كتاب : التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور
المؤلف : محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي

في جميع الليل والنهار.
وتسبيح الملائكة بأصوات مخلوقة فيهم لا يعطلها تبليغ الوحي ولا غيره من الأقوال.
والفتور: الانقطاع عن الفعل.
[21] {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ}
"أم" هذه منقطعة عاطفة الجملة على الجملة عطف إضراب انتقالي هو انتقال من إثبات صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وحجية دلالة القرآن إلى إبطال الإشراك، انتقالا من بقية الغرض السابق الذي تهيأ السامع للانتقال منه بمقتضى التخلص، الذي في قوله تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ} كما تقدم، إلى التمحض لغرض إبطال الإشراك وإبطال تعدد الآلهة. وهذا الانتقال وقع اعتراضا بين جملة: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ } وجملة: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} وليس إضراب الانتقال بمقتض عدم الرجوع إلى الغرض المنتقل إليه، و"أم" تؤذن بأن الكلام بعدها مسوق الاستفهام وهو استفهام إنكاري، أنكر عليه اتخاذهم آلهة.
وضمير "اتخذوا" عائد إلى المشركين المتبادرين من المقام في مثل هذه الضمائر. وله نظائر كثيرة في القرآن. ويجوز جعله التفاتا عن ضمير {وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} ، ويجوز أن يكون متناسقا مع ضمائر { بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ} وما بعده.
ووصف الآلهة بأنها من الأرض تهكم بالمشركين، وإظهار لأفن رأيهم، أي جعلوا لأنفسهم آلهة من عالم الأرض أو مأخوذة من أجزاء الأرض من حجارة أو خشب تعريضا بأن ما كان مثل ذلك لا يستحق أن يكون معبودا، كما قال إبراهيم عليه السلام {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} في الصافات.
وذكر الأرض هنا مقابلة لقوله تعالى: {وَمَنْ عِنْدَهُ} لأن المراد أهل السماء، وجملة: {هُمْ يَنْشُرُونْ} صفة ثانية لـ {آلِهَةً}.
واقترانها بضمير الفصل يفيد التخصيص أن لا ينشر غير تلك الآلهة.
والمراد: إنشار

الأموات، أي بعثهم. وهذا مسوق للتهكم وإدماج لإثبات البعث بطريقة سوق غيره المسمى بتجاهل المعارف، إذ أبرز تكذيبهم بالبعث الذي أخبرهم الله على لسان محمد صلى الله عليه وسلم في صورة تكذيبهم استطاعة الله ذلك وعجزه عنه، أي أن الأولى بالقدرة على البعث شركاؤهم فكأن وقوع البعث أمر لا ينبغي النزاع فيه فإن نازع فيه المنازعون فإنما ينازعون في نسبته إلى الله ويرومون بذلك نسبته إلى شركائهم فأنكرت عليهم هذه النسبة على هذه الطريقة المفعمة بالنكت، والمشركون لم يدعوا لآلهتهم أنها تبعث الموتى ولا هم معترفون بوقوع البعث ولكن نزلوا منزلة من يزعم ذلك إبداعا في الإلزام. ونظيره قوله تعالى في سورة النحل في ذكر الآلهة: {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}.
[22] {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ}
جملة مبنية للإنكار الذي في قوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً} ولذلك فصلت ولم تعطف.
وضمير المثنى عائد إلى {السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} من قوله تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي لو كان في السماوات والأرض آلهة أخرى ولم يكن جميع من فيها ملكا لله وعبادا له لفسدت السماوات والأرض واختل نظامها الذي خلقتا به.
وهذا استدلال على بطلان عقيدة المشركين إذ زعموا أن الله جعل آلهة شركاء له في تدبير الخلق، أي أنه بعد أن خلق السماوات والأرض أقام في الأرض شركاء له، ولذلك كانوا يقولون في التلبية في الحج لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك وذلك من الضلال المضطرب الذي وضعه لهم أئمة الكفر بجهلهم وترويج ضلالهم على عقول الدهماء.
وبذلك يتبين أن هذه الآية استدلال على استحالة وجود آلهة غير الله بعد خلق السماوات والأرض لأن المشركين لم يكونوا ينكرون أن الله خالق السماوات والأرض، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } في سورة الزمر، وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} في سورة الزخرف. فهي مسوقة لإثبات الوحدانية لا لإثبات وجود الصانع إذ لا نزاع فيه عند المخاطبين، ولا لإثبات انفراده بالخلق إذ لا نزاع فيه كذلك، ولكنها

منتظمة على ما يناسب اعتقادهم الباطل لكشف خطئهم وإعلان باطلهم.
والفساد: هو اختلال النظام وانتفاء النفع من الأشياء. ففساد السماء والأرض هو أن تصيرا غير صالحتين ولا منتسقتي النظام بأن يبطل الانتفاع بما فيها. فمن صلاح السماء نظام كواكبها، وانضباط مواقيت طلوعها وغروبها، ونظام النور والظلمة. ومن صلاح الأرض مهدها للسير، وإنباتها الشجر والزرع، واشتمالها على المرعى والحجارة والمعادن والأخشاب، وفساد كل من ذلك ببطلان نظامه الصالح.
ووجه انتظام هذا الاستدلال أنه لو تعددت الآلهة للزم أن يكون كل إله متصفا بصفات الإلهية المعروفة آثارها، وهي الإرادة المطلقة والقدرة التامة على التصرف، ثم إن التعدد يقتضي اختلاف متعلقات الإرادات والقدر لأن الآلهة لو استوت في تعلقات إرادتها ذلك لكان تعدد الآلهة عبثا للاستغناء بواحد منهم، ولأنه إذا حصل كائن فإن كان حدوثه بإرادة متعددين لزم اجتماع مؤثرين على مؤثر واحد وهو محال لاستحالة اجتماع علتين تامتين على معلول واحد فلا جرم أن تعدد الآلهة يستلزم اختلاف متعلقات تصرفاتها اختلافا بالأنواع، أو بالأحوال، أو بالبقاع، فالإله الذي لا تنفذ إرادته بعض الموجودات ليس بإله بالنسبة إلى تلك الموجودات التي أوجدها غيره.
ولا جرم أن تختلف متعلقات إرادات الآلهة باختلاف مصالح رعاياهم أو مواطنهم أو أحوال تصرفاتهم فكل يغار على ما في سلطانه.
فثبت أن التعدد يستلزم اختلاف الإرادات وحدوث الخلاف.
ولما كان التماثل في حقيقة الإلهية يقتضي التساوي في قوة قدرة كل إله منهم، وكان مقتضيا تمام المقدرة عند تعلق الإرادة بالقهر للضد بأن لا يصده شيء عن استئصال ضده، وكل واحد منهم يدفع عن نفسه بغزو ضده وإفساد ملكه وسلطانه، تعين أنه كلما توجه واحد منهم إلى غزو ضده أن يهلك كل ما هو تحت سلطانه فلا يزال يفسد ما في السماوات والأرض عند كل خلاف كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} في سورة المؤمنون.
فلا جرم دلت مشاهدة دوام السماوات والأرض على انتظامها في متعدد العصور والأحوال على أن إلهها واحد غير متعدد.
فأما لو فرض التفاوت في حقيقته الإلهية فإن ذلك يقتضي رجحان بعض الآلهة على

بعض، وهو أدخل في اقتضاء الفساد إذ تصير الغلبة للأقوى منهم فيجعل الكل تحت كلاكله، ويفسد على كل ضعيف منهم ما هو في حوزته فيكون الفساد أسرع.
وهذا الاستدلال باعتبار كونه مسوقا لإبطال تعدد خاص، وهو التعدد الذي اعتقده أهل الشرك من العرب واليونان الزاعمين تعدد الآلهة بتعدد القبائل والتصرفات، وكذا ما اعتقده المانوية من الفرس المثبتين إلهين أحدهما للخير والآخر للشر أو أحدهما للنور والآخر للظلمة هو دليل قطعي.
وأما باعتبار ما نحاه المتكلمون من الاستدلال بهذه الآية على إبطال تعدد الآلهة من أصله بالنسبة لإيجاد العالم وسموه برهان التمانع، فهو دليل إقناعي كما قال سعد الدين التفتزاني في شرح النسفية . وقال في المقاصد : وفي بعضها ضعف لا يخفى.
وبيانه أن الاتفاق على إيجاد العالم يمكن صدوره من الحكيمين أو الحكماء فلا يتم الاستدلال إلا بقياس الآلهة على الملوك في العرف وهو قياس إقناعي.
ووجه تسميته برهان التمانع أن جانب الدلالة فيه على استحالة تعدد الإله هو فرض أن يتمانع الآلهة، أي يمنع بعضهم بعضا من تنفيذ مراده، والخوض فيه مقامنا غني عنه.
والمنظور إليه في الاستدلال هنا هو لزوم فساد السماوات والأرض لا إلى شيء آخر من مقدمات خارجه عن لفظ الآية حتى يصير الدليل بها دليلا قطعيا لأن ذلك له أدلة أخرى كقوله تعالى: {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ}. وسيجيء في سورة المؤمنون.
وأما الاستدلال ببرهان التمانع فللمتكلمين في تقريره طريقتان ذكرهما صاحب المواقف .
الأولى: طريقة الاستدلال بلزوم التمانع بالفعل وهي الطريقة المشهورة. وتقريرها: أنه لو كان للعالم صانعان متماثلان في القدرة، فلا يخلو إما أن تتفق إرادتاهما وحينئذ فالفعل إن كان بإرادتيهما لزم اجتماع مؤثرين تامين على مؤثر بفتح المثلثة واحد وهو محال لامتناع اجتماع العلتين التامتين على معلول واحد. وإن كان الفعل بإحدى الإرادتين دون الأخرى لزم ترجيح إحداهما بلا مرجح لاستوائهما في الصفة والموصوف بها، وإما أن تختلف إرادتاهما فيلزم التمانع، ومعناه أن يمنع كل منهما الآخر من الفعل لأن الفرض أنهما مستويان في القدرة.

ويرد على الاستدلال بهاته الطريقة أمور:
أحدها: أنه لا يلزم تساوي الإلهين في القدرة بل يجوز عقلا أن يكون أحدهما أقوى قدرة من الآخر، وأجيب عنه بأن العجز مطلقا مناف للألوهية بداهة. قاله عبد الحكيم في حاشية البيضاوي .
الأمر الثاني: يجوز أن يتفق الإلهان على أن لا يريد أحدهما إلا الأمر الذي لم يرده الآخر فلا يلزم عجز من لم يفعل.
الأمر الثالث: يجوز أن يتفق الإلهان على إيجاد الأمر المراد بالاشتراك لا بالاستقلال.
الأمر الرابع: يجوز تفويض أحدهما للآخر أن يفعل فلا يلزم عجز المفوض لأن عدم إيجاد المقدور لمانع أراده القادر لا يسمى عجزا، لا سيما وقد حصل مراده، وإن لم يفعله بنفسه.
والجواب عن هذه الثلاثة الأخيرة أن في جميعها نقصا في الألوهية لأن الألوهية من شأنها الكمال في كل حال.
إلا أن هذا الجواب لا يخرج البرهان عن حد الإقناع.
الطريقة الثانية: عول عليها التفتزاني في "شرح العقائد النسفية" وهي أن تعدد الإلهين يستلزم إمكان حصول التمانع بينهما، أي أن يمنع أحدهما ما يريده الآخر، لأن المتعددين يجوز عليهم الاختلاف في الإرادة. وإذا كان هذا الإمكان لازما للتعدد فإن حصل التمانع بينهما إذا تعلقت إرادة أحدهما بوجود شخص معين وتعلقت إرادة الآخر بعدم وجوده، فلا يصح أن يحصل المرادان معا للزوم اجتماع النقيضين، وإن حصل أحد المرادين لزم عجز صاحب المراد الذي لم يحصل، والعجز يستلزم الحدوث وهو محال، فاجتماع النقيضين أو حدوث الإله لازم لازم لازم للتعدد وهو محال، ولازم اللازم لازم فيكون الملزوم الأول محالا، قال التفتزاني: وبه تندفع الإيرادات الواردة على برهان التمانع.
وأقول يرد على هذه الطريقة أن إمكان التمانع لا يوجب نهوض الدليل، لأن هذا الإمكان يستحيل وقوعه باستحالة حدوث الاختلاف بين الإلهين بناء على أن اختلاف الإرادة إنما يجيء من تفاوت العلم في الانكشاف به، ولذلك يقل الاختلاف بين الحكماء. والإلهان نفرضهما مستويين في العلم والحكمة فعلمهما وحكمتهما يقتضيان

انكشافا متماثلا فلا يريد أحدهما إلا ما يريده الآخر فلا يقع بينهما تمانع. ولذلك استدل في المقاصد على لزوم حصول الاختلاف بينهما بحكم اللزوم العادي.
بقي النظر في كيفية صدور الفعل عنهما فذلك انتقال إلى ما بنيت عليه الطريقة الأولى.
وإن احتمال اتفاق الإلهين على إرادة الأشياء إذا كانت المصلحة فيها بناء على أن الإلهين حكيمان لا تختلف إرادتهما، وإن كان احتمالا صحيحا لكن يصير به تعدد الإله عبثا لأن تعدد ولاة الأمور ما كان إلا لطلب ظهور الصواب عند اختلافهما، فإذا كانا لا يختلفان فلا فائدة في التعدد، ومن المحال بناء صفة أعلى الموجودات على ما لا أثر له في نفس الأمر. فالآية دليل قطعي.
ثم رجع عن ذلك في شرح النسفية فحقق أنها دليل إقناعي على التقديرين، وقال المحقق الخيالي إلى أنها لا تكون دليلا قطعيا إلا بالنظر إلى تحقيق معنى الظرفية من قوله تعالى: {فِيهِمَا} ، وعين أن تكون الظرفية ظرفية التأثير، أي لو كان مؤثر فيهما، أي السماوات والأرض غير الله تكون الآية حجة قطعية. وقد بسطه عبد الحكيم في حاشيته على الخيالي ولا حاجة بنا إلى إثبات كلامه هنا.
والاستثناء في قوله تعالى: {إِلَّا اللَّهَ} استثناء من أحد طرفي القضية لا من النسبة الحكيمة، أي هو استثناء من المحكوم عليه لا من الحكم. وذلك من مواقع الاستثناء لأن أصل الاستثناء هو الإخراج من المستثنى منه فالغالب أن يكون الإخراج من المستثنى باعتبار تسلط الحكم عليه قبل الاستثناء وذلك في المفرغ وفي المنصوب، وقد يكون باعتباره قبل تسلط الحكم عليه وذلك في غير المنصوب ولا المفرغ فيقال حينئذ إن "إلا" بمعنى غير والمستثنى يعرب بدلا من المستثنى منه.
وفرع على هذا الاستدلال إنشاء تنزيه الله تعالى عن المقالة التي أبطلها الدليل بقوله تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} أي عما يصفونه به من وجود الشريك.
وإظهار اسم الجلالة في مقام الإضمار لتربية المهابة.
ووصفه هنا برب العرش للتذكير بأنه انفرد بخلق السماوات وهو شيء ينازعون فيه بل هو خالق أعظم السماوات وحاويها وهو العرش تعريضا بهم بإلزامهم لازم قولهم بانفراده بالخلق أن يلزم انتفاء الشركاء له فيما دون ذلك.

[23] {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}
الأظهر أن هذه الجملة حال مكملة لمدلول قوله تعالى: {لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} كما تقدم عند قوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ} الخ. فالمعنى أن من عنده وهم المقربون من المخلوقات هم مع قربهم يسألون عما يفعلون ولا يسألونه عما يفعل، أي لم يبلغ بهم قربهم إلى حد الإدلال عليه وانتصابهم لتعقب أفعاله. فلما كان الضمير المرفوع بالنيابة عن الفاعل مشعرا بفاعل حذف لقصد التعميم، أي لا يسأل سائل الله تعالى عما يفعل. وكان ممن يشملهم الفاعل المحذوف هم من عنده من المقربين، صح كون هذه الجملة حالا من "من عنده"، على أن جملة: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} تمهيد لجملة: {وَهُمْ يُسْأَلُونَ}.
على أن تقديمه على جملة: {وَهُمْ يُسْأَلُونَ} اقتضته مناسبة الحديث عن تنزيهه تعالى عن الشركاء فكان انتقالا بديعا بالرجوع إلى بقية أحوال المقربين.
فالمقصود أن من عنده مع قربهم ورفعة شأنهم يحاسبهم الله على أعمالهم فهم يخافون التقصير فيما كلفوا به من الأعمال ولذلك كانوا لا يستحسرون ولا يفترون.
وبهذا تعلم أن ليس ضمير {وَهُمْ يُسْأَلُونَ} براجع إلى ما رجع إليه ضمير {يَصِفُونْ} لأن أولئك لا جدوى للإخبار بأنهم يسألون إذ لا يتردد في العلم بذلك أحذ، ولا براجع إلى {آلِهَة مِنَ الأَرْضِ} لعدم صحة سؤالهم، وذلك هو ما دعانا إلى اعتبار جملة: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} حالا من {مِنْ عِنْدِهِ} .
والسؤال هنا بمعنى المحاسبة، وطلب بيان سبب الفعل، وإبداء المعذرة عن فعل بعض ما يفعل، وتخلص من ملام أو عتاب على ما يفعل. وهو مثل السؤال في الحديث "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته". فكونهم يسألون كناية عن العبودية لأن العبد بمظنة المؤاخذة على ما يفعل وما لا يفعل وبمظنة للخطأ في بعض ما يفعل.
وليس المقصود هنا نفي سؤال الاستشارة أو تطلب العلم كما في قوله تعالى: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} في البقرة، ولا سؤال الدعاء، ولا سؤال الاستفادة والاستنباط مثل أسئلة المتفقهين أو المتكلمين عن الحكم المبثوثة في الأحكام الشرعية أو في النظم الكونية لأن ذلك استنباط وتتبع وليس مباشرة بسؤال الله تعالى، ولا لتطلب

مخلص من ملام. وفي هذا إبطال لإلهية المقربين التي زعمها المشركون الذين عبدوا الملائكة وزعموهم بنات الله تعالى، بطريقة انتفاء خاصية الإله الحق عنهم إذ هم يسألون عما يفعلون وشأن الإله أن لا يسأل. وتستخرج من جملة {لا يسأل عما يفعل} كناية عن جريان أفعال الله تعالى على مقتضى الحكمة بحيث إنها لا مجال فيها لانتقاد منتقد إذا أتقن الناظر التدبر فيها أو كشف له عما خفي منها.
[24] {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ}
جملة: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} تأكيد لجملة: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأَرْضِ} . أكد ذلك الإضراب الانتقالي بمثله استعظاما لفظاعته وليبنى عليه استدلال آخر كما بني على نظيره السابق؛ فإن الأول بني عليه دليل استحالة من طريق العقل، وهذا بني عليه دليل بطلان بشهادة الشرائع سابقها ولاحقها، فلقن الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول: {هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} أي، هاتوا دليلا على أن لله شركاء من شواهد الشرائع والرسل.
والبرهان: الحجة الواضحة. وتقدم في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَاالنَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ} في سورة النساء.
والإشارة في قوله تعالى: {هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِي} إلى مقدر في الذهن يفسره الخبر. والمقصود من الإشارة تمييزه وإعلانه بحيث لا يستطيع المخاطب المغالطة فيه ولا في مضمونه، كقوله تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} في سورة لقمان، أي أن كتب الذكر أي الكتب الدينية في متناول الناس فانظروا هل تجدون في أحد منها أن لله شركاء وأن الله أذن باتخاذهم آلهة. وإضافة {ذِكْرُ} إلى {مَن مَعِي} من إضافة المصدر إلى مفعوله وهم المذكرون بفتح الكاف.
والمعية في قوله تعالى: {مَن مَعِي} معية المتابعة، أي من معي من المسلمين، فما صدق "من" الموصولة الأمم، أي هذا ذكر الأمة التي هي معي، أي الذكر المنزل لأجلكم. فالإضافة من إضافة المصدر إلى المفعول كقوله تعالى: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ} . والمراد بقوله تعالى: {هَذَا ذِكْرُ مَن مَعِي} القرآن، وأما قوله تعالى: {وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي} فمعناه ذكر الأمم الذين هم قبلي يشمل جميع الكتب السالفة المعروفة: التوراة والزبور والإنجيل وكتاب لقمان. وهذا كقوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا

إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ} في آل عمران.
وأضرب عن الاستدلال بأنه استدلال مضيع فيهم بقوله تعالى: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ} ، أي لا ترج منهم اعترافا ببطلان شركهم من دليل العقل المتقدم ولا من دليل شهادة الشرائع المذكور ثانيا، فإن أكثرهم لا يعلمون الحق ولا يكتسبون علمه.
والمراد بكونهم لا يعلمون الحق أنهم لا يتطلبون علمه كما دلت عليه قرينة التفريع عليه بقوله تعالى: {فَهُمْ مُعْرِضُونَ} ، أي معرضون عن النظر في الأدلة التي تدعوهم أنت إلى معرفتها والنظر فيها.
وإنما أسند هذا الحكم إلى أكثرهم لا لجميعهم تسجيلا عليهم بأن قليلا منهم يعلمون الحق ويجحدونه، أو إيماء إلى أن قليلا منهم تهيأت نفوسهم لقبول الحق. وتلك هي الحالة التي تعرض للنفس عند هبوب نسمات التوفيق عليها مثل عرض لعمر بن الخطاب حين وجد اللوح عند أخته مكتوبا فيه سورة طه فأقبل على قراءاته بشراشره فما أتمهما حتى عزم على الإسلام.
[25] {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}
لما أظهر لرسوله أن المعاندين لا يعلمون الحق لإعراضهم عن تلقيه أقبل على رسوله صلى الله عليه وسلم بتأييد مقاله الذي لقنه أن يجيبهم به وهو قوله تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي} ، فأفاده تعميمه في شرائع سائر الرسل سواء من أنزل عليه كتاب ومن لم ينزل عليه كتاب، وساء من كان كتابه باقيا مثل موسى وعيسى وداود ومن لم يبق كتابه مثل إبراهيم.
وليس ذكر هذه الجملة لمجرد تقرير ما قبلها من آي التوحيد وإن أفادت التقرير تبعا لفائدتها المقصودة. وفيها إظهار لعناية الله تعالى بإزالة الشرك من نفوس البشر وقطع دابره إصلاحا لعقولهم بأن يزال منها أفظع خطل وأسخف رأي، ولم تقطع دابر الشرك شريعة كما قطعه الإسلام بحيث لم يحدث الإشراك في هذه الأمة.
وحرف "من" في قوله تعالى: {مِنْ رَسُولٍ} مزيد لتوكيد النفي.

وفرع فيما أوحي إليهم أمره إياهم بعبادته على الإعلان بأنه لا إله غيره، فكان استحقاق العبادة خاصا به تعالى.
وقرأ الجمهور {إلا يوحى إليه} بمثناة تحتية مبنيا للنائب، وقرأه حفص وحمزة والكسائي بالنون مبنيا للفاعل، والاستثناء المفرع في موضع الحال.
[26-29] {قَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ}
عطف قصة من أقوالهم الباطلة على قصة أخرى. فلما فرغ من بيان باطلهم فيما اتخذوا من دون الله آلهة انتقل إلى بيان باطل آخر وهو اعتقادهم أن الله اتخذ ولدا. وقد كانت خزاعة من سكان ضواحي مكة يزعمون أن الملائكة بنات الله من سروات الجن وشاركهم في هذا الزعم بعض من قريش وغيرهم من العرب. وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ} في سورة النحل.
والولد اسم جمع مفرده مثله، أي اتخذ أولادا، والولد يشمل الذكر والأنثى، والذين قالوا اتخذ الله ولدا أرادوا أنه اتخذ بنات قال تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ}.
ولما كان اتخاذ الولد نقصا في جانب واجب الوجود أعقب مقالتهم بكلمة {سُبْحَانَهُ} تنزيها له عن ذلك فإن اتخاذ الولد إنما ينشأ عن الافتقار إلى إكمال النقص العارض بفقد الولد كما قال تعالى: في سورة يونس: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ}.
ولما كان المراد من قوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} أنهم زعموا الملائكة بنات الله تعالى أعقب حرف الإضراب عن قولهم بالإخبار بأنهم عباد دون ذكر المبتدأ للعلم به. والتقدير: بل الملائكة عباد مكرمون، أي أكرمهم الله برضاه عنهم وجعلهم من عباده المقربين وفضلهم على كثير من خلقه الصالحين.
والسبق، حقيقته: التقدم في السير على سائر آخر. وقد شاع إطلاقه مجازا على

التقدم في كل عمل. ومنه السبق في القول، أي التكلم قبل الغير كما في هذه الآية. ونفيه هنا كناية عن عدم المساواة، أي كناية عن التعظيم والتوقير. ونظيره في ذلك النهي عن التقدم في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} فإن التقدم في معنى السبق.
فقوله تعالى: {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ} معناه لا يصدر منهم قول قبل قوله، أي لا يقولون ما أذن لهم أن يقولوه. وهذا عام يدخل فيه الرد على زعم المشركين أن معبوداتهم تشفع لهم عند الله إذا أراد الله عقابهم على أعمالهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله كما سيصرح نفيه.
وتقديم {بأمره} على {يعلمون} لإفادة القصر، أي لا يعلمون عملا إلا عن أمر الله تعالى فكما أنهم لا يقولون قولا لم يأذن فيه كذلك لا يعلمون عملا إلا بأمره.
وقوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} تقدم نظيره في سورة البقرة.
وقوله تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} تخصيص بالذكر ليعض ما شمله قوله تعالى: {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ} اهتماما بشأنه لأنه مما كفروا بسببه إذ جعلوا الآلهة شفعاء لهم عند الله.
وحذف مفعول "ارتضى" لأنه عائد صلة منصوب بفعل، والتقدير: لمن ارتضاه، أي ارتضى الشفاعة له بأن بأذن الملائكة أن يشفعوا له إظهارا لكرامتهم عند الله أو استجابة لاستغفارهم لمن في الأرض، كما قال تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} في سورة الشورى. وذلك الاستغفار من جملة ما خلقوا لأجله فليس هو من التقدم بالقول.
ثم زاد تعظيمهم ربهم تقريرا بقوله تعالى: {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} ، أي هم يعظمونه تعظيم من يخاف بطشته ويحذر مخالفة أمره.
و"من" في قوله تعالى: {مِنْ خَشْيَتِهِ} للتعليل، والمجرور ظرف مستقر، وهو حال من المبتدأ. و {مشفقون} خبر، أي وهم لأجل خشيته، أي خشيتهم إياه.
والإشفاق: توقع المكروه والحذر منه.
والشرط الذي في قوله تعالى: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ} الخ... شرط

على سبيل الفرض، أي لو قاله واحد منهم مع العلم بأنهم لا يقولونه لأجل ما تقرر من شدة خشيتهم. فالمقصود من هذا الشرط التعريض بالذين ادعوا لهم الإلهية بأنهم ادعوا لهم ما لا يرضونه ولا يقولونه، وأنهم ادعوا ما يوجب لقائله نار جهنم على حد {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} .
وعدل عن "إن" الشرطية إلى "من" الشرطية للدلالة على العموم مع الإيجاز. وأدخل اسم الإشارة في جواب الشرط لتحقيق التعليق بنسبته الشرط لأداته للدلالة على جدارة مضمون الجزاء بمن ثبت له مضمون الشرط، وفي هذا إبطال لدعوى عامة النصارى إلهية عيسى عليه السلام وأنهم يقولون عليه ما لم يقله. ثم صرح بما اقتضاه التعريض فقال تعالى: {كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} أي مثل ذلك الجزاء وهو جهنم يجزي المثبتين لله شريكا. والظلم: الشرك.
[30] {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ} .
{أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا}
قرأ الجمهور {أولم} بواو بعد الهمزة وهي واو العطف، فالجملة معطوفة عطف الاستدلال على الخلق الثاني بالخلق الأول وما فيه من العجائب. وقرأ ابن كثير {ألم ير} بدون واو عطف. قال أبو شامة: ولم تثبت الواو في مصاحف أهل مكة. قلت: معناه أنها لم تثبت في المصحف الذي أرسل به عثمان إلى مكة فالتزم قراء مكة رواية عدم الواو إلى أن قرأ بها ابن كثير، وأهملت غير قراءته.
والاستفهام على كلتا القراءتين إنكاري، توجه الإنكار على إهمالهم للنظر.
والرؤية تحتمل أن تكون بصرية وأن تكون علمية. والاستفهام صالح لأن يتوجه إلى كلتيهما لأن إهمال النظر في المشاهدات الدالة على علم ما ينقذ علمه من التورط في العقائد الضالة حقيق بالإنكار، وإنكار أعمال الفكر في دلالة الأشياء على لوازمها حتى لا يقع أحد في الضلال جدير أيضا بالإنكار أو بالتقرير المشوب بإنكار كما سنفصله.
والرتق: الاتصال والتلاصق بين أجزاء الشيء.
والفتق: ضده وهو الانفصال والتباعد بين الأجزاء.

والإخبار عن السماوات والأرض بأنهما رتق إخبار بالمصدر للمبالغة في حصول الصفة.
ثم إن قوله تعالى: {كَانَتَا} يحتمل أن تكونا معا رتقا واحدا بأن تكون السماوات والأرض جسما ملتئما متصلا. ويحتمل أن تكون كل سماء رتقا على حدتها، والأرض رتقا على حدتها وكذلك الاحتمال في قوله تعالى: {فَفَتَقْنَاهُمَا}.
وإنما لم يقل نحو: فصارتا فتقا، لأن الرتق متمكن منهما أشد تمكن كما قلنا ليستدل به على عظيم القدرة في فتقهما، ولدلالة الفعل على حدثان الفتق إيماء إلى حدوث الموجودات كلها وأن ليس منها أزلي.
والرتق يحتمل أن يراد به معان تنشأ على محتملاتها معان في الفتق، فإن اعتبرنا الرؤية بصرية فالرتق المشاهد هو ما يشاهده الرائي من عدم تخلل شيء بين أجزاء السماوات وبين أجزاء الأرض، والفتق هو ما يشاهده الرائي من ضد ذلك حين يرى المطر نازلا من السماء ويرى البريق يلعج منها والصواعق تسقط منها فذلك فتقها، وحين يرى انشقاق الأرض بماء المطر وانبثاق النبات والشجر منها بعد جفافها، وكل ذلك مشاهد مرئي دال على تصرف الخالق، وفي هذا المعنى جمع بين العبرة والمنة، كما قال ابن عطية: أي هو عبرة دلالة على عظم القدرة وتقريب لكيفية إحياء الموتى كما قال تعالى: {فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} في سورة فاطر.
وإن اعتبرنا الرؤية علمية احتمل أن يراد بالرتق مثل ما أريد به على اعتبار كون الرؤية بصرية، وكان الاستفهام أيضا إنكاريا متوجها إلى إهمالهم التدبر في المشاهدات. واحتمل أن يراد بالرتق معان غير مشاهدة ولكنها مما ينبغي طلب العلم به لما فيه من الدلائل على عظم القدرة وعلى الوحدانية، فيحتمل أن يراد بالرتق والفتق حقيقتاهما، أي الاتصال والانفصال. ثم هذا الاحتمال يجوز أن يكون على معنى الجملة، أي كانت السماوات والأرض رتقا واحدا، أي كانتا كتلة واحدة ثم انفصلت السماوات عن الأرض كما أشار إليه قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} في سورة هود.
ويجوز على هذا الاحتمال أن يكون الرتق والفتق على التوزيع، أي كانت السماوات رتقا في حد ذاتها وكانت الأرض رتقا في حد ذاتها ثم فتق الله السماوات وفتق الأرض، وهذا كقوله تعالى: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ

لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} في سورة فصلت.
وعلى هذين الاحتمالين يكون الاستفهام تقريريا عن إعراضهم عن استماع الآيات التي وصفت بدء الخلق ومشوبا بالإنكار على ذلك.
وعلى جميع التقادير فالمقصود من ذلك أيضا الاستدلال على أن الذي خلق السماوات والأرض وأنشأهما بعد العدم قادر على أن يخلق الخلق بعد انعدامه قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ}.
ويحتمل أن يراد بالرتق العدم وبالفتق الإيجاد. وإطلاق الرؤية على العلم على هذا الاحتمال ظاهر لأن الرتق بهذا المعنى محقق أمرهما عندهم قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} .
ويحتمل أن يراد بالرتق الظلمة وبالفتق النور، فالموجودات وجدت في ظلمة ثم أفاض الله عليها النور بأن أوجد في بعض الأجسام نورا أضاء الموجودات.
ويحتمل أن يراد بالرتق اتحاد الموجودات حين كانت مادة واحدة أو كانت أثيرا أو عماء كما جاء في الحديث كان في عماء، فكانت جنسا عاليا متحدا ينبغي أن يطلق عليه اسم مخلوق، وهو حينئذ كلي انحصر في فرد. ثم خلق الله من ذلك الجنس أبعاضا وجعل لكل بعض مميزات ذاتية فصير كل متميز بحقيقة جنسا فصارت أجناسا. ثم خلق في الأجناس مميزات بالعوارض لحقائقها فصارت أنواعا. وهذا الاحتمال أسعد بطريقة الحكماء وقد اصطلحوا على تسمية هذا التمييز بالرتق والفتق، وبعض من الصوفية وهو صاحب مرآة العارفين جعل الرتق علما على العنصر الأعظم يعني الجسم الكل، والجسم الكل هو الفلك الأعظم المعبر عنه بالعرش. ذكر ذلك الحكيم الصوفي لطف الله الأرضرومي صاحب معارج النور في أسماء الله الحسنى المتوفى في أواخر القرن الثاني عشر الذي دخل تونس عام 1185هـ في مقدمات كتابه معارج النور وفي رسالة له سماها "رسالة الفتق والرتق ".

والظاهر أن الآية تشمل جميع ما يتحقق فيه معاني الرتق والفتق إذ لا مانع من اعتبار معنى عام يجمعها جميعا، فتكون الآية قد اشتملت على عبرة تعم كل الناس وعلى عبرة خاصة بأهل النظر والعلم فتكون من معجزات القرآن العلمية التي أشرنا إليها في مقدمات هذا التفسير.
{وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ}
زيادة استدلال بما هو أظهر لرؤية الأبصار وفيه عبرة للناس في أكثر أحواله. وهو عبرة للمتأملين في دقائقه في تكوين الحيوان من الرطوبات. وهي تكوين التناسل وتكوين جميع الحيوان فإنه لا يتكون إلا من الرطوبة ولا يعيش إلا ملابسا لها فإذا انعدمت منه الرطوبة فقد الحياة، ولذلك كان استمرار الحمى مفضيا إلى الهزال ثم إلى الموت.
و"جعل" هنا بمعنى خلق، متعدية إلى مفعول واحد لأنها غير مراد منها التحول من حال إلى حال.
و {من الماء} متعلق بـ {جعلنا} . و "من" ابتدائية. وفرع عليه {أَفَلَا يُؤمِنُونْ} إنكارا عليهم عدم إيمانهم الإيمان الذي دعاهم إليه محمد صلى الله عليه وسلم وهو الإيمان بوحدانية الله.
[31] {وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ}
هذا من آثار فتق الأرض في حد ذاتها إذ أخرج الله منها الجبال وذلك فتق تكوين، وجعل فيها الطرق، أي الأرضين السهلة التي يتمكن الإنسان من المشي فيها عكس الجبال.
والرواسي: الجبال، لأنها رست في الأرض، أي رسخت فيها. والميد: الاضطراب. وقد تقدم في أول سورة النحل.
وتقدم في أول سورة النحل أن معنى {أَنْ تَمِيدَ} أن لا تميد، أو لكراهة أن تميد. والمعنى: وجعلنا في الأرض فجاجا. ولما كان "فجاجا" معناه واسعة كان في المعنى وصفا للسبيل، فلما قدم على موصوفه انتصب على الحال. والمقصود إتمام المنة بتسخير سطح الأرض ليسلكوا منها طرقا واسعة ولو شار لجعل مسالك ضيقة بين الجبال كأنها الأدوية.

والفجاج: جمع فج. والفج: الطريق الواسع.
والسبل: جمع سبيل، وهو: الطريق مطلقا.
وجملة: {لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} مستأنفة إنشاء رجاء اهتداء المشركين إلى وحدانية الله فإن هذه الدلائل مشاهدة لهم واضحة الدلالة. ويجوز أن يراد بالاهتداء في السير، أي جعلنا سبلا واضحة غير محجوبة بالضيق إرادة اهتدائهم في سيرهم، فتكون هذه منة أخرى وهو تدبير الله الأشياء على نحو ما يلائم الإنسان ويصلح أحواله.
فقوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} من الكلام الموجه.
[32] {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ}
لما ذكر الاعتبار بخلق الأرض وما فيها ناسب بحكم الطباق ذكر خلق السماء عقبه، إلا أن حالة خلق الأرض فيها منافع للناس. فعقب ذكرها بالامتنان بقوله تعالى: {أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ} وبقوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ}.
وأما حال خلق السماء فلا تظهر فيه منفعة فلم يذكر بعده امتنان، ولكنه ذكر إعراضهم عن التدبر في آيات خلق السماء الدالة على الحكمة البالغة فعقب بقوله تعالى: {وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} . فأدمج في خلال ذلك منة وهي حفظ السماء من أن تقع بعض الأجرام الكائنة فيها أو بعض أجزائها على الأرض فتهلك الناس أو تفسد الأرض فتعطل منافعها، فذلك إدماج للمنة في خلال الغرض المقصود الذي لا مندوحة عن العبرة به.
والسقف، حقيقته: غطاء فضاء البيت الموضوع على جدرانه، ولا يقال السقف على غطاء الخباء والخيمة، وأطلق السقف على السماء على طريقة التشبيه البليغ، أي جعلناها كالسقف لأن السماء ليست موضوعة على عمد من الأرض، قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} وقد تقدم في أول سورة الرعد.
وجملة: {وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} في موضع الحال. وآيات السماء ما تشتمل عليه السماء من الشمس والقمر والكواكب والشهب وسيرها وشروقها وغروبها وظهورها وغيبتها، وابتناء ذلك على حساب قويم وترتيب عجيب، وكلها دلائل على الحكمة البالغة فلذلك سماها آيات. وكذلك ما يبدو لنا من جهة السماء مثل السحاب والبرق والرعد.

