كتاب : التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور
المؤلف : محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي

وأما قوله: {وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ} أي إن يولد ما في بطون الأنعام ميتا جاز أكله للرجال والأزواج، أو للرجال والنساء، أو للرجال والنساء والبنات، وذلك لأن خروجه ميتا يبطل ما فيه من الشؤم على المرأة، أو يذهب قداسته أو نحو ذلك.
وقرأ الجمهور: {وَإِنْ يَكُنْ} بالتحتية ونصب {مَيْتَةً}. وقرأ ابن كثير برفع ميتة، على أن كان تامة، وقد أجري ضمير: {يَكُنْ} على التذكير: لأنه جائز في الخبر عن اسم الموصول المفرد اعتبار التذكير لتجرد لفظه عن علامة تأنيث، وقد يراعي المقصود منه فيجري الإخبار على اعتباره، وقد اجتمعا في قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ} [محمد: 16]. وقرأ ابن عامر بالفوقية على اتباع تأنيث {خَالِصَةً}، أي إن تكن الأجنة، وقرأ {مَيْتَةً} بالنصب، وقرأه أبو بكر عن عاصم بالتأنيث والنصب.
وجملة: {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ} مستأنفة استئنافا بيانيا، كما قلت في جملة: {سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 138] آنفا.
والوصف: ذكر حالات الشيء الموصوف وما يتميز به لمن يريد تمييزه في غرض ما، وتقدم في قوله {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنعام: 100] في هذه السورة. والوصف، هنا: هو ما وصفوا به الأجنة من حل وحرمة لفريق دون فريق، فذلك وصف في بيان الحرام والحلال منه كقوله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} [النحل: 116].
وجزاؤهم عنه هو جزاء سوء بقرينة المقام، لأنه سمى مزاعمهم السابقة افتراء على الله. وجعل الجزاء متعديا للوصف بنفسه على تقدير مضاف، أي: سيجزيهم جزاء وصفهم. ضمن {يَجْزِيهِمْ} معنى يعطيهم، أي جزاء وفاقا له.
وجملة: {إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} تعليل لكون الجزاء موافقا لجرم وصفهم. وتؤذن "إن" بالربط والتعليل، وتغني غناء الفاء، فالحكيم يضع الأشياء مواضعها، والعليم يطلع على أفعال المجزيين، فلا يضيع منها ما يستحق الجزاء.
[140] {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ}.

تذييل جعل فذلكة للكلام السابق، المشتمل على بيان ضلالهم في قتل أولادهم، وتحجير بعض الحلال على بعض من أحل له.
وتحقيق الفعل بـ {قَدْ} للتنبيه على أن خسرانهم أمر ثابت، فيفيد التحقيق التعجيب منهم كيف عموا عما هم فيه من خسرانهم. وعن سعيد ابن جبير قال ابن عباس: إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين ومائة من سورة الأنعام {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ} - إلى- {وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ}. أي من قوله تعالى {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيباً} [الأنعام: 136] وجعلها فوق والثلاثين ومائة تقريبا، وهي في العد السادسة والثلاثون ومائة.
ووصف فعلهم بالخسران لأن حقيقة الخسران نقصان مال التاجر، والتاجر قاصد الربح وهو الزيادة، فإذا خسر فقد باء بعكس ما عمل لأجله ولذلك كثر في القرآن استعارة الخسران لعمل الذين يعملون طلبا لمرضاة الله وثوابه فيقعون في غضبه وعقابه، لأنهم اتعبوا أنفسهم فصلوا عكس ما تعبوا لأجله ذلك أن هؤلاء الذين قتلوا أولادهم قد طلبوا نفع أنفسهم بالتخلص من أضرار في الدنيا محتمل لحاقها بهم من جراء بناتهم، فوقعوا في أضرار محققة في الدنيا وفي الآخرة، فإن النسل نعمة من الله على الوالدين يأنسون به ويجدونه لكفاية مهماتهم، ونعمة على القبيلة تكثر وتعتز، وعلى العالم كله بكثرة من يعمره وبما ينتفع به الناس من مواهب النسل وصنائعه، ونعمة على النسل نفسه بما يناله من نعيم الحياة وملذاتها. ولتلك الفوائد اقتضت حكمة الله إيجاد نظام التناسل، حفظا للنوع، وتعميرا للعالم، وإظهارا لما الإنسان من مواهب تنفعه وتنفع قومه، على ما في عملهم من اعتداء على حق البنت الذي جعله الله لها وهو حق الحياة إلى انقضاء الأجل المقدر لها وهو حق فطري لا يملكه الأب فهو ظلم بين لرجاء صلاح لغير المظلوم ولا يضر بأحد لينتفع غيره. فلما قتل بعض العرب بناتهم بالوأد كانوا قد عطلوا مصالح عظيمة محققة، وارتكبوا به أضرارا حاصلة، من حيث أرادوا التخلص من أضرار طفيفة غير محققة الوقوع، فلا جرم أن كانوا في فعلهم كالتاجر الذي أراد الربح فباء بضياع أصل ماله، ولأجل ذلك سمى الله فعلهم: سفها، لأن السفه هو خفة العقل واضطرابه، وفعلهم ذلك سفه محض، أي سفه أعظم من إضاعة مصالح جمة وارتكاب أضرار عظيمة وجناية شنيعة، لأجل التخلص من أضرار طفيفة قد تحصل وقد لا تحصل. وتعريف المسند إليه بالموصولية للإيماء إلى أن الصلة علة في الخبر فإن خسرانهم مسبب عن قتل أولادهم.

وقوله: {سَفَهاً} منصوب على المفعول المطلق المبين لنوع القتل: أنه قتل سفه لا رأي لصاحبه، بخلاف قتل العدو وقتل القاتل، ويجوز أن ينتصب على الحال من {الَّذِينَ قَتَلُوا} وصفوا بالمصدر لأنهم سفهاء بالغون أقصى السفه.
والباء في قوله: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} للملابسة، وهي في موضع الحال إما من {سَفَهاً} فتكون حالا مؤكدة، إذ السفه لا يكون إلا بغير علم، وإما من فاعل {قَتَلُوا} ، فإنهم لما فعلوا القتل كانوا جاهلين بسفاهتهم وبشناعة فعلهم وبعاقبة ما قدروا حصوله لهم من الضر، إذ قد يحصل خلاف ما قدروه ولو كانوا يزنون المصالح والمفاسد لما أقدموا على فعلتهم الفظيعة.
والمقصود من الإخبار عن كونه بغير علم، بعد الإخبار عنه بأنه سفه، التنبيه على أنهم فعلوا ما في العالم من المفاسد، وينظمون حياتهم أحسن نظام، وهم في ذلك مغرورون بأنفسهم، وجاهلون بأنهم يجهلون {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف:104]. وتقدم الكلام على الوأد آنفا، ويأتي في سورة الإسراء عند قوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الاسراء: 31].
وقرأ الجمهور: {قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ} _بتخفيف التاء_ وقرأه ابن عامر بتشديد التاء، لأنه قتل بشدة، وليست قراءة الجمهور مفيتة هذا المعنى، لأن تسليط فعل القتل على الأولاد يفيد أنه قتل فظيع.
وقوله: {وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ} نعى عليهم خسرانهم في أن حرموا على أنفسهم بعض ما رزقهم الله، فحرموا الانتفاع به، وحرموا الناس الانتفاع به، وهذا شامل لجميع المشركين، بخلاف الذين قتلوا أولادهم. والموصول الذي يراد به الجماعة يصح في العطف على صلته أن تكون الجمل المتعاطفة مع الصلة موزعة على طوائف تلك الجماعة كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران:21].
وانتصب {افْتِرَاءً} على المفعول المطلق ل { وَحَرَّمُوا}: لبيان نوع التحريم بأنهم نسبوه لله كذبا.
وجملة {قَدْ ضَلُّوا} استئناف ابتدائي لزيادة النداء على تحقق ضلالهم.

والضلال: خطأ الطريق الموصل إلى المقصود، فهم راموا البلوغ إلى مصالح دنيوية، والتقرب إلى الله وإلى شركائهم، فوقعوا في المفاسد العظيمة، وأبعدهم الله بذنوبهم، فلذلك كانوا كمن رام الوصول فسلك طريقا آخر.
وعطف {وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} على {قَدْ ضَلُّوا} لقصد التأكيد لمضمون جملة {ضَلُّوا} لأن مضمون هذه الجملة ينفي ضد الجملة الأولى فتؤول إلى تقرير معناها.
والعرب إذا أكدوا بمثل هذا قد يأتون به غير معطوف نظرا لمآل مفاد الجملتين، وأنهما باعتباره بمعنى واحد، وذلك حق التأكيد كما في قوله تعالى: {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ} [النحل: 21] وقوله: {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} [المدثر: 9, 10]. وقول الأعشى:
إما ترينا حفاة لا نعال لنا
وقد يأتون به بالعطف وهو عطف صوري لأنه اعتداد بأن مفهوم الجملتين مختلف، ولا اعتداد بمآلها كما في قوله تعالى: {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} [طه:79] وقوله: {وقد ضللت إذا قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [الأنعام: 56] وقول المتنبي:
والبين جار على ضعفي وما عدلا
وكذلك جاء في هذه الآية ليفيد، بالعطف، أنهما خبران عن مساويهم.
و"كان" هنا في حكم الزائدة: لأنها زائدة معنى، وإن كانت عاملة، والمراد: وما هم بمهتدين، فزيادة "كان" هنا لتحقيق النفي مثل موقعا مع لام الجحود، وليس المراد أنهم ما كانوا مهتدين قبل أن يقتلوا أولادهم ويحرموا ما رزقهم الله، لأن هذا لا يتعلق به غرض بليغ.
[141] {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}.
{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ}.
الواو في: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ} للعطف، فيكون عطف هذه الجملة

على جملة {وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ} [الأنعام: 140] تذكيرا بمنة الله تعالى على الناس بما أنشأ لهم في الأرض مما ينفعهم، فبعد أن بين سوء تصرف المشركين فيما من به على الناس كلهم مع تسفيه آرائهم في تحريم بعضها على أنفسهم، عطف عليه المنة بذلك استنز إلا بهم إلى إدراك الحق والرجوع عن الغي، ولذلك أعيد في هذه الآية غالب ما ذكر في نظيرتها المتقدمة في قوله: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} [الأنعام: 99] لأن المقصود من الآية الأولى الاستدلال على أنه الصانع، وأنه المنفرد بالخلق، فكيف يشركون به غيره. ولذلك ذيلها بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 99]، وعطف عليها قوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ} [الأنعام: 100] الآيات.
والمقصود من هذه: الامتنان وإبطال ما ينافي الامتنان ولذلك ذيلت هذه بقوله {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ}.
والكلام كوجه إلى المؤمنين والمشركين، لأنه اعتبار وامتنان، وللمؤمنين الحظ العظيم من ذلك، ولذلك أعقب بالأمر بأداء حق الله في ذلك بقوله: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} إذ لا يصلح ذلك الخطاب للمشركين.
وتعريف المسند يفيد الاختصاص، أي هو الذي أنشأ لا غيره، والمقصود من هذا الحصر إبطال أن يكون لغيره حظ فيها، لإبطال ما جعلوه من الحرث والأنعام من نصيب أصنامهم مع أن الله أنشأه.
والإنشاء: الإيجاد والخلق، قال تعالى {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً} [الواقعة:35] أي نساء الجنة.
والجنات هي المكان من الأرض النابت فيه شجر كثير بحيث يجن أي يستر الكائن فيه، وقد تقدم عند قوله {كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ} [البقرة: 265] في سورة البقرة. وإنشاؤها إنباتها وتيسير ذلك بإعطائها ما يعينها على النماء، ودفع ما يفسدها أو يقطع نبتها، كقوله {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة:64].
والمعروشات: المرفوعات. يقال: عرش الكرمة إذا رفعها على أعمدة ليكون نماؤها في ارتفاع لا على وجه الأرض، لأن ذلك أجود لعنبها إذ لم يكن ملقى على وجه

الأرض. وعرش فعل مشتق من العرش وهو السقف، ويقال للأعمدة التي ترفع فوقها أغصان الشجر فتصير كالسقف يستظل تحته الجالس: العريش. ومنه ما يذكر في السيرة: العريش الذي جعل للنبي _ صلى الله عليه وسلم _ يوم بدر، وهو الذي بني على بقعته مسجد بعد ذلك هو اليوم موجود ببدر. ووصف الجنات بمعروشات مجاز عقلي، وإنما هي معروش فيها، والمعروش أشجارها, وغير المعروشات المبقاة كرومها منبسطة على وجه الأرض وأرفع بقليل، ومن محاسنها أنها تزين وجه الأرض فيرى الرائي جميعها أخضر.
وقوله: {مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ} صفة: ل {جَنَّاتٍ} قصد منها تحسين الموصوف والتذكير بنعمة الله أن ألهم الإنسان إلى جعلها على صفتين، فإن ذكر محاسن ما أنشأه الله يزيد في المنة، كقوله في شأن الأنعام {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل: 6].
و{مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ} حال من الزرع، وهو أقرب المذكورات إلى اسم الحال، ويعلم أن النخل والجنات كذلك، والمقصود التذكير بعجيب خلق الله، فيفيد ذكر الحال مع أحد الأنواع تذكر مثله في لنوع الآخر، وهذا كقوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة: 11] أي وإليه، وهي حال مقدرة على ظاهر قول النحويين لأنها مستقلة عن الإنشاء، وعندي أن عامل الحال إذا كان مما يحصل معناه في أزمنة، وكانت الحال مقارنة لبعض أزمنة عاملها، فهي جديرة بان تكون مقارنة، كما هنا.
"والأكل" بضم الهمزة وسكون الكاف لنافع وابن كثير، و بضمهما قرأه الباقون، هو الشيء الذي يؤكل، أي مختلفا ما يؤكل منه.
وعطف: {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ} على: {جَنَّاتٍ..... وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ}. والمراد شجر الزيتون وشجر الرمان. وتقدم القول في نظيره عند قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} الآية في هذه السورة [99].
إلا أنه قال هناك: {مُشْتَبِهاً} وقال هنا: {مُتَشَابِهٍ} وهما بمعنى واحد لأن التشابه حاصل من جانبين فليست صيغة التفاعل للمبالغة ألا ترى أنهما استويا في قوله {وغير متشابه} في الآيتين.
{كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}

غير أسلوب الحكاية عن أحوال المشركين فأقبل على خطاب المؤمنين بهذه المنة وهذا الحكم؛ فهذه الجمل معترضة وهي تعريض بتسفيه أحلام المشركين لتحريمهم على أنفسهم ما من الله به عليهم.
والثمر: بفتح الثاء والميم وبضمهما وقرئ بهما كما تقدم بيانه في نظيرتها.
والأمر للإباحة بقرينة أن الأكل من حق الإنسان الذي لا يجب عليه أن يفعله، فالقرينة ظاهرة. والمقصود الرد على الذين حجروا على أنفسهم بعض الحرث.
و {إِذَا} مفيدة للتوقيت لأنها ظرف، أي: حين إثماره، والمقصود من التقييد بهذا الظرف إباحة الأكل منه عند ظهوره وقبل حصاده تمهيدا لقوله: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} أي: كلوا منه قبل أداء حقه. وهذه رخصة ومنة، لأن العزيمة أن لا يأكلوا إلا بعد إعطاء حقه كيلا يستأثروا بشيء منه على أصحاب الحق، إلا أن رخص للناس في الأكل توسعة عليهم أن يأكلوا منه أخضر قبل يبسه لأنهم يستطيبونه كذلك، ولذلك عقبه بقوله {وَلا تُسْرِفُوا} كما سيأتي.
وإفراد الضميرين في قوله: {مِنْ ثَمَرِهِ} على اعتبار تأويل المعاد بالمذكور.
والأمر في وقله: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} خطاب خاص بالمؤمنين كما تقدم. وهذا الأمر ظاهر في الوجوب بقرينة تسمية المأمور به حقا. وأضيف الحق إلى ضمير المذكور لأدنى ملابسة، أي الحق الكائن فيه.
وقد أجمل الحق اعتمادا على ما يعرفونه، وهو: حق الفقير، والقربى، والضعفاء، والجيرة. فقد كان العرب، إذا جذوا ثمارهم، أعطوا منها من يحضر من المساكين والقرابة. وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى: {فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ} [القلم: 23, 24]. فلما جاء الإسلام أوجب على المسلمين هذا الحق وسماه حقا كما في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج: 24, 25]. وسماه الله زكاة في آيات كثيرة ولكنه اجمل مقداره وأجمل الأنواع التي فيها الحق ووكلهم في ذلك إلى حرصهم على الخير، وكان هذا قبل شرع نصبها ومقاديرها. ثم شرعت الزكاة وبينت السنة نصبها ومقاديرها.
والحصاد بكسر الحاء وبفتحها قطع الثمر والحب من أصوله، وهو مصدر على وزن الفعال أو الفعال. قال سيبويه "جاءوا بالمصادر حين أرادوا انتهاء الزمان على مثال

فعال وذلك الصرام والجزاز والجداد والقطاع والحصاد، وربما دخلت اللغة في بعض هذا لأي اختلفت اللغات فقال بعض القبائل حصاد بفتح الحاء وقال بعضهم حصاد بكسر الحاء فكان فيه فعال وفعال فإذا أرادوا الفعل على فعلت قالوا حصدته حصدا وقطعته قطعا إنما تريد العمل لا انتهاء الغاية".
وقرأه نافع، وابن كثير، وحمزة، والكسائي، وأبو جعفر، وخلف بكسر الحاء. وقرأ أبو عمرو، وعاصم، وابن عامر، ويعقوب - بفتح الحاء -.
وقد فرضت الزكاة في ابتداء الإسلام مع فرض الصلاة، أو بعده بقليل، لأن افتراضها ضروري لإقامة أود الفقراء من المسلين وهم كثيرون في صدر الإسلام، لأن الذين أسلموا قد نبذهم أهلوهم ومواليهم، وجحدوا حقوقهم، واستباحوا أموالهم، فكان من الضروري أن يسد أهل الجدة والقوة من المسلمين خلتهم. وقد جاء ذكر الزكاة في آيات كثيرة مما نزل بمكة مثل سورة المزمل وسورة البينة وهي من أوائل سور القرآن؛ فالزكاة قرينة الصلاة. وقول بعض المفسرين: الزكاة فرضت بالمدينة، يحمل على ضبط مقاديرها بآية {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] وهي مدنية، ثم تطرقوا فمنعوا أن يكون المراد بالحق هنا الزكاة، لأن هذه السور مكية بالاتفاق، وإنما تلك الآية مؤكدة للوجوب بعد الحلول بالمدينة، ولأن المراد منها أخذها من المنافقين أيضا، وإنما ضبطت الزكاة، ببيان الأنواع المزكاة ومقدار النصب والمخرج منه، بالمدينة، فلا ينافي ذلك أن أصل وجوبها في مكة، وقد حملها مالك على الزكاة المعينة المضبوطة في رواية بن القاسم وابن وهب عنه وهو قول ابن عباس، وأنس بن مالك، وسعيد بن المسيب، وجمع من التابعين كثير. ولعلهم يرون الزكاة فرضت ابتداء بتعيين النصب والمقادير، وحملها ابن عمر، وابن الحنفية، وعلي بن الحسين، وعطاء، وحماد، وابن جبير، ومجاهد، على غير الزكاة وجعلوا الأمر للندب، وحملها السدي، والحسن، وعطية العوفي، والنخعي، وسعيد بن جبير، في رواية عنه، على صدقة واجبة ثم نسختها الزكاة.
وإنما أوجب الله الحق في الثمار والحب يوم الحصاد: لأن الحصاد إنما يراد للادخار وإنما يدخر المرء ما يريده للقوت، فالادخار هو مظنة الغني الموجبة لإعطاء الزكاة، والحصاد مبدأ تلك المظنة، فالذي ليست له إلا شجرة أو شجرتان فإنما يأكل ثمرها مخضورا قبل أن ييبس، فلذلك رخصت الشريعة لصاحب الثمرة أن يأكل من الثمر إذا أثمر، ولم توجب عليه إعطاء حق الفقراء إلا عند الحصاد. ثم إن حصاد الثمار، وهو

جذاذها، هو قطعها لادخارها، وأما حصاد الزرع فهو قطع السنبل من جذور الزرع ثم يفرك الحب الذي في السنبل ليدخر، فاعتبر ذلك الفرك بقية للحصاد. ويظهر من هذا أن الحق إنما وجب فيما يحصد من المذكورات مثل الزبيب والتمر والزرع والزيتون، من زيته أو من حبه، بخلاف الرمان والفواكه.
وعلى القول المختار: فهذه الآية غير منسوخة، ولكنها مخصصة ومبينة بآيات أخرى وبما يبينه النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يتعلق بإطلاقها، وعن السدي أنها نسخت بآية الزكاة يعني: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} وقد كان المتقدمون يسمون التخصيص نسخا.
وقوله: {وَلا تُسْرِفُوا} عطف على {كُلُوا} ، أي: كلوا غير مسرفين. والإسراف والسرف: تجاوز الكافي من إرضاء النفس بالشيء المشتهى. وتقدم عند قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً} [النساء: 6] في سورة النساء. وهذا إدماج للنهي عن الإسراف، وهو نهي إرشاد وإصلاح، أي: لا تسرفوا في الأكل وهذا كقوله: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} [لأعراف: 31]. والإسراف إذا اعتاده المرء حمله على التوسع في تحصيل المرغوبات، قيرتكب لذلك مذمات كثيرة، وينتقل من ملذة إلى ملذة فلا يقف عند حد.
وقيل عطف على: {وَآتُوا حَقَّهُ} أي ولا تسرفوا فيما بقي بعد إتيان حقه فتنفقوا أكثر مما يجب، وهذا لا يكون إلا في الإنفاق والأكل ونحوه، فأما بذله في الخير ونفع الناس فليس من السرف، ولذلك يعد من خطأ التفسير: تفسيرها بالنهي عن الإسراف في الصدقة، وبما ذكروه أن ثابت بن قيس صرم خمسمائة نخلة وفرق ثمرها كله ولم يدخل منه شيئا إلى منزله، وأن الآية نزلت بسبب ذلك.
وقوله: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} استئناف قصد به تعميم حكم النهي عن الإسراف. وأكد ب {إِنَّ} لزيادة تقرير الحكم، فبين أن الإسراف من الأعمال التي لا يحبها، فهو من الأخلاق التي يلزم الانتهاء عنها. ونفي المحبة مختلف المراتب، فيعلم أن نفي المحبة يشتد بمقدار قوة الإسراف، وهذا حكم مجمل وهو ظاهر في التحريم، وبيان هذا الإجمال هو في مطاوي أدلة أخرى والإجمال مقصود.
ولغموض تأويل هذا النهي وقوله: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} تفرقت آراء المفسرين في تفسير معنى الإسراف المنهي عنه، ليعينوه في إسراف حرام، حتى قال بعضهم: إنها منسوخة، وقد علمت المنجي من ذلك كله.

فوجه عدم محبة الله إياهم أن الإفراط في تناول اللذات والطيبات، والإكثار من بذل المال في تحصيلها، يفضي غالبا إلى استنزاف الأموال والشره إلى الاستكثار منها، فإذا ضاقت على المسرف أمواله تطلب تحصيل المال من وجوه فاسدة، ليخمد بذلك نهمته إلى اللذات، فيكون ذلك دأبه، فربما ضاق عليه ماله، فشق عليه الإقلاع عن معتاده، فعاش في كرب وضيق، وربما تطلب المال من وجوه غير مشروعة، فوقع فيما يؤاخذ عليه في الدنيا أو في الآخرة، ثم إن ذلك قد يعقب عياله خصاصة وضنك معيشة. وينشأ عن ذلك ملام وتوبيخ وخصومات تفضي إلى ما لا يحمد في اختلال نظام العائلة. فأما كثرة الإنفاق في وجوه البر فإنها لا توقع في مثل هذا، لأن المنفق لمحبة لذاته، لأن داعي الحكمة قابل للتأمل والتحديد بخلاف داعي الشهوة. ولذلك قيل في الكلام الذي يصح طردا وعكسا: لا خير في السرف، ولا سرف في الخير وفي معنى هذه الآية قوله في سورة الأعراف [31]: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [لأعراف: 31] وقول النبي صلى الله عليه وسلم ويكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال.
[142] {وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}
عطف: {حَمُولَةً} على: {جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ} أي: وأنشأ من الأنعام حمولة وفرشا، فينسحب عليه القصر الذي في المعطوف عليه، أي هو الذي أنشأ من الأنعام حمولة وفرشا لا آلهة المشركين، فكان المشركون ظالمين في جعلهم للأصنام حقا في الأنعام.
و"مِنْ" في قوله: {وَمِنَ الْأَنْعَامِ} ابتدائية لأن الابتداء معنى يصلح للحمولة وللفرش لأنه أوسع معاني "مِنْ". والمجرور: إما متعلق ب {أَنْشَأَ} [الأنعام: 141]، وإما حال من {حَمُولَةً} أصلها صفة فلما قدمت تحولت.
وأيا ما كان فتقديم المجرور على المفعول الذي هو أولى بالتقديم في ترتيب المتعلقات، أو تقديم الصفة على الموصوف، لقصد الاهتمام بأمر الأنعام، لأنها المقصود الأصلي من سياق الكلام، وهو إبطال تحريم بعضها، وإبطال جعل نصيب منها للأصنام، وأما الحمل والفرش فذلك امتنان أدمج في المقصود توفيرا للأغراض، ولأن للامتنان

بذلك أثرا واضحا في إبطال تحريم بعضها الذي هو تضييق في المنة ونبذ للنعمة، وليتم الإيجار إذ يغني عن أن يقول: وأنشأ لكم الأنعام وأنشأ منها حمولة وفرشا كما سيأتي.
والأنعام: الإبل، والبقر، والشاء، والمعز، وقد تقدم في صدر سورة العقود، والحمولة بفتح الحاء ما يحمل عليه المتاع أو الناس يقال: حمل المتاع وحمل فلانا، قال تعالى: {إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} [التوبة: 92] ويلزمها التأنيث والإفراد مثل "صرورة" للذي لم يحج يقال: امرأة صرورة ورجل صرورة.
والفرش: اختلف في تفسيره في هذه الآية، فقيل: الفرش ما لا يطيق الحمل من الإبل أي فهو يركب كما يفرش الفرش، وهذا قول الراغب. وقيل: الفرش الصغار من الإبل أو من الأنعام كلها، لأنها قريبة من الأرض فهي كالفرش. وقيل: الفرش ما يذبح لأنه يفرش على الأرض حين الذبح أو بعده، أي فهو الضان والمعز والبقر لأنها تذبح. وفي اللسان عن أبي إسحاق: أجمع أهل اللغة على أن الفرش هو صغار الإبل.
زاد في الكشاف: أو الفرش: ما ينسج من وبره وصوفه وشعره الفرش يريد انه كما قال تعالى {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ} [النحل: 80]، وقال {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ} [النحل: 5, 7] الآية، ولأنهم كانوا يفترشون جلود الغنم والمعز للجلوس عليها.
ولفظ {فَرْشاً} صالح لهذه المعاني كلها، ومحامله كلها مناسبة للمقام، فينبغي أن تكون مقصودة من الآية، وكأن لفظ الفرش لا يوازنه غيره في جمع هذه المعاني، وهذا من إعجاز القرآن من جانب فصاحته، فالحمولة الإبل خاصة، والفرش يكون من الإبل والبقر والغنم على اختلاف معاني اسم الفرش الصالحة لكل نوع مع ضميمته إلى كلمة "من" الصالحة للابتداء.
فالمعنى: وأنشأ من الأنعام مل تحملون عليه وتركبونه، وهو الإبل الكبيرة والإبل الصغيرة، وما تأكلونه وهو البقر والغنم، وما هو فرش لكم وهو ما يجز منها، وجلودها. وقد علم السامع أن الله لما أنشأ حمولة وفرشا من الأنعام أن يتذكروا أنهم يأكلون منها، فحصل إيجاز في الكلام ولذلك عقب بقوله: {كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ}.
وجملة: {كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} معترضة مثل آية: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} [الأنعام:

141]. ومناسبة الأمر بالأكل بعد ذكر الأنعام: أنه لما كان قوله: {فَرْشاً} شيئا ملائما للذبح، كما تقدم، عقب بالإذن بأكل ما يصلح للأكل منها. واقتصر على الأمر بالأكل لأنه المقصود من السياق إبطالا لتحريم ما حرموه على أنفسهم، وتمهيدا لقوله: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} فالأمر بالأكل هنا مستعمل في النهي عن ضده وهو عدم الأكل من بعضها، أي لا تحرموا ما أحل لكم منها اتباعا لتغرير الشيطان بالوسوسة لزعماء المشركين الذين سنوا لهم تلك السنن الباطلة، وليس المراد بالأمر الإباحة فقط.
وعدل عن الضمير بأن يقال: كلوا منها، إلى الإتيان بالموصول: {مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} لما في صلة الموصول من الإيماء إلى تضليل الذين حرموا على أنفسهم، أو على بعضهم، الأكل من بعضها، فعطلوا على أنفسهم بعضا مما رزقهم الله.
ومعنى: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} النهي عن شؤون الشرك فإن أول خطوات الشيطان في هذا الغرض هي تسويله لهم تحريم بعض ما رزقهم الله على أنفسهم. وخطوات الشيطان تمثيل، وقد تقدم عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} في سورة البقرة [168].
وجملة: {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} تعليل للنهي، وموقع "إن" فيه يغني عن فاء التفريع كما تقدم غير مرة، وقد تقدم بيانه في آية البقرة.
[143، 144] {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل أألذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت وَمِنَ الْأِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}.
جملة: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} حال من: {مِنَ الْأَنْعَامِ} [الأنعام: 142]. ذكر توطئة لتقسيم الأنعام إلى أربعة أصناف الذي هو توطئة للرد على المشركين لقوله: {قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ} إلى قوله {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ} أي أنشأ من الأنعام حمولة إلى آخره حالة كونها ثمانية أزواج.
والأزواج جمع زوج، والزوج اسم لذات منضمة إلى غيرها على وجه الملازمة،

فالزوج ثان لواحد، وكل من ذينك الاثنين يقال له: زوج، باعتبار أنه مضموم، وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35] في سورة البقرة. ويطلق الزوج غالبا على الذكر والأنثى من بني آدم المتلازمين بعقدة نكاح، وتوسع في هذا الإطلاق فأطلق بالاستعارة على الذكر والأنثى من الحيوان الذي يتقارن ذكره وأنثاه مثل حمار الوحش وأتانه، وذكر الحمام وأنثاه، لشبهها بالزوجين من الإنسان. ويطلق الزوج على الصنف من نوع كقوله تعالى: {وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} في سورة الرعد [3]. وكلا الإطلاقين الأخيرين صالح للإرادة هنا لأن الإبل والبقر والضأن والمعز أصناف للأنعام، ولأن كل ذلك منه ذكر وأنثى. إذ المعنى أن الله خلق من الأنعام ذكرها وأنثاها، فالأزواج هنا أزواج الأصناف، وليس المراد زوجا بعينه، إذ لا تعرف بأعيانها، فثمانية أزواج هي أربعة ذكور من أربعة أصناف وأربع إناث كذلك.
وقوله: {مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ} أبدل {اثْنَيْنِ} من قوله: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} قوله: {اثْنَيْنِ}: بدل تفصيل، والمراد: اثنين مناه أي من الأزواج، أي ذكر وأنثى كل واحد منهما زوج للآخر، وفائدة هذا التفصيل التوصل لذكر أقسام الذكور والإناث توطئة للاستدلال الآتي في قوله: {قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ} الآية.
وسلك في التفصيل طريق التوزيع تمييزا للأنواع المتقاربة، والإبل تنحر، والبقر تذبح وتنحر أيضا. ومن البقر صنف له سنام فهو أشبه بالإبل ويوجد في بلاد فارس ودخل بلاد العرب وهو الجاموس، والبقر العربي لا سنام له وثورها يسمى الفريش.
ولما كانوا قد حرموا في الجاهلية بعض الغنم، ومنها ما يسمى بالوصيلة كما تقدم، وبعض الإبل كالبحيرة والوصلية أيضا، ولم يحرموا بعض المعز ولا شيئا من البقر، ناسب أن يأتي بهذا التقسيم قبل الاستدلال تمهيدا لتحكمهم إذ حرموا بعض أفراد من أنواع، ولم يحرموا بعضا من أنواع أخرى، وأسباب التحريم المزعومة تتأتى في كل نوع فهذا إبطال إجمالي لما شرعوه وأنه ليس من دين الله ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا.
وهذا الاستدلال يسمى في علم المناظرة والبحث بالتحكم.
والضأن بالهمز اسم جمع للغنم لا واحد له من لفظه، ومفرد الضأن شاة وجمعها شاء وقيل هو جمع ضائن. والضأن نوع من الأنعام ذوات الظلف له صوف. والمعز

اسم جمع مفرده ماعز، وهو نوع من الأنعام شبيه بالضأن من ذوات اظلف له شعر مستطيل، ويقال: معز بسكون العين ومعز بفتح العين وبالأول قرأ نافع، وعاصم، وحمزة والكسائي، وأبو جعفر، وخلف، وقرأ بالثاني الباقون.
وبعد أن تم ذكر المنة والتمهيد للحجة، غير أسلوب الكلام، فابتدئ بخطاب الرسول عليه الصلاة والسلام بأن يجادل المشركين ويظهر افتراءهم على الله فيما زعموه من تحريم ما ابتدعوا تحريمه من أنواع وأصناف الأنعام على من عينوه من الناس بقوله: {قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ} الآيات. فهذا الكلام رد على المشركين، إبطال ما شرعوه بقرينة قوله: {نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} وقوله {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا} الآية. فقوله: {قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ} إلى آخرها في الموضعين، اعتراض بعد قوله: {وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ} وقوله: {وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ}. وضمير: {حَرَّمَ} عائد إلى اسم الله في قوله: {كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} [الأنعام: 142]، أو في قوله: {وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ} الآية. وفي تكرير الاستفهام مرتين تعريض بالتخطئة فالتوبيخ والتقريع الذي يعقبه التصريح به في قوله: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} وقوله: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} الآية. فلا تردد في أن المقصود من قوله: {قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ} في الموضعين إبطال تحريم ما حرم المشركون أكله، ونفي نسبة ذلك التحريم إلى الله تعالى. وإنما النظر في طريق استفادة هذا المقصود من نظم الكلام. وهو من المعضلات.
فقال الفخر: أطبق المفسرون على أن تفسير هذه الآية أن المشركون كانوا يحرمون بعض الأنعام فاحتج الله على إبطال قولهم بأن ذكر الضأن والمعز والإبل والبقر، وذكر من كل واحد من هذه الأربعة زوجين ذكرا وأنثى، وإن كان حرم الأنثى وجب أن يكون كل إناثها حراما، وأنه إن كان حرم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين وجب تحريم الأولاد كلها. حاصل المعنى نفي أن يكون الله حرم شيئا مما زعموا تحريمه إياه بطريق السبر والتقسيم وهو م طرق الجدل.
قلت: هذا ما عزاه الطبري إلى قتادة، ومجاهد، والسدي، وهذا لا يستقيم لأن السبر غير تام إذ لا ينحصر سبب التحريم في النوعية بل الأكثر أن سببه بعض أوصاف الممنوع وأحواله.

وقال البغوي: قالوا: {هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ} [الأنعام: 138] وقالوا: {مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} [الأنعام: 139] وحرموا البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي. فلما قام الإسلام جادلوا النبي صلى الله عليه وسلم، وكان خطيبهم مالك بن عوف الجشمي قالوا: يا محمد بلغنا أنك تحرم أشياء مما كان آباؤنا يفعلونه، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنكم قد حرمتم أصنافا من النعم على غير أصل، وإنما خلق الله هذه الأزواج الثمانية للأكل والانتفاع بها، فمن أين جاء هذا التحريم أمن قبل الذكر أم من قبل الأنثى. فسكت مالك بن عوف وتحير آه أي وذلك قبل أن يسلم مالك بن عوف ولم يعزه البغوي إلى قائل وهو قريب مما قاله قتادة والسدي ومجاهد فتبين أن الحجاج كله في تحريم أكل بعض هذه الأنواع من الأنعام، وفي عدم التفرقة بين ما حرموا أكله وما لم يحرموه مع تماثل النوع أو الصنف.
والذي يؤخذ من كلام أئمة العربية في نظم الاستدلال على المشركين أن الاستفهام في قوله: {آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ} في الموضعين، استفهام إنكاري، قال في الكشاف الهمزة في: {آلذَّكَرَيْنِ} للإنكار، والمعنى: إنكار أن يحرم الله تعالى من جنسي الغنم شيئا من نوعي ذكورها وإناثها وما تحمل إناثها وكذلك في جنسي الإبل والبقر. وبينه صاحب المفتاح في باب الطلب بقوله: وإن أردت به أي بالاستفهام اإنكار فانسجه على منوال النفي فقل في إنكار نفس الضرب أضربت زيدا، وقل في إنكار أن يكون للمخاطب مضروب أزيدا ضربت أم عمرا، فإنك إذا أنكرت من يردد الضرب بينهما أي بزعمه تولد منه أي إنكار عليه إنكار الضرب على وجه برهاني ومنه قوله تعالى: {آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ} قال شارحه القطب الشيرازي: لاستلزام انتفاء محل التحريم انتفاء التحريم لأنه عرض يمتنع وجوده، أي التحريم، دون محل يقوم به فإذا انتفى أي محله انتفى هو أي التحريم ا هـ.
أقول وجه الاستدلال: أن الله لو حرم أكل بعض الذكور من أحد النوعين لحرم البعض الآخر، ولو حرم أكل بعض الإناث لحرم البعض الآخر، لأن شأن أحكام الله أن تكون مطردة في الأشياء المتحدة بالنوع والصفة، ولو حرم بعض ما في بطون الأنعام على النساء لحرم ذلك على الرجال، وإذ لم يحرم بعضها على بعض مع تماثل الأنواع والأحوال، أنتج أنه لم يحرم البعض المزعوم تحريمه، لأن أحكام الله منوطة بالحكمة، فدل على أن ما حرموه إنما حرموه من تلقاء أنفسهم تحكما واعتباطا، وكان تحريمهم ما

حرموه افتراء على الله، ونهضت الحجة عليهم، الملجئة لهم، كما أشار إليه كلام النبي صلى الله عليه وسلم لمالك بن عوف الجشمي المذكور آنفا، ولذلك سجل عليهم بقوله: {نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فقوله: {آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ} أي لو حرم الله الذكرين لسوى في تحريمهما بين الرجال والنساء. وكذلك القول في الأنثيين. والاستفهام في قوله: {آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ} في الموضعين مستعمل في التقرير والإنكار بقرينة قوله قبله {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 139]. وقوله: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [البقرة: 168]. ومعلوم أن استعمال الاستفهام في غير معنى طلب الفهم هو إما مجاز أو كناية.
ولذلك تعين أنن تكون {أَمِ} منقطعة بمعنى "بل" ومعناها الإضراب الانتقالي تعديدا لهم ويقدر بعدها استفهام. فالمفرد بعد {أَمِ} مفعول لفعل محذوف، والتقدير: أم أحرم الأنثيين. وكذلك التقدير في قوله {أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ}. وكذلك التقدير في نظيره.
وقوله {مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ} مع قوله {وَمِنَ الْأِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ} من مسلك السبر والتقسيم المذكور في مسالك العلة من علم أصول الفقه.
وجملة: {نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} بدل اشتمال من جملة: {آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ} لأن إنكار أن يكون الله حرم شيئا من ذكور وإناث ذينك الصنفين يقتضي تكذيبهم في زعمهم أن الله حرم ما ذكروه فيلزم منه طلب الدليل على دعواهم. فموقع جملة {آلذَّكَرَيْنِ} بمنزلة الاستفسار في علم آداب البحث. وموقع جملة: {نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} بمنزلة المنع. وهذا تهكم لأنه لا يطلب تلقي علم منهم. وهذا التهكم تابع لصورة الاستفهام وفرع عنها. وهو هنا متجرد للمجاز أو للمعنى الملزوم المنتقل منه في الكناية. وتثنية الذكرين والأنثيين: باعتبار ذكور وإناث النوعين.
وتعدية فعل: {حَرَّمَ} إلى {آلذَّكَرَيْنِ} و {الْأُنْثَيَيْنِ} وما اشتملت عليه أرحام الأنثيين، على تقديره مضاف معلوم من السياق، أي: حرم أكل الذكرين أم الأنثيين إلى آخره.
والتعريف في قوله: {آلذَّكَرَيْنِ} وقوله: {أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ} تعريف الجنس كما في الكشاف.
والباء في {بِعِلْمٍ}: يحتمل أن تكون لتعدية فعل الإنباء، فالعلم بمعنى المعلوم.

ويحتمل أن تكون للملابسة، أي نبئوني إنباء ملابسا للعلم، فالعلم ما قابل الجهل أي إنباء العلم. ولما كانوا عاجزين عن الإنباء دل ذلك على أنهم حرموا ما حرموا بجهالة وسوء عقل لا بعلم، وشأن من يتصدى للتحريم والتحليل أن يكون ذا علم.
وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أي في قولكم: إن الله حرم ما ذكرتم أنه محرم، لأنهم لو كانوا صادقين في تحريم ذلك لاستطاعوا بيان ما حرمه الله، ولأبدوا حكمة تحريم ما حرموه ونسبوا تحريمه إلى الله تعالى.
وقوله: {مِنَ الْأِبِلِ اثْنَيْنِ} إلى قوله {أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ} عطف على: {وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ} لأنه من تمام تفصيل عدد ثمانية أزواج، والقول فيه كالقول في سابقه، والمقصود إبطال تحريم البحيرة والسائبة والحامي وما في بطون البحائر والسوائب.
و {أَمِ} في قوله: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ} منقطعة للإضراب الانتقالي. فتؤذن باستفهام مقدر بعدها حيثما وقعت، وهو إنكاري تقريري أيضا بقرينة السياق.
والشهداء: الحاضرون جمع شهيد وهو الحاضر، أي شهداء حين وصاكم الله، ف {إِذْ} ظرف لـ {شُهَدَاءَ} مضاف إلى جملة: {وَصَّاكُمُ}.
والإيصاء: الأمر بشيء يفعل في غيبة الآمر فيؤكد على المأمور بفعله لأن شأن الغائب التأكد. وأطلق الإيصاء على ما أمر الله به لأن الناس لم يشاهدوا الله حين فعلهم ما يأمرهم به، فكان أمر الله مؤكدا فعبر عنه بالإيصاء تنبيها لهم على الاحتراز من التفويت في أوامر الله، ولذلك أطلق على أمر الله الإيصاء في مواضع كثيرة من القرآن، كقوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11].
والإشارة في قوله {بِهَذَا} إلى التحريم المأخوذ من قوله {حَرَّمَ} وذلك لأن في إنكار مجموع التحريم تضمنا لإبطال تحريم معين ادعوه، وهم يعرفونه، فلذلك صحت الإشارة إلى التحريم على الإجمال، وخص بالإنكار حالة المشاهدة، تهكما بهم، لأنهم كانوا يكذبون الرسول صلى الله عليه وسلم فحالهم حال من يضع نفسه موضع من يحضر حضرة الله تعالى لسماع أوامره، أو لأن ذلك لما لم يكن من شرع إبراهيم ولا إسماعيل "عليهم السلام"، ولم يأت به رسول من الله، ولم يدعوه، فلم يبق إلا أن الله خاطبهم به مباشرة.
وقوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} مترتب على الإنكار في قوله: {آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ} إلى قوله {إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا} ، أي فيترتب على ذلك

الإبطال والإنكار أن يتوجه سؤال من المتكلم مشوب بإنكار، عمن اتصف بزيادة ظلم الظالمين الذين كذبوا على الله ليضلوا الناس، أي: لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذبا، فإذا ثبت أن هو أظلم الظالمين.
والمشركون إما أن يكونوا ممن وضع الشرك وهم كبراء الشركين: مثل عمرو بن لحي، واضع عبادة الأصنام، وأول من جعل البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي، ومن جاء بعده من طواغيت أهل الشرك الذين سنوا لهم جعل شيء من أموالهم لبيوت الأصنام وسدنتها، فهؤلاء مفترون، وإما أن يكونوا ممن اتبع أولئك بعزم وتصلب وشاركوهم فهم اتبعوا أناسا ليسوا بأهل لأن يبلغوا عن الله تعالى، وكان حقهم أن يتوخوا من يتبعن ومن يظنون أنه مبلغ عن الله وهم الرسل، فمن ضلالهم أنهم لما جاءهم الرسول الحق عليه الصلاة والسلام كذبوه، وقد صدقوا الكذبة وأيدوهم ونصروهم.
ويستفاد من الآية أن من الظلم أن يقدم أحد على الإفتاء في الدين ما لم يكن قد غلب على ظنه أنه يفتي بالصواب الذي يرضي الله،، وذلك إن كان مجتهدا فبالاستناد إلى الدليل الذي يغلب على ظنه مصادفته لمراد الله تعالى، وإن كان مقلدا فبالاستناد إلى ما يغلب على ظنه أنه مذهب إمامه الذي قلده.
وقوله {بِغَيْرِ عِلْمٍ} تقدم القول في نظيره آنفا.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} يجوز أن يكون تعليلا لكونهم من أظلم الناس، لأن معنى الزيادة في الظلم لا يتحقق إلا إذا كان ظلمهم لا إقلاع عنه، لأن لضلال يزداد رسوخا في النفس بتكرر أحواله ومظاهره، لأنهم لما تعمدوا الإضلال أو اتبعوا متعمديه عن تصلب، فهم بمعزل عن تطلب الهدى وإعادة النظر في حال أنفسهم، وذلك يغريهم بالازدياد والتملي من تلك الأحوال، حتى تصير فيهم ملكة وسجية، فيتعذر إقلاعهم عنها، فعلى هذا تكون {إِنَّ} مفيدة معنى التعليل.
ويجوز أن تمون الجملة تهديدا ووعيدا لهم، إن لم يقلعوا عما هم فيه، بأن الله يحرمهم التوفيق ويذرهم في غيهم وعمههم، فالله هدى كثيرا من المشركين هم الذين لم يكونوا بهذه المثابة في الشرك، أي لم يكونوا قادة ولا متصلبين في شركهم، والذين كانوا بهذه المثابة هم الذين حرمهم الله الهدى، مثل صناديد قريش أصحاب القليب يوم بدر، فأما الذين اتبعوا الإسلام بالقتال مثل معظم أهل مكة يوم الفتح، وكذلك هوازن ومن

بعدها، فهؤلاء أسلموا مذعنين ثم أن آلهتهم لم تغن عنهم شيئا فحصل لهم الهدى بعد ذلك، وكانوا من خيرة المسلمين ونصروا الله حق نصره. فالمراد من نفي الهدى عنهم: إما نفيه عن فريق من المشركين، وهم الذين ماتوا على الشرك، وإما نفي الهدى المحض الدال على صفاء النفس ونور القلب، دون الهدى الحاصل بعد الدخول في الإسلام، فلذلك هدى في الدرجة الثانية كما قال تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10].
[145] {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
استئناف بياني نشأ عن إبطال تحريم ما حرمه المشركون، إذ يتوجه سؤال سائل من المسلمين عن المحرمات الثابتة، إذ أبطلت المحرمات الباطلة، فلذلك خوطب الرسول صلى الله عليه وسلم ببيان المحرمات في شريعة الإسلام بعد أن خوطب ببيان ما ليس بمحرم مما حرمه المشركون في قوله {قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ} [الأنعام: 144] الآيات.
وافتتح الكلام المأمور بأن يقوله بقوله: {لا أَجِدُ} إدماجا للرد على المشركين في خلال بيان ما حرم على المسلمين، وهذا الرد جار على طريقة كناية الإيماء بأن لم ينف تحرم ما ادعوا تحريمه صريحا، ولكنه يقول لا أجده فيما أوحي إلي، ويستفاد من ذلك أنه ليس تحريمه من الله في شرعه، لأنه لا طريق إلى تحريم شيء مما يتناوله الناس إلا بإعلام من الله تعالى، لأن الله هو الذي يحل ما شاء ويحرم ما شاء ويحرم ما شاء على وفق علمه وحكمته، وذلك الإعلام لا يكون إلا بطريق الوحي أو ما يستنبط منه، فإذا كان حكم غير موجود في الوحي ولا في فروعه فهو حكم غير حق، فاستفيد بطلان تحريم ما زعموه بطريقة الإيماء، وهي طريقة استدلالية لأن فيها نفي الشيء بنفي ملزومه.
و {أَجِدُ} بمعنى: أظفر. وهو الذي مصدره الوجد والوجدان، وهو هنا مجاز في حصول الشيء وبلوغه. يقال: وجدت فلانا ناصرا. أي حصلت عليه، فشبه التحصيل للشيء بالظفر وإلفاء المطلوب. وهو متعد إلى مفعول واحد.
والمراد ب {مَا أُوحِيَ} ما أعلمه الله رسوله صلى الله عليه وسلم بوحي غير القرآن لأن القرآن النازل

قبل هذه الآية ليس فيه تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير وإنما نزل القرآن بتحريم ما ذكر في هذه الآية ثم في سورة المائدة.
والطاعم: الآكل، يقال: طعم كعلم، إذا أكل الطعام، ولا يقال ذلك للشارب، وأما طعم بمعنى ذاق فيستعمل في ذوق المطعومات والمشروبات، وأكثر استعماله في النفي. وتقدم بيانه عند قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} في سورة البقرة [249]، وبذلك تكون الآية قاصرة على بيان محرم المأكولات.
وقوله: {يَطْعَمْهُ} صفة {لِطَاعِمٍ} وهي صفة مؤكدة مثل قوله: {وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38].
والاستثناء من عموم الأكوان التي دل عليها وقوع النكرة في سياق النفي، أي لا أجد كائنا محرما إلا كونه ميتة الخ أي: إلا الكائن ميتة الخ، فالاستثناء متصل.
والحصر المستفاد من المنفي والاستثناء حقيقي بحسب وقت نزول هذه الآية. فلم يكن يومئذ من محرمات الأكل غير هذه المذكورات لأن الآية مكية ثم نزلت سورة المائدة بالمدينة فزيد في المحرمات كما يأتي قريبا.
والمسفوح: المصبوب السائل، وهو ما يخرج من المذبح والمنحر. أو من الفصد في بعض عروق الأعضاء فيسيل. وقد كان العرب يأكلون الدم الذي يسيل من أوداج الذبيحة أو من منحر المنحورة ويجمعونه في مصير أو جلد ويجففونه ثم يشوونه، وربما فصدوا من قوائم الإبل مفصدا فأخوا ما يحتاجون من الدم بدون أن يهلك البعير، وربما خلطوا الدم بالوبر ويسمونه العلهز، وذلك في المجاعات. وتقييد الدم بالمسفوح للتنبيه على العفو عن الدم الذي ينز من عروق اللحم عند طبخه فإنه لا يمكن الاحتراز عنه.
وقوله: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} جملة معترضة بين المعطوفات، والضمير قيل: عائد إلى لحم الخنزير، والأظهر أن يعود إلى جميع ما قبله، وأن إفراد الضمير على تأويله بالمذكور، أي فإن المذكور رجس، كما يفرد اسم الإشارة مثل قوله {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً} [الفرقان: 68].
والرجس: الخبيث والقذر، وقد مضى بيانه عند قوله تعالى: {كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} في هذه السورة [125].
فإن كان الضمير عائدا إلى لحم الخنزير خاصة فوصفه برجس تنبيه على ذمة، وهو

ذم زائد على التحريم، فوصفه به تحذير من تناوله، وتأنيس للمسلمين بتحريمه، لأن معظم العرب كانوا يأكلون لحم الخنزير بخلاف الميتة والدم فما يأكلونها إلا في الخصاصة. وخباثة الخنزير علمها الله تعالى الذي خلقه. وتبين أخيرا أن لحمه يشتمل على ذرات حيوانية مضرة لآكله أثبتها علم الحيوان وعلم الطب. وقيل: أريد أنه نجس لأنه يأكل النجاسات وهذا لا يستقيم لأن بعض الدواب تأكل النجاسة وتسمى الجلالة وليست محرمة الأكل في صحيح أقوال العلماء.
وإن كان الضمير عائدا إلى الثلاثة بتأويل المذكور كان قوله: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} تنبيها على علة التحريم وأنها لدفع مفسدة تحصل من أكل هذه الأشياء. وهي مفسدة بدنية. فأما الميتة فلما يتحول إليه جسم الحيوان بعد الموت من التعفن، ولأن المرض الذي كان سبب موته قد ينتقل إلى آكله. وأما الدم فلأن فيه أجزاء مضرة، ولأن شربه يورث ضراوة.
والفسق: الخروج عن شيء، وهو حقيقة شرعية في الخروج عن الإيمان، أو الطاعة الشرعية، فلذلك يوصف به الفعل الحرام باعتبار كونه سببا لفسق صاحبه عن الطاعة. وقد سمي القرآن ما أهل به لغير الله فسقا في الآية السالفة وفي هذه الآية، فصار وصفا مشهورا لما أهل بع لغير الله، ولذلك أتبعه بقوله: {أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِه}. فتكون جملة: {أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِه} صفة أو بيانا لـ {فِسْقاً}، وفي هذا تنبيه على أن تحريم ما أهل لغير الله به ليس لأن لحمه مضر بل لأن ذلك كفر بالله.
وقد دلت الآية على انحصار المحرمات من الحيوان في هذه الأربعة، وذلك الانحصار بحسب ما كان محرما يوم نزول هذه الآية، فإنه لم يحرم بمكة على غيرها من لحم الحيوان الذي يأكلونه، وهذه السور مكية كلها على الصحيح، ثم حرم بالمدينة أشياء أخرى، وهي: المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وأكيلة السبع بآية سورة العقود، وحرم لحم الحمر الإنسية بأمر النبي صلى الله عليه وسلم على اختلاف بين العلماء في أن تحريمه لذاته كالخنزير، أو لكونها يومئذ حمولة جيش خيبر، وفي أن تحريمه عند القائلين بأنه لذاته مستمر أو منسوخ، والمسالة ليست من غرض التفسير فلا حاجة بنا إلى ما تكلفوه من تأويل حصر هذه الآية المحرمات في الأربعة. وكذلك مسالة تحريم لحم كل ذي ناب من السباع ولحم سباع الطير وقد بسطها القرطبي. وتقدم معنى: {أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِه} في سورة المائدة [3].
وقرأ الجمهور: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ} بياء تحتية ونصب {مَيْتَةً} وما عطف عليها

وقرأه ابن كثير، وابن عامر، وحمزة بتاء فوقية ونصب {مَيْتَةً} وما عطف عليه عند من عدا ابن عامر. وقرأه ابن عامر وأبو جعفر بتاء فوقية ورفع {مَيْتَةً} ويشكل على هذه القراءة أن المعطوف على ميتة منصوبات وهي: {أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}، ولم يعرج عليها صاحب الكشاف، وقد خرجت هذه القراءة على أن يكون: {أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} عطفا على {أَنْ} وصلتها لأنه محل نصب بالاستثناء فالتقدير: إلا وجود ميتة، فلما عبر عن الوجود بفعل {يَكُونَ} التام ارتفع ما كان مضافا إليه.
وقوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} تقدم القول في نظيره في سورة البقرة [173] في فوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ}.
وإنما جاء المسند إليه في جملة الجزاء وهو {رَبَّكَ} معرفا بالإضافة دون العلمية كما في آية سورة البقرة [192] {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} لما يؤذن به لفظ الرب من الرأفة واللطف بالمربوب والولاية، تنبيها على أن الله جعل هذه الرخصة للمسلمين الذين عبدوه ولم يشركوا به، وأنه أعرض عن المشركين الذين أشركوا معه غيره لأن الإضافة تشعر بالاختصاص، لأنها على تقدير لام الاختصاص، فلما عبر عن الغفور تعالى بأنه رب النبي صلى الله عليه وسلم علم أنه رب الذين اتبعوه، وأنه ليس رب المشركين باعتبار ما في معنى الرب من الولاية، فهو في معنى قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11] أي لا مولى يعاملهم بآثار الولاية شعارها، ذلك لأن هذه الآية وقعت في سياق حجاج المشركين بخلاف آية البقرة [172]. فإنها مفتتحة بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}.
والإخبار بأنه غفور رحيم، مع كون ذلك معلوما من مواضع كثيرة، هو هنا كناية عن الإذن في تناول تلك المحرمات عند الاضطرار ورفع حرج التحريم عنها حينئذ فهو في معنى قوله في سورة البقرة [182]: {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
[146] {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ}
جملة: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا} عطف على جملة: {قُلْ} [الأنعام: 145] عطف

خبر على إنشاء، أي بين لهم ما حرم في الإسلام، واذكر لهم ما حرمنا على الذين هادوا قبل الإسلام، والمناسبة أن الله لما أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبين ما حرم الله أمله من الحيوان، وكان في خلال ذلك تنبيه على أن ما حرمه الله خبيث بعضه لا يصلح أكله بالأجساد الذي قال فيه {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145]، ومنه ما لا يلاقي واجب شكر الخالق وهو الذي قال فيه: {أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: 145] أعقب ذلك بذكر ما حرمه على بني إسرائيل تحريما خاصا لحكمه خاصة بأحوالهم، ومؤقتة إلى مجيء الشريعة الخاتمة. والمقصود من ذكر هذا الأخير: أن يظهر للمشركين أن ما حرموه ليس من تشريع الله في الحال ولا فيما مضى، فهو ضلال بحت. وتقديم المجرور على متعلقة في قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا} لإفادة الاختصاص، أي عليهم لا على غيرهم من الأمم.
والظفر: العظم الذي تحت الجلد في منتهى أصابع الإنسان والحيوان والمخالب، وهو يقابل الحافر والظلف ويكون للإبل والسبع والكلب والهر والأرنب والوبر ونحوها، فهذه محرمة على اليهود بنص شريعة موسى عليه السلام ففي الإصحاح الرابع عشر من سفر التثنية: الجمل والأرنب والوبر فلا تأكلوها.
والشحوم: جمع شحم، وهو المادة الدهنية التي تكون مع اللحم في جسد الحيوان، وقد أباح الله لليهود أكل لحوم البقر والغنم وحرم عليهم شحومها إلا ما كان في الظهر.
و {الْحَوَايَا} معطوف على {ظُهُورُهُمَا}. فالمقصود العطف على المباح لا على المحرم، أي: أو ما حملت الحوايا، وهي جمع حوية، وهي الأكياس الشحمية التي تحوي الأمعاء.
{أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} هو الشحم الذي يكون ملتفا على عظم الحيوان من السمن فهو معفو عنه لعسر تجريده عن عظمه.
والظاهر أن هذه الشحوم كانت محرمة عليهم بشريعة موسى ع، فهي المحرمات التي أجملتها آية سورة النساء بقوله [160] تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} كما أشرنا إليه هنالك لأن الجرائم التي عدت عليهم هنالك كلها مما أحدثوه بعد موسى عليه السلام. فقوله تعالى: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ} يراد منه البغي الذي أحدثوه زمن موسى، في مدة التيه، مما أخبر الله به عنهم: مثل قولهم: {لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ} [البقرة: 61] وقولهم: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا} [المائدة: 24] وعبادتهم العجل، وقد عد عليهم كثير من ذلك في سورة البقرة.

ومناسبة تحريم هذه المحرمات للكون جزاء لبغيهم: أن بغيهم نشأ عن صلابة نفوسهم وتغلب القوة الحيوانية فيهم على القوة الملكية، فلعل الله حرم عليهم هذه الأمور تخفيفا من صلابتهم، وفي ذلك إظهار منته على المسلمين بإباحة جميع الحيوان لهم إلا ما حرمه القرآن وحرمته السنة مما لم يختلف العلماء وما اختلفوا فيه.
ولم يذكر الله تحريم لحم الخنزير، مع أنه مما شمله نص التوراة، لأنه إنما ذكر هنا ما خصوا بتحريمه مما لم يحرم في الإسلام، أي ما كان تحريمه موقتا.
وتقديم المجرور على عامله في قوله: {وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ} للاهتمام ببيان ذلك، لأنه مما يلتفت الذهن إليه عند سماع تحريم كل ذي ظفر فيترقب الحكم بالنسبة إليهما فتقديم المجرور بمنزلة الافتتاح بـ"أما".
وجملة: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ} تذييل يبين علة تحريم ما حرم عليهم.
واسم الإشارة في قوله: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ} مقصود به التحريم المأخوذ من قوله: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ} مقصود به التحريم المأخوذ من قوله: {حَرَّمْنَا} فهو في موضع مفعول ثان: لـ {جَزَيْنَاهُمْ} قدم على عامله ومفعوله الأول للاهتمام به والتثبيت على أن التحريم جزاء لبغيهم.
وجملة: {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} تذييل للجملة التي قبلها قصدا لتحقيق أن الله حرم عليهم ذلك، وإبطالا لقولهم: إن اله يحرم علينا شيئا وإنما حرمنا ذلك على أنفسنا اقتداء بيعقوب فيما حرمه على نفسه لأن اليهود لما انتبزوا بتحريم الله عليهم ما أحله لغيرهم مع أنهم يزعمون أنهم المقربون عند الله دون جميع الأمم، أنكروا أن يكون الله حرم عليهم ذلك وأنه عقوبة لهم فكانوا. يزعمون أن تلك المحرمات كان حرمها يعقوب على نفسه نذرا لله فاتبعه أبناؤه اقتداء به. وليس قولهم بحق: لأن يعقوب إنما حرم على نفسه لحوم الإبل وألبانها، كما ذكره المفسرون وأشار إليه قوله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ} في سورة آل عمران [93]. وتحريم ذلك على نفسه لنذر أو مصلحة بدنية لا يسري إلى من عداه من ذريته، وأن هذه الأشياء التي ذكر الله تحريمها على بني إسرائيل مذكور تحريمها في التوراة فكيف ينكرون تحريمها.
فالتأكيد للرد على اليهود. ونظير قوله هنا: {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} قوله في سورة آل عمران، عقب قوله: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ} {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ

كُنْتُمْ صَادِقِينَ} إلى قوله {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ} [آل عمران: 93, 95].
[147] {فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين}.
تفريع على الكلام السابق الذي أبطل تحريم ما حركوه، ابتداء من قوله: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الأنعام: 143] الآيات أي: فإن لم يرعووا بعد هذا البيان وكذبوك في نفي تحريم الله ما زعموا أنه حرمه فذكرهم ببأس الله لعلهم ينتهون عما زعموه، وذكرهم برحمته الواسعة لعلهم يبادرون بطلب ما يخولهم رحمته من اتباع هدي الإسلام، فيعود ضمير: {كَذَّبُوكَ} إلى المشركين وهو المتبادر من سياق الكلام: سابقه ولا حقه، وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون في قوله: {فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ} تنبيه لهم بأن تأخير العذاب عنهم هو إمهال داخل في رحمة الله رحمة مؤقتة، لعلهم يسلمون. وعليه يكون معنى فعل: {كَذَّبُوكَ} الاستمرار، أي إن استمروا على التكذيب بعد هذه الحجج.
ويجوز أن يعود الضمير إلى {الَّذِينَ هَادُوا} [الأنعام: 146]، تكملة للاستطراد وهو قول مجاهد والسدي: أن اليهود قالوا لم يحرم الله علينا شيئا وإنما حرمنا ما حرم إسرائيل على نفسه، فيكون معنى الآية: فرض تكذيبهم قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا} [الأنعام: 146] الخ، لأن أقوالهم تخالف ذلك فهم بحيث يكذبون ما في هذه الآية، ويشتبه عليهم الإمهال بالرضى، فقيل لهم: {رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ}. ومن رحمته إمهاله المجرمين في الدنيا غالبا.
وقوله: {وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} فيه إيجاز بحذف تقديره: وذو باس ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين إذا أراده. وهذا وعيد وتوقع وهو تذييل، لأن قوله: {عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} يعمهم وغيرهم وهو يتضمن أنهم مجرمون.
[148] {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ}.
استئناف رجع به الكلام إلى مجادلة المشركين بعد أن اعترض بينها بقوله: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} إلى قوله {فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}

[الأنعام: 145]، فلما قطع الله حجتهم في شأن تحريم ما حرموه، وقسمة ما قسموه، استقصى ما بقي لهم من حجة وهي حجة المحجوج المغلوب الذي أعيته المجادلة ولم تبق له حجة، إذ يتشبث بالمعاذير الواهية لترويج ضلالة، بأن يقول: هذا أمر قضي وقدر.
فإن كان ضمير الرفع في قوله: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ} [الأنعام: 147] عائدا إلى المشركين كان قوله تعالى هنا: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} إظهار في مقام الإضمار لزيادة تفظيع أقوالهم، فإخبار الله عنهم بأنهم سيقولون ذلك إن كان نزول هذه الآية قبل نزول آية سورة النحل [35]: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} هو الأرجح، فإن سورة النحل معدودة في النزول بعد سورة الأنعام، كان الإخبار بأنهم سيقولونه اطلاعا على ما تكنه نفوسهم من تزوير هذه الحجة، فهو معجزة من معجزات القرآن من نوع الإخبار بالغيب كقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} [البقرة: 24]. وإن كان نزول هذه الآية بعد نزول آية سورة النحل فإخبار بأنهم سيقولونه معناه أنهم سيعيدون معذرتهم المألوفة.
وحاصل هذه الحجة: أنهم يحتجون على النبي عليه الصلاة والسلام بأن ما هم عليه لو لم يكن برضى الله تعالى لصرفهم عنه ولما يسره لهم، يقولون ذلك في معرض إفحام الرسول صلى الله عليه وسلم وإبطال حكمه عليهم بالضلالة، وهذه شبهة أهل العقول الأفنة الذين لا يفرقون بين تصرف الله تعالى بالخلق والتقدير وحفظ قوانين الوجود، وهو الترف الذي نسميه نحن بالمشيئة وبالإرادة، وبين تصرفه بالأمر والنهي، وهو الذي نسميه بالرضى وبالمحبة: فالأول تصرف التكوين والثاني تصرف التكليف، فهم يحسبون أن تمكنهم من وضع قواعد الشرك ومن التحريم والتحليل ما هو إلا بأن خلق الله فيهم التمكن من ذلك، فيحسبون أنه حين لم يمسك عنان أفعالهم كان قد رضي بما فعلوه، وأنه لو كان لا يرضى به لما عجز عن سلب تمكنهم، يحسبون أن الله يهمه سوء تصرفهم فيما فطرهم عليه، ولو كان كما يتوهمون لكان الباطل والحق شيئا واحدا، وهذا ما لا يفهمه عقل حصيف. فإن أهل العقول السخيفة حين يتوهمون ذلك كانوا غير ملتفين إلا إلى جانب نحلتهم ومعرضين عن جانب مخالفهم، فإنهم حين يقولون: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} غافلون عن أن يقال لهم، من جانب الرسول: لو شاء ما قلت لكم أن فعلكم ضلال، فيكون الله على حسب شبهتهم قد شاء الشيء ونقيضه إذ شاء أنهم يشركون وشاء أن يقول لهم الرسول لا تشركوا.

وسبب هذه الضلالة العارضة لأهل الضلال من الأمم، التي تلوح في عقول بعض عوام المسلمين في معاذيرهم للمعاصي والجرائم أن يقولوا: أمر الله أو مكتوب عند الله أو نحو ذلك، هو الجهل بأن حكمة الله تعالى في وضع نظام هذا العالم اقتضت أن يجعل حجابا بين تصرفه تعالى في أحوال المخلوقات، وبين تصرفهم في أحوالهم بمقتضى إرادتهم، وذلك الحجاب هو ناموس ارتباط المسببات بأسبابها، وارتباط أحوال الموجودات في هذا العالم بعضها ببعض، ومنه ما يسمى بالكسب والاستطاعة عند جمهور الأشاعرة، ويسم بالقدرة عند المعتزلة وبعض الأشاعرة، وذلك هو مورد التكليف الدال على ما يرضاه الله وما لا يرضى به، وأن الله وضع نظام هذا العالم بحكمه فجعل قوامه هم تدبير الأشياء أمورها من ذواتها بحسب قوى أودعها في الموجودات لتسعى لما خلقت لأجله، وزاد الإنسان مزية بأن وضع له عقلا يمكنه من تغيير أحواله على حسب احتياجه، ووضع له في عقله وسائل الاهتداء إلى الخير والشر، كما قيض له دعاة إلى الخير تنبهه إليه إن عرته غفلة، أو حجبته شهوة، فإن هو لم يرعوا عن غيه، فقد خان بساط عقله بطيه.
وبهذا ظهر تخليط أهل الضلالة بين مشيئة العباد ومشيئة الله، فلذلك رد الله عليهم هنا قولهم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} لأنهم جعلوا ما هو مشيئة لهم مشيئة لله تعالى، ومع ذلك فهو قد أثبت مشيئته في قوله: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعام: 107] فهي مشيئة تكوين العقول وتكوين نظام الجماعة.
فهذه المشيئة التي اعتلوا بها مشيئة خفية لا تتوصل إلى الاطلاع على كننها عقول البشر، فلذلك نعى الله عليهم استنادهم إليها على جهلهم بكنهها، فقال: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} فشبه بتكذيبهم تكذيب المكذبين الذين من قبلهم، فكني بذلك عن كون مقصد المشركين من هذه الحجة تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم. وقد سبق لنا بيان في هذا المعنى في هذه السورة [107] عند قوله تعالى: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا}.
وليس في هذه الآية ما ينهض حجة لنا على المعتزلة، ولا للمعتزلة علينا، وإن حاول كلا الفريقين ذلك لأن الفريقين متفقان على بطلان حجة المشركين. وفي الآية حجة على الجبرية.
وقوله تعالى: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي كذب الذين من قبلهم أنبياءهم كمثل ما كذبك هؤلاء. وهذا يدل على أن الذين أشركوا قصدوا بقولهم {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم إذا دعاهم إلى الإقلاع عما يعتقدون بحجة أن الله رضيه لهم

وشاءه منهم مشيئة رضى، فكذلك الأمم قبلهم كذبوا رسلهم مستندين إلى هذه الشبهة فسمى الله استدلالهم هذا تكذيبا، لأنهم ساقوه مساق التكذيب والإفحام، لا لأن مقتضاه لا يقول به الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون، فإنا نقول ذلك كما قال تعالى: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعام: 107] نريد بن معنى صحيحا فكلامهم من باب كلام الحق الذي أريد به باطل، ووقع في الكشاف أنه قرئ: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} بتخفيف ذال {كَذَّبَ} وقال الطيبي: هي قراءة موضوعة أو شاذة يعني شاذة شذوذا شديدا ولم يروها أحد عن أحد من أهل القراءات الشاذة، ولعلها من وضع بعض المعتزلة في المناظرة كما يؤخذ من كلام الفخر.
وقوله: {حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا} غاية للتكذيب مقصود منها دوامهم عليه إلى آخر أوقات وجودهم. فلما ذاقوا بأس الله هلكوا واضمحلوا، وليست الغاية هنا للتنهية: والرجوع عن الفعل لظهور أنه لا يتصور الرجوع بعد استئصالهم.
والذوق مجاز في الإحساس والشعور، فهو من استعمال المقيد في المطلق، وقد تقدم الكلام عليه عند قوله تعالى: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} في سورة العقود [95].
والبأس تقدم الكلام عليه في سورة البقرة. وإضافته إلى ضمير الله تعالى لتعظيمه وتهويله.
وأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالجواب عن مقالهم الواقع أو المتوقع بقوله: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا}، ففصل جملة: {قُلْ} لأنها جارية مجرى المقولة والمجاوبة كما تقرر غير مرة، وجاء بالاستفهام المقصود منه الإفحام والتهكم بما عرف من تشبتهم بمثل هذا الاستدلال.
وجعل الاستفهام بـ {هَلْ} لأنها تدل على طلب تحقيق الإسناد المسؤول عنه، لأن أصل {هَلْ} أنها حرف بمعنى "قد" لاختصاصها بالأفعال، وكثر وقوعها بعد همزة الاستفهام، فغلب عليها معنى الاستفهام، فكثر حذف الهمزة معها حتى تنوسيت الهمزة مشهور الكلام ولم تظهر معها إلا في النادر، وقد تقدم شيء من هذا عند قوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} في سورة العقود [91]. فدل بـ {هَلْ} على أنه سائل عن أمر يريد أن يكون محققا كأنه يرغب في حصوله فيغريهم بإظهاره حتى إذا عجزوا كان قطعا لدعواهم.
والمقصود من هذا الاستفهام التهكم بهم في قولهم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} إلى

{وَلا حَرَّمْنَا}، فأظهر لهم من القول ما يظهره المعجب بكلامهم. وقرينة التهكم بادية لأنه لا يظن بالرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين أن يطلبوا العلم من المشركين، كيف وهو يصارحهم بالتجهيل والتضليل صباح مساء.
والعلم: ما قابل الجهل، وإخراجه الإعلام به، شبهت إفادة المعلوم لمن يجهله بإخراج الشيء المخبوء، وذلك مثل التشبيه في قول النبي عليه الصلاة والسلام وعلم بثه في صدور الرجال ولذلك كان للإتيان: بـ {عِنْدَكُمْ} موقع حسن، لأن "عِنْدَ" في الأصل تدل على المكان المختص بالذي أضيف إليه لفظها، فهي مما يناسب الخفاء، ولولا شيوع استعمالها في المعنى المجازي حتى صارت كالحقيقة لقلت: إن ذكر "عِنْدَ" هنا ترشيح لاستعارة الإخراج للإعلام. وجعل إخراج العلم مرتبا بفاء السببية على العندية للدلالة على أن السؤال مقصود به ما يتسبب عليه.
واللام في: {فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} للأجل والاختصاص، فتؤذن بحاجة مجرورها لمتعلقها، أي فتخرجوه لأجلنا أي لنفعنا، والمعنى: لقد أبدعتم في هذا العلم الذي أبديتموه في استفادتكم أن الله أمركم بالشرك وتحريم ما حرمتموه بدلالة مشيئة على ذلك إذ لو شاء لما فعلتم ذلك فزيدونا من هذا العلم.
وهذا الجواب يشبه المنع في اصطلاح أهل الجدل، ولما كان هذا الاستفهام صوريا وكان المتكلم جازما بانتفاء ما استفهم عنه أعقبه بالجواب بقوله: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ}.
وجملة: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} مستأنفة لأنها ابتداء كلام بإضراب عن الكلام الذي قبله، فبعد أن تهكم بهم جد في جوابهم، فقال: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} أي: لا علم عندكم، وقصارى ما عنكم هو الظن الباطل والخرص. وهذا يشبه سند المنع في عرف أهل الجدل، والمراد بالظن الظن الكاذب وهو إطلاق له شائع كما تقدم عند قوله تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} في هذه السورة [116].
[149] {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}
جواب عن قولهم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} [الأنعام: 148] تكملة للجواب السابق لأنه زيادة في إبطال قولهم، وهو يشبه المعارضة في اصطلاح أهل الجدل.
وأعيد فعل الأمر بالقول لاسترعاء الأسماع لما سيرد بعد فعل: {قُلْ} وقد كرر ثلاث مرات متعاقبة بدون عطف، والنكتة ما تقدم من كون القول جاريا على طريقة

المقاولة.
والفاء فصيحة تؤذن بكلام مقدر هو شرط، والتقدير: فإن كان قولكم لمجرد اتباع الظن والخرص وسوء التأويل فلله الحجة البالغة. وتقديم المجرور على المبتدأ لإفادة الاختصاص، أي: لله لا لكم، ففهم منه أن حجتهم داحضة.
والحجة الأمر الذي يدل على صدق أحد في دعواه وعلى مصادفة المستدل وجه الحق، وتقدم القول فيها عند قوله تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} في سورة البقرة [150].
والبالغة هي الواصلة: أي الواصلة إلى ما قصدت لأجله، وهو غلب الخصم، وإبطال حجته، كقوله تعالى: {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ} [القمر: 5]، فالبلوغ استعارة مشهورة لحصول المقصود من الشيء فلا حاجة إلى إجراء استعارة مكنية في الحجة بأن تشبه بسائر إلى غاية، وقرينتها إثبات البلوغ، ولا حاجة أيضا إلى جعل إسناد البلوغ إلى حجة مجازا عقليا، أي بالغا صاحبها قصده، لأنه لا محيص من اعتبار الاستعارة في معنى البلوغ، فالتفسير به من أول وهلة أولى، والمعنى: لله الحجة الغالبة لكم، أي وليس استدلالكم بحجة.
والفاء في قوله: {فَلَوْ شَاءَ} فاء التفريع على ظهور حجة الله تعالى عليهم: تفرع على بطلان استدلالهم أن الله لو شاء لهداهم، أي لو شاء هدايتهم بأكثر من إرسال الرسول عليه الصلاة والسلام بأن يغير عقولهم فتأتي على خلاف ما هيئت له لكان قد فعل ذلك بوجه عناية خاصة بهم أو خارق عادة لأجلهم، إذ لا يعجزه شيء، ولكن حكمته قضت أن لا يعمم عنايته بل يختص بها بعض خاصته، وأن لا يعدل عن ينته في الهداية بوضع العقول وتنبيهها إلى الحق بإرسال الرسل ونصب الأدلة والدعاء إلى سبيله بالحكمة والموعظة، فالمشيئة المقصودة في قوله: {فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ} غير المشيئة المقصودة فيما حكى الله عنهم من قولهم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعام: 148] وإلا لكان ما أنكر عليهم قد أثبت نظيره عقب الإنكار فتتناقض المحاجة، لأن الهداية تساوي عدم الإشراك وعدم التحريم، فلا يصدق جعل كليهما جوابا لـ {لَوْ} الامتناعية، فالمشيئة المقصودة في الرد عليهم هي المشيئة الخفية المحجوبة، وهي مشيئة التكوين، والمشيئة المنكرة عليهم هي ما أرادوه من الاستدلال بالواقع على الرضى والمحبة. هذا وجه تفسير هذه الآية التي كللها من الإيجاز ما شتت أفهاما كثيرة في وجه تفسيرها لا يخفى بعدها عن مطالع التفاسير

والموازنة بينها وبين ما هنا.
[150] {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}.
استئناف ابتدائي: للانتقال من طريقة الجدل والمناظرة في إبطال زعمهم، إلى إبطاله بطريقة التبيين، أي أحضروا من يشهدون أن الله حرم هذا، تقصا لإبطال قولهم من سائر جهاته. ولذلك أعيد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بان يقول لهم ما يظهر كذب دعواهم.
وإعادة فعل {قُلْ} بدون عطف لاسترعاء الأسماع ولوقوعه على طريقة المحاورة كما قدمنا آنفا.
و {هَلُمَّ} اسم فعل أمر للحضور أو الإحضار، فهي تكون قاصرة كقوله تعالى {هَلُمَّ إِلَيْنَا} [الأحزاب: 18] ومتعدية كما هنا، وهو في لغة أهل الحجاز يلزم حالة واحدة فلا تلحقه علامات مناسبة للمخاطب، فتقول: هلم يا زيد، وهلم يا هند، وهكذا، وفي لغة أهل العالية أعني بني تميم تلحقه علامات مناسبة، يقولون: هلمي يا هند، وهلما، وهلموا، وهلممن، وقد جاء في هذه الآية على الأفصح فقال: {هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ}.
والشهداء: جميع شهيد بمعنى شاهد، والأمر للتعجيز إذ لا يلقون شهداء يشهدون أن الله حرم ما نسبوا إليه من شؤون دينهم المتقدم ذكرها. وأضيف الشهداء إلى ضمير المخاطبين لزيادة تعجيزهم، لأن شأن المحق أن يكون له شهداء يعلمهم فيحضرهم إذا دعي إلى إحقاق حقه، كما يقال للرجل: اركب فرسك والحق فلانا، لأن كل ذي بيت في العرب لا يعدم أن يكون له فرس، فيقول ذلك له من لا يعلم له فرسا خاصا ولكن الشأن أن يكون له فرس ومنه قوله تعالى: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب: 59] وقد لا يكون لإحداهن جلباب كما ورد في الحديث أنه سئل: إذا لم يكن لإحدانا جلباب، قال: "لتلبسها أختها من جلبابها".
ووصفهم بالموصول لزيادة تقرير معنى إعداد أمثالهم للشهادة، فالطالب ينزل نفسه منزلة من يظنهم لا يخلون عن شهداء بحقهم من شأنهم أن يشهدوا لهم وذلك تمهيد لتعجيزهم البين إذا لم يحضروهم، كما هو الموثوق به منهم ألا ترى قوله: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا} [الأنعام: 144] فهو يعلم أن ليس ثمة شهداء.

وإشارة {هَذَا} تشير إلى معلوم من السياق، وهو ما كان الكلام عليه من أول الجدال من قوله {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الأنعام: 143] الآيات، وقد سبقت الإشارة إليه أيضا بقوله: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا} [الأنعام: 144].
ثم فرع على فرض أن يحضروا شهداء يشهدون، وقوله {فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ}، أي: أن فرض المستبعد فأحضروا لك شهداء يشهدون أن الله حرم هذا الذي زعموه، فكذبهم واعلم بأنهم شهود زور، فقاله: {فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ} كناية عن تكذيبهم لأن الذي يصدق أحدا يوافقه في قوله، فاستعمل النهي عن موافقتهم في لازمه، وهو التكذيب، وإلا فإن النهي عن الشهادة معهم لمن يعلم أنه لا يشهد معهم لأنه لا يصدق بذلك فضلا على أن يكون شاهده من قبيل تحصيل الحاصل، فقرينة الكناية ظاهرة.
وعطف على النهي عن تصديقهم، النهي عن اتباع هواهم بقوله: {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا}.
وأظهر في مقام الإضمار قوله: {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا} لأن في هذه الصلة تذكيرا بأن المشركين يكذبون بآيات الله، فهم ممن يتجنب اتباعهم، وقيل: أريد بالذين كذبوا اليهود بناء على ما تقدم من احتمال أن يكونوا المراد من قوله: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ} [الأنعام: 147] وسمي دينهم هوى لعدم استناده إلى مستند ولكنه إرضاء للهوى. والهوى غلب إطلاقه على محبة الملائم العاجل الذي عاقبته ضرر. وقد تقدم عند قوله تعالى {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} في سورة البقرة [145].
وقوله: {وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} عطف على: {الَّذِينَ كَذَّبُوا} والمقصود عطف على الصلة لأن أصحاب الصلتين متحدون، وهم المشركون. فهذا كعطف الصفات في قول القائل، أنشده الفراء:
إلى الملك القرم وابن الهمام ... وليث الكتيبة في المزدحم
كان مقتضى الظاهر أن لا يعاد اسم الموصول لأن حرف العطف مغن عنه، ولكن أجري الكلام على خلاف مقتضى الظاهر لزيادة التشهير بهم، كما هو بعض نكت الإظهار في مقام الإضمار. وقيل: أريد بالذين كذبوا بالآيات: الذين كذبوا الرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن، وهم أهل الكتابين، وبالذين لا يؤمنون بالآخرة وهو بربهم يعدلون: المشركون، وقد تقدم معنى: {بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} عند قوله تعالى: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ

يَعْدِلُونَ} في أول هذه السورة [1].
[151] {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}.
استئناف ابتدائي للانتقال من إبطال تحريم ما ادعوا تحريمه من لحوم الأنعام، إلى دعوتهم لمعرفة المحرمات، التي علمها حق وهو أحق بأن يعلموه مما اختلفوا من افترائهم وموهوا بجدلهم. والمناسبة لهذا الانتقال ظاهرة فالمقام مقام تعليم وإرشاد، ولذلك ابتدئ بأمر الرسول عليه الصلاة والسلام بفعل القول استرعاء للأسماع كما تقدم آنفا.
وعقب بفعل: {تَعَالَوْا} اهتماما بالغرض المنتقل إليه بأنه أجدى عليهم من تلك السفاسف التي اهتموا بها على أسلوب قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 177] الآيات. وقوله: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 19] الآية، ليعلموا البون بين ما يدعون إليه قومهم وبين ما يدعوهم إليه الإسلام، من جلائل الأعمال، فيعلموا أنهم قد أضاعوا أزمانهم وأذهانهم.
وافتتاحه بطلب الحضور دليل على أن الخطاب للمشركين الذين كانوا في إعراض. وقد تلا عليهم أحكاما كانوا جارين على خلافها مما أفسد حالهم في جاهليتهم، وفي ذلك تسجيل عليهم بسوء أعمالهم مما يؤخذ من النهي عنها والأمر بضدها.
وقد انقسمت الأحكام التي تضمنتها هذه الجمل المتعاطفة في الآيات الثلاث المفتتحة بقوله {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} إلى ثلاثة أقسام:
الأول: أحكام بها إصلاح الحالة الاجتماعية العامة بين الناس وهو ما افتتح بقوله {أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً}.
الثاني: ما به حفظ نظام تعامل الناس بعضهم مع بعض وهو المفتتح بقوله {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ} [الأنعام: 152].
الثالث: أصل كلي جامع لجميع الهدى وهو اتباع طريق الإسلام والتحرز من

الخروج عنه إلى سبل الضلال وهو المفتتح بقوله {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام: 153].
وقد ذيل كل قسم من هذه الأقسام بالوصاية به بقوله: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ} ثلاث مرات.
و"تعال" فعل أمر، أصله يؤمر به من يراد صعوده إلى مكان مرتفع فوق مكانه، ولعل ذلك لأنهم كانوا إذا نادوا إلى أمر مهم ارتقى المنادي على ربوة ليسمع صوته، ثم شاع إطلاق "تعال" على طلب المجيء مجازا بعلاقة الإطلاق فهو مجاز شائع صار حقيقة عرفية، فأصله فعل أمر لا محالة من التعالي وهو تكلف الاعتلاء ثم نقل إلى طلب الإقبال مطلقا، فقيل: هو اسم فعل أمر بمعنى اقدم، لأنهم وجدوه غير متصرف في الكلام إذ لا يقال: تعاليت بمعنى قدمت، ولا تعالى إلي فلان بمعنى جاء، وأياما كان فقد لزمته علامات مناسبة لحال المخاطب به فيقال: تعالوا وتعالين. وبذلك رجح جمهور النحاة أنه فعل أمر وليس باسم فعل، ولأنه لو كان اسم فعل لما لحقته العلامات، ولكان مثل: هلم وهيهات.
و {أَتْلُ} جواب {تَعَالَوْا} ، والتلاوة والقراءة، والسرد وحكاية اللفظ، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} [البقرة: 102]. و {أَلَّا تُشْرِكُوا} تفسير للتلاوة لأنها في معنى القول.
وذكرت فيما حرم الله عليهم أشياء ليست من قبيل اللحوم إشارة إلى أن الاهتمام بالمحرمات الفواحش أولى من العكوف على دراسة أحكام الأطعمة، تعريضا بصرف المشركين همتهم إلى بيان الأطعمة وتضييعهم تزكية نفوسهم وكف المفاسد عن الناس، ونظيره قوله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} إلى قوله {إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [لأعراف: 32] 33] الآية.
وقد ذكرت المحرمات: بعضها بصيغة النهي، وبعضها بصيغة الأمر الصريح أو المؤول، لأن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده، ونكتة الاختلاف في صيغة الطلب لهاته المعدودات سنبينها.
و {أَنْ} تفسير لفعل: {أَتْلُ} لأن التلاوة فيها معنى القول، فجملة: {أَلَّا تُشْرِكُوا} في موقع عطف بيان. والابتداء بالنهي عن الإشراك لأن إصلاح الاعتقاد هو

مفتاح باب الإصلاح في العاجل، والفلاح في الآجل.
وقوله: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} عطف على جملة: {أَلَّا تُشْرِكُوا}. و {إِحْسَاناً} مصدر ناب مناب فعله، أي وأحسنوا بالوالدين إحسانا، وهو أمر بالإحسان إليهما فيفيد النهي عن ضده: وهو الإساءة إلى الوالدين، وبذلك الاعتبار وقع هنا في عداد ما حرم الله لأن المحرم هو الإساءة للوالدين، وإنما عدل عن النهي عن الإساءة إلى الأمر بالإحسان اعتناء بالوالدين، لأن الله أراد برهما، والبر إحسان، والأمر به يتضمن النهي عن الإساءة إليهما بطريق فحوى الخطاب، وقد كان كثير من العرب في جاهليتهم أهل جلافة, فكان الأولاد لا يوقرون آباءهم إذا أضعفهم الكبر. فلذلك كثرت وصاية القرآن بالإحسان بالوالدين.
وقوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ} جملة عطفت على الجملة قبلها أريد به النهي عن الوأد, وقد تقدم بيانه عند قوله تعالى في هذه السورة [137] {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ}. و"من" تعليلية، وأصلها الابتدائية فجعل المعلول كأنه مبتدئ من علته.
والإملاق: الفقر، وكونه علة لقتل الأولاد يقع على وجهين: أن يكون حاصلا بالفعل، وهو المراد هنا، وهو الذي تقتضيه "من" التعليلية، وأن يكون متوقع الحصول كما قال تعالى، في آية سورة الإسراء: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ} لأنهم كانوا يئدون بناتهم إما للعجز عن القيام بهن وإما لتوقع ذلك. قال إسحاق بن خلف: وهو إسلامي قديم:
إذا تذكرت بنتي حين تندبني ... فاضت لعبرة بنتي عبرتي بدم
أحاذر الفقر يوما أن يلم بها ... فيكشف الستر عن لحم على وضم
وقد تقدم عند قوله تعالى {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} في هذه السورة [137].
وجملة: {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} معترضة، مستأنفة، علة للنهي عن قتلهم، إبطالا لمعذرتهم: لأن الفقر قد جعلوه عذرا لقتل الأولاد، ومع كون الفقر لا يصلح أن يكون داعيا لقتل النفس، فقد بين الله أنه لما خلق الأولاد فقد قدر رزقهم، فمن الحماقة أن يظن الأب أن عجزه عن رزقهم يخوله قتلهم، وكان الأجدر به أن يكتسب لهم.

وعدل عن طريق الغيبة الذي جرى عليه الكلام من قوله: {مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ} إلى طريق التكلم بضمير: {نَرْزُقُكُمْ} تذكيرا بالذي أمر بهذا القول كله، حتى كأن الله أقحم كلامه بنفسه في أثناء كلام رسوله الذي أمره به، فكلم الناس بنفسه، وتأكيدا لتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم.
وذكر الله رزقهم مع رزق آبائهم،وقدم رزق الآباء للإشارة إلى أنه كما رزق الآباء، فلم يموتوا جوعا، كذلك يرزق الأبناء، على أن الفقر إنما اعترى الآباء فلم يقتل لأجله الأبناء.
وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي. هنا لإفادة الاختصاص: أي نحن نرزقكم وإياهم لا أنتم ترزقون أنفسكم ولا ترزقون أبناءكم، وقد بينت آنفا أن قبائل كثيرة كانت تئد البنات، فلذلك حذروا في هذه الآية.
وجملة: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} عطف على ما قبله. وقد نهي عن اقتراف الآثام، وقد نهى عن القريب منها، وهو أبلغ في التحذير من النهي عن ملابستها: لأن القرب من الشيء مظنة الوقوع فيه، ولما لم يكن للإثم قرب وبعد كان القرب مرادا به الكناية عن ملابسة الإثم أقل ملابسة، لأنه من المتعارف أن يقال ذلك في الأمور المستقرة في المكنة إذا قيل لا تقرب منها فهم النهي عن القرب منها ليكون النهي عن ملابستها بالأحرى، فلما تعذر المعنى المطابقي هنا تعينت إرادة المعنى الالتزامي بأبلغ وجه.
والفواحش: الآثام الكبيرة، وهي المشتملة على مفاسد، وتقدم بيانها عند قوله تعالى {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ} في سورة البقرة [169].
و {مَا ظَهَرَ مِنْهَا} ما يظهرونه ولا يستخفون به. مثل الغضب والقذف. {وَمَا بَطَنَ} ما يستخفون به وأكثره الزنا والسرقة وكانا فاشيين في العرب.
ومن المفسرين من فسر الفواحش بالزنا، وجعل ما ظهر منها ما يفعله سفهاءهم في الحوانيت وديار البغايا، وبما بطن اتخاذ الأخدان سرا، وروى هذا عن السدي، وروى عن الضحاك وابن عباس: كان أهل الجاهلية يرون الزنا سرا حلالا، ويستقبحونه في العلانية، فحرم الله الزنى في السر والعلانية، وعندي أن صيغة الجمع في الفواحش ترجع التفسير الأول كقوله تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم: 32]. ولعل الذي حمل هؤلاء على تفسير الفواحش بالزنى قوله في سورة الإسراء [32] في آيات

عددت منهيات كبيرة تشابه آيات هذه السورة وهي قوله: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} ، وليس يلزم أن يكون المراد بالآيات المتماثلة واحدا.
وتقدم القول في {مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} عند قوله تعالى: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْأِثْمِ وَبَاطِنَهُ} في هذه السورة [120].
وأعقب ذلك بالنهي عن قتل النفس، وهو من الفواحش على تفسيرها بالأعم، تخصيصا له بالذكر: لأنه فساد عظيم، ولأنه كان متفشيا بين العرب. والتعريف في النفس تعريف الجنس، فيفيد الاستغراق.
ووصفت بالتي {الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ} تأكيدا للتحريم بأنه تحريم قديم. فإن الله حرم قتل النفس من عهد آدم، وتعليق التحريم بالنفس: هو على وجه دلالة الاقتضاء، أي حرم الله قتلها على ما هو المعروف في تعليق التحريم والتحليل بأعيان الذوات أنه يراد تعليقه بالمعنى الذي تستعمل تلك الذات فيه كقوله {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} [المائدة: 1] أي، أكلها، ويجوز أن يكون معنى: {حَرَّمَ اللَّهُ} جعلها الله حرما أي شيئا محترما لا يتعدى عليه، كقوله تعالى {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا} [النمل: 91]. وفي الحديث: "وإني أحرم ما بين لابتيها".
وقوله {إِلَّا الْحَقَّ} استثناء مفرغ من عموم أحواله ملابسة القتل، أي لا تقتلوها في أية حالة أو بأي سبب تنتحلونه إلا بسبب الحق، فالباء للملابسة أو السببية.
والحق ضد الباطل، هو الأمر الذي حق، أي ثبت أنه غير باطل في حكم الشريعة، وعند أهل العقول السليمة البريئة من هوى أو شهوة خاصة، فيكون الأمر الذي اتفقت العقول على قبوله، هو ما اتفقت عليه الشرائع، أو الذي اصطلح أهل نزعة خاصة على أنه يحق وقوعه وهو ما اصطلحت عليه شريعة خاصة بأمة أو زمن.
فالتعريف في: {الْحَقَّ} للجنس، والمراد به ما يتحقق فيه ماهية الحق المتقدم شرحها، وحيثما أطلق في الإسلام فالمراد به ماهيته في نظر الإسلام، وقد فصل الإسلام حق قتل النفس بالقرآن والسنة، وهو قتل المحارب والقصاص، وهذان بنص القرآن، وقتل المرتد عن الإسلام بعد استتابته، وقتل الزاني المحصن، وقتل الممتنع من أداة الصلاة بعد إنظاره حتى يخرج وقتها، وهي الثلاثة وردت بها أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومنه القتل الناشئ عن إكراه ودفاع مأذون فيه شرعا. وذلك قتل من يقتل من البغاة وهو بنص

القرآن، وقتل من يقتل من مانعي الزكاة وهو بإجماع الصحابة، وأما الجهاد فغير داخل في قوله: {إِلَّا الْحَقَّ} ولكن قتل الأسير في الجهاد إذا كان لمصلحة كان حقا، وقد فصلنا الكلام على نظير هذه الآية في سورة الإسراء.
والإشارة بقوله: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ} إلى مجموع ما ذكر، ولذلك أفرد اسم الإشارة باعتبار المذكور، ولو أتى بإشارة الجمع لكان ذلك فصيحا، ومنه: {كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مسئولا} [الإسراء: 36].
وتقدم معنى الوصاية عند قوله: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا} [الأنعام: 144] آنفا.
وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} رجاء أن يعقلوا، أي يصيروا ذوي عقول لأن ملابسة بعض المحرمات ينبئ عن خساسة عقل، بحيث ينزل ملابسوها منزلة من لا يعقل، فلذلك رجي أن يعقلوا.
وقوله: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} تذييل جعل نهاية للآية، فأما إلى تنهية نوع المحرمات وهو المحرمات الراجع تحريمها إلى إصلاح الحالة الاجتماعية للأمة، بإصلاح الاعتقاد، وحفظ نظام العائلة والانكفاف عن المفاسد، وحفظ النوع بترك التقاتل.
[152] {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}.
{وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ}.
عطف جملة {وَلا تَقْرَبُوا} على الجملة التي فسرت فعل: {أَتْلُ} [الأنعام: 151] عطف محرمات ترجع إلى حفظ قواعد التعامل بين الناس لإقامة قواعد الجامعة الإسلامية ومدنيتها وتحقيق ثقة الناس بعضهم ببعض.
وابتدأها بحفظ حق الضعيف الذي لا يستطيع الدفع عن حقه في ماله، وهو اليتيم، فقال: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} والقربان كناية عن ملابسة مال اليتيم. والتصرف فيه كما تقدم آنفا في قوله: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ} [الأنعام: 151]. ولما اقتضى هذا تحريم التصرف في مال اليتيم، ولو بالخزن والحفظ، وذلك يعرض ماله للتلف،

استثنى منه قوله: {إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أي إلا بالحالة التي هي أحسن، فاسم الموصول صفة لموصوف محذوف يقدر مناسبا للموصول الذي هو اسم المؤنث، فيقدر بالحالة أو الخصلة.
والباء للملابسة، أي إلا ملابسين للخصلة أو الحالة التي هي أحسن حالات القرب، ولك أن تقدره بالمرة من {تَقْرَبُوا} أي إلا بالقربة التي هي أحسن. وقد التزم حذف الموصوف في مثل هذا التركيب واعتباره مؤنثا يجري مجرى المثل؛ ومنه قوله تعالى {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ} [المؤمنون: 96] أي بالخصلة الحسنة ادفع السيئة، ومن هذا القبيل أنهم أتوا بالموصول مؤنثا وصفا لمحذوف ملتزم الحذف وحذفوا صلته أيضا قولهم في المثل: بعد اللتيا والتي، أي بعد الداهية الحقيرة والداهية الجليلة كما قال سلمي بن ربيعة الضبي:
ولقد رأبت ثأي العشيرة بينها ... وكيفت جانبها اللتيا والتي
و {أَحْسَنُ} اسم تفضيل مسلوب المفاضلة، أي الحسنة، وهي النافعة التي لا ضر فيها لليتيم ولا لماله. وإنما قال هنا: {وَلا تَقْرَبُوا} تحذيرا من أخذ ماله ولو بأقل أحوال الأخذ لأنه لا يدفع عن نفسه، ولذلك لم يقل هنا: {وَلا تَأْكُلُوا} كما قال في سورة البقرة [188]: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}.
والأشد: اسم يدل على قوة الإنسان، وهو مشتق من الشد وهو التوثق، والمراد به في هذه الآية ونظائرها، مما الكلام فيه على اليتيم، بلوغه القوة التي يخرج بها من ضعف الصبا، وتلك هي البلوغ مع صحة العقل، لأن المقصود بلوغه أهلية التصرف في ماله. وما منع الصبي من التصرف في المال إلا لضعف في عقله بخلافه المراد منه في أوصاف الرجال فإنه يعني به بلوغ الرجل منتهى حد القوة في الرجال وهو الأربعين سنة إلى الخمسين قال تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [الأحقاف: 15] وقال سحيم بن وثيل:
أخو خمسين مجتمع أشدي ... ونجذني مداورة الشؤون
والبلوغ: الوصول، وهو هنا مجاز في التدرج في أطوار القوة المخرجة من وهن الصبا.
و {حَتَّى} غاية للمستثنى: وهو القربان بالتي هي أحسن، أي التصرف فيه إلى أن

يبلغ صاحبه أشده أي فيسلم إليه، كما قال تعالى في الآية الأخرى {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] الآية.
ووجه تخصيص حق اليتيم في ماله بالحفظ: أن ذلك الحق مظنة الاعتداء عليه من الولي، وهو مظنة انعدام المدافع عنه، لأنه ما من ضعيف عندهم إلا وله من الأقارب والموالي من يدفع عنه إذا استجاره أو استنجده، فأما اليتيم فإن الاعتداء عليه إنما يكون من أقرب الناس إليه، وهو وليه، لأنه لم يكن يلي اليتيم عندهم إلا أقرب الناس إليه، وكان الأولياء يتوسعون في أموال أيتامهم، ويعتدون عليها، ويضيعون الأيتام لكيلا ينشأوا نشأة يعرفون بها حقوقهم، ولذلك قال تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى} [الضحى:6] لأن اليتيم مظنة الإضاعة فلذلك لم يوص الله تعالى بمال غير اليتيم، لأن صاحبه يدفع عن نفسه، أو يستدفع بأوليائه ومنجديه.
{وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ}.
عطف الأمر بإيفاء الكيل والميزان، وذلك في التبايع، فقد كانوا يبيعون التمر والزبيب كيلا، وكانوا يتوازنون الذهب والفضة، فكانوا يطففون حرصا على الربح، فلذلك أمرهم بالوفاء. وعدل عن أن يأتي فيه بالنهي عن التطفيف كما في قول شعيب: {وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ} [هود: 84] إشارة إلى أنهم مأمورون بالحد الذي يتحقق فيه العدل وافيا، وعدم النقص يساوي الوفاء، ولكن في اختيار الأمر بالإيفاء اهتماما به لتكون النفوس ملتفة إلى جانب الوفاء لا إلى جانب التنقيص, وفيه تذكير لهم بالسخاء الذي يتمادحون به كأنه قيل لهم: أين سخاؤكم الذي تتنافسون فيه فهلا تظهرونه إذا كلتم أو وزنتم فتزيدوا على العدل بأن توفروا للمكتال كرما بله أن تسرقوه حقه. وهذا تنبيه لهم على اختلال أخلاقهم وعدم توازنها.
والباء في قوله: {بِالْقِسْطِ} للملابسة والقسط والعدل، وتقدم عند قوله تعالى: {قَائِماً بِالْقِسْطِ} [آل عمران: 18] في سورة آل عمران، أي أوفوا متلبسين بالعدل بأن لا تظلموا المكتال حقه.
{لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا}.
ظاهر تعقيب جملة: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ} الخ بجملة: {لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} أنها متعلقة بالتي وليتها فتكون احتراسا، أي لا نكلفكم تمام القسط في الكيل والميزان بالحبة

والذرة ولكنا نكلفكم ما تظنون أنه عدل ووفاء. والمقصود من هذا الاحتراس أن لا يترك الناس التعامل بينهم خشية الغلط أو الغفلة، فيفضي ذلك إلى تعطيل منافع جمة. وقد عدل في هذا الاحتراس عن طريق الغيبة الذي بني عليه المقول ابتداء من قوله: {مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 151] لما في من الاحتراس من الامتنان، فتولى الله خطاب الناس فيه بطريق التكلم مباشرة زيادة بالمنة، وتصديقا للمبلغ، فالوصاية بإيفاء الكيل والميزان راجعة إلى حفظ مال المشتري من مظنة الإضاعة، لأن حالة الكيل والوزن حالة غفلة للمشتري، إذ البائع هو الذي بيده المكيال أو الميزان، ولأن المشتري لرغبته في تحصيل المكيل أو الموزون قد يتحمل التطفف، فأوصي البائع بإيفاء الكيل والميزان. وهذا الأمر يدل بفحوى الخطاب على وجوب حفظ المال فيما هو أشد من التطفف، فإن التطفف إن هو إلا مخالسة قدر يسير المبيع، وهو الذي لا يظهر حين التقدير فأكل ما هو أكثر من ذلك من المال أولى بالحفظ، وتجنب الاعتداء عليه.
ويجوز أن تكون جملة: {لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} تذييلا للجمل التي قبلها، تسجيلا عليهم بأن جميع ما دعوا إليه هو في طاقتهم ومكنتهم. وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} في آخر سورة البقرة [286].
{وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى}
هذا جامع كل المعاملات بين الناس بواسطة الكلام وهي الشهادة، والقضاء، والتعديل، والتجريح، والمشاورة، والصلح بين الناس، والأخبار المخبرة عن صفات الأشياء في المعاملات: من صفات المبيعات، والمؤجرات، والعيوب، وفي الوعود، والوصايا، والأيمان، وكذلك المدائح والشتائم كالقذف، فكل ذلك داخل فيما يصدر عن القول.
والعدل في ذلك أن لا يكون في القول شيء من الاعتداء على الحقوق: بإبطالها، أو إخفائها، مثل كتمان عيوب المبيع، وادعاء العيوب في الأشياء السليمة، والكذب في الأثمان، كأن يقول التاجر: أعطيت في هذه السلعة كذا، لثمن لم يعطه، أو أن لم يعطه، أو أن هذه السلعة قامت علي بكذا. ومنه التزام الصدق في التعديل والتجريح وإبداء النصيحة في المشاورة، وقول الحق في الصلح. وأما الشهادة والقضاء فأمر العدل فيهما ظاهر، وإذا وعد القائل لا يخلف، وإذا أوصى لا يظلم أصحاب حقوق الميراث، ولا يحلف على

الباطل، وإذا مدح أحد مدحه بما فيه. وأما الشتم فالإمساك عنه واجب ولو كان حقا فذلك الإمساك هو العدل لأن الله أمر به.
وفي التعليق بأداة الشرط في قوله: {وَإِذَا قُلْتُمْ} إشارة أن المرء في سعة من السكوت إن خشي قول العدل. وأما أن يقول الجور والظلم والباطل فليس له سبيل إلى ذلك، والكذب كله من القول بغير العدل، على أن من السكوت ما هو واجب. وفي الموطأ أن رجلا خطب إلى رجل أخته فذكر الأخ أنها قد كانت أحدثت فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فضربه أو كاد يضربه أو كاد يضربه ثم قال: مالك وللخبر.
والواو في قوله: {وَلَوْ كَانَ} واو الحال، ولو وصلية تفيد المبالغة في الحال التي من شأنها أن يظن السامع عدم شمول الحكم إياها لاختصاصها من بين بقية الأحوال التي يشملها الحكم، وقد تقدم بيانها عند قوله تعالى: {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} في سورة آل عمران [91]، فإن حالة قرابة المقول لأجله القول قد تحمل القائل على أن يقول غير العدل، لنفع قريبه أو مصانعته، فنبهوا على وجوب التزام العدل في القول في تلك الحالة، فالضمير المستتر في "كان" عائد إلى شيء معلوم من الكلام: أي لو كان الذي تعلق به القول ذا قربى.
والقربى: القرابة ويعلم أنه ذو قرابة من القائل، أي إذا قلتم قولا لأجله أو عليه فاعدلوا ولا تقولوا غير الحق، ولا لدفع ضره بأن تغمصوا الحق الذي عليه، ولا لنفعه بأن تختلقوا له حقا على غيره أو تبرئوه مما صدر منه على غيره، وقد قال الله تعالى في العدل في الشهادة في القضاء: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء: 135].
وقد جاء طلب الحق في القول بصيغة الأمر بالعدل، دون النهي عن الظلم أو الباطل: لأنه قيده بأداة الشرط المقتضي لصدور القول: فالقول إذا صدر لا يخلو عن أن يكون حقا أو باطلا، والأمر بأن يكون حقا أو في أوفى بمقصد الشارع لوجهين: أحدهما أن الله يحب إظهار الحق بالقول ففي الأمر بأن يكون عدلا أمر بإظهاره ونهى عن السكوت بدون موجب. والثاني أن النهي عن قول الباطل أو الزور يصدق بالكلام الموجه الذي ظاهره ليس بحق، وذلك مذموم إلا عند الخوف أو الملاينة، أو فيما لا يرجع إلى إظهار حق، وتلك هي المعاريض التي ورد فيها الحديث: إن في

المعاريض لمندوحة عن الكذب"1.
{وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا}
ختم هذه المتلوات بالأمر بإيفاء العهد بقوله: {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا}. وعهد المأمور بالإيفاء به هو كل عهد فيه معنى الانتساب إلى الله الذي اقتضته الإضافة، إذ الإضافة هنا يصح أن تكون إضافة المصدر إلى الفاعل، أي ما عهد الله به إليكم من الشرائع، ويصح أن تكون إلى مفعوله، أي ما عاهدتم الله أن تفعلوه، والتزمتموه وتقلدتموه، ويصح أن تكون الإضافة لأدنى ملابسة، أي العهد الذي أمر الله بحفظه، وحذر من ختره، وهو المعهود التي تنعقد بين الناس بعضهم مع بعض سواء كان بين القبائل أم كان بين الآحاد. ولأجل مراعاة هذه المعاني الناشئة عن صلاحية الإضافة لإفادتها عدل إلى طريق إسناد اسم العهد إلى اسم الجلالة بطريق الإضافة دون طريق الفعل، بأن يقال: وبما عاهدتم الله عليه، أو نحو ذلك ما لا يحتمل إلا معنى واحد. وإذ كان الخطاب بقوله: {تَعَالَوْا} [الأنعام: 151] للمشركين تعين أن يكون العهد شيئا قد تقررت معرفته بينهم، وهو العهود التي يعقدونها بالموالاة والصلح أو نحو ذلك فهو يدعوهم إلى الوفاء بما عاقدوا عليه. وأضيف إلى الله لأنهم كانوا يتحالفون عند التعاقد ولذلك يسمون العهد حلفا قال الحارث بن حلزة:
واذكروا حلف ذي المجاز وما ... قدم فيه العهود والكفلا
وقال عمرو بن كلثوم:
ونوجد نحن أمنعهم ذمارا ... وأوفاهم إذا عقدوا يمينا
فالآية آمرة لهم بالوفاء، وكان العرب يتمادحون به. ومن العهود المقررة بينهم: حلف الفضول، وحلف المطيبين، وكلاهما كان في الجاهلية على نفي الظلم والجور عن القاطنين بمكة، وذلك تحقيق لعهد الله لإبراهيم عليه السلام أن يجعل مكة بلدا آمنا ومن دخله كان آمنا، وقد اعتدى المشركون على ضعفاء المؤمنين وظلموهم مثل عمار، وبلال، وعامر بن فهيرة، ونحوهم، فهو يقول لهم فيما يتلو عليهم أن خفر عهد الله بأمان مكة، وخفر عهودكم بذلك، أولى بأن تحرموه من مزاعمكم الكاذبة فيما حرمتم وفصلتم، فهذا
ـــــــ
1 رواه البيهقي في "سننه" وابن عدي في "الكامل" عن عمران بن حصين. قيل: هو مرفوع والأصح موقوف.

هو الوجه في تفسير قوله: {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا}.
وتقديم المجرور على عامله للاهتمام بأمر العهد وصرف ذهن السامع عند، ليتقرر في ذهنه ما يرد بعده من الأمر بالوفاء، أي إن كنتم ترون الوفاء بالعهد مدحة فعهد الله أولى بالوفاء وانتم قد اخترتموه، فهذا كقوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} ثم قال: {وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ} [البقرة: 217].
{ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}.
تكرار لقوله المماثل له قبله، وقد علمت أن هذا التذييل ختم به صنف من أصناف الأحكام. وجاء مه هذه الوصية بقوله: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} لأن هذه المطالب الأربعة عرف بين العرب أنها محامد، فالأمر بها، والتحريض عليها تذكير بما عرفوه في شأنها ولكنهم تناسوه بغلبة الهوى وغشاوة الشرك على قلوبهم.
وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وبن عامر، وعاصم في رواية أبي بكر، وأبو جعفر، ويعقوب: تذكرون بتشديد الذال لإدغام التاء الثانية في الذال بعد قلبها، وقرأ حمزة، والكسائي، وعاصم في رواية حفص، وخلف بتخفيف الذال على حذف التاء الثانية تخفيفا.
[153] {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
الواو عاطفة على جملة: {أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [الأنعام: 151] لتماثل المعطوفات في أغراض الخطاب وترتيبه، وفي تخلل التذيلات التي عقبت تلك الأغراض بقوله: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام: 151]، {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأنعام: 152]، {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}. وهذا كلام جامع لاتباع ما يجيء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من الوحي في القرآن.
وقرأ نافع، وبن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وأبو جعفر: {أَنَّ} بفتح الهمزة وتشديد النون.
وعن الفراء والكسائي أنه معطوف على: {مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ} [الأنعام: 151]، فهو في موضع نصب بفعل: {أَتْلُ} والتقدير: وأتل عليكم أن هذا صراطي مستقيما.

وعن أبي علي الفارسي: أن قياس قول سيبويه أن لا تحمل "أن"، أي تعلق على قوله {فَاتَّبِعُوهُ}، والتقدير: ولئن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه، على قياس قول سيبويه في قوله تعالى: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ} [قريش:1]. وقال في قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [الجن:18] المعنى: ولأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا اهـ.
فـ {أَنَّ} مدخولة للام التعليل محذوفة على ما هو معروف من حذفها مع "أَنَّ" و"أَنَّ" وتقدير النظم: واتبعوا صراطي لأنه صراط مستقيم، فوقع تحويل في النظم بتقدير التعليل على الفعل الذي حقه أن يكون معطوفا، فصار التعليل بمنزلة الشرط بسبب هذا التقديم، كأنه قيل: لما كان هذا صراطي مستقيما فاتبعوه.
وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف: {وَإِنَّ} بكسر الهمزة وتشديد النون فلا تحويل في نظم الكلام، فيكون قوله: {فَاتَّبِعُوهُ} تفريعا على إثبات بأن صراطه مستقيم. وقرأ عامر، ويعقوب: {وَأَنْ} بفتح الهمزة وسكون النون على أنها مخففة من الثقيلة واسمها ضمير شأن مقدر والجملة بعده خبره، والأحسن تخريجها بكون {أَنَّ} تفسيرية معطوفة على: {أَلَّا تُشْرِكُوا} [الأنعام: 151]. ووجه إعادة {أَنْ} اختلاف أسلوب الكلام عما قبله.
والإشارة إلى الإسلام: أي وأن الإسلام صراطي؛ فالإشارة إلى حاضر في أذهان المخاطبين من أثر تكرر نزول القرآن وسماع أقوال الرسول عليه الصلاة والسلام، بحيث عرفه الناس وتبينه، فنزل منزلة المشاهد، فاستعمل فيه اسم الإشارة الموضوع لتعيين ذات بطريق المشاهدة مع الإشارة، ويجوز أن تكون الإشارة إلى جميع التشريعات والمواعظ التي تقدمت في هذه السورة، لأنها صارت كالشيء الحاضر المشاهد، كقوله تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 44].
والصراط الطريق الجادة الواسعة, وقد مر في قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] والمراد الإسلام كما دل عليه قوله في آخر السورة: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً} [الأنعام: 161] لأن المقصود منها تحصضيل الصلاح في الدنيا والآخرةفشبهت بالطريق الموصل إلى غرضه ومقصده.
ولما شبه الإسلام بالصراط وجعل كالشيء المشاهد صار كالطريق الواضحة البينة فادعي أنه مستقيم، أي لا اعوجاج فيه لأن الطريق المستقيم أيسر سلوكا على السائر

وأسرع وصولا به.
والياء المضاف إليها "صراط" تعود على الله، كما بينه قوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ} [الشورى: 52, 53] على إحدى طريقتين في حكاية القول إذا كان في المقول ضمير القائل أو ضمير الآمر بالقول، كما تقدم عند قوله تعالى: { مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} في سورة العقود [117]. وقد عدل عن طريقة الغيبة، التي جرى عليها الكلام من قله: {مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ} [الأنعام: 151] لغرض الإيماء إلى عصمة هذا الصراط من الزلل، لأن كونه صراط الله يكفي في إفادة أنه موصل إلى النجاح، فلذلك صح تفريع الأمر باتباعه على مجرد كونه صراط الله. ويجوز عود الياء إلى النبي المأمور بالقول، إلا أن هذا يستدعي بناء التفريع بالأمر باتباعه على ادعاء أنه واضح الاستقامة، وإلا فأن كونه طريق النبي لا يقتضي تسبب الأمر باتباعه عنه بالنسبة إلى المخاطبين المكذبين.
وقوله: {مُسْتَقِيماً} حال من اسم الإشارة، وحسن وقوعه حالا أن الإشارة بنيت على ادعاء أنه مشاهد، فيقتضي أنه مستحضر في الذهن بمجمل كلياته وما جربوه منه وعرفوه، وأن ذلك يريهم أنه في حال الاستقامة كأنه أمر محسوس، ولذلك كثر مجيء الحال من اسم الإشارة نحو: {وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً} [هود: 72] ولم يأتوا به خبرا.
والسبل: الطرق، ووقوعها هنا في مقابلة الصراط المستقيم يدل على صفة محذوفة، أي السبل المتفرقة غير المستقيمة، وهي التي يسمونها: بنيات الطريق، وهي طرق تشعب من السبيل الجادة ذاهبة، يسلكها بعض المارة فرادى إلى بيوتهم أو مراعيهم فلا تبلغ إلى بلد ولا إلى حي، ولا يستطيع السير فيها إلا من عقلها واعتادها، فلذلك سبب عن النهي قوله: {فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}، أي فإنها طرق متفرقة فهي تجعل سالكها متفرقا عن السبيل الجادة، وليس ذلك لأن السبيل اسم للطريق الضيقة غير الموصلة، فإن السبيل يرادف الصراط ألا ترى إلى قوله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} [يوسف: 108]، بل لأن المقابلة والإخبار عنها بالتفرق دل على أن المراد سبل خاصة موصوفة بغير الاستقامة.
والباء في قوله: {بِكُمْ} للمصاحبة: أي فتتفرق السبل مصاحبة لكم، أي تتفرقون مع تفرقها، وهذه المصاحبة المجازية تجعل الباء بمنزلة همزة التعدية كما قاله النحاة، في نحو: ذهبت بزيد، أنه بمعنى أذهبته، فيكون المعنى فتفرقكم عن سبيله، أي لا تلاقون سبيله.

والضمير المضاف إليه في: {سَبِيلِهِ} يعود إلى الله تعالى بقرينة المقام، فإذا كان ضمير المتكلم في قوله: {صِرَاطِي} عائدا لله كان في ضمير {سَبِيلِهِ} التفاتا عن سبيلي.
روى النسائي في سننه، وأحمد، والدارمي في مسنديهما، والحاكم في المستدرك، عن عبد الله بن مسعود، قال: "خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما خطا ثم قال: "هذا سبيل الله"، ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله أي عن يمين الخط المخطوط أولا وعن شماله ثم قال: "هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليها" ثم قرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} وروى أحمد، وابن ماجه، وابن مردويه، عن جابر بن عبد الله قال: "كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فخط خطا وخط خطين عن يمينه وخط خطين عن يساره ثم وضع يده في الخط الأوسط أي الذي بين الخطوط الأخرى فقال:" هذه سبيل الله"، ثم تلا هذه الآية: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} وما وقع في الرواية الأولى "وخط خطوطا" هو باعتبار مجموع ما على اليمين والشمال. وهذا رسمه على سبيل التقريب:
...
...
...
وقوله: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} تذييل تكرير لمثليه السابقين، فالإشارة بـ {ذَلِكُمْ} إلى الصراط، والوصاية به معناها لوصاية بما يحتوي عليه.
وجعل الرجاء للتقوى لأن هذه السبيل تحتوي على ترك المحرمات، وتزيد بما تحتوي عليه من فعل الصالحات، فإذا اتبعها السالك فقد صار من المتقين أي الذين اتصفوا بالتقوى بمعناها الشرعي كقوله تعالى: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2].
[154] {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ}.
{ثُمَّ} هنا عاطفة على جملة: {قُلْ تَعَالَوْا} فليست عاطفة للمفردات، فلا يتوهم أنها لتراخي الزمان، بل تنسلخ عنه حين تعطف الجمل فتدل على التراخي في الرتبة، وهو مهلة مجازية، وتلك دلالة "ثم" إذا عطفت الجمل. وقد استصعب على بعض المفسرين مسلك "ثم" في هذه الآية لأن إتيان موسى عليه السلام الكتاب ليس برتبة أهم

من رتبة تلاوة ما حرمه الله من المحرمات وما فرضه من اتباع صراط الإسلام. وتعددت آراء المفسرين في محمل "ثم" هنا إلى آراء: للفراء، والزجاج، والزمخشري، وأبي مسلم، وغيرهم، كل يروم التخلص من هذا المضيق.
والوجه عندي: أن "ثم" ما فارقت المعروف من لإفادة التراخي الرتبي، وأن تراخي رتبة إتيان موسى عليه السلام الكتاب عن تلاوة ما حرم الله في القرآن، وما أمر به من ملازمة صراط الإسلام، إنما يظهر بعد النظر إلى المقصود من نظم الكلام، فإن المقصود من ذكر إيتاء موسى عليه السلام الكتاب ليس لذاته بل هو التمهيد لقوله: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} [الأنعام: 92] ليرتب عليه قوله: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} إلى قوله {وَهُدىً وَرَحْمَةٌ} [الأنعام: 156, 157]، فمعنى الكلام: وفوق ذلك فهذا كتاب أنزلناه مبارك جمع فيه ما أوتيه موسى عليه السلام وهو أعظم ما أوتيه الأنبياء من قبله وما في القرآن: الذي هو مصدق لما بين يديه ومهيمن عليه؛ إن اتبعتموه واتقيتم رحمناكم ولا معذرة لكم أن تقولوا لو أنزل لنا كتاب لكنا أفضل اهتداء من أهل الكتابين، فهذا غرض أهم جمعا لاتباع جميع ما اشتمل عليه القرآن، وأدخل في إقناع المخاطبين بمزية أخذهم بهذا الكتاب.
ومناسبة هذا الانتقال: ما ذكر من صراط الله الذي هو الإسلام، فإن المشركين لما كذبوا دعوة الإسلام ذكرهم الله بأنه آتى موسى عليه السلام الكتاب كما اشتهر بينهم حسبما بيناه عند قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} [91] الآية، في هذه السورة، لينتقل إلى ذكر القرآن والتحريض على اتباعه فيكون التذكير بكتاب موسى عليه السلام تمهيدا لذلك الغرض.
والكتاب هو المعهود، أي التوراة، و {تَمَاماً} حال من الكتاب،والتمام الكمال، أي كان ذلك الكتاب كمالا لما في بني إسرائيل من الصلاح الذي هو بقية مما تلقوه عن أسلافهم: من صلاح إبراهيم، وما كان عليه إسحاق ويعقوب والأسباط عليهم السلام، فكانت التوراة مكملة لصلاحهم، ومزيلة لما اعتراهم من الفساد، وأن إزالة الفساد تكملة للصلاح. ووصف التوراة بالتمام مبالغة في معنى المتم.
والموصول في قوله: {عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} مراد به الجنس، فلذلك استوى مفرده وجمعه. والمراد به هنا الفريق المحسن، أي تماما لإحسان المحسنين من بني إسرائيل، فالفعل منزل منزلة اللازم، أي الذي اتصف بالإحسان.

والتفصيل: التبيين، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ} في هذه السورة [55].
و {كُلِّ شَيْءٍ} مراد به أعظم الأشياء، أي المهمات المحتاج إلى بيان أحكامها في أحوال الدين. فتكون "كُلِّ" مستعملة في معنى الكثرة كما تقدم في قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} في سورة البقرة [145]. أو في معنى العظيم من الأشياء كأنه جمع الأشياء كلها.
أو يراد بالشيء: الشيء المهم، فيكون من حذف الصفة، كقوله: {يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} [الكهف: 79]، أي كل سفينة صالحة، ومثله قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38].
وقوله: {لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} رجاء أن يؤمنوا بلقاء ربهم، والضمير عائد إلى معلوم من المقام وهم بنوا إسرائيل، إذ قد علم من إيتاء موسى عليه السلام الكتاب أن المنتفعين به هم قومه بنو إسرائيل، ومعنى ذلك: لعلهم إن تحروا في أعمالهم، على ما يناسب الأيمان بلقاء ربهم، فإن بني إسرائيل كانوا مؤمنين بلقاء الله من قبل نزول التوراة، ولكنهم طرأ عليهم من أزمنة طويلة: من أطوار مجاورة القبط، وما لحقهم من المذلة والتغرب والخصاصة والاستعباد، ما رفع منهم العلم، وأذوى الأخلاق الفاضلة، فنسوا مراقبة الله تعالى، وأفسدوا، حتى كان حالهم كحال من لا يؤمن بأنه يلقى الله، فأراد الله إصلاحهم ببعثه موسى عليه السلام، ليرجعوا إلى ما كان عليه سلفهم الصالح من مراقبة الله تعالى وخشية لقائه، والرغبة في أن يلقوه وهو راض عنهم. وهذا تعريض بأهل مكة ومن إليهم من العرب، فكذلك كان سلفهم على هدى وصلاح، فدخل فيهم من أضلهم ولقنهم الشرك وإنكار البعث، فأرسل الله إليهم محمدا صلى الله عليه وسلم ليردهم إلى الهدى ويؤمنوا بلقاء ربهم.
وتقديم المجرور على عامله للاهتمام بأمر البعث والجزاء.
[155 – 157] {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ}.

