كتاب : التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور
المؤلف : محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي

ومجاهد وقتادة والربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
وذهب بعض المفسرين إلى أن آية البقرة هذه ثبت بها تحريم الخمر فتكون هذه الآية عندهم نازلة بعد آية سورة النساء {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى}، وإذ كانت سورة البقرة قد نزلت قبل سورة النساء وسورة المائدة، فيجئ على قول هؤلاء أن هذه الآية نزلت بعد نزول سورة البقرة وأنها وضعت هنا إلحاقا بالقضايا التي حكى سؤالهم عنها.وأن معنى {فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} في تعاطيهما بشرب أحدهما واللعب بالآخر ذنب عظيم، وهذا هو الأظهر من الآية؛ إذ وصف الإثم فيها بوصف كبير فلا تكون آية سورة العقود إلا مؤكدة للتحريم ونصا عليه؛ لأن ما في آيتنا هذه من ذكر المنافع ما قد يتأوله المتأولون بالعذر من شربها، وقد روى في بعض الآثار أن ناسا شربوا الخمر بعد نزول هذه الآية فصلى رجلان فجعلا يهجران كلاما لا يدري ما هو، وشربها رجل من المسلمين فجعل ينوح على قتلى بدر من المشركين، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فجاءه فزعا ورفع شيئا كان بيده ليضربه فقال الرجل: أعوذ بالله من غضب الله ورسوله وآله: لا أطعمها أبدا، فأنزل الله تحريمها بآية سورة المائدة.
والخمر اسم مشتق من مصدر خمر الشيء خمره من باب نصر إذا ستره، سمي به عصير العنب إذا غلى واشتد وقذف بالزبد فصار مسكرا؛ لأنه يستر العقل عن تصرفه الخلفي تسمية مجازية وهي إما تسمية بالمصدر، أو هو اسم جاء على زنة المصدر: هو اسم لكل مشروب مسكر سواء كان عصير عنب أو عصير غيره أو ماء نبذ فيه زبيب أو تمر أو غيرهما من الأنبذة وترك حتى يختمر ويزيد، واستظهره صاحب "القاموس". والحق أن الخمر كل شراب مسكر، إلا أنه غلب على عصير العنب المسكر؛ لأنهم كانوا يتنافسون فيه، وأن غيره يطلق عليه خمر ونبيذ وفضيخ، وقد وردت أخبار صحيحة تدل على أن معظم شراب العرب يوم تحريم الخمر من فضيخ التمر، وأن أشربه أهل المدينة يومئذ خمسة غير عصير العنب، وهي من التمر والزبيب والعسل والذرة والشعير وبعضها يسمى الفضيخ، والنقيع، والسكركة، والبتع. وما ورد في بعض الآثار عن ابن عمر: نزل تحريم الخمر وبالمدينة خمسة أشربه ما فيها شراب العنب، معناه ليس معدودا في الخمسة شراب العنب لقلة وجوده وليس المراد أن شراب العنب لا يوجد بالمدينة.وقد كان شراب العنب يجلب إلى الحجاز ونجد من اليمن والطائف والشام قال عمرو ابن كلثوم:
ولا تبقي خمور الأندرين

وأندرين بلد من بلاد الشام.
وقد أنبني على الخلاف في مسمى الخمر في كلام العرب خلاف في الأحكام، فقد أجمع العلماء كلهم على أن خمر العنب حرام كثيرها إجماعا وقليلها عند معظم العلماء ويحد شارب الكثير منها عند الجمهور وفي القليل خلاف كما سيأتي في سورة المائدة إن شاء الله تعالى، ثم اختلفوا فيما عداها فقال الجمهور: كل شراب أسكر كثيره فقليله حرام وحكمه كحكم الخمر في كل شيء أخذا بمسمى الخمر عندهم، وبالقياس الجلي الواضح أن حكمة التحريم هي الإسكار وهو ثابت لجميعها وهذا هو الصواب، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف وسفيان الثوري: يختص شراب العنب بتلك الأحكام أما ما عداه فلا يحرم منه إلا القدر المسكر، هكذا ينقل المخالفون عن أبي حنيفة، وكان العلماء في القديم ينقلون ذلك مطلقا حتى ربما أوهم نقلهم أنه لا يرى على من سكر بغير الخمر شيئا، ويزيد ذلك إيهاما قاعدة أن المأذون فيه شرعا لا يتقيد بالسلامة وربما عضدوا ذلك بمنقول قصص وحوادث كقول أبي نواس:
أباح العراقي النبيذ وشربه ... وقال حرامان المدامة والسكر
ولكن الذي استقر عليه الحنفية هو أن الأشربة المسكرة قسمان، أحدهما محرم شربه وهو أربعة: "الخمر" وهو الني من عصير العنب إذا علي واشتد وقذف بالزبد، و"الطلاء" بكسر الطاء وبالمد وهو عصير العنب إذا طبخ حتى ذهب أقل من ثلثيه ثم ترك حتى صار مسكرا، و"السكر" بفتح السين والكاف وهو الني من ماء الرطب أي من الماء الحار المصبوب على الرطب ثم يصير مسكرا، و"النقيع" وهو الني من نبيذ الزبيب، وهذه الأربعة حرام قليلها وكثيرها ونجسه العين لكن الخمر يكفر مستحلها ويحد شارب القليل والكثير منها، وأما الثلاثة الباقية فلا يكفر مستحلها ولا يحد شاربها إلا إذا سكر.
القسم الثاني الأشربة الحلال شربها وهي نبيذ التمر والزبيب إذا طبخ ولو أدنى طبخة، ونبيذ الخليطين منهما إذا طبخ أدنى طبخة، ونبيذ العسل والتين والرز والشعير والذرة طبخ أم لم يطبخ. والمثلث وهو ما طبخ من ماء العنب حتى ذهب ثلثاه وبقي ثلثه، فهذه الأربعة يحل شربها؛ إذا لم يقصد به اللهو والطرب بل التقوى على العبادة "كذا" أو إصلاح هضم الطعام أو التداوي وإلا حرمت ولا يحد شاربها إلا إذا سكر.
وهذا التفصيل دليله القياس، لأن هذه الأشربة لم يبق فيها الإسكار المعتاد، وأما

الحد وهذا التفصيل دليله القياس، لأن هذه الأشربة لم يبق فيها الإسكار المعتاد، وأما الحد فلا وجه للتفصيل فيه لأنه إن كان على السكر فالجميع سواء في الإسكار، على أنه يلزم ألا يكون الحد إلا عند حصول السكر وليس في الآثار ما يشهد لغير ذلك، وإن كان الحد لسد الذريعة فلا أرى أن قاعدة سد الذريعة تبلغ إلى حد مرتكب الذريعة قبل حصول المتذرع إليه. وتمسك الحنفية لهذا التفصيل بأن الأنبذة شربها الصحابة هو تمسك أو هي مما قبله، إذ الصحابة يحاشون عن شرب المسكرات وإنما شربوا الأنبذة قبل اختمارها، واسم النبيذ يطلق على الحلو والمختمر فصار اللفظ غير منضبط، وقد خالف محمد بن الحسن إمامه في ذلك فوافق الجمهور. وربما ذكر بعضهم في الاستدلال أن الخمر حقيقة في شراب العنب النيء مجاز في غيره من الأنبذة والشراب المطبوخ، وقد جاء في الآية لفظ الخمر فيحمل على حقيقته وإلحاق غيره به إثبات اللغة بالقياس، وهذا باطل، لأن الخلاف في كون الخمر حقيقة في شراب العنب أو في الأعم خلاف في التسمية اللغوية والإطلاق، فبقطع النظر عنه كيف يظن المجتهد بأن الله تعالى يحرم خصوص شراب العنب ويترك غيره مما يساويه في سائر الصفات المؤثرة في الأحكام،
فإن قالوا: إن الصفة التي ذكرت في القرآن قد سوينا فيها جميع الأشربة وذلك بتحريم القدر المسكر وبقيت للخمر أحكام ثبتت بالسنة كتحريم القليل والحد عليه أو على السكر فتلك هي محل النظر، قلنا: هذا مصادرة لأننا استدللنا عليهم بأنه لا يظن بالشارع أن يفرق في الأحكام بين أشياء متماثلة في الصفات، على أنه قد ثبت في "الصحيح" ثبوتا لا يدع للشك في النفوس مجالا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الخمر من العصير والزبيب والتمر والحنطة والشعير والذرة" رواه النعمان بن بشير وهو في "سنن أبي داود" وقال: "الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة". رواه أبو هريرة وهو في "سنن أبي داود"، وقال: "كل مسكر خمر وكل مسكر حرام" رواه ابن عمر في "سنن الترمذي"، وقال أنس: "لقد حرمت الخمر وما نجد شراب العنب إلا قليلا، وعامة شرابنا فضيخ التمر". كما في سنن الترمذي. وأما التوسع في الخمر بعد الطبخ، فهو تشويه للفقه ولطخ، وماذا يفيد الطبخ إن كان الإسكار لم يزل موجودا.
وصف الله الخمر بأن فيها إثما كبيرا ومنافع. والإثم: معصية الله بفعل ما فيه فساد ولا يرضي الله، وأشار الراغب إلى أن في اشتقاق الإثم معنى الإبطاء عن الخير، وقال ابن العربي في تفسير سورة الأعراف: الإثم عبارة عن الذم الوارد في الفعل، فكأنه يشير إلى أن الإثم ضد الثواب، وظاهر اصطلاح الشريعة أن الإثم هو الفعل المذموم في

الشرع، فهو ضد القربة فيكون معنى {فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} أنهما يتشبب منهما ما هو إثم في حال العربدة وحل الربح والخسارة من التشاجر.
وإطلاق الكبير على الإثم مجاز، لأنه ليس من الأجسام، فالمراد من الكبير: الشديد في نوعه كما تقدم آنفا.
وجيء بفي الدالة على الظرفية لإفادة شدة تعلق الإثم والمنفعة بهما؛ لأن الظرفية أشد أنواع التعلق، وهي هنا ظرفية مجازية شائعة في كلام العرب، وجعلت الظرفية متعلقة بذات الخمر والميسر للمبالغة، والمراد في استعمالهما المعتاد.
واختير التعبير بالإثم للدلالة على أنه يعود على متعاطي شربها بالعقوبة في الدنيا والآخرة.
وقرأ الجمهور {إِثْمٌ كَبِيرٌ} بموحدة بعد الكاف وقرأه حمزة والكسائي "كثير" بالثاء المثلثة، وهو مجاز استعير وصف الكثير للشديد تشبيها لقوة الكيفية بوفرة العدد.
والمنافع: جمع منفعة، وهي اسم على وزن مفعلة وأصله يحتمل أن يكون مصدرا ميميا قصد منه قوة النفع، لأن المصدر الميمي أبلغ من جهة زيادة المبني. ويحتمل أن يكون اسم مكان دالا على كثرة ما فيه كقولهم مسبعة ومقبرة أي يكثر فيهما النفع من قبيل قولهم مصلحة ومفسدة، فالمنفعة على كل حال أبلغ من النفع.
والإثم الذي في الخمر نشأ عما يترتب على شربها تارة من الإفراط فيه والعربدة من تشاجر يجر إلى البغضاء والصد عن سبيل الله وعن الصلاة، وفيها ذهاب العقل والتعرض للسخرية، وفيها ذهاب المال في شربها، وفي الإنفاق على الندامي حتى كانوا ربما رهنوا ثيابهم عند الخمارين قال عمارة بن الوليد بن المغيرة المخزومي:
ولسنا بشرب أم عمرو إذا انتشوا ... ثياب الندامى عندهم كالمغانم
ولكننا يا أم عمرو نديمنا ... بمنزلة الربان ليس بعائم
وقال عنترة:
وإذا سكرت فإنني مستهلك ... مالي، وعرضي وافر لم يكلم
وكانوا يشترون الخمر بأثمان غالية ويعدون المماكسة في ثمنها عيبا، قال لبيد:
أغلي السباء بكل أدكن عاتق ... أو جونة قدحت وفض ختامها

ومن آثامها ما قرره الأطباء المتأخرون أنها تورث المدمنين عليها أضرارا في الكبد والرئتين والقلب وضعفا في النسل، وقد انفرد الإسلام عن جميع الشرائع بتحريمها، ولأجل ما فيها من المضار في المروءة حرمها بعض العرب على أنفسهم في الجاهلية، فممن حرمها على نفسه في الجاهلية قيس بن عاصم المنقري بسبب أنه شرب يوما حتى سكر فجذب ابنته وتناول ثوبها، ورأى القمر فتكلم كلاما، فلما أخبر بذلك حين صحا إلى لا يذوق خمرا ما عاش وقال:
رأيت الخمر صالحة وفيها ... خصال تفسد الرجل الحليما
فلا والله أشربها صحيحا ... ولا أشفي بها أبدا سقيما
ولا أعطي بها ثمنا حياتي ... ولا أدعو لها أبدا نديما
فإن الخمر تفضح شاربيها ... وتجنيهم بها الأمر العظيما
وفي "أمالي القالي" نسبة البيتين الأولين لصفوان بن أمية، ومنهم عامر بن الظرب العدواني، ومنهم عفيف بن معد يكرب الكندي عن الأشعث بن قيس، وصفوان بن أمية الكناني، وأسلوم البالي، وسويد بن عدي الطائي، "وأدرك الإسلام" وأسد بن كرز القسري البجلي الذي كان يلقب في الجاهلية برب بجيلة، وعثمان بن عفان، وأبو بكر الصديق، وعباس بن مرداس، وعثمان بن مظعون، وأمية بن أبي الصلت، وعبد الله بن جدعان.
وأما المنافع فمنها منافع بدنية وهي ما تكسبه من قوة بدن الضعيف في بعض الأحوال وما فيها من منافع التجارة فقد كانت تجارة الطائف واليمن من الخمر، وفيها منافع من اللذة والطرب، قال طرفة:
ولولا ثلاث هن من عيشة الفتى ... وجدك لم أحفل متى قام عودي
فمنهن سبقي العاذلات بشربة ... كميت متى ما تعل بالماء تزبد
وذهب بعض علمائنا إلى أن المنافع مالية فقط فرارا من الاعتراف بمنافع بدنية للخمر وهو جحود للموجود ومن العجيب أن بعضهم زعم أن في الخمر منافع بدنية ولكنها بالتحريم زالت.
وذكر في هذه الآية الميسر عطفا على الخمر ومخبرا عنهما بأخبار متحدة فما قيل في نقتضي هذه الآية تحريم الخمر أو من التنزيه عن شربها يقال مثله في الميسر، وقد بان أن الميسر قرين الخمر في التمكن من نفوس العرب يومئذ وهو أكبر لهو يلهون به، وكثيرا

ما يأتونه وقت الشراب إذا أعوزهم اللحم للشواء عند شرب الخمر، فهم يتوصلون لنحر الجزور ساعتئذ بوسائل قد تبلغ بهم إلى الاعتداء على جزر الناس بالنحر كما في قصة حمزة، إذ نحر شارفا لعلي بن أبي طالب حين كان حمزة مع شرب فغنته قينته مغرية إياه بهذا الشارف:
ألا يا حمز للشرف النواء ... وهن معقلات بالفناء
فقام إليها فشق بطنها وأخرج الكبد فشواء في قصة شهيرة، وقال طرفة يذكر اعتداءه على ناقة من إبل أبيه في حال سكره:
فمرت كهاة ذات خيف جلالة ... عقيلة شيخ كالوبيل يلندد
يقول وقد تر الوظيف وساقها ... ألست ترى أن قد أتيت بمؤيد
وقال ألا ماذا ترون بشارب ... شديد علينا بغية متعمد
فلا جرم أن كان الميسر أيسر عليهم لاقتناء اللحم للشرب ولذلك كثر في كلامهم قرنه بالشرب، وقال سبرة بن عمرو الفقعسي يذكر الإبل:
نحابي بها أكفاءنا ونهينها ... ونشرب في أثمانها ونقامر
وذكر لبيد الخمر ثم ذكر الميسر في معلقته فقال:
أغلى السباء بكل أدكن عاتق ... أو جونة قدحت وفض ختامها
ثم قال:
وجزور أيسار دعوت لحتفها ... بمغالق متشابه أجسامها
وذكرهما عنترة في بيت واحد فقال يذكر محاسن قرنه الذي صرعه في الحرب:
ربذ يداه بالقداح إذا شتا ... هتاك غايات التجار ملوم
فلأجل هذا قرن في هذه الآية ذكر الخمر بذكر الميسر، ولأجله اقترنا في سؤال السائلين عنهما إن كان ثمة سؤال.
والميسر: اسم جنس على وزن مفعل مشتق من الميسر. وهو ضد العسر والشدة، أو من اليسار وهو ضد الإعسار، كأنهم صاغوه على هذا الوزن مراعاة لزنة اسم المكان من يسر ييسر وهو مكان مجازي جعلوا ذلك التقامر بمنزلة الظرف الذي فيه اليسار أو اليسر، لأنه يفضي إلى رفاهة العيش وإزالة صعوبة زمن المحل وكلب الشتاء، وقال صاحب

"الكشاف": هو مصدر كالموعد، وفيه أنه لو كان مصدرا لكان مفتوح السين؛ إذ المصدر الذي على وزن المفعل لا يكون إلا مفتوح العين ما عدا ما شذ، ولم يذكروا الميسر في الشاذ، إلا أن يجاب بأن العرب وضعوا هذا الاسم على وزن المصدر الشاذ ليعلم أنه الآن ليس بمصدر.
والميسر: قمار كان للعرب في الجاهلية، وهو من القمار القديم المتوغل في القدم كان لعاد من قبل، وأول من ورد ذكر لعب الميسر عنه في كلام العرب هو لقمان بن عاد ويقال لقمان العادي، والظاهر أنه ولد عاد بن عوص بن ارم بن سام، وهو غير لقمان الحكيم، والعرب تزعم أن لقمان كان أكثر الناس لعبا بالميسر حتى قالوا في المثل أيسر من لقمان وزعموا أنه كان له ثانية أيسار لا يفارقونه1 هم من سادة عاد وأشرافهم، ولذلك يشبهون أهل الميسر إذا كانوا من أشراف القوم بأيسار لقمان قال طرفة بن العبد:
وهم أيسار لقمان إذا ... أغلت الشتوة أبداء الجزر
أراد التشبيه البليغ .
وصفة الميسر أنهم كانوا يجعلون عشرة قداح جمع قدح بكسر القاف وهو السهم الذي هو أصغر من النبل ومن السهم فهو سهم صغير مثل السهام التي تلعب بها الصبيان وليس في رأسه سنان وكانوا يسمونها الحظاء جمع حضوة وهي السهم الصغير وكلها من قصب النبع، وهذه القداح هي: الفذ، والتوأم، والرقيب، والحلس، والنافس، والمسبل، والمعلى، والسفيح، والمنيح، والوغد، وقيل النافس، وهو الرابع والحلس خامس، فالسبعة الأول لها حظوظ من واحد إلى سبعة على ترتيبها، والثلاثة الأخيرة لا حظوظ لها وتسمى أغفالا جمع غفل بضم الغين وسكون الفاء وهو الذي أغفل في العلامة، وهذه العلامات خطوط واحد إلى سبعة "كأرقام الحساب الروماني إلى الأربعة"، وقد خطوا العلامات على القداح ذات العلامات بالشلط في القصبة أو بالحرق بالنار فتسمى العلامة حينئذ قرمة، وهذه العلامات توضع في أسافل القداح.
فإذا أرادوا التقامر اشتروا جزورا بضمن مؤجل إلى ما بعد التقامر وقسموه أبداء أي أجزاء إلى ثمانية وعشرين جزءا أو إلى عشرة أجزاء على اختلاف بين الأصمعي وأبي عبيدة، والظاهر أن للعرب في ذلك طريقتين فلذلك اختلف الأصمعي وأبو عبيدة، ثم يضعون تلك القداح في خريطة من جلد تسمى
ـــــــ
1 هم: بيض، وحممة، وطفيل، وذفافة، ومالك، وفرعة، وثميل، وعمار.

الربابة بكسر الراء هي مثل كنانة النبال وهي واسعة لها مخرج ضيق يضيق عن أن يخرج منه قدحان أو ثلاثة، ووكلوا بهذه الربابة رجلا يدعى عندهم الحرضه والضريب والمجيل، وكانوا يغشوون عينيه بمغمضة، ويجعلون على يديه خرقة بيضاء يسمونها المجول يعصبونها على يديه أو جلدة رقيقة يسمونها السلفة بضم السين وسكون اللام، ويلتحف هذا الحرضة بثوب يخرج رأسه منه ثم يجثوا على ركبتيه ويضع الربابة بين يديه، ويقوم وراءه رجل يسمى الرقيب أو الوكيل هو الأمين على الحرضة وعلى الأيسار كي لا يحتال أحد على أحد وهو الذي يأمر الحرضة بابتداء الميسر، يجلسون والأيسار حول الحرضة جثيا على ركبهم، قال دريد بن الصمة:
دفعت إلى المجيل وقد تجاثوا ... على الركبات مطلع كل شمس
ثم يقول الرقيب للحرضة جلجل القداح أي حركها فيخضخضها في الربابة كي تختلط ثم يفيضها أي يدفعها إلى جهة مخرج القداح من الربابة دفعة واحدة على اسم واحد من الأيسار فيخرج قدح فيتقدم الوكيل فيأخذه وينظره فإن كان من ذوات الأنصباء دفعة إلى صاحبه وقال له قم فاعتزل فيقوم ويعتزل إلى جهة ثم تعاد الجلجلة، وقد اغتفروا إذا خرج أول القداح غفلا ألا يحسب في غرم ولا في غنم بل يرد إلى الربابة وتعاد الإحالة وهكذا ومن خرجت لهم القداح الأغفال يدفعون ثمن الجزور.
فأما على الوصف الذي وصف الأصمعي أن الجزور يقسم إلى ثمانية وعشرين جزءا فظاهر أن لجميع أهل القدح القامرة شيئا من أبداء الجزور لأن مجموع ما على القداح الرابحة من العلامات ثمانية وعشرون، وعلى أهل القداح غرم ثمنه.وأما على الوصف الذي وصف أبو عبيدة أن الجزور يقسم إلى عشرة أبداء فذلك يقتضي أن ليس كل المتقامرين برابح، لأن الربح يكون بمقدار عشرة سهام مما رقمت به القداح وحينئذ إذا نفدت الأجزاء انقطعت الإفاضة وغرم أهل السهام الأغفال ثمن الجزور ولم يكن لمن خرجت له سهام ذات حظوظ بعد الذين استوفوا أبداء الجزور شيء إذ ليس في الميسر أكثر من جزور واحد قال لبيد:
وجزور أيسار دعوت لحتفها
البيت
وإذ لا غنم في الميسر إلا من اللحم لا من الدراهم أو غيرها، ولعل كلا من وصفي

الأصمعي وأبي عبيدة كان طريقة للعرب في الميسر بحسب ما يصطلح عليه أهل الميسر، وإذا لم يجمع العدد الكافي من المتياسرين أخذ بعض من حضر سهمين أو ثلاثة فكثر بذلك ربحه أو غرمه وإنما يفعل هذا أهل الكرم واليسار لأنه معرض لخسارة عظيمة، إذ لم يفز قدحه، ويقال في هذا الذي يأخذ أكثر من سهم متمم الأيسار قال النابغة:
إني أتمم أيساري وأمنحهم ... مثني الأيادي وأكسو الجفنة الأدما
ويسمون هذا الإتمام بمثنى الأيادي كما قال النابغة، لأنه يقصد منه تكرير المعروف عند الربح فالأيادي بمعنى النعم، وكانوا يعطون أجر الرقيب والحرضة والجزار من لحم الجزور فأما أجر الرقيب فيعطاه من أول القسمة وأفضل اللحم ويسمونه بدءا، وأما الحرضة فيعطى لحما دون ذلك وأما الجزار فيعطى مما يبقى بعد القسم من عظم أو نصف عظم ويسمونه الريم.
ومن يحضر الميسر من غير المتياسرين يسمون الأعران جمع عرن بوزن كتف وهم يحضرون طعما في اللحم، والذي لا يحب الميسر ولا يحضره لفقره سمي البرم بالتحريك.
وأصل المقصد من الميسر هو المقصد من القمار كله وهو الربح واللهو يدل لذلك تمدحهم وتفاخرهم بإعطاء ربح الميسر للفقراء، لأنه لو كان هذا الإعطاء مطردا لكل من يلعب الميسر لما كان تمدح به قال الأعشى:
المطعمو الضيف إذا ما شتوا ... والجاعلو القوت على الياسر
ثم إن كرامهم أرادوا أن يظهروا الترفع عن الطمع في مال القمار فصاروا يجعلون الربح للفقراء واليتامى ومن يلم بساحتهم من أضيافهم وجيرتهم، قال لبيد:
أدعو بهن لعاقر أو مطفل ... بذلت لجيران الجميع لحامها
فالضيف والجار الجنيب كأنما ... هبطا تبالة مخضبا أهضامها
فصار الميسر عندهم من شعار أهل الجود كما تقدم في أبيات لبيد، وقال عنترة كما تقدم:
ربذ يداه بالقداح إذا شتا ... هتاك غايات التجار ملوح
أي خفيف اليد في الميسر لكثرة ما لعب الميسر في الشتاء لنفع الفقراء، وقال عمير ابن الجعد:

يسر إذا كان الشتاء ومطعم ... للحم غير كبنة علفوف
الكبنة بضمتين المنقبض القليل المعروف والعلفوف كعصفور الجافي.
فالمنافع في الميسر خاصة وعامة وهي دنيوية كلها، والإثم الذي فيه هو ما يوقعه من العداوة والبغضاء ومن إضاعة الوقت والاعتياد بالكسل والبطالة واللهو والصد عن ذكر الله وعن الصلاة وعن التفقه في الدين وعن التجارة ونحوها مما به قوام المدنية وتلك آثام لها آثارها الضارة في الآخرة، ولهذه الاعتبارات ألحق الفقهاء بالميسر كل لعب فيه قمار كالنرد، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: "إياكم وهاتين الكعبتين فإنهما من ميسر العجم" يريد النرد، وعن على النرد والشطرنج من الميسر، وعلى هذا جمهور الفقهاء ومالك وأبو حنيفة وقال الشافعي، إذا خلا الشطرنج من الرهان واللسان عن الطغيان والصلاة عن النسيان لم يكن حراما وهو خارج عن الميسر لأن الميسر ما يوجب دفع المال وأخذه وهذا ليس كذلك وهو وجيه والمسألة مبسوطة في الفقه.
والناس مراد به العموم لاختلاف المنافع، ولأنه لما وقع الإخبار بواسطة "في" المفيدة الظرفية لم يكن في الكلام ما يقتضي أن كل فرد من أفراد الناس ينتفع بالخمر والميسر، بل الكلام يقتضي أن هاته المنافع موجودة في الخمر والميسر لمن شاء أن ينتفع كقوله تعالى: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل:69].وليس المراد بالناس طائفة لعدم صلوحية أل هنا للعهد ولو أريد طائفة لما صح إلا أن يقال ومنافع الشاربين والياسرين كما قال: {وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} [محمد:15]
فإن قلت: ما الوجه في ذكر منافع الخمر والميسر مع أن سياق التحريم والتمهيد إليه يقتضي تناسي المنافع، قلت إن كانت الآية نازلة لتحريم الخمر والميسر فالفائدة في ذكر المنافع هي بيان حكمة التشريع ليعتاد المسلمون مراعاة علل الأشياء، لأن الله جعل هذا الدين دينا دائما وأودعه أمة أراد أن يكون منها مشرعون لمختلف ومتجدد الحوادث، فلذلك أشار لعلل الأحكام في غير موضع كقوله تعالى: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً} [الحجرات:12] ونحو ذلك، وتخصيص التنصيص على العلل ببعض الأحكام في بعض الآيات إنما هو في مواضع خفاء العلل، فإن الخمر قد اشتهر بينهم نفعها، والميسر قد اتخذوه ذريعة لنفع الفقراء فوجب بيان ما فيهما من المفاسد إنباء بحكمة التحريم، وفائدة أخرى وهي تأنيس المكلفين عند فطامهم عن أكبر لذائذهم تذكيرا لهم بأن ربهم لا يريد إلا صلاحهم دون نكايتهم كقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة:216] وقوله:

{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:183]. وهنالك أيضا فائدة أخرى وهي عذرهم عما سلف منهم حتى لا يستكينوا لهذا التحريم والتنديد على المفاسد كقوله: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ} [البقرة:187].
{وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [البقرة:220-219]
كان سؤالهم عن الخمر والميسر حاصلا مع سؤالهم {مَاذَا يُنْفِقُونَ} ، فعطفت الآية التي فيها جواب سؤالهم {مَاذَا يُنْفِقُونَ} على آية الجواب عن سؤال الخمر والميسر، ولذلك خولف الأسلوب الذي سلف في الآيات المختلفة بجمل {يَسْأَلونَكَ} بدون عطف فجيء بهذه معطوفة بالواو على التي قبلها.
ومناسبة التركيب أن النهي عن الخمر والميسر يتوقع منه تعطل إنفاق عظيم كان ينتفع به المحاويج، فبينت لهم الآية وجه الإنفاق الحق،
روى ابن أبي حاتم أن السائل عن هذا معاذ ابن جبل وثعلبة بن غنمة، وقيل هو رجوع إلى الجواب عن سؤال عمرو بن الجموح الذي قيل إنه المجاب عنه بقوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ} [البقرة:215] إلخ، وعليه فالجواب عن سؤاله موزع على الموضعين ليقع الجواب في كل مكان بما يناسبه.
ولإظهار ما يدفع توقعهم تعطيل نفع المحاويج وصلت هذه الآية بالتي قبلها بواو العطف.
والعفو: مصدر عفا يعفو إذا زاد ونمى قال تعالى: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا} [لأعراف:95]، وهو هنا ما زاد على حاجة المرء من المال أي فضل بعد نفقته ونفقة عياله بمعتاد أمثاله، فالمعنى أن المرء ليس مطالبا بارتكاب المآثم لينفق على المحاويج، وإنما ينفق عليهم مما استفضله من ماله وهذا أمر بإنفاق لا يشق عليهم وهذا أفضل الإنفاق، لأن مقصد الشريعة من الإنفاق إقامة مصالح ضعفاء المسلمين ولا يحصل منه مقدار له بال إلا بتعميمه ودوامه لتستمر منه مقادير متماثلة في سائر الأوقات وإنما يحصل التعميم والدوام بالإنفاق من الفاضل عن حاجات المنفقين فحينئذ لا يشق عليهم فلا يتركه واحد منهم ولا يخلون به في وقت من أوقاتهم، وهذه حكمة بالغة وأصل اقتصادي عمراني، وفي الحديث: "خير الصدقة ما كان عن ظهر غني وابدأ بمن تعول" فإن

البداءة بمن يعول ضرب من الإنفاق، لأنه إن تركهم في خصاصة احتاجوا إلى الأخذ من أموال الفقراء، وفي الحديث إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس أي يمدون أكفهم للسؤال، فتبين أن المنفق بإنفاقه على من ينفق عليه يخفف عن الفقراء بتقليل عدد الداخلين فيهم، ولذلك جاء في الحديث: "وإنك لا تنفق فقه تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى اللقمة تجعلها في في امرأتك". ولهذا أمر في هذه الآية بإنفاق العفو، لأنها لعموم المنفقين، فلا تنافي أن ينفق أحد من ماله المحتاج هو إليه أو جميع ماله إذا صبر على ذلك ولم يكن له من تجب عليه هو نفقته.
و أل في العفو للجنس المعروف للسامعين، والعفو مقول عليه بالتشكيك؛ لأنه يتبع تعيين ما يحتاجه المنفق والناس في ذلك متفاوتون، وجعل الله العفو كله منفقا ترغيبا في الإنفاق وهذا دليل على أن المراد من الإنفاق هنا الإنفاق المتطوع به، إذ قد تضافرت أدلة الشريعة وانعقد إجماع العلماء على أنه لا يجب على المسلم إنفاق إلا النفقات الواجبة وإلا الزكوات وهي قد تكون من بعض ما يفضل من أموال أهل الثروة إلا ما شذ به أبو ذر، إذ كان يرى كنز المال حراما وينادي به في الشام فشكاه معاوية لعثمان فأمر عثمان بإرجاعه من الشام إلى المدينة ثم إسكانه بالربذة بطلب منه، وقد اجتهد عثمان ليسد باب فتنة، وعن قيس بن سعد أن هذه الآية في الزكاة المفروضة، وعلى قوله يكون "أل" في العفو للعهد الخارجي وهو نماء المال المقدر بالنصاب،
وقرأ الجمهور "قل العفو" بنصب العفو على تقدير كونه مفعولا لفعل دل عليه {مَاذَا يُنْفِقُونَ} ، وهذه القراءة مبنية على اعتبار ذا بعد "ما" الاستفهامية ملغاة فتكون "ما" الاستفهامية مفعولا مقدما لينفقون فناسب أن يجيء مفسر "ما" في جواب السؤال منصوبا كمفسره.
وقرأ ابن كثير في إحدى روايتين عنه وأبو عمرو ويعقوب بالرفع على أنه خبر مبتدأ تقديره هو العفو. وهذه القراءة مبنية على جعل ذا بعد ما موصولة أي "يسألونك" عن الذي ينفقونه، لأنها إذا كانت موصولة كانت مبتدأ إذ لا تعمل فيها صلتها وكانت ما الاستفهامية خبرا عن ما الموصولة، وكان مفسرها في الجواب وهو العفو فناسب أن يجاء به مرفوعا كمفسره ليطابق الجواب السؤال في الاعتبارين وكلا الوجهين اعتبار عربي فصيح.
وقوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ} ، أي كذلك البيان يبين الله لكم الآيات، فالكاف للتشبيه واقعة موقع المفعول المطلق المبين لنوع {يُبَيِّنُ} ، وقد تقدم القول في

وجوه هذه الإشارة في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة:143].
أو الإشارة راجعة إلى البيان الواقع في قوله تعالى: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} [البقرة:219] إلى قوله: {العفو}، وقرن اسم الإشارة بعلامة البعد تعظيما لشأن المشار إليه لكماله في البيان، إذ هو بيان للحكم مع بيان علته حتى تتلقاه الأمة بطيب نفس، وحتى يلحقوا به نظائره، وبيان لقاعدة الإنفاق بما لا يشذ عن أحد من المنفقين، ولكون الكاف لم يقصد بها الخطاب بل مجرد البعد الاعتباري للتعظيم لم يؤت بها على مقتضى الظاهر من خطاب الجماعة قلم يقل كذلكم على نحو قوله: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ}.
واللام في {لَكُمُ} للتعليل والأجل وهو امتنان وتشريف بهذه الفضيلة لإشعاره بأن البيان على هذا الأسلوب مما اختصت به هاته الأمة ليتلقوا التكاليف على بصيرة بمنزلة الموعظة التي تلقي إلى كامل العقل موضحة بالعواقب، لأن الله أراد لهاته الأمة أن يكون علماؤها مشرعين.وبين فائدة هذا البيان على هذا الأسلوب بقوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} أي ليحصل للأمة تفكر وعلم في أمور الدنيا وأمور الآخرة، لأن التفكر مظروف في الدنيا {وَالْآخِرَةِ}، فتقدير المضاف لازم بقرينة قوله والآخرة إذ لا معنى لوقوع التفكر يوم القيامة فلو اقتصر على بيان الحظر والوجوب والثواب والعقاب لكان بيانا للتفكر في أمور الآخرة خاصة ولو اقتصر على بيان المنافع والمضار بأن قيل: قل فيهما نفع وضر لكان بيانا للتفكر في أمور الدنيا خاصة، ولكن ذكر المصالح والمفاسد والثواب والعقاب تذكير بمصلحتي الدارين، وفي هذا تنويه بشأن إصلاح أمور الأمة في الدنيا، ووقع في كلام لعلي بن أبي طالب وقد ذم رجل الدنيا عنده قال له الدنيا دار صدق لمن صدقها ودار نجاة لمن فهم عنها ودار غنى لمن تزود منها ومهبط وحي الله ومصلى ملائكته ومسجد أنبيائه فمن ذا الذي يذمها وقد آذنت بينها الخ. ولا يخفى أن الذي يصلح للتفكر هو الحكم المنوط بالعلة وهو حكم الخمر والميسر ثم ما نشأ عنه قوله: {وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ}.
ويجوز أن يكون الإشارة بقوله: {كَذَلِكَ} لكون الإنفاق من العفو وهو ضعيف، لأن ذلك البيان لا يظهر فيه كمال الامتنان حتى يجعل نموذجا لجليل البيانات الإلهية وحتى يكون محل كمال الامتنان وحتى تكون غايته التفكر في الدنيا والآخرة، ولا يعجبكم كونه أقرب لاسم الإشارة، لأن التعلق بمثل هاته الأمور اللفظية في نكت الإعجاز إضاعة للألباب وتعلق بالقشور.

وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} غاية هذا البيان وحكمته، والقول في لعل تقدم. وقوله: {فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [البقرة:220] يتعلق تتفكرون لا ببين، لأن البيان واقع في الدنيا فقط. والمعنى ليحصل لكم فكر أي علم في شئون الدنيا والآخرة، وما سوى هذا تكلف.
{وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لاعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}
عطف تبيين معاملة اليتامى على تبيين الإنفاق لتعلق الأمرين بحكم تحريم الميسر أو التنويه عنه فإن الميسر كان بابا واسعا للإنفاق على المحاويج وعلى اليتامى، وقد ذكر لبيد إطعام اليتامى بعد ذكر إطعام لحوم جزور الميسر فقال:
ويكللون إذا الرياح تناوحت ... خلجا تمد شوارعا أيتامها
أي تمد أيديا كالرماح الشوارع في اليبس أي قلة اللحم على عظام الأيدي فكان تحريم الميسر مما يثير سؤالا عن سد هذا الباب على اليتامى وفيه صلاح عظيم لهم وكان ذلك السؤال مناسبة حسنة للتخلص إلى الوصاية باليتامى وذكر مجمل أحوالهم في جملة إصلاح الأحوال التي كانوا عليها قبل الإسلام، فكان هذا وجه عطف هذه الجملة على التي قبلها بواو العطف لاتصال بعض هذه الأسئلة ببعض كما تقدم في قوله: {وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ}.
وقد روى أن السائل عن اليتامى عبد الله بن رواحة، وأخرج أبو داود عن ابن عباس لما نزل قول الله عز وجل: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام:152] {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً} [النساء:10] الآيات انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه، فجعل يفضل من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد فاشتد ذلك عليهم فذكر ذلك لرسول الله فأنزل الله: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} الآية مع أن سورة النساء نزلت بعد سورة البقرة، فلعل ذكر آية النساء وهم من الرواي وإنما أراد أنه لما نزلت الآيات المحذرة من مال اليتيم مثل آية سورة الإسراء {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ففي "تفسير الطبري" يسنده إلى ابن عباس: لما نزلت: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} عزلوا أموال اليتامى فذكروا ذلك لرسول الله فنزلت: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ} أو أن مراد الرواي لم سمع الناس آية سورة النساء تجنبوا النظر في اليتامى فذكروا بآية البقرة إن كان السائل عن آية البقرة غير المتجنب حين نزول آية النساء وأياما كان فقد ثبت أن النظر في مصالح الأيتام من أهم مقاصد الشريعة في حفظ النظام فقد كان

العرب في الجاهلية كسائر الأمم في حال البساطة يكون المال بيد كبير العائلة فقلما تجد لصغير مالا، وكان جمهور أموالهم حاصلا من اكتسابهم لقلة أهل الثروة فيهم، فكان جمهور العرب إما زارعا أو غارسا أو مغيرا أو صائدا، وكل هذه الأعمال تنقطع بموت مباشريها، فإذا مات كبير العائلة وترك أبناء صغارا لم يستطيعوا أن يكتسبوا كما اكتسب آباؤهم. إلا أبناء أهل الثروة، والثروة عندهم هي الأنعام والحوائط إذ لم يكن العرب أهل ذهب وفضة وأن الأنعام لا تصلح إلا بمن يرعاها فإنها عروض زائلة وأن الغروس كذلك ولم يكن في ثروة العرب ملك الأرض إذ الأرض لم تكن مفيدة إلا للعامل فيها، على أن من يتولى أمر اليتيم يستضعفه ويستحل ماله فينتفع به لنفسه، وكرم العربي وسرفه وشربه وميسره لا تغادر له مالا وإن كثر. وتغلب ذلك على ملاك شهوات أصحابه فلا يستطيعون تركه يدفعهم إلى تطلب إرضاء نعمتهم بكل وسيلة فلا جرم أن يصبح اليتيم بينهم فقيرا مدحورا، وزد إلى ذلك أن أهل الجاهلية قد تأصل فيهم الكبر على الضعيف وتوقير القوي فلما عدم اليتيم ناصره ومن يذب عنه كان بحيث يعرض للمهانة والإضاعة ويتخذ كالعبد لوليه، من أجل ذلك كله صار وصف اليتيم عندهم ملازما لمعنى الخصاصة والإهمال والذل، وبه يظهر معنى امتنان الله تعالى على نبيه أن حفظه في حال اليتم مما ينال اليتامى في قوله: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى} [الضحى:6].فلما جاء الإسلام أمرهم بإصلاح حال اليتامى في أموالهم وسائر أحوالهم حتى قيل إن أولياء اليتامى تركوا التصرف في أموالهم واعتزلوا اليتامى ومخالطتهم فنزلت هذه الآية.
والإصلاح جعل الشيء صالحا أي ذا صلاح والصلاح ضد الفساد، وهو كون شيء بحيث يحصل به منتهى ما يطلب لأجله، فصلاح الرجل صدور الأفعال والأقوال الحسنة منه، وصلاح الثمرة كونها بحيث ينتفع بأكلها دون ضر، وصلاح المال نماؤه المقصود منه، وصلاح الحال كونها بحيث تترتب عليها الآثار الحسنة.
و {إِصْلاحٌ لَهُمْ} مبتدأ ووصفه، واللام للتعليل أو الاختصاص. ووصف الإصلاح بـ"لهم" دون الإضافة إذ لم يقل إصلاحهم لئلا يتوهم قصره على إصلاح ذواتهم لأن أصل إضافة المصدر أن تكون لذات الفاعل أو ذات المفعول فلا تكون على معنى الحرف، ولأن الإضافة لما كانت من طرق التعريف كانت ظاهرة في عهد المضاف فعدل عنها لئلا يتوهم أن المراد إصلاح معين كما عدل عنها في قوله: {ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ} [يوسف:59] ولم يقل بأخيكم ليوهمهم أنه لم يرد أخا معهودا عنده، والمقصود هنا

جميع الإصلاح لا خصوص إصلاح ذواتهم فيشمل إصلاح ذواتهم وهو في الدرجة الأولى ويتضمن ذلك إصلاح عقائدهم وأخلاقهم بالتعليم الصحيح والآداب الإسلامية ومعرفة أحوال العالم، ويتضمن إصلاح أمزجتهم بالمحافظة عليهم من المهلكات والأخطار والأمراض وبمداواتهم، ودفع الأضرار عنهم بكفاية مؤنهم من الطعام واللباس والمسكن بحسب معتاد أمثالهم دون تقتير ولا سرف، ويشمل إصلاح أموالهم بتنميتها وتعهدها وحفظها. ولقد أبدع هذا التعبير، فإنه لو قيل إصلاحهم لتوهم قصره على ذواتهم فيحتاج في دلالة الآية على إصلاح الأموال إلى القياس ولو قيل قل تدبيرهم خير لتبادر إلى تدبير المال فاحتيج في دلالتها على إصلاح ذواتهم إلى فحوى الخطاب.
و {خير} في الآية يحتمل أن يكون أفعل تفضيل إن كان خطابا للذين حملهم الخوف من أكل أموال اليتامى على اعتزال أمورهم وترك التصرف في أموالهم بعلة الخوف من سوء التصرف فيها كما يقال:
إن السلامة من سلمى وجارتها ... أن لا تحل على حال بواديها
فالمعنى إصلاح أمورهم خير من إهمالهم أي أفضل ثوابا وأبعد عن العقاب، أي خير في حصول غرضكم المقصود من إهمالهم فإنه ينجر منه إثم الإضاعة ولا يحصل فيه ثواب السعي والنصيحة، ويحتمل أن يكون صفة مقابل الشر إن كان خطابا لتغيير الأحوال التي كانوا عليها قبل الإسلام، فالمعنى إصلاحهم في أموالهم وأبدانهم وترك إضاعتهم في الأمرين كما تقدم خير، وهو تعريض بأن ما كانوا عليه في معاملتهم ليس بخير بل هو شر، فيكون مرادا من الآية على هذا: التشريع والتعريض إذ التعريض يجامع المعنى الأصلي، لأنه من باب الكناية والكناية تقع مع إرادة المعنى الأصلي.
وجملة {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} عطف على جملة {إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} والمخالطة مفاعلة من الخلط وهو جمع الأشياء جمعا يتعذر معه تمييز بعضها عن بعض فيما تراد له، فمنه خلط الماء بالماء والقمح بالشعير وخلط الناس ومنه اختلط الحابل بالنابل، وهو هنا مجاز في شدة الملابسة والمصاحبة والمراد بذلك ما زاد على إصلاح المال والتربية عن بعد فيشمل المصاحبة والمشاركة والكفالة والمصاهرة إذ الكل من أنواع المخالطة.
وقوله: {فَإِخْوَانُكُمْ} جواب الشرط ولذلك قرن بالفاء لأن الجملة الاسمية غير صالحة لمباشرة أداة الشرط ولذلك فـ {إِخْوَانُكُمْ} خبر مبتدأ محذوف تقديره فهم إخوانكم،

وهو على معنى التشبيه البليغ، والمراد بالأخوة أخوة الإسلام التي تقتضي المشاورة والرفق والنصح. ونقل الفخر عن الفراء: "لو نصبته كان صوابا بتقدير فإخوانكم تخالطون" وهو تقدير سمج، ووجود الفاء في الجواب بنادي على أن الجواب جملة اسمية محضة، وبعد فمحمل كلام الفراء على إرادة جواز تركيب مثله في الكلام العربي، لا على أن يقرأ به، ولعل الفراء كان جريئا على إساغة قراءة القرآن بما يسوغ في الكلام العربي دون اشتراط صحة الرواية.
والمقصود من هذه الجملة الحث على مخالطتهم لأنه لما جعلهم إخوانا كان من المتأكد مخالطتهم والوصاية بهم في هاته المخالطة، لأنهم لما كانوا إخوانا وجب بذل النصح لهم كما يبذل للأخ وفي الحديث حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ويتضمن ذلك التعريض بإبطال ما كانوا عليه من احتقار اليتامى والترفع عن مخالطتهم ومصاهرتهم. قال تعالى: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} [النساء:127] أي عن أن تنكحوهن لأن الأخوة تتضمن معنى المساواة فيبطل الترفع.
وقوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} وعد ووعيد، لأن المقصود من الإخبار بعلم الله الإخبار بترتب آثار العلم عليه، وفي هذا إشارة إلى أن ما فعله المسلمين من تجنب التصرف في أموال اليتامى تنزه لا طائل تحته لأن الله يعلم المتصرف بصلاح والمتصرف بغير صلاح وفيه أيضا ترضية لولاة الأيتام فيما ينالهم من كراهية بعض محاجيرهم وضربهم على أيديهم في التصرف المالي وما يلاقون في ذلك من الخصاصة، فإن المقصد الأعظم هو إرضاء الله تعالى لا إرضاء المخلوقات، وكان المسلمون يومئذ لا يهتمون إلا بمرضاة الله تعالى وكانوا يحاسبون أنفسهم على مقاصدهم، وفي هذه إشارة إلى أنه ليس من المصلحة أن يعرض الناس عن النظر في أموال اليتامى اتقاء لألسنة السوء، وتهمة الظن بالإثم فلو تمالأ الناس على ذلك وقاية لأعراضهم لضاعت اليتامى، وليس هذا من شأن المسلمين فإن على الصلاح والفساد دلائل ووراء المتصرفين عدالة القضاة وولاة الأمور يجازون المصلح بالثناء والحمد العلن ويجازون المفسد بالبعد بينه وبين اليتامى وبالتغريم لما أفاته بدون نظر.
و"من" في قوله: {مِنَ الْمُصْلِحِ} تفيد معنى الفصل والتمييز وهو معنى أثبته لها ابن مالك في "التسهيل" قائلا وللفصل وقال في "الشرح" وأشرت بذكر الفصل إلى دخولها على ثاني المتضادين نحو {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} ، و {حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ

الطَّيِّبِ} [آل عمران:179] اهـ وهو معنى رشيق لا غنى عن إثباته وقد أشار إليه في "الكشاف" عند قوله تعالى: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ} في سورة الشعراء وجعله وجها ثابتا فقال أو أتاتون أنتم من بين من عداكم من العالمين الذكران يعني أنكم يا قوم لوط وحدكم مختصون بهذه الفاحشة اه فجعل معنى "من" معنى من بين، وهو لا يتقوم إلا على إثبات معنى الفصل، وهو معنى متوسط بين معنى من الابتلاء ومعنى البدلية حين لا يصلح متعلق المجرور لمعنى الابتدائية المحض ولا لمعنى البدلية المحض فحدث معنى وسط، وبحث فيه ابن هشام في مغنى اللبيب أن الفصل حاصل من فعل "يميز" ومن فعل "يعلم" واستظهر أن للابتداء أو بمعنى عن.
وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لاعْنَتَكُمْ} تذييل لما دل عليه قوله: {قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} على ما تقدم والعنت: المشقة والصعوبة الشديدة أي ولو شاء الله لكلفكم ما فيه العنت وهو أن يحرم عليكم مخالطة اليتامى فتجدوا ذلك شاقا عليكم وعنتا، لأن تجنب المرء مخالطة أقاربه من اخوة وأبناء عم ورؤيته إياهم مضيعة أمورهم لا يحفل بهم أحد يشق على الناس في الجبلة وهم وإن فعلوا ذلك حذرا وتنزها فليس كل ما يبتدئ المرء فعله يستطيع الدوام عليه.
وحذف مفعول المشيئة لإغناء ما بعده عنه، وهذا حذف شائع في مفعول المشيئة فلا يكادون يذكرونه وقد مضى القول فيه عند قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ} [البقرة:20].
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} تذييل لما اقتضاه شرط "لو" من الإمكان وامتناع الوقوع أي إن الله عزيز غالب قادر فلو شاء لكلفكم العنت، لكنه حكيم يضع الأشياء مواضعها فلذا لم يكلفكموه.وفي جمع الصفتين إشارة إلى أن تصرفات الله تعالى تجري على ما تقتضيه صفاته كلها وبذلك تندفع إشكالات عظيمة فيما يعبر عنه بالقضاء والقدر.
[221] {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}
كان المسلمون أيام نزول هذه السورة مازالوا مختلطين مع المشركين بالمدينة وما

هم ببعيد عن أقربائهم من أهل مكة فربما رغب بعضهم في تزوج المشركات أو رغب بعض المشركين في تزوج نساء مسلمان فبين الله الحكم في هذه الأحوال، وقد أوقع هذا البيان بحكمته في أرشق موقعه وأسعده به وهو موقع تعقيب حكم مخالطة اليتامى، فإن للمسلمين يومئذ أقارب وموالي لم يزالوا مشركين ومنهم يتامى فقدوا آباءهم في يوم بدر وما بعده فلما ذكر الله بيان مخالطة اليتامى، وكانت المصاهرة من أعظم أحوال المخالطة تطلعت النفوس إلى حكم هاته المصاهرة بالنسبة للمشركات والمشركين، فعطف حكم ذلك على حكم ذلك على حكم اليتامى لهاته المناسبة، روى الواحدي وغيره من المفسرين أن سبب نزول هذه الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا مرثد الغنوي ويقال مرثد بن أبي مرثد واسمه كناز بن حصين وكان حليفا لبني هاشم فبعثه إلى مكة سرا ليخرج رجلا من المسلمين فسمعت بقدومه امرأة يقال لها عناق وكانت خليلة له في الجاهلية فأتته فقالت: ويحك يامرثد ألا تخلو? فقال: إن الإسلام حرم ما كان في الجاهلية فقالت: فتزوجني قال: حتى أستأذن رسول الله فأتي النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنه فنهاه عن التزوج بها، لأنها مشركة فنزلت هذه الآية بسببه.
والنكاح في كلام العرب حقيقة في العقد على المرأة، ولذلك يقولون نكح فلان فلانة ويقولون نكحت فلانة فلانا فهو حقيقة في العقد، لأن الكثرة من أمارات الحقيقة وأما استعماله في الوطء فكناية، وقيل هو حقيقة في الوطء مجاز في العقد.
واختاره فقهاء الشافعية وهو قول ضعيف في اللغة، وقيل حقيقة فيهما فهو مشترك وهو أضعف. قالوا ولم يرد في القرآن إلا بمعنى العقد فقيل إلا في قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة:230]، لأنه لا يكفي العقد في تحليل المبتوتة حتى يبني بها زوجها كما في حديث زوجة رفاعة ولكن الأصوب أن تلك الآية بمعنى العقد وإنما بينت السنة أنه لابد مع العقد من الوطء وهذا هو الظاهر، والمنع في هذه الآية متعلق بالعقد بالاتفاق.
والمشرك في لسان الشرع من يدين بتعدد آلهة مع الله سبحانه، والمراد به في مواضعه من القرآن مشركو العرب الذين عبدوا آلهة أخرى مع الله تعالى ويقابلهم في تقسيم الكفار أهل الكتاب وهم الذين آمنوا بالله ورسله وكتبه ولكنهم أنكروا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
ونص هذه الآية تحريم تزوج المسلم المرأة المشركة وتحريم تزويج المسلمة الرجل المشرك فهي صريحة في ذلك، وأما تزوج المسلم المرأة الكتابية وتزويج المسلمة الرجل

الكتابي فالآية ساكنة عنه، لأن لفظ المشرك لقب لا مفهوم له إلا إذا جرى على موصوف كما سنبينه عند قوله تعالى: {خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ} ، وقد أذن القرآن بجواز تزوج المسلم الكتابية في قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة:5] في سورة العقود فلذلك قال جمهور العلماء بجواز تزوج المسلم الكتابية دون المشركة والمجوسية وعلى هذا الأئمة الأربعة والأوزاعي والثوري، فبقي تزويج المسلمة من الكتابي لا نص عليه ومنعه جميع المسلمين إما استنادا منهم إلى الاقتصار في مقام بيان التشريع وإما إلى أدلة من السنة ومن القياس وسنشير إليه أو من الإجماع وهو أظهر، وذهبت طوائف من أهل العلم إلى الاستدلال لفقه هذه المسألة بطريقة أخرى فقالوا أهل الكتاب صاروا مشركين لقول اليهود عزير ابن الله ولقول النصارى المسيح ابن الله وأبوة الإله تقتضي ألوهية الابن، وإلى هذا المعنى جنح عبد الله بن عمر ففي "الموطأ" عنه: "لا أعلم شركا أعظم من أن تقول المرأة ربها عيسى" ولكن هذا مسلك ضعيف جدا، لأن إدخال أهل الكتاب في معنى المشركين بعيد عن الاصطلاح الشرعي، ونزلت هذه الآية وأمثالها وهو معلوم فاش، ولأنه إذا تم في النصارى باطراد فهو لا يتم في اليهود، لأن الذين قالوا عزير ابن الله إنما هم طائفة قليلة من اليهود وهم أتباع "فنحاص" كما حكاه الفخر فإذا كانت هذه الآية تمنع أن يتزوج المسلم امرأة يهودية أو نصرانية وأن يزوج أحد من اليهود والنصارى مسلمة فإن آية سورة العقود خصصت عموم المنع بصريح قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة:5]، وقد علم الله قولهم: {الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} وقول الآخرين عزير ابن الله فبقي تزويج المسلمة إياهم مشمولا لعموم آية البقرة، وهذا مسلك سلكه بعض الشافعية،
ومن علماء الإسلام من كره تزوج الكتابية وهو قول مالك في رواية ابن حبيب وهو رواية عن عمر بن الخطاب أنه كتب إلى حذيفة بن اليمان وقد بلغه أنه تزوج يهودية أو نصرانية: أن خل سبيلها، فكتب إليه حذيفة: أتزعم أنها حرام? فقال عمر: لا ولكني أخاف أن تعاطوا المومسات منهن.
وقال شذوذ من العلماء بمنع تزوج المسلم الكتابية، وزعموا أن آية سورة العقود نسختها آية سورة البقرة، ونقل ذلك عن ابن عمرو ابن عباس وفي رواية ضعيفة عن عمر بن الخطاب: أنه فرق بين طلحة بن عبيد الله ويهودية تزوجها وبين حذيفة بن اليمان ونصرانية تزوجها، فقالا له: نطلق يا أمير المؤمنين ولا تغضب? فقال: لو جاز طلاقكما

لجاز نكاحكما، ولكن أفرق بينكما صغرة وقماءة، قال ابن عطية وهذا لا يسند جيدا والأثر الآخر عن عمر أسند منه، وقال الطبري هو مخالف لما أجمعت عليه الأمة، وقد روى عن عمر بن الخطاب من القول بخلاف ذلك ما هو أصح منه وإنما كره عمر لهما تزوجهما حذرا من أن يقتدي بهما الناس فيزهدوا في المسلمات.
و {حَتَّى يُؤْمِنَّ} غاية للنهي فإذا آمن زال النهي، ولذلك إذا أسلم المشرك ولم تسلم زوجته تبين منه إلا إذا أسلمت عقب إسلامه بدون تأخير.
وقوله: {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ} تنبيه على دناءة المشركات وتحذير من تزوجهن ومن الاغترار بما يكون للمشركة من حسب أو جمال أو مال وهذه طرائق الإعجاب في المرأة المبالغ عليه بقوله: {وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} وأن من لم يستطع تزوج حرة مؤمنة فليتزوج أمة مؤمنة خير له من أن يتزوج حرة مشركة، فالأمة هنا هي المملوكة، والمشركة الحرة بقرينة المقابلة بقوله: {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ} فالكلام وارد مورد التناهي في تفضيل أقل أفراد هذا الصنف على أتم أفراد الصنف الآخر، فإذا كانت الأمة المؤمنة خيرا من كل مشركة فالحرة المؤمنة خير من المشركة بدلالة فحوى الخطاب التي يقتضيها السياق، ولظهور أنه لا معنى لتفضيل الأمة المؤمنة على الأمة المشركة فإنه حاصل بدلالة فحوى الخطاب لا يشك فيه المخاطبون المؤمنون ولقوله: {وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} فإن الإعجاب بالحرائر دون الإماء.
والمقصود من التفضيل في قوله "خير" التفضيل في المنافع الحاصلة من المرأتين؛ فإن في تزوج الأمة المؤمنة منافع دينية وفي الحرة المشركة منافع دنيوية ومعاني الدين خير من أعراض الدنيا المنافية للدين فالمقصود منه بيان حكمة التحريم استئناسا للمسلمين.
ووقع في "الكشاف" حمل الأمة على مطلق المرأة، لأن الناس كلهم إماء الله وعبيده وأصله منقول عن القاضي أبي الحسن الجرجاني كما في القرطبي وهذا باطل من جهة المعنى ومن جهة اللفظ، أما المعنى فلأنه يصير تكرارا مع قوله: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} إذ قد علم الناس أن المشركة دون المؤمنة، وبقيت المقصود من التنبيه على شرف أقل أفراد أحد الصنفين على أشرف أفراد الصنف الآخر. وأما من جهة اللفظ فلأنه لم يرد في كلام العرب إطلاق الأمة على مطلق المرأة، ولا إطلاق العبد على الرجل إلا مقيدين بالإضافة إلى اسم الجلالة في قولهم: يا عبد الله ويا أمة الله، وكون الناس إماء الله

وعبيده إنما هو نظر للحقائق لا للاستعمال، فكيف يخرج القرآن عليه.
وضمير {وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} يعود إلى المشركة، و "لو" وصلية للتنبيه على أقصى الأحوال التي هي مظنة تفضيل المشركة، فالأمة المؤمنة أفضل منها حتى في تلك الحالة وقد مضى القول في موقع "لو" الوصلية والواو التي قبلها والجملة التي بعدها عند قوله تعالى: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} [البقرة:170]
وقوله: {وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} تحريم لتزويج المسلمة من المشرك، فإن كان المشرك محمولا على ظاهره في لسان الشرع فالآية لم تتعرض لحكم تزويج المسلمة من الكافر الكتابي فيكون دليل تحريم ذلك الإجماع وهو إما مستند إلى دليل تلقاه الصحابة من النبي صلى الله عليه وسلم وتواتر بينهم، وإما مستند إلى تضافر الأدلة الشرعية كقوله تعالى: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة:10] فعلق النهي بالكفر وهو أعم من الشرك وإن كان المراد حينئذ المشركين، وكقوله تعالى هنا: {أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} كما سنبينه.
وقوله: {حَتَّى يُؤْمِنُوا} غاية للنهي، وأخذ منه أن الكافر إذا أسلمت زوجته يفسخ النكاح بينهما ثم إذا أسلم هو كان أحق بها ما دامت في العدة.
وقوله: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} هو كقوله: {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ} وأن المراد به المملوك وليس المراد الحر المشرك وقد تقدم ذلك.
وقوله: {أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} الإشارة إلى المشركات والمشركين، إذ لا وجه لتحصيصه بالمشركين خاصة لصلوحيته للعود إلى الجميع، والواو في {يَدْعُونَ} واو جماعة الرجال ووزنه يفعون، وغلب فيه المذكر على المؤنث كما هو الشائع، والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا لتعليل النهي عن نكاح المشركات وإنكاح المشركين، ومعنى الدعاء إلى النار الدعاء إلى أسبابها فإسناد الدعاء إليهم حقيقة عقلية، ولفظ النار مجاز مرسل أطلق على أسباب الدخول إلى النار فإن ما هم عليه يجر إلى النار من غير علم، ولما كانت رابطة النكاح رابطة اتصال ومعاشرة نهي عن وقوعها مع من يدعون إلى النار خشية أن تؤثر تلك الدعوة في النفس، فإن بين الزوجين مودة وإلفا يبعثان على إرضاء أحدهما الآخر. ولما كانت هذه الدعوة من المشركين شديدة لأنهم لا يوحدون الله ولا يؤمنون بالرسل، كان البون بينهم وبين المسلمين في الدين بعيدا جدا لا يجمعهم شيء يتفقون عليه، فلم يبح الله مخالطتهم بالتزوج من كلا الجانبين.أما أهل الكتاب فيجمع بينهم وبين

المسلمين اعتقاد وجود الله وانفراده بالخلق والإيمان بالأنبياء ويفرق بيننا وبين النصارى الاعتقاد ببنوة عيسى والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، ويفرق بيننا وبين اليهود الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وتصديق عيسى، فأباح الله تعالى للمسلم أن يتزوج الكتابية ولم يبح تزويج المسلمة من الكتابي اعتدادا بقوة تأثير الرجل على امرأته، فالمسلم يؤمن بأنبياء الكتابية وبصحة دينها قبل النسخ فيوشك أن يكون ذلك جالبا إياها إلى الإسلام، لأنها أضعف منه جانبا وأما الكافر فهو لا يؤمن بدين المسلمة ولا برسولها فيوشك أن يجرها إلى دينه، لذلك السبب وهذا كان يجيب به شيخنا الأستاذ سالم أبو حاجب عن وجه إباحة تزوج الكتابية ومنع تزوج الكتابي المسلمة.
وقوله: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ} الآية أي إن الله يدعو بهذا الدين إلى الجنة فلذلك كانت دعوة المشركين مضادة لدعوة الله تعالى، والمقصود من هذا تفظيع دعوتهم وأنها خلاف دعوة الله، والدعاء إلى الجنة والمغفرة دعاء لأسبابهما كما تقدم في قوله: {يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} والمغفرة هنا مغفرة ما كانوا عليه من الشرك.
وقوله: {بِإِذْنِهِ} الإذن فيه إما بمعنى الأمر كما هو الشائع فيكون بإذنه ظرفا مستقرا حالا من "الجنة" والمغفرة أي حاصلتين بإذنه أي إرادته وتقديره بما بين من طريقهما.
ومن المفسرين من حمل الإذن على التيسير والقضاء والباء على أنها ظرف لغو فرأى هذا القيد غير جزيل الفائدة فتأول قوله: {وَ اللَّهُ يَدْعُو} بمعنى وأولياء الله يدعون وهم المؤمنون.
وجملة: {وَيُبَيِّنُ} معطوفة على {يَدْعُو} يعني يدعو إلى الخير مع بيانه وإيضاحه حتى تتلقاه النفوس بمزيد القبول وتمام البصيرة فهذا كقوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ} [البقرة:219] ففيها معنى التذييل وإن كانت واردة بغير صيغته.ولعل مستعملة في مثله مجاز في الحصول القريب.
[222] {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}
عطف على جملة: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة:221]، بمناسبة أن تحريم نكاح المشركات يؤذن بالتنزه عن أحوال المشركين وكان المشركون لا يقربون نساءهم إذا كن حيضا وكانوا يفرطون في الابتعاد منهن مدة الحيض فناسب تحديد ما يكثر

وقوعه وهو من الأحوال التي يخالف فيها المشركون غيرهم، ويتساءل المسلمون عن أحق المناهج في شأنها،
روى أن السائل عن هذا هو أبو الدحداح ثابت بن الدحداح الأنصاري، وروى أن السائل أسيد بن حضير، وروي أنه عباد بن بشير، فالسؤال حصل في مدة نزول هذه السورة فذكر فيها مع ما سيذكر من الأحكام.
والباعث على السؤال أن أهل يثرب قد امتزجوا باليهود واستنوا بسنتهم في كثير من الأشياء، وكان اليهود يتباعدون عن الحائض أشد التباعد بحكم التوراة ففي الإصحاح الخامس عشر من سفر اللاويين: "إذا كانت امرأة لها سيل دما في لحمها فسبعة أيام تكون في طمثها وكل من مسها يكون نجسا إلى المساء وكل ما تضطجع عليه يكون نجسا وكل من مس فراشها يغسل ثيابه ويستحم بماء ويكون نجسا إلى المساء وإن اضطجع معها رجل فكان طمثها عليه يكون نجسا سبعة أيام". وذكر القرطبي أن النصارى لا يمتنعون عن ذلك ولا أحسب ذلك صحيحا فليس في الإنجيل ما يدل عليه، وإن من قبائل العرب من كانت الحائض عندهم مبغوضة فقد كان بنو سليخ أهل بلد الحضر، وهم من قضاعة نصارى إن حاضت المرأة أخرجوها من المدينة إلى الربض حتى تطهر وفعلوا ذلك بنصرة ابنة الضيزن ملك الحضر، فكانت الحال مظنة حيرة المسلمين في هذا الأمر تبعث على السؤال عنه.
والمحيض وهو اسم للدم الذي يسيل من رحم المرأة في أوقات منتظمة والمحيض اسم على زنة فعل منقول من أسماء المصادر شاذا عن قياس المصدر في مثله فتح العين قال الزجاج يقال حاضت حيضا ومحاضا ومحيضا والمصدر في-هذا الباب بابه المفعل "بفتح العين" لكن المفعل "بكسر العين" جيد ووجه جودته مشابهته مضارعة لأن المضارع بكسر العين وهو مثل المجيء والمبيت، وعندي أنه لما صار المحيض اسما للدم السائل من المرأة عدل به عن قياس أصله من المصدر إلى زنة اسم المكان وجئ به على زنة المكان للدلالة على أنه صار اسما فخالفوا فيه أوزان الأحداث إشعارا بالنقل فرقا بين المنقول منه والمنقول إليه، ويقال حيض وهو أصل المصدر: يقال حاضت المرأة إذا سال منها؛ كما يقال حاض السيل إذا فاض ماؤه ومنه سمي الحوض حوضا لأنه يسيل، أبدلوا ياءه واوا وليس منقولا من اسم المكان؛ إذ لا مناسبة للنقل منه، وإنما تكلفه من زعمه مدفوعا بالمحافظة على قياس اسم المكان معرضا عما في تصييره اسما من التوسع في مخالطة قاعدة الاشتقاق.

والمراد من السؤال عن المحيض السؤال عن قربان النساء في المحيض بدلالته الاقتضاء، وقد علم السائلون ما سألوا عنه والجواب أدل شئ عليه.
والأذى: الضر الذي ليس بفاحش؛ كما دل عليه الاستثناء في قوله تعالى: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً} [آل عمران:111]، ابتداء جوابهم عما يصنع الرجل بامرأته الحائض فبين لهم أن الحيض أذى ليكون ما يأتي من النهي عن قربان المرأة معللا فتتلقاه النفوس على بصيرة وتتهيأ به الأمة للتشريع في أمثاله، وعبر عنه بأذى إشارة إلى إبطال ما كان من التغليط في شأنه وشأن المرأة الحائض في شريعة التوراة، وقد أثبت أنه أذى منكر ولم يبين جهته فتعين أن الأذى في مخالطة الرجل للحائض وهو أذى للرجل وللمرأة وللولد، فأما أذى الرجل فأوله القذارة وأيضا فأن هذا الدم السائل من عضو التناسل للمرأة وهو يشتمل على بيضات دقيقة منها تخلق الأجنة بعد انتهاء الحيض وبعد أن تختلط تلك البيضات بماء الرجل فإذا انغمس في الدم عضو التناسل في الرجل يتسرب إلى قضيبه شئ من ذلك الدم بما فيه فربما احتبس منه جزء في قناة الذكر فاستحال إلى عفونة تحدث أمراضا معضلة فتحدث بثورا وقروحا لأنه دم قد فسد ويرد أي فيه أجزاء حية تفسد في القضيب فسادا مثل موت الحي فتؤول إلى تعفن.
وأما أذى المرأة فلأن عضو التناسل منها حينئذ بصدد التهيؤ إلى إيجاد القوة التناسلية فإذا أزعج كان إزعاجا في وقت اشتغاله فدخل عليه بذلك مرض وضعف، وأما الولد فإن النطفة إذا اختلطت بدم الحيض أخذت البيضات في الخلق قبل إبان صلاحيتها للتخلق النافع الذي وقته بعد الجفاف، وهذا قد عرفه العرب بالتجربة قال أبو كبير الهذلي:
ومبرإ من كل غبر حيضة ... وفساد مرضعة وداء معضل
"غبر الحيضة جمع غبرة ويجمع على غبر وهي آخر الشيء، يريد لم تحمل به أمة في آخر مدة الحيض". والأطباء يقولون إن الجنين المتكون في وقت الحيض يجئ مجذوما أو يصاب بالجذام من بعد.
وقوله: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} تفريع الحكم على العلة، والاعتزال التباعد بمعزل وهو هنا كناية عن ترك مجامعتهن، والمجرور بفي: وقت محذوف والتقدير: في زمن المحيض وقد كثرت إنابة المصدر عن ظرف الزمان كما يقولون آتيك طلوع النجم ومقدم الحاج.

والنساء اسم جمع للمرأة لا واحدة له من لفظه، والمراد به هنا الأزواج كما يقتضيه لفظ {اعتزلوا} المخاطب به الرجال، وإنما يعتزل من كان يخالط.
وإطلاق النساء على الأزواج شائع بالإضافة كثيرا نحو: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ} [الأحزاب:30] ، وبدون إضافة مع القرينة كما هنا، فالمراد اعتزلوا نساءكم أي اعتزلوا ما هو أخص الأحوال بهن وهو المجامعة
وقوله: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} جاء النهي عن قربانهن تأكيدا للأمر باعتزالهن وتبيينا للمراد من الاعتزال وإنه ليس التباعد عن الأزواج بالأبدان كما كان عند اليهود بل هو عدم القربان، فكان مقتضى الظاهر أن تكون جملة: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ} مفصولة بدون عطف، لأنها مؤكدة لمضمون جملة: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} ومبينة للاعتزال وكلا الأمرين يقتضي الفصل، ولكن خولف مقتضى الظاهر اهتماما بهذا الحكم ليكون النهي عن القربان مقصودا بالذات معطوفا على التشريعات،
ويكنى عن الجماع بالقربان بكسر القاف مصدر قرب بكسر الراء ولذلك جئ فيه بالمضارع المفتوح العين الذي هو مضارع قرب كسمع متعديا إلى المفعول؛ فإن الجماع لم يجئ إلا فيه دون قرب بالضم القاصر يقال قرب منه بمعنى دنا وقربه كذلك واستعماله في المجامعة، لأن فيها قربا ولكنهم غلبوا قرب المكسور العين فيها دون قرب المضموم تفرقة في الاستعمال، كما قالوا بعد إذا تجافى مكانه وبعد كمعنى البعد المعنوي ولذلك يدعون بلا يبعد.
وقوله: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} غاية لاعتزلوا و {لا تَقْرَبُوهُنَّ}، والطهر بضم الطاء مصدر معناه النقاء من الوسخ والقذر وفعله طهر بضم الهاء، وحقيقة الطهر نقاء الذات، وأطلق في اصطلاح الشرع على النقاء المعنوي وهو طهر الحدث الذي يقدر حصوله للمسلم بسبب، ويقال تطهر إذا اكتسب الطهارة بفعله حقيقة نحو: {يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة:108] أو مجازا نحو: {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [الأعراف:82]، ويقال أطهر بتشديد الطاء وتشديد الهاء وهي صيغة تطهر وقع فيها إدغام التاء في الطاء قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} [المائدة:6] وصيغة التفعل في هذه المادة لمجرد المبالغة في حصول معنى الفعل ولذلك كان إطلاق بعضها في موضع بعض استعمالا فصيحا.
قرأ الجمهور: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} بصيغة الفعل المجرد، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وخلف {يَطْهُرْنَ} بتشديد الطاء والهاء مفتوحتين.

ولما ذكر أن المحيض أذى علم السامع أن الطهر هنا هو النقاء من ذلك الأذى فإن وصف حائض يقابل بطاهر وقد سميت الإقراء أطهارا، وقد يراد بالتطهر الغسل بالماء كقوله تعالى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة:108] فإن تفسيره الانتجاء في الخلاء بالماء فإن كان الأول أفاد منع القربان إلى حصول النقاء من دم الحيض بالجفوف وكان قوله تعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} بعد ذلك شرطا ثانيا دالا على لزوم تطهر آخر وهو غسل ذلك الأذى بالماء، لأن صيغة {تطهر} تدل على طهارة معملة، وإن كان الثاني كان قوله فَإِذَا تَطَهَّرْنَ تصريحا بمفهوم الغاية ليبني عليه قوله: {فَأْتُوهُنَّ}، وعلى الاحتمال الثاني جاءت قراءة {حَتَّى يَطْهُرْنَ} بتشديد الطاء والهاء فيكون المراد الطهر المكتسب وهو الطهر بالغسل ويتعين على هذه القراءة أن يكون مرادا منه مع معناه لازمه أيضا وهو النقاء من الدم ليقع الغسل موقعه بدليل قوله قبله: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} وبذلك كان مآل القراءتين واحدا، وقد رجح المبرد قراءة {حَتَّى يَطْهُرْنَ} بالتشديد قال لأن الوجه أن تكون الكلمتان بمعنى واحد يراد بهما جميعا الغسل وهذا عجيب صدوره منه فإن اختلاف المعنيين إذا لم يحصل منه تضاد أولي لتكون الكلمة الثانية مفيدة شيئا جديدا.
ورجح الطبري قراءة التشديد قائلا: "لإجماع الأمة على أنه حرام على الرجل أن يقرب امرأته بعد انقطاع الدم عنها حتى تطهر" وهو مردود بأن لا حاجة إلى الاستدلال بدليل الإجماع ولا إلى ترجيح القراءة به، لأن اللفظ كاف في إفادة المنع من قربان الرجل امرأته حتى تطهر بدليل مفهوم الشرط في قوله: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ}.
وقد دلت الآية على أن غاية اعتزال النساء في المحيض هي حصول الطهر فإن حملنا الطهر على معناه اللغوي فهو النقاء من الدم ويتعين أن يحمل التطهر في قوله: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} على المعنى الشرعي، فيحصل من الغاية والشرط اشتراط النقاء والغسل وإلى هذا المعنى ذهب، علماء المالكية ونظروه بقوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6]، وإن حمل الطهر في الموضعين على المعنى الشرعي لا سيما على قراءة: "حَتَّى يَطَّهَّرْنَ" حصل من مفهوم الغاية ومن الشرط المؤكد له اشتراط الغسل بالماء وهو يستلزم اشتراط النقاء عادة، إذ لا فائدة في الغسل قبل ذلك،
وأما اشتراط طهارة الحدث فاختلف فقهاء الإسلام في مجمل الطهر الشرعي هنا فقال قوم هو غسل محل الأذى بالماء فذلك يحل قربانها وهذا الذي تدل عليه الآية، لأن

الطهر الشرعي يطلق على إزالة النجاسة وعلى رفع الحدث، والحائض اتصفت بالأمرين، والذي يمنع زوجها من قربانها هو الأذى ولا علاقة للقربان بالحدث فوجب أن يكون المراد غسل ذلك الأذى، وإن كان الطهران متلازمين بالنسبة للمرأة المسلمة فهما غير متلازمين بالنسبة للكتابية،
وقال الجمهور منهم مالك والشافعي هو غسل الجنابة وكأنهم أخذوا بأكمل أفراد هذا الاسم احتياطا، أو رجعوا فيه إلى عمل المسلمات والمظنون بالمسلمات يومئذ أنهن كن لا يتريثن في الغسل الذي يبيح لهن الصلاة فلا دليل في فعلهن على عدم إجراء ما دونه، وذهب مجاهد وطاووس وعكرمة إلى أن الطهر هو وضوء كوضوء الصلاة أي مع الاستنجاء بالماء وهذا شاذ.
وذهب أبو حنيفة وصاحباه إلى التفضيل فقالوا: إن انقطع الدم لأقصى أمد الحيض وهو عشرة أيام عندهم جاز قربانها قبل الاغتسال أي مع غسل المحل خاصة، وإن انقطع الدم لعادة المرأة دون أقصى الحيض لم يصح أن يقربها زوجها إلا إذا اغتسلت أو مضى عليها وقت صلاة، وإن انقطع لأقل من عادتها لم يحل قربانها ولكنها تغتسل وتصلي احتياطا ولا يقربها زوجها حتى تكمل مدة عدتها، وعللوا ذلك بأن انقطاعه لأكثر أمده انقطاع تام لا يخشى بعده رجوعه بخلاف انقطاعه لأقل من ذلك فلزم أن يتقصى أثره بالماء أو بمضي وقت صلاة، ثم أرادوا أن يجعلوا من هذه الآية دليلا لهذا التفصيل فقال عبد الحكيم السلكوتي {حَتَّى يَطْهُرْنَ} قرئ بالتخفيف والتشديد فتنزل القراءتان منزلة آيتين، ولما كانت إحداهما معارضة الأخرى من حيث اقتضاء قراءة التخفيف الطهر بمعنى النقاء واقتضاء الأخرى كونه بمعنى الغسل جمع بين القراءتين بإعمال كل في حالة مخصوصة اه، وهذا مدرك ضعيف، إذ لم يعهد عد القراءتين بمنزلة آيتين حتى يثبت التعارض، سلمنا لكنهما وردتا في وقت واحد فيحمل مطلقهما على مقيدهما بأن نحمل الطهر بمعنى النقاء على أنه مشروط بالغسل، سلمنا العدول عن هذا التقييد فما هو الدليل الذي خص كل قراءة بحالة من هاتين دون الأخرى أو دون حالات أخر، فما هذا إلا صنع باليد، فإن قلت لم بنوا دليلهم على تنزيل القراءتين منزلة الآيتين ولم يبنوه مثلنا على وجود {يَطْهُرْنَ} و {يَطَّهَّرْنَ} في موضعين من هذه الآية، قلت كأن سببه أن الواقعين في الآية هما جزءا آية فلا يمكن اعتبارا التعارض بين جزئي آية بل يحملان على أن أحدهما مفسر للآخر أو مقيد له.

وقوله: {فَأْتُوهُنَّ} الأمر هنا للإباحة لا محالة لوقوعه عقب النهي مثل: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة:2] عبر بالإتيان هنا وهو شهير في التكني به عن الوطء لبيان أن المراد بالقربان المنهي عنه هو ذلك المعنى الكنائي فقد عبر بالاعتزال ثم قفي بالقربان ثم قفي بالإتيان ومع كل تعبير فائدة جديدة وحكم جديد وهذا من إبداع الإيجاز في الإطناب.
وقوله: {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} حيث اسم مكان مبهم مبني على الضم ملازم الإضافة إلى جملة تحدده لزوال إبهامها، وقد أشكل المراد من هذا الظرف على الذين تصدوا لتأويل القرآن وما أرى سبب إشكاله إلا أن المعنى قد اعتاد العرب في التعبير عنه سلوك طريق الكناية والإغماض وكان فهمه موكولا إلى فطنهم ومعتاد تعبيرهم. فقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والربيع أي إلا من حيث أمركم الله بأن تعتزلوهن منه مدة الحيض يعني القبل قال القرطبي: "من" بمعنى في ونظره بقوله تعالى: {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ} [فاطر:40] وقوله: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة:9]، وعن ابن عباس وأبي رزين مسعود بن مالك والسدى وقتادة أن المعنى: من الصفة التي أمركم الله وهي الطهر، فحيث مجاز في الحال أو السبب و"من" لابتداء الأسباب فهي بمعنى التعليل.
والذي أراه أن قوله: {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} قد علم السامعون منه أنه أمر من الله كان قد حصل فيما قبل، وأما: {حَيْثُ} فظرف مكان وقد تستعمل مجازا في التعليل فيجوز أن المراد بأمر الله أمره الذي تضمنته الغاية بـ"حتى" في قوله: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} لأن غاية النهي تنتهي إلى الإباحة فالأمر هو الإذن، و "من" للابتداء المجازي، و "حَيْثُ" مستعملة في التعليل مجازا تخييليا أي لأن الله أمركم بأن تأتوهن عند انتهاء غاية النهي بالتطهير. أو المراد بأمر الله أمره الذي به أباح التمتع بالنساء: وهو عقد النكاح، فحرف "من" للتعليل والسببية، و حَيْثُ مستعار للمكان المجازي وهو حالة الإباحة التي قبل النهي كأنهم كانوا محجوزين عن استعمال الإباحة أو حجر عليهم الانتفاع بها ثم أذن لهم باستعمالها فشبهت حالتهم بحالة من حبس عند مكان ثم أطلق سراحه فهو يأتي منه إلى حيث يريد. وعلى هذين المعنيين لا يكون في الآية ما يؤذن بقصد تحديد الإتيان بأن يكون في مكان النسل، ويعضد هذين المعنيين تذييل الكلام بجملة: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} وهو ارتفاق بالمخاطبين بأن ذلك المنع كان لمنفعتهم ليكونوا متطهرين، وأما ذكر التوابين فهو إدماج للتنويه بشأن التوبة عند ذكر ما يدل على امتثال ما

أمرهم الله به من اعتزال النساء في المحيض أي إن التوبة أعظم شأنا من التطهر أي أن نية الامتثال أعظم من تحقق مصلحة التطهر لكم، لأن التوبة تطهر روحاني والتطهر جثماني.
ويجوز أن يكون قوله: {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} على حقيقة "من" في الابتداء وحقيقة حَيْثُ للمكان والمراد المكان الذي كان به أذى الحيض.
وقد قيل: إن جملة: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} معترضة بين جملة: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} وجملة: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} [البقرة:223].
[223] {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}
{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}
هذه الجملة تذييل ثان لجملة: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة:222] قصد به الاتفاق بالمخاطبين والتأنس لهم لإشعارهم بأن منعهم من قربان النساء في مدة المحيض منع مؤقت لفائدتهم وأن الله يعلم أن نساءهم محل تعهدهم وملابستهم ليس منعهم منهن في بعض الأحوال بأمر هين عليهم لولا إرادة حفظهم من الأذى، كقول عمر بن الخطاب لما حمى الحمى: "لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت عليهم من بلادهم شبرا إنها لبلادهم" وتعتبر جملة: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} مقدمة لجملة: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} وفيها معنى التعليل للإذن بإتيانهن أنى شاءوا، والعلة قد تجعل مقدمة فلو أوثر معنى التعليل لأخرت عن جملة: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} ولكن أوثر أن تكون مقدمة للتي بعدها لأنه أحكم نسيج نظم ولتتأتى عقبه الفاء الفصيحة.
والحرث مصدر حرث الأرض إذا شقها بآلة تشق التراب ليزرع في شقوقه زريعة أو تغرس أشجار. وهو هنا مطلق على معنى اسم المفعول.
وإطلاق الحرث على المحروث وأنواعه إطلاق متعدد فيطلق على الأرض المجعولة للزرع أو الغرس كما قال تعالى: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ} [الأنعام:138] أي أرض زرع محجورة على الناس أن يزرعوها.
وقال: {وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} [آل عمران:14] أي الجنات والحوائط والحقول.

