول قائل: إذا كان الربا أقل من ضعف رأس المال فليس بمحرم. فليس هذا الحال هو مصب النهي عن أكل الربا حتى يتوهم متوهم أنه إنه كان دون الضعف لم يكن حراما. ويظهر أنها أول آية نزلت في تحريم التشريع، وصيغة آية البقرة تدل على أن الحكم قد تقرر، ولذلك ذكر في تلك الآية عذاب المستمر على أكل الربا. وذكر غرور من ظن الربا مثل البيع، وقيل فيها {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} [البقرة: 275] الآية، كما ذكرناه آنفا، فمفهوم القيد معطل على كل حال.
وحكمة تحريم الربا هي قصد الشريعة حمل الأمة على مواساة غنيها محتاجها احتياجا عارضا موقتا بالقرض، فهو مرتبة دون الصدقة، وهو ضرب من المواساة إلا أن منها فرض كالزكاة، ومنها ندب كالصدقة والسلف، فإن انتدب لها المكلف حرم عليه طلب عوض عنها، وكذلك المعروف كله، وذلك أن العبادة الماضية في الأمم، وخاصة العرب، أن المرء لا يتداين إلا لضرورة حياته، فلذلك كان حق الأمة مواساته. والمواساة يظهر أنها فرض كفاية على القدرين عليها، فهو غير الذي جاء يريد المعاملة للربح كالمتبايعين والمتقارضين: للفرق الواضح في العرف بين التعامل وبين التداين، إلا أن الشرع ميز هاته المواهي بعضها عن بعض بحقائقها الذاتية، لا باختلاف أحوال المتعاقدين. فلذلك لم يسمح لصاحب المال في استثماره بطريقة الربا في السلف، ولو كان المستلف غير محتاج، بل كان طالب سعة وإثراء بتحريك المال الذي أستلفه في وجوه الربح والتجارة ونحو ذلك، وسمح لصاحب المال في استثماره بطريقة الشركة والتجارة ودين السلم، ولو كان الربح في ذلك أكثر من مقدار الربا، تفرقة بين المواهي الشرعية.
ويمكن أن يكون مقصد الشريعة من تحريم الربا البعد بالمسلمين عن الكسل في استثمار المال، وإلجاؤهم إلى التشارك والتعاون في شؤون الدنيا، فيكون تحريم الربا، ولو كان قليلا، مع تجويز الربح من التجارة والشركات، ولو كان كثيرا، تحقيقا لهذا

المقصد.
ولقد قضى المسلمون قرونا طويلة لم يروا أنفسهم فيها محتاجين إلى التعامل بالربا، ولم تكن ثروتهم أيامئذ قاصرة عن ثروة بقية الأمم في العالم، أزمان كانت سيادة العالم بيده، أو أزمان كانوا مستقلين بإدارة شؤونهم، فلما صارت سيادة العالم بيد أمم غير إسلامية، وارتبط المسلمون بغيرهم في التجارة والمعاملة، وانتظمت سوق الثروة العالمية على قواعد القوانين التي لا تتحاشى المراباة في المعاملات، ولا تعرف أساليب مواساة المسلمين، دهش المسلمون، وهم اليوم يتساءلون، وتحريم الربا في الآية صريح، وليس لما حرمه الله مبيح. ولا مخلص من هذا إلا أن تجعل الدول الإسلامية قوانين مالية تبنى على أصول الشريعة في المصارف، والبيوع، وعقود المعاملات المركبة من رؤوس الأموال وعمل العمال. وحوالات الديون ومقاصتها وبيعها. وهذا يقضي بإعمال أنظار علماء الشريعة والتدارس بينهم في مجمع يحوي طائفة من كل فرقة كما أمر الله تعالى.
وقد تقدم ذكر الربا والبيوع الربوية عند تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} الآيات الخمس من سورة البقرة [275].
وقوله: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} تحذير وتنفير من النار وما يوقع فيها، بأنها معدودة للكافرين. وإعدادها للكافرين عدل من الله تعالى وحكمته لأن ترتيب الأشياء على أمثالها من أكبر مظاهر الحكمة، ومن أشركوا بالله مخلوقاته، فقد استحقوا الحرمان من رحماته، والمسلمون لا يرضون بمشاركة الكافرين لأن الإسلام الحق يوجب كراهية ما ينشأ عن التفكير. وذلك تعريض واضح في الوعيد على أخذ الربا.
ومقابل هذا التنفير الترغيب الآتي في قوله: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133] والتقوى أعلى درجات الإيمان.
وتعريف النار بهذه الصلة يشعر بأنه قد شاع بين المسلمين هذا الوصف للنار بما في القرآن من نحو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6] وقوله: {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ} [الشعراء: 91] الآية.
{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ

النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [134].
{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ}
قرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر {سارعوا} دون واو عطف.
تتنزل جملة {سارعوا..} منزلة البيان، أو بدل الاشتمال، لجملة {وََأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} لأن طاعة الله والرسول مسارعة إلى المغفرة والجنة فلذلك فصلت. ولكون الأمر بالمسارعة إلى المغفرة والجنة يؤول إلى الأمر بالأعمال الصالحة، جاز عطف الجملة على جملة الأمر بالطاعة، فلذلك قرأ بقية العشرة {وسارعوا} بالعطف. وفي هذه الآية ما ينبأنا بأنه يجوز الفصل في بعض الجمل باعتبارين.
والسرعة المشتق منها سارعوا مجاز في الحرص والمنافسة والقبور إلى عمل الطاعات التي هي سبب المغفرة والجنة، ويجوز أن تكون السرعة حقيقة، وهي سرعة الخروج إلى الجهاد عند التنفير كقوله في الحديث "وإذا استنفرتم فانفروا" .
والمسارعة على التقادير كلها تتعلق بأسباب المغفرة، وأسباب دخول الجنة، فتعليقها بذات المغفرة والجنة من تعليق الأحكام بالذوات على إرادة أحوالها عند ظهور عدم الفائدة في التعلق بالذات.
وجيء بصيغة المفاعلة، مجرد عن المعنى حصول الفعل من جانبين، قصد المبالغة في طلب الإسراع، والعرب تأتي بما يدل على الوضع على تكرر الفعل وهم يريدون التأكيد والمبالغة دون التكرير، ونظيره التثنية في قولهم: لبيك وسعديك، وقوله تعالى: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [الملك: 4].
وتنكير مغفرة ووصلها بقوله: {من ربكم} مع تأتي الإضافة بأن يقال إلى مغفرة ربكم، لقصد الدلالة على التعظيم، ووصف الجنة بان عرضها السماوات والأرض على طريقة التشبيه البليغ، بدليل التصريح بحرف التشبيه في نظيرتها في آية سورة الحديد. والعرض في كلام العرب يطلق على ما يقابل الطول، وليس هو المراد هنا، ويطلق على الاتساع لأن الشيء العريض هو الواسع في العرف بخلاف الطويل غير العريض فهو ضيق، وهذا كقول العديل:
ودون يد الحجاج من أن تنالني ... بساط بأيدي الناعجات عريض

وذكر السماوات والأرض على طريقة العرب في تمثيل شدة الاتساع. وليس المراد حقيقة عرض السماوات والأرض ليوافق قول الجمهور من علمائنا بأن الجنة مخلوق الآن، وأنها في السماء، وقيل: هو عرضها حقيقة، وهي مخلوقة الآن لكنها أكبر من السماوات وهي فوق السماوات تحت العرش، وقد روي: العرش سقف الجنة. وأما من قال: إن الجنة لن تخلق الآن وستخلق يوم القيامة، وهو قول المعتزلة وبعض أهل السنة منهم منذر بن سعيد البلوطي الأندلسي الظاهري، فيجوز عندهم أن تكون كعرض السماوات والأرض بأن تخلق في سعة الفضاء الذي كان يملؤه السماوات والأرض أو في سعة فضاء أعظم من ذلك. وأدلة الكتاب والسنة ظاهرة في أن الجنة مخلوقة، وفي حديث رؤيا رآها النبي صلى الله عليه وسلم وهو الحديث الطويل الذي فيه قوله: "إن جبريل وميكال قالا له: ارفع رأسك، فرفع فإذا فوقه مثل السحاب، قالا: هذا منزلك، قال: فقلت: دعاني أدخل منزلي، قالا: إنه بقي لك لم تستكمله فلو استكملت أتيت منزلك" .
{أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [133] الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [134] .
أعقب وصف الجنة بذكر أهلها لأن ذلك مما يزيد التنويه بها، ولم يزل العقلاء يتخيرون حسن الجوار كما قال أبو تمام:
من مبلغ أفناء يعرب كلها
أني بنيت الجار قبل المنزل
وجملة {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} استئناف بياني لأن ذكر الجنة عقب ذكر النار الموصوفة بأنها أعدت للكافرين يثير في نفوس السامعين أن يتعرفوا من الذين أعدت لهم: فإن أريد بالمتقين أكمل ما يتحقق فيه التقوى، فإعدادها لهم لأنهم أهلها فضلا من الله تعالى الذين لا يلجون النار أصلا عدلا من الله تعالى فيكون مقابل قوله: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران: 131]، ويكون عصاة المؤمنين غير التائبين قد أخذوا بحظ الدارين، لمشابهة حالهم حال الفريقين عدلا من الله وفضلا، وبمقدار الاقتراب من أحدهما يكون الأخذ بنصيب منه، وأريد المتقون في الجملة فالإعداد لهم باعتبار أنهم مقدرون من أهلها في العاقبة.
وقد أجرى على المتقين صفات ثناء وتنويه، هي ليست جماع التقوى، ولكن اجتماع في محلها مؤذن بأن المحل الموصوف بها قد استكمل ما به التقوى، وتلك هي مقاومة الشح المطاع، والهوى المتبع.

الصفة الأولى: الإنفاق في السراء والضراء. والإنفاق تقدم غير مرة وهو الصدقة وإعطاء المال والسلاح والعدة في سبيل الله. والسراء فعلاء، اسم لمصدر سره سرا وسرورا. والضراء من ضره، أي في حالي الاتصاف بالفرح والحزن، وكأن الجمع بينهما هنا لأن السراء فيها ملهاة عن الفكرة في شأن غيرهم، والضراء فيها ملهاة وقلة موجدة. فملازمة الإنفاق في هذين الحالين تدل على أن محبة نفع الغير بالمال، الذي هو عزيز على النفس، فقد صار لهم خلقا لا يحجبهم عنه حاجب ولا ينشأ ذلك إلا عن نفس طاهرة.
الصفة الثانية: الكاظمين الغيظ. وكضم الغيظ إمساكه وإخفاؤه حتى لا يظهر عليه، وهو مأخوذ من كظم القربة إذا ملأها وأمسك فمها، قال المبرد: فهو تمثيل الإمساك مع الامتلاء، ولا شك أن أقوى القوى تأثيرا على النفس القوة الغاضبة فتشتهي إظهار آثار الغضب، فإذا استطاع إمساك مظاهرها، مع الامتلاء منها، دل ذلك على عزيمة راسخة في النفس، وقهر الإرادة للشهوة، وهذا أكبر من قوى الأخلاق الفاضلة.
الصفة الثالثة: العفو عن الناس فيما أساءوا إليهم. وهي تكملة لصفة كظم الغيظ بمنزلة الاحتراس لأن كظم الغيظ قد تعترضه ندامة فيستعدي على من غاظه بالحق، فلما وصفوا بالعفو عمن أساء إليهم دل ذلك على أن كظم الغيظ وصف متأصل فيهم، مستمر معهم. وإذا اجتمعت هذه الصفات في نفس سهل ما دونها لديها.
وبجماعها يجتمع كمال الإحسان ولذلك ذيل الله تعالى ذكرها بقوله: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} لأنه دال على تقدير أنهم بهذه الصفات محسنون والله يحب المحسنين.
{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [135].
إن كان عطف فريق آخر، فهم غير المتقين الكاملين، بل هم فريق من المتقين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، وإن كان عطف صفات، فهو تفضيل آخر لحال المتقين بأن ذكر أولا حال كمالهم، وذكر بعده حال تداركهم نقائصهم.
والفاحشة الفعلة المتجاوزة الحد في الفساد، ولذلك جمعت في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ} [التحريم: 32] واشتقاقها من فحش بمعنى قال قولا ذميما، كما في قول عائشة: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشا ولا متفحشا، أو فعل فعلا ذميما،

ومنه {قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} [الأعراف: 28].
ولا شك أن التعريف هنا تعريف الجنس، أي فعلوا الفواحش، وظلم النفس هو الذنوب الكبائر، وعطفها هنا على الفواحش كعطف الفواحش عليها في قوله: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ} [التحريم: 32]. فقيل: الفاحشة المعصية الكبيرة، وظلم النفس الكبيرة مطلقا، وقيل: الفاحشة هي الكبيرة المتعدية إلى الغير، وظلم النفس الكبيرة القاصرة على النفس، وقيل: الفاحشة الزنا، وهذا تفسير على معنى المثال.
والذكر في قوله: {ذَكَرُوا اللَّهَ} ذكر القلب وهو ذكر ما يجب لله على عبده، وما أصابه، وهو الذي يتفرع عنه طلب المغفرة، وأما ذكر اللسان فلا يترتب عليه ذلك. ومعنى ذكر الله هنا ذكر أمره ونهيه ووعده ووعيده.
والاستغفار: طلب المغفرة أي الستر للذنوب، وهو مجاز في عدم المؤاخذة على الذنب، ولذلك صار يعدي إلى الذنب باللام الدالة على التعليل كما هنا، وقوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [غافر: 55]. ولما كان طلب الصفح عن المؤاخذة بالذنب لا يصدر إلا عن ندامة، ونية إقلاع عن الذنب، وعدم العودة إليه، كان الاستغفار في لسان الشارع بمعنى التوبة، إذ كيف يطلب العفو عن الذنب من هو مستمر عليه، أو عازم على معاودته، ولو طلب ذلك في تلك الحالة لكان أكثر إساءة من الذنب، فلذلك عد الاستغفار هنا رتبة من مراتب التقوى. وليس الاستغفار مجرد قول أستغفر الله باللسان والقائل ملتبس بالذنوب. وعن رابعة العدوية أنها قالت: استغفارنا يحتاج إلى الاستغفار وفي كلامها مبالغة فإن الاستغفار بالقول مأمور به في الدين لأنه وسيلة لتذكير الذنب والحيلة للإقلاع عنه.
وجملة {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} معترضة بين جملة {فاستغفروا} وجملة {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا} .
والاستفهام مستعمل في معنى النفي، بقرينة الاستثناء منه، والمقصود تسديد مبادرتهم إلى استغفار الله عقب الذنب، والتعريض بالمشركين الذين اتخذوا أصنامهم شفعاء لهم عند الله، وبالنصارى في زعمهم أن عيسى رفع الخطايا عن بني آدم ببلية صلبة.
وقوله: {ولم يصروا} إتمام لركني التوبة لأن قوله: {فََاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} يشير إلى الندم، وقوله: {ولم يصروا} تصريح بنفي الإصرار، وهذان ركنتا التوبة. وفي الحديث:

"الندم توبة"، وأما تدارك ما فرط فيه بسبب الذنب فإنما يكون مع الإمكان، وفيه تفصيل إذا تعذر أو تعسر، وكيف يؤخذ بأقصى ما يمكن من التدارك.
وقوله: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا} حال من الضمير المرفوع في ذكروا أي: ذكروا الله في حال عدم الإصرار. والإصرار: المقام على الذنب، ونفيه هو معنى الإقلاع. وقوله: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} حال ثانية، وحذف مفعول يعلمون لظهوره من المقام أي يعلمون سوء فعلهم، وعظم غضب الرب، ووجوب التوبة إليه، وأنه تفضل بقبول التوبة فمحا بها الذنوب الواقعة.
وقد انتظم من قوله: {ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا} وقوله: {ولم يصروا} وقوله: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} الأركان الثلاثة التي ينتظم منها معنى التوبة في كلام أبي حامد الغزالي في كتاب التوبة من "أحياء علوم الدين" إذ قال وهي علم، وحال، وفعل. فالعلم هو معرفة ضر الذنوب، وكونها حجابا بين العبد وبين ربه، فإذا علم ذلك بيقين ثار من هذه المعرفة تألم للقلب بسبب فوات ما يحبه من القرب من ربه، ورضاه عنه، وذلك الألم يسمى ندما، فإذا غلب هذا الألم على القلب انبعث منه في القلب حالة تسمى إرادة وقصد إلى فعل له تعلق بالحال والماضي والمستقبل، فتعلقه بالحال هو ترك الذنب الإقلاع، وتعلقه بالمستقبل هو العزم على ترك الذنب في المستقبل نفي الإضرار، وتعلقه بالماضي بتلاقي ما فات.
فقوله تعالى: {ذَكَرُوا اللَّهَ} إشارة إلى انفعال القلب.
وقوله: {ولم يصروا} إشارة إلى الفعل وهو الإقلاع ونفي العزم على العودة.
وقوله: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} إشارة إلى العلم المثير للانفعال النفساني. وقد رتب هاته الأركان في الآية بحسب شدة تعلقها بالمقصود: لأن ذكر الله يحصل بعد الذنب، فيبعث على التوبة، ولذلك رتب الاستغفار عليه بالفاء، وأما العلم بأنه ذنب، فهو حاصل من قبل حصول المعصية، ولو لا حصوله لما كانت الفعلة معصية. فلذلك جيء به بعد الذكر ونفي الإصرار، على أن جملة الحال لا تدل على ترتيب مضمونها بعد حصول مضمون ما جيء به قبلها في الأخبار والصفات.
ثم أن أركان الإصرار، وهو استمرار على الذنب، كما فسر به كان نفيه بمعنى الإقلاع لأجل خشية الله تعالى، فلم يدل على أنه عازم على عدم العود إليه، ولكنه بحسب

الظاهر لا يرجع إلى ذنب ندم على فعله، وإن أريد بالإصرار اعتقاد العود إلى الذنب فنفيه هو التوبة الخالصة، وهو يستلزم حصول الإقلاع معه إذ التلبس بالذنب لا يجتمع مع العزم على عدم العود إليه، فإنه متلبس به من الآن.
{أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [136].
استئناف للتوبة بسداد عملهم: من الاستغفار، وقبول الله منهم.
وجيء باسم الإشارة لإفادة أن المشار إليهم صاروا أحرياء بالحكم الوارد بعد اسم الإشارة، لأجل تلك الأوصاف التي استوجبوا الإشارة لأجلها.
وهذا الجزاء وهو المغفرة وعد من الله تعالى، تفصيلا منه: بأن جعل الإقلاع عن المعاصي سببا في غفران ما سلف منها. وأما الجنات فإنما خلصت لهم لأجل المغفرة، ولو أخذوا بسالف ذنوبهم لما استحقوا الجنات. فالكل فضل منه تعالى.
وقوله: {وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} تذييل لإنشاء مدح الجزاء. والمخصوص بالمدح محذوف تقديره هو. والواو للعطف على جملة {جزاؤهم مغفرة} فهو أجر لأنه كان عن وعد للعامل بما عمل. والتعريف في العاملين للعهد أي: ونعم أجر العاملين هذا الجزاء، وهذا تفصيل له وللعمل المجازي عليه أي إذا كان لأصناف العاملين أجور، كما هو المتعارف، فهذا نعم الأجر لعامل.
{قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [137].
استئناف ابتدائي: تمهيد لإعادة الكلام على ما كان يوم أحد، وما بينهما استطراد، كما علمت آنفا، وهذا مقدمة التسلية والبشارة الآتيتين. ابتدئت هاته المقدمة بحقيقة تاريخية: وهي الاعتبار بأحوال الأمم الماضية.
وجيء بقد، الدالة على تأكيد الخبر، تنزيلا لهم منزلة من ينكر ذلك لما ظهر عليهم من انكسار الخواطر من جراء الهزيمة الحاصلة لهم من المشركين، مع أنهم يقاتلون لنصر دين الله، وبعد أن ذاقوا حلاوة النصر يوم بدر، فبين الله لهم أن الله جعل سنة هذا

العالم أن تكون الأحوال فيه سجالا ومداولة، وذكرهم بأحوال الأمم الماضية، فقال {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} . والله قادر على نصرهم، ولكن الحكمة اقتضت ذلك لئلا يغتر من يأتي بعدهم من المسلمين، فيحسب أن النصر حليفهم. ومعنى خلت وانقرضت. كقوله تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران: 137].
والسنن جمع سنة بضم السين وهي السيرة من العمل أو الخلق الذي يلازم صدور العمل على مثالها قل لبيد:
من معشر سنت لهم آباؤهم ... ولكل قوم سنة وإمامها
وقال خالد الهذلي يخاطب أبا ذؤيب الهذلي:
فلا تجزعن من سنة أنت سرتها ... فأول راض سنة من يسيرها
وقد تردد اعتبار أئمة اللغة إياها اسما جامدا غير مشتق، أو اسم مصدر سن، إذ لم يرد في كلام العرب السن بمعنى وضع السنة، وفي الكشاف في قوله: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} في سورة الأحزاب [38]: سنة الله أسم موضوع موضع المصدر كقولهم تربا وجندلا، ولعل مراده أنه اسم جامد أقيم مقام المصدر كما أقيم تربا وجندلا مقام تبا وسحقا في النصب على المفعولية المطلقة، التي هي من شأن المصادر، وأن المعنى تراب له وجندل له أي حصب بتراب ورجم بجندل. ويظهر أنه مختار صاحب القاموس لأنه لم يذكر في مادة سن ما يقتضي أن السنة اسم المصدر، ولا أتى بها عقب فعل سن، ولا ذكر مصدرا لفعل سن. وعلى هذا اشتقاق نادر. والجاري بكثرة على ألسنة المفسرين والمعبرين: أن السنة اسم مصدر سن ولم يذكروا لفعل سن مصدرا قياسيا. وفي القرآن إطلاق السنة على هذا المعنى كثيرا {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [فاطر: 43] وفسروا السنن هنا بسنن الله في الأمم الماضية.
والمعنى: قد مضت من قبلكم أحوال للأمم، جارية على طريقة واحدة، هي عادة الله في الخلق، وهي أن قوة الظالمين وعتوهم على الضعفاء أمر زائل، والعاقبة للمتقين المحقين، ولذلك قال: {فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} أي المكذبين برسل ربهم وأريد النظر في آثارهم ليحصل منه تحقق ما بلغ من أخبارهم، أو السؤال عن أسباب هلاكهم، وكيف كانوا أولي قوة، وكيف طغوا على المستضعفين، فاستأصلهم الله لتطمئن نفوس المؤمنين بمشاهدة المخبر عنهم مشاهدة عيان، فإن للعيان

بديع معنى لأن المؤمنين بلغهم أخبار المكذبين، ومن المكذبين عاد وثمود وأصحاب الأيكة وأصحاب الرس، وكلهم في بلاد العرب يستطيعون مشاهدة آثارهم، وقد شهدها كثير منهم في أسفارهم.
وفي الآية دلالة على أهمية علم التاريخ لأن فيه فائدة السير في الأرض، وهي معرفة أخبار الأوائل، وأسباب صلاح الأمم وفسادها. قال أبن عرفة: السير في الأرض حسي ومعنوي، والمعنوي هو النظر في كتب التاريخ بحيث يحصل للناظر العلم بأحوال الأمم، وما يقرب من العلم، وقد يحصل به من العلم ما لا يحصل بالسير في الأرض لعجز الإنسان وقصوره.
وإنما أمر الله بالسير في الأرض دون مطالعة الكتب لأن في المخاطبين من كانوا أميين، ولأن المشاهدة تفيد من لم يقرأ علما وتقوى علم من قرأ التاريخ أو قص عليه.
{هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [138].
تذييل يعم المخاطبين الحاضرين ومن يجيء بعدهم من الأجيال، والإشارة إما إلى ما تقدم بتأويل المذكور، وإما إلى حاضر في الذهن عند تلاوة الآية وهو القرآن.
والبيان: الإيضاح وكشف الحقائق الواقعة. والهدى: الإرشاد إلى ما فيه خير الناس في الحال والاستقبال. والموعظة: التحذير والتخويف. فإن جعلت الإشارة إلى مضمون قوله: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} [آل عمران: 137] الآية فإنها بيان لما غفلوا عنه من عدم التلازم بين النصر وحسن العاقبة، ولا بين الهزيمة وسوء العاقبة، وهي هدى لهم لينتزعوا المسببات من أسبابها، فإن سبب النجاح حقا هو الصلاح والاستقامة، وهي موعظة لهم ليحذروا الفساد ولا يغتروا كما اغتر عاد إذ قالوا من أشد منا قوة.
{وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [139].
قوله: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا} نهي للمسلمين عن أسباب الفشل. والوهن: الضعف، وأصله ضعف الذات: كالجسم في قوله تعالى: {رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} [مريم: 4] والحبل في قول زهير:
فأصبح الحبل منها واهنا خلقا
وهو هنا مجاز في خور العزيمة وضعف الإرادة وانقلاب الرجاء يأسا، والشجاعة

جبنا، واليقين شكا، ولذلك نهوا عنه. وأما الحزن فهو شدة الأسف البالغة حد الكآبة والانكسار. والوهن والحزن حالتان للنفس تنشآن عن اعتقاد الخيبة والرزء فيترتب عليهما الاستسلام وترك المقاومة. فالنهي عن الوهن والحزن في الحقيقة نهي عن سببهما وهو الاعتقاد، كما ينهى أحد عن النسيان، وكما ينهى أحد عن فعل غيره في نحو لا أرين فلانا في موضع كذا أي لا تتركه يحل فيه، ولذلك قدم على هذا النهي قوله: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} [آل عمران: 137] الخ... وعقب بقوله: {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.
وقوله: {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} الواو للعطف، وهذه بشارة لهم بالنصر المستقبل، فالعلو هنا مجازي وهو علو المنزلة.
والتعليق بالشرط في قوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} قصد به تهييج غيرتهم على الإيمان إذ قد علم الله أنهم مؤمنين ولكنهم لما لاح عليهم الوهن والحزن من الغلبة، كانوا بمنزلة من ضعف يقينه فقيل لهم: إن علمتم من أنفسكم الإيمان، وجيء بإن الشرطية التي من شأنها عدم تحقيق شرطها، إنما ما لهذا المقصد.
{إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ[140] وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [141].
{إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}.
تسلية عما أصاب المسلمين يوم أحد من الهزيمة بأن ذلك غير عجيب في الحرب، إذ لا يخلو جيش من أن يغلب في بعض مواقع الحرب، وقد سبق أن العدو غلب. والمس هنا الإصابة كقوله في سورة البقرة [214] {مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ} . والقرح بفتح القاف في لغة قريش الجرح، وبضمها في لغة غيرهم، وقرأ الجمهور: بفتح القاف، وقرأه حمزة، والكسائي، وأبو بكر، عن عاصم، وخلف: بضم القاف، وهو هنا مستعمل في غير حقيقته، بل هو استعارة للهزيمة التي أصابتهم، فإن الهزيمة تشبه بالثلمة وبالانكسار، فشبهت هنا بالقرح حين يصيب الجسد، ولا يصح أن يراد به الحقيقة لأن الجراح التي تصيب الجيش لا يعبأ بها إذا كان معها النصر، فلا شك أن التسلية وقعت عما أصابهم من الهزيمة.
والقوم هم مشركو مكة ومن معهم.

والمعنى إن هزمتم يوم أحد فقد هزم المشركون يوم بدر وكنتم كفافا. ولذلك أعقب بقوله: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} . والتعبير عما عما أصاب المسلمين بصيغة المضارع في {يمسسكم} لقربه من زمن الحال، وعما أصاب المشركين بصيغة الماضي لبعده لأنه حصل يوم بدر.
فقوله: {فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} ليس هو جواب الشرط في المعنى ولكنه دليل عليه أغنى عنه على طريقة الإيجاز، والمعنى: إن يمسسكم قرح فلا تحزنوا أو فلا تهنوا وهنا بالشك في وعد الله بنصر دينه إذ قد مس القوم قرح مثله فلم تكونوا مهزومين ولكنكم كنتم كفافا، وذلك بالنسبة لقلة المؤمنين نصر مبين. وهذه المقابلة بما أصاب العدو يوم بدر تعين أن يكون الكلام تسلية وليس إعلاما بالعقوبة كما قاله جمع من المفسرين. وقد سأل هرقل أبا سفيان: فقال هرقل: وكذلك الرسل تبتلى وتكون لهم العاقبة.
وقوله: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} الواو اعتراضية، والإشارة بتلك إلى ما سيذكر بعد، فالإشارة هنا بمنزلة ضمير الشأن لقصد الاهتمام بالخبر وهذا الخبر مكنى به عن تعليل للجواب المحذوف المدلول عليه بجملة {فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} .
و {الأيام} يجوز أن تكون جمع يوم مراد به يوم الحرب، كقولهم: يوم بدر ويوم بعثات ويوم الشعثمين، ومنه أيام العرب، ويجوز أن يكون أطلق على الزمان كقول طرفة:
وما تنقص الأيام والدهر ينفد
أي الأزمان.
والمداولة تصريفها غريب إذ هي مصدر داول فلان الشيء إذا جعله دولة ودولة عند الآخر أي يدوله كل منها أي يلزمه حتى يشتهر به، ومنه دال يدول دولا اشتهر، لأن الملازمة تقتضي الشهرة بالشيء، فالتداول في الأصل تفاعل من دال، ويكون ذلك في الأشياء والكلام، يقال: كلام مداول، ثم استعملوا داولت الشيء مجازا، إذا جعلت غيرك يتداولونه، وقرينة هذا الاستعمال أن تقول: بينهم. فالفاعل في هذا الإطلاق لا حظ له من الفعل، ولكن له الحظ في الجعل، وقريب منه قولهم: اضطررته إلى كذا، أي جعلته مضطرا مع أن أصل اضطر أنه وطاوع ضره.
و {الناس} البشر كلهم لأن هذا من السنن الكونية، فلا يختص بالقوم المتحدث

عنهم.
{وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ[140] وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [141].
عطف على جملة {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} ، فمضمون هذه علة ثانية لجواب الشرط المحذوف المدلول عليه بقوله: {فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} وعلم الله بأنهم مؤمنون متحقق من قبل أن يمسسهم القرح.
فإن كان المراد من {الَّذِينَ آمَنُوا} هنا معنى الذين آمنوا إيمانا راسخا كاملا فقد صار المعنى: أن علم الله برسوخ إيمانهم يحصل بعد مس القرح إياهم، وهو معنى غير مستقيم، فلذلك اختلف المفسرون في المراد من هذا التعليل على اختلاف مذاهبهم في صفة العلم، وقد تقرر في أصول الدين أن الفلاسفة قالوا: إن الله عالم بالكليات بأسرها، أي حقائق الأشياء على ما هي عليه، علما كالعلم المبحوث عنه في الفلسفة لأن ذلك العلم صفة كمال، وأنه يعلم الجزئيات من الجواهر والأعراض علما بوجه كلي. ومعنى ذلك أنه يعلمها من حيث إنها غير متعلقة بزمان، مثاله: أن يعلم أن القمر جسم يوجد في وقت تكوينه، وأن صفته تكون كذا وكذا، وأن عوارضه النورانية المكتسبة من الشمس والخسوف والسير في أمد كذا. أما حصوله في زمانه عندما يقع تكوينه، وكذلك حصول عوارضه، فغير معلوم لله تعالى، قالوا: لأن الله لو علم الجزئيات عند حصولها في أزمنتها للزم تغير علمه فيقتضي ذلك تغير القديم، أو لزم جهل العالم، مثاله: أنه إذا علم أن القمر سيخسف ساعة كذا علما أزليا، فإذا خسف بالفعل فلا يخلو إما أن يزول ذلك العلم فيلزم تغير العلم السابق فيلزم من ذلك تغير الذات الموصوفة به من صفة إلى صفة، وهذا يستلزم الحدوث إذ حدوث الصفة يستلزم حدوث الموصوف، وإما أن لا يزول العلم الأول فينقلب العلم جهلا، لأن الله إنما علم أن القمر سيخسف في المستقبل والقمر الآن قد خسف بالفعل. ولأجل هذا قالوا: إن علم الله تعالى غير زماني. وقال المسلمون كلهم: إن الله يعلم الكليات والجزئيات قبل حصولها، وعند حصولها. وأجابوا عن شبهة الفلاسفة بأن العلم صفة من قبيل الإضافة أي نسبة بين العلم والمعلوم، والإضافات اعتباريات، والاعتباريات عدميات، أو هو من قبيل الصفة ذات الإضافة: أي صفة وجودية لها تعلق، أي نسبة بينها وبين معلومها. فإن كان العلم إضافة فتغيرها لا يستلزم تغير موصوفها وهو العالم، ونظروا ذلك بالقديم يوصف بأنه قبل الحادث ومعه وبعده، من غير تعير ذات

القديم، وإن كان العلم صفة ذات إضافة أي ذات تعلق، فالتغير يعتري تعلقها ولا يتغير الصفة فضلا عن تغير الموصوف، فعلم الله بأن القمر سيخسف، وعلمه بأنه خاسف الآن، وعلمه بأنه كان خاسفا بالأمس، علم واحد موصوفه، وإن تغيرت الصفة، أو تغير متعلقها على الوجهين، إلا أن سلف أهل السنة والمعتزلة أبوا التصريح يتغير التعلق ولذلك لم يقع في كلامهم ذكر تعلقين للعلم الإلهي أحدهما قديم والآخر حادث، كما ذكروا ذلك في الإرادة والقدرة، نظرا لكون صفة العلم لا تتجاوز غير ذات العالم تجاوزا محسوسا. فلذلك قال سلفهم: إن الله يعلم في الأزل أن القمر سيخسف في سنتنا هذه في بلد كذا ساعة كذا، فعند خسوف القمر كذلك علم الله أنه خسف بذلك العلم الأول لأن ذلك العلم مجموع من كون الفعل لم يحصل في الأزل، ومن كونه يحصل في وقته فيما لا يزال، قالوا: ولا يقاس ذلك على علمنا حين نعلم أن القمر سيخسف بمقتضى الحساب ثم عند خسوفه نعلم أنه تحقق خسوفه بعلم جديد، لأن احتياجنا لعلم متجدد إنما هو لطريان الغفلة عن الأول. وقال بعض المعتزلة مثل جهم بن صفوان وهشام بن الحكم: إن الله عالم في الأزل بالكليات والحقائق، وأما علمه بالجزئيات والأشخاص والأحوال فحاصل بعد حدوثها لأن هذا العلم من التصديقات، ويلزمه عدم سبق العلم.
وقال أبو الحسين البصري من المعتزلة، رادا على السلف: لا يجوز أن يكون علم الله بأن القمر سيخسف عين علمه بعد ذلك بأنه خسف لأمور ثلاثة: الأول التغاير بينهما في الحقيقة لأن كونه سيقع غير حقيقة كونه وقع، فالعلم بأحدهما يغاير العلم بالآخر، لأن اختلاف المتعلقين يستدعي اختلاف العالم بهما. الثاني التغاير بينهما في الشرط فإن شرط العلم يكون الشيء سيقع هو عدم الوقوع، وشرط العلم بكونه وقع الوقوع، فلو كان العلمان شيئا واحدا لم يختلف شرطهما. الثالث أنه يمكن العلم بأنه وقع الجهل بأنه سيقع وبالعكس وغير المعلوم غير المعلوم هكذا عبر أبو الحسين أي الأمر الغير معلوم مغاير للمعلوم ولذلك قال أبو الحسين بالتزام وقوع التغير في علم الله تعالى بالمتغيرات، وأن ذاته تقتضي اتصاله بكونه عالما بالمعلومات التي ستقع، بشرط وقوعها، فيحدث العلم بأنها وجدت عند وجودها، ويزول عند زوالها، ويحصل علم آخر، وهذا عين مذهب جهم وهشام. ورد عليه بأنه يلزم أن لا يكون الله تعالى في الأول عالما بأحوال الحوادث، وهذا تجهيل. وأجاب عنه عبد الحكيم في حاشية المواقف بأن أبا الحسين ذهب إلى أنه تعالى يعلم في الأزل أن الحادث سيقع على الوصف الفلاني، فلا جهل فيه، وأن عدم شهوده للحوادث قبل حدوثها ليس

بجهل، إذ هي معدومة في الواقع، بل لو علمها تعالى شهوديا حين عدمها لكان ذلك العلم هو الجهل، لأن شهود المعدوم مخالف للواقع، فالعلم المتغير الحادث هو العلم الشهودي.
فالحاصل أن ثمة علمين: أحدهما قديم وهو العلم المشروط بالشروط، والآخر حادث وهو العوم الحاصلة عند حصول الشروط وليست من علمائنا وعلماء المعتزلة، إطلاق إثبات تعلق حادث لعلم الله تعالى بالحوادث. وقد ذكر ذلك الشيخ عبد الحكيم في " الرسالة الخاقانية" التي جعلها لتحقيق علم الله تعالى غير منسوب لقائل، بل عبر عنه بقيل، وقد رأيت التفتراني جرى على ذلك في "حاشية الكشاف" في هذه الآية فلفعل الشيخ الحكيم نسي أن ينسبه.
وتأويل الآية على اختلاف المذاهب: فأما الذين أبوا إطلاق الحدوث على تعلق فقالوا في قوله" {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} أطلق العلم على لازمه وهو ثبوت المعلوم أي تميزه على طريقة الكناية لأنها كإثبات الشيء بالبرهان، وهذا كقول إياس بن قبيصة الطائي:
وأقبلت والخطي يخطر بينا ... لأعلم من جبانها من شجاعها
أي ليظهر الجبان والشجاع فأطلق العلم وأريد ملزومه.
ومنهم من جعل قوله: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ} تمثيلا أي فعل ذلك فعل من يريد أن يعلم وإليه مال في الكشاف ، ومنهم من قال: العلة هي تعلق علم الله بالحادث وهو تعلق حادث، أي ليعلم الله الذين آمنوا موجودين. قاله البيضاوي والتفتزاني في حاشية الكشاف . وإن كان المراد من قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا} ظاهره أي ليعلم من أتصف بالإيمان، تعين التأويل في هذه الآية لا لأجل لزوم حدوث علم الله تعالى، بل لأن علم الله بالمؤمنين من أهل أحد حاصل من قبل أن يمسهم القرح، فقال الزجاج: أراد العلم الذي يترتب عليه الجزاء وهو ثباتهم على الإيمان، وعدم تزلزلهم في حالة الشدة، وأشار التفتزاني إلى أن تأويل صاحب الكشاف ذلك بأنه وارد مورد التمثيل، ناظرا إلى كون العلم بالمؤمنين حاصلا من قبل، لا لأجل التحرز عن لزوم حدوث العلم.
وقوله: {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} عطف على العلة السابقة، وجعل القتل في ذلك اليوم الذي هو سبب اتخاذ القتلى شهداء علة من علل الهزيمة، لأن كثرة القتلى هي التي أوقعت

الهزيمة.
والشهداء هم الذين قتلوا يوم أحد، وعبر عن تقدير الشهادة بالاتخاذ لأن الشهادة فضيلة من الله، واقتراب من رضوانه، ولذلك قوبل بقوله: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} أي الكافرين فهو في جانب الكفار، أي فقتلاكم في الجنة، وقتلاهم في النار، فهو كقوله: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} [التوبة: 52].
والتمحيص: التنقية والتخلص من العيوب. والمحق: الإهلاك. وقد جعل الله تعالى مس القرح المؤمنين والكفار فاعلا فعلا واحدا: هو فضيلة في جانب المؤمنين، ورزية في جانب الكافرين، فجعله للمؤمنين تمحيصا وزيادة في تزكية أنفسهم، واعتبارا بمواعظ الله تعالى، وجعله للكافرين هلاكا، لأن ما أصابهم في بدر تناسوه، وما انتصروه في أحد يزيدهم ثقة بأنفسهم فيتوكلون؛ يظنون المسلمين قد ذهب بأسهم، على أن المؤمنين في ازدياد، فلا ينقصهم من قتل منهم، والكفار في تناقص فمن ذهب منهم نفد. وكذلك شأن المواعظ والنذر والعبر قد تكسب بعض النفوس كمالا وبعضها نقصا قال أبو الطيب:
فحب الجبان العيش أورده التقى ... وحب الشجاع العيش أورده الحربا
ويختلف القصدان والفعل واحد ... إلى أن نرى إحسان هذا لنا ذنبا
وقال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 124، 125] وقال {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً} [الإسراء: 82] وهذا من بديع تقدير الله تعالى.
{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [142].
{أم} هنا منقطعة، هي بمعنى بل الانتقالية، لأن هذا الكلام انتقال من غرض إلى آخر، وهي إذا استعملت منقطعة تؤذن بأن ما بعدها استفهام، لملازمتها للاستفهام، حتى قال الزمخشري والمحققون: إنها لا تفارقه، واستشهدوا على مفارقتها للاستفهام بشواهد تقبل التأويل.
فقوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ} عطف على جملة {وَلا تَهِنُوا} [آل عمران: 139] وذلك أنهم لما مسهم القرح فحزنوا واعتراهم الوهن حيث لم يشاهدوا مثل النصر الذي شاهدوه يوم بدر،

بين الله أن لا وجه للعلل التي تقدمت، ثم بين لهم هنا: أن دخول الجنة الذي هو مرغوبهم لا يحصل إذا لم يبذلوا نفوسهم في نصر الدين فإذا حسبوا دخول الجنة يحصل دون ذلك، فقد أخطئوا.
والاستفهام المقدر بعد أم مستعمل في التغليط والنهي. ولذلك جاء بأم للدلالة على التغليط: أي لا تحسبوا أن تدخلوا الجنة دون أن تجاهدوا وتصبروا على عواقب الجهاد.
ومن المفسرين من قدر لأم هنا معادلا محذوفا، وجعلها متصلة، فنقل الفخر عن أبي مسلم الأصفهاني أنه قال: عادة العرب يأتون بهذا الجنس من الاستفهام توكيدا لأنه لما قال: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا} [آل عمران: 139] كأنه قال: أفتعلمون أن ذلك كما تؤمرون أم حسبتم أن تدخلوا الجنة.
وجملة {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ} الخ في موضع الحال، وهي مصب الإنكار، أي لا تحسبوا أن تدخلوا الجنة حين لا يعلم الله الذين جاهدوا.
ولما حرف نفي أخت لم إلا أنها أشد نفيا من لم، لأن لم لنفي قول القائل فعل فلان، ولما لنفي قوله قد فعل فلان: قاله سيبويه، كما قال: إن لا لتنفي يفعل و لن لنفي سيفعل وما لنفي لقد فعل ولا لنفي هو يفعل. فتدل لما على اتصال النفي بها إلى زمن التكلم، بخلاف لم، ومن هذه الدلالة استفيدت دلالة أخرى وهي أنها تؤذن بأن المنفي بها مترقب الثبوت فيما يستقبل، لأنها قائمة مقام قولك استمر النفي إلى الآن، وإلى هذا ذهب الزمخشري هنا فقال: ولما بمعنى لم إلا أن فيها ضربا من التوقع وقال في قوله تعالى: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} في سورة الحجرات[14]: فيه دلالة على أن الأعراب آمنوا فيما بعد.
والقول في علم الله تقدم آنفا في الآية قبل هذه.
وأريد بحالة نفي علم الله بالذين جاهدوا والصابرين الكناية عن حالة نفي الجهاد والصبر عنهم، لأن الله إذا علم شيئا فذلك المعلوم محقق الوقوع فكما كنى بعلم الله عن التحقق في قوله: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} [آل عمران: 140] كنى بنفي العلم عن نفي الوقوع. وشرط الكناية هنا متوفر وهو جواز إرادة المعنى الملزوم مع المعنى اللازم لجواز إرادة انتفاء علم الله بجهادهم مع إرادة انتفاء جهادهم. ولا يرد ما أورده التفتزاني،

وأجاب عنه بأن الكناية في النفي بنيت على الكناية في الإثبات، وهو تكلف، إذ شأن التراكيب استقلالها في مفادها ولوازمها.
وعقب هذا النفي بقوله: {وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} معطوفا بواو المعية فهو في معنى المفعول معه، لتنظيم القيود بعضها مع بعض، فيصير المعنى: أتحسبون أن تدخلوا الجنة في حال انتفاء علم الله بجهادكم مع انتفاء علمه بصبركم، أي أحسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يجتمع العلمان. والجهاد يستدعي الصبر، لأن الصبر هو سبب النجاح في الجهاد، وجالب الانتصار، وقد سئل علي عن الشجاعة، فقال: صبر ساعة. وقال زفر بن الحارث الكلابي، يعتذر عن انتصار أعدائهم عليهم:
سقيناهم كأسا سقونا بمثلها ... ولكنهم كانوا على الموت أصبرا
وقد تسبب في هزيمة المسلمين يوم أحد ضعف صبر الرماة، وخفتهم إلى الغنيمة، وفي الجهاد يتطلب صبر المغلوب على الغلب حتى لا يهن ولا يستسلم.
{وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [143].
كلام ألقي إليهم بإجمال بالغ غاية الإيجاز، ليكون جامعا بين الموعظة، والمعذرة، والملام. والواو عاطفة أو حالية.
والخطاب للأحياء، لا محالة، الذين لم يذوقوا الموت، ولم ينالوا الشهادة، والذين كان حظهم في ذلك اليوم هو الهزيمة، فقوله: {كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ} أريد به تمنى لقاء العدو يوم أحد، وعدم رضاهم بأن يتحصنوا بالمدينة، ويقوا موقف الدفاع، كما أشار به الرسول عليه الصلاة والسلام ولكنهم أظهروا الشجاعة وحب اللقاء، ولو كان فيه الموت، نظرا لقوة العدو وكثرته، فالتمني هو تمني اللقاء ونصر الدين بأقصى جهدهم، ولما كان ذلك يقتضي عدم اكتراث كل واحد منهم بتلف نفسه في الدفاع، رجاء أن يكون قبل هلاكه قد أبلى في العدو، وهيأ النصر لمن بقي بعده، جعل تمنيهم اللقاء كأنه تمني الموت من أول الأمر، تنزيلا لغاية التمني منزلة مبدئه.
وقوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ} تعريض بأنهم تمنوا أمرا مع الإغضاء عن شدته عليهم، فمنيهم إياه شيء قد جهلوا ما فيه من المصائب.

وقوله: {فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ} أي رأيتم الموت، ومعنى رؤيته مشاهدة أسبابه المحققة، التي رؤيتها كمشاهدة الموت، فيجوز أن يكون قوله: {فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ} تمثيلا، ويجوز أن تطلق الرؤية على شدة التوقع، كإطلاق الشم على ذلك في قول الحارث بن هشام المخزومي:
وشممت ريح الموت من تلقائهم ... في مأزق والخيل لم تتبدد
وكإطلاقه في قول ابن معد يكرب يوم القادسية: فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت.
والفاء في قوله: {فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ} فاء الفصيحة عن قوله: {كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ} والتقدير: وأجبتم إلى ما تمنيتم فقد رأيتموه، والمعنى: فأين بلاء من يتمنى الموت، كقول عباس بن الأحنف:
قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا ... ثم القفول فقد جئنا خراسانا
ومنه قوله تعالى: {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ} [الفرقان: 19] وقوله في سورة الروم [56] {فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ} .
وجملة {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} حال مؤكدة لمعنى {رأيتموه} ، أو هو تفريع أي: رأيتم الموت وكان حظكم من ذلك النظر، دون الغناء في وقت الخطر، فأنتم مبهوتون. ومحل الموعظة من الآية: أن المرء لا يطلب أمرا حتى يفكر في عواقبه، ويسبر مقدار تحمله لمصائبه, ومحل المعذرة في قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ} وقوله: {فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ} ومحل الملام في قوله {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} .
ويحتمل أن يكون قوله: {تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ} بمعنى تتمنون موت الشهادة في سبيل الله فقد رأيتم مشارفة الموت إياكم، وأنتم تنظرون من مات من إخوانكم، أي فكيف وجدتم أنفسكم حين رأيتم الموت، وكأنه تعريض بهم بأنهم ليسوا بمقام من يتمنى الشهادة. إذ قد جبنوا وقت الحاجة، وخفوا إلى الغنيمة، فالكلام ملام محض على هذا، وليس تمني الشهادة بما هم عليه، ولكن اللوم على تمني مالا يستطيع كما قيل إذ لم تستطع شيئا فدعه. كيف وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ولوددت أني أقتل في سبيل الله، ثم أحيا ثم أقتل، ثم أحي، ثم أقتل". وقال عمر اللهم إني أسألك شهادة في سبيلك وقال ابن رواحة:
لكنني أسأل الرحمن مغفرة ... وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا

حتى يقولوا إذا مروا على جدثي ... أرشدك الله من غاز وقد رشدا
وعلى هذا الاحتمال فالضمير راجع إلى الموت، بمعنى أسبابه، تنزيلا لرؤية أسبابه منزلة رؤيته، وهو كالاستخدام، وعندي أنه أقرب من الاستخدام لأنه عاد إلى أسباب الموت باعتبار تنزيلها منزلة الموت.
{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [144].
عطف الإنكار على الملام المتقدم في قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ} [آل عمران: 142] وقوله: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ} [آل عمران: 143] وكل هاته الجمل ترجع إلى العتاب والتقريع على أحوال كثيرة، كانت سبب الهزيمة يوم أحد، فيأخذ كل من حضر الوقعة من هذا الملام بنصيبه المناسب لما يعلمه من حاله ظاهرا كان أم باطنا.
والآية تشير إلى ما كان من المسلمين من الاضطراب حين أرجف بموت الرسول صلى الله عليه وسلم فقال المنافقون: لو كان نبيا ما قتل، فارجعوا إلى دينكم القديم وإخوانكم من أهل مكة ونكلم عبد الله بن أبي يأخذ لنا أمانا من أبي سفيان، فهموا بترك القتال والانضمام للمشركين، وثبت فريق من المسلمين، منهم: أنس بن النضر الأنصاري، فقال: إن كان قتل محمد فإن رب محمد حي لا يموت، وما تصنعون بالحياة بعده، فقاتلوا على ما قاتل عليه.
ومحمد اسم رسول الله محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صلى الله عليه وسلم سماه به جده عبد المطلب وقيل له: لم سميته محمدا وليس من أسماء آبائك? فقال: رجوت أن يحمده الناس. وقد قيل: لم يسم أحد من العرب محمدا قبل رسول الله. ذكر السهيلي في الروض أنه لسم يسم به من العرب قبل ولادة رسول الله إلا ثلاثة: محمد بن سفيان بن مجاشع، جد جد الفرزدق، ومحمد بن أحيحة بن الجلاح الأوسي. ومحمد بن حمران من ربيعة.
وهذا الاسم من اسم مفعول حمده تحميدا إذا أكثر من حمده، والرسول فعول بمعنى مفعول مثل قولهم: حلوب وركوب وجزور.
ومعنى {خَلَتْ} مضت وانقرضت كقوله: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} [آل عمران: 137]

وقول امرئ القيس: من كان في العصر الخالي وقصر محمدا على مصف الرسالة قصر موصوف على الصفة. قصرا لرد ما يخالف ذلك رد إنكار، سواء كان قصر قلب أو قصر إفراد.
والظاهر أن جملة {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} صفة لرسول فتكون هي محط القصر: أي ما هو إلا رسول موصوف بخلو الرسل قبله أي انقراضهم. وهذا الكلام مسوق لرد اعتقاد من يعتقد انتفاء خلو الرسل من قبله، وهذا الاعتقاد وإن لم يكن حاصلا لأحد من المخاطبين، إلا أنهم لما صدر عنهم ما من شأنه أن يكون أثرا لهذا الاعتقاد، وهو عزمهم على ترك نصرة الدين والاستسلام للعدو كانوا أحرياء بأن ينزلوا منزلة من يعتقد انتفاء خلو الرسل من قبله، حيث يجدون أتباعهم ثابتين على مللهم حتى الآن فكان حال المخاطبين حال من يتوهم التلازم بين بقاء رسولها، فيستدل بدوام الملة على دوام رسولها، فإذا هلك رسول ملة ظنوا انتهاء شرعه وإبطال اتباعه.
فالقصر على هذا الوجه قصر قلب، وهو قلب اعتقادهم لوازم ضد الصفة المقصور عليها، وهي خلو الرسل قبله، وتلك اللوازم هي الوهن والتردد في الاستمرار على نشر دعوة الإسلام، وبهذا يشعر كلام صاحب الكشاف .
وجعل السكاكي المقصور عليه هو وصف الرسالة فيكون محط القصر هو قوله رسول دون قوله: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} ويكون القصر إفراد بتنزيل المخاطبين منزلة من اعتقد وصفه بالرسالة مع التنزه عن الهلاك، حين رتبوا على ظن موته ظنونا لا يفرضها إلا من يعتقد عصمته من الموت، ويكون قوله: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} على هذا الوجه استئنافا لا صفة، وهو بعيد، لأن المخاطبين لم يصدر منهم ما يقضي استبعاد خبر موته، بل هم ظنوه صدقا.
وعلى كلا الوجهين فقد نزل المخاطبون منزلة من يجهل قصر الموصوف على هذه الصفة وينكه، فلذلك خوطبوا بطريق النفي والاستثناء، الذي كثر استعماله في خطاب م يجهل الحكم المقصور عليه وينكره دون طريق، إنما كما بينه صاحب المفتاح .
وقوله: {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} عطف على قوله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ} الخ... والفاء لتعقيب مضمون الجملة المعطوف عليها بمضمون الجملة المعطوفة، ولما كان مضمون الجملة المعطوفة إنشاء الاستفهام الإنكاري على مضمونها، وهو الشرط وجزاؤه، لم يكن للتعقيب المفاد من فاء العطف معنى إلا ترتب مضمون

المعطوفة على المعطوف عليها، ترتب المسبب على السبب، فالفاء حينئذ للسببية، وهمزة الاستفهام مقدمة من تأخير، كشأنها مع حروف العطف، والمعنى ترتب إنكار أن ينقلبوا على أعقابهم على تحقيق مضمون جملة القصر: لأنه إذا تحقق مضمون جملة القصر، وهو قلب الاعتقاد أو إفراد أحد الاعتقادين، تسبب، عليه أن يكون انقلابهم على الأعقاب على تقدير أن يموت أو يقتل أمرا منكرا جديرا بعدم الحصول، فكيف يحصل منهم، وهذا الحكم يؤكد ما اقتضته جملة القصر من التعريض بالإنكار عليهم في اعتقادهم خلاف مضمون جملة القصر، فقد حصل الإنكار عليهم مرتين: إحداهما بالتعريض المستفاد من جملة القصر، والأخرى بالتصريح الواقع في هاته الجملة.
وقال صاحب الكشاف : الهمزة لإنكار تسبب الانقلاب على خلو الرسول، وهو التسبب المفاد من الفاء أي إنكار مجموع مدلول الفاء ومدلول مدخولها مثل إنكار الترتيب والمهلة في قوله تعالى: {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ} [يونس: 51] وقول النابغة:
أثم تعذران إلي منها ... فإني قد سمعت وقد رأيت
بأن أنكر عليهم جعلهم خلو الرسل قبل سببا لارتدادهم عند العلم بموته. وعلى هذا فالهمزة غير مقدمة من تأخير لأنها دخلت على فاء السببية. ويرد عليه أنه ليس علمهم بخلو الرسل من قبله مع بقاء أتباعهم متمسكين سببا لانقلاب المخاطبين على أعقابهم، وأجيب بأن المراد أنهم لما علموا خلو الرسل من قبله مع بقاء مللهم، ولم يجروا على موجب عملهم، فكأنهم جعلوا عملهم سببا في تحصيل نقيض أثره، على نحو ما يعرض من فساد الوضع في الاستدلال الجدلي، وفي هذا الوجه تكلف وتدقيق كثير.
وذهب جماعة إلى الفاء لمجرد التعقب الذكري، أو الاستئناف، وأنه عطف إنكار تصريحي على إنكار تعريضي، وهذا الوجه وإن كان سهلا غير أنه يفيد خصوصية العطف بالفاء دون غيرها، على أن شأن الفاء المفيدة للترتيب الذكري المحض أن يعطف بها الأوصاف نحو {والصافات صفا، فالزاجرات زجرا} أو أسماء الأماكن نحو قوله:
بين الدخول فحومل ... فتوضح فالمقراة..الخ
والانقلاب: الرجوع إلى المكان، يقال: انقلب إلى منزله، وهو هنا مجاز في الرجوع إلى الحال التي كانوا عليها، أي حال الكفر. و {على} للاستعلاء المجازي لأن الرجوع في الأصل يكون مسببا على طريق. والأعقاب جمع عقب وهو مؤخرة الرجل،

وفي الحديث "ويل للأعقاب من النار" والمراد جهة الأعقاب أي الوراء.
وقوله: {وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً} أي شيئا من الضر، ولو قليلا، لأن الارتداد عن الدين إبطال لما فيه صلاح الناس، فالمرتد يضر بنفسه وبالناس، ولا يضر الله شيئا، ولكن الشاكر الثابت على الإيمان يجازى بالشكر لأنه سعى في صلاح الناس، والله يحب الصلاح ولا يحب الفساد.
والمقصود من الآية العتاب على ما وقع من الاضطراب، والثناء على الذين ثبتوا ووعظوا الناس، والتحذير من وقوع الارتداد عند موت الرسول عليه السلام، وقد وقع ما حذرهم الله منه بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم إذ ارتد كثير من المسلمين، وظنوا اتباع الرسول مقصورا على حياته، ثم هداهم الله بعد ذلك، فالآية قيها إنباء بالمستقبل.
{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} [145].
{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً}.
جملة معترضة، الواو اعتراضية.
فإن كان من تتمة الإنكار على هلعهم عند ظن موت الرسول، فالمقصود عموم الأنفس لا خصوص نفس الرسول عليه السلام، وتكون الآية لوما للمسامين على ذهولهم عن حفظ الله رسوله من أن يسلط عليه أعداؤه، ومن أن يخترم عمره قبل تبليغ الرسالة. وفي قوله: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] عقب قوله: {بََلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67] الدال على أن عصمته من الناس لأجل تبليغ الشريعة. فقد ضمن الله له الحياة حتى يبلغ شرعه، ويتم مراده، فكيف يظنون قتله بيد أعدائه، على أنه قبل الإعلان بإتمام شرعه، ألا ترى أنه لما أنزل قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] الآية. بكى أبو بكر وعلم أن أجل النبي صلى الله عليه وسلم قد قرب، وقال: ما كمل شيء إلا نقص. فالجملة، على هذا، في موضع الحال. والواو واو الحال.
وإن كان هذا إنكار مستأنفا على الذين فزعوا عند الهزيمة وخافوا الموت، فالعموم في النفس مقصودا ما كان ينبغي لكم الخوف وقد علمتم أن لكل نفس أجلا.
وجيء في هذا الحكم بصيغة الجحود للمبالغة في انتفاء أن يكون موت قبل الأجل،

فالجملة، على هذا، معترضة، والواو اعتراضية، ومثل هذه الحقائق تلقى في المقام التي يقصد فيها مداواة النفوس من عاهات ذميمة، وإلا فإن انتهاء الأجل منوط بعلم الله لا يعلم أحد وقته، {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان: 34]، والمؤمن مأمور بحفظ حياته، إلا في سبيل الله، فيتعين عليه في وقت الجهاد أن يرجع إلى الحقيقة وهي أن الموت بالأجل، والمراد {بإذن الله} تقديره وقت الموت، ووضعه العلامات الدالة على بلوغ ذلك الوقت المقدر، وهو ما عبر عنه مرة بكن، ومرة بقدر مقدور، ومرة بالقلم، ومرة بالكتاب.
والكتاب في قوله: {كِتَاباً مُؤَجَّلاً} يجوز أن يكون اسما بمعنى الشيء المكتوب، فيكون حالا من الإذن، أو الموت، كقوله: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} و مؤجلا حالا ثانية، ويجوز أن يكون {كتابا} مصدر كاتب المستعمل في كتب للمبالغة، وقوله {مؤجلا} صفة له، وهو بدل من فعله المحذوف، والتقدير: كتب كِتَاباً مُؤَجَّلاً أي مؤقتا. وجعله الكشاف مصدرا مؤكدا أي لمضمون جملة {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ} الآية، وهو يريد أنه مع صفته وهي {مؤجلا} يؤكد معنى إلا بإذن الله لأن قوله: {بإذن الله} يفيد أن له وقتا قد يكون قريبا وقد يكون بعيدا فهو كقوله تعالى: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [النساء: 24] بعد قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] الآية.
{وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} [145].
عطف على الجملة المعترضة.
أي من يرد الدنيا دون الآخرة، كالذي يفضل الحياة على الموت في سبيل الله أو كالذين استعجلوا للغنيمة، وليس المراد أن من أراد ثواب الدنيا وحظوظها يحرم من ثواب الآخرة وحظوظها، فإن الأدلة الشرعية دلت على أن إرادة خبر الدنيا مقصد شرعي حسن، وهل جاءت الشريعة إلا إصلاح الدنيا والإعداد لحياة الآخرة الأبدية الكاملة، قال الله تعالى: {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ} [آل عمران: 148] وقال تعالى: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} أي الغنيمة أو الشهادة، وغير هذا من الآيات والأحاديث كثير. وجملة {وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} تذييل يعم الشاكرين ممن يريد ثواب الدنيا ومن يريد ثواب الآخرة. ويعم الجزاء كل بحسبه، أي يجزي الشاكرين جزاء الدنيا والآخرة أو جزاء الدنيا فقط.

{وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [146] وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [147] فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [148].
عطف على قوله: {وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ} [آل عمران: 144] الآية وما بينهما اعتراض، وهو عطف العبرة على الموعظة فإن قوله: {وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ} موعظة لمن يهم بالانقلاب، وقوله: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ} عبرة بما سلف من صبر أتباع الرسل والأنبياء عند إصابة أنبيائهم أو قتلهم، في حرب أو غيره، لمماثلة الحالين. فالكلام تعريض بتشبيه حال أصحاب أحد بحال أصحاب الأنبياء السالفين لأن محل المثل ليس هو خصوص الانهزام في الحرب بل ذلك هو الممثل. وأما التشبيه فهو بصبر الأتباع عند حلول المصائب أو موت المتبوع.
وكأين كلمة بمعنى التكثير، قيل: هي بسيطة موضوعة للتكثير، وقيل: هي مركبة من كاف التشبيه وأي الاستفهام وهو قول الخليل وسيبويه، وليست أي هذه استفهامية حقيقيا، ولكن المراد منها تذكير المستفهم بالتكثير، فاستفهامها مجازي، ونونها في الأصل تنوين، فلما ركبت وصارت كلمة واحدة جعل تنوينها نونا وبنيت. والأظهر أنها بسيطة وفيها لغات أربع، أشهرها في النشر كأين بوزن كعين هكذا جرت عادت اللغويين والنحاة إذا وزنوا الكلمات المهموزة أن يعوضوا عن حرف الهمزة بحرف العين لئلا تلتبس الهمزة بالألف أو الياء التي تكتب في صورة إحداهما، وأشهرها في الشعر كائن بنون اسم فاعل كان، وليست باسم فاعل خلافا للمبرد، بل هي مخفف كأين.
ولهم في كيفية تخفيفها توجيهات أصلها قول الخليل لما كثر استعمالها تصرف فيها العرب بالقلب والحذف في بعض الأحوال. قلت: وتفصيلية يطول. وأنا أرى أنهم لما راموا التخفيف جعلوا الهمزة ألفا، ثم التقى ساكنان على غير حده، فحذفوا الياء الساكنة فبقيت الياء المكسورة فشابهت اسم فاعل كان فجعلوها همزة كالياء التي تقع بعد ألف زائدة، وأكثر ما وقع في كلام العرب هو كأين لأنها أخف في النظم وأسعد بأكثر الموازين في أوائل الأبيات وأوسطها بخلاف كائن، قال الزجاج: اللغتان الجيدتان كأين وكائن. وحكى الشيخ ابن عرفة في تفسيره عن شيخه ابن الحباب قال: أخبرنا شيخنا أحمد بن

يوسف السلمي الكناني قال: قلت لشيخنا ابن عصفور: لم أكثرت في شرحك للإيضاح من الشواهد على كائن? فقال: لأني دخلت على السلطان الأمير المستنصر يعني محمد المستنصر ابن أبي زكريا الحفصي والظاهر أنه حينئذ ولي العهد فوجدت ابن هشام يعني محمد بن يحيى بن هشام الخضراوي نزيل تونس ودفينها المتوفى سنة 646 فأخبرني أنه سأله عما يحفظ م الشواهد على قراءة كأين فلم يستحضر غير بيت الإيضاح:
وكائن بالأباطح من صديق ... يراني لو أصبت هو المصابا
قال ابن عصفور: فلما سألني أنا قلت: أحفظ فيها خمسين بيتا فلما أنشدته نحو عشرة قال: حسبك، وأعطاني خمسين دينارا، فخرجت فوجدت ابن هشام جالسا بالباب فأعطيته نصفها.
وقرأ الجمهور {وكأين} بهمزة مفتوحة بعد الكاف وياء تحتية مشددة بعد الهمزة، على وزن كلمة {كصيب} وقرأه ابن كثير {كائن} بألف بعد الكاف وهمزة مكسورة بعد الألف بوزن كاهن.
والتكثير المستفاد من {كأين} واقع على تمييزها وهو لفظ نبي فيحتمل أن يكون تكثيرا بمعنى مطلق العدد، فلا يتجاوز جمع القلة، ويحتمل أن يكون تكثيرا في معنى جمع الكثرة، فمنهم من علناه ومنهم من لم نعلمه، كما قال تعالى {وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} ، ويحضرني أسماء ستة ممن قتل من الأنبياء: أرمياء قتله بنو إسرائيل، وحزقيال قتلوه أيضا لأنه وبخهم على سوء أعمالهم، وأشعياء قتله منسا بن حزقل ملك إسرائيل لأنه وبخه ووعظه على سوء فعله فنشره بمنشار، وزكرياء، ويحيى، قتلهما بنو إسرائيل لإيمانهما بالمسيح، وقتل أهل الرس من العرب نبيهم حنظلة بن صفوان في مدة عدنان، والحواريون اعتقدوا أن المسيح قتل ولم يهنوا في إقامة دينه بعده، وليس مرادا هنا وإنما العبرة بثبات أتباعه على دينه مع مفارقته لهم إذ العبرة في خلو الرسول وبقاء أتباعه، سواء كان بقتل أو غيره. وليس في هؤلاء رسول إلا حنظلة بن صفوان، وليس فيهم أيضا من قتل في جهاد، قال سعيد بن جبير: ما سمعنا بنبي قتل في القتال.
وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب، وأبو بكر عن عاصم: قتل بصيغة المبنى للمجهول، وقرأه ابن عامر، وحمزة وعاصم، والكسائي، وخطف، وابو جعفر: قاتل بصيغة المفاعلة فعلى قراءة قتل بالبناء للمجهول فمرفوع الفعل هو ضمير نبي، وعلى كلتا القراءتين يجوز أن يكون مرفوع الفعلين ضمير نبي فيكون قوله: {مَعَهُ رِبِّيُّونَ}

جملة حالية من نبي ويجوز أن يكون مرفوع الفعلين لفظ ربيون فيكون قوله معه حالا من ربيون مقدما.
وجاءت هذه الآية على هذا النظم البديع الصالح لحمل الكلام على تثبيت المسلمين في حال الهزيمة وفي حال الإرجاف بقتل النبي صلى الله عليه وسلم وعلى الوجهين في موقع جملة {مَعَهُ رِبِّيُّونَ} يختلف حسن الوقف على كلمة قتل أو على كلمة كثر.
والربيون جمع ربي وهو المتبع لشريعة الرب مثل الرباني، والمراد بهم هنا أتباع الرسل وتلاميذه الأنبياء. ويجوز في رائه الفتح، على القياس، والكسر، على أنه من تغييرات النسب وهو الذي قرئ به في المتواتر.
ومحل العبرة هو ثبات الربانيين على الدين مع موت أنبيائهم ودعاتهم.
وقوله: {كثير} صفة {ربيون} وجيء به على صيغة الإفراد، مع أن الموصوف جميع، لأن لفظ كثير وقليل يعامل موصوفها معاملة لفظ شيء أو عدد، قال تعالى: {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً} [النساء: 1] وقال: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [البقرة: 109] وقال: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ} [الأنفال: 26] وقال: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً} [الأنفال: 43].
وقوله: {فَمَا وَهَنُوا} أي الربيون إذ من المعلوم أن الأنبياء لا يهنون فالقدوة المقصودة هنا، هي الاقتداء بأتباع الأنبياء، أي لا ينبغي أن يكون أتباع من مضى من الأنبياء، أجدر من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم.
وجمع بين الوهن والضعف، وهما متقاربان تقاربا قريبا من الترادف؛ فالوهن قلة القدرة على العمل، وعلى النهوض في الأمر، وفعله كوعد وورث وكرم. الضعف بضم الضاد وفتحها ضد القوة في البدن، وهما هنا مجازان، فالأول أقرب إلى العزيمة، ودبين النفوس والفكر، والثاني أقرب إلى الاستسلام والفشل في المقاومة. وأما الاستكانة فهي الخضوع والمذلة إذا خارت العزيمة فشلت الأعضاء، وجاء الاستسلام، فتبعه المذلة والخضوع للعدو.
واعلموا أنه إذا كان هذا شأن إتباع الأنبياء، وكانت النبوة هديا وتعليما، فلا بدع أن يكون هذا شأن أهل العلم، وأتباع الحق، أن لا يوهنهم، ولا يضعفهم، ولا

يخضعهم، مقاوم، ولا أذى حاسد، أو جاهل، وفي الحديث الصحيح، في البخاري : أن خبابا قال للنبي صلى الله عليه وسلم لقد لقينا من المشركين شدة ألا تدعو الله فقعد وهو محمر وجهه فقال "لقد كان من قبلكم ليشط الجيد ما دون عظامه من لحم أو عصب، ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق بائنين ما يصرفه ذلك عن دينه" الحديث.
وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} الآية عطف على {فَمَا وَهَنُوا} لأنه لما وصفهم برباط الجأش، وثبات القلب، وصفهم بعد ذلك بما يدل على الثبات من أقوال اللسان التي تجري عليه عند الاضطراب الجزع، أي أن ما أصابهم لم يخالجهم بسببه تردد في صدق وعد الله، ولا بدر منهم تذمر، بل علموا أن ذلك لحكمة يعلهما سبحانه، أو لعله كان جزاء على تقصير منهم في القيام بواجب نصر دينه، أو في الوفاء بأمانة التكليف، فلذلك ابتهلوا إليه عند نزول المصيبة بقولهم: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا} خشية أن يكون ما أصابهم جزاء على ما فرط منهم، ثم سألوه النصر وأسبابه ثانيا فقالوا: {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} فلم يصدهم ما لحقهم من الهزيمة عن رجاء النصر، وفي الموطأ ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "يستجاب لأحدكم ما لم يعجل يقول: دعوت فلم يستجب لي" فقصر قولهم في تلك الحالة التي يندر فيها صدور مثل هذا القول، على قولهم: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا} إلى آخره، فصيغة القصر في قوله: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا} قصر إضافي لرد اعتقاد من قد يتوهم أنهم قالوا أقوالا تنبئ عن الجزع، أو الهلع، أو الشك في النصر، أو الاستسلام للكفار. وفي هذا القصر تعريض بالذين جزعوا من ضعفاء المسلمين أو المنافقين فقال قائلهم: لو كلمنا عبد الله بن أبي يأخذ لنا أمانا من أبي سفيان.
وقدم خبر كان على اسمها في قوله: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا} لأنه خبر عن مبتدأ محصور، لأن المقصود حصر أقوالهم حينئذ في مقالة: { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} فالقصر حقيقي لأنه لقولهم الصادر منهم، حين حصول ما أصابهم في سبيل الله، فلذلك القيد ملاحظ من المقام، نظير القصر في قوله تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور: 51] فهو قصر حقيقي مقيد بزمان خاص، تقييدا منطوقا به، وهذا أحسن من توجيه تقديم الخبر في الآية بأن المصدر المنسبك المؤول أعرف من المصدر الصريح لدلالة المؤول على النسبة وزمان الحدث،

بخلاف إضافة المصدر الصريح، وذلك جائز في باب كان في غير صيغ القصر، وأما في الحصر فيتعين تقديم المحصور.
والمراد من الذنوب جميعها، وعطف عليه بعض الذنوب وهو المعبر عنه هنا بالإسراف في الأمر، والإسراف هو الإفراط وتجاوز الحد، فلعله أريد به الكبائر من الذنوب كما نقل عن أبن عباس وجماعة، وعليه فالمراد بقوله: أمرنا، أي ديننا وتكليفنا، فيكون عطف خاص للاهتمام بطلب غفرانه، وتمحض المعطوف عليه حينئذ لبقية الذنوب وهي الصغائر. ويجوز عندي أن يكون المراد بالإسراف في المر التقصير في شأنهم ونظامهم فيما يرجع إلى أهبة القتال، والاستعداد له، أو الحذر من العدو، وهذا الظاهر من كلمة أمر، بأن يكونوا شكوا أن يكون ما أصابهم من هزيمتهم في الحرب مع عدوهم ناشئا عن سببين: باطن وظاهر، فالباطن هو غضب الله عليهم من جهة الذنوب، والظاهر هو تقصيرهم في الاستعداد والحذر، وهذا أولى من الوجه الأول.
وقوله: {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ} إعلام بتعجيل إجابة دعوتهم لحصول خيري الدنيا والآخرة، فثواب الدنيا هو الفتح والغنيمة، وثواب الآخرة هو ما كتب لهم من حسن عاقبة الآخرة، ولذلك وصفه بقوله: {وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ} لأنه خير وأبقى، وتقدم الكلام على الثواب عند قوله تعالى في سورة البقرة [103] {لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ}.
وجملة {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} تذييل أي يحب كل محسن، وموقع التذييل يدل على أن المتحدث عنهم من الذين أحسنوا، فاللام للجنس المفيد معنى الاستغراق، وهذه من أكبر الأدلة على أن أل الجنسية إذا دخلت على جمع أبطلت منه معنى الجمعية، وأن الاستغراق المفاد من أل إذا كان مدخولها مفردا وجملة سواء.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ [149] بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} [150].
استئناف ابتدائي للانتقال من التوبيخ واللوم والعتاب إلى التحذير، ليتوسل منه إلى معاودة التسلية، على ما حصل من الهزيمة، وفي ضمن ذلك كله، من الحقائق الحكمية والمواعظ الأخلاقية والعبر التاريخية، ما لا يحصل مريد إحصائه.
والطاعة تطلق على امتثال أمر الآمر وهو معروف، وعلى الدخول تحت حكم

الغالب، فيقال طاعت قبيلة كذا وطوع الجيش بلاد كذا.
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا} شائع غب اصطلاح القرآن أن يراد به المشركون، واللفظ صالح بالوضع لكل كافر من مشرك وكتابي، مظهر أو منافق.
والرد على الأعقاب: الارتداد، والانقلاب: الرجوع، وقد تقدم القول فيهما عند قوله: {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران: 144] فالظاهر أنه أراد من هذا الكلام تحذير المؤمنين من أن يخامرهم خاطر الدخول في صلح المشركين وأمانهم، لأن في ذلك إظهار الضعف أمامهم، والحاجة إليهم، فإذا مالوا إليهم استدرجوهم رويدا رويدا، بإظهار عدم كراهية دينهم المخالف لهم، حتى يردوهم عن دينهم لأنهم لن يرضوا عنهم حتى يرجعوا إلى ملتهم، فالرد على الأعقاب على هذا يحصل بالإخارة والمآل، وقد وقعت هذه العبرة في طاعة مسلمي الأندلس لطاغية الجلالقة. وعلى هذا الوجه تكون الآية مشيرة إلى تسفيه رأي من قال لو كلمنا عبد الله بن أبي يأخذ لنا أمانا من أبي سفيان كما يدل عليه قوله: {بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ} .
ويحتمل أن يراد من الطاعة طاعة القول والإشارة، أي الامتثال، وذلك قول المنافقين لهم: لو كان محمد نبيا ما قتل فارجعوا إلى إخوانكم وملتكم. ومعنى الرد على الأعقاب في هذا الوجه أنه يحصل مباشرة في حال طاعتهم إياهم.
وقوله: {بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ} إضراب لإبطال ما تضمنه ما قبله، فعلى الوجه الأول تظهر المناسبة غاية الظهور، لأن الطاعة على ذلك الوجه هي من قبيل الموالاة والحلف فناسب إبطالها بالتذكير بأن مولى المؤمنين هو الله تعالى، ولهذا التذكير موقع عظيم: وهو أن نقص الولاء والحلف أمر عظيم عند العرب، فإن للولاء عندهم شأنا كشأن النسب، وهذا معنى قرره الإسلام في خطبة حجة الوداع أو فتح مكة من انتسب إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين فكيف إذا كان الولاء ولاء سيد الموالي كلهم.
وعلى الوجه الثاني في معنى {إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا} تكون المناسبة باعتبار ما في طاعة المنافقين من موالاتهم وترك ولاء الله تعالى.
وقوله: {وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} يقوي مناسبة الوجه الأول ويزيد إرادته ظهورا. و{خَيْرُ النَّاصِرِينَ} هو أفضل الموصوفين بالوصف، فيما يراد منه، وفي موقعه، وفائدته،

فالنصر يقصد منه دفع الغلب عن المغلوب، فمتى كان الدفع أقطع للغالب كان النصر أفضل، ويقصد منه دفع الظلم فمتى كان النصر قاطعا لظلم الظالم كان موقعه أفضل، وفائدته أكمل، فالنصر لا يخلو من مدحة لأن فيه ظهور الشجاعة وإباء الضيم والنجدة. قال وداك بن ثميل المازني:
إذا استنجدوا لم يسألوا من دعاهم ... لأية حرب أم بأي مكان
ولكنه إذا كان تأييدا لظالم أو قاطع طريق، كان فيه دخل ومذمة، فإذا كان إظهارا لحق المحق وإبطال الباطل، استكمل المحمدة، ولذلك فسر النبي صلى الله عليه وسلم نصر الظالم بما يناسب خلق الإسلام لما قال "انصر أخاك ظالما أو مظلوما" فقال بعض القوم: هذا أنصره إذا كان مظلوما فكيف أنصره إذا كان ظالما? فقال "أن تنصره على نفسه فتكفه عن ظلمه".
{سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} [151].
رجوع إلى تسلية المؤمنين، وتطمينهم، ووعدهم بالنصر على العدو. والإلقاء حقيقته رمي شيء على الأرض {فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ} [الشعراء: 44]، أو في الماء {فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} [القصص: 7] ويطلق على الإفضاء بالكلام {يُلْقُونَ السَّمْعَ} [الشعراء: 223] وعلى حصول الشيء في النفس كأن ملقيا ألقاه أي من غير سبق تهيؤ {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} [المائدة: 64] وهو هنا مجاز في الجعل والتكوين كقوله: {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} [الأحزاب: 26].
والرعب: الفزع من شدة خوف، وفيه لغتان الرعب بسكون العين والرعب بضم العين وقرأه الجمهور بسكون العين وقرأه ابن عامر، والكسائي بضم العين.
والباء في قوله: {بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ} للعوض وتسمى باء المقابلة مثل قولهم: هذه بتلك، وقوله تعالى: {جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} [المائدة: 38]، وهذا جزاء دنيوي رتبه الله تعالى على الإشراك به، ومن حكمته تعالى أن رتب على المور الخبيثة آثار خبيثة، فإن الشرك لما كان اعتقاد تأثير منن لا تأثير له، وكان ذلك الاعتقاد يرتكز في نفوس معتقديه على غير دليل، كان من شأن معتقده أن يكون مضطرب النفس متحيرا في العاقبة في تغلب بعض الآلهة على بعض، فيكون لكل قوم صنم هم أخص به، وهو في تلك الحالة يعتقدون أن

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68