كتاب : التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور
المؤلف : محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي

مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ [12]}.
عطف فضيلة سليمان على فضيلة داود للاعتبار بما أوتيه سليمان من فضل كرامة لأبيه على إنابته ولسليمان على نشأته الصالحة عند أبيه، فالعطف على: {لَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً} [سبأ: 10] والمناسبة مثل مناسبة ذكر داود فإن سليمان كان موصوفا بالإنابة قال تعالى: {ثُمَّ أَنَابَ} في سورة ص [34].
و {الرِّيحَ} عطف على: {الْحَدِيد} في قوله: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ: 10] بتقدير فعل يدل عليه: {وَأَلَنَّا} . والتقدير: وسخرنا لسليمان الريح على نحو قول الشاعر:
متقلدا سيفا ورمحا1
أي وحاملاً رمحاً.
واللام في قوله: {لِسُلَيْمَانَ} لام التقوية أنه لما حذف الفعل لدلالة ما تقدم عليه قرن مفعول الأول بلام التقوية لأن الاحتجاج إلى لام التقوية عند حذف الفعل أشد من الاحتجاج إليها عند تأخير الفعل عن المفعول. و {الرِّيحَ} مفعول ثان.
ومعنى تسخيره الريح: خلق ريح تلائم سير سفائنه للغزو أو التجارة، فجعل الله لمراسيه في شطوط فلسطين رياحا موسمية تهب شهرا مشرقة لتذهب في ذلك الموسم سفنه، وتهب شهرا مغربه لترجع سفنه إلى شواطئ فلسطين كما قال تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} في سورة الأنبياء [81].
فأطلق الغدو على الانصراف والانطلاق من المكان تشبيها بخروج الماشية للرعي في الصباح وهو وقت خروجها، أو تشبيها بغدو الناس في الصباح.
وأطلق الرواح على الرجوع من النهمة التي يخرج لها كقول أبي ربيعة:
أمن آل نعم أنت غاد فمُبْكِر ... غداة غد أم رائح فمؤخِّرُ
لأن عرفهم أن رواح الماشية يكون في المساء فهو مشتق من راح إذا رجع إلى مقره.
وقرأ الجمهور: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ} بلفظ إفراد {الرِّيح} وبنصب: {الرِّيحَ} على أنه معطوف على: {الْحَدِيد} في قوله: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ: 10]. وقرأ أبو بكر عن عاصم
ـــــــ
1 أوّله: ورأيت زوجك في الوغى.

برفع: {الرِّيحُ} على أنه من عطف الجمل، و {الرِّيحُ} مبتدأ و {لِسُلَيْمَانَ} خبر مقدم. وقرأه أبو جعفر {الرِّيَاحَ} بصيغة الجمع منصوباً.
و {الْقِطْر} بكسر القاف وسكون الطاء: النحاس المذاب. وتقدم في قوله تعالى: {قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً} في سورة الكهف [96].
والإسالة: جعل الشيء سائلا، أي منبطحا في الأرض كمسيل الوادي. و {عَيْن الْقِطْرِ} ليست عينا حقيقية ولكنها مستعارة لمصب ما يصهر في مصانعه من النحاس حتى يكون النحاس المذاب سائلاً خارجاً من فساقي ونحوها من الأنابيب كما يخرج الماء من العين لشدة أصهار النحاس وتوالي إصهاره فلا يزال يسيل ليصنع له آنية وأسلحة ودرقا، وما ذلك إلا بإذابة وإصهار خارقين للمعتاد بقوة إلهية، شبه الإصهار بالكهرباء أو بالأسنة النارية الزرقاء، وذلك ما لم يؤته ملك من ملوك زمانه.
ويجوز أن يكون السيلان مستعاراً لكثرة القطر كثرة تشبه كثرة ماء العيون والأنهار كقول كثير:
وسالت بأعناق المطيّ الأباطح
ويكون: {أَسَلْنَا} أيضا ترشيحا لاستعارة اسم العين لمعنى مذاب القطر، ووجه الشبه الكثرة.
وقوله: {وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ} يجوز أن يكون عطفا على جملة: {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} فقوله: {مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ} مبتدأ وقوله: {بِإِذْنِ رَبِّهِ} خبر. و {مِن} في قوله: {مِنَ الجِْنِِّ} بيان لإبهام {مَنْ} قدم على المبيَّن للاهتمام به لغرابته، وهو في موضع الحال. ولك أن تجعل: {مَنْ يَعْمَلُ} عطفا على: {الرِّيح} في قوله: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ} أي سخرنا له من يعمل بين يديه من الجن، وتجعل جملة: {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه.
ومعنى: {يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ} يخدمه ويطيعه. يقال: أنا بين يديك، أي مطيع، ولا يقضي هذا أن يكون عملته الجن وحدهم بل يقتضي أن منهم عملة، وفي آية النمل: [17] {مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ} .
والزيغ: تجاوز الحد والطريق. والمعنى: من يعص أمرنا الجاري على لسان سليمان.

وذكر الجن في جند سليمان عليه السلام تقدم في سورة النمل.
و {عَذَابِ السَّعِيرِ} : عذاب النار تشبيه أي عذاب كعذاب جهنم وأما عذاب جهنم فإنما يكون حقيقة يوم الحساب.
[13] {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [13]} .
و {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ} جملة مبينة لجملة {يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ} .
و {مِنْ مَحَارِيبَ} بيان لـ {مَا يَشَاءُ} .
والمحاريب: جمع محراب، وهو الحصن الذي يحارب منه العدو والمهاجم للمدينة، أو لأنه يرمي شرفاته بالحراب، ثم أطلق على القصر الحصين. وقد سموا قصور غمدان في اليمن محاريب غمدان. وهذا المعنى هو المراد في هذه الآية. ثم أطلق المحراب على الذي يختلي فيه للعبادة فهوا بمنزلة المسجد الخاص قال تعالى: {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ} وتقدم في سورة آل عمران [39]. وكان لداود محراب يجلس فيه للعبادة قال تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} في سورة ص [21].
وأما إطلاق المحراب على الموضع من المسجد الذي يقف فيه الإمام الذي يؤم الناس، يجعل مثل كوة غير نافذة واصلة إلى ارض المسجد في حائط القبلة يقف الأمام تحته، فتسميه ذلك محرابا تسمية حديثة ولم أقف على تعيين الزمن الذي ابتدئ فيه إطلاق اسم المحراب على هذا الموقف. واتخاذ المحاريب في المساجد حدث في المائة الثانية ، والمظنون أنه حدث في أولها قي حياة أنس بن مالك لأنه روي عنه أنه تنزه عن الجلوس في المحاريب وكانوا يسمونه الطاق أو الطاقة وربما سموه المذبح، ولم أر أنهم سموه أيامئذ محرابا، وإنما كانوا يسمون بالمحراب موضع ذبح القربان في الكنيسة قال عمر بن أبي ربيعة:
دمية عند راهب قسيس ... صوروها في مذابح المحراب
والمذبح والمحراب مقتبسة من اليهود لما لا يخفى من تفرع النصرانية عن دين اليهودية.

وما حكي عن أنس بن مالك إن صح فإنما يعني بيت للصلاة خاص. ورأيت إطلاق المحراب على الطاقة التي في المسجد في كلام الفراء، أي في منتصف القرن الثاني، نقل الجوهري عنه أنه قال: المحاريب صدور المجالس ومنه سمي محراب المسجد، لأن المحراب لم يبق حينئذ مطلقا على مكان العبادة.
ومن الغلط أن جعلوا في المسجد النبوي في الموضع الذي يقرب النبيء صلى الله عليه وسلم يصلي فيه صورة محراب منفصل يسمونه محراب النبيء صلى الله عليه وسلم وإنما هو علامة على تحري موقفه.
والذي يظهر أن المسلمين ابتدأوا فجعلوا طاقات صغيرة دلالة على القبلة لئلا يضل الداخل إلى المسجد يريد الصلاة فإن ذلك يقع كثيرا، ثم وسعوها شيئا فشيئا حتى صيروها في صوره نصف دهليز صغير في جدار القبلة يسع موقف الإمام، وأحسب أن أول وضعه كان عند بناء المسجد الأموي في دمشق ثم أن الخليفة الوليد ابن عبد الملك أمر في جعله في المسجد النبوي حين وسعه وأعاد بناءه وذلك في مدة أمارة عمر بن عبد العزيز على المدينة حسبما ذكر السمهودي في كتاب "خلاصة الوفا بأخبار دار المصطفى".
والتماثيل جمع تمثال بكسر التاء، ووزنه تفعال لأن التاء مزيدة وهو أحد أسماء معدودة جاءت على وزن تفعال بكسر التاء، وأما قياس هذا الباب وأكثره فهو بفتح التاء. والأسماء التي جاءت على هذا الوزن منها مصادر ومنها أسماء، فأما المصادر فأكثرها بفتح التاء إلا مصدرين: تبيان وتلقاء بمعنى اللقاء. وأما الأسماء فورد منه على الكسر نحو من أربعة عشر اسما منها:تمثال، أحصاها ابن دريد، وزاد ابن العربي في أحكام القرآن عن شيخه الخطيب التبريزي تسعة فصارت خمسة وعشرين. والتمثال هو الصورة الممثلة، أي المجسمة مثل شيء من الأجسام فكان النحاتون يعملون لسليمان صورا مختلفة كصور موهومة للملائكة وللحيوان مثل الأسود فقد كان كرسي سليمان محفوفا بتماثيل أسود أربعة عشر كما وصف في الإصحاح العاشر من سفر الملوك الأول. وكان قد جعل في الهيكل جابية عظيمة من نحاس مصقول مرفوعة على اثنتي عشرة صورة ثور من نحاس.
ولم تكن التماثيل المجسمة محرمة الاستعمال في الشرائع السابقة وقد حرمها الإسلام لأن الإسلام أمعن في قطع دابر الإشراك من نفوس العرب وغيرهم. وكان معظم الأصنام تماثيل فحرم الإسلام اتخاذها لذلك، ولم يكن تحريمها

لأجل اشتمالها على مفسدة في ذاتها ولكن لكونها كانت ذريعة للإشراك. واتفق الفقهاء على تحريم اتخاذ ما له ظل من تماثيل ذوات الروح إذا كانت مستكملة الأعضاء التي لا يعيش ذو الروح بدونها وعلى كراهة ما عدا ذلك مثل التماثيل المنصفة ومثل الصور التي على الجدران وعلى الأوراق والرقم في الثوب ولا ما يجلس عليه ويداس. وحكم صنعها يتبع اتخاذها. ووقعت الرخصة في اتخاذ صور تلعب بها البنات لفائدة اعتيادهن العمل بأمور البيت.
والجفان: جمع جفنة، وهي القصعة العظيمة التي يجفن فيها الماء. وقدرت الجفنة في التوارة بأنها تسع أربعين بثا "بالمثلثة" ولم نعرف مقدار البث عندهم ولا شك أنه مكيال. وشبهت الجفان في عظمتها وسعتها بالجوابي. وهي جمع: جابية وهي الحوض العظيم الواسع العميق الذي يجمع فيه الماء لسقي الأشجار والزروع قال الأعشى:
نفي الذم عن رهط المحلق جفنة ... كجابية الشيخ العراقي تفهق
أي الجفنة في سعتها كجابية الرجل العراقي، وأهل العراق أهل كروم وغروس فكانوا يجمعون الماء للسقي.
وكانت الجفان المذكورة في الهيكل المعروف عندنا ببيت المقدس لأجل وضع الماء ليغسلوا فيها ما يقربونه من المحرقات كما في الإصحاح الرابع منسفر الأيام الثاني.
وكتب في المصحف: {كَالْجَوَابِ} بدون ياء بعد الموحدة. وقرأه الجمهور بدون ياء في حالي الوصل والوقف. وقرأه ابن كثير بإثبات الياء في الحالين. وقرأ ورش عن نافع وأبو عمرو بإثبات الياء في حال الوصل وبحذفها في حال الوقف.
والقدرو: جمع قدر وهي إناء يوضع فيه الطعام ليطبخ من لحم وزيت وأدهان وتوابل. قال النابغة في النعمان بن الحارث الجُلاحي:
له بفناء البيت سوداء فخمة ... تلقَّم أوصال الجَزور العُراعر
بقية قِدر من قدور تورثت ... لآل الجلاح كابراً بعد كابر
أي تَسَع قوائم البعير إذا وضعت فيه لتطبخ مرقا ونحوه.
وهذه القدور هي التي يطبخ فيها لجند سليمان ولسدنة الهيكل ولخدمه وأتباعه وقد ورد ذكر القدور إجمالا في الفقرة السادسة عشرة من الإصحاح الرابع من سفر الأيام الثاني.

والراسيات: الثابتات في الأرض التي لا تنزل من فوق أثافيها لتداول الطبخ فيها صباح مساء.
وجملة: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً} مقول قول محذوف، أي قلنا: اعملوا يا آل داود، ومفعول: {اعْمَلُوا} محذوف دل عليه قوله: {شُكْراً} . وتقديره: اعملوا صالحا، كما تقدم آنفا، عملا لشكر الله تعالى، فانتصب: {شُكٍْراً} على المفعول لأجله. والخطاب لسليمان وآله.
وذيل بقوله: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} فهو من تمام المقول، وفيه حث على الاهتمام بالعمل الصالح. ويجوز أن يكون هذا التذييل كلاما جديدا جاء في القرآن، أي قلنا ذلك لآل داود فعمل منهم قليل ولم يعمل كثير وكان سليمان من أول الفئة القليلة.
و {الشَّكُورُ} : الكثير الشكر. وإذ كان العمل شكرا أفاد أن العاملين قليل.
[14] {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ [14]}.
تفريع على قوله: {وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ} إلى قوله: {وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبأ: 12، 13] أي دام عملهم له حتى مات: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ} إلى آخره. ولا شك أن ذلك لم يطل وقته لأن مثله في عظمة ملكه لا بد أن يفتقده أتباعه، فجملة: {مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ} الخ جواب "لما قضَْيَنا عليه الموتَ".
وضمير: {دَلَّهُمْ} يعود إلى معلوم من المقام، أي أهل بلاطه.
والدلالة: الإشعار بأمر خفي. وتقدم ذلك عند قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ} [سبأ: 7].
و {دَابَّةُ الْأَرْضِ} هي الأرضة "بفتحات ثلاث" وهي السُّرْفة بضم السين وسكون الراء وفتح الفاء لا محالة وهاء تأنيث: سوس ينخر الخشب. فالمراد من الأرض مصدر أرضت السرفة الخشب من باب ضرب، وقد سخر الله لمنساة سليمان كثيرا من السُرف فتعجَّل لها النخر.
وجملة: {فَلَمَّا خَرَّ} مفرعة على جملة: {مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ} . وجملة: {تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ} جواب "لمّا خَرّ". والمنساة بكسر الميم وفتحها وبهمزة بعد السين، وتُخفَّفُ الهمزة فتصير

ألفا هي العصا العظيمة، قيل هي كلمة من لغة الحبشة.
وقرأ نافع وأبو عمرو بألف بعد السين. وقرأه ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي ويعقوب وخلف وهشام عن ابن عامر. بهمزة مفتوحة بعد السين. وقرأه ابن ذكوان عن ابن عامر بهمزة ساكنة بعد السين تخفيفا وهو تخفيف نادر.
وقرأ الجمهور: {تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ} بفتح الفوقية والموحدة والتحتية. وقرأه رويس عن يعقوب بضم الفوقية والموحدة وكسر التحتية بالبناء للمفعول، أي تبين الناس الجن. و {أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} بدل اشتمال من الجن على كلتا القراءتين.
وقوله: {تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ} إسناد مبهم فصله قوله: {أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} فـ {أَنْ} مصدرية والمصدر المنسبك منها بدل من {الجِْنّ} بدل اشتمال، أي تبينت أمرهم أنهم لا يعلمون الغيب، أي تبين عدم علمهم الغيب، ودليل المحذوف هو جملة الشرط والجواب.
و {الْعَذَابِ الْمُهِينِ} : المذل، أي المؤلم المتعب فإنهم لو علموا الغيب لكان علمهم بالحاصل أزليا وهذا إبطال لاعتقاد العامة يومئذ وما يعتقده المشركون أن الجن يعلمون الغيب فلذلك كان المشركون يستعلمون المغيبات من الكهان، ويزعمون أن لكل كاهن جنيا يأتيه بأخبار الغيب،ويسمونه رئيا إذ لو كانوا يعلمون الغيب لكان أن يعلموا وفاة سليمان أهون عليهم.
[15] {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ [15]}.
جرّ خبرُ سليمان عليه السلام إلى ذكر سبأ لما بين ملك سليمان وبين مملكة سبأ من الاتصال بسبب قصة بلقيس، ولأن في حال أهل سبأ مضادة لأحوال داود وسليمان إذ كان هذان مثلا في إسباغ النعمة على الشاكرين، وكان أولئك مثلا لسلب النعمة عن الكافرين، وفيهم موعظة للمشركين إذ كانوا في بحبوحة من النعمة فلما جاءهم رسول من المنعم عليهم يذكرهم بربهم ويوقظهم بأنهم خاطئون إذ عبدوا غيره، كذبوه وأعرضوا عن النظر في دلالة تلك النعمة على المنعم المتفرد بالإلهية.
وقال ابن عطية عند الكلام على قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً} [سبأ: 10]

"لما فرغ التمثيل لمحمد صلى الله عليه وسلم رجع التمثيل لهم "أي للمشركين أي لحالهم" بسبإ وما كان من هلاكهم بالكفر والعتوّ" اهـ. فهذه القصة تمثيل أمة بأمة، وبلاد بأخرى، وذلك من قياس وعبره. وهي فائدة تدوين التاريخ وتقلبات الأمم كما قال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} [النحل: 112، 113] فسوق هذه القصة تعريض بأشباه سبأ. والمعنى: لقد كان لسبأ في حال مساكنهم ونظام بلادهم آية. والآية هنا: الأمارة والدلالة بتبدل الأحوال وتقلب الأزمان، فهي آية على تصرف الله ونعمته عليهم فلم يهتدوا بتلك الآية فأشركوا به وقد كان في إنعامه عليهم ما هو دليل على وجوده ثم على وحدانيته.
والتأكيد بلام القسم وحرف التحقيق لتنزيل المخاطبين بالتعريض بهذه القصة منزلة من يتردد في ذلك لعدم اتعاظهم بحال قوم من أهل بلادهم، وتجريد {كَانَ} من تأنيث الفعل لأن اسمها غير حقيقي للتأنيث ولوقوع الفصل المجرور.
واللام في {لِسَبَإٍ} متعلق بـ {آيَة} . والمساكن: البلاد التي يسكنونها بقرينة قوله: {جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ} والمساكن: ديار السكنى. وتقدم الكلام على سبأ عند قوله: {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ} في سورة النمل [22].
واسم سبأ يطلق على الأمة كما هنا وعلى بلادهم كما في آية النمل وتقدم تفصيله.
وقرأ الجمهور: {فِي مَسَاكِنِهِمْ} بصيغة جمع مسكن. وقرأه حمزة والكسائي وحفص وخلف بلفظ المفرد {فِي مَسْكَنِهِمْ} إلا أن حمزة وحفصا فَتَحا الكاف، والكسائي وخلف كسرا الكاف وهو خارج عن القياس لأنه مضارع غير مكسور العين فحق اسم المكان منه فتح العين. وشذ نحو قولهم: مسجد لبيت الصلاة.
و {جَنَّتَانِ} بدل من {آيَة} باعتبار تكملته بما اتصل به من المتعلق والقول المقدر.
و {جَنَّتَانِ} تشبيه بليغ، أي في مساكنهم شبيه جنتين في أنه مغترس أشجارا ذات ثمر متصل بعضه ببعض مثل ما يعرف من حال الجنات، وتثنية جنتين باعتبار أن ما على يمين السائر كجنة، وما على يساره كجنة. وقيل كان لكل رجل في مسكنه، أي داره جنتان جنة عن يمين المسكن وجنة عن شماله فكانوا يتفؤون ظلالهما في الصباح والمساء ويجتنبون ثمارها من نخيل وأعناب وغيرها، فيكون معنى التركيب على التوزيع،

أي: لكل مسكن جنتان، كقولهم: ركب القوم دوابهم، وهذا مناسب لقوله: {فِي مَسَاكِنِهِمْ} دون أن يقول في بلادهم، أو ديارهم، ويجوز أن يكون المراد أن مدينتهم وهي مأرب كانت محفوفة على يمينها وشمالها بغابة من الجنات يصطافون فيها ويستثمرونها مثل غوطة دمشق، وهذا يناسب قوله بعد {وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ} [سبأ: 16] لأن ظاهره أن المبدل به جنتان اثنتان، إلا أن تجعله على التوزيع من مقابلة المتعدد بالمتعدد.
والمعنى: أنهم كانوا أهل جنات مغروسة أشجارا مثمرة وأعنابا.
وكانت مدينتهم مأرب "بهمزة ساكنة بعد الميم" وهي بين صنعاء وحضرموت، قبل كان السائر في طرائقها لو وضع على رأسه مكتلا لوجده قد ملئ ثمارا مما يسقط من الأشجار التي يسير تحتها. ولعل في هذا القول شيئا من المبالغة إلا أنها تؤذن بوفرة. وكان ذلك بسبب تدبير ألهمهم الله إياه في اختزان المياه النازلة في مواسم المطر بما بنوا من السد العظيم في مأرب.
وجملة: {كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ} مقول قول إما من دلالة لسان الحال كما في قوله:
امتلأ الحوض وقال قَطْني
وإما أبلغوه على ألسنة أنبياء بعثوا منهم قيل بعث فيهم اثنا عشر نبيا، أي مثل تبع أسعد، فقد نقل أنه كان نبيا كما أشار إليه قوله تعالى: {وَقَوْمُ تُبَّعٍ} [ق: 14] أو غيره، قال تعالى: {مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر: 78]، أو من غيرهم مما قاله سليمان بلقيس أو مما قاله الصالحون من رسل سليمان إلى سبأ، وفي جعل: {جَنَّتَانِ} في نظم الكلام بدلا عن آية كناية عن طيب تربة بلادهم. قيل كانوا يزرعون ثلاث مرات في كل عام.
والطيبة: الحسنة في جنسها الملائمة لمزاولها ومستثمرها قال تعالى: {وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ} [يونس: 22] وقال: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97] وقال: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} [الأعراف: 58] وقال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} [آل عمران: 38]. وفي حديث أبي طلحة في صدقته بحائط "بئرحاء": "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب". والطيب ضد الخبيث قال تعالى: {وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} [النساء: 2] وقال: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157].

واشتقاقه من الطيب بكسر الطاء بوزن فِعْل وهو الشيء الذي تعبق منه رائحة لذيذة.
وجملة: {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ} من تمام القول وهي مستأنفة في الكلام المقول، أي بلدة لكم طيبة، وتنكير: {بَلْدَة} للتعظيم. و {بَلْدَةٌ} مبتدأ و {طَيِّبَةٌ} نعت لـ {بَلْدَة} ، وخبره محذوف تقديره: لكم، وعُدل عن إضافة {بَلْدَة} إلى ضميرهم لتمون الجملة خفيفة على اللسان فتكون بمنزلة المثَل.
وجملة {وَرَبٌّ غَفُورٌ} عطف على جملة {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ} .
وتنكير {رَبّ} للتعظيم. وهو مبتدأ محذوف الخبر على وزان {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ} ، والتقدير: ورب لكم، أي ربكم غفور.
والعدول عن إضافة {رَبّ} لضمير المخاطبين إلى تنكير {رَبّ} وتقدير لام الاختصاص لقصد تشريفهم بهذا الاختصاص وتكون جملة على وزان التي قبلها طابا للتخفيف ولتحصل المزاوجة بين الفقرتين فتسيرا مسير المثل.
ومعنى: {غَفُور} : متجاوز عنكم، أي عن كفرهم الذي كانوا عليه قبل إيمان بلقيس بدين سليمان عليه السلام، ولا يعلم مقدار مدة بقائهم على الإيمان.
[16] {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ [16]}.
تفريع على قوله: {وَاشْكُرُوا لَهُ} [سبأ: 15] وقع اعتراضا بين أجزاء القصة التي بقيتها قوله: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى} [سبأ: 18] الخ. وهو اعتراض بالفاء مثل قوله تعالى: {ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ} وتقدم في سورة الأنفال [14].
والإعراض يقتضي سبق دعوة رسول أو نبي، والمعنى: أعرضوا عن الاستجابة لدعوة التوحيد بالعودة إلى عبادة الشمس بعد أن اقلعوا في زمن سليمان وبلقيس فلعل بلقيس كانت حولتهم من عبادة الشمس فقط فقد كانت الأمم تتبع أديان ملوكهم وقد قيل إن بلقيس لم تعمر بعد زيارة سليمان إلا بضع سنين.
والإرسال: الطلاق وهو ضد الحبس، وتعديته بحرف "على" موذنة بأنه إرسال نقمة فإن سيل العرم كان محبوسا بالسد في مأرب فكانوا يرسلون منه بمقدار ما يسقون جناتهم،

فلما كفروا بالله بعد الدعوة للتوحيد قدر الله لهم عقابا بأن قدر أسباب انهدام السد فاندفع ما فيه من الماء فكان لهم خطرا وإتلافا للأنعام والأشجار، ثم أعقبه جفاف باختلاف نظام تساقط الأمطار وانعدام الماء وقت الحاجة إليه، وهذا جزاء على إعراضهم وشركهم.
و {الْعَرِم} يجوز أن يكون وصفا العرامة وهي الشدة والكثرة فتكون إضافة "السيل" إلى {الْعَرِم} من إضافة الموصوف إلى الصفة. ويجوز أن يكون {الْعَرِم} اسما للسيل الذين كان ينصب في السد فتكون الإضافة من إضافة المسمى إلى الاسم، أي السيل العرم.
وكانت للسيول والأدوية في بلاد العرب أسماء كقولهم: سيل مهزور ومذينيب الذي كانت تسقى به حدائق المدينة، ويدل على هذا المعنى قول الأعشى:
ومأرب عفى عليها العرم
وقيل: {الْعَرِم} اسم جمع عَرَمة بوزن شجرة، وقيل لا واحد له من لفظه وهو ما بني ليمسك الماء لغة يمنية وحبشية. وهي المسناة بلغة أهل الحجاز، والمسناة بوزن مفعلة التي هي أسم الآلة مشتق من سنيت بمعنى سقيت،ومنه سميت الساقية سانية وهي الدلو المستقى به والإضافة على هذين أصلية.
والمعنى: أرسلنا السيل الذي كان مخزونا بالسد.
وكان لأهل سبأ سد عظيم قرب بلاد مأرب "ومأرب من كور اليمن" وكان أعظم السداد في بدلا اليمن التي كانت فيها سداد كثيرة متفرقة وكانوا جعلوا هذه السداد لخزن الماء الذي تأتى به السيول في وقت نزول الأمطار في الصيف والخريف فكانوا يعمدون إلى ممرات السيول من بين الجبال فيبنون في ممر الماء سورا من صخور يبنونها بناء محكما يصبون في الشقوق التي بين الصخور القار حتى تلتئم فينحبس الماء الذي يسقط هنالك حتى إذا امتلأ الخزان جعلوا بجانبيه جوابي عظيمة يصب فيها الماء يفيض من أعلى السد فيقيمون من ذلك ما يستطيعون من توفير الماء المختزن.
وكان سدّ مأرب الذي يحفظ فيه: {سَيْل الْعَرِم} شرع في بنائه سبأ أول ملوك هذه الأمة ولم يتمه فأتمه ابنه حمير. وأما ما يقال من أن بلقيس بنته فذلك اشتباه إذ لعل بلقيس بنت حوله خزانات أخرى فرعيه أو رممت بناءه ترمبما أطلق عليه اسم البناء، فقد كانوا

يتعهدون تلك السداد بالإصلاح والترميم كل سنة حتى تبقى تجاه قوة السيول الساقطة فيها.
وكانوا يجعلون للسد منافذ مغلقة يزيلون عنها السكر إذ أرادوا إرسال الماء إلى الجهات المتفرقة التي تسقى منه إذ جعلوا جناتهم حول السد مجتمعة. وكان يصب في سد مأرب سبعون واديا.
وجعلوا هذا السد بين جبلين يعرف كلاهما بالبلق فهما البلق الأيمن والبلق الأيسر.
وأعظم الأودية التي كانت تصب فيه اسمه "إذنه" فقالوا: أن الأودية كانت تأتي إلى سبأ من الشجر وأودية اليمن.
وهذا السد حائط طوله من الشق إلى الغرب ثمانمائة ذراعا وارتفاعه بضع عشرة ذراعا وعرضه مائة وخمسون ذراعاً.
وقد شاهد الحسن الهمداني ووصفه في كتابه المسمى بالإكليل وهو من أهل أوائل القرن الرابع بما سمعت حاصلة. ووصفه الرحالة "أرنو" الفرنسي سنة 1883 والرحالة غلازر الفرنسي.
ولا يعرف وقت انهدام هذا السد ولا أسباب ذلك. والظاهر إن سبب انهدامه اشتغال ملوكهم بحروب داخليه بينهم ألهتهم عن تفقد ترميمه حتى تخرب، أو يكون قد خربه بعض من حاربهم من أعدائهم، وأما ما يذكر في القصص من أن السد خربته الجرذان فذلك من الخرافات.
وفي {الْعَرِم} قال النابغة الجعدي:
من سبإ الحاضرين مأرب إذ ... يبنون من دون سيله العَرِما
والتبديل: تعويض شيء بآخر وهو يتعدى إلى المأخوذ بنفسه وإلى المبذول بالباء وهي باء العوض كما تقدم في قوله تعالى: {وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} في سورة النساء [2].
فالمعنى:أعطيناهم أشجار خَمْط وأثل وسدر عوض عن جنتيهم، أي صارت بلادهم شعراء قاحلة ليس فيها إلا شجر العضاة والبادية، وفيما بين هذين الحالين أحوال عظيمة انتابتهم فقاسوا العطش وفقدان الثمار حتى اضطروا إلى مفارقة تلك الديار فلما كانت هذه النهاية دالة على تلك الأحوال طوي ذكر ما قبلها واقتصر على {وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ

جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ} إلى آخره.
وإطلاق اسم الجنتين على هذه المنابت مشاكلة للتهكم كقول عمرو بن كلثوم:
قريناكم فجعلنا قراكم ... قبيل الصبح مرادة طحونا
وقوله تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الانشقاق: 24].
وقد وصف الأعشى هذه الحالة بدءا ونهاية بقوله:
وفي ذاك للمؤنسي عِبرة ... ومأرب عفى عليه العرم
رخام بنته لهم حِمير ... إذا جاء موّاره لم يَرم
فأروى الزروع وأعنابها ... على سعة ماؤهم إذا قُسم
فعاشوا بذلك في غبطة ... فحاربهم جارف منهزم
فطار القيول وقيلاتها ... ببهماء فيها سراب يطِم
فطاروا سراعا وما يقدرو ... ن منه لشرب صبيّ فُطم
والخَمْط: شجر الأراك. ويطلق الخمط على الشيء المر. والأثل: شجر عظيم من شجر العظاه يشبه الطرفاء. والسدر:شجر من العضاة أيضا له شوك يشبه شجر العناب. وكلها تنبت في الفيافي.
والسدر: أكثرها ظلا وأنفعها لأنه يغسل بورقه مع الماء فينظف وفيه رائحة حسنة ولذلك وصف هنا بالقليل لإفادة أن معظم شجرهم لا فائدة منه، وزيد تقليله قلة يذكر كلمة {شَيْء} المؤذنة في ذاتها بالقلة، يقال شيء من كذا، إذا كان قليلا.
وفي القرآن: {وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [يوسف: 67].
والأكل يضم الهمزة وسكون الكاف ويضم الكاف: المأكول. قرأ نافع وابن كثير بضم الهمزة وسكون الكاف. وقرأه باقي العشرة بضم الكاف.
وقرأ الجمهور: {أُكُلٍ} بالتنوين مجرورا فإذا كان {خَمْط} مرادا به الشجر المسمى بالخمط، فلا يجوز أن يكون {خَمْط} صفة لـ {أُكُل} لأن الخمط شجر، ولا أن يكون بدلا من {أُكُل} كذلك، ولا عطف بيان كما قدره أبو علي لأن عطف البيان كالبدل المطابق، فتعين أن يكون {خَمْط} هنا صفة يقال: شيء خامط إذا كان مرا.
وقرأه أبو عمرو ويعقوب {أُكُل} بالإضافة إلى {خَمْط} ، فالخمط إذن مراد به شجر

الأراك،وأكله ثمره وهو البرير وهو مر الطعم.
ومعنى: {ذَوَاتَيْ أُكُلٍ} صاحبتي {أُكُلٍ} فـ"ذوات" جمع "ذات" التي بمعنى صاحبة، وهي مؤنث "ذو" بمعنى صاحب، وأصل ذات ذواة بهاء التأنيث مثل ذوات ووزنها فعله بفتحتين ولامها واور، فأصلها ذووه فلما تحركت الواو إثر فتحة قلبت ألفا ثم خففوها في حال الإفراد بحذف العين فقالوا: ذات فوزنها فلت أو فله. وقال الجوهري:أصل التاء في ذات هاء مثل نواة لأنك إذا وقفت عليها في الواحد قلت: ذاه بالهاء، ولكنهم لما وصلوا بما بعدها بالإضافة صارت تاء ويدل لكون أصلها هاء أنه إذا صغر يقال ذويه بهاء التأنيث اهـ. ولم يبين أئمة اللغة وجه هذا الإبدال ولعله لكون الكلمة بنيت على حرف واحد وألف هي مدة الفتحة فكان النطق بالهاء بعدهما ثقيلا في حال الوقف، ثم لما ثنوها ردوها إلى أصلها لأن التثنية ترد الأشياء إلى أصولها فقالوا: ذواتا كذا، وحذفت النون للزوم إضافته، وأصله: ذويات. فقلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، ووزنه فعلتان وصار وزنه بعد القلب فعاتان وإذا جمعوها عادوا إلى الحذف فقالوا ذوات كذا بمعنى صاحبات،وأصله ذويات فقلب الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، فأصل وزن ذواتى فعلات ثم صار وزنه بعد القلب فعات، وهو مما ألحق بجمع المؤنث السالم لأن تاءه في المفرد أصلها هاء، وأما تاؤه في الجمع فهي تاء صارت عوضا عن الهاء التي في المفرد على سنة الجمع بألف وتاء.
[17] {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ [17]}.
استئناف بياني ناشئ عن قوله: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} [سبأ: 16] فهو من تمام الاعتراض.
واسم الإشارة يجوز أن يكون في محل نصب نائبا عن المفعول المطلق المبين لنوع الجزاء،وهو من البيان بطريق الإشارة،أي جزيناهم الجزاء المشار إليه وهو ما تقدم من التبديل بجنتيهم جنتين أخريين. وتقديمه على عامله للاهتمام بشدة ذلك الجزاء. واستحضاره باسم الإشارة لما فيه من عظمة هوله.
ويجوز أن يكون اسم الإشارة في محل رفع بالابتداء وتكون الإشارة إلى ما تقدم من قوله: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} إلى قوله: {مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} ويكون جملة: {جَزَيْنَاهُمْ} خبر المبتدأ والرابط ضمير محذوف تقديره: جزيناهموه.

والباء في: {بِمَا كَفَرُوا} للسبيبة و "مَا" مصدرية، أي بسبب كفرهم.
وكفر هو الكفر بالله، أي إنكار إلهيته لأنهم عبدة الشمس.
والاستفهام في: {وَهَلْ يُجَازَي} إنكاري في معنى النفي كما دل عليه الاستثناء.
و {الْكَفُورُ} : الشديد الكفر لأنهم كانوا لا يعرفون اللهو يعبدون الشمس فهم أسوأ حالا من أهل الشرك.
والمعنى: ما يجازى ذلك الجزاء إلا الكفور لأن ذلك الجزاء عظيم في نوعه، أي نوع العقوبات فإن العقوبة من جنس الجزاء. والمثوبة من جنس الجزاء فلما قيل: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا} تعين أن المراد: وهل يجازى مثل جزائهم إلا الكفور، فلا يتوهم أن هذا يقتضي أن غير الكفور لا يجازى على فعله، ولا أن الثواب لا يسمى جزاء ولا أن العاصي المؤمن لا يجازى على معصيته، لأن تلك التوهمات كلها مندفعة بما في اسم الإشارة من بيان نوع الجزاء، فإن الاستئصال ونحوه لا يجري على المؤمنين.
وقرأ الجمهور: {يُجَازَى} بياء الغائب والبناء للمجهول ورفع {الْكَفُورُ} .
وقرأ حمزة والكسائي بنون العظمة والبناء للفاعل ونصب {الْكَفُورَ} .
[18] {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرىً ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ [18]} .
تكملة القصة بذكر نعمة بعد نعمة فإن ما تقدم لنعمة الرخاء والبهجة وطيب الإقامة، وما هنا لنعمة الأمن وتيسير الأسفار وعمران بلادهم.
والمراد بالقرى التي بوركت قرى بلاد الشام فكانوا إذا خرجوا من مأرب إلى البلاد الشامية قوافل للتجارة وبيع الطعام سلكوا طريق تهامة ثم الحجاز ثم مشارف الشام ثم بلاد الشام، فكانوا كلما ساروا مرحلة وجدوا قرية أو بلدا أو دارا للاستراحة واستراحوا وتزودوا. فكانوا من أجل ذلك لا يحملون معهم أزوادا إذا خرجوا من مأرب.
وهذه القرى الظاهرة يحتمل أنها تكونت من عمل الناس القاطنين حفافي الطريق السابلة بين مأرب وجلق قصد استجلاب الانتفاع بنزول القوافل بينهم وابتياع الأزواد منهم وإيصال ما تحتاجه تلك القرى من السلع والثمار وهذه طبيعة العمران.
ويحتمل أن سبأ أقاموا مباني يأوون إليها عند كل مرحلة من مراحل أسفارهم

واستنبطوا فيها الآبار والمصانع وأوكلوا بها من يحفظها ويكون لائذا بهم عند نزولهم. فيكون ذلك من جملة ما وطد لهم ملوكهم من أسباب الحضارة والأمن على القوافل وقد تكون إقامة هاته المنازل مجلبة لمن يقطنون حولها ممن يرغب في المعاملة مع القافلة عند مرورها.
وعلى الاحتمالين فإسناد جعل تلك القرى إلى الله تعالى لأنه الملهم الناس والملوك أو لأنه الذي خلق لهم تربة طيبة تتوفر محاصيلها على حاجة السكان فتسمح لهم بتطلب ترويجها في بلاد أخرى.
ووصف: {ظَاهِرَةً} أنها متقاربة بحيث يظهر بعضها لبعض ويتراءى بعضها من بعض. وقيل: الظاهرة التي تظهر للسائر من بعد بأن كانت القرى مبنية على الآكام والظراب يشاهدها المسافر فلا يضل طريقها. وقال ابن عطية الذي يظهر لي أن معنى: {ظَاهِرَةً} أنها خارجة عن المدن فهي في ظواهر المدن ومنه قولهم: نزلنا بظاهر المدينة الفلانية، أي خارجا عنها. فقوله: {ظَاهِرَةً} كتسمية الناس إياها بالبادية وبالضاحية، ومنه قول الشاعر وأنشده أهل اللغة:
فلو شهدتني من قريش عصابة ... قريش البطح لا قريش الظواهر
وفي حديث الاستسقاء: "وجاء أهل الظواهر يشتكون الغرق" اهـ. وهو تفسير جميل. ويكون في قوله: {ظَاهِرَةً} على ذلك كناية عن وفرة المدن حتى أن القرى كلها ظاهرة منها.
ومعنى تقدير السير في القرى أن أبعادها على تقدير وتعادل بحيث لا يتجاوز مقدار مرحلة. فكان الغادي يقبل في قرية والرائح يبيت في قرية. فالمعنى: قدرنا مسافات السير في القرى، أي في أبعادها. ويتعلق قوله: {فِيهَا} بفعل {قَدَّرْنَا} لا بالسير لأن التقدير في القرى وأبعادها لا في السير إذ تقدير السير تبع لتقدير الأبعاد.
وجملة: {سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ} مقول قول محذوف. وجملة القول بيان لجملة: {قَدَّرْنَا} أو بدل اشتمال منها.
وهذا القول هو قول التكوين وهو جعلها يسيرون {فِيهَا} عائد إلى القرى، والظرفية المستفادة من حرف الظرف تخييل لمكنية، شبهت القرى لشدة تقاربها بالظرف وحذف المشبه به ورمز إليه بحرف الظرفية. والمعنى:

سيروا بينها.
وكانوا يسيرون غدوا وعشيا فيسيرون الصباح ثم تعترضهم قرية فيريحون فيها ويقيلون، ويسيرون المساء فتعرضهم قرية يبيتون بها. فمعنى قوله: {سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً} سيروا كيف شئتم.
وتقديم الليالي على الأيام بها في مقام الامتنان لأن المسافرين أحوج إلى الأمن في الليل منهم إليه في النهار لأن الليل تعترضهم فيه القطاع والسباع.
[19] {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [19]}.
الفاء من قوله: {فَقَالُوا رَبَّنَا} لتعقيب قولهم هذا أثر إتمام النعمة عليهم باقتراب المدن وتيسير الأسفار، والتعقيب في كل شيء بحسبه فلما تمت النعمة بطروها فحلت بهم أسباب سلبها عنهم.
ومن أكبر أسباب زوال النعمة كفرانها. قال الشيخ ابن عطاء الله الإسكندري: "من لم يشكر النِّعم فقد تعرض لزوالها ومن شكرها فقد قيدها بعقالها".
والأظهر عندي أن يكون هذا القول قالوه جوابا عن مواعظ أنبيائهم والصالحين منهم حين ينهونهم عن الشرك فهم يعظونهم بأن الله أنعم عليهم بتلك الرفاهية فهم يجيبون بهذا القول إفحاما لدعاة الخير منهم على نحو قول كفار قريش: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32]، قبل هذا "فأعرضوا فإن الإعراض يقتضي دعوة لشيء" ويفيد هذا المعنى قوة {وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} عقب حكاية قولهم لفأنه أما معطوف على جملة: {فَقَالُوا} ، أي فأعقبوا ذلك بكفران النعمة وبالإشراك فإن ظلم النفس أطلق كثيرا على الإشراك في القرآن وما الإشراك إلا أعظم كفران نعمة الخالق.
ويجوز أن تكون جملة: {وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} في موضع الحال، والواو واو الحال، أي قالوا ذلك وقد ظلموا أنفسهم بالشرك فكان قولهم مقارنا للإشراك.
وعلى الاعتبارين فإن العقاب إنما كان مسببا بسببين كما هو صريح قوله: {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ} إلى قوله: {إِلَّا الْكَفُورَ} [سبأ: 16،

17].
فالمسبَّب على الكفر هو استئصالهم وهو مدلول قوله: {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} كما ستعرفه، والمسبب على كفران نعمة تقارب البلاد هو تمزيقهم كل ممزق ، أي تفريقهم، فنظم الكلام جاء على طريقة اللف والنشر المشوش.
ودرج المفسرون على أنهم دعوا الله بذلك، ويعكر عليه أنهم لم يكونوا مقرين بالله فيما يظهر فإن درجنا على أنهم عرفوا الله ودعوه بهذا الدعاء لأنهم لم يقدروا نعمته العظيمة قدرها فسألوا الله أن تزول تلك القرى العامرة ليسيروا في الفيافي ويحملوا الأزواد من الميرة والشراب.
ثم يحتمل أن يكون أصحاب هذه المقالة ممن كانوا أدركوا حالة تباعد الأسفار في بلادهم قبل أن تؤول إلى تلك الحضارة أو ممن كانوا يسمعون أحوال الأسفار الماضية في بلادهم أو أسفار الأمم البادية فتروق لهم تلك الأحوال، وهذا من كفر النعمة الناشئ عن فساد الذوق في إدراك المنافع وأضدادها.
والمباعدة بصيغة المفاعلة القائمة مقام همزة التعدية والتضعيف. فالمعنى: ربنا ابعد بين أسفارنا. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب".
وقرأه الجمهور: {بَاعِدْ} . وقرأ ابن كثير وابن عمرو: {بَعِّدْ} بفتح الباء وتشديد العين. وقرأه يعقوب وحده: {رَبُّنَا} بالرفع و {بَاعَدَ} بفتح العين وفتح الدال بصيغة الماضي على إن الجملة خبر المبتدأ. والمعنى: أنهم تذمروا من ذلك العمران واستقلوه وطلبوا أن تزداد البلاد قربا وذلك من بطر النعمة بطلب ما يتعذر حينئذ.
والتركيب يعطي معنى "اجعل البعد بين أسفارنا". ولما كانت {بَيْنَ} تقتضي أشياء تعين أن المعنى: باعد بين السفر والسفر من أسفارنا. ومعنى ذلك إبعاد المراحل لأن كل مرحلة تعتبر سفرا، أي باعد بين مراحل أسفارنا.
ومعنى: {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} جعلنا أولئك الذين كانوا في الجنات وفي بحبوحة العيش أحاديث،أي لم يبق منهم أحد فصار وجودهم في الأخبار والقصص وأبادهم الله حين تفرقوا بعد سيل العرم فكان ذلك مسرعا فيهم بالفناء بالتغرب في الأرض والفاقة وتسلط العوادي عليهم في الطرقات كما ستعمله.وفعل الجعل يقتضي تغييرا ولما علق

بذواتهم انقلبت من ذوات مشاهدة إلى كونها أخبارا مسموعة. والمعنى: انهم هلكوا وتحدث الناس بهم. وهذا نظير قولهم: دخلوا في خبر كان، وإلا فإن الحديث لا يخلوا منها أحد ولا جماعة. وقد يكون في المدح كقوله:
هاذي قبورهم وتلك قصورهم ... وحديثهم مستودع الأوراق
أو أريد: فجعلناهم أحاديث اعتبار وموعظة، أي فأصبناهم بأمر غريب من شأنه أن يتحدث به الناس فيكون {أَحَادِيثَ} موصوفا بصفة مقدرة دل عليها السياق مثل قوله تعالى: {يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} [الكهف: 79]، أي كل سفينة صالحة بقرينة قوله: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف: 79].
والتمزيق: تقطيع الثوب قطعا، استعير هنا للتفريق تشبيها لتفريق جامعة القوم شذر مذر بتمزيق الثوب قطعا.
و {كُلَّ} منصوب على المفعولية المطلقة لأنه بمعنى الممزق كله، فاكتسب معنى المفعولية المطلقة من إضافته إلى المصدر.
ومعنى: {كُلّ} كثيرة التمزيق لأن "كلا" ترد كثيرا بمعنى الكثير لا بمعنى الجميع، قال تعالى: {وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ} [يونس: 97] وقال النابغة:
بها كل ذيال
وأشارت الآية إلى التفرق الشهير الذي أصيبت به قبيلة سبا إذ حملهم خراب السد وقحولة الأرض إلى مفارقة تلك الأوطان مفارقة وتفريقا ضربت به العرب المثل في قولهم: ذهبوا، أو تفرقوا أيدي سبا، أو أيادي سبا، بتخفيف همزة سبا لتخفيف المثل. وفي لسان العرب في مادة "يدي" قال المعري: لم يهمزوا سبا لأنهم جعلوه مع ما قبله بمنزلة الشيء الواحد. هكذا ولعله التباس أو تحريف، وإنما ذكر المعري عدم إظهار الفتحة على ياء "أيادي" أو "أيدي" كما هو مقتضى التعليل لأن التعليل يقتضي التزام فتح همزة سبأ كشأن المركب المزجي.قال في "لسان العرب": وبعضهم ينوِّنه إذا خففه، قال ذو الرمة:
فيا لك من دار تفرق أهلها ... أيادي سباً عنها وطال انتقالها
والأكثر عدم تنوينه قال كثير:
أيادي سبا يا عز ما كنتُ بعدكم ... فلم يحلُ بالعينين بعدكِ منظر

والأيادي والأيدي فيه جمع يد. واليد بمعنى الطريق.
والمعنى: أنهم ذهبوا في مذاهب شتى يسلكون منها إلى أقطار عدة كقوله تعالى: {كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً} [الجن: 11]. وقيل: الأيادي جمع يد بمعنى النعمة لان سبا تلفت أموالهم.
وكانت سبأ قبيلة عظيمة تنقسم إلى عشرة أفخاذ وهم: الأزد، وكندة، ومذحج، والأشعريون، وأنمار، وبجيلة،وعاملة، وهم خزاعة، وغسان، ولخم، وجذام.
فلما فارقوا مواطنهم فالستة الأولون تفرقوا في اليمن ولأربعة الأخيرون خرجوا إلى جهات قاصية فلحقت الأزد بعمان، ولحقت خزاعة بتهامة في مكة، ولحقت الأوس والخزرج بيثرب، ولعلهم معدودون في لخم، ولقت غسان ببصرى والغوير من بلاد الشام، ولحقت لخم بالعراق.
وقد ذكر أهل القصص لهذا التفرق سببا هو أشبه بالخرافات فأعرضت عن ذكره، وهو موجود في كتب السير والتواريخ. وعندي أن ذلك من خذلان من الله تعالى سلبهم التفكير في العواقب فاستخفف الشيطان أحلامهم فجزعوا من انقلاب حالهم ولم يتدرعوا بالصبر حين سلبت عنهم النعمة ولم يجأروا إلى الله بالتوبة فبعثهم الجزع والطغيان والعناد وسوء التدبير من رؤسائهم على أن فارقوا أوطانهم عوضا من أن يلموا شعثهم ويرقعوا خرقهم فتشتتوا في الأرض، ولا يخفى ما يلاقون من ذلك من نصب وجوع ونقص من الأنفس والحمولة والأزواد والحلول في ديار أقوام لا يرثون لحالهم ولا يسمحون لهم بمقاسمة أموالهم فيمونون بينهم عافين.
وجملة: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} تذييل فلذلك قطعت، وافتتاحها بأداة التوكيد للاهتمام بالخير. والمشار إليه بذلك هو ما تقدم من قوله: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسَاكِنِهِمْ آيَةٌ} [سبأ: 15].
ويظهر أن هذا التذييل تنهية للقصة وأن ما بعد هذه الجملة متعلق بالغرض الأول المتعلق بأقوال المشركين والمنتفل منه إلى العبرة بداود وسليمان والممثل لحال المشركين فيه بحال أهل سبأ.
وجُمع: {الآيَات} لأن في تلك القصة عدة آيات وعبر فحلة مساكنهم آية على قدرة الله ورحمته وإنعامه. وفيه آية على أنه الواحد بالتصرف، وفي إرسال سير العرم عليه آية

على انفراده وحده بالتصرف، وعلى أنه المنتقم وعل أنه واحد، فلذلك عاقبهم على الشرك،وفي انعكاس حالهم من الرفاهة إلى الشظف آية على تقلب الأحوال وتغير العالم وآية على صفات الأحوال لله تعالى من خلق ورزق وإحياء وإماتة، وفي ذلك آية من عدم الاطمئنان لدوام حال في الخير والشر. وفيما كان من عمران إقليمهم واتساع قراهم إلى بلاد الشام آية على مبلغ العمران وعظم السلطان من آيات التصرفات، وآية من الأمن أساس العمران. وفي تمنيهم زوال ذلك آية على ما قد تبلغه العقول من الانحطاط المفضي إلى اختلال أمور الأمة وذهاب عظمتها وفيما صاروا إليه من النزوح عن الأوطان والتشتت في الأرض آية على ما يلجئ الاضطرار إليه الناس من ارتكاب الأخطار والمكاره كما يقول المثل: الحمى أرضعتني إليك.
والجمع بين {صَبَّارٍٍ} و {شَكُورٍ} في الوصف لإفادة أن واجب المؤمن التخلق بالخلقين وهما: الصب على المكاره، والشمر على النعم، وهؤلاء المتحدث عنهم لم يشكروا النعمة فيطروها، ولم يصبروا على ما أصابهم من زوالها فاضطربت نفوسهم وعمهم الجزع فخرجوا من ديارهم وتفرقوا في الأرض، ولا تسأل عما لا قوة في ذلك من المتآلف والمذلات.
فالصبار يعتبر من تلك الأحوال فيعلم أن الصبر علك المكاره خير من الجزع ويرتكب أخف الضرين، ولا يستخفه الجزع فيلقي بنفسه إلى الأخطار ولا ينظر في العواقب.
والشكور يعتبر بما أعطى من النعم فيزداد شكرا لله تعالى ولا يبطر النعمة ولا يطغى فيعاقب بسلبها كما سلبت عنهم، ومن وراء ذلك أن يحركهم الله التوفيق. وأن يقذف بهم الخذلان في بنيات الطريق.
وفي الآية دلالة واضحة على أن تأمين الطريق وتيسير المواصلات وتقريب البلدان لتيسير تبادل المنافع واجتلاب الأرزاق من هنا ومن هناك نعمة إلهية ومقصد شرعي يحبه الله لمن يحب أن يرحمه من عباده كما قال تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً} [البقرة: 125] وقال: {وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 4]، فلذلك قال هنا: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرىً ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ} [سبأ: 18].

وعلى أن الإجحاف في إيفاء النعمة حقها من الشكر يعرض بها للزوال وانقلاب الأحوال قال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112].
من أجل ذلك كله كان حقا على ولاة أمور الأمة أن يسعوا جهدهم في تأمين البلاد وحراسة السبل وتسير الأسفار وتقرير الأمن في سائر نواحي البلاد جليلها وصغيرها بمختلف الوسائل وكان ذلك من ما أهم ما تنفق فيه أموال المسلمين وما يبذل فيه أهل الخير من الموسرين أموالهم عونا على ذلك وذلك من رحمة أهل الأرض المشمولة لقول النبيء صلى الله عليه وسلم: "ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء".
وكان حقا على أهل العلم والدين أن يرشدوا الأئمة والأمة إلى طريق الخير وأن ينبهوا على معالم ذلك الطريق ومسالكه بالتفصيل دون الأجمال، فقد افتقرت الأمة إلى العمل وسئمت الأقوال.
[20، 21] {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [20] وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ [21]}.
الأظهر أن هذا عطف على قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ} [سبأ: 7] الآية وأن ما بينها من الأخبار المسوقة للاعتبار كما تقدم واقع موقع الاستطراد والاعتراض فيكون ضمير: {عَلَيْهِمْ} عائدا إلى {الَّذِينَ كَفَرُوا} من قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ} الخ. والذي درج عليه المفسرون أن ضمير: {عَلَيْهِمْ} عائد إلى سبأ المتحدث عنهم. ولكن لا مفر من أن قوله تعالى بعد ذلك: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سبأ: 22] الآيات هو عود إلى محاجة المشركين المنتقل منها بذكر قصة داود وسليمان وأهل سبأ. وصلوحية الآية للمحملين ناشئة من موقعها وهذا من بلاغة القرآن المستفاده من ترتيب مواقع الآية.
فالمقصود تنبيه المؤمنين إلى مكائد الشيطان وسوء عاقبة أتباعه ليحذروه ويستيقظوا لكيده فلا يقعوا في شرك وسوسته.
فالمعنى: أن الشطان سول للمشركين أو سول للممثل بهم حال المشركين الإشراك

بالمنعم وحسن لهم ضد النعمة حتى تمنوه وتوسم فيهم الانخداع له فألقى إليهم وسوسته وكره إليهم نصائح الصالحين منهم فصدق توسمه فيهم أنهم يأخذون بدعوته فقبلوها واعرضوا عن خلافها فاتبعوه.
ففي قوله: {صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} إيجاز حذف لأن صدق الضن المفرع عنه أتباعهم يقتضي. أنه دعاهم إلى شيء ظانا استجابة دعوته إياهم.
وقرأ الجمهور: {صَدَقَ} بتخفف الدال فـ {إِبْلِيسُ} فاعل و {ظَنَّهُ} منصوب على نزع الخافض، أي في ظنه. و {عَلَيْهِمْ} متعلق بـ {صَدَّقَ} لتضمينه معنى أوقع أو ألقى، أي أوقع عليهم ظنه فصدق فيه. والصدق بمعنى الإصابة في الظن لأن الإصابة مطابقة للواقع فهي من قبيل الصدق. قال أبو الغول الطهوي من شعراء الحماسة:
فدت نفسي وما ملكت يميني ... فوارسَ صُدقت فيهم ظنوني
وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وخلف {صدَّق} بتشديد الدال بمعنى حقق ظنه عليهم حين انخدعوا لوسوسته فهو لما وسوس لهم ظن أنهم يطيعونه فجد في الوسوسة حتى استهواهم فحقق ظنه عليهم.
وفي "على" إيماء إلى أن عمل إبليس كان من جنس التغلب والاستعلاء عليهم.
وقوله: {فَاتَّبَعُوهُ} تفريع وتعقيب على فعل {صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} أي تحقق ظنه حين انفعلوا لفعل وسوسته فبادروا إلى العمل بما دعاهم إليه من الإشراك والكفران.
و {إِلَّا فَرِيقاً} استثناء من ضمير الرفع في {فَاتَّبَعُوهُ} وهو استثناء متصل إن كان ضمير "اتّبَعُوه" عائدا على المشركين وأما إن كان عائدا على أهل سبا فيحتمل الاتصال إن كان فيهم مؤمنين وإلا فهو استثناء منقطع، أي لم يعصه في ذلك إلا فريق من المؤمنين وهم الذين آمنوا من أهل مكة، أو الذين آمنوا من أهل سبأ. فلعل فيهم طائفة مؤمنين ممن نجوا قبل إرسال سيل العرم.
والفريق: الطائفة مطلقا،واستثناؤها من ضمير الجماعة يؤذن بأنهم قليل بالنسبة للبقية وإلا فإن الفريق يصدق بالجماعة الكثيرة كما في قوله تعالى: {فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} [الأعراف: 30].
والتعريف في {الْمُؤْمِنِينَ} للاستغراق و {مِن} تبعيضية، أي إلا فريقا هم بعض جماعات المؤمنين في الأزمان والبلدان.

وقوله: {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ} أي ما كان للشيطان من سلطان على الذين اتبعوه.
وفعل {كَانَ} في النفي مع {مِنْ} التي تفيد الاستغراق في النفي يفيد انتفاء السلطان، أي الملك والتصريف للشيطان، أي ليست له قدرة ذاتية هو مستقل بها يتصرف بها في العالم كيف يشاء لأن تلك القدرة خاصة بالله تعالى.
والاستثناء في قوله: {إِلَّا لِنَعْلَمَ} استثناء من علل. فيفيد أن تأثير وسوسته فيهم كان بتمكين من الله،أي لكن جعلنا الشيطان سببا يتوجه إلى عقولهم وإرادتهم فتخامرها وسوسته فيتأثر منها فريق وينجو منها فريق بما أودع الله في هؤلاء وهؤلاء من قوة الانفعال والممانعة على حسب السنن التي أودعها الله في المخلوقات.
ويجوز أن يكون الاستثناء من عموم سلطان، وحذف المستثنى ودل عليه علته والتقدير: إلا سلطانا لنعلم من يؤمن بالآخرة. فيدل على أنه سلطان مجعول له بجعل الله بقرينة أن تعليله مسند إلى ضمير الجلالة.
وانظر ما قلناه عند قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} في سورة الحجر [42] وضُمّه إلى ما قلناه هنا.
واقتُصر من علل تمكين الشيطان من السلطان على تمييز من يؤمن بالآخرة ومن لا يؤمن بها لمراعاة أحوال الذين سبقت إليهم الموعظة بأهل سبا وهم كفار قريش لأن جحودهم قرين للشرك ومساو له فإنهم لو آمنوا بالآخرة لآمنوا بربها وهو الرب الواحد الذي لا شريك وإلا فإن علل جعل الشيطان للوسوسة كثيرة مرجعها إلى تمييز الكفار من المؤمنين،والمتقين من المعرضين. وكني ب{نعلم} عن إظهار التمييز بين الحالين لأن الظهور يلازم العلم في العرف. قال قبيصة الطائي من رجال حرب ذي قار:
وأقبلت والخطي يخطر بيننا ... لأعلم من جبانها من شجاعها
أراد ليتميز الجبان من الشجاع فيعلمه الناس فأن غرضه الأهم إظهار شجاعة نفسه لثقته بها لا اختبار شجاعة أقرانه وإلا لكان مترددا في إقدامه. فالمعنى: ليظهر من يؤمن بالآخرة ويتميز عمن هو منها في شك فيعلمه من يعلمه ويتعلق علمنا به تعلقا جزئيا عند حصوله يترتب عليه الجزاء فقد ذكرنا فيما تقدم أن لا محيص من اعتبار تعلق تنجيزي لعلم الله. ورأيت في: "الرسالة الخاقانية" اعبد الحكيم السلكوتي أن بعض العلماء أثبت ذلك

التعلق ولم يعين قائله. وخولف في النظم بين الصلتين فجاءت جملة {مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ} فعلية،وجاءت جملة {هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ} اسمية لأن الإيمان بالآخرة طارئ على كفرهم السابق ومتجدد ومتزايد آنا فآنا، فكان مقتضى الحال إيراد الفعل في صلة أصحابه. وأما شكهم في الآخرة فبخلاف ذلك هو أمر متأصل فيهم فاجتلبت لأصحابه الجملة الاسمية.
وجيء بحرف الظرفية للدلالة على إحاطة الشك بنفوسهم ويتعلق قوله: {مِنْهَا} بقوله: بـ"شك". وجملة {وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} تذييل. والحفيظ: الذي لا يخرج عن مقدرته ما هو في حفظه، وهو يقتضي العلم والقدرة إذ بمجموعها تتقوم ماهية الحفظ ولذلك يتبع الحفظ بالعلم كثيرا كقوله تعالى: {إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55]. وصيغة فعيل تدل على قوة الفعل وأفاد عموم {كُلِّ شَيْءٍ} أنه لا يخرج عن علمه شيء من الكائنات فتنزل هذا التذييل منزلة الاحتراس عن غير المعنى الكنائي من قوله: {لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ} ، أي ليظهر ذلك لكل أحد فتقوم الحجة لهم وعليهم.
[22، 23] {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ [22] وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [23]}.
كانت قصة سبأ قد ضربت مثلا وعبرة للمشركين من قريش وكان في أحوالهم مثيل لأحوال المشركين في أمن بلادهم وتيسير أرزاقهم وتأمين سبلهم في أسفارهم مما أشار إليه قوله تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص: 57] وقوله: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ} [قريش: 1] إلى آخر السورة، ثم فيما قابلوا به نعمة الله بالشراك به وكفران نعمته وإفحامهم دعاة الخير الملهمين من لدنه إلى دعوتهم، فلما تقضى خبرهم لينتقل منه إلى تطبيق العبرة على من قصد اعتبارهم انتقالا مناسبته بينة وهو أيضا عود إلى إبطال أقوال المشركين، وسيق لهم من الكلام ما هو فيه توقيف على أخطائهم، وأيضا فلما جرى من استهواء الشيطان أهل سبا فاتبعوه وكان الشيطان مصدر الضلال وعنصر الإشراك أعقب ذكره بذكر فروعه وأولياءه.
وافتتح الكلام بأمر النبيء صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم ما هو متتابع في بقية هذه الآيات

المتتابعة بكلمة: {قُلْ} فأمر بالقول تجديدا لمعنى التبليغ الذي هو مهمة كل القرآن.
والأمر في قوله: {ادْعُوا} مستعمل في التخطئة والتوبيخ، أي استمروا على دعائكم.
و {الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} معناه زعمتموهم أربابا، فحذف مفعولا الزعم: أما الأول فحذف لأنه ضمير متصل منصوب بفعل قصدا لتخفيف الصلة بمتعلقاتها، وأما الثاني فحذفه لدلالة صفته عليه وهي: {مِنْ دُونِ اللَّهِ} .
و {مِنْ دُونِ اللَّهِ} صفة لمحذوف تقديره: زعمتم أولياء.
ومعنى: {مِنْ دُونِ اللَّهِ} أنهم مبتدؤون من جانب غير جانب الله، أي زعمتموهم آلهة مبتدئين إياهم من ناحية غير الله لأنهم حين يعبدونهم قد شغلوا بعبادتهم ففرطوا في عبادة الله المستحق للعبادة وتجاوزوا حق إلهيته في أحوال كثيرة وأوقات وفيرة.
وجملة: {لا يَمْلِكُونَ} مبينه لما في جملة: {ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} من التخطئة.
وقد نفي عنهم مِلك أحقر الأشياء وهو ما يساوي ذرة من السماء والأرض.
والذرة: بيضة النمل التي تبدوا حبيبة صغيرة بيضاء، وتقدم عند قوله تعالى: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ} في سورة يونس [61]. والمراد بالسماوات ولأرض جوهرها وعينهما ل ما تشملان عليه من المجودات لأن جوهرهما لا يدعي المشركون فيه ملكا لآلهتهم، فالمثقال: إما آلة الثقل فهو اسم للصنوج التي يوزن بها فأطلق على العديل مجازا مرسلا، وإما مصدر ميمي سمي به الشيء الذي به التثقيل ثم أطلق على العديل مجازا، وتقدم المثقال عند قوله: {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ} في سورة الأنبياء [47].
ومثقال الذرة: ما يعدل الذرة فيثقل به الميزان، أي لا يملكون شيئا من السماوات ولا في الأرض. وإعادة حرف النفي تأكيد له للاهتمام به.
وقد نفي أن يكون لآلهتهم ملك مستقل، وأتبع بنفي أن يكون لهم الشرك في شيء من السماء والأرض، أي شرك مع الله كما هو السياق فلم يذكر متعلق الشرك إيجازا لأنه محل الوفاق.
ثم نفى أن يكون منهم ظهير، أي معين لله تعالى. وتقدم الظهير في قوله تعالى:

{وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} في سورة الإسراء [88]. وهنا تعين التصريح المتعلق ردا على المشركين إذ زعموا أن آلهتهم تقرب إليه وتبعد عنه، ثم أتبع ذلك بنفي أن يكون شفيع عند الله يضطره إلى قبول الشفاعة فيمن يشفع له لتعظيم أو حياء. وقد صرح بالمتعلق هنا أيضا ردا على قول المشركين {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18] فنفيت شفاعتهم في عموم نفي كل شفاعة نافعة عند الله إلا شفاعة من أذن الله أن يشفع. وفي هذا إبطال شفاعة أصنامهم لأنهم زعموا لهم شفاعة لازمة من صفات آلهتهم لأن أوصاف الإله يجب أن تكون ذاتية فلما نفى الله كل شفاعة لم يأذن فيها للشافع انتفت الشفاعة المزعومة لأصنامهم. وبهذا يندفع ما يتوهم من أن قوله: {إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} لا يبطل شفاعة الأصنام فافْهمْ.
وجاء نظم قوله: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} نظما بديعا من وفرة المعنى، فإن النفع يجيء بمعنى حصول المقصود من العمل ونجاحه كقول النابغة:
ولا حلفي على البراءة نافع
ومنه قوله تعالى: {لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} [الأنعام: 158]، ويجيء بمعنى المساعد الملائم وهو ضد الضار وهو أكثر إطلاقه. ومنه: دواء نافع، ونفعني فلان. فالنفع بالمعنى الأول في الآية يفيد القبول من الشافع لشفاعته، وبالمعنى الثاني يفيد انتفاع المشروع له بالشفاعة، أي أصول النفع له بانقشاع ضر المؤاخذة بذنب كقوله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48]. فلما عبر في هذه الآية بلفظ الشفاعة الصالح لأن يعتبر مضافا إلى الفاعل أو إلى المفعول أحتمل النفع أن يكون نفع الفاعل، أي قبول شفاعته، ونفع المفعول، أي قبول شفاعة من شفع فيه.
وتعدية فعل الشفاعة باللام دون {في} ودون تعديته بنفسه زاد صلوحيته للمعنيين لأن الشفاعة تقتضي شافعا ومشفوعا فيه فكان بذلك أوفر معنى.
فالاستثناء في قوله: {إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} استثناء من جنس الشفاعة المنفي بقرينة وجود اللام وليس استثناء متعلق {تَنْفَعُ} لأن الفعل لا يعدى إلى مفعوله باللام إلا إذا تأخر الفعل عنه فضعف عن العمل بسبب التأخير فلذلك احتملت اللام أن تكون داخلة على الشافع، وأن "مَن" المجرورة باللام صادقة على الشافع، أي لا تقبل شفاعة إلا شفاعة كائنة لمن أذن الله له، أي أذن له بأن يشفع فاللام للملك فقولك: الكرم لزيد، أي هو كريم فيكون في معنى قوله: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} [السجدة: 4]. وأن

تكون اللام داخلة على المشفوع فيه، و"مَن" صادقة على مشفوع فيه، أي إلا شفاعة لمشفوع أذن الله الشافعين أن يشفعوا له أي لأجله فاللام للعلة كقولك: قمت لزيد، فهو كقوله تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء : 28].
وإنما جيء بنظم هذه الآية على غير ما نظمت عليه غيرها لأن المقصود هنا إبطال رجاؤهم أن تشفع لهم آلهتهم عند الله فينتفعوا بشفاعتها، لأن أول الآية توبيخ وتعجيز لهم في دعوتهم الآلهة المزعومة فاقتضت إبطال الدعوة والمدعو.
وقد جمعة الآية نفي جميع أصناف التصرف عن آلهة المشركين كما جمعت نفي أصناف الآلهة المعبودة عند العرب، لأن من العرب صابئة يعبدون الكواكب وهي في زعمهم مستقرة في السماوات تدبر أمور أهل الأرض فابطل هذا الزعم قوله: {لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} ؛ فأما في السماوات فباعترافهم أن الكواكب لا تتصرف في السماوات وإنما تصرفهم في الأرض وأما في الأرض فبقوله: {وَلا فِي الْأَرْضِ} . ومن العرب عبدة أصنام يزعمون أن الأصنام شركاء لله في الإلهيه فنفي ذلك بقوله: {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} ، ومنهم من يزعم أن الأصنام جعلها الله شفعاء لأهل الأرض فنفي ذلك بقوله: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ} الآية.
وقرأ الجمهور: {أَذِنَ} بفتح الهمزة وفيه ضمير يعود إلى اسم الجلالة مثل ضمائر الغيبة التي قبله. وقرأه أبو عمرو وحمزة والكسائي وخلف بضم الهمزة على البناء للنائب. والمجرور من قوله: {لَهُ} في موضع نائب الفاعل.
وقوله: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} {حَتَّى} ابتدائية وهي تفيد ارتباط ما بعدها بما قبلها لا محالة فالضمائر التي في الجملة الواقعة بعد {حَتَّى} عائدة على ما يصلح لها في الجمل التي قبلها. وقد أفادت {حَتَّى} الغاية بأصل وضعها وهي هنا غاية لما أفهمه قوله: {إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} من أن هنالك إذنا يصدر من جانب القدس يأذن الله به ناسا من الأخيار بأن يشفعوا كما جاء تفصيل بعض هذه الشفاعة في الأحاديث الصحيحة وأن الذين يرجون أن يشفع فيهم ينتظرون ممن هو أهل لأن يشفع وهم في فزع من الإشفاق أن لا يؤذن بالشفاعة فيهم، فإذا أذن الله لمن شاء أن يشفع زال الفزع عن قلوبهم واستبشروا إذ أنه فزع عن قلوب الذين قبله الشفاعة فيهم، أي وأيس المحرمون من قبول الشفاعة فيهم. وهذا من الحذف المسمى بالاكتفاء اكتفاء بذكر الشيء عن ذكره نظيره أو ضد، وحسنه هنا أنه اقتصار على ما يسر المؤمنين الذين لم يتخذوا من دون الله أولياء.

وقد طويت جمل من وراء {حَتَّى} ، والتقدير: إلا لمن أذن له ويومئذ يبقى الناس مرتقبين الأذن لمن يشفع، فزعين من أن لا يؤذن لأحد زمنا ينتهي بوقت زوال الفزع عن قلوبهم حين يؤذن للشافعين بأن يشفعوا، وهو إيجاز حذف.
و {إِذَا} ظرف للمستقبل وهو مضاف إلى جملة: {فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} متعلق بـ {قَالُوا} .
و {فُزِّعَ} قرأه الجمهور بضم الفاء وكسر الزاي مشددة، وهو مضاعف فزع. والتضعيف فيه للإزالة مثل: قشر العود، ومرض المريض إذا باشر علاجه، وبني للمجهول لتعظيم ذلك التفزيع بأنه صادر من جانب عظيم، ففيه جانب الأذن فيه، وجانب المبلغ له وهو الملك.
والتفزيع يحصل لهم بانكشاف إجمالي يلهمونه فيعلمون بأن الله أذن بالشفاعة ثم يتطلبون التفصيل بقولهم: {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} ليعلموا من أذن له ممن لم يؤذن له، وهذا كما يوكرر النظر ويعاود المطالعة من ينتظر القبول، أو هم تساءلون عن ذلك من شدة الخشية فإنهم إذا فزع عن قلوبهم تساءلوا لمزيد التحقيق بما استبشروا به فيجابون أنه قال الحق.
فضمير {قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} عائد على بعض مدلول قوله: {لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} . وهم الذين أذن للشفعاء لقبول شفاعتهم منهم وهم يوجهون هذا الاستفهام إلى الملائكة الحافين، وضمير {قَالُوا الْحَقَّ} عائد إلى المسؤولين وهم الملائكة.
ويظهر أن كلمة {الْحَقَّ} وقعت حكاية لمقول الله بوصف يجمع متنوع أقوال الله تعالى حينئذ من قبول شفاعة في بعض المشفوع فيهم ومن حرمان لغيرهم كما يقال:ماذا قال القاضي للخصم? فيقال: قال الفصل. فهذا حكاية لمقول الله بالمعنى.
وانتصاب {الْحَقَّ} على أنه مفعول {قَالُوا} يتضمن معنى الملام، أي قال الكلام الحق، كقوله:
وقصيدةٍ تأتي الملوك غريبة ... قد قلتها ليقال من ذا قالها
هذا هو المعنى الذي يقتضيه نظم الآية ويلتئم مع معانيها. وقد ذهبت في تفسيرها أقوال كثير من المفسرين طرائق قداد، وتفرقوا بَددا بَددا.
و {ذَا} من قوله: {مَاذَا} إشارة عوملت معاملة الموصول لأن أصل: {مَاذَا قَالَ} :

ما هذا الذي قال، فلما كثر استعمالها بدون ذكر اسم الموصول قيل إن "ذا" بعد الاستفهام تصير اسم موصول، وقد يذكر الموصول بعدها كقوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ} [البقرة: 255].
وقرأ أبن عامر ويعقوب: {فَزَّعَ} بفتح الفاء وفتح الزاي مشددة بصيغة البناء للفاعل، أي فزّع الله عن قلوبهم.
وقد ورد في أحاديث الشفاعة عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري أن الله يقول لآدم: أخرج بعث النار من ذريتك وفي حديث أنس في شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل المحشر كلهم "ليدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار". وفيه أن الأنبياء أبوا أن يشفعوا وأن أهل المحشر أتوا محمدا صلى الله عليه وسلم وأنه استأذن ربه في ذلك فقال له "سل تُعْطَ واشْفَع تُشفَّعْ" ، وفي حديث أبي سعيد: "أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع لعمه أبي طالب فيجعل فيه ضخضاح من نار يبلغ كعبيه تغلي منه أم دماغه".
وجملة: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} تتم جواب المجيبين، عطفوا تعظيم الله بذكر صفتين من صفات جلاله وهما صفة {الْعَلِيّ} وصفة {الْكَبِير} .
والعلو: علو الشأن الشامل لمنتهى الكمال في العلم.
والكبر: العظمة المعنوية، وهي منتهى القدرة والعدل والحكمة وتخصيص هاتين الصفتين لمناسبة مقام الجواب، أي قد قضى بالحق لكل أحد بما يستحقه فإنه يخفي عليه حال أحد ولا يعوقه عن إيصاله إلى حقه عائق ولا يجوز دونه حائل.
وتقدم ذكر هاتين الصفتين في قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} في سورة الحج [62].
واعلم أنه ورد في صفة تلقى الملائكة الوحي يسأل الذي يبلغه إليه بمثل هذا الكلام كما في حديث أبي هريرة في "صحيح البخاري" وغيره: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قضي الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم? قالوا للذي قال الحق وهو العلي الكبير" اهـ. فمعنى قوله في الحديث: قضى صدر منه أمر التكوين الذي تتولى الملائكة تنفيذه، وقوله في الحديث "في السماء" يتعلق بـ"قضى" بمعنى أوصل قضاءه إلى السماء حيث مقر الملائكة، وقوله: "خضعانا لقوله" أي خوفا وخشية، وقوله: {فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} أي أزيل الخوف عن نفوسهم.

وفي حديث ابن عباس من الترمذي: "إذا قضي ربنا أمرا سبح له حملة العرش ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم" قال: "ثم أهل كل سماء" الحديث. وذلك لا يقتضي أنه المراد في آية سورة سبأ وإنما هذه صفة تلتقي الملائكة أمر الله في الدنيا والآخرة فكانت أقوالهم على سنة واحدة.
وليس تخريج البخاري والترمذي هذا الحديث في الكلام على تفسير سورة سبأ مرادا به أنه وارد في ذلك، وإنما يريد أن من صور معناه ما ذكر في سورة سبأ.وهذا يغنيك عن الالتجاء إلى تكلفات تعسفوها في تفسير هذه الآية وتعلقها بما قبلها.
[24] {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [24]}.
انتقال من دمغ المشركين بضعف آلهتهم وانتفاء جدواها عليهم في الدنيا والآخرة إلى إلزامهم بطلان عبادتها بأنها لا تستحق العبادة لأن مستحق العبادة هو الذي يرزق عبادة فإن العبادة شكر ولا يستحق الشكر إلا المنعم، وهذا احتجاج بالدليل النظري بأن الله هو الرزاق يستلزم انفراده بإلهيته إذ لا يجوز أن ينفرد ببعض صفات الإلهية ويشارك في بعض آخر فإن الإلهية حقيقة لا تقبل التجزئة والتبعيض.
وأعيد الأمر بالقول لزيادة الاهتمام بالمقول فإن أصل الأمر بالقول في مقام التصدي للتبليغ دال على الاهتمام، وإعادة ذلك الأمر زيادة في الاهتمام.
و {مَن} استفهام للتنبيه على الخطأ ولذلك أعقب بالجواب من طرف السائل بقوله: {قُلِ اللَّهُ} لتحقق أنهم لا ينكرون ذلك الجواب كما في قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} إلى قوله: {فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} في سورة يونس [31]. وتقدم نظير صدر الآية في سورة الرعد.
وعطف على الاستفهام إبراز المقصد بطريقة خفية توقع الخصم في شرك المغلوبية وذلك بترديد حالتي الفريقين بين حالة هدى وحالة ضلال لأن حالة كل فريق لما كانت على الضد من حال الفريق الآخر بين موافقة الحق وعدمها، تعين أن أمر الضلال والهدى دائر بين الحالتين لا يعدونهما. ولذلك جيء بحرف {أَوْ} المفيد للترديد المنتزع من الشك.

وهذا اللون من الكلام يسمى الكلام المنصف وهو أن لا يترك المجادل لخصمه موجب تغيظ واحتداد في الجدال، ويسمى في علم المناظرة إرخاء العنان للمناظر ومع ذلك فقرينة إلزامهم الحجة قرينة واضحة.
ومن لطائفه هنا أن أشتمل على إيماء إلى ترجيح أحد الجانبين في أحد الاحتمالين بطريق مقابلة الجانبين في ترتيب الحالتين باللف والنشر المرتب وهو أصل اللف. فإنه ذكر ضمير جانب المتكلم وجماعته وجانب المخاطبين، ثم ذكر حال الهدى وحال الضلال على ترتيب ذكر الجانبين، فأومأ إلى أن الأولين موجهون إلى الهدى ولآخرين موجهون إلى الضلال المبين، لا سيما بعد قرينة الاستفهام، وهذا أيضا من التعريض وهو أوقع من التصريح لا سيما في استنزال طائر الخصم.
وفيه أيضا تجاهل العارف فقد التأم في هذه الجملة ثلاثة محسنات من البديع ونكتة من البيان فاشتملت على أربع خصوصيات.
وجيء في جانب أصحاب الهدى بحرف الاستعلاء المستعار للتمكن تكثيلا لحال المهتدي بحال متصرف في فرسه يركضه حيث شاء متمكن من شيء بلغ به مقصده. وهي حالة مماثلة لحال المهتدي على بصيرة فهو يسترجع مناهج الحق في كل صوب. متسع النظر، منشرح الصدر: ففيه تمثيلية مكنية وتبعية.
وجيء في جانب الضالين بحرف الظرفية المستعار لشدة التلبيس بالوصف تمثيلا لحالهم في إحاطة الضلال بهم بحال الشيء في ظرف محيط به لا يتركه يفارقه ولا يتطلع منه على خلاف ما هو فيه من ضيق يلازمه. وفيه أيضا تمثيلية تبعية، وهذا ينظر إلى قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} [الأنعام: 125].
فحصل في الآية أربع استعارات وثلاثة محسنات من البديع وأسلوب بياني، وحجة قائمة، وهذا إعجاز بديع.
ووُصف الضلال بالمبين دون وصف الهدى بالمبين لأن حقيقة الهدى مقول عليها بالتواطئ وهو معنى قول أصحابنا الأشاعرة: الإيمان لا يزيد ولا ينقص في ذاته وإنما زيادته بكثرة الطاعات، وأما الكفر فيكون بإنكار بعض المعتقدات وبإنكار جميعها وكل ذلك يصدق عليه الكفر. ولذلك قيل كفر دون كفر: فوصف كفرهم بأنه أشد الكفر،فإن

المبين هو الواضح في جنسه البالغ غاية حده.
[25] {قُلْ لا تُسْأَلونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ [25]}.
أعيد الأمر بأن يقول لهم مقالا آخر إعادة لزيادة الاهتمام كما تقد آنفا واستدعاء لأسماء المخاطبين بالإصغاء إليه.
ولما كان هذا القول يتضمن بيانا للقول الذي قبله فصلت جملة الأمر بالقول عن أختها إذ لا يعطف البيان على المبين بحرف النسق، فإنه لما ردد أمر الفريقين بين أن يكون أحدهما هلى هدى ولآخر في ضلال وكان الضلال يأتي بالإجرام اتسع بالمحاجة فقيل لهم: إذا نحن أجرمنا فأنتم غير مؤاخذين بجرمنا وإذا عملتم عملا فنحن غير مؤاخذين به، أي أن كل فريق مؤاخذ وحده بعمله فالأجدى بكلا الفريقين أن ينظر كل في أعماله وأعمال ضده ليعلم أي الفريقين أحق بالفوز والنجاة عند الله.
وأيضا فصلت لتكون هذه الجملة مستقلة بنفسها ليخصها السامع بالتأمل في مدلولها فيجوز أن تعتبر استئنافا ابتدائيا، وهي مع ذلك اعتراض بين أثناء الاحتجاج.
فمعنى {لا تُسْأَلونَ} ، {وَلا نُسْأَلُ} أن كل فريق له خويّصته.
والسؤال: كناية عن أثره وهو الثواب على العمل الصالح والجزاء على الإجرام بمثله كما هو في قول كعب بن زهير:
وقيل إنك منسوب ومسؤول
أراد ومؤاخَذ بما سبق منك لقوله قبله:
لذاك أهيب عندي إذ أكمله
وإسناد الإجرام إلى جانب المتكلم ومن معه مبني على زعم المخاطبين، وقال تعالى: {وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ} [المطففين: 32] كان المشركون يؤنّبون المؤمنين بأنهم خاطئون في تجنب عبادة أصنام قومهم.
وهذه نكتة صوغه في صيغة الماضي لأن متحقق على زعم المشركين. وصيغ ما يعمل المشركون في صيغة المضارع لأنهم ينتظرون منهم عملا تعريضا بأنهم يأتون عملا غير ما عملوه، أي يؤمنون بالله بعد كفرهم.

وهذا ضرب من المشاركة والموادعة ليخلوا بأنفسهم فينظروا في أمرهم ولا يلهيهم جدال المؤمنين عن استعراض ومحاسبة أنفسهم وأسندوا العمل على إطلاقه في جانب المخاطبين لأن النظر والتدبر بعد ذلك يكشف عن كنه كلا العملين.
وليس لهذه الآية تعلق بمشاركة القتال فلا تجعل منسوخة بآيات القتال.
[26] {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ [26]}.
إعادة فعل {قُلْ} لما عرفت في الجملة التي قبلها من زيادة الاهتمام بهذه المحاجات لتكون كل مجادلة مستقلة غير غير معطوفة فتكون هذه الجملة استئنافا ابتدائيا.
وأيضا فهي بمنزلة البيان للتي قبلها لأن نفي سؤال كل فريق عن عمل غيره يقتضي أن هنالك سؤالا عن عمل نفسه فبين بأن الذي يسأل الناس عن أعمالهم هو الله تعالى، وأنه الذي يفصل بين الفريقين بالحق حين يجمعهم يوم القيامة الذي هم منكروه فما ظنك بحالهم يوم تحقق ما أنكروه.
وهنا تدرج الجدل من الإيماء إلى الإشارة القريبة من التصريح لما في إثبات يوم الحساب والسؤال من المصارحة بأنه الضالون. ويسمى هذا التدرج عند أهل الجدل بالترقي.
والفتح الحكم والفصل بالحق، كقوله تعالى: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف: 89] وهو مأخوذ من فتح الكوة لإظهار ما خلفها.
وجملة {وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} تذييل بوصفه تعالى بكثرة الحكم وقوته ولإحاطة العلم، وبذلك كان تذيلا لجملة {يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ} المتضمنة حكما جزئيا فذيل بوصف كلي، وإنما أتبع {الْفَتَّاحُ} بـ {الْعَلِيمُ} للدلالة على أن حكمه عدل محض لأنه عليم لا تحف بحكمه أسباب الخطأ والجور الناشئة عن الجهل والعجز واتباع الضعف النفساني الناشئ عن الجهل بالأحوال والعواقب.
[27] {قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [27]}.
أعيد الأمر بالقول رابع مرة لمزيد الاهتمام وهو رجوع إلى مهيع الاحتجاج على

بطلان الشرك فهو كالنتيجة لجملة {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} .
والأمر في قوله: {أَرُونِي} مستعمل في التعجيز، وهو تعجيز للمشركين عن إبداء حجة لإشراكهم، وهو انتقال من الاحتجاج على بطلان إلهية الأصنام بدليل النظير في قوله: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ} إلى إبطال ذلك بدليل البداهة.
وقد سُلك من طرق الجدل أن يكون الاستفسار، والمصطلح عليه عند أهل الجل أن يكونه الاستفسار مقدما على طرائق المناظرة وإنما أخر هنا لأن كان مفضيا إلى إبطال دعوى الخصم بحذافرها فأريد تأخيره لئلا يفوت افتضاح الخصم بالأدلة السابقة تبسيطا لبساط المجادلة حتى يكون كل دليل مناديا على غلط الخصوم وباطلهم. وافتضاح الخطأ من مقاصد المناظر الذي قامت حجته.
والإراءة هنا من الرؤية البصرية فيتعدى إلى مفعولين: أحدهما بالأصالة، والثاني بهمزة التعدية.
والمقصود: أروني شخوصهم لنبصر هل عليها ما يناسب صفة الإلهية، أي أن كل من يشاهد الأصنام بادئ مرة يتبين له أنها خلية عن صفات الإلهية إذ يرى حجارة لا تسمع ولا تبصر ولا تفقه لأن انتفاء الإلهية عن الأصنام بديهي ولا يحتاج إلى أكثر من رؤية حالها كقول البحتري:
أن يرى مبصر ويسمع واع
والتعبير عن المرئي بطريق الموصلية لتنبيه المخاطبين على خطئهم في جعلهم إياهم شركاء لله تعالى في الربوبية على نحو قول عبدة بن الطيب:
إن الذين ترونهم إخوانكم ... يشفي غليل صدورهم أن تصرعوا
وفي جعل الصلة {أَلْحَقْتُمْ} إيماء إلى أن تلك الأصنام لم تكن موصوفة بالإلهية وصفا ذاتيا حقا ولكن المشركين ألحقوها بالله تعالى، فتلك خلعة خلعها عليهم أصحاب الأهواء.
وتلك حالة تخالف صفة الإلهية لأن الإلهية صفة ذاتية قديمة، وهذا الإلحاق اخترعه لهم عمرو بن لحي ولم يكن عند العرب من قبل، وضمير {بِهِ} عائد إلى أسم الجلالة من جملة {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ} [سبأ: 24].

وانتصب: {شَرَكَاءَ} على الحال من اسم الموصول. والمعنى: شركاء له.
ولما أعرض عن الخوض في آثار هذه الإراءة علم أنهم مفتضحون عند تلك الإراءة فقدرت حاصلة، وأعقب طلب تحصيلها بإثبات أثرها وهو الردع عن اعتقاد إلهيتها، وإبطالها عنهم بإثباتها لله تعالى وحده فلذلك جمع بين حرفي الردع والإبطال ثم الانتقال إلى تعيين الإله الحق على طريقة قوله: {كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} [الفجر: 17].
وضمير: {هُوَ اللهُ} ضمير الشأن. والجملة بعده تفسير لمعنى الشأن و {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} خبران، أي بل الشأن المهم الله العزيز الحكيم لا آلهتكم، ففي الجملة قصر العزة والحكم على الله تعالى كناية عن قصر الإلهية عليه تعالى قصر إفراد.
ويجوز أن يكون الضمير عائدا إلى الإله المفهوم من قوله: {الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ} وهو مبتدأ والجملة بعده خبر. ويجوز أن يكون عائدا إلى المستحضر في الذهن وهو الله. وتفسيره قوله: {اللهُ} فاسم الجلالة عطف بيان. و {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} خبران عن الضمير. والفرق بين هذا الوجه وبين الوجه الأول يظهر في اختلاف مدلول الضمير المنفصل واختلاف موقع اسم الجلالة بعده، واختلاف موقع الجملة بعد ذلك.
والعزة: الاستغناء عن الغير.و {الْحَكِيمُ} : وصف من الحكمة وهي منتهى العلم، أو من الإحكام وهو إتقان الصنع، شاع في الأمرين. وهذا إثبات لافتقار أصنامهم وانتفاء العلم عنها. وهذا قول إبراهيم عليه السلام: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً} [مريم: 42].
[28] {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [28]}.
انتقال من إبطال ضلال المشركين في أمر الربوبية إلى إبطال ضلالهم في شأن صدق الرسول صلى الله عليه وسلم.
وغير أسلوب الكلام من الأمر بمحاجة المشركين إلى الإخبار برسالة النبيء صلى الله عليه وسلم تشريفا له بتوجيه هذا الإخبار بالنعمة العظيمة إليه، ويحصل إبطال مزاعم المشركين بطريق التعريض.
وفي هذه الآية إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وإثبات عمومها على

منكريها من اليهود.
فإن: {كَافَّةً} من ألفاظ العموم ووقعت هنا حالا من "النَّاسِ" مستثنى من عموم الأحوال وهي حال مقدمة على صاحبها المجرور بالحرف، وقد مضى الكلام عليها عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} في سورة البقرة [208]، وعند قوله: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} في سورة براءة [36]. وذكرنا أن التحقيق: أن {كَافّة} يوصف به العاقل وغيره وأنه تعتوره وجوه الإعراب كما هو مختار الزمخشري وشهد له القرآن والاستعمال خلافا لابن هشام في "مغني اللبيب"، وأن ما شدد به التنكير على الزمخشري تهويل وتضييق في الجواز. والتقدير في هذه الآية: وما أرسلناك للناس إلا كافة. وقدم الحال على صاحبه للاهتمام بها لأنها تجمع الذين كفروا برسالته كلهم.
وتقديم الحال على المجرور جائز على رأي المحققين من أهل العربية وإن أباه الزمخشري هنا وجعله بمنزلة تقديم المجرور على حرف الجر فجعل: {كَافَّة} نعتا لمحذوف، أي إرساله كافة، أي عامة. وقد رد عليه ابن مالك في التسهيل وقال: قد جوزه في هذه الآية أبو علي الفارسي وابن كيسان. وقلت: وجوزه ابن عطية والرضي. وجعل الزجاج: {كَافَّة} هنا حالا من الكاف في {أَرْسَلْنَاكَ} وفسره بمعنى جامع للناس في الإنذار والإبلاغ، وتبعه أبو البقاء. قال الزمخشري: وحق التاء على هذا التفسير أن تكون للمبالغة كتاء العلامة والراوية وكذلك تقديم المستثنى للغرض أيضا.
وقد اشترك الزجاج والزمخشري هنا في إخراج {كَافَّة} عن معنى الوصف بإفادة الشمول الذي هو شمول جزئي في غرض معين إلى معنى الجمع الكلي المستفاد من وراء ذلك. وهذا كمن يعمد إلى "كل" فيقول: إنك كل الناس، أي جامع للناس؛ أو يعمد إلى "على" الدالة على الاستعلاء الجزئي فيستعملها بمعنى الاستعلاء الكلي فيقول: إياك وعلى، يريد إياك والاستعلاء.
والبشير النذير تقدم في قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً} في سورة البقرة: [119].
وأفاد تركيب: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} قصر حالة عموم الرسالة على كاف الخطاب في قوله: {أَرْسَلْنَاكَ} وهو قصر إضافي، أي دون تخصيص إرسالك بأهل مكة أو بالعرب أو بمن يجيئك يطلب الإيمان والإرشاد كما قال عبد الله بن أبي بن سلول للنبي صلى الله عليه وسلم حين جاء مجلسا هو فيه وقرأ عليهم القرآن فقال ابن أبي: "لا أحسنَ مما تقول

أيها المرء ولكن اقعد في رحلك فمن جاء فاقرأ عليه، ويقتضي ذلك إثبات رسالته بدلالة الاقتضاء إذ لا يصدق ذلك القصر إلا إذا ثبت أصل رسالته فاقتضى ذلك الرد على المنكرين كلهم سواء من أنكر رسالته من أصلها ومن أنكر عمومها وزعم تخصيصها.
وموقع الاستدراك بقوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} رفع ما يتوهم من اغترار المغترين بكثرة عدد المنكرين رسالته بأن كثرتهم تغر المتأمل لأنهم لا يعلمون.
ومفعول: {يَعْلَمُونَ} محذوف لدلالة ما قبله عليه، أي لا يعلمون ما بشرت به المؤمنين وما أنذرت به الكافرين، أي يحسبون البشارة والنذارة غير صادقتين.
ويجوز أن يكون فعل: {يَعْلَمُونَ} منزل منزلة اللام مقصودا منه نفي صفة العلم عنهم على حد قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] أي ولكن أكثر الناس جاهلون قدر البشارة والنذارة.
[29، 30] {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [29] قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ [30]}.
كان من أعظم ما أنكروه مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم القيامة والبعث ولذلك عقب إبطال قولهم في إنكار الرسالة بإبطال قولهم في إنكار البعث، والجملة معطوفة على خبر {لَكِنَّ} [سبأ: 28]. والتقدير: ولكن أكثر الناس لا يعلمون حق البشارة والنذارة ويتهكمون فيسألون عن وقت هذا الوعد الذي هو مظهر البشارة والنذارة. ويجوز أن تكون الجملة مستأنفة والواو للاستئناف.
وضمير {يَقُولُونَ} عائد إلى المحاجين من المشركين الذين صدرت عنهم هذه المقالة.وصيغة المضارع في {يَقُولُونَ} تفيد التعجيب من مقالتهم كقوله تعالى: {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} [هود: 74] مع إفادتها تكرر ذلك القول منهم وتجدده.
وجملة: {قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ} إلى آخرها مسوقة مساق الجواب عن مقالتهم ولذلك فصلت ولم تعطف، على طريقة حكاية المحاورات في القرآن، وهذا الجواب جرى على طريقة الأسلوب الحكيم، أي أن الأهم للعقلاء أن تتوجه هممهم إلى تحقق وقوع الوعد في الوقت الذي عينه الله له وأنه لا يؤخره شيء ولا يقدمه، وحسن هذا الأسلوب أن سؤالهم إنما أرادوا به الكناية عن انتفاء وقوعه.

وفي هذا الجواب تعريض بالتهديد فكان مطابقا للمقصود من الاستفهام، ولذلك زيد في الجواب كلمة {لَكُمْ} إشارة إلى أن هذا الميعاد منصرف إليهم ابتداء.
وضمير جمع المخاطب في قوله: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} إما للرسول صلى الله عليه وسلم باعتبار أن معه جماعة يخبرون بهذا الوعد، وإما الخطاب موجه للمسلمين.
واسم الإشارة في هذا الوعد للاستخفاف والتحقير كقول قيس بن الخطيم:
متى يأت هذا الموت لا يلف حاجة ... لنفسي إلا قد قضيت قضاءها
وجواب: {كُنْتُمْ صَادِقِينَ} دل عليه السؤال، أي إن كنتم صادقين فعينوا لنا ميقات هذا الوعد. وهذا كلام صادر عن جهالة لأنه لا يلزم من الصدق في الإخبار بشيء أن يكون المخبر عالما بوقت حصوله ولو في المضي فكيف به في الاستقبال.
وخولف مقتضى الظاهر في الجواب من الإتيان بضمير الوعد الواقع في كلامهم إلى الإتيان باسم ظاهر وهو {مِيعَادُ يَوْمٍ} لما في هذا الاسم النكرة من الإبهام الذي يوجه نفوس السامعين إلى كل وجه ممكن في محمل ذلك، وهو أن يكون يوم البعث أو يوما آخر يحل فيه عذاب أئمة الكفر وزعماء المشركين وهو يوم بدر ولعل الذين قتلوا يومئذ هم أصحاب هم أصحاب مقالة: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} . وأفاد تنكير {يَوْمٍ} تهويلا وتعظيما بقرينة المقام.
والميعاد: مصدر ميمي للوعد فإضافته إلى ظرفه بيانية. ويجوز كونه مستعملا في الزمان وإضافته إلى اليوم بيانية لأن الميعاد هو اليوم نفسه.
وجملة: {لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً} إما صفة لـ {مِيعَاد} وإما حال من ضمير {لَكُمْ} .
والاستئخار والاستقدام مبالغة في التأخر والتقدم مثل: استجاب، فالسين والتاء للمبالغة.
وقدم الاستئخار على الاستقدام إيماء إلى أنه ميعاد بأس وعذاب عليهم من شأنه أن يتمنوا تأخره، ويكون {وَلا تَسْتَقْدِمُونَ} تتميما لتحققه عند وقته المعين في علم الله.
والساعة: حصة من الزمن، وتنكيرها للتقليل بمعونة المقام.
[31] {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى

إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ [31]}.
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ}.
كان المشركون لما فاجأتهم دعوة الإسلام وأخذ أمره في الظهور قد سلكوا طرائق مختلفة لقمع تلك الدعوة، وقد كانوا قبل ظهور الإسلام لاهين عن الخوض فيما سلف من الشرائع فلما قرعت أسمائهم دعوة الإسلام اضطربت أقوالهم: فقالوا: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91]، وقالوا غير ذلك، فمن ذلك أنهم لجأوا إلى أهل الكتاب وهم على مقربة منهم بالمدينة وخيبر وقريظة ليتلقوا منهم ملقنات يفحمون بها النبي صلى الله عليه وسلم فكان أهل الكتاب يُملون عليهم كلما لقوهم ما عساهم أن يموهوا على الناس عدم صحة الرسالة المحمدية، فمرة يقولون: {لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى} [القصص: 48]، ومرة يقولون: {لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَأُهُ} [الإسراء: 93]، وكثيرا ما كانوا يحسبون مساواته للناس في الأحوال البشرية منافية لكونه رسولا إليهم مختارا من عند الله فقالوا: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان: 7] وإلى قوله: {هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً} [الإسراء: 93]، وهم لا يحاجون ذلك عن اعتقاد بصحة رسالة موسى عليه السلام ولكنهم يجعلونه وسيلة لإبطال رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فلما دمغتهم حجج القرآن العديدة الناطقة بأن محمدا ما هو بدع من الرسل وأنه جاء بمثل ما جاءت به الرسل فحاجهم بقوله: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [القصص: 49] الآية. فلما لم يجدوا سبيلا للمكابرة في مساواة حاله بحالة الرسل الأولين وأووا إلى مأوى الشرك الصريح فلجأوا إلى إنكار رسالة الرسل كلهم حتى لا تنهض عليهم الحجة بمساواة أحوال الرسول وأحوال الرسل الأقدمين فكان من مستقر أمرهم أن قالوا: {لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} [سبأ: 31].
وقد كان القرآن حاجّهم بأنهم كفروا {بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} كما في سورة القصص [48]، أي كفر أمثالهم من عبدة الأصنام وهم قبط مصر بما أوتي موسى وهوا من الاستدلال بقياس المساواة والتمثيل.
فهذا وجه قولهم: {وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} لأنهم لم يكونوا مدعوين لا يؤمنوا بكتاب آخر غير القرآن ولكن جرى ذلك في مجاري الجدال والمناظرة فعدم إيمانهم بالقرآن مشهور معلوم وإنما أرادوا قطع وسائل الإلزام الجدلي.

وهذه الآية انتقال إلى ذكر طعن المشركين في القرآن وهي معطوفة على جملة {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} [سبأ: 29].
والاقتصار على حكاية مقالتهم دون تعقيب بما يبطلها إيماء إلى أن بطلانها باد لكل من يسمعها حيث جمعت التكذيب بجميع الكتب والشرائع وهذا بهتان واضح.
وحكاية مقالتهم هذه بصيغة الماضي تؤذن بأنهم أقلعوا عنها.
وجيء بحرف {لَنْ} لتأكيد نفي إيمانهم بالكتب المنزلة على التأبيد تأييسا للنبي والمسلمين من الطمع في إيمانهم به.
واسم الإشارة مشار به إلى حاضر في الأذهان لأن الخوض في القرآن شائع بين الناس من مؤيد ومنكر فكأنه مشاهد. وليس في اسم الإشارة معنى التحقير لأنهم ما كانوا ينبزون القرآن بالنقصان، ألا قول الوليد ابن المغيرة: "إن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمعدق" ، وقول عبد الله بن أبي بعد ذلك: "لا أحسن مما تقول أيها المرء"، وأن عتبة بن ربيعة لما قرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن وقال له: "هل ترى بما أقول بأسا?" فقال: "لا والدماء" . وكيف وقد تحداهم الإتيان بسورة مثله فلم يفعلوا،ولو كانوا ينبزونه بنقص أو سخف لقالوا: نحن نترفع عن معالجة الإتيان بمثله.
ومعنى: {بَيْنَ يَدَيْهِ} القريب منه سواء كان سابقا كقوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ: 46] وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "بعثت بين يدي الساعة" 1 أم كان جائيا بعده كما حكى الله عن عيسى عليه السلام: {وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ} في سورة آل عمران [50]. وليس مرادا هنا لأنه غير مفروض ولا مدّعى.
{وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ}.
أردفت حكايات أقوالهم وكفرانهم بعد استيفاء أصنافها بذكر جزاءهم وتصوير فظاعته بما في قوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ} الآية من الإبهام المفيد للتهويل.
والمناسبة ما تقدم من قوله: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} [سبأ: 29] فإنه بعد أن ألقمهم الحجر بقوله: {قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ} [سبأ: 30] الخ أتبعه بتصوير حالهم فيه.
والخطاب في {وَلَوْ تَرَى} لكل من يصلح لتلقي الخطاب ممن تبلغه هذه الآية، أي
ـــــــ
1 رواه أحمد في "مسنده" وأبو يعلى والطبراني.

ولو يرى الرائي هذا الوقت.
وجواب {لَوْ} محذوف للتهويل وهو حذف شائع. وتقديره: لرأيت أمرا عجبا.
و {إِذْ} ظرف متعلق بـ {تَرَى} أي لو ترى في الزمان الذي يوقف فيه الظالمون بين يدي ربهم.
والظالمون: المشركون، قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] وتقدم قريب منه قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} في سورة الأنعام [27]، وقد وقع التصريح بأنه إيقاف جمع بين المشركين والذين دعوهم إلى الإشراك في قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ} الآية في سورة يونس [28].
والإتيان بالجملة التي أضيف إليها الظرف اسمية هنا لإفادة طول وقوفهم بين يدي الله طولا يستوجب الضجر ويملأ القلوب رعبا وهو ما أشار له حديث أنس وحديث أبي هريرة في شفاعة النبيء صلى الله عليه وسلم لأهل المحشر: "تدنو الشمس من رؤوس الخلائق فيشتد عليهم حرها فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا حتى يريحنا من مكاننا" الحديث.
وجملة: {يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ} في موضع الحال من {الظَّالِمُونَ} أو من ضمير {مَوْقُوفُونَ} .
وجيء بالمضارع في قوله: {يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ} لاستحضار الحالة كقوله تعالى: {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} [هود: 74].
ورجْع القول: الجواب، ورجع البعض إلى البعض: المجاوبة والمحاورة. وهي أن يقول بعضهم كلاما ويجيبه الآخر عنه وهكذا؛ شبه الجواب عن القول بإرجاع القول كأن المجيب أرجع إلى المتكلم كلامه بعينه إذ كان قد خاطبه بكفائه وعدله قال بشار:
وكأن رجع حديثها ... قِطَع الرياض كُسين زهرا
أي كأن تجيبه، ومنه حيث تجيبه،ومنه قيل للجواب: رد. ورجْع الرشق في الرمي: ما ترد عليه من التراشق.
{يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ}.
هذه الجملة وما ذكر بعدها من الجمل المحكية بأفعال القول بيان لجملة {يَرْجِعُ

بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ}. وجيء بالمضارع فيها على نحو ماجيء في قوله: {يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ} ليكون البيان كالمبيِّن بها لاستحضار حالة القول لأنها حالة غريبة لما فيها من جرأة المستضعفين على المستكبرين ومن تنبه هؤلاء من غفلتهم عما كان المستكبرون يغرونهم به حتى أوقعهم في هذا المأزق.
والسين والتاء في {اسْتُضْعِفُوا} للعد والحسبان، أي الذين يغدهم الناس ضعفاء لا يؤبه بهم وإنما يعدهم الناس كذلك لأنهم كذلك ويعلم أنهم يستضعفون أنفسهم بالأولى لأنهم أعلم بما في أنفسهم.
والضعف هنا الضعف المجازي وهو حالة الاحتجاج في المهام إلى من يضطلع بشؤونهم ويذب عنهم ويصرفهم كيف يشاء.
ومن مشمولاته الضعة والضراعة ولذلك قوبل بـ"الذين استكبروا"، أي عدوا أنفسهم كبراء وهم ما عدوا أنفسهم كبراء إلا لما يقتضي استكبارهم لأنهم لو لم يكونوا كذلك لوصفوا بالغرور والإعجاب الكاذب. ولهذا عبر في جانب الذين استضعفوا بالفعل المبني للمجهول وفي جانب الذين استكبروا بالفعل المبني للمعلوم، وقد تقدم في سورة هود.
و {لَوْلاَ} حرف امتناع لوجود، أي حرف يدل على امتناع جوابه "أي أنتفائه" لأجل وجود شرطه فعلم أنها حرف شرط ولكنه اختصروا العبارة، ومعنى: لأجل وجود شرطه، أي حصوله في الوجود، وهو حرف من الحروف الملازمة الدخول على الجملة الاسمية فيلزم إيلاؤه اسما ومبتدأ. وقد كثر حذف خبر ذلك المبتدأ في الكلام غالبا بحيث يبقى من شرطها اسم واحد وذلك اختصار لأن حرف {لَوْلاَ} يؤذن بتعليق حصول جوابه على وجود شرطه. فلما كان الاسم بعدها في معنى شيء موجود حذفوا الخبر اختصارا. ويعلم من المقام أن التعليق في الحقيقة على حالة خاصة من الأحوال التي يكون عليها الوجود مفهومة من السياق لأنه لا يكون الوجود المجرد لشيء سببا في وجود غيره وإنما يؤخذ أخص أحواله الملازمة لوجوده.
وهذا المعنى عبر عنه النحويون بالوجود المطلق وهي عبارة غير متقنة ومرادهم أعلق أحوال الوجود المطلق، أي المجرد لا يصلح لأن يعلق عليه شرط.
وقد جاء في هذه الآية ربط التعليق بضمير "الذين استكبروا" فاقتضى أن المستضعفين ادَّعوا أن وجود المستكبرين مانع لهم أن يكونوا مؤمنين. فاقتضى أن جميع أحوال

المستكبرين كانت تدندن حول منعهم من الإيمان فكأن وجودهم لا أثر له إلا في ذلك من انقطاعهم للسعي في ذلك المنع وهو ما دل عليه قولهم فيما بعد {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ} [سبأ: 33] من فرط إلحادهم عليهم بذلك وتكريره في معظم الأوقات، فكأنه استغرق وجودهم،لأن الوجود كون في أزمنة فكان قولهم هنا {لَوْلا أَنْتُمْ} مبالغة في شدة حرصهم على كفرهم. وهذا وجه وجيه في الاعتبار البلاغي فمقتضى الحال من هذه الآية هو حذف المشبه.
واعلم أن المراد بقولهم: {مُؤْمِنِينَ} بالمعنى اللقبي الذي اشتهر به المسلمون فكذلك لا يقدر لـ{مُؤْمِنِينَ} متعلق.
[32] {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ [32]}.
جُرِّد فعل {قَالَ} عن العاطف لأنه جاء على طريقة المجاوبة والشأن فيه حكاية القول بدون عطف كما بيناه غير مرة.
وهمزة الاستفهام مستعملة في الإنكار على قول المستضعفين تبرؤا منهم. وهذا الإنكار بهتان وإنكار للواقع بعثه فيهم خوف إلقاء التبعة عليهم وفرط الغضب والحسرة من انتقاض اتباعهم عليهم وزوال حرمتهم بينهم فلم يتمالكوا أن لا يكذبوهم ويذيلوا بتوريطهم.
وأتى بالمسند إليه قبل المسند الفعلي في سياق الاستفهام الإنكاري الذي هو في قوة النفي ليفيد تخصيص المسند إليه بالخبر الفعلي على طريقة: ما أنا قلت هذا.
والمعنى: ما صددناكم ولكن صدكم شيء آخر وهو المعطوف بـ {بَلْ} التي للإبطال بقوله: {بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ} ، أي ثبت لكم الإجرام من قبل وإجرامكم هو الذي صدكم إذ لم تكونوا على مقاربة الإيمان فنصدكم عن ولكنكم صددتهم وأعرضتم بإجرامكم ولم تقبلوا دعوة الإيمان.
وحاصل المعنى: أن حالنا وحالكم سواء، كل فريق يتحمل تبعة أعماله فإن كلا الفريقين كان معرضا عن الإيمان. وهذا الاستدلال مكابرة منهم وبهتان وسفسطة فإنه كانوا يصدون الدهماء عن الدين ويختلقون لهم المعاذير. وإنما نفوا هنا أن يكونوا محولين لهم عن الإيمان بعد تقلده وليس ذلك هو المدعى. فموقع السفسطة هو قولهم: {بَعْدَ إِذْ

جَاءَكُمْ} لأن المجيء فيه مستعمل في معنى الاقتراب منه والمخالطة له.
و {إِذْ} في قوله: {إِذْ جَاءَكُمْ} مجرده عن معنى الظرفية ومحضة لكونها أسم زمان غير ظرف وهو أصل وضعها كما تقدم في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} في سورة البقرة [30]، ولهذا صحت إضافة {بَعْدَ} إليها لأن الإضافة قرينة على تجريد {إِذْ} من معنى الظرفية إلى مطلق الزمان مثل قولهم: حينئذ ويومئذ. والتقدير: بعد زمن مجيئهم إياكم. و {بَلْ} إضراب إبطال عن الأمر الذي دخل عليه الاستفهام الإنكاري، أي ما صددناكم بل كنتم مجرمين.
والإجرام: الشرك وهو مؤذن بتعمدهم إياه وتصميمهم عليه على بصيرة من أنفسهم دون تسويل مسول.
[33] {وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَاداً وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [33]}.
{وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَاداً}.
لم تجر حكاية هذا القول على طريقة حكاية المقاولات التي تحكي بدون عطف على حسن الاستعمال في حكاية المقاولات كما استقريناه من استعمال الكتاب المجيد وقدمناه في قوله: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] الآية، فجيء بحرف العطف في حكاية هذه المقالة مع أن المستضعفين جاوبوا بها قول الذين استكبروا {أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ} [سبأ: 32] الآية لنكتة دقيقة، وهي التنبيه على أن مقالة المستضعفين هذه هي في المعنى تكملة لمقالتهم المحكية بقوله: {يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} [سبأ: 31] تنبيها على أن مقالتهم تلقفها الذين استكبروا فابتدروها بالجواب للوجه الذي ذكرناه هنالك بحيث لو انتظروا تمام كلامهم وأبلغوهم ريقهم لحصل ما فيه إبطال كلامهم ولمنهم قاطعوا كلامهم من فرط الجزع أن يؤاخذوا بما يقوله المستضعفون.
وحكي قولهم هذا بفعل المضي لمزاوجة كلام الذين استكبروا لأن قول الذين استضعفوا هذا بعد أن كان تكملة لقولهم الذي قاطعه المستكبرون، انقلب جوابا عن تبرؤ

المستكبرين من أن يكونوا صدوا المستضعفين عن الهدى، فصار لقول المستضعفين موقعان يقتضي أحد الموقعين عطفه بالواو، ويقتضي الموقع الآخر قرنه بحرف {بَلْ} وبزيادة {مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} . وأصل الكلام: يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين إذ تؤمروننا بالليل والنهار أن نكفر بالله وأن نكفر بالله الخ. فلما قاطعه المستكبرون بكلامهم أقحم في كلام المستضعفين حرف {بَلْ} إبطالا لقول المستكبرين {بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ} [سبأ: 32]. وبذلك أفد تكملة الكلام السابق والجواب عن تبرؤ المستكبرين، ولو لم يعطف بالواو لما أفاد إلا انه جواب عن كلام المستكبرين فقط، وهذا من أبدع الإيجاز.
و {بَلْ} للإضراب الإبطالي أيضا إبطالا لمقتضى القصر في قولهم: {أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى} [سبأ: 32] فإنه واقع في حيز نفي لأن الاستفهام الإنكاري له معنى النفي.
و {مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} من الإضافة على معنى "في". وهنالك مضاف إليه ومجرور محذوفان دل عليهما السياق،أي مكركم بنا.
وارتفع {مَكْرُ} على الابتداء. والخبر محذوف دل عليه مقابلة هذا الكلام بكلام المستكبرين إذ هو جواب عنه.فالتقدير: بل مكركم صدنا،فيفيد القصر، أي ما صدنا إلا مكركم، وهو نقض تام لقولهم: {أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى} [سبأ: 32] وقولهم: {بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ} [سبأ: 32].
والمكر: الاحتيال بإظهار الماكر فعل ما ليس بفاعله ليغر المحتال عليه، وتقدم وفي قوله تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} في آل عمران [54].
وإطلاق المكر على تسويلهم لهم البقاء على الشرك، باعتبار أنهم يموهون عليهم ويوهمونهم أشياء كقولهم: إنه دين آباءكم وكيف تؤمنون غضب الآلهة عليكم إذا تركتم دينكم ونحو ذلك. والاحتلال لا يقتضي أن المحتال غير مستحسن الفعل الذي يحتال لتحصيله.
والمعنى: ملازمتهم المكر ليلا ونهارا، وهو كناية عن دوام الإلحاح عليهم في التمسك بالشرك. و {إِذْ تَأْمُرُونَنَا} ظرف لما في {مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} من معنى "صدّنا" أي حين تأمروننا أن نكفر بالله.
والأنداد: جمع ند، وهو المماثل، أي نجعل لله أمثالا في الإلهية.
وهذا تطاول من المستضعفين على مستكبريهم لما رأوا قلة غنائهم عنهم واحتقروهم

حين علموا كذبهم وبهتانهم.
وقد حكي نظير ذلك في قوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} الآيتين في سورة البقرة [166].
{وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ}.
يجوز أن يكون عطفا على جملة: {يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ} [سبأ: 31] فتكون حالاً. ويجوز أن تعطف على جملة: {إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [سبأ: 31].
وضمير الجمع عائد إلى جميع المذكورين قبل وهم الذين استضعفوا والذين استكبروا. والمعنى: أنهم كشف لهم عن العذاب المعد لهم، وذلك عقب المحاورة التي جرت بينهم، فعلموا أن ذلك الترامي الواقع بينهم لم يغن عن أحد من الفريقين شيئا، فحينئذ أيقنوا بالخيبة وندموا على ما فات منهم في الحياة الدنيا وأسروا الندامة في أنفسهم،وكأنهم أسروا الندامة استبقاء للطمع في صرف ذلك عنهم أو اتقاء للفضيحة بين أهل الموقف، وقد أعلنوا بها من بعد كما في قوله تعالى: {قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} في سورة الأنعام [31]، وقوله: {لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} في سورة الزمر [58].
وذكر الزمخشري وابن عطية: أن من المفسرين من فسر: {أَسَرُّوا} هنا بمعنى أظهروا، وزعم أن "أَسَرَّ" مشترك بين ضدين. فأما الزمخشري فسلمه ولم يتعقبه وقد فس الزوزني الإسرار بالمعنيين في قول امرئ القيس:
تجاوزت أحراسا إليها ومعشرا ... علي حراصا لو يسرون مقتلي
وأما ابن عطية فأنكره، وقال: "ولم ثبت قط في اللغة أن "أسَرَّ" من الأضداد" . قلت: وفيه نظر. وقد هذه الكلمة في الأضداد كثير من أهل اللغة وأنشد أبو عبيدة قول الفرزدق:
ولما رأى الحجاج جرد سيفه ... أسر الحروري الذي كان أضمرا
وفي كتاب "الأضداد" لأبي الطيب الحلبي قال أبو حاتم: ولا أثق بقول أبي عبيدة في القرآن ولا في قول الفرزدق والفرزدق كثير التخليط في شعره. وذكر أبو الطيب عن التوزي أن غير أبي عبيدة أنشد بيت الفرزدق والذي جر على تفسير: {أَسَرُّوا} بمعنى أظهروا هنا هو ما يقتضي إعلانهم بالندامة من قولهم: {لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} [سبأ: 31]. وفي

آيات أخرى مثل قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً} [الفرقان: 27].الآية.
والندامة: التحسر من عمل فات تداركه. وقد تقدمت عند قوله تعالى: {فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} في سورة المائدة [31].
{وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [33]}.
عطف على جملة: {إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ} [سبأ: 31] والتقدير: ولو ترى إذ جعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا. وجواب {لَوْ} المحذوف جواب للشرطين.
و {الأَغْلاَلَ} : جمع غُلّ بضم العين، وهو دائرة من حديد أو جلد على سعة الرقبة توضع في رقبة المأسور ونحوه ويشد إليها بسلسلة أو سير من جلد أو حبل، وتقدم في أول سورة الرعد. وجعل الأغلال في الأعناق شعار على إنهم يساقون إلى ما يحاولون الفرار والانفلات منه. وتقدم عند قوله تعالى: {وَأُولَئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ} في الرعد [5]. و {الَّذِينَ كَفَرُوا} هم هؤلاء الذين جرت عليهم الضمائر المتقدمة فالإتيان بالاسم الظاهر وكونه موصولا للإيماء إلى أن ذلك جزاء الكفر،ولذلك عقب بجملة: {هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} مستأنفة استئنافا بيانيا، كأن سائلا استعظم هذا العذاب وهو تعريض بهم.
والاستفهام بـ {هَلْ} مستعمل في الإنكار باعتبار ما يعقبه من الاستثناء، فتقدير المعنى: هو جزوا بغير ما كانوا يعملون، والاستثناء مفرغ.
و {مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} هو المفعول الثاني لفعل {يُجْزَوْنَ} لأن "جَزى" يتعدى إلى مفعول ثان بنفسه لأنه من باب أعطى، كما يتعدى إليه بالباب على تضمينه معنى: عوَّضه.
وجعل جزاؤهم م كانوا يعملون على معنى التشبيه البليغ، أي مثل ما كانوا يعملون، وهذه المماثلة كناية عن المعادلة فيما يجاوزونه بمساواة الجزاء للأعمال التي جوزا عليها حتى كأنه نفسها كقوله تعالى: {جَزَاءً وِفَاقاً} [النبأ: 26].
واعلم أن كونه مماثلاً في المقدار أمر لا يعلمه إلا مقدر الحقائق والنيات،وأما كونه {وِفَاقاً} في النوع فلأن وضع لأغلال في الأعناق منع من حرية التصرف في أنفسهم لأصنامهم كما قال تعالى: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} [الصافات: 95] وما تقبلوه من استعباد زعمائهم وكبرائهم إياهم قال تعالى:

{وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ} [[الأحزاب: 67].
ومن غُرر المسائل أن الشيخ ابن عرفة لما كان عرض عليه في درس التفسير عند قوله تعالى: {إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ} [غافر: 71] فسأله بعض الحاضرين: هل يستقيم أن نأخذ من هذه الآية ما يؤيد فعل الأمراء أصلحهم الله من الإتيان بالمحاربين ونحوهم مغلولين من أعناقهم مع قول مالك رحمه الله بجواز القياس في العقوبات على فعل الله تعالى: "في حدث الفاحشة" فأجابه الشيخ بأن لا دلالة فيها لأن مالكا إنما أجاز القياس على فعل الله في الدنيا، وهذا من تصرفات الله في الآخر فلا بد لجوازه من دليل.
[34] {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [34]}.
اعتراض للانتقال إلى تسلية النبي صلى الله عليه وسلم مما مُنِيَ به من المشركين من أهل مكة وخاصة ما قابله به سادتهم وكبراؤهم من التأليب عليه بتذكيره أن تلك سنة الرسل من قبله فليس في ذلك غضاضة عليه ولذلك قال في الآية في الزخرف: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [23] الخ، أي وكذلك التكذيب الذي كذبك أهل هذه القرية. والتعويض بقومه الذي عادوه بتذكيرهم عاقبة أمثالهم من أهل القرى التي كذب أهلها وأغراهم يذلك زعمائهم.
والمترَفون: الذين أُعطوا الترف، والترف: النعيم وسعة العيش، وهو مبني للمفعول بتقدير: إن الله أترفهم كما في قوله تعالى: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} في سورة الأنبياء [33].
وفي بنائه للمفعول تعريض بالتذكير بنعمة الله عليهم لعلهم يشكرونها ويقلعون عن الإشراك به، وبعض أهل اللغة يقول تقديره: أترفتهم النعمة، أي أبطرتهم.
و {إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ} حكاية للقول بالمعنى: أي قالوا مترفو كل قرية لرسولهم: إنا بما أرسلت به كافرون. وهذا من مقابلة الجمع بالجمع التي يراد منها التوزيع على آحاد الجمع.
وقولهم: {أُرْسِلْتُمْ بِهِ} تهكم بقرينة قولهم: {كَافِرُونَ} وهو كقوله تعالى: {وَقَالُوا

يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر: 6]؛ أو المعنى: إنا بما ادّعيتم أنكم أرسلتم به.
[35، 36] {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [35] قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [36]}.
قَفَّوْا على صريح كفرهم بالقرآن وغيره من الشرائع بكلام كنوا به عن إبطال حقيقة الإسلام بدليل سفسطائي فجعلوا كثرة أموالهم وأولادهم حجة على أنهم أهل حظ عند الله تعالى، فضمير: {وَقَالُوا} عائد إلى: {الَّذِينَ كَفَرُوا} من قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ} [سبأ: 31] الخ. وهذا من تمويه الحقائق بما يحف بها من العوارض فجعلوا ما حف بحالهم في كفرهم من وفرة المال والوالد من حجة على أنهم مظنة العناية عند الله وأن ما عليه هو الحق. وهذا تعريض منهم بعكس حال المسلمين بأن حال ضعف المسلمين، وقلة عددهم، وشظف عيشهم حجة على أنهم غير محظوظين عند الله ولم يتفطنوا إلى أن أحوال الدنيا مسببه على أسباب دنيوية لا علاقة لها بأحوال الأولاد. وهذا المبدأ الوهمي السفسطائي خطير في العقائد الضالة التي كانت لأهل الجاهلية والمنتشرة عند غير المسلمين ولا يخلو المسلمون من قريب منها في تصرفاتهم في الدين ومرجعها إلى قياس الغائب على الشاهد وهو قياس يصادف الصواب تارة ويخطئه تارات.
ومن أكبر أخطاء المسلمين في هذا الباب خطأ الجأ إلى القضاء والقدر في أعذارهم وخطأ التخلق بالتوكل في تقصيرهم وتكاسلهم.
فجملة: {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً} عطف على جملة: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ} [سبأ: 31] الخ. وقولهم: {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} كالنتيجة لقولهم: {نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً} ، وإنما جيء فيه بحرف العطف لترجيح جانب الفائدة المستقلة على جانب الاستنساخ الذي يومئ إليه ما تقدمه وهو قولهم: {نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً} فحصل من هذا النظم استدلال لصحة دينهم ولإبطال ما جاء به الإسلام ثم الافتخار بذلك على المسلمين والضعة لجانب المسلمين بإشارة إلى قياس استثنائي على ملازمة موهومة، وكأنهم استدلوا بانتفاء التعذيب على أنهم مقربون عند الله بناء على قياس مساواة مطوي فكأنهم حصروا وسائل القرب عند الله في وفرة الأموال والأولاد. ولولا هذا التأويل لخلا تلك الجملتين عن أهم معنييهما وبه يكون موقع الجواب بـ {قُلْ إِنَّ رَبِّي

يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} أشد اتصالا بالمعنى، أي قل لهم: إن بسط الرزق وتقتيره شأن آخر من تصرفات الله المنوطة بما قدره في نظام هذا العالم، أي فلا ملازمة بينه وبين الرشد والغي، والهدى والضلال، ولو تأملتم أسباب الرزق لرأيتموها لا تلاقي أسباب الغي والاهتداء، فربما وسع الله الرزق على العاصي وضيقة على المطيع وربما عكس فلا يغرنهم هذا وذاك فإنكم لا تعلمون.
وهذا ما جعل قوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} مصيبا المحز فأكثر الناس تلتبس عليهم الأمور فيخلطون بينها ولا يضعون في مواضعها زينها وشينها.
وقد أفاد هذا أن حالها غير دال على رضي الله عنهم ولا عدمه، وهذا الإبطال هو ما يسمى في علم المناظرة نقضا إجماليا.
وبسط الرزق: تيسيره وتكثيره، استعير له البسط وهو نشر الثوب ونحوه لأن المبسوط تكثر مساحة انتشاره.
وقدْر الرزق:عسر التحصيل عليه وقلة حاصله؛ استعير له القدْر، أي التقدير وهو التحديد لأن الشيء القليل يسهل عده وحسابه ولذلك قيل في ضده: {يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [البقرة: 212]، ومفعول: {يَقْدِرُ} محذوف دل عليه مفعول: {يَبْسُطُ} . وتقدم نظيره في سورة الرعد.
ومفعول: {يَعْلَمُونَ} محذوف دل عليه الكلام، أس لا يعلمون أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر باعتبار عموم من يشاء من كونه صالحا أو طالا، ومن انتفاء عملهم بذلك أنهم توهموا بسط الرزق علامة على القرب عند الله،وضده علامة على ضد ذلك. وبهذا أخطأ قول أحمد بن الراوندي:
كم عاقل أعيت مذاهبه ... وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا
هذا الذي ترك الأوهام حائرة ... وصير العالم النحرير زنديقا
فلو كان عالما نحريرا لما تحير فهمه، وما تزندق من ضيق عطن فكره.
[37] {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ [37]}.
يجوز أن تكون جملة: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ} عطفا على جملة: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ} [سبأ: 36] الخ فيكون كلاما موجها من جانب الله تعالى إلى الذين قالوا: {نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً

وَأَوْلاداً} [سبأ: 35] فتكون ضمائر الخطاب موجهة إلى الذين قالوا: {نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً}.
ويجوز أن تكون عطفا على جملة: {إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ} [سبأ: 36]، فيكون مما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يقوله لهم ويبلغه عن الله تعالى، ويكون في ضمير: {عِنْدَنَا} التفات، وضمائر الخطاب تكون عائدة إلى الذين قالوا: {نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [سبأ: 35] وفيها وجه ثالث ننبه عليه قريبا.
وهو ارتقاء من إبطال الملازمة إلى الاستدلال على أنهم ليسوا بمحل الرضي من الله تعالى على طريقة النقض التفصيلي المسمى بالمناقضة أيضا في علم المناظرة. وهو مقام الانتقال من المنع إلى الاستدلال على إبطال دعوى الخصم،فقد أبطلت الآية أن تكون أموالهم وأولادهم مقرة عند الله تعالى وأنه لا يقرب إلى الله إلا الإيمان والعمل الصالح.
وجيء بالجملة المنفية في صيغة حصر بتعريف المسند إليه والمسند،لأن هذه الجملة أريد منها نفي قولهم: {نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} أي لا أنتم، فكان كلامهم في قوة حصر التقريب إلى الله في كثرة الأموال والأولاد فنفي ذلك بأسره.
وتكرير {لاَ} النافية بعد العاطف في: {وَلاَ أَوْلادُكُمْ} لتأكيد تسلط النفي على كلا المذكورين ليكون كل واحدا مقصودا بنفي كونه مما يقرب إلى الله ومتلفتا إليه.
ولما كانت الأموال والأولاد جمعي تكسير عوملا معاملة المفرد المؤنث فجيء بخبرهما اسم موصول المفرد المؤنث على تأويل جماعة الأموال وجماعة الأولاد ولم يتلفت إلى تغلب الأولاد على الأموال فيخبر عنهما معا بـ"الذين" ونحوه.
وعدل عن أن يقال: بالتي تقربكم إلينا، إلى: {تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا} لأن التقريب هنا مجاز في التشريف والكرامة لا تقريب مكان.
والزلفى: اسم للقرب مثل الرجعي وهو مفعول مطلق نائب عن المصدر، أي تقربكم تقريبا، ونظيره: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً} [نوح: 17].
وقوله: {إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} استثناء منقطع. و {إِلاَّ} بمعنى "لكنْ" المخففة النون التي هي للاستدراك وما بعدها كلام مستأنف وذلك من استعمالات الاستثناء المنقطع؛ فإنه إذا كان ما بعد {إِلاَّ} ليس من جنس المستثنى منه كان الاستثناء منقطعا، ثم إن كان ما بعد {إِلاَّ} مفردا فإن {إِلاَّ} تقدَّر بمعنى "لكنَّ" أخت "إنّ" عند أهل الحجاز

فينصبون ما بعدها على توهم اسم "لكنّ" وتقدر بمعنى "لكنْ" المخففة العاطفة عند بني تميم فيتبع الاسم الذي بعدها إعراب الاسم الذي قبلها وذلك ما أشار إليه سيبويه في باب يختار فيه النصب من أبواب الاستثناء1.
فأما إن كان من بعد {إِلاَّ} جملة اسمية أو فعلية فإن {إِلاَّ} تقدر بمعنى "لكنْ" المخففة وتجعل الجملة بعد استئنافا، وذلك في قول العرب "والله لأفعلن كذا إلا حل ذلك أن أفعل كذا وكذا" قال سيبويه: "فإن: أَن أفعل كذا، بمنزلة: إلاّ فِعْل كذا، وهو مبني على حِلّ [أي هو خبر له[ وحِلّ مبتدأ كأنه قال: ولكنْ حِلُّ ذلك أن أفعل كذا وكذا" اهـ2.
قال ابن مالك في "شرح التسهيل": وتقرير الإخراج في هذا أن تجعل قولهم: إلا حل ذلك، بمنزلة: لا أرى لهذا العقد مبطلا إلا فعل كذا. وجعل ابن خروف من هذا القبيل قوله تعالى: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ} [الغاشية: 22- 24] على أن يكون {مَنْ} مبتدأ و"يُعَذِّبُهُ الله" الخبر ودخل الفاء لتضمين المبتدأ معنى الجزاء. وقال أبو يسعود: إن {إِلاَّ} في الاستثناء المنقطع يكون ما بعدها كلاما مستأنفا اهـ.
وعلى هذا فقوله تعالى هنا: {إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} تقديره: لكن من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف، فيكون {مَن} مبتدأ مضمَّنا معنى الشرط و {لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ} جملة خبر عن المبتدأ وزيدت الفاء في الخبر لتضمين المبتدأ معنى الشرط.
وأسهل من هذا أن نجعل {مَنْ} شرطيه وجملة: {فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ} جواب الشرط، واقترن بالفاء لأنه جملة اسمية. وهذا تحقيق لمعنى الاستثناء المنقطع وتفسير للآية بدون تكلف ولا تردد في النظم.
ويجوز أن تكون جملة: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ} الخ اعتراضا بين جملة: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} وجملة: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ
ـــــــ
1 انظر الجزء الأول ص319 طبع باريس.
2 نفس المصدر والجزء ص326.

مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ} [ سبأ: 39] وتكون ضمائر الخطاب موجهة إلى جميع الناس المخاطبين بالقرآن من مؤمنين وكافرين. وعليه يكون قوله: {إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} الخ مستثنى من ضمير الخطاب، أي ما أموالكم بالتي تقربكم إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات منكم، وتكون جملة: {فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا} ثناء على الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
وجيء باسم الإشارة في الأخبار عن: {مَنْ آمَنَ} للتنويه بشأنهم والتنبيه على أنهم جديرون بما يرد بعد اسم الإشارة من أجل تلك الأوصاف التي تقدمت اسم الإشارة على ما تقدم في قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 5] وغيره. ووزان هذا المعنى وزان قوله: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ} إلى قوله: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ} [آل عمران: 196- 198] الآية.
و {الضِّعْف} : المضاعف المكرر فيصدق بالمكرر مرة واكثر.وفي الحديث "والحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة" وقد أشار إليه قوله تعالى: {كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 261].
وإضافة: {جَزَاءُ} إلى: {الضَِّعْفِ} إضافة بيانية، أي الجزاء الذي هو المضاعفة لأعمالهم، أي لما تستحقه كما تقدم. وكني عن التقريب بمضاعفة الجزاء لأن ذلك أمارة كرامة المجزي عند الله، أي أولئك يقربون زلفى فيجزون جزاء الضعف على أعمالهم لا على وفرة أموالهم وأولادهم، فالاستدراك ورد على جميع ما أفاده كلام المشركين من الدعوى الباطلة والفخر الكاذب لرفع توهم أن الأموال والأولاد لا تقرب إلى الله بحال فإن من أموال المؤمنين صدقات ونفقات، ومن أولادهم أعوانا على البر ومجاهدين وداعين لآبائهم بالمغفرة والرحمة.
والباء في قوله: {بِمَا عَمِلُوا} تحتمل السبيبة فتكون دليلا على ما هو المضاعف وهو ما يناسب السبب من الصالحات كقوله تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60]، وتحتمل العوض فيكون "مَا عَمِلوا" هو المجازى عليه كما تقول: جزيته بألف، فلا تقدير في قوله: {جَزَاءُ الضِّعْفِ} .
و {الْغُرُفَاتِ} : جمع غرفة. وتقدم في آخر الفرقان وهي البيت المعتلي وهو أجمل منظرا وأشمل مرأى. و {آمِنُونَ} خبر ثاني يعني تلقي في نفوسهم الأمن من انقطاع ذلك النعيم.

وقرأ الجمهور: {فِي الْغُرُفَاتِ} بصيغة الجمع، وقرأ حمزة: {فِي الْغُرْفَةِ} بالإفراد.
[38] {وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ [38]}.
جرى الكلام عل عادة القرآن في تعقيب الترغيب بالترهيب وعكسه، فكان هذا بمنزلة الاعتراض بين الثناء على المؤمنين الصالحين وبين إرشادهم إلى الانتفاع بأموالهم للقرب عند الله بجملة: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} [سبأ: 39] الخ. والذين يسعون في الآيات هم المشركون بصدهم عن سماع القرآن وبالطعن فيه بالباطل واللغو عند سماعه.
والسعي مستعار للاجتهاد في العمل في قوله تعالى: {ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى} [النازعات: 22] وإذا عدّشي بـ {فِي} كان في الغالب مرادا منه الاجتهاد في المضرة فمعنى: {يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا} يجتهدون في إبطالها، و {مُعَاجِزِينَ} مغالبين مطالبين العجز. وقد تقدم نظيره في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} في سورة الحج [51].
واسم الإشارة للتنبيه على إنهم استحقوا الجحيم لأجل ما ذكر قبل اسم الإشارة مثل: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 5] و {فِي الْعَذَابِ} خبر عن اسم الإشارة. و {محضرون} هنا كناية عن الملازمة فهو ارتقاء في المعنى الذي دلت عليه أداة الظرفية من إحاطة العذاب بهم وهو خبر ثان عن اسم الإشارة ومتعلقه محذوف دل عليه الظرف وقد تقدم نظيره في قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} في سورة الروم [6].
[39] {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [39]}.
أتبع إبطال أن تكون الأموال والأولاد بذاتهما وسيلة قرب لدى الله تعالى ردا على مزاعم المشركين بما يشبه معنى الاستدراك على ذلك الإبطال من إثبات فالانتفاع بالمال للتقرب إلى رضى الله إن استعمل في طلب مرضاة الله تفضيلا لما أشير إليه إجمالا من أن ذلك قد يكون فيه قربى إلى الله بقوله: {إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} [سبأ: 37] كما تقدم.
وقوله: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ} تقدم نظيره قريبا تأكيدا لذلك وليبنى عليه قوله: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} الآية. فالذي تقدم رد على المشركين والمذكور هنا ترغيب للمؤمنين والعبارات واحدة والمقاصد مختلفة. وهذا من

وجوه الإعجاز أن يكون الكلام الواحد صالحا لغرضين وأن يتوجه إلى طائفتين.
ولما كان هذا الثاني موجها إلى المؤمنين أشير إلى تشريفهم بزيادة قوله: {مِنْ عِبَادِهِ} أي المؤمنين، وضمير: {لَهُ} عائد إلى: {مَنْ} ، أي ويقدر لمن يشاء من عباده. ومفعول: {يَقْدِرُ} محذوف دل عليه مفعول {يَبْسُطُ} .
وكان ما تقدم حديثا أن يبسط الرزق لغير المؤمنين فلم ينعموا بوصف {مِنْ عِبَادِهِ} لأن في الإضافة تشريفا للمؤمنين، وفي هذا امتنان على الذين يبسط عليهم الرزق بأن جمع الله لهم فضل الإيمان وفضل سعة الرزق، وتسلية للذين قدر عليهم رزقهم بأنهم نالوا فضل الإيمان وفضل الصبر على ضيق الحياة.
وفي تعليق: {لَهُ} بـ {يَقْدِرُ} إيماء إلى أن ذلك القدر لا يخلو من فائدة للمقدور عليه رزقه، وهي فائدة الثواب على الرضى من قسم له والسلامة من الحساب عليه يوم القيامة. وفي الحديث "ما من مصيبة تصيب المؤمن إلا كفر بها عنه حتى الشوكة يُشاكُها" .
ولولا هذا الإيماء لقيل: ويقدر عليه، كما قال: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7]. وأما حال الكافرين فإنهم ينعم على بعضهم برزق يحاسبون عليه أشد الحساب يوم القيامة إذ لم يشكروا رازقهم، ويقدر على بعضهم فلا يناله إلا الشقاء. وهذا توطئة لقوله: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} حثا على الإنفاق. والمراد الإنفاق فيما أذن فيه الشرع.
وهذا تعليم للمسلمين بأن نعيم الآخرة لا ينافي نعيم الدنيا قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا} [البقرة: 201، 202]فأما نعيم الدنيا فهو مسبب عن أحوال دنيوية رتبها الله تعالى ويسرها لمن يسرها في علمه بغيبه، وأما نعيم الآخرة فهو مسبب عن أعمال مبينة في الشريعة وكثير من الصالحين يحصل لهم النعيم في الدنيا مع العلم بأنهم منعمون في الآخرة كما أنعم على داود وسليمان وعلى كثير من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وكثير من أئمة الدين مثل مالك بن أنس والشافعي والشيخ عبد الله بن أبي زيد وسحنون.
فأما اختيار الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم حالة الزهادة في الدنيا فلتحصل له غايات الكمال من التمحض لتلقي الوحي وجميل الخصال ومن مساواة جمهور أصحابه في أحوالهم وقد بسطناه بيانا في رسالة طعام رسول الله عليه السلام. وأعقب ذلك بترغيب الأغنياء في

الإنفاق في سبيل الله فجعل الوعد بإخلاف ما ينفقه المرء كناية عن الترغيب في الإنفاق لأن وعد الله بإخلافه مع تأكيد الوعد يقتضي أنه يحب ذلك من المنافقين.
وأكد ذلك الوعد بصيغة الشرط ويجعل جملة الجواب اسمية وبتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي بقوله: {فَهُوَ يُخْلِفُهُ} ، ففي هذا الوعد ثلاثة مؤكدات دالة على مزيد العناية بتحقيقه لينتقل من ذلك إلى الكناية عن كونه مرغوبه تعالى.
و {مِنْ شَيْءٍ} بيان لما في: {مَا} من العموم، وجملة: {وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} تذييل للترغيب والوعد بزيادة، لبيان أن ما يخلفه أفضل مما أنفقه المنفق. {خَيْرُ} بمعنى أخير لأن الرزق الواصل من غيره تعالى إنما هو من فضله أجراه على يد بعض مخلوقاته فإذا كان تيسيره برضى من الله على المرزوق ووعد به كان ذلك أخلق بالبركة والدوام، وظاهر الآية أن إخلاف الرزق يقع في الدنيا وفي الآخرة.
والمراد بالإنفاق: الإنفاق المرغب فيه في الدين كالإنفاق على الفقراء والإنفاق في سبيل الله بنصر الدين. روى مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يقول الله تعالى: "يا بن آدم أنفق أنفق عليك" . قال ابن العربي: قد يعوض مثله أو أزيد، وقد يعوض ثوابا، وقد يدخر له وهو كالدعاء في وعد الإجابة اهـ. قلت:وقد يعوض صحة وقد يعوض تعميرا. ولله في خلقه أسرار.
[40، 41] {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ [40] قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ [41]}.
عطف على جملة: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [سبأ: 31] الآية استكمالاً لتصوير فضاعة حالهم يوم الوعد الذي أنكروه تبعا لما وصف من حال مراجعة المستكبرين منهم والمستضعفين، فوصف هنا افتضاحهم بتبرؤ الملائكة منهم وشهادتهم عليهم بأنهم يعبدون الجن.
وضمير الغيبة من: {نَحْشُرُهُمْ} عائد إلى ما عاد عليه ضمير: {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً} [سبأ: 35] الذي هو عائد إلى {الَّذِينَ كَفَرُوا} من قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ} [سبأ: 31]. والكلام كله منتظم في أحوال المشركين, جميع: فعيل بمعنى مفعول، أي مجموع وكثر استعماله وصفا لإفادة شمول أفراد ما أجرى هو عليه من ذوات وأحوال، أي يجمعهم المتكلم قال لبيد:

عريت وكان بها الجميع فأبكروا ... منها وغودر نؤيها وثُمامها
وتقدم عند قوله تعالى: {فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ} في سورة هود [55]. فلفظ: {جَمِيعاً} يعم أصناف المشركين على اختلاف نحلهم واعتقادهم في شركهم فقط كان مشركو العرب نحلا شتى يأخذ بعضهم من بعض وما كانوا يحققون مذهبا منتظم العقائد والأقوال غير مخلوط بما ينافي بعضه بعضا.
والمقصد من هذه الآية إبطال قولهم في الملائكة إنهم بنات الله، وقولهم: {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} كما في سورة الزخرف [20]. وكانوا يخلطون بين الملائكة والجن ويجعلون بينهم نسبا فكانوا يقولون: الملائكة بنات الله من سروات الجن.
وقد كان حي من خزاعة يقال لهم: بنو مليح، بضم الميم وفتح اللام وسكون التحتية، يعبدون الجن والملائكة. والاقتصادر على تقرير الملائكة واستشهادهم على المشركين لأن إبطال إلهية الملائكة يفيد إبطال إلهية ما هو دونه ممن أعيد من دون الله بدلالة الفحوى، أي بطريق الأولى فإن ذلك التقرير من أجل ما جعل الحشر لأجله.
وتوجيه الخطاب إلى الملائكة بهذا الاستفهام مستعمل بالتعريض بالمشركين على طرقة المثل "إياك أعني واسمعي يا جارة".
والإشارة بـ {هَؤُلاَءِ} إلى فريق كانوا عبدوا الملائكة والجن ومن شايعهم على أقوالهم من بقية المشركين.
وتقديم المفعول على: {يَعْبُدُونَ} للاهتمام والرعاية على الفاصلة.
وحكي قول الملائكة بدون عاطف لوقوعه في المحاورة كما تقدم غير مرة ولذلك جيء فيه بصيغة الماضي لأن ذلك هو الغالب في الحكاية.
وجواب الملائكة يتضمن إقرار مع التنزه عن لفظ كونهم معبودين كما يتنزه من يحكي كفر أحد فيقول قال: هو مشرك بالله، وإنما القائل قال: أنا مشرك بالله.
فمورد التنزيه في قول الملائكة: {سُبْحَانَكَ} هو أن يكون غير الله مستحقا أن يعبد، مع لازم الفائدة وهو أنهم يعلمون ذلك فلا يضرون بأن يكونوا معبدودين.
والولي: الناصر والحليف والصديق مشتق من الولي مصدر وَلِيَ بوزن عَلِم وكل من فاعل الوَلْي ومفعوله ولي الوَلاية نسبة تستدعي طرفين ولذلك كان الولي فعيلاً

صالحا لمعنى فاعل ولمعنى مفعول. فيقع اسم الولي على الموالى بكسر اللام وعلى الموالي بفتحها وقد ورد بالمعنيين في القرآن وكلام العرب كثيراً.
فمعنى: {أَنْتَ وَلِيُّنَا} لا نوالي غيرك،أي لا نرضى به وليا، والعبادة ولاية بين العابد والمعبود، ورضي المعبود بعبادة عابده إياه ولاية بين المعبود وعابده، فيقول الملائكة: {سُبْحَانَكَ} تبرؤ من الرضى بأن يعيدهم المشركون لأن الملائكة لما جعلوا أنفسهم موالين لله فقد كذبوا المشركين الذين زعموا لهم الإلهية، لأن العابد لا يكون معبودا. ولقد تقدم الكلام على لفظ "ولي" عند قوله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً} في سورة الأنعام [14] وفي آخِر سورة الرعد.
و {مِنْ} زائدة للتوكيد و"دُونِ" اسم لمعنى غير، أي أنت ولينا وهم ليس أولياء لنا ولا نرضى بهم لكفرهم فـ {مِنْ دُونِهِمْ} تأكيد لما أفادته جملة: {أَنْتَ وَلِيُّنَا} من الحصر لتعريف الجزءين.
و {بَلْ} للإضراب الانتقالي انتقالا من التبرؤ منهم إلى الشهادة عليهم وعلى الذين سولوا لهم عبادة غير الله تعالى، وليس إضراب إبطال لأن المشركين المتحدث عنهم كانوا يعبدون الملائكة، والمعنى بل كان أكثر هؤلاء يعبدون الجن وكان الجن راضين بعبادتهم إياهم. وحاصل المعنى، أنا منكرون عبادتهم إيانا ولم نأمرهم بها ولكن الجن سولت لهم عبادة غير الله فعبدوا الجن وعبدوا الملائكة.
وجملة: {أَكْثَرُهُمْ} للمشركين وضمير: {بِهِمْ} للجن والمقام يرد كل ضمير إلى معاده ولو تماثلت الضمائر كما في قول عباس بن مرداس يوم حنين:
عدنا ولولا نحن أحدق جمعهم ... بالمسلمين وأحرزوا ما جمعوا
أي أحرز جمع المشركين ما جمعه المسلمون من مغانم.
وقرأ الجمهور: {نَحْشُرُهُمْ} و {نَقُولُ} بنون العظمة. وقرأ حفص عن عاصم بياء الغائب فيهما، والضمير عائد إلى {رَبِّي} من قوله: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ} .
[42] {فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرّاً وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ [42]}.

{فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرّاً}.
الأظهر أن هذا من خطاب الله تعالى المشركين والجن. والفاء فصيحة ناشئة عن المقاولة السابقة. وهي كلام موجه من جانب الله تعالى إلى الملائكة والمقصود به: التعريض بضلال الذين عبدوا الملائكة والجن لأن الملائكة يعلمون مضمون هذا الخبر فلا نقصد إفادتهم به. والمعنى: إذ علمتم أنكم عبتم الجن فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا ولا ضرا.
ويجوز أن يكون من خطاب الملائكة للفريقين بعد أداء الشهادة عليهم توبيخا لهم وإظهارا للغضب عليهم تحقيقا للتبرؤ منهم، والفاء أيضا فصيحة وهي ظاهرة.
وقُدم الظرف على عامله لأن النفع والضر يومئذ قد أختص صغيرهما وكبيرهما بالله تعالى خلاف ما كان في الدنيا من نفع الجن عبادتهم ببعض المنافع الدنيوية ونفع المشركين الجن بخدمة وساوسهم وتنفيذ أغراضهم من الفتنة والإضلال، وكذلك الضر في الدنيا أيضاً.
والمِلك هنا بمعنى: القدرة، أي لا يقدر بعضكم على نصر أو نفع.بعض. وتقدم عند وقوله تعالى: {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} في سورة العقود [17].
وقدم النقع في حيز النفي تأييسا لهم لأنهم يرجون أن يشفعوا لهم يومئذ: {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} .
وعطف نفي الضر على نفع النفع للدلالة على سلب مقدرتهم على أي شيء فإن بعض الكائنات يستطيع أن يضر ولا يستطيع أن ينفع كالعقرب.
{وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ}.
عطف على قوله: {ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا} [سبأ: 40]. وقد وقع الإخبار عن هذا القول بعد الإخبار عن الحوار الذي يجري بين الملائكة وبين المشركين يومئذ إظهار لاستحقاقهم هذا الحكم الشديد، ولكنه كالمعلول لقوله: {لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرّاً}.
والذوق: مجاز لمطلق الإحساس، واختياره دون الحقيقة لشهرة استعماله.
ووصف النار بالتي كانوا يكذبون بها في صلة الموصول من إيذان بغلطهم

وتنديمهم.
وقد علق التكذيب هنا بنفس النار فجيء باسم الموصول المناسب لها ولم يعلق بالعذاب كما في آية سورة السجدة [20] {وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} لأن القول المخبر عنه هنا هو قو ل الله تعالى وحكمه وقد أذن بهم إلى جهنم وشاهدوها كما قال تعالى: آنفا: {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ} [سبأ: 33] فإن الذي يرى هو ما به العذاب، وأما القول المحكي في سورة السجدة [20] فهو قول ملائكة العذاب بليل قوله: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} .
وتقديم المجرور للاهتمام والرعاية على الفاصلة.
[43] {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [43]}.
انتقال من حكاية كفرهم وغرورهم وازدهائهم بأنفسهم وتكذيبهم بأصول الديانة إلى حكاية تكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم، واتبع ذلك بحكاية تكذيبهم الكتاب والدين الذي جاء به فكان كالفذلكة لمل تقدم من كفرهم.
وجملة: {إِذَا تُتْلَى} معطوفة على جملة: {يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً} [سبأ: 40]عطف القصة على القصة. وضمير: {عَلَيْهِمْ} عائد إلى: {الَّذِينَ كَفَرُوا} [سبأ: 31] وهم المشركون من أهل مكة.
وإيراد حكاية تكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم مقيدة بالزمن الذي تتلى عليه فيه آيات الله البينات تعجيب من وقاحتهم حيث كذبوه في أجدر الأوقات بأن يصدقوه عندها لأن وقت ظهور حجة صدقة لكل عاقر متبصر.
وللاهتمام بهذا الظرف والتعجيب من متعلقة قدم الظرف على عامله والتشويق إلى الخبر الآتي بعده وأنه من قبل البهتان والكفر البواح.
والمراد بالآيات البينات آيات القرآن، ووصفها بالبيان لأجلل ظهور أنها من عند الله لإعجازها إياهم من معارضتها، ولما اشتملت عليه معانيها من الدلائل الواضحة على

صدق ما تدعوا إليه، فهي محفوظة بالبيان بألفاظها ومعانيها.
وحذف فاعل التلاوة لظهور أنه الرسول صلى الله عليه وسلم إذ هو تالي آيات الله، فالإشارة في قولهم: {مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ} إلى الرسول صلى الله عليه وسلم واستحضروه بطريقة الإشارة دون الاسم إفادة لحضور مجلس التلاوة وذلك من تمام وقاحتهم فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ عليهم القرآن في مجالسهم كما ورد في حديث قراءته على عتبة بن ربيعة سورة فصلت وقراءته على عبد الله بن أبي بن سلول للقرآن بالمدينة في القصة التي تشاجر فيها المسلمون والمشركون.
وابتدأوا بالطعن في التالي لأن الغرض الذي يرمن إليه، وأثبتوا له إرادة صدهم عن دين آبائهم قصد أن يثير بعضهم حمية بعض لأنهم يجعلون آباءهم أهل الرأي فيما ارتأوا والتسديد فيما فعلوا فلا يرون إلا حقا ولا يفعلون إلا صوابا وحكمة، فلا جرم أن يكون مريد الصد عنها محاولا الباطل وكاذبا في قوله لأن الحق مطابق الواقع فإبطال ما هو حق في زعمهم قول غير مطابق للواقع فهو الكذب.
وفعل: {كَانَ} في قولهم: {عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ} إشارة إلى أنهم عنوا أن تلك عبادة قديمة ثابتة. وفي ذلك إلهاب لقلوب قومهم وإيعاز لصدورهم ليتألبو على الرسول صلى الله عليه وسلم ويزادوا تمسكا بدينهم وقد قصروا للرسو عليه السلام على صفة إرادة صدهم قصراً إضافياً، أي إلا رجل صادق فما هو برسول.
وأتبعوا وصف التالي بوصف المتلو بأنه كذب مفترى وإعادة فعل القول إعادة ثابتة للاهتمام بكل قول من القولين الغريبين تشنيعا لهما في نفس السامعين فجملة: {وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ} عطف على جملة: {قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ} فالفعلان مشتركان بالظرف.
والإشارة الثانية إلى القرآن الذي تضمنه: {تُتْلَى} لتعينه لذلك.
والإفك: الكذب، ووصفه بالمفترى إما أن بتوجه إلى نسبته إلى الله تعالى أو أريد أنه في ذاته إفك وزادوا فجعلوه مخترعا من النبي صلى الله عليه وسلم ليس مسبوقاً به.
فكونه إفكا يرجع إلى جميع ما في القرآن، وكونه مفترى يرجعونه إلى ما فيه من قصص الأولين. وهذا القول من بهتانهم لأنهم كثيرا ما يقولون: {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الأنعام: 25] فليس: {مُفْتَرىً} تأكيد لـ {إِفْكٌ} .

ثم حكي تكذيبهم الذي يعم جميع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من وحي يتلى أو دعوة إلى التوحيد وغيره أو استدلال عليه أو معجزة بقولهم: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} ، فهذا المقال الثالث يشمل ما نقدم وغيره، فحكاية مقالهم هذا تقوم مقام التذييل. وأظهر للقائلين دون إضمار ما تقدم ما يصح أن يكون معادا للضمير فقيل: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ} ولم يقل: وقالوا للحق لما جاءهم، للدلالة على أن الكفر هو باعث قولهم هذا.
وأظهر المشار إليه قبل اسم الإشارة في قوله: {لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} لأن لا دليل عليه في الكلام السابق، أي إذ اظهر لهم ما هو حق من إثبات للتوحيد أو إخبار عن الغيب أو البعث قالوا: ما هذا إلا سحر مبين. فالمراد من الحق: ما هو أعم من آيات القرآن لأن السحر له أسلوبان: أحدهما شعوذة الأقوال التي لا تفهم مدلولاتها يختلقها السحرة ليوهموا الناس أن فيها مناجاة مع الجن ليمكنوهن من عمل ما يريدون فيسترهبوهم بذلك، وثانيهما أفعال لها أسباب خفية مستورة بحيل وخفة أيد تحركها فيوهمون بها الناس أنها من تمكين الجن إياهم التصرف في الخفيات، فذا سمعوا القرآن ألحقوه بالأسلوب الأول وإذا رأوا المعجزات ألحقوها بالأسلوب الثاني كما قالت المرأة التي شاهدة معجزة تكثير الماء في بعض غزوات النبيء صلى الله عليه وسلم فقالت لقومها "أتيت أسحر الناس، أو هو نبيء كما زعموه".
ومعنى: {مُبِينُ} أنه يظهر منه أنه سحر فتبيينه كنهه من نفسه، يعنون أن من سمعه يعلم أنه سحر.
وجملة: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} معطوفة على جملة: {وَإِذَا تُتْلَى}.
[44] {وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ [44]}.
الواو للحال، والجملة في موضع الحال من الضمير في قوله: {قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ} [سبأ: 43] الآية، تحميقا لجهالتهم وتعجيبا من حالهم في أمرين.
"أحدهما": أنهم لم يدركوا ما ينالهم من المزية بمجيء الحق إليهم إذ هيأهم الله به لأن يكونوا في عداد الأمم ذوي الكتاب، وفي بدء حال يبلغ بهم مبلغ العلم، إذ هم لم يسبق لهم أن أتاهم كتاب من عند الله أو رسول منه، فيكون معنى الآية: فكيف رفضوا اتّباع الرسول وتلقي القرآن وكان الأجدر بهم الاغتباط بذلك. وهذا المعنى هو المناسب

لقوله: {يَدْرُسُونَهَا} أي لم يكونوا أهل دراسة فكان الشأن أن يسرهم ما جاءهم من الحق.
"وثانيهما": أنهم لم يكونوا على هدى ولا دين منسوب إلى الله تعالى حتى يكون تمسكهم به وخشية الوقوع في الضلالة إن فرطوا فيه يحملهم على التردد في الحق الذي جاءهم وصدق الرسول الذي أتاهم به فيكون لهم في الصد عنهما بعض العذر: فيكون المعنى: التعجيب من رفضهم الحق حين لا مانع يصدهم، فليس معنى جملة: {وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ} الخ على العطف ولا على الإخبار لأن مضمون ذلك معلوم لا يتعلق الغرض بالإخبار به. ولكن على الحال إفادة التعجيب والتحميق، وعلى هذا المعنى جرى المفسرون.
والدراسة: القراءة بتمهل وتفهّم، وتقدم عند قوله تعالى: {وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} في آل عمران [79].
وإنما لم يقيد إيتاء الكتب بقيد كما قيد الإرسال بقوله: {قَبْلَكَ} لأن الإيتاء هو التمكين من الشي وهم لم يتمكنوا من القرآن بخلاف إرسال النذير فهو حاصل سواء تقبلوه أم أعرضوا عنه.
ومن نحا نحو أن يكون معنى الآية بين حالهم وحال أهل الكتاب فذلك منحى واهن لأنه يجر إلى معذرة أهل الكتاب في عضهم بالنواجذ على دينهم، على أنه لم يكن في مدة نزول الوحي بمكة علاقة للدعوة الإسلامية بأهل الكتاب وإنما دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وأيضا لا يكون للتقييد بـ {قَبْلَكَ} فائدة خاصة كما علمت. وهنالك تفسيرات أخرى أشد بعدا وأبعد عن القصد جدا.
[45] {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ [45]}.
هذا تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وتهديد للذين كذبوه، فموقع التسلية منه قوله: {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} ، وموقع التهديد بقية الآية، فالتسلية في أن له أسوة بالرسل السابقين، والتهديد بتذكيرهم بالأمم السالفة التي كذبت رسلها وكيف عاقبهم الله على ذلك وكانوا أشد قوة من قريش وأعظم سطوة منهم وهذا كقوله تعالى: {فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً} [الزخرف: 8].

ومفعول: {كَذَّبَ} محذوف دل عليه ما بعده، أي كذبوا بالرسل، دل عليه قوله: {فَكَذَّبُوا رُسُلِي}.
وضمير: {بَلَغُوا} عائد إلى: {الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} ، والضمير المنصوب في: {آتَيْنَاهُمُ} عائد إلى: {الَّذِينَ كَفَرُوا} في قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [سبأ: 43]. والمقام يرد على كل ضمير إلى معاده، كما قريبا عند قوله تعالى: {أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} . [سبأ: [41].
والمعشار: العشر، وهو الجزء العاشر مثل المرباع الذي كان يجعل لقائد الكتيبة من غنائم الجيش في الجاهلية.
وذكر احتمالان آخران في معاد الضميرين من قوله: {وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ} لا يستقيم معها سياق الآية.
وجملة: {وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ} معترضة، والاعتراض بها تمهيد للتهديد وتقريب له بأن عقاب هؤلاء أيسر من عقاب الذين من قبلهم في متعارف الناس مثل قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} .[الروم: 27].
والفاء في قوله: {فَكَذَّبُوا رُسُلِي} للتفريع على قوله: {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} ، باعتبار أن المفرع: {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} ، وبذلك كانت جملة: {فَكَذَّبُوا رُسُلِي} تأكيد الجملة: {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} ونظيره قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا} في سورة القمر [9]، ولكون الفاء الثانية في قوله: {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} تأكيدا لفظيا للفاء في قوله: {فَكَذَّبُوا رُسُلِي} .
وقوله: {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} مفرع على قوله: {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} .
و"كيف" استفهام عن الحالة وهو مستعمل في التقرير والتفريع كقول الحجاج للعديل ابن الفرخ: {فكيف رأيت الله أمكن منك} ، أي أمكنني منك، في قصة هروبه.
فجملتا: {فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} في قوة جملة واحدة مفرعة على جملة: {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} . والتقدير: وكذب الذين من قبلهم فكيف كان نكيري على تكذيبهم الرسل، ولكن لما كانت جملة {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} مقصودا منها تسلية الرسول ابتداء جعلت مقصورة على ذلك اهتماما بذلك الغرض وانتصارا من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ثم خصت عبرة تسبب التكذيب بالعقاب بجملة تخصها تهويلا للتكذيب وهو من مقامات

الإطناب، فصادف أن كان مضمون الجملتين متحدا اتحاد السبب لمسببين أو العلة لمعلولين كعلة السرقة للقطع والغرم. وبني النظم على هذا الأسلوب الشيق تجنبا لثقل إعادة الجملة إعادة ساذجة ففرعت الثانية على الأولى واظهر فيها مفعول: {كَذَّبَ} وبني عليه الاستفهام التقريري التفظيعي، أو فرع للتكذيب الخاص على التكذيب الذي هو سجيتهم العامة على الوجه الثاني في معنى: {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} كما تقدم، ونظيره قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} [القمر: 9].
والتنكير: اسم للإنكار وهو عد الشيء منكرا، أي مكروها،واستعمل هنا كناية عن الغضب وتسليط العقاب على الآتي بذلك المنكر فهي كناية رمزية.
والمعنى: فكيف كان عقابي لهم على ما جاءوا به مما أنكره، أي كان عقابا عظيما على وفق إنكارنا تكذيبهم.
و {نَكِيرِ} بكسر الراء وهو مضاف إلى ياء المتكلم، وحذفت الياء للتخفيف مع التنبيه عليها ببقاء الكسرة على آخر الكلمة وليناسب الفاصلة وأختها. وكتب في المصحف بدون ياء وبوقف عليه السكون.
[46] {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ [46]}.
افتتح بالأمر بالقول هنا وفي الجمل الأربع بعده للاهتمام بما احتوت عليه. وهذا استئناف للانتقال من حكاية أحوال كفر المشركين وما تخلل ذلك من النقض والاستدلال والتسلية والتهديد ووصف صدودهم ومكابرتهم إلى دعوتهم للإنصاف في النظر والتأمل في الحقائق ليتضح لهم خطؤهم فيما ارتكبوه من العسف في تلقي دعوة الإسلام وما ألصقوا به وبالداعي إليه، وأرشدوا إلى كيفية النظر في شأنهم والاختلاء بأنفسهم لمحاسبتها على سلوكها، استقصاء لهم في الحجة وإعذارا لهم في المجادلة: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42].
ولذلك اجتلبت صيغة الحصر بـ {إِنَّمَا} ، أي ما أعظكم إلا بواحدة، طيا لبساط المناظرة وإرسال على الخلاصة من المجادلات الماضية، وتقريبا لشقة الخلاف بيننا وبينكم.

وهو قصر إضافي، أي لا بغيرها من المواعظ المفصلة، أي أن استكثرتم الحجج وضجرتم من الردود والمطاعن فأنا أختصر المجادلة في كلمة واحدة فقط كانوا يتذمرون من القرآن لأبي طالب: أما ينتهي أبن أخيك من شتم آلهتنا وآبائنا. وهذا كما يقول المناظر والجدلي بعد بسط الأدلة فيقول: والخلاصة أو الفذلكة كذا.
وقد ارتكب في هذه الدعوة تقريب مسالك النظر إليهم باختصاره، فوصف بأنه خصلة واحدة لئلا يتجهموا الإقبال على النظر الذي عقدوا نيا تهم على رفضه، فأعلموا بأن ذلك لا يكلفهم جهدا ولا يضيع عليهم زمنا فليتأملوا فيه قليلا ثم يقضوا قضاءهم، والكلام على لسان النبيء صلى الله عليه وسلم أمره الله أن يخاطبهم به.
والوعظ: كلام فيه تحذير من مكروه وترغيب في لا ضده. وتقدم عند قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ} في سورة الأعراف [145]، وقوله: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ} في سورة النور [17].
و"واحدة" صفة لمحذوف يدل عليه المقام ويفرضه السامع نحو: بخصلة، أو بقضية، أو بكلمة.
والمقصود من هذا الوصف تقليلها تقريبا للأفهام واختصارا في الاستدلال وإيجاز في نظم الكلام واستنزالا لطائر نفورهم وأعراضهم.
وبنيت هذه الواحدة بقول: {أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى} إلى آخره، فالمصدر المنسبك من: {أَنْ} والفعل في موضع البدل من "واحدة"، أو قل عطف بيان فإن عطف البيان هو البدل المطابق،وإنما أختلف التعبير عنه عند المتقدمين فلا تخض في محاولة الفرق بينهما كالذي خاضوا.
والقيام في قوله: {أَنْ تَقُومُوا} مراد به المعنى المجازي وهو التأهب للعمل والاجتهاد فيه كقوله تعالى: {وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ} .[النساء: 127]
واللام للتعليل، أي لأجل الله ولذاته، أي جاعلين عملكم لله لا لمرضاة صاحب ولا عشيرة، وهذا عكس قوله تعالى: {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ} [العنكبوت: 25]، أو لأجل معرفة الله والتدبر في صفاته.
وكلمة: {مَثْنَى} معدول بها عن قولهم: اثنين اثنين، بتكرير كلمة اثنين تكريرا يفيد معنى ترصيف الأشياء المتعددة بجعل كل ما يعد بعدد اثنين منه مرصفا على نحو عدده.

