كتاب : التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور
المؤلف : محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي

{كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}، ثم بقطع المحاجة بقوله تعالى: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ}، أي وليس من شأن الرسل - عليهم السلام - المناظرة مع الأمة.
وقال في سورة الأنعام [148] {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا}، فسمى قولهم هذا تكذيبا كتكذيب الذين من قبلهم لأن المقصود منه التكذيب وتعضيد تكذيبهم بحجة أساءوا الفهم فيها، فهم يحسبون أن الله يتولى تحريك الناس لأعمالهم كما يحرك صاحب خيال الظل ومحرك اللعب أشباحه وتماثيله، وذلك جهل منهم بالفرق بين تكوين المخلوقات وبين ما يكسبونه بأنفسهم. وبالفرق بين أمر التكذيب وأمر التكليف، وتخليط بين الرضى والإرادة، ولولا هذا التخليط لكان قولهم إيمانا.
والإشارة بـ {كَذَلِكَ} إلى الإشراك وتحريم أشياء من تلقاء أنفسهم، أي كفعل هؤلاء فعل الذين من قبلهم وهم المذكورون فيما تقدم بقوله تعالى: {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [سورة النحل:26] وبقوله: {كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ} [سورة النحل:33]. والمقصود: أنهم فعلوا كفعلهم فكانت عاقبتهم ما علمتم، فلو كان فعلهم مرضيا لله لما أهلكهم، فهلا استدلوا بهلاكهم على أن الله غير راض بفعلهم، فإن دلالة الانتقام أظهر من دلالة الإملاء، لأن دلالة الانتقام وجودية ودلالة الإمهال عدمية.
وضمير {نَحْنُ} تأكيد للضمير المتصل في {عَبَدْنَا}. وحصل به تصحيح العطف على ضمير الرفع المتصل. وإعادة حرف النفي في قوله تعالى: {وَلا آبَاؤُنَا} لتأكيد {ما} النافية.
وقد فرع على ذلك قطع المحاجة معهم وإعلامهم أن الرسل عليهم السلام ما عليهم إلا البلاغ ومنهم محمد صلى الله عليه وسلم فاحذروا أن تكون عاقبتكم عاقبة أقوام الرسل السالفين. وليس الرسل بمكلفين بإكراه الناس على الإيمان حتى تسلكوا معهم التحكك بهم والإغاظة لهم.
والبلاغ اسم مصدر الإبلاغ. والمبين: الموضح الصريح.
والاستفهام بـ {هل} إنكاري بمعنى النفي، ولذلك جاء الاستثناء عقبه.
والقصر المستفاد من النفي والاستثناء قصر إضافي لقلب اعتقاد المشركين من معاملتهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن للرسول غرضا شخصيا فيما يدعو إليه.

وأثبت الحكم لعموم الرسل - عليهم السلام - وإن كان المردود عليهم لم يخطر ببالهم أمر الرسل الأولين لتكون الجملة تذييلا للمحاجة، فتفيد ما هو أعم من المردود.
والكلام موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم تعليما وتسلية. ويتضمن تعريضا بإبلاغ المشركين.
[36] {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}
عطف على جملة {كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [سورة النحل:35]. وهو تكملة لإبطال شبهة المشركين إبطالا بطريقة التفصيل بعد الإجمال لزيادة تقرير الحجة، فقوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً} بيان لمضمون جملة {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ}.
وجملة {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ} إلى آخرها بيان لمضمون جملة {كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}.
والمعنى: أن الله بين للأمم على ألسنة الرسل عليهم السلام أنه يأمرهم بعبادته واجتناب عبادة الأصنام، فمن كل أمة أقوام هداهم الله فصدقوا وآمنوا، ومنهم أقوام تمكنت منهم الضلالة فهلكوا. ومن سار في الأرض رأى دلائل استئصالهم.
و {أن} تفسيرية لجملة {بَعَثْنَا} لأن البعث يتضمن معنى القول، إذ هو بعث للتبليغ.
و {الطَّاغُوتَ}: جنس ما يعبد من دون الله من الأصنام. وقد يذكرونه بصيغة الجمع، فيقال: الطواغيت، وهي الأصنام. وتقدم عند قوله تعالى: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} في سورة النساء [50].
وأسندت هداية بعضهم إلى الله مع أنه أمر جميعهم بالهدى تنبيها للمشركين على إزالة شبهتهم في قولهم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} بأن الله بين لهم الهدى، فاهتداء المهتدين بسبب بيانه، فهو الهادي لهم.
والتعبير في جانب الضلالة بلفظ "حقت عليهم" دون إسناد الإضلال إلى الله إشارة إلى أن الله لما نهاهم عن الضلالة فقد كان تصميمهم عليها إبقاء لضلالتهم السابقة "فحقت عليهم الضلالة" ، أي ثبتت ولم ترتفع.

وفي ذلك إيماء إلى أن بقاء الضلالة من كسب أنفسهم، ولكن ورد في آيات أخرى أن الله يضل الضالين، كما في قوله: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} [سورة الأنعام:125]، وقوله عقب هذا {فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} [سورة النحل:37] على قراءة الجمهور، ليحصل من مجموع ذلك علم بأن الله كون أسبابا عديدة بعضها جاء من توالد العقول والأمزجة واقتباس بعضها من بعض، وبعضها تابع للدعوات الضالة بحيث تهيأت من اجتماع أمور شتى لا يحصيها إلا الله، أسباب تامة تحول بين الضال وبين الهدى. فلا جرم كانت تلك الأسباب هي سبب حق الضلالة عليهم، فباعتبار الأسباب المباشرة كان ضلالهم من لدن خالق تلك الأسباب وخالق نواميسها في متقادم العصور، فافهم.
ثم فرع على ذلك الأمر بالسير في الأرض لينتظروا آثار الأمم فيروا منها آثار استئصال مخالف لأحوال الفناء المعتاد، ولذلك كان الاستدلال بها متوقفا على السير في الأرض، ولو كان المراد مطلق الفناء لأمرهم بمشاهدة المقابر وذكر السلف الأوائل.
[37] {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}
استئناف بياني، لأن تقسيم كل أمة ضالة إلى مهتد منها وباق على الضلال يثير سؤالا في نفس النبي صلى الله عليه وسلم عن حال هذه الأمة: أهو جار على حال الأمم التي قبلها، أو أن الله يهديهم جميعا. وذلك من حرصه على خبرهم ورأفته بهم، فاعلمه الله أنه مع حرصه على هداهم فإنهم سيبقى منهم فريق على ضلالة.
وفي الآية لطيفتان:
الأولى: التعريض بالثناء على النبي صلى الله عليه وسلم في حرصه على خيرهم مع ما لقيه منهم من الأذى الذي شانه أن يثير الحنق في نفس من يلحقه الأذى؛ ولكن نفس محمد صلى الله عليه وسلم مطهرة من كل نقص ينشأ عن الأخلاق الحيوانية.
واللطيفة الثانية: الإيماء إلى أن غالب أمة الدعوة المحمدية سيكونوا مهتدين وأن الضلال منهم فئة قليلة، وهم الذين لم يقدر الله هديهم في سابق علمه بما نشأ عن خلقه وقدرته من الأسباب التي هيأت لهم البقاء في الضلال.

والحرص: فرط الإرادة الملحة في تحصيل المراد بالسعي في أسبابه.
والشرط هنا ليس لتعليق حصول مضمون الجواب على حصول مضمون الشرط، لأن مضمون الشرط معلوم الحصول، لأن علاماته ظاهرة بحيث يعلمه الناس، كما قال تعالى: {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} [سورة التوبة:128]؛ وإنما هو لتعليق العلم بمضمون الجواب على دوام حصول مضمون الشرط. فالمعنى: إن كنت حريصا على هداهم حرصا مستمرا فاعلم أن من أضله الله لا تستطيع هديه ولا تجد لهديه وسيلة ولا يهديه أحد. فالمضارع مستعمل في معنى التجدد لا غير، كقول عنترة:
إن تغد في دوني القناع فإنني ... طب بأخذ الفارس المستلئم
وأظهر منه في هذا المعنى قوله أيضا:
إن كنت أومعت الفراق فإنما ... زمت ركابكم بليل مظلم
فإن فعل الشرط في البيتين في معنى: إن كان ذلك تصميما، وجواب الشرط فيهما في معنى إفادة العلم.
وجعل المسند إليه في جملة الإخبار عن استمرار ضلالهم اسم الجلالة للتهويل المشوق إلى استطلاع الخبر. والخبر هو أن هداهم لا يحصل إلا إذا أراده الله ولا يستطيع أحد تحصيله لا أنت ولا غيرك، فمن قدر الله دوام ضلاله فلا هادي له. ولولا هذه النكتة لكان مقتضى الظاهر أن يكون المسند إليه ضمير المتحدث عنهم بان يقال: فإنهم لا يهديهم غير الله.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وأبو جعفر ويعقوب {لا يُهْدَي} - بضم الياء وفتح الدال - مبنيا للنائب. وحذف الفاعل للتعميم، أي لا يهديه هاد.
و {مَنْ} نائب فاعل، وضمير {يُضِلُّ} عائد إلى الله، أي فإن الله لا يهدى المضلل - بفتح اللام - منه. فالمسند سببي وحذف الضمير السببي المنصوب لظهوره وهو في معنى قوله: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الرعد: 33] وقوله تعالى: {من يضلل الله فلا هادي له}
وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وخلف {لا يَهْدِي} - بفتح الياء - بالبناء للفاعل، وضمير اسم الجلالة هو الفاعل،و {مَنْ} مفعول {يَهْدِي}، والضمير في {يُضِلُّ} لله والضمير السببي أيضا محذوف، والمعنى: أن الله لا يهدي من قدر دوام ضلاله، كقوله

تعالى: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية:23] إلى قوله: {فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} [الجاثية:23].
ومعنى {وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} ما لهم ناصر ينجيهم من العذاب، أي كما أنهم ما لهم منقذ من الضلال الواقعين فيه ما لهم ناصر يدفع عنهم عواقب الضلال.
[39] {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}
انتقال لحكاية مقالة أخرى من شنيع مقالاتهم في كفرهم، واستدلال من أدلة تكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يخبر به إظهار لدعوته في مظهر المحال، وذلك إنكارهم الحياة الثانية والبعث بعد الموت. وذلك لم يتقدم له ذكر في هذه السورة سوى الاستطراد بقوله: {فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} [النحل:22].
والقسم على نفي البعث أرادوا به الدلالة على يقينهم بانتفانه.
وتقدم القول {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} عند قوله تعالى: {أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} في سورة العقود} [ 53].
وإنما أيقنوا بذلك وأقسموا عليه لأنهم توهموا أن سلامة الأجسام وعدم انخرامها شرط لقبولها الحياة، وقد رأوا أجساد الموتى معرضة للاضمحلال فكيف تعاد كما كانت.
وجملة {لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} عطف بيان لجملةَ {أَقْسَمُوا} وهي ما أقسموا عليه.
والبعث تقدم آنفا في قوله تعالى: {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل:21].
والعدول عن "الموتى" إلى {مَنْ يَمُوتُ} لقصد إيذان الصلة بتعليل نفي البعث، فإن الصلة أقوى دلالة على التعليل من دلالة المشتق على علية الاشتقاق، فهم جعلوا الاضمحلال منافيا لإعادة الحياة، كما حكي عنهم {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَاؤُنَا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ} [النمل:67].
و {بَلَى} حرف لإبطال النفي في الخبر والاستفهام، أي بل يبعثهم الله. وانتصب {وَعْداً} على المفعول المطلق مؤكدا لما دل عليه حرف الإبطال من حصول البعث بعد الموت. ويسمى هذا النوع من المفعول المطلق مؤكدا لنفسه، أي مؤكدا لمعنى فعل هو

عين معنى المفعول المطلق.
و {عليه} صفة لـ {وَعْداً}، أي وعدا كالواجب عليه في أنه لا يقبل الخلف. ففي الكلام استعارة مكنية. شبه الوعد الذي وعده الله بمحض إرادته واختياره بالحق الواجب عليه ورمز إليه بحرف الاستعلاء.
و {حَقّاً} صفة ثانية لـ {وَعْداً}. والحق هنا بمعنى الصدق الذي لا يتخلف. وقد تقدم نظيره في قوله تعالى: {وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْإنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ} في سورة براءة [111].
والمراد بأكثر الناس المشركون، وهم يومئذ أكثر الناس. ومعنى {لا يعلمون} أنهم لا يعملون كيفية ذلك فيقيمون من الاستبعاد دليل استحالة حصول البعث بعد الفناء.
والاستدراك ناشئ عن جعله وعدا على الله حقا، إذ يتوهم السامع أن مثل ذلك لا يجهله أحد فجاء الاستدراك لرفع هذا التوهم، ولأن جملة {وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً} تقتضي إمكان وقوعه والناس يستبعدون ذلك.
[39] {لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ}
{لِيُبَيِّنَ} تعليل لقوله تعالى: {وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً} لقصد بيان حكمة جعله وعدا لازما لا يتخلف، لأنه منوط بحكمة، والله تعالى حكيم لا تجري أفعاله على خلاف الحكمة التامة، أي جعل البعث ليبين للناس الشيء الذي يختلفون فيه من الحق والباطل فيظهر حق المحق ويظهر باطل المبطل في العقائد ونحوها من أصول الدين وما ألحق بها.
وشمل قوله: {يَخْتَلِفُونَ} كل معاني المحاسبة على الحقوق لأن تمييز الحقوق من المظالم كله محل اختلاف الناس وتنازعهم.
وعطف على هذه الحكمة العامة حكمة فرعية خاصة بالمردود عليهم هنا، وهي حصول العلم للذين كفروا بأنهم كانوا كاذبين فيما اخترعوه من الشرك وتحريم الأشياء وإنكار البعث.
وفي حصول علمهم بذلك يوم البعث مثار للندامة والتحسر على ما فرط منهم من

إنكاره. وقد تقدم بيان حكمة الجزاء في يوم البعث في أول سورة يونس.
و {كَانُوا كَاذِبِينَ} أقوى في الوصف بالكذب من "كذبوا أو كاذبون"، لما تدل عليه "كان" من الوجود زيادة على ما يقتضيه اسم الفاعل من الاتصاف، فكأنه قيل: وجد كذبهم ووصفوا به. وكذبهم يستلزم أنهم معذبون عقوبة على كذبهم. ففيه شتم صريح وتعريض بالعقاب.
[40] {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}
هذه الجملة متصلة بجملة: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [النحل:38] لبيان أن جهلهم بمدى قدرة الله تعالى هو الذي جرأهم على إنكار البعث واستحالته عندهم، فهي بيان للجملة التي قبلها ولذلك فصلت، ووقعت جملة {لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النحل:39] إلى آخرها اعتراضا بين البيان والمبين.
والمعنى أنه لا يتوقف تكوين شيء إذا أراده الله إلا على أن تتعلق قدرته بتكوينه. وليس إحياء الأموات إلا من جملة الأشياء، وما البعث إلا تكوين، فما يعث الأموات إلا من جملة تكوين الموجودات، فلا يخرج عن قدرته.
وأفادت {إِنَّمَا} قصرا هو قصر وقوع التكوين على صدور الأمر به، وهو قصر قلب لإبطال اعتقاد المشركين تعذر إحياء الموتى ظنا منهم أنه لا يحصل إلا إذا سلمت الأجساد من الفساد كما تقدم آنفا، فأريد ب {قَوْلُنَا لِشَيْءٍ} تكويننا شيئا، أي تعلق القدرة بخلق شيء. وأريد بقوله: {إِذَا أَرَدْنَاهُ} إذا تعلقت به الإرادة الإلهية تعلقا تنجيزيا، فإذا كان سبب التكوين ليس زائدا على قول {كُنْ} فقد بطل تعذر إحياء الموتى. ولذلك كان هذا قصر قلب لإبطال اعتقاد المشركين.
والشيء: أطلق هنا على المعدوم باعتبار إرادة وجوده، فهو من إطلاق اسم ما يؤول إليه، أو المراد بالشيء مطلق الحقيقة المعلومة وإن كانت معدومة، وإطلاق الشيء على المعدوم مستعمل.
و {أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ} خبر عن {قَوْلُنَا}.
والمراد بقول {كُنْ} توجه القدرة إلى إيجاد المقدور. عبر عن ذلك التوجه بالقول بالكلام كما عبر عنه بالأمر في قوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}

[يّس:82]. وشبه الشيء الممكن حصوله يشخص مأمور، وشبه انفعال الممكن لأمر التكوين بامتثال المأمور لأمر الآمر. وكل ذلك تقريب للناس بما يعقلون، وليس هو خطابا للمعدوم ولا أن للمعدوم سمعا يعقل به الكلام فيمتثل للآمر.
و "كان" تامة.
وقرأ الجمهور {فَيَكُونُ} بالرفع أي فهو يكون، عطفا على الخبر وهو جملة {أَنْ نَقُولَ}. وقرأ ابن عامر والكسائي بالنصب عطفا على {نَقُولَ}، أي أن نقول له كن وأن يكون.
[41] {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}
لما ثبتت حكمة البعث بأنها تبيين الذي اختلف فيه الناس من هدى وضلالة، ومن ذلك أن يتبين أن الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين يعلم منه أنه بتبيين بالبعث أن الذين آمنوا كانوا صادقين بدلالة المضادة وأنهم مثابون ومكرمون. فلما علم ذلك من السياق وقع التصريح به في هذه الآية.
وأدمج مع ذلك وعدهم بحسن العاقبة في الدنيا مقابلة وعيد الكافرين بسوء العاقبة فيها الواقع بالتعريض في قوله تعالى: {فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [النحل:36].
فالجملة معطوفة على جملة {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} [النحل:39].
والمهاجرة: متاركة الديار لغرض ما.
و {فِي} مستعملة في التعليل، أي لأجل الله. والكلام على تقدير مضاف يظهر من السياق. تقديره: هاجروا لأجل مرضاة الله.
وإسناد فعل {ظُلِمُوا} إلى المجهول لظهور الفاعل من السياق وهو المشركون. والظلم يشمل أصناف الاعتداء من الأذى والتعذيب.
والتبوئة: الإسكان. وأطلقت هنا على الجزاء بالحسنى على المهاجرة بطريق المضادة للمهاجرة، لأن المهاجرة الخروج من الديار فيضادها الإسكان.

وفي الجمع بين {هَاجَرُو} و {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ} محسن الطباق. والمعنى: لنجازينهم جزاء حسنا. فعبر عن الجزاء بالتبوئة لأنه جزاء على ترك المباءة.
و {حسنة} صفة لمصدر محذوف جار على"نبوئنهم"، أي تبوئة حسنة.
وهذا الجزاء يجبر كل ما اشتملت عليه المهاجرة من الأضرار التي لقيها المهاجرون من مفارقة ديارهم وأموالهم، وما لاقوه من الأذى الذي ألجأهم إلى المهاجرة من تعذيب واستهزاء ومذلة وفتنة، فالحسنة تشتمل على تعويضهم ديارا خيرا من ديارهم، ووطنا خيرا من وطنهم، وهو المدينة، وأموالا خيرا من أموالهم، وهي ما نلوه من المغانم ومن الخراج. روي أن عمر رضي الله عنه كان إذا أعطى رجلا من المهاجرين عطاء قال له: "هذا ما وعدك ربك في الدنيا، وما ذخر لك في الآخرة أكبر"؛ وغلبة لأعدائهم في الفتوح وأهمها فتح مكة، وأمنا في حياتهم بما نالوه من السلطان، قال تعالى: {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} [النور:55]. وسبب النزول الذين هاجروا إلى أرض الحبشة من المسلمين لا محالة، أو الذين هاجروا إلى المدينة الهجرة الأولى قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وبقية أصحابه رضي الله عنهم مثل مصعب بن عمير وأصحابه إن كانت هذه الآية نازلة بعد الهجرة الأولى إلى المدينة. وكلا الاحتمالين لا ينافي كون السورة مكية. ولا يقتضي تخصيص أولئك بهذا الوعد.
ثم أعقب هذا الوعد بالوعد العظيم المقصود وهو قوله: {وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ}. ومعنى {أَكْبَرُ} أنه أهم وأنفع. وإضافة إلى {الْآخِرَةِ} على معنى "في"، أي الأمر الذي في الآخرة.
وجملة {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} معترضة، وهي استئناف بياني ناشئ عن جملة الوعد كلها، لأن ذلك الوعد العظيم بخير الدنيا والآخرة يثير في نفوس السامعين أن يسألوا كيف لم يقتد بهم من بقوا على الكفر فتقع جملة {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} بيانا لما استبهم على السائل. والتقدير: لو كانوا يعلمون ذلك لاقتدوا بهم ولكنهم لا يعلمون. فضمير {يَعْلَمُونَ} عائد إلى {الذين كفروا} [النحل:39].
ويجوز أن يكون السؤال المثار هو: كيف يحزن المهاجرون على ما تركوه من ديارهم وأموالهم وأهليهم، فيكون: المعنى لو كان المهاجرون يعلمون ما أعد لهم علم مشاهدة لما حزنوا على مفارقة ديارهم ولكانت هجرتهم عن شوق إلى ما يلاقونه بعد هجرتهم، لأن تأثير العلم الحسي على المزاج الإنساني أقوى من العلم العقلي لعدم

احتياج العلم الحسي إلى استعمال نظر واستدلال، ولعدم اشتمال العلم العقلي على تفاصيل الكيفيات التي تحبها النفوس وترتمي إليها الشهوات، كما أشار إليه قوله تعالى: {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260] فليس المراد من قوله {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} لو كانوا يعتقدون ويؤمنون، لأن ذلك حاصل لا يناسب موقع {لَوْ} الامتناعية.
فضمير {يَعْلَمُونَ} على هذا"للذين هاجروا". وفي هذا الوجه تتناسق الضمائر.
و {الَّذِينَ صَبَرُوا} صفة"للذين هاجروا".والصبر: تحمل المشاق. والتوكل: الاعتماد.
وتقدم الصبر عند قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} أوائل البقرة [45]. والتوكل عند قوله تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} في آل عمران [159].
والتعبير في جانب الصبر بالمضي وفي جانب التوكل بالمضارع إيماء إلى أن صبرهم قد آذن بالانقضاء لانقضاء أسبابه، وأن الله قد جعل لهم فرجا بالهجرة الواقعة والهجرة المترقبة. فهذا بشارة لهم.
وأن التوكل ديدنهم لأنهم يستقبلون أعمالا جليلة تتم لهم بالتوكل على الله في أمورهم فهم يكررونه. وفي هذا بشارة بضمان النجاح.
وفي معنى هذه الآية قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10].
وتقديم المجرور في قوله تعالى: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} للقصر، أي لا يتوكلون إلا على ربهم دون التوكل على سادة المشركين وولائهم.
[43،44] {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ}.

كانت الآيات السابقة جارية على حكاية تكذيب المشركين نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم وإنكارهم أنه مرسل من عند الله وأن القرآن وحي الله إليه، ابتداء من قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [النحل:24]، ورد مزاعمهم الباطلة بالأدلة القارعة لهم متخللا بما ادمج في أثنائه من معان أخرى تتعلق بذلك، فعاد هنا إلى إبطال شبهتهم في إنكار نبوءته من أنه بشر لا يليق بان يكون سفيرا بين الله والناس، إبطالا بقياس التمثيل بالرسل الأسبقين الذين لا تنكر قريش رسالتهم مثل نوح وإبراهيم - عليهما السلام -. وهذا ينظر إلى قوله في أول السورة {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [النحل:2].
وقد غير أسلوب نظم الكلام هنا بتوجيه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن كان جاريا على أسلوب الغيبة ابتداء من قوله تعالى: {فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ} [النحل:22]، وقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} [النحل:35] الآية، تأنيسا للنبي صلى الله عليه وسلم لأن فيما مضى من الكلام آنفا حكاية تكذيبهم إياه تصريحا وتعريضا، فأقبل الله على الرسول صلى الله عليه وسلم بالخطاب لما في هذا الكلام من تنويه منزلته بانه في منزلة الرسل الأولين - عليهم الصلاة والسلام -.
وفي هذا الخطاب تعريض بالمشركين. ولذلك التفت إلى خطابهم بقوله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ}.
وصيغة القصر لقلب اعتقاد المشركين وقولهم: {أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً} [الاسراء:94]، فقصر الإرسال على التعلق برجال موصوفين بأنهم يوحى إليهم.
ثم أشهد على المشركين بشواهد الأمم الماضية وأقبل عليهم بالخطاب توبيخا لهم لأن التوبيخ يناسبه الخطاب لكونه أوقع في نفس الموبخ، فاحتج عليهم بقوله: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} الخ. فهذا احتجاج بأهل الأديان السابقين أهل الكتب اليهود والنصارى والصابئة.
و {الذِّكْر} : كتاب الشريعة. وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} في أول الحجر [6].
وفي قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} إيماء إلى أنهم يعلمون ذلك ولكنهم قصدوا المكابرة والتمويه لتضليل الدهماء، فلذلك جيء في الشرط بحرف {إن} التي ترد في

الشرط المظنون عدم وجوده.
وجملة {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ} معترضة بين جملة {وَمَا أَرْسَلْنَا} وبين قوله تعالى: {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ}.
والجملة المعترضة تقترن بالفاء إذا كان معنى الجملة مفرعا على ما قبله. وقد جعلها في الكشاف معترضة على اعتبار وجوه ذكرها في متعلق قوله تعالى: {بِالْبَيِّنَاتِ}.
ونقل عنه في سورة الإنسان [29] عند قوله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} أنه لا تقترن الجملة المعترضة بالفاء. وتردد صاحب "الكشاف" في صحة ذلك عنه لمخالفته كلامه في آية سورة النحل.
وقوله {بِالْبَيِّنَاتِ} متعلق بمستقر صفة أو حالا من {رجالا} وفي تعلقه وجوه أخر ذكرها في الكشاف، والباء للمصاحبة، أي مصحوبين بالبينات والزبر، فالبينات دلائل الصدق من معجزات أو أدلة عقلية. وقد اجتمع ذلك في القرآن وافترق بين الرسل الأولين كما تفرق منه كثير لرسولنا صلى الله عليه وسلم.
و {الزبر} جمع زبور وهو مشتق من الزبر، أي الكتابة، ففعول بمعنى مفعول.و {الزبر} الكتب التي كتب فيها ما أوحي إلى الرسل مثل صحف إبراهيم والتوراة وما كتبه الحواريون من الوحي إلى - عيسى عليه السلام - وإن لم يكتبه عيسى.
ولعل عطف {الزبر} على {بِالْبَيِّنَاتِ} عطف تقسيم بقصد التوزيع، أي بعضهم مصحوب بالبينات وبعضهم بالأمرين لأنه قد تجئ رسل بدون كتب، مثل حنظلة بن صفوان رسول أهل الرس وخالد ابن سنان رسول عبس. ولم يذكر الله لنوح - عليه السلام - والإنجيل كما فسروها به في سورة فاطر.
{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}
لما اتضحت الحجة بشواهد التاريخ الذي لا ينكر ذكرت النتيجة المقصودة، وهو أن ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم إنما هو ذكر وليس أساطير الأولين.
والذكر: الكلام الذي شأنه أن يذكر، أي يتلى ويكرر. وقد تقدم عند قوله تعالى:

{وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} في سورة الحجر [6]. أي ما كنت بدعا من الرسل فقد أوحينا إليك الذكر. والذكر: ما أنزل ليقرأه الناس ويتلوه تكرارا ليتذكروا ما اشتمل عليه. وتقديم المتعلق المجرور على المفعول للاهتمام بضمير المخاطب.
وفي الاقتصار على إنزال الذكر عقب قوله: {بالبينات والزبر} إيماء إلى أن الكتاب المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم هو بينة وزبور معا، أي هو معجزة وكتاب شرع. وذلك من مزايا القرآن التي لم يشاركه فيها كتاب آخر، ولا معجزة أخرى، وقد قال الله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت:50،51]. وفي الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من الأنبياء نبي إلا أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه الله إلى فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة".
والتبيين: إيضاح المعنى.
والتعريف في"الناس"للعموم.
والإظهار في قوله تعالى: {مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} يقتضي أن ما صدق الموصول غير الذكر المتقدم، إذ لو كان إياه لكان مقتضى الظاهر أن يقال أن يقال لتبينه: للناس. ولذا فالأحسن أن يكون لمراد بما نزل إليهم الشرائع التي أرسل الله بها محمدا صلى الله عليه وسلم فجعل القرآن جامعا لها ومبينا لها ببليغ نظمه ووفرة معانيه، فيكون في معنى قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89].
وإسناد التبيين إلى النبي - عليه الصلاة والسلام - باعتبار أنه المبلغ للناس هذا البيان. والأمم على هذا الوجه لذكر العلة الأصلية في إنزال القرآن.
وفسر {مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} بأنه عين الذكر المنزل، أي أنزلنا إليك الذكر لتبينه للناس فيكون إظهار في مقام الإضمار لإفادة أن إنزال الذكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم هو إنزاله إلى الناس كقوله تعالى: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [ الانبياء:10]
وإنما أتى بلفظة مرتين للإيماء إلى التفاوت بين الإنزالين: فإنزاله إلى النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة، وإنزاله إلى إبلاغه إليهم.
فالمراد بالتبيين على هذا تبيين ما في القرآن من المعاني، وتكون اللام لتعليل بعض

الحكم الحافة بإنزال القرآن فإنها كثيرة، فمنها أن يبينه النبي صلى الله عليه وسلم فتحصل فوائد العلم والبيان، كقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ} [آل عمران:187].
وليس في هذه الآية دليل لمسائل تخصيص القرآن بالسنة، وبيان مجمل القرآن بالسنة، وترجيح دليل السنة المتواترة على دليل الكتاب عند التعارض المفروضات في أصول الفقه إذ كل من الكتاب والسنة هو تبيين النبي صلى الله عليه وسلم إذ هو واسطته.
وعطف {لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} حكمة أخرى من حكم إنزال القرآن، وهي تهيئة تفكر الناس فيه وتأملهم فيما يقربهم إلى رضى الله تعالى. فعلى الوجه الأول في تفسير {لَتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ} يكون المراد أن يتفكروا بأنفسهم في معاني القرآن وفهم فوائده، وعلى الوجه الثاني أن يتفكرون في بيانك ويعوه بأفهامهم.
[45] {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ}
بعد أن ذكرت مساويهم ومكائدهم وبعد تهديدهم بعذاب يوم البعث تصريحا وبعذاب الدنيا تعريضا فرع على ذلك تهديدهم الصريح بعذاب الدنيا بطريق استفهام التعجيب من استرسالهم في المعاندة غير مقدرين أن يقع ما يهددهم به الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فلا يقلعون عن تدبير المكر بالنبي صلى الله عليه وسلم فكانت حالهم في استرسالهم كحال من هم آمنون بأس الله، فالاستفهام مستعمل في التعجيب المشوب بالتوبيخ.
و {الَّذِينَ مَكَرُوا}: هم المشركون.
والمكر تقدم في قوله تعالى: {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} في هذه السورة.
وقوله تعالى: {السَّيِّئَاتِ} صفة لمصدر {مَكَرُوا} محذوفا يقدر مناسبا لتانيث صفته. فالتقدير: مكروا المكرات السيئات، كما وصف المكر بالسيء في قوله تعالى: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر:43]. والتأنيث في مثل هذا يقصد منه الدلالة على معنى الخصلة أو الفعلة، كالغدرة للغدر.
ويجوز أن يضمن {مَكَرُوا} معنى "اقترفوا" فانتصب {السَّيِّئَاتِ} على المفعولية به. ويجوز أن يكون منصوبا على نزع الخافض وهو باء الجر التي معناها الآلة.

والخسف: زلزال شديد تنشق به الأرض فتحث بانشقاقها هوة عظيمة تسقط فيها الديار والناس، ثم تنغلق الأرض على ما دخل فيها. وقد أصاب ذلك أهل بابل، ومكانهم يسمى خسف بابل. وأصاب قوم لوط إذ جعل الله عاليها سافلها. وبردهم مخسوفة اليوم في بحيرة لوط من فلسطين.
وخسف من باب ضرب. ويستعمل قاصرا ومتعديا. يقال: خسفت الأرض، ويقال: خسف الله الأرض، قال تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} [القصص:81]، ولا يتعدى إلى ما زاد على المفعول إلا بحرف التعدية، والأكثر أن يعدى بالباء كما هنا وقوله تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ}، أي جعلناها خاسفة به، فالباء للتعدية، كما يقال: ذهب به.
و {الْعَذَابُ} يعم كل ما فيه تأليم يستمر زمنا، فلذلك عطف على الخسف. وإتيان العذاب إليهم: إصابته إياهم. شبه ذلك بالإتيان.
و {مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} من مكان لا يترقبون أن يأتيهم منه ضر. فمعنى {مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} أنه يأتيهم بغتة لا يستطيعون دفعه، لأنهم لبأسهم ومنعتهم لا يبغتهم ما يحذرونه إذ قد أعدوا له عدته، فكان الآتي من حيث لا يشعرون عذابا غير معهود. فوقع قوله: {مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} كناية عن عذاب لا يطيقون دفعه بحسب اللزوم العرفي، و إلا فقد جاء العذاب عادا من مكان يشعرون به، قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف:24]. وحل بقوم نوح عذاب الطوفان وهم ينظرون، وكذلك عذاب الغرق لفرعون وقومه.
[46،47] {أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ}
الأخذ مستعار للإهلاك قال تعالى: {فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} [الحاقة:10]. وتقدم عند قوله: {أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} في سورة الأنعام [44].
والتقلب: السعي في شؤون الحياة من متاجرة ومعاملة وسفر ومحادثة ومزاحمة. وأصله: الحركة إقبالا وإدبارا، والمعنى: أن يهلكهم الله وهم شاعرون بمجيء العذاب.
وهذا قسيم قوله تعالى: {أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} [سورة النحل:

45]. وفي معناه قوله تعالى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأعراف:98].
وتفريع {فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} اعتراض، أي لا يمنعهم من أخذه إياهم تقلبهم شيء إذ لا يعجزه اجتماعهم وتعاونهم.
و {في} للظرفية المجازية، أي الملابسة، وهي حال من الضمير المنصوب في {يَأْخُذَهُمْ}.
والتخوف في اللغة يأتي مصدر تخوف القاصر بمعنى خاف ومصدر تخوف المتعدي بمعنى تنقص، وهذا الثاني لغة هذيل، وهي من اللغات الفصيحة التي جاء بها القرآن.
فللآية معنيان: إما أن يكون المعنى يأخذهم وهم في حالة توقع نزول العذاب بان يريهم مقدماته مثل الرعد قبل الصواعق، وإما أن يكون المعنى يأخذهم وهم في حالة تنقص من قبل أن يتنقصهم قبل الأخذ بان يكثر فيهم الموتان والفقر والقحط.
وحرف {على} مستعمل في التمكن على كلا المعنيين، ومحل المجرور حال من ضمير النصب في {يَأْخُذَهُمْ} وهم كقولهم: أخذه على غرة.
روى الزمخشري وابن عطية يزيد أحدهما على الآخر: أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - خفي عليه معنى التخوف في هذه الآية وأراد أن يكتب إلى الأمصار، وأنه سأل الناس وهو على المنبر: ما تقولون فيها? فقام شيخ من هذيل فقال: هذه لغتنا. التخوف: التنقص، قال: فهل تعرف العرب ذلك في أشعارها? قال: نعم قال شاعرنا:
تخوف الرحل منها تامكا قردا ... كما تخوف عود النبعة السفن1
ـــــــ
1قلت: نسب في الكشاف هذا البيت إلى زهير وكذلك في الأساس وليس زهير بهذلي ونسبه صاحب اللسان إلى ابن مقبل وليس ابن مقبل بهذلي وكيف وقد قال الشيخ الهذلي لعمر قال شاعرنا فهو هذلي ووقع في تفسير البيضاوي أن الشيخ الهذلي أجاب عمر بقوله نعم:"قال شاعرنا أبو كبير وقال الخفاجي البيت من قصيدة له مذكورة في شعر هذيل فنسبة البيت إلى أبي كبير أثبت وهذا البيت في وصف راحلة أثر الرحل في سنامها فتنقص من وبره.والتامك:بكسر الميم السنام المشرق.والقرد بكسر الراء المتبلد الوبر، والنبعة قصبة شعر النبع تتخذ منه القسي.والسفن بالتحريك البرد.