جملة: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} عطف على جملة: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} [الأنعام: 154].المعنى: آتينا موسى الكتاب وأنزلنا هذا الكتاب كما تقدم عند قوله تعالى: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} [الأنعام: 154] الخ.
وافتتاح الجملة باسم الإشارة، وبناء الفعل عليه، وجعل الكتاب الذي حقه أن يكون مفعول: {أَنْزَلْنَاهُ} ، مبتدأ، كل ذلك للاهتمام بالكتاب والتنويه به، وقد تقدم نظيره: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} في هذه السورة [92].
وتفريع الأمر باتباعه على كونه منزلا من الله، وكونه مباركا، ظاهر: لأن ما كان كذلك لا يتردد أحد في اتباعه.
والاتباع أطلق على العمل بما فيه على سبيل المجاز. وقد مضى الكلام فيه عند قوله تعالى: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأنعام: 50] وقوله {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} في هذه السورة [106].
والخطاب في قوله: {فَاتَّبِعُوهُ} للمشركين، بقرينة قوله: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا}.
وجملة: {أَنْزَلْنَاهُ} في محل الصفة ل {كِتَابٌ}، و {مُبَارَكٌ} صفة ثانية، وهما المقصد من الإخبار، لأن كونه كتابا لا مرية فيه, وإنما امتروا في كونه منزلا من عند الله وفي كونه مباركا. وحسن عطف: {مُبَارَكٌ} على: {أَنْزَلْنَاهُ} لأن اسم المفعول – لاشتقاقه – هو في قوة القعل. ومعنى: {اتَّقَوْا} كونوا متصفين بالتقوىوهي الأخذ بدين الحق والعنل به. وفي قوله: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} وعد على اتباعه وتعريض بالوعد بعذاب الدنيا والآخرة إن لم يتبعوه.
وقوله: {أَنْ تَقُولُوا} في موضع التعليل لفعل {أَنْزَلْنَاهُ} على تقدير لام التعليل محذوفة على ما هو معروف من حذفها مع "أن". والتقدير: لأن تقولوا، أي لقولكم ذلك في المستقبل، أي لملاحظة قولكم وتوقع وقوعه، فالقول باعث على إنزال الكتاب.
والمقام يدل على أن هذا القول كان باعثا على إنزال هذا الكتاب، والعلة الباعثة على شيء لا يلزم أن تكون علة غائية، فهذا المعنى في اللام عكس معنى لام العاقبة، ويؤول المعنى إلى أن إنزال الكتاب فيه حكم منها حكمة قطع معذرتهم بأنهم لم ينزل إليهم كتاب، أو كراهية أن يقولوا ذلك، أو لتجنب أن يقولوه، وذلك بمعونة المقام إيثارا

للإيجاز فلذلك يقدر مضاف مثل: كراهية أو تجنب. وعلى هذا التقدير جرى نحاة البصرة. وذهب نحاة الكوفة إلى أنه على تقدير "لا" النافية، فالتقدير عندهم: أن لا تقولوا، والمآل واحد ونظائر هذا في القرآن كثيرة كقوله: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176] وقوله: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر: 55, 56] وقوله {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل: 15] أي لتجنب ميدها بكم، وقول عمرو بن كلثوم:
فعجلنا القرى أن تشتمونا
وهذا القول يجوز أن يكون قد صدر عنهم من قبل، فقد جاء في آية سورة القصص [48]: {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى} ، ويجوز أن يكون متوقعا ثم قالوه من بعد، وأيا ما كان فإنه متوقع أن يكرروه ويعيدوه قولا موافقا للحال في نفس الأمر، فكان متوقعا صدوره عند ما يتوجه الملام عليهم في انحطاطهم عن مجاوريهم من اليهود والنصارى من حيث استكمال الفضائل وحسن السير وكمال التدين،وعند سؤالهم في الآخرة عن اتباع ضلالهم، وعندما يشاهدون ما يناله أهل الملل الصالحة من النعيم ورفع الدرجات في ثواب الله فيتطلعون إلى حظ من ذلك ويتعللون بأنهم حرموا الإرشاد في الدنيا.
وقد كان اليهود والنصارى في بلاد العرب على حالة اكمل من أحوال أهل الجاهلية، ألا ترى إلى قول النابغة يمدح آل النعمان بن الحارث، وكانوا نصارى:
مجلتهم ذات الإله ودينهم ... قويم فما يرجون غير العواقب
ولا يحسبون الخير لا شر بعده ... ولا يحسبون الشر ضربة لازب
والطائفة: الجماعة من الناس الكثيرة، وقد تقدم عند قوله تعالى: {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} في سورة النساء [102]، والمراد بالطائفتين هنا اليهود والنصارى.
والكتاب مراد به الجنس المنحصر في التوراة والإنجيل والزبور. ومعنى إنزال الكتاب عليهم أنهم خوطبوا بالكتب السماوية التي أنزلت على أنبيائهم فلم يكن العرب مخاطبين بما أنزل على غيرهم، فهذا تعلل أول منهم، وثمة اعتلال آخر عن الزهادة في التخلق بالفضائل والأعمال الصالحة: وهو قولهم: {وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} ، أي

وأنا كنا غافلين عن اتباع رشدهم لأنا لم نتعلم، فالدراسة مراد بها التعليم.
والدراسة: القراءة بمعاودة للحفظ أو للتأمل، فليس سرد الكتاب بدراسة. وقد تقدم قوله تعالى: {وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ} في هذه السورة [105]، وتقدم تفصيله عند قوله تعالى: {وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} من سورة آل عمران [79].
والغفلة: السهو الحاصل من عدم التفطن، أي لم نهتم بما احتوت عليه كتبهم فتقتدي بهديها، فكان مجيء القرآن منبها لهم للهدي الكامل ومغنيا عن دراسة كتبهم.
وقوله: {أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ} تدرج في الاعتلال جاء على ما تكنه نفوس العرب من شفوفهم بأنفسهم على بقية الأمم، وتطلعهم إلى معالي الأمور، وإدلالهم بفطنتهم وفصاحة ألسنتهم وحدة أذهانهم وسرعة تلقيهم، وهم أخلقاء بذلك كله.
وفي الإعراب عن هذا الاعتلال منهم تلقين لهم، وإيقاظ لإفهامهم أن يغتبطوا بالقرآن، ويفهموا ما يعود عليهم به من الفضل والشرف بين الأمم، كقوله تعالى: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الانبياء:10]. وقد كان الذين اتبعوا القرآن أهدى من اليهود والنصارى ببون بعيد الدرجات.
ولقد تهيأ المقام بعد هذا التنبيه العجيب لفاء الفصيحة في قوله: {فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} وتقديرها: فإذا كنتم تقولون ذلك ويهجس في نفوسكم فقد جاءكم بيان من ربكم يعني القرآن، يدفع عنكم ما تستشعرون من الانحطاط عن أهل الكتاب.
والبينة ما به البيان وظهور الحق. فالقرآن بينة على أنه من عند الله لإعجازه بلغاء العرب، وهو هدي بما اشتمل عليه من الإرشاد إلى طريق الخير، وهو رحمة بما جاء به من شريعة سمحة لا حرج فيها، فهي مقيمة لصلاح الأمة مع التيسير. وهذا من أعجب التشريع وهو أدل على أنه من أمر العليم بكل شيء.
وتفرع عن هذا الإعذار لهم الإخبار عنهم بأنهم لا أظلم منهم، لأنهم كذبوا واعرضوا. فالفاء في وقوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ} للتفريع. والاستفهام إنكاري، أي لا أحد أظلم من الذين كذبوا بآيات الله.
و"مَنْ" في {مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ} موصولة وما صدقها المخاطبون من قوله: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ}.

والظلم هنا يشمل ظلم نفوسهم، إذ زجوا بها إلى العذاب في الآخرة وخسران الدنيا، وظلم الرسول صلى الله عليه وسلم إذ كذبوه، وما هو بأهل التكذيب، وظلم الله إذ كذبوا بآياته وأنكروا نعمته، وظلموا الناس بصدهم عن الإسلام بالقول والفعل.
وقد جيء باسم الموصول لتدل الصلة على تعليل الحكم ووجه بناء الخبر، لأن من ثبت له مضمون تلك الصلة كان حقيقا بأنه لا أظلم منه.
ومعنى: {صَدَفَ} أعرض هو، ويطلق بمعنى صرف غيره كما في القاموس. وأصله التعدية إلى مفعول بنفسه وإلى الثاني بـ {عَنْ} يقال: صدفت فلانا عن كذا، كما يقال: صرفته، وقد شاع تنزيله منزلة اللازم حتى غلب عدم ظهور المفعول به، يقال: صدف عن كذا بمعنى أعرض وقد تقدم عند قوله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ} في هذه السورة [46]، وقدره في الكشاف هنا متعديا لأنه انسب بكونهم اظلم الناس تكثيرا في وجوه اعتدائهم، ولم أر ذلك لغيره نظرا لقوله تعالى: {سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ} إذ يناسبه معنى المتعدي لأن الجزاء على إعراضهم وعلى صدهم الناس عن الآيات، فأن تكذيبهم بالآيات يتضمن إعراضهم عنها فناسب ان يكون صدفهم هو صرفهم الناس.
و {سُوءَ الْعَذَابِ} من إضافة الصفة إلى الموصوف، وسوءه أشده وأقواه، وقد بين ذلك قوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} [النحل: 88]. فقوله: {عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ} هو مضاعفة العذاب، أي شدته. ويحتمل أنه أريد به عذاب الدنيا بالقتل والذل، وعذاب الآخرة، وإنما كان ذلك جزاءهم لأنهم لم يكذبوا تكذيبا عن دعوة مجردة، بل كذبوا بعد أن جاءتهم الآيات البينات.
و"ما" مصدرية: أي بصدفهم وإعراضهم عن الآيات إعراضا مستمرا لم يدعوا راغبه فـ{كَانَ} هنا مفيدة للاستمرار مثل: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [النساء: 96].
[158] {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ}.
استئناف بياني نشأ عن وقله: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ} [الأنعام: 157] الآية، وهو يحتمل الوعيد ويحتمل التهكم، كما سيأتي. فإن كان هذا وعيدا وتهديدا فهو ناشئ

عن جملة: {سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا} [الأنعام: 157] لإثارته سؤال سائل يقول: متى يكون جزاؤهم، وإن كان تهكما بهم على صدفهم عن الآيات التي جاءتهم، وتطلعهم إلى آيات أعظم منها في اعتقادهم، فهو ناشئ عن جملة: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا} [الأنعام: 157] لأنه يثير سؤال سائل يقول: ماذا كانوا يترقبون من الآيات فوق الآيات التي جاءتهم.
و {هَلْ} للاستفهام الإنكاري، وهي ترد له كما ترد له الهمزة على التحقيق، ولذلك جاء بعده الاستثناء.
و {يَنْتَظِرُونَ} مضارع نظر بمعنى انتظر، وهو مشترك مع نظر بمعنى رأي في الماضي والمضارع والمصدر، ويخالفه أيضا في أن له اسم مصدر وهو النظرة بكسر الظاء ولا يقال ذلك في النظر بالعين. والضمير عائد للذين يصدفون عن الآيات.
ثم إن كان الانتظار واقعا منهم على أنه انتظار آيات، كما يقترحون، فمعنى الحصر: أنهم ما ينتظرون بعد الآيات التي جاءتهم ولم يقتنعوا بها إلا الآيات التي اقترحوها وسألوها وشرطوا أن لا يؤمنوا حتى يجاءوا بها، وهي ما حكاه الله عنهم بقوله: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً} إلى قوله {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً} [الإسراء: 90, 92] وقوله {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} [الأنعام: 8] فهم ينتظرون بعض ذلك بجد من عامتهم، فالانتظار حقيقة، وبسخرية من قادتهم ومضلليهم، فالانتظار مجاز بالصورة، لأنهم أظهروا أنفسهم في مظهر المنتظرين، كقوله تعالى: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا} [التوبة: 64] الآية. والمراد ببعض آيات ربك: ما يشمل ما حكي عنهم بقوله: {حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً} إلى قوله {حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَأُهُ} [الإسراء: 90, 93]. وفي قوله: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} إلى قوله {فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأنعام: 8, 10] فالكلام تهكم بهم وبعقائدهم.
وإن كان الانتظار غير واقع بجد ولا بسخرية فمعناه أنهم ما يترقبون شيئا من الآيات يأتيهم أعظم مما أتاهم، فلا انتظار لهم، ولكنهم صمموا على الكفر واستبطنوا العناد، فإن فرض لهم انتظار فإنما هو انتظار ما سيحل بهم من عذاب الآخرة أو عذاب الدنيا أو ما هو برزخ بينهما، فيكون الاستثناء تأكيدا للشيء بما يشبه ضده. والمراد: أنهم لا ينتظرون

شيئا ولكن سيجيئهم ما لا ينتظرونه، وهو إتيان الملائكة، إلى آخره، فالكلام وعيد وتهديد.
والقصر على الاحتمالين إضافي، أي بالنسبة لما ينتظر من الآيات، والاستفهام الخبري مستعمل في التهكم بهم على الاحتمالين، لأنهم لا ينتظرون آية، فأنهم جازمون بتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنهم يسألون الآيات إفحاما في ظنهم. ولا ينتظرون حسابا لأنهم مكذبون بالبعث والحشر.
والإتيان بالنسبة إلى الملائكة حقيقة، والمراد بهم: ملائكة العذاب، مثل الذين نزلوا يوم بدر {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [لأنفال:12]. وأما المسند إلى الرب فهو مجاز، والمراد به: إتيان عذابه العظيم، فهو لعظيم هوله جعل إتيان مسندا إلى الآمر به أمرا جازما ليعرف مقدار عظمته، بحسب عظيم قدرة فاعله وآمره، فالإسناد مجازي من باب: بني الأمير المدينة، وهذا مجاز وارد مثله في القرآن، كقوله تعالى: {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} [الحشر: 2] وقوله: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} [النور: 39]. ويجوز أن يكون المراد بقوله: {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} ‘تيان أمره بحساب الناس يوم القيامة. كقوله {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [الفجر:22] أي لا ينتر إلا عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة.
وعلى الاحتمال كلها يجوز أن يكون وقوع ذلك يوم القيامة, ويجوز أن يكون في الدنيا.
وجملة: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا} مستأنفة استئنافا بيانيا تذكيرا لهم بأن الانتظار والتريث عن الإيمان وخيم العاقبة، لأنه مهدد بما يمنع من التدارك عند الندامة، فإما أن يعقبه الموت والحساب، وإما أن يعقبه مجيء آية من آيات الله، وهي آية عذاب خارق للعادة يختص بهم فيعلموا أنه عقوبة على تكذيبهم وصدفهم، وحين ينزل ذلك العذاب لا تبقى فسحة لتدارك ما فات لأن الله إذا أنزل عذابه على المكذبين لم ينفع عنده توبة، كما قال تعالى: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس:98] وقال تعالى: {مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ} [الحجر:8] وقال {وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ} [الأنعام: 8].

ومن جملة آيات الله الآيات التي جعلها الله عامة للناس، وهي أشراط الساعة: والتي منها طلوع الشمس من مغربها حين تؤذن بانقراض نظام العالم الدنيوي. روى البخاري، ومسلم، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون وذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل" ثم قرأ هذه الآية.
والنفع المنفي هو النفع في الآخرة، بالنجاة من العذاب، لأن نفع الدنيا بكشف العذاب عند مجيء الآيات لا ينفع النفوس المؤمنة ولا الكافرة، لقوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [لأنفال: 25] وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "ثم يحشرون على نياتهم". والمراد بالنفس: كل نفس، لوقوعه في سياق النفي.
وجملة: {لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} صفة {نَفْساً} ، وهي صفة مخصصة لعموم: {نَفْساً}، أي: النفس التي لم تكن آمنت من قبل إتيان بعض الآيات لا ينفعها إيمانها إذا آمنت عند نزول العذاب، فعلم منه أن النفس التي كانت آمنت من قبل نزول العذاب ينفعها إيمانها في الآخرة. وتقديم المفعول في قوله: {نَفْساً إِيمَانُهَا} ليتم الإيجاز في عود الضمير.
وقوله: {أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} عطف على {آمَنَتْ}، أي أو لم تكن كسبت في إيمانها خيرا.
و {فِي} للظرفية، وإنما يصلح للظرفية مدة الإيمان، لا الإيمان، أي أو كسبت في مدة إيمانها خيرا.
والخير هو العمال الصالحة والطاعات.
و {أَوْ} للتقسيم في صفات النفس فيستلزم تقسيم النفوس التي خصصتها الصفتان إلى قسمين: نفوس كافرة لم تكن آمنت من قبل، فلا ينفعها إيمانها يوم يأتي بعض آيات الله، ونفوس أمنت ولم تكسب خيرا في مدة إيمانها، فهي نفوس مؤمنة، فلا ينفعها ما تكسبه من خير يوم يأتي بعض آيات ربك. وهذا القسم الثاني ذو مراتب متفاوتة، لأن التقصير في اكتساب الخير متفاوت، فمنه إضاعة لأعمال الخير كلها، ومنه إضاعة لبعضها، ومنه تفريط في الإكثار منها. وظاهر الآية يقتضي أن المراد نفوس لم تكسب في إيمانها شيئا من الخير أي اقتصرت على الإيمان وفرطت في جميع أعمال الخير.
وقد علم من التقسيم أن هذه النفوس لا ينفعها اكتساب الخير من بعد مجيء

الآيات، ولا ما يقوم مقام اكتساب الخير عند الله، وهو ما من به على هذه الأمة من غفران السيئات عند التوبة، فالعزم على الخير هو التوابة، أي العزم على اكتساب الخير، فوقع في الكلام إيجاز حذف اعتمادا على القرينة الواضحة. والتقدير: لا ينفع نفسا غير مؤمنة إيمانها أو نفسا لم تكن كسبت خيرا في إيمانها من قبل كسبها، يعني أو ما يقوم مقام كسب الخير، مثل التوبة فأنها بعض اكتساب الخير، وليس المراد أنه لا ينفع نفسا مؤمنة إيمانها إذا لم تكن قد كسبت خيرا بحيث يضع الإيمان إذا لم يقع اكتساب الخير، لأنه لو أريد ذلك لما كانت فائدة للتقسيم، ولكفي أن يقال لا ينفع نفسا إيمانها لم تكسب خيرا، لأن الأدلة القطعية ناهضة على أن الأيمان الواقع قبل مجيء الآيات لا يدحض إذا فرط صاحبه في شيء من الأعمال الصالحة، ولأنه لو كان كذلك وسلمناه لما اقتضى أكثر من أن الذي لم يفعل الخير عدا أنه آمن لا ينفعه إيمانه، وذلك إيجاد قسم لم يقل به أحد من علماء الإسلام.
وبذلك تعلم أن الآية لا تنهض حجة للمعتزلة ولا الخوارج الذين أوجبوا خلود مرتكب الكبيرة غير التائب في النار، والتسوية بينه وبين الكافر، وإن كان ظاهرها قبل التأمل يوهم أنها حجة لهم، ولأنه لو كان الأمر كما قالوا لصار الدخول في الإيمان مع ارتكاب كبيرة واحدة عبثا لا يرضاه عاقل لنفسه، لأنه يدخل في كلفة كثير من الأعمال بدون جدوى عليه منها، ولكان أهون الأحوال على مرتكب الكبيرة أن يخلع ربقة الإيمان إلى أن يتوب من الأمرين جميعا. وسخافة هذا اللازم لأصحاب هذا المذهب سخافة لا يرضاها من له نظر ثاقب. والاشتغال بتبيين ما يستفاد من نظم الآية من ضبط الحد الذي ينتهي عنده الانتفاع بتحصيل الإيمان وتحصيل أعمال الخير، أجدى من الخوض في لوازم معانيها من اعتبار الأعمال جزءا من الإيمان، لا سيما مع ما في أصل المعنى من الاحتمال المسقط للاستدلال.
فصفة: {لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} تحذير للمشركين من التريث عن الإيمان خشية أن يبغتهم يوم ظهور الآيات، وهم المقصود من السياق. وصفة {أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} إدماج في أثناء المقصود لتحذير المؤمنين من الإعراض عن الأعمال الصالحة.
ثم إن أقوال المفسرين السالفين، في تصوير هذين القسمين، تفرقت تفرقا يؤذن باستصعاب استخلاص مقصود الآية من ألفاظها، فلم تقارب الإفصاح بعبارة بينة، ويجمع ذلك ثلاثة أقوال:

الأول: عن السدي، والضحاك: أن معنى {كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً}: كسبت في تصديقها، أي معه أو في مدته، عملا صالحا، قالا: وهؤلاء أهل القبلة، فإن كانت مصدقة ولم تعمل قبل ذلك، أي إتيان بعض آيات الله، فعلمت بعد أن رأت الآية لم يقبل منها، وإن عملت قبل الآية خيرا ثم عملت بعد الآية خيرا قبل منها.
والثاني: أن لفظ القرآن جرى على طريقة التغليب، لأن الأكثر ممن ينتفع بإيمانه ساعتئذ هو من كسب في إيمانه خيرا.
الثالث: أن الكلام إبهام في أحد الأمرين، فالمعنى: لا ينفع يومئذ إيمان من لم يكن آمن قبل ذلك اليوم أو ضم إلى إيمانه فعل الخير، أي لا ينفع إيمان من يؤمن من الكفار ولا طاعة من يطيع من المؤمنين. وأما من آمن قبل فإنه ينفعه إيمانه، وكذلك من أطاع قبل ينفعه طاعته.
وقد كان قوله: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} بعد قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} ، مقتصرا على ما يأتي من آيات الله في اليوم المؤجل له، إعراضا عن التعرض لما يكون يوم تأتي الملائكة أو يأتي ربك، لأن إتيان الملائكة، والمعطوف عليه غير محتمل الوقوع وإنما جرى ذكره إبطالا لقولهم: {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً} [الاسراء: 92] ونحوه من تهكماتهم مما انتظروه هو أن يأتي بعض آيات الله، فهو محل الموعظة والتحذير، وآيات القرآن في هذه كثيرة منها قوله تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} [غافر: 85].
وآيات الله منها ما يختص بالمشركين وهو ما هددهم الله به من نزول العذاب بهم في الدنيا، كما نزل بالأمم من قبلهم، ومنها آيات عامة للناس أجمعين، وهو ما يعرف بأشراط الساعة، أي الأشراط الكبرى.
وقد جاء تفسير هذه الآية في السنة بطلوع الشمس من مغربها. ففي الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا رآها الناس آمن من عليها فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل". ثم قرأ هذه الآية، أي قوله تعالى: {رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} إلى قوله {خَيْراً}. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تاب قبل طلوع الشمس من مغربها تاب الله عليه". وفي جامع الترمذي، عن صفوان بن عسال المرادي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "باب من قبل المغرب مفتوح مسيرة عرضه أربعين سنة

كذا مفتوح للتوبة لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها"، قال الترمذي: حديث صحيح.
واعلم أن هذه الآية لا تعارض آية سورة النساء [18]: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} لأن محمل تلك الآية على تعيين وقت فوات التوبة بالنسبة للأحوال الخاصة بآحاد الناس، وذلك ما فسر في حديث ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر" رواه الترمذي، وابن ماجه، وأحمد. ومعنى يغرغر أن تبلغ روحه أي أنفاسه رأس حلقه. ومحمل الآية التي نتكلم فيها تعيين وقت فوات التوبة بالنسبة إلى الناس كافة، وهي حالة يأس الناس كلهم من البقاء.
وجاء الاستئناف بقوله {قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ} أمر للرسول صلى الله عليه وسلم بأن يهددهم ويتوعدهم على الانتظار إن كان واقعا منهم، أو على التريث والتأخر عن الدخول في الإسلام الذي هو شبيه بالانتظار إن كان الانتظار إدعائيا، بأن يأمرهم بالدوام على حالهم التي عبر عنها بالانتظار أمر تهديد، ويخبرهم بأن المسلمين ينتظرون نصر الله ونزول العقاب بأعدائهم، أي: دوموا على انتظاركم فنحن منتظرون.
وفي مفهوم الصفتين دلالة على أن النفس التي آمنت قبل مجيء الحساب، وكسبت في إيمانها خيرا، وينفعها إيمانها وعملها. فاشتملت الآية بمنطوقها ومفهومها على وعيد ووعد مجملين تبينها دلائل الكتاب والسنة.
[159] {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}.
استئناف جاء عقب الوعيد كالنتيجة والفذلكة، لأن الله لما قال لرسوله صلى الله عليه وسلم: {قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ} أعقب ذلك بأن الفريقين متباينان متجافيان في مدة الانتظار.
وجيء بالموصولية لتعريف المسند إليه لإفادة تحقق معنى الصلة فيهم، لأنها تناسب التنفير من الاتصال بهم، لأن شأن الدين أن يكون عقيدة واحدة وأعمالا واحدة، والتفرق في أصوله ينافي وحدته، ولذلك لم يزل علماء الإسلام يبذلون وسعهم لاستنباط مراد الله من الأمة، ويعلمون أن الحق واحد وأن الله كلف العلماء بإصابته وجعل للمصيب أجرين

ولمن أخطأ مع استفراغ الوسع أجرا واحدا. وذلك أجر على بذل الوسع في طلبه فإن بذل الوسع في ذلك يوشك أن يبلغ المقصود، فالمراد بـ {الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ} قال ابن عباس: هم المشركون. لأنهم لم يتفقوا على صورة واحدة في الدين، فقد عبدت القبائل أصناما مختلفة، وكان بعض العرب يعبدون الملائكة، وبعضهم يعبد الشمس، وبعضهم يعبد القمر، وكانوا يجعلون لكل صنم عبادة تخالف عبادة غيره.
ويجوز أن يراد أنهم كانوا على الحنيفية، وهي دين التوحيد لجميعهم، ففرقوا وجعلوا آلهة عبادتها مختلفة الصور. وأما كونهم كانوا شيعا فلأن كل قبيلة كانت تنتصر لصنمها، وتزعم أنه ينصرهم على عباد غيره كما قال ضرار بن الخطاب الفهري:
وقرت ثقيف إلى لاتها ... بمنقلب الخائب الخاسر
ومعنى: {لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} أنك لا صلة بينك وبينهم, فحرف "من" اتصالية. وأصلها "من" الابتدائية.
و {شَيْءٍ} اسم جنس بمعنى موجود فنفيه يفيد نفي جميع ما يوجد من الاتصالو وتقدم عند قوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} في سورة آل عمران [28] وقوله: {لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ} في سورة المائدة [68].
ولما دلت على التبري منهم وعدم مخالطتهم، وكان الكلام مثار سؤال سائل يقول: أعلى الرسول أن يتولى جزاءهم على سوء عملهم، فلذلك جاء الاستئناف بقوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ} فهو استئناف بياني، وصيغة القصر لقلب اعتقاد المتردد، أي إنما أمرهم إلى الله لا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ولا إلى غيره، وهذا إنذار شديد. والمراد بأمرهم: عملهم الذي استحقوا به الجزاء والعقوبة. و [إِلَى] مستعمل في الانتهاء المجازي: شبه أمرهم بالضالة التي تركها الناس فسارت حتى انتهت إلى مراحها، فإن الخلق كلهم عبيد الله وإليه يرجعون، والله يمهلهم ثم يأخذهم بعذاب من عنده أو بأيدي المؤمنين حين يأذن لرسوله صلى الله عليه وسلم بقتالهم كما قال تعالى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} [الدخان: 10, 16] والبطشة الكبرى وهي بطشة يوم بدر.
وقوله: {ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} {ثُمَّ} فيه للترتيب الرتبي مع إفادة المهملة، أي

يبقى أمرهم إلى الله مدة. وذلك من الإمهال والإملاء لهم، ثم يعاقبهم، فأطلق الإنباء على العقاب، لأنه إن كان العقاب عقاب الآخرة فهو يتقدمه الحساب، وفيه إنباء الجاني بجنايته وبأنه مأخوذ بها، فإطلاق الإنباء عليه حقيقة مراد معها لازمه على وجه الكناية، وإن كان العقاب عقاب الدنيا فإطلاق الإنباء عليه مجاز، لأنهم إذا نزل بهم العذاب بعد الوعيد علموا أنه العقاب الموعود به، فكان حصول ذلك العلم لهم عند وقوعه شبيها بحصول العلم الحاصل على الإخبار فأطلق عليه الإنباء، فيكون قوله: {يُنَبِّئُهُمْ} بمعنى يعاقبهم بما كانوا يفعلون.
ووصف المشركين بأنهم فرقوا دينهم وكانوا شيعا: يؤذن بأنه وصف شنيع، إذ ما وصفهم الله به إلا في سياق الذم، فيؤذن ذلك بأن الله يحذر المسلمين من أن يكونوا في دينهم كما كان المشركون في دينهم، ولذلك قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} إلى قوله {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13].
وتفريق دين الإسلام هو تفريق أصوله بعد اجتماعها، كما فعل بعض العرب من منعهم الزكاة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر رضي الله عنه: لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة. وأما تفريق الآراء في التعليلات والتبيينات فلا بأس به، وهو من النظر في الدين: مثل الاختلاف في أدلة الصفات، وفي تحقيق معانيها، مع الاتفاق على إثباتها. وكذلك تفريع الفروع: كتفريق فروع الفقه بالخلاف بين الفقهاء، مع الاتفاق على صفة العمل وعلى ما به صحة الأفعال وفسادها. كالاختلاف في حقيقة الفرض والواجب. والحاصل أن كل تفريق لا يكفر به بعض الفرق بعضا، ولا يفضي إلى تقاتل وفتن، فهو تفريق نظر واستدلال وتطلب للحق بقدر الطاقة. وكل تفريق يفضي بأصحابه إلى تكفير بعضهم بعضا، ومقاتلة بعضهم بعضا، ومقاتلة بعضهم بعضا في أمر الدين، فهو مما حذر الله منه، وأما ما كان بين المسلمين نزاعا على الملك والدنيا فليس تفريقا في الدين، ولكنه من الأحوال التي لا تسلم منها الجماعات.
وقرأه الجمهور: "فرّقوا" بتشديد الراء وقرأه حمزة، والكسائي: "فارقوا" بألف بعد الفاء أي تركوا دينهم، أي تركوا ما كان دينا لهم، أي لجميع العرب، وهو الحنيفية فنبذوها وجعلوها عدة نحل. ومآل القراءتين واحد.
[160] {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ

لا يُظْلَمُونَ}.
من عادة القرآن أنه أنذر أعقب الإنذار لمن لا يحق عليه ذلك الإنذار، وإذا بشر أعقب البشارة لمن يتصف بضد ما بشر عليه، وقد جرى على ذلك ههنا: فإنه لما أنذر المؤمنين وحذرهم من التريث في اكتساب الخير، قبل أن يأتي بعض آيات الله القاهرة، بقوله: {لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} [الأنعام: 158] فحد لهم بذلك حدا هو من مظهر عدله، أعقب ذلك ببشرى من مظاهر فضله وعدله. وهي الجزاء على الحسنة بعشر أمثالها والجزاء على السيئة بمثلها، فقوله: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} إلى آخره استئناف ابتدائي جرى على عرف القرآن في الأنفال بين الأغراض.
فالكلام تذييل جامع لأحوال الفريقين اللذين اقتضاهما قوله: {لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} [الأنعام: 158] الآية، كما تقد آنفا.
و {جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} معناه عمل الحسنة: شبه عمله الحسن بحال المكتسب، إذ يخرج يطلب رزقا من وجوهه أو احتطاب أو صيد فيجيء أهله بشيء. وهذا كما استعير له أسم التجارة في قوله تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} [البقرة: 16].
فالباء للمصاحبة، والكلام تمثيل، ويجوز حمل المجيء على حقيقته، أي مجيء إلى الحساب على أن يكون المراد بالحسنة أن يجيء بكتابها في صحيفة أعماله.
وأمثال الحسنة ثواب أمثالها، فالكلام على حذف مضاف بقرينة قوله: {فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا}، أو معناه تحسب له عشر حسنات مثل التي جاء بها كما في الحديث: "كتبها الله عنده عشر حسنات" ويعرف من ذلك أن الثواب على نحو ذلك الحساب كما دل عليه قوله: {فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا}.
والأمثال: جمع مثل وهو المماثل المساوي، وجيء له باسم عدد المؤنث وهو عشر اعتبارا بأن الأمثال صفة لموصوف محذوف دل عليه الحسنة أي فله عشر حسنات أمثالها، فروعي في أسم العدد معنى مميزة دون لفظه وهو أمثال. والجزاء على الحسنة بعشرة أضعاف فضل من الله، وهو جزاء غالب الحسنات. وقد زاد الله في بعض الحسنات أن ضاعفها سبعمائة ضعف كما في قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ

كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} [البقرة: 261] فذلك خاص بالإنفاق في الجهاد. وفي الحديث: "من هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة وإن هم بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة".
وقرأ الجمهور: {عَشْرُ أَمْثَالِهَا} بإضافة {عَشْرُ} إلى {أَمْثَالِهَا} وهو من إضافة الصفة إلى الموصوف، وقرأ يعقوب بتنوين {عَشْرُ} ورفع {أَمْثَالِهَا}، على أنه صفة لـ"عشر"، أي فله عشر حسنات ماثلة للحسنة التي جاء بها. ومماثلة الجزاء للحسنة موكولة إلى علم الله تعالى وفضله.
وإنما قال في جانب السيئة فلا يجزى إلا مثلها بصيغة الحصر لأجل ما في صيغته من تقديم جانب النفي، اهتماما به، لإظهار العدل الإلهي، فالحصر حقيقي، وليس في الحصر الحقيقي رد اعتقاد بل هو إخبار عما في نفس الأمر، ولذلك كان يساويه أن يقال: ومن جاء بالسيئة فيجزى مثلها، لولا الاهتمام بجانب نفي الزيادة على المماثلة. ونظيره قول النبي صلى الله عليه وسلم حين سألته هند بنت عتبة فقالت: إن أبا سفيان رجل مسيك فهل علي حرج أن أطعم من الذي له عيالنا، فقال لها: "لا إلا بالمعروف" ولم يقل لها: أطعميهم بالمعروف. وقد جاء على هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم "ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة وإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة"؛ فأكدها بواحدة تحقيقا لعدم الزيادة في جزاء السيئة.
ولذلك أعقبه بقوله: {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} والضمير يعود إلى {مَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ}، إظهارا للعدل، فلذلك سجل الله عليهم بأن هذا لا ظلم فيه لينصفوا من أنفسهم. وأما عد عود الضميرين إلى الفريقين فلا يناسبه فريق أصحاب الحسنات، لأنه لا يحسن أن يقال للذي أكرم وأفيض عليه الخير إنه غير مظلوم.
[161] {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}
استئناف ابتدائي للانتقال من مجادلة المشركين، وما تخللها، إلى فذلك ما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن، غلقا لباب المجادلة مع المعرضين، وإعلانا بأنه قد تقلد لنفسه ما كان يجادلهم فيه ليتقلدوه وأنه ثابت على ما جاءهم به، وأن إعراضهم لا يزلزله عن الحق.

وفيه إيذان بانتهاء السورة لأن الواعظ والمناظر إذا ما أسبع الكلام في غرضه، ثم أخذ يبين ما رضيه لنفسه وما قر عليه قراره، علم السامع أنه قد أخذ يطوي سجل المحاجة، ولذلك غير الأسلوب. فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يقول أشياء يعلن بها أصول دينه، وتكرر الأمر بالقول ثلاث مرات تنويها بالمقول.
وقوله: {إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي} متصل بقوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام: 153] الذي بينه بقوله: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} [الأنعام: 92] فزاده بيانا بقوله هذا {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ، ليبين أن هذا الدين إنما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم بهدي من الله، وأنه جعله دينا قيما على قواعد ملة إبراهيم عليه السلام، ألا أنه زائد بما تضمنه من نعمة الله عليه إذ هداه إلى ذلك الصراط الذي هو سبيل النجاة. وافتتح الخبر بحرف التأكيد لأن الخطاب للمشركين المكذبين.
وتعريف المسند إليه بالإضافة للاعتزاز بمربوبية الرسول صلى الله عليه وسلم لله تعالى، وتعريضا بالمشركين الذين أربابهم، ولو وحدوا الرب الحقيق بالعبادة لهداهم.
وقوله: {هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} تمثيلية: شبهت هيئة الإرشاد إلى الحق المبلغ بالنجاة بهيئة من يدل السائر على الطريق المبلغة للمقصود.
والمناسبة بين الهداية وبين الصراط تامة، لأن حقيقة الهداية التعرف بالطريق، يقال: هو هاد خريت، وحقيقة الصراط الطريق الواسعة. وقد صح أن تستعار الهداية للإرشاد والتعليم، والصراط للدين القويم، فكان تشبيها مركبا قابلا للتفكيك وهو أكمل أحوال التمثيلية.
ووصف الصراط بالمستقيم، أي الذي لا خطأ فيه ولا فساد، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام: 153]، والمقصود إتمام هيئة التشبيه بأنه دين لا يتطرق متبعه شك في نفعه كما لا يتردد سالك الطريق الواسعة التي لا انعطاف فيها ولا يتحير في أمره.
وفي قوله: {دِيناً} تجريد للاستعارة مؤذن بالمشبه، وانتصب على الحال من: {صِرَاطَ} لأنه نكرة موصوفة.
والدين تقدم عند قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} [آل عمران: 19] وهو السيرة التي يتبعها الناس.

والقيم بفتح القاف وتشديد الياء كما قرأه نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وأبو جعفر، ويعقوب: وصف مبالغة قائم بمعنى معتدل غير معوج، وإطلاق القيام على الاعتدال والاستقامة مجاز، لأن المرء إذا قام اعتدلت قامته، فيلزم الاعتدال القيام. والأحسن أن نجعل اليم للمبالغة يحتاج إليه والوفاء بما فيه صلاح المقوم عليه، فالإسلام قيم بالأمة وحاجتها، يقال: فلان قيم على كذا، بمعنى مدبر له ومصلح، ومنه وصف الله تعالى بالقيوم، وهذا أحسن لأن فيه زيادة على مفاد مستقيم الذي أخذ جزءا من التمثيلية، فلا تكون إعادة لبعض التشبيه.
وقرأ عاصم، وحمزة، وابن عامر، والكسائي، وخلف: {قِيَماً} بكسر القاف وفتح الياء مخففة وهو من صيغ مصادر قام، فهو وصف للدين بمصدر القيام المقصود به كفاية المصلحة للمبالغة, وهذه زنة قليلة في المصادر, وقلب واوه ياء بعد الكسرة على غير الغالب: لأن الغالب فيه تصحيح لامه لأنها مفتوحة, فسواء في خفتها وقوعها على الواو أو على الياء, مثل عوض وحول, وهذا كشذوذ جياد جمع جواد, وانتصب {قِيَماً} على الوصف لـ {دِيناً}.
وقوله: {ملة إبراهيم} حال من: {دِيناً}. أو من: {صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أو عطف بيان من: {دِيناً}.
والملة، الدين: مرادفة الدين، فالتعبير بها هنا للتفنن ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ} [بقرة: 132].
و {مِلَّةِ} فعلة بمعنى المفعول، أي المملول، من أمللت الكتاب إذا لقنت الكاتب ما يكتب، وكان حقها أن لا تقترن بهاء التأنيث لأن زنة فعل بمعنى المفعول تلزم التذكير، كالذبح، إلا أنهم قرنوها بهاء التأنيث لما صيروها اسما للدين، ولذلك قال الراغب: الملة كالدين، ثم قال: والفرق بينها وبين الدين أن الملة لا تضاف إلا إلى النبي الذي تستند إليه نحو ملة إبراهيم، ملة آبائي، ولا توجد مضافة إلى الله ولا إلى الأمة، ولا تستعمل إلا في جملة الشريعة دون آحادها لا يقال الصلاة ملة الله أي ويقال: الصلاة دين الله ذلك أنه يراعي في لفظ الملة أنها مملولة من الله فهي تضاف للذي أملت عليه.
ومعنى كون الإسلام ملة إبراهيم: أنه جاء بالأصول التي هي شريعة إبراهيم وهي: التوحيد، ومسايرة الفطرة، والشكر، والسماحة، وإعلان الحق، وقد بينت ذلك عند قوله

تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً} في سورة آل عمران [67].
والحنيف: المجانب للباطل، فهو بمعنى المهتدي، وقد تقدم عند قوله تعالى: {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [البقرة: 135] في سورة البقرة. وهو منصوب على الحال.
وجملة {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} عطف على الحال من {إِبْرَاهِيمَ} عليه السلام المضاف إليه، لأن المضاف هنا كالجزاء من المضاف إليه، وقد تقدم في آية سورة البقرة.
[162، 163] {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}
استئناف، أيضا، يتنزل منزلة التفريع عن الأول، إلا أنه استؤنف للإشارة إلى أنه غرض مستقل مهم في ذاته، وإن كان متفرعا عن غيره، وحاصل ما تضمنه هو الإخلاص لله في العبادة، وهو متفرغ عن التوحيد، ولذلك قيل: الرياء الشرك الأصغر. علم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقوله عقب ما علمه بما ذكر قبله لأن المذكور هنا يتضمن معنى الشكر لله على نعمة الهداية إلى الصراط المستقيم، فإنه هداه ثم ألهمه الشكر على الهداية بأن يجعل جميع طاعته وعبادته لله تعالى. وأعيد الأمر بالقول لما علمت آنفا.
وافتتحت جملة المقول بحرف التوكيد للاهتمام بالخبر ولتحقيقه، أو لأن المشركين كانوا يزعمون أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يرائي بصلاته، فقد قال بعض المشركين لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند الكعبة: ألا تنظرون إلى هذا المرائي أيكم يقوم إلى جزوره بني فلان فيعمد إلى فرثها وسلاها فإذا سجد وضعه بين كتفيه. فتكون "إن" على هذا لرد الشك.
واللام في {لِلَّهِ} يجوز أن تكون للملك، أيهي بتيسير الله فيكون بيانا لقوله {إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 161]. ويجوز أن تكون اللام للتعليل أي لأجل الله.
جعل صلاته لله دون غيره تعريضا بالمشركين إذ كانوا يسجدون للأصنام. ولذلك أردف بجملة {لا شَرِيكَ لَهُ}.