وقال: {كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ} [آل عمران:117] أي أهلكت زرعهم.
وقال: {فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ} [القلم:22] يعنون به جنتهم أي صارمين عراجين التمر.
والحرث في هذه الآية مراد به المحروث بقرينة كونه مفعولا لفعل {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ} وليس المراد به المصدر لأن المقام ينبو عنه، وتشبيه النساء بالحرث تشبيه لطيف كما شبه النسل بالزرع في قول أبي طالب في خطبته خديجة للنبي صلى الله عليه وسلم الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل .
والفاء في {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} فاء فصيحة لابتناء ما بعدها على تقرر أن النساء حرث لهم، لا سيما إذا كانوا قد سألوا عن ذلك بلسان المقال أو بلسان الحال.
وكلمة "أَنَّى" اسم لمكان مبهم تبينه جملة مضاف هو إليها، وقد كثر استعماله مجازا في معنى كيف بتشبيه حال الشيء بمكانه، لأن كيف اسم للحال المبهمة يبينها عاملها نحو كيف يشاء وقال في لسان العرب: إن "أنى" تكون بمعنى "متى"، وقد أضيف "أنى" في هذه الآية إلى جملة "شِئْتُمْ" والمشيئات شتى فتأوله كثير من المفسرين على حمل "أنى" على المعنى المجازي وفسروه بكيف شئتم وهو تأويل الجمهور الذي عضدوه بما رووه في سبب نزول الآية وفيها روايتان. إحداهما عن جابر بن عبد الله والأخرى عن ابن عباس وتأوله الضحاك على معنى متى شئتم وتأوله جمع على معناه الحقيقي من كونه اسم مكان مبهم، فمنهم من جعلوه ظرفا لأنه الأصل في أسماء المكان إذا لم يصرح فيها بما يصرف عن معنى الظرفية وفسروه بمعنى في أي مكان من المرأة شئتم وهو المروي في "صحيح البخاري" تفسيرا من ابن عمر، ومنهم من جعلوه اسم مكان غير ظرف وقدروا أنه مجرور بـ"من" ففسروه من أي مكان أو جهة شئتم وهو يئول إلى تفسيره بمعنى كيف، ونسب القرطبي هذين التأويليم إلى سيبويه. فالذي يتبادر من موقع الآية وتساعد عليه معاني ألفاظها أنها تذييل وارد بعد النهي عن قربان النساء في حال الحيض. فتحمل "أنى" على معنى متى ويكون المعنى فأتوا نساءكم متى شئتم إذا تطهرن فوزانها وزان قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} بعد فوله: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة:1].
ولا مناسبة تبعث لصرف الآية عن هذا المعنى إلا أن ما طار بين علماء السلف ومن

بعدهم من الخوض في محامل أخرى لهذه الآية، وما رووه من آثار في أسباب النزول يضطرنا إلى استفصال البيان في مختلف الأقوال والمحامل مقتنعين بذلك، لما فيه من إشارة إلى اختلاف الفقهاء في معاني الآية، وإنها لمسألة جديرة بالاهتمام، على ثقل في جريانها، على الألسنة والأقلام.
روى البخاري ومسلم في "صحيحهما" عن جابر بن عبد الله: "أن اليهود قالوا: إذا أتى الرجل امرأته مجبية جاء الولد أحول، فسأل المسلمون عن ذلك فنزلت: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} الآية" وأخرج أبو داود عن ابن عباس قال: "كان هذا الحي من الأنصار وهم أهل وثن من هذا الحي من اليهود وهو أهل كتاب وكانوا يرون لهم فضلا عليهم في العلم فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم، وكل من أمر أهل الكتاب ألا يأتوا النساء إلا على حرف وذلك أستر ما تكون المرأة، فكان هذا الحي من الأنصار قد أخذوا بذلك، وكان هذا الحي من قريش يشرحون النساء شرحا" أي يطأونهن وهن مستلقيات عن أقفيتهن" ومقبلات ومدبرات ومستلقيات، فلما قدم المهاجرون المدينة تزوج رجل منهم امرأة من الأنصار فذهب يصنع بها ذلك فأنكرته عليه وقالت: إنما كنا نؤتى على حرف فاصنع ذلك وإلا فاجتنبني حتى شرى أمرهما "أي تفاقم اللجاج" فبلغ ذلك النبي فأنزل الله: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} أي مقبلات كن أو مدبرات أو مستلقيات يعني بذلك في موضع الولد، وروى مثله عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم في الترمذي، وما أخرجه الترمذي عن ابن عباس قال: جاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله هلكت قال، "وما أهلكك"? قال: حولت رحلي الليلة "يريد أنه أتى امرأته وهي مستدبرة" فلم يرد عليه رسول الله شيئا فأوحى الله إلى رسوله هذه الآية {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} الآية.
وروي البخاري عن نافع قال: كان ابن عمر إذا قرأ القرآن لم يتكلم حتى يفرغ منه فأخذت عليه المصحف يوما فقرأ سورة البقرة حتى انتهى إلى {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} قال: تدري فيم أنزلت? قلت: لا قال: أنزلت في كذا وكذا وفي رواية عن نافع في البخاري "يأتيها في..." ولم يزد وهو يعني في كلتا الروايتين عنه إتيان النساء في أدبارهن كما صرح بذلك في رواية الطبري وإسحاق بن راهويه: أنزلت إتيان النساء في أدبارهن، وروي الدارقطني في غرائب مالك والطبري عن نافع عن عبد الله بن عمر: أن رجلا أتى امرأته في دبرها فوجد في نفسه من ذلك فأنزل الله {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} وقد روى أن ذلك الرجل هو عبد الله بن عمر، وعن عطاء بن يسار أن

رجلا أصاب امرأته في دبرها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأنكر الناس عليه وقالوا: أثفرها فأنزل الله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} فعلى تأويل هؤلاء يكون قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} تشبيها للمرأة بالحرث أي بأرض الحرث وأطلق {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ} على معنى: فاحرثوا في أي مكان شئتم.
أقول: قد أجمل كلام الله تعالى هنا، وأبهم وبين المبهمات بمبهمات من جهة أخرى لاحتمال {أَمَرَكُمُ اللَّهُ} معاني ليس معنى الإيجاب والتشريع منها، إذ لم يعهد سبق تشريع من الله في هذا كما قدمناه، ثم أتبع بقوله: {يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} [البقرة:222] فربما أشعر بأن فعلا في هذا البيان كان يرتكب والله يدعو إلى الانكفاف عنه وأتبع بقوله: {وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} فأشعر بأن فعلا في هذا الشأن قد يلتبس بغير التنزه والله يحب التنزه عنه، مع احتمال المحبة عنه لمعنى التفضيل والتكرمة مثل {يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108] واحتمالها لمعنى: ويبغض غير ذلك، ثم جاء ما هو كالدليل وهو قوله: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} فجعلن حرثا على احتمال وجوه في الشبه؛ فقد قال: إنه وكل للمعروف، وقد يقال: إنه جعل شائعا في المرأة، فلذلك نيد الحكم بذات النساء كلها، ثم قال: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} فجاء بأنى المحتملة للكيفيات وللأمكنة وهي أصل في الأمكنة ووردت في الكيفيات، وقد قيل: إنها ترد للأزمنة فاحتمل كونها أمكنة الوصول من هذا الإتيان، أو أمكنة الورود إلى مكان آخر مقصود فهي أمكنة ابتداء الإتيان أو أمكنة الاستقرار فأجمل في هذا كله إجمال بديع وأثنى ثناء حسن.
واختلاف محامل الآية في أنظار المفسرين والفقهاء طوع علم المتأمل، وفيها أقوال كثيرة ومذاهب مختلفة لفقهاء الأمصار مستقصاة في كتب أحكام القرآن، وكتب السنة، وفي دواوين الفقه، وقد اقتصرنا على الآثار التي تمت إلى الآية بسبب نزول، وتركنا ما عداه إلى إفهام العقول.
{وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}
عطف على جملة {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ} أو على جملة {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}. عطف الإنشاء على الخبر، على أن الجملة المعطوف عليها وإن كانت خبرا فالمقصود منها الأمر بالتوبة والتطهر؛ فكرر ذلك اهتماما بالحرص على الأعمال الصالحة بعد الكلام على اللذائذ العاجلة.
وحذف مفعول {قَدَّمُوا} اختصارا لظهوره؛ لأن التقديم هنا إعداد الحسنات فإنها

بمنزلة الثقل الذي يقدمه المسافر.
وقوله: {لِأَنْفُسِكُمْ} متعلق بـ {قَدِّمُوا} واللام للعلة أي لأجل أنفسكم أي لنفعها، وقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} [البقرة:189] تحريض على امتثال الشرع بتجنب المخالفة، فيدخل تحته التخلي عن السيئات والتحلي بالواجبات والقربات، فمضمونها أعم من مضمون جملة: {وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ} فلذلك كانت هذه تذييلا.
وقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ} يجمع التحذير والترغيب، أي فلاقوه بما يرضي به عنكم كقوله: ووجد الله عنده، وهو عطف على قوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ}.
والملاقاة: مفاعلة من اللقاء وهو الحضور لدى الغير بقصد أو مصادفة. وأصل مادة لقي تقتضي الوقوع بين شيئين فكانت مفيدة معنى المفاعلة بمجردها، فلذلك كان لقي ولاقي بمعنى واحد، وإنما أمرهم الله بعلم أنهم ملاقوه مع أن المسلمين يعلمون ذلك تنزيلا لعلمهم منزلة العدم في هذا الشأن، ليزاد من تعليمهم اهتماما بهذا المعلوم وتنافسا فيه على أننا رأينا أن في افتتاح الجملة بكلمة: {اعْلَمُوا} اهتماما بالخبر واستنصاتا له وهي نقطة عظيمة سيأتي الكلام عليها عند قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال:24] في سورة الأنفال.
وقد رتبت الجمل الثلاث الأول على عكس ترتيب حصول مضامينها في الخارج؛ فإن الظاهر أن يكون الإعلام بملاقاة الله هو الحاصل أولا ثم يعقبه الأمر بالتقوى ثم الأمر بأن يقدموا لأنفسهم، فخولف الظاهر للمبادرة بالأمر بالاستعداد ليوم الجزاء، وأعقب بالأمر بالتقوى إشعارا بأنها هي الاستعداد ثم ذكروا بأنهم ملاقو الله فجاء ذلك بمنزلة التعليل.
وقوله: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} تعقيب للتحذير بالبشارة، والمراد: المؤمنون الكاملون وهم الذين يسرون بلقاء الله كما جاء: "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه" ، وذكر هذه البشارة عقب ما تقدم إشارة إلى أن امتثال الأحكام المتقدمة من كمال الإيمان، وجملة: وبشر المؤمنين، معطوفة على جملة: {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ} ، على الأظهر من جعل جملة: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} استئنافا غير معمولة ل"قل هو أذى"، وإذا جعلت جملة "نساؤكم" من معمول القول كانت جملة "وَبَشِّرِ" معطوفة على جملة {قُلْ هُوَ أَذىً} [البقرة:222]؛ إذ لا يصح وقوعها مقولا للقول كما اختاره التفتازاني.

[224] {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}
جملة معطوفة على جملة: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} [البقرة:223] عطف تشريع على تشريع فالمناسبة بين الجملتين تعلق مضمونيهما بأحكام معاشرة الأزواج مع كون مضمون الجملة الأولى منعا من قربان الأزواج في حالة الحيض، وكون مضمون هذه الجملة: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [البقرة:226]، فوقع هذا التمهيد موقع الاعتراض بين جملة {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} وجملة: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} ، وسلك فيه طريق العطف لأنه نهي عطف على نهي في قوله: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة:222]
وقال التفتازاني: الأظهر أنه معطوف على مقدر أي امتثلوا ما أمرت به ولا تجعلوا الله عرضة اه. وفيه تكلف وخلو عن إبداء المناسبة، وجوز التفتازاني: أن يكون معطوفا على الأوامر السابقة وهي {وَقَدِّمُوا} [البقرة:223] و {وَاتَّقُوا} [البقرة:223] و {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ} [البقرة:223] اهـ أي فالمناسبة أنه لما أمرهم باستحضار يوم لقائه بين لهم شيئا من التقوى دقيق المسلك شديد الخفاء وهو التقوى باحترام الاسم المعظم؛ فإن التقوى من الأحداث التي إذا تعلقت بالأسماء كان مفادها التعلق بمسمى الاسم لا بلفظه، لأن الأحكام اللفظية إنما تجري على المدلولات إلا إذا قام دليل على تعلقها بالأسماء مثل سميته محمدا، فجيء بهذه الآية لبيان ما يترتب على تعظيم اسم الله واتقائه في حرمة أسمائه عند الحنث مع بيان ما رخص فيه من الحنث، أو لبيان التحذير من تعريض اسمه تعالى للاستخفاف بكثرة الحلف حتى لا يضطر إلى الحنث على الوجهين الآتيين، وبعد هذا التوجيه كله فهو يمنع منه أن مجيء قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ} [البقرة:223] مجيء التذييل للأحكام السابقة مانع من اعتبار أن يعطف عليه حكم معتد به، لأنه يطول به التذييل وشأن التذييل الإيجاز،
وقال عبد الحكيم: معطوف على جملة {قل} بتقدير قل أي: وقل لا تجعلوا الله عرضة أو على قوله: {وَقَدِّمُوا} [البقرة:223] إن جعل قوله: {وَقَدِّمُوا} من جملة مقول {قل}،
وذكر جمع المفسرين عن ابن جريج، إنها نزلت حين حلف أبو بكر الصديق ألا ينفق على قريبه مسطح بن أثاثة لمشاركته الذين تكلموا بخبر الإفك عن عائشة رضي الله

عنها، وقال الواحدي عن الكلبي: نزلت في عبد الله بن رواحة: حلف ألا يكلم ختنة على أخته بشير ابن النعمان ولا يدخل بيته ولا يصلح بينه وبين امرأته، وأياما كان فواو العطف لابد أن تربط هذه الجملة بشيء من الكلام الذي قبلها.
وتعلق الجعل بالذات هنا هو على معنى التعليق بالاسم، فالتقدير: ولا تجعلوا اسم الله، وحذف لكثرة الاستعمال في مثله عند قيام القرينة لظهور عدم صحة تعلق الفعل بالمسمى كقول النابغة:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وليس وراء الله للمرء مذهب
أي وليس بعد اسم الله للمرء مذهب للحلف.
والعرضة اسم على وزن الفعلة وهو وزن دال على المفعول كالقبضة والمسكة والهزأة، وهو مشتق من عرضه إذا وضعه على العرض أي الجانب، ومعنى العرض هنا جعل الشيء حاجزا من قولهم عرض العود على الإناء فنشأ عن ذلك إطلاق العرضة على الحاجز المتعرض، وهو إطلاق شائع يساوي المعنى الحقيقي، وأطلقت على ما يكثر جمع الناس حوله فكأنه يعترضهم عن الانصراف وأنشد في "الكشاف".
ولا تجعلوني عرضة للوائم1
والآية تحتمل المعنيين.
واللام في قوله: {لِأَيْمَانِكُمْ} لام التعدية تتعلق بعرضة لما فيها من معنى الفعل: أي لا تجعلوا اسم الله معرضا لأيمانكم فتحلفوا به على الامتناع من البر والتقوى والإصلاح ثم تقولوا سبقت منا يمين، ويجوز أن تكون اللام للتعليل: أي لا تجعلوا الله عرضة لأجل أيمانكم الصادرة على ألا تبروا.
والأيمان: جمع يمين وهو الحلف سمي الحلف يمينا أخذا من اليمين التي هي إحدى اليدين وهي اليد التي يفعل بها الإنسان معظم أفعاله، وهي اشتقت من اليمين: وهو البركة، لأن اليد اليمنى يتيسر بها الفعل أحسن من اليد الأخرى، وسمي الحلف يمينا لأن العرب
ـــــــ
1 قال الطيبي والتفتازاني أوله
دعوني أنح وجدا لنوح الحمائم
ولم ينسباه

كان من عادتهم إذا تحالفوا أن يمسك المتحالفان أحدهما باليد اليمنى من الآخر قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] فكانوا يقولون أعطي يمينه، إذا أكد العهد. وشاع ذلك في كلامهم قال كعب بن زهير:
حتى وضعت يميني لا أنازعه ... في كف ذي يسرات قيله القيل
ثم اختصروا، فقالوا صدرت منه يمين، أو حلف يمينا، فتسمية الحلف يمينا من تسمية الشيء باسم مقارنة الملازم له، أو من تسمية الشيء باسم مكانه؛ كما سموا الماء واديا وإنما المحل في هذه التسمية على هذا الوجه محل تخييلي.
ولما كان غالب أيمانهم في العهود والحلف، وهو الذي يضع فيه المتعاهدون أيديهم بعضها في بعض، شاع إطلاق اليمين على كل حلف، جريا على غالب الأحوال؛ فأطلقت اليمين على قسم المرء في خاصة نفسه دون عهد ولا حلف.
والقصد من الحلف يرجع إلى قصد أن يشهد الإنسان الله تعالى على صدقه: في خبر أو وعد أو تعليق. ولذلك يقول: {بالله} أي أخبر متلبسا بإشهاد الله، أو أعد أو أعلق متلبسا بإشهاد الله على تحقيق ذلك، فمن أجل ذلك تضمن اليمين معنى قويا في الصدق، لأن من أشهد بالله على باطل فقد اجترأ عليه واستخف به، ومما يدل على أن أصل اليمين إشهاد الله، قوله تعالى: {وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} [البقرة:204] كما تقدم، وقول العرب يعلم الله في مقام الحلف المغلظ، ولأجله كانت الباء هي أصل حروف القسم، لدلالتها على الملابسة في أصل معانيها، وكانت الواو والتاء لاحقتين بها في القسم الإنشائي دون الاستعطافي.
ومعنى الآية إن كانت العرضة بمعنى الحاجز، نهي المسلمين عن أن يجعلوا اسم الله حائلا معنويا دون فعل ما حلفوا على تركه من البر، والتقوى، والإصلاح بين الناس فاللام للتعليل، وهي متعلقة بتجعلوا، و {أَنْ تَبَرُّوا} متعلق بعرضة على حذف اللام الجارة، المطرد حذفها مع أن، أي ولا تجعلوا الله لأجل أن حلفتم به عرضة حاجزا عن فعل البر، والإصلاح، والتقوى، فالآية، على هذا الوجه، نهي عن المحافظة على اليمين إذا كانت المحافظة عليها تمنع من فعل جير شرعي، وهو نهي تحريم أو تنزيه بحسب حكم الشيء المحذوف على تركه، ومن لوازمه التحرز حين الحلف وعدم التسرع للأيمان، إذ لا ينبغي التعرض لكثرة الترخص.

وقد كانت العرب في الجاهلية تغضب، فتقسم بالله، وبآلهتها، وبآبائها، على الامتناع من شيء، ليسدوا باليمين باب المراجعة أو الندامة.
وفي "الكشاف" كان الرجل يحلف على ترك الخير: من صلة الرحم، أو إصلاح ذات البين، أو إحسان، ثم يقول أخاف أن أحنث في يميني، فيترك فعل البر فتكون الآية واردة لإصلاح خلل من أحوالهم.
وقد قيل إن سبب نزولها حلف أبي بكر: ألا ينفق على ابن خالته. مسطح بن أثاثة لأنه ممن خاضوا في الإفك. ولا تظهر لهذا القول مناسبة بموقع الآية.وقيل: نزلت في حلف عبد الله بن رواحة: ألا يكلم ختنه بشير بن النعمان الأنصاري، وكان قد طلق أخت عبد الله ثم أراد الرجوع والصلح، فحلف عبد الله ألا يصلح بينهما.وإما على تقدير أن تكون العرضة بمعنى الشيء المعرض لفعل في غرض، فالمعنى لا تجعلوا اسم الله معرضا لأن تحلفوا به في الامتناع من البر، والتقوى، والإصلاح بين الناس، فالأيمان على ظاهره، وهي الأقسام واللام متعلقة بعرضة، و {أَنْ تَبَرُّوا} مفعول الأيمان، بتقدير لا محذوفة بعد أن والتقدير ألا تبروا، نظير قوله تعالى: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء:176] وهو كثير فتكون الآية نهيا عن الحف بالله على ترك الطاعات؛ لأن تعظيم الله لا ينبغي أن يكون سببا في قطع ما أمر الله بفعله، وهذا النهي يستلزم: إنه إن وقع الحلف على ترك البر والتقوى والإصلاح، أنه لا حرج في ذلك، وأنه يكفر عن يمينه ويفعل الخير. أو معناه: لا تجعلوا اسم الله معرضا للحلف، كما قلنا، ويكون قوله: {أَنْ تَبَرُّوا} مفعولا لأجله، وهو علة للنهي؛ أي إنما نهيتكم لتكونوا أبرارا، أتقياء، مصلحين، وفي قريب من هذا، قال مالك "بلغني أنه الحلف بالله في كل شيء" وعليه فتكون الآية نهيا عن الإسراع بالحلف، لأن كثرة الحلف. تعرض الحالف للحنث. وكانت كثرة الأيمان من عادات الجاهلية، في جملة العوائد الناشئة عن الغضب ونعر الحمق، فنهى الإسلام عن ذلك ولذلك تمدحوا بقلة الأيمان قال كثير:
قليل الألايي حافظ ليمينه ... وإن سبقت منه الألية برت
وفي معنى هذا أن يكون العرضة مستعار لما يكثر الحلول حوله، أي لا تجعلوا اسم الله كالشيء المعرض للقاصدين. وليس في الآية على هذه الوجوه ما يفهم الإذن في الحلف بغير الله، لما تقرر من النهي عن الحلف بغير اسم الله وصفاته.
وقوله: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} تذييل، والمراد منه العلم بالأقوال والنيات، والمقصود

لازمه: وهو الوعد على الامتثال، على جميع التقادير، والعذر في الحنث على التقدير الأول، والتحذير من الحلف، على التقدير الثاني.
وقد دلت الآية على معنى عظيم: وهو أن تعظيم الله لا ينبغي أن يجعل وسيلة لتعطيل ما يحبه الله من الخير، فإن المحافظة على البر في اليمين ترجع إلى تعظيم اسم الله تعالى، وتصديق الشهادة به على الفعل المحذوف عليه، وهذا وإن كان مقصدا جليلا يشكر عليه الحالف، الطالب للبر؛ لكن التوسل به لقطع الخيرات مما لا يرضي به الله تعالى، فقد تعارض أمران مرضيان لله تعالى إذا حصل أحدهما لم يحصل الآخر. والله يأمرنا أن نقدم أحد الأمرين المرضيين له، وهو ما فيه تعظيمه بطلب إرضائه، مع نفع خلقه بالبر والتقوى والإصلاح، دون الأمر الذي فيه إرضاؤه بتعظيم اسمه فقط، إذ قد على الله تعالى: أن تعظيم اسمه قد حصل عند تحرج الحالف من الحنث، فبر اليمين أدب مع اسم الله تعالى، والإتيان بالأعمال الصالحة مرضاة لله؛ فأمر الله بتقديم مرضاته على الأدب مع اسمه، كما قيل: الامتثال مقدم على الأدب. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إني لا أحلف على يمين، فأرى غيرها خيرا منها، إلا كفرت عن يميني، وفعلت الذي هو خير"، ولأجل ذلك لما أقسم أيوب أن يضرب امرأته مائة جلدة، أمره الله أن يأخذ ضغثا من مائة عصا فيضربها به، وقد علم الله أن هذا غير مقصد أيوب؛ ولكن لما لم يرض الله من أيوب أن يضرب امرأته، نهاه عن ذلك، وأمره بالتحلل محافظة على حرص أيوب على البر في يمينه، وكراهته أن يتخلف منه معناده في تعظيم اسم ربه، فهذا وجه من التحلة، أفتى الله به نبيه، ولعل الكفارة لم تكن مشروعة. فهي من يسر الإسلام وسماحته. فقد كفانا الله ذلك إذ شرع لنا تحلة اليمين بالكفارة؛ ولذلك صار لا يجزئ في الإسلام، أن يفعل الحالف مثل ما فعل أيوب.
[225] {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ}
استئناف بياني، لأن الآية السابقة لما أفادت النهي عن التسرع بالحلف إفادة صريحة أو التزاميه، كانت نفوس السامعين بحيث يهجس بها التفكر والتطلع إلى حكم اليمين التي تجري على الألسن. ومناسبته لما قبله ظاهرة لا سيما إن جعلت قوله: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} [البقرة:224] نهيا عن الحلف.
والمؤاخذة مفاعلة من الأخذ بمعنى العد والمحاسبة، يقال أخذه بكذا أي عده عليه

ليعاتبه، أو يعاقبه، قال كعب بن زهير:
لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم ... أذنب وإن كثرت في الأقاويل
فالمفاعلة هنا للمبالغة في الأخذ؛ إذ ليس فيه حصول الفعل من الجانبين والمؤاخذة باليمين، هي الإلزام بالوفاء بها، وعدم الحنث؛ ويترتب على ذلك أن يأثم إذا وقع الحنث، إلا ما أذن الله في كفارته، كما في آية سورة العقود.
واللغو مصدر لغا، إذا قال كلاما خطئا، يقال: لغا يلغوا لغوا كدعا، ولغا يلغي لغيا كسعى. ولغة القرآن بالواو. وفي "اللسان": "أنه لا نظير له إلا قولهم أسوته أسوا وأسى أصلحته" وفي الكواشي:"ولغا يلغوا لغوا قال باطلا" ، ويطلق اللغو أيضا على الكلام الساقط، الذي لا يعتد به، وهو الخطأ، وهو إطلاق شائع. وقد اقتصر عليه الزمخشري في الأساس، ولم يجعله مجازا؛ واقتصر على التفسير به في "الكشاف" وتبعه متابعوه.
و"في" للظرفية المجازية، المراد بها الملابسة، وهي ظرف مستقر، صفة اللغو أو حال منه، وكذلك قدره الكواشي فيكون المعنى، على جعل اللغو بمعنى المصدر، وهو الأظهر: لا يؤاخذكم الله بأن تلغوا لغوا ملابسا للأيمان، أي لا يؤاخذكم بالأيمان الصادرة صدور اللغو، أي غير المقصود من القول. فإذا جعلت اللغو اسما، بمعنى الكلام الساقط الخاطئ، لم تصح ظرفيته في الأيمان، لأنه من الأيمان، فالظرفية متعلقة بيؤاخذكم، والمعنى لا يؤاخذكم الله في أيمانكم باللغو، أي لا يؤاخذكم من بين أيمانكم باليمين اللغو،
والأيمان جمع يمين، واليمين القسم والحلف، وهو ذكر اسم الله تعالى، أو بعض صفاته، أو بعض شئونه العليا أو شعائره. فقد كانت العرب تحلف بالله، وبرب الكعبة، وبالهدي، وبمناسك الحج. والقسم عندهم بحرف من حروف القسم الثلاثة: الواو والباء والتاء، وربما ذكروا لفظ حلفت أو أقسمت، وربما حلفوا بدماء البدن، وربما قالوا والدماء، وقد يدخلون لاما على عمر الله، يقال: لعمر الله، ويقولون: عمرك الله، ولم أر أنهم كانوا يحلفون بأسماء الأصنام. فهذا الحلف الذي يراد به التزام فعل، أو براءة من حق. وقد يحلفون بأشياء عزيزة عندهم لقصد تأكيد الخبر أو الالتزام، كقولهم وأبيك ولعمرك ولعمري، ويجلفون بآبائهم، ولما جاء الإسلام نهى عن الحلف بغير الله. ومن عادة العرب في القسم أن بعض القسم يقسمون به على التزام فعل يفعله المقسم ليلجئ نفسه إلى عمله ولا يندم عنه، وهو من قبيل قسم النذر، فإذا أراد أحد أن يظهر عزمه على

فعل لا محالة منه، ولا مطمع لأحد في صرفه عنه، أكده بالقسم، قال بلعاء بن قيس:
وفارس في غمار الموت منغمس ... إذا تألى على مكروهة صدقا
أي إذا حلف على أن يقاتل أو يقتل أو نحو ذلك من المصاعب والأضرار ومنه سميت الحرب كريهة فصار نطقهم باليمين مؤذنا بالعزم، وكثر ذلك في ألسنتهم غي أغراض التأكيد ونحوه، حتى صار يجري ذلك على اللسان كما تجري الكلمات الدالة على المعاني من غير إرادة الحلف، وصارت كثرته في الكلام لا تنحصر، فكثر التحرج من ذلك في الإسلام قال كثير:
قليل الألايي حافظ ليمينه ... وإن سبقت منه الألية برت
فأشبه جريان الحلف على اللسان اللغو من الكلام.
وقد اختلف العلماء في المراد من لغو اليمين في هذه الآية، فذهب الجمهور إلى أن اللغو هو اليمين التي تجري على اللسان، لم يقصد المتكلم بها الحلف، ولكنها جرت مجرى التأكيد. أو التنبيه، كقول العرب: لا والله، وبلى والله، وقول القائل: والله لقد سمعت من فلان كلاما عجبا، وغير هذا ليس بلغو، وهذا قول عائشة، رواه عنها في "الموطأ" و"الصحاح"، وإليه ذهب الشعبي، وأبو قلابة، وعكرمة، ومجاهد، وأبو صالح، وأخذ به الشافعي. والحجة له أن الله قد جعل اللغو قسيما للتي كسبها القلب، في هذه الآية، وللتي عقد عليها الحالف اليمين في قوله: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا} [المائدة:89] فما عقدتم الأيمان هو ما كسبته القلوب؛ لأن ما كسبت قلوبكم مبين، فيحمل عليه مجمل {مَا عَقَّدْتُمُ}، فتعين أن تكون اللغو هي التي لا قصد فيها إلى الحلف، وهي التي تجري على اللسان دون قصد، وعليه فمعنى نفي المؤاخذة نفي المؤاخذة بالإثم وبالكفارة؛ لأن نفي الفعل يعم، فاليمين التي لا قصد فيها، لا إثم ولا كفارة عليها، وغيرها تلزم فيه الكفارة للخروج من الإثم بدليل آية المائدة؛ إذ فسر المؤاخذة فيها بقوله: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة:89] فيكون في الغموس، وفي يمين التعليق، وفي اليمين على الظن، ثم يتبين خلافه، الكفارة في جميع ذلك.
وقال مالك: "لغو اليمين أن يحلف على شيء يظنه كذلك ثم يتبين خلاف ظنه" قال في "الموطأ" :"وهذا أحسن ما سمعت إلى في ذلك" وهو مروي، في غير "الموطأ"، عن أبي هريرة ومن قال به الحسن، وإبراهيم، وقتادة، والسدي، ومكحول، وابن أبي نجيح. ووجهه من الآية: أن الله تعالى جعل المؤاخذة على كسب القلب في اليمين، ولا تكون المؤاخذة

إلا على الحنث، لا أصل القسم؛ إذ لا مؤاخذة لأجل مجرد الحلف لا سيما مع البر، فتعين أن يكون المراد من كسب القلب كسبه الحنث أي تعمده الحنث، فهو الذي فيه المؤاخذة، والمؤاخذة أجملت في هاته الآية، وبينت في آية المائدة بالكفارة، فالحالف على ظن يظهر بعد خلافه لا تعمد عنده للحنث، فهو اللغو، فلا مؤاخذة فيه، أي لا كفارة وأما قول الرجل: لا والله وبلى والله، وهو كاذب، فهو عند مالك قسم ليس بلغو، لأن اللغوية تتعلق بالحنث بعد اعتقاد الصدق، والقائل "لا والله" كاذبا، لم يتبين حنثه له بعد اليمين، بل هو غافل عن كونه حالفا، فإذا انتبه للحلف، وجبت عليه المفازة، لأنه حلفها حين حلفها وهو حانث.
وإنما جعلنا تفسير {مَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} قلوبكم كسب القلب للحنث، لأن مساق الآية في الحنث لأن قوله: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} [البقرة:224]، إما إذن في الحنث، أو نهي عن الحلف خشية الحنث، على الوجهين الماضيين، وقوله: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ} بيان وتعليل لذلك، وحكم البيان حكم المبين، لأنه عينه.
وقال جماعة: اللغو ما لم يقصد به الكذب، فتشمل القسمين، سواء كان بلا قصد كالتي تجري على الألسن في "لا والله وبلى والله" أم كان بقصد، مع اعتقاد الصدق، فتبين خلافه. وممن قال بهذا: ابن عباس، والشعبي وقال به أبو حنيفة، فقال: اللغو لا كفارة فيها ولا إثم.
واحتج لذلك بأن الله تعالى جعل اللغو هنا، مقابلا لما كسبته القلوب، ونفي المؤاخذة عن اللغو، وأثبتها لما كسبه القلب، والمؤاخذة لا محالة على الحنث لا على أصل الحلف، فاللغو هي التي لا حنث فيها؛ ولم ير بين آية البقرة وآية المائدة تعارضا حتى يحمل إحداهما على الأخرى بل قال: إن آية البقرة جعلت اللغو مقابلا لما كسبه القلب، وأثبت المؤاخذة لما كسبه القلب أي عزمت عليه النفس، والمؤاخذة مطلقة تنصرف إلى أكمل أفرادها، وهي العقوبة الأخروية فيتعين أنه ما كسبته القلوب، أريد به الغموس؛ وجعل في آية المائدة اللغو مقابلا للأيمان المعقودة،
والعقد في الأصل: الربط، وهو معناه لغة، وقد أضافه إلى الأيمان، فدل على أنها اليمين التي فيها تعليق، وقد فسر المؤاخذة فيها بقوله: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ} [المائدة:89] الخ، فظهر من الآيتين أن اللغو ما قابل الغموس، والمنعقدة، وهو نوعان لا محالة، وظهر حكم الغموس، وهي الحلف بقصد الكذب، فهو الإثم، وحكم المنعقدة، أنه الكفارة، فوافق مالكا في الغموس وخالفه في أحد نوعي اللغو، وهذا تحقيق مذهبه.وفي اللغو، غير

هذه المذاهب، مذاهب أنهاها ابن عطية إلى عشرة، لا نطيل بها.
وقوله: {وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} تذييل لحكم نفي المؤاخذة، ومناسبة اقتران وصف الغفور بالحليم هنا، دون الرحيم، لأن هذه مغفرة لذنب هو من قبيل التقصير في الأدب مع الله تعالى، فلذلك وصف الله نفسه بالحليم، لأن الحليم هو الذي لا يستفزه التقصير في جانبه، ولا يغضب للغفلة، ويقبل المعذرة.
[226, 227] {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}
استئناف ابتدائي، للانتقال إلى تشريع في عمل كان يغلب على الرجال أن يعملوه، في الجاهلية، والإسلام. كان من أشهر الأيمان الحائلة بين البر والتقوى والإصلاح، أيمان الرجال على مهاجرة نسائهم، فإنها تجمع الثلاثة؛ لأن حسن المعاشرة من البر بين المتعاشرين، وقد أمر الله به في قوله: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19] فامتثاله من التقوى، ولأن دوامه من دوام الإصلاح، ويحدث بفقده الشقاق، وهو مناف للتقوى. وقد كان الرجل في الجاهلية يولي من امرأته السنة والسنتين، ولا تنحل يمينه إلا بعد مضي تلك المدة، ولا كلام للمرأة في ذلك.
وعن سعيد بن المسيب: "كان الرجل في الجاهلية لا يريد المرأة، ولا يحب أن يطلقها، لئلا يتزوجها غيره، فكان يحلف ألا يقربها مضارة للمرأة" أي ويقسم على ذلك لكيلا يعود إليها إذا حصل له شيء من الندم. قال:"ثم كان أهل الإسلام يفعلون ذلك، فأزال الله ذلك، وأمهل للزوج مدة حتى يتروى" فكان هذا الحكم من أهم المقاصد في أحكام الأيمان، التي مهد لها بقوله: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً} [البقرة:224].
والإيلاء: الحلف، وظاهر كلام أهل اللغة أنه الحلف مطلقا: يقال آلى يولي إيلاء، وتألي يتألي تأليا، وائتلى يأتلي ائتلاء، والاسم الألوة والألية، كلاهما بالتشديد، وهو واوى فالألوة فعولة والألية فعيلة.
وقال الراغب:"الإيلاء حلف يقتضي التقصير في المحلوف عليه مشتق من الألو وهو التقصير قال تعالى: {لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} [آل عمران:118] {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} [النور:22] وصار في الشرع الحلف المخصوص فيؤخذ من كلام الراغب أن الإيلاء حلف على الامتناع والترك؛ لأن التقصير لا يتحقق بغير معنى الترك؛ وهو الذي

يشهد به أصل الاشتقاق من الألو، وتشهد به موارد الاستعمال، لأنا نجدهم لا يذكرون حرف النفي بعد فعل آلى ونحوه كثيرا، ويذكرونه كثيرا، قال المتلمس:
آليت حب العراق الدهر أطعمه
وقال تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا} [النور:22] أي على أن يؤتوا وقال تعالى هنا: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} فعداه بمن، ولا حاجة إلى دعوى الحذف والتضمين. وأيا ما كان فالإيلاء، بعد نزول هذه الآية، صار حقيقة شرعية في هذا الحلف على الوصف المخصوص.
ومجيء اللام في {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ} لبيان أن التربص جعل توسعة عليهم، فاللام للأجل مثل "هذا لك" ويعلم منه معنى التخيير فيه، أي ليس التربص بواجب، فللمولى أن يفيء في أقل من الأشهر الأربعة. وعدي فعل الإيلاء بمن، مع أن حقه أن يعدى بعلى؛ لأنه ضمن هنا معنى البعد، فعدي بالحرف المناسب لفعل البعد، كأنه قال: للذين يؤلون متباعدين من نسائهم، فمن للابتداء المجازي.
والنساء:الزوجات كما تقدم في قوله: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة:222] وتعليق الإيلاء باسم النساء من باب إضافة التحليل والتحريم ونحوهما إلى الأعيان، مثل {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء:23] وقد تقدم في قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ} [البقرة:173].
والتربص: انتظار حصول شيء لغير المنتظر، وسيأتي الكلام عليه عند قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228]، وإضافة تربص إلى أربعة أشهر إضافة على معنى في كقوله تعالى: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ} [سبأ:33].
وتقديم {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ} على المبتدأ المسند إليه، وهو تربض، للاهتمام بهذه التوسعة التي وسع الله على الأزواج، وتشويق لذكر المسند إليه. و {فَاءُوا} رجعوا أي رجعوا إلى قربان النساء، وحذف متعلق {فَاءُوا} بالظهور المقصود. والفيئة تكون بالتكفير عن اليمين المذكورة في سورة العقود.
وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} دليل الجواب، أي فحنثهم في يمين الإيلاء، مغفور لهم؛ لأن الله غفور رحيم. وفيه إيذان بأن الإيلاء حرام، لأن شأن إيلائهم، الوارد فيه

القرآن، قصد الإضرار بالمرأة. وقد يكون الإيلاء مباحا إذا لم يقصد به الإضرار، ولم تطل مدته: كالذي يكون لقصد التأديب، أو لقصد آخر معتبر شرعا، غير قصد الإضرار المذموم شرعا. وقد آلى النبي صلى الله عليه وسلم من نسائه شهرا، قيل: لمرض كان برجله، وقيل: لأجل تأديبهن؛ لأنهن قد لقين من سعة حلمه ورفقه ما حدا ببعضهم إلى الإفراط في الإدلال، وحمل البقية على الاقتداء بالأخريات، أو على استحسان ذلك. والله ورسوله أعلم ببواطن الأمور.
وأما جواز الإيلاء للمصلحة: كالخوف على الولد من الغيل، وكالحمية من بعض الأمراض في الرجل والمرأة، فإباحته حاصلة من أدلة المصلحة ونفي المضرة، وإنما يحصل ذلك بالحلف عند بعض الناس، لما فيهم من ضعف العزم، واتهام أنفسهم بالفلتة في الأمر، إن لم يقيدوها بالحلف.
وعزم الطلاق: التصميم عليه، واستقرار الرأي فيه بعد التأمل وهو شيء لا يحصل لكل مول من تلقاء نفسه، وخاصة إذا كان غالب القصد من الإيلاء المغاضبة والمضارة، فقوله: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ} دليل على شرط محذوف، دل عليه قوله: {فَإِنْ فَاءُوا} فالتقدير: وإن لم يفيئوا فقد وجب عليهم الطلاق، فهم بخير النظرين: بين أن يفيئوا، أو يطلقوا، فإن عزموا الطلاق فقد وقع طلاقهم.
وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} دليل الجواب، أي فقد لزمهم وأمضى طلاقهم، فقد حد الله للرجال في الإيلاء أجلا محدودا، لا يتجاوزونه، فإما أن يعودوا إلى مضاجعة أزواجهم، وإما أن يطلقوا، ولا مندوحة لهم غير هذين.
وقد جعل الله للمولى أجلا وغاية: أما الأجل فانفق عليه علماء الإسلام، واختلفوا في الحالف على أقل من أربعة أشهر، فالأئمة الأربعة على أنه ليس بإيلاء، وبعض العلماء: كإسحاق بن راهويه وحماد يقول: هو إيلاء، ولا ثمرة لهذا الخلاف، فيما يظهر، إلا ما يترتب على الحلف بقصد الضر من تأديب القاضي إياه إذا رفعت زوجه أمرها إلى القاضي ومن أمره إياه بالفيئة.
وأما الغاية، فاختلفوا أيضا في الحاصل بعد مضي الأجل، فقال مالك والشافعي: إن رفعته امرأته بعد ذلك، يوقف لدى الحاكم، فإما أن يفيء، أو يطلق بنفسه، أو يطلق الحاكم عليه، وروى ذلك عن اثنى عشر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وقال أبو حنيفة: إن مضت

المدة ولم يفئ فقد بانت منه، واتفق الجميع على أن غير القادر يكفي أن يفئ بالعزم، والنية، وبالتصريح لدى الحاكم، كالمريض والمسجون والمسافر.
واحتج المالكية بأن الله تعالى قال: {فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} فدل على أن هنالك مسموعا؛ لأن وصف الله بالسميع معناه العليم بالمسموعات، على قول المحققين من المتكلمين، لا سيما وقد قرن بعليم، فلم يبق مجال لاحتمال قول القائلين من المتكلمين، بأن "السميع" مرادف "للعليم" وليس المسموع إلا لفظ المولى، أو لفظ الحاكم، دون البينونة الاعتبارية. وقوله: {عَلِيمٌ} يرجع للنية والقصد. وقال الحنفية {سَمِيعٌ} لإيلائه، الذي صار طلاقا بمضي أجله، وكأنهم يريدون: أن صيغة الإيلاء، جعلها الشرع سبب طلاق، بشرط مضي الأمد {عَلِيمٌ} بنية العازم على ترك الفيئة. وقول المالكية أصح؛ لأن قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} جعل مفرعا عن عزم الطلاق؛ لا عن أصل الإيلاء؛ ولأن تحديد الآجال وتنهيتها موكول للحكام.
وقد خفي على الناس وجه التأجيل بأربعة أشهر، وهو أجل حدده الله تعالى، ولم نطلع على حكمته، وتلك المدة ثلث العام، فلعلها ترجع إلى أن مثلها يعتبر زمنا طويلا، فإن الثلث اعتبر معظم الشيء المقسوم، مثل ثلث المال في الوصية، وأشار به النبي صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن عمرو بن العاص في صوم الدهر. وحاول بعض العلماء توجيهه بما وقع في قصة مأثورة عن عمر بن الخطاب، وعزا ابن كثير في "تفسيره" روايتها لمالك في "الموطأ" عن عبد الله ابن دينار. ولا يوجد هذا في الروايات الموجودة لدينا: وهي رواية يحيى بن يحيى الليثي، ولا رواية ابن القاسم والقعنبي وسويد بن سعيد ومحمد بن الحسن الشيباني، ولا رواية يحيى بن يحيى ابن بكير التميمي التي يرويها المهدي بن تومرت، فهذه الروايات التي لدينا فلعلها مذكورة في رواية أخرى لم نقف عليها. وقد ذكر هذه القصة أبو الوليد الباجي في شرحه على الموطأ المسمى بالمنتقي، ولم يعزها إلى شيء من روايات "الموطأ": أن عمر خرج ليلة يطوف بالمدينة يتعرف أحوال الناس فمر بدار سمع امرأة بها تنشد:
ألا طال هذا الليل واسود جانبه ... وأرقني أن لا خليل ألاعبه
فلولا حذار الله لا شيء غيره ... لزعزع من هذا السرير جوانبه
فاستدعاها، من الغد، فأخبرته أن زوجها أرسل في بعث العراق، فاستدعي عمر نساء فسألهن عن المدة التي تستطيع المرأة فيها الصبر على زوجها قلن شهران ويقل صبرها في

ثلاثة أشهر، وينفد في أربعة أشهر وقيل: إنه سأل ابنته حفصة. فأمر عمر قواد الأجناد ألا يمسكوا الرجل في الغزو أكثر من أربعة أشهر، فإذا مضت استرد الغازين ووجه قوما آخرين.
[228] {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}
{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً}
عطف على الجملة قبلها، لشدة المناسبة، وللاتحاد في الحكم وهو التربص، إذ كلاهما انتظار لأجل المراجعة، ولذلك لم يقدم قوله: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة:229] على قوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} لأن هذه الآي جاءت متناسقة، منتظمة على حسب مناسبات الانتقال على عادة القرآن في إبداع الأحكام، وإلقائها، بأسلوب سهل لا تسأم له النفس، ولا يجيء على صورة التعليم والدرس.
وسيأتي كلامنا على الطلاق عند قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ}.
وجملة: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} خبرية مراد بها الأمر، فالخبر مستعمل في الإنشاء وهو مجاز فيجوز جعله مجازا مرسلا مركبا، باستعمال الخبر في لازم معناه، وهو التقرر والحصول. وهو الوجه الذي اختاره التفتازاني في قوله تعالى: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} [الزمر:19] بأن يكون الخبر مستعملا في المعنى المركب الإنشائي، بعلاقة اللزوم بين الأمر، مثلا كما هنا، وبين الامتثال، حتى يقدر المأمور فاعلا فيخبر عنه. ويجوز جعله مجازا تمثيليا، كما اختاره الزمخشري في هذه الآية إذ قال "فكأنهن امتثلن الأمر بالتربص فهو يخبر عنه موجودا ونحوه قولهم في الدعاء: رحمه الله ثقة بالاستجابة" قال التفتازاني: فهو تشبيه ما هو مطلوب الوقوع بما هو محقق الوقوع في الماضي كما في قول الناس: رحمه الله، أو في المستقبل، أو الحال، كما في هذه الآية. قلت: وقد تقدم في قوله تعالى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197] وأنه أطلق المركب الدال على الهيئة المشبه بها على الهيئة المشبهة.
والتعريف في "المطلقات" تعريف الجنس. وهو مفيد للاستغراق، إذ لا يصلح لغيره