فقال عمر - رضي الله عنه -: "أيها الناس عليكم بديوانكم لا يضل، قالوا: وما ديواننا? قال: شعر الجاهلية فإن فيه تفسير كتابكم".
وتفرع {فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} على الجمل الماضية تفريع العلة على المعلل. وحرف "إن" هنا مفيد للتعليل ومغن عن وفاء التفريع كما بينه عبد القاهر، فهي مؤكدة لما أفادته الفاء. والتعليل هنا لما فهم من مجموع المذكورات في الآية من أنه تعالى قادر على تعجيل هلاكهم وأنه أمهلهم حتى نسوا بأس الله فصاروا كالآمنين منه بحيث يستفهم عنهم: أهم آمنون من ذلك أم لا.
[48] {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ}
بعد أن نهضت براهين انفراده تعالى بالخلق بما ذكر من تعداد مخلوقاته العظيمة جاء الانتقال إلى دلالة من حال الأجسام التي على الأرض كلها مشعرة بخضوعها لله تعالى خضوعا مقارنا لوجودها وتقلبها آنا فآنا علم بذلك من علمه وجهله من جهله. وأنبأ عنه لسان الحال بالنسبة لما لا علم له، وهو ما خلق الله عليه النظام الأرضي خلقا ينطق لسان حاله بالعبودية لله تعالى، وذلك في أشد الأعراض ملازمة للذوات، ومطابقة لأشكالها وهو الظل.
وقد مضى تفصيل هذا الاستدلال عند قوله تعالى: {وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} في سورة الرعد [15].
فالجملة معطوفة على الجمل التي قبلها عطف القصة على القصة.
والاستفهام إنكاري، أي قد رأوا، والرؤية بصرية.
وقرأ الجمهور {أَوَلَمْ يَرَوْا} بتحتية. وقراه حمزة والكسائي وخلف {أَوَلَمْ يَرَوْا} بالمثناة الفوقية على الخطاب على طريقة الالتفات.
و {مِنْ شَيْءٍ} بيان للإبهام الذي في "ما" الموصولة، وإنما كان بيانا باعتبار ما جرى عليه من الوصف بجملة {يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ} الآية.
والتفيؤ: تفعل من فاء الظل فيئا، أي عاد بعد أن أزاله ضوء الشمس. لعل أصله من فاء إذا رجع بعد مغادرة المكان، وتفيؤ الظلال تنقلها من جهات بعد شروق الشمس وبعد

زوالها.
وتقدم ذكر الظلال عند قوله: {وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} في سورة الرعد.
وقوله: {عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ} ، أي عن جهات اليمين وجهات الشمائل مقصود به إيضاح الحالة العجيبة للظل إذ يكون عن يمين الشخص مرة وعن شماله أخرى، أي إذا استقبل جهة ما ثم استدبرها.
وليس المراد خصوص اليمين والشمال بل كذلك الأمام والخلف، فاختصر الكلام.
وأفرد اليمين، لأن المراد به جنس الجهة كما يقال المشرق. وجمع {وَالشَّمَائِلِ} مرادا به تعدد جنس جهة الشمال بتعدد أصحابها، كما قال: {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} [المعارج:40]. فالمخالفة بالإفراد والجمع تفنن.
ومجيء فعل {يَتَفَيَّأُ} بتحتية في أوله على صيغة الإفراد جرى على أحد وجهين في الفعل إذا كان فاعله جمعا غير جمع تصحيح، وبذلك قرأ الجمهور. وقرأ أبو عمرو ويعقوب {تَتَفَيَّأُ} بفوقيتين على الوجه الآخر.
وأفرد الضمير المضاف إليه "ظلال" مراعاة لفظ {شَيْءٍ} وإن كان في المعنى متعددا، وباعتبار المعنى أضيف إليه الجمع.
و {سُجَّداً} حال من ضمير {ظِلالُهُ} العائد إلى {مِنْ شَيْءٍ} فهو قيد للتفيؤ، أي أن ذلك التفيؤ يقارنه السجود مقارنة الحصول ضمنه. وقد مضى بيان ذلك عند قوله تعالى: {وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} في سورة الرعد.
وجملة {وَهُمْ دَاخِرُونَ} في موضع الحال من الضمير في {ظِلالُهُ} لأنه في معنى الجمع لرجوعه إِلَى {مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ}. وجمع بصيغة الجمع الخاصة بالعقلاء تغليبا لأن في جملة الخلائق العقلاء وهم الجنس الأهم.
والداخر: الخاضع الذليل، أي داخرون لعظمة الله تعالى.
[49،50] {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}
لما ذكر في الآية السابقة السجود القسري ذكر بعده هنا سجود آخر بعضه اختيار وفي

بعضه شبه اختيار.
وتقديم المجرور على فعله مؤذن بالحصر، أي يسجد لله لا لغيره ما في السماوات وما في الأرض، وهو تعريض بالمشركين إذ يسجدون للأصنام.
وأوثرت {ما} الموصولة دون "من" تغليبا لكثرة غير العقلاء.
و {مِنْ دَابَّةٍ} بيان ل {مَا فِي الْأَرْضِ}، إذ الدابة ما يدب على الأرض غير الإنسان.
ومعنى سجود الدواب لله أن الله جعل في تفكيرها الإلهامي التذاذها بوجودها وبما هي فيه من المرح والأكل والشرب، وتطلب الدفع عن نفسها من المتغلب ومن العوارض بالمدافعة أو بالتوقي، ونحو ذلك من الملائمات. فحالها بذلك كحال شاكر تتيسر تلك الملائمات لها، وإنما تيسيرها لها ممن فطرها. وقد تصحب أحوال تنعمها حركات تشبه إيماء الشاكر المقارب للسجود، ولعل من حركاتها ما لا يشعر به الناس لخفائه وجهلهم بأوقاته، وإطلاق السجود على هذا مجاز.
ويشمل {مَا فِي السَّمَاوَاتِ} مخلوقات غير الملائكة، مثل الأرواح، أو يراد بالسماوات الأجواء فيراد بما فيها الطيور والفراش.
وفي ذكر أشرف المخلوقات وأقلها تعريض بذم من نزل من البشر عن مرتبة الدواب في كفران الخالق، وبمدح من شابه من البشر حال الملائكة.
وفي جعل الدواب والملائكة معمولين لـ {يسجد} استعمال للفظ في حقيقته ومجازه.
ووصف الملائكة بأنهم {لا يَسْتَكْبِرُونَ} تعريض ببعد المشركين عن أوج تلك المرتبة الملكية. والجملة حال من {وَالْمَلائِكَةُ}.
وجملة {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ} بيان لجملة {وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ}.
والفوقية في قوله: {مِنْ فَوْقِهِمْ} فوقية تصرف وملك وشرف كقوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18] وقوله: {وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [لأعراف:].
وقوله تعالى: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}، أي يطيعون ولا تصدر منهم مخالفة.
وهنا موضع سجود للقارئ بالاتفاق. وحكمته هنا إظهار المؤمن أنه من الفريق

الممدوح بأنه مشابه للملائكة في السجود لله تعالى.
[51] {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}
لما أشبع القول في إبطال تعدد الآلهة الشائع في جميع قبائل العرب، وأتبع بإبطال الاختلاق على الرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن، نقل الكلام إلى إبطال نوع آخر من الشرك متبع عند قبائل من العرب وهو الإشراك بإلهية أصلين للخير والشر، تقلدته قبائل العرب المجاورة بلاد فارس والساري فيهم سلطان كسرى وعوائدهم، مثل بني بكر بن وائل وبني تميم، فقد دان منهم كثير بالمجوسية، أي المزدكية والمانوية في زمن كسرى أبرويش وفي زمن كسرى أنوشروان، والمجوسية تثبت عقيدة بإلهين: إله للخير وهو النور، وإله للشر وهو الظلمة، فإله الخير لا يصدر منه إلا الخير والأنعام، وإله الشر لا يصدر عنه إلا الشر والآلام، وسموا إله الخير "يزدان"، وسموا إله الشر "اهرمن" 1. وزعموا أن يزدان كان منفردا بالإلهية وكان لا يخلق إلا الخير فلم يكن في العالم إلا الخير، فخطر في نفسه مرة خاطر شر فتولد عنه إله آخر شريك له هو إله الشر، وقد حكى هذا المعري في لزومياته بقوله:
فكر يزدان على غرة ... فصيغ من تكيره أهرمن
ولم يكونوا يجعلون لهذين الأصلين صورا مجسمة، فلذلك لم يكن دينهم من عداد عبادة الطاغوت لاختصاص اسم الطاغوت بالصور والأجسام المعبودة. وهذا الدين من هذه الجهة يشبه الأديان التي لا تعبد صورا محسوسة. وسيأتي الكلام على المجوسية عند تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا} إلى قوله: {وَالْمَجُوسَ} في سورة الحج [170].
ويدل على أن هذا الدين هو المراد التعقيب بآية {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل:53] كما سيأتي.
فقوله تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} عطف قصة على قصة وهو مرتبط بجملة {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36].
ـــــــ
1يزدان بتحية مفتوحة وزاي ساكنة.وأهرمن بهمزة مفتوحة وهاء ساكنة وراء وميم مضمومتين ونون ساكنة.

ومعنى {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ} أنه دعا الناس ونصب الأدلة على بطلان اعتقاده. وهذا كقوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} [الفتح:15] وقوله: {كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ} [الفتح:15].
وصيغة التثنية من قوله: {إِلَهَيْنِ} أكدت بلفظ {اثْنَيْنِ} للدلالة على أن الاثنينية مقصودة بالنهي إبطالا لشرك مخصوص من إشراك المشركين، وأن لا اكتفاء بالنهي عن تعدد الإله بل المقصود النهي عن التعدد الخاص وهو قول المجوس بإلهين. ووقع في"الكشاف"توجيه ذكر {اثْنَيْنِ} بأنه لدفع احتمال إرادة الجنس حقيقة لا مجازا.
وإذ نهوا عن اتخاذ إلهين فقد دل بدلالة الاقتضاء على إبطال اتخاذ آلهة كثيرة.
وجملة {إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} يجوز أن تكون بيانا لجملة {لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ}، فالجملة مقولة لفعل {وَقَالَ اللَّهُ} لأن عطف البيان تابع للمبين كموقع الجملة الثانية في قول الشاعر1:
أقول له ارحل لا تقيمن عندنا
فلذلك فصلت، وبذلك أفيد بالمنطوق ما أفيد قبل بدلالة الاقتضاء.
والضمير من قوله تعالى: {إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} عائد إلى اسم الجلالة في قوله: {وَقَالَ اللَّهُ} ، أي قال الله إنما الله إله واحد، وهذا جري على أحد وجهين في حكاية القول وما في معناه بالمعنى كما هنا، وقوله تعالى حكاية عن عيسى - عليه السلام - {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة: 117] فـ {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} مفسر" أمرتني" وفعل"أمرتني"فيه معنى القول، والله قال له: قل لهم اعبدوا الله ربك وربهم، فحكاه بالمعنى، فقال: ربي.
والقصر في قوله: {إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} قصر موصوف على صفة، أي الله مختص بصفة توحد الإلهية، وهو قصر قلب لإبطال دعوى تثنية الإله.
ويجوز أن تكون جملة {إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} معترضة واقعة تعليلا لجملة {لا تَتَّخِذُوا
ـــــــ
1هذا البيت من شواهد النحو وعلم المعاني وتمام البيت:
ولا فكن في الجهر والسر مسلما
ولا يعرف قائله.

إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} أي نهى الله عن اتخاذ إلهين لأن الله واحد، لأي والله هو مسمى إله فاتخاذ إلهين اثنين قلب لحقيقة الإلهية.
وحصر صفة الوحدانية في علم الجلالة بالنظر إلى أن مسمى ذلك العلم مساو لمسمى إله، إذ الإله منحصر في مسمى ذلك العلم.
وتفريع {فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} يجوز أن يكون تفريعا على جملة {لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} فيكون {فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} من مقول القول، ويكون في ضمير المتكلم من قوله: {فَارْهَبُونِ} التفات من الغيبة إلى الخطاب.
ويجوز أن يكون تفريعا على فعل {وَقَالَ اللَّهُ} فلا يكون من مقول القول، أي قال الله لا تتخذوا إلهين فلا ترهبوا غيري. وليس في الكلام التفات على هذا الوجه.
وتفرع على ذلك قوله تعالى: {فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} بصيغة القصر، أي قصر قلب إضافيا، أي قصر الرهبة التامة منه عليه فلا اعتداد بقدرة غيره على ضر أحد. وهو رد على الذين يرهبون إله الشر فالمقصود هو المرهوب.
والاقتصار على الأمر بالرهبة وقصرها على كونها من الله يفهم منه الأمر بقصر الرغبة عليه لدلالة قصر الرهبة على اعتقاد قصر القدرة التامة عليه تعالى فيفيد الرد على الذين يطعمون في إله الخير بطريق الأولى، وإنما اقتصر على الرهبة لأن شأن المزكية أن تكون عبادتهم عن خوف إله الشر لأن إله الخير هم في أمن منه فإنه مطبوع على الخير.
ووقع في ضمير {فَإِيَّايَ} التفات من الغيبة إلى التكلم لمناسبة انتقال الكلام من تقرير دليل وحدانية الله على وجه كلي إلى تعيين هذا الواحد أنه الله منزل القرآن تحقيقا لتقرير العقيدة الأصلية. وفي هذا الالتفات اهتمام بالرهبة لما في الالتفات من هر فهم المخاطبين. وتقدم تركيب نظيره بدون التفات في سورة البقرة.
واقتران فعل {فَارْهَبُونِ} بالفاء ليكون تفريعا على تفريع فيفيد مفاد التأكيد لأن تعلق فعل" ارهيون "بالمفعول لفظا يجعل الضمير المنفصل المذكور قبله في تقدير معمول لفعل آخر، فيكون التقدير: فإياي ارهبوا فارهبون، أي أمرتكم بأن تقصروا رهبتكم علي فارهبون امتثالا للأمر.
[52] {وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ}.

مناسبة موقع جملة {وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} بعد جملة {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} [النحل:51]. أن الذين جعلوا إلهين جعلوهما النور والظلمة. وإذ كان النور والظلمة مظهرين من مظاهر السماء والأرض كان المعنى: أن ما تزعمونه إلها للخير وإلها للشر هما من مخلوقاته.
وتقديم المجرور يفيد الحصر فدخل جميع ما في السماء والأرض في مفاد لم الملك، فأفاد أن ليس لغيره شيء من المخلوقات خيرها وشرها. فانتفى أن يكون معه إله آخر لأنه لو كان معه إله آخر لكان له بعض المخلوقات إذ لا يعقل إله بدون مخلوقات.
وضمير {لَهُ} عائد إلى اسم الجلالة من قوله: {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ}.
فعطفه على جملة {إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النحل:51] لأن عظمة الإلهية اقتضت الرهبة منه وقصرها عليه، فناسب أن يشار إلى أن صفة المالكية تقتضي إفراده بالعبادة.
وأما قوله {وَلَهُ الدِّينُ وَاصِباً} فالدين يحتمل أن يكون المراد به الطاعة. من قولهم: دانت القبيلة للملك. أي أطاعته، فهو من متممات جملة {وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، لأنه لما قصر الموجودات على الكون في ملكه كان حقيقا بقصر الطاعة عليه، ولذلك قدم المجرور في هذه الجملة على فعله كما وقع في التي قبلها.
ويجوز أن يكون {الدِّينُ} بمعنى الديانة، فيكون تذييلا لجملة {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ}، لأن إبطال دين الشرك يناسبه أن لا يدين الناس إلا بما يشرعه الله لهم، أي هو الذي يشرع لكم الدين لا غيره من أئمة الضلال مثل عمرو بن لحيي، وزرادشت، ومزدك، وماني، قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: من الآية21].
ويجوز أن يكون الدين بمعنى الجزاء كما في قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4]، فيكون إدماجا لإثبات البعث الذي ينكره أولئك أيضا. والمعنى: له ما في السماوات والأرض وإليه يرجع من في السماوات والأرض لا يرجعون إلى غيره ولا ينفعهم يومئذ أحد.
والواصب: الثابت الدائم، وهو صالح للاحتمالات الثلاثة، ويزيد على الاحتمال الثالث لأنه تأكيد لرد إنكارهم البعث.

وتفرع على هاتين الجملتين التوبيخ على تقواهم غيره، وذلك أنهم كانوا يتقون إله الشر ويتقربون إليه ليأمنوا شره
[53-54] {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} عطف خبر على خبر. وهو انتقال من الاستدلال بمصنوعات الله الكائنة في ذات الإنسان وفيما يحيط به من الموجودات إلى الاستدلال بما ساق الله من النعم؛ فمن الناس معرضون عن التدبر فيها وعن شكرها وهم الكافرون، فكان في الأدلة الماضية القصد إلى الاستدلال ابتداء متبوعا بالامتنان.
وتغير الأسلوب هنا فصار المقصود الأول هو الامتنان بالنعم مدمجا فيه الاعتبار بالخلق. فالخطاب موجه إلى الأمة كلها، ولذلك جاء عقبه قوله تعالى: {إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ}.
وابتدئ بالنعم على وجه العموم إجمالا ثم ذكرت مهمات منها.
والخطاب موجه إلى المشركين تذكيرا لهم بأن الله هو ربهم لا غيره لأنه هو المنعم.
وموقع قوله تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} هنا أنه لما أبطل في الآية السابقة وجود إلهين اثنين "أحدهما فعله الخير والآخر فعله الشر" أعقبه هنا بأن الخير والضر من تصرفات الله تعالى، وهو يعطي النعمة وهو كاشف الضر.
والباء للملابسة، أي ما لابسكم واستقر عندكم، و {مِنْ نِعْمَةٍ} لبيان إبهام {مَا} الموصولة.
و "من" في قوله تعالى:ل {فَمِنَ اللَّهِ} ابتدائية، أي واصلة إليكم من الله، أي من عطاء الله، لأن النعمة لا تصدر عن ذات الله ولكن عن صفة قدرته أو عن صفة فعله عند مثبتي صفات الأفعال. ولما كان" ما بكم من نعمة "مفيدا للعموم كان الإخبار عنه بأنه من عند الله مغنيا عن الإتيان بصيغة قصر.
و {ثم} في قوله تعالى: {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ} للتراخي الرتبي كما هو شانها الغالب في عطفها الجمل، لأن اللجأ إلى الله عند حصول الضر أعجب إخبارا من الإخبار

بأن النعم كلها من الله، ومضمون الجملة المعطوفة أبعد في النظر من مضمون المعطوف عليها.
والمقصود: تقرير أن الله تعالى هو مدبر أسباب ما بهم من خير وشر، وأنه لا إله يخلق إلا هو، وإنهم لا يلتجئون إلا إليه إذا أصابهم ضر، وهو ضد النعمة.
ومس الضر: حلوله. استعير المس للحصول الخفيف للإشارة إلى ضيق صبر الإنسان بحيث إنه يجأر إلى الله بحصول أدنى شيء من الضر له. وتقدم استعمال المس في الإصابة الخفيفة في قوله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} [الأنعام: 17]
و {تجأرون} تصرخون بالتضرع. والمصدر: الجؤار، بصيغة أسماء الأصوات.
وأتبع هذه بنعمة أخرى وهي نعمة كاشف الضر عن الناس بقوله تعالى: {ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ} الآية.
و {ثُمَّ} للترتيب الرتبي كما هو شانها في عطف الجمل. وجيء بحرف {ثُمّ} لأن مضمون الجملة المعطوفة أبعد في النظر من مضمون المعطوف عليها فإن الإعراض عن المنعم بكشف الضر وإشراك غيره به في العبادة أعجب حالا وأبعد حصولا من اللجأ إليه عند الشدة.
والمقصود تسجيل كفران المشركين، وإظهار رأفة الله بالخلق بكشف الضر عنهم عند التجائهم إليه مع علمه بان من أولئك من يشرك به ويستمر على شركه بعد كشف الضر عنه.
و {إِذَا} الأولى مضمنة معنى الشرط، وهي ظرف. و {إِذَا} الثانية فجائية. والإتيان بحرف المفاجأة للدلالة على إسراع هذا الفريق بالرجوع إلى الشرك وأنه لا يتريث إلى أن يبعد العهد بنعمة كشف الضر عنه بحيث يفجأون بالكفر دفعة دون أن يترقبه منهم مترقب، فكان الفريق المعني في قوله تعالى: {إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ} فريق المشركين.
[55] {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}.
لام التعليل متعلقة بفعل {يُشْرِكُونَ} [النحل:54] الذي هو من جواب قوله تعالى: {إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ} [النحل:54]. والكفر هنا كفر النعمة، ولذلك

علق به قوله تعالى: {بِمَا آتَيْنَاهُمْ} أي من النعم. وكفر النعمة ليس هو الباعث على الإشراك فإن إشراكهم سابق على ذلك وقد استصحبوه عقب كشف الضر عنهم، ولكن شبهت مقارنة عودهم إلى الشرك بعد كشف الضر عنهم بمقارنة العلة الباعثة على عمل لذلك العمل. ووجه الشبه مبادرتهم لكفر النعمة دون تريث.
فاستعير لهذه المقارنة لام التعليل، وهي استعارة تبعية تمليحية تهكمية ومثلها كثير الوقوع في القرآن. وقد سمى كثير من النحاة هذه اللام لام العاقبة، ومثالها عندهم قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: من الآية8]، وقد بيناها في مواضع آخرها عند قوله تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} في هذه السورة [ النحل: من الآية25]
وضمير {لِيَكْفُرُوا} عائد إلى {فَرِيقٌ} [النحل:54] باعتبار دلالته على جمع من الناس.
والإيتاء: الإعطاء. وهو مستعار للإنعام بالحالة النافعة، لأن شان الإعطاء أن يكون تمكينا بالمأخوذ المحبوب.
وعبر بالموصول {بما آتيناهم} لما تؤذن به الصلة من كونه نعمة تفظيعا لكفرانهم بها، لأن كفران النعمة قبيح عند جميع العقلاء.
وفرع عليه مخاطبتهم بأمرهم بالتمتع أمر إمهال وقلة اكتراث بهم وهو في معنى التخلية.
والتمتع: الانتفاع بالمتاع. والمتاع الشيء الذي ينتفع به انتفاعا محبوبا ويسر به. ويقال: تمتع بكذا واستمتع. وتقدم المتاع في ىخر سورة براءة.
والخطاب للفريق الذين يشركون بربهم على طريقة الالتفات. والأظهر أنه مقول لقول محذوف. لأنه جاء مفرعا على كلام خوطب به الناس كلهم كما تقدم، فيكون المفرع من تمام ما تفرع عليه. وذلك ينافي الالتفات الذي يقتضي أن يكون مرجع الضمير إلى مرجع ما قبله.
والمعنى: فتقول تمتعوا بالنعم التي أنتم فيها إلى أمد.
وفرع عليه التهديد بأنهم سيعلمون عاقبة كفران النعمة بعد زوال التمتع. وحذف

مفعول {تَعْلَمُونَ} لظهوره من قوله تعالى: {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ} , أي تعلمون جزاء كفركم.
[56] {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ}
عطف حالة من أحوال كفرهم لها مساس بما أنعم الله عليهم من النعمة، فهي معطوفة على جملة {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [ النحل: من الآية53] ويجوز أن تكون حالا من الضمير المجرور في قوله تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ} على طريق الالتفات. ويجوز أن تكون معطوفة على {يُشْرِكُونَ} من قوله تعالى: {إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [ النحل: 54]
ما حكى هنا هو تفاريع دينهم الناشئة عن إشراكهم والتي هي من تفاريع كفران نعمة ربهم، إذ جعلوا في أموالهم حقا للأصنام التي لم ترزقهم شيئا. وقد مر ذلك في سورة الأنعام عند قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ} [الأنعام: 136].
إلا أنه اقتصر هنا على ذكر ما جعلوه لشركائهم دون ما جعلوه لله لأن المقام هنا لتفصيل كفرانهم النعمة، بخلاف ما في سورة الأنعام فهو مقام تعداد أحوال جاهليتهم وإن كان كل ذلك منكرا عليهم، إلا أن بعض الكفر أشد من بعض.
والجعل: التصيير والوضع. تقول: جعلت لك في مالي كذا. وجيء هنا بصيغة المضارع للدلالة على تجدد ذلك منهم واستمراره، بخلاف قوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ} [النحل: 38] بأنه حكاية قضية مضت من عنادهم وجدالهم في أمر البعث.
ومفعول {يَعْلَمُونَ} محذوف لظهوره، وهو ضمير "ما"، أي لا يعلمونه. ومثل حذف هذا الضمير كثير في الكلام.
وما صدق صلة {لا يَعْلَمُونَ} وهو الأصنام، وإنما عبر عنها بهذه الصلة زيادة في تفظيع سخافة آرائهم، إذ يفرضون في أموالهم عطاء يعطونه لأشياء لا يعلمون حقائقها بله مبلغ ما ينالهم منها، وتخيلات يتخيلونها ليست في الوجود ولا في الإدراك ولا من الصلاحية للانتفاع في شيء، كما قال تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ

مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} [لنجم: من الآية23]، وضمير {يَعْلَمُونَ} عائد إلى معاد ضمير {يَجْعَلُونَ}.
ووصف النصب بأنه {مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} لتشنيع ظلمهم إذ تركوا المنعم فلم يتقربوا إليه بما يرضيه في أموالهم مما أمرهم بالإنفاق فيه كإعطاء المحتاج، وأنفقوا ذلك في التقرب إلى أشياء موهومة لم ترزقهم شيئا.
ثم وجه الخطاب إليهم على طريقة الالتفات لقصد التهديد. ولا مانع من الالتفات هنا لعدم وجود فاء التفريع كما في قوله تعالى: {فَتَمَتَّعُوا} [ النحل: 55]
وتصدير جملة التهديد والوعيد بالقسم لتحقيقه، إذ السؤال الموعود به يكون يوم البعث وهم ينكرونه فناسب أن يؤكد.
والقسم بالتاء يختص بما يكون المقسم عليه أمرا عجيبا ومستغربا، كما تقدم في قوله تعالى: {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ} [يوسف: 73]. وسيأتي في قوله تعالى: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} [الانبياء: 57]. فالإتيان في القسم هنا بحرف التاء مؤذن بأنهم يسألون سؤالا عجيبا بمقدار غرابة الجرم المسؤول عنه.
والسؤال كناية عما يترتب عليه من العقاب، لأن عقاب العادل يكون في العرف عقب سؤال المجرم عما اقترفه إذ لعل له ما يدفع به نفسه، فأجرى الله أمر الحساب يوم البعث على ذلك السنن الشريف. والتعبير عنه ب {كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ} كناية عن استحقاقهم العقاب لأن الكذب على الله جريمة.
والإتيان بفعل الكون وبالمضارع للدلالة على أن الافتراء كان من شأنهم، وكان متجددا ومستمرا منهم، فهو أبلغ من أن يقال: عما تفترون، وعما افتريتم.
[57] {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ}
عطف على جملة {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ}.
هذا استدلال بنعمة الله عليهم بالبنين والبنات، وهي نعمة النسل، كما أشار إليه قوله تعالى: {وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} أي ما يشتهون مما رزقناهم من الذرية.
وأدمج في هذا الاستدلال وهذا الامتنان ذكر ضرب شنيع من ضروب كفرهم، وهو

افتراؤهم: أن زعموا أن الملائكة بنات الله من سروات الجن، كما دل عليه قوله تعالى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً} [الصافات: 158]. وهو اعتقاد قبائل كنانة وخزاعة.
والجعل: هنا النسبة بالقول.
و {سُبْحَانَهُ} مصدر نائب عن الفعل، وهو منصوب على المفعولية المطلقة، وهو في محل جملة معترضة وقعت جوابا عن مقالتهم السيئة التي تضمنتها حكاية {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ} إذ الجعل فيه جعل القول، فقوله: {سُبْحَانَهُ} مثل قولهم: حاش لله ومعاذ لله، أي تنزيها له عن أن يكون له ذلك.
وإنما قدم {سُبْحَانَهُ} على قوله {وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} ليكون في أن التنزيه عن هذا الجعل لذاته وهو نسبة البنوة لله، لا عن جعلهم له خصوص البنات دون الذكور الذي هو أشد فظاعة، كما دل عليه قوله تعالى: {ولهم ما يشتهون} ، لأن ذلك زيادة في التفظيع، فقوله: {وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} جملة في موضع الحال. وتقديم الخبر في الجملة للاهتمام بهم في ذلك على طريقة التهكم.
وما صدق {مَا يَشْتَهُونَ} الأبناء الذكور بقرينة مقابلته بالبنات، وقوله تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى} [النحل: من الآية58]، أي والحال أن لهم ذكور من أبنائهم فهلا جعلوا لله بنين وبنات. وهذا ارتقاء في إفساد معتقداتهم بحسب عرفهم وإلا فإنه بالنسبة إلى الله سواء للاستواء في التولد الذي هو من مقتضى الحدوث المنزه عنه واجب الوجود.
وسيخص هذا بالإبطال في قوله تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ} [ النحل: 62]. ولهذا اقتصر هنا على لفظ البنات الدال على الذوات، واقتصر على أنهم يشتهون الأبناء، ولم يتعرض إلى كراهتهم البنات وإن كان ذلك مأخوذا بالمفهوم لأن ذلك درجة أخرى من كفرهم ستخص بالذكر.
[58-59] {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} الواو في قوله تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى} يجوز أن تكون واو الحال.
ويجوز أن تكون الجملة معترضة والواو اعتراضية اقتضى الإطالة بها أنها من تفاريع

شركهم. وهذا أولى من أن تجعل معطوفة على جملة {وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} [ النحل: من الآية57]. التي هي في موضع الحال، لأن ذلك يفيت قصدها بالعد. وهذا القصد من مقتضيات المقام وإن كان مال الاعتبارين واحد في حاصل المعنى.
والتعبير عن الإعلام بازدياد الأنثى بفعل {بُشِّرَ} في موضعين لأنه كذلك في نفس الأمر إذا ازدياد المولود نعمة على الوالد لما يترقبه من التأنس به ومزاجه والانتفاع بخدمته وإعانته عند الاحتياج إليه، ولما فيه من تكثير نسل القبيلة الموجب عزتها، وآصرة الصهر. ثم إن هذا مع كونه بشارة في نفس الأمر فالتعبير به يفيد تعريضا بالتهكم بهم إذ يعدون البشارة مصيبة وذلك من تحريفهم الحقائق. والتغريض من أقسام الكناية والكناية تجامع الحقيقة.
والباء في {بِالْأُنْثَى} لتعدية فعل البشارة وعلقت بذات الأنثى. والمراد: بولادتها، فهو على حذف مضاف معلوم.
وفعل {ظَلَّ} من أفعال الكون أخوات كان التي تدل على اتصاف فاعلها بحالة لازمة فلذلك تقتضي فاعلا مرفوعا يدعى اسما وحالا لازما له منصوب يدعى خبر لأنه شبيه بخبر المبتدإ. وسماها النحاة لذلك نواسخ لأنها تعمل فيها لولاها لكان مبتدأ وخبر فلما تغير معها حكم الخبر سميت ناسخة لرفعه،كما سميت "إن" وأخواتها و "ظن" وأخواتها كذلك. وهو اصطلاح تقريبي وليس برشيق.
ويستعمل {ظَلّ} بمعنى صار. وهو المراد هنا.
واسوداد الوجه: مستعمل في لون وجه الكئيب إذ ترهقه غبرة، فشبهت بالسواد مبالغة.
والكظيم: الغضبان المملوء حنقا. وتقدم في قوله تعالى: {فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف: 84]، أي أصبح حنقا على امرأته. وهذا من جاهليتهم الجهلاء وظلمهم، إذ يعاملون المرأة معاملة من لو كانت ولادة الذكور باختيارها، ولماذا لا يحنق على نفسه إذ يلقح امرأته بأنثى، قالت إحدى نسائهم أنشده الأصمعي تذكر بعلها وقد هجرها لأنها تلد البنات:
يغضب إن لم نلد البنينا ... وإنما نعطي الذي أعطينا

والتواري: الاختفاء،مضارع واره، مشتق من الوراء وهو جهة الخلف. و {مِنْ} في قوله تعالى: {مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ} للابتداء المجازي المفيد معنى التعليل، لأنه يقال: فعلت كذا من أجل كذا، قال تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ} [الأنعام: 151]، أي يتوارى من أجل تلك البشارة.
وجملة {أَيُمْسِكُهُ} بدل اشتمال من جملة {يَتَوَارَى}، لأنه يتوارى حياء من الناس، فيبقى متواريا من قومه حتى تنسى قضيته. هو معنى قوله تعالى: {أَيُمْسِكُهُ} الخ، أي يتوارى يتردد بين أحد هذين الأمرين بحيث يقول في نفسه: أأمسكه على هون أم أدسه في التراب. والمراد: التردد في جواب هذا الاستفهام.
والهون: الذل. وتقدم عند قوله تعالى: {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} [الأنعام: 93].
والدس: إخفاء الشيء بين أجزاء شيء آخر كالدفن. والمراد: الدفن في الأرض وهو الوأد. وكانوا يئدون بناتهم، بعضهم يئد بحدثان الولادة، وبعضهم يئد إذا يفعت الأنثى ومشت وتكلمت، أي حين تظهر للناس لا يمكن إخفاؤها. وذلك من أفظع أعمال الجاهلية، وكانوا متمالئين عليه ويحسبونه حقا للأب فلا ينكرها الجماعة على الفاعل.
ولذلك سماه الله حكما بقوله تعالى: {أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}. وأعلن ذمه بحرف {أَلا} لأنه جور عظيم قد تمالأوا عليه وخولوه للناس ظلما للمخلوقات، فأسند إلى ضمير الجماعة مع أن الكلام كان جاريا على فعل واحد غير معين قضاء لحق هذه النكتة.
[60] {لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
هذه الجملة معترضة جوابا عن مقالتهم التي تضمنها قوله تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى} [النحل:58] فإن ارتباطها بجملة {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ} [النحل: 57] كما تقدم، فهي بمنزلة جملة {سُبْحَانَهُ} ,غير أن جملة {سُبْحَانَهُ} جواب بتنزيه الله عما نسبوه إليه، وهذه جواب بتحقيرهم على ما يعاملون به البنات مع نسبتهم إلى الله هذا الصنف المحقر عندهم.

وقد جرى الجواب على استعمال العرب عندما يسمعون كلاما مكروها أو منكرا أن يقولوا للناطق به: بفيك الكثكث، ويقولون: تربت يداك، وتربت يمينك، واخسأ.
وكذلك جاء قوله تعالى: {لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ} شتما لهم.
والمثل: الحال العجيبة في الحسن والقبح، وإضافة إلى السوء للبيان.
وعرفوا بـ"الذين لا يؤمنون بالآخرة" لأنم اشتهروا بهذه الصلة بين المسلمين، كقوله تعالى: {فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [النحل:22]، وقوله: {بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ} [سبأ:8].
وجملة {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} عطفت على جملة {لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ} لأن بها تكملة إفساد قولهم وذم رأيهم، إذ نسبوا إلى الله الولد وهو من لوازم الاحتياج والعجز. ولما نسبوا إليه ذلك خصوه بأخس الصنفين عندهم، كما قال تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ} [النحل:62]، وإن لم يكن ذلك في الواقع ولكن هذا جرى على اعتقادهم ومؤاخذة لهم برأيهم.
و {الْأَعْلَى} تفضيل، وحذف المفضل عليه لقصد العموم، أي أعلى من كل مثل في العلو بقرينة المقام.
والسوء: بفتح السين مصدر ساءه، إذا عمل معه ما يكره. والسوء بضم السين الاسم، تقدم في قوله تعالى: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} في سورة البقرة [49].
والمثل تقدم تفصيل معانيه عند قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} في سورة البقرة [17].
و {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} تقدم عند قوله تعالى: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} في سورة البقرة [209].
[61] {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ}
هذا اعتراض في أثناء التوبيخ على كفرهم الذي من شرائعه وأد البنات. فأما وصف

جعلهم لله البنات اللاتي يأنفون منها لأنفسهم، ووصف ذلك بأنه حكم سوء، ووصف حالهم بأنها مثل سوء، وعرفهم بأخص عقائدهم أنهم لا يؤمنون بالآخرة، أتبع ذلك بالوعيد على أقوالهم وأفعالهم.
والظلم: الاعتداء على الحق. وأعظمه الاعتداء على حق الخالق على مخلوقاته، وهو حق إفراده بالعبادة، ولذلك كان الظلم في القرآن إذا لم يعد إلى مفعول نحو {ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [آل عمران:117] مرادا منه أعظم الظلم وهو الشرك حتى صار ذلك حقيقة عرفية في مصطلح القرآن، وهو المراد هنا من هذا الإنذار. وأما الظلم الذي هو دون الإشراك بالله فغير مراد هنا لأنه مراتب متفاوتة كما يأتي قريبا فلا يقتضي عقاب الاستئصال على عمومه.
والتعريف في {الناس} يحمل على تعريف الجنس ليشمل جميع الناس. لأن ذلك أنسب بمقام الزجر، فليس قوله تعالى: {الناس} مرادا به خصوص المشركين من أهل مكة الذين عادت عليهم الضمائر المتقدمة في قوله: {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ} [النحل:55] وما بعده من الضمائر، وبذلك لا يكون لفظ {الناس} إظهار في مقام الإضمار.
وضمير {عليها} صادق على الأرض وإن لم يجر لها ذكر في الكلام فإن المقام دال عليها. وذلك استعمال معروف في كلامهم كقوله تعالى: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [صّ:32] يعني الشمس، ويقولون: أصبحت باردة، يريدون الغداة، ويقول أهل المدينة: ما بين لابتيها أحد يفعل كذا، يريدون لابتي المدينة.
والدابة: اسم لما يدب على الأرض، أي يمشي، وتأنيثه بتأويل ذات. وخص اسم {دابة} في الاستعمال بالإطلاق على ما عدا الإنسان مما يمشي على الأرض.
وحرف {لَوْ} حرف امتناع لامتناع، أي حرف شرط يدل على امتناع وقوع جوابه لأجل امتناع وقوع شرطه. وشرط {لَوْ} ملازم للزمن الماضي فإذا وقع بعد {لَوْ} مضارع انصرف إلى الماضي غالبا.
فالمعنى: لو كان الله مؤاخذا الخلق على شركهم لأفناهم من الأرض وأفنى الدواب معهم، أي ولكنه لم يؤاخذهم.
ودليل انتفاء شرط {لَوْ} هو انتفاء جوابها، ودليل انتفاء جوابها هو المشاهدة، فإن الناس والدواب ما زالوا موجودين على الأرض.

ووجه الملازمة بين مؤاخذة الظالمين بذنوبهم وبين إفناء الناس غير الظالمين وإفناء الدواب أن الله خلق الناس ليعبدوه، أي ليعترفوا له بالإلهية والوحدانية فيها، قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذريات:56]،
وأن ذلك مودع في الفطرة لقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:172].
فنعمة الإيجاد تقضي على العاقل أن يشكر موجده، فإذا جحد وجوده أو جحد انفراده بالإلهية فقد نقض العهد الذي وجد على شرطه، فاستحق المحو من الوجود بالاستئصال والإفناء.
وبذلك تعين أن المراد من الظلم في قوله تعالى: {بِظُلْمِهِمْ} الإشراك أو التعطيل. وأما ما دون ذلك من الاعتداء على حق الله بمعصية أمره، أو على حقوق المخلوقات باعتصابها فهو مراتب كثيرة، منها اعتداء أحد على وجود إنسان آخر محترم الحياة فيعدمه عمدا، فذلك جزاؤه الإفناء لأنه أفنى مماثله، ولا يتعداه إلى إفناء من معه، وما دون ذلك من الظلم له عقاب دون ذلك، فلا يستحق شيء غير الشرك الإهلاك، ولكن شأن العقاب أن يقصر على الجاني.
فوجه اقتضاء العقاب على الشرك إفناء جميع المشركين ودوابهم أن إهلاك الظالمين لا يحصل إلا بحوادث عظيمة لا تتحدد بمساحة ديارهم، لأن أسباب الإهلاك لا تتحدد في عادة نظام هذا العالم، فلذلك يتناول الإهلاك الناس غير الظالمين ويتناول دوابهم.
وإذ قد كان الظلم، أي الإشراك لم تخل منه الأرض لزم من إهلاك أهل الظلم سريان الإهلاك إلى جميع بقاع الأرض فاضمحل الناس والدواب فيأتي الفناء في قرون متوالية من زمن نوح مثلا، فلا يوجد على الأرض دابة في وقت نزول الآية.
فأما من عسى أن يكون بين الأمة المشركة من صالحين فإن الله يقدر للصالحين أسباب النجاة بأحوال خارقة للعادة كما قال تعالى: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الزمر:61]. وقد أخبر الله تعالى بأنه نجي هودا والذين آمنوا معه، وأخبر بأنه نجى أنبياء آخرين. وكفاك نجاة نوح - عليه السلام - والذين آمنوا معه من الطوفان في السفينة.
وقد دل قوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} أن تأخيرهم متفاوت

الآجال، ففي مدد تلك الآجال تبقى أقوام كثيرة تعمر بهم الأرض، فذلك سبب بقاء أمم كثيرة من المشركين ومن حولهم.
واقتضى قوله تعالى: {مِنْ دَابَّةٍ} إهلاك دواب الناس معهم لو شاء الله ذلك، لأن استئصال أمة يشتمل على استئصال دوابها، لأن الدواب خلقت لنفع الناس فلا بدع أن يستأصلها الله إذا استأصل ذويها.
والاقتصار على ذكر دابة في هذه الآية إيجاز، لأنه إذا كان ظلم الناس مفضيا إلى استئصال الدواب كان العلم بأنه مفض إلى استئصال الظالمين حاصلا بدلالة الاقتضاء.
وهذا في عذاب الاستئصال وأما ما يصيب الناس من المصائب والفتن الوارد فيه قوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25] فذلك منوط بأسباب عادية، فاستثناء الصالحين يقتضي دواليب كثيرة من دواليب النظام الفطري العام، وذلك لا يريد الله تعطيله لما يستتبع تعطيله من تعطيل مصالح عظيمة والله أعلم بذلك.
فقد جاء في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا أراد الله بقوم عذابا أصاب العذاب من كان فيهم ثم يبعثون على نياتهم"، أي يكون للمحسن الذي أصابه العذاب تبعا جزاء على ما أصابه من مصيبة غيره. وإنما الذي لا ينال البريء هو العقاب الأخروي الذي جعله الله جزاء على التكليف، وهو معنى قوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164].
وفي هذه الآية إشارة إلى أن الدواب التي على الأرض مخلوقة لأجل انتفاع الإنسان، فلذلك لم يكن استعمال الإنسان إياها فيما تصلح له ظلما لها، ولا قتلها لأكلها ظلما لها.
والمؤاخذة: الأخذ المقصود منه الجزاء، فهو أخذ شديد، ولذلك صيغت له صيغة المفاعلة الدالة على الكثرة، فدل على أن المؤاخذة المنتفية بـ {لو} هي الأخذ العاجل المناسب للمجازاة، لأن شأن الجزاء في العرف أن لا يتأخر عن وقت حصول الذنب.
ولهذا جاء الاستدراك بقوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً}. فموقع الاستدراك هنا أنه تعقيب لقوله تعالى: {مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ}.
والأجل: المدة المعينة لفعل ما. والمسمى: المعين، لأن التسمية تعيين الشيء

وتمييزه، وتسمية الآجال تحديدها.
وتقدم نظير هذه عند قوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} في سورة الأعراف [34].
[62] {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ}
هذا ضغث على إبالة من أحوالهم في إشراكهم تخالف قصة قوله تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ} [النحل:57] باعتبار ما يختص بهذه القصة من إضافتهم الأشياء المكروهة عندهم إلى الله مما اقتضته كراهتهم البنات بقوله تعالى: {وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} [النحل:57]، فكان ذلك الجعل ينطوي على خصلتين من دين الشرك، وهما: نسبة البنوة إلى الله، ونسبة أخس أصناف الأبناء في نظرهم إليه، فخصت الأولى بالذكر بقوله: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ} مع الإيماء إلى كراهتهم البنات كما تقدم. وخصت هذه بذكر الكراهية تصريحا، ولذلك كان الإتيان بالموصول والصلة {مَا يَكْرَهُونَ} هو مقتضى المقام الذي هو تفظيع قولهم وتشنيع استئثارهم. وقد يكون الموصول للعموم فيشير إلى أنهم جعلوا لله أشياء يكرهونها لأنفسهم مثل الشريك في التصرف؛ وأشياء لا يرضونها لآلهتهم ونسبوها لله كما أشار إليه قوله تعالى: {فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الأنعام:136].
وفي"الكشاف":"يجعلون لله أرذل أموالهم ولأصنامهم أكرمها". فهو مراد عموم الموصول، فتكون هذه القصة أعم من قصة قوله تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ}، ويكون تخصيصها بالذكر من جهتين: جهة اختلاف الاعتبار، وجهة زيادة أنواع هذا الجعل.
وجملة {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ} عطف قصة على قصة أخرى من أحوال كفرهم.
ومعنى {تَصِفُ} تذكر بشرح وبيان وتفصيل، حتى كأنها تذكر أوصاف الشيء. وحقيقة الوصف: ذكر الصفات والحلي. ثم أطلق على القول المبين المفصل. قال في "الكشاف" في الآية الآتية في أواخر هذه السورة: "هذا من فصيح الكلام و بليغه. جعل القول كأنه عين الكذب فإذا نطقت به ألسنتهم فقد صورت الكذب بصورته، كقولهم: وجهها يصف الجمال، وعينها تصف السحر"اهـ.

وقد تقدم في قوله تعالى: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} في سورة الأنعام [100]. وسيأتي في آخر هذه السورة {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} [النحل:116]. ومنه قول المعري:
سرى برق المعرة بعد وهن ... فبات برامة يصف الكلالا
أي يشكو الإعياء من قطع مسافة طويلة في زمن قليل، وهو من بديع استعاراته.
والمراد من هذا الكذب كل ما يقولونه من أقوال خاصتهم ودهمائهم باعتقاد أو تهكم. فمن الأول قول العاصي بن وائل المحكي في قوله تعالى: {وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً} [مريم:77] وفي قوله تعالى: {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} [فصلت:50]. ومن الثاني قولهم في البلية: أن صاحبها يركبها يوم القيامة لكيلا يعيي.
وانتصب {الْكَذِبَ} على أنه مفعول {تَصِفُ}.
و {أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى} بدل من {الْكَذِبَ} أو {الْحُسْنَى} صفة لمحذوف، أي الحالة الحسنى.
وجملة {لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ} جواب عن قولهم المحكي. ومعنى لا جرم لا شك، أي حقا. وتقدم في سورة هود.
و {مُفْرِطُونَ} - بكسر الراء المخففة - في قراءة نافع: اسم فاعل من أفرط، إذا بلغ غاية شيء ما، أي مفرطون في الأخذ من عذاب النار.
وقراه أبو جعفر - بكسر الراء مشددة - من فرط المضاعف. وقراه البقية بفتح الراء مخففة على زنة اسم المفعول، أي مجعولون فرطا بفتحتين وهو المقدم إلى الماء ليسقي.
والمراد: أنهم سابقون إلى النار معجلون إليها لأنهم أشد أهل النار استحقاقا لها، وعلى هذا الوجه يكون إطلاق الإفراط على هذا المعنى استعارة تهكمية كقول عمرو بن كلثوم:
فعجلنا القرى أن تشتمونا
أراد فبادرنا بقتالكم حين نزلتم بنا مغيرين علينا.

وفيه مع ذكر النار في مقابلتها محسن الطباق. على أن قراءة نافع تحتمل التفسير بهذا أيضا لجواز أن يقال: أفرط إلى الماء إذا تقدم له.
[63] {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
استئناف ابتدائي داخل في الكلام الاعتراضي قصد منه تنظير حال المشركين المتحدث عنهم وكفرهم في سوء أعمالهم وأحكامهم بحال الأمم الضالة من قبلهم الذين استهواهم الشيطان من الأمم البائدة مثل عاد وثمود، والحاضرة كاليهود والنصارى.
ووجه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم لقصد إبلاغه إلى أسماع الناس فإن القرآن منزل لهدي الناس، فتأكيد الخبر بالقسم منظور فيه إلى المقصودين بالخبر لا إلى الموجه إليه الخبر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يشك في ذلك.
ومصب القسم هو التفريع في قوله تعالى: {فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ}.
وأما الإرسال إلى أمم من قبلهم فلا يشك فيه المشركون. وشأن التاء المثناة أن تقع في قسم على مستغرب مصب القسم هنا هو المفرد بقوله تعالى: {فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} لأن تأثير تزيين الشيطان لهم أعمالهم بعدما جاءهم من إرشاد رسلهم أمر عجيب. وتقدم الكلام على حرف تاء القسم آنفا عند قوله تعالى: {تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ} [النحل:56].
وجملة {فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} معطوفة على جملة جواب القسم.والتقدير: أرسلنا فزين لهم الشيطان أعمالهم.
وتزيين الشيطان أعمالهم كناية عن المعاصي. فمن ذلك عدم الإيمان بالرسل وهو كمال التنظير. ومنها الابتداعات المنافية لما جاءت به الرسل عليهم السلام مثل ابتداع المشركين البحيرة والسائبة. والمقصود: أن المشركين سلكوا مسلك من قبلهم من الأمم التي زين لهم الشيطان أعمالهم.
وجملة {فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ} يجوز أن تكون مفرعة على جملة القسم بتمامها، على أن يكون التفريع هو المقصود من جملة الاستئناف للتنظير؛ فيكون ضمير {وَلِيُّهُمُ} عائدا إلى المنظرين بقرينة السياق. ولا مانع من اختلاف معادي ضميرين متقاربين مع القرينة، كقوله

تعالى: {وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} [الروم:9].
والمعنى: فالشيطان ولي المشركين اليوم، أي متولي أمرهم كما كان ولي الأمم من قبلهم إذ زين لهم أعمالهم، أي لا ولي لهم اليوم غيره ردا على زعمهم أن لهم الحسنى. ويكون في الكلام شبه الاحتباك. والتقدير: لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فكان وليهم حينئذ، وهو ولي المشركين اليوم يزين لهم أعمالهم كما كان ولي من قبلهم.
وقوله {اليوم} مستعمل في زمان معهود بعهد الحضور، أي فهو وليهم الآن. وهو كناية عن استمرار ولايته لهم إلى زمن المتكلم مطلقا بدون قصد، لما يدل عليه لفظه من الوقت الذي من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
وهو منصوب على الظرفية للزمان الحاضر. وأصله: اليوم الحاضر، وهو اليوم الذي أنت فيه. وتقدم عند قوله تعالى: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} في سورة العقود [3].
ولا يستعمل في يوم مضى معرفا باللام إلا بعد اسم الإشارة، نحو: ذلك اليوم، أو مثل: يومئذ.
[64] {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}
عطف على جملة القسم. والمناسبة أن القرآن أنزل لإتمام الهداية وكشف الشبهات التي عرضت للأمم الماضية والحاضرة فتركت أمثالها في العرب وغيرهم.
فلما ذكرت ضلالاتهم وشبهاتهم عقب ذلك ببيان الحكمة في إرسال محمد صلى الله عليه وسلم وإنزال القرآن إليه، فالقرآن جاء مبينا للمشركين ضلالهم بيانا لا يترك للباطل مسلكا إلى النفوس، ومفصحا عن الهدى إفصاحا لا يترك للحيرة مجالا في العقول، ورحمة للمؤمنين بما جازاهم عن إيمانهم من خير الدنيا والآخرة.
وعبر عن الضلال بطريقة الموصولية {الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ} للإيماء إلى أن سبب الضلال هو اختلافهم على أنبيائهم، فالعرب اختلفت ضلالتهم في عبادة الأصنام، عبدت كل قبيلة منهم صنما، وعبد بعضهم الشمس والكواكب، واتخذت كل قبيلة لنفسها أعمالا يزعمونها دينا صحيحا. واختلفوا مع المسلمين في جميع ذلك الدين.

والإتيان بصيغة القصر في قوله تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ} لقصد الإحاطة بالأهم من غاية القرآن وفائدته التي أنزل لأجلها. فهو قصر ادعائي ليرغب السامعون في تلقيه وتدبره من مؤمن وكافر كل بما يليق بحاله حتى يستووا في الاهتداء.
ثم إن القصر يعرض بتفنيد أقوال من حسبوا من المشركين أن القرآن أنزل لذكر القصص لتعليل الأنفس في الأسمار ونحوها حتى قال مضلهم: أنا آتيكم بأحسن مما جاء به محمد، آتيكم بقصة "رستم" و "اسفنديار". فالقرآن أهم مقاصده هذه الفوائد الجامعة لأصول الخير، وهي كشف الجهالات والهدى إلى المعارف الحق وحصول أثر ذينك الأمرين. وهو الرحمة الناشئة عن مجانبة الضلال وإتباع الهدى.
وأدخلت لام التعليل على فعل"تبين"الواقع موقع المفعول لأجله لأنه من فعل المخاطب لا من فعل فاعل {أَنْزَلْنَا}، فالنبي هو المباشر للبيان بالقرآن تبليغا وتفسيرا. فلا يصح في العربية الإتيان بالتبيين مصدرا منصوبا على المفعولية لأجله إذ ليس متحدا مع العامل في الفاعل، ولذلك خولف في المعطوف فنصب {وَهُدىً وَرَحْمَةً} لأنهما من أفعال منزل القرآن، فالله هو الهادي والراحم بالقرآن، وكل من البيان والهدى والرحمة حاصل بالقرآن فآلت الصفات الثلاث إلى أنها صفات للقرآن أيضا.
والتعبير بـ {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} دون للمؤمنين، أو للذين آمنوا، للإيماء إلى أنهم الذين الإيمان كالسجية لهم والعادة الراسخة التي تتقوم بها قوميتهم، كما تقدم في قوله تعالى: {لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} في سورة البقرة [164].
وهاته الآية بمنزلة التذييل للعبر والحجج الناشئة عن وصف أحوال المخلوقات ونعم الخالق على الناس المبتدئة من قوله تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ} [النحل:17].
[65] {وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ}
انتهى الكلام المعترض به وعاد الكلام إلى دلائل الانفراد بالخلق مع ما أدمج فيه ذلك من التذكير بالنعم. فهذه منة من المنن وعبرة من العبر وحجة من الحجج المتفرعة عن التذكير بنعم الله والاعتبار بعجيب صنعه.

عاد الكلام إلى تعداد نعم جمة ومعها ما فيها من العبر أيضا جمعا عجيبا بين الاستدلال ووصلا للكلام المفارق عند قوله تعالى: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل:16]، كما علمته فيما تقدم. فكان ذكر إنزال الماء في الآية السابقة مسوقا مساق الاستدلال، وهو هنا مسوق مساق الامتنان بنعمة إحياء الأرض بعد موتها بالماء النازل من السماء.
وبهذا الاعتبار خالفت هذه النعمة النعمة المذكورة في قوله سابقا {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ} [النحل:10]
باختلاف الغرض الأولي، فهو هنالك الاستدلال بتكوين الماء وهنا الامتنان.
وبناء الجملة على المسند الفعلي لإفادة التخصيص، أي الله لا غيره أنزل من السماء ماء. وذلك في معنى قوله تعالى: {هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الروم:40]. وإظهار اسم الجلالة دون الإضمار الذي هو مقتضى الظاهر لقصد التنويه بالخبر إذ افتتح بهذا السم، ولأن دلالة الاسم العلم أوضح وأصرح. فهو مقتضى مقام تحقيق الانفراد بالخلق والإنعام دون غيره من شركائهم، لأن المشركين يقرون بأن الله هو فاعل هذه الأشياء.
وإحياء الأرض: إخراج ما فيه الحياة، وهو الكلأ والشجر. وموتها ضد ذلك، فتعدية فعل "أحيا" إلى الأرض تعدية مجازية. وقد تقدم عند قوله تعالى: {فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} في سورة البقرة [164]وتقدم وجه العبرة في آية نزول المطر هنالك.
وجملة {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} مستأنفة. والتأكيد ب {إِنَّ} ولام الابتداء لأن من لم يهتد بذلك إلى الوحدانية ينكرون أن القوم الذين يسمعون ذلك قد علموا دلالته على الوحدانية. أي ينكرون صلاحية ذلك للاستدلال.
والإتيان باسم الإشارة دون الضمير ليكون محل الآية جميع المذكورات من إنزال المطر وإحياء الأرض به وموتها من قبل الإحياء.
والكلام في "قوم يسمعون" كالكلام في قوله آنفا: {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النحل:64].
والسمع: هنا مستعمل في لازم معناه على سبيل الكناية، وهو سماع التدبر

والإنصاف لما تدبروا به. وهو تعريض بالمشركين الذين لم يفهموا دلالة ذلك على الوحدانية. ولذلك اختير وصف السمع هنا المراد منه الإنصاف والامتثال لأن دلالة المطر وحياة الأرض به معروفة مشهورة ودلالة ذلك على وحدانية الله تعالى ظاهرة لا يصد عنها إلا المكابرة.
[66] {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِينَ}
هذه حجة أخرى ومنة من المنن الناشئة عن منافع خلق الأنعام، أدمج في منتها العبرة بما في دلالتها على بديع صنع الله تبعا لقوله تعالى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} إلى قوله: {لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [النحل: 5-7].
ومناسبة ذكر هذه النعمة هنا أن بألبان الأنعام حياة الإنسان كما تحيا الأرض بماء السماء، وأن لآثار ماء السماء أثرا في تكوين ألبان الحيوان بالمرعى.
واختصت هذه العبرة بما تنبه إليه من بديع الصنع والحكمة في خلق الألبان بقوله: {مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً سَائِغاً} ، ثم بالتذكير بما في ذلك من النعمة على الناس إدماجا للعبرة بالمنة.
فجملة {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً} معطوفة على جملة {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [النحل:65]، أي كما كان لقوم يسمعون عبرة في إنزال الماء من السماء لكم في الأنعام عبرة أيضا، إذ قد كان المخاطبون وهم المؤمنون القوم الذين يسمعون.
وضمير الخطاب التفات من الغيبة. وتوكيدها بـ {إن} ولام الابتداء كتأكيد الجملة قبلها.
و {الْأَنْعَامِ}: اسم جمع لكل جماعة من أحد أصناف الإبل والبقر والضأن والمعز.
والعبرة: ما يتعظ به ويعتبر. وقد تقدم في نهاية سورة يوسف.
وجملة {نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ} واقعة موقع البيان لجملة {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً}.
والبطون: جمع بطن، وهو اسم للجوف الحاوية للجهاز الهضمي كله من معدة وكبد

وأمعاء.
و {من} في قوله تعالى: {مِمَّا فِي بُطُونِهِ} ابتدائية، لأن اللبن يفرز عن العلف الذي في البطون. وما صدق "ما في بطونه" العلف. ويجوز جعلها تبعيضية ويكون ما صدق" ما في بطونه "هو اللبن اعتدادا بحالة مروره في داخل الأجهزة الهضمية قبل انحداره في الضرع.
و {من} في قوله تعالى: {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ} زائدة لتوكيد التوسط، أي يفرز في حالة بين حالتي الفرث والدم.
ووقع البيان بـ {نُسْقِيكُمْ} دون أن يقال: تشربون أو نحوه، إدماجا للمنة مع العبرة.
ووجه العبرة في ذلك أن ما تحتويه بطون الأنعام من العلف والمرعى ينقلب بالهضم في المعدة، ثم الكبد، ثم غدد الضرع، مائعا يسقى وهو مفرز من بين إفراز فرث ودم.
والفرث: الفضلات التي تركها الهضم المعدي فتنحدر إلى الأمعاء فتصير فرثا. والدم: إفراز تفرزه الكبد من الغذاء المنحدر إليها ويصعد إلى القلب فتدفعه حركة القلب الميكانيئية إلى الشرايين والعروق ويبقى يدور كذلك بواسطة القلب. وقد تقدم ذكره عند قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} في سورة العقود [3].
ومعنى كون اللبن من بين الفرث والدم أنه إفراز حاصل في حين إفراز الدم وإفراز الفرث. وعلاقته بالفرث أن الدم الذي ينحدر في عروق الضرع يمر بجواز الفضلات البولية والثفلية، فتفرزه غدد الضرع لبنا كما تفرزه غدد الكليتين بولا بدون معالجة زائدة، وكما تفرز تكاميش الأمعاء ثفر بدون معالجة بخلاف إفراز غدد المثانة للمني لتوقفه على معالجة ينحدر بها الدم إليها.
وليس المراد أن اللبن يتميع من بين طيقتي فرث ودم، وإنما الذي أوهم ذلك من توهمه حمله {بين} على حقيقتها من ظرف المكان، وإنما هي تستعمل كثيرا في المكان المجازي فيراد بها الوسط بين مرتبتين كقولهم: الشجاعة صفة بين التهور والجبن. فمن بلاغة القرآن هذا التعبير القريب للأفهام لكل طبقة من الناس بحسب مبالغ علمهم، مع كونه موافقا للحقيقة.
والمعنى: إفراز ليس هو بدم لأنه ألين من الدم، ولأنه غير باق في عروق الضرع كبقاء الدم في العروق، فهو شبيه بالفضلات في لزوم إفرازه، وليس هو بالفضلة لأنه إفراز

طاهر نافع مغذ، وليس قذرا ضارا غير صالح للتغذية كالبول والثفل.
وموقع {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ} موقع الصفة لـ {لبنا} ، قدمت عليه للاهتمام بها لأنها موضع العبرة، فكان لها مزيد اهتمام، وقد صارت بالتقديم حالا.
ولما كان اللبن يحصل في الضرع لا في البطن جعل مفعولا ل {نُسْقِيكُمْ}، وجعل {مِمَّا فِي بُطُونِهِ} تبيينا لمصدره لا لمورده، فليس اللبن مما في البطون؛ ولذلك كان {مِمَّا فِي بُطُونِهِ} متقدما في الذكر ليظهر أنه متعلق بفعل {نُسْقِيكُمْ} وليس وصفا للبن.
وقد أحاط بالأوصاف التي ذكرناها لللبن قوله تعالى: {خَالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِينَ}. فخلوصه نزاهته مما اشتمل عليه البول والثفل، وسوغه للشاربين سلامته مما يشتمل عليه الدم من المضار لمن شربه، فلذلك لا يسيغه الشارب ويتجهمه.
وهذا الوصف العجيب من معجزات القرآن العلمية، إذ هو وصف لم يكن لأحد من العرب يومئذ أن يعرف دقائق تكوينه، ولا أن يأتي على وصفه بما لو وصف به العالم الكبيعي لم يصفه بأوجز من هذا وأجمع.
وإفراد ضمير الأنعام في قوله تعالى: {مِمَّا فِي بُطُونِهِ} مراعاة لكون اللفظ مفردا لأن اسم الجمع لفظ مفرد، إذ ليس من صيغ الجموع، فقد يراعى اللفظ فيأتي ضميره مفردا، وقد يراعي معناه فيعامل معاملة الجموع، كما في آية سورة المؤمنين [21] {نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا}.
والخالص: المجرد مما يكدر صفاءه، فهو الصافي. والسائغ: السهل المرور في الحلق.
وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم ويعقوب {نَسْقِيكُمْ} - بفتح النون - مضارع سقى. وقراه ابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف - بضم النون - على أنه مضارع أسقى، وهما لغتان وقرأه أبو جعفر بمثناة فوقية مفتوحة عوضا عن النون على أن الضمير للأنعام.
[67] {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}
عطف على جملة {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً} [سورة النحل:66].

ووجود {من} في صدر الكلام يدل على تقدير فعل يدل عليه الفعل الذي في الجملة قبلها وهو {نُسْقِيكُمْ} [سورة النحل:66]. فالتقدير: ونسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب. وليس متعلقا ب {تَتَّخِذُونَ}، كما دل على ذلك وجود "من" الثانية في قوله: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً} المانع من اعتبار تعلق {مِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ} بـ {تَتَّخِذُونَ} ، فإن نظم الكلام يدل على قصد المتكلم ولا يصح جعله متعلقا بـ {تَتَّخِذُونَ} مقدما عليه، لأنه يبعد المعنى عن الامتنان بلطف الله تعالى إذ جعل نفسه الساقي للناس.
وهذا عطف منه على منة، لآن {نُسْقِيكُمْ} وقع بيانا لجملة {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً}
ومفاد فعل {نُسْقِيكُمْ} مفاد الامتنان لآن السقي مزية. وكلتا العبرتين في السقي. والمناسبة أن كلتيها ماء وأن كلتيها يضغط باليد، وقد أطلق العرب الحلب على عصير الخمر والنبيذ، قال حسان يذكر الخمر الممزوجة والخالصة:
كلتاهما حلب العصير فعاطني ... بزجاجة أرخاهما للمفصل
ويشير إلى كونهما عبرتين من نوع متقارب جعل التذييل بقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} عقب ذكر السقيين دون أن يذيل سقي الألبان بكونه آية، فالعبرة في خلق الثمار صالحة للعصر والاختمار، ومشتملة على منافع للناس ولذات. وقد دل على ذلك قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}. فهذا مرتبط بما تقدم من العبرة بخلق النبات والثمرات من قوله تعالى: {يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ} [النحل:11] الآية.
وجملة {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً} الخ في موضع الحال.
و "من" في الموضعين ابتدائية، فالأولى متعلقة بفعل {نُسْقِيكُمْ} المقدر، والثانية متعلقة بفعل {تَتَّخِذُونَ}. وليست الثانية تبعيضية، لأن السكر ليس بعض الثمرات، فمعنى الابتداء ينتظم كلا الحرفين.
والسكر - بفتحتين -: الشراب المسكر.
وهذا امتنان بما فيه لذتهم المرغوبة لديهم والمتفشية فيهم "وذلك قبل تحريم الخمر لأن هذه الآية مكية وتحريم الخمر نزل بالمدينة" فالامتنان حينئذ بمباح.
والرزق: الطعام، ووصف بـ {حسنا} لما فيه من المنافع، وذلك التمر والعنب

لأنهما حلوان لذيذان يؤكلان رطبين ويابسين قابلان للادخار، ومن أحوال عصير العنب أن يصير خلا وربا.
وجملة {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} تكرير لتعداد الآية لأنها آية مستقلة.
والقول في جملة {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} مثل قوله آنفا: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [سورة النحل:65]. والإشارة إلى جميع ما ذكر من نعمة سقي الألبان وسقي السكر وطعم الثمر.
واختير وصف العقل هنا لأن دلالة تكوين ألبان الأنعام على حكمة الله تعالى يحتاج إلى تدبر فيما وصفته الآية هنا، وليس هو ببديهي كدلالة المطر كما تقدم.
[68،69] {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}
عطف عبرة على عبرة ومنة على منة. وغير أسلوب الاعتبار لما في هذه العبرة من تنبيه على عظيم حكمة الله تعالى، إذ أودع في خلقة الحشرة الضعيفة هذه الصنعة العظيمة وجعل فيها هذه المنفعة كما أودع في الأنعام ألبانها وأودع في ثمرات النخيل والأعناب شرابا، وكان ما في بطون النحل وسطا بين ما في بطون الأنعام وما في قلب الثمار فإن النحل يمتص ما في الثمرات والأنوار من المواد السكرية العسلية ثم يخرجه عسلا كما يخرج اللبن من خلاصة المرعى.
وفيه عبرة أخرى وهي أن أودع الله في ذبابة النحل إدراكا لصنع محكم مضبوط منتج شرابا نافعا لا يحتاج إلى حلب الحالب.
فافتتحت الجملة بفعلَ {أَوْحَى} دون أن تفتتح باسم الجلالة مثل جملة {والله أنزل} [سورة النحل:65]، لما في {أَوْحَى} من الإيماء إلى إلهام تلك الحشرة الضعيفة تدبيرا عجيبا وعملا متقنا وهندسة في الجبلة.
فكان ذلك الإلهام في ذاته دليلا على عظيم حكمة الله تعالى فضلا على ما بعده من دلالة على قدرة الله تعالى ومنة منه.
والوحي: الكلام الخفي والإشارة الدالة على معنى كلامي. ومنه سمي ما يلقيه

الملك إلى الرسول وحيا لأنه خفي عن أسماع الناس.
وأطلق الوحي هنا على التكوين الخفي الذي أودعه الله في طبيعة النحل، بحيث تنساق إلى عمل منظم مرتب بعضه على بعض لا يختلف فيه آحادها تشبيها للإلهام بكلام خفي يتضمن ذلك الترتيب الشبيه بعمل المتعلم بتعليم المعلم، أو المؤتمر بإرشاد الآمر، الذي تلقاه سرا، فإطلاق الوحي استعارة تمثيلية.
و {النَّحْلِ}: اسم جنس جمعي، واحده نحلة، وهو ذباب له جرم بقدر ضعفي جرم الذباب المتعارف، وأربعة أجنحة، ولون بطنه أسمر إلى الحمرة، وفي خرطومه شوكة دقيقة كالشوكة التي في ثمرة التين البربري "المسمى بالهندي" مختفية تحت خرطومه يلسع بها ما يخافه من الحيوان، فتسم الموضع سما غير قوي، ولكن الذبابة إذا انفصلت شوكتها تموت. وهو ثلاثة أصناف ذكر وأنثى وخنثى، فالذكور هي التي تحرس بيوتها ولذلك تكون محومة بالطيران والدوي أمام البيت وهي تلقح الإناث لقاحا به تلد الإناث إناثا.
والإناث هي المسماة اليعاسيب، وهي أضخم جرما من الذكور. ولا تكون التي تلد في البيوت إلا أنثى واحدة، وهي قد تلد بدون لقاح ذكر؛ ولكنها في هذه الحالة لا تلد إلا ذكورا فليس في أفراخها فائدة لإنتاج الوالدات.
وأما الخنثى فهي التي تفرز العسل، وهي العواسل، وهي أصغر جرما من الذكور وهي معظم سكان بيت النحل.
و {أن} تفسيرية، وهي ترشيح للاستعارة التمثيلية، لأن {أن} التفسيرية من روادف الأفعال الدالة على معنى القول دون حروفه.
واتخاذ البيوت هو أول مراتب الصنع الدقيق الذي أودعه الله في طبائع النحل فإنها تبني بيوتا بنظام دقيق، ثم تقسم أجزاءها أقساما متساوية بأشكال مسدسة الأضلاع بحيث لا يتخلل بينها فراغ تنساب منه الحشرات، لأن خصائص الأشكال المسدسة إذا ضم بعضها إلى بعض أن تتصل فتصير كقطعة واحدة، وما عداها من الأشكال من المثلث إلى المعشر إذا جمع كل واحد منها إلى أمثاله لم تتصل وحصلت بينها فرج، ثم تغشي على سطوح المسدسات بمادة الشمع، وهو مادة دهنية متميعة أقرب إلى الجمود، تتكون في كيس دقيق جدا تحت بطن النحلة العاملة فترفعه النحلة بأرجلها إلى فمها وتمضغه وتضع بعضه لصق بعض لبناء المسدس المسمى بالشهد لتمنع تسرب العسل منها.

ولما كانت بيوت النحل معروفة للمخاطبين اكتفى في الاعتبار بها بالتنبيه عليها والتذكير بها.
وأشير إلى أنها تتخذ في أحسن البقاع من الجبال أو الشجر أو العرش دون بيوت الحشرات الأخرى. وذلك لشرفها بما تحتويه من المنافع، وبما تشتمل عليه من دقائق الصنعة؛ ألا ترى إلى قوله تعالى في ضدها: {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} [العنكبوت:41].
وتقدم الكلام على الجبال عند قوله تعالى: {ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً} في سورة البقرة [260].
و {من} الداخلة على {الْجِبَالِ} وما عطف عليها بمعنى "في"، وأصلها {من} الابتدائية، فالتعبير بها دون "في" الظرفية لأن النحل تبني لنفسها بيوتا ولا تجعل بيوتها جحور الجبال ولا أغصان الشجر ولا أعواد العريش وذلك كقوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} [البقرة:125]. وليست مثل "من" التي في قوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً} [النحل:81].
و"ما يعرشون" أي ما يجعلونه عروشا، جمع عريش، وهو مجلس مرتفع على الأرض في الحائط أو الحقل يتخذ من أعواد ويسقف أعلاه بورق ونحوه ليكون له ظل فيجلس فيه صاحبه مشرفا على ما حوله.
يقال: عرش، إذا بنى ورفع، ومنه سمي السرير الذي يرتفع عن الأرض ليجلس عليه العظماء عرشا.
وتقدم عند قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ} في سورة الأنعام [141]، وقوله تعالى: {وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} في سورة الأعراف [137].
وقرأ جمهور القراء بكسر راء- {يعرشون}. وقرأه ابن عامر بضمها.
و {ثم} للترتيب الرتبي، لأن إلهام النحل للأكل من الثمرات يترتب عليه تكون العسل في بطونها، وذلك أعلى رتبة من أتخاذها البيوت لاختصاصها بالعسل دون غيرها من الحشرات التي تبني البيوت، ولأنه أعظم فائدة للإنسان، ولأن منه قوتها الذي به بقاؤها. وسمي امتصاصها أكلا لأنها تقتاته فليس هو بشرب.

و {الثَّمَرَاتِ}: جمع ثمرة. وأصل الثمرة ما تخرجه الشجرة من غلة. مثل التمر والعنب، والنحل يمتص من الأزهار قبل أن تصير ثمرات، فأطلق {الثَّمَرَاتِ} في الآية على الأزهار على سبيل المجاز المرسل بعلاقة الأول.
وعطفت جملة {فَاسْلُكِي} بفاء التفريع للإشارة إلى أن الله أودع في طبع النحل عند الرعي التنقل من زهرة إلى زهرة ومن روضة إلى روضة، وإذا لم تجد زهرة أبعدت الانتجاع ثم إذا شبعت قصدت المبادرة بالطيران عقب الشبع لترجع إلى بيوتها فتقذف من بطونها العسل الذي يفضل عن قوتها، فذلك السلوك مفرع على طبيعة أكلها.
وبيان ذلك أن للأزهار وللثمار غددا دقيقة تفرز سائلا سكريا تمتصه النحل وتملأ به ما هو كالحواصل في بطونها وهو يزداد حلاوة في بطون النحل باختلاطه بمواد كيميائية مودعة في بطون النحل، فإذا راحت من مرعاها إلى بيوتها أخرجت من أفواهها ما حصل في بطونها بعد أن أخذ منه جسمها ما يحتاجه لقوته، وذلك يشبه اجترار الحيوان المجتر. فذلك هو العسل.
والعسل حين القذف به في خلايا الشهد يكون مانعا رقيا، ثم يأخذ في جفاف ما فيه من رطوبة مياه الأزهار بسبب حرارة الشمع المركب منه الشهد وحرارة بيت النحل حتى يصير خاثرا، ويكون أبيض في الربيع وأسمر في الصيف.
والسلوك: المرور وسط الشيء من طريق ونحوه. وتقدم عند قوله تعالى: {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} في سورة الحجر [12].
ويستعمل في الأكثر متعديا كما في آية الحجر بمعنى أسلكه، وقاصرا بمعنى مر كما هنا، لأن السبل لا تصلح لأن تكون مفعول "سلك" المتعدي، فانتصاب {سبل} هنا على نزع الخافض توسعا.
وإضافة السبل إلى {ربك} للإشارة إلى أن النحل مسخرة لسلوك تلك السبل لا يعدلها عنها شيء، لأنها لو لم تسلكها لاختل نظام إفراز العسل منها.
و {ذُلُلاً} جمع ذلول، أي مذللة مسخرة لذلك السلوك. وقد تقدم عند قوله تعالى: {ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ} في سورة البقرة [71].
وجملة {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ} مستأنفة استئنافا بيانيا، لأن ما تقدم من الخبر عن إلهام النحل تلك الأعمال يثير في نفس السامع أن يسأل عن الغاية من هذا التكوين

العجيب، فيكون مضمون جملة {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ} بيانا لما سأل عنه. وهو أيضا موضع المنة كما كان تمام العبرة.
وجيء بالفعل المضارع للدلالة على تجدد الخروج وتكرره.
وعبر عن العسل باسم الشراب دون العسل لما يومئ إليه اسم الجنس من معنى الانتفاع به وهو محل المنة، وليرتب عليه جملة {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ}. وسمي شرابا لأنه مائع يشرب شربا ولا يمضغ. وقد تقدم ذكر الشراب في قوله تعالى: {لكم منه شراب} في أوائل هذه السورة [10].
ووصفه بـ {مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} لأن له مدخلا في العبرة، كقوله تعالى: {تُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ} [الرعد:4]، فذلك من الآيات على عظيم القدرة ودقيق الحكمة.
وفي العسل خواص كثيرة المنافع مبينة في علم الطب.
وجعل الشفاء مظروفا في العسل على وجه الظرفية المجازية. وهي الملابسة للدلالة على تمكن ملابسة الشفاء إياه، وإيماء إلى أنه لا يقتضي أن يطرد الشفاء به في كل حالة من أحوال الأمزجة، أو قد تعرض للأمزجة عوارض تصير غير ملائم لها شرب العسل. فالظرفية تصلح للدلالة على تخلف المظروف عن بعض أجزاء الظرف، لأن الظرف يكون أوسع من المظروف غالبا. شبه تخلف المقارنة في بعض الأحوال بقلة كمية المظروف عن سعة الظرف في بعض أحوال الظروف ومظروفاتها، وبذلك يبقى تعريف"الناس"على عمومه، وإنما التخلف في بعض الأحوال العارضة، ولولا العارض لكانت الأمزجة كلها صالحة للاستشفاء بالعسل.
وتنكير {شِفَاءٌ} في سياق الإثبات لا يقتضي العموم فلا يقتضي أنه شفاء من كل داء، كما أن مفاد "في" من الظرفية المجازية لا يقتضي عموم الأحوال.
وعموم التعريف في قوله تعالى: {لِلنَّاسِ} لا يقتضي العموم الشمولي لكل فرد فرد بل لفظ "الناس" عمومه بدلي. والشفاء ثابت للعسل في أفراد الناس بحسب اختلاف حاجات الأمزجة إلى الاستشفاء. وعلى هذا الاعتبار محمل ما جاء في الحديث الذي في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري: أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أخي استطلق بطنه، فقال: "اسقه عسلا". فذهب فسقاه عسلا. ثم جاء، فقال: يا رسول الله

سقيته عسلا فما زاده إلا استطلاقا؛ قال: "اذهب فاسقه عسلا"، فذهب فسقاه عسلا ثم جاء، فقال: يا رسول الله ما زاده إلا استطلاقا، فقال رسول الله: "صدق الله وكذب بطن أخيك؛ فذهب فسقاه عسلا فبرى".
إذ المعنى أن الشفاء الذي أخبر الله عنه بوجوده في العسل ثابت، وأن مزاج أخي السائل لم يحصل فيه معارض ذلك، كما دل عليه أمر النبي صلى الله عليه وسلم إياه أن يسقيه العسل، فإن خبره يتضمن أن العسل بالنسبة إليه باق على ما جعل الله فيه من الشفاء.
ومن لطيف النوادر ما في"الكشاف": أن من تأويلات الروافض أن المراد بالنحل في الآية علي وآله. وعن بعضهم أنه قال عند المهدي: إنما النحل بنو هاشم يخرج من بطونهم العلم، فقال له رجل: جعل الله طعامك وشرابك أضحوكة من أضاحيكهم.
قلت: الرجل الذي أجاب الرافضي هو بشار بن برد. وهذه القصة مذكورة في أخبار بشار.
وجملة {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} مثل الجملتين المماثلتين لها. وهو تكرير لتعداد الاستدلال، واختير وصف التفكر هنا لأن الاعتبار بتفصيل ما أجملته الآية في نظام النحل محتاج إلى إعمال فكر دقيق، ونظر عميق.
[70] {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ}
انتقال من الاستدلال بدقائق صنع الله على وحدانيته إلى الاستدلال بتصرفه في الخلق التصرف الغالب لهم الذي لا يستطيعون دفعه، على انفراده بربوبيتهم، وعلى عظيم قدرته. كما دل عليه تذييلها بجملة {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} فهو خلقهم بدون اختيار منهم ثم يتوفاهم كرها عليهم أو يردهم إلى حالة يكرهونها فلا يستطيعون ردا لذلك ولا خلاصا منه، وبذلك يتحقق معنى العبودية بأوضح مظهر.
وابتدئت الجملة باسم الجلالة للغرض الذي شرحناه عند قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [النحل:65]. وأما إعادة اسم الجلالة هنا دون الإضمار فلأن مقام الاستدلال يقتضي تكرير اسم المستدل - بفتح الدال - على إثبات صفاته تصريحا

واضحا.
وجيء بالمسند فعليا لإفادة تخصيص المسند إليه بالمسند الفعلي في الإثبات، نحو: أنا سعيت في حاجتك. وقد تقدم نظيره في قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً}. فهذه عبرة وهي أيضا منة، لأن الخلق وهو الإيجاد نعمة لشرف الوجود والإنسانية، وفي التوفي أيضا نعم على المتوفي لأن به تندفع آلم الهرم، ونعم على نوعه إذ به ينظم حال أفراد النوع الباقين بعد ذهاب من قبلهم، وهذا كله بحسب الغالب فردا ونوعا، والله يخص بنعمته وبمقدارها من يشاء.
ولما قوبل"ثم يتوفاكم" بقوله تعالى: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} علم أن المعنى ثم يتوفاكم في إبان الوفاة، وهو السن المعتادة الغالبة لأن الوصول إلى أرذل العمر نادر.
والأرذل: تفضيل في الرذالة، وهي الرداءة في صفات الاستياء.
و {الْعُمُرِ}: مدة البقاء في الحياة، لأنه مشتق من العمر، وهو شغل المكان، أي عمر الأرض، قال تعالى: {وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} [الروم:9] ,فإضافة {أَرْذَلِ} إلى {الْعُمُرِ} التي هي من إضافة الصفة إلى الموصوف على طريقة المجاز العقلي، لأن الموصوف بالأرذل حقيقة هو حال الإنسان في عمره لا نفس العمر. فأرذل العمر هو حال هرم البدن وضعف العقل، وهو حال في مدة العمر. وأما نفس مدة العمر فهي هي لا توصف برذالة ولا شرف.
والهرم لا ينضبط حصوله بعدد من السنين، لأنه يختلف باختلاف الأبدان والبلدان والصحة والاعتلال على تفاوت الأمزجة المعتدلة، وهذه الرذالة رذالة في الصحة لا تعلق لها بحالة النفس، فهي مما يعرض للمسلم والكافر فتسمى أرذل العمر فيهما، وقد "استعاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن يرد إلى أرذل العمر".
ولام التعليل الداخلة على "كي" المصدرية مستعملة في معنى الصيرورة والعاقبة تشبيها للصيرورة بالعلة استعارة تشير إلى أنه لا غاية للمرء في ذلك التعمير تعريضا بالناس، إذ يرغبون في طول الحياة؛ وتنبيها على وجوب الإقصار من تلك الرغبة، كأنه قيل: منكم من يرد إلى أرذل العمر ليصير غير قابل لعلم ما لم يعلمه لأنه يبطئ قبوله للعلم. وربما لم يتصور ما يتلقاه ثم يسرع إليه النسيان. والإنسان يكره حالة انحطاط علمه

لأنه يصير شبيها بالعجماوات.
واستعارة حرف العلة إلى معنى العاقبة مستعملة في الكلام البليغ في مقام التوبيخ أو التخطئة أو نحو ذلك. وتقدم عند قوله تعالى: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً} في سورة آل عمران [178]. وقد تقدم القول قريبا في ذلك عند قوله تعالى: {إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ} في هذه السورة [55].
وتنكير {علم} تنكير الجنس. والمعنى: لكيلا يعلم شيئا بعد أن كان له علم، أي ليزول منه قبول العلم.
وجملة {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} تذييل تنبيها على أن المقصود من الجملة الدلالة على عظم قدرة الله وعظم علمه. وقدم وصف العليم لأن القدرة تتعلق على وفق العلم، وبمقدار سعة العلم يكون عظم القدرة، فضعيف القدرة يناله تعب من قوة علمه لأن همته تدعوه إلى ما ليس بالنائل. كما قال أبو الطيب:
وإذا كانت النفوس كبارا ... تعبت في مرادها الأجسام
[71] {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}
هذا من الاستدلال على أن التصرف القاهر لله تعالى. وذلك أنه أعقب الاستدلال بالإحياء والأمانة وما بينهما من هرم بالاستدلال بالرزق.
ولما كان الرزق حاصلا لكل موجود بني الاستدلال على التفاوت فيه بخلاف الاستدلال بقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ}.
ووجه الاستدلال به على التصرف القاهر أن الرزق حاصل لجميع الخلق وأن تفاضل الناس فيه غير جار على رغباتهم ولا على استحقاقهم؛ فقد تجد أكيس الناس وأجودهم عقلا وفهما مقترا عليه في الرزق، وبضده ترى أجهل الناس وأقلهم تدبيرا موسعا عليه في الرزق، وكلا الرجلين قد حصل به ما حصل قهرا عليه، فالمقتر عليه لا يدري أسباب التقتير، والموسع عليه لا يدري أسباب تيسير رزقه. وذلك لأن الأسباب كثيرة متوالدة ومتسلسلة ومتوغلة في الخفاء حتى يظن أن أسباب الأمرين مفقودة وما هي بمفقودة ولكنها غير محاط بها. ومما ينسب إلى الشافعي:

ومن الدليل على القضاء وكونه ... بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق
ولذلك أسند التفضيل في الرزق إلى الله تعالى لأن أسبابه خارجة عن إحاطة عقول البشر، والحكيم لا يستفزه ذلك بعكس قول ابن الراوندي:
كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه ... وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا
هذا الذي ترك الأوهام حائرة ... وصير العالم النحرير زنديقا
وهذا الحكم دل على ضعف قائله في حقيقة العلم فكيف بالتحريرية وتفيد وراء الاستدلال معنى الامتنان لاقتضائها حصول الرزق للجميع.
فجملة {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} مقدمة للدليل ومنة من الممن لأن التفضيل في الرزق يقتضي الإنعام بأصل الرزق.
وليست الجملة مناط الاستدلال. إنما الاستدلال في التمثيل من قوله تعالى: {فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ} الآية.
والقول في جعل المسند إليه اسم الجلالة وبناء المسند الفعلي عليه كالقول في قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ}. والمعنى: الله لا غيره رزقكم جميعا وفضل بعضكم على بعض في الرزق ولا يسعكم إلا الإقرار بذلك له.
وقد تم الاستدلال عند قوله تعالى: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} بطريقة الإيجاز، كما قيل: لمحة دالة.
وفرع على هذه الجملة تفريع بالفاء على وجه الإدماج قوله تعالى: {فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ}. وهو إدماج جاء على وجه التمثيل لتبيان ضلال أهل الشرك حين سووا بعض المخلوقات بالخالق فأشركوها في الإلهية فسادا في تفكيرهم. وذلك مثل ما كانوا يقولون في تلبية الحج "لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك". فمثل بطلان عقيدة الإشراك بالله بعض مخلوقاته بحالة أهل النعمة المرزوقين، لأنهم لا يرضون أن يشركوا عبيدهم معهم في فضل رزقهم فكيف يسوون بالله عبيده في صفته العظمى وهي الإلهية.
ورشاقة هذا الاستدلال أن الحالتين المشبهتين والمشبه بهما حالتا مولى وعبد، كما قال تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا

رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [الروم:28].
والغرض من التمثيل تشنيع مقالتهم واستحالة صدقها بحسب العرف، ثم زيادة التشنيع بأنهم رضوا لله ما يرضونه لأنفسهم، كقوله تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} إلى قوله: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [النحل:57-60].
وقرينة التمثيل والمقصد منه دلالة المقام.
وقوله تعالى: {فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا} نفي. و "ما" نافية. والباء في {بِرَادِّي رِزْقِهِمْ} الباء التي تزاد في خبر النفي ب "ما" و "ليس".
والراد: المعطي. كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "والخمس مردود عليكم"، أي فما هم بمعطين رزقهم لعبيدهم إعطاء مشاطرة بحيث يسوونهم بهم، أي فما ذلك بواقع.
وإسناد الملك إلى اليمين مجاز عقلي، لأن اليمين سبب وهمي للملك، لأن سبب الملك إما أسر وهو أثر للقتال بالسيف الذي تمسكه اليد اليمنى، وإما شراء ودفع الثمن يكون باليد اليمنى عرفا، فهي سبب وهمي ناشئ عن العادة.
وفرعت جملة {فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} على جملة {فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ}، أي لا يشاطرون عبيدهم رزقهم فيستووا فيه، أي لا يقع ذلك فيقع هذا، فموقع هذه الجملة الاسمية شبيه بموقع الفعل بعد فاء السببية في جواب النفي.
وأما جملة {أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} فصالحة لأن تكون مفرعة على جمل {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} باعتبار ما تضمنته من الامتنان، أي تفضل الله عليكم جميعا بالرزق أفبنعمة الله تجحدون، استفهاما مستعملا في التوبيخ، بحيث أشركوا مع الذي أنعم عليهم آلهة لا حظ لها في الإنعام عليهم. وذلك جحود النعمة كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ} [العنكبوت:17]. وتكون جملة {فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا} إلى قوله تعالى: {فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} معترضة بين الجملتين.
وعلى هذا الوجه يكون في {يَجْحَدُونَ} على قراءة الجمهور بالتحتية التفات من الخطاب إلى الغيبة. ونكتته أنهم لما كان المقصود من الاستدلال المشركين فكانوا موضع التوبيخ ناسب أن يعرض عن خطابهم وينالهم المقصود من التوبيخ بالتعريض كقول:

أبى لك كسب الحمد رأي مقصر ... ونفس أضاق الله بالخير باعها
إذا هي حثته على الخير مرة ... عصاها وإن همت بشر أطاعها
ثم صرح بما وقع التعريض به بقوله: {أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}.
وقرأ أبو بكر عن عاصم ورويس عن يعقوب {يَجْحَدُونَ} بالمثناة الفوقية على مقتضى الظاهر ويكون الاستفهام مستعملا في التحذير.
وتصلح جملة {أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} أن تكون مفرعة على جملة {فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ} ، فيكون التوبيخ متوجها إلى فريق من المشركين وهم الذين فضلوا بالرزق وهم أولو السعة منهم وسادتهم وقد كانوا أشد كفرا بالدين وتألبا على للمسلمين، أي أيجحد الذين فضلوا بنعمة الله إذ أفاض عليهم النعمة فيكونوا أشد إشراكا به، كقوله تعالى: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً} [المزمل:11].
وعلى هذا الوجه يكون قوله تعالى: {يَجْحَدُونَ} في قراءة الجمهور بالتحتية جاريا على مقتضى الظاهر. وفي قراءة أبي بكر عن عاصم بالمثناة الفوقية التفاتا من الغيبة إلى خطابهم إقبالا عليهم بالخطاب لإدخال الروع في نفوسهم.
وقد عدي فعل {يَجْحَدُونَ} بالباء لتضمنه معنى يكفرون، وتكون الباء لتوكيد تعلق الفعل بالمفعول مثل {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة:6]. وتقديم {بِنِعْمَةِ} على متعلقة وهو {يَجْحَدُونَ} للرعاية على الفاصلة.
[72] {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَ بِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ}
عطف على التي قبلها، وهو استدلال ببديع الصنع في خلق النسل إذ جعل مقارنا للتأنس بين الزوجين، إذ جعل النسل منهما ولم يجعله مفارقا لأحد الأبوين أو كليهما.
وجعل النسل معروفا متصلا بأصوله بما ألهمه الإنسان من داعية حفظ النسب، فهي من الآيات على انفراده تعالى بالوحدانية كما قال تعالى في سورة الروم [21] {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}. فجعلها آية تنطوي على آيات، ويتضمن ذلك الصنع نعما كثيرة، كما أشار إليه قوله تعالى: {وَ بِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ}.

والقول في جملة {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ} كالقول في نظيرتيها المتقدمتين. واللام في {جَعَلَ لَكُمْ} لتعدية فعل {جَعَلَ} إلى ثان.
ومعنى {مِنْ أَنْفُسِكُمْ} من نوعكم، كقوله تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النور:61] أي على الناس الذين بالبيوت،وقوله: {رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آل عمران:164] وقوله: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة:85].
والخطاب بضمير الجماعة المخاطبين موجه إلى الناس كلهم، وغلب ضمير التذكير.
وهذه نعمة إذ جعل قرين الإنسان متكونا من نوعه. ولو لم يجعل له ذلك لاضطر الإنسان إلى طلب التأنس بنوع آخر فلم يحصل التأنس بذلك للزوجين. وهذه الحالة وإن كانت موجودة في أغلب أنواع الحيوان فهي نعمة يدركها الإنسان ولا يدركها غيره من الأنواع. وليس من قوام ماهية النعمة أن ينفرد بها المنعم عليه.
والأزواج: جمع زوج، وهو الشيء الذي يصير مع شيء آخر أثنين، فلذا وصف بزوج المرادف لشان. وقد مضى الكلام عليه في قوله تعالى: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} في سورة البقرة [35].
والوصف بالزوج يؤذن بملازمته لآخر، فلذا سمي بالزوج قرين المرأة وقرينة الرجل. وهذه نعمة اختص بها الإنسان إذ ألهمه الله جعل قرين له وجبله على نظام محبة وغيره لا يسمحان له بإهمال زوجه كما تهمل العجماوات إناثها وتنصرف إناثها عن ذكورها.
و {من} الداخلة على {أنفسكم} للتبعيض.
وجعل البنين للإنسان نعمة، وجعل كونهم من زوجة نعمة أخرى، لأن بها تحقق كونهم أبناءه بالنسبة للذكر ودوام اتصالهم به بالنسبة، ووجود المشارك له في القيام بتدبير أمرهم في حالة ضعفهم.
و {من} الداخلة على {أزواجكم} للابتداء، أي جعل لكم بنين منحدرين من أزواجكم.
والحفدة: جمع حافد، مثل كملة جمع كامل. والحافد أصله المسرع في الخدمة. وأطلق على ابن الابن لأنه يكثر أن يخدم جده لضعف الجد بسبب الكبر، فأنعم الله على

الإنسان بحفظ سلسلة نسبه بسبب ضبط الحلقة الأولى منها، وهي كون أبنائه من زوجه ثم كون أبناء أبنائه من أزواجهم، فانضبطت سلسلة الأنساب بهذا النظام المحكم البديع. وغير الإنسان من الحيوان لا يشعر بحفدته أصلا ولا يشعر بالبنوة إلا أنثى الحيوان مدة قليلة قريبة من الإرضاع. والحفدة للإنسان زيادة في مسرة العائلة،قال تعالى: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود:71]. وقد عملت {مِنْ} الابتدائية في {حفدة} بواسطة حرف العطف لأن الابتداء يكون مباشرة وبواسطة.
وجملة {وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} معطوفة على جملة {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} وما بعدها، لمناسبة ما في الجمل المعطوف عليها من تضمن المنة بنعمة أفراد العائلة، فإن مكملاتها واسعة الرزق، كما قال تعالى في آل عمران [15] {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} الآية. وقال طرفة:
فأصبحت ذا مال كثير وطاف بي ... بنون كرام سادة لمسود
فالمال والعائلة لا يروق أحدهما الآخر.
ثم الرزق يجوز أن يكون مرادا منه المال كما في قوله تعالى في قصة قارون: {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ} [القصص:82]. وهذا هو الظاهر وهو الموافق لما في الآية المذكورة آنفا. ويجوز أن يكون المراد منه إعطاء المأكولات الطيبة، كما في قوله تعالى: {وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً} [آل عمران: 37].
و {من} تبعيضية.
و {الطَّيِّبَاتِ}: صفة لموصوف محذوف دل عليه فعل رزقكم، أي الأرزاق الطيبات. والتأنيث لأجل الجمع. والطيب: فيعل صفة مبالغة في الوصف بالطيب. والطيب: أصله النزاهة وحسن الرائحة، ثم استعمل في الملائم الخالص من النكد، قال تعالى: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97]. واستعمل في الصالح من نوعه كقوله تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ}، في سورة الأعراف [58]. ومنه قوله تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ} [النحل:32] وقد تقدم آنفا.
فالطيبات هنا الأرزاق الواسعة المحبوبة كما ذكر في الآية في سورة

آل عمران، أو المطعومات والمشروبات اللذيذة الصالحة. وقد تقدم ذكر الطيبات عند قوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} في سورة العقود [5]، وذكر الطيب في قوله تعالى: {كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً} في سورة البقرة [168].
وفرع على هذه الحجة والمنة استفهام توبيخ على إيمانهم بالباطل البين، فتفريع التوبيخ عليه واضح الاتجاه.
والباطل: ضد الحق لأن ما لا يحق لا يعبد بحق. وتقديم المجرور في قوله تعالى: {أَفَبِالْبَاطِلِ} على متعلقه للاهتمام بالتعريف بباطلهم.
والالتفات عن الخطاب السابق إلى الغيبية في قوله تعالى: {أَفَبِالْبَاطِلِ} يجري الكلام فيه على نحو ما تقدم في قوله تعالى: {أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}.
وقوله تعالى: {وَ بِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} عطف على جملة التوبيخ، وهو توبيخ متوجه على ما تضمنه قوله تعالى: {والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا} إلى قوله تعالى: {ورزقكم من الطيبات} من الامتنان بذلك الخلق والرزق بعد كونهما دليلا على انفراد الله بالإلهية.
وتقديم المجرور في قوله تعالى: {بِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} على عامله للاهتمام.
وضمير الغيبة في قوله تعالى: {هُمْ يَكْفُرُونَ} ضمير فصل لتأكيد الحكم بكفرانهم النعمة لأن كفران النعمة أخفى من الإيمان بالباطل، لأن الكفران يتعلق بحالات القلب، فاجتمع في الجملة تأكيدان: التأكيد الذي أفاده التقديم، والتأكيد الذي أفاده ضمير الفصل.
والإتيان بالمضارع في {يؤمنون} و {يَكْفُرُونَ} للدلالة على التجدد والتكرير.
وفي الجمع بين {يؤمنون} و {يَكْفُرُونَ} محسن بديع الطباق.
[73] {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ}.
عطف على جملتي التوبيخ وهو مزيد من التوبيخ فإن الجملتين المعطوف عليها أفادتها توبيخا على إيمانهم بالآلهة الباطل وكفرانهم بنعمة المعبود الحق.

وهذه الجملة المعطوفة أفادت التوبيخ على شكر ما لا يستحق الشكر، فإن العبادة شكر، فهم عبدوا ما لا يستحق العبادة ولا بيده نعمة، وهو الأصنام، لأنها لا تملك ما يأتيهم من الرزق لاحتياجها، ولا تستطيع رزقهم لعجزها. فمفاد هذه الجملة مؤكد لمفاد ما قبلها مع اختلاف الاعتبار بموجب التوبيخ في كلتيهما.
وملك الرزق القدرة على إعطائه. والملك يطلق على القدرة، كما تقدم في قوله تعالى: {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [المائدة: 17]. والرزق هنا مصدر منصوب على المفعولية، أي لا يملك أن يرزق.
و {مِنَ} في {مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ السماوات} ابتدائية، أي رزقا موصوفا بوروده من السماوات والأرض.
و {شَيْئاً} مبالغة في المنفي، أي ولا يملكون جزاء قليلا من الرزق، وهو منصوب على البدلية من {رِزْقاً}. فهو في معنى المفعول به كأنه قيل: لا يملك لهم شيئا من الرزق.
{وَلا يَسْتَطِيعُونَ} عطف على {يَمْلِكُ}، فهو من جملة صلة {مَا} فضمير الجمع عائد إلى {مَا} الموصولة باعتبار دلالتها جماعة الأصنام المعبودة لهم. وأجريت عليها صيغة جمع العقلاء مجاراة لاعتقادهم أنها تعقل وتشفع وتستجب.
وحذف مفعول {يَسْتَطِيعُونَ} لقصد التعميم، أي لا يستطيعون شيئا لأن تلك الأصنام حجارة لا تقدر على شيء. والاستطاعة: القدرة.
[74] {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُون}
تفريع على جميع ما سبق من الآيات والعبر والمنن، إذ قد استقام من جميعها انفراد الله تعالى بالإلهية، ونفي الشريك فيما خلق وأنعم، وبالأولى نفي أن يكون له ولد وأن يشبه بالحوادث، فلا جرم استتب للمقام أن يفرع على ذلك زجر المشركين عن تمثيلهم غير الله بالله في شيء من ذلك، وأن يمثلوه بالموجودات.
وهذا جاء على طريقة قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [البقرة: من الآية21] إلى قوله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: من الآية22]،

وقوله: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يّس:78]
و {الْأَمْثَالَ} هنا جمع مثل بفتحتين بمعنى المماثل، كقولهم: شبه بمعنى مشابه. وضرب الأمثال شاع استعماله في تشبيه بحالة وهيئة بهيئة، وهو هنا استعمال آخر.
ومعنى الضرب في قولهم: ضرب كذا مثلا، بيناه عند قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا} في سورة البقرة. [26]
واللام ا في {لِلَّهِ} متعلقة بـ {الْأَمْثَالَ} لا بـ {تَضْرِبُوا} ، إذ ليس المراد أنهم يضربون مثل الأصنام بالله ضربا للناس كقوله تعالى {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [الروم: 28].
ووجه كون الإشراك ضرب مثل لله أنهم أثبتوا للأصنام صفات الإلهية وشبهوها بالخالق، فإطلاق ضرب المثل عليه مثل قوله تعالى: {وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً} [الزخرف: 58]. وقد كانوا يقولون عن الأصنام هؤلاء شفعاؤنا عند الله، والملائكة هن بنات الله من سروات الجن، فذلك ضرب مثل وتشبيه لله بالحوادث في التأثر بشفاعة الأكفاء والأعيان والأزهاء بالبنين.
وجملة {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ} تعليل للنهي عن تشبيه الله تعالى بالحوادث، وتنبيه على أن جهلهم هو الذي أوقعهم في تلك السخافات من العقائد، وأن الله إذ نهاهم وزجرهم عن أن يشبهوه بما شبهوه إنما نهاهم لعلمه ببطلان اعتقادهم.
وفي قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُون}
استدعاء لإعمال النظر الصحيح ليصلوا إلى العلم البريء من الأوهام.
[75] {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [النحل:75]
أعقب زجرهم عن أن يشبهوا الله بخلقه أو أن يشبهوا الخلق بربهم بتمثيل حالهم في ذلك بحال من مثل عبدا بسيده في الإنفاق، فجملة {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً} الخ مستأنفة

استئنافا بيانيا ناشئا عن قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ} [النحل:73]
فشبه حال أصنامهم في العجز عن رزقهم بحال مملوك لا يقدر على تصرف في نفسه ولا يملك مالا، وشبه شأن الله تعالى في رزقه إياهم بحال الغني المالك أمر نفسه بما شاء من إنفاق وغيره. ومعرفة الحالين المشبهتين يدل عليها المقام، والمقصود نفي المماثلة بين الحالتين، فكيف يزعمون مماثلة أصنامهم لله تعالى في الإلهية، ولذلك أعقب بجملة {هَلْ يَسْتَوُونَ}.
وذيل هذا التمثيل بقوله تعالى: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} كما في سورة إبراهيم [26] {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً} إلى قوله تعالى: {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ} الآية، فإن المقصود في المقامين متحد، والاختلاف في الأسلوب إنما يومئ إلى الفرق بين المقصود أولا والمقصود ثانيا كما أشرنا إليه هنالك.
والعبد: الإنسان الذي يملكه إنسان آخر بالأسر أو بالشراء أو بالإرث.
وقد وصف {عَبْداً} هنا بقوله {مَمْلُوكا} تأكيد للمعنى المقصود وإشعارا لما في لفظ عبد من معنى المملوكية المقتضية أنه لا يتصرف في عمله تصرف الحرية.
وانتصب {عَبْداً} على البدلية من قوله تعالى: {مَثَلاً} وهو على تقدير مضاف، أي حال عبد، لأن المثل هو للهيئة المنتزعة من مجموع هذه الصفات. وجملة {لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} صفة {عَبْداً}، أي عاجزا عن كل ما يقدر عليه الناس، كأن يكون أعمى وزمنا وأصم، بحيث يكون أقل العبيد فائدة.
فهذا مثل لأصنامهم، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ} [النحل:21-20]، وقوله تعالى: {نَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً} [العنكبوت:17].
و {مِنْ} موصولة ما صدقها حر، بقرينة أنه وقع في مقابلة عبد مملوك، وأنه وصف بالرزق الحسن فهو ينفق منه سرا وجهرا، أي كيف شاء. وهذا من تصرفات الأحرار. لأن العبيد لا يملكون رزقا في عرف العرب، وأما حكم تملك العبد مالا في الإسلام فذلك يرجع إلى أدلة أخرى من أصول الشريعة الإسلامية ولا علاقة لهذه الآية به.

والرزق: هنا اسم للشيء المرزوق به.
والحسن: الذي لا يشوبه قبح في نوعه مثل قلة وجدان وقت الحاجة، أو إسراع فساد إليه كسوس البر، أو رداءة كالحشف. ووجه الشبه هو المعنى الحاصل في حال المشبه به من الحقارة وعدم أهلية التصرف والعجز عن كل عمل، ومن حال الحرية والغنى والتصرف كيف يشاء.
وجعلت جملة {فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ} مفرعة على التي قبلها دون أن تجعل صفة للرزق للدلالة على أن مضمون كلتا الجملتين مقصود لذاته كمال في موصوفه، فكونه صاحب رزق حسن كمال، وكونه يتصرف في رزقه بالإعطاء كمال آحر، وكلاهما بضد نقائص المملوك الذي لا يقدر على شيء من الإنفاق ولا ما ينفق منه.
وجعل المسند فعلا للدلالة على التقوي، أي ينفق إنفاقا ثابتا. وجعل الفعل مضارعا للدلالة على التجدد والتكرر، أي ينفق ويزيد.
{سِرّاً وَجَهْراً} حالان من ضمير {يُنْفِقُ} , وهما مصدران مؤولان بالصفة، أي مسرا وجاهرا بإنفاقه. والمقصود من ذكرهما تعميم الإنفاق، كناية عن استقلال التصرف وعدم الوقاية من مانع إياه عن الإنفاق.
وهذا مثل لغنى الله تعالى وجوده على الناس.
وجملة {هَلْ يَسْتَوُونَ} بيان لجملة {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً} فبين غرض التشبيه بأن المثل مراد منه عدم تساوي الحالتين ليستدل به على عدم مساواة أصحاب الحالة الأولى لصاحب الصفة المشبهة بالحالة الثانية.
والاستفهام مستعمل في الإنكار.
وأما جملة {الْحَمْدُ لِلَّهِ} فمعترضة بين الاستفهام المفيد للنفي وبين الإضراب بـ {بَلْ} الانتقالية. والمقصود من هذه الجملة أنه تبين من المثل اختصاص الله بالإنعام فوجب أن يختص بالشكر وأن أصنامهم لا تستحق أن تشكر.
ولما كان الحمد مظهرا من مظاهر الشكر في مظهر النطق جعل كناية عن الشكر هنا، إذ كان الكلام على إخلال المشركين بواجب الشكر إذ أثنوا على الأصنام وتركوا الثناء

على الله وفي الحديث "الحمد رأس الشكر". 1
جيء بهذه الجملة البليغة الدلالة المفيدة انحصار الحمد في ملك الله تعالى، وهو إما حصر ادعائي لأن الحمد إنما يكون على نعمة، وغير الله إذا أنعم فإنما إنعامه مظهر لنعمة الله تعالى التي جرت على يديه، كما تقدم في صدر سورة الفاتحة، وإما قصر إضافي قصر إفراد للرد على المشركين إذ قسموا حمدهم بين الله وبين آلهتهم.
ومناسبة هذا الاعتراض هنا تقدم قوله تعالى: {وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} [النحل:72] {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً} [النحل:73]. فلما ضرب لهم المثل المبين لخطئهم وأعقب بجملة {هَلْ يَسْتَوُونَ} ثني عنان الكلام إلى الحمد لله لا للأصنام.
وجملة {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} إضراب للانتقال من الاستدلال عليهم إلى تجهيلهم في عقيدتهم.
وأسند نفي العلم إلى أكثرهم لأن منهم من يعلم الحق ويكابر استبقاء للسيادة واستجلابا لطاعة دهمائهم، فهذا ذم لأكثرهم بالصراحة وهو ذم لأقلهم بوصمة المكابرة والعناد بطريق التعريض.
وهذا نظير قوله تعالى في سورة الزمر [29] {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ}.
وإنما جاءت صيغة الجمع في قوله تعالى: {هَلْ يَسْتَوُونَ} لمراعاة أصحاب الهيئة المشبهة، لأنها أصنام كثيرة كل واحد منها مشبه بعبد مملوك لا يقدر على شيء، فصيغة الجمع هنا تجريد للتمثيلية، أي هل يستوي أولئك مع الإله الحق القادر المتصرف. وإنما أجري ضمير جمعهم على صيغة جمع العالم تغليبا لجانب أحد التمثيلين وهو جانب الإله القادر.
[76] {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ
ـــــــ
1رواه عبد الرزاق عن عبد الله بن عمر مرفوعا وفي سنده انقطاع،وروى الديلمي ما يؤيد معنى هذا الحديث من حديث أنس بن مالك مرفوعا.

مُسْتَقِيمٍ}.
هذا تمثيل ثان للحالتين بحالتين باختلاف وجه الشبه. فاعتبر هنا المعنى الحاصل من حال الأبكم، وهو العجز عن الإدراك، وعن العمل، وتعذر الفائدة منه في سائر أحواله؛ والمعنى الحاصل من حال الرجل الكامل العقل والنطق في إدراكه الخير وهديه إليه وإتقان عمله وعمل من يهديه ضربه الله مثلا لكماله وإرشاده الناس إلى الحق، ومثلا للأصنام الجامدة التي لا تنفع ولا تضر.
وقد قرن في التمثيل هنا حال الرجلين ابتداء، ثم فصل في آخر الكلام مع ذكر عدم التسوية بينهما بأسلوب من نظم الكلام بديع الإيجاز، إذ حذف من صدر التمثيل ذكر الرجل الثاني للاقتصار على ذكره في استنتاج عدم التسوية تفننا في المخالفة بيبن أسلوب هذا التمثيل وأسلوب سابقه الذي في قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً} [النحل:75]. ومثل هذا التفنن من مقاصد البلغاء كراهية للتكرير لأن تكرير الأسلوب بمنزلة تكرير الألفاظ.
والأبكم: الموصوف بالبكم بفتح الباء والكاف وهو الخرس في أصل الخلقة من وقت الولادة بحيث لا يفهم ولا يفهم. وزيد في وصفه أنه زمن لا يقدر على شيء. وتقدم عند قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} في أول سورة البقرة [18].
والكل - بفتح الكاف - العالة على الناس. وفي الحديث من ترك كلا فعلينا، أي من ترك عيالا فنحن نكلفهم. وأصل الكل: الثقل. ونشأت عنه معان مجازية اشتهرت فساوت الحقيقة.
والمولى: الذي يلي أمر غيره. والمعنى: هو عالة على كافله لا يدبر أمر نفسه. وتقدم عند قوله تعالى: {بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ} في سورة آل عمران [56]، وقوله تعالى: {وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ} في سورة يونس [30].
ثم زاد وصفه بقلة الجدوى بقوله تعالى: {أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ}، أي مولاه في عمل ليعمله أو يأتي به لا يأت بخير، أي لا يهتدي إلى ما وجه إليه لأن الخير هو ما فيه تحصيل الغرض من الفعل ونفعه.
ودلت صلة {يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} على أنه حكيم عالم بالحقائق ناصح للناس يأمرهم بالعدل لأنه لا يأمر بذلك إلا وقد علمه وتبصر فيه.

والعدل: الحق والصواب الموافق للواقع.
والصراط المستقيم: المحجة التي لا التواء فيها. وأطلق هنا على العمل الصالح، لأن العمل يشبه بالسيرة والسلوك فإذا كان صالحا كان كالسلوك في طريق موصلة للمقصود واضحة فهو لا يستوي مع من لا يعرف هدى ولا يستطيع إرشادا بل هو محتاج إلى من يكفله.
فالأول مثل الأصنام الجامدة التي لا تفقه وهي محتاجة إلى من يحرسها وينفض عنها الغبار والوسخ، والثاني مثل لكماله تعالى في ذاته وإفاضته الخير على عباده.
[77] {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
كان مما حكي من مقالات كفرهم أنهم أقسموا بالله لا يبعث الله من يموت، لأنهم توهموا أن إفناء هذا العالم العظيم وإحياء العظام وهي رميم أمر مستحيل، وأبطل الله ذلك على الفور بأن الله قادر على كل ما يريده.
ثم انتقل الكلام عقب ذلك إلى بسط الدلائل على الوحدانية والقدرة وتسلسل البيان وتفننت الأغراض بالمناسبات، فكان من ذلك تهديدهم بأن الله لو يؤاخذ الناس بظلمهم ما ترك على الأرض من دابة، ولكنه يمهلهم ويؤخرهم إلى أجل عينه في علمه لحكمته وحذرهم من مفاجأته، فثنى عنان الكلام إلى الاعتراض بالتذكير بأن الله لا يخرج من قدرته أعظم فعل مما غاب عن إدراكهم وأن أمر الساعة التي أنكروا إمكانها وغرهم تأخير حلولها هي مما لا يخرج عن تصرف الله ومشيئته متى شاءه. فذلك قوله تعالى: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} بحيث لم يغادر شيئا مما حكي عنهم من كفرهم وجدالهم إلا وقد بينه لهم استقصاء للأعذار لهم.
ومن مقتضيات تأخير هذا أنه يشتمل بصريحة على تعليم وبإيمائه إلى تهديد وتحذير.
فاللام في قوله: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} لام الملك. والغيب: مصدر بمعنى اسم الفاعل، أي الأشياء الغائبة. وتقدم في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3]. وهو الغائب عن أعين الناس من الأشياء الخفية والعوالم التي لا تصل

إلى مشاهدتها حواس المخلوقات الأرضية.
والإخبار بأنها ملك لله يقتضي بطريق الكناية أيضا أنه عالم بها.
وتقديم المجرور أفاد الحصر، أي له لا لغيره. ولام الملك أفادت الحصر، فيكون التقديم مفيدا تأكيد الحصر أو هو للاهتمام.
و {أَمْرُ السَّاعَةِ}: شأنها العظيم فالأمر: الشأن المهم، كما في قوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل:1]، وقول أبي بكر - رضي الله عنه -: "ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر"، أي شأن وخطب.
و {السَّاعَةِ}: علم الغلبة على وقت فناء العالم، وهي من جملة غيب الأرض.
ولمح البصر: توجهه إلى المرئي لأن اللمح هو النظر. ووجه الشبه هو كونه مقدورا بدون كلفة، لأن لمح البصر هو أمكن وأسرع حركات الجوارح فهو أيسر وأسرع من نقل الأرجل في المشي ومن الإشارة باليد.
وهذا التشبيه أفصح من الذي في قول زهير:
فهن ووادي الرس كاليد للفم
ووجه الشبه يجوز أن يكون تحقق الوقوع بدون مشقة ولا أنظار عند إرادة الله تعالى ووقوعه، وبذلك يكون الكلام إثباتا لإمكان الوقوع وتحذيرا من الاغترار بتأخيره.
ويجوز أن يكون وجه الشبه السرعة، أي سرعة الحصول عند إرادة الله أي يحصل فجأة بدون أمارات كقوله تعالى: {لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً} [ألأعراف:187].
والمقصود: إنذارهم وتحذيرهم من أن تبغتهم الساعة ليقلعوا عما هم فيه من وقت الإنذار. ولا يتوهم أن يكون البصر تشبيها في سرعة الحصول إذ احتمال معطل لأن الواقع حارس منه.
و {أَوْ} في {أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} للإضراب الانتقالي، إضرابا عن التشبيه الأول بأن المشبه أقوى في وجه الشبه من المشبه به، فالمتكلم يخيل للسامع أنه يريد تقريب المعنى إليه بطريق التشبيه ثم يعرض عن التشبيه بأن المشبه أقوى في وجه الشبه وأنه لا يجد له شبيها فيصرح بذلك فيحصل التقريب ابتداء ثم الإعراب عن الحقيقة ثانيا.
ثم المراد بالقرب في قوله تعالى: {أَقْرَبُ} على الوجه الأول في تفسير لمح البصر

هو القرب المكاني كناية عن كونه في المقدورية بمنزلة الشيء القريب التناول كقوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [قّ:16].
وعلى الوجه الثاني في تفسيره يكون القرب قرب الزمان، أي أقرب من لمح البصر حصة، أي أسرع حصولا.
والتذييل بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} صالح لكلا التفسيرين.
[78] {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}
عود إلى إكثار الدلائل على انفراد الله بالتصرف وإلى تعداد النعم على البشر عطفا على جملة {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} [النحل:72] بعدما فصل بين تعداد النعم بما اقتضاه الحال من التذكير والإنذار.
وقد اعتبر في هذه النعم ما فيها من لطف الله تعالى بالناس ليكون من ذلك التخلص إلى الدعوة إلى الإسلام وبيان أصول دعوة الإسلام في قوله تعالى: {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} [النحل:81] إلى آخره.
والمعنى: أنه كما أخرجكم من عدم وجعل فيكم الإدراك وما يتوقف عليه الإدراك من الحياة فكذلك ينشئكم يوم البعث بعد العدم.
وإذ كان هذا الصنع دليلا على إمكان البعث فهو أيضا باعث على شكر الله بتوحيده ونبذ الإشراك فإن الإنعام يبعث العاقل على الشكر.
وافتتاح الكلام باسم الجلالة وجعل الخبر عنه فعلا تقدم بيانه عند قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [النحل:65] والآيات بعده.
والإخراج: الإبراز من مكان إلى آخر.
والأمهات: جمع أم. وقد تقدم عند قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} في سورة النساء [23].
والبطن: ما بين ضلوع الصدر إلى العانة، وفيه الأمعاء والمعدة والكبد والرحم.
وجملة {لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً} حال من الضمير في {أَخْرَجَكُمْ}. وذلك أن

الطفل حين يولد لم يكن له علم بشيء ثم تأخذ حواسه تنقل الأشياء تدريجا فجعل الله في الطفل آلات الإدراك وأصول التفكر.
فقوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} تفسيره أنه أوجد فيكم إدراك السمع والبصر والعقل، أي كونها في الناس حتى بلغت مبلغ كمالها الذي ينتهي بها إلى علم أشياء كثيرة، كما دلت عليه مقابلته بقوله تعالى: {لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً}، أي فعلمتم أشياء.
ووجه إفراد السمع وجمع الأبصار تقدم عند قوله تعالى: {أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} في سورة يونس [31]، وقوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ} في سورة الأنعام [46].
و {الْأَفْئِدَةَ} الأفئدة: جمع الفؤاد، وأصله القلب. ويطلق كثيرا على العقل وهو المراد هنا. فالسمع والبصر أعظم آلات الإدراك إذ بهما إدراك أهم الجزئيات، وهما أقوى الوسائل لإدراك العلوم الضرورية.
فالمراد بالسمع: الإحساس الذي به إدراك الأصوات الذي آلته الصماخ، وبالإبصار: الإحساس المدرك للذوات الذي آلته الحدقة. واقتصر عليهما من بين الحواس لأنهما أهم، ولأن بهما إدراك دلائل الاعتقاد الحق.
ثم ذكر بعدهما الأفئدة، أي العقل مقر الإدراك كله، فهو الذي تنقل إليه الحواس مدركاتها، وهي العلم بالتصورات المفردة.
وللعقل إدراك آخر وهو إدراك اقتران أحد المعلومين بالآخر، وهو التصديقات المنقسمة إلى البديهيات: ككون نفي الشيء وإثباته من سائر الوجوه لا يجتمعان، وككون الكل أعظم من الجزء.
وإلى النظريات وتسمى الكسبيات، وهي العلم بانتساب أحد المعلومين إلى الآخر بعد حركة العقل في الجمع بينهما أو التفريق، مثل أن يحضر في العقل: أن الجسم ما هو، وأن المحدث بفتح الدال ما هو. فإن مجرد هذين التصورين في الذهن لا يكفي في جزم العقل بأن الجسم محدث بل لا بد فيه من علوم أخرى سابقة وهي ما يدل على المقارنة بين ماهية الجسمية وصفة الحدوث.
فالعلوم الكسبية لا يمكن اكتسابها إلا بواسطة العلوم البديهية. وحصول هذه العلوم

البديهية إنما يحصل عند حدوث تصور موضوعاتها وتصور محمولاتها. وحدوث هذه التصورات إنما هو بسبب إعانة الحواس على جزئياتها، فكانت الحواس الخمس هي السبب الأصلي لحدوث هذه العلوم، وكان السمع والبصر أول الحواس تحصيلا للتصورات وأهمها.
وهذه العلوم نعمة من الله تعالى ولطف، لأن بها إدراك الإنسان لما ينفعه وعمل عقله فيما يدله على الحقائق، ليسلم من الخطأ المفضي إلى الهلاك والأرزاء العظيمة، فهي نعمة كبرى. ولذلك قال تعالى عقب ذكرها {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، أي هي سبب لرجاء شكرهم واهبها سبحانه.
والكلام على معنى {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} مضى غير مرة في نظيره ومماثله.
[79] {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}
موقع هذه الجملة موقع التعليل والتدليل على عظيم قدرة الله وبديع صنعه وعلى لطفه بالمخلوقات، فإنه لما ذكر موهبة العقل والحواس التي بها تحصيل المنافع ودفع الأضرار نبه الناس إلى لطف يشاهدونه أجلى مشاهدة لأضعف الحيوان، بأن تسخير الجو للطير وخلقها صالحة لأن ترفرف فيه بدون تعليم هو لطف بها اقتضاه ضعف بنياتها، إذ كانت عادمة وسائل الدفاع عن حياتها، فجعل الله لها سرعة الانتقال مع الابتعاد عن تناول ما يعدو عليها من البشر والدواب.
فلأجل هذا الموقع لم تعطف الجملة على التي قبلها لأنها ليس في مضمونها نعمة على البشر، ولكنها آية على قدرة الله تعالى وعلمه، بخلاف نظيرتها في سورة الملك [19] {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ} فإنها عطفت على آيات دالة على قدرة الله تعالى من قوله: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [الملك:5] ثم قال: {وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الملك:6] ثم قال: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} [الملك:16] ثم قال: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ} الآية. ولذلك المعنى عقبت هذه وحدها بجملة {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.
والتسخير: التذليل للعمل. وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} في سورة الأعراف [54].

والجو: الفضاء الذي بين الأرض والسماء. وإضافته إلى السماء لأنه يبدو متصلا بالقبة الزرقاء في ما يخال الناظر.
والإمساك: الشد عن التفلت. وتقدم في قوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} في سورة البقرة [229].
والمراد هنا: ما يمسكهن عن السقوط إلى الأرض من دون إرادتها، وإمساك الله إياها خلقه الأجتحة لها والأذناب، وجعله الأجنحة والأذناب قابلة للبسط، وخلق عظامها أخف من عظام الدواب بحيث إذا بسطت أجنحتها وأذنابها ونهضت بأعصابها خفت خفة شديدة فسبحت في الهواء فلا يصلح ثقلها لأن يخرق ما تحتها من الهواء إلا إذا قبضت من أجنحتها وأذنابها وقوست أعصاب أصلابها عند إرادتها النزول إلى الأرض أو الانخفاض في الهواء. فهي تحوم في الهواء كيف شاءت ثم تقع متى شاءت أو عييت. فلولا أن الله خلقها على تلك الحالة لما استمسكت، فسمي ذلك إمساكا على وجه الاستعارة، وهو لطف بها.
والرؤية: بصرية. وفعلها يتعدى بنفسه، فتعديته بحرف {إلى} لتضمين الفعل معنى "ينظروا".
و {مُسَخَّرَاتٍ}. وجملة {ما يمسكهن إلا الله} حال ثانية.
وقرأ الجمهور {أَلَمْ يَرَوْا} بياء الغائب على طريقة الالتفات عن خطاب المشركين في قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} [النحل:78].
وقرأ ابن عامر وحمزة ويعقوب وخلف {أَلَمْ تَرَوْا} بتاء الخطاب تبعا للخطاب المذكور.
والاستفهام إنكاري. معناه: إنكار انتفاء رؤيتهم الطير مسخرات في الجو بتنزيل رؤيتهم إياها منزلة عدم الرؤية، لانعدام فائدة الرؤية من إدراك ما يدل عليه المرئي من انفراد الله تعالى بالإلهية.
وجملة {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} مستأنفة استئنافا بيانيا، لأن الإنكار على المشركين عدم الانتفاع بما يرونه من الدلائل يثير سؤالا في نفس السامع: أكان عدم الانتفاع بدلالة رؤية الطير عاما في البشر، فيجاب بان المؤمنين يستدلون من ذلك بدلالات كثيرة.