والنسك حقيقته العبادة ومنه يسمى العابد الناسك.
والمحيا والممات يستعملان مصدرين ميميين، ويستعملان اسمي زمان، من حيي ومات، والمعنيان محتملان فإذا كان المراد من المحيا والممات المعنى المصدري، كان المعنى على حذف مضاف تقديره: أعمال المحيا وأعمال الممات، أي الأعمال التي من شأنها أن يتلبس بها المرء مع حياته، ومع وقت مماته. وإذ كان المراد منهما المعنى الزمني كان المعنى ما يعتريه في الحياة وبعد الممات.
ثم إن أعمال الحياة كثيرة وفيرة، وأما الأعمال عند الموت فهي ما كان عليه في مدة الحياة وثباته عليه، لأن حالة الموت أو مدته هي الحالة أو المدة التي ينقلب فيها أحوال الجسم إلى صفة تؤذن بقرب انتهاء مدة الحياة وتلك حالة الاحتضار، وتلك الحالة قد تؤثر انقلابا في الفكر أو استعجالا بما لم يكن يستعجل به الحي، فربما صدرت عن صاحبها أعمال لم يكن يصدرها في مدة الصحة، اتقاء أو حياء أو جلبا لنفع، فيرى أنه قد يئس مما كان يراعيه، فيفعل ما لم يكن يفعل، وأيضا لتلك الحالة شؤون خاصة تقع عندها في العادة مثل الوصية، وهذه كلها من أحوال آخر الحياة. ولكنها تضاف إلى الموت لوقوعها بقربه، وبهذا يكون ذكر الممات مقصودا منه استيعاب جميع مدة الحياة حتى زمن الإشراف على الموت.
ويجوز أن يكون المراد من الممات ما يحصل للرسول عليه الصلاة والسلام بعد وفاته من توجيهاته الروحية نحو أمته بالدعاء لهم والتسليم على من سلم عليه منهم والظهور لخاصة أمته في المنام فإن للرسول بعد مماته إحكام الحياة الروحية الكاملة كما ورد في الحديث: "إذا سلم علي أحد من أمتي رد الله علي روحي فرددت عليه السلام" وكذلك أعماله في الحشر من الشفاعة العامة والسجود لله في عرصات القيامة فتلك أعمال خاصة به صلى الله عليه وسلم وهي كلها لله تعالى لأنها لنفع عبيده أو لنفع أتباع دينه الذي ارتضاه لهم، فيكون قوله: {وَمَمَاتِي} هنا ناظرا إلى قوله في الحديث: "حياتي خير لكم ومماتي خير لكم".
ويجوز أن يكون معنى مماته لله الشهادة في سبيل الله فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمته اليهودية بخيبر في لحم شاة أطعموه إياه حصل بعض منه في إمعاءه. ففي الحديث1 "ما
ـــــــ
1 رواه أبو نعيم في "كتاب الطب النبوي" بسند حسن.

زالت أكلة خيبر تعتادني كل عام حتى كان هذا أوان قطع أبهري"1.
وبقوله: {وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} تحقق معنى الإسلام الذي أصله الإلقاء بالنفس إلى المسلم له، وهو المعنى الذي اقتضاه قوله: {فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} [آل عمران: 20] كما تقدم في سورة آل عمران، وهو معنى الحنفية الذي حكاه الله تعالى عن إبراهيم عليه والسلام في قوله: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} كما في سورة البقرة [131].
وقوله: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} صفة تشير إلى سبب استحقاقه أن يكون عمل مخلوقاته له لا لغيره، لأن ليس له عليهم نعمة الإيجاد، كما أشار إليه قوله في أول السورة [1]: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}.
وجملة: {لا شَرِيكَ لَهُ} حال من اسم الجلالة مصرحة بما أفاد جمع التوكيد مع لام الملك من إفادة القصر. والمقصود من الصفة والحال الرد على المشركين بأنهم ما أخلصوا عملهم للذي خلقهم. وبأنهم أشركوا معه غيره في الإلهية.
وقرأ نافع: {وَمَحْيَايَ} بسكون الياء الثانية إجراء للوصول مجرى الوقف وهو نادر في النثر، والرواية عن نافع أثبتته في هذه الآية، ومعلوم أنن الندرة لا تناكد الفصاحة ولا يريبك ما ذكره ابن عطية عن أبي علي الفارسي: أنها شاذة عن القياس لأنها جمعت بين ساكنين لأن سكون الألف قبل حرف ساكن ليس مما يثقل في النطق نحو عصاي ورؤياي. ووجه إجراء الوصل مجرى الوقف هنا إرادة التخفيف لأن توالي يائين مفتوحتين فيه ثقل، والألف الناشئة عن الفتحة الأولى لا تعد حاجزا فعدل عن فتح الياء إلى إسكانها وقرأ البقية بفتح الياء وروى ذلك عن ورش، وقال بعض أهل القراءة أن نافعا رجع عن الإسكان إلى الفتح.
وجملة {وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ} عطف على جملة {إِنَّ صَلاتِي} الخ. فهذا مما أمر بأن يقوله، وحرف العطف ليس من المقول.
والإشارة في قوله: {وَبِذَلِكَ} إلى المذكور من قوله: {إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي} الخ،
ـــــــ
1 الأبهر – بفتح الهمزة وسكون الباء وفتح الهاء عرق في القلب.

أي أن ذلك كان لله بهدي من الله وأمر منه، فرجع إلى قوله: {إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 161] يعني أنه كما هداه أمره بما هو شكر على تلك الهداية، وإنما أعيد هنا لأنه لما أضاف الصلاة وما عطف عليها لنفسه وجعلها لله تعالى أعقبها بأنه هدي من الله تعالى، وهذا كقوله تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} [الزمر: 11, 12] وتقديم الجار والمجرور للاهتمام بالمشار إليه.
وقوله: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} مثل قوله {وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ} خبر مستعمل في معناه الكنائي، وهو لازم معناه، يعني قبول الإسلام والثبات عليه والاغتباط به، لأن من أحب شيئا أسرع إليه فجاءه أول الناس، وهذا بمنزلة فعل السبق إذ يطلق في كلامهم على التمكن والترجح، كما قال النابغة:
سبقت الرجال الباهشين إلى العلا ... كسبق الجواد اصطاد قبل الطوارد
لا يريد أنه كان في المعالي أقدم من غبره لأن في أهل المعالي من هو أكبر من سنا، ومن نال العلا قبل أن يولد الممدوح، ولكنه أراد أنه تمكن من نوال العلا وأصبح الحائز له والثابت عليه.
وفي الحديث: نحن الآخرون السابقون يوم القيامة. وهذا المعنى تأييس للمشركين من الطمع في التنازل لهم في دينهم ولو أقل تنازل. ومن استعمال "أَوَّلَ" في مثل هذا قوله تعالى: {وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} ، كما تقدم في سورة البقرة [41]. وليس المراد معناه الصريح لقلة جدوى الخبر بذلك، لأنكل داع إلى شيء فهو أول أصحابه لا محالة، فماذا يفيد ذلك الأعداء والتباع، فإن أريد بالمسلمين الذين اتبعوا حقيقة الإسلام بمعنى إسلام الوجه إلى الله تعالى لم يستقم، لأن إبراهيم عليه السلام كان مسلما وكان بنوه مسلمين، كما حكى الله عنهم إذ قال إبراهيم عليه السلام: {فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132].وكذلك أبناء يعقوب كانوا مسلمين إذ قالوا: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136].
وقرأ نافع وأبو جعفر بإثبات ألف "أنا" إذا وقعت بعدها ويجري مدها على قاعدة المد، وحذفها تخفيفا جرى عليه العرب في الفصيح من كلامهم نحو: "أنا يوسف" واختلفوا فيه قبل الهمزة نحو أنا أفعل، وأحسب أن الفصح إثباتها مع الهمز للتمكن من المد.

[164] {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}
{قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}
استئناف ثالث، مفتتح بالأمر بالقول، يتنزل منزلة النتيجة لما قبله، لأنه لما علم أن الله هداه إلى صراط مستقيم، وأنقذه من الشرك، وأمره بأن يمحض عبادته وطاعته لربه تعالى، شكرا على الهداية،أتبع ذلك بأن ينكر أن يعبد غير الله تعالى لأن واهب النعم هم مستحق الشكر، والعبادة جماع مراتب الشكر، وفي هذا رجوع إلى بيان ضلالهم إذ عبدوا غيره.وإعادة الأمر بالقول تقدم بيان وجهه.
والاستفهام إنكار عليهم لأنهم يرغبون أن يعترف بربوبية أصنامهم، وقد حاولوا من ذلك غير مرة سواء كانوا حاولوا ذلك منه بقرب نزول هذه الآية أم لم يحاولوه، فهم دائمون على الرغبة في موافقتهم على دينهم، حكى ابن عطية عن النقاش أن الكفار قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ارجع إلى ديننا واعبد آلهتنا ونحن نتكفل لك بكل تباعة تتوقعها في دنياك وآخرتك وأن هذه الآية نزلت في ذلك.
وقدم المفعول على فعله لأنه المقصود من الاستفهام الإنكاري،لأن محل الإنكار هو أن يكون غير الله يبتغى له ربا، ولأن ذلك هو المقصود من الجواب إذا صح أن المشركين دعوا النبي صلى الله عليه وسلم لعبادة آلهتهم فيكون تقديمه على الفعل للاهتمام لموجب أو لموجبين، كما تقدم في قوله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً} في هذه السورة [14].
وجملة: {وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} في موضع الحال، وهو الحال معلل للإنكار، أي أن الله خالق كل شيء وذلك باعترافهم، لأنهم لا يدعون أن الأصنام خالقة، لشيء، كما قال تعالى: {لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج: 73] كان الله خالق كل شيء وربه فلا حق لغيره في أن يعبده الخلائق, وعبادة غيره ظلم عظيم, وكفر نعمة الربوبية, وبقطع النظر عن كون الخلق نعمة, لأن الخلق إيجاد والوجود أفضل من العدم, فإن مجرد الخلق موجب للعبادة لأجل العبودية.
وإنما قيل {وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} ، ولم يقل: وهو ربي، لإثبات أنه ربه بطريق الاستدلال لكونه حكم عام يشمل حكم المقصود الخاص، ولإفادة أن أربابهم غير حقيقة

بالربوبية أيضا لله تعالى.
وقوله: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} من القول المأمور به، مفيد متاركة للمشركين ومقتا لهم بأن عنادهم لا يضره، فإن ما اقترفوه من الشرك لا يناله منه شيء فإنما كسب كل نفس عليها، وهم من جملة الأنفس فكسبهم عليهم لا يتجاوزهم إلى غيرهم. فالتعليم في الحكم الواقع في قوله: {كُلُّ نَفْسٍ} فائدته مثل فائدة التعميم الواقع في قوله: {وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ}.
ودلت كلمة "على" على أمن مفعول الكسب المحذوف تقديره: شرا، أو إثما، أو نحو ذلك، لأن شأن المخاطبين هو اكتساب الشر والإثم كقوله: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 52] ولك أن تجعل في الكلام احتباكا لدلالة الثاني وبالعكس إذا جريت على أن "كسب" يغلب في تحصيل الخير، وأن "اكتسب" يغلب في تحصيل الشر، سواء أجتمع الفعلان أم لم يجتمعا. ولا أحسب بين الفعلين فرقا، وقد تقدم عند قوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286]. والمعنى: أن ما يكتسبه المرء أو يكسبه لا يتعدى منه شيء إلى غيره.
وقوله: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} تكملة لمعنى قوله: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} فكما أن ما تكسبه نفس لا يتعدى منه شيء إلى غيرها، كذلك لا تحمل نفس عن نفس شيئا، والمعنى: ولا أحمل أوزاركم.
فقوله: {وَازِرَةٌ} صفة لموصوف محذوف تقديره: نفس، دل عليه قوله: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا}، أي لا تحمل نفس حاملة حمل أخرى.
والوزر: الحمل، وهو ما يحمله المرء على ظهره، قال تعالى: {وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ} [طه: 87]، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [الأنعام: 31]. وأما تسمية الإثم وزرا فلأنه يتخيل ثقيلا على نفس المؤمن. فمعنى {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ} لا تحمل حاملة، أي لا تحمل حمل أي نفس أخرى غيرها، فالمعنى لا تغني نفس عن نفس شيئا تحمله عنها. أي كل نفس تزر وزر نفسها، فيفد أن وزر كل نفس أحد عليه وأنه لا يحمل غيره عنه شيئا من وزره الذي وزره وأنه لا تبعة على أحد من وزر غيره من قريب أو صديق، فلا تغني نفس عن نفس شيئا، ولا تتبع نفس بإثم غيرها، فهي إن حملت لا تحمل حمل غيرها. وهذا إتمام

لمعنى المشاركة.
{ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}
{ثُمَّ} للترتيب الرتبي. وهذا الكلام يحتمل أن يكون من جملة القول المأمور به فيكون تعقيبا للمشاركة بما فيه تهديدهم ووعيدهم، فكان موقع {ثُمَّ} لأن هذا الخبر أهم. فالخطاب في قوله: {إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ} خطاب للمشركين وكذلك الضميران في قوله: {بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} والمعنى: بما كنتم فيه تختلفون مع المسلمين، لأن الاختلاف واقع بينهم وبين المسلمين، وليس بين المشركين في أنفسهم اختلاف، فأدمج الوعيد بالوعيد. وقد جعلوا هذه الجملة مع التي قبلها آية واحدة في المصاحف.
ويحتمل أن يكون المقول قد انتهى عند قوله: {وِزْرَ أُخْرَى} فيكون قوله: {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ} استئناف كلام من الله تعالى خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم وللمعاندين له، و"ثم" صالحة للاستئناف لأن ملائم للترتيب الرتبي، والكلام وعيد ووعد أيضا. ولا ينافي ذلك أن تكون مع التي قبلها آية واحدة.
والتنبئة: الإخبار، والمراد بها إظهار آثار الإيمان والكفر واضحة يوم الحساب، فيعلموا أنهم كانوا ضالين، فشبه ذلك العلم بأن الله أخبرهم بذلك يومئذ وإلا فإن الله نبأهم بما اختلفوا فيه من زمن الحياة الدنيا، أو المراد ينبئكم مباشرة بدون واسطة الرسل إنباء لا يستطيع الكافر أن يقول: هذا كذب على الله، كما ورد في حديث الحشر: فيسمعهم الداعي ليس بينهم وبين الله حجاب.
[165] {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}
يظهر أن هذا دليل على إمكان البعث، وعلى وقوعه، لأن الذي جعل بعض الأجيال خلائف لما سبقها، فعمروا الأرض جيلا بعد جيل، لا يعجزه أن يحشرها جميعا بعد انقضاء عالم حياتهم الأولى، ثم إن الذي دبر ذلك وأتقنه لا يليق به أن لا يقيم بينهم ميزان الجزاء على ما صنعوا في الحياة الأولى لئلا يذهب المعتدون والظالمون فائزين بما جنوا،وإذا كان يقيم ميزان الجزاء على الظالمين فكيف يترك إثابة المحسنين، وقد أشار إلى الشق الأول قوله: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ}، وأشار إلى الشق الثاني قوله: {وَرَفَعَ

بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ}، ولذلك أعقبه بتذييله: {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}.
فالخطاب كوجه إلى المشركين الذين أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بأن يقول لهم: {أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً} [الأنعام: 164]؛ وذلك يذكر بأنهم سيصيرون إلى ما صار إليه أولئك. فموقع هذه عقب قوله: {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ} [الأنعام: 164] تذكير بالنعمة بعد الإنذار بسلبها، وتحريض على تدارك ما فات، وهو بفتح أعينهم للنظر في عواقب الأمم وانقراضها وبقائها.
ويجوز أن يكون الخطاب للرسول عليه الصلاة والسلام والأمة الإسلامية، وتكون الإضافة على معنى اللام، أي جعلكم خلائف الأمم التي ملكت الأرض فأنتم خلائف للأرض، فتكون بشارة الأمة بأنها آخر الأمم المجعولة من الله لتعمير الأرض. والمراد: الأمم ذوات الشرائع الإلهية وأيا ما كان فهو تذكير بعظيم صنع الله ومنته لاستدعاء الشكر والتحذير من الكفر.
والخلائف: جمع خليفة، والخليفة: اسم لما يخلف به الشيء، أي يجعل خلفا عنه، أي عوضه، خليفة وخلفة، فهو فعيل بمعنى مفعول، وظهرت فيه التاء لنهم لما صيروه اسما قطعوه عن موصوفه.
وإضافته إلى الأرض على معنى "في" على الوجه الأول، وهو كون الخطاب للمشركين، أي خلائف فيها، أي خلف ربكم أمما مضت قبلكم كما قال تعالى حكاية عن الرسل في مخاطبة أقوامهم: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} [لأعراف: 69] {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ} [لأعراف: 74] {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [لأعراف: 129]. والإضافة على معنى اللام على الوجه الثاني وهو كون الخطاب للمسلمين.
وفي هذا أيضا تذكير بنعمة تتضمن عبرة وموعضة: وذلك أنه لما جعلهم خلائف غيرهم فقد أنشأكم وأوجدهم على حين أعدم غيرهم، فهذه نعمة، لأنه لو قدر بقاء الأمم التي قبلهم لما وجدوا هؤلاء.
وعطف قوله: {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} يجري على الاحتمالين في المخاطب بقوله: {جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ} فهو أيضا عبرة وعظة، لعدم الاغترار بالقوة

والرفعة، ولجعل ذلك وسيلة لشكر تلك النعمة والسعي في زيادة الفضل لمن قصر عنها بالضعيف وإنصاف المظلوم.
ولذلك عقبه بقوله: {لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} أي ليخبركم فيما أنعم به عليكم من درجات النعم حتى يظهر للناس كيف يضع أهل النعمة أنفسهم في مواضعها اللائقة بها وهي المعبر عنها بالدرجات. والدرجات مستعارة لتفاوت النعم. وهي استعارة مبينة على تشبيه المعقول بالمحسوس لتقريبه.
والإيتاء مستعار لتكوين الرفعة في أربابها تشبيها للتكوين بإعطاء المعطي شيئا لغيره.
والبلو: الاخبار، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ} [البقرة: 155]. والمراد به ظهور موازين العقول في الانتفاع والنفع بمواهب الله وما يسره لها من الملائمات والمساعدات، فالله يعلم مراتب الناس، ولكن ذلك بلوى لأنها لا تظهر للعيان إلا بعد العمل، أي ليعلمه الله علم الواقعات بعد أن كان يعلمه علم المقدرات، فهذا موقع لام التعليل، وقريب منه قول إياس بن قبيصة الطائي:
وأقبلت والخطي يخطر بيننا ... لأعلم من جبانها من شجاعها
وجملة: {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} تذييل للكلام وإيذان بأن المقصود منه العمل والامتثال فلذلك جمع هنا بين صفة {سَرِيعُ الْعِقَابِ} وصفة {لَغَفُورٌ} ليناسب جميع ما حوته هذه السورة.
واستعيرت السرعة لعدم التردد ولتمام المقدرة على العقاب، لأن شأن المتردد أو العاجز أن يتريث وان يخشى غائلة المعاقب، فالمراد سريع العقاب في يوم العقاب، وليس المراد سريعه من الآن حتى يؤول بمعنى: كل آت قريب، إذ لا موقع له هنا.
ومن لطائف القرآن الاقتصار في وصف "سريع العقاب"على مؤكد واحد، وتعزيز وصف "الغفور الرحيم" بمؤكدات ثلاثة وهي إن، ولام الابتداء، والتوكيد اللفظي؛ لأن "الرحيم" يؤكد معنى "الغفور": ليطمئن أهل العمل الصالح إلى مغفرة الله ورحمته، وليستدعي أهل الإعراض والصدوف، إلى الإقلاع عما هم فيه.

المجلد الثامن
سورة الأعراف...
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الأعراف
هذا هو الاسم الذي عرفت به هذه السورة، من عهد النبي صلى الله عليه وسلم. أخرج النسائي، من حديث أبي مليكة، عن عروة بن زيد ابن ثابت: أنه قال لمروان به الحكم: ما لي أراك تقرأ في المغرب بقصار السور وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ فيها بأطول الطوليين. قال مروان قلت: يا أبا عبد الله ما أطول الطوليين، قال: الأعراف. وكذلك حديث أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في المغرب بطولا الطوليين. والمراد بالطوليين سورة الأعراف وسورة الأنعام فإن سورة الأعراف أطول من سورة الأنعام، باعتبار عدد الآيات. ويفسر ذلك حديث عائشة رضي الله عنها: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في صلاة المغرب بسورة الأعراف فرقها في ركعتين.
ووجه تسميتها أنها ذكر في لفظ الأعراف بقوله تعالى {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ} [لأعراف: 46] الآية. ولم يذكر في غيرها من سور القرآن، ولأنها ذكر فيها شأن أهل الأعراف في الآخرة، ولم يذكر في غيرها من السور بهذا اللفظ، ولكنه ذكر بلفظ "سور" في قوله: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} في سورة الحديد [13].
وربما تدعى بأسماء الحروف المقطعة التي في أولها وهي: "ألف_لام_ميم_صاد" أخرج النسائي من حديث أبي الأسود، عن عروة، عن زيد بن ثابت: أنه قال لمروان: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بأطول الطوليين: "ألف، لام، ميم، صاد". وهو يجيء على القول بأن الحروف المقطعة التي في أوائل بعض السور هي أسماء للسور الواقعة فيها، وهو ضعيف، فلا يكون "ألمص" اسما للسورة، وإطلاقه عليها إنما

هو على تقدير التعريف بالإضافة إلى السورة ذات ألمص، وكذلك سماها الشيخ ابن أبي زيد في الرسالة في باب سجود القرآن ولم يعدوا هذه السورة في السور ذات في الأسماء المتعددة. وأما ما في حديث زيد من أنها طولا الطوليين فعلى إرادة الوصف دون التلقيب. وذكر فيروزأبادي في بصائر ذوي التمييز أن هذه السورة تسمى سورة الميقات لاشتمالها على ذكر ميقات موسى في قوله: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا} [لأعراف: 143]. وأنها تسمى سورة الميثاق لاشتمالها على حديث الميثاق في قوله: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} 1 [لأعراف: 172].
وهي مكية بلا خلاف. ثم قيل جميعها مكي، وهو ظاهر رواية مجاهد وعطاء الخراساني عن ابن عباس، وكذلك نقل عن ابن الزبير، وقيل نزل بعضها في المدينة، قال قتادة آية: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} [الأعراف: 163] نزلت بالمدينة، وقال مقاتل من قوله: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَة} إلى قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف: 172] نزلت بالمدينة، فإذا صح هذا احتمل أن تكون السورة بمكة ثم ألحق بها الآيتان المذكورتان، واحتمل أنها نزلت بمكة وأكمل منها بقيتها تانك الآيتان.
ولم أقف على ما يضبط به تاريخ نزولا، وعن جابر بن زيد أنها نزلت بعد سورة صلى الله عليه وسلم قبل سورة {قُلْ أُوحِيَ} [الجن: 1]، وظاهر حديث ابن عباس في صحيح البخاري أن سورة {قُلْ أُوحِيَ} أنزلت في أول الإسلام حين ظهور دعوة محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك في أيام الحج، ورسول الله صلى الله عليه وسلم متوجه بأصحابه إلى سوق عكاظ، فلعل ذلك في السنة الثانية من البعثة، ولا أحسب أن سورة الأعراف قد نزلت في تلك المدة لأن السور الطوال يظهر أنها لم تنزل في أول البعثة. ولم أقف على هاتين التسميتين في كلام غيره.
وهي من السبع الطوال التي جعلت في أول القرآن لطولها وهي سور: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، وبراءة وقد المدني منها وهي سور: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة؛ ثم ذكر المكي وهو: الأنعام، والأعراف على ترتيب المصحف العثماني اعتبارا بأن سورة الأنعام أنزلت بمكة بعد سورة الأعراف فهي
ـــــــ
1 طبع مطابع شركة الاعلانات الشرقية بالقاهرة سنة 1383هـ, صفحة 203 الجزء الأول.

أقرب إلى المدني من السور الطوال.
وهي معدودة التاسعة والثلاثين في ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد عن ابن عباس، نزلت بعد سورة صلى الله عليه وسلم وقبل سورة الجن، كما تقدم، قالوا جعلها ابن مسعود في مصحفه عقب سورة البقرة وجعل بعد ها سورة النساء, ثم آل عمران، ووقع في مصحف أبي بعد آل عمران الأنعام ثم الأعراف. وسورة النساء هي التي تلي سورة البقرة في الطول وسورة الأعراف تلي سورة النساء في الطول.
وعد آي سورة الأعراف مائتان وست آيات في عد أهل المدينة والكوفة، ومائتان وخمس في عد أهل الشام والبصرة، قال في الإتقان قيل مائتان وسبع.
أغراضها
افتتحت هذه السورة بالتنويه بالقرآن والوعد بتيسيره على النبي صلى الله عليه وسلم ليبلغه وكان افتتاحها كلاما جامعا وهو مناسب لما اشتملت عليه السورة من المقاصد فهو افتتاح وارد على أحسن وجوه البيان وأكملها شأن سور القرآن.
وتدور مقاصد هذه السورة على محور مقاصد؛ منها:
النهي عن اتخاذ الشركاء من دون الله.
وإنذار المشركين عن سوء عاقبة الشرك في الدنيا والآخرة.
ووصف ما حل بالمشركين والذين كذبوا الرسل: من سوء العذاب في الدنيا، وما سيحل بهم في الآخرة.
تذكير الناس بنعمة خلق الأرض، وتمكين النوع الإنساني من خيرات الأرض، وبنعمة الله على هذا النوع بخلق أصله وتفضيله.
وما نشأ من عداوة جنس الشيطان لنوع الإنسان.
وتحذير الناس من التلبس ببقايا مكر الشيطان من تسويله إياهم حرمان أنفسهم الطيبات، ومن الوقوع فيما يزج بهم في العذاب في الآخرة.
ووصف أهوال يوم الجزاء للمجرمين وكراماته للمتقين.
والتذكير بالبعث وتقريب دليله.

والنهي عن الفساد في الأرض التي أصلحها الله لفائدة الإنسان.
والتذكير ببديع ما أوجده الله صلاحها وإحيائها.
والتذكير بما أودع الله في فطرة الإنسان من وقت تكوين أصله أن يقبلوا دعوة رسل الله إلى التقوى والإصلاح.
وأفاض في أحوال الرسل مع أقوامهم المشركين، ومما لاقوه من عنادهم وأذاهم، وأنذر بعدم الاغترار بإمهال الله الله الناس قبل أن ينزل بهم العذاب، وإعذارا لهم ان يقلعوا عن كفرهم وعنادهم، فإن العذاب يأتيهم بغتة بعد ذلك الإمهال.
وأطال القول في قصة موسى عليه السلام مع فرعون، وفي تصرفات بني إسرائيل مع موسى عليه السلام.
وتخلل قصته بشارة الله ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم وصفة أمته وفضل دينه.
ثم تخلص إلى موعظة المشركين كيف بدلوا الحنيفية وتقلدوا الشرك، وضرب لهم مثلا بمن آتاه الله الآيات فوسوس له الشيطان فانسلخ عن الهدى.
ووصف حال أهل الضلالة ووصف تكذيبهم بما جاء به الرسول ووصف آلهتهم بما ينافي الإلهية وأن لله الصفات الحسنى صفات الكمال.
ثم أمر الله رسوله عليه الصلاة والسلام والمسلمين بسعة الصدر والمداومة على الدعوة وحذرهم من مداخل الشيطان بمراقبة الله بذكره سرا وجهرا والإقبال على عبادته.
[1] {ألمص}.
هذه الحروف الأربعة المقطعة التي افتتحت بها هاته السورة، ينطق بأسمائها "ألف، لام، ميم، صاد"، كما ينطق بالحروف ملقن المتعلمين للهجاء في المكتب، لأن المقصود بها أسماء الحروف لا مسمياتها وأشكالها، كما أنك إذا أخبرت عن أحد بخبر تذكر اسم المخبر عنه دون أن تعرض صورته أو ذاته، فتقول مثلا: لقيت زيدا، ولا تقول: لقيت هذه الصورة، ولا لقيت هذه الذات.
فالنطق بأسماء الحروف هو مقتضى وقوعها في أوائل السور التي افتتحت بها، لقصد التعريض لتعجيز الذين أنكروا نزول القرآن من عند الله تعالى، أي تعجيز بلغائهم عن

معارضته بمثله كما تقدم في سورة البقرة.
وإنما رسموها في المصاحف بصور الحروف دون أسمائها، أي بمسميات الحروف التي ينطق بأسمائها ولم يرسموها بما تقرأ به أسماؤها، مراعاة لحالة التهجي فيما أحسب، أنهم لو رسموها بالحروف التي ينطق بها عند ذكر أسمائها خشوا أن يلتبس مجموع حروف الأسماء بكلمات مثل "ياسين"، لو رسمت بأسماء حروفها أن تلتبس بنداء من اسمه سين.
فعدلوا إلى رسم الحروف علما بأن القارئ في المصحف إذا وجد صورة الحرف نطق باسن تلك الصورة. على معتادهم في التهجي طردا للرسم على وتيرة واحدة.
على أن رسم المصحف سنة سنها كتاب المصاحف فأقرت. وأنما العمدة في النطق بالقرآن على الرواية والتلقي، وما جعلت كتابة المصحف إلا تذكرة وعونا للمتلقي.
وتقدم هذا في أول سورة البقرة وفيما هنا زيادة عليه.
[2] {كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ }.
ذكرنا في طالعة سورة البقرة أن الحروف المقطعة في أوائل السور أعقبت بذكر القرآن أو الوحي أو في معنى ذلك، وذلك يرجح أن المقصود من هذه الحروف التهجي، إبلاغا في التحدي للعرب بالعجز عن الإتيان بمثل القرآن وتخفيفا للعبء عن النبي صلى الله عليه وسلم، فتلك جملة مستقلة وهي هنا معدودة آية ولم تعد في بعض السور.
فقوله: {كِتَابٌ} مبتدأ ووقع الابتداء بالنكرة أما لأنها أريد بها النوع لا الفرد فلم يكن في الحكم عليها إبهام وذلك كقولهم: رجل جاءني، أي لا امرأة، وتمرة خير من جرادة، وفائدة إرادة النوع الرد على المشركين إنكارهم أن يكون القرآن من عند الله، واستبعادهم ذلك، فذكرهم الله بأنه كتاب من نوع الكتب المنزلة على الأنبياء، فكما نزلت صحف إبراهيم وكتاب موسى كذلك نزل هذا القرآن، فيكون تنكير النوعية لدفع الابتعاد، ونظيره قوله تعالى: {قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} [صّ: 22] فالتنكير للنوعية.
وأما لأن التنكير أريد به التعظيم كقولهم شر أهر ذا ناب أي شر عظيم. وقول

عويف القواني:
خبر أتاني عن عيينة موجع ... كادت عليه تصدع الأكياد
أي هو كتاب عظيم تنويها بشأنه فصار التنكير في معنى التوصيف.
وإما لأنه أريد بالتنكير التعجيب من شأن هذا الكتاب في جميع ما حف به من البلاغة والفصاحة والإعجاز والإرشاد، وكونه نازلا على رجل أمي.
وقوله: {أُنْزِلَ إِلَيْكَ} يجوز أن يكون صفة لـ {كِتَابٌ} فيكون مسوغا ثانيا للابتداء بالنكرة ويجوز أن يكون هو الخبر فيجوز أن يكون المقصود من الأخبار تذكير المنكرين والمكابرين، لأن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين يعلمون أنه أنزل من عند الله، فلا يحتاجون إلى الإخبار به، فالخبر مستعمل في التعريض بتغليط المشركين والمكابرين والقاصدين إغاظة الرسول صلى الله عليه وسلم بالإعراض، ويجوز أن يكون المقصود من الخبر الامتنان والتذكير بالنعمة، فيكون الخبر مستعملا في الامتنان على طريقة المجاز المرسل المركب.
ويجوز أن يجعل الخبر هو قوله: {أُنْزِلَ إِلَيْكَ} مع ما انضم إليه من التفريع والتعليل، أي هو كتاب أنزل إليك فكن منشرح الصدر به، فإنه أنزل إليك لتنذر به الكافرين وتذكر المؤمنين، والمقصود: تسمين نفس النبي صلى الله عليه وسلم، وإغاظة الكافرين، وتأنيس المؤمنين، أي: هو كتاب أنزل لفائدة، وقد حصلت الفائدة فلا يكن في صدرك حرج إن كذبوا. وبهذه الاعتبارات وبعدم منافاة بعضها لبعض يحمل الكلام على إرادة جميعها وذلك من مطالع السور العجيبة البيان.
ومن المفسرين من قدروا مبتدأ محذوفا، وجعلوا {كِتَابٌ} خبرا عنه، أي هذا كتاب، أي أن المشار إليه القرآن الحاضر في الذهن، أو المشار إليه السورة أطلق عليها كتاب، ومنهم من جعل {كِتَابٌ} خبرا عن كلمة {المص} [الأعراف:1] وكل ذلك بمعزل عن متانة المعنى.
وصيغ فعل: {أُنْزِلَ} بصيغة النائب عن الفاعل اختصارا، للعلم بفاعل الإنزال، لأن الذي ينزل الكتب على الرسل هو الله تعالى، ولما في مادة الإنزال من الإشعار بأنه من الوحي لملائكة العوالم السماوية.
والفاء في قوله: {فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ} اعتراضية إذ الجملة معترضة بين فعل {أُنْزِلَ} ومتعلقة وهو {لِتُنْذِرَ بِهِ} ، فإن الاعتراض يكون مقترنا بالفاء كما يكون مقترنا

بالواو كما في قوله تعالى: {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} [صّ:57] وقوله: {إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى} [النساء: 135]. وقول الشاعر وهو من الشواهد:
اعلم فعلم المرء ينفعه ... أن سوف يأتي كل ما قدرا
وقول بشار بن برد:
كقائلة إن الحمار فنحه ... عن القت أهل السمسم المتهذب
وليست الفاء زائدة للاعتراض ولكنها ترجع إلى معنى التسبب، وإنما الاعتراض حصل بتقديم جملتها بين شيئين متصلين مبادرة من المتكلم بإفادته لأهميته، وأصل ترتيب الكلام هنا: كتاب أنزل إليك لتنذر به وذكرى للمؤمنين فلا يكن في صدرك حرج منه، وقد ذكر في مغني اللبيب دخول الفاء في الجملة المعترضة ولم يذكر ذلك في معاني الفاء فتوهم متوهمون أن الفاء لا تقع في الجملة المعترضة.
والمعنى أن الله أنزله إليك لا ليكون في صدرك حرج، بل لينشرح صدرك به. ولذلك جاء في نفي الحرج بصيغة نهي الحرج عن ان يحصل في صدر النبي صلى الله عليه وسلم ليكون النهي نهي تكوين، بمعنى تكوين النفي، عكس أمر التكوين الذي هو بمعنى تكوين الإثبات. مثل تكوين نفي الحرج عن صدره بحالة نهي العاقل المدرك للخطاب، عن الحصول في المكان. وجعل صاحب الكشاف النهي متوجها في الحقيقة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أي نهيه عن المبالاة بالمكذبين بالقرآن، والغم من صنيعتهم، وجعل النهي في ظاهر اللفظ متوجها إلى الحرج للمبالغة في التكليف، باقتلاعه من أصله، على طريقة قول العرب: لا أرينك هاهنا أي لا تحضر فأراك، وقولهم لا عرفنك تفعل كذا أي لا تفعله فأعرفك به، نهيا بطريق الكناية. وأيا ما كان فالتفريع مناسب لمعاني التنكير المفروض في قوله: {كِتَابٌ} ، أي فلا يكن في صدرك حرج منه من جهة ما جره نزوله إليك من تكذيب قومك وإنكارهم نزوله، فلا يكن في صدرك حرج منه من عظم أمره وجلالته، ولا يكن في صدرك حرج منه من عظم أمره وجلالته، ولا يكن في صدرك حرج منه فإنه سبب شرح صدرك بمعانيه وبلاغته.
و"من" ابتدائية، أي حرج ينشأ ويسري من جراء المذكور، أي من تكذيب المكذبين به، فلما كان التكذيب به من جملة شؤونه، وهو سبب الحرج، صح أن يجعل الحرج مسببا عن الكتاب بواسطة. والمعنى على تقدير مضاف أي حرج من إنكاره أي إنكار إنزاله من الله.

والحرج حقيقته المكان الضيق من الغابات الكثيرة الأشجار، بحيث يعسر السلوك فيه، ويستعار لحالة النفس عند الحزن والغضب والأسف، لأنهم تخيلوا للغاضب والآسف ضيقا في صدره لما وجدوه يعسر منه التنفس من انقباض أعصاب مجاري النفس، وفي معنى الآية قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ} [هود: 12]
و {لِتُنْذِرَ} متعلق بـ {أُنْزِلَ} على معنى المفعول لأجله، واقترانه بلام التعليل دون الإتيان بمصدر منصوب لاختلاف فاعل العامل وفاعل الإنذار. وجعل الإنذار به مقدما في التعليل لأنه الغرض الأهم لإبطال ما عليه المشركون من الباطل وما يخلقونه في الناس من العوائد الباطلة التي تعاني أزالتها من الناس بعد إسلامهم.
{وَذِكْرَى} يجوز أن يكون معطوفا على {لِتُنْذِرَ بِهِ} ، باعتبار انسباكه بمصدر فيكون في محل خر، ويجوز أن يكون العطف عطف جملة، ويكون {وَذِكْرَى} مصدرا بدلا من فعله، والتقدير: وذكر ذكرى المؤمنين، فيكون في محل نصب فيكون اعتراضا.
وحذف متعلق {تُنْذِرَ} ، وصرح بمتعلق {وَذِكْرَى} لظهور تقدير المحذوف من ذكر مقابله المذكور، والتقدير: لتنذر به الكافرين، وصرح بمتعلق الذكرى دون متعلق {تُنْذِرَ} تنويها بشأن المؤمنين وتعريضا بتحقير الكافرين تجاه ذكر المؤمنين.
[3] {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ } .
بيان لجملة: {لِتُنْذِرَ بِهِ} بقرينة تذييلها بقوله: {قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} . فالخطاب موجه للمشركين ويندرج فيه المسلمون بالأولى، فيعد أن نوه الله بالكتاب المنزل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وبين أن حكمة إنزاله للإنذار والذكرى، أمر الناس أن يتبعوا ما أنزل إليهم كل يتبع ما هو به أعلق، والمشركون أنزل إليهم الزجر عن الشرك والاحتجاج على ضلالهم، والمسلمون أنزل إليهم الأمر والنهي والتكليف. فكل مأمور باتباع ما أنزل إليه، والمقصود الأجدر هم المشركون تعريضا بأنهم كفروا بنعمة ربهم، فوصف الرب هنا دون اسم الجلالة: للتذكير بوجوب اتباع أمره، لأن وصف الربوبية يقتضي الامتثال لأوامره، ونهاهم عن اتباع أوليائهم الذين جعلوهم آلهة دونه، والموجه إليهم النهي هم المشركون بقرينة قوله: {قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ}

والاتباع حقيقته المشي وراء ماش، فمعناه يقتضي ذاتين: تابعا ومتبوعا، يقال: اتبع وتبع، ويستعار للعمل بأمر الآمر نحو: {مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه: 92, 93] وهو استعارة تمثيلية مبنية على تشبيه حالتين، ويستعار للاقتداء بسيرة أو قول نحو: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [البقرة: 168] وهو استعارة مصرحة تنبني على تشبيه المحسوس بالمعقول مثل قوله تعالى: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأنعام: 50]، ومنه قوله هنا: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} .
والمراد بما أنزل هو الكتاب المذكور بقوله: {كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [لأعراف: 2].
وقوله: {وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} تصريح بما تضمنه: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} لأن فيما أنزل إليهم من ربهم أن الله إله واحد لا شريك له، وأنه الولي، وان الذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم، أي مجازيهم لا يخفى عليه فعلهم، وغير ذلك من آي القرآن؛ والمقصود من هذا النهي تأكيد مقتضى الأمر باتباع ما أنزل إليهم اهتماما بهذا الجانب مما أنزل أليهم، وتسجيلا على المشركين، وقطعا لمعاذيرهم أن يقولوا إننا اتبعنا ما أنزل إلينا، وما نرى أولياءنا إلا شفعاء لنا عند الله فما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، فإنهم كانوا يموهون بمثل ذلك، إلا ترى أنهم كانوا يقولون في تلبيتهم: "لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك" فموقع قوله: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} موقع الفصل الجامع من الحد، وموقع {وَلا تَتَّبِعُوا} موقع الفصل المانع في الحد.
والأولياء جمع ولي، وهو الموالي، أي الملازم والمعاون، فيطلق على الناصر، والحليف، والصاحب الصادق المودة، واستعير هنا للمعبود وللإله: لأن العبادة أقوى أحوال الموالاة، قال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ} [الشورى: 9] وقد تقدم عند قوله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً} في سورة الأنعام [14]، وهذا هو المراد هنا.
والاتباع في قوله: {وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} يجوز أن يكون مستعملا في المعنى الذي استعمل فيه الاتباع في قوله: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} وذلك على التقدير: ولا تتبعوا ما يأتيكم من أولياء دون الله، فإن المشركين ينسبون ما هم عليه من الديانة الضالة إلى الآلهة الباطلة، أو إلى سدنة الآلهة وكهانها، كما تقدم عند قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} [الأنعام: 137]، وقوله: {فَقَالُوا

هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ} [الأنعام: 136] كما في سورة الأنعام، وعلى تلك الاعتبارات يجري التقدير في قوله: {أَوْلِيَاءَ} أي لا تمتثلوا للأولياء أو أمرهم أو لدعاة الأولياء وسدنتهم.
ويجوز أن يكون الاتباع مستعارا للطلب والاتخاذ، أي لا تتخذوا أولياء غيره نحو قولهم: هو يتبع زلة فلان. وفي الحديث: يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر أي يتطلبها.
و"من" في قوله: {مِنْ دُونِهِ} ابتدائية، و"دون" ظرف للمكان المجاوز المنفصل، وقد جر بمن الجارة للظروف، وهو استعارة للترك والإعراض. والجرور في موضع الحال من فاعل {تَتَّخِذُوا} ، أي لا تتبعوا أولياء متخذينها دونه، فأن المشركين وإن كانوا قد اعترفوا لله بالإلهية، واتبعوا أمره بزعمهم في كثير من أعمالهم: كالحج ومناسكه، والحلف باسمه، فهم أيضا اتبعوا الأصنام بعبادتها أو نسبة الدين إليها. فكل عمل تقربوا به إلى الأصنام، وكل عمل عملوه امتثالا لأمر ينسب إلى الأصنام، فهم عند عمله يكونون متبعين اتباعا فيه إعراض عن الله وترك للتقرب إليه، فيكون اتباعا من دون الله، فيدخل في النهي، وبهذا النهي قد سدت عليهم أبواب الشرك وتأويلاته كقولهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر3] فقد جاء قوله: {وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} في أعلى درجة من الإيجاز واستيعاب المقصود.
وأفاد مجموع قوله: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} مفاد صيغة قصر، كأنه قال: لا تتبعوا إلا ما أمر به ربكم، أي دون ما يأمركم به أولياؤكم، فعدل عن طريق القصر لتكون جملة: {وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} مستقلة صريحة الدلالة اهتماما بمضمونها على نحو قول السموأل أو الحارثي:
تسيل على حد الظبات نفوسنا ... وليست على غير الظبات تسيل
وجملة: {قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} هي في موضع الحال من {لا تَتَّبِعُوا} . وهي حال سببية كاشفة لصاحبها، وليست مقيدة للنهي: لظهور أن المتبعين أولياء من دون الله ليسوا إلا قليلي التذكر. ويجوز جعل الجملة اعتراضا تذييليا. ولفظ قليلا يجوز أن يحمل على حقيقته لأنهم قد يتذكرون ثم يعرضون عن التذكر في أكثر أحوالهم فهم في غفلة معرضون، ويجوز أن يكون قليلا مستعارا لمعنى النفي والعدم على وجه التلميح كقوله تعالى: {فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 88] فإن الإيمان لا يوصف بالقلة والكثرة.

