كتاب : التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور
المؤلف : محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي

وقوله: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} أمر بأن يجابوا بهذا ولذلك فصله لأنه في سياق المحاورة كما تقدم عند قوله: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا} [البقرة: 30] الآية وأتى بإن المفيدة للشك في صدقهم مع القطع بعدم الصدق لاستدراجهم حتى يعلموا أنهم غير صادقين حين يعجزون عن البرهان لأن كل اعتقاد لا يقيم معتقده دليل اعتقاده فهو اعتقاد كاذب لأنه لو كان له دليل لاستطاع التعبير عنه ومن باب أولى لا يكون صادقا عند من يريد أن يروج عليه اعتقاده.
و"بلى" إبطال لدعواهما. و"بلى" كلمة يجاب بها المنفي لإثبات نقيض النفي وهو الإثبات سواء وقعت بعد استفهام عن نفي وهو الغالب أو بعد خبر منفي نحو {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَى} [القيامة: 4:3]
وقول أبي حية النميري:
يخبرك الواشون أن لن أحبكم ... بلى وستور الله ذات المحارم
وقوله: {مَنْ أَسْلَمَ} جملة مستأنفة عن "بلى" لجواب سؤال من يتطلب كيف نقض نفي دخول الجنة عن غير هذين الفريقين أريد بها بيان أن الجنة ليست حكرة لأحد ولكن إنما يستحقها من أسلم إلخ لأن قوله: {فَلَهُ أَجْرُهُ} هو في معنى له دخول الجنة وهو جواب الشرط لأن من شرطية لا محالة. ومن قدر هنا فعلا بعد بلى أي يدخلها من أسلم فإنما أراد تقدير معنى لا تقدير إعراب إذ لا حاجة للتقدير هنا.
وإسلام الوجه لله هو تسليم الذات لأوامر الله تعالى أي شدة الامتثال لأن أسلم بمعنى ألقى السلاح وترك المقاومة قال تعالى: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} [آل عمران: من الآية20]. والوجه هنا الذات عبر عن الذات بالوجه لأنه البعض الأشرف من الذات كما قال الشنفري:
إذا قطعوا رأسي وفي الرأس أكثري1
ومن إطلاق الوجه على الذات قوله تعالى {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:27]
وأطلق الوجه على الحقيقة تقول جاء بالأمر على وجهه أي على حقيقته قال الأعشى:
ـــــــ
1 مصراع بيت وتمامه:
وغودر عند الملتقى ثم سائري

وأول الحكم على وجهه ... ليس قضاء بالهوى الجائر
ووجوه الناس أشرافهم ويجوز أن يكون أسلم بمعنى أخلص مشتقا من السلامة أي جعله سالما ومنه {وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ} [الزمر: 29].
وقوله: {وَهُوَ مُحْسِنٌ} جيء به جملة حالية لإظهار أنه لا يغني إسلام القلب وحده ولا العمل بدون إخلاص بل لا نجاة إلا بهما ورحمة الله فوق ذلك إذ لا يخلو امرؤ عن تقصير.
وجمع الضمير في قوله: {وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} اعتبارا بعموم "من" كما أفرد الضمير في قوله {وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} اعتبارا بإفراد اللفظ وهذا من تفنن العربية لدفع سآمة التكرار.
[113] {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}
معطوف على قوله: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى} [البقرة: من الآية111] لزيادة بيان أن المجازفة دأبهم وأن رمى المخالف لهم بأنه ضال شنشنة قديمة فيهم فهم يرمون المخالفين بالضلال لمجرد المخالفة فقديما ما رمت اليهود النصارى بالضلال ورمت النصارى اليهود بمثله فلا تعجبوا من حكم كل فريق منهم بأن المسلمين لا يدخلون الجنة وفي ذلك إنحاء على أهل الكتاب وتطمين لخواطر المسلمين ودفع الشبهة عن المشركين بأنهم يتخذون من طعن أهل الكتاب في الإسلام حجة لأنفسهم على مناوأته وثباتا على شركهم.
والمراد من القول التصريح بالكلام الدال فهم قد قالوا هذا بالصراحة حين جاء وفد نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيهم أعيان دينهم من النصارى1 فلما بلغ مقدمهم اليهود أتوهم
ـــــــ
1 نجران بفتح النون وسكون الجيم قبيلة من عرب اليمن كانوا ينزلون قرية كبيرة تسمى نجران بين اليمن واليمامة وهم على دين النصرانية ولهم الكعبة اليمانية المشهورة وهي كنيستهم التي ذكرها الأعشى في شعره. وقد وفد منهم على النبي صلى الله عليه وسلم في ستين رجلا عليهم اثنا عشر نقيبا ورئيسهم السيد وهو عبد المسيح وأمين الوفد العاقب واسمه الأيهم وكان وفودهم في السنة الثانية من الهجرة.

وهم عند النبي صلى الله عليه وسلم فناظروهم في الدين وجادلوهم حتى تسابوا فكفر بعيسى وبالإنجيل وقالوا للنصارى ما أنتم على شيء فكفر وفد نجران بموسى وبالتوراة وقالوا لليهود لستم على شيء.
وقولهم: {عَلَى شَيْءٍ} نكرة في سياق النفي والشيء الموجود هنا مبالغة أي ليسوا على أمر يعتد به. فالشيء المنفي هو الشيء العرفي أو باعتبار صفة محذوفة على حد قول عباس ابن مرداس:
وقد كنت في الحرب ذا تدرا ... فلم أعط شيئا ولم أمنع
أي لم أعط شيئا نافعا مغنيا بدليل قوله ولم أمنع، وسئل رسول الله عن الكهان فقال ليسوا بشيء، فالصيغة صيغة عموم والمراد بها في مجاري الكلام نفي شيء يعتد به في الغرض الجاري فيه الكلام بحسب المقامات فهي مستعملة مجازا كالعام المراد به الخصوص أي ليسوا على حظ من الحق فالمراد هنا ليست على شيء من الحق وذلك كناية عن عدم صحة ما بين أيديهم من الكتاب الشرعي فكل فريق من الفريقين رمى الآخر بأن ما عنده من الكتاب لاحظ فيه من الخير كما دل عليه قوله بعده {وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} فإن قوله {وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} جملة حالية جيء بها لمزيد التعجب من شأنهم أن يقولوا ذلك وكل فريق منهم يتلون الكتاب وكل كتاب يتلونه مشتمل على الحق لو اتبعه أهله حق اتباعه ولا يخلو أهل كتاب حق من أن يتبعوا بعض ما في كتابهم أو جل ما فيه فلا يصدق قول غيرهم أنهم ليسوا على شيء.
وجيء بالجملة الحالية لأن دلالتها على الهيئة أقوى من دلالة الحال المفردة لأن الجملة الحالية بسبب اشتمالها على نسبة خبرية تفيد أن ما كان حقه أن يكون خبرا عدل به عن الخبر لادعاء أنه معلوم اتصاف المخبر عنه به فيؤتي به في موقع الحال المفردة على اعتبار التذكير به ولفت الذهن إليه فصار حالا له.
وضمير قوله {هم} عائد إلى الفريقين وقيل عائد إلى النصارى لأنهم أقرب مذكور.
والتعريف في "الكتاب" جعله صاحب الكشاف تعريف الجنس وهو يرمي بذلك إلى أن المقصود أنهم أهل علم كما يقال لهم أهل الكتاب في مقابلة الأميين، وحداه إلى ذلك قوله عقبه: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 113] فالمعنى أنهم تراجموا بالنسبة إلى نهاية الضلال

وهم من أهل العلم الذين لا يليق بهم المجازفة ومن حقهم الإنصاف بأن يبينوا مواقع الخطأ عند مخالفيهم. وجعل ابن عطية التعريف للعهد وجعل المعهود التوراة أي لأنها الكتاب الذي يقرأه الفريقان ووجه التعجيب على هذا الوجه أن التوراة هي أصل للنصرانية والإنجيل ناطق بحقيتها فكيف يسوغ للنصارى ادعاء أنها ليست بشيء كما فعلت نصارى نجران. وأن التوراة ناطقة بمجيء رسل بعد موسى فكيف ساغ لليهود تكذيب رسول النصارى.
وإذا جعل الضمير عائدا للنصارى خاصة يحتمل أن يكون المعهود التوراة كما ذكرنا أو الإنجيل الناطق بأحقية التوراة وفي {يتلون} دلالة على هذا لأنه يصير التعجب مشربا بضرب من الاعتذار أعني أنهم يقرأون دون تدبر وهذا من التهكم وإلا لقال وهم يعلمون الكتاب وبهذا يتبين أن ليست هذه الآية واردة للانتصار لأحد الفريقين أو كليهما.
وقوله: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} أي يشبه هذا القول قول فريق آخر غير الفريقين وهؤلاء الذين لا يعلمون هم مقابل الذين يتلون الكتاب وأريد بهم مشركو العرب وهم لا يعلمون لأنهم أميون وإطلاق: {الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} على المشركين وارد في القرآن من ذلك قوله الآتي: {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ} [البقرة: 118] بدليل قوله {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} [البقرة: 118] يعني كذلك قال اليهود والنصارى: والمعنى هنا أن المشركين كذبوا الأديان كلها اليهودية والنصرانية والإسلام والمقصود من التشبيه تشويه المشبه به بأنه مشابه لقول أهل الضلال البحت.
وهذا استطراد للإنحاء على المشركين فيما قابلوا به الدعوة الإسلامية أي قالوا للمسلمين مثل مقالة أهل الكتابين بعضهم لبعض وقد حكى القرآن مقالتهم في قوله: {إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91]
والتشبيه المستفاد من الكاف في {كذلك} تشبيه في الادعاء على أنهم ليسوا على شيء والتقدير مثل ذلك القول الذي قالته اليهود والنصارى قال الذين لا يعلمون ولهذا يكون لفظ مثل قولهم تأكيدا لما أفاده كاف التشبيه وهو تأكيد يشير إلى أن المشابهة بين قول الذين لا يعلمون وبين قول اليهود والنصارى مشابهة تامة لأنهم لما قالوا : {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} قد كذبوا اليهود والنصارى والمسلمين.
وتقديم الجار والمجرور على متعلقه وهو {قال} إما لمجرد الاهتمام ببيان المماثلة

وإما ليغني عن حرف العطف في الانتقال من كلام إلى كلام إيجازا بديعا لأن مفاد حرف العطف التشريك ومفاد كاف التشبيه التشريك إذ التشبيه تشريك في الصفة. ولأجل الاهتمام أو لزيادته أكد قوله: {كذلك} بقوله {مِثْلَ قَوْلِهِمْ} فهو صفة أيضا لمعمول قالوا المحذوف أي قالوا مقولا مثل قولهم. ولك أن تجعل كذلك تأكيدا لمثل قولهم وتعتبر تقديمه من تأخير والأول أظهر. وجوز صاحب الكشاف وجماعة أن لا يكون قوله: {مِثْلَ قَوْلِهِمْ} أو قوله {كذلك} تأكيدا للآخر وأن مرجع التشبيه إلى كيفية القول ومنهجه في صدوره عن هوى، ومرجع المماثلة إلى المماثلة في اللفظ فيكون على كلامه تكريرا في التشبيه من جهتين للدلالة على قوة التشابه.
وقوله: {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} الآية جاء بالفاء لأن التوعد بالحكم بينهم يوم القيامة وإظهار ما أكنته ضمائرهم من الهوى والحسد متفرع عن هذه المقالات ومسبب عنها وهو خبر مراد به التوبيخ والوعيد والضمير المجرور بإضافة بين راجع إلى الفرق الثلاث وما كانوا فيه يختلفون يعم ما ذكر وغيره والجملة تذييل.
[114] {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}
عطف على {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ} [البقرة: 113] باعتبار ما سبق ذلك من الآيات الدالة على أفانين أهل الكتاب في الجراءة وسوء المقالة أي أن قولهم هذا وما تقدمه ظلم ولا كظلم من منع مساجد الله وهذا استطراد واقع معترضا بين ذكر أحوال اليهود والنصارى لذكر مساوئ المشركين في سوء تلقيهم دعوة الإسلام الذي جاء لهديهم ونجاتهم.
والآية نازلة في مشركي العرب كما في رواية عطاء عن ابن عباس وهو الذي يقتضيه قوله: {أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ} الآية كما سيأتي وهي تشير إلى منع أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين من الدخول لمكة كما جاء في حديث سعد بن معاذ حين دخل مكة خفية وقال له أبو جهل: ألا أراك تطوف بالبيت آمنا وقد أويتم الصباء، وتكرر ذلك في عام الحديبية.

وقيل نزلت في بختنصر ملك أشور وغزوه بيت المقدس ثلاث غزوات أولاها في سنة 606 قبل المسيح زمن الملك يهوياقيم ملك اليهود سبي فيها جمعا من شعب إسرائيل. والثانية بعد ثمان سنين سبي فيها رؤساء المملكة والملك يهوا كين بن يهوياقيم ونهب المسجد المقدس من جميع نفائسه وكنوزه. والثالثة بعد عشر سنين في زمن الملك صدقيا فأسر الملك وسمل عينيه وأحرق المسجد الأقصى وجميع المدينة وسبي جميع بني إسرائيل وانقرضت بذلك مملكة يهوذا وذلك سنة 578 قبل المسيح وتسمى هذه الواقعة بالسبي الثالث فهو في كل ذلك قد منع مسجد بيت المقدس من أن يذكر فيه اسم الله وتسبب في خرابه.
وقيل نزلت في غزو طيطس الروماني لأورشليم سنة 79 قبل المسيح فخرب بيت المقدس وأحرق التوراة وترك بيت المقدس خرابا إلى أن بناه المسلمون بعد فتح البلاد الشامية. وعلى هاتين الروايتين الأخيرتين لا تظهر مناسبة لذكرها عقب ما تقدم فلا ينبغي بناء التفسير عليهما. والوجه هو التعويل على الرواية الأولى وهي المأثورة عن ابن عباس فالمناسبة أنه بعد أن وفي أهل الكتاب حقهم من فضح نواياهم في دين الإسلام وأهله وبيان أن تلك شنشنة متأصلة فيهم مع كل من جاءهم بما يخالف هواهم وكان قد أشار إلى أن المشركين شابهوهم في ذلك عند قوله: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: من الآية105] عطف الكلام إلى بيان ما تفرع عن عدم ودادة المشركين نزول القرآن فبين أن ظلمهم في ذلك لم يبلغه أحد ممن قبلهم إذ منعوا مساجد الله وسدوا طريق الهدى وحالوا بين الناس وبين زيارة المسجد الحرام الذي هو فخرهم وسبب مكانتهم وليس هذا شأن طالب صلاح الخلق بل هذا شأن الحاسد المغتاظ.
والاستفهام بمن إنكاري ولما كان أصل من أنها نكرة موصوفة أشربت معنى الاستفهام وكان الاستفهام الإنكاري في معنى النفي صار الكلام من وقوع النكرة في سياق النفي فلذلك فسروه بمعنى لا أحد أظلم.
والظلم الاعتداء على حق الغير بالتصرف فيه بما لا يرضى به ويطلق على وضع الشيء في غير ما يستحق أن يوضع فيه والمعنيان صالحان هنا.
وإنما كانوا أظلم الناس لأنهم أتوا بظلم عجيب فقد ظلموا المسلمين من المسجد الحرام وهم أحق الناس به وظلموا أنفسهم بسوء السمعة بين الأمم.

وجمع المساجد وإن كان المشركون منعوا الكعبة فقط إما للتعظيم فإن الجمع يجيء للتعظيم كقوله تعالى: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ} [الفرقان: 37] وإما لما فيه من أماكن العبادة وهي البيت والمسجد الحرام ومقام إبراهيم والحطيم، وأما لما يتصل به أيضا من الخيف ومنى والمشعر الحرام وكلها مساجد والإضافة على هذه الوجوه على معنى لام التعريف العهدي، وإما لقصد دخول جميع مساجد الله لأنه جمع تعرف بالإضافة ووقع في سياق منع الذي هو في معنى النفي ليشمل الوعيد كل مخرب لمسجد أو مانع من العبادة بتعطيله عن إقامة العبادات ويدخل المشركون في ذلك دخولا أوليا على حكم ورود العام على سبب خاص والإضافة على هذا الوجه على معنى لام الاستغراق ولعل ضمير الجمع المنصوب في قوله: {أَنْ يَدْخُلُوهَا} يؤيد أن المراد من المساجد مساجد معلومة لأن هذا الوعيد لا يتعدى لكل من منع مسجدا إذ هو عقاب دنيوي لا يلزم اطراده في أمثال المعاقب. والمراد من المنع منع العبادة في أوقاتها الخاصة بها كالطواف والجماعة إذا قصد بالمنع حرمان فريق من المتأهلين لها منها. وليس منه غلق المساجد في غير أوقات الجماعة لأن صلاة الفذ لا تفضل في المسجد على غيره، وكذلك غلقها من دخول الصبيان والمسافرين للنوم، وقد سئل ابن عرفة في درس التفسير عن هذا فقال: غلق باب المسجد في غير أوقات الصلاة حفظ وصيانة ا ه. وكذلك منع غير المتأهل لدخوله وقد منع رسول الله المشركين الطواف والحج ومنع مالك الكافر من دخول المسجد ومعلوم منع الجنب والحائض.
والسعي أصله المشي ثم صار مجازا مشهورا في التسبب المقصود كالحقيقة العرفية نحو {ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى} [النازعات:22] ويعدى بفي الدالة على التعليل نحو: سعيت في حاجتك فالمنع هنا حقيقة على الرواية الأولى المتقدمة في سبب النزول والسعي مجاز في التسبب غير المقصود فهو مجاز على مجاز. وأما على الروايتين الأخريين فالمنع مجاز والسعي حقيقة لأن بختنصر وطيطس لم يمنعا أحدا من الذكر ولكنهما تسببا في الخراب بالأمر بالتخريب فأفضى ذلك إلى المنع وآل إليه.
وقوله: {أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ} جملة مستأنفة تغني عن سؤال ناشئ عن قوله: {مَنْ أَظْلَمُ} أو عن قوله {سعى} لأن السامع إذا علم أن فاعل هذا أظلم الناس أو سمع هذه الجرأة وهي السعي في الخراب تطلب بيان جزاء من اتصف بذلك أو فعل هذا. ويجوز كونها اعتراضا بين {مَنْ أَظْلَمُ} وقوله: {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا

خِزْيٌ}
والإشارة بأولئك بعد إجراء الأوصاف الثلاثة عليهم للتنبيه على أنهم استحضروا بتلك الأوصاف ليخبر عنهم بعد تلك الإشارة بخبرهم جديرون بمضمونه على حد ما تقدم في {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [ البقرة: 5] وهذا يدل على أن المقصود من هذه الجمل ليس هو بيان جزاء فعلهم أو التحذير منه بل المقصود بيان هاته الحالة العجيبة من أحوال المشركين بعد بيان عجائب أهل الكتاب ثم يرتب العقاب على ذلك حتى تعلم جدارتهم به وقد ذكر لهم عقوبتين دنيوية وهي الخوف والخزي وأخروية وهي العذاب العظيم.
ومعنى: {مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ} أنهم لا يكون لهم بعد هذه الفعلة أن يدخلوا تلك المساجد التي منعوها إلا وهم خائفون فإن ما كان إذا وقع أن والمضارع في خبرها تدل على نفي المستقبل وإن كان لفظ كان لفظ الماضي وأن هذه هي التي تستتر عند مجيء اللام نحو {مَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ} فلا إشعار لهذه الجملة بمضي.
واللام في قوله {لهم} للاستحقاق أي ما كان يحق لهم الدخول في حالة إلا في حالة الخوف فهم حقيقون بها وأحرياء في علم الله تعالى وهذا وعيد بأنهم قدر الله عليهم أن ترفع أيديهم من التصرف في المسجد الحرام وشعائر الله هناك وتصير للمسلمين فيكونوا بعد ذلك لا يدخلون المسجد الحرام إلا خائفين، ووعد للمؤمنين وقد صدق الله وعده فكانوا يوم فتح مكة خائفين وجلين حتى نادى منادى النبي صلى الله عليه وسلم من دخل المسجد الحرام فهو آمن فدخله الكثير منهم مذعورين أن يؤخذوا بالسيف قبل دخولهم.
وعلى تفسير: {مَسَاجِدَ اللَّهِ} بالعموم يكون قوله: {مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا} أي منعوا مساجد الله في حال أنهم كان ينبغي لهم أن يدخلوها خاشعين من الله فيفسر الخوف بالخشعية من الله فلذلك كانوا ظالمين بوضع الجبروت في موضع الخضوع فاللام على هذا في قوله {مَا كَانَ لَهُمْ} للاختصاص وهذا الوجه وإن فرضه كثير مل المفسرين إلا أن مكان اسم الإشارة المؤذن بأن ما بعده ترتب عما قبله ينافيه لأن هذا الابتغاء متقرر وسابق على المنع والسعي في الخراب.
وقوله: {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} استئناف ثان ولم يعطف على ما قبله ليكون مقصودا بالاستئناف اهتماما به لأن المعطوف لكونه تابعا لا يهتم به السامعون كمال الاهتمام ولأنه يجري من الاستئناف الذي قبله مجرى البيان من المبين فإن الخزي خوف والخزي الذل والهوان وذلك ما نال صناديد المشركين يوم بدر من القتل الشنيع والأسر، وما نالهم يوم

فتح مكة من خزي الانهزام.
وقوله: {وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} عطفت على ما قبلها لأنها تتميم لها إذ المقصود من مجموعهما أن لهم عذابين عذابا في الدنيا وعذابا في الآخرة.
وعندي أن نزول هذه الآية مؤذن بالاحتجاج على المشركين من سبب انصراف النبي عن استقبال الكعبة بعد هجرته فإن منعهم المسلمين من المسجد الحرام أشد من استقبال غير الكعبة في الصلاة على حد قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ} [البقرة: 217].
[115] {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:115]
لما جاء بوعيدهم ووعد المؤمنين عطف على ذلك تسلية المؤمنين على خروجهم من مكة ونكاية المشركين بفسخ ابتهاجهم بخروج المؤمنين منها وانفرادهم هم بمزية جوار الكعبة فبين أن الأرض كلها لله تعالى وأنها ما تفاضلت جهاتها إلا بكونها مظنة للتقرب إليه تعالى وتذكر نعمه وآياته العظيمة فإذا كانت وجهة الإنسان نحو مرضاة الله تعالى فأينما تولى فقد صادف رضي الله تعالى وإذا كانت وجهته الكفر والغرور والظلم فما يغنى عنه العياذ بالمواضع المقدسة بل هو فيها دخيل لا يلبث أن يقلع منها قال تعالى: {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} [لأنفال: 34] وقال صلى الله عليه وسلم في بني إسرائيل: "نحن أحق بموسى منهم" .
فالمراد من {الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} في الآية تعميم جهات الأرض لأنها تنقسم بالنسبة إلى مسير الشمس قسمين قسم يبتدئ من حيث تطلع الشمس وقسم ينتهي في حيث تغرب وهو تقسيم اعتباري كان مشهورا عند المتقدمين لأنه المبني على المشاهدة مناسب لجميع الناس والتقسيم الذاتي للأرض هو تقسيمها إلى شمالي وجنوبي لأنه تقسيم ينبني على اختلاف آثار الحركة الأرضية.
وقد قيل إن هذه الآية إذن للرسول صلى الله عليه وسلم بأن يتوجه في الصلاة إلى أية جهة شاء، ولعل مراد هذا القائل أن الآية تشير إلى تلك المشروعية لأن الظاهر أن الآية نزلت قبيل نسخ استقبال بيت المقدس إذ الشأن توالي نزول الآيات وآية نسخ القبلة قريبة الموقع من هذه، والوجه أن يكون مقصد الآية عاما كما هو الشأن فتشمل الهجرة من مكة والانصراف

عن استقبال الكعبة.
وتقديم الظرف للاختصاص أي أن الأرض لله تعالى فقط لا لهم، فليس لهم حق في منع شيء منها عن عباد الله المخلصين.
و {وَجْهُ اللَّهِ} بمعنى الذات وهو حقيقة لغوية تقول: لوجه زيد أي ذاته كما تقدم عند قوله: {مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} [البقرة: 112] وهو هنا كناية عن عمله فحيث أمرهم باستقبال بيت المقدس فرضاه منوط بالامتثال لذلك. وهو أيضا كناية رمزية عن رضاه بهجرة المؤمنين في سبيل الدين لبلاد الحبشة ثم للمدينة ويؤيد كون الوجه بهذا المعنى قوله في التذييل {إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} فقوله {واسع} تذييل لمدلول {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} والمراد سعة ملكه أو سعة تيسيره والمقصود عظمة الله وأنه لا جهة له وإنما الجهات التي يقصد منها رضي الله تفضل غيرها وهو عليم بمن يتوجه لقصد مرضاته وقد فسرت هذه الآية بأنها المراد بها القبلة في الصلاة.
[116] {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ}
الضمير المرفوع بقالوا عائد إلى جميع الفرق الثلاث وهي اليهود والنصارى والذين لا يعلمون إشارة إلى ضلال آخر اتفق فيه الفرق الثلاث، وقد قرئ بالواو وقالوا على أنه معطوف على قوله {وَقَالَتِ الْيَهُودُ] [البقرة: 113] وهي قراءة الجمهور. وقرأه ابن عامر بدون واو عطف وكذلك ثبتت الآية في المصحف الإمام الموجه إلى الشام فتكون استئنافا كأن السامع بعد أن سمع ما مر من عجائب هؤلاء الفرق الثلاث جمعا وتفريقا تسنى له أن يقول لقد أسمعتنا من مساويهم عجبا فهل انتهت مساويهم أم لهم مساو أخرى لأن ما سمعناه مؤذن بأنها مساو لا تصدر إلا عن فطر خبيثة.
وقد اجتمع على هذه الضلالة الفرق الثلاث كما اتفقوا على ما قبلها، فقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله وقال المشركون الملائكة بنات الله فتكون هاته الآية رجوعا إلى جمعهم في قرن إتماما لجمع أحوالهم الواقع في قوله: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ} [البقرة: من الآية105] وفي قوله: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} [البقرة: 113] وقد ختمت هذه الآية بآية جمعت الفريق الثالث في مقالة أخرى وذلك قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ} إلى قوله

{كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} [البقرة: 118]
والقول هنا على حقيقته وهو الكلام اللساني ولذلك نصب الجملة وأريد أنهم اعتقدوا ذلك أيضا لأن الغالب في الكلام أن يكون على وفق الاعتقاد. وقوله {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} جاء بلفظ "اتخذ" تعريضا بالاستهزاء بهم بأن كلامهم لا يلتئم لأنهم أثبتوا ولدا لله ويقولون اتخذه الله.
والاتخاذ الاكتساب وهو ينافي الولدية إذ الولدية تولد بدون صنع فإذا جاء الصنع جاءت العبودية لا محالة وهذا التخالف هو ما يعبر عنه في علم الجدل بفساد الوضع وهو أن يستنتج وجود الشيء من وجود ضده كما يقول قائل القتل جناية عظيمة فلا تكفر مثل الردة.
وأصل هذه المقالة بالنسبة للمشركين ناشيء عن جهالة وبالنسبة لأهل الكتابين ناشئ عن توغلهما في سوء فهم الدين حتى توهموا التشبيهات والمجازات حقائق فقد ورد وصف الصالحين بأنهم أبناء الله على طريقة التشبيه وورد في كتاب النصارى وصف الله تعالى بأنه أبو عيسى وأبو الأمة فتلقفته عقول لا تعرف التأويل ولا نؤيد اعتقادها بواضح الدليل فظنته على حقيقته.
جاء في التوراة في ألإصحاح 14 من سفر التثنية أنتم أولاد للرب إلهكم لا تخمشوا أجسامكم وفي إنجيل متى الإصحاح 5 طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون وفيه وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات وفي الإصحاح 6 انظروا إلى طيور السماء إنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن وأبوكم السماوي يقوتها وتكرر ذلك في الأناجيل غير مرة ففهموها بسوء الفهم على ظاهر عبارتها ولم يراعوا أصول الديانة التي توجب تأويلها ألا ترى أن المسلمين لما جاءتهم أمثال هاته العبارات أحسنوا تأويلها وتبينوا دليلها كما في الحديث الخلق عيال الله.
وقوله {سبحانه} تنزيه لله عن شنيع هذا القول. وفيه إشارة إلى أن الولدية نقص بالنسبة إلى الله تعالى وإن كانت كمالا في الشاهد لأنها إنما كانت كمالا في الشاهد من حيث إنها تسد بعض نقائصه عند العجز والفقر وتسد مكانه عند الاضمحلال والله منزه عن جميع ذلك فلو كان له ولد لآذن بالحدوث وبالحاجة إليه.

وقوله: {بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} إضراب عن قولهم لإبطاله، وأقام الدليل على الإبطال بقوله: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فالجملة استئناف ابتدائي واللام للملك "وما في السماوات والأرض" أي ما هو موجود فإن السماوات والأرض هي مجموع العوالم العلوية والسفلية.
وما من صيغ العموم تقع على العاقل وغيره على المجموع وهذا هو الأصح الذي ذهب إليه في المفصل واختاره الرضي. وقيل ما تغلب أو تختص بغير العقلاء ومن يختص بالعقلاء وربما استعمل كل منهما في الآخر وهذا هو المشتهر بين النحاة وإن كان ضعيفا وعليه فهم يجيبون على نحو هاته الآية بأنها من قبيل التغليب تنزيلا للعقلاء في كونهم من صنع الله بمنزلة مساوية لغيره من بقية الموجودات تصغيرا لشأن كل موجود.
والقنوت الخضوع والانقياد مع خوف وإنما جاء {قانتون} بجمع المذكر السالم المختص بالعقلاء تغليبا لأنهم أهل القنوت عن إرادة وبصيرة.
والمضاف إليه المحذوف بعد كل دل عليه قوله: {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي كل ما في السماوات والأرض أي العقلاء له قانتون وتنوين كل تنوين عوض عن المضاف إليه وسيأتي بيانه عند قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [البقرة: من الآية148] في هذه السورة. وفي قوله: {لَهُ قَانِتُونَ} حجة ثالثة على انتفاء الولد لأن الخضوع من شعار العبيد أما الولد فله إدلال على الوالد وإنما يبر به ولا يقنت، فكان إثبات القنوت كناية عن انتفاء الولدية بانتفاء لازمها لثبوت مساوي نقيضه ومساوي النقيض نقيض وإثبات النقيض يستلزم نفي ما هو نقيض له.
وفصل جملة {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} لقصد استقلالها بالاستدلال حتى لا يظن السامع أنها مكملة للدليل المسوق له قوله {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}
وقد استدل بها بعض الفقهاء على أن من ملك ولده أعتق عليه لأن الله تعالى جعل نفي الولدية بإثبات العبودية فدل ذلك على تنافي الماهيتين وهو استرواح حسن.
[117] {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}
هو بالرفع خبر لمحذوف على طريقة حذف المسند إليه لاتباع الاستعمال كما تقدم

في قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ} [البقرة: 18] وذلك من جنس ما يسمونه بالنعت المقطوع.
والبديع مشتق من الإبداع وهو الإنشاء على غير مثال فهو عبارة عن إنشاء المنشآت على غير مثال سابق وذلك هو خلق أصول الأنواع وما يتولد من متولداتها فخلق السماوات إبداع وخلق الأرض إبداع وخلق آدم إبداع وخلق نظام التناسل إبداع، وهو فعيل بمعنى فاعل فقيل هو مشتق من بدع المجرد مثل قدر إذا صح وورد بدع بمعنى قدر بقلة أو هو مشتق من أبدع ومجيء فعيل من أفعل قليل، ومنه قول عمرو بن معد يكرب:
أمن ريحانة الداعي السميع ... يؤرقني وأصحابي هجوع1
يريد المسمع. ومنه أيضا قول كعب بن زهير:
سقاك بها المأمون كأسا روية ... فأنهلك المأمون منها وعلك
أي كأسا مروية. فيكون هنا مما جاء قليلا وقد قدمنا الكلام عليه في قوله تعالى {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 32] ويأتي في قوله {بَشِيراً وَنَذِيراً} [البقرة: 119] وقد قيل في البيت تأويلات متكلفة والحق أنه استعمال قليل حفظ في ألفاظ من الفصيح غير قليلة مثل النذير والبشير إلا أن قلته لا تخرجه عن الفصاحة لأن شهرته تمنع من جعله غريبا. وأما كونه مخالفا للقياس فلا يمنع من استعماله إلا بالنسبة إلى المولد إذا أراد أن يقيس عليه في مادة أخرى.
وذهب صاحب الكشاف إلى أن بديع هنا صفة مشبهة مأخوذ من بدع بضم الدال أي كانت البداعة صفة ذاتية له بتأويل بداعة السماوات والأرض التي هي من مخلوقاته فأضيفت إلى فاعلها الحقيقي على جعله مشبها بالمفعول به وأجريت الصفة على اسم
ـــــــ
1 أغار الصمت بن بكر الجشمي في خيل من قيس على بني زبيد رهط عمرو فسبى الصمة بن بكر ريحانة أخت عمرو ولم يستطع عمرو افتكاكها منه فرغب من الصمة أن يردها إليه فابى وذهب بها وهي تنادي ياعمرو ياعمرو فقال عمرو هاته الأبيات وبعدها:
سباها الصمة الجشمي غصبا ... كأن بياض غرتها صديع
وحالت دونها فرسان قيس ... تكشف عن سواعدها الدروع
إذا لم تستطع شيئا فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع
وكله للزمان فكل خطب ... سما لك أو سموت له ولوع
هذا هو الصحيح وللروات في هذه القصة اختلافات لا يعتد بها.

الجلالة ليكون ضميره فاعلا لفظا على نحو زيد حسن الوجه كما يقال فلان بديع الشعر، أي بديعة سماواته.
وأما بيت عمرو فإنما عينوه للتنظير ولم يجوزوا فيه احتمال أن يكون السميع بمعنى المسموع لوجوه أحدهما أنه لم يرد سميع بمعنى مسموع مع أن فعيلا بمعنى مفعول غير مطرد. الثاني أن سميع وصفا للذات وهو الداعي وحكم سمع إذا دخلت على ما لا يسمع أن تصير من أخوات ظن فيلزم مجيء مفعول ثان بعد النائب المستتر وهو مفقود. الثالث أن المعنى ليس على وصف الداعي بأنه مسموع بل على وصفه بأنه مسمع أي الداعي القاصد للإسماع المعلن لصوته وذلك مؤذن بأنه داع في أمر مهم.
ووصف الله تعالى ببديع السماوات والأرض مراد به أنه بديع السماوات والأرض من المخلوقات وفي هذا الوصف استدلال على نفي بنوة من جعلوه ابنا لله تعالى لأنه تعالى لما كان خالق السماوات والأرض وما فيهما. فلا شيء من تلك الموجودات أهل لأن يكون ولدا له بل جميع ما بينهما عبيد لله تعالى كما تقدم في قوله: {بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة: 116] ولهذا رتب نفي الولد على كونه بديع السماوات والأرض في سورة الأنعام [10] بقوله: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ}
وقوله: {وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} إلخ كشف لشبهة النصارى واستدلال على أنه لا يتخذ ولدا بل يكون الكائنات كلها بتكوين واحد وكلها خاضعة لتكوينه وذلك أن النصارى توهموا أن مجيء المسيح من غير أب دليل على أنه ابن الله فبين الله تعالى أن تكوين أحوال الموجودات من لا شيء أعجب من ذلك وأن كل ذلك راجع إلى التكوين والتقدير سواء في ذلك ما وجد بواسطة تامة أو ناقصة أو بلا واسطة قال تعالى {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:59] فليس تخلق عيسى من أم دون أب بموجب كونه ابن الله تعالى.
و"كان" في الآية تامة لا تطلب خبرا أي يقول له إيجد فيوجد والظاهر أن القول والمقول. والمسبب هنا تمثيل لسرعة وجود الكائنات عند تعلق الإرادة والقدرة بهما بأن شبه فعل الله تعالى بتكوين شيء وحصول المكون عقب ذلك بدون مهلة بتوجه الآمر للمأمور بكلمة الأمر وحصول امتثاله عقب ذلك لأن تلك أقرب الحالات المتعارفة التي يمكن القريب بها في الأمور التي لا تتسع اللغة للتعبير عنها وإلى نحو هذا مال صاحب

الكشاف ونظره بقول أبي النجم:
إذ قالت الأنساع للبطن ألحق ... قدما فآضت كالفنيق المحنق1
والذي يعين كون هذا تمثيلا أنه لا يتصور خطاب من ليس بموجود بأن يكون موجودا فليس هذا التقرير الصادر من الزمخشري مبنيا على منع المعتزلة قيام صفة الكلام بذاته تعالى إذ ليس في الآية ما يلجئهم إلى اعتبار قيام صفة الكلام إذ كان يمكنهم تأويله بما تأولوا به آيات كثيرة ولذلك سكت عنه ابن المنير خلافا لما يوهمه كلام ابن عطية.
[118] {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}
عطف على قوله { وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} المعطوف على قوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى} [البقرة: 113]. لمناسبة اشتراك المشركين واليهود والنصارى في الأقوال والعقائد الضالة إلا أنه قدم قول أهل الكتاب في الآية الماضية وهي {وَقَالَتِ الْيَهُودُ} لأنهم الذين ابتدأوا بذلك أيام مجادلتهم في تفاضل أديانهم ويومئذ لم يكن للمشركين ما يوجب الاشتغال بذلك إلى أن جاء الإسلام فقالوا مثل قول أهل الكتاب.
وجمع الكل في {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} إلا أنه لم يكن فريق من الثلاثة فيه مقتبسا من الآخر بل جميعه ناشئ من الغلو في تقديس الموجودات الفاضلة ومنشؤه سوء الفهم في العقيدة سواء كانت مأخوذة من كتاب كما تقدم في منشأ قول أهل الكتابين: {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} أم مأخوذة من أقوال قادتهم كما قالت العرب: الملائكة بنات الله.
وقدم قول المشركين هنا لأن هذا القول أعلق بالمشركين إذ هو جديد فيهم وفاش بينهم. فلما كانوا مخترعي هذا القول نسب إليهم، ثم نظر بهم الذين من قبلهم وهم اليهود والنصارى. إذ قالوا مثل ذلك لرسلهم.
و {لولا} هنا حرف تحضيض قصد منه التعجيز والاعتذار عن عدم الإصغاء للرسول استكبارا بأن عدوا أنفسهم أحرياء بالرسالة وسماع كلام الله تعالى وهذا مبالغة في الجهالة
ـــــــ
1 الأنساع جمع نسع وهو الحزام الذي يشد على بطن الراحلة. ومعنى قولها للبطن ألحق أنها شدت على البطن حتى ضمر البطن والتحق بالظهر. والقدم بضم القاف وضم الدال المضي سريعا وسكنه للضرورة والفنيق؛ الفحل. والمحنق: الضامر

لا يقولها أهل الكتاب الذين أثبتوا الرسالة والحاجة إلى الرسل.
وقوله: {أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ} أرادوا مطلق آية فالتنكير للنوعية وحينئذ فهو مكابرة وجحود لما جاءهم من الآيات وحسبك بأعظمها وهو القرآن وهذا هو الظاهر من التنكير وقد سألوا آيات مقترحات: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً} [الاسراء:90]
الآيات وهم يحسبون أن الآيات هي عجائب الحوادث أو المخلوقات وما دروا أن الآية العلمية العقلية أوضح المعجزات لعمومها ودوامها وقد تحداهم الرسول بالقرآن فعجزوا عن معارضته وكفاهم بذلك آية لو كانوا أهل إنصاف.
وقوله: {كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم} أي كمثل مقالتهم هذه قال الذين من قبلهم من الأمم مثل قولهم والمراد بالذين من قبلهم اليهود والنصارى فقد قال اليهود لموسى: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة: من الآية55] وسأل النصارى عيسى: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} [المائدة: 112]
وفي هذا الكلام تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم بأن ما لقيه من قومه مثل ما لاقاه الرسل قبله ولذلك أردفت هذه الآية بقوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ} [البقرة: 119] الآية. ثم يجوز أن تكون جملة: {كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم } واقعة موقع الجواب لمقالة الذين لا يعلمون وهو جواب إجمالي اقتصر فيه على تنظير حالهم بحال من قبلهم فيكون ذلك التنظير كناية عن الإعراض عن جواب مقالهم وأنه لا يستأهل أن يجاب لأنهم ليسوا بمرتبة من يكلمهم الله وليست أفهامهم بأهل لإدراك ما في نزول القرآن من أعظم آية وتكون جملة: {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} تقريرا أي تشابهت عقولهم في الأفن وسوء النظر. وتكون جملة {قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} تعليلا للإعراض عن جوابهم بأنهم غير أهل للجواب لأن أهل الجواب هم القوم الذين يوقنون وقد بينت لهم آيات القرآن بما اشتملت عليه من الدلائل، وأما هؤلاء فليسوا أهلا للجواب لأنهم ليسوا بقوم يوقنون بل ديدنهم المكابرة.
ويجوز أن تكون جملة {كذلك} قال إلى آخرها معترضة بين جملة {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} وبين جملة {قَدْ بَيَّنَّا الآياتِ} وتجعل جملة {قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ} هي الجواب عن مقالتهم والمعنى لقد أتتكم الآية وهي آيات القرآن ولكن لا يعقلها إلا الذين يوقنون أي دونكم فيكون على وزان قوله تعالى {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت: 51]. ووقع الإعراض عن جواب قولهم : {لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ} لأنه بديهي البطلان كما قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى

رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً} [الفرقان:21]
والقول في مرجع التشبيه والمماثلة من قوله {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} على نحو القول في الآية الماضية {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} [البقرة: 113]
وقوله {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} تقرير لمعنى {قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} ، أي كانت عقولهم متشابهة في الأفن وسوء النظر فلذا اتحدوا في المقالة. فالقلوب هنا بمعنى العقول كما هو المتعارف في اللغة العربية. وقوله {تشابهت} صيغة من صيغ التشبيه وهي أقوى فيه من حروفه وأقرب بالتشبيه البليغ، ومن محاسن ما جاء في ذلك قول الصابيء:
تشابه دمعي إذ جرى ومداميتي ... فمن مثل ما في الكأس عيني تسكب
وفي هذه الآية جعلت اليهود والنصارى مماثلين للمشركين في هذه المقالة لأن المشركين أعرق فيها إذ هم أشركوا مع الله غيره فليس ادعاؤهم ولدا لله بأكثر من ادعائهم شركة الأصنام مع الله في الإلهية فكان اليهود والنصارى ملحقين بهم لأن دعوى الابن لله طرأت عليهم ولم تكن من أصل ملتهم وبهذا الأسلوب تأتي الرجوع إلى بيان أحوال أهل الكتابين الخاصة بهم وذلك من رد العجز على الصدر.
وجيء بالفعل المضارع في {يوقنون} لدلالته على التجدد والاستمرار كناية عن كون الإيمان خلقا لهم فأما الذين دأبهم الإعراض عن النظر والمكابرة بعد ظهور الحق فإن الإعراض يحول دون حصول اليقين والمكابرة تحول عن الانتفاع به فكأنه لم يحصل فأصحاب هذين الخلقين ليسوا من الموقنين.
وتبين الآيات هو ما جاء من القرآن المعجز للبشر الذي تحدى به جميعهم فلم يستطيعوا الإتيان بمثله كما تقدم، وفي الحديث ما من الأنبياء نبي إلا أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحى الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة فالمعنى قد بينا الآيات لقوم من شأنهم أن يوقنوا ولا يشككوا أنفسهم أو يعرضوا حتى يحول ذلك بينهم وبين الإيقان أو يكون المعنى قد بينا الآيات لقوم يظهرون اليقين ويعترفون بالحق لا لقوم مثلكم من المكابرين.
[119] {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} [البقرة:119]

جملة معترضة بين حكايات أحوال المشركين وأهل الكتاب القصد منها تأنيس الرسول عليه الصلاة والسلام من أسفه على ما لقيه من أهل الكتاب مما يماثل ما لقيه من المشركين وقد كان يود أن يؤمن به أهل الكتاب فيتأيد بهم الإسلام على المشركين فإذا هو يلقي منهم ما لقي من المشركين أو أشد وقد قال لو آمن بي عشرة من اليهود لآمن بي اليهود كلهم فكان لتذكير الله إياه بأنه أرسله تهدئة لخاطره الشريف وعذر له أبلغ الرسالة وتطمين لنفسه بأنه غير مسئول عن قوم رضوا لأنفسهم بالجحيم. وفيه تمهيد للتأسيس من إيمان اليهود والنصارى.
وجيء بالتأكيد وإن كان النبي لا يتردد في ذلك لمزيد الاهتمام بهذا الخبر وبيان أنه ينوه به لما تضمنه من تنويه شأن الرسول.
وجيء بالمسند إليه ضمير الجلالة تشريفا للنبي صلى الله عليه وسلم بعز الحضور لمقام التكلم مع الخالق تعالى وتقدس كأن الله يشافهه بهذا الكلام بدون واسطة فلذا لم يقل له إن الله أرسلك.
وقوله: {بالحق} متعلق بأرسلناك. والحق هو الهدى والإسلام والقرآن وغير ذلك من وجوه القرآن والمعجزات وهي كلها ملابسة للنبيء صلى الله عليه وسلم في رسالته بعضها بملابسة التبليغ وبعضها بملابسة التأييد. فالمعنى أنك رسول الله وأن القرآن حق منزل من الله.
وقوله: {بَشِيراً وَنَذِيراً} حالان وهما بزنة فعيل بمعنى فاعل مأخوذان من بشر المضاعف وأنذر المزيد فمجيئهما من الرباعي على خلاف القياس كالقول في: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [البقرة: من الآية117] المتقدم آنفا وقيل البشير مشتق من بشر المخفف الشين من باب نصر ولا داعي إليه.
وقوله: {وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} الواو للعطف وهو إما على جملة {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ} أو على الحال في قوله {بَشِيراً وَنَذِيراً} ويجوز كون الواو للحال.
قرأ نافع ويعقوب بفتح الفوقية وسكون اللام على أن لا حرف نهي جازم للمضارع وهو عطف إنشاء على خبر والسؤال هنا مستعمل في الاهتمام والتطلع إلى معرفة الحال مجازا مرسلا بعلاقة اللزوم لأن المعنى بالشيء المتطلع لمعرفة أحواله يكثر من السؤال عنه. أو هو كناية عن فظاعة أحوال المشركين والكافرين حتى أن المتفكر في مصير حالهم ينهى عن الاشتغال بذلك لأنها أحوال لا يحيط بها الوصف ولا يبلغ إلى كنهها العقل في

فظاعتها وشناعتها، وذلك أن النهي عن السؤال يرد لمعنى تعظيم أمر المسؤول عنه نحو قول عائشة يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ولهذا شاع عند أهل العلم إلقاء المسائل الصعبة بطريقة السؤال نحو "فإن قلت" للاهتمام.
وقرأه جمهور العشرة بضم الفوقية ورفع اللام على أن لا نافية اي لا يسألك الله عن أصحاب الجحيم وهو تقرير لمضمون {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ} والسؤال كناية عن المؤاخذة واللوم مثل قوله صلى الله عليه وسلم "وكلكم مسؤول عن رعيته" أي لست مؤاخذا ببقاء الكافرين على كفرهم بعد أن بلغت لهم الدعوة.
وما قيل أن الآية نزلت في نهيه صلى الله عليه وسلم عن السؤال عن حال أبويه في الآخرة فهو استناد لرواية واهية ولو صحت لكان حمل الآية على ذلك مجافيا للبلاغة إذ قد علمت أن قوله {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ} تأنيس وتسكين فالإتيان معه بما يذكر المكدرات خروج عن الغرض وهو مما يعبر عنه بفساد الوضع.
[120] {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ}
عطف على قوله: {وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} [البقرة: من الآية119] أو على: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ} [البقرة: من الآية119] وقد جاء هذا الكلام المؤيس من إيمانهم بعد أن قدم قبله التأنيس والتسلية على نحو مجيء العتاب بعد تقديم العفو في قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: من الآية43] وهذا من كرامة الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم.
والنفي بلن مبالغة في التأنيس لأنها لنفي المستقبل وتأييده.
والملة بكسر الميم الدين والشريعة وهي مجموع عقائد وأعمال يلتزمها طائفة من الناس يتفقون عليها وتكون جامعة لهم كطريقة يتبعونها، ويحتمل أنها مشتقة من أمل الكتاب فسميت الشريعة ملة لأن الرسول أو واضع الدين يعلمها للناس ويمللها عليهم كما سميت دينا باعتبار قبول الأمة لها وطاعتهم وانقيادهم.
ومعنى الغاية في: {حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} الكناية عن اليأس من اتباع اليهود والنصارى لشريعة الإسلام يومئذ لأنهم إذا كانوا لا يرضون إلا باتباعه ملتهم فهم لا يتبعون ملته، ولما كان اتباع النبي ملتهم مستحيلا كان رضاهم عنه كذلك على حد {حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ

فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: من الآية40] وقوله {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون:3] والتصريح بلا النافية بعد حرف العطف في قوله {ولا النصارى} للتنصيص على استقلالهم بالنفي وعم الاقتناع باتباع حرف العطف لأنهم كانوا يظن بهم خلاف ذلك لإظهارهم شيئا من المودة للمسلمين كما في قوله تعالى {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِك} [المائدة: 82] وقد تضمنت هذه الآية أنهم لا يؤمنون بالنبي لأنه غير متبع ملتهم وأنهم لا يصدقون القرآن لأنه جاء بنسخ كتابيهم.
وقوله: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} أمر بالجواب عما تضمنه قوله {وَلَنْ تَرْضَى} من خلاصة أقوال لهم يقتضي مضمونها أنهم لا يرضيهم شيء مما يدعوهم النبي إليه إلا أن يتبع ملتهم وأنهم يقولون إن ملتهم هدى فلا ضير عليه إن اتبعها مثل قولهم: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى} [البقرة: من الآية111] وغير ذلك من التلون في الإعراض عن الدعوة ولذلك جيء في جوابهم بما هو الأسلوب في المجاوبة من فعل القول بدون حرف العطف.
ويجوز أن يكونوا قد قالوا ما تضمنته الآية من قوله: {حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} و {هُدَى اللَّهِ} ما يقدره للشخص من التوفيق أي قل لهم لا أملك لكم هدى إلا أن يهديكم الله، فالقصر حقيقي.
ويجوز أن يكون المراد بهدى الله الذي أنزله إلي هو الهدى يعني أن القرآن هو الهدى إبطالا لغرورهم بأن ما هم عليه من الملة هو الهدى وأن ما خالفه ضلال، والمعنى أن القرآن هو الهدى وما أنتم عليه ليس من الهدى لأن أكثره من الباطل. فإضافة الهدى إلى الله تشريف، والقصر إضافي. وفيه تعريض بأن ما هم عليه يومئذ شيء حرفوه ووضعوه. فيكون القصر إما حقيقيا ادعائيا بأن يراد هو الهدى الكامل في الهداية فهدى غيره من الكتب السماوية بالنسبة إلى هدى القرآن كلا هدى لأن هدى القرآن أعم وأكمل فلا ينافي إثبات الهداية لكتابهم كما في قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ} [المائدة: 44] وقوله: {وَآتَيْنَاهُ الْأِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ} [المائدة: 46] وإما فصرا إضافيا أي هو الهدى دون ما أنتم عليه من ملة مبدلة مشوبة بضلالات وبذلك أيضا لا ينتفي الهدى عن كثير من التعاليم والنصايح الصالحة الصادرة عن الحكماء وأهل العقول الراجحة والتجربة لكنه هدى ناقص.
وقوله: {هُوَ الْهُدَى} الضمير ضمير منفصل. والتعريف في الهدى تعريف الجنس

الدال على الاستغراق ففيه طريقان من طرق الحصر هما ضمير الفصل وتعريف الجزأين وفي الجمع بينهما إفادة تحقيق معنى القصر وتأكيده للعناية به فأيهما اعتبرته طريق قصر كان الآخر تأكيدا للقصر وللخبر أيضا.
والتوكيد بأن لتحقيق الخبر وتحقيق نسبته وإبطال تردد المتردد لأن القصر الإضافي لما كان المقصود منه رد اعتقاد المخاطب قد لا يتفطن المخاطب إلى ما يقتضيه من المتأكيد فزيد هنا مؤكد آخر وهو حرف "إن" اهتماما بتأكيد هذا الحكم. فقد اجتمع في هذه الجملة عدة مؤكدات هي: حرف إن. والقصر، إذ القصر تأكيد على تأكيد كما في المفتاح فهو في قوة مؤكدين، مع تأكيد القصر بضمير الفصل وهي تنحل إلى أربعة مؤكدات لأن القصر بمنزلة تأكيدين وقد انضم إليهما تأكيد القصر بضمير الفصل وتأكيد الجملة بحرف "إن".
ولعل الآية تشير إلى أن استقبال النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة إلى القبلة التي يستقبلها اليهود لقطع معذرة اليهود كما سيأتي في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة: من الآية143] فأعلم رسوله بقوله: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى} بأن ذلك لا يلين من تصلب اليهود في عنادهم فتكون إيماء إلى تمهيد نسخ استقبال بيت المقدس.
وقوله: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} اللام موطئة للقسم وذلك توكيد للخبر وتحقيق له. وعبر عن طريقتهم هنالك بالملة نظرا لاعتقادهم وشهرة ذلك عند العرب، وعبر عنها هنا بالأهواء بعد أن مهد له بقوله: {إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} فإن الهوى رأى ناشئ عن شهوة لا عن دليل، ولهذا لم يؤت بالضمير الراجع للملة وعبر عنها بالاسم الظاهر فشملت أهواؤهم التكذيب بالنبي وبالقرآن واعتقادهم أن ملتهم لا ينقضها شرع آخر.
وقوله: {مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} تحذير لكل من تلقى الإسلام أن لا يتبع بعد الإسلام أهواء الأمم الأخرى، جاء على طريقة تحذير النبي صلى الله عليه وسلم مثل: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: من الآية65] وهو جواب القسم ودليل جواب الشرط لأن اللام موطئة للقسم فالجواب لها. وجيء بأن الشرطية التي تأتي في مواقع عدم القطع بوقوع شرطها لأن هذا فرض ضعيف في شأن النبي والمسلمين.
والولي القريب والحليف. والنصير كل من يعين أحدا على من يريد به ضرا وكلاهما

فعيل بمعنى فاعل.
و"من" في قوله {مِنَ اللَّهِ} متعلقة بولي لتضمينه معنى مانع من عقابه ويقدر مثله بعد {وَلا نَصِيرٍ} . أي نصير من الله. و"من" في قوله {مِنْ وَلِيٍّ} مؤكدة للنفي. وعطف النصير على الولي احتراس لأن نفي الولي لا يقتضي نفي كل نصير إذ لا يكون لأحد ولي لكونه دخيلا في قبيلة ويكون أنصاره من جيرته. وكان القصد من نفي الولاية التعريض بهم في اعتقادهم أنهم أبناء الله وأحباؤه فنفي ذلك عنهم حيث لم يتبعوا دعوة الإسلام ثم نفى الأعم منه وهذه نكتة عدم الاقتصار على نفي الأعم.
وقد اشتملت جملة {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ} إلى آخرها على تحذير من الطمع في استدناء اليهود أو النصارى بشيء من استرضائهم طمعا في إسلامهم بتألف قلوبهم فأكد ذلك التحذير بعشرة مؤكدات وهي القسم المدلول عليه باللام الموطئة للقسم. وتأكيد جملة الجزاء بإن. وبلام الابتداء في خبرها. واسمية جملة الجزاء وهي {مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} . وتأكيد النفي بمن في قوله {مِنْ وَلِيٍّ} والإجمال ثم التفصيل بذكر اسم الموصول وتبيينه بقوله من العلم. وجعل الذي جاء "أي أنزل إليه" هو العلم كله لعدم الاعتداد بغيره لنقصانه. وتأكيد {مِنْ وَلِيٍّ} بعطف {وَلا نَصِيرٍ} . الذي هو آيل إلى معناه وإن اختلف مفهومه، فهو كالتأكيد بالمرادف.
[121] {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}
استئناف ناشئ عن قوله {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى} [البقرة: 120} مع قوله: {إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} [البقرة: 120] لتضمنه أن اليهود والنصارى ليسوا يومئذ على شيء من الهدى كأن سائلا سأل كيف وهم متمسكون بشريعة ومن الذي هو على هدى ممن اتبع هاتين الشريعتين.
فأجيب بأن الذين أوتوا الكتاب وتلوه حق تلاوته هم الذين يؤمنون به. ويجوز أن يكون اعتراضا في آخر الكلام لبيان حال المؤمنين الصادقين من أهل الكتاب لقصد إبطال اعتقادهم أنهم على التمسك بالإيمان بالكتاب. وهو ينظر إلى قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ}

[البقرة: 91] الخ. وهو صدر هاته المحاورات وما تخللها من الأمثال والعبر والبيان. فقوله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} فذلكة لما تقدم وجواب قاطع لمعذرتهم المتقدمة وهو من باب رد العجز على الصدر. ولأحد هذين الوجهين فصلت الجملة ولم تعطف لأنها في معنى الجواب، ولأن المحكي بها مباين لما يقابله المتضمن له قوله: {قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} ولما انتقل منه إليه وهو قوله: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} [البقرة: 116] وقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 118] وقوله: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ} حال من الذين أوتوا الكتاب إذ هم الآن يتلونه حق تلاوته وانتصب {حَقَّ تِلاوَتِهِ} . على المفعول المطلق وإضافته إلى المصدر من إضافة الصفة إلى الموصوف أي تلاوة حقا.
و"الحق" هنا ضد الباطل أي تلاوة مستوفية قوام نوعها لا ينقصها شيء مما يعتبر في التلاة وتلك هي التلاوة بفهم مقاصد الكلام المتلو فإن الكلام يراد منه إفهام السامع فإذا تلاه القارئ ولم يفهم جميع ما أراده قائله كانت تلاوته غامضة فحق التلاوة هو العلم بما في المتلو.
وقوله: {أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} جملة هي خبر المبتدأ وهو اسم الموصول، وجيء، باسم الإشارة في تعريفهم دون الضمير وغيره للتنبيه على أن الأوصاف المتقدمة التي استحضروا بواسطتها حتى أشير إليهم باتصافهم بها هي الموجبة لجدارتهم بالحكم المسند لاسم الإشارة على حد {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 5] فلا شك أن تلاوتهم الكتاب حق تلاوته تثبت لهم أو حديتهم بالإيمان بذلك الكتاب لأن إيمان غيرهم به كالعدم. فالقصر ادعائي. فضمير {به} راجع إلى الكتاب من قوله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} وإذا كانوا هم المؤمنين به كانوا مؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم لانطباق الصفات التي في كتبهم عليه ولأنهم مأخوذ عليهم العهد أن يؤمنوا بالرسول المقفى وأن يجتهدوا في التمييز بين الصادق من الأنبياء والكذبة حتى يستيقنوا انطباق الصفات على النبي الموعود به فمن هنا قال بعض المفسرين إن ضمير {به} عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه لم يتقدم له معاد.
ويجوز أن يعود الضمير من قوله {يُؤْمِنُونَ بِهِ} إلى الهدى في قوله: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} [البقرة: 120] أي يؤمنون بالقرآن أنه منزل من الله فالضمير المجرور بالباء راجع للكتاب في قوله: {آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} والمراد به التوراة والإنجيل واللام للجنس أو التوراة فقط لأنها معظم الدينين والإنجيل تكملة فاللام للعهد. ومن هؤلاء عبد الله بن سلام من اليهود وعدي بن حاتم وتميم الداري من النصارى.

والقول في قوله {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} كالقول في {أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} وهو تصريح بحكم مفهوم {أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} وفيه اكتفاء عن التصريح بحكم المنطوق وهو أن المؤمنين به هم الرابحون ففي الآية إيجاز بديع لدلالتها على أن الذين أوتوا الكتاب يتلونه حق تلاوته هم المؤمنون دون غيرهم فهم كافرون فالمؤمنون به هم الفائزون والكافرون هم الخاسرون.
[123,122] {يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ}
أعيد نداء بني إسرائيل نداء التنبيه والإنذار والتذكير على طريقة التكرير في الغرض الذي سيق الكلام الماضي لأجله فإنه ابتدأ نداءهم أولا بمثل هاته الموعظة في ابتداء التذكير بأحوالهم الكثيرة خيرها وشرها عقب قوله: {وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: من الآية46] فذكر مثل هاته الجملة هناك كذكر المطلوب في صناعة المنطق قبل إقامة البرهان وذكرها هنا كذكر النتيجة في المنطق عقب البرهان تأييدا لما تقدم وفذلكة له وهو من ضروب رد العجز على الصدر.
وقد أعيدت هذه الآية بالألفاظ التي ذكرت بها هنالك للتنبيه على نكتة التكرير للتذكير ولم يخالف بين الآيتين إلا في الترتيب بين العدل والشفاعة فهنالك قدم: {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} [البقرة: من الآية48] وأخر: {وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} [البقرة: من الآية48] وهنا قدم: {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ} وأخر لفظ الشفاعة مسندا إليه {تنفعها} وهو تفنن والتفنن في الكلام تنتفي به سآمة الإعادة مع حصول المقصود من التكرير، وقد حصل مع التفنن نكتة لطيفة إذ جاءت الشفاعة في الآية السابقة مسندا إليها المقبولية فقدمت على العدل بسبب نفي قبولها ونفي قبول الشفاعة لا يقتضي نفي أخذ الفداء فعطف نفي أخذ الفداء للاحتراس. وأما في هذه الآية فقدم الفداء لأنه أسند إليه المقبولية ونفي قبول الفداء لا يقتضي نفي نفع الشفاعة فعطف نفي نفع الشفاعة على نفي قبول الفداء للاحتراس أيضا.
والحاصل أن الذي نفي عنه أن يكون مقبولا قد جعل في الآيتين أولا وذكر الآخر بعده. وأما نفي القبول مرة عن الشفاعة ومرة عن العدل فلأن أحوال الأقوام في طلب الفكاك عن الجناة تختلف فمرة يقدمون الفداء فإذا لم يقبل قدموا الشفعاء. ومرة يقدمون

الشفعاء فإذا لم تقبل شفاعتهم عرضوا الفداء.
وقوله: {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ} مراد منه أنه لا عدل فيقبل ولا شفاعة شفيع يجدونه فتقبل شفاعته لأن دفع الفداء متعذر وتوسط الشفيع لمثلهم ممنوع إذ لا يشفع الشفيع إلا لمن أذن الله له. قال ابن عرفة فيكون نفي نفع الشفاعة هنا من باب قوله:
على لا حب لا يهتدي بمناره1
يريد أنها كناية عن نفي الموصوف بنفي صفته الملازمة له كقولهم:
ولا ترى الضب بها ينجحر2
وهو ما يعبر عنه المناطقة بأن السالبة تصدق مع نفي الموضوع وإنما يكون ذلك بطريق الكناية وأما أن يكون استعمالا في أصل العربية فلا والمناطقة تبعوا فيه أساليب اليونان.
والقول في بقية الآيات مستغنى عنه بما تقدم في نظيرتها.
وهنا ختم الحجاج مع أهل الكتاب في هذه السورة وذلك من براعة المقطع.
ـــــــ
1 قائله امرؤ القيس وقبله:
وإني زعيم إن رجعت مملكا ... بسير ترى منه الفرانق أزدرا
على لا حب إلخ.... ... إذا سافه العوذ الديا في جرجرا
الفرانق بضم الفاء وكسر النون هو الذي يدل صاحب البريد. وأزدروا أفعل تفضيل لغة في أصدرا قريء بها قوله تعالى {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً} [الزلزلة: 6] اللاحب: الطريق الواسع. والمنار العلامة. وسافه: شده. والديافي منسوب إلى دياف- بكسر الدال- قرية تنسب لها كرام الإبل وجرجرا: أي صوت. والمعنى أنه يعدانه إذا رجع ليعيدن السير في طريق صعبة المسالك. وفي "شرح التفتزاني على المفتاح" في باب الإيجاز والإطناب ذكر أول هذا البيت هكذا
سدا بيديه ثم أج بسيره ... على لاحب...إلخ
قال وهو في وصف ظليم وسدا بمعنى مد وهو مجاز عن السرعة. وأج الظليم إذا جرى وسمع له حفيف.
2 ينجحر أي يدخل جحره وهو بجيم ثم حاء وقيل هذا المصراع قوله:
لا تفزع الأرنب أهوالها
كذا في "شرح التفتزاني على المفتاح" في باب الإيجاز.

{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:124]
لما كملت الحجج نهوضا على أهل الكتابين ومشركي العرب في عميق ضلالهم بإعراضهم عن الإسلام، وتبين سوء نواياهم التي حالت دون الاهتداء بهديه والانتفاع بفضله، وسجل ذلك على زعماء المعاندين أعني اليهود ابتداء بقوله {يَا بَنِي إِسْرائيلَ} [البقرة: 40] مرتين، وأدمج معهم النصارى استطرادا مقصودا، ثم أنصف المنصفون منهم الذين يتلون الكتاب حق تلاوته، انتقل إلى توجيه التوبيخ والتذكير إلى العرب الذين يزعمون أنهم أفضل ذرية إبراهيم وأنهم يتعلقون بملته، وأنهم زرع إسماعيل وسدنة البيت الذي بناه، وكانوا قد وخزوا بجانب من التعريض في خلال المحاورات التي جرت مع أهل الكتاب للصفة التي جمعتهم وإياهم من حسد النبي والمسلمين على ما أنزل عليهم من خير، ومن قولهم ليس المسلمون على شيء، ومن قولهم {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} [البقرة: 116] ، ومن قولهم {لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ} . فلما أخذ اليهود والنصارى حظهم من الإنذار والموعظة كاملا فيما اختصوا به، وأخذوا مع المشركين حظهم من ذلك فيما اشتركوا فيه تهيأ المقام للتوجه إلى مشركي العرب لإعطائهم حظهم من الموعظة كاملا فيما اختصوا به، فمناسبة ذكر فضائل إبراهيم ومنزلته عند ربه ودعوته لعقبه عقب ذكر أحوال بني إسرائيل، هي الاتحاد في المقصد، فإن المقصود من تذكير بني إسرائيل بالنعم، والتخويف، تحريضهم على الإنصاف في تلقي الدعوة الإسلامية والتجرد من المكابرة والحسد وترك الحظوظ الدنيوية لنيل السعادة الأخروية. والمقصود من ذكر قصة إبراهيم موعظة المشركين ابتداء وبني إسرائيل تبعا له، لأن العرب أشد اختصاصا بإبراهيم من حيث إنهم يزيدون على نسبهم إليه بكونهم حفظة حرمه، ومنتمين قديما للحنيفية ولم يطرأ عليهم دين يخالف الحنيفية بخلاف أهل الكتابين.
فحقيق أن نجعل قوله {وَإِذِ ابْتَلَى} عطفا على قوله تعالى {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] كما دل عليه افتتاحه بإذ على نحو افتتاح ذكر خلق آدم بقوله: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} فإن الأول تذكير بنعمة الخلق الأول وقد وقع عقب التعجب من كفر المشركين بالخالق في قوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ} [البقرة: 28]، ثم عقبت تلك التذكرة بإنذار من يكفر بآيات الله من ذرية آدم بقوله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً} [البقرة: 38] الآية، ثم خص من بين

ذرية آدم بنو إسرائيل الذين عهد إليهم على لسان موسى عهد الإيمان وتصديق الرسول الذي يجيء مصدقا لما معهم، لأنهم صاروا بمنزلة الشهداء على ذرية آدم. فتهيأ المقام لتذكير الفريقين بأبيهم الأقرب وهو إبراهيم أي وجه يكون المقصود بالخطاب فيه ابتداء العرب، ويضم الفريق الآخر معهم في قرن، ولذلك كان معظم الثناء على إبراهيم بذكر بناء البيت الحرام وما تبعه إلى أن ذكرت القبلة وسط ذلك، ثم طوى بالانتقال إلى ذكر سلف بني إسرائيل بقوله: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ} [البقرة: 133] ليفضي إلى قوله: {وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا} [البقرة: 135] فيرجع إلى تفضيل الحنيفية والإعلام بأنها أصل الإسلام وأن المشركين ليسوا في شيء منها وكذلك اليهود والنصارى. وقد افتتح ذكر هذين الطورين بفضل ذكر فضل الأبوين آدم وإبراهيم، فجاء الخبران على أسلوب واحد على أبدع وجه وأحكم نظم. فتعين أن تقدير الكلام واذكر إذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات.
ومن الناس من زعم أن قوله: {وَإِذِ ابْتَلَى} عطف على قوله: {نعمتي} أي اذكر وأنعمتي وابتلائي إبراهيم، ويلزمه تخصيص هاته الموعظة ببني إسرائيل، وتخلل {وَاتَّقُوا يَوْماً} [البقرة: 48] بين المعطوفين وذلك يضيق شمول الآية، وقد أدمج في ذلك قوله {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} وقوله: {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}
وفي هذه الآية مقصد آخر وهو تمهيد الانتقال إلى فضائل البلد الحرام والبيت الحرام، لإقامة الحجة على الذين عجبوا من نسخ استقبال بيت المقدس وتذرعوا بذلك إلى الطعن في الإسلام بوقوع النسخ فيه، وإلى تنفير عامة أهل الكتاب من اتباعه لأنه غير قبلتهم ليظهر لهم أن الكعبة هي أجدر بالاستقبال وأن الله استبقاها لهذه الأمة تنبيها على مزية هذا الدين.
والابتلاء افتعال من البلاء، وصيغة الافتعال هنا للمبالغة والبلاء الاختبار وتقدم في قوله: {وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} [البقرة: 49] وهو مجاز مشهور فيه لأن الذي يكلف غيره بشيء يكون تكليفه متضمنا انتظار فعله أو تركه فيلزمه الاختبار فهو مجاز على مجاز، والمراد هنا التكليف لأن الله كلفه بأوامره ونواه إما من الفضائل والآداب وإما من الأحكام التكليفية الخاصة به، وليس في إسناد الابتلاء إلى الله تعالى إشكال بعد أن عرفت أنه مجاز في التكليف، ولك أن تجعله استعارة تمثيلية، وكيفما كان فطريق التكليف وحي لا محالة، وهذا يدل على أن إبراهيم أوحى إليه بنبوءة لتتهيأ نفسه لتلقي الشريعة فلما امتثل

ما أمر به أوحى إليه بالرسالة وهي في قوله تعالى {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} فتكون جملة {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} بدل بعض من جملة {وَإِذِ ابْتَلَى} ، ويجوز أن يكون الابتلاء هو الوحي بالرسالة ويكون قوله {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} تفسيرا لابتلى.
والإمام الرسول والقدوة.
و"إبراهيم" اسم الرسول العظيم الملقب بالخليل وهو إبراهيم بن تارح وتسمي العرب تارح آزر بن ناحور بن سروج، ابن رعو، ابن فالح، ابن عابر ابن شالح ابن ارفكشاد، ابن سام ابن نوح هكذا تقول التوراة، ومعنى إبراهيم في لغة الكلدانيين أب رحيم أو أب راحم قاله السهيلي وابن عطية، وفي التوراة أن اسم إبراهيم إبرام وأن الله لما أوحى إليه وكلمه أمره أن يسمى إبراهيم لأنه يجعله أبا لجمهور من الأمم، فمعنى إبراهيم على هذا أبو أمم كثيرة.
ولد في أور الكلدانيين سنة 1996 ست وتسعين وتسعمائة وألف قبل ميلاد المسيح، ثم انتقل به والده إلى أرض كنعان وهي أرض الفنيقين فأقاموا بحاران هي حوران ثم خرج منها لقحط أصاب حاران فدخل مصر وزوجه سارة وهنالك رام ملك مصر افتكاك سارة فرأى آية صرفته عن مرامه فأكرمها وأهداها جارية مصرية اسمها هاجر وهي أم ولده إسماعيل، وسماه الله بعد ذلك إبراهيم، وأسكن ابنه إسماعيل وأمه هاجر بوادي مكة ثم لما شب إسماعيل بنى إبراهيم البيت الحرام هنالك.
وتوفي إبراهيم سنة 1773 ثلاث وسبعين وسبعمائة وألف قبل ميلاد المسيح، وفي اسمه لغات للعرب: إحداها إبراهيم وهي المشهورة وقرأ بها الجمهور، والثانية إبراهام وقعت في قراءة هشام عن ابن عامر حيثما وقع اسم إبراهيم، الثالثة إبراهم وقعت في رجز لزيد بن عمرو بن نفيل:
عذت بما عاذ به إبراهم ... مستقبل الكعبة وهو قائم
وذكر أبو شامة في شرح حرز الأماني عن الفراء في إبراهيم ست لغات:
إبراهيم، أبراهام، إبراهوم، إبراهم، بكسر الهاء ، إبراهم بفتح الهاء إبراهم بضم الهاء.
ولم يقرأ جمهور القراء العشرة إلا بالأولى وقرأ بعضهم بالثانية في ثلاثة وثلاثين موضعا سيقع التنبيه عليها في مواضعها، ومع اختلاف هذه القراءات فهو لم يكتب في

معظم المصاحف الأصلية إلا إبراهيم بإثبات الياء، قال أبو عمرو الداني لم أجد في مصاحف العراق والشام مكتوبا إبراهم بميم بعد الهاء ولم يكتب في شيء من المصاحف إبراهام بالألف بعد الهاء على وفق قراءة هشام، قال أبو زرعة سمعت عبد الله بن ذكوان قال سمعت أبا خليد القارئ يقول في القرآن ستة وثلاثون موضعا إبراهام قال أبو خليد فذكرت ذلك لمالك بن أنس فقال عندنا مصحف قديم فنظر فيه ثم أعلمني أنه وجدها فيه كذلك، وقال أبو بكر ابن مهران روى عن مالك بن أنس أنه قيل له إن أهل دمشق يقرأون إبراهام ويدعون أنها قراءة عثمان رضي الله عنه فقال مالك ها مصحف عثمان عندي ثم دعا به فإذا فيه كما قرأ أهل دمشق.
وتقديم المفعول وهو لفظ "إبراهيم" لأن المقصود تشريف إبراهيم بإضافة اسم رب إلى اسمه مع مراعاة الإيجاز فلذلك لم يقل وإذ ابتلى الله إبراهيم.
والكلمات الكلام الذي أوحى الله به إلى إبراهيم إذ الكلمة لفظ يدل على معنى والمراد بها هنا الجمل كما في قوله تعالى: {كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون: من الآية100]، وأجملها هنا إذ ليس الغرض تفصيل شريعة إبراهيم ولا بسط القصة والحكاية وإنما الغرض بيان فضل إبراهيم ببيان ظهور عزمه وامتثاله لتكاليف فأتى بها كاملة فجوزي بعظيم الجزاء، وهذه عادة القرآن في إجمال ما ليس بمحل الحاجة، ولعل جمع الكلمات جمع السلامة يؤذن بأن المراد بها أصول الحنيفية وهي قليلة العدد كثيرة الكلفة، فلعل منها الأمر بذبح ولده، وأمره بالاختتان، وبالمهاجرة بهاجر إلى شقة بعيدة وأعظم ذلك أمره بذبح ولده إسماعيل بوحي من الله إليه في الرؤيا، وقد سمي ذلك بلاء في قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ} [الصافات:106]
وقوله: {فأتمهن} جيء فيه بالفاء للدلالة على الفور في الامتثال وذلك من شدة العزم والإتمام في الأصل الإتيان بنهاية الفعل أو إكمال آخر أجزاء المصنوع.
وتعدية فعل أتم إلى ضمير كلمات مجاز عقلي، وهو من تعليق الفعل بحاوي المفعول لأنه كالمكان له وفي معنى الإتمام قوله تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [لنجم:37]
وقوله: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا} [الصافات: 105]، فالإفعال هنا بمعنى إيقاع الفعل على الوجه الأتم وليس المراد بالهمز التصيير أي صيرها تامة بعد أن كانت ناقصة إذ ليس المراد أنه فعل بعضها ثم أتى بالبعض الآخر، فدل قوله {فأتمهن} مع إيجازه على الامتثال وإتقانه والفور فيه. وهذه الجملة هي المقصود من جزء القصة فيكون عطفها للدلالة على أنه ابتلى

فامتثل كقولك دعوت فلانا فأجاب.
وجملة: {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} مستأنفة استئنافا بيانيا ناشئا عما اقتضاه قوله: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} من تعظيم الخبر والتنويه به، لما يقتضيه ظرف إذ من الإشارة إلى قصة من الإخبار التاريخية العظيمة فيترقب السامع ما يترتب على اقتصاصها، ويجوز أن يكون الفصل على طريقة المقاولة لأن هذا القول مجاوبة لما دل عليه قوله: {ابتلى} .
والإمام مشتق من الأم بفتح الهمزة وهو القصد وهو وزن فعال من صيغ الآلة سماعا كالعماد والنقاب والإزار والرداء، فأصله ما يحصل به الأم أي القصد ولما كان الدال على الطريق يقتدي به الساير دل الإمام على القدوة والهادي.
والمراد بالإمام هنا الرسول فإن الرسالة أكمل أنواع الإمامة والرسول أكمل أفراد هذا النوع. وإنما عدل عن التعيين بـ {رسولا} إلى {إماما} ليكون ذلك دالا على أن رسالته تنفع الأمة المرسل إليها بطريق التبليغ، وتنفع غيرهم من الأمم بطريق الاقتداء، فإن إبراهيم عليه السلام رحل إلى آفاق كثيرة فتنقل من بلاد الكلدان إلى العراق وإلى الشام والحجاز ومصر، وكان في جميع منازلة محل التبجيل ولا شك أن التبجيل يبعث على الاقتداء، وقد قيل إن دين برهما المتبع في الهند أصله منسوب إلى اسم إبراهم عليه السلام مع تحريف أدخل على ذلك الدين كما أدخل التحريف على الحنيفية، وليتأتى الإيجاز في حكاية قول إبراهيم الآتي: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} فيكون قد سأل أن يكون في ذريته الإمامة بأنواعها من رسالة وملك وقدوة على حسب التهيؤ فيهم، وأقل أنواع الإمامة كون الرجل الكامل قدوة لبنيه وأهل بيته وتلاميذه.
وقوله: {قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} جواب صدر من إبراهيم فلذا حكى بقال دون عاطف على طريق حكاية المحاورات كما تقدم عند قوله تعالى: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} [البقرة: 30] والمقول معطوف على خطاب الله تعالى إياه يسمونه عطف التلقين وهو عطف المخاطب كلاما على ما وقع في كلام المتكلم تنزيلا لنفسه في منزلة المتكلم يكمل له شيئا تركه المتكلم إما عن غفلة وإما عن اقتصار فيلقنه السامع تداركه بحيث يلتئم من الكلامين كلام تام في اعتقاد المخاطب.
وفي الحديث الصحيح قال جرير بن عبد الله بايعت النبي على شهادة أن لا إله إلا الله الخ فشرط على والنصح لكل مسلم، ومنه قول ابن الزبير للذي سأله فلم يعطه

فقال: لعن الله ناقة حملتني إليك فقال ابن الزبير: "إن وراكبها"، وقد لقبوه عطف التلقين كما في شرح التفتزاني على الكشاف وذلك لأن أكثر وقوع مثله في موقع العطف، والأولى أن تحذف كلمة عطف ونسمى هذا الصنف من الكلام باسم التلقين وهو تلقين السامع المتكلم ما يراه حقيقا بأن يلحقه بكلامه، فقد يكون بطريقة العطف وهو الغالب كما هنا، وقد يكون بطريقة الاستفهام الانكاري والحال كقوله تعالى: {قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً} [البقرة: 170] فإن الواو مع لو الوصلية واو الحال وليس واو العطف فهو إنكار على إلحاقهم المستفهم عنه بقولهم ودعواهم، وقد يكون بطريقة الاستثناء كقول العباس لما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حرم مكة "لا يعضد شجره" فقال العباس إلا الإذخر لبيوتنا وقيننا، وللكلام المعطوف عطف التلقين من الحكم حكم الكلام المعطوف هو عليه خبرا وطلبا، فإذا كان كما هنا على طريق العرض علم إمضاء المتكلم له إياه، بإقراره كما في الآية أو التصريح به كما وقع في الحديث "إلا الإذخر"، ثم هو في الإنشاء إذا عطف معمول الإنشاء يتضمن أن المعطوف له حكم المعطوف عليه، ولما كان المتكلم بالعطف في الإنشاء هو المخاطب بالإنشاء لزم تأويل عطف التلقين فيه بأنه على إرادة العطف على معمول لازم الإنشاء ففي الأمر إذا عطف المأمور مفعولا على مفعول الآمر كان المعنى زدني من الأمر فأنا بصدد الامتثال وكذا في المنهي. والمعطوف محذوف دل عليه المقام أي وبعض من ذريتي أو وجاعل بعض من ذريتي.
والذرية نسل الرجل وما توالد منه ومن أبنائه وبناته، وهي مشتقة إما من الذر اسما وهو صغار النمل، وإما من الذر مصدرا بمعنى التفريق، وإما من الذرى والذرو بالياء والواو وهو مصدر ذرت الريح إذا سفت، وإما من الذرء بالهمز وهو الخلق، فوزنها إما فعلية بوزن النسب إلى ذر وضم الذال في النسب على غير قياس كما قالوا في النسب إلى دهر دهري بضم الدال، وإما فعيلة أو فعولة من الذرى أو الذرو أو الذرء بإدغام اليائين أو الياء مع الواو أو الياء مع الهمزة بعد قلبها ياء وكل هذا تصريف لاشتقاق الواضع فليس قياس التصريف.
وإنما قال إبراهيم: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} ولم يقل وذريتي لأنه يعلم أن حكمة الله من هذا العالم لم تجر بأن يكون جميع نسل أحد ممن يصلحون لأن يقتدي بهم فلم يسأل ما هو مستحيل عادة لأن سؤال ذلك ليس من آداب الدعاء.
وإنما سأل لذريته ولم يقصر السؤال على عقبه كما هو المتعارف في عصبية القائل

لأبناء دينه على الفطرة التي لا تقتضي تفاوتا فيرى أبناء الابن وأبناء البنت في القرب من الجد بل هما سواء في حكم القرابة، وأما مبنى القبلية فعلى اعتبارات عرفية ترجع إلى النصرة والاعتزاز فأما قول:
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا ... بنوهن أبناء الرجال الأباعد
فوهم جاهلي، وإلا فإن بني الأبناء أيضا بنوهم أبناء النساء الأباعد، وهل يتكون نسل إلا من أب وأم. وكذا قول....
وإنما أمهات الناس أوعية ... فيها خلقن وللأبناء أبناء
فذلك سفسطة. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي سأله عن الأحق بالبر من أبويه: "أمك ثم أمك ثم أمك ثم أبوك" وقال الله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ} [لقمان: 14].
وقوله تعالى: {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} استجابة مطوية بإيجاز وبيان للفريق الذي تتحقق فيه دعوة إبراهيم والذي لا تتحقق فيه بالاقتصار على أحدهما لأن حكم أحد الضدين يثبت نقيضه للآخر على طريقة الإيجاز، وإنما لم يذكر الصنف الذي تحقق فيه الدعوة لأن المقصد ذكر الصنف الآخر تعريضا بأن الذين يزعمون يومئذ أنهم أولى الناس بإبراهيم وهم أهل الكتاب ومشركو العرب هم الذين يحرمون من دعوته، قال تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} [آل عمران:67 68] ولأن المربى يقصد التحذير من المفاسد قبل الحث على المصالح، فبيان الذين لا تتحقق فيهم الدعوة أولى من بيان الآخرين.
و {يًنَالُ} مضارع نال نيلا بالياء إذا أصاب شيئا والتحق به أي لا يصيب عهدي الظالمين أي لا يشملهم، فالعهد هنا بمعنى الوعد المؤكد. وسمي وعد الله عهدا لأن الله لا يخلف وعده كما أخبر بذلك فصار وعده عهدا ولذلك سماه النبي عهدا في قوله أنشدك عهدك ووعدك، أي لا ينال وعدي بإجابة دعوتك الظالمين منهم، ولا يحسن أن يفسر العهد هنا بغير هذا وإن كان في مواقع من القرآن أريد به غيره، وسيأتي ذكر العهد في سورة الأعراف.
ومن دقة القرآن اختيار هذا اللفظ هنا لأن اليهود زعموا أن الله عهد لإبراهيم عهدا بأنه مع ذريته ففي ذكر لفظ العهد تعريض بهم وإن كان صريح الكلام لتوبيخ المشركين.

والمراد بالظالمين ابتداء المشركون أي الذين ظلموا أنفسهم إذ أشركوا بالله قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} والظلم يشمل أيضا عمل المعاصي الكبائر كما وقع في قوله تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} [الصافات: 113] وقد وصف القرآن اليهود بوصف الظالمين في قوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45] فالمراد بالظلم المعاصي الكبيرة وأعلاها الشرك بالله تعالى.
وفي الآية تنبيه على أن أهل الكتاب والمشركين يومئذ ليسوا جديرين بالإمامة لاتصافهم بأنواع من الظلم كالشرك وتحريف الكتاب وتأويله على حسب شهواتهم والانهماك في المعاصي حتى إذا عرضوا أنفسهم على هذا الوصف علموا انطباقه عليهم. وإناطة الحكم بوصف الظالمين إيماء إلى علة نفي أن ينالهم عهد الله فيفهم من العلة أنه إذا زال وصف الظلم نالهم العهد.
وفي الآية أن المتصف بالكبيرة ليس مستحقا لإسناد الإمامة إليه أعنى سائر ولايات المسلمين: الخلافة والإمارة والقضاء والفتوى ورواية العلم وإمامة الصلاة ونحو ذلك. قال فخر الدين قال الجمهور من الفقهاء والمتكلمين الفاسق حال فسقه لا يجوز عقد الإمامة له. وفي تفسير ابن عرفة تسليم ذلك ونقل ابن عرفة عن المازري والقرطبي عن الجمهور إذا عقد للإمام على وجه صحيح ثم فسق وجار فإن كان فسقه بكفر وجب خلعه وأما بغيره من المعاصي فقال الخوارج والمعتزلة وبعض أهل السنة يخلع وقال جمهور أهل السنة لا يخلع بالفسق والظلم وتعطيل الحدود ويجب وعظه وترك طاعته فيما لا تجب فيه طاعة وهذا مع القدرة على خلعه فإن لم يقدر عليه إلا بفتنة وحرب فاتفقوا على منع القيام عليه وأن الصبر على جوره أولى من استبدال الأمن بالخوف وإراقة الدماء وانطلاق أيدي السفهاء والفساق في الأرض وهذا حكم كل ولاية في قول علماء السنة وما نقل عن أبي حنيفة من جواز كون الفاسق خليفة وعدم جواز كونه قاضيا قال أبو بكر الرازي الجصاص هو خطأ في النقل.
وقرأ الجمهور من العشرة "عهدي" بفتح ياء المتكلم وهو وجه من الوجوه في ياء المتكلم وقرأه حمزة وحفص بإسكان الياء.
[125] {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}

تدرج في ذكر منقبة إبراهيم إذ جعل الله بيته بهذه الفضيلة، وإذ أضافها إلى جلالته فقال بيتي، واستهلال لفضيلة القبلة الإسلامية، فالواو عاطفة على {ابتلى} وأعيدت إذ للتنبيه على استقلال القصة وأنها جديرة بأن تعد بنية أخرى، ولا التفات إلى حصول مضمون هذه بعد حصول الأخرى أو قبله إذ لا غرض في ذلك في مقام ذكر الفضائل، ولأن الواو لا تفيد ترتيبا.
والبيت اسم جنس للمكان المتخذ مسكنا لواحد أو عدد من الناس في غرض من الأغراض. وهو مكان من الأرض يحيط به ما يميزه عن بقية بقعته من الأرض ليكون الساكن مستقلا به لنفسه ولمن يتبعه فيكون مستقرا له وكنا يكنه من البرد والحر وساترا يستتر فيه عن الناس ومحطا لأثاثه وشئونه، وقد يكون خاصا وهو الغالب وقد يكون لجماعة مثل دار الندوة في العرب وخيمة الاجتماع في بني إسرائيل، وقد يكون محيط البيت من حجر وطين كالكعبة ودار الندوة، وقد يكون من أديم مثل القباب، وقد يكون من نسيج صوف أو شعر قال تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا} [النحل: من الآية80] ولا يكون بيتا إلا إذا كان مستورا أعلاه عن الحر والقر وذلك بالسقف لبيوت الحجر وبيوت الأديم والخيام.
والبيت علم بالغلبة على الكعبة كما غلب النجم على الثريا. وأصل أل التي في الأعلام بالغلبة هي أل العهدية وذلك إذا كثر عهد فرد من أفراد جنس بين طائفة أو قوم صار اسم جنسه مع أل العهدية كالعلم له ثم قد يتعهدون مع ذلك المعنى الأصلي كما في النجم للثريا والكتاب للقرآن والبيت للكعبة، وقد ينسى المعنى الأصلي إما بقلة الحاجة إليه كالصعق علم على خويلد بن نفيل وإما بانحصار الجنس فيه كالشمس.
والكعبة بيت بناه إبراهيم عليه السلام لعبادة الله وحده دون شريك فيأوي إليه من يدين بالتوحيد ويطوف به من يقصد تعظيم الله تعالى ولذلك أضافه إلى الله تعالى باعتبار هذا المعنى كما قال: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} وفي قوله: {عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ} [ابراهيم: 37] وقد عرفت الكعبة باسم البيت من عهد الجاهلية قال زهير:
فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله ... رجال بنوه من قريش وجرهم
والمثابة مفعلة من ثاب يثوب إذا رجع ويقال مثابة ومثاب مثل مقامة ومقام، والمراد بالمثابة أنه يقصده الناس بالتعظيم ويلوذون به.

والمراد من الناس سكان مكة من ذرية إسماعيل وكل من يجاورهم ويدخل في حلفهم، فتعريف الناس للجنس المعهود، وتعليق للناس بمثابة على التوزيع أي يزوره ناس ويذهبون فيخلفهم ناس.
ولما كان المقصود من هذا ذكر منقبة البيت والمنة على ساكنيه كان الغرض التذكير بنعمة الله أن جعله لا ينصرف عنه قوم إلا ويخلفهم قوم آخرون، فكان الذين يخلفون الزائرين قائمين مقامهم بالنسبة للبيت وسكانه، ويجوز حمل تعريف الناس على العهد أي يثوب إليه الناس الذين ألفوه وهم كمل الزائرين فهم يعودون إليه مرارا، وكذلك كان الشأن عند العرب.
والأمن مصدر أخبر به عن البيت باعتبار أنه سبب أمن فجعل كأنه نفس الأمن مبالغة. والأمن حفظ الناس من الأضرار فتشريد الدعار وحراسة البلاد وتمهيد السبل وإنارة الطرق أمن، والانتصاف من الجناة والضرب على أيدي الظلمة وإرجاع الحقوق إلى أهلها أمن، فالأمن يفسر في كل حال بما يناسبه، ولما كان الغالب على أحوال الجاهلية أخذ القوي مال الضعيف ولم يكن بينهم تحاكم ولا شريعة كان الأمن يومئذ هو الحيلولة بين القوي والضعيف، فجعل الله البيت أمنا للناس يومئذ أي يصد القوي عن أن يتناول فيه الضعيف قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67] فهذه منة على أهل الجاهلية، وأما في الإسلام فقد أغنى الله تعالى بما شرعه من أحكامه وما أقامه من حكامه فكان ذلك أمنا كافيا. قال السهيلي فقوله تعالى: {مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران: من الآية97] إنما هو إخبار عن تعظيم حرمته في الجاهلية نعمة منه تعالى على أهل مكة فكان في ذلك مصلحة لذرية إسماعيل عليه السلام.
وقد اختلف الفقهاء في الاستدلال بهذه الآية وأضرابها على حكم إقامة الحدود والعقوبات في الحرم وسيأتي تفصيلها عند قوله تعالى: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: من الآية191] الآية وليس من غرض هذه الآية.
والمراد من الجعل في الآية إما الجعل التكويني لأن ذلك قدره الله وأوجد أسبابه فاستقر ذلك بين أهل الجاهلية ويسرهم إلى تعظيمه، وإما الجعل أن أمر الله إبراهيم بذلك فأبلغه إبراهيم ابنه إسماعيل وبثه في ذريته فتلقاه أعقابهم تلقي الأمور المسلمة، فدام ذلك الأمن في العصور والأجيال من عهد إبراهيم عليه السلام إلى أن أغنى الله عنه بما شرع

من أحكام الأمن في الإسلام في كل مكان وتم مراد الله تعالى، فلا يريبكم ما حدث في المسجد الحرام من الخوف في حصار الحجاج في فتنة ابن الزبير ولا ما حدث فيه من الرعب والقتل والنهب في زمن القرامطة حين غزاه الحسن ابن بهرام الجنابي نسبة إلى بلدة يقال لها جنابة بتشديد النون كبير القرامطة إذ قتل بمكة آلافا من الناس وكان يقول لهم يا كلاب أليس قال لكم محمد المكي: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران: 97] أي أمن هنا، وهو جاهل غبي لأن الله أراد الأمر بأن يجعل المسجد الحرام مأمنا في مدة الجاهلية إذ لم يكن للناس وازع عن الظلم، أو هو خبر مراد به الأمر مثل {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228].
وقوله: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} قرأه نافع وابن عامر بصيغة الماضي عطفا على {جعلنا} فيكون هذا الاتخاذ من آثار ذلك الجعل فالمعنى ألهمنا الناس أن يتخذوا من مقام إبراهيم مصلى، أو أمرناهم بذلك على لسان إبراهيم فامتثلوا واتخذوه، فهو للدلالة على حصول الجعل بطريق دلالة الاقتضاء فكأنه قيل جعلنا ذلك فاتخذوا، وقرأه باقي العشرة بكسر الخاء بصيغة الأمر على تقدير القول أي قلنا اتخذوا بقرينة الخطاب فيكون العامل المعطوف محذوفا بالقرينة وبقي معموله كقول لبيد:
فعلا فروع الأيهقان وأطفلت ... بالجلهتين ظباؤها ونعامها
أراد وباضت نعامها فإنه لا يقال لأفراخ الطير أطفال، فمآل القراءتين، إلى مفاد واحد.
و مقام إبراهيم يطلق على الكعبة لأن إبراهيم كان يقوم عندها يعبد الله تعالى ويدعو إلى توحيده، قال زيد بن عمرو بن نفيل:
عذت بما عاذ به إبراهم ... مستقبل الكعبة وهو قائم
وبهذا الإطلاق جاء في قوله تعالى: {مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران: 97]إذ الدخول من علائق البيت، ويطلق مقام إبراهيم على الحجر الذي كان يقف عليه إبراهيم عليه السلام حين بنائه الكعبة ليرتفع لوضع الحجارة في أعلى الجدار كما أخرجه البخاري، وقد ثبتت آثار قدميه في الحجر. قال أنس بن مالك رأيت في المقام أثر أصابعه وأخمص قدميه غير أنه أذهبه مسح الناس بأيديهم، وهذا الحجر يعرف إلى اليوم بالمقام، وقد ركع النبي صلى الله عليه وسلم في موضعه ركعتين بعد طواف القدوم فكان الركوع عنده من سنة الفراغ من الطواف.

والمصلى موضع الصلاة وصلاتهم يومئذ الدعاء والخضوع إلى الله تعالى، وكان إبراهيم قد وضع المسجد الحرام حول الكعبة ووضع الحجر الذي كان يرتفع عليه للبناء حولها فكان المصلى على الحجر المسمى بالمقام فذلك يكون المصلى متخذا من مقام إبراهيم على كلا الإطلاقين.
والقراءتان تقتضيان أن اتخاذ مقام إبراهيم مصلى كان من عهد إبراهيم عليه السلام ولم يكن الحجر الذي اعتلى عليه إبراهيم في البناء مخصوصا بصلاة عنده ولكنه مشمول للصلاة في المسجد الحرام ولما جاء الإسلام بقي الأمر على ذلك إلى أن كان عام حجة الوداع أو عام الفتح دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد الحرام ومعه عمر بن الخطاب ثم سنت الصلاة عند المقام في طواف القدوم. روى البخاري عن عمر بن الخطاب أنه قال: وافقت ربي في ثلاث: قلت يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى فنزلت {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} ، وهذه الرواية تثير معنى آخر للآية وهي أن يكون الخطاب موجها للمسلمين فتكون جملة {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} معترضة بين جملة {جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ} وجملة {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ} اعتراضا استطراديا، وللجمع بين الاحتمالات الثلاثة في الآية يكون تأويل قول عمر فنزلت أنه نزل على النبي صلى الله عليه وسلم شرع الصلاة عند حجر المقام بعد أن لم يكن مشروعا لهم ليستقيم الجمع بين معنى القراءتين واتخذوا بصيغة الماضي وبصيغة الأمر فإن صيغة الماضي لا تحتمل غير حكاية ما كان في زمن إبراهيم وصيغة الأمر تحتمل ذلك وتحتمل أن يراد بها معنى التشريع للمسلمين، إعمالا للقرآن بكل ما تحتمله ألفاظه حسبما بيناه في المقدمة التاسعة.
وقوله: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} العهد أصله الوعد المؤكد وقوعه وقد تقدم آنفا عند قوله تعالى: {قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: من الآية124] فإذا عدي بإلى كان بمعنى الوصية المؤكد على الموصي العمل بها فعهد هنا بمعنى أرسل عهدا إليه أي أرسل إليه يأخذ منهم عهدا، فالمعنى وأوصينا إلى إبراهيم وإسماعيل وقوله: {أَنْ طَهِّرَا} أن تفسيرية لأن الوصية فيها معنى القول دون حروفه فالتفسير للقول الضمني والمفسر هو ما بعد أن فلا تقدير في الكلام ولولا قصد حكاية القول لما جاء بعد أن بلفظ الأمر، ولقال بتطهير بيتي الخ.
والمراد من تطهير البيت ما يدل عليه لفظ التطهير من محسوس بأن يحفظ من القاذورات والأوساخ ليكون المتعبد فيه مقبلا على العبادة دون تكدير، ومن تطهير معنوي

وهو أن يبعد عنه ما لا يليق بالقصد من بنائه من الأصنام والأفعال المنافية للحق كالعدوان والفسوق، والمنافية للمروءة كالطواف عريا دون ثياب الرجال والنساء.
وفي هذا تعريض بأن المشركين ليسوا أهلا لعمارة المسجد الحرام لأنهم لم يطهروه مما يجب تطهيره منه قال تعالى: {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ} [لأنفال: من الآية34] وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28].
والطائفون والعاكفون والراكعون والساجدون أصناف المتعبدين في البيت من طواف واعتكاف، وصلاة وهم أصناف المتلبسين بتلك الصفات سواء انفردت بعض الطوائف ببعض هذه الصفات أو اجتمعت الصفات في طائفة أو طوائف، وذلك كله في الكعبة قبل وضع المسجد الحرام، وهؤلاء هم إسماعيل وأبناؤه وأصهاره من جرهم وكل من آمن بدين الحنيفية من جيرانهم.
وقد جمع الطائف والعاكف جمع سلامة، وجمع الراكع والساجد جمع تكسير، تفننا في الكلام وبعدا عن تكرير الصيغة أكثر من مرة بخلاف نحو قوله: {مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ} [التحريم: من الآية5] الآية، وقوله: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب: 35] الآية، وقال ابن عرفة جمع الطائفين والعاكفين جمع سلامة لأنه أقرب إلى لفظ الفعل بمنزلة يطوفون أي يجددون الطواف للإشعار بعلة تطهير البيت وهو قرب هذين من البيت بخلاف الركوع والسجود فإنه لا يلزم أن يكونا في البيت ولا عنده فلذلك لم يجمع جمع سلامة ، وهذا الكلام يؤذن بالفرق بين جمع السلامة وجمع التكسير من حيث الإشعار بالحدوث والتجدد، ويشهد له كلام أبي الفتح ابن جنى في شرح الحماسة عند قول الأحوص الأنصاري:
فإذا تزول تزول عن متخمط ... تخشى بوادره على الأقران
قال أبو الفتح جاز أن يتعلق علي ببوادر، وإن كان جمعا مكسرا والمصدر إذا كسر بعد بتكسيره عن شبه الفعل، وإذا جاز تعلق المفعول به بالمصدر مكسرا نحو مواعيد عرقوب أخاه كان تعلق حرف الجر به أجوز. فصريح كلامه أن التكسير يبعد ما هو بمعنى الفعل عن شبه الفعل.
وخولف بين الركوع والسجود زيادة في التفنن وإلا فإن الساجد يجمع على سجد إلا أن الأكثر فيهما إذا اقترنا أن يخالف بين صيغتيهما قال كثير:

لو يسمعون كما سمعت كلامها ... خروا لعزة ركعا وسجودا
وقد علمتم من النحو والصرف أن جمع فاعل على فعول سماعي فمنه شهود وهجوع وهجود وسجود.
ولم يعطف السجود على الركع لأن الوصفتين متلازمان ولو عطف لتوهم أنهما وصفان مفترقان.
[126] {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [البقرة:126]
عطف على {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً} [البقرة: 125] لإفائدة منقبة ثالثة لإبراهيم عليه السلام في استجابة دعوته بفضل مكة والنعمة على ساكنيها إذا شكروا، وتنبيه ثالث لمشركي مكة يومئذ ليتذكروا دعوة أبيهم إبراهيم المشعرة بحرصه على إيمانهم بالله واليوم الآخر حتى خص من ذريته بدعوته المؤمنين فيعرض المشركون أنفسهم على الحال التي سألها أبوهم فيتضح لهم أنهم على غير تلك الحالة، وفي ذلك بعث لهم على الاتصاف بذلك لأن للناس رغبة في الاقتداء بأسلافهم وحنينا إلى أحوالهم، وفي ذلك كله تعريض بهم بأن ما يدلون به من النسب لإبراهيم ومن عمارة المسجد الحرام ومن شعائر الحج لا يغني عنهم من الإشراك بالله، كما عرض بالآيات قبل ذلك باليهود والنصارى وذلك في قوله هنا: {ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} وبه تظهر مناسبة ذكر هذه المنقبة عقب قوله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً} [البقرة: من الآية125]
واسم الإشارة في قوله: {هَذَا بَلَداً} مراد به الموضع القائم به إبراهيم حين دعائه وهو المكان الذي جعل به امرأته وابنه وعزم على بناء الكعبة فيه إن كان الدعاء قبل البناء، أو الذي بني فيه الكعبة إن كان الدعاء بعد البناء، فإن الاستحضار بالذات مغن عن الإشارة الحسية باليد لأن تمييزه عند المخاطب مغن عن الإشارة إليه فإطلاق اسم الإشارة حينئذ واضح.
وأصل أسماء الإشارة أن يستغني بها عن زيادة تبيين المشار إليه تبيينا لفظيا لأن الإشارة بيان، وقد يزيدون الإشارة بيانا فيذكرون بعد اسم الإشارة اسما يعرب عطف بيان أو بدلا من اسم الإشارة للدلالة على أن المشار إليه قصد استحضاره من بعض أوصافه كقولك هذا الرجل يقول كذا، ويتأكد ذلك إن تركت الإشارة باليد اعتمادا على حضور

المراد من اسم الإشارة. وقد عدل هنا عن بيان المشار إليه اكتفاء عنه بما هو واقع عند الدعاء، فإن إبراهيم دعا دعوته وهو في الموضع الذي بنى فيه الكعبة لأن الغرض ليس تفصيل حالة الدعاء إنما هو بيان استجابة دعائه وفضيلة محل الدعوة وجعل مكة بلدا آمنا ورزق أهله من الثمرات، وتلك عادة القرآن في الإعراض عما لا تعلق به بالمقصود ألا ترى أنه لما جعل البلد مفعولا ثانيا استغنى عن بيان اسم الإشارة، وفي سورة إبراهيم لما جعل {آمنا} مفعولا ثانيا بين اسم الإشارة بلفظ البلد، فحصل من الآيتين أن إبراهيم دعا لبلد بأن يكون آمنا.
والبلد المكان المتسع من الأرض المتحيز عامرا أو غامرا، وهو أيضا الأرض مطلقا، قال صنان اليشكري:
لكنه حوض من أودى بإخوته ... ريب المنون فأضحى بيضة البلد
يريد بيضة النعام في أدحى النعام أي محل بيضة، ويطلق البلد على القرية المكونة من بيوت عدة لسكنى أهلها بها وهو إطلاق حقيقي هو أشهر من إطلاق البلد على الأرض المتسعة والظاهر أن دعوة إبراهيم المحكية في هذه الآية كانت قبل أن تتقرى مكة حيث لم يكن بها إلا بيت إسماعيل أو بيت أو بيتان آخران لأن إبراهيم ابتدأ عمارته ببناء البيت من حجر، ولأن إلهام الله إياه لذلك لإرادته تعالى مصيرها مهيع الحضارة لتلك الجهة إرهاصا لنبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن ذلك المكان كان مأهولا بسكان وقت مجيء إبراهيم وامرأته وابنه، والعرب يذكرون أنه كان في تلك الجهة عشائر من جرهم وقطورا والعمالقة والكركر في جهات أجياد وعرفات.
والآمن اسم فاعل من أمن ضد خاف، وهو عند الإطلاق عدم الخوف من عدو ومن قتال ذلك ما ميز الله مكة به من بين سائر بلاد العرب، وقد يطلق الأمن على عدم الخوف مطلقا فتعين ذكر متعلقة، وإنما يوصف بالأمن ما يصح اتصافه بالخوف وهو ذو الإدراكية، فالإخبار بآمنا عن البلد إما بجعل وزن فاعل هنا للنسبة بمعنى ذا أمن كقول النابغة
كليني لهم يا أميمة ناصب
أي ذي نصب، وإما على إرادة آمنا أهله على طريقة المجاز العقلي لملابسة المكان، ثم إن كان المشار إليه في وقت دعاء إبراهيم أرضا فيها بيت أو بيتان. فالتقدير في الكلام

اجعل هذا المكان بلدا آمنا أي قرية آمنة فيكون دعاء بأن يصير قرية وأن تكون آمنة.
وإن كان المشار إليه في وقت دعائه قرية بنى أناس حولها ونزلوا حذوها وهو الأظهر الذي يشعر به كلام الكشاف هنا وفي سورة إبراهيم كان دعاء للبلد بحصول الأمن له وأما حكاية دعوته في سورة إبراهيم [35] بقوله: {اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً} فتلك دعوة له بعد أن صار بلدا.
ولقد كانت دعوة إبراهيم هذه من جوامع كلم النبوءة فإن أمن البلاد والسبل يستتبع جميع خصال سعادة الحياة ويقتضي العدل والعزة والرخاء إذ لا بد أمن بدونها، وهو يستتبع التعمير والإقبال على ما ينفع والثروة فلا يختل الأمن إلا إذا اختلت الثلاثة الأول وإذا اختل اختلت الثلاثة الأخيرة، وإنما أراد بذلك تيسير الإقامة فيه على سكانه لتوطيد وسائل ما أراده لذلك البلد من كونه منبع الإسلام.
والثمرات جمع ثمرة وهي ما تحمل به الشجرة وتنتجه مما فيه غذاء للإنسان أو فاكهة له، وكأن اسمه منتسب من اسم الثمر بالمثناة فإن أهل الحجاز يريدون بالثمر بالمثلثة التمر الرطب وبالمثناة التمر اليابس.
وللثمرة جموع متعددة وهي ثمر بالتحريك وثمار، وثمر، بضمتين، وأثمار، وأثامير، قالوا ولا نظير له في ذلك إلا أكمة جمعت على أكم وإكام وأكم وآكام وأكاميم.
والتعريف في الثمرات تعريف الاستغراق وهو استغراق عرفي أي من جميع الثمرات المعروفة للناس ودليل كونه تعريف الاستغراق مجيء من التي للتبعيض، وفي هذا دعاء لهم بالرفاهية حتى لا تطمح نفوسهم للارتحال عنه.
وقوله: {مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ} بدل بعض من قوله: {أهله} يفيد تخصيصه لأن أهله عام إذ هو اسم جمع مضاف وبدل البعض مخصص.
وخص إبراهيم المؤمنين بطلب الرزق لهم حرصا على شيوع الإيمان لساكنيه لأنهم إذا علموا أن دعوة إبراهيم خصت المؤمنين تجنبوا ما يحيد بهم عن الإيمان، فجعل تيسير الرزق لهم على شرط إيمانهم باعثا لهم على الإيمان، أو أراد التأدب مع الله تعالى فسأله سؤالا أقرب إلى الإجابة ولعله استشعر من رد الله عليه عموم دعائه السابق إذ قال: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [البقرة: 124] فقال: {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124] أن غير المؤمنين ليسوا أهلا لإجراء رزق الله عليهم وقد أعقب الله دعوته بقوله: {وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً}

ومقصد إبراهيم من دعوته هذه أن تتوفر لأهل مكة أسباب الإقامة فيها فلا تضطرهم الحاجة إلى سكنى بلد آخر لأنه رجا أن يكونوا دعاة لما بنيت الكعبة لأجله من إقامة التوحيد وخصال الحنيفية وهي خصال الكمال، وهذا أول مظاهر تكوين المدينة الفاضلة التي دعا أفلاطون لإيجادها بعد بضعة عشر فرنا.
وجملة {قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ} جاءت على سنن حكاية الأقوال في المحاورات والأجوبة مفصولة، وضمير {قال} عائد إلى الله، فمن جوز أن يكون الضمير في {قال} لإبراهيم وأن إعادة القول لطول المقول الأول فقد غفل عن المعنى وعن الاستعمال وعن الضمير في قوله: {فأمَتَّعُه}.
وقوله: {وَمَنْ كَفَرَ} الأظهر أنه عطف على جملة: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ} باعتبار القيد وهو قوله: {مَنْ آمَنَ} فيكون قوله {وَمَنْ كَفَرَ} مبتدأ وضمن الرسول معنى الشرط فلذلك قرن الخبر بالفاء على طريقة شائعة في مثله، لما قدمناه في قوله {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} أن عطف التلقين في الإنشاء إذا كان صادرا من الذي خوطب بالإنشاء كان دليلا على حصول الغرض من الإنشاء والزيادة عليه، ولذلك آل المعنى هنا إلى أن الله تعالى أظهر فضله على إبراهيم بأنه يرزق ذريته مؤمنهم وكافرهم، أو أظهر سعة رحمته برزق سكان مكة كلهم مؤمنهم وكافرهم.
ومعنى "أمتعه" أجعل الرزق له متاعا، و {قليلا} صفة لمصدر محذوف بعد قوله: {فأمَتَّعُه} والمتاع القليل متاع الدنيا كما دلت عليه المقابلة بقوله {ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ}
وفي هذه الآية دليل لقول الباقلاني والماتريدية والمعتزلة بأن الكفار منعم عليهم بنعم الدنيا، وقال الأشعري لم ينعم على الكافر لا في الدنيا ولا في الآخرة وإنما أعطاهم الله في الدنيا ملاذ علىوجه الاستدراج، والمسألة معدودة في مسائل الخلاف بين الأشعري والماتريدي، ويشبه أن يكون الخلاف بينهما لفظيا وإن عده السبكي في عداد الخلاف المعنوي.
وقوله: {ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ} احتراس من أن يغتر الكافر بأن تخويله النعم في الدنيا يؤذن برضى الله فلذلك ذكر العذاب هنا.
و"ثم" للتراخي الرتبي كشأنها في عطف الجمل من غير التفات إلى كون مصيره إلى

العذاب متأخرا عن تمتيعه بالمتاع القليل.
والاضطرار في الأصل الالتجاء وهو بوزن افتعل مطاوع أضره إذا صيره ذا ضرورة أي حاجة، فالأصل أن يكون اضطر قاصرا لأن أصل المطاوعة عدم التعدي ولكن الاستعمال جاء على تعديته إلى مفعول وهو استعمال فصيح غير جار على قياس يقال أضطره إلى كذا أي ألجأه إليه، ونظير هذه الآية قوله تعالى في سورة لقمان: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} [لقمان:24]
وقوله: {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} تذييل والواو للاعتراض أو للحال والخبر محذوف هو المخصوص بالذم وتقديره هي.
[127] {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:127]
هذه منقبة ثالثة لإبراهيم عليه السلام، وتذكير بشرف الكعبة، ووسيلة ثالثة إلى التعريض بالمشركين بعد قوله: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً} [البقرة: 128] الخ، وتمهيد للرد على اليهود إنكارهم استقبال الكعبة الذي يجيء عند قوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ} [البقرة: 142] ولأجل استقلالها بهاته المقاصد الثلاثة التي تضمنتها الآيات قبلها عطفت على سوابقها مع الاقتران بإذ تنبيها على الاستقلال.
وخولف الأسلوب الذي يقتضيه الظاهر في حكاية الماضي أن يكون بالفعل الماضي بأن يقول وإذ رفع إلى كونه بالمضارع لاستحضار الحالة.
وحكايتها كأنها مشاهدة لأن المضارع دال على زمن الحال فاستعماله هنا استعارة تبعية، شبه الماضي بالحال لشهرته ولتكرر الحديث عنه بينهم فإنهم لحبهم إبراهيم وإجلالهم إياه لا يزالون يذكرون مناقبه وأعظمها بناء الكعبة فشبه الماضي لذلك بالحال ولأن ما مضى من الآيات في ذكر إبراهيم من قوله: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ} [البقرة: 124] إلى هنا مما يوجب امتلاء أذهان السامعين بإبراهيم وشؤونه حتى كأنه حاضر بينهم وكأن أحواله حاضرة مشاهدة، وكلمة إذ قرينة على هذا التنزيل لأن غالب الاستعمال أن يكون للزمن الماضي وهذا معنى قول النحاة أن إذ تخلص المضارع إلى الماضي.
والقواعد جمع قاعدة وهي أساس البناء الموالي للأرض الذي به ثبات البناء أطلق عليها هذا اللفظ لأنها أشبهت القاعد في اللصوق بالأرلأرضلأ رض فأصل تسمية القاعدة مجاز عن

اللصوق بالأرض ثم عن إرادة الثبات في الأرض وهاء التأنيث فيها للمبالغة مثل هاء علامة.
ورفع القواعد إبرازها من الأرض والاعتلاء بها لتصير جدارا لأن البناء يتصل بعضه ببعض ويصير كالشيء الواحد فالجدار إذا اتصل بالأساس صار الأساس مرتفعا، ويجوز جعل القواعد بمعنى جدران البيت كما سموها بالأركان ورفعها إطالتها، وفد جعل ارتفاع جدران البيت تسعة أذرع. ويجوز أن يفاد من اختيار مادة الرفع دون مادة الإطالة ونحوها معنى التشريف، وفي إثبات ذلك للقواعد كناية عن ثبوته للبيت، وفي إسناد الرفع بهذا المعنى إلى إبراهيم مجاز عقلي لأن إبراهيم سبب الرفع المذكور أي بدعائه المقارن له. وعطف إسماعيل على إبراهيم تنويه به إذ كان معاونه ومناوله.
وللإشارة إلى التفاوت بين عمل إبراهيم وعمل إسماعيل أوقع العطف على الفاعل بعد ذكر المفعول والمتعلقات، وهذا من خصوصيات العربية في أسلوب العطف فيما ظهر لي ولا يحضرني الآن مثله في كلام العرب، وذلك أنك إذا أردت أن تدل على التفاوت بين الفاعلين في صدور الفعل تجعل عطف أحدهما بعد انتهاء ما يتعلق بالفاعل الأول، وإذا أردت أن تجعل المعطوف والمعطوف عليه سواء في صدور الفعل تجعل المعطوف مواليا للمعطوف عليه.
وإسماعيل اسم الابن البكر لإبراهيم عليه السلام وهو ولده من جاريته هاجر القبطية، ولد في أرض الكنعانيين بين قادش وبارد سنة 1910 عشر وتسعمائة وألف قبل ميلاد المسيح،
ومعنى إسماعيل بالعبرية سمع الله أي إجابة الله لأن الله استجاب دعاء أمه هاجر إذ خرجت حاملا بإسماعيل مفارقة الموضع الذي فيه سارة مولاتها حين حدث لسارة من الغيرة من هاجر لما حملت هاجر ولم يكن لسارة أبناء يومئذ، وقيل هو معرب عن يشمعيل بالعبرانية ومعناه الذي يسمع له الله، ولما كبر إسماعيل رأى إبراهيم رؤيا وحي أن يذبحه فعزم على ذبحه ففداه الله، واسماعيل يومئذ الابن الوحيد لإبراهيم قبل ولادة إسحاق، وكان إسماعيل مقيما بمكة حول الكعبة، وتوفي بمكة سنة 1773 ثلاث وسبعين وسبعمائة وألف قبل ميلاد المسيح تقريبا، ودفن بالحجر الذي حول الكعبة.
وجملة {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} مقول قول محذوف بقدر حالا من {يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ} وهذا القول من كلام إبراهيم لأنه الذي يناسبه الدعاء لذريته لأن إسماعيل

كان حينئذ صغيرا.
والعدول عن ذكر القول إلى نطق المتكلم بما قاله المحكي عنه هو ضرب من استحضار الحالة قد مهد له الإخبار بالفعل المضارع في قوله {وَإِذْ يَرْفَعُ} حتى كأن المتكلم هو صاحب القول وهذا ضرب من الإيغال.
وجملة {إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} تعليل لطلب التقبل منهما، وتعريف جزءي هذه الجملة والإتيان بضمير الفصل يفيد قصرين للمبالغة في كمال الوصفين له تعالى بتنزيل سمع غيره وعلم غيره منزلة العدم.
ويجوز أن يكون قصرا حقيقيا باعتبار متعلق خاص أي السميع العليم لدعائنا لا يعلمه غيرك وهذا قصر حقيقي مقيد وهو نوع مغاير للقصر الإضافي لم ينبه عليه علماء المعاني.
[128] {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:128]
فائدة تكرير النداء بقوله: {ربنا} إظهار الضراعة إلى الله تعالى وإظهار أن كل دعوى من هاته الدعوات مقصودة بالذات، ولذلك لم يكرر النداء إلا عند الانتقال من دعوة إلى أخرى فإن الدعوة الأولى لطلب تقبل العمل والثانية لطلب الاهتداء فجملة النداء معترضة بين المعطوف هنا والمعطوف عليه في قوله الآتي: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً} [البقرة: من الآية129]
والمراد بمسلمين لك المنقادان إلى الله تعالى إذ الإسلام الانقياد، ولما كان الانقياد للخالق بحق يشمل الإيمان بوجوده وأن لا يشرك في عبادته غيره ومعرفة صفاته التي دل عليها فعله كانت حقيقة الإسلام ملازمة لحقيقة الإيمان والتوحيد، ووجه تسمية ذلك إسلاما سيأتي عند قوله: {فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: من الآية132]، وأما قوله تعالى: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] فإنه فكك بينهما لأن إسلامهم كان عن خوف لا عن اعتقاد، فالإيمان والإسلام متغايران مفهوما وبينهما عموم وخصوص وجهي في الماصدق، فالتوحيد في زمن الفترة إيمان لا يترقب منه انقياد إذ الانقياد إنما يحصل بالأعمال، وانقياد المغلوب المكره إسلام لم ينشأ عن اعتقاد إيمان، إلا أن صورتي الانفراد في الإيمان والإسلام نادرتان.
ألهم الله إبراهيم اسم الإسلام ثم ادخره بعده للدين المحمدي فنسى هذا الاسم بعد

إبراهيم ولم يلقب به دين آخر لأن الله أراد أن يكون الدين المحمدي إتماما للحنيفية دين إبراهيم وسيجيء بيان لهذا عند قوله تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً} في سورة آل عمران [67].
ومعنى طلب أن يجعلهما مسلمين هو طلب الزيادة في ما هما عليه من الإسلام وطلب الدوام عليه، لأن الله قد جعلهما مسلمين من قبل كما دل عليه قوله: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ} [البقرة: من الآية131] الآية.
وقوله: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} يتعين أن يكون {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا} و {مُسْلِمَةً} معمولين لفعل {اجعلنا} بطريق العطف، وهذا دعاء ببقاء دينهما في ذريتهما، ومن في قوله: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا} للتبعيض، وإنما سألا ذلك لبعض الذرية جمعا بين الحرص على حصول الفضيلة للذرية وبين الأدب في الدعاء لأن نبوءة إبراهيم تقتضي علمه بأنه ستكون ذريته أمما كثيرة وأن حكمة الله في هذا العالم جرت على أنه لا يخلو من اشتماله على الأخيار والأشرار فدعا الله بالممكن عادة وهذا من أدب الدعاء وقد تقدم نظيره في قوله تعالى: {قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [البقرة: من الآية124].
ومن هنا ابتدئ التعريض بالمشركين الذين أعرضوا عن التوحيد واتبعوا الشرك، والتمهيد لشرف الدين المحمدي.
والأمة اسم مشترك يطلق على معان كثيرة والمراد منها هنا الجماعة العظيمة التي يجمعها جامع له بال من نسب أو دين أو زمان، ويقال أمة محمد مثلا للمسلمين لأنهم اجتمعوا على الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وهي بزنة فعلة وهذه الزنة تدل على المفعول مثل لقطة وضحكة وقدوة، فالأمة بمعنى مأمومة اشتقت من الأم بفتح الهمزة وهو القصد، لأن الأمة تقصدها الفرق العديدة التي تجمعها جامعة الأمة كلها، مثل الأمة العربية لأنها ترجع إليها قبائل العرب، والأمة الإسلامية لأنها ترجع إليها المذاهب الإسلامية، وأما قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام: من الآية38] فهو في معنى التشبيه البليغ أي كأمم إذا تدبرتم في حكمة إتقان خلقهم ونظام أحوالهم وجدتموه كأمم أمثالكم لأن هذا الاعتبار كان الناس في غفلة عنه.
وقد استجيبت دعوة إبراهيم في المسلمين من العرب الذين تلاحقوا بالإسلام قبل الهجرة وبعدها حتى أسلم كل العرب إلا قبائل قليلة لا تنخرم بهم جامعة الأمة، وقد أشار إلى هذا المعنى قوله تعالى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ} [البقرة: من الآية129] وأما من

أسلموا من بني إسرائيل مثل عبدالله بن سلام فلم يلتئم منهم عدد أمة.
وقوله: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} سؤال لإرشادهم لكيفية الحج الذي أمرا به من قبل أمرا مجملا، ففعل {أرنا} هو من رأي العرفانية وهو استعمال ثابت لفعل الرؤية كما جزم به الراغب في المفردات والزمخشري في المفصل وتعدت بالهمز إلى مفعولين. وحق رأي أن يتعدى إلى مفعول واحد لأن أصله هو الرؤية البصرية ثم استعمل مجازا في العلم بجعل العلم اليقيني شبيها برؤية البصر، فإذا دخل عليه همز التعدية تعدى إلى مفعولين وأما تعدية أرى إلى ثلاثة مفاعيل فهو خلاف الأصل وهو استعمال خاص وذلك إذا أراد المتكلم الإخبار عن معرفة صفة من صفات ذات فيذكر اسم الذات أولا ويعلم أن ذلك لا يفيد مراده فيكمله بذكر حال لازمة إتماما للفائدة فيقول رأيت الهلال طالعا مثلا ثم يقول أراني فلان الهلال طالعا، وكذلك فعل علم وأخواته من باب ظن كله ومثله باب كان وأخواتها، ألا ترى أنك لو عدلت عن المفعول الثاني في باب ظن أو عن الخبر في باب كان إلى الإتيان بمصدر في موضع الاسم في أفعال هذين البابين لاستغنيت عن الخبر والمفعول الثاني فتقول كان حضور فلان أي حصل وعلمت مجيء صاحبك وظننت طلوع الشمس وقد روي قول الفند الزماني:
عسى أن يرجع الأيام ... قوما كالذي كانوا
وقال حطائط بن يعفر:
أريني جوادا مات هزلا لعلني ... أرى ما ترين أو بخيلا مخلدا
فإن جملة مات هزلا ليست خبرا عن جوادا إذ المبتدأ لا يكون نكرة، وبهذا يتبين أن الصواب أن يعد الخبر في باب كان والمفعول الثاني في باب ظن أحوالا لازمة لتمام الفائدة وأن إطلاق اسم الخبر أو المفعول على ذلك المنصوب تسامح وعبارة قديمة.
وقرأ ابن كثير ويعقوب {وأرنا} بسكون الراء للتخفيف وقرأه أبو عمرو باختلاس كسرة الراء تخفيفا أيضا، وجملة {إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} تعليل لجمل الدعاء.
والمناسك جمع منسك وهو اسم مكان من نسك نسكا من باب نصر أي تعبد أو من نسك بضم السين نساكة بمعنى ذبح تقربا، والأظهر هو الأول لأنه الذي يحق طلب التوفيق له وسيأتي في قوله تعالى {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} [البقرة: من الآية200]
[129] {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ

وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة:129]
كرر النداء لأنه عطف غرض آخر في هذا الدعاء وهو غرض الدعاء بمجيء الرسالة في ذريته لتشريفهم وحرصا على تمام هديهم.
وإنما قال: {فيهم} ولم يقل لهم لتكون الدعوة بمجيء رسول برسالة عامة فلا يكون ذلك الرسول رسولا إليهم فقط، ولذلك حذف متعلق {رسولا} ليعم، فالنداء في قوله: {رَبَّنَا وَابْعَثْ} اعتراض بين جمل الدعوات المتعاطفة، ومظهر هذه الدعوة هو محمد صلى الله عليه وسلم فإنه الرسول الذي هو من ذرية إبراهيم وإسماعيل كليهما، وأما غيره من رسل غير العرب فليسوا من ذرية إسماعيل، وشعيب من ذرية إبراهيم وليس من ذرية إسماعيل، وهود وصالح هما من العرب العاربة فليسا من ذرية إبراهيم ولا من ذرية إسماعيل.
وجاء في التوراة في الإصحاح 17 من التكوين ظهر الرب لإبرام أي إبراهيم وقال له أنا الله القدير سر أمامي وكن كاملا فأجعل عهدي بيني وبينك وأكثرك كثيرا جدا وفي فقرة 20 وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه ها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيرا جدا. وذكر عبد الحق الإسلامي السبتي الذي كان يهوديا فأسلم هو وأولاده وأهله في سبتة وكان موجودا بها سنة 736 ست وثلاثين وسبعمائة في كتاب له سماه الحسام المحدود في الرد على اليهود: أن كلمة كثيرا جدا أصلها في النص العبراني "مادا مادا" وأنها رمز في التوراة لاسم محمد بحساب الجمل لأن عدد حروف مادا مادا بحساب الجمل عند اليهود تجمع عدد اثنين وتسعين وهو عدد حروف محمد اه وتبعه على هذا البقاعي في نظم الدرر.
ومعنى {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ} يقرؤها عليهم قراءة تذكير، وفي هذا إيماء إلى أنه يأتيهم بكتاب فيه شرع.
فالآيات جمع آية وهي الجملة من جمل القرآن، سميت آية لدلالتها على صدق الرسول بمجموع ما فيها من دلالة صدور مثلها من أمي لا يقرأ ولا يكتب، وما نسجت عليه من نظم أعجز الناس عن الإتيان بمثله، ولما اشتملت عليه من الدلالة القاطعة على توحيد الله وكمال صفاته دلالة لم تترك مسلكا للضلال في عقائد الأمة بحيث أمنت هذه الأمة من الإشراك، قال النبىء صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع: "إن الشيطان قد يئس أن يعبد في بلدكم هذا" .
وجيء بالمضارع في قوله: {يتلو} للإشارة إلى أن هذا الكتاب تتكرر تلاوته.

والحكمة العلم بالله ودقائق شرائعه وهي معاني الكتاب وتفصيل مقاصده، وعن مالك: الحكمة معرفة الفقه والدين والاتباع لذلك، وعن الشافعي الحكمة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلاهما ناظر إلى أن عطف الحكمة على الكتاب يقتضي شيئا من المغايرة بزيادة معنى وسيجيء تفصيل معنى الحكمة عند قوله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} في هذه السورة [296].
والتزكية التطهير من النقائص وأكبر النقائص الشرك بالله، وفي هذا تعريض بالذين أعرضوا عن متابعة القرآن وأبوا إلا البقاء على الشرك.
وقد جاء ترتيب هذه الجمل في الذكر على حسب ترتيب وجودها لأن أول تبليغ الرسالة تلاوة القرآن ثم يكون تعليم معانيه قال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:18 19] ، ثم العلم تحصل به التزكية وهي في العمل بإرشاد القرآن.
وقوله: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} تذييل لتقريب الإجابة أي لأنك لا يغلبك أمر عظيم ولا يعزب عن علمك وحكمتك شيء والحكيم بمعنى المحكم هو فعيل بمعنى مفعل وقد تقدم نظيره في قوله تعالى: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة: من الآية10] وقوله: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة:32]
[131,130] {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}
موقع هاته الآيات من سوابقها موقع النتيجة بعد الدليل فإنه لما بين فضائل إبراهيم من قوله: {وَإِذِ ابْتَلَى} إلى هنا علم أن صاحب هاته الفضائل لا يعدل عن دينه والاقتداء به إلا سفيه العقل أفن الرأي، فمقتضى الظاهر أن تعطف على سوابقها بالفاء وإنما عدل من الفاء إلى الواو ليكون مدلول هذه الجملة مستقلا بنفسه في تكميل التنويه بشأن إبراهيم وفي أن هذا الحكم حقيق بملة إبراهيم من كل جهة لا من خصوص ما حكى عنه في الآيات السالفة وفي التعريض بالذين حادوا عن الدين الذي جاء متضمنا لملة إبراهيم، والدلالة عن التفريع لا تفوت لأن وقوع الجملة بعد سوابقها متضمنة هذا المعنى دليل على أنها نتيجة لما تقدم كما تقول أحسن فلان تدبير المهم وهو رجل حكيم ولا تحتاج إلى أن تقول فهو رجل حكيم.

والاستفهام للإنكار والاستبعاد، واستعماله في الإنكار قد يكون مع جواز إرادة قصد الاستفهام فيكون كناية، وقد يكون مع عدم جواز إرادة معنى الاستفهام فيكون مجازا في الإنكار ويكون معناه معنى النفي، والأظهر أنه هنا من قبيل الكناية فإن الإعراض عن ملة إبراهيم مع العلم بفضلها ووضوحها أمر منكر مستبعد. ولما كان شأن المنكر المستبعد أن يسأل عن فاعله استعمل الاستفهام في ملزومه وهو الإنكار والاستبعاد على وجه الكناية مع أنه لو سئل عن هذا المعرض لكان السؤال وجيها، والاستثناء قرينة على إرادة النفي واستعمال اللفظ في معنيين كنائيين، أو ترشيح للمعنى الكنائي وهما الإنكار. والاستفهام لا يجيء فيه ما قالوا في استعمال اللفظ المشترك في معنييه واستعمال اللفظ في حقيقته ومجازه أو في مجازيه لأن الدلالة على المعنى الكنائي بطريق العقل بخلاف الدلالة على المعنيين الموضوع لهما الحقيقي وعلى المعنى الحقيقي والمجازي إذ الذين رأوا ذلك منعوا بعلة أن قصد الدلالة باللفظ على أحد المعنيين يقتضي عدم الدلالة به على الآخر لأنه لفظ واحد فإذا دل على معنى تمت دلالته وأن الدلالة على المعنيين المجازيين دلالة باللفظ على أحد المعنيين فتقضي أنه نقل من مدلوله الحقيقي إلى مدلول مجازي وذلك يقتضي عدم الدلالة به على غيره لأنه لفظ واحد، وقد أبطلنا ذلك في المقدمة التاسعة، أما المعنى الكنائي فالدلالة عليه عقلية سواء بقي اللفظ دالا على معناه الحقيقي أم تعطلت دلالته عليه. ولك أن تجعل استعمال الاستفهام في معنى الإنكار مجازا بعلاقة اللزوم كما تكرر في كل كناية لم يرد فيها المعنى الأصلي وهو أظهر لأنه مجاز مشهور حتى صار حقيقة عرفية فقال النحاة: الاستفهام الإنكاري نفي ولذا يجيء بعده الاستثناء، والتحقيق أنه لا يطرد أن يكون بمعنى النفي ولكنه يكثر فيه ذلك لأن شأن الشيء المنكر بأن يكون معدوما ولهذا فالاستثناء هنا يصح أن يكون استثناء من كلام دل عليه الاستفهام كأن مجيبا أجاب السائل بقوله لا يرغب عنها إلا من سفه نفسه.
والرغبة طلب أمر محبوب: فحق فعلها أن يتعدى بفي وقد يعدى بعن إذا ضمن معنى العدول عن أمر وكثر هذا التضمين في الكلام حتى صار منسيا،
والملة الدين وتقدم بيانها عند قوله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120]
وسفه بمعنى استخف لأن السفاهة خفة العقل واضطرا به يقال تسفهه استخفه قال ذو الرمة.

مشين كما اهتزت رماح تسفهت ... أعاليها مر الرياح النواسم
ومنه السفاهة في الفعل وهو ارتكاب أفعال لا يرضى بها أهل المروءة والسفه في المال وهو إضاعته وقلة المبالاة به وسوء تنميته. وسفهه بمعنى استخفه وأهانه لأن الاسخفاف ينشأ عنه الإهانة وسفه صار سفيها وقد تضم الفاء في هذا.
وانتصاب {نفسه} إما على المفعول به أي أهملها واستخفها ولم يبال بإضاعتها دنيا وأخرى ويجوز انتصابه على التمييز المحول عن الفاعل وأصله سفهت نفسه أي خفت، وطاشت فحول الإسناد إلى صاحب النفس على طريقة المجاز العقلي للملابسة قصدا للمبالغة وهي أن السفاهة سرت من النفس إلى صاحبها من شدة تمكنها بنفسه حتى صارت صفة لجثمانه، ثم انتصب الفاعل على التمييز تفسيرا لذلك الإبهام في الإسناد المجازي، ولا يعكر عليه مجيء التمييز معرفة بالإضافة لأن تنكير التمييز أغلبي.
والمقصود من قوله: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} تسفيه المشركين في إعراضهم عن دعوة الإسلام بعد أن بين لهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن الإسلام مقام على أساس الحنيفية وهي معروفة عندهم بأنها ملة إبراهيم قال تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} [النحل: من الآية123] وقال في الآية السابقة: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} [البقرة: من الآية128] وقال: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ} [البقرة: من الآية132] إلى قوله: {فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: من الآية132]
وجملة {وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ} معطوفة على الجمل التي قبلها الدالة على رفعة درجة إبراهيم عند الله تعالى إذ جعله للناس إماما وضمن له النبوءة في ذريته وأمره ببناء مسجد لتوحيده واستجاب له دعواته.
وقد دلت تلك الجمل على اختيار الله إياه فلا جرم أعقبت بعطف هذه الجملة عليها لأنها جامعة لفذلكتها وزائدة بذكر أنه سيكون في الآخرة من الصالحين. واللام جواب قسم محذوف وفي ذلك اهتمام بتقرير اصطفائه وصلاحه في الآخرة.
ولأجل الاهتمام بهذا الخبر الأخير أكد بقوله: {وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} فقوله: {وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ} إلى آخره اعتراض بين جملة اصطفيناه وبين الظرف وهو قوله: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ} ، إذ هو ظرف لاصطفيناه وما عطف عليه، قصد من هذه الظرفية التخلص إلى منقبة أخرى، لأن ذلك الوقت هو دليل اصطفائه حيث خاطبه الله

بوحي وأمره بما تضمنه قوله: {أسلم} من معان جماعها التوحيد والبراءة من الحول والقوة وإخلاص الطاعة، وهو أيضا وقت ظهور أن الله أراد إصلاح حاله في الآخرة إذ كل ميسر لما خلق له.
وقد فهم أن مفعول {أسلم} ومتعلقه محذوفان يعلمان من المقام أي أسلم نفسك لي كما دل عليه الجواب بقوله {أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} وشاع الاستغناء عن مفعول أسلم فنزل الفعل منزلة اللازم يقال أسلم أي دان بالإسلام كما أنبأ به قوله تعالى: {وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً} [آل عمران: 67] كما سيأتي قريبا.
وقوله {قَالَ أَسْلَمْتُ} فصلت الجملة على طريقة حكاية المحاورات كما قدمناه في {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30].
وقوله: {قَالَ أَسْلَمْتُ} مشعر بأنه بادر بالفور دون تريث كما اقتضاه وقوعه جوابا، قال ابن عرفة إنما قال لرب العالمين دون أن يقول أسلمت لك ليكون قد أتى بالإسلام وبدليله اه. يعني أن إبراهيم كان قد علم أن لهذا العالم خالقا عالما حصل له بإلهام من الله فلما أوحى الله إليه بالإيمان صادف ذلك عقلا رشدا.
[132] {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}
لما كان من شأن أهل الحق والحكمة أن يكونوا حريصين على صلاح أنفسهم وصلاح أمتهم كان من مكملات ذلك أن يحرصوا على دوام الحق في الناس متبعا مشهورا فكان من سننهم التوصية لمن يظنونهم خلفا عنهم في الناس بأن لا يحيدوا عن طريق الحق ولا يفرطوا فيما حصل لهم منه، فإن حصوله بمجاهدة نفوس ومرور أزمان فكان لذلك أمرا نفيسا يجدر أن يحتفظ به.
والإيصاء أمر أو نهي يتعلق بصلاح المخاطب خصوصا أو عموما، وفي فوته ضر، فالوصية أبلغ من مطلق أمر ونهي فلا تطلق إلا في حيث يخاف الفوات إما بالنسبة للموصي ولذلك كثر الإيصاء عند توقع الموت كما سيأتي عند قوله تعالى {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي} [البقرة: 133]، وفي حديث العرباض وعظنا رسول الله موعظة منها القلوب وذرفت منها العيون فقلنا يارسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا الحديث، وإما بالنسبة إلى الموص كالوصية عند

السفر في حديث معاذ حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم لليمن كان آخر ما أوصاني رسول الله حين وضعت رجلي في الغرز أن قال: "حسن خلقك للناس" ، وجاء رجل إلى النبيء صلى الله عليه وسلم فقال له أوصني قال: "لا تغضب" .
فوصية إبراهيم ويعقوب إما عند الموت كما تشعر به الآية الآتية {إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ} [:133] وإما في مظان خشية الفوات.
والضمير المجرور بالباء عائد على الملة أو على الكلمة أي قوله {أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة: 131] فإن كان بالملة فالمعنى أنه أوصى أن يلازموا ما كانوا عليه معه في حياته، وإن كان الثاني فالمعنى أنه أوصى بهذا الكلام الذي هو شعار جامع لمعاني ما في الملة.
وبنو إبراهيم ثمانية: إسماعيل وهو أكبر بنيه وأمه هاجر، وإسحاق وأمه سارة وهو ثاني بنيه، ومديان، ومدان، وزمران، ويقشان، وبشباق، وشوح، وهؤلاء أمهم قطورة التي تزوجها إبراهيم بعد موت سارة، وليس لغير إسماعيل وإسحاق خبر مفصل في التوراة سوى أن ظاهر التوراة أن مديان هو جد أمة مدين أصحاب الأيكة وأن موسى عليه السلام لما خرج خائفا من مصر نزل أرض مديان وأن يثرون أو رعوئيل هو شعيب كان كاهن أهل مدين. وأما يعقوب فهو ابن إسحاق من زوجه رفقة الأرامية تزوجها سنة ست وثلاثين وثمانمائة وألف قبل المسيح في حياة جده إبراهيم فكان في زمن إبراهيم رجلا ولقب بإسرائيل وهو جد جميع بني إسرائيل ومات يعقوب بأرض مصر سنة تسع وثمانين وتسعمائة وألف قبل المسيح ودفن بمغارة المكفلية بأرض كنعان بلد الخليل حيث دفن جده وأبوه عليهم السلام.
وعطف يعقوب على إبراهيم هنا إدماج مقصود به تذكير بني إسرائيل "الذي هو يعقوب" بوصية جدهم فكما عرض بالمشركين في إعراضهم عن دين أوصى به أبوهم عرض باليهود كذلك لأنهم لما انتسبوا إلى إسرائيل وهو يعقوب الذي هو جامع نسبهم بعد إبراهيم لتقام الحجة عليهم بحق اتباعهم الإسلام.
وقوله {يابني} إلخ حكاية صيغة وصية إبراهيم وسيجيء ذكر وصية يعقوب. ولما كان فعل أوصى متضمنا للقول صح مجيء جملة بعده من شأنها أن تصلح لحكاية الوصية لتفسر جملة أوصى، وإنما لم يؤت بأن التفسيرية التي كثر مجيئها بعد جملة فيها معنى القول دون حروفه، لأن أن التفسيرية تحتمل أن يكون ما بعدها محكيا بلفظه أو

بمعناه والأكثر أن يحكى بالمعنى، فلما أريد هنا التنصيص على أن هذه الجملة حكاية لقول إبراهيم بنصه ما عدا مخالفة المفردات العربية عوملت معاملة فعل القول نفسه فإنه لا تجيء بعده أن التفسيرية بحال، ولهذا يقول البصريون في هذه الآية إنه مقدر قول محذوف خلافا للكوفيين القائلين بأن وصى ونحوه ناصب للجملة المقولة، ويشبه أن يكون الخلاف بينهم لفظيا.
و {اصْطَفَى لَكُمُ} اختار لكم الدين أي الدين الكامل، وفيه إشارة إلى أنه أختاره لهم من بين الأديان وأنه فضلهم به لأن اصطفى لك يدل على أنه ادخره لأجله، وأراد به دين الحنيفية المسمى بالإسلام فلذلك قال {فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}
ومعنى {فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} النهي عن مفارقة الإسلام أعنى ملة إبراهيم في جميع أوقات حياتهم، وذلك كناية عن ملازمته مدة الحياة لأن الحي لا يدري متى يأتيه الموت فنهى أحد عن أن يموت غير مسلم أمر بالاتصاف بالإسلام في جميع أوقات الحياة فالمراد من مثل هذا النهي شدة الحرص على ترك المنهي.
وللعرب في النهي المراد منه النهي عن لازمه طرق ثلاثة: الأول: أن يجعلوا المنهي عنه مما لا قدرة للمخاطب على اجتنابه فيدلوا بذلك على أن المراد نفي لازمه مثل قولهم لا تنس كذا أي لا ترتكب أسباب النسيان، ومثل قولهم لا أعرفنك تفعل كذا أي لا تفعل فأعرفك لأن معرفة المتكلم لا ينهي عنها المخاطب، وفي الحديث فلا يذادن أقوام عن حوضي ، الثاني: أن يكون المنهي عنه مقدورا للمخاطب ولا يريد المتكلم النهي عنه ولكن عما يتصل به أو يقارنه فيجعل النهي في اللفظ عن شيء ويقيده بمقارنه للعلم بأن المنهي عنه مضطر لإيقاعه فإذا أوقعه اضطر لإيقاع مقارنه نحو قولك لا أراك بثياب مشوهة، ومنه قوله تعالى: {فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} الثالث: أن يكون المنهي عنه ممكن الحصول ويجعله مفيدا مع احتمال المقام لأن يكون النهي عن الأمرين إذا اجتمعا ولو لم يفعل أحدهما نحو لا تجئني سائلا وأنت تريد أن لا يسألك فإما أن يجيء ولا يسأل وإما أن لا يجيء بالمرة، وفي الثانية إثبات أن بني إبراهيم ويعقوب كانوا على ملة الإسلام وأن الإسلام جاء بما كان عليه إبراهيم وبنوه حين لم يكن لأحد سلطان عليهم، وفيه إيماء إلى أن ما طرأ على بنيه بعد ذاك من الشرائع إنما اقتضته أحوال عرضت وهي دون الكمال الذي كان عليه إبراهيم ولهذا قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإَسْلامُ} [آل عمران: 19] وقال: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ

الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج: 78]
[133] {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:133]
تفصيل لوصية يعقوب بأنه أمر أبناءه أن يكونوا على ملة إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وهي نظير ما وصى به إبراهيم بنيه فأجمل هنا اعتمادا على ما صرح به في قوله سابقا: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132] وهذا تنويه بالحنيفية التي هي أساس الإسلام، وتمهيد لإبطال قولهم: {كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا} [البقرة: 135] وإبطال لزعمهم أن يعقوب كان على اليهودية وأنه أوصى بها بنيه فلزمت ذريته فلا يحولون عنها. وقد ذكر أن اليهود قالوا ذلك قاله الواحدي والبغوي بدون سند، ويدل عليه قوله تعالى: {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى} [البقرة: 140] الآية فلذلك جيء هنا بتفصيل وصية يعقوب إبطالا لدعاوي اليهود ونقضا لمعتقدهم الذي لا دليل عليه كما أنبأ به الإنكار في قوله: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ} إلخ.
و {أم} عاطفة جملة {كُنْتُمْ شُهَدَاءَ} على جملة {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ} فإن أم من حروف العطف كيفما وقعت، وهي هنا منقطعة للانتقال من الخبر عن إبراهيم ويعقوب إلى مجادلة من اعتقدوا خلاف ذلك الخبر، ولما كانت أم يلازمها الاستفهام كما مضى عند قوله تعالى: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلوا رَسُولَكُمْ} [البقرة: من الآية108] إلخ فالاستفهام هنا غير حقيقي لظهور أن عدم شهودهم احتضار يعقوب محقق، فتعين أن الاستفهام مجاز: ومحمله على الإنكار لأنه أشهر محامل الاستفهام المجازي، ولأن مثل هذا المستفهم عنه مألوف في الاستفهام الإنكاري،
ثم إن كون الاستفهام إنكاريا يمنع أن يكون الخطاب الواقع فيه خطابا للمسلمين لأنهم ليسوا بمظنة حال من يدعي خلاف الواقع حتى ينكر عليهم، خلافا لمن جوز كون الخطاب للمسلمين من المفسرين، توهموا أن الإنكار يساوي النفي مساواة تامة وغفلوا عن الفرق بين الاستفهام الإنكاري وبين النفي المجرد فإن الاستفهام الإنكاري مستعمل في الإنكار مجازا بدلالة المطابقة وهو يستلزم النفي بدلالة الالتزام، ومن العجيب وقوع

الزمخشري في هذه الغفلة. فتعين أن المخاطب اليهود وأن الإنكار متوجه إلى اعتقاد اعتقدوه يعلم من سياق الكلام وسوابقه وهو ادعاؤهم أن يعقوب مات على اليهودية وأوصى بها فلزمت ذريته، فكان موقع الإنكار على اليهود واضحا وهو أنهم ادعوا ما لا قبل لهم بعلمه إذ لم يشهدوا كما سيأتي، فالمعنى ما كنتم شهداء احتضار يعقوب. ثم أكمل القصة تعليما وتفصيلا واستقصاء في الحجة بأن ذكر ما قاله يعقوب حين اختصاره وما أجابه أبناؤه ذلك بداخل في حيز الإنكار، فالإنكار ينتهي عند قوله: {الموت} والبقية تكملة للقصة، والقرينة على الأمرين ظاهرة اعتمادا على مألوف الاستعمال في مثله فإنه لا يطال فيه المستفهم عنه بالإنكار ألا ترى إلى قوله تعالى: {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} فلما قال هنا: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ} علم السامع موقع الإنكار، ثم يعلم أن قول أبناء يعقوب نعبد إلهك لم يكن من دعوى اليهود حتى يدخل في حيز الإنكار لأنهم لو ادعوا ذلك لم ينكر عليهم إذ هو عين المقصود من الخبر، وبذلك يستقر كلا الكلامين في قراره، ولم يكن داع لجعل أم متصلة بتقدير محذوف قبلها تكون هي معادلة له، كأن يقدر أكنتم غائبين إذ حضر يعقوب الموت أم شهداء وأن الخطاب لليهود أو للمسلمين والاستفهام للتقرير، ولا لجعل الخطاب في قوله {كنتم} للمسلمين على معنى جعل الاستفهام للنفي المحض أي ما شهدتم احتضار يعقوب أي على حد {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} [القصص: من الآية44] وحد {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ} [آل عمران: من الآية44] كما حاوله الزمخشري ومتابعوه، وإنما حداه إلى ذلك قياسه على غالب مواقع استعمال أمثال هذا التركيب مع أن موقعه هنا موقع غير معهود وهو من الإيجاز والإكمال إذ جمع الإنكار عليهم في التقول على من لم يشهدوه، وتعليمهم ما جهلوه، ولأجل التنبيه على هذا الجمع البديع أعيدت إذ في قوله {إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ} ليكون كالبدل من {إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ} فيكون مقصودا بالحكم أيضا.
والشهداء جمع شهيد بمعنى الشاهد أي الحاضر للأمر والشأن، ووجه دلالة نفي المشاهدة على نفي ما نسبوه إلى يعقوب هو أن تنبيههم إلى أنهم لم يشهدوا ذلك يثير في نفوسهم الشك في معتقدهم.
وقوله تعالى: {قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ} هو من بقية القصة المنفي شهود المخاطبين محضرها فهذا من مجيء القول في المحاورات كما قدمنا، فقوله: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} [البقرة: 30] فيكون الكلام نفيا لشهودهم مع إفادة تلك الوصية، أي ولو شاهدتم

ما اعتقدتم خلافها فلما اعتقدوا اعتقادا كالضروري وبخهم وأنكر عليهم حتى يرجعوا إلى النظر في الطرق التي استندوا إليها فيعلموا أنها طرق غير موصلة، وبهذا تعلمون وجهة الاقتصار على نفي الحضور مع أن نفي الحضور لا يدل على كذب المدعي لأن عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود، فالمقصود هنا الاستدراج في إبطال الدعوى بإدخال الشك على مدعيها.
وقوله تعالى: {إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ} بدل من {إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ} وفائدة المجيء بالخبر على هذه الطريقة دون أن يقال أم كنتم شهداء إذ قال يعقوب لبنيه عند الموت، هي قصد استقلال الخبر وأهمية القصة وقصد حكايتها على ترتيب حصولها، وقصد الإجمال ثم التفصيل لأن حالة حضور الموت لا تخلو من حدث هام سيحكي بعدها فيترقبه السامع.
وهذه الوصية جاءت عند الموت وهو وقت التعجيل بالحرص على إبلاغ النصيحة في آخر ما يبقى من كلام الموصي فيكون له رسوخ في نفوس الموصين، أخرج أبو داوود والترمذي عن العرباض بن سارية قال وعظنا رسول الله موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون فقلنا يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا الحديث.
وجاء يعقوب في وصيته بأسلوب الاستفهام لينظر مقدار ثباتهم على الدين حتى يطلع على خالص طويتهم ليلقي إليهم ما سيوصيهم به من التذكير وجيء في السؤال بما الاستفهامية دون من لأن ما هي الأصل عند قصد العموم لأنه سألهم عما يمكن أن يعبده العابدون.
واقترن ظرف {بعدي} بحرف من لقصد التوكيد فإن من هذه في الأصل ابتدائية فقولك جئت من بعد الزوال يفيد أنك جئت في أول الأزمنة بعد الزوال ثم عوملت معاملة حرف تأكيد.
وبنو يعقوب هم الأسباط أي أسباط إسحاق ومنهم تشعبت قبائل بني إسرائيل وهم اثنا عشر ابنا: رأوبين، وشمعون، ولاوى، ويهوذا، ويساكر، وزبولون، وهؤلاء أمهم ليئة ويوسف، وبنيامين، أمهما راحيل ودان ونفتالي، أمهما بلهة وجاد،وأشير أمهما زلفة.
وقد أخبر القرآن بأن جميعهم صاروا أنبياء وأن يوسف كان رسولا.

وواحد الأسباط سبط بكسر السين وسكون الباء وهو ابن الابن أي الحفيد، وقد اختلف في اشتقاق سبط قال ابن عطية في تفسير قوله تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً} في سورة الأعراف عن الزجاج الأظهر أن البسط عبراني عرب اه. قلت وفي العبرانية سيبط بتحتية بعد السين ساكنة.
وجملة: {قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ} جواب عن قوله: {مَا تَعْبُدُونَ} جاءت على طريقة المحاورات بدون واو وليست استئنافا لأن الاستئناف إنما يكون بعد تمام الكلام ولا تمام له قبل حصول الجواب،
وجيء في قوله: {نَعْبُدُ إِلَهَكَ} معرفا بالإضافة دون الاسم العلم بأن يقول نعبد الله لأن إضافة إله إلى ضمير يعقوب وإلى آبائه تفيد جميع الصفات التي كان يعقوب وآباؤه يصفون الله بها فيما لقنه منذ نشأتهم، ولأنهم كانوا سكنوا أرض كنعان وفلسطين مختلطين ومصاهرين لأسم تعبد الأصنام من كنعانيين وفلسطينيين وحثيين وأراميين ثم كان موت يعقوب في أرض الفراعنة وكانوا يعبدون آلهة أخرى. وأيضا فمن فوائد تعريف الذي يعبدونه بطريق الإضافة إلى ضمير أبيهم وإلى لفظ آبائه أن فيها إيماء إلى أنهم مقتدون بسلفهم.
وفي الإتيان بعطف البيان من قولهم: {إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} ضرب من محسن الاطراد تنويها بأسماء هؤلاء الأسلاف كقول ربيعة بن نصر بن قعين:
إن يقتلوك فقد ثللت عروشهم ... بعتيبة بن الحارث بن شهاب
وإنما أعيد المضاف في قوله: {إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ} لأن إعادة المضاف مع المعطوف على المضاف إليه أفصح في الكلام وليست بواجبة، وإطلاق الآباء على ما شمل إسماعيل وهو عم ليعقوب إطلاق من باب التغليب ولأن العم بمنزلة الأب.
وقد مضى التعريف بإبراهيم وإسماعيل.
وأما إسحاق فهو ابن إبراهيم وهو أصغر من إسماعيل بأربع عشرة سنة وأمه سارة ولد سنة 1896 ست وتسعين وثمانمائة وألف قبل ميلاد المسيح وهو جد بني إسرائيل وغيرهم من أمم تقرب لهم.
واليهود يقولون إن الابن الذي أمر الله إبراهيم بذبحه وفداه الله هو إسحاق، والحق أن الذي أمر بذبحه هو إسماعيل في صغره حين لم يكن لإبراهيم ولد غيره ليظهر كمال

الامتثال ومن الغريب أن التوراة لما ذكرت قصة الذبيح وصفته بالابن الوحيد لإبراهيم ولم يكن إسحاق وحيدا قط، وتوفي إسحاق سنة ثمان وسبعمائة وألف قبل الميلاد ودفن مع أبيه وأمه في مغارة المكفيلة في حبرون "بلد الخليل"
وقوله: {إِلَهاً وَاحِداً} توضيح لصفة الإله الذي يعبدونه فقوله: {إلها} حال من إلهك ووقوع إلها حالا من {إلهك} مع أنه مرادف له في لفظه ومعناه إنما هو باعتبار إجراء الوصف عليه بواحدا فالحال في الحقيقة هو ذلك الوصف، وإنما أعيد لفظ إلها ولم يقتصر على وصف واحدا لزيادة الإيضاح لأن المقام مقام إطناب ففي الإعادة تنويه بالمعاد وتوكيد لما قبله، وهذا أسلوب من الفصاحة إذ يعاد اللفظ ليبني عليه وصف أو متعلق ويحصل مع ذلك توكيد اللفظ السابق تبعا، وليس المقصود من ذلك مجرد التوكيد ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} [الفرقان: من الآية72] وقوله : {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ} وقوله: {وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ} [الشعراء:132, 133] إذ أعاد فعل أمدكم وقول الأحوص الأنصاري:
فإذا تزول تزول عن متخمط ... تخشى بوادره على الأقران
قال ابن جنى في شرح الحماسة محال أن تقول إذا قمت قمت لأنه ليس في الثاني غير ما في الأول وإنما جاز أن يقول فإذا تزول تزول لما اتصل بالفعل الثاني من حرف الجر المفاد منه الفائدة، ومثله قول الله تعالى: {هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا} [القصص: من الآية63] وقد كان أبو على امتنع في هذه الآية مما أخذناه غير أن الأمر فيها عندي على ما عرفتك.
وجوز صاحب الكشاف أن يكون قوله: {إِلَهاً وَاحِداً} بدلا من إلهك بناء على جواز إبدال النكرة الموصوفة من المعرفة مثل {لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ} [العلق: 63] أو أن يكون منصوبا على الاختصاص بتقدير امدح فإن الاختصاص يجيء من الاسم الظاهر ومن ضمير الغائب.
وقوله: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} جملة في موضع الحال من ضمير {نعبد} ، أو معطوفة على جملة {نعبد} ، جيء بها اسمية لإفادة ثبات الوصف لهم ودوامه بعد أن أفيد بالجملة الفعلية المعطوف عليها معنى التجدد والاستمرار.
[134] {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا

يَعْمَلُونَ}
عقبت الآيات المتقدمة من قوله: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ} [البقرة: 124] بهذه الآية لأن تلك الآيات تضمنت الثناء على إبراهيم وبنيه والتنويه بشأنهم والتعريض بمن لم يقتف آثارهم من ذريتهم وكأن ذلك قد ينتحل منه المغرورون عذرا لأنفسهم فيقولون نحن وإن قصرنا فأن لنا من فضل آبائنا مسلكا لنجاتنا، فذكرت هذه الآية لإفادة أن الجزاء بالأعمال لا بالاتكال.
والإشارة بتلك عائدة إلى إبراهيم وبنيه باعتبار أنهم جماعة وباعتبار الإخبار عنهم باسم مؤنث لفظه وهو أمة.
والأمة تقدم بيانها آنفا عند قوله تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} [البقرة: 128]
وقوله {قَدْ خَلَتْ} صفة لأمة ومعنى خلت مضت، وأصل الخلاء الفراغ فأصل معنى خلت خلا منها المكان فأسند الخلو إلى أصحاب المكان على طريقة المجاز العقلي لنكتة المبالغة، والخبر هنا كناية عن عدم انتفاع غيرهم بأعمالهم الصالحة وإلا فإن كونها خلت مما لا يحتاج إلى الإخبار به، ولذا فقوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ} الآية بدل من جملة قد خلت بدل مفصل من مجمل.
والخطاب موجه إلى اليهود أي لا ينفعكم صلاح آبائكم إذا كنتم غير متبعين طريقتهم، فقوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ} تمهيد لقوله: {وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ} إذ هو المقصود من الكلام، والمراد بما كسبت وبما كسبتم ثواب الأعمال بدليل التعبير فيه بلها ولكم، ولك أن تجعل الكلام من نوع الاحتباك والتقرير لها ما كسبت وعليكم ما كسبتم أي إثمه.
ومن هذه الآية ونظائرها انتزع الأشعري التعبير عن فعل العبد بالكسب.
وتقديم المسندين على المسند إليهما في: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ} لقصر المسند إليه على المسند أي ما كسبت الأمة لا يتجاوزها إلى غيرها وما كسبتم لا يتجاوزكم، وهو قصر إضافي لقلب اعتقاد المخاطبين فإنهم لغرورهم يزعمون أن ما كان لأسلافهم من الفضائل يزيل ما ارتكبوه هم من المعاصي أو يحمله عنهم أسلافهم.
وقوله: {وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} معطوف على قوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ} وهو من تمام التفصيل لمعنى خلت، فإن جعلت {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ} خاصا بالأعمال الصالحة فقوله: {وَلا تُسْأَلونَ} إلخ تكميل للأقسام أي وعلى كل ما عمل من

الإثم ولذا عبر هنالك بالكسب المتعارف في الادخار والتنافس وعبر هنا بالعمل. وإنما نفى السؤال عن العمل لأنه أقل أنواع المؤاخذة بالجريمة فإن المرء يؤخذ بجريمته فيسأل عنها ويعاقب وقد يسأل المرء عن جريمة غيره ولا يعاقب كما يلام على القوم فعل بعضهم ما لا يليق وهو شائع عند العرب قال زهير:
لعمري لنعم الحي جر عليهم ... بما لا يواتيهم حصين بن ضمضم
فنفى أصل السؤال أبلغ وأشمل للأمرين، وإن جعلت قوله: {وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ} مرادا به الأعمال الذميمة المحيطة بهم كان قوله: {وَلا تُسْأَلونَ} إلخ احتراسا واستيفاء لتحقيق معنى الاختصاص أي كل فريق مختص به عمله أو تبعته ولا يلحق الآخر من ذلك شيء ولا السؤال عنه، أي لا تحاسبون بأعمال سلفكم وإنما تحاسبون بأعمالكم.
[135] {وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}
{وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا}
الظاهر أنه عطف على قوله: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130] ، فإنه بعد أن ذمهم بالعدول عن تلقي الإسلام الذي شمل خصال الحنيفية بين كيفية إعراضهم ومقدار غرورهم بأنهم حصروا الهدى في اليهودية والنصرانية أي كل فريق منهم حصر الهدى في دينه.
ووجه الحصر حاصل من جزم تهتدوا في جواب الأمر فإنه على تقدير شرط فيفيد مفهوم الشرط أن من لم يكن يهوديا لا يراه اليهود مهتديا ومن لم يكن نصرانيا لا يراه النصارى مهتديا أي نفوا الهدى عن متبع ملة إبراهيم وهذا غاية غرورهم.
والواو في {قالوا} عائدة لليهود والنصارى بقرينة مساق الخطاب في قوله: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ} [البقرة: 133] وقوله {وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ}
و "أو" في قوله: {أَوْ نَصَارَى} تقسيم بعد الجمع لأن السامع يرد كلا إلى من قاله، وجزم {تهتدوا} في جواب الأمر للإيذان بمعنى الشرط ليفيد بمفهوم الشرط أنكم إن كنتم على غير اليهودية والنصرانية فلستم بمهتدين.
{قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}

جردت جملة "قل" من العاطف لوقوعها في مقام الحوار مجاوبة لقولهم: {كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا} على نحو ما تقدم أي بل لا اهتداء إلا باتباع ملة إبراهيم فإنها لما جاء بها الإسلام أبطل ما كان قبله من الأديان.
وانتصب "ملة" بإضمار تتبع لدلالة المقام لأن {كُونُوا هُوداً} بمعنى اتبعوا اليهودية، ويجوز أن ينصب عطفا على {هودا} والتقدير بل نكون ملة إبراهيم أي أهل ملته كقول عدي بن حاتم لما وفد على النبي صلى الله عليه وسلم ليسلم: إني من دين أو من أهل دين يعني النصرانية،.
والحنيف فعيل بمعنى فاعل مشتق من الحنف بالتحريك وهو الميل في الرجل قالت أم الأحنف ابن قيس فيما ترقصه به:
والله لولا حنف برجله ... ما كان في فتيانكم من مثله
والمراد الميل في المذهب أن الذي به حنف يميل في مشيه عن الطريق المعتاد. وإنما كان هذا مدحا للملة لأن الناس يوم ظهور ملة إبراهيم كانوا في ضلالة عمياء فجاء دين إبراهيم مائلا عنهم فلقب بالحنيف ثم صار الحنيف لقب مدح بالغلبة. والوجه أن يجعل حنيفا حالا من إبراهيم وهذا من مواضع الاتفاق على صحة مجيء الحال من المضاف إليه ولك أن تجعله حالا لملة إلا أن فعيلا بمعنى فاعل يطابق موصوفه إلا أن تؤول ملة بدين على حد: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: من الآية56] أي إحسانه أو تشبيه فعيل إلخ بمعنى فاعل بفعيل بمعنى مفعول.
وقد دلت هذه الآية على أن الدين الإسلامي من إسلام إبراهيم.
وقوله: {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} جملة هي حالة ثانية من إبراهيم وهو احتراس لئلا يغتر المشركون بقوله: {بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} أي لا نكون هودا ولا نصارى فيتوهم المشركون أنه لم يبق من الأديان إلا ما هم عليه لأنهم يزعمون أنهم على ملة إبراهيم وإلا فليس ذلك من المدح له بعد ما تقدم من فضائله وهذا على حد قوله تعالى: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} غلط فيه صاحب الكشاف غلطا فاحشا كما سيأتي.
[136] {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}

بدل من جملة: {قُلْ بَلْ مِلَّةَ} [البقرة: 135] لتفصيل كيفية هاته الملة بعد أن أجمل ذلك في قوله: {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً}
والأمر بالقول أمر بما يتضمنه إذ لا اعتداد بالقول إلا لأنه يطابق الاعتقاد، إذ النسبة إنما وضعت للصدق لا للكذب، والمقصود من الأمر بهذا القول الإعلان به والدعوة إليه لما يشتمل عليه من الفضيلة الظاهرة بحصول فضيلة سائر الأديان لأهل هاته الملة ولما فيه من الإنصاف وسلامة الطوية، ليرغب في ذلك الراغبون ويكمد عند سماعه المعاندون وليكون هذا كالاحتراس بعد قوله: {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} أي نحن لا نطعن في شريعة موسى وشريعة عيسى وما أوتي النبيئون ولا نكذبهم ولكنا مسلمون لله بدين الإسلام الذي بقي على أساس ملة إبراهيم وكان تفصيلا لها وكمالا لمراد الله منها حين أراد الله إكمالها فكانت الشرائع التي جاءت بعد إبراهيم كمنعرجات الطريق سلك بالأمم فيها لمصالح ناسبت أحوالهم وعصورهم بعد إبراهيم كما يسلك بمن أتعبه المسير طريق منعرج ليهدأ من ركز السيارة في المحجة فيحط رحله وينام ثم يرجع به بعد حين إلى الجادة، ومن مناسبات هذا المعنى أن ابتدئ بقوله: {وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} واختتم بقوله: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} ووسط ذكر ما أنزل على النبيين بين ذلك.
وجمع الضمير ليشمل النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين فهم مأمورون بأن يقولوا ذلك. وجعله بدلا يدل على أن المراد من الأمر في قوله: {قُلْ بَلْ مِلَّةَ} النبي وأمته.
وأفرد الضمير في الكلامين اللذين للنبي فيهما مزيد اختصاص بمباشرة الرد على اليهود والنصارى لأنه مبعوث لإرشادهم وزجرهم وذلك في قوله: {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} إلخ وقوله الآتي {قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ} [البقرة: من الآية139] وجمع الضمير في الكلام الذي للأمة فيه مزيد اختصاص بمضمون المأمور به في سياق التعليم أعنى قوله: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} إلخ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد علم ذلك من قبل فيما تضمنته علوم الرسالة، ولذلك لم يخل واحد من هاته الكلامات، عن الإيذان بشمول الأمة مع النبي، أما هنا فظاهر بجمع الضمائر كلها، وأما في قوله: {قُلْ بَلْ مِلَّةَ} إلخ فلكونه جوابا مواليا لقولهم: {كُونُوا هُوداً} [البقرة: 135] بضمير الجمع فعلم أنه رد عليهم بلسان الجميع، وأما في قوله الآتي: {قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا} فلأنه بعد أن أفرد قل جمع الضمائر في {أَتُحَاجُّونَنَا} ، و {ربنا} ، و {لنا} ، و {أعمالنا} ، و {نحن} ، و {مخلصون} ، فانظر بدائع النظم في هاته الآيات ودلائل إعجازها.

وقدم الإيمان بالله لأنه لا يختلف باختلاف الشرائع الحق، ثم عطف عليه الإيمان بما أنزل من الشرائع.
والمراد بما أنزل إلينا القرآن، وبما عطف عليه ما أنزل على الأنبياء والرسل من وحي وما أوتوه من الكتب، والمعنى أنا آمنا بأن الله أنزل تلك الشرائع، وهذا لا ينافي أن بعضها نسخ بعضا، وأن ما أنزل إلينا نسخ جميعها فيما خالفها فيه، ولذلك قدم: {وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} للاهتمام به، والتعبير في جانب بعض هذه الشرائع بلفظ أنزل وفي بعضها بلفظ أوتي تفنن لتجنب إعادة اللفظ الواحد مرارا، وإنما لم يفرد أحد الفعلين ولم تعطف متعلقاته بدون إعادة الأفعال تجنبا لتتابع المتعلقات فإنه كتتابع الإضافات في ما نرى.
والأسباط تقدم ذكرهم آنفا.
وجملة: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} حال أو استئناف كأنه قيل كيف تؤمنون بجميعهم فإن الإيمان بحق بواحد منهم، وهذا السؤال المقدر ناشئ عن ضلالة وتعصب حيث يعتقدون أن الإيمان برسول لا يتم إلا مع الكفر بغيره وأن تزكية أحد لا تتم إلا بالطعن في غيره، وهذه زلة في الأديان والمذاهب والنحل والأحزاب والأخلاق كانت شائعة في الأمم والتلامذة فاقتلعها الإسلام، قال أبو على بن سينا في الإشارات ردا على من انتصر في الفلسفة لأرسطو وتنقص أفلاطون والمعلم الأول وإن كان عظيم المقدار لا يخرجنا الثناء عليه إلى الطعن في أساتيذه.
وهذا رد على اليهود والنصارى إذا آمنوا بأنبيائهم وكفروا بمن جاء بعدهم، فالمقصود عدم التفرقة بينهم في الإيمان ببعضهم، وهذا لا ينافي اعتقاد أن بعضهم أفضل من بعض.
وأحد أصله وحد بالواو ومعناه منفرد وهو لغة في واحد ومخفف منه وقيل هو صفة مشبهة فأبدلت واوه همزة تخفيفا ثم صار بمعنى الفرد الواحد فتارة يكون بمعنى ما ليس بمتعدد وذلك حين يجري على مخبر عنه أو موصوف نحو: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الاخلاص:1]
واستعماله كذلك قليل في الكلام ومنه اسم العدد أحد عشر، وتارة يكون بمعنى فرد من جنس وذلك حين يبين بشيء يدل على جنس نحو خذ أحد الثوبين ويؤنث نحو قوله تعالى: {فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة: 282] وهذا الاستعمال كثير وهو قريب في المعنى من الاستعمال الأول، وتارة يكون بمعنى فرد من جنس لكنه لا يبين بل يعمم وتعميمه قد يكون في الإثبات نحو قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ} [التوبة: 6]

وقد يكون تعميمه في النفي وهو أكثر أحوال استعماله نحو قوله تعالى: {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة:47] وقول العرب: أحد لا يقول ذلك، وهذا الاستعمال يفيد العموم كشأن النكرات كلها في حالة النفي.
وبهذا يظهر أن أحد لفظ معناه واحد في الأصل وتصريفه واحد ولكن اختلفت مواقع استعماله المتفرعة على أصل وضعه حتى صارت بمنزلة معان متعددة وصار أحد بمنزلة المترادف، وهذا يجمع مشتت كلام طويل للعلماء في لفظ أحد وهو ما احتفل به القرافي في كتابه العقد المنظوم في الخصوص والعموم.
وقد دلت كلمة {بين} على محذوف تقديره وآخر لأن بين تقتضي شيئين فأكثر.
وقوله: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} القول فيه كالقول في نظيره المتقدم آنفا عند قوله تعالى: {إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 133].
[137] {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:137]
كلام معترض بين قوله {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} [البقرة: 136] وقوله {صِبْغَةَ اللَّهِ} [البقرة: 138] والفاء للتفريع ودخول الفاء في الاعتراض وارد في الكلام كثيرا وإن تردد فيه بعض النحاة والتفريع على قوله: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} والمراد من القول أن يكون إعلانا أي أعلنوا دينكم واجهروا بالدعوة إليه فإن اتبعكم الذين قالوا: {كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى} [البقرة: 135] فإيمانهم اهتداء وليسوا قبل ذلك على هدى خلافا لزعمهم أنهم عليه من قولهم: {كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا} فدل مفهوم الشرط على أنهم ليسوا على هدى ما داموا غير مؤمنين بالإسلام.
وجاء الشرط هنا بحرف إن المفيدة للشك في حصول شرطها إيذانا بأن إيمانهم غير مرجو.
والباء في قوله: {بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ} للملابسة وليست للتعدية أي إيمانا مماثلا لإيمانكم، فالمماثلة بمعنى المساواة في العقيدة والمشابهة فيها باعتبار أصحاب العقيدة وليست مشابهة معتبرا فيها تعدد الأديان لأن ذلك ينبو عنه السياق، وقيل لفظ مثل زائد، وقيل الباء للآلة والاستعانة، وقيل الباء زائدة، وكلها وجوه متكلفة.

وقوله: {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} أي فقد تبين أنهم ليسوا طالبي هدى ولا حق إذ لا أبين من دعوتكم إياهم ولا إنصاف أظهر من هذه الحجة.
والشقاق شدة المخالفة، مشتق من الشق بفتح الشين وهو الفلق وتفريق الجسم، وجيء بفي للدلالة على تمكن الشقاق منهم حتى كأنه ظرف محيط بهم, والإتيان بإن هنا مع أن توليهم هو المظنون بهم لمجرد المشاكلة لقوله {فَإِنْ آمَنُوا}
وفرع قوله: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} على قوله: {فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} تثبيتا للنبي صلى الله عليه وسلم لأن إعلامه بأن هؤلاء في شقاق مع ما هو معروف من كثرتهم وقوة أنصارهم مما قد يتحرج له السامع فوعده الله بأنه يكفيه شرهم الحاصل من توليهم.
والسين حرف يمحض المضارع للاستقبال فهو مختص بالدخول على المضارع وهو كحرف سوف والأصح أنه لا فرق بينهما في سوى زمان الاستقبال. وقيل إن سوف أوسع مدى واشتهر هذا عند الجماهير فصاروا يقولون سوفه إذا ماطل الوفاء بالآخر، وأحسب أنه لا محيص من التفرقة بين السين وسوف في الاستقبال ليكون لموقع أحدهما دون الآخر في الكلام البليغ خصوصية ثم إن كليهما إذا جاء في سياق الوعد أفاد تخفيف الوعد ومنه قوله تعالى: {قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} [مريم: من الآية47] فالسين هنا لتحقيق وعد الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأنه يكفيه سوء شقاقهم.
ومعنى كفايتهم كفاية شرهم وشقاقهم فإنهم كانوا أهل تعصب لدينهم وكانوا معتضدين بأتباع وأنصار وخاصة النصارى منهم، وكفاية النبيء كفاية لأمته لأنه ما جاء لشيء ينفع ذاته.
{وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} اي السميع لأذاهم بالقول العليم بضمائرهم أي اطمئن بأن الله كافيك ما تتوجس من شرهم وأذاهم بكثرتهم، وفي قوله: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} وعد ووعيد.
[138] {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} [البقرة:138]
هذا متصل بالقول المأمور به في: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} [البقرة: 136] وما بينها اعتراض كما علمت والمعنى آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى الأنبياء من قبل إيمانا صبغة الله.
وصبغة بكسر الصاد أصلها صبغ بدون علامة تأنيث وهو الشيء الذي يصبغ به

بزنة فعل الدال على معنى المفعول مثل ذبح وقشر وكسر وفلق. واتصاله بعلامة التأنيث لإرادة الوحدة مثل تأنيث قشرة وكسرة وفلقة. فالصبغة الصبغ المعين المحضر لأن يصبغ به. وانتصابه على أنه مفعول مطلق نائب عن عامله أي صبغنا صبغة الله كما انتصب {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} [الروم: 6] بعد قوله: {يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الروم: 5] بتقدير وعدهم النصر. أو على أنه بدل من قوله: {مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ} أي الملة التي جعلها الله شعارنا كالصبغة عند اليهود والنصارى، أو منصوبا وصفا لمصدر محذوف دل عليه فعل {آمَنَّا بِاللَّهِ} والتقدير آمنا إيمانا صبغة الله، وهذا هو الوجه الملائم لإطلاق صبغة على وجه المشاكلة، وما ادعاه صاحب الكشاف من أنه يفضي إلى تفكيك النظم تهويل لا يعبأ به في الكلام البليغ لأن التئام المعاني والسياق يدفع التفكك، وهل الاعتراض والمتعلقات إلا من قبيل الفصل يتفكك بها الألفاظ ولا تؤثر تفككا في المعاني، وجعله صاحب الكشاف تبعا لسيبويه مصدرا مبينا للحالة مثل الجلسة والمشية وجعلوا نصبه على المفعول المطلق المؤكد لنفسه أي لشيء هو عينه أي أن مفهوم المؤكد بالفتح والتأكيد متحدان فيكون مؤكدا لآمنا لأن الإيمان والصبغة متلازمان على حد انتصاب {وَعْدَ اللَّهِ} من قوله تعالى: {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} توكيدا لمضمون الجملة التي قبله وهي قوله: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ} [الروم: من الآية,4 5] وفيه تكلفان لا يخفيان.
والصبغة هنا اسم للماء الذي يغتسل به اليهود عنوانا على التوبة لمغفرة الذنوب والأصل فيها عندهم الاغتسال الذي جاء فرضه في التوراة على الكاهن إذا أراد تقديم قربان كفارة عن الخطيئة عن نفسه أو عن أهل بيته، والاغتسال الذي يغتسله الكاهن أيضا في عيد الكفارة عن خطايا بني إسرائيل في كل عام، وعند النصارى الصبغة أصلها التطهر في نهر الأردن وهو اغتسال سنه النبي يحيى بن زكرياء لمن يتوب من الذنوب فكان يحيى يعظ بهم الناس بالتوبة فإذا تابوا أتوه فيأمرهم بأن يغتسلوا في نهر الأردن رمزا للتطهر الروحاني وكانوا يسمون ذلك معموذيت بذال معجمة وبتاء فوقية في آخره ويقولون أيضا ممعوذيتا بألف بعد التاء وهي كلمة من اللغة الآرامية معناها الطهارة، وقد عربه العرب فقالوا معمودية بالدال المهملة وهاء تأنيث في آخره وياؤه التحتية مخففة.
وكان عيسى بن مريم حين تعمد بماء المعمودية أنزل الله عليه الوحي بالرسالة ودعا اليهود إلى ما أوحى الله به إليه وحدث كفر اليهود بما جاء به عيسى وقد آمن به يحيى فنشأ

الشقاق بين اليهود وبين يحيى وعيسى فرفض اليهود التعميد، وكان عيسى قد عمد الحواريين الذين آمنوا به، فتقرر في سنة النصارى تعميد من يدخل في دين النصرانية كبيرا، وقد تعمد قسطنطين قيصر الروم. حين دخل في دين النصرانية، أما من يولد للنصارى فيعمدونه في اليوم السابع من ولادته. وإطلاق اسم الصبغة على المعمودية يحتمل أن يكون من مبتكرات القرآن ويحتمل أن يكون نصارى العرب سموا ذلك الغسل صبغة، ولم أقف على ما يثبت ذلك من كلامهم في الجاهلية وظاهر كلام الراغب أنه إطلاق قديم عند النصارى إذ قال وكانت النصارى إذا ولد لهم ولد غمسوه بعد السابع في ماء معمودية يزعمون أن ذلك صبغة لهم.
أما وجه تسمية المعمودية صبغة فهو خفي إذ ليس لماء المعمودية لون فيطلق على التلطخ به مادة ص ب غ وفي دائرة المعارف الإسلامية1 أن أصل الكلمة من العبرية ص ب ع أي غطس. فيقتضي أنه لما عرب أبدلوا العين المهملة غينا معجمة لعله لندرة مادة صبغ بالعين المهملة في المشتقات وأيا ما كان فإطلاق الصبغة على ماء المعمودية أو على الاغتسال به استعارة مبنية على تشبيه وجهه تخييلي إذ تخيلوا أن التعميد يكسب المعمد به صفة النصرانية ويلونه بلونها كما يلون الصبغ ثوبا مصبوغا وقريب منه إطلاق الصبغ على عادة القوم وخلقهم وأنشدوا لبعض ملوك همدان:
وكل أناس لهم صبغة ... وصبغة همدان خير الصبغ
صبغنا على ذلك أبناءنا ... فأكرم بصبغتنا في الصبغ
وقد جعل النصارى في كنائسهم أحواضا صغيرة فيها ماء يزعمون أنه مخلوط ببقايا الماء الذي أهرق على عيسى حين عمده يحيى وأن ما تقاطر منه جمع وصب في ماء كثير ومن ذلك الماء تؤخذ مقادير تعتبر مباركة لأنها لا تخلو عن جزء من الماء الذي تقاطر من اغتسال عيسى حين تعميده كما قال في أوائل الأناجيل الأربعة.
فقوله: {صِبْغَةَ اللَّهِ} رد على اليهود والنصارى معا أما اليهود فلأن الصبغة نشأت فيهم وأما النصارى فلأنها سنة مستمرة فيهم، ولما كانت المعمودية مشروعة لهم لغلبة تأثير المحسوسات على عقائدهم رد عليهم بأن صبغة الإسلام الاعتقاد والعمل المشار إليهما
ـــــــ
1 في مادة الصابئة.

بقوله: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} [البقرة: 136] إلى قوله: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136] أي إن كان إيمانكم حاصلا بصبغة القسيس فإيماننا بضبغ الله وتلوينه أي تكييفه الإيمان في الفطرة مع إرشاده إليه، فإطلاق الصبغة على الإيمان استعارة علاقتها المشابهة وهي مشابهة خفية حسنها قصد المشاكلة، والمشاكلة من المحسنات البديعية ومرجعها إلى الاستعارة وإنما قصد المشاكلة باعث على الاستعارة، وإنما سماها العلماء المشاكلة لخفاء وجه التشبيه فأغفلوا أن يسموها استعارة وسموها المشاكلة، وإنما هي الإتيان بالاستعارة لداعي مشاكلة لفظ للفظ وقع معه. فإن كان اللفظ المقصود مشاكلته مذكورا فهي المشاكلة، ولنا أن نصفها بالمشاكلة التحقيقية كقول ابن الرقعمق.1
قالوا اقترح شيئا نجد لك طبخه ... قلت اطبخوا لي جبة وقميصا
استعار الطبخ للخياطة لمشاكلة قوله نجد لك طبخه، وإن كان اللفظ غير مذكور بل معلوما من السياق سميت مشاكلة تقديرية كقول أبي تمام:
من مبلغ أفناء يعرب كلها ... أني بنيت الجار قبل المنزل
استعار البناء للاصطفاء والاختيار لأنه شاكل به بناء المنزل المقدر في الكلام المعلوم من قوله قبل المنزل، وقوله تعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ} من هذا القبيل والتقدير في الآية أدق من تقدير بيت أبي تمام وهو مبني على ما هو معلوم من عادة النصارى واليهود بدلالة قوله: {كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى} [البقرة: 135] على ما يتضمنه من التعميد.
والاستفهام في قوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} ومعناه لا أحسن من الله في شأن صبغته، فانتصب صبغة على التمييز، تمييز نسبة محول عن مبتدأ ثان يقدر بعد من في قوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ} والتقدير ومن صبغته أحسن من الله أي من صبغة الله قال أبو حيان في البحر المحيط وقل ما ذكر النحاة في التمييز المحول عن المبتدأ.
وقد تأتي بهذا التحويل في التمييز إيجاز بديع إذ حذف كلمتان بدون لبس فإنه لما أسندت الأحسنية إلى من جاز دخول من التفضيلية على اسم الجلالة بتقدير مضاف لأن
ـــــــ
1 هو أحمد بن محمد الأنطاكي ويكنى أبا حامد توفي سنة 399هـ وكنى أبا الرقعمق "براء مفتوحة وقاف مفتزحة وعين ساكنة وميم مفتوحة آخره قاف" ولم أقف على معناه وهو ليس بعربي ولعله لفظ هزلي وقبل هذا البيت قوله:
إخواننا قصدوا الصبوح بسحرة ... فأتى رسولهم إلي خصيصا

ذلك التحويل جعل ما أضيفت إليه صبغة هو المحكوم عليه بانتفاء الأحسنية فعلم أن المفضل عليه هو المضاف المقدر أي ومن أحسن من صبغة الله.
وجملة {وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} عطف على {آمنا} وفي تقديم الجار والمجرور على عامله في قوله {لَهُ عَابِدُونَ} إفادة قصر إضافي على النصارى الذين اصطبغوا بالمعمودية لكنهم عبدوا المسيح.
[139] {قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ}
{قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ}
استئناف عن قوله: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} [البقرة: 136] كما تقدم هنا لك، و {تحاجوننا} خطاب لأهل الكتاب لأنه جواب كلامهم السابق ولدليل قوله الآتي: {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى} [البقرة: 140].
والاستفهام للتعجب والتوبيخ، ومعنى المحاجة في الله الجدال في شئونه بدلالة الاقتضاء إذ لا محاجة في الذات بما هي ذات والمراد الشأن الذي حال أهل الكتاب على المحاجة مع المؤمنين فيه وهو ما تضمنته بعثة محمد صلى الله عليه وسلم من أن الله نسخ شريعة اليهود والنصارى وأنه فضله وفضل أمته، ومحاجتهم راجعة إلى الحسد واعتقاد اختصاصهم بفضل الله تعالى وكرامته.
فلذلك كان لقوله: {وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} موقع في تأييد الإنكار أي بلغت بكم الوقاحة إلى أن تحاجونا في إبطال دعوة الإسلام بلا دليل سوى زعمكم أن الله اختصكم بالفضيلة مع أن الله ربنا كما هو ربكم فلماذا لا يمن علينا بما من به عليكم.
فجملة {وَهُوَ رَبُّنَا} حالية أي كيف تحاجوننا في هاته الحالة المعروفة التي لا تقبل الشك، وبهذه الجملة حصل بيان لموضوع المحاجة، وكذلك جملة {وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} وهي عطف على الحال ارتقاء في إبطال مجادلتهم بعد بيان أن المربوبية تؤهل لإنعامه كما أهلتهم، ارتقى فجعل مرجع رضي الله تعالى على عبادة أعمالهم فإذا كان قد أكرمكم لأجل الأعمال الصالحة فلعله أكرمنا لأجل صالحات أعمالنا فتعالوا فانظروا أعمالكم وانظروا أعمالنا تجدوا حالنا أقرب إلى الصلاح منكم.

قال البيضاوي كأنه ألزمهم على كل مذهب ينتحونه إفحاما وتبكيتا فإن كرامة النبوءة إما تفضل من الله على من يشاء فالكل فيه سواء وإما إفاضة حق على المستعدين لها بالمواظبة على الطاعة فكما أن لكم أعمالا ربما يعتبرها الله في إعطائها فلنا أيضا أعمال.
وتقديم المجرور فيه {لَنَا أَعْمَالُنَا} للاختصاص أي لنا أعمالنا لا أعمالكم فلا تحاجونا في أنكم أفضل منا، وعطف {وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} احتراس لدفع توهم أن يكون المسلمون مشاركين للمخاطبين في أعمالهم وأن لنا أعمالنا يفيد اختصاص المتكلمين بما عملوا مع الاشتراك في أعمال الآخرين وهو نظير عطف قوله تعالى {وَلِيَ دِينِ} على قوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ} [الكافرون: 6].
وهذا كله من الكلام المصنف مثل قوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24]
وجملة {وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} عطف آخر على جملة الحال وهي ارتقاء ثالث لإظهار أن المسلمين أحق بإفاضة الخير فإنهم وإن اشتركوا مع الآخرين في المربوبية وفي الصلاحية لصدور الأعمال الصالحة فالمسلمون قد أخلصوا دينهم لله ومخالفوهم قد خلطوا عبادة الله بعبادة غيره، أي فلماذا لا نكون نحن أقرب إلى رضى الله منك إليه.
والجملة الاسمية مفيدة الدوام على الإخلاص كما تقدم في قوله: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136]
[140] {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:140]
{أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ}
أم منقطعة بمعنى بل وهي إضراب للانتقال من غرض إلى غرض وفيها تقدير استفهام وهو استفهام للتوبيخ والإنكار وذلك لمبلغهم من الجهل بتاريخ شرائعهم زعموا أن إبراهيم وأبناءه كانوا على اليهودية أو على النصرانية كما دل عليه قوله تعالى: {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} ولدلالة آيات أخرى عليه مثل: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً} [آل عمران:

67] ومثل قوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالأِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [آل عمران:65] والأمة إذا انغمست في الجهالة وصارت عقائدها غرورا ومن دون تدبر اعتقدت ما لا ينتظم مع الدليل واجتمعت في عقائدها المتناقضات، وقد وجد النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح في الكعبة صورة إبراهيم يستقسم بالأزلام في الكعبة فتلا قوله تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ} - إلى قوله-: {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: من الآية67] وقال والله إن استقسم بها قط، وقال تعالى في شأن أهل الكتاب: {وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْأِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} فرماهم بفقد التعقل.
وقرأ الجمهور وأبو بكر عن عاصم ورويس عن يعقوب بياء الغائب وقرأه ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم بتاء الخطاب على أن أم متصلة معادلة لقوله: {أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ} [البقرة: من الآية139] فيكون قوله: {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} أمرا ثانيا لاحقا لقوله: {قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا} وليس هذا المحمل بمتعين لأن في اعتبار الالتفات مناصا من ذلك.
ومعنى: {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} التقدير، وقد أعلمنا الله أن إبراهيم لم يكن يهوديا ولا نصرانيا وهذا كقوله في سورة آل عمران {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْأِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [آل عمران:65]
وقد استفيد من التقرير في قوله: {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} أنه أعلمهم بأمر جهلته عامتهم وكتمته خاصتهم ولذلك قال: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ} يشير إلى خاصة الأحبار والرهبان الذين تركوا عامة أمتهم مسترسلين على عقائد الخطأ والغرور والضلالة وهم ساكتون لا يغيرون عليهم إرضاء لهم واستجلابا لمحبتهم وذلك أمر إذا طال على الأمة تعودته وظنت جهالتها علما فلم ينجع فيها إصلاح بعد ذلك لأنها ترى المصلحين قد أتوا بما لم يأت به الأولون فقالوا {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23]
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}
هذا من جملة المقول محكي بقوله: {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم ذلك تذكيرا لهم بالعهد الذي في كتبهم عسى أن يراجعوا أنفسهم ويعيدوا النظر إن كانوا مترددين أو أن يفيئوا إلى الحق إن كانوا متعمدين المكابرة.

ومن في قوله: {مِنَ اللَّهِ} ابتدائية أي شهادة عنده بلغت من جانب الله على لسان رسله. والواو عاطفة جملة {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً} على جملة: {أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ}
وهذا الاستفهام التقريري كناية عن عدم اغترار المسلمين بقولهم إن إبراهيم وأبناءه كانوا هودا أو نصارى وليس هذا احتجاجا عليهم. وقوله: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} بقية مقول القول وهو تهديد لأن القادر إذا لم يكن غافلا لم يكن له مانع من العمل بمقتضى علمه وقد تقدمت نظائر هذا في مواضع.
[141] {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة:134]
تكرير لنظيره الذي تقدم آنفا لزيادة رسوخ مدلوله في نفوس السامعين اهتماما بما تضمنه لكونه معنى لم يسبق سماعه للمخاطبين فلم يقتنع فيه بمرة واحدة ومثل هذا التكرير وارد في كلام العرب، قال لبيد:
فتنازعا سبطا يطير ضلالة ... كدخان مشعلة يشب ضرامها
مشمولة غلثت بنابت عرفج ... كدخان نار ساطع أسنامها1
فإنه لما شبه الغبار المتطاير بالنار المشبوبة واستطرد بوصف النار بأنها هبت عليها ريح الشمال وزادتها دخانا وأوقدت بالعرفج الرطيب لكثرة دخانه، أعاد التشبيه ثانيا لأنه غريب مبتكر.
ـــــــ
1 الضمير المثنى لحمار الوحش وإتانه المذكورين في قوله قبله "أو ملمع وسقت لا حقب لاحه" ومعنى تنازعا تسابقا في غبار ممتد والسبط الطويل يعلو ظله في الشمس والمشعلة صفة موصوف محذوف أي نار والمشمولة التي هبت عليها ريح الشمال ونابت العرفج الجديد نباته, والعرفج نبت معروف.

المجلد الثاني
تابع سورة البقرة...
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين
[142] {سَيَقُوؤلُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة:142]
قد خفي موقع هذه الآية من الآي التي بعدها لأن الظاهر منها أنها إخبار عن أمر يقع في المستقبل وأن القبلة المذكورة فيها هي القبلة التي كانت في أول الهجرة بالمدينة وهي استقبال بيت المقدس وأن التولي عنها هو نسخها باستقبال الكعبة فكان الشأن أن يترقب طعن الطاعنين في هذا التحويل بعد وقوع النسخ أي بعد الآيات الناسخة لاستقبال بيت المقدس لما هو معلوم من دأبهم من الترصد للطعن في تصرفات المسلمين فإن السورة نزلت متتابعة، والأصل موافقة التلاوة للنزول في السورة الواحدة إلا ما ثبت أنه نزل متأخرا ويتلى متقدما.
والظاهر أن المراد بالقبلة المحمولة القبلة المنسوخة وهي استقبال بيت المقدس أعني الشرق وهي قبلة اليهود ولم يشف أحد من المفسرين وأصحاب أسباب النزول الغليل في هذا على أن المناسبة بينها وبين الآي الذي قبلها غير واضحة فاحتاج بعض المفسرين إلى تكلف إبدائها.
والذي استقر عليه فهم أن مناسبة وقوع هذه الآية هنا مناسبة بديعة، وهي أن الآيات التي قبلها تكرر فيها التنويه بإبراهيم وملته والكعبة وأن من يرغب عنها قد سفه نفسه، فكانت مثارا لأن يقول المشركون، ما ولي محمدا وأتباعه عن قبلتهم التي كانوا عليها بمكة أي استقبال الكعبة مع أنه يقول أنه على ملة إبراهيم ويأبى عن اتباع اليهودية والنصرانية، فكيف ترك قبلة إبراهيم واستقبل بيت المقدس، ولأنه قد تكررت الإشارة في الآيات السابقة إلى هذا الغرض بقوله: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} [البقرة:115]. وقوله: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] كما ذكرنا هنالك، وقد هلم الله ذلك منهم فأنبأ رسوله بقولهم وآتى فيه بهذا الموقع العجيب وهو أن جعله

بعد الآيات المشيرة له وقبل الآيات التي أنزلت إليه في نسخ استقبال بيت المقدس والأمر بالتوجه في الصلاة إلى جهة الكعبة، لئلا يكون القرآن الذي فيه الأمر باستقبال الكعبة نازلا بعد مقالة المشركين ويشمخ بأنوفهم يقولون غير محمد قبلته من أجل اعتراضنا عليه فكان لموضع هذه الآية هنا أفضل تمكن وأوثق ربط، وبهذا يظهر وجه نزولها قبل آية النسخ وهي قوله: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ } [البقرة:144] الآيات لأن مقالة المشركين أو توقعها حاصل قبل نسخ استقبال بيت المقدس وناشئ عن التنويه بملة إبراهيم والكعبة.
فالمراد بالسفهاء المشركون ويدل لذلك تبينه بقوله: {مِنَ النَّاسِ} فقد عرف في اصطلاح القرآن النازل بمكة أن لفظ الناس يراد به المشركون كما روي ذلك عن ابن عباس ولا يظهر أن يكون المراد به اليهود أو أهل الكتاب لأنه لو كان ذلك لناسب أن يقال سيقولون بالإضمار لأن ذكرهم لم يزل قريبا من الآي السابقة إلى قوله: {وَلا تُسْأَلونَ} [البقرة:134] الآية ويعضدنا في هذا ما ذكر الفخر عن ابن عباس والبراء بن عازب والحسن أن المراد بالسفهاء المشركون وذكر القرطبي أنه قول الزجاج، ويجوز أن يكون المراد بهم المنافقين وقد سبق وصفهم بهذا في أول السورة فيكون المقصود المنافقين الذين يبطنون الشرك، والذي يبعثهم على هذا القول هو عين الذي يبعث المشركين عليه وقد روي عن السدي أن السفهاء هنا هم المنافقون.
أما الذين فسروا {السُّفَهَاءُ} باليهود فقد وقعوا في حيرة من موقع هذه الآية لظهور أن هذا القول ناشئ عن تغيير القبلة إلى بيت المقدس وذلك قد وقع الأخبار به قبل سماع الآية الناسخة للقبلة لأن الأصل موافقة التلاوة للنزول فكيف يقول السفهاء هذا القول قبل حدوث داعي إليه لأنهم إنما يطعنون في التحول عن استقبال بيت المقدس لأنه مسجدهم وهو قبلتهم في قول كثير من العلماء، ولذلك جزم أصحاب هذا القول بأن هذه الآية نزلت بعد نسخ استقبال بيت المقدس ورووا ذلك عن مجاهد وروى البخاري في كتاب الصلاة1 من طريق عبد الله بن رجاء عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء حديث تحويل القبلة ووقع فيه فقال السفهاء وهم اليهود، ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ، وأخرجه في كتاب الإيمان2 من
ـــــــ
1 انظر :"فتح الباري لابن حجر "1/502" دار المعرفة- كتاب الصلاة "31 باب التوجه نحو القبلة حيث كان.
2 المصدر السابق"1/95" دار المعرفة، كتاب الإيمان "30" باب الصلاة من الإيمان.

طريق عمرو بن خالد عن زهير عن أبي إسحاق عن البراء بغير هذه الزيادة، ولكن قال عوضها وكانت اليهود قد أعجبهم إذ كان يصلى قبل بيت المقدس وأهل الكتاب، فلما ولى وجهه قبل البيت أنكروا ذلك ، وأخرجه في كتاب التفسير1 من طريق أبي نعيم عن زهير بدون شئ من هاتين الزيادتين، والظاهر أن الزيادة الأولى مدرجة من إسرائيل عن أبي إسحاق، والزيادة الثانية مدرجة من عمرو بن خالد لأن مسلما والترمذي والنسائي قد رووا حديث البراء عن أبي إسحاق من غير طريق إسرائيل ولم يكن فيه إحدى الزيادتين، فاحتاجوا إلى تأويل حرف الاستقبال من قوله: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ} بمعنى التحقيق لا غير أي قال السفهاء ما ولاهم.
ووجه فصل هذه الآية عما قبلها بدون عطف اختلاف الغرض عن غرض الآيات السابقة فهي استئناف محض ليس جوابا عن سؤال مقدر.
والأولى بقاء السين على معنى الاستقبال إذ لا داعي إلى صرفه معنى المضي وقد علمتم الداعي إلى الإخبار به قبل وقوعه منهم وقال في الكشاف فائدة الإخبار به قبل وقوعه أن العلم به قبل وقوعه أبعد من الاضطراب إذا وقع وأن الجواب العتيد قبل الحاجة إليه أقطع للخصم وأرد لشغبه وذكر ابن عطية عن ابن عباس أنه من وضع المستقبل موضع الماضي ليدل على استمرارهم فيه وقال الفخر إنه مختار القفال.
وكأن الذي دعاهم إلى ذلك أنهم ينظرون إلى أن هذا القول وقع بعد نسخ استقبال بيت المقدس وأن الآية نزلت بعد ذلك وهذا تكلف ينبغي عدم التعويل عليه، والإخبار عن أقوالهم المستقبلة ليس بعزيز في القرآن مثل قوله: {فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ} [الإسراء:51] وإذا كان الذي دعاهم إلى ذلك ثبوت أنهم قالوا هذه المقالة قبل نزول هذه الآية وشيوع ذلك كان لتأويل المستقبل بالماضي وجه وجيه، وكان فيه تأييد لما أسلفناه في تفسير قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} [البقرة:115] وقوله: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى} [البقرة:120].
والسفهاء جمع سفيه الذي هو صفة مشبهة من سفه بضم الفاء إذا صار السفه له سجية وتقدم القول في السفه عند قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة:130] وفائدة وصفهم بأنهم من الناس مع كونه معلوما هو التنبيه على بلوغهم
ـــــــ
1 المصدر السابق "8/171، كتاب التفسير سورة البقرة "12" باب {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ} إلخ

الحد الأقصى من السفاهة بحيث لا يوجد في الناس سفهاء غير هؤلاء فإذا قسم نوع الإنسان أصنافا كان هؤلاء صنف السفهاء فيفهم أنه لا سفيه غيرهم على وجه المبالغة، والمعنى أن كل من صدر منه هذا القول هو سفيه سواء كان القائل اليهود أو المشركين من أهل مكة.
وضمير الجمع في قوله: {مَا وَلَّاهُمْ} عائد إلى معلوم من المقام غير مذكور في اللفظ حكاية لقول السفهاء، وهم يريدون بالضمير أو بما يعبر عنه في كلامهم أنه عائد على المسلمين.
وفعل "ولاهم" أصله مضاعف ولى إذا دنا وقرب، فحقه أن يتعدى إلى مفعول واحد بسبب التضعيف فيقال ولاه من كذا أي قربه منه وولاه عن كذا أي صرفه عنه ومنه قوله تعالى هنا {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ}، وشاع استعماله في الكلام فكثر أن يحذفوا حرف الجر الذي يعديه إلى متعلق ثان فبذلك عدوه إلى مفعول ثان كثيرا على التوسع فقالوا ولى فلانا وجهه مثلا دون أن يقولوا ولى فلان وجهه من فلان أو عن فلان فأشبه أفعال كسا وأعطى ولذلك لم يعبأوا بتقديم أحد المفعولين على الآخر قال تعالى: {فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} [لأنفال:15] أصله فلا تولوا الأدبار منهم، فالأدبار هو الفاعل في المعنى لأنه لو رفع لقيل ولي دبره الكافرين، ومنه قوله تعالى: {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [النساء:115] أي نجعله واليا مما تولى أي قريبا له أي ملازما له فهذا تحقيق تصريفات هذا الفعل.
وجملة {مَا وَلَّاهُمْ} الخ هي مقول القول فضمائر الجمع كلها عائدة على معاد معلوم من المقام وهم المسلمون ولا يحتمل غير ذلك لئلا يلزم تشتيت الضمائر ومخالفة الظاهر في أصل حكاية الأقوال.
والاستفهام في قوله: {مَا وَلَّاهُمْ} مستعمل في التعريض بالتخطئة واضطراب العقل.
والمراد بالقبلة في قوله: {عَنْ قِبْلَتِهِمُ} الجهة التي يولون إليها وجوههم عند الصلاة كما دل عليه السياق وأخبار سبب نزول هذه الآيات.
والقبلة في أصل الصيغة أسم على زنة فعلة بكسر الفاء وسكون العين، وهي زنة المصدر الدال على هيئة فعل الاستقبال أي التوجه اشتق على غير قياس بحذف السين والتاء ثم أطلقت على الشيء الذي يستقبله المستقبل مجازا وهو المراد هنا لأن الانصراف لا يكون عن الهيئة قال حسان في رثاء أبي بكر رضي الله عنه:

أليس أول من صلى لقبلتكم
والأظهر عندي أن تكون القبلة أسم مفعول على وزن فعل كالذبح والطحن وتأنيثه باعتبار الجهة كما قالوا: ما له في هذا الأمر قبلة ولا دبرة أي وجهة.
وإضافة القبلة إلى ضمير المسلمين للدلالة على مزيد اختصاصها بهم إذ لم يستقبلها غيرهم من الأمم لأن المشركين لم يكونوا من المصلين وأهل الكتاب لم يكونوا يستقبلون في صلاتهم، وهذا مما يعضد حمل "السفهاء" على المشركين إذ لو أريد بهم اليهود لقيل عن قبلتنا إذ لا يرضون أن يضيفوا تلك القبلة إلى المسلمين، ومن فسر السفهاء باليهود ونسب إليهم استقبال بيت المقدس حمل الإضافة على أدنى ملابسة لأن المسلمين استقبلوا تلك القبلة مدة سنة وأشهر فصارت قبلة لهم.
وضمير الجمع في قوله: {مَا وَلَّاهُمْ} عائد إلى معلوم من المقام غير مذكور الفظ حكاية لقول السفهاء وهم يريدون بالضمير أو بمساويه في كلامهم عوده على المسلمين.
و قوله: {الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} أي كانوا ملازمين لها فعلى هنا للتمكن المجازي وهو شدة الملازمة مثل قوله: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:5]، وفيه زيادة توجيه للإنكار والاستغراب أي كيف عدلوا عنها بعد أن لا رموها ولم يكن استقبالهم إياها مجرد صدفة فإنهم استقبلوا الكعبة ثلاث عشرة سنة قبل الهجرة.
واعلم أن اليهود يستقبلون بيت المقدس وليس هذا الاستقبال من أصل دينهم لأن بيت المقدس إنما بني بعد موسى عليه السلام بناه سليمان عليه السلام، فلا تجد في أسفار التوراة الخمسة ذكرا لاستقبال جهة معينة في عبادة الله تعالى والصلاة والدعاء، ولكن سليمان عليه السلام هو الذي سن استقبال بيت المقدس ففي سفر الملوك الأول أن سليمان لما أتم بناء بيت المقدس جمع شيوخ إسرائيل وجمهورهم ووقف أمام المذبح في بيت المقدس وبسط يديه ودعا الله دعاء جاء فيه: "إذا انكسر شعب إسرائيل أمام العدو ثم رجعوا واعترفوا وصلوا نحو هذا البيت فأرجعهم إلى الأرض التي أعطيت لآبائهم وإذا خرج الشعب لمحاربة العدو وصلوا إلى الرب نحو المدينة التي اخترتها والبيت الذي بنيته لا سمك فأسمع صلاتهم وتضرعهم", الخ، وذكر بعد ذلك أن الله تجلى لسليمان وقال له: قد سمعت صلاتك وتضرعك الذي تضرعت به أمامي، وهذا يدل على أن استقبال بيت المقدس شرط في الصلاة في دين اليهود وقصاراه الدلالة على أن التوجه نحو بيت المقدس بالصلاة والدعاء هيئة فاضلة، فلعل بني إسرائيل التزموه لا سيما بعد خروجهم من

بيت المقدس أو أن أنبياءهم الموجودين بعد خروجهم أمروهم بذلك بوحي من الله.
وقد قال ابن عباس ومجاهد: كان اليهود يظنون أن موافقة الرسول لهم في القبلة ربما تدعوه إلى أن يصير موافقا لهم بالكلية، وجرى كلام ابن العربي في "أحكام القرآن" على الجزم بأن اليهود كانوا يستقبلون بيت المقدس بناءا على كلام ابن عباس ومجاهد، ولم يثبت هذا من دين اليهود كما علمت، وذكر الفخر عن أبي مسلم ما فيه أن اليهود كانوا يستقبلون جهة المغرب وأن النصارى يستقبلون المشرق، وقد علمت آنفا أن اليهود لم تكن لهم في صلاتهم جهة معينة يستقبلونها وأنهم كانوا يتيمنون في دعائهم بالتوجه إلى صوب بيت المقدس على اختلاف موقع جهته من البلاد التي هم بها فليس لهم جهة معينة من جهات مطلع الشمس ومغربها وما بينهما فلما تقرر ذلك عادة عندهم توهموا من الدين وتعجبوا من مخالفة المسلمين في ذلك. وأما النصارى فإنهم لم يقع في إنجيلهم تغيير لما كان عليه اليهود في أمر الاستقبال في الصلاة ولا تعيين جهة معينة ولكنهم لما وجدوا الروم يجعلون أبواب هياكلهم مستقبلة لمشرق الشمس بحيث تدخل أشعة الشمس عند طلوعها من باب الهيكل على الصنم صاحب الهيكل الموضوع في منتهى الهيكل عكسوا ذلك فجعلوا أبواب الكنائس إلى الغرب وبذلك يكون المذبح إلى الغرب والمصلون مستقبلين الشرق، وذكر الخفاجي أن بولس الذي أمرهم بذلك، فهذه حالة النصارى في وقت نزول الآية ثم إن النصارى من العصور الوسطى إلى الآن توسعوا فتركوا استقبال جهة معينة فلذلك تكون كنائسهم مختلفة الاتجاه وكذلك المذابح المتعددة في الكنيسة الواحدة.
وأما استقبال الكعبة في الحنيفية فالظاهر أن إبراهيم عليه السلام لما بنى الكعبة استقبلها عند الدعاء وعند الصلاة لأنه بناها للصلاة حولها فإن داخلها لا يسع الجماهير من الناس وإذا كان بناؤها للصلاة حولها فهي أول قبلة وضعت للمصلي تجاهها وبذلك اشتهرت عند العرب ويدل عليه قول زيد بن عمروا بن نفيل:
عذت بما عاذ به إبراهم ... مستقبل الكعبة وهو قائم
أما توجهه إلى جهتها من بلد بعيد عنها فلا دليل على وقوعه فيكون الأمر بالتزام الاستقبال في الصلاة من خصائص هذه الشريعة ومن جملة معاني إكمال الدين بها كما سنبينه.
وقد دلت هذه الآية على أن المسلمين كانوا يستقبلون جهة ثم تحولوا عنها إلى جهة

أخرى وليست التي تحول إليها المسلمون إلى جهة الكعبة فدل على أنهم كانوا يستقبلون بيت المقدس وبذلك جاءت الآثار. والأحاديث الصحيحة في هذا ثلاث، أولها وأصحها حديث "الموطأ" عن ابن دينار عن ابن عمر: "بينما الناس في صلاة الصبح بقباء إذ جاءهم آت فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة [قرآن]1 وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة", ورواه أيضا البخاري من طريق مالك، ومسلم من طريق مالك ومن طريق عبد العزيز بن مسلم وموسى بن عقبة، وفيه أن نزول آية تحويل القبلة كان قبل صلاة الصبح وأنه لم يكن في أثناء الصلاة وأنه صلى الصبح للكعبة وهذا الحديث هو أصل الباب وهو فصل الخطاب.
ثانيها: حديث مسلم عن أنس بن مالك وفيه: "فمر رجل من بني سلمة وهم ركوع في صلاة الفجر وقد صلوا ركعة فنادى ألا إن القبلة قد حولت فمالوا كما هم نحو القبلة".
الثالث: حديث البخاري ومسلم واللفظ للبخاري في كتاب التفسير عن البراء بن عازب قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، وكان رسول الله يحب أن يوجه إلى الكعبة فأنزل الله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة:144] فتوجه نحو الكعبة ثم قال: فصلى مع النبي رجل ثم خرج بعد ما صلى فمر على قوم من الأنصار في صلاة العصر يصلون نحو بيت المقدس فقال: هو يشهد أنه صلى مع رسول الله وأنه توجه نحو الكعبة فتحرف القوم حتى توجهوا نحو الكعبة" ، وحمل ذكر صلاة الصبح في رواية ابن عمر وأنس بن مالك وذكر صلاة العصر في رواية البراء كل على أهل مكان مخصوص، وهنالك آثار أخرى تخالف هذه لم يصح سندها ذكرها القرطبي. فتحويل القبلة كان في رجب سنة اثنتين من الهجرة قبل بدر بشهرين وقيل يوم الثلاثاء نصف شعبان منها.
واختلفوا في أن استقباله صلى الله عليه وسلم بيت المقدس هل كان قبل الهجرة أو بعدها، فالجمهور على أنه لما فرضت عليه الصلاة بمكة كان يستقبل الكعبة فلما قدم المدينة استقبل بيت المقدس تألقا لليهود قاله بعضهم وهو ضعيف، وقيل كان يستقبل بيت المقدس وهو في
ـــــــ
1 زيادة من "الموطأ" "1/195" تحقيق عبد الباقي،"كتاب القبلة" باب ما جاء في القبلة، ومن صحيح البخاري"، انظر فتح الباري" "1/506"، دار المعرفة، كتاب الصلاة "32" باب ما جاء في القبلة، وهذه الزيادة ليست في "صحيح مسلم" وهو من رواته كما سيذكر المصنف.

مكان يجعل الكعبة أمامه من جهة الشرق فيكون مستقبلا الكعبة وبيت المقدس معا، ولم يصح هذا القول.
واختلفوا هل كان استقبال بيت المقدس بأمر من الله، فقال ابن عباس والجمهور أوجبه الله عليه بوحي ثم نسخة باستقبال الكعبة ودليلهم قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا} [البقرة:143] الآية، وقال الطبري كان مخيرا بين الكعبة وبيت المقدس واختار بيت المقدس استئلافا لليهود، وقال الحسن وعكرمة وأبو العالية، كان ذلك عن اجتهاد من النبي صلى الله عليه وسلم وعلى هذا القول يكون قوله تعالى: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة:144] دالا على أنه أجتهد فرأى أن يتبع قبلة الدينين الذين قبله ومع ذلك كان يود أن يأمره الله باستقبال الكعبة، فلما غيرت القبلة قال السفهاء وهم اليهود أو المنافقون على اختلاف الروايات المتقدمة وقيل كفار قريش قالوا اشتاق محمد إلى بلده وعن قريب يرجع إلى دينكم ذكره الزجاج ونسب إلى البراء بن عازب وابن عباس والحسن، وروي القرطبي أن أول من صلى نحو الكعبة من المسلمين أبو سعيد بن المعلي وفي الحديث ضعف.
وقوله: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} جواب قاطع معناه أن الجهات كلها سواء في أنها مواقع لبعض المخلوقات المعظمة فالجهات ملك لله تبعا للأشياء الواقعة فيها المملوكة له، وليس مستحقة للتوجه والاستقبال استحقاقا ذاتيا. وذكر المشرق والمغرب مراد به تعميم الجهات كما تقدم عند قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} [البقرة:115]، ويجوز أن يكون المراد من المشرق والمغرب الكناية عن الأرض كلها لأن اصطلاح الناس أنهم يقسمون الأرض إلى جهتين شرقية وغربية بحسب مطلع الشمس ومغربها، والمقصود أن ليس لبعض الجهات اختصاص بقرب من الله تعالى لأنه منزه عن الجهة وإنما يكون أمره باستقبال بعض الجهات لحكمة يريدها كالتيمن أو التذكر فلا بدع في التولي لجهة دون أخرى حسب ما يأمر به الله تعالى، فقوله تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} إشارة إلى وجه صحة التولية إلى الكعبة، وقوله: {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} إشارة إلى وجه ترجيح التولية إلى الكعبة على التولية إلى غيرها لأن قوله: {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} تعريض بأن الذي أمر الله به المسلمين هو الهدي دون قبلة اليهود إلا أن هذا التعريض جيء به على طريقة الكلام المنصف من حيث ما في قوله: {مَنْ يَشَاءُ} من الإجمال الذي يبينه المقام فإن المهدي من فريقين كانا في حالة واحدة وهو الفريق الذي أمره من بيده الهدي بالعدول عن الحالة التي شاركه فيها الفريق الآخر إلى حالة اختص هو

بها، فهذه الآية بهذا المعنى فيها إشارة إلى ترجيح أحد المعنيين من الكلام الموجه أقوى من آية: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ:24]
وقد سلك في هذا الجواب لهم طريق الإعراض والتبكيت لأن إنكارهم كان عن عناد لا عن طلب الحق فأجيبوا بما لا يدفع عنهم الحيرة ولم يتبين لهم حكمة تحويل القبلة ولا أحقية الكعبة بالاستقبال وذلك ما يعلمه المؤمنون.
فأما إذا جربنا على قول الذين نسبوا إلى اليهود استقبال جهة المغرب وإلى النصارى استقبال جهة المشرق من المفسرين فيأتي على تفسيرهم أن نقول إن ذكر المشرق والمغرب إشارة إلى قبلة النصارى وقبلة اليهود، فيكون الجواب جوابا بالإعراض عن ترجيح قبلة المسلمين لعدم جدواه هنا، أو يكون قوله: {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} إيماء إلى قبلة الإسلام، والمراد بالصراط المستقيم هنا وسيلة الخير وما يوصل إليه كما تقدم في قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] فيشمل ذلك كل هدي إلى خير ومنه الهدى إلى استقبال أفضل جهة. فجملة {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} حال من اسم الجلالة ولا يحسن جعلها بدل اشتمال من جملة {لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} لعدم وضوح اشتمال جملة {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} على معنى جملة {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} إذ مفاد الأولى أن الأرض جميعها لله أي فلا تتفاضل الجهات ومفاد الثانية أن الهدى بيد الله.
واتفق علماء الإسلام على أن استقبال الكعبة أي التوجه إليها شرط من شروط صحة الصلاة المفروضة والنافلة إلا لضرورة في الفريضة كالقتال والمريض لا يجد من يوجهه إلى جهة القبلة أو لرخصة في النافلة للمسافر إذا كان راكبا على دابة أو في سفينة لا يستقر بها. فأما الذي هو في المسجد الحرام ففرض عليه استقبال عين الكعبة من أحد جوانبها ومن كان بمكة في موضع يعاين منه الكعبة فعليه التوجه إلى جهة الكعبة التي يعاينها فإذا طال الصف من أحد جوانب الكعبة وجب على من كان من أهل الصف غير مقابل لركن من أركان الكعبة أن يستدير بحيث يصلون دائرين بالكعبة صفا وراء صف بالاستدارة، وأما الذي تغيب ذات الكعبة عن بصره فعليه الاجتهاد بأن يتوخى أن يستقبل جهتها فمن العلماء من قال يتوخى المصلي جهة مصادفة عين الكعبة بحيث لو فرض خط بينه وبين الكعبة لوجد وجهه قبالة جدارها، وهذا شاق يعسر تحققه إلا بطريق إرصاد علم الهيئة1ويعبر
ـــــــ
1 قاله ابن رشد في البداية" "1/111"، دار المعرفة، وفيه: "إن إصابة العين شيء لا يدرك إلا

عن هذا باستقبال العين وباستقبال السمت وهذا قول ابن القصار وأختاره أحد أشياخ أبي الطيب عبد المنعم الكندي ونقله المالكية عن الشافعي، ومن العلماء من قال يتوخى المصلي أن يستقبل جهة أقرب ما بينه وبين الكعبة بحيث لو مشى باستقامة لوصل حول الكعبة ويعبر عن هذا باستقبال الجهة أي جهة الكعبة وهذا قول أكثر المالكية واختاره الأبهري والباجي وهو قول أبي حنيفة وأحمد بن حنبل وهو من التيسير ورفع الحرج، ومن كان بالمدينة يستدل بموضع صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في مسجده لأن الله أذن رسوله بالصلاة فيه، وروى أبن القاسم عن مالك أن جبير هو الذي أقام للنبي صلى الله عليه وسلم قبلة مسجده.
وبين المازري معنى المسامتة بأن يكون جزء من سطح وجه المصلى وجزء من سمت الكعبة طرفي خط مستقيم وذلك ممكن بكون صف المصلين كالخط المستقيم الواصل بين طرفي خيطين متباعدين خرجا من المركز إلى المحيط من جهته لأن كل نقطة منه ممر لخارج من المركز إلى المحيط اه، واستبعد عز الدين بن عبد السلام هذا الكلام بأن تكليف البعيد استقبال عين البيت لا يطاق، وبإجماعهم على صحة صلاة ذوي صف مائة ذراع وعرض البيت خمسة أذرع فبعض هذا الصف خارج عن سمة البيت قطعا ووافقه القرافي ثم أجاب بأن البيت لمستقبليه كمركز دائرة لمحيطها والخطوط الخارجة من مركز لمحيطه كلما قربت منه اتسعت ولا سيما في البعد. فإذا طالت الصفوف فلا حرج عليهم لأنهم إنما يجب عليهم أن يكونوا متوجهين نحو الجهة التي يعبرون عنها بأنها قبلة الصلاة.
ومن أخطأ القبلة أو نسى الاستقبال حتى فرغ من صلاته لا يجب عليه إعادة صلاته عند مالك وأبي حنيفة وأحمد إلا أن مالكا استحب له أن يعيدها ما لم يخرج الوقت ولم ير ذلك أبو حنيفة وأحمد وهذا بناء على أن فرض المكلف هو الاجتهاد في استقبال الجهة وأما الشافعي فأوجب عليه الإعادة أبدا بناء على أنه يرى أن فرض المكلف هو إصابة سمت الكعبة.
[143] {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ
ـــــــ
بتقريب وتسامح بطريق الهندسة واستعمال الأرصاد في ذلك ونحن لم نكلف الإجتهاد فيه بطريق الهندسة المبني على الأرصاد المستنبط منها طول البلاد وعرضخا" انظر هذه المسألة أيضا في "الإحياء" للغزالي"2/265"، دار المعرفة، "كتاب آداب السفر" ما يتجدد من الوظيفة بسبب السفر

عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة:143]
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً}
هذه الجملة معترضة بين جملة {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ} [البقرة:142] الخ، وجملة {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا} الخ، اعتراضية وهي من قبيل الواو الاستئنافية، فالآية السابقة لما أشارت إلى أن الذين هدوا إلى صراط مستقيم هم المسلمون وأن ذلك فضل لهم ناسب أن يستطرد لذكر فضيلة أخرى لهم هي خير مما تقدم وهي فضيلة كون المسلمين عدولا خيارا ليشهدوا على الأمم لأن الآيات الواقعة بعدها هي في ذكر أمر القبلة وهذه الآية لا تتعلق بأمر القبلة.
وقوله: {كَذَلِكَ} مركب من كاف التشبيه واسم الإشارة فيتعين تعرف المشار إليه وما هو المشبه به قال صاحب "الكشاف" أي مثل ذلك الجعل العجيب جعلناكم أمة وسطا فاختلف شارحوه في تقرير كلامه وتبين مراده: فقال البيضاوي "الإشارة إلى المفهوم أي ما فهم من قوله تعالى: {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة:142] أي كما جعلناكم أمة وسطا أو كما جعلنا قبلتكم أفضل قبلة جعلناكم أمة وسطا اه أي أن قوله: {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} يومئ إلى أن المهدي هم المسلمون وإلى أن المهدي إليه هو استقبال الكعبة وقت قول السفهاء {مَا وَلَّاهُمْ} [البقرة:142] على ما قدمناه وهذا يجعل الكاف باقية على معنى التشبيه ولم يعرج على وصف "الكشاف" الجعل بالعجيب كأنه رأى أن اسم الإشارة لا يتعين للحمل على أكثر من الإشارة وإن كان إشارة البعيد فهو يستعمل غالبا من دون إرادة بعد وفيه نظر، والمشار إليه على هذا الوجه معنى تقدم في الكلام السابق فالإشارة حينئذ إلى مذكور متقرر في العلم فهي جارية على سنن الإشارات. وحمل شراح "الكشاف" الكاف على غير ظاهر التشبيه، فأما الطيب والقطب فقالا الكاف فيه اسم بمعنى مثل منتصب على المفعولية المطلقة لجعلناكم أي مثل الجعل العجيب جعلناكم فليس تشبيها ولكنه تمثيل لحالة والمشار إليه ما يفهم من مضمون قوله: {يَهْدِي} وهو الأمر العجيب الشأن أي الهدى التام، ووجه الإتيان بإشارة البعيد التنبيه على تعظيم المشار إليه وهو الذي عناه في "الكشاف" بالجعل العجيب، فالتعظيم هنا

لبداعة الأمر وعجابته ثم أن القطب ساق كلاما نقض به صدر كلامه.
وأما القزويني صاحب "الكشف" والتفتزاني فبيناه بأن الكاف مقحمة كالزائدة لا تدل على تمثيل ولا تشبيه فيصير اسم الإشارة على هذا نائبا مناب مفعول مطلق لجعلناكم كأنه قيل ذلك الجعل جعلناكم أي فعدل عن المصدر إلى اسم إشارته النائب عنه لإفادة عجابة هذا الجعل بما مع اسم الإشارة من علامة البعد المتعين فيها لبعد المرتبة. والتشبيه على هذا الوجه مقصود منه المبالغة بإيهام أنه لو أراد المشبه أن يشبه هذا في غرابته لما وجد له إلا أن يشبهه بنفسه وهذا قريب من قول النابغة والسفاهة كاسمها فليست الكاف بزائدة ولا هي للتشبيه ولكنها قريبة من الزائدة والإشارة حينئذ إلى ما سيذكر بعد اسم الإشارة،
وكلام "الكشاف" أظهر في هذا المحمل فيدل على ذلك بتصريحه في نظائره إذ قال في قوله تعالى: {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرائيلَ} [الشعراء:59] الكاف منصوبة على معنى مثل أي مثل ذلك الإخراج أخرجناهم وأورثناها.
واعلم أن الذي حدا صاحب الكشاف إلى هذا المحمل أن استعمال اسم الإشارة في هذا وأمثاله لا يطرد فيه اعتبار مشار إليه مما سبق من الكلام ألا ترى أنه لا يتجه اعتبار مشار إليه في هذه الآية وفي آية سورة الشعراء ولكن صاحب الكشاف قد خالف ذلك في قوله تعالى في سورة الأنعام {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً} فقال: "كما خلينا بينك وبين أعدائك كذلك فعلنا بمن قبلك من الأنبياء وأعدائهم" اهـ وما قاله في هذه الآية منزع حسن ؛ لكنه لم يضرب الناظرون فيه بعطن.
والتحقيق عندي أن أصل {كذلك} أن يدل على تشبيه شيء بشيء والمشبه به ظاهر مشار إليه أو كالظاهر ادعاء، فقد يكون المشبه به المشار إليه مذكورا مثل قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ} [هود:102] إشارة إلى قوله: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [هود:101] الآية. وكقول النابغة:
فألفيت الأمانة لم تخنها ... كذلك كان نوح لا يخون
وقد يكون المشبه به المشار إليه مفهوما من السياق فيحتمل اعتبار التشبيه ويحتمل اعتبار المفعولية المطلقة كقول أبي تمام:
كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر ... فليس لعين لم يفض دمعها عذر

قال التبريزي في "شرحه" 1 الإشارة للتعظيم والتهويل وهو في صدر القصيدة لم يسبق له ما يشبه به فقطع النظر فيه عن التشبيه واستعمل في لازم معنى التشبيه اه، يعني أن الشاعر أشار إلى الحادث العظيم وهو موت محمد بن حميد الطوسي، ومثله قول الأسدي في شعراء "الحماسة" يرثي أخاه*.
فهكذا يذهب الزمان ويف ... نى العلم فيه ويدرس الأثر
وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} على ما فسر به البيضاوي من هذا القبيل.
وقد يكون مرادا منه التنويه بالخير فيجعل كأنه مما يروم المتكلم تشبيهه ثم لا يجد إلا أن يشبهه بنفسه وفي هذا قطع للنظر عن التشبيه في الواقع ومثله قول أحد شعراء فزارة في الأدب من الحماسة:
كذاك أدبت حتى صار من خلقي ... أني رأيت ملاك الشيمة الأدبا
أي أدبت هذا الأدب الكامن العجيب، ومنه قول زهير:
كذلك خيمهم ولكل قوم ... إذا مستهم الضراء خيم
وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} من هذا القبيل عند شراح "الكشاف" وهو الحق، وأوضح منه في هذا المعنى قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} [الأنعام:53] فإنه لم يسبق ذكر شيء غير الذي سماه الله تعالى فتنة أخذا من فعل {فَتَنَّا}. والإشارة على هذا المحمل المشار إليه مأخوذ من كلام متأخر عن اسم الإشارة كما علمت آنفا لجعل المأخوذ من {جَعَلْنَاكُمْ} ، وتأخير المشار إليه عن الإشارة استعمال بليغ في مقام التشويق كقوله تعالى: {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف:78] أو من كلام متقدم عن اسم الإشارة كما للبيضاوي إذ جعل المشار إليه هو الهدي المأخوذة من قوله تعالى: {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:142] ولعله رأى لزوم تقدم المشار إليه.
ـــــــ
1 من كتب التبريزي: شرح ديوان الحماسة لأبي تمام، 2 شرح المشكل من ديوان أبي تمام.
والتبريزي: هو يحيى بن علي محمد الشيباني التبريزي، أبو زكريا، من أئمة اللغة والأدب. توفي سنة 502هـ "الأعلام" "8/157"
* وقيل البيت لابن كناسة في رثاء حماد الرواية، وقال الجاحظ هو لبعض الشعراء في رثاء بعض العلماء.

والوسط اسم للمكان الواقع بين أمكنة تحيط به أو للشيء الواقع بين أشياء محيطة به وليس هو إلى بعضها أقرب منه إلى بعض عرفا ولما كان الوصول إليه لا يقع إلا بعد اختراق ما يحيط به أخذ فيه معنى الصيانة والعزة: طبعا كوسط الوادي لا تصل إليه الرعاة والدواب إلا بعد أكل ما في الجوانب فيبقي كثير العشب والكلأ، ووضع كوسط المملكة يجعل محل قاعدتها ووسط المدينة يجعل موضع قصبتها لأن المكان الوسط لا يصل إليه العدو بسهولة، وكواسطة العقد لأنفس لؤلؤة فيه، فمن أجل ذلك صار معنى النفاسة والعزة والخيار من لوازم معنى الوسط عرفا فأطلقوه على الخيار النفيس كناية قال زهير:
هم وسط يرضى الأنام بحكمهم ... إذا نزلت إحدى الليالي بمعضل
وقال تعالى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ} [القلم:28]
ويقال أوسط القبيلة لصميمها.
وأما إطلاق الوسط على الصفة الواقعة عدلا بين خلقين ذميمين فيهما إفراط وتفريط كالشجاعة بين الجبن والتهور، والكرم بين الشح والسرف والعدالة بين الرحمة والقساوة، فذلك مجاز بتشبيه الشيء الموهوم بالشيء المحسوس فلذلك لروي حديث: "خير الأمور أوسطها" وسنده ضعيف وقد شاع هذان الإطلاقان حتى صار حقيقتين عرفيتين.
فالوسط في هذه الآية فسر بالخيار لقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] وفسر بالعدول والتفسير الثاني رواه الترمذي في "سننه" عن حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال حسن صحيح، والجمع في التفسيرين هو الوجه كما قدمناه في المقدمة التاسعة.
ووصفت الأمة بوسط بصيغة المذكر لأنه اسم جامد فهو لجموده يستوي فيه التذكير والتأنيث مثل الوصف بالمصدر في الجمود والإشعار بالوصفية بخلاف نحو رأيت الزيدين هذين فإنه وصف باسم مطابق لعدم دلالته على صفة بل هو إشارة محصنة لا تشعر بصلة في الذات.
وضمير المخاطبين هنا مراد به جمع المسلمين لترتبه على الاهتداء لاستقبال الكعبة فيعم كل من صلى لها، ولأن قوله: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ} [البقرة:143] قد فسر في الحديث الصحيح بأنها شهادة الأمة كلها على الأمم فلا يختص الضمير بالموجودين يوم نزول الآية.
والآية ثناء على المسلمين لأن الله قد ادخر لهم الفضل وجعلهم وسطا بما هيأ لهم

من أسبابه في بيان الشريعة بيانا جعل أذهان أتباعها سالمة من أن تروج عليهم الظلالات التي راجت على الأمم، قال فخر الدين يجوز أن يكونوا وسطا بمعنى أنه متوسطون في الدين بين المفرط والمفرط والغالي والمقصر لأنهم لم يغلوا كما غلت النصارى فجعلوا المسيح أبن الله، ولم يقصروا كما قصرت اليهود فبدلوا الكتب واستخفوا بالرسل.
واستدل أهل أصول الفقه بهذه الآية على أن إجماع علماء الأمة أي المجتهدين حجة شرعية فيما أجمعوا عليه1، وفي بيان هذا الاستدلال طرق:
الأول قال الفخر إن الله أخبر عن عدالة الأمة وخيريتها فلو أقدموا على محظور لما اتصفوا بالخيرية وإذا ثبت ذلك وجب كون قولهم حجة اه، أي لأن مجموع المجتهدين عدول بقطع النظر عن احتمال تخلف وصف العدالة في بعض أفرادهم، ويبطل هذا أن الخطأ لا ينافي العدالة ولا الخيرية فلا تدل الآية على عصمتهم من الخطأ فيما أجمعوا عليه وهذا رد متمكن، وأجيب عنه بأن العدالة الكاملة التي هي التوسط بين طرفي إفراط وتفريط تستلزم العصمة من وقوع الجميع في الخطأ في الأقوال والأفعال والمعتقدات،
الطريق الثاني قال البيضاوي لو كان فيما اتفقوا عليه باطل لانثلمت عدالتهم اه، يعني أن الآية اقتضت العدالة الكاملة لاجتماع الأمة فلو كان إجماعهم على أمر باطل لانثلمت عدالتهم أي كانت ناقصة وذلك لا يناسب الثناء عليهم بما في هذه الآية، وهذا يرجع إلى الطريق الأول.
الطريق الثالث قال جماعة الخطاب للصحابة وهم لا يجمعون على خطأ فالآية حجة على الإجماع في الجملة، ويرد عليه أن عدالة الصحابة لا تنافي الخطأ في الاجتهاد وقد يكون إجماعهم عن اجتهاد أما إجماعهم على ما هو من طريق النقل فيندرج فيما سنذكره.
والحق عندي أن الآية صريحة في أن الوصف المذكور فيها مدح للآمة كلها لا لخصوص علمائها فلا معنى للاحتجاج بها من هاته الجهة على حجية الإجماع الذي هو من أحوال بعض الأمة من أحوال جميعها، فالوجه أن الآية دالة على حجية إجماع جميع الأمة فيما طريقه النقل لشريعة وهو المعبر عنه بالتواتر وبما علم من الدين بالضرورة وهو اتفاق المسلمين على نسبة قول أو فعل أو صفة للنبي صلى الله عليه وسلم مما هو تشريع مؤصل أو بيان مجمل مثل أعداد الصلوات والركعات وصفة الصلاة والحج ومثل نقل القرآن، وهذا
ـــــــ
1 ذكر هذا في المفسرين القرطبي في "2/156"، الألوسي في "2/4، القاسمي في "2/286".

من أحوال إثبات الشريعة، به فسرت المجملات وأسست الشريعة، وهذا هو الذي قالوا بكفر جاحد المجمع عليه منه1، وهو الذي اعتبر فيه أبو بكر الباقلاني وفاق العوام واعتبر فيه غيره عدد التواتر، وهو الذي يصفه كثير من قدماء الأصوليين بأنه مقدم على الأدلة كلها2.
وأما كون الآية دليلا على حجية إجماع المجتهدين عن نظر واجتهاد فلا يؤخذ من الآية إلا بأن يقال إن الآية يستأنس بها لذلك فإنها لما أخبرت أن الله تعالى جعل هذه الأمة وسطا وعلمنا أن الوسط هو الخيار العدل الخارج من بين طرفي إفراط وتفريط علمنا أن الله تعالى أكمل عقول هذه الآمة بما تنشأ عليه عقولهم من الاعتياد بالعقائد الصحيحة ومجانبة الأوهام السخيفة التي ساخت فيها عقول الأمم، ومن الاعتياد بتلقي الشريعة من طرق العدول وإثبات أحكامها بالاستدلال استنباطا بالنسبة للعلماء وفهما بالنسبة للعامة، فإذا كان كذلك لزم من معنى الآية أن عقول أفراد هاته الأمة عقول قيمة وهو معنى كونها وسطا، ثم هذه الاستقامة تختلف بما يناسب كل طبقة من الأمة وكل فرد، ولما كان الوصف الذي ذكر أثبت لمجموع الأمة قلنا إن هذا المجموع لا يقع في الظلال لا عمدا ولا خطأ، أما التعمد فلأنه ينافي العدالة وأما الخطأ فلأنه ينافي الخلقة على استقامة الرأي فإذا جاز الخطأ على آحادهم لا يجوز توارد جميع علمائهم على الخطأ نظرا، وقد وقع الأمران للأمم الماضية فأجمعوا على الخطأ متابعة لقول واحد منهم لأن شرائعهم لم تحذرهم من ذلك أو لأنهم أساءوا تأويلها، ثم إن العامة تأخذ نصيبا من هذه العصمة فيما هو من خصائصها وهو الجزء النقلي فقط وبهذا ينتظم الاستدلال.
وقوله: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ} علة لجعلهم وسطا فإن أفعال الله تعالى كلها منوطة بحكم وغايات لعلمه تعالى وحكمته وذلك عن إرادة واختيار لا كصدور المعلول عن العلة كما يقول بعض الفلاسفة، ولا بوجوب وإذ جاء كما توهمه عبارات المعتزلة وإن كان مرادهم
ـــــــ
1 انظر "حاشية العطار على جمع الجوامع" "2/238"، دار الكتب العلمية، و"تيسير التحرير""3/259"، ط مصطفى الحلبي
2 قال الغزالي: " يجب على المجتهد أن ينظر أول شيء في الإجماع فإن وجد في المسألة إجماعا ترك النظر في الكتاب والسنة فإنهما يقبلان النسخ والإجماع لا يقبله، فالإجماع على خلاف ما في الكتاب والسنة دليل قاطع على النسخ إذ لا تجتمع الأمة على الخطأ"انضر المستصفى" مع "مسلم الثبوت""2/392، دار صادر

منها خيرا فإنهم أرادوا أن ذلك واجب لذاته تعالى لكمال حكمته.
و"الناس" عام والمراد بهم الأمم الماضون والحاضرون وهذه الشهادة دنيوية وأخروية. فأما الدنيوية فهي حكم هاته الأمة على الأمم الماضين والحاضرين بتبرير المؤمنين منهم بالرسل المبعوثين في كل زمان وبتضليل الكافرين منهم برسلهم والمكابرين في العكوف على مللهم بعد مجيء ناسخها وظهور الحق، وهذا حكم تأريخي ديني عظيم إذا نشأت عليه الأمة نشأت على تعود عرض الحوادث كلها على معيار النقد المصيب.
والشهادة الأخروية هي ما رواه البخاري1 والترمذي عن أبي سعيد الخدري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يجاء بنوح يوم القيامة فيقال له هل بلغت فيقول نعم يا رب فتسأل أمته هل بلغكم فيقولون ما جاءنا من نذير فيقول الله من شهودك فيقول محمد وأمته فيجاء بكم فتشهدون" ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} قال عدلا {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا} اهـ. فقوله "ثم قرأ" يدل على أن هذه الشهادة من جملة معنى الآية لا أنها عين معنى الآية، والظاهر من التعليل هو الشهادة الأولى لأنها المتفرعة عن جعلنا أمة وسطا، وأما مجيء شهادة الآخرة على طبقها فذلك لما عرفناه من أن أحوال الآخرة تكون على وفق أحوال الدنيا قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:126-124]
ومن مكملات معنى الشهادة على الناس في الدنيا وجوب دعوتنا الأمم للإسلام، ليقوم ذلك مقام دعوة الرسول إياهم حتى تتم الشهادة للمؤمنين منهم على المعرضين.
والشهادة على الأمم تكون لهم وعليهم، ولكنه اكتفى في الآية بتعديتها بعلى إشارة إلى أن معظم شهادة هذه الأمة وأهمها شهادتهم على المعرضين لأن المؤمنين قد شهد لهم إيمانهم فالاكتفاء بعلى تحذير للأمم من أن يكونوا بحيث يشهد عليهم وتنويه بالمسلمين بحالة سلامتهم من وصمة أن يكونوا ممن يشهد عليهم وبحالة تشريفهم بهاته المنقبة وهي إثقاف المخالفين لهم بموجب شهادتهم.
وقوله: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} معطوف على العلة وليس علة ثانية لأنه ليس مقصودا بالذات بل هو تكميل للشهادة الأولى لأن جعلنا وسطا يناسبه عدم الاحتياج إلى
ـــــــ
1 انظر "فتح الباري" "13/316". كتاب الاعتصام "19" باب { وكذلك جعلناكم أمة وسطا}

الشهادة لنا وانتفاء الشهادة علينا، فأما الدنيوية فشهادة الرسول علينا فيها هي شهادته بذاته على معاصريه وشهادة شرعه على الذين أتوا بعده إما بوفائهم ما أوجبه عليهم شرعه وإما بعكس ذلك، وأما الأخروية فهي ما روي في الحديث المتقدم من شهادة الرسول بصدق الأمة فيما شهدت به، وما روي في الحديث الآخر في "الموطأ" و "الصحاح ": "فليذادن أقوام عن حوضي فأقول يا رب أمتي فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك إنهم بدلوا وغيروا فأقول سحقا سحقا لمن بدل بعدي". وتعدية شهادة الرسول على الأمة بحرف على مشاكلة لقوله قبله: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} وإلا فإنها شهادة للأمة وقيل بل لتضمين {شَهِيداً} معنى رقيبا ومهيمنا في الموضعين كما في "الكشاف".
وقد دلت هذه الآية على التنويه بالشهادة وتشريفها حتى أظهر العليم بكل شيء أنه لا يقضى إلا بعد حصولها ويؤخذ من الآية أن الشاهد شهيد بما حصل له من العلم وإن لم يشهده المشهود عليه وأنه يشهد على العلم بالسماع، والأدلة القاطعة وإن لم ير بعينيه أو يسمع بأذنيه، وأن التزكية أصل عظيم في الشهادة، وأن المزكي يجب أن يكون أفضل وأعدل من المزكى، وأن المزكى لا يحتاج التزكية، وأن الأمة لا تشهد على النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا كان يقول في حجة الوداع ألا هل بلغت فيقولون نعم فيقول اللهم اشهد فجعل الله هو الشاهد على تبليغه وهذا من أدق النكت.
وتقديم الجار والمجرور على عامله لا أراه إلا لمجرد الاهتمام بتشريف أمر هذه الأمة حتى أنها تشهد على الأمم والرسل وهي لا يشهد عليها إلا رسولها، وقد يكون تقديمه لتكون الكلمة التي تختم بها الآية في محل الوقف كلمة ذات حرف مد قبل الحرف الأخير لأن المد أمكن للوقوف وهذا من بدائع فصاحة القرآن، وقيل تقديم المجرور مفيد لقصر الفاعل على المفعول وهو تكلف ومثله غير معهود في كلامهم.
{وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ}
الواو عاطفة على جملة {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ} [البقرة:142] وما اتصل بها من الجواب بقوله: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} قصد به بيان الحكمة من شرع استقبال بيت المقدس ثم تحويل ذلك إلى شرع استقبال الكعبة وما بين الجملتين من قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} إلى آخرها اعتراض.

والجعل هنا جعل التشريع بدليل أن مفعوله من شؤون التعبد لا من شؤون الخلق وهو لفظ القبلة، ولذلك ففعل جعل هنا متعد إلى مفعول واحد لأنه بمعنى شرعنا، فهذه الآيات نزلت بعد الأمر بالتوجه إلى الكعبة فيكون المراد بيت المقدس، وعدل عن تعريف المسند باسمه إلى الموصول لمحاكاة كلام المردود عليهم حين قالوا: {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} مع الإيماء إلى تعليل الحكمة المشار إليها بقوله تعالى: {إِلَّا لِنَعْلَمَ} أي ما جعلنا تلك قبلة مع إرادة نسخها فألزمناكها زمنا إلا لنعلم إلخ.
والاستثناء في قوله: {إِلَّا لِنَعْلَمَ} استثناء من علل وأحوال أي ما جعلنا ذلك لسبب وفي حال إلا لنظهر من كان صادق الإيمان في الحالتين حالة تشريع استقبال بيت المقدس وحالة تحويل الاستقبال إلى الكعبة. وذكر عبد الحكيم1 أنه قد روي أن بعض العرب ارتدوا عن الإسلام لما استقبل رسول الله بيت المقدس حمية لقبلة العرب، واليهود كانوا تأولوا لأنفسهم العذر في التظاهر بالإسلام كما قررناه عند قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} [البقرة:14]فنافقوا وهم يتأولون للصلاة معه بأنها عبادة لله تعالى وزيادة على صلواتهم التي هم محافظون عليها إذا خلوا إلى شياطينهم مع أن صلاتهم مع المسلمين لا تشتمل على ما ينافي تعظيم شعائرهم إذ هم مستقبلون بيت المقدس فلما حولت القبلة صارت صفة الصلاة منافية لتعظيم شعائرهم لأنها استدبار لما يجب استقباله فلم تبقى لهم سعة للتأويل فظهر من دام على الإسلام وأعرض المنافقون عن الصلاة.
وجعل علم الله تعالى بمن يتبع الرسول ومن ينقلب على عقبيه علة هذين التشريعين يقتضي أن يحصل في مستقبل الزمان من التشريع كما يقتضيه لام التعليل وتقدير أن بعد اللام وأن حرف استقبال مع أن الله يعلم ذلك وهو ذاتي له لا يحدث ولا يتجدد لكن المراد بالعلم هنا علم حصول ذلك وهو تعلق علمه بوقوع الشيء الذي علم في الأزل أنه سيقع فهذا تعلق خاص وهو حادث لأنه كالتعلق التنجيزي للإرادة والقدرة وإن أغفل المتكلمون عده في تعلقات العلم2.
ـــــــ
1 أي السيالكوتي
2 بعد أن كتبت هذه بسنين وجدت في الرسالة الخاقانية للمحقق عبد الحكيم السلكوتي في تحقيق المذاهب في علم الله تعالى قوله: "وقيل إن علم الله تعالى له تعلقات أزلية بكل ما يصلح أن يعلم"،وتعلقات متجددة بالمتجددات من حيث تجددها ووقوعها في أزمنة متغيرة والتغيير في التعلقات والإضافات لا يضر بكماله، لأن ذلك التجدد ليس بنقصان في ذاته بل لأن كماله التام يقتضي أن =

ولك أن تجعل قوله: {لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} كناية عن أن يعلم بذلك كل من لم يعلم على طريق الكناية الرمزية فيذكر علمه وهو يريد علم الناس كما قال إياس بن قبيصة الطائي:
وأقدمت والخطى يخطر بيننا ... لأعلم من جباؤها من شجاعها
أراد ليظهر من جبانها من شجاعها فأعلمه أنا ويعلمه الناس فجاء القرآن في هذه الآية ونظائرها على هذا الأسلوب، ولك أن تجعله كناية عن الجزاء للمتبع والمنقلب كل بما يناسبه ولك أن تجعل "نعلم" مجازا عن التحيز ليظهر للناس بقرينة كلمة "من" المسماة بمن الفصلية كما سماها ابن مالك وابن هشام وهي في الحقيقة من فروع معاني من الابتدائية كما استظهره صاحب "المغني"، وهذا لا يريبك إشكال يذكرونه، كيف يكون الجعل الحادث علة لحصول العلم القديم إذ يتبين لك أنه راجع لمعنى كنائي.
والانقلاب الرجوع إلى المكان الذي جاء منه، يقال انقلب إلى الدار، وقوله: {عَلَى عَقِبَيْهِ} زيادة تأكيد في الرجوع إلى ما كان وراءه لأن العقبين هما خلف الساقين أي انقلب على طريق عقبيه وهو هنا استعارة تمثيلية للارتداد عن الإسلام رجوعا إلى الكفر السابق. ومن موصولة وهي مفعول نعلم والعلم بمعنى المعرفة وفعله يتعدى إلى مفعول واحد.
وقوله: {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} عطف على جملة {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا} والمناسبة ظاهرة لأن جملة {وَإِنْ كَانَتْ} بمنزلة العلة لجملة نعلم {نَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} فإنها ما كانت دالة على الاتباع والانقلاب إلا لأنها أمر عظيم لا تساهل فيه فيظهر به المؤمن الخالص من المشوب والضمير المؤنث عائد للحادثة أو القبلة باعتبار تغيرها.
وإن مخففة من الثقيلة.
والكبيرة هنا بمعنى الشديدة المحرجة للنفوس. تقول العرب كبر عليه كذا إذا كان شديدا على نفسه كقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ} [الأنعام:35].
ـــــــ
لا يكون المتجدد حاصلا له في الأزل لنقصانه، كما أن الممتنع لا تتعلق به القدرة لنقصانه لا لنقصان في ذاته وقدرته"اهـ ولم ينسب هذا القول إلى معين من الحكماء أو المتكلمين وهو تحقيق دقيق.

{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ}
الجملة في موضع الحال من ضمير {لِنَعْلَمَ} أي لنظهر من يتبع الرسول ومن ينقلب على عقبيه ونحن غير مضيعين إيمانكم. وذكر اسم الجلالة من الإظهار في مقام الإضمار للتعظيم.
روى البخاري عن البراء بن عازب قال: "[و]1 كان [الذي] مات على القبلة قبل أن تحول [قبل البيت] رجال قتلوا لم ندر ما نقول فيهم فأنزل الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} وفي قوله: "قتلوا" إشكال لأنه لم يكن قتال قبل تحويل القبلة وسنبين ذلك، وأخرج الترمذي عن ابن عباس قال لما وجه النبي إلى الكعبة قالوا يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس فأنول الله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} الآية قال هذا حديث حسن صحيح.
والإضاعة إتلاف الشيء وإبطال آثاره وفسر الإيمان على ظاهره، وفسر أيضا بالصلاة نقله القرطبي عن مالك. وتعلق "يضيع" بالإيمان على تقدير مضاف فإن فسر الإيمان على ظاهره كان التقدير ليضيع حق إيمانكم حين لم تزلزله وساوس الشيطان عند الاستقبال إلى قبلة لا تودونها، وإن فسر الإيمان بالصلاة كان التقدير ما كان الله ليضيع فضل صلاتكم أو ثوابها، وفي إطلاق اسم الإيمان على الصلاة تنويه بالصلاة لأنها اعظم أركان الإيمان، وعن مالك: "إني لأذكر بهذا قول المرجئة الصلاة ليست من الإيمان".
ومعنى حديث البخاري والترمذي أن المسلمين كانوا يظنون أن نسخ حكم، يجعل المنسوخ باطلا فلا تترتب عليه آثار العمل به فلذلك توجسوا خيفة على صلاة إخوانهم الذين ماتوا قبل نسخ استقبال بيت المقدس مثل أسعد بن زرارة بن معرور وأبي أمامة، وظن السائلون أنهم سيجب عليهم قضاء ما صلوه قبل النسخ ولهذا أجيب سؤالهم بما يشملهم ويشمل من ماتوا قبل، فقال: {إِيمَانِكُمْ}، ولم يقل إيمانهم على حسب السؤال.
والتذييل بقوله: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} تأكيد لعدم إضاعة إيمانهم ومنة وتعليم بأن الحكم المنسوخ إنما يلغي العمل في المستقبل لا في ماضي. والرءوف الرحيم صفتان مشبهتان مشتقة أولاهما من الرأفة والثانية من الرحمة. والرأفة مفسرة
ـــــــ
1 زيادة من "صحيح البخاري" انظر "فتح الباري" "8/171".

بالرحمة في إطلاق كلام الجمهور من أهل اللغة وعليه درج الزجاج وخص المحققون من أهل اللغة الرأفة بمعنى رحمة خاصة، فقال أبو عمرو بن العلاء الرأفة أكثر من الرحمة أي أقوى أي هي رحمة قوية، وهو معنى قول الجوهري الرأفة أشد الرحمة، وقال في "المجمل" الرأفة أخص من الرحمة ولا تكاد تقع في الكراهية والرحمة تقع في الكراهية للمصلحة، فاستخلص القفال من ذلك أن قال: الفرق بين الرأفة والرحمة أن الرأفة مبالغة في رحمة خاصة وهي دفع المكروه وإزالة الضر كقوله تعالى: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور:2] وأما الرحمة فاسم جامع يدخل فيه ذلك المعنى ويدخل فيه الإفضال والإنعام اه. وهذا أحسن ما قيل فيها واختاره الفخر وعبد الحكيم وربما كان مشيرا إلى أن بين الرأفة والرحمة عموما وخصوصا مطلقا وأياما كان معنى الرأفة فالجمع بين رءوف ورحيم في الآية يفيد توكيد مدلول أحدهما بمدلول الآخر بالمساواة أو بالزيادة.وأما على اعتبار تفسير المحققين لمعنى الرأفة والرحمة فالجمع بين الوصفين لإفادة أنه تعالى يرحم الرحمة القوية لمستحقها ويرحم مطلق الرحمة من دون ذلك.
وتقدم معنى الرحمة في سورة الفاتحة.
وتقديم "رءوف" ليقع لفظ رحيم فاصلة فيكون أنسب بفواصل هذه السورة لانبناء فواصلها على حرف صحيح ممدود يعقبه حرف صحيح ساكن ووصف رءوف معتمد ساكنه على الهمز والهمز شبيه بحروف العلة فالنطق به غير تام التمكن على اللسان وحرف الفاء لكونه يخرج من بطن الشفة السفلى وأطراف الثنايا أشبه حرف اللين فلا يتمكن عليه سكون الوقف.
وتقديم {بِالنَّاسِ} على متعلقه وهو رءوف رحيم للتنبيه على عنايته بهم إيقاظا لهم ليشكروه مع الرعاية على الفاصلة.
وقرأ الجمهور "لرءوف" بواو ساكنه بعدها همزه وقرأه أبو عمرو وحمزه والكسائي ويعقوب وخلف بدون واو مع ضم الهمزة بوزن عضد وهو لغة على غير قياس.
[144] {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [البقرة:144]
استئناف ابتدائي وإفضاء لشرع استقبال الكعبة ونسخ استقبال بيت المقدس فهذا هو

المقصود من الكلام المفتتح بقوله: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة:142]بعد أن مهد الله بما تقدم من أفانين التهيئة وإعداد الناس إلى ترقبه ابتداء من قوله: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} ثم قوله: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ} [البقرة:120] ثم قوله: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ} [البقرة:125] ثم قوله: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ}.
و"قد" في كلام العرب للتحقيق ألا ترى أهل المعاني نظروا هل في الاستفهام بقد في الخبر فقالوا من أجل ذلك إن هل لطلب التصديق فحرف قد يفيد تحقيق الفعل فهي مع الفعل بمنزلة إن مع الأسماء ولذلك قال الخليل إنها جواب لقوم ينتظرون الخبر ولو اخبروهم لا ينتظرونه لم يقل قد فعل كذا اهـ.
ولما كان علم الله بذلك مما لا يشك فيه النبي صلى الله عليه وسلم حتى يحتاج لتحقيق الخبر به كان الخبر به مع تأكيده مستعملا في لازمه على وجه الكناية لدفع الاستبطاء عنه وأن يطمئنه لأن النبي كان حريصا على حصوله ويلزم ذلك الوعد بحصوله فتحصل كنايتان مترتبتان.
وجيء بالمضارع مع "قد" لدلالة على التجدد والمقصود تجدد لازمه ليكون تأكيدا لذلك اللازم وهو الوعد، فمن أجل ذلك غلب على قد الداخلة على المضارع أن تكون للتكثير مثل ربما يفعل. قال عبيد بن الأبرص:
قد أترك القرن مصفرا أنامله ... كأن أثوابه مجت بفرصاد1
وستجيء زيادة بيان لهذا عند قوله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} [الأنعام:33] في سورة الأنعام.
والتقلب مطاوع قلبه إذا حوله وهو مثل قلبه بالتخفيف، فالمراد بتقليب الوجه الالتفات به أي تحويله من جهته الأصلية فهو هنا ترديده في السماء، وقد اخذوا من العدول إلى صيغة التفعيل الدلالة على معنى التكثير في هذا التحويل، وفيه نظر إذ قد يكون ذلك لما في هذا التحويل من الترقب والشدة فالتفعيل لقوة الكيفية، قالوا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقع في روعه إلهاما أن الله سيحوله إلى مكة فكان يردد وجهه في السماء فقيل ينتظر نزول
ـــــــ
1 البيت في: "شرح شواهد المغني" "169" للهذلي، وقيل: لعبيد بن الأبرص. هذا وليس في "أشعار الهذليين" هذا البيت وانظر "اللسان" "قدد" قال ابن بري: البيت لعبيد بن أبرص، والشاهد أيضا في "الصحاح"، وهو في "ديوان عبيد" "64".

جبريل بذلك، وعندي أنه إذا كان كذلك لزم أن يكون تقليب وجهه عند تهيأ نزول الآية وإلا لما كان يترقب جبريل فدل ذلك على أنه لم يتكرر منه هذا التقليب.
والفاء في {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ} فاء التعقيب لتأكيد الوعد بالصراحة بعد التمهيد لها بالكتابة في قوله: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ}، والتولية تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى: {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة:142]، فمعنى: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً} لنوجهنك إلى قبلة ترضاها. فانتصب قبلة على التوسع بمنزلة المفعول الثاني وأصله لنولينك من قبلة وكذلك قوله: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} والمعنى أن تولية وجهه للكعبة سيحصل عقب هذا الوعد. وهذا وعد اشتمل على أداتي تأكيد وأداة تعقيب وذلك غاية اللطف والإحسان.
وعبر بترضاها للدلالة على أن ميله إلى الكعبة ميل لقصد الخير بناء على أن الكعبة أجدر ببيوت الله بأن يدل على التوحيد كما تقدم فهو أجدر بالاستقبال من بيت المقدس، ولأن في استقبالها إيماء إلى استقلال هذا الدين عن دين أهل الكتاب، ولما كان الرضي مشعرا بالمحبة الناشئة عن تعقل اختير في هذا المقام دون تحبها أو تهواها أو نحوهما فإن مقام النبي صلى الله عليه وسلم يربو عن أن يتعلق ميله بما ليس بمصلحة راجحة بعد انتهاء المصلحة العارضة لمشروعية استقبال بيت المقدس، ألا ترى أنه لما جاء في جانب قبلتهم بعد أن نسخت جاء بقوله: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} الآية.
وقوله: {فَوَلِّ وَجْهَكَ} تفريع على الوعد وتعجيل به والمعنى ول وجهك في حالة الصلاة وهو مستفاد من قرينة سياق الكلام على المجادلة مع السفهاء في شأن قبلة الصلاة.
والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والأمر متوجه إليه باعتبار ما فيه من إرضاء رغبته، وسيعقبه بتشريك الأمة معه في الأمر بقوله: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}
والشطر بفتح الشين وسكون الطاء الجهة والناحية وفسره قتادة بتلقاء، وكذلك قرأه أبي بن كعب، وفسر الجبائي وعبد الجبار الشطر هنا بأنه وسط الشيء، لأن الشطر يطلق على نصف الشيء فلما أضيف إلى المسجد مكان اقتضى أن نصفه عبارة عن نصف مقداره ومساحته وذلك وسطه، وجعلا شطر المسجد الحرام كناية عن الكعبة لأنها واقعة من المسجد الحرام في نصف مساحته من جميع الجوانب "أي تقريبا" قال عبد الجبار ويدل على أن المراد ما ذكرنا وجهان أحدهما أن المصلى لو وقف بحيث يكون متوجها إلى المسجد ولا يكون متوجها إلى الكعبة لا تصح صلاته، الثاني لو لم نفسر

الشطر بما ذكرنا لم يبقى لذكر الشطر فائدة إذ يغني أن يقول: "فول وجهك المسجد الحرام" ولكان الواجب التوجه إلى المسجد الحرام لا إلى خصوص الكعبة.
فأن قلت ما فائدة قوله: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} قبل قوله: {فَوَلِّ وَجْهَكَ} وهلا قال: في السماء فول وجهك الخ، قلت فائدته إظهار الاهتمام برغبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنها بحيث يعتني بها كما دل عليه وصف القبلة بجملة {تَرْضَاهَا}.
ومعنى نولينك نوجهنك، وفي التوجيه قرب معنوي لأن ولى المعتدي بنفسه إذا لم يكن بمعنى القرب الحقيقي فهو بمعنى الارتباط به، ومنه الولاء والولي، والظاهر أن تعديته إلى مفعول ثان من قبيل الحذف والتقدير ولى وجهه إلى كذا ثم يعدونه إلى مفعول ثالث بحرف عن فيقولون ولى عن كذا وينزلونه منزلة اللازم بالنسبة للمفعولين الآخرين فيقدرون ولى وجهه إلى جهة كذا منصرفا عن كذا أي الذي كان يليه من قبل، وباختلاف هاته الاستعمالات تختلف المعاني كما تقدم.
فالقبلة هنا اسم للمكان الذي يستقبله المصلي وهو إما مشتق من اسم الهيئة وإما من اسم المفعول1 كما تقدم.
والمسجد الحرام المسجد المعهود عند المسلمين والحرام المجعول وصفا للمسجد هو الممنوع أي الممنوع منع تعظيم وحرمة فإن مادة التحريم تؤذن بتجنب الشيء فيفهم التجنب في كل مقام بما يناسبه.
وقد اشتهر عند العرب وصف مكة بالبلد الحرام أي الممنوع من الجبابرة والظلمة والمعتدين ووصف بالمحرم في قوله تعالى حكاية عن إبراهيم {عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [ابراهيم:37] أي المعظم المحترم وسمي الحرم قال تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً} [القصص:57] فوصف الكعبة بالبيت الحرام وحرم مكة بالحرم أوصاف قديمة شائعة عند العرب فأما اسم المسجد الحرام فهو من الألقاب القرآنية جعل علما على حريم الكعبة المحيط بها وهو محل الطواف والاعتكاف ولم يكن يعرف بالمسجد في زمن الجاهلية إذ لم تكن لهم صلاة ذات سجود والمسجد مكان السجود فاسم المسجد الحرام علم بالغلبة على المساحة المحصورة المحيطة بالكعبة ولها أبواب منها باب الصفا وباب بني شيبة ولما أطلق هذا العلم على ما أحاط بالكعبة لم يتردد الناس من المسلمين وغيرهم في المراد منه فالمسجد الحرام من الأسماء الإسلامية قبل
ـــــــ
1 وهو الذي استظهره المصنف. انظر شرح الآية ما قبل السابقة.

الهجرة وقد ورد ذكره في سورة الإسراء وهي مكية.
والجمهور على أن المراد بالمسجد الحرام هنا الكعبة لاستفاضة الأخبار الصحيحة بأن القبلة صرفت إلى الكعبة وأن رسول الله أمر أن يستقبل الكعبة وأنه صلى إلى الكعبة يوم الفتح وقال هذه القبلة، قال ابن العربي وذكر المسجد الحرام والمراد به البيت لأن العرب تعبر عن البيت1 بما يجاوره أو بما يشتمل عليه وعن ابن عباس البيت قبلة لأهل المسجد والمسجد قبلة لأهل الحرم والحرم قبلة لأهل المشرق والمغرب. قال الفخر وهذا قول مالك، وأقول لا يعرف هذا عن مالك في كتب مذهبه.
وأنتصب {شطر المسجد} على المفعول الثاني لول وليس منصوبا على الظرفية.
وقوله: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} تنصيص على تعميم حكم استقبال الكعبة لجميع المسلمين بعموم ضميري {كُنْتُمْ} و {وُجُوهَكُمْ} لوقوعهما في سياق عموم الشرط بحيثما وحينما لتعميم أقطار الأرض لئلا يظن أن قوله: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم فإن قوله فول وجهك شطر المسجد الحرام خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم اقتضى الحال تخصيصه بالخطاب به لأنه تفريع على قوله: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} ليكون تبشيرا له ويعلم أن أمته مثله لأن الأصل في التشريعات الإسلامية أن تعم الرسول وأمته إلا إذا دل دليل على تخصيص أحدهما، ولما خيف إيهام أن يكون هذا الحكم خاصا به أو أن تجزي فيه المرة أو بعض الجهات كالمدينة ومكة أريد التعميم في المكلفين وفي جميع البلاد، ولذلك جيء بالعطف بالواو لكن كان يكفي أن يقول وولوا وجوهكم شطره فزيد عليه ما يدل على تعميم الأمكنة تصريحا وتأكيدا لدلالة العموم المستفاد من إضافة {شَطْرَ} إلى ضمير {لْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أن شطر نكرة أشبهت الجمع في الدلالة على أفراد كثيرة فكانت إضافتها كإضافة الجموع، وتأكيدا لدلالة الأمر التشريعي على التكرار تنويها بشأن هذا الحكم فكأنه أفيد مرتين بالنسبة للمكلفين وأحوالهم أولاهما إجمالية والثانية تفصيلية.
وهذه الآيات دليل على وجوب هذا الاستقبال وهو حكمة عظيمة ذلك أن المقصود من الصلاة العبادة والخضوع لله تعالى وبمقدار استحضار المعبود يقوي الخضوع له فتترتب عليه آثاره الطبية في إخلاص العبد لربه وإقباله على عبادته وذلك ملاك الامتثال
ـــــــ
1 في "أحكام القرآن" لابن العربي "الشيء" "1/43"، دار المعرفة.

والاجتناب. ولهذا جاء في الحديث الصحيح: "لإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك" ولما تنزه الله تعالى عن أن يحيط به الحس تعين لمحاول استحضار عظمته أن يجعل له مذكرا به من شيء له انتساب خاص إليه، قال فخر الدين: "إن الله تعالى خلق في الإنسان قوة عقلية مدركة للمجردات والمقولات، وقوة خيالية متصرفة في عالم الأجسام، وقلما تنفك القوة العقلية عن مقارنة القوة الخيالية، فإذا أراد الإنسان استحضار أمر عقل مجرد وجب أن يضع له صورة خيالية يحسها حتى تكون تلك الصورة الخيالية معينة على إدراك تلك المعاني العقلية، ولما كان العبد الضعيف إذا وصل إلى مجلس الملك العظيم لابد من أن يستقبله بوجهه ويبالغ في الثناء عليه بلسانه وفي الخدمة له، فاستقبال القبلة في الصلاة يجري مجرى كونه مستقبلا للملك، والقرآن والتسبيحات تجري في مجرى الثناء عليه، والركوع والسجود يجري مجرى الخدمة اهـ.
فإذا تعذر استحضار الذات المطلوبة بالحس باستحضارها يكون بشيء له انتساب إليها مباشرة كالديار أو بواسطة كالبرق والنسيم ونحو ذلك أو بالشبه كالغزال عند المحبين، وقديما ما استهترت الشعراء بآثار الأحبة كالأطلال في قوله:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
وأقوالهم في البرق والريح، وقال مالك بن الريب:
دعاني الهوى من أهل ودي و جيرتي ... بذي الطيسين فالتفت ورائيا
والله تعالى منزه عن أن يحيط به الحس فوسيلة استحضار ذاته هي استحضار ما فيه مزيد دلالة عليه تعالى. لا جرم أن أولى المخلوقات بأن يجعل وسيلة لاستحضار الخالق في نفس عبده هي المخلوقات التي كان وجودها لأجل الدلالة على توحيد الله وتنزيهه ووصفه بصفات الكمال مع تجردها عن كل ما يوهم أنها المقصودة بالعبادة وتلك هي المساجد التي بناها إبراهيم عليه السلام وجردها من أن يضع فيها شيئا يوهم أنه المقصود بالعبادة، ولم يسمها باسم غير الله تعالى فبنى الكعبة أول بيت، وبنى مسجدا في مكان المسجد الأقصى، وبنى مساجد أخرى ورد ذكرها في التوراة بعنوان مذابح، فقد بنت الصابئة بعد نوح هياكل لتمجيد الأوثان وتهويل شأنها في النفوس فأضافوها إلى أسماء أناس مثل ود وسواع، أو إلى أسماء الكواكب، وذكر المسعودي في "مروج الذهب" عدة من الهياكل التي أقيمت في الأمم الماضية لهذا الشأن ومنها هيكل سندوساب ببلاد الهند. وهيكل مصلينا في جهة الرقة بناها الصابئة قبل إبراهيم وكان آزر أبو إبراهيم من

سدنته، وقيل أن عاد بنوا هياكل منها جلق هيكل بلاد الشام.
فإذا استقبل المؤمن بالله شيئا من البيوت التي أقيمت لمناقضة أهل الشرك وللدلالة على توحيد الله وتمجيده كان من استحضار الخالق بما هو أشد إضافة إليه، بيد أن هذه البيوت على كثرتها لا تفاضل إلا بإخلاص النية من إقامتها، وبكون إقامتها لذلك وبأسبقية بعضها على بعض في هذا الغرض، وأن شئت جعلت كل هذه المعاني ثلاثة في معنى واحد وهو الأسبقية لأن السابق منها قد امتاز على اللاحق بكونه هو الذي دل مؤسس ذلك اللاحق على تأسيسه قال تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} [التوبة:108] وقال في ذكر مسجد الضرار: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً} أي لأنه أسس بنية التفريق بين المؤمنين، وقال: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران:96] فجعله هدى للناس لأنه أول بيت فالبيوت التي أقيمت بعده كبيت المقدس من آثار اهتداء اهتداه بانوها بالبيت الأول.
وقد قال بعض العلماء إن الكعبة أول هيكل أقيم للعبادة وفيه نظر سيأتي عند قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ} في سورة آل عمران، ولا شك أن أول هيكل أقيم لتوحيد الله وتنزيهه وإعلان ذلك وإبطال الإشراك هو الكعبة التي بناها إبراهيم أول من حاج الوثنيين بالأدلة وأول من قاوم الوثنية بقوة يده فجعل الأوثان جذاذا، ثم أقام لتخليد ذكر الله وتوحيده ذلك الهيكل العظيم ليعلم كل أحد يأتي أن سبب بنائه إبطال عبادة الأثان، وقد مضت على هذا البيت العصور فصارت رؤيته مذكرة بالله تعالى، ففيه مزية الأولية، ثم فيه مزية مباشرة إبراهيم عليه السلام بناءه بيده ويد ابنه إسماعيل دون معونة أحد، فهو لهذا المعنى أعرق في الدلالة على التوحيد وعلى الرسالة معا وهما قطبا إيمان المؤمنين وفي هذه الصفة لا يشاركه غيره.
ثم سن الحج إليه لتجديد هذه الذكرى ولتعميمها في الأمم الأخرى، فلا جرم أن يكون أولى الموجودات بالاستقبال لمن يريد استحضار جلال الربوبية الحقة وما بنيت بيوت الله مثل المسجد الأقصى إلا بعده بقرون طويلة، فكان هو قبلة المسلمين.
قدما آنفا أن شرط استقبال جهة معينة لم يكن من أحكام الشرائع السالفة وكيف يكون كذلك والمسجد الأقصى بنى بعد موسى بما يزيد على أربعمائة سنة وغاية ما كان من استقباله بعد دعوة سليمان أنه استقبال لأجل تحقق قبول الدعاء والصلاة لا لكونه شرطا، ثم إن اختيار ذلك الهيكل للاستقبال وإن كان دعوة فهي دعوة نبي لا تكون إلا

عن إلهام إلهي فلعل حكمة ذلك حينئذ أن الله أراد تعمير البلد المقدس كما وعد إبراهيم ووعد موسى فأراد زيادة تغلغل قلوب الإسرائيليين في التعلق به فبين لهم استقبال الهيكل الإيماني الذي أقامه فيه نبيه سليمان ليكون ذلك المعبد مما يدعو نفوسهم إلى الحرص على بقاء تلك الأقطار بأيديهم.
ويجوز أن يكون قد شرع الله لهم الاستقبال بعد ذلك على ألسنة الأنبياء بعد سليمان وفيه بعد لأن أنبياءهم لم يأتوا بزيادة على شريعة موسى وإنما أتوا معززين. فتشريع الله تعالى استقبال المسلمين في صلاتهم لجهة معينة تكميل لمعنى الخشوع في صلاة الإسلام فيكون من التكملات التي ادخرها الله تعالى لهذه الشريعة لتكون تكملة الدين تشريفا لصاحبها صلى الله عليه وسلم ولأمته إن كان الاحتمال الأول، فإذا كان الثاني فلأمر لنا بالاستقبال لئلا تكون صلاتنا أضعف استحضارا لجلال الله تعالى من صلاة غيرنا.
ولذلك اتفق علماؤنا على أن الاستقبال لجهة معينة كان مقارنا لمشروعية الصلاة في الإسلام فإن كان استقباله جهة الكعبة عن اجتهاد من النبي صلى الله عليه وسلم فعلته أنه المسجد الذي عظمه أهل الكتابين والذي لم يداخله إشراك ولا نصبت فيه أصنام فكان ذلك أقرب دليل لاستقبال جهته ممن يريد استحضار وحدانية الله تعالى. وإن كان استقبال بيت المقدس بوحي من الله تعالى فلعل حكمته تأليف قلوب أهل الكتابين وليظهر بعد ذلك للنبي وللمسلمين من أتبعهم من أهل الكتاب حقا ومن أتبعهم نفاقا لأن الأخيرين قد يتبعون الإسلام ظاهرا ويستقبلون في صلاتهم قبلتهم القديمة فلا يرون حرجا على أنفسهم في ذلك فإذا تغيرت القبلة خافوا من قصدهم لاستدبارها فأظهروا ما كانوا مستنبطنيه من الكفر كما أشار له قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} [البقرة:143] الآية.
ولعل العدول عن الأمر باستقبال الكعبة في صدر الإسلام كان لخضد شوكة مكابرة قريش وطعنهم في الإسلام فإنه لو استقبل مكة لشمخوا بأنوفهم وقالوا هذا بلدنا ونحن أهله واستقباله حنين إليه وندامة على الهجرة منه، كما قد يكون قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ} [البقرة:114] وقوله: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} [البقرة:115] إيماء إليه كما قدمنا، وعليه ففي تحويل القبلة إلى الكعبة بعد ذلك بشارة للنبي صلى الله عليه وسلم بأن أمر قريش قد أشرف على الزوال وأن وقعت بدر ستكون الفيصل بين المسلمين وبينهم، ثم أمر الله بتحويل القبلة إلى البيت الذي هو أولى بذلك وإلى جهته للبعيد عنه.

{وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [البقرة:144]
اعتراض بين جملة: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} وجملة: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ} [البقرة:149] الآية.والأظهر أن المراد بالذين {أُوتُوا الْكِتَابَ} أحبار اليهود وأحبار النصارى كما روى عن السدى كما يشعر به التعبير عنهم بصلة {أوتوا الكتب} دون أن يقال وإن أهل الكتاب.
ومعنى كونهم يعلمون أنه الحق أن علمهم بصدق محمد صلى الله عليه وسلم حسب البشارة به في كتبهم يتضمن أن ما جاء به حق. والأظهر أيضا أن المراد بالذين أوتوا الكتاب هم الذين لم يزالوا على الكفر ليظهر موضع قوله: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} فإن الإخبار عنهم بأنهم يعلمون أنه الحق مع تأكيده بمؤكدين، يقتضي أن ظاهر حالهم إذ أنكروا استقبال الكعبة أنهم أنكروه لاعتقادهم بطلانه وأن المسلمين يظنونهم معتقدين ذلك، وليظهر موقع قوله: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} الذي هو تهديد بالوعيد.
وقد دل التعريف في قوله: {أَنَّهُ الْحَقُّ} على القصر أي يعلمون أن الاستقبال للكعبة هو الحق دون غيره تبعا للعلم بنسخ شريعتهم بشريعة الإسلام، وقيل إنهم كانوا يجدون في كتبهم أن قبلتهم ستبطل ولعل هذا مأخوذ من إنذارات أنبيائهم مثل أرميا وأشعيا المنادية بخراب بيت المقدس فإن استقباله يصير استقبال للشيء المعدوم.
وقوله: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} قرأه الجمهور بياء الغيبة والضمير للذين أوتوا الكتاب أي عن علمهم بغير ما علموا فالمراد بما يعملون هذا العمل ونحوه من المكابرة والعناد والسفه. وهذا الخبر كناية عن الوعيد بجزائهم عن سوء صنعهم لأن قول القادر ما أنا بغافل عن المجرم تحقيق لعقابه إذ لا يحول بين القادر وبين الجزاء إلا عدم العلم فلذلك كان وعيدا لهم ووعيدهم يستلزم في المقام الخطابي وعدا للمسلمين لدلالته على عظيم منزلتهم فإن الوعيد إنما ترتب على مخالفتهم للمؤمنين فلا جرم أن سيلزم جزاء للمؤمنين على امتثال تغيير القبلة، ولأن الذي لا يغفل عن عمل أولئك لا يغفل عن عمل هؤلاء فيجازى كلا بما يستحق.
وقرأه ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو جعفر وروح عن يعقوب بتاء الخطاب فهو كناية عن وعد المسلمين على الامتثال لاستقبال الكعبة. ويستلزم وعيدا للكافرين على

عكس ما تقتضيه القراءة السابقة؛ وعلى القراءتين فهو تذييل إجمالي ليأخذ كل حظه منه وهو اعتراض بين جملة: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا} وجملة: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [البقرة:145] الآية.
وفي قوله: {لَيَعْلَمُونَ} و قوله: {عَمَّا يَعْمَلُونَ} [البقرة:96]الجناس التام المحرف على قراءة الجمهور والجناس الناقص المضارع على قراءة ابن عامر ومن وافقه.
[145] {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ}
{وَلَئِنْ أَتَيْتَ} عطف على قوله: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ} [البقرة:114] والمناسبة أنهم يعلمون ولا يعلمون فلما أفيد أنهم يعلمون أنه الحق على الوجه المتقدم في إفادته التعريض بأنهم مكابرون ناسبت أن يحقق نفي الطمع في اتباعهم القبلة لدفع توهم أن يطمع السامع باتباعهم لأنهم يعلمون أحقيتها، فلذا أكدت الجملة الدالة على نفي اتباعهم بالقسم واللام الموطئة، وبالتعليق على أقصى ما يمكن عادة.
والمراد بالذين أوتوا الكتاب عين المراد من قوله: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ} على ما تقدم فأن ما يفعله أحبارهم يكونوا قدوة لعامتهم فإذا لم يتبع أحبارهم قبلة الإسلام فأجدر بعامتهم أن لا يتبعوها.
ووجه الإظهار في مقام الإضمار هنا الإعلان بمذمتهم حتى تكون هذه الجملة صريحة في تناولهم كما هو الشأن في الإظهار في موقع الإضمار أن يكون المقصود منه زيادة العناية والتمكن في الذهن.
والمراد {بِكُلِّ آيَةٍ}: آيات متكاثرة والمراد بالآية الحجة والدليل على أن استقبال الكعبة هو قبلة الحنيفية. وإطلاق لفظ كل على الكثرة شائع في كلام العرب قال امرؤ القيس:
فيالك من ليل كأن نجومه ... بكل مغار الفتل شدت بيذبل
وأصله مجاز لجعل الكثير من أفراد شيء مشابها لمجموع عموم أفراده، ثم كثر ذلك حتى ساوى الحقيقة فصار معنى من معاني كل لا يحتاج استعماله إلى قرينته ولا إلى اعتبار

تشبيه العدد الكثير من أفراد الجنس بعموم جميع أفراده حتى إنه يرد فيما لا يتصور فيه عموم أفراد، مثل قوله هنا: {بِكُلِّ آيَةٍ} فإن الآيات لا يتصور لها عدد يحاط به، ومثله قوله تعالى: {ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [النحل:69] وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس:96] وقال النابغة:
بها كل ذيال وخنساء ترعوي ... إلى كل رجاف من الرمل فارد
وتكرر هذا ثلاث مرات في قول عنتره:
جادت عليه كل بكر حرة ... فتر كن كل قرارة كالدرهم
سحا وتسكابا فكل عشية ... يجري إليها الماء لم يتصرم
وصاحب "القاموس" قال في مادة كل وقد جاء استعمال كل بمعنى بعض ضد فأثبت الخروج عن معنى الإحاطة ولكنه جازف في قوله "بمعنى بعض" وكان الأصوب أن يقول بمعنى كثير.
والمعنى أن إنكارهم أحقية الكعبة بالاستقبال ليس عن شبهة حتى تزيله الحجة ولكنه مكابرة وعناد فلا جدوى في إطناب الاحتجاج عليهم.
وإضافة قبلة إلى ضمير الرسول لأنها أخص به لكونها قبلة شرعه، ولأنه سألها بلسان الحال.
وإفراد القبلة في قوله: {وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ} مع كونهما قبلتين، إن كان لكل من أهل الكتاب قبلة معينة، وأكثر من قبلة إن لم تكن لهم قبلة معينة وكانوا مخيرين في استقبال الجهات، فإفراد لفظ "قبلتهم" على معنى التوزيع لأنه إذا اتبع قبلة إحدى الطائفتين كان غير متبع قبلة الطائفة الأخرى.
والمقصود من قوله: {مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} إظهار مكابرتهم تأييسا من إيمانهم، ومن قوله: {وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ} تنزيه النبي وتعريض لهم باليأس من رجوع المؤمن إلى استقبال بيت المقدس، وفي قوله: {وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ} تأنيس للنبي بأن هذا دأبهم وشنشنتهم من الخلاف فقديما خالف بعضهم بعضا في قبلتهم حتى خالفت النصارى قبلة اليهود مع أن شريعة اليهود هي أصل النصرانية.
وجملة {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ} معطوفة على جملة {وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ} وما بينهما اعتراض وفائدة هذا العطف بعد الإخبار بأنهم لا يتبع قبلتهم زيادة تأكيد الأمر

باستقبال الكعبة، والتحذير من التهاون في ذلك بحيث يفرض على وجه الاحتمال أنه لو اتبع أهواء أهل الكتاب في ذلك لكان كذا وكذا، ولذلك كان الموقع لإن لأن لها مواقع الشك والفرض في وقوع الشرط.
وقوله: {مِنَ الْعِلْمِ} بيان لما جاءك أي بعد الذي جاءك والذي هو العلم فجعل ما أنزل إليه هو العلم كله على وجه المبالغة.
والأهواء جمع هوى وهو الحب البليغ بحيث يقتضي طلب حصول الشيء المحبوب ولو بحصول ضر لمحصلة، فلذلك غلب إطلاق الهوى على حب لا يقتضيه الرشد ولا العقل ومن ثم أطلق على العشق، وشاع إطلاق الهوى في القرآن على عقيدة الضلال ومن ثم سمي علماء الإسلام أهل العقائد المنحرفة بأهل الأهواء
وقد بولغ في هذا التحذير باشتمال مجموع الشرط والجزاء على عدة مؤكدات أو ما إليها صاحب الكشاف وفصلها صاحب "الكشف" إلى عشرة وهي: القسم المدلول عليه باللام، واللام الموطئة للقسم لأنها تزيد القسم تأكيدا، وحرف التوكيد في جملة الجزاء، ولام الابتداء في خبرها، واسمية الجملة، وجعل حرف الشرط الحرف الدال على الشك وهو "إن" المقتضي إن أقل جزء من اتباع أهوائهم كاف في الظلم، والإتيان بأذن الدالة على الجزائية فإنها أكدت ربط الجزاء بالشرط، والإجمال ثم التفصيل في قوله: {مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} فأنه يدل على الاهتمام والاهتمام بالوازع يؤول إلى تحقيق العقاب على الارتكاب لانقطاع العذر، وجعل ما نزل عليه هو نفس العلم.
والتعريف في {الظَّالِمِينَ} الدال على أنه يكون من المعهودين بهذا الوصف الذين هو لهم سجية. ولا يخفى أن كل ما يؤول إلى تحقيق الربط بين الجزاء والشرط أو تحقيق سببه أو تحقيق حصول الجزاء أو تهويل بعض متعلقاته، كل ذلك يؤكد المقصود من الغرض المسوق لأجله الشرط.
والتعبير بالعلم هنا عن الوحي واليقين الإلهي إعلان تنويه شأن العلم ولفت لعقول هذه الأمة إليه لما يتكرر من لفظه على أسماعهم.
وقوله: {لَمِنَ الظَّالِمِينَ} أقوى دلالة على الاتصاف بالظلم من إنك لظالم كما تقدم عند قوله تعالى: {قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة: من الآية67].
والمراد بالظالمين الظالمون أنفسهم وللظلم مراتب دخلت كلها تحت هذا الوصف

والسامع يعلم إرجاع كل ضرب من ضروب اتباع أهوائهم إلى ضرب من ضروب ظلم النفس حتى ينتهي إلى عقائدهم الضالة فينتهي ظلمهم أنفسهم إلى الكفر الملقى في خالد العذاب.
قد يقول قائل إن قريبا من هذه الجملة تقدم عند قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [البقرة:120] فعبر هنالك باسم الموصول "الذي" وعبر هنا باسم الموصول "ما"، وقال هنالك "بعد" وقال هنا "من بعد"، وجعل جزاء الشرط هنالك انتفاء ولي ونصير، وجعل الجزاء هنا أن يكون من الظالمين، وقد أورد هذا السؤال صاحب "درة التنزيل وغرة التأويل1" وحاول إبداء خصوصيات تفرق بين ما اختلفت فيه الآيتان ولم يأت بما يشفى، والذي يرشد إليه كلامه أن نقول إن "الذي" و"ما" وإن كانا مشتركين في أنهما اسما موصول إلا أنهما الأصل في الأسماء الموصولة، ولما كان العلم الذي جاء النبي صلى الله عليه وسلم في غرض الآية الأولى هو العلم المتعلق بأصل ملة الإسلام ويبطلان ملة اليهود وملة النصارى بعد النسخ، وبإثبات عناد الفريقين في صحة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وذلك ابتداء من قوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ} [البقرة:116] إلى قوله: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} [البقرة:120] فلا جرم كان العلم الذي جاء في ذلك هو أصرح العلم وأقدمه، وكان حقيقا بأن يعبر عنه باسم الموصول الصريح في التعريف.
وأما الآية الثانية التي نحن بصددها فهي متعلقة بإبطال قبلة اليهود والنصارى، لأنها مسبوقة ببيان ذلك ابتداء من قوله: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة:142] وذلك تشريع فرعي فالتحذير الواقع بعده تحذير من اتباع الفريقين في أمر القبلة وذلك ليس له أهمية مثل ما للتحذير من اتباع ملتهم بأسرها فلم يكن للعلم الذي جاء النبي في أمر قبلتهم من الأهمية ما للعلم الذي جاءه في بطلان أصول ملتهم، فلذلك جيء في تعريفه باسم الموصول الملحق بالمعارف وهو "ما" لأنها في الأصل نكرة موصوفة نقلت للموصولية.
وإنما أدخلت "من" في هذه الآية الثانية على "بعد" بقوله: {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ
ـــــــ
1 وهو الإمام فخر الدين الرازي المتوفى سنة "606هـ" تكلم فيه على الآيات المتكررة بالكلمات المتفقة والمختلفة التي يقصد الملحدون التطلاق منها إلى عيبها، وأجاب عنها.

الْعِلْمِ} لأن هذه الآية وقعت بعد الآية الأولى في سورة واحدة وليس بينهما بعيد فصل فكان العلم الذي جاءه فيها من قوله: {مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} وهو جزئي من عموم العلم الذي جاء في إبطال جميع ملتهم، فكان جديرا بأن يشار إلى كونه جزئيا له بإيراد "من" الابتدائية.
[146] {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}
جملة معترضة بين جملة: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [البقرة:145] الخ، وبين جملة {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ} [البقرة:148] الخ اعتراض استطراد بمناسبة ذكر مطاعن أهل الكتاب في القبلة الإسلامية، فإن طعنهم كان عن مكابرة مع علمهم بأن القبلة الإسلامية حق كما دل عليه قوله: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:144] فاستطرد بأن طعنهم في القبلة الإسلامية ما هو إلا من مجموع طعنهم في الإسلام وفي النبي صلى الله عليه وسلم، والدليل على الاستطراد قوله بعده: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [البقرة:148] فقد عاد الكلام إلى استقبال القبلة.
فالضمير المنصوب في {يَعْرِفُونَهُ} لا يعود إلى تحويل القبلة لأنه لو كان كذلك لصارت الجملة تكريرا لمضمون قوله: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} ، بل هو عائد إما إلى الرسول وإن لم يسبق ذكر لمعاد مناسب لضمير الغيبة، لكنه قد علم من الكلام السبق وتكرر خطابه فيه من قوله: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا} [البقرة:143]، وقوله: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة:144]، وقوله: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً} [البقرة:144]، وقوله: {فَوَلِّ وَجْهَكَ} [البقرة:144] فالإتيان بالضمير بطريق الغيبة من الالتفات، وهو على تقدير مضاف أن يعرفون صدقه، وإما أن يعود إلى {الْحَقَّ} في قوله السابق: {لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ} فيشمل رسالة الرسول وجميع ما جاء به، وإما إلى العلم في قوله: {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} [البقرة: 145].
والتشبيه في قوله: {كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} تشبيه في جلاء المعرفة وتحققها فإن معرفة المرء بعلائقه معرفة لا تقبل اللبس، كما قال زهير:
فهن ووادي الرس كاليد للفم ... تشبيها لشدة القرب البين.

وخص الأبناء لشدة تعلق الآباء بهم فيكون التملي من رؤيتهم كثيرا فتتمكن معرفتهم فمعرفة هذا الحق ثابتة لجميع علمائهم.
وعدل عن أن يقال يعلمونه إلى يعرفونه لأن المعرفة تتعلق غالبا بالذوات والأمور المحسوسة قال تعالى: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [المطففين:24] وقال زهير:
فلأيا عرفت الدار بعد توهم
وتقول عرفت فلانا ولا تقول عرفت علم فلان، إلا إذا أردت أن علمه صار كالمشاهد عندك، ولهذا لا يعدى فعل العرفان إلى مفعولين كما تعدى أفعال الظن والعلم، ولهذا يوصف الله تعالى بصفة العلم فيقال العليم، ولا يوصف بصفة المعرفة فلا يقال الله يعرف كذا، فالمعنى يعرفون صفات الرسول صلى الله عليه وسلم وعلاماته المذكورة في كتبهم، ويعرفون الحق كالشيء المشاهد.
والمراد بقوله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} أحبار اليهود والنصارى ولذلك عرفوا بأنهم أوتوا الكتاب أي علموا علم التوراة وعلم الإنجيل.
وقوله: {وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} تخصيص لبعض الذين أوتوا الكتاب بالعناد في أمر القبلة وفي غيره مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وذم لهم بأنهم يكتمون الحق وهم يعلمونه وهؤلاء معظم الذين أوتوا الكتاب قبل ابن صوريا وكعب بن الأشرف فبقى فيق آخر يعلمون الحق ويعلنون به وهم الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم من اليهود قبل عبد الله بن سلام، ومن النصارى مثل تميم الداري، وصهيب.
أما الذين لا يعلمون الحق فضلا عن أن يكتموه فلا يعبأ بهم في هذا المقام ولم يدخلوا في قوله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} ولا يشملهم قوله: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ}
[147] {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}
تذييل لجملة: {وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ} [البقرة:146]، على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره هذا الحق، وحذف المسند إليه في مثل هذا مما جرى على متابعة الاستعمال في حذف المسند إليه بعد جريان ما يدل عليه مثل قولهم بعد ذكر الديار ربع قواء وبعد ذكر الممدوح فتى ونحو ذلك كما نبه عليه صاحب "المفتاح". وقوله {فَلا

تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} نهى عن أن يكون من الشاكين في ذلك والمقصود من هذا.
والتعريف في {الْحَقُّ} تعريف الجنس كما في قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} وقولهم الكرم في العرب هذا التعريف لجزئي الجملة الظاهر والمقدر يفيد قصر الحقيقة على الذي يكتمونه وهو قصر قلب أي لا ما يظهرونه من التكذيب وإظهار أن ذلك مخالف للحق.
والامتراء افتعال من المراء وهو الشك، والافتعال فيه ليس للمطاوعة ومصدر المرية لا يعرف له فعل مجرد بل هو دائما بصيغة الافتعال،
والمقصود من خطاب النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ} وقوله: {فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} تحذير الأمة وهذه عادة القرآن في كل تحذير مهم ليكون خطاب النبي بمثل ذلك وهو أقرب الخلق إلى الله تعالى وأولاهم بكرامته دليلا على أن من وقع في مثل ذلك من الأمة قد حقت عليه كلمة العذاب، وليس له من النجاة باب، ويجوز أن يكون الخطاب في قوله: {مِنْ رَبِّكَ} وقوله: {فَلا تَكُونَنَّ} خطابا لغير معين من كل من يصلح لهذا الخطاب.
[148] {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} عطف على جملة: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:146]، فهو من تمام الاعتراض، أو عطف على جملة {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} [البقرة:145] مع اعتبار ما استؤنف عنه من الجمل، ذلك أنه بعد أن لقن الرسول صلى الله عليه وسلم ما يجيب به عن قولهم: {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ} وبعد أن بين للمسلمين فضيلة قبلتهم وأنهم على الحق وأيأسهم من ترقب اعتراف اليهود بصحة استقبال الكعبة، ذيل ذلك بهذا التذييل الجامع لمعان سامية، طيا لبساط المجادلة مع اليهود في أمر القبلة، كما يقال في المخاطبات دع هذا أو عد عن هذا ، والمعنى أن لكل فريق اتجاها من الفهم والخشية عند طلب الوصول إلى الحق. وهذا الكلام موجه إلى المسلمين أي اتركوا مجادلة أهل الكتاب في أمر القبلة ولا يهمنكم خلافهم فإن خلاف المخالف لا يناكد حق المحق.
وفيه صرف للمسلمين بأن يهتموا بالمقاصد ويعتنوا بإصلاح مجتمعهم، وفي معناه قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة:177] الآية، ولذلك أعقبه بقوله: {فَاسْتَبِقُوا

الْخَيْرَاتِ} [ البقرة:148]، فقوله: {أَيْنَمَا تَكُونُوا} [النساء:78] في معنى التعليل للأمر باستباق الخيرات. فهكذا ترتيب الآية على هذا الأسلوب كترتيب الخطب بذكر مقدمة ومقصد وبيان له وتعليل وتذييل.
و"كل" اسم دال على الإحاطة والشمول، وهو مبهم بتعين بما يضاف هو إليه فإذا حذف المضاف إليه عوض عنه تنوين كل وهو التنوين المسمى تنوين العوض لأنه يدل على المضاف إليه فهو عوض عنه.
وحذف ما أضيف إليه"كل" هنا لدلالة المقام عليه وتقدير هذا المحذوف "أمة" لأن الكلام كله في اختلاف الأمم في أمر القبلة، وهذا المضاف إليه المحذوف يقدر بما يدل عليه الكلام من لفظه كما في قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ} [البقرة:285] أو يقدر بما يدل عليه معنى الكلام المتقدم دون لفظ تقدمه كما في قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} [النساء:33] في سورة النساء، ومنه ما في هذه الآية لأن الكلام على تخالف اليهود والنصارى والمسلمين في قبلة الصلاة، فالتقدير ولكل من المسلمين واليهود والنصارى وجهة، وقد تقدم نظيره عند قوله تعالى: {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [البقرة:116].
والوجهة حقيقتها البقعة التي يتوجه إليها فهي وزن فعلة مؤنث فعل الذي هو بمعنى مفعول مثل ذبح، ولكونها اسم مكان لم تحذف الواو التي هي فاء الكلمة عند اقتران الاسم بهاء التأنيث لأن حذف الواو في مثله إنما في فعلة بمعنى المصدر.
وتستعار الوجهة لما يهتم به المرء من الأمور تشبيها بالمكان الموجه إليه تشبيه معقول بمحسوس، ولفظ: {وِجْهَةٌ} في الآية صالح للمعنيين الحقيقي والمجازي فالتعبير به كلام موجه وهو من المحاسن، وقريب منه قوله: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة:48].
وضمير هو عائد للمضاف إليه {كل} المحذوف.
والمفعول الأول لموليها محذوف إذ التقدير هو موليها نفسه أو وجهه على نحو ما بيناه في قوله تعالى: {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ} [البقرة:142] والمعنى هو مقبل عليها وملازم لها. وقراه الجمهور {مُوَلِّيهَا} بياء بعد اللام وقرأه ابن عامر "هو مولاها" بألف بعد اللام

بصيغة ما لم يسم فاعله أي يوليه إياها مول وهو دينه ونظره، وذهب بعض المفسرين إلى أن المراد من الوجهة القبلة فاستبقوا أنتم إلى الخير وهو استقبال الكعبة، وقيل المراد لكل أمة قبلة فلا سبيل إلى اجتماعكم على قبلة واحدة فالزموا قبلتكم التي هي قبلة إبراهيم فإنكم على الخيرات، وقيل المراد هيكل قبلة فلا سبيل إلى اجتماعكم على قبلة واحدة فالزموا قبلتكم التي هي قبلة إبراهيم، فإنكم على الخيرات، وقيل المراد لكل قوم قبلة فلا يضركم خلافهم واتركوهم واستبقوا إلى الخيرات إلى الكعبة، وقيل المراد لكل طائفة من المسلمين جهة من الكعبة سيستقبلونها. ومعاني القرآن تحمل على أجمع الوجوه وأشملها.
وقوله: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} تفريع للأمر على ما تقدم أي لما تعددت المقاصد. فالمنافسة تكون في مصادفة الحق.
والاستباق افتعال والمراد به السبق وحقه التعدية باللام إلا أنه توسع فيه فعدى بنفسه كقوله تعالى: {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ } [يوسف:25] أو على تضمين استبقوا معنى اغتنموا.
فالمراد من الاستباق هنا المعنى المجازي وهو الحرص على مصادفة الخير والإكثار منه والخيرات جمع خير على غير قياس كما قالوا سرادقات وحمامات.
والمراد عموم الخيرات كلها فإن المبادرة إلى الخير محمودة ومن ذلك المبادرة بالتوبة خشية هادم اللذات وفجأة الفوات قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران:133] {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [الواقعة:10-12] ومن ذلك فضيلة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار قال تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} [الحديد:10] وقال موسى: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:84].
وقوله: {أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً} جملة في معنى العلة للأمر باستباق الخيرات ولذلك فصلت لأن العلة لا تعطف إذ هي بمنزلة المفعول لأجله، والمعنى فاستبقوا إلى الخير لتكونوا مع الذين يأتي بهم الله للرفيق الحسن لأن الله يأتي بالناس جميعا خيرهم وشرهم و"كان" تامة أي في أي موضع توجدون من مواقع الخير ومواقع السوء.
والإتيان بالشيء جلبه وهو مجاز في لازم حقيقته فمن ذلك استعماله في القرب والطاعة. قال حميد بن ثور يمدح عبد الملك بن مروان:
أتاك بي الله الذي نور الهدى ... ونور وإسلام عليك دليل

أراد سخرني إليك، وفي الحديث: "اللهم أهد دوسا وأت بها" أي اهدها وقربها للإسلام ويستعمل في القدرة على الشيء وفي العلم به كما في قوله تعالى: { إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} [لقمان:16]
وتجيء أقوال في تفسير: {أَيْنَمَا تَكُونُوا} على حسب الأقوال في تفسير: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ} بأن يكون المعنى تقبل الله أعمالكم في استباق الخيرات فإنه المهم، لا استقبال الجهات أو المعنى إنكم إنما تستقبلون ما يذكركم بالله فاسمعوا في مرضاته بالخيرات يعلم الله ذلك من كل مكان، أو هو ترهيب أي في أية جهة يأت الله بكم فيثيب ويعاقب، أو هو تحريض على المبادرة بالعمل الصالح أي فأنتم صائرون إلى الله من كل مكان فبادروا بالطاعة قبل الفوت بالموت. إلى غير ذلك من الوجوه.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} تذييل يناسب جميع المعاني المذكورة.
[149, 150] {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ[البقرة:149] وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}
عطف قوله: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ} على قوله: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:144] عطف حكم على حكم من جنسه للإعلام بأن استقبال الكعبة في الصلاة المفروضة لا تهاون في القيام به ولو في حالة العذر كالسفر، فالمراد من حيث خرجت من كل مكان خرجت مسافر لأن السفر مظنة المشقة في الاهتداء لجهة الكعبة فربما يتوهم متوهم سقوط الاستقبال عنه، وفي معظم هاته الآية مع قوله: {وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} زيادة اهتمام بامر القبلة يؤكد قوله في الآية السابقة: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} [البقرة:147].
وقوله: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} زيادة تحذير من التساهل في أمر القبلة.
وقوله بعده: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ} عطف على الجملة التي قبله، وأعيد لفظ الجملة السالفة ليبنى عليه التعليل بقوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ}.