والتأكيد بـ {إِنَّ} مناسب لاستفهام الإنكار على الذين لم يروا تلك الآيات، فأكدت الجملة الدالة على انتفاع المؤمنين بتلك الدلالة، لأن الكلام موجه للذين لم يهتدوا بتلك الدلالة، فهم بمنزلة من ينكر أن في ذلك دلالة للمؤمنين لأن المشركين ينظرون بمرآة أنفسهم.
وبين الإنكار عليهم عدم رؤيتهم تسخير الطير وبين إثبات رؤية المؤمنين محسن الطباق. وبين نفي عدم رؤية المشركين وتأكيد إثبات رؤية المؤمنين لذلك محسن الطباق أيضا. وبين ضمير {يروا} وقوله: "قوم يؤمنون" التضاد أيضا، فحصل الطباق ثلاث مرات. وهذا أبلغ طباق جاء محويا للبيان.
وجمع الآيات لأن في الطير دلائل مختلفة: من خلقة الهواء، وخلقة أجساد الطير مناسبة للطيران في الهواء، وخلق الإلهام للطير بان يسبح في الجو، وبأن لا يسقط إلى الأرض إلا بإرادته. وخصت الآيات بالمؤمنين لأنهم بخلق الإيمان قد ألفوا إعمال تفكيرهم في الاستدلال على حقائق الأشياء، بخلاف أهل الكفر فإن خلق الكفر مطبوع على النفرة من الاقتداء بالناصحين وعلى مكابرة الحق.
[80] {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ}
هذا من تعداد النعم التي ألهم الله إليها الإنسان، وهي نعمة الفكر بصنع المنازل الواقية والمرفهة وما يشبهها من الثياب والأثاث عطفا على جملة {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً} [النحل:78]. وكلها من الألطاف التي أعد الله لها عقل الإنسان وهيأ له وسائلها.
وهذه نعمة الإلهام إلى اتخاذ المساكن وذلك أصل حفظ النوع من غوائل حوادث الجو من شدة برد أو حر ومن غوائل السباع والهوام. وهي أيضا أصل الحضارة والتمدن لأن البلدان ومنازل القبائل تتقوم من اجتماع البيوت. وأيضا تتقوم من مجتمع الحلل والخيام.
والقول في نظم جملة {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ} كالقول في التي قبلها.

وبيوت: يجوز فيه ضم الموحدة وكسرها، وهو جمع بيت. وضم الموحدة هو القياس لأنه على وزن فعول، وهو مطرد في جمع فعل - بفتح الفاء وسكون العين -. وأما لغة كسر الباء فلمناسبة وقوع الياء التحتية بعد الموحدة المضمونة، لأن الانتقال من حركة الضم إلى النطق بالياء ثقيل. وقال الزجاج: أكثر النحويين لا يعرفون الكسر "أي لا يعرفونه لغة" وبين أبو علي جوازه. وتقدم في سورة البقرة.
وبالكسر قرأ الجمهور. وقرأها بالضم أبو عمرو وورش عن نافع و حفص عن عاصم.
والبيت: مكان يجعل له بناء وفسطاط يحيط به يعين مكانه ليتخذه جاعله مفرا يأوي إليه ويستكن به من الحر و القر. وقد يكون محيطه من حجر وطين ويسمى جدارا، أو من أخشاب أو قصب أو غير ذلك وتسمى أيضا الأخصاص. ويوضع فوق محيطه غطاء ساتر من أعلاه يسمى السقف، يتخذ من أعواد ويطين عليها، وهذه بيوت أهل المدن والقرى.
وقد يكون المحيط بالبيت متخذا من أديم مدبوغ ويسمى القبة، أو من أثواب تنسج من وبر أو شعر أو صوف ويسمى الخيمة أو الخباء، وكلها يكون بشكل قريب من الهرمي تلتقي شقتاه أو شققه من أعلاه معتمدة على عمود وتنحدر منه متسعة على شكل مخروط. وهذه بيوت الأعراب في البوادي أهل الإبل والغنم يتخذونها لأنها أسعد لهم في انتجاعهم، فينقلونها معهم إذا انتقلوا يتتبعون مواقع الكلأ لإنعامهم والكمأة لعيشهم. وقد تقدم ذكر البيت عند قوله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً} في سورة البقرة [125].
و {جَعَلَ} هنا بمعنى أوجد، فتتعدى إلى مفعول واحد.
والسكن: اسم بمعنى المسكون. والسكنى: مصدر سكن فلان البيت. إذا جعله مقرا له، وهو مشتق من السكون، أي القرار.
وانتصب قوله تعالى: {سَكَناً} على المفعولية لـ {جَعَلَ}.
وقوله: {مِنْ بُيُوتِكُمْ} بيان للسكن، فتكون {مِنْ} بيانية، أو تجعل ابتدائية ويكون الكلام من قبيل التجريد بتنزيل البيوت منزلة شيء آخر غير السكن، كقولهم: لئن لقيت فلانا لتقين منه بحرا. وأصل التركيب: والله جعل لكم بيوتكم سكنا.
وقيل: إن {سَكَناً} مصدر وهو قول ضعيف، وعليه فيكون الامتنان بالإلهام الذي

دل عليه السكون، وتكون {مِنْ} ابتدائية، لأن أول السكون يقع في البيوت.
وشمل البيوت هنا جميع أصنافها.
وخص بالذكر القباب والخيام في قوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتاً} لأن القباب من أدم والخيام من منسوج الأوبار والأصواف والأشعار، وهي ناشئة من الجلد، لأن الجلد هو الإهاب بما عليه، فإذا دبغ وأزيل منه الشعر فهو الأديم.
وهذا امتنان خاص بالبيوت القابلة للانتقال والارتحال والبشر كلهم لا يعدون أن يكونوا أهل قرى أو قبائل رحلا.
والسين والتاء في {تَسْتَخِفُّونَهَا} للوجدان، أي تجدونها خفيفة، أي خفيفة المجمل حين ترحلون، إذ يسهل نقضها من مواضعها وطيها وحملها على الرواحل، وحين تنيخون إناخة الإقامة في الموضع المنتقل إليه فيسهل ضربها وتوثيقها في الأرض.
والظعن - بفتح الظاء والعين وتسكن العين -. وقد قرأه بالأول نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر ويعقوب، وبالثاني الباقون، وهو السفر.
وأطلق اليوم على الحين والزمن، أي وقت سفركم.
والأثاث - بفتح الهمزة - اسم جمع للأشياء التي تفرش في البيوت من وسائد وبسط وزرابي، وكلها تنسج أو تحشى بالأصواف والأشعار والأوبار.
والمتاع أعم من الأثاث، فيشمل الأعدال و الخطم و الرحائل و اللبود والعقل.
فالمتاع: ما يتمتع به وينتفع، وهو مشتق من المتع، وهو الذهاب بالشيء، ولملاحظة استقاقه تعلق به إلى حين. والمقصود من هذا المتعلق الوعظ بأنها أو أنهم صائرون إلى زوال يحول دون الانتفاع بها ليكون الناس على أهبة واستعداد للآخرة فيتبعوا ما يرضي الله تعالى، كما قال: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الاحقاف:20].
[81] {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ}

عطف على أخواتها.
والقول في نظم {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ} كالقول في نظائره المتقدمة.
وهذا امتنان بنعمة الإلهام إلى التوقي من أضرار الحر والقر في حالة الانتقال، أعقبت به المنة بذلك في حال الإقامة والسكنى، وبنعمة خلق الأشياء التي يكون بها ذلك التوقي باستعمال الموجود وصنع ما يحتاج إليه الإنسان من اللباس، إذ خلق الله الظلال صالحة للتوقي من حر الشمس، وخلق الكهوف في الجبال ليمكن اللجأ إليها، وخلق مواد اللباس مع الإلهام إلى صناعة نسجها، وخلق الحديد لاتخاذ الدروع للقتال.
و "من" في {مِمَّا خَلَقَ} ابتدائية.
والظلال تقدم الكلام عليه عند قوله تعالى: {يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ} [النحل:48] آنفا، لأن الظلال آثار حجب الأجسام ضوء الشمس من الوقوع على الأرض.
والأكنان: جمع كن - بكسر الكاف - وهو فعل بمعنى مفعول، أي مكنون فيه، وهي الغيران والكهوف.
و "من" في قوله تعالى: {مِمَّا خَلَقَ}، و {مِنَ الْجِبَالِ} ، للتبعيض. كانوا يأوون إلى الكهوف في شدة حر الهجير أو عند اشتداد المطر، كما ورد في حديث الثلاثة الذين سألوا الله بأفضل أعمالهم في"صحيح البخاري".
والسرابيل:جمع سربال، وهو القميص يقي الجسد حر الشمس، كما يقيه البرد.
وخص الحر هنا لأنه أكثر أحوال بلاد المخاطبين في وقت نزولها.على أنه لما ذكر الدفء في قوله تعالى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} [النحل:5] ذكر ضده هنا.
والسرابيل التي تقي البأس: هي دروع الحديد. ولها من أسماء القميص الدرع، والسربال، والبدن.
والبأس: الشدة في الحرب. وإضافة إلى الضمير على معنى التوزيع، أي تقي بعضكم بأس بعض، كما فسر به قوله تعالى: {وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام:65]، وقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} [الحديد:25]، وهو

بأس السيوف، وقوله تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ} [الانبياء: 80].
وجملة {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} تذييل لما ذكر من النعم، والمشار إليه هو ما في النعم المذكورة من الإتمام، أو إلى الإتمام المأخوذ من {يُتِمُّ}.
و "لعل" للرجاء، استعملت في معنى الرغبة، أي رغبة في أن تسلموا، أي تتبعوا دين الإسلام الذي يدعوكم إلى ما مآله شكر نعم الله تعالى.
وتقدم تأويل معنى الرجاء في كلام الله تعالى من سورة البقرة.
[82] {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ}
تفريع على جملة {لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} وقع اعتراضا بين جملة {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} [النحل:81] وجملة {وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً} [النحل:84].
وقد حول الخطاب عنهم إلى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو نوع من الالتفات من أسلوب إلى أسلوب والتفات عمن كان الكلام موجها إليه بتوجيه الكلام إلى شخص آخر.
والمعنى: كذلك يتم نعمته عليكم لتسلموا فإن لم يسلموا فإنما عليك البلاغ.
والمقصود: تسلية النبي صلى الله عليه وسلم على عدم استجابتهم.
والتولي: الإعراض. وفعل {تَوَلَّوْا} هنا بصيغة المضي، أي فإن أعرضوا عن الدعوة فلا تقصير منك ولا غضاضة عليك فإنك قد بلغت البلاغ المبين للمحجة.
والقصر إضافي، أي ما عليك إلا البلاغ لا تقليب قلوبهم إلى الإسلام، أو لا تولي جزاءهم على الإعراض، بل علينا جزاؤهم كقوله تعالى: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [الرعد:40].
وجعل هذا جوابا لجملة {فَإِنْ تَوَلَّوْا} من إقامة السبب والعلة مقام المسبب والمعلول: وتقدير الكلام: فإن تولوا فلا تقصير ولا مؤاخذة عليك لأنك ما عليك إلا البلاغ. ونظير هذه قوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [المائدة:92].

[83] {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ}
استئناف بياني لأن توليهم عن الإسلام مع وفرة أسباب اتباعه يثير سؤالا في نفس السامع: كيف خفيت عليهم دلائل الإسلام. فيجاب بأنهم عرفوا نعمة الله ولكنهم أعرضوا عنها إنكارا ومكابرة. ويجوز أن تجعلها حالا من ضمير {تَوَلَّوْا}. ويجوز أن تكون بدل اشتمال لجملة {تَوَلَّوْا}.
وهذه الوجوه كلها تقتضي عدم عطفها على ما قبلها. والمعنى: هم يعلمون نعمة الله المعدودة عليهم فإنهم منتفعون بها، ومع تحققهم أنها نعمة من الله ينكرونها، أي ينكرون شكرها فإن النعمة تقتضي أن يشكر المنعم عليه بها من أنعم عليه، فلما عبدوا ما لا ينعم عليهم فكأنهم أنكروها، فقد أطلق فعل" ينكرون "بمعنى إنكار حق النعمة، فإسناد إنكار النعمة إليهم مجاز لغوي، أو هو مجاز عقلي، أي ينكرون ملابسها وهو الشكر.
و {ثُمَّ} للتراخي الرتبي، كما هو شأنها في عطف الجمل، فهو عطف على جملة {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ}، وكأنه قيل: وينكرونها، لأن {ثُمَّ} لما كانت للعطف اقتضت التشريك في الحكم، ولما كانت للتراخي الرتبي زال عنها معنى المهلة الزمانية الموضوعة هي له فبقي لها معنى التشريك وصارت المهلة مهلة رتبية لأن إنكار نعمة الله أمر غريب.
وإنكار النعمة يستوي فيه جميع المشركين أيمتهم ودهماؤهم، ففريق من المشركين وهم أيمة الكفر شانهم التعقل والتأمل فإنهم عرفوا النعمة بإقرارهم بالمنعم وبما سمعوا من دلائل القرآن حتى ترددوا وشكوا في دين الشرك ثم ركبوا رؤوسهم وصمموا على الشرك. ولهذا عبر عن ذلك بالإنكار المقابل للإقرار.
وأما قوله تعالى: {وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} فظاهر كلمة "أكثر" وكلمة {الْكَافِرُونَ} أن الذين وصفوا بأنهم الكافرون هم غالب المشركين لا جميعهم، فيحمل المراد بالغالب على دهماء المشركين، فإن معظمهم بسطاء العقول بعداء عن النظر فهم لا يشعرون بنعمة الله، فإن نعمة الله تقتضي إفراده بالعبادة، فكان إشراكهم راسخا، بخلاف عقلائهم وأهل النظر فإن لهم ترددا في نفوسهم ولكن يحملهم على الكفر حب السيادة في قومهم. وقد تقدم قوله تعالى فيهم {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [المائدة:103]. وهم الذين قال الله تعالى فيهم في الآية الأخرى {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33].

[84] {وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ}
الواو عاطفة جملة {يَوْمَ نَبْعَثُ} الخ على جملة {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النحل:82] بتقدير: واذكر يوم نبعث من كل أمة شهيدا. فالتذكير بذلك اليوم من البلاغ المبين. والمعنى: فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين، وسنجازي يوم نبعث من كل أمة شهيدا عليها. ذلك أن وصف شهيد يقتضي أنه شاهد على المؤمنين به وعلى الكافرين، أي شهيد لأنه بلغهم رسالة الله.
وبعث شهيد من كل أمة يفيد أن محمدا صلى الله عليه وسلم شهيد على هؤلاء الكافرين كما سيجيء عقبه قوله تعالى: {وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاءِ} [النحل:89]، وبذلك انتظم أمر العطف والتخلص إلى وصف يوم الحساب وإلى التنويه بشأنه.
وانتصب {يَوْمَ نَبْعَثُ} على المفعول به للفعل المقدر. ولك أن تجعل {يَوْمَ} منصوبا على الظرفية لعامل محذوف يدل عليه الكلام المذكور يقدر بما يسمح به المعنى، مثل: نحاسبهم حسابا لا يستعتبون منه، أو وقعوا فيما وقعوا من الخطب العظيم.
والذي دعا إلى هذا الحذف هو أن ما حقه أن يكون عاملا في الظرف وهو {لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} قد حول إلى جعله معطوفا على جملة الظرف بحرف {ثُمَّ} الدال على التراخي الرتبي، إذ الأصل: ويوم نبعث من كل أمة شهيدا لا يؤذن للذين كفروا... إلى آخره، فبقي الظرف بدون متعلق فلم يكن للسامع بد من تقديره بما تذهب إليه نفسه. وذلك يفيد التهويل والتفظيع وهو من بديع الإيجار.
والشهيد: الشاهد. وقد تقدم نظيره عند قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ} في سورة النساء [41].
والبعث: إحضاره في الموقف.
و {ثُمَّ} للترتيب الرتبي، لأن إلجامهم عن الكلام مع تعذر الاستعتاب أشد هولا من الإتيان بالشهيد عليهم. وليست {ثُمَّ} للتراخي في الزمن، لأن عدم الإذن لهم مقارن لبعث الشهيد عليهم. والمعنى: لا يؤذن لهم بالمجادلة عن أنفسهم، فحذف متعلق {يُؤْذَنُ} لظهوره من قوله تعالى: {وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ}.

ويجوز أن يكون نفي الإذن كناية عن الطرد كما كان الإذن كناية عن الإكرام، كما في حديث جرير بن عبد الله: "ما استأذنت رسول الله منذ أسلمت إلا أذن لي" . وحينئذ لا يقدر له متعلق، أو لا يؤذن لهم في الخروج من جهنم حين يسألونه بقولهم: {ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذَابِ} [غافر:49] فهو كقوله تعالى: {فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} [الجاثية:35].
و الاستعتاب: أصله طلب العتبى، والعتبى: الرضى بعد الغضب. يقال: استعتب فلان فلانا فأعتبه، إذا أرضاه، قال تعالى: {وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} [فصلت:24].
وإذا بني للمجهول فالأصل أن يكون نائب فاعله هو المطلوب منه الرضى، تقول: استعتب فلان فلم يعتب. وأما ما وقع في القرآن منه مبنيا للمجهول فقد وقع نائب فاعله ضمير المستعتبين كما في هذه الآية وكما في قوله تعالى في سورة الروم [57] {فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ}، وفي سورة الجاثية [35] {فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ}. ففسره الراغب فقال: الاستعتاب أن يطلب من الإنسان أن يطلب العتبى اه.
وعليه فقال: استعتب فلم يستعتب، ويقال: على الأصل استعتب فلان فلم يعتب. وهذا استعمال نشأ عن الحذف. وأصله: استعتب له، أي طلب منه أن يستعتب، فكثر في الاستعمال حتى قل استعمال استعتب مبنيا للمجهول في غير هذا المعنى.
وعطف {وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} على {لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} وإن كان أخص منه، فهو عطف خاص على عام، للاهتمام بخصوصه للدلالة على أنهم مأيوس من الرضى عنهم عند سائر أهل الموقف بحيث يعلمون أن لا طائل في استعتابهم، فلذلك لا يشير أحد عليهم بأن يستعتبوا. فإن جعلت {لا يُؤْذَنُ} كناية عن الطرد فالمعنى: أنهم يطردون ولا يجدون من يشير عليهم بأن يستعتبوا.
[85] {وَإِذَا رَأى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ}
عطف على جملة {ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [النحل:84] و {إِذَا} شرطية ظرفية.
وجملة {فَلا يُخَفَّفُ} جواب {إِذَا} وقرن بالفاء لتأكيد معنى الشرطية والجوابية

لدفع احتمال الاستئناف.
وصاحب"الكشاف" جعل {إِذَا} ظرفا مجردا عن معنى الشرطية منصوبا بفعل محذوف لقصد التهويل يقتضي تقديره عدم وجود متعلق للظرف فيقدر له متعلق بما يناسب، كما قدر في قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ} [النحل:84]. والتقدير: إذا رأى الذين ظلموا العذاب ثقل عليهم وبغتهم، وعلى هذا فالفاء في قوله: {فَلا يُخَفَّفُ} فصيحة وليست رابطة للجواب.
و {الَّذِينَ ظَلَمُوا} هم الذين كفروا، فالتعبير به من الإظهار في مقام الإضمار لقصد إجراء الصفات المتلبسين بها عليهم. والمعنى: فلا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون، ثم يساقون إلى العذاب فإذا رأوه لا يخفف عنهم، أي يسألون تخفيفه أو تأخير الإقحام فيه فلا يستجاب لهم شيء من ذلك.
وأطلق العذاب على آلاته ومكانه.
وجاء المسند إليه مخبرا عنه بالجملة الفعلية، لأن الإخبار بالجملة الفعلية عن الاسم يفيد تقوي الحكم، فأريد تقوي حكم النفي، أي أن عدم تخفيف العذاب عنهم محقق الوقوع لا طماعية في إخلافه، فحصل تأكيد هذه الجملة كما حصل تأكيد الجملة التي قبلها بالفاء، أي فهم يلقون بسرعة في العذاب.
[86, 87] {وَإِذَا رَأى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}
{الَّذِينَ أَشْرَكُوا} هم الذين ظلموا الذين يرون العذاب، وهم الذين كفروا والذين لا يؤذن لهم. وإجراء هذه الصلات الثلاث عليهم لزيادة التسجيل عليهم بأنواع إجرامهم الراجعة إلى تكذيب ما دعاهم الله إليه، وهو نكتة الإظهار في مقام الإضمار هنا، كما تقدم في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ} [النحل:85].
فالإشراك المقصود هنا هو إشراكهم الأصنام في صفة الإلهية مع الله تعالى، فيتعين أن يكون المراد بالشركاء الأصنام، أي الشركاء لله حسب اعتقادهم. وبهذا الاعتبار أضيف لفظ "شركاء" إلى ضمير {الَّذِينَ ظَلَمُوا} في قوله تعالى: {شُرَكَاءَهُمْ}، كقول خالد بن

الصقعب النهدي لعمرو بن معد يكرب وقد تحدث عمرو في مجلس قوم بأنه أغار على بني نهد وقتل خالدا، وكان خالد حاضرا في ذلك المجلس فناداه: مهلا أبا ثور قتيلك يسمع، أي قتيلك المزعوم، فالإضافة للتهكم. والمعنى: إذا رأى الذين أشركوا الشركاء عندهم، أي في ظنهم.
ولك أن تجعل لفظ "شركاء" لقبا زال منه معنى الوصف بالشركة وصار لقبا للأصنام، فتكون الإضافة على أصلها.
والمعنى: أنهم يرون الأصنام حين تقذف معهم في النار، قال تعالى: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [البقرة:24].
وقولهم: {رَبَّنَا هَؤُلاءِ شُرَكَاؤُنَا} إما من قبيل الاعتراف عن غير إرادة فضحا لهم، كقوله تعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ} [النور:24]، وإما من قبيل التنصل وإلقاء التبعة على المعبودات كأنهم يقولون هؤلاء أغرونا بعبادتهم من قبيل قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا} [البقرة:167].
والفاء في {فَأَلْقَوْا} للتعقيب للدلالة على المبادرة بتكذيب ما تضمنه مقالهم، أنطق الله تلك الأصنام فكذبت ما تضمنه مقالهم من كون الأصنام شركاء لله، أو من كون عبادتهم بإغراء منها تفضيحا لهم وحسرة عليهم.
والجمع في اسم الإشارة واسم الموصول جمع العقلاء جريا على اعتقادهم إلهية الأصنام.
ولما كان نطق الأصنام غير جار على المتعارف عبر عنه بالإلقاء المؤذن بكون القول أجراه الله على أفواه الأصنام من دون أن يكونوا ناطقين فكأنه سقط منها.
وإسناد الإلقاء إلى ضمير الشركاء مجاز عقلي لأنها مظهره.
وأجرى عليهم ضمير جمع العقلاء في فعل"ألقوا"مشاكلة لاسم الإشارة واسم الموصول للعقلاء.
ووصفهم بالكذب متعلق بما تضمنه كلامهم أن أولئك آلهة يدعون من دون الله على نحو ما وقع في الحديث: "فيقال للنصارى:ما كنتم تعبدون، فيقولون: كنا نعبد المسيح ابن الله، فيقال لهم: كذبتم ما اتخذ الله من ولد".

وأما صريح كلامهم وهو قولهم: {هَؤُلاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ} فهم صادقون فيه.
وجملة {إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ} بدل من {القول}. وأعيد فعل {أَلْقَوْا} في قوله: {وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ} لاختلاف فاعل الإلقاء، فضمير القول الثاني عائد إلى {الَّذِينَ أَشْرَكُوا}.
ولك أن تجعل فعل {أَلْقَوْا} الثاني مماثلا لفعل {أَلْقَوْا} السابق. ولك أن تجعل الإلقاء تمثيلا لحالهم بحال المحارب إذا غلب إذ يلقي سلاحه بين يدي غالبه، ففي قوله: {أَلْقَوْا} مكنية تمثيلية مع ما في لفظ {أَلْقَوْا} من المشاكلة.
والسلم - بفتح اللام -: الاستسلام، أي الطاعة وترك العناد.
{وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} أي غاب عنهم وزايلهم ما كانوا بفترونه في الدنيا من الاختلافات للأصنام من أنها تسمع لهم ونحو ذلك.
[88] {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ}
لما ذكر العذاب الذين هم لاقوه على كفرهم استأنف هنا بذكر زيادة العذاب لهم على الزيادة في كفرهم بأنهم يصدون الناس عن اتباع الإسلام، وهو المراد بالصد عن سبيل الله، أي السبيل الموصلة إلى الله، أي إلى الكون في أوليائه وحزبه. والمقصود: تنبيه المسلمين إلى كيدهم وإفسادهم، والتعريض بالتحذير من الوقوع في شراكهم.
وزيادة العذاب: مضاعفته.
والتعريف في قوله تعالى: {فَوْقَ الْعَذَابِ} تعريف الجنس المعهود حيث تقدم ذكره في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ} [النحل:85]، لأن عذاب كفرهم لما كان معلوما بكثرة الحديث عنه صار كالمعهود، وأما عذاب صدهم الناس فلا يخطر بالبال فكان مجهولا فناسبه التنكير.
والباء في {بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} للسببية. والمراد: إفسادهم الراغبين في الإسلام بتسويل البقاء على الكفر، كما فعلوا مع الأعشى حين جاء مكة راغبا في الإسلام مادحا الرسول صلى الله عليه وسلم بقصيدة:
هل اغتمضت عيناك ليلة أرمدا

وقصته في كتب السيرة والأدب. وكما فعلوا مع عامر بن الطفيل الدوسي فإنه قدم مكة فمشى إليه رجال من قريش فقالوا: يا طفيل إنك قدمت بلادنا وهذا الرجل الذي بين أظهرنا قد أعضل بنا وقد فرق جماعتنا وشتت أمرنا وإنما قوله كالسحر، وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا فلا تكلمنه ولا تسمعن منه. وقد ذكر في قصة إسلام أبي ذر كيف تعرضوا له بالأذى في المسجد الحرام حين علموا إسلامه.
[89] {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}
{وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاءِ}
تكرير لجملة {وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [النحل:84]
ليبنى عليه عطف جملة {وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاءِ} على جملة {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ}.
ولما كان تكريرا أعيد نظير الجملة على صورة الجملة المؤكدة مقترنة بالواو، ولأن في هذه الجملة زيادة وصف {مِنْ أَنْفُسِهِمْ} فحصلت مغايرة مع الجملة السابقة والمغايرة مقتضية للعطف أيضا.
ومن دواعي تكرير مضمون الجملة السابقة أنه لبعد ما بين الجملتين بما اعترض بينهما من قوله تعالى: {ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} إلى قوله: {بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} [النحل:84،85]، فهو كالإعادة في قول لبيد:
فتنازعا سبطا يطير ظلاله ... كدخان مشعلة يشب ضرامها
مشمولة غلثت بنابت عرفج ... كدخان نار ساطع أسنانها
مع أن الإعادة هنا أجدر لأن الفصل أطول.
وقد حصل من هذه الإعادة تأكيد التهديد والتسجيل.
وعدي فعل {نَبْعَثُ} هنا بحرف {فِي} ، وعدي نظيره في الجملة السابقة بحرف {من} ليحصل التفنن بين المكررين تجديدا لنشاط السامعين.
وزيد في هذه الجملة أن الشهيد يكون من أنفسهم زيادة في التذكير بأن شهادة الرسل على الأمم شهادة لا مطعن لهم فيها لأنها شهود من قومهم لا يجد المشهود عليهم فيها

مساغا للطعن.
ولم تخل أيضا بعد التعريض بالتحذير من صد الكافرين عن سبيل الله من حسن موقع تذكير المسلمين بنعمة الله عليهم إذ بعث فيهم شهيدا يشهد لهم بما ينفعهم وبما يضر أعدائهم.
والقول في بقية هذه الجملة مثل ما سبق في نظيرتها.
ولما بعث الشهداء للأمم الماضية مرادا به بعثهم يوم القيامة عبر عنه بالمضارع.
وجملة {وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاءِ} يجوز أن تكون معطوفة على جملة {وَيَوْمَ نَبْعَثُ} كلها. فالمعنى: وجئنا بك لما أرسلناك إلى أمتك شهيدا عليهم، أي مقدرا أن تكون شهيدا عليهم يوم القيامة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان حيا في آن نزول هذه الآية كان شهيدا في الحال والاستقبال، فاختير لفظ الماضي في {جِئْنَا} للإشارة إلى أنه مجيء حصل من يوم بعثته.
ويعلم من ذلك أنه يحصل يوم القيامة بطريق المساواة لبقية إخوانه الشهداء على الأمم، إذ المقصود من ذلك كله تهديد قومه وتحذيرهم. وهذا الوجه شديد المناسبة بأن يعطف عليه قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ} [النحل:89] الآية.
وقد علمت من هذا أن جملة {وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً} ليست معطوفة على {نَبْعَثُ} بحيث تدخل في حيز الظرف وهو {يوم}، بل معطوفة على مجموع جملة {يَوْمَ نَبْعَثُ}، لأن المقصود: وجئنا بك شهيدا من وقت إرسالك. وعلى هذا يكون الكلام تم عند قوله: {مِنْ أَنْفُسِهِمْ}، فيحسن الوقف عليه لذلك.
ويجوز أن تعطف على جملة {نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً} فتدخل في حيز الظرف ويكون الماضي مستعملا في معنى الاستقبال مجازا لتحقق وقوعه، فشابه به ما حصل ومضى، فيكون الوقف على قوله: {شَهِيداً}. ويتحصل من تغيير صيغة الفعل المضارع إلى الماضي تهيئ عطف {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ}.
ولم يوصف الرسول - عليه الصلاة والسلام - بأنه من أنفسهم لأنه مبعوث إلى جميع الأمم وشهيد عليهم جميعا، وأما وصفه بذلك في قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} في سورة التوبة [128] فذلك وصف كاشف اقتضاه مقام التذكير للمخاطبين من المنافقين الذين ضموا الكفر بالله كفران نعمة بعث رسول إليهم من قومهم.

وليس في قوله: {عَلَى هَؤُلاءِ} ما يقتضي تخصيص شهادته بكونها شهادة على المتحدث عنهم من أهل الشرك، ولكن اقتصر عليهم لأن الكلام جار في تهديدهم وتحذيرهم.
و {هَؤُلاءِ} إشارة إلى حاضر في الذهن وهم المشركون الذين أكثر الحديث عليهم. وقد تتبعت مواقع أمثال اسم الإشارة هذا في القرآن فرأيته يعني به المشركون من أهل مكة. وتقدم بيانه عند قوله تعالى: {وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} في سورة النساء [41]، وقوله تعالى: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ} في سورة الأنعام [89].
{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}
عطف على جملة {وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً} أي أرسلناك شهيدا على المشركين وأنزلنا عليك القرآن لينتفع به المسلمون، فرسول الله صلى الله عليه وسلم شهيد على المكذبين ومرشد للمؤمنين.
وهذا تخلص للشروع في تعداد النعم على المؤمنين من نعم الإرشاد ونعم الجزاء على الأمثال وبيان بركات هذا الكتاب المنزل لهم.
وتعريف الكتاب للعهد، وهو القرآن.
و {تِبْيَاناً} مفعول لأجله. والتبيان مصدر دال على المبالغة غي المصدرية، ثم أريد به اسم الفاعل فحصلت مبالغتان، وهو - بكسر التاء -، ولا يوجد مصدر بوزن تفعال - بكسر التاء - إلا تبيان بمعنى البيان كما هنا. وتلقاء بمعنى اللقاء لا بمعنى المكان، وما سوى ذلك من المصادر الواردة على هذا الزنة - بفتح التاء -.
وأما أسماء الذوات والصفات الواردة على هذه الزنة فهي - بكسر التاء - وهي قليلة، عد منها: تمثال، و تنبال، للقصير. وأنهاها ابن مالك في نظم الفوائد1 إلى أربع عشر كلمة2 و"كل شيء" يفيد العموم، إلا أنه عموم عرفي في دائرة ما لمثله تجيء الأديان والشرائع: من إصلاح النفوس، وإكمال الأخلاق، وتقويم المجتمع المدني، وتبين الحقوق، وما تتوقف عليه الدعوة من الاستدلال على الوحدانية، وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم، وما
ـــــــ
1منظومة ليست على روي واحد كذا في "كشف الظنون"
2انظرها في تفسير الألوسي

يأتي من خلال ذلك من الحقائق العلمية والدقائق الكونية، ووصف أحوال الأمم، وأسباب فلاحها وخسارها، والموعظة بآثارها بشواهد التاريخ، وما يتخلل ذلك من قوانينهم وحضاراتهم وصنائعهم.
وفي خلال ذلك كله أسرار ونكت من أصول العلوم والمعارف صالحة لأن تكون بيانا لكل شيء على وجه العموم الحقيقي إن سلك في بيانها طريق التفصيل واستنير فيها بما شرح الرسول صلى الله عليه وسلم وما قفاه به أصحابه وعلماء أمته، ثم ما يعود إلى الترغيب والترهيب من وصف ما أعد للطائعين وما أعد للمعرضين، ووصف عالم الغيب والحياة الآخرة. ففي كل ذلك بيان لكل شيء يقصد بيانه للتبصر في هذا الغرض الجليل، فيؤول ذلك العموم العرفي بصريه إلى عموم حقيقي بضمنه ولوازمه. وهذا من أبدع الإعجاز.
وخص بالذكر الهدى والرحمة والبشرى لأهميتها، فالهدى ما يرجع من التبيان إلى تقويم العقائد والأفهام والإنقاذ من الضلال. والرحمة ما يرجع منه إلى سعادة الحياتين الدنيا والأخرى، والبشرى ما فيه من الوعد بالحسنيين الدنيوية والأخروية.
وكل ذلك للمسلمين دون غيرهم لما أعرضوا عنه حرموا أنفسهم الانتفاع بخواصه كلها.
فاللام في {لِكُلِّ شَيْءٍ} متعلق بالتبيان، وهي لام التقوية، لأن"كل شيء" في معنى المفعول به لـ {تِبْيَاناً}. واللام في {للمسلمين} لام العلة بتنازع تعلقها"تبيان وهدى ورحمة وبشرى"وهذا هو الوجه.
[90] {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
لما جاء أن هذا القرآن تبيان لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين حسن التخلص إلى تبيان أصول الهدى في التشريع للدين الإسلامي العائدة إلى الأمر والنهي، إذ الشريعة كلها أمر ونهي والتقوى منحصرة في الامتثال والاجتناب. فهذه الآية استئناف لبيان كون الكتاب تبيانا لكل شيء، فهي جامعة أصول التشريع.
وافتتاح الجملة بحرف التوكيد للاهتمام بشأن ما حوته. وتصديرها باسم الجلالة للتشريف، وذكر {يَأْمُرُ} و {يَنْهَى} دون أن يقال: اعدلوا واجتنبوا الفحشاء، للتشويق.

ونظيره ما في الحديث: "إن الله يرضى لكم ثلاثا ويكره لكم ثلاثا" الحديث.
والعدل: إعطاء الحق إلى صاحبه. وهو الأصل الجامع للحقوق الراجعة إلى الضروري والحاجي من الحقوق الذاتية وحقوق المعاملات، إذ المسلم مأمور بالعدل في ذاته، قال تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195]، ومأمور بالعدل في المعاملة وهي معاملة، مع خالقه بالاعتراف له بصفاته وبأداء حقوقه؛ ومعاملة مع المخلوقات من أصول المعاشرة العائلية والمخالطة الاجتماعية وذلك في الأقوال والأفعال، قال تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام:152]، وقال تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} وقد تقدم في سورة النساء [58].
ومن هذا تفرعت شعب نظام المعاملات الاجتماعية من آداب، وحقوق وأقضية، وشهادات، ومعاملة مع الأمم، قال تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8].
ومرجع تفاصيل العدل إلى أدلة الشريعة. فالعدل هنا كلمة مجملة جامعة وفهي بإجمالها مناسبة إلى أحوال المسلمين حين كانوا بمكة، فيصار فيها إلى ما هو مقرر بين الناس في أصول الشرائع وإلى ما رسمته الشريعة من البيان في مواضع الخفاء، فحقوق المسلمين بعضهم على بعض من الأخوة والتناصح قد أصبحت من العدل بوضع الشريعة الإسلامية.
وأما الإحسان فهو معاملة بالحسنى ممن لا يلزمه إلى من هو أهلها. والحسن: ما كان محبوبا عند المعامل به ولم يكن لازما لفاعله، وأعلاه ما كان في جانب الله تعالى مما فسره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك". ودون ذلك التقرب إلى الله بالنوافل. ثم الإحسان في المعاملة فيما زاد على العدل الواجب، وهو يدخل في جميع الأقوال والأفعال ومع سائر الأصناف إلا ما حرم الإحسان بحكم الشرع".
ومن أدنى مراتب الإحسان ما في حديث "الموطأ": "أن امرأة بغيا رأت كلبا يلهث من العطش يأكل الثرى فنزعت خفها وأدلته في بئر ونزعت فسقته فغفر الله لها".
وفي الحديث: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قلتم فأحسنوا القتلة، وإذا

ذبحتم فأحسنوا الذبحة".
ومن الإحسان أن يجازي المحسن إليه المحسن على إحسانه إذ ليس الجزاء بواجب.
فإلى حقيقة الإحسان ترجع أصول وفروع آداب المعاشرة كلها في العائلة والصحبة. والعفو عن الحقوق الواجبة من الإحسان لقوله تعالى: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134]. وتقدم عند قوله تعالى: {وبالوالدين إحسانا} في سورة الأنعام [151].
وخص الله بالذكر من جنس أنواع العدل والإحسان نوعا مهما يكثر أن يغفل الناس عنه ويتهاونوا بحقه أو بفضله، وهو إيتاء ذي القربى فقد تقرر في نفوس الناس الاعتناء باجتلاب الأبعد واتقاء شره، كما تقرر في نفوسهم الغفلة عن القريب والاطمئنان من جانبه وتعود التساهل في حقوقه. ولأجل ذلك كثر أن يأخذوا أموال الأيتام من مواليهم، قال تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء:2]، وقال: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} [الاسراء:26]، وقال: {وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ} [النساء:127] الآية. ولأجل ذلك صرفوا معظم إحسانهم إلى الأبعدين لاجتلاب المحمدة وحسن الذكر بين الناس. ولم يزل هذا الخلق متفشيا في الناس حتى في الإسلام إلى الآن ولا يكترثون بالأقربين.
وقد كانوا في الجاهلية يقصدون بوصايا أموالهم أصحابهم من وجوه القوم، ولذلك قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة:180].
فخص الله بالذكر من بين جنس العدل وجنس الإحسان إيتاء المال إلى ذي القربى تنبيها للمؤمنين يومئذ بأن القريب أحق بالإنصاف من غيره وأحق بالإحسان من غيره لأنه محل الغفلة ولأن مصلحته أجدى من مصلحة أنواع كثيرة.
وهذا راجع إلى تقويم نظام العائلة والقبيلة تهيئة بنفوس الناس إلى أحكام المواريث التي شرعت فيما بعد.
وعطف الخاص على العام اهتماما به كثير في الكلام، فإيتاء ذي القربى ذو حكمين: وجوب لبعضه. وفضيلة لبعضه، وذلك قبل فرض الوصية، ثم فرض المواريث.
وذو القربى: هو صاحب القرابة، أي من المؤتي. وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} في سورة الأنعام [152].

والإيتاء: الإعطاء. والمراد: إعطاء المال، قال تعالى: {قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ} [النمل:36]، وقال: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} [البقرة:177].
ونهى الله عن الفحشاء والمنكر والبغي وهي أصول المفاسد.
فأما الفحشاء: فاسم جامع لكل عمل أو قول تستفظعه النفوس لفساده من الآثام التي تفسد نفس المرء: من اعتقاد باطل أو عمل مفسد للخلق، والتي تضر بأفراد الناس بحيث تلقي فيهم الفساد من قتل أو سرقة أو قذف أو غصب مال، أو تضر بحال المجتمع وتدخل عليه الاضطراب من حرابة أو زنى أو تقامر أو شرب خمر. فدخل في الفحشاء كل ما يوجب اختلال المناسب الضروري، وقد سماها الله الفواحش. وتقدم ذكر الفحشاء عند قوله تعالى: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ} في سورة البقرة [169]، وقوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ} في سورة الأعراف [33] وهي مكية.
وأما المنكر فهو ما تستنكره النفوس المعتدلة وتكرهه الشريعة من فعل أو قول، قال تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً} [المجادلة:2]، وقال: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَر} [العنكبوت:]. والاستنكار مراتب، منها مرتبة الحرام، ومنها مرتبة المكروه فإنه منهي عنه. وشمل المنكر كل ما يفضي إلى الإخلال بالمناسبة الحاجي، وكذلك ما يعطل المناسب التحسيني بدون ما يفضي منه إلى ضر.
وخص الله بالذكر نوعا من الفحشاء والمنكر، وهو البغي اهتماما بالنهي عنه وسدا لذريعة وقوعه، لأن النفوس تنساق إليه بدافع الغضب وتغفل عما يشمله من النهي من عموم الفحشاء بسب فشوه بين الناس؛ وذلك أن العرب كانوا أهل بأس وشجاعة وإباء، فكانوا يكثر فيهم البغي على الغير إذا لقي المعجب بنفسه من أحد شيئا يكرهه أو معاملة يعدها هضمية وتقصيرا في تعظيمه. وبذلك كان يختلط على مريد البغي حسن الذب عما يسميه الشرف وقبح مجاوزة حد الجزاء.
فالبغي هو الاعتداء في المعاملة، إما بدون مقابلة ذنب كالغارة التي كانت وسيلة كسب في الجاهلية، وإما بمجاوزة الحد في مقابلة الذنب كالإفراط في المؤاخذة، ولذا قال تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [البقرة:194] وقال: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ} [الحج:60].
وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} في سورة

الأعراف [33].
فهذه الآية جمعت أصول الشريعة في الأمر بثلاثة، والنهي عن ثلاثة، بل في الأمر بشيئين وتكملة، والنهي عن شيئين وتكملة.
روى أحمد بن حنبل:أن هذه كانت السبب في تمكن الإيمان من عثمان ابن مظعون، فإنها لما نزلت كان عثمان بن مظعون بجانب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان حديث الإسلام، وكان إسلامه حياء من النبي صلى الله عليه وسلم وقراها النبي عليه. قال عثمان: فذلك حين استقر الإيمان في قلبي. وعن عثمان بن أبي العاص: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا إذ شخص بصره، فقال: "أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية بهذا الموضع" {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} الآية اه. وهذا يقتضي أن هذه الآية لم تنزل متصلة بالآيات التي قبلها فكان وضعها في هذا الموضع صالحا لأن يكون بيانا لآية {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89] الخ، ولأن تكون مقدمة لما بعدها {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل:91] الآية.
وعن ابن مسعود: أن هذه الآية أجمع آية في القرآن.
وعن قتادة: ليس من خلق حسن كان أهل الجاهلية يعملون به ويستحسنونه إلا أمر الله به في هذه الآية، وليس من خلق كانوا يتعايرونه بينهم إلا نهى الله عنه وقدح فيه، وإنما نهى عن سفاسف الأخلاق ومذامها.
وروى ابن ماجه عن علي قال: أمر الله نبيه أن يعرض نفسه على قبائل العرب، فخرج، فوقف على مجلس قوم من شيبان بن ثعلبة في الموسم. فدعاهم إلى الإسلام وأن ينصروه، فقال مفروق بن عمرو منهم: إلام تدعونا أخا قريش، فتلا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ} الآية. فقال: "دعوت والله إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك".
وقد روي أن الفقرات الشهيرة التي شهد بها الوليد بن المغيرة للقرآن من قوله: "إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما هو بكلام بشر" قالها عند سماع هذه الآية.
وقد اهتدى الخليفة عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - إلى ما جمعته هذه الآية من معاني الخير فلما استخلف سنة 99 كتب يأمر الخطباء بتلاوة هذه الآية في الخطبة يوم

الجمعة وتجعل تلاوتها عوضا عما كانوا يأتونه في خطبة الجمعة من كلمات سب علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. وفي تلاوة هذه الآية عوضا عن ذلك السب دقيقة أنها تقتضي النهي عن ذلك السب إذ هو من الفحشاء والمنكر والبغي.
ولم أقف على تعيين الوقت التي ابتدع فيه هذا السب ولكنه لم يكن في خلافة معاوية - رضي الله عنه -.
وفي"السيرة الحلبية"أن الشيخ عز الدين بن عبد السلام ألف كتابا سماه"الشجرة"بين فيه أن هذه الآية اشتملت على جميع الأحكام الشرعية في سائر الأبواب الفقهية وسماه السبكي في الطبقات"شجرة المعارف".
وجملة {يَعِظُكُمْ} في موضع الحال من اسم الجلالة.
والوعظ: كلام يقصد منه إبعاد المخاطب به عن الفساد وتحريضه على الصلاح. وتقدم عند قوله تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ} في سورة النساء [63].
والخطاب للمسلمين لأن الموعظة من شأن من هو محتاج للكمال النفساني، ولذلك قارنها بالرجاء بـ {لعلكم تذكرون}.
والتذكر: مراجعة المنشي المغفول عنه، أي رجاء أن تتذكروا، أي تتذكروا بهذه الموعظة ما اشتملت عليه فإنها جامعة باقية في نفوسكم.
[91] {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}
لما أمر الله المؤمنين بملاك المصالح ونهاهم عن ملاك المفاسد بما أومأ إليه قوله: {يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90]، فكان ذلك مناسبة حسنة لهذا الانتقال الذي هو من أغراض تفنن القرآن، وأوضح لهم أنهم قد صاروا إلى كمال وخير بذلك الكتاب المبين لكل شيء. ولا جرم ذكرهم الوفاء بالعهد الذي عاهدوا الله عليه عندما أسلموا. وهو ما بايعوا عليه النبي صلى الله عليه وسلم مما فيه: أن لا يعصوه في معروف. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ البيعة على كل من أسلم من وقت ابتداء الإسلام في مكة.
وتكررت البيعة قبيل الهجرة وبعدها على أمور أخرى، مثل النصرة التي بايع عليها الأنصار ليلة العقبة، ومثل بيعة الحديبية.

والخطاب للمسلمين في الحفاظ على عهدهم بحفظ الشريعة. وإضافة العهد إلى الله لأنهم عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام الذي دعاهم الله إليه، فهم قد عاهدوا الله كما قال: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح:10]، وقال: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:23]. والمقصود: تحذير الذين كانوا حديثي عهد بالإسلام من أن ينقضوا عهد الله.
و {إذا} لمجرد الظرفية، لأن المخاطبين قد عاهدوا الله على الإيمان والطاعة، فالإتيان باسم الزمان لتأكيد الوفاء. فالمعنى: أن من عاهد وجب عليه الوفاء بالعهد. والقرينة على ذلك قوله: {وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} [النحل:91].
والعهد: الحلف. وتقدم في قوله تعالى: {الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه}. وكذلك النقض تقدم في تلك الآية، ونقض الأيمان: إبطال ما كانت لأجله. فالنقض إبطال المحلوف عليه لا إبطال القسم، فجعل إبطال المحلوف عليه نقضا لليمين في قوله: {وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ} تهويلا وتغليظا للنقض لأنه نقض لحرمة اليمين.
و {بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} زيادة في التحذير، وليس قيدا للنهي بالبعدية، إذ المقصود أيمان معلومة وهي أيمان العهد والبيعة، وليست فيها بعدية.
و {بعد} هنا بمعنى "مع"، إذ البعدية والمعية أثرهما واحد هنا، وهو حصول توثيق الأيمان وتوكيدها، كقول الشميذر الحارثي:
بني عمنا لا تذكروا الشعر بعدما ... دفنتم بصحراء الغمير القوافيا
أي لا تذكروا أنكم شعراء وأن لكم شعرا، أو لا تنطقوا بشعر مع وجود أسباب الإمساك عنه في وقعة صحراء الغمير1،وقوله تعالى: {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ} [الحجرات:11]، وقوله: {الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه}.
و التوكيد: التوثيق وتكرير الفتل. وليس هو توكيد اللفظ كما توهمه بعضهم فهو ضد النقض. وإضافته إلى ضمير {الأيمان} ليس من إضافة المصدر إلى فاعله ولا إلى مفعوله إذ لم يقصد بالمصدر التجدد بل الاسم، فهي الإضافة الأصلية على معنى اللام، أي التوكيد الثابت لها المختص بها.والمعنى: بعد ما فيها من التوكيد، وبينه قوله: {وَقَدْ
ـــــــ
1وهذا كناية عن ترك قول الشعر لأن أهم أغراض الشعر قد تعطل فيهم.

جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً}.
والمعنى: ولا تنقضوا الأيمان بعد حلفها. وليس في الآية إشعار بان من اليمين ما لا حرج في نقضه، وهو ما سموه يمين اللغو، وذلك انزلاق عن مهيع النظم القرآني.
ويؤيد ما فسرناه قوله: {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} الواقع موقع الحال من ضمير {لا تنقضوا} ، أي لا تنقضوا الأيمان في حال جعلكم الله كفيلا على أنفسكم إذا أقسمتم باسمه، فإن مدلول القسم أنه إشهاد الله بصدق ما يقوله المقسم: فيأتي باسم الله كالإتيان بذات الشاهد. ولذلك سمي الحلف شهادة في مواضع كثيرة، كقوله: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [النور:6]. والمعنى: أن هذه الحالة أظهر في استحقاق النهي عنها.
والكفيل: الشاهد والضامن والرقيب على الشيء المراعى لتحقيق الغرض منه.
والمعنى: أن القسم باسم الله إشهاد لله وكفالة به. وقد كانوا عند العهد يحلفون ويشهدون الكفلاء بالتنفيذ، قال الحارث بن حلزة:
واذكروا حلف ذي المجاز وماقدم فيه العهود والكفلاء
و {عَلَيْكُمْ} متعلق بـ {جَعَلْتُمُ} لا بـ {كَفِيلاً} أي أقمتموه على أنفسكم مقام الكفيل، أي فهو الكفيل والمكفول له من باب قولهم: أنت الخصم والحكم، وقوله تعالى: {وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ} [التوبة:118]
وجملة {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} معترضة. وهي خبر مراد منه التحذير من التساهل في التمسك بالإيمان والإسلام لتذكيرهم أن الله يطلع على ما يفعلونه، فالتوكيد بـ {إِنَّ} للاهتمام بالخبر.
وكذلك التأكيد ببناء الجملة بالمسند الفعلي دون أن يقال: إن الله عليم. ولا: قد يعلم الله.
واختير الفعل المضارع في {يَعْلَمُ} وفي {تَفْعَلُونَ} لدلالته على التجدد، أي كلما فعلوا فعلا فالله يعلمه.
والمقصود من هذه الجمل كلها من قوله: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ} إلى هنا تأكيد الوصاية بحفظ عهد الأيمان، وعدم الارتداد إلى الكفر، وسد مداخل فتنة المشركين إلى نفوس

المسلمين، إذ يصدونهم عن سبيل الإسلام بفنون الصد، كقولهم: {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [سبأ: 35]، كما أشار إليه قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ}. وقد تقدم ذلك في سورة الأنعام [53].
ولم يذكر المفسرون سببا لنزول هذه الآية، وليست بحاجة إلى سبب. وذكروا في الآية الآتية وهي قوله: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ} [النحل:106] أن آية {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إذا عاهدتم} إلى آخرها نزلت في الذين رجعوا إلى الكفر بعد الإيمان لما فتنهم المشركون كما سيأتي، فجعلوا بين الآيتين اتصالا.
قال في"الكشاف": كأن قوما ممن أسلم بمكة زين لهم الشيطان لجزعهم ما رأوا من غلبة قريش واستضعافهم المسلمين وإيذانهم لهم، ولما كانوا يعهدونهم إن رجعوا من المواعيد أن ينقضوا ما بايعوا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فثبتهم الله اه. يريد أن لهجة التحذير في هذا الكلام إلى قوله: {إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ} [النحل:92] تنبئ عن حالة من الوسوسة داخلت قلوب بعض حديثي الإسلام فنبأهم الله بها وحذرهم منها فسلموا.
[92] {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}
تشنيع لحال الذين ينقضون العهد.
وعطف على جملة {وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا}. واعتمد العطف على المغايرة في المعنى بين الجملتين لما في هذه الثانية من التمثيل وإن كانت من جهة الموقع كالتوكيد لجملة {وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ}. نهوا عن أن يكونوا مضرب مثل معروف في العرب بالاستهزاء، وهو المرأة التي تنقض غزلها بعد شد فتله. فالتي نقضت غزلها امرأة اسمها ريطة بنت سعد التميمية من بني تميم من قريش. وعبر عنها بطريق الموصولية لاشتهارها بمضمون من بني تيم من قريش. وعبر عنها بطريق الموصولية لاشتهارها بمضمون الصلة ولأن مضمون الصلة هو الحالة المشبه بها في هذا التمثيل، ولأن القرآن لم يذكر فيه بالاسم العلم إلا من اشتهر بأمر عظيم مثل جالوت وقارون.
وقد ذكر من قصتها أنها كانت امرأة خرقاء مختلة العقل، ولها جوار، وقد اتخذت

مغزلا قدر ذراع وصنارة مثل أصبع وفلكة1 عظيمة على قدر ذلك، فكانت تغزل هي وجواريها من الغداة إلى الظهر ثم تأمرهن فتنقض ما غزلته، وهكذا تفعل كل يوم، فكان حالها إفساد ما كان نافعا محكما من عملها وإرجاعه إلى عدم الصلاح، فنهوا عن أن يكون حالهم كحالها في نقضهم عهد الله وهو عهد الإيمان بالرجوع إلى الكفر وأعمال الجاهلية. ووجه الشبه الرجوع إلى فساد بعد التلبس بصلاح.
والغزل: هنا مصدر بمعنى المفعول، أي المغزول، لأنه الذي يقبل النقض. والغزل: فتل نتف من الصوف أو الشعر لتجعل خيوطا محكمة اتصال الأجزاء بواسطة إدارة آلة الغزل بحيث تلتف النتف المفتولة باليد فتصير خيطا غليظا طويلا بقدر الحاجة ليكون سدى أو لحمة للنسج.
والقوة: إحكام الغزل، أي نقضته مع كونه محكم الفتل لا موجب لنقضه، فإنه لو كان فتله غير محكم لكان عذر لنقضه.
والأنكاث - بفتح الهمزة -: جمع نكث بكسر النون وسكون الكاف أي منكوث، أي منقوض، ونظيره نقض وأنقاض. والمراد بصيغة الجمع أن ما كان غزلا واحدا جعلته منقوضا، أي خيوطا عديدة. وذلك بأن صيرته إلى الحالة التي كان عليها قبل الغزل وهي كونه خيوطا ذات عدد.
وانتصب {أَنْكَاثاً} على الحال من {غَزْلَهَا}، أي نقضته فإذا هو أنكاث.
وجملة {تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ} حال من ضمير {وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ}.
والدخل - بفتحتين -: الفساد، أي تجعلون أيمانكم التي حلفتموها.. والدخل أيضا: الشيء الفاسد. ومن كلام العرب: ترى الفتيان كالنخل وما يدريك ما الدخل "سكن الخاء لغة أو للضرورة إن كان نظما، أو للسجع إن كان نثرا"، أي ما يدريك ما فيهم من فساد. والمعنى: تجعلون أيمانكم الحقيقة بان تكون معظمة وصالحة فيجعلونها فاسدة كاذبة، فيكون وصف الأيمان بالدخل حقيقة عقلية؛ أو تجعلونها سبب فساد بينكم إذ تجعلونها وسيلة للغدر والمكر فيكون وصف الأيمان بالدخل مجازا عقليا.
ـــــــ
1فلكة بفتح الفاء وسكون اللام عود بأعلاه دائرة منه يلف عليه الغزل.

ووجه الفساد أنها تقتضي اطمئنان المتحالفين فإذا نقضها أحد الجانبين فقد تسبب في الخصام والحقد. وهذا تحذير لهم وتخويف من سوء عاقبة نقض اليمين، وليس بمقتض أن نقضا حدث فيهم.
و {أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ} معمول للام جر محذوفة كما هو غالب حالها مع {أن}. والمعنى التعليل، وهو علة لنقض الأيمان المنهي عنه، أي تنقضون الأيمان بسبب أن تكون أمة أربى من أمة، أي أقوى وأكثر.
والأمة: الطائفة والقبيلة. والمقصود طائفة المشركين وأحلافهم.
و {أَرْبَى}: أزيد، وهو اسم تفضيل من الربو بوزن العلو، أي الزيادة، يحتمل الحقيقة أعني كثرة العدد. والمجاز أعني رفاهية الحال وحسن العيش. وكلمة {أَرْبَى} تعطي هذه المعاني كلها فلا تعدلها كلمة أخرى تصلح لجميع هذه المعاني، فوقعها هنا من مقتضى الإعجاز. والمعنى: لا يبعثكم على نقض الأيمان كون أمة أحسن من أمة.
ومعلوم أن الأمة التي هي أحسن هي المنقوض لأجلها وأن الأمة المفضولة هي المنفصل عنها، أي لا يحملكم على نقض الحلف أن يكون المشركون أكثر عددا وأموالا من المسلمين فيبعثكم ذلك على الانفعال عن جماعة المسلمين وعلى الرجوع إلى الكفار.
وجملة {إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ} مستأنفة استئنافا بيانيا للتعليل بما يقتضي الحكمة. وهو أن ذلك يبتلي الله به صدق الإيمان كقوله تعالى: {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [الأنعام:165].
والقصر المستفاد من قوله تعالى: {إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ} قصر موصوف على صفة. والتقدير: ما ذلك الربو إلا بلوى لكم.
والبلو: الاختبار. ومعنى إسناده إلى الله الكناية عن إظهار حال المسلمين. وله نظائر في القرآن. وضمير {به} يعود إلى المصدر المنسبك من قوله: {أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ}.
ثم عطف عليه تأكيد أنه سيبين لهم يوم القيامة ما يختلفون فيه من الأحوال فتظهر الحقائق كما هي غير مغشاة بزخارف الشهوات ولا بمكاره مخالفة الطباع، لأن الآخرة دار الحقائق لا لبس فيها، فيومئذ تعلمون أن الإسلام هو الخير المحض وأن الكفر شر محض.

وأكد هذا الوعد بمؤكدين القسم الذي دلت عليه اللام ونون التوكيد. ثم يظهر ذلك أيضا في ترتب آثاره إذ يكون النعيم إثر الإيمان ويكون العذاب إثر الشرك، وكل ذلك بيان لما كانوا مختلفين فيه في الدنيا.
[93] {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}
لما أحال البيان إلى يوم القيامة زادهم إعلاما بحكمة هذا التأخير فأعلمهم أنه قادر على أن يبين لهم الحق من هذه الدار فيجعلهم أمة واحدة، ولكنه أضل من شاء، أي خلق فيه داعية الضلال، وهدى من شاء، أي خلق فيه داعية الهدى. وأحال الأمر هنا على المشيئة أجمالا، لتعذر نشر مطاوي الحكمة من ذلك.
ومرجعها إلى مشيئة الله تعالى أن يخلق الناس على هذا الاختلاف الناشئ عن اختلاف أحوال التفكير ومراتب المدارك والعقول، وذلك يتولد من تطورات عظيمة تعرض للإنسان في تناسله وحضارته وغير ذلك مما أجمله قوله تعال: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [التين:4-6]
وهذه المشيئة لا يطلع على كنهها إلا الله تعالى وتظهر آثارها في فرقة المهتدين وفرقة الضالين.
ولما كان قوله: {وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} قد يغتر به قصار الأنظار فيحسبون أن الضالين والمهتدين سواء عند الله وأن الضالين معذورون في ضلالهم إذ كان من أثر مشيئة الله فعقب ذلك بقوله: {وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} مؤكدا بتأكيدين كما تقدم نظيره آنفا، أي عما تعملون من عمل ضلال أو عمل هدى.
والسؤال: كناية عن المحاسبة، لأنه سؤال حكيم تترتب عليه الإنارة وليس سؤال استطلاع.
[94] {وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}
لما حذرهم من النقض الذي يؤول إلى اتخاذ أيمانهم دخلا فيهم، وأشار بالإجمال إلى ما في ذلك من الفساد فيهم، أعاد الكرة إلى بيان عاقبة ذلك الصنيع إعادة تفيد

التصريح بالنهي عن ذلك، وتأكيد التحذير، وتفصيل الفساد في الدنيا، وسوء العاقبة في الآخرة، فكان قوله تعالى: {وَلا تَتَّخِذُوا} تصريحا بالنهي، وقوله تعالى: {تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ} تأكيد لقوله قبله: {تَتَّخِذُون أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ} [النحل:92]، وكان تفريع قوله تعالى: {فَتَزِلَّ قَدَمٌ} إلى قوله: {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} تفصيلا لما أجمل في معنى الدخل.
وقوله تعالى: {وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} المعطوف على التفريع وعيد بعقاب الآخرة. وبهذا التصدير وهذا التفريع الناشئ عن جملة {وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ} فارقت هذه نظيرتها السابقة بالتفصيل والزيادة فحق أن تعطف عليها لهذه المغايرة وإن كان شان الجملة المؤكدة أن لا تعطف.
والزلل: تزلق الرجل وتنقلها من موضعها دون إرادة صاحبها بسبب ملاسة الأرض من طين رطب أو تخلخل حصى أو حجر من تحت القدم فيسقط الماشي على الأرض. وتقدم عند قوله تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا} في سورة البقرة [36].
وزلل القدم تمثيل لاختلال الحال والتعرض للضر، لأنه يترتب عليه السقوط أو الكسر، كما أن ثبوت القدم تمكن الرجل من الأرض، وهو تمثيل لاستقامة الحال ودوام السير.
ولما كان المقصود تمثيل ما يجره نقض الأيمان من الدخل شبهت حالهم بحال الماشي في طريق بينما كانت قدمه ثابتة إذا هي قد زلت به فصرع. فالمشبه بها حال رجل واحد، ولذلك نكرت {قَدَمٌ} وأفردت، إذ ليس المقصود قدما معنية ولا عددا من الأقدام، فإنك تقول لجماعة يترددون في أمر: أراكم تقدمون رجلا وتؤخرون أخرى، تمثيلا لحالهم بحال الشخص المتردد في المشي إلى الشيء.
وزيادة {بَعْدَ ثُبُوتِهَا} مع أن الزلل لا يتصور إلا بعد الثبوت لتصوير اختلاف الحالين، وأنه انحطاط مع حال سعادة إلى حال شقاء ومن حال سلامة إلى حال محنة.
والثبوت: مصدر ثبت كالثبات، وهو الرسوخ وعدم التنقل، وخص المتأخرون من الكتاب الثبوت الذي بالواو بالمعنى المجازي وهو التحقق مثل ثبوت عدالة الشاهد لدى القاضي، وخصوا الثبات الذي بالألف بالمعني الحقيقي وهي تفرقة حسنة.
والذوق: مستعار للإحساس القوي كقوله تعالى: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ}. وتقدم في

سورة العقود [95].
والسوء: ما يؤلم. والمراد به: ذوق السوء في الدنيا من معاملتهم معاملة الناكثين عن الدين أو الخائنين عهودهم.
و {صَدَدْتُمْ} هنا قاصر، أي بكونهم معرضين عن سبيل الله. وتقدم آنفا. ذلك أن الآيات جاءت في الحفاظ على العهد الذي يعاهدون الله عليه، أي على التمسك بالإسلام.
فسبيل الله: هو دين الإسلام.
وقوله تعالى: {وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} هو عذاب الآخرة على الرجوع إلى الكفر أو على معصية غدر العهد.
وقد عصم الله المسلمين من الارتداد مدة مقام النبي صلى الله عليه وسلم، وما ارتد أحد إلا بعد الهجرة حين ظهر النفاق، فكانت فلتة عبد الله بن سعد بن أبي سرح واحدة في المهاجرين وقد تاب وقبل توبته النبي صلى الله عليه وسلم.
[95] {وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
الثمن القليل هو ما يعدهم به المشركون إن رجعوا عن الإسلام من مال وهناء عيش.
وهذا نهي عن نقض عهد الإسلام لأجل ما فاتهم بدخولهم في الإسلام من منافع عند قوم الشرك. وبهذا الاعتبار عطفت هذه الجملة على جملة {وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:91] وعلى جملة {وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ} [النحل:94] لأن كل جملة منها تلتفت إلى غرض خاص مما قد يبعث على النقض.
والثمن: العوض الذي ياخذه المعاوض. وتقدم الكلام على نظير هذا عند قوله تعالى: {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} في سورة البقرة [41]. وذكرنا هناك أن {قَلِيلاً} صفة كاشفة وليست مقيدة، أي أن كل عوض يؤخذ عن نقض عهد الله هو عوض قليل ولو كان أعظم المكتسبات.
وجملة {إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} تعليل للنهي باعتبار وصف عوض الاشتراء

المنهي عنه بالقلة، فإن ما عند الله هو خير من كل ثمن وإن عظم قدره.
و"ما عند الله"هو ما ادخره للمسلمين من خير في الدنيا وفي الآخرة، كما سننبه عليه عند قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [النحل:97] الآية؛ فخير الدنيا الموعود به أفضل مما يبذله لهم المشركون، وخير الآخرة أعظم من الكل، فالعندية هنا بمعنى الادخار لهم، كما تقول: لك عندي كذا، وليست عندية ملك الله تعالى كما في قوله:
{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} [الأنعام:59] وقوله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ} [الحجر:21] وقوله: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ}.
و {وإنما} هذه مركبة من "إن" و "ما" الموصولة، فحقها أن تكتب مفصولة "ما" عن "إن" لأنها ليست "ما" الكافة، ولكنها كتبت في المصحف موصولة اعتبارا لحالة النطق ولم يكن وصل أمثالها مطردا في جميع المواضع من المصحف.
ومعنى {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} إن كنتم تعلمون حقيقة عواقب الأشياء ولا يغركم العاجل. وفيه حث لهم على التأمل والعلم.
وجملة {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} تذييل وتعليل لمضمون جملة {إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} بأن ما عند الله لهم خير متجدد لا نفاد له، وأن ما يعطيهم المشركون محدود نافذ لأن خزائن الناس صائرة إلى النفاد بالإعطاء وخزائن الله باقية.
والنفاد: الانقراض. والبقاء: عدم الفناء.
أي ما عند الله لا يفنى فالأجدر الاعتماد على عطاء الله الموعود على الإسلام دون الاعتماد على عطاء الناس الذين ينفد رزقهم ولو كثر.
وهذا الكلام جرى مجرى التذييل لما قبله، وأرسل إرسال المثل فيحمل على أعم، ولذلك كان ضمير {عِنْدَكُمْ} عائدا إلى جميع الناس بقرينة التذييل والمثل، وبقرينة المقابلة بما عند لله، أي ما عندكم أيها الناس ما عند الموعود وما عند الواعد، لأن المنهيين عن نقض العهد ليس بيدهم شيء.
ولما كان في نهيهم عن أخذ ما يعدهم به المشركون حمل لهم على حرمان أنفسهم من ذلك النفع العاجل وعدوا الجزاء على صبرهم بقوله تعالى: {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ}.

قرأه الجمهور {وليجزين} بياء الغيبة. والضمير عائد إلى اسم الجلالة من قوله تعالى: {بِعَهْدِ اللَّهِ} وما بعده، فهو الناهي والواعد فلا جرم كان هو المجازي على امتثال أمره ونهيه.
وقرأه أبن كثير وعاصم وابن ذكوان عن ابن عامر في إحدى روايتين عنه وأبو جعفر بنون العظمة فهو التفات.
و {أَجْرَهُمْ} منصوب على المفعولية الثانية ل"يجزين"بتضمينه معنى الإعطاء المتعدي إلى مفعولين.
والباء للسببية. و"أحسن"صيغة تفضيل مستعملة للمبالغة في الحسن. كما في قوله تعالى: { قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف:33]، أي بسبب عملهم البالغ في الحسن وهو عمل الدوام على الإسلام مع تجرع ألم الفتنة من المشركين. وقد أكد الوعد بلام القسم ونون التوكيد.
[97] {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
لما كان الوعد المتقدم بقوله تعالى: {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:96] خاصا بأولئك الذين نهوا عن أن يشتروا بعهد الله ثمنا قليلا عقب بتعميمه لكل من ساواهم في الثبات على الإسلام والعمل الصالح مع التبيين للأجر، فكانت هذه الجملة بمنزلة التذييل للتي قبلها، والبيان لما تضمنته من مجمل الأجر. وكلا الاعتبارين يوجب فصلهما عما قبلها.
وقوله تعالى: {مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} تبيين للعموم الذي دلت عليه {من} الموصولة. وفي هذا البيان دلالة على أن أحكام الإسلام يستوي فيها الذكور والنساء عدا ما خصصه الدين بأحد الصنفين. وأكد هذا الوعد كما أكد المبين به.
وذكر "لنحيينه" ليبنى عليه بيان نوع الحياة بقوله تعالى: {حَيَاةً طَيِّبَةً}. وذلك المصدر هو المقصود، أي لنجعلن له حياة طيبة. وابتدئ الوعد بإسناد الإحياء إلى ضمير الجلالة تشريفا له كأنه قيل: فله حياة طيبة منا. ولما كانت حياة الذات لها مدة معينة كثر إطلاق الحياة على مدتها، فوصفها بالطيب بهذا الاعتبار، أي طيب ما يحصل فيها، فهذا

الوصف مجاز عقلي، أي طيبا ما فيها. ويقارنها من الأحوال العارضة للمرء في مدة حياته، فمن مات من المسلمين الذين علموا صالحا عوضه الله عن عمله ما فاته من وعده.
ويفسر هذا المعنى ما ورد في الصحيح عن خباب بن الأرت قال: "هاجرنا مع رسول الله نبتغي بذلك وجه الله فوجب أجرنا على الله، فمنا من مضى لم يأكل من أجره شيئا كان منهم مصعب بن عمير قتل يوم أحد فلم يترك إلا نمرة كنا إذا غطينا بها رأسه خرجت رجلاه وإذا غطي بها رجلاه خرج رأسه؛ ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهديها".
والطيب: ما يطيب ويحسن. وضد الطيب: الخبيث والسيء. وهذا وعد بخيرات الدنيا. وأعظمها الرضى بما قسم لهم وحسن أملهم بالعاقبة والصحة والعافية وعزة الإسلام في نفوسهم. وهذا مقام دقيق تتفاوت فيه الأحوال على تفاوت سرائر النفوس، ويعطي الله فيه عباده المؤمنين على مراتب هممهم وآمالهم. ومن راقب نفسه رأى شواهد هذا.
وقد عقب بوعد جزاء الآخرة بقوله تعالى: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}،
فاختص هذا بأجر الآخرة بالقرينة بخلاف نظيره المتقدم آنفا فإنه عام في الجزاءين.
[98-100] {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ}
موقع فاء التفريع هنا خفي ودقيق، ولذلك تصدي بعض حذاق المفسرين إلى البحث عنه. فقال في "الكشاف": "لما ذكر العمل الصالح ووعد عليه وصل به قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} إيذانا بأن الاستعاذة من جملة الأعمال التي يجزل عليها الثواب"اه.
وهو إبداء مناسبة ضعيفة لا تقتضي تمكن ارتباط أجزاء النظم.
وقال فخر الدين:"لما قال: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أرشد إلى العمل الذي تخلص به الأعمال من الوسواس"اه.
وهو أمكن من كلام "الكشاف". وزاد أبو السعود: "لما كان مدار الجزاء هو حسن العمل رتب عليه الإرشاد إلى ما به يحسن العمل الصالح بأن يخلص من شوب الفساد".

وفي كلاميهما من الوهن أنه لا وجه لتخصيص الاستعاذة بإرادة قراءة القرآن.
وقول ابن عطية: "الفاء في {فَإِذَا} واصلة بين الكلامين والعرب تستعملها في مثل هذا، فتكون الفاء على هذا لمجرد وصل كلام بكلام واستشهد له بالاستعمال والعهدة عليه.
وقال شرف الدين الطيبي: "قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ} متصل بالفاء بما سبق من قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل:89]. وذلك لأنه تعالى لما من على النبي صلى الله عليه وسلم بإنزال كتاب جامع لصفات الكمال وأنه تبيان لكل شئ، ونبه على أنه تبيان لكل شيء بالكلمة الجامعة وهي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ} [النحل:90] الآية، وعطف عليه {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل:91]، وأكده ذلك التأكيد، قال بعد ذلك: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ}، أي إذا شرعت في قراءة هذا الكتاب الشريف الجامع الذي نبهت على بعض ما اشتمل عليه، ونازعك فيه الشيطان بهمزة ونفثه فاستعذ بالله منه والمقصود إرشاد الأمة" اه.
وهذا أحسن الوجوه وقد انقدح في فكري قبل مطالعة كلامه ثم وجدته في كلامه فحمدت الله وترحمته عليه. وعليه فما بين جملة {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً} الخ، وجملة {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ} جملة معترضة.والمقصود بالتفريع الشروع في التنويه بالقرآن.
وإظهار اسم {الْقُرْآنَ} دون أن يضمر للكتاب لأجل بعد المعاد.
والأظهر أن {قَرَأْتَ} مستعمل في إرادة الفعل، مثل قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:6]، وقوله: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ} [الاسراء:35] وقوله: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [سورة المجادلة:3] أي يريدون العود إلى أزواجهم بقرينة قوله بعده: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} في سورة المجادلة [3]، وقوله تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً} في سورة النساء [9]، أي أوشكوا أن يتركوا بعد موتهم، وقوله: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب: 53]، أي إذا أردتم أن تسألوهن، وفي الحديث: "إذا بايعت فقل: لا خلابة".
وحمله قليل من العلماء على الظاهر من وقوع الفعل فجعلوا إيقاع الاستعاذة بعد

القراءة. ونسب إلى مالك في المجموعة. والصحيح من مالك خلافه، ونسب إلى النخعي وابن سيرين وداود الظاهري وروي عن أبي هريرة.
والباء في {بِاللَّهِ} لتعدية فعل الاستعاذة يقال: عاذ بحصن، وعاد بالحرم.
والسين في {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} للطلب، أي فاطلب العوذ بالله من الشيطان. والعوذ: اللجأ إلى ما يعصم ويقي من أمر مضر.
ومعنى طلب العوذ بالله محاولة العوذ به. ولا يتصور ذلك في جانب الله إلا بالدعاء أن يعيذه. ومن أحسن الامتثال محاكاة صيغة الأمر فيما هو من قبيل الأقوال بحيث لا يغير إلا التغيير الذي لا مناص منه فتكون محاكاة لفظ "استعذ" بما يدل على طلب العوذ بأن يقال: أستعيذ، أو: أعوذ، فاختير لفظ أعوذ لأنه من صيغ الإنشاء، ففيه إنشاء الطلب لفظ أستعيذ فإنه أخفى في إنشاء الطلب، على اقتداء بما في الآية الأخرى {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} [المؤمنون:97] وأبقى ما عدا ذلك من ألفاظ آية الاستعاذة على حاله. وهذا أبدع الامثال، فقد ورد في عمل النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر أنه كان يقول: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" يحاكي لفظ هذه الآية ولم يقل في الاستعاذة: {أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} لأن ذلك في غير قراءة القرآن، ولم يحاكه النبي صلى الله عليه وسلم في استعاذته للقراءة.
قال ابن عطية: لم يصح عن النبي زيادة على هذا اللفظ. وما يروي من الزيادات لم يصح منه شيء. وجاء حديث الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال: "كان رسول الله إذا قام من الليل يقول أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه الخ". فتلك استعاذة تعوذ وليست الاستعاذة لأجل قراءة القرآن.
واسم الشيطان تقدم عند قوله تعالى: {إلى شيطانهم} في سورة البقرة [14]. والرجيم تقدم عند قوله تعالى: {وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} في سورة الحجر [17].
والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد عمومه لأمته بقرينة قوله تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}.
وإنما شرعت الاستعاذة عند ابتداء القراءة إيذانا بنفاسة القرآن ونزاهته، إذ هو نازل من العالم القدسي الملكي، فجعل افتتاح قراءته بالتجرد عن النقائص النفسانية التي هي من

عمل الشيطان ولا استطاعة للعبد أن يدفع تلك النقائض عن نفسه إلا بأن يسأل الله أن يبعد الشيطان عنه بأن يعوذ بالله، لأن جانب الله قدسي لا تسلك الشياطين إلى من يأوي إليه، فأرشد الله رسوله إلى سؤال ذلك وضمن له أن يعيذه منه، وأن يعيذ أمته عوذا مناسبا، كما شرعت التسمية في الأمور ذوات البال وكما شرعت الطهارة للصلاة.
وإنما لم تشرع لذلك كلمة "باسم الله" لأن المقام مقام تخل عن النقائض لا مقام استجلاب التيمن والبركة، لأن القرآن نفسه يمن وبركة وكمال تام، فالتيمن حاصل وإنما يخشى الشيطان أن يغشى بركاته فيدخل فيها ما ينقصها، فإن قراءة القرآن عبارة مشتملة على النطق بألفاظه والتفهم لمعانيه و كلاهما معرض لوسوسة الشيطان وسوسة تتعلق بألفاظه مثل الإنساء،لأن الإنساء يضيع على القارئ ما يحتوي عليه المقدار المنسي من إرشاد، ووسوسة تتعلق بمعانيه مثل أن يخطئ فهما أو يقلب عليه مرادا وذلك أشد من وسوسة الإنساء. وهذا المعنى يلائم محمل الأمر بالاستعاذة عند الشروع في القراءة.
فأما الذين حملوا تعلق الأمر بالاستعاذة أنها بعد الفراغ من القراءة، فقالوا لأن القارئ كان في عبادة فربما دخله عجب أو رياء وهما من الشيطان فأمر بالتعوذ منه للسلامة من تسويله ذلك.
ومحمل الأمر في هذه الآية عند الجمهور على الندب لانتفاء أمارات الإيجاب فإنه لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم بينه. فمن العلماء من ندبه مطلقا في الصلاة وغيرها عند كل قراءة. وجعل بعضهم جميع قراءة الصلاة قراءة واحدة تكفي استعاذة واحدة في أولها، وهو قول جمهور هولاء. ومنهم من جعل قراءة كل ركعة قراءة مستقلة.
ومن العلماء من جعله مندوبا للقراءة في غير الصلاة، وهو قول مالك، وكرهها في قراءة صلاة الفريضة وأباحها بلا ندب في قراءة صلاة النافلة.
ولعله رأى أن في الصلاة كفاية في الحفظ من الشيطان.
وقيل: الأمر للوجوب، فقيل في قراءة الصلاة خاصة ونسب إلى عطاء. وقد أطلق القرآن على قرآن الصلاة في قوله تعالى: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} [سورة الإسراء:78]
وقال: الثوري بالوجوب في قراءة الصلاة وغيرها. وعن ابن سيرين تجب الاستعاذة عند القراءة مرة في العمر، وقال قوم: الوجوب خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم والندب لبقية أمته.
ومدارك هذه الأقوال ترجع إلى تأويل الفعل في قوله تعالى: {قرأت}، وتأويل

الأمر في قوله تعالى: {فاستعذ} ، وتأويل القرآن مع ما حف بذلك من السنة فعلا وتركا.
وعلى الأقوال كلها فالاستعاذة مشروعة للشروع في القراءة أو لإرادته وليست مشروعة عند كل تلفظ بألفاظ القرآن كالنطق بآية أو آيات من القرآن في التعليم أو الموعظة أو شبههما، خلافا لما يفعله بعض المتحذقين إذا ساق آية من القرآن في غير مقام القراءة أن يقول كقوله تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ويسوق آية.
وجملة {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ} الآية تعليل للأمر بالاستعاذة من الشيطان عند إرادة قراءة القرآن وبيان لصفة الاستعاذة.
فأما كونها تعليلا فلزيادة الحث على الامتثال للأمر بأن الاستعاذة تمنع تسلط الشيطان على المستعيذ لأن الله منعه من التسلط على الذين آمنوا المتوكلين، والاستعاذة منه شعبة من شعب التوكل على الله لأن اللجأ إليه توكل عليه. وفي الإعلام بالعلة تنشيط للمأمور بالفعل على الامتثال إذ يصير عالما بالحكمة وأما كونها بيانا فلما تضمنته من ذكر التوكل على الله ليبين أن الاستعاذة إعراب عن التوكل على الله تعالى لدفع الشيطان ليعقد المستعيذ نيته على ذلك. وليست الاستعاذة مجرد قول بدون استحضار نية العوذ بالله.
فجملة {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} صفة ثانية للموصول. وقدم المجرور على الفعل للقصر، أي لا يتوكلون إلا على ربهم. وجعل فعلها مضارعا لإفادة تجدد التوكل واستمراره. فنفي سلطان الشيطان مشروط بالأمرين: الإيمان، والتوكل. ومن هذا تفسير لقوله تعالى في الآية الأخرى {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [سورة الحجر:42]
والسلطان: مصدر بوزن الغفران، وهو التسلط والتصرف المكين.
فالمعنى أن الإيمان مبدأ لتوهين سلطان الشيطان في نفس المؤمن فإذا انظم إليه التوكل على الله اندفع سلطان الشيطان عن المؤمن المتوكل.
وجملة {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ} مستأنفة استئنافا بيانيا لأن مضمون الجملة قبلها يثير سؤال سائل يقول: فسلطانه على من?.
والقصر المستفاد من {إنما} قصر إضافي بقرينة المقابلة، أي بدون الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، فحصل به تأكيد جملة {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا} لزيادة الاهتمام بتقرير مضمونها، فلا يفهم من القصر أنه لا سلطان له على غير هذين الفريقين

وهم المؤمنون الذين أهملوا التوكل والذين اتخذوا لبعض وسوسة الشيطان.
ومعنى {يتولونه} يتخذونه وليا لهم، وهم الملازمون للملل المؤسسة على ما يخالف الهدي الإلهي عن رغبة فيها. ولا شك أن الذين يتولونه فريق غير المشركين لأن العطف يقتضي بظاهره المغايرة، وهم أصناف كثيرة من أهل المتاب.وإعادة اسم الموصول في قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} لأن ولايتهم للشيطان أقوى.
وعبر بالمضارع للدلالة على تجدد التولي، أي الذين يجددون توليه، للتنبيه على أنهم كلما تولوه بالميل إلى طاعته تمكن منهم سلطانه، وأنه إذا انقطع التولي بالإقلاع أو التوبة انسلخ سلطانه عليهم.وإنما عطف {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} دون إعادة اسم الموصول للإشارة إلى أن الوصفين كصلة واحدة لموصول واحد لأن المقصود اجتماع الصلتين.
والباء في {بِهِ مُشْرِكُونَ} للسببية، والضمير المجرور عائد إلى الشيطان، أي صاروا مشركين بسبه. وليست هي كالباء في قوله تعالى: {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} [سورة الأعراف:33].
وجعلت الصلة جملة اسمية لدلالتها على الدوام والثبات، لأن الإشراك صفة مستمرة لأن قرارها القلب؛ بخلاف المعاصي لأن مظاهرها الجوارح، للإشارة إلى أن سلطان الشيطان على المشركين أشد أدوم لأن سببه ثابت ودائم.
وتقديم المجرور في {بِهِ مُشْرِكُونَ} لإفادة الحصر، أي ما أشركوا إلا بسببه، ردا عليهم إذ يقولون {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} [سورة الأنعام: 148] وقولهم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [سورة النحل:35] وقولهم: {وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} [سورة الأعراف: 28].
[101] {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ}.
استمر الكلام على شأن القرآن وتنزيهه عما يوسوسه الشيطان في الصد عن متابعته.
ولما كان من أكبر الأغراض في هذه السورة بيان أن القرآن منزل من عند الله وبيان فضله وهديه فابتدئ فيها بآية {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ} [سورة النحل: 2]، ثم

قفيت بما اختلفه المشركون من الطعن فيه بعد تنقلات جاء فيها {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [سورة النحل:24]، وأتبع ذلك بتنقلات بديعة فأعيد الكلام على القرآن وفضائله من قوله تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ} [سورة النحل:64] ثم قوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} [سورة النحل: 89]. وجاء في عقب ذلك بشاهد يجمع ما جاء به القرآن، وذلك آية {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ} [سورة النحل:90]، فلما استقر ما يقتضي تقرر فضل القرآن في النفوس نبه على نفاسته ويمنه بقوله: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [سورة النحل:98]، لا جرم تهيأ المقام لإبطال اختلاق آخر من اختلافهم على القرآن اختلافا مموها بالشبهات كاختلاقهم السابق الذي أشير إليه بقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [سورة النحل:24]. ذلك الاختلاق هو تعمدهم التمويه فيما يأتي من آيات القرآن مخالفا لآيات أخرى لاختلاف المقتضي والمقام. والمغايرة باللين والشدة، أو بالتعميم والتخصيص، ونحو ذلك مما يتبع اختلافه اختلاف المقامات واختلاف الأغراض واختلاف الأحوال التي يتعلق بها، فيتخذون من ظاهر ذلك دون وضعه مواضعه وحمله محامله مغامز يتشدقون بها في نواديهم، يجعلون ذلك اضطرابا من القول ويزعمونه شاهدا باقتداء قائله في إحدى المقالتين أو كلتيهما. وبعض ذلك ناشئ عن قصور مداركهم عن إدراك مرامي القرآن وسمو معانيه، وبعضه ناشئ عن تعمد للتجاهل تعلقا بظواهر الكلام يلبسون بذلك على ضعفاء الإدراك من أتباعهم، ولذلك قال تعالى: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}، أي ومنهم من يعلمون ولكنهم يكابرون.
روي عن ابن عباس أنه قال: "كان إذا نزلت آية فيها شدة ثم نزلت آية ألين منها يقول كفار قريش: والله ما محمد إلا يسخر بأصحابه اليوم يأمر بأمر وغدا ينهى عنه، وأنه لا يقول هذه الأشياء إلا من عند نفسه" اه.
وهذه الكلمة أحسن ما قاله المفسرون في حاصل معنى هذه الآية. فالمراد من التبديل في قوله تعالى؛ {بَدَّلْنَا} مطلق التغاير بين الأغراض والمقامات، أو التغاير في المعاني واختلافها باختلاف المقاصد والمقامات مع وضوح الجمع بين محاملها.
والمراد بالآية الكلام التام من القرآن، وليس المراد علامة صدق الرسول صلى الله عليه وسلم أعني المعجزة بقرينة قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ}.
فيشمل التبديل نسخ الأحكام مثل نسخ قوله تعالى: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ

بِهَا} [سورة الاسراء: 110] بقوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [سورة الحجر:94]. وهذا قليل في القرآن الذي يقرأ على المشركين لأن نسخ الأحكام إنما كثر بعد الهجرة حين تكونت الجامعة الإسلامية. وأما نسخ التلاوة فلم يرد من الآثار ما يقتضي وقوعه في مكة فمن فسر به الآية كما نقل عن مجاهد فهو مشكل.
ويشمل التعارض بالعموم والخصوص ونحو ذلك من التعارض الذي يحمل بعضه على بعض، فيفسر بعضه ويؤول بعضه بعضا، كقوله تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} في سورة الشورى: [5] مع قوله تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} في سورة المؤمن: [7]، فيأخذون بعموم {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} [سورة الشورى: 5] فيجعلونه مكذبا لخصوص {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [سورة غافر:7] فيزعمونه إعراضا عن أحد الأمرين إلى الأخير منهما.
وكذلك قوله تعالى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً} [سورة المزمل:10]
يأخذون من ظاهره أنه أمر بمتاركتهم فإذا جاءت آيات بعد ذلك لدعوتهم وتهديدهم زعموا أنه انتقض كلامه وبدا له ما لم يكن يبدو له من قبل.
وكذلك قوله تعالى: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} [سورة الاحقاف:9] مع آيات وصف عذاب المشركين وثواب المؤمنين.
وكذلك قوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [سورة الاسراء:15] مع قوله تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [سورة النحل: 25]
ومن هذا ما يبدو من تخالف بادئ الأمر كقوله بعد ذكر خلق الأرض {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [سورة فصلت:11] مع قوله تعالى: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [سورة النازعات:30]، فيحسبونه تناقضا مع الغفلة عن محمل {بعد ذلك} من جعل "بعد" بمعنى "مع" وهو استعمال كثير، فهم يتوهمون التناقض مع جهلهم أو تجاهلهم بالوحدات الثمانية المقررة في المنطق.
فالتبديل في قوله تعالى: {بدلنا} هو التعويض ببدل، أي عوض، والتعويض لا يقتضي إبطال المعوض بفتح الواو بل يقتضي أن يجعل شئ عوضا عن شئ. وقد

يبدو للسامع أن مثل لفظ المعوض بفتح الواو جعل عوضا عن مثل لفظ العوض بالكسر في آيات مختلفة باختلاف الأغراض من تبشير وإنذار، أو ترغيب وترهيب، أو إجمال وبيان، فيجعله الطاعنون اضطرابا لأن مثله قد كان بدل ولا يتاملون في اختلاف الأغراض. وقد تقدم شيء من هذا المعنى عند قوله تعالى: {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} في سورة يونس: [15]. و {مكان آية} منصوب على الظرفية المكانية: بأن تأتي آية في الدعوة والخطاب في مكان آية أخرى أتت في مثل تلك الدعوة، فالمكان هنا مكان مجازي وهو حالة الكلام والخطاب، كما يسمى ذلك مقاما، فيقال: هذا مقام الغضب، فلا تأت فيه بالمزح. وليس المراد مكانها من ألواح المصحف ولا بإبدالها محوها منه.
وجملة {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} معترضة بين شرط {إذا} وجوابها. والمقصود منها تعليم المسلمين لا الرد على المشركين، لأنهم لو علموا أن الله هو المنزل للقرآن لارتفع البهتان. والمعنى: أنه أعلم بما ينزل من آية بدل آية، فهو أعلم بمكان الأولى ومكان الثانية ومحمل كلتيهما، وكل عنده بمقدار وعلى اعتبار.
وقرأ الجمهور {بما ينزل} بفتح النون وتشديد الزاي. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون النون وتخفيف الزاي.
وحكاية طعنهم في النبي صلى الله عليه وسلم بصيغة قصر الموصوف على الصفة، فجعلوه لا صفة له إلا الافتراء، وهو قصر إضافي، أي لست بمرسل من الله. وهذا من مجازفتهم وسرعتهم في الحكم الجائر فلم يقتصروا على أن تبديله افتراء بل جعلوا الرسول مقصورا على كونه مفتريا لإفادة أن القرآن الوارد مقصور على كونه افتراء.
وأصل الافتراء: الاختراع، وغلب على اختراع الخبر، أي اختلافه، فساوى الكذب في المعنى، ولذلك قد يطلق وحده كما هنا وقد يطلق مقترفا بالكذب كقوله الآتي: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [سورة النحل: 105] إرجاعا به إلى أصل الاختراع فيجعل له مفعول هو آيل إلى معناه فصار في معنى المفعول المطلق. وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [في سورة العقود:103].
و {بل} للإضراب الإبطالي على كلامهم، وهو من طريقة النقض الإجمالي في علم المناظرة.

وضمير {أكثرهم} للذين قالوا إنما أنت مفتر، أي ليس كما قالوا ولكن أكثر القائلين ذلك لا يعلمون، أي لايفهمون وضع الكلام مواضعه وحمله محامله.
وفهم من الحكم على أكثرهم بعدم العلم أن قليلا منهم يعلمون أن ذلك ليس افتراء ولكنهم يقولون ذلك تلبيسا وبهتانا ولا يعلمون أن التنزيل من عند الله لا ينافي إبطال بعض الأحكام إذا اختلفت المصالح أو روعي الرفق.
ويجوز حمل لفظ أكثر على إرادة جميعهم كما تقدم في هذه السورة.
[102] {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}.
جواب عن قولهم {إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} [سورة النحل: 101] فلذلك فصل فعل {قل} لوقوعه في المحاورة، أي قل لهم: لست بمفتر ولا القرآن بافتراء بل نزله روح القدس من الله. وفي أمره بان يقول لهم ذلك شد لعزمه لكيلا يكون تجاوزهم الحد في البهتان صارفا إياه عن محاورتهم.
فيعد أن أبطل الله دعواهم عليه أنه مفتر بطريقة النقض أمر رسوله أن يبين لهم ماهية القرآن. وهذه نكتة الالتفات في قوله تعالى: {من ربك} الجاري على خلاف مقتضى ظاهر حكاية المقول المأمور بان يقوله لأن مقتضى الظاهر أن يقول: من ربي، فوقع الالتفات إلى الخطاب تأنيسا للنبي صلى الله عليه وسلم بزيادة توغل الكلام معه في طريقة الخطاب.
واختير اسم الرب لما فيه من معنى العناية والتدبير.
و {رُوحُ الْقُدُسِ}: جبريل. وتقدم عند قوله تعالى: {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} في سورة البقرة: [87]. والروح: الملك، قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} [سورة مريم: 17]، أي ملكا من ملائكتنا.
و {الْقُدُسِ}: الطهر. وهو هنا مراد به معنياه الحقيقي والمجازي الذي هو الفضل وجلالة القدر.
وإضافة الروح إلى القدس من إضافة الموصوف إلى الصفة، كقولهم: حاتم الجود. وزيد الخير. والمراد: حاتم الجواد. وزيد الخير. فالمعنى: الملك المقدس.
والباء في {بِالْحَقِّ} للملابسة، وهي ظرف مستقر في موضع الحال من الضمير

المنصوب في {نَزَّلَهُ} مثل {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} [المؤمنون: من الآية20]، أي ملابسا للحق لا شائبة للباطل فيه.
وذكرت علة من علل إنزال القرآن على الوصف المذكور، أي تبديل آية مكان آية، بأن في ذلك تثبيتا للذين آمنوا إذ يفهمون محمل كل آية ويهتدون بذلك وتكون آيات البشرى بشارة لهم وآيات الإنذار محمولة على أهل الكفر.
ففي قوله تعالى: {نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ} إبطال لقولهم: {إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ}، وفي قوله تعالى: {بِالْحَقِّ} إيقاظ للناس بان ينظروا في حكمة اختلاف أغراضه وأنها حق.
وفي التعليل بحكمة التثبيت والهدى والبشرى بيان لرسوخ إيمان المؤمنين وسداد آرائهم في فهم الكلام السامي، وأنه تثبيت لقلوبهم بصحة اليقين وهدى وبشرى لهم.
وفي تعلق الموصول وصلته بفعل التثبيت إيماء إلى أن حصول ذلك لهم بسبب إيمانهم، فيفيد تعريضا بأن غير المؤمنين تقتصر مداركهم عن إدراك ذلك الحق فيختلط عليهم الفهم ويزدادون كفرا ويضلون ويكون نذارة لهم.
والمراد بالمسلمين الذين آمنوا، فكان مقتضى الظاهر أن يقال: وهدى وبشرى لهم، فعدل إلى الإظهار لزيادة مدحهم بوصف آخر شريف.
وقوله تعالى: {وَهُدىً وَبُشْرَى} عطف على الجار والمجرور من قوله: {لِيُثَبِّتَ}، فيكون {هُدىً وَبُشْرَى} مصدرين في محل نصب على المفعول لأجله، لأن قوله: {لِيُثَبِّتَ} وإن كان مجرور اللفظ باللام إذ لا يسوغ نصبه على المفعول لأجله لأنه ليس مصدرا صريحا.
وأما {هُدىً وَبُشْرَى} فلما كانا مصدرين كانا حقيقين بالنصب على المفعول لأجله بحيث لو ظهر إعرابهما لكانا منصوبين كما في قوله تعالى: {لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: من الآية8].
[103] {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل:103]
عطف على جملة {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} [النحل: من الآية101]. وهذا إبطال

لتلبيس آخر مما يلبسون به على عامتهم، وذلك أن يقولوا: إن محمدا يتلقى القرآن من رجل من أهل مكة. قيل: قائل ذلك الوليد بن المغيرة وغيره، قال عنه تعالى: {فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر: 24 -25]، أي لا يلقنه ملك بل يعلمه إنسان، وقد عينوه بما دل عليه قوله تعالى: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ}.
وافتتاح الجملة بالتأكيد بلام القسم و" قد "يشير إلى أن خاصة المشركين كانوا يقولون ذلك لعامتهم ولا يجرون به بين المسلمين لأنه باطل مكشوف وأن الله أطلع المسلمين على ذلك. فقد كان في مكة غلام رومي كان مولى لعامر بن الحضرمي اسمه جبر كان يصنع السيوف بمكة ويقرأ من الإنجيل ما يقرأ أمثاله من عامة النصارى من دعوات الصلوت، فاتخذ زعماء المشركين من ذلك تمويها على العامة، فإن معظم أهل مكة كانوا أميين فكانوا يحسبون من يتلو كلمات يحفظها ولو محرفة أو يكتب حروفا يتعلمها يحسبونه على علم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لما جانبه قومه وقاطعوه يجلس إلى هذا الغلام، وكان هذا الغلام قد أظهر الإسلام فقالت قريش: هذا يعلم محمدا ما يقوله.
وقيل: كان غلام رومي اسمه بلعام كان عبدا بمكة لرجل من قريش، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقف عليه يدعوه إلى الإسلام، فقالوا: إن محمدا يتعلم منه، وكان هذا العبد يقول: إنما يقف علي يعلمني الإسلام.
وظاهر الإفراد في {إِلَيْهِ} أن المقصود رجل واحد. وقد قيل: المراد عبدان هما جبر ويسار كانا قنين، فيكون المراد ب {بَشَرٌ} الجنس، وبإفراد ضميره جريانه على أفراد معاده.
وقد كشف القرآن هذا اللبس هنا بأوضح كشف إذ قال قولا فصلا دون طول جدال {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ}، أي كيف يعلمه وهو أعجمي لا يكاد يبين وهذا القرآن فصيح عربي معجز.
والجملة جواب عن كلامهم، فهي مستأنفة استئنافا بيانيا لأن قولهم: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} يتضمن أنه ليس منزلا من عند الله فيسأل سائل: ماذا جواب قولهم? فيقال: {لِسَانُ الَّذِي... } الخ، وهذا النظم نظير نظم قوله تعالى: {قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: من الآية124].
وألحد: مثل لحد، أي مال عن القويم. فهو مما جاء من الأفعال مهموز بمعنى

المجرد، كقولهم: أبان بمعنى بان. فمعنى {يُلْحِدُونَ} يميلون عن الحق لأن ذلك اختلاق معاذير، فهم يتركون الحق القويم من أنه كلام منزل من الله إلى أن يقولوا {يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} فذلك ميل عن الحق وهو إلحاد.
ويجوز أن يراد بالإلحاد الميل بكلامهم المبهم إلى قصد معين لأنهم قالوا: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} وسكتوا عن تعيينه توسعة على أنفسهم في اختلاق المعاذير، فإذا وجدوا ساذجا أبله يسأل عن المعنى بالبشر قالوا له: هو جبر أو بلعام، وإذا توسموا نباهة السائل تجاهلوا وقالوا: هو بشر من الناس، فإطلاق الإلحاد على هذا المعنى مثل إطلاق المسيل على الاختيار.
وقرأ نافع والجمهور {يُلْحِدُونَ} بضم الياء مضارع ألحد. وقرأ حمزة والكسائي {يلْحِدُونَ} بفتح الياء من لحد مرادف ألحد. وقد تقدم الإلحاد في قوله تعالى: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} في سورة الأعراف: [180]. وليست هذه الهمزة كقولهم: ألحد الميت لأن تلك للجعل ذا لحد.
واللسان: الكلام. سمي الكلام باسم آلته. والأعجمي: المنسوب إلى الأعجم، وهو الذي لا يبين عن مراده من كل ناطق لا يفهمون ما يريده. ولذلك سموا الدواب العجماوات. فالياء فيه ياء النسب. ولما كان المنسوب إليه وصفا كان النسب لتقوية الوصف.
و المبين: اسم فاعل من أبان، إذا صار ذا إبانة، أي زائد في الإبانة بمعنى الفصاحة والبلاغة، فحصل تمام التضاد بينه وبين {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ}.
[104] {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل104]
جملة معترضة. وورود هذه الآية عقب ذكر اختلاق المتقعرين على القرآن المرجفين بالقالة فيه بين الدهماء يومئ إلى أن المراد بالذين لا يؤمنون هم أولئك المردود عليهم آنفا. وهم فريق معلوم بشدة العداوة للنبي صلى الله عليه وسلم وبالتصلب في التصدي لصرف الناس عنه بحيث بلغوا من المفر غاية ما وراءها غاية، فحقت عليهم كلمة الله أنهم لا يؤمنون، فهؤلاء فريق غير معين يومئذ ولكنهم مشار إليهم على وجه الإجمال وتكشف عن تعيينهم عواقب أحوالهم.

فقد كان من الكافرين بالنبي صلى الله عليه وسلم أبو جهل وأبو سفيان. وكان أبو سفيان أطول مدة في الكفر من أبي جهل؛ ولكن أبا جهل كان يخلط كفره بأذى النبي صلى الله عليه وسلم والحنق عليه. وكان أبو سفيان مقتصرا على الانتصار لدينه ولقومه ودفع المسلمين عن أن يغلبوهم فحرم الله أبا جهل الهداية فأهلكه كافرا، وهدى أبا سفيان فأصبح من خيرة المؤمنين. وتشرف بصهر النبي صلى الله عليه وسلم. وكان الوليد بن المغيرة وعمر بن الخطاب كافرين وكان كلاهما يدفع الناس من اتباع الإسلام ولكن الوليد كان يختلق المعاذير والمطاعن في القرآن وذلك من الكيد، وعمر كان يصرف الناس بالغلظة علنا دون اختلاق فحرم الله الوليد بن المغيرة الاهتداء، وهدى عمر إلى الإسلام فأصبح الإسلام به عزيز الجانب. فتبين الناس أن الوليد من الذين لا يؤمنون بآيات الله، وأن عمر ليس منهم، وقد كانا معا كافرين في زمن ما. ويشير إلى هذا المعنى الذي ذكرناه قوله تعالى: {إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار} [سورة الزمر: 3] فوصف من لا يهديه الله بوصفين الكذب وشدة الكفر.
فتبين أن معنى قوله تعالى: {الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ} من كان الإيمان منافيا لجبلة طبعه لا لأميال هواه. وهذا يعلم الله أنه لا يؤمن وأنه ليس معرضا للإيمان فلذلك لا يهديه الله، أي لا يكون الهداية في قلبه.
وهذا الأسلوب عكس أسلوب قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس:96]، وكل يرمي إلى معنى عظيم.
فموقع هذه الجملة من التي قبلها موقع التعليل لجميع أقوالهم المحكية والتذييل لخلاصة أحوالهم، ولذلك فصلت بدون عطف.
وعطف {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} على {لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ} للدلالة على حرمانهم من الخير وإلقائهم في الشر لأنهم إذا حرموا الهداية فقد وقعوا في الضلالة وماذا بعد الحق إلا الضلال، وهذا كقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [الحج:4]. ويشمل العذاب عذاب الدنيا وهو عذاب القتل مثل ما أصاب أبا جهل يوم بدر من ألم الجراح وهو في سكرات الموت ثم من إهانة الإجهاز عليه عقب ذلك.
[105] {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ}

هذا رد لقولهم: {إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} [ سورة النحل: 101] بقلب ما زعموه عليهم، كما كان قوله تعالى: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ} [النحل:103]
جوابا عن قولهم: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ}. فيعد أن نزه القرآن عن أن يكون مفترى والمنزل عليه عن أن يكون مفتريا ثني العنان لبيان من هو المفتري. وهذا من طريقة القلب في الحال.
ووجه مناسبة ذكره هنا أن قولهم: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} يستلزم تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم في أن ما جاء به منزل إليه من عند الله، فصاروا بهذا الاعتبار يؤكدون بمضمونه قولهم: {إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} يؤكد أحد القولين القول الآخر فلما رد قولهم: {إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} بقوله: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل: 101-102]. وردت مقالتهم الأخرى في صريحها بقوله: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ} ورد مضمونها هنا بقوله {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} الآية، حاصلا به رد نظيرها أعني قولهم: {إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} بكلام أبلغ من كلامهم، لأنهم أتوا في قولهم: {إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} بصيغة قصر هي أبلغ مما قالوه، لأن قولهم: {إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} قصر للمخاطب على صفة الافتراء الدائمة، إذ الجملة الاسمية تقتضي الثبات والدوام، فرد عليهم بصيغة تقصرهم على الافتراء المتكرر المتجدد، إذ المضارع يدل على التجدد.
وأكد فعل الافتراء بمفعولية الذي هو بمعنى المفعول المطلق لكونه آيلا إليه المعنى.
وعرف {الْكَذِبَ} بأداة تعريف الجنس الدالة على تميز ماهية الجنس واستحضارها، فإن تعريف اسم الجنس أقوى من تنكيره، كما تقدم في قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] وعبر عن المقصور عليهم باسم الموصول دون أن يذكر ضميرهم فيقال: إنما يفتري الكذب أنتم، ليفيد اشتهارهم بمضمون الصلة، ولأن للصلة أثرا في افترائهم، لما تفيده الموصولية من الإيماء إلى وجه بناء الخبر.
وعليه فإن من لا يؤمن بالدلائل الواضحة التي هي آيات صدق لا يسعه إلا الافتراء لترويج نكذيبه بالدلائل الواضحة. وفي هذا كناية عن كون تكذيبهم بآيات الله عن مكابرة لا عن شبهة.
ثم أردفت جملة القصر بجملة قصر أخرى بطريق ضمير الفصل وطريق تعريف

المسند وهي جملة {وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ}.
وافتتحت باسم الإشارة، بعد إجراء وصف انتفاء الإيمان بآيات الله عنهم، لينبه على أن المشار إليهم جديرون بما يرد من الخبر بعد اسم الإشارة، وهو قصرهم على الكذب، لأن من لا يؤمن بآيات الله يتخذ الكذب ديدنا له متجددا.
وجعل المسند في هذه الجملة معرفا باللام ليفيد أن جنس الكاذبين اتحد بهم وصار منحصرا فيهم، أي الذين تعرف أنهم طائفة الكاذبين هم هؤلاء. وهذا يؤول إلى معنى قصر جنس المسند على المسند إليه، فيحصل قصران في هذه الجملة: قصر موصوف على صفة، وقصر تلك الصفة على ذلك الموصوف. والقصران الأولان الحاصلان من قوله {إِنَّمَا يَفْتَرِي} وقوله {وَأُولَئِكَ هُمُ} إضافيان، أي لا غيرهم الذي رموه بالافتراء وهو محاشى منه. والثالث {وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} قصر حقيقي ادعائي للمبالغة. إذ نزل بلوغ الجنس فيهم مبلغا قويا منزلة انحصاره فيهم.
واختير في الصلة صيغة {لا يُؤْمِنُونَ} دون: لم يؤمنوا. لتكون على وزان ما عرفوا به سابقا في قوله {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ}، ولما في المضارع من الدلالة على أنهم مستمرون على انتفاء الإيمان لا يثبت لهم ضد ذلك.
[106] {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل:106] لما سبق التحذير من نقض عهد الله الذي عاهدوه، وأن لا يغرهم ما لأمة المشركين من السعة والربو، والتحذير من زلل القدم بعد ثبوتها، وبشروا بالوعد بحياة طيبة، وجزاء أعمالهم الصالحة من الإشارة إلى التمسك بالقرآن والاهتداء به، وأن لا تغرهم شبه المشركين وفتونهم في تكذيب القرآن، عقب ذلك بالوعيد على الكفر بعد الإيمان، فالكلام استئناف ابتدائي.
ومناسبة الانتقال أن المشركين كانوا يحاولون فتنة الراغبين في الإسلام والذين أسلموا. فلذلك رد عليهم بقوله: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ} إلى قوله: {لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا} [النحل:102]، وكانوا يقولون: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} فرد عليهم بقوله: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ} [النحل: من الآية103].
وكان الغلام الذي عنوه بقولهم: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} قد أسلم ثم فتنه المشركون فكفر، وهو جبر مولى

عامر بن الحضرمي. وكانوا راودوا نفرا من المسلمين على الارتداد، منهم: بلال، وخباب بن الأرت، وياسر، وسمية أبوا عمار بن ياسر، وعمار ابنهما، فثبتوا على الإسلام. وفتنوا عمارا فأظهر لهم الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان. وفتنوا نفرا آخرين فكفروا، وذكر منهم الحارث بن ربيعة بن الأسود، وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة، وعلي بن أمية بن خلف، والعاصي بن منبه بن الحجاج. وأحسب أن هؤلاء هم الذين نزل فيهم قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} في سورة العنكبوت [10]، فكان من هذه المناسبة رد لعجز الكلام على صدره.
على أن مضمون {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ} مقابل لمضمون {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} [النحل:97]، فحصل الترهيب بعد الترغيب، كما ابتدئ بالتحذير تحفظا على الصالح من الفساد، ثم أعيد الكلام بإصلاح الذين اعتراهم الفساد، وفتح باب الرخصة للمحافظين على صلاحهم بقدر الإمكان.
واعلم أن الآية إن كانت تشير إلى نفر كفروا بعد إسلامهم كانت {مَنْ} موصولة وهي مبتدأ والخبر {فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ}. وقرن الخبر بالفاء لأن في المبتدأ شبها بأداة الشرط. وقد يعامل الموصول معاملة الشرط، ووقع في القرآن في عير موضع. ومنه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ} [البروج:10]، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} إلى قوله: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} في سورة براءة [34]. وقيل: إن فريقا كفروا بعد إسلامهم، كما روي في شأن جبر غلام ابن الحضرمي. وهذا الوجه أليق بقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [النحل:108] الآية.
وإن كان ذلك لم يقع فالآية مجرد تحذير للمسلمين من العود إلى الكفر، ولذلك تكون {من} شرطية، والشرط غير مراد به معين بل هو تحذير، أي من يكفروا بالله، لأن الماضي في الشرط ينقلب إلى معنى المضارع، ويكون قوله: {فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ} جوابا.
والتحذير حاصل على كلا المعنيين.
وأما قوله: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} فهو ترخيص ومعذرة لما من عمار بن ياسر وأمثاله إذا اشتد عليهم عذاب من فتنوهم.

وقوله: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ} استثناء من عموم {مَنْ كَفَرَ} لئلا يقع حكم الشرط عليه، أي إلا من أكرهه المشركون على الكفر، أي على إظهاره فأظهره بالقول لكنه لم يتغير اعتقاده. وهذا فريق رخص الله لهم ذلك كما سيأتي.
ومصحح الاستثناء هو الذي قال قول قد كفر بلفظه.
والاستدراك بقوله: {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً} استدرك على الاستثناء، وهو احتراس من أن يفهم أن المكره مرخص له أن ينسلخ عن الإيمان من قلبه.
و {مَنْ شَرَحَ} معطوف بـ {لَكِنْ} على {مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ}، لأنه في معنى المنفي لوقوعه عقب الاستثناء من المثبت، فحرف {لَكِنْ} عاطف ولا عبرة بوجود الواو على التحقيق.
واختير {فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ} دون نحو: فقد غضب الله عليهم، لما تدل عليه الجملة الاسمية من الدوام والثبات، أي غضب لا مغفرة معه.
وتقديم الخبر المجرور على المبتدأ للاهتمام بأمرهم، فقدم ما يدل عليهم، ولتصحيح الإتيان بالمبتدأ نكرة حين قصد بالتنكير التعظيم، أي غضب عظيم، فاكتفى بالتنكير عن الصفة.
وأما تقديم {لَهُمْ} على {عَذَابٌ عَظِيمٌ} فللاهتمام.
والإكراه: الإلجاء إلى فعل ما يكره فعله. وغنما يكون ذلك بفعل شيء تضيق عن تحمله طاقة الإنسان من إيلام بالغ أو سجن أو قيد أو نحوه.
وقد رخصت هذه الآية للمكره على إظهار الكفر أن يظهره بشيء من مظاهره التي يطلق عليها أنها كفرت في عرف الناس من قول أو فعل.
وقد أجمع علماء الإسلام على الأخذ بذلك في أقوال الكفر، فقالوا: فمن أكره على الكفر غير جارية عليه أحكام الكفر، لأن الإكراه قرينة على أن كفره تقية ومصانعة بعد أن كان مسلما. وقد رخص الله ذلك رفقا بعباده واعتبارا للأشياء بغاياتها ومقاصدها.
وفي الحديث: أن ذلك وقع لعمار بن ياسر، وأنه ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فصوبه وقال له: "وإن عادوا لك فعد".
واجمع على ذلك العلماء. وشذ محمد بن الحسن فأجرى على هذا التظاهر بالكفر

حكم الكفار في الظاهر كالمرتد فيستتاب عن المكنة منه.
وسوى جمهور العلماء بين أقوال الكفر وأفعاله كالسجود للصنم. وقالت طائفة: إن الإكراه على أفعال الكفر لا يبيحها. ونسب إلى الأوزاعي وسحنون والحسن البصري، وهي تفرقة غير واضحة. وقد ناط الله الرخصة باطمئنان القلب بالإيمان وغفر ما سول القلب.
وإذا كان الإكراه موجب الرخصة في إظهار الكفر فهو في غير الكفر من المعاصي أولى كشرب الخمر والزنا، وفي رفع أسباب المؤاخذة في غير الاعتداء على الغير كالإكراه على الطلاق أو البيع.
وأما في الاعتداء على الناس من ترتب الغرم فبين مراتب الإكراه ومراتب الاعتداء المكروه عليه تفاوت، وأعلاها الإكراه على قتل نفس. وهذا يظهر أنه لا يبيح الإقدام على القتل لأن التوعد قد لا يتحقق وتفوت نفس القتيل.
على أن أنواعا من الاعتداء قد يجعل الإكراه ذريعة إلى ارتكابها بتواطئ بين المكره والمكره. ولهذا كان للمكره بالكسر جانب من النظر في حمل التبعة عليه.
وهذه الآية لم تتعرض لغير مؤاخذة الله تعالى في حقه المحض وما دون ذلك فهو مجال الاجتهاد.
والخلاف في طلاق المكره معلوم، والتفاصيل والتفاريع مذكورة في كتب الفروع وبعض التفاسير.
[107] {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} هذه الجملة واقعة موقع التعليل فلذلك فصلت عن التي قبلها، وإشارة ذلك إلى مضمون قوله: {فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل:106].
وضمير {بِأَنَّهُمُ} عائد إلى {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ} [النحل:106] سواء كان ما صدق {مَنْ} معينا أو مفروضا على أحد الوجهين السابقين.
والباء للسببية، فمدخولها سبب.

و {اسْتَحَبُّوا} مبالغة في "أحبوا" مثل استأخر واستكان. وضمن "استحبوا" معنى "فضلوا" بحرف "على"، أي لأنهم قدموا نفع الدنيا على نفع الآخرة، لأنهم قد استقر في قلوبهم أحقية الإسلام وما رجعوا عنه إلا خوف الفتنة أو رغبة في رفاهية العيش، فيكون كفرهم اشد من كفر المستصحبين للكفر من قبل البعثة.
{وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} سبب ثان للغضب والعذاب، أي وبأن الله حرمهم الهداية فهم موافونه على الكفر. وقد تقدم تفسير ذلك عند قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ} [النحل:104].
وهو تذييل لما في صيغة {الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} من العموم الشامل للمتحدث عنهم وغيرهم، فليس ذلك إظهارا في مقام الإضمار ولكنه عموم بعد خصوص.
وإقحام لفظ "قوم" للدلالة على أن من كان هذا شأنهم فقد عرفوا به وتمكن منهم وصار سجية حتى كأنهم يجمعهم هذا الوصف.
وقد تقدم أن جريان وصف أو خبر على لفظ "قوم" يؤذن بأنه من مقومات قوميتهم كما في قوله تعالى: {لآيات لقوم يعقلون} في سورة البقرة [164]، وقوله تعالى: {وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} في سورة يونس [101].
[108] {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ}
جملة مبينة لجملة {وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} بأن حرمانهم الهداية بحرمانهم الانتفاع بوسائلها: من النظر الصادق في دلائل الوحدانية، ومن الوعي لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن المنزل عليه. ومن ثبات القلب على حفظ ما داخله من الإيمان، حيث انسلخوا منه بعد أن تلبسوا به.
وافتتاح الجملة باسم الإشارة لتمييزهم تمييزا تبيينا لمعنى الصلة المتقدمة، وهي اتصافهم بالارتداد إلى الكفر بعد الإيمان بالقول والاعتقاد.
وأخبر عن اسم الإشارة بالموصول لما فيه من الإيماء إلى وجه بناء الحكم المبين بهذه الجملة. وهو مضمون جملة {فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل:106].

والطبع: مستعار لمنع وصول الإيمان وأدلته، على طريقة تشبيه المعقول بالمحسوس. وقد تقدم مفصلا عند قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} في سورة البقرة [7].
وجملة {وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} تكملة للبيان، أي الغافلون الأكملون في الغفلة، لأن الغافل البالغ الغاية ينافي حالة الاهتداء.
والقصر قصر موصوف على صفة، وهو حقيقي ادعائي يقصد به المبالغة، اعدم الاعتداء بالغافلين غيرهم، لأنهم بلغوا الغاية في الغفلة حتى عد كل غافل غيرهم كمن ليس بغافل. ومن هنا جاء معنى الكمال في الغفلة لا من لام التعريف.
وجملة {لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} واقعة موقع النتيجة لما قبلها، لأن ما قبلها صار كالدليل على مضمونها، ولذلك افتتحت بكلمة نفي الشك.
فإن {لا جَرَمَ} بمعنى "لا محالة" أو "لا بد". وقد تقدم آنفا في هذه السورة عند قوله تعالى: {لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} وتقدم بسط تفسيرها عند قوله تعالى: {لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ} في سورة هود [22].
والمعنى: أن خسارتهم هي الخسارة، لأنهم أضاعوا النعيم إضاعة أبدية.
ويجري هذا المعنى على كلا الوجهين المتقدمين في ما صدق "من" من قوله: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ} [النحل:106] الآية.
ووقع في سورة هود [22] {هُمُ الْأَخْسَرُونَ} ووقع هنا {هُمُ الْخَاسِرُونَ} لأن آية سورة هود [21] تقدمها {أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}
فكان المقصود بيان خسارتهم في الآخرة أشد من خسارتهم في الدنيا.
[110] {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل:110]
عطف على جملة {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ} إلى قوله: {هُمُ الْخَاسِرُونَ} [النحل:106-109].
و {ثُمَّ} للترتيب الرتبي، كما هو شأنها في عطفها الجمل. وذلك أن مضمون هذه الجملة المعطوفة أعظم رتبة من المعطوف عليها، إذ لا أعظم من رضى الله تعالى كما قال

تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة:72].
والمراد بـ"الذين هاجروا"المهاجرون إلى الحبشة الذين أذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة للتخلص من أذى المشركين. ولا يستقيم معنى الهجرة إلا لهذه الهجرة إلى أرض الحبشة.
قال ابن إسحاق:"فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء وما هو فيه من العافية بمكانة من الله ومن عمه أبي طالب، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء، قال لهم: لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه، فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة وفرارا بدينهم"اه.
فإن الله لما ذكر الذين آمنوا وصبروا على الأذى الذين اتقوا عذاب الفتنة بأن قالوا كلام الكفر بأفواههم ولكن قلوبهم مطمئنة بالإيمان ذكر فريقا آخر فازوا بفرار من الفتن، لئلا يتوهم متوهم أن بعدهم عن النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الشدة يوهن جامعة المسلمين فاستوفي ذكر فرق المسلمين كلها. وقد أومأ إلى حظهم من الفضل بقوله: {هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا} فسمى عملهم هجرة.
وهذا الاسم في مصطلح القرآن يدل على مفارقة الوطن لأجل المحافظة على الدين، كما حكي عن إبراهيم - عليه السلام - {وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} [العنكبوت:26]. وقال في الأنصار يحبون من هاجر إليهم، أي المؤمنين الذين فارقوا مكة.
وسمى ما لقوه من المشركين فتنة. والفتنة: العذاب والأذى الشديد المتكرر الذي لا يترك لمن يقع لمن يقع به صبرا ولا رأيا، قال تعالى: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} [الذريات:13] ,وقال: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [البروج:10]. وتقدم بيانها عند قوله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} في سورة البقرة [191]. أي فقد نالهم الأذى في الله.
والمجاهدة: المقاومة بالجهد، أي الطاقة.
والمراد بالمجاهدة هنا دفاعهم المشركين عن أن يردوهم إلى الكفر.
وهاتان الآيتان مكيتان نازلتان قبل شرع الجهاد الذي هو بمعنى قتال الكفار لنصر الدين.

والصبر: الثبات على تحمل المكروه والمشاق، وتقدم في قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} في سورة البقرة: [45].
وأكد الخبر بحرف التوكيد اللفظي لتحقيق الوعد، والاهتمام يدفع النقيصة عنهم في الفضل.
ويدل على ذلك ما في صحيح البخاري: أن أسماء بنت عميس، وهي ممن قدم من أرض الحبشة، دخلت على حفصة فدخل عمر عليها فقال لها:سبقناكم بالهجرة فنحن أحق برسول الله منكم، فغضبت أسماء وقالت: كلا والله، كنتم مع النبي يطعم جائعكم ويعظ جاهلكم، وكنا في أرض البعداء البغضاء بالحبشة ونحن كنا نؤذى ونخاف، وذلك في الله ورسوله، وأيم الله لا أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتى أذكر ما قلت لرسول الله، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم بيت حفصة قالت: أسماء: يا رسول الله إن عمر قال كذا وكذا، قال: "فما قلت له?" قالت: قلت له كذا وكذا، قال: "ليس بأحق بي منكم وله ولأصحابه هجرة واحدة ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان".
واللام في قوله {لِلَّذِينَ هَاجَرُوا} متعلق بـ "غفور" مقدم عليه للاهتمام. وأعيد {إِنَّ رَبَّكَ} ثانيا لطول الفصل بين اسم {إن} وخبرها المقترن بلام الابتداء مع إفادة التأكيد اللفظي.
وتعريف المسند إليه الذي هو اسم {إن} بطريق الإضافة دون العلمية لما يومئ إليه إضافة لفظ "رب" إلى ضمير النبي من كون المغفرة والرحمة لأصحابه كانت لأنهم أوذوا لأجل الله ولأجل النبي صلى الله عليه وسلم فكان إسناد المغفرة إلى الله بعنوان كونه رب محمد صلى الله عليه وسلم حاصلا أسلوب يدل على الذات العلية وعلى الذات المحمدية.
وهذا من أدق لطائف القرآن في قرن اسم النبي باسم الله بمناسبة هذا الإسناد بخصوصه.
وضمير {مِنْ بَعْدِهَا} عائد إلى الهجرة المستفادة من {هَاجَرُوا} ، أو إلى المذكورات: من هجرة وفتنة وجهاد وصبر، أو إلى الفتنة المأخوذة من {فُتِنُوا}. وكل تلك الاحتمالات تشير إلى أن المغفرة والرحمة لهم جزاء على بعض تلك الأفعال أو كلها.
وقرأ ابن عامر {فَتَنوا} بفتح الفاء والتاء على البناء للفاعل، وهي لغة في افتتن،

بمعنى وقع في الفتنة.
[111] {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}.
يجوز أن يكون هذا استئنافا وتذييلا بتقدير: اذكر يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها، وقع عقب التحذير والوعيد وعيدا للذين أنذروا ووعدا للذين بشروا.
ويجوز أن يكون متصلا بقوله: {إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [سورة النحل:110]، فيكون انتصاب {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ} على الظرفية {لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}، أي يغفر لهم ويرحمهم يوم القيامة بحيث لا يجدون أثرا لذنوبهم التي لا يخلو عنها غالب الناس ويجدون رحمة من الله بهم يومئذ. فهذا المعنى هو مقتضى الإتيان بهذا الظرف.
والمجادلة: دفاع بالقول للتخلص من تبعة فعل. وتقدم عند قوله تعالى: {وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} في سورة النساء [107].
والنفس الأول: بمعنى الذات والشخص كقوله: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} سورة المائدة: [45] والنفس الثانية ما به الشخص شخص، فالاختلاف بينهما بالاعتبار كقول أعرابي قتل أخوه ابنا له "من الحماسة":
أقول للنفس تأساء وتسلية ... إحدى يدي أصابتني ولم ترد
وتقدم في قوله: {وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} في سورة البقرة [44].
وذلك أن العرب يستشعرون للإنسان جملة مركبة من جسد وروح فيسمنها النفس، أي الذات وهي ما يعبر عنه المتكلم بضمير "أنا"، ويستشعرون للإنسان قوة باطنية بها إدراكه ويسمونها نفسا أيضا. ومنه أخذ علماء المنطق اسم النفس الناطقة.
والمعنى: يأتي كل أحد يدافع عن ذاته، أي يدافع بأقواله ليدفع تبعات أعماله. ففاعل المجادلة وما هو في قوة مفعوله شيء واحد. وهذا قريب من نوع وقوع الفاعل والمفعول شيئا واحد في أفعال الظن والدعاء، بكثرة مثل: أراني فاعلا كذا، وقولهم: عد متني وفقدتني، وبقلة في غير ذلك مع الأفعال نحو قول امرئ القيس:
قد بت أحرسني وحدي ويمنعني ... صوت السباع به يضبحن والهام
و {تُوَفَّى} تعطي شيء وافيا، أي كاملا غير منقوص، و {مَا عَمِلَتْ} مفعول ثان

لـ {تُوَفَّى} ، وهو على حذف مضاف تقديره: جزاء ما علمت، أي من ثواب أو عقاب، وإظهار كل نفس في مقام الإضمار لتكون الجملة مستقلة فتجري مجرى المثل.
والظلم: الاعتدال على الحق. وأطلق هنا على مجاوزة الحد المعين للجزاء في الشر والإجحاف عنه الخير، لأن الله لما عين الجزاء على الشر ووعد بالجزاء على الخير صار ذلك كالحق لكل فريق. والعلم بمراتب هذا التحديد مفوض لله تعالى: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [سورة الكهف: 49].
وضميرا {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} عائدان إلى كل نفس بحسب المعنى. لأن {كُلُّ نَفْسٍ} يدل على جمع من النفوس.
وزيادة هذه الجملة للتصريح بمفهوم {وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ}، لأن توفية الجزاء على العمل تستلزم كون تلك التوفية عدلا، فصرح بهذا اللازم بطريقة نفي ضده وهو نفي الظلم عنهم، وللتنبيه على أن العدل من صفات الله تعالى. وحصل مع ذلك تأكيد المعنى الأول.
[112] {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}.
عطف عظة على عظه. والمعطوف عليها هي جمل الامتنان بنعم الله تعالى عليهم في قوله:
{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53] وما اتصل بها إلى قوله: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} [النحل:83]. فانتقل الكلام بعد ذلك بتهديد من قوله:
{وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً} [سورة النحل:84].
فبعد أن توعدهم بقوارع الوعيد بقوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النحل: 104] وقوله:
{فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [سورة النحل: 106] إلى قوله: {لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [سورة النحل:109]. عاد الكلام إلى تهديدهم بعذاب في الدنيا بأن جعلهم مضرب مثل لقرية عذبت عذاب الدنيا، أو جعلهم مثلا وعظة لمن يأتي بمثل ما أتوا به من إنكار نعمة الله.
ويجوز أن يكون المعطوف عليها جملة {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ} [سورة النحل: 111]

الخ. على اعتبار تقدير "اذكر"، أي اذكر لهم هول يوم تأتي كل نفس تجادل الخ. وضرب الله مثلا لعذابهم في الدنيا شأن قرية كانت آمنة الخ.
وَ {ضَرَبَ}: بمعنى جعل، أي جعل المركب الدال عليه كون نظمه، وأوحى به إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، كما يقال: أرسل فلان مثلا قوله: كيت وكيت.
والتعبير عن ضرب المثل الواقع في حال نزول الآية بصيغة المضي للتشويق إلى الإصغاء إليه، وهو من استعمال الماضي في الحال لتحقيق وقوعه، مثل {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل: 1]، أو لتقريب زمن الماضي من زمن الحال، مثل: قد قامت الصلاة.
ويجوز أن يكون {ضرب} مستعملا في معنى الطلب والأمر، أي اضرب يا محمد لقومك مثلا قرية إلى آخره، كما سيجيء عند قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاء} [الزمر: 29]. وإنما صيغ في صيغة الخبر توسلا إلى إسناده إلى الله تشريفا له وتنويها به. ويفرق بينه وبين ما صيغ بصيغة الطلب نحو {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} [الزمر:13] بما سيذكر في سورة الزمر فراجعه. وقد تقدم في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً} في سورة البقرة [26]، وقوله في سورة إبراهيم: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً} [ابراهيم:24].
وجعل المثل قرية موصوفة بصفات تبين حالها المقصود من التمثيل، فاستغنى عن تعيين القرية.
والنكتة في ذلك أن يصلح هذا المثل للتعريض بالمشركين باحتمال أن تكون القرية قريتهم أعني مكة بأن جعلهم مثلا للناس من بعدهم. ويقوى هذا الاحتمال إذا كانت هذه الآية قد نزلت بعد أن أصاب أهل مكة الجوع الذي أنذروا به في قوله تعالى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الدخان: 11،10]. وهو الدخان الذي كان يراه أهل مكة أيام القحط الذي أصابهم بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم.
ويؤيد هذا قوله بعد {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} [سورة النحل:113].
ولعل المخاطب بهذا المثل هم المسلمون الذين هاجروا من بعد ما فتنوا، أي أصحاب هجرة الحبشة تسلية لهم مفرقة بلدهم، وبعثا لهم على أن يشكروا الله تعالى إذ أخرجهم من تلك القرية فسلموا مما أصاب أهلها وما يصيبهم.

وتقدم معنى القرية عند قوله تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} في سورة البقرة [259].
والمراد بالقرية أهلها إذ هم المقصود من القرية كقوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82]. والأمن: السلامة من تسلط العدو.
والاطمئنان: الدعة وهدوء البال. وقد تقدم في قوله تعالى: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260]، وقوله: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} في سورة النساء [103].
وقدم الأمن على الطمأنينة إذ لا تحصل الطمأنينة بدونه، كما أن الخوف بسبب الانزعاج والقلق.
وقوله: {يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً} [النحل: 112] تيسير الرزق فيها من أسباب راحة العيش، وقد كانت مكة كذلك. قال تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [سورة القصص: 57]. والرزق: الأقوات. وقد تقدم عند قوله: {لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ} [يوسف:37].
والرغد: الوافر الهنيء. وتقدم عند قوله: {وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا} في سورة البقرة [35].
و {مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} بمعنى من أمكنة كثيرة. و {كل} تستعمل في معنى الكثرة، كما تقدم في قوله تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا} في سورة الأنعام [25].
والأنعم: جمع نعمة على غير قياس.
ومعنى الكفر بأنعم الله: الكفر بالمنعم، لأنهم أشركوا غيره في عبادته فلم يشكروا المنعم الحق. وهذا يشير إلى قوله تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} [النحل:83].
واقتران فعل كفرت بفاء التعقيب بعد {كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً} باعتبار حصول الكفر عقب النعم التي كانوا فيها حين طرأ عليهم الكفر، وذلك عند بعثة الرسول إليهم.
وأما قرن {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ} بفاء التعقيب فهو تعقيب عرفي في مثل ذلك

المعقب لأنه حصل بعد مضي زمن عليهم وهم مصرون على كفرهم والرسول يكرر الدعوة وإنذارهم به، فلما حصل عقب ذلك بمدة غير طويلة وكان جزاء على كفرهم جعل كالشيء المعقب به كفرهم.
والإذاقة: حقيقتها إحساس اللسان بأحوال الطعوم. وهي مستعارة هنا وفي مواضع من القرآن إلى إحساس الألم والأذى إحساسا مكينا كتمكن ذوق الطعام من فم ذائقه لا يجد له مدفعا، وقد تقدم في قوله تعالى: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} [سورة المائدة:95].
واللباس: حقيقته الشيء الذي يلبس. وإضافته إلى الجوع والخوف قرينة على أنه مستعار إلى ما يغشى من حالة إنسان ملازمة له كملازمة اللباس لابسه، كقوله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة: 187] بجامع الإحاطة والملازمة.
ومن قبيلها استعارة "البلى" لزوال صفة الشخص تشبيها للزوال بعد التمكن ببلى الثوب بعد جدته في قول أبي الغول الطهوي:
ولا تبلى بالتهم وإن هم ... صلوا بالحرب حينا بعد حين
واستعارة سل الثياب إلى زوال المعاشرة في قول امرئ القيس:
فسلي ثيابي عن ثيابك تنسل
ومن لطائف البلاغة جعل اللباس لباس شيئين، لأن تمام اللبسة أن يلبس المرء إزارا ودرعا.
ولما كان اللباس مستعارا لإحاطة ما غشيهم من الجوع والخوف وملازمته أريد إفادة أن ذلك متمكن منهم ومستقر في إدراكهم استقرار الطعام في البطن إذ يذاق في اللسان والحلق ويحس في الجوف والأمعاء.
فاستعير له فعل الإذاقة تمليحا وجمعا بين الطعام واللباس، لأن غاية القرى والإكرام أن يؤدب للضيف ويخلع عليه خلعة من إزار وبرد، فكانت استعارتان تهكميتان.
فحصل في الآية استعارتان: الأولى: استعارة الإذاقة وهي تبعية مصرحة، والثانية: اللباس وهي أصلية مصرحة.
ومن بديع النظم أن جعلت الثانية متفرعة على الأولى ومركبة عليها بجعل لفظها مفعولا للفظ الأولى. وحصل بذلك أن الجوع والخوف محيطان بأهل القرية في سائر

أحوالهم وملازمان لهم وأنهم بالغان منهم مبلغا أليما.
وأجمل {بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} اعتمادا على سبق ما يبينه من قوله: {فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّه}.
[113] {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ}.
لما أخبر عنهم بأنهم أذيقوا لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون، وكان إنما ذكر من صنعهم أنهم كفروا بأنعم الله. زيد هنا أن ما كانوا يصنعون عام لكل عمل لا يرضي الله غير مخصوص بكفرهم نعمة الله، وإن من أشنع ما كانوا يصنعون تكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أنه منهم. وذلك أظهر في معنى الإنعام عليهم والرفق بهم. وما من قرية أهلكت إلا وقد جاءها رسول من أهلها {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} [القصص: 59].
والأخذ: الإهلاك. وقد تقدم عند قوله تعالى: {فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [سورة الأعراف: 95].
وتأكيد الجملة بلام القسم وحرف التحقيق للاهتمام بهذا الخبر تنبيها للسامعين المعرض بهم لأنه محل الإنذار.
وتعريف {الْعَذَابُ} للجنس، أي فأخذهم عذاب كقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [سورة الأعراف:95]
[114] {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}. تفريع على الموعظة وضرب المثل، وخوطب به فريق من المسلمين كما دل عليه قوله: {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ} [سورة النحل:115،114] إلى آخره.

ولعل هذا موجه إلى أهل هجرة الحبشة إذ أصبحوا آمنين عند ملك عادل في بلد يجدون فيه رزقا حلالا وهو ما يضافون به وما يكسبونه بكدهم، أي إذا علمتم حال القرية الممثل بها أو المعرض بها فاشكروا الله الذي نجاكم من مثل ما أصاب القرية، فاشكروا الله ولا تكفروه كما كفر بنعمته أهل تلك القرية. فقوله: {وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ} مقابل قوله في المثل
{فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ} [النحل: 112] إن كنتم لا تعبدون غيره كما هو مقتضى الإيمان.
وتعليق ذلك بالشرط للبعث على الامتثال لإظهار صدق إيمانهم.
وإظهار اسم الجلالة في قوله: {وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ} مع أن مقتضى الظاهر الإضمار لزيادة التذكير، ولتكون جملة هذا الأمر مستقلة بدلالتها بحيث تصح أن تجرى مجرى المثل.
وقيل: هذه الآية نزلت بالمدينة "والمعنى واحد" وهو قول بعيد.
والأمر في قوله: {فَكُلُوا} للامتنان. وإدخال حرف التفريع عليه باعتبار أن الأمر بالأكل مقدمة للأمر بالشكر وهو المقصود بالتفريع. والمقصود: فاشكروا نعمة الله ولا تكفروها فيحل بكم ما حل بأهل القرية المضروبة مثلا.
والحلال: المأذون فيه شرعا. والطيب: ما يطيب للناس طعمه وينفعهم قوته.
[115] {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
هذه الجملة بيان لمضمون جملة {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً} [سورة النحل:114] لتمييز الطيب من الخبيث فإن المذكورات في المحرمات هي خبائث خبثا فطريا لأن بعضها مفسد لتولد الغذاء لما يشتمل عليه من المضرة. وتلك هي الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وبعضها مناف للفطرة وهو ما أهل به لغير الله لأنه مناف لشكر المنعم بها، فالله خلق الأنعام والمشركون يذكرون اسم غير الله عليها.
ولإفادة بيان الحلال الطيب بهذه الجملة جيء فيها بأداة الحصر، أي ما حرم عليكم إلا الأربع المذكورات فبقي ما عداها طيبا.
وهذا بالنظر إلى الطيب والخبث بالذات. وقد يعرض الخبث لبعض المطعومات عرضا.

ومناسبة هذا التحديد في المحرمات أن بعض المسلمين كانوا بأرض غربة وقد يؤكل فيها لحم الخنزير وما أهل به لغير الله، وكان بعضهم ببلد يؤكل فيه الدم وما أهل به لغير الله. وقد مضى تفسير نظير هذه الآية في سورة البقرة والأنعام.
[117،116] {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. عاد الخطاب إلى المشركين بقرينة قوله: {لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ}. فالجملة معطوفة على جملة {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً} [النحل: 112] الآية.
وفيه تعريض بتحذير المسلمين لأنهم كانوا قريبي عهد بجاهلية فربما بقيت في نفوس بعضهم كراهية أكل ما كانوا يتعففون عن أكله في الجاهلية.
وعلق النهي بقولهم: {هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ}. ولم يعلق بالأمر بأكل ما عدا ما حرم لأن المقصود النهي عن جعل الحلال حراما والحرام حلالا لا أكل جميع الحلال وترك جميع الحرام حتى في حال الاضطرار، لأن إمساك المرء عن أكل شيء لكراهية أو عيف هو عمل قاصر على ذاته. وأما قول: {وَهَذَا حَرَامٌ} فهو يفضي إلى التحجير على غيره ممن يشتهي أن يتناوله.
واللام في قوله: {لِمَا تَصِفُ} هي إحدى اللامين اللتين يتعدى بهما فعل القول وهي التي بمعنى "عن" الداخلة على المتحدث عنه فهي كاللام في قوله: {الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا} [سورة آل عمران:168]، أي قالوا عن أخواتهم. وليست هي لام التقوية الداخلة على المخاطب بالقول.
و {تَصِفُ} معناه تذكر وصفا وحالا، كما في قوله تعالى: {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى} [سورة النحل: 62]. وقد تقدم ذلك في هذه السورة، أي لا تقولوا ذلك وصفا كذبا لأنه تقول لم يقله الذي له التحليل والتحريم وهو الله تعالى.
وانتصب {الْكَذِبَ} على المفعول المطلق لـ {تَصِفُ} ، أي وصفا كذبا، لأنه مخالف للواقع لأن الذي له التحليل والتحريم لم ينبئهم بما قالوا ولا نصب لهم دليلا عليه.

وجملة {هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} هي مقول {تقولوا}، واسم الإشارة حكاية بالمعنى لأوصافهم أشياء بالحل وأشياء بالتحريم.
و {لِتَفْتَرُوا} علة لـ {تقولوا} باعتبار كون الافتراء حاصلا لا باعتبار كونه مقصودا للقائلين، فهي لام العاقبة وليست لام العلة. وقد تقدم قريبا أن المقصد منها تنزيل الحاصل المحقق حصوله بعد الفعل منزلة الغرض المقصود من الفعل.
وافتراء الكذب تقدم آنفا. والذين يفترون هم المشركون الذين حرموا أشياء.
وجملة {مَتَاعٌ قَلِيلٌ} استئناف بياني في صورة جواب عما يجيش بخاطر سائل يسأل عن عدم فلاحهم مع مشاهدة كثير منهم في حالة من الفلاح، فأجيب بان ذلك متاع، أي نفع موقت زائل ولهم بعده عذاب أليم.
والآية تحذر المسلمين من أن يتقولوا على الله ما لم يقله بنص صريح أو بإيجاد معان وأوصاف للأفعال قد جعل لأمثالها أحكاما، فمن أثبت حلالا وحراما بدليل من معان ترجع إلى مماثلة أفعال تشتمل على تلك المعاني فقد قال بما نصب الله عليه دليلا.
وقدم {لهم} للاهتمام زيادة في التحذير. وجيء بلام الاستحقاق للتنبيه على أن العذاب حقهم لأجل افترائهم.
[118] {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}
لما شنع على المشركين أنهم حرموا على أنفسهم ما لم يحرمه الله، وحذر المسلمين من تحريم أشياء على أنفسهم جريا على ما اعتاده قومهم من تحريم ما احل لهم، نظر أولئك وحذر هؤلاء. فهذا وجه تعقيب الآية السالفة بآية {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ}.
والمراد منه ما ذكر في سورة الأنعام، كما روي عن الحسن وعكرمة وقتادة. وقد أشار إلى تلك المناسبة قوله: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}، أي وما ظلمناهم بما حرمنا عليهم ولكنهم كفروا النعمة فحرموا من نعم عظيمة. وغير أسلوب الكلام إلى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم لأن جانب التحذير فيه أهم من جانب التنظير.
وتقديم المجرور في {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا} للاهتمام، وللإشارة إلى أن ذلك حرم

عليهم ابتداء ولم يكن محرما من شريعة إبراهيم عليه السلام التي كان عليها سلفهم، كما قال تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ} [آل عمران:93]، أي عليهم دون غيرهم فلا تحسبوا أن ذلك من الحنيفية.
[119] {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}
موقع هذه الآية من اللواتي قبلها كموقع قوله السابق: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا} [النحل:110]. فلما ذكرت أحوال أهل الشرك وكان منها ما حرموه على أنفسهم، وكان المسلمون قد شاركوهم أيام الجاهلية في ذلك ووردت قوارع الذم لما صنعوا، كان مما يتوهم علوقه بأذهان المسلمين أن يحسبوا أنهم سينالهم شيء من غمص لما اقترفوه في الجاهلية، فطمأن الله نفوسهم بأنهم لما تابوا بالإقلاع عن ذلك بالإسلام وأصلحوا عملهم بعد ان أفسدوا فإن الله قد غفر لهم مغفرة عظيمة ورحمهم رحمة واسعة.
ووقع الإقبال بالخطاب على النبي صلى الله عليه وسلم إيماء إلى إن تلك المغفرة من بركات الدين الذي أرسل به.
وذكر اسم الرب مضافا إلى ضمير النبي للنكتة المتقدمة آنفا في قوله: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا}.
والجهالة: انتفاء العلم بما يجب. والمراد: جهالتهم بأدلة الإسلام.
و {ثُمَّ} للترتيب الرتبي، لأن الجملة المعطوفة بـ {ثُمَّ} تضمنت حكم التوبة وأن المغفرة والرحمة من آثارها، وذلك أهم عند المخاطبين مما سبق من وعيد، أي الذين عملوا السوء جاهلين بما يدل على فساد ما علموه. وذلك قبل أن يستجيبوا لدعوة الرسول فإنهم في مدة تأخرهم عن الدخول في الإسلام موصوفون بأنهم أهل جهالة وجاهلية أو جاهلين بالعقاب المنتظر على معصية الرسول وعنادهم إياه.
ويدخل في هذا الحكم من عمل حراما من المسلمين جاهلا بأنه حرام وكان غير مقصر في جهله. وقد تقدم عند قوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ

بِجَهَالَةٍ} في سورة النساء [17].
وقوله: {إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا} تأكيد لفظي لقوله: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ} لزيادة الاهتمام بالخبر على الاهتمام الحاصل بحرف التوكيد ولام الابتداء. ويتصل خبر {إن} باسمها لبعد ما بينهما.
ووقع الخبر بوصف الله بصفة المبالغة في المغفرة والرحمة، وهو كناية عن غفرانه لهم ورحمته إياهم في ضمن وصف الله بهاتين الصفتين العظيمتين.
والباء في {بِجَهَالَةٍ} للملابسة، وهي في موضع الحال من ضمير {عَمِلُوا}.
وضمير {مِنْ بَعْدِهَا} عائد إلى الجهالة أو إلى التوبة.
[120-122] {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِراً لَأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}
استئناف ابتدائي للانتقال إلى غرض التنويه بدين الإسلام بمناسبة قوله: {ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} [النحل:19] المقصود به أنهم كانوا في الجاهلية ثم اتبعوا الإسلام، فيعد أن بشرهم بأنه غفر لهم ما عملوه من قبل زادهم فضلا ببيان فضل الدين الذي اتبعوه.
وجعل الثناء على إبراهيم عليه السلام مقدمة لذلك لبيان أن فضل الإسلام فضل زائد على جميع الأديان بان مبدأه برسول ومنتهاه برسول. وهذا فضل لم يحظ به دين آخر.
فالمقصود بعد هذا التمهيد و هاته المقدمة هو الإفضاء إلى قوله: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} [النحل:123]، وقد قال تعالى في الآية الأخرى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج:78].
والأصل الأصيل الذي تفرع عنه وعن فروعه هذا الانتقال ما ذكر في الآية قبلها من تحريم أهل الجاهلية على أنفسهم كثيرا مما أنعم الله به على الناس.
ونظرهم باليهود إذ حرم الله عليهم أشياء، تشديدا عليهم، فجاء بهذا الانتقال لإفادة أن كلا الفريقين قد حادوا عن الحنيفية التي يزعمون أنهم متابعوها، وأن الحنيفة هي ما

جاء به الإسلام من إباحة ما في الأرض جميعا من الطيبات إلا ما بين الله تحريمه في آية {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} [الأنعام:145] الآية.
وقد وصف إبراهيم - عليه السلام - بأنه كان أمة. والأمة: الطائفة العظيمة من الناس التي تجمعها جهة جامعة. وتقدم في قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} في سورة البقرة [213]. ووصف إبراهيم - عليه السلام - بذلك وصف بديع لمعنيين:
أحدهما: أنه كان في الفضل والفتوة والكمال بمنزلة أمة كاملة. وهذا كقولهم: أنت الرجل كل الرجل، وقول البحتري:
ولم أر أمثال الرجال تفاوتا ... لدى الفضل حتى عد ألف بواحد
وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " معاذ أمة قانت لله".
والثاني: أنه كان أمة وحده في الدين لأنه لم يكن في وقت بعثته، موحد لله غيره. فهو الذي أحيا الله به التوحيد، وبثه في الأمم والأقطار، وبنى له معلما عظيما، وهو الكعبة، ودعا الناس إلى حجه لإشاعة ذكره بين الأمم، ولم يزل باقيا على العصور. وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم في خطر بن مالك الكاهن: "وأنه يبعث يوم القيامة أمة وحده"، رواه السهيلي في الروض الأنف. ورأيت رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذه المقالة في زيد بن عمرو بن نفيل.
والقانت: المطيع. وقد تقدم في قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} في سورة البقرة [238].
واللام لام التقوية لأن العامل فرع في العمل.
والحنيف: المجانب للباطل. وقد تقدم عند قوله: {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} في سورة البقرة [135]، والأسماء الثلاثة أخبار {كان} وهي فضائل.
{وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} اعتراض لإبطال مزاعم المشركين أن ما هم عليه هو دين إبراهيم - عليه السلام -. وقد صوروا إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - يستقسمان بالأزلام ووضعوا الصورة في جوف الكعبة، كما جاء في حديث غزوة الفتح، فليس قوله: {وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} مسوقا مساق الثناء على إبراهيم ولكنه تنزيه له عما اختلقه عليه المبطلون. فوزانه وزان قوله: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [التكوير:22]. وهو

كالتأكيد لوصف الحنيف بنفي ضده مثل {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} [طه:79].
ونفي كونه من المشركين بحرف {لَمْ} لأن {لَمْ} تقلب زمن الفعل المضارع إلى المضي، فتفيد انتفاء مادة الفعل في الزمن الماضي، وتفيد تجدد ذلك المنفي الذي هو من خصائص الفعل المضارع فيحصل معنيان: انتفاء مدلول الفعل بمادته، وتجدد الانتفاء بصيغته، فيفيد أن إبراهيم عليه السلام لم يتلبس بالإشراك قط؛ فإن إبراهيم - عليه السلام - لم يشرك بالله منذ صار مميزا وأنه لا يتلبس بالإشراك أبدا.
و {شَاكِراً لَأَنْعُمِهِ} خبر رابع عن {كان}. وهو مدح لإبراهيم - عليه السلام - وتعريض بذريته الذين أشركوا وكفروا نعمة الله مقابل قوله: {فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ} [النحل:112]. وتقدم قريبا الكلام على أنعم الله.
وجملة {اجْتَبَاهُ} مستأنفة استئنافا بيانيا، لأن الثناء المتقدم يثير سؤال سائل عن سبب فوز إبراهيم بهذه المحامد، فيجاب بان الله اجتباه، كقوله تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالاَتَهُ} [الأنعام:124].
والاجتباء: الاختيار، وهو افتعال من جبى إذا جمع. وتقدم في قوله تعالى: {وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} في سورة الأنعام [87].
والهداية إلى الصراط المستقيم: الهداية إلى التوحيد ودين الحنيفية.
وضمير {آتَيْنَاهُ} التفات من الغيبة إلى التكلم تفننا في الأسلوب لتوالي ثلاثة ضمائر غيبة.
والحسنة في الدنيا: كل ما فيه راحة العيش من اطمئنان القلب بالدين، والصحة، والسلامة، وطول العمر، وسعة الرزق الكافي، وحسن الذكر بين الناس. وقد تقدم في قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} [البقرة:201].
والصلاح: تمام الاستقامة في دين الحق. واختير هذا الوصف إشارة إلى أن الله أكرمه بإجابة دعوته، إذ حكى عنه أنه قال: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [الشعراء:83].
[123] {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.

{ثُمَّ} للترتيب الرتبي المشير إلى أن مضمون الجملة المعطوفة متباعد في رتبة الرفعة على مضمون ما قبلها تنويها جليلا بشأن النبي صلى الله عليه وسلم وبشريعة الإسلام، وزيادة في التنويه بإبراهيم - عليه السلام -، أي جعلناك متبعا ملة إبراهيم، وذلك أجل ما أوليناكما من الكرامة. وقد بينت آنفا أن هذه الجملة هي المقصود، وأن جملة {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} الخ. تمهيد لها.
وزيد {أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} للتنبيه على أن اتباع محمد ملة إبراهيم كان بوحي من الله وإرشاد صادق، تعريضا بان الذين زعموا اتباعهم ملة إبراهيم من العرب من قبل قد أخطأوها بشبهة مثل أمية بن أبي الصلت، وزيد ابن عمرو بن نفيل، أو بغير شبهة مثل مزاعم قريش في دينهم.
و {أن} تفسيرية فعل {أَوْحَيْنَا} لأن فيه معنى القول دون حروفه، فاحتيج إلى تفسيره بحرف التفسير.
والاتباع: اقتفاء السير على سير آخر. وهو هنا مستعار للعمل بمثل عمل الآخر.
وانتصب {حَنِيفاً} على الحال من {إِبْرَاهِيمَ} فيكون زيادة تأكيد لمماثلة قبله أو حالا من ضمير {إِلَيْكَ} أو من ضمير {اتَّبِعْ} ، أي كن يا محمد حنيفا كما كان إبراهيم حنيفا. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "بعثت بالحنيفية السمحة".
وتفسير فعل {أَوْحَيْنَا} بجملة {أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} تفسير بكلام جامع لما أوحى الله به إلى محمد صلى الله عليه وسلم من شرائع الإسلام مع الإعلام بأنها مقامة على أصول ملذة إبراهيم. وليس المراد أوحينا إليك كلمة {اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنيفاً} لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم تفاصيل ملة إبراهيم، فتعين أن المراد أن الموحى به إليه منبجس من شريعة إبراهيم - عليه السلام -.
وقوله: {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} هو مما أوحاه الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم المحكي بقوله: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ}، وهو عطف على {حَنيفاً} على كلا الوجهين في صاحب ذلك الحال؛ فعلى الوجه الأول يكون الحال زيادة تأكيد لقوله قبله: {وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:120]، وعلى الوجه الثاني يكون تنزيها لشريعة الإسلام المتبعة لملة إبراهيم من أن يخالطها شيء من الشرك.
ونفي كونه من المشركين هنا بحرف {ما} النافية لأن {ما} إذا نفت فعل {كان}

أفادت قوة النفي ومباعدة المنفي. وحسبك أنها يبنى عليها الجحود في نحو: ما كان ليفعل كذا.
فحصل من قوله السابق: {وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:120] ومن قوله هنا: {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ثلاث فوائد: نفي الإشراك عن إبراهيم في جميع أزمنة الماضي، وتجدد نفي الإشراك تجددا مستمرا، وبراءته من الإشراك براءة تامة.
وقد علم من هذا أن دين الإسلام منزه عن أن تتعلق به شوائب الإشراك لأنه جاء كما جاء إبراهيم معلنا توحيدا لله بالإلهية ومجتثا لوشيج الشرك. والشرائع الإلهية كلها وإن كانت تحذر من الإشراك فقد امتاز القرآن من بينها بسد المنافذ التي يتسلل منها الإشراك بصراحة أقواله وفصاحة بيانه، وأنه لم يترك في ذلك كلاما متشابها كما قد يوجد في بعض الكتب الأخرى، مثل ما جاء في التوراة من وصف اليهود بأبناء الله، وما في الأناجيل من موهم بنوة - عيسى عليه السلام - لله سبحانه عما يصفون.
وقد أشار إلى هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع: "أيها الناس إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه (أي أرض الإسلام) أبدا، ولكنه قد رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم فاحذروه على دينكم".
ومعنى اتباع محمد ملة إبراهيم الواقع في كثير من آيات القرآن أن دين الإسلام بني على أصول ملة إبراهيم، وهي أصول الفطرة، والتوسط بين الشدة واللين، كما قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج:78].
وفي قضية أمر إبراهيم بذبح ولده - عليهما السلام -، ثم فدائه بذبح شاة رمز إلى الانتقال من شدة الأديان الأخرى في قرابينها إلى سماحة دين الله الحنيف في القربان بالحيوان دون الآدمي. ولذلك قال تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات:107]
فالشريعة التي تبنى تفاصيلها وتفاريعها على أصول شريعة تعتبر كأنها تلك الشريعة. ولذلك قال المحققون من علمائنا: إن الحكم الثابت بالقياس في الإسلام يصح أن يقال إنه دين الله وإن كان لا يصح أن يقال: قاله الله. وليس المراد أن جميع ما جاء به الإسلام قد جاء به إبراهيم - عليه السلام - إذ لا يخطر ذلك بالبال، فإن الإسلام شريعة قانونية

سلطانية وشرع إبراهيم شريعة قبائلية خاصة بقوم، ولا أن المراد أن الله أمر النبي محمدا صلى الله عليه وسلم باتباع ملة إبراهيم ابتداء قبل أن يوحي إليه بشرائع دين الإسلام، لأن ذلك وإن كان صحيحا من جهة المعنى وتحتمله ألفاظ الآية لكنه لا يستقيم إذ لم يرد في شيء من التشريع الإسلامي ما يشير إلى أنه نسخ لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من قبل.
فاتباع النبي ملة إبراهيم كان بالقول والعمل في أصول الشريعة من إثبات التوحيد والمحاجة له واتباع ما تقتضيه الفطرة. وفي فروعها مما أوحى الله إليه من الحنيفية مثل الختان وخصال الفطرة والإحسان.
[124] {إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}
موقع هذه الآية ينادي على أنها تضمنت معنى يرتبط بملة إبراهيم وبمجيء الإسلام على أساسها.
فلما نفت الآية قبل هذه أن يكون إبراهيم - عليه السلام - من المشركين ردا على مزاعم العرب المشركين أنهم على ملة إبراهيم انتقل بهذه المناسبة إلى إبطال ما يشبه تلك المزاعم. وهي مزاعم اليهود أن ملة اليهودية هي ملة إبراهيم زعما ابتدعوه حين ظهور الإسلام جحدا لفضيلة فاتتهم، وهي فضيلة بناء دينهم على أول دين للفطرة الكاملة حسدا من عند أنفسهم. وقد بينا ذلك عند قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ} في سورة آل عمران [65].
فهذه الآية مثل آية آل عمران {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْأِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}، فذلك دال على أن هؤلاء الفرق الثلاث اختلفوا في إبراهيم، فكل واحدة من هؤلاء تدعي أنها على ملته، إلا أنه اقتصر في هذه الآية على إبطال مزاعم المشركين بأعظم دليل وهو أن دينهم الإشراك وإبراهيم - عليه السلام - ما كان من المشركين. وعقب ذلك بإبطال مزاعم اليهود لأنها قد تكون أكثر زواجا، لأن اليهود كانوا مخالطين العرب في بلادهم، فأهل مكة كانوا يتصلون باليهود في أسفارهم وأسواقهم بخلاف النصارى.

ولما كانت هذه السورة مكية لم يتعرض فيها للنصارى الذين تعرض لهم في سورة آل عمران.
ولهذا تكون جملة {إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ} استئنافا بيانيا نشأ عن قوله: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} [النحل:123] إذ يثير سؤالا من المخالفين: كيف يكون الإسلام من ملة إبراهيم? وفيه جعل يوم الجمعة اليوم المقدس. وقد جعلت التوراة لليهود يوم التقديس يوم السبت. ولعل اليهود شغبوا بذلك على المسلمين، فكان قوله: {إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ} بيانا لجواب هذا السؤال.
وقد وقعت هذه الجملة معترضة بين جملة {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} [النحل:123] وجملة {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} [النحل:125] الخ.
ولذلك افتتحت الجملة بأداة الحصر إشعارا بأنها لقلب ما ظنه السائلون المشغبون.
وهذا أسلوب معروف في كثير من الأجوبة الموردة لرد رأي موهوم، فالضمير في قوله:
{فيه} عائد إلى إبراهيم على تقدير مضاف، أي اختلفوا في ملته، وليس عائدا على السبت، إذ لا طائل من المعنى في ذلك. والذين اختلفوا في إبراهيم، أي في ملته هم اليهود لأنهم أصحاب السبت.
ومعنى {جُعِلَ السَّبْتُ} فرض وعين عليهم، أي فرضت عليهم أحكام السبت: من تحريم العمل فيه، وتحريم استخدام الخدم والدواب في يوم السبت.
وعدل عن ذكر اسم اليهود أو بني إسرائيل مع كونه أوجز إلى التعبير عنهم بالموصول لأن اشتهارهم بالصلة كاف في تعريفهم مع ما في الموصول وصلته من الإيماء إلى وجه بناء الخبر. وذلك الإيماء هو المقصود هنا لأن المقصود إثبات أن اليهود لم يكونوا على الحنيفية كما علمت آنفا.
وليس معنى فعل {اخْتَلَفُوا} وقوع خلاف بينهم بأمر السبت بل فعل {اخْتَلَفُوا} مراد به خالفوا كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم واختلافهم على أنبياؤهم، أي عملهم خلاف ما أمر به أنبياؤهم. فحاصل المعنى هكذا: ما فرض السبت على أهل السبت إلا لأنهم لم يكونوا على ملة إبراهيم، إذ مما لا شك فيه عندهم أن ملة إبراهيم ليس منها حرمة السبت ولا هو من شرائعها.

ولم يقع التعرض لليوم المقدس عند النصارى لعدم الداعي إلى ذلك حين نزول هذه السورة كما علمت.
ولا يؤخذ من هذا أن ملة إبراهيم كان اليوم المقدس فيها يوم الجمعة لعدم ما يدل على ذلك، والكافي في نفي أن يكون اليهود على ملة إبراهيم أن يوم حرمة السبت لم تكن من ملة إبراهيم.
ثم الأظهر أن حرمة يوم الجمعة ادخرت للملة الإسلامية لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله إليه فالناس لنا فيه تبع اليهود غدا والنصارى بعد غد". فقوله: "فهدانا الله إليه" يدل على أنه لم يسبق ذلك في ملة أخرى.
فهذا وجه تفسير هذه الآية، ومحمل الفعل والضمير المجرور في قوله: {اخْتَلَفُوا فِيهِ}.
وما ذكره المفسرون من وجوه لا يخلو من تكلف وعدم طائل. وقد جعلوا ضمير {فيه} عائدا إلى {السبت}. وتأولوا معنى الاختلاف فيه بوجوه. ولا مناسبة بين الخبر وبين ما توهم أنه تعليل له على معنى جعل السبت عليهم لأنهم اختلفوا على نبيهم موسى عليه السلام لأجل السبت، لأن نبيهم أمرهم أن يعظموا يوم الجمعة فأبوا، وطلبوا أن يكون السبت هو المفضل من الأسبوع بعلة أن الله قضى خلق السماوات والأرضين قبل يوم السبت ولم يكن في يوم السبت خلق، فعاقبهم الله بالتشديد عليهم في حرمة السبت. كذا نقل عن ابن عباس. وهو لا يصح عنه. وكيف وقد قال الله تعالى: {وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ} [النساء:154]. وكيف يستقيم أن يعدل موسى - عليه السلام - عن اليوم الذي أمر الله بتعظيمه إلى يوم آخر لشهوة قومه وقد عرف بالصلابة في الدين.
ومن المفسرين من زعم أن التوراة أمرتهم بيوم غير معين فعينوه السبت. وهذا لا يستقيم لأن موسى - عليه السلام - عاش بينهم ثمانين سنة فكيف يصح أن يكونوا فعلوا ذلك لسوء فهمهم في التوراة. ولعلك تلوح لك حيرة المفسرين في التئام معاني هذه الآية.
و {إنما} للحصر، وهو قصر قلب مقصود به الرد على اليهود بالاستدلال عليهم بأنهم ليسوا على ملة إبراهيم، لأن السبت جعله الله لهم شرعا جديدا بصريح كتابهم إذ لم يكن عليه يلفهم. وتركيب الاستدلال: إن حرمة السبت لم تكن من ملة إبراهيم فأصحاب تلك الحرمة ليسوا على ملة إبراهيم.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68