هنا. وهو عام في المطلقات ذوات القروء بقرينة قوله: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} ، إذ لا يتصور ذلك في غيرهن. فالآية عامة في المطلقات ذوات القروء، وليس هذا بعام مخصوص في هذه، بمتصل ولا بمنفصل، ولا مراد به الخصوص، بل هو عام في الجنس الموصوف بالصفة الكقدرة التي هي من دلالة الاقتضاء. فالآية عامة في المطلقات ذوات القروء. وهي مخصصة بالحرائر دون الإماء، فأخرجت الإماء، بما ثبت في السنة: أن عدة الأمة حيضتان، رواه أبو داود والترمذي. فهي شاملة لجنس المطلقات ذوات القروء، ولا علاقة لها بغيرهن من المطلقات، مثل المطلقات اللاتي لسن من ذوات القروء، وهن النساء اللاتي لم يبلغن سن المحيض، والآيسات من المحيض، والحوامل، وقد بين حكمهن في سورة الطلاق. إلا أنها يخرج عن دلالتها المطلقات قبل البناء من ذوات القروء، فهن مخصوصات من هذا العموم بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:49] فهي في ذلك عام مخصوص بمخصص منفصل.
وقال المالكية والشافعية: إنها عام مخصوص منه الأصناف الأربعة، بمخصصات منفصلة، وفيه نظر فيما عدا المطلقة قبل البناء. وهي عند الحنفية عام أريد به الخصوص بقرينة، أي بقرينة دلالة الأحكام الثابتة لتلك الأصناف. وإنما لجأوا إلى ذلك لأنهم يرون المخصص المنفصل ناسخا، وشرط النسخ تقرر المنسوخ، ولم يثبت وقوع الاعتداد في الإسلام بالإقراء لكل المطلقات.
والحق أن دعوى كون المخصص المنفصل ناسخا، أصل عير جدير بالتأصيل؛ لأن تخصيص العام هو وروده مخرجا منه بعض الأفراد بدليل، فإن مجيء العمومات بعد الخصوصات كثير، ولا يمكن فيه القول بنسخ العام للخاص، لظهور بطلانه، ولا بنسخ الخاص للعام، لظهور سبقه، والناسخ لا يسبق؛ وبعد، فمهما لم يقع عمل بالعموم، فالتخصيص ليس بنسخ.
و {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} أي يتلبثن وينتظرن مرور ثلاثة قروء، وزيد {بِأَنْفُسِهِنَّ} تعريضا بهن، بإظهار حالهن في مظهر المستعجلات، الراميات بأنفسهن إلى التزوج، فلذلك أمرن أن يتربصن بأنفسهن، أي يمسكنهن ولا يرسلنهن إلى رجال. قال في "الكشاف":"ففي ذكر الأنفس تهييج لهن على التربص وزيادة بعث؛ لأن فيه ما يستنكفن منه فيحملهن على أن يتربصن" وقد زعم بعض النحاة: أن {بِأَنْفُسِهِنَّ} تأكيد لضمير المطلقات،وأن الباء

زائدة، ومن هنالك قال بزيادة الباء في التوكيد المعنوي. ذكره صاحب "المغنى"، ورده، من جهة اللفظ، بأن: حق توكيد الضمير المتصل، أن يكون بعد ذكر الضمير المنفصل أو بفاصل آخر، إلا أن يقال: اكتفى بحرف الجر؛ ومن جهة المعنى، بأن التوكيد لا داعي إليه؛ إذ لا يذهب عقل السامع إلى أن المأمور غير المطلقات الذي هو المبتدأ، الذي تضمن الضمير خبره.
وانتصب {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} على النيابة عن المفعول فيه؛ لأن الكلام على تقدير مضاف؛ أي مدة ثلاثة قروء، فلما حذف المضاف خلفه المضاف إليه في الإعراب.
والقروء جمع قرء- بفتح القاف وضمها وهو مشترك للحيض والطهر. وقال أبو عبيدة: إنه موضوع للانتقال من الطهر إلى الحيض، أو من الحيض إلى الطهر، فلذلك إذا أطلق على الطهر أو على الحيض كان إطلاقا على أحد طرفيه. وتبعه الراغب. ولعلهما أرادا بذلك وجه إطلاقه على الضدين. وأحسب أن أشهر معاني القرء، عند العرب، هو الطهر، ولذلك ورد في حديث عمر، أن ابنه عبد الله، لما طلق امرأته في الحيض، سأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك. وما سؤاله إلا من أجل أنهم كانوا لا يطلقون إلا في حال الطهر ليكون الطهر الذي وقع فيه الطلاق مبدأ الاعتداد وكون الطهر الذي طلقت فيه هو مبدأ الاعتداد هو قول جميع الفقهاء ما عدا ابن شهاب فإنه قال: يلغى الطهر الذي وقع فيه الطلاق.
واختلف العلماء في المراد من القروء، في هذه الآية، والذي عليه فقهاء المدينة، وجمهور أهل الأثر، أن القرء: هو الطهر. وهذا قول عائشة، وزيد بن ثابت، وابن عمر، وجماعة من الصحابة، من فقهاء المدسنة، وماله، والشافعي، في أوضح كلاميه، وابن حنبل. والمراد به الطهر الواقع بين دمين. وقال علي، وعمر، وابن مسعود، وأبو حنيفة، والثوري وابن أبي ليلى، وجماعة: إنه الحيض. وعن الشافعي، في أحد قوليه، أنه الطهر المنتقل منه إلى الحيض، وهو وفاق لما فسر به أبو عبيدة، وليس هو بمخالف لقول الجمهور: إن القرء: الطهر، فلا وجه لعده قولا ثالثا.
ومرجع النظر عندي، في هذا، إلى الجمع بين مقصدي الشارع من العدة. وذلك أن العدة قصد منها تحقق براءة رحم المطلقة، من حمل المطلق، وانتظار الزوج لعله أن يرجع. فبراءة الرحم تحصل بحيضة أو طهر واحد، وما زاد عليه تمديد في المدة انتظارا للرجعة. فالحيضة الواحدة قد جعلت علامة على براءة الرحم، في استبراء الأمة في انتقال الملك،

وفي السبايا، وفي أحوال أخرى، مختلفا في بعضها بين الفقهاء، فتعين أن ما زاد على حيض واحد، ليس لتحقق عدم الحمل، بل لأن في تلك المدة رفقا بالمطلق، ومشقة على المطلقة، فتعارض المقصدان، وقد رجح حق المطلق في انتظاره أمدا بعد حصول الحيضة الأولى وانتهائها، وحصول الطهر بعدها. فالذين جعلوا القروء أطهارا راعوا التخفيف عن المرأة، مع حصول الإمهال للزوج، واعتضدوا بالأثر.والذين جعلوا القروء حيضات، زادوا للمطلق إمهالا؛ لأن الطلاق لا يكون إلا في طهر عند الجميع، كما ورد في حديث عمر بن الخطاب في الصحيح، واتفقوا على أن الطهر الذي وقع الطلاق فيه معدود في الثلاثة القروء.
وقروء صيغة جمع الكثرة، استعمل في الثلاثة، وهي قلة توسعا، على عاداتهم في الجموع أنها تتناوب، فأوثر في الآية الأخف مع أمن اللبس، بوجوب صريح العدد. وبانتهاء القروء الثلاثة تنقضي مدة العدة، وتبين المطلقة الرجعية من مفارقها، وذلك حين ينقضي الطهر الثالث وتدخل في الحيضة الرابعة، قال الجمهور: إذا رأت أول نقطة الحيضة الثالثة خرجت من العدة، بعد تحقق أنه دم حيض.
ومن أغرب الاستدلال لكون القرء الطهر. الاستدلال بتأنيث اسم العدد في قوله تعالى: {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} قالوا: والطهر مذكر فلذلك ذكر معه لفظ "الثلاثة"، ولو كان القرء الحيضة والحيض مؤنث، قال ثلاث قروء، حكاه ابن العربي في "الأحكام"، عن علمائنا، يعني المالكية ولم يتعقبه وهو استدلال غير ناهض؛ فإن المنظور إليه، في التذكير والتأنيث، إما المسمى إذا كان التذكير والتأنيث حقيقيا، وإلا فهو حال الاسم من الاقتران بعلامة التأنيث اللفظي، أو إجراء الاسم على اعتبار تأنيث مقدر مثل اسم البئر، وأما هذا الاستدلال فقد لبس حكم اللفظ بحكم أحد مرادفيه.
وقوله تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} إخبار عن انتفاء إباحة الكتمان، وذلك مقتضى الإعلام بأن كتمانهن منهي عنه محرم. فهو خبر عن التشريع، فهو إعلام لهن بذلك، وما خلق الله في أرحامهن هو الدم ومعناه كتم الخبر عنه لا كتمان ذاته، كقول النابغة "كتمتك ليلا بالحمومين ساهرا" أي كتمتك حال ليل.
و {مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} موصول، فيجوز حمله على العهد: أي ما خلق من الحيض بقرينة السياق. ويجوز حمله على معنى المعرف بلام الجنس فيعم الحيض والحمل، وهو الظاهر، وهو من العام الوارد على سبب خاص، لأن اللفظ العام الوارد في

القرآن عقب ذكر بعض أفراده قد ألحقوه بالعام الوارد على سبب خاص، فأما من يقصر لفظ العموم في مثله على خصوص ما ذكر قبله، فيكون إلحاق الحوامل بطريق القياس، لأن الحكم نيط بكتمان {مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ}. وهذا محمل اختلاف المفسرين، فقال عكرمة، والزهري، والنخعي: ما خلق الله في أرحامهن: الحيض، وقال ابن عباس وعمر: الحمل، وقال مجاهد: الحمل والحيض، وهو أظهر، وقال قتادة: كانت عادة نساء الجاهلية أن يكتمن الحمل، ليلحق الولد بالزوج الجديد "أي لئلا يبقى بين المطلقة ومطلقها صلة ولا تنازع في الأولاد" وفي ذلك نزلت، وهذا يقتضي أن العدة لم تكن موجودة فيهم، وأما مع مشروعية العدة، فلا يتصور كتمان الحمل؛ لأن الحمل لا يكون إلا مع انقطاع الحيض، وإذ مضت مدة الأقراء تبين أن الحمل من الزوج الجديد.
وقوله: {إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} شرط أريد به التهديد دون التقييد، فهو مستعمل في معنى غير معنى التقييد، على طريقة المجاز المرسل التمثيلي، كما يستعمل الخبر في التحير، والتهديد، لأنه لا معنى لتقييد نفي الحمل بكونهن مؤمنات، وإن كان كذلك في نفس الأمر، لأن الكوافر لا يمتثلن لحكم الحلال بكونهن مؤمنات، وإن كان كذلك في نفس الأمر، لأن الكوافر لا يمتثلن لحكم الحلال والحرام الإسلامي، وإنما المعنى أنهن إن كتمن، فهن لا يؤمن بالله واليوم الآخر؛ إذ ليس من شأن المؤمنات هذا الكتمان.
وجيء في هذا الشرط بإن، لأنها أصل أدوات الشرط، ما لم يكن هنالك مقصد لتحقيق حصول الشرط فيؤتى بإذا، فإذا كان الشرط مفروضا، فرضا لا قصد لتحقيقه ولا لعدمه، جيء بإن. وليس لإن هنا، شيء من معنى الشك في حصول الشرط، ولا تنزيل إيمانهن، المحقق، منزلة المشكوك، لأنه لا يستقيم، خلافا لما قرره عبد الحكيم.
والمراد بالإيمان بالله واليوم الآخر، الإيمان الكامل، وهو الإيمان بما جاء به دين الإسلام، فليس إيمان أهل الكتاب، بالله واليوم الآخر، بمراد هنا؛ إذ لا معنى لربط نفي الحمل في الإسلام بثبوت إيمان أهل الكتاب.
وليس في الآية دليل على تصديق النساء، في دعوى الحمل والحيض، كما يجري على ألسنة كثير من الفقهاء، فلابد من مراعاة أن يكون قولهن مشبها، ومتى ارتيب في صدقهن، وجب المصير إلى ما هو المحقق، وإلى قول الأطباء والعارفين. ولذلك قال مالك: لو ادعت ذات القروء انقضاء عدتها، في مدة شهر من يوم الطلاق، لم تصدق، ولا تصدق في أقل من خمسة وأربعين يوما، مع يمينها وقال عبد الملك: خمسون يوما، وقال ابن

العربي: لا تصدق في أقل من ثلاثة أشهر، لأنه الغالب في المدة التي تحصل فيها ثلاثة قروء، وجرى به عمل تونس، كما نقله ابن ناجي، وعمل فاس، كما نقله السجلماسي.
وفي الآية دلالة على أن المطلقة الكتابية لا تصدق في قولها: إنها انقضت عدتها.
وقوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ}. البعولة جمع بعل، والبعل اسم زوج المرأة. وأصل البعل في كلامهم، السيد. وهو كلمة سامية قديمة، فقد سمى الكنعانيون "الفينيقيون" معبودهم بعلا قال تعالى: {أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ} [الصافات:125] وسمي به الزوج لأنه ملك أمر عصمة زوجه، ولأن الزوج كان يعتبر مالكا للمرأة، وسيدا لها، فكان حقيقا بهذا الاسم، ثم لما ارتقى نظام العائلة من عهد إبراهيم عليه السلام، فما بعده من الشرائع، أخذ معنى الملك في الزوجية يضعف، فأطلق العرب لفظ الزوج على كل من الرجل والمرأة، للذين بينهما عصمة نكاح، وهو إطلاق عادل؛ لأن الزوج هو الذي يثني الفرد، فصارا سواء في الاسم، وقد عبر القرآن بهذا السم، في أغلب المواضع، غير التي حكى فيها أحوال الأمم الماضية كقوله: {وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً} [هود:72]، وغير المواضع التي أشار فيها إلى التذكير بما للزوج من سيادة، نحو قوله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً} [النساء:128] وهاته الآية كذلك، لأنه لما جعل حق الرجعة للرجل جبرا على المرأة، ذكر المرأة بأنه بعلها قديما،
وقيل: البعل: الذكر، وتسمية المعبود بعلا لأنه رمز إلى قوة الذكورة، ولذلك سمي الشجر الذي لا يسقى بعلا، وجاء جمعه على وزن فعولة، وأصله فعول المطرد في جمع فعل، لكنه زيدت فيه الهاء لتوهم معنى الجماعة فيه، ونظير قولهم: فحولة وذكورة وكعوبة وسهولة، جمع السهل، ضد الجيل، وزيادة الهاء في مثله سماعي؛ لأنها لا تؤذن بمعنى، غير تأكيد معنى الجمعية بالدلالة على الجماعة.
وضمير {بُعُولَتُهُنَّ}، عائد إلى "المطلقات" قبله، وهن المطلقات الرجعيات، كما تقدم، فقد سماهن الله تعالى مطلقات لأن أزواجهن أنشأوا طلاقهن، وأطلق اسم البعولة على المطلقين، فاقتضى ظاهره أنهم أزواج للمطلقات، إلا أن صدور الطلاق منهم إنشاء لفك العصمة التي كانت بينهم، وإنما جعل الله مدة العدة توسعة على المطلقين، عسى أن تحدث لهم ندامة ورغبة في مراجعة أزواجهم؛ لقوله تعالى: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} [الطلاق:1]، أي أمر المراجعة، وذلك شبيه بما أجرته الشريعة في الإيلاء، فللمطلقين، بحسب هذه الحالة، حالة وسط بين حالة الأزواج وحالة الأجانب، وعلى اعتبار

هذه الحالة الوسط أوقع عليهم اسم البعولة هنا، وهو مجاز قرينته واضحة، وعلاقته اعتبار ما كان، مثل إطلاق اليتامى في قوله تعالى :{وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء:2].
وقد جملة الجمهور على المجاز؛ فإنهم اعتبروا المطلقة طلاقا رجعيا امرأة أجنبية عن المطلق، بحسب الطلاق، ولكن لما كان للمطلق حق المراجعة، ما دامت المرأة في العدة، ولو بدون رضاها، وجب إعمال مقتضى الحالتين، وهذا قول مالك لا يجوز للمطلق أن يستمتع بمطلقته الرجعية، ولا أن يدخل عليها بدون أذن، ولو وطئها بدون قصد مراجعة أثم، ولكن لا حد عليه للشبهة، ووجب استبراؤها من الماء الفاسد، ولو كانت رابعة لم يكن له تزوج امرأة أخرى، ما دامت تلك العدة .
وإنما وجبت لها النفقة لأنها محبوسة لانتظار مراجعته، ويشكل على قولهم أن عثمان قضى لها بالميراث إذا مات مطلقها وهي في العدة؛ قضى بذلك في امرأة عبد الرحمن بن عوف، بموافقة علي، رواه في "الموطأ"، فيدفع الإشكال بأن انقضاء العدة شرط في إنفاذ الطلاق، وإنفاذ الطلاق مانع من الميراث، فما لم تنقض العدة، فالطلاق متردد بين الإعمال والإلغاء، فصار ذلك شكا في مانع الإرث، والشك في المانع يبطل إعماله.
وحمل أبو حنيفة، والليث بن سعد، البعولة على الحقيقة، فقالا "الزوجية مستمرة بين المطلق الرجعي ومطلقته؛ لأن الله سماهم بعولة" وسوغا دخول المطلق عليها، ولو وطئها فذلك ارتجاع عند أبي حنيفة. وقال به الأوزاعي، والثوري، وابن أبي ليلى، ونسب إلى سعيد بن المسيب، والحسن، والزهري، وابن سيرين، وعطاء، وبعض أصحاب مالك. وأحسب أن هؤلاء قائلون ببقاء الزوجية بين المطلق ومطلقته الرجعية.
و "أَحَقُّ" قيل: هو بمعنى اسم الفاعل مسلوب المفاضلة، أتى به لإفادة قوة حقهم، وذلك مما يستعمل فيه صيغة أفعل، كقوله تعالى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَر} [العنكبوت:45] لا سيما إن لم يذكر بعدها مفضل عليه بحرف من، وقيل: هو تفضيل على بابه، والمفضل عليه محذوف، إشارة إليه في "الكشاف"، وقرره التفتازاني بما تحصيله وتبيينه: أن التفضيل بين صنفي حق مختلفين باختلاف المتعلق: هما حق الزوج إن رغب فيها، وحق المرأة في الامتناع من المراجعة إن أبتها، فصار المعنى: وبعولتهن أحق برد المطلقات، من حق المطلقات بالامتناع وقد نسج التركيب على طريقة الإيجاز.
وقوله: {فِي ذَلِكَ} الإشارة بقوله: {ذَلِكَ} إلى التربص، بمعنى مدته، أي للبعولة حق الإرجاع في مدة القروء الثلاثة، أي بعد ذلك. كما هو مفهوم القيد. هذا تقرير معنى

الآية، على أنها جاءت لتشريع حكم المراجعة في الطلاق ما دامت العدة، وعندي أن هذا ليس مجرد تشريع للمراجعة، بل الآية جامعة لأمرين: حكم المراجعة، وتحضيض المطلقين على مراجعة المطلقات، وذلك أن المتفارقين. لا بد أن يكون لأحدهما، أو لكليهما، رغبة في الرجوع، فالله الرجال بأنهم أولى بأن يرغبوا في مراجعة النساء، وأن يصفحوا عن الأسباب التي أوجبت الطلاق لأن الرجل هو مظنة البصيرة والاحتمال، والمرأة أهل الغضب والإباء.
والرد تقدم الكلام عليه عند قوله تعالى: {حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ} [البقرة:217] والمراد به هنا الرجوع إلى المعاشرة، وهو المراجعة، وتسمية المراجعة ردا يرجح أن الطلاق قد اعتبر في الشرع قطعا لعصمة النكاح، فهو إطلاق حقيقي على قول مالك، وأما أبو حنيفة ومن وافقوه فتأولوا التعبير بالرد: بأن العصمة في مدة العدة سائرة في سبيل الزوال عند انقضاء العدة، فسميت المراجعة ردا عن هذا السبيل الذي أخذت في سلوكه وهو رد مجازي.
وقوله: {إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً}، شرط قصد به الحث على إرادة الإصلاح، وليس هو للتقيد.
{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}
لا يجوز أن يكون ضمير {لَهُنَّ} عائد إلى أقرب مذكور، وهو "المطلقات"، على نسق الضمائر قبله؛ لأن المطلقات لم تبق بينهن وبين الرجال علقة، حتى يكون لهن حقوق، وعليهن حقوق، فتعين أن يكون ضمير لَهُنَّ ضمير الأزواج النساء اللائي اقتضاهن قوله: {بِرَدِّهِنَّ} بقرينة مقابلته بقوله: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}.
فالمراد بالرجال في قوله وَلِلرِّجَالِ الأزواج، كأنه قيل: ولرجالهن عليهن درجة.
والرجل إذا أضيف إلى المرأة، فقيل: رجل فلانة، كان بمعنى الزوج، كما يقال للزوجة: امرأة فلان، قال تعالى: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ} [هود:71 ] {إِلَّا امْرَأَتَكَ} [هود:81].
ويجوز أن يعود الضمير إلى النساء في قوله: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [البقرة:226] بمناسبة أن الإيلاء من النساء هضم لحقوقهن، إذا لم يكن له سبب، فجاء هذا الحكم الكلي على ذلك السبب الخاص لمناسبة؛ فإن الكلام تدرج من ذكر النساء اللائي في العصمة، حين ذكر طلاقهن بقوله: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ} [البقرة:227]، إلى ذكر المطلقات

بتلك المناسبة، ولما اختم حكم الطلاق بقوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} صار أولئك النساء المطلقات زوجات، فعاد الضمير إليهن باعتبار هذا الوصف الجديد، الذي هو الوصف المبتدأ به في الحكم، فكان في الآية ضرب من رد العجز على الصدر، فعادت إلى أحكام الزوجات، بأسلوب عجيب: والمناسبة أن في الإيلاء من النساء تطاولا عليهن، وتظاهرا بما جعل الله للزوج من حق التصرف في العصمة، فناسب أن يذكروا بأن للنساء من الحق مثل ما للرجال.
وفي الآية احتباك، فالتقدير: ولهن على الرجال مثل الذي للرجال عليهن، فحذف من الأول لدلالة الآخر، وبالعكس. وكان الاعتناء بذكر ما للنساء من الحقوق على الرجال، وتشبيهه بما للرجال على النساء؛ لأن حقوق الرجال على النساء مشهورة، مسلمة من أقدم عصور البشر، فأما حقوق النساء فلم تكن مما يلتفت إليه أو كانت متهاونا بها، وموكولة إلى مقدار حظوة المرأة عند زوجها، حتى جاء الإسلام فأقامها. وأعظم ما أسست به هو ما جمعته هذه الآية.
وتقديم الظرف للاهتمام بالخبر؛ لأنه من الأخبار التي لا يتوقعها السامعون، فقدم ليصغي السامعون إلى المسند إليه، بخلاف ما لو أخر فقيل ومِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ لهن بِالْمَعْرُوفِ وفي هذا إعلان لحقوق النساء، وإصداع بها وإشادة بذكرها، ومثل ذلك من شأنه أن يتلقى بالاستغراب، فلذلك كان محل الاهتمام. ذلك أن حال المرأة إزاء الرجل في الجاهلية، كانت زوجة أم غيرها، هي حالة كانت مختلطة بين مظهر كرامة، وتنافس عند الرغبة، ومظهر استخفاف، وقلة إنصاف، عند الغضب، فأما الأول فناشئ عما جبل عليه العربي من الميل إلى المرأة، وصدق المحبة، فكانت المرأة مطمح نظر الرجل، ومحل تنافسه، رغبة في الحصول عليها بوجه من وجوه المعاشرة المعروفة عندهم، وكانت الزوجة مرموقة من الزوج بعين الاعتبار والكرامة قال شاعرهم وهو مرة بن محكان السعدي:
يا ربة البيت قومي، غير صاغرة ... ضمي إليك رحال القوم والقرابا
فسماها ربة البيت وخاطبها خطاب المتلطف حين أمرها فأعقب الأمر بقوله غير صاغرة
وأما الثاني فالرجل، مع ذلك، يرى الزوجة مجعولة لخدمته فكان إذا غاضبها أو ناشزته، ربما اشتد معها في خشونة المعاملة، وإذا تخالف رأيهما أرغمها على متابعته،

بحق أو بدونه، وكان شأن العرب في هذين المظهرين متفاوتا تفاوتهم في الحضارة والبداوة، وتفاوت أفرادهم في الكياسة والجلافة، وتفاوت حال نسائهم في الاستسلام والإباء والشرف وخلافه،
روى البخاري عن عمر بن الخطاب أنه قال: "كنا معشر قريش نغلب النساء فلما قدمنا على الأنصار إذا قوم تغلبهم نساؤهم فطفق نساؤنا يأخذون من أدب الأنصار فصخبت على امرأتي فراجعتني فأنكرت أن تراجعني قالت: ولم تنكر أن أراجعك فو الله إن أزواج النبي ليراجعنه وإن إحداهن لتهجره اليوم حتى الليل فراعني ذلك وقلت: وقد خابت من فعلت ذلك منهن ثم جمعت على ثيابي فنزلت فدخلت على حفصة فقلت لها: أي حفصة أتغاضب إحداكن النبي اليوم حتى الليل? قالت: نعم فقلت: قد خبت وخسرت" الحديث
وفي رواية عن ابن عباس عنه "كنا في الجاهلية لا نعد النساء شيئا فلما جاء الإسلام، وذكرهن الله رأينا لهن بذلك علينا حقا من غير أن ندخلهن في شئ من أمورنا" ويتعين أن يكون هذا الكلام صدرا لما في الرواية الأخرى وهو قوله: "كنا معشر قريش نغلب النساء"، إلى آخره. فدل على أن أهل مكة كانوا أشد من أهل المدينة في معاملة النساء. وأحسب أن سبب ذلك أن أهل المدينة كانوا من أزد اليمن، واليمن أقدم بلاد العرب حضارة، فكانت فيهم رقة زائدة. وفي الحديث "جاءكم أهل اليمن هم أرق أفئدة وألين قلوبا، الإيمان يمان والحكمة يمانية" وقد سمي عمر بن الخطاب ذلك أدبا فقال: فطفق نساؤنا يأخذن من أدب الأنصار.
وكانوا في الجاهلية إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته، إن شاء بعضهم تزوجها إذا حلت له، وإن شاءوا زوجوها بمن شاءوا، وإن شاءوا لم يزوجوها فبقيت بينهم، فهم أحق بذلك فنزلت آية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً} [النساء:19]
وفي حديث الهجرة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة مع أصحابه، وآخى بين المهاجرين والأنصار، آخى بين عبد الرحمن بن عوف وبين سعد بن الربيع الأنصاري، فعرض سعد بن الربيع على عبد الرحمن أن يناصفه ماله وقال له: "انظر أي زوجتي شئت أنزل له عنها" فقال عبد الرحمن: "بارك الله لك في أهلك ومالك" الحديث. فلما جاء الإسلام بالإصلاح،كان من جملة ما أصلحه من أحوال البشر كافة، ضبط حقوق الزوجين بوجه

لم يبق معه مدخل للهضيمة حتى الأشياء التي قد يخفي أمرها قد جعل لها التحكيم قال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء:35] وهذا لم يكن للشرائع عهد بمثله.
وأول إعلان هذا العدل بين الزوجين في الحقوق، كان بهاته الآية العظيمة، فكانت هذه الآية من أول ما أنزل في الإسلام.
والمثل أصله النظير والمشابه، كالشبه والمثل، وقد تقدم ذلك في قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} [البقرة:17]، وقد يكون الشيء مثلا لشيء في جميع صفاته، وقد بكون مثلا له في بعض صفاته. وهي وجه الشبه. فقد يكون وجه المماثلة ظاهرا فلا يحتاج إلى بيانه، وقد يكون خفيا فيحتاج إلى بيانه، وقد ظهر هنا أنه لا يستقيم معنى المماثلة في سائر الأحوال والحقوق: أجناسا أو أنواعا أو أشخاصا؛ لأن مقتضى الخلقة، ومقتضى المقصد من المرأة والرجل، ومقتضى الشريعة، التخالف بين كثير من أحوال الرجال والنساء في نظام العمران والمعاشرة. فلا جرم يعلم كل السامعين أن ليست المماثلة في كل الأحوال، وتعين صرفها إلى معنى المماثلة في أنواع الحقوق على إجمال تبينه تفاصيل الشريعة، فلا يتوهم أنه إذا وجب على المرأة أن تقم بيت زوجها، وأن تجهز طعامه، أنه يجب عليه مثل ذلك، كما لا يتوهم أنه كما يجب عليه الإنفاق على امرأته أنه يجب على المرأة الإنفاق على زوجها بل كما تقم بيته وتجهز طعامه يجب عليه هو أن يحرس البيت وأن يحضر لها المعجنة والغربال، وكما تحضن ولده يجب عليه أن يكفيها مؤنة الارتزاق كي لا تهمل ولده، وأن يتعهده بتعليمه وتأديبه، وكما لا تتزوج عليه بزوج في مدة عصمته، يجب عليه هو أن يعدل بينها وبين زوجة أخرى حتى لا تحس بهضيمة فتكون بمنزلة من لم يتزوج عليها، وعلى هذا القياس فإذا تأتت المماثلة الكاملة فتشرع، فعلى المرأة أن تحسن معاشرة زوجها، بدليل ما رتب على حكم النشوز، قال تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} [النساء:34] وعلى الرجل مثل ذلك قال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19] وعليها حفظ نفسها عن غيره ممن ليس بزوج، وعليه مثل ذلك عمن ليست بزوجة {وقُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور:30] ثم قال: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:31] الآية {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ} [المؤمنون:6] إلا إذا كانت له زوجة أخرى فلذلك حكم آخر، يدخل تحت قوله تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} والمماثلة في بعث الحكمين، والمماثلة في الرعاية، ففي الحديث: "الرجل

راع على أهله والمرأة راعية في بيت زوجها، والمماثلة في التشاور في الرضاع، قال تعالى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ} [البقرة:233] {وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق:6].
وتفاصيل هاته المماثلة، بالعين أو بالغاية، تؤخذ من تفاصيل أحكام الشريعة، ومرجعها إلى نفي الإضرار، وإلى حفظ مقاصد الشريعة من الأمة، وقد أومأ إليها قوله تعالى: {بِالْمَعْرُوفِ} أي لهن حق متلبسا بالمعروف، غير المنكر، من مقتضى الفطرة، والآداب، والمصالح، ونفي الإضرار، ومتابعة الشرع. وكلها مجال أنظار المجتهدين. ولم أر في كتب فروع المذاهب تبويبا لأبواب تجمع حقوق الزوجين. وفي "سنن أبي داود"، و"سنن ابن ماجة"، بابان أحدهما لحقوق الزوج على المرأة، والآخر لحقوق الزوج على الرجل، باختصار كانوا في الجاهلية يعدون الرجل مولي للمرأة فهي ولية، كما يقولون، وكانوا لا يدخرونها تربية، وإقامة وشفقة، وإحسانا، واختيار مصير، عند إرادة تزويجها، لما كانوا حريصين عليه من طلب الأكفاء، بيد أنهم كانوا، مع ذلك، لا يرون لها حقا في مطالبة بميراث ولا بمشاركة في اختيار مصيرها، ولا بطلب ما لها منهم، وقد أشار الله تعالى إلى بعض أحوالهم هذه في قوله: {وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ} [النساء:127] - وقال: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة:232] فحدد الله لمعاملات النساء حدودا، وشرع لهن أحكاما، قد أعلنتها على الإجمال هذه الآية العظيمة، ثم فصلتها الشريعة تفصيلا، ومن لطائف القرآن في التنبيه إلى هذا عطف المؤمنات على المؤمنين عند ذكر كثير من الأحكام، أو الفضائل، وعطف النساء على الرجال.
وقوله: {بِالْمَعْرُوفِ} الباء للملابسة، والمراد به ما تعرفه العقول السالمة، المجردة من الانحياز إلى الأهواء، أو العادات أو التعاليم الضالة، وذلك هو الحسن وهو ما جاء به الشرع نصا، أو قياسا، أو اقتضته المقاصد الشرعية، أو المصلحة العامة، التي ليس في الشرع ما يعارضها. والعرب تطلق المعروف على ما قابل المنكر أي وللنساء من الحقوق، مثل الذي عليهم ملابسا ذلك دائما للوجه غير المنكر شرعا، وعقلا، وتحت هذا تفاصيل كبيرة تؤخذ من الشريعة، وهي مجال لأنظار المجتهدين. في مختلف العصور والأقطار. فقول من يرى أن البنت البكر يجبرها أبوها على النكاح، قد سلبها حق المماثلة للابن، فدخل ذلك تحت الدرجة، وقول من منع جبرها وقال لا تزوج إلا برضاها قد أثبت لها

حق المماثلة للذكر، وقول من منع المرأة من التبرع بما زاد على ثلثها إلا بإذن زوجها، قد سلبها حق المماثلة للرجل. وقول من جعلها كالرجل في تبرعها بما لها قد أثبت لها حق المماثلة للرجل. وقول من جعل للمرأة حق الخيار في فراق زوجها، إذا كانت به عاهة، قد جعل لها حق المماثلة، وقول من لم يجعل لها ذلك قد سلبها هذا الحق. وكل ينظر إلى أن ذلك من المعروف، أو من المنكر. وهذا الشأن في كل ما أجمع عليه المسلمون من حقوق الصنفين، وما اختلفوا فيه من تسوية بين الرجل والمرأة، أو من تفرقة، كل ذلك منظور فيه إلى تحقيق قوله تعالى: {بِالْمَعْرُوفِ} قطعا أو ظنا فكونوا من ذلك بمحل التيقظ، وخذوا بالمعنى دون التلفظ.
ودين الإسلام حري بالعناية بإصلاح شأن المرأة، وكيف لا وهي نصف النوع الإنساني، والمربية الأولى، التي تفيض التربية السالكة إلى النفوس قبل غيرها، والتي تصادف عقولا لم تمسها وسائل الشر، وقلوبا لم تنفذ إليها خراطيم الشيطان. فإذا كانت تلك التربية خيرا، وصدقا، وصوابا، وحقا، كانت أول ما ينتقش في تلك الجواهر الكريمة، وأسبق ما يمتزج بتلك الفطر السليمة، فهيأت لأمثالها، من خواطر الخير، منزلا رحبا، ولم تغادر لأغيارها من الشرور كرامة ولا حبا. ودين الإسلام دين تشريع ونظام، فلذلك جاء بإصلاح حال المرأة، ورفع شأنها لتتهيأ الأمة الداخلة تحت حكم الإسلام، إلى الارتقاء وسيادة العالم.
وقوله: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} إثبات لتفضيل الأزواج. في حقوق كثيرة على نسائهم لكيلا يظن أن المساواة المشروعة بقوله: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} مطردة، ولزيادة بيان المراد من قوله: {بِالْمَعْرُوفِ}، وهذا التفضيل ثابت على الإجمال لكل رجل، ويظهر أثر هذا التفضيل عند نزول المقتضيات الشرعية والعادية.
وقوله: {وَلِلرِّجَالِ} خبر عن درجة، قدم للاهتمام بما تفيده اللام من معنى استحقاقهم تلك الدرجة، كما أشير إلى ذلك الاستحقاق في قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء:34] وفي هذا الاهتمام مقصدان أحدهما دفع توهم المساواة بين الرجال والنساء في كل الحقوق، توهما من قوله آنفا: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} وثانيهما تحديد إيثار الرجال على النساء بمقدار مخصوص، لإبطال إيثارهم المطلق، الذي كان متبعا في الجاهلية.
والرجال جمع رجل، وهو الذكر البالغ من الآدميين خاصة، وأما قولهم: امرأة

رجلة الرأي، فهو على التشبيه أي تشبه الرجل.
والدرجة ما يرتقي عليه في سلم أو نحوه، وصيغت بوزن فعلة من درج إذا انتقل على بطء، ومهل، يقال: درج الصبي، إذا ابتدأ في المشي، وهي هنا استعارة للرفعة المكنى بها عن الزيادة في الفضيلة الحقوقية، وذلك أنه تقرر تشبيه المزية في الفضل بالعلو والارتفاع، فتبع ذلك تشبيه الأفضلية بزيادة الدرجات في سير الصاعد، لأن بزيادتها زيادة الارتفاع، ويسمون الدرجة إذا نزل منها النازل: دركة، لأنه يدرك بها المكان النازل إليه. والعبرة بالمقصد الأول. فإن كان القصد من الدرجة الارتفاع كدرجة السلم والعلو فهي درجة وإن كان القصد النزول كدرك الداموس فهي دركة، ولا عبرة بنزول الصاعد، وصعود النازل.
وهذه الدرجة اقتضاها ما أودعه الله في صنف الرجال: من زيادة القوة العقلية، والبدنية، فإن الذكورة في الحيوان تمام في الخلقة، ولذلك نجد صنف الذكر في كل أنواع الحيوان أذكى من الأنثى، وأقوى جسما، وعزما، وعن إرادته يكون الصدر، ما لم يعرض للخلقة عارض يوجب انحطاط بعض أفراد الصنف، وتفوق بعض أفراد الآخر نادرا، فلذلك كانت الأحكام التشريعية الإسلامية جارية على وفق النظم التكوينية، لأن واضع الأمرين واحد.
وهذه الدرجة هي ما فضل به الأزواج على زوجاتهم: من الإذن بتعدد الزوجة للرجل، دون أن يؤذن بمثل ذلك للأنثى، وذلك اقتضاه التزيد في القوة الجسمية، ووفرة عدد الإناث في مواليد البشر، ومن جعل الطلاق بيد الرجل دون المرأة، والمراجعة في العدة كذلك، وذلك اقتضاه التزيد في القوة العقلية وصدق التأمل، وكذلك جعل المرجع في اختلاف الزوجين إلى رأي الزوج في شئون المنزل، لأن كل اجتماع يتوقع حصول تعارض المصالح فيه، يتعين أن يجعل له قاعدة في الانفصال والصدر عن رأي واحد معين، من ذلك الجمع، ولما كانت الزوجية اجتماع ذاتين لزم جعل إحداهما مرجعا عند الخلاف، ورجح جانب الرجل لأن به تأسست العائلة، ولأنه مظنة الصواب غالبا، ولذلك إذا لم يمكن التراجع، واشتد بين الزوجين النزاع، لزم تدخل القضاء في شأنهما، وترتب على ذلك بعث الحكمين كما في آية {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} [النساء:35].
ويؤخذ من الآية حكم حقوق الرجال غير الأزواج، بلحن الخطاب، لمساواتهم للأزواج في صفة الرجولة التي كانت هي العلة في ابتزازهم حقوق النساء في الجاهلية فلما

أسست الآية حكم المساواة والتفضيل، بين الرجال والنساء. الأزواج إبطالا لعمل الجاهلية، أخذنا منها حكم ذلك بالنسبة للرجال غير الأزواج على النساء، كالجهاد، وذلك مما اقتضته القوة الجسدية، وكبعض الولايات المختلف في صحة إسنادها إلى المرأة، والتفضيل في باب العدالة، وولاية النكاح، والرعاية، وذلك مما اقتضته القوة الفكرية، وضعفها في المرأة وسرعة تأثرها، وكالتفضيل في الإرث وذلك مما اقتضته رئاسة العائلة الموجبة لفرط الحاجة إلى المال، وكالإيجاب على الرجل إنفاق زوجه، وإنما عدت هذه درجة، مع أن للنساء أحكاما لا يشاركهن فيها الرجال كالحضانة، تلك الأحكام التي أشار إليها قوله تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} [النساء:32] لأن ما امتاز به الرجال كان من قبيل الفضائل.
فأما تأديب الرجل المرأة إذا كانا زوجين، فالظاهر أنه شرعت فيه تلك المراتب رعيا لأحوال طبقات الناس، مع احتمال أن يكون المراد من قوله: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء:34] أن ذلك يجريه ولاة الأمور، ولنا فيه نظر عندما نصل إليه إن شاء الله تعالى.
وقوله: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} العزيز: القوي، لأن العزة في كلام العرب القوة: {لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون:8] وقال شاعرهم:
وإنما العزة للكاثر
والحكيم: المتقن الأمور في وضعها، من الحكمة كما تقدم.
والكلام تذييل وإقناع للمخاطبين، وذلك أن الله تعالى لما شرع حقوق النساء كان هذا التشريع مظنة المتلقي بفرط التحرج من الرجال، الذين ما اعتادوا أن يسمعوا أن للنساء معهم حظوظا، غير حظوظ الرضا، والفضل، والسخاء، فأصبحت لهن حقوق يأخذنها من الرجال كرها، إن أبوا، فكان الرجال بحيث يرون في هذا ثلما لعزتهم، كما أنبأ عنه حديث عمر بن الخطاب المتقدم، فبين الله تعالى أن الله عزيز أي قوي لا يعجزه أحد، ولا ينفي أحدا، وأنه حكيم يعلم صلاح الناس، وأن عزته تؤيد حكمته فينفذ ما اقتضته الحكمة بالتشريع، والأمر الواجب امتثاله، ويحمل الناس على ذلك وإن كرهوا.
[229] {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ

عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}
{الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}
استئناف لذكر غاية الطلاق، الذي يملكه الزوج من امرأته، نشأ عن قوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً} [البقرة:228] وعن بعض ما يشير إليه قوله تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة:228] فإن الله تعالى أعلن أن للنساء حقا، كحق الرجال، وجعل للرجال درجة زائدة: منها أن لهم حق الطلاق، ولهم حق الرجعة لقوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة:228] ولما كان أمر العرب في الجاهلية جاريا على عدم تحديد نهاية الطلاق، كما سيأتي قريبا، ناسب أن يذكر عقب ذلك كله حكم تحديد الطلاق، إفادة للتشريع في هذا الباب ودفعا لما قد يعلق أو علق بالأوهام في شأنه.
روى مالك في جامع الطلاق من "الموطأ": عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال: كان الرجل إذا طلق امرأته ثم ارتجعها قبل أن تنقضي عدتها كان له ذلك وإن طلقها ألف مرة فعمد رجل إلى امرأته فطلقها حتى إذا شارفت انقضاء عدتها راجعها ثم طلقها ثم قال والله لا آويك ولا تحلين أبدا فأنزل الله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} فاستقبل الناس الطلاق جديدا من يومئذ من كان طلق منهم أو لم يطلق".
وروى أبو داود، والنسائي عن ابن عباس قريبا منه. ورواه الحاكم في "مستدركه" إلى عروة بن الزبير عن عائشة، قالت: لم يكن للطلاق وقت يطلق الرجل امرأته ثم يراجعها ما لم تنقض العدة وكان بين رجل من الأنصار وبين أهله بعض ما يكون بين الناس فقال: والله لا تركتك لا أيما ولا ذات زوج فجعل يطلقها حتى إذا كادت العدة أن تنقضي راجعها ففعل ذلك مرارا فأنزل الله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} ، وفي ذلك روايات كثيرة تقارب هذه، وفي سنن أبي داود: باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث وأخرج حديث ابن عباس أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثا فنسخ ذلك ونزل: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} فالآية على هذا إبطال لما كان عليه أهل الجاهلية، وتحديد لحقوق البعولة في المراجعة.
والتعريف في قوله الطلاق تعريف الجنس، على ما هو المتبادر في تعريف المصادر، وفي مساق التشريع، فإن التشريع يقصد بيان الحقائق الشرعية، نحو قوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ

الْبَيْعَ} [البقرة:275] وقوله: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ} [البقرة:227] وهذا التعريف هو الذي أشار صاحب "الكشاف" إلى اختياره، فالمقصود هنا الطلاق الرجعي الذي سبق الكلام عليه آنفا في قوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة:228] فإنه الطلاق الأصلي، وليس في أصل الشريعة طلاق بائن غير قابل للمراجعة لذاته، إلا الطلقة الواقعة ثالثة، بعد سبق طلقتين قبلها فإنها مبينة بعد وأما ما عداها من الطلاق البائن الثابت بالسنة، فبينونته لحق عارض كحق الزوجة فيما تعطيه من مالها في الخلع، ومثل الحق الشرعي في تطليق اللعان، لمظنة انتفاء حسن المعاشرة، بعد أن تلاعنا، ومثل حق المرأة في حكم الحاكم لها بالطلاق للإضرار بها، وحذف وصف الطلاق، لأن السياق دال عليه، فصار التقدير: الطلاق الرجعي مرتان. وقد أخبر عن الطلاق بأنه مرتان، فعلم أن التقدير: حق الزوج في إيقاع التطليق الرجعي مرتان، فأما الطلقة الثالثة فليست برجعية. وقد دل على هذا قوله تعالى بعد ذكر المرتين {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} وقوله بعده: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة:230] الآية وقد روى مثل هذا التفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم: روى أبو بكر بن أبي شيبة أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت قول الله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} فأين الثالثة فقال رسول الله عليه السلام: "إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان" وسؤال الرجل عن الثالثة، يقتضي أن نهاية الثلاث كانت حكما معروفا إما من السنة، وإما من بقية الآية، وإنما سأل عن وجه قوله: {مرتان}. ولما كان المراد بيان حكم جنس الطلاق، باعتبار حصوله من فاعله، وهو إنما يحصل من الأزواج كان لفظ الطلاق آيلا إلى معنى التطليق، كما يؤول السلام إلى معنى التسليم.
وقوله: {مَرَّتَانِ}، تثنية مرة، والمرة في كلامهم الفعلة الواحدة من موصوفها، أو مضافها، فهي لا تقع إلا جارية على حدث، بوصف ونحوه، أو بإضافة ونحوها، وتقع مفردة، ومثناة، ومجموعة، فتدل على عدم تكرر الفعل، أو تكرر فعله تكررا واحدا، أو تكرره تكررا متعددا، قال تعالى: {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} [التوبة:101] وتقول العرب: "نهيتك غير مرة فلم تنته" أي مرارا، وليس لفظ المرة بمعنى الواحدة من الأشياء الأعيان، ألا ترى أنك تقول: أعطيتك درهما مرتين، إذا أعطيته درهما ثم درهما، فلا يفهم أنك أعطيته درهمين مقترنين، بخلاف قولك أعطيتك درهمين.
فقوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} يفيد أن الطلاق الرجعي، شرع فيه حق التكرير إلى حد مرتين. مرة عقب مرة أخرى لا غير، فلا يتوهم منه، في فهم أهل اللسان، أن المراد:

الطلاق لا يقع إلا طلقتين مقترنتين لا أكثر ولا أقل، ومن توهم ذلك فاحتاج إلى تأويل لدفعه فقد أبعد عن مجارى الاستعمال العربي، ولقد أكثر جماعة من متعاطي التفسير الاحتمالات في هذه الآية والتفريع عليها، مدفوعين بأفهام مولدة، ثم طبقوها على طرائق جدلية في الاحتجاج لاختلاف المذاهب في إثبات الطلاق البدعي أو نفيه، وهم في إرخائهم طول القول ناكبون عن معاني الاستعمال، ومن المحققين من لم يفته المعنى ولم تف به عبارته كما وقع في "الكشاف".
ويجوز أن يكون تعريف الطلاق تعريف العهد، والمعهود هو ما يستفاد من قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} إلى قوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [البقرة:228] فيكون كالعهد في تعريف الذكر في قوله تعالى: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} [آل عمران:36] فإنه معهود مما استفيد من قوله: {إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي} [آل عمران:35].
وقوله: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} جملة مفرعة على جملة {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} فيكون الفاء للتعقيب في مجرد الذكر، لا في وجود الحكم. و "إمساك" خبر مبتدإ محذوف، تقديره فالشأن أو فالأمر إمساك بمعروف أو تسريح، على طريقة {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف:18] وإذ قد كان الإمساك والتسريح ممكنين عند كل مرة من مرتي الطلاق، كان المعنى فإمساك أو تسريح في كل مرة من المرتين، أي شأن الطلاق أن تكون كل مرة منه معقبة بإرجاع بمعروف أو ترك بإحسان، أي دون ضرار في كلتا الحالتين. وعليه فإمساك وتسريح مصدران، مراد منهما الحقيقة والاسم، دون إرادة نيابة عن الفعل، والمعنى أن المطلق على رأس أمره فإن كان راغبا في امرأته فشأنه إمساكها أي مراجعتها، وإن لم يكن راغبا فيها فشأنه ترك مراجعتها فتسرح، والمقصود من هذه الجملة إدماج الوصاية بالإحسان في حال المراجعة، وفي حال تركها، فإن الله كتب الإحسان على كل شيء، إبطالا لأفعال أهل الجاهلية؛ إذ كانوا قد يراجعون المرأة بعد الطلاق ثم يطلقونها دواليك، لتبقى زمنا طويلا في حالة ترك إضرار بها، إذ لم يكن الطلاق عندهم منهيا إلى عدد لا يملك بعده المراجعة، وفي هذا تمهيد لما يرد بعده من قوله: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً} [ البقرة:229] الآية.
ويجوز أن يكون إمساك وتسريح مصدرين جعلا بدلين من فعليهما، على طريقة المفعول المطلق الآتي بدلا من فعله، وأصلهما النصب، ثم عدل عن النصب إلى الرفع لإفادة معنى الدوام، كما عدل عن النصب إلى الرفع في قوله تعالى: {قَالَ سَلامٌ} [هود:

69] وقد مضى أول سورة الفاتحة، فيكون مفيدا معنى الأمر، بالنيابة عن فعله، ومفيدا الدوام بإيراد المصدرين مرفوعين، والتقدير فأميكوا أو سرحوا. فتبين أن الطلاق حدد بمرتين، قابلة كل منهما للإمساك بعدها، والتسريح بإحسان توسعة على الناس ليرتأوا بعد الطلاق ما يليق بحالهم وحال نسائهم، فلعلهم تعرض لهم ندامة بعد ذوق الفراق ويحسوا ما قد يغفلون عن عواقبه حين إنشاء الطلاق، عن غضب أو عن ملالة، كما قال تعالى: {ولا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} [الطلاق:1] وقوله: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً} [البقرة:231] وليس ذلك ليتخذوه ذريعة للإضرار بالنساء كما كانوا يفعلون قبل الإسلام.
وقد ظهر من هذا أن المقصود من الجملة هو الإمساك أو التسريح المطلقين وأما تقييد الإمساك بالمعروف، والتسريح بالإحسان، فهو إدماج لوصية أخرى في كلتا الحالتين، إدماجا للإرشاد في أثناء التشريع.
وقدم الإمساك على التسريح إيماء إلى أنه الأهم، المرغب فيه في نظر الشرع. والإمساك حقيقته قبض اليد على شيء مخافة أن يسقط أو يتفلت، وهو هنا استعارة لدوام المعاشرة.
والتسريح ضد الإمساك في معنييه: الحقيقي، والمجازي، وهو مستعار هنا لإبطال سبب المعاشرة بعد الطلاق، وهو سبب الرجعة ثم استعارة ذلك الإبطال للمفارقة فهو مجاز بمرتبتين.
والمعروف هنا هو ما عرفه الناس في معاملاتهم من الحقوق التي قررها الإسلام أو قررتها العادات التي لا تنافي أحكام الإسلام. وهو يناسب الإمساك، لأنه يشتمل على أحكام العصمة كلها من إحسان معاشرة، وغير ذلك، فهو أعم من الإحسان. وأما التسريح فهو فراق ومعروفه منحصر في الإحسان إلى المفارقة بالقول الحسن، والبذل بالمتعة، كما قال تعالى: {فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} [الأحزاب:49] وقد كان الأزواج يظلمون المطلقات ويمنعونهن من حليهن، ورياشهن، ويكثرون الطعن فيهن قال ابن عرفة، في تفسيره: "فإن قلت هلا قيل فإمساك بإحسان أو تسريح بمعروف قلت عادتهم يجيبون بأن المعروف أخف من الإحسان إذ المعروف حسن العشرة وإعطاء حقوق الزوجية، والإحسان ألا يظلمها من حقها فيقتضي إعطاء وبذل المال أشق على النفوس من حسن المعاشرة فجعل المعروف مع الإمساك المقتضي دوام العصمة، إذ لا يضر تكرره وجعل الإحسان

الشاق مع التسريح الذي لا يتكرر.
وقد أخذ قوم من الآية منع الجمع بين الطلاق الثلاث في كلمة، بناء على أن المقصود من قوله: {مرتان} التفريق وسنذكر ذلك عند قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} [البقرة:230] الآية.
{وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}
يجوز أن تكون الواو اعتراضية، فهو اعتراض بين المتعاطفين. وهما قوله: {فَإِمْسَاكٌ} وقوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} ويجوز أن تكون معطوفة على {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} لأن من إحسان التسريح إلا يأخذ المسرح وهو المطلق عوضا عن الطلاق، وهذه مناسبة مجيء هذا الإعتراض، وهو تفنن بديع في جمع التشريعات والخطاب للأمة، ليأخذ منه كل أفرادها ما يختص به، فالزوج يقف عن أخذ المال: وولي الأمر يحكم بعدم لزومه، وولي الزوجة أو كبير قبيلة الزوج يسعى ويأمر وينهي "وقد كان شأن العرب أن يلي هذه الأمور ذوو الرأي من قرابة الجانبين" وبقية الأمة تأمر بالامتثال لذلك، وهذا شأن خطابات القرآن في التشريع كقوله: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} إلى قوله: {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا} [النساء:5] وإليه أشار صاحب "الكشاف"،
وقال ابن عطية، والقرطبي، وصاحب "الكشاف": الخطاب في قوله: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ} للأزواج بقرينة قوله: {أَنْ تَأْخُذُوا} وقوله: {آتَيْتُمُوهُنَّ} والخطاب في قوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ} للحكام، لأنه لو كان للأزواج لقيل: فإن خفتم ألا تقيموا أو ألا تقيما، قال في الكشاف: ونحو ذلك غير عزيز في القرآن اه يعني لظهور مرجع كل ضمير من قرائن المقام ونظره في "الكشاف" بقوله تعالى في سورة الصف: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [البقرة:223] على رأي صاحب "الكشاف"، إذ جعله معطوفا على {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} إلخ لأنه في معنى آمنوا وجاهدوا أي فيكون معطوفا على الخطابات العامة للأمة، وإن كان التبشير خاصا به الرسول صلى الله عليه وسلم، لأنه لا يتأتى إلا منه. وأظهر من تنظير صاحب "الكشف" أن تنظره بقوله تعالى، فيما يأتي: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} [البقرة:232] إذ خوطب فيه المطلق والعاضل، وهما متغايران.
والضمير المؤنث في {آتَيْتُمُوهُنَّ} راجع إلى "المطلقات"، المفهوم من قوله: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} لأن الجنس يقتضي عددا من المطلقين والمطلقات، وجوز في "الكشاف"

أن يكون الخطاب كله للحكام وتؤول قوله: {أَنْ تَأْخُذُوا} وقوله: {مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ} بأن إسناد الأخذ والإتيان للحكام، لأنهم الذين يأمرون بالأخذ والإعطاء، ورجحه البيضاوي بسلامته من تشويش الضمائر بدون نكتة التفات ووهنة صاحب "الكشاف" وغيره بأن الخلع قد يقع بدون ترافع، فما آتاه الأزواج لأزواجهم من المهور لم يكن أخذه على يد الحاكم فبطل هذا الوجه، ومعنى لا يحل لا يجوز ولا يسمح به، واستعمال الحل والحرمة، في هذا المعنى وضده، قديم في العربية، قال عنترة:
يا شاة ماقنص لمن حلت له ... حرمت على وليتها لم تحرم
وقال كعب:
إذا يساور قرنا لا يحل له ... أن يترك القرن إلا وهو مجدول
وجيء بقوله: {شَيْئاً} لأنه من النكرات، المتوغلة في الإبهام، تحذيرا من أخذ أقل قليل بخلاف ما لو قال مالا أو نحوه، وهذا الموقع من محاسن مواقع كلمة شيء التي أشار إليها الشيخ في "دلائل الإعجاز". وقد تقدم بسط ذلك عند قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ} [البقرة:155].
وقوله "إلا أن يخافا" قرأه الجمهور بفتح ياء الغيبة، فالفعل مسند للفاعل، والضمير عائد إلى المتخلعين المفهومين من قوله: {أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً} وكذلك ضمير {يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا} وضمير {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا}، وأسند هذا الفعل لهما دون بقية الأمة لأنهما اللذان يعلمان شأنهما. وقرأ حمزة، وأبو جعفر، ويعقوب بضم ياء الغائب والفعل مبني للنائب والضمير للمتخالعين؛ والفاعل محذوف هو ضمير المخاطبين؛ والتقدير: إلا أن تخافوهما ألا يقيما حدود الله.
والخوف توقع حصول ما تكرهه النفس وهو ضد الأمن. ويطلق على أثره وهو السعي في مرضاة المخوف منه، وامتثال أوامره كقوله: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175] وترادفه الخشية، لأن عدم إقامة حدود الله مما يخافه المؤمن، والخوف يتعدى إلى مفعول واحد، قال تعالى: {فَلا تَخَافُوهُمْ}. وقال الشاعر يهجو رجلا من فقعس أكل كلبه واسمه حبتر:
يا حبتر لم أكلته لمه ... لو خافك الله عليه حرمه
وخرج ابن جني في "شرح الحماسة"، عليه قول الأحوص فيها، على أحد تأويلين:

فإذا تزول تزول على متخمط ... تخشى بوادره على الأقران
وحذفت على في الآية لدخولها على أن المصدرية.
وقد قال بعض المفسرين: إن الخوف هنا بمعنى الظن، يريد ظن المكروه؛ إذ الخوف لا يطلق إلا على حصول ظن المكروه وهو خوف بمعناه الأصلي.
وإقامة حدود الله فسرها مالك رحمه الله: بأنها حقوق الزوج وطاعته والبر به، فإذا أضاعت المرأة ذلك فقد خالفت حدود الله.
وقوله: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} رفع الإثم عليهما، ويدل على أن باذل الحرام لآخذه مشارك له في الإثم، وفي حديث ربا الفضل "الآخذ والمعطي في ذلك سواء"، وضمير {افْتَدَتْ بِهِ} لجنس المخالعة، وقد تمحض المقام لأن يعاد الضمير إليها خاصة؛ لأن دفع المال منها فقط. وظاهر عموم قوله: {فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} أنه يجوز حينئذ الخلع بما زاد على المهر وسيأتي الخلاف فيه.
ولم يختلف علماء الأمة أن المراد بالآية أخذ العوض على الفراق، وإنما اختلفوا في هذا الفراق هل هو طلاق أو فسخ، فذهب الجمهور إلى أنه طلاق ولا يكون إلا بائنا؛ إذ لو لم يكن بائنا لما ظهرت الفائدة في بذل العوض، وبه قال عثمان، وعلي، وابن مسعود، والحسن، وعطاء، وابن المسيب، والزهري، ومالك، وأبو حنيفة، والثوري، والأوزاعي، والشعبي، والنخعي، ومجاهد، ومكحول.
وذهب فريق إلى أنه فسخ، وعليه ابن عباس، وطاووس، وعكرمة، وإسحاق، وأبو ثور، وأحمد بن حنبل،
وكل من قال: إن الخلع لا يكون إلا بحكم الحاكم. واختلف قول الشافعي في ذلك، فقال مرة هو طلاق؛ وقال مرة ليس بطلاق، وبعضهم يحكي عن الشافعي أن الخلع ليس بطلاق، إلا أن ينوي بالمخالعة الطلاق، والصواب أنه طلاق لتقرر عصمة صحيحة، فإن أرادوا بالفسخ ما فيه من إبطال العصمة الأولى فما الطلاق كله إلا راجعا إلى الفسوخ، وتظهر فائدة هذا الخلاف في الخلع الواقع بينهما. بعد أن طلق الرجل طلقتين، فعند الجمهور طلقة الخلع ثالثة فلا تحل لمخالعها إلا بعد زوج، وعند ابن عباس، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، ومن وافقهم: لا تعد طلقة، ولهما أن يعقدا نكاحا مستأنفا.
وقد تمسك بهذه الآية سعيد بن جبير، والحسن، وابن سيرين، وزياد بن أبي سفيان،

فقالوا: لا يكون الخلع إلا بحكم الحاكم لقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ}
والجمهور على جواز إجراء الخلع بدون تخاصم، لأن الخطاب ليس صريحا للحكام وقد صح عن عمر، وعثمان، وابن عمر، أنهم رأوا جوازه بدون حكم حاكم. والجمهور أيضا على جواز أخذ العوض على الطلاق، إن طابت به نفس المرأة، ولم يكن عن إضرار بها. وأجمعوا على أنه إن كان عن إضرار بهن فهو حرام عليه، فقال مالك إذا ثبت الإضرار يمضي الطلاق، ويرد عليها مالها. وقال أبو حنيفة: هو ماض ولكنه يأثم بناء على أصله في النهي، إذا كان الخارج عن ماهية المنهي عنه. وقال الزهري، والنخعي، وداود: لا يجوز إلا عند النشوز والشقاق. والحق أن الآية صريحة في تحريم أخذ العوض عن الطلاق إلا إذا خيف فساد المعاشرة بألا تحب المرأة زوجها، فإن الله أكد هذا الحكم إذ قال: {إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} لأن مفهوم الاستثناء قريب من الصريح في أنهما إن لم يخافا ذلك لا يحل الخلع، وأكده بقوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} فإن مفهومه أنهما إن لم يخافا ذلك ثبت الجناح، ثم أكد ذلك كله بالنهي بقوله: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} ثم بالوعيد بقوله: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} وقد بين ذلك كله قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بين جميلة بنت أو أخت عبد الله بن أبي بن سلول، وبين زوجها ثابت بن قيس بن شماس؛ إذ قالت له: يا رسول الله لا أنا ولا ثابت. أو لا يجمع رأسي ورأس ثابت شيء، والله ما أعتب عليه في دين ولا خلق ولكني أكره الكفر في الإسلام لا أطيقه بغضا فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "أتردين عليه حديقته التي أصدقك؟" قالت: "نعم وأزيده" زاد في رواية قال: "أما الزائد فلا" وأجاب الجمهور بأن الآية لم تذكر قوله: {إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} على وجه الشرط بل لأنه الغالب من أحوال الخلع، ألا يرى قوله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} [النساء:4] هكذا أجاب المالكية، كما في "أحكام ابن العربي"، و"تفسير القرطبي". وعندي أنه جواب باطل، ومتمسك بلا طائل، أما إنكار كون الوارد في هاته الآية شرطا، فهو تعسف، وصرف للكلام عن وجهه، كيف وقد دل بثلاثة منطوقات وبمفهومين وذلك قوله: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً} فهذا نكرة في سياق النفي، أي لا يحل أخذ أقل شيء، وقوله: {إِلَّا أَنْ يَخَافَا} ففيه منطوق ومفهوم، وقوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ} ففيه كذلك، ثم إن المفهوم الذي يجيء مجيء الغالب هو مفهوم القيود التوابع كالصفة، والحال، والغاية، دون ما لا يقع في الكلام إلا لقصد الاحتراز،

كالاستثناء، والشرط. وأما الاحتجاج للجواز بقوله: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً}، فمورده في عفو المرأة عن بعض الصداق، فإن ضمير "منه" عائد إلى الصدقات، لأن أول الآية: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ} [النساء:4] الآية فهو إرشاد لما يعرض في حال العصمة، مما يزيد الألفة، فلا تعارض بين الآيتين ولو سلمنا التعارض لكان يجب على الناظر سلوك الجمع بين الآيتين أو الترجيح.
واختلفوا في جواز أخذ الزائد على ما أصدقها المفارق، فقال طاووس، وعطاء والأوزاعي وإسحاق، وأحمد: لا يجوز أخذ الزائد، لأن الله تعالى خصه هنا بقوله: {مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ} واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجميلة، لما قالت له: أرد عليه حديقته وأزيده "أما الزائد فلا" أخرجه الدارقطني عن ابن جريج. وقال الجمهور: يجوز أخذ الزائد لعموم قوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} واحتجوا بما رواه الدارقطني عن أبي سعيد الخدري: أن أخته كانت تحت رجل من الأنصار، تزوجها على حديقة، فوقع بينهما كلام فترافعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها: "أتردين عليه حديقته ويطلقك؟" قالت: "نعم وأزيده"، فقال لها: "ردي عليه حديقته وزيديه" وبأن جميلة لما قالت له: وأزيده لم ينكر عليها.
وقال مالك: ليس من مكارم الأخلاق ولم أر أحدا من أهل العلم يكره ذلك أي يحرمه، ولم يصح عنده ما روى أما الزائد فلا والحق أن الآية ظاهره في تعظيم أمر أخذ العوض على الطلاق، وإنما رخصه الله تعالى إذا كانت الكراهية والنفرة من المرأة في مبدأ المعاشرة، دفعا للأضرار عن الزوج في خسارة ما دفعه من الصداق الذي لم ينتفع منه بمنفعة؛ لأن الغالب أن الكراهية تقع في مبدأ المعاشرة لا بعد التعاشر.
فقوله: {مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ} ظاهر في أن ذلك هو محل الرخصة، لكن الجمهور تأولوه بأنه هو الغالب فيما يجحف بالأزواج، وأنه لا يبطل عموم قوله: {فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} وقد أشار مالك بقوله: ليس من مكارم الأخلاق، إلى أنه لا يراه موجبا للفساد والنهي؛ لأنه ليس مما يختل به ضروري أو حاجي، بل هو آيل إلى التحسينات، وقد مضى عمل المسلمين على جوازه
واختلفوا في هذه الآية هل هي محكمة أم منسوخة: فالجمهور على أنها محكمة، وقال فريق: منسوخة بقوله تعالى، في سورة النساء [20] {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} ونسبه القرطبي لبكر بن عبد الله المزني، وهو قول شاذ، ومورد آية النساء في الرجل يريد فراق امرأته، فيحرم عليه أن يفارقها، ثم

يزيد فيأخذ منها مالا، بخلاف آية البقرة فهي في إرادة المرأة فراق زوجها عن كراهية.
{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}
جملة {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} معترضة بين جملة {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً} وما اتصل بها، وبين الجملة المفرعة عليها وهي {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} الآية. ومناسبة الاعتراض ما جرى في الكلام الذي قبلها من منع أخذ العوض عن الطلاق، إلا في حالة الخوف من ألا يقيما حدود الله، وكانت حدود الله مبينة في الكتاب والسنة، فجيء بهذه الجملة المعترضة تبيينا؛ لأن منع أخذ العوض على الطلاق هو من حدود الله.
وحدود الله استعارة للأوامر والنواهي الشرعية، بقرينة الإشارة، شبهت بالحدود التي هي الفواصل المجعولة بين أملاك الناس، لأن الأحكام الشرعية، تفصل بين الحلال والحرام، والحق والباطل وتفصل بين ما كان عليه الناس قبل الإسلام، وما هم عليه بعده.
والإقامة في الحقيقة، الإظهار والإيجاد، يقال: أقام حدا لأرضه، وهي هنا استعارة للعمل بالشرع تبعا لاستعارة الحدود للأحكام الشرعية، وكذلك إطلاق الاعتداء الذي هو تجاوز الحد على مخالفة حكم الشرع، هو استعارة تابعة لتشبيه الحكم بالحد.
وجملة {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} تذييل وأفادت جمله {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} حصرا وهو حصر حقيقي، إذ ما من ظالم إلا وهو متعد لحدود الله، فظهر حصر حال المتعدي حدود الله في أنه ظالم.
واسم الإشارة من قوله: {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} مقصود منه تمييز المشار إليه، أكمل تمييز، وهو من يتعدى حدود الله، اهتماما بإيقاع وصف الظالمين عليهم.
وأطلق فعل {يَتَعَدَّ} على معنى يخالف حكم الله ترشيحا، لاستعارة الحدود لأحكام الله وهو، مع كونه ترشيحا، مستعار لمخالفة أحكام الله؛ لأن مخالفة الأمر والنهي تشبه مجاوزة الحد في الاعتداء على صاحب الشيء المحدود.وفي الحديث: "ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه".
[230] {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ

عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}
{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة:230]
تفريع مرتب على قوله: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة:229] وما بينهما بمنزلة الاعتراض، على أن تقديمه يكسبه تأثيرا في تفريع هذا على جميع ما تقدم؛ لأنه قد علم من مجموع ذلك أن بعد المرتين تخييرا بين المراجعة وعدمها، فرتب على تقدير المراجعة المعبر عنها بالإمساك {فَإِنْ طَلَّقَهَا} وهو يدل بطريق الاقتضاء، على مقدر أي فإن راجعها فطلقها لبيان حكم الطلقة الثالثة. وقد تهيأ السامع لتلقي هذا الحكم من قوله: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} إذ علم أن ذلك بيان آخر عدد في الرجعى وأن ما بعده بتات، فذكر قوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} زيادة في البيان، وتمهيد لقوله: {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} إلخ فالفاء: إما عاطفة لجملة {إِنْ طَلَّقَهَا} على جملة: {فَإِمْسَاكٌ} [البقرة:229] باعتبار ما فيها، من قوله: {فَإِمْسَاكٌ}، إن كان المراد من الإمساك المراجعة ومن التسريح عدمها، أي فإن أمسك المطلق أي راجع، ثم طلقها، فلا تحل له من بعد وهذا هو الظاهر، وإما فصيحة لبيان قوله: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229] ، إن كان المراد من التسريح إحداث الطلاق، أي فإن المراد بعد المراجعة فسرح. فلا تحل له من بعد، وإعادة هذا على الوجه ليرتب عليه تحريم المراجعة إلا بعد زوج، تصريحا بما فهم من قوله: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} ويكون التعبير بالطلاق هنا دون التسريح للبيان، على الوجهين المتقدمين، ولا يعوزك توزيعه عليها، والضمير المستتر راجع للمطلق المستفاد من قوله: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة:229] والضمير المنصوب راجع للمطلقة المستفادة من الطلاق أيضا، كما تقدم في قوله: {إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة:229]
والآية بيان لحق المراجعة صراحة، وهي إما إبطال لما كانوا عليه في الجاهلية وتشريع إسلامي جديد، وإما نسخ لما تقرر أول الإسلام إذا صح ما رواه أبو داود، في "سننه"، في باب المراجعة بعد التطليقات الثلاث، عن ابن عباس أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثا فنسخ ذلك ونزل: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ}
ولا يحل بحال عطف قوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} على جملة {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا} [البقرة:229] ولا صدق الضميرين على ما صدقت عليه ضمائر {إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا}، و {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} لعدم صحة تعلق حكم قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ

بَعْدُ} بما تعلق به حكم قوله: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا} [البقرة:229] إلخ إذ لا يصح تفريع الطلاق الذي لا تحل بعده المرأة على وقوع الخلع، إذ ليس ذلك من أحكام الإسلام في قول أحد، فمن العجيب ما وقع في "شرح الخطابي على سنن أبي داود": أن ابن عباس احتج لكون الخلع فسخا بأن الله ذكر الخلع ثم أعقبه بقوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} الآية قال فلو كان الخلع طلاقا لكان الطلاق أربعا ولا أحسب هذا يصح عن ابن عباس لعد جريه على معاني الاستعمال العربي.
وقوله: {فَلا تَحِلُّ لَهُ} أي تحرم عليه وذكر قوله: {مِنْ بَعْدُ} أي من بعد ثلاث تطليقات تسجيلا على المطلق، وإيماء إلى علة التحريم، وهي تهاون المطلق بشأن امرأته، واستخفافه بحق المعاشرة، حتى جعلها لعبة تقبلها عواطف غضبه وحماقته، فلما ذكر لهم قوله: {مِنْ بَعْدُ} علم المطلقون أنهم لم يكونوا محقين في أحوالهم التي كانوا عليها في الجاهلية.
والمراد من قوله: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً} أن تعقد على زوج آخر، لأن لفظ النكاح في كلام العرب لا معنى له إلا العقد بين الزوجين، ولم أر لهم إطلاقا آخر فيه لا حقيقة ولا مجازا، وأياما كان إطلاقه في الكلام فالمراد في هاته الآية العقد بدليل إسناده إلى المرأة، فإن المعنى الذي ادعى المدعون أنه من معاني النكاح بالاشتراك والمجاز أعني المسيس، لا يسند في كلام العرب للمرأة أصلا، وهذه نكتة غفلوا عنها في هذا المقام.
وحكمة هذا التشريع العظيم ردع الأزواج عن الاستخفاف بحقوق أزواجهم، وجعلهن لعبا في بيوتهم، فجعل للزوج الطلقة الأولى هفوة، والثانية تجربة، والثالثة فراقا، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث موسى والخضر: "فكانت الأولى من موسى نسيانا والثانية شرطا والثالثة عمدا فلذلك قال له الخضر في الثالثة : {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف:78].
وقد رتب الله على الطلقة الثالثة حكمين وهما سلب الزوج حق المراجعة، بمجرد الطلاق، وسلب المرأة حق الرضا بالرجوع إليه إلا بعد زوج، واشترط التزوج بزوج ثان بعد ذلك لقصد تحذير الأزواج من المسارعة بالطلقة الثالثة، إلا بعد التأمل والتريث، الذي لا يبقى بعده رجاء في حسن المعاشرة، للعلم بحرمة العود إلا بعد زوج، فهو عقاب للأزواج المستخفين بحقوق المرأة، إذا تكرر منهم ذلك ثلاثا، بعقوبة ترجع إلى إيلام الوجدان، لما ارتكز في النفوس من شدة النفرة من اقتران امرأته برجل آخر، وينشده حال

المرأة قول ابن الزبير1:
وفي الناس إن رثت حبالك واصل ... وفي الأرض عن دار القلى متحول
وفي الطيبي قال الزجاج إنما جعل الله ذلك لعلمه بصعوبة تزوج المرأة على الرجل فحرم عليهما التزوج بعد الثلاث لئلا يعجلوا وأن يثبتوا وقد علم السامعون أن اشترط نكاح زوج آخر هو تربية المطلقين، فلم يخطر ببال أحد إلا أن يكون المراد من النكاح في الآية حقيقته وهي العقد، إلا أن العقد لما كان وسيلة لما يقصد له في غالب الأحوال من البناء وما بعده، كان العقد الذي لا يعقبه وطء العاقد لزوجه غير معتد به فيما قصد منه، ولا يعبأ المطلق الموقع الثلاث بمجرد عقد زوج آخر لم يمس فيه المرأة، ولذلك لما طلق رفاعة بن سموأل القرظي، زوجه تميمة ابنة وهب طلقة صادفت أخرى الثلاث، وتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير القرظي، جاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت له يا رسول الله إن رفاعة طلقني فبت طلاقي، وإن عبد الرحمن بن الزبير تزوجني وإنما معه مثل هدبة2 هذا الثوب وأشارت إلى هدب ثوب لها فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة"؟ قالت: نعم قال: "لا، حتى تذوقي عسيلته" الحديث، فدل سؤالها على أنها تتوقع عدم الاعتداد بنكاح ابن الزبير في تحليل من بتها، لعدم حصول المقصود من النكاية والتربية بالمطلق، فاتفق علماء الإسلام على أن النكاح الذي يحل المبتوتة هو دخول الزوج الثاني بالمرأة، ومسيسه لها، ولا أحسب دليلهم في ذلك إلا الرجوع إلى مقصد الشريعة، الذي علمه سائر من فهم هذا الكلام العربي الفصيح، فلا حاجة بنا إلى متح دلاء الاستدلال بأن هذا من لفظ النكاح المراد به في خصوص هذه الآية المسيس أو هو من حديث رفاعة، حتى يكون من تقييد الكتاب بخبر الواحد، أو هو من الزيادة على النص حتى يجيء فيه الخلاف في أنها نسخ أم لا، وفي أن نسخ الكتاب بخبر الواحد يجوز أم لا، كل ذلك دخول فيما لا طائل تحت تطويل تقريره بل حسبنا إجماع الصحابة وأهل اللسان على فهم هذا المقصد من لفظ القرآن، ولم يشذ عن ذلك إلا سعيد بن المسيب فإنه قال: يحل المبتوتة مجرد العقد على زوج ثان، وهو شذوذ ينافي المقصود؛ إذ أية فائدة تحصل من العقد، إن هو إلا تعب للعاقدين، والوالي، والشهود إلا أن يجعل
ـــــــ
1 هو بفتح الزاي وكسر الباء من بني قريضة صحابي
2 الهدبة بضم الباء وسكون الدال نهاية الثوب التي تترك ولا تنسج فتترك سدى بلا لحمةوربما فتلوها وهي المسماة في لسان أهل بلدنا بالفتول.

الحكم منوطا بالعقد، باعتبار ما يحصل بعده غالبا، فإذا تخلف ما يحصل بعده اغتفر، من باب التعليل بالمظنة، ولم يتابعه عليه أحد معروف، ونسبه النحاس لسعيد بن جبير، وأحسب ذلك سهوا منه واستباها، وقد أمر الله بهذا الحكم، مرتبا على حصول الطلاق الثالث بعد طلقتين تقدمتاه فوجب امتثاله وعلمت حكمته فلا شك في أن يقتصر به على مورده، ولا يتعدى حكمه ذلك إلى كل طلاق عبر فيه المطلق بلفظ الثلاث تغليظا، أو تأكيدا، أو كذبا لأن ذلك ليس طلاقا بعد طلاقين، ولا تتحقق فيه حكمة التأديب على سوء الصنيع، وما المتلفظ بالثلاث في طلاقه الأول إلا كغير المتلفظ بها في كون طلقته الأولى، لا تصير ثانية، وغاية ما اكتسبه مقاله أنه عد في الحمقى أو الكذابين، فلا يعاقب على ذلك بالتفريق بينه وبين زوجه، وعلى هذا الحكم استمر العمل في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وصدر من خلافة عمر، كما ورد في كتب الصحيح: "الموطأ" وما بعده، عن ابن عباس رضي الله عنه، وقد ورد في بعض الآثار رواية حديث ابن عمر حين طلق امرأته في الحيض: أنه طلقها ثلاثا في كلمة، وورد حديث ركانة بن عبد يزيد المطلبي، أنه طلق امرأته ثلاثا في كلمة واحدة فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: "إنما ملكك الله واحدة" فأمره أن يراجعها.
ثم إن عمر بن الخطاب، في السنة الثالثة من خلافته، حدثت حوادث من الطلاق بلفظ الثلاث في كلمة واحدة فقال: أرى الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم.
وقد اختلف علماء الإسلام فيما يلزم من تلفظ بطلاق الثلاث في طلقة ليست ثالثة: فقال الجمهور: يلزمه الثلاث أخذا بما قضي به عمر بن الخطاب وتأيد قضاؤه بسكوت الصحابة لم يغيروا عليه فهو إجماع سكوتي، وبناء على تشبيه الطلاق بالنذور والأيمان، يلزم المكلف فيها ما التزمه، ولا خلاف في أن عمر بن الخطاب قضي بذلك ولم ينكر عليه أحد، ولكنه قضي بذلك عن اجتهاد فهو مذهب له، ومذهب الصحابي لا يقوم حجة على غيره، وما أيدوه به من سكوت الصحابة لا دليل فيه؛ لأن الإجماع السكوتي ليس بحجة عند النحارير من الأئمة مثل الشافعي والباقلاني والغزالي والإمام الرازي، وخاصة أنه صدر من عمر بن الخطاب مصدر القضاء والزجر، فهو قضاء في مجال الاجتهاد لا يجب على أحد تغييره، ولكن القضاء جزئي لا يلزم اطراد العمل به، وتصرف الإمام بتحجير المباح لمصلحة مجال للنظر، فهذا ليس من الإجماع الذي لا تجوز مخالفته.

وقال علي بن أبي طالب، وابن مسعود، وعبد الرحمن ابن عوف، والزبير بن العوام، ومحمد بن إسحاق، وحجاج بن أرطاة، وطاووس، والظاهرية وجماعة من مالكية الأندلس: منهم محمد بن زنباع، ومحمد بن بقي بن مخلد، ومحمد بن عبد السلام الخشني، فقيه عصره بقرطبة، وأصبغ بن الحباب من فقهاء قرطبة، وأحمد بن مغيث الطليطلي الفقيه الجليل، وقال ابن تيمية من الحنابلة: إن طلاق الثلاث في كلمة واحدة لا يقع إلا طلقة واحدة وهو الأرجح من جهة النظر والأثر،
واحتجوا بحجج كثيرة أولاها وأعظمها هذه الآية فإن الله تعالى جعل الطلاق مرتين ثم ثالثة، ورتب حرمة العود على حصول الثالثة بالفعل لا بالقول، فإذا قال الرجل لامرأته: هي طالق ثلاثا ولم تكن تلك الطلقة ثالثة بالفعل والتكرر كذب في وصفها بأنها ثلاث، وإنما هي واحدة أو ثانية فكيف يقدم على تحريم عودها إليه والله تعالى لم يحرم عليه ذلك، قال ابن عباس "وهل هو إلا كمن قال: قرأت سورة البقرة ثلاث مرات وقد قرأها واحدة فإن قوله ثلاث مرات يكون كاذبا".
الثانية أن الله تعالى قصد من تعدد الطلاق التوسعة على الناس؛ لأن المعاشر لا يدري تأثير مفارقة عشيرة إياه، فإذا طلق الزوج امرأته يظهر له الندم وعدم الصبر على مفارقتها، فيختار الرجوع فلو جعل الطلقة الواحدة مانعة بمجرد اللفظ من الرجعة، تعطل المقصد الشرعي من إثبات حق المراجعة، قال ابن رشد الحفيد، في "البداية1" وكأن الجمهور غلبوا حكم التغليظ في الطلاق سدا للذريعة ولكن تبطل بذلك الرخصة الشرعية والرفق المقصود من قوله تعالى: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} [الطلاق:1].
الثالثة قال ابن مغيث: إن الله تعالى يقول: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} وموقع الثلاث غير محسن، لأن فيها ترك توسعة الله تعالى، وقد يخرج هذا بقياس على غير مسألة في المدونة: من ذلك قول الإنسان: "مالي صدقة في المساكين" قال مالك يجزئه الثلث .
الرابعة احتجوا بحديث ابن عباس في "الصحيحين" "كان طلاق الثلاث في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر طلقة واحدة".
وأجاب عنه الجمهور بأن راويه طاووس وقد روي بقية أصحاب ابن عباس عنه أنه قال من طلق امرأته ثلاثا فقد عصى ربه، وبانت منه زوجه، وهذا يوهن رواية طاووس، فإن
ـــــــ
1 "بداية المجتهد"لابن رشد الحفيد"2/62"،ط دار المعرفة.

ابن عباس لا يخالف الصحابة إلى رأي نفسه، حتى قال ابن عبد البر رواية طاووس وهم وغلط، وعلى فرض صحتها، فالمراد أن الناس كانوا يوقعون طلقة واحدة بدل إيقاع الناس ثلاث تطليقات وهو معنى قول عمر: "إن الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة" فلو كان ذلك واقعا في زمن الرسول وأبي بكر لما قال عمر: "إنهم استعجلوا، ولا عابه عليهم"، وهذا جواب ضعيف، قال أبو الوليد الباجي: الرواية عن طاووس بذلك صحيحة. وأقول: أما مخالفة ابن عباس لما رواه فلا يوهن الرواية كما تقرر في الأصول، ونحن نأخذ بروايته وليس علينا أن نأخذ برأيه، وأما ما تأولوه من أن المراد من الحديث أن الناس كانوا يوقعون طلقة واحدة بدل إيقاع الثلاث فهو تأويل غير صحيح ومناف لألفاظ الرواية ولقول عمر: "فلو أمضيناه عليهم" فإن كان إمضاؤه عليهم سابقا من عهد الرسول لم يبق معنى لقوله "فلو أمضيناه عليهم" وإن لم يكن إمضاؤه سابقا بل كان غير ماض حصل المقصود من الاستدلال.
الخامسة ما رواه الدارقطني أن ركانة بن عبد يزيد المطلبي طلق زوجه ثلاثا في كلمة واحدة فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: "إنما هي واحدة", أو "إنما تلك واحدة" فارتجعها. وأجاب عنه أنصار الجمهور بأنه حديث مضطرب؛ لأنه روى أن ركانة طلق، وفي رواية أن يزيد بن ركانة طلق وفي رواية طلق زوجه ثلاثا وزاد في بعض الروايات أنه طلقها ثلاثا وقال: أردت واحدة فاستحلفه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.وهو جواب واه؛ لأنه سواء صحت الزيادة أم لم تصح فقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالواحدة فيما فيه لفظ الثلاث، ولا قائل من الجمهور بالتوهية فالحديث حجة عليهم لا محالة إلا أن روايته ليست في مرتبة معتبرة من الصحة.
السادسة ما رواه الدارقطني في حديث تطليق ابن عمر زوجه حين أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يراجعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر فإنه زاد فيه أنه طلقها ثلاثا ولا شك أن معناه ثلاثا في كلمة، لأنها لو كانت طلقة صادفت آخر الثلاث لما جاز إرجاعها إليه، ووجه الدليل أنه لما أمره أن يردها فقد عدها عليه واحدة فقط، وهذا دليل ضعيف جدا لضعف الرواية ولكون مثل هذه الزيادة مما لا يغفل عنها رواة الحديث في كتب الصحيح ك"الموطأ" و"صحيح البخاري" و"مسلم". والحق أنه لا يقع إلا طلقة واحدة ولا يعتد بقول المطلق ثلاثا.
وذهب مقاتل وداود الظاهري في رواية عنه أن طلاق الثلاث في كلمة واحدة لا يقع

طلاقا بالمرة، واحتج بأن القرآن ذكر الطلاق المفرق ولم يذكر المجموع فلا يلزم لأنه غير مذكور في القرآن. ولو احتج لهما بأنه منهي عنه والمنهي عنه فاسد لكان قريبا، لولا أن الفساد لا يعتري الفسوخ، وهذا مذهب شاذ وباطل، وقد أجمع المسلمون على عدم العمل به، وكيف لا يقع طلاقا وفيه لفظ الطلاق.
وذهب ابن جبير وعطاء وابن دينار وجابر بن زيد إلى أن طلاق البكر ثلاثا في كلمة يقع طلقة واحدة، لأنه قبل البناء بخلاف طلاق المبني بها وكأن وجه قولهم فيه: أن معنى الثلاث فيه كناية عن البينونة والمطلقة قبل البناء تبينها الواحدة.
ووصف {زَوْجاً غَيْرَهُ} تحذير للأزواج من الطلقة الثالثة، لأنه بذكر المغايرة يتذكر أن زوجته ستصير لغيره كحديث الواعظ الذي اتعظ بغزل الشاعر:
اليوم عندك دلها وحديثها ... وغدا لغيرك زندها والمعصم
وأسند الرجعة إلى المتفارقين بصيغة المفاعلة لتوقفها على رضا الزوجة بعد البينونة ثم علق ذلك بقوله: {إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} أي أن يسيرا في المستقبل على حسن المعاشرة وإلا فلا فائدة في إعادة الخصومات.
و {حُدُودَ اللَّهِ} هي أحكامه وشرائعه، شبهت بالحدود لأن المكلف لا يتجاوزها فكأنه يقف عندها.وحقيقة الحدود هي الفواصل بين الأرضين ونحوها وقد تقدم في قوله: {إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة:229] والإقامة استعارة لحفظ الأحكام تبعا لاستعارة الحدود إلى الأحكام كقولهم: نقض فلان غزله، وأما قوله: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا} فالبيان صالح لمناسبة المعنى الحقيقي والمجازي؛ لأن إقامة الحد الفاصل فيه بيان للناظرين.
والمراد بـ"قوم يعلمون"، الذين يفهمون الأحكام فهما يهيئهم للعمل بها، وبإدراك مصالحها، ولا يتحيلون في فهمها.
{وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}
الواو اعتراضية، والجملة معترضة بين الجملتين: المعطوفة إحداهما على الأخرى، وموقع هذه الجملة كموقع جملة: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} [البقرة:229] المتقدمة آنفا.
و {وَتِلْكَ حُدُودَ اللَّهِ} تقدم الكلام عليها قريبا.