وقوله: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} عطف على قوله: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ} الآية. والمقصد التعميم في هذا الحكم في السفر للمسلمين لئلا يتوهم تخصيصه بالنبي صلى الله عليه وسلم. وحصل من تكرير معظم الكلمات تأكيد للحكم ليترتب عليه قوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ}.
وقد تكرر الأمر باستقبال النبي الكعبة ثلاث مرات، وتكرر الأمر باستقبال المسلمين الكعبة مرتين.وتكرر أنه الحق ثلاث مرات، وتكرر تعميم الجهات ثلاث مرات، والقصد من ذلك كله التنويه بشان استقبال الكعبة والتحذير من تطرق التساهل في ذلك تقريرا للحق في نفوس المسلمين، وزيادة في الرد على المنكرين التأكيد، من زيادة: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ}، ومن جعل معترضة، لزيادة التنويه بحكم الاستقبال: وهي جملة: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ} الآيات، وجملة: {وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} وجملة: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} الآيات، وفيه إظهار أحقية الكعبة بذلك لأن الذي يكون على الحق لا يزيده إنكار المنكرين إلا تصميما، والتصميم يستدعي إعادة الكلام الدال على ما صمم عليه لأن الإعادة تدل على التحقق في معنى الكلام.
وقد ذكر في خلال ذلك من بيان فوائد هذا التحويل وما حف به، ما يدفع قليل السامة العارضة لسماع التكرار، فذكر قوله: {وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ} الخ، وذكر قوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ} الخ.
والضمير في: {وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} راجع إلى مضمون الجملة وهو حكم التحويل فهو راجع إلى ما يؤخذ من المقام، فالضمير هنا كالضمير في قوله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ} [البقرة:146]
وقرأ الجمهور: {عما تعلمون} بمثناة فوقية على الخطاب، وقراه أبو عمرو بياء الغيبة.
وقوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} علة لقوله: {فَوَلُّوا} الدال على طلب الفعل وامتثاله، أي شرعت لكم ذلك لندحض حجة الأمم عليكم، وشان تعليل صيغ الطلب أن يكون التعليل للطلب باعتبار الإتيان بالفعل المطلوب.فأن مدلول صيغة الطلب هو إيجاد الفعل أو الترك لا الإعلام بكون الطالب طالبا وإلا لما وجب الامتثال للآمر فيكتفي بحصول سماع الطلب لكن ذلك ليس مقصودا.

والتعريف في "الناس" للاستغراق يشمل مشركي مكة فغن من شبهتهم أن يقولوا لا نتبع هذا الدين إذ ليس ملة إبراهيم لأنه استقبل قبلة اليهود والنصارى، وأهل الكتاب، والحجة أن يقولوا إن محمدا اقتدى بنا واستقبل قبلتنا فكيف يدعونا إلى اتباعه.ولجميع الناس ممن عداكم حجة عليكم، أي ليكون هذا الدين مخالفا في الاستقبال لكل دين سبقه فلا يدعي أهل دين من الأديان أن الإسلام مقتبس منه.
ولا شك أن ظهور الاستقبال يكون في أمر مشاهد لكل أحد لأن إدراك المخالفة في الأحكام والمقاصد الشرعية والكمالات النفسانية التي فضل بها الإسلام غيره لا يدركه كل أحد بل لا يعلمه إلا الذين أوتوا العلم، وعلى هذا يكون قوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} ناظرا إلى قوله: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ} [البقرة:144]،وقوله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ} [البقرة:146].
وقد قيل في معنى حجة الناس معان أخر أراها بعيدة.
والحجة في كلام العرب ما يقصد به إثبات المخالف، بحيث لا يجد منه تفصيا، ولذلك يقال للذي غلب مخالفه بحجته قد حجه، وأما الاحتجاج فهو إتيان المحتج بما يظنه حجة ولو مغالطة يقال احتج ويقال حاج إذا أتى بما يظنه حجة قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ} [البقرة:258]، فالحجة لا تطلق حقيقة إلا على البرهان والدليل الناهض المبكت للمخالف، وأما إطلاقها على الشبهة فمجاز لأنها تورد في صورة الحجة ومنه قوله تعالى: {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الشورى:16]، وهذا هو فقه اللغة كما أشار إليه الكشاف، وأما ما خالفه من كلام بعض أهل اللغة فهو من تخليط الإطلاق الحقيقي والمجازي، وإنما أرادوا التفصى من ورود الاستثناء وأشكل عليهم الاستثناء لأن المستثنى محكوم عليه بنقيض حكم المستثنى منه عند قاطبة أهل اللسان والعلماء، إلا خلافا لا يلتفت إليه في علم الأصول، فصار هذا الاستثناء مقتضيا أن: {الَّذِينَ ظَلَمُوا} لهم عليكم حجة، فأجاب صاحب الكشاف، بأنه إنما أطلق عليه حجة لمشابهته للحجة في سياقهم إياه مساق البرهان أي فاستثناء {الَّذِينَ ظَلَمُوا} يقتضي أنهم يأتون بحجة أي بما يشبه الحجة، فحرف "إلا" يقتضي تقدير لفظ حجة مستعملا في معناه المجازي، وإطلاق اللفظ في معنييه الحقيقي والمجازي ليس ببدع لا سيما مع الإتيان بلفظ يخالف الأول على أنه قد يجعل الاستثناء منقطعا بمعنى لكن الذين ظلموا يشغبون عليكم فلا تخشوهم.
وجملة: {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي} تعليل ثان لقوله: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} معطوف على

قوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} بذلك الاعتبار الذي بيناه آنفا وهو أنه تعليل الامتثال فالمعنى أمرتكم بذلك لأتم نعمتي عليكم باستيفاء أسباب ذلك الإتمام ومنها أن تكون قبلتكم إلى أفضل بيت بنى لله تعالى، ومعلوم أن تمام النعمة بامتثال ما امرنا به وجماع ذلك الاستقامة وبها دخول الجنة. أي غاية إتمام النعمة علينا دخول الجنة ولم يكن ذلك في تفسير هذه الآية ولكنه من جملة معناها1 فالمراد بالإتمام هنا إعطاء الشيء وافرا من أول الأمر لا إتمامه بعد أن كان ناقصا، فهو قريب من قوله تعالى: {فَأَتَمَّهُنَّ } [البقرة:124] أي امتثلهن امتثالا تاما وليس المراد أنه فعل بعضها ثم فعل بعضا آخر، فمعنى الآية ولتكون نعمتي نعمة وافرة في كل حال. وقوله {وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} عطف على {وَلِأُتِمَّ} أي أمرتكم بذلك رجاء امتثالكم فيحصل الاهتداء منكم إلى الحق. وحرف لعل في قوله: {وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} مجاز في لازم معنى الرجاء وهو قرب ذلك وتوقعه. ومعنى جعل ذلك لقرب علة أن استقبالهم الكعبة مؤذن بأنهم يكونون معتدين في سائر أمورهم لأن المبادئ تدل على الغايات فهو كقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة:143] كما قدمناه وقال حبيب:
إن الهلال إذا رأيت نماءه ... أيقنت أن سيصير بدرا كاملا
[151] {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}
تشبيه للعلتين من قوله: {وَلِأُتِمَّ} وقوله: {وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [البقرة:150] أي ذلك من نعمتي عليكم كنعمة إرسال محمد صلى الله عليه وسلم، وجعل الإرسال مشبها به لأنه أسبق وأظهر تحقيقا للمشبه أي أن المبادئ دلت على الغايات وهذا كقوله في الحديث كما صليت على إبراهيم ونكر رسول للتعظيم ولتجرى عليه الصفات التي كل واحدة منها نعمة خاصة، فالخطاب في قوله: {فِيكُمْ} وما بعده للمؤمنين من المهاجرين والأنصار تذكيرا لهم بنعمة الله عليهم بأن بعث إليهم رسولا بين ظهرانيهم ومن قومهم لأن ذلك أقوى تيسيرا لهدايتهم؛ وهذا على نحو دعوة إبراهيم: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ}
ـــــــ
1 فإن الحديث عن معاز قال: مر النبي برجل يقول: "اللهم إني أسألك تمام نعمتك", قال: "تدري ما تمام النعمة؟ تمام النعمة دخول الجنة والفوز من النار".

[البقرة:129] وقد امتن الله على عموم المؤمنين من العرب وغيرهم بقوله: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آل عمران:164] أي جنسهم الإنساني لأن ذلك آنس لهم مما لو كان رسولهم من الملائكة قال تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً} [الأنعام:9].ولذلك علق بفعل: {أَرْسَلْنَا} حرف في ولم يعلق به حرف إلى كما في قوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ} [المزمل:15]، لأن ذلك مقام احتجاج وهذا مقام امتنان فناسب أن يذكر ما به تمام المنة وهي أن جعل رسولهم فيهم ومنهم، أي هو موجود في قومهم وهو عربي مثلهم، والمسلمون يومئذ هم العرب أي الذين يتكلمون باللغة العربية، فالأمة العربية يومئذ تتكلم بلسان واحد سواء في ذلك العدنانيون والقحطانيون ومن تبعهم من الأحلاف والموالى مثل سلمان الفارسي وبلال الحبشي وعبد الله بن سلام الإسرائيلي، إذ نعمة الرسالة في الإبلاغ والإفهام، فالرسول يكلمهم بلسانهم فيفهمون جميع مقاصده، ويدركون إعجاز القرآن، ويفوزون بمزية نقل هذا الدين إلى الأمم، وهذه المزية ينالها كل من يعلم اللسان العربي كغالب الأمم الإسلامية، وبذلك كان تبليغ الإسلام بواسطة أمة كاملة فيكون نقله متواترا، ويسهل انتشاره سريعا.
والرسول المرسل فهو فعول بمعنى المفعول مثل دلول، وسيأتي الكلام عليه من جهة مطابقة موصوفة عند قوله تعالى: {فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:16] في سورة الشعراء.
وقوله: {يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا} يقرأ عليكم القرآن وسماه أولا آيات باعتبار كون كل كلام منه معجزة، وسماه ثانيا كتابا باعتبار كونه كتاب شريعة، وقد تقدم نظيره آنفا عند قوله تعالى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة:129]. وعبر بيتلوا لأن نزول القرآن مستمر وقراءة النبي له متوالية وفي كل قراءة يحصل علم بالمعجزة للسامعين.
وقوله: {وَيُزَكِّيكُمْ} إلخ التزكية تطهير النفس مشتقة من الزكاة وهي النماء، وذلك لأن في أصل خلقه النفوس كمالات وطهارات تعترضها أرجاس ناشئة عن ضلال أو تضليل، فتهذيب النفوس وتقويمها يزيدها من ذلك الخير المودع فيها، قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [التين:6}، وفي الحديث: "بعثت لأتمم حسن الأخلاق" ففي الإرشاد إلى الصلاح والكمال نماء لما أودع الله في النفوس من الخير في الفطرة.

وقوله: {وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} أي يعلمكم الشريعة فالكتاب هنا هو القرآن باعتبار كونه كتاب تشريع لا باعتبار كونه معجزا ويعلمكم أصول الفضائل، فالحكمة هي التعاليم المانعة من الوقوع في الخطأ والفساد، وتقدم نظيره في دعوة إبراهيم وسيأتي أيضا عند قوله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:269] في هذه السورة.
وقدمت جملة: {وَيُزَكِّيكُمْ} على جملة: {وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} هنا عكس ما في الآية السابقة في حكاية قول إبراهيم: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ} [البقرة:129]، لأن المقام هنا للامتنان على المسلمين فقدم فيها ما يفيد معنى المنفعة الحاصلة من تلاوة الآيات عليهم وهي منفعة تزكية نفوسهم اهتماما بها وبعثا لها بالحرص على تحصيل وسائلها وتعجيلا للبشارة بها. فأما في دعوة إبراهيم فقد رتبت الجمل على حسب ترتيب حصول ما تضمنته في الخارج، مع ما في ذلك التخالف من التفنن.
وقوله: {وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} تعميم لكل ما كان غير شريعة ولا حكمة من معرفة أحوال الأمم وأحوال سياسة الدول وأحوال الآخرة وغير ذلك.
وإنما أعاد قوله: {وَيُعَلِّمُكُمْ} مع صحة الاستغناء عنه بالعطف تنصيصا على المغايرة لئلا يظن أن: {مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} هو الكتاب والحكمة، وتنصيصا على أن: {مَا لَمْ تَكُونُوا} مفعولا لا مبتدأ حتى لا يترقب السامع خبرا له فيضل فهمه في ذلك الترقب، واعلم أن حرف العطف إذا جئ معه بإعادة عامله كان عاطفه عاملا على مثله فصار من عطف الجمل لكن العاطف حينئذ أشبه بالمؤكد لمدلول العامل.
[152] {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ}
الفاء للتفريع عاطفة جملة الأمر بذكر الله وشكره على جمل النعم المتقدمة أي إذ قد أنعمت عليكم بهاته النعم فأنا آمركم بذكرى،
وقوله: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} فعلان مشتقان من الذكر بكسر الذال ومن الذكر بضمها والكل مأمور به لأننا مأمورون بتذكر الله تعالى عند الإقدام على الأفعال لنذكر أوامره ونواهيه قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران:135] وعن عمر بن الخطاب أفضل من ذكر الله باللسان ذكر الله عند أمره ونهيه، ومأمورون بذكر اسم الله تعالى بألسنتنا في جمل تدل على حمده وتقديسه

والدعوة إلى طاعته ونحو ذلك، وفي الحديث القدسي: "وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه"
والذكر في قوله: {أَذْكُرْكُمْ} يجيء على المعنيين، ولا بد من تقدير في قوله: {فَاذْكُرُونِي} على الوجهين لأن الذكر لا يتعلق بذات الله تعالى فالتقدير اذكروا عظمتي وصفاتي وثنائي وما ترتب عليها من الأمر والنهي، أو اذكروا نعمي ومحامدي، وهو تقدير من دلالة الاقتضاء، وأما {أَذْكُرْكُمْ} فهو مجاز، أي أعاملكم معاملة من ليس بمفعول عنه بزيادة النعم والنصر والعناية في الدنيا، وبالثواب ورفع الدرجات في الآخرة، أو أخلق ما يفهم منه الناس في الملأ الأعلى وفي الأرض فضلكم والرضى عنكم، نحو قوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران:110]، وحسن مصيركم في الآخرة، لأن الذكر بمعنييه الحقيقيين مستحيل على الله تعالى. ثم إن تعديته للمفعول أيضا على طريق دلالة الاقتضاء إذ ليس المراد تذكر الذوات ولا ذكر أسمائها بل المراد تذكر ما ينفعهم إذا وصل إليهم وذكر فضائلهم.
وقوله: {وَاشْكُرُوا لِي} أمر بالشكر الأعم من الذكر من وجه أو مطلقا، وتعديته للمفعول باللام هو الأفصح وتسمى اللام لام التبليغ ولام التبيين كما قالوا نصح له ونصحه كقوله تعالى: {فَتَعْساً لَهُمْ} [محمد:8] وقول النابغة:
شكرت لك النعمى وأثنيت جاهدا ... وعطلت أعراض العبيد بن عامر
وقوله: {وَلا تَكْفُرُونِ} نهى عن الكفران للنعمة، والكفران مراتب أعلاها جحد النعمة وإنكارها ثم قصد إخفائها، ثم السكوت عن شكرها غفلة وهذا أضعف المراتب وقد يعرض عن غير سوء قصد لكنه تقصير.
قال ابن عرفه: "ليس عطف قوله: {وَلا تَكْفُرُونِ} بدليل على أن الأمر بالشيء ليس نهيا عن ضده وذلك لأن الأمر بالشكر مطلق أي لأن الأمر لا يدل على التكرار فلا عموم له فيصدق بشكره يوما واحدا فلما قال: {وَلا تَكْفُرُونِ} أفاد النهى عن الكفر دائما، اه، يريد لأن الفعل في سياق النهى يعم، مثل الفعل في سياق النفي لأن النهى أخو النفي.
[153, 154] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ}
هذه جمل معترضة بين قوله تعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة:

144] وما اتصل به من تعليله بقوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} [البقرة:150] وما عطف عليه من قوله: {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} [البقرة:150] إلى قوله: {وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} [البقرة:152] وبين قوله: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [البقرة:177] لأن ذلك وقع تكملة لدفع المطاعن في شان تحويل القبلة فله أشد اتصال بقوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} المتصل بقوله: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة:150].
وهو اعتراض مطنب ابتدئ به إعداد المسلمين لما هم أهله من نصر دين الله شكرا له على ما خولهم من النعم المعدودة في الآيات السالفة من جعلهم أمة وسطا وشهداء على الناس، وتفضيلهم بالتوجه إلى استقبال أفضل بقعة، وتأييدهم بأنهم على الحق في ذلك، وأمرهم بالاستخفاف بالظالمين وأن لا يخشوهم، وتبشيرهم بأنه أتم نعمته عليهم وهداهم، وامتن عليهم بأنه أرسل فيهم رسولا منهم، وهداهم إلى الامتثال للأحكام العظيمة كالشكر والذكر، فإن الشكر والذكر بهما تهيئة النفوس إلى عظيم الأعمال، من أجل ذلك كله أمرهم هنا بالصبر والصلاة، ونبههم إلى أنهما عون للنفس على عظيم الأعمال، فناسب تعقيبها بها، وأيضا فإن ما ذكر من قوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} مشعر بان أناسا متصدون لشغبهم وتشكيكهم والكيد لهم، فأمروا بالاستعانة عليهم بالصبر والصلاة. وكلها متماسكة متناسبة الانتقال عدا آية: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّه} إلى قوله: {شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة:158] فسيأتي تبييننا لموقعها.
وافتتح الكلام بالنداء لأن فيه إشعارا بخبر مهم عظيم، فإن شأن الأخبار العظيمة التي تهول المخاطب أن يقدم قبلها ما يهئ النفس لقبولها لتستأنس بها قبل أن تفجأها.
وفي افتتاح هذا الخطاب بالاستعانة بالصبر إيذان بأنه سيعقب بالندب إلى عمل عظيم وبلوى شديدة، وذلك تهيئة للجهاد، ولعله إعداد لغزوة بدر الكبرى، فإن ابتداء المغازي كان قبيل زمن تحويل القبلة إذ كان تحويل القبلة في رجب أو شعبان من السنة الثانية للهجرة وكانت غزوة بواط والعشيرة وبدر الأولى في ربيع وجمادى من السنة الثانية ولم يكن فيهما قتال، وكانت بدر الكبرى في رمضان من السنة الثانية فكانت بعد تحويل القبلة بنحو شهرين.
وقد تقدم في تفسير قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] أن ما وقع في حديث البراء بن عازب من قول الراوي أن ناسا قتلوا قبل تحويل القبلة، أنه توهم

من أحد الرواة عن البراء، فإن أول قتل في سبيل الله وقع في غزوة بدر وهي بعد تحويل القبلة بنحو شهرين، والأصح ما في حديث الترمذي عن ابن عباس قال لما وجه النبي إلى الكعبة قالوا يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس الحديث فلم يقل: {الَّذِينَ قُتِلُوا}. فالوجه في تفسير هذه الآية أنها تهيئة للمسلمين للصبر على شدائد الحرب، وتحبيب للشهادة إليهم.ولذلك وقع التعبير بالمضارع في قوله: {لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} المشعر بأنه أمر مستقبل وهم الذين قتلوا في وقعة بدر بعيد نزول هذه الآية.
وقد تقدم القول في نظير هذه الآية عند قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} [البقرة:45] الآية إلا أنا نقول هنا إن الله تعالى قال لبني إسرائيل: {إِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} علما منه بضعف عزائمهم عن عظائم الأعمال وقال هنالك: {إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} ولم يذكر مثل هذا هنا، وفي هذا إيماء إلى أن المسلمين قد يسر لهم ما يصعب على غيرهم، وأنهم الخاشعون الذين استثناهم الله هنالك، وزاد هنا فقال: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} فبشرهم بأنهم ممن يمتثل هذا الأمر ويعد لذلك في زمرة الصابرين.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} تذييل في معنى التعليل أي اصبروا ليكون الله معكم لأنه مع الصابرين.
وقوله: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ} عطف النهى على الأمر قبله لمناسبة التعرض للغزو مما يتوقع معه القتل في سبيل الله، فلما أمروا بالصبر ينقلب شكرا عندما يرى الشهيد كرامته بعد الشهادة، وعند ما يوقن ذووه بمصيره من الحياة الأبدية، فقوله: {وَلا تَقُولُوا} نهى عن القول الناشئ عن اعتقاد، ذلك لأن الإنسان لا يقول إلا ما يعتقد فالمعنى ولا تعتقدوا، والظاهر أن هذا تكميل لقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] كما تقدم من حديث البراء فإنه قال قتل أناس قبل تحويل القبلة، فأعقب قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} بان فضيلة شهادتهم غير منقوصة.
وارتفع {أَمْوَاتٌ} على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي لا تقولوا هم أموات.
و {بل} للإضراب الإبطالي إبطالا لمضمون المنهى عن قوله، والتقدير بل هم أحياء، وليس المعنى بل قولوا هم أحياء لأن المراد إخبار المخاطبين هذا الخبر العظيم،

فقوله: {أَحْيَاءٌ} هو خبر مبتدأ محذوف وهو كلام مستأنف بعد بل الإضرابية.
وإنما قال: {وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} للإشارة إلى أنها حياة غير جسمية ولا مادية بل حياة روحية، لكنها زائدة على مطلق حياة الأرواح، فإن للأرواح كلها حياة وهي عدم الاضمحلال وقبول التجسد في الحشر مع إحساس ما بكونها آيلة إلى نعيم أو جحيم، وأما حياة الذين قتلوا في سبيل الله فهي حياة مشتملة على إدراكات التنعم بلذات الجنة والعوالم العلوية والانكشافات الكاملة، ولذلك ورد في الحديث: "إن أرواح الشهداء تجعل في حواصل طيور خضر ترعى من ثمر الجنة وتشرب من مائها" والحكمة في ذلك أن اتصال اللذات بالأرواح متوقف على توسط الحاوس الجسمانية، فلما انفصلت الروح عن الجسد عوضت جسدا مناسبا للجنة ليكون وسيلة لنعيمها.
[157-155] {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}
{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ}
عطف: {لَنَبْلُوَنَّكُمْ} على قوله: {اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:153] عطف المقصد على المقدمة كما أشرنا إليه قبل، ولك أن تجعل قوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} عطفا على قوله: {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} [ البقرة:150] الآيات ليعلم المسلمين أن تمام النعمة ومنزلة الكرامة عند الله لا يحول بينهم وبين لحاق المصائب الدنيوية المرتبطة بأسبابها، وأن تلك المصائب مظهر لثباتهم على الإيمان ومحبة الله تعالى والتسليم لقضائه فينالون بذلك بهجة نفوسهم بما أصابهم في مرضاة الله ويزدادون به رفعة وزكاء، ويزدادون يقينا بأن اتباعهم لهذا الدين لم يكن لنوال حظوظ في الدنيا، وينجر لهم من ذلك ثواب، ولذلك جاء بعده: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} وجعل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:153] الآية بين هذين المتعاطفين ليكون نصيحة لعلاج الأمرين تمام النعمة والهدى والابتلاء، ثم أعيد عليه ما يصير الجميع خبرا بقوله: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}.
وجئ بكلمة شيء تهوينا للخبر المفجع، وإشارة إلى الفرق بين هذا الابتلاء وبين الجوع والخوف اللذين سلطهما الله على بعض الأمم عقوبة، كما في قوله: {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112] ولذلك جاء هنا بكلمة شئ وجاء

هنالك بما يدل على الملابسة والتمكن، وهو أن استعار لها اللباس اللازم لللابس، لأن كلمة شئ من أسماء الأجناس العالية العامة، فإذا أضيفت إلى اسم جنس أو بينت به علم أن المتكلم ما زاد كلمة "شئ" قبل اسم ذلك الجنس إلا لقصد التقليل لأن الاقتصار على اسم الجنس الذي ذكره المتكلم بعدها لو شاء المتكلم لأغنى غناءها، فما ذكر كلمة شئ إلا والقصد أن يدل على أن تنكير اسم الجنس ليس للتعظيم ولا للتنويع، فبقى له الدلالة على التحقير وهذا كقول السرى مخاطبا لأبي إسحاق الصابى:
فشيئا من دم العنقو ... د أجعله مكان دمى1
فقول الله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ} عدول عن أن يقول بخوف وجوع أما لو ذكر لفظ شئ مع غير اسم جنس كما إذا اتبع بوصف أو لم يتبع أو أضيف لغير اسم جنس فهو حينئذ يدل على مطلق التنويع نحو قول قحيط العجلى:
فلا تطمع أبيت اللعن فيها ... ومنعكها بشيء يستطاع
فقد فسره المرزوقي وغيره بأن معنى بشيء بمعنى من المعاني من غلبة أو معازة أو فداء أو نحو ذلك اهـ.
وقد يكون بيان هذه الكلمة محذوفا لدلالة المقام، كقوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة:178] فهو الدية على بعض التفاسير أو هو العفو على تفسير آخر، وقول عمر بن أبي ربيعة:
ومن مالئ عينيه من شيء غيره ... إذا راح نحو الجمرة البيض كالدمى
أي من محاسن امرأة غير امرأته.
وقول أبى حية النميرى:
إذا ما تقاضى المرء يوم وليلة ... تقاضاه شيء لا يمل التقاضيا
أي شيء من الزمان، ومن ذلك قوله تعالى: {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ
ـــــــ
1 قبل هذا البيت قوله:
أبا إسحاك يا سكنى ... ألوذ به ومعتصمي
أرقت دمي وأعوزني ... سليل الكرم والكرم
يريد أنه احتجم ورام شرب فليل من الخمر ليعتاض به عما ضاع من دمه في زعمه.

مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} [آل عمران:10] أي من الغناء.
وكان مراعاة هذين الاستعمالين في كلمة شيء هو الذي دعا الشيخ عبد القاهر في "دلائل الإعجاز" إلى الحكم بحسن وقع كلمة شيء في بيت ابن أبي ربيعة وبيت أبي حية النميري، وبقلتها وتضاؤلها في قول أبي الطيب:
لو الفلك الدوار أبغضت سعيه ... لعوقه شيء عن الدوران
لأنها في بيت أبي الطيب لا يتعلق بها معنى التقليل كما هو ظاهر ولا التنويع لقلة جدوى التنويع هنا إذ لا يجهل أحد أن معوق الفلك لا بد أن يكون شيئا.
والمراد بالخوف والجوع وما عطف عليهما معانيها المتبادرة وهي ما أصاب المسلمين من القلة وتألب المشركين عليهم بعد الهجرة، كما وقع في يوم الأحزاب "إذ جاءهم من فوقهم ومن أسفل منهم" {وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب:10] وأما الجوع فكما أصابهم من قلة الأزواد في بعض الغزوات، ونقص الأموال ما ينشأ عن قلة العناية بنخيلهم في خروجهم إلى الغزو، ونقص الأنفس يكون بقلة الولادة لبعدهم عن نسائهم كما قال النابغة:
شعب العلافيات بين فروجهم ... والمحصنات عوازب الأطهار
وكما قال الأعشى يمدح هوذة بن علي صاحب اليمامة، بكثرة غزواته:
أفي كل عام أنت جاشم غزوة ... تشد لأقصاها عزيم عزائكا
مورثة مالا وفي المجد رفعة ... لما ضاع فيها من قروء نسائك
وكذلك نقص الأنفس بالاستشهاد في سبيل الله، وما يصيبهم في خلال ذلك وفيما بعده من مصائب ترجع إلى هاته الأمور.
والكلام على الموال يأتي عند قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة:188] في هذه السورة، وعند قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ} [آل عمران:10] في سورة آل عمران.
{وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:157]
جملة: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} معطوفة على {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ}، والخطاب للرسول عليه

السلام بمناسبة أنه ممن شمله قوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} وهو عطف إنشاء على خبر ولا ضمير فيه عند من تحقق أساليب العرب ورأى في كلامهم كثرة عطف الخبر على الإنشاء وعكسه.
وأفيد مضمون الجملة الذي هو حصول الصلوات والرحمة والهدى للصابرين بطريقة التبشير على لسان الرسول تكريما لشأنه، وزيادة في تعلق المؤمنين به بحيث تحصل خيراتهم بواسطته، فلذلك كان من لطائف القرآن إسناد البلوى إلى الله بدون واسطة الرسول، وإسناد البشارة بالخير الآتي من قبل الله إلى الرسول.
والكلام على الصبر وفضائله تقدم في قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45].
ووصف الصابرين بأنهم: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا} إلخ لإفادة أن صبرهم أكمل الصبر إذ هو صبر مقترن ببصيرة في أمر الله تعالى إذ يعلمون عنه المصيبة أنهم ملك لله تعالى يتصرف فيهم كيف يشاء فلا يجزعون مما يأتيهم، ويعلمون أنهم صائرون إليه فيثيبهم على ذلك، فالمراد من القول هنا القول المطابق للاعتقاد إذ الكلام إنما وضع للصدق، وإنما يكون ذلك القول معتبرا إذا كان تعبيرا عما في الضمير فليس لمن قال هاته الكلمات بدون اعتقاد لها فضل وإنما هو كالذي ينعق بما لا يسمع، وقد علمهم الله هذه الكلمة الجامعة لتكون شعارهم عند المصيبة، لأن الاعتقاد بقوى بالتصريح لأن استحضار النفس للمدركات المعنوية ضعيف يحتاج إلى التقوية بشيء من الحس، ولأن في تصريحهم بذلك إعلانا لهذا الاعتقاد وتعليما له للناس. والمصيبة يأتي الكلام عليها عند قوله تعالى: {فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ} [النساء:72] في سورة النساء.
والتوكيد بإن في قولهم: {إِنَّا لِلَّهِ} لأن المقام مقام اهتمام، ولأنه ينزل المصاب فيه منزلة المنكر كونه ملكا لله تعالى وعبدا له إذ تنسيه المصيبة ذلك ويحول هو لها بينه وبين رشده. واللام فيه للملك.
والإتيان باسم الإشارة في قوله: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ} للتنبيه على أن المشار إليه هو ذلك الموصوف بجميع الصفات السابقة على اسم الإشارة، وأن الحكم الذي يرد بعد اسم الإشارة مترتب على تلك الأوصاف مثل: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:5] وهذا بيان لجزاء صبرهم.
والصلوات هنا مجاز في التزكيات والمغفرات ولذلك عطفت عليها الرحمة التي هي

من معاني الصلاة مجازا في مثل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب:56].
وحقيقة الصلاة في كلام العرب أنها أقوال تنبئ عن محبة الخير لأحد، ولذلك كان أشهر معانيها هو الدعاء وقد تقدم ذلك في قوله تعالى: {وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ} [البقرة:3] ولأجل ذلك كان إسناد هذا الفعل لمن لا يطلب الخير إلا منه متعينا للمجاز في لازم المعنى وهو حصول الخير، فكانت الصلاة إذا أسندت إلى الله أو أضيفت إليه دالة على الرحمة وإيصال ما به النفع من رحمة أو مغفرة أو تزكية.
وقوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} بيان لفضيلة صفتهم إذ اهتدوا لما هو حق كل عبد عارف فلم تزعجهم المصائب ولم تكن لهم حاجبا عن التحقق في مقام الصبر، لعلمهم أن الحياة لا تخلو من الأكدار، وأما الذين لم يهتدوا فهم يجعلون المصائب سببا في اعتراضهم على الله أو كفرهم به أو قول مالا يليق أو شكهم في صحة ما هم عليه من الإسلام، يقولون لو كان هذا هو الدين المرضى لله لما لحقنا عذاب ومصيبة، وهذا شأن أهل الضلال الذين حذرنا الله أمرهم بقوله: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} [الأعراف: 131]وقال في المنافقين: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} [النساء:78] والقول الفصل أن جزاء الأعمال يظهر في الآخرة، وأما مصائب الدنيا فمسببة عن أسباب دنيوية، تعرض لعروض سببها، وقد يجعل الله سبب المصيبة عقوبة لعبده في الدنيا على سوء أدب أو نحوه للتخفيف عنه من عذاب الآخرة، وقد تكون لرفع درجات النفس، ولها أحوال ودقائق لا يعلمها إلا الله تعالى وقد يطلع عليها العبد إذا راقب نفسه وحاسبها، ولله تعالى في الحالين لطف ونكاية يظهر أثر أحدهما للعارفين.
[158] {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ}
هذا كلام وقع معترضا بين محاجة أهل الكتاب والمشركين في أمر القبلة، نزل هذا بسبب تردد واضطراب بين المسلمين في أمر السعي بين الصفا والمروة وذلك عام حجة الوداع، كما جاء في حديث عائشة الآتي، فهذه الآية نزلت بعد الآيات التي قبلها وبعد الآيات التي نقرؤها بعدها، لأن الحج لم يكن قد فرض، وهي من الآيات التي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإلحاقها ببعض السور التي نزلت قبل نزولها بمدة، والمناسبة بينها وبين ما

قبلها هو أن العدول عن السعي بين الصفا والمروة يشبه فعل من عبر عنهم بالسفهاء من القبلة وإنكار العدول عن استقبال بيت المقدس، فموقع هذه الآية بعد إلحاقها بهذا المكان موقع الاعتراض في أثناء الاعتراض، فقد كان السعي بين الصفا والمروة من أعمال الحج من زمن إبراهيم عليه السلام تذكيرا بنعمة الله على هاجر وابنها إسماعيل إذ أنقذه الله من العطش كما في حديث البخاري في كتاب بدء الخلق1 عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن هاجر أم إسماعيل لما تركها إبراهيم بموضع مكة ومعها ابنها وهو رضيع وترك لها جرابا من تمر وسقاء فيه ماء، فلما نقد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها وجعلت تنظر إليه يتلوى فانطلقت كراهية أن تنظر إليه فوجدت الصفا أقرب جبل يليها فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا فلم تر أحدا فهبطت من الصفا وأتت المروة فقامت عليها فنظرت هل ترى أحدا فلم تر أحدا ففعلت ذلك سبع مرات"، قال ابن عباس: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فلذلك سعى الناس بينهما"2 ، "فسمعت صوتا فقالت في نفسها صه ثم تسمعت أيضا فقالت قد أسمعت إن كان عندك غواث، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه حتى ظهر الماء فشربت وأرضعت ولدها"، فيحتمل أن إبراهيم سعى بين الصفا والمروة تذكرا لشكر النعمة وأمر به إسماعيل، ويحتمل أن إسماعيل ألحقه بأفعال الحج، أو أن من جاء من أبنائه فعل ذلك فتقرر في الشعائر عند قريش لا محالة.
وقد كان حوالي الكعبة في الجاهلية حجران كانا من جملة الأصنام التي جاء بها عمرو ابن لحى إلى مكة فعبدها العرب إحداهما يسمى إسافا والآخر يسمى نائلة، كان أحدهما موضوعا قرب جدار الكعبة والآخر موضوعا قرب زمزم، ثم نقلوا الذي قرب الكعبة إلى جهة زمزم، وكان العرب يذبحون لهما، فلما جدد عبد المطلب احتفار زمزم بعد أن دثرتها جرهم حين خروجهم من مكة وبنى سقاية زمزم نقل ذريتك الصنمين فوضع إسافا على الصفا ونائلة على المروة، وجعل المشركون بعد ذلك أصناما صغيرة وتماثيل بين الجبلين في طريق المسعى، فتوهم العرب الذين جاءوا من بعد ذلك أن السعي بين الصفا والمروة طواف بالصنمين، وكانت الأوس والخزرج وغسان يعبدون مناة وهو صنم بالمشلل قرب قديد فكانوا لا يسعون بين الصفا والمروة تحرجا من أن يطوفوا بغير
ـــــــ
1 لم أجده فيه، وهو في: "60" "كتاب الأنبياء"، 9، باب يزفون: النسلان في المشي حديث 1183. انظر "فتح الباري" 6/396، دار المعرفة.
2 في المصدر السابق "فذلك سعي الناس بينهما".

صنمهم، في البخاري فيما علقه1 عن معمر إلى عائشة قالت كان رجال من الأنصار ممن كان يهل لمناة قالوا يا نبئ الله كنا لا نطوف بين الصفا والمروة تعظيما لمناة. فلما فتحت مكة وأزيلت الأصنام وأبيح الطواف بالبيت وحج المسلمون مع أبي بكر وسعت قريش بين الصفا والمروة تحرج الأنصار من السعي بين الصفا والمرة وسأل جمع منهم النبي صلى الله عليه وسلم هل علينا من حرج أن نطوف بين الصفا والمروة فأنزل الله هذه الآية.
وقد روى مالك رحمه الله في "الموطأ" 2 عن هشام بن عروة عن أبيه عروة بن الزبير قال قلت لعائشة وأنا يومئذ حديث السن أرأيت قول الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}، فما على الرجل شئ أن لا يطوف بهما, فقالت عائشة: كلا لو كان كما تقول لكانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما، إنما أنزلت هاته3 الآية في الأنصار كانوا يهلون لمناة وكانت مناة حذو قديد وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله عن ذلك فأنزل الله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ} الآية.
وفي البخاري عن أنس كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية فلما جاء الإسلام أمسكنا عنهما فأنزل الله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ}، وفيه كلام معمر المتقدم أنهم كانوا في الجاهلية لا يطوفون بين الصفا والمروة تعظيما لمناة.
قتأكيد الجملة بإن لأن المخاطبين مترددون في كونهما من شعائر الله وهم أميل إلى اعتقاد أن السعي بينهما من أحوال الجاهلية، وفي "أسباب النزول" للواحدي أن سؤالهم كان عام حجة الوداع، وبذلك كله يظهر أن هذه الآية نزلت بعد نزول آية تحويل القبلة بسنين فوضعها في هذا الموضع لمراعاة المناسبة مع الآيات الواردة في اضطراب الفرق في أمر القبلة والمناسك.
والصفا والمروة اسمان لجبيلين متقابلين فأما الصفا فهو رأس نهاية جبل أبي قبيس،
ـــــــ
1 وقد وصله أحمد وغيره.
2 أخرجه أيضا البخاري في: 25، "كتاب الحج"،79، باب وجوب الصفا والمروة" ومسلم فيك 15، "كتاب الحج"، 43، باب بيان أن السعي بين الصفا والمروة ركن لا يصح الحج إلا به. حديث 259 و260 و261.
3 في "الموطأ" 1/373، تحقيق عبد الباقي، "هذه"

وأما المروة فرأس هو منتهى جبل قعيقعان. وسمى الصفا لأن حجارته من الصفا وهو الحجر الأملس الصلب، وسميت المروة مروة لأن حجارتها من المرو وهي الحجارة البيضاء اللينة التي تورى النار ويذبح بها لأن شذرها يخرج قطعا محددة الأطراف وهي تضرب بحجارة من الصفا فتتشقق قال أبو ذؤيب:
حتى كأني للحوادث مروة ... بصفا المشقر1 كل يوم تفرع
وكأن الله تعالى لطف بأهل مكة فجعل لهم جبلا من المروة للانتفاع به في اقتداحهم وفي ذبائحهم، وجعل قبالته الصفا للانتفاع به في بنائهم.
والصفا والمروة بقرب المسجد الحرام وبينهما مسافة سبعمائة وسبعين ذراعا وطريق السعي بينهما يمر حذو جدار المسجد الحرام، والصفا قريب من باب يسمى باب الصفا من أبواب المسجد الحرام ويصعد الساعي إلى الصفا والمروة بمثل المدرجة، والشعائر جمع شعيرة بفتح الشين وشعارة بكسر الشين بمعنى العلامة مشتق من شعر إذا علم وفطن، وهي فعلية بمعنى مفعولة أي معلم بها ومنه قولهم أشعر البعير إذا جعل له سمة في سنامه بأنه معد للهدى. فالشعائر ما جعل علامة على أداء عمل من عمل الحج والعمرة وهي المواضع المعظمة مثل المواقيت التي يقع عندها الإحرام، ومنها الكعبة والمسجد الحرام والمقام والصفا والمروة وعرفه والمشعر الحرام بمزدلفة ومنى والجمار.
ومعنى وصف الصفا والمروة بأنهما من شعائر الله أن الله جعلهما علامتين على مكان عبادة كتسمية مواقيت الحج مواقيت فوصفهما بذلك تصريح بأن السعي بينهما عبادة إذ لا تتعلق بهما عبادة جعلا علامة عليها غير السعي بينهما، وإضافتهما إلى الله لأنهما علامتان على عبادته أو لأنه جعلهما كذلك.
وقوله: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ} تفريع على كونهما من شعائر الله، وأن السعي بينهما في الحج والعمرة من المناسك فلا يربيه ما حصل فيهما من صنع الجاهلية لأن الشيء المقدس لا يزيل تقديسه ما يحف به من سئ العوارض، ولذلك نبه بقوله: {فَلا جُنَاحَ} على نفى ما اختلج في نفوسهم بعد الإسلام كما في حديث عروة عن عائشة رضى الله عنها.
ـــــــ
1 المشقر كمعظم جبل باليمن تتخذ من حجارته فؤوس تكسر الحجارة لصلابتها.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68