كتاب : التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور
المؤلف : محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي

ذكريا، فالمتعاطفات بها بمنزلة المستأنفات، فهذه الجملة كالمستأنفة، و {ثُمَّ} للترقي في الاستئناف. وهذا ارتقاء في التنويه بالقرآن المتضمن التنويه بالرسول صلى الله عليه وسلم وعروج في مسرته وتبشيره، فبعد أن ذكر بفضيلة كتابه وهو أمر قد تقرر لديه زيد تبشيرا بدوام كتابه وإيتائه أمة هم المصطفون من عباد الله تعالى، وتبشيره بأنهم يعملون به ولا يتركونه كما ترك أمم من قبله كتبهم ورسلهم، لقوله: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} الآية، فهذه البشارة أهم عند النبي صلى الله عليه وسلم من الأخبار بأن القرآن حق مصدق لما بين يديه، لأن هذه البشارة لم تكن معلومة عنده فوقعها أهم.
وحمل الزمخشري {ثُمَّ} هنا على التراخي الزمني فاحتاج إلى تكلف في إقامة المعنى.
والمراد بـ {الْكِتَاب} الكتاب المعهود وهو الذي سبق ذكره في قوله: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ} [فاطر: 31] أي القرآن.
و {أَوْرَثْنَا} جعلنا وارثين. يقال: ورث،إذا صار إليه مال ميت قريب. ويستعمل بمعنى الكسب عن غير اكتساب ولا عوض، فيكون معناه: جعلناهم آخذين الكتاب منا، أو نجعل الإيراث مستعملاً في الأمر بالتلقي، أي أمرنا المسلمين بأن يرثوا القرآن، أي يتلقوه من الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى الاحتمالين ففي الإيراث معنى الإعطاء فيكون فعل {أَوْرَثْنَا} حقيقا بأن ينصب مفعولين. وكان مقتضى الظاهر أن يكون أحد المفعولين الذي هو الأخذ في المعنى هو المفعول الأول والأخر ثانيا، وإنما خولف هنا فقدم المفعول الثاني لأمن اللبس قصدا للاهتمام بالكتاب المعطى. وأما التنويه بآخذي الكتاب فقد حصل من الصلة.
والمراد بالذين اصطفاهم الله: المؤمنون كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} إلى قوله: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ} [الحج: 77، 78]. وقد اختار الله للإيمان والإسلام أفضل أمة من الناس، وقد رويت أحاديث كثيرة تؤيد هذا المعنى في مسند أحمد بن حنبل وغيره ذكرها ابن كثير في "تفسيره".
ولما أريد تعميم البشارة مع بيان أنهم مراتب فيما بشروا به جيء بالتفريع في قوله: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} إلى آخره، فهو تفصيل لمراتب المصطفين لتشمل البشارة جميع أصنافهم ولا يظن أن الظالم لنفسه محروم منها،فمناط الاصطفاء هو الإيمان والإسلام وهو الانقياد بالقول والاستسلام.

وقدم في التفصيل ذكر الظالم لنفسه لدفع توهم حرمانه من الجنة وتعجيلا لمسرته.
والفاء في قوله: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} الخ تفصيل لأحوال الذين أورثوا الكتاب أي أعطوا القرآن. وضمير منهم الأظهر أنه عائد إلى {الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا} ، وذلك قول الحسن وعليه فالظالم لنفسه من المصطفين. وقيل هو عائد إلى {عِبَادِنَا} أي ومن عبادنا علمه والإطلاق. وهو قول ابن عباس وعكرمة وقتادة والضحاك، وعليه فالظالم لنفسه هو الكافر. ويسري أثر هذا الخلاف في محمل ضمير {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} [فاطر: 33] ولذلك يكون قول الحسن جاريا على وفاق ما روي عن عمر وعثمان وابن مسعود وأبي الدرداء وعقبة بن عمرو وما هو مروي عن عائشة وهو الراجح.
والظالمون لأنفسهم هم الذين يجرون أنفسهم إلى ارتكاب المعصية فإن معصية المرء ربه ظلم لنفسه لأنه يورطها في العقوبة المعينة للمعاصي على تفصيلها وذلك ظلم للنفس لأنه اعتداء عليها إذ قصر بها عن شيء من الخيرات قليل أو كثير، وورطها فيما تجد جزاء ذميمها عليه. قال تعالى: حكاية عن آدم وحواء حين خالفا ما نهيا عنه من أكل الشجرة {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} [الأعراف: 23] وقال {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً} [النساء: 110] وقال {إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} في سورة النمل [11]، وقال {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} في سورة الزمر [53].
واللام في {لِنَفْسِهِ} لام التقوية لأن العامل فرع في العمل إذ هو اسم فاعل.
والمقتصد: هو غير الظالم نفسه كما تقتضيه المقابلة، فهم الذين اتقوا الكبار ولم يحرموا أنفسهم من الخيرات المأمور بها وقد يلمون باللمم المعفو عنه من الله، ولم يأتوا بمنتهى القربات الرافعة للدرجات، فالاقتصاد افتعال من القصد وهو ارتكاب القصد وهو الوسط بين طرفين يبينه المقام، فلما ذكر هنا في مقابلة الظالم والسابق علم أنه مرتكب حالة بين تينك الحالتين فهو ليس بظالم لنفسه وليس بسابق.
والسابق أصله: الواصل إلى غاية معينة قبل غيره من الماشين إليها. وهو هنا مجاز لإحراز الفضل لأن السابق يحرز السبق بفتح الباء، أو مجاز في بذل العناية لنوال رضى الله، وعلى الاعتبارين في المجاز فهو مكنى عن الإكثار من الخير لأن السبق يستلزم إسراع الخطوات، والإسراع إكثار. وفي هذا السبق تفاوت أيضا كخيل الحلبة.

والخيرات: جمع خير على غير قياس،والخير: النافع. والمراد بها هنا الطاعات لأنها أعمال صالحة نافعة لعاملها وللناس بآثارها.
والباء للظرفية، أي في الخيرات كقوله: {يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 62].
وفي ذكر الخيرات في القسم الآخر دلالة على أنها مرادة في القسمين الأولين فيؤول إلى معنى ظالم لنفسه في الخيرات ومقتصد في الخيرات أيضا، ولك أن تجعل معنى {ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} أنه ناقصها من الخيرات كقوله تعالى: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً} أي لم تنقص عن معتادها في الإثمار في سورة الكهف [33].
والإذن مستعمل في التيسير على سبيل المجاز، والباء للسببية متعلقة بـ {سَابِقٌ} ، وليس المراد به الأمر لأن الله أمر الناس كلهم بفعل الخير سواء منهم من أتى به ومن قصر فيه.
ولك أن تجعل الباء للملابسة وتجعلها ظرفا مستقرا في موضع الحال من {سَابِقٌ} أي متلبسا بإذن الله ويكون الإذن مصدرا بمعنى المفعول، أي سابق ملابس لما أذن الله به، أي لم يخالفه.
وعلى الوجه الأول هو تنويه بالسابقين بأن سبقهم كان بعون من الله وتيسير منه.
وفيما رأيت من تفسير هذه المراتب الثلاث في الآية المأخوذ من كلام الأئمة، مع ضميمة لا بد منها. تستغني عن التيه في مهامه أقوال كثيرة في تفسيرها تجاوزت الأربعين قولا.
والإشارة في قوله: {ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} إلى الاصطفاء المفهوم من {اصْطَفَيْنَا} أو إلى المذكور من الاصطفاء وإيراث الكتاب.
و {الْفَضْلُ} : الزيادة في الخير، و {الْكَبِيرُ} مراد به ذو العظم المعنوي وهو الشرف وهو فضل الخروج من الكفر إلى الإيمان والإسلام. وهذا الفضل مراتب في الشرف كما أشار إليه تقسيم أصحابه إلى: ظالم، ومقتصد، وسابق. وضمير الفصل لتأكيد القصر الحاصل من تعريف الجزأين، وهو حقيقي لأن الفضل الكبير منحصر في المشار إليه بذلك لأن كل فضل هو غير كبير إلا ذلك الفضل.

ووجه هذا الانحصار أن هذا الاصطفاء وإيراث الكتاب جمع فضيلة الدنيا وفضل الآخرة قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]، وقال {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} [النور: 55]
[33] {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ [33]}.
الأظهر أنه بدل اشتمال من قوله: {ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر: 32] فإن ما يشتمل عليه الفضل دخولهم الجنة كما علمت وتخصيص هذا الفضل من بين أصنافه لأنه أعظم الفضل ولأنه أمارة على رضوان الله عنهم حين إدخالهم الجنة، {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة: 72].
ويجوز أن يكون استئنافا بيانيا لبيان الفضل الكبير وقد بين بأعظم أصنافه. والمعنى واحد.
وضمير الجماعة في {يَدْخُلُونَهَا} راجع إلى {الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا} [فاطر: 32] المقسم إلى ثلاثة أقسام: ظالم، ومقتصد، وسابق، أي هؤلاء كلهم يدخلون الجنة لأن المؤمنين كلهم مآلهم الجنة كما دلت عليه الأخبار التي تكاثرت. وقد روى الترمذي بسند فيه مجهولان عن أبي سعيد الخدري "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في هذه الآية {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر: 32] قال: " هؤلاء كلهم بمنزلة واحدة وكلهم في الجنة" . قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. قال أبو بكر بن العربي في "العارضة": من الناس من قال: إن هذه الأصناف الثلاثة هم الذين في سورة الواقعة [8- 10]: {أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} ، و {أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} ، و {السَّابِقُونَ} . وهذا فاسد لأن أصحاب المشأمة في النار الحامية، وأصحاب سورة فاطر في جنة عالية لأن الله ذكرهم بين فاتحة وخاتمة فأما الفاتحة فهي قوله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: 32] فجعلهم مصطفين. ثم قال في آخرهم {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} ولا يصطفى إلا من يدخل الجنة، ولكن أهل الجنة ظالم لنفسه فقال {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} [فاطر: 32] وهو العاصي والظالم المطلق

هو الكافر، وقيل عنه: الظالم لنفسه رفقا به، وقيل للآخر السابق بإذن الله إنباء أن ذلك بنعمة الله وفضله لا من حال العبد اهـ.
وفي الإخبار بالمسند الفعلي عن المسند إليه إفادة تقوي الحكم وصوغ الفعل بصيغة المضارع لأنه مستقبل، وكذلك صوغ {يُحَلَّوْنَ} وهو خبر ثان عن {جَنَّاتُ عَدْنٍ} . وتقدم نظيرها في سورة الحج فانظره.
وقرأ نافع وعاصم وأبو جعفر {وَلُؤْلُؤاً} بالنصب عطفا على محل {وَلُؤْلُؤاً} لأنه لما جر بحرف الجر الزائد كان في موضع نصب على المفعول الثاني لفعل {يُحَلَّوْنَ} فجاز في المعطوف أن ينصب على مراعاة محل المعطوف عليه. وقرأه الباقون بالجر على مراعاة اللفظ، وهما وجهان.
[34، 35] {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ [34] الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ [35]}.
الأظهر أن جملة {وَقَالُوا} في موضع الحال من ضمير {يُحَلَّوْنَ} [فاطر: 33] لئلا يلزم تأويل الماضي بتحقيق الوقوع مع أنه لم يقصد في قوله: {يَدْخُلُونَهَا} [فاطر: 33]. وتلك المقالة مقارنة للتحلية واللباس، وهو كلام يجري بينهم ساعتئذ لإنشاء الثناء على الله على ما خولهم من دخول الجنة، ولما فيه من الكرامة.
وإذهاب الحزن مجاز في الإنجاء منه فتصدق بإزالته بعد حصوله ويصدق بعدم حصوله.
و {الْحَزَنَ} : الأسف. والمراد: أنهم لما أعطوا ما أعطوه زال عنهم ما كانوا فيه قبل من هول الموقف ومن خشية العقاب بالنسبة للسابقين والمقتصدين ومما كانوا فيه من عقاب بالنسبة لظالمي أنفسهم.
وجملة {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} استئناف ثناء على الله شكروا به نعمة السلامة أثنوا عليه بالمغفرة لما تجاوز عما اقترفوه من اللمم وحديث الأنفس ونحو ذلك مما تجاوز الله عنه بالنسبة للمقتصدين والسابقين، ولما تجاوز عنه من تطويل العذاب وقبول الشفاعة بالنسبة لمختلف أحوال الظالمين أنفسهم وأثنوا على الله بأنه شكور لما رأوا من إفاضته الخيرات عليهم ومضاعفة الحسنات مما هو أكثر من صالحات أعمالهم. وهذا على نحو

ما تقدم في قوله: {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: 30].
و {الْمُقَامَةِ} : مصدر ميمي من أقام بالمكان إذا قطنه. والمراد: دار الخلود. وانتصب {دَارَ الْمُقَامَةِ} على المفعول الثاني لـ {أَحَلَّنَا} أي أسكننا.
و {مِنْ} في قوله: {مِنْ فَضْلِهِ} ابتدائية في موضع الحال من {دَارَ الْمُقَامَةِ} .
والفضل: العطاء،وهو أخو التفضل في أنه عطاء منه وكرم.
ومن فضل الله أن جعل لهم الجنة جزاء على الأعمال الصالحة لأنه لو شاء لما جعل للصالحات عطاء ولكان جزاؤها مجرد السلامة من العقاب،وكان أمر من لم يستحق الخلود في النار كفافا، أي لا عقاب ولا ثواب فيبقى كالسوائم، وإنما أرادوا من هذا تمام الشكر والمبالغة في التأدب.
وجملة {لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ} حال ثانية.
والمس: الإصابة في ابتداء أمرها، والنصب: التعب من نحو شدة حر وشدة برد. واللغوب: الإعياء من جراء عمل أو جري.
وإعادة الفعل المنفي في قوله: {وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} لتأكيد انتفاء المس.
[36] {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ [36]}.
مقابلة الأقسام الثلاثة للذين أورثوا الكتاب بذكر الكافرين يزيدنا يقينا بأن تلك الأقسام أقسام المؤمنين، ومقابلة جزاء الكافرين بنار جهنم يوضح أن الجنة دار للأقسام الثلاثة على تفاوت في الزمان والمكان.
وفي قوله تعالى في الكفار {وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} إيماء إلى أن نار عقاب المؤمنين خفية عن نار المشركين.
فجملة {وَالَّذِينَ كَفَرُوا} معطوفة على جملة {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا}.
ووقع الإخبار عن نار جهنم بأنها {لَهُمْ} بلام الاستحقاق للدلالة على أنها أعدت لجزاء أعمالهم كقوله تعالى: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} في سورة البقرة [24] وقوله: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} في سورة آل عمران

[31]، فنار عقاب عصاة المؤمنين نار مخالفة أو أنها أعدت للكافرين.
وإنما دخل فيها من أدخل من المؤمنين الذين ظلموا أنفسهم لاقترافهم الأعمال السيئة التي شأنها أن تكون للكافرين.
وقدم المجرور في: {لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ} على المستند إليه حتى إذا سمعه السامعون تمكن من نفوسهم تمام التمكن.
وجملة: {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ} بدل اشتمال من جملة: {لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ} ، والقضاء: حقيقته الحكم، ومنه قضاء الله حكمه وما أوجده في مخلوقاته. وقد يستعمل بمعنى أماته كقوله تعالى: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [القصص: 15]. وهو هنا محتمل للحقيقة، أي لا يقدر الله موتهم، فقوله: {فَيَمُوتُوا} مسبب على القضاء.والمعنى: لا يقضي عليهم بالموت فيموتوا، ومحتمل للمجاز وهو الموت.وتفريع: {فَيَمُوتُوا} على هذا الوجه أنهم لا يموتون إلا الإماتة التي يتسبب عليها الموت الحقيقي الذي يزول عنده الإحساس، فيفيد أنهم يماتون موتا ليس فيه من الموت إلا آلامه دون راحته، قال تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف: 77] وقال تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء: 56].
وضمير: {عَذَابِهَا} عائد إلى جهنم ليشمل ما ورد من أن المعذبين يعذبوهن بالنار ويعذبون بالزمهرير وهو شدة البرد وكل ذلك من عذاب جهنم.
ووقع: {كَذَلِكَ} موقع المفعول المطلق لقوله: {نَجْزِي} أي نجزيهم جزاء كذلك الجزاء، وتقدم عند قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} في سورة البقرة [143].
وجملة {كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} تذييل. والكفور: الشديد الكفر، وهو المشرك.
وقرأ الجمهور: {نَجْزِي} بنون العظمة ونصب: {كُلَّ} . وقرأه أبو عمرو وحده: {يُجْزَى} بياء الغائب والبناء للنائب ورفع: {كُلُّ}.
[37] {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [37]}.
{وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ}.
الضمير إلى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا} [فاطر: 36] والجملة عطف على جملة: {لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ}

[فاطر: 36] ولا تجعل حالا لأن التذييل آذن بانتهاء الكلام وباستقبال كلام جديد.
و {يَصْطَرِخُونَ} مبالغة في "يصرخون" لأن افتعال من الصراخ وهو الصياح بشدة وجهد،فالصطراخ مبالغة فيه، أي يصيحون من شدة ما نابهم.
وجملة: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا} بيان لجملة: {يَصْطَرِخُونَ} ، يحسبون أن رفع الأصوات أقرب إلى علم الله بندائهم وإظهار عدم إطاقة ما هم فيه.
وقولهم: {نَعْمَلْ صَالِحاً} وعد بالتدارك لما فاتهم من الأعمال الصالحة ولكنها إنابة بعد أبانها.
ولإرادة الوعد جزم: {نَعْمَلْ صَالِحاً} في جواب الدعاء. والتقدير: إن تخرجنا نعمل صالحا.
و {غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} نعت لـ {صَالِحاً} ، أي عملا مغايرا لما كنا نعمله في الدنيا وهذا ندامة على ما كانوا يعملونه لأنهم أيقنوا بفساد عملهم وضره فإن ذلك العالم عالم الحقائق.
{أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ}.
الواو عاطفة فعل قول محذوفا لعلمه من السياق بحسب الضمير في {نُعَمِّرْكُمْ} معطوفا على جملة: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا} فإن صراخهم كلام منهم، والتقدير: يقولون ربنا أخرجنا ونقول ألم نعمركم.
والاستفهام تفريع للتوبيخ، وجعل التقرير على النفي توطئة لينكره المقرر حتى إذا قال: بلى علم أنه لم يسعه الإنكار إليه.
والتعمير: تطويل العمر. وقد تقدم غير مرة،منه عند قوله تعالى: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} في سورة البقرة [96]له: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ} في هذه السورة [11].
و {مَا} ظرفية مصدرية، أي زمان تعمير معمر.
وجملة: {يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} صفة لـ {مَا} ، أي زمانا كافيا بامتداده للتذكر والتبصير.
و {النَّذِيرُ} : الرسول محمد صلى الله عليه وسلم.

وجملة {وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} عطف على جملة {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ} لأن معناها الخبر فعطف عليها الخبر، على أن عطف الخبر على الإنشاء جائز على التحقيق وهو هنا حسن.
ووصف الرسول بالنذير لأن الأهم من شأنه بالنسبة إليهم هو النذارة.
والفاء في {فَذُوقُوا} للتفريع، وحذف مفعول "ذوقوا" لدلالة المقام عليه، أي ذوقوا العذاب.
والأمر في قوله: {فَذُوقُوا} مستعمل في معنى الدوام وهو كناية عن عدم الخلاص من العذاب.
وقوله: {فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} تفريع على ما سبق من الحكاية. فيجوز أن يكون من جملة الكلام الذي وبخهم الله به فهو تذييل له وتفريع عليه لتأييسهم من الخلاص يعني: فأين الذين زعمتم أنهم أولياؤكم ونصراؤكم فما لكم من نصير.
وعدل عن ضمير الخطاب أن يقال: فما لكم من نصير، إلى الاسم الظاهر بوصف {الظالمين} لإفادة سبب انتفاء النصير عنهم، ففي الكلام إيجاز، أي لأنكم ظالمون وما للظالمين من نصير،فالمقصود ابتداء نفي النصير عنهم ويتبعه التعميم بنفي النصير عن كل من كان مثلهم من المشركين.
ويجوز أن يكون كلاما مستقلا مفرعا على القصة ذيلت بها للسامعين من قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ} [فاطر: 36]، فليس فيه عدول عن الإضمار إلى الإظهار لأن المقصود إفادة شمول هذا الحكم لكل ظالم فيدخل الذين كفروا المتحدث عنهم في العموم.
والظلم: هو الاعتداء على حق صاحب حق، وأعظمه الشرك لأنه اعتداء على الله بإنكار صفته النفسية وهو الوحدانية، واعتداء المشرك على نفسه إذ أقحمها في العذاب قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].
وتعميم "الظالمين" وتعميم "النصير" يقتضي أن نصر الظالم تجاوز للحق، لأن الحق أن لا يكون للظالم نصير، إذ واجب الحكمة والحق أن يأخذ المقتدر على يد كل ظالم لأن الأمة مكلفة بدفع الفساد عن جماعتها.
وفي هذا إبطال لخلق أهل الجاهلية القائلين في أمثالهم "انصر أخاك ظالما أو

مظلوما". وقد ألقى النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه إبطال ذلك فساق لهم هذا المثل حتى سألوا عنه ثم أصلح معناه مع بقاء لفظه فقال: "إذ كان ظالما تنصره على نفسه فتكفه عن ظلمه".
[38، 39] {إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [38] هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَاراً [39]}.
جملة {إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} استئناف واصل بين جملة {إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ} [فاطر: 31] وبين جملة {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ} [فاطر: 40] الآية، فتسلسلت معانيه فعاد إلى فذلكة الغرض السالف المنتقل عنه من قوله: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ} [فاطر: 25- 31]، فكانت جملة {إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} كالتذييل لجملة {إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ} .
وفي هذا إيماء إلى أن الله يجازي كل ذي نية على حسب ما أضمره ليزداد النبيء صلى الله عليه وسلم يقينا بأن الله غير عالم بما يكنه المشركون.
وجملة {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} مستأنفة هي كالنتيجة لجملة {إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} لأن ما في الصدور من الأمور المغيبة فيلزم من علم الله بغيب السماوات والأرض علمه بما في صدور الناس.
و"ذَاتِ الصُّدُورِ" ضمائر الناس ونياتهم، وتقدم عند قوله تعالى: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} في سورة الأنفال [43].
وجيء في الإخبار بعلم الله بالغيب بصيغة اسم الفاعل، وفي الإخبار بعلمه بذات الصدور بصيغة المبالغة لأن المقصود من إخبار المخاطبين تنبيههم على أنه كناية عن انتفاء أن يفوت علمه تعالى شيء. وذلك كناية عن الجزاء عليه فهي كناية رمزية.
وجملة {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ} معترضة بين جملة {إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الآية وبين جملة {فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} .
والخلائف: جمع خليفة، وهو الذي يخاف غيره في أمر كان لذلك الغير، كما تقدم

عند قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} في سورة البقرة [30]، فيجوز أن يكون بعد أمم مضت كما في قوله: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ} في سورة يونس [14] فيكون هذا بيانا لقوله: {إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي هو الذي أوجدكم في الأرض فكيف لا يعلم ما غاب في قلوبكم كما قال تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14] ويكون ما صدق ضمير جماعة للمخاطبين شاملا للمؤمنين وغيرهم من الناس.
ويجوز أن يكون المعنى: هو الذي جعلكم متصرفين في الأرض، كقوله تعالى: {وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 129]، فيكون الكلام بشارة للنبي صلى الله عليه وسلم بأن الله قدر أن يكون المسلمون أهل سلطان في الأرض بعد أمم تداولت سيادة العالم ويظهر بذلك دين الإسلام على الدين كله.
والجملة الاسمية مفيدة تقوي الحكم الذي هو جعل الله المخاطبين خلائف في الأرض.
وقد تفرع على قوله: {عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} قوله: {فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} وهو شرط مستعمل كناية عن عدم الاهتمام بأمر دوامهم على الكفر.
وجملة: {وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً} بيان لجملة: {فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} وكان مقتضى ظاهر هذا المعنى أن لا تعطف عليها لأن البيان لا يعطف على المبين، وإنما خولف ذلك للدلالة على الاهتمام بهذا البيان فجعل مستقلاً بالقصد إلى الإخبار به فعطفت على الجملة المبينة بمضمونها تنبيها على ذلك الاستقلال، وهذا مقصد يفوت لو ترك العطف، أما ما تفيده من البيان فهو أمر لا يفوت لأنه تقتضيه نسبة معنى الجملة الثانية من معنى الجملة الأولى.
والمقت: البغض مع خزي وصغار، وتقدم عند قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاءَ سَبِيلاً} في سورة النساء [22]، أي يزيدهم مقت الله إياهم، ومقت الله مجاز عن لازمه وهو إمساك لطفه عنهم وجزاؤهم بأشد العقاب.
وتركيب جملة: {وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً} تركيب عجيب لأن ظاهره يقتضي أن الكافرين كانوا قبل الكفر ممقوتين عند الله فلما كفروا زادهم كفرهم مقتا عنده، في حال أن الكفر هو سبب مقت الله إياهم، ولو لم يكفروا لما مقتهم الله. فتأويل

الآية: أنهم لما وصفوا بالكفر ابتداء ثم أخبر بأن كفرهم يزيدهم مقتا علم أن المراد بكفرهم الثاني الدوام على الكفر يوما بعد يوم، وقد كان المشركون يتكبرون على المسلمين ويشاقونهم ويؤيسونهم من الطماعية في أن يقبلوا الإسلام بأنهم أعظم من أن يتبعوهم وأنهم لا يفارقون دين آبائهم، ويحسبون ذلك مقتا منهم للمسلمين فجازاهم الله بزيادة المقت على استمرار الكفر، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْأِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} [غافر: 10]، يعني: ينادون في المحشر، وكذلك القول في معنى قوله: {وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَاراً} .
والخسار: مصدر خسر مثل الخسارة، وهو: نقصان التجارة. واستعير لخيبة العمل، شبه عملهم في الكفر بعمل التاجر والخاسر، أي الذي بارت سلعته فباع بأقل مما اشتراها به فأصابه الخسار فكلما زاد بيعا زادت خسارته حتى تفضي به إلى الإفلاس، وقد تقدم ذلك في آيات كثيرة منها ما في سورة البقرة.
[40] {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً [40]}.
لم يزل الكلام موجها لخطاب النبي صلى الله عليه وسلم.
ولما جرى ذكر المشركين وتعنتهم وحسبان أنهم مقتوا المسلمين عاد إلى الاحتجاج عليهم في بطلان إلهية آلهتهم بحجة أنها لا يوجد في الأرض شيء يدعى أنها خلقته، ولا في السماوات شيء لها فيه شرك مع الله فأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يحاجهم ويوجه الخطاب إليهم بانتفاء صفة الإلهية عن أصنامهم، وذلك بعد أن نفى استحقاقها لعبادتهم بأنها لا ترزقهم كما في أول السورة، وبعد أن أثبت الله التصرف في مظاهر الأحداث الجوية والأرضية واختلاف أحوالها من قوله: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ} [فاطر: 9]، وذكرهم بخلقهم وخلق أصلهم وقال عقب ذلك {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ} [فاطر: 13] الآية عاد إلى بطلان إلهية الأصنام.
وبنيت الحجة على مقدمة مشاهدة انتفاء خصائص الإلهية عن الأصنام، وهي خصوصية خلق الموجودات وانتفاء الحجة النقلية بطريقة الاستفهام التقريري في قوله: {أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ} يعني: إن كنتم رأيتموهم فلا سبيل لكم إلا الإقرار بأنهم لم يخلقوا شيئاً.

والمستفهم عن رؤيته في مثل هذا التركيب في الاستعمال هو أحوال المرئي وإناطة البصر بها،أي أن أمر المستفهم عنه واضح باد لكل من يراه كقوله: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} [الماعون: 1، 2] وقوله: {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ} [الإسراء: 62] الخ.. والأكثر أن يكون ذلك توطئة لكلام يأتي بعده يكون هو كالدليل عليه أو الإيضاح له أو نحو ذلك، فيؤول معناه بما يتصل به من كلام بعده، ففي قوله هنا {أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ} تمهيد لأن يطلب منهم الإخبار عن شيء خلقه شركاؤهم فصار المراد من {أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ} انظروا ما تخبرونني به من أحوال خلقهم شيئا من الأرض، فحصل في قوله: {أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ} إجمال فصله قوله: {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ} فتكون جملة {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا} بدلا من جملة {أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ} بدل اشتمال أو بدل مفصل من مجمل.
والمراد بالشركاء من زعموهم شركاء الله في الإلهية فلذلك أضيف الشركاء إلى ضمير المخاطبين، أي الشركاء عندكم، لظهور أن ليس المراد أن الأصنام شركاء مع المخاطبين بشيء فتمحضت الإضافة لمعنى مدعيكم شركاء لله.
والموصول والصلة في قوله: {الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} للتنبيه على الخطأ في تلك الدعوة كقول عبدة بن الطيب:
إن الذين ترونهم إخوانكم ... يشفي غليل صدورهم أن تصرعوا
وقرينة التخطئة تعيقبه بقوله: {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ} فإنه أمر للتعجيز إذ لا يستطيعون أن يروه شيئاً خلقته الأصنام، فيكون الأمر التعجيزي في قوة نفي أن خلقوا شيئا ما، كما كان الخبر في بيت عبدة الوارد بعد الصلة قرينة على كون الصلة للتنبيه على خطأ المخاطبين.
وفعل الرؤية قلبي بمعنى الأعلام والإنباء، أي أنبئوني شيئا مخلوقا للذين تدعون من دون الله في الأرض.
و {مَاذَا} كلمة مركبة من {مَا} الاستفهامية و {ذَا} التي بمعنى الذي حين تقع بعد اسم استفهام، وفعل الإرادة معلق عن العمل في المفعول الثاني والثالث بالاستفهام. والتقدير: أروني شيئا خلقوه مما في الأرض.

و {مِن} ابتدائية، أي شيئا ناشئا من الأرض، أو تبعيضية على أن المراد بالأرض ما عليها كإطلاق القرية على سكانها في قوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82].
و {أَمْ} منقطعة للإضراب الانتقالي، وهي تؤذن باستفهام بعدها. والمعنى: بل ألهم شرك في السماوات.
والشرك بكسر الشين: اسم للنصيب المشترك به في ملك شيء.
والمعنى: ألهم شرك مع الله في ملك السماوات وتصريف أحوالهما كسير الكواكب وتعاقب الليل والنهار وتسخير الرياح وإنزال المطر.
ولما كان مقر الأصنام في الأرض كان من الراجح أن تتخيل للهم الأوهام تصرفا كاملا في الأرض فكأنهم آلهة أرضية، وقد كان مزاعم العرب واعتقاداتهم أفانين شي مختلطة من اعتقاد الصابئة ومن اعتقاد الفرس واعتقاد الروم فكانوا أشباها لهم فلذلك قيل لأشباههم في الإشراك {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ} ، أي فكان تصرفهم في ذلك تصرف الخالقية، فأما السماوات فقلما يخطر ببال المشركين أن للأصنام تصرفا في شؤونها، ولعلهم لم يدعوا ذلك ولكن جاء قوله: {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ } مجيء تكملة الدليل على الفرض والاحتمال، كما يقال في آداب البحث "فإن قلتَ". وقد كانوا ينسبون للأصنام بنوة لله تعالى قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم: 23].
فمن أجل ذلك جيء في جانب الاستدلال على انتفاء تأثير الأصنام في العوالم السماوية بإبطال أن يكون لها شرك في السماوات لأنهم لا يدعون لها في مزاعمهم أكثر من ذلك.
ولما قضي حق البرهان العقلي على انتفاء إلهية الذين يدعون من دون الله تعالى المثبتة آلة دونه لأن الله اعلم بشركائه وأنداده لو كانوا، فقال تعالى: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَى بَيِّنَاتٍ مِنْهُ} المعنى: بل آتيناهم كتابا فهم يتمكنون من حجة فيه تصرخ بإلهية هذه الآلهة المزعومة.
وقرأ نافع وأبن عامر والكسائي وأبو بكر عن عاصم {عَلَى بَيِّنَاتٍ} بصيغة الجمع. وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وحفص عن عاصم ويعقوب {عَلَى بَيِّنَةٍ} بصيغة الإفراد.

فأما قراءة الجمع فوجهها أن شأن الكتاب أن يشتمل على أحكام عديدة ومواعظ مكررة ليتقرر المراد من إيتاء الكتب من الآلة القاطعة بحيث لا تحتمل تأويلا ولا مبالغة ولا نحوها على حد قول علماء الأصول في دلالة الأخبار المتواترة دلالة قطعية، وإما قراءة الإفراد فالمراد منها جنس البينة الصادق بأفراد كثيرة.
ووصف البينات أو البينة بـ {مِنْهُ} لآلة على أن المراد وكون الكتاب المفروض إيتاؤه مشتملاً على حجة لهم تثبت إلهية الأصنام. وليس مطلق كتاب يؤتونه أمارة من الله على أنه بأنه راض منهم بما هم عليه كدلالة المعجزات على صدق الرسول، وليست الخوارق ناطقة بأنه صادق فأريد: أآتيانهم كتابا ناطقا مثل مال آتينا المسلمين القرآن.
ثم كر على كله الإبطال بواسطة {بَلْ} ، بأن ذلك كله منتصف وأنهم لا باعث لهم على مزاعمهم الباطلة إلا وعد بعضهم بعضا مواعيد كاذبة يغر بعضهم بها بعضاً.
والمراد بالذين يعدونهم رؤساء المشركين وقادتهم بالموعودين عامتهم ودهماؤهم، أو أريد أن كلا الفريقين واعد وموعود في الرؤساء وأئمة الكفر يعدون العامة نفع الأصنام وشفاعتها وتقريبها إلى الله ونصرها غرورا بالعامة تعد رؤساءها التصميم على الشرك قال تعالى: حكاية عنهم {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا} [الفرقان: 42].
و {إِنْ} نافية، والاستثناء مفرع عن جنس الوعد محذوفا.
وانتصب {غُرُوراً} على أنه صفة للمثنى المحذوف. والتقدير: إن يعد الظالمون بعضهم بعضا وعدا إلا وعدا غرورا.
والغرور تقدم معناه عند قوله تعالى: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ} في آل عمران [196].
[41] {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً [41]}.
انتقال من نفي أن يكون لشركائهم خلق أو شركة تصرف في الكائنات التي في السماء والأرض إلى إثبات أنه تعالى هو القيوم على السماوات والأرض لتبقيا موجودتين فهو الحافظ بقدرته نظام بقائها. وهذا الإمساك هو الذي يعبر عنه علم الهيئة بنظام الجاذبية بحيث لا يعتريه خلل.

وعبر عن ذلك الحفظ بالإمساك على طريقة التمثيل.
وحقيقة الإمساك: القبض باليد على الشيء بحيث لا ينفلت ولا يتفرق، فمثل حال حفظ نظام السماوات والأرض بحال استقرار الشيء الذي يمسكه الممسك بيده، ولما كان في الإمساك معنى المنع عدي إلى الزوال بـ {مِنْ} ، وحذفت كما هو شأن حروف الجر مع {أَنْ} و {أَنَّ} في الغالب لا، وأكد هذا الخبر بحرف التوكيد لتحقيق معناه وأنه لا تسامح فيه ولا مبالغة، وتقدم عند قوله تعالى: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ} في سورة الحج [65]. ثم أشير إلى أن شأن الممكنات المصير إلى الزوال والتحول ولو بعد أدهار فعطف عليه قوله: {وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} ، فالزوال المفروض أيضا مراد به اختلال نظامهما الذي يؤدي إلى تطاحنهما.
فالزوال يطلق على العدم، ويطلق على التحول من مكان إلى مكان، ومنه زوال الشمس عن كبد السماء، وتقدم آخر سورة إبراهيم.
وقد اختير هذا الفعل دون غيره لأن المقصود معناه المشترك فإن الله يمسكهما من أن يعدما، ويمسكهما من أن يتحول نظام حركتهما، كما قال تعالى: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} [يس: 40]. فالله مريد استمرار انتظام حركة الكواكب والأرض على هذا النظام المشاهد المسمى بالنظام الشمسي وكذلك نظام الكواكب الأخرى الخارجة عنه إلى فلك الثوابت، أي إذا أراد الله انقراض تلك العوالم أو بعضها قيض فيها لا طوارئ الخلل والفساد والخرق بعد الالتئام والفتق بعد الرتق، فتفككت وانتشرت إلى ما لا يعلم مصيره إلا الله تعالى وحينئذ لا يستطيع غيره مدافعة ذلك ولا إرجاعها إلى نظامها السابق فربما اضمحلت أو اضمحل بعضها، وربما أخذت مسالك جديدة من البقاء.
وفي هذا إيقاظ للبصائر لتعلم ذلك علما إجماليا وتتدبر في انتساق هذا النظام البديع.
فاللام موطئة للقسم. والشرط وجوابه مقسم عليه، أي محقق تعليق الجواب بالشرط ووقوعه عنده، وجواب الشرط هو الجملة المنفية بـ {إِنْ} النافية وهي أيضا سادة مسد جواب القسم.
وإذ قد تحقق بالجملة السابقة أن الله ممسكهما عن الزوال علم أن زوالهما المفروض

لا يكون إلا بإرادة الله تعالى زوالهما وإلا لبطل انه ممسكهما من الزوال.
وأسند فعل: {زَالَتَا} إلى: {السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} على تأويل السماوات سماء واحدة. وأسند الزوال أليهما للعلم بأن الله هو الذي يزيلهما لقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا} .
وجيء في نفس إمساك أحد بحرف {مِنْ} المؤكدة للنفي تنصيصا على عموم النكرة في سياق النفي، أي لا يستطيع أحد كائنا من كان إمساكهما وإرجاعهما.
و"من بعد" صفة {أَحَدٍ} و {مِنْ} ابتدائية،أي أحد ناشئ أو كائن من زمان بعده، لأن حقيقة "بعد" تأخر زمان أحد عن زمن غيره المضاف إليه "بعد" وهو هنا مجاز عن المغايرة بطريق المجاز المرسل لأن بعدية الزمان المضاف تقتضي مغايرة صاحب تلك البعدية، كقوله تعالى: {فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} [الجاثية: 23]، أي غير الله فالضمير المضاف إليه "بعد" عائد إلى الله.
وهذا نظير استعمال "وراء" بمعنى "دون" أو بمعنى "غير" أيضا في قول النابغة:
وليس وراء الله للمرء مذهب
وفي ذكر إمساك السماوات عن الزوال بعد الإطناب في محاجة المشركين وتفظيع غرورهم تعريض بأن ما يدعون إليه من الفظاعة من شأنه أن يزلزل الأرضين ويسقط السماء كسفا لولا أن الله أراد بقاءهما لحكمة، كما في قوله تعالى: {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً يَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً} [مريم: 89، 90] وهذه دلالة من مستتبعات التراكيب باعتبار مثار مقامات التكلم بها، وهو أيضا تعريض بالتهديد.
ولذلك أتبع بالتذييل بوصف الله تعالى بالحلم والمغفرة بما يشمله صفة الحليم من حلمه على المؤمنين أن لا يزعجهم بفجائع عظيمة، وعلى المشركين بتأخير مؤاخذتهم فإن التأخير من أثر الحلم، وما تقتضيه صفة الغفور من أن في الإمهال إعذارا للظالمين لعلهم يرجعون كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده". لما رأى ملك الجبال فقال له: "إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين".
وفعل {كَانَ} المخبر به عن ضمير الجلالة مفيد لتقرر الاتصاف بالصفتين الحسنتين.
[42، 43] {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى

الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً [42] اسْتِكْبَاراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً [43]}.
{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً [42] اسْتِكْبَاراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ}.
هذا شيء حكاه القرآن عن المشركين فهو حكاية قول صدر عنهم لا محالة،ولم يرو خبر عن السلف يعين صدور مقالتهم هذه، ولا قائلها سوى كلام أثر عن الضحاك هو أشبه بتفسير الضمير من {أَقْسَمُوا} ، وتفسير المراد {مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ} ولم يقل إنه سبب نزول.
وقال كثير من المفسرين إن هذه المقالة صدرت عنهم قبل بعثة النبيء صلى الله عليه وسلم لما بلغهم أن اليهود والنصارى كذبوا الرسل.والذي يلوح لي: أن هذه المقالة صدرت عنهم في مجاري المحاورة أو المفاخرة بينهم وبين بعض أهل الكتاب ممن يقدم عليهم بمكة، أو يقدمون هم عليهم في لا أسفارهم إلى يثرب أو إلى بلاد الشام، فربما كان أهل تلك البلدان يدعون المشركين إلى أتباع اليهودية أو النصرانية ويصغون الشرك في نفوسهم، فكان المشركون لا يجرأون على تكذيبهم لأنهم كانوا مرموقين عندهم بعين الوقار إذ كانوا يفضلونهم بمعرفة الديانة وبأنهم ليسوا أميين وهم يأبون أن يتركوا دين الشرك فكانوا يعتذرون بأن رسول القوم الذين يدعونهم إلى دينهم لم يكن مرسلا إلى العرب ولو جاءنا رسول لكنا أهدى منكم، كما قال تعالى: {أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ} [الأنعام: 157]. والأظهر أن يكون الداعون لهم هم النصارى لأن الدعاء إلى النصرانية من شعار أصحاب عيسى عليه السلام فإنهم يقولون: إن عيسى أوصاهم أن يرشدوا بني الإنسان إلى الحق وكانت الدعوة إلى النصرانية فأشبه في بلاد العرب أيام الجاهلية وتنصرت قبائل كثيرة مثل تغلب، ولخم، وكلب، ونجران، فكانت هذه الدعوة إن صح إيصاء عيسى عليه السلام بها دعوة إرشاد إلى التوحيد لا دعوة تشريع، فإذا ثبتت هذه الوصية فما آراها إلا توطئة لدين يجيء تعم دعوته سائر البشر، فكانت وصيته وسطا بين أحوال الرسل الماضين إذ كانت دعوتهم خاصة وبين حالة الرسالة المحمدية العامة لكافة الناس عزما.