والتذكر مصدر الذكر بضم الذال وهو حضور الصورة في الذهن.
وقليل مستعمل في العدم على طريقة التهكم بالمضيع للأمر النافع يقال له: إنك قليل الإتيان بالأمر النافع، تنبيها له على خطئه، وإنه إن كان في ذلك تفريط فلا ينبغي أن يتجاوز حد التقليل دون التضييع له كله.
و"ما" مصدرية والتقدير: قليلا تذكركم، ويجوز أن يكون {قَلِيلاً} صفة مصدر محذوف دل عليه {تَذَكَّرُونَ} و"ما" مزيدة لتوكيد القلة، أي نوع قلة ضعيف، نحو قوله تعالى: {أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا} [البقرة: 26]. وتقدم القول في نظيره عند قوله تعالى: {فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ} في سورة البقرة [88]. والمعنى: لو تذكرتم لما اتبعتم من دونه أولياء ولما احتجتم إلى النهي عن أن تتبعوا من دونه أولياء، وهذا نداء على إضاعتهم النظر والاستدلال في صفات الله وفي نقائص أوليائهم المزعومين.
وقرأ الجمهور: {مَا تَذَكَّرُونَ} بفوقية واحدة وتشديد الذال على أن أصله تتذكرون بتاءين فوقيتين ثانيتهما ذالا لتقارب مخرجيهما ليتأتى تخفيفه بالإدغام.
وقرأه حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، وخلف بتخفيف الذال على حذف إحدى التاءين اختصارا. وقرأه ابن عامر: {يتَذَكَّرُونَ} بتحتية في أوله ثم فوقية، والضمير عائد إلى المشركين على طريقة الالتفات من الخطاب إلى الغيبة، أعرض عنهم ووجه الكلام على غيرهم من السامعين: إلى النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين.
[5,4] {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَائِلُونَ فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلاَّ أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} .
عطف على جملة: {وَلا تَتَّبِعُوا} وهذا الخبر مستعمل في التهديد للمشركين الذين وجه إليهم التعريض في الآية الأولى والذين قصدوا من العموم. وقد ثلث هنا بتمحيض التوجيه إليهم.
وإنما خص بالذكر إهلاك القرى، دون ذكر الأمم كما في قوله {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} [الحاقة: 5, 6]، لأن المواجهين بالتعريض هم أهل مكة وهي أم القرى، فناسب أن يكون تهديد أهلها بما أصاب القرى وأهلها ولأن تعليق فعل {أَهْلَكْنَا} . بالقرية دون أهلها لقصد الإحاطة والشمول، فهو مغن عن أدوات

الشمول، فالسامع يعلم أن المراد من القرية أهلها لأن العبرة والموعظة إنما هي بما حصل لأهل القرية، ونظيرها قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} [يوسف: 82] ونظيرهما معا قوله: {مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} [الانبياء:6]، فكل هذا من الإيجاز البديع، والمعنى على تقدير المضاف، وهو تقدير معنى.
وأجري الضميران في قوله: {أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا} على الإفراد والتأنيث مراعاة للفظ قرية، ليحصل التماثل بين لفظ المعاد ولفظ ضميره في كلام متصل القرب، ثم أجريت ضمائر القرية على صيغة الجمع في الجملة المفرعة عن الأولى في قوله: {أَوْ هُمْ قَائِلُونَ فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ} الخ لحصول الفصل بين الضمير ولفظ معاده بجملة فيها ضمير معاده غير لفظ القرية، وهو {بَأْسُنَا بَيَاتاً} لأن {بَيَاتاً} متحمل لضمير البأس، أي مبيتا لهم، وانتقل منه إلى ضمير القرية باعتبار أهلها فقال: {أَوْ هُمْ قَائِلُونَ فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ} . و"كم" اسم حال على عدد كثير وهو هنا خبر عن الكثرة وتقدم في أول سورة الأنعام.
والإهلاك: الإفناء والاستئصال. وفعل {أَهْلَكْنَاهَا} يجوز أن يكون مستعملا في معنى الإرادة بحصول مدلوله ويجوز أن يكون مستعملا في ظاهر معناه.
والفاء في قوله: {فَجَاءَهَا بَأْسُنَا} عاطفة جملة: {فَجَاءَهَا بَأْسُنَا} على جملة: {أَهْلَكْنَاهَا} ، وأصل العاطفة أن تفيد ترتيب حصول معطوفها بعد حصول المعطوف عليه، ولما كان مجيء البأس حاصلا مع حصول الإهلاك أو قبله، إذ هو سبب الإهلاك، عسر على جمع من المفسرين معنى موقع الفاء هنا، حتى قال الفراء إن الفاء لا تفيد الترتيب مطلقا، وعنه أيضا إذا كان معنى الفعلين واحدا أو كالواحد قدمت أيهما شئت مثل شتمني فأساء وأساء فشتمني. وعن بعضهم أن الكلام جرى على طريقة القلب، والأصل: جاءها بأسنا فأهلكناها، وهو قلب خلي عن النكتة فهو مردود، والذي فسر به الجمهور: أن فعل {أَهْلَكْنَاهَا} مستعمل في معنى إرادة الفعل كقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [نحل:98] وقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] الآية أي فإذا أردت القراءة، وإذا أردتم القيام إلى الصلاة، واستعمال الفعل في معنى إرادة وقوع معناه من المجاز المرسل عند السكاكي قال: ومن أمثلة المجاز قوله تعالى { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} ، استعمل {قَرَأْتَ} مكان أردت القراءة لكون القراءة مسببة عن إرادتها استعمالا مجازيا بقرينة الفاء في {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} ,وقوله {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ

أَهْلَكْنَاهَا} في موضع أردنا إهلاكها بقرينة {فَجَاءَهَا بَأْسُنَا} والبأس الإهلاك.
والتعبير عن إرادة الفعل بذكر الصيغة التي تدل على وقوع الفعل يكون لإفادة عزم الفاعل على الفعل، عزما لا يتأخر عنه العمل، بحيث يستعار اللفظ الدال على حصول المراد، للإرادة لتشابههما، وإما الإتيان بحرف التعقيب بعد ذلك فللدلالة على عدم التريث، فدل الكلام كله: على أنه تعالى يريد فيخلق أسباب الفعل المراد فيحصل الفعل، كل ذلك يحصل كالأشياء المتقارنة، وقد استفيد هذا التقارب بالتعبير عن الإرادة بصيغة تقتضي وقوع الفعل، والتعبير عن حصول السبب بحرف التعقيب، والغرض من ذلك تهديد السامعين المعاندين وتحذيرهم من أن يحل غضب الله عليهم فيريد إهلاكهم، فضيق عليهم المهلة لئلا يتباطأوا في تدارك أمرهم والتعجيل بالتوبة. والذي عليه المحققون أن الترتيب في فاء العطف قد يكون الترتيب الذكري، أي ترتيب الإخبار بشيء عن الإخبار بالمعطوف عليه. ففي الآية أخبر عن كيفية إهلاكهم بعد الخبر بالإهلاك، وهذا الترتيب هو في الغالب تفصيل بعد إجمال، فيكون من عطف المفصل على المجمل، وبذلك سماه ابن مالك في التسهيل، ومثل له بقوله تعالى: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً عُرُباً} [الواقعة: 35, 37] الآية. ومنه قوله تعالى: {ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر: 72] أو قوله: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} [البقرة: 36] لأن الإزلال عن الجنة فصل بأنه الإخراج، وقوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} [القمر:9] وهذا من أساليب الإطناب وقد يغفل عنه.
والبأس ما يحصل به الألم، وأكثر إطلاقه على شدة الحرب ولذلك سميت الحرب البأساء، وقد مضى عند قوله تعالى: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} [البقرة: 177] في سورة البقرة، والمراد به هنا عذاب الدنيا.
واستعير المجيء لحدوث الشيء وحصوله بعد أن لم يكن تشبيها لحلول الشيء بوصول القادم من مكان إلى مكان بتنقل خطواته، وقد تقدم نظير هذا في قوله تعالى {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} في سورة الأنعام [43].
والبيات مصدر بات، وهو هنا منصوب على الحال من البأس، أي جاءهم البأس مبيتا لهم، أي جاءهم ليلا، ويطلق البيات على ضرب من الغارة تقع ليلا، فإذا كان المراد من البأس الاستعارة لشدة الحرب كان المراد من البيات حالة من حال الحرب، هي أشد على المغزو، فكان ترشيحا للاستعارة التمثيلية، ويجوز أن يكون {بَيَاتاً} منصوبا على

النيابة عن ظرف الزمان أي في وقت البيات.
وجملة: {هُمْ قَائِلُونَ} حال أيضا لعطفها على {بَيَاتاً} بأو، وقد كفى هذا الحرف العاطف عن ربط جملة الحال بواو الحال، ولولا العطف لكان تجرد مثل هذه الجملة عن الواو غير حسن، كما قال في الكشاف، وهو متابع لعبد القاهر.
وأقول: إن جملة الحال، إذا كانت جملة أسمية، فإما أن تكون منحلة إلى مفردين: أحدهما وصف صاحب الحال، فهذه تجردها عن الواو قبيح، كما صرح به عبد القاهر وحققه التفتزاني في المطول، لأن فصيح الكلام أن يجاء بالحال مفردة إذ لا داعي للجملة، نحو جاءني زيد هو فارس، إذ يغني أن تقول: فارسا.
وأما إذا كانت الجملة اسمية فيها زيادة على وصف صاحب الحال، وفيها ضمير صاحب الحال، فخلوها عن الواو حسن نحو قوله تعالى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [طه: 123] فإن هذه حالة لكلا الفريقين، وهذا التحقيق هو الذي يظهر به الفرق بين قوله: {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [طه: 123] وقولهم، في المثال: جاءني زيد هو فاري، وهو خير مما أجاب به الطيبي وما ساقه من عبارة المفتاح وعبارة ابن الحاجب فتأمله. وعلل حذف واو الحال بدفع استثقال توالي حرفين من نوع واحد.
و"أو" لتقسيم القرى المهلكة: إلى مهلكة في الليل، ومهلكة في النهار، والمقصود من هذا التقسيم تهديد أهل مكة حتى يكونوا على وجل في كل وقت لا يدرون متى يحل بهم العذاب، بحيث لا يأمنون في وقت ما.
ومعنى: {قَائِلُونَ} كائنون في وقت القيلولة، وهي القائلة، وهي اسم للوقت المبتدئ من نصف النهار المنتهي بالعصر، وفعله: قال يقبل فهو قائل، والمقيل الراحة في ذلك الوقت، ويطلق المقيل على القائلة أيضا.
وخص هذان الوقتان من بين أوقات الليل والنهار: لأنهما اللذان يطلب فيهما الناس الراحة والدعة، فوقوع العذاب فيهما أشد على الناس، ولأن التذكير بالعذاب فيهما ينغص على المكذبين تخيل نعيم الوقتين.
والمعنى: وكم من أهل قرية مشركين أهلكناهم جزاء على شركهم، فكونوا يا معشر أهل مكة على حذر أن نصيبكم مثل ما أصابهم فإنكم وإياهم سواء.
وقوله: {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ} يصح أن تكون الفاء فيه للترتيب الذكري تبعا للقاء في

قوله: {فَجَاءَهَا بَأْسُنَا} لأنه من بقية المذكور، ويصح أن يكون للترتيب المعنوي لأن دعواهم ترتبت على مجيء البأس.
والدعوى اسم بمعنى الدعاء كقوله: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} [يونس: 10] وهو كثير في القرآن. والدعاء هنا لرفه العذاب أي الاستغاثة عند حلول البأس وظهور أسباب العذاب، وذلك أن شأن الناس إذا حل بهم العذاب أن يجأروا إلى الله بالاستغاثة، ومعنى الحصر أنهم لم يستغيثوا الله ولا توجهوا إليه بالدعاء ولكنهم وضعوا الاعتراف بالظلم موضع الاستغاثة فلذلك استثناه الله من الدعوى.
ويجوز أن تكون الدعوى بمعنى الادعاء أي: انقطعت كل الدعاوى التي كانوا يدعونها من تحقيق تعدد الآلهة وأن دينهم حق، فلم تبق لهم دعوى، بل اعترفوا بأنهم موكلون، فيكون الاستثناء منقطعا لأن اعترافهم ليس بدعوى.
واقتصارهم على قولهم: {إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} إما لأن ذلك القول مقدمة التوبة لأن التوبة يتقدمها الاعتراف بالذنب، فهم اعترفوا على نية أن ينتقلوا من الاعتراف إلى طلب العفو، فعوجلوا بالعذاب، فكان اعترافهم آخر قولهم في الدنيا مقدمة لشهادة ألسنتهم عليهم في الحشر، وإما لأن الله أجرى ذلك على ألسنتهم وصرفهم عن الدعاء إلى الله ليحرمهم موجبات تخفيف العذاب.
وأياما كان فإن جريان هذا القول على ألسنتهم كان نتيجة تفكرهم في ظلمهم في مدة سلامتهم، ولكن العناد والكبرياء يصدانهم عن الإقلاع عنه،ومن شأن من تصيبه شدة أن يجري على لسانه كلام، فمن اعتاد قول الخير نطق به، ومن اعتاد ضده جرى على لسانه كلام التسخط ومنكر القول، فلذلك جرى على لسانهم ما كثر جولاته في أفكارهم.
والمراد بقولهم: {كُنَّا ظَالِمِينَ} أنهم ظلموا أنفسهم بالعناد، وتكذيب الرسل، والإعراض عن الآيات، وصم الأذان عن الوعيد والوعظ، وذلك يجمعه الإشراك بالله، قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]، وذلك موضع الاعتبار للمخاطبين بقوله: {وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف: 3] أي أن الله لم يظلمهم، وهو يحتمل أنهم علموا ذلوا بمشاهدة العذاب وإلهامهم أن مثل ذلك العذاب لا ينزل إلا بالظالمين، أو بوجدانهم إياه على الصفة الموعود بها على ألسنة رسلهم، فيكون الكلام إقرارا محضا أقروا به في أنفسهم، فصيغة الخبر مستعملة في إنشاء الإقرار، ويحتمل أنهم كانوا يعلمون أنهم ظالمون، من قبل نزول العذاب، وكانوا مصرين عليه ومكابرين، فلما رأوا العذاب ندموا

وأنصفوا من أنفسهم، فيكون الكلام، إقرارا مشوبا بحسرة وندامة، فالخبر مستعمل في معناه المجازي الصريح ومعناه الكنائي، والمعني المجازي يجتمع مع الكناية باعتبار كونه مجازا صريحا.
وهذا القول يقولونه لغير مخاطب معين، كشأن الكلام الذي يجري على اللسان عند الشدائد، مثل لويل والثبور، فيكون الكلام مستعملا في معناه المجازي، أو يقوله بعضهم لبعض، بينهم، على معنى التوبيخ، والتوقيف على الخطا، وإنشاء الندامة، فيكون مستعملا في المعنى المجازي الصريح، والمعنى الكنائي، على نحو ما قرته آنفا.
والتوكيد بإن لتحقيق الخبر للنفس أو للمخاطبين على الوجهين المتقدمين أو يكون قولهم ذلك في أنفسهم، أو بين جماعتهم، جاريا مجرى التعليل لنزول البأس بهم والاعتراف بأنهم جديرون به، ولذلك أطلقوا على الشرك حينئذ الاسم المشعر بمذمته الذي لم يكونوا يطلقونه على دينهم من قبل.
واسم كان هو: {أَنْ قَالُوا} المفرغ له عمل كان، و {دَعْوَاهُمْ} خبر {كَانَ} مقدم، لقرينة عدم اتصال كان بتاء التأنيث، ولو كان: "دعوى" هو اسمها لكان اتصالها بتاء التأنيث أحسن، وللجري على نظائره في القرآن وكلام العرب في كل موضع جاء فيه المصدر المسؤول من أن والفعل محصورا بعد كان، نحو قوله تعالى: {فََمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ} [الأعراف: 82] {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} [آل عمران: 147] وغير ذلك، وهو استعمال ملتزم، غريب، مطرد في كل ما وقع فيه جزء الإسناد ذاتين أريد حصر تحقق أحدهما في تحقق الآخر لأنهما لما اتحدا في ألما صدق، واستويا في التعريف، كان المحصور أولى باعتبار التقدم الرتبي، ويتعين تأخيره في اللفظ، لأن المحصور لا يكون إلا في آخر الجزأين، ألا ترى إلى لزوم تأخير المبتدأ المحصور. واعلم أن كون أحد الجزأين محصورا دون الآخر في مثل هذا، مما الجزآن فيه متحدا ألما صدق، إنما هو منوط باعتبار المتكلم أحدهما هو الأصل والآخر الفرع، ففي مثل هذه الآية اعتبر قولهم هو المترقب من السامع للقصة ابتداء، واعتبر الدعاء هو المترقب ثانيا، كأن السامع يسأل: ماذا قالوا لما جاءهم البأس، فقيل له: كان قولهم: {إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} دعاءهم، فأفيد القول وزيد بأنهم فرطوا في الدعاء، وهذه نكتة دقيقة تنفعك في نظائرهم هذه الآية، مثل قوله: {فََمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ} [الأعراف: 82]، على أنه قد قيل: إنه لاطراد هذا الاعتبار مع المصدر المؤول من "أن"

والفعل علة لفظية: وهي كون المصدر المؤول يشبه الضمير في أنه لا يوصف، فكان أعرف من غيره، فلذلك كان حقيقا بأن يكون هو الاسم، لأن الأصل أن الأعرف من الجزأين وهو الذي يكون مسندا إليه.
[7,6] {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ}.
الفاء في قوله: {فَلَنَسْأَلَنَّ} عاطفة، لترتيب الأخبار لأن وجود لام القسم علامة على أنه كلام أنف، انتقال من خبر إلى خبر، ومن قصة إلى قصة، وهو انتقال من الخبر عن حالتهم الدنيوية إلى الخبر عن أحوالهم في الآخرة.
وأكد الخبر بلام القسم ونون التوكيد لإزالة الشك في ذلك.
وسؤال الذين أرسل إليهم سؤال عن بلوغ الرسالة. وهو سؤال تقريع في ذلك المحشر، قال تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:65]
وسؤال المرسلين عن تبليغهم الرسالة سؤال إرهاب لأممهم، لأنهم إذا سمعوا شهادة رسلهم عليهم أيقنوا بأنهم مسوقون إلى العذاب، وقد تقدم ذلك في قوله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ} [النساء: 41] وقوله: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ} [المائدة: 109].
و {الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ} ، هم أمم الرسل، وعبر عنهم بالموصول لما تدل عليه الصلة من التعليل، فإن فائدة الإرسال هي إجابة الرسل، فلا جرم أن يسأل عن ذلك المرسل إليهم، ولما كان المقصود الأهم من السؤال هو الأمم، لإقامة الحجة عليهم في استحقاق العقاب، قدم ذكرهم على ذكر الرسل، ولما تدل عليه صلة "الذي" وصلة "ال" من أن المسؤول عنه هو ما يتعلق بأمر الرسالة، وهو سؤال الفريقين عن وقوع التبليغ.
ولما دل على هذا المعنى التعبير: فـ {الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ} والتعبير: فـ {الْمُرْسَلِينَ} لم يحتج إلى ذكر جواب المسؤولين لظهور أنه إثبات التبليغ والبلاغ.
والفاء في قوله: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ} للتفريع والترتيب على قوله: {فَلَنَسْأَلَنَّ} ، أي لنسألنهم ثم نخبرهم بتفصيل ما أجمله جوابهم، أي فلنقصن عليهم تفاصيل أحوالهم، أي فعلمنا غني عن جوابهم ولكن السؤال لغرض آخر.

وقد دل على إرادة التفصيل تنكير علم في قوله: {يَعْلَمُ} أي علم عظيم، فإن تنوين "علم" للتعظيم، وكمال العلم إنما يظهر في العلم بالأمور الكثيرة، وزاد ذلك بيانا قوله: {وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} الذي هو بمعنى: لا يعزب عن علمنا شيء بغيب عنا ونغيب عنه.
والقص: الإخبار، يقال: قص عليه، بمعنى أخبره، وتقدم في قوله تعالى: {يَقُصُّ الْحَقَّ} في سورة الأنعام [57].
وجملة: {وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} معطوفة على {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ} ، وهي في موقع التذييل.
والغائب ضد الحاضر، وهو هنا كناية عن الجاهل، لأن الغيبة تستلزم الجهالة عرفا، أي الجهالة بأحوال المغيب عنه، فإنها ولو بلغته بالأخبار لا تكون تامة عنده مثل المشاهد، أي: وما كنا جاهلين بشيء من أحوالهم، لأننا مطلعون عليهم، وهذا النفي للغيبة مثل إثبات المعية في قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4].
وإثبات سؤال الأمم هنا لا ينافي نفيه في قوله تعالى: {وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص: 78] وقوله {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:39] لأن المسؤول عنه هنا هو التبليغ والمنفي في الآيتين الأخريين هو السؤال لمعرفة تفاصيل ذنوبهم، وهو الذي أريد هنا في قوله: {وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} .
[9,8] {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَظْلِمُونَ}.
عطفت جملة: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} على جملة {فَلَنَقُصَّنَّ} [لأعراف: 7]، لما تضمنته المعطوف عليها من العلم بحسنات الناس وسيئاتهم، فلا جرم أشعرت بأن مظهر ذلك العلم وأثره هو الثواب والعقاب، وتفاوت درجات العاملين ودركاتهم تفاوتا لا يظلم العامل فيه مثقال ذرة، ولا يفوت ما يستحقه إلا أن يتفضل الله على أحد برفع درجة أو مغفرة زلة لأجل سلامة قلب أو شفاعة أو نحو ذلك، مما الله أعلم به من عباده، فلذلك عقبت جملة: {فَلَنَقُصَّنَّ} [لأعراف: 7] بجملة: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} فكأنه قيل: فلنقصن عليهم بعلم ولنجازينهم على أعمالهم جزاء لا غبن فيه على أحد.
والتنوين في قوله: {يَوْمَئِذٍ} عوض عن مضاف إليه دل عليه: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ

إِلَيْهِمْ} [الأعراف: 6] وما عطف عليه بالواو وبالفاء، والتقدير: سوم إذ نسألهم ونسأل رسلهم ونقص ذنوبهم عليهم.
والوزن حقيقته معادلة جسم بآخر لمعرفة ثقل أحد الجسمين أو كليهما في تعادلهما أو تفاوتهما في المقدار، وإذ قد كان تساوي الجسمين الموزونين نادر الحصول تعين جعلت أجسام أخرى يعرف بها مقدار التفاوت، فلا بد من آلة توضع فيها الأشياء، وتسمى الميزان ولها أشكال مختلفة شكلا واتساعا.
والأجسام التي تجعل لتعيين المقادير تسمى موازين، وأحدها ميزان أيضا وتسمى أوزانا وأحدها وزن، ويطلق الوزن على معرفة مقدار حال في فضل ونحوه قال تعالى: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} [الكهف: 105] وفي حديث أبي هريرة، في الصحيحين: "إنه ليؤتى بالعظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة" . ويستعار استعارة تمثيلية للتدبير في أحوال، كقول الراعي:
وزنت أمية أمرها فدعت له ... من لم يكن غمرا ولا مجهولا
فالوزن في هذه الآية يراد به تعيين مقادير ما تستحقه الأعمال من الثواب والعقاب تعيينا لا إجحاف فيه، كتعيين الميزان على حسب ما عين الله من ثواب أو عقاب على الأعمال، وذلك مما يعلمه الله تعالى: ككون العمل الصالح لله وكونه رياء، وككون الجهاد لإعلاء كلمة الله أو كونه لمجرد الطمع في الغنيمة، فيكون الجزاء على قدر العمل، فالوزن استعارة، ويجوز أن يراد به الحقيقية فقد قيل توضع الصحائف التي كتبتها الملائكة للأعمال في شئ خلقه الله ليجعله الله يوم القيامة، ينطق أو يتكيف بكيفية فيدل على مقادير الأعمال لأربابها، وذلك ممكن، وقد وردت أخبار في صفة هذا الميزان لم يصح شئ منها.
والعبارات في مثل هذا المقام قاصرة عن وصف الواقعات، لأنها من خوارق المتعارف، فلا تعدو العبارات فيها تقريب الحقائق وتمثيلها بأقصى ما تعارفه أهل اللغة، فما جاء منها بصيغة المصدر غير متعلق بفعل يقتضي آلة فحمله على المجاز المشهور كقوله تعالى: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} . وما جاء منها على صيغة السماء فهو محتمل مثل ما هنا لقوله: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} الخ ومثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: "كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان" وما تعلق بفعل مقتض آلة فحمله على التمثيل أو على مخلوق من أمور الآخرة مثل قوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ}

[الانبياء: 47]. وقد ورد في السنة ذكر الميزان في حديث البطاقة التي فيها كلمة شهادة الإسلام، عند الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم لأنس بن مالك: فاطلبني عند الميزان خرجه الترمذي.
وقد اختلف السلف في وجود مخلوق يبين مقدار الجزاء من العمل يسمى بالميزان توزن فيه الأعمال حقيقة، فاثبت ذلك الجمهور ونفاه جماعة منهم الضحاك ومجاهد والأعمش، وقالوا: هو القضاء السوي، وقد تبع اختلافهم المتأخرون فذهب جمهور الأشاعرة وبعض المعتزلة إلى تفسير الجمهور، وذهب بعض الأشاعرة المتأخرين وجمهور المعتزلة إلى ما ذهب إليه مجاهد والضحاك والأعمش، والأمر هين، والاستدلال ليس ببين والمقصود المعنى وليس المقصود آلته.
والإخبار عن الوزن بقوله: {الْحَقُّ} أن كان الوزن مجازا عن تعيين مقادير الجزاء فالحق بمعنى العدل، أي الجزاء عادل غير جائز، لأنه من أنواع القضاء والحكم، وإن كان الوزن تمثيلا بهيئة الميزان، فالعدل بمعنى السوي، أي والوزن يومئذ مساو للأعمال لا يرجح ولا يجحف.
وعلى الوجهين فالإخبار عنه بالمصدر مبالغة عي كونه محقا.
وتفرع على كونه الحق قوله: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ، فهو تفصيل للوزن ببيان أثره على قدر الموزون. ومحل التفريع هو قوله: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وقوله: {فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} إذ ذلك مفرع على قوله: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} : {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} .
وثقل الميزان في المعنى الحقيقي رجحان الميزان بالشيء الموزون، وهو هنا مستعار لاعتبار الأعمال الصالحة غالبة ووافرة، أي من ثقلت موزاينه الصالحات، وإنما لم يذكر ما ثقلت به الموازين لأنه معلوم من اعتبار الوزن، لأن متعارف الناس أنهم يزنون الأشياء المرغوب في شرائها المتنافس في ضبط مقاديرها والتي يتغابن الناس فيها.
والثقل مع تلك الاستعارة هو أيضا ترشيح لاستعارة الوزن للجزاء، ثم الخفة مستعارة لعدم الأعمال الصالحة أخذا بغاية الخفة على وزان عكس الثقل، وهي أيضا ترشيح ثان لاستعارة الميزان، والمراد هنا الخفة الشديدة وهي انعدام الأعمال الصالحة لقوله: {بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَظْلِمُونَ} والفلاح حصول الخير وإدراك المطلوب.

والتعريف في {الْمُفْلِحُونَ} للجنس أو العهد وقد تقدم في قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} في سورة البقرة [5].
وما صدق "من" واحد لقوله: {مَوَازِينُهُ} ، وإذ قد كان هذا الواحد غير معين، بل هو كل من تحقق فيه مضمون جملة الشرط، فهو عام صح اعتباره جماعة في الإشارة والضميرين من قوله: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .
والإتيان بالإشارة للتنبيه على أنهم إنما حصلوا الفلاح لأجل ثقل موازينهم، واختير اسم إشارة البعد تنبيها على البعد المعنوي الاعتباري.
وضمير الفصل لقصد الانحصار أي هم الذين انحصر فيهم تحقق المفلحين، أي إن علمت جماعة تعرف بالمفلحين فهم هم.
والخسران حقيقته ضد الربح، وهو عدم تحصيل التاجر على ما يستفضله من بيعه، ويستعار لفقدان نفع ما يرجى منه النفع، فمعنى {خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} فقدوا فوائدها، فإن كل أحد يرجو من مواهبه، وهي مجموع نفسه، أن تجلب له النفع وتدفع عنه الضر: بالرأي السديد، وابتكار العمل المفيد، ونفوس المشركين قد سولت لهم أعمالا كانت سبب خفة موازين أعمالهم، أي سبب فقد الأعمال الصالحة منهم، فكانت نفوسهم كرأس مال التاجر الذي رجا منه زيادة الرزق فأضاعه كله فهو خاسر له، فكذلك هؤلاء خسروا أنفسهم إذ أوقعتهم في العذاب المقيم، وانظر ما تقدم في قوله تعالى: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} في سورة الأنعام [20]. وقوله تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} في سورة البقرة [16].
والباء في قوله: {بِمَا كَانُوا} باء السببية، وما مصدرية أي بكونهم ظلموا بآياتنا في الدنيا، فصيغة المضارع في قوله {يَظْلِمُونَ} لحكاية حالهم في تجدد الظلم فيما مضى كقوله تعالى: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ} [فاطر: 9].
والظلم هنا ضد العدل: أي يظلمون الآيات فلا ينصفونها حقها من الصدق. وضمن {يَظْلِمُونَ} معنى يكذبون، فلذلك عدي بالباء، فكأنه قيل: بما كانوا يظلمون فيكذبون بآياتنا على حد قوله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل: 14].
وإنما جعل تكذيبهم ظلما لأنه تكذيب ما قامت الأدلة على صدقة فتكذيبه ظلم للأدلة

بدحضها وعدم إعمالها.
وتقديم المجرور في قوله: {بِآيَاتِنَا} على عامله، وهو {يَظْلِمُونَ} ، للاهتمام بالآيات. وقد ذكرت الآية حال المؤمنين الصالحين وحال المكذبين المشركين إذ كان الناس يوم نزول الآية فريقين: فريق المؤمنين، وهم كلهم عاملون بالصالحات، مستكثرون منها، وفريق المشركين وهم أخلياء من الصالحات، وبقي بين ذلك فريق من المؤمنين الذين يخلطون عملا صالحا وآخر سيئا، وذلك لم تتعرض له هذه الآية، إذ ليس من غرض المقام، وتعرضت له آيات أخرى.
[10] {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ }.
عطف على جملة: {وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 3] فهذا تذكير لهم بأن الله هو ولي الخلق، لأنه خالقهم على وجه الأرض، وخالق ما به عيشهم الذي به بقاء وجودهم إلى أجل معلوم، وتوبيخ على قله شكرها، كما دل عليه تذييل الجملة بقوله: {قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} فإن النفوس التي لا يزجرها التهديد قد تنفعها الذكريات الصالحة، وقد قال أحد الخوارج وطلب منه أن يخرج إلى قتال الحجاج بن يوسف وكان قد أسدى إليه نعما:
أأقاتل الحجاج عن سلطانه ... بيد تقر بأنها مولاته
وتأكيد الخبر بلام القسم وقد، المفيد للتحقيق، تنزيل للذين هم المقصود من الخطاب منزلة من ينكر مضمون الخبر لأنهم لما عبدوا غير الله كان حالهم كحال من ينكر أن الله هو الذي مكنهم من الأرض، أو كحال من ينكر وقوع التمكين من أصله.
والتمكين جعل الشيء في مكان، وهو يطلق على الأقدار على التصرف، على سبيل الكناية، وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى: {مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ} في سورة الأنعام [6] وهو مستعمل هنا في معناه الكنائي لا الصريح، أي جعلنا لكم قدرة، أي أقدرناكم على أمور الأرض وخولناكم التصرف في نخلوقاتها، وذلك بما أودع الله في البشر من قوة العقل والتفكير التي أهلته لسيادة هذا العالم والتغلب على مصاعبه، وليس المراد من التمكين هنا القوة والحكم كالمراد في وقله تعالى: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ} [الكهف: 84] لأن ذلك ليس حاصلا بجميع البشر إلا على تأويل، وليس المراد بالتمكين أيضا معناه الحقيقي وهو جعل المكان في الأرض لأن قوله: {فِي الأَرْضِ} يمنع من

ذلك، لأنه لو كان كذلك لقال ولقد مكناكم الأرض، وقد قال تعالى عن عاد: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ} [الاحقاف: 26] أي جعلنا ما أقررناهم عليه أعظم مما أقدرناكم عليه، أي في آثارهم في الأرض أما أصل القرار في الأرض فهو صراط بينهما.
ومعايش جمع معيشة، وهي ما يعيش به الحي من الطعام والشراب، مشتقة من العيش وهو الحياة، وأصل المعيشة اسم مصدر عاش قال تعالى: {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه: 124] سمي به الشيء الذي به العيش، تسمية للشيء باسم سببه على طريقة المجاز الذي غلب حتى صار مساويا للحقيقة.
وياء "مَعَايِشَ" أصل في الكلمة لأنها عين الكلمة من المصدر عيش فوزن معيشة مفعلة ومعايش مفاعل. فحقها أن ينطق بها في الجمع ياء وأن لا تقلب همزة. لأن استعمال العرب في حرف المد الذي في المفرد أنهم إذا جمعوه جمعا بألف زائدة ردوه إلى أصله واوا أو ياء بعد ألف الجمع، مثل: مفازة ومفاوز، فيما أصله واو من الفوز، ومعيبة ومعايب فيما أصله الياء، فإذا كان حرف المد في المفرد غير أصلي فإنهم إذا جمعوه جمعا بألف زائدة فلبوا حرف المد همزة نحو قلادة وقلائد، وعجوز وعجائز، وصحيفة وصحائف، وهذا الاستعمال من لطائف التفرقة بين حرف المد الأصلي والمد الزائد واتفق القراء على قراءته بالياء، وروى خارجة بن مصعب، وحميد بن عمير، عن نافع أنه قرأ: معائش بهمز بعد الألف، وهي رواية شاذة عنه لا يعبأ بها، وقرئ في الشاذ: فالهمز، رواه عن الأعرج، وفي الكشاف نسبة هذه القراءة إلى ابن عامر وهو سهو من الزمخشري.
وقوله: {قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} هو كقوله في أول السورة {قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 3] ونظائره.
والخطاب للمشركين خاصة، لأنهم الذين قل شكرهم لله تعالى إذ اتخذوا معه آلهة.
ووصف قليل يستعمل في معنى المعدوم كما تقدم آنفا في أول السورة، ويجوز أن يكون على حقيقته أي إن شكركم الله قليل، لأنهم لما عرفوا أنه ربهم فقد شكروه، ولكن أكثر أحوالهم هو الإعراض عن شكره والإقبال على عبادة الأصنام وما يتبعها، ويجوز أن تكون القلة كناية عن العدم على طريقة الكلام المقتصد استنزالا لتذكرهم.
وانتصب "قليلا" على الحال من ضمير المخاطبين و"ما" مصدرية، والمصدر المؤول

في محل الفاعل بقليلا فهي حال سببية.
وفي التعقيب بهذه الآية لآية: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} [الأعراف: 4] إيماء إلى إن إهمال شكر النعمة يعرض صاحبها لزوالها، وهو ما دل عليه قوله: {أَهْلَكْنَاهَا} .
[13,11] {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِين}.
عطف على جملة: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ} [الأعراف: 10] تذكيرا بنعمة إيجاد النوع، وهي نعمة عناية، لأن الوجود أشرف من العدم، بقطع النظر عما قد يعرض للموجود من الأكدار والمتاعب، وبنعمة تفضيله على النوع بأن أمر الملائكة بالسجود لأصله، وأدمج في هذا الامتنان تنبيه وإيقاظ إلى عداوة الشيطان لنوع الإنسان من القدم، ليكون ذلك تمهيدا للتحذير من وسوسه وتضليله، وإغراء بالإقلاع عما أوقع فيه الناس من الشرك والضلالة، وهو غرض السورة، وذلك عند قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 27] وما قلاه من الآيات، فلذلك كان هذا بمنزلة الاستدلال وسط في خلال الموعظة.
والخطاب للناس كلهم، والمقصود منه المشركون، لأنهم الغرض في هذه السورة.
وتأكيد الخبر باللام و قد للوجه الذي تقدم في قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ} ، وتعديه فعلي الخلق والتصوير إلى ضمير المخاطبين، لما كان على معنى خلق النوع الذي هم من أفراد تعين أن يكون المعنى: خلقنا أصلكم ثم صورنا، وهو آدم، كما أفصح عنه قوله: {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} .
والخلق الإيجاد وإبراز الشيء إلى الوجود، وهذا الإطلاق هو المراد منه عند إسناده إلى الله تعالى أو وصف الله به.
والتنوير جعل الشيء صورة، والصورة الشكل الذي يشكل به الجسم كما يشكل الطين بصورة نوع من الأنواع.
وعطفت جملة {صَوَّرْنَاكُمْ} بحرف "ثم" الدالة على تراخي رتبة التصوير عن رتبة

الخلق، لأن التصوير حالة كمال في الخلق بأن كان الإنسان على الصورة الإنسانية المتقنة حسنا وشرفا، بما فيها من مشاعر الإدراك والتدبير، سواء كان التصوير مقارنا للخلق كما في خلق آدم، أم كان بعد الخلق بمدة، كما في تصوير الأجنة من عظام ولحم وعصب وعروق ومشاعر، كقوله تعالى: {فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً} [المؤمنون: 14].
وتعدية فعلي "خلقنا" و"صورنا" إلى ضمير الخطاب ينتظم في سلك ما عاد إليه الضمير قبله في قوله: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ} [الأعراف: 10] الآية فالخطاب للناس كلهم توطئة لقوله فيما يأتي: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 27] والمقصود بالخصوص منه المشركون لأنهم الذين سول لهم الشيطان كفران هذه النعم لقوله تعالى عقب ذلك: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا} [الأعراف: 28] وقوله فيما تقدم: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [لأعراف:3].
وأما تعلق فعلى الخلق والتصوير بضمير المخاطبين فمراد منه أصل نوعهم الأول وهو آدم بقرينة تعقيبه بقوله: {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ} فنزل خلق أصل نوعهم منزلة خلق أفراد النوع الذين منهم المخاطبون لأن المقصود التذكير بنعمة الإيجاد ليشكروا موجدهم ونظيره قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة:11] أي حملنا أصولكم وهم الذين كانوا مع نوح وتناسل منهم الناس بعد الطوفان، لأن المقصود الامتنان على المخاطبين بإنجاء أصولهم الذين تناسلوا منهم، ويجوز أن يؤول فعلا الخلق والتصوير بمعنى إرادة حصول ذلك، كقوله تعالى، حكاية عن كلام الملائكة مع إبراهيم: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الذريات:35] أي أردنا إخراج من كان فيها، فإن هذا الكلام وقع قبل أمر لوط ومن آمن به بالخروج من القرية.
ودل قوله: {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} على أن المخلوق والمصور هو آدم، ومعنى الكلام خلقنا أصلكم وصورناه فبز موجودا معينا مسمى بآدم، فإن التسمية طريق لتعين المسمى، ثم أظهرنا فضله وبديع صنعنا فيه فقلنا للملائكة اسجدوا له فوقع إيجاز بديع في نسج الكلام.
و"ثم" في قوله: {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} عاطفة الجملة على الجملة فهي مقيدة للتراخي الرتبي لا للتراخي الزماني وذلك أن مضمون الجملة المعطوفة هنا أرقى رتبة

من مضمون الجملة المعطوف عليها.
وقوله: {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ} ، تقدم تفسيره، وبيان ما تقدم أمر الله الملائكة بالسجود لآدم، من ظهور فضل ما علمه الله من الأسماء ما لم يعلمه الملائكة، عند قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ} في سورة البقرة [34].
وتعريف {الْمَلائِكَةِ} للجنس فلا يلزم أن يكون الأمر عاما لجميع الملائكة، بل يجوز أن يكون المأمورون هم الملائكة، الذين كانوا في المكان الذي خلق فيه آدم، ونقل ذلك عن ابن عباس، ويحتمل الاستغراق لجميع الملائكة. وطريق أمرهم جميعا وسجودهم جميعا لآدم لا يعلمه إلا الله، لأن طرق علمهم بمراد الله عنهم في العالم العلوي لا تقاس على المألوف في عالم الأرض.
واعلم أن أمر الله الملائكة بالسجود لآدم لا يقتضي أن يكون آدم قد خلق في العالم الذي فيه الملائكة بل ذلك محتمل، ويحتمل أن الله لما خلق آدم حشر الملائكة، وأطلعهم على هذا الخلق العجيب، فإن الملائكة ينتقلون من مكان إلى مكان فالآية ليست نصا في أن آدم خلق في السماوات ولا أنه في الجنة التي هي دار الثواب والعقاب، وإن كان ظاهرها يقتضي ذلك، وبهذا الظاهر أخذ جمهور أهل السنة، وتقدم ذلك في سورة البقرة. واستثناء إبليس من الساجدين في قوله: {إِلاَّ إِبْلِيسَ} يدل على أنه كان في عداد الملائكة لأنه كان مختلطا بهم. وقال السكاكي في المفتاح عد إبليس من الملائكة بحكم التغليب.
وجملة: {لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} حال من "إبليس"، وهي حال مؤكدة لمضمون عاملها وهو ما دلت عليه الاستثناء، لما فيها من معنى: أستثني، لأن الاستثناء يقتضي ثبوت نقيض حكم المستثنى منه للمستثنى، وهو عين مدلول: {لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} فكانت الحال تأكيدا. وفي اختيار الإخبار عن نفس سجوده بجعله من غير الساجدين: إشارة إلى أنه انتفى عنه السجود انتفاء شديدا لأن قولك لم يكن فلان من المهتدين يفيد من النفي أشد مما يفيده قولك لم يكن مهتديا كما في قوله تعالى: {قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} في سورة الأنعام [56].
ففي الآية إشارة إلى أن الله تعالى خلق في نفس إبليس جملة تدفعه إلى العصيان عندما لا يوافق الأمر هواه، وجعل له هوى ورأيا، فكانت جبلته مخالفة لجبلة الملائكة.

وإنما استمر في عداد الملائكة لأنه لم يحدث من الأمر ما يخالف هواه، فلما حدث الأمر بالسجود ظهر خلق العصيان الكامن فيه، فكان قوله تعالى: {لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} إشارة إلى أنه لم يقدر له أن يكون من الطائفة الساجدين، أي انتفى سجوده انتفاء لإرجاء في حصوله بعد، وقد علم أنه أبى السجود إباء وذلك تمهيدا لحكاية السؤال والجواب في قوله: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} ابتداء المحاورة، لأن ترك إبليس السجود لآدم بمنزلة جواب عن قول الله: {اسْجُدُوا لِآدَمَ} ، فكان بحيث يتوجه إليه استفسار عن سبب تركه السجود، وضمير: {قَالَ} عائد إلى معلوم من المقام أي قال الله تعالى بقرينة قوله: {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ} ، وكان مقتضى الظاهر أن يقال: قلنا، فكان العدول إلى ضمير الغائب التفاتا، نكتته تحويل مقام الكلام، إذ كان المقام مقام أمر للملائكة ومن في زمرتهم فصار مقام توبيخ لإبليس خاصة.
و {مَا} للاستفهام، وهو استفهام ظاهره حقيقي، ومشوب بتوبيخ، والمقصود من الاستفهام إظهار مقصد إبليس للملائكة.
و {مَنَعَكَ} معناه صدك وكفك عن السجود فكان مقتضى الظاهر أن يقال: ما منعك أن تسجد لأنه إنما كف عن السجود لا عن نفي السجود فقد قال تعالى في الآية الأخرى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [صّ: 75]، فلذلك كان ذكر "لا" هنا على خلاف مقتضى الظاهر، فقيل هي مزيدة للتأكيد، ولا تفيد نفيا، لأن الحرف المزيد للتأكيد لا يفيد معنى غير التأكيد. و"لا" من جملة الحروف التي يؤكد بها الكلام كما في وقله تعالى: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد:1] وقوله: {لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الحديد: 29] أي ليعلم أهل الكتاب علما محققا. وقوله تعالى: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [الانبياء:95] أي ممنوع أنهم يرجعون منعا محققا، وهذا تأويل الكسائي، والفراء، والزجاج، والزمخشري، وفي توجيه معنى التأكيد إلى الفعل مع كون السجود غير واقع فلا ينبغي تأكيده خفاء لأن التوكيد تحقيق حصول الفعل المؤكد، فلا ينبغي التعويل على هذا التأويل.
وقيل "لا" نافية، ووجودها يؤذن بفعل مقدر دل عليه {مَنَعَكَ} لأن المانع من شيء يدعو لضده، فكأنه قيل: ما منعك أن تسجد فدعاك إلى أن لا تسجد، فإما أن يكون {مَنَعَكَ} مستعملا في معنى دعاك، على سبيل المجاز، و"لا" هي قرينة المجاز، وهذا تأويل السكاكي في المفتاح في فصل المجاز اللغوي، وقريب منه لعبد الجبار فيما نقله

الفخر عنه، وهو أحسن تأويلا، وإما أن يكون قد أريد الفعلان، فذكر أحدهما وحذف الآخر، وأشير إلى المحذوف بمتعلقة الصالح له فيكون من إيجاز الحذف، وهو اختيار الطبري ومن تبعه.
وانظر ما قلته عند قوله تعالى: {قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلاَّ تَتَّبِعَنِ} في سورة طه[92, 93].
وقوله {إِذْ أَمَرْتُكَ} ظرف لـ {تَسْجُدَ} وتعليق ضميره بالأمر يقتضي أن أمر الملائكة شامل له، إما لأنه صنف من الملائكة، فخلق الله إبليس أصلا للجن ليجعل منه صنفا متميزا عن بقية الملائكة بقبوله للمعصية، وهذا هو ظاهر القرآن، وإليه ذهب كثير من الفقهاء، وقد قال الله تعالى: {إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ} [الكهف: 50] الآية، وإما لأن الجن نوع آخر من المجردات، وإبليس أصل ذلك النوع، جعله الله في عداد الملائكة، فكان أمرهم شاملا له بناء على أن الملائكة خلقوا من النور وأن الجن خلقوا من النار. وفي صحيح مسلم، عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار وإلى هذا ذهب المعتولة وبعض الأشاعرة، وقد يكون المراد من النار نورا مخلوطا بالمادة، ويكون المراد بالنور نورا مجردا، فيكون الجن نوعا من جنس الملائكة أحط، كما كان الإنسان نوعا من جنس الحيوان أرقى.
وفصل: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} لوقوعه على طريقة المحاورات.
وبين مانعه من السجود بأنه رأى نفسه خيرا من آدم، فلم يمتثل لأمر الله تعالى إياه بالسجود لآدم، وهذا معصية صريحة، وقوله: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} مسوق مساق التعليل للامتناع ولذلك حذف منه اللام.
وجملة: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ} بيان لجملة: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} فلذلك فصلت، لأنها بمنزلة عطف البيان من المبين.
وحصل لإبليس العلم بكونه مخلوقا من نار، بإخبار من الملائكة الذين شهدوا خلقه، أو بإخبار من الله تعالى.
وكونه مخلوقا من النار ثابت قال تعالى: {خَلَقَ الأِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} [الرحمن: 14, 15] وإبليس من جنس الجن قال تعالى في سورة الكهف [50]: {فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} .

واستند في تفضيل نفسه إلى فضيلة العنصر الذي خلق منه على العنصر الذي خلق منه آدم.
والنار هي الحرارة البالغة لشدتها الالتهاب الكائنة في الأجسام المصهورة بأصل الخلقة، كالنار التي في الشمس، وإذا بلغت الحرارة الالتهاب عرضت النارية للجسم من معدن أو نبات أو تراب مثل النار الباقية في الرماد.
والنار أفضل من التراب لقوة تأثيرها وتسلطها على الأجسام التي تلاقيها، ولأنها تضيء، ولأنها زكية لا تلصق بها الأقذار، والتراب لا يشاركها في ذلك وقد اشتركا في أن كليهما تتكون منه الأجسام الحية كلها.
وأما النور الذي خلق منه الملك فهو أخلص من الشعاع الذي يبين من النار مجردا عن ما في النار من الأخلاط الجثمانية.
والطين التراب المختلط بالماء، والماء عنصر آخر تتوقف عليه الحياة الحيوانية مع النار والتراب، وظاهر القرآن في آيات هذه القصة كلها أن شرف النار على التراب مقرر، وأن إبليس أوخذ بعيان أمر الله عصيانا باتا، والله تعالى لما أمر الملائكة بالسجود لآدم قد علم استحقاق آدم ذلك بما أودع الله فيه من القوة التي قد تبلغ به إلى مبلغ الملائكة في الزكاء والتقديس، فأما إبليس فغره زكاء عنصره وذلك ليس كافيا في التفضيل وحده، ما لم يكن كيانه من ذلك العنصر مهيئا إياه لبلوغ الكمالات، لأن العبرة بكيفية التركيب واعتبار خصائص المادة المركب منها بعد التركيب، بحسب مقصد الخالق عند التركيب، ولا عبرة بحالة المادة المجردة، فالله تعالى ركب إبليس من عنصر النار على هيئة تجعله يستخدم آثار القوة العنصرية في الفساد والاندفاع إليه بالطبع دون نظر، بحسب خصائص المادة المركب هو منها، وركب آدم من عنصر التراب على هيئة تجعله يستخدم آثار القوة العنصرية في الخير والصلاح والاندفاع إلى ازدياد الكمال بمحض الاختيار والنظر، بحسب ما تسمح به خصائص المادة المركب هو منها، وكل ذلك منوط بحكمة قواهم العنصرية في الخيرات المحضة، والاندفاع إلى ذلك بالطبع دون اختيار ولا نظر، بحسب خصائص عنصرهم. ولذلك كان بلوغ الإنسان إلى الفضائل الملكية أعلى وأعجب، وكان مبلغه إلى الرذائل الشيطانية أحط وأسهل. ومن أجل ذلك خوطب بالتكليف.
ولأجل هذا المعنى أمر الله الملائكة بالسجود لآدم أصل النوع البشري لأنه سجود

اعتراف لله تعالى بمظهر قدرته العظيمة، وأمر إبليس بالسجود له كذلك، فأما الملائكة فامتثلوا أمر الله ولم يعلموا حكمته، وانتظروا البيان، كما حكى عنهم بقوله: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة:32] فجاءهم البيان مجملا بقوله: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30] ثم مفصلا بقصة قوله: { ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 31] إلى قوله {وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} . في سورة البقرة [33].
وقد عاقبه الله على عصيانه بإخراجه من المكان الذي كان فيه في اعتلاء وهو السماء. وأحل الملائكة فيه. وجعله مكانا مقدسا فاضلا على الأرض فإن ذلك كله بجعل آلهي بإفاضة الأنوار وملازمة الملائكة، فقال له: {فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا} .
والتعبير بالهبوط أما حقيقة إن كان المكان عاليا، وأما استعارة للبعد عن المكان المشرف. بتشبيه البعد عنه بالنزول من مكان مرتفع وقد تقدم ذلك في سورة البقرة.
والفاء في جملة: {فَاهْبِطْ} لترتيب الأمر بالهبوط على جواب إبليس، فهو من عطف كلام متكلم على كلام متكلم آخر، لأن الكلامين بمنزلة الكلام الواحد في مقام المحاورة، كالعطف الذي في قوله تعالى: {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [البقرة: 124].
والفاء دالة على أن أمره بالهبوط مسبب عن جوابه.
وضمير المؤنث المجرور بمن في قوله: {مِنْهَا} عائد على المعلوم بين المتكلم والمخاطب، وتأنيثه أما رعي لمعناه بتأويل البقعة، أو للفظ السماء لأنها مكان الملائكة، وقد تكرر في القرآن ذكر هذا الضمير بالتأنيث.
وقوله: {فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا} الفاء للسببية والتفريع تعليلا للأمر بالهبوط، وهو عقوبة خاصة عقوبة إبعاد عن المكان المقدس، لأنه قد صار خلقه غير ملائم لما جعل الله ذلك المكان له، وذلك خلق التكبر لأن المكان كان مكانا مقدسا فاضلا لا يكون إلا مطهرا من كل ما له وصف ينافيه وهذا مبدأ حاوله الحكماء الباحثون عن المدينة الفاضلة وقد قال مالك رحمه الله: لا تحدثوا بدعة في بلدنا. وهذه الآية أصل في ثبوت الحق لأهل المحلة أن يخرجوا من محلتهم من يخشى من سيرته فشو الفساد بينهم.

ودل قوله: {مَا يَكُونُ لَكَ} على أن ذلك الوصف لا يغتفر منه، لأن النفي بصيغة {مَا يَكُونُ لَكَ} كذا أشد من النفي بـ "ليس لك كذا" كما تقدم عند قوله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ} الآية في آل عمران [79]، وهو يستلزم هنا نهيا لأنه نفاه عنه مع وقوعه، وعليه فتقييد نفي التكبر عنه بالكون في السماء لوقوعه علة للعقوبة الخاصة وهي عقوبة الطرد من السماء، فلا دلالة لذلك القيد على أنه يكون له أن يتكبر في غيرها، وكيف وقد علم أن التكبر معصية لا تليق بأهل العالم العلوي.
وقوله: {فَاخْرُجْ} تأكيد لجملة {فَاهْبِطْ} بمرادفها، وأعيدت الفاء مع الجملة الثانية لزيادة تأكيد تسبب الكبر في إخراجه من الجنة.
وجملة: {إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} يجوز أن تكون مستأنفة استئنافا بيانيا، إذا كان المراد من الخبر الإخبار عن تكوين الصغار فيه بجعل الله تعالى إياه صاغرا حقيرا حيثما حل، ففصلها عن التي قبلها للاستئناف، ويجوز أن تكون واقعة موقع التعليل للإخراج على طريقة استعمال إن في مثل هذا المقام استعمال فاء التعليل، فهذا إذا كان المراد من الخبر إظهار ما فيه من الصغار والحقارة التي غفل عنها فذهبت به الغفلة عنها إلى التكبر.
وقوله: {إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} أشد في إثبات الصغار له من نحو: إنك صاغر، أو قد صغرت، كما تقدم في قوله تعالى: {قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} . في سورة الأنعام [56] وقوله آنفا: {لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} . والصاغر المتصف بالصغار وهو الذل والحقارة، وإنما يكون له الصغار عند الله لأن جبلته صارت على غير ما يرضي الله، وهو صغار الغواية، ولذلك قال بعد هذا: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي} [لأعراف: 16].
[15,14] {قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ}.
لما كون الله فيه الصغار والحقاري بعد عزة الملكية وشرفها انقلبت مرامي همته إلى التعلق بالسفاسف إذا ما لم تكن إبل فمعزى فسأل النظرة بطول الحياة إلى يوم البعث، إذ كان يعلم قبل ذلك أنه من الحوادث الباقية لأنه من أهل العالم الباقي، فلما أهبط إلى العالم الأرضي ظن أنه صائر إلى العدم فلذلك سأل النظرة إبقاء لما كان له من قبل، وإذ قد كان ذلك بتقدير الله تعالى وعلمه، وبدر من إبليس طلب النظرة، قال الله تعالى: {إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ} أي أنك من المخلوقات الباقية.
وقد أفاد التأكيد بإن والإخبار بصيغة {مِنَ الْمُنْظَرِينَ} : أن إنظاره أمر قد قضاه الله

وقدره من قبل سؤاله، أي تحقق كونك من الفريق الذين انظروا إلى يوم البعث، أي أن الله خلق خلقا وقدر بقاءهم إلى يوم البعث، فكشف لإبليس أنه بعض من جملة المنظرين من قبل حدوث المعصية منه، وإن الله ليس بمغير ما قدره له، فجواب الله تعالى لإبليس إخبار عن أمر تحقق، وليس إجابة لطلبة إبليس، لأنه أهون على الله من أن يجيب له طلبا، وهذه هي النكتة في العدول عن أن يكون الجواب: أنظرتك أو أجبت لك مما يدل على تكرمة باستجابة طلبه، ولكنه أعلمه أن ما سأله أمر حاصل فسؤاله تحصيل حاصل.
[17,16] {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}.
الفاء للترتيب والتسبب على قوله: {إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} [لأعراف: 13] - ثم قوله - إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ} [لأعراف: 15].
فقد دل مضمون ذينك الكلامين أن الله خلق في نفس إبليس مقدرة على إغواء الناس بقوله: {إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} وإنه جعله باقيا متصرفا بقواه الشريرة إلى يوم البعث، فأحس إبليس أنه سيكون داعية إلى الضلال والكفر، بجبلة قلبه الله إليها قلبا وهو من المسخ النفساني، وإنه فاعل ذلك لا محالة مع علمه بأن ما يصدر عنه هو ضلال وفساد، فصدور ذلك منه كصدور النهش من الحية، وكتحرك الأجفان عند مرور شيء على العين، وإن كان صاحب العين لا يريد تحريكهما.
والباء في قوله: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي} سببية وهي ظرف مستقر واقع موقع الحال من فاعل {لأَقْعُدَنَّ} ، أي أقسم لأقعدن لهم حال كون ذلك مني بسبب إغوائك إياي. واللام في {لأَقْعُدَنَّ} لم القسم: قصد تأكيد حصول ذلك وتحقيق العزم عليه.
وقدم المجرور على عامله لإفادة معنى التعليل، وهو قريب من الشرط فلذلك استحق التقديم فإن المجرور إذا قدم قد يفيد معنى قريبا من الشرطية، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: كما تكونوا يولى عليكم في رواية جزم تكونوا مع عدم معاملة عامله معاملة جواب الشرط بعلامة الجزم فلم يرو"يولى" إلا بالألف في آخره على عدم اعتبار الجزم. وذلك يحصل من الاهتمام بالمتعلق، إذ كان هو السبب في حصول المتعلق به، فالتقديم للاهتمام، ولذلك لم يكن هذا التقديم منافسا لتصدير لام القسم في جملتها، على أنا لا نلتزم ذلك فقد خولف في كثير من كلام العرب. وما مصدرية والقعود كناية عن الملازمة

كما في وقل النابغة:
قعودا لدى أبياتهم يثمدونهم ... رمى الله في تلك الأكف الكوانع
أي ملازمين أبياتا لغيرهم يرد الجلوس، إذ قد يكونون يسألون واقفين، وماشين، ووجه الكناية هو أن ملازمة المكان تستلزم الإعياء من الوقوف عنده، فيقعد الملازم طلبا للراحة، ومن ثم أطلق على المستجير اسم القعيد، ومن إطلاق القعيد على الملازم قوله تعالى: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} [قّ:17] أي ملازم إذ الملك لا يوصف بقعود ولا قيام.
ولما ضمن فعل: {لَأَقْعُدَنَّ} معنى الملازمة انتصب {صِرَاطَكَ} على المفعولية. أو على تقدير فعل تضمنه معنى لأقعدن تقديره: فامنعن صراطك أو فأقطعن عنهم صراطك، واللام في لهم للأجل كقوله: {وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة: 5].
وإضافة الصراط إلى اسم الجلالة على تقدير اللام أي الصراط الذي هو لك أي الذي جعلته طريقا لك، والطريق لله هو العمل الذي يحصل به ما يرضي الله بامتثال أمره، وهو فعل الخيرات، وترك السيئات، فالكلام تحصيل هيئة العازمين على فعل الخير، وعزمهم عليه، وتعرض الشيطان لهم بالمنع من فعله، بهيئة الساعي في طريق إلى مقصد ينفعه وسعيه إذا اعترضه في طريقه قاطع طريق منعه من المرور فيه.
والضمير في {لَهُمْ} ضمير الإنس الذين دل عليهم مقام المحاورة، التي اختصرت هنا اختصارا دعا إليه الاقتصار على المقصود منها، وهو الامتنان بنعمة الخلق، والتحذير من كيد عدو الجنس، فتفضيل المحاورة مشعر بأن الله لما خلق آدم خاطب أهل الملأ الأعلى بأنه خلقه ليعمر به وبنسله الأرض، كما أنبأ بذلك قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]، فالأرض مخلوقة يومئذ، وخلق الله آدم ليعمرها بذريته وعلم إبليس ذلك من إخبار الله تعالى الملائكة، فحكى الله من كلامه ما به الحاجة هنا: وهو قوله {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} الآية وقد دلت آية سورة الحجر على أن إبليس ذكر في محاورته ما دل على أنه يريد إغواء أهل الأرض في قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر: 39, 40] فإن كان آدم قد خلق في الجنة في السماء ثم أهبط إلى الأرض فإن علم إبليس بأن آدم يصير إلى الأرض قد حصل من إخبار الله تعالى بأن يجعل في الأرض خليفة, فعلم أنه صائر إلى الأرض بعد حين وإن كان آدم قد خلق في الجنة

من جنات الأرض فالأمر ظاهر، وتقدم ذلك في سورة البقرة.
وهذا الكلام يدل على أن إبليس علم أن الله خلق البشر للصلاح والنفع، وأنه أودع فيهم معرفة الكمال، وأعانهم على بلوغه بالإرشاد، فلذلك سميت أعمال الخير، في حكاية كلام إبليس، صراطا مستقيما، وإضافة إلى ضمير الجلالة، لأن الله دعا إليه وارد من الناس سلوكه، ولذلك أيضا ألزم {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} .
وبهذا الاعتبار كان إبليس عدوا لبني آدم، لأنه يطلب منهم ما لم يخلقوا لأجله وما هو مناف للفطرة التي فطر الله عليها البشر، فالعداوة متأصلة وجبلية بين طبع الشيطان وفطرة الإنسان السالمة من التغيير، وذلك ما أفصح عنه الجعل الإلهي المشار إليه بقوله: {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [البقرة: 36]، وبه سيتضح كيف انقلبت العداوة ولاية بين الشياطين وبين البشر الذين استحبوا الضلال والكفر على الإيمان والصلاح.
وجملة: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ} ثم فيها للترتيب الرتبي، وهو التدرج في الأخبار إلى خبر أهم لأن مضمون الجملة المعطوفة أوقع في غرض الكلام من مضمون الجملة المعطوف عليها، لأن الجملة الأولى أفادت الترصد للبشر بالإغواء، والجملة المعطوفة أفادت التهجم عليهم بشتى الوسائل.
وكما ضرب المثل لهيئة الحرص على الإغواء بالقعود على الطريق، وكذلك مثلت هيئة التوسل إلى الإغواء بكل وسيلة بهيئة الباحث الحريص على أخذ العدو إذ يأتيه من كل جهة حتى يصادف الجهة التي يتمكن فيها من أخذه، فهو يأتيه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله حتى تخور قوة مدافعته، فالكلام تمثيل، وليس للشيطان مسلك للإنسان إلا من نفسه وعقله بإلقاء الوسوسة في نفسه، وليست الجهات الأربع المذكورة في الآية بحقيقة، ولكنها مجاز تمثيلي بما هو متعارف في محاولة الناس ومخاتلتهم، ولذلك لم يذكر في الآية الإتيان من فوقهم ومن تحتهم إذ ليس ذلك من شأن الناس في المخاتلة وإلا المهاجمة.
وعلق {بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} و {خَلْفِهِمْ} بحرف "من" وعلق {أَيْمَانِهِمْ} و {شَمَائِلِهِمْ} بحرف عن جريا على ما هو شائع في لسان العرب في تعدية الأفعال إلى أسماء الجهات، وأصل "عن" في قولهم عن يمينه وعن شماله المجاوزة: أي من جهة يمينه مجاوزا له ومجافيا له، ثم شاع ذلك حتى صارت عن بمعنى على، فكما يقولون: جلس على يمينه

يقولون: جلس عن يمينه، وكذلك من في قولهم من بين يديه أصلها الابتداء يقال: أتاه من بين يديه، أي من المكان المواجه له، ثم شاع ذلك حتى صارت "من" بمنزلة الحرف الزائد يجر بها الظرف فلذلك جرت بها الظروف الملازمة للظرفية مثل عند، لأن وجود "من" كالعدم، وقد قال الحريري في المقامة النحوية ما منصوب على الظرف لا يخفضه سوى حرف: فهي هنا زائدة ويجوز اعتبارها ابتدائية.
والأيمان جمع يمين، واليمين هنا جانب من جسم الإنسان يكون من جهة القطب الجنوبي إذا استقبل المرء مشرق الشمس، تعارفه الناس، فشاعت معرفته ولا يشعرون بتطبيق الضابط الذي ذكرناه، فاليمين جهة يتعرف بها مواقع الأعضاء من البدن يقال العين اليمنى واليد اليمنى ونحو ذلك. وتتعرف بها مواقع من غيرها قال تعالى: {قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} [الصافات:28] وقال امرؤ القيس:
على قطن بالشيم أيمن صوبه
لذلك قال أئمة اللغة سميت بلاد اليمن يمنا لأنه عن يمين الكعبة، فاعتبروا الكعبة كشخص مستقبل مشرق الشمس فاركن اليماني منها وهو زاوية الجدار الذي فيه الحجر الأسود باعتبار اليد اليمنى من الإنسان، ولا يدرى أصل اشتقاق كلمة "يمين"، ولا أن اليمن أصل لها أو فرع عنها، والأيمان جمع قياسي.
والشمائل جمع شمال وهي الجهة التي تكون شمالا لمستقبل مشرق الشمس، وهو جمع على غير قياس.
وقوله: {وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} زيادة في بيان قوة إضلاله بحيث لا يفلت من الوقوع في حبائله إلا القليل من الناس، وقد علم ذلك بعلم الحدس وترتيب المسببات.
وكني بنفي الشكر عن الكفر إذ لا واسطة بينهما كما قال تعالى: {وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152] ووجه هذه الكناية، إن كانت محكية كما صدرت من كلام إبليس، إنه أراد الأدب مع الله تعالى فلم يصرح بين يديه بكفر أتباعه القاضي أنه يأمرهم بالكفر، وإن كانت من كلام الله تعالى ففيها تنبيه على أن المشركين بالله قد أتوا أمرا شنيعا إذ لم يشكروا نعمه الجمة عليهم.
[18] {قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ}.

أعاد الله أمره بالخروج من السماء تأكيدا للأمرين الأول والثاني: قال: {اهْبِطْ مِنْهَا} إلى قوله {فَاخْرُجْ} [الأعراف: 13].
ومذموم اسم مفعول من ذامه مهموزا إذا عابه وذمه ذاما وقد تسهل همزة ذام فتصير ألفا فيقال ذام ولا تسهل في بقية تصاريفه.
مدحور مفعول من دحره إذا أبعده وأقصاه، أي: أخرج خروج مذموم مطرود، فالذم لما اتصف به من الرذائل، والطرد لتنزيه عالم القدس عن مخالطته.
واللام في {لَمَنْ تَبِعَكَ} موطئة للقسم.
و من شرطية، واللام في لأملأن لام جواب القسم، والجواب ساد مسد جواب الشرط، والتقدير: أقسم من تبعك منهم لأملأن جهنم منهم ومنك، وغلب في الضمير حال الخطاب لأن الفرد الموجود من هذا العموم هو المخاطب، وهو إبليس، ولأنه المقصود ابتداء من هذا الوعيد لأنه وعيد على فعله، وأما وعيد اتباعه فبالتبع له، بخلاف الضمير في آية الحجر[43] وهو قوله: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر:43] لأنه جاء بعد الإعراض عن وعيد بفعله والاهتمام ببيان مرتبة عباد الله المخلصين الذين ليس لإبليس عليهم سلطان ثم الاهتمام بوعيد الغاوين.
وهذا كقوله تعالى في سورة الحجر: [41-43] {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ} .
والتأكيد بـ {أَجْمَعِينَ} للتنصيص على العموم لئلا يحمل على التغليب، وذلك أن الكلام جرى على أمة بعنوان كونهم إتباعا لواحد، والعرب قد تجري العموم في مثل هذا على المجموع دون الجميع، كما يقولون: قتلت تميم فلانا، وإنما قتله بعضهم، قال النابغة في شأن بني حن بحاء مهملة مضمومة:
وهم قتلوا الطاءى بالجو عنوة
[19] {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ}.
الواو من قوله: {وَيَا آدَمُ} عاطفة على جملة: {اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً مَدْحُوراً} [الأعراف: 18] الآية، فهذه الواو من المحكي لا من الحكاية، فالنداء والأمر من جملة

المقول المحكي بقال: أي قال الله لإبليس اخرج منها وقال لآدم {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ} ، وهذا من عطف المتكلم بعض كلامه على بعض، إذا كان لبعض كلامه اتصال وتناسب مع بعضه الآخر، ولم يكن أحد الكلامين موجها إلى الذي وجه إليه الكلام الآخر، مع اتحاد مقام الكلام، كما يفعل المتكلم مع متعددين في مجلس واحد فيقبل على كل مخاطب منهم بكلام يخصه ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم فيقضيه الرجل والأنصاري الذي كان ابن الرجل عسيفا عليه: والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله عز وجل أما الغنم والجارية فرد عليك وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس على زوجة من كيدكن إن كيدكن عظيم يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك حكاية لكلام العزيز، أي العزيز عطف خطاب امرأته على خطابه ليوسف.
فليست الواو في قوله: {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ} بعاطفة على أفعال القول التي قبلها حتى يكون تقدير الكرم: وقلنا يا آدم اسكن، لأن ذلك يفيد النكت التي ذكرناها، وذلك في حضرة واحدة كان فيها آدم والملائكة وإبليس حضورا.
وفي توجيه الخطاب لآدم بهذه الفضيلة بحضور إبليس بعد طرده زيادة إهانة، لأن إعطاء النعم لمرضي عليه في حين عقاب من استأهل العقاب زيادة حسرة على المعاقب، وإظهار للتفاوت بين مستحق الأنعام ومستحق العقوبة فلا يفيد الكلام من المعاني ما أفاده العطف على المقول المحكي، ولأنه لو أريد ذلك لأعيد فعل القول. ثم إن كان آدم خلق في الجنة، فكان مستقرا بها من قبل، فالأمر في قوله: {اسْكُنْ} إنما هو أمر تقرير: أي أبق في الجنة، وإن كان آدم قد خلق خارج الجنة فالأمر للإذن تكريما له، وأيا ما كان ففي هذا الأمر، بمسمع من إبليس، مقمعة لإبليس، لأنه إن كان إبليس مستقرا في الجنة من قبل فالقمع ظاهر إذ أطرده الله وأسكن الذي تكبر هو عن السجود إليه في المكان المشرف الذي كان له قبل تكبره، وإن لم يكن إبليس ساكنا في الجنة قبل فإكرام الذي احتقره وترفع عليه قمع له، فقد دل موقع هذا الكلام، في هذه السورة، على معنى عظيم من قمع إبليس، زائد على ما في آية سورة البقرة، وإن كانتا متماثلتين في اللفظ، ولكن هذا المعنى البديع استفيد من الموقع وهذا من بدائع إعجاز القرآن.
ووجد إيثار هذه الآية بهذه الخصوصية إن هذا الكلام مسوق إلى المشركين الذين اتخذوا الشيطان وليا من دون الله، فأما ما في سورة البقرة فإنه لموعظة بني إسرائيل، وهم

ممن يحذر الشيطان ولا يتبع خطواته.
والنداء للإقبال على آدم والتنويه بذكره في ذلك الملأ. والإتيان بالضمير المنفصل بعد الأمر، لقصد زيادة التنكيل بإبليس لأن ذكر ضميره في مقام العطف يذكر غيره بأنه ليس مثله، إذ الضمير وإن كان من قبيل اللقب وليس له مفهوم مخالفة فإنه قد يفيد الاحتراز عن غير صاحب الضمير بالقرينة على طريقة التعريض ولا يمنه من هذا الاعتبار في الضمير كون إظهاره لأجل تحسين أو تصحيح العطف على الضمير المرفوع المستتر، لأن تصحيح أو تحسين العطف يحصل بكل فاصل بين الفعل الرافع المستتر وبين المعطوف، لا خصوص الضمير، كأن يقال: ويا آدم اسكن الجنة وزوجك، فما اختير الفصل بالضمير المنفصل إلا لما يفيد من التعريض بغيره. وهذه نكتة فاتني العلم بها في آية سورة البقرة فضمها إليها أيضا.
والكلام على قوله: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} يعلم مما مضى من الكلام على نظيره من سورة البقرة.
سوى أن الذي وقع في سورة البقرة [35] {وَكُلا} بالواو وهنا بالفاء، والعطف بالواو أعم، فالآية هنا أفادت أن الله تعالى أذن آدم بأن يتمتع بثمار الجنة عقب أمره بسكنى الجنة. وتلك منة عاجلة تؤذن بتمام الإكرام، ولما كان ذلك حاصلا في تلك الحصرة، وكان فيه زيادة تنغيص لإبليس، الذي تكبر وفضل نفسه عليه، كان الحال مقتضيا إعلام السامعين به في المقام الذي حكي فيه الغضب على إبليس وطرده، وأما آية البقرة فإنما أفادت السامعين أن الله امتن على آدم بمنة سكنى الجنة والتمتع بثمارها، لأن المقام هنالك لتذكير بني إسرائيل بفضل آدم وبذنبه وتوبته، والتحذير من كيد الشيطان ذلك الكيد الذي هم واقعون في شيء منه عظيم.
على أن آية البقرة [35] لم تخل عن ذكر ما فيه تكرمه له وهو قوله: {رَغَداً} لأنه مدح للممتن به أو دعاء لآدم. فحصل من مجموع الآيتين عدة مكارم لآدم، وقد وزعت على عادة القرآن في توزيع أغراض القصص على مواقعها، ليحصل تجديد الفائدة، تنشيطا للسامع، وتفننا في أساليب الحكاية، لأن الغرض الأهم من القصص في القرآن إنما هو العبرة والموعظة والتأسي.
وقوله: {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} أشد في التحذير من أن ينهى عن الأكل منها، لأن النهي عن قربانها سد لذريعة الأكل منها وقد تقدم نظيره في سورة البقرة.

والنهي عن قربان شجرة خاصة من شجر الجنة: يحتمل أن يكون نهي ابتلاء، جعل الله شجرة مستثناة من شجر الجنة من الإذن بالأكل منها تهيئة للتكليف بمقاومة الشهوة لامتثال النهي. فلذلك جعل النهي عن تناولها محفوفة بالأشجار المأذون فيها ليلتفت إليها ذهنهما بتركها، وهذا هو الظاهر ليتكون مختلف القوى العقلية في عقل النوع بتأسيسها في أصل النوع، فتنتقل بعده إلى نسله. وذلك من اللطف الإلهي في تكوين النوع ومن مظاهر حقيقة الربوبية والمربوبية. حتى تحصل جميع القوى بالتدريج فلا يشق وضعها دفعة على قابلية العقل، وقد دلت الآيات على أن آدم لما ظهر منه خاطر المخالفة أكل من الشجرة المنهي عنها، فأعقبه الأكل حجوث خاطر الشعور بما فيه من نقائص أدركها بالفطرة، فمعناه أنه زالت منه البساطة والسذاجة. ويحتمل أن يكون ذلك لخصوصية في طبع تلك الشجرة أن تثير في النفس علم الخير والشر كما جاء في التوراة أن الله نهاه عن أكل شجرة معرفة الخير والشر، وهذا عندي بعيد، وإنما حكى الله لنا هيئة تطور العقل البشري في خلقة أصل النوع البشري نظير صنعه في قوله: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31].
والإشارة إلى شجرة مشاهدة وقد رويت روايات ضعيفة في تعيين نوعها وذلك مما تقدم في سورة البقرة.
وانتصب: {فَتَكُونَا} على جواب النهي، والكون من الظالمين متسبب على القرب المنهي عنه، لا على النهي، وذلك هو الأصل في النصب في جواب النهي كجواب النفي، أن يعتبر التسبب على الفعل المنفي أو المنهي، بخلاف الجزم في جواب النهي فإنه إنما يجزم المسبب على إنشاء النهي لا على الفعل المنهي، والفرق بينهما: أن النصب على اعتبار التسبب والتسبب ينشأ عن الفعل لا عن الإخبار والإنشاء، بخلاف الجزم، فإنه على اعتبار الجواب، تشبيها بالشرط، فاعتبر فيه معنى إنشاء النهي تشبيها للإنشاء بالاشتراط.
والمراد بـ {الظَّالِمِينَ} : الذين يحق عليهم وصف الظلم: إما لظلمهم أنفسهم وإلقائها في العواقب السيئة، وإما لاعتدائهم على حق غيرهم فإن العصيان ظلم لحق الرب الواجب طاعته.
[21,20] {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ}.