وتبيين الحدود ذكرها للناس موضحة، مفصلة، معللة، ويتعلق قوله :{لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} بفعل {يبينها} ، ووصف القوم بأنهم يعلمون صريح في التنويه بالذين يدركون ما في أحكام الله من المصالح، وهو تعريض بالمشركين الذين يعرضون عن اتباع الإسلام.
وإقحام كلمة "لقوم" للإيذان بأن صفة العلم سجيتهم وملكة فيهم، كما تقدم بيانه عند قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } إلى قوله: {لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة:164]
[231] {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}
عطف على جملة {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} [البقرة:230] الآية عطف حكم على حكم، وتشريع على تشريع، لقصد زيادة الوصاة بحسن المعاملة في الاجتماع والفرقة، وما تبع ذلك من التحذير الذي سيأتي بيانه.
وقوله: {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ1} مؤذن بأن المراد: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} طلاقا فيه أجل. والأجل هنا لما أضيف إلى ضمير النساء المطلقات علم أنه أجل معهود بالمضاف إليه. أعني أجل الانتظار، وهو العدة، وهو التربص في الآية السابقة.
وبلوغ الأجل: الوصول إليه، والمراد به هنا مشارفة الوصول إليه بإجماع العلماء؛ لأن الأجل إذا انقضى زال التخيير بين الإمساك والتسريح، وقد يطلق البلوغ على مشارفة الوصول ومقاربته، توسعا أي مجازا بالأول. وفي القاعدة الخامسة من الباب الثامن من "مغني اللبيب"، أن العرب يعبرون بالفعل عن أمور: أحدها، وهو الكثير المتعارف، عن
ـــــــ
1 في المطبوع "حقا" وهو خطأ.
حصول الفعل وهو الأصل. الثاني عن مشارفته نحو {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن}

{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً} [البقرة:240] أي يقاربون الوفاة، لأنه حين الوصية. الثالث: إرادته نحو: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة:6]. الرابع: القدرة عليه نحو: {وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الانبياء:104] أي قادرين.
"والأجل" في كلام العرب يطلق على المدة التي يمهل إليها الشخص في حدوث حادث معين، ومنه قولهم: ضرب له أجلا {أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ} [القصص:28].
والمراد بالأجل هنا آخر المدة، لأن قوله: {فبلغن} مؤذن بأنه وصول بعد مسير إليه، وأسند بلغن إلى النساء لأنهن اللاتي ينتظرن انقضاء الأجل، ليخرجن من حبس العدة، وإن كان الأجل للرجال والنساء معا: للأولين توسعة للمراجعة، وللأخيرات تحديدا للحل للتزوج. وأضيف الأجل إلى ضمير النساء لهاته النكتة.
والقول في الإمساك والتسريح مضى قريبا. وفي هذا الوجه تكرير الحكم لمفاد بقوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229] فأجيب عن هذا بما قاله الفخر: إن الآية السابقة أفادت التخيير بين الإمساك والتسريح، في مدة العدة، وهذه أفادت ذلك التخيير في آخر أوقات العدة، تذكيرا بالإمساك وتحريضا على تحصيله، ويستتبع هذا التذكير الإشارة إلى الترغيب في الإمساك، من جهة إعادة التخيير بعد تقدم ذكره، وذكر التسريح هنا مع الإمساك ليظهر معنى التخيير بين أمرين وليتوسل بذلك إلى الإشارة إلى رغبة الشريعة في الإمساك، وذلك بتقديمه في الذكر؛ إذ لم يذكر الأمران لما تأتي التقديم المؤذن بالترغيب وعندي أنه على هذا الوجه أعيد الحكم، وليبني عليه ما قصد من النهي عن الضرار وما تلا ذلك من التحذير والموعظة وذلك كله مما أبعد عن تذكره الجمل السابقة: التي اقتضى الحال الاعتراض بها.
وقوله: {أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} قيد التسريح هنا بالمعروف، وقيد في قوله السالف: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} بإحسان، بالإحسان للإشارة إلى أن الإحسان المذكور هنالك، هو عين المعروف الذي يعرض للتسريح، فلما تقدم ذكره لم يحتج هنا إلى الفرق بين قيده وقيد الإمساك. أو لأن إعادة أحوال الإمساك والتسريح هنا ليبني عليه النهي عن المضارة، والذي تخاف مضارته بمنزلة بعيدة عن أن يطلب منه الإحسان، فطلب منه الحق، وهو المعروف الذي عدم المضارة من فروعه، سواء في الإمساك أو في التسريح، ومضارة كل بما يناسبه.
وقال ابن عرفة: تقدم أن المعروف أخف من الإحسان فلما وقع الأمر في الآية

الأخرى بتسريحهن، مقارنا للإحسان، خيف أن يتوهم أن الأمر بالإحسان عند تسريحهن للوجوب فعقبه بهذا تنبيها على أن الأمر للندب لا للوجوب.
وقوله: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً} تصريح بمفهوم {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} إذ الضرار ضد المعروف، وكأن وجه عطفه مع استفادته من الأمر بضده التشويه بذكر هذا الضد لأنه أكثر أضداد المعروف يقصده الأزواج المخالفون لحكم الإمساك بالمعروف، مع ما فيه من التأكيد، ونكتته تقرير المعنى المراد في الذهن بطريقتين غايتهما واحدة وقال الفخر: نكتة عطف النهي على الأمر بالضد في الآية هي أن الأمر لا يقتضي التكرار بخلاف النهي، وهذه التفرقة بين الأمر والنهي غير مسلمة، وفيها نزاع في علم الأصول، ولكنه بناها على أن الفرق بين الأمر والنهي هو مقتضى اللغة. على أن هذا العطف إن قلنا: إن المعروف في الإمساك حيثما تحقق انتفى الضرار، وحيثما انتفى المعروف تحقق الضرار، فيصير الضرار مساويا لنقيض المعروف، قلنا أن نجعل نكتة العطف، حينئذ، لتأكيد حكم الإمساك بالمعروف: بطريقي إثبات، ونفي، كأنه قيل: "ولا تمسكوهن إلا بالمعروف"، كما في قول السموأل:
تسيل على حد الظبات نفوسنا ... وليست على غير الظبات تسيل
والضرار مصدر ضار، وأصل هذه الصيغة أن تدل على وقوع الفعل من الجانبين، مثل خاصم، وقد تستعمل في الدلالة على قوة الفعل مثل: عافاك الله، والظاهر أنها هنا مستعملة للمبالغة في الضر، تشنيعا على من يقصده بأنه مفحش فيه.
ونصب {ضرارا} على الحال أو المفعولية لأجله.
وقوله: {لِتَعْتَدُوا} جر باللام ولم يعطف بالفاء؛ لأن الجر باللام هو أصل التعليل، وحذف مفعول "تعتدوا" ليشمل الاعتداء عليهن، وعلى أحكام الله تعالى، فتكون اللام مستعملة في التعليل والعاقبة. والاعتداء على أحكام الله لا يكون علة للمسلمين، فنزل منزلة العلة مجازا في الحصول، تشنيعا على المخالفين، فحرف اللام مستعمل في حقيقته ومجازة.
وقوله: {فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} جعل ظلمهم نساءهم ظلما لأنفسهم، لأنه يؤدي إلى اختلال المعاشرة، واضطراب حال البيت، وفات المصالح: بشغب الأذهان في المخاصمات. وظلم نفسه أيضا بتعريضها لعقاب الله في الآخرة.

{وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
عطف هذا النهي على النهي في قوله: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا} لزيادة التحذير من صنيعهم في تطويل العدة، لقصد المضارة، بأن في ذلك استهزاء بأحكام الله التي شرع فيها حق المراجعة، مريدا رحمة الناس، فيجب الحذر من أن يجعلوها هزءا،
وآيات الله هي ما في القرآن من شرائع المراجعة نحو قوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228] - إلى قوله: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [البقرة:230].
والهزء بضمتين، مصدر هزأ به إذا سخر ولعب، وهو هنا مصدر بمعنى اسم المفعول، أي لا تتخذوها مستهزأ به، ولما كان المخاطب بهذا المؤمنين، وقد علم أنهم لم يكونوا بالذين يستهزئون بالآيات، تعين أن الهزء مراد به مجازة وهو الاستخفاف، وعدم الرعاية، لأن المستخف بالشيء المهم يعد لاستخفافه به، مع العلم بأهميته، كالساخر واللاعب. وهو تحذير للناس من التوصل بأحكام الشريعة إلى ما يخالف مراد الله، ومقاصد شرعه، ومن هذا التوصل المنهي عنه، ما يسمى بالحيل الشرعية بمعنى أنها جارية على صور صحيحة الظاهر، بمقتضى حكم الشرع، كمن يهب ماله لزوجه ليلة الحول ليتخلص من وجوب زكاته، ومن أبعد الأوصاف عنها الوصف بالشرعية. فالمخاطبون بهذه الآيات محذرون أن يجعلوا حكم الله في العدة، الذي قصد منه انتظار الندامة وتذكر حسن المعاشرة، لعلهما يحملان المطلق على إمساك زوجته حرصا على بقاء المودة والرحمة، فيغيروا ذلك ويجعلوه وسيلة إلى زيادة النكاية، وتفاقم الشر والعداوة. وفي "الموطأ" أن رجلا قال لابن عباس: إني طلقت امرأتي مائة طلقة فقال له ابن عباس: "بانت منك بثلاث، وسبع وتسعون اتخذت بها آيات الله هزءا" يريد أنه عمد إلى ما شرعه الله من عدد الطلاق، بحكمة توقع الندامة مرة أولى وثانية، فجعله سبب نكاية وتغليظ، حتى اعتقد أنه يضيق على نفسه المراجعة إذ جعله مائة،
ثم إن الله تعالى بعد أن حذرهم دعاهم بالرغبة فقال: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} فذكرهم بما أنعم عليهم، بعد الجاهلية، بالإسلام، الذي سماه نعمة كما سماه بذلك في قوله: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} [آل عمران:103] فكما أنعم عليكم بالانسلاخ عن تلك الضلالة، فلا ترجعوا إليها

بالتعاهد بعد الإسلام
وقوله: {وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ} معطوف على نعمة، وجملة {يَعِظُكُمْ بِهِ} حال ويجوز جعله مبتدأ؛ وجملة {يَعِظُكُمْ} خبرا، والكتاب: القرآن. والحكمة: العلم المستفاد من الشريعة، وهو العبرة بأحوال الأمم الماضية وإدراك مصالح الدين، وأسرار الشريعة، كما قال تعالى، بعد أن بين حكم الخمر والميسر {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [البقرة:220] ومعنى إنزال الحكمة أنها كانت حاصلة من آيات القرآن، كما ذكرنا، ومن الإيماء إلى العلل، ومما يحصل أثناء ممارسة الدين، وكل ذلك منزل من الله تعالى بالوحي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن فسر الحكمة بالسنة فقد فسرها ببعض دلائلها.والموعظة الوعظ: النصح والتذكير بما يلين القلوب، ويحذر الموعوظ.
وقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} تذمير بالتقوى وبمراعاة علمهم بأن الله عليم بكل شيء تنزيلا لهم في حين مخالفتهم بأفعالهم لمقاصد الشريعة، منزلة من يجهل أن الله عليم، فإن العليم لا يخفي عليه شيء، وهو إذا علم مخالفتهم لا يحول بين عقابه وبينهم شيء، لأن هذا العليم قدير.
[232] {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}
المراد من هذه الآية مخاطبة أولياء النساء، بألا يمنعوهن من مراجعة أزواجهن، بعد أن أمر المفارقين بإمساكهن بمعروف ورغبهم في ذلك، إذ قد علم أن المرأة إذا رأت الرغبة من الرجل الذي كانت تألفه وتعاشره لم تلبث أن تقرن رغبته برغبتها، فإن المرأة سريعة الانفعال قريبة القلب، فإذا جاء منع فإنما يجيء من قبل الأولياء ولذلك لم يذكر الله ترغيب النساء في الرضا بمراجعة أزواجهن ونهى الأولياء عن منعهن من ذلك.
وقد عرف من شأن الأولياء في الجاهلية، وما قاربها، الأنفة من أصهارهم، عند حدوث الشقاق بينهم وبين ولاياهم، وربما رأوا الطلاق استخفافا بأولياء المرأة وقلة اكتراث بهم، فحملتهم الحمية على قصد الانتقام منهم عند ما يرون منهم ندامة، ورغبة في المراجعة، وقد روى في "الصحيح" أن البداح بن عاصم الأنصاري طلق زوجه جميلا

بالتصغير وقيل جملا وقيل جميلة ابنة معقل بن يسار فلما انقضت عدتها، أراد مراجعتها، فقال له أبوها معقل ابن يسار: إنك طلقتها طلاقا له الرجعة، ثم تركتها حتى انقضت عدتها، فلما خطبت إلي أتيتني تخطبها مع الخطاب، والله لا أنكحها أبدا فنزلت هذه الآية، قال معقل فكفرت عن يميني وأرجعتها إليه وقال الواحدي: نزلت في جابر بن عبد الله كانت له ابنة عم طلقها زوجها وانقضت عدتها، ثم جاء يريد مراجعتها، وكانت راغبة فيه، فمنعه جابر من ذلك فنزلت.
والمراد من {أجلهن} هو العدة، وهو يعضد أن ذلك هو المراد من نظيره في الآية السابقة، وعن الشافعي دل سياق الكلامين على افتراق البلوغين فجعل البلوغ، في الآية الأولى، بمعنى مشارفة بلوغ الأجل، وجعله، هنا، بمعنى انتهاء الأجل.فجملة {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} عطف على {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة:231] الآية.
والخطاب الواقع في قوله: {طَلَّقْتُمُ} و {تَعْضُلُوهُنَّ} ينبغي أن يحمل على أنه موجه إلى جهة واحدة دون اختلاف التوجه، فيكون موجها إلى جميع المسلمين، لأن كل واحد صالح لأن يقع منه الطلاق، إن كان زوجا، ويقع منه العضل، إن كان وليا، والقرينة ظاهرة على مثله فلا يكاد يخفي في استعمالهم، ولما كان المسند إليه أحد الفعلين، غير المسند إليه الفعل الآخر، إذ لا يكون الطلاق ممن يكون منه العضل، ولا العكس، كان كل فريق يأخذ من الخطاب ما هو به جدير، فالمراد بقوله: {طَلَّقْتُمُ} أوقعتم الطلاق، فهم الأزواج، وبقوله: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} النهي عن صدور العضل، وهم أولياء النساء،
وجعل في "الكشاف" الخطاب للناس عامة أي إذا وجد فيكم الطلاق، وبلغ المطلقات أجلهن، فلا يقع منكم العضل ووجه تفسيره هذا بقوله: "لأنه إذا وجد العضل بينهم وهم راضون كانوا في حكم العاضلين".
والعضل: المنع والحبس وعدم الانتقال، فمنه عضلت المرأة بالتشديد إذا عسرت ولادتها وعضلت الدجاجة إذا نشب بيضها فلم يخرج، والمعاضلة في الكلام: احتباس المعنى حتى لا يبدو من الألفاظ، وهو التعقيد، وشاع في كلام العرب في منع الولي مولاته من النكاح. وفي الشرع هو المنع بدون وجه صلاح، فالأب لا يعد عاضلا برد كفء أو أثنين، وغير الأب يعد عاضلا يرد كفء واحد.
وإسناد النكاح إلى النساء هنا لأنه هو المعضول عنه، والمراد بأزواجهن طالبو

المراجعة بعد انقضاء العدة، وسماهن أزواجا مجازا باعتبار ما كان، لقرب تلك الحالة، وللإشارة إلى أن المنع ظلم؛ فإنهم كانوا أزواجا لهن من قبل، فهم أحق بأن يرجعن إليهم.
وقوله: {إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} شرط للنهي؛ لأن الولي إذا علم عدم التراضي بين الزوجين، ورأى أن المراجعة ستعود إلى دخل وفساد فله أن يمنع مولاته، نصحا لها، وفي هذا الشرط إيماء إلى علة النهي: وهي أن الولي لا يحق له منعها، مع تراضي الزوجين بعود المعاشرة، إذ لا يكون الولي أدرى بميلها منها، على حد قولهم، في المثل المشهور "رضي الخصمان ولم يرض القاضي".
وفي الآية إشارة إلى اعتبار الولاية للمرأة في النكاح، بناء على غالب الأحوال يومئذ؛ لأن جانب المرأة جانب ضعيف، مطموع فيه، معصوم عن الامتهان، فلا يليق تركها تتولى مثل هذا الأمر بنفسها؛ لأنه ينافي نفاستها وضعفها، فقد يستخف بحقوقها الرجال، حرصا على منافعهم وهي تضعف عن المعارضة.
ووجه الإشارة: أن الله أشار إلى حقين: حق الولي، بالنهي عن العضل؛ إذ لو لم يكن الأمر بيده، لما نهى عن منعه، ولا يقال: نهى عن استعمال ما ليس بحق له؛ لأنه لو كان كذلك لكان النهي عن البغي والعدوان كافيا، ولجيء بصيغة "ما يكون لكم" ونحوها وحق المرأة في الرضا ولأجله أسند الله النكاح إلى ضمير النساء، ولم يقل: أن تنكحوهن أزواجهن، وهذا مذهب مالك، والشافعي، وجمهور فقهاء الإسلام، وشذ أبو حنيفة في المشهور عنه فلم يشترط الولاية في النكاح، واحتج له الحصاص بأن الله أسند النكاح هنا للنساء وهو استدلال بعيد عن استعمال العرب في قولهم: نكحت المرأة، فإنه بمعنى تزوجت دون تفصيل بكيفية هذا التزوج؛ لأنه لا خلاف في أن رضا المرأة بالزوج هو العقد المسمى بالنكاح، وإنما الخلاف في اشتراط مباشرة الولي لذلك دون جبر، وهذا لا ينافيه إسناد النكاح إليهن، أما ولاية الإجبار فليست من غرض هذه الآية؛ لأنها واردة في شأن الأيامي ولا جبر على أيم باتفاق العلماء.
وقوله: {ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ} إشارة إلى حكم النهي عن العضل، وإفراد الكاف مع اسم الإشارة مع أن المخاطب جماعة، رعيا لتناسي أصل وضعها من الخطاب إلى ما استعملت فيه من معنى بعد المشار إليه فقط، فإفرادها في أسماء الإشارة هو الأصل، وأما جمعها في قوله: {ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ} فتجديد لأصل وضعها.

ومعنى أزكى وأطهر أنه أوفر للعرض، وأقرب للخير، فأزكى دال على النماء والوفر، وذلك أنهم كانوا يعضلونهن جمية وحفاظا على المروءة من لحاق ما فيه شائبة الحطيطة، فأعلمهم الله أن عدم العضل أوفر للعرض؛ لأن فيه سعيا إلى استبقاء الود بين العائلات التي تقاربت بالصهر والنسب؛ فإذا كان العضل إباية للضيم، فالإذن لهن بالمراجعة حلم وعفو ورفاء للحال وذلك أنفع من إباية الضيم.
وأما قوله: {وَأَطْهَرُ} فهو معنى أنزه، أي أنه أقطع لأسباب العداوات والإحن والأحقاد بخلاف العضل الذي قصدتم منه قطع العود إلى الخصومة، وماذا تضر الخصومة في وقت قليل يعقبها رضا ما تضر الإحن الباقية، والعداوات المتأصلة، والقلوب المحرقة.
ولك أن تجعل {أَزْكَى} بالمعنى الأول، ناظرا لأحوال الدنيا، وأطهر بمعنى فيه السلامة من الذنوب في الآخرة، فيكون أطهر مسلوب المفاضلة، جاء على صيغة التفضيل للمزاوجة مع قوله: {أَزْكَى}.
وقوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} تذييل، وإزالة لاستغرابهم حين تلقى هذا الحكم، لمخالفته لعاداتهم القديمة، وما اعتقدوا نفعا وصلاحا وإبقاء على أعراضهم، فعلمهم الله أن ما أمرهم به ونهاهم عنه هو الحق، لأن الله يعلم النافع، وهم لا يعلمون إلا ظاهرا، فمفعول {يَعْلَمُ} محذوف أي والله يعلم ما فيه كمال زكاتكم وطهارتكم؛ وأنتم لا تعلمون ذلك.
[233] {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}
انتقال من أحكام الطلاق والبينونة؛ فإنه لما نهي عن العضل، وكانت بعض المطلقات لهن أولاد في الرضاعة ويتعذر عليهن التزوج وهن مرضعات؛ لأن ذلك قد يضر بالأولاد، ويقلل رغبة الأزواج فيهن، كانت تلك الحالة مثار خلاف بين الآباء والأمهات، فلذلك ناسب التعرض لوجه الفصل بينهم في ذلك، فإن أمر الإرضاع مهم، لأن به حياة النسل، ولأن تنظيم أمره من أهم شئون أحكام العائلة.

واعلم أن استخلاص معاني هذه الآية من أعقد ما عرض للمفسرين.فجملة {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ} معطوفة على جملة {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} [البقرة:232} والمناسبة غير خفية. والوالدات عام، لأنه جمع معرف باللام، وهو هنا مراد به خصوص الوالدات من المطلقات بقرينة سياق الآي التي قبلها من قوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228] ولذلك وصلت هذه الجملة بالعطف للدلالة على اتحاد السياق، فقوله: {وَالْوَالِدَاتُ} معناه: والوالدات منهن، أي من المطلقات المتقدم الإخبار عنهن في الآي الماضية، أي المطلقات اللائي لهن أولاد في سن الرضاعة، ودليل التخصيص أن الخلاف في مدة الإرضاع لا يقع بين الأب والأم، إلا بعد الفراق، ولا يقع في حالة العصمة؛ إذ من العادة المعروفة عند العرب ومعظم الأمم أن الأمهات يرضعن أولادهن في مدة العصمة، وأنهن لا تمتنع منه من تمتنع إلا لسبب طلب التزوج بزوج جديد، بعد فراق والد الرضيع؛ فإن المرأة المرضع لا يرغب الأزواج فيها؛ لأنها تشتغل برضيعها عن زوجها في أحوال كثيرة.
وجملة {يُرْضِعْنَ} خبر مراد به التشريع، وإثبات حق الاستحقاق، وليس بمعنى الأمر للوالدات والإيجاب عليهن؛ لأنه قد ذكر بعد أحكام المطلقات، ولأنه عقب بقوله: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا} فإن الضمير شامل للاباء والأمهات، على وجه التغليب، كما يأتي، فلا دلالة في الآية على إيجاب إرضاع الولد على أمه، ولكن تدل على أن ذلك حق لها، وقد صرح بذلك في سورة الطلاق بقوله: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق:6] ولأنه عقب بقوله: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} وذلك أجر الرضاعة، والزوجة في العصمة ليس لها نفقة وكسوة لأجل الرضاعة، بل لأجل العصمة.
وقوله: {أَوْلادَهُنَّ} صرح بالمفعول، مع كونه معلوما، إيماء إلى أحقية الوالدات بذلك وإلى ترغيبهن فيه؛ لأن في قوله: {أَوْلادَهُنَّ} تذاكير لهن بداعي الحنان والشفقة، فعلى هذا التفسير، وهو الظاهر من الآية، والذي عليه جمهور السلف: الآية واردة إلا لبيان إرضاع المطلقات أولادهن، فإذا رامت المطلقة إرضاع ولدها، فهي أولى به، سواء كانت بغير أجر أم طلبت أجر مثلها، ولذلك كان المشهور عن مالك: أن الأب إذا وجد من ترضع له غير الأم بدون أجر، وبأقل من أجر المثل، لم يجب إلى ذلك، كما سنبينه،
ومن العلماء من تأول الوالدات على العموم، سواء كن في العصمة، أو بعد الطلاق

كما في القرطبي، والبيضاوي ويظهر من كلام ابن الفرس في "أحكام القرآن": أن هذا قول مالك. وقال ابن رشد في البيان والتحصيل: إن قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} محمول على عمومه في ذات الزوج وفي المطلقة مع عسر الأب، ولم ينسبه إلى مالك، ولذلك قال ابن عطية: قوله: {يُرْضِعْنَ} خبر نعناه الأمر على الوجوب لبعض الوالدات، والأمر على الندب والتخيير لبعضهن وتبعه البيضاوي: وفي هذا استعمال صيغة الأمر في القدر المشترك، وهو مطلق الطلب، ولا داعي إليه. والظاهر أن حكم إرضاع الأم ولدها في العصمة يستدل له بغير هذه الآية، ومما يدل على أنه ليس المراد الوالدات اللائي في العصمة، قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} الآية، فإن اللائي في العصمة لهن النفقة والكسوة بالأصالة.
والحول في كلام العرب: العام، وهو مشتق من تحول دورة القمر أو الشمس في فلكه من مبدأ مصطلح عليه، إلى أن يرجع إلى السمت الذي ابتدأ منه، فتلك المدة التي ما بين المبدأ والمرجع تسمى حولا.
وحول العرب قمري وكذلك أقره الإسلام.
ووصف الحولين بكاملين، تأكيد لرفع توهم أن يكون المراد حولا وبعض الثاني؛ لأن إطلاق التثنية والجمع، في الأزمان والأسنان، على بعض المدلول، إطلاق شائع عند العرب، فيقولون: هو ابن سنتين: ويريدون سنة وبعض الثانية، كما مر في قوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197].
وقوله: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ}، قال في "الكشاف":"بيان لمن توجه إليه الحكم كقوله: {هَيْتَ لَكَ} [يوسف:23]، فلك بيان للمهيت له أي هذا الحكم لمن أراد أن يتم الإرضاع أي فهو خبر مبتدأ محذوف، كما أشار إليه، بتقدير هذا الحكم لمن أراد. قال التفتازاني: وقد يصرح بهذا المبتدأ في بعض التراكيب كقوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} [النساء:25] وما صدق من هنا من يهمه ذلك: وهو الأب، والأم، ومن يقوم مقامهما، من ولي الرضيع، وحاضنه والمعنى: أن هذا الحكم يستحقه من أراد إتمام الرضاعة، وأباه الآخر، فإن أراد معا عدم إتمام الرضاعة فذلك معلوم من قوله: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً} الآية.
وقد جعل الله الرضاع حولين، رعيا لكونهما أقصى مدة يحتاج فيها الطفل للرضاع إذا عرض له ما اقتضى زيادة إرضاعه، فأما الحولين فليس في نمائه ما يصلح له الرضاع

بعد، ولما كان خلاف الأبوين في مدة الرضاع لا ينشأ إلا عن اختلاف النظر في حاجة مزاج الطفل إلى زيادة الرضاع، جعل الله القول لمن دعا إلى الزيادة، احتياطا لحفظ الطفل. وقد كانت الأمم في عصور قلة التجربة، وانعدام الأطباء، لا يهتدون إلى ما يقوم للطفل مقام الرضاع؛ لأنهم كانوا إذا افطموه أعطوه الطعام، فكانت أمزجة بعض الأطفال بحاجة إلى تطويل الرضاع، لعدم القدرة على هضم الطعام وهذه عوارض تختلف. وفي عصرنا أصبح الأطباء يعتاضون لبعض الصبيان بالإرضاع الصناعي، وهم مع ذلك مجمعون على أنه لا أصلح للصبي من لبن أمه، ما لم تكن بها عاهة أو كان اللبن غير مستوف الأجزاء التي بها تغذية أجزاء بدن الطفل، ولأن الإرضاع الصناعي يحتاج إلى فرط حذر في سلامة اللبن من العفونة: في قوامه، وإنائه. وبلاد العرب شديدة الحرارة في غالب السنة؛ ولم يكونوا يحسنون حفظ أطعمتهم من التعفن بالمكت، فربما كان فطام الأبناء في العام أو ما يقرب منه يجر مضار للرضعاء، وللأمزجة في ذلك تأثير أيضا.
وعن ابن عباس أن التقدير بالحولين للولد الذي يمكث في بطن أمه ستة أشهر، فإن مكث سبعة أشهر، فرضاعة ثلاثة وعشرون شهرا، وهكذا بزيادة كل شهر في البطن ينقص شهر من مدة الرضاعة.حتى يكون لمدة الحمل والرضاع ثلاثون شهرا؛ لقوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} [الاحقاف:15]، وفي هذا القول منزع إلى تحكيم أحوال الأمزجة؛ لأنه، بمقدار ما تنقص مدة مكثه في البطن، تنقص مدة نضج مزاجه.والجمهور على خلاف هذا وأن الحولين غاية لإرضاع كل مولود. وأخذوا من الآية أن الرضاع المعتبر هو ما كان في الحولين، وأن ما بعدهما لا حاجة إليه، فلذلك لا يجاب إليه طالبه.
وعبر عن الوالد بالمولود له، إيماء إلى أنه الحقيق بهذا الحكم؛ لأن منافع الولد منجزة إليه، وهو لاحق به ومعتز به في القبيلة، حسب مصطلح الأمم، فهو الأجدر بإعاشته، وتقويم وسائلها.
والرزق: النفقة، والكسوة: اللباس، والمعروف: ما تعارفه أمثالهم وما لا يجحف بالأب.والمراد بالرزق والكسوة هنا، ما تأخذه المرضع، أجرا عن رضاعتها، من طعام ولباس لأنهم كانوا يجعلون للمراضع كسوة ونفقة، وكذلك غالب إجاراتهم؛ إذ لم يكن أكثر قبائل العرب أهل ذهب وفضة، بل كانوا يتعاملون بالأشياء، وكان الأجراء لا يرغبون في الدرهم والدينار، وإنما يطلبون كفاية ضروراتهم، وهي الطعام والكسوة، ولذلك أحال

الله تقديرهما على المعروف عندهم من مراتب الناس وسعتهم، وعقبه بقوله: {لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا}.
وجمل: {لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا} - إلى قوله: {وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} معترضات بين جملة {وَعَلَى الْمَوْلُودِ} وجملة {وَعَلَى الْوَارِثِ} فموقع جملة {لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا} تعليل لقوله: {بِالْمَعْرُوفِ}، موقع جملة {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ} إلى آخرها موقع التعليل أيضا، وهو اعتراض يفيد أصولا عظيمة للتشريع ونظام الاجتماع.
والتكليف تفعيل: بمعنى جعله ذا كلفة، والكلفة: المشقة، والتكلف: التعرض لما فيه مشقة، ويطلق التكليف على الأمر بفعل فيه كلفة، وهو اصطلاح شرعي جديد.
والوسع، بتثليث الواو، الطاقة، وأصله من وسع الإناء الشيء إذا حواه ولم يبق منه شيء، وهو ضد ضاق عنه، والوسع هو ما يسعه الشيء فهو بمعنى المفعول، وأصله استعارة؛ لأن الزمخشري في "الأساس" ذكر هذا المعنى في المجاز، فكأنهم شبهوا تحمل النفس عملا ذا مشقة باتساع الظرف للمحوي، لأنهم ما احتاجوا لإفادة ذلك إلا عندما يتوهم الناظر أنه لا يسعه، فمن هنا استعير للشاق البالغ حد الطاقة. فالوسع إن كان بكسر الواو فهو فعل بمعنى مفعول كذبح، وإن كان بضمنها فهو مصدر كالصلح والبرء صار بمعنى المفعول، وإن كان بفتحها فهو مصدر كذلك بمعنى المفعول كالخلق والدرس. والتكليف بما فوق الطاقة منفي في الشريعة.وبنى فعل تكلف للنائب: ليحذف الفاعل، فيفيد حذفه عموم الفاعلين، كما يفيد وقوع نفس، وهو نكرة في سياق النفي، عموم المفعول الأول لفعل تكلف: وهو الأنفس المكلفة، وكما يفيد حذف المستثنى في قوله: {إِلَّا وُسْعَهَا} عموم المفعول الثاني لفعل تكلف، وهو الأحكام المكلف بها، أي لا يكلف أحد نفسا إلا وسعها، وذلك تشريع من الله للأمة بأن ليس لأحد أن يكلف أحدا إلا بما يستطيعه، وذلك أيضا وعد من الله بأنه لا يكلف في التشريع الإسلامي إلا بما يستطاع: في العامة، والخاصة، فقد قال في آيات ختام هذه السورة {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286].
والآية تدل على عدم وقوع التكليف بما لا يطاق، في شريعة الإسلام1، وسيأتي
ـــــــ
1 وما استدل به على وقوعه قوله تعلى: {وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن} [هود:36] نقله أولوسي في تفسيره "12/49" ط المنيرية

تفصيل هذه المسألة عند قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} في آخر السورة.
وجملة {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} اعتراض ثان، ولم تعطف على التي قبلها تنبيها على أنها مقصودة لذاتها، فإنها تشريع مستقل، وليس فيها معنى التعليل الذي في الجملة قبلها بل هي كالتفريع على جملة: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا}؛ لأن إدخال الضر على أحد، بسبب ما هو بضعة منه، يكاد يخرج عن طاقة الإنسان؛ لأن الضرار تضيق عنه الطاقة، وكونه بسبب من يترقب منه أن يكون سبب نفع أشد ألما على النفس، فكان ضره أشد.ولذلك اختير لفظ الوالدة هنا، دون الأم: كما تقدم في قوله: {يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} وكذلك القول في {وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} وهذا الحكم عام في جميع الأحوال من فراق، أو دوام عصمة، فهو كالتذييل، وهو نهي لهما عن أن يكلف أحدهما الآخر ما هو فوق طاقته، ويستغل ما يعلمه من شفقة الآخر على ولده فيفترض ذلك لإحراجه، والإشقاق عليه.
وفي "المدونة": عن ابن وهب عن الليث عن خالد بن يزيد عن زيد بن أسلم في قوله تعالى: {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} الآية يقول ليس لها أن تلقي ولدها عليه، ولا يجد من يرضعه، وليس له أن ينتزع منها ولدها، وهي تحب أن ترضعه وهو يؤيد ما ذكرناه. وقيل: الباء في قوله "بولدها وبولده" باء الإلصاق وهي لتعدية "تضار" فيكون مدخول الباء مفعولا في المعنى لفعل "تضار" وهو مسلوب المفاعلة مراد منه أصل الضر، فيصير المعنى: لا تضر الوالدة ولدها ولا المولود له ولده أي لا يكن أحد الأبوين بتعنته وتحريجه سببا في إلحاق الضر بولده أي سببا في إلجاء الآخر إلا الامتناع مما يعين على إرضاع الأم ولدها فيكون في استرضاع غير الأم تعريض المولود إلى الضر ونحو هذا من أنواع التفريط.
وقرأ الجمهور: "لا تضار" بفتح الراء مشددة على أن "لا" حرف نهي و"تضار" مجزوم بلا الناهية والفتحة للتخلص من التقاء الساكنين الذي نشأ عن تسكين الراء الأولى ليأتي الإدغام وتسكين الراء الثانية للجزم وحرك بالفتحة لأنها أخف الحركات. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو برفع الراء على أن "لا" حرف نفي والكلام خبر في معنى النهي، وكلتا القراءتين يجوز أن تكون على نية بناء الفعل للفاعل: لا "تضارر" بكسر الراء الأولى وبنائه للنائب بتقدير فتح الراء الأولى، وقرأه أبو جعفر بسكون الراء مخففة مع إشباع المد كذا نقل عنه في كتب "القراءات" والظاهر أنه جعله من ضار يضير لا من ضار

المضاعف. ووقع الكشاف أنه قرأ بالسكون مع التشديد على نية الوقف أي إجراء للوصل مجرى الوقف ولذلك اغتفر التقاء الساكنين.
وقوله: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} معطوف على قوله: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنّ} وليس معطوفا على جملة: {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ} لأن جملة {لا تضار} معترضة، فإنها جاءت على الأسلوب الذي جاءت عليه جملة {لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا} التي هي معترضة بين الأحكام لا محالة لوقوعها موقع الاستئناف من قوله: {بالمعروف} ، ولما جاءت جملة لا تضار بدون عطف علمنا أنها استئناف ثان مما قبله ثم وقع الرجوع إلى بيان الأحكام بطريق العطف، ولو كان المراد العطف على المستأنفات المعترضات لجئ بالجملة الثالثة بطريق الاستئناف.
وحقيقة الوارث هو من يصير إليه مال البيت بعد الموت بحق الإرث. والإشارة بقوله: {ذلك} إلى الحكم المتقدم وهو الرزق والكسوة بقرينة دخول على عليه الدالة على أنه عديل لقوله: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} وجوز أن يكون {ذلك} إشارة إلى النهي عن الإضرار المستفاد من قوله: {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} كما سيأتي، وهو بعيد عن الاستعمال؛لأنه لما كان الفاعل محذوفا وحكم الفعل في سياق النهي كما هو سياق النفي علم أن جميع الإضرار منهي عنه أياما كان فاعله، على أن الإضرار منهي عنه فلا يحسن التعبير عنه بلفظ على الذي هو من صيغ الإلزام والإيجاب، على أن ظاهر المثل إنما ينصرف لمماثلة الذوات وهي النفقة والكسوة لا لمماثلة الحكم وهو التحريم.
وقد علم من تسمية المفروض عليه الإنفاق والكسوة أن الذي كان ذلك عليه مات، وهذا إيجاز. والمعنى: فإن مات المولود له فعلى وارثه مثل ما كان عليه فإن على الواقعة بعد حرف العطف هنا ظاهرة في أنها مثل على التي في المعطوف عليه.
فالظاهر أن المراد وارث الأب وتكون أل عوضا عن المضاف كما هو الشأن في دخول أل على اسم غير معهود ولا مقصود جنسه وكان ذلك الاسم مذكورا بعد اسم يصلح لأن يضاف إليه كما قال تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ} [العلق:15] وكما قال: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:41] أي نهى نفسه؛ فإن الجنة هي مأواه، وقول إحدى نساء حديث أم زرع زوجي: المس أرنب والريح ريح زرنب وما سماه الله تعال وارثا إلا لأنه وارث بالفعل لا من يصلح لأن يكون وارثا على تقدير موت غيره؛ لأن اسم الفاعل إنما يطلق على الحال

ما لم تقم قرينة على خلافه فما قال: {وَعَلَى الْوَارِثِ} إلا لأن الكلام على الحق تعليق بهذا الشخص في تركة الميت وإلا لقال: وعلى الأقارب أو الأولياء مثل ذلك على أنه يكون كلاما تأكيدا حينئذ؛ لأن تحريم الإضرار المذكور قبله لم يذكر له متعلق خاص؛ فإن فاعل {تضار} محذوف. والنهي دال على منع كل إضرار يحصل للوالدة فما فائدة إعادة تحريم ذلك على الوارث كما قدمناه آنفا.
واتفق علماء الإسلام على أن ظاهر الآية غير مراد؛ إذ لا قائل بوجوب نفقة المرضع على وارث الأب سواء كان إيجابها على الوارث في المال بأن يكون مبدأة على المواريث للاجماع على أنه لا يبدأ إلا بالتجهيز ثم الدين ثم الوصية، ولأن الرضيع له حظه في المال الموروث وهو إذا صار ذا مال لم تجب نفقته على غيره أم كان إيجابها على الوارث لو لم يسعها المال الموروث فيكمل من يده، ولذلك طرقوا في هذا باب التأويل إما تأويل معنى الوارث وإما تأويل مرجع الإشارة وإما كليهما.
فقال الجمهور: المراد وارث الطفل أي من لو مات الطفل: لورثه هو. روى عن عمر بن الخطاب وقتادة والسدى والحسن ومجاهد وعطاء وإسحاق وابن أبي ليلى وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل فيتقرر بالآية، أن النفقة واجبة على قرابة الرضيع وهم بالضرورة قرابة أبيه أي إذا مات أبوه ولم يترك مالا: تجب نفقة الرضيع على الأقارب. على حسب قربهم في الإرث ويجري ذلك على الخلاف في توريث ذي الرحم المحرم فهؤلاء يرون حقا على القرابة إنفاق العاجز في مالهم كما أنهم يرثونه إذا ترك مالا فهو من المواساة الواجبة مثل الدية
وقال الضحاك وقبيصة بن ذؤيب وبشير بن نصر قاضي عمر ابن عبد العزيز: المراد وارث الأب وأريد به نفس الرضيع. فالمعنى: أنه إذا مات أبوه وترك مالا فنفقته من إرثه. ويتجه على هذا أن يقال: ما وجه العدول عن التعبير بالولد إلى التعبير بالوارث? فنجيب بأنه للإيماء إلى أن الأب إنما وجبت عليه نفقة الرضيع لعدم مال للرضيع، فلهذا لما اكتسب مالا وجب عليه في ماله؛ لأن غالب أحوال الصغار ألا تكون لهم أموال مكتسبة سوى الميراث، وهذا تأويل بعيد؛ لأن الآية تكون قد تركت حكم من لا مال له. وقيل: أريد بالوارث المعنى المجازي وهو الذي يبقى بعد انعدام غيره كما في قوله تعالى: {وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ} [الحجر:23] يعني به أم الرضيع قاله سفيان فتكون النفقة على الأم قال التفتازاني في "شرح الكشاف" وهذا قلق في هذا المقام إذ ليس لقولنا: فالنفقة

على الأب وعلى من بقى من الأب والأم معنى يعتد به يعني أن إرادة الباقي تشمل صورة ما إذا كان الباقي الأب ولا معنى لعطفه على نفسه بهذا الاعتبار.وفي "المدونة" عن زيد بن أسلم وربيعة أن الوارث هو ولي الرضيع عليه مثل ما على الأب من عدم المضارة،
هذا كله على أن الآية محكمة لا منسوخة وأن المشار إليه بقوله: {مِثْلُ ذَلِكَ} هو الرزق والكسوة. وقال جماعة: الإشارة بقوله: {مِثْلُ ذَلِكَ} راجعة إلى النهي عن المضارة. قال ابن عطية: وهو لمالك وجميع أصحابه والشعبي والزهري والضحاك اهـ:
وفي المونة في ترجمة ما جاء فيمن تلزم النفقة من كتاب إرخاء الستور عن ابن القاسم قال مالك: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} أي الايضار. واختاره ابن العربي بأنه الأصل فقال القرطبي: يعني في الرجوع إلى أقرب مذكور، ورجحه ابن عطية بأن الأمة على أجمعت على ألا يضار الوارث. واختلفوا: هل عليه رزق وكسوة اه يعني مورد الآية بما هو مجمع على حكمه ويترك ما فيه الخلاف،
وهنالك تأويل بأنها منسوخة. ورواه أسد بن الفرات عن ابن القاسم عن مالك قال وقول الله عز وجل: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} هو منسوخ فقال النحاس وما علمت أحدا من أصحاب مالك بين ما الناسخ، والذي يبينه أن يكون الناسخ لها عند مالك أنه لما أوجب الله للمتوفى عنها زوجها نفقة حول، والسكنى من مال المتوفي، ثم نسخ ذلك نسخ أيضا عن الوارث يريد الله لما نسخ وجوب ذلك في تركة الميت نسخ كل حق في التركة بعد الميراث، فيكون الناسخ هو الميراث، فإنه نسخ كل حق في المال على أولياء الميت.
وعندي أن التأويل الذي في "مدونة سحنون" بعيد، لما تقدم آنفا، وأن ما نحاه مالك في رواية أسد بن الفرات عن ابن القاسم هو التأويل الصحيح، وأن النسخ على ظاهر المراد منه، والناسخ لهذا الحكم هو إجماع الأمة على أنه لا حق في مال الميت، بعد جهازه وقضاء دينه، وتنفيذ وصيته، إلا الميراث فنسخ بذلك كل ما كان مأمورا به أن يدفع من مال الميت مثل الوصية في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ} [البقرة:180] الآية، ومثل الوصية بسكنى الزوجة وإنفاقها في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ} [البقرة:240] ونسخ منه حكم هذه الآية وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله أعطى كل ذي حق حقه ألا لا وصية لوارث" هذا إذا حمل الوارث في الآية على وارث الميت أي إن ذلك

حق على جميع الورثة أيا كانوا بمعنى أنه مبدأ المواريث. وإذا حمل الوارث على من هو بحيث يرث الميت لو ترك الميت مالا، أعني قريبه، بمعنى أن عليه إنفاق ابن قريبه، فذلك منسوخ بوضع بيت المال وذلك أن هذه الآية شرعت هذا الحكم، في وقت ضعف المسلمين، لإقامة أود نظامهم بتربية أطفال فقرائهم، وكان أولى المسلمين بذلك أقربهم من الكفل فكما كان يرث قريبه، لو ترك مالا ولم يترك ولدا، فكذلك عليه أن يقوم ببينة، كما كان حكم القبيلة في الجاهلية، في ضم أيتامهم، ودفع دياتهم، فلما اعتز الإسلام وصار لجامعة المسلمين مال، كان حقا على جماعة المسلمين القيام بتربية أبناء فقرائهم. وفي الحديث الصحيح من ترك كلا، أو ضياعا، فعلي، ومن ترك مالا، فلوارثه ولا فرق بين إطعام الفقير وبين إرضاعه، وما هو إلا نفقة، ولمثله وضع بيت المال.
وقوله: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً} عطف على قوله: {يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} لأنه متفرع عنه، والضمير عائد على الوالدة والمولود له: الواقعين في الجمل قبل هذه.
والفصال: الفطام عن الإرضاع، لأنه فصل عن ثدي مرضعة. وعن في قوله: {عَنْ تَرَاضٍ} متعلقة بأرادا أي إرادة ناشئة عن التراضي،إذ قد تكون إرادتهما صورية أو يكون أحدهما في نفس الأمر مرعمل على الإرادة، بخوف، أو اضطرار.
وقوله: {وَتَشَاوُرٍ} هو مصدر شاور إذا طلب المشورة. والمشورة قيل مشتقة من الإشارة لأن كل واحد من المتشاورين يشير بما يراه نافعا فلذلك يقول المستشير لمن يستشيره بماذا تشير علي كأن أصله أنه يشير للأمر الذي فيه النفع، مشتق من الإشارة باليد، لأن الناصح المدبر كالذي يشير إلى الصواب ويعينه له من لم يهتد إليه، ثم عدي بعلي لما ضمن معنى التدبير، وقال الراغب: إنها مشتقة من شار العسل إذا استخرجه، وأياما كان اشتقاقها فمعناها إبداء الرأي في عمل يريد أن يعمله من يشاور وقد تقدم الكلام عليها، عند قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30] وسيجيء الكلام عليها عند قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} في سورة آل عمران، وعطف التشاور على التراضي تعليما للزوجين شئون تدبير العائلة، فإن التشاور يظهر الصواب ويحصل به التراضي.
وأفاد بقوله: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} أن ذلك مباح، وأن حق إرضاع الحولين مراعي فيه حق الأبوين وحق الرضيع، ولما كان ذلك يختلف باختلاف أمزجة الرضعاء جعل

اختلاف الأبوين دليلا على توقع حاجة الطفل إلى زيادة الرضاع، فأعمل قول طالب الزيادة منهما، كما تقدم، فإذا تشاور الأبوان وتراضيا، بعد ذلك، على الفصال كان تراضيهما دليلا على أنهما رأيا من حال الرضيع ما يغنيه عن الزيادة، إذ لا يظن بهما التمالؤ على ضر الولد، ولا يظن إخفاء المصلحة عليهما، بعد تشاورهما، إذ لا يخفي عليهما حال ولدهما.
وقوله: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} انتقال إلى حالة إرضاع الطفل غير والدته، إذا تعذر على الوالدة إرضاعه، لمرضها، أو تزوجها أو إن أبت ذلك حيث يجوز لها الإباء، كما تقدم في الآية السابقة، أي إن أردتم أن تطلبوا الإرضاع لأولادكم فلا إثم في ذلك،
والمخاطب بأردتم: الأبوان باعتبار تعدد الأبوين في الأمة وليس المخاطب خصوص الرجال، لقوله تعالى فيما سبق: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} فعلم السامع أن هذا الحكم خاص بحالة تراضي الأبوين على ذلك لعذر الأم، وبحالة فقد الأم. وقد علم من قوله: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} أن حالة التراضي هي المقصودة أولا، لأن نفي الجناح مؤذن بتوقعه، وإنما يتوقع ذلك إذا كانت الأم موجودة، وأريد صرف الابن عنها إلى موضع أخرى، لسبب مصطلح عليه، وهما لا يريدان ذلك إلا حيث يتحقق عدم الضر للابن، فلو علم ضر الولد لم يجز، وقد كانت العرب تسترضع لأولادها، لا سيما أهل الشرف. وفي الحديث: "واسترضعت في بني سعد".
والاسترضاع أصله طلب إرضاع الطفل، أي طلب أن ترضع الطفل غير أمه، فالسين والتاء في "تسترضعوا" للطلب ومفعوله محذوف، وأصله أن تسترضعوا مراضع لأولادكم، لأن الفعل يعدى بالسين والتاء- الدالين على الطلب- إلى المفعول المطلوب منه الفعل فلا يتعدى إلا إلى مفعول واحد، وما بعده يعدى إليه بالحرف وقد يحذف الحرف لكثرة الاستعمال، كما حذف في استرضع واستنجح، فعدي الفعل إلى المجرور على الحذف والإيصال، وفي الحديث واسترضعت في بني سعد ووقع في "الكشاف" ما يقتضي أن السين والتاء دخلتا على الفعل المهموز المتعدي إلى واحد فزادتاه تعدية لثان، وأصله أرضعت المرأة الولد، فإذا قلت: استرضعتها صار متعديا إلى مفعولين، وكأن وجهه أننا ننظر إلى الحدث المراد طلبه، فإن كان حدثا قاصرا، فدخلت عليه السين والتاء، عدي إلى مفعول واحد، نحو استنهضته فنهض، وإن كان متعديا فدخلت عليه السين والتاء، عدي إلى مفعولين، نحو استرضعتها فأرضعت، والتعويل على القرينة، إذ لا يطلب أصل الرضاع لا

من الولد ولا من الأم، وكذا: استنجحت الله سعيي، إذ لا يطلب من الله إلا إنجاح السعي، ولا معنى لطلب نجاح الله، فبقطع النظر عن كون الفعل تعدى إلى مفعولين، أو إلى الثاني بحذف الحرف، نرى أنه لا معنى لتسلط الطلب على الفعل هنا أصلا، على أنه لولا هذا الاعتبار، لتعذر طلب وقوع الفعل المتعدي بالسين والتاء، وهو قد يطلب حصوله فما أوردوه على "الكشاف": من أن حروف الزيادة إنما تدخل على المجرد لا المزيد مدفوع بأن حروف الزيادة إذا تكررت، وكانت لمعان مختلفة جاز اعتبار بعضها داخلا بعد بعض، وإن كان مدخولها كلها هو الفعل المجرد.
وقد دل قوله: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} على أنه ليس المراد بقوله: {يُرْضِعْنَ} تشريع وجوب الإرضاع على الأمهات، بل المقصود تحديد مدة الإرضاع، وواجبات المرضع على الأب، وأما إرضاع الأمهات فموكول إلى ما تعارفه الناس، فالمرأة التي في العصمة، إذا كان مثلها يرضع، يعتبر إرضاعها أولادها من حقوق الزوج عليها في العصمة، إذ العرف كالشرط. والمرأة المطلقة لا حق لزوجها عليها، فلا ترضع له إلا باختيارها. ما لم يعرض في الحالين مانع أو موجب، مثل عجز المرأة في العصمة عن الإرضاع لمرض، ومثل امتناع الصبي من رضاع غيرها، إذا كانت مطلقة بحيث يخشى عليه، والمرأة التي لا يرضع مثلها وهي ذات القدر، قد علم الزوج حينما تزوجها أن مثلها لا يرضع، فلم يكن له عليها حق الإرضاع. هذا قول مالك، إذ العرف كالشرط، وقد كان ذلك عرفا من قبل الإسلام وتقرر في الإسلام، وقد جرى في كلام المالكية، في كتب الأصول: أن مالكا خصص عموم الوالدات بغير ذوات القدر، وأن المخصص هو العرف، وكنا نتابعهم على ذلك، ولكني الآن لا أرى ذلك متجها ولا أرى مالكا عمد إلى التخصيص أصلا، لأن الآية غير مسوقة لإيجاب الإرضاع، كما تقدم.
وقوله: {إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ} أي إذا سلمتم إلى المراضع أجورهن. فالمراد بما آتيتم: الأجر، ومعنى آتى في الأصل دفع؛ لأنه معدي أتى بمعنى وصل، ولما كان أصل إذا أن يكون ظرفا للمستقبل، مضمنا معنى الشرط، لم يلتئم أن يكون مع فعل: {آتَيْتُمْ} الماضي.
وتأول في "الكشاف" {آتَيْتُمْ} بمعنى: أردتم إيتاءه، كقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة:6] تبعا لقوله: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ}، والمعنى: إذا سلمتم أجور المراضع بالمعروف، دون إجحاف ولا مطل.

وقرأ ابن كثير {آتَيْتُمْ} بترك همزة التعدية. فالمعنى عليه: إذا سلمتم ما جئتم، أي ما قصدتم، فالإتيان حينئذ مجاز عن القصد، كقوله تعالى: {إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الصافات:84] وقال زهير:
وما كان من خير أتوه فإنما
توارثه آباء آبائهم قبل
وقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} تذييل للتخويف، والحث على مراقبة ما شرع الله، من غير محاولة ولا مكايدة، وقوله: { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ} تذكير لهم بذلك، وإلا فقد علموه. وقد تقدم نظيره آنفا.
[234] {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}
انتقال إلى بيان عدة الوفاة، بعد الكلام عن عدة الطلاق، وما اتصل بذلك من أحكام الإرضاع، عقب الطلاق، تقصيا لما به إصلاح أحوال العائلات، فهو عطف قصة على قصة،
ويتوفون مبني للمجهول، وهو من الأفعال التي التزمت العرب فيها البناء للمجهول: مثل عني واضطر، وذلك في كل فعل قد عرف فاعله ما هو، أو لم يعرفوا له فاعلا معينا. وهو من توفاه الله، أو توفاه الموت، فاستعمال التوفي منه مجاز، تنزيلا لعمر الحي منزلة حق الموت، أو الخالق الموت، فقالوا: توفى فلان كما يقال: توفى الحق ونظيره قبض فلان، وقبض الحق فصار المراد من توفى: مات، كما صار المراد من قبض وشاع هذا المجاز حتى صار حقيقة عرفية وجاء الإسلام فقال الله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ} [الزمر:42] وقال: {حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ} [النساء:15] وقال: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ} [السجدة:11] فظهر الفاعل، المجهول عندهم، في مقام التعليم أو الموعظة، وأبقي استعمال الفعل مبينا للمجهول فيما عدا ذلك: إيجاز وتبعا للاستعمال.
وقوله: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} خبر الذين وقد حصل الربط بين المبتدأ والخبر بضمير {يَتَرَبَّصْنَ} العائد إلى الأزواج، الذي هو مفعول الفعل المعطوف على الصلة، فهن أزواج المتوفين؛ لأن الضمير قائم مقام الظاهر، وهذا الظاهر قائم مقام المضاف إلى ضمير المبتدأ، بناء على مذهب الأخفش والكسائي: من الاكتفاء في الربط بعود الضمير

على اسم، مضاف إلى مثل العائد، وخالف الجمهور في ذلك، كما في التسهيل وشرحه، ولذلك قدروا هنا: {وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ} بعدهم كما قالوا: "السمن منوان بدرهم" أي منه، وقيل: التقدير: وأزواج الذين يتوفون منكم إلخ يتربصن، بناء على أنه حذف لمضاف، وبذلك قدر في "الكشاف" ولا داعي إليه كما قال التفتازاني، وقيل التقدير: ومما يتلى عليكم حكم الذين يتوفون منكم، ونقل ذلك عن سيبويه، فيكون {يَتَرَبَّصْنَ}: استئنافا، وكلها تقديرات لا فائدة فيها، بعد استقامة المعنى.
وقوله: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} تقدم بيانه عند قوله تعالى :{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} [البقرة:228].
وتأنيث اسم العدد في قوله: {وعشرا} لمراعاة الليالي، والمراد: الليالي بأيامها؛ إذ لا تكون ليلة بلا يوم، ولا يوم بلا ليلة، والعرب تعتبر الليالي في التاريخ والتأجيل، يقولون: كتب لسبع خلون في شهر كذا، وربما اعتبروا الأيام كما قال تعالى: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة:196] وقال: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:184] لأن عمل الصيام إنما يظهر في اليوم لا في الليلة،
قال في "الكشاف": والعرب تجري أحكام التأنيث والتذكير، في أسماء الأيام، إذا لم تجر على لفظ مذكور، بالوجهين. قال تعالى: {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً} [طه:104] فأراد بالعشر: الأيام ومع ذلك جردها من علامة تذكير العدد، لأن اليوم يعتبر مع ليلته، وقد جعل الله عدة الوفاة منوطة بالأمد الذي يتحرك في مثله الجنين تحركا بينا، محافظة على أنساب الأموات؛ فإنه جعل عدة الطلاق ما يدل على براءة الرحم دلالة ظنية: وهو الأقراء، على ما تقدم؛ لأن المطلق يعلم حال مطلقته من طهر وعدمه، ومن قربانه إياها قبل الطلاق وعدمه، وكذلك العلوق لا يخفى، فلو أنها ادعت عليه نسبا، وهو يوقن بانتفائه، كان له في اللعان مندوحة، أما الميت فلا يدافع عن نفسه، فجعلت عدته أمدا مقطوعا بانتفاء الحمل في مثله: وهو الأربعة الأشهر والعشرة، فإن الحمل يكون نطفة أربعين يوما، ثم علقة أربعين يوما، ثم مضغة أربعين يوما، ثم ينفخ فيه الروح. فما بين استقرار النطفة في الرحم، إلى نفخ الروح في الجنين، أربعة أشهر، وإذ قد كان الجنين، عقب نفخ الروح فيه، يقوى تدريجا، جعلت العشر الليالي: الزائدة على الأربعة الأشهر، لتحقق تحرك الجنين تحركا بينا، فإذا مضت هذه المدة حصل اليقين بانتفاء الحمل؛ إذ لو كان

ثمة حمل لتحرك لا محالة، وهو يتحرك لأربعة أشهر، وزيدت عليها العشر احتياطا لاختلاف حركات الأجنة قوة وضعفا، باختلاف قوى الأمزجة.
وعموم {الَّذِينَ} في صلته، وما يتعلق بها من الأزواج، يقتضي عموم هذا الحكم في المتوفي عنهن، سواء كن حرائر أم إماء، وسواء كن حوامل أم غير حوامل، وسواء كن مدخولا بهن أم غير مدخول بهن، فأما الإماء فقال جمهور العلماء: إن عدتهن على نصف عدة الحرائر. قياسا على تنصيف الحد، والطلاق، وعلى تنصيف عدة الطلاق، ولم يقل بمساواتهن للحرائر، في عدة الوفاة إلا الأصم، وفي رواية عن ابن سيرين، إلا أمهات الأولاد فقالت طائفة: عدتهن مثل الحرائر، وهو قول سعيد الزهري والحسن والأوزاعي وإسحاق وروي عن عمرو بن العاص، وقالت طوائف غير ذلك. وإن إجماع فقهاء الإسلام على تنصيف عدة الوفاة في الأمة المتوفى زوجها لمن معضلات المسائل الفقهية، فبنا أن ننظر إلى حكمة مشروعية عدة الوفاة، وإلى حكمة مشروعية التنصيف لذي الرق، فيما نصف له فيه حكم شرعي، فنرى بمسلك السبر والتقسيم أن عدة الوفاة إما أن تكون لحكمة تحقق النسب أو عدمه، وإما أن تكون لقصد الإحداد على الزوج، لما نسخ الإسلام ما كان عليه أهل الجاهلية من الإحداد حولا كاملا، أبقي لهن ثلث الحول، كما أبقي للميت حق الوصية بثلث ماله، وليس لها حكمة غير هذين؛ إذ ليس فيها ما في عدة الطلاق من حكمة انتظار ندامة المطلق، وليس هذا الوجه الثاني بصالح التعليل، لأنه لا يظن بالشريعة أن تقرر أوهام أهل الجاهلية، فتبقى منه تراثا سيئا، ولأنه قد عهد من تصرف الإسلام إبطال تهويل أمر الموت، والجزع له، الذي كان عند الجاهلية، عرف ذلك في غير ما موضع من تصرفات الشريعة، ولأن الفقهاء اتفقوا على أن عدة الحامل من الوفاة وضع حملها، فلو كانت عدة غير الحامل لقصد استبقاء الحزن لاستوتا في العدة، فتعين أن حكمة عدة الوفاة هي تحقق الحمل أو عدمه، فلننقل النظر إلى الأمة نجد فيها وصفين: الإنسانية والرق، فإذا سلكنا إليهما طريق تخريج المناط، وجدنا الوصف المناسب لتعليل الاعتداد الذي حكمته تحقق النسب هو وصف الإنسانية؛ إذ الحمل لا يختلف حاله باختلاف أصناف النساء، وأحوالهن الاصطلاحية أما الرق فليس وصفا صالحا للتأثير في هذا الحكم، وإنما نصفت للعبد أحكام ترجع إلى المناسب التحسيني: كتنصيف الحد لضعف مروءته، ولتفشي السرقة في العبيد، فطرد حكم التنصيف لهم في غيره. وتنصيف عدة الأمة في الطلاق الوارد في الحديث، لعلة الرغبة في مراجعة أمثالها، فإذا جاء راغب فيها بعد قرأين تزوجت، ويطرد باب التنصيف أيضا. فالوجه أن تكون عدة

الوفاة للأمة كمثل الحرة، وليس في تنصيفها أثر، ومستند الإجماع قياس مع وجود الفارق.
وأما الحوامل فالخلاف فيهن قوي؛ فذهب الجمهور إلى أن عدتهم من الوفاة وضع حملهن، وهو قول عمر وابنه وأبي سلمة بن عبد الرحمن وأبي هريرة، وهو قول مالك، قال عمر: "لو وضعت حملها وزوجها على سريره لم يدفن لحلت للأزواج" وحجتهم: حديث سبيعة الأسلمية زوج سعد بن خولة، توفى عنها بمكة عام حجة الوداع1 وهي حامل فوضعت حملها بعد نصف شهر كما في الموطأ، أو بعد أربعين ليلة، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها: "قد حللت فانكحي إن بدا لك" واحتجوا أيضا بقوله تعالى في آية سورة الطلاق {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4] وعموم أولات الأحمال، مع تأخر نزول تلك السورة عن سورة البقرة، يقضي بالمصير إلى اعتبار تخصيص عموم ما في سورة البقرة، وإلى هذا أشار قول ابن مسعود من شاء باهلته، لنزلت سورة النساء القصرى يعني سورة {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ} [الطلاق:1] بعد الطولي أي السورة الطولي أي البقرة وليس المراد سورة النساء الطولي. وعندي أن الحجة للجمهور، ترجع إلى ما قدمناه من أن حكمة عدة الوفاة هي تيقن حفظ النسب، فلما كان وضع الحمل أدل شيء على براءة الرحم، كان مغنيا عن غيره، وكان ابن مسعود يقول: "أتجعلون عليها التغليظ ولا تجعلون عليها الرخصة" يريد أنها لو طال أمد حملها لما حلت.
وعن على وابن مسعود أن عدة الحامل في الوفاة أقصى الأجلين، واختاره سحنون من المالكية فقال بعض المفسرين: إن في هذا القول جمعا بين مقتضى الآيتين، وقال بعضهم: في هذا القول احتياط، وهذه العبارة أحسن؛ إذ ليس في الأخذ بأقصى الأجلين جمع بين الآيتين بالمعنى الأصولي؛ لأن الجمع بين المتعارضين معناه أن يعمل بكل منهما: في حالة أو زمن أو أفراد، غير ما اعمل فيه بالآخر، بحيث يتحقق في صورة الجمع عمل بمقتضى المتعارضين معا، ولذلك يسمون الجمع بإعمال النصين، والمقصود من الاعتداد تحديد أمد التربص والانتظار، فإذا نحن أخذنا بأقصى الأجلين، أبطلنا
ـــــــ
1 وهو الذي روي في شأنه عن الزهري في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:ط اللهم امض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم لكن البائس سعد بن خولة" قال الزهري يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة.

مقتضى إحدى الآيتين لا محالة؛ لأننا نلزم المتوفى عنها بتجاوز ما حددته لها إحدى الآيتين، ولا نجد حالة تحقق فيها مقتضاها، كما هو بين، فأحسن العبارتين أن تعبر بالاحتياط: وهو أن الآيتين تعارضتا بعموم وخصوص وجهي، فعمدنا إلى صورة التعارض وأعملنا فيها مرة مقتضى هذه الآية، ومرة مقتضى الأخرى، ترجيحا لأحد المقتضيين في كل موضع بمرجح الاحتياط، فهو ترجيح لا جمع لكن حديث سبيعة في الصحيح أبطل هذا المسلك للترجيح كما أن ابتداء سورة الطلاق بقوله تعالى: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق:1] ينادي على تخصيص عموم قوله: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4] هنالك بالحوامل المطلقات، وقد قيل: إن ابن عباس رجع إلى قول الجمهور وهو ظاهر حديث "الموطأ" في اختلافه وأبي سلمة في ذلك، وإرسالهما من سأل أم سلمة رضى الله عنها، فأخبرتهما بحديث سبيعة،
فإن قلت: كيف لا تلتفت السريعة، على هذا، إلى ما في طباع النساء من الحزن على وفاة أزواجهن? وكيف لا تبقى بعد نسخ حزن الحول الكامل مدة ما يظهر فيها حال المرأة? وكيف تحل الحامل للأزواج لو وضعت حملها وزوجها لما يوضع عن سريره كما وقع في قول عمر? قلت: كان أهل الجاهلية يجعلون إحداد الحول فرضا على كل متوفى عنها، والأزواج في هذا الحزن متفاوتان، وكذلك هن متفاوتات في المقدرة على البقاء في الانتظار لقلة ذات اليد في غالب النساء، فكن يصبرن على انتظار الحول راضيات، أو كارهات، فلما أبطل الشرع ذلك فيما أبطل من أوهام الجاهلية، لم يكترث بأن يشرع للنساء حكما في هذا الشأن، ووكله إلى ما يحدث في نفوسهن، وجدتهن، كما يوكل جميع الجبليات والطبعيات إلى الوجدان؛ فإنه لم يعين للناس مقدار الأكلات والأسفار، والحديث، ونحو هذا. وإنما اهتم بالمقصد الشرعي: وهو حفظ الأنساب، فإذا قصي حقه، فقد بقي للنساء أن يفعلن في أنفسهم ما يشأن، من المعروف، كما قال: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ} فإذا شاءت المرأة بعد انقضاء العدة أن تحبس نفسها فلتفعل.
أما الأزواج غير المدخول بهن، فعليهن عدة الوفاة، دون عدة الطلاق، لعموم هذه الآية ولأن لهن الميراث، فالعصمة تقررت بوجه معتبر، حتى كانت سبب إرث، وعدم الدخول بالزوجة، لا ينفي احتمال أن يكون الزوج قد قاربها خفية، إذ هي حلال له، فأوجب عليها الاعتداد احتياطا لحفظ النسب، ولذلك قال مالك، وإن كان للنظر فيه مجال، فقد تقاس المتوفى عنها زوجها، الذي لم يدخل بها، على التي طلقها زوجها قبل أن

يمسها، التي قال الله تعالى فيها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:49].
وقد ذكروا حديث بروع بنت واشق الأشجعية، رواه الترمذي عن معقل بن سنان الأشجعي: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضي في بروع بنت واشق وقد مات زوجها، ولم يفرض لها صداقا، ولم يدخل بها أن لها مثل صداق نسائها، وعليها العدة ولها الميراث" ولم يخالف أحد في وجوب الاعتداد عليها، وإنما اختلفوا في وجوب مهر المثل لها.
وقوله: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} أي إذا انتهت المدة المعنية بالتربص، أي إذا بلغن بتربصهن تلك المدة، وجعل امتداد التربص بلوغا، على وجه الإطلاق الشائع في قولهم بلغ الأمد، وأصله اسم البلوغ وهو الوصول، استعير لإكمال المدة تشبيها للزمان بالطريق الموصلة إلى المقصود. والأجل مدة من الزمن جعلت ظرفا لإيقاع فعل في نهايتها أو في أثنائها تارة.
وضمير {أَجَلَهُنَّ} للأزواج اللائى توفي عنهن أزواجهن، وعرف الأجل بالإضافة إلى ضميرهن دون غير الإضافة من طرق التعريف لما يؤذن به إضافة أجل من كونهن قضين ما عليهن، فلا تضايقوهن بالزيادة عليه.
وأسند البلوغ إليهن، وأضيف الأجل إليهن، تنبيها على أن مشقة هذا الأجل عليهن ومعنى الجناح هنا: الحرج، لإزالة ما عسى أن يكون قد بقي في نفوس الناس من استفظاع تسرع النساء إلى التزوج بعد عدة الوفاة، وقيل الحول، فإن أهل الزوج المتوفى قد يتحرجون من ذلك، فنفي الله هذا الحرج، وقال: {فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ} تغليظا لمن يتحرج من فعل غيره، كأنه يقول لو كانت المرأة ذات تعلق شديد بعهد زوجها المتوفى، لكان داعي زيادة تربصها من نفسها، فإذا لم يكن لها ذلك الداعي، فلماذا التحرج مما تفعله في نفسها، ثم بين الله ذلك وقيده بأن يكون "من المعروف" نهيا للمرأة أن تفعل ما ليس من المعروف شرعا وعادة، كالإفراط في الحزن المنكر شرعا، أو التظاهر بترك التزوج بعد زوجها، وتغليظا للذين ينكرون على النساء تسرعهن بعد العدة، أو بعد وضع الحمل، كما فعلت سبيعة أي فإن ذلك من المعروف.
وقد دل مفهوم الشرط في قوله: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} على أنهن، في مدة الأجل، منهيات عن أفعال في أنفسهن كالتزوج وما يتقدمه من الخطبة والتزين، فأما التزوج في العدة فقد اتفق المسلمون على منعه، وسيأتي تفصيل القول فيه عند قوله تعالى: {وَلا

جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} [البقرة:235].وأما ما عداه، فالخلاف مفروض في أمرين: في الإحداد، وفي ملازمة البيت.
فأما الإحداد فهو مصدر أحدت المرأة إذا حزنت، ولبست ثياب الحزن، وتركت الزينة، ويقال حداد، والمراد به في الإسلام ترك المعتدة من الوفاة الزينة، والطيب، ومصبوغ الثياب، إلا الأبيض، وترك الحلي، وهو واجب بالسنة ففي الصحيح: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا" ولم يخالف في هذا إلا الحسن البصري، فجعل الإحداد ثلاثة أيام لا غير وهو ضعيف.
والحكمة من الإحداد سد ذريعة كل ما يوسوس إلى الرجال: من رؤية محاسن المرأة المعتدة، حتى يبتعدوا عن الرغبة في التعجل بما لا يليق، ولذلك اختلف العلماء في الإحداد على المطلقة، فقال مالك، والشافعي، وربيعة، وعطاء: لا إحداد على مطلقة، أخذا بصريح الحديث، وبأن المطلقة يرقبها مطلقها، ويحول بينها وبين ما عسى أن تتساهل فيه، بخلاف المتوفى عنها كما قدمناه،
وقال أبو حنيفة، والثوري، وسعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، وابن سيرين: تحد المطلقة طلاق الثلاث، كالمتوفى عنها، لأنهما جميعا في عدة يحفظ فيها النسب، والزوجة الكتابية كالمسلمة في ذلك، عند مالك، تجبر عليه وبه قال الشافعي، والليث، وأبو ثور، لاتحاد العلة، وقال أبو حنيفة، وأشهب، وابن نافع، وابن كنانة، من المالكية: لا إحداد عليها، وقوفا عند قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر" فوصفها بالإيمان، وهو متمسك ضئيل، لأن مورد الوصف ليس مورد التقييد، بل مورد التحريض على امتثال أمر الشريعة.
وقد شدد النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الإحداد، ففي "الموطأ": "أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن ابنتي توفى عنها زوجها، وقد اشتكت عينيها، أفتكحلهما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا لا" مرتين أو ثلاثا "إنما هي أربعة أشهر وعشرا وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول1" . وقد أباح النبي صلى الله عليه وسلم لأم سلمة في مدة
ـــــــ
1 فسر هذا في "الموطأ" بأن المرأة كانت في الجاهلية إذا توفي زوجها دخلت حفضا- بكسر الحاء وسكون الفاء وهو بيت رديء ولبست شر ثيابها ولم تمسس طيبا ولا شيئا حتى يمر بها سنة ثم تؤتي بدابة شاة أو طائر أو حمار فتفتض به أي تمسح جلدها به وتخرج وهي في شر منظر فتعطى

إحدادها على أبي سلمة: أن تجعل الصبر في عينيها بالليل، وتمسحه بالنهار، وبمثل ذلك أفتت أم سلمة امرأة حاجا اشتكت عينيها أن تكتحل بكحل الجلاء بالليل، وتمسحه بالنهار، روى ذلك كله في الموطأ، قال مالك: "وإذا كانت الضرورة فإن دين الله يسر": ولذلك حملوا نهي النبي صلى الله عليه وسلم المرأة التي استفتته أمها أن تكحل على أنه علم من المعتدة أنها أرادت الترخص، فقيضت أمها لتسأل لها.
وأما ملازمة معتدة الوفاة بيت زوجها فليست مأخوذة من هذه الآية؛ لأن التربص تربص بالزمان، لا بدل على ملازمة المكان، والظاهر عندي أن الجمهور أخذوا ذلك من قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة:240] فإن ذلك الحكم لم يقصد به إلا حفظ المعتدة، فلما نسخ عند الجمهور، بهذه الآية، كان النسخ واردا على المدة وهي الحول، لا على بقية الحكم، على أن المعتدة من الوفاة أولى بالسكنى من معتدة الطلاق التي جاء فيها: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق:1} وجاء فيها: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} [الطلاق:6] وقال المفسرون والفقهاء: ثبت وجوب ملازمة البيت، بالسنة، ففي "الموطأ" و"الصحاح" أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للفريعة ابنة مالك بن سنان الخدري، أخت أبي سعيد الخدري لما توفى عنها زوجها: "امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله" وهو حديث مشهور، وقضي به عثمان بن عفان وفي "الموطأ" أن عمر بن الخطاب كان يرد المتوفى عنهن أزواجهن من البيداء يمنعهن الحج، وبذلك قال ابن عمر، وبه أخذ جمهور فقهاء المدينة، والحجاز، والعراق، والشام، ومصر، ولم يخالف في ذلك إلا علي، وابن عباس، وعائشة، وعطاء، والحسن، وجابر بن زيد، وأبو حنيفة، وداود الظاهري، وقد أخرجت عائشة رضي الله عنها أختها أم كلثوم، حين توفي زوجها، طلحة بن عبيد الله، إلى مكة في عمرة، وكانت تفتي بالخروج، فأنكر كثير من الصحابة ذلك عليها، قال الزهري: فأخذ المترخصون بقول عائشة، وأخذ أهل العزم والورع بقول ابن عمر،
واتفق الكل على أن المرأة المعتدة تخرج للضرورة، وتخرج نهارا، لحوائجها، من
ـــــــ
بعرة فترمي بها من وراء ظهرها ثم تسرع إلى بيت أهلها وتراجع بعد ذلك ما شاءت من طيب وغيره وتحل للخطاب قالوا: وفي البعرة رمز إلى أن ما فعلته في مدة الحول التي مضت أمر هين بالنسبة إلى عظط مصابها بزوجها كأنه بعرة.

وقت انتشار الناس إلى وقت هدوئهم بعد العتمة، ولا تبيت إلا في المنزل، وشروط ذلك وأحكامه، ووجود المحل للزوج، أو في كرائه، وانتظار الورثة بيع المنزل إلى ما بعد العدة، وحكم ما لو ارتابت في الحمل فطالت العدة، مبسوطة في كتب الفقه، والخلاف، فلا حاجة بنا إليها هنا.
ومن القراءات الشاذة في هذه الآية: ما ذكره في "الكشاف" أن عليا قرأ {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ} بفتح التحتية على أنه مضارع توفي، مبنيا للفاعل بمعنى مات بتأويل إنه توفي أجله أي استوفاه.
وأنا، وإن كنت التزمت ألا أتعرض للقراءات الشاذة، فإنما ذكرت هذه القراءة لقصة طريفة فيها نكتة عربية، أشار إليها في "الكشاف"، وفصلها السكاكي في "المفتاح"، وهي أن عليا كان يشيع جنازة، فقال له قائل من المتوفى بلفظ اسم الفاعل أي بكسر الفاء سائلا عن المتوفى -بفتح الفاء- فلم يقل: فلان بل قال "الله" مخطئا إياه، منبها له بذلك على أنه يحق أن يقول: من المتوفى بلفظ اسم المفعول، وما فعل ذلك إلا لأنه عرف من السائل أنه ما أورد لفظ المتوفى على الوجه الذي يكسوه جزالة وفخامة، وهو وجه القراءة المنسوبة إليه -أي إلى على- {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} بلفظ بناء الفاعل على إرادة معنى: والذين يستوفون مدة أعمارهم.
وفي "الكشاف" أن القصة وقعت مع أبي الأسود الدؤلي، وأن عليا لما بلغته أمر أبا الأسود أن يضع كتابا في النحو، وقال: إن الحكاية تناقضها القراءة المنسوبة إلى علي، فجعل القراءة مسلمة وتردد في صحة الحكاية، وعن ابن جني: أن الحكاية رواها أبو عبد الرحمن السلمي عن علي، قال ابن جني: "وهذا عندي مستقيم لأنه على حذف المفعول أي والذين يتوفون أعمارهم أو آجالهم، وحذف المفعول كثير: في القرآن وفصيح الكلام"
وقال التفتازاني: "ليس المراد أن للمتوفى معنيين: أحدهما الإمانة، وثانيهما الاستيفاء، وأخذ الحق، بل معناه الاستيفاء وأخذ الحق لا غير، لكن عند الاستعمال قد يقدر مفعوله النفس فيكون الفاعل هو الله تعالى أو الملك، وهذا الاستعمال الشائع، وقد يقدر مدة العمر فيكون الفاعل هو الميت لأنه الذي استوفى مدة عمره، وهذا من المعاني الدقيقة التي لا يتنبه لها إلا البلغاء، فحين عرف علي من السائل عدم تنبهه لذلك لم يحمل كلامه عليه".

[235] {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ}
{وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ}
عطف على الجملة التي قبلها، فهذا من الأحكام المتعلقة بالعدة، وقد تضمنت الآيات التي قبلها أحكام عدة الطلاق، وعدة الوفاة، وأن أمد العدة محترم، وأن المطلقات إذا بلغن أجلهن جاز أن يفعلن في أنفسهن ما أردن من المعروف، فعلم من ذلك أنهن إذا لم يبلغنه لا يجوز ذلك فالتزوج في مدة الأجل حرام، ولما كان التحدث في التزوج إنما يقصد منه المتحدث حصول الزواج، وكان من عادتهم أن يتسابقوا إلى خطبة المعتدة ومواعدتها، حرصا على الاستئثار بها بعد انقضاء العدة فبينت الشريعة لهم تحريم ذلك، ورخصت في شيء منه ولذلك عطف هذا الكلام على سابقه.
والجناح الإثم وقد تقدم في قوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة:158].
وقوله: {مَا عَرَّضْتُمْ بِهِ} ما موصولة، وما صدقها كلام، أي كلام عرضتم به، لأن التعريض يطلق على ضرب من ضروب المعاني المستفاد من الكلام، بينه بقوله: {مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} فدل على أن المراد كلام.
ومادة فعل فيه دلالة على الجعل: مثل صور مشتقة من العرض بضم العين وهو الجانب أي جعل كلامه بجانب، والجانب هو الطرف، فكأن المتكلم يحيد بكلامه من جادة المعنى إلى جانب. ونظير هذا قولهم جنبه، أي جعله في جانب.فالتعريض أن يريد المتكلم من كلامه شيئا، غير المدلول عليه بالتركيب وضعا، لمناسبة بين مدلول الكلام وبين الشيء المقصود، مع قرينة على إرادة المعنى للتعريض، فعلم ألا بد من مناسبة بين مدلول الكلام وبين الشيء المقصود، وتلك المناسبة: إما ملازمة، أو مماثلة، وذلك كما يقول العافي، لرجل كريم: جئت لأسلم عليك ولأنظر وجهك، وقد عبر عن إرادتهم مثل

هذا أميمة بن أبي الصلت في قوله:
إذا أثنى عليك المرء يوما ... كفاه عن تعرضه الثناء
وجعل الطيبي منه قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة:116].
فالمعنى التعريض في مثل هذا حاصل من الملازمة، وكقول القائل: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه" في حضرة من عرف بأذى الناس، فالمعنى التعريض حاصل من علم الناس بمماثلة حال الشخص المقصود للحالة التي ورد فيها معنى الكلام، ولما كانت المماثلة شبيهة بالملازمة لأن حضور المماثل في الذهن يقارن حضور مثيله، صح أن نقول إن المعنى التعريض، بالنسبة إلى المركبات، شبيه بالمعنى الكنائي، بالنسبة إلى دلالة الألفاظ المفردة وإن شئت قلت المعنى التعريضي من قبيل الكناية بالمركب فخص باسم التعريض كما أن المعنى الكنائي من قبيل الكناية باللفظ المفرد. وعلى هذا فالتعريض من مستتبعات التراكيب، وهذا هو الملاقي لما درج عليه صاحب "الكشاف" في هذا المقام، فالتعريض عنده مغاير للكناية، من هذه الجهة، وإن كان شبيها بها، ولذلك احتاج إلى الإشارة إلى الفرق بينهما. فالنسبة بينهما عنده التباين. وأما السكاكي فقد جعل بعض التعريض من الكناية وهو الأصوب، فصارت النسبة بينهما العموم والخصوص الوجهي، وقد حمل الطيبي والتفتازاني كلام "الكشاف" على هذا، ولا إخاله يتحمله.
وإذ قد تبين لك معنى التعريض، وعلمت حد الفرق بينه وبين الصريح فأمثلة التعريض والتصريح لا تخفى، ولكن فيما أثر من بعض تلك الألفاظ إشكال لا ينبغي الإغضاء عنه في تفسير هذه الآية.
إن المعرض بالخطبة تعريضه قد يريده لنفسه، وقد يريده لغيره بوساطته، وبين الحالتين فرق ينبغي أن يكون الحكم في المتشابه من التعريض، فقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة ابنة قيس، وهي في عدتها من طلاق زوجها، عمرو بن حفص، آخر الثلاث: "كوني عند أم شريك ولا تسبقيني بنفسك" أي لا تستبدي بالتزوج قبل استئذاني وفي رواية: "فإذا حللت فآذنيني" وبعد انقضاء عدتها، خطبها لأسامة بن زيد، فهذا قول لا خطبة فيه وإرادة المشورة فيه واضحة.
ووقع في "الموطأ": أن القاسم بن محمد كان يقول، في قوله تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} أن يقول الرجل للمرأة، وهي في عدتها من وفاة

زوجها، إنك علي لكريمة وإني فيك لراغب.
فأما إنك علي لكريمة فقريب من صريح إرادة التزوج بها، وما هو بصريح، فإذا لم تعقبه مواعدة من أحدهما فأمره محتمل، وأما قوله إني فيك لراغب فهو بمنزلة صريح الخطبة وأمره مشكل، وقد أشار ابن الحاجب إلى إشكاله بقوله: "قالوا ومثل إني فيك لراغب أكثر هذه الكلمات تصريحا فينبغي ترك مثله" ويذكر عن محمد الباقر أن النبي صلى الله عليه وسلم عرض لأم سلمة في عدتها، من وفاة أبي سلمة، ولا أحسب ما ورى عنه صحيحا.
وفي "تفسير ابن عرفة": "قيل إن شيخنا محمد بن أحمد بن حيدرة، كان يقول: "إذا كان التعريض من أحد الجانبين فقط وأما إذا وقع التعريض منهما فظاهر المذهب أنه كصريح المواعدة".
ولفظ النساء عام لكن خص منه ذوات الأزواج، بدليل العقل ويخص منه المطلقات الرجعيات بدليل القياس ودليل الإجماع، لأن الرجعية لها حكم الزوجة بإلغاء الفارق، وحكي القرطبي الإجماع على منع خطبة المطلقة الرجعية في عدتها، وحكى ابن عبد السلام عن مذهب مالك جواز التعريض لكل معتدة: من وفاة أو طلاق، وهو يخالف كلام القرطبي، والمسألة محتملة لأن للطلاق الرجعي شائبتين، وأجاز الشافعي التعريض في المعتدة بعدة وفاة، ومنعه في عدة الطلاق، وهو ظاهر ما حكاه في "الموطأ" عن القاسم بن محمد.
وقوله: {أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ} الإكنان الإخفاء.
وفائدة عطف الإكنان على التعريض في نفي الجناح، مع ظهور أن التعريض لا يكون إلا عن عزم في النفس، فنفي الجناح عن عزم النفس المجرد ضروري من نفي الجناح عن التعريض، أن المراد التنبيه على أن العزم أمر لا يمكن دفعه ولا النهي عنه، فلما كان كذلك، وكان تكلم العازم بما عزم عليه جبلة في البشر، لضعف الصبر على الكتمان، بين اله موضع الرخصة أنه الرحمة بالناس، مع الإبقاء على احترام حالة العدة، مع بيان علة هذا الترخيص: وأنه يرجع إلى نفي الحرج، ففيه حكمة هذا التشريع الذي لم يبين لهم من قبل.
وأخر الإكنان، في الذكر، للتنبيه على أنه أفضل وأبقى على ما للعدة من حرمة، مع التنبيه على أنه نادر وقوعه، لأنه لو قدمه لكان الانتقال من ذكر الإكنان إلى ذكر التعريض جاريا على مقتضى ظاهر نظم الكلام: في أن يكون اللاحق زائد المعنى على ما يشمله الكلام السابق، فلم يتفطن السامع لهذه النكتة، فلما خولف مقتضى الظاهر علم السامع أن

هذه المخالفة ترمي إلى غرض، كما هو شأن البليغ في مخالفة مقتضى الظاهر، وقد زاد ذلك إيضاحا بقوله، عقبه: { عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ} أي علم أنكم لا تستطيعون كتمان ما في أنفسكم، فأباح لكم التعريض تيسيرا عليكم، فحصل بتأخير ذكر {أَوْ أَكْنَنْتُمْ} فائدة أخرى وهي التمهيد لقوله: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ} وجاء النظم بديعا معجزا، ولقد أهمل معظم المفسرين التعرض لفائدة هذا العطف، وحاول الفخر توجيهه بما لا ينثلج له الصدر1 ووجهه ابن عرفة بما هو أقرب من توجيه الفخر، ولكنه لا تطمئن له نفس البليغ2.
فقوله: {وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً} استدراك دل عليه الكلام، أي علم الله أنكم ستذكرونهن صراحة وتعريضا؛ إذ لا يخلو ذو عزم من ذكر ما عزم عليه بأحد الطريقين، ولما كان ذكر العلم في مثل هذا الموضع كناية عن الإذن، كما تقول: علمت أنك تفعل كذا تريد: إني لا أؤاخذك لأنك لو كنت تؤاخذه، وقد علمت فعله، لآخذته كما قال: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ} [البقرة:187] هذا أظهر ما فسر به هذا الاستدراك وقيل: هذا استدراك على كلام محذوف: أي فاذكروهن ولكن لا تواعدوهن، أي لا تصرحوا وتواعدوهن، أي تعدوهن ويعدنكم بالتزوج.
والسر أصله ما قابل الجهر، وكنى به عن قربان المرأة قال الأعشى:
ولا تقربن جارة إن سرها ... عليك حرام فانكحن أو تأبدا
وقال امرؤ القيس:
ألا زعمت بسباسة الحي أنني ... كبرت وأن لا يحسن السر أمثالي
والظاهر أن المراد به في هاته الآية حقيقة، فيكون "سرا" منصوبا على الوصف لمفعول مطلق أي وعدا صريحا سرا، أي لا تكتموا المواعدة، وهذا مبالغة في تجنب مواعدة صريح الخطبة في العدة.
ـــــــ
1 قال الفخر: لما أبح التعريض وحرم التصريح في الحال قال: {أو أكننتم في أنفسكم} أي أنه يعقد قلبه على أنه سيصرح بذلك في المستقبل فالآية الأولى تحريم للتصريح في الحال والآية الثانية إباحة للعزم على التصريح في المستقبل.
2 قال: فائدة عطف {أو أكننتم} الإشعار بالتسوية بين التعريض وبين ما في النفس في الجواز أي هما سواء في رفع الحرج عن صاحبهما.

وقوله: {إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً} استثناء من المفعول المطلق أي إلا وعدا معروفا، وهو التعريض الذي سبق في قوله: {فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ} فإن القول المعروف من أنواع الوعد، إلا أنه غير صريح، وإذا كان النهي عن المواعدة سرا، علم النهي عن المواعدة جهرا بالأولى، والاستثناء على هذا في قوله: {إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً} متصل، والقول المعروف هو المأذون فيه، وهو التعريض، فهو تأكيد لقوله: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ} الآية.
وقيل: المراد بالسر هنا كناية، أي تواعدوهن قربانا، وكنى به عن النكاح أي الوعد الصريح بالنكاح، فيكون "سرا" مفعولا به لتواعدوهن، ويكون الاستثناء منقطعا، لأن القول ليس من أنواع النكاح، إذ النكاح عقد بإيجاب وقبول، والقول خطبة: صراحة أو تعريضا وهذا بعيد: لأن فيه كناية على كناية، وقيل غير ذلك مما لا ينبغي التعريج عليه، فإن قلتم حظر: صريح الخطبة والمواعدة، وإباحة التعريض بذلك يلوح بصور التعارض، فإن مآل التصريح والتعريض واحد، فإذا كان قد حصل، بين الخاطب والمعتمدة، العلم بأنه يخطبها وبأنها توافقه، فما فائدة تعلق التحريم والتحليل بالألفاظ والأساليب، إن كان المفاد واحد قلت: قصد الشارع من هذا حماية أن يكون التعجل ذريعة إلى الوقوع فيما يعطل حكمة العدة، إذ لعل الخوض في ذلك يتخطى إلى باعث تعجل الراغب إلى عقد النكاح على المعتمدة، بالبنت بها؛ فإن دبيب الرغبة يوقع في الشهوة، والمكاشفة تزيل ساتر الحياء فإن من الوازع الطبيعي الحياء الموجود في الرجل، حينما يقصد مكاشفة المرأة بشيء من رغبته فيها، والحياء في المرأة أشد حينما يواجهها بذلك الرجل، وحينما تقصد إجابته لما يطلب منها، فالتعريض أسلوب من أساليب الكلام يؤذن بما لصاحبه من وقار الحياء فهو يقبض عن التدرج إلى ما نهى عنه، وإيذانه بهذا الاستحياء يزيد ما طبعت عليه المرأة من الحياء فتنقبض نفسها عن صريح الإجابة، بله المواعدة، فيبقى حجاب الحياء مسدولا بينهما وبرقع المروءة غير منضي وذلك من توفير شأن العدة، فلذلك رخص التعريض تيسيرا على الناس، ومنع التصريح إبقاء على حرمات العدة.
وقوله: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} العزم هنا عقد النكاح، لا التصميم على العقد، ولهذا فعقدة النكاح منصوب على المفعول به، والمعنى: لا تعقدوا عقدة النكاح، أخذ من العزم بمعنى القطع والبت، قال النحاس وغيره، ولك أن تجعله بمعناه المشهور أي لا تصمموا على عقدة النكاح، ونهى عن التصميم لأنه إذا وقع وقع ما صمم عليه.وقيل:

نهى عن العزم مبالغة، والمراد النهي عن المعزوم عليه، مثل النهي من الاقتراب في قوله: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} [البقرة:187] وعلى هذين الوجهين فعقدة النكاح منصوب على نزع الخافض، كقولهم ضربة الظهر والبطن، وقيل ضمن "عزم"معنى "أبرم" قاله صاحب المغنى في الباب الثامن.
والكتاب هنا بمعنى المكتوب أي المفروض من الله: وهو العدة المذكورة بالتعريف للعهد.
والأجل المدة المعينة لعمل ما، والمراد به هنا مدة العدة المعينة بتمام، كما أشار إليه قوله: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} [البقرة:234] آنفا.
والآية صريحة في النهي عن النكاح في العدة وفي تحريم الخطبة في العدة، وفي إباحة التعريض.
فأما النكاح أي عقده في العدة، فهو إذا وقع ولم يقع بناء بها في العدة فالنكاح مفسوخ اتفاقا، وإنما اختلفوا هل يتأبد به تحريم المرأة على العاقد أولا: فالجمهور على أنه لا يتأبد، وهو قول عمر بن الخطاب، ورواية ابن القاسم عن مالك في "المدونة"، وحكى ابن الجلاب عن مالك رواية: أنه بتأبد، ولا يعرف مثله عن غير مالك.
وأما الدخول في العدة، ففيه الفسخ اتفاقا، واختلف في تأييد تحريمها عليه: فقال عمر ابن الخطاب، ومالك، والليث، والأوزاعي، وأحمد بن حنبل، بتأبد تحريمها عليه، ولا دليل لهم على ذلك إلا أنهم بنوه على أصل المعاملة بنقيض المقصود الفاسد، وهو أصل ضعيف وقال علي، وابن مسعود، وأبو حنيفة، والثوري، والشافعي: بفسخ النكاح، ولا يتأبد التحريم، وهو بعد العدة خاطب من الخطاب، وقد قيل: إن عمر رجع إليه وهو الأصح، وعلى الزوج مهرها بما استحل منها، وقد تزوج رويشد الثقفي طليحة الأسدية، في عدتها، ففرق عمر بينهما، وجعل مهرها على بيت المال، فبلغ ذلك عليا فقال: "يرحم الله أمير المؤمنين ما بال الصداق وبيت المال، إنما جهلا فينبغي للإمام أن يردهما للسنة" قيل له: فما تقول أنت? قال: "لها الصداق بما استحل منها ويفرق بينهما ولا جلد عليهما" واستحسن المتأخرون من فقهاء المالكية: للقاضي إذا حكم بفسخ نكاح الناكح في العدة ألا يتعرض في حكمه للحكم بتأييد تحريمها، لأنه لم يقع التنازع في شأنه لديه، فينبغي له أن يترك التعريج عليه، لعلهما أن يأخذا بقول من لا يرون تأييد التحريم.

وأما الخطبة في العدة، والمواعدة، فحرام مواجهة المرأة بها، وكذلك مواجهة الأب في ابنته البكر، وأما مواجهة ولي غير مجبر فالكراهة، فإذا لم يقع البناء في العدة بل بعدها، فقال مالك: يفرق بينهما بطلقة ولا يتأبد تحريمها، وروى عنه ابن وهب: فراقها أحب إلى وقال الشافعي: الخطبة حرام، والنكاح الواقع بعد العدة صحيح.
{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ}
عطف على الكلام السابق من قوله: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} إلى قوله: {حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} وابتدئ الخطاب باعلموا لما أريد قطع هواجس التساهل والتأول، في هذا الشأن، ليأتي الناس ما شرع الله لهم عن صفاء سريرة من كل دخل وحيلة، وقدم تقدم نظيره في قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ} [البقرة:223].
وقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} تذييل، أي فكما يؤاخذكم على ما تضمرون من المخالفة، يغفر لكم ما وعد بالمغفرة عنه كالتعريض، لأنه حليم بكم، وهذا دليل على أن إباحة التعريض رخصة، كما قدمنا، وأن الذريعة تقتضي تحريمه، لولا أن الله علم مشقة تحريمه على الناس: للوجوه التي قدمناها، فلعل المراد من المغفرة هنا التجاوز، لا مغفرة الذنب؛ لأن التعريض ليس بإثم، أو يراد به المعنى الأعم الشامل لمغفرة الذنب، والتجاوز عن المشاق، وشأن التذييل التعميم.
[236, 237] {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}
استئناف تشريع لبيان حكم ما يترتب على الطلاق من دفع المهر كله، أو بعضه، وسقوطه وحكم المتعة مع إفادة إباحة الطلاق قبل المسيس. فالجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا، ومناسبة موقعها لا تخفى، فإنه لما جرى الكلام، في الآيات السابقة، على الطلاق: الذي تجب فيه العدة، وهو طلاق المدخول بهن، عرج هنا على الطلاق الواقع قبل الدخول، وهو الذي في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب:49] الآية، في سورة الأحزاب، وذكر مع ذلك هنا تنصيف المهر

والعفو عنه
وحقيقة الجناح الإثم، كما تقدم في قوله: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة:158].
ولا يعرف إطلاق الجناح على غير معنى الإثم، ولذلك حمله جمهور المفسرين هنا على نفي الإثم في الطلاق، ووقع في الكشاف تفسير الجناح بالتبعة فقال: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ}: لا تبعة عليكم من إيجاب المهر ثم قال والدليل على أن الجناح تبعه المهر، قوله: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} إلى قوله: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} فقوله: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} إثبات للجناح المنفي ثمة". وقال ابن عطية وقال قوم: لا جناح عليكم معناه لا طلب بجميع المهر.فعلمنا أن صاحب "الكشاف" مسبوق بهذا التأويل، وهو لم يذكر في الأساس هذا المعنى للجناح حقيقة ولا مجازا، فإنما تأوله من تأوله تفسيرا لمعنى الكلام كله لا لكلمة "جناح" وفيه بعد، ومحمله على أن الجناح كناية بعيدة عن التبعة بدفع مهر. والوجه ما حمل عليه الجمهور لفظ الجناح، وهو معناه المتعارف، وفي "تفسير ابن عطية" عن مكي بن أبي طالب "لا جناح عليكم في الطلاق قبل البناء؛ لأنه قد يقع الجناح على المطلق بعد إن كان قاصدا للذوق، وذلك مأمور قبل المسيس" وقريب منه في الطيبي عن الراغب أي في "تفسيره".
فالمقصود من الآية تفصيل أحوال دفع المهر، أو بعضه، أو سقوطه، وكأن قوله: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} إلى آخره تمهيد لذلك وإدماج لإباحة الطلاق قبل المسيس لأنه بعيد عن قصد التذوق، وأبعد من الطلاق بعد المسيس عن إثارة البغضاء بين الرجل والمرأة، فكان أولى أنواع الطلاق بحكم الإباحة الطلاق قبل البناء،
قال ابن عطية وغيره: إنه لكثرة ما حض الرسول عليه الصلاة والسلام المؤمنين على أن يقصدوا من التزوج دوام المعاشرة، وكان ينهى عن فعل الذواقين الذين يكثرون تزوج النساء وتبديلهن، ويكثر النهي عن الطلاق حتى قد يظن محرما، فأبانت الآية إباحته بنفي الجناح بمعنى الوزر.
والنساء: الأزواج، والتعريف فيه تعريف الجنس، فهو في سياق النفي للعموم، أي لا جناح في تطليقكم الأزواج، و"ما" ظرفية مصدرية، والمسيس هنا كناية عن قربان المرأة.
وأو في قوله: {أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} عاطفة على {تَمَسُّوهُنَّ} المنفي، و"أو" إذا وقعت في سياق النفي تفيد مفاد واو العطف فتدل على انتفاء المعطوف والمعطوف عليه

معا، ولا تفيد المفاد الذي تفيده في الإثبات، وهو كون الحكم لأحد المتعاطفين، نبه على ذلك الشيخ ابن الحاجب في أماليه، وصرح به التفتازاني في "شرح الكشاف"، وقال الطيبي: إنه يؤخذ من كلام الراغب، وهو التحقيق؛ لأن مفاد "أو" في الإثبات نظير مفاد النكرة: وهو الفرد المبهم، فإذا دخل النفي استلزم نفي الأمرين جميعا، ولهذا كان المراد في قوله تعالى: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} [الانسان:24] النهي عن طاعة كليهما، لا عن طاعة أحدهما دون الآخر، وعلى هذا انبنت المسألة الأصولية وهي: هل وقع في اللغة ما يدل على تحريم واحد لا بعينه، بناء على أن ذلك لا يكون إلا بحرف أو، وأن أو إذا وقعت في سياق النهي كانت كالتي تقع في سياق النفي.
وجعل صاحب "الكشاف" أو في قوله: {أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} بمعنى إلا أو حتى، وهي التي ينتصب المضارع بعدها بأن واجبة الإضمار، بناء على إمكانه هنا وعلى أنه أبعد عن الخفاء في دلالة أو العاطفة في سياق النفي، على انتفاء كلا المتعاطفين؛ إذ قد يتوهم أنها لنفي أحدهما كشأنها في الإثبات، وبناء على أنه أنسب بقوله تعالى، بعد ذلك، {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} حيث اقتصر في التفصيل على أحد الأمرين: هو الطلاق قبل المسيس، مع فرض الصداق، ولم يذكر حكم الطلاق قبل المسيس، أو بعده، وقبل فرض الصداق، فدل بذلك على أن الصورة لم تدخل في التقسيم السابق، وذلك أنسب بأن تكون للاستثناء أو الغاية، لا للعطف، ولا يتوهم أن صاحب الكشاف أهمل تقدير العطف لعدم ايتقامته، بل لأن غيره هنا أوضح وأنسب: يعني والمراد قد ظهر من الآية ظهورا لا يدع لتوهم قصد نفي أحد الأمرين خطورا بالأذهان، ولهذا استدركه البيضاوي فجوز تقديرها عاطفة في هذه الآية.
وقد أفادت الآية حكما بمنطوقها: وهو أن المطلقة قبل البناء إذا لم يسم لها مهر لا تستحق شيئا من المال، وهذا مجمع عليه فيما حكاه ابن العربي، وحكي القرطبي عن حماد بن سليمان أن لها نصف صداق أمثالها، والجمهور على خلافه وأن ليس لها إلا المتعة، ثم اختلفوا في وجوبها كما سيأتي. وهذا الحكم دلنا على أن الشريعة قد اعتبرت النكاح عقدا لازما بالقول، واعتبرت المهر الذي هو من متماته غير لازم بمجرد صيغة النكاح، بل يلزم بواحد من أمرين إما بصيغة تخصه، وهي تعيين مقداره بالقول، وهي المعبر عنها في الفقه بنكاح التسمية، وإما بالفعل وهو الشروع في اجتناء المنفعة المقصودة ابتداء من النكاح وهي المسيس، قالمهر إذن من توابع العقود التي لا تثبت بمجرد ثبوت

متبوعها، بل تحتاج إلى موجب آخر كالحوز في عقود التبرعات، وفيه نظر، والنفس لقول حماد بن سليمان أميل.
والآية دلت على مشروعية أصل الطلاق، لما أشعرت بنفي الجناح عن الطلاق قبل المسيس وحيث أشعرت بإباحة بعض أنواعه: بالتصدي لبيان أحكامها، ولما لم يتقدم لنا موضع هو أنسب بذكر مشروعية الطلاق من هذه الآية، فنحن نبسط القول في ذلك:
إن القانون العام لانتظام المعاشرة هو الوفاق: والأخلاق، والأهواء، والأميال، وقد وجدنا المعاشرة نوعين: أولهما معاشرة حاصلة بحكم الضرورة، وهي معاشرة النسب، المختلفة في القوة والضعف، بحسب شدة فرب النسب وبعده: كمعاشر الآباء مع الأبناء، والإخوة بعضهم مع بعض، وأبناء العم والعشيرة، واختلافها في القوة والضعف يستتبع اختلافها في استغراق الأزمان، فنجد في قصر زمن المعاشرة، عند ضعف الآصرة، ما فيه دافع للسآمة والتخالف الناشئين عما يتطرق إلى المتعاشرين من تنافر في الأهواء والأميال، وقد جعل الله في مقدار قرب النسب تأثيرا في مقدار الملاءمة؛ لأنه بمقدار قرب النسيب، يكون التئام الذات مع الأخرى أقوى وأتم، وتكون المحاكة والممارسة والتقارب أطول، فنشأ من السببين الجبلي، والاصطحابي، ما يقوي اتحاد النفوس في الأهواء والأميال بحكم الجبلة، وحكم التعود والإلف، وهكذا يذهب ذلك السببان يتباعدان بمقدار ما يتباعد النسيب.
والنوع الثاني: معاشرة بحكم الاختيار وهي معاشرة الصحبة، والخلة، والحاجة، والمعاونة، وما هي إلا معاشرة مؤقتة: تطول أو تقصر، وتستمر أو تغب، بحسب قوة الداعي وضعفه، وبحسب استطاعة الوفاء بحقوق تلك المعاشرة، والتقصير في ذلك، والتخلص من هذا النوع ممكن إذا لم تتحد الطباع. ومعاشرة الزوجين، في التنويع، هي من النوع الثاني، وفي الآثار محتاجة إلى آثار النوع الأول، وينقصها من النوع الأول سببه الجبلي لأن الزوجين، يكثر ألا يكونا قريبين وسببه الاصطحابي، في أول عقد التزوج، حتى تطول المعاشرة، ويكتسب كل من الآخر خلقه، إلا أن الله تعالى جعل رغبة الرجل في المرأة. إلى حد أن خطبها، وفي ميله إلى التي يراها، مذ انتسبت به واقترنت، وفي نيته معاشرتها معاشرة طيبة، وفي مقابلة المرأة الرجل بمثل ذلك ما يعزز في نفس الزوجين نوايا وخواطر شريفة، وثقة بالخير، تقوم مقام السبب الجبلي، ثم تعقبها معاشرة وإلف تكمل ما يقوم مقام السبب الاصطحابي، وقد أشار الله تعالى إلى هذا السر النفساني

الجليل، بقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21].
وقد يعرض من تنافر الأخلاق، وتجافيها، كا لا يطمع معه في تكوين هذين السببين أو أحدهما، فأحتيج إلى وضع قانون للتخلص من هذه الصحبة، لئلا تنقلب سبب شقاق وعداوة فالتخلص قد يكون مرغوبا لكلا الزوجين، وهذا لا إشكال فيه، وقد يكون مرغوبا لأحدهما ويمتنع منه الآخر، فلزم نرجيح أحد الجانبين: وهو جانب الزوج لأن رغبته في المرأة أشد، كيف وهو الذي سعى إليها، ورغب في الاقتران بها؛ ولأن العقل في نوعه أشد، والنظر منه في العواقب أسد، ولا أشد احتمالا لأذى، وصبرا على سوء خلق من المرأة، فجعل الشرع التخلص من هذه الورطة بيد الزوج، وهذا التخلص هو المسمى: بالطلاق، فقد يعمد إليه الرجل بعد لأي، وقد تسأله المرأة من الرجل، وكان العرب في الجاهلية تسأل المرأة الرجل الطلاق فيطلقها، قال سعيد بن ويد بن عمرو بن نفيل يذكر زوجتيه:
تلك عرساي تنطقان علي عمـ ... ـد إلى اليوم قول زور وهتر
سالتاني الطلاق أن رأتاما ... لي قليلا قد جئتماني بنكر
وقال عبيد بن الأبرص:
تلك عرسي غضبي تريد زيالي ... ألبين تريد أم لدلال
إن يكن طبك الفراق فلا أحـ ... ـفل أن تعطفي صدور الجمال
وجعل الشرع للحاكم، إذا أبى الزوج الفراق، والحق الزوجة الضر من عشرته، بعد ثبوت موجباته، أن يطلقها عليه.
فالطلاق فسخ لعقدة النكاح: بمنزلة الإقالة في البيع، إلا أنه فسخ لم يشترط فيه رضا كلا المتعاقدين بل اكتفى برضا واحد: وهو الزوج، تسهيلا للفراق عند الاضطرار إليه، ومقتضى هذا الحكم أن يكون الطلاق قبل البناء بالمرأة ممنوعا؛ إذ لم تقع تجربة الأخلاق، لكن لما كان الداعي إلى الطلاق قبل البناء لا يكون إلا لسبب عظيم لأن أفعال العقلاء تصان عن العبث، كيف يعمد راغب في امرأة، باذل لها ماله ونفسه إلى طلاقها قبل التعرف بها، لولا أن قد علم من شأنها ما أزال رجاءه في معاشرتها، فكان التخلص وقتئذ قبل التعارف، أسهل منه بعد التعارف.
وقرأ الجمهور {مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} بفتح المثناة الفوقية مضارع مس المجرد، وقرأ

حمزة والكسائي وخلف، "تماسوهن" بضم المثناة الفوقية وبألف بعد الميم مضارع ماس ؛ لأن كلا الزوجين يمس الآخر.
وقوله: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ} الآية عطف على قوله: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ}، عطف التشريع على التشريع، على أن الاتحاد بالإنشائية والخبرية غير شرط عند المحققين، والضمير عائد إلى النساء: المعمول للفعل المقيد بالظرف وهو: {مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا}، كما هو الظاهر، أي متعوا المطلقات قبل المسيس، وقبل الفرض، ولا أحسب أحدا يجعل معاد الضمير على غير ما ذكرنا، وأما ما يوجد من الخلاف بين العلماء في حكم المتعة للمطلقة المدخول بها، فذلك لأدلة أخرى غير هذه الآية.
والأمر في قوله: {وَمَتِّعُوهُنَّ} ظاهره الوجوب وهو قول علي، وابن عمر، والحسن، والزهري، وابن جبير، وقتادة، والضحاك، وإسحاق بن راهويه، وقاله أبو حنيفة والشافعي وأحمد؛ لأن أصل الصيغة للوجوب مع قرينة قوله تعالى: {حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ} وقوله، بعد ذلك، في الآية الآتية: {حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} لأن كلمة {حَقّاً} تؤكد الوجوب، والمراد بالمحسنين عند هؤلاء المؤمنون، فالمحسن بمعنى المحسن إلى نفسه بإبعادها عن الكفر، وهؤلاء جعلوا المتعة للمطلقة غير المدخول بها وغير المسمى لها مهر واجبة، وهو الأرجح: لئلا يكون عقد نكاحها خليا عن عوض المهر.
وجعل جماعة الأمر هنا للندب، لقوله بعد: {حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ} فإنه قرينة على صرف الأمر إلى أحد ما يقتضيه، وهو ندب خاص مؤكد للندب العام في معنى الإحسان، وهو قول مالك وشريح، فجعلها {حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:236] ، ولو كانت واجبة، لجعلها حقا على جميع الناس، ومفهوم جعلها حقا على المحسنين أنها ليست حقا على جميع الناس، وكذلك قوله: {الْمُتَّقِينَ} في الآية الآتية، لأن المتقي هو كثير الامتثال، على أننا لو حملنا المتقين على كل مؤمن لكان بين الآيتين تعارض المفهوم والعموم، فإن المفهوم الخاص يخصص العموم،
وفي "تفسير الأتي" عن ابن عرفة: قال محمد بن مسلمة من أصحاب مالك: المتعة واجبة يقضي بها إذ لا يأبى أن يكون من المحسنين ولا من المتقين إلا رجل سوء، ثم ذكر ابن عرفة عن ابن عبد السلام، عن ابن حبيب، أنه قال بتقديم العموم على المفهوم عند التعارض، وأنه الأصح عند الأصوليين، قلت: فيه نظر، فإن القائل بالمفهوم، لا بد أن يخصص بخصوصه عموم العام إذا تعارضا، على أن لمذهب مالك أن المتعة عطية

ومؤاساة، والمؤاساة في مرتبة التحسيني، فلا تبلغ مبلغ الوجوب، ولأنها مال بذل في غير عوض، فيرجع إلى التبرعات، والتبرعات مندوبة لا واجبة، وقرينة ذلك قوله تعالى: {حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ} فإن فيه إيماء إلى أن ذلك من الإحسان لا من الحقوق، على أنه قد نفي الله الجناح عن المطلق، ثم أثبت المتعة، فلو كانت المتعة واجبة لا نتقض نفي الجناح، إلا أن يقال: إن الجناح نفي لأن المهر شيء معين، قد يجحف بالمطلق، بخلاف المتعة، فإنها على حسب وسعه ولذلك نفي مالك ندب المتعة: للتي طلقت قبل البناء وقد سمي لها مهرا، قال: فحسبها ما فرض لها أي لأن الله قصرها على ذلك، رفقا بالمطلق، أي فلا تندب لها ندبا خاصا، بأمر القرآن. وقد قال مالك: بأن المطلقة المخول بها، يستحب تمتيعه، أي بقاعدة الإحسان الأعم ولما مضى من عمل السلف.
وقوله: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} الموسع من أوسع، إذا صار ذا سعة، والمقتر من أقتر إذا صار ذا قتر: وهو ضيق العيش، والقدر بسكون الدال وبفتحها ما به تعيين ذات الشيء، أو حاله، فيطلق على ما يساوي الشيء من الأجرام، ويطلق على ما يساويه في القيمة، والمراد به هنا الحال التي يقدر بها المرء، في مراتب الناس في الثروة، وهو الطبقة من القوم، والطاقة من المال، وقرأه الجمهور بسكون الدال، وقرأه ابن دكوان عن ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، وأبو جعفر بفتح الدال.
وقوله: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} مبتدأ محذوف الخبر: إيجازا، لظهور المعنى، أي فنصف ما فرضتم لهن، بدليل قوله: {وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ} لا يحسن فيها إلا هذا الوجه. والاقتصار على قوله: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} يدل على أنها حينئذ لا متعة لها.
وقوله: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} استثناء من عموم الأحوال أي إلا في حالة عفوهن أي النساء: بأن يسقطن هذا النصف، وتسمية هذا الإسقاط عفوا ظاهرة، لأن نصف المهر حق وجب على المطلق للمطلقة قبل البناء بما استخف بها، أو بما أوحشها، فهو حق وجب لغرم ضر، فإسقاطه عفو لا محالة، أو عند عفو الذي بيده عقدة النكاح،
وأل في النكاح للجنس، وهو متبادر في عقد نكاح المرأة، لا في قبول الزوج، وإن كان كلاهما سمي عقدا، فهو غير النساء لا محالة لقوله: {الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} فهو ذكر، وهو غير المطلق أيضا، لأنه لو كان المطلق، لقال: أو تعفو بالخطاب، لأن قبله: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} ولا داعي إلى خلاف مقتضى الظاهر،

وقيل: جيء بالموصول تحريضا على عفو المطلق، لأنه كانت بيده عقدة النكاح فأفاتها بالطلاق، فكان جديرا بأن يعفو عن إمساك النصف، ويترك لها جميع صداقها، وهو مردود بأنه لو أريد هذا المعنى، لقال، أو يعفو الذي كان بيده عقدة النكاح، فتعين أن يكون أريد به ولي المرأة؛ لأن بيده عقدة نكاحها؛ إذ لا ينعقد نكاحها إلا به، فإن كان المراد به الولي المجبر: وهو الأب في ابنته البكر، والسيد في أمته، فكونه بيده عقدة النكاح ظاهر، إلا أنه جعل ذلك من صفته باعتبار ما كان، إذ لا يحتمل غير ذلك، وإن كان المراد مطلق الولي، فكونه بيده عقدة النكاح، من حيث توقف عقد المرأة على حضوره، وكان شأنهم أن يخطبوا الأولياء في ولاياهم فالعفو في الموضعين حقيقة، والاتصاف بالصلة مجاز، وهذا قول مالك؛ إذ جعل في "الموطأ": الذي بيده عقدة النكاح هو الأب في ابنته البكر، والسيد في أمته، وهو قول الشافعي في القديم، فتكون الآية ذكرت عفو الرشيدة، والمولي عليها، ونسب ما يقرب من هذا القول إلى جماعة من السلف، منهم ابن عباس، وعلقمة، والحسن، وقتادة، وقيل: الذي بيده عقدة النكاح، هو المطلق لأن بيده عقد نفسه وهو القبول، ونسب هذا إلى علي، وشريح، وطاووس، ومجاهد، وهو قول أبي حنيفة، والشافعي: في الجديد، ومعنى {بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} أن بيده التصرف فيها: بالإبقاء، والفسخ بالطلاق، ومعنى عفوه: تكميلة الصداق، أي إعطاؤه كاملا.
وهذا قول بعيد من وجهين: أحدهما، أن فعل المطلق حينئذ لا يسمه عفوا بل تكميلا، وسماحة؛ لأن معناه أن يدفع الصداق كاملا، قال في "الكشاف": "وتسمية الزيادة على الحق عفوا فيه نظر" إلا أن يقال: كان الغالب عليهم أن يسوق إليها المهر عند التزوج، فإذا طلقها استحق أن يطالبها بنصف الصداق، فإذا ترك ذلك فقد عفا، أو سماه عفوا على طريق المشاكلة.
الثاني أن دفع المطلق المهر كاملا للمطلقة، إحسان لا يحتاج إلى تشريع مخصوص، بخلاف عفو المرأة أو وليها، فقد يظن أحد أن المهر لما كان ركنا من العقد لا يصح إسقاط شيء منه.
وقوله: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} تذييل أي العفو من حيث هو، ولذلك حذف المفعول، والخطاب لجميع الأمة، وجيء بجمع المذكر للتغليب، وليس خطابا للمطلقين، وإلا لما شمل عفو النساء مع أنه كله مرغوب فيه، ومن الناس من استظهر بهذه الآية على أن المراد بالذي بيده عقدة النكاح المطلق، لأنه عبر عنه بعد، بقوله: {وَأَنْ تَعْفُوا} وهو

ظاهر في المذكر، وقد غفل عن مواقع التذييل في آي القرآن كقوله: {أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء:128].
ومعنى كون العفو أقرب للتقوى: أن العفو أقرب إلى صفة التقوى من التمسك بالحق؛ لأن التمسك بالحق لا ينافي التقوى لكنه يؤذن بتصلب صاحبه وشدته، والعفو يؤذن بسماحة صاحبه ورحمته، والقلب المطبوع على السماحة والرحمة، أقرب إلى التقوى من القلب الصلب الشديد، لأن التقوى تقرب بمقدار قوة الوازع، والوازع شرعي وطبيعي، وفي القلب المفطور على الرأفة والسماحة لين يزعه عن المظالم والقساوة، فتكون التقوى أقرب إليه لكثرة أسبابها فيه.
وقوله: {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} تذييل ثان، معطوف على التذييل الذي قبله، لزيادة الترغيب في العفو بما فيه من التفضل الدنيوي، وفي الطباع السليمة حب الفضل. فأمروا في هاته الآية بأن يتعاهدوا الفضل، ولا ينسوه؛ لأن نسيانه يباعد بينهم وبينه، فيضمحل منهم، وموشك أن يحتاج إلى عفو غيره عنه في واقعة أخرى، ففي تعاهده عون كبير على الإلف والتحابب، وذلك سبيل واضحة إلى الاتحاد والمؤاخاة والانتفاع بهذا الوصف عند حلول التجربة.
والنسيان هنا مستعار للإعمال، وقلة الاعتناء كما في قوله تعالى: {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} [السجدة:14] وهو كثير في القرآن، وفي كلمة {بَيْنَكُمْ} إشارة إلى هذا العفو، إذا لم ينس تعامل الناس به بعضهم مع بعض، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} تعليل للترغيب في عدم إهمال الفضل وتعريض بأن في العفو مرضاة الله تعالى، فهو يرى ذلك منا فيجازى عليه، ونظيره قوله: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور:48].
[238] {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}
الانتقال من غرض إلى غرض، في آي القرآن، لا تلزم له قوة ارتباط، لأن القرآن ليس كتاب تدريس يرتب بالتبويب وتفريع المسائل بعضها على بعض ولكنه كتاب تذكير، وموعظة فهو مجموع ما نزل من الوحي في هدي الأمة، وتشريعها وموعظتها، وتعليمها، فقد يجمع فيه الشيء للشيء، من غير لزوم ارتباط، وتفرع مناسبة، وربما كفى في ذلك نزول الغرض الثاني، عقب الغرض الأول، أو تكون الآية مأمورا بإلحاقها بموضع معين من

إحدى سور القرآن. كما تقدم في المقدمة الثامنة، ولا يخلو ذلك من مناسبة في المعاني، أو في انسجام نظم الكلام، فلعل آية {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} نزلت عقب آيات تشريع العدة والطلاق، لسبب اقتضى ذلك: من غفلة عن الصلاة الوسطى، أو استشعار مشقة في المحافظة عليها، فموقع هذه الآية موقع الجملة المعترضة بين أحكام الطلاق والعدد،
وإذا أبيت ألا تطلب الارتباط فالظاهر أنه لما طال تبيان أحكام كثيرة متوالية: ابتداء من قوله: {يَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} [البقرة:215]، جاءت هذه الآية مرتبطة بالتذييل الذي ذيلت به الآية السابقة: وهو قوله: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة:237] فإن الله دعانا إلى خلق حميد، وهو العفو عن الحقوق، ولما كان ذلك الخلق قد يعسر على النفس، لما فيه من ترك ما تحبه من الملائم، من مال وغيره: كالانتقام من الظالم، وكان في طباع الأنفس الشح، علمنا الله تعالى دواء هذا الداء بدواءين، أحدهما دنيوي عقلي، وهو قوله: {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ}، المذكر بأن العفو يقرب إليك البعيد، ويصير العدو صديقا وإنك إن عفوت فيوشك أن تقترف ذنبا فيعفى عنك، إذا تعارف الناس الفضل بينهم، بخلاف ما إذا أصبحوا لا يتنازعون عن الحق.
الدواء الثاني أخروي روحاني: وهو الصلاة التي وصفها الله تعالى في آية أخرى بأنها تنهي عن الفحشاء والمنكر، فلما كانت معينة على التقوى، ومكارم الأخلاق، حث الله على المحافظة عليها،
ولك أن تقول: لما طال تعاقب الآيات المبينة تشريعات تغلب فيها الحظوظ الدنيوية للمكلفين، عقبت تلك التشريعات بتشريع تغلب فيه الحظوظ الأخروية، لكي لا يشتغل الناس بدراسة أحد الصنفين من التشريع، عن دراسة الصنف الآخر، قال البيضاوي: "أمر بالمحافظة عليها في تضاعيف أحكام الأولاد والأزواج، لئلا يلهيهم الاشتغال بشأنهم عنها".
وقال بعضهم: "لما ذكر حقوق الناس دلهم على المحافظة على حقوق الله" وهو في الجملة. مع الإشارة إلى أن في العناية بالصلوات أداء حق الشكر لله تعالى على ما وجه إلينا من عنايته بأمورنا التي بها قوام نظامنا وقد أومأ إلى ذلك قوله في آخر الآية: {كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة:239] أي من قوانين المعاملات النظامية.
وعلى هذين الوجهين الآخرين تكون جملة: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} معترضة وموقعها ومعناها مثل موقع قوله: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45] بين جملة {يَا

بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي} [البقرة:40]. وبين جملة {يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:47]. وكموقع جملة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153] بين جملة {فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} [البقرة:150] الآية وبين جملة {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ} [البقرة:154] الآية.
و {حَافِظُوا} صيغة مفاعلة استعملت هنا للمبالغة على غير حقيقتها. والمحافظة عليها هي المحافظة على أوقاتها من أن تؤخر عنها والمحافظة تؤذن بأن المتعلق بها حق عظيم يخشى التفريط فيه. والمراد: الصلوات المفروضة "وأل" في الصلوات للعهد، وهي الصلوات الخمس المتكررة؛ لأنها التي تطلب المحافظة عليها.
{وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} لا شك أنها صلاة من جملة الصلوات المفروضة: لأن الأمر بالمحافظة عليها يدل على أنها من الفرائض، وقد ذكرها الله تعالى في هذه الآية معرفة بلام التعريف، وموصوفة بأنها وسطى، فسمعها المسلمون وقرأوها، فإما عرفوا المقصود منها في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم طرأ عليهم الاحتمال بعده فاختلفوا، وإما شغلتهم العناية بالسؤال عن مهمات الدين في حياة الرسول عن السؤال عن تعيينها: لأنهم كانوا عازمين على المحافظة على الجميع، فلما تذاكروها بعد وفاته صلى الله عليه وسلم اختلفوا في ذلك فنبع من ذلك خلاف شديد: أنهيت الأقوال فيه إلى نيف وعشرين قولا، بالتفريق والجمع، وقد سلكوا للكشف عنها مسالك؛ مرجعها إلى أخذ ذلك من الوصف بالوسطى، أو من الوصاية بالمحافظة عليها.
فأما الذين تعلقوا بالاستدلال بوصف الوسطى: فمنهم من حاول جعل الوصف من الوسط بمعنى الخيار والفضل، فرجع إلى تتبع ما ورد في تفضيل بعض الصلوات على بعض، مثل قوله تعالى: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} [الاسراء:78] وحديث عائشة: "أفضل الصلوات عند الله صلاة المغرب".
ومنهم من حاول جعل الوصف من الوسط: وهو الواقع بين جانبين متساويين من العدد فذهب يتطلب الصلاة التي هي بين صلاتين من كل جانب، ولما كانت كل واحدة من الصلوات الخمس صالحة لأن تعتبر واقعة بين صلاتين، لأن ابتداء الأوقات اعتباري، ذهبوا يعينون المبدأ: فمنهم من جعل المبدأ ابتداء النهار، فجعل مبدأ الصلوات الخمس صلاة الصبح فقضي بأن الوسطى: العصر، ومنهم من جعل المبدأ الظهر، لأنها أول صلاة

فرضت؛ كما في حديث جبريل في الموطأ، فجعل الوسطى: المغرب.
وأما الذين تعقلوا بدليل الوصاية على المحافظة، فذهبوا يتطلبون أشق صلاة على الناس: تكثر المتطلبات عنها، فقال قوم: هي الظهر لأنها أشق صلاة عليهم بالمدينة، كانوا أهل شغل، وكانت تأتيهم الظهر وهم قد أتعبتهم أعمالهم، وربما كانوا في إكمال أعمالهم، وقال قوم: هي العشاء؛ لما ورد أنها أثقل صلاة على المنافقين، وقال بعضهم: هي العصر لأنها وقت شغل وعمل؛ وقال قوم: هي الصبح لأنها وقت نوم في الصيف، ووقت تطلب الدفء في الشتاء.
وأصح ما في هذا الخلاف: ما جاء من جهة الأثر وذلك قولان:
أحدهما أنها الصبح. هذا قول جمهور فقهاء المدينة، وهو قول عمر، وابنه عبد الله وعلى، وابن عباس، وعائشة، وحفصة، وجابر بن عبد الله، وبه قال مالك، وهو عن الشافعي أيضا، لأن الشائع عندهم أنها الصبح، وهم أعلم الناس بما يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قول، أو فعل، أو قرينة حال.
القول الثاني: أنها العصر، وهذا قول جمهور من أهل الحديث، وهو قول عبد الله بن مسعود، وروى عن علي أيضا، وهو الأصح عن ابن عباس أيضا، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري، ونسب إلى عائشة، وحفصة، والحسن، وبه قال أبو حنيفة، والشافعي في رواية، ومال إليه ابن حبيب من المالكية، وحجتهم ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الخندق حين نسى أن يصلي العصر من شدة الشغل في حفر الخندق، حتى غربت الشمس فقال: "شغلونا أي المشركين عن الصلاة الوسطى، أضرم الله قبورهم نارا" .
والأصح من هذين القولين أولهما: لما في "الموطأ" و"الصحيحين"، أن عائشة وحفصة أمرتا كاتبي مصحفيهما أن يكتبا قوله تعالى: "حافظوا على الصلوات الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين" وأسندت عائشة ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تسنده حفصة، فإذا بطل أن تكون الوسطى هي العصر، بحكم عطفها على الوسطى تعين كونها الصبح، هذا من جهة الأثر.
وأما من جهة مسالك الأدلة المتقدمة، فأفضلية الصبح ثابتة بالقرآن، قال تعالى، مخصصا لها بالذكر {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} [الاسراء:78] وفي الصحيح أن ملائكة الليل، وملائكة النهار، يجتمعون عند صلاة الصبح، وتوسطها بالمعنى الحقيقي

ظاهر، لأن وقتها بين الليل والنهار، فالظهر والعصر نهاريتان، والمغرب والعشاء ليلتان، والصبح وقت متردد بين الوقتين، حتى إن الشرع عامل نافلته معاملة نوافل النهار: فشرع فيها الإسرار، وفريضته معاملة فرائض الليل: فشرع فيها الجهر.
ومن جهة الوصايا بالمحافظة عليها، هي أجدر الصلوات بذلك: لأنها الصلاة التي تكثر المطبات عنها، باختلاف الأقاليم والعصور والأمم، بخلاف غيرها فقد تشق إحدى الصلوات الأخرى على طائفة دون أخرى، بحسب الأحوال والأقاليم والفصول.
ومن الناس من ذهب إلى أن الصلاة الوسطى قصد إخفائها ليحافظ الناس على جميع الصلوات، وهذا قول باطل؛ لأن الله تعالى عرفها باللام ووصفها. فكيف يكون مجموع هذين المعرفين غير مفهوم، وأما قياس ذلك على ساعة الجمعة وليلة القدر ففاسد، لأن كليهما قد ذكر بطريق الإبهام وصحت الآثار بأنها غير معينة. هذا خلاصة ما يعرض هنا من تفسير الآية.
وقوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} أمر بالقيام في الصلاة بخضوع، فالقيام: الوقوف، وهو ركن في الصلاة فلا يترك إلا لعذر، وأما القنوت: فهو الخضوع والخشوع قال تعالى: {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم:12] وقال: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً} [النحل:120] وسمي به الدعاء المخصوص الذي يدعى به في صلاة الصبح أوفي صلاة المغرب، على خلاف بينهم، وهو هنا محمول على الخضوع والخشوع، وفي الصحيح عن ابن مسعود: كنا نسلم على رسول الله وهو يصلي فيرد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه فلم يرد علينا، وقال: إن الصلاة لشغلا وعن زيد بن أرقم: كان الرجل يكلم الرجل إلى جنبه، في الصلاة، حتى نزلت: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} فأمرنا بالسكوت. فليس {قَانِتِينَ} هنا بمعنى قارئين دعاء القنوت، لأن ذلك الدعاء إنما سمي قنوتا استرواحا من هذه الآية عند الذين فسروا الوسطى بصلاة الصبح كما في حديث أنس دعا النبي على رعل وذكوان في صلاة الغداة شهرا وذلك بدء القنوت وما كنا نقنت .
[239] {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}
تفريع على قوله: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] للتنبيه على أن حالة الخوف لا تكون عذرا في ترك المحافظة على الصلوات، ولكنها عذر في ترك القيام لله قانتين، فأفاد

هذا التفريع غرضين: أحدهما بصريح لفظه، والآخر بلازم معناه.
والخوف هنا خوف العدو، وبذلك سميت صلاة الخوف، والعرب تسمى الحرب بأسماء الخوف: فيقولون الروع ويقولون الفزع، قال عمرو بن كلثوم:
وتحملنا غذاة الروع جرد
وقال سبرة بن عمر الفقعسي:
ونسوتكم في الروع باد وجودهها ... يخلن إماء والإماء حرائر
وفي الحديث: "إنكم لتكثرون عند الفزع وتقلون عند الطمع" ولا يعرف إطلاق الخوف على الحرب قبل القرآن قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ} [البقرة:155].والمعنى: فإن حاربتم أو كنتم في حرب، ومنه سمي الفقهاء "صلاة الخوف" الصلاة التي يؤديها المسلمون وهم يصافون العدو، في ساحة الحرب: وإيثار كلمة الخوف في هذه الآية لتشمل خوف العدو، وخوف السباع، وقطاع الطريق، وغيرها.
و {رِجَالاً} جمع راجل كالصحاب {أَوْ رُكْبَاناً} جمع راكب وهما حالان من محذوف أي فصلوا رجالا أو ركبانا وهذا في معنى الاستثناء من قوله: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] لأن هاته الحالة تخالف القنوت في حالة الترجل، وتخالفهما معا في حالة الركوب. والآية إشارة إلى أن صلاة الخوف لا يشترط فيها الخشوع، لأنها تكون مع الاشتغال بالقتال ولا يشترط فيها القيام.
وهذا الخوف يسقط ما ذكر من شروط الصلاة، وهو هنا صلاة الناس فرادي، وذلك عند مالك، إذا اشتد الخوف، وأظلهم العدو، ولم يكن حصن بحيث تتعذر الصلاة جماعة مع الإمام، وليست هذه الآية لبيان صلاة الجيش في الحرب جماعة: المذكورة في سورة النساء، والظاهر أن الله شرع للناس في أول الأمر صلاة الخوف فرادي على الحال التي يتمكنون معها من مواجهة العدو، ثم شرع لهم صلاة الخوف جماعة في سورة النساء، وأيضا شملت هذه الآية كل خوف من سباع، أو قطاع طريق، أو من سيل الماء، قال مالك: وتستحب إعادة الصلاة، قال أبو حنيفة: يصلون كما وصف الله ويعيدون، لأن القتال في الصلاة مفسد عنده.
وقوله: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} أراد الصلاة أي ارجعوا إلى الذكر المعروف. وجاء في الأمن بإذا وفي الخوف بإن بشارة للمسلمين بأنهم سيكون لهم النصر والأمن.

وقوله: {كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} الكاف للتشبيه: أي اذكروه ذكرا يشابه ما من عليكم من علم الشريعة في تفاصيل هذه الآيات المتقدمة، والمقصود من المشابهة المشابهة في التقدير الاعتباري، أي أن يكون الذكر بنية الشكر على تلك النعمة والجزاء، فإن الشيء المجازي به شيء آخر، يعتبر كالمشابه له، ولذلك يطلق عليه اسم المقدار، وقد يسمون هذه الكاف كاف التعليل، والتعليل مستفاد من التشبيه، لأن العلة على قدر المعلول.
[240] {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}
موقع هذه الآية هنا، بعد قوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة:234] إلى آخرها في غاية الإشكال: فإن حكمها يخالف، في الظاهر، حكم نظيرتها التي تقدمت، وعلى قول الجمهور هاته الآية سابقة في النزول على آية {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ} يزداد موقعها غرابة: إذ هي سابقة في النزول متأخرة في الوضع.
والجمهور على أن هذه الآية شرعت حكم تربص المتوفى عنها حولا في بيت زوجها وذلك في أول الإسلام، ثم نسخ ذلك بعدة الوفاة بالميراث، روى هذا عن ابن عباس، وقتادة، والربيع، وجابر بن زيد. وفي البخاري، في كتاب التفسير، عن عبد الله بن الزبير قال: قلت لعثمان هذه الآية {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ} قد نسختها الآية الأخرى، فلم تكتبها، قال: لا أغير شيئا منه عن مكانه يابن أخي فاقتضى أن هذا هو موضع هذه الآية، وأن الآية التي قبلها ناسخة لها، وعليه فيكون وضعها هنا بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم لقول عثمان: "لا أغير شيئا منه عن مكانه ويحتمل أن ابن الزبير أراد بالآية الأخرى آية سورة النساء في الميراث".
وفي البخاري: قال مجاهد: "شرع الله العدة أربعة أشهر وعشرا تعتد عند أهل زوجها واجبا، ثم نزلت {وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ} فجعل لله لها تمام السنة وصية، إن شاءت سكنت في وصيتها وإن شاءت خرجا، ولم يكن لها يومئذ ميراث معين، فكان ذلك حقها في تركة زوجها، ثم نسخ ذلك بالميراث فلا تعرض في هذه الآية للعدة ولكنها في بيان حكم آخر وهو إيجاب الوصية لها بالسكنى حولا: إن شاءت أن تحتبس عن التزوج حولا مراعاة

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68