[33] {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}
{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ}
لما كانت في إيجاد هذه الأشياء المعدودة هنا منافع للناس سيقت في معرض المنة بصوغها في صيغة الجملة الاسمية المعرفة الجزأين لإفادة القصر، وهو قصر إفراد إضافي بتنزيل المخاطبين من المشركين منزلة من يعتقد أن أصنامهم مشاركة لله في خلق تلك الأشياء، لأنهم لما عبدوا الأصنام، والعبادة شكر، لزمهم أنهم يشكرونها وقد جعلوها شركاء لله فلزمهم أنهم يزعمون أنها شريكة لله في خلق ما خلق لينتقل من ذلك إلى إبطال إشراكهم إياها في الإلهية.
ولكون المنة والعبرة في أيجاد نفس الليل والنهار، ونفس الشمس والقمر، لا في إيجادها على حالة خاصة، جيء هنا بفعل الخلق لا بفعل الجعل.
وخلق الليل هو جزئي من جزئيات خلق الظلمة التي أوجد الله الكائنات فيها قبل خلق الأجسام التي تفيض النور على الموجودات، فإن الظلمة عدم والنور وجودي وهو ضد الظلمة، والعدم سابق للوجود فالحالة السابقة لوجود الأجرام النيرة هي الظلمة، والليل ظلمة ترجع لجرم الأرض عند انصراف الأشعة عن الأرض.
وأما خلق النهار فهو بخلق الشمس ومن توجه أشعتها إلى النصف المقابل للأشعة من الكرة الأرضية، فخلق النهار تبع لخلق الشمس وخلق الأرض ومقابلة الأرض لأشعة الشمس، ولذلك كان لذكر خلق الشمس عقب ذكر خلق النهار مناسبة قوية للتنبيه على منشأ خلق النهار كما هو معلوم.
وأما ذكر خلق القمر فلمناسبة خلق الشمس، وللتذكير بمنة إيجاد ما ينير على الناس بعض النور في بعض أوقات الظلمة. وكل ذلك من المنن.
{كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}
مستأنفة استئنافا بيانيا لأنه لما ذكر الأشياء المتضادة بالحقائق أو بالأوقات ذكرا مجملا في بعضها الذي هو آيات السماء، ومفصلا في بعض آخر وهو الشمس والقمر، كان المقام مثيرا في نفوس السامعين سؤالا عن كيفية سيرها وكيف لا يقع لها اصطدام أو يقع منها تخلف عن الظهور في وقته المعلوم، فأجيب بأن كل المذكورات له فضاء يسير

فيه لا يلاقي فضاء سير غيره.
وضمير {يُسَبِّحُونْ} عائد إلى عموم آيات السماء وخصوص الشمس والقمر. وأجري عليها ضمير جماعة الذكور باعتبار تذكير أسماء بعضها مثل القمر والكوكب.
وقال في الكشاف : "إنه روعي فيه وصفها بالسباحة التي هي من أفعال العقلاء فأجري عليها أيضا ضمير العقلاء، يعني فيكون ذلك ترشيحا للاستعارة".
وقوله تعالى: {فِي فَلَكٍ} ظرف مستقر خبر عن {كل} ، و {كل} مبتدأ وتنوينه عوض عن المضاف إليه، أي كل تلك، فهو معرفة تقديرا. وهو المقصود من الاستئناف بأن يفاد أن كلا من المذكورات مستقر في فلك لا يصادم فلك غيره، وقد علم من لفظ "كل" ومن ظرفية "في" أن لفظ {فلك} عام، أي لكل منها فلكه فهي أفلاك كثيرة.
وجملة: {يَسْبَحُونَ} في موضع الحال.
والسبح: مستعار للسير في متسع لا طرائق فيه متلاقية كطرائق الأرض، وهو تقريب لسير الكواكب في الفضاء العظيم.
والفلك فسره أهل اللغة بأنه مدار النجوم، وكذلك فسره المفسرون لهذه الآية ولم يذكوا أنه مستعمل في هذا المعنى في كلام العرب. ويغلب على ظني أنه من مصطلحات القرآن ومنه أخذه علماء الإسلام وهو أحسن ما يعبر عنه عن الدوائر المفروضة التي يضبط بها سير كوكب من الكواكب وخاصة سير الشمس وسير القمر.
والأظهر أن القرآن نقله من فلك البحر وهو الموج المستدير بتنزيل اسم الجمع منزلة المفرد. والأصل الأصيل في ذلك كله فلكه المغزل بفتح الفاء وسكون اللام وهي خشبة مستديرة في أعلاها مسمار مثني يدخل فيه الغزل ويدار لينفتل الغزل.
ومن بدائع الإعجاز في هذه الآية أن قوله تعالى: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ} فيه محسن بديعي فإن حروفه تقرأ من آخرها على الترتيب كما تقرأ من أولها مع خفة التركيب ووفرة الفائدة وجريانه مجرى المثل من غير تنافر ولا غرابة، ومثله قوله تعالى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} بطرح واو العطف، وكلتا الآيتين بني على سبعة أحرف، وهذا النوع سماه السكاكي المقلوب المستوي وجعله من أصناف نوع سماه القلب. وخص هذا الصنف بما يتأتى القلب في حروف كلماته. وسماها الحريري في

المقامات ما لا يستحيل بالانعكاس وبني عليه المقامة السادسة عشرة ووضح أمثله نثرا ونظما، وفي معظم ما وضعه من الأمثلة تكلف وتنافر وغرابة، وكذلك ما وضعه غيره على تفاوتها في ذلك والشواهد مذكورة في كتب البديع فعليك بتتبعها، وكلما زادت طولا زادت ثقلا.
قال العلامة الشيرازي في شرح المفتاح : " وهو نوع صعب المسلك قليل الاستعمال". قلت: "ولم يذكروا منه شيئا وقع في كلام العرب فهو من مبتكرات القرآن".
ذكر أهل الأدب أن القاضي الفاضل البيساني زار العماد الكاتب فلما ركب لينصرف من عنده قال له العماد: سر فلا كبا بك الفرس فقطن القاضي أن فيه محسن القلب فأجابه على البديهة: دام علا العماد وفيه محسن القلب.
[34] {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ}
عنيت الآيات من أول السورة باستقصاء مطاعن المشركين في القرآن ومن جاء به بقولهم: {أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} ، وقولهم: {أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} وكان من جملة أمانيهم لما أعياهم اختلاق المطاعن أن كانوا يتمنون موت محمد صلى الله عليه وسلم أو يرجونه أو يدبرونه قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} في سورة الطور وقال تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ} في الأنفال.
وقد دل على أن هؤلاء هم المقصود من الآية قوله تعالى: {أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} فلما كان تمنيهم موته وتربصهم به ريب المنون يقتضي أن الذين تمنوا ذلك وتربصوا به كأنهم واثقون بأنهم يموتون بعده فتتم شماتتهم، أو كأنهم لا يموتون أبدا فلا يشمت بهم أحد، وجه إليهم استفهام الإنكار على طريقة التعريض بتنزيلهم منزلة من يزعم أنهم خالدون.
وفي الآية إيماء إلى أن الذين لم يقدر الله لهم الإسلام ممن قالوا ذلك القول سيموتون قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم فلا يشمتون به فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى أهلك الله رؤوس الذين عاندوه وهدى بقيتهم إلى الإسلام.
ففي قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} طريقة القول بالموجب، أي أنك تموت كما قالوا ولكنهم لا يرون ذلك وهم بحال من يزعمون أنهم مخلدون فأيقنوا

بأنهم يتربصون بك ريب المنون من فرط غرورهم، فالتفريع كان على ما في الجملة الأولى من القول بالموجب، أي ما هم بخالدين حتى يوقنوا أنهم يرون موتك. وفي الإنكار الذي هو في معنى النفي إنذار لهم بأنهم لا يرى موته منهم أحد.
[35] {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}
جمل معترضات بين الجملتين المتعاطفتين.
ومضمون الجملة الأولى مؤكد لمضمون الجملة المعطوف عليها، وهي {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} . ووجه إعادتها اختلاف القصد فإن الأولى للرد على المشركين وهذه لتعليم المؤمنين.
واستعير الذوق لمطلق الإحساس الباطني لأن الذوق إحساس باللسان يقارنه ازدراد إلى بالباطن.
وذوق الموت ذوق آلام مقدماته وأما بعد حصوله فلا إحساس للجسد.
والمراد بالنفس النفوس الحالة في الأجساد كالإنسان والحيوان. ولا يدخل فيه الملائكة لأن إطلاق النفوس عليهم غير متعارف في العربية بل هو اصطلاح الحكماء وهو لا يطلق عندهم إلا مقيدا بوصف المجردات، أي التي لا تحل في الأجساد ولا تلابس المادة. وأما إطلاق النفس على الله تعالى فمشاكلة: إما لفظية كما في قوله تعالى: "تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك" في سورة المائدة، وإما تقديرية كما في قوله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} في آل عمران.
وجملة: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} عطف على الجملة المعترضة بمناسبة أن ذوق الموت يقتضي سبق الحياة، والحياة مدة يعتري فيها الخير والشر جميع الأحياء، فعلم الله تعالى المسلمين أن الموت مكتوب على كل نفس حتى لا يحسبوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم مخلد. وقد عرض لبعض المسلمين عارض من ذلك، ومنهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد قال يوم انتقال النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى: "ليرجعن رسول الله فيقطع أيدي قوم وأرجلهم" حتى حضر أبو بكر رضي الله عنه وثبته الله في ذلك الهول فكشف عن وجه النبي صلى الله عليه وسلم وقبله وقال: طبت حيا وميتا والله لا يجمع الله عليك موتتين. وقد قال عبد بني الحسحاس وأجاد:

رأيت المنايا لم يدعن محمدا ... ولا باقيا إلا له الموت مرصدا
وأعقب الله ذلك بتعليمهم أن الحياة مشتملة على خير وشر وأن الدنيا دار ابتلاء.
والبلوى: الاختبار. وتقدم غير مرة. وإطلاق البلوى على ما يبدو من الناس من تجلد ووهن وشكر وكفر، على ما ينالهم من اللذات والآلام مما بنى الله تعالى عليه نظام الحياة، إطلاق مجازي، لأن ابتناء النظام عليه دل على اختلاف أحوال الناس في تصرفهم فيه وتلقيهم إياه. أشبه اختبار المختبر ليعلم أحوال من يختبرهم.
و {فِتْنَةَ} منصوب على المفعولية المطلقة توكيدا لفعل {نَبْلُوكُم} لأن الفتنة ترادف البلوى.
وجملة: {وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} إثبات للبعث، فجمعت الآية الموت والحياة والنشر.
وتقديم المجرور للرعاية على الفاصلة وإفادة تقوي الخبر. وأما احتمال القصر فلا يقوم هنا إذ ليس ضد ذلك باعتقاد للمخاطبين كيفما افترضتهم.
[36] {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ}
هذا وصف آخر لما يؤذي به المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يرونه فهو أخص من أذاهم إياه في مغيبة، فإذا رأوه يقول بعضهم لبعض: {أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ}.
والهزو بضم الهاء وضم الزاي مصدر هزأ به، إذا جعله للعبث والتفكه. ومعنى اتخاذه هزوا أنهم يجعلونه مستهزأ به فهذا من الإخبار بالمصدر للمبالغة، أو هو مصدر بمعنى المفعول كالخلق بمعنى المخلوق. وتقدم في سورة الكهف قوله تعالى: {وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً}.
وجملة: {أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} مبينة لجملة: {إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً} فهي في معنى قول محذوف دل عليه {إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً} لأن الاستهزاء يكون بالكلام. وقد انحصر اتخاذهم إياه عند رؤيته في الاستهزاء به دون أن يخلطوه بحديث آخر في شأنه.
والاستفهام مستعمل في التعجيب، واسم الإشارة مستعمل في التحقير، بقرينة الاستهزاء.
ومعنى {يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} يذكرهم بسوء، بقرينة المقام، لأنهم يعلمون ما يذكر به

آلهتهم مما يسوءهم، فإن الذكر يكون بخير وبشر فإذا لم يصرح بمتعلقه يصار إلى القرينة كما هنا في قوله تعالى: الآتي {قَالُوا سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ}. وكلامهم مسوق مساق الغيظ والغضب، ولذلك أعقبه الله بجملة الحال وهي {وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ}، أي يغضبون من أن تذكر آلهتهم بما هو كشف لكنهها المطابق للواقع في حال غفلتهم عن ذكر الرحمان الذي هو الحقيق بأن يذكروه. فالذكر الثاني مستعمل في الذكر بالثناء والتمجيد بقرينة المقام. والأظهر أن المراد بذكر الرحمان هنا القرآن، أي الذكر الوارد من الرحمان.والمناسبة الانتقال من ذكر إلى ذكر. ومعنى كفرهم بذكر الرحمان إنكارهم أن يكون القرآن آية دالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فقالوا {فلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} . وأيضا كفرهم بما جاء به القرآن من إثبات البعث.
وعبر عن الله تعالى باسم {الرَّحمَن} توركا عليهم إذ كانوا يأبون أن يكون الرحمان اسما لله تعالى {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً} في سورة الفرقان.
وضمير الفصل في قوله تعالى: {هُمْ كَافِرُونْ} يجوز أن يفيد الحصر، أي هم كافرون بالقرآن دون غيرهم ممن أسلم من أهل مكة وغيرهم من العرب لإفادة أن هؤلاء باقون على كفرهم مع توفر الآيات والنذر.
ويجوز أن يكون الفصل لمجرد التأكيد تحقيقا لدوام كفرهم مع ظهور ما شأنه أن يقلعهم عن الكفر.
[37] {خُلِقَ الْأِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ}
جملة: {خُلِقَ الْأِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} معترضة بين جملة: {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} وبين جملة: {سَأُرِيكُمْ آيَاتِي} ، جعلت مقدمة لجملة: {سَأُرِيكُمْ آيَاتِي} . أما جملة: {سَأُرِيكُمْ آيَاتِي} فهي معترضة بين جملة: {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً} وبين جملة: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} ، لأن قوله تعالى: {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً} يثير في نفوس المسلمين تساؤلا عن مدى إمهال المشركين، فكان قوله تعالى: {سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ} استئنافا بيانيا جاء معترضا بين الجمل التي تحكي أقوال المشركين وما تفرع عليها. إلى المسلمين الذين كانوا يستبطئون حلول الوعيد الذي توعد الله تعالى به المكذبين.

ومناسبة موقع الجملتين أن ذكر استهزاء المشركين بالنبي "عليه الصلاة والسلام" يهيج حنق المسلمين عليهم فيودوا أن ينزل بالمكذبين الوعيد عاجلا فخوطبوا بالتريث وأن لا يستعجلوا ربهم لأنه أعلم بمقتضى الحكمة في توقيت حلول الوعيد وما في تأخير نزوله من المصالح للدين.وأهمها مصلحة إمهال القوم حتى يدخل منهم كثير في الإسلام. والوجه أن تكون الجملة الأولى تمهيدا للثانية.
والعجل: السرعة. وخلق الإنسان منه استعارة لنمكن هذا الوصف من جبلة الإنسانية. شبهت شدة ملازمة الوصف بكون مادة لتكوين موصوفه، لأن ضعف صفة الصبر في الإنسان من مقتضى التفكير في المحبة والكراهية. فإذا فكر العقل في شيء محبوب استعجل حصوله بداعي المحبة، وإذا فكر في شيء مكروه استعجل إزالته بداعي الكراهية، ولا تخلو أحوال الإنسان عن هذين، فلا جرم كان الإنسان عجولا بالطبع فكأنه مخلوق من العجلة. ونحوه قوله تعالى: {وَكَانَ الْأِنْسَانُ عَجُولاً} وقوله تعالى: {إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً}. ثم إن أفراد الناس متفاوتون في هذا الاستعجال على حسب تفاوتهم في غور النظر والكفر ولكنهم مع ذلك لا يخلون عنه. وأما من فسر العجل بالطين وزعم أنها كلمة حميرية فقد أبعد وما أسعد.
وجملة: {سَأُرِيكُمْ آيَاتِي} هي المقصود من الاعتراض. وهي مستأنفة.
والمعنى: وعد بأنهم سيرون آيات الله في نصر الدين، وذلك بما حصل يوم بدر من النصر وهلك أئمة الشرك وما حصل بعده من أيام الإسلام التي كان النصر فيها عاقبة المسلمين.
وتفرع على هذا الوعد نهي عن طلب التعجيل، أي عليكم أن تكلوا ذلك إلى ما يوقته الله ويؤجله، ولكل أجل كتاب. فهو نهي عن التوغل في هذه الصفة وعن لوازم ذلك التي تفضي إلى الشك في الوعيد.
وحذفت ياء المتكلم من كلمة {تَسْتَعْجِلُونْ} تخفيفا مع بقاء حركتها فإذا وقفت عليه حذفت الحركة من النون.
[38-40] {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ َبلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ}

نشأ عن ذكر استبطاء المسلمين وعد الله بنصرهم على الكافرين ذكر نظيره في جانب المشركين أنهم تساءلوا عن وقت هذا الوعد تهكما، فنشأ به القولان واختلف الحالان فيكون قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} عطفا على جملة: {سَأُرِيكُمْ آيَاتِي} . وهذا معبر عن مقالة أخرى من مقالاتهم التي يتلقون بها دعوة النبي صلى الله عليه وسلم استهزاء وعنادا.وذكر مقالتهم هذه هنا لاستبطاء المسلمين النصر. وبهذا الاعتبار تكون متصلة بجملة: {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً} فيجوز أن تكون معطوفة عليها.وخاطبوا بضمير الجماعة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، ولأجل هذه المقالة كان المسلمون يستعجلون وعيد المشركين.
واستفهامهم استعملوه في التهكم مجازا مرسلا بقرينة إن كنتم صادقين لأن المشركين موقنين بعدم حصول الوعد.والمراد بالوعد ما توعدهم به القرآن من نصر رسوله واستئصال معانديه. وإلى هذه الآية ونظيرها ينظر قول النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر حين وقف القليب الذي دفنت فيه جثث المشركين وناداهم بأسمائهم {قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً} أي ما وعدنا ربنا وما وعدكم من الهلاك وعذاب النار.
وجملة: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} مستأنفة للبيان لأن المسلمين يترقبون من حكاية جملة: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .ماذا يكون جوابهم عن تهكمهم. وحاصل الجواب أنه واقع لا محالة ولا سبيل إلى إنكاره.
وجواب "لو" محذوف، تقديره: لما كانوا على ما هم عليه من الكفر والاستهزاء برسولكم وبدينكم، ونحو ذلك مما يحتمله المقام. وقد يؤخذ من قرينة قوله تعالى: {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً}. وحذف جواب "لو" كثير في القرآن. ونكتته تهويل جنسه فتذهب نفس السامع كل مذهب.
و"حين" هنا: اسم منصوب على المفعولية لا على الظرفية،فهو من أسماء الزمان المتصرفة، أي لو علموا وقته وأيقنوا بحصوله لما كذبوا به وبمن أنذرهم به ولما عدوا تأخيره دليلا على تكذيبه.

وجملة: {لا يَكُفُّونَ} مضاف إليها {حِينَ} . وضمير {يَكُفُّونَ} فيه وجهان: أحدهما بدا لي أن يكون الضمير عائد إلى ملائكة العذاب فمعاد الضمير معلوم من المقام، ونظائر هذا المعاد كثيرة في القرآن وكلام العرب. ومعنى الكف على هذا الوجه: الإمساك وهو حقيقته، أي حين لا يمسك الملائكة اللفح بالنار عن وجود المشركين. وتكون هذه الآية في معنى قوله تعالى: في سورة الأنفال {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} فإن ذلك ضرب بسياط من نار ويكون ما هنا إنذارا بما سيلقونه يوم بدر كما أن آية الأنفال حكاية لما لقوه يوم بدر.
وذكر الوجوه والأدبار للتنكيل بهم وتخويفهم لأن الوجوه أعز الأعضاء على الناس كما قال عباس بن مرداس:
نعرض للسيوف إذا التقينا ... وجوها لا تعرض لللطام
ولأن الأدبار يأنف الناس من ضربها لأن ضربها إهانة وخزي، ويسمى الكسع.
والوجه الثاني: أن يكون ضمير {يَكُفُّونَ} عائدا إلى الذين كفروا، والكف بمعنى الدرء والستر مجازا بعلاقة اللزوم، أي حين لا يستطيعون أن يدفعوا النار عن وجوههم بأيديهم ولا عن ظهورهم. أي حين تحيط بهم النار مواجهة ومدابرة. وذكر الظهور بعد ذكر الوجوه عن هذا الاحتمال احتراس لدفع توهم أنهم قد يكفونها عن ظهورهم إن لم تشتغل أيديهم بكفها عن وجوههم.
هذا الوجه هو الذي اقتصر عليه جميع من لدينا كتبهم من المفسرين. والوجه الأول أرجح معنى، لأنه المناسب مناسبة تامة للكافرين الحاضرين المقرعين ولتكذيبهم بالوعيد بالهلاك في قولهم {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} ولقوله تعالى: {سَأُرِيكُمْ آيَاتِي} كما تقدم.
وقوله تعالى: {وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} عطف على {لا يَكُفُّونَ} ، أي لا يكف عنهم نفح النار، أو لا يدفعون عن أنفسهم نفح النار ولا يجدون لهم ناصرا ينصرهم فهم واقعون في ورطة العذاب. وفي هذا إيماء إلى أنهم ستحل بهم هزيمة بدر فلا يستطيعون خلاصا منها ولا يجدون نصيرا من أحلافهم.
و {بَل} للإضراب الانتقالي من تهويل ما أعد لهم، إلى التهديد بأن ذلك يحل بهم بغتة وفجأة، وهو أشد على النفوس لعدم التهيؤ له والتوطن عليه، كما قال كثير:

فقلت لها يا عز كل مصيبة ... إذا وطنت يوما لها النفس ذلت
وإن كان المراد عذاب الآخرة فنفي الناصر تكذيب لهم في قولهم {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}.
وفاعل {تَأْتِيهِمْ} ضمير عائد إلى الوعد. وإنما قرن الفعل بعلامة المؤنث على الوجه الأول المتقدم في قوله تعالى: {حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ} باعتبار الوقعة أو نحو ذلك، وهو إيماء إلى أن ذلك سيكون فيما اسمه لفظ مؤنث مثل الوقعة والغزوة. وأما على الوجه الثاني المتقدم الذي درج عليه سائر المفسرين فيما رأينا فلتأويل الوعد بالساعة أو القيامة أو الحين في معنى الساعة.
والبغتة: المفاجأة، وهي حدوث شيء غير مترقب.
والبهت: الغلب المفاجئ المعجز عن المدافعة، يقال: بهته فبهت. قال تعالى: في سورة البقرة: {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} أي غلب وهو معنى التفريع في قوله تعالى: {فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا} وقوله تعالى: {وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ} أي لا تؤخر عنهم. وفيه تنبيه لهم إلى أنهم أنظروا زمنا طويلا لعلهم يقلعون عن ضلالهم.
وما أشد انطباق هذه الهيئة على ما حصل لهم يوم بدر قال تعالى: {وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} في الأنفال، وقال تعالى: {وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} . ولا شك في أن المستهزئين مثل أبي جهل وشيبة ابني ربيعة وعتبة ابن ربيعة وأمية بن خلف، كانوا ممن بغتهم عذاب السيف وكان أنصارهم من قريش ممن بهتهم ذلك.
وأما إذا أريد بضمير {تَأتِيهِمْ} الساعة والقيامة فهي تأتي بغتة لمن هم من جنس المشركين أو تأتيهم النفخة والنشرة. وأما أولئك المستهزئون فكانوا قد انقرضوا منذ قرون.
[41] {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}
عطف على جملة: {سَأُرِيكُمْ آيَاتِي} تطمين للنبي صلى الله عليه وسلم وتسلية له. ومناسبة عطفها على جملة: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ}

إلى آخرها ظاهرة.
وقد تقدم نظير هذه الآية في أوائل سورة الأنعام.
[42-44] {قُلْ مَنْ يَكْلَأُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ}
{قُلْ مَنْ يَكْلَأُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ}
بعد أن سلي الرسول صلى الله عليه وسلم على استهزائهم بالوعيد أمر أن يذكرهم بأن غرورهم بالإمهال من قبل الله رحمة منه بهم كشأنه في الرحمة بمخلوقاته بأنهم إذا نزل بهم عذابه لا يجدون حافظا لهم من العذاب غيره ولا تمنعهم منه آلهتهم.والاستفهام إنكار وتقريع، أي لا يكلؤكم منه أحد فكيف تجهلون ذلك، تنبيها لهم إذ نسوا نعمه.
وذكر الليل والنهار لاستيعاب الأزمنة كأنه قيل: من يكلؤكم في جميع الأوقات.
وقدم الليل لأنه زمن المخاوف لأن الظلام يعين أسباب الضر على الوصول إلى مبتغاها من إنسان وحيوان وعلل الأجسام.
وذكر النهار بعده للاستيعاب.
ومعنى {مِنَ الرَّحمَن} من بأسه وعذابه.
وجيء بعد هذا التفريع بإضرابات ثلاثة انتقالية على سبيل التدريج الذي هو شأن الإضراب.
فالإضراب الأول قوله تعالى: {بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ} ، وهو ارتقاء من التقريع المجعول للإصلاح إلى التأييس من صلاحهم بأنهم عن ذكر ربهم معرضون فلا يرجى منهم الانتفاع بالقوارع، أي أخر السؤال والتقريع واتركهم حتى إذا تورطوا في العذاب عرفوا أن لا كالئ لهم.

ثم أضرب إضرابا ثانيا ب"أم" المنقطعة التي هي أخت "بل" مع دلالتها على الاستفهام لقصد التقريع فقال: {أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا} ، أي بل ألهم آلهة، والاستفهام إنكار وتقريع، أي ما لهم آلهة مانعة لهم من دوننا. وهذا إبطال لمعتقدهم أنهم اتخذوا الأصنام شفعاء.
وجملة: {لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ} مستأنفة معترضة. وضمير {يَسْتَطِيعُونَ} عائد إلى آلهة أجري عليهم ضمير العقلاء مجاراة لما يجريه العرب في كلامهم. والمعنى: كيف ينصرونهم وهم لا يستطيعون نصر أنفسهم، ولا هم مؤيدون من الله بالقبول.
ثم أضرب إضرابا ثالثا انتقل به إلى كشف سبب غرورهم الذي من جهلهم به حسبوا أنفسهم آمنين من أخذ الله إياهم بالعذاب فجرأهم ذلك على الاستهزاء بالوعيد، وهو قوله تعالى: {بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ} ، أي فما هم مستمرون فيه من النعمة إنما هو تمتيع وإمهال كما متعنا آباءهم من قبل، وكما كان لآبائهم آجال انتهوا إليها كذلك يكون لهؤلاء، ولكن الآجال تختلف بحسب ما علم الله من الحكمة في مداها حتى طالت أعمار آياتهم. وهذا تعريض بأن أعمار هؤلاء لا تبلغ أعمار آبائهم، وأن الله يحل بهم الهلاك لتكذيبهم إلى أمد علمه.
وقد وجه الخطاب إليهم ابتداء بقوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَكْلَأُكُمْ} ، ثم أعرض عنهم من طريق الخطاب إلى طريق الغيبة لأن ما وجه إليهم من إنكار أن يكلأهم أحد من عذاب الله جعلهم أحرياء بالإعراض عنهم كما في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا} الآية في سورة يونس.
و {يُصْحَبُونْ} إما مضارع صحبة إذا خالطه ولازمه، والصحبة تقتضي النصر والتأييد، فيجوز أن يكون الفاعل الذي ناب عنه من أسند إليه الفعل المبني للنائب مرادا به الله تعالى، أي لا يصحبهم الله، أي لا يؤيدهم؛ فيكون قوله تعالى: {مِنَّا} متعلقا بـ {يُصْحَبُونَ} على معنى "من" الاتصالية، أي صحبة متصلة بنا بمعنى صحبة متينة. وهذا نفي لما اعتقده المشركون بقولهم {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} .
ويجوز أن يكون الفاعل المحذوف محذوفا لقصد العموم، أي لا يصحبهم صاحب، أي لا يجيرهم جار فإن الجوار يقتضي حماية الجار فيكون قوله تعالى: {مِنَّا} متعلقا بـ {يُصْحَبُونَ} على معنى "من" التي بمعنى "على" كقوله تعالى: {فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} .

وإما مضارع أصحبه المهموز بمعنى حفظه ومنعه، أي من السوء.
والإشارة بـ {هؤلاء} لحاضرين في الأذهان وهم كفار قريش.
وقد استقربت أن القرآن إذا ذكرت فيه هذه الإشارة دون وجود مشار إليه في الكلام فهو يعني بها كفار قريش.
{أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ}
تفريع على إحالتهم نصر المسلمين وعدهم تأخير الوعد به دليلا على تكذيب وقوعه حتى قالوا: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} تهكما وتكذيبا. فلما أنذرهم بما سيحل بهم في قوله تعالى: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ} إلى قوله تعالى: {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} فرع على ذلك كله استفهاما تعجيبيا من عدم اهتدائهم إلى أمارات اقتران الوعد بالموعود استدلالا على قربه بحصول أماراته.
والرؤية علمية، وسدت الجملة مسد المفعولين لأنها في تأويل مصدر، أي أعجبوا من عدم اهتدائهم إلى نقصان أرضهم من أطرافها، وأن ذلك من صنع الله تعالى بتوجه عناية خاصة، لكونه غير جار على مقتضي الغالب المعتاد، فمن تأمل علم أنه من عجيب صنع الله تعالى. وكفى بذلك دليلا على تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى صدق ما وعدهم به وعناية ربه به كما دل عليه فعل {نَأتِيَ}.
فالإتيان تمثيل بحال الغازي الذي يسعى إلى أرض قوم فيقتل ويأسر كما تقدم في قوله تعالى: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ} .
والتعريف في {الْأَرْضَ} تعريف العهد، أي أرض العرب كما في قوله تعالى: في سورة يوسف {فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ} أي أرض مصر.
والنقصان: تقليل كمية شيء.
والأطراف: جمع طرف بفتح الطاء والراء. وهو ما ينتهي به الجسم من جهة من جهاته. وضده الوسط.
والمراد بنقصان الأرض: نقصان من عليها من الناس لا نقصان مساحتها لأن هذه السورة مكية فلم يكن ساعتئذ شيء من أرض المشركين في حوزة المسلمين. والقرينة

المشاهدة.
والمراد: نقصان عدد المشركين بدخول كثير منهم في الإسلام ممن أسلم من أهل مكة، ومن هاجر منهم إلى الحبشة. ومن أسلم من أهل المدينة إن كانت الآية نزلت بعد إسلام أهل العقبة الأولى أو الثانية، فكان عدد المسلمين يومئذ يتجاوز المائتين. وتقدم نظير هذه الجملة في ختام سورة الرعد.
وجملة: {أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ} مفرعة على جملة التعجيب من عدم اهتدائهم إلى هذه الحالة. والاستفهام إنكاري، أي فكيف يحسبون أنهم غلبوا المسلمين وتمكنوا من الحجة عليهم.
واختيار الجملة الاسمية في قوله تعالى: {أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ} دون الفعلية لدلالتها بتعريف جزأيها على القصر، أي ما هم الغالبون بل المسلمون الغالبون، إذ لو كان المشركون الغالبين لما كان عددهم في تناقض. ولما خلت بلدتهم من عدد كثير منهم.
[45] {قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ}
استئناف ابتدائي مقصود منه الإتيان على جميع ما تقدم من استعجابهم بالوعد تهكما بقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} ، ومن التهديد الذي وجه إليهم بقوله تعالى: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} الخ، ومن تذكيرهم بالخالق وتنبيههم إلى بطلان آلهتهم بقوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَكْلَأُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} إلى قوله تعالى: {حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ} ، ومن الاحتجاج عليهم بظهور بوارق نصر المسلمين، واقتراب الوعد بقوله تعالى: {أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} ، عقب به أمر الله رسوله أن يخاطبهم بتعريف كنه دعوته، وهي قصره على الإنذار بما سيحل بهم في الدنيا والآخرة إنذار من طريق الوحي المنزل عليه من الله تعالى وهو القرآن، أي فلا تعرضوا عنه، ولا تتطلبوا مني آية غير ذلك، ولا تسألوا عن تعيين أجال حلول الوعيد، ولا تحسبوا أنكم تغيظونني بإعراضكم والتوغل في كفركم.
فالكلام قصر موصوف على صفة، وقصره على المتعلق بتلك الصفة تبعا لمتعلقه فهو قائم مقام قصرين. ولم يظهر لي مثال له من كلام العرب قبل القرآن.
وهذا الكلام يستلزم متاركة لهم بعد الإبلاغ في إقامة الحجة عليهم ولذلك ذيل بقوله تعالى: {وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ} . والواو للعطف على {إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ

بِالْوَحْيِ} عطف استئناف على استئناف لأن التذييل من قبيل الاستئناف.
والتعريف في {الصُّمَّ} للاستغراق. والصم مستعار لعدم الانتفاع بالكلام المفيد تشبيها لعدم الانتفاع بالمسموع بعدم ولوج الكلام صماخ المخاطب به. وتقدم في قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} في سورة البقرة. ودخل في عمومه المشركون المعرضون عن القرآن وهم المقصود من سوق التذييل ليكون دخولهم في الحكم بطريقة الاستدلال بالعموم على الخصوص.
وتقييد عدم السماع بوقت الإعراض عند سماع الإنذار لتفظيع إعراضهم عن الإنذار لأنه إعراض يفضي بهم إلى الهلاك فهو أفظع من عدم سماع البشارة أو التحديث، ولأن التذييل مسوق عقب إنذارات كثيرة.
واختير لفظ الدعاء لأنه المطابق للغرض إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم داعيا كما قال: {أدعوا إلى الله على بصيرة}.
والأظهر أن جملة: {وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ} كلام مخاطب به الرسول صلى الله عليه وسلم وليس من جملة المأمور بأن يقوله لهم.
وقرأ الجمهور {وَلا يَسْمَعُ} بتحتية في أوله ورفع {الصُّمُّ} . وقرأه ابن عامر {ولا تُسْمَع} بالتاء الفوقية المضمومة ونصب {الصُّمَّ} خطابا للرسول صلى الله عليه وسلم. وهذه القراءة نص في انفصال الجملة عن الكلام المأمور بقوله لهم.
[46] {وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ}
عطف على جملة: {قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، أي أنذرهم بأنهم سيندمون عندما ينالهم أول العذاب في الآخرة. وهذا انتقال من إنذارهم بعذاب الدنيا إلى إنذارهم بعذاب الآخرة.
وأكد الشرط بلام القسم لتحقيق وقوع الجزاء.
والمس: اتصال بظاهر الجسم.
والنفحة: المرة من الرضخ في العطية، يقال نفحه بشيء إذا أعطاه.

وفي مادة النفح أنه عطاء قليل نزر، وبصميمة بناء المرة فيها، والتنكير، وإسناد المس إليها دون فعل آخر أربع مبالغات في التقليل، فما ظنك بعذاب يدفع قليله من حل به إلى الإقرار باستحقاقه إياه وإنشاء تعجبه من سوء حال نفسه.
والويل تقدم عند قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} في سورة البقرة وعند قوله تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} في أول سورة إبراهيم.
ومعنى {إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} إنا كنا معتدين على أنفسنا إذ أعرضنا عن التأمل في صدق دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم. فالظلم في هذه الآية مراد به الإشراك لأن إشراكهم معروف لديهم فليس مما يعرفونه إذا مستهم نفحة من العذاب.
[47] {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ}
يجوز أن تكون الواو عاطفة هذه الجملة على جملة: {وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ} الخ لمناسبة قولهم {إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} ، ولبيان أنهم مجازون على جميع ما أسلفوه من الكفر وتكذيب الرسول بيانا بطريق ذكر العموم بعد الخصوص في المجازين، فشابه التذييل من أجل عموم قوله تعالى: {فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} ، وفي المجازي عليه من أجل قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا}.
ويجوز أن تكون الواو للحال من قوله: {رَبِّكَ} ، وتكون نون المتكلم المعظم التفاتا لمناسبة الجزاء للأعمال كما يقال: أدى إليه الكيل صاعا بصاع، ولذلك فرع عليه قوله تعالى: {فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} .
ويجوز أن تكون الجملة معترضة وتكون الواو اعتراضية. والوضع حقيقته: حط الشيء ونصبه في مكان، وهو ضد الرفع. ويطلق على صنع الشيء وتعيينه للعمل به وهو في ذلك مجاز.
والميزان: اسم آلة الوزن. وله كيفيات كثيرة تختلف باختلاف العوائد، وهي تتحد في كونها ذات طبقين متعادلين في الثقل يسميان كفتين بكسر الكاف وتشديد الفاء تكونان من خشب أو من حديد، وإذا كانتا من صفر سميتا صنجتين بصاد مفتوحة ونون ساكنة، معلق كل طبق بخيوط في طرف يجمعهما عود من حديد أو خشب صلب، في

طرفيه عروتان يشد بكل واحدة منهما طبق من الطبقين يسمى ذلك العود شاهين وهو موضوع ممدودا، وتجعل بوسطه على السواء عروة لتمسكه منها يد الوازن، وربما جعلوا تلك العروة مستطيلة من معدن وجعلوا فيها إبرة غليظة من المعدن منوطة بعروة صغيرة من معدن مصوغة في وسط الشاهين فإذا ارتفع الشاهين تحركت تلك الإبرة فإذا ساوت وسط العروة الطويلة على سواء عرف اعتدال الوزن وإن مالت عرف عدم اعتداله، وتسمى تلك الإبرة لسانا، فإذا أريد وزن شيئين ليعلم أنهما مستويان أو أحدهما أرجح وضع كل واحد منهما في كفة، فالتي وضع فيها الأثقل منهما تنزل والأخرى ذات الأخف ترتفع وإن استويتا فالموزونان مستويان، وإذا أريد معرفة ثقل شيء في نفسه دون نسيته إلى شيء آخر جعلوا قطعا من معدن: صفر أو نحاس أو حديد أو حجر ذات مقادير مضبوطة مصطلح عليها مثل الدرهم والأوقية والرطل، فجعلوها تقديرا لتقل الموزون ليعلم مقدار ما فيه لدفع الغبن في التعاوض، ووحدتها هو المثقال، ويسمى السنج بفتح السين المهملة وسكون النون بعدها جيم.
والقسط بكسر القاف وسكون السين اسم المفعول، وهو مصدر وفعله أقسط مهموزا. وتقدم في قوله تعالى: {قَائِماً بِالْقِسْطِ} في سورة آل عمران.
وقد اختلف علماء السلف في المراد من الموازين هنا: أهو الحقيقة أم المجاز، فذهب الجمهور إلى أنه حقيقة وأن الله يجعل في يوم الحشر موازين لوزن أعمال العباد تشبه الميزان المتعارف. فمنهم من ذهب إلى أن لكل أحد من العباد ميزانا خاصا به توزن به أعماله، وهو ظاهر صيغة الجمع في هذه الآية وقوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} في سورة القارعة.
ومنهم من ذهب إلى أنه ميزان واحد توزن فيه أعمال العباد واحدا فواحدا، وأنه بيد جبريل، وعليه فالجمع باعتبار ما يوزن فيها ليوافق الآثار الواردة في أنه ميزان عام.
واتفق الجميع على أنه مناسب لعظمة ذلك لا يشبه ميزان الدنيا ولكنه على مثاله تقريبا. وعلى هذا التفسير يكون الوضع مستعملا في معناه الحقيقي وهو النصب والإرصاد.
وذهب مجاهد وقتادة والضحاك وروي عن ابن عباس أيضا أن الميزان الواقع في القرآن مثل للعدل في الجزاء كقوله: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} في سورة الأعراف، ومال إليه الطبري. قال في الكشاف : "الموازين الحساب السوي والجزاء على الأعمال بالنصفة

من غير أن يظلم أحد" اهـ.
أي فهو مستعار للعدل في الجزاء لمشابهته للميزان في ضبط العدل في المعاملة كقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ} .
والوضع: ترشيح ومستعار للظهور.
وذهب الأشاعرة إلى أخذ الميزان على ظاهره.
وللمعتزلة في ذلك قولان ففريق قالوا: الميزان حقيقة، وفريق قالوا: هو مجاز. وقد ذكر القولين في الكشاف فدل صنيعه على أن القولين جاريان على أقوال أئمتهم وصرح به في تقرير المواقف .
وفي المقاصد : ونسبة القول بانتفاء حقيقة الميزان إلى المعتزلة على الإطلاق قصور من بعض المتكلمين اهـ.
قلت: لعله أراد به النسفي في عقائده .
قال أبو بكر بن العربي في كتاب العواصم من القواصم : انفرد القرآن بذكر الميزان، وتفردت السنة بذكر الصراط والحوض، فلما كان هذا الأمر هكذا اختلف الناس في ذلك، فمنهم من قال إن الأعمال توزن حقيقة في ميزان له كفتان وشاهين وتجعل في الكفتين صحائف الحسنات والسيئات ويخلق الله الاعتماد فيها على حسب علمه بها. ومنهم من قال إنما يرجع الخبر عن الوزن إلى تعريف الله العباد بمقادير أعمالهم. ونقل الطبري وغيره عن مجاهد أنه كان يميل إلى هذا.
وليس بممتنع أن يكون الميزان والوزن على ظاهره وإنما يبقى النظر في كيفية وزن الأعمال وهي أعراض فها هنا يقف من وقف ويمشي على هذا من مشى. فمن كان رأيه الوقوف فمن الأول ينبغي أن يقف، ومن أراد المشي ليجدن سبيلا مئتاء1 إذ يجد ثلاثة معان ميزانا ووزنا وموزونا، فإذا مشى في طريق الميزان والوزن ووجده صحيحا في كل لفظة حتى إذا بلغ تمييز الموزون ولم يتبين له لا ينبغي أن يرجع القهقري فيبطل ما قد أثبت بل يبقي ما تقدم على حقيقته وصحته ويسعى في تأويل هذا وتبيينه اه.
وقلت: كلا القولين مقبول والكل متفقون على أن أسماء أحوال الآخرة إنما هي تقريب لنا بمتعارفنا والله تعالى قادر على كل شيء. وليس مثل هذه المباحث تعرف قدرة
ـــــــ
1 بكسر الميم وبهمزة ساكنة بعدها ومد في آخره: الطريق العام و المسلوك.

الله تعالى ولا بالقياس على المعتاد المتعارف تجحد تصرفاته تعالى.
ويظهر لي أن التزام صيغة جمع الموازين في الآيات الثلاث التي ذكر فيها الميزان يرجح أن المراد بالوزن فيها معناه المجازي وأن بيانه بقوله {القسط} في هذه الآية يزيد ذلك ترجيحا.
وتقدم ذكر الوزن في قوله تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} في سورة الأعراف.
والقسط: العدل، ويقال: القسطاس، وهو كلمة معربة من اللغة الرومية "اللاطينية". وقد نقل البخاري في آخر صحيحه ذلك عن مجاهد.
فعلى اعتبار جعل الموازين حقيقة في آلات وزن في الآخرة يكون لفظ القسط الذي هو مصدر بمعنى العدل للموازين على تقدير مضاف، أي ذات القسط. وعلى اعتبار في الموازين في العدل يكون لفظ القسط بدلا من الموازين فيكون تجريدا بعد الترشيح. ويجوز أن يكون مفعولا لأجله فإنه مصدر صالح لذلك.
واللام في قوله تعالى: {لِيُومِ القِيَامَةِ} تحتمل أن تكون للعلة مع تقدير مضاف، أي لأجل يوم القيامة، أي الجزاء في يوم القيامة، وتحتمل أن تكون للتوقيت بمعنى "عند" التي هي للظرفية الملاصقة كما يقال: كتب لثلاث خلون من شهر كذا، وكقوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} أي نضع الموازين عند يوم القيامة.
وتفريع {فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} على وضع الموازين تفريع العلة على المعلول أو المعلول على العلة. والظلم: ضد العدل، ولذلك فرع نفيه على إثبات وضع العدل, و"شيئا" منصوب على المفعولية المطلقة، أي شيئا من الظلم.
ووقوعه في سياق النفي دل على تأكيد العموم، أي شيئا من الظلم. ووقوعه في سياق النفي دل على تأكيد العموم من فعل "تظلم" الواقع أيضا في سياق النفي، أي لا تظلم بنقص من خير استحقته ولا بزيادة شيء لم تستحقه، فالظلم صادق بالحالين والشيء كذلك.
وهذه الجملة كلمة جامعة لمعان عدة مع إيجاز لفظها، فنفي جنس الظلم ونفي عن كل نفس فأفاد أن لا بقاء لظلم بدون جزاء.
وجملة: {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ} في موضع الحال. و "إِنْ" وصلية دالة على

أن مضمون ما بعدها من شأنه أن يتوهم تخلف الحكم عنه فإذا نص على شمول الحكم إياه علم أن شموله لما عداه بطريق الأولى. وقد يرد هذا الشرط بحرف "لو" غالبا كما في قوله تعالى: {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} في آل عمران. ويرد بحرف "إن" كما هنا، وقول عمرو بن معد يكرب:
ليس الجمال بمئزر ... فاعلم وان رديت بردا
وقد تقدم في سورة آل عمران.
وقرأ الجمهور {مِثْقَالَ} بالنصب على أنه خبر "كان" وأن اسمها ضمير عائد إلى {شَيْئَا} . وجواب الشرط محذوف دل عليه الجملة السابقة.
وقرأ نافع وأبو جعفر {مِثقَالُ} مرفوعا على أن "كان" تامة و {مِثْقَالَ} فاعل.
ومعنى القراءتين متحد المآل، وهو: أنه إن كان لنفس مثقال حبة من خردل من خير أو من شر يؤت بها في ميزان أعمالها ويجاز عليها.
وجملة: {أَتِينَا بِهَا} على القراءة الأولى مستأنفة، وعلى القراءة الثانية إما جواب للشرط أو مستأنفة وجواب الشرط محذوف. وضمير {بها} عائد إلى {مِثْقَالَ حَبِّةٍ} . واكتسب ضميره التأنيث لإضافة معاده إلى مؤنث وهو {حبة}.
والمثقال: ما يماثل شيئا في الثقل، أي الوزن، فمثقال الحبة: مقدارها. والحبة: الواحدة من ثمر النبات الذي يخرج من السنبل أو في المزادات التي كالقرون أو العبابيد كالقطاني.
والخردل: حبوب دقيقة كحب السمسم هي بزور شجر يسمى عند العرب الخردل. واسمه في علم النبات "سينابيس". وهو صنفان بري وبستاني، وينبت في الهند ومصر وأوروبا. وشجرته ذات ساق دقيقة ينتهي ارتفاعها إلى نحو متر، وأوراقها كبيرة. يخرج أزهار صفرا منها تتكون بزوره إذ تخرج في مزادات صغيرة مملوءة من هذا الحب، تخرج خضراء ثم تصير سوداء مثل الخرنوب الصغير. وإذا دق هذا الحب ظهرت منه رائحة معطرة إذا قربت من الأنف شما دمعت العينان، وإذا وضع معجونها على الجلد أحدث فيه بعد هنيهة لذعا وحرارة ثم لا يستطيع الجلد تحملها طويلا ويترك موضعه من الجلد شديد الحمرة لتجمع الدم بظاهر الجلد ولذلك يجعل معجونه بالماء دواء يوضع على المحل المصاب باحتقان الدم مثل ذات الجنب والنزلات الصدرية.

جملة: {وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} عطف على جملة: {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ} . مفعول {كَفَى} محذوف دل عليه قوله تعالى: {فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} . والتقدير: وكفى الناس نحن في حال حسابهم.
ومعنى كفاهم نحن حاسبين أنهم لا يتطلعون إلى حاسب آخر تعدل مثلنا, وهذا تأمين للناس من أن يجازى أحد منهم بما لا يستحقه وفي ذلك تحذير من العذاب وترغيب في الثواب.
وضمير الجمع في قوله تعالى: {حَاسِبِين} مراعى فيه ضمير العظمة من قوله تعالى: {بِنَا} ، والباء مزيدة للتوكيد. وأصل التركيب: كفينا الناس، وهذه الباء تدخل بعد فعل "كفى" غالبا فتدخل على فاعله في الأكثر كما هنا وقوله تعالى: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} في سورة النساء. وتدخل على مفعوله كما في الحديث: كفى بالمرء إنما أن يحدث بكل ما سمع.
وانتصب {حَاسِبِين} على الحال أو التمييز لنسبة "كفى". وتقدمت نظائر هذا التركيب غير مرة منها في قوله تعالى: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} في سورة النساء.
[48-50] {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ}
عطف على جملة: {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ} إلى قوله تعالى: {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} لإقامة الحجة على المشركين بالدلائل العقلية والإقناعية والزجرية، ثم بدلائل شواهد التاريخ وأحوال الأمم السابقة الشاهدة بتنظير ما أوتيه النبي صلى الله عليه وسلم بما أوتيه سلفه من الرسل والأنبياء، وأنه ما كان بدعا من الرسل في دعوته إلى التوحيد تلك الدعوة التي كذبه المشركون لأجلها مع ما تخلل ذكر من ذكر عناد الأقوام، وثبات الأقدام، والتأييد من الملك العلام، وفي ذلك تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم على ما يلاقيه من قومه بأن تلك سنة الرسل السابقين كما قال تعالى: {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا} في سورة الإسراء. فجاء في هذه الآيات بأخبار من أحوال الرسل المتقدمين.
وفي سوق أخبار هؤلاء الرسل والأنبياء تفصيل أيضا لما بنيت عليه السورة من قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ} الآيات ثم قوله تعالى:

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} ثم قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} . واتصالها بجميع ذلك اتصال محكم ولذلك أعقبت بقوله تعالى: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} .
وابتدئ بذكر موسى وأخيه مع قومهما لأن أخبار ذلك مسطورة في كتاب موجود عند أهله يعرفهم العرب ولأن أثر إتيان موسى عليه السلام بالشريعة هو أوسع أثر لإقامة نظام أمة يلي عظمة شريعة الإسلام.
وافتتاح القصة بلام القسم المفيدة للتأكيد لتنزيل المشركين في جهل بعضهم بذلك وذهول بعضهم عنه وتناسي بعضهم إياه منزلة من ينكر تلك القصة.
ومحل التنظير في هذه القصة هو تأييد الرسول صلى الله عليه وسلم بكتاب مبين وتلقي القوم ذلك الكتاب بالإعراض والتكذيب.
والفرقان: ما يفرق به بين الحق والباطل من كلام أو فعل. وقد سمى الله تعالى يوم بدر يوم الفرقان لأن فيه كان مبدأ ظهور قوة المسلمين ونصرهم، فيجوز أن يراد بالفرقان التوراة كقوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ} في سورة الصافات.
والإخبار عن الفرقان بإسناد إتيانه إلى ضمير الجلالة للتنبيه على أنه لم يعد كونه إيتاء من الله تعالى ووحيا كما أوتي محمد صلى الله عليه وسلم القرآن فكيف ينكرون إيتاء القرآن وهم يعلمون أن موسى عليه السلام ما جاء إلا بمثله. وفيه تنبيه على جلالة ذلك الموتى.
ويجوز أن يراد بالفرقان المعجزات الفارقة بين المعجزة والسحر كقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآياتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} في سورة غافر. ويجوز أن يراد به الشريعة الفارقة بين العدل والجور كقوله تعالى: {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} في سورة البقرة.
وعلى الاحتمالات المذكورة تجيء احتمالات في قوله تعالى: الآتي {وَضِيَاءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ} . وليس يلزم أن تكون بعض هذه الصفات قسيما لبعض بل هي صفات متداخلة، فمجموع ما أوتيه موسى وهارون تتحقق فيه هذه الصفات الثلاث.
والضياء: النور. يستعمل مجازا في الهدى والعلم، وهو استعمال كثير، وهو المراد هنا وقد قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ} في سورة المائدة.

والذكر أصله: خطور شيء بالبال بعد غفلة عنه. ويطلق على الكتاب الذي فيه ذكر الله. فقوله تعالى: {لِلمُتَّقِينْ} يجوز أن يكون الكلام فيه للتقوية فيكون المجرور باللام في معنى المفعول، أي الذين اتصفوا بتقوى الله، أي امتثال أوامره واجتناب ما نهى عنه، لأنه يذكرهم بما يجهلون وبما يذهلون عنه مما علموه ويجدد في نفوسهم مراقبة ربهم. ويجوز أن يكون اللام للعلة، أي ذكر لأجل المتقين، أي كتاب ينتفع بما فيه المتقون دون غيرهم من الضالين.
ووصفهم بما يزيد معنى المتقين بيانا بقوله تعالى: {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} وهو على نحو قوله تعالى: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} في سورة البقرة.
والباء في قوله تعالى: {بِالْغَيْبِ} بمعنى "في". والغيب: ما غاب عن عيون الناس، أي يخشون ربهم في خاصتهم لا يريدون بذلك رياء ولا لأجل خوف الزواجر الدنيوية والمذمة من الناس.
والإشفاق: رجاء حادث مخوف. ومعنى الإشفاق من الساعة: الإشفاق من أهوالها، فهم يعدون لها عدتها بالتقوى بقدر الاستطاعة.
وفيه تعريض بالذين لم يهتدوا بكتاب الله تعالى بدلالة مفهوم المخالفة لقوله تعالى: {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ}. فمن لم يهتد بكتاب الله فليس هو من الذين يخشون ربهم بالغيب، وهؤلاء هم فرعون وقومه.
وقد عقب هذا التعريض بذكر المقصود من سوق الكلام الناشئ هو عنه، وهو المقابلة بقوله تعالى: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ}.
واسم الإشارة يشير إلى القرآن لأن حضوره في الأذهان وفي التلاوة بمنزلة حضور ذاته. ووصفه القرآن بأنه ذكر لأن لفظ الذكر جامع لجميع الأوصاف المتقدمة كما تقدم عند قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} في سورة النحل.
ووصف القرآن بالمبارك يعم نواحي الخير كلها لأن البركة زيادة الخير؛ فالقرآن كله خير من جهة بلاغة ألفاظه وحسنها وسرعة حفظه وسهولة تلاوته، وهو أيضا خير لما اشتمل عليه من أفنان الكلام والحكمة والشريعة واللطائف البلاغية، وهو في ذلك كله آية على صدق الذي جاء به لأن البشر عجزوا عن الإتيان بمثله وتحداهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فما استطاعوا. وبذلك اهتدت به أمم كثيرة في جميع الأزمان، وانتفع به من آمنوا به وفريق

ممن حرموا الإيمان. فكان وصفه بأنه مبارك وافيا على وصف كتاب موسى عليه السلام بأنه فرقان وضياء.
وزاده تشريفا بإسناد إنزاله إلى ضمير الجلالة. وجعل الوحي إلى الرسول إنزالا لما يقتضيه الإنزال من رفعة القدر إذ اعتبر مستقرا في العالم العلوي حتى أنزل إلى هذا العالم.
وفرع على هذه الأوصاف العظيمة استفهام توبيخي تعجيبي من إنكارهم صدق هذا الكتاب ومن استمرارهم على ذلك الإنكار بقوله تعالى: {أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} . ولكون إنكارهم صدقه حاصلا منهم في حال الخطاب جيء بالجملة الاسمية ليتأتى جعل المسند اسما دالا على الاتصاف في زمن الحال وجعل الجملة دالة على الثبات في الوصف وفاء بحق بلاغة النظم.
[51-75] {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ}
أعقبت قصة موسى وهارون بقصة إبراهيم فيما أوحي إليه من مقاومة الشرك ووضوح الحجة على بطلانه، لأن إبراهيم كان هو المثل الأول قبل مجيء الإسلام في مقاومة الشرك إذ قاومه بالحجة وبالقوة وبإعلان التوحيد إذ أقام للتوحيد هيكلا بمكة هو الكعبة وبجبل نابو من بلاد الكنعانيين حيث كانت مدينة تسمى يومئذ لوزا ثم بنى بيت أيل بالقرب من موضع مدينة أورشليم في المكان الذي أقيم به هيكل سليمان من بعد، فكانت قصة إبراهيم مع قومه شاهدا على بطلان الشرك الذي كان مماثلا لحال المشركين بمكة الذين جاء محمد صلى الله عليه وسلم لقطع دابره. وفي ذكر قصة إبراهيم تورك على المشركين من أهل مكة إذ كانوا على الحالة التي نعاها جدهم إبراهيم على قومه، وكفى بذلك حجة عليهم. وأيضا فإن شريعة إبراهيم أشهر شريعة بعد شريعة موسى.
وتأكيد الخبر عنه بلام القسم للوجه الذي بيناه آنفا في تأكيد الخبر عن موسى وهارون، وهو تنزيل العرب في مخالفتهم لشريعة أبيهم إبراهيم منزلة المنكر لكون إبراهيم

أوتي رشدا وهديا.
وكذلك الإخبار عن إيتاء الرشد إبراهيم بإسناد الإيتاء إلى ضمير الجلالة لمثل ما قرر في قصة موسى وهارون للتنبيه على تفخيم ذلك الرشد الذي أوتيه.
والرشد: الهدى والرأي الحق، وضده الغي. وتقدم في قوله تعالى: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} في سورة البقرة. وإضافة {الرشد} إلى ضمير إبراهيم من إضافة المصدر إلى مفعوله، أي الرشد الذي أرشده. وفائدة الإضافة هنا التنبيه على عظم شأن هذا الرشد، أي رشدا يليق به، ولأن رشد إبراهيم قد كان مضرب الأمثال بين العرب وغيرهم، أي هو الذي علمتم سمعته التي طبقت الخافقين فما ظنكم برشد أوتيه من جانب الله تعالى، فإن الإضافة لما كانت على معنى اللام كانت مفيدة للاختصاص فكأنه انفرد به. وفيه إيماء إلى أن إبراهيم كان قد انفرد بالهدى بين قومه.
وزاده تنويها وتفخيما تذييله بالجملة المعترضة قوله تعالى: {وَكُنَّا بِهِ عَالمِينَ} أي آتيناه رشدا عظيما على علم منا بإبراهيم، أي بكونه أهلا لذلك الرشد، وهذا العلم الإلهي متعلق بالنفسية العظيمة التي كان بها محل ثناء الله تعالى عليه في مواضع كثيرة من قرآنه، أي علم من سريرته صفات قد رضيها وأحمدها فاستأهل بها اتخاذه خليلا. وهذا كقوله تعالى: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} وقوله تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} ,
وقوله: {مِنْ قَبْلُ} أي قبل أن نوتي موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا. ووجه ذكر هذه القبيلة التنبيه على أن ما وقع إيتاء الذكر موسى وهارون إلا لأن شريعتهما لم تزل معروفة مدروسة.
و {إِذْ قَالَ} ظرف لفعل {آتَينَا} أي كان إيتاؤه الرشد حين قال لأبيه وقومه: {ما هذه التماثيل} الخ، فذلك هو الرشد الذي أوتيه،أي حين نزل الوحي إليه بالدعوة إلى توحيد الله تعالى، فذلك أول ما بدئ به الوحي.
وقوم إبراهيم كانوا من "الكلدان" وكان يسكن بلدا يقال له "كوثى" بمثلثة في آخره بعدها ألف. وهي المسماة في التوراة "أور الكلدان"، ويقال: أيضا إنها "أورفة" في "الرها"، ثم سكن هو وأبوه وأهله "حاران" وحاران هي "حران"، وكانت بعد من بلاد الكلدان كما هو مقتضى الإصحاح 12 من التكوين لقوله فيه: "اذهب من أرضك ومن

عشيرتك ومن بيت أبيك", ومات أبوه في "حاران" كما في الإصحاح 11 من التكوين فيتعين أن دعوة إبراهيم كانت من "حاران" لأنه من حاران خرج إلى أرض كنعان. وقد اشتهر حران بأنه بلد الصابئة وفيه هيكل عظيم للصابئة، وكان قوم إبراهيم صابئة يعبدون الكواكب ويجعلون لها صورا مجسمة.
والاستفهام في قوله تعالى: {مَا هَذِهِ التَمَاثِيلُ} يتسلط على الوصف في قوله تعالى: {الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} فكأنه قال: ما عبادتكم هذه التماثيل?. ولكنه صيغ بأسلوب توجه الاستفهام إلى ذات التماثيل لإبهام السؤال عن كنه التماثيل في بادئ الكلام إيماء إلى عدم الملاءمة بين حقيقتها المعبر عنها بالتماثيل وبين وصفها بالمعبودية المعبر عنه بعكوفهم عليها. وهذا من تجاهل العارف استعمله تمهيدا لتخطئتهم بعد أن يسمع جوابهم فهم يظنونه سائلا مستعلما ولذلك أجابوا سؤاله بقولهم {وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ}؛ فإن شأن السؤال بكلمة "ما" أنه لطلب شرح ماهية المسؤول عنه.
والإشارة إلى التماثيل لزيادة كشف معناها الدال على انحطاطها عن رتبة الألوهية. والتعبير عنها بالتماثيل يسلب عنها الاستقلال الذاتي.
والأصنام التي كان يعبدها الكلدان قوم إبراهيم هي "بعل" وهو أعظمها، وكان مصوغا من ذهب وهو رمز الشمس في عهد سميرميس، وعبدوا رموزا للكواكب ولا شك أنهم كانوا يعبدون أصنام قوم نوح: ودا، وسواعا، ويغوث، ويعوق، ونسرا، إما بتلك الأسماء وإما بأسماء أخرى. وقد دلت الآثار على أن من أصنام أشور إخوان الكلدان صنما اسمه نسروخ وهو نسر لا محالة.
وجعل العكوف مسندا إلى ضميرهم مؤذن بأن إبراهيم لم يكن من قبل مشاركا لهم في ذلك فيعلم منه أنه في مقام الرد عليهم، ذلك أن الإتيان بالجملة الاسمية في قوله تعالى: {أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} فيه معنى دوامهم على ذلك.
وضمن {عَاكِفُونَ} معنى العبادة، فلذلك عدي باللام لإفادة ملازمة عبادتها.
وجاءوا في جوابه بما توهموا إقناعه به وهو أن عبادة تلك الأصنام كانت من عادة آبائهم فحسبوه مثلهم يقدس عمل الآباء ولا ينظر في مصادفته الحق، ولذلك لم يلبث أن أجابهم: {لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} مؤكدا ذلك بلام القسم.
وفي قوله تعالى: {كُنْتُمْ فِي ضَلَال} من اجتلاب فعل الكون وحرف الظرفية، إيماء

إلى تمكنهم من الضلال وانغماسهم فيه لإفادة أنه ضلال بواح لا شبهة فيه، وأكد ذلك بوصفه بـ {مُبِينَ} . فلما ذكروا له آباءهم شركهم في التخطئة بدون هوادة بعطف الآباء عليهم في ذلك ليعلموا أنهم لا عذر لهم في اتباع آبائهم ولا عذر لآبائهم في سن ذلك لهم لمنافاة حقيقة تلك الأصنام لحقيقة الألوهية واستحقاق العبادة.
ولإنكارهم أن يكون ما عليه آباؤهم ضلالا، وإيقانهم أن آباءهم على الحق، سكوا في حال إبراهيم أنطق عن جد منه وأن ذلك اعتقاده فقالوا {أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ} ، فعبروا عنه {بِالْحَقِّ} المقابل للعب وذلك مسمى الجد. فالمعنى: بالحق في اعتقادك أم أردت به المزح، فاستفهموا وسألوه {أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} . والباء للمصاحبة. والمراد باللعب هنا لعب القول وهو المسمى مزحا، وأرادوا بتأويل كلامه بالمزح التلطف معه وتجنب نسبته إلى الباطل استجلابا لخاطره لما رأوا من قوة حجته.
وعدل عن الإخبار عنه بوصف لاعب إلى الإخبار بأنه من زمرة اللاعبين مبالغة في توغل كلامه ذلك في باب المزح بحيث يكون قائله متمكنا في اللعب ومعدودا من الفريق الموصوف باللعب.
وجاء هو في جوابهم بالإضراب عن قولهم: {أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} لإبطال أن يكون من اللاعبين، وإثبات أن ربهم هو الرب الذي خلق السماوات، أي وليست تلك التماثيل أربابا إذ لا نزاع في أنها لم تخلق السماوات والأرض بل هي مصنوعة منحوتة من الحجارة كما في الآية الأخرى {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} فلما شذ عنها خلق السماوات والأرض كما هو غير منكر منكم فهي منحوتة من أجزاء الأرض فما هي إلا مربوبة مخلوقة وليست أربابا ولا خالقة. فضمير الجمع في قوله تعالى: {خَلَقَهُنَّ} ضمير السماوات والأرض لا محالة.
فكان جواب إبراهيم إبطالا لقولهم {أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} مع مستند الإبطال بإقامة الدليل على أنه جاءهم بالحق. وليس فيه طريقة الأسلوب الحكيم كما ظنه الطيبي.
وقوله تعالى: {وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} إعلام لهم بأنه مرسل من الله لإقامة دين التوحيد لأن رسول كل أمة شهيد عليها كما قال تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} ، ولم يكن يومئذ في قومه من يشهد ببطلان إلهية أصنامهم، فتعين أن المقصود من الشاهدين أنه بعض الذين شهدوا بتوحيد الله بالإلهية في مختلف الأزمان أو الأقطار.

ويحتمل معنى التأكيد لذلك بمنزلة القسم، كقول الفرزدق:
شهد الفرزدق حين يلقى ربه ... أن الوليد أحق بالعذر
ثم انتقل إبراهيم عليه السلام من تغيير المنكر بالقول إلى تغييره باليد معلنا عزمه على ذلك بقوله: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} مؤكدا عزمه بالقسم، فالواو عاطفة جملة القسم على جملة الخبر التي قبلها.
والتاء تختص بقسم على أمر متعجب منه وتختص باسم الجلالة وقد تقدم عند قوله تعالى: {قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ}.
وسمى تكسيره الأصنام كيدا على طريق الاستعارة أو المشاكلة التقديرية لاعتقاد المخاطبين أنهم يزعمون أن الأصنام تدفع عن أنفسها فلا يستطيع أن يمسها بسوء إلا على سبيل الكيد.
والكيد: التحيل على إلحاق الضر في صورة غير مكروهة عند المتضرر. وقد تقدم عند قوله تعالى: {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} في سورة يوسف.
وإنما قيد كيده بما بعد انصراف المخاطبين إشارة إلى أنه يلحق الضر بالأصنام في أول وقت التمكن منه، وهذا من عزمه عليه السلام لأن المبادرة في تغيير المنكر مع كونه باليد مقام عزم وهو لا يتمكن من ذلك مع حضور عبدة الأصنام فلو حاول كسرها بحضرتهم لكان عمله باطلا، والمقصود من تغيير المنكر: إزالته بقدر الإمكان، ولذلك فإزالته باليد لا تكون إلا مع المكنة.
و {مُدْبِرِينَ} حال مؤكدة لعاملها. وقد تقدم نظيره غير مرة منها عند قوله تعالى: {ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} في سورة براءة.
[58-61] {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ قَالُوا سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ}
الضميران البارزان في "جعلهم" وفي {لَهُمْ} عائدان إلى الأصنام بتنزيلها منزلة العاقل، وضمير {لَعَلَّهُمْ} عائد إلى قوم إبراهيم، والقرينة تصرف الضمائر المتماثلة إلى مصارفها مثل ضميري الجمع في قوله تعالى: {وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} .

والجذاذ بضم الجيم في قراءة الجمهور: اسم جمع جذاذة، وهي فعالة من الجذ، وهو القطع مثل قلامة وكناسة، أي كسرهم وجعلهم قطعا. وقرأ الكسائي {جذاذا} بكسر الجيم على أنه مصدر، فهو من الإخبار بالمصدر للمبالغة.
قيل: كانت الأصنام سبعين صنما مصطفة ومعها صنم عظيم وكان هو مقابل باب بيت الأصنام، وبعد أن كسرها جعل الفأس في رقبة الصنم الأكبر استهزاء بهم.
ومعنى {لَعَلَّهُمْ إِلِيهِ يَرْجِعُونَ} رجاء أن يرجع الأقوام إلى استشارة الصنم الأكبر ليخبرهم بمن كسر بقية الأصنام لأنه يعلم أن جهلهم يطمعهم في استشارة الصنم الكبير. ولعل المراد استشارة سدنته ليخبروهم بما يتلقونه من وحيه المزعوم.
وضمير {لهم} عائد إلى الأصنام من قوله: {أَصْنَامَكُمْ} . وأجري على الأصنام ضمير جمع العقلاء محاكاة لمعنى كلام إبراهيم لأن قومه يحسبون الأصنام عقلاء. ومثله ضمائر قوله بعده {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} .
وهذا العمل الذي عمله إبراهيم عمله بعد أن جادل أباه وقومه في عبادة الأصنام والكواكب ورأى جماحهم عن الحجة الواضحة كما ذكر في سورة الأنعام.
وقول قومه: {مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} يدل على أنهم لم يخطر ببالهم أن يكون كبير الآلهة فعل ذلك، وهؤلاء القوم هم فريق لم يسمع توعد إبراهيم إياهم بأن يكيد أصنامهم والذين {قالوا سمعنا فتى يذكرهم} هم الذين توعد إبراهيم الأصنام بمسمع منهم.
والفتى: الذكر الذي قوي شبابه. ويكون من الناس ومن الإبل. والأنثى: فتاة. وقد يطلقونه صفة مدح دالة على استكمال خصال الرجل المحمودة.
والذكر: التحدث بالكلام.
وحذف متعلق {يَذْكُرُ} لدلالة القرينة عليه، أي يذكرهم بتوعد. وهذا كقوله تعالى: {أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} كما تقدم.
وموضع جملتي {يَذْكُرُهُمْ} و {يقال له} في موضع الصفة لـ {فَتَىً}.
وفي قولهم {يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} دلالة على أن المنتصبين للبحث في القضية لم يكونوا

يعرفون إبراهيم، أو أن الشهداء أرادوا تحقيره بأنه مجهولا لا يعرف وإنما يدعى أو يسمى إبراهيم، أي ليس هو من الناس المعروفين.
ورفع {إبراهيم} على أنه نائب فاعل {يُقَالُ} ، لأن فعل القول إذا بني إلى المجهول كثيرا ما يضمن معنى الدعوة أو التسمية، فلذلك حصلت الفائدة من تعديته إلى المفرد البحث وإن كان شأن فعل القول أن لا يتعدى إلا إلى الجملة أو إلى مفرد فيه معنى الجملة مثل قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} .
ومعنى {عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ} على مشاهدة الناس، فاستعير حرف الاستعلاء لتمكن البصر فيه حتى كأن المرئي مظروف في الأعين.
ومعنى {يَشْهَدُونْ} لعلهم يشهدون عليه بأنه الذي توعد الأصنام بالكيد.
[62-67] {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ ُأُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ}
وقع هنا حذف جملة تقتضيها دلالة الاقتضاء. والتقدير: فأتوا به فقالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا.
وقوله تعالى: "بل" إبطال لأن يكون هو الفاعل لذلك، فنفي أن يكون فعل ذلك، لأن "بل" تقتضي نفي ما دل على كلامهم من استفهامه.
وقوله تعالى: {فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} الخبر مستعمل في معنى التشكيك أي لعله فعله كبيرهم إذ لم يقصد إبراهيم نسبة التحطيم إلى الصنم الأكبر لأنه لم يدع أنه شاهد ذلك ولكنه جاء بكلام يفيد ظنه بذلك حيث لم يبقى صحيحا من الأصنام إلا الكبير. وفي تجويز أن يكون كبيرهم هذا الذي حطمهم إخطار دليل انتفاء تعدد الآلهة لأنه أوهمهم أن كبيرهم غضب من مشاركة تلك الأصنام له في المعبودية، وذلك تدرج إلى دليل الوحدانية، فإبراهيم في إنكاره أن يكون هو الفاعل أراد إلزامهم الحجة على انتفاء ألوهية الصنم العظيم، وانتفاء ألوهية الأصنام المحطمة بطريق الأولى على نية أن يكر على ذلك كله

بالإبطال ويوقنهم بأنه الذي حطم الأصنام وأنها لو كانت آلهة لدفعت عن أنفسها ولو كان كبيرهم كبير الآلهة لدفع عن حاشيته وحرفائه، ولذلك قال: {فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُون} تهكما بهم وتعريضا بأن ما لا ينطق ولا يعرف عن نفسه غير أهل للإلهية.
وشمل ضمير {فَاسْأَلُوهُمْ} جميع الأصنام ما تحطم منها وما بقي قائما. والقوم وإن علموا أن الأصنام لم تكن تتكلم من قبل إلا أن إبراهيم أراد أن يقنعهم بأن حدثا عظيما مثل هذا يوجب أن ينطقوا بتعيين من فعله بهم. وهذا نظير استدلال علماء الكلام على دلالة المعجزة على صدق الرسول بأن الله لا يخرق عادة لتصديق الكاذب، فخلقه خارق العادة عند تحدي الرسول دليل على أن الله أراد تصديقه.
وأما ما روي في الصحيح عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات ثنتين منه في ذات لله عزوجل: قوله: {إَنِّي سَقِيمٌ} وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} . وبينا هو ذات يوم وسارة إذ أتى على جبار من الجبابرة فقيل له: إن هاهنا رجلا معه امرأة من أحسن الناس فأرسل إليه فقال: من هذه? قال: أختي. فأتى سارة فقال: يا سارة ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك وأن هذا سألني فأخبرته أنك أختي فلا تكذبيني...." وساق الحديث.
فمعناه أنه كذب في جوابه عن قول قومه: {أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا} حيث قال: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} ، لأن " بَلْ" إذا جاء بعد استفهام أفاد إبطال المستفهم عنه. فقولهم {أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا} سؤال عن كونه محطم الأصنام، فلما قال {بَلْ} فقد نفى ذلك عن نفسه، وهو نفي مخالف للواقع ولاعتقاده فهو كذب. غير أن الكذب مذموم ومنهي عنه ويرخص فيه للضرورة مثل ما قاله إبراهيم، فهذا الإضراب كان تمهيدا للحجة على نية أن يتضح لهم الحق بأخرة. ولذلك قال {أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ} الآية.
أما الإخبار بقوله: {فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} فليس كذبا وإن كان مخالفا للواقع ولاعتقاد المتكلم لأن الكلام والأخبار إنما تستقر بأواخرها وما يعقبها، كالكلام المعقب بشرط أو استثناء، فإنه لما قصد تنبيههم على خطأ عبادتهم للأصنام مهد لذلك كلاما هو جار على الفرض والتقدير فكأنه قال: لو كان هذا إلها لما رضي بالاعتداء على شركائه، فلما حصل الاعتداء عليهم بمحضر كبيرهم تعين أن يكون هو الفاعل لذلك، ثم ارتقى في الاستدلال بأن سلب الإلهية عن جميعهم بقوله: {إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} كما تقدم. فالمراد من الحديث

أنها كذبات في بادئ الأمر وأنها عند التأمل يظهر المقصود منها. وذلك أن النهي عن الكذب إنما علته خدع المخاطب وما يتسبب على الخبر المكذوب من جريان الأعمال على اعتبار الواقع بخلافه. فإذا كان الخبر يعقب بالصدق لم يكن ذلك من الكذب بل كان تعريضا أو مزحا أو نحوهما.
وأما ما ورد في حديث الشفاعة فيقول إبراهيم: لست هناكم ويذكر كذبات كذبها فمعناه أنه يذكر أنه قال كلاما خلافا للواقع بدون إذن الله بوحي، ولكنه ارتكب قول خلاف الواقع لضرورة الاستدلال بحسب اجتهاده فخشي أن لا يصادف اجتهاده الصواب من مراد الله فخشي عتاب الله فتخلص من ذلك الموقف.
وقوله تعالى: {فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ} يجوز أن يكون معناه فرجع بعضهم إلى بعض، أي أقبل بعضهم على خطاب بعض وأعرضوا عن مخاطبة إبراهيم على نحو قوله تعالى: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} وقوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} ، أي فقال بعضهم لبعض {إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} .وضمائر الجمع مراد منها التوزيع كما في: ركب القوم دوابهم، ويجوز أن يكون معناه فرجع كل واحد إلى نفسه، أي ترك التأمل في تهمة إبراهيم وتدبر في دفاع إبراهيم. فلاح لكل منهم أن إبراهيم بريء فقال بعضهم لبعض: {إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} . وضمائر الجمع جارية على أصلها المعروف. والجملة مفيدة للحصر، أي أنتم ظالمون لا إبراهيم لأنكم ألصقتم به التهمة بأنه ظلم أصنامنا مع أن الظاهر أن نسألها عمن فعل بها ذلك، ويظهر أن الفاعل هو كبيرهم.
والرجوع إلى أنفسهم على الاحتمالين السابقين مستعار لشغل البال بشيء عقب شغله بالغير، كما يرجع المرء إلى بيته بعد خروجه إلى مكان غيره.
وفعل {نُكِسُوا} مبني للمجهول، أي نكسهم ناكس. ولما لم يكن لذلك النكس فاعل إلا أنفسهم بني الفعل للمجهول فصار بمعنى: انتكسوا على رؤوسهم. وهذا تمثيل.
والنكس: قلب أعلى الشيء أسفله وأسفله أعلاه، يقال: صلب اللص منكوسا، أي مجعولا رأسه مباشرا للأرض، وهو أقبح هيئات المصلوب. ولما كان شأن انتصاب جسم الإنسان أن يكون منتصبا على قدميه فإذا نكس صار انتصابه كأنه على رأسه، فكان قوله هنا {نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ} تمثيلا لتغير رأيهم عن الصواب كما قالوا {إِنَّكُمْ أَنْتُمُ

الظَّالِمُونَ} إلى معاودة الضلال بهيئة من تغيرت أحوالهم من الانتصاب على الأرجل إلى الانتصاب على الرؤوس منكوسين. فهو من تمثيل المعقول بالمحسوس والمقصود به التشنيع. وحرف "على" للاستعلاء أي علت أجسادهم فوق رؤوسهم بأن انكبوا انكبابا شديدا بحيث لا تبدو رؤوسهم. وتحتمل الآية وجوها أخرى أشار إليها في الكشاف .
والمعنى: ثم تغيرت آراؤهم بعد أن كادوا يعترفون بحجة إبراهيم فرجعوا إلى المكابرة والانتصار للأصنام. فقالوا: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ} ، أي أنت تعلم أن هؤلاء الأصنام لا تنطق فما أردت بقولك {فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} إلا التنصل من جريمتك.
فجملة {لقد علمت} إلى آخرها مقول قول محذوف دل عليه {فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} .
وجملة: {مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ} تفيد تقوى الاتصاف بانعدام النطق، وذلك بسبب انعدام آلته وهي الألسن.
وفعل {عَلِمْتَ} معلق عن العمل لوجود حرف النفي بعده. فلما اعترفوا بأن الأصنام لا تستطيع النطق انتهز إبراهيم الفرصة لإرشادهم مفرعا على اعترافهم بأنها لا تنطق استفهاما إنكاريا على عبادتهم إياها وزائدا بأن تلك الأصنام لا تنفع ولا تضر.
وجعل عدم استطاعتها النفع والضر ملزوما لعدم النطق لأن النطق هو واسطة الإفهام، ومن لا يستطيع الإفهام تبين أنه معدوم العقل وتوابعه من العلم والإرادة والقدرة.
و {أُفٍّ} اسم فعل دال على الضجر، وهو منقول من صورة تنفس المتجر لضيق نفسه من الغضب. وتنوين {أُفٍّ} يسمى تنوين التنكير والمراد به التعظيم، أي ضجرا قويا لكم. وتقدم في سورة الإسراء {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} .
واللام في {لكم} لبيان المتأفف بسببه، أي أف لأجلكم وللأصنام التي تعبدونها من دون الله.
وإظهار اسم الجلالة لزيادة البيان وتشنيع عبادة غيره.
وفرع على الإنكار والتضجر استفهاما إنكاريا عن عدم تدبرهم في الأدلة الواضحة من العقل والحس فقال: {أَفَلا تَعْقِلُونَ}.

[68-69] {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ}
لما غلبهم بالحجة القاهرة لم يجدوا مخلصا إلا بإهلاكه. وكذلك المبطل إذا قرعت باطله حجة فساده غضب على المحق، ولم يبق له مفزع إلا مناصبته والتشفي منه، كما فعل المشركون من قريش مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين عجزوا عن المعارضة. واختار قوم إبراهيم أن يكون إهلاكه بالإحراق لأن النار أهول ما يعاقب به وأفظعه.
والتحريق: مبالغة في الحرق، أي حرقا متلفا.
وأسند قول الأمر بإحراقه إلى جميعهم لأنهم قبلوا هذا القول وسألوا ملكهم، وهو النمرود، إحراق إبراهيم فأمر بإحراقه لأن العقاب بإتلاف النفوس لا يملكه إلا ولاة أمور الأقوام. قيل الذي أشار بالرأي بإحراق إبراهيم رجل من القوم كردي اسمه هينون، واستحسن القوم ذلك، والذي أمر بالإحراق بمروذ، فالمر في قولهم: {حَرِّقُوهُ} مستعمل في المشاورة.
ويظهر أن هذا القول كان مؤامرة سرية بينهم دون حضرة إبراهيم، وأنهم دبروه ليبغتوه به خشية هروبه لقوله تعالى: {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً} .
ونمروذ هذا يقولون: إنه ابن كوش بن حام بن نوح. ولا يصح ذلك لبعد ما بين زمن إبراهيم وزمن كوش. فالصواب أن نمروذ من نسل كوش. ويحتمل أن تكون كلمة نمروذ لقبا لملك الكلدان وليست علما. والمقدر في التاريخ أن ملك مدينة أور في زمن إبراهيم هو ألغى بن أورخ وهو الذي تقدم ذكره عند قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} في سورة البقرة.
ونصر الآلهة بإتلاف عدوها.
ومعنى {إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} إن كنتم فاعلين النصر. وهذا تحريض وتلهيب لحميتهم.
وجملة: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} مفصولة عن التي قبلها: إما لأنها وقعت كالجواب عن قولهم {حَرِّقٌوهُ} فأشبهت جمل المحاورة، وإما لأنها استئناف عن سؤال ينشأ عن قصة التآمر على الإحراق. وبذلك يتعين تقدير جملة أخرى، أي فألقوه في النار قلنا: يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم. وقد أظهر الله ذلك معجزة لإبراهيم

إذ وجه إلى النار تعلق الإرادة بسلب قوة الإحراق، وأن تكون بردا وسلاما إن كان الكلام على الحقيقة، أو أزال عن مزاج إبراهيم التأثر بحرارة النار إن كان الكلام على التشبيه البليغ، أي كوني كبرد في عدم تحريق الملقى فيك بحرك.
وأما كونها سلاما فهو حقيقة لا محالة، وذكر {سَلاماً} بعد ذكر البرد كالاحتراس لأن البرد مؤذ بدوامه ربما إذا اشتد، فعقب ذكره بذكر السلام لذلك. وعن ابن عباس: لو لم يقل ذلك لأهلكته ببردها. وإنما ذكر {بَرْداً} ثم أتبع بـ {سَلاماً} ولم يقتصر على {بَرْداً} لإظهار عجيب صنع القدرة إذ صير النار بردا.
و {عَلَى إِبْرَاهِيمْ} يتنازعه {بَرْداً وَسَلاماً} . وهو أشد مبالغة في حصول نفعهما له. ويجوز أن يتعلق بفعل الكون.
[70] {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ}
تسمية عزمهم على إحراقه كيدا يقتضي أنهم دبروا ذلك خفية منه. ولعل قصدهم من ذلك أن لا يفر من البلد فلا يتم الانتصار لآلهتهم.
والأخسر: مبالغة في الخاسر، فهو اسم تفضيل مسلوب المفاضلة.
وتعريف جزأي الجملة يفيد القصر، وهو قصر للمبالغة كأن خسارتهم لا تدانيها خسارة وكأنهم انفردوا بوصف الأخسرين فلا يصدق هذا الوصف على غيرهم. والمراد بالخسارة الخيبة. وسميت خيبتهم خسارة على طريقة الاستعارة تشبيها لخيبة قصدهم إحراقه بخيبة التاجر في تجارته، كما دل عليه قوله تعالى: {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً} ، أي فخابوا خيبة عظيمة. وذلك أن خيبتهم جمع لهم بها سلامة إبراهيم من أثر عقابهم وإن صار ما أعدوه للعقاب معجزة وتأييدا لإبراهيم عليه السلام.
وأما شدة الخسارة التي اقتضاها اسم التفضيل فهي بما لحقهم عقب ذلك من العذاب إذ سلط الله عليهم عذابا كما دل عليه قوله تعالى: في سورة الحج {فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} . وقد عد فيهم قوم إبراهيم، ولم أر من فسر ذلك الأخذ بوجه مقبول. والظاهر أن الله سلط عليهم الآشوريين فأخذوا بلادهم، وانقرض ملكهم وخلفهم الأشوريون، وقد أثبت التاريخ أن العيلاميين من أهل السوس تسلطوا على بلاد الكلدان في حياة إبراهيم في حدود سنة 2286 قبل المسيح.

[71-73] {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلّاً جَعَلْنَا صَالِحِينَ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ}
هذه نجاة ثانية بعد نجاته من ضر النار، هي نجاته من الحلول بين قوم عدو له كافرين بربه وربهم، وهي نجاة من دار الشرك وفساد الاعتقاد. وتلك بأن سهل الله له المهاجرة من بلاد "الكلدان" إلى أرض "فلسطين" وهي بلاد "كنعان".
وهجرة إبراهيم هي أول هجرة في الأرض لأجل الدين. واستصحب إبراهيم معه لوطا ابن أخيه "هاران" لأنه آمن بما جاء به إبراهيم. وكانت سارة امرأة إبراهيم معهما، وقد فهمت معيتها من أن المرء لا يهاجر إلا ومعه امرأته.
وانتصب {لُوطاً } على المفعول معه لا على المفعول به لأن لوطا لم يكن مهددا من الأعداء لذاته فيتعلق به فعل الإنجاء.
وضمن {نَجَّيْنَاهُ} معنى الإخراج فعدي بحرف "إلى".
والأرض: هي أرض فلسطين. ووصفها الله بأنه باركها للعالمين، أي للناس، يعني الساكنين بها لأن الله خلقها أرض خصب ورخاء عيش وأرض أمن. وورد في التوراة: أن الله قال لإبراهيم: إنها تفيض لبنا وعسلا.
والبركة: وفرة الخير والنفع. وتقدم في قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً} في سورة آل عمران.
وهبة إسحاق له ازدياده له على الكبر وبعد أن يئست زوجه سارة من الولادة.
وهبة يعقوب ازدياد لإسحاق بن إبراهيم في حياة إبراهيم ورؤيته إياه كهلا صالحا.
والنافلة: الزيادة غير الموعودة، فإن إبراهيم سأل ربه فقال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} أراد الولد فولد له إسماعيل، كما في سورة الصافات ثم ولد له إسحاق عن غير مسألة كما في سورة هود فكان نافلة، وولد لإسحاق يعقوب فكان أيضا نافلة.
وانتصب {نَافِلَةً} على الحال التي عاملها {وَوَهَبْنَا} فتكون حالا من إسحاق ويعقوب شأن الحال الواردة بعد المفردات أن تعود إلى جميعها.