وكلمة: {فُرَادَى} معدول بها عن قولهم: فردا فردا تكريرا يفيد معنى الترصيف كذلك. وكذلك سائر أسماء العدد إلى تسع أو عشر ومنه قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} ، وتقدم في سورة النساء [3].
وانتصب: {مَثْنَى وَفُرَادَى} على الحال من ضمير: {تَقُومُوا} أي أن تكونوا في القيام على هذين الحالين فيجوز أن يكون المعنى: أن تقوموا لحق الله وإظهاره على أي حال من اجتماع وانفراد، فيكون: {مَثْنَى} كناية عن التعدد وهو من استعمال معنى التثنية في التكرر لأن التثنية أول التكرير فجعل التكرر لازما للتثنية ادعاء كما في قوله تعالى: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك: 4] فإن البصر لا يرجع خاسئا من إعادة نظرة واحدة بل المراد منه تكرير النظر ومنه قولهم: لبيك وسعديك، وقولهم: دواليك.
ويجوز أن يكون المعنى أن تقوموا لحق الله مستعينا أحدكم بصاحب له او منفرد بنفسه فإن من أهل النظر من ينشط إليه بالمدارسة ما لا ينشطه بالخلوة. ومنهم من حاله بعكس هذا، فلهذا أقتصر على {مَثْنَى وَفُرَادَى} لأن ما زاد على ذلك لا اضطرار إليه. وقدم {مَثْنَى} لأن الاستعانة أعون على الفهم فيكون المراد دفع عوائق الوصول إلى الحق بالنظر الصحيح الذي لا يغالط فيه صاحب هوى ولا شبهة ولا يخشى فيه الناظر تشنيعا ولا سمعة، فإن الجماهير إذا اجتمعت لم يخلو مجتمعهم من ذي هوى وذي شبهة وذي مكر وذي انتفاع، وهؤلاء بما يلزم نواياهم من الخبث تصحبهم جرأة لا تترك فيهم وازعا عن الباطل ولا صدا عن الاخنلاق والتحريف للأقوال بعمد أو خطأ، ولا حياء يهذب من حدتهم في الخصام والأذى، ثم يطيرون بالقالة وأعمال أهل السفالة.
فللسلامة من هذه العوائق والتخلص من تلك البوائق الصادة عن طريق الحق قيل هنا {مَثْنَى وَفُرَادَى} فإن المرء إذا خلا بنفسه عند التأمل لم يرض لها بغير النصح، وإذا خلى ثاني أثنين فهو إنما يختا ثانيه أعلق أصحابه به وأقربهم منه رأيا فسلم كلاهما من غش صاحبه.
وحرف {ثُمَّ} للتراخي في الرتبة لأن التفكر في أحوال النبي صلى الله عليه وسلم أهم في إصلاح حال المخاطبين المعرضين عن دعوته، بخلاف القيام لله فإنهم لا يأبونه.
والتفكر: تكلف الفكر وهو العلم، وتقدم عند قوله تعالى: {أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ} في الأنعام. [50]

وقوله: {مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} نفي يعلق فعل: {تَتَفَكَّرُوا} عن العمل لأجل حرف النفي.
والمعنى: ثم تعلموا نفي الجنون عن صاحبكم، أي تعلموا مضمون هذا. فجملة: {مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} معمولة لـ {تَتَفَكَّرُوا} . ومن وقف على: {تَتَفَكَّرُوا} لم يتقن التفكر.
والمراد بالصاحب: المخالط مطلقا بالموافقة والمخاصمة، وهو كناية عن التبصر في خلقه كقول الحجاج في خطبته للخوارج "ألستم أصحابي بالأهواز حين رمتم الغدر واستبطنتم الكفر" يعني فلا تخفى علي مقاصدكم. وتقدم في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ} في سورة الأعراف [184].
والتعبير: {بِصَاحِبِكُمْ} إظهار في مقام الإضمار لأن مقتضى الظاهر أن يقال: ما بي من جنة إذ الكلام جار على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم كما تقدم آنفا. وفائدته التنبيه على أن حال معلوم لديهم لا يلتبس عليهم لشدة مخالطته بهم مخالطة لا تذر للجهالة مجالا فهم عرفوه ونشأ بينهم حتى جاءهم بالحق فهذا كقوله: {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} .[يونس: 16].
والاقتصار في التفكر المطلوب على انتفاء الجنة عن النبيء صلى الله عليه وسلم هو أن أصل الكفر هو الطعن في نبوءته وهم لما طعنوا فيه قالوا: مجنون، وقالوا:ساحر، وقالوا:كاذب. فابتدئ في إرجاعهم إلى الحق بنفي الجنة عنه حتى إذا أذعنوا إلى انه من العقلاء انصرف النظر إلى أن مثل ما جاء به لا يأتي به إلا عاقل وهم إنما ابتدأوا اختلاقهم بأنه مجنون كما جاء في القرآن قال تعالى: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم: 2] في السورة الثانية نزولا. وقال: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [التكوير: 22] في السورة السابعة [التكوير: 22] وذلك هو الذي استمروا عليه قال تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ} [الدخان: 14] إذ دعوى الجنون أروج بين أهل مكة لأن الجنون يطرأ على الإنسان دفعة فلم يجدوا تعلة أقرب للقبول من دعوى أنه اعتراه جنون كما قال عد لهود: {إِِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [هود: 54]، وقالت ثمود لصالح: {قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا} [هود: 62].
فبقيت دعواهم أنه ساحر وانه كاهن وأنه شاعر وأنه كاذب "حاشاه". فأما السحر والكهانة فسهل نفيهما بنفي خصائصهما، فأما انتفاء السحر فبين لأنه يحتاج إلى معالجة تعلم ومزاولة طويلة والنبي صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم لا يخفي عليهم أمره، وأما الشعر فمسحته

منفية عن القرآن كما قال الوليد بن المغيرة،فلم يبق في كنانة مطاعنهم إلا زعمهم أنه كاذب على الله، وهذا يزيفه قولهم: {بِصَاحِبِكُمْ} فإنهم عرفوه برجاحة العقل والصدق والأمانة في شبيبته وكهولته فكيف يصبح بعد ذلك كاذبا كما قال النظر بن الحارث: فلما رأيتم الشيب في صدغيه قلتم شاعر وقلتم كاهن وقلتم مجنون،و والله ما هو بأولئكم. وإذا كان لا يكذب على الناس فكيف يكذب على الله، كما قال هرقل لأبي سفيان وقد سأله: هل جربتم عليه كذبا قبل أن يقول ما قال? قال أبو سفيان: لا. قال: فقد علمت أنه لم يكن ليترك الكذب على الناس ويكذب على الله.
ومن أجل هذا التدرج الذي طوي تحت جملة: {مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} أعقب ذلك بحصر أمره في النذارة بقرب عذاب واقع، أي في النذارة والرسالة الصادقة.
قال في "الكشاف": "أي مثل هذه الدعوى لا يتصدى لها إلا رجلان: إما مجنون لا يبالي بافتضاحه إذا طولب بالبرهان، وأما عاقل راجح والعقل لا يدعي مثله إلا بعد صحته بالحجة وإلا فما يجدي العاقل دعوى شيء لا بينة عليه وقد علمتم أن محمد صلى الله عليه وسلم ما به من جنة بل علمتموه أرجح قريش عقلا وأرزنهم حلما وأثقبهم ذهنا وآصلهم رأيا وأصدقهم قولا وأجمعهم لما يحمد عليه الرجال فكان مظنة لأن يظنوا به الخير وترجحوا فيه جانب الصدق على الكذب" اهـ.
فالقصر المستفاد من: {إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ} قصر موصوف على صفة قصرا إضافيا، أي هو مقصور على صفة النذارة لا تحوم حوله الأوصاف التي لمزتموه بها.
ومعنى: {بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ} القرب، أي قرب الحصول فيقتضي القبلية، أي قبل عذاب، وقد تقدم آنفا في هذه السورة، والمراد عذاب الآخرة.
[47] {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [47]}.
هذا استقصاء لبقايا شبه التكذيب لدحضها سواء منها ما تعلقوا به من نحو قولهم:كاهن وشاعر ومجنون وما لم يدعوه ولكنه قد يخطر ببال واحد منهم أن يزعموا انه يريد بهذه الدعوى نفعا لنفسه يكون أجرا له على التعليم والإرشاد.
وهم لما دعوا أنه ساحر أو أنه شاعر أو أنه كاهن لزم من دعواهم أنه يتعرض

لجائزة الشاعر، وحلوان الكاهن، فلما نفيت عنه تلك الخلال لم يبق لهم في الكنانة سهم طعن، إلا أن يزعموا أنه يطلب أجرا على الإرشاد فقيل لهم: {مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} إن كان بكم ظن انتفاعي منكم بما دعوتكم إليه، فما كان لي من أجر عليه فخذوه. وهذه طريقة بديعة في الكناية التهكمية عن عدم انتفاعه بما يدعوهم إليه بأن يفرض كالواقع ثم يرتب عليه الانكفاف عنه ورد ما فات منه ليفضي بذلك إلى البراءة منه ومن التعرض له، فهي كناية رمزية وأنهم يعلمون أنه لم يسألهم أجرا {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [ص: 86، 87] أو أن كنت سألتكم أجرا فلا تعطونيه وإن كنتم أعطيتم شيئا فاستردوه، فكني بهذا الشرط المحقق انتفاؤه عند انتفاء أن يكون طالبا أجرا منهم على حد قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} . [المائدة: 116]. وهذا ما صرح به عقبه من قوله: {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} ، فجيء بالشرط بصيغة الماضي ليدل على انتفاء ذلك في الماضي فيكون انتفاؤه في المستقبل أجدر، على أن وقوعه في سياق الشرط يقضي بانتفاءه في المستقبل أيضا. وهذا جار مجرى التحدي لأنه لو كان لجماعتهم أو آحادهم علم بأنه طلب أجرا منهم لجاروا حين هذا التحدي بمكافحته وطالبوه برده عليهم.
وينتقل من هذا إلى تعيين أن ما دعاهم إليه لا ينتفع به غيرهم بالنجاة من العذاب، وقد تكرر في القرآن التبرؤ من أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم يريد منهم أجرا أو يتطلب نفعا لأن انتفاء ذلك ما يلاقيه من العناء في الدعوة دليل أنه مأمور بذلك من الله لا يؤيد جزاء منهم.
و {مَا} يجوز أن تكون شرطية، و {مِنْ أَجْرٍ} بيانا لإبهام {مَا} وجملة {فَهُوَ لَكُمْ} جواب الشرط. ويجوز أن تكون {مَا} نافية. وتكون {مِنْ} لتوكيد عموم النكرة في النفي، وتكون الفاء في قوله: {فَهُوَ لَكُمْ} تفريعا على نفي الأجر، وضمير {هو} عائدا على القرآن المفهوم من المقام ومن تقدم قوله: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} [سبأ: 43] أي فهذا القرآن لفائدتكم لا لفائدتي لأن قوله: {مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ} يفيد أن لا فائدة له في هذه الدعوة. ويكون معنى الآية نظير معنى قوله تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [ص: 86، 87].
والأجر تقدم عنه قوله تعالى: {لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ} في سورة القصص [25].
وجملة {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} مستأنفة استئنافا بيانيا جوابا لسؤال مقدر أن يسأل

السامع: كيف لا يكون له على ما قام به أجر، فأجيب بأن أجره مضمون وعده الله به لأنه إنما يقوم بعمل لمرضاته وامتثال أمره فعليه أجره.
وحرف {عَلَى} يقتضي أنه حق الله وذلك بالنظر إلى وعده الصادق، ثم ذيل ذلك باستشهاد الله تعالى على باطنه ونيته التي هي من جملة الكائنات التي الله شهيد عليها، وعليم بخفاياها فهو من باب {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الرعد: 43] أي وهو شاهد على ذلك كله.
والأجر: عوض نافع عن عمل سواء كان مالا أو غيره.
وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص ياء {أَجْرِيَ} مفتوحة. وقرأها ابن كثير وأبو بكر وحمزة والكسائي ساكنة، وهما وجهان من وجوه ياء المتكلم في الإضافة.
[48] {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ [48]}.
لا جرم انتهى الاستدلال والمجادلة أن ينتقل إلى النداء بين ظهرانيهم بظهور الحق فيستغنى عن مجادلتهم.
وأعيد فعل {قُلْ} للاهتمام بالمقول كما أشرنا إليه آنفا.
والتأكيد لتحقيق هذا الخبر.
والتعبير عن اسم الله بلفظ الرب وإضافته إلى ضمير المتكلم للإشارة أن الحق في جانبه وأنه تأييد من ربه فإن الرب ينصر مربوبيه ويؤيده. فالمراد بالربوبية هنا ربوبية الولاء والاختصاص لا مطلق الربوبية لأنها تعم الناس كلهم.
وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي للدلالة على الاختصاص دون التقوي لأن تقوي الجملة حصل بحرف التأكيد. وهذا الاختصاص باعتبار ما في {يَقْذِفُ بِالْحَقِّ} من معنى: الناصر لي دونكم فماذا ينفعكم اعتزازكم بأموالكم وأولادكم وقوتكم.
والقذف: إلقاء الشيء من اليد، وأطلق على إظهار الحق قذف على سبيل الاستعارة، شبه إعلان الحق بإلقاء الحجر ونحوه. والمعنى: أن ربي يقذفكم بالحق.
أو هو إشارة إلى قوله: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ} [الأنبياء : 18] وعلى كل فهو تعريض بالتهديد والتخويف من نصر الله المؤمنين على المشركين.

وتخصيص وصف {عَلَّامُ الْغُيُوبِ} من بين الأوصاف الإلهية للإشارة إلى أنه عالم بالنوايا، وأن القائل يعلم ذلك فالذي يعلم هذا لا يجترئ على الله بادعائه باطلا أنه أرسله إليكم، فالإعلام بهذه الصفة هنا يشبه استعمال الخبر في لازم فائدته وهو العلم بالحكم الخبري.
ويجوز أن يكون معنى {يَقْذِفُ بِالْحَقِّ} يرسل الوحي، أي على من يشاء من عباده كقوله تعالى: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [غافر: 15] ويكون قوله: {عَلَّامُ الْغُيُوبِ} إشارة إلى أنه أعلم حيث يجعل رسالاته لأن المشركين كانوا يقولون: لولا أنزلت علينا الملائكة دون محمد.
وارتفع {عَلَّامُ} على أنه خبر مبتدأ محذوف،أي هو علام الغيوب، أو على أنه نعت لاسم {إِنَّ} إما مقطوع،وإما لمراعاة محل اسم {إِنَّ} حيث إنها استوفت خبرها لأن حكم الصفة حكم عطف النسق عند أكثر النحاة وهو الحق.وقال الفراء:رفع الاسم هذا هو غالب كلام العرب. ومثله بالبدل في قوله تعالى: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} [ص: 64].
وقرأ الجمهور: {الْغُيُوبِ} بضم الغين.وقرأه أبو بكر وحمزة والكسائي بكسر الغين كما جاء الوجهان في باء {بُِيُوتٍ} .
[49] {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ [49]}.
أعيد فعل {قُلْ} للاهتمام بالمقول كما تقدم أنفا.
وجملة: {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ} تأكيد لجملة {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ} [سبأ: 48] فإن الحق قد جاء بنزول القرآن ودعوة الإسلام. وعطف {وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} على {جَاءَ الْحَقُّ} لأنه إذا جاء الحق انقشع الباطل من الموضع الذي حل فيه الحق.
و {يُبْدِئُ} مضارع أبدأ بهمزة في أوله وهمزة في أخره والهمزة التي في أوله للزيادة مثل همزة: أجاء، وأسرى. وإسناد الإبداء والإعادة إلى الباطل مجاز عقلي أو استعارة.
ومعنى: {مَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} الكناية عن اضمحلاله وزواله وهو ما عبر عنه بالزهوق في قوله تعالى: {إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} في سورة الإسراء [81]. وذلك أن الموجود الذي تكون له آثار إما أن تكون آثاره مستأنفة أو معادة فإذا لم يكن له إبداء ولا

إعادة فهو معدوم وأصله مأخوذ من تصرف الحي فيكون {وَمَا يُبْدِئُ} {وَمَا يُعِيدُ} كناية عن الهلاك كما قال عبيد بن الأبرص:
أفقر من أهله عبيد ... فاليوم لا يبدي ولا يعيد
"يعني نفسه".
ويقولون أيضا: فلان ما يبدئ وما يعيد، أي يتكلم ببادئة ولا عائدة، أي لا يرتجل كلاما ولا يجيب عن كلام غيره. وأكثر ما يستعمل فعل "أبدأ" المهموز أوله مع فعل "أعاد" مزدوجين في إثبات أو نفي، وقد تقدم قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} في سورة العنكبوت [19].
[50] {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ [50]}.
لما جرى ذكر الحق والباطل وكانوا يزعمون من مجموع أقوالهم أن النبيء عليه الصلاة والسلام غير صادق في دعوى الرسالة من الله كانت أقوالهم تقتضي زعمهم إياه على ضلال وكان الرد عليهم قاطعا بأنه على هدى بقوله: {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ: 49] انتقل هنا إلى متاركة جدالهم وتركهم وشأنهم لقلة جدوى مراجعتهم.
وهذا محضر خاص وطي بساط مجاس واحد، فلا يقتضي أنه يستمر على ترك مجادلتهم لأن الواقع ينافي ذلك فقد نزل القرآن بعد ذلك طويلا مشتملا على دعوتهم وتحذيرهم وإنذارهم.
وصيغة القصر التي في قوله: {فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي} لقصر الضلال المفروض، أي على نفسي لا عليكم لأنهم كانوا يحاولون أن يقلع عما دعاهم إليه ولم يقتصروا على صدودهم.
وتعدية {أَضِلُّ} بحرف {عَلَى} تتضمن استعارة مكنية إذ شبه الضلال بجريرة عليه فعداه بالحرف الشائع استعماله في الأشياء المكره عليها غير الملائمة، عكس اللام، وذكر حرف الاستعلاء تخييل للمكنية ولا يقال: ضمن {أَضِلُّ} معنى أجني، لأن {ضَلَلْتُ} الذي هو فعل الشرط المفروض غير مضمن معنى فعل آخر.

وأما قوله: {وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} فكالاحتراس من أن يكون حاله مقتصرا على فرض كونه مظنة الضلال مع ما فيه من الاعتراف لله بنعمته بأن ما يناله من خير فهو بإرشاد الله لا من نفسه لأنه ما كان يصل لذلك وهو مغمور بأمة جاهلية لولا إرشاد الله إياه كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْإِيمَانُ} .[الشورى: 52].
واختير في جانب الهدى فعل {اهْتَدَيْتُ} الذي هو مطاوع "هدى" لما فيه من الإيماء إلى أن له هاديا، وبينه بقوله: {فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} ليحصل شكره لله إجمالا ثم تفصيلا، وفي قوله: {فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} إيماء إلى أنه على هدى لأنه أثبت أن وحيا من الله وارد إليه.
وقد استفيد أن الضلال المفروض إن حصل فسببه من قبل نفسه، من إسناد فعل {أَضِلُّ} إلى ضمير المتكلم ثم مما عقبه من قصر الضلال على الحصول من المتكلم، وهو أغرق في التعلق به، وليس الغرض من ذلك الكلام بيان التسبب ولمن عدم مجاوزة الضلال المفروض إليهم إذ هم يتبعوه فيما تلبس به، ولم يرتكب مثل هذا في جانب فرض اهتداءه لأن اهتداءه كان هو الحاصل في الواقع وكان شاملا له ولغيره من الذين اتبعوه لأن اهتداءه ملابس لدعوته الناس إلى اتباعه، ولأن الغرض من الشرطين مختلف وإن كان يعلم من المقابلة أن سبب الضلال والاهتداء مختلف من جهة المعنى ولا سيما حين رجح جانب اهتدائه بقوله: {فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي}.
على أن المقابلة بين الشرطين ينقدح بها في ذهن السامع أن الضلال من تسويل النفس ولو حصل لكان جناية من النفس عليه وأن الاهتداء من الله وأنه نفع ساقه إليه بوحيه.
وجملة: {إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} تذييل لما أفادته الجملتان المقولتان قبله من الترديد في نسبة الاهتداء والضلال، أي أن الله يعلم أني على هدى أو ضده ويحصل من ذلك علم مقابلة من أحوال خصومه لأنه سميع لما يقوله الفريقان قريب مما يضمرونه فلا يخفى عليه.
والقريب هنا كناية عن العلم والإحاطة فيه فهو قريب مجازي. وهذا تعريض بالتهديد.
[51- 53] {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ [51] وَقَالُوا آمَنَّا

بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ [52] وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ [53]}.
لما جاءهم التعريض بالتهديد من لازم المتاركة المدلول عليها بقوله: {فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} [سبأ: 50] للعلم بأن الضال يستحق العقاب أتبع حالهم حين يحل بهم الفزع من مشاهدة ما هددوا به.
والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم تسلية له أو لكل مخاطب. وحذف جواب {لَوْ} للتهويل. والتقدير: لرأيت أمرا فظيعا.
ومفعول {تَرَى} يجوز أن يكون محذوفا، أي لو تراهم، أو ترى عذابهم ويكون {إِذْ فَزِعُوا} ظرفا لـ {تَرَى} ، ويجوز أن يكون {إِذْ} هو المفعول به وهو مجرد عن الظرفية، أي لو ترى ذلك الزمان، أي ترى ما يشمل عليه.
والفزع: الخوف المفاجئ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار: "إنكم لتكثرون عند الفزع وتقلون عند الطمع" . وهذا الفزع عند البعث يشعر بأنهم كانوا غير مهيئين لهذا الوقت أسباب النجاة من هوله.
والأخذ: حقيقته التناول وهو هنا مجاز في الغلب والتمكن بهم كقوله تعالى: {فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} .[الحاقة: 10]. والمعنى: أمسكوا وقبض عليهم لملاقاة ما أعد لهم من العقاب.
وجملة {فَلا فَوْتَ} معترضة بين المتعاطفات. والفوت: التفلت والخلاص من العقاب، قال رويشد الطائي:
إن تذنبوا ثم تأتيني بقيتكم ... مما علي بذنب منكم فوت
أي إذ أذنبتم فجاءت جماعة منكم معتذرين فذلك لا يدفع عنكم جزاءكم على ذنبكم.
وفي "الكشاف": "ولو، وإذ، والأفعال التي هي فزعوا، وأخذوا، وحيل بينهم، كلها للمضي، والمراد بها الاستقبال لأن ما الله فاعله في المستقبل بمنزلة ما كان ووجد لتحققه" اهـ. ويزداد عليها فعل {وَقَالُوا} .
والمكان القريب: المحشر، أي أخذوا منه إلى النار، فاستغنى بذكر {مِن} الابتدائية

عن ذكر الغاية لأن كل مبدأ له غاية، ومعنى قريب المكان أنه قريب إلى جهنم بحيث لا يجدون مهلة لتأخير العذاب.
وليس بين كلمتي {قَرِيبٍ} هنا والذي في قوله: {إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} [سبأك 50] ما يشبه الإيطاء في الفواصل لاختلاف الكلمتين بالحقيقة والمجاز فصار في الجمع بينهما محسن الجناس التام.
وعطف {وَقَالُوا} على {أُخِذُوا} أي يقولون حينئذ: آمنا به.
وضمير {بِهِ} للوعيد أو ليوم البعث أو للنبي صلى الله عليه وسلم أو القرآن، إذا كان الضمير محكيا من كلامهم لأن جميع ما يصح معادا للضمير مشاهد لهم وللملائكة، فأجمعوا فيما يراد الإيمان به لأنهم ضاق عليهم الوقت فاستعجلوه بما يحسبونه منجيا لهم من العذاب، وإن كان الضمير من الحكاية فهو عائد إلى الحق من قوله: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ} [سبأ: 48] لأن الحق يتضمن ذلك كله.
ثم استطرد الكلام بمناسبة قولهم: {آمَنَّا بِهِ} إلى إضاعتهم وقت الإيمان بجملة {وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ} إلى آخرها.
و {أَنَّى} استفهام عن المكان وهو مستعمل في الإنكار.
و {التَّنَاوُشُ} قرأه الجمهور بواو مضمومة بعد الألف وهو التناول السهل أو الخفيف وأكثر وروده في شرب الإبل شربا خفيفا من الحوض ونحوه، قال غيلان بن حريث:
باتت تنوش الحوض نوشا من علا ... نوشا به تقطع أجواز الفلا
يتحدث عن رحلته، أي تتناول الماء من أعلاه ولا تغوص مشافرها فيه.
وجملة: {وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} مركب تمثيلي يفيد تشبيه حالهم إذ فرطوا في أسباب النجاة وقت المكنة منها حين كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم ويحرضهم ويحذرهم وقد عمرهم الله ما يتذكر فيه من تذكر ثم جاؤوا يطلبون النجاة بعد فوات وقتها بحالهم كحال من يريد تناوشها وهو في مكان بعيد عن مراده الذي يجب تناوله.
وهذا التمثيل قابل لتفريق أجزائه بأن يشبه السعي بما يحصل بسرعة بالتناوش ويشبه فوات المطلوب بالمكان البعيد كالحوض.
وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وخلف بالهمز في موقع الواو

فقال الزجاج: وهو من إبدال الواو المضمومة همزة لقصد التخفيف في نطق الضمة كقوله تعالى: {أُقِّتَتْ} [المرسلات: 11] وقولهم: أَجوهٌ: جمع وجه. وبحث فيه أبو حيان، وقال الفراء والزجاج أيضا. هو من ناش بالهمز إذ أبطأ وتأخر في عمل. ومنه قول نهشل بين حري النهشلي:
تمنى نئيشا أن يكون أطاعني ... وقد حدثت بعد الأمور أمور
أي تمنى أخيرا. وفسر المعري في رسالة الغفران نئيشا بمعنى: بعد ما فات. وعلى كلا التفسيرين فالمراد بالتناوش وصف قولهم: {آمَنَّا بِهِ} بأنه إيمان تأخر وقته أو فات وقته.
وفي الجمع بين {مَكَانٍ قَرِيبٍ} و {مَكَانٍ بَعِيدٍ} محسن الطباق.
وجملة {وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ} في موضع الحال، أي كيف يقولون آمنا به في وقت الفوات والحال أنهم كفروا به من قبل في وقت التمكن فهو كقوله تعالى: {وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} .[القلم: 43].
و {يَقْذِفُونَ} عطف على {كَفَرُوا} فهي حال ثانية. والتقدير: وكانوا يقذفون بالغيب. واختيار صيغة المضارع لحكاية الحالة كقوله تعالى: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ} [هود: 38].
والقذف: الرمي باليد من بعد. وهو هنا مستعار للقول بدون ترو ولا دليل، أي يتكلمون فيما غاب عن القياس من أمور الآخرة بما لا علم لهم به إذ أحالوا البعث والجزاء وقالوا لشركائهم: هم شفعاؤنا عند الله.
ولك أن تجعل {وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} تمثيلا مثل ما في قوله: {وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} ، شبهوا بحال من يقذف شيئا وهو غائب عنه لا يراه فهو لا يصيبه البتة.
وحذف مفعول {يَقْذِفُونَ} لدلالة فعل {وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ} عليه، أي يقذفون أشياء من الكفر يرمون بها جزافا.
والغيب: المغيب. والباء للملابسة، والمجرور بها في موضع الحال من ضمير {يَقْذِفُونَ} ، أي يقذفون وهم غائبون عن المقذوف من مكان بعيد.
و {مَكَانٍ بَعِيدٍ} هنا مستعمل في حقيقته يعني من الدنيا، وهي مكان بعيد عن الآخرة

للاستغناء عن استعارته لما لا يشاهد منه بقوله: {بِالْغَيْبِ} كما علمت، فتعين للحقيقة لأنها الأصل، وبذلك فليس بين لفظ {بَعِيدٍ} المذكور هنا والذي في قوله: {وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} ما يشبه الإيطاء لاختلاف الكلمتين بالمجاز والحقيقة.
[54] {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ [54]}.
عطف على الجمل الفعلية نظائر هذه وهي جمل {فَزِعُوا} ، {وَأُخِذُوا} ، {وَقَالُوا} [سبأ: 51، 52] أي وحال زجهم في النار بينهم وبين ما يأملونه من النجاة بقولهم: {آمَنَّا بِهِ} .[سبأ: 52]. وما يشتهونه هو النجاة من العذاب أو عودتهم إلى الدنيا،فقد حكي عنهم في آيات أخرى أنهم تمنوه {فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام: 27]، "ربنا أرجعنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل".
والتشبيه في قوله: {كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ} تشبيه للحيلولة بحيلولة أخرى وهي الحيلولة بين بعض الأمم وبين الإمهال حين حل بهم عذاب الدنيا، مثل فرعون وقومه إذ قال {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 90]، وكذلك قوم نوح حين رأوا الطوفان، وما من أمة حل بها عذاب إلا وتمنت الإيمان حينئذ فلم ينفعهم إلا قوم يونس.
والأشياع: المشابهون في النحلة وإن كانوا سالفين. وأصل المشايعة المتابعة في العمل والحلف ونحوه، ثم أطلقت هنا على مطلق المماثلة على سبيل المجاز المرسل بقرينة قوله {مِنْ قَبْلُ} ، أي كما فعل بأمثالهم في الدنيا من قبل، وأما يوم الحشر فإنما يحال بينهم وبين ما يشتهون وكذلك أشياعهم في وقت واحد.
وفائدة هذا التشبيه تذكير الأحياء منهم وهم مشركوا أهل مكة بما حل بالأمم من قبلهم ليوقنوا أن سنة الله واحدة وانهم لا تنفعهم أصنامهم التي زعموها شفعاء عند الله.
وجملة {إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ} مسوقة لتعليل الجمل التي قبلها. وفعل بهم جميع ما سمعت لأنهم كانوا في حياتهم في شك من ذلك اليوم وما وصف لهم من أهواله.
وإنما جعلت حالتهم شكا لأنهم كانوا في بعض الأمور شاكين وفي بعضها موقنين،

ألا ترى قوله تعالى: {قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنَّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} .[الجاثية: 32]. وإذا كان الشك مفضيا إلى تلك العقوبة فاليقين أولى بذلك، ومآل الشك واليقين بالانتفاء واحد إذ ترتب عليهما عدم الإيمان به وعدم النظر في دليله.
ويجوز أن تكون جملة {إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ} مستأنفة استئنافا بيانيا ناشئة عن سؤال يثيره قوله: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} كأن سائلا سأل هل كانوا طامعين في حصول ما تمنوه? فأجيب بأنهم كانوا يتمنون ذلك ويشكون في استجابته فلما حيل بينهم وبينه غشيهم اليأس، واليأس بعد الشك أوقع في الحزن من اليأس المتأصل.
والمريب: الموقع في الريب. والريب: الشك، فوصف الشك به وصف له بما هو مشتق من مادته لإفادة المبالغة كقولهم: شعر شاعر، وليل أليل، أو ليل داج. ومحاولة غير هذا تعسف.

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة فاطرسميت "سورة فاطر" في كثير من المصاحف في المشرق والمغرب وفي كثير من التفاسير. وسميت في "صحيح البخاري" وفي "سنن الترمذي" وفي كثير من المصاحف والتفاسير "سورة الملائكة" لا غير. وقد ذكر لها كلا الاسمين صاحب "الإتقان".
فوجه تسميتها "سورة فاطر" أن هذا الوصف وقع في طالعة السورة ولم يقع في أول سورة أخرى. ووجه تسميته "سورة الملائكة" أنه ذكر في أولها صفة الملائكة ولم يقع في سورة أخرى.
وهي مكية بالاتفاق وحكى الآلوسي عن الطبرسي أن الحسن استثنى آيتين: آية {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ} [فاطر: 29] الآية، وآية {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: 32] الآية، ولم أر هذا لغيره.
وهذه السورة هي الثالثة والأربعون في ترتيب نزول سورة القرآن. نزلت بعد سورة الفرقان وقبل سورة مريم.
وقد عدت آيها في عد أهل المدينة والشام ستا وأربعين، وفي عد أهل مكة والكوفة خمسا وأربعين.
أغراض هذه السورة
اشتملت هذه السورة على إثبات تفرد الله تعالى بالإلهية فافتتحت بما يدل على أنه مستحق الحمد على ما أبدع من الكائنات الدال إبداعها على تفرده تعلى بالإلهية.
وعلى إثبات صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به وأنه جاء به الرسل من قبله. وإثبات البعث والدار الآخرة.

وتذكير الناس بإنعام الله عليهم بنعمة الإيجاد ونعمة الإمداد، وما يعبد المشركون من دونه لا يغنون عنهم شيئا وقد عبدهم الذين من قبلهم فلم يغنوا عنهم.
وتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم على ما يلاقيه من قومه.
وكشف نواياهم في الإعراض عن إتباع الإسلام لأنهم احتفظوا بعزتهم.
وإنذارهم أن يحل بهم ما حل بالأمم المكذبة قبلهم.
والثناء على الذين تلقوا الإسلام بالتصديق وبضد حال المكذبين.
وتذكيرهم بأنهم كانوا يودون أن يرسل إليهم رسول فلما جاءهم رسول تكبروا واستنكفوا.
وأنهم لا مفر لهم من حلول العذاب عليهم فقد شاهدوا آثار الأمم المكذبين من قبلهم، وأن لا يغتروا بإمهال الله إياهم فإن الله لا يخلف وعده.
والتحذير من غرور الشيطان والتذكير بعداوته لنوع الإنسان.
[1] {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [1]} .
افتتاحها بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ} مؤذن بأن صفات من عظمة الله ستذكر فيها، وإجراء صفات الأفعال على اسم الجلالة من خلقه السماوات والأرض وافضل ما فيها من الملائكة والمرسلين مؤذن بأن السورة جاءت لإثبات التوحيد وتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم. وإيذان {الْحَمْدُ لِلَّهِ} باستحقاق الله إياه دون غيره تقدم في أول سورة الفاتحة.
والفاطر: فاعل الفطر، وهو الخلق، وفيه معنى التكون سريعا لأنه مشتق من الفطر وهو الشق، ومنه {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ} [الشورى: 5] {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} [الانفطار: 1]. وعن ابن عباس "كنت لا أدري ما فاطر السماوات والأرض أي: لعدم جريان هذا اللفظ بينهم في زمانه حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، أي أنا ابتدأتها" وأحسب أن وصف الله بـ {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} مما سبق به القرآن، وقد تقدم عند قوله تعالى: {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} في سورة الأنعام [14]، وقوله: {وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} في آخر سورة يوسف [101] فضُمَّه إلى ما هنا.

وأما {جَاعِلِ} فيطلق بمعنى مكون، وبمعنى مصير، وعلى الاعتبارين يختلف موقع قوله: {رُسُلاً} بين أن يكون مفعولا ثانيا لـ {جَاعِلِ} أي جعل الله من الملائكة، أي ليكونوا رسلا منه تعالى لما يريد أن يفعلوه بقوتهم الذاتية، وبين أن يكون حالا من {الْمَلائِكَةِ} ، أي يجعل من أحوالهم أن يرسلوا. ولصلاحية للمعنيين أوثرت مادة الجعل دون أن يعطف على معمول {فَاطِرِ} .
وتخصيص ذكر الملائكة من بين مخلوقات السماوات والأرض لشرفهم بأنهم سكان السماوات وعظيم خلقهم.
وأجري عليهم صفة أنهم رسل لمناسبة المقصود من إثبات الرسالة، أي جاعلهم رسلا منه إلى المرسلين من البشر للوحي بما يراد تبليغهم إياه للناس.
وقوله: {أُولِي أَجْنِحَةٍ} يجوز أن يكون حالا من {الْمَلائِكَةِ} ، فتكون الأجنحة ذاتية لهم من مقومات خلقهم، ويجوز أن يكون حالا من الضمير في {رُسُلاً} فيكون خاصة بحالة مرسوليتهم.
و {أَجْنِحَةٍ} : جمع جناح بفتح الجيم وهو ما يكون للطائر في موضع اليد للإنسان فيحتمل أن إثبات الأجنحة للملائكة في هذه الآية وفي بعض الأحاديث المروية عن النبيء صلى الله عليه وسلم حقيقة، ويحتمل أنه استعارة للقوة التي يخترقون بها الآفاق السماوية صعودا ونزولا لا يعلم كنهها إلا الله تعالى.
و {مَثْنَى} وأخواته كلمات دالة على معنى التكرير لاسم العدد التي تشتق منه ابتداء من الاثنين بصيغة مثنى ثم الثلاثة والأربعة بصيغة ثلاث ورباع. والأكثر أنهم لا يتجاوزون بهذه الصيغة مادة الأربعة، وقيل يجوز إلى العشرة. والمعنى: اثنين اثنين الخ. وتقدم قوله: {أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى} في سورة سبأ [46].
والكلام على {أُولِي} تقدم.
والمعنى: أنهم ذوو أجنحة بعضها مصففة جناحين جناحين في الصف، وبعضها ثلاثة ثلاثة، وبعضها أربعة أربعة، وذلك قد تتعدد صفوفه فتبلغ أعدادا كثيرة فلا ينافي هذا ما ورد في الحديث عن عبد الله بن مسعود: "أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل له ستمائة جناح".
ويجوز أن تكون أعداد الأجنحة متغيرة لكل ملك في أوقات متغيرة على حسب المسافات التي يؤمرون باختراقها من السماوات والأرضين. والأظهر أن الأجنحة للملائكة

من أحوال التشكل الذي يتشكلون به، وفي رواية الزهري أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "لو رأيت إسرافيل إن له لاثني عشر ألف جناح وإن العرش لعلى كاهله".
واعلم أن ماهية الملائكة تتحصل فيما ذكره سعد الدين في كتاب "المقاصد" إنهم أجسام لطيفة نورانية قادرة على التشكلات بأشكال مختلفة، شأنهم الخير والطاعة، والعلم، والقدرة على الأعمال الشاقة، ومسكنهم السماوات، وقال: هذا ظاهر الكتاب والسنة وهو قول أكثر الأمة" اهـ. ومعنى الأجسام اللطيفة أنها من قبيل الجوهر لا العرض وأنها جواهر مما يسمى عند الحكماء بالمجردات.
وعندي: أن تعريف صاحب "المقاصد" لحقيقة الملائكة لا يخلو عن تخليط في ترتيب التعريف لأنه خلط في التعريف بين الذاتيات والعرضيات.
والوجه عندي في ترتيب التعريف أن يقال: أجسام لطيفة نورانية أخيار ذوو قوة عظيمة، ومن خصائصهم القدرة على التشكل بأشكال مختلفة، والعلم بما تتوقف عليه أعمالهم، ومقرهم السماوات ما لم يرسلوا إلى جهة من الأرض.
وهذا التشكل انكماش وتقبض في ذرات نورايتهم وإعطاء صورة من صور الجسمانيات الكثيفة لذواتهم. دل على تشكلهم قوله تعالى لهم يوم بدر {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال: 12]، وثبت تشكل جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم في صورة دحية الكلبي، وتشكله له ولعمر بن الخطاب في حديث السؤال عن الإيمان والإسلام والإحسان والساعة في صورة "رجل شديد بياض الثياب سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد أي من أهل المدينة حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه إلى فخذيه" الحديث، وقول النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن فارقهم الرجل: "هل تدرون من السائل? قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم" كما في "الصحيحين" عن عمر بن الخطاب.
وثبت حلول جبريل في غار حراء في بدء الوحي، وظهوره للنبي صلى الله عليه وسلم على كرسي بين السماء والأرض بصورته التي رآه فيها غار حراء كما ذلك في حديث نزول سورة المدثر، ورأى كثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر ناسا لا يعرفونهم على خيل يقاتلون معهم.
وجملة {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} مستأنفة استئنافا بيانيا لأن ما ذكر من صفات

الملائكة يثير تعجب السامع أن يتساءل عن هذه الصفة العجيبة، فأجيب بهذا الاستئناف بان مشيئة الله تعالى لا تنحصر ولا توقت. ولكل جنس من أجناس المخلوقات مقوماته وخواصه. فالمراد بالخلق: المخلوقات كلها،أي يزيد الله في بعضها ما ليس في خلق آخر. فيشمل زيادة قوة بعض الملائكة على بعض، وكل زيادة في شيء بين المخلوقات من المحاسن والفضائل من حصافة عقل وجمال صورة وشجاعة وذلقة لسان ولياقة كلام. ويجوز أن تكون جملة {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} . صفة ثانية للملائكة، أي أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في خلقهم ما يشاء كأنه قيل: مثنى وثلاث ورباع وأكثر، فما في بعض الأحاديث من كثرة أجنحة جبريل يبين معنى: {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} . وعليه فالمراد بالخلق ما خلق عليه الملائكة من أن لبعضهم أجنحة زائدة على ما لبعض آخر.
وجملة: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} تعليل لجملة: {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} ، وفي هذا تعريض بتسفيه عقول الذين أنكروا الرسالة وقالوا: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [إبراهيم: 10]، فأجيبوا بقول الرسل: {إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [إبراهيم: 11].
[2] {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [2]}.
هذا من بقية تصدير السورة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [فاطر: 1]، وهو عطف على {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الخ. والتقدير: وفاتح الرحمة للناس وممسكها عنهم فلا يقدر أحد على إمساك ما فتحه ولا على فتح ما أمسكه.
و {مَا} شرطية، أي اسم فيه معنى الشرط. وأصلها اسم موصول ضمن معنى الشرط. فانقلبت صلته إلى جملة شرطية وانقلبت جملة الخبر جوابا واقترنت بالفاء لذلك، فأصل {مَا} الشرطية هو الموصولة. ومحل {مَا} الابتداء وجواب الشرط أغنى عن الخبر.
و {مِنْ رَحْمَةٍ} بيان لإبهام {مَا} والرابط محذوف لأنه ضمير منصوب.
والفتح: تمثيلية لإعطاء الرحمة إذ هي من النفائس التي تشبه المدخرات المتنافس فيها فكانت حالة إعطاء الله الرحمة شبيهة بحالة فتح الخزائن للعطاء،فأشير إلى هذا التمثيل بفعل الفتح، وبيانه بقوله: {مِنْ رَحْمَةٍ} قرينة الاستعارة التمثيلية.