كانت وسوسة الشيطان بقرب نهي آدم عن الأكل من الشجرة، فعبر عن القرب بحرف التعقيب إشارة إلى أنه قرب قريب، لأن تعقيب كل شيء بحسبه.
والوسوسة الكلام الخفي الذي لا يسمعه إلا المداني للمتكلم، قال رؤبة يصف صائدا:
وسوس يدعو جاهدا رب الفلق ... سرا وقد أون تأوين العقق
وسمي إلقاء الشيطان وسوسة: لأنه ألقى إليهما تسويلا خفيا من كلام كلمهما أو انفعال في أنفسهما.كهيئة الغاش الماكر إذ يخفي كلاما عن الحاضرين كيلا يفسدوا عليه غشه بفضح مضاره فألاقي لهما كلاما في صورة التخافت ليوهمهما أنه ناصح لهما وأنه يخافت الكلام، وقد وقع في الآية الأخرى التعبير عن تسويل الشيطان بالقول: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} [طه:120] ثم درج اصطلاح القرآن وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم على تسمية إلقاء الشيطان في نفوس الناس خواطر فاسدة، وسوسة تقريبا لمعنى ذلك الإلقاء للإفهام كما في قوله: {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} [الناس:4] وهذا التفضيل لإلقاء الشيطان كيده انفردت به هذه الآية عن آية سورة البقرة لأن هذه خطاب شامل للمشركين وهم أخلياء عن العلم بذلك فناسب تفظيع أعمال الشيطان بمسمع منهم.
واللام في: {لِيُبْدِيَ} لام العاقبة إذا كان الشيطان لا يعلم أن العصيان يفضي بهما إلى حدوث خاطر الشر في النفوس وظهور السوآت، فشبه حصول الأثر عقب الفعل بحصول المعلول بعد العلة كقوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 8] وإنما التقطوه ليكون لهم قرة عين، وحسن ذلك أن بدو سوآتهما مما يرضي الشيطان. وبجوز أن تكون لام العلة الباعثة إذا كان الشيطان يعلم ذلك بالإلهام أو بالنظر، فالشيطان وسوس لآدم وزوجه لغرض إيقاعهما في المعصية ابتداء، لأن ذلك طبعه الذي جبل على عمله، ثم لغرض الإضرار بهما، إذ كان يسعى إلى ما يؤذيهما، ويحدسهما على رضى الله عنهما، ويعلم أن العصيان يفضي بهما إلى سوء الحال على الإجمال، فكان مظهر ذلك السوء إبداء السوآت، فجعل مفصل العلة المجملة عند الفاعل هو العلة، وإن لم تخطر بباله، ويحتمل أن يكون الشيطان قد علم ذلك بعلم حصل له من قبل. والحاصل أنه أراد الإضرار، لأنه قد استقر في طبعه عداوة البشر، كما سيصرح به فيما بعد، وفي قوله

تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} [فاطر: 6].
والإبداء ضد الإخفاء، فالإبداء كشف الشي وإظهاره، ويطلق مجازا على معرفة الشيء بعد جهله يقال بدالي أن أفعل كذا.
وأسند إبداء السوآت إلى الشيطان لأنه المتسبب فيه على طريقة المجاز العقلي، والسوآت جمع سوأة وهي اسم لما يسوء ويتعير به من النقائص، ومن سب العرب قولهم: سوأة لك، ومن تلهفهم: يا سوأتا. ويكنى بالسوأة عن العورة. ومعنى ووري عنهما حجب عنهما وأخفي، مشتقا من المواراة وهي التغطية والإخفاء وتطلق المواراة مجازا على صرف المرء عن علم شيء بالكتمان أو التلبيس.
والسوآت هنا يجوز أن تكون جمع السوأة للخصلة الذميمة كما في قول أبي زبيد:
لم يهب حرمة النديم وحقت ... يا لقومي للسوأة السوآء
فتكون صيغة الجمع على حقيقتها، والسوآت حينئذ مستعمل في صريحة، ويجوز أن تكون جمع السوأة، المكنى بها عن العورة، وقد روي تفسيرها بذلك عن ابن عباس كقوله تعالى: {قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ} [الأعراف: 26] وعلى هذا فصيغة الجمع مستعملة في الاثنين للتخفيف كقوله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4]. وسيجيء تحقيق معنى هذا الإبداء عند قوله تعالى بعد هذا: {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} [الأعراف: 22].
وعطف جملة: {وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا} على جملة: {فَوَسْوَسَ} يدل على أن الشيطان وسوس لهما وسوسة غير قوله: {مَا نَهَاكُمَا} الخ ثم ثنى وسوسته بأن قال ما نهاكما، ولو كانت جملة: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا} إلى آخرها بيانا لجملة: {فَوَسْوَسَ} لكانت جملة: {وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا} بدون عاطف، لأن البيان لا يعطف على المبين. وفي هذا العطف إشعار بأن آدم وزوجه ترددا في الأخذ بوسوسة الشيطان فأخذ الشيطان يراودهما. ألا ترى أنه لم يعطف قوله، في سورة طه: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} . فإن ذلك حكاية لابتداء وسوسته فابتدأ الوسوسة بالإجمال فلم يعين لآدم الشجرة المنهي عن الأكل منها استنزالا لطاعته، واستنزالا لقدمه، ثم أخذ في تأويل نهي الله إياهما عن الأكل منها فقال ما حكي عنه في سورة الأعراف: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ} الآية فأشار إلى

الشجرة بعد أن صارت معروفة لهما زيادة في إغرائهما بالمعصية بالأكل من الشجرة، فقد وزعت الوسوسة وتذييلها على الصورتين على عادة القرآن في الاختصار في سوق القصص اكتفاء بالمقصود من مغزى القصة لئلا يصير القصص مقصدا أصليا للتنزيل.
والإشارة بقوله: {عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ} إلى شجرة معينة قد تبين لآدم بعد أن وسوس إليه الشيطان أنها الشجرة التي نهاه الله عنها، فأراد إبليس إقدامه على المعصية وإزالة خوفه بإساءة ظنه في مراد الله تعالى من النهي.
والاستثناء في قوله: {إِلاَّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ} استثناء من علل. أي ما نهاكما لعلة وغرض إلا لغرض أن تكونا ملكين، فتعين تقدير لام التعليل قبل "أن" وحذف حروف الجر الداخلة على "أن" مطرد في كلام العرب عند أمن اللبس.
وكونهما ملكين أو خالدين علة للنهي: أي كونكما ملكين هو باعث النهي، إلا أنه باعث باعتبار نفي حصوله لا باعتبار حصوله، أي هو علة في الجملة، ولذلك تأوله سيبويه والزمخشري بتقدير: كراهة أن تكونا. وهو تقدير معنى لا تقدير إعراب، كما تقدم في سورة الأنعام، وقيل حذفت "لا" بعد "أن" وحذفها موجود، وبذلك تأول الكوفيون وقد تقدم القول فيه. وقد أوهم إبليس آدم وزوجه أنهما متمكنان أن يصيرا ملكين من الملائكة، إذا أكلا من الشجرة، وهذا من تدجيله وتلبيسه إذ ألفى آدم وزوجه غير متبصرين في حقائق الأشياء، ولا عالمين المقدار الممكن في انقلاب الأعيان وتطور الموجودات، وكانا يشاهدان تفضيل الملائكة عند الله تعالى وزلفاهم وسعة مقدرتهم، فأطمعهما إبليس أن يصيرا من الملائكة إذا أكلا من الشجرة، وقيل المراد التشبيه البليغ أي إلا أن تكونا في القرب والزلفى كالملكين، وقد مثل لهما بما يعرفان من كمال الملائكة.
وقوله: {أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} عطف على: {أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ} وأصل "أو" الدلالة على الترديد بين أحد الشيئين أو الأشياء، سواء كان مع تجويز حصول المتعاطفات كلها فتكون للإباحة بعد الطلب، وللتجويز بعد الخبر أو للشك؛ أم كان مع منع البعض عند تجويز البعض فتكون للتخيير بعد الطلب وللشك أو الترديد بعد الخبر، والترديد لا ينافي الجزم بأن أحد الأمرين واقع لا محالة كما هنا، فمعنى الكلام أن الآكل من هذه الشجرة يكون ملكا وخالدا، كما قال عنه في سورة طه [120]: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} فجعل نهي الله لهما عن الأكل لا يعدو إرادة أحد الأمرين، ويستفاد من المقام أنه قد يريد حرمانهما من الأمرين جميعا بدلالة الفحوى، ولم يكن آدم

قد علم حينئذ أن الخلود متعذر، وأن الموت والحشر والبعث مكتوب على الناس، فإن ذلك يتلقى من الوحي كما في قوله تعالى لهما في الآية الأخرى: {وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [البقرة: 36].
{وَقَاسَمَهُمَا} أي حلف لهما بما يوهم صدقه، والمقاسمة مفاعلة من أقسم إذا حلف، حذفت منه الهمزة عند صوغ المفاعلة، كما حذفت في المكارمة، والمفاعلة هنا للمبالغة في الفعل، وليست لحصول الفعل من الجانبين، ونظيرها: عافاه الله، وجعله في الكشاف: كأنهما قالا له تقسم بالله إنك لمن الناصحين فأقسم فجعل طلبهما القسم بمنزلة القسم، أي فتكون المفاعلة على بابها، وتأكيد إخباره عن نفسه بالنصح لهما بثلاث مؤكدات دليل على مبلغ شك آدم وزوجه في نصحه لهما، وما رأى عليهما من مخائل التردد في صدقه، وإنما شكا في نصحه لأنهما وجدا ما يأمرهما مخالفا لما أمرهما الله الذي يعلمان إرادته بهما الخير علما حاصلا بالفطرة.
[22] {فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ}
{فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ}
تفريع على جملة: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ} [الأعراف: 20] وما عطف عليهما.
ومعنى {فَدَلاَّهُمَا} أقدمهما ففعلا فعلا يطمعان به في نفع فخابا فيه، وأصل دلى، تمثيل حال من يطلب شيئا من مظنته فلا يجده بحال من يدلي دلوه أو رجليه في البئر ليستقي من مائها فلا يجد فيها ماء فيقال دلى فلان، يقال دلى كما يقال أدلى.
والباء للملابسة أي دلاهما ملابسا للغرور أي لاستيلاء الغرور عليه، إذ الغرور هو اعتقاد الشيء نافعا بحسب ظاهر حاله ولا نفع فيه عند تجربته، وعلى هذا القياس يقال دلاه بغرور إذا أوقعه في الطمع فيما لا نفع فيه، كما في هذه الآية وقول أبي جندب الهذلي هو ابن مرة ولم أقف على تعريفه فإن كان إسلاميا كان قد أخذ قوله كمن يدلى بالغرور من القرآن، وإلا كان مستعملا من قبل:

أحص فلا أجير ومن أجره ... فليس كمن يدلى بالغرور
وعلى هذا الاستعمال ففعل دلى يستعمل قاصرا، ويستعمل متعديا إذا جعل غيره مدليا، هذا ما يؤخذ من كلام أهل اللغة في هذا اللفظ، وفيه تفسيرات أخرى لا جدوى في ذكرها.
ودل قوله: {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ} على أنهما فعلا ما وسوس لهما الشيطان، فأكلا من الشجرة، فقوله: {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ} ترتيب على دلاهما بغرور فحذفت الجملة واستغني عنها بإيراد الاسم الظاهر في جملة شرط لما، والتقدير: فأكلا منها، كما ورد مصرحا به في سورة البقرة، فلما ذاقاها بدت لهما سوآتهما.
والذوق إدراك طعم المأكول أو المشروب باللسان، وهو يحصل عند ابتداء الأكل أو الشرب، ودلت هذه الآية على أن بدو سوآتهما حصل عند أول إدراك طعم الشجرة، دلالة على سرعة ترتب الأمر المحذور عند أول المخالفة، فزادت هذه الآية على آية البقرة. وهذه أول وسوسة صدرت عن الشيطان. وأول تضليل منه للإنسان.
وقد أفادت لما توقيت بدو سوآتهما بوقت ذوقهما الشجرة، لأن لما حرف يدل على وجود شيء عند وجود غيره، فهي لمجرد توقيت مضمون جوابها بزمان وجود شرطها، وهذا معنى قولهم: حرف وجود لوجود فاللام في قولهم لوجود بمعنى عند ولذلك قال بعضهم هي ظرف بمعنى حين، يريد باعتبار أصلها، وإذ قد التزموا فيها تقديم ما يدل على الوقت لا على الموقت، شابهت أدوات الشرط فقالوا حرف وجود لوجود كما قالوا في لو حرف امتناع لامتناع، وفي "لولا" حرف امتناع لوجود، ولكن اللام في عبارة النحاة في تفسير معنى لو ولولا، هي لام التعليل، بخرفها في عبارتهم في "لما" لأن "لما" لا دلالة لها على سبب ألا ترى قوله تعالى: {فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ} [الاسراء: 67] إذ ليس الإنجاء بسبب للإعراض، ولكن لما كان بين السبب والمسبب تقارن كثر في شرط "لما" وجوابها معنى السببية دون اطراد، فقوله تعالى: {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} لا يدل على أكثر من حصول ظهور السوآت عند ذوق الشجرة، أي أن الله جعل الأمرين مقترنين في الوقت، ولكن هذا التقارن هو لكون الأمرين مسببين عن سبب واحد، وهو خاطر السوء الذي نفثه الشيطان فيهما، فسبب الإقدام على المخالفة للتعاليم الصالحة، والشعور بالنقيصة: فقد كان آدم وزوجه في طور سذاجة العلم، وسلامة الفطرة، شبيهين بالملائكة لا يقدمان على مفسدة ولا مضرة، ولا يعرضان عن نصح ناصح

علما صدقه، إلى خبر مخبر يشكان في صدقه، ويتوقعان غروره، ولا يشعران بالسوء في الأفعال، ولا في ذرائعها ومقارناتها. لأن الله خلقهما في عالم ملكي، ثم تطورت عقليتهما إلى طور التصرف في تغيير الوجدان، فتكون فيهما فعل ما نهيا عنه، ونشأ من ذلك التطور الشعور بالسوء للغير، وبالسوء للنفس، والشعور بالأشياء التي تؤدي إلى السزء، وتقارن السوء وتلازمه.
ثم إن كان "السوآت" بمعنى ما يسوء من النقائص، أو كان بمعنى العورات كما تقدم في قوله تعالى: {لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا} [الأعراف: 20] فبدو ذلك لهما مقارن ذوق الشجرة الذي هو أثر الإقدام على المعصية ونبذ النصيحة إلى الاقتداء بالغرور والاغترار بقسمه، فإنهما لما نشأت فيهما فكرة السوء في العمل، وإرادة الإقدام عليه، قارنت تلك الكيفية الباعثة على الفعل نشأة الانفعال بالأشياء السيئة، وهي الأشياء التي تظهر بها الأفعال السيئة، أو تكون ذريعة إليها، كما تنشأ معرفة آلة القطع عند العزم على القتل، ومن فكرة السرقة معرفة المكان الذي يختفي فيه، وكذلك تنشأ معرفة الأشياء التي تلازم السوء وتقارنه، وإن لم تكن سيئة، في ذاتها، كما تنشأ معرفة الليل من فكرة السرقة أو الفرار، فتنشأ في نفوس الناس كراهيته ونسبته إلى إصدار الشرور، فالسوآت إن كان معناه مطلق ما يسوء منهما ونقائصهما فهي من قبيل القسمين، وإن كان معناه العورة فهي من قبيل القسم الثاني، أعني الشيء المقارن لما يسوء، لأن العورة تقارن فعلا سيئا من النقائص المحسوسة، والله أوجدها سبب مصالح، فلم يشعر آدم وزوجه بشيء مما خلقت لأجله، وإنما شعرا بمقارنة شيء مكروه لذلك وكل ذلك نشأ بإلهام من الله تعالى، وهذا التطور، الذي أشارت إليه الآية، قد جعله الله تطورا فطريا في ذرية آدم، فالطفل في أول عمره يكون بريئا من خواطر السوء فلا يستاء من تلقاء نفسه إلا إذا لحق به مؤلم خارجي، ثم إذا ترعرع أخذت خواطر السوء تنتابه في باطن نفسه فيفرضها ويولها. وينفعل بها أو يفعل بما تشير به عليه.
وقوله: {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} حكاية لابتداء عمل الإنسان لستر نقائصه، وتحيله على تجنب ما يكرهه، وعلى تحسين حاله بحسب ما يخيل إليه خياله، وهذا أول مظهر من مظاهر الحضارة أنشأه الله في عقلي أصلي البشر، فإنهما لما شعرا بسوآتهما بكلا المعنيين، عرفا بعض جزئياتها، وهي العورة وحدث في نفوسهما الشعور بقبح بروزها، فشرعا يخفيانها عن أنظارهما استبشاعا وكراهية، وإذ قد شعرا بذلك بالإلهام

الفطري، حيث لا ملقن يلقنهما ذلك، ولا تعليم يعلمهما، تقرر في نفوس الناس أن كشف العورة قبيح في الفطرة، وأن سترها متعين، وهذا من حكم القوة الواهمة الذي قارن البشر في نشأته، فدل على أنه وهم فطري متأصل، فلذلك جاء دين الفطرة بتقرير ستر العورة، مشايعة لما استقر في نفوس البشر، وقد جعل الله للقوة الواهمة سلطانا على نفوس البشر في عصور طويلة، لأن في اتباعها عونا على تهذيب طباعه، ونزع الجلافة الحيوانية من النوع، لأن الواهمة لا توجد في الحيوان، ثم أخذت الشرائع، ووصايا الحكماء، وآداب المربين، تزيل من عقول البشر متابعة الأوهام تدريجا مع الزمان، ولا يبقون منها إلا ما لا بد منه لاستبقاء الفضيلة في العادة بين البشر، حتى جاء الإسلام وهو الشريعة الخاتمة فكان نوط الأحكام في دين الإسلام بالأمور الوهمية ملغى في غالب الأحكام، كما فصلته في كتاب مقاصد الشريعة وكتاب أصول نظام الاجتماع في الإسلام.
والخصف حقيقته تقوية الطبقة من النعل بطبقة أخرى لتشتد، ويستعمل مجازا مرسلا في مطلق التقوية للخرقة والثوب، ومنه ثوب حصيف أي مخصوف أي غليظ النسج لا يشف عنا تحته، فمعنى يخصفان يضعان على عوراتهما الورق بعضه على بعض كفعل الخاصف وضعا ملزقا متمكنا، وهذا هو الظاهر هنا إذ لم يقل يخصفان ورق الجنة.
و"من" في قوله: {مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} يجوز كونها اسما بمعنى بعض في موضع مفعول {يَخْصِفَانِ} أي يخصفان بعض ورق الجنة، كما في قوله: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ} ، ويجوز كونها بيانية لمفعول محذوف يقتضيه: {يَخْصِفَانِ} والتقدير: يخصفان خصفا من ورق الجنة.
[23,22] {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}.
عطف على جواب "لما"، فهو مما حصل عند ذوق الشجرة، وقد رتب الإخبار عن الأمور الحاصلة عند ذوق الشجرة على حسب ترتيب حصولها في الوجود، فإنهما بدت لهما سوآتهما فطفقا يخصفان، وأعقب ذلك نداء الله إياهما.
وهذا أصل في ترتيب الجمل في صناعة الإنشاء، إلا إذا اقتضى المقام العدول عن ذلك، ونظير هذا الترتيب ما في قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هود:77] وقد بينته في كتاب أصول الإنشاء والخطابة

ولم أعلم أني سبقت إلى الاهتداء إليه.
وقد تأخر نداء الرب إياهما إلى أن بدت لهما سوآتهما. وتحيلا لستر عوراتهما ليكون للتوبيخ وقع مكين من نفوسهما، حين يقع بعد أن تظهر لهما مفاسد عصيانهما، فيعلما أن الخير في طاعة الله، وأن في عصيانه ضرا.
والنداء حقيقته ارتفاع الصوت وهو مشتق من الندى بفتح النون والقصر وهو بعد الصوت قال مدثار بن شيبان النمري:
فقلت ادعي وأدعو إن أندى ... لصوت أن ينادي داعيان
وهو مجاز مشهور في الكلام الذي يراد به طلب إقبال أحد إليك، وله حروف معروفة في العربية: تدل على طلب الإقبال، وقد شاع إطلاق النداء على هذا حتى صار من الحقيقة، وتفرع عنه طلب الإصغاء وإقبال الذهن من القرب منك، وهو إقبال مجازي.
{وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا} مستعمل في المعنى المشهور: وهو طلب الإقبال، على أن الإقبال مجازي لا محالة فيكون كقوله تعالى: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ} [الانبياء: 89] وهو كثير في الكلام.
ويجوز أن يكون مستعملا في الكلام بصوت مرتفع كقوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً} [البقرة: 171] وقوله: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا} [لأعراف: 43] وقول بشار:
ناديت إن الحب أشعرني ... قتلا وما أحدثت من ذنب
ورفع الصوت يكون لأغراض، ومحمله هنا على أنه صوت غضب وتوبيخ.
وظاهر إسناد النداء إلى الله أن الله ناداهما بكلام بدون واسطة ملك مرسل، مثل الكلام الذي كلم الله به موسى، وهذا واقع قبل الهبوط إلى الأرض، فلا ينافي ما ورد من أن موسى هو أول نبي كلمه الله تعالى بلا واسطة، ويجوز أن يكون نداء آدم بواسطة أحد الملائكة.
وجملة: {أَلَمْ أَنْهَكُمَا} في موضع البيان لجملة {نَادَاهُمَا} ، ولهذا فصلت الجملة عن التي قبلها.
والاستفهام في {أَلَمْ أَنْهَكُمَا} للتقرير والتوبيخ، وأولي حرف النفي زيادة في

التقرير، لأن نهي الله إياهما واقع فانتفاؤه منتفيا، فإذا أدخلت أداة التقرير وأقر المقرر بضد النفي كان إقراره أقوى في المؤاخذة بموجبه، لأنه قد هيئ له سبيل الإنكار. لو كان يستطيع إنكارا، كما تقدم عند قوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} الآية في سورة الأنعام [130]، ولذلك اعترفا بأنهما ظلما أنفسهما.
وعطف جملة: {وَأَقُلْ لَكُمَا} على جملة: {أَنْهَكُمَا} للمبالغة في التوبيخ، لأن النهي كان مشفوعا بالتحذير من الشيطان الذي هو المغري لهما بالأكل من الشجرة، فهما قد أضاعا وصيتين. والمقصود من حكاية هذا القول هنا تذكير الأمة بعداوة الشيطان لأصل نوع البشر، فيعلموا أنها عداوة بين النوعين، فيحذروا من كل ما هو منسوب إلى الشيطان ومعدود من وسوسته، فإنه لما جبل على الخبث والخزي كان يدعو إلى ذلك بطبعه وكذلك لا يهنأ له بال ما دام عدوه ومحسودة في حالة حسنة.
والمبين أصله المظهر، أي للعداوة بحيث لا تخفى على من يتتبع آثار وسوسته وتغريره، وما عامل به آدم من حين خلقه إلى حين غروره به ففي ذلك كله إبانة عن عداوته، ووجه تلك العداوة أن طبعه ينافي ما في الإنسان من الكمال الفطري المؤيد بالتوفيق والإرشاد الإلهي، فلا يحب أن يكون الإنسان إلا في حالة الضلال والفساد، ويجوز أن يكون المبين مستعملا مجازا في القوي الشديد لأن شأن الوصف الشديد أن يظهر للعيان.
وقد قالا: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} اعترافا بالعصيان، وبأنهما علما أن ضر المعصية عاد عليهما، فكانا ظالمين لأنفسهما إذ جرا على أنفسهما الدخول في طور ظهور السوآت، ومشقة اتخاذ ما يستر عوراتهما، وبأنهما جرا على أنفسهما غضب الله تعالى، فهما في توقع حقوق العذاب، وقد جزما بأنهما يكونان من الخاسرين إن لم يغفر الله لهما، إما بطريق الإلهام أو نوع من الوحي، وإما بالاستدلال على العواقب بالمبادئ، فإنهما رأيا من العصيان بوادئ الضر والشر، فعلما أنه من غضب الله ومن مخالفة وصايته، وقد أكدا جملة جواب الشرط بلام القسم ونون التوكيد إظهارا لتحقيق الخسران استرحاما واستغفارا من الله تعالى.
[24] {قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}.

طوى القرآن هنا ذكر التوبة على آدم: لأن المقصود من القصة في هذه السورة التذكير بعداوة الشيطان وتحذير الناس من اتباع وسوسته، وإظهار ما يعقبه اتباعه من الخسران والفساد، ومقام هذه الموعظة يقتضي الإعراض عن ذكر التوبة للاقتصار على أسباب الخسارة، وقد ذكرت التوبة في آية البقرة المقصود منها بيان فضل آدم وكرامته عند ربه، ولكل مقام مقال. والخطاب لآدم وزوجه وإبليس. والأمر تكويني، وبه صار آدم وزوجه وإبليس من سكان الأرض.
وجملة {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} في موضع الحال من ضمير: {اهْبِطُوا} المرفوع بالأمر التكويني فهذه الحال أيضا تفيد معنى تكوينيا وهو مقارنة العداوة بينهم لوجودهما في الأرض، وهذا التكوين تأكدت به العداوة الجبلية السابقة فرسخت وزادت، والمراد بالبعض البعض المخالف في الجنس، فأحد البعضين هو آدم وزوجه، والبعض الآخر هو إبليس، وإذ قد كانت هذه العداوة تكوينية بين أصلي الجنسين، كانت موروثة في نسليهما، والمقصود تذكير بني آدم بعداوة الشيطان لهم ولأصلهم ليتهموا كل وسوسة تأتيهم من قبله، وقد نشأت هذه العداوة عن حسد إبليس، ثم سرت وتشجرت فصارت عداوة تامة في سائر نواحي الوجود، فهي منبثة في التفكير والجسد، ومقتضية تمام التنافر بين النوعين.
وإذ قد كانت نفوس الشياطين داعية إلى الشر بالجبلة تعين أن عقل الإنسان منصرف بجبلته إلى الخير، ولكنه معرض لوسوسة الشياطين، فيقع في شذوذ عن أصل فطرته، وفي هذا ما يكون مفتاحا لمعنى كون الناس يولدون على الفطرة، وكون الإسلام دين الفطرة، وكون الأصل في الناس الخير. أما كون الأصل في الناس العدالة أو الجرح فذلك منظور فيه إلى خشية الوقوع في الشذوذ، من حيث لا يدري الحاكم ولا الراوي، لأن أحوال الوقوع في ذلك الشذوذ مبهمة فوجب التبصر في جميع الأحوال.
وعطفت جملة: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} على جملة: {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} .
والمستقر مصدر ميمي والاستقرار هو المكث وقد تقدم القول فيه عند قوله تعالى: {لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ} [الأنعام: 67] وقوله: {فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} في سورة الأنعام [98].
والمراد به الوجود أي وجود نوع الإنسان وبخصائصه وليس المراد به الدفن كما فسر به بعض المفسرين لأن قوله ومتاع يصد عن ذلك ولأن الشياطين والجن لا يدفنون في الأرض.

والمتاع والتمتع: نيل الملذات والمرغوبات غير الدائمة، ويطلق المتاع على ما يتمتع به وينتفع به من الأشياء، وتقدم في قوله تعالى: {لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ} في سورة النساء [102].
والحين المدة من الزمن، طويلة أو قصيرة، وقد نكر هنا ولم يحدد لاختلاف مقداره باختلاف الأجناس والأفراد، والمراد به زمن الحياة التي تخول صاحبها إدراك اللذات، وفيه يحصل بقاء اللذات غير متفرقة ولا متلاشية ولا معدومة، وهذا الزمن المقارن لحالة الحياة والإدراك هو المسمى بالأجل، أي المدة التي يبلغ إليها الحي بحياته في علم الله تعالى وتكوينه، فإذا انتهى الأجل وانعدمت الحياة انقطع المستقر والمتاع، وهذا إعلام من الله بما قدره للنذوعين، وليس فيه امتنان ولا تنكيل بهم.
[25] {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ}.
أعيد فعل القول في هذه الجملة مستأنفا غير مقترن بعاطف، ولا مستغنى عن فعل القول بواو عطف، مع كون القائل واحدا، والغرض متحدا، خروجا عن مقتضى الظاهر لأن مقتضى الظاهر في مثله هو العطف، وقد أهمل توجيه ترك العطف جمهور الحذاق من المفسرين: الزمخشري وغيره، ولعله رأى ذلك أسلوبا من أساليب الحكاية، وأول من رأيته حاول توجيه ترك العطف هو الشيخ محمد بن عرفة التونسي في إملاءات التفسير المروية عنه، فإنه قال في قوله تعالى الآتي في هذه السورة [140]: {قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً} بعد قوله: {قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [لأعراف: 138] إذ جعل وجه إعادة لفظ قال هو ما يبين المقالين من البون، فالأول راجع إلى مجرد الإخبار ببطلان عبادة الأصنام في ذاته، والثاني إلى الاستدلال على بطلانه، وقد ذكر معناه الخفاجي عند الكلام على الآية الآتية بعد هذه، ولم ينسبه إلى ابن عرفة فلعله من توارد الخواطر؛ وقال أبو السعود: إعادة القول إما لإظهار الاعتناء بمضمون ما بعده، وهو قوله: {فِيهَا تَحْيَوْنَ} [الأعراف: 25] وإما للإيذان بكلام محذوف بين القولين كما في قوله تعالى: {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ} [الحجر: 57] اثر قوله {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ} [الحجر: 56] فإن الخليل خاطب الملائكة أولا بغير عنوان كونهم مرسلين، ثم خاطبهم بعنوان كونهم مرسلين عند تبين أن مجيئهم ليس لمجرد البشارة، فلذلك قال: {فَمَا خَطْبُكُمْ} ، وكما في قوله تعالى: {أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} [الاسراء: 62] بعد قوله: {قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} [الاسراء: 61] فإنه قال قوله الثاني بعد الإنظار المترتب على استنظاره الذي لم يصرح به اكتفاء بما ذكر في

مواضع أخرى، هذا حاصل كلامه في مواضع، والتوجيه الثاني مردود إذ لا يلزم في حكاية الأقوال الإحاطة ولا الاتصال.
والذي أراه أن هذا ليس أسلوبا في حكاية القول يتخير فيه البليغ، وأنه مساو للعطف بثم، وللجمع بين حرف العطف وإعادة فعل اقول، كما في قوله تعالى: {وَقَالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ} [لأعراف: 39] بعد قوله: {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا} [لأعراف: 38]، فإذا لم يكن كذلك كان توجيه إعادة فعل القول، وكونه مستأنفا: انه استئناف ابتدائي للاهتمام بالخبر، إيذانا بتغير الخطابين تخلف ما فالخطاب بالأول آدم وزوجه الشيطان، والمخاطب الثاني آدم وزوجه وأبناؤهما، فإن كان هذا الخطاب قبل حدوث الذرية لهما كما هو ظاهر السياق فهو خطاب لهما بإشعارهما أنهما أبوا خلق كثير: كلهم هذا حالهم، وهو من تغليب الموجود على من لم يوجد، وإن كان قد وقع بعد وجود الذرة لهما فوجه الفصل أظهر وأجدر، والقرينة على أن إبليس غير داخل في الخطاب في قوله: {وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} لأن الإخراج من الأرض يقتضي سبق الدخول في باطنها، وذلك هو الدفن بعد الموت، والشياطين لا يدفنون. وقد أمهل الله إبليس بالحياة إلى يوم البعث فهو يحشر حينئذ أو يموت ويبعث، ولا يعلم ذلك إلا الله تعالى.
وقد جعل تغيير الأسلوب وسيلة للتخلص إلى توجيه الخطاب إلى بني آدم عقب هذا.
وقد دل جمع الضمير على كلام مطوي بطريقة الإيجاز: وهو أن آدم وزوجه استقرا في الأرض، وتظهر لهما ذرية، وأن الله أعلمهم بطريق من طرق الإعلام الإلهي بأن الأرض قرارهم، ومنها مبعثهم، يشمل هذا الحكم الموجودين منهم يوم الخطاب والذين سيوجدون من بعد.
وقد يجعل سبب تغيير الأسلوب بأن القول السابق قول مخاطبة، والقول الذي بعده قول تقدير وقضاء أي قدر الله يحيون فيها وتموتون فيها وتخرجون منها.
وتقديم المجرورات الثلاثة على متعلقاتها للاهتمام بالأرض التي جعل فيها قرارهم ومتاعهم، إذ كانت هي مقر جميع أحوالهم.
وقد جعل هذا التقديم وسيلة إلى مراعاة النظير، إذ جعلت الأرض لهاته

الأحوال. فالأرض واحدة وقد تداولت فيها أحوال سكانها المتخالفة تخالفا بعيدا.
وقرأ الجمهور: {تُخْرَجُونَ} بضم الفوقية وفتح الراء على البناء للمفعول، وقرأه حمزة، والكسائي، وابن ذكوان عن ابن عامر، ويعقوب، وخلف: بالبناء للفاعل.
[26] {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}.
إذا جرينا على ظاهر التفاسير كان قوله: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً} الآية استئنافا ابتدائيا، عاد به الخطاب إلى سائر الناس الذين خوطبوا في أول الدعوة، لأن الغرض من السورة إبطال ما كان عليه مشركو العرب أمة الدعوة، لأن الغرض من السورة أبطال ما كان عليه مشركو العرب من الشرك وتوابعه من أحوال دينهم الجاهلي، وكان قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} [الأعراف: 11] استطراد بذكر منه عليهم وهم يكفرون به كما تقدم عند قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ} فخاطبت هذه الآية جميع بني آدم بشيء من الأمور المقصودة في السورة هذه الآية كالمقدمة للغرض الذي يأتي في قوله: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] ووقوعها في أثناء آيات التحذير من كيد الشيطان بمنزلة الاستطراد بين تلك الآيات وإن كانت هي من الغرض الأصلي.
ويجوز أن يكون قوله: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً} وما أشبهه مما افتتح بقوله: {يَا بَنِي آدَمَ} أربع مرات، من جملة المقول المحكي بقوله: {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ} [الأعراف: 25] فيكون مما خاطب الله بني آدم في ابتداء عهدهم بعمران الأرض على لسان أبيهم، أو بطريق من طرق الإعلام الإلهي، ولو بالإلهام، لما تنشأ به في نفوسهم هذه الحقائق، فابتدأ فأعلمهم بمنته عليهم أن أنزل لهم لباسا يواري سوآتهم، ويتجملون به بمناسبة ما قص الله عليهم من تعري أبويهم حين بدت لهما سوءاتهما، ثم بتحذيرهم من كيد الشيطان وفتنته بقوله: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ} [الأعراف: 27] ثم بأن أمرهم بأخذ اللباس وهو زينة الإنسان عند مواقع العبادة لله تعالى بقوله: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]، ثم بأن أخذ عليهم بأن يصدقوا الرسل وينتفعوا بهديهم بقوله: {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأعراف: 35] الآية، واستطرد بين ذلك كله بمواعظ تنفع الذين قصدوا من هذا القصص، وهم المشركون المكذبون

محمد صلى الله عليه وسلم، فهم المقصود من هذا الكلام كيفما تفننت أساليبه وتناسق نظمه، وأيا ما كان فالمقصود الأول من هذه الخطابات أو من حكاياتها هم مشركو العرب ومكذبو محمد صلى الله عليه وسلم، ولذلك تخللت هذه الخطابات مستطردات وتعريضات مناسبة لما وضعه المشركون من التكاذيب في نقض أمر الفطرة.
والجمل الثلاث من قوله: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً} وقوله: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ} [الأعراف: 27] وقوله {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] متصلة تمام الاتصال بقصة فتنة الشيطان لآدم وزوجه، أو متصلة بالقول المحكي بجملة: {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ} [الأعراف: 25] على طريقة تعداد المقول تعدادا يشبه التكرير.
وهذا الخطاب يشمل المؤمنين والمشركين، ولكن الحظ الأوفر منه للمشركين: لأن حظ المؤمنين منه هو الشكر على يقينهم بأنهم موافقون في شؤونهم لمرضاة ربهم، وأما حظ المشركين فهو الإنذار بأنهم كافرون بنعمة ربهم، معرضون لسخطه وعقابه.
وابتدئ الخطاب بالنداء ليقع إقبالهم على ما بعده بشراشر قلوبهم، وكان لاختيار استحضارهم عند الخطاب بعنوان بني آدم مرتين وقع عجيب، بعد الفراغ من ذكر قصة خلق آدم وما لقيه من وسوسة الشيطان: وذلك أن شأن الذرية أن تثأر لآبائها، وتعادي عدوهم، وتحترس من الوقوع في شركه.
ولما كان إلهام الله آدم أن يستر نفسه بورق الجنة منة عليه، وقد تقلدها بنوه، خوطب الناس بشمول هذه المنة لهم بعنوان يدل على أنها منة موروثة، وهي أوقع وأدعى للشكر، ولذلك سمى تيسير اللباس لهم وإلهامهم إياه إنزالا، لقصد تشريف هذا المظهر، وهو أول مظاهر الحضارة، بأنه منزل على الناس من عند الله، أو لأن الذي كان منه على آدم نزل به من الجنة إلى الأرض التي هو فيها، فكان له في معنى الإنزال مزيد اختصاص، على أن مجرد الإلهام إلى استعماله بتسخير إلهي، مع ما فيه من عظيم الجدوى على الناس والنفع لهم، يحسن استعارة فعل الإنزال إليه، تشريفا لشأنه، وشاركه في هذا المعنى ما يكون من الملهمات عظيم النفع، كما في قوله: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد: 25] أي أنزلنا الإلهام إلى استعماله والدفاع به، وكذلك قوله: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [لزمر: 6]أي: خلقها لكم في الأرض بتدبيره، وعلمكم استخدامها والانتفاع بما فيها، ولا يطرد في جميع ما ألهم إليه البشر مما هو دون هذه

في الجدوى، وقد كان ذلك اللباس الذي نزل به آدم هو أصل اللباس الذي يستعمله البشر.
وهذا تنبيه إلى أن اللباس من أصل الفطرة الإنسانية، والفطرة أول أصول الإسلام، وأنه مما كرم الله به النوع منذ ظهوره في الأرض، وفي هذا تعريض بالمشركين إذ جعلوا من قربانهم نزع لباسهم بأن يحجوا عراة كما سيأتي عند قوله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} [الأعراف: 32] فخالفوا الفطرة، وقد كان الأمم يحتفلون في أعياد أديانهم بأحسن اللباس، كما حكى الله عن موسى عليه السلام وأهل مصر: {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} [طه: 59].
واللباس اسم لما يلبسه الإنسان أي يستر به جزءا من جسده، فالقميص لباس، والإزار لباس، والعمامة لباس، ويقال لبس التاج ولبس الخاتم قال تعالى: {وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [فاطر: 12] ومصدر لبس اللبس -بضم اللام-.
وجملة: {يُوَارِي سَوْآتِكُمْ} صفة "للباسا"، وهو صنف اللباس اللازم، وهذه الصفة صفة مدح اللباس أي من شأنه ذلك وإن كان كثير من اللباس ليس لمواراة السوآت مثل العمامة والبرد والقباء وفي الآية إشارة إلى وجوب ستر العورة المغلظة، وهي السوأة، وأما ستر ما عداها من الرجل والمرأة فلا تدل الآية عليه، وقد ثبت بعضه بالسنة، وبعضه بالقياس والخوض في تفاصيلها وعللها من مسائل الفقه.
والريش لباس الزينة الزائد على ما يستر العورة، وهو مستعار من ريش الطير لأنه زينته، ويقال للباس الزينة رياش.
وعطف "ريشا" على: {لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ} عطف صنف على صنف، والمعنى يسرنا لكم لباسا يستركم ولباسا تتزينون به.
وقوله: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى} قرأه نافع، وابن عامر، والكسائي، وأبو جعفر: بالنصب، عطفا على {لِبَاساً} فيكون من اللباس المنزل أي الملهم، فيتعين أنه لباس حقيقة أي شيء يلبس، والتقوى، على هذه القراءة، مصدر بمعنى الوقاية، فالمراد: لبوس الحرب، من الدروع والجواشن والمغافر. فيكون كقوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} [النحل: 81]. والإشارة باسم الإشارة المفرد بتأويل المذكور، وهو اللباس بأصنافه الثلاثة، أي خير أعطاه الله بني آدم، فالجملة مستأنفة أو حال من {لِبَاساً} وما عطف عليه.

وقرأه ابن كثير، وعاصم، وحمزة، وأبو عمرو، ويعقوب، وخلف: برفع: {لِبَاسُ التَّقْوَى} على أن الجملة معطوفة على جملة {قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً} ، فيجوز أن يكون المراد بلباس التقوى مثل ما يرد به في قراءة النصب. ويجوز أن يكون المراد بالتقوى تقوى الله وخشيته، وأطلق عليها. اللباس إما بتخييل التقوى بلباس يلبس، وإما بتشبيه ملازمة تقوى الله بملازمة اللابس لباسه، كقوله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة: 187] مع ما يحسن هذا الإطلاق من المشاكلة.
وهذا المعنى الرفع أليق به. ويكون استطرادا للتحريض على تقوى الله، فإنها خير للناس من منافع الزينة، واسم الإشارة على هذه القراءة لتعظيم المشار إليه.
وجملة: {ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} استئناف ثان على قراءة: {لِبَاسُ التَّقْوَى} بالنصب بأن استأنف. بعد الامتنان بأصناف اللباس، استئنافين يؤذنان بعظيم النعمة: الأول بأن اللباس خير للناس، والثاني بأن اللباس آية من آيات الله تدل على علمه ولطفه، وتدل على وجوده، وفيها آية أخرى وهي الدلالة على علم الله تعالى بأن ستكون أمة يغلب عليها الضلال فيكونون في حجهم عراة، فلذلك أكد الوصاية به. والمشار إليه، بالإشارة التي في الجملة الثانية، عين المشار إليه بالإشارة التي في الجملة الأولى وللاهتمام بكلتا الجملتين جعلت الثانية مستقلة غير معطوفة.
وعلى قراءة رفع: {لِبَاسُ التَّقْوَى} تكون جملة: {ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} استئنافا واحدا والإشارة التي في الجملة الثانية عائدة إلى المذكور قبل من أصناف اللباس حتى المجازي على تفسير لباس التقوى بالمجازي.
وضمير الغيبة في: {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} التفات أي جعل الله ذلك آية لعلكم تتذكرون عظيم قدرة الله تعالى وانفراده بالخلق والتقدير واللطف، وفي هذا الالتفات تعريض بمن لم يتذكر من بني آدم فكأنه غائب عن حضرة الخطاب، على أن ضمائر الغيبة، في مثل هذا المقام في القرآن، كثيرا ما يقصد بها مشركو العرب.
[27] {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ}.
أعيد خطاب بني آدم، فهذا النداء تكملة للآي قبله، بني على التحذير من متابعة

الشيطان إلى إظهار كيده للناس من ابتداء خلقهم، إذ كاد لأصلهم.
والنداء بعنوان بني آدم: للوجه الذي ذكرته في الآية قبلها، مع زيادة التنويه بمنة اللباس توكيدا للتعريض بحماقة الذين يحجون عراة. وقد نهوا عن أن يفتنهم الشيطان، وفتون الشيطان حصول آثار وسوسته، أي لا تمكنوا الشيطان من أن يفتنكم، والمعنى النهي عن طاعته، وهذا من مبالغة النهي، ومنه قول العرب لا أعرفنك تفعل كذا: أي لا تفعلن فأعرف فعلك، وقولهم: لا أرينك هنا: أي لا تحضرن هنا فأراك، فالمعنى لا تطيعوا الشيطان في فتنه فيفتنكم ومثل هذا كناية عن النهي عن فعل والنهي عن التعرض لأسبابه.
وشبه الفتون الصادر من الشيطان للناس بفتنه آدم وزوجه إذ أقدمهما على الأكل من الشجرة المنهي عنه، فأخرجهما من نعيم كانا فيه، تذكيرا للبشر بأعظم فتنة فتن الشيطان بها نوعهم، وشملت كل أحد من النوع، إذ حرم من النعيم الذي كان يتحقق له لو بقي أبواه في الجنة وتناسلا فيها، وفي ذلك أيضا تذكير بأن عداوة البشر للشيطان موروثة، فيكون أبعث لهم على الحذر من كيده.
و"ما" في قوله: {كَمَا أَخْرَجَ} مصدرية، والجار والمجرور في موضع الصفة لمصدر محذوف هو مفعول مطلق ليفتننكم، والتقدير: فتونا كإخراجه أبويكم من الجنة، فإن إخراجه إياهما من الجنة فتون عظيم يشبه به فتون الشيطان حين يراد تقريب معناه للبشر وتخويفهم منه.
والأبوان تثنية الأب، والمراد بهما الأب والأم على التغليب، وهو تغليب شائع في الكلام وتقدم عند قوله تعالى: {وَلِأَبَوَيْهِ} في سورة النساء [11]. وأطلق الأب هنا عن الجد لأنه أب أعلى، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: أنا ابن عبد المطلب.
وجملة: {يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا} في موضع الحال المقارنة من الضمير المستتر في: {أَخْرَجَ} أومن: {أَبَوَيْكُمْ} والمقصود من هذه الحال تفظيع هيئة الإخراج بكونها حاصلة في حال الكشاف سوآتهما لأن انكشاف السوءة من أعظم الفظائع والفضائح في متعارف الناس.
والتعبير عما مضى بالفعل المضارع لاستحضار الصورة العجيبة من تمكنه من أن يتركهما عريانين.
واللباس تقدم قريبا، ويجوز هنا أن يكون حقيقة وهو لباس جللهما الله به في تلك الجنة يحجب سوآتهما، كما روى أنه حجاب من نور، وروي أنه كقشر الأظفار وهي

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68