وتنوين {كُلاً} عوض عن المضاف إليه. والمعنى: وكلهم جعلنا صالحين، أي أصلحنا نفوسهم. والمراد إبراهيم وإسحاق ويعقوب، لأنهم الذين كان الحديث الأخير عنهم. وأما لوط فإنما ذكر على طريق المعية وسيخص بالذكر بعد هذه الآية.
وإعادة فعل "جعل" في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} دون أن يقال: وأئمة يهدون، بعطف {أَئِمَّةً} على {الصَّالحِينْ} ، اهتماما بهذا الجعل الشريف، وهو جعلهم هادين للناس بعد أن جعلهم صالحين في أنفسهم فأعيد الفعل ليكون له مزيد استقرار.
ولأن في إعادة الفعل إعادة ذكر المفعول الأول فكانت إعادته وسيلة إلى إعادة ذكر المفعول الأول.
وفي تلك الإعادة من الاعتناء ما في الإظهار في مقام الإضمار كما يظهر بالذوق.
والأئمة: جمع إمام وهو القدوة والذي يعمل كعمله. وأصل الإمام المثال الذي يصنع الشيء على صورته في الخير أو في الشر.
وجملة: {يَهْدُونَ} في موضع الحال مقيدة لمعنى الإمامة، أي أنهم أئمة هدى وإرشاد.
وقوله: {لِأَمْرِنَا} أي كانوا هادين بأمر الله، وهو الوحي زيادة على الجعل. وفي الكشاف: فيه أن من صلح ليكون قدوة في دين الله فالهداية محتومة عليه مأمور هو بها ليس له أن يخل بها ويتثاقل عنها. وأول ذلك أن يهتدي بنفسه لأن الانتفاع بهداه أعم والنفوس إلى الاهتداء بالمهدي أميل اهـ.
وهذا الهدي هو تزكية نفوس الناس وإصلاحها وبث الإيمان. ويشمل هذا شؤون الإيمان وشعبه وآدابه.
وأما قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ} فذلك إقامة شرائع الدين بين الناس من العبادات والمعاملات. وقد شملها قوله تعالى: {فِعْلَ الْخَيْرَاتِ}.
و {فِعْلَ الْخَيْرَاتِ} مصدر مضاف إلى {الْخَيْرَاتِ}، ويتعين أنه مضاف إلى مفعوله لأن الخيرات مفعولة وليست فاعلة فالمصدر هنا بمنزلة الفعل المبني للمجهول لأن المقصود هو مفعوله، وأما الفاعل فتبع له، أي أن يفعلوا هم ويفعل قومهم الخيرات،

حتى تكون الخيرات مفعولة للناس كلهم، فحذف الفاعل للتعميم مع الاختصار لاقتضاء المفعول إياه.
واعتبار المصدر مصدرا لفعل مبني للنائب جائز إذا قامت القرينة. وهذا ما يؤذن به صنيع الزمخشري. على أن الأخفش أجازه بدون شرط.
ويجوز أن يكون {فِعْلَ الْخَيْرَاتِ} هو الموحى به، أي وأحينا إليهم هذا الكلام، فيكون المصدر قائما مقام الفعل مرادا به الطلب. والتقدير: افعلوا الخيرات، كقوله تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} .
وتخصيص {وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ} بالذكر بعد شمول الخيرات إياهما تنويه بشأنهما لأن بالصلاة صلاح النفس إذ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وبالزكاة صلاح المجتمع لكفاية عوز المعوزين.
وهذا إشارة إلى أصل الحنيفية التي أرسل بها إبراهيم عليه السلام.
ومعنى الوحي بفعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة أنه أوحي إليهم الأمر بذلك كما هو بين.
ثم خصهم بذكر ما كانوا متميزين به على بقية الناس من ملازمة العبادة لله تعالى كما دل عليه فعل الكون المفيد تمكن الوصف، ودلت عليه الإشارة بتقديم المجرور إلى أنهم أفردوا الله بالعبادة فلم يعبدوا غيره قط كما تقتضيه رتبة النبوة من العصمة عن عبادة غير الله من وقت التكليف كما قال يوسف {مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} . وقال تعالى: في الثناء على إبراهيم {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}
[74-75 ]{وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ}
عطف على جملة: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ} . وقدم مفعول {آتَيْنَاهُ} اهتماما به لينبه على أنه محل العناية إذ كان قد تأخر ذكر قصته بعد أن جرى ذكره تبعا لذكر إبراهيم تنبيها على أنه بعث بشريعة خاصة، وإلى قوم غير القوم الذين بعث إليهم إبراهيم، وإلى أنه كان في مواطن غير المواطن التي حل فيها إبراهيم، بخلاف إسحاق ويعقوب في ذلك كله.

ولأجل البعد أعيد فعل الإيتاء ليظهر عطفه على {آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ} . ولم يعد في قصة نوح عقب هذه.
وأعقبت قصة إبراهيم بقصة لوط للمناسبة. وخص لوط بالذكر من بين الرسل لأن أحواله تابعة لأحوال إبراهيم في مقاومة أهل الشرك والفساد. وإنما لم يذكر ما هم عليه قوم لوط من الشرك استغناء بذكر الفواحش الفظيعة التي كانت لهم سنة فإنها أثر من الشرك.
والحكم: الحكمة، وهو النبوة، قال تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً} .
والعلم: علم الشريعة، والتنوين فيهما للتعظيم.
والقرية سدوم. وقد تقدم ذكر ذلك في سورة هود. والمراد من القرية أهلها كما مر في قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} في سورة يوسف.
والخبائث: جمع خبيثة بتأويل الفعلة، أي الشنيعة. والسوء بفتح السين وسكون الواو مصدر، أي القبيح المكروه. وأما بضم السين فهو اسم مصدر لما ذكر وهو أغم من المفتوح لأن الوصف بالاسم أضعف من الوصف بالمصدر.
[76-77] {وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ}
لما ذكر أشهر الرسل بمناسبات أعقب يذكر أول الرسل.
وعطف {وَنُوحاً} على {لُوطاً} ، أي آتينا نوحا حكما وعلما، فحذف المفعول الثاني لـ {آتَيْنَا} لدلالة ما قبله عليه، أي آتيناه النبوة حين نادى، أي نادانا.
ومعنى {نَادَى} دعا ربه أن ينصره على المكذبين من قومه بدليل قوله: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} .
وبناء {قَبْلُ} على الضم يدل على مضاف إليه مقدر، أي من قبل هؤلاء، أي قبل الأنبياء المذكورين. وفائدة ذكر هذه القبلية التنبيه على أن نصر الله أولياءه سنته المرادة له

تعريضا بالتهديد للمشركين المعاندين ليتذكروا أنه لم تشذ عن نصر الله رسله شاذة ولا فاذة.
وأهل نوح: أهل بيته عدا أحد بنيه الذي كفر به.
والكرب العظيم: هو الطوفان. والكرب: شدة حزن النفس بسبب خوف أو حزن.
ووجه كون الطوفان كربا عظيما أنه يهول الناس عند ابتدائه وعند مده ولا يزال لاحقا بمواقع هروبهم حتى يعمهم فيبقوا زمنا يذوقون آلام الخوف فالغرق وهم يغرقون ويطفون حتى يموتوا بانحباس التنفس؛ وفي ذلك كله كرب متكرر، فلذلك وصف بالعظيم.
وعدي {نصرناه} بحرف "من" لتضمينه معنى المنع والحماية، كما في قوله تعالى: {إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ} ، وهو أبلغ من تعديته بـ{عَلَى" لأنه يدل على نصر قوي تحصل به المنعة والحماية فلا يناله العدو بشيء. وأما نصره عليه فلا يدل إلا على المدافعة والمعونة.
ووصف القوم بالموصول للإيماء إلى علة الغرق الذي سيذكر بعد. وجملة: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ} علة لنصر نوح عليه لأن نصره يتضمن إضرار القوم المنصور عليهم.
والسوء بفتح السين تقدم آنفا.
وإضافة قوم إلى السوء إشارة إلى أنهم عرفوا به. والمراد به الكفر والتكبر والعناد والاستسخار برسولهم.
و {أَجْمَعِين} حال من ضمير النصب في {أَغْرَقْنَاهُمْ} لإفادة أنه لم ينج من الغرق أحد من القوم ولو كان قريبا من نوح فإن الله قد أغرق ابن نوح.
وهذا تهديد لقريش لئلا يتكلوا على قرابتهم بمحمد صلى الله عليه وسلم كما روي أنه لما قرأ على عتبة بن ربيعة سورة فصلت حتى بلغ {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} فزع عتبة وقال له: ناشدتك الرحم.
[78-79] {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ

الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ}
{وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً}
شروع في عداد جمع من الأنبياء الذين لم يكونوا رسلا. وقد روعي في تخصيصهم بالذكر ما اشتهر به كل فرد منهم من المزية التي أنعم الله بها عليه، بمناسبة ذكر ما فضل الله به موسى وهارون من إيتاء الكتاب الماثل للقرآن وما عقب ذلك. ولم يكن بعد موسى في بني إسرائيل عصر له ميزة خاصة مثل عصر داود وسليمان إذ تطور أمر جامعة بني إسرائيل من كونها مسوسة بالأنبياء من عهد يوشع بن نون. ثم بما طرأ عليها من الفوضى من بعد موت شمشون إلى قيام شاول حمي داود إلا أنه كان ملكا قاصرا على قيادة الجند ولم يكن نبيا، وأما تدبير الأمور فكان للأنبياء والقضاة مثل صمويل.
فداود أول من جمعت له النبوة والملك في أنبياء بني إسرائيل. وبلغ ملك إسرائيل في مدة داود حدا عظيما من البأس والقوة وإخضاع الأعداد. وأوتي داود الزبور فيه حكمة وعظة فكان تكملة للتوراة التي كانت تعليم شريعة، فاستكمل زمن داود الحكمة ورقائق الكلام.
وأوتي سليمان الحكمة وسخر له أهل الصنائع والإبداع فاستكملت دولة إسرائيل في زمانه عظمة النظام والثروة والحكمة والتجارة فكان في قصتهما مثل.
وكانت تلك القصة منتظمة في هذا السلك الشريف سلك إيتاء الفرقان والهدي والرشد والإرشاد إلى الخير والحكم والعلم.
وكان في قصة داود وسليمان تنبيه على أصل الاجتهاد وعلى فقه القضاء فلذلك خص داود وسليمان بشيء من تفصيل أخبارهما فيكون {دَاوودَ} عطفا على {نُوحَاً} في قوله: {وَنُوحَاً} ، أي وآتينا داود وسليمان حكما وعلما إذ يحكمان... إلى آخره، فـ {إِذْ يَحْكُمَانِ} متعلق بـ {آتَينَا} المحذوف، أي كان وقت حكمهما في قضية الحرث مظهرا من مظاهر حكمهما وعملهما.
والحكم: الحكمة، وهو النبوة. والعلم: أصالة الفهم. و {إِذْ نَفَشَتْ} متعلق بـ {يَحْكُمَانِ}.

فهذه القضية التي تضمنتها الآية مظهر من مظاهر العدل ومبالغ تدقيق فقه القضاء، والجمع بين المصالح والتفاصيل بين مراتب الاجتهاد، واختلاف طرق القضاء بالحق مع كون الحق حاصلا للمحق. فمضمونها أنها الفقه في الدين الذي جاء به المرسلون من قبل.
وخلاصتها أن داود جلس للقضاء بين الناس، وكان ابنه سليمان حينئذ يافعا فكان يجلس خارج باب بيت القضاء. فاختصم إلى داود رجلان أحدهما عامل في حرث لجماعة في زرع أو كرم، والآخر راعي غنم لجماعة، فدخلت الغنم الحرث ليلا فأفسدت ما فيه فقضى داود أن تعطى الغنم لأصحاب الحرث إذ كان ثمن تلك الغنم يساوي ثمن ما تلف من ذلك الحرث، فلما حكم بذلك وخرج الخصمان فقص أمرهما على سليمان، فقال: لو كنت أنا قاضيا لحكمت بغير هذا. فبلغ ذلك داود فأحضره وقال له: بماذا كنت تقضي? قال: إني رأيت ما هو أرفق بالجميع. قال: وما هو? قال: أن يأخذ أصحاب الغنم الحرث يقوم عليه عاملهم ويصلحه عاما كاملا حتى يعود كما كان ويرده إلى أصحابه، وأن يأخذ أصحاب الحرث الغنم تسلم أراعيهم فينتفعوا من ألبانها وأصوافها ونسلها في تلك المدة فإذا كمل الحرث وعاد إلى حاله الأول صرف إلى كل فريق ما كان له. فقال داود: وفقت يا بني. وقضى بينهما بذلك.
فمعنى {نَفَشَتْ فِيهِ} دخلته ليلا، قالوا: والنفش الانفلات للرعي ليلا. وأضيف الغنم إلى القوم لأنها كانت لجماعة من الناس كما يؤخذ من قوله تعالى: {غَنَمُ الْقَوْمِ} . وكذلك كان الحرث شركة بين أناس. كما يؤخذ مما أخرجه ابن كثير في تفسيره عن مسروق من رواية ابن أبي حاتم. وهو ظاهر تقرير الكشاف . وأما ما ورد في الروايات الأخرى من ذكر رجلين فإنما يحمل على أن اللذين حضرا للخصومة هما راعي الغنم وعامل الحرث.
واعلم أن مقتضى عطف داود وسليمان على إبراهيم ومقتضى قوله: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} أي عالمين وقوله تعالى: {وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} ومقتضى وقوع الحكمين في قضية واحدة وفي وقت واحد، إذ أن الحكمين لم يكونا عن وحي من الله وأنهما إنما كانا عن علم أوتيه داود وسليمان، فلذلك من القضاء بالاجتهاد. وهو جار على القول الصحيح من جواز الاجتهاد للأنبياء ولنبينا صلى الله عليه وسلم ووقوعه في مختلف المسائل.

وقد كان قضاء داود حقا لأنه مستند إلى غرم الأضرار على المتسببين في إهمال الغنم، وأصل الغرم أن يكون تعويضا ناجزا فكان ذلك القضاء حقا. وحسبك أنه موافق لما جاءت به السنة في إفساد المواشي.
وكان حكم سليمان حقا لأنه مستند إلى إعطاء الحق لذويه مع إرفاق المحقوقين باستيفاء مالهم إلى حين فهو يشبه الصلح. ولعل أصحاب الغنم لم يكن لهم سواها كما هو الغالب، وقد رضي الخصمان بحكم سليمان لأن الخصمين كانا من أهل الإنصاف لا من أهل الاعتساف، ولو لم يرضيا لكان المصير إلى حكم داود إذ ليس الإرفاق بواجب.
ونظير ذلك قضاء عمر بن الخطاب على محمد بن مسلمة بأن يمر الماء من العريض على أرضه إلى أرض الضحاك بن خليفة وقال لمحمد بن مسلمة: لم تمنع أخاك ما ينفعه وهو لك نافع? فقال محمد: لا والله، فقال عمر: والله ليمرن به ولو على بطنك، ففعل الضحاك.
وذلك أن عمر علم أنهما من أهل الفضل وأنهما يرضيان لما عزم عليهما، فكان قضاء سليمان أرجح.
وتشبه هذه القضية قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الزبير والأنصاري في السقي من ماء شراج الحرة إذ قضى أول مرة بأن يمسك الزبير الماء حتى يبلغ الكعبين ثم يرسل الماء إلى جاره، فلما لم يرض الأنصاري فقضى رسول الله بأن يمسك الزبير الماء حتى يبلغ الجدر ثم يرسل، فاستوفى للزبير حقه. وإنما ابتدأ النبي صلى الله عليه وسلم بالأرفق ثم لما لم يرض أحد الخصمين قضي بينهما بالفصل، فكان قضاء النبي مبتدأ بأفضل الوجهين على نحو قضاء سليمان.
فمعنى قوله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} أنه ألهمه وجها آخر في القضاء أرجح لما تقتضيه صيغة التفهيم من شدة حصول الفعل أكثر من صيغة الإفهام، فدل على أن فهم سليمان في القضية كان أعمق. وذلك أنه أرفق بهما فكانت المسألة مما يتجاذبه دليلان فيصار إلى الترجيح، والمرجحات لا تنحصر، وقد لا تبدو للمجتهد، والله تعالى أراد أن يظهر علم سليمان عند أبيه ليزداد سروره به، وليتعزى على من فقده من أبنائه قبل ميلاد سليمان. وحسبك أنه الموافق لقضاء النبي في قضية الزبير. وللاجتهادات مجال في تعارض الأدلة.

وهذه الآية أصل في اختلاف الاجتهاد، وفي العمل بالراجح، وفي مراتب الترجيح، وفي عذر المجتهد إذا أخطأ الاجتهاد أو لم يهتد إلى المعارض لقوله تعالى: {وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} في معرض الثناء عليهما.
وفي بقية القصة ما يصلح لأن يكون أصلا في رجوع الحاكم عن حكمه، كما قال ابن عطية وابن العربي؛ إلا أن ذلك لم تتضمنه الآية ولا جاءت به السنة الصحيحة، فلا ينبغي أن يكون تأصيلا وأن ما حاولاه من ذلك غفلة.
وإضافة "حكم" إلى ضمير الجمع باعتبار اجتماع الحاكمين والمتحاكمين. وتأنيث الضمير في قوله: {فَفَهَّمْنَاهَا} ، ولم يتقدم لفظ معاد مؤنث اللفظ، على تأويل الحكم في قوله تعالى: {لحُِكْمِهِمْ} بمعنى الحكومة أو الخصومة.
وجملة: {وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} تذييل للاحتراس لدفع توهم أن حكم داود كان خطأ أو جورا وإنما كان حكم سليمان أصوب.
وتقدمت ترجمة داود عليه السلام عند قوله تعالى: {وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً} في سورة النساء، وقوله تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ} في سورة الأنعام.
وتقدمت ترجمة سليمان عليه السلام عند قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} في سورة البقرة.
{وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ}
هذه مزية اختص بها داود هي تسخير الجبال له وهو الذي بينه جملة: {يُسَبِّحْنَ} فهي إما بيان لجملة {سَخَّرْنَا} أو حال مبينة. وذكرها هنا استطراد وإدماج.
{وَالطَّيْرَ} عطف على {الْجِبَالَ} أو مفعول معه، أي مع الطير يعني طير الجبال.
و {مَعَ} ظرف متعلق بفعل {يُسَبِّحْنَ} ، وقدم على متعلقه للاهتمام به لإظهار كرامة داوود، فيكون المعنى: أن داود كان إذا سبح بين الجبال سمع الجبال تسبح مثل تسبيحه. وهذا معنى التأويب في قوله في الآية الأخرى {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} إذ التأويب الترجيع، مشتق من الأوب وهو الرجوع. وكذلك الطير إذا سمعت تسبيحه تغرد تغريدا مثل تسبيحه وتلك كلها معجزة له. ويتعين أن يكون هذا التسخير حاصلا له بعد أن أوتي النبوة كما يقتضيه سياق تعداده في عداد ما أوتيه الأنبياء من دلائل الكرامة على الله، ولا يعرف لداود بعد أن أوتي النبوة مزاولة صعود الجبال ولا الرعي فيها وقد كان

قبل النبوة راعيا. فلعل هذا التسخير كان أيام سياحته في جبل برية زيف الذي به كهف كان يأوي إليه داود مع أصحابه الملتفين حوله في تلك السياحة أيام خروجه فارا من الملك شاول طالوت حين تنكر له شاول بوشاية بعض حساد داود، كما حكي في الإصحاحين 23-24 من سفر صمويل الأول. وهذا سر التعبير بـ {مَعَ} متعلقة بفعل {سَخَّرنَا} هنا. وفي آية سورة ص إشارة إلى أنه تسخير متابعة لا تسخير خدمة بخلاف قوله الآتي {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ} إذ عدي فعل التسخير الذي نابت عنه واو العطف بلام الملك. وكذلك جاء لفظ {مَعَ} في آية سورة سبأ {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} .
وفي هذا التسخير للجبال والطير مع كونه معجزة له كرامة وعناية من الله به إذ آنسه بتلك الأصوات في وحدته في الجبال وبعده عن أهله وبلده.
وجملة: {وَكُنَّا فَاعِلِينَ} معترضة بين الإخبار عما أوتيه داود. وفاعل هنا بمعنى قادر، لإزالة استبعاد تسبيح الجبال والطير معه. وفي اجتلاب فعل الكون إشارة إلى أن ذلك شأن ثابت لله من قبل، أي وكنا قادرين على ذلك.
[80] {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ}
وامتن الله بصنعه علمها داود فانتفع بها الناس وهي صنعة الدروع، أي دروع السرد. قيل كانت الدروع من قبل داود ذات حراشف من الحديد، فكانت تثقل على الكماة إذا لبسوها فألهم الله داود صنع دروع الحلق الدقيقة فهي أخف محملا وأحسن وقاية.
وفي الإصحاح السابع عشر من سفر صمويل الأول: أن جالوت الفلسطيني خرج لمبارزة داود لابسا درعا حرشفيا، فكانت الدروع الحرشفية مستعملة في وقت شباب داود فاستعمل العرب دروع السرد.
واشتهر عند العرب، ولقد أجاد كعب بن زهير وصفها بقوله:
شم العرانين أبطال لبوسهم ... من نسج داود في الهيجا سرابيل
بيض سوابغ قد شكت لها حلق ... كأنها حلق القفعاء مجدول1
ـــــــ
1 القفعاء: بقاف ففاء فعين: بزرة صحراء نبت ينبسط على وجه الأرض يشبه حلق الدروع.

وكانت الدروع التبعية مشهورة عند العرب فلعل تبعا اقتبسها من بني إسرائيل بعد داود أو لعل الدروع التبعية كانت من ذات الحراشف، وقد جمعها النابغة بقوله:
وكل صموت نثلة تبعية ... ونسج سليم كل قمصاء ذائل
أراد بسليم ترخيم سليمان، يعني سليمان بن داوود، فنسب عمل أبيه إليه لأنه كان مدخرا لها.
واللبوس بفتح اللام أصله اسم لكل ما يلبس فهو فعول بمعنى مفعول مثل رسول. وغلب إطلاقه على ما يلبس من لامة الحرب من الحديد، وهو الدرع فلا يطلق على الدرع لباس ويطلق عليها لبوس كما يطلق لبوس على الثياب. وقال ابن عطية: اللبوس في اللغة السلاح فمنه الرمح ومنه قول الشاعر وهو أبو كبير الهذلي.
ومعي لبوس للبئيس كأنه ... روق بجبهة ذي نعاج مجفل1
وقرأ الجمهور {لِيُحْصِنَكُمْ} بالمثناة التحتية على ظاهر إضمار لفظ {لَبُوسٍ} . وإسناد الإحصان إلى اللبوس إسناد مجازي. وقرأ ابن عامر، وحفص عن عاصم، وأبو جعفر بالمثناة الفوقية على تأويل معنى "لبوس" بالدرع، وهي مؤنثة. وقرأ أبو بكر عن عاصم، ورويس عن يعقوب {لْنُحْصِنَكُمْ} بالنون.
وضمائر الخطاب في {لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} موجهة إلى المشركين تبعا لقوله تعالى: قبل ذلك {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} لأنهم أهملوا شكر نعم الله تعالى التي منها هذه النعمة إذ عبدوا غيره.
والإحصان: الوقاية والحماية. والبأس: الحرب.
ولذلك كان الاستفهام في قوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} مستعملا في استبطاء عدم الشكر ومكنى به عن الأمر بالشكر.
وكان العدول عن إيلاء "هل" الاستفهامية بجملة فعلية إلى الجملة الاسمية مع أن لـ"هل" مزيد اختصاص بالفعل، فلم يقل: فهل تشكرون، وعدل إلى {فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} ليدل العدول عن الفعلية إلى الاسمية على ما تقتضيه الاسمية من معنى الثبات والاستمرار، أي فهل تقرر شكركم وثبت لأن تقرر الشكر هو الشأن في مقابلة هذه النعمة نظير قوله
ـــــــ
1 البئيس: الثور الوحشي معه نعاجه أي إناثه فهو مجفل من الصائد.

تعالى {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} في آية تحريم الخمر.
[81] {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ}
عطف على جملة: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ} بمناسبة تسخير خارق للعادة في كلتا القصتين معجزة للنبيين عليهما السلام.
والأرض التي بارك الله فيها عي أرض الشام. وتسخير الريح: تسخيرها لما تصلح له. وهو سير المراكب في البحر. والمراد أنها تجري إلى الشام راجعة عن الأقطار التي خرجت إليها لمصالح ملك سليمان من غزو أو تجارة بقرينة أنها مسخرة لسليمان فلا بد أن تكون سائرة لفائدة الأمة التي هو ملكها.
وعلم من أنها تجري إلى الأرض التي بارك الله فيها أنها تخرج من تلك الأرض حاملة الجنود أو مصدرة البضائع التي تصدرها مملكة سليمان إلى بلاد الأرض وتقفل راجعة بالبضائع والميرة ومواد الصناعة وأسلحة الجند إلى أرض فلسطين، فوقع في الكلام اكتفاء اعتمادا على القرينة. وقد صرح بما اكتفى عنه هنا في آية سورة سبأ {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ}.
ووصفها هنا بـ {عَاصِفَةً} بمعنى قوية. ووصفها في سورة ص بأنها {رَخَاءً} في قوله تعالى: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} . والرخاء: الليلة المناسبة لسير الفلك. وذلك باختلاف الأحوال فإذا أراد الإسراع في السير سارت عاصفة وإذا أراد اللين سارت رخاء، والمقام قرينة على أن المراد المواتاة لإرادة سليمان كما دل عليه قوله تعالى: {تَجْرِي بِأَمْرِهِ} في الآيتين المشعر باختلاف مقصد سليمان منها كما إذا كان هو راكبا في البحر فإنه يريدها رخاء لئلا تزعجه وإذا أصدرت مملكته بضاعة أو اجتلبتها سارت عاصفة وهذا بين بالتأمل.
وعبر {بِأَمْرِهِ} عن رغبته وما يلائم أسفار سفائنه وهي رياح موسمية منتظمة سخرها الله له.
وأمر سليمان دعاؤه الله أن يجري الريح كما يريد سليمان: إما دعوة عامة كقوله: {وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} فيشمل كل ما به استقامة أمور الملك

وتصاريفه، وإما دعوة خاصة عند كل سفر لمراكب سليمان فجعل الله الرياح الموسمية في بحار فلسطين مدة ملك سليمان إكراما له وتأييدا إذ كان همه نشر دين الحق في الأرض.
وإنما جعل الله الريح تجري بأمر سليمان ولم يجعلها تجري لسفنه لأن الله سخر الريح لكل السفن التي فيها مصلحة ملك سليمان فإنه كانت تأتيه سفن ترشيش يظن أنها طرطوشة بالأندلس أو قرطجنة بإفريقية وسفن حيرام ملك صور حاملة الذهب والفضة والعاج والقردة والطواويس وهدايا الآنية والحلل والسلاح والطيب والخيل والبغال كما في الإصحاح 10 من سفر الملوك الأول.
وجملة: {وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} معترضة بين الجمل المسوقة لذكر عناية الله بسليمان. والمناسبة أن تسخير الريح لمصالح سليمان أثر من آثار علم الله بمختلف أحوال الأمم والأقاليم وما هو منها لائق بمصلحة سليمان فيجري الأمور على ما تقتضيه الحكمة التي أرادها سبحانه إذ قال: {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ} .
[82] {وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ}
هذا ذكر معجزة وكرامة لسليمان. وهي أن سخر إليه من القوى المجردة من طوائف الجن والشياطين التي تتأتى لها معرفة الأعمال العظيمة من غوص البحار لاستخراج اللؤلؤ والمرجان ومن أعمال أخرى أجملت في قوله تعالى: {وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ} . وفصل بعضها في آيات أخرى كقوله تعالى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} وهذه أعمال متعارفة. وإنما اختص سليمان بعظمتها مثل بناء هيكل بيت المقدس وبسرعة إتمامها.
ومعنى {وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} أن الله بقدرته سخرهم لسليمان ومنعهم عن أن ينفلتوا عنه أو أن يعصوه، وجعلهم يعلمون في خفاء ولا يؤذوا أحدا من الناس؛ فجمع الله بحكمته بين تسخيرهم لسليمان وعلمه كيف يحكمهم ويستخدمهم ويطوعهم، وجعلهم منقادين له وقائمين بخدمته دون عناء له، وحال دونهم ودون الناس لئلا يؤذوهم. ولما توفي سليمان لم يسخر الله الجن لغيره استجابة لدعوته إذ قال {وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} . ولما مكن الله النبي محمدا صلى الله عليه وسلم من الجني الذي كاد أن يفسد عليه صلاته وهم بأن يربطه، ذكر دعوة سليمان فأطلقه فجمع الله له بين التمكين من الجن

وبين تحقيق رغبة سليمان.
وقوله: {لَهُمْ} يتعلق بـ {حَافِظِينَ} ، واللام لام التقوية. والتقدير: حافظينهم، أي مانعينهم عن الناس.
[83-84] {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ}
عطف على {دَاودَ وَسُلَيمَانَ} أي وآتينا أيوب حكما وعلما إذ نادى ربه. وتخصيصه بالذكر مع من ذكر من الأشياء لما اختص به من الصبر حتى كان مثلا فيه. وتقدمت ترجمة أيوب في سورة الأنعام.
وأما القصة التي أشارت إليها هذه الآية فهي المفصلة في السفر الخاص بأيوب من أسفار النبيين الإسرائيلية. وحاصلها أنه كان نبيا وذا ثروة واسعة وعائلة صالحة متواصلة، ثم ابتلي بإصابات لحقت أمواله متتابعة فأتت عليها، وفقد أبناءه السبعة وبناته الثلاث في يوم واحد، فتلقى ذلك بالصبر والتسليم. ثم ابتلي بإصابة قروح في جسده وتلقى ذلك كله بصبر وحكمة وهو يبتهل إلى الله بالتمجيد والدعاء بكشف الضر. وتلقى رثاء أصحابه لحاله بكلام عزيز الحكمة والمعرفة بالله، وأوحى الله إليه بمواعظ. ثم أعاد عليه صحته وأخلفه مالا أكثر من ماله وولدت له زوجه أولادا وبنات بعدد من هلكوا له من قبل.
وقد ذكرت قصته بأبسط من هنا في صورة ص. ولأهل القصص فيها مبالغات لا تليق بمقام النبوة.
و"إذ" ظرف قيد به إيتاء أيوب رباطة القلب وحكمة الصبر لأن ذلك الوقت كان أجلى مظاهر علمه وحكمته كما أشارت إليه القصة. وتقدم نظيره آنفا عند قوله تعالى: {وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ} فصار أيوب مضرب المثل في الصبر.
وقوله: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ} بفتح الهمزة على تقدير باء الجر، أي نادى ربه بأني مسني الضر.
والمس: الإصابة الخفيفة. والتعبير به حكاية لما سلكه أيوب في دعائه من الأدب مع الله إذ جعل ما حل به من الضر كالمس الخفيف.

والضر بضم الضاد ما يتضرر به المرء في جسده من مرض أو هزل، أو في ماله من نقص ونحوه.
وفي قوله تعالى: {وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} التعريض بطلب كشف الضر عنه بدون سؤال فجعل وصف نفسه بما يقتضي الرحمة له، ووصف ربه بالأرحمية تعريضا بسؤاله، كما قال أمية بن أبي الصلت:
إذا أثنى عليك المرء يوما ... كفاه عن تعرضه الثناء.
وكون الله تعالى أرحم الراحمين لأن رحمته أكمل الرحمات لأن كل من رحم غيره فإما أن يرحمه طلبا للثناء في الدنيا أو للثواب في الآخرة أو دفعا للرقة العارضة للنفس من مشاهدة من تحق الرحمة له فلم يخل من قصد نفع لنفسه، وإما رحمته تعالى عباده فهي خلية عن استجلاب فائدة لذاته العلية.
ولكون ثناء أيوب تعريضا بالدعاء فرع عليه قوله تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ} . والسين والتاء للمبالغة في الإجابة، أي استجبنا دعوته العرضية بإثر كلامه وكشفنا ما به من ضر، إشارة إلى سرعة كشف الضر عنه، والتعقيب في كل شيء بحسبه. وهو ما تقتضيه العادة في البرء وحصول الرزق وولادة الأولاد.
والكشف: مستعمل في الإزالة السريعة. شبهت إزالة الأمراض والأضرار المتمكنة التي يعتاد أنها لا تزول إلا بطول بإزالة الغطاء عن الشيء في السرعة.
والموصول في قوله تعالى: {مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ} مقصود منه الإبهام. ثم تفسيره بـ"مِنْ" البيانية لقصد تهويل ذلك الضر لكثرة أنواعه بحيث يطول عدها. ومثله قوله تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} إشارة إلى تكثيرها. ألا ترى إلى مقابلته ضدها بقوله تعالى: {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ}، لإفادة أنهم يهرعون إلى الله في أقل ضر وينسون شكره على عظيم النعم، أي كشفنا ما حل به من ضر في جسده وماله فأعيدت صحته وثروته.
والإيتاء: عطاء، أي أعطيناه أهله، وأهل الرجل أهل بيته وقرابته. وفهم من تعريف الأهل بالإضافة أن الإيتاء إرجاع ما سلب منه من أهل، يعني بموت أولاده وبناته، وهو على تقدير مضاف بين من السياق، أي مثل أهله بأن رزق أولاده بعدد ما فقد، وزاده مثلهم فيكون قد رزق أربعة عشر ابنا وست بنات من زوجه التي كانت بلغت سن العقم.

وانتصب {رَحْمَةٍ} على المفعول لأجله. ووصفت الرحمة بأنها من عند الله تنويها بشأنها بذكر العندية الدالة على القرب المراد به التفضيل. والمراد رحمة بأيوب إذ قال {وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}.
والذكرى: التذكير بما هو مظنة أن ينسى أو يغفل عنه. وهو معطوف على رحمة فهو مفعول لأجله، أي وتنبيها للعابدين بأن الله لا يترك عنايته بهم.
وبما في {العَابِدِينَ} من العموم صارت الجملة تذييلا.
[85-86] {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ}
عطف على {وَأَيُّوبَ} أي وآتينا إسماعيل وإدريس وذا الكفل حكما وعلما.
وجمع هؤلاء الثلاثة في سلك واحد لإشراكهم في خصيصية الصبر كما أشار إليه قوله تعالى: {كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ} . جرى ذلك لمناسبة ذكر المثل الأشهر في الصبر وهو أيوب.
فأما صبر إسماعيل عليه السلام فقد تقرر بصبره على الرضى بالذبح حين قال له إبراهيم {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} فقال {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}، وتقرر بسكناه بواد غير ذي زرع امتثالا لأمر أبيه المتلقى من الله تعالى. وتقدمت ترجمة إسماعيل في سورة البقرة.
وأما إدريس فهو اسم أخنوخ على إرجح الأقوال. وقد ذكر أخنوخ في التوراة في سفر التكوين جدا لنوح. وتقدمت ترجمته في سورة مريم ووصف هنالك بأنه صديق نبي وقد وصفه الله تعالى هنا فليعد في صف الصابرين. والظاهر أن صبره كان على تتبع الحكمة والعلوم وما لقي في رحلاته من المتاعب. وقد عدت من صبره قصص، منها أنه كان يترك الطعام والنوم مدة طويلة لتصفو نفسه للاهتداء إلى الحكمة والعلم.
وأما ذو الكفل فهو نبي اختلف في تعيينه, فقيل هو إلياس المسمى في كتب اليهود إيليا.
وقيل: هو خليفة اليسع في نبوة بني إسرائيل. والظاهر أنه عوبديا الذي له كتاب

من كتب أنبياء اليهود وهو الكتاب الرابع من الكتب الاثنى عشر وتعرف بكتب الأنبياء الصغار.
والكفل بكسر الكاف وسكون الفاء أصله: النصيب من شيء، مشتق من كفل إذ تعهد لقب بهذا لأنه تعهد بأمر بني إسرائيل لليسع. وذلك أن اليسع لما كبر أراد أن يستخلف خليفة على بني إسرائيل فقال: من يتكفل لي بثلاث أستخلفه: أن يصوم النهار، ويقوم الليل، ولا يغضب. فلم يتكفل له بذلك إلا شاب اسمه عوبديا، وأنه ثبت على ما تكفل به فكان لذلك من أفضل الصابرين. وقد وعد عوبديا من أنبياء بني إسرائيل على إجمال في خبره انظر سفر الملوك الأول الإصحاح 18. ورؤيا عوبديا صفحة 891 من الكتاب المقدس. وروى العبري عن أبي موسى الأشعري ومجاهد أن ذا الكفل لم يكن نبيا. وتقدمت ترجمة إلياس واليسع في سورة الأنعام.
وجملة: {إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ} تعليل لإدخالهم في الرحمة، وتذييل للكلام يفيد أن تلك سنة الله مع جميع الصالحين.
[87-88] {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ}
عطف على {وَذَا الْكِفْلِ} .وذكر ذي النون في جملة من خصوا بالذكر من الأنبياء لأجل ما قصته من الآيات في الالتجاء إلى الله والندم على ما صدر منه من الجزع واستجابة الله تعالى له.
و{ذَا النُّونِ} وصف، أي صاحب الحوت. لقب به يونس بن متي عليه السلام وتقدمت ترجمته في سورة الأنعام وتقدمت قصته مع قومه في سورة يونس.
وذهابه مغاضبا قيل خروجه غضبان من قومه أهل نينوى إذ أبوا أن يؤمنوا بما أرسل إليهم به وهم غاضبون من دعوته، فالمغاضبة مفاعلة. وهذا مقتضى المروي عن ابن عباس. وقيل: إنه أوحى إليه أن العذاب نازل بهم بعد مدة فلما أشرفت المدة على الانقضاء آمنوا فخرج غضبان من عدم تحقق ما أنذرهم به، فالمغاضبة حينئذ للمبالغة في الغضب لأنه غضب غريب. وهذا مقتضى المروي عن ابن مسعود والحسن والشعبي وسعيد بن جبير، وروي عن ابن عباس أيضا واختاره ابن جرير. والوجه أن يكون {مُغَاضِباً}

حالا مرادا بها التشبيه، أي خرج كالمغاضب. وسيأتي هذا المعنى في سورة الصافات.
وقوله تعالى: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} يقتضي أنه خرج خروجا غير مأذون له فيه من الله. ظن أنه إذا ابتعد عن المدينة المرسل إليها يرسل الله غيره إليهم. وقد روي عن ابن عباس أن حزقيال ملك إسرائيل كان في زمنه خمسة أنبياء منهم يونس، فاختاره الملك ليذهب إلى أهل نينوى لدعوتهم فأبى وقال: هاهنا أنبياء غيري وخرج مغاضبا الملك. وهذا بعيد من القرآن في آيات أخرى ومن كتب بني إسرائيل.
ومحل العبرة من الآية لا يتوقف على تعيين القصة.
ومعنى {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} قيل نقدر مضارع قدر عليه أمرا بمعنى ضيق كقوله تعالى: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} وقوله تعالى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} أي ظن أن لن نضيق عليه تحتيم الإقامة مع القوم الذين أرسل إليهم أو تحتيم قيامه بتبليغ الرسالة، وأنه إذا خرج من ذلك المكان سقط تعلق تكليف التبليغ عنه اجتهادا منه، فعوتب بما حل به إذ كان عليه أن يستعلم ربه عما يريد فعله. وفي الكشاف: أن ابن عباس دخل على معاوية فقال له معاوية لقد ضربتني أمواج القرآن البارحة فغرقت فلم أجد لنفسي خلاصا إلا بك. فقال: وما هي ? فقرأ معاوية هذه الآية وقال: أو يظن نبي الله أن الله لا يقدر عليه? قال ابن عباس: هذا من القدر لا من القدرة يعني التضييق عليه.
وقيل {نَقْدِرَ} هنا بمعنى نحكم مأخوذ من القدرة، أي ظن أن لن نؤاخذه بخروجه من بين قومه دون إذن. ونقل عن هذا مجاهد وقتادة والضحاك والكلبي وهو رواية عن ابن عباس واختاره الفراء والزجاج. وعلى هذا يكون يونس اجتهد وأخطأ.
وعلى هذا الوجه فالتفريع تفريع خطور هذا الظن في نفسه بعد أن كان الخروج منه بادرة بدافع الغضب من غير تأمل في لوازمه وعواقبه، قالوا: وكان في طبعه ضيق الصدر.
وقيل معنى الكلام على الاستفهام حذفت همزته. والتقدير: أفظن أن لن نقدر عليه? ونسب إلى سليمان بن المعتمر أو أبي المعتمر. قال منذر بن سعيد في تفسيره : وقد قرئ به.
وعندي فيه تأويلان آخران وهما أنه ظن وهو في جوف الحوت أن الله غير مخلصه

في بطن الحوت لأنه رأى ذلك مستحيلا عادة، وعلى هذا يكون التعقيب بحسب الواقعة، أي ظن بعد أن ابتلعه الحوت.
وأما نداؤه ربه فذلك توبة صدرت منه عن تقصيره أو عجلته أو خطأ اجتهاده، ولذلك قال: {إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} مبالغة في اعترافه بظلم نفسه، فأسند إليه فعل الكون الدال على رسوخ الوصف، وجعل الخبر أنه واحد من فريق الظالمين وهو أدل على أرسخية الوصف، أو أنه ظن بحسب الأسباب المعتادة أنه يهاجر من دار قومه، ولم يظن أن الله يعوقه عن ذلك إذ لم يسبق إليه وحي من الله.
و {إِنِّي} مفسرة لفعل {نَادَى} وتقيمه الاعتراف بالتوحيد مع التسبيح كنى به عن انفراد الله تعالى بالتدبير وقدرته على كل شيء.
والظلمات: جمع ظلمة. والمراد ظلمة الليل، وظلمة قعر البحر. وظلمة بطن الحوت. وقيل: الظلمات مبالغة في شدة الظلمة كقوله تعالى: {يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} وقد تقدم أنا نظن أن الظلمة لم ترد مفردة في القرآن.
والاستجابة: مبالغة في الإجابة. وهي إجابة توبته مما فرط منه. والإنجاء وقع حين الاستجابة إذ الصحيح أنه ما بقى في بطن الحوت إلا ساعة قليلة. وعطف بالواو هنا بخلاف عطف {فَكَشَفْنَا} على {فَاسْتَجَبنَا} . وإنجاؤه هو بتقدير وتكوين في مزاج الحوت حتى خرج الحوت إلى قرب الشاطئ فتقيأه فخرج يسبح إلى الشاطئ.
وهذا الحوت هو من صنف الحوت العظيم الذي يبتلع الأشياء الضخمة ولا يقضمها بأسنانه. وشاع بين الناس تسمية صنف من الحوت بحوت يونس رجما بالغيب.
وجملة: {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} تذييل. والإشارة بـ {كَذَلِكَ} إلى الإنجاء الذي أنجى به يونس، أي مثل ذلك الإنجاء ننجي المؤمنين من غموم يحسب من يقع فيها أن نجاته عسيرة. وفي هذا تعريض للمشركين من العرب بأن الله منجي المؤمنين من الغم والنكد الذي يلاقونه من سوء معاملة المشركين إياهم في بلادهم.
وأعلم أن كلمة {فَنُجِّيَ} كتبت في المصاحف بنون واحد كما كتبت بنون واحد

في قوله في سورة يوسف {فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ} ووجه أبو علي هذا الرسم بأن النون الثانية لما كانت ساكنة وكان وقوع الجيم بعدها يقتضي إخفاءها لأن النون الساكنة تخفي مع الأحرف الشجرية وهي الجيم والشين والضاد فلما أخفيت حذفت في النطق فشابه إخفاؤها حالة الإدغام فحذفها كاتب المصحف في الخط لخفاء النطق بها في اللفظ، أي كما حذفوا نون "إن" مع "لا" في نحو {إِلَّا تَفْعَلُوهُ} من حيث إنها تدغم في اللام. وقرأ جمهور القراء بإثبات النونين في النطق فيكون حذف إحدى النونين في الخط مجرد تنبيه على اعتبار من اعتبارات الأداء. وقرأ ابن عامر، وأبو بكر عن عاصم بنون واحدة وبتشديد الجيم على اعتبار إدغام النون في الجيم كما تدغم في اللام والراء. وأنكر ذلك عليها أبو حاتم والزجاج وقالا: هو لحن. ووجه أبو عبيد والفراء وثعلب وقراءتها بأن {نُنَجِّي} سكنت ياؤه ولم تحرك على لغة من يقول بقي ورضي فيسكن الياء كما في قراءة الحسن {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا} بتسكين ياء {بَقِيَ} . وعن أبي عبيد والقتبي أن النون الثانية أدغمت في الجيم.
ووجه ابن جني متابعا للأخفش الصغير بأن أصل هذه القراءة: ننجي بفتح النون الثانية وتشديد الجيم فحذفت النون الثانية لتوالي المثلين فصار نجي. وعن بعض النحاة تأويل هذه القراءة بأن نجي فعل مضي مبني للنائب وأن نائب الفاعل ضمير يعود إلى النجاء المأخوذ من الفعل، أو المأخوذ من اسم الإشارة في قوله: {وَكَذَلِكَ} .
وانتصب {الْمُؤْمِنِينَ} على المفعول به على رأى من يجوز إنابة المصدر مع وجود المفعول به. كما في قراءة أبي جعفر {لِيَجْزِيَ} بفتح الزاي قوما بما كانوا يكسبون بتقدير ليجزى الجزاء قوما. وقال الزمخشري في الكشاف: إن هذا التوجيه بارد التعسف.
[89-90] {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}
{وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ}
كان أمر زكريا الذي أشار إليه قوله: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ} آية من آيات الله في عنايته

بأوليائه المنقطعين لعبادته فخص بالذكر لذلك. والقول في عطف {وَزَكَرِيَّا} كالقول في نظائره السابقة.
وجملة: {لا تَذَرْنِي فَرْداً} مبينة لجملة: {نَادَى رَبَّهُ} . وأطلق الفرد على من لا ولد له تشبيها له بالمنفرد الذي لا قرين له. قال تعالى: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} ، ويقال مثله الواحد للذي لا رفيق له، قال الحارث بن هشام:
وعلمت أني إن أقاتل واحدا ... أقتل ولا يضرر عدوي مشهدي
فشبه من لا ولد بالمفرد لأن الولد يصير أباه كالشفع لأنه كجزء منه. ولا يقال لذي الولد زوج ولا شفع.
وجملة: {وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} ثناء لتمهيد الإجابة، أي أنت الوارث الحق فاقض علي من صفتك العلية شيئا. وقد شاع في الكتاب والسنة ذكر صفة من صفات الله عند سؤاله إعطاء ما هو من جنسها، كما قال أيوب {وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} ، ودل ذكر ذلك على أنه سأل الولد لأجل أن يرثه كما في آية سورة مريم {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} حذفت هاته الجملة لدلالة المحكي هنا عليها. والتقدير: يرثني الإرث الذي لا يداني إرثك عبادك، أي بقاء ما تركوه في الدنيا لتصرف قدرتك، أو يرثني مالي وعلمي وأنت ترث نفسي كلها بالمصير إليك مصيرا أبديا فأرثك خير إرث لأنه أشمل وأبقى وأنت خير الوارثين في تحقق هذا الوصف.
وإصلاح زوجه: جعلها صالحة للحمل بعد أن كانت عاقرا وتقدم ذكر زكريا في سورة آل عمران وذكر زوجه في سورة مريم.
{إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}
جملة واقعة موقع التعليل للجمل المتقدمة في الثناء على الأنبياء المذكورين، وما أوتوه من النصر، واستجابة الدعوات، والإنجاء من كيد الأعداء، وما تبع ذلك، ابتداء من قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً}. فضمائر الجمع عائدة إلى المذكورين. وحرف التأكيد مفيد معنى التعليل والتسبب، أي ما استحقوا ما أوتوه إلا لمبادرتهم إلى مسالك الخير وجدهم في تحصيلها.
وأفاد فعل الكون أن ذلك كان دأبهم وهجيراهم.

والمسارعة: مستعارة للحرص وصرف الهمة والحد للخيرات، أي لفعلها، تشبيها للمداومة والاهتمام بمسارعة السائر إلى المكان المقصود الجاد في مسالكه.
والخيرات: جمع خير بفتح الخاء وسكون الياء وهو جمع بالألف والتاء على خلاف القياس فهو مثل سرادقات وحمامات واصطبلات. والخير ضد الشر، فهو ما فيه نفع. وأما قوله تعالى: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} فيحتمل أنه مثل هذا، ويحتمل أنه جمع خيرة بفتح فسكون الذي هو مخفف خيرة المشدد الياء، وهي المرأة ذات الأخلاق الخيرية. وقد تقدم الكلام على {الْخَيْرَاتُ} في قوله تعالى: {وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ} في سورة براءة، وعطف على ذلك أنهم يدعون الله رغبة في ثوابه ورهبة من غضبه، كقوله تعالى: {يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ}.
والرغب والرهب بفتح ثانيهما مصدران من رغب ورهب. وهما وصف لمصدر يدعوننا لبيان نوع الدعاء بما هو أعم في جنسه، أو يقدر مضاف، أي ذوي رغب ورهب، فأقيم المضاف إليه مقامه فأخذ إعرابه.
وذكر فعل الكون في قوله تعالى: {وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} مثل ذكره في قوله تعالى: {كَانُوا يُسَارِعُونَ}.
والخشوع: خوف القلب بالتفكر دون اضطراب الأعضاء الظاهرة.
[91] {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ}
لما انتهى التنويه بفضل رجال من الأنبياء أعقب بالثناء على امرأة نبيه إشارة إلى أن أسباب الفضل غير محجورة، كما قال الله تعالى {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} الآية. هذه هي مريم ابنة عمران. وعبر عنها بالموصول دلالة على أنها قد اشتهرت بمضمون الصلة كما هو شأن طريق الموصوليه غالبا، وأيضا لما في الصلة من معنى تسفيه اليهود الذين تقولوا عنها إفكا وزورا، وليبنى على تلك الصلة ما تفرع عليها من قوله تعالى: {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا} الذي هو في حكم الصلة أيضا، فكأنه قيل: والتي نفخنا فيها من روحنا، لأن كلا الأمرين موجب ثناء. وقد أراد الله إكرامها بأن تكون مظهر عظيم قدرته في مخالفة السنة البشرية لحصول حمل أنثى دون قربان ذكر، ليرى الناس مثالا من التكوين الأول كما أشار إليه قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ

مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}.
والنفخ، حقيقته: إخراج هواء الفم بتضييق الشفتين. وأطلق هنا تمثيلا لإلقاء روح التكوين للنسل في رحم المرأة دفعة واحدة بدون الوسائل المعتادة تشبيها لهيئة التكوين السريع بهيئة النفخ. وقد قيل: إن الملك نفخ مما هو له كالفم.
والظرفية المفادة بـ{فِي} كون مريم ظرفا لحلول الروح المنفوخ فيها إذ كانت وعاءه، ولذلك قيل {فِيهَا} ولم قيل "فِيهِ" للإشارة إلى أن الحمل الذي كون في رحمها حمل من غير الطريق المعتاد، كأنه قيل: فنفخنا في بطنها. وذلك أعرق في مخالفة العادة لأن خرق العادة تقوى دلالته بمقدار ما يضمحل فيه من الوسائل المعتادة.
والروح: هو القوة التي بها الحياة قال تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} ، أي جعلت آدم روحا فصار حيا. وحرف {مِنْ} تبعيضي، والمنفوخ روح لأنه جعل بعض روح الله، أي بعض جنس الروح الذي به يجعل الله الأجسام ذات حياة.
وإضافة الروح إلى الله إضافة تشريف لأنه روح مبعوث من لدن الله تعالى بدون وساطة التطورات الحيوانية للتكوين النسلي.
وجعلها وابنها آية هو من أسباب تشريفهما والتنويه بهما إذ جعلهما الله وسيلة لليقين بقدرته ومعجزات أنبيائه كما قال في سورة المؤمنين {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} . وبهذا الاعتبار حصل تشريف بعض المخلوقات فأقسم الله بها نحو {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا} .
وإفراد الآية لأنه أريد بها الجنس. وحيث كان المذكور ذاتين فأخبر عنهما بأنهما آية علم أن كل واحد آية خاصة. ومن لطائف هذا الإفراد أن بين مريم وابنها حالة مشتركة هي آية واحدة. ثم في كل منهما آية أخرى مستقلة باختلاف حال الناظر المتأمل.
[92] {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}
{إِنَّ} مكسورة الهمزة عند جميع القراء. فهي ابتداء كلام. واتفقت القراءات المشهورة على رفع {أُمَّتُكُمْ} . والأظهر أن الجملة محكية بقول محذوف يدل عليه السياق. وحذف القول في مثله شائع في القرآن.

والخطاب للأنبياء المذكورين في الآيات السابقة. والوجه حينئذ أن يكون القول المحذوف مصوغا في صيغة اسم الفاعل منصوبا على الحال. والتقدير: قائلين لهم إن هذه أمتكم إلى آخره. والمقول محكي بالمعنى، أي قائلين لكل واحد من رسلنا وأنبيائنا المذكورين ما تضمنته جملة: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ}.
فصيغة الجمع مراد بها التوزيع. وهي طريقة شائعة في الإخبار عن الجماعات. ومنه قولهم: ركب القوم دوابهم، فتكون هذه الآية جارية على أسلوب نظيرها في سورة المؤمنين. وفيه ما يزيد هذه توضيحا فإنه ورد هنالك ذكر عدة من الأنبياء تفصيلا وإجمالا، كما ذكروا في هذه السورة، ثم عقب بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} وَأَنَّ بفتح الهمزة وبكسرها {هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} ، فظاهر العطف يقتضي دخول قوله تعالى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} في الكلام المخاطب به الرسل، والتأكيد على هذا الوجه لمجرد الاهتمام بالخبر ليتلقاه الأنبياء بقوة عزم، أو روعي فيه حال الأمم الذين يبلغهم ذلك لأن الإخبار باتحاد الحال المختلفة غريب قد يثير ترددا في المراد منه فقد يحمل على المجاز فأكد برفع ذلك. وهو وإن كان خطابا للرسل فإن مما يقصد منه تبليغ ذلك لأتباعهم ليعلموا أن دين الله واحد، وذلك عون على قبول كل أمة لما جاء به رسولها لأنه معضود بشهادة من قبله من الرسل.
ويجوز أن تكون الجملة استئنافا والخطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم أي أن هذه الملة، وهي الإسلام، هي ملة واحدة لسائر الرسل. أي أصولها واحدة كقوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً} الآية. والتأكيد على هذا لرد إنكار من ينكر ذلك مثل المشركين.
والإشارة بقوله تعالى: {هَذِهِ} إلى ما يفسره الخبر في قوله تعالى: {أُمَّتُكُمْ} كقوله تعالى: {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} . فالإشارة إلى الحالة التي هم عليها يعني في أمور الدين كما هو شأن حال الأنبياء والرسل. فما أفادته الإشارة من التمييز للمشار إليه مقصود منه جميع ما عليه الرسل من أصول الشرائع وهو التوحيد والعمل الصالح.
والأمة هنا بمعنى الملة كقوله تعالى: {قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} وقال النابغة:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وهل يأثمن ذو أمة وهو طائع

وأصل الأمة: الجماعة التي حالها واحد، فأطلقت على ما تكون عليه الجماعة من الدين بقرينة أن الأمم ليست واحدة.
و {أُمَّةً وَاحِدَةً} حال من {أُمَّتُكُمْ} مؤكدة لما أفادته الإشارة التي هي العامل في صاحب الحال. وأفادت التمييز والتشخيص لحال الشرائع التي عليها الرسل أو التي دعا إليها محمد صلى الله عليه وسلم.
ومعنى كونها واحدة أنها توحد الله تعالى فليس دونه إله. وهذا حال شرائع التوحيد وبخلافها أديان الشرك فإنها لتعدد آلهتها تتشعب إلى عدة أديان لأن لكل صنم عبادة وأتباعا وإن كان يجمعها وصف الشرك فلذلك جنس عام وقد أومأ إلى هذا قوله تعالى: {وَأَنَا رَبُّكُمْ} ، أي لا غيري. وسيأتي بسط القول في عربية هذا التركيب في تفسير سورة المؤمنين.
وأفاد قوله تعالى: {وَأَنَا رَبُّكُمْ} الحصر، أي أنا لا غيري بقرينة السياق والعطف على {أُمَّةً وَاحِدَةً} ، إذ المعنى: وأنا ربكم ربا واحدا، ولذلك فرع عليه الأمر بعبادته، أي فاعبدون دون غيري. وهذا الأمر مراعي فيه ابتداء حال السامعين من أمم الرسل، فالمراد من العبادة التوحيد بالعبادة والمحافظة عليها.
[93] {وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ}
عطف على جملة: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} أي أعرضوا عن قولنا و {تَقَطَّعُوا} وضمائر الغيبة عائدة إلى مفهوم من المقام وهم الذين من الشأن التحدث عنهم في القرآن المكي بمثل هذه المذام، وهم المشركون. ومثل هذه الضمائر المراد منها المشركون كثير في القرآن. ويجوز أن تكون الضمائر عائدة إلى أمم الرسل. فعلى الوجه الأول الذي قدمناه في ضمائر الخطاب في قوله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} يكون الكلام انتقالا من الحكاية عن الرسل إلى الحكاية عن حال أممهم في حياتهم أو الذين جاءوا بعدهم مثل اليهود والنصارى إذ نقضوا وصايا أنبيائهم. وعلى الوجه الثاني تكون ضمائر الغيبة التفاتا.
ثم يجوز أن تكون الواو عاطفة قصة على قصة لمناسبة واضحة كما عطف نظيرها بالفاء في سورة المؤمنين. ويجوز كونها للحال، أي أمرنا الرسل بملة الإسلام، وهي الملة الواحدة، فكان من ضلال المشركين أن تقطعوا أمرهم وخالفوا الرسل وعدلوا عن دين

التوحيد وهو شريعة إبراهيم أصلهم. ويؤيد هذا الوجه أن نظير هذه الآية في سورة المؤمنين جاء فيه العطف بفاء التفريع.
والتقطع: مطاوع قطع، أي تفرقوا. وأسند التقطع إليهم لأنهم جعلوا أنفسهم فرقا فعبدوا آلهة متعددة واتخذت كل قبيلة لنفسها إلها من الأصنام مع الله، فشبه فعلهم ذلك بالتقطع.
وفي "جمهرة الأنساب" لابن حزم: كان الحصين بن عبيد الخزاعي، وهو والد عمران بن حصين لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله: يا حصين ما تعبد? قال: عشرة آلهة، قال: ما هم وأين هم? قال: تسعة في الأرض وواحد في السماء، قال: فمن لحاجتك? قال: الذي في السماء، قال: فمن لطلبتك? قال: الذي في السماء، قال: فمن لكذا? فمن لكذا? كل ذلك يقول: الذي في السماء، قال رسول الله: فألغ التسعة. وفي كتاب الدعوات من سنن الترمذي "أنه قال: سبعة ستة في الأرض وواحد في السماء".
والأمر: الحال. والمراد به الدين كما دل عليه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ} في سورة الأنعام.
ولما ضمن {تَقَطَّعُوا} معنى توزعوا عدي إلى "دينهم" فنصبه. والأصل: تقطعوا في دينهم وتوزعوه.
وزيادة {بَيْنَهُمْ} لإفادة أنهم تعاونوا وتظاهروا على تقطع أمرهم. قرب قبيلة اتخذت صنما لم تكن تعبده قبيلة أخرى ثم سولوا لجيرتهم وأحلافهم أن يعبدوه فألحقوه بآلهتهم. وهكذا حتى كان في الكعبة عدة أصنام وتماثيل لأن الكعبة مقصودة لجميع قبائل العرب. وقد روي أن عمرو بن لحي الملقب بخزاعة هو الذي نقل الأصنام إلى العرب.
وجملة: {كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} مستأنفة استئنافا بيانيا لجواب سؤال يجيش في نفس سامع قوله تعالى: {وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ} وهو معرفة عاقبة هذا التقطع.
وتنوين {كُلٌّ} عوض عن المضاف إليه، أي كلهم، أي أصحاب ضمائر الغيبة وهم المشركون. والكلام يفيد تعريضا بالتهديد.
ودل على ذلك التفريع في قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ} إلى آخره.

[94] {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ}
فرع على الوعيد المعرض به في قوله تعالى: {كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} تفريع بديع من بيان صفة ما توعدوا به، وذلك من قوله تعالى: {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآيات.
وقدم وعد المؤمنين بجزاء أعمالهم الصالحة اهتماما به، ولوقوعه عقب الوعيد تعجيلا لمسرة المؤمنين قبل أن يسمعوا قوارع تفصيل الوعيد، فليس هو مقصودا من التفريع، ولكنه يشبه الاستطراد تنويها بالمؤمنين كما سيعتنى بهم عقب تفصيل وعيد الكافرين بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} إلى آخر السورة.
والكفران مصدر أصله: عدم الاعتراف بالإحسان، ضد الشكران واستعمل هنا في حرمان الجزاء على العمل الصالح على طريقة المجاز لأن الاعتراف بالخير يستلزم الجزاء عليه عرفا كقوله تعالى: {وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ} . فالمعنى: أنهم يعطون جزاء أعمالهم الصالحة.
وأكد ذلك بقوله: {وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} مؤكدا بحرف التأكيد للاهتمام به.
والكتابة كناية عن تحققه وعدم إضاعته لأن الاعتناء بإيقاع الشيء يستلزم الحفظ عن إهماله وعن إنكاره، ومن وسائل ذلك كتابته ليذكر ولو طالت المدة. وهذا لزوم عرفي قال الحارث بن حلزة:
وهل ينقض ما في المهارق الأهواء
وذلك مع كون الكتابة مستعملة في معناها الأصلي كما جاءت بذلك الظاهر من الكتاب والسنة.
[95] {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ}
جملة معترضة، والمراد بالقرية أهلها. وهذا يعم كل قرية من قرى الكفر، كما قال تعالى: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا}.

والحرام: الشيء الممنوع، قال عنتره:
حرمت علي وليتها لم تحرم
أي منعت أي منعها أهلها.
أي ممنوع على قرية قدرنا إهلاكها أن لا يرجعوا، فـ {حَرَامٌ} خبر مقدم و {أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} في قوة مصدر مبتدأ. والخبر عن "أن" وصلتها لا يكون إلا مقدما، كما ذكره ابن الحاجب في أماليه في ذكر هذه الآية.
وفعل {أَهْلَكْنَاهَا} مستعمل في إرادة وقوع الفعل، أي أردنا إهلاكها.
والرجوع: العود إلى ما كان فيه المرء؛ فيحتمل أن المراد رجوعهم عن الكفر فيتعين أن تكون "لا" في قوله تعالى: {لا يَرْجِعُونَ} زائدة للتوكيد، لأن {حَرَامٌ} في معنى النفي و"لا" نافية ونفي النفي إثبات، فيصير المعنى منع عدم رجوعهم إلى الإيمان، فيؤول إلى أنهم راجعون إلى الإيمان، وليس هذا بمراد. فتعين أن المعنى: منع على قرية قدرنا هلاكها أن يرجعوا عن ضلالهم لأنه قد سبق تقدير هلاكها. وهذا إعلام بسنة الله تعالى في تصرفه في الأمم الخالية مقصود منه التعريض بتأييس فريق من المشركين من المصير إلى الإيمان وتهديدهم بالهلاك. وهؤلاء هم الذين قدر الله هلاكهم يوم بدر بسيوف المؤمنين.
ويجوز أن يراد رجوعهم إلى الآخرة بالبعث، وهو المناسب لتفريعه على قوله تعالى: {كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} فتكون "لا" نافية. والمعنى: ممنوع عدم رجوعهم إلى الآخرة الذي يزعمونه، أي دعواهم باطلة، أي فهم راجعون إلينا فمجازون على كفرهم، فيكون إثباتا للبعث بنفي ضده، وهو أبلغ من صريح الإثبات لأنه إثبات بطريق الملازمة فكأنه إثبات الشيء بحجة. ويفيد تأكيدا لقوله تعالى: {كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ}.
وجملة: {أَهْلَكْنَاهَا} إدماج للوعيد بعذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة.
وفعل {أَهْلَكْنَاهَا} مستعمل في أصل معناه، أي وقع إهلاكنا إياها. والمعنى: ما من قرية أهلكناها فانقرضت من الدنيا إلا وهم راجعون إلينا بالبعث. وقيل {حَرَامٌ} اسم مشترك بين الممنوع والواجب. وأنشدوا قول الخنساء:
وإن حراما لا أرى الدهر باكيا ... على شجوة إلا بكيت على صخر.

وفي كتاب "لسان العرب" في حديث عمر: في الحرام كفارة يمين: هو أن يقول الرجل: حرام الله لا أفعل، كما يقول: يمين الله لا أفعل، وهي لغة العقيليين آهـ. ورأيت في مجموعة أدبية عتيقة من كتب جامع الزيتونة عددها 4561: أن بني عقيل يقولون حرام الله لآتينك كما يقال يمين الله لآتينك آهـ. وهو يشرح كلام لسان العرب بأن هذا اليمين لا يختص بالحلف على النفي كما في مثال لسان العرب .
فيتأتى على هذا وجه ثالث في تفسير قوله تعالى: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} أي ويمين منا على قرية، فحرف "على" داخل على المسلطة عليه اليمين، كما تقول: عزمت عليك، وكما يقال: حلفت على فلان أن لا ينطق. كقول الراعي:
أني حلفت على يمين برة ... لا أكتم اليوم الخليفة قيلا
وفتح همزة "أن" في اليمين أحد وجهين فيها في سياق القسم.
ومعنى {لا يَرْجِعُونَ} على هذا الوجه لا يرجعون إلى الإيمان لأن الله علم ذلك منهم فقدر إهلاكهم.
وقرأ الجمهور {وَحَرَامٌ} بفتح الحاء وبألف بعد الراء. وقرأه حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم {وَحَرَمٌ} بكسر الحاء وسكون الراء، وهو اسم بمعنى حرام. والكلمة مكتوبة في المصحف بدون ألف ومروية في روايات القراء بوجهين، وحذف الألف المشبعة من الفتحة كثير في المصاحف.
[96-97] {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ}
"حتى" ابتدائية. والجملة بعدها كلام مستأنف لا محل له من الإعراب ولكن "حتى" تكسبه ارتباطا بالكلام الذي قبله. وظاهر كلام الزمخشري: أن معنى الغاية لا يفارق "متى" حين تكون للابتداء، ولذلك عني هو ومن تبعه من المفسرين بتطلب المغيا بها هاهنا فجعلها في الكشاف غاية لقوله: {وَحَرَامٌ} فقال: "حتى" متعلقة بـ {وَحَرَامٌ} وهي غاية له لأن امتناع رجوعهم لا يزول حتى تقوم القيامة" اهـ. أي فهو من تعليق الحكم على أمر لا يقع كقوله تعالى: {وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} . ويتركب على كلامه الوجهان اللذان تقدما في معنى الرجوع من قوله تعالى: {أَنَّهُمْ لا

يَرْجِعُونَ} ، أي لا يرجعون عن كفرهم حتى ينقضي العالم، أو انتفاء رجوعهم إلينا في اعتقادهم يزول عند انقضاء الدنيا. فيكون المقصود الإخبار عن دوام كفرهم على كلا الوجهين. وعلى هذا التفسير ففتح يأجوج ومأجوج هو فتح السد الذي هو حائل بينهم وبين الانتشار في أنحاء الأرض بالفساد، وهو المذكور في قصة ذي القرنين في سورة الكهف.
وتوقيت وعد الساعة بخروج يأجوج ومأجوج أن خروجهم أول علامات اقتراب القيامة.
وقد عده المفسرون من الأشراط الصغرى لقيام الساعة.
وفسر اقتراب الوعد باقتراب القيامة. وسميت وعدا لأن البعث سماه الله وعدا في قوله تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} .
وعلى هذا أيضا جعلوا ضمير {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} عائد إلى {يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} فالجملة حال من قوله: {يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} .
وبناء على هذا التفسير تكون هذه الآية وصفت انتشار يأجوج ومأجوج وصفا بديعا قبل خروجهم بخمسة قرون فعددنا هذه الآية من معجزات القرآن العلمية والغيبية. ولعل تخصيص هذا الحادث بالتوقيت دون غيره من علامات قرب الساعة قصد منه مع التوقيت إدماج الإنذار للعرب المخاطبين ليكون ذلك نصب أعينهم تحذيرا لذرياتهم من كوارث ظهور هذين الفريقين فقد كان زوال ملك العرب العتيد وتدهور حضارتهم وقوتهم على أيدي يأجوج ومأجوج وهم المغول والتتار كما بين ذلك الإنذار النبوي في ساعة من ساعات الوحي. فقد روت زينب بنت جحش أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فزعا يقول: "لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج هكذا وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها".
والاقتراب على هذا اقتراب نسبي على نسبة ما بقي من أجل الدنيا بما مضى منه كقوله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ}.
ويجوز أن يكون المراد بفتح يأجوج ومأجوج تمثيل إخراج الأموات إلى الحشر، فالفتح معنى الشق كقوله تعالى: {يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} ويكون اسم يأجوج ومأجوج تشبيها بليغا. وتخصيصهما بالذكر لشهرة كثرة

عددهما عند العرب من خبر ذي القرنين. ويدل لهذا حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله لآدم يوم القيامة أخرج بعث النار، فيقول: يارب، وما بعث النار1? فيقول الله: من كل ألف تسعمائة وتسعه وتسعون. قالوا: يا رسول الله: وأينا ذلك الواحد2? قال: أبشروا، فإن منكم رجلا ومن يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعه وتسعين" .
أو يكون اسم يأجوج ومأجوج استعمل مثلا للكثرة كما في قول ذي الرمة:
لو أن يأجوج ومأجوج معا ... وعاد عاد واستجاشوا تبعا
أي حتى إذا أخرجت الأموات كيأجوج ومأجوج على نحو قوله تعالى: {يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ} ، فيكون تشبيها بليغا من تشبيه المعقول بالمعقول. ويؤيده قراءة ابن عباس وابن مسعود ومجاهد، "جدث" بجيم ومثلثة، أي من كل قبر في معنى قوله تعالى: {وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ} فيكون ضميرا {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} عائدين إلى مفهوم من المقام دلت عليه قرينة الرجوع من قوله تعالى: {لَا يَرْجعُونَ} أي أهل كل قرية أهلكناها.
والاقتراب، على هذا الوجه: القرب الشديد وهو المشارفة، أي اقترب الوعد الذي وعده المشركون، وهو العذاب بأن رأوا النار والحساب.
وعلامة التأنيث في فعل {فُتِحَت} لتأويل يأجوج ومأجوج بالأمة. ثم يقدر المضاف وهو سد فيكتسب التأنيث من المضاف إليه.
ويأجوج ومأجوج هم قبيلتان من أمة واحدة مثل طسم وجديس.
وإسناد فعل {فُتِحَت} إلى {يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} بتقدير مضاف، أي فتح ردمهما أو سدهما. وفعل الفتح قرينة على المفعول.
وقرأ الجمهور {فُتِحَتْ} بتخفيف التاء الفوقية التي بعد الفاء. وقرأ ابن عامر وأبو جعفر ويعقوب بتشديدهما.
وتقدم الكلام على يأجوج ومأجوج في سورة الكهف.
ـــــــ
1 البعث مصدر بمعنى المفعول, أي: المبعوثين إلى النار.
2 أي الذي بقي من الألف.

والحدب: النشز من الأرض، وهو ما ارتفع منها.
و {يَنْسِلُونَ} يمشون النسلان بفتحتين وفعله من باب ضرب، وأصله: مشي الذئب. والمراد: المشي السريع. وإيثار التعبير به هنا من نكث القرآن الغيبية، لأن يأجوج ومأجوج لما انتشروا في الأرض انتشروا كالذئاب جياعا مفسدين.
هذا حاصل ما تفرق من كلام المفسرين وما فرضوه من الوجوه، وهي تدور حول محور التزام أن "حتى" الابتدائية تفيد أن ما بعدها غاية لما قبلها مع تقدير مفعول {فتحت} بأنه سد يأجوج ومأجوج. ومع حمل يأجوج ومأجوج على حقيقة مدلول الاسم، وذلك ما زج بهم في مضيق تعاصى عليهم فيه تبيين انتظام الكلام فألجئوا إلى تعيين المغيا وإلى تعيين غاية مناسبة له ولهاته المحامل كما علمت مما سبق.
ولا أرى متابعتهم في الأمور الثلاثة.
فأما دلالة "حتى" الابتدائية على معنى الغاية، أي كون ما بعدها غاية لمضمون ما قبلها، فلا أراه لازما. ولأمر ما فرق العرب بين استعمالها جارة وعاطفة وبين استعمالها ابتدائية، أليس قد صرح النحاة بأن الابتدائية يكون الكلام بعدها جملة مستأنفة تصريحا جرى مجرى الصواب على ألسنتهم فما رعوه حق رعايته فإن معنى الغاية في "حتى" الجارة وهي الأصل في استعمال هذا الحرف ظاهر لأنها بمعنى "إلى". وفي "حتى" العاطفة لأنها تفيد التشريك في الحكم فتعين أن يكون المعطوف بها نهاية للمعطوف عليه في المعنى المراد.
فأما "حتى" الابتدائية فإن وجود معنى الغاية معها في مواقعها غير منضبط ولا مطرد، ولما كان ما بعدها كلاما مستقلا تعين أن يكون وجودها بين الكلامين لمجرد الربط بين الكلامين فقد نقلت من معنى تنهية مدلول ما قبلها بما بعدها إلى الدلالة على تنهية المتكلم غرض كلامه بما يورده بعد "حتى" ولا يقصد تنهية مدلول ما قبل "حتى" بما عند حصول ما بعدها "الذي هو المعنى الأصل للغاية". وانظر إلى استعمال "حتى" في مواقع من معلقة لبيد1.
ـــــــ
1 بيت: حتى إذا سلخا جمادي سنة ....................
وبيت: حتى إذا انحسر الظلام وأسفرت ....................
ومصراع: ................... حتى إذا سنحت وخف عظامها.

وفي قوله تعالى: {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} فإن قول الرسول ليس غاية للزلزلة ولكنه ناشئ عنها. وقد مثلت حالة الكافرين في ذلك الحين بأبلغ تمثيل وأشده وقعا في نفس السامع، إذ جعلت مفرعة على فتح يأجوج ومأجوج واقتراب الوعد الحق للإشارة إلى سرعة حصول تلك الحالة لهم ثم بتصدير الجملة بحرف المفاجأة والمجازاة الذي يفيد الحصول دفعة بلا تدرج ولا مهلة، ثم بالإتيان بضمير القصة ليحصل للسامع علم مجمل يفصله ما يفسر ضمير القصة فقال تعالى: {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} إلى آخره.
والشخوص: إحداد البصر دون تحرك كما يقع للمبهوت.
وجملة: {يَا وَيْلَنَا} مقول قول محذوف كما هو ظاهر، أي يقولون حينئذ: يا ويلنا.
ودلت "في" على تمكن الغفلة منهم حتى كأنها محيطة بهم إحاطة الظرف بالمظروف، أي كانت لنا غفلة عظيمة، وهي غفلة الإعراض عن أدلة الجزاء والبعث.
و {يَا وَيْلَنَا} دعاء على أنفسهم من شدة ما لحقهم.
و {بل} للإضراب الإبطالي، أي ما كنا في غفلة لأننا قد دعينا وأنذرنا وإنما كنا ظالمين أنفسنا بمكابرتنا وإعراضنا.
والمشار إليه بـ"هذا هو مجموع تلك الأحوال من الحشر والحساب والجزاء.
[98-100] {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ }
جملة: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} جواب عن قولهم: {يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} إلى آخره. فهي مقول قول محذوف على طريقة المحاورات. فالتقدير: يقال لهم: إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم.
وهو ارتقاء في ثبورهم فهم قالوا: {يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} فأخبروا بأن آلهتهم وهم أعز عليهم من أنفسهم وأبعد في أنظارهم عن أن يلحقهم سوء صائرون إلى مصيرهم من الخزي والهوان، ولذلك أكد الخبر بحرف التأكيد لأنهم كانوا بحيث ينكرون ذلك.

و "ما" موصولة وأكثر استعمالها فيما يكون فيه صاحب الصلة غير عاقل. وأطلقت هنا على معبوداتهم من الأصنام والجن والشياطين تعليبا، على أن "ما" تستعمل فيما هو أعم من العاقل وغيره استعمالا كثيرا في كلام العرب.
وكانت أصنامهم ومعبوداتهم حاضرة في ذلك المشهد كما دلت عليه الإشارة {لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا}.
والحصب: اسم بمعنى المحصوب به. أي المرمي به. ومنه سميت الحصباء لأنها حجارة يرمى بها، أي يرمون في جهنم، كما قال تعالى: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} . أي الكفار وأصنامهم.
وجملة: {أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} بيان لجملة: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ}. والمقصود منه: تقريب الحصب بهم في جهنم لما يدل عليه قوله: {وَارِدُونَ} من الاتصاف بورود النار في الحال كما هو شأن الخبر باسم الفاعل فإنه حقيقة في الحال مجاز في الاستقبال.
وقد زيد في نكايتهم بإظهار خطئهم في عبادتهم تلك الأصنام بأن أشهدوا إيرادها النار وقيل لهم: {لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا}.
وذيل ذلك بقوله تعالى: {وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} أي هم وأصنامهم.
والزفير: النفس يخرج من أقصى الرئتين لضغط الهواء من التأثر بالغم. وهو هنا من أحوال المشركين دون الأصنام. وقرينة معاد الضمائر واضحة.
وعطف جملة: {وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ} اقتضاه قوله: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ} لأن شأن الزفير أن يسمع فأخبر الله بأنهم من شدة العذاب يفقدون السمع بهذه المناسبة.
فالآية واضحة السياق في المقصود منها غنية عن التلفيق.
وقد روى ابن إسحاق في سيرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس يوما مع الوليد بن المغيرة في المسجد الحرام فجاء النضر بن الحارث فجلس معهم في مجلس من رجال قريش، فتلا رسول الله عليهم {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} ثم قال رسول الله وأقبل عبد الله بن الزبعرى السهمي1 قبل أن يسلم فحدثه الوليد بن المغيرة
ـــــــ
1 بكسر الزاي وفتح الموحدة وسكون العين وفتح الراء مقصورا: السيىء الخلق .

بما جرى في ذلك المجلس فقال عبد الله بن الزبعرى: أما والله لو وجدته لخصمته، فاسألوا محمدا أكل ما يعبد من دون الله في جهنم مع من عبدوهم? فنحن نعبد الملائكة، واليهود تعبد عزيرا، والنصارى تعبد عيسى ابن مريم. فحكي ذلك لرسول الله، فقال رسول الله: إن كل من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده، إنهم إنما يعبدون الشيطان الذي أمرهم بعبادتهم، فأنزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} اهـ.
وقريب من هذا في أسباب النزول للواحدي، وفي الكشاف مع زيادات أن ابن الزبعرى لقي النبي صلى الله عليه وسلم فذكر هذا وزاد فقال: خصمت ورب هذه البنية ألست تزعم أن الملائكة عباد مكرمون، وأن عيسى عبد صالح، وأن عزيرا عبد صالح، وهذه بنو مليح1 يعبدون الملائكة، وهذه النصارى يعبدون المسيح، وهذه اليهود يعبدون عزيرا، فضج أهل مكة أي فرحا وقالوا: إن محمدا قد خصم. ورويت القصة في بعض كتب العربية وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لابن الزبعري: ما أجهلك بلغة قومك إني قلت: {وَمَا تَعْبُدُونَ} ، و "مَا" لما لا يعقل ولم أقل "ومن تعبدون".
وأن الآية حكت ما يجري يوم الحشر وليس سياقها إنذارا للمشركين حتى يكون قوله: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى} تخصيصا لها، أو تكون القصة سببا لنزوله.
[101-103] {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}
جملة: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} مستأنفة استئنافا ابتدائيا دعا إليه مقابلة حكاية حال الكافرين وما يقال لهم يوم القيامة بحكاية ما يلقاه الذين آمنوا يوم القيامة وما يقال لهم. فالذين سبقت لهم الحسنى هم الفريق المقابل لفريق القرية التي سبق في علم الله إهلاكها، ولما كان فريق القرية هم المشركين فالفريق المقابل له هم المؤمنون. ولا علاقة لهذه الجملة بجملة: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} ولا
ـــــــ
1 بضم الميم وفتح اللام: بطن من خزاعة.

هي مخصصة لعموم قوله تعالى: {وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} بل قوله تعالى: {الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} عام يعم كل مؤمن مات على الإيمان والعمل الصالح.
والسبق، حقيقته: تجاوز الغير في السير إلى مكان معين. ومنه سباق الخيل. واستعمل هنا مجازا في ثبوت الأمن في الماضي، يقال كان هذا في العصور السابقة، أي التي مضت أزمانها لما بين السبق وبين التقدم في الملازمة، أي الذين حصلت لهم الحسنى في الدنيا، أي حصل لهم الإيمان والعمل الصالح من الله، أي بتوفيقه وتقديره، كما حصل الإهلاك لأضدادهم بما قدر لهم من الخذلان.
والحسنى: الحالة الحسنة في الدين، قال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} أو الموعدة الحسنى، أي تقرر وعد الله إياهم بالمعاملة الحسنى. وتقدم في سورة يونس.
وذكر الموصول في تعريفهم لأن الموصول للإيماء إلى أن سبب فوزهم هو سبق تقدير الهداية لهم. وذكر اسم الإشارة بعد ذلك لتمييزهم بتلك الحالة الحسنة، وللتنبيه على أنهم أحرياء بما يذكر بعد اسم الإشارة من أجل ما تقدم على اسم الإشارة من الأوصاف، وهو سبق الحسنى من الله.
واختير اسم إشارة البعيد للإيماء إلى رفعة منزلتهم، والرفعة تشبه بالبعد.
وجملة: {لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} بيان لمعنى مبعدون، أي مبعدون عنها بعدا شديدا بحيث لا يلفحهم حرها ولا يروعهم منظرها ولا يسمعون صوتها، والصوت يبلغ إلى السمع من أبعد ما يبلغ منه المرئي.
والحسيس: الصوت الذي يبلغ الحس، أي الصوت الذي يسمع من بعيد، أي لا يقربون من النار ولا تبلغ أسماعهم أصواتها، فهم سالمون من الفزع من أصواتها فلا يقرع أسماعهم ما يؤلمها.
وعقب ذلك بما هو أخص من السلامة وهو النعيم الملائم. وجيء فيه بما يدل على العموم وهو {فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ} وما يدل على الدوام وهو {خَالِدُونَ}.
والشهوة: تشوق النفس إلى ما يلذ لها.
وجملة: {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ} خبر ثان عن الموصول.