والإمساك حقيقته: أخذ الشيء باليد مع الشد عليه بها لئلا يسقط أو ينفلت، وهو يتعدى بنفسه،أو هو هنا مجاز عن الحبس والمنع ولذلك قوبل به الفتح.
وأما قولهم: أمسك بكذا، فالباء إما لتوكيد لصوق المفعول بفعله كقوله تعالى: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة:10]، وإما لتضمينه معنى الاعتصام كقوله تعالى: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [لقمان: 22].
وقد أوهم في "القاموس" و"اللسان" و"التاج" أنه لا يتعدى بنفسه.
فقوله هنا: {وَمَا يُمْسِكْ} حذف مفعوله لدلالة قوله: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ} عليه والتقدير: وما يمسكه من رحمة، ولم يذكر له بيان استغناء ببيانه من فعل.
والإرسال: ضد الإمساك،وتعدية الإرسال باللام للتقوية لأن العامل هنا فرع في العمل.
و {مِنْ بَعْدِهِ} بمعنى: من دونه كقوله تعالى: {فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} [الجاثية: 23] {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ} [الجاثية: 6]، أي فلا مرسل له دون الله، أي لا يقدر أحد على إبطال ما أراد الله من إعطاء أو منع والله يحكم لا معقب لحكمه. وتذكير الضمير في قوله: {فَلا مُرْسِلَ لَهُ} مراعاة للفظ {مَا} لأنها لا بيان لها، وتأنيثه في قوله: {فَلا مُمْسِكَ لَهَا} لمراعاة بيان {مَا} في قوله: {مِنْ رَحْمَةٍ} لقربه.
وعطف {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} تذييل رجح فيه جانب الإخبار فعطف، وكان مقتضى الظاهر أن يكون مفصولا لإفادة أنه يفتح ويمسك لحكمة يعلمها، وأنه لا يستطيع أحد نقض ما أبرمه في فتح الرحمة وغيره من تصرفاته لأن الله عزيز لا يمكن لغيره أن يغلبه، فأن نقض ما أبرم ضر من الهوان والمذلة. ولذلك كان من شعار صاحب السؤدد أنه يبرم وينقض قال الأعشى:
علقم ما أنت إلى عامر ... الناقض الأوتار والواتر
وضمير {لَهَا} وضمير {لَهُ} عائدان إلى {مَا} من قوله: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ} ، روعي في تأنيث أحد الضميرين معنى {مَا} فإنه اسم صادق على {رَحْمَةٍ} وقد بين بها، وروعي في تذكير الضمير الآخر لفظ {مَا} لأنه لفظ لا علامة تأنيث فيه. وهما اعتباران كثيران في مثله فصيح الكلام، فالمتكلم بالخيار بين أي الاعتبارين شاء. والجمع بينهما في هذه الآية تفنن. وأوثر بالتأنيث ضمير {مَا} لأنها مبينة بلفظ مؤنث وهو

{رَحْمَةٍ}.
[3] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [3]}.
لما جرى ذكر رحمة الله التي تعم الناس كلهم أقبل على خطابهم بأن يتذكروا نعمة الله عليهم الخاصة وهي النعمة التي تخص كل واحد بخاصته فيأتلف منها مجموع الرحمة العامة للناس كلهم وما هي إلا بعض رحمة الله بمخلوقاته.
والمقصود من تذكر النعمة شكرها وقدرها قدرها. ومن أكبر تلك النعم نعمة الرسالة المحمدية التي هي وسيلة فوز الناس الذين يتبعونها بالنعيم الأبدي. فالمراد بالذكر هنا التذكر بالقلب وباللسان فهو من عموم المشترك أو من إرادة القدر المشترك فإن الذكر باللسان والذكر بالقلب يستلزم أحدهما الأخر وإلا لكان الأول هذيانا والثاني كتمانا. قال عمر بن الخطاب أفضل من ذكر الله باللسان ذكر الله عند أمره ونهيه، أي وفي كليهما فضل.
ووصفت النعمة بـ {عَلَيْكُمْ} لأن المقصود من التذكر التذكر الذي يترتب عليه الشكر، وليس المراد مطلق التذكر بمعنى الاعتبار والنظر في بديع فضل الله، فذلك له مقام آخر، على أن قوله: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ} قد تضمن الدعوة إلى النظر في دليل الوحدانية والقدرة والفضل.
والاستفهام إنكاري في معنى النفي ولذلك اقترن ما بعده بـ {مِنْ} التي تزاد لتأكيد النفي، واختير الاستفهام بـ {هَلْ} دون الهمزة لما في أصل معنى {هَلْ} من الدلالة على التحقيق والتصديق لأنها في الأصل بمعنى "قَدْ" وتفيد تأكيد النفي.
والاهتمام بهذا الاستثناء قدم في الذكر قبل ما هو في قوة المستثنى منه. وجعل صفة لـ {خَالِقٍ} لأن {غَيْرُ} صالحة للاعتبارين ولذلك جرت القراءات المشهورة على اعتبار {غَيْرُ} هنا وصفا لـ {خَالِقٍ} ، فجمهور القراء قرأوه برفع {غَيْرُ} على اعتبار محل {خَالِقٍ} المجرور بـ {مِنْ} لأن محله رفع بالابتداء. وإنما لم يظهر الرفع للاشتغال بحركة حرف الجر الزائد.وقرأه حمزة والكسائي وأبو جعفر وخلف بالجر على إتباع اللفظ دون المحل. وهما استعمالان فصيحان في مثله اهتم بالتنبيه عليهما سيبويه في "كتابه".

وجملة {يَرْزُقُكُمْ} يجوز أن تكون وصفا ثانيا لـ {خَالِقٍ} . ويجوز أن تكون استئنافاً بيانياً.
وجُعل النفي متوجها إلى القيد وهو جملة الصفة كما هي سنته في الكلام المقيد لأن المقصود التذكير بنعم الله تعالى ليشكروا، ويكون ذلك كناية عن الاستدلال على انتفاء وصف الخالقية عن غيره تعالى لأنه لو كان غيره خالقا لكان رازقا إذ الخلق بدون رزق قصور في الخالقية لأن المخلوق بدون رزق لا يلبث أن يصير إلى الهلاك والعدم فيكون خلقه عبثا ينزه عنه الموصوف بالإلهية المقتضية للحكمة فكانت الآية مذكرة بنعمتي الإيجاد والإمداد.
وزيادة {مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} تذكير بتعدد مصادر الأرزاق، فإن منها سماوية كالمطر الذي منه شراب، ومنه طهور، وسبب نبات أشجار وكلا، وكالمن الذي ينزل على شجر خاص من أندية في الجو، وكالضياء من الشمس، والاهتداء بالنجوم في الليل، وكذلك أنواع الطير الذي يصاد، كل ذلك من السماء.
ومن الأرض أرزاق كثيرة من حبوب وثمار وزيوت وفواكه ومعادن وكلأ وكمأة وأسماك البحار والأنهار.
وفي هذا القيد فائدة أخرى وهي دفع توهم الغفل أن أرزاقا تأتيهم من غير الله من أنواع العطايا التي يعطيها بعضهم بعضا، والمعاوضات التي يعاوضها بعضهم مع بعض فإنها لكثرة تداولها بينهم قد يلهيهم الشغل بها عن التدبر في أصول منابعها فإن أصول موادها من صنع الله تعالى فآل ما يعطاه الناس منها إلى أنه من الله على نحو ما عرض للذي حاج إبراهيم في ربه إذ قال له إبراهيم: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة: 258] فهذا رجل محكوم بقتله ها أنا ذا أعفو عنه فقد أحييته، وهذا رجل حي ها أنا ذا آمر به فيقتل فأنا أميت. فانتقل إبراهيم إلى أن قال له {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة: 258].
{لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}.
هذا نتيجة عقب ذكر الدليل إذ رتب على انفراده بالخالقية والرازقية انفراده بالإلهية لأن هذين الوصفين هما أظهر دلائل الإلهية عند الناس فجملة {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} مستأنفة. وفرع عليه التعجيب من انصرافهم عن النظر في دلائل الوحدانية بجملة {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} .

و {أَنَّى} اسم استفهام يجيء بمعنى استفهام عن الحالة أو عن المكان أو عن الزمان. والاستفهام عن حالة انصرافهم هو المتعين هنا وهو استفهام مستعمل في التعجيب من انصرافهم عن الاعتراف بالوحدانية تبعا لمن يصرفهم وهم أولياؤهم وكبراؤهم.
و {تُؤْفَكُونَ} مبني للمجهول من أفكه من باب ضربه، إذا صرفه وعدل به، فالمصروف مأفوك. وحذف الفاعل هنا لأن آفكيهم أصناف كثيرون، وتقدم في قوله تعالى: {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} في سورة براءة [30].
[4] {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ [4]}.
عطف على جملة {اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} أي وإن استمروا على انصرافهم عن قبول دعوتك ولم يشكروا النعمة ببعثك فلا عجب فقد كذب أقوام من قبلهم رسلا من قبل. وهو انتقال من خطاب الناس إلى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم لمناسبة جريان خطاب الناس على لسانه فهو مشاهد لخطابهم، فلا جرم أن يوجه إليه الخطاب بعد توجيهه إليهم إذ المقام واحد كقوله تعالى: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ} [يوسف: 29].
وإذ قد أبان لهم الحجة على انفراد الله تعالى بالإلهية حين خاطبهم بذلك نقل الإخبار عن صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أنكروا قبوله منه فإنه لما استبان صدقه في ذلك بالحجة ناسب أن يعرض إلى الذين كذبوه بمثل عاقبة الذين كذبوا الرسل من قبله وقد أدمج في خلال ذلك تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم على تكذيب قومه إياه بأنه لم يكن مقامه في ذلك دون مقام الرسل السابقين.
وجيء في هذا الشرط بحرف {إِنْ} الذي أصله أن يعلق به شرط غير مقطوع بوقوعه تنزيلا لهم بعد ما قدمت إليهم الحجة على وحدانية الله المصدقة لما جاءهم به الرسول عليه الصلاة والسلام فكذبوه فيه، منزلة من أيقن بصدق الرسول فلا يكون فرض استمرارهم على تكذيبه إلا كما يفرض المحال.
وهذا وجه إيثار الشرط هنا بالفعل المضارع الذي في حيز الشرط يتمخض للاستقبال، أي إن حدث منهم تكذيب بعد ما قرع أسمائهم من البراهين الدامغة.
والمذكور جوابا للشرط إنما هو سبب لجواب محذوف إذ التقدير: وإن يكذبوك فلا يحزنك تكذيبهم إذ قد كذبت رسل من قبلك فاستغني بالسبب عن المسبب لدلالته عليه.

وإنما لم يعرف {رُسُلٌ} وجيء به منكرا لما في التنكير من الدلالة على تعظيم أولئك الرسل زيادة على جانب صفة الرسالة من جانب كثرتهم وتنوع آيات صدقهم ومع ذلك كذبهم أقوامهم.
وعطف على هذه التسلية والتعريض ما هو كالتأكيد لهما والتذكير بعاقبة مضمونها بأن أمر المكذبين قد آل إلى لقائهم جزاء تكذيبهم من لدن الذي ترجع إليه الأمور كلها، فكان أمر أولئك المكذبين وأمر أولئك الرسل في جملة عموم الأمور التي أرجعت إلى الله تعالى إذ لا تخرج أمورهم من نطاق عموم الأمور.
وقد اكتسبت هذه الجملة معنى التذييل بما فيها من العموم.
{الْأُمُورُ} : جمع أمر وهو الشأن والحال،أي إلى الله ترجع الأحوال كلها يتصرف فيها كيف شاء، فتكون الآية تهديدا للمكذبين وإنذارا.
[5] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [5]}.
أعيد خطاب الناس أعذارا لهم وإنذارا بتحقيق أن وعد الله الذي وعده من عقابه المكذبين في يوم البعث وهو وعد واقع لا يتخلف وذلك بعد أن قدم لهم التذكير بدلائل الوحدانية المشتملة عليها، مع الدلالة على نعم الله عليهم ليعلموا أنه لا يستحق العبادة غيره وأنه لا يتصف بالإلهية الحق غيره.
وبعد أن أشار إليهم بأن ما أنتجته تلك الدلائل هو ما أنبأهم به الرسول صلى الله عليه وسلم فيعلمون صدقه فيما أنبأهم من توحيد الله وهو أكبر ما قرع آذانهم وأحرج شيء لنفوسهم، فإذا تأيد بالدليل البرهاني تمهد السبيل لتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخبرهم به من وعد الله وهو يوم البعث لأنه لما تبين صدقه في الأولى يعلم صدقه في الثانية بحكم قياس والمساواة.
والخطاب للمشركين، أو لهم وللمؤمنين لأن ما تلاه صالح لموعظة الفريقين كل على حسب حاله.
وتأكيد الخبر بـ {إِنَّ} إما لأن الخطاب للمنكرين، وإما لتغليب فريق المنكرين على المؤمنين لأنهم أحوج إلى تقوية الموعظة.
والوعد مصدر، وهو الإخبار عن فعل المخبر شيئا في المستقبل، والأكثر أن يكون

فيما عدا الشر، ويخص الشر منه باسم الوعيد،يعمهما وهو هنا مستعمل في القدر المشترك. وقد تقدم عند قوله تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} الآية في سورة البقرة [286].
وإضافة إلى الاسم الأعظم توطئة لكونه حقا لأن الله لا يأتي منه الباطل.
والحق هنا مقابل الكذب. والمعنى: أن وعد الله صادق. ووصفه بالمصدر مبالغة في حقيته.
والمراد به: الوعد بحلول يوم جزاء بعد انقضاء هذه الحياة كما دل عليه تفريع {فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} الآية.
والغُرور بضم الغين ويقال التغرير: إيهام النفع والصلاح فيما هو ضر وفساد. وتقدم عند قوله تعالى: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا} في سورة آل عمران [196] وعند قوله: {زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} في سورة الأنعام [112].
والمراد بالحياة:ما تشتمل عليه أحوال الحياة الدنيا من لهو وترف،وانتهائها بالموت والعدم مما يسول الناس أن ليس بعد هذه الحياة أخرى.
وإسناد التغرير إلى الحياة ولو مع تقدير المضاف إسناد مجازي لأن الغار للمرء هو نفسه المنخدعة بأحوال الحياة الدنيا فهو من إسناد الفعل إلى سببه والباعث عليه.
والنهي في الظاهر موجه للناس ولمنهي عنه من أحوال الحياة الدنيا، وليست الحياة الدنيا من فعل الناس فتعين أن المقصود النهي عن لازم ذلك الإسناد وهو الاغترار لمظاهر الحياة.ونظيره كثير في كلام العرب كقولهم: لا أعرفنك تفعل كذا، ولا أريينك ههنا، {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ} [المائدة: 2]، وتقدم نظيره في قوله تعالى: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ} آخر آل عمران [196].
وكذلك القول في قوله تعالى: {وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} .
والغرور بفتح الغين: هو الشديد التغرير. والمراد به الشيطان، قال تعالى: {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ} [الأعراف: 22]. وهو بغير الناس بتزيين القبائح لهم تمويها بما يلوح عليها من محاسن تلائم نفوس الناس.
والباء في قوله: {بِاللَّهِ} للملابسة وهي داخلة على مضاف مقدر أي، بشأن الله، أي

يتطرق إلى نقض هدى الله فإن فعل غر يتعدى إلى مفعول واحد فإذا أريد تعديته إلى بعض متعلقاته عدي إليه بواسطة حرف الجر، فقد يعدى بالباء وهي باء الملابسة كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار: 6] وقوله في سورة الحديد {وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} وذلك إذا أريد بيان من الغرور ملابس له على تقدير مضاف، أي حال من أحواله. وتلك ملابسة الفعل للمفعول في الكلام على الإيجاز. وليست هذه الباء باء السببية.
وقد تضمنت الآية غرورين: غرورا يغتره المرء من تلقاء نفسه ويزين نفسه من المظاهر الفاتنة التي تلوح له في الدنيا ما يتوهمه خيرا ولا ينظر في عواقبه بحيث تخفي مضاره في بادئ الرأي ولا يظن أنه من الشيطان.
وغرورا يتلقاه ممن يغره وهو الشيطان، وكذلك الغرور كله في هذا العالم بعضه يمليه المرء على نفسه وبعضه يتلقاه من شياطين الإنس والجن،فترك تفصيل الغرور الأول الآن اعتناء بالأصل ولأهم، فإن كل غرور يرجع إلى غرور الشيطان. وسيأتي تفصيله عند قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً} [فاطر: 10].
[6] {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [6]}.
لما كان في قوله: {وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} إبهام ما في المراد بالغرور عقب ذلك بيانه بأن الغرور هو الشيطان ليتقرر المسند إليه بالبيات بعد الإبهام. فجملة {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ} تتنزل من جملة {وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} منزلة البيان من المبين فلذلك فصلت ولم تعطف، وهذا من دلالة ترتيب الكلام على لإرادة المتكلم إذ يعلم السامع من وقوع وصف الشيطان عقب وصف الغرور أن الغرور هو الشيطان.
وأظهر اسم الشيطان في مقام الإضمار للإفصاح عن المراد بالغرور أنه الشيطان وإثارة العداوة بين الناس الشيطان معنى من معاني القرآن تصريحا وتضمينا، وهو هنا مريح كما في قوله تعالى: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [البقرة: 36].
وتلك عداوة مودعة في جبلته كعداوة الكلب للهر لأن جبلة الشيطان موكولة في بإيقاع الناس في الفساد وأسوأ العواقب في قوالب محسنة مزينة، وشواهد ذلك تظهر للإنسان في نفسه وفي الحوادث حيثما عثر عليها وقد قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا

أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 27].
وتأكيد الخبر بحرف التأكسد لقصد تحقيقه لأنهم بفعلتهم عن عداوة الشيطان محال من ينكر أن الشيطان عدو.
وتقديم {لَكُمْ} على متعلقة للاهتمام بهذا المتعلق فرع عنه أن أمروا باتخاذه عدوا لأنهم إذا علموا أنه عدو لهم حق عليهم اتخاذه عدوا وإلا لكانوا في حماقة. وفيه تنبيه على وجوب عداوتهم الدعاة في الضلالة المستمدين من الشيطان.
والكلام على لفظ عدو تقدم عند قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ} في سورة النساء [92].
واللام في {لَكُمْ} لام الاختصاص وهي التي تتضمنها الإضافة فلما قدم ما حقه أن يكون مضافا إليه صرح باللام ليحصل معنى الإضافة.
وإنما أمر الله باتخاذ العدو عدوا ولم يندب إلى العفو عنه والإغضاء عن عداوته كما أم في قوله: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40] ونحو ذلك مما تكرر في القرآن وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن ما ندب إليه من العفو إنما هو فيما بين المسلمين بعضهم مع بعض رجاء صلاح حال العدو لأن عداوة المسلم عارضة لأغراض يمكن زوالها ولها حدود لا يخشى معها المضار الفادحة كما قال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34] ولذلك لم يأمر الله تعالى بمثل ذلك مع أعداء الدين فقال: {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1] الآية، بل لم يأمر الله تعالى بالعفو عن المحاربين من أهل الملة لأن مناواتهم غير عارضة بل هي لغرض ابتزاز الأموال ونحو ذلك فقال: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34] فعداوة الشيطان لما كانت جبلية لا يرجى زوالها مع من يعفو عنه لم يأمر الله إلا باتخاذه عدوا لأن إذا لم يتخذ عدوا لم يراقب المسلم مكائده ومخادعته. ومن لوازم اتخاذه عدوا العمل بخلاف ما يدعوا إليه لتجنب مكائده ولمته بالعمل الصالح.
فالإيقاع بالناس في الضر لا يسلم من أولياؤه ولا أعداؤه ولكن أولياءه يضمر لهم العداوة ويأنس بهم لأنه يقضي بهم وطره وأما أعداؤه فهو مع عداوته لهم يشمئز وينفر ويغتاظ من مقاومتهم وساوسه إلى أن يبلغ حد الفرار من عظماء الأمة فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: "إيه يا بن الخطاب ما رآك الشيطان سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك" . وورد في

في "الصحيح" "إذا أقيمت الصلاة أدبر الشيطان" الحديث. وورد "أنه مارِيءَ الشيطان أخسأ وأحقر منه في يوم عرفة لما يرى من الرحمة".
وأعقب الأمر باتخاذ الشيطان عدوا بتحذير من قبول دعوته وحث على وجوب اليقظة لتغريره وتجنب توليه بأنه يسعى في ضر أوليائه وحزبه فيدعوهم إلى ما يوقفهم في السعير. وهذا يؤكد الأمر باتخاذه عدوا لأن أشد الناس تضررا به هم حزبه وأولياؤه.
وجملة: {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} تعليل لجملة {فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} . وجيء بها في صيغة حصر لانحصار دعوته في الغاية المذكورة عقبها بلام العلة كيلا يتوهم أن دعوته تخلو من تلك الغاية ولو في وقت ما. وبهذا العموم الذي يقتضيه الحصر صارت الجملة أيضا في معنى التذييل لما قبله كله.
ومقتضى وقوع فعل {يَدْعُو} في حيز القصر أن مفعوله وهو قوله: {حِزْبَهُ} هو المقصود من القصر، أي أنه يدعو حزبه ولا يدعو غير حزبه، والشيطان يدعو الناس كلهم سواء في ذلك حزبه ومن لم يكن إلى دعوته إلا أن أثر دعوته لا يظهر إلا في الذين يركنون له فيصيرون حزبه قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42]. وحكى الله عن الشيطان بقوله: {لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر: 39، 40] فتعين أن في الكلام إيجاز حذف.والتقدير: إنما يدعوا حزبه دعوة بالغة مقصده. والقرينة هي ما تقدم من التحذير ولو كان لا يدعو إلا حزبه لما كان لتحذير غيرهم فائدة.
واللام في قوله: {لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} يجوز أن يكون لام العلة فإن الشيطان قد يكون ساعيا لغاية إيقاع الآدمين في العذاب نكاية بهم، وهي علة للدعوة فخفية في خاطره الشيطاني وإن كان لا يجهر بها لأن إخفائها من جملة كيده وتزيينه، ويجوز أن تكون اللام لام العاقبة والصيرورة مثل {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 8] قال ابن عطية: لأنه لم يدعهم إلى السعير إنما اتفق أن صار أمرهم من دعائه إلى ذلك.
و {السَّعِيرِ} : النار الشديدة، وغلب في لسان الشرع على جهنم.
[7] {الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [7]}.

استئناف ابتدائي يفيد مفاد الفذلكة والاستنتاج مما تقدم. وهذا الاستئناف يومي إلى أن الذين كفروا هم حزب الشيطان لأن لما ذكر أن حزبه من أصحاب السعير وحكم هنا بأن الذين كفروا لهم عذاب شديد علم أن الذين كفروا من أصحاب السعير إذ هو العذاب الشديد فعلم أنهم حزب الشيطان بطريقة قياس مطوي،فالذين كفروا هم حزب الشيطان لعكوفهم على متابعته وإن لم يعلنوا ذلك لاقتناعه منهم بملازمة ما يمليه عليهم.
وأما المؤمنون العصاة فليسوا من حزبه لأنهم يعلمون كيده ولكنهم يتبعون بعض وسوسته بدافع الشهوات وهم مع ذلك يلعنونه ويتبرأون منه. وقد قال النبيء صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع "إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه ولكنه قد رضي منكم بما دون ذلك مما تحقرون من أعمالكم".
وذكر {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} تتميم بأن الذين لم يكونوا من حزبه قد فازوا بالخيرات.
وقد أشارت الآية إلى طرفين في الضلال والاهتداء وطويت ما بين ذينك من المراتب ليعلم أن ما بين ذلك ينالهم نصيبهم من أشبه أحوالهم بأحوال أحد الفريقين على عادة القرآن في وضع المسلم بين الخوف والرجاء. والأمل والرهبة.
[8] {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [8]}.
لما جرى تحذير الناس من غرور الشيطان وإيقاظهم إلى عداوته للنوع الإنساني، وتقسيم الناس إلى فريقين: فريق انطلت عليه مكائد الشيطان واغتروا بغروره ولم يناصبوه العداء، وفريق أخذوا حذرهم منه واحترسوا من كيده وتجنبوا السير في مسالكه، ثم تقسيمهم إلى كافر معذب ومؤمن صالح منعم عليه، أعقب ذلك بالإيماء إلى استحقاق حزب الشيطان عذاب السعير، وبتسلية النبيء صلى الله عليه وسلم على من لم يخلصوا من حبائل الشيطان من أمة دعته بأسلوب الملاطفة في التسلية ففرع على جميع ما تقدم قوله: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} إلى قوله: {بِمَا يَصْنَعُونَ} فابتداؤه بفاء التفريع ربط له بما تقدم ليعود الذهن إلى ما حكي من أحوالهم، فالتفريع على قوله: {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6]، ثم بإبراز الكلام المفرع في صورة الاستفهام الإنكاري، واجتلاب الموصل الذي تومئ صلته إلى علة الخبر المقصود، فأشير إلى أن وقوعه في

هذه الحالة ناشئ من تزين الشيطان له سوء عمله، فلمزين للأعمال السيئة هو الشيطان قال تعالى: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} [النمل: 24] فرأوا أعمالهم السيئة حسنة فعكفوا عليها ولم يقبلوا فيه نصيحة ناصح، ولا رسالة مرسل.
و {مَنْ} موصولة صادقة على جمع من الناس كما دل عليه قوله في آخر الكلام {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} بل ودل عليه تفريع هذا على قوله: {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6] و {مَنْ} في موضع رفع الابتداء والخبر عنه محذوف إيجازا لدلالة ما قبله عليه وهو قوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} عقب قوله: {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} . فتقديره بالنسبة لما استحقه حزب الشيطان من العذاب: أفأنت تهدي من زين له عمله فرآه حينا فأن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء.
وتقديره بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم: لا يحزنك مصيره فأن الله مطلع عليه.
وفرع عليه {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} . وفرع على هذا قوله: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} إي فلا تفعل ذلك، أي لا ينبغي لك ذلك فأنهم أوقعوا أنفسهم في تلك الحالة بتزيين الشيطان لهم ورؤيتهم ذلك حسنا وهو من فعل أنفسهم فلماذا تتحسر عليهم.
وهذا الخبر مما دلت عليه المقابلة في قوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [فاطر: 7] فقد دل ذلك عل أن الكفر سوء وأن الإيمان حسن فيكون "من زين له سوء عمله" هو الكافر، ويكون ضده هو المؤمن،ونظير هذا التركيب قوله تعالى: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} في سورة الزمر [19]، وتقدم عند قوله تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} في سورة الرعد [33].
والتزيين: تحسين ما ليس بحسن بعضه أو كله. وقد صرح هنا بضده في قوله: {سُوءُ عَمَلِهِ} ، أي صورة لهم أعمالهم السيئة بصورة حسنة ليقدموا عليها بشره وتقدم في أوائل سورة النمل.
وجملة: {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} مفرعة، وهي تقرير للتسلية وتأييس من اهتداء من لم يخلق الله فيه أسباب الاهتداء إلى الحق من صحيح النظر

وإنصاف المجادلة.
وإسناد الإضلال والهداية إلى الله بواسطة أنه خالق أسباب الضلال والاهتداء، وذلك من تصرفه تعالى بالخلق وهو سر من الحكمة عظيم لا يدرك غوره وله أصول وضوابط سأبينها في "رسالة القضاء والقدر" إن شاء الله تعالى.
وجملة: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} مفرعة على المفرع على جملة: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} الخ فتؤول إلى التفريع على الجملتين فيؤول إلى أن يكون النظم هكذا: أفتتحسر من زين لهم سوء أعمالهم فرأوها حسنات واختاروا لأنفسهم طريق الضلال فأن الله أضلهم باختيارهم وهو قد تصرف بمشيئته فهو أضلهم وهدى غيرهم بمشيئته وأرادته التي شاء بها إيجاد الموجودات لا بأمره ورضاه الذي دعا به الناس إلى الرشاد، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات وإنما حسرتهم على أنفهم إذ رضوا لها باتباع الشيطان ونبذوا اتباع إرشاد الله كما دل عل ذلك قوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} تسجيلا عليهم أنهم ورطوا أنفسهم فيما أوقعوها فيه بصنعهم.
فالله أرشدهم بإرسال رسوله ليهديهم إلى ما يرضيه، والله أضلهم بتكوين نفوسهم نافرة عن الهدى تكوينا متسلسلا من كائنات جمة لا يحيط بها إلا علمه وكلها من مظاهر حكمته ولو شاء لجعل سلاسل الكائنات على غير هذا النظام فلهدى الناس جميعا، وكلهم ميسر بتيسيره إلى ما يعلم منهم فعدل عن النظم المألوف إلى هذا النظم العجيب. وصيغ بالاستفهام الإنكاري والنهي التثبيتي، ونظير هذه الآية في هذا الأسلوب قوله تعالى: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} في سورة الزمر [10]، فإن أصل نظمها: أفمن حق عليه كلمة العذاب أنت تنقذه من النار، أفأنت تنقذ الذين في النار. إلا أن هذه الآية زادت بالاعتراض وكان المفرع الأخير فيها نهيا والأخرى عريت عن الاعتراض وكان المفرع الأخير فيها استفهاما إنكارياW.
والنهي موجه إلى نفس الرسول صلى الله عليه وسلم أن تذهب حسرات على الضالين ولم يوجه إليه بأن يقال: فلا تذهب عليهم حسرات، الرسول صلى الله عليه وسلم ونفسه متحدان فتوجيه الني إلى نفسه دون أن يقال فلا تذهب عليهم حسرات للإشارة إلى أن الذهاب مستعار إلى التلف والانعدام كما يقال:طارت نفسها شعاعا،ومثله في كلامهم كثير كقول الأعرابي من شعراء الحماسة:
أقول للنفس تأساء وتعزية ... إحدى يدي أصابتني ولم ترد

لتحصل فائدة توزيع النهي والخطاب على شيئين في ظاهر الأمر فهو تكرير الخطاب والنهي لكليهما. وهي طريقة التجريد المعدود في المحسنات، وفائدة التكرير الموجب تقرير الجملة في النفس. وقد تقدم قريب من هذا عند قوله تعالى: {وَمَا يُخَادِعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} في سورة البقرة [9].
والحسرة تقدمت في قوله تعالى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ} من سورة مريم [39].
وانتصب: {حَسَرَاتٍ} على المفعول لأجله، أي لا تتلف نفسك لأجل الحسرة عليهم، وهو كقوله: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3]، وقوله: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ} [يوسف: 84] أي من حزن نفسه لا من حزن العينين.
وجمعت الحسرات مع أن اسم الجنس صالح للدلالة على تكرر الأفراد قصدا للتنبيه على إرادة أفراد كثيرة من جنس الحسرة لأن تلف النفس يكون عند تعاقب الحسرات الواحدة تلوى الأخرى لدوام المتحسر منه فكل تحسر يترك حزازة وكمدا في النفس حتى يبلغ إلى الحد الذي لا تطيقه النفس فينفطر له القلب فإنه قد علم في الطب أن الموت من شدة الألم كالضرب المبرح وقطع الأعضاء سببه اختلال حكة القلب من توارم الآلام عليه.
وقرأ الجمهور: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ} بفتح الفوقية والهاء ورفع: {نَفْسُكَ} على أنه نهي لنفسه وهو كناية ظاهرة عن نهيه. وقرأه أبو جعفر بضم الفوقية وكسر الهاء ونصب: {نَفْسَكَ} على أنه نهي الرسول أن يذهب نفسه.
وقد اشتملت هذه الآية على فاآت أربع كلها للسببية والتفريع وهي التي بلغ بها نظم الآية إلى هذا الإيجاز البالغ حد الإعجاز وفي اجتماعها محسن جمع النظائر.
وجملة: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} تصلح لإفادة التصبر والتحلم، أي أن الله عليم بصنعهم في المخالفة عن أمره فكما أنه لحلمه في المخالفة عن أمره فكما أنه لحلمه لم يعجل بمؤاخذتهم فكن أنت مؤتسيا بالله ومتخلقا بما تستطيعه من صفاته وفي ضمن هذا كناية عن عدم إفلاتهم من العذاب على سوء عملهم، وليس في هذه الجملة معنى التعليل لجملة: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} لآن كمد نفس الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن لأجل تأخير عقابهم ولكن لأجل عدم اهتدائهم.

وتأكيد الخبر بـ {إِنَّ} إما تمثيل لحال الرسول صلى الله عليه وسلم بحال من أغفله التحسر عليهم عن التأمل في إمهال الله إياهم فأكد له الخبر بـ {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} ، وإما لجعل التأكيد لمجرد الاهتمام بالخبر لتكون {إِنَّ} مغنية غناء فاء التفريغ فتتمخض الجملة لتقرير التسلية والتعريض بالجزاء عن ذلك.
وعبر بـ {يَصْنَعُونَ} دون: يعلمون، للإشارة إلى أنهم يدبرون مكائد للنبي صلى الله عليه وسلم وللمسلمين فيكون هذا الكلام إيذانا بوجود باعث آخر على النزع عن الحسرة عليهم. وعن ابن عباس: أن المراد به أبو جهل وحزبه.
[9] {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ [9]}.
لما قدم في أول السورة الاستدلال بأن الله فطر السماوات والأرض وما في السماوات من أهلها وذلك أعظم دليل على تفرجه بالإلهية ثني هنا بالاستدلال بتصريف الأحوال بين السماء والأرض وذلك بإرسال الرياح وتكوين السحاب وإنزال المطر، فهذا عطف على قوله: {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [فاطر: 1].
وإظهار اسم الجلالة في مقام إضمار دون أن يقول وهو الذي أرسل الرياح فيعود الضمير إلى اسم الله من قوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}.
واختير من دلائل الوحدانية دلالة تجمع أسباب المطر ليفضي من ذلك إلى تنظير إحياء الأموات بعد أحوال الفناء بآثار ذلك الصنع العجيب وأن الذي خلق وسائل إحياء الأرض قادر على خلق وسائل لإحياء الذين ضمنتهم الأرض على سبيل الإدماج.
وإذ قد كان القصد من الاستدلال هو وقوع الإحياء وتقرر وقوعه جيء بفعل المضي في قوله: {أَرْسَلَ} . وأما تغييره إلى المضارع في قوله: {فَتُثِيرُ سَحَاباً} فلحكاية الحال العجيبة التي تقع فيها إثارة الرياح السحاب وهي طريقة للبلغاء في الفعل الذي في خصوصيته بحال تستغرب وتهم السامع. وهو نظير قول تأبط شراً:
بأني قد لقيت الغول تهوى ... بسهب كالصحيفة صحصحان
فأضربها بلا دهش فخرت ... صريعا لليدين وللجران
فابتدأ بـ"لقيت" للإفادة وقوع ذلك ثم ثني بـ"أضربها" لاستحضار تلك الصورة

العجيبة من إقدامه وثباته حتى كأنهم يبصرونه في تلك الحالة. ولم يؤت بفعل الإرسال في هذه الآية بصيغة المضارع بخلاف قوله في سورة الروم [48] {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ} الآية لأن القصد هنا استدلال بما هو واقع إظهارا لإمكان نظيره وأما آية سورة الروم فالمقصود منها الاستدلال على تجديد صنع الله ونعمه.
والقول في الرياح والسحاب تقدم غير مرة أولها في سورة البقرة.
وفي قوله: {فَسُقْنَاهُ} بعد قوله: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ} التفات من الغيبة إلى التكلم.
وقوله: {كَذَلِكَ النُّشُورُ} سبيله سبيل قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [فاطر: 5] الآيات من إثبات البعث مع تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به عنه، إلا أن ما قبله كان مأخوذا من فحوى الدلالة لما ظهرت في برهان صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وبارقة الإمكان ما يسوق أذهانهم إلى استقامة التصديق بوقوع البعث.
والإشارة في قوله: {كَذَلِكَ النُّشُورُ} إلى المذكور من قوله: {فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ} . والأظهر أن تكون الإشارة إلى مجموع الحالة المصورة أي مثل ذلك الصنع المحكم المتقن نصنع صنعا يكون به النشور بأن يهيئ الله حوادث سماوية أو أرضية أو مجموعة منها حتى إذا استقامت آثارها وتهيأت أجسام لقبول أرواحها أمر الله بالنفخة الأولى والثانية فإذا الأجساد قائمة ماثلة أمر الله بنفخ الأرواح بالأجنة عند استكمال تهيئتها لقبول الأرواح.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم تقريب ذلك بمثل هذا مما رواه أحمد وابن أبي شيبه وقريب منه في "صحيح مسلم" عن عروة بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم: "قيل لرسول الله: كيف يحيي الله الموتى وما آية ذلك في خلقه? فقال: هل مررت في واد أهلك ممحلا ثم مررت به يهتز خضرا? قيل نعم: فكذلك يحي الله الموتى وتلك آيته في خلقه". وفي بعض الروايات عن ابن رزين العقيلي أن السائل أبو رزين.
وقرأ الجمهور: {الرِّيَاحَ} بصيغة الجمع. وقرأ حمزة والكسائي {الرِّيحَ} بالإفراد، والمعروف بلام الجنس يستوي فيه المفرد والجمع.

[10] {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ [10]}.
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً}.
مضى ذكر غرورين إجمالا في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [فاطر: 5] {وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر: 5] فأخذ في تفصيل الغرور الثاني من قوله تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ} [فاطر: 6] وما استتبعه من التنبيه على أحجار كيده وانبعاث سموم مكره والحذر من مصارع متابعته وإبداء الفرق بين الواقعين في حبائله والمعافين من أدوائه، بدارا بتفصيل الأهم والأصل، وأبقى تفصيل الغرور الأول إلى هنا.
وإذ قد كان أعظم غرور المشركين في شركهم ناشئا عن قبول تعاليم كبرائهم وسادتهم وكان أعظم دواعي القادة إلى تضليل دهمائهم وصنائعهم، هو ما يجدونه من العزة والافتنان بحب الرئاسة فالقادة يجلبون العزة لأنفسهم والأتباع يعتزون بقوة قادتهم، لا جرم كانت إرادة العزة ملاك تكاتف المشركين بعضهم مع بعض، وتألبهم على مناوأة الإسلام، فوجه الخطاب إليهم لكشف اغترارهم بطلبهم العزة في الدنيا، فكل مستمسك بحبل الشرك معرض عن التأمل في دعوة الإسلام، لا يمسكه بذلك إلا لإرادة العزة،فلذلك نادى عليهم القرآن بأن من كان ذلك صارفه عن الدين الحق فليعلم بأن العزة الحق في اتباع الإسلام وأن ما هم فيه من العزة كالعدم.
و {مَنْ} شرطيه، وجعل جوابها {فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً} ، وليس ثبوت العزة لله بمرتب في الوجود على حصول هذا الشرط فتعين أن ما بعد فاء الجزاء هو علة الجواب أقيمت مقامه واستغني بها عن ذكره إيجازا، وليصل من استخراجه من مطاوي الكلام تقرره في ذهن السامع،والتقدير: من كان يريد العذاب فليستجب إلى دعوة الإسلام ففيها العزة لأن العزة كلها لله تعالى، فأما العزة التي يتشبثون بها فهي كخيط العنكبوت لأنها واهية بالية. وهذا أسلوب متبع في المقام الذي يراد فيه تنبيه المخاطب على خطأ في زعمه كما في قول الربيع بن زياد العبسي في مقتل مالك بن زهير العبسي:
من كان مسرورا بمقتل مالك ... فليأت نسوتنا بوجه نهار
يجد النساء حواسرا يندبنه ... بالليل قبل تبلج الإسفار
أراد أن مَن سَرّه مقتل مالك فلا يتمتع بسروره ولا يحسب أنه نال مبتغاه لأنه إن أتى

ساحة نسوتنا انقلب سروره غما وحزنا إذ يجد دلائل أخذ الثأر من قاتله بادية له، لأن العادة أن القتيل لا يندبه النساء إلا إذا أخذ ثأره. هذا ما فسره المرزوقي وهو الذي تلقيته عن شيخنا الوزير وفي البيتين تفسير آخر.
وقد يكون بالعكس وهو تثبيت المخاطب على علمه كقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} [العنكبوت: 5].
وقريب من هذا الاستعمال ما يقصد به إظهار الفرق بين من اتصف بمضمون الشرط ومن اتصف بمضمون الجزاء كقول النابغة:
فمن يكن قد قضى من خلة وطرا ... فإنني منك ما قضيت أوطاري
وقول ضابي بن الحارث:
ومن يك أمسى بالمدينة رحله ... فإني وقيار بها لغريب
وقول الكلابي:
فمن يكلم يعرض فإني وناقتي ... بحجر إلى أهل الحمى غرضان
فتقديم المجرور يفيد قصرا وهو قصر ادعائي، لعدم الاعتداد بما للمشركين من عزة ضئيلة، أي فالعزة لله لا لهم.
ومنه ما يكون فيه ترتيب الجواب على الشرط في الوقوع، وهو الأصل كقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ} [الإسراء: 18] الآية، وقوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} [هود: 15].
و {جَمِيعاً} أفادت الإحاطة فكانت بمنزلة التأكيد للقصر الادعائي فحصلت ثلاثة مؤكدات، فالقصر بمنزلة تأكيدين1 و {جَمِيعاً} بمنزلة تأكيد. وهذا قريب من قوله: {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} [النساء: 139] فإن فيه تأكيدين: تأكيدا بـ"إِنَّ" وتأكيدا بـ {جَمِيعاً} لأن تلك الآية نزلت في وقت قوة الإسلام فلم يحتج فيها إلى تقوية التأكيد. وتقدم الكلام على {جَمِيعاً} عند قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً} في سورة سبأ [40].
ـــــــ
1 لقول السكاكي: ليس الحصر والتخصيص إلا تأكيداً على تأكيد.

وانتصب {جَمِيعاً} على الحال من {الْعِزَّةُ} وكأنه فعيل بمعنى مفعول، أي العزة كلها لله لا يشذ شيء منها فيثبت لغيره، لأن العزة المتعارفة بين الناس كالعدم إذ لا يخلو صاحبها من احتياج ووهن والعزة الحق لله.
وتعريف {الْعِزَّةُ} تعريف الجنس. والعزة: الشرف والحصانة من أن ينال سوء. فالمعنى: من كان يريد العزة فانصرف عن دعوة الله إبقاء على ما يخاله لنفسه من عزة فهو مخطئ إذ لا عزة له فهو كمن أراق ماء للمع سراب. والعزة الحق لله الذي دعاهم على لسان رسوله. وعزة المولى ينال حزبه وأولياءه حظ منها فلو اتبعوا أمر الله فالتحقوا بحزبه صارت لهم عزة الله وهي العزة الدائمة،فإن عزة المشركين يعقبها ذل الانهزام والقتل والأسر في الدنيا وذل الخزي والعذاب في الآخرة، وعزة المؤمنين في تزايد الدنيا ولها درجات كمال في الآخرة.
{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}.
كما أتبع تفصيل غرور الشيطان بعواقبه في الآخرة بقوله: {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6] الآية، وبذكر مقابل عواقبه من حال المؤمنين، كذلك أتبع تفصيل غرور الأنفس أهلها بعواقبه وبذكر مقابله أيضا ليلتقي مال الغرورين ومقابلهما في ملتقى واحد،ولكن قدم في الأول عاقبة أهل الغرور بالشيطان ثم ذكرت عاقبة أضدادهم، وعكس في ما هنا لجريان ذكر عزة الله فقدم ما هو المناسب لآثار عزة الله في حزبه وجنده.
وجملة: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} مستأنفة استئنافا ابتدائيا بمناسبة تفصيل الغرور الذي يوقع فيه.
والمقصود أن أعمال المؤمنين هي التي تنفع ليعلم الناس أن أعمال المشركين سعي باطل. والقربات كلها ترجع إلى أقوال وأعمال، فالأقوال ما كان ثناء على الله تعالى واستغفار ودعاء، ودعاء الناس إلى الأعمال الصالحة. وتقدم ذكرها عند قوله تعالى: {وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} في سورة الأحزاب [70].والأعمال فيها قربات كثيرة. وكان المشركون يتقربون إلى أصنامهم بالثناء والتمجيد كما قال أبو سفيان يوم أحد: اعل هبل، وكانوا يتحنثون بأعمال من طواف وحج وإغاثة ملهوف وكان ذلك كله مشوبا بالإشراك لأنهم ينوون بها التقرب إلى الآلهة فلذلك نصبوا أصناما في الكعبة وجعلوا هبل وهو كبيرهم على سطح الكعبة، وجعلوا إسافا ونائلة فوق الصفا والمروة، لتكون مناسكهم لله

مخلوطة بعبادة الآلهة تحقيقا لمعنى الإشراك في جميع أعمالهم.
فلما قدم المجرور من قوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} أفيد أن كل ما يقدم من الكلم الطيب إلى غير الله لا طائل تحته.
وأما قوله: {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} ، فـ {الْعَمَلُ} مقابل {الْكَلِمُ} ، أي الأفعال التي ليست من الكلام، وضمير الرفع عائد إلى معاد الضمير المجرور في قوله {إِلَيْهِ} وهو اسم الجلالة من قوله: {فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً} . والضمير المنصوب من {يَرْفَعُهُ} عائد إلى {الْعَمَلُ الصَّالِحُ} أي الله يرفع العمل الصالح.
والصعود: الإذهاب في مكان عال. والرفع: نقل الشيء من مكان إلى مكان أعلى منه،فالصعود مستعار للبلوغ إلى عظيم القدر وهو كناية عن القبول لديه.
والرفع: حقيقته نقل الجسم من مقره إلى أعلى منه وهو هنا كناية للقبول عند عظيم، لأن العظيم تتخيله التصورات رفيع المكان. فيكون كل من "يصعد" و"يرفع" تبعتين قرينتي مكنية بأن شبه جانب القبول عند الله تعالى بمكان مرتفع لا يصله إلا ما يصعد إليه.
فقوله: {الْعَمَلُ} مبتدأ وخبره {يَرْفَعُهُ} ، وفي بناء المسند الفعلي على المسند إليه ما يفيد تخصيص المسند إليه بالمسند، فإذا انضم إليه سياق جملته عقب سياق جملة القصر المشعر بسريان حكم القصر إليه بالقرينة لاتحاد المقام إذ لا يتوهم أن يقصر صعود الكلم الطيب على الجانب الإلهي ثم يجعل لغيره شركة معه في رفع العمل الصالح، تعين معنى التخصيص، فصار المعنى: الله الذي يقبل من المؤمنين أقوالهم وأعمالهم الصالحة.
وإنما جيء في جانب العمل الصالح بالإخبار عنه بجملة {يَرْفَعُهُ} ولم يعطف على {الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} في حكم الصعود إلى الله مع تساوي الخبرين لفائدتين:
أولاهما: الإيماء إلى أن نوع العمل الصالح أهم من نوع الكلم الطيب على الجملة لأن معظم العمل الصالح أوسع نفعا من معظم الكلم الطيب عدا كلمة الشهادتين وما ورد تفضيله من الأقوال في السنة مثل دعاء يوم عرفة فلذلك أسند إلى الله رفعه بنفسه كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من تصدق بصدقة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا طيبا تلقاها الرحمن بيمينه، وكلتا يديه يمين، فيربيها له كما يربي أحدكم فلوه حتى تصير مثل الجبل".
وثانيهما: أن الكلم الطيب يتكيف في الهواء فإسناد الصعود إليه مناسب لماهيته، وأما العمل الصالح فهو كيفيات عارضة لذوات فاعلة ومفعولة فلا يناسبه إسناد الصعود إليه

وإنما يحسن أن يجعل متعلقا لرفع يقع عليه ويسخره إلى الارتفاع.
{وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} .
هذا فريق من الذين يريدون العزة من المشركين وهم الذين ذكرهم الله تعالى في قوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} [الأنفال: 30] الآية قاله أبو العالية فعطفهم على {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ} تخصيص لهم بالذكر لما اختصوا به من تدبير المكر. وهو من عطف الخاص على العام للاهتمام بذكره.
والمكر: تدبير إلحاق الضر بالغير في خفية لئلا يأخذ حذره، وفعله قاصر. وهو يتعلق بالمضرور بواسطة الباء التي للملابسة، يقال: مكر بفلان. ويتعلق بوسيلة المكر بباء السببية يقال: مكر بفلان بقتله، فانتصاب {السَّيِّئَاتِ} هنا على أنه وصف لمصدر المكر نائبا مناب المفعول المطلق المبين لنوع الفعل فكأنه قيل: والذين يمكرون المكر السيئ. وكان حق وصف المصدر أن يكون مفردا كقوله تعالى: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِه} [فاطر: 43] فلما أريد هنا التنبيه على أن أولياء الشيطان لهم أنواع من المكر عدل عن الإفراد إلى الجمع وأوتي به جمع مؤنث للدلالة على معنى الفعلات من المكر، فكل واحدة من مكرهم هي سيئة، كما جاء ذلك في لفظ "صالحة" كقول جرير:
كيف الهجاء وما تنفك صالحة ... من آل لأم بظهر الغيب تأتيني
أي صالحات كثيرة، وأنواع مكراتهم هي ما جاء في قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} [الأنفال: 30].
والتعريف في {السَّيِّئَاتِ} تعريف الجنس. وجيء باسم الموصول للإيماء إلى أن مضمون الصلة علة فيما يرد بعدها من الحكم، أي لهم عذاب شديد جزاء مكرهم. وعبر بالمضارع في الصلة للدلالة على تجدد مكرهم واستمراره وأنه دأبهم وهجراهم.
ولما توعدهم الله بالعذاب الشديد على مكرهم أنبأهم أن مكرهم لا يروج ولا ينفق وأن الله سيبطله فلا ينتفعون منه في الدنيا، ويضون بسببه في الآخرة فقال {وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} .
وعبر عنهم باسم الإشارة دون الضمير الذي هو مقتضى الظاهر لتمييزهم أكمل تمييز، فيكنى بذلك عن تمييز المكر المضاف إليهم ووضوحه في علم الله وعلم رسوله صلى الله عليه وسلم بما أعلمه الله به منه، فكأنما أشير إليهم وإلى مكرهم باسم إشارة واحد على سبيل الإيجاز.

والضمير التوسط بين {وَمَكْرُ أُولَئِكَ} وبين {يَبُورُ} ضمير فصل إذ لا يحتمل غيره. ومثله قوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} [التوبة: 104].
والراجح من أقوال النحاة قول المازني: إن ضمير الفصل يليه الفعل المضارع،وحجته قوله: {وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} دون غير المضارع، ووافقه عبد القاهر الجرجاني في "شرح الإيضاح" لأبي علي الفارسي، وخالفهما أبو حيان وقال: لم يذهب أحد إلى ذلك فيما علمنا. وأقول: إن وجه وقوع الفعل المضارع بعد ضمير الفصل أن المضارع يدل على التجدد فإذا اقتضى المقام إرادة إفادة التجدد في حصول الفعل من إرادة الثبات والدوام في حصول النسبة الحكمية لم يكن إلى البليغ سبيل للجمع بين القصدين إلا أن يأتي بضمير الفصل ليفيد الثبات والتقوية لتعذر إفادة ذلك بالجملة الإسلامية. وقد تقدم القول في ذلك عند قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 5]، فالفصل هنا يفيد القصر، أي مكرهم يبور دون غيره، ومعلوم أن غيره هنا تعريض بأن الله يمكر بهم مكرا يصيب المحز منهم على حد قوله تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران: 54].
والبوار حقيقته: كساد التجارة وعدم نفاق السلعة، واستعير هنا لخيبة العمل بوجه الشبه بين ما دبروه من المكر مع حرصهم على إصابة النبيء صلى الله عليه وسلم بضر وبين ما ينمقه التاجر وما يخرجه من عيابه ويرصفه على مبناته وسط اللطيمة مع السلع لاجتلاب شره المشترين. ثم لا يقبل عليه أحد من أهل السوق فيرجع من لطيمته لطيم كف الخيبة، فارغ الكف والعيبة.
[11] {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [11]}.
{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً}.
هذا عود إلى سوق دلائل الوحدانية بدلالة عليها من أنفس الناس بعد أن قدم لهم ما هو من دلالة الآفاق بقوله: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ} [فاطر: 9]. فهذا كقوله: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53] وقوله: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذريات: 21] فابتدأهم في بتذكيرهم بأصل التكوين الأول من تراب وهو ما تقرر علمه لدى جميع البشر من أن أصلهم وهو البشر الأول، خلق من طين فصار ذلك حقيقة

مقررة في علم البشر وهي مما يعبر عنه في المنطق بـ"الأصول الموضوعة" القائمة مقام المحسوسات.
ثم استدرجهم إلى التموين الثاني بدلالة خلق النسل من نطفة وذلك علم مستقر في النفوس وذلك بمشاهدة الحاضر وقياس الغائب على المشاهد، فكما يجزم المرء بأن نسله خلق من نطفته يجزم بأنه خلق من نطفة أبوية، وهكذا يصعد إلى تخلق أبناء آدم وحواء.
والنطفة تقدمت عند قوله تعالى: {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} في سورة الكهف [37].
وقوله: {ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً} يشير إلى حالة في التكوين الثاني وهو شرطه من الازدواج. فـ {ثُمَّ} عاطفة الجملة فهي دالة على الترتيب الرتبي الذي هو أهم في الغرض أعني دلالة التكوين على بديع صنع الخالق سبحانه فذلك موزع على مضمون قوله: {ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} .
والمعنى: ثم من نطفة وقد جعلكم أزواجا لتركيب تلك النطفة، فالاستدلال بدقة صنع النوع الإنساني من أعظم الدلائل على وحدانية الصانع. وفيها غنية عن النظر في تأمل صنع بقية الحيوان.
والأزواج: جمع زوج وهو الذي يصير بانضمام الفرد إليه زوجا، أي شافعا، وقد شاع إطلاقه على صنف الذكور مع صنف الإناث لاحتياج الفرد الذكر من كل صنف إلى أنثاه من صنفه والعكس.
{وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ}
بعد الاستدلال بما في بدء التكوين الثاني من التلاقح بين النطفتين استدلال بما ينشأ عن ذلك من الأطوار العارضة للنطفة في الرحم وهو أطوار الحمل من أوله إلى الوضع.
وأدمج في ذلك دليل التنبيه على إحاطة فلم الله بالكائنات الخفية والظاهرة، ولكون العلم بالخفيات أعلى قدم ذكر الحمل على ذكر الوضع، والمقصود من عطف الوضع أن يدفع توهم وقوف العلم عند الخفيات التي هي من الغيب دون الظواهر بأن يستغل عنها بتدبير خفياتها كما هو شأن كبراء العلماء من الخلق، ولظهور استحالة توجه لإرادة الخلق نحو مجهول عند مريده.

والاستثناء مفرغ من عموم الأحوال. والباء للملابسة. والمجرور في موضع الحال.
{وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}.
لا جرم أن الحديث عن التكوين يستتبع ذكر الموت المكتوب على كل بشر فجاء بذكر علمه الآجال والأعمار للتنبيه على سعة العلم الإلهي.
والتعمير: جعل الإنسان عامر، أي باقيا في الحياة، فأن العمر هو مدة الحياة يقال: عمر فلان كفرح ونصر وضرب، إذا بقي زمانا، فمعنى عمره بالتضعيف: جعله باقيا مدة زائدة على المدة المتعارفة في أعمال الأجيال، ولذلك قوبل بالنقص من العمر، ولذلك لا يوصف بالتعمير صاحبه إلا بالمبني للمجهول فيقال: عمر فلان فهو معمر. وقد غلب في هذه الأجيال أن يكون الموت بين الستين والسبعين فما بينهما، فهو عمر متعارف، والمعمر الذي يزيد عمره على السبعين، والمنقوص عمره الذي يموت دون الستين ولذلك كان أرجح الأقوال في تعمير المفقود عند فقهاء المالكية هو الإبلاغ به سبعين سنة من تاريخ ولادته ووقع القضاء في تونس بأنه ما تجاوز ثمانين سنة غير قليل فلا ينبغي الحكم باعتبار المفقود ميتا إلا بعد ذلك لأنه يترتب عليه الميراث ولا ميراث بشك، ولأنه بعد الحكم باعتباره ميتا تزوج امرأته، وشرط صحة التزوج أن تكون المرأة خلية من عصمة، ولا يصح إعمال الشرط مع الشك فيه. وهو تخريج فيه نظر.
وضمير {مِنْ عُمُرِهِ} عائد إلى {مُعَمَّرٍ} على تأويل {مُعَمَّرٍ} بـ"أحد" كأنه قيل: وما يعمر من أحد ولا ينقص عمره، أي عمر أحد وآخر. وهذا كلام جار على التسامح في مثله في الاستعمال واعتماد على أن السامعين يفهمون المراد كقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] لظهور أنه لا ينقلب الميت وارثا لمن قد ورثه ولا وارث ميتا موروثا لوارثه.
والكتاب كناية عن علم الله تعالى الذي لا يغيب عنه معلوم كما أن الشي المكتوب لا يزاد فيه ولا ينقص، ويجوز أن يجعل الله موجودات هي كالكتب تسطر فيها الآجال مفصلة وذلك يسير في مخلوقات الله تعالى. ولذلك قال: {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} أي لا يلحقه من هذا الضبط عسر ولا كد.

وقد ورد هنا الإشكال العام الناشئ عن التعارض بين أدلة جريان كل شيء على ما هو سابق في علم الله في الأزل، وبين إضافة الأشياء إلى أسباب وطلب اكتساب المرغوب من تلك الأسباب واجتناب المكروه منها فكيف يثبن في هذه الآية للأعمار زيادة ونقص مع كونها في كتاب وعلم لا يقبل التغيير. وكيف يرغب بالصدقة مثلا أنها تزيد في العمر، أن صلة الرحم تطيل في العمر.
والمخلَص من هذا ونحوه هو القاعدة الأصلية الفارقة بين كون الشيء معلوم لله تعالى وبين كونه مرادا،فإن العلم يتعلق بالأشياء الموجودة والمعدومة، والإرادة تتعلق بإيجاد الأشياء على وفق العلم بأنها توجد، فالناس مخاطبون بالسعي لما تتعلق به الإرادة بالشيء علمنا أن الله علم وقوعه، وما تصرفات الناس ومساعيهم إلا أمارات على ما علمه الله لهم، فصدقة المتصدق أمارة على أن الله علم تعميره،والله تعالى يظهر معلوماته في مظاهر تكريم أو تحقير ليتم النظام الذي أسس الله عليه هذا العالم ويلتئم جميع ما أراده الله من هذا التكوين على وجوه لا يخل بعضها ببعض وكل ذلك الحكمة العالية. ولا مخلص من هذا الإشكال إلا هذا الجواب وجميع ما سواه وإن أقنع ابتدأ الإشكال.
[12] {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [12]}.
انتقال من الاستدلال بالأحوال في الأجواء بين السماء والأرض على تفرد الله تعالى بالإلهية إلى الاستدلال بما على الأرض من بحار وأنهار وما في صفاتها من دلالة زائدة على دلالة وجود أعيانها، على عظم مخلوقات الله تعالى، فصيغ هذا الاستدلال على أسلوب بديع إذ اقتصر فيه على التنبيه على الحكمة الربانية في المخلوقات وهي ناموس تمايزها بخصائص مختلفة واتحاد أنواعها في خصائص متماثلة استدلالا على دقيق صنع الله تعالى كقوله: {تُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} [الرعد: 4] ويتضمن ذلك الاستدلال بخلق البحرين أنفسها لأن ذكر اختلاف مذاقهما يستلزم تذكر تكوينهما.
فالتقدير: وخلق البحرين العذب والأجاج على صورة واحدة وخالف بين أعراضها، ففي الكلام إيجاز حذف، وإنما قدم من هذا الكلام تفاوت البحرين في المذاق واقتصر عليه

لأنه المقصود من الاستدلال بأفانين الدلائل على دقيق صنع الله تعالى.
وفي "الكشاف": ضرب البحرين العذب والمالح مثلا للمؤمن والكافر، ثم قال على سبيل الاستطراد في صفة البحرين وما علق بهما من نعمته وعطائه {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً} .
والبحر في كلام العرب: اسم للماء الكثير القار في سعة، فالفرات والدجلة بحران عذبان وبحر خليج العجم ملح. وتقدم ذكر البحرين عند قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} في سورة الفرقان [53] وقد اتحدا في إخراج الحيتان والحلية، أي اللؤلؤ والمرجان، وهما يوجد أجودهما في بحر العجم حيث مصب النهرين ولماء النهرين العذب واختلاطه بماء البحر المالح أثر في جودة اللؤلؤ كما بيناه فيما تقدم في سورة النحل، فقوله: {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً} كلية، وقوله: {وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً} كل لا كلية لأن من مجموعها تستخرجون حلية. وكلمة {كُلّ} صالحة للمعنيين، فعطف {وَتَسْتَخْرِجُونَ} من استعمال المشترك في معنييه.
فالاختلاف بين البحرين بالعذوبة والملوحة دليل على دقيق صنع الله. والتخالف في بعض مستخرجاتهما والتماثل في بعضها دليل أخر على دقيق الصنع وهذا من أفانين الاستدلال.
والعذب: الحول حلاوة مقبولة في الذوق.
والملح بكسر الميم: الشيء الموصوف بالملوحة بذاته لا بإلقاء ملح فيه، فأما الشيء الذي يلقى فيه الملح حتى يكتسب ملوحة فإنما يقال له: مالح، ولا يقال: ملح.
ومعنى {سَائِغٌ شَرَابُهُ} أن شربه لا يكلف النفس كراهة، وهو مشتق من الإساغة وهي استطاعة ابتلاع المشروب دون غصة ولا كره. قال عبد الله بن يعرب:
فساغ لي الشراب وكنت قبلا ... أكاد أغص بالماء الحميم
والأجاج: الشديد الملوحة، وتقدم ذكر البحر في قوله تعالى: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} في سورة الأنعام [59]، وبقية الآية تقدم نظيره في أول سورة النحل.
وتقديم الظرف في قوله: {فِيهِ مَوَاخِرَ} على عكس آية سورة النحل، لأن هذه الآية مسوقة مساق الاستدلال على دقيق صنع الله تعالى في المخلوقات وأدمج فيه الامتنان

بقوله: {تَأْكُلُونَ... وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً} وقوله: {لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} فكان المقصد الأول من سياقها الاستدلال على عظيم الصنع فهو الأهم هنا. ولما كان طفو الفلك على الماء حتى لا يغرق فيه أظهر في الاستدلال على عظيم الصنع من الذي ذكر من النعمة والامتنان قدم ما يدل عليه وهو الظرفية في البحر. والمخر في البحر آية صنع الله أيضا بخلق وسائل ذلك والإلهام له، إلا أن خطور السفر من ذلك الوصف أو ما يتبادر إلى الفهم فأخر هنا لأنه من مستتبعات الغرض لا من مقصده فهو يستتبع نعمة تيسير الأسفار لقطع المسافات التي لو قطعت بسير القوافل لطالب مدة الأسفار.
ومن هنا يلمع بارق الفرق بين هذه الآية وآية سورة النحل في كون فعل {لِتَبْتَغُوا} غير معطوف بالواو هنا ومعطوفا نظيره في آية النحل لأن الابتغاء علق هنا بـ {مَوَاخِرَ} إيقافا على الغرض من تقديم الظرف، وفي آية النحل ذكر المخر في عداد الامتنان لأن به تيسير الأسفار، ثم فصل بين {مَوَاخِرَ} وعلته بظرف {فِيهِ} ، فصارما يومئ إليه الظرف فصلا بغرض أدمج إدماجا وهو الاستدلال على عظيم الصنع بطفو الفلك على الماء، فلما أريد الانتقال منه إلى غرض أخر وهو العود إلى الامتنان بالمخر لنعمة التجارة في البحر عطف المغاير في الغرض.
[13، 14] {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ [13] إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [14]}.
{يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً}.
استدلال عليهم بما في مظاهر السماوات من الدلائل على بديع صنع الله في أعظم المخلوقات ليتذكروا بذلك أنه الإله الواحد.
وتقدم الكلام على نظير هذه الآية في سورة لقمان، سوى أن هذه الآية جاء فيها {كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ} فعدي فعل {يَجْرِي} باللام وجيء في آية سورة لقمان تعدية فعل {يَجْرِي} بحرف {إِلَى} ، فقيل اللام تكون بمعنى {إِلَى} في الدلالة على الانتهاء، فالمخالفة بين الآيتين تفنن في النظم. وهذا أباه الزمخشري في سورة لقمان وردة أغلظ رد فقال:

ليس ذلك من تعاقب الحرفين ولا يسلك هذه الطريقة إلا بليد الطبع ضيق العطن ولكن المعنيين أعنى الانتهاء والاختصاص كل واحد منهما ملائم لصحة الغرض لأن قولك:يجري إلى أجل مسمى معناه يبلغه، وقوله: {يَجْرِي لِأَجَلٍ} تريد لإدراك أجل. اهـ.
وجعل اللام للاختصاص أي ويجري لأجل أجل، أي لبلوغه واستيفائه، والانتهاء والاختصاص كل منهما ملائم للغرض، أي فمآل المعنيين واحد وإن كان طريقه مختلفا، يعني فلا يعد الانتهاء معنى للام كما فعل ابن مالك وابن هشام، وهو وإن كان يرمي إلى تحقيق الفرق بين معاني الحروف وهو ما نميل إليه إلا أننا لا نستطيع أن ننكر كثرة ورود اللام في مقام معنى الانتهاء كثرة جعلت استعارة حرف التخصيص لمعنى الانتهاء من الكثرة إلى مساويه للحقيقة، اللهم إلا أن يكون الزمخشري يريد أن الأجل هنا هو أجل كل إنسان، أي عمره وأن الأجل في سورة لقمان هو أجل بقاء هذا العالم.
وهو على الاعتبارين إدماج للتذكير في خلال الاستدلال ففي هذه الآية ذكرهم بأن لأعمارهم نهاية تذكيرا مرادا به الإنذار والوعيد على نحو قوله تعالى في سورة الأنعام [60] {ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمّىً} . واقتلاع الطغيان والكبرياء من نفوسهم.
ويريد ذلك أن معظم الخطاب في هذه الآية موجه إلى المشركين، ألا ترى إلى قوله بعدها {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} وفي سورة لقمان الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم أو عام لكل مخاطب من مؤمن وكافر فكان إدماج التذكير فيه بأن لهذا العالم انتهاء أنسب بالجميع ليستعد له الذين آمنوا وليرغم الذين كفروا على العلم بوجود البعث لأن نهاية هذا العالم ابتداء لعالم آخر.
[13- 14] {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ [13] إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [14]}.
استئناف موقعه موقع النتيجة من الأدلة بعد تفصيلها.
واسم الإشارة موجه إلى من جرت عليه الصفات والأخبار السابقة من قوله: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ} [فاطر: 9] الآيات فكان اسمه حريا بالإشارة إليه بعد إجراء تلك الصفات إذ بذكرها يتميز عند السامعين أكمل تمييز حتى كأنه مشاهد لأبصارهم مع ما في اسم الإشارة من البعد المستعمل كناية عن تعظيم المشار إليه، ومع ما يقتضيه إيراد اسم الإشارة عقب أوصاف كثيرة من التنبيه على أنه حقيق بما سيرد بعد الإشارة من أجل تلك

الصفات فأخبر عنه بأنه صاحب الاسم المختص به الذي لا يجهلونه، وأخبر عنه بأنه رب الخلائق بعد أن سجل عليهم ما لا قبل لهم بإنكاره من أنه الذي خلقهم خلقا من بعد خلق، وأن خلقهم من تراب، وقدر آجالهم وأوجد ما هو أعظم منهم من الأحوال السماوية والأرضية مما يدل على أنه لا يعجزه شيء فهو الرب دون غيره وهو الذي الملك والسلطان له لا لغيره أفاد ذلك كله قوله تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ} ، فانتهض الدليل.
وعطف عليه التصريح بأن أصنامهم لا يملكون من الملك شيئا ولو حقيرا وهو الممثل بالقطمير.
والقطمير: القشرة التي في شق النواة كالخيط الدقيق. فالمعنى: لا يملكون شيئا ولو حقيرا، فكونهم لا يملكون أعظم من القطمير معلوم بفحوى الخطاب، وذلك حاصل بالمشاهدة فإن أصنامهم حجارة جاثمة لا تملك شيئا بتكسب ولا تحوزه بهبهة، فإذا انتفى أنها تملك شيئا انتفى عنها وصف الإلهية بطريق الأولى، فنفى ما كانوا يزعمونه من أنها تشفع لهم.
وجملة: {إِنْ تَدْعُوهُمْ} خبر ثان عن {الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} [فاطر: 13]. والمقصد منها تنبيه المشركين إلى عجز أصنامهم بأنها لا تسمع، وليس ذلك استدلالا فإنهم كانوا يزعمون أن الأصنام تسمع منهم فلذلك كانوا يكلمونها ويوجهون إليها محامدهم ومدائحهم، ولكنه تمهيد للجملة المعطوفة على الخبر وهي جملة: {وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} فإنها معطوفة على جملة: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ} ، وليست الواو اعتراضية، أي ولو سمعوا على سبيل الفرض والتقدير ومجاراة مزاعمكم حين تدعونها فإنها لا تستجيب لدعوتكم، أي لا ترد عليكم بقبول، وهذا استدلال سنده المشاهدة، فطالما دعوا الأصنام فلم يسمعوا منها جوابا وطالما دعوها فلم يحصل ما دعوها لتحصيله مع أنها حاضرة بمرأى منهم غير محجوبة،فعدم إجابتها دليل على أنها لا تسمع، لأن شأن العظيم أن يستجيب لأوليائه الذين يسعون في مرضاته، فقد لزمهم إما عجزها وإما أنها لا تفقه إذ ليس في أوليائها مغمز بأنهم غير مرضين لهذا. وهذا من أبدع الاستدلال الموطأ بمقدمة متفق عليها.
وقوله: {مَا اسْتَجَابُوا} يجوز أن يكون بمعنى إجابة المنادي بكلمات الجواب. ويجوز أن يكون بمعنى إجابة السائل بتنويله ما سأله. وهذا من استعمال المشترك في

معنييه.
ولما كشف حال الأصنام في الدنيا بما فيه تأييس من انتفاعهم بها فيها كمل كشف أمرها في الآخرة بأن تلك الأصنام ينطقها الله فتتبرأ من شركهم، أي تتبرأ من أن تكون دعت له أو رضيت به.
والكفر: جحد في كراهة.
والشرك أضيف إلى فعله، أي بشرككم إياهم في الإلهية مع الله تعالى.
وأجرى على الأصنام موصول العاقل وضمائر العقلاء {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ} [فاطر: 13] إلى قوله: {يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} على تنزيل الأصنام منزلة العقلاء مجاراة للمردود عليم على طريقة التهكم.
وقوله: {وَلا وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ مِثْلُ خَبِيرٍ} تذييل لتحقيق هذه الأخبار بأن المخبر بها هو الخبير بها وبغيرها ولا يخبرك أحد مثل ما يخبرك هو.
وعبر بفعل الإنباء لأن النبأ هو الخبر عن حدث خطير مهم.
والخطاب في قوله: {يُنَبِّئُكَ} لكل من يصح منه سماع هذا الكلام لأن هذه الجملة أرسلت مرسل الأمثال فلا ينبغي تخصيص مضمونه بمخاطب معين.
و {خَبِيرٍ} : صفة مشبهة مشتقة من خبر،بضم الباء، فلان الأمر، إذا علمه علما لاشك فيه. والمراد بـ {خَبِيرٍ} جنس الخبير،فلما أرسل هذا القول مثلا وكان شأن الأمثال أن تكون موجزة صيغ على أسلوب الإيجاز فحذف منه متعلق فعل "ينبِّئ" ومتعلق وصف {خَبِيرٍ} ، ولم يذكر وجه المماثلة لعلمه من المقام. وجعل {خَبِيرٍ} نكرة مع أن المراد خبير معين وهو المتكلم فكان حقه التعريف، فعدل إلى تنكيره لقصد التعميم في سياق النفي لأن إضافة كلمة {مِثْلُ} إلى خبير لا تفيد تعريفا.وجعل نفي فعل الإنباء كناية عن نفي كناية عن نفي المنبئ. ولعل التركيب: ولا يوجد أحد ينبئك بهذا الخبر يماثل هذا الخبير الذي أنبأك به، فإذا أردف مخبر خبره بهذا المثل كان ذلك كناية عن كون المخبر بالخبر المخصوص يريد بـ {خَبِيرٍ} نفسه للتلازم بين معنى هذا المثل وبين تمثل المتكلم منه. فالمعنى: ولا ينبئك بهذا الخبر مثلي لأني خبرته، فهذا تأويل هذا التركيب.

والمِثل بكسر الميم وسكون المثلثية المساوي، إما في قدر فيكون بمعنى ضعف، وإما المساوي في صفة فيكون بمعنى شبيه وهو بوزن فعل بمعنى فاعل وهو قليل. ومنه قولهم: شبه، وند، وخدن.
[15] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [15]}.
لما أشبع أدلة، ومواعظ، وتذكيرات، مما فيه مقنع لمن نصب نفسه منصب الانتفاع والاقتناع، ولم يظهر مع ذلك كله من أحوال القوم ما يتوسم منه نزعهم عن ضلالهم وربما أحدث ذلك في نفوس أهل العزة منهم إعجابا بأنفسهم واغترارا بأنهم مرغوب في انضمامهم إلى جماعة المسلمين فيزيدهم ذلك الغرور قبولا لتسويل مكائد الشيطان لهم أن يعتصموا بشركهم، ناسب أن ينبئهم الله بأنه غني عنه وأن دينه لا يعتز بأمثالهم وأنه مصيرهم إلى الفناء وآت بناس يعتز بهم الإسلام.
فالمراد بـ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} هم المشركون كما هو غالب اصطلاح القرآن، وهم المخاطبون بقوله: آنفا {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ} [فاطر: 13] الآيات.
وقبل أن يوجه إليهم الإعلام بأن الله غني عنهم وجه إليهم لإعلام بأنهم الفقراء إلى الله لأن ذلك أدخل للذلة على عظمتهم من الشعور بأن الله غني عنهم فإنهم يوقنون بأنهم الفقراء إلى الله ولكنهم لا يوقنون بالمقصد الذي يقضي إليه علمهم بذلك، فأريد إبلاغ ذلك إليهم لا على وجه الاستدلال ولكن على وجه قرع أسماعهم بما لم تكن تقرع من قبل عسى أن يستفيقوا من غفلتهم ويتكعكعوا عن غرور أنفسهم، على انهم لا يخلو جمعهم من أصحاب عقول صالحة للوصول إلى حقائق الحق فأولئك إذا قرعت أسماعهم بما لم يكونوا يسمعونه من قبل ازدادوا يقينا بمشاهدة ما كان محجوبا عن بصائرهم بأستار الاشتغال بفتنة ضلالهم عسى أن يؤمن من هيأة الله بفطرته للإيمان، فمن بقي على كفره كان بقاؤه مشوبا بحيرة ومر طعم الحياة عنده، فأين ما كانت تتلقاه مسامعهم من قبل تمجيدهم وتمجيد آبائهم وتمجيد آلهتهم، ألا ترى أنهم لما عاتبوا النبي صلى الله عليه وسلم في بعض مراجعتهم عدوا عليه شتم آبائهم، فحصل بهذه الآية فائدتان.
وجملة {أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} تفيد القصر لتعريف جزأيها، أي قصر صفة الفقر على الناس المخاطبين قصرا إضافيا بالنسبة إلى الله، أي أنتم المفتقرون إليه وليس هو بمفتقر إليكم وهذا في معنى قوله تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ} [الزمر: 7] المشعر بأنهم

يحسبون أنهم يغيضون النبي صلى الله عليه وسلم بعدم قبول دعوته. فالوجه حمل القصر المستفاد من جملة {أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} إلى القصر الإضافي، وهو قصر قلب، وأما حمل القصر الحقيقي ثم تكلف أنه ادعائي فلا داعي إليه.
وإتباع صفة {الْغَنِيُّ} بـ {الْحَمِيدُ} تكميل، فهو احتراس لدفع توهمهم أنه لما كان غنيا عن استجابتهم وعبادتهم فهم معذورون في أن لا يعبدوه، فنبه على أنه موصوف بالحمد لمن عبده واستجاب لدعوته كما أتبع الآية الأخرى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ} [الزمر: 7] بقوله: {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7]. ومن المحسنات وقوع {الْحَمِيدُ} في مقابلة قوله: {إِلَى اللَّهِ} كما وقع { الْغَنِيُّ} في مقابلة قوله: {الفقراء} لأنه لما قيد فقرهم بالكون إلى الله قيد غنى الله تعالى بوصف {الْحَمِيدُ} لإفادة أن غناه تعالى مقترن بجوده فهو يحمد من يتوجه إليه.
[16، 17] {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ [16] وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [17]}.
واقع موقع البيان لما تضمنته جملة {هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15] من معنى قلة الاكتراث بإعراضهم عن الإسلام، ومن معنى رضاه على من يعبده فهو تعالى لغناه عنهم وغضبه عليهم لو شاء لأبادهم وأتى بخلق آخرين يعبدونه فخلص العالم من عصاه أمر الله وذلك في قدرته ولكنه أمهلهم إعمالا لصفة الحلم.
فالمشيئة هنا المشيئة الناشئة عن الاستحقاق، أي أنهم استحقوا أن يشاء الله إهلاكهم ولكنه أمهلهم، لا أصل المشيئة التي هي كونه مختارا في فعله لا مكره له لأنها لا يحتاج إلى الإعلام بها.
والإذهاب مستعمل في الإهلاك، أي الإعدام من هذا العالم، أي أن يشأ يسلط عليهم موتا يعمهم فكأنه أذهبهم من مكان إلى مكان لأن يأتي بهم إلى دار الآخرة.
والإتيان بخلق جديد مستعمل في إحداث ناس لم يمونوا موجودين ولا مترقبا وجودهم، أي يوجد خلقا من الناس يؤمنون بالله.
فالخلق هنا بمعنى المخلوق مثل قوله تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [لقمان: 11]. وهذا في معنى قوله: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا

يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38].
وليس المعنى: أنه إن يشأ يعجل بموتهم فيأتي جيل أبنائهم مؤمنين لأن قوله: {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} ينبو عنه.
وعطف عليه الإعلام بأن ذلك لو شاء لكان هينا عليه وما هو عليه بعزيز.
والعزيز: المتمنع الغالب، وهذا زيادة في الإرهاب والتهديد ليكونوا متوقعين حلول هذا بهم.
ومفعول فعل المشيئة محذوف استغناء بما دل عليه جواب الشرط وهو {يُذْهِبْكُمْ} إي أن يشأ إذهابكم، ومثل هذا الحذف لمفعول المشيئة كثير في الكلام.
والإشارة في قوله: {وَمَا ذَلِكَ} عائدة إلى الإذهاب المدلول عليه بـ {يُذْهِبْكُمْ} أو إلى ما تقدم بتأويل المذكور.
[18] {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ [18]}.
{وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى}.
لما ما قبل هذه الآية مسوقا في غرض التهديد وكان الخطاب للناس أريدت طمأنة المسلمين من عواقب التهديد، فعقب بأن من لم يأت وزرا لا يناله جزاء الوازر في الآخرة قال تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} [مريم: 72]. وقد يكون وعدا بالإنجاء من عذاب الدنيا إذ نزل بالمهددين الإذهاب والإهلاك مثلما اهلك فريق الكفار يوم بدر وأنجى فريق المؤمنين، فيكون هذا وعدا خاصا لا يعارضه قوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25] وما ورد في حديث أم سلمة قالت: "يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون? قال: نعم إذا كثر الخُبْث".
فموقع قوله: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} كموقع قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف: 110]. ولهذا فالظاهر أن هذا تأمين للمسلمين من الاستئصال كقوله

تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [لأنفال: 33] بقرينة قول عقبه {إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} وهو تأمين من تعميم العقاب في الآخرة بطريق الأولى ويجوز أن يكون المراد: ولا تزر وازرة وزر أخرى يوم القيامة، أي أن يشأ يذهبكم جميعا ولا يعذب المؤمنين في الآخرة، وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ثم يحشرون على نياتهم".
والوجه الأول أعم وأحسن. وأيًّا مَّا كان فأن قضية {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} كلية عامة فكيف وقد قال الله تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ} في سورة العنكبوت [13]، فالجمع بين الآيتين أن هذه الآية نفت أن يحمل أحد وزر آخر لا مشاركة له للحامل على اقتراف الوزر، وإما آية سورة العنكبوت فموردها في زعماء المشركين الذين موهوا الضلالة وثبتوا عليها، فإن أول تلك الآية {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} [العنكبوت: 12]، وكانوا يقولون ذلك لكل من يستروحون منه الإقبال على الإيمان بالأخرى.
وأصل الوزر بكسر الواو: هو الوقر بوزنه ومعناه. وهو الحمل بكسر الحاء، أي ما يحمل، ويقال: وزر إذا حمل. فالمعنى: ولا تحمل حاملة حمل أخرى، أي لا يحمل الله نفسا حملا جعله لنفس أخرى عدلا منه تعالى لأن الله يحب العدل وقد نفى عن شأنه الظلم وأن كان تصرفه إنما هو في مخلوقاته.
وجرى وصف الوازرة على التأنيث لأن أريد به النفس.
ووجه اختيار الإسناد إلى المؤنث بتأويل النفس دون أن يجري الإضمار على التذكير بتأويل الشخص، لأن متى النفس هو المتبادر للأذهان عند ذكر الاكتساب كما في قوله تعالى: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} في سورة الأنعام [164] وقوله: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} في سورة المدثر [38]، وغير ذلك من الآيات.
ثم نبه على أن هذا الحكم العادل مطرد مستمر حتى لو استغاثت نفس مثقلة في الأوزار من ينتدب لحمل أوزارها أو بعضها لم تجد من يحمل عنها شيئاً، لئلا يقيس الناس الذين في الدنيا أحوال الآخرة على ما تعارفوه، فإن العرب تعارفوا النجدة إذا استنجدوا ولو كان لأمر يضر بالمنجد. ومن أمثالهم {لو دعي الكريم إلى حتفه لأجاب} وقال وداك ابن ثميل المازني:
إذا استنجدوا لم يسألوا من دعاهم ... لأية حرب أم بأي مكان

ولذلك سمي طلب الحمل هنا دعاء لأن في الدعاء معنى الاستغاثة.
وحذف مفعول {تَدْعُ} لقصد العموم. والتقدير: وإن تدع مثقلة أي مدعو.
وقوله: {إِلَى حِمْلِهَا} متعلق بـ {تَدْعُ} ، وجعل الدعاء إلى الحمل لأن الحمل سبب الدعاء وعلته. فالتقدير: وإن تدع مثقلة أحدا إليها لأجل أن يحمل عنها حملها، فحذف أحد متعلقي الفعل المجرور باللام لدلالة الفعل ومتعلقة المذكور على المحذوف.
وهذا إشارة إلى ما سيكون في الآخرة، أي لو استصرخت نفس من يحملها عنها شيئا من أوزارها، كما كانوا يزعمون أن أصنامهم تشفع لهم أو غيرهم، لا تجد من يجيبها لذلك.
وقوله: {وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} في موضع الحال من {مُثْقَلَةٌ} . و {لَوْ} وصلية كالتي في قوله تعالى: {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} في سورة آل عمران [91].
والضمير المستتر في {كَانَ} عائد إلى مفعول {تَدْعُ} المحذوف، إذ تقديره: وإن تدع مثقلة أحدا إلى حملها كما ذكرنا، فيصير التقدير: ولو كان المدعو ذا قربى، فإن العموم الشمولي الذي اقتضته النكرة في سياق الشرط يصير في سياق الإثبات عموما بدليا.
ووجه ما اقتضته المبالغة من {لَوْ} الوصلية أن ذا القربى أرق وأشفق على قريبه، فقد يظن انه يغني عنه في الآخرة بأن يقاسمه الثقل الذي يؤدي به إلى العذاب فيخف عنه العذاب بالاقتسام.
والإطلاق في لا القربى يشمل قريب القرابة كالأبوين والزوجين كما قال تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ} [عبس: 34، 35].
وهذا إبطال لاعتقاد الغناء الذاتي بالتضامن والتحامل فقد كان المشركون يقيسون أمور الآخرة على أمر الدنيا فيعللون أنفسهم إذا هددوا بالبعث بأنه إن صح فإن لهم يومئذ شفعاء وأنصار، فهذا سياق توجيه هذا إلى المشركين ثم هو بعمومه ينسحب حكمه على جميع أهل المحشر، فلا يحمل أحد عن أحد أثمه. وهذا لا ينافي الشفاعة الواردة في الحديث، كما تقدم في سورة سبأ، فأنها إنما تكون بأذن الله تعالى إظهاراً لكرامة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ولا ينافي ما جعله الله للمؤمنين من مكفرات الذنوب كما ورد أن إفراط المؤمنين يشفعون لأمهاتهم، فتلك شفاعة جعلية جعلها الله كرامة للأمهات المصابة من

المؤمنات.
{إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} .
استئناف كلامي بأن الرسول صلى الله عليه وسلم يخطر في نفسه التعجب من عدم تأثر أكثر المشركين بإنذاره فأجيب بأن إنذاره ينتفع به المؤمنون ومن تهيأوا للإيمان.
إيراد هذه الآية عقب التي قبلها يؤكد أن المقصد الأول من التي قبلها موعظة المشركين وتخويفهم،وإبلاغ الحقيقة إليهم لاقتلاع مزاعمهم وأوهامهم في أمر البعث والحساب والجزاء. فأقبل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم بالخطاب ليشعر بأن تلك المواعظ فيه وأنها إنما ينتفع بها المسلمون، وهو أيضا يؤكد ما في الآية الأولى من التعريض بتأمين المسلمين بما اقتضاه عموم الإنذار والوعيد.
وأطلق الإنذار هنا على حصول أثره، وهو الانكفاف أو التصديق به، وليس المراد حقيقة الإنذار، وهو الإخبار عن توقع مكروه لأن القرينة صادقة عن المعنى الحقيقي وهي قرينة تكرر الإنذار للمشركين الفينة بعد الفينة وما هو ببعيد عن هذه الآية، فإن النبيء صلى الله عليه وسلم أنذر المشركين طول مدة دعوته، فتعين أن تعلق الفعل المقصور عليه بـ {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} تعلق على معنى حصول أثر الفعل.
فالمقصود من القصر أنه قصر قلب لأن المقصود التنبيه على أن لا يظن النبي صلى الله عليه وسلم انتفاع الذين لا يؤمنون بنذارته، وأن كانت صيغة القصر صالحة لمعنى القصر الحقيقي لكن اعتبار المقام يعين اعتبار القصر الإضافي. ونظير هذه الآية قوله في سورة يس [11]: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} وقوله: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} في سورة ق [45]، مع أن التذكير بالقرآن يعم الناس كلهم.
والغيب: ما غاب عنك، أي الذين يخشون ربهم في خلواتهم وعند غيبتهم عن العيان، أي الذين آمنوا حقا غير مرائين أحدا.
و {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} أي لم يفرطوا في صلاة كما يؤذن به فعل الإقامة كما تقدم في أول سورة البقرة.
ولما كانت هاتان الصفتان من خصائص المسلمين صار المعنى: إنما تنذر المؤمنين، فعدل عن استحضارهم بأشهر ألقابهم مع ما فيه من الإيجاز إلى استحضارهم بصلتين مع

ما فيهما من الإطناب، تذرعا بذكر هاتين الصلتين إلى الثناء عليهم بإخلاص الإيمان في الاعتقاد والعمل.
وجملة {وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ} تذييل جار مجرى المثل. وذكر التذييل عقب المذيل يؤذن بأن ما تضمنه المذيل داخل في التذييل بادئ ذي بدء مثل دخول سبب العام في عمومه من أول وهلة دون أن يخص العام به، فالمعنى: أن الذين خشوا ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة هم ممن تزكى فانتفعوا بتزكيتهم، فالمعنى: إنما ينتفع بالنذارة الذين يخشون ربهم بالغيب فأولئك تزكوا بها ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه.
والمقصود من القصر في قوله: {فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ} أن قبولهم النذارة كان لفائدة أنفسهم، ففيه تعريض بأن الذين لم يعبأوا بنذارته تركوا تزكية أنفسهم بها فكان تركهم ضرا على أنفسهم.
وجملة {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} تكميل للتذييل، والتعريف في {الْمَصِيرُ} للجنس، أي المصير كله إلى الله سواء فيه مصير المتزكى، أي وكل يجازى بما يناسبه.
وتقديم المجرور في قوله: {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} للاهتمام للتنبيه على أنه مصير إلى من اقتضى اسمه الجليل الصفات المناسبة لإقامة العدل وإفاضة الفضل مع الرعاية على الفاصلة.
[19- 23] {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ [19] وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ [20] وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ [21] وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ [22] إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ [23]}.
{وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ [19] وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ [20] وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ [21] وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ}.
أربعة أمثال للمؤمنين والكافرين، وللإيمان والكفر، شبه الكافر بالأعمى، والكفر بالظلمات، والحرور والكافر بالميت، وشبه المؤمن بالبصير وشبه الإيمان بالنور والذل، وشبه المؤمن بالحي تشبيه المعقول بالمحسوس. فبعد أن بين قلة نفع النذارة للكافرين وأنها لا ينتفع بها غير المؤمنين ضرب للفريقين أمثالا كاشفة عن اختلاف حاليهما، وروعي في هذه الأشباه توزيعها على صفة الكافر والمؤمن، وعلى حالة الكفر والإيمان، وعلى أثر الإيمان وأثر الكفر.

وقدم تشبيه حال الكافر وكفره على تشبيه حال المؤمن وإيمانه ابتداء لأن الغرض الأهم من هذا التشبيه هو تفظيع حال الكافر ثم الانتقال إلى حسن حال ضده لأن هذا التشبيه جاء لإيضاح ما أفاده القصر في قوله: {إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} [فاطر: 18] كما تقدم آنفا من أنه قصر إضافي قصر قلب، فالكافر شبيه بالأعمى في اختلاط أمره بين عقل وجهالة، كاختلاط أمر الأعمى بين إدراك وعدمه.
والمقصود: أن الكافر وإن كان ذا عقل يدرك به الأمور فإن عقله تمحض لإدراك أحوال الحياة الدنيا وكان كالعدم في أحوال الآخرة كقوله تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 7]، فحاله المقسم بين انتفاع بالعقل وعدمه يشبه حال الأعمى في إدراكه أشياء وعدم إدراكه.
والعمى يعبر به عن الضلال، قال ابن رواحة:
أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا ... به موقنات أن ما قال واقع
ثم شبه الكفر بالظلمات في أنه يجعل الذي أحاط هو به غير متبين للأشياء، فإن من خصائص الظلمة إخفاء الأشياء، والكافر خفيت عنه الحقائق الاعتيادية، وكلما بينها له القرآن لم ينتقل إلى أجلى، كما لو وصفت الطريق للسائر في الظلام.
وجيء في {الظُّلُمَاتُ} بلفظ الجمع لأنه الغالب في الاستعمال فهم لا يذكرون الظلمة إلا بصيغة الجمع. وقد تقدم في قوله: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} في الأنعام [1].
وضرب الظل مثلا لأثر الإيمان، وضده وهو الحرور مثلا لأثر الكفر، فالظل مكان نعيم في عرف السامعين الأولين، وهم العرب أهل البلاد الحارة التي تتطلب الظل للنعيم غالبا إلا في بعض فصل الشتاء، وقوبل بالحرور لأنه مؤلم ومعذب في عرفهم كما علمت، وفي مقابلته بالحرور إيذان تشبيه بالظل في حالة استطابته.
و {الْحَرُورُ} : حر الشمس، ويطلق أيضا على الريح الحارة وهي السموم، أو الحرور: الريح الحارة التي تهب بليل والسموم تهب بالنهار.
وقدم في هذه الفقرة ما هو من حال المؤمنين على عكس الفقرات الثلاث التي قبلها لأجل الرعاية على الفاصلة بكلمة {الْحَرُورُ} . وفواصل القرآن من متممات فصاحته، فلها حظ من الإعجاز.
فحال المؤمن يشبه حال الظل تطمئن فيه المشاعر، وتصدر فيه الأعمال عن تبصر وتريث وإتقان. وحال الكافر يشبه الحرور تضطرب فيه النفوس ولا تتمكن معه القول من

التأمل والتبصر وتصدر فيها الآراء والمساعي معجلة متفككة.
واعلم أن تركيب الآية عجيب فقد احتوت على واوات عطف وأدوات نفي، فكل من الواوين الذين في قوله: {وَلا الظُّلُمَاتُ} الخ، وقوله: {وَلا الظِّلُّ} الخ عاطف جملة على جملة وعاطف تشبهات ثلاثة بل تشبيه منها يجمع الفريقين. والتقدير: ولا تستوي الظلمات والنور ولا يستوي الظل والحرور، وقد صرح بالمقدر أخيرا في قوله: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ}.
وأما الواوات الثلاثة في قوله: {وَالْبَصِيرُ} {وَلا النُّورُ} {وَلا الْحَرُورُ} فكل واو عاطف مفردا على مفرد، فهي ستة تشبيهات موزعة على كل فريق، فـ {الْبَصِيرُ} عطف على: {الْأَعْمَى} ، و {النُّورُ} عطف على {الظُّلُمَاتُ} ، و {الْحَرُورُ} عطف على {الظِّلُّ} ، ولذلك أعيد حرف النفي.
وأما أدوات النفي فاثنان منها مؤكدان للتغلب الموجه إلى الجملتين المعطوفتين المحذوف فعلاهما {وَلا الظُّلُمَاتُ} ، {وَلا الظِّلُّ} ، واثنان مؤكدان لتوجه النفي إلى المفردين المعطوفين على مفردين في سياق نفي التسوية بينهما وبين ما عطفا عليهما وهما واو: {وَلا النُّورُ} ، وواو: {وَلا الْحَرُورُ} ، والتوكيد بعضه بالمثل وهو حرف: {لاَ} وبعضه بالمرادف وهو حرف: {مَا} ولم يؤت بأداة نفي في نفي الاستواء الأول لأنه الذي ابتدئ به نفي الاستواء المؤكد من بعد فهو كله تأييس. وهو استعمال قرآني بديع في عطف المنفيات من المفردات والجمل، ومنه قوله تعالى: {لاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ} في سورة فصلت [34].
وجملة: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ} أظهر في هذه الجملة الفعل الذي قدر في الجملتين اللتين قبلها وهو فعل: {يَسْتَوِي} لأن التمثيل هنا عاد إلى تشبيه حال المسلمين والكافرين إذ شبه حال المسلم بحال الأحياء وحال الكافرين بحال الأموات، فهذا ارتقاء في تشبيه الحالين من تشبيه المؤمن بالبصير والكافر بالأعمى إلى تشبيه المؤمن بالحي والكافر بالميت، ونظيره في إعادة فعل الاستواء قوله تعالى في سورة الرعد [16] {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ}.
فلما كانت الحياة هي مبعث المدارك والمساعي كلها وكان الموت قاطعا للمدارك والمساعي، شبه الإيمان بالحياة في انبعاث خير الدنيا والآخرة منه وفي تلقي ذلك وفهمه،

وشبه الكفر بالموت في الانقطاع عن الأعمال والمدركات النافعة كلها وفي عدم تلقي ما يلقى إلى صاحبه فصار المؤمن شبيها بالحي مشابهة كاملة لما خرج من الكفر إلى الإيمان، فكأنه بالإيمان نفخت فيه الحياة بعد الموت كما أشار إليه قوله تعالى في سورة الأنعام [122] {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} ، وكان الكافر شبيها بالميت ما دام على كفره. واكتفى بتشبيه الكافر والمؤمن في موضعين عن تشبيه الكفر والإيمان وبالعكس لتلازمهما، وأوتي تشبيه الكافر والمؤمن في موضعين لكون وجه الشبه في الكافر والمؤمن أوضح، وعكس ذلك في موضعين لأن وجه الشبه أوضح في الموضعين الآخرين.
{إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ [23]}.
لما كان أعظم حرمان نشأ عن الكفر هو حرمان الانتفاع بأبلغ كلام وأصدقه وهو القرآن كان حال الكافر الشبيه بالموت أوضح شبها به في عدم انتفاعه بالقرآن وإعراضه عن سماعه {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26]، وكان حال المؤمنين بعكس ذلك إذ تلقوا القرآن ودرسوه وتفقهوا فيه: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ} [الزمر: 18]، وأعقب تمثيل حال المؤمنين والكافرين بحال الأحياء والأموات بتوجيه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم معذرة له في التبليغ للفريقين، وفي عدم قبول تبليغه لدى أحد الفريقين، وتسلية له عن ضياع وابل نصحه في سباخ قلوب الكافرين فقيل له: إن قبول الذين قبلوا الهدى واستمعوا إليه كان بتهيئة الله تعالى نفوسهم لقبول الذكر والعلم، وإن عدم انتفاع المعرضين بذلك هو بسبب موت قلوبهم فكأنهم الأموات في القبور وأنت لا تستطيع أن تسمع الأموات، فجاء قوله: {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} على مقابلة قوله: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ} مقابلة اللف بالنشر المرتب.
فجملة {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ} تعليل لجملة {إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} [فاطر: 18]، لأن معنى القصر ينحل إلى إثبات ونفي فكان مفيدا فريقين: فريقا انتفع بالإنذار، وفريقا لم ينتفع، فعلل ذلك بـ {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ}.
وقوله: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} إشارة إلى الذين لم يشأ الله أن يسمعهم إنذارك.
واستعير {مَنْ فِي الْقُبُورِ} للذين لم تنفع فيهم النذر، وعبر عن الأموات بـ {مَنْ فِي

الْقُبُورِ} لأن من في القبور أعرق في الابتعاد عن بلوغ الأصوات لأن بينهم وبين المنادى حاجز الأرض. فهذا إطناب أفاد معنى لا يفيده الإيجاز بأن يقال: وما أنت بمسمع الموتى.
وجيء بصيغة الجمع {الْأَحْيَاءُ} و {الْأَمْوَاتُ} تفننا في الكلام بعد أن أورد الأعمى والبصير بالإفراد لأن المفرد والجمع في المعرف بلام الجنس سواء إذا كان اسما له أفراد بخلاف النور والظل والحرور، وأما جمع {الظُّلُمَاتُ} فقد علمت وجهه آنفا.
وجملة: {إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} أفادت قصرا إضافيا بالنسبة إلى معالجة تسميعهم الحق، أي أنت نذير للمشابهين من في القبور ولست بمدخل الإيمان إلى قلوبهم، وهذا مسوق مساق المعذرة للنبي صلى الله عليه وسلم وتسليته إذا كان مهتما من عدم إيمانهم.
والنذير: المنبئ عن توقع حدوث مكروه أو مؤلم.
والاقتصار على وصفه بالنذير لأن مساق الكلام على المصممين على الكفر.
[24] {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ [24]}.
استئناف ثناء على النبي صلى الله عليه وسلم وتنويه به بالإسلام. وفيه دفع توهم أن يكون قصره على النذارة قصرا حقيقا لتبين أن قصره على النذارة بالنسبة للمشركين الذين شابه حالهم حال أصحاب القبور،أي أن رسالتك تجمع بشارة ونذارة، فالبشارة لمن قبل الهدى، والنذارة لمن أعرض عنه، وكل ذلك حق لأن الجزاء على حسب القبول، فهي رسالة ملابسة للحق ووضع الأشياء مواضعها.
فقوله: {بِالْحَقِّ} إما حال من ضمير المتكلم في {أَرْسَلْنَاكَ} أي محقين غير لاعبين، أو من كاف الخطاب، أي محقا أنت غير كاذب، أو صفة لمصدر محذوف، أي إرسالا ملابسا بالحق لا يشوبه شيء من الباطل. وتقدم نظير هذه الجملة في سورة البقرة.
وقوله: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} إبطال لاستبعاد المشركين أن يرسل الله إلى الناس بشرا منهم،فإن تلك الشبهة كانت من أعظم ما صدهم عن التصديق به، فلذلك أتبعت دلائل الرسالة بإبطال الشبهة الحاجبة على حد قوله تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ} [الاحقاف: 9].
وأيضا في ذلك تسفيه لأحلامهم إذ رضوا أن يكونوا دون غيرهم من الأمم التي شرفت بالرسالة.

ووجه الاقتصار على وصف النذير هنا دون الجمع بينه وبين وصف البشير هو مراعاة العموم الذي في قوله: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} ، فإن من الأمم من لم تحصل لها بشارة لأنها لم يؤمن منها أحد، ففي الحديث عرضت علي الأمم فجعل النبي يمر معه الرهط، والنبيء يمر معه الرجل الواحد، والنبي يمر وحده الحديث، فإن الأنبياء الذين مروا وحدهم هم الأنبياء الذين لم يستجب لهم أحد من قومهم، وقد يكون عدم ذكر وصف البشارة للاكتفاء بذكر قرينة اكتفاء بدلالة ما قبله عليه، وأوثر وصف النذير بالذكر لأنه أشد مناسبة لمقام خطاب المكذبين.
ومعنى الأمة هنا: الجذم العظيم من أهل نسب ينتهي إلى جد واحد جامع لقبائل كثيرة لها مواطن متجاورة مثل أمة الفرس وأمة الروم وأمة الصين وأمة الهند وأمة يونان وأمة إسرائيل وأمة العرب وأمة البربر، فما من أمة من هؤلاء إلا وقد سبق فيها نذير، أي رسول أو نبي ينذرهم بالمهلكات وعذاب الآخرة. فمن المنذرين من علمناهم، ومنهم من أنذروا وانقرضوا ولم يبق خبرهم قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر: 78].
والحكمة في الإنذار أن لا يبقى الضلال رائجا وأن يتخول الله عباده بالدعوة إلى الحق سواء عملوا بها أم لم يعملوا فإنها لا تخلوا من أثر صالح فيهم. وإنما لم يسم القرآن إلا الأنبياء والرسل الذين كانوا في الأمم السامية القاطنة في بلاد العرب وما جاورها لأن القرآن حين نزوله ابتدأ بخطاب العرب ولهم علم بهؤلاء الأقوام فقد علموا أخبارهم وشهدوا آثارهم فكان الاعتبار بهم أوقع، ولو ذكرت لهم رسل أمم لا يعرفونهم لكان إخبارهم عنهم مجرد حكاية ولم يكن فيه استدلال واعتبار.
[25، 26] {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ [25] ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ [26]}.
أعقب الثناء على النبي صلى الله عليه وسلم بتسليته على تكذيب قومه وتأنيسه بأن تلك سنة الرسل مع أممهم.
وإذ قد كان سياق الحديث في شأن الأمم جعلت التسلية في هذه الآية بحال الأمم مع رسلهم عكس ما في آية آل عمران [184] {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} لأن سياق آية أل عمران كان في رد محاولة أهل

الكتاب إفحام الرسول لأن قبلها {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ} [آل عمران: 183].
وقد خولف أيضا في هذه الآية أسلوب آية آل عمران إذ قرن كل من "الزبر والكتاب المنير" هنا بالباء، وجردا منها في آية آل عمران وذلك لأن آية آل عمران جرت في سياق زعم اليهود أن لا تقبل معجزة رسول إلا معجزة قربان تأكله النار،فقيل في التفرد ببهتانهم: قد كذبت الرسل الذين جاء الواحد منهم بأصناف المعجزات مثل عيسى عليه السلام ومن معجزاتهم قرابين تأكلها النارفكذبتموهم، فترك إعادة الباء هنالك إشارة إلى أن الرسل جاءوا بالأنواع الثلاثة.
ولما كان المقام هنا لتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم ناسب أن يذكر ابتلاء الرسل بتكذيب أممهم على اختلاف أحوال الرسل، فمنهم الذين آتوا بآيات، أي خوارق عادات فقط مثل صالح وهود ولوط، ومنهم من أتوا بالزبر وهي المواعظ التي يؤمر بكتابتها وزبرها، أي تخطيطها لتكون محفوظة وتردد على الألسن كزبور داود وكتب أصحاب الكتب من أنبياء بني إسرائيل مثل أرمياء وإيلياء، ومنهم من جاءوا بالكتاب المنير، يعني كتاب الشرائع مثل إبراهيم وموسى وعيسى، فذكر الباء مشير إلى توزيع أصناف المعجزات على أصناف الرسل.
فزبور إبراهيم صحفه المذكورة في قوله تعالى: {صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى: 19].
وزبور موسى كلامه في المواعظ الذي ليس فيه تبليغ عن الله مثل دعائه الذي دعا به في قادش المذكور في الإصحاح التاسع من سفر التثنية، ووصيته في عبر الأردن التي في الإصحاح السابع والعشرين من السفر المذكور، ومثل نشيده الوعظي الذي نطق به وأمر بني إسرائيل بحفظه والترنم به في الإصحاح الثاني والثلاثين منه، ومثل الدعاء الذي بارك به أسباط إسرائيل في عربات مؤاب في آخر حياته في الإصحاح الثالث والثلاثين منه.
وزبور عيسى أقواله المأثورة في الأناجيل مما لم يكن منسوبا إلى الوحي.
فالضمير في {جَاءُوا} [آل عمران: 184] للرسل وهو على التوزيع، أي جاء مجموعهم بهذه الأصناف من الآيات، ولا يلزم أن يجيء كل فرد منهم بجميعها كما يقال بنو فلان قتلوا فلانا.
وجواب {إِنْ يُكَذِّبُوكَ} محذوف دلت عليه علته وهي قوله: {فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ

قَبْلِكَ} [فاطر: 4]. والتقدير: إن يكذبوك فلا تحزن، ولا تحسبهم مفلتين من العقاب على ذلك إذ قد كذب الأقوام الذين جاءتهم رسل من قبل هؤلاء وقد عاقبناهم على تكذيبهم.
فالفاء في قوله: {فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} فاء فصيحة أو تفريع على المحذوف.
وجملة {جَاءَتْهُمْ} صلة {الَّذِينَ} و {مِنْ قَبْلِهِمْ} في موضع الحال من اسم الموصول مقدم عليه أو متعلق بـ {جَاءَتْهُمْ}.
و {ثُمَّ} عاطفة جملة {أَخَذْتُ} على جملة {جَاءَتْهُمْ} أي ثم أخذتهم،وأظهر {الَّذِينَ كَفَرُوا} في موضع ضمير الغيبة للإيماء إلى أن أخذهم لأجل ما تضمنته صلة الموصول من أنهم كفروا.
والأخذ مستعار للاستئصال والإفناء، شبه إهلاكهم جزاء على تكذيبهم بإتلاف المغيرين على عدوهم يقتلونهم ويغنمون أموالهم فتبقى ديارهم بلقعا كأنهم أخذوا منها.
و"كيف" استفهام مستعمل في التعجيب من حالهم وهو مفرع بالفاء على {أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا} ، والمعنى: أخذتهم أخذا عجيبا كيف ترون أعجوبته. وأصل "كيف" أن يستفهم به عن الحال فلما استعمل في التعجيب من حال أخذهم لزم أن يكون حالهم معروفا، أي يعرفه النبي صلى الله عليه وسلم وكل من بلغته أخبارهم فعلى تلك المعرفة المشهورة بني التعجيب.
والنكير: اسم لشدة الإنكار، وهو هنا كناية عن شدة العقاب لأن الإنكار يستلزم الجزاء على الفعل المنكر بالعقاب.
وحذفت ياء المتكلم تخفيفا ولرعاية الفواصل في الوقف لأن الفواصل يعتبر فيها الوقف، وتقدم في سبأ.
[27] {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ [27]}.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا}.
استئناف فيه إيضاح ما سبقه من اختلاف أحوال الناس في قبول الهدى ورفضه بسبب ما تهيأت خلقة النفوس إليه ليظهر به أن الاختلاف بين أفراد الأصناف والأنواع ناموس جبلي فطر الله عليه مخلوقات هذا العالم الأرضي.

والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ليدفع عنه اغتمامه من مشاهدة عدم انتفاع المشركين بالقرآن.
وضرب اختلاف الظواهر في أفراد الصنف الواحد مثلا لاختلاف البواطن تقريبا للأفهام، فكان هذا الاستئناف من الاستئناف البياني لأن مثل هذا التقريب مما تشرئب إليه الأفهام عند سماع قوله: {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ} [فاطر: 22].
والرؤية بصرية، والاستفهام تقريري، وجاء التقرير على النفي على ما هو المستعمل كما بيناه عند قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ} في سورة الأعراف [148] وفي آيات أخرى.
وضمير {فَأَخْرَجْنَا} التفات من الغيبة إلى التكلم.
والألوان: جمع لون وهو عرض، أي كيفية تعرض لسطوح الأجسام يكيفه النور كيفيات مختلفة على اختلاف ما يحصل منها عند انعكاسها إلى عدسات الأعين من شبه الظلمة وهو لون السواد وشبه الصبح هو لون البياض، فهما الأصلان للألوان، وتنشق منها ألوان كثيرة وضعت لها أسماء اصطلاحية وتشبيهة. وتقدم عند قوله تعالى: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا} في سورة البقرة [69]، وتقدم في سورة النحل.
والمقصود من الاعتبار هو اختلاف ألوان الأصناف من النوع الواحد كاختلاف ألوان التفاح مع ألوان السفرجل، وألوان العنب مع ألوان التين، واختلاف ألوان الأفراد من الصنف الواحد تارات كاختلاف ألوان التمور والزيتون والأعناب والتفاح والرمان.
وذكر إنزال الماء من السماء إدماج في الغرض للاعتبار بقدرة الله مع ما فيه من اتحاد أصل نشأة الأصناف والأنواع كقوله تعالى: {تُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} [الرعد: 4] وذلك أرعى للاعتبار.
وجيء بالجملتين الفعليتين في {أَنْزَلَ} و"أخرجنا" لأن إنزال الماء وإخراج الثمرات متجدد آنا فآنا.
والالتفات من الغيبة إلى التكلم في قوله: {أَنْزَلَ} وقوله: "أخرجنا" لأن الاسم الظاهر أنسب بمقام الاستدلال على القدرة لأنه الاسم الجامع لمعاني الصفات.
وضمير التكلم أنسب بما فيه امتنان.
وقدم الاعتبار باختلاف أحوال الثمرات لأن في اختلافها سعة تشبه سعة اختلاف

الناس في المنافع والمدارك والعقائد.وفي الحديث: "مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة طعمها طيب ولا ريح لها، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة طعمها مر ولا ريح لها".
وجرد {مُخْتَلِفاً} من علامة التأنيث مع أن فاعله جمع وشأن النعت السببي أن يوافق مرفوعه في التذكر وضده والإفراد وضده، ولا يوافق في ذلك منعوته، لأنه لما كان الفاعل جمعا لما لا يعقل وهو الألوان كان حذف التاء في مثله جائزا في الاستعمال، وآثره القرآن إيثارا للإيجاز.
والمراد بالثمرات: ثمرات النخيل والأعناب وغيرها، فثمرات النخيل أكثر الثمرات ألوانا، فإن ألوانها تختلف باختلاف أطوارها، فمنها الأخضر والأصفر والأحمر والأسود.
{وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ}.
عطف على جملة {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ} فهي مثلها مستأنفة،وعطفها عليها للمناسبة الظاهرة.
و {جُدَدٌ} مبتدأ {وَمِنَ الْجِبَالِ} خبره. وتقديم الخبر للاهتمام وللتشويق لذكر المبتدأ حثا على التأمل والنظر.
و {مِنَ} تبعيضية على معنى: وبعض تراب الجبال جدد، ففي الجبل الواحد توجد جدد مختلفة، وقد يكون بعض الجدد بعضها في بعض الجبال وبعض آخر في بعض آخر.
و {جُدَدٌ} : جمع جدة بضم الجيم، وهي الطريقة والخطة في الشيء تكون واضحة فيه. يقال للخطة السوداء التي على ظهر الحمار جدة، وللظبي جدتان مسكيتا اللون تفصلان بين لوني ظهره وبطنه، والجدد البيض التي في الجبال هي ما كانت صخورا بيضاء مثل المروة، أو كانت تقرب من البياض فإن من التراب ما يصبر في لون الأهصب فيقال: تراب أبيض، ولا يعنون أنه أبيض كالجير والجص بل يعنون أنه مخالف لغالب ألوان التراب، والجدد الحمر هي ذات الحجارة الحمراء في الجبال.
و {غَرَابِيبُ} : جمع غربيب، والغربيب: اسم الشيء الأسود الحالك سواده، ولا تعرف له مادة مشتق هو منها، وأحسب أنه مأخوذ من الجامد، وهو الغراب لشهرة الغراب بالسواد.

و {سُودٌ} : جمع أسود وهو الذي لونه السواد.
فالغربيب يدل على أشد من معنى أسود، فكان مقتضى الظاهر أن يكون {غَرَابِيبُ} متأخرا عن {سُودٌ} لأن الغالب أنهم يقولون: أسود غربيب، كما يقولون: أبيض يقق وأصفر فاقع وأحمر قان، ولا يقولون: غربيب أسود وإنما خولف ذلك للرعاية على الفواصل المبنية على الواو والياء الساكنتين ابتداء من قوله: {وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15]، على أن في دعوى أن يكون غريبا تابعا لأسود نظرا والآية تؤيد هذا النظر، ودعوى كون {غَرَابِيبُ} صفة لمحذوف يدل عليه {سُودٌ} تكلف واضح، وكذلك دعوى الفراء: أن الكلام على التقديم والتأخير، وغرض التوكيد حاصل على كل حال.
[28] {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ [28]}.
{وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ}.
موقعه كموقع قوله: {وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ} ، ولا يلزم أن يكون مسوغ الابتداء بالنكرة غير مفيد معنى آخر فان تقديم الخبر هنا سوغ الابتداء بالنكرة.
واختلاف ألوان الناس منه اختلاف عام وهو ألوان أصناف البشر وهي الأبيض والأسود والأصفر والأحمر حسب الاصطلاح الجغرافي. وللعرب في كلامهم تقسيم آخر لألوان أصناف البشر، وقد تقدم عند قوله: {وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} في سورة الروم [22].
و {مِنَ} تعبيضية. والمعنى: أن المختلف ألوانه بعض من الناس، ومجموع المختلفات كله هو الناس كلهم وكذلك الدواب والأنعام، وهو نظم دقيق دعا إليه الإيجاز.
وجيء في جملة {وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ} [فاطر: 27] و {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} بالاسمية دون الفعلية كما في الجملة السابقة لأن اختلاف ألوان الجبال والحيوان الدال على اختلاف أحوال الإيجاد اختلافا دائما لا يتغير وإنما يحصل مرة واحدة عند الخلق وعند تولد النسل.
{كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ}.

الأظهر عندي أن {كَذَلِكَ} ابتداء كلام يتنزل منزلة الإخبار بالنتيجة عقب ذكر الدليل. والمعنى: كذلك أمر الاختلاف في ظواهر الأشياء المشاهد في اختلاف ألوانها وهو توطئة لما يرد بعده من تفصيل الاستنتاج بقوله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ} أي إنما يخشى الله من البشر المختلفة ألوانهم العلماء منهم، فجملة {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} مستأنفة عن جملة {كَذَلِكَ}. وإذا علم ذلك دل بالالتزام على أن غير العلماء لا تتأتى منهم خشية الله فدل على أن البشر في أحوال قلوبهم ومداركهم مختلفون. وهذا مثل قوله: {إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} [فاطر: 18].
وأوثر هذا الأسلوب في الدلالة تخلصا للتنويه بأهل العلم والإيمان لينتقل إلى تفصيل ذلك بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ} [فاطر: 29] الآية...
فقوله: {كَذَلِكَ} خبر لمبتدأ محذوف دل عليه المقام. والتقدير: كذلك الاختلاف، أو كذلك الأمر على نحو قوله تعالى في سورة الكهف [91] {كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً} وهو من فصل الخطاب كما علمت هنالك ولذلك يحسن الوقف على ما قبله ويستأنف ما بعده.
وأما جعل {كَذَلِكَ} من توابع الكلام السابق فلا يناسب نظم القرآن لضعفه.
والقصر المستفاد من {إِنَّمَا} قصر إضافي، أي لا يخشاه الجهال، وهم أهل الشرك فإن من أخص أوصافهم أنهم أهل الجاهلية، أي عدم العلم، فالمؤمنون يومئذ هم العلماء، والمشركون جاهلون نفيت عنهم خشيت الله. ثم أن العلماء في مراتب الخشية متفاوتون في الدرجات تفاوتا كثيرا. وتقديم فعول {يَخْشَى} على فاعله لأن المحصور فيهم خشية الله هم العلماء فوجب تأخيره على سنة تأخير المحصور فيه.
والمراد بالعلماء: العلماء بالله وبالشريعة، وعلى حسب مقدار العلم في ذلك تقوى الخشية، فأما العلماء بعلوم لا تتعلق بمعرفة الله وثوابه وعقابه معرفة على وجهها فليست علومهم بمقربة لهم من خشية الله، ذلك لأن العالم بالشريعة لا تلتبس عليه حقائق الأسماء الشرعية فهو يفهم مواقعها حق الفهم ويرعاها في مواقعها ويعلم عواقبها من خير أو شر، فهو يأتي ويدع من الأعمال ما فيه مراد الله ومقصد شرعه، فإن هو خالف ما دعت إليه الشريعة في بعض الأحوال أو في بعض الأوقات لداعي شهوة أو هوى أو تعجل نفع دنيوي كان في حال المخالفة موقنا أنه مورط فيما لا تحمد عقباه، فذلك الإيقان لا يلبث أن ينصرف به عن الاسترسال في المخالفة بالإقلاع أو الإقلال.

وغير العالم إن اهتدى بالعلماء فسعيه مثل سعي العلماء وخشيته متولدة عن خشية العلماء. قال الشيخ أبو محمد بن أبي زيد "والعلم دليل على الخيرات وقائد إليها، وأقرب العلماء إلى الله أولاهم به وأكثرهم له خشية وفيما عنده رغبة".
وجملة: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} تكميل للدلالة على استغناء الله تعالى عن إيمان المشركين ولكنه يريد لهم الخير. ولما كان في هذا الوصف ضرب من الإعراض عنهم مما قد يحدث يأسا في نفوس المقاربين منهم، ألفت قلوبهم بإتباع وصف {عَزِيزٌ} ، بوصف {غَفُورٌ} أي فهو يقبل التوبة منهم إن تابوا إلى ما دعاهم الله إليه على أن في صفة {غفور} حظا عظيما لأحد طرفي القصر وهو العلماء، أي غفور لهم.
[29، 30] {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ [29] لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ [30]}.
استئناف لبيان جملة {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] الآية، فالذين يتلون كتاب الله هم المراد بالعلماء، وقد تخلص إلى بيان فوز المؤمنين الذين اتبعوا الذكر وخشوا الرحمان بالغيب فإن حالهم مضاد لحال الذين لم يسمعوا القرآن وكانوا عند تذكيرهم به كحال أهل القبور لا يسمعون شيئا. فبعد أن أثنى عليهم ثناء إجماليا بقوله: تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} ، وأجمل حسن جزائهم بذكر صفة {غَفُورٌ} [فاطر: 28] ولذلك ختمت هذه الآية بقوله: {إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} فصل ذلك الثناء وذكرت آثاره ومنافعه.
فالمراد بـ {الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ} المؤمنون به لأنهم اشتهروا بذلك وعرفوا به وهم المراد بالعلماء. قال تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت: 49]. وهو أيضا كناية عن إيمانهم لأنه لا يتلو الكتاب إلا من صدق به وتلقاه باعتناء. وتضمن هذا أنهم يكتسبون من العلم الشرعي من العقائد والأخلاق والتكاليف، فقد أشعر الفعل المضارع بتجدد تلاوتهم فإن نزول القرآن متجدد فكلما نزل منه مقدار تلقوه وتدارسوه.
وكتاب الله القرآن وعدل عن اسمه العلم إلى اسم الجنس المضاف لاسم الجلالة لما في إضافته من تعظيم شأنه.

واتبع ما هو علامة قبول الإيمان والعلم به بعلامة أخرى وهي إقامة الصلاة كما تقدم في سورة البقرة [2] {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ} فإنها أعظم الأعمال البدنية،ثم أتبعت بعمل عظيم من الأعمال في المال وهي الإنفاق، والمراد بالإنفاق حيثما أطاق في القرآن هو الصدقات واجبها ومستحبها وما ورد الإنفاق في السور المكية إلا والمراد به الصدقات المستحبة إذ لم تكن الزكاة قد فرضت أيامئذ، على أنه قد تكون الصدقة مفروضة دون نصب ولا تحديد ثم حددت بالنصب والمقادير.
وجيء في جانب إقامة الصلاة والإنفاق بفعل المضي لأن فرض الصلاة والصدقة قد تقرر وعملوا به فلا تجدد فيه، وامتثال الذي كلفوا يقتضي أنهم مداومون عليه.
وقوله: {مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} إدماج للامتنان وإيماء إلى أنه إنفاق شكر على نعمة الله عليهم بالرزق فهم يعطون منه أهل الحاجة.
ووقع الالتفات من الغيبة من قوله: {كِتَابَ اللَّهِ} إلى التكلم في قوله: {مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} لأنه المناسب للامتنان.
وانتصب {سِرّاً وَعَلانِيَةً} على الصفة لمصدر {أَنْفَقُوا} محذوف، أي إنفاق سر وإنفاق علانية والمصدر مبين للنوع.
والمعنى: أنهم لا يريدون من الإنفاق إلا مرضاة الله تعالى لا يراءون به، فهم ينفقون حيث لا يراهم أحد وينفقون بمرأى من الناس فلا يصدهم مشاهدة الناس عن الإنفاق.
وفي تقديم السر إشارة إلى أنه أفضل لانقطاع شائبة الرياء منه، وذكر العلانية للإشارة إلى أنهم لا يصدهم مرأى المشركين عن الإنفاق فهم قد أعلنوا بالإيمان وشرائعه حب من حب أو كره من كره.
و {يَرْجُونَ تِجَارَةً} هو خبر {إِنَّ} .
والخبر مستعمل في إنشاء التبشير كأنه قيل: ليرجوا تجارة، وزاده التعليل بقوله: {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ} قرينة على إرادة التبشير.
والتجارة مستعارة لأعمالهم من تلاوة وصلاة وإنفاق.
ووجه الشبه مشابهة ترتب الثواب على أعمالهم بترتب الربح على التجارة.

والمعنى: ليرجوا أن تكون أعمالهم كتجارة رابحة.
والبوار: الهلاك. وهلاك التجارة: خسارة التاجر. فمعنى {لَنْ تَبُورَ} أنها رابحة. و {لَنْ تَبُورَ} صفة {تِجَارَةً} . والمعنى: أنهم يرجون عدم بوار التجارة.
فالصفة مناط التبشير والرجاء لا أصل التجارة لأن مشابهة العمل الفظيع لعمل التاجر شيء معلوم.
و {لِيُوَفِّيَهُمْ} متعلق بـ {يَرْجُونَ} ، أي بشرناهم بذلك وقدرناه لهم لنوفيهم أجورهم ووقع الالتفات من التكلم في قوله: {مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} إلى الغيبة رجوعا إلى سياق الغيبة من قوله: {يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ} أي ليوفي الله الذين يتلون كتابه.
والتوفية: جعل الشيء وافيا، أي تاما لا نقيصة فيه ولا غبن.
وأسجل عليهم الفضل بأنه يزيدهم على ما تستحقه أعمالهم ثوابا من فضله، أي كرمه، وهو مضاعفة الحسنات الواردة في قوله تعالى: {كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} [البقرة: 261] الآية.
وذيل هذا الوعد بما يحققه وهو أن الغفران والشكران من شأنه، فإن من صفاته الغفور الشكور، أي الكثير المغفرة والشديد الشكر.
فالمغفرة تأتي على تقصير العباد المطيعين، فإن طاعة الله الحق التي هي بالقلب والعمل والخواطر لا يبلغ حق الوفاء بها إلا المعصوم ولكن الله تجاوز عن الأمة فيما حدثت به أنفسها، وفيما همت به ولم تفعله. وفي اللمم، وفي محو الذنوب الماضية بالتوبة، والشكر كناية عن مضاعفة الحسنات على أعمالهم فهو يشكر بالعمل لأن الذي يجازى على عمل عمله المجزي بجزاء وافر يدل جزاؤه على أنه حمد للفاعل فعله.
وأكد هذا الخبر بحرف التأكيد زيادة في تحقيقه، ولما في التأكيد من الإيذان بكون ذلك علة لتوفية الأجور والزيادة فيها.
وفي الآية ما يشمل ثواب قراء القرآن، فإنهم يصدق عنهم أنهم من الذين يتلون كتاب الله ويقيمون الصلاة ولو لم يصاحبهم التدبر في القرآن فإن للتلاوة حظها من الثواب والتنور بأنوار كلام الله.
[31] {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ

بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ [31]}.
{وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ}.
لما كان المبدأ به من أسباب ثواب المؤمنين هو تلاوتهم كتاب الله أعقب التنويه بهم بالتنويه بالقرآن للتذكير بذلك، ولأن في التذكير بجلال القرآن وشرفه إيماء إلى علة استحقاق الذين يتلونه ما استحقوا. وابتدئ التنويه به بأنه وحي من الله إلى رسوله، وناهيك بهذه الصلة تنويها بالكتاب، وهو يتضمن تنويها بشأن الذي أنزل عليه من قوله: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} ، ففي هذه مسرة للنبيء صلى الله عليه وسلم وبشارة له بأنه أفضل الرسل وأن كتابه أفضل الكتب.
وهذه نكتة تعريف المسند إليه باسم الموصول لما في الصلة من الإيماء إلى وجه كونه الحق الكامل، دون الإضمار الذي هو مقتضى الظاهر بأنأألأألأأن يقال: وهو الكتاب الحق.
فالتعريف في {الْكِتَابِ} تعريف العهد.
و {مِنَ} بيانية لما في الموصول من الإبهام، والتقدير: والكتاب الذي أوحينا إليك هو الحق. فقدم الموصول الذي حقه أن يقع صفة للكتاب تقديما للتشويق بالإبهام ليقع بعده التفصيل فيتمكن من الذهن فضل تمكن.
فجملة: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ} معطوفة على جملة: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ} فهي مثلها في حكم الاستئناف.
وضمير {هُوَ} ضمير فصل، وهو تأكيد لما أفاده تعريف المسند من القصر.
والتعريف في {الْحَقُّ} تعريف الجنس. وأفاد تعريف الجزأين قصر المسند على المسند إليه، أي قصر جنس الحق على {الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} ، وهو قصر ادعائي للمبالغة لعدم الاعتداد بحقية ما عداه من الكتب.
فأما الكتب غير الإلهية مثل "الزند فستا" كتاب "زراد شت" ومثل كتب الصابئة فلأن ما فيها من قليل الحق قد غمر بالباطل والأوهام.
وأما الكتب الإلهية كالتوراة والإنجيل وما تضمنته كتب الأنبياء كالزبور وكتاب أرميا من الوحي الإلهي، فما شهد القرآن بحقيته فقد دخل في شهادة قوله: {مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} ، وما جاء نسخه بالقرآن فقد بين النسخ تحديد صلاحيته في القرآن. وذلك أيضا

تصديق لها لأنه يدفع موهم بطلانها عند من يجد خلافها في القرآن وما عسى أن يكون قد نقل على تحريف أو تأويل فقد دخل فيما أخرجه القصر. وقد بين القرآن معظمه وكشف عن مواقعه كقوله: {وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ} [البقرة: 85].
ومعنى "ما بين يديه" ما سبقه لأن السابق يجيء متقدما على المسبوق فكأنه يمشي بين يديه كقوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ: 46]. والمراد بما بين يديه ما قبله من الشرائع، وأهمها شريعة موسى وشريعة عيسى عليهما السلام.
وانتصب {مُصَدِّقاً} على الحال من {الْكِتَابِ} والعامل في الحال فعل {أَوْحَيْنَا} ليفيد أنه مع كونه حقا بالغا في الحقية فهو مصدق للكتب الحقة، ومقرر لما اشتملت عليه من الحق.
{إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ}.
تذييل جامع لما تضمنته الآيات قبله من تفضيل بعض عباد الله على بعض ومن انطواء ضمائرهم على الخشية وعدمها، وإقبال بعضهم على الطاعات وإعراض بعض، ومن تفضيل بعض كتب الله على بعض المقتضى أيضا تفضيل بعض المرسلين بها على بعض، فموقع قوله: {إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ} موقع إقناع السامعين بأن الله عليم بعباده وهو يعاملهم بحسب ما يعلم منهم، ويصطفي منهم من علم أنه خلقه كفئا لاصطفائه، فألقهم بهذا الذين قالوا {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} [ص: 8] حجرا، وكأولئك أيضا الذين ينكرون القرآن من أهل الكتاب بعلة أنه جاء مبطلا لكتابهم.
والخبير: العالم بدقائق الأمور المعقولة والمحسوسة والظاهرة والخفية.
والبصير: العالم بالأمور المبصرة. وتقديم الخبير على البصير لأنه أشمل. وذكر البصير عقبه للعناية بالأعمال التي هي من المبصرات وهي غالب شرائع الإسلام، وقد تكرر إرداف الخبير بالبصير في مواضع كثيرة من القرآن.
والتأكيد بـ {إَِنَّ} واللام للاهتمام بالمقصود من هذا الخبر.
[32] {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [32]}.
{ثُمَّ} للترتيب الرتبي كما هو شأنها في عطفها الجمل فهي هنا لعطف الجمل عطفا

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68