أما اليهود فلم يكونوا يدعون الناس إلى اليهودية ولكنهم يقبلون من يتهود كما تهود عرب اليمن.
وأحسب أن الدعوة إلى نبذ عبادة الأصنام، أو تشهير أنها لا تستحق العبادة، لا يخلو عنها علماء موحدون، وبهذا الاعتبار يصح أن يكون بعض النصاح من أحبار يهود يثرب يعرض لقريش إذا مروا على يثرب بأنهم على ضلال من الشرك فيعتذرون بما في هذه الآية. وهي تساوق قوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ} [الأنعام: 155- 157].
فيتضح بهذا أن هذه الآية معطوفة على ما قبلها من أخبار ضلال المشركين في شأن الربوبية وفي شأن الرسالة والتدين، وأن ما حكى فيها هو من ضلالاتهم ومجازفتهم.
والقسم بين أهل الجاهلية أكثره بالله، وقد يقسمون بالأصنام وبآبائهم وعمرهم.
والغالب في ذلك أن يقولوا: واللات والعزى، ولذلك جاء في الحديث: "من حلف باللات والعزى فليقل لا إله إلا الله" ، أي من جرى على لسانه ذلك جري الكلام الغالب وذلك في صدر انتشار الإسلام.
وجهد اليمين: أبلغها وأقواها. وأصله من الجهد وهو التعب، يقال: بلغ كذا مني الجهد، أي عملته حتى بلغ عمله مني تعبي، كناية عن شدة عزمه في العمل. فجهد الأيمان هنا كناية عن تأكيدها، وتقدم نظيره في قوله تعالى: {أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} في سورة العقود [53]، وتقدم في سورة الأنعام وسورة النحل وسورة النور.
وانتصب {جَهْدَ} على النيابة عن المفعول المطلق المبين للنوع لأنه صفة لما كان حقه أن يكون مفعولاً مطلقا وهو {أَيْمَانِهِمْ} إذ هو جميع يمين وهو الحلف فهو مرادف لـ {أَقْسَمُوا} ، فتقديره: وأقسموا بالله قسما جهدا، وهو صفة بالمصدر أضيفت إلى موصوفها.
وجملة {لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ} الخ بيان لجملة {أَقْسَمُوا} كقوله تعالى: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ} [طه: 120] الآية.

وعبر عن الرسول بالنذير لأن مجادلة أهل الكتاب إياهم كانت مشتملة على تخويف وإنذار، ولذلك لم يقتصر على وصف النذير في قوله تعالى: {أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} [المائدة: 19]. وهذا يرجح أن تكون المجادلة جرت بينهم وبين بعض النصارى لأن الإنجيل معظمه نذارة.
و {إِحْدَى الْأُمَمِ} أمة من الأمم ذات الدين، فإن عنوا بها أمة معروفة: إما الأمة النصرانية، وإما الأمة اليهودية، أو الصابئة كان التعبير عنها بـ {إِحْدَى الْأُمَمِ} إبهاما لها يحتمل أن يكون إبهاما من كلام المقسمين تجنبا لمجابهة تلك الأمة بصريح التفضيل عليها، ويحتمل أن يكون إبهاما من كلام القرآن على عادة القرآن في الترفع عما لا فائدة في تعيينه إذ المقصود أنهم أشهدوا الله على أنهم إن جاءهم رسول يكونوا أسبق من غيرهم اهتداء فإذا هم لم يشمموا رائحة الاهتداء. ويحتمل أن يكون فريق من المشركين نظروا في قسمهم بهدي اليهود، وفريق نظروا بهدي النصارى، وفريق بهدي الصائبة، فجمعت عبارة القرآن ذلك بقوله: {مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ} ليأتي على مقالة كل فريق مع الإيجاز.
وذكر في "الكشاف" وجها آخر أن يكون {إِحْدَى الْأُمَمِ} بمعنى أفضل الأمم، فيكون من تعبير المقسمين، أي أهدى من أفضل الأمم، ولكنه بناه على التنظير بما ليس له نظير، وهو قولهم "إحدى الإحد" بكسر الهمزة وفتح الحاء في الإحد ولا يتم التنظير لأن قولهم: "إحدى الإحد"، جرى مجرى المثل في استعظام الأمر في الشر أو الخير. وقرينة إرادة الاستعظام إضافة {إِحْدَى} إلى اسم من لفظها فلا يقتضي أنه معنى يراد في حالة تجرد "إحدى" عن الإضافة.
وبين: {أَهْدَى} و {إِحْدَى} الجناس المحرف.
وهذه الآية وغيرها وما يؤثر من تنصر بعض العرب ومن اتساع بعضهم في التحنف يدل على أنهم كانوا يعلمون رسالة الرسل، وأما ما حكي عنهم في قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91] ، فذلك صدر منهم في الملاجة والمحاجة لما لزمتهم الحجة بأن الرسل من قبل محمد صلى الله عليه وسلم كانوا من البشر وكانت أحوالهم أحوال البشر مثل قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان: 20] فلجأوا إلى إنكار أن يوحي الله إلى بشر شيئا.
وأما ما حكي عنهم هنا فهو شأنهم قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم.

والنذير: المنذر بكلامه. فالمعنى: فلما جاءهم رسول وهو محمد صلى الله عليه وسلم ولم يكن جاءهم رسول قبله كما قال تعالى: {لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} [القصص: 46] وهذا غير القسم المحكي في قوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا} [الأنعام: 109].
والزيادة: أصلها نماء وتوفر في ذوات. وقد يراد بها القوة في الصفات على وجه الاستعارة كقوله تعالى: {فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 125]. ومن ثمة تطلق الزيادة أيضا على طرو حال على حال، أو تغيير حال إلى غيره كقوله تعالى: {فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَاباً} [النبأ: 30].
وتطلق على ما يطرأ من الخير على الإنسان وإن لم يكن نوعه عنده من قبل كقوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]، أي وعطاء يزيد في خيرهم.
ولما كان مجيء الرسول يقتضي تغيير أحوال المرسل إليهم إلى ما هو أحسن كان الظن بهم لما أقسموا قسمهم ذلك أنهم إذا جاءهم النذير اهتدوا وازدادوا من الخير أن كانوا على شأن من الخير فإن البشر لا يخلو من جانب من الخير قوي أو ضعيف فإذا بهم صاروا نافرين من الدين الذي جاءهم.
والاستثناء مفرع من مفعول {زَادَهُمْ} المحذوف، أي ما أفادهم صلاحاً وحالاً أو نحو ذلك إلا نفورا فيكون الاستثناء في قوله: {إِلَّا نُفُوراً} من تأكيد الشيء بما يشبه ضده لأنهم لم يكونوا نافرين من قبل.
ويحتمل أن يكون المراد أنهم لما أقسموا: {لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى} كان حالهم حال النفور من قبل دعوة النصارى إياهم إلى دينهم أو من الاتعاظ بمواعظ اليهود في تقبيح الشرك فأقسموا ذلك القسم تفصيا من المجادلة، وباعثهم عليه النفور من مفارقة الشرك، فلما جاءهم الرسول ما زادهم شيئاً وإنما زادهم نفورا، فالزيادة بمعنى التغيير والاستثناء تأكيد للشيء بما يشبه ضده. والنفور هو نفورهم السابق، فالمعنى لم يزدهم شيئا وحالهم هي هي.
وضمير {زَادَهُمْ} عائد إلى رسول أول إلى المجيء المأخوذ من {جَاءَهُمْ}. وإسناد الزيادة إليه على كلا الاعتبارين مجاز عقلي لأن الرسول أو مجيئه ليس هو يزيدهم ولكنه سبب تقوية نفورهم أو استمرار نفورهم.
و {اسْتِكْبَاراً} بدل اشتمال من {نُفُوراً} أو مفعول لأجله، لأن النفور في معنى

الفعل فصح إعماله في المفعول له. والتقدير:نفروا لأجل الاستكبار في الأرض.
والاستكبار: شدة التكبر، فالسين والتاء فيه للمبالغة مثل استجاب.
والأرض: موطن القوم كما في قوله تعالى: {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا} [الأعراف: 88] أي بلدنا، فالتعريف في {الْأَرْضِ} للعهد. والمعنى: أنهم استكبروا في قومهم أن يتبعوا واحدا منهم.
و {مَكْرَ السَّيِّئِ} عطف على {اسْتِكْبَاراً} بالوجوه الثلاثة، وإضافة {مَكْرَ} إلى {السَّيِّئِ} من إضافة الموصوف إلى الصفة مثل: عشاء الآخرة. وأصله: أن يمكروا المكر السيء بقرينة قوله: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ}.
و {الْمَكْرُ} : إخفاء الأذى وهو سيئ لأنه من الغدر وهو مناف للخلق الكريم، فوصفه بالسيئ وصف كاشف، ولعل التنبيه إلى أنه وصف كاشف هو مقتضى إضافة الموصوف إلى الوصف لإظهار ملازمة الوصف للموصوف فلم يقل: ومكروا سيئا ولم يرخص في المكر إلا في الحرب لأنها مدخول فيها على مثله أي مكرا بالنذير وأتباعه وهو مكر ذميم لأنه مقابلة المتسبب في صلاحهم بإضمار ضره.
وقد تبين كذبهم في قسمهم إذ قالوا "لئن جاءنا نذير لنكونن أهدى منهم" وأنهم ما أرادوا به إلا التفصي من اللوم.
وجملة: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} تذييل أو موعظة. و {يَحِيقُ} : ينزل بشيء مكروه حاق به، أي نزل وأحاط إحاطة سوء، أي لا يقع أثره إلا على أهله. وفيه حذف مضاف تقديره: ضر المكر السيء أو سوء المكر السيء كما دل عليه فعل {يَحِيقُ} ، فإن كان التعريف في {الْمَكْرُ} للجنس كان المراد بـ"أهله" كل ماكر. وهذا هو الأنسب بموقع الجملة ومحملها على التذييل ليعم كل مكر وكل ماكر، فيدخل فيه الماكرون بالمسلمين من المشركين، فيكون القصر الذي في الجملة قصرا ادعائيا مبنيا على عدم الاعتداد بالضر القليل الذي يحيق بالممكور به بالنسبة لما أعده الله للماكر في قدره من ملاقاة جزائه على مكره فيكون ذلك من النواميس التي قدرها القدر لنظام هذا العالم لأن أمثال هذه المعاملات الضارة تؤول إلى ارتفاع ثقة الناس بعضهم ببعض والله بنى نظام هذا العالم على تعاون الناس بعضهم مع بعض لأن الإنسان مدني بالطبع، فإذا لم يأمن أفراد الإنسان بعضهم بعضا تنكر بعضهم لبعض وتبادروا الإضرار والإهلاك ليفوز كل واحد

بكيد الآخر قبل أن يقع فيه فيفضي ذلك إلى فساد كبير في العالم والله لا يحب الفساد، ولا ضر عبيده إلا حيث تأذن شرائعه بشيء، ولهذا قيل في المثل "وما ظالم إلا سيبلى بظالم". قال الشاعر:
لكل شيء آفة من جنسه ... حتى الحديد سطا عليه المبرد
وكم في هذا العالم من نواميس مغفول عنها، وقد قال الله تعالى: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 205]. وفي كتاب ابن المبارك في الزهد بسنده عن الزهري بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تمكر ولا تعن ماكرا فإن الله يقول: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} " ، ومن كلام العرب: "من حفر لأخيه جبا وقع فيه منكبا"، ومن كلام عامة أهل تونس: "يا حافر حفرة السوء ما تحفر إلا قياسك".
وإذا كان تعريف {الْمَكْر} تعريف العهد كان المعنى: ولا يحيق هذا المكر إلا بأهله، أي الذين جاءهم النذير فازدادوا نفورا، فيكون موقع قوله: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} موقع الوعيد بأن الله يدفع عن رسوله صلى الله عليه وسلم مكرهم ويحيق ضر مكرهم بهم بأن يسلط عليهم رسوله على غفلة منهم كما كان يوم بدر ويوم الفتح،فيكون على نحو قوله تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران: 54] فالقصر حقيقي.
فكم انهالت من خلال هذه الآية من آداب عمرانية ومعجزات قرآنية ومعجزات نبوية خفية.
واعلم أن قوله تعالى: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} قد جعل في علم المعاني مثالا للكلام الجاري على أسلوب المساواة دون إيجاز ولا إطناب. وأول من رأيته مثل بهذه الآية للمساواة هو الخطيب القزويني في "الإيضاح" وفي "تلخيص المفتاح"، وهو مما زاده على ما في "المفتاح" ولم يمثل صاحب "المفتاح" للمساواة بشيء ولم أدر من أين أخذه القزويني فإن الشيخ عبد القاهر لم يذكر الإيجاز والإطناب في كتابه.
وإذ قد صرح صاحب "المفتاح" "أن المساواة هي متعارف الأوساط وأنه لا يحمد في باب البلاغة ولا يذم" فقد وجب القطع بأن المساواة لا تقع في الكلام البليغ بله المعجز. ومن العجيب إقرار العلامة التفتزاني كلام صاحب "تلخيص المفتاح" وكيف يكون هذا من المساواة وفيه جملة ذات قصر والقصر من الإيجاز لأنه قائم مقام جملتين: جملة إثبات للمقصود، وجملة نفيه عما سواه، فالمساواة أن يقال: يحيق المكر السيئ

بالماكرين دون غيرهم، فما عدل عن ذلك إلى صيغة القصر فقد سلك طريق الإيجاز.
وفيه أيضا حذف مضاف إذ التقدير: ولا يحيق ضر المكر السيء إلا بأهله على أن في قوله: {بِأَهْلِهِ} إيجازا لأنه عوض عن أن يقال: بالذين تقلدوه. والوجه أن المساواة لم تقع في القرآن وإنما مواقعها في محادثات الناس التي لا يعبأ فيها بمراعاة آداب اللغة.
وقرأ حمزة وحده {وَمَكْرَ السَّيِّئْ} بسكون الهمزة في حالة الوصل إجراء للوصل مجرى الوقف.
{فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً}.
تفريع على جملة {فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً} الآية.
ويجوز أن يكون تفريعا على جملة {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} على الوجه الثاني في تعريف {الْمَكْر} وفي المراد بـ {بِأَهْلِهِ} ، أي كما مكر الذين من قبلهم فحاق بهم مكرهم كذلك هؤلاء.
و {يَنْظُرُونَ} هنا من النظر بمعنى الانتظار. كقول ذي الرمة:
وشعث ينظرون إلى بلال ... كما نظر العطاش حيا الغمام
فقوله: "إلى" مفرد مضاف، وهو النعمة وجملة آلاء.
ومعنى الانتظار هنا: أنهم يستقبلون ما حل بالمكذبين قبلهم فشبه لزوم حلول العذاب بهم بالشيء المعلوم لهم المنتظر منهم على وجه الاستعارة.
والسُّنة: العادة: والأولون: هم السابقون من الأمم الذين كذبوا رسلهم، بقرينة سياغ الكلام. و {سُنَّتَ} مفعول {يَنْظُرُونَ} وهو على حذف مضاف. تقديره: مثل أو قياس، وهذا كقوله تعالى: {فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ} [يونس: 102].
والفاء في قوله: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} فاء فصيحة لأن ما قبلها لما ذكر الناس بسنة الله في المكذبين أفصح عن اطراد سنن الله تعالى في خلقه. والتقدير: إذا علموا ذلك فلن تجد لسنة الله تبديلاً.
و {لَنْ} لتأكيد النفي.

والخطاب في {تَجِدَ} لغير معين فيعم كل مخاطب، وبذلك يتسنى أن يسير هذا الخبر مسير الأمثال. وفي هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتهديد للمشركين.
والتبديل: تغيير شيء وتقدم عند قوله تعالى: {وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} في سورة النساء [2].
والتحويل: نقل الشيء من مكان إلى غيره، وكأنه مشتق من الحول وهو الجانب.
والمعنى: أنه لا تقع الكرامة في موقع العقاب، ولا يترك عقاب الجاني. وفي هذا المعنى قول الحكماء: ما بالطبع لا يتخلف ولا يختلف.
[44] {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً [44]}.
{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً}.
عطف على جملة: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ} [فاطر: 43] استدلالا على أن مساواتهم للأولين تنذر بأن سيحل بهم ما حل بأولئك من نوع من يشاهدونه من آثار استئصالهم في ديارهم.
وجملة: {وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} في موضع الحال، أي كان عاقبتهم الاضمحلال مع انهم اشد قوة من هؤلاء فيكون استئصال هؤلاء أقرب.
وجيء بهذا الحال في هذه الآية لما يفيد موقع الحال من استحضار صورة تلك القوة إيثارا للإيجاز لاقتراب ختم السورة. ولذلك لم يؤت في نظائرها بجملة الحال ولكن أتى فيها بجملة وصف في قوله في سورة غافر [21]: {الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ} ، وفي سورة الروم [9]: {الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ} حيث أوثر فيها الإطناب بتعداد بعض مظاهر تلك القوة.
{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً [44]}.
لما عرض وصف الأمم السابقة بأنهم أشد قوة من قريش في معرض التمثيل بالأولين تهديدا واستعدادا لتلقي مثل عذابهم أتبع ذلك بالاحتراس عن الطماعية في النجاة من مثل عذابهم بعلة ان لهم من المنجيات ما لم يكن للأمم الخالية كزعمهم: أن لهم آلهة تمنعهم

من عذاب الله بشفاعتها أو دفاعها فقيل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} ، أي هبكم أقوى من الأولين واشد حيلة منهم أو لكم من الأنصار ما ليس لهم، فما انتم بمفلتين من عذاب الله لأن الله لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء كقوله: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [العنكبوت: 22]
وجيء بلام الجحود مع {كَانَ} المنفية لإفادة تأكيد نفي كل شيء يحول دون قدرة الله وإرادته، فهذه الجملة كالاحتراس.
ومعنى "يعجزه": يجعله عاجزا عن تحقيق مراده فيه فيفلت أحد عن مراد الله منه.
وجملة: {إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً} تعليل لانتفاء شيء يغالب مراد الله بأن الله شديد العلم واسعه لا يخفي عليه شيء وبأنه شديد القدرة.
وقد حصر هذان الوصفان انتفاء أن يكون شيء يعجز الله لأن عجز المريد عن تحقيق إرادته: إما أن يكون سببه خفاء موضع تحقق الإرادة، وهذا ينافي إحاطة العلم، أو عدم استطاعة التمكن منه وهذا ينافي عموم القدرة.
[45] {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً [45]}.
تذكير لهم عن أن يغرهم تأخير المؤاخذة فيحسبوه عجزا أو رضى من الله بما هم فيه فهم الذين قالوا {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32] فعلمهم أن لعذاب الله آجالا اقتضتها حكمه، فيها رعي مصالح أمم آخرين، أو استبقاء أجيال آتين. فالمراد بـ {النَّاس} مجموع الأمة، وضمير "ما كسبوا" وضمير {يُؤَخِّرُهُمْ} عائد إلى {أَجَلٍ} .
ونظير هذه الآية تقدم في سورة النحل إلى قوله: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ} إلا أن هذه الآية جاء فيها {بِمَا كَسَبُوا} وهنالك جاء فيها {بِظُلْمِهِمْ} [النحل: 61] لأن ما كسبوا يعم الظلم وغيره. وأوثر في سورة النحل {بِظُلْمِهِمْ} لأنها جاءت عقب تشنيع ظلم عظيم من ظلمهم وهو ظلم بناتهم الموؤدات وإلا أن هنالك قال {مَا تَرَكَ عَلَيْهَا} وهنا {مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا} وهو تفنن تبعه المعري في قوله:

وإن شئت فازعم أن من فوق ظهرها ... عبيدك واستشهد إلهك يشهد
والضمير للأرض هنا وهناك في البيت لأنها معلومة من المقام. والظهر: حقيقته متن الدابة الذي يظهر منها، وهو ما يعلو الصلب من الجسد وهو مقابل البطن فأطلق على ظهر الإنسان أيضا وإن كان غير ظاهر لأن الذي يظهر من الإنسان صدره وبطنه. وظهر الأرض مستعار لبسطها الذي يستقر عليه مخلوقات الأرض تشبيها للأرض بالدابة المركوبة على طريقة المكنية. ثم شاع ذلك فصار من الحقيقة.
فأما قوله هنا {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً} ، وقد قال هنالك {لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [النحل: 61] ، فما هنا إيماء هي الحكمة في تأخيرهم إلى أجل مسمى. والتقدير: فإذا جاء أجلهم أخذهم بما كسبوا فإن الله كان بعباده بصيرا، أي عليما في حالي التأخير ومجيء الأجل، ولهذا فقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً} دليل جواب "إِذَا" وليس هو جوابها، ولذلك كان حقيقا بقرنه بفاء التسبب، وأما ما في سورة النحل فهو الجواب وهو تهديد بأنه إذا جاء أجلهم وقع بهم العذاب دون إمهال.
وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً} هو أيضا جواب عن سؤال مقدر أن يقال: ماذا جنت الدواب حتى يستأصلها الله بسبب ما كسب الناس، وكيف يهلك كل من على الأرض وفيهم المؤمنون والصالحون، فأفيد أن الله اعلم بعدله. فأما الدواب فإنها مخلوقة لأجل الإنسان كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} [البقرة: 29]، فإهلاكها قد يكون إنذارا للناس لعلهم يقلعون عن إجرامهم، وأما حال المؤمنين في حين إهلاك الكفار فالله أعلم بهم فلعل الله أن يجعل لهم طريقا إلى النجاة كما نجى هودا ومن معه، ولعله إن أهلكهم أن يعوض لهم حسن الدار كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ثم يحشرون على نياتهم".

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة يسسميت هذه السورة يس بمسمى الحرفين الواقعين في أولها في رسم المصحف لأنها انفردت بها فكانا مميزين لها عن بقية السور، فصار منطوقهما علما عليها. وكذلك ورد اسمها عن النبي صلى الله عليه وسلم.
روى أبو داود عن معقل بن يسار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقرأوا يس على موتاكم" . وبهذا الاسم عنون البخاري والترمذي في كتابي التفسير.
ودعاها بعض السلف "قلب القرآن" لوصفها في قول النبيء صلى الله عليه وسلم: "إن لكل شيء قلبا وقلب القرآن يس" ، رواه الترمذي عن أنس، وهي تسمية غير مشهورة.
ورأيت مصحفا مشرقيا نسخ سنة 1078 أحسبه في بلاد العجم عنونها "سورة حبيب النجار" وهو صاحب القصة {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} [يس: 20] كما يأتي. وهذه تسمية غريبة لا نعرف لها سندا ولم يخالف ناسخ ذلك المصحف في أسماء السور ما هو معروف إلا في هذه السورة وفي "سورة التين" عنونها "سورة الزيتون".
وهي مكية، وحكى ابن عطية الاتفاق على ذلك قال: "إلا أن فرقة قالت قوله تعالى: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس: 12] نزلت في بني سلمة من الأنصار حين أرادوا أن يتركوا ديارهم وينتقلوا إلى جوار مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم فقال لهم: "ديارَكم تُكتبُ آثارُكم" . وليس الأمر كذلك وإنما نزلت الآية بمكة ولكنها احتج بها عليهم في المدينة" اهـ.
وفي الصحيح أن النبيء صلى الله عليه وسلم قرأ عليهم: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} وهو يؤول ما في حديث الترمذي بما يوهم أنها نزلت يومئذ.
وهي السورة الحادية والأربعون في ترتيب النزول في قول جابر بن زيد الذي اعتمده

الجعبري، نزلت بعد سورة {قُلْ أُوحِيَ} وقبل سورة الفرقان.
وعدت آياتها عند جمهور الأمصار اثنتين وثمانين. وعدت عند الكوفيين ثلاثا وثمانين.
وورد في فضلها ما رواه الترمذي عن أنس قال النبيء صلى الله عليه وسلم: "إن لكل شيء قلبا وقلب القرآن يس. ومن قرأ يس كتب الله له بقراءتها قراءة القرآن عشر مرات" . قال الترمذي: هذا حديث غريب، وفيه هارون أبو محمد شيخ مجهول. قال أبو بكر بن العربي: حديثها ضعيف.
أغراض هذه السورة
التحدي بإعجاز القرآن بالحروف المقطعة، وبالقسم بالقرآن تنويها به، وأدمج وصفه بالحكيم إشارة إلى بلوغه أعلى درجات الإحكام. والمقصود من ذلك تحقيق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وتفضيل الدين الذي جاء به في كتاب منزل من الله لإبلاغ الأمة الغاية السامية وهي استقامة أمورها في الدنيا والفوز في الحياة الأبدية، فلذلك وصف الدين بالصراط المستقيم كما تقدم في سورة الفاتحة.
وأن القرآن داع لإنقاذ العرب الذين لم يسبق مجيء رسول إليهم، لأن عدم سبق الإرسال إليهم لنفوسهم لقبول الدين إذ ليس فيها شاغل سبق يعز عليهم فراقه أو يكتفون بما فيه من هدى.
ووصف إعراض أكثرهم عن تلقي الإسلام، وتمثيل حالهم الشنيعة، وحرمانهم من الانتفاع بهدي الإسلام وأن الذين اتبعوا دين الإسلام هم أهل الخشية وهو الدين الموصوف بالصراط المستقيم.
وضرب المثل لفريقي المتبعين والمعرضين من أهل القرى بما سبق من حال أهل القرية الذين شابه تكذيبهم الرسل تكذيب قريش.
وكيف كان جزاء المعرضين من أهلها في الدنيا وجزاء المتبعين في درجات الآخرة.
ثم ضرب المثل بالأعم وهم القرون الذين كذبوا فأهلكوا.
والرثاء لحال الناس في إضاعة أسباب الفوز كيف يسرعون إلى تكذيب الرسل.
وتخلص إلى الاستدلال على تقريب البعث وإثباته بالاستقلال تارة وبالاستطراد

أخرى.
مدمجا في آياته الامتنان بالنعمة التي تتضمنها تلك الآيات.
ورامزا إلى دلالة تلك الآيات والنعم على تفرد خالقها ومنعمها بالوحدانية إيقاظا لهم.
ثم تذكيرهم بأعظم حادثة حدثت على المكذبين للرسل والمتمسكين بالأصنام من الذين أرسل إليهم نوح نذيرا، فهلك من كذب، ونجا من آمن.
ثم سيقت دلائل التوحيد المشوبة بالامتنان للتذكير بواجب الشكر على النعم بالتقوى والإحسان وترقب الجزاء.
والإقلاع عن الشرك والاستهزاء بالرسول واستعجال وعيد العذاب.
وحذروا من حلوله بغتة حين يفوت التدارك.
وذكروا بما عهد الله إليهم مما أودعه في الفطرة من الفطنة.
والاستدلال على عداوة الشيطان للإنسان.
واتباع دعاة الخير.
ثم رد العجز على الصدر فعاد إلى تنزيه القرآن عن أن يكون مفترى صادرا من شاعر بتخيلات الشعراء.
وسلى الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن لا يحزنه قولهم وأن لهم بالله أسوة إذ خلقهم فعطلوا قدرته عن إيجادهم مرة ثانية ولكنهم راجعون إليه.
فقامت السورة على تقرير أمهات أصول الدين على أبلغ وجه وأتمه من إثبات الرسالة، ومعجزة القرآن، وما يعتبر في صفات الأنبياء وإثبات القدر، وعلم الله، الحشر، والتوحيد، وشكر المنعم، وهذه أصول الطاعة بالاعتقاد والعمل، ومنها تتفرع الشريعة. وإثبات الجزاء على الخير والشر مع إدماج الأدلة من الآفاق والأنفس بتفنن عجيب، فكانت هذه السورة جديرة بأن تسمى "قلب القرآن" لأن من تقاسيمها تتشعب شرايين القرآن كله، وإلى وتينها ينصب مجراها.
قال الغزالي: إن ذلك لأن الإيمان صحته باعتراف بالحشر، والحشر مقرر في هذه

السورة بأبلغ وجه، كما سميت الفاتحة أم القرآن إذ كانت جامعة لأصول التدبر في أفانيه كما تكون أم الرأس ملاك التدبر في أمور الجسد.
[1] {يس [1]}.
القول فيه كالقول في الحروف المقطعة الواقعة في أوائل السور، ومن جملتها أنه اسم من أسماء الله تعالى، رواه أشهب عن مالك قاله ابن العربي، وفيه عن ابن عباس أنه: يا إنسان، بلسان الحبشة. وعنه أنها كذلك بلغة طيء. ولا أحسب هذا يصح عنه لأن كتابتها في المصاحف على حرفين تنافي ذلك.
ومن الناس من يدعي أن يس أسم من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم. وبني عليه إسماعيل ابن بكر الحميري شاعر الرافضة المشهورة عندهم بالسيد الحميري قوله:
يا نفس لاتمحضي بالود جاهدة ... على المودة إلا آل ياسينا
ولعله أخذه من قوله تعالى في سورة الصافات [130] {سَلامٌ عَلَى آلِ يَاسِينَ} فقد قيل إنه يعني آل محمد صلى الله عليه وسلم.
ومن الناس من قال: إن يس اختزال: يا سيد، خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم ويوهنه نطق القرآن بها بنون.
ومن الناس من يسمي ابنه بهذه الكلمة وهو كثير في البلاد المصرية والشامية ومنهم الشيخ يس بن زيد الدين العلمي الحمصي المتوفى سنة 1061 صاحب التعاليق القيمة فإنما يكتب اسمه بحسب ما ينطق به لا بحروف التهجي وإن كان الناس يغفلون فيكتبونه بحرفين كما يكتب أول هذه السورة.
قال ابن العربي قال أشهب: سألت مالكا هل ينبغي لأحد أن يسمي يس? قال: ما أراه ينبغي لقول الله تعالى: {يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} [يس: 1، 2] يقول هذا: اسمي يس. قال ابن العربي: وهو كلام بديع لأن العبد لا يجوز أن يسمي باسم الله إذا كان فيه معنى منه كقوله: عالم وقادر، وإنما منع مالك من التسمية بهذا لأنه اسم من أسماء الله لا يدري معناه فربما كان معناه ينفرد به الرب فلا يجوز أن يقدم عليه العبد فيقدم على خطر فاقتضى النظر رفعه عنه اهـ. وفيه نظر.
والنطق باسم "يا" بدون مد تخفيف كما في كهيعص.

[2- 4] {وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ [2] إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [3] عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [4]}.
القسم بالقرآن كناية عن شرف قدره وتعظيمه عند الله تعالى، وذلك هو المقصود من الآيات الأول من هذه السورة. والمقصود من هذا القسم تأكيد الخبر مع ذلك التنويه.
و {الْقُرْآنِ} : علَم بالغلبة على الكتاب الموحى به إلى محمد صلى الله عليه وسلم من وقت مبعثه إلى وفاته للإعجاز والتشريع، وقد تقدم في قوله تعالى: {وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ} في سورة يونس [61].
و {الْحَكِيمِ} : يجوز أن يكون بمعنى المحكم بفتح الكاف، أي المجعول ذا إحكام والإحكام: الإتقان بماهية الشيء فيما يراد منه.
ويجوز أن يكون بمعنى صاحب الحكمة، ووصفه بذلك مجاز عقلي لأنه محتو عليها.
وجملة: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} جواب القسم، وتأكيد هذا الخبر بالقسم وحرف التأكيد ولام الابتداء باعتبار كونه مرادا به التعريض بالمشركين الذين كذبوا بالرسالة فهو تأنيس للنبي صلى الله عليه وسلم وتعريض بالمشركين، فالتأكيد بالنسبة إليه زيادة تقرير وبالنسبة للمعنى الكنائي لرد إنكارهم، والنكت لا تتزاحم.
{عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} خبر ثان لـ"إِنَّ"، أو حال من اسم "إِنَّ". والمقصود منه: الإيقاظ إلى عظمة شريعته بعد إثبات أنه مرسل كغيره من الرسل.
و {عَلَى} للاستعلاء المجازي الذي هو بمعنى التمكن كما تقدم في قوله: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} في سورة البقرة [5]. وليس الغرض من الإخبار به عن المخاطب إفادة كونه على صراط مستقيم لأن ذلك معلوم حصوله من الأخبار من كونه أحد المرسلين فقد علم أن المراد من المرسلين المرسلون من عند الله، ولكن الغرض الجمع بين حال الرسول عليه الصلاة والسلام وبين حال دينه ليكون العلم بأن دينه صراط مستقيم علما مستقلا لا ضمنيا.
والصراط المستقيم: الهدى الموصل إلى الفوز في الآخرة، وهو الدين الذي بعث به النبي صلى الله عليه وسلم، والخلق الذي لقنه الله، شبه بطريق مستقيم لا اعوجاج فيه في أنه موثوق به في الإيصال إلى المقصود دون أن يتردد السائر فيه.

فالإسلام فيه الهدى في الحياتين فمتبعه كالسائر في صراط مستقيم لا حيرة في سيره تعتريه حتى يبلغ المكان المراد.
والقرآن حاوي الدين فكان القرآن من الصراط المستقيم.
وتنكير {صِرَاطٍ} للتوصل إلى تعظيمه.
[5، 6] {تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ [5] لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ [6]}.
راجع إلى {الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} [يس: 2] إذ هو المنزل من عند الله، فبعد أن استوفى القسم جوابه رجع الكلام إلى بعض المقصود من القسم وهو تشريف المقسم به فوسم بأنه {تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ}.
وقد قرأه الجمهور بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف للعلم به، وهذا من مواقع حذف المسند إليه الذي سماه السكاكي الحذف الجاري على متابعة الاستعمال في أمثاله. وذلك أنهم إذا أجروا حديثا على شيء ثم أخبروا عنه التزموا حذف ضميره الذي هو مسند إليه إشارة إلى التنويه به كأنه لا يخفى كقول إبراهيم الصولي، أو عبد الله بن الزبير الأسدي أو محمد بن سعيد الكاتب، وهي من أبيات الحماسة في باب الأضياف:
سأشكر عمرا إن تراخت منيتي ... أيادي لم تمنن وإن هي جلت
فتى غير محجوب الغنى عن صديقه ... ولا مظهر الشكوى إذ النعل زلت
تقديره: هو فتى.
وقرأه ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلف بنصب {تَنْزِيلَ} على تقدير: أعني. والمعنى: أعني من قسمي قرآنا نزلته، وتلك العناية زيادة في التنويه بشأنه وهي تعادل حذف المسند إليه الذي في قراءة الرفع.
والتنزيل: مصدر بمعنى المفعول أخبر عنه بالمصدر للمبالغة في تحقيق كونه منزلا.
وأضيف التنزيل إلى الله بعنوان صفتي {الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} لأن ما أشتمل عليه القرآن لا يعدو أن يكون من آثار عزة الله تعالى، وهو ما فيه من حمل الناس على الحق وسلوك طريق الهدى دون مصانعة ولا ضعف مع ما فيه من الإنذار والوعيد على العصيان والكفران.
وأن يكون من آثار رحمته وهو ما في القرآن من نصب الأدلة وتقريب البعيد وكشف

الحقائق للناظرين، مع ما فيه من البشارة للذين يكونون عند مرضاة الله تعالى، وذلك هو ما ورد بيانه بعد إجمالا من قوله: {لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} [يس: 6]، ثم تفصيلا بقوله: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ} [يس: 7] وبقوله: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} [يس: 11]
فاللام في {لِتُنْذِرَ} متعلقة بـ {تَنْزِيلَ} وهي لام التعليل تعليلا لإنزال القرآن.
واقتصر على الإنذار لأن أول ما ابتدئ به القوم من التبليغ إنذارهم جميعا بما تضمنته أول سورة نزلت من قوله: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6، 7] الآية. وما تضمنته سورة المدثر لأن القوم جميعا كانوا على حالة لا ترضي الله تعالى فكان حالهم يقتضي الإنذار ليسرعوا إلى الإقلاع عما هم فيه مرتبكون.
والقوم الموصوفون بأنهم لم تنذر آباؤهم: إما العرب العدنانيون فإنهم مضت قرون لم يأتهم فيها نذير، ومضى آباؤهم لم يسمعوا نذيرا، وإنما يبتدأ عد آبائهم من جدهم الأعلى في عمود نسبهم الذين تميزوا به جدما وهو عدنان، لأنه جذم العرب المستعربة، أو أريد أهل مكة. وإنما باشر النبي صلى الله عليه وسلم في ابتداء بعثته دعوة أهل مكة وما حولها فكانوا هم الذين أراد الله أن يتلقوا الدين وأن تتأصل منهم جامعة الإسلام ثم كانوا هم حملة الشريعة وأعون الرسول صلى الله عليه وسلم في تبليغ دعوته وتأييده. فانضم إليهم أهل يثرب وهم قحطانيون فكانوا أنصارا ثم تتابع إيمان قبائل العرب.
وفرع عليه قوله: {فَهُمْ غَافِلُونَ} أي فتسبب على عدم إنذار آبائهم أنهم متصفون بالغفلة وصفا ثابتا، أي فهم غافلون عما تأتي به الرسل والشرائع فهم في جهالة وغواية إذ تراكمت الضلالات فيهم عاما فعاما وجيلا فجيلا.
فهذه الحالة تشمل جميع من دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم سواء من آمن بعد ومن لم يؤمن.
والغفلة: صريحها الذهول عن شيء وعدم تذكره، وهي هنا كناية عن الإهمال والإعراض عما يحق التنبيه إليه كقول النابغة:
يقول أناس يجهلون خليقتي ... لعل زيادا لا أبا لك غافل
[7] {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [7]}.
هذا تفصيل لحال القوم الذين أرسل محمد صلى الله عليه وسلم لينذرهم، فهم قسمان: قسم لم تنفع

فيه النذارة، وقسم اتبعوا الذكر وخافوا الله فانتفعوا بالنذارة. وبين أن أكثر القوم حقت عليهم كلمة العذاب، أي علم الله أنهم لا يؤمنون بما جبل عليه عقولهم من النفور عن الخير، فحقق في علمه وكتب أنهم لا يؤمنون، فالفاء لتفريع انتفاء إيمان أكثرهم على القول الذي حق على أكثرهم.
و {حَقَّ} : بمعنى ثبت ووقع فلا يقبل نقضا. و {الْقَوْلُ} : مصدر أريد به ما أراده الله تعالى بهم فهو قول من قبيل الكلام النفسي، أو مما أوحى الله به إلى رسله.
والتعريف في {الْقَوْل} تعريف الجنس، والمقول محذوف لدلالة تفريعه عليه.
والتقدير: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ} ، أي القول النفسي وهو المكتوب في علمه تعالى أنهم لا يؤمنون.
[8] {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ [8]}.
هذه الجملة بدل اشتمال من جملة: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} فإن انتفاء إيمانهم يشتمل على ما تضمنته هذه الآية من جعل أغلال في أعناقهم حقيقة أو تمثيلا.
والجعل: تكوين الشيء، أي جعلنا حالهم كحال من في أعناقهم أغلال فهي إلى الأذقان فهم مقمحون، فيجوز أن يكون تمثيلا بأن شبهت حالة إعراضهم عن التدبر في القرآن ودعوة الإسلام والتأمل في حججه الواضحة بحال قوم جعلت في أعناقهم أغلال غليظة ترتفع إلى أذقانهم فيكونون كالمقمحين، أي الرافعين رؤوسهم الغاضين أبصارهم لا يلتفتون يمينا ولا شمالا فلا ينظرون إلى شيء مما حولهم فتكون تمثيلية.
وذكر {فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ} لتحقيق كون الأغلال ملزوزة إلى عظام الأذقان بحث إذا أراد المغلول منهم الالتفات أو أن يطاطئ رأسه وجعه ذقنه فلازم السكون وهذه حالة تخييل هذه الأغلال وليس كل الأغلال مثل هذه الحالة.
وهذا التمثيل قابل لتوزيع أجزاء المركب التمثيلي إلى تشبيه كل جزء من الحالين بجزء من الحالة الأخرى بأن يشبه ما في نفوسهم من النفور عن الخير بالأغلال، ويشبه إعراضهم عن التأمل والإنصاف بالإقماح.
فالفاء في قوله: {فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ} عطف على جملة {جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ

أَغْلالاً} ، أي جعلنا أغلالاً، أي فأبلغنا إلى الأذقان.
والجعل: هنا حقيقة وهو ما خلق في نفوسهم من خلق التكبر والمكابرة.
والأغلال: جمع غل بضم الغين، وهو حلقة عريضة من حديد كالقلادة ذات أضلاع من إحدى جهاتها وطرفين يقابلان أضلاعهما فيهما أثقاب متوازية تشد الحلقة من طرفيها على رقبة المغلول بعمود من حديد له رأس كالكرة الصغيرة يسقط ذلك العمود في الأثقاب فإذا انتهى إلى رأسه الذي كالكرة استقر ليمنع الغل من الانحلال والتفلت، وتقدم عند قوله تعالى: {وَأُولَئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ} في سورة الرعد [5].
والفاء في قوله: {فَهُمْ مُقْمَحُونَ} تفريع على جملة {فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ} .
والمقمح: بصيغة اسم المفعول المجعول قامحاً، أي رافعاً رأسه ناظراً إلى فوقه يقال: قمحه الغل، إذ جعل رأسه مرفوعا وغض بصره، فمدلوله مركب من شيئين. والأذقان: جمع ذقن بالتحريك، وهو مجتمع اللحين. وتقدم في الإسراء.
ويجوز أن يكون قوله: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً} الخ وعيدا بما سيحل بهم يوم القيامة حين يساقون إلى جهنم في الأغلال كما أشار إليه قوله تعالى: {إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} في سورة غافر [71، 72]، فيكون فعل {جَعَلْنَا} مستقبلا وعبر عنه بصيغة الماضي لتحقيق وقوعه كقوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل: 1]، أي سنجعل في أعناقهم أغلالا.
[9] {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ}.
{وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً}.
هذا ارتقاء في حرمانهم من الاهتداء لو أرادوا تأملا بان فظاظة قلوبهم لا تقبل الاستنتاج من الأدلة والحجج بحيث لا يتحولون عما هم فيه، فمثلت حالهم بحالة من جعلوا بين سدين، أي جدارين: سدا أمامهم، وسدا خلفهم، فلو راموا تحولا عن مكانهم وسعيهم إلى مرادهم لما استطاعوه كقوله تعالى: {فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيّاً وَلا يَرْجِعُونَ} [يس: 67]، وقول أبي الشيص:
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي ... متأخر عنه ولا متقدم

وقد صرخ بذلك في قول...:
ومن الحوادث لا أبا لك أنني ... ضربت على الأرض بالأسداد
لا أهتدي فيها لموضع تلعة ... بين العذيب وبين أرض مراد
وتقدم السد في سورة الكهف.
وفي "مفاتيح الغيب": مانع الإيمان: إما أن يكون في النفس، وإما أن يكون خارجا عنها. ولهم المانعان جميعا: أما في النفس فالغل، وأما من الخارج فالسد فلا يقع نظرهم على أنفسهم فيروا الآيات التي في أنفسهم لأن المقمح لا يرى نفسه ولا يقع نظرهم على الآفاق لأن من بين السدين لا يبصرون الآفاق فلا تتبين لهم الآيات كما قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ} [فصلت: 53].
وإعادة فعل {وَجَعَلْنَا} على الوجه الأول في معنى قوله: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً} [يس: 8] الآية تأكيد لهذا الجعل، وأما على الوجه الثاني في معنى: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً} فإعادة فعل: {وَجَعَلْنَا} لأنه جعل حاصل في الدنيا فهو مغاير للجعل الحاصل يوم القيامة.
وقرأ الجمهور: {سُدّاً} بالضم وهو اسم الجدار الذي يسد بين داخل وخارج.
وقرأ حمزة والكسائي وحفص وخلف بالفتح وهو مصدر سمي به ما يسد به.
{فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ}.
تفريع على كلا المفعولين {جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً} و {جَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً} لأن في كلا الفعلين مانعا من أحوال النظر.
وفي الكلام اكتفاء عن ذكر ما يتفرع ثانيا على تمثيلهم بمن جعلوا بين سدين من عدم استطاعة التحول عما هم عليه.
والإغشاء: وضع الغشاء. وهو ما يغطى الشيء. والمراد: أغشينا أبصارهم، ففي الكلام حذف مضاف دل عليه السياق وأكده التفريع بقوله: {فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} . وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي لإفادة تقوي الحكم، أي تحقيق عدم إبصارهم.
[10] {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [10]}.

عطف على جملة: {لا يُبْصِرُونَ} [يس: 9]، أي إنذارك وعدمه سواء بالنسبة إليهم، فحرف "عَلَى" معناه الاستعلاء المجازي وهو هنا للملابسة، متعلق بـ {سَوَاءٌ} الدال على معنى "استوى"، وتقدم نظيرها في أول سورة البقرة.
وهمزة التسوية أصلها الاستفهام ثم استعملت في التسوية على سبيل المجاز المرسل، وشاع ذلك حتى عدت التسوية من معاني الهمزة لكثرة استعمالها في ذلك مع كلمة سواء وهي تفيد المصدرية. ولما استعملت الهمزة في معنى التسوية استعملت {أَمْ} في معنى الواو، وقد جاء على الاستعمال الحقيقي قول بثينة:
سواء علينا يا جميل بن معمر ... إذا مت بأساء الحياة ولينها
وجملة {لا يُؤْمِنُونَ} مبينة استواء الإنذار وعدمه بالنسبة إليهم.
[11] {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ [11]}.
لما تضمن قوله: {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} [يس: 10] أن الإنذار في جانب الذين حق عليهم القول أنهم لا يؤمنون هو وعدمه سواء وكان ذلك قد يوهم انتفاء الجدوى من الغير وبعض من فضل أهل الإيمان أعقب ببيان جدوى الإنذار بالنسبة لمن اتبع الذكر وخشي الرحمان بالغيب.
و {الذِّكْر} : القرآن.
والاتباع: حقيقته الانتفاء والسير وراء سائر، وهو هنا مستعار للإقبال على الشيء والعناية به لأن المتبع شيئا يعتني باقتفائه، فاتباع الذكر تصديقه والإيمان بما فيه لأن التدبر فيه يفضي إلى العمل به، كما ورد في قصة إيمان عمر بن الخطاب رضي الله عنه فإنه وجد لوحا فيه سورة طه عند أخته فأخذ يقرأ ويتدبر فآمن.
وكان المشركون يعرضون عن سماع القرآن ويصدون الناس عن سماعه، ويبين ذلك ما في قصة عبد الله بن أبي بن سلول في مبدأ حلول رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بمجلس عبد الله بن أبي فنزل فسلم وتلا عليهم القرآن حتى إذا فرغ قال عبد الله بن أبي: "يا هذا أنه أحسن من حديثك إن كان حقا، فأجلس في بيتك فمن جاءك فحدثه ومن لم يأتك فلا تغته به". ولما الإقبال على سماع القرآن مفضيا إلى

الإيمان بما فيه لأنه يداخل القلب كما قال الوليد بن المغيرة: "إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أسفله لمغدق، وإن أعلاه لمتمر" . أتبعت صلة {اتَّبَعَ الذِّكْرَ} بجملة {وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} ، فكان المراد من اتباع الذكر أكمل أنواعه الذي لا يعقبه إعراض فهو مؤد إلى امتثال المتبعين ما يدعوهم إليه.
وخشية الرحمان: تقواه في خويصة أنفسهم، وهؤلاء هم المؤمنون تنويها بشأنهم وبشأن الإنذار، فهذا قسيم قوله: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ} [يس: 7] وهو بقية تفصيل قوله: {لِتُنْذِرَ قَوْماً} [يس: 6]. والغرض تقوية دعاية الرسول صلى الله عليه وسلم في الإنذار، والثناء على الذين قبلوا نذارته فآمنوا.
فمعنى فعل {تُنْذِرُ} هو الإنذار المترتب عليه أثره من الخشية والامتثال، كأنه قيل: إنما تنذر فينتذر من اتبع الذكر، أي من ذلك شأنهم لأنهم آمنوا ويتقون.
والتعبير بفعل المضي للدلالة على تحقيق الاتباع والخشية. والمراد: ابتداء الاتباع.
ثم فرع على هذا التنويه الأمر بتبشير هؤلاء بمغفرة ما كان في زمن الجاهلية وما يقترفون من اللمم.
والجمع بين {تُنْذِرُ} و"بشر" فيه محسن الطباق، مع بيان أن أول أمرهم الإنذار وعاقبته التبشير.
والأجر: الثواب على الإيمان والطاعات، ووصفه بالكريم لأنه الأفضل في نوعه كما تقدم عند قوله تعالى: {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} في سورة النمل [29].
والتعبير بوصف {الرَّحْمَنَ} دون اسم الجلالة لوجهين: أحدهما: أن المشركين كانوا ينكرون اسم الرحمن، كما قال تعالى: {قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} [الفرقان: 60]. والثاني: الإشارة إلى رحمته لا تقتضي عدم خشيته فالمؤمن يخشى الله مع علمه برحمته فهو يرجو الرحمة.
فالقصر المستفاد من قوله: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} وهو قصر الإنذار على التعلق بـ {مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} وخشي الله هو بالتأويل الذي تؤول به معنى فعل {تُنْذِرُ} ، أي حصول فائدة الإنذار يكون قصرا حقيقياً، وإن أبيت إلا إبقاء فعل {تُنْذِرُ} على ظاهر استعمال الأفعال وهو الدلالة على وقوع مصادرها فالقصر ادعائي بتنزيل إنذار الذين لم يتبعوا الذكر ولم يخشوا منزلة عدم الإنذار في انتفاء فائدته.

[12] {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ [12]}.
لما اقتضى القصر في قوله: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} [يس: 11] نفي أن يتعلق الإنذار بالذين لم يتبعوا الذكر ولم يخشوا الرحمان، وكان في ذلك كناية تعريضية بأن الذين لم ينتفعوا بالإنذار بمنزلة الأموات لعدم انتفاعهم بما ينفع كل عاقل، كما قال تعالى: {لِتُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً} [يس: 70] وكما قال {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل: 80] استطرد عقب ذلك بالتخلص إلى إثبات البعث فإن التوفيق الذي حف بمن اتبع الذكر وخشي الرحمان هو كإحياء الميت لن حالة الشرك حالة ضلال يشبه الموت، والإخراج منه كإحياء الميت، فهذه الآية اشتملت بصريحتها على علم بتحقيق البعث واشتملت بتعريضها على رمز واستعارتين ضمنيتين: استعارة الموتى للمشركين، واستعارة الأحياء للإنقاذ من الشرك، والقرينة هي الانتقال من كلام إلى كلام لما يومئ إليه الانتقال من سبق الحضور في المخيلة فيشمل المتكلم مما كان يتكلم في شأنه إلى الكلام فيما خطر له. وهذه الدلالات من مستتبعات المقام وليست من لوازم معنى التركيب. وهذا من أدق التخلص بحرف "إِنَّ" لأن المناسبة بين المنتقل منه والمنتقل إليه تحتاج إلى فطنة، وهذا مقام خطاب الذكي المذكور في مقدمة علم المعاني.
فيكون موقع جملة "إنا نحيي الموتى" استئنافا ابتدائيا لقصد إنذار الذين لم يتبعوا الذكر، ولم يخشوا الرحمان، وهم الذين اقتضاهم جانب النفي في صيغة القصر.
ويجوز ان يكون الإحياء مستعارا للإنقاذ من الشرك، والموتى: استعارة لأهل الشرك، فإحياء الموتى توفيق من آمن من الناس إلى الإيمان كما قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ} [الأنعام: 122] الآية.
فتكون الجملة امتنانا على المؤمنين بتيسير الإيمان لهم، قال تعالى: {فمن فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام: 125] وموقع الجملة لقوله: {فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} [يس: 11].
والمراد بكتابة ما قدموا الكناية عن الوعد بالثواب على أعمالهم الصالحة والثواب على آثارهم.

وهذا الاعتبار يناسب الاستئناف الابتدائي ليكون الانتقال بابتداء كلام منبها السامع إلى ما اعتبره المتكلم في مطاوي كلامه.
والتأكيد بحرف "إِنَّ" منظور فيه إلى المعنى الصريح كما هو الشأن، و {نَحْنُ} ضمير فصل لا للتقوية وهو زيادة تأكيد. والمعنى: نحييهم للجزاء، فلذلك عطف {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا} ، أي نحصى لهم أعمالهم من خير وشر قدموها في الدنيا لنجازيهم.
وعطف ذلك إدماج للإنذار والتهديد بأنهم محاسبون على أعمالهم ومجازون عليها.
والكناية: كناية عن الإحصاء وعدم غفلات شيء من أعمالهم أو إغفاله. وهي ما يعبر عنه بصحائف الأعمال التي يسجلها الكرام الكاتبون.
فالمرد بـ {مَا قَدَّمُوا} ما عملوا من العمال قبل الموت، شبهت أعمالهم في الحياة الدنيا بأشياء يقدمونها إلى الدار الآخرة كما يقدم المسافر ثقله وأحماله.
وأما الآثار فهي آثار الأعمال وليست عين الأعمال بقرينة مقابلته بـ {مَا قَدَّمُوا} مثل ما يتركون من خير أو يثير بين الناس وفي النفوس.
والمقصود بذلك ما علموه موافقا للتكاليف الشرعية أو مخالفا لها وآثارهم كذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أعمالهم شيئا".
فالآثار مسببات أسباب عملوا بها. وليس المراد كتابة كل ما عملوه لأن ذلك لا تحصل منه فائدة دينية يترتب عليها الجزاء. فهذا وعد ووعيد كل يأخذ بحظه منه.
وقد ورد عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه أن بني سلمة أرادوا أن يتحولوا من منازلهم في أقصى المدينة إلى قرب المسجد وقالوا: البقاع خالية، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم" . مرتين رواه مسلم. ويعني آثار أرجلهم في المشي إلى صلاة الجماعة.
وفي رواية الترمذي عن أبي سعيد زاد: أنه قرأ عليهم: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} فجعل الآثار عاما للحسية والمعنوية، وهذا يلاقي الوجه الثاني في موقع جملة: {إِنَّا نَحْنُ

نُحْيِ الْمَوْتَى}. وهو جار على ما أسسناه في المقدمة التاسعة. وتوهم راوي الحديث عن الترمذي أن هذه الآية نزلت في ذلك وسياق الآية يخالفه ومكيتها تنافيه.
والإحصاء: حقيقته العد والحساب وهو هنا كناية عن الإحاطة والضبط وعدم تخلف شيء عن الذكر والتعيين لأن الإحصاء والحساب يستلزم أن لا يفوت واحد من المحسوبات.
والإمام: ما يؤم به في الاقتداء على حسب ما يدل عليه، قال النابغة:
بنو مجد الحياة على إمام
أطلق الإمام على الكتاب لأن الكتاب يتبع ما فيه من الأخبار والشروط، قال الحارث بن حلزة:
حذر الجور والتطاخي وهل ينـ ... قض ما في المهارق الأهواء
والمراد {وَكُلَّ شَيْءٍ} بحسب الظاهر هو كل شيء من أعمال الناس كما دل عليه السياق، فذكر {وَكُلَّ شَيْءٍ} لإفادة الإحاطة والعموم لما قدموا وآثارهم من كبيرة وصغيرة. فكلمة {كُلّ} نص على العموم من اسم الموصول ومن الجمع المعرف بالإضافة، فتكون جملة {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} مؤكد لجملة {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} ، ومبينة لمجملها، ويكون عطفها دون فصلها مراعى فيه ما اشتملت عليه من زيادة الفائدة.
ويجوز أن يكون المراد بـ {كُلّ شَيْءٍ} كل ما يوجد من الذوات والأعمال، ويكون الإحصاء إحصاء علم، أي تعلق العلم بالمعلومات عند حدوثها، ويكون الإمام المبين علم الله تعالى. والظرفية ظرفية إحاطة، أي عدم تفلت شيء عن علمه كما لا ينفلت المظروف عن الظرف.
وجعل علم الله إماما لأنه تجري على وفقه تعلقات الإرادة الربانية والقدرة فتكون جملة {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ} على هذا تذيلا مفيدا أن الكتابة لا تختص بأعمال الناس الجارية على وفق التكاليف أو ضدها بل تع جميع الكائنات. وإذ قد كان الشيء يرادف الموجود جاز أن يراد بـ {كُلّ شَيْءٍ} الموجود بالفعل أو ما قبل الإيجاد وهو الممكن، فيكون إحصاؤه هو العلم بأنه يكون أو لا يكون ومقادير كونه وأحواله، كقوله تعالى: {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} [الجن: 28].

[13، 14] {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ [13] إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ [14]}.
أعقب وصف إعراضهم وغفلتهم عن الانتفاع بهدى القرآن بتهديدهم بعذاب الدنيا إذ قد جاء في آخر هذه القصة قوله: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} [يس: 29].
والضرب مجاز مشهور في معنى الوضع والجعل، ومنه: ضرب ختمه. وضربت بيتا، وهو هنا في الجعل وتقدم عند قوله تعالى: {نَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا} في سورة البقرة [26].
والمعنى: اجعل أصحاب القرية المرسلين إليهم شبها لأهل مكة وإرسالك إليهم.
و {لَهُمْ} يجوز أن يتعلق بـ {اضْرِبْ} أي اضرب مثلا لأجلهم، أي لأجل أن يعتبروا كقوله تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [الروم: 28]. ويجوز أن يكون {لَهُمْ} صفة لـ"مثَل"، أي اضرب شبيها لهم كقوله تعالى: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} [النحل: 74].
والمثل: الشبيه، فقوله: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً} معناه ونظر مثلا، أي شبه حالهم في تكذيبهم بك بشبيه من السابقين، ولما غلب المثل في المشابه في الحال وكان الضرب أعم جعل {مَثَلاً} مفعولا لـ {اضْرِبْ} ، أي نظر حالهم بمشابهه فيها فحصل الاختلاف بين {اضْرِبْ} و {مَثَلاً} بالاعتبار. وانتصب {مَثَلاً} على الحال.
وانتصب {أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} على البيان لـ {مَثَلاً} ، أو بدل، ويجوز أن يكون مفعولا أول لـ {اضْرِبْ} و {مَثَلاً} مفعولا ثانيا كقوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً} [النحل: 112].
والمعنى: أن حال المشركين من أهل مكة كحال أصحاب القرية الممثل بهم.
و {الْقَرْيَةِ} ، قال المفسرون عن ابن عباس هي "أنطاكية" وهي مدينة بالشام متاخمة لبلاد اليونان.
والمرسلون إليها قال قتادة: هم من الحواريين بعثهم عيسى عليه السلام وكان ذلك حين رفع عيسى. وذكروا أسماءهم على اختلاف في ذلك.
وتحقيق القصة: أن عيسى عليه السلام لم يدع بني إسرائيل ولم يكن الدين الذي أرسل به إلا تكملة لما اقتضت الحكمة الإلهية إكماله من شريعة التوارة، ولكن

عيسى أوصى الحواريين أن لا يغفلوا عن نهي الناس عن عبادة الأصنام فكانوا إذا رأوا رؤيا أو خطر لهم خاطر بالتوجه إلى بلد من بلاد إسرائيل أو مما جاورها، أو خطر في نفوسهم إلهام بالتوجه إلى بلد علموا أن ذلك وحي من الله لتحقيق وصية عيسى عليه السلام. وكان ذلك في حدود سنة أربعين مولد عيسى عليه السلام.
ووقعت اختلاف للمفسرين في تعيين الرسل الثلاثة الذين أرسلوا إلى أهل إنطاكية وتحريفات في الأسماء، والذي ينطبق على ما في كتاب أعمل الرسل من كتب العهد الجديد1 أن "برنابا" و"شاول" المدعو "بولس" من تلاميذ الحواريين ووصفا بأنهما من الأنبياء، كانا في إنطاكية مرسلين للتعليم، وأنهما عُززا بالتلميذ2 "سيلا". وذكر المفسرين أن الثالث هو "شمعون"، لكن ليس في سفر الأعمال ما يقتضي أن بولس وبرنابا عززا بسمعان. ووقع في الإصحاح الثالث عشر منه أنه كان نبي في أنطاكية اسمه "سمعان".
والمكذبون هم من كانوا سكانا بإنطاكية من اليهود واليونان، وليس في أعمال الرسل سوى كلمات مجملة عن التكذيب والمحاورة التي جرت بين المرسلين والمرسل إليهم، فذكر أن كان هنالك نفر من اليهود يطعنون في صدق دعوة بولس وبرنابا ويثيرون عليهما نساء الذين يؤمنون بعيسى من وجوه المدينة من اليونان وغيرهم، حتى اضطر "بولس وبرنابا" إلى ان خرجا من إنطاكية وقصدا ايقونية وما جاورها وقاومهما يهود بعض تلك المدن، وأن أحبار النصارى في تبلك المدائن رأوا أن يعيدون بولس وبرنابا إلى إنطاكية. وبعد عودتهما حصل لهما ما حصل لهما في الأولى وبالخصوص في قضية وجوب الختان على من يدخل في الدين، فذهب بولس وبرنابا إلى أورشليم لمراجعة الحواريين فرأى أحبار أوشلين أن يؤدهما برجلين من الأنبياء هما "برسابا" و"سيلا". فأما "برسابا" فلم يمكث. وأما "سيلا" فبقي مع "بولس وبرنابا" يعظون الناس. ولعل ذلك كان بوحي من الله إليهم وإلى أصحاب هم من الحواريين. فهذا معنى قوله تعالى: {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} إذ أسند الإرسال والتعزيز إلى الله.
والتعزيز: التقوية وفي هذه المادة معنى جعل المقوى عزيزا فالأحسن أن التعزيز هو النصر.
ـــــــ
1 "الإصحاح" 13، أعمال الرسل 1- 9.
2 "الإصحاح" 15، أعمال الرسل 34- 35.

وقرأ أبو بكر عن عاصم {فَعَزَزْنَا} بتخفيف الزاي الأول، وفعل عز بمعنى يحيى مرادفا لعزز كما قالوا شد وشدد. وقرأ الباقون بتشديد الزاي.
وتأكيد قولهم: {إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} لأجل تكذيبهم إياهم فأكدوا الخبر تأكيدا وسطا، ويسمى هذا ضربا طلبيا.
وتقديم المجرور للاهتمام بأمر المرسل إليهم المقصود إيمانهم بعيسى.
[15] {قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ [15]}.
كان أهل "أنطاكية" والمدن المجاورة لها خليطا من اليهود وعبدة الأصنام من اليونان، فقول: {مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} صالح لأن يصدر من عبدة الأوثان وهو ظاهر لظنهم أن الآلهة لا تبعث الرسل ولا توحي إلى أحد، ولذلك جاء في سفر أعمال الرسل1 أن بعض اليونان من أهل مدينة "لسترة" رأوا معجزة من بولس النبي فقالوا بلسان يوناني: إن الآلهة تشبهوا بالناس ونزلوا إلينا فكانوا يدعون "برنابا" "زفس". أي كوكب المشتري، و"بولس" "هرمس" أي كوكب عطارد وجاءهما كاهن "زفس" بثيران ليذبحها لهما، وأكاليل ليضعها عليهما، فلما رأى ذلك "بولس وبرنابا" مزقا ثيابهما وصرخا: "نحن بشر مثلكم نعظكم أن ترجعوا عن هذه الأباطيل إلى الإله الحي الذي خلق السماوات والأرض" الخ.
وصالح لأن يصدر من اليهود الذين لم ينتصروا لأن ذلك القول يقتضي أنهما وبقية اليهود سواء وأن لا فضل لهما بما يزعمون من النبوة ويقتضي إنكار أن يكون الله أنزل شيئا، أي بعد التوراة. فمن إعجاز القرآن جمع مقالة الفريقين في هاتين الجملتين.
واختيار وصف {الرَّحْمَنُ} في حكاية قول الكفرة {وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ} لكونه صالحا لعقيدة الفريقين لأن اليونان لا يعرفون اسم الله، ورب الأرباب عندهم هو "زفس" وهو مصدر الرحمة في اعتقادهم، واليهود كانوا يتجنبون النطق باسم الله الذي هو في لغتهم "يهوه" فيعوضونه بالصفات.
ـــــــ
1 انظر "الإصحاح" 14.

والاستثناء في {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ} استفهام مفرغ من أخبار محذوفة فجملة {تَكْذِبُونَ} في موضع الخبر عن ضمير {أَنْتُمْ}.
[16، 17] {قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ [16] وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [17]}.
حكيت هذه المحاورة على سنن حكاية المحاورات بحكاية أقوال المتحاورين دون عطف.
و {رَبُّنَا يَعْلَمُ} قسم لأنه استشهاد بالله على صدق مقالتهم، وهو يمين قديمة انتقلها العرب في الجاهلية فقال الحارث بن عباد:
لم أكن من جناتها علم اللـ ... ـه وإني لحرها اليوم صالي
ويظهر أنه كان مغلظا عندهم لقلة وروده في كلامهم ولا يكاد يقع إلا في مقام مهم. وهو عند علماء المسلمين يمين كسائر الأيمان فيها كفارة عند الحنث. وقال بعض علماء الحنفية: إن لهم قولا بأن الحالف به كاذبا تلزمه الردة لأنه نسب إلى علم الله ما هو مخالف للواقع، فآل إلى جعل علم الله جهلا. وهذا يرمي إلى التغليظ والتحذير وإلا فكيف يكفر أحد بلوازم بعيدة.
واضطرهم إلى شدة التوكيد بالقسم ما رأوا من تصميم كثير من أهل القرية على تكذيبهم. ويسمى هذا المقدار من التأكيد ضربا إنكاريا.
وأما قولهم: {وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} فذلك وعظ وعظوا به القوم ليعلموا أنهم لا منفعة تنجر لهم من إيمان القوم وإعلان لهم بالتبرؤ من عهدة بقاء القوم على الشرك وذلك من شأنه أن يثير النظر الفكري في نفوس القوم.
و {الْبَلاغُ} : اسم مصدر من أبلغ إذا أوصل خبرا، قال تعالى: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} [الشورى: 48] وقال {هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ} [إبراهيم : 52]. ولا يستعمل البلاغ في إيصال الذوات. والفقهاء يقولون في كراء السفن والرواحل: إن منه ما هو على البلاغ. يريدون على الوصول إلى مكان معين بين المكري والمكتري.
و {الْمُبِينُ} : وصف للبلاغ، أي البلاغ الواضح دلالة وهو الذي لا إيهام فيه ولا مواربة.

[18] {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ [18]}.
لما غلبتهم الحجة من كل جان وبلغ قول الرسل {وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [يس: 17] من نفوس أصحاب القرية مبلغ الخجل والاستكانة من إخفاق الحجة والاتسام بميسم المكابرة والمنابذة للذين يبتغون نفعهم انصرفوا إلى ستر خجلهم وانفحامهم بتلفيف السبب لرفض دعوتهم بما حسبوه مقنعا للرسل بترك دعوتهم ظنا منهم أن ما يدعونه شيء خفي لا قبل لغير مخترعه بالمنازعة فيه، وذلك بأن زعموا أنهم تطيروا بهم ولحقهم منهم شؤم، ولا بد للمغلوب من بارد العذر.
والتطير في الأصل تكلف معرفة دلالة الطير على خير أو شر من تعرض نوع الطير ومن صفة اندفاعه أو مجيئه، ثم أطلق على كل حدث يتوهم منه أحد أنه كان سببا في لحاق شر به فصار مرادفا للتشاؤم.
وفي الحديث: "لا عدوى ولا طيرة وإنما الطيرة على من تطير" وبهذا المعنى أطلق في هذه الآية، أي قالوا إنا تشاءمنا بكم.
ومعنى: {بِكُمْ} بدعوتكم، وليسوا يريدون أن القرية حل بها حادث سوء يعم الناس كلهم من قحط أو وباء أو نحو ذلك من الضر العام مقارن لحلول الرسل أو لدعوتهم، وقد جوزه بعض المفسرين، وإنما معنى ذلك: أن أحدا لا يخلو في هذه الحياة من أن يناله مكروه. ومن عادة أصحاب الأوهام السخيفة والعقول المأفونة أن يسندوا الأحداث إلى مقارنتها دون معرفة أسبابها ثم أن يتخيروا في تعيين مقارنات الشؤم أمورا لا تلائم شهواتهم وما ينفرون منه، وأن يعينوا من المقارنات ما يرغبون فيه وتقبله طباعهم يغالطون بذلك أنفسهم شأن أهل العقول الضعيفة، فمرجع العلل كلها لديهم إلى أحوال نفوسهم ورغائبهم كما حكى الله تعالى عن قوم فرعون: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} [الأعراف: 131] وحكى عن مشركي مكة {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} [النساء: 78].
ويجوز أن يكونوا أرادوا بالشؤم أن دعوتهم أحدثت مشاجرات واختلافا بين أهل القرية فلما تمالأت نفوس أهل القرية على أن تعليل كل حدث مكروه يصيب أحدهم بأنه من جزاء هؤلاء الرسل اتفقت كلمتهم على ذلك فقالوا: {إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} أي يقولها

الواحد منهم أو الجمع فيوافقهم على ذلك جميع أهل القرية.
ثم انتقلوا إلى المطالبة بالانتهاء عن هذه الدعوة فقالوا {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} وبذلك ألجأوا "بوليس" و"برنابا" إلى الخروج من إنطاكية فخرجا إلى إيقونية وظهرت كرامة "بولس" في أيقونية ثم في "لسترة" ثم في "دربة". ولم يزل اليهود في كل مدينة من هذه المدن يشاقون الرسل ويضطهدونهم ويثيرون الناس عليهم، فمسهم من ذلك عذاب وضر ورجم "بولس" في مدينة "لسترة" حتى حسبوا أن قد مات.
ولام {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا} موطئة للقسم حكي بها ما صدر منهم من قسم بكلامهم.
[19] {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ [19]}.
حكي قول الرسول بما يرادفه ويؤدي معناه بأسلوب عربي تعريضا بأهل الشرك من قريش الذين ضربت القرية مثلا لهم، فالرسل لم يذكروا مادة الطيرة والطير وإنما أتوا بما دل على أن شؤم القوم متصل بذواتهم لا جاء من المرسلين إليهم فحكي بما يوافقه في كلام العرب تعريضا بمشركي مكة، وهذا بمنزلة التجريد لضرب المثل لهم بأن لوحظ في حكاية القصة من شؤون المشبهين بأصحاب القصة.
ولما كانت الطيرة بمعنى الشؤم مشتقة من اسم الطير لوحظ فيها مادة الاشتقاق.
وقد جاء إطلاق الطائر على معنى الشؤم في قوله تعالى في سورة الأعراف [131] {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} [الأعراف: 131] على طريقة المشاكلة.
ومعنى: {طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} الطائر الذي تنسبون إليه الشؤم هو معكم، أي في نفوسكم، أرادوا أنكم لو تدبرتم لوجدتم أن سبب ما سميتموه شؤما هو كفركم وسوء سمعكم للمواعظ، فإن الذين استمعوا أحسن القول اتبعوه ولم يعتدوا عليكم، وأنتم الذين آثرتم الفتنة وأسعرتم البغضاء والإحن فلا جرم أنتم سبب سوء لحالة التي حدثت في المدينة.
وأشار آخر كلامهم إلى هذا القول إذ قالوا {أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ} بطريقة الاستفهام الإنكاري الداخل على {إِنْ} الشرطية، فهو استفهام على محذوف دل عليه الكلام السابق، وقيد ذلك المحذوف بالشرط الذي حذف جوابه أيضا استغناء عنه بالاستفهام عنه، وهما بمعنى واحد إلا أن سيبويه يرجح إذا اجتمع الاستفهام والشرط أن يؤتى بما يناسب الاستفهام

لو صرح به، فكذلك لما حذف يكون المقدر مناسب للاستفهام. والتقدير: أتتشاءمون بالتذكير إن ذكرتم، لما يدل عليه قول أهل القرية {إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} [يس: 18]، أي بكلامكم وأبطلوا أن يكون الشؤم من تذكيركم بقولهم: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} أي لا طيرة فيما زعمتم ولكنكم قوم كافرون غشيت عقولكم الأوهام فظننتم ما فيه نفعكم ضرا لكم، ونطتم الأشياء بغير أسبابها من إغراقكم بالجهالة والكفر وفساد الاعتقاد. ومن إسرافكم اعتقادكم بالشؤم والبخت.
وقرأ الجمهور: {أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ} بهمزة استفهام داخلة على {إِنْ} المكسورة الهمزة الشرطية وتشديد الكاف. وقرأ أبو جعفر {أَأَنْ ذُكِّرْتُمْ} بفتح كلتا الهمزتين وبتخفيف الكاف من {ذُكِرْتُمْ} . والاستفهام تقرير، أي الأجل إن ذكرنا أسماعكم حين دعوناكم حل الشؤم بينكم كناية عن كونه أهلا لأن تكون أسمائهم شؤما.
وفي ذكر كلمة {قَوْمٌ} إيذان بأن الإسراف متمكن ومنهم وبه قوام قوميتهم كما تقدم في قوله: {لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} في سورة البقرة [164].
[20- 25] {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ [20] اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ [21] وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [22] أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ [23] إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [24] إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ [25]}.
عطف على قصة التحاور الجاري بين أصحاب القرية والرسل الثلاثة لبيان البون بين حال المعاندين من أهل القرية وحال الرجل المؤمن منهم الذي وعظهم بموعظة بالغة من نفر قليل من أهل القرية.
فلك أن تجل جملة: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ} عطفا على جملة: {جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ} [يس: 13] ولك أن تجعلها عطفا على جملة: {فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} [يس: 14].
والمراد بالمدينة هنا نفس القرية المذكورة في قوله: {أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} [يس: 13] عبر عنها هنا بالمدينة تفتنا، فيكون {أَقْصَى} صفة لمحذوف هو المضاف في المعنى إلى المدينة. والتقدير: من بعيد المدينة، أي طرف المدينة، وفائدة ذكر انه جاء من أقصى المدينة الإشارة إلى أن الإيمان بالله ظهر في أهل ربض المدينة قبل ظهوره في قلب المدينة

لأن قلب المدينة هو مسكن حكامها وإجبار اليهود وهم أبعد من الإنصاف والنظر في صحة ما يدعوهم إليهم الرسل، وعامة سكانها تبع لعظمائها لتعلقهم بهم وخشيتهم بأسهم بخلاف أطراف سكان المدينة فهم أقرب إلى الاستقلال بالنظر وقلة اكتراث بالآخرين لأن سكان أطراف المدينة فهم أقرب إلى الاستقلال بالنظر وقلة اكتراث بالآخرين لأن سكان الأطراف غالبهم عملة أنفسهم لقربهم من البدو.
وبهذا يظهر وجه تقديم {مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ} على {رَجُلٌ} للاهتمام بالثناء على أهل أقصى المدينة. وأنه قد يوجد الخير في الأطراف ما لا يوجد في الوسط، وأن الإيمان يسبق إليه الضعفاء لأنهم لا يصدهم عن الحق ما فيه أهل السيادة من ترفق وعظمة إذ المعتاد أنهم يسكنون وسط المدينة، قال أبو تمام:
كانت هي الوسط المحمي فاتصلت ... بها الحوادث حتى أصبحت طرفا
وأما قوله تعالى في سورة القصص [20] {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى}. فجاء النظم على الترتيب الأصلي إذ لا داعي إلى التقديم إذ كان ذلك الرجل ناصحا ولم يكن داعيا للإيمان.
وعلى هذا فهذا الرجل غير مذكور في سفر أعمال الرسل وهو مما امتاز القرآن بالإعلام به. وعن ابن عباس وأصحابه وجد أن اسمه حبيب بن مره قيل كان نجارا وقيل غير ذلك فلما أشرف الرسل على المدينة رآهم ورأى معجزة لهم أو كرامة فآمن. وقيل: كلن مؤمنا من قبل، ولا يبعد أن يكون هذا الرجل الذي وصفه المفسرون بالنجار أنه هو "سمعان" الذي يدعى "بالنيجر" المذكور في الإصحاح الحادي عشر من سفر أعمال الرسل وأن وصف النجار محرف عن "نيجر" فقد جاء في الأسماء التي جرت في كلام المفسرين عن ابن عباس اسم شمعون الصفا أو سمعان. وليس هذا الاسم موجودا في كتاب أعمال الرسل.
ووصفُ الرجل بالسعي يفيد أنه جاء مسرعا وأنه بلغه هم أهل المدينة برجم الرسل أو تعذيبهم، فأراد أن ينصحهم خشية عليهم وعلى الرسل، وهذا ثناء على هذا الرجل يفسد أنه ممن يقتدى به في الإسراع إلى تغير المنكر.
وجملة {قَالَ يَا قَوْمِ} بدل اشتمال من جملة "جاء رجل" لأن مجيئه لما كان لهذا الغرض كان مما اشتمل عليه المجيء المذكور.
وافتتاح خطابه إياهم بندائهم بوصف القومية له قصد منه أن في كلامه الإيماء إلى أن

ما سيخاطبهم به هو محض نصيحة لأنه يحب لقومه ما يحب لنفسه.
والاتباع: الامتثال، استعير له الاتباع تشبيها للآخذ برأي غيره بالمتبع له في سيره.
والتعريف في {الْمُرْسَلِينَ} للعهد.
وجملة {اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً} مؤكدة لجملة {اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} مع زيادة الإيماء إلى علة اتباعهم بلوائح علامات الصدق والنصح على رسالتهم إذ هم يدعون إلى هدى ولا نفع ينجر لهم من ذلك فتمحضت دعوتهم لقصد هداية المرسل إليهم، وهذه كلمة حكمة جامعة، أي اتبعوا من لا تخسرون معهم شيئا من ديناكم وتربحون صحة دينكم.
وإنما قدم في الصلة عدم سؤال الأجر على الاهتداء لأن القوم كانوا في شك من صدق المرسلين وكان من دواعي تكذيبهم اتهامهم بأنهم يجرون لأنفسهم نفعا من ذلك لأن القوم لما غلب عليهم التعلق بحب المال وصاروا بعداء عن إدراك المقاصد السامية كانوا يعدون كل سعي يلوح على امرئ إنما يسعى به إلى نفعه. فقدم ما يزيل عنهم هذه الاسترابة ولتيهيوا إلى التأمل فيما يدعونهم إليه، ولأن هذا من قبيل التخلية بالنسبة للمرسلين والمرسل إليهم، والتخلية تقدم على التحلية، فكانت جملة {لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً} أهم في صلة الموصول.
والأجر يصدق بكل نفع دنيوي يحصل لأحد من عمله فيشمل المال والجاه والرئاسة. فلما نفي عنهم أن يسألوا أجرا فقد نفي عنهم أن يكونوا يرمون من دعوتهم إلى نفع دنيوي يحصل لهم.
وبعد ذلك تهيأ الموقع لجملة {وَهُمْ مُهْتَدُونَ} ، أي وهم متصفون بالاهتداء إلى ما يأتي بالسعادة الأبدية، وهم إنما يدعونكم إلى أن تسيروا سيرتهم فإذا كانوا هم مهتدين فإن ما يدعونكم إليه من الاقتداء بهم دعوة إلى الهدى، فتضمنت هذه الجملة بموقعها بعد التي قبلها ثناء على المرسلين وعلى ما يدعون إليه وترغيبا في متابعتهم.
واعلم أن هذه الآية قد مثل بها القزويني في "الإيضاح" و"التلخيص" للإطناب المسمى بالإيغال وهو أن يؤتي بعد تمام المعنى المقصود بكلام آخر يتم المعنى بدونه لنكتة، وقد تبين لك مما فسرنا به أن قوله: {وَهُمْ مُهْتَدُونَ} لم يكن مجرد زيادة بل كان لتوقف الموعظة عليها، وكان قوله: {مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً} كالتوطئة له. ونعتذر لصاحب "التلخيص" بأن المثال يكفي فيه الفرض والتقدير.

وجاءت الجملة الأولى من الصلة فعلية منفية لأن المقصود نفي أن يحدث منهم سؤال أجر فضلا عن دوامه وثباته، وجاءت الجملة الثانية اسمية لإفادة إثبات اهتدائهم ودوامه بحيث لا يخشى من يتبعهم أن يكون في وقت من الأوقات غير مهتد.
وقوله: {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} عطف على جملة: {اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} قصد إشعارهم بأنه اتبع المرسلين وخلع عبادة الأوثان، وأبرز الكلام في صورة استفهام إنكاري وبصيغة: ما لي لا أفعل، التي شأنها أن يوردها المتكلم في رد من أنكر عليه فعلاً، أو ملكه العجب من فعله أو يوردها من يقدر ذلك في قلبه، ففيه إشعار بأنهم كانوا منكرين عليه الدعوة إلى تصديق الرسل الذين جاءوا بتوحيد الله فإن ذلك يقتضي أنه سبقهم بما أمرهم به.
و {مَا} استفهامية في موضع رفع الابتداء، والمجرور من قوله: {لِي} خبر عن {مَا} الاستفهامية.
وجملة: {لا أَعْبُدُ} حال من الضمير. والمعنى: وما يكون لي في حال لا أعبد الذي فطرني، أي لا شيء يمنعني من عبادة الذي خلقني، وهذا الخبر مستعمل في التعريض بهم كأنه يقول: وما لي لا أعبد وما لكم لا تعبدون الذي فطركم بقرينة قوله: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ، إذ جعل الإسناد إلى ضميرهم تقوية لمعنى التعرض، وإنما ابتدأه بإسناد الخبر إلى نفسه لإبرازه في معرض المناصحة لنفسه وهو مريد مناصحتهم ليتلطف بهم ويدارهم فيسمعهم الحق على وجه لا يثير غضبهم ويكون أعون على قبولهم إياه حين يرون أنه لا يريد لهم إلا ما يريد لنفسه.
ثم أتبعه بإبطال عبادة الأصنام فرجع إلى طريقة التعريض بقوله: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} وهي جملة مستأنفة استئنافا بيانيا لاستشعار سؤال عن وقوع الانتفاع بشفاعة تلك الآلهة عند الذي فطره، والاستفهام إنكاري أي أنكر على نفسي أن أتخذ من دونه آلهة، أي لا أتخذ آلهة.
والاتخاذ: افتعال من الأخذ وهو التناول، والتناول يشعر بتحصيل ما لم يكن قبل، فالاتخاذ مشعر بأنه صنع وذلك كم تمام التعريض بالمخاطبين أنهم جعلوا الأوثان آلهة وليست بآلهة لأن الإله الحق لا يجعل جعلا ولكنه مستحق الإلهية بالذات.
ووصف الآلهة المزعومة المفروضة الاتخاذ بجملة الشرط بقوله: {إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ

بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ}. والمقصود: التعريض بالمخاطبين في اتخاذهم تلك الآلهة بعلة أنها تشفع لهم عند الله وتقربهم إليه زلفى. وقد علم من انتفاء دفعهم الضر أنهم عاجزون عن جلب نفع لأن دواعي دفع الضر عن المولى أقوى وأهم، ولحاق العار بالولي في عجزه عنه أشد.
وجاء بوصف {الرَّحْمَنُ} دون اسم الجلالة للوجه المتقدم آنفا عند قوله تعالى: {قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ} [يس: 15].
والإنقاذ: التخليص من غلب أو كرب أو حيرة، أي لا تنفعني شفاعتهم عند الله الذي أرادني بضر ولا ينقذونني من الضر إذا أصابني.
وإذ قد نفي عن شفاعتهم النفع للمشفوع فيه فقد نفي عنهم أن يشفعوا بطريق الالتزام لأن من يعلم أنه لا يشفع لا يشفع، فكأنه قال: أتخذ من دونه آلهة لا شفاعة لهم عند الله، لإبطال اعتقادهم أنهم شفعاء مقبولو الشفاعة. وإذ كانت شفاعتهم لا تنفع لعجزهم وعدم مساواتهم لله الذي يضر وينفع في صفات الإلهية كان انتفاء أن ينقذوا أولى. وإنما ذكر العدول عن دلالة الفحوى على دلالة المنطوق لأن المقام مقام تصريح لتعلقه بالإيمان وهو أساس الصلاح.
وجملة: {إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} جواب للاستفهام الإنكاري. فحرف {إِذاً} جزاء للمنفي لا للنفي، أي إن اتخذت من دون الله آلهة أكن في ضلال مبين.
وجملة: {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} واقعة موقع الغاية من الخطاب والنتيجة من الدليل. وهذا إعلان لإيمانه وتسجيل عليهم بأن الله هو ربهم لا تلك الأصنام.
وأكد الإعلان بتفريع {فَاسْمَعُونِ} استدعاء لتحقيق أسماعهم أن كانوا في غفلة.
[26، 27] {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ [26] بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ [27]}.
استئناف بياني لما ينتظره سامع القصة من معرفة ما لقيه من قومه بعد أن واجههم بذلك الخطاب الجزل. وهل اهتدوا بهديه أو أعرضوا عنه وتاركوه أو آذوه كما يؤذي أمثاله من الداعين إلى الحق المخالفين هوى الدهماء فيجاب بما دل عليه قوله: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ} وهو الأهم عند المسلمين وهم من المقصودين بمعرفة مثل هذا ليزدادوا يقينا وثباتا

في إيمانهم، وأما المشركون فحظهم من المثل ما تقدم وما يأتي من قوله: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} [يس: 29].
وفي قوله: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ} كناية عن قتله شهيدا في إعلاء كلمة الله لأن تعقيب موعظته بأمره بدخول الجنة دفعة بلا انتقال يفيد بدلالة الاقتضاء أنه مات وأنهم قتلوه لمخالفته دينهم، قال بعض المفسرين: قتلوه رجما بالحجارة، وقال بعضهم: أحرقوه، وقال بعضهم: حفروا له حفرة وردموه فيها حيا.
وإن هذا الرجل المؤمن قد أدخل الجنة عقب موته لأنه كان من الشهداء والشهداء لهم مزية التعجيل بدخول الجنة دخولا غير موسع. ففي الحديث: "إن أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر تأكل من ثمار الجنة".
والقائل: {ادْخُلِ الْجَنَّةَ} هو الله تعالى.
والمقول له هو الرجل الذي جاء من أقصى المدينة وإنما لم يذكر ضمير المقول له مجرورا باللام لأن القول المذكور هنا قول تكويني لا يقصد منه المخاطب به بل يقصد حكاية حصوله لأنه إذا حصل حصل أثره كقوله تعالى: {أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40].
وإذ لم يقص في المثل أنه غادر مقامه الذي قام فيه بالموعظة كان ذلك إشارة إلى أنه مات في مقامه ذلك، ويفهم منه أنه مات قتيلا في ذلك الوقت أو بأثره.
وإنما سلك في هذا المعنى طريق الكناية ولم يصح بأنهم قتلوه إغماضا لهذا المعنى عن المشركين كيلا يسرهم أن قومه قتلوه فيجعلوه من جملة ما ضرب به المثل لهم وللرسول صلى الله عليه وسلم فيطمعوا فيه أنهم يقتلون الرسول صلى الله عليه وسلم فهذه الكناية لا يفهمها إلا أهل الإسلام الذين تقرر عندهم التلازم بين الشهادة في سبيل الله ودخول الجنة، أما المشركون فيحسبون أن ذلك في الآخرة. وقد تكون في الكلام البليغ خصائص يختص بنفعها بعض السامعين.
وجملة: {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ} مستأنفة أيضا استئنافا بيانيا لأن السامع يترقب ماذا قال حين غمره الفرح بدخول الجنة. والمعنى: أنه لم يلهه دخول الجنة عن حال قومه، فتمنى أن يعلموا ماذا لقي من ربه ليعلموا فضيلة الإيمان فيؤمنوا وما تمنى هلاكهم ولا الشماتة بهم فكان متسما بكظم الغيظ وبالحلم على أهل الجهل، وذلك لأن عالم الحقائق لا تتوجه فيه النفس إلا إلى الصلاح المحض ولا قيمة للحظوظ الدنية وسفساف الأمور.

وأدخلت الباء على مفعول {يَعْلَمُونَ} لتضمينه معنى: يخبرون، لأنه لا مطمع في أن يحصل لهم علم ذلك بالنظر والاستدلال.
و {مَا} من قوله: {بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي} مصدرية، أي يعلمون بغفران ربي وجعله إياي من المكرمين.
والمراد بالمكرمين: الذين تلحقهم كرامة الله تعالى وهم الملائكة والأنبياء وأفضل الصالحين قال تعالى: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء : 26] يعني الملائكة وعيسى عليهم السلام.
[28، 29] {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ [28] إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ [29]}.
رجوع إلى قصة أصحاب القرية بعد أن انقطع الحديث عنهم بذكر الرجل المؤمن الذي جاء من أقصى المدينة ناصحا لهم وكان هذا الرجوع بمناسبة أن القوم قوم ذلك الرجل.
فجملة {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ} الخ عطف على جملة {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ} [يس: 26] فهي مستأنفة أيضا استئنافا بيانيا لأن السامع يتشوف إلى معرفة ما كان من هذا الرجل ومن أمر قومه الذين نصحهم فلم ينتصحوا فلما بين للسامع ما كان من أمره عطف عليه بيان ما كان من أمر القوم بعده.
وافتتاح قصة عقابهم في الدنيا بنفي صورة من صور الانتقام تمهيد للمقصود من انهم ما حل بهم إلا مثل ما حل بأمثالهم من عذاب الاستئصال، أي لم ننزل جنودا من السماء مخلوقة لقتال قومه، أو لم ننزل جنودا من الملائكة من السماء لإهلاكهم، وما كانت عقوبتهم إلا صيحة واحدة من ملك واحد أهلكتهم جميعا.
و {مِنْ} في قوله: {مِنْ بَعْدِهِ} مزيدة في الظرف لتأكيد اتصال المظروف بالظرف. وأصلها {مِنْ} الابتدائية، وإضافة {بَعْد} إلى ضمير الرجل على تقدير مضاف شائع الحذف، أي بعد موته كقوله تعالى: {إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي} [البقرة: 133] و {مِنْ} في قوله: {مِنْ جُنْدٍ} مؤكدة لعموم {جُنْدٍ} في سياق النفي، و {مِنَ} في قوله: {مِنَ السَّمَاءِ} ابتدائية وفي الإتيان بحرف {مِنْ} ثلاث مرات مع اختلاف المعنى

محسن الجناس.
وفي هذا تعريض بالمشتركين من أهل مكة إذ قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً} [الإسراء: 92] أي تأتي بالله الذي تدعي أنه أرسلك ومعه جنده من الملائكة ليثأر لك.
فجملة: {وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ} معترضة بين نوعي العقاب المنفي والمثبت، لقصد الرد على المشركين بأن سنة الله تعالى لم تجر بإنزال الجنود على المكذبين وشأن العاصين أدون من هذا الاهتمام.
والصيحة: المرة من الصياح، بوزن فعلة، فوصفها بواحدة تأكيد لمعنى الوحدة لئلا يتوهم أن المراد الجنس المفرد من بين الأجناس، و {صَيْحَةً} منصوب على أنه خبر {كَانَتْ} بعد الاستثناء المفرغ، ولحاق تاء التأنيث بالفعل مع نصب {صَيْحَةً} مشير إلى أن المستثنى منه المحذوف العقوبة أو الصيحة التي دلت عليها {صَيْحَةً وَاحِدَةً} ، أي لم تكن العقوبة أو الصيحة إلا صيحة من صفتها أنها واحدة إلى آخره. وقرأ أبو جعفر برفع {صَيْحَةً} على أن "كَانَ" تامة، أي ما وقعت إلا صيحة واحدة.
ومجيء "إذا" الفجائية في الجملة المفرعة على {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} لإفادة سرعة الخمود إليهم بتلك الصيحة.
وهذه الصيحة صاعقة كما قال تعالى: حكاية عن ثمود {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ} [الحجر: 73].
والخمود: انطفاء النار، استعير للموت بعد الحياة المليئة بالقوة والطغيان، ليتضمن الكلام تشبيه حال حياتهم بشبوب النار وحال موتهم بخمود النار فحصل لذلك استعارتان إحداهما صريحة مصرحة، وأخرى ضمنية مكنية ورمزها الأولى، وهما الاستعارتان اللتان تضمنهما قول لبيد:
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه ... يحور رمادا بعد إذ هو ساطع
وتقدم قوله تعالى: {حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ} في سورة الإسراء [15]، فكان هذا الإيجاز في الآية بديعا لحصول معنى بيت لبيد في ثلاث كلمات.
وهذا يشير إلى حدث عظيم حدث بأهل إنطاكية عقب دعوة المرسلين وهو كرامة لشهداء أتباع عيسى عليه السلام، فإن كانت الصيحة صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود كان الذين خمدوا بها جميع أهل القرية فلعلهم كانوا كفارا كلهم بعد موت الرجل الذي وعظهم وبعد مغادرة أهل القرية فلعلهم كانوا كفارا كلهم بعد موت الرجل الذي وعظهم وبعد مغادرة الرسل القرية. ولكن مثل هذا الحادث لم يذكر التاريخ حدوثه في إنطاكية، فيجوز أن يهمل

التاريخ بعض الحوادث وخاصة في أزمنة الاضطراب والفتنة.
[30] {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [30]}.
تذييل وهو من كلام الله تعالى واقع موقع الرثاء للأمم المكذبة الرسل شامل للأمة المقصودة بسوق الأمثال السابقة من قوله: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} [الزمر: 13] ، واطرد هذا السنن القبيح فيهم. فالتعريف في {الْعِبَادِ} تعريف الجنس المستعمل في الاستغراق وهو استغراق ادعائي روعي فيه حال الأغلب على الأمم التي يأتيها رسول لعدم الاعتداء في هذا المقام بقلة الذين صدقوا الرسل ونصروهم فكأنهم كلهم قد كذبوا.
{الْعِبَادِ} : اسم للبشر وهو جمع عبد. والعبد: المملوك وجميع الناس عبيد الله تعالى لأنه خالقهم والمتصرف فيهم قال تعالى: {رِزْقاً لِلْعِبَادِ} [ق: 11]، وقال المغيرة بن حبناء:
أمسى العباد بشر لا غياث لهم ... إلا المهلب بعد الله والمطر
ويجمع على عبيد وعباد وغلب الجمع الأول على عبد بمعنى مملوك، والجمع الثاني على عبد بمعنى آدمي، وهو تخصيص حسن من الاستعمال العربي.
والحسرة: شدة الندم مشوبا بتلهف على نفع فائت. وحرف النداء هنا لمجرد التنبيه على خطر ما بعده ليصغي إليه السامع وكثر دخوله في الجمل المقصود منها إنشاء معنى في نفس المتكلم دون الإخبار فيكون اقتران ذلك الإنشاء بحرف التنبيه إعلانا بما في نفس المتكلم من مدلول الإنشاء كقولهم: يا خيبة، ويا لعنة، ويا ويلي، ويا فرحي، ويا ليتني، ونحو ذلك، قالت امرأة من طي من أبيات الحماسة:
فيا ضيعة الفتيان إذ يعتلونه ... ببطن الشرا مثل الفينق المسدم
وبيت الكتاب:
يا لعنة الله والأقوام كلهم ... والصالحين على سمعان من جار
وقد يقع النداء في مثل ذلك بالهمزة كقول جعفر بن علبة الحارثي:
ألهفني بقرى سحبل حين أجلبت ... علينا الولايا والعدو المباسل
وأصل هذا النداء أنه على تنزيل المعنى المثير للإنشاء منزلة العاقل فيقصد اسمه بالنداء لطلب حضوره فكأن المتكلم يقول: هذا مقامك فأحضر، كما ينادي من يقصد في أمر عظيم، وينتقل من ذلك إلى كتابة عما لحق المتكلم من حاجة إلى ذلك المنادي ثم

كثر ذلك وشاع حتى تنوسي ما فيه من الاستعمار والكناية وصار لمجرد التنبيه على ما يجيء بعده، والاهتمام حاصل في الحالين.
وتقدم ذلك عند قوله تعالى: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ} في سورة النساء [73]، وقوله: {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً} في سورة الفرقان [28].
وموقع مثله في كلام الله تعالى تمثيل لحال عباد الله تعالى في تكذيبهم رسل الله بحال من يرثى له أهله وقوعه في هلاك أرادوا منه تجنبه.
وجملة {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ} بيان لوجه التحسر عليهم لأن قوله: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} وإن كان قد وقع بعد ذكر أهل القرية فإنه لما عمم على جميع العباد حدث إيهام في وجه العموم. فوقع بيانه بأن جميع العباد مساوون لمن ضرب بهم المثل ومن ضرب لهم في تلك الحالة الممثل بها ولم تنفعهم المواعظ والنذر البالغة إليهم من الرسول المرسل إلى كل أمة منهم ومن مشاهدة القرون الذين كذبوا الرسل فهلكوا، فعلم وجه الحسرة عليهم إجمالا من هذه الآية ثم تفصيلا من قوله بعد {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا} [يس: 31] الخ.
والاستثناء في قوله: {إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} مفرغ من أحوال عامة كم الضمير في {يَأْتِيهِمْ} أي لا يأتيهم رسول في حال من أحوالهم إلا في حالة استهزائهم به.
وتقديم المجرور على {يَسْتَهْزِئُونَ} للاهتمام بالرسول المشعر باستفظاع الاستهزاء به مع تأتي الفاصلة بهذا التقديم فحصل منه غرضان من المعاني ومن البديع.
[31] {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ [31]}.
هذه الجملة بيان لجمل {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [يس: 30] لما فيها من تفصيل الإجمال المستفاد من قوله: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} فإن عاقبة ذلك الاستهزاء بالرسول كانت هلاك المستهزئين، فعدم اعتبار كل أمة كذبت رسولها بعاقبة المكذبين قبلها يثير الحسرة عليها وعلى نظرائها كما أثارها استهزاؤهم بالرسول وقلة التبصر في دعوته ونذارته ودلائل صدقة.
وضمير {يَرَوْا} عائد إلى العباد كما يقتضيه تناسق الضمائر. والمعاد فيه عموم ادعائي كما تقدم آنفا، فيتعين أن تخص منه أول أمة كذبت رسولها وهم قوم نوح فإنهم لم

يسبق قبلهم هلاك أمة كذبت رسولها. فهذا من التخصيص بدليل العقل لأن قوله: {قَبْلَهُمْ} يرشد بالتأمل إلى عدم شموله أول أمة أرسل إليها.
وقيل: يجوز أن يكون ضمير: {أَلَمْ يَرَوْا} عائدا إلى ما عاد إليه من ضمير: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً} [يس:13] ويكون المثل قد انتهى بجملة: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} ... [يس:30] الآية. وهذا بعيد لأنه كان يقتضي أن تعطف الجملة على جملة {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً} كما عطفت جملة: {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا} [يس:33] الآية، وجملة {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} [يس: 37]، وجملة: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [يس:41]، ولا مُلجئ إلى هذا الاعتبار في المعاد، وقد عملت توجيه الاعتبار الأول لتصحيح العموم.
والاستفهام يجوز أن يكون إنكاريا؛ نزلت غفلتهم عن إهلاك القرون منزل عدم العلم فأنكر عليهم عدم العلم بذلك وهو أمر معلوم مشهور، ويجوز كون الاستفهام تقريرا بني التقرير على نفي العلم بإهلاك القرآن استقصاء لمعذرتهم حتى لا يسعهم إلا الإقرار بأنهم عاملون فيكون إقرارهم أشد لزوما لهم لأنهم استفهموا على النفي فكان يسعهم أن ينفوا ذلك.
والرؤية على التقديرين علمية وليست بصرية لأن إهلاك القرون لم يكن مشهودا لأمة جاءت بعد الأمة التي أهلكت قبلها. وفعل الرؤية معلق عن العمل بورود {كَمْ} لأن {كَمْ} لها صدر الكلام سواء كانت استفهاما أم خبرا، فإن {كَمْ} الخبرية منقولة من الاستفهامية وما له صدر الكلام لا يعمل ما قبله فيما بعده.
و {وكَمْ} في موضع نصب بـ {أَهْلَكْنَا} : ومفادها كثرة مبهمة فسرت بقوله: {مِنَ الْقُرُونِ} ووقعت {كَمْ} في موضع المفعول لقوله: {أَهْلَكْنَا} .
و {قَبْلَهُمْ} ظرف لـ {أَهْلَكْنَا} . ومعنى {قَبْلَهُمْ} : قبل وجودهم.
وقوله: {أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ} بدل اشتمال من جملة {أَهْلَكْنَا} لأن الإهلاك يشتمل على عدم الرجوع؛ أبدل المصدر المنبسك من "أَنَّ" وما بعدها من معنى جملة: {كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ} لأن معنى تلك الجملة كثرة افهلاك وكثرة المهلكين. وفعل الرؤية عامل في: {أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ} بالتبعية لتسلط معنى الفعل على جملة: {كَمْ أَهْلَكْنَا} لأن التعليق يبطل العمل في اللفظ لا في المحل.

وفائدة هذا البدل تقرير تصوير الإهلاك لزيادة التخويف، ولاستحضار تلك السورة في الإهلاك أي إهلاكا لا طماعية معه للرجوع إلى الدنيا، فإن ما يشتمل عليه الإهلاك من عدم الرجوع إلى الأهل والأحباب مما يزيد الحسرة اتضاحا.
و {إِلَيْهِمْ} متعلق بـ {يَرْجِعُونَ} وتقديمه إلى متعلقه للرعاية على الفاصلة.
وضمير {إِلَيْهِمْ} عائد إلى العبادة، وضمير {أَنَّهُمْ} عائد إلى {الْقُرُونِ}.
[32] {وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ [32]}.
أرى أن عطفه على جملة: {أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ} [يس: 31] واقع موقع الاحتراس من توهم المخاطبين بالقرآن أن قوله: {أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ} مؤيد اعتقادهم انتفاء البعث.
و {إِنْ} يجوز أن تكون مخففة من الثقيلة والأفصح إهمالها عن العمل فيما بعدها، والأكثر أن يقترن خبر الاسم بلام تسمى اللام الفارقة لأنها تفرق بين {إِنْ} المخففة من الثقيلة وبين {إِنْ} النافية لئلا يلتبس الخبر المؤكد بالخبر المنفي فيناقض مقصد المتكلم، وعلى هذا الوجه يكون قوله: {لَمَّا} مخفف الميم كما قرأ الجمهور: {لَمَّا جَمِيعٌ} ، فهي مركبة من اللام الفارقة و"ما" الزائدة للتأكيد، ويجوز أن تكون {إِنْ} نافية بمعنى "لا" ويكون {لَمَّا} بتشديد الميم على أنها حرف استثناء بمعنى "إلا" تقع بعد النفي ونحوه كالقسم. وكذلك قرأ ابن عامر وحمزة وأبو جعفر. والتقدير: وما كلهم إلا محضرون لدينا.
و {كُلٌّ} مبتدأ وتنوينه تنوين العوض عما أضيف إليه "كل"، أي كل القرون، أو كل المذكورين من القرون والمخاطبين.
و {جَمِيعٌ} اسم على وزن فعيل، أي مجموع، وهو ضد المتفرق. يقال: جمع أشياء كذا، إذا جعلها متقاربة متصلة بعد أن كانت مشتتة ومتباعدة.
والمعنى:أن كل القرون محضرون لدينا مجتمعين، أي ليس إحضارهم في أوقات مختلفة ولا في أمكنة متعددة؛ فكلمة {كُلٌّ} أفادت أن الإحضار محيط بهم بحيث لا ينفلت فريق منهم، وكلمة {جَمِيعٌ} أفادت أنهم محضرون مجتمعين فليست إحدى الكلمتين بمغنية عن ذكر الأخرى، ألا ترى أنه لو قيل: وأن أكثرهم لما جميع لدينا

محضرون، لما كان تناف بين "أكثرهم" وبين "جميعهم" أي أكثرهم يحضر مجتمعين؛ فارتفع {جَمِيعٌ} على الخبرية في قراءة تخفيف {لَمَّا} وعل الاستثناء على قراءة تشديد {لَمَّا} . و {مُحْضَرُونَ} نعت لـ {جَمِيعٌ} على القراءتين. وروعي في النعت معنى المنعوت فألحقت به علامة الجماعة، كقول لبيد:
عريت وكان بها الجميع فأبكروا ... منها وغودر نؤيها وثمامها
والإحضار: الإحضار للحساب والجزاء والعقاب.
[33] {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ [33]}.
عطف على قصة {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} [يس: 13] فإنه ضرب لهم مثلا لحال إعراضهم وتكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم وما تشتمل عليه تلك الحال من إشراك وإنكار للبعث وأذى للرسول صلى الله عليه وسلم وعاقبة ذلك كله. ثم أعقب ذلك التفصيل لإبطال ما اشتملت عليه تلك الاعتقادات من إنكار البعث ومن الإشراك بالله.
وابتدئ بدلالة تقريب البعث لمناسبة الانتقال من قوله: {وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس: 32] على أن هذه لا تخلو من دلالتها على الانفراد بالتصرف، وفي ذلك إثبات الوحدانية.
و {وَآيَةٌ} مبتدأ و {لَهُمُ} صفة {آيَةٌ} ، و {الْأَرْضُ} خبر {آيَةٌ} ، و {الْمَيْتَةُ} صفة {الْأَرْضُ} . وجملة {أَحْيَيْنَاهَا} في موضع الحال من {الْأَرْضُ} وهي حال مقيدة لأن إحياء الأرض هو مناط للدلالة على إمكان البعث بعد الموت، أو يكون جملة {أَحْيَيْنَاهَا} بيانا لجملة {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ} لبيان موقع الآية فيها، أو بدل اشتمال من جملة {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ} ، أو استئنافا بيانيا كأن سائلا سأل: كيف كانت الأرض الميتة?
وموت الأرض: جفافها وجرازتها لخلوها من حياة النبات فيها، وأحياؤها: خروج النبات منها من العشب والكلأ والزرع.
وقرأ نافع وأبو جعفر {الْمَيْتَةُ} بتشديد الياء. وقرأ الباقون بتخفيف الياء، والمعنى واحد وهما سواء في الاستعمال.
والحب: اسم جمع حبة، وهو بزرة النبت مثل البرة والشعيرة. وقد تقدم عند قوله تعالى: {كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ} [البقرة: 261] في سورة البقرة.

وإخراج الحب من الأرض: هو إخراجه من نباتها فهو جاء منها بواسطة. وهذا إدماج للامتنان في ضمن الاستدلال ولذلك فرع عليه {فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ}. وتقديم {مِنْهُ} على {يَأْكُلُونَ} للاهتمام تنبيها على النعمة ولرعاية الفاصلة.
[34, 35] {وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ [34] لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ [35]}.
هذا من إحياء الأرض بإنبات الأشجار ذات الثمار، وهو إحياء أعجب وأتقى وإن كان الإحياء بإنبات الزرع والكلأ أوضح دلالة لأنه سريع الحصول.
وتقدم ذكر {جَنَّاتِ} في أول سورة الرعد [4].
وتفجير العيون تقدم عند قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ} في سورة البقرة [74].
والثمر بفتحتين وبضمتين: ما يغله النخل والأعناب من أصناف الثمر وأصناف العنب والثمرة بمنزلة الحب للسنبل. وقرأ الجمهور: {ثَمَرِهِ} بفتحتين. وقرأه حمزة والكسائي وخلف بضمتين. والنخيل: اسم جمع نخل.
والأعناب جمع عنب، وهو يطلق على شجرة الكرم وعلى ثمرها. وجمع النخيل والأعناب باعتبار تعدد أصناف شجره المثمر أصنافا من ثمره.
وضمير {مِنْ ثَمَرِهِ} عائد إلى المذكور، أي من ثمر ما ذكرنا، كقول رؤبة:
فيها خطوط من سواد وبلق ... كأنه في الجلد توليع البهق
فقيل له: هلا قلت: كأنها ? فقال: أردت كأن ذلك ويلك. وتقدم عند قوله تعالى: {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} في سورة البقرة [68].
ويجوز أن يعود الضمير على النخيل وتترك الأعناب للعلم بأنها مثل النخيل. كقول الأزرق بن طرفة بن العمود القراطي1 الباهلي:
ـــــــ
1 كذا في نسخة "تفسير ابن عطية"، ولم أقف على معنى هذه النسبة.

رماني بذنب كنت منه ووالدي ... بريئا ومن أجل الطوي رماني1
فلم يقل: بريئين، للعلم بأن والده مثله.
ويجوز أن تكون {مَا} في قواه {وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} موصولة معطوفة على {ثَمَرِهِ} ، أي ليأكلوا من ثمر ما عملته أيديهم، فيكون إدماجا للإرشاد إلى إقامة الجناة بالخدمة والسقي والتعهد ليكون ذلك أوفر لأغلالها. وضمير {عَمِلَتْهُ} على هذا عائد إلى اسم الموصول. ويجوز أن يكون {مَا} نافية والضمير عائد إلى ما ذكر من الحب والنخيل والأعناب. والمعنى: أن ذلك لم يخلقوه. وهذا أوفر في الامتنان وأنسب بسياق الآية مساق الاستدلال. وقرأ الجمهور {وَمَا عَمِلَتْهُ} بإثبات هاء الضمير عائدا إلى المذكور من الحب والنخيل والأعناب. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وخلف {وَمَا عَمِلَتْ} بدون هاء، وكذلك هو مرسوم في المصحف الكوفي وهو جار على حذف المفعول إن كان معلوما. ويجوز أن يكون من حذف المفعول لإرادة العموم. والتقدير: وما عملت أيديهم شيئا من ذلك. وكلا الحذفين شائع.
وفرع عليه استفهام الإنكار لعدم شكرهم بأن اتخذوا للذي أوجد هذا الصنع العجيب أندادا. وجيء بالمضارع مبالغة في كفرهم بأن الله حقيق بأن يكرروا شكره فكيف يستمرون على الإشراك به.
[36] {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ [36]}.
اعتراض بين جملة {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ} [يس: 33] وجملة {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ} [يس: 37]، أثاره ذكر إحياء الأرض وإخراج الحب والشجر منها فإن ذلك أحوالا وإبداعا عجيبا يذكر بتعظيم مودع تلك الصنائع بحكمته وذلك تضمن الاستدلال بخلق الأزواج على طريقة الإدماج. و {سُبْحَانَ} هنا لإنشاء تنزيه الله تعالى عن أحوال المشركين تنزيها عن كل ما لا يليق بإلهيته وأعظمه الإشراك به وهو المقصود هنا. وإجراء الموصول على الذات العلية للإيماء إلى وجه إنشاء التنزيه والتعظيم. وقد مضى الكلام على {سُبْحَانَ} في سورة البقرة وغيرها.
و {الْأَزْوَاجَ} : جمع زوج وهو يطلق على كل من الذكر والأنثى من الحيوان، ويطلق
ـــــــ
1 نازعه ناس من قشير في بئر لدى الحاكم فقال القشيري للأزرق: هو لص ابن لص ليغري به الحاكم، ونسب بعضهم هذا إلى البيت للفرزدق، ولا يصح.

الزوج على معنى الصنف المتميز بخواصه من الموجودات تشبيها له بصنف الذكر وصنف الأنثى كما في قوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} وتقدم في سورة طه [53]، والإطلاق الأول هو الكثير كما يؤخذ من كلام الراغب، وهو الذي يناسبه اللفظ من الزوج الذي يكون ثانيا لآخر، فيجوز أن يحمل {الْأَزْوَاجَ} في هذه الآية على المعنى الأول فيكون تذكيرا بخلق أصناف الحيوان الذي منه الذكر والأنثى، وتكون {وَمِنْ} في المواضع الثلاثة ابتدائية متعلقة بفعل {خَلَقَ} .
وهذا إدماج لذكر آيه أخرى من آيات الانفراد بالخلق، فخلق الحيوان بما فيه من القوى لتناسله وحماية نوعه وإنتاج منافعه، هو أدق الخلق صنعا وأعمقه حكمة، وأدخله في المنة على الإنسان، بأن جعلت منافع الحيوان له كما في آية سورة المؤمنين. فمن أجل ذلك خص من الخلق الآخر بقرنه بالتسبيح لخالقه تنويها بشأنه وتفننا في سرد أعظم المواليد الناشئة عن إبداع قوة الحياة للأرض وانبثاق أنواع الأحياء وأصنافها منها، كما أشار إليه الابتداء بذكر {مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ} قبل غيره من مبادئ التخلق لأنه الأسبق في تكوين مواد حياة الحيوان فإنه يتولد من النطف الذكور والإناث،وتتولد النطف من قوى الأغذية الحاصلة من تناول النبات فذلك من معنى قوله: {مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ} أي ومما يتكون فيهم من أجزائهم الحيوانية.
وجئ بضمير جماعة العقلاء تغليبا لنوع الإنسان نظرا لكونه المقصود بالعبرة بهذه الآية، وللتخلص إلى تخصيصه بالعبرة في قوله: {وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} .
وإشارة قوله تعالى: {وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} إلى أسرار مودعة في خلق أنواع الحيوان وأصنافه هي التي ميزت أنواعه عن بعض وميزت أصنافه وذكوره عن إناثه، وأودعت فيه الروح الذي امتاز به عن النبات بتدبير شؤونه على حسب استعداد كل نوع وكل صنف حتى يبلغ في الارتقاء إلى أشراف الأنواع وهو نوع الإنسان، فمعنى {وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} : مما لا يعلمونه تفصيلا وان كانوا قد يشعرون به إجمالا، فإن المتأمل يعلم أن في المخلوقات أسرارا خفيفة لم تصل إفهامهم إلى إدراك كنهها، ومن ذلك الروح فقد قال تعالى: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء: 85].
وقد يتفاضل الناس في إدراك بعض تلك الخصائص إجمالا وتفصيلا ثم يستوون في عدم العلم ببعضها، وقد يمتاز بعض الطوائف أو الأجيال بمعرفة شئ من دقائق الخلق بسبب اكتشاف أو تجربة أو تقضي آثار لم يكن يعرفها غير أولئك ثم يستوون فيما بقي

تحت طي الخفاء من دقائق التكوين،فبهذا الشعور الإجمالي بها وقع عدها في ضمن الاعتبار بآية خلق الأزواج من جميع النواحي.
وإذا حمل {الْأَزْوَاجَ} في قوله: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا} على المعنى الثاني لهذا اللفظ وهو إطلاقه على الأصناف والأنواع كما في قوله: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} [طه: 53] كانت {مِنْ} في المواضع الثلاثة بيانية، والمجرور بها في فحوى عطف البيان، أو بدل مفصل من مجمل قوله {الْأَزْوَاجَ} والمعنى: الأزواج كلها التي هي: ما تنبت الأرض، وأنفسهم، وما لا يعلمون. ويدل قوله: {وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} على محذوف تقديره: وما يعلمون، وذلك من دلالة الإشارة.
فخص بالذكر أصناف النبات لأن بها قوام معاش الناس ومعاش أنعامهم ودوابهم، وأصناف أنفس الناس لأن بها أقوى، قال تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذريات: 21]. ثم ذكر ما يعم المخلوقات مما يعلمه الناس وما لا يعلمونه في مختلف الأقطار والأجيال والعصور. وقدم ذكر النبات إيثارا له بالأهمية في هذا المقام لأنه أشبه بالبعث الذي أومأ إليه قوله: {وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس: 32].
وتكرير حرف {مِنْ} بعد واو العطف للتوكيد على كلا التفسيرين.
وضمير {أَنْفُسِهِمْ} عائد إلى {الْعِبَادِ} في قوله: {حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} [يس: 30]. والمراد بهم: المكذبون للرسول صلى الله عليه وسلم.
[37] {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ [37]}.
انتقال إلى دلالة مظاهر العوالم على دقيق نظام الخلق فيها مما تؤذن به المشاهدة مع التبصر. وابتدئ منها بنظام الليل والنهار لتكرر وقوعه أمام المشاهدة لكل راء. وجملة {نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} تحتمل جميع الوجوه التي ذكرناها في جملة {أَحْيَيْنَاهَا} [يس: 33] آنفا.
والسلخ: إزالة الجلد عن حيوانه، وفعله يتعدى إلى الجلد المزال بنفسه على المفعولية، ولذلك يقال للجلد المزال من جسم الحيوان: سلخ "بكسر السين وسكون اللام" بمعنى مسلوخ، ولا يقال للجسم الذي أزيل جلده: سلخ. ويتعدى فعل سلخ إلى الجسم الذي أزيل جلده بحرف الجر، والأكثر أنه "من" الابتدائية، ويتعدى بحرف "عن" أيضا لما في السلخ من معنى المباعدة والمجاوزة بعد الاتصال. فمفعول {نَسْلَخُ} هنا هو

{النَّهَارَ} بلا ريب، وعدي السلخ إلى ضمير {اللَّيْلُ} بـ"من" فصار المعنى: الليل آية لهم في حال إزالة غشاء نور النهار عنه فيبقى عليهم الليل، فشبه النهار بجلد الشاة ونحوها يغطي ما تحته منها كما يغطي النهار ظلمة الليل في الصباح. وشبه كشف النهار وإزالته بسلخ الجلد عن نحو الشاة فصار الليل بمنزلة جسم الحيوان المسلوخ منه جلده، وليس الليل بمقصود بالتشبيه وإنما المقصود تشبيه زوال النهار عنه فاستتبع ذلك أن الليل يبقى شبه الجسم المسلوخ عن جلده. ووجه ذلك أن الظلمة هي الحالة السابقة للعوالم قبل خلق النور في الأجسام النيرة لأن الظلمة عدم والنور وجود، وكانت الموجودات في ظلمة قبل أن يخلق الله الكواكب النيرة ويوصل نورها إلى الأجسام التي تستقبلها كالأرض والقمر.
وإذا كانت الظلمة هي الحالة الأصلية للموجودات فليس يلزم أن تكون أصلية للأرض لأن الظاهر أن الأرض انفصلت عن الشمس نيرة وإنما ظلمة نصف الكرة الأرضية إذا غشيها نور الجسم معتبرة كالجسم الذي غشيه جلده فإذا أزيل النور عادت الظلمة فشبه ذلك بسلخ الجلد عن الحيوان كما قال تعالى: في مقابله في سورة الرعد [3]: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ}. فليس في الآية دليل على أن أصل أحوال العالم الأرضي هو الظلمة ولكنها ساقت للناس اعتبارا ودلالة بحالة مشاهدة لديهم ففرع عليه {فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} بناء على ما هو متعارف. وقد اعتبر أئمة البلاغة الاستعارة في الآية أصلية تبعية ولم يجعلوها تمثيلية لما قدمناه من أن المقصود بالتشبيه هو حالة زوال نور النهار عن الأفق فتخلفها ظلمة الليل لقوله {فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} .
وإسناد {مُظْلِمُونَ} إلى الناس من إسناد إفعال الذي الهمزة فيه للدخول في الشي مثل أصبح وأمسى.
[38] {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [38]}.
{الشَّمْسُ} يجوز أن يكون معطوفا على {اللَّيْلُ} من قوله: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ} [يس: 37] عطف مفرد على مفرد ويقدر له خبر مماثل لخبر الليل، والتقدير: والشمس آية لهم، وتكون جملة: {تَجْرِي} حالا من {الشَّمْسُ} مثل جملة: {نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} [يس: 37].
ويجوز أن يكون عطف جملة على جملة ويكون قوله: {تَجْرِي} خبرا عن {الشَّمْسُ}. وأياما كان هو تفصيل لإجمال جملة: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} [يس: 37] الخ كما دل غليه قوله الآتي {وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} [يس: 40]، وكان مقتضى

الظاهر من كونه تفصيلا أن لا يعطف فيقال: الشمس تجري لمستقر لها، فخولف مقتضى الظاهر لأن في هذا التفصيل آية خاصة وهي آية سير الشمس والقمر.
وقدم التنبيه على آية الليل والنهار لما ذكرناه هنالك، فكانت آية الشمس المذكورة هنا مرادا بها دليل آخر على عظيم صنع الله تعالى وهو نظام الفصول.
وجملة: {تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} يتحمل الوجوه التي ذكرناها في جملة {أَحْيَيْنَاهَا} [يس: 33] من كونها حالا أو بيانا لجملة {وَءآيَةٌ لَهُمُ} [يس: 33] أو بدل اشتمال من {وَءآيَةٌ}.
والجري حقيقته: السير السريع لذوات الأرجل، وأطلق مجازا على تنقل الجسم من مكان إلى مكان تنقلا سريعا بالنسبة لتنقل أمثال ذلك الجسم، وغلب هذا الإطلاق فساوى الحقيقة وأريد به السير في مسافات متباعدة جد التباعد فتقطعها في مدة قصيرة بالنسبة لتباعد الأرض حول الشمس. وهذا استدلال بآثار ذلك السير المعروفة للناس معرفة إجمالية بما يحسبون من الوقت وامتداد الليل والنهار وهي المعرفة لأهل المعرفة بمراقبة أحوالها من خاصة الناس وهم الذين يرقبون منازل تنقلها المسماة بالبروج الاثني عشر، والمعروفة لأهل العلم بالهيئة تفصيلا واستدلالا وكل هؤلاء مخاطبون بالاعتبار بما بلغه علمهم.
والمستقر: مكان الاستقرار، أي القرار أو زمانه، فالسين والتاء فيه للتأكيد مثل: استجاب بمعنى أجاب. واللام في {لِمُسْتَقَرٍّ} يجوز أن تكون لام التعليل على ظاهرها، أي تجري لأجل أن تستقر، أي لأجل أن ينتهي جريها كما ينتهي سير المسافر إذا بلغ إلى مكانه فاستقر فيه، وهو متعلق بـ {تَجْرِي} على أنه نهاية له لأن سير الشمس لما كانت نهايته انقطاعه نزل الانقطاع عنه منزلة العلة كما يقال "لدوا للموت وابنوا للخراب".
وتنزيل النهاية منزلة العلة مستعمل في الكلام، ومنه قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 8]. والمعنى: أنها تسير سيرا دائبا مشاهدا إلى أن تبلغ الاحتجاب عن الأنظار.
ويجوز أن تكون اللام بمعنى "إلى" ، أي تجري إلى مكان استقرارها وهو مكان الغروب، شبه غروبها عن الأبصار بالمستقر والمأوى الذي يأوي إليه المرء في آخر النهار بعد الأعمال. وقد ورد تقريب ذلك في حديث أبي ذر الهروي في صحيحي "البخاري" و"مسلم" و"جامع الترمذي" بروايات مختلفة حاصل ترتيبها أنه قال: "كنت مع رسول الله

في المسجد عند غروب الشمس فسألته أو قال: إن هذه تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة فلا تزال كذلك حتى يقال لها: ارتفعي ارجعي من حيث جئت فترجع فتصبح طالعة من مطلعها ثم تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة ولا تزال كذلك حتى يقال لها: ارتفعي ارجعي من حيث جئت فترجع فتصبح طالعة من مطلعها، ثم تجري لا يستنكر الناس منها شيئا حتى تنتهي إلى مستقرها ذاك تحت العرش فيقال لها: ارتفعي أصبحي طالعة من مغربك فتصبح طالعة من مغربها فذلك مستقر لها ومستقرها تحت العرش فذلك قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا}.
وهذا تمثيل وتقريب لسير اليومي الذي يبتدئ بشروقها على بعض الكرة الأرضية وينتهي بغروبها على بعض الكرة الأرضية، في خطوط دقيقة، وبتكرر طلوعها وغروبها تتكون السنة الشمسية.
وقد جعل الموضع الذي ينتهي إليه سيرها هو المعبر عنه بتحت العرش وهو سمت معين لا قبل للناس بمعرفته، وهو منتهى مسافة سيرها اليومي، وعنده ينقطع سيرها في إبان انقطاعه وذلك حين تطلع من مغربها، أي حين ينقطع سير الأرض حول شعاعها لأن حركة الأجرام التابعة لنظامها تنقطع تبعا لانقطاع حركتها هي وذلك نهاية بقاء هذا العلم الدنيوي.
واللام في قوله: {لَهَا} لام الاختصاص وهو صفة {لِمُسْتَقَرٍّ} . وعدل عن إضافة مستقر لضمير الشمس المغنية عن إظهار اللام إلى الإتيان باللام ليتأتى تنكير "مستقر" تنكيرا مشعرا بتعظيم ذلك المستقر.
وكلام النبي صلى الله عليه وسلم هذا تمثيل لحال الغروب والشروق اليوميين. وجعل سجود الشمس تمثيلا لتسخرها لتسخير الله إياها كما جعل القول تمثيلا له في آية {فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11].
واعلم أن قوله: {لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} إدماج للتعليم في التذكير وليس من آية الشمس للناس لأن الناس لا يشعرون به فهو كقوله تعالى: {لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمّىً} [الأنعام: 60] عقب الامتنان بقوله: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمّىً ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ} [الأنعام: 60].
والإشارة بـ {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} إلى المذكور: إما من قوله: {وَالشَّمْسُ

تَجْرِي} أي ذلك الجري، وإما منه ومن قوله: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ} [يس: 37] أي ذلك المذكور من تعاقب الليل والنهار.
وذكر صفتي {الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} لمناسبة معناهما للتعلق بنظام سير الكواكب، فالعزة تناسب تسخير هذا الكوكب العظيم، والعلم يناسب النظام البديع الدقيق،وتقدم تفصيله عند قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً} في سورة الفرقان [61].
[39] {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ [39]}.
قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وروح عن يعقوب برفع {وَالْقَمَرَ} فهو إما معطوف على {وَالشَّمْسُ تَجْرِي} [يس: 38]عطف المفردات،وإما مبتدأ والعطف من عطف الجمل.
وجملة: {قَدَّرْنَاهُ} إما حال وإما خبر. وقرأه ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي وأبو جعفر ورويس عن يعقوب وخلف بنصب {الْقَمَرَ} على الاشتغال فهو إذن من عطف الجمل.
وتقدم تفسير منازل القمر عند قوله تعالى: {وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} في سورة يونس [5].
والتقدير: يطلق على جعل الأشياء بقدر ونظام محكم، يطلق على تحديد المقدار من شي تطلب معرفة مقداره مثل تقدير الأوقات وتقدير الكميات من الموزونات والمعدودات، وكلا الإطلاقين مراد هنا. فإن الله قدر للشمس والقمر نظام سيرهما وقدر بذلك حساب الفصول السنوية والأشهر والأيام والليالي.
وعدي فعل {قَدَّرْنَاهُ} إلى ضمير {الْقَمَرَ} الذي هو عبارة عن ذاته وإنما التقدير لسيره ولاكن عدي التقدير إلى اسم ذاته دون ذكر المضاف مبالغة في لزوم السير له من وقت خلقه حتى كأن تقدير سيره تقدير لذاته.
وانتصب {مَنَازِلَ} على الظرفية المكانية مثل:سرت أميالا، أي قدرنا سيره في منازل ينتقل بسيره فيها منزلة بعد أخرى.
و {حَتَّى} ابتدائية، أي ليست حرف جر فإن ما بعدها جملة. ومعنى الغاية لا يفارق {حَتَّى} فآذن ما فيها من معنى الغاية بمغيا محذوف فالغاية تستلزم ابتداء شي. والتقدير:

فابتداء ضوءه وأذ في الازدياد ليلة قليلة ثم أخذ في التناقص حتى عاد، أي صار كالعرجون التقديم، أي شبيها به. وعبر عنه بهذا التشبيه إذ ليس لضوء القمر في أواخر لياليه اسم يعرف به بخلاف أول أجزاء ضوئه المسمى هلالا، ولأن هذا التشبيه يماثل حالة استهلاله كما يماثل حالة انتهائه.
و {عَادَ} بمعنى صار شكله للرائي كالعرجون. والعرجون: العود الذي تخرجه النخلة فيكون الثمر فيها منتهاه وهو الذي يبقى متصلا بالنخلة بعد قطع الكباسة منه وهي مجتمع أعواد التمر.
و {الْقَدِيمِ} : هو البالي لأنه إذا انقطع الثمر تقوس واصفر وتضاءل فأشبه صورة ما يواجه الأرض من ضوء القمر في آخر ليالي الشهر وفي أول ليلة منه، وتركيب {عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} صالح لصورة القمر في الليلة الأخيرة وهي التي يعقبها المحاق ولصورته في الليلة الأولى من الشهر هو الهلال. وقد بسط لهم بيان سير القمر ومنازله لأنهم كانوا يتقنون علمه بخلاف سير الشمس.
[40] {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [40]}.
لما جرى ذكر الشمس والقمر في معرض الآيات الدالة على انفراده تعالى بالخلق والتدبير وعلى صفات إلهيته التي من متعلقاتها تعلق صفة القدرة بآية الشمس وسيرها، والقمر وسيره، وقد سماها بعض المتكلمين صفات الأفعال وكأن الناس يعرفون تقارب الشمس والقمر فيما يراه الراءون، وكانوا يقدرون سيرهما بأسمات معلمة بعلامات نجومية تسمى بروجا بالنسبة لسير الشمس، وتسمى منازل بالنسبة لسير القمر، وكانوا يعلمون شدة قرب المنازل القمرية من البروج الشمسية فإن كل برج تسامته منزلتان أو ثلاث منازل، وبعض نجوم المنازل هي أجزاء من نجوم البروج، زادهم الله عبرة وتعليما بأن للشمس سيرا لا يلاقي سير القمر، وللقمر سيرا لا يلاقي سير الشمس ولا يمر أحدهما بطرائق مسير الأخر وأن ما يتراءى للناس من شدة الشمس والقمر في جو واحد وفي حجمين متقاربين، وما يتراءى لهم من تقارب نجوم بروج الشمس ونجوم منازل القمر، إن هو إلا من تخيلات الأبصار وتفاوت المقادير بين الأجرام والأبعاد.
فالكرة العظيمة كالشمس تبدو مقاربة لكرة القمر في المرأى و إنما ذلك من تباعد

الأبعاد فأبعاد فلك الشمس تفوت أبعاد فلك القمر بمئات الملايين من الأميال، حتى يلوح لنا حجم الشمس مقاربا لحجم القمر. فبين الله أنه نظم سير الشمس والقمر على نظام يستحيل معه اتصال إحدى الكرتين بالأخرى لشدة الأبعاد بين مداريهما.
فمعنى: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} نفي انبغاء ذلك، أي نفي تأتيه، لأن انبغى مطاوع بغى الذي هو بمعنى طلب، فانبغى يفيد أن الشيء طلب فحصل للذي طلبه، يقال: بغاه فانبغى له، فإثبات الانبغاء يفيد التمكن من الشيء فلا يقتضي وجوبا، ونفي الانبغاء يفيد نفي إمكانه ولذلك يكنى به عن الشيء المحظور. يقال: لا ينبغي لك كذا، ففرق ما بين قولك: ينبغي أن لا تفعل كذا، وبين قولك: لا ينبغي لك أن تفعل كذا، قال تعالى: {قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} [الفرقان: 18] وتقدم قوله تعالى: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً} في سورة مريم [92]، ومنه قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69] في هذه السورة.
والإدراك: اللحاق والوصول إلى البغية فقوله: {أَنْ تُدْرِكَ} فاعل {يَنْبَغِي} فأفاد الكلام نفي انبغاء إدراك الشمس القمر. والمعنى: نفي أن تصطدم الشمس بالقمر، خلافا لما يبدو من قرب منازلهما فإن ذلك من المسامتة لا من الاقتراب. وصوغ هذا بصيغة الأخبار عن المسند إليه بالمسند الفعلي لإفادة تقوي حكم النفي فذلك أبلغ في الانتفاء مما لو قيل: لا ينبغي للشمس أن تدرك القمر.
وافتتاح الجملة بحرف النفي قبل ذكر الفعل المنفي ليكون النفي متقررا في ذهن السامع أقوى مما لو قيل: الشمس لا ينبغي لها أن تدرك القمر، فكان في قوله: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} خصوصيتان.
ولما ذكر الشمس والقمر وكانت الشمس مقارنة للنهار في مخيلات البشر، وكان القمر مقارنا لليل، وكان في نظام الليل والنهار منافع للناس اعترض بذكر نظام الشمس والقمر أثناء الاعتبار بنظام الليل والنهار.
ومعنى: {وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} أن الليل ليس بمفلت للنهار، فالسبق بمعنى التخلص والنجاة، كقول مرة بن عداء الفقعسي:
كأنك لم تسبق من الدهر مرة ... إذا أنت أدركت الذي كنت تطلب
وقوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا} في سورة العنكبوت

[4]، و المعنى: أن انسلاخ النهار على الليل أمر مسخر لا قبل لليل أن يتخلف عنه.
ولا يستقيم تفسير السبق هنا بمعناه المشهور وهو الأولية بالسير لأن ذلك لا يتصور في تداول الليل والنهار، ولا أن يكون المراد بالسبق ابتداء التكوين إذ لا يتعلق بذلك غرض مهم في الآية، على أن الشأن أن تكون الظلمة أسبق في التكوين.
والغرض التذكير بنعمة الليل ونعمة النهار فإن لكليهما فوائد للناس فلو تخلص أحدهما من الآخر فاستقر في الأفق لتعطلت منافع جمة من حياة الناس والحيوان.
وفي الكلام اكتفاء، أي لأن التقدير: ولا القمر يدرك الشمس، ولا النهر سابق الليل.
وقوله: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} عطف على جملة: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ}. والواو عاطفة ترجيحا لجانب الإخبار بهذه الحقيقة على جانب التذييل، وإلا فحق التذييل الفصل. وما أضيف إليه {كُلٌّ} محذوف، وتنوين {كُلٌّ} تنوين عوض عن المضاف إليه المحذوف، فالتقدير: وكل الكواكب.
وزيدة قرينة السياق تأكيدا بضمير الجمع في قوله: {يَسْبَحُونَ} مع أن المذكور من قبل شيئان لا أشياء، وبهذا التعميم صارت الجملة في معنى التذييل.
والفلك: الدائرة المفروضة في الخلاء الجوي لسير أحد الكواكب سيرا مطردا لا يحيد عنه، فإن أهل الأرصاد الأقدمين لما رصدوا تلك المدارات وجدوها لا تتغير ووجدوا نهايتها تتصل بمبتداها فتوهموها طرائق مستديرة تسير فيها الكواكب كما تتقلب الكرة على الأرض وربما توسعوا في التوهم فظنوها طرائق صلبة ترتكز عليها الكواكب في سيرها مجرورة بسلاسل وكلاليب وكان ذلك في معتقد القبط بمصر.
وسمى العرب تلك الطرائق أفلاكا وأحدها فلك اشتقوا له اسما من اسم فلكة المغزل، وهي عود في أعلاه خشبة مستديرة متبطحة مثل التفاحة الكبيرة تلف المرأة عليها خيوط غزلها التي تفتلها لتديرها بكفيها. فلتف عليها خيوط الغزل، فتوهموا الفلك جسما كرويا وتوهموا الكواكب موضوعة عليه تدور بدورته ولذلك قدروا الزمان بأنه حركة الفلك. وسمو ما بين مبدأ المدتين حتى ينتهي إلى حيث ابتدأ دورة الفلك ولكن القرآن جاراهم في الاسم اللغوي لأن ذلك مبلغ اللغة واصلح لهم ما توهموا بقوله:

{يَسْبَحُونَ} ، فبطل أن تكون أجرام الكواكب ملتصقة بأفلاكها ولزم من كونها سابحة أن طرائق سيرها دوائر وهمية لأن السبح هنا سبح في الهواء لا في الماء، والهواء لا تخطط فيه الخطوط ولا الأخاديد.
وجيء بضمير: {يَسْبَحُونَ} ضمير جمع مع أن التقدم ذكره شيئان هما الشمس والقمر لأن المراد إفادة تعميم هذا الحكم للشمس والقمر وجميع الكواكب وهي حقيقة علمية سبق بها القرآن.
وجملة {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ} فيها محسن الطرد والعكس فإنها تقرأ من آخرها كما تقرأ من أولها.
[41- 44] {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ [41] وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ [42] وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ [43] إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ [44]}.
انتقال من عد آيات في السماء إلى عد آية في البحر تجمع بين العبرة والمنة وهي آية تسخير الفلك أن تسير على الماء وتسخير الماء لتطفو عليه دون أن يغرقها.
وقد ذكر الله الناس بآية عظيمة اشتهرت حتى كانت كالمشاهدة عندهم وهي آية إلهام نوح صنع السفينة ليحمل الناس الذين آمنوا ويحمل من كل أنواع الحيوان زوجين لينجي الأنواع من الهلاك والاضمحلال بالغرق في حادث الطوفان. ولما كانت هذه الآية حاصلة لفائدة حمل أزواج من أنواع الحيوان جعلت الآية نفس الحمل إدماجا للمنة في ضمن العبرة فكأنه قيل:وآية لهم صنع الفلك لنحمل ذرياتهم فيه فحملناهم.
وأطلق الحمل على الإنجاء من الغرق على وجه المجاز المرسل لعلاقة السببية والمسبيية، أي أنجينا ذرياتهم من الغرق بحملهم في الفلك حين الطوفان.
والذريات: جمع ذرية وهي نسل الإنسان. و {الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} : هو المعهود بين البشر في قصة الطوفان، وهو هنا مفرد بقرينة وصفه وهو {الْمَشْحُونِ} ولم يقل: المشحونة كما قال: {وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ} [فاطر: 12] وهو فلك نوح فقد اشتهر بهذا الوصف في القرآن كما في سورة الشعراء [119] {فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} ولم يوصف غير فلك نوح بهذا الوصف.

وتعدية: {حَمَلْنَا} إلى الذريات تعدية على المفعولية المجازية وهو مجاز عقلي فإن المجاز العقلي لا يختص بالإسناد بل يكون المجاز في التعليق فإن المحمول أصول الذريات لا الذريات وأصولها ملابسة لها.
ولما كانت ذريات المخاطبين مما أراد الله بقاءه في الأرض حين أمر نوحا بصنع الفلك لإنجاء الأنواع وأمره بحمل أزواج من الناس هم الذين تولد منهم البشر بعد الطوفان نزل البشر كله منزلة محمولين في الفلك المشحون في ومن نوح، وذكر الذريات يقتضي أن أصولهم محمولون بطريق الكناية إيجازا في الكلام، وأن أنفسهم محمولون كذلك كأنه قيل: إنا حملنا أصولهم وحملناهم وحملنا ذرياتهم، إذ لولا نجاة الأصول ما جاءت الذريات، وكانت الحكمة في حمل الأصول بقاء الذريات فكانت النعمة شاملة للكل، وهذا كالامتنان في قوله: {إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً} [الحاقة: 11, 12].
وضمير {ذُرِّيَّتَهُمْ} عائد إلى ما عاد إليه ضمير {لَهُمْ} أي العباد المراد بهم المشركون من أهل مكة لكنهم لوحظوا هنا بعنوان كونهم من جملة البشر، فالمعنى: آية لهم أنا حملنا ذريات البشر في سفينة نوح وذلك حين أمر الله نوحا بأن يحمل فيها أهله والذين آمنوا من قومه لبقاء ذريات البشر فكان ذلك حملا لذرياتهم ما تسلسلت كما تقدم آنفا.
هذا هو تأويل هذه الآية قال القرطبي: وهي من أشكل ما في السورة، وقال ابن عطية: "قد خلط بعض الناس حتى قالوا: الذرية تطلق على الآباء وهذا لا يعرف من اللغة" وتقدم قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} في سورة الأعراف [172].
وقرأ نافع وابن عامر {ذُرِّيَّتَهُمْ} بلفظ الجمع. وقرأه الباقون بدون ألف بصيغة اسم الجمع، والمعنى واحد. وقد فهم من دلالة قوله: {أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ} صريحا وكناية أن هذه الآية مستمرة لكل ناظر إذ يشهدون أسفارهم وأسفار أمثالهم في البحر وخاصة سكان الشطوط والسواحل مثل أهل جدة وأهل ينبع إذ يسافرون إلى بلاد اليمن وبلاد الحبشة فيفهم منه: أنا حملنا ونحمل وسنحمل أسلافهم وأنفسهم وذرياتهم. وقد وصف طرفة السفن في معلقته.
وجملة: {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} معترضة في خلال آية البحر اقتضتها مراعاة النظير تذكيرا بنعمة خلق الإبل صالة للأسفار فحكيت آية الإلهام بصنع الفلك من

حيث الحكمة العظيمة في الإلهام وتسخير البحر لها وإيجاد في وقت الحاجة لحفظ النوع، فلذلك لم يؤت في جانبها بفعل الخلق المختص بالإيجاد دون صنع الناس. وحكيت آية اتخاذ الرواحل بفعل {خَلَقْنَا} ، ونظير هذه المقارنة قوله: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ} [الزخرف: 12]، فما صدق {مَا يَرْكَبُونَ} هنا هو الرواحل خاصة لأنها التي تشبه الفلك في جعلها قادرة على قطع الرمال كما جعل الفلك صالحا لمخر البحار، وقد سمت العرب الرواحل سفائن البر و {مِنَ} التي في قوله: {مِنْ مِثْلِهِ} بيانية بتقديم البيان على المبين وهو جائز على الأصح، أو مؤكدة ومجرورها أصله حال من {مَا} الموصولة في قوله: {مَا يَرْكَبُونَ} . والمراد المماثلة في العظمة وقوة الحمل ومداومة السير وفي الشكل.
وجملة {وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ} عطف على جملة {أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ} باعتبار دلالتها الكنائية على استمرار هذه الآية وهذه المنة تذكيراً بأن الله تعالى الذي امتن عليهم إذا شاء جعل فيما هو نعمة على الناس نقمة لهم لحكمة يعلمها. وهذا جرى على عادة القرآن في تعقيب الترغيب بالترهيب وعكسه لئلا يبطر الناس بالنعمة ولا ييأسوا من الرحمة. وقرينة ذلك أنه جيء في هذه الجملة بالمضارع المتمحض في سياق الشرط لكونه مستقبلاً، وهذا كقوله تعالى: {أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً} [الإسراء: 68- 69]
والصريخ: الصارخ وهو المستغيث المستنجد تقول العرب: جاءهم الصريخ، أي المنكوب المستنجد لينقذوه، وهو فعيل بمعنى فاعل. ويطلق الصريخ على المغيث فعيل بمعنى مفعول، وذلك أن المنجد إذا صرخ به المستنجد صرخ هو مجيبا بما يطمئن له من النصر. وقد جمع المعنيين قول سلامة بن جندل أنشده المبرد في "الكامل":
إنا إذا أتانا صارخ فزع ... كان الصراخ له قرع الظنابيب
والظنابيب: جمع ظنبوب وهو مسمار يكون في جبة السنان. وقرع الظنابيب تفقد الأسنة استعدادا للخروج.
والمعنى: لا يجدون من يستصرخون به وهم في لجج البحر ولا ينقذهم أحد من الغرق.

والإنقاذ: الانتشال من الماء.
وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي في قوله: {وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ} لإفادة تقوي الحكم وهو نفي الحكم وهو نفي إنقاذ أحد إياهم.
والاستثناء في قوله: {إِلَّا رَحْمَةً} منقطع فإن الرحمة ليست من الصريخ ولا من المنقذ وإنما هي إسعاف الله تعالى إياهم بسكون البحر وتمكينهم من السبح على أعواد الفلك.
و {وَمَتَاعاً} عطف على {رَحْمَةً} ، أي إلا رحمة هي تمتيع إلى أجل معلوم فإن كل حي طائر إلى الموت فإذا نجا من موته استقبلته موتة أخرى ولكن الله أودع في فطرة الإنسان حب زيادة الحياة مع علمه بأنه لا محيد له عن الموت.
[45, 46] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [45] وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ [46]}.
تخلص الكلام من عدم انتفاعهم بالآيات الدالة على وحدانية الله إلى عدم انتفاعهم بالأقوال المبلغة إليهم في القرآن من الموعظة، والتذكير بما حل بالأمم المكذبة أن يصيبهم مثل ما أصابهم، وبعدم انتفاعهم بتذكير القرآن إياهم بالأدلة على وحدانية الله، وعلى البعث.
وبناء فعل {قِيلَ} للمجهول لظهور أن القائل هو الرسول صلى الله عليه وسلم في تبليغه عن الله تعالى، أي قيل لهم في القرآن.
وما بين الأيدي يراد منه المستقبل، وما هو خلف يراد منه الماضي، قال تعالى: حكاية عن عيسى عليه السلام {مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ} [آل عمران: 50]، أي ما تقدمني. وذلك أن أصل هذين التركيبين تمثيلان فتارة ينظرون إلى تمثيل المضاف إليه بسائر إلى مكان فالذي بين يديه هو ما سيرد هو عليه، والذي من ورائه هو ما خلفه خلفه في سيره، وتارة ينظرون إلى تمثيل المضاف بسائر، فهو إذا كان بين يدي المضاف إليه فقد سبقه في السير فهو سابق له وإذا كان خلف المضاف إليه فقد تأخر عنه فهو وارد بعده.
وقد فسرت هذه الآية بالوجهين فقيل: ما بين أيديكم من أمر الآخرة وما خلفكم من أحوال الأمم في الدنيا، وهو عن مجاهد وابن جبير عن ابن عباس. وقيل: ما بين أيديكم

أحوال الأمم في الدنيا وما خلفكم من أحوال الآخرة وهو عن قتادة وسفيان. ومتى حمل أحد الموصولين على ما سبق من أحوال الأمم وجب تقدير مضافين قبل {مَا} الموصولة هما المفعول، أي اتقوا مثل أحوال ما بين أيديكم، أو أحوال ما خلفكم، ولا يقدر مضافان في مقابله لأن ما صدق {مَا} الموصولة فيه حينئذ هو عذاب الآخرة فهو مفعول {اتَّقُوا} . وتقدم قوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا} في سورة البقرة [66].
و"لعل" للرجاء، أي ترجى لكم رحمة الله، لأنهم إذا اتقوا حذروا ما يوقع في المتقى فارتكبوا واجتنبوا وبادروا بالتوبة فيما فرط فرضي ربهم عنهم فرحمهم بالثواب وجنبهم العقاب. والكلام في "لعل" الواردة في كلام الله تعالى تقدم عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} في سورة البقرة [21].
وجواب {إِذَا} محذوف دل عليه قوله في الجملة المعطوفة {إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} . فالتقدير هنا: كانوا معرضين.
وجملة: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} واقعة موقع التذييل لما قبلها، ففيها تعميم أحوالهم وأحوال ما يبلغونه من القرآن، فكأنه قيل: وإذا لهم اتقوا أعرضوا، والإعراض دأبهم في كل ما يقال لهم.
والآيات: آيات القرآن التي تنزل فيقرؤها البني صلى الله عليه وسلم عليهم، فأطلق على بلوغها إليهم فعل الإتيان. ووصفها بأنها من آيات ربهم للتنويه بالآيات والتشنيع عليهم بالإعراض عن كلام ربهم كفرا بنعمة خلقه إياهم.
و {مَا} نافية، والاستثناء من أحوال محذوفة، أي ما تأتيهم آية في حال من أحوالهم إلا كانوا عنها معرضين. وجملة {كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} في موضع الحال.
[47] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [47]}.
كانوا مع ما هم عليه من الكرم يشحون على فقراء المسلمين فيمنعونهم البذل تشفيا منهم فإذا سمعوا من القرآن ما فيه الأمر بالإنفاق أو سألهم فقراء المسلمين من فضول أموالهم أو أن يعطوهم ما كانوا يجعلونه لله من أموالهم الذي حكاه الله عنهم بقوله:

{وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيباً} [الأنعام: 136] فلعل من أسلم من الفقراء سألوا المشركين ما اعتادوا يعطونهم قبل إسلامهم فيقولون أعطوا مما رزقكم الله وقد سمعوا منهم كلمات إسلامية لم يكونوا يسمعونها من قبل، وربما كانوا يحاجونهم بأن الله هو الرزاق ولا يقع في الكون كائن إلا بإرادته فجعل المشركون يتعللون لمنعهم بالاستهزاء فبقولون: لا نطعم من لو يشاء الله لأطعمه، وإذا كان هذا رزقناه الله فلماذا لم يرزقكم، فلو شاء الله لأطعمكم كما أطعمنا. وقد يقول بعضهم ذلك جهلا فإنهم كانوا يجهلون وضع صفات الله في مواضعها كما حكى الله عنهم {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف: 20].
وإظهار الموصول من قوله {قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} في مقام الإضمار مع أن مقتضى الظاهر أن يقال: قالوا أنطعم الخ لنكتة الإيمان إلى أن صدور هذا القول منهم إنما هو لأجل كفرهم ولأجل إيمان الذين سئل الإنفاق عليهم.
روى ابن عطية: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المشركين بالإنفاق على الساكين في شدة أصابت الناس فشح فيها الأغنياء على المساكين ومنعوهم ما كانوا يعطونهم.
واللام في قوله: {لِلَّذِينَ آمَنُوا} يجوز أن تكون لتعدية فعل القول إلى المخاطب به أي خاطبوا المؤمنين بقولهم: {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} ، ويجوز أن تكون اللام للعلة، أي قال الذين كفروا لأجل الذين آمنوا، أي قالوا في شأن الذين آمنوا كقوله تعالى: {الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} [آل عمران: 168] وقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الاحقاف: 11] أي قالوا ذلك تعلة لعدم الإنفاق على فقراء المؤمنين.
والاستفهام في {أَنُطْعِمُ} إنكاري، أي لا نطعم من لو يشاء الله لأطعمهم بحسب اعتقادكم أن الله هو المطعم.
والتعبير في جوابهم بالإطعام مع أن المطلوب هو الإنفاق: إما المجرد التفنن تجنبا لإعادة اللفظ فإن الإنفاق يراد منه الإطعام، وإما لأنهم سئلوا الإنفاق وهو أعم من الإطعام لأنه يشمل الإكساء والإسكان فأجابوا بإمساك الطعام وهو أيسر أنواع الإنفاق، ولأنهم كانوا يعيرون من يشح بإطعام الطعام وإذا منعوا المؤمنين الطعام كان منعهم ما هو فوقه أحرى.

وجملة {أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} من قول المشركين يخاطبون المؤمنين، أي ما أنتم في قولكم {أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} وما في معناه من اعتقاد أن الله متصرف في أحوالنا إلا متمكن منكم الضلال الواضح. وجعلوه ضلالا لجهلهم بصفات الله، وجعلوه مبينا لأنهم يحكمون الظواهر من أسباب اكتساب المال وعدمه.
والجملة تعليل للإنكار المستفاد من الاستفهام.
[48- 50] {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [48] مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ [49] فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ [50]}.
ذكر عقب استهزائهم بالمؤمنين لما منعوهم الإنفاق بعلة أن الله لو شاء لأطعمهم استهزاء آخر بالمؤمنين في تهديدهم المشركين بعذاب يحل بهم فكانوا يسألونهم هذا الوعد استهزاء بهم بقرينة قوله: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فالاستفهام مستعمل كناية عن التهكم والتكذيب. وأطلق الوعد على الإنذار والتهديد بالشر لأن الوعد أعم ويتعين للخير والشر بالقرينة. واسم الإشارة للوعد مستعمل في الاستخفاف بوعد العذاب كما في قول قيس ابن الخيطم:
متى يأت هذا الموت لا يلف حاجة ... لنفسي إلا قد قضيت قضاءها
وإذا قد كان استهزاؤهم هذا يسوء المسلمين أعلم الله رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأن الوعد واقع لا محالة وأنهم ما ينتظرون إلا صيحة تأخذهم فلا يفلتون من أخذتها.
وفعل {يَنْظُرُونَ} مشتق من النظرة وهو الترقب، وتقدم في قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ} [الأنعام: 158].
والصيحة: الصوت الشديد الخارج من حلق الإنسان لزجر, أو استغاثة. وأطلقت الصيحة في مواضع في القران على صوت الصاعقة كما في قوله تعالى في شأن ثمود: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ} [الحجر: 73]. فالصحة هنا تحمل المجاز، أي ما ينظرون إلا صعقة أو نفخة عظيمة. والمراد النفخة الأولى التي ينقضي بها نظام الحياة في هذا العالم، والأخرى تنشأ عنها النشأة الثانية وهي الحياة الأبدية، فيكون أسلوب الكلام خارجا على الأسلوب الحكيم إعراضا عن جوابهم لنهم لم يقصدوا حقيقة الاستفهام فأجيبوا بأن ما أعد لهم من العذاب هو الأجدر بأن ينتظروه.
ومعنى: {تَأْخُذُهُمْ} تهلكهم فجأة، شبه حلول صيحة العقاب بحلول المغيرين على

الحي لأخذ أنعامه وسبي نسائه، فأطلق على ذلك الحلول فعل {تَأْخُذُهُمْ} كقوله تعالى: {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} [الحاقة: 10] أي تحل بهم وهم يختصمون. وإسناد الأخذ إلى الصيحة حقيقية عقلية لأنهم يهلكون بصعقتها.
ويحتمل أن تكون الصيحة على حقيقتها وهي صيحة صائحين، أي ما ينتظرون إلا أن يصاح بهم صيحة تنذر بحلول القتل، فيكون إنذار بعذاب الدنيا. ولعلها صيحة الصارخ الذي جاءهم بخبر تعرض المسلمين لركب تجارة قريش في بدر.
و {يَخِصِّمُونَ} من الخصومة والخصام وهو الجدال، وتقدم في قوله: {وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً} [النساء: 105]، وقوله {هَذَانِ خَصْمَانِ} في سورة الحج [19]. وأصله: يختصمون فوقع إبدال التاء ضادا لقرب مخرجيهما طلبا للتخفيف بالإدغام.
واختلف القراء في كيفية النطق بها، فقرأه الجميع بفتح الياء واختلفوا فيما عدا ذلك: فقرأ ورش عن نافع وابن كثير وأبو عمرو في رواية عنه {يَخِصِّمُونَ} بتشديد الصاد مكسورة على اعتبار التاء المبدلة صادا المسكنة لأجل الإدغام، ألقيت حركتها على الخاء التي كانت ساكنة. وقرأة قالون عن نافع وأبو عمرو في المشهور عنه بسكون الخاء سكونا مختلساً "بالفتح" لأجل التخلص من التقاء الساكنين وبكسر الصاد مشددة. وقرأه عاصم والكسائي وابن ذكوان عن ابن عامر ويعقوب وخلف {يَخِصِّمُونَ} بكسر الخاء وكسر الصاد مشددة. وقرأه حمزة {يَخْصِّمُونَ} بسكون الخاء وكسر الصاد مخففة مضارع "خصم" قيل بمعنى جادل. وقرأ أبو جعفر {يَخْصِّمُونَ} بإسكان الخاء وبكسر الصاد مشددة على الجمع بين الساكنين.
والاختصام: اختصامهم في الخروج إلى بدر أو في تعيين من يخرج لما حل بهم من مفاجآت لهم وهم يختصمون بين مصدق ومكذب للنذير. وإسناد الأخذ إلى الصيحة على هذا التأويل مجاز عقلي لأن الصيحة وقت الأخذ وإنما تأخذهم سيوف المسلمين. وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي في قوله: {وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} لإفادة تقوي الحكم وهو أن الصيحة تأخذهم.
وفرع على {تَأْخُذُهُمْ} جملة {فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً} أي لا يتمكنون من توصية على أهلهم وأموالهم من بعدهم كما هو شأن المحتضر، فإن كان المراد من الصيحة صيحة الواقعة كان قوله: {فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً} كناية عن شدة السرعة بين الصيحة وهلاكهم، إذا لا يكون المراد مدلوله الصريح لأنهم لا يتركون غيرهم بعدهم إذ الهلاك

يأتي على جميع الناس.
وإن كان المراد من الصيحة صيحة القتال كان المعنى: أنهم يفزعون إلى مواقع القتال يوم بدر، أو إلى ترقب وصول الجيش الفتح يوم الفتح فلا يتمكنون من الحديث مع من يوصونه بأهليهم.
والتوصية: مصدر وصى المضاعف وتنكيرها للتقليل، أي لا يستطيعون توصية ما.
وقوله: {وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} يجوز أن تكون عطفا على {تَوْصِيَةً} ، أي لا يستطيعون الرجوع إلى أهلهم كشأن الذي يفاجئه ذعر فيبادر بافتقاد حال أهله من ذلك.
ويجوز أن يكون عطفا على جملة "لا يستطيعون" فيكون مما شمله التفريع بالفاء، أي فلا يرجعون إلى أهلهم، أي هم هالكون على الاحتمالين، إلا أنه على احتمال أن يراد صيحة الحرب يخصص ضمير {يَرْجِعُونَ} بكبراء قريش الذين هلكوا يوم بدر لأنهم هم المتولون كبر التكذيب والعناد، أو الذين أكملوا بالهلاك يوم الفتح مثل عبد الله بن خطل الذي قتل يوم الفتح.
[51] {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ [51]}.
يجوز أن تكون الواو للحال والجملة موضع الحال، أي ما ينظرون إلا صيحة واحدة وقد نفخ في الصور الخ..ويجوز أن تكون الواو اعتراضية، وهذا الاعتراض واقع بين جملة {مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} [يس: 49] الخ... وجملة {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا} [يس: 66].
والمقصود: وعظهم بالبعث الذي أنكروه وبما وراءه.
والماضي مستعمل في تحقق الوقوع مثل {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل: 1]. والمعنى: وينفخ في الصور، أي وينفخ نافخ في الصور، وهو الملك الموكل به، وأسمه إسرافيل. وهذه النفخة الثانية التي في قوله تعالى: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر: 68].
و"إذا" للمفاجأة وهي حصول مضمون الجملة التي بعدها سريعا وبدون تهيؤ. وضمير {هُمْ} عائد إلى ما عادت إليه الضمائر السابقة. ويجوز أن يعود إلى معلوم من المقام، أي فإذا الناس كلهم ومنهم المتحدث عنهم.
و {الْأَجْدَاثِ} : جمع جدث بالتحريك، وهو القبر.

و {يَنْسِلُونَ} يمشون مشيا سريعا. وفعله من باب ضرب وورد من باب نصر قليلا. والمصدر: النسلان، على وزن الغليان لما في معنى الفعل من التقليب والاضطراب، وتقدم في آخر سورة الأنبياء. وهذا يقتضي أنهم قبروا بعد الصيحة التي أخذتهم فإن كانت الصيحة الواقعة فلأجداث هي ما يعلوهم من التراب في المدة التي بين الصيحة والنفخة. وقد ورد أن بينهما أربعين سنة إذ لا يبقى بعد تلك الصيحة أحد من البشر ليدفن من هلك منهم، وإن كانت الصيحة صيحة الفزع إلى القتل فالأجداث على حقيقتها مثل قليب بدر.
ومعنى: {إِلَى رَبِّهِمْ} إلى حكم ربهم وحسابه، وهو متعلق بـ {يَنْسِلُونَ} .
[52] {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ [52]}.
استئناف بياني لأن وصف هذه الحال بعد حكاية إنكارهم البعث وإحالتهم إياه يثير سؤال من يسأل عن مقالهم حينما يرون حقيقة البعث.
و {يَا وَيْلَنَا} كلمة يقولها الواقع في مصيبة أو المتحسر. والويل: سوء الحال، وإنما قالوا ذلك لأنهم رأوا ما أعد لهم من العذاب عندما بعثوا. وقد تقدم عند قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} في سورة البقرة [79].
وحكي قولهم بصيغة الماضي اتباعا لحكاية ما قبله بصيغة المضي لتحقيق الوقوع.
وحرف النداء الداخل على {وَيْلَنَا} للتنبيه وتنزيل الويل منزلة من يسمع فينادى ليحضر، وقد تقدم عند قوله تعالى: {قَالَتْ يَا وَيْلَتَى} في سورة هود [72].
و {مَنْ} استفهام عن فاعل البعث مستعمل في التعجب والتحسر من حصول البعث. ولما كان البعث عندهم محالا كنوا عن التعجب من حصوله بالتعجب من فاعله لأن الأفعال الغريبة تتوجه العقول إلى معرفة فاعلها لأنهم لما بعثوا وأزجي بهم إلى العذاب علموا أنه بعث فعله من أراد تعذيبهم.
والمرقد: مكان الرقاد. وحقيقة الرقاد: النوم. وأطلقوا الرقاد على الموت والاضطجاع في القبور تشبيها بحالة الراقد.
ثم لم يلبثوا أن استحضرت نفوسهم ما كانوا ينذرون به في الدنيا فاستأنفوا عن

تعجبهم قولهم: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} . وهذا الكلام خبر مستعمل في لازم الفائدة وهو أنهم علموا سبب ما تعجبوا منه فبطل العجب، فيجوز أن يكونوا يقولون ذلك كما يتكلم المتحسر بينه وبين نفسه، وأن يقوله بعضهم لبعض كل يظن أن صاحبه لم يتفطن للسبب فيريد أن يعلمه به.
وأتوا في التعبير عن اسم الجلالة بصفة الرحمان إكمالا للتحسر على تكذيبهم بالبعث بذكر ما كان مقارنا للبعث في تكذيبهم وهو إنكار هذا الاسم كما قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} [الفرقان: 60].
والإشارة بقوله: {هَذَا} إشارة إلى الحالة المرئية لجميعهم وهي حالة خروجهم من الأرض.
وجملة: {وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} عطف على جملة: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ} وهو مستعمل في التحسر على أن كذبوا الرسل.
وجمع المرسلون مع أن المحكي كلام المشركين الذين يقولون: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} [يس: 48] إما لأنهم استحضروا أن تكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم كان باعثه إحالتهم إن يكون الله يرسل بشرا رسولا، فكان ذلك لأنهم لا يصدقون أحدا يأتي برسالة من الله كما حكى عنهم قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91] فلما تحسروا على خطإهم ذكروه بما يشمله ويشمل سببه كقوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} في سورة الشعراء [105]. وقوله في سورة الفرقان [37] {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ} ، وإما لأن ذلك القول صدر عن جميع الكفار المبعوثين من الأمم فعلمت كل أمة خطأها في تكذيب رسولها وخطأ غيرها في تكذيب رسلهم فنطقوا جميعا بما يفصح عن الخطأين، وقد مضى أن ضمير {فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ} [يس: 53] يجوز أن يعود على جميع الناس.
ومن المفسرين من جعل قوله: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} من كلام الملائكة يجيبون به قول الكفار {مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} فهذا جواب يتضمن بيان من بعثهم مع تنديمهم على تكذيبهم به في الحياة الدنيا حين أبلغهم الرسل ذلك عن الله تعالى. واسم {الرَّحْمَنُ} حينئذ من كلام الملائكة لزيادة توبيخ الكفار على تجاهلهم به في الدنيا.
[53] {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ [53]}.

فذلكة لجملة {مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} [يس: 49] إلى قوله: {وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس: 52] لأن النفخ مرادف للصيحة في إطلاقها المجازي، فاقتران فعل كانت بتاء التأنيب لتأويل النفخ مأخوذ من {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} [يس: 51] بمعنى النفخة ينظر إلى الإخبار عنه بـ {صَيْحَةً} . ووصفها بـ {وَاحِدَةً} لأن ذلك الوصف هو المقصود من الاستثناء المفرغ، أي ما كان ذلك الفخ إلا صيحة واحدة لا يكرر استدعاؤهم للحضور بل النفخ الواحد يخرجهم من القبور ويسير بهم ويحضرهم للحساب.
وأما قول تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر: 68] فتلك نفخة سابقة تقع على الناس في الدنيا فيفنى بها الناس وسيأتي ذكرها في سورة الزمر.
ولما كان قوله: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً} في قوة التكرير والتوكيد لقوله: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} [يس: 51] كان ما تفرع عليه من قوله: {فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} بمنزلة العطف على قوله: {فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} [يس: 51] فكأنه مثل {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} [يس: 51] و {فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} ، وإعادة حرف المفاجأة إيماء إلى حصول مضمون الجملتين المقترنتين بحرف المفاجأة في مثل لمح البصر حتى كأن كليهما مفاجأ في وقت واحد. وتقدم الكلام على نظير هذا التركيب آنفا.
و {جَمِيعٌ} نعت للمبتدأ، أي هم جميعهم، فالتنوين في {جَمِيعٌ} عوض المضاف إليه الرابط للنعت بالمنعوت، أي مجتمعون لا يحضرون أفواجا وزرافات، وقد تقدم قوله تعالى: {وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس: 32]} في هذه السورة.
وقرأ الجمهور بنصب {صَيْحَةً}. وقراه أبو جعفر بالرفع إلى أن كان تامة، وتقدم نظيره في أوائل السورة.
[54] {فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [54]}.
إن كان قوله تعالى: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ} [يس: 52] حكاية لكلام الكفار يوم البعث كان هذا كلاما من قبل الله تعالى بواسطة الملائكة وكانت الفاء في قوله: {فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} فاء فصيحة وهي التي تفصح وتنبئ عن كلام مقدر نشأ عن قوله: {فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس: 53] فهو خطاب للذين قالوا: {مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس: 52]. والمعنى: فقد أيقنتم أن وعد الله حق وأن الرسل صدقوا فاليوم يوم

الجزاء كما كان الرسل ينذرونكم.
وإن كان قوله: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ} [يس: 52] من كلام الملائكة كانت الفاء تفريعا عليه وكانت جملة {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} [يس: 29] الخ معترضة بين المفرع والمفرع علبه.
و"اليوم" ظرف وتعريفه للعهد، وهو عهد حضور يعني يوم الجزاء. وفائدة ذكر التنويه بذلك اليوم بأنه يوم العدل.
وأشعر قوله: {لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} بالتعريض بأنهم سيلقون جزاء قاسياً لكنه عادل لا ظلم فيه لأن نفي الظلم يشعر بأن الجزاء مما يخال أنه متجاوز معادلة الجريمة، وهو معنى: {وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي إلا على وفاق ما كنتم تعملون وعلى مقداره. وانتصب {شَيْئاً} على المفعول المطلق، أي شيئا من الظلم.
ووقوع {نَفْسٌ} و {شَيْئاً} وهما نكرتان في سياق النفي يعم انتفاء كل ذلك عن كل نفس وانتفاء كل شيء من حقيقة الظلم وذلك يعم جميع الأنفس..ولكن المقصود أنفس المعاقبين، أي أن جزاءهم على حسب سيئاتهم جزاء عادل. وإذ قد كان تقديره من الله تعالى وهو العليم بكل شيء كانت حقيقة العدل محققة في مقدار جزائهم إذ كل عدل غير عدل الله معرض للزيادة والنقصان في نفس الأمر ولكنه يجري على حسب اجتهاد الحاكمين، والله لم يكلف الحاكم إلا ببذل جهده في إصابة الحق، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد".
[55- 57] {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ [55] هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ [56] لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ [57]}.
هذا من كلام الذي يلقى من الملائكة، والجملة مستأنفة، وهذا مما يقال لمن حق عليهم العذاب إعلاما لهم بنزول مرتبتهم عن مراتب أهل الجنة إعلانا بالحقائق لأن ذلك عالم الحقائق وإدخالا للندامة عليهم على ما فرطوا فيه من طلب الفوز في الآخرة. وهذا يؤذن بأن أهل الجنة عجل بهم إلى النعيم قبل أن يبعث إلى النار أهلها، وأن أهل الجنة غير حاضرين ذلك المحضر.
وتعريف {الْيَوْمَ} للعهد كما تقدم. وفائدة ذكر الظرف وهو {الْيَوْمَ} التنويه بذلك

اليوم بأنه يوم الفضل على المؤمنين المتقين.
والشغل: مصدر شغله، إذا ألهاه. يقال: شغله بكذا عن كذا فاشتغل به. والظرفية مجازية، جعل تلبسهم بالشغل كأنهم مظروفون فيه، أي أحاط بهم شغل عن مشاهدة موقف أهل العذاب صرفهم الله عن منظر المزعجات لأن مشاهدتها لا تخلو من انقباض النفوس، ولكون هذا هو المقصود عدل عن ذكر ما يشغلهم إذ لا غرض في ذكره، فقوله: {فِي شُغُلٍ} خبر {إِنَّ} و {فَاكِهُونَ} خبر ثان.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر ويعقوب {شُغُلٍ} بضم فسكون. وقرأه الباقون بضمتين وهما لغتان فيه.
والفاكه: ذو الفكاهة بضم الفاء، وهي المزاح بالكلام المسر والمضحك، وهي اسم مصدر: فكه بكسر الكاف، إذا مزح وسر. وعن بعض اللغة: أنه لم يسمع له فعل من الثلاثي، وكأنه يعني قلة استعماله، وأما الأفعال غير الثلاثية من هذه المادة فقد جاء في المثل: لا تفاكه أمه ولا تبل على أكمه، وقال تعالى: {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} [الواقعة: 65].
وقرأ الجمهور: {فَاكِهُونَ} بصيغة اسم الفاعل. وقرأه أبو جعفر بدون ألف بصيغة مثال المبالغة.
وجملة: {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ} إلى آخرها واقعة موقع البيان لجملة: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} الخ. والمراد بأزواجهم: الأزواج اللاتي أعدت لهم في الجنة. ومنهن من كن أزواجا لهم في الدنيا إن كن غير ممنوعات من الجنة قال تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} [الرعد: 23].
والضلال قرأه الجمهور بوزن فعال بكسر أوله على جمع ظل، أي ظل الجنات. وقرأه حمزة والكسائي وخلف {ظِللٍ} بضم الظاء وفتح اللام جمع "ظلة" وهي ما يظل كالقباب. وجمع الظلال على القراءتين لأجل مقابلته بالجمع وهم أصحاب الجنة، فكل منهم في ظل أو في ظلة.
و {الْأَرَائِكِ} : جمع أريكة، والأريكة: اسم لمجموع السرير والحجلة، فإذا كان السرير في الحجلة سمي الجميع أريكة. وهذا من الكلمات الدالة على شيء مركب من شيئين مثل المائدة اسم للخوان الذي عليه طعام.
والاتكاء: هيئة بين الاضطجاع والجلوس وهو اضطجاع على جنب دون وضع

الرأس والكتف على الفراش. وهو افتعال من وكأ المهموز، إذا اعتمد، أبدلت واوه تاء كما أبدلت في: تجاه وتراث، وأخذ منه فعل اتكاء لأن المتكئ يشد قعدته ويرسخها بضرب من الاضطجاع. والاسم منه التكأة بوزن همزة، وهو جلوس المتطلب للراحة والإطالة وهو جلسة أهل الرفاهية، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً} في سورة يوسف [31]. وكان المترفهون من الأمم المتحضرة يأكلون متكئين كان ذلك عادة سادة الفرس والروم ومن يتشبه بهم من العرب ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما أنا فلا آكل متكئا" وذلك لأن الاتكاء يعين على امتداد المعدة فتقبل زيادة الطعام ولذلك كان الاتكاء في الطعام مكروها للإفراط في الرفاهية. وأما الاتكاء في غير حال الأكل فقد اتكأ النبي صلى الله عليه وسلم في مجلسه كما في حديث صمام بن ثعلبة وافد بني سعد بن بكر: أنه دخل المسجد فسأل عن النبي صلى الله عليه وسلم فقيل له: "هو ذلك الأزهر المتكئ".
والفاكهة: ما يؤكل للتلذذ لا للشبع كالثمار النقول وإنما خصت بالذكر لأنها عزيزة النوال للناس في الدنيا ولأنها استجلبها ذكر الاتكاء لأن شأن المتكئين أن يشتغلوا بتناول الفواكه.
ثم عمم ما أعد لهم بقوله: {وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} و {يَدَّعُونَ} يجوز أن يكون متصرفا من الدعاء أو من الادعاء، أي ما يدعون إليه أو ما يدعون في أنفسهم أنه لهم بإلهام إلهي. وصيغ له وزن الافتعال للمبالغة، فوزن {يَدَّعُونَ} يفتعلون. أصله يدتعيون نقلت حركة الياء إلى العين طلبا للتخفيف لأن الضم على الياء ثقيل يعد حذف حركة العين فبقيت الياء ساكنة وبعدها واو الجماعة لأنه مفيد معنى الإسناد إلى الجمع.
وهذا الافتعال لك أن تجعله من "دعاء"، والافتعال هنا يجعل فعل "دعاء" قاصرا فينبغي تعليق مجرور به. والتقدير: ما يدعون لأنفسهم، كقول لبيد:
فاشتوى ليلة ريح واجتمل1
اشتوى إذا شوى لنفسه واجتمل إذا جمل لنفسه، أي جمع الجميل وهو الشحم المذاب وهو الإهالة.
ـــــــ
1 قبله:
وغلام أرسلته أمه ... بألوك فبذلنا ماسأل
أرسلته فأتاه رزقه ... .................... الخ.

وإن جعلته من الادعاء فمعناه: أنهم يدعون ذلك حقا لهم، أي تتحدث أنفسهم بذلك فيؤول إلى معنى: ويتمنون في أنفسهم دون احتياج إلى أن يسألوا بالقول فلذلك قيل معنى: {يَدَّعُونَ} يتمنون. يقال: ادع علي ما شئت، أي تمن علي، وفلان في خير ما ادعى، أي في خير ما يتمنى، ومنه قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} في سورة فصلت [31].
[58] {سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [58]}.
استئناف قطع عن أن يعطف على ما قبله للاهتمام بمضمونه، وهو الدلالة على الكرامة والعناية بأهل الجنة من جانب القدس إذ يوجه إليهم سلام الله بكلام يعرفون أنه قول من الله: إما بواسطة الملائكة، وإما بخلق أصوات يوقنون بأنها مجعولة لأجل إسماعهم كما سمع موسى كلام الله حين ناداه من جانب الطور من الشجرة فبعد أن أخبر بما حباهم به من النعيم مشيرا إلى أصول أصنافه، أخبر بأن لهم ما هو أسمى وأعلى وهو التكريم بالتسليم عليهم قال تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة: 72].
و {سَلامٌ} مرفوع في جمع القراءات المشهورة. وهو مبتدأ وتنكيره للتعظيم. ورفعه للدلالة على الدوام والتحقيق، فإن أصله النصب على المفعولية المطلقة نيابة عن الفعل مثل قوله: {قَالُوا سَلاماً} [هود: 69]. فلما أريدت الدلالة على الدوام جيء به مرفوعا مثل قوله: {قَالَ سَلامٌ} [هود: 69]، وقد تقدم بيان ذلك عند قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] .
وحذف خبر {سَلامٌ} لنيابة المفعول المطلق وهو {قَوْلاً} عن الخبر لأن تقديره: سلام يقال لهم قولا من الله، والذي اقتضى حذف الفعل ونيابة المصدر عنه هو استعداد المصدر لقبول التنوين الدال على التعظيم، والذي اقتضى أن يكون المصدر منصوبا دون أن يؤتى به مرفوعا هو ما يشعر به النصب من كون المصدر جاء بدلا عن الفعل.
و {مِنْ} ابتدائية. وتنوين {رَبٍّ} للتعظيم، ولأجل ذلك عدل عن إضافة {رَبٍّ} إلى ضميرهم، واختير في التعبير عن الذات العلية بوصف الرب لشدة مناسبته للإكرام والرضى عنهم بذكر أنهم عبدوه في الدنيا فاعترفوا بربوبيته.
[59] {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} [59].

يجوز أن يكون عطفا على جملة: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ} [يس: 55] ويجوز أن يعطف على {سَلامٌ قَوْلاً} [يس: 58]، أي ويقال: امتازوا اليوم أيها المجرمون، على الضد مما يقال لأصحاب الجنة. والتقدير: سلام يقال لأهل الجنة قولا، ويقال للمجرمين: امتازوا، فتكون من توزيع الخاطبين في مقام واحد كقوله تعالى: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ} [يوسف: 29].
وامتاز مطاوع مازه، إذا أفرده عما مختلطا معه، وجه الأمر إليهم بأن يمتازوا مبالغة في الإسراع بحصول الميز لأن هذا الأمر تكوين فعبر عن معنى. فيكون الميز بصوغ الأمر من مادة المطاوعة، فإن قولك: لتنكسر الزجاجة أشد في الإسراع بحصول الكسر فيها من أن تقول: اكسروا الزجاجة. والمراد: امتيازهم بالابتعاد عن الجنة، وذلك بأن يصيروا إلى النار فيؤول إلى معنى: ادخلوا النار. وهذا يقتضي أنهم كانوا في المحشر ينتظرون ماذا يفعل بهم كما أشرنا إليه عند قوله تعالى آنفا: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ} [يس: 55]، فلما حكي ما فيه أصحاب الجنة من النعيم حين يقال لأصحاب النار: {فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} [يس: 54]، حكي ذلك ثم قيل للمشركين: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} [يس: 59}.
وتكرير كلمة {الْيَوْمَ} ثلاث مرات في هذه الحكاية للتعريض بالمخاطبين فيه وهم الكفار الذين كانوا يجحدون وقوع ذلك اليوم مع تأكيد ذكره على أسماعهم بقوله: {فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ} [يس: 54] وقوله: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ} [يس: 55] وقوله: {امْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} .
ونداؤهم بعنوان: و {الْمُجْرِمُونَ} للإيماء إلى علة ميزهم عن أهل الجنة بأنهم مجرمون، فاللام في {الْمُجْرِمُونَ} موصولة، أي أيها الذين أجرموا.
[60- 62] {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [60] وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [61] وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ [62]}.
إقبال على جميع البشر الذي جمعهم المحشر غير أهل الجنة الذين عجلوا إلى الجنة، فيشمل هذا جميع أهل الضلالة من مشركين وغيرهم، ولعله شامل لأهل الأعراف، وهو إشهاد على المشركين وتوبيخ لهم.

والاستفهام تقريري، وخطبوا بعنوان {بَنِي آدَمَ} لأن مقام التوبيخ على عبادتهم الشيطان يقتضي تذكيرهم بأنهم أبناء الذي جعله الشيطان عدوا له، كقول النابغة:
لئن كان للقبرين قبر بجلق ... وقبر بصيدا الذي عند حارب
وللحارث الجفني سيد قومه ... ليلتمس بالجيش دار المحارب
يعني بلاد من حارب أصوله.
والعهد: الوصاية، ووصاية الله آدم بألا يعبدوا الشيطان هي ما تقرر واشتهر في الأمم بما جاء به الرسل في العصور الماضية فلا يسع إنكاره. وبهذا الاعتبار صح الإنكار عليهم في حالهم الشبيه بحال من يجحد هذا العهد.
واعلم أن في قوله تعالى: {أَعْهَدْ} تولي العين والهاء حرفان متقاربا المخرج من حروف الحلق إلا أن تواليهما لم يحدث ثقلا في النطق بالكلمة ينافي الفصاحة بموجب تنافر الحروف لأن انتقال النطق في مخرج العين من وسط الحلق إلى مخرج الهاء من أقصى الحلق خفف النطق بهما، وكذلك الانتقال من سكون إلى حركة زاد ذلك خفة. ومثله قوله تعالى: {وَسَبِّحْهُ} [الانسان: 26] المشتمل على حاء وهي من وسط الحلق وهاء وهي من أقصاه إلا أن الأولى ساكنة والثانية متحركة وهما متقاربا المخرج، ولا يعد هذا من تنافر الحروف، ومثل له بقول أبي تمام:
كريم متى أمدحه ... معي وإذا ما لمته لمته وحدي
فإن كلمة "امدحه" لا تعد متنافرة الحروف على أن تكريرها أحدث عليها ثقلا ما فلا يكون ذلك مثل قول امرئ القيس:
غدائره مستشزرات إلى العلى1
المجعول مثالا للتنافر فإن تنافر حروفه انجر إليه من تعاقب ثلاثة حروف: السين والشين والزاي، ولولا الفصل بين السين والشين بالتاء لكان اشد تنافرا.
وموجبات التنافر كثيرة ومرجعها إلى سرعة انتقال اللسان في مخارج حروف شديد التقارب أو التباعد مع عوارض تعرض لها من صفات الحروف من: جهر وهمس، أو شدة ورخو، أو استعلاء واستفال، أو انفتاح وانطباق، أو إصمات وانذلاق. ومن حركاتها
ـــــــ
1 تمامه: تضل العقاص في مثنى ومرسل.

وسكناتها وليس لذلك ضابط مطرد ولا كنه مما يرجع فيه إلى ذوق الفصحاء. وقد حاول أبن سنان الخفاجي إرجاعه إلى تقارب مخارج الحروف فرده أبن الأثير عليه بما لا مخلص منه.
وإذا اقتضى الحال من حق البلاغة إيثاق كلمة ذكر إذ لا يعدلها غيره فعرض من تصاريفها عارض ثقل لا يكون حق مقتضى الحال البلاغي موجبا إيرادها.
و {أَنْ} تفسيرية، فسرت إجمال العهد لأن العهد فيه معنى القول دون حروفه فـ {أَنْ} الواقعة بعد تفسيرية.
وعبادة الشيطان: عبادة ما يأمر بعبادته من الأصنام ونحوها.
وجملة: {لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} تعليل الجملة {لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} وقد أغنت {أَنْ} عن فاء السببية كما تقدم غير مرة.
و {مُبِينٌ} أسم فاعل من أبان بمعنى بان للمبالغة، أي عدواته واضحة، ووجه وضوحها أن المرء إذ راقب عواقب الأعمال التي توسوسها له نفسه واتهمها وعرضها على وصايا الأنبياء والحكماء وجدها عواقب نحسة، فوضح له أنها من الشيطان بالوسوسة وأن الذي وسوس بها عدو له لأنه لو كان ودودا لما أوقعه في الكوارث ولا يضن به الإيقاع في ذلك عن غير بصيرة لأن التكرر أمثال تلك الوسواس للمرء ولأمثاله ممن يبوح له بأحواله يدل ذلك التكرر على أنها وسواس مقصودة للإيقاع في المهالك فعلم أن المشير بها عدو ألد، ولعل هذا المعنى هو المشار إليه بقوله: تعالى: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ}.
وجملة: {وَأَنِ اعْبُدُونِي} عطف على {أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} بإعادة {أَنْ} التفسيرية فهما جملتان مفسرتان لعهدين.
وعدل عن الإتيان بصيغة قصر لأن في الإتيان بهاتين الجملتين زيادة فائدة لأن من أهل الضلالة الدهريين والعاطلين فهم وإن لم يعبدوا الشيطان ولكنهم لم يعبدوا الله فكانوا خاسئين بالعهد.
والإشارة في قوله: {هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} للعهد المفهوم من فعل {أَعْهَدْ} أو للمذكور في "تفسيره" من جملتي: {لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} {وَأَنِ اعْبُدُونِي} ، أي هذا المذكور صراط مستقيم، أي كالطريق القويم في الإبلاغ إلى المقصود. والتنوين للتعظيم.

وقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً} عطف على {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} فعداوته واضحة بدليل التجربة فكانت علة للنهي عن عبادة ما يأمرهم بعبادتهم.
والمعنى: إن عداوته واضحة وضوح الصراط المستقيم لأنها تقررت بين الناس وشهدت بها العصور والأجيال فإنه لم يزل يضل الناس إضلالا تواتر أمره وتعذر إنكاره.
والجبل: بكسر الجيم وكسر الموحدة وتشديد اللام كما قرأه نافع وعاصم وأبو جعفر. وقرأه ابن كثير وحمزة والكسائي وخلف ورويس عن يعقوب نضم الجيم وضم الباء الموحدة وتخفيف اللام. وقرأه ابن عامر وأبو بكر بضم الجيم وسكون الباء.
والجبل: الجمع العظيم، وهو مشتق من الجبل بسكون الباء بمعنى الخلق. وفرع عليه توبيخهم بقلة العقول بقوله: {أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} ، فالاستفهام إنكاري عن عدم كونهم يعقلون، أي يدركون، إذ لو كانوا يعقلون لتفطنوا إلى إيقاع الشيطان بهم في مهاوي الهلاك. وزيادة فعل الكون للإيماء إلى أن العقل لم يتكون فيهم ولا هم كائنون به.
[63, 64] {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [63] اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ [64]}.
إقبال على خطاب الذين عبدوا معبودات يسولها لهم الشيطان، إذ تبدو لهم جهنم بحيث يشار إليها ويعرفون أنها هي جهنم التي كانوا في الدنيا ينذرون بها وتذكر لهم في الوعيد مدة الحياة. والأمر بقوله: {اصْلَوْهَا} مستعمل في الإهانة والتنكير.
و {اصْلَوْهَا} أمر من صلي يصلى، إذا استدفأ بحر النار، وإطلاق الصلي على الإحراق تهكم.
والتعريف في {الْيَوْمَ} تعريف العهد، أي هذا اليوم الحاضر وأريد به جواب ما كانوا يقولون في الحياة الدنيا من استبطاء الوعد والتكذيب إذ يقولون {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يس: 48].
والباء في {بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} سببية، أي بسبب كفركم في الدنيا.
[65] {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}.

والجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا وقوله: {الْيَوْمَ} ظرف متعلق بـ {نَخْتِمُ} .
والقول في لفظ {الْيَوْمَ} كالقول في نظائره الثلاثة المتقدمة، وهو تنويه بذكره بحصول هذا الحال العجيب فيه، وهو انتقال النطق من موضعه المعتاد إلى الأيدي والأرجل.
وضمائر الغيبة في {أَفْوَاهِهِمْ ، أَيْدِيهِمْ ، أَرْجُلُهُمْ ، يَكْسِبُونَ} عائدة على الذين خوطبوا بقوله: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [يس: 63] على طريقة الالتفات. وأصل النظم: اليوم نختم على أفواهكم وتكلمنا أيديكم وتشهد أرجلكم بما كنتم تكسبون. ومواجهتهم بهذا الإعلام تأسيس لهم بأنهم لا ينعهم إنكار ما أطلعوا عليه من صحائف إعمالهم كما قال تعالى: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء: 14].
وقد طوي في هذه الآية ما ورد تفصيله في آي أخر فقد قال تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 22- 23] وقال {وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} [يونس: 28- 29] .
وفي "صحيح مسلم" عن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يخاطب العبد ربه يقول: يا رب ألم تجرني من الظلم? فيقول: إني لا أجيز على نفسي إلا شاهدا مني، فيقول الله: كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا، فيختم على فيه. فيقال لأركانه: انطقي، فتنطق بأعماله ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول: بعدا لكن وسحقا فعنكن كنت أناضل" ، وإنما طوي ذكر الداعي إلى خطابهم بهذا الكلام لأنه لم يتعلق به غرض هنا فاقتصر على المقصود.
وقد يخيل تعارض بين هذه الآية وبين قوله: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور: 24] ولا تعارض لأن آية يس في أحوال المشركين وآية سورة النور في أحوال المنافقين. والمراد بتكلم الأيدي تكلهما بالشهادة، والمراد بشهادة الأرجل نطقها بالشهادة، ففي كلتا الجملتين احتباك. والتقدير: وتكلمنا أيديهم فتشهد وتكلمنا أرجلهم فتشهد.
ويتعلق: {بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} بكل من فعلي {تُكَلِّمُنَا, وَتَشْهَدُ} على وجه التنازع. وما يكسبونه: هو الشرك وفروعه. وتكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم وما ألحقوا به من الأذى.

[66، 67] {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ [66] وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيّاً وَلا يَرْجِعُونَ [67]}.
عطف على جملة: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} [يونس: 48]. وموقع هاتين الآيتين من التي قبلهما أنه لما ذكر الله إلجاءهم إلى الاعتراف بالشرك بعد إنكاره يوم القيامة كان ذلك مثيرا لأن يهجس في نفوس المؤمنين أن يتمنوا لو سلك الله بهم في الدنيا مثل هذا الإلجاء فألجأهم إلى الإقرار بوحدانيته وإلى تصديق رسوله واتباع دينه، فأفاد الله أنه لو تعلقت إرادته بذلك في الدنيا لفعل، إيماء إلى أن إرادته تعالى تجري تعلقاتها على وفق علمه تعالى وحكمته، فهو قد جعل الدنيا جاريا على حصول الأشياء عن أسبابها التي وكل الله إليها إنتاج مسبباتها واثارها وتوالداتها حتى إذا بدل هذا العالم الحقيقة أجرى الأمور كلها على المهيع الحق الذي لا ينبغي غيره في مجاري العقل والحكمة. والمعنى أنا ألجأناهم إلى الإقرار في الآخرة بأن ما كانوا عليه في الدنيا شرك وباطل ولو نشاء لأريناهم آياتنا في الدنيا ليرتدعوا ويرجعوا عن كفرهم وسوء إنكارهم.
ولما كانت {لَوْ} تقتضي امتناعا لامتناع فهي تقتضي معنى: لكنا لم نشأ ذلك فتركناهم على شأنهم استدراجا وتمييزا بين الخبيث والطيب. فهذا كلام موجه إلى المسلمين ومراد منه تبصرة المؤمنين وإرشادهم إلى الصبر على ما يلاقونه من المشركين حتى يأتي نصر الله.
فالطمس والمسخ المتعلقان على الشرط الامتناعي طمس ومسخ في الدنيا لا في الآخرة. والطمس: مسخ شواهد العين بإزالة سوادها وبياضها أو اختلاطهما وهو العمى أو العور، ويقال: طريق مطموسة، إذا لم تكن فيها آثار السائرين ليقفوها السائر. وحرف الاستعلاء للدلالة على تمكن الطمس وإلا فإن طمس يتعدى بنفسه.
والاستباق: افتعال من السبق والافتعال دال على التكلف والاجتهاد في الفعل أي فبادروا.
و {الصِّرَاطَ} : الطريق الذي يمشى فيه، وتعدية فعل الاستباق إليه على حذف "إلى" بطريقة الحذف والإيصال، قال الشاعر وهو من شواهد الكتاب:
تمرون الديار ولم تعوجوا
أراد: تمرون على الديار.

أو على تضمين "استبقوا" معنى ابتدروا، أي ابتدروا الصراط متسابقين، أي مسرعين لما دهمهم رجاء أن يصلوا إلى بيوتهم قبل أن يهلكوا فلم يبصروا الطريق. وتقدم قوله تعالى: {إِنَّا ذَهَبْنَا} في سورة يوسف [17].
و"أنى" استفهام بمعنى "كيف" وهو مستعمل في الإنكار، أي لا يبصرون وقد طمست أعينهم، أي لو شئنا لعجلنا لهم عقوبة في الدنيا يرتدعون بها فيقلعوا عن إشراكهم.
والمسخ: تصيير جسم الإنسان في صورة جسم من غير نوعه، وقد تقدم القول فيه عند قوله تعالى: {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} في سورة البقرة [65].
وعن ابن عباس أن الممسوخ لا يعيش أكثر من ثلاثة أيام وعليه فلا شيء من الأشياء الموجودة الآن ببقية مسخ.
والمكانة: تأنيث المكان على تأويله بالبقعة كما قالوا: مقام ومقامة، ودار ودارة، أي لو نشاء لمسخنا الكافرين في الدنيا في مكانهم الذي أظهروا فيه التكذيب بالرسل فما استطاعوا انصرافا إلى ما خرجوا إليه ولا رجوعا إلى ما أتوا منه بل لزموا مكانهم لزوال العقل الإنساني منهم بسبب المسخ.
وكان مقتضى المقابلة أن يقال: ولا رجوعا، ولكن عدل إلى {وَلا يَرْجِعُونَ} لرعاية الفاصلة فجعل قوله: {وَلا يَرْجِعُونَ} عطفا على جملة "ما استطاعوا" وليس عطفا على {مُضِيّاً} لأن فعل استطاع لا ينصب الجمل. والتقدير: فما مضوا ولا رجعوا فجعلنا لهم العذاب في الدنيا قبل الآخرة وأرحنا منهم المؤمنين وتركناهم عبرة وموعظة لمن بعدهم.
[68] {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ [68]}.
قد يلوح في بادئ الرأي أن موقع هذه الآية كالغريب عن السياق قيظن ظان أنها كلام مستأنف انتقل به غرض الحديث عن المشركين وأحوالهم والإملاء لهم إلى التذكير بأمر عجيب من صنع الله حتى يخال أن الذي اقتضى وقوع هذه الآية في هذا الموقع أنها نزلت في تباع نزول الآيات قبلها لسبب اقتضى نزولها.
فجعل كثير من المفسرين موقعها موقع الاستدلال على أن قدرة الله تعالى لا

يستصعب عليها طمس أعينهم ولا مسخهم كما غير خلقة المعمرين من قوله إلى ضعف، فيكون قياس تقريب من قبيل ما يسمى في أصول الفقه بالقياس الخفي وبالأدون، فيكون معطوفا على علة مقدرة في الكلام كأنه قيل: لو نشاء لطمسنا الخ لأنا قادرون على قلب الأحوال، ألا يرون كيف نقلب خلق الإنسان فنجعله على غير ما خلقناه أولا. وبعد هذا كله فموقع أو العطف غير شديد الانتظام. وجعلها بعض المفسرين واقعة موقع الاستدلال على المكان البعيد، أي أن الذي قدر على تغيير خلقهم من شباب إلى هرم قادر على أن يبعثهم بعد الموت فهو أيضا قياس تقريب بالخفي وبالأدون.
ومنهم من تكلم عليها معرضا عما قبلها فتكلموا على معناها وما فيها من العبرة ولم يبينوا وجه اتصالها بما قبلها. ومنهم من جعلها لقطع معذرة المشركين في ذلك اليوم أن يقولوا: ما لبثنا في الدنيا إلا عمرا قليلا ولو عمرنا طويلا لما كان منا تقصير، وهو بعيد عن مقتضى قوله: {نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ} . وكل هذا التفاسير تحوم حول جعل الخلق بالمعنى المصدري، أي في خلقته أو في أثر خلقه.
وكل هذه التفسيرات بعيد عن نظم الكلام، فالذي يظهر أن الذي دفع المفسرين إلى ذلك هو ما ألفه الناس من إطلاق التعمير على طول عمر المعمر، فلما تأوله بهذا المعنى ألحقوا تأويل: {نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ} على ما يناسب ذلك.
والوجه عندي أن لكون جملة: {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ} عطفا على جملة: {وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ} [يس: 67] فهي جملة شرطية عطفت على جملة شرطية، فالمعطوف عليها جملة شرط امتناعي والمعطوف عليها جملة شرط امتناعي والمعطوفة جملة شرط امتناعي والمعطوفة جملة شرط تعليقي، والجملة الأولى أفادت إمهالهم والإملاء لهم، والجملة المعطوفة أفادت إنذارهم بعاقبة غير محمودة ووعيدهم بحلولها بهم، أي إن كنا لم نمسخهم ولم نطمس على عيونهم فقد أبقيناهم ليكونوا مغلوبين أذلة، فمعنى: {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ} من نعمره منهم.
فالتعمير بمعنى الإبقاء، أي من نبقيه منهم ولا نستأصله منهم، أي من المشركين فجعله بين الأمم دليلا، فالتعمير المراد هنا كالتعمير الذي في قوله تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} [فاطر: 37]، بأن معناها: ألم نبقكم مدة من الحياة تكفي المتأمل وهو المقدر بقوله: {مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} . وليس المراد من التعمير فيها طول الحياة وإدراك الهرم كالذي في قولهم: فلان من المعمرين، فإن ذلك لم يقع بجميع أهل النار الذين خوطبوا بقوله: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ} . وقد طويت في الكلام جملة تقديرها: ولو نشاء

لأهلكناهم، يدل عليها قوله: {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ} ، أي نبقه حيا.
والنكس: حقيقة قلب الأعلى أسفل ما يقرب من الأسفل، قال تعالى: {نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ} [السجدة: 12]. ويطلق مجازا على الرجوع من حال حسنة إلى سيئة، ولذلك يقال: فلان نكس، إذا كان ضعيفا لا يرجى لنجدة، وهو فعل بمعنى مفعول كأنه منكوس في خلائق الرجولة، فـ {نُنَكِّسْهُ} مجاز لا محالة إلا أنا نجعله مجازا في الإذلال بعد العزة وسوء الحالة بعد زهرتها.
و {الْخَلْقِ} : مصدر خلقه، ويطلق على المخلوق كثيرا وعلى الناس. وفي حديث عائشة عن الكنسية التي رأتها أم سلمة وأم حبيبة بالحبشة قال النبي صلى الله عليه وسلم وأولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة ، أي شرار الناس.
ووقوع حرف {فِي} هنا يعين أن الخلق هنا مراد به الناس، أي تجعله دليلا في الناس وهو أليق بهذا المعنى دون في خلقته لأن الإنكاس لا يكون في أصل الخلقة إنما يكون في أطوارها، وقد فسر بذلك قوله تعالى: {وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً} [الأعراف: 69] أي زادكم قوة وسعة في الأمم، أي في الأمم المعاصرة لكم، فهو وعيد لهم ووعد للمؤمنين بالنصر على المشركين ووقوعهم تحت نفوذ المسلمين، فإن أولئك الذين كانوا رؤوسا للمشركين في الجاهلية صاروا في أسر المسلمين يوم بدر وفي حكمهم يوم الفتح فكانوا يدعون الطلقاء.
وقرأ الجمهور: {نُنَكِّسْهُ} بفتح النون الأولى وسكون النون الثانية وضم الكاف مخففة وهو مضارع نكس المتعدي، يقال: نكس رأسه. وقرأه عاصم وحمزة بضم النون الأولى وفتح النون الثانية وكسر الكاف مشددة مضارع نكس المضاعف.
وفرع على الجمل الشرطية الثلاث وما تفرع عليها قوله: {أَفَلا يَعْقِلُونَ} استئنافا إنكاريا لعدم تأملهم في عظيم قدرة الله تعالى الدالة على أنه لو شاء لطمس على أعينهم ولو شاء لمسخهم على مكانتهم، وأنه إن لم يفعل ذلك فإنهم لا يسلمون من نصره المسلمين عليهم لأنهم لو قاسوا مقدورات الله تعالى المشاهدة لهم لعلموا أن قدرته على مسخهم فما دونه من إنزال مكروه بهم أيسر من قدرته على إيجاد المخلوقات العظيمة المتقنة وأنه لا حائل بين تعلق قدرته بمسخهم إلا عدم إرادته ذلك لحكمة علمها فإن القدرة إنما تتعلق بالمقدورات على وفق الإرادة.

وقرأ نافع وابن ذكوان عن أبي عامر وأبو جعفر {أَفَلا يَعْقِلُونَ} بتاء الخطاب وهو خطاب للذين وجه إليهم قوله: {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ} [يس: 66] الآية. وقرأ الباقون بياء الغيبة لأن تلك الجمل الشرطية لا تخلوا من مواجهة بالتعريض للمتحدث عنهم فكانوا أحرياء أن يعقلوا مغزاها ويتفهموا معناها.
[69, 70] {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ [69] لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ [70]}.
هذه الآية ترجع إلى ما تضمنه قوله تعالى: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} [يس: 46] فقد بينا أن المراد بالآيات آيات القرآن، فإعراضهم عن القرآن له أحوال شتى: بعضها بعدم الامتثال لما يأمرهم به من الخير مع الاستهزاء بالمسلمين وهو قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} [يس: 47] الآية، وبعضها بالتكذيب لما ينذرهم به من الجزاء، وهو قوله: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يس: 48]. ومن إعراضهم عنه طعنهم في آيات القرآن بأقوال شتى منها قولهم: هو قول شاعر، فلما تصدى القرآن لإبطال تكذيبهم بوعيد بالجزاء يوم الحشر بما تعاقب من الكلام على ذلك عاد هنا إلى طعنهم في ألفاظ القرآن من قولهم: {بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} [الأنبياء : 5], فقولهم {بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} يقتضي لا محاولة أنهم يقولون: القرآن شعر.
فالجملة معطوفة على جملة: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأنبياء: 38], عطف القصة على القصة والغرض على الغرض. ويجوز أن تكون مستأنفة استئنافا ابتدائيا ويكون الواو للاستئناف، ولذلك اقتصر هنا على تنزيه القرآن عن أن يكون شعرا والنبي صلى الله عليه وسلم عن أن يكون شاعرا دون التعرض لتنزيه عن أن يكون ساحرا، أو أن يكون مجنونا لأن الغرض الرد على إعراضهم عن القرآن، ألا ترى أنه لما قصد إبطال مقالات لهم في القرآن قال في الآية الأخرى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [الحاقة: 41, 42].
وضير {عَلَّمْنَاهُ} عائد إلى معلوم من مقام الرد وليس عائد إلى مذكور إذ لم يتقدم له معاد.
وبني الرد عليهم على طريقة الكناية بنفي تعليم النبي صلى الله عليه وسلم الشعر لما في ذلك من إفادة أن القرآن معلم للنبي صلى الله عليه وسلم من قبل الله تعالى وأنه ليس بشعر وأن النبي صلى الله عليه وسلم ليس

بشاعر. وانتصب {الشِّعْرَ} على أنه مفعول ثان لفعل {عَلَّمْنَاهُ} ، وهذا الفعل من أفعال العلم، ومجرده يتعدى إلى مفعول واحد غالبا نحو علم المسألة. ويتعدى إلى مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر، فإذا دخله التضعيف صار متعدياً إلى مفعولين فقط اعتدادا بأن مجرده متعد إلى واحد كقوله تعالى: {وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [المائدة: 110] في سورة العقود، وقوله: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} في هذه السورة يس~ وهذه تفرقة في الاستعمال موكولة إلى اختبار أهل اللسان نبه عليه الرضي في "شرح الكافية" في باب تعدية أفعال القلوب إلى مفعولين بأن أصله متعد إلى واحد. فتقدير المعنى: نحن علمناه القرآن وما علمناه الشعر، فالقرآن موحى إليه بتعليم من الله والذي أوحى به إليه ليس بشعر، وإذن فالمعنى: أن القرآن ليس من الشعر في شيء، فكانت هاته الجملة ردا على قولهم: هو شاعر على طريقة الكناية لأنها انتقال من اللازم إلى الملزوم.
ودل على أن هذا هو المقصود من قوله: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} قوله عقبة {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} ، أي ليس الذي علمناه إياه إلا ذكرا وقرآنا وما هو بشعر. والتعليم هنا بمعنى الوحي، أي وما أوحينا إليه الشعر فقد أطلق التعليم على الوحي في قوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم: 4, 5] وقال {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء: 113].
وكيف يكون القرآن شعرا والشعر كلام موزون مقفى له معان مناسبة لأغراضه التي أكثرها هزل وفكاهة، فأين الوزن في القرآن، وأين التقفية، وأين المعاني التي ينتجها الشعر، وأين نظم كلامهم من نظمه، وأساليبهم من أساليبه. ومن العجيب في الوقاحة أن يصدر عن أهل اللسان والبلاغة قول هذا ولا شبهة لهم فيه بحال، فما قولهم ذلك إلا بهتان.
وما بني عليه أسلوب القرآن من تساوي الفواصل لا يجعلها موازية للقوافي كما يعلمه أهل الصناعة منهم وكل من زاول مبادئ القافية من المولدين، ولا أحسبهم دعوه شعرا إلا تعجلا في الإبطال، أو تمويها على الإغفال، فأشاعوا في العرب أن محمدا صلى الله عليه وسلم شاعر، وأن كلامه شعر، وينبني عن هذا الظن خبر أنيس بن جنادة الغفاري أخي أبي ذر، فقد روى البخاري عن ابن عباس، ومسلم عن عبد الله ابن الصامت، يزيد أحدهما على الآخر قالا: "قال أبو ذر لأخيه: اركب إلى هذا الوادي فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء واستمع من قوله ثم ائتني، فانطلق الأخ حتى قدم

وسمع من قوله، ثم رجع إلى أبي ذر فقال له: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق وكلاما ما هو بالشعر. قال أبو ذر: فما يقول الناس? قال: يقولون شاعر، كاهن، ساحر. وكان أنيس أحد الشعراء، قال أنيس: لقد سمعة قول الكهنة فما هو بقولهم، ولقد وضعت قوله على إقراء الشعر فما يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر والله إنه لصادق وإنهم لكاذبون" ثم اقتص الخبر عن إسلام أبي ذر، ويطهر أن ذلك كان في أول البعثة.
ومثله خبر الوليد بن المغيرة الذي رواه البيهقي وابن إسحاق "أنه جمع قريشا عند حضور الموسم ليتشاوروا في أمر النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهم: إن وفود العرب ترد عليكم فأجمعوا فيه رأيا لا يكذب بعضكم بضا، فقالوا: نقول كاهن? فقال: والله ما هو بكاهن، وما هو بزمزمته ولا بسجعه، قالوا: نقول مجنون? فقال: والله ما هو بمجنون ولا بخنقه ولا وسوسته، فذكر ترددهم في وصفه إلى أن قالوا: نقول شاعر? قال: ما هو بشاعر، قد عرفت الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومبسوطه ومقبوضه وما هو بشاعر..." إلى آخر القصة.
فمعنى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} : وما أوحينا إليه شعرا علمناه إياه.
وليس المراد أن الله لم يجعل في طبع النبيء القدرة على نظم الشعر لأن تلك المقدرة لا تسمى تعليما حتى تنفى وإنما يستفاد هذا المعنى من قوله بعده: {وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} وسنتكلم عليه قريبا.
وقد اقتضت الآية نفي أن يكون القرآن شعرا، وهذا الاقتضاء قد أثار مطاعن للملحدين ومشاكل للمخلصين، وإذ وجدت فقرات قرآنية استكملت ميزان بحور من البحور الشعرية، بعضها يلتئم منه بيت كامل، وبعضها يتقوم منه مصراع واحد، ولا تجد أكثر من ذلك فهذا يلزم منه وقوع الشعر. في آي القرآن.
وقد أثار الملاحدة هذا المطعن، فلذلك تعرض أبو بكر الباقلاني إلى دحضه في كتابه "إعجاز القرآن" وتبعه السكاكي وأبو بكر بن العربي، فأما الباقلاني فانفرد برد قال فيه: إن البيت المفرد لا يسمى شعرا بله المصراع الذي لا يكمل به بيت. وأرى هذا غير كاف هنا لأنه لا يستطاع نفي مسمى الشعر عن المصراع وأولى عن البيت.
وقال السكاكي في آخر مبحث رد المطاعن عن القرآن من كتاب "مفتاح العلوم":

"إنهم يقولون أنتم في دعواكم أن القرآن كلام الله وقد علمه محمدا صلى الله عليه وسلم على أحد أمرين: إما أن الله تعالى جاهل لا يعلم ما الشعر، وإما أن الدعوى باطلة، وذلك أن في قرآنكم {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} وأنه يستدعي أن لا يكون فيما علمه شعر".
ثم إن في القرآن من جميع البحور شعرا:
فمن الطويل من "صحيحه" {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29].
ومن مخرومه: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} [طه: 55].
ومن بحر المديد: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} [هود: 37].
ومن بحر الوافر: {وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} [التوبة: 14].
ومن بحر الكامل: {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 213].
ومن بحر الهجز من مخرومه: {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا} [يوسف: 91].
ومن بحر الرجز: {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً} [الانسان: 14] .
ومن بحر الرمل: {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبأ: 13]، ونظيره {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} [الشرح: 3- 2].
ومن البحر السريع: {قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ} [طه: 95] ونظره {نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ} [الأنبياء : 18] ومنه: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} [البقرة: 259].
ومن بحر المنسرح: {إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ} [الانسان: 2].
ومن بحر الخفيف: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} [الماعون: 1- 2] ومنه {لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} [النساء: 78]، ونحوه: {قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي} [هود: 78].
ومن بحر المضارع من مخرومه: {يَوْمَ التَّنَاد يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ} [غافر: 32- 33].
ومن بحر المقتضب: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [البقرة: 10].
ومن بحر المتقارب: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف: 183].
فيقال لهم من قبل النظر فيها أوردوه: هل حرفوا بزيادة أو نقصان حركة أو حرفا أم

لا. وقبل أن ننظر هل راعوا أحكام علم العروض في الأعاريض والضروب التي سبق ذكرها أم لا. ومن قبل أن ننظر هل عملوا بالمنصور من المذهبين في معنى الشعر على نحو ما سبق أم لا "يعني المذهبين مذهب الذين قالوا لا يكون الشعر شعرا إلا إذا قصد قائله أن يكون موزونا، ومذهب الذين قالوا: إن تعمد الوزن ليس بواجب بل يكفي أن يلفى موزونا ولو بدون قصد قائله للوزن وقد نصر المذهب الأول" يا سبحان الله قدروا جميع ذلك أشعارا، أليس يصح بحكم التغليب أن لا يلتفت إلى ما أوردتموه لقلته، ويجرى ذلك القرآن مجرى الخالي عن الشعر فيقال بناء على مقتضى البلاغة: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} اهـ. كلامه، وقد نحا به نحو أمرين:
أحدهما: أن ما وقع في القرآن من الكلام المتزن ليس بمقصود منه الوزن، فلا يكون شعرا على رأي الأكثر من اشتراط القصد إلى الوزن لأنه الله تعالى لم يعبأ باتزانه.
الثاني: إن سلمنا عدم اشتراط القصد فإن نفي كون القرآن شعرا جرى على الغالب. فلا يعد قائله كاذبا ولا جاهلا فلا ينافي اليقين بأن القرآن من عند الله علمه محمدا صلى الله عليه وسلم.
ومال ابن العربي في "أحكام القرآن" إلى أن ما تكلفوه من استخراج فقرات من القرآن على موازين شعرية لا يستقيم إلا بأحد أمور مثل بتر الكلام أو زيادة ساكن أو نقص حرف أو حرفين، وذكر أمثلة لذلك في بعضها ما لا يتم له فراجعه.
ولا محيص من الاعتراف باشتمال القرآن على فقرات متزنة يلتئم منها بيت أو مصراع، فأما ما يقل عن بيت فهو كالعدم إذ لا يكون الشعر أقل من بيت، ولا فائدة في الاستنكار من جلب ما يلفى متزنا فإن وقوع ما يساوي بيتا تاما من بحر من بحور الشعر العربي ولو نادرا أو مزحفا أو معلا كاف في بقاء الإشكال، فلا حاجة إلى ما سلك ابن العربي في رده ولا كفاية لما سلكه السكاكي في كتابه، لأن المردود عليهم في سعة من الأخذ بما يلئم نحلتهم من أضعف المذاهب في حقيقة الشعر وفي زحافه وعلله. وبعد ذلك فإن الباقلاني والسكاكي لم يغوصا على اقتلاع ما يثيره الجواب الثاني في كلامهما بعدم القصد إلى الوزن، من لزوم خفاء ذلك على علم الله تعالى فلماذا لا تجعل في موضع تلك الفقرات المتزنة فقرات سليمة من الاتزان.
ولم أر لأحد من المفسرين والخائضين في وجوه إعجاز القرآن التصدي لاقتلاع هذه الشبهة، وقد مضت عليها من الزمان برهة، وكنت غير مقتنع بتلك الردود ولا أرضاها، وأراها غير بالغة من غاية خيل الحلبة منتهاها.

فالذي بدا لي أن نقول: أن القرآن نزل بأفصح لغات البشر التي تواضعوا واصطلحوا عليها ولو أن كلاما كان أفصح من كلام العرب أو أمة كانت أسلم طباعا من الأمة العربية لاختارها الله لظهور أفضل الشرائع وأشرف الرسل وأعز الكتب الشرعية.
ومعلوم أن القرآن جاء معجزا لبلغاء العرب فكانت تراكيبه ومعانيها بالغين حدا يقصر عنه كل بليغ من بلغائهم على مبلغ ما تتسع له اللغة العربية فصاحة وبلاغة فإذا كانت نهاية مقتضى الحال في مقام من مقامات الكلام تتطلب لإيفاء حق الفصاحة والبلاغة ألفاظا وتركيبا ونظما فاتفق أن كان لمجموع حركاتها وسكوناتها ما كان جاريا على ميزان الشعر العربي في أعاريضه وضروبه لم يكن ذلك الكلام معدودا من الشعر لو وقع مثله في كلام عن غير قصد فوقوعه في كلام البشر قد لا يتفطن إليه قائله ولو تفطن له لم يعسر تغييره لأنه ليس غاية ما يقتضيه الحال، اللهم إلا أن يكون قصد به تفننا في الإتيان بكلام ظاهره نثر وتفكيكه نظم.
فأما وقوعه في كلام الله تعالى فخارج عن ذلك كله من ثلاثة وجوه:
أحدها: أن الله لا يخفى عليه وقوعه في كلام أوحى به إلى رسوله صلى الله عليه وسلم.
الثاني: أنه لا يجوز تبديل ذلك المجموع من الألفاظ بغيره لأن مجموعها هو جميع ما اقتضاه الحال وبلغ حد الإعجاز.
الثالث: أن الله لا يريد أن يشتمل الكلام الموحى به من عنده على محسن الجمع بين النثر والنظم لأنه أراد تنزيه كلامه عن شائبة الشعر
واعلم أن الحكمة في أن لا يكون القرآن من الشعر مع أن المتحدين به بلغاء العرب وجلهم شعراء وبلاغتهم هي الجمع بين الإعجاز وبين سد باب الشبهة التي تعرض لهم أو جاء القرآن على موازين الشعر، وهي شبه الغلط أو المغالطة بعدهم النبي صلى الله عليه وسلم في زمن الشعراء فيحسب جمهور الناس الذين لا تغوص مدركاتهم على الحقائق أن ما جاء به الرسول ليس بالعجيب، وأن هذا الجائي به ليس بنبي ولكنه شاعر، فكان القرآن معجزا لبلغاء العرب بكونه من نوع كلامهم لا يستطيعون جحودا لذلك، ولكنه ليس من الصنف المسمى بالشعر بل هو فائق على شعرهم في محاسنه البلاغية وليس هو في أسلوب الشعر بالأوزان التي ألفوها بل هو في أسلوب الكتب السماوية والذكر.
ولقد ظهرت حكمة علام الغيوب في ذلك فإن المشركين لما سمعوا القرآن ابتدروا

إلى الطعن في كونه منزلا من عند الله بقولهم في الرسول: هو شاعر، أي أن كلامه شعر حتى أفاقهم من غفلتهم عقلاؤهم مثل الوليد بن المغيرة، وأنيس بن جنادة الغفاري، وحتى قرعهم القرآن بهذه الآية {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ}.
وبعد هذا فإن إقامة الشعر لا يخلو الشاعر فيها من أن يتصرف في ترتيب الكلام تارات بما لا تقضيه الفصاحة مثل ما وقع لبعض الشعراء من التعقيد اللفظي، ومثل تقديم وتأخير على خلاف مقتضى الحال فيعتذر لوقوعه بعذر الضرورة الشعرية، فإذا جاء القرآن شعرا قصر في بعض المواضع عن إيفاء جميع مقتضى الحال حقة. وسنذكر عند تفسير قوله تعالى: {وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} وجوها ينطبق معظمها على ما أشار إليه قوله تعالى هنا {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ}. وقد قال ابن عطية: إن الضمير المجرور باللام في قوله: {وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} يجوز أن يعود على القرآن كما سيأتي.
وقوله: {وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} جملة معترضة بين الجملتين المتعاطفتين قصد منها اتباع نفي أن يكون القرآن الموحى به للنبي صلى الله عليه وسلم شعرا بنفي أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم شاعرا فيما يقوله من غير ما أوحى به إليه أي فطر الله النبيء صلى الله عليه وسلم على النفرة بين ملكته الكلامية والملكة الشاعرية، أي لم يجعل له ملكة أصحاب قرض الشعر لأنه أراد أن يقطع من نفوس المكذبين دابر أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم شاعرا وأن يكون قرآنه شعرا ليتضح بهتانهم عند من له أدنى مسكة من تمييز للكلام وكثير ما هم بين العرب رجالهم وكثير من نسائهم غير زوج عبد الله بن رواحة ونظيراتها، والواو اعتراضية.
وضمير {يَنْبَغِي} عائد إلى الشعر، وضمير {لَهُ} يجوز أن يكون عائد إلى ما عاد إليه ضمير الغائب في قوله: {عَلَّمْنَاهُ} وهو الظاهر. وجوز ابن عطية أن يعود إلى القرآن الذي يتضمنه فعل {عَلَّمْنَاهُ} فجعل جملة {وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} بمنزلة التعليل لجملة {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} .
ومعنى: {وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} ما يتأتى له الشعر، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً} [مريم: 92] تفصيل ذلك في سورة مريم، وتقدم قريبا عند قوله: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} [يس: 40]. فأصل معنى: {يَنْبَغِي} يستجيب للبغي، أي الطلب الملح. ثم غلب في معنى يتأتى ويستقيم فتنوسي منه معنى المطاوعة وصار {يَنْبَغِي} بمعنى يتأتى يقال: لا ينبغي كذا، أي لا يتأتى. قال الطيبي: روي عن الزمخشري أنه قال في "كتاب سيوبية" "كل فعل فيه علاج يأتي مطاوعه على

الانفعال: كضرب وطلب وعلم، وما ليسي فيه علاج: كعدم وفقد لا يأتي في مطاوعه الانفعال البتة" ا هـ.
ومعنى كون الشعر لا ينبغي له: أن قول الشعر لا ينبغي له لأن الشعر صنف من القول له موازين وقواف، فالنبي صلى الله عليه وسلم منزه عن قرض الشعر وتأليفه، أي ليست من طباع ملكته إقامة الموازين الشعرية، وليس المراد أنه لا ينشد الشعر لأن إنشاد الشعر غير تعلمه، وكم من رواية للأشعار ومن نقاد للشعر لا يستطيع قول الشعر وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم قد انتقد الشعر، ونبه على بعض مزايا فيه، وفضل بعض الشعراء على بعض وهو مع ذلك لا يقرض شعرا. وربما أنشد البيت فغفل عن ترتيب كلماته فربما اختل وزنه في إنشاده1 وذلك من تمام النافرة بين ملكة بلاغته وملكة الشعراء، إلا ترى أنه لم يكن مطردا فربما أنشد البيت موزونا.
هذا من جانب نظم الشعر وموازينه، وكذلك أيضا جانب قوام الشعر ومعانيه فإن للشعر طرائق من الأغراض كالغزل والنسيب والهجاء والمديح والملح، وطرائق من المعاني كالمبالغة البالغة حد الإغراق وكادعاء الشاعر أحوالا لنفسه في غرام أو سير أو شجاعة هو خلو من حقائقها فهو كذب مغتفر في صناعة الشعر. وذلك لا يليق بأرفع مقام لكمالات النفس، وهو مقام أعظم الرسل صلوات الله عليه وعليهم فلو أن النبي صلى الله عليه وسلم قرض الشعر ولم يأت في شعره بأفانين الشعراء لعد غضاضة في شعره وكانت تلك الغضاضة داعية للتناول من حرمة كماله في أنفس قومه يستوي فيها العدو والصديق.
على أن الشعراء في ذلك الزمان كانت أحوالهم غير مرضية عند أهل المروءة والشرف لما فيهم من الخلاعة
ـــــــ
1 كما أنشد بيت عباس بن مرداس:
أتجعل نهْبي ونهب العُبيـ ... ـد بين عيينة والأقرع
فقال: بين الأقرع وعيينة، وكذلك أنشد مرة مصراع طرفة:
ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
فقال: "ويأتيك من لم تزوّد بالأخبار".
وربما أنشد البيت دون تغيير كما أنشد بيت ابن رواحة:
يبيت يجافي جنبه عن فراشه ... إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
وأنشد بيت عنترة:
ولقد أبيتُ على الطِوَى وأظَلُّه ... كيما أنال به شهيَّ المطعم

والإقبال على السكر والميسر والنساء ونحو ذلك. وحسبك ما هو معلوم من قضية خلع حجر الكندي ابنه امرأ القيس وقد قال تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء: 224] الآية. فلو جاء الرسول صلى الله عليه وسلم بالشعر أو قاله لرمقه الناس بالعين التي لا يرمق بها قدره الجليل وشرفه النبيل، والمنظور إليه في هذا الشأن هو الغالب الشائع وإلا فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن من الشعر لحكمة" وقال: "أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد:
ألا كل شيء ماخلا الله باطل
فتنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الشعر من قبيل حياطة معجزة القرآن وحياطه مقام الرسالة مثل تنزيهه عن معرفة الكتابة.
قال أبو بكر بن العربي: هذه الآية ليست من عيب الشعر كما لم يكن قوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنكبوت: 48] من عيب الخط. فلما لم تكن الأمية من عيب الخط كذلك لا يكون نفي النظم عن النبي صلى الله عليه وسلم من عيب الشعر.
ومن أجل ما للشعر من الفائدة والتأثير في شيوع دعوة الإسلام أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم حسانا وعبد الله بن رواحة بقوله:، وأظهر استحسانه لكعب بن زهير حين أنشده القصيد المشهور: بانت سعاد.
والقول في ما صدر النبي صلى الله عليه وسلم من كلام موزون مثل قوله يوم أحد:
أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب
كالقول فيما وقع في القرآن من شبيه ذلك مما بيناه آنفا.
وجملة: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} استئناف بياني لأن نفي الشعر عن القرآن يثير سؤال متطلب يقول: فما هو هذا الذي أوحي به إلى محمد صلى الله عليه وسلم فكان قوله: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ} جوابا لطلبته.
وضمير {هُوَ} للقرآن المفهوم من {عَلَّمْنَاهُ} ، أي ليس الذي علمه الرسول إلا ذكرا وقرآنا أو للشيء الذي علمناه، أي للشيء المعلم الذي تضمنه {عَلَّمْنَاهُ} ، أو عائد إلى {ذِكْرٌ} في قوله: {إِلَّا ذِكْرٌ} الذي هو {مُبِينٌ}. وهذا من مواضع عود الضمير على متأخر لفظا ورتبة لأن البيان كالبدل. وتقدم نظيره في قوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} في سورة المؤمنين [37].

وجيء بصيغة القصر المفيدة قصر الوحي على الاتصال بالكون ذكرا وقرآنا قصر قلب، أي ليس شعرا كما زعمتم. فحصل بذلك استقصاء الرد عليهم وتأكيد قوله: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} . من كون القرآن شعرا.
والذكر: مصدر وصف به الكتاب المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وصفا للمبالغة، أي إن هو إلا مذكر للناس بما نسوه أو جهلوه. وقد تقدم الكلام على الذكر عند قوله تعالى: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} في سورة الحجر [6].
والقرآن: مصدر قرأ، أطلق على اسم المفعول، أي الكلام المقروء، وتقدم بيانه عند قوله تعالى: {وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ} في سورة يونس [61].
والمبين: هو الذي أبان المراد بفصاحة وبلاغة.
ويتعلق قوله: {لِيُنْذِرَ} بقوله: {عَلَّمْنَاهُ} باعتبار ما اتصل به من نفي كونه شعرا ثم إثبات كونه ذكرا وقرآنا، أي لأن جملة {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ} بيان لما قبلها في قوة أن لو قيل: وما علمناه إلا ذكرا وقرآنا مبينا لينذر أو لتنذر. وجعله ابن عطية متعلقا بـ {مُبِينٌ} .
وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر ويعقوب {لِيُنْذِرَ} بتاء الخطاب على الالتفات من ضمير الغيبة في قوله: {عَلَّمْنَاهُ} إلى ضمير الخطاب. وقرأه الباقون بياء الغائب، أي النبي الذي علمناه.
والإنذار: الإعلام بأمر يجب التوقي منه.
ولاحي: مستعار لكامل العقل وصائب الإدراك، وهذا تشبيه بليغ، أي من كان مثل الحي في الفهم.
والمقصود منه: التعريض بالمعرضين عن دلائل القرآن بأنهم كالأموات لا انتفاع لهم بعقولهم كقوله تعالى: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [النمل: 80].
وعطف {وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} على {لِيُنْذِرَ} عطف المجاز على الحقيقة لأن اللام النائب عنه واو العطف ليس لام تعليل ولكنه لام عاقبة كاللام في قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 8]. ففي الواو استعارة تبعية، وهذا قريب من استعمال المشترك في معنييه. وفي هذه العاقبة احتباك إذ التقدير: لتنذر من كان

حيا فيزداد حياة بامتثال الذكر فيفوز ومن كان ميتا فلا ينتفع بالإنذار فيحق عليه القول، كما قال تعالى: في أول السورة {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} [يس: 11]، فجمع له بين الإنذار ابتداء والبشارة آخرا.
و {الْقَوْلُ} : هو الكلام الذي جاء بوعيد من لم ينتفعوا بإنذار الرسول صلى الله عليه وسلم.
والمراد بالكافرين: المستمرون على كفرهم وإلا فإن الإنذار ورد للناس أول ما ورد وكلهم من الكافرين.
وفي ذكر الإنذار عود إلى ما ابتدئت به السورة من قوله: {لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ} [يس: 6] فهو كرد العجز على الصدر، وبذلك تم مجال الاستدلال عليهم وإبطال شبههم وتخلص إلى الامتنان الآتي فغي قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً} [يس: 71] إلى قوله: {أَفَلا يَشْكُرُونَ} [يس: 35].
[71- 73] {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ [71] وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ [72] وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ [73]}.
بعد أن انقضى إبطال معاقد شرك المشركين أحد الكلام يتطرق غرض تذكيرهم بنعم الله تعالى عليهم وكيف قابلوها بكفران النعمة وأعرضوا عن شكر المنعم وعبادته واتخذوا لعبادتهم آلة زعما بأنها تنفعهم وتدفع عنهم وأدمج في التذكير بأن الأنعام مخلوقة بقدرة الله. فالجملة معطوفة عطف الغرض على الغرض.
والاستفهام: إنكار وتعجيب من عدم رؤيتهم شواهد النعمة، فإن كانت الرؤية قلبية كان الإنكار جاريا على مقتضى الظاهر، وإن كانت الرؤية بصرية فالإنكار على خلاف مقتضى الظاهر بتنزيل مشاهدتهم تلك المذكورات منزلة عدم الرؤية لعدم جريهم على مقتضى العلم بتلك المشاهدات الذي ينشأ عن رؤيتها ورؤية أحوالها، وعلى الاحتمالين فجملة الفعل المنسبك بالمصدر سادة مسد المفعولين للرؤية القلبية، أو المصدر المنسبك منها مفعول للرؤية البصرية.
وفي خلال هذا الامتنان إدماج شيء من دلائل الانفراد بالتصرف في الخلق المبطلة لإشراكهم إياه غيره في العبادة وذلك في قوله: {أَنَّا خَلَقْنَا} وقوله: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} وقوله: {وَذَلَّلْنَاهَا} وقوله: {وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ} ، لأن معناه: أودعنا لهم في

أضراعها ألبانا يشربونها وفي أبدانها أوبارا وأشعارا ينتفعون بها.
وقوله: {لَهُمْ} هو محل الامتنان، أي لأجلهم، فإن جميع النافع التي على الأرض خلقها الله لأجل الإنسان بها تكرمة له، كما تقدم في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} في سورة البقرة [29].
واستعير عمل الأيدي الذي هو المتعارف في الصنع إلى إيجاد أصول الأجناس بدون سابق منشأ من توالد أو نحوه فأسند ذلك إلى أيدي الله تعالى لظهور أن تلك الأصول لم تتولد عن سبب كقوله: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} [الذريات: 47]، فـ"من" في قوله: {مِمَّا عَمِلَتْ} ابتدائية لأن الأنعام التي لهم متولدة من أصول حتى تنتهي إلى أصولها الأصلية التي خلقها الله كما خلق آدم، فعبر عن ذلك الخلق بأنه بيد الله استعارة تمثيلية لتقريب شأن الخلق الخفي البديع مثل قوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [صّ: 75]. وقرينة هذه الاستعارة ما تقر من أن ليس كمثله شيء وأنه لا يشبه المخلوقات، فذلك من العقائد القطعية في الإسلام. فأما الذين رأوا الإمساك عن تأويل أمثال هذه الاستعارات فسموها المتشابه وإنما أرادوا أننا لم نصل إلى حقيقة ما نعبر عنه بالكنه، وأما الذين تأولوها بطريقة المجاز فهم معترفون بأن تأويلها تقريب وإساغة لغصص العبارة. فأما الذين أثبتوا وصف الله تعالى بظواهرها فباعثهم فرط الخشية، وكان للسلف في ذلك عذر لا يسع أهل العصور التي فشا فيها الإلحاد والكفر فهم عن إقناع السائلين بمعزل، وقلم التطويل في ذلك معزل.
والأنعام: الإبل والبقر والغنم والمعز. وفرع على خلقها للناس أنهم لها مالكون قادرون على استعمالها فيما يشاءون لأن الملك هو أنواع التصرف. قال الربيع بن ضبع الفزاري من شعراء الجاهلية المعمرين:
أصبحت لا أحمل السلاح ولا ... أملك رأس البعير إن نفرا
وهذا إدماج للامتنان في أثناء التذكير.
وتقديم {لَهَا} على {مَالِكُونَ} الذي هو متعلقه لزيادة استحضار الأنعام عند السامعين قبل سماع متعلقه ليقع كلاهما أمكن وقع بالتقديم وبالتشويق، وقضى بذلك أيضا رعي الفاصلة.
وعدل عن أن يقال: فهم مالكوها، إلى {فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} ليأتى التنكير فيفيد بتعظيم المالكين للأنعام الكناية عن تعظيم الملك، أي بكثرة الانتفاع وهو ما أشار إليه

تفصيلا وإجمالا قوله تعالى: {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ} إلى قوله: {وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ} . وأن إضافة الوصف المشبه الفعل وإن كانت لا تكسب المضاف تعريفا لكنها لا تنسلخ منها خصائص التنكير مثل التنوين. وجيء بالجملة الاسمية لإفادة ثبات هذا الملك ودوامه.
والتذليل: جعل الشيء ذليلا، والذليل ضد العزيز وهو الذي لا يدفع عن نفسه ما يكرهه. ومعنى تذليل الأنعام خلق مهانتها للإنسان في جبلتها بحيث لا تقدم على مدافعة ما يريد منها فإنها ذات قوات يدفع بعضها بعضا عن نفسه بها فإذا زجرها الإنسان أو أمرها ذلت له وطاعت مع كراهيتها ما يريده منها، من سير أو حمل أو حلب أو أخذ نسل أو ذبح. وقد أشار إلى ذلك قوله: {فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ}.
والركوب بفتح الراء: المركوب مثل الحلوب وهو فعول بمعنى مفعول، فلذلك يطابق موصوفه يقال: بعير ركوب وناقة حلوبة.
و {مِنْ} تبعيضية، أي وبعضها غير ذلك مثل الحرث والقتال كما قال: {وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ} والمشارب: جمع مشرب، وهو مصدر ميمي بمعنى: الشرب، أريد به المفعول، أي مشروبات.
وتقديم المجرورين بـ"من" على ما حقهما أن يتأخرا عنهما للوجه الذي ذكر في قوله: {فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ}.
وفرع على التذكير والامتنان قوله: {أَفَلا يَشْكُرُونَ} استفهاما تعجيبيا لتركهم تكرير الشكر على هذه النعم العدة فلذلك جيء بالمضارع المفيد للتجديد والاستمرار لأن تلك النعم متتالية متعاقبة في كل حين، وإذ قد عجب من عدم تكريرهم الشكر كانت إفادة التعجيب من عدم الشكر من أصله بالفحوى ولذلك أعقبه بقوله: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً} [يس: 74].
[74، 75] {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ [74] لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ [75]}.
عطف على جملة: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً} [يس: 71]، أي ألم يروا دلائل الوحدانية ولم يتأملوا جلائل النعمة، واتخذوا آلهة من دون الله المنعم والمنفرد بالخلق. ولك أن تجعله عطفا على الجملتين المفرعتين، والمقصود من الإخبار

باتخاذهم آلهة من دون الله التعجيب من جريانهم على خلاف حق النعمة ثم مخالفة مقتضى دليل الوحدانية المدمج في ذكر النعم.
والإتيان باسم الجلالة العلم دون ضمير إظهار في الإضمار لما يشعر به اسمه العلم من عظمة الإلهية إيماء إلى أن اتخاذهم آلهة من دونه جراءة عظيمة ليكون ذلك توطئة لقوله بعده {فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} [يس: 76] أي فإنهم قالوا ما هو أشد نكرا.
وأما الإضمار في قوله في سورة الفرقان [3]: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} فلأنه تقدم ذكر انفراده بالإلهية صريحا من قوله: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} [الفرقان: 2].
وقوله: {لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ} وقعت "لعل" فيه موقعا غير مألوف لأن شأن "لعل" أن تفيد إنشاء رجاء المتكلم بها وذلك غير مستقيم هنا. وقد أغفل المفسرون التعرض لتفسيره، وأهمله علماء النحو واللغة من استعمال "لعل"، فيتعين: إما أن تكون "لعل" تمثيلية مكنية بأن شبه شأن الله فيما أخبر عنهم بحال من يرجو من المخبر عنهم أن يحصل لهم خبر {لعل} ، وذكر حرف "لعل" رمز لرديف المشتبه به فتكون جملة {لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ} معترضة بين {آلِهَةً} وبين صفته وهي جملة {لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ} ، وإما أن يكون الكلام جرى على معنى الاستفهام وهو استفهام إنكاري أو تهكمي والجملة معترضة أيضا، وإما أن يجعل الرجاء منصرفا إلى رجاء المخبر عنهم، أي راجين أن تنصرهم تلك الآلهة وعلى تقدير قول محذوف، أي قائلين: لعلنا ننصر، وحكي {يُنْصَرُونَ} بالمعنى على أحد وجهين في حكاية الأقوال تقول: قال أفعل كذا، وقال يفعل كذا، وتكون جملة {لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ} استئنافا للرد عليهم. وإما أن تجعل "لعل" للتعليل على مذهب الكسائي فتكون جملة {لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ} استئنافا.
والمقصود: الإشارة إلى أن الكفار يزعمون أن الأصنام تشفع لهم عند الله في أمور الدنيا ويقولون {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18] وهم سالكون في هذا الزعم مسلك ما يألفونه من الاعتزاز بالموالاة والحلف بين القبائل والانتماء إلى قادتهم، فبمقدار كثرة الموالي تكون عزة القبيلة فقاسوا شؤونهم الجارية بينهم وقياس أمور الإلهية على أحوال البشر من أعمق مهاوي الضلالة.
أجري على الأصنام ضمير جمع العقلاء في قوله: {لا يَسْتَطِيعُونَ} لأنهم سموهم

بأسماء العقلاء وزعموا لهم إدراكا.
وضمير {وَهُمْ} يجوز أن يعود إلى {آلِهَةً} تبعا لضمير {لا يَسْتَطِيعُونَ} . وضمير {لَهُمْ} للمشركين، أي والأصنام للمشركين جند محضرون، والجند العدد الكثير. والمحضر الذي جيء به ليحضر مشهدا. والمعنى: أنهم لا يستطيعون النصر مع حضورهم في موقف المشركين لمشاهدة تعذيبهم ومع كونهم عددا كثيرا ولا يقدرون على نصر المتمسكين بهم، أي هم عاجزون عن ذلك، وهذا تأييس للمشركين من نفع أصنامهم. ويجوز العكس، أي والمشركين جند لأصنامهم محضرون لخدمتها. ويجوز أن يكون هذا إخبارا عن حالهم مع أصنامهم في الدنيا وفي الآخرة.
وينبغي أن تكون جملة {وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} في موضع الحال، والواو واو الحال من ضمير {يَسْتَطِيعُونَ} ، أي ليس عدم استطاعتهم نصرهم لبعد مكانتهم وتأخر الصريخ لهم ولكنهم لا يستطيعون وهم حاضرون لهم، واللام في {لَهُمْ} للأجل، أي أن الله يحضر الأصنام حين حشر عبدتها إلى النار ليري المشركين خطل رأيهم وخيبة أملهم، فهذا وعيد بعذاب لا يجدون منه ملجأ.
[76] {فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ [76]}.
{فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ}.
فرع على قوله: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً} [يس: 74] صرف أن تحزن أقوالهم النبي صلى الله عليه وسلم، أي تحذيره من أن يحزن لأقوالهم فيه فإنهم قالوا في شأن الله ما هو أفظع.
و {قَوْلُهُمْ} من إضافة اسم الجنس فيعم، أي فلا تحزنك أقوالهم في الإشراك وإنكار البعث والتكذيب والأذى للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، ولذلك حذف المقول، أي يحزنك قولهم الذي من شأنه أن يحزنك.
والنهي عن الحزن نهي عن سببه وهو اشتغال بال الرسول بإعراضهم عن قبول الدين الحق، وهو يستلزم الأمر بالأسباب الصارفة للحزن عن نفسه من التسلي بعناية الله تعالى وعقابه من ناوءوه وعادوه.
{إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ}.
تعليل للنهي عن الحزن لقولهم.

والخبر كناية عن مؤاخذتهم بما يقولون، أي انا محصون عليهم أقوالهم وما تسره أنفسهم مما لا يجهرون به فنؤاخذهم بذلك كله بما يكافئه من عقابهم ونصرك عليهم ونحو ذلك. وفي قوله: {مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} تعميم لجعل التعليل تذييلا أيضا.
و"إن" مغنية عن فاء التسبب في مقام ورودها لمجرد الاهتمام بالتأكيد المخبر بالجملة ليست مستأنفة ولكنها مترتبة.
وقرأ نافع {يَحْزُنْكَ} بضم الياء وكسر الزاي من أحزنه إذا أدخل عليه حزنا. وقرأه الباقون بفتح الياء وضم الزاي من حزنه بفتح الزاي بمعنى أحزنه وهما بمعنى واحد.
وقدم الإسرار للاهتمام به لأنه أشد دلالة على إحاطة علم الله بأحوالهم، وذكر بعده الإعلان لأنه محل الخبر، وللدلالة على استيعاب علم الله تعالى بجزئيات الأمور وكلياتها.
والوقف عند قوله: {وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} مع الابتداء بقوله: {إِنَّا نَعْلَمُ} أحسن من الوصل لأنه أوضح للمعنى، وليس بمتعين إذ لا يخطر ببال سامع أنهم يقولون: إن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون، ولو قالوه لما كان مما يحزن النبي صلى الله عليه وسلم فكيف ينهى عن الحزن منه.
[77- 79] {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ [77] وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [78] قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [79]}.
لما أبطلت شبه المشركين في إشراكهم بعبادة الله وإحالتهم قدرته على البعث وتكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم في إنبائه بذلك إبطالا كليا، عطف الكلام إلى جانب تسفيه أقوال جزئية لزعماء المكذبين بالبعث توبيخا لهم على وقاحتهم وكفرهم بنعمة ربهم وهم رجال من أهل مكة أحسب أنهم كانوا يموهون الدلائل ويزينون الجدل للناس ويأتون لهم بأقوال إقناعية جارية على وفق أفهام العامة، فقيل أريد بـ {الْأِنْسَانُ} أبي بن خلف. وقيل أريد به العاصي بن وائل، وقيل أبو جهل، وفي ذلك روايات بأسانيد، ولعل ذلك تكرر مرات تولى كل واحد من هؤلاء بعضها.
قالوا في الروايات: جاء أحد هؤلاء الثلاثة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده عظم إنسان

رميم ففته وذراه في الريح وقال: يا محمد أتزعم أن الله يحيي هذا بعد ما أرم "أي بلي" فقال له النبيء صلى الله عليه وسلم: نعم يميتك الله ثم يحييك ثم يدخلك جهنم.
فالتعريف في {الْأِنْسَانُ} تعريف العهد وهو الإنسان المعين المعروف بهذه المقالة يومئذ. وقد تقدم في سورة مريم [66] أن قوله تعالى: {وَيَقُولُ الْأِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً} نزل في أحد هؤلاء، وذكر معهم الوليد بن المغيرة. ونظير هذه الآية قوله تعالى: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} في سورة القيامة [3].
ووجه حمل التعريف هنا على التعريف العهدي انه لا يستقيم حملها على غير ذلك لأن جعله للجنس يقتضي أن جنس الإنسان ينكرون البعث، كيف وفيهم المؤمنون وأهل الملل، وحملها على الاستغراق أبعد إلا أن يراد الاستغراق العرفي وليس مثل هذا المقام من مواقعه. فأما قوله تعالى في سورة النحل [4]: {خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} فهو تعريف الاستغراق، أي خلق كل إنسان لأن المقام مقام الاستغراق الحقيقي.
والمراد بـ {خَصِيمٌ} في تلك الآية: أنه شديد الشكيمة بعد أن كان أصله نطفة، فالجملة معطوفة على جملة {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ} [يس: 71] الآية. والاستفهام كالاستفهام في الجملة المعطوفة عليها. والرؤية هنا قلبية. وجملة {أَنَّا خَلَقْنَاهُ} سادة مسد المفعولين كما تقدم في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً} [يس: 71].
و"إذا" للمفاجأة. ووجه المفاجأة أن ذلك الإنسان خلق ليعبد الله ويعلم ما يليق به فإذا لم يجر على ذلك فكأنه فاجأ بما لم يكن مترقبا منه مع إفادة أن الخصومة في شؤون الإلهية كانت بما بادر به حين عقل.
والخصيم فعيل مبالغة في معنى مفاعل، أي مخاصم شديد الخصام.
والمبين: من أبان بمعنى بان، أي ظاهر في ذلك.
وضرب المثل: إيجاده، كما يقال: ضرب خيمة، وضرب دينارا، ويقدم بيانه عند قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا} في سورة البقرة [26].
والمثل: تمثيل الحالة، فالمعنى: وأظهر للناس وأتى لهم بتشبيه حال قدرتنا بحال عجز الناس إذ أحال إحياءنا العظام بعد أن أرمت فهو كقوله تعالى: {َلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} [النحل: 74]، أي لا تشبهوه بخلقه فتجعلوا له شركاء لوقوعه بعد {وَيَعْبُدُونَ مِنْ

دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً} [النحل: 73].
والاستفهام في قوله: {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ} إنكاري. و {مَنْ} عامة في كل من يسند إليه الخبر. فالمعنى: لا أحد يحيي العظام وهي رميم. فشمل عمومه إنكارهم أن يكون الله تعالى محييا للعظام وهي رميم، أي في حال كونها رميما.
وجملة {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ} بيان لجملة {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً} كقوله تعالى: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ} [طه: 120] الآية فجملة {قَالَ يَا آدَمُ} بيان لجملة {وَسْوَسَ}.
والنسيان في قوله: {وَنَسِيَ خَلْقَهُ} مستعار لانتفاء العلم من أصله، أي لعدم الاهتداء إلى كيفية الخلق الأول، أي نسي أننا خلقناه من نطفة، أي لم يهتد إلى أن ذلك أعجب من إعادة عظمه قوله تعالى: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [ق: 15].
وذكر النطفة هنا تمهيد للمفاجأة بكونه خصيما مبينا عقب خلقه، أي ذلك الهين المنشأ قد أصبح خصيما عنيدا، وليبني عليه قوله بعد: {وَنَسِيَ خَلْقَهُ} أي نسي خلقه الضعيف فتطاول وجاوز، ولأن خلقه من النطفة أعجب من إحيائه وهو عظم مجاراة لزعمه في مقدار الإمكان، وإن كان الله يحيي ما هو أضعف من العظام فيحيي الإنسان من رماده، ومن ترابه، ومن عجب ذنبه، ومن لا شيء باقيا منه.
والرميم: البالي، رم العظم وأرم، إذا بلي فهو فعيل بمعنى المصدر، يقال: رم العظم رميما، فهو خبر بالمصدر، ولذلك لم يطابق المخبر عنه في الجمعية بهي بلى.
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول له {يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا} أمر بجواب على طريقة الأسلوب الحكيم بحمل استفهام القائل على خلاف مراده لأنه لما قال: {يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} لم يكن قاصدا تطلب تعيين المحيي وإنما أراد الاستحالة، فأجيب جواب من هو متطلب علما. فقيل له: {يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} . فلذلك بني الجواب على فعل الإحياء مسندا للمحيي، على أن الجواب صالح لأن يكون إبطال للنفي المراد من الاستفهام الإنكاري كأنه قيل: بل يحييها الذي أنشأها أول مرة. ولم يبن الجواب على بيان إمكانه الإحياء وإنما جعل بيان الإمكان في جعل المسند إليه موصولا لتدل الصلة على الإمكان فيحصل الغرضان، فالموصول هنا إيماء إلى وجه بناء الخبر وهو يحييها، أي

يحييها لأنه أنشأها أول مرة فهو قادر على إنشائها أول مرة. قال تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ} [الواقعة: 62]، وقال {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27].
وذيل هذا الاستدلال بجملة {وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} أي واسع العلم محيط بكل وسائل الخلق التي لا نعلمها: كالخلق من نطفة، والخلق من ذرة، والخلق من أجزاء النبات المغلقة كسوس الفول وسوس الخشب، فتلك أعجب من تكوين الإنسان عظامه.
وفي تعليق الإحياء بالعظام دلالة على أن عظام الحي تحلها الحياة كلحمه ودمه، وليست بمنزلة القصب والخشب وهو قول مالك وأبي حنيفة ولذلك تنجس عظام الحيوان الذي مات دون ذكاة، وعن الشافعي أن العظم لا تحله الحياة فلا ينجس بالموت قال ابن العربي: وقد اضطرب أرباب المذاهب فيه. والصحيح ما ذكرناه، يعني أن بعضهم نسب إلى الشافعي موافقة قول مالك وهو قول أحمد فيصير اتفاقا وعلماء الطب يثبتون الحياة في العظام والإحساس. وقال ابن زهر الحكيم الأندلسي في كتاب التيسير: إن جالينوس اضطرب كلامه في العظام هل لها إحساسا والذي ظهر لي أن لها إحساسا بطيئا.
[80] {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ [80]}.
بدل من {الَّذِي أَنْشَأَهَا} [يس: 79] بدلا مطابقا، وإنما لم تعطف الصلة على الصلة فيكتفي بالعطف عن إعادة اسم الموصول لأن في إعادة الموصول تأكيدا للأول واهتماما بالثاني حتى تستشرف نفس السامع لتلقي ما يرد بعده فيفطن بما في هذا الخلق من الغرابة إذ هو إيجاد الضد وهو نهاية الحرارة من ضده وهو الرطوبة. وهذا هو وجه وصف الشجر بالأخضر إذ ليس المراد من الأخضر اللون وإنما المراد لازمه وهو الرطوبة لأن الشجر أخضر اللون ما دام حيا فإذا جف وزالت منه الحياة استحال لونه إلى الغبرة فصارت الخضرة كناية عن رطوبة النبت وحياته. قال ذو الرمة:
ولما تمنت تأكل الرم لم تدع ... ذوابل مما يجمعون ولا خضرا
ووصف الشجر وهو اسم جمع شجرة وهو مؤنث المعنى بـ{الْأَخْضَرِ} بدون تأنيث مراعاة للفظ الموصوف بخلوه عن علامة تأنيث وهذه لغة أهل نجد، وأما أهل الحجاز فيقولون: شجر خضراء على اعتبار معنى الجمع، وقد جاء القرآن بهما في قوله: {لَآكِلُونَ

مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ} [الواقعة: 52- 54].
والمراد بالشجر هنا: شجر المرخ "بفتح الميم وسكون الراء" وشجر العفار "بفتح العين المهملة وفتح الفاء" فهما شجران يقتدح بأغصانهما يؤخذ غصن من هذا وغصن من الآخر بمقدار المسواك وهما خضراوان يقطر منهما الماء فيسحق المرخ على العفار فتنقدح النار، يقل: يجعل العفار أعلى والمرخ أسفل، وقيل العكس لأن الجوهري وابن السيد في "المخصص" قالا: العفار هو الزند وهو الذكر والمرخ الأنثى وهو الزند. وقال الزمخشري في "الكشاف": المرخ الذكر والعفار الأنثى، والنار هي سقط الزند، وهو ما يخرج عند الاقتداح مشتعلا فيوضع تحته شيء قابل للالتهاب من تبن أو ثوب به زيت فتخطف فيه النار.
والمفاجأة المستفادة من {فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} دالة على عجيب إلهام الله البشر لاستعمال الاقتداح بالشجر الأخضر واهتدائهم إلى خاصيته.
والإيقاد: إشعال النار يقال: أوقد، ويقال: وقد بمعنى.
وجيء بالمسند فعلا مضارعا لإفادة تكرر ذلك واستمراره.
[81] {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ [81]}.
عطف هذا التقرير على الاحتجاجات المتقدمة على الإنسان المعني من قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الْأِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ} [يس: 77]، وذلك أنه لما تبين الاستدلال بخلق أشياء على إمكان خلق أمثالها ارتقي في هذه الآية إلى الاستدلال بخلق مخلوقات عظيمة على إمكان خلق ما دونها.
وجيء في هذا الدليل بطريقة التقرير الذي دل عليه الاستفهام التقريري لأن هذا الدليل لوضوحه لا يسع المقر إلا الإقرار به فإن البديهة قاضية بأن من خلق السماوات والأرض هو على خلق ناس بعد الموت أقدر. وإنما وجه التقرير إلى نفي المقرر بثبوته على المقرر إن أراد إنكارا مع تحقق أته لا يسعه الإنكار فيكون إقراره بعد توجيه التقرير إليه على نفي المقصود، شاهدا على أنه لا يستطيع إلا أن يقر، وأمثال هذا الاستفهام التقريري كثيرة.

وقرأ الجمهور {بِقَادِرٍ} بالباء الموحدة وبألف بعد القاف وجر الاسم بالباء المزيدة في النفي لتأكيده. وقرأه رويس عن يعقوب بتحتية بصيغة المضارع {يِقَدِرٍ}. ولكون ذلك كذلك عقب التقرير بجواب عن المقرر بكلمة {بَلَى} التي هي لنقض النفي، أي بلى هو قادر على أن يخلق مثلهم.
وضمير {مِثْلَهُمْ} عائد إلى {الْأِنْسَانُ} في قوله: {أَوَلَمْ يَرَ الْأِنْسَانُ} [يس: 77] على تأويله بالناس سواء كان المراد بالإنسان في قوله: {أَوَلَمْ يَرَ الْأِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ} [يس: 77] شخصا معينا أم غير شخص، فالمقصود هو وأمثاله من المشايعين له على اعتقاده وهم المشركون بمكة، أي قادر على أن يخلق أمثالهم، أي أجسادا على صورهم وشبههم لأن الأجسام المخلوقة للبعث هي أمثال الناس الذين كانوا في الدنيا مركبين من أجزائهم فإن إعادة الخلق لا يلزم أن تكون بجمع متفرق الأجسام بل يجوز كونها عن عدمها، ولعل ذلك كيفيات، فالأموات الباقية أجسادها تبث فيها الحياة، والأموات الذين تفرقت أوصالهم وتفسخت يعاد تصويرها، والأجساد التي لم تبق منها باقية تعاد أجساد على صورها لتودع فيها أرواحهم، ألا ترى أن جسد الإنسان يتغير على حالته عند الولادة ويكبر وتتغير ملامحه، ويجدد كل يوم من الدم واللحم بقدر ما اضمحل وتبخر ولا يعتبر ذلك التغير تبديلا لذاته فهو يحس بأنه هو هو والناس يميزونه عن غيره بسبب عدم تغير الروح. وفي آيات القرآن ما يدل على هذه الأحوال للمعاد، ولذلك اختلف علماء السنة في أن البعث عن عدم أو عن تفريق كما أشار إليه سيف الدين الآمدي في "أبكار الأفكار" ومودعة فيها أرواحهم التي كانت تدبر أجسامهم فإن الأرواح باقية بعد فناء الأجساد.
وجملة {وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} معترضة في آخر الكلام، والواو اعتراضية، أي هو يخلق خلائق كثيرة وواسع العلم بأحوالها ودقائق ترتيبها.
[82] {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [82]}.
هذه فذلكة الاستدلال، وفصل المقال، فلذلك فصلت عما قبلها كما تفصل جملة النتيجة عن جملتي القياس، فقد نتج مما تقدم أنه تعالى إذا أراد شيئا تعلقت قدرته بإجاده بالأمر التكويني المعبر عن تقريبه بـ {كُنْ} وهو أخضر كلمة تعبر عن الأمر بالكون، أي الاتصاف بالوجود.
والأمر في قوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ} بمعنى الشأن لأنه المناسب لإنكارهم قدرته على إحياء

الرميم، أي لا شأن لله في وقت إرادته تكوين كائن إلا تقديره بأن يوجده، فعبر عن ذلك التقدير الذي ينطاع له المقدور بقول {كُنْ} ليعلم أن لا يباشر صنعه بيد ولا بآلة ولا بعجن مادة ما يخلق منه كما يفعل الصناع والمهندسون، لأن المشركين نشأ لهم توهم استحالة المعاد من انعدام المواد فضلا عن إعدادها وتصويرها، فالقصر إضافي لقلب اعتقادهم أنه يحتاج إلى جمع مادة وتكييفها ومضي مدة لإتمامها.
و {إِذَا} ظرف زمان في موضع نصب على المفعول فيه، أي حين إرادته شيئاً.
وقرأ الجمهور: {فَيَكُونُ} مرفوعا على تقدير: أن يقول له كن فهو يكون. وقرأه ابن عامر والكسائي بالنصب عطفا على {يَقُولَ} المنصوب.
[83] {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [83]}.
الفاء فصيحة، أي إذا ظهر كل ما سمعتم من الدلائل على عظيم قدرة الله وتفرده بالإلهية وأنه يعيدكم بعد الموت فينشأ تنزيهه عن أقوالهم في شأنه المفضية إلى نقص عظمته لأن بيده الملك الأتم لكل موجود.
والملكوت: مبالغة في الملك "بكسر الميم" فإن مادة فعلوت وردت بقلة في اللغة العربية. من ذلك قولهم:رهبوت ورحموت، ومن أقوالهم الشبيه بالأمثال "رهبوت خير من رحموت" أي لأن يرهبك الناس خير من أن يرحموك، أي لأن تكون عزيزا يخشى بأسمك خير من أن تكون هينا يرق لك الناس، وتقدم عند قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} في سورة الأنعام [75].
وجملة {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} عطف على جملة التسبيح عطف الخبر على الإنشاء فهو مما شملته الفصيحة. والمعنى: قد اتضح أنكم صائرون إليه غير خارجين من قبضة ملكه وذلك بإعادة خلقكم بعد الموت.
وتقديم {إِلَيْهِ} على {تُرْجَعُونَ} للاهتمام ورعاية الفاصلة لأنهم لم يكونوا يزعمون أن ثمة رجعة إلى غيره ولكنهم ينكرون المعاد من أصله.

المجلد الثالث و العشرون
سورة الصافات...
بسم الله الرحمن الرحيم
37ـ سورة الصافات
اسمها المشهور المتفق عليه "الصافات".وبذلك سميت في كتب التفسير وكتب السنة وفي المصاحف كلها،ولم يثبت شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم في تسميتها،وقال في الإتقان:"رأيت في كلام الجعبري أن سورة "الصافات" تسمى "سورة الذبيح" وذلك يحتاج إلى مستند من الأثر".
ووجه تسميتها باسم "الصافات" وقوع هذا اللفظ فيها بالمعنى الذي أريد به أنه وصف الملائكة وإن كان قد وقع في سورة "الملك" لكن بمعنى آخر إذ أريد هنالك صفة الطير،على أن الأشهر أن "سورة الملك" نزلت بعد "سورة الصافات".
وهي مكية بالاتفاق وهي السادسة والخمسون في تعداد نزول السور،نزلت بعد سورة الأنعام وقبل سورة لقمان.
وعدت آيها مائة واثنتين وثمانين عبد أكثر أهل العدد.وعدها البصريون مائة وإحدى وثمانين.
أغراضها
إثبات وحدانية الله تعالى،وسوق دلائل كثيرة على ذلك دلت على انفراده بصنع المخلوقات العظيمة التي لا قبل لغيره بصنعها وهي العوالم السماوية بأجزائها وسكنها ولا قبل لمن على الأرض أن يتطرق في ذلك.إثبات أن البعث يعقبه الحشر والجزاء.ووصف حال المشركين يوم الجزاء ووقوع بعضهم في بعض.ووصف حسن أحوال المؤمنين ونعيمهم.ومذاكرتهم فيما كان يجري بينهم وبين بعض المشركين من أصحابهم في الجاهلية ومحاولتهم صرفهم عن الإسلام.ثم انتقل إلى تنظير دعوة محمد صلى الله عليه وسلم قومه

بدعوة الرسل من قبله،وكيف نصر الله رسله ورفع شأنهم وبارك عليهم.وأدمج في خلال ذلك شيء من مناقبه وفضائلهم وقوتهم في دين الله وما نجاهم الله من الكروب التي حفت بهم. وخاصة منقبة الذبيحة،والإشارة إلى أنه إسماعيل.ووصف ما حل بالأمم الذين كذبوهم.ثم الأنحاء على المشركين فساد معتقداتهم في الله ونسبتهم إليه الشركاء.وقولهم:الملائكة بنات الله،وتكذيب الملائكة إياهم على رؤوس الأشهاد.وقولهم في النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن وكيف كانوا يودون أن يكون لهم كتاب.ثم وعد الله رسوله بالنص كدأب المرسلين ودأب المؤمنين السابقين،وأن عذاب الله نازل بالمشركين، وتخلص العاقبة الحسنى للمؤمنين.
وكانت فاتحتها مناسبة لأغراضها بأن القسم بالملائكة مناسب لإثبات الوحدانية لأن الأصنام لم يدعوا لها ملائكة،والذي تخدمه الملائكة هو الإله الحق ولأن الملائكة من جملة المخلوقات الدال خلقها على عظم الخالق،ويؤذن القسم بأنها أشرف المخلوقات العلوية.
ثم إن الصفات التي لوحظت في القسم بها مناسبة للأغراض المذكورة بعدها،فـ {الصافات} يناسب عظمة ربها،و {الزاجرات} يناسب قذف الشياطين عن السماوات،ويناسب تسيير الكواكب وحفظها من أن يدرك بعضها بعضا،ويناسب زجرها الناس في المحشر.و {التاليات ذكرا}يناسب أحوال الرسول والرسل عليهم الصلاة والسلام وما أرسلوا به إلى أقوامهم.
هذا وفي الافتتاح بالقسم تشويق إلى معرفة المقسم عليه ليقبل عليه السامع بشراشره.فقد استكملت فاتحة السورة أحسن وجوه البيان وأكملها.
[1ـ4] {وَالصَّافَّاتِ صَفّاً فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ}
القسم لتأكيد الخبر مزيد تأكيد لأنه مقتضى إنكارهم الوحدانية،وهو قسم واحد والمقسم به نوع واحد مختلف الأصناف،وهو طوائف من الملائكة كما يقتضيه قوله: {فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً} .
وعطف "الصافات" بالفاء يقتضي أن تلك الصفات ثابتة لموصوف واحد باعتبار جهة ترجع إليها وحدته، وهذا الموصوف هو هذه الطوائف من الملائكة فإن الشأن في عطف

الأوصاف أن تكون جارية على موصوف واحد لأن الأصل في العطف بالفاء اتصال المتعاطفات بها لما في الفاء من معنى التعقيب ولذلك يعطفون بها أسماء الأماكن المتصل بعضها ببعض كقول أمرئ القيس:
بسقط اللوى بين الدخول فحومل ... فَتُوضِحَ فالمقارة...البيت
وكقول لبيد:
بمشارق الجبليين أو بمحجر ... فتضمنتها فرده فمرخاها
فصدائق إن أيْمَنت فمظنة ... .....................البيت
ويعطفون بها صفات موصوف واحد كقول ابن زيَّابة:
يا لهف زيابة للحارث ال ... صابح فالغانم فالآيب
يريد صفات للحارث، ووصفه بها تهكما به.
فعن جماعة من السلف:"أن هذه الصفات للملائكة.وعن قتادة أن "التاليات ذكرا" الجماعة الذين يتلون كتاب الله من المسلمين.وقَسَمُ الله بمخلوقاته يُومىء إلى التنويه بشأن المقسم به من حيث هو دال على عظيم قدرة الخالق أو كونه مشرفا عند الله تعالى.
وتأنيث هذه الصفات باعتبار إجرائها على معنى الطائفة والجماعة ليدل على أن المراد أصناف من الملائكة لا آحاد منهم.
و {وَالصَّافَّاتِ} جمع:صافة،وهي الطائفة المصطف بعضها مع بعض.يقال:صف الأمير الجيش،متعديا إذا جعله صفا واحدا أو صفوفا،فاصطفوا.ويقال:فصفوا،أي صاروا مصطفين،فهو قاصر.وهذا من المطاوع الذي جاء على وزن فعله مثل قول العجاج:
قد جبر الدين الإله فجَبَر
وتقدم قوله: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} في سورة الحج[36]،وقوله: {وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ} في النور[41].
ووصف الملائكة بهذا الوصف يجوز أن يكون على حقيقته فتكون الملائكة في العالم العلوي مصطفة صفوفا،وهي صفوف متقدم بعضها على بعض باعتبار مراتب الملائكة في الفضل والقرب.ويجوز أن يكون كناية عن الاستعداد لامتثال ما يلقى إليهم

من أمر الله تعالى قال تعالى،حكاية عنهم في هذه السورة {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} [الصافات:166,165].
والزجر:الحث في نهي أو أمر بحيث لا يترك للمأمور تباطؤ في الإتيان بالمطلوب،والمراد به:تسخير الملائكة المخلوقات التي أمرهم الله بتسخيرها خلقا أو فعلا،كتكوين العناصر،وتصريف الرياح، وإزجاء السحاب إلى الآفاق.
و"التاليات ذكرا" المترددون لكلام الله تعالى الذي يتلقونه من جانب القدس لتبليغ بعضهم بعضا أو لتبليغه إلى الرسل كما أشار إليه قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:23].وبينه قول النبي صلى الله عليه وسلم :"إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم? قالوا: الذي قال الحق" .والمراد بـ"التاليات" ما يتلونه من تسبيح وتقديس لله تعالى لأن ذلك التسبيح لما كان ملقنا من لدن الله تعالى كان كلامهم بها تلاوة.والتلاوة:القراءة،وتقدمت في قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} في البقرة[102]،وقوله: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ} في الأنفال[2].
والذكر ما يتذكر به من القرآن ونحوه، وتقدم في قوله: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} في سورة الحجر[6].
وما تفيده الفاء من ترتيب معطوفها يجوز أن يكون ترتيبها في الفصل بأن يراد أن الزجر وتلاوة الذكر أفضل من الصف لأن الاصطفاف مقدمة لها ووسيلة والوسيلة دون المتوسل إليه ،و أن تلاوة الذكر أفضل من الزجر باعتبار ما فيها من إصلاح المخلوقات المزجورة بتبليغ الشرائع إن كانت التلاوة تلاوة الوحي الموحى به للرسل ،أو بما تشتمل علية التلاوة من تمجيد الله تعالى فإن الأعمال تتفاضل تارة بتفاضل متعلقاتها.
و قد جعل الله الملائكة قسما و سطا من أقسام الموجودات الثلاثة باعتبار التأثير والتأثير.فأعظم الأقسام المؤثر الذي لا يتأثر وهو واجب الوجود سبحانه،وأدناها المتأثر الذي لا يؤثر وهو سائر الأجسام،والمتوسط الذي يؤثر ويتأثر وهذا هو قسم المجردات من الملائكة والأرواح فهي القابلة للأثر عن عالم الكبرياء الإلهية وهي تباشر التأثير في عالم الأجسام.وجهة قابليتها الأثر من عالم الكبرياء مغايرة لجهة تأثيرها في عالم الأجسام وتصرفها فيها،فقوله: {فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً} إشارة إلى تأثيرها،وقوله: {فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً}

إشارة إلى تأثرها بما يلقى إليها من أمر الله فتتلوه وتتعبد بالعمل به.
وجملة {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} جواب القسم ومناط التأكيد صفة "واحد" لأن المخاطبين كانوا قد علموا أن لهم إلاها ولكنهم جعلوا عدة آلهة فأبطل اعتقادهم بإثبات أنه واحد غير متعدد،وهذا إنما يقتضي نفي الإلهية عن المتعددين وأما اقتضاؤه تعيين الإلهية لله تعالى فذلك حاصل لأنهم لا ينكرون أن الله تعالى هو الرب العظيم ولا كنهم جعلوا له شركاء فحصل التعدد في مفهوم الآله فإذا بطل التعدد تعين انحصار الإلهية في رب واحد هو الله تعالى.
[5] {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ}
أتبع تأكيد الإخبار عن وحدانية الله تعالى بالاستدلال على تحقيق ذلك الإخبار لأن القسم لتأكيده لا يقنع المخاطبين لأنهم مكذبون من بلغ إليهم القسم،فالجملة استئناف بياني لبيان الإله الواحد مع إدماج الاستدلال على تعيينه بذكر ما هو من خصائصه المقتضي تفرده بالإلهية.
فقوله: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} خبر لمبتدأ محذوف.والتقدير:هو رب السماوات،أي إلهكم الواحد هو الذي تعرفونه بأنه رب السماوات والأرض إلى آخره.
فقوله: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} خبر لمبتدأ محذوف جرى حذفه على طريقة الاستعمال في حذف المسند إليه من الكلام الوارد بعد تقدم حديث عنه كما نبه عليه صاحب "المفتاح".
فأن المشركين مع غلوهم في الشرك لم يتجرأوا على ادعاء الخالقية لأصنامهم ولا التصرف في العوالم العلوية،وكيف يبلغون إليها وهم لقى على وجه الأرض فكان تفرد الله بالخالقية أفحم حجة عليهم في بطلان إلهية الأصنام.وشمل {السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} جميع العوالم المشهودة للناس بأجرامها وسكانها والموجودات فيها.
وتخصيص {الْمَشَارِقِ} بالذكر من بين ما بين السماوات والأرض لأنها أحوال مشهودة كل يوم.
وجمع {الْمَشَارِقِ} باعتبار اختلاف مطلع الشمس في أيام نصف سنة دورتها وهي السنة الشمسية وهي مائة وثمانون شرقا باعتبار أطول نهار في السنة الشمسية وأقصره

مكررة مرتين في السنة ابتداء من الجوع الشتوي إلى الرجوع الخريفي،وهي مطالع متقاربة ليست متحدة،فأن المشرق اسم لمكان شروق الشمس وهو ظهورها فإذا راعوا الجهة دون الفصل قالوا: المشرق،بالإفراد،وإذا روعي الفصلان الشتاء والصيف قيل:رب المشرقين،على أن جمع المشارق قد يكون بمراعاة اختلاف المطالع في مبادىء الفصول الأربعة.والآية صالحة للاعتبارين ليعتبر كل فريق من الناس بها على حسب مبالغ عملهم.
[6ـ7] {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ}
هذه الجملة تنتزل من جملة {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} [الصافات:5] منزلة الدليل على أنه رب السماوات.واقتصر على ربوبية السماوات لأن ثبوتها يقتضي ربوبية الأرض بطريق الأولى. وأدمج فيها منة على الناس بأن جعل لهم في السماء زينة الكواكب تروق أنظارهم فإن محاسن المناظر لذة للناظرين قال تعالى: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل:6]،ومنه على المسلمين بأن جعل في تلك الكواكب حفظا من تلقي الشياطين للسمع فيما قضى الله أمره في العلم العلوي لقطع سبيل اطلاع الكهان على بعض ما سيحدث في الأرض فلا يفتنوا الناس في الإسلام كما فتنوهم في الجاهلية،وليكون ذلك تشريفا للنبي صلى الله عليه وسلم بأن قطعت الكهانة عند إرساله وللإشارة إلى أن فيها منفعة عظيمة دينية وهي قطع دابر الشك في الوحي،كما أن فيها منفعة دنيوية وهي للزينة والاهتداء بها في ظلمات البر والبحر.
و {الْكَوَاكِبِ} :الكريات السماوية التي تلمع في الليل عدا الشمس والقمر.وتسمى النجوم،وهي أقسام:منها العظيم،ومنها دونه،فمنها الكواكب السيارة،ومنها الثوابت،ومنها قطع تدور حول الشمس.وفي الكواكب حكم منها أن تكون زينة للسماء في الليل فالكواكب هي التي بها زينت السماء.فإضافة {زينة} إلى {الْكَوَاكِبِ} إن جعلت {زِينَةٍ} مصدرا بوزن فعله مثل نسبة كانت من إضافة المصدر إلى فاعله،أي زانتها الكواكب أو إلى المفعول،أي بزينة الله الكواكب،أي جعلها زينا.وإن جعلت {زِينَةٍ} اسما لما يتزين به مثل قولنا:ليقة لما تلاق به الدواة،فالإضافة حقيقية على معنى"من"الابتدائية،أي زينة حاصلة من الكواكب.وأيا ما كان فإقتحام لفظ {زِينَةٍ} تأكيد،والباء للسببية، أي زينا السماء بسبب زينة الكواكب فكأنه قيل:إنا زينا السماء الدنيا بالكواكب تزيينا فكان {بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} في قوة:بالكواكب تزيينا،فقوله: {بِزِينَةٍ} مصدر مؤكد لفعل {زَيَّنَّا} في المعنى ولكن حول التعليق فجعل {زِينَةٍ} هو المتعلق بـ {زَيَّنَّا} ليفيد معنى التعليل ومعنى

الإضافة في تركيب واحد على طريقة الإيجاز،لأنه قد علم أن الكواكب زينة من تعليقه بفعل {زَيَّنَّا} من غير حاجة إلى إعادة {زِينَةٍ}لولا ما قصد من معنى التعليل والتوكيد.
و {الدنيا} :أصله وصف هو مؤنث الأدنى،أي القربى.والمراد:قربها من الأرض،أي السماء الأولى من السماوات السبع.
ووصفها بالدنيا:إما لأنها أدنى إلى الأرض من بقية السماوات،والسماء الدنيا على هذا هي الكرة التي تحيط بكرة الهواء الأرضية وهي ذات أبعاد عظيمة.ومعنى تزيينها بالكواكب والشهب على هذا أن الله جعل الكواكب والشهب سابحة في مقعر تلك الكرة على أبعاد مختلفة ووراء تلك الكرة السماوات السبع محيط بعضها ببعض في أبعاد لا يعلم مقدار سعتها إلا الله تعالى.ونظام الكواكب المعبر عنه بالنظام الشمسي على هذا من أحوال السماء الدنيا،ولا مانع من هذا لأن هذه اصطلاحات،والقرآن صالح لها،ولم يأت لتدقيقها ولكنه لا ينافيها.والسماء الدنيا على هذا هي التي وصفت في حديث الإسراء بالأولى.وإما لأن المراد بالسماء الدنيا الكرة الهوائية المحيطة بالأرض وليس فيها شيء من الكواكب ولا من الشهب وأن الكواكب والشهب في أفلاكها وهي السماوات الست والعرش، فعلى هذا يكون النظام الشمسي كله ليس من أحوال السماء الدنيا.ومعنى تزيين السماء الدنيا بالكواكب والشهب على هذا الاحتمال أن الله تعالى جعل أديم السماء الدنيا قابلا لاختراق أنوار الكواكب في نصف الكرة السماوية الذي يغشاه الظلام من تباعد نور الشمس عنه فتلوح أنوار الكواكب متلألئة في الليل فتكون تلك الأضواء زينة للسماء الدنيا تزدان بها.
والآية صالحة للاحتمالين لأنها لم يثبت فيها إلا أن السماء الدنيا تزدان بزينة الكواكب،وذلك لا يقتضي كون الكواكب سابحة في السماء الدنيا.فالزينة متعلقة بالناس،والأشياء التي يزدان بها الناس مغايرة لهم منفصلة عنهم ومثله قولنا:ازدان البحر بأضواء القمر.
وقرأ الجمهور {بِزِينَةِ الْكَوَاكِبِ} بإضافة {زينة} إلى {الْكَوَاكِبِ} .وقرأ حمزة {بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} بتنوين {زينة} وجر {الْكَوَاكِبِ} على أن {الْكَوَاكِبِ} بدل من {زِينَةٍ} .وقرأه أبو بكر عن عاصم بتنوين {زِينَةٍ} ونصب {الْكَوَاكِبَ} على الاختصاص بتقدير:أعني.
وقد تقدم الكلام على زينة السماء بالكواكب وكونها حفظا من الشياطين عند قوله

تعالى: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} في سورة الحجر[17,16].وتقدم ذكر الكواكب في قوله: {رَأى كَوْكَباً} في سورة الأنعام[76].
وانتصب {حفظا} بالعطف على {بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} عطفا على المعنى كما ذهب إليه في الكشاف وبينه ما بيناه آنفا من أن قوله: {بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} في قوة أن يقال:بالكواكب زينة،وعامله {زَيَّنَّا} .
والحفظ من الشياطين حكمة من حكم خلق الكواكب في علم الله تعالى لأن الكواكب خلقت قبل استحقاق الشياطين الرجم فإن ذلك لم يحصل إلا بعد أن أطرد إبليس من عالم الملائكة فلم يحصل شرط اتحاد المفعول لأجله مع عامله في الوقت،وأبو علي الفارسي لا يرى اشتراط ذلك.ولعل الزمخشري يتابعه على ذلك حيث جعله مفعولا لأجله وهو الحق لأنه قد يكون على اعتباره علة مقدرة كما جوز في الحال أن تكون مقدرة.ولك أن تجعل {حفظا} منصوبا على المفعول المطلق الآتي بدلا من فعله فيكون في تقدير:وحفظنا،عطفا على {زَيَّنَّا} ،أي حفظنا بالكواكب من كل شيطان مارد. وهذا قول المبرد.والمحفوظ هو السماء،أي وحفظناها بالكواكب من كل شيطان.
وليس الذي به الحفظ هو جميع الذي به التزيين بل العلة موزعة فالذي هو زينة مشاهد الأبصار، والذي هو حفظ هو المبين بقوله: {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات:10].
ومعنى كون الكواكب حفظا من الشياطين أن من جملة الكواكب الشهب التي ترجم بها الشياطين عند محاولتها استراق السمع فتفر الشياطين خشية أن تصيبها لأنها إذا أصابت أشكالها اخترقتها فتفككت فعلها تزول أشكالها بذلك التفكك فتنعدم بذلك قوام ماهيتها أو تتفرق لحظة لم تلتئم من ذلك الخرق والالتئام فإن تلك الشهب التي تلوح للناظر قطعا لامعة مثل النجوم جارية في السماء إنما هي أجسام معدنية تدور حول الشمس وعندما تقرب إلى الأرض تتغلب عليها جاذبية الأرض فتنزعها من جاذبية الشمس فتنقض بسرعة نحو مركز الأرض ولشدة سرعة انقضاضها تولد في الجو الكروي حرارة كافية لإحراق الصغار منها وتحمى الكبار منها إلى درجة من الحرارة توجب لمعانها وتسقط حتى تقع على الأرض في البحر غالبا وربما وقعت على البر،وقد يعثر عليها بعض الناس إذ يجدونها واقعة على الأرض قطعا معدنية متفاوتة وربما أحرقت ما تصيبه من شجر أو منازل.وقد أرخ نزول بعضها سنة 616 قبل ميلاد المسيح ببلاد الصين فكسر عدة

مركبات وقتل رجالا،وقد ذكرها العرب في شعرهم قبل الإسلام قال دوس بن حجر يصف ثورا وحشيا:
فانقض كالدري يتبعه ... نقع يثور تخالُه طُنبا
وقال بشر بن خازم أنشده الجاحظ في "الحيوان":
والعَيْر يُرهقها الخَبَارَ وَجَحْشُها ... ينقض خلفهما انقاضا الكواكب1
وفي سنة "944" سجل مرور كريات نارية في الجو أحرقت بيوتا عدة.وسقطت بالقطر التونسي مرتين أو ثلاث مرات،منها قطعة سقطت في أوائل هذا القرن وسط المملكة أحسب أنها بجهات تالة ورأيت شظية منها تسبه الحديد،والعامة يحسبونها صاعقة ويسمون ذلك حجر الصاعقة.وتساقطها يقع في الليل والنهار ولكنا لا نشاهد مرورها في النهار لأن شعاع الشمس يحجبها عن الأنظار.
ومما علمت من تدحرج هذه الشهب من فلك الشمس إلى فلك الأرض تبين لك سبب كونها من السماء الدنيا وسبب اتصالها بالأجرام الشيطانية الصاعدة من الأرض تتطلب الاتصال بالسماوات.وقد سميت شهبا على التشبيه بقبس النار وهو الجمر،وقد تقدم في قوله تعالى: {أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ} في سورة النمل[7].
والمارد:الخارج عن الطاعة الذي لا يلبس الطاعة ساعة قال تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ} [التوبة:101].وفي وصفه بالمارد إشارة إلى أن ما يصيب إخوانه من الضر بالشهب لا يعظه عن تجديد محاولة الاستراق لما جبل عليه طبعه الشيطاني من المداومة على تلك السجايا الخبيثة كما لا ينزجر الفراش عن التهافت حول المصباح بما يصيب أطراف أجنحته من مس النار.
[8ـ10] {لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَأِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ}
اعتراض بين جملة {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا} [الصافات:6]وجملة {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً} [الصافات:11]قصد منه وصف قصة طرد الشياطين.
ـــــــ
1الخَبار بفتح الخاء المعجمة:الأرض الرخوة.

وعلى تقدير قوله: {وَحِفْظاً} [الصافات:7]مصدرا نائبا مناب فعله يجوز جعل جملة {لا يَسَّمَّعُونَ} بيانا لكيفية الحفظ فتكون الجملة في موقع عطف البيان من جملة {وَحِفْظاً} على حد قوله تعالى: { فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ} [طه:120]الآية،أي انتفى بذلك الحفظ سمع الشياطين للملأ الأعلى.
وحرف {إلى} يشير إلى تضمين فعل {يَسَّمَّعُونَ} معنى ينتهون فيسمعون،أي لا يتركهم الرمي بالشهب منتهين إلى الملأ الأعلى انتهاء الطالب المكان المطلوب بل تدحرهم قبل وصولهم فلا يتلقفون من علم ما يجري في الملأ الأعلى الأشياء مخطوفة غير متبينة،وذلك أبعد لهم من أن يسمعوا لأنهم لا ينتهون فلا يسمعون.وفي الكشاف:"أن سمعت المعدى بنفسه يفيد الإدراك،وسمعت المعدى بـ {الى} يفيد الإصغاء مع الإدراك.
وقرأ الجمهور {لا يَسْمَعُونَ} بسكون السين وتخفيف الميم.وقرأه حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلف {لا يَسَّمَّعُونَ} بتشديد السين وتشديد الميم مفتوحتين على أن أصله:لا يتسمعون فقلبت التاء سينا توصلا إلى الإدغام،والتسمع:تطلب السمع وتكلفه،فالمراد التسمع المباشر،وهو الذي يتهيأ له إذا بلغ المكان الذي تصل إليه أصوات الملأ الاعلى،أي أنهم يدحرون من قبل وصولهم المكان المطلوب،والقراءتان في معنى واحد.وما نقل عن أبي عبيد من التفرقة بينهما في المعنى والاستعمال لا يصح.
وحاصل معنى القراءتين أن الشهب تحول بين الشياطين وبين أن يسمعوا شيء من الملأ الأعلى وقد كانوا قبل البعثة المحمدية ربما اختطفوا الخطفة فألقوها إلى الكهان فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم قدر زيادة حراسة السماء بإرداف الكواكب بعضها ببعض حتى لا يرجع من خطف الخطفة سالما كما دل عليه قوله: {إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ} ،فالشهب كانت موجودة من قبل وكانت لا تحول بين الشياطين وبين تلقف أخبار مقطعة من الملأ الأعلى فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم حرمت الشياطين من ذلك.
و {الْمَلَأِ} :الجماعة أهل الشأن والقدر.والمراد بهم هنا الملائكة.ووصف {الْمَلَأِ} بـ {الْأَعْلَى} لتشريف الموصوف.
والقذف:الرجم،والجانب:الجهة،والدحور:الطرد.وانتصب على أنه مفعول مطلق لـ {يُقْذَفُونَ} . وإسناد فعل {يُقْذَفُونَ} للمجهول لأن القاذف معلوم وهم الملائكة الموكلون بالحفظ المشار إليه في قوله تعالى: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً

شَدِيداً وَشُهُباً} [الجن:8].
والعذاب الواصب:الدائم يقال:وصب يصب وصوبا،إذا دام.والمعنى:أنهم يطردون في الدنيا ويحقرون ولهم عذاب دائم في الآخرة فإن الشياطين للنار {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً} في سورة مريم[68]،ويجوز أن يكون المراد عذاب القذف وأنه واصب،أي لا ينفعك عنهم كلما حاولوا الاستراق لأنهم مجبولون على محاولتهم.
وجملة {وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ} معترضة بين الجملة المشتملة على المستثنى منه وهي جملة {لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَأِ الْأَعْلَى} وبين الاستثناء.
و {مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ} مستثنى من ضمير {لا يَسَّمَّعُونَ} فهو في محل رفع إلى البدلية منه.
والخطف:ابتدار تناول شيء بسرعة،والخطفة المرة منه.فهو مفعول مطلق لـ {خَطِفَ} لبيان عدد مرات المصدر،أي خطفة واحدة،وهو هنا مستعار للإسراع بسمع ما يستطيعون سمعه من كلام غير تام كقوله تعالى: {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} في سورةالبقرة[20].
و "أتبعه" بمعنى تبعه فهمزته لا تفيده تعدية،وهي كهمزة أبان بمعنى بان.
والشهاب:القبس والجمر من النار.والمراد به هنا ما يسمى بالنيزك في اصطلاح علم الهيئة,وتقدم في قوله: {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} في سورة الحجر[18].
والثاقب:الخارق،أي الذي يترك ثقبا في الجسم الذي يصيبه،أي ثاقب له.وعن ابن عباس:"الشهاب لا يقتل الشيطان الذي يصيبه ولكنه يحترق ويخبل"،أي يفسد قوامه فتزول خصائصه،فأن فإن لم يضمحل فإنه يصبح غير قادر على محاولة استراق السمع مرة أخرى،أي إلا من تمكن من الدنو إلى محل يسمع فيه كلمات من كلمات الملأ الأعلى فيردف بشهاب يثقبه فلا يرجع إلى حيث صدر،وهذا من خصائص ما بعد البعثة المحمدية.
وقد تقدم الكلام على استراق السمع عند قوله تعالى: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ} في سورة الشعراء[211,210].

[11] {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ}
الفاء تفريع على قوله: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} [الصافات:6]باعتبار ما يقتضيه من عظيم القدرة على الإنشاء،أي فسلهم عن إنكارهم البعث وإحالتهم إعادة خلقهم بعد أن يصيروا عظاما ورفاتا،أخلقهم حينئذ أشد علينا أم خلق تلك المخلوقات العظيمة?
وضمير الغيبة في قوله: {فَاسْتَفْتِهِمْ} عائد إلى غير مذكور للعلم به من دلالة المقام وهم الذين أحالوا إعادة الخلق بعد الممات.وكذلك ضمائر الغيبة الآتية بعده وضمير الخطاب منه موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم،أي فسلهم،وهو سؤال محاجة وتغليط.
والاستفتاء:طلب الفتوى بفتح الفاء وبالواو،ويقال:الفتيا بضم الفاء وبالياء.وهي إخبار عن أمر يخفى عن غير الخواص في ما.وهي:
إما إخبار عن علم مختص به المخبر قال تعالى: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ} [يوسف:46]الآية,وقال: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} [النساء:176]،وتقدم في قوله: {الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} في سورة يوسف[41].
وإما إخبار عن رأي يطلب من ذي رأي موثوق به ومنه قوله تعالى: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي} في سورة النمل[32].
والمعنى:فاسألهم عن رأيهم فلما كان المسؤول عنه أمرا محتاجا إلى إعمال نظر أطلق على الاستفهام عنه فعل الاستفتاء.
وهمزة {أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً} للاستفهام المستعمل للتقرير بضعف خلق البشر بالنسبة للمخلوقات السماويه لأن الاستفهام يؤول إلى الإقرار حيث إنه يلجئ المستفهم إلى الإقرار بالمقصود من طرفي الاستفهام،فالاستفتاء في معنى الاستفهام فهو يستعمل في كل ما يستعمل فيه الاستفهام.وأشد بمعنى: أصعب وأعسر.
و {خَلْقاً} تمييز،أي أخلقهم أشد أم خلق من خلقنا الذي سمعتم وصفه.
والمراد بـ {مَنْ خَلَقْنَا} ما خلقه الله من السماوات والأرض وما بينهما الشامل للملائكة والشياطين والكواكب المذكورة آنفا بقرينة إيراد فاء التعقيب بعد ذكر ذلك،وهذا كقوله تعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ} [النازعات:27]ونحوه.

وجيء باسم العاقل وهو {مَنْ} الموصولة تغليبا للعاقلين من المخلوقات.
وجملة {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ} في موضع العلة لما يتولد من معنى الاستفهام في قوله: {أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنَا} من الإقرار بأنهم أضعف خلقا من خلق السماوات وعوالمها احتجاجا عليهم بأن تأني خلقهم بعد بعد الفناء أهون من تأتي المخلوقات العظيمة المذكورة آنفا ولم تكن مخلوقة قبل فإنهم خلقوا من طين لأن أصلهم وهو آدم خلق من طين كما هو مقرر لدى جميع البشر فكيف يحيلون البعث بمقالاتهم التي منها قولهم: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [الصافات:16].
والطين:التراب المخلوط بالماء.
واللازب:اللاصق بغيره ومنه أطلق على الأمر الواجب "لازب" في قول النابغة:
ولا يحسبون الشر ضربة لازب
وقد قيل:إن باء لازب بدل من ميم لازم،والمعنى: أنه طين عتيق صار حمأة.
وضمير {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ}عائد إلى المشركين وهو على حذف مضاف،أي خلقنا أصلهم وهو آدم فإنه الذي خلق من طين لازب،فإذا كان أصلهم قد أنشئ من تراب فكيف ينكرون إمكان إعادة كل آدمي من تراب.
[12ـ14] {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ وَإِذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ}
{بل} للإضراب الانتقالي من التقرير التوبيخي إلى أن حالهم عجب.
وقرأ الجمهور {بَلْ عَجِبْتَ} بفتح التاء للخطاب.والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم المخاطب بقوله: {فَاسْتَفْتِهِمْ} [ الصافات:11].وفعل المضي مستعمل في معنى الأمر وهو من استعمال الخبر في معنى الطلب للمبالغة كما يستعمل الخبر في إنشاء صيغ العقود نحو:بعث.والمعنى:اعجب لهم.ويجوز أن يكون العجب قد حصل من النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى إعراضهم وقلة إنصافهم فيكون الخبر مستعملا في حقيقته.ويجوز أن يكون الكلام لى تقدير همزة الاستفهام,أي بل أعجبت.
والمعنى على الجميع:أن حالهم حرية بالتعجب كقوله تعالى: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} في سورة الرعد[5].

وقرأ حمزة والكسائي وخلف {بَلْ عَجِبْتُ} بضم التاء للمتكلم فيجوز أن يكون المراد:أن الله أسند العجب إلى نفسه.ويعرف أنه ليس المراد حقيقة العجب المستلزمة الروعة والمفاجأة بأمر غير مترقب بل المراد التعجيب أو الكناية عن لازمه،وهو استعظام الأمر المتعجب منه.وليس لهذا الاستعمال نظير في القرآن ولكنه تكرر في كلام النبوءة منه قوله صلى الله عليه وسلم:"إن الله ليعجب من رجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة يقاتل هذا في سبيل الله فيقتل ثم يتوب الله على القاتل فيستشهد" رواه النسائي بهذا اللفظ.يعني ثم يسلم القاتل الذي كان كافر فيقاتل فيستشهد في سبيل الله.
وقوله في حديث الأنصاري وزوجه إذ أضافا رجلا فأطعماه عشاءهما وتركا صبيانهما:"عجب الله من فعالكما".
ونزل فيهم: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} 1[الحشر:9].وقوله: "عجب الله من قوم يدخلون الجنة في السلاسل" 2.وإنما عدل عن الصريح وهو الاستعظام لأن الكناية أبلغ من التصريح،والصارف عن معنى اللفظ الصريح في قوله: {عَجِبْتُ} ما هو معلوم من مخالفته تعالى للحوادث.
ويجوز أن يكون أطلق {عَجِبْتُ} على معنى المجازاة على عجبهم لأن قوله: { فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً} [الصافات:11]دل على أنهم عجبوا من إعادة الخلق فتوعدهم الله بعقاب على عجبهم. وأطلق على ذلك العقاب فعل {عَجِبْتُ} كما أطلق على عقاب مكرهم المكر في قوله: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران:54}.
والواو في {وَيَسْخَرُونَ} واو الحال،والجملة في موضع الحال من ضمير {عَجِبْتُ} أي كان أمرهم عجبا في حال استسخارهم بك في استفتائهم.وجيء بالمضارع في {يَسْخَرُونَ} لإفادة تجدد السخرية،وأنهم لا يرعوون عنها.
والسخرية:الاستهزاء،وتقدمت في قوله تعالى: {فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ} في سورة الأنعام[10].
والتذكير بأن يذكروا ما يغفلون عنه من قدرة الله تعالى عليهم،ومن تنظير حالهم بحال الأمم التي استأصلها الله تعالى فلا يتعظوا بذلك عنادا فأطلق {لا يَذْكُرُونَ} على أثر
ـــــــ
1 رواه البخاري في مناقب الأنصار وفيه قصة.
2 رواه البخاري في الجهاد.

الفعل،أي لا يحصل فيهم أثر تذكر به وإن كانوا قد ذكروا ذلك.ويجوز أن يراد لا يذكرون ما ذكروا به،أي لشدة إعراضهم عن التأمل فيما ذكروا به لاستقرار ما ذكروا به في عقولهم فلا يذكرون ما هم غافلون عنه، على حد قوله تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ} [الفرقان:44].
و {وَإِذَا رَأَوْا آيَةً} أي خارق عادة أظهره الرسول صلى الله عليه وسلم دالا على صدفة لأن الله تعالى لا يغير نظام خلقته في العالم إلا إذا أراد تصديق الرسول لأن خرق العادة من خالق العادات وناظم سنن الأكوان قائم مقام قوله:صدق هذا الرسول فيما أخبر به عني.وقد رأوا انشقاق القمر،فقالوا: هذا سحر،قال تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر:2,1].
و {يَسْتَسْخِرُونَ} مبالغة في السخرية فالسين والتاء للمبالغة كقوله: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ} [آل عمران:195]وقوله: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ} [الزخرف:43].
فالسخرية المذكورة في قوله: {وَيَسْخَرُونَ} سخرية من محاجة النبي صلى الله عليه وسلم إياهم بالأدلة.
فالسخرية المذكورة هنا سخرية من ظهور الآيات المعجزات،أي يزيدون في السخرية بمن ظن منهم أن ظهور المعجزات يحول بهم عن كفرهم،ألا ترى أنهم قالوا: {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا} [الفرقان:42]
[15ـ19] {وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ} .
عطف على جملة {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً} [الصافات:11]الآية.والإشارة في قوله: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} إلى مضمون قوله: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً} وهو إعادة الخلق عند البعث،ويبينه قوله : {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} ،أي وقالوا في رد الدليل الذي تضمنه قوله: {أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنَا} الصافات:11]أي أجابوا بأن ادعاء إعادة الحياة بعد البلى كلام سحر مبين، أي كلام لا يفهم قصد به سحر السامع.هذا وجه تفسير هذه الآية تفسيرا يلتئم به نظمها خلافا لما درج عليه المفسرون.
وقرأ نافع وحده {إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} بهمزة واحدة هي همزة {إن} باعتبار أنه جواب {إذا} الواقعة في حيز الاستفهام فهو من حيز الاستفهام.وقرأ غير نافع {أَإِنَّا} بهمزتين:

إحداهما همزة الاستفهام مؤكدة للهمزة الداخلة على {إذا} .
وقوله: {أَوَآبَاؤُنَا} قرأه قالون عن نافع وابن عامر وأبو جعفر بسكون واو {أو} على أن الهمزة مع الواو حرف واحد هو {أو} العاطفة المفيدة للتقسيم هنا ووجه العطف بـ {أو} هو جعلهم الآباء الأولين قسما آخر فكان عطفه ارتقاء في إظهار استحالة إعادة هذا القسم لأن آباءهم طالت عصور فنائهم فكانت إعادة حياتهم أوغل في الاستحالة.وقرأ الباقون بفتح الواو على أن الواو واو العطف والهمزة همزة استفهام فهما حرفا.وقدمت همزة الاستفهام على حرف العطف حسب الاستعمال الكثير.والتقدير:وأآباؤنا الأولون مثلنا.
وعلى كلتا القراءتين فرفعه بالعطف على محل اسم {إن} الذي كان مبتدأ قبل دخول {إن} ،والغالب في العطف على اسم {إن} يرفع المعطوف اعتبار بالمحل كما في قوله تعالى: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} [التوبة:3]أو يجعل معطوفا على الضمير المستتر في خبر {إن} وهو هنا مرفوع بالنيابة عن الفاعل ولا يضر الفصل بين المعطوف عليه الذي هو ضمير متصل وبين حرف العطف،أو بين المعطوف عليه والمعطوف بالهمزة المفضي إلى إعمال ما قبل الهمزة فيما بعدها وذلك ينافي صدارة الاستفهام لأن صدارة الاستفهام بالنسبة إلى جملته فلا ينافيها عمل عامل من جملة قبله لأن الإعمال اعتبار يعتبره المتكلم ويفهمه السامع فلا ينافي الترتيب اللفظي.
والاستفهام في قوله: {أَإِذَا مِتْنَا} إنكاري كم تقدم فلذلك كان قوله تعالى: {قُلْ نَعَمْ} جوابا لقولهم : {أَإِذَا مِتْنَا} على طريقة الأسلوب الحكيم بصرف قصدهم من الاستفهام إلى ظاهر الاستفهام فجعلوا كالسائلين:أيبعثون?فقيل لهم:نعم،تقريرا للبعث المستفهم عنه،أي نعم تبعثون.وجيء بـ {قُلْ} غير معطوف لأنه جار على طريقة الاستعمال في حكاية المحاورات كما تقدم عند قوله تعالى: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} في سورة البقرة[30].
{وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ} جملة في موضع الحال.والداخر:الصاغر الذليل،أي تبعثون بعث إهانة مؤذنة بتقريب العقاب لا بعث كرامة.
وفرع على إثبات البعث الحاصل بقوله: {نَعَمْ} ؛أن بعثهم وشيك الحصول لا يقتضي معالجة ولا زمنا إن هي إلا إعادة تنتظر زجرة واحدة.
والزجرة:الصيحة،وقد تقدم آنفا قوله تعالى: {فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً} [الصافات:2].

و {وَاحِدَةٌ} تأكيد لما تفيده صيغة الفعلة من معنى المرة لدفع توهم أن يكون المراد من الصيحة الجنس دون الوجود لأن وزن الفعلة يجيء لمعنى المصدر دون المرة.وضمير {هِيَ} ضمير القصة والشأن وهو لا معاد له إنما تفسره الجملة التي بعده.وفرع عليه {فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ} ودل فاء التفريع على تعقيب المفاجأة،ودل حرف المفاجأة على سرعة حصول ذلك.وقد تقدم ذلك في قوله تعالى: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} في سورة يس~[25].
وكني عن الحياة الكاملة التي لا دهش يخالطها بالنظر في قوله: {يَنْظُرُونَ} لأن النظر لا يكون إلا مع تمام الحياة.وأوثر النظر من بين بقية الحواس لمزيد اختصاصه بالمقام وهو التعريض بما اعتراهم من البهت لمشادة الحشر.
[20] {وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ}
يجوز أن تكون الواو للحال،أي قائلين {يَا وَيْلَنَا} أي يقول جميعهم:يا ويلنا يقوله كل أحد عنه وعن أصحابه.ويجوز أن يكون عطفا على جملة {يَنْظُرُونَ} [الصافات:19].والمعنى:ونظروا وقالوا.
والويل:سوء الحال.وحرف النداء للاهتمام.وقد تقدم نظيرة في قوله تعالى: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} في سورة يس[30].
والإشارة إلى اليوم المشاهد.والدين:الجزاء،وتقدم في سورة الفاتحة.
[21] {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ}
يجوز أن يكون هذا كلاما موجها إليهم من جانب الله تعالى جوابا عن قولهم: {يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ} [الصافات:20]،والخبر مستعمل في التعريض بالوعيد،ويجوز أن يكون من تمام قولهم،أي يقول بعضهم لبعض {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ} .
و {الْفَصْلِ} :تمييز الحق من الباطل،والمراد به الحكم والقضاء،أي هذا يوم يفضي عليكم بما استحققتموه من العقاب.
[22ـ26] {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ

مُسْتَسْلِمُونَ}
تخلص من الإنذار بحصول البعث إلى الإخبار عما يحل بهم عقبة إذا ثبتوا على شركهم وإنكارهم البعث والجزاء.
و {احْشُرُوا} أمر،وهو يقتضي آمرا،أي ناطقا به،فهذا مقول لقول محذوف لظهور أنه لا يصلح للتعلق بشيء مما سبقه،وحَذْفُ القول من حديث البحر،وظاهر أنه أمر من قبل الله تعالى للملائكة الموكلين بالناس يوم الحساب.
والحشر:جمع المتفرقين إلى مكان واحد.
و {الَّذِينَ ظَلَمُوا} :المشركون {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13].
والأزواج ظاهرة أن المراد به حلائلهم وهو تفسير مجاهد والحسن.وروي عن النعمان بن بشير يرويه عن عمر بن الخطاب وتأويله:أنهن الأزواج الموافقات لهم في الإشراك،أما من آمن فهن ناجيات من تبعات أزواجهن وهذا كذكر أزواج المؤمنين في قوله تعالى: {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ} [يّس:56] فإن المراد أزواجهم المؤمنات فأطلق حملا على المقيد في قوله: {وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} [الرعد:23]
وذكر الأزواج إبلاغ في الوعيد والإنذار لئلا يحسبوا أن النساء المشركات لا تبعة عليهن.
وذلك مثل تخصيصهن بالذكر في قوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} في سورة البقرة[178].
وقيل:الأزواج:"الأصناف،أي أشياعهم في الشرك وفروعه".قاله قتادة وهو رواية عن عمر بن الخطاب وابن عباس.
وعن الضحاك:"الأزواج المقارنون لهم من الشياطين".
وضمير {يَعْبُدُونَ} عائد إلى {الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} .وما صدق {ما} غير العقلاء،فأما العقلاء فلا تزر وازرة وزر أخرى.
والضمير المنصوب في {فَاهْدُوهُمْ} عائد إلى {الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} ، أي الأصنام.وعطف {فَاهْدُوهُمْ} بفاء التعقيب إشارة إلى سرعة الأمر بهم إلى النار عقب ذلك الحشر فالأمر بالأصالة في القرآن.
والهداية والهدي:الدلالة على الطريق لمن لا يعرفه،فهي إرشاد إلى مرغوب وقد

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68