والفزع: نفرة النفس وانقباضها مما تتوقع أن يحصل لها من الألم وهو قريب من الجزع، والمراد به هنا فزع الحشر حين لا يعرف أحد ما سيؤول إليه أمره، فيكونون في أمن من ذلك بطمأنة الملائكة إياهم.
وذلك مفاد قوله تعالى: {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} فهؤلاء الذين سبقت لهم الحسنى هم المراد من الاستثناء في قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ}.
والتلقي: التعرض للشيء عند حلوله تعرض كرامة. والصيغة تشعر بتكلف لقائه وهو تكلف تهيؤ واستعداد.
وجملة: {هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} مقول لقول محذوف، أي يقولون لهم: هذا يومكم الذي كنتم توعدون، تذكيرا لهم بما وعدوا في الدنيا من الثواب، لئلا يحسبوا أن الموعود به يقع في يوم آخر. أي هذا يوم تعجيل وعدكم. والإشارة باسم إشارة القريب لتعيين اليوم وتمييزه بأنه اليوم الحاضر.
وإضافة "يوم" إلى ضمير المخاطبين لإفادة اختصاصه بهم وكون فائدتهم حاصلة فيه كقول جرير:
يا أيها الراكب المزجي مطيته ... هذا زمانك إني قد خلا زمني.
أي هذا الزمن المختص بك، أي لتتصرف فيه.
[104] {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ}
جملة مستأنفة قصد منها إعادة ذكر البعث والاستدلال على وقوعه وإمكانه إبطالا لإحالة المشركين وقوعه بعلة أن الأجساد التي يدعى بعثها قد انتابها الفناء العظيم {وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ}.
والمناسبة في هذا الانتقال هو ما جرى من ذكر الحشر والعقاب والثواب من قوله تعالى: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ} وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} الآية.
وقد رتب نظم الجملة على التقديم والتأخير لأغراض بليغة. وأصل الجملة: نعيد

الخلق كما بدأنا أول خلق يوم نطوي السماء كطي السجل للكتاب وعدا علينا. فحول النظم فقدم الظرف بادئ ذي بدء للتشويق إلى متعلقه، ولما في الجملة التي أضيف إليها الظرف من الغرابة والطباق إذ جعل ابتداء خلق جديد وهو البعث مؤقتا بوقت نقض خلق قديم وهو طي السماء.
وقدم {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ} وهو حال من الضمير المنصوب في {نُعِيدُهُ} للتعجيل بإيراد الدليل قبل الدعوى لتتمكن في النفس فضل تمكن. وكل ذلك وجوه للاهتمام بتحقيق وقوع البعث، فليس قوله: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ} متعلقا بما قبله من قوله تعالى: {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ}.
وعقب ذلك بما يفيد تحقيق حصول البعث من كونه وعدا على الله بتضمين الوعد معنى الإيجاب، فعدي بحرف "على" في قوله تعالى: {وَعْداً عَلَيْنَا} أي حقا واجبا.
وجملة: {إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} مؤكدة بحرف التوكيد لتنزيل المخاطبين منزلة من ينكر قدرة الله لأنهم لما نفوا البعث بعلة تعذر إعادة الأجسام بعد فنائها فقد لزمهم إحالتهم ذلك في جانب قدرة الله.
والمراد بقوله: {فَاعِلِينَ} أنه الفاعل لما وعد به، أي القادر. والمعنى: إنا كنا قادرين على ذلك.
وفي ذكر فعل الكون إفادة أن قدرته قد تحققت بما دل عليه دليل قوله: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ}.
والطي: رد بعض أجزاء الجسم اللين المطلوق على بعضه الآخر، وضده النشر.
والسجل: بكسر السين وكسر الجيم هنا، وفيه لغات. يطلق على الورقة التي يكتب فيها، ويطلق على كاتب الصحيفة، ولعله تسمية على تقدير مضاف محذوف، أي صاحب السجل، وقيل سجل: اسم ملك في السماء ترفع إليه صحائف أعمال العباد فيحفظها.
ولا يحسن حمله هنا على معنى الصحيفة لأنه لا يلائم إضافة الطي إليه ولا إرادفه لقوله {للكتاب} أول {لكتب} ، ولا حمله على معنى الملك الموكل بصحائف الأعمال لأنه لم يكن مشهورا فكيف يشبه بفعله. فالوجه: أن يراد بالسجل الكاتب الذي يكتب الصحيفة ثم يطويها عند انتهاء كتابتها، وذلك عمل معروف. فالتشبيه بعمله رشيق.

وقرأ الجمهور {للكتاب} بصيغة الإفراد. وقرأه حفص وحمزة والكسائي وخلف {للكتاب} بضم الكاف وضم التاء بصيغة الجمع. ولما كان تعريف السجل وتعريف الكتاب تعريف جنس استوى في المعرف الإفراد والجمع. فأما قراءتهما بصيغة الإفراد ففيها محسن مراعاة النظير في الصيغة، وأما قراءة الكتب بصيغة الجمع مع كون السجل مفردا ففيها حسن التفنن بالتضاد.
ورسمها في المصحف بدون ألف يحتمل القراءتين لأن الألف قد يحذف في مثله.
واللام في قوله: {للكتاب} لتقوية العامل فهي داخلة على مفعول {طي}.
ومعنى طي السماء تغيير أجرامها من موقع إلى موقع أو اقتراب بعضها من بعض كما تتغير أطراف الورقة المنشورة حين تطوى ليكتب الكاتب في إحدى صفحتيها. وهذا مظهر من مظاهر انقراض النظام الحالي، وهو انقراض له أحوال كثيرة وصف بعضها في سور من القرآن.
وليس في الآية دليل على اضمحلال السماوات بل على اختلال نظامها، وفي سورة الزمر {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} . ومسألة دثور السماوات "أي اضمحلالها" فرضها الحكماء المتقدمون ومال إلى القول باضمحلالها في آخر الأمر انكسمائس الملطي وفيثاغورس و أفلاطون.
وقرأ الجمهور {نطوي} بنون العظمة وكسر الواو ونصب {السماء} . وقرأه أبو جعفر بضم تاء مضارعة المؤنث وفتح الواو مبنيا للنائب وبرفع {السماء}
والبدء: الفعل الذي لم يسبق مماثله بالنسبة إلى فاعل أو إلى زمان أو نحو ذلك. وبدء الخلق كونه لم يكن قبل، أي كما جعلنا خلقا مبدوءا غير مسبوق في نوعه.
وخلق: مصدر بمعنى المفعول.
ومعنى إعادة الخلق إعادة مماثلة في صورته فإن الخلق أي المخلوق اعتبار أنه فرد من جنس إذا اضمحل فقيل فإنما يعاد مثله لأن الأجناس لا تحقق لها في الخارج إلا في ضمن أفرادها كما قال تعالى: {سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى} أي مثل سيرتها في جنسها، أي في أنها عصا من العصي.
وظاهر ما أفاده الكاف من التشبيه في قوله تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} أن

إعادة خلق الأجسام شبهت بابتداء خلقها. ووجه الشبه هو إمكان كليهما والقدرة عليهما وهو الذي سيق له الكلام، على أن التشبيه صالح للماثلة في غير ذلك. روى مسلم عن ابن عباس قال: "قام فينا رسول الله بموعظة فقال: يا أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا {كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين} الحديث. فهذا تفسير لبعض ما أفاده التشبيه وهو من طريق الوحي واللفظ لا يأباه فيجب أن يعتبر معنى للكاف مع المعنى الذي دلت عليه بظاهر السياق. وهذا من تفاريع المقدمة التاسعة من مقدمات تفسيرنا هذا.
وانتصب {وعدا} على أنه مفعول مطلق لـ {نعيده} لأن الإخبار بالإعادة في معنى الوعد بذلك فانتصب على بيان النوع للإعادة. ويجوز كونه مفعولا مطلقا مؤكدا لمضمون جملة: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} .
[105-106] {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عَابِدِينَ}
إن كان المراد بالأرض أرض الجنة كما في قوله تعالى: في سورة الزمر {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً} إلى قوله تعالى: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} فمناسبة ذكر هذه الآية عقب التي تقدمتها ظاهرة. ولها ارتباط بقوله تعالى: {أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا}.
وإن كان المراد أرضا من الدنيا، أي مصيرها بيد عباد الله الصالحين كانت هذه الآية مسوقة لوعد المؤمنين بميراث الأرض التي لقوا فيها الأذى، وهي أرض مكة وما حولها، فتكون بشارة بصلاح حالهم في الدنيا بعد بشارتهم بحسن مآلهم في الآخرة على حد قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
على أن في إطلاق اسم الأرض ما يصلح لإرادة أن سلطان العالم سيكون بيد المسلمين ما استقاموا على الإيمان والصلاح. وقد صدق الله وعده في الحالين وعلى الاحتمالين. وفي حديث أبي داود والترمذي عن ثوبان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وأن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها" .

وقرأ الجمهور {فِي الزَّبُورِ} بصيغة الإفراد وهو اسم المزبور، أي المكتوب، فعول معنى مفعول، مثل: ناقة حلوب وركوب. وقرأ حمزة بصيغة الجمع زبور بوزن فعول جمع زبر بكسر فسكون أي مزبور، فوزنه مثل قشر وقشور، أي في الكتب.
فعلى قراءة الجمهور فهو غالب في الإطلاق على كتاب داوود قال تعالى: {وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً} في سورة النساء وفي سورة الإسراء، فيكون تخصيص هذا الوعد بكتاب داود لأنه لم يذكر وعد عام للصالحين بهذا الإرث في الكتب السماوية قبله. وما ورد في التوراة فيما حكاه القرآن من قول موسى عليه السلام {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} فذلك خاص بأرض المقدس وببني إسرائيل.
والزبور: كتاب داود وهو مبثوث في الكتاب المسمى بالمزامير من كتب اليهود. ولم أذكر الآن الجملة التي تضمنت هذا الوعد في المزامير. ووجدت في محاضرة للإيطالي المستعرب فويدو أن نص هذا الوعد من الزبور باللغة العبرية هكذا صديقين يرشون أرض بشين معجمة في يرشون وبصاد مهملة في أرض، أي الصديقون يرثون الأرض. والمقصود: الشهادة على هذا الوعد من الكتب السالفة وذلك قبل أن يجيء مثل هذا الوعد في القرآن في سورة النور في قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}.
وعلى قراءة حمزة أن هذا الوعد تكرر لفرق من العباد الصالحين.
ومعنى {مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} أن ذلك الوعد ورد في الزبور عقب تذكير ووعظ للأمة. فيعد أن ألقيت إليهم الأوامر وعدوا بميراث الأرض. وقيل المراد بـ {الذِّكْرِ} كتاب الشريعة وهو التوراة.
قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ} فيكون الظرف في قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} مستقرا في موضع الحال من الزبور. والمقصود من هذه الحال الإيماء إلى أن الوعد المتحدث عنه هنا هو غير ما وعد الله بني إسرائيل على لسان موسى من إعطائهم الأرض المقدسة. وهو الوعد الذي ذكر في قوله تعالى حكاية عن موسى: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} ، وأنه غير الإرث الذي أورثه الله بني إسرائيل من الملك والسلطان لأن ذلك وعد كان قبل داود، فإن ملك داود أحد مظاهره. بل المراد الإيماء إلى أنه وعد وعده الله قوما صالحين بعد بني إسرائيل وليسوا إلا المسلمين الذين صدقهم الله وعده فملكوا الأرض

ببركة رسولهم صلى الله عليه وسلم وأصحابه واتسع ملكهم وعظم سلطانهم حسب ما أنبأ به نبيهم عليه الصلاة والسلام في الحديث المتقدم آنفا.
وجملة: {إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} تذييل للوعد وإعلان بأن قد آن أوانه وجاء إبانه. فإنه لم يأت بعد داود قوم مؤمنون ورثوا الأرض، فما جاء الإسلام وآمن الناس بمحمد صلى الله عليه وسلم فقد بلغ البلاغ إليهم.
فالإشارة بقوله تعالى: {إِنَّ فِي هَذَا} إلى الوعد الموعود في الزبور والمبلغ في القرآن.
والمراد بالقوم العابدين من شأنهم العبادة لا ينحرفون عنها قيد أنملة كما أشعر بذلك جريان وصف العابدين على لفظ "قوم" المشعر بأن العبادة هي قوام قوميتهم كما قدمناه عند قوله تعالى: {وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} في آخر سورة يونس. فكأنه يقول: فقد أبلغتكم الوعد فاجتهدوا في نواله. والقوم العابدون هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم، والموجودون يومئذ والذين جاءوا من بعدهم.
والعبادة: الوقوف عند حدود الشريعة. قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} . وقد ورثوا هذا الميراث العظيم وتركوه للأمة بعدهم، فهم فيه أطوار كشأن مختلف أحوال الرشد والسفه في التصرف في مواريث الأسلاف.
وما أشبه هذا الوعد المذكور هنا ونوطه بالعبادة بالوعد الذي وعدته هذه الأمة في القرآن {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}.
[107] {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}
أقيمت هذه السورة على عماد إثبات الرسالة لمحمد صلى الله عليه وسلم وتصديق دعوته. فافتتحت بإنذار المعاندين باقتراب حسابهم ووشك حلول وعد الله فيهم وإثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وأنه لم يكن بدعا من الرسل، وذكروا إجمالا، ثم ذكرت طائفة منهم على التفصيل. وتخلل ذلك بمواعظ ودلائل.

وعطفت هذه الجملة على جميع ما تقدم من ذكر الأنبياء الذين أوتوا حكما وعلما وذكر ما أوتوه من الكرامات، فجاءت هذه الآية مشتملة على وصف جامع لبعثة محمد صلى الله عليه وسلم. ومزيتها على سائر الشرائع مزية تناسب عمومها ودوامها، وذلك كونها رحمة للعالمين، فهذه الجملة عطف على جملة: {وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} ختاما لمناقب الأنبياء، وما بينهما اعتراض واستطراد. ولهذه الجملة اتصال بآية {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ}.
ووزانها في وصف شريعة محمد صلى الله عليه وسلم وزان آية {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ} وآية {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ} والآيات التي بعدها في وصف ما أوتيه الرسل السابقون.
وصيغت بأبلغ نظم إذ اشتملت هاته الآية بوجازة ألفاظها على مدح الرسول صلى الله عليه وسلم ومدح مرسله تعالى، ومدح رسالته بأن كانت مظهر رحمة الله تعالى للناس كافة وبأنها رحمة الله تعالى بخلقه.
فهي تشتمل على أربعة وعشرين حرفا بدون حرف العطف الذي عطفت به. وذكر فيها الرسول، ومرسله، والمرسل إليهم، والرسالة، وأوصاف هؤلاء الأربعة، مع إفادة عموم الأحوال، واستغراق المرسل إليهم، وخصوصية الحصر، وتنكير {رحمة} للتعظيم؛ إذ لا مقتضي لإيثار التنكير في هذا المقام غير إرادة التعظيم وإلا لقيل: إلا لنرحم العالمين، أو إلا أنك الرحمة للعالمين. وليس التنكير للإفراد قطعا لظهور أن المراد جنس الرحمة وتنكير الجنس هو الذي يعرض له قصد إرادة التعظيم. فهذه اثنا عشر معنى خصوصيا، فقد فاقت أجمع كلمة لبلغاء العرب، وهي:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
إذ تلك الكلمة قصاراها كما قالوا: أنه وقف واستوقف وبكى واستبكى وذكر الحبيب والمنزل دون خصوصية أزيد من ذلك فجمع ستة معان لا غير خصوصية إنما هي وفرة معان. وليس تنكير حبيب ومنزل إلا للوحدة لأنه أراد فردا معينا من جنس الأحباب وفردا معينا من جنس المنازل، وهما حبييه صاحب ذلك المنزل، ومنزله.

واعلم أن انتصاب {رَحْمَةً} على أنه حال من ضمير المخاطب يجعله وصفا من أوصافه فإذا انضم إلى ذلك انحصار الموصوف في هذه الصفة صار من قصر الموصوف على الصفة. ففيه إيماء لصيف إلى أن الرسول اتحد بالرحمة وانحصر فيها، ومن المعلوم أن عنوان الرسولية ملازم له في سائر أحواله، فصار وجوده رحمة وسائر أكوانه رحمة. ووقوع الوصف مصدرا يفيد المبالغة في هذا الاتحاد بحيث تكون الرحمة صفة متمكنة من إرساله، ويدل لهذا المعنى ما أشار إلى شرحه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله "إنما أنا رحمة مهداة" 1.
وتفصيل ذلك يظهر في مظهرين: الأول تخلق نفسه الزكية بخلق الرحمة، والثاني إحاطة الرحمة بتصاريف شريعته.
فأما المظهر الأول فقد قال فيه أبو بكر محمد بن طاهر القيسي الإشبيلي أحد تلامذة أبي علي الغساني وممن أجاز لهم أبو الوليد الباجي من رجال القرن الخامس: زين الله محمدا صلى الله عليه وسلم بزينة الرحمة فكان كونه رحمة وجميع شمائله رحمة وصفاته رحمة على الخلق آه. ذكره عنه عياض في الشفاء . قلت: يعني أن محمدا صلى الله عليه وسلم فطر على خلق الرحمة في جميع أحوال معاملته الأمة لتتكون مناسبة بين روحه الزكية وبين ما يلقى إليه من الوحي بشريعته التي هي رحمة حتى يكون تلقيه الشريعة عن انشراح نفس أن يجد ما يوحى به إليه ملائما رغبته وخلقه. قالت عائشة كان خلقه القرآن. ولهذا خص الله محمدا صلى الله عليه وسلم في هذه السورة بوصف الرحمة ولم يصف به غيره من الأنبياء، وكذلك في القرآن كله، قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} وقال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} أي برحمة جبلك عليها وفطرك بها فكنت لهم لينا. وفي حديث مسلم "أن رسول الله لما شج وجهه يوم أحد شق ذلك على أصحابه فقالوا: لو دعوت عليهم فقال: إني لم أبعث لعانا وإنما بعثت رحمة".
وأما المظهر الثاني من مظاهر كونه رحمة للعالمين فهو مظهر تصاريف شريعته. أي ما فيها من مقومات الرحمة العامة للخلق كلهم لأن قوله تعالى: {للعالمين} متعلق بقوله: {رَحْمَةً} .
والتعريف في {العَالمَينَ} لاستغراق كل ما يصدق عليه اسم العالم. والعالم:
ـــــــ
1 رواه محمد بن طاهر المقدسي في كتاب "ذخيرة الحفاظ" عن أبي هريرة يصفه بالضعف.

الصنف من أصناف ذوي العلم، أي الإنسان، أو النوع من أنواع المخلوقات ذات الحياة كما تقدم من احتمال المعنيين في قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . فإن أريد أصناف ذوي العلم فمعنى كون الشريعة المحمدية منحصرة في الرحمة أنها أوسع الشرائع رحمة بالناس فإن الشرائع السالفة وإن كانت مملوءة برحمة إلا أن الرحمة فيها غير عامة إما لأنها لا تتعلق بجميع أحوال المكلفين، فالحنيفية شريعة إبراهيم عليه السلام كانت رحمة خاصة بحالة الشخص في نفسه وليس فيها تشريع عام، وشريعة عيسى عليه السلام قريبة منها في ذلك، وإما لأنها قد تشتمل في غير القليل من أحكامها على شدة اقتضتها حكمة الله في سياسة الأمم المشروعة هي لها مثل شريعة التوراة فإنها أوسع الشرائع السالفة لتعلقها بأكثر أحوال الأفراد والجماعات، وهي رحمة كما وصفها الله بذلك في قوله تعالى: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} فإن كثيرا من عقوبات أمتها جعلت في فرض أعمال شاقة على الأمة بفروض شاقة مستمرة قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} وقال {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} إلى آيات كثيرة.
لا جرم أن الله تعالى خص الشريعة الإسلامية بوصف الرحمة الكاملة. وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى: فيما حكاه خطابا منه لموسى عليه السلام {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} الآية. ففي قوله تعالى: {وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} إشارة إلى أن المراد رحمة هي عامة فامتازت شريعة الإسلام بأن الرحمة ملازمة للناس بها في سائر أحوالهم وأنها حاصلة بها لجميع الناس لا لأمة خاصة.
وحكمة تمييز شريعة الإسلام بهذه المزية أن أحوال النفوس البشرية مضت عليها عصور وأطوار تهيأت بتطوراتها لأن تساس بالرحمة وأن تدفع عنها المشقة إلا بمقادير ضرورية لا تقام المصالح بدونها، فما في الشرائع السالفة من اختلاط الرحمة بالشدة وما في شريعة الإسلام من تمحض الرحمة لم يجر في زمن من الأزمان إلا على مقتضى الحكمة، ولكن الله أسعد هذه الشريعة والذي جاء بها والأمة المتبعة لها بمصادفتها للزمن والطور الذي اقتضت حكمة الله في سياسة البشر أن يكون التشريع لهم تشريع رحمة إلى انقضاء العالم.

فأقيمت شريعة الإسلام على دعائم الرحمة والرفق واليسر. قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} وقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} وقال النبي صلى الله عليه وسلم "بعثت بالحنيفية السمحة".
وما يتخيل من شدة في نحو القصاص والحدود فإنما هو لمراعاة تعارض الرحمة والمشقة كما أشار إليه قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} . فالقصاص والحدود شدة على الجناة ورحمة ببقية الناس.
وأما رحمة الإسلام بالأمم غير المسلمين فإنما نعني به رحمته بالأمم الداخلة تحت سلطانه وهم أهل الذمة. ورحمته بهم عدم إكراههم على مفارقة أديانهم. وإجراء العدل بينهم في الأحكام بحيث لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم في الحقوق العامة.
هذا وإن أريد بـ {الْعَالَمِينَ} في قوله تعالى: {إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} النوع من أنواع المخلوقات ذات الحياة فإن الشريعة تتعلق بأحوال الحيوان في معاملة الإنسان إياه وانتفاعه به. إذ هو مخلوق لأجل الإنسان قال تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا} وقال تعالى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} .
وقد أذنت الشريعة الإسلامية للناس في الانتفاع بما ينتفع به من الحيوان ولم تأذن في غير ذلك. ولذلك كره صيد اللهو وحرم تعذيب الحيوان لغير أكله، وعد فقهاؤنا سباق الخيل رخصة للحاجة في الغزو ونحوه.
ورغبت الشريعة في رحمة الحيوان ففي حديث الموطأ عن أبي هريرة مرفوعا: "أن الله غفر لرجل وجد كلبا يلهث من العطش، فنزل في بئر فملأ خفه ماء وأمسكه بفمه حتى رقي فسقى الكلب، فغفر الله له.
أما المؤذي والمضر من الحيوان فقد أذن في قتله وطرده لترجيح رحمة الناس على رحمة البهائم. وفي تفاصيل الأحكام من هذا القبيل كثرة لا يعوز الفقيه تتبعها.
[108] {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}

عقب الوصف الجامع لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم من حيث ما لها من الأثر في أحوال البشر بوصف جامع لأصل الدعوة الإسلامية في ذاتها الواجب على كل متبع لها وهو الإيمان بوحدانية الله تعالى وإبطال إلهية ما سواه، لنبذ الشرك المبثوث بين الأمم يومئذ. وللاهتمام بذلك صدرت جملته بالأمر بأن يقول لهم لاستصغاء أسماعهم.
وصيغت الجملة في صيغة حصر الوحي إليه في مضمونها لأن مضمونها هو أصل الشريعة الأعظم، وكل ما تشتمل عليه الشريعة متفرع عليه، فالدعوة إليه هي مقادة الاجتلاب إلى الشريعة كلها، إذ كان أصل الخلاف يومئذ بين الرسول ومعانديه هو قضية الوحدانية ولذلك قالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}.
وما كان إنكارهم البعث إلا لأنهم لم يجدوه في دين شركهم إذ كان الذين وضعوا لهم الشرك لا يحدثونهم إلا عن حالهم في الدنيا فما كان تصلبهم في إنكار البعث إلا شعبة من شعب الشرك. فلا جرم كان الاهتمام بتقرير الوحدانية تضييقا لشقة الخلاف بين النبي وبين المشركين المعرضين الذين افتتحت السورة بوصف حالهم بقوله تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} .
وأفادت "إنما" المكسورة الهمزة وإتلاؤها بغفل {يوحى} قصر الوحي إلى الرسول على مضمون جملة: {أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} . وهو قصر صفة على موصوف. و"أنما" المفتوحة الهمزة هي أخت "إنما" المكسورة الهمزة في إفادة القصر لأن "أنما" المفتوحة مركبة من "أن" المفتوحة الهمزة و"ما" الكافة. كما ركبت "إنما" المكسورة من "إن" المكسورة الهمزة و"ما" الكافة. وإذ كانت "أن" المفتوحة أخت "إن" المكسورة في إفادة التأكيد فكذلك كانت عند اتصالها بـ"ما" الكافة أختا لها في إفادة القصر. وتقدم الكلام على ذلك عند قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} في سورة العقود.
وإذ قد أتليت "أنما" المفتوحه بالاسم الجامع لحقيقة الإله، وأخبر عنه بأنه إله واحد فقد أفادت أن صاحب هذه الحقيقة مستأثر بالوحدانية فلا يكون في هذه الحقيقة تعدد أفراد فأفادت قصرا ثانيا، وهو قصر موصوف على صفة.
والقصر الأول إضافي، أي ما يوحي إلى في شأن الإله إلا أن الإله إله واحد. والقصر الثاني أيضا إضافي. أي في شأن الإله من حيث الوحدانية. ولما كان القصر

الإضافي من شأنه رد اعتقاد المخاطب بجملة القصر لزم اعتبار رد اعتقاد المشركين بالقصرين.
فالقصر الأول لإبطال ما يلبسون به على الناس من أن محمدا صلى الله عليه وسلم يدعو إلى التوحيد ثم يذكر الله والرحمان. ويلبسون تارة بأنه ساحر لأنه يدعو إلى ما لا يعقل. قال تعالى: {وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} فيكون معنى الآية في معنى قوله تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ} وقوله تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ}.
ثم إن كلا القصرين كان كلمة جامعة لدعوة الإسلام تقريبا لشقة الخلاف والتشعيب. وعلى جميع هذه الاعتبارات تفرع عليها جملة: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}.
والاستفهام حقيقي، أي فهل تسلمون بعد هذا البيان. وهو مستعمل أيضا في معنى كنائي وهو التحريض على نبذ الإشراك وعلى الدخول في دعوة الإسلام.
واسم الفاعل مستعمل في الحال على أصله، أي فهل أنتم مسلمون الآن استبطاء لتأخر إسلامهم. وصيغ ذلك في الجملة الاسمية الدالة على الثبات دون أن يقال: فهل تسلمون، لإفادة أن المطلوب منهم إسلام ثابت. وكأن فيه تعريضا بهم بأنهم في ريب يترددون.
[109] {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ}
أي فإن أعرضوا بعد هذا التبيين المفصل والجامع فأبلغهم الإنذار بحلول ما توعدهم الله به.
والإيذان: الإعلام، وهو بوزن أفعل من أذن لكذا بمعنى سمع. واشتقاقه من اسم الأذن، وهي جارحة السمع، ثم استعمل بمعنى العلم بالسمع ثم شاع استعماله في العلم مطلقا.
وأما "آذن" فهو فعل متعد بالهمزة وكثر استعمال الصيغتين في معنى الإنذار وهو الإعلام المشوب بتحذير. فمن استعمال أذن قوله تعالى: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}.

ومن استعمال "آذن" قول الحارث بن حلزة:
آذنتنا ببينها أسماء
وحذف مفعول {آذَنْتُكُمْ} الثاني لدلالة قوله تعالى: {مَا تُوعَدُونَ} عليه، أو يقدر: آذنتكم ما يوحى إلي لدلالة ما تقدم عليه. والأظهر تقدير ما يشمل المعنيين كقوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ} .
وقوله تعالى: {عَلَى سَوَاءٌ} "على" فيه للاستعلاء المجازي، وهو قوة الملابسة وتمكن الوصف من موصوفه.
و"سواء" اسم معناه مستو. والاستواء: المماثلة في شيء ويجمع على أسواء. وأصله مصدر ثم عومل معاملة الأسماء فجمعوه لذلك، وحقه أن لا يجمع فيجوز أن يكون {عَلَى سَوَاءٌ} ظرفا مستقرا هو حال من ضمير الخطاب في قوله تعالى: {آذَنْتُكُمْ} أي أنذرتكم مستوين في إعلامكم به لا يدعي أحد منكم أنه لم يبلغه الإنذار. وهذا إعذار لهم وتسجيل عليهم كقوله في خطبته "ألا هل بلغت".
ويجوز أن يتعلق المجرور بفعل {آذَنْتُكُمْ} قال أبو مسلم: الإيذان على السواء: الدعاء إلى الحرب مجاهرة لقوله تعالى: {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} آه. يريد أن هذا مثل بحال النذير بالحرب إذ لم يكن في القرآن النازل بمكة دعاء إلى حرب حقيقية. وعلى هذا المعنى يجوز أن يكون {عَلَى سَوَاءٍ} حالا من ضمير المتكلم.
وحذف متعلق {آذَنْتُكُمْ} لدلالة قوله تعالى: {وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ} عليه، ولأن السياق يؤذن به لقوله قبله {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} الآية. وتقدم عند قوله تعالى: {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} في سورة الأنفال.
وقوله: {وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ} يشمل كل ما يوعدونه من عقاب في الدنيا والآخرة إن عاشوا أو ماتوا.
و"إن" نافية وعلق فعل {أَدْرِي} عن العمل بسبب حرف الاستفهام وحذف العائد. وتقديره: ما توعدون به.
[110] {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ}
جملة معترضة بين الجمل المتعاطفة. وضمير الغائب عائد إلى الله تعالى بقرينة

المقام. والمقصود من الجملة تعليل الإنذار بتحقيق حلول الوعيد بهم وتعليل عدم العلم بقربه أو بعده؛ علل ذلك بأن الله تعالى يعلم جهرهم وسرهم وهو الذي يؤاخذهم عليه وهو الذي يعلم متى يحل بهم عذابه.
وعائد الموصول في قوله تعالى: {ما تكتمون} ضمير محذوف.
[111] {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}
عطف على جملة: {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} والضمير الذي هو اسم "لعل" عائد إلى ما يدل عليه قوله تعالى: {أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ} من أنه أمر منتظر الوقوع وأنه تأخر عن وجود موجبه، والتقدير: لعل تأخيره فتنة لكم، أو لعل تأخير ما توعدون فتنة لكم، أي ما أدري حكمة هذا التأخير فلعله فتنة لكم أرادها الله ليملي لكم إذ بتأخير الوعد يزدادون في التكذيب والتولي وذلك فتنة.
والفتنة: اختلال الأحوال المفضي إلى ما فيه مضرة.
والمتاع: ما ينفع به مدة قليلة. كما تقدم في قوله تعالى: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ} . في سورة آل عمران.
والحين: الزمان.
[112] {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}
استئناف ابتدائي بعدما مضى من وصف رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وإجمال أصلها وأمره بإنذارهم وتسجيل التبليغ. قصد من هذا الاستئناف التلويح إلى عاقبة أمر هذا الدين المرجوة المستقبلة لتكون قصة هذا الدين وصاحبه مستوفاة المبدأ والعاقبة على وزان ما ذكر قبلها من قصص الرسل السابقين من قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً} إلى هنا.
وفي أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالالتجاء إليه والاستعانة به بعد ما قال له {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ} رمز إلى أنهم متولون لا محالة وأن الله سيحكم فيهم بجزاء جرمهم لأن الحكم بالحق لا يغادرهم، وإن الله في إعانته لأن الله إذ لقن عباده دعاء فقد ضمن لهم إجابته كقوله تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} ونحو ذلك، وقد صدق الله وعده واستجاب لعبده فحكم في هؤلاء

المعاندين بالحق يوم بدر.
والمعنى: قل ذلك بمسمع منهم إظهارا لتحديه إياهم بأنه فوض أمره إلى ربه ليحكم فيهم بالحق الذي هو خضد شوكتهم وإبطال دينهم، لأن الله يقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق.
والباء في قوله تعالى: {بِالحَقِّ} للملابسة. وحذف المتعلق الثاني لفعل {احْكُمْ} لتنبيههم إلى أن النبي على الحق فإنه ما سأل الحكم بالحق إلا لأنه يريده، أي احكم لنا أو فيهم أو بيننا.
وقرأ الجمهور {قل} بصيغة الأمر. وقرأ حفص {قل} بصيغة الماضي مثل قوله تعالى: {قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ} في أول هذه السورة. ولم يكتب في المصحف الكوفي بإثبات الألف. على أنه حكاية عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
و {رب} منادى مضاف حذفت منه ياء المتكلم المضاف هو إليها وبقيت الكسرة دليلا على الياء.
وقرأ الجمهور بكسر الباء من {رب} . وقرأه أبو جعفر بضم الباء وهو وجه عربي في المنادى المضاف إلى ياء المتكلم كأنهم جعلوه بمنزلة الترخيم وهو جائز إذا أمن اللبس.
وتعريف المسند إليه بالإضافة في قوله تعالى: {وَرَبُّنَا} لتضمنها تعظيما لشأن المسلمين بالاعتزاز بأن الله ربهم.
وضمير المتكلم المشارك للنبي ومن معه من المسلمين. وفيه تعريض بالمشركين بأنهم ليسوا من مربوبية الله في شيء حسب إعراضهم عن عبادته إلى عبادة الأصنام كقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} .
والرحمان عطف بيان من {ربنا} لأن المراد به هنا الاسم لا الوصف توركا على المشركين، لأنهم أنكروا اسم الرحمان {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً} .
وتعريف {المُسْتَعَانُ} لإفادة القصر، أي لا أستعين بغيره على ما تصفون، إذ لا ينصرنا غير ربنا وهو ناظر إلى قوله تعالى: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.

وفي قوله تعالى: {عَلَى مَا تَصِفُونَ} مضاف محذوف هو مجرور {عَلَى} ، أي على إبطال ما تصفون بإظهار بطلانكم للناس حتى يؤمنوا ولا يتبعوكم. أو على إبطال ما يترتب عليه من أذاهم له وللمؤمنين وتأليب العرب عليه.
ومعنى {مَا تَصِفُونَ} ما تصدر به أقوالكم من الأذى لنا. فالوصف هنا هو الأقوال الدالة عن الأوصاف، وقد تقدم في سورة يوسف. وهم وصفوا النبي صلى الله عليه وسلم بصفات ذم كقولهم: مجنون وساحر، ووصفوا القرآن بأنه شعر وأساطير الأولين، وشهروا ذلك في دهمائهم لتأليب الناس عليه.

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الحجسميت هذه السورة الحج في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. أخرج أبو داود، والترمذي عن عقبة بن عامر قال: "قلت: يا رسول الله أفضلت سورة الحج على سائر القرآن بسجدتين? قال: نعم " وأخرج أبو داود، وابن ماجه عن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن منها ثلاث في المفصل، وفي سورة الحج سجدتان. وليس لهذه السورة اسم غير هذا.
ووجه تسميتها سورة الحج أن الله ذكر فيها كيف أمر إبراهيم عليه السلام بالدعوة إلى حج البيت الحرام، وذكر ما شرع للناس يومئذ من النسك تنويها بالحج وما فيه من فضائل ومنافع، وتقريعا للذين يصدون المؤمنين عن المسجد الحرام وإن كان نزولها قبل أن يفرض الحج على المسلمين بالاتفاق، وإنما فرض الحج بالآيات التي في سورة البقرة وفي سورة آل عمران.
واختلف في هذه السورة هل هي مكية أو مدنية. أو كثير منها مكي وكثير منها مدني.
فعن ابن عباس ومجاهد وعطاء: هي مكية إلا ثلاث آيات من قوله: {هَذَانِ خَصْمَانِ} إلى {وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} . قال ابن عطية: وعد النقاش ما نزل منها بالمدينة عشر آيات.
وعن ابن عباس أيضا والضحاك وقتادة والحسن: هي مدنية إلا آيات {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي} إلى قوله تعالى: {أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} فهن مكيات.

وعن مجاهد، عن ابن الزبير: أنها مدنية. ورواه العوفي عن ابن عباس.
وقال الجمهور هذه السورة بعضها مكي وبعضها مدني وهي مختلطة، أي لا يعرف المكي بعينه، والمدني بعينه. قال ابن عطية: وهو الأصح.
وأقول: ليس هذا القول مثل ما يكثر أن يقولوه في بضع آيات من عدة سور: إنها نزلت في غير البلد الذي نزل فيه أكثر السورة المستثنى منها، بل أرادوا أن كثيرا منها مكي وأن مثله أو يقاربه مدني، وأنه لا يتعين ما هو مكي منها وما هو مدني ولذلك عبروا بقولهم: هي مختلطة. قال ابن عطية: روي عن أنس ابن مالك أنه قال: "نزل أول السورة في السفر فنادى رسول الله بها فاجتمع إليه الناس" وساق الحديث الذي سيأتي. يريد ابن عطية أن نزولها في السفر يقتضي أنها نزلت بعد الهجرة.
ويشبه أن يكون أولها نزل بمكة فإن افتتاحها بـ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} جار على سنن فواتح السور المكية. وفي أساليب نظم كثير من آياتها ما يلائم أسلوب القرآن النازل بمكة. ومع هذا فليس الافتتاح بـ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} بمعين أن تكون مكية، وإنما قال ابن عباس {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} يراد به المشركون. ولذا فيجوز أن يوجه الخطاب به إلى المشركين في المدينة في أول مدة حلول النبي صلى الله عليه وسلم بها، فإن قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} يناسب أنه نزل بالمدينة حيث صد المشركون النبي والمؤمنين عن البقاء معهم بمكة. وكذلك قوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِير ٌالَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ} فإنه صريح في أنه نزل في شان الهجرة.
روى الترمذي بسنده عن ابن عباس قال: لما أخرج النبي من مكة قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم ليهلكن فأنزل الله {أذن أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِير ٌالَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} ، وكذلك قوله: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً} ففيه ذكر الهجرة وذكر من يقتل من المهاجرين وذلك مؤذن بجهاد متوقع كما سيجيء هنالك.
وأحسب أنه لم تتعين طائفة منها متوالية نزلت بمكة ونزل ما بعدها بالمدينة بل نزلت آياتها متفرقة. ولعل ترتيبها كان بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم ومثل ذلك كثير.

وقد قيل في قوله تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} إنه نزل في وقعة بدر، لما في الصحيح عن علي وأبي ذر: أنها نزلت في مبارزة حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث مع شيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة يوم بدر وكان أبو ذر يقسم على ذلك.
ولذلك فأنا أحسب هذه السورة نازلا بعضها آخر مدة مقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة كما يقتضيه افتتاحها بـ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} فقد تقرر أن ذلك الغالب في أساليب القرآن المكي، وأن بقيتها نزلت في مدة مقام النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة.
وروى الترمذي وحسنه وصححه عن ابن أبي عمر، عن سفيان عن ابن جدعان، عن الحسن، عن عمران بن حصين أنه لما نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} إلى قوله: {وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} . قال: أنزلت عليه هذه وهو في سفر? فقال: "أتدرون..." وساق حديثا طويلا. فاقتضى قوله: أنزلت عليه وهو في سفر? أن هذه السورة أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة فإن أسفاره كانت في الغزوات ونحوها بعد الهجرة.
وفي رواية عنه أن ذلك السفر في غزوة بني المصطلق من خزاعة وتلك الغزوة في سنة أربع أو خمس، فالظاهر من قوله "أنزلت وهو في سفر" أن عمران بن حصين لم يسمع الآية إلا يومئذ فظنتها أنزلت يومئذ فإن عمران بن حصين ما أسلم إلا عام خيبر وهو عام سبعة، أو أن أحد رواة الحديث أدرج كلمة أنزلت عليه وهو في سفر في كلام عمران بن حصين ولم يقله عمران. ولذلك لا يوجد هذا اللفظ فيما ما روى الترمذي وحسنه وصححه أيضا عن محمد ابن بشار، عن يحيى بن سعيد عن هشام بن أبي عبد الله عن قتادة، عن الحسن، عن عمران بن حصين قال: كنا مع النبي في سفر فرفع صوته بهاتين الآيتين {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} إلى قوله: {وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} إلى آخره. فرواية قتادة عن الحسن أثبت من رواية ابن جدعان عن الحسن، لأن ابن جدعان واسمه علي بن زيد قال فيه أحمد وأبو زرعة: ليس بالقوي. وقال فيه ابن خزيمة: سيء الحفظ، وقد كان اختلط فينبغي عدم اعتماد ما انفرد به من الزيادة. وروى ابن عطية عن أنس بن مالك أنه قال: أنزل أول هذه السورة على رسول الله في سفر. ولم يسنده ابن عطية.
وذكر القرطبي عن الغزنوي أنه قال: سورة الحج من أعاجيب السور نزلت ليلا

ونهارا، سفرا وحضرا، مكيا ومدنيا، سلميا وحربيا، ناسخا ومنسوخا، محكما ومتشابها.
وقد عدت السورة الخامسة والمائة في عداد نزول سورة القرآن في رواية جابر بن زيد، عن ابن عباس قال: نزلت بعد سورة النور وقبل سورة المنافقين. وهذا يقتضي أنها عنده مدنية كلها لأن سورة النور وسورة المنافقين مدنيتان فينبغي أن يتوقف في اعتماد هذا فيها.
وعدت آياتها عند أهل المدينة ومكة: سبعا وسبعين. وعدها أهل الشام: أربعا وسبعين. وعدها أهل البصرة: خمسا وسبعين: وعدها أهل الكوفة: ثمانا وسبعين.
ومن أغراض هذه السورة:
- خطاب الناس بأمرهم أن يتقوا الله ويخشوا يوم الجزاء وأهواله.
- والاستدلال على نفي الشرك وخطاب المشركين بأن يقلعوا عن المكابرة في الاعتراف بانفراد الله تعالى بالإلهية وعن المجادلة في ذلك اتباعا لوساوس الشياطين، وأن الشياطين لا تغني عنهم شيئا ولا ينصرونهم في الدنيا وفي والآخرة.
- وتفظيع جدال المشركين في الوحدانية بأنهم لا يستندون إلى علم وأنهم يعرضون عن الحجة ليضلوا الناس.
- وأنهم يرتابون في البعث وهو ثابت لا ريبة فيه وكيف يرتابون فيه بعلة استحالة الإحياء بعد الإماتة ولا ينظرون أن الله أوجد الإنسان من تراب ثم من نطفة ثم طوره أطورا.
وأن الله ينزل الماء على الأرض الهامدة فتحيا وتخرج من أصناف النبات، فالله هو القادر على كل ذلك. فهو يحيي الموتى وهو على كل شيء قدير.
وأن مجادلتهم بإنكار البعث صادرة عن جهالة وتكبر عن الامتثال لقول الرسول صلى الله عليه وسلم.
- ووصف المشركين بأنهم في تردد من أمرهم في اتباع دين الإسلام.
- والتعريض بالمشركين بتكبرهم عن سنة إبراهيم عليه السلام الذي ينتمون إليه ويحسبون أنهم حماة دينه وأمناء بيته وهم يخالفونه في أصل الدين.
وتذكير لهم بما من الله عليهم في مشروعية الحج من المنافع فكفروا نعمته.

- وتنظيرهم في تلقي دعوة الإسلام بالأمم البائدة الذين تلقوا دعوة الرسل بالإعراض والكفر فحل بهم العذاب.
- وأنه يوشك أن يحل بهؤلاء مثله فلا يغرهم تأخير العذاب فإنه إملاء من الله لهم كما أملى للأمم من قبلهم. وفي ذلك تأنيس للرسول صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا، وبشارة لهم بعاقبة النصر على الذين فتنوهم وأخرجوهم من ديارهم بغير حق.
- وأن اختلاف الأمم بين أهل هدى وأهل ضلال أمر به افترق الناس إلى ملل كثيرة.
- وأن يوم القيامة هو يوم الفصل بينهم لمشاهدة جزاء أهل الهدى وجزاء أهل الضلال.
- وأن المهتدين والضالين خصمان اختصموا في أمر الله فكان لكل فريق جزاؤه.
- وسلى الله رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأن الشيطان يفسد في قلوب أهل الضلالة آثار دعوة الرسل ولكن الله يحكم دينه ويبطل ما يلقي الشيطان فلذلك ترى الكافرين يعرضون وينكرون آيات القرآن.
- وفيها التنويه بالقرآن والمتلقين له بخشية وصبر. ووصف المفار بكراهيتهم القرآن وبغض المرسل به. والثناء على المؤمنين وأن الله يسر لهم أتباع الحنيفية وسماهم المسلمين.
- والإذن للمسلمين بالقتال وضمان النصر والتمكين في الأرض لهم.
- وختمت السورة بتذكير الناس بنعم الله عليهم وأن الله اصطفى خلقا من الملائكة ومن الناس فأقبل على المؤمنين بالإرشاد إلى ما يقربهم إلى الله زلفى وأن الله هو مولاهم وناصرهم.
[1] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ}
نداء للناس كلهم من المؤمنين وأهل الكتاب والمشركين الذين يسمعون هذه الآية من الموجودين يوم نزولها ومن يأتون بعدهم إلى يوم القيامة، ليتلقوا الأمر بتقوى الله وخشيته، أي خشية مخالفة ما يأمرهم به على لسان رسوله، فتقوى كل فريق بحسب حالهم من التلبس بما نهى الله عنه والتفريط فيما أمر به، ليستبدلوا ذلك بضده.

وأول فريق من الناس دخولا في خطاب {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} هم المشركون من أهل مكة حتى قيل إن الخطاب بذلك خاص بهم. وهذا يشمل مشركي أهل المدينة قبل صفائها منهم.
وفي التعبير عن الذات العلية بصفة الرب مضافا إلى ضمير المخاطبين إيماء إلى استحقاقه أن يتقى لعظمته بالخالقية، وإلى جدارة الناس بأن يتقوه لأنه بصفة تدبير الربوبية لا يأمر ولا ينهى إلا لمرعي مصالح الناس ودرء المفاسد عنهم.
وكلا الأمرين لا يفيده غير وصف الرب دون نحو الخالق والسيد.
وتعليق التقوى بذات الرب يقتضي بدلالة الاقتضاء معنى اتقاء مخالفته أو عقابه أو نحو ذلك لأن التقوى لا تتعلق بالذات بل بشأن لها مناسب للمقام. وأول تقواه هو تنزيهه عن النقائض، وفي مقدمة ذلك تنزيهه عن الشركاء باعتقاد وحدانيته في الإلهية.
وجملة: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} في موضع العلة للأمر بالتقوى كما يفيد حرف التوكيد الواقع في مقام خطاب لا تردد للسامع فيه.
والتعليل يقتضي أن لزلزلة الساعة أثرا في الأمر بالتقوى وهو أنه وقت لحصول الجزاء على التقوى وعلى العصيان وذلك على وجه الإجمال المفصل بما بعده في قوله: {وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} .
والزلزلة، حقيقتها: تحرك عنيف في جهة من سطح الأرض من أثر ضغط مجاري الهواء الكائن في طبقات الأرض القريبة من ظاهر الأرض وهي من الظواهر الأرضية المرعبة ينشأ عنها تساقط البناء وقد ينشأ عنها خسف الأشياء في باطن الأرض.
والساعة: علم بالغلبة في اصطلاح القرآن على وقت فناء الدنيا والخلوص إلى عالم الحشر الأخروي، قال تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} إلى قوله: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} .
وإضافة {زلزلة} إلى {السَّاعَةِ} على معنى في، أي الزلزلة التي تحدث وقت حلول الساعة.
فيجوز أن تكون الزلزلة في الدنيا أو في وقت الحشر. والظاهر حمل الزلزلة على الحقيقة، وهي حاصلة عند إشراف العالم الدنيوي على الفناء وفساد نظامه فإضافتها إلى

الساعة إضافة حقيقية فيكون معنى قوله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا} . الآية.
ويجوز أن تكون الزلزلة مجازا عن الأهوال والمفزعات التي تحصل يوم القيامة فإن ذلك تستعار له الزلزلة، قال تعالى: {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} أي أصيبوا بالكوارث والأضرار لقوله قبله: {مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاء} . وفي دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على الأحزاب: "اللهم اهزمهم وزلزلهم".
والإتيان بلفظ {شيء} للتهويل بتوغله في التنكير، أي زلزلة الساعة لا يعرف كنهها بأنها شيء عظيم، وهذا من المواقع التي يحسن فيها موقع كلمة {شيء} وهي التي نبه عليها الشيخ عبد القاهر في دلائل الإعجاز في فصل في تحقيق القول على البلاغة والفصاحة وقد ذكرناه عند قوله تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً} في سورة البقرة.
والعظيم: الضخم، وهو هنا استعاري للقوي الشديد. والمقام يفيد أنه شديد الشر.
[2] {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ}
جملة: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ} الخ بيان لجملة {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} لأن ما ذكر في هذه الجملة يبين معنى كونها شيئا عظيما وهو أنه عظيم في الشر والرعب.
ويتعلق {يَوْمَ تَرَوْنَهَا} بفعل {تَذْهَلُ} . وتقديمه على عامله للاهتمام بالتوقيت بذلك اليوم وتوقع رؤيته لكل مخاطب من الناس. وأصل نظم الجملة: تذهل كل مرضعة عما أرضعت يوم ترون زلزلة الساعة. فالخطاب لكل من تتأتى منه رؤية تلك الزلزلة بالإمكان.
وضمير النصب في {تَرَوْنَهَا} يجوز أن يعود على {زَلْزَلَةَ} وأطلقت الرؤية على إدراكها الواضح الذي هو كرؤية المرئيات لأن الزلزلة تسمع ولا ترى. ويجوز أن يعود إلى الساعة.
ورؤيتها: رؤية ما يحدث فيها من المرئيات من حضور الناس للحشر وما يتبعه

ومشاهدة أهوال العذاب. وقرينة ذلك قوله: {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ} الخ.
والذهول: نسيان ما من شأنه أن لا ينسى لوجود مقتضى تذكره؛ إما لأنه حاضر أو لأن علمه جديد وإنما ينسى لشاغل عظيم عنه. فذكر لفظ الذهول هنا دون النسيان لأنه أدل على شدة التشاغل. قاله شيخنا الجد الوزير قال: وشفقة الأم على الابن أشد من شفقة الأب فشفقتها على الرضيع أشد من شفقتها على غيره. وكل ذلك يدل بدلالة الأولى على ذهول غيرها من النساء والرجال. وقد حصل من هذه الكناية دلالة على جميع لوازم شدة الهول وليس يلزم في الكناية أن يصرح بجميع اللوازم لأن دلالة الكناية عقلية وليست لفظية.
والتحقت هاء التأنيث بوصف {مُرْضِعَةٍ} للدلالة على تقريب الوصف من معنى الفعل،فإن الفعل الذي لا يوصف بحدثه غير المرأة تلحقه علامة التأنيث ليفاد بهذا التقريب أنها في حالة التلبس بالإرضاع، كما يقال: هي ترضع. ولولا هذه النكتة لكان مقتضى الظاهر أن يقال: كل مرضع، لأن هذا الوصف من خصائص الأنثى فلا يحتاج معه إلى الهاء التي أصل وضعها للفرق بين المؤنث والمذكر خيفة اللبس. وهذا من دقائق مسائل نحاة الكوفة وقد تلقاها الجميع بالقبول ونظمها ابن مالك في أرجوزته الكافية بقوله:
وما من الصفات بالأنثى يخص ... عن تاء استغنى لأن اللفظ نص
وحيث معنى الفعل تنوي التاء زد ... كذي غدت مرضعة طفلا ولد
والمراد: أن ذلك يحصل لكل مرضعة موجودة في آخر أيام الدنيا. فالمعنى الحقيقي مراد، فلم يقتض أن يكون الإرضاع واقعا. فأطلق ذهول المرضع وذات الحمل وأريد ذهول كل ذي علق نفيس عن علقه على طريقة الكناية.
وزيادة كلمة "كل" للدلالة على أن هذا الذهول يعتري كل مرضع وليس هو لبعض المراضع باحتمال ضعف في ذاكرتها. ثم تقتضي هذه الكناية كناية عن تعميم هذا الهول لكل الناس لأن خصوصية هذا المعنى بهذا المقام أنه أظهر في تصوير حالة الفزع والهلع بحيث يذهل فيه من هو في حال شدة التيقظ لوفرة دواعي اليقظة. وذلك أن المرأة لشدة شفقتها كثيرة الاستحضار لما تشفق عليه، وأن المرضع أشد النساء شفقة على رضيعها، وأنها في حال ملابسة الإرضاع أبعد شيء عن الذهول فإذا ذهلت عن رضيعها في هذه الأحوال دل ذلك على أن الهول العارض لها هول خارق للعادة. وهذا من بديع الكناية

عن شدة ذلك الهول لأن استلزام ذهول المرضع عن رضيعها لشدة الهول يستلزم شدة الهول لغيرها بطريق الأولى، فهو لزوم بدرجة ثانية. وهذا النوع من الكناية يسمى الإيماء.
و"ما" في {عَمَّا أَرْضَعَتْ} موصولة ما صدقها الطفل الرضيع. والعائد محذوف لأنه ضمير متصل منصوب بفعل، وحذف مثله كثير.
والإتيان بالموصول وصلته في تعريف المذهول عنه دون أن يقول عن ابنها للدلالة على أنها تذهل عن شيء هو نصب عينها وهي في عمل متعلق به وهو الإرضاع زيادة في التكني عن شدة الهول.
وقوله: {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا} هو كناية أيضا كقوله: {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} . ووضع الحمل لا يكون إلا لشدة اضطراب نفس الحامل من فرط الفزع والخوف لأن الحمل في قرار مكين.
والحمل: مصدر معنى المفعول، بقرينة تعلقه بفعل {تضع} أي تضع جنينها.
والتعبير بـ {ذَاتِ حَمْلٍ} دون التعبير: بحامل، لأنه الجاري في الاستعمال في الأكثر. فلا يقال: امرأة حامل، بل يقال: ذات حمل قال تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} ، مع ما في هذه الإضافة من التنبيه على شدة اتصال الحمل بالحامل فيدل على أن وضعها إياه لسبب مفظع.
والقول في حمله على الحقيقة أو على معنى الكناية كالقول في {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ}.
والخطاب في {وَتَرَى النَّاسَ} لغير معين، وهو كل من تتأتى منه الرؤية من الناس، فهو مساو في المعنى للخطاب الذي في قوله: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا} . وإنما أوثر الإفراد هنا للتفنن كراهية إعادة الجمع. وعدل عن فعل المضي إلى المضارع في قوله: {وَتَرَى} لاستحضار الحالة والتعجيب منها كقوله: {فَتُثِيرُ سَحَاباً} وقوله: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ}.
وقرأ الجمهور {سُكَارَى} بضم السين المهملة وبألف بعد الكاف. ووصف الناس بذلك على طريقة التشبيه البليغ. وقوله بعده {وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} قرينة على قصد التشبيه وليبنى عليه قوله بعده {وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} .
وقرأه حمزة والكسائي {سُكَارَى} بوزن عطشى في الموضعين. وسكارى وسكرى

جمع سكران. وهو الذي اختل شعور عقله من أثر شرب الخمر، وقياس جمعه سكارى. وأما سكرى فهو محمول على نوكى لما في السكر من اضطراب العقل. وله نظير وهو جمع كسلان على كسالى وكسلى.
وجملة: {وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} في موضع الحال من الناس.
و {عَذَابَ اللَّهِ} صادق بعذابه في الدنيا وهو عذاب الفزع والوجع، وعذاب الرعب في الآخرة بالإحساس بلفح النار وزبن ملائكة العذاب.
وجملة: {وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} في موضع الحال من "الناس".
[3] {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ}
عطف على جملة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ}، أي الناس فريقان: فريق يمتثل الأمر فيتقي الله ويخشى عذابه، وفريق يعرض عن ذلك ويعارضه بالجدل الباطل في شأن الله تعالى من وحدانيته وصفاته ورسالته. وهذا الفريق هم أئمة الشرك وزعماء الكفر لأنهم الذين يتصدون للمجادلة بما لهم من أغاليط وسفسطة وما لهم من فصاحة وتمويه.
والاقتصار على ذكرهم إيماء إلى أنهم لولا تضليلهم قومهم وصدهم إياهم عن متابعة الذين لاتبع عامة المشركين الإسلام لظهور حجته وقبولهم في الفطرة.
وقيل: أريد بـ {مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ} النضر بن الحارث أو غيره كما سيأتي، فتكون "من" الموصولة صادقة على متعدد عامة لكل من تصدق عليه الصلة.
والمجادلة: المخاصمة والمحاجة. والظرفية مجازية، أي يجادل جدلا واقعا في شأن الله. ووصف الجدل بأنه بغير علم، أي جدلا ملتبسا بمغايرة العلم، وغير العلم هو الجهل، أي جدلا ناشئا عن سوء نظر وسوء تفكير فلا يعلم ما تقتضيه الألوهية من الصفات كالوحدانية والعلم وفعل ما يشاء.
واتباع الشيطان: الانقياد إلى وسوسته التي يجدها في نفسه والتي تلقاها بمعتاده والعمل بذلك دون تردد ولا عرض على نظر واستدلال.
وكلمة {كُلَّ} في قوله: {كُلَّ شَيْطَانٍ} مستعملة في معنى الكثرة. كما سيأتي قريبا عند قوله تعالى: {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} في هذه السورة. وتقدم في تفسير قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} في سورة البقرة.

والمزيد: صفة مشبهة من مرد بضم الراء على عمل. إذا عتا فيه وبلغ الغاية التي تتجاوز ما يكون عليه أصحاب ذلك العمل. وكأنه محول من مرد بفتح الراء بمعنى مرن إلى ضم الراء للدلالة على أن الوصف صار له سجية، فالمريد صفة مشبهة. أي العاتي في الشيطنة.
[4] {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ}
جملة: {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ} إلى آخرها صفة ثانية لـ {شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} فالضمير المجرور عائد إلى {شَيْطَانٍ}. وكذلك الضمائر في {أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ}.
وأما الضميران البارزان في قوله: {يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} فعائدان إلى "من" الموصوله. أي يضل الشيطان متوليه عن الحق ويهدي متوليه إلى عذاب السعير.
واتفقت القراءات العشر على قراءة {كُتِبَ} بضم الكاف على أنه مبني للنائب. واتفقت أيضا على فتح الهمزتين من قوله تعالى: {أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ}.
والكتابة مستعارة للثبوت واللزوم، أي لزمه إضلال متوليه ودلالته على عذاب السعير، فأطلق على لزوم ذلك فعل {كُتِبَ عَلَيْهِ} أي وجب عليه، فقد شاع أن العقد إذا أريد تحقيق العمل به وعدم الإخلال به كتب في صحيفة. قال الحارث بن حلزة:
وهل ينقض ما في المهارق الأهواء
والضمير في {أَنَّهُ} عائد إلى {شَيْطَانٍ} وليس ضمير شأن لأن جعله ضمير شأن لا يناسب كون الجملة في موقع نائب فاعل {كُتِبَ} . إذ هي حينئذ في تأويل مصدر وضمير الشأن يتطلب بعده جملة، والمصدران المنسبكان من قوله: {أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ} وقوله: {فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ} نائب فعل {كُتِبَ} ومفرع عليه بفاء الجزاء. أي كتب عليه إضلال من تولاه. والتولي: اتخاذ ولي، أي نصير، أي من استنصر به.
و"من" موصولة وليست شرطية لأن المعنى على الإخبار الثابت لا على التعليق بالشرط. وهي مبتدأ ثان. والضمير المستتر في قوله: {تَوَلَّاهُ} عائد إلى {مَنْ} الموصولة. والضمير المنصوب البارز عائد إلى {شَيْطَانٍ}. أي أن الذي يتخذ الشيطان وليا فذلك الشيطان يضله.
والفاء في قوله: {فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ} داخلة على الجملة الواقعة خبرا عن "من" الموصولة

تشبيها لجملة الخبر عن الموصول بجملة الجزاء لشبه الموصول بالشرط قصدا لتقوية الإخبار. والمصدر المنسبك من قوله: {فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} في تقدير مبتدأ هو صدر للجملة الواقعة خبرا عن الم "من" وصولة. والتقدير: فإضلاله إياه ودلالته إياه إلى عذاب السعير. وخبر هذا المبتدأ مقدر لأنه حاصل من معنى إسناد فعلي الإضلال والهداية إلى ضمير المبتدأ. والتقدير: ثابتان.
ويجوز أن تجعل الفاء في قوله: {فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ} فاء تفريع ويجعل ما بعدها معطوفا على {مَنْ تَوَلَّاهُ} ويكون المعطوف هو المقصود من الإخبار كما هو مقتضى التفريع. والتقدير: كتب عليه ترتب الإضلال منه لمتوليه وترتب إيصاله متوليه إلى عذاب السعير.
هذان هما الوجهان في نظم الآية وما عداهما تكلفات.
واعلم أن ما نظمت به الآية هنا لا يجري على نظم قوله تعالى في سورة براءة: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا} لأن مقتضى فعل العلم غير مقتضى فعل"كتب". فلذلك كانت "من" في قوله: {مَنْ يُحَادِدِ} شرطية لا محالة وكان الكلام جاريا على اعتبار الشرطية وكان الضمير هنالك في قوله: {أَنَّهُ} ضمير شأن.
ولما كان الضلال مشتهرا في معنى البعد عن الخير والصلاح لم يحتج في هذه الآية إلى ذكر متعلق فعل {يُضِلَّهُ} لظهور المعنى.
وذكر متعلق فعل {يَهْدِيَهُ} وهو {إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} لأن تعلقه به غريب إذ الشأن أن يكون الهدي إلى ما ينفع لا إلى ما يضر ويعذب.
وفي الجمع بين {يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ} محسن الطباق بالمضادة. وقد عد من هذا الفريق الشامل له قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} النضر بن الحارث. وقيل نزلت فيه. كان كثير الجدل يقول: الملائكة بنات الله، والقرآن أساطير الأولين، والله غير قادر على إحياء أجساد بليت وصارت ترابا. وعد منهم أيضا أبو جهل، وأبي بن خلف. ومن قال: إن المقصود بقوله: {مَنْ يُجَادِلُ} معينا خص الآية به. ولا وجه للتخصيص وما هو إلا تخصيص بالسبب.
[5] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى

أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً}
أعاد خطاب الناس بعد أن أنذرهم بزلزلة الساعة، وذكر أن منهم من يجادل في الله بغير علم، فأعاد خطابهم بالاستدلال على إمكان البعث وتنظيره بما هو أعظم منه. وهو الخلق الأول. قال تعالى: {فَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} . فالذي خلق الإنسان من عدم وأخرجه من تراب، ثم كونه من ماء. ثم خلقه أطوارا عجيبة، إلى أن يتوفاه في أحوال جسمه وفي أحوال عقله وإدراكه، قادر على إعادة خلقه بعد فنائه.
ودخول المشركين بادئ ذي بدء في هذا الخطاب أظهر من دخولهم في الخطاب السابق لأنهم الذين أنكروا البعث، فالمقصود الاستدلال عليهم ولذلك قيل إن الخطاب هنا خاص بهم.
وجعل ريبهم في البعث مفروضا بـ"إن" الشرطية مع أن ريبهم محقق للدلالة على أن المقام لما حف به من الأدلة المبطلة لريبهم ينزل منزلة مقام من لا يتحقق ريبه كما في قوله تعالى: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ}.
والظرفية المفادة بـ"في" مجازية. شبهت ملابسة الريب إياهم بإحاطة الظرف بالمظروف.
وجملة: {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} واقعة موقع جواب الشرط ولكنها لا يصلح لفظها لأن يكون جوابا لهذا الشرط بل هي دليل الجواب. والتقدير: فاعلموا أو فنعلمكم بأنه ممكن كما خلقناكم من تراب مثل الرفات الذي تصير إليه الأجساد بعد الموت، أو التقدير: فانظروا في بدء خلقكم فإنا خلقناكم من تراب.
والذي خلق من تراب هو أصل النوع. وهو آدم عليه السلام وحواء، ثم كونت

في آدم وزوجه قوة التناسل. فصار الخلق من النطفة فلذلك عطفت ب"ثم".
والنطفة: اسم لمني الرجل، وهو بوزن فعلة بمعنى مفعول، أي منطوف. والنطف: القطر والصب. والعلقة: القطعة من الدم الجامد اللين.
والمضغة: القطعة من اللحم بقدر ما يمضغ مثله. وهي فعلة بمعنى مفعولة بتأويل: مقدار ممضوغه. و "ثم" التي عطف بها {ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ} عاطفة مفردات فهي للتراخي الحقيقي.
و{مِنْ} المكررة أربع مرات هنا ابتدائية وتكريرها توكيد.
وكون الإنسان مخلوقا من النطفة لأنه قد تقرر في علم الطب أن في رحم المرأة مدة الحيض جزاءا هو مقر الأجرام التي أعدت لأن يتكون منها الجنين، وهذا الجزء من الرحم يسمى في الاصطلاح الطبي "المبيض" بفتح الميم وكسر الموحدة على وزن اسم المكان لأنه مقر بيضات دقيقة هي حبيبات دقيقة جدا وهي من المرأة بمنزلة البيضة من الدجاجة أو بمنزلة حبوب بيض الحوت، مودعة في كرة دقيقة كالغلاف لها يقال لها الحويصلة بضم الحاء بصيغة تصغير حوصلة تشتمل على سائل تسبح فيه البيضة فإذا حاضت المرأة ازدادت كمية ذلك السائل الذي تسبح فيه البيضة فأوجب ذلك انفجار غلاف الحويصلة، فيأخذ ذلك السائل في الانحدار يحمل البيضة السابحة فيه إلى قناة دقيقة تسمة بوق فلوبيوس لشبهه بالبوق، وأضيف إلى "فلوبيوس" اسم مكتشفه. وهو البرزخ بين المبيض والرحم، فإذا نزل فيه ماء الرجل وهو النطفة بعد انتهاء سيلان دم الحيض لقحت فيه البيضة واختلطت أجزاؤها بأجزاء النطفة المستملة على جرثومات ذات حياة وتمكث مع البيضة متحركة مقدار سبعة أيام تكون البيضة في أثنائها تتطور بالتشكل يشبه تقسيم من أثر ضغط طبيعي، وفي نهاية تلك المدة تصل البيضة إلى الرحم وهنالك تأخذ في التشكل. وبعد أربعين يوما تصير البيضة علقة في حجم نملة كبيرة طولها من 12 إلى 14 ميليمتر. ثم يزداد تشكلها فتصير قطعة صغيرة من لحم هي المسماة "مضغة" طولها ثلاثة سنتيمتر تلوح فيها تشكيلات الوجه والأنف خفية جدا كالخطوط. ثم يزداد التشكل يوما فيوما إلى أن يستكمل الجنين مدته فيندفع للخروج وهو الولادة.
فقوله تعالى: {مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} صفة {مُضْغَةٍ} . وذلك تطور من تطورات المضغة. إشارة إلى أطوار تشكل تلك المضغة فإنها في أول أمرها تكون غير مخلقة، أي غير ظاهر فيها شكل الخلقة. ثم تكون مخلقة، والمراد تشكيل الوجه ثم الأطراف،ولذلك

لم يذكر مثل هذين الوصفين عند ذكر النطفة والعلقة، وإذ ليس لهما مثل هذين الوصفين بخلاف المضغة. وإذ قد جعلت المضغة من مبادئ الخلق تعين أن كلا الوصفين لازمان للمضغة. فلا يستقيم تفسير من فسر غير المخلقة بأنها التي لم يكمل خلقها فسقطت.
والتخلق: صيغة تدل على تكرير الفعل، أي خلقا بعد خلق، أي شكلا بعد شكل.
وقدم ذكر المخلقة على ذكر غير المخلقة خلاف الترتيب في الوجود لأن المخلقة أدخل في الاستدلال، وذكر بعده غير المخلقة لأنه إكمال للدليل وتنبيه على أن تخليقها نشأ عن عدم. فكلا الحالين دليل على القدرة على الإنشاء وهو المقصود من الكلام.
ولذلك عقب بقوله تعالى: {لِنُبَيِّنَ لَكُمْ} أي لنظهر لكم إذا تأملتم دليلا واضحا على إمكان الإحياء بعد الموت.
واللام للتعليل متعلقة بما في تضمينه جواب الشرط من فعل ونحوه تدل عليه جملة: {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} الخ، وهو فعل: فاعلموا، أو فنعلمكم، أو فانظروا.
وحذف مفعول {لِنُبَيِّنَ} لتذهب النفس في تقديره كل مذهب مما يرجع إلى بيان ما في هذه التصرفات من القدرة والحكمة، أي لنبين لكم قدرتنا وحكمتنا.
وجملة: {وَنُقِرُّ} عطف على جملة: {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} وعدل عن فعل المضي إلى المضارع للدلالة على استحضار تلك الحالة لما فيها من مشابهة استقرار الأجساد في الأجداث ثم إخراجها منها بالبعث كما يخرج الطفل من قرارة الرحم، مع تفاوت القرار. فمن الأجنة ما يبقى ستة أشهر، ومنها ما يزيد على ذلك، وهو الذي أفاده إجمال قوله تعالى: {إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} والاستدلال في هذا كله بأنه إيجاد بعد العدم وإعدام بعد الوجود لتبيين إمكان البعث بالنظير وبالضد.
والأجل: الأمد المجعول لإتمام عمل ما، والمراد هنا مدة الحمل.
والمسمى: اسم مفعول سماه إذا جعل له اسما، ويستعار المسمى للمعين المضبوط لضبط الأمور غير المشخصة بعدد معين أو وقت محسوب، بتسمية الشخص بوجه شبه يميزه عما شابهه. ومنه قول الفقهاء: المهر المسمى، أي المعين من نقد معدود أو عرض موصوف، وقول الموثقين: وسمي لها من الصداق كذا وكذا.

ولكل مولود مدة معينة عند الله لبقائه في رحم أمه قبل وضعه. والأكثر استكمال تسعة أشهر وتسعة أيام، وقد يكون الوضع أسرع من تلك المدة لعارض، وكل معين في علم الله تعالى. وتقدم في قوله تعالى: {إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} في سورة البقرة.
وعطف جملة: {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} بحرف "ثم" للدلالة على التراخي الرتبي فإن إخراج الجنين هو المقصود، وقوله: {طِفْلاً} حال من ضمير {نُخْرِجُكُمْ} أي حال كونكم أطفالا. وإنما أفرد {طِفْلاً} لأن المقصود به الجنس فهو بمنزلة الجمع.
وجملة: {ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} مرتبطة بجملة {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} ارتباط العلة بالمعلول، واللام للتعليل، والمعلل فعل {نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً}.
وإذا قد كانت بين الطفل وحال بلوغ الأشد أطوار كثيرة علم أن بلوغ الأشد هو العلة الكاملة لحكمة إخراج الطفل. وقد أشير إلى ما قبل بلوغ الأشد وما بعده قوله: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} وحرف "ثم" في قوله: {ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} تأكيد لمثله في قوله: {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} هذا ما ظهر لي في اتصال هذه الجملة بما قبلها وللمفسرين توجيهات غير سالمة من التعقب ذكرها الآلوسي.
وإنما جعل بلوغ الأشد علة لأنه أقوى أطوار الإنسان وأجلى مظاهر مواهبه في الجسم والعقل وهو الجانب الأهم كما أومأ إلي ذلك قوله بعد هذا {لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً} فجعل "الأشد" كأنه الغاية المقصودة من تطويره.والأشد: سن الفتوة واستجماع القوى. وقد تقدم في سورة يوسف {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً}.
ووقع في سورة المؤمن {ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً} . فعطف طور الشيخوخة على طور الأشد باعتبار أن الشيخوخة مقصد للأحياء لحبهم التعمير. وتلك الآية وردت مورد الامتنان فذكر فيها الطور الذي يتملى المرء فيه بالحياة. ولم يذكر في آية سورة الحج لأنها وردت مورد الاستدلال على الإحياء بعد العدم فلم يذكر فيها من الاضمحلال، ولأن المخاطبين بها فريق معين من المشركين كانوا في طور الأشد، وقد نبهوا عقب ذلك إلى أن منهم نفرا يردون إلى أرذل العمر، وهو طور الشيخوخة بقوله: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى

أَرْذَلِ الْعُمُرِ} .
وجيء بقوله: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى} على وجه الاعتراض استقراء لأحوال الأطوار الدالة على عظيم القدرة والحكمة الإلهية مع التنبيه على تخلل الوجود والعدم أطوار الإنسان بدءا ونهاية كما يقتضيه مقام الاستدلال على البعث. والمعنى: ومنكم من يتوفى قبل بلوغ بعض الأطوار. وأما أصل الوفاة لاحقة لكل إنسان لا لبعضهم، وقد صرح بهذا في سورة المؤمن {وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ}
وقوله: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} هو عديل قوله تعالى: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى} . وسكت عن ذكر الموت بعد أرذل العمر لأنه معلوم بطريقة لحن الخطاب. وجعل انتفاء علم الإنسان عند أرذل العمر علة إلى أرذل العمر باعتبار أنه علة غائية لذلك لأنه مما اقتضته حكمة الله في نظام الخلق فكان حصوله مقصودا عند رد الإنسان غلى ارذل العمر، فإن ضعف القوى الجسيمة يستتبع ضعف القوى العقلية قال تعالى: {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ} فالخلق يشمل كل ما هو من الخلقة ولا يختص بالجسم.
وقوله: {مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ} أي بعد ما كان علمه فيما قبل أرذل العمر.
و "من" الداخلية على "بعد" هنا مزيدة للتأكيد على رأي الأخفش وابن مالك من عدم انحصار زيادة "من" في خصوص جر النكرة بعد نفي وشبهه، أو هي للابتداء عند الجمهور وهو ابتداء صوري يساوي معنى التأكيد، ولذلك لم يؤت بـ"من" في قوله تعالى: {لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً} في سورة النحل.
والآيتان بمعنى واحد فذكر "من" هنا تفنن في سياق العبرتين.
و {شَيْئاً} واقع في سياق النفي يعم كل معلوم، أي لا يستفيد معلوما جديدا. ولذلك مراتب في ضعف العقل بحسب توغله في أرذل العمر تبلغ إلى مرتبة انعدام قبوله لعلم جديد، وقبلها مراتب من الضعف متفاوتة كمرتبة نسيان الأشياء ومرتبة الاختلاط بين المعلومات وغير ذلك.
{وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}

عطف على جملة: {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} ، والخطاب لغير معين فيعم كل من يسمع هذا الكلام. وهذا ارتقاء في الاستدلال على الإحياء بعد الموت بقياس التمثيل لأنه استدلال بحالة مشاهدة فلذلك افتتح بفعل الرؤية. بخلاف الاستدلال بخلق الإنسان فإن مبدأ غير مشاهد فقيل في شأنه {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} الآية. ومحل الاستدلال من قوله تعالى: {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ} . فهو مناسب الأول {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} ، فهمود الأرض بمنزلة موت الإنسان واهتزازها وإنباتها بعد ذلك يماثل الإحياء بعد الموت.
والهمود: قريب من الخمود. فهمود الأرض جفافها وزوال نبهتا، وهمود النار خمودها.
والاهتزاز: التحرك إلى أعلى، فاهتزاز الأرض تمثل لحال ارتفاع ترابها بالماء وحال ارتفاع وجهها بما عليه من العشب بحال الذي يهتز ويتحرك إلى أعلى.
وربت: حصل لها ربو بضم الراء وضم الموحدة وهو ازدياد السيء يقال: ربا يربو ربوا، وفسر هنا بانتفاخ الأرض من تفتق النبت والشجر. وقرأ أبو جعفر {وربأت} بهمزة مفتوحة بعد الموحدة، أي ارتفعت. ومنه قولهم: ربأ بنفسه عن كذا، أي ارتفع مجازا، وهو فعل مشتق من اسم الربيئة وهو الذي يعلوا ربوة من الأرض لينظر هل من عدو يسير إليهم.
والزوج: الصنف من الأشياء. أطلق عليه اسم الزوج تشبيها له بالزوج من الحيوان وهو صنف الذكر وصنف الأنثى. لأن كل فرد من أحد الصنفين يقترن بالفرد من الصنف الآخر فيصير زوجا فيسمى كل واحد منهما زوجا بهذا المعنى، ثم شاع إطلاقه على أحد الصنفين، ثم أطلق على كل نوع وصنف وإن لم يكن ذكرا ولا أنثى. فأطلق هنا على أنواع النبات.
والبهيج: الحسن المنظر السار للناظر. وقد سيق هذا الوصف إدماجا للامتنان في أثناء الاستدلال امتنانا بجمال صورة الأرض المنبتة، لآن كونه بهيجا لا دخل له في الاستدلال، فهو امتنان محض كقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} وقوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} .

[6-7] {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ}
فذلكة ما تقدم، فالجملة تذييل.
والإشارة بـ {ذَلِكَ} إلى ما تقدم من أطوار خلق الإنسان وفنائه، ومن إحياء الأرض بعد موتها وانبثاق النبت منها.
وإفراد حرف الخطاب المقترن باسم الإشارة لإرادة مخاطب غير معين على نسق قوله: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً} على أن اتصال اسم الإشارة بكاف خطاب الواحد هو الأصل.
والمجرور خبر عن اسم الإشارة، أي ذلك حصل بسبب أن الله هو الحق الخ. والباء للسببية فالمعنى: تكون ذلك الخلق من تراب وتطور، وتكون إنزال الماء على الأرض الهامدة والنبات البهيج بسبب أن الله ألا له الحق دون غبره. ويجوز أن تكون الباء للملابسة، أي كان ذلك الخلق وذلك الإنبات البهيج ملابسا لحقية إلهية الله وهذه الملابسة ملابسة الدليل لمدلوله. وهذا ارشق من حمل الباء على معنى السببية وهو أجمع لوجود الاستدلال.
والحق: الثابت الذي لا مراء فيه، أي هو الموجود.والقصر إضافي، أي دون غيره من معبوداتكم فإنها لا وجود لها قال تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سلْطَانٍ} . وهذا الاستدلال هو أصل بقية الأدلة لأنه نقض للشرك الذي هو الأصل لجميع ضلالات أهله كما قال تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ}.
وأما بقية الأمور المذكورة بعد قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} ، فهي لبيان إمكان البعث.
ووجه كون هذه الأمور الخمسة المعدودة في هذه الآية ملابسة لأحوال خلق الإنسان وأحوال إحياء الأرض أن تلك الأحوال دالة على هذه الأمور الخمسة: إما بدلالة المسبب بالنسبة إلى وجود الله وإلى ثبوت قدرته على كل شيء, وإما بدلالة التمثيل على الممثل والواقع على إمكان نظيره الذي لم يقع بالنسبة إلى إحياء الله الموتى، ومجيء

الساعة، والبعث، وإذا تبين إمكان ذلك حق التصديق بوقوعه لأنهم لم يكن بينهم وبين التصديق به حائل إلا ظنهم استحالته، فالذي قدر على خلق الإنسان عن عدم سابق قادر على إعادته بعد اضمحلاله الطارئ على وجوده الأحرى بطريقة.
والذي خلق الأحياء بعد أن لم تكن فيها حياة يمكنه فعل الحياة فيها أو في بقية آثارها أو خلق أجسام مماثلة لها وإيداع أرواحها فيها بالأولى. وإذا كان ذلك علم أنه ساعة فناء هذا العالم واقعة قياسا على انعدام المخلوقات بعد تكوينها، وعلم أن الله يعيدها قياسا على إيجاد النسل وانعدام أصله.الحاصل للمشركين في وقوع الساعة منزلة العدم لانتفاء استناده إلى دليل.
وصيغة نفي الجنس على سبيل التنصيص صيغة تأكيد. لأن لا النافية للجنس في مقام النفي بمنزلة "إن" في مقام الإثبات ولذلك حملت عليها في العمل.
[8-9] {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}
عطف على جملة: {يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ} كما عطفت جملة: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} على جملة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ} . والمعنى: إن كنتم في ريب من وقوع البعث فإنا نزيل ريبكم بهذه الأدلة الساطعة، فالناس بعد ذلك فريقان: فريق يوقن بهذه الدلالة فلا يبقي في ريب، وفريق من الناس يجادل في الله بغير علم وهؤلاء هم أئمة الشرك وزعماء الباطل.
وجملة: {لا رَيْبَ فِيهَا} معترضة بين المتعاطفات، أي ليس الشأن أن يرتاب فيها، فلذلك نفى جنس الريب فيها، أي فالريب والمعنى بهذه الآية هو المعنى بقوله فيما مضى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} فيكون المراد فريق المعاندين المكابرين الذين يجادلون في الله بغير علم بعد أن بلغهم الإنذار من زلزلة الساعة. فهم كذلك يجادلون في الله بغير علم بعد أن وضحت لهم الأدلة على وقوع البعث.

ودافعهم إلى الجدال في الله عند سماع الإنذار بالساعة عدم علمهم ما يجادلون فيه واتباعهم وسواس الشياطين.
ودافعهم إلى الجدال في الله عند وضوح الأدلة على البعث عدم علمهم ما يجادلون فيه. وانتفاء الهدى.وانتفاء تلقي شريعته من قبل. والتكبر عن الاعتراف بالحجة. ومحبة إضلال الناس عن سبيل الله. فيؤول إلى معنى أن أحوال هؤلاء مختلفة وأصحابها فريق واحد هو فريق أهل الشرك والضلالة. ومن أساطين هذا الفريق من عدوا في تفسير الآية الأولى مثل: النصر بن حارث. وأبي جهل، وأبي بن خلف.
وقيل: المراد في هذه الآية بمن يجادل في الله: النضر بن الحارث، كرر الحديث عنه تبيينا لحالتي جداله. وقيل المراد بمن يجادل في هذه الآية أبو جهل، كما قيل: أن المراد في الآية الماضية النضر بن الحارث، فجعلت الآية خاصة بسبب نزولها في نظر هذا القائل، وروي ذلك عن أبن عباس وقيل: هو الأخنس بن شريق وتقدم معنى قوله: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} في نظير هذه الآية. وقيل المراد بـ {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} المقلدون بكسر اللام من المشركين الذين يتبعون ما تمليه عليهم سادة الكفر. والمراد بـ {مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً} المقلدون بفتح اللام أئمة الكفر.
والهدى مصدر في معنى المضاف إلى مفعوله، أي ولا هدى هو مهدي به، وتلك مجادلة المقلد إذا كان مقلدا هاديا للحق مثل أتباع الرسل، فهذا دون مرتبة من يجادل في الله بعلم. ولذلك لم يستغن بذكر السابق عن ذكر هذا.
والكتاب المنير: كتب الشرائع مثل: التوراة والإنجيل. وهذا كما يجادل أهل الكتاب قبل مجيء الإسلام المشركين والدهريين فهو جدال بكتاب منير.
والمنير: المبين للحق، شبه بالمصباح المضيء في الليل.
ويجيء في وصف {كِتَابٍ} بصفة {مُنِيرٍ} تعريض بالنضر ابن الحارث إذ كان يجادل في شأن الإسلام بالموازنة بين كتاب الله المنير وكتاب أخبار رستم، وكتاب أخبار أسفنديار المظلمة الباطلة.
والثني: لي الشيء، يقال: ثني عنان فرسه، إذا لواه ليدير رأس فرسه إلى الجهة التي يريد أن يوجهه إليها. ويطلق أيضا الثني على الإمالة.

والعطف: المنكب والجانب و {ثَانِيَ عِطْفِهِ} تمثيل للتكبير والخيلاء. ويقال: لوي جيده، إذا أعرض تكبرا. وهذه الصفة تنطبق على حال أبي جهل فلذلك قيل إنه المراد هنا.
واللام في قوله {لِيُضِلَّ} لتعليل المجادلة، فهو متعلق بـ {يُجَادِلُ} أي غرضه من المجادلة الإضلال.
وسبيل الله: الدين الحق.
وقوله {لِيُضِلَّ} بضم الياء أي ليضلل الناس بجداله. فهذا المجادل يريد بجدله ان يوهم العامة بطلان الإسلام كيلا يتبعوه.
وإفراد الضمير في قوله: {عِطْفِهِ} وما ذكر بعده مراعاة للفظ "من" وإن كان معنى تلك الضمائر الجمع.
وخزي الدنيا: الإهانة، وهو ما أصابهم من القتل يوم بدر ومن القتل والأسر بعد ذلك. وهؤلاء هم اللذين لم يسلموا بعد. وينطبق الخزي على ما حصل لأبي جهل يوم بدر من قتله بيد غلامين من شباب الأنصار وهما أبناء عفراء. وباعتلاء عبد الله بن مسعود على صدره وذبحه وكان في عظمته لا يطر أمثال هؤلاء الثلاثة بخاطره.
وينطبق الخزي أيضا على ما حل بالنضر بن الحارث من الأسر يوم بدر وقتله صبرا في موضع يقال له: الأثيل قرب المدينة عقب واقعة بدر كما وصفته أخته قتيلة في رثائه من قصيدة:
صبرا يقاد إلى المنية متعبا ... صبر المقيد وهو عان موثق
وإذا كانت هذه الآية ونظيرتها التي سبقت مما نزل بمكة لا محال كان قوله تعالى: {لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} من الإخبار بالغيب وهو من معجزات القرآن وإذاقة العذاب تخيل للمكنية.
وجملة {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} مقول قول محذوف تدل عليه صيغة الكلام وهي جملة مستأنفة، أو في موضع الحال من ضمير النصب في قوله تعالى: {وَنُذِيقُهُ}.
و {قَدَّمَتْ} بمعنى: أسلفت. جعل كفره كالشيء الذي بعث به إلى دار الجزاء بل أن يصل هو إليها فوحده يوم القيامة حاضرا ينتظره قال تعالى: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا

حَاضِراً} .
والإشارة إلى العذاب. والباء سببية، و "ما" موصولة. وعطف على "ما" الموصولة قوله تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} لأنه في تأويل مصدره، أي وبانتفاء ظلم الله العبيد، أي ذلك العذاب مسبب لهذين الأمرين فصاحبه حقيق به لأنه أثر عدل الله تعالى وأنه لم يظلمه فيما أذاقه.
وصيغة المبالغة تقتضي بظاهرها نفي الظلم الشديد. والمقصود أن الظلم من حيث هو ظلم أمر شديد فصيغت له زنة المبالغة،وكذلك التزمت في ذكره حيثما وقع في القرآن. وقد اعتاد جمع من المتأخرين أن يجعلوا المبالغة راجعة للنفي لا للمنفي وهو بعيد.
[11] {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}
هذا وصف فريق آخر من الذين يقابلون الأمر بالتقوى والإنذار بالساعة مقابلة غير المطمئن بصدق دعوة الإسلام ولا المعرض عنها إعراضا تاما ولكنهم يضعون أنفسهم في معرض الموازنة بين دينهم القديم ودين الإسلام. فهم يقبلون دعوة الإسلام ويدخلون في عداد متبعيه ويرقبون ما ينتابهم بعد الدخول في الإسلام فإن أصابهم الخير عقب ذلك علموا أن دينهم القديم ليس بحق وأن آلهتهم لا تقدر على شيء لأنها لو قدرت لانتقمت منهم على نبذ عبادتها وظنوا أن الإسلام حق، وإن أصابهم سر من شرور الدنيا العارضة في الحياة المسببة عن أسباب عادية سخطوا على الإسلام وانخلعوا عنه. وتوهموا أن آلهتهم أصابتهم بسوء غضبا من مفارقتهم عبادتها كما حكي الله عن عاد إذ قالوا لرسولهم {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} .
فالعبادة في قوله تعالى: {مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} مراد بها عبادة الله وحده بدليل قوله تعالى: {يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ} .
والظاهر أن الآية نزلت بالمدينة، ففي صحيح البخاري عن ابن عباس في قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} قال: كان الرجل يقدم المدينة فإن ولدت امرأته غلاما ونتجت خيله قال: هذا دين صالح، وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال: هذا دين سوء.

وفي رواية الحسن: أنها نزلت في المنافقين يعني المنافقين من الذين كانوا مشركين مثل: عبد الله بن أبي بن سلول. وهذا بعيد لأن أولئك كانوا مبطنين الكفر فلا ينطبق عليهم قوله: {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ} . وممن يصلح مثالا لهذا الفريق العرنيون الذين أسلموا وهاجروا فاجتووا المدينة. فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بان يلحقوا براعي إبل الصدقة خارج المدينة فيشربوا من ألبانها وأبوالها حتى يصحوا فلما صحوا قتلوا الراعي واستاقوا الذود وفروا. فألحق بهم النبي صلى الله عليه وسلم الطلب في أثرهم حتى لحقوا بهم فأمر بهم فقتلوا.
وفي حديث الموطأ : "أن أعرابيا أسلم وبايع النبي صلى الله عليه وسلم فأصابه وعك بالمدينة، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستقيله بيعته فأبى أن يقيله، فخرج من المدينة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "المدينة كالكير تنفي خبثها وينصع طيبها" فجعله خبثا لأنه لم يكن مؤمنا ثابتا. وذكر الفخر عن مقاتل أن نفرا من أسد وغطفان قالوا: تخاف أن لا ينصر الله محمدا فينقطع الذي بيننا وبين حلفائنا من اليهود فلا يميروننا فنزل فيهم قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ}.
وعن الضحاك: أن الآية نزلت في المؤلفة قلوبهم، منهم: عيينة ابن حصن والأقرع بن حابس والعباس بن مرداس قالوا: ندخل في دين محمد فإن أصبنا خيرا عرفنا أنه حق. وإن أصبنا غير ذلك عرفنا أنه باطل. وهذا كله ناشئ عن الجهل وتخليط الأسباب الدنيوية بالأسباب الأخروية، وجعل المقارنات الاتفاقية كالمعلومات اللزومية. وهذا أصل كبير من أصول الضلالة في أمور الدين وأمور الدنيا. ولنعم المعبر عن ذلك قوله تعالى: {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ} إذ لا يهتدي إلى تطلب المسببات من أسبابها.
وحرف الشيء طرفه وجانبه سواء كان مرتفعا كحرف الجبل والوادي أم كان مستويا كحرف الطريق. ويطلق الحرف على طرف الجيش. ويجمع على طرف بوزن عنب قال في القاموس : ولا نظير له سوى طل وطلل.
وقوله تعالى: {يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} تمثيل لحال المتردد في عمله، يريد تجربة عاقبته بحال من يمشي على حرف جبل أو حرف واد فهو متهيئ لأن يزل عنه إلى أسفله فينقلب، أي ينكب.
ومعنى اطمأن: استقر وسكن في مكانه. ومصدره الاطمئنان واسم المصدر الطمأنينة. وتقدم في قوله تعالى: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} في سورة البقرة.

والمعنى: استمر على التوحيد فرحا بالخير الذي أصابه. واستقرار مثل هذا على الإيمان يصيره مؤمنا إذا زال عنه التردد وحال هؤلاء قريب من حال المؤلفة قلوبهم.
والانقلاب: مطاوع قلبه إذا كبه، أي ألقاه على عكس ما كان عليه بأن جعل ما كان أعلاه أسلفه كما يقلب القالب بفتح اللام. فالانقلاب مستعمل في حقيقته، والكلام تمثيل. وتفسيرنا الانقلاب هنا بهذا المعنى هو المناسب لقوله: {عَلَى وَجْهِهِ} أي سقط وانكب عليه، كقول امرئ القيس:
يكب على الأذقان دوح الكنهبل
وكقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن هذا الأمر في قريش لا ينازعهم فيه أحد إلا كبه الله على وجهه" .
وحرف الاستعلاء ظاهر وهو أيضا الملائم لتمثيل أول حاله بحال من هو على حرف.
ويطلق الانقلاب كثيرا على الانصراف من الجهة التي أتاها إلى الجهة التي جاء منها، وهو مجاز شائع وبه فسر المفسرون. ولا يناسب اعتباره هنا لأن مثله يقال فيه: انقلب على عقبيه لا على وجهه، كما قال تعالى: {إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} إذ الرجوع إنما يكون إلى جهة غير جهة الوجه.
والفتنة: اضطراب الحال وقلق البال من حدوث شر لا مدفع له. وهي مقابل الخير.
وجملة: {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ} يدل اشتمال من جملة {انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} .
وجملة: {ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} معترضة بين جملة: {انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِه} وجملة: {يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ} التي هي في موضع الحال من ضمير {انْقَلَبَ} أي: أسقط في الشرك.
والخسران: تلف جزء من أصل مال التجارة، فسبه نفع الدنيا ونفع الآخرة بمال التاجر الساعي في توفيره لأن الناس يرغبون تحصيله. وثنى على ذلك إثبات الخسران لصاحبه الذي هو من مرادفات مال التجارة المشبه به، فشبه فوات النفع المطلوب بخسارة المال.
وتعلق الخسران بالدنيا والآخرة على حذف مضاف. والتقدير خسر خير الدنيا وخير

الآخرة.
فخسارة الدنيا بسبب ما أصابه فيها من الفتنة، وخسارة الآخرة بسبب عدم الانتفاع بثوابها المرجو له.
والمبين: الذي فيه ما يبين للناس أنه خسران بأدنى تأمل. والمراد أنه خسران شديد لا يخفى.
والإتيان باسم الإشارة لزيادة تمييز المسند اليه أتم تمييز لتقرير مدلوله في الأذهان.
وضمير {هُوَ} ضمير فصل. والقصر المستفاد من تعريف المسند قصر ادعائي. ادعي أن ماهية الخسران المبين انحصرت في خسرانهم. والمقصود من القصر الادعائي تحقيق الخبر ونفي الشك في وقوعه. وضمير الفصل أكد معنى القصر فأفاد تقوية الخبر المقصور.
[12] {يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ}
جملة: {يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ} الخ حال من ضمير {انْقَلَبَ}.
وقدم الضر على النفع في قوله: {مَا لا يَضُرُّهُ} إيماء إلى أنه تملص من الإسلام تجنبا للضر لتوهمه أن ما لحقه من الضر بسبب الإسلام وبسبب غضب الأصنام عليه، فعاد إلى عبادة الأصنام حاسبا أنها لا تضره. وفي هذا الإيماء تهكم به يظهر بتعقيبه بقوله تعالى: {مَا لا يَنْفَعُهُ} أي فهو مخطئ في دعائه الأصنام لتنزيل عنه الضر فينتفع بفعلها. والمعنى: أنها لا تفعل ما يجلب ضرا ولا ما يجلب نفعا.
والإشارة في قوله: {ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} إلى الدعاء المستفاد من {يَدْعُو} .
والقول في اسم الإشارة وضمير الفصل والقصر مثل ما تقدم في قوله: {ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} .
والبعيد: المتجاوز الحد المعروف في مدى الضلال، أي هو الضلال الذي لا يماثله ضلال لأنه يعبد ما لا غناء له.
[13] {يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ}

جملة في موضع حال ثانية. ومضمونها ارتقاء في تضليل عابدي الأصنام. فيعد أن بين لهم أنهم يعبدون ما لا غناء لهم فيه زاد فبين أنهم يعبدون ما فيه ضر. فموضع الارتقاء هو مضمون جملة: {مَا لايَضُرُّهُ} كأنه قيل: ما لا يضره بل ما ينجر له منه ضر. وذلك أن عبادة الأصنام تضره في الدنيا بالتوجه عند الاضطرار إليها فيضيع زمنه في تطلب ما لا يحصل وتضره في الآخرة بالإلقاء في النار.
ولما كان الضر الحاصل من الأصنام ليس ضرا ناشئا عن فعلها بل هو ضر ملابس لها أثبت الضر بطريق الإضافة للضمير دون طريق الإسناد إذ قال تعالى: {لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} ولم يقل: لمن يضر ولا ينفع، لأن الإضافة أوسع من الإسناد فلم يحصل تناف بين قوله: {مَا لا يَضُرُّهُ} وقوله: {لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ}.
وكونه أقرب من النفع كناية عن تمحضه للضر وانتفاء النفع منه لأن الشيء الأقرب حاصل قبل البعيد فيقتضي أن لا يحصل معه إلا الضر.
واللام في قوله: {لَمَنْ} لام الابتداء، وهي تفيد تأكيد مضمون الجملة الواقعة بعدها، فلام الابتداء تفيد مفاد "إن" من التأكيد.
وقدمت من تأخير إذ حقها أن تدخل على صلة من الموصولة. والأصل: يدعو من لضره أقرب من نفعه.
ويجوز أن تعتبر اللام داخلة على "من" الموصولة ويكون فعل {يَدْعُو} معلقا عن العمل لدخول لام الابتداء بناء على الحق من عدم اختصاص التعليق بأفعال القلوب.
وجملة: {لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} إنشاء ذم للأصنام التي يدعونها بأنها شر الموالي وشر العشراء لأن شأن المولى جلب النفع لمولاه، وشأن العشير جلب الخير لعشيره فإذا تخلف ذلك منهما نادرا كان مذمة وغضاضة، فأما أن يكون ذلك منه مطردا فذلك شر الموالي.
[14] {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}
هذا مقابل قوله: {وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ} وقوله: {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ} . فالجملة معترضة. وقد اقتصر على ذكر ما للمؤمنين من ثواب

الآخرة دون ذكر حالهم في الدنيا لعدم أهمية ذلك لديهم ولا في نظر الدين.
وجملة: {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} تذييل للكلام المتقدم من قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} إلى هنا، وهو اعتراض بين الجمل الملتئم منها الغرض. وفيها معنى التعليل الإجمالي لاختلاف أحوال الناس في الدنيا والآخرة.
وفعل الله ما يريد هو إيجاد أسباب أفعال العباد في سنة نظام هذا العالم. وتبيينة الخير والشر. وترتيبه الثواب والعقاب. وذلك لا يحيط بتفاصيله إلا الله تعالى.
[15] {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ}
موقع هذه الآية غامض، ومفادها كذلك. ولنبدأ ببيان موقعها ثم نتبعه ببيان معناها فإن بين موقعها ومعناها اتصالا.
فيحتمل أن يكون موقعها استئنافا ابتدائيا أريد به ذكر فريق ثالث غير الفريقين المتقدمين في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} الآية وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} . وهذا الفريق الثالث جماعة أسلموا واستبطأوا نصر المسلمين فأيسوا منه وغاظهم تعجلهم للدخول في الإسلام وأن لم يتريثوا في ذلك وهؤلاء هم المنافقون.
ويحتمل أن يكون موقعها تذييلا لقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} الآية بعد أن اعترض بين تلك الجملة وبين هاته بجمل أخرى فيكون المراد: أن الفريق الذين يعبدون الله على حرف والمخبر عنهم بقوله: {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ} هم قوم يظنون أن الله لا ينصرهم في الدنيا ولا في الآخرة إن بقوا على الإسلام.
فأما ظنهم انتفاء النصر في الدنيا فلأنهم قد أيسوا من النصر استبطاء. وأما في الآخرة فلأنهم لا يؤمنون بالبعث ومن أجل هذا علق فعل لن ينصره بالمجرور بقوله: {فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} إيماء إلى كونه متعلق الخسران في قوله: {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ} . فإن عدم النصر خسران في الدنيا بحصول ضده. وفي الآخرة باستحالة وقوع الجزاء في الآخرة حسب اعتقاد كفرهم. وهؤلاء مشركون مترددون.
ويترجح هذا الاحتمال بتغيير أسلوب الكلام، فلم يعطف بالواو كما عطف قوله

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ} ولم تورد فيه جملة: {وَمِنَ النَّاسِ} كما أوردت في ذكر الفريقين السابقين ويكون المقصود من الآية تهديد هذا الفريق. فيكون التعبير عن هذا الفريق بقوله: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ} الخ إظهارا في مقام الإضمار، فإن مقتضى الظاهر أن يؤتى بضمير ذلك الفريق فيقال بعد قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} الخ عائدا الضمير المستتر في قوله: {فَلْيَمْدُدْ} على {مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ}.
والعدول عن الإضمار إلى الإظهار لوجهين. أحدهما: بعد معاد الضمير. وثانيهما التنبيه على أن عبادته الله على حرف ناشئة عن ظنه أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة إن صمم على الاستمرار في إتباع الإسلام لأنه غير واثق بوعد النصر للمسلمين.
وضمير النصب في {يَنْصُرَهُ} عائد إلى {مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} على كلا الاحتمالين.
واسم {السَّمَاءِ} مراد به المعنى المشهور على كلا الاحتمالين أيضا أخذا بما رواه القرطبي عن ابن زيد "يعني عبد الرحمان بن زيد ابن أسلم" أنه قال في قوله تعالى: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} قال: هي السماء المعروفة، يعني المطلة. فالمعنى: فلينط حبلا بالسماء مربوطا به ثم يقطعه فيسقط من السماء فيتمزق كل ممزق فلا يغني عنه فعله شيئا من إزالة غيظه.
ومفعول "يقطع" محذوف لدلالة المقام عليه. والتقدير: ثم ليقطعه، أي ليقطع السبب.
والأمر في قوله: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} للتعجيز، فيعلم أن تعليق الجواب على حصول شرط لا يقع كقوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا}.
وأما استخراج معنى الآية من نظمها فإنها نسجت على إيجاز بديع. شبهت حالة استبطان هذا الفريق الكفر وإظهارهم الإسلام على حنق، أو حالة ترددهم بين البقاء في المسلمين وبين الرجوع إلى الكفار بحالة المغتاظ مما صنع فقيل لهم: عليكم أن تفعلوا ما يفعله أمثالكم ممن ملأهم الغيظ وضاقت عليهم سبل الانفراج، فامددوا حبلا بأقصى ما يمد إليه حبل، وتعلقوا به في أعلى مكان ثم قطعوه تخروا إلى الأرض. وذلك تهكم بهم

في أنهم لا يجدون غنى في شيء من أفعالهم. وإنذار باستمرار فتنتهم في الدنيا مع الخسران في الآخرة.
ويحتمل أن تكون الآية مشيرة إلى فريق آخر أسلموا في مدة ضعف الإسلام واستبطأوا النصر فضاقت صدورهم فخطرت لهم خواطر شيطانية أن يتركوا الإسلام ويرجعوا إلى الكفر فزجرهم الله وهددهم بأنهم إن كانوا آيسين من النصر في الدنيا ومرتابين في نيل ثواب الآخرة فإن ارتدادهم عن الإسلام لا يضر الله ولا رسوله ولا يكيد الدين وإن شاءوا فليختنقوا فينظروا هل يزيل الاختناق غيظهم. ولعل هؤلاء من المنافقين.
فموقع الآية على هذا الوجه موقع الاستئناف الابتدائي لذكر فريق آخر يشبه من يعبد الله على حرف. والمناسبة ظاهرة.
ويجيء على هذا الوجه أن يكون ضمير {يَنْصُرَهُ اللَّهُ} عائدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا مروي عن ابن عباس واختاره الفراء والزجاج.
ويستتبع ذلك في كل الوجوه تعريضا بالتنبيه لخلص المؤمنين أن لا ييأسوا من نصر الله في الدنيا والآخرة أو في الآخرة فقط. قال تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً. لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ} الآية.
والسبب: الحبل. وتقدم في قوله: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} في سورة البقرة.
والقطع: قيل يطلق على الاختناق لأنه يقطع الأنفاس.
و "ما" مصدرية، أي غيظه.
والاستفهام بـ {هَلْ} إنكاري. وهو معلق فعل {فَلْيَنْظُرْ} عن العمل. والنظر قلبي. وسمي الفعل كيدا لأنه يشبه الكيد في أنه فعله لأن يكيد المسلمين على وجه الاستعارة التهكمية فإنه لا يكيد به المسلمين بل يضر به نفسه.
وقرأ الجمهور {ثُمَّ لْيَقْطَعْ} بسكون لام ليقطع وهو لام الأمر. فإذا كان في أول الكلمة كان مكسورا، وإذا وقع بعد عاطف غير "ثم" كان ساكنا مثل {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ}. فإذا وقع بعد "ثم" جاز فيه الوجهان. وقرأه ابن عامر، وأبو عمرو وورش عن نافع، وأبو جعفر ورويس عن يعقوب - بكسر اللام -.

[16] {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ}
لما تضمنت هذه الآيات تبيين أحوال الناس تجاه دعوة الإسلام بما لا يبقى بعده التباس عقبت بالتنويه بتبيينها؛ بأن شبه ذلك التبيين بنفسه كناية عن بلوغه الغاية في جنسه بحيث لا يلحق بأوضح منه، أي مثل هذا الإنزال أنزلنا القرآن آيات بينات.
فالجملة معطوفة على الجمل التي قبلها عطف غرض على غرض والمناسبة ظاهرة، فهي استئناف ابتدائي. وعطف على التنويه تعليل إنزاله كذلك بان الله يهدي من يريد هديه أي بالقرآن. فلام التعليل محذوفة. وحذف حرف الجر مع "ان" مطرد.
[17] {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}
فذلكة لما تقدم. لأنه لما اشتملت الآيات السابقة على بيان أحوال المترددين في قبول الإسلام كان ذلك مشار لأن يتساءل عن أحوال الفرق بعضهم مع بعض في مختلف الأديان. وأن يسأل عن الدين الحق لأن كل أمة تدعى أنها على الحق وغيرها على الباطل وتجادل في ذلك.
فبينت هذه الآية أن الفصل بين أهل الأديان فيما اختصموا فيه يكون يوم القيامة. إذ لم تقدهم الحجج في الدنيا.
وهذا الكلام بما فيه من إجمال هو جار مجرى التفويض. ومثله يكون كناية عن تصويب المتكلم طريقته وتخطئته طريقة خصمه. لأن مثل ذلك التفويض لله لا يكون إلا من الواثق بأنه على الحق وهو كقوله تعالى: {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} وذلك من قبيل الكناية التعريضية.
وذكر المؤمنين واليهود والنصارى والصابئين تقدم في آية البقرة وآية العقود.
وزاد في هذه الآية ذكر المجوس والمشركين، لأن الآيتين المتقدمتين كانتا في مساق بيان فضل التوحيد والإيمان بالله واليوم الآخر في كل زمان وفي كل أمة. وزيد في هذه السورة ذكر المجوس والمشركين لأن هذه الآية مسوقة لبيان التفويض إلى الله في الحكم بين أهل الملل، فالمجوس والمشركون ليسوا من أهل الإيمان بالله واليوم الآخر.

فأما المجوس فهم أهل دين يثبت إلهين: إلها للخير، وإلها للشر، وهم أهل فارس. ثم هي تتشعب شعبا تأوي إلى هذين الأصلين. وأقدم النحل المجوسية أسسها كيومرث الذي هو أول ملك بفارس في أزمنة قديمة يظن أنها قبل زمن إبراهيم عليه السلام، ولذلك يلقب أيضا بلقب "جل شاه1" تفسيره: ملك الأرض. غير أن ذلك ليس مضبوطا بوجه علمي وكان عصر "كيومرث" يلقب "زروان" أي الأزل، فكان أصل المجوسية هم أهل الديانة المسماة: الزروانية وهي تثبت إلهين هما "يزدان" و "أهرمن". قالوا: كان يزدان منفردا بالوجود الأزلي، وأنه كان نورانيا، وأنه بقي كذلك تسعة آلف وتسعين سنة ثم حدث له خاطر في نفسه: أنه لو حدث له منازع كيف يكون الأمر فنشأ من هذا الخاطر موجود جديد ظلماني سمي "أهرمن" وهو إله الظلمة مطبوعا على الشر والضر. وإلى هذا أشار أبو العلاء المعري بقوله في لزومياته:
قال أناس باطل زعمهم ... فراقبوا الله ولا تزعمن
فكر يزدان على غرة ... فصيغ من تفكيره أهرمن
فحدث بين "أهرمن" وبين "يزدان" خلاف ومحاربة إلى الأبد. ثم نشأت على هذا الدين نحل خصت بألقاب وهي متقاربة التعاليم أشهرها نحلة "زرادشت" الذي ظهر في القرن السادس قبل ميلاد المسيح، وبه اشتهرت المجوسية. وقد سمي إله الخير "أهورا مزدا" أو "أرمزد" أو "هرمز"، وسمي إله الشر "أهرمن"، وجعل إله الخير نورا، وإله الشر ظلمة. ثم دعا الناس إلى عبادة النار على أنها مظهر إله الخير وهو النور.
ووسع شريعة المجوسية، ووضع لها كتابا سماه "زندافستا". ومن أصول شريعته تجنب عبادة التماثيل.
ثم ظهرت في المجوس نحلة المانوية. وهي المنسوبة إلى "ماني" الذي ظهر في زمن سابور بن أردشير ملك الفرس بين سنة 238 وسنة 271م.
وظهرت في المجوس نحلة "المزدكية"، وهي منسوبة إلى "مزدك" الذي ظهر في زمن قباذ بين سنة 487 وسنة 523م. وهي نحلة قريبة من "المانوية"، وهي آخر نحلة ظهرت في تطور المجوسية قبل الفتح الإسلامي لبلاد الفرس.
ـــــــ
1 لعل صواب العبارة "جهان شاه".

وللمجوسية شبه في الأصل بالإشراك إلا أنها تخالفه بمنع عبادة الأحجار، وبأن لها كتابا، فأشبهوا بذلك أهل الكتاب. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب " أي في الاكتفاء بأخذ الجزية منهم دون الإكراه على الإسلام كما يكره المشركون على الدخول في الإسلام.
وقد تقدم شيء من هذا عند قوله تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} في سورة النحل.
وأعيدت "إن" في صدر الجملة الواقعة خبرا عن اسم "إن" الأولى توكيدا لفظيا للخبر لطول الفصل بين اسم "إن" وخبرها. وكون خبرها جملة وهو توكيد حسن بسبب طول الفصل. وتقدم منه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} في سورة الكهف. وإذا لم يطل الفصل فالتوكيد بإعادة "إن" أقل حسنا كقول جرير:
إن الخليفة أن الله سربله ... سربال ملك به تزجى الخواتيم
ولا يحسن إذا كان مبتدأ الجملة الواقعة خبرا ضمير اسم "إن" الأولى كما تقول إن زيدا إنه قائم. بل لا بد من الاختلاف ليكون المؤكد الثاني غير الأول فتقبل إعادة المؤكد وإن كان المؤكد الأول كافيا.
والفصل: الحكم، أي يحكم بينهم فيما اختلفوا فيه من تصحيح الديانة.
وجملة: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} مستأنفة استئنافا ابتدائيا للإعلام بإحاطة علم الله بأحوالهم واختلافهم والصحيح من أقوالهم.
[18] {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ}
جملة مستأنفة لابتداء استدلال على انفراد الله تعالى بالإلهية. وهي مرتبطة بمعنى قوله: {يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ} إلى قوله: {لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} ارتباط الدليل بالمطلوب فإن دلائل أحوال المخلوقات كلها عاقلها وجمادها شاهدة بتفرد الله بالإلهية. وفي تلك الدلالة شهادة على بطلان دعوة من يدعو من

دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه.
وما وقع بين هاتين الجملتين استطراد واعتراض.
والروية: علمية. والخطاب لغير معين.
والاستفهام إنكاري. أنكر على المخاطبين عدم علمهم بدلالة أحوال المخلوقات على تفرد الله بالإلهية. ويجوز أن يكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والاستفهام تقريريا، لأن حصول علم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك متقرر من سورة الرعد وسورة النحل. وقد تقدم الكلام على معنى هذا السجود في السورتين المذكورتين.
وقد استعمل السجود في حقيقته ومجازه، وهو حسن وإن أباه الزمخشري، وقد حققناه في المقدمة التاسعة، لأن السجود المثبت لكثير من الناس هو السجود الحقيقي، ولولا إرادة ذلك لما احترس بإثباته لكثير من الناس لا لجميعهم.
ووجه هذا التفكيك أن سجود الموجودات غير الإنسانية ليس إلا دلالة تلك الموجودات على أنها مسخرة بخلق الله، فاستعير السجود لحالة التسخير والانطباع. وأما دلالة حال الإنسان على عبوديته لله تعالى فلما خالطها إعراض كثير من الناس عن السجود لله تعالى، وتلبسهم بالسجود للأصنام كما هو حال المشركين غطى سجودهم الحقيقي على السجود المجازي الدال على عبوديتهم لله لأن المشاهدة أقوى من دلالة الحال فلم يثبت لهم السجود الذي أثبت لبقية الموجودات وإن كان حاصلا في حالهم كحال المخلوقات الأخرى.
وجملة: {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} معترضة بالواو.
وجملة: {حَقّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} مكنى بها عن ترك السجود لله، أي حق عليهم العذاب لأنهم لم يسجدوا لله، وقد قضى الله في حكمه استحقاق المشترك لعذاب النار. فالذين أشركوا بالله وأعرضوا عن إفراده بالعبادة قد حق عليهم العذاب بما قضى الله به وأنذرهم به.
وجملة: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} اعتراض ثان بالواو.
والمعنى: أن الله أهانهم باستحقاق العذاب فلا يجدون من يكرمهم بالنصر أو بالشفاعة.

وجملة: {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} في محل العلة للجملتين المعترضتين لأن وجود حرف التوكيد في أول الجملة مع عدم المنكر يمحض حرف التوكيد إلى إفادة الاهتمام فنشأ من ذلك معنى السببية والتعليل، فتغني "أن" غناء حرف التعليل أو السببية.
وهذا موضع سجود من سجود القرآن باتفاق الفقهاء.
[19-22] {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ}
مقتضى سياق السورة واتصال آي السورة وتتابعها في النزول أن تكون هذه الآيات متصلة النزول بالآيات التي قبلها فيكون موقع جملة: {هَذَانِ خَصْمَانِ} موقع الاستئناف البياني، لأن قوله: {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} يثير سؤال من يسأل عن بعض تفصيل صفة العذاب الذي حق على كثير من الناس الذين لم يسجدوا لله تعالى، فجاءت هذه الجملة لتفصيل ذلك. فهي استئناف بياني. فاسم الإشارة المثنى مثير إلى ما يفيده قوله تعالى: {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} من انقسام المذكورين إلى فريقين أهل توحيد وأهل شرك كما يقتضيه قوله: {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} من كون أولئك فريقين: فريق يسجد لله تعالى، وفريق يسجد لغيره. فالإشارة إلى ما يستفاد من الكلام بتنزيله منزلة ما يشاهده بالعين، ومثلها كثير في الكلام.
والاختصام: افتعال من الخصومة. وهي الجدل والاختلاف بالقول يقال: خاصمه واختصما، وهو من الأفعال المقتضية جانبين فلذلك لم يسمع منه فعل مجرد إلا إذا أريد منه معنى الغلب في الخصومة لأنه بذلك يصير فاعله واحدا. وتقدم قوله تعالى: {وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً} في سورة النساء. واختصام فريقي المؤمنين وغيرهم معلوم عند السامعين قد ملأ الفضاء جلبته، فالإخبار عن الفريقين بأنهما خصمان مسوق لغير إفادة الخبر بل تمهيدا للتفصيل في قوله: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} .
فالمراد من هذه الآية ما يعم جميع المؤمنين وجميع مخالفيهم في الدين.
ووقع في الصحيحين عن أبي ذر: أنه كان يقسم أن هذه الآية {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} نزلت في حمزة وصاحبيه علي ابن أبي طالب وعتبة بن الحارث الذين

بارزوا يوم بدر شيبة ابن ربيعة. وعتبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة.
وفي صحيح البخاري عن علي بن أبي طالب قال: أنا أول من يجثو بين يدي الرحمان للخصومة يوم القيامة. قال قيس بن عبادة: وفيهم نزلت {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} . قال: هم الذين بارزوا يوم بدر: علي، وحمزة، وعبيدة، وشيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة. وليس في كلام علي أن الآية نزلت في يوم بدر ولكن ذلك مدرج من كلام قيس بن عبادة، وعليه فهذه الآية مدنية فتكون {هذان} إشارة إلى فريقين حاضرين في أذهان المخاطبين فنزل حضور قصتهما العجيبة في الأذهان منزلة المشاهدة حتى أعيد عليها اسم الإشارة الموضوع للمشاهد، وهو استعمال في كلام البلغاء. ومنه قول الأحنف بن قيس: "خرجت لأنصر هذا الرجل" يريد علي بن أبي طالب في قصة صفين.
والأظهر أن أبا ذر عنى بنزول الآية في هؤلاء أن أولئك النفر الستة هم أبرز مثال وأشهر فرد في هذا العموم. فعبر بالنزول وهو يريد أنهم ممن يقصد من معنى الآية. ومثل هذا كثير في كلام المتقدمين. والاختصام على الوجه الأول حقيقي وعلى الوجه الثاني أطلق الاختصام على المبارزة مجازا مرسلا لأن الاختصام في الدين هو سبب تلك المبارزة.
واسم الخصم يطلق على الواحد وعلى الجماعة إذا أتحدث خصومتهم كما في قوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} فلمراعاة تثنية اللفظ أتي باسم الإشارة الموضوع للمثنى ولمراعاة العدد أتي بضمير الجماعة في قوله تعالى: {اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} .
ومعنى {فِي رَبِّهِمْ} في شأنه وصفاته، فالكلام على حذف مضاف ظاهر. وقرأ الجمهور {هَذَانِ} بتخفيف النون، وقراه ابن كثير بتشديد النون وهما لغتان.
والتقطيع: مبالغة القطع، وهو فصل بعض أجزاء شيء عن بقيته. والمراد: قطع شقة الثوب. وذلك أن الذي يريد اتخاذ قميص أو نحوه يقطع من شقة الثوب ما يكفي كما يريده. فصيغت صيغة الشدة في القطع للإشارة إلى السرعة في إعداد ذلك لهم فيجعل لهم ثياب من نار. والثياب من النار ثياب محرقة للجلود وذلك من شؤون الآخرة.
والحميم: الماء الشديد الحرارة.

والإصهار: الإذابة بالنار أو بحرارة الشمس، يقال: أصهره وصهره.
وما في بطونهم: أمعاؤهم، أي هو شديد في النفاذ إلى باطنهم.
والمقامع: جمع مقمعة بكسر الميم بصيغة اسم آله القمع. والقمع: الكف عن شيء بعنف. والمقمعة: السوط، أي يضربون بسياط من حديد.
ومعنى: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} أنهم لشدة ما يغمهم، أي يمنعهم من التنفس، يحاولون الخروج فيعادون فيها فيحصل لهم ألم الخيبة، ويقال لهم: ذوقوا عذاب الحريق.
والحريق: النار الضخمة المنتشرة. وهذا القول إحانة لهم فإنهم قد علموا أنهم يذوقونه.
[23-24] {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ}
كان مقتضى الظاهر أن يكون هذا الكلام معطوفا بالواو على جملة: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} ، لأنه قسيم تلك الجملة في تفصيل الإجمال الذي في قوله: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} بأن يقال: والذين آمنوا وعملوا الصالحات يدخلهم الله جنات... إلى آخره. فعدل عن ذلك الأسلوب إلى هذا النظم لاسترعاء الأسماع إلى هذا الكلام إذا جاء مبتدأ به مستقلا مفتتحا بحرف التأكيد ومتوجا باسم الجلالة، والبليغ لا تفوته معرفة أن هذا الكلام قسيم للذي قبله في تفصيل إجمال {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} لوصف حال المؤمنين المقابل لحال الذين كفروا في المكان واللباس وخطاب الكرامة.
فقوله: {يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا} الخ مقابل قوله: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} وقوله: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ} يقابل قوله: {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ} . وقوله: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} مقابل قوله: {قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ}. وقوله: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} مقابل قوله: {وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} فإنه من القول النكد.

والتحلية وضع الحلي على أعضاء الجسم. حلاه: ألبسه الحلي مثل جلبب.
والأساور: جمع أسورة الذي هو جمع سوار. أشير بجمع الجمع إلى التكثير كما تقدم في قوله: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً} في سورة الكهف.
و "من" في قوله: {من أساور} زائدة للتوكيد. ووجهه أنه لما لم يعهد تحلية الرجال بالأساور كان الخبر عنهم بأنهم يحلون أساور معرضا للتردد في إرادة الحقيقة فجيء بالمؤكد لإفادة المعنى الحقيقي. ولذلك فـ {أَسَاوِرَ} في موضع المفعول الثاني لـ {يُحَلَّوْنَ}.
{ولؤلؤا} قرأه نافع، ويعقوب، وعاصم بالنصب عطفا على محل {أساور} أي يحلون لؤلؤا أي عقودا ونحوها. وقرأه الباقون بالجر عطفا على اللفظ. والمعنى: أساور من ذهب وأساور من لؤلؤ.
وهي مكتوبة في المصحف بألف بعد الواو الثانية في هذه السورة فكانت قراءة جر {لؤلؤ} مخالفة لمكتوب المصحف. والقراءة نقل ورواية فليس اتباع الخط واجبا على من يروي بما يخالفه. وكتب نظيره في سورة فاطر بدون ألف. والذين قرأوه بالنصب خالفوا أيضا خط المصحف واعتمدوا روايتهم.
وسريان معنى التأكيد على القراءتين واحد لأن التأكيد تعلق بالجملة كلها لا بخصوص المعطوف عليه حتى يحتاج إلى إعادة المؤكد مع المعطوف.
واللؤلؤ: الدر. ويقال له الجمان والجوهر. وهو حبوب بيضاء وصفراء ذات بريق رقراق تستخرج من أجواف حيوان مائي حلزوني مستقر في غلاف ذي دفتين مغلقتين عليه يفتحهما بحركة حيوية منه لامتصاص الماء الذي يسبح فيه ويسمى غلافه صدفا، فتوجد في جوف الحيوان حبة ذات بريق وهي تتفاوت بالكبر والصغر وبصفاء اللون وبياضه. وهذا الحيوان يوجد في عدة بحار: كبحر العجم وهو المسمى بالبحرين، وبحر الجابون، وشط جزيرة جربة من البلاد التونسية، وأجوده وأحسنه الذي يوجد منه في البحرين حيث مصب نهري الدجلة والفرات، ويستخرجه عواصون مدربون على التقاطه من قعر البحر بالغوص، يغوص الغائص مشدودا بحبل بيد من يمسكه على السفينة وينتشله بعد لحظة تكفيه للالتقاط. وقد جاء وصف ذلك في قول المسيب بن علس أو الأعشى:

لجمانة البحري جاء بها ... عواصها من لجة البحر
تصف النهار الماء غامره ... ورفيقه بالغيب لا يدري
وقال أبو ذؤيب الهذلي يصف لؤلؤة:
فجاء بها ما شئت من لطمية ... على وجهها ماء الفرات يموج
وقد أشارت إليه آية سورة النحل {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} ، ولما كانت التحلية غير اللباس جيء باسم اللباس بعد {يُحَلَّوْنَ} بصيغة الاسم دون " يَلْبَسُونَ" لتحصل الدلالة على الثبات والاستمرار كما دلت صيغة {يُحَلَّوْنَ} على أن التحلية متجددة بأصناف وألوان مختلفة، ومن عموم الصيغتين يفهم تحقق مثلها في الجانب الآخر فيكون في الكلام احتباك كأنه قيل: يحلون بها وحليتهم من أساور من ذهب ولباسهم فيها حرير يلبسونه.
والحرير: يطلق على ما نسج من خيوط الحرير كما هنا. وأصل اسم الحرير اسم الخيوط تفرزها من لعابها دودة مخصوصة تلفها لفا بعضها إلى بعض مثل كبة تلتئم مشدودة كصورة الفول السوداني تحيط بالدودة كمثل الجوزة وتمكث فيه الدودة مدة إلى أن تتحول الدودة إلى فراشة ذات جناحين فتثقب ذلك البيت وتخرج منه. وإنما تحصل الخيوط من ذلك البيت بوضعها في ماء حار في درجة الغليان حتى يزول تماسكها بسبب انحلال المادة الصمغية اللعابية التي تشدها فيطلقونها خيطا واحدا طويلا. ومن تلك الخيوط تنسج ثياب تكون بالغة في اللين واللمعان. وثياب الحرير أجود الثياب في الدنيا قديما وحديثا. وأقدم ظهورها في بلاد الصين منذ خمسة آلاف سنة تقريبا حيث يكثر شجر التوت. لأن دود الحرير لا يفرز الحرير إلا إذا كان علقه ورق التوت، والأكثر أنه يبني بيوته في أغصان التوت. وكان غير أهل الصين لا يعرفون تربية دود الحرير فلا يحصلون الحرير إلا من طريق بلاد الفرس يجلبه التجار فلذلك يباع بأثمان غالية. وكانت الأثواب الحريرية تباع بوزنها من الذهب. ثم نقل بزر دود الحرير الذي يولد منه الدود إلى القسطنطينية في زمن الإمبراطور بوستنيانوس بين سنة 527 وسنة 565م. ومن أصناف ثياب الحرير السندس والإستبرق وقد تقدما في سورة الكهف. وعرفت الأثواب الحريرية في الرومان في حدود أوائل القرن الثالث المسيحي.
ومعنى {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} أن الله يرشدهم إلى أقوال، أي يلهمهم

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68