الكتاب : المغني
المؤلف : أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد ، الشهير بابن قدامة المقدسي

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَامِلُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ، قُدْوَةُ الْأَنَامِ ، مَجْمُوعُ الْفَضَائِلِ ، مُوَفَّقُ الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ قُدَامَةَ الْمَقْدِسِيُّ ، قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ ، وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ بَارِئِ الْبَرِيَّاتِ ، وَغَافِرِ الْخَطِيَّاتِ ، وَعَالِمِ الْخَفِيَّاتِ ، الْمُطَّلِعِ عَلَى الضَّمَائِرِ وَالنِّيَّاتِ ، أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ، وَوَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَحِلْمًا ، وَقَهَرَ كُلَّ مَخْلُوقٍ عِزَّةً وَحُكْمًا { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا } ، لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ ، وَلَا تُغَيِّرُهُ الْأَعْصَارُ ، وَلَا تَتَوَهَّمُهُ الْأَفْكَارُ ، { وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ } ، أَتْقَنَ مَا صَنَعَ وَأَحْكَمَهُ ، وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ وَعَلِمَهُ ، وَخَلَقَ الْإِنْسَانَ وَعَلَّمَهُ ، وَرَفَعَ قَدْرَ الْعِلْمِ وَعَظَّمَهُ ، وَحَظَرَهُ عَلَى مَنْ اسْتَرْذَلَهُ وَحَرَّمَهُ ، وَخَصَّ بِهِ مَنْ خَلَقَهُ مِنْ كَرَمِهِ ، وَحَضَّ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى النَّفِيرِ لِلتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ ، فَقَالَ تَعَالَى وَهُوَ أَصْدَقُ الْقَائِلِينَ : { فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } ، نَدَبَهُمْ إلَى إنْذَارِ بَرِيَّتِهِ ، كَمَا نَدَبَ إلَى ذَلِكَ أَهْلَ رِسَالَتِهِ ، وَمَنَحَهُمْ مِيرَاثَ أَهْلِ نُبُوَّتِهِ ، وَرَضِيَهُمْ لِلْقِيَامِ بِحُجَّتِهِ ، وَالنِّيَابَةِ عَنْهُ فِي الْإِخْبَارِ بِشَرِيعَتِهِ ، وَاخْتَصَّهُمْ مِنْ بَيْنِ عِبَادِهِ بِخَشْيَتِهِ ، فَقَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } ، ثُمَّ أَمَرَ سَائِرَ النَّاسِ بِسُؤَالِهِمْ ، وَالرُّجُوعِ إلَى أَقْوَالِهِمْ ، وَجَعَلَ عَلَامَةَ زَيْغِهِمْ وَضَلَالِهِمْ ذَهَابَ عُلَمَائِهِمْ ، وَاِتِّخَاذَ الرُّءُوسِ مِنْ جُهَّالِهِمْ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا مِنْ النَّاسِ

وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ ، حَتَّى إذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمٌ اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا ، فَسُئِلُوا ، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا } .
وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ ، وَسَيِّدِ الْأَصْفِيَاءِ ، وَإِمَامِ الْعُلَمَاءِ ، وَأَكْرَمِ مَنْ مَشَى تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ ، مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ ، الدَّاعِي إلَى سَبِيلِ رَبِّهِ بِالْحِكْمَةِ ، وَالْكَاشِفِ بِرِسَالَتِهِ جَلَابِيبَ الْغُمَّةِ ، وَخَيْرِ نَبِيٍّ بُعِثَ إلَى خَيْرِ أُمَّةٍ ، أَرْسَلَهُ اللَّهُ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ، { وَدَاعِيًا إلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا } ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا .
أَمَّا بَعْدُ : فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بِرَحْمَتِهِ وَطَوْلِهِ ، وَقُوَّتِهِ وَحَوْلِهِ ، ضَمِنَ بَقَاءَ طَائِفَةٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ ، وَجَعَلَ السَّبَبَ فِي بَقَائِهِمْ بَقَاءَ عُلَمَائِهِمْ ، وَاقْتِدَاءَهُمْ بِأَئِمَّتِهِمْ وَفُقَهَائِهِمْ ، وَجَعَلَ هَذِهِ الْأُمَّةَ مَعَ عُلَمَائِهَا ، كَالْأُمَمِ الْخَالِيَةِ مَعَ أَنْبِيَائِهَا ، وَأَظْهَرَ فِي كُلِّ طَبَقَةٍ مِنْ فُقَهَائِهَا أَئِمَّةً يُقْتَدَى بِهَا ، وَيُنْتَهَى إلَى رَأْيِهَا ، وَجَعَلَ فِي سَلَفِ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَئِمَّةً مِنْ الْأَعْلَامِ ، مُهْدٍ بِهِمْ قَوَاعِدَ الْإِسْلَامِ ، وَأَوْضَحَ بِهِمْ مُشْكِلَاتِ الْأَحْكَامِ ، اتِّفَاقُهُمْ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ ، وَاخْتِلَافُهُمْ رَحْمَةٌ وَاسِعَةٌ ، تَحْيَا الْقُلُوبُ بِأَخْبَارِهِمْ ، وَتَحْصُلُ السَّعَادَةُ بِاقْتِفَاءِ آثَارِهِمْ ، ثُمَّ اخْتَصَّ مِنْهُمْ نَفَرًا أَعْلَى أَقْدَارَهُمْ وَمَنَاصِبَهُمْ وَأَبْقَى ذِكْرَهُمْ وَمَذَاهِبَهُمْ فَعَلَى أَقْوَالِهِمْ مَدَارُ الْأَحْكَامِ ، وَبِمَذَاهِبِهِمْ يُفْتِي فُقَهَاءُ الْإِسْلَامِ .
وَكَانَ إمَامُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، مِنْ أَوْفَاهُمْ فَضِيلَةً ، وَأَقْرَبِهِمْ إلَى اللَّهِ وَسِيلَةً ، وَأَتْبَعِهِمْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

وَأَعْلَمِهِمْ بِهِ ، وَأَزْهَدِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَأَطْوَعِهِمْ لِرَبِّهِ ، فَلِذَلِكَ وَقَعَ اخْتِيَارُنَا عَلَى مَذْهَبِهِ .
وَقَدْ أَحْبَبْتُ أَنْ أَشْرَحَ مَذْهَبَهُ وَاخْتِيَارَهَ ، لِيَعْلَمَ ذَلِكَ مَنْ اقْتَفَى آثَارَهُ ، وَأُبَيِّنَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَسَائِلِ مَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِمَّا أُجْمِعَ عَلَيْهِ ، وَأَذْكُرَ لِكُلِّ إمَامٍ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ ، تَبَرُّكًا بِهِمْ ، وَتَعْرِيفًا لِمَذَاهِبِهِمْ ، وَأُشِيرَ إلَى دَلِيلِ بَعْضِ أَقْوَالِهِمْ عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِصَارِ ، وَالِاقْتِصَارِ مِنْ ذَلِكَ عَلَى الْمُخْتَارِ ، وَأَغْزُوَ مَا أَمْكَنَنِي غَزْوُهُ مِنْ الْأَخْبَارِ ، إلَى كُتُبِ الْأَئِمَّةِ مِنْ عُلَمَاءِ الْآثَارِ ، لِتَحْصُلَ الثِّقَةُ بِمَدْلُولِهَا ، وَالتَّمْيِيزُ بَيْنَ صَحِيحِهَا وَمَعْلُولِهَا ، فَيُعْتَمَدَ عَلَى مَعْرُوفِهَا ، وَيُعْرَضَ عَنْ مَجْهُولِهَا .
ثُمَّ رَتَّبْتُ ذَلِكَ عَلَى شَرْحِ مُخْتَصَرِ أَبِي الْقَاسِمِ عُمَرَ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْخِرَقِيِّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ ، لِكَوْنِهِ كِتَابًا مُبَارَكًا نَافِعًا ، وَمُخْتَصَرًا مُوجَزًا جَامِعًا ، وَمُؤَلِّفُهُ إمَامٌ كَبِيرٌ ، صَالِحٌ ذُو دِينٍ ، أَخُو وَرَعٍ ، جَمَعَ الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ ، فَنَتَبَرَّكُ بِكِتَابِهِ ، وَنَجْعَلُ الشَّرْحَ مُرَتَّبًا عَلَى مَسَائِلِهِ وَأَبْوَابِهِ ، وَنَبْدَأُ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ بِشَرْحِهَا وَتَبْيِينِهَا ، وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ بِمَنْطُوقِهَا وَمَفْهُومِهَا وَمَضْمُونِهَا ، ثُمَّ نَتْبَعُ مَا يُشَابِهُهَا مِمَّا لَيْسَ بِمَذْكُورٍ فِي الْكِتَابِ ، فَتَحْصُلُ الْمَسَائِلُ كَتَرَاجُمِ الْأَبْوَابِ .
وَبِاَللَّهِ أَعْتَصِمُ وَأَسْتَعِينُ فِيمَا أَقْصِدُهُ ، وَأَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ فِيمَا أَعْتَمِدُهُ ، وَإِيَّاهُ أَسْأَلُ أَنْ يُوَفِّقَنَا وَيَجْعَلَ سَعْيَنَا مُقَرِّبًا إلَيْهِ ، وَمُزْلِفًا لَدَيْهِ ، بِرَحْمَتِهِ .
فَنَقُولُ ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ .
( قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ عُمَرُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ الْخِرَقِيُّ ، رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ ) : قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو يَعْلَى ، رَحِمَهُ اللَّهُ : كَانَ الْخِرَقِيُّ عَلَّامَةً ، بَارِعًا فِي مَذْهَبِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ،

وَكَانَ ذَا دِينٍ ، وَأَخَا وَرَعٍ .
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الْحُسَيْنِ : كَانَتْ لَهُ الْمُصَنَّفَاتُ الْكَثِيرَةُ فِي الْمَذْهَبِ ، وَلَمْ يَنْشُرْ مِنْهَا إلَّا " الْمُخْتَصَرَ " فِي الْفِقْهِ ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ مَدِينَةِ السَّلَامِ لَمَّا ظَهَرَ سَبُّ الصَّحَابَةِ بِهَا ، وَأَوْدَعَ كُتُبَهُ فِي دَرْبِ سُلَيْمَانَ ، فَاحْتَرَقَتْ الدَّارُ وَالْكُتُبُ فِيهَا .
قَرَأَ الْعِلْمَ عَلَى مَنْ قَرَأَهُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الْمَرُّوذِيِّ ، وَحَرْبٍ الْكَرْمَانِيِّ ، وَصَالِحٍ وَعَبْدِ اللَّهِ ابْنَيْ أَحْمَدَ .
وَرَوَى عَنْ أَبِيهِ أَبِي عَلِيٍّ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، وَكَانَ أَبُو عَلِيٍّ فَقِيهًا صَحِبَ أَصْحَابَ أَحْمَدَ ، وَأَكْثَرُ صُحْبَتِهِ لِأَبِي بَكْرٍ الْمَرُّوذِيِّ .
وَقَرَأَ عَلَى أَبِي الْقَاسِمِ الْخِرَقِيِّ جَمَاعَةٌ مِنْ شُيُوخِ الْمَذْهَبِ ؛ مِنْهُمْ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَطَّةَ ، وَأَبُو الْحَسَنِ التَّمِيمِيُّ ، وَأَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ سَمْعُونَ .
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ : تُوُفِّيَ أَبُو الْقَاسِمِ الْخِرَقِيُّ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ، وَدُفِنَ بِدِمَشْقَ ، وَزُرْتُ قَبْرَهُ .
وَسَمِعْتُ مَنْ يَذْكُرُ أَنَّ سَبَبَ مَوْتِهِ أَنَّهُ أَنْكَرَ مُنْكَرًا بِدِمَشْقَ ، فَضُرِبَ ، فَكَانَ مَوْتُهُ بِذَلِكَ قَالَ ، رَحِمَهُ اللَّهُ : ( اخْتَصَرْتُ هَذَا الْكِتَابَ ) .
يَعْنِي قَرَّبْتُهُ ، وَقَلَّلْتُ أَلْفَاظَهُ ، وَأَوْجَزْتُهُ ، وَالِاخْتِصَارُ : هُوَ تَقْلِيلُ الشَّيْءِ ، وَقَدْ يَكُونُ اخْتِصَارُ الْكِتَابِ بِتَقْلِيلِ مَسَائِلِهِ ، وَقَدْ يَكُونُ بِتَقْلِيلِ أَلْفَاظِهِ مَعَ تَأْدِيَةِ الْمَعْنَى ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أُوتِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَاخْتُصِرَ لِي الْكَلَامُ اخْتِصَارًا } ، وَمِنْ ذَلِكَ مُخْتَصَرَاتُ الطَّرِيقِ ، وَفِي الْحَدِيثِ : { الْجِهَادُ مُخْتَصَرُ طَرِيقِ الْجَنَّةِ } ، وَقَدْ نَهَى عَنْ اخْتِصَارِ السُّجُودِ ، وَمَعْنَاهُ جَمْعُ آيِ السَّجَدَاتِ فَيَقْرَؤُهَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ .
وَقِيلَ : هُوَ أَنْ يَحْذِفَ الْآيَةَ الَّتِي فِيهَا السَّجْدَةُ وَلَا يَقْرَؤُهَا .
وَفَائِدَةُ الِاخْتِصَارِ التَّقْرِيبُ

وَالتَّسْهِيلُ عَلَى مَنْ أَرَادَ تَعَلُّمَهُ وَحِفْظَهُ ، فَإِنَّ الْكَلَامَ يُخْتَصَرُ لِيُحْفَظَ ، وَيُطَوَّلُ لِيُفْهَمْ .
وَقَدْ ذَكَرَ ، رَحِمَهُ اللَّهُ مَقْصُودَهُ بِالِاخْتِصَارِ ، فَقَالَ : ( لِيَقْرَبَ عَلَى مُتَعَلِّمِهِ ) ، أَيْ يَسْهُلَ عَلَيْهِ ، وَيَقِلَّ تَعَبُهُ فِي تَعَلُّمِهِ .
وَقَوْلُهُ : ( عَلَى مَذْهَبِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ ) فَهُوَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلِ بْنِ هِلَالِ بْنِ أَسَدِ بْنِ إدْرِيسَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَيَّانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ذُهَلِ بْنِ شَيْبَانَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عُكَابَةَ بْنِ صَعْبِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ بَكْرِ بْنِ وَائِلِ بْنِ قَاسِطِ بْنِ هِنْبِ بْنِ أَفْصَى بْنِ دَعْمِيِّ بْنِ جُدَيْلَةَ بْنِ أَسَدِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعْدِ بْنِ عَدْنَانَ ، يَلْتَقِي نَسَبُهُ وَنَسَبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نِزَارٍ ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَلَدِ مُضَرَ بْنِ نِزَارٍ ، وَأَحْمَدُ مِنْ وَلَدِ رَبِيعَةَ بْنِ نِزَارٍ .
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ : قَالَ أَبِي : وُلِدْتُ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ : وَمَاتَ فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ سَنَةَ إحْدَى وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ ، وَلَهُ سَبْعٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً .
حَمَلَتْ بِهِ أُمُّهُ بِمَرْوٍ ، وَوَلَدَتْهُ بِبَغْدَادَ ، وَنَشَأَ بِهَا ، وَسَافَرَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ أَسْفَارًا كَثِيرَةً ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى بَغْدَادَ ، وَتُوُفِّيَ بِهَا ، بَعْدَ أَنْ سَادَ أَهْلُ عَصْرِهِ ، وَنَصَرَ اللَّهُ بِهِ دِينَهُ .
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ : لَيْسَ فِي شَرْقٍ وَلَا غَرْبٍ مِثْلُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ، مَا رَأَيْتُ رَجُلًا أَعْلَمَ بِالسُّنَّةِ مِنْهُ .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ ، رَحْمَةُ اللَّهِ وَرِضْوَانُهُ عَلَيْهِ : أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ إمَامٌ فِي ثَمَانِ خِصَالٍ ؛ إمَامٌ فِي الْحَدِيثِ ، إمَامٌ فِي الْفِقْهِ ، إمَامٌ فِي الْقُرْآنِ ، إمَامٌ فِي اللُّغَةِ ، إمَامٌ فِي

الْفَقْرِ ، إمَامٌ فِي الزُّهْدِ ، إمَامٌ فِي الْوَرَعِ ، إمَامٌ فِي السُّنَّةِ .
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ فِيهِ ، وَهُوَ صَغِيرٌ : لَقَدْ كَادَ هَذَا الْغُلَامُ أَنْ يَكُونَ إمَامًا فِي بَطْنِ أُمِّهِ .
وَقَالَ أَبُو عُمَيْرِ بْنُ النَّحَّاسِ الرَّمْلِيُّ ، وَذَكَرَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ : رَحِمَهُ اللَّهُ ، مَا كَانَ أَصْبَرَهُ ، وَبِالْمَاضِينَ مَا كَانَ أَشَبَهَهُ ، وَبِالصَّالِحِينَ مَا كَانَ أَلْحَقَهُ ، عُرِضَتْ لَهُ الدُّنْيَا فَأَبَاهَا ، وَالْبِدَعُ فَنَفَاهَا ، وَاخْتَصَّهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِنَصْرِ دِينِهِ ، وَالْقِيَامِ بِحِفْظِ سُنَّتِهِ ، وَرَضِيَهُ لِإِقَامَةِ حُجَّتِهِ ، وَنَصْرِ كَلَامِهِ حِينَ عَجَزَ عَنْهُ النَّاسُ .
قِيلَ لِبِشْرِ بْنِ الْحَارِثِ ، حِينَ ضَرَبَ أَحْمَدَ : يَا أَبَا نَصْرٍ ، لَوْ أَنَّكَ خَرَجْتَ فَقُلْتَ : إنِّي عَلَى قَوْلِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ؟ فَقَالَ بِشْرٌ : أَتُرِيدُونَ أَنْ أَقُومَ مَقَامَ الْأَنْبِيَاءِ ؟ إنَّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ قَدْ قَامَ مَقَامَ الْأَنْبِيَاءِ .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ شُعَيْبٍ الوسي : كَانَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عِنْدَنَا الْمَثَلَ الَّذِي قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّهُ كَائِنٌ فِي أُمَّتِي مَا كَانَ فِي بَنِي إسْرَائِيلَ ، حَتَّى إنَّ الْمِنْشَارَ لَيُوضَعُ عَلَى مَفْرِقِ رَأْسِ أَحَدِهِمْ مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ } ، وَلَوْلَا أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ قَامَ بِهَذَا الشَّأْنِ لَكَانَ عَارًا وَشَنَارًا عَلَيْنَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، أَنَّ قَوْمًا سُئِلُوا فَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهُمْ أَحَدٌ .
وَفَضَائِلُهُ ، وَمَا قَالَهُ الْأَئِمَّةُ فِي مَدْحِهِ كَثِيرٌ ، وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ اسْتِقْصَائِهِ ، وَقَدْ صَنَّفَ فِيهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ كُتُبًا مُفْرَدَةً ، وَإِنَّمَا غَرَضُنَا هَاهُنَا الْإِشَارَةُ إلَى نُكْتَةٍ مِنْ فَضْلِهِ ، وَذِكْرُ نَسَبِهِ ، وَمَوْلِدِهِ ، وَمَبْلَغِ عُمْرِهِ ، إذْ لَا يَحْسُنُ مِنْ مُتَمَسِّكٍ بِمَذْهَبِهِ ، وَمُتَفَقِّهٍ عَلَى طَرِيقَتِهِ ، أَنْ يَجْهَلَ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ إمَامِهِ .
وَنَسْأَلُ اللَّهَ الْكَرِيمَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ فِي

دَارِ كَرَامَتِهِ ، وَالدَّرَجَاتِ الْعُلَى مِنْ جَنَّتِهِ ، وَأَنْ يَجْعَلَ عَمَلَنَا صَالِحًا ، وَيَجْعَلَهُ لِوَجْهِهِ خَالِصًا ، وَيَجْعَلَ سَعْيَنَا مُقَرِّبًا إلَيْهِ ، مُبَلِّغًا إلَى رِضْوَانِهِ ، إنَّهُ جَوَادٌ كَرِيمٌ .

قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ رَحِمَهُ اللَّهُ : بَابُ مَا تَكُونُ بِهِ الطَّهَارَةُ مِنْ الْمَاءِ ، التَّقْدِيرُ : هَذَا بَابُ مَا تَكُونُ بِهِ الطَّهَارَةُ مِنْ الْمَاءِ ، فَحَذَفَ الْمُبْتَدَأَ لِلْعِلْمِ بِهِ ، وَقَوْلُهُ " مَا تَكُونُ الطَّهَارَةُ بِهِ " ، أَيْ تَحْصُلُ وَتَحْدُثُ ، وَهِيَ هَاهُنَا تَامَّةٌ غَيْرُ مُحْتَاجَةٍ إلَى خَبَرٍ .
وَمَتَى كَانَتْ تَامَّةً كَانَتْ بِمَعْنَى الْحَدَثِ وَالْحُصُولِ ، تَقُولُ : كَانَ الْأَمْرُ ، أَيْ حَدَثَ وَوَقَعَ ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ } أَيْ : إنْ وُجِدَ ذُو عُسْرَةٍ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ إذَا كَانَ الشِّتَاءُ فَأَدْفِئُونِي فَإِنَّ الشَّيْخَ يُهْرِمُهُ الشِّتَاءُ أَيْ إذَا جَاءَ الشِّتَاءُ .
وَفِي نُسْخَةٍ مَقْرُوءَةٍ عَلَى ابْنِ عَقِيلٍ : ( بَابُ مَا تَجُوزُ بِهِ الطَّهَارَةُ مِنْ الْمَاءِ ) وَمَعْنَاهُمَا مُتَقَارِبٌ .
وَالطَّهَارَةُ فِي اللُّغَةِ : النَّزَاهَةُ عَنْ الْأَقْذَارِ ، وَفِي الشَّرْعِ : رَفْعُ مَا يَمْنَعُ الصَّلَاةَ مِنْ حَدَثٍ أَوْ نَجَاسَةٍ بِالْمَاءِ ، أَوْ رَفْعُ حُكْمِهِ بِالتُّرَابِ .
فَعِنْدَ إطْلَاقِ لَفْظِ الطَّهَارَةِ فِي لَفْظِ الشَّارِعِ أَوْ كَلَامِ الْفُقَهَاءِ يَنْصَرِفُ إلَى الْمَوْضُوعِ الشَّرْعِيِّ دُونَ اللُّغَوِيِّ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَالَهُ مَوْضُوعٌ شَرْعِيٌّ وَلُغَوِيٌّ ، إنَّمَا يَنْصَرِفُ الْمُطْلَقُ مِنْهُ إلَى الْمَوْضُوعِ الشَّرْعِيِّ كَالْوُضُوءِ ، وَالصَّلَاةِ ، وَالصَّوْمِ ، وَالزَّكَاةِ ، وَالْحَجِّ ، وَنَحْوِهِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ التَّكَلُّمُ بِمَوْضُوعَاتِهِ .
وَالطُّهُورُ - بِضَمِّ الطَّاءِ - : الْمَصْدَرُ ، قَالَهُ الْيَزِيدِيُّ وَالطَّهُورُ - بِالْفَتْحِ - مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُتَعَدِّيَةِ ، وَهُوَ الَّذِي يُطَهِّرُ غَيْرَهُ ، مِثْلُ الْغَسُولِ الَّذِي يُغْسَلُ بِهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ : هُوَ مِنْ الْأَسْمَاءِ اللَّازِمَةِ ، بِمَعْنَى الطَّاهِرِ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ لَا تُفَرِّقُ بَيْنَ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ فِي التَّعَدِّي وَاللُّزُومِ ، فَمَا كَانَ فَاعِلُهُ لَازِمًا كَانَ فَعُولُهُ لَازِمًا .
بِدَلِيلِ قَاعِدٍ وَقَعُودٍ ، وَنَائِمٍ وَنَئُومٍ ، وَضَارِبٍ وَضَرُوبٍ .

وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ { لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ } ، وَرَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ نَبِيٌّ قَبْلِي ؛ نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ ، وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَلَوْ أَرَادَ بِهِ الطَّاهِرَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَزِيَّةٌ ؛ لِأَنَّهُ طَاهِرٌ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ .
وَسُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { عَنْ التَّوَضُّؤِ بِمَاءِ الْبَحْرِ ، فَقَالَ : هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ ، الْحِلُّ مَيْتَتُهُ .
} وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الطَّهُورُ مُتَعَدِّيًا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ جَوَابًا لِلْقَوْمِ ، حَيْثُ سَأَلُوهُ عَنْ التَّعَدِّي ، إذْ لَيْسَ كُلُّ طَاهِرٍ مُطَهِّرًا ، وَمَا ذَكَرُوهُ لَا يَسْتَقِيمُ ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ فَرَّقَتْ بَيْنَ الْفَاعِلِ وَالْفَعُولِ ، فَقَالَتْ : قَاعِدٌ لِمَنْ وُجِدَ مِنْهُ الْقُعُودُ ، وَقَعُودُ لِمَنْ يَتَكَرَّرُ مِنْهُ ذَلِكَ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا هَاهُنَا ، وَلَيْسَ إلَّا مِنْ حَيْثُ التَّعَدِّي وَاللُّزُومُ .
( 1 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ ، رَحِمَهُ اللَّهُ : ( وَالطَّهَارَةُ بِالْمَاءِ الطَّاهِرِ الْمُطْلَقِ الَّذِي لَا يُضَافُ إلَى اسْمِ شَيْءٍ غَيْرِهِ : مِثْلُ مَاءِ الْبَاقِلَّا ، وَمَاءِ الْوَرْدِ ، وَمَاءِ الْحِمَّصِ وَمَاءِ الزَّعْفَرَانِ ، وَمَا أَشْبَهَهُ ، مِمَّا لَا يُزَايِلُ اسْمُهُ اسْمَ الْمَاءِ فِي وَقْتٍ ) .
قَوْلُهُ " " وَالطَّهَارَةُ " مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ ، تَقْدِيرُهُ : وَالطَّهَارَةُ مُبَاحَةٌ ، أَوْ جَائِزَةٌ ، وَنَحْوُ ذَلِكَ ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلِاسْتِغْرَاقِ ، فَكَأَنَّهُ قَالَ : وَكُلُّ طَهَارَةٍ جَائِزَةٌ بِكُلِّ مَاءٍ طَاهِرٍ مُطْلَقٍ ، وَالطَّاهِرُ : مَا لَيْسَ بِنَجِسٍ .
وَالْمُطْلَقُ : مَا لَيْسَ بِمُضَافٍ إلَى شَيْءٍ غَيْرِهِ .
وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ " لَا يُضَافُ إلَى اسْمِ شَيْءٍ غَيْرِهِ " .
وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ صِفَةً لَهُ وَتَبْيِينًا ، ثُمَّ مَثَّلَ الْإِضَافَةَ ، فَقَالَ : " مِثْلُ مَاءِ الْبَاقِلَّا ، وَمَاءِ الْوَرْدِ ، وَمَاءِ الْحِمَّصِ ، وَمَاءِ

الزَّعْفَرَانِ ، وَمَا أَشْبَهَهُ " .
وَقَوْلُهُ : " مِمَّا لَا يُزَايِلُ اسْمُهُ اسْمَ الْمَاءِ فِي وَقْتٍ " ، صِفَةٌ لِلشَّيْءِ الَّذِي يُضَافُ إلَيْهِ الْمَاءُ ، وَمَعْنَاهُ : لَا يُفَارِقُ اسْمُهُ اسْمَ الْمَاءِ .
وَالْمُزَايَلَةُ : الْمُفَارَقَةُ ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } ، وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ وَقَدْ طَاوَعُوا أَمْرَ الْعَدُوِّ الْمُزَايِلِ أَيْ الْمُفَارِقِ .
أَيْ : لَا يُذْكَرُ الْمَاءُ إلَّا مُضَافًا إلَى الْمُخَالِطِ لَهُ فِي الْغَالِبِ .
وَيُفِيدُ هَذَا الْوَصْفُ الِاحْتِرَازَ مِنْ الْمُضَافِ إلَى مَكَانِهِ وَمَقَرِّهِ ، كَمَاءِ النَّهْرِ وَالْبِئْرِ ؛ فَإِنَّهُ إذَا زَالَ عَنْ مَكَانِهِ زَالَتْ النِّسْبَةُ فِي الْغَالِبِ ، وَكَذَلِكَ مَا تَغَيَّرَتْ رَائِحَتُهُ تَغَيُّرًا يَسِيرًا ، فَإِنَّهُ لَا يُضَافُ فِي الْغَالِبِ .
وَقَالَ الْقَاضِي : هَذَا احْتِرَازٌ مِنْ الْمُتَغَيِّرِ بِالتُّرَابِ ؛ لِأَنَّهُ يَصْفُو عَنْهُ ، وَيُزَايِلُ اسْمُهُ اسْمَهُ .
وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَحْكَامٍ مِنْهَا إبَاحَةُ الطَّهَارَةِ بِكُلِّ مَاءٍ مَوْصُوفٍ بِهَذِهِ الصُّفَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا ، عَلَى أَيِّ صِفَةٍ كَانَ مِنْ أَصْلِ الْخِلْقَةِ ، مِنْ الْحَرَارَةِ وَالْبُرُودَةِ ، وَالْعُذُوبَةِ وَالْمُلُوحَةِ ، نَزَلَ مِنْ السَّمَاءِ ، أَوْ نَبَعَ مِنْ الْأَرْضِ ، فِي بَحْرٍ أَوْ نَهْرٍ أَوْ بِئْرٍ أَوْ غَدِيرٍ ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ .
وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ } ، وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : { وَأَنْزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا } ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ } ، وَقَوْلُهُ فِي الْبَحْرِ : { هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ } .
وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، إلَّا أَنَّهُ حُكِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ، أَنَّهُمَا قَالَا فِي الْبَحْرِ : التَّيَمُّمُ أَعْجَبُ إلَيْنَا مِنْهُ .
هُوَ نَارٌ .
وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ .

وَالْأَوَّلُ أَوْلَى ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا } وَمَاءُ الْبَحْرِ مَاءٌ ، لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ إلَى التَّيَمُّمِ مَعَ وُجُودِهِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : { سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنَّا نَرْكَبُ الْبَحْرَ ، وَنَحْمِلُ مَعَنَا الْقَلِيلَ مِنْ الْمَاءِ ، فَإِنْ تَوَضَّأْنَا بِهِ عَطِشْنَا ، أَفَنَتَوَضَّأُ بِمَاءِ الْبَحْرِ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ } أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : " مَنْ لَمْ يُطَهِّرْهُ مَاءُ الْبَحْرِ فَلَا طَهَّرَهُ اللَّهُ " وَلِأَنَّهُ مَاءٌ بَاقٍ عَلَى أَصِلْ خِلْقَتِهِ ، فَجَازَ الْوُضُوءُ بِهِ كَالْعَذْبِ .
وَقَوْلُهُمْ : " هُوَ نَارٌ " إنْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّهُ نَارٌ فِي الْحَالِ فَهُوَ خِلَافُ الْحِسِّ ، وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهُ يَصِيرُ نَارًا ، لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ الْوُضُوءَ بِهِ حَالَ كَوْنِهِ مَاءً .

وَمِنْهَا أَنَّ الطَّهَارَةَ مِنْ النَّجَاسَةِ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِمَا يَحْصُلُ بِهِ طَهَارَةُ الْحَدَثِ ؛ لِدُخُولِهِ فِي عُمُومِ الطَّهَارَةِ ، وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَزُفَرُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَجُوزُ إزَالَةُ النَّجَاسَةِ بِكُلِّ مَائِعٍ طَاهِرٍ مُزِيلٍ لِلْعَيْنِ وَالْأَثَرِ ، كَالْخَلِّ ، وَمَاءِ الْوَرْدِ ، وَنَحْوِهِمَا .
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعًا } .
أَطْلَقَ الْغَسْلَ ، فَتَقْيِيدُهُ بِالْمَاءِ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ ؛ وَلِأَنَّهُ مَائِعٌ طَاهِرٌ مُزِيلٌ ، فَجَازَتْ إزَالَةُ النَّجَاسَةِ بِهِ ، كَالْمَاءِ ، فَأَمَّا مَا لَا يُزِيلُ كَالْمَرَقِ وَاللَّبَنِ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ النَّجَاسَةَ لَا تُزَالُ بِهِ .
وَلَنَا مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَالَ لِأَسْمَاءِ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ إذَا أَصَابَ ثَوْبَ إحْدَاكُنَّ الدَّمُ مِنْ الْحَيْضَةِ فَلْتَقْرُصْهُ ، ثُمَّ لِتَنْضَحْهُ بِمَاءٍ ، ثُمَّ لِتُصَلِّ فِيهِ .
} أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ ، وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِذَنُوبٍ مِنْ مَاءٍ فَأُهْرِيقَ عَلَى بَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَهَذَا أَمْرٌ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ ؛ وَلِأَنَّهَا طَهَارَةٌ تُرَادُ لِلصَّلَاةِ ، فَلَا تَحْصُلُ بِغَيْرِ الْمَاءِ ، كَطَهَارَةِ الْحَدَثِ ، وَمُطْلَقُ حَدِيثِهِمْ مُقَيَّدٌ بِحَدِيثِنَا ، وَالْمَاءُ يَخْتَصُّ بِتَحْصِيلِ إحْدَى الطَّهَارَتَيْنِ ، فَكَذَلِكَ الْأُخْرَى .

وَمِنْهَا اخْتِصَاصُ حُصُولِ الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ ، لِتَخْصِيصِهِ إيَّاهُ بِالذِّكْرِ ، فَلَا يَحْصُلُ بِمَائِعٍ سِوَاهُ ، وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو يُوسُفَ وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَيْسَ بِثَابِتٍ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بَأْسًا بِالْوُضُوءِ بِالنَّبِيذِ ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَقَالَ عِكْرِمَةُ النَّبِيذُ وَضُوءُ مَنْ لَمْ يَجِدُ الْمَاءَ .
وَقَالَ إِسْحَاقُ : النَّبِيذُ حُلْوًا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ التَّيَمُّمِ ، وَجَمْعُهُمَا أَحَبُّ إلَيَّ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ كَقَوْلِ عِكْرِمَةَ وَقِيلَ عَنْهُ : يَجُوزُ الْوَضُوءُ بِنَبِيذِ التَّمْرِ ، إذَا طُبِخَ وَاشْتَدَّ ، عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ فِي السَّفَرِ ؛ لِمَا رَوَى { ابْنُ مَسْعُودٍ ، أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْجِنِّ ، فَأَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةَ الْفَجْرِ ، فَقَالَ : أَمَعَكَ وَضُوءٌ ؟ فَقَالَ : لَا ، مَعِي إدَاوَةٌ فِيهَا نَبِيذٌ .
فَقَالَ : تَمْرَةٌ طَيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ } .
وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا .
} وَهَذَا نَصٌّ فِي الِانْتِقَالِ إلَى التُّرَابِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ وَضُوءُ الْمُسْلِمِ وَإِنْ لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِهِ فِي الْحَضَرِ ، أَوْ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ ، فَأَشْبَهَ الْخَلَّ وَالْمَرَقَ ، وَحَدِيثُهُمْ لَا يَثْبُتُ ، وَرَاوِيهِ أَبُو زَيْدٍ مَجْهُولٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ ، لَا يُعْرَفُ لَهُ غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ ، وَلَا يُعْرَفُ بِصُحْبَةِ عَبْدِ اللَّهِ .
قَالَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ ، أَنَّهُ سُئِلَ : هَلْ كُنْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْجِنِّ ؟ فَقَالَ : مَا كَانَ مَعَهُ مِنَّا أَحَدٌ .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَرَوَى مُسْلِمٌ بِإِسْنَادِهِ ، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ ، قَالَ : لَمْ أَكُنْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

لَيْلَةَ الْجِنِّ ، وَوَدِدْت أَنِّي كُنْت مَعَهُ .
( 2 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا غَيْرُ النَّبِيذِ مِنْ الْمَائِعَاتِ ، غَيْرِ الْمَاءِ ، كَالْخَلِّ ، وَالدُّهْنِ ، وَالْمَرَقِ ، وَاللَّبَنِ ، فَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ ، فِيمَا نَعْلَمُ ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بِهَا وُضُوءٌ وَلَا غُسْلٌ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَثْبَتَ الطَّهُورِيَّةَ لِلْمَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ } ، وَهَذَا لَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَاءِ .

وَمِنْهَا ، أَنَّ الْمُضَافَ لَا تَحْصُلُ بِهِ الطَّهَارَةُ ، وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا ؛ مَا لَا تَحْصُلُ بِهِ الطَّهَارَةُ رِوَايَةً وَاحِدَةً ، وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ : أَحَدُهَا ، مَا اُعْتُصِرَ مِنْ الطَّاهِرَاتِ كَمَاءِ الْوَرْدِ ، وَمَاءِ الْقَرَنْفُلِ ، وَمَا يَنْزِلُ مِنْ عُرُوقِ الشَّجَرِ إذَا قُطِعَتْ رَطْبَةً .
الثَّانِي ، مَا خَالَطَهُ طَاهِرٌ فَغَيَّرَ اسْمَهُ ، وَغَلَبَ عَلَى أَجْزَائِهِ ، حَتَّى صَارَ صِبْغًا ، أَوْ حِبْرًا ، أَوْ خَلًّا ، أَوْ مَرَقًا ، وَنَحْوَ ذَلِكَ .
الثَّالِثُ ، مَا طُبِخَ فِيهِ طَاهِرٌ فَتَغَيَّرَ بِهِ ، كَمَاءِ الْبَاقِلَّا الْمَغْلِيِّ .
فَجَمِيعُ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ لَا يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِهَا ، وَلَا الْغُسْلُ ، لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا ، إلَّا مَا حُكِيَ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَالْأَصَمِّ فِي الْمِيَاهِ الْمُعْتَصَرَةِ ، أَنَّهَا طَهُورٌ يَرْتَفِعُ بِهَا الْحَدَثُ ، وَيُزَالُ بِهَا النَّجَسُ .
وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهٌ فِي مَاءِ الْبَاقِلَّا الْمَغْلِيِّ ، وَسَائِرُ مَنْ بَلَغَنَا قَوْلُهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى خِلَافِهِمْ .
قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ قَوْلَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْوُضُوءَ غَيْرُ جَائِزٍ بِمَاءِ الْوَرْدِ ، وَمَاءِ الشَّجَرِ ، وَمَاءِ الْعُصْفُرِ ، وَلَا تَجُوزُ الطَّهَارَةُ إلَّا بِمَاءٍ مُطْلَقٍ ، يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَاءِ ؛ وَلِأَنَّ الطَّهَارَةَ إنَّمَا تَجُوزُ بِالْمَاءِ ، وَهَذَا لَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَاءِ بِإِطْلَاقِهِ الضَّرْبُ الثَّانِي مَا خَالَطَهُ طَاهِرٌ يُمْكِنْ التَّحَرُّزُ مِنْهُ ، فَغَيَّرَ إحْدَى صِفَاتِهِ ، طَعْمَهُ ، أَوْ لَوْنَهُ ، أَوْ رِيحَهُ ، كَمَاءِ الْبَاقِلَّا ، وَمَاءِ الْحِمَّصِ ، وَمَاءِ الزَّعْفَرَانِ .
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْوُضُوءِ بِهِ ، وَاخْتَلَفْت الرِّوَايَةُ عَنْ إمَامِنَا ، رَحِمَهُ اللَّهُ ، فِي ذَلِكَ ؛ فَرُوِيَ عَنْهُ : لَا تَحْصُلُ الطَّهَارَةُ بِهِ .
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَإِسْحَاقَ وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَهِيَ أَصَحُّ ، وَهِيَ الْمَنْصُورَةُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا فِي الْخِلَافِ .
وَنَقَلَ عَنْ أَحْمَدَ

جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ ، مِنْهُمْ أَبُو الْحَارِثِ ، وَالْمَيْمُونِيُّ ، وَإِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ ، جَوَازَ الْوُضُوءِ بِهِ .
وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا } وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ مَاءٍ ؛ لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ ، وَالنَّكِرَةُ فِي سِيَاقِ النَّفْي تَعُمُّ ، فَلَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ مَعَ وُجُودِهِ ، وَأَيْضًا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ : { التُّرَابُ كَافِيكَ مَا لَمْ تَجِدْ الْمَاءَ } .
وَهَذَا وَاجِدٌ لِلْمَاءِ ؛ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ كَانُوا يُسَافِرُونَ ، وَغَالِبُ أَسْقِيَتِهِمْ الْأُدْمُ ، وَالْغَالِبُ أَنَّهَا تُغَيِّرُ الْمَاءَ ، فَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ تَيَمُّمٌ مَعَ وُجُودِ شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْمِيَاهِ ؛ وَلِأَنَّهُ طَهُورٌ خَالَطَهُ طَاهِرٌ لَمْ يَسْلُبْهُ اسْمَ الْمَاءِ ، وَلَا رِقَّتَهُ ، وَلَا جَرَيَانَهُ ، فَأَشْبَهَ الْمُتَغَيِّرَ بِالدُّهْنِ .
وَوَجْهُ الْأُولَى : أَنَّهُ مَاءٌ تَغَيَّرَ بِمُخَالَطَةِ مَا لَيْسَ بِطَهُورٍ يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ ، فَلَمْ يَجُزْ الْوُضُوءُ بِهِ ، كَمَاءِ الْبَاقِلَّا الْمَغْلِيِّ ؛ وَلِأَنَّهُ زَالَ عَنْ إطْلَاقِهِ ، فَأَشْبَهَ الْمَغْلِيَّ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ أَصْحَابَنَا لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْمَذْرُورِ فِي الْمَاءِ مِمَّا يُخْلَطُ بِالْمَاءِ كَالزَّعْفَرَانِ وَالْعُصْفُرِ وَالْأُشْنَانِ وَنَحْوِهِ ، وَبَيْنَ الْحُبُوبِ مِنْ الْبَاقِلَّا وَالْحِمَّصِ ، وَالثَّمَرِ كَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَالْوَرَقِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : مَا كَانَ مَذْرُورًا مُنِعَ إذَا غَيَّرَ الْمَاءَ ، وَمَا عَدَاهُ لَا يُمْنَعُ إلَّا أَنْ يَنْحَلَّ فِي الْمَاءِ ، وَإِنْ غَيَّرَهُ مِنْ غَيْرِ انْحِلَالٍ لَمْ يَسْلُبْ طَهُورِيَّتَهُ ؛ لِأَنَّهُ تَغَيُّرُ مُجَاوَرَةٍ ، أَشْبَهَ تَغْيِيرَ الْكَافُورِ .
وَوَافَقَهُمْ أَصْحَابُنَا فِي الْخَشَبِ وَالْعِيدَانِ ، وَخَالَفُوهُمْ فِي سَائِرِ مَا ذَكَرْنَا ؛ لِأَنَّ تَغَيُّرَ الْمَاءِ بِهِ إنَّمَا كَانَ لِانْفِصَالِ أَجْزَاءٍ مِنْهُ إلَى

الْمَاءِ وَانْحِلَالِهَا فِيهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ كَمَا لَوْ طُبِخَ فِيهِ ؛ وَلِأَنَّهُ مَاءٌ تَغَيَّرَ بِمُخَالَطَةِ طَاهِرٍ يُمْكِنُ صَوْنُهُ عَنْهُ ، أَشْبَهَ مَا لَوْ أُغْلِيَ فِيهِ .
الضَّرْبُ الثَّالِثُ مِنْ الْمُضَافِ مَا يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِهِ رِوَايَةً وَاحِدَةً ، وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ : أَحَدُهَا : مَا أُضِيفَ إلَى مَحَلِّهِ وَمَقَرِّهِ ، كَمَاءِ النَّهْرِ وَالْبِئْرِ وَأَشْبَاهِهِمَا ؛ فَهَذَا لَا يَنْفَكُّ مِنْهُ مَاءٌ وَهِيَ إضَافَةٌ إلَى غَيْرِ مُخَالِطٍ .
وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ .
الثَّانِي : مَا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ ، كَالطُّحْلُبِ وَالْخَزِّ وَسَائِرِ مَا يَنْبُتُ فِي الْمَاءِ ، وَكَذَلِكَ وَرَقُ الشَّجَرِ الَّذِي يَسْقُطُ فِي الْمَاءِ ، أَوْ تَحْمِلُهُ الرِّيحُ فَتُلْقِيهِ فِيهِ ، وَمَا تَجْذِبُهُ السُّيُولُ مِنْ الْعِيدَانِ وَالتِّبْنِ وَنَحْوِهِ ، فَتُلْقِيهِ فِي الْمَاءِ ، وَمَا هُوَ فِي قَرَارِ الْمَاءِ كَالْكِبْرِيتِ وَالْقَارِ وَغَيْرِهِمَا ، إذَا جَرَى عَلَيْهِ الْمَاءُ فَتَغَيَّرَ بِهِ ، أَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ الَّتِي يَقِفُ فِيهَا الْمَاءُ .
فَهَذَا كُلُّهُ يُعْفَى عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ يَشُقُّ التَّحَرُّزُ مِنْهُ ، فَإِنْ أُخِذَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَأُلْقِيَ فِي الْمَاءِ وَغَيْرِهِ كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ مَا أَمْكَنَ التَّحَرُّزُ مِنْهُ ، مِنْ الزَّعْفَرَانِ وَنَحْوِهِ ؛ لِأَنَّ الِاحْتِرَازَ مِنْهُ مُمْكِنٌ .
الثَّالِثُ : مَا يُوَافِقُ الْمَاءَ فِي صِفَتَيْهِ الطَّهَارَةِ ، وَالطَّهُورِيَّةِ ، كَالتُّرَابِ إذَا غَيَّرَ الْمَاءَ لَا يَمْنَعُ الطَّهُورِيَّةَ ؛ لِأَنَّهُ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ كَالْمَاءِ ، فَإِنْ ثَخُنَ بِحَيْثُ لَا يَجْرِي عَلَى الْأَعْضَاءِ لَمْ تَجُزْ الطَّهَارَةُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ طِينٌ وَلَيْسَ بِمَاءٍ ، وَلَا فَرْقَ فِي التُّرَابِ بَيْنَ وُقُوعِهِ فِي الْمَاءِ عَنْ قَصْدٍ أَوْ غَيْرِ قَصْدٍ .
وَكَذَلِكَ الْمِلْحُ الَّذِي أَصْلُهُ الْمَاءُ كَالْبَحْرِيِّ ، وَالْمِلْحُ الَّذِي يَنْعَقِدُ مِنْ الْمَاءِ الَّذِي يُرْسَلُ عَلَى السَّبْخَةِ فَيَصِيرُ مِلْحًا ، فَلَا يَسْلُبُ الطَّهُورِيَّةَ ؛ لِأَنَّ أَصْلَهُ الْمَاءُ ، فَهُوَ كَالْجَلِيدِ وَالثَّلْجِ ، وَإِنْ كَانَ مَعْدِنًا

لَيْسَ أَصْلُهُ الْمَاءَ فَهُوَ كَالزَّعْفَرَانِ وَغَيْرِهِ .
الرَّابِعُ : مَا يَتَغَيَّرُ بِهِ الْمَاءُ بِمُجَاوَرَتِهِ مِنْ غَيْرِ مُخَالَطَةٍ ، كَالدُّهْنِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ ، وَالطَّاهِرَاتُ الصُّلْبَةِ كَالْعُودِ وَالْكَافُورِ وَالْعَنْبَرِ ، إذَا لَمْ يَهْلِكْ فِي الْمَاءِ ، وَلَمْ يَمِعْ فِيهِ ، لَا يَخْرُجُ بِهِ عَنْ إطْلَاقِهِ ؛ لِأَنَّهُ تَغْيِيرُ مُجَاوَرَةٍ ، أَشْبَهَ مَا لَوْ تَرَوَّحَ الْمَاءُ بِرِيحِ شَيْءٍ عَلَى جَانِبِهِ .
وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذِهِ الْأَنْوَاعِ خِلَافًا .
وَفِي مَعْنَى الْمُتَغَيِّرِ بِالدُّهْنِ مَا تَغَيَّرَ بِالْقَطِرَانِ وَالزِّفْتِ وَالشَّمْعِ ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ دُهْنِيَّةً يَتَغَيَّرُ بِهَا الْمَاءُ تَغَيُّرَ مُجَاوَرَةٍ ، فَلَا يُمْنَعُ كَالدُّهْنِ .

( 3 ) فَصْلٌ وَالْمَاءُ الْآجِنُ ، وَهُوَ الَّذِي يَتَغَيَّرُ بِطُولِ مُكْثِهِ فِي الْمَكَانِ ، مِنْ غَيْرِ مُخَالَطَةِ شَيْءٍ يُغَيِّرُهُ ، بَاقٍ عَلَى إطْلَاقِهِ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ قَوْلَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْوُضُوءَ بِالْمَاءِ الْآجِنِ مِنْ غَيْرِ نَجَاسَةٍ حَلَّتْ فِيهِ جَائِزٌ ، غَيْرَ ابْنِ سِيرِينَ فَإِنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ .
وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ أُولَى ، فَإِنَّهُ يُرْوَى { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ مِنْ بِئْرٍ كَأَنَّ مَاءَهُ نُقَاعَةُ الْحِنَّاءِ } وَلِأَنَّهُ تَغَيَّرَ مِنْ غَيْرِ مُخَالَطَةٍ .

( 4 ) فَصْلٌ وَإِذَا كَانَ عَلَى الْعُضْوِ طَاهِرٌ ، كَالزَّعْفَرَانِ وَالْعَجِينِ ، فَتَغَيَّرَ بِهِ الْمَاءُ وَقْتَ غَسْلِهِ ، لَمْ يَمْنَعْ حُصُولَ الطَّهَارَةِ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ تَغَيُّرٌ فِي مَحَلِّ التَّطْهِيرِ ، أَشْبَهَ مَا لَوْ تَغَيَّرَ الْمَاءُ الَّذِي تُزَالُ بِهِ النَّجَاسَةُ فِي مَحَلِّهَا .

( 5 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( وَمَا سَقَطَ فِيهِ مِمَّا ذَكَرْنَا أَوْ مِنْ غَيْرِهِ وَكَانَ يَسِيرًا فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ طَعْمٌ وَلَا لَوْنٌ وَلَا رَائِحَةٌ كَثِيرَةٌ حَتَّى يُنْسَبَ الْمَاءُ إلَيْهِ تُوُضِّئَ بِهِ ) قَوْلُهُ : " مِمَّا ذَكَرْنَا " ، يَعْنِي الْبَاقِلَّا وَالْحِمَّصَ وَالْوَرْدَ وَالزَّعْفَرَانَ وَغَيْرَهُ ، يَعْنِي مِنْ الطَّاهِرَاتِ سِوَاهُ .
وَقَوْلُهُ : " حَتَّى يُنْسَبَ الْمَاءُ إلَيْهِ " أَيْ : يُضَافَ إلَيْهِ ، عَلَى مَا قَدَّمْنَا ، وَاعْتُبِرَ الْكَثْرَةُ فِي الرَّائِحَةِ ، دُونَ غَيْرِهَا مِنْ الصِّفَاتِ ؛ لِأَنَّ لَهَا سِرَايَةً وَنُفُوذًا ، فَإِنَّهَا تَحْصُلُ عَنْ مُجَاوَرَةٍ تَارَةً ، وَعَنْ مُخَالَطَةٍ أُخْرَى ، فَاعْتُبِرَ الْكَثْرَةُ فِيهَا لِيُعْلَمَ أَنَّهَا عَنْ مُخَالَطَةٍ .
قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ غَيْرُ الْخِرَقِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا ، ذَهَبَ إلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الرَّائِحَةِ وَاللَّوْنِ وَالطَّعْمِ ؛ لِأَنَّهَا صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ الْمَاءِ ، فَأَشْبَهَتْ اللَّوْنَ وَالطَّعْمَ .
وَقَالَ الْقَاضِي : يَجِبُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الرَّائِحَةِ وَاللَّوْنِ وَالطَّعْمِ ، فَإِنْ عُفِيَ عَنْ الْيَسِيرِ فِي بَعْضِهَا عُفِيَ عَنْهُ فِي بَقِيَّتِهَا ، وَإِنْ لَمْ يُعْفَ عَنْ الْيَسِيرِ فِي بَعْضِهَا لَمْ يُعْفَ عَنْهُ فِي بَقِيَّتِهَا .
وَقَدْ ذَكَرْنَا مَعْنًى يَقْتَضِي الْفَرْقَ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي جَوَازِ الْوُضُوءِ بِمَاءٍ خَالَطَهُ طَاهِرٌ ، لَمْ يُغَيِّرْهُ ، إلَّا مَا حُكِيَ عَنْ أُمِّ هَانِئٍ ، فِي مَاءٍ بُلَّ فِيهِ خُبْزٌ : لَا يُتَوَضَّأُ بِهِ .
وَلَعَلَّهَا أَرَادَتْ مَا تَغَيَّرَ بِهِ .
وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ ، عَنْ الزُّهْرِيِّ فِي كِسَرٍ بُلَّتْ بِالْمَاءِ ، غَيَّرَتْ لَوْنَهُ أَوْ لَمْ تُغَيِّرْ لَوْنَهُ ، لَمْ يُتَوَضَّأْ بِهِ .
وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ طَاهِرٌ لَمْ يُغَيِّرْ صِفَةَ الْمَاءِ ، فَلَمْ يُمْنَعْ كَبَقِيَّةِ الطَّاهِرَاتِ إذَا لَمْ تُغَيِّرْهُ ، وَقَدْ { اغْتَسَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَزَوْجَتُهُ مِنْ جَفْنَةٍ فِيهَا أَثَرُ الْعَجِينِ } رَوَاهُ النَّسَائِيّ ، وَابْنُ مَاجَهْ ، وَالْأَثْرَمُ .

( 6 ) فَصْلٌ وَإِذَا وَقَعَ فِي الْمَاءِ مَائِعٌ ، لَا يُغَيِّرُهُ لِمُوَافَقَةِ صِفَتِهِ ، وَهَذَا يَبْعُدُ ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَنْفَرِدَ عَنْهُ بِصِفَةٍ ، فَيُعْتَبَرُ التَّغَيُّرُ بِظُهُورِ تِلْكَ الصِّفَةِ .
فَإِنْ اتَّفَقَ ذَلِكَ اعْتَبَرْنَاهُ بِغَيْرِهِ مِمَّا لَهُ صِفَةٌ تَظْهَرُ عَلَى الْمَاءِ ، كَالْحُرِّ إذَا جُنِيَ عَلَيْهِ دُونَ الْمُوضِحَةِ قَوَّمْنَاهُ كَأَنَّهُ عَبْدٌ ، وَإِنْ شَكَّ فِي كَوْنِهِ يَمْنَعُ بُنِيَ عَلَى يَقِينِ الطَّهُورِيَّةِ ؛ لِأَنَّهَا الْأَصْلُ ، فَلَا يَزُولُ عَنْهَا بِالشَّكِّ .

( 7 ) فَصْلٌ وَإِنْ كَانَ الْوَاقِعُ فِي الْمَاءِ مَاءً مُسْتَعْمَلًا عُفِيَ عَنْ يَسِيرِهِ .
قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ : قُلْت لِأَحْمَدَ الرَّجُلُ يَتَوَضَّأُ ، فَيَنْتَضِحُ مِنْ وَضُوئِهِ فِي إنَائِهِ ؟ قَالَ : لَا بَأْسَ بِهِ .
قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ : لَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ .
وَنَحْوُهُ عَنْ الْحَسَنِ .
وَهَذَا ظَاهِرُ حَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَضَّئُونَ مِنْ الْأَقْدَاحِ وَالْأَتْوَارِ ، وَيَغْتَسِلُونَ مِنْ الْجِفَانِ ، وَقَدْ رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَغْتَسِلُ هُوَ وَمَيْمُونَةُ مِنْ جَفْنَةٍ فِيهَا أَثَرُ الْعَجِينِ } { وَاغْتَسَلَ هُوَ وَعَائِشَةُ مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ تَخْتَلِفُ أَيْدِيهِمَا فِيهِ ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقُولُ لِصَاحِبِهِ : أَبْقِ لِي } .
وَمِثْلُ هَذَا لَا يَسْلَمُ مِنْ رَشَاشٍ يَقَعُ فِي الْمَاءِ ، وَإِنْ كَثُرَ الْوَاقِعُ وَتَفَاحَشَ مُنِعَ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : إنْ كَانَ الْأَكْثَرُ الْمُسْتَعْمَلَ مُنِعَ ، وَإِنْ كَانَ الْأَقَلُّ لَمْ يُمْنَعْ .
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : إنْ كَانَ الْوَاقِعُ بِحَيْثُ لَوْ كَانَ خَلًّا غَيَّرَ الْمَاءَ مُنِعَ وَإِلَّا فَلَا .
وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْخَبَرِ ، وَظَاهِرُ حَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ ، يَمْنَعُ مِنْ اعْتِبَارِهِ بِالْخَلِّ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَسْرَعِ الْمَائِعَاتِ نُفُوذًا ، وَأَبْلَغِهَا سِرَايَةً ، فَيُؤَثِّرُ قَلِيلُهُ فِي الْمَاءِ ، وَالْحَدِيثُ دَلَّ عَلَى الْعَفْوِ عَنْ يَسِيرِهِ ، فَإِذًا يُرْجَعُ فِي ذَلِكَ إلَى الْعُرْفِ ، فَمَا كَانَ كَثِيرًا مُتَفَاحِشًا مُنِعَ وَإِلَّا فَلَا ، وَإِنْ شَكَّ فَالْمَاءُ بَاقٍ عَلَى الطَّهُورِيَّةِ ؛ لِأَنَّهَا الْأَصْلُ ، فَلَا يَزُولُ عَنْهُ بِالشَّكِّ .

( 8 ) فَصْلٌ فَإِنْ كَانَ مَعَهُ مَاءٌ ، لَا يَكْفِيهِ لَطَهَارَتِهِ ، فَكَمَّلَهُ بِمَائِعٍ لَمْ يُغَيِّرْهُ ، جَازَ الْوُضُوءُ بِهِ ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ طَاهِرٌ لَمْ يُغَيِّرْ الْمَاءَ ، فَلَمْ يُمْنَعْ كَمَا لَوْ كَانَ الْمَاءُ قَدْرًا يُجْزِئُ فِي الطَّهَارَةِ .
وَالثَّانِيَةُ : لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّنَا نَتَيَقَّنُ حُصُولَ غَسْلِ بَعْضِ أَعْضَائِهِ بِالْمَائِعِ .
وَالْأُولَى أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ تَظْهَرْ صِفَةُ الْمَائِعِ عَلَى الْمَاءِ صَارَ حُكْمُ الْجَمِيعِ حُكْمَ الْمَاءِ ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ لِلرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ يَبْطُلُ بِمَا إذَا كَانَ الْمَاءُ قَدْرًا يُجْزِئُ فِي الطَّهَارَةِ فَخَلَطَهُ بِمَائِعٍ ، ثُمَّ تَوَضَّأَ بِهِ ، وَبَقِيَ قَدْرُ الْمَائِعِ أَوْ دُونَهُ ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْمُسْتَعْمَلَ بَعْضُ الْمَاءِ وَبَعْضُ الْمَائِعِ ، وَكَذَلِكَ الْبَاقِي ، لِاسْتِحَالَةِ انْفِرَادِ الْمَاءِ عَنْ الْمَائِعِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( 9 ) فَصْلٌ : وَلَا يُكْرَهُ الْوُضُوءُ بِالْمَاءِ الْمُسَخَّنِ بِطَاهِرٍ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ حَارًّا يَمْنَعُ إسْبَاغَ الْوُضُوءِ لِحَرَارَتِهِ .
وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ رَأَى الْوُضُوءَ بِالْمَاءِ الْمُسَخَّنِ عُمَرُ وَابْنُهُ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَأَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْحِجَازِ وَأَهْلِ الْعِرَاقِ جَمِيعِهِمْ غَيْرَ مُجَاهِدٍ ، وَلَا مَعْنَى لَقَوْلِهِ ، فَإِنَّ زَيْدَ بْنَ أَسْلَمَ رَوَى : أَنَّ عُمَرَ كَانَ لَهُ قُمْقُمَةٌ يُسَخِّنُ فِيهَا الْمَاءَ ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ دَخَلَ حَمَّامًا بِالْجُحْفَةِ ، وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ حَدِيثًا عَنْ شَرِيكٍ رَحَّالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَجْنَبْتُ وَأَنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَمَعْت حَطَبًا ، فَأَحْمَيْت الْمَاءَ ، فَاغْتَسَلْت .
فَأَخْبَرْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيَّ } ؛ وَلِأَنَّهَا صِفَةٌ ، خُلِقَ عَلَيْهَا الْمَاءُ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ بَرَّدَهُ .

( 10 ) فَصْلٌ وَلَا تُكْرَهُ الطَّهَارَةُ بِالْمَاءِ الْمُشَمَّسِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : تُكْرَهُ الطَّهَارَةُ بِمَاءٍ قُصِدَ إلَى تَشْمِيسِهِ فِي الْأَوَانِي ، وَلَا أَكْرَهُهُ إلَّا مِنْ جِهَةِ الطِّبِّ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ { : دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ سَخَّنْت لَهُ الْمَاءَ فِي الشَّمْسِ ، فَقَالَ : لَا تَفْعَلِي يَا حُمَيْرَاءُ ، فَإِنَّهُ يُورِثُ الْبَرَصَ } وَاخْتَارَهُ أَبُو الْحَسَنِ التَّمِيمِيُّ .
وَلَنَا أَنَّهُ سُخِّنَ بِطَاهِرٍ ، أَشْبَهَ مَا فِي الْبِرَكِ وَالْأَنْهَارِ ، وَمَا سُخِّنَ بِالنَّارِ وَمَا لَمْ يُقْصَدْ تَشْمِيسُهُ ، فَإِنَّ الضَّرَرَ لَا يَخْتَلِفُ بِالْقَصْدِ وَعَدَمِهِ ، وَالْحَدِيثُ غَيْرُ ثَابِتٍ ، يَرْوِيهِ ، خَالِدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ ، وَهُوَ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ ، وَعَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَعْسَمُ ، وَهُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ .
قَالَهُ الدَّارَقُطْنِيّ ، قَالَ : وَلَا يَصِحُّ عَنْ الزُّهْرِيِّ .
وَحُكِيَ عَنْ أَهْلِ الطِّبِّ أَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ لِذَلِكَ تَأْثِيرًا فِي الضَّرَرِ .

( 11 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمَاءُ الْمُسَخَّنُ بِالنَّجَاسَةِ ، فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا ، أَنْ يَتَحَقَّقَ وُصُولُ شَيْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ النَّجَاسَةِ إلَى الْمَاءِ ، فَيُنَجِّسَهُ إذَا كَانَ يَسِيرًا .
وَالثَّانِي ، أَنْ لَا يَتَحَقَّقَ وُصُولُ شَيْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ النَّجَاسَةِ إلَى الْمَاءِ وَالْحَائِلُ غَيْرُ حَصِينٍ ، فَالْمَاءُ عَلَى أَصْلِ الطَّهَارَةِ ، وَيُكْرَهُ اسْتِعْمَالُهُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يُكْرَهُ ؛ { لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ حَمَّامًا بِالْجُحْفَةِ } .
وَلَنَا ، أَنَّهُ مَاءٌ تَرَدَّدَ بَيْنَ الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ مَعَ وُجُودِ سَبَبِهَا ، فَأَقَلُّ أَحْوَالِهِ الْكَرَاهَةُ ، وَالْحَدِيثُ لَا يَثْبُتُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا يُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّ الْوَقُودَ كَانَ نَجِسًا ، وَلَا أَنَّ الْحَائِلَ كَانَ غَيْرَ حَصِينٍ ، وَالْحَدِيثُ قَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ لَا يَثْبُتُ بِهِ نَفْيُ الْكَرَاهَةِ إلَّا فِي مِثْلِهَا ، وَلَا يَثْبُتُ بِهِ نَفْيُ الْكَرَاهَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ .
الْقِسْمُ الثَّالِثُ ، إذَا كَانَ الْحَائِلُ حَصِينًا ، فَقَالَ الْقَاضِي : يُكْرَهُ ، وَاخْتَارَ الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ ، وَابْنُ عَقِيلٍ ، أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَرَدَّدٍ فِي نَجَاسَتِهِ ، بِخِلَافِ الَّتِي قَبْلَهَا .
وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ فِي كَرَاهَةِ الْمُسَخَّنِ بِالنَّجَاسَةِ رِوَايَتَيْنِ ، عَلَى الْإِطْلَاقِ .

( 12 ) فَصْلٌ : وَلَا يُكْرَهُ الْوُضُوءُ وَالْغُسْلُ بِمَاءِ زَمْزَمَ ؛ لِأَنَّهُ مَاءٌ طَهُورٌ ، فَأَشْبَهَ سَائِرَ الْمِيَاهِ .
وَعَنْهُ : يُكْرَهُ لِقَوْلِ الْعَبَّاسِ لَا أُحِلُّهَا لِمُغْتَسِلٍ ، لَكِنْ لِمُحْرِمٍ حَلَّ وَبَلَّ ؛ وَلِأَنَّهُ يُزِيلُ بِهِ مَانِعًا مِنْ الصَّلَاةِ ، أَشْبَهَ إزَالَةَ النَّجَاسَةِ بِهِ .
وَالْأَوَّلُ أَوْلَى ، وَقَوْلُ الْعَبَّاسِ لَا يُؤْخَذُ بِصَرِيحِهِ فِي التَّحْرِيمِ ، فَفِي غَيْرِهِ أَوْلَى ، وَشَرَفُهُ لَا يُوجِبُ الْكَرَاهَةَ لِاسْتِعْمَالِهِ ، كَالْمَاءِ الَّذِي وَضَعَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَّهُ ، أَوْ اغْتَسَلَ مِنْهُ .

( 13 ) فَصْلٌ الذَّائِبُ مِنْ الثَّلْجِ وَالْبَرَدِ طَهُورٌ ؛ لِأَنَّهُ مَاءٌ نَزَلَ مِنْ السَّمَاءِ ، وَفِي دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { اللَّهُمَّ طَهِّرْنِي بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
فَإِنْ أَخَذَ الثَّلْجَ فَأَمَرَّهُ عَلَى أَعْضَائِهِ لَمْ تَحْصُلْ الطَّهَارَةُ ، وَلَوْ انْبَلَّ بِهِ الْعُضْوُ لِأَنَّ الْوَاجِبَ الْغَسْلُ ، وَأَقَلُّ ذَلِكَ أَنْ يُجْرِيَ الْمَاءَ عَلَى الْعُضْوِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ خَفِيفًا فَيَذُوبَ وَيَجْرِيَ مَاؤُهُ عَلَى الْأَعْضَاءِ ، فَيَحْصُلَ بِهِ الْغَسْلُ ، فَيُجْزِئُهُ .

( 14 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَلَا يُتَوَضَّأُ بِمَاءٍ قَدْ تُوُضِّئَ بِهِ ) يَعْنِي : الْمَاءَ الْمُنْفَصِلَ عَنْ أَعْضَاءِ الْمُتَوَضِّئِ ، وَالْمُغْتَسِلُ فِي مَعْنَاهُ ، وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْمُسْتَعْمَلَ فِي رَفْعِ الْحَدَثِ طَاهِرٌ غَيْرُ مُطَهِّرٍ ، لَا يَرْفَعُ حَدَثًا ، وَلَا يُزِيلُ نَجَسًا ، وَبِهِ قَالَ اللَّيْثُ وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ ، وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ .
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى ، أَنَّهُ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ .
وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ ، وَعَطَاءٌ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَمَكْحُولٌ ، وَأَهْلُ الظَّاهِرِ ، وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ لِمَالِكٍ ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ .
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ ، وَابْنِ عُمَرَ ، وَأَبِي أُمَامَةَ فِيمَنْ نَسِيَ مَسْحَ رَأْسِهِ ، إذَا وَجَدَ بَلَلًا فِي لِحْيَتِهِ ، أَجْزَأَهُ أَنْ يَمْسَحَ رَأْسَهُ بِذَلِكَ الْبَلَلِ .
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الْمَاءُ لَا يُجْنِبُ } ، وَقَالَ : { الْمَاءُ لَيْسَ عَلَيْهِ جَنَابَةٌ } ، وَرُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اغْتَسَلَ مِنْ الْجَنَابَةِ ، فَرَأَى لُمْعَةً لَمْ يُصِبْهَا الْمَاءُ ، فَعَصَرَ شَعَرَهُ عَلَيْهَا } .
رَوَاهُمَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، فِي " الْمُسْنَدِ " وَابْنُ مَاجَهْ ، وَغَيْرُهُمَا وَلِأَنَّهُ غُسِلَ بِهِ مَحَلٌّ طَاهِرٌ ، فَلَمْ تَزُلْ بِهِ طَهُورِيَّتُهُ ، كَمَا لَوْ غُسِلَ بِهِ الثَّوْبُ ؛ وَلِأَنَّهُ لَاقَى مَحَلًّا طَاهِرًا ، فَلَا يَخْرُجُ عَنْ حُكْمِهِ بِتَأْدِيَةِ الْفَرْضِ بِهِ ، كَالثَّوْبِ يُصَلَّى فِيهِ مِرَارًا .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : هُوَ نَجِسٌ .
وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ ، وَلَا يَغْتَسِلْ فِيهِ مِنْ جَنَابَةٍ .
} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فَاقْتَضَى أَنَّ الْغُسْلَ فِيهِ ، كَالْبَوْلِ فِيهِ ؛ وَلِأَنَّهُ يُسَمَّى طَهَارَةً وَالطَّهَارَةُ لَا تَكُونُ إلَّا عَنْ نَجَاسَةٍ ، إذْ تَطْهِيرُ الطَّاهِرِ لَا يُعْقَلُ .

وَلَنَا : عَلَى طَهَارَتِهِ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ .
} رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ؛ { وَلِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَبَّ عَلَى جَابِرٍ مِنْ وَضُوئِهِ إذْ كَانَ مَرِيضًا ، } وَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَمْ يَجُزْ فِعْلُ ذَلِكَ ؛ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ وَنِسَاءَهُ كَانُوا يَتَوَضَّئُونَ فِي الْأَقْدَاحِ وَالْأَتْوَارِ وَيَغْتَسِلُونَ فِي الْجِفَانِ ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَسْلَمُ مِنْ رَشَاشٍ يَقَعُ فِي الْمَاءِ مِنْ الْمُسْتَعْمَلِ ، وَلِهَذَا قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَلَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ .
فَلَوْ كَانَ الْمُسْتَعْمَلُ نَجِسًا لَنَجَّسَ الْمَاءَ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ قَدَّمَتْ إلَيْهِ امْرَأَةٌ مِنْ نِسَائِهِ قَصْعَةً لِيَتَوَضَّأَ مِنْهَا ، فَقَالَتْ امْرَأَةٌ : إنِّي غَمَسْت يَدِي فِيهَا ، وَأَنَا جُنُبٌ .
فَقَالَ : الْمَاءُ لَا يُجْنِبُ } ، وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي " الْمُسْنَدِ " : " الْمَاءُ لَا يَنْجُسُ " .
وَعِنْدَهُمْ الْحَدَثُ يَرْتَفِعُ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ ؛ وَلِأَنَّهُ مَاءٌ طَاهِرٌ لَاقَى مَحَلًّا طَاهِرًا ، فَكَانَ طَاهِرًا ، كَاَلَّذِي غُسِلَ بِهِ الثَّوْبُ الطَّاهِرُ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُحْدِثَ طَاهِرٌ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : { لَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا جُنُبٌ ، فَانْخَنَسْت مِنْهُ فَاغْتَسَلْت ثُمَّ جِئْت ، فَقَالَ : أَيْنَ كُنْت يَا أَبَا هُرَيْرَةَ ؟ قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ : كُنْت جُنُبًا ، فَكَرِهْت أَنْ أُجَالِسَكَ ، فَذَهَبْت فَاغْتَسَلْت ثُمَّ جِئْت .
فَقَالَ : سُبْحَانَ اللَّهِ ، الْمُسْلِمُ لَا يَنْجُسُ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ غَمَسَ يَدَهُ فِي الْمَاءِ لَمْ يُنَجِّسْهُ ، وَلَوْ مَسَّ شَيْئًا رَطْبًا لَمْ يُنَجِّسْهُ ، وَلَوْ حَمَلَهُ مُصَلٍّ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّهُ نَهَى عَنْ الْغُسْلِ مِنْ الْجَنَابَةِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ ، كَنَهْيِهِ عَنْ الْبَوْلِ فِيهِ .

قُلْنَا : النَّهْيُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُؤَثِّرُ فِي الْمَاءِ ، وَهُوَ الْمَنْعُ مِنْ التَّوَضُّؤِ بِهِ ، وَالِاقْتِرَانُ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ فِي أَصْلِ الْحُكْمِ ، لَا فِي تَفْصِيلِهِ ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْوُضُوءُ وَالْغُسْلُ طَهَارَةً لِكَوْنِهِ يُنَقِّي الذُّنُوبَ وَالْآثَامَ ، كَمَا وَرَدَ فِي الْأَخْبَارِ ، بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَاهُ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَالدَّلِيلُ عَلَى خُرُوجِهِ عَنْ الطَّهُورِيَّةِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا يَغْتَسِلْ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَهُوَ جُنُبٌ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، مَنَعَ مِنْ الْغُسْلِ فِيهِ كَمَنْعِهِ مِنْ الْبَوْلِ فِيهِ ، فَلَوْلَا أَنَّهُ يُفِيدُهُ مَنْعًا لَمْ يَنْهَ عَنْهُ ؛ وَلِأَنَّهُ أُزِيلَ بِهِ مَانِعٌ مِنْ الصَّلَاةِ ، فَلَمْ يَجُزْ اسْتِعْمَالُهُ فِي طَهَارَةٍ أُخْرَى ، كَالْمُسْتَعْمَلِ فِي إزَالَةِ النَّجَاسَةِ .

( 15 ) فَصْلٌ : وَجَمِيعُ الْأَحْدَاثِ سَوَاءٌ فِيمَا ذَكَرْنَا ؛ الْحَدَثُ الْأَصْغَرُ ، وَالْجَنَابَةُ ، وَالْحَيْضُ ، وَالنِّفَاسُ ، وَكَذَلِكَ الْمُنْفَصِلُ مِنْ غُسْلِ الْمَيِّتِ إذَا قُلْنَا بِطَهَارَتِهِ ، وَاخْتَلَفْت الرِّوَايَةُ فِي الْمُنْفَصِلِ عَنْ غُسْلِ الذِّمِّيَّةِ مِنْ الْحَيْضِ ؛ فَرُوِيَ أَنَّهُ مُطَهِّرٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُزِلْ مَانِعًا مِنْ الصَّلَاةِ ، أَشْبَهَ مَاءً تَبَرَّدَ بِهِ .
وَرُوِيَ أَنَّهُ غَيْرُ مُطَهِّرٍ ؛ لِأَنَّهَا أَزَالَتْ بِهِ الْمَانِعَ مِنْ وَطْءِ الزَّوْجِ ، أَشْبَهَ مَا لَوْ اغْتَسَلَتْ بِهِ مُسْلِمَةٌ ، فَإِنْ اغْتَسَلَتْ بِهِ مِنْ الْجَنَابَةِ كَانَ مُطَهِّرًا وَجْهًا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُزِلْ مَانِعًا مِنْ الصَّلَاةِ ، وَلَا اُسْتُعْمِلَ فِي عِبَادَةٍ ، أَشْبَهَ مَا لَوْ تَبَرَّدَ بِهِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُمْنَعَ اسْتِعْمَالُهُ ؛ لِأَنَّهُ اُسْتُعْمِلَ فِي الْغُسْلِ مِنْ الْجَنَابَةِ ، أَشْبَهَ مَا لَوْ اغْتَسَلَتْ بِهِ مُسْلِمَةٌ .
( 16 ) فَصْلٌ : وَإِنْ اُسْتُعْمِلَ فِي طَهَارَةٍ مُسْتَحَبَّةٍ غَيْرِ وَاجِبَةٍ ، كَالتَّجْدِيدِ ، وَالْغَسْلَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ فِي الْوُضُوءِ ، وَالْغُسْلِ لِلْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَغَيْرِهِمَا ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا أَنَّهُ كَالْمُسْتَعْمَلِ فِي رَفْعِ الْحَدَثِ ؛ لِأَنَّهَا طَهَارَةٌ مَشْرُوعَةٌ ، أَشْبَهَ مَا لَوْ اغْتَسَلَ بِهِ مِنْ جَنَابَةٍ .
وَالثَّانِيَةُ ؛ لَا يُمْنَعُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُزِلْ مَانِعًا مِنْ الصَّلَاةِ ، أَشْبَهَ مَا لَوْ تَبَرَّدَ بِهِ .
فَإِنْ لَمْ تَكُنْ الطَّهَارَةُ مَشْرُوعَةً لَمْ يُؤَثِّرْ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ فِيهَا شَيْئًا ، وَكَانَ كَمَا لَوْ تَبَرَّدَ بِهِ ، أَوْ غَسَلَ بِهِ ثَوْبَهُ ، وَلَا تَخْتَلِفُ الرِّوَايَةُ أَنَّ مَا اُسْتُعْمِلَ فِي التَّبَرُّدِ وَالتَّنْظِيفِ ، أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى إطْلَاقِهِ ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا .

( 17 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُسْتَعْمَلُ فِي تَعَبُّدٍ مِنْ غَيْرِ حَدَثٍ ، كَغَسْلِ الْيَدَيْنِ مِنْ نَوْمِ اللَّيْلِ ، فَإِنْ قُلْنَا لَيْسَ ذَلِكَ بِوَاجِبٍ لَمْ يُؤَثِّرْ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْمَاءِ ، وَإِنْ قُلْنَا بِوُجُوبِهِ ، فَقَالَ الْقَاضِي : هُوَ طَاهِرٌ غَيْرُ مُطَهِّرٍ .
وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ فِيهِ رِوَايَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا ؛ أَنَّهُ يَخْرُجُ عَنْ إطْلَاقِهِ ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي طَهَارَةِ تَعَبُّدٍ ، أَشْبَهَ الْمُسْتَعْمَلَ فِي رَفْعِ الْحَدَثِ ؛ { وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يَغْمِسَ الْقَائِمُ مِنْ نَوْمِ اللَّيْلِ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ قَبْلَ غَسْلِهَا .
} فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يُفِيدُ مَنْعًا .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ ، أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى إطْلَاقِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْفَعْ حَدَثًا ، أَشْبَهَ الْمُتَبَرَّدَ بِهِ ، وَعَلَى قِيَاسِهِ الْمُسْتَعْمَلُ فِي غَسْلِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ مِنْ الْمَذْيِ ، إذَا قُلْنَا بِوُجُوبِهِ ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ .

( 18 ) فَصْلٌ : إذَا انْغَمَسَ الْجُنُبُ أَوْ الْمُحْدِثُ فِيمَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ يَنْوِي رَفْعَ الْحَدَثِ صَارَ مُسْتَعْمَلًا ، وَلَمْ يَرْتَفِعْ حَدَثُهُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا وَيَرْتَفِعُ حَدَثُهُ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا بِارْتِفَاعِ حَدَثِهِ فِيهِ .
وَلَنَا قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : لَا يَغْتَسِلْ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَهُوَ جُنُبٌ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ ؛ وَلِأَنَّهُ بِانْفِصَالِ أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْ الْمَاءِ عَنْ بَدَنِهِ صَارَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا ، فَلَمْ يَرْتَفِعْ الْحَدَثُ عَنْ سَائِرِ الْبَدَنِ ، كَمَا لَوْ اغْتَسَلَ فِيهِ شَخْصٌ آخَرُ .
فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ فَصَاعِدًا ارْتَفَعَ حَدَثُهُ ، وَلَمْ يَتَأَثَّرْ بِهِ الْمَاءُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْمِلُ الْخَبَثَ .

( 19 ) فَصْلٌ : إذَا اجْتَمَعَ مَاءٌ مُسْتَعْمَلٌ إلَى قُلَّتَيْنِ غَيْرِ مُسْتَعْمَلٍ صَارَ الْكُلُّ طَهُورًا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُسْتَعْمَلُ نَجِسًا لَكَانَ الْكُلُّ طَهُورًا ، فَالْمُسْتَعْمَلُ أَوْلَى .
وَإِنْ انْضَمَّ إلَى مَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ وَكَثُرَ الْمُسْتَعْمَلُ وَلَمْ يَبْلُغْ قُلَّتَيْنِ مُنِعَ ، وَإِنْ بَلَغَ قُلَّتَيْنِ بِاجْتِمَاعِهِ فَكَذَلِكَ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَزُولَ الْمَنْعُ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ .
} وَإِنْ انْضَمَّ مُسْتَعْمَلٌ إلَى مُسْتَعْمَلٍ وَلَمْ يَبْلُغْ الْقُلَّتَيْنِ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى الْمَنْعِ ، وَإِنْ بَلَغَ قُلَّتَيْنِ فَفِيهِ وَجْهَانِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ .

( 20 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَإِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ ، وَهُوَ خَمْسُ قِرَبٍ ، فَوَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ فَلَمْ يُوجَدْ لَهَا طَعْمٌ وَلَا لَوْنٌ وَلَا رَائِحَةٌ ، فَهُوَ طَاهِرٌ ) .
وَالْقُلَّةُ : هِيَ الْجَرَّةُ ، سُمِّيت قُلَّةً لِأَنَّهَا تُقَلُّ بِالْأَيْدِي ، أَيْ تُحْمَلُ ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : { حَتَّى إذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا } وَيَقَعُ هَذَا الِاسْمُ عَلَى الْكَبِيرَةِ وَالصَّغِيرَةِ .
وَالْمُرَادُ بِهَا هَاهُنَا قُلَّتَانِ مِنْ قِلَالِ هَجَرَ ، وَهُمَا خَمْسُ قِرَبٍ ، كُلُّ قِرْبَةٍ مِائَةُ رِطْلٍ بِالْعِرَاقِيِّ ، فَتَكُونُ الْقُلَّتَانِ خَمْسَمِائَةِ رِطْلٍ بِالْعِرَاقِيِّ .
هَذَا ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّ ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُ قَالَ : رَأَيْت قِلَالَ هَجَرَ ، الْقُلَّةُ تَسَعُ قِرْبَتَيْنِ أَوْ قِرْبَتَيْنِ وَشَيْئًا .
فَالِاحْتِيَاطُ أَنْ يُجْعَلَ قِرْبَتَيْنِ وَنِصْفًا .
وَرَوَى الْأَثْرَمُ ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ ، عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّ الْقُلَّتَيْنِ أَرْبَعُ قِرَبٍ ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَحْمَدَ فِي " كِتَابِهِ " ؛ وَذَلِكَ لِمَا رَوَى الْجُوزَجَانِيُّ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ يَحْيَى بْنِ عُقَيْلٍ ، قَالَ : رَأَيْت قِلَالَ هَجَرَ ، وَأَظُنُّ كُلَّ قِلَّةٍ تَأْخُذُ قُرْبَيْنِ .
وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ .
وَاتَّفَقَ الْقَائِلُونَ بِتَحْدِيدِ الْمَاءِ بِالْقِرَبِ عَلَى تَقْدِيرِ كُلِّ قِرْبَةٍ بِمِائَةِ رِطْلٍ بِالْعِرَاقِيِّ ، لَا أَعْلَمُ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ خِلَافًا ، وَلَعَلَّهُمْ أَخَذُوا ذَلِكَ مِمَّنْ اخْتَبَرَ قِرَبَ الْحِجَازِ ، وَعَرَفَ أَنَّ ذَلِكَ مِقْدَارُهَا .
وَإِنَّمَا خَصَصْنَا هَذَا بِقِلَالِ هَجَرَ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثٍ مُبَيَّنًا ، رَوَاهُ الْخَطَّابِيُّ ، فِي " مَعَالِمِ السُّنَنِ " بِإِسْنَادِهِ إلَى ابْنِ جُرَيْجٍ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا { إذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ بِقِلَالِ هَجَرَ } وَذَكَرَ الْحَدِيثَ .
وَالثَّانِي أَنَّ قِلَالَ هَجَرَ أَكْبَرُ مَا يَكُونُ مِنْ الْقِلَالِ ، وَأَشْهُرُهَا فِي عَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى

اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَهُ الْخَطَّابِيُّ قَالَ : وَهِيَ مَشْهُورَةُ الصَّنْعَةِ ، مَعْلُومَةُ الْمِقْدَارِ .
لَا تَخْتَلِفُ كَمَا لَا تَخْتَلِفُ الصِّيعَانُ وَالْمَكَايِيلُ ؛ وَلِأَنَّ الْحَدَّ لَا يَقَعُ بِالْمَجْهُولِ .
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : هِيَ الْحَبَابُ ، وَهِيَ مُسْتَفِيضَةٌ مَعْرُوفَةٌ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ لَفْظُ الْقُلَّتَيْنِ عَلَيْهَا ؛ لِشُهْرَتِهَا وَكِبَرِهَا ، فَإِنَّ كُلَّ مَعْدُودٍ جُعِلَ مِقْدَارًا وَاحِدًا لَمْ يَتَنَاوَلْ إلَّا أَكْبَرَهَا ؛ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ إلَى الْعِلْمِ ، وَأَقَلُّ فِي الْعَدَدِ ، وَلِذَلِكَ جُعِلَ نِصَابُ الزَّكَاةِ بِالْأَوْسُقِ ، دُونَ الْآصُعِ وَالْأَمْدَادِ .
وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِصَرِيحِهَا عَلَى أَنَّ مَا بَلَغَ الْقُلَّتَيْنِ فَلَمْ يَتَغَيَّرْ بِمَا وَقَعَ فِيهِ لَا يَنْجُسُ ، وَبِمَفْهُومِهَا عَلَى أَنَّ مَا تَغَيَّرَ بِالنَّجَاسَةِ نَجِسٌ وَإِنْ كَثُرَ ، وَأَنَّ مَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ يَنْجُسُ بِمُجَرَّدِ مُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ .
فَأَمَّا نَجَاسَةُ مَا تَغَيَّرَ بِالنَّجَاسَةِ فَلَا خِلَافَ فِيهِ ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ ، إذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ فَغَيَّرَتْ لِلْمَاءِ طَعْمًا أَوْ لَوْنًا أَوْ رَائِحَةً ، أَنَّهُ نَجِسٌ مَا دَامَ كَذَلِكَ .
وَقَدْ رَوَى أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إلَّا مَا غَلَبَ عَلَى رِيحِهِ وَطَعْمِهِ وَلَوْنِهِ } .
رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
وَقَالَ حَرْبُ بْنُ إسْمَاعِيلَ : سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ الْمَاءِ إذَا تَغَيَّرَ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ ، قَالَ : لَا يَتَوَضَّأُ بِهِ وَلَا يَشْرَبُ ، وَلَيْسَ فِيهِ حَدِيثٌ ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْمَيْتَةَ ، فَإِذَا صَارَتْ الْمَيْتَةُ فِي الْمَاءِ فَتَغَيَّرَ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ ، فَذَلِكَ طَعْمُ الْمَيْتَةِ وَرِيحُهَا ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ ، وَذَلِكَ أَمْرٌ ظَاهِرٌ .
وَقَالَ الْخَلَّالُ : إنَّمَا قَالَ أَحْمَدُ : لَيْسَ فِيهِ حَدِيثٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يَرْوِيهِ سُلَيْمَانُ بْنُ

عُمَرَ ، وَرِشْدِينُ بْنُ سَعْدٍ ، وَكِلَاهُمَا ضَعِيفٌ ، وَابْنُ مَاجَهْ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ رِشْدِينُ .
وَأَمَّا مَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ إذَا لَاقَتْهُ النَّجَاسَةُ فَلَمْ يَتَغَيَّرْ بِهَا ، فَالْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَنْجُسُ ، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو عُبَيْدٍ .
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى ، أَنَّ الْمَاءَ لَا يَنْجُسُ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ ، وَرُوِيَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ حُذَيْفَةَ ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالُوا : الْمَاءُ لَا يَنْجُسُ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، وَالْحَسَنِ ، وَعِكْرِمَةَ ، وَعَطَاءٍ ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى ، وَمَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَيَحْيَى الْقَطَّانِ ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ ؛ لِحَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ .
وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ ، قَالَ : { قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَنَتَوَضَّأُ مِنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ ؟ - وَهِيَ بِئْرٌ يُلْقَى فِيهَا الْحِيَضُ ، وَلُحُومُ الْكِلَابِ ، وَالنَّتِنُ - فَقَالَ : إنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ .
} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ ، وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ .
قَالَ الْخَلَّالُ : قَالَ أَحْمَدُ : حَدِيثُ بِئْرِ بُضَاعَةَ صَحِيحٌ .
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { سُئِلَ عَنْ الْحِيَاضِ الَّتِي بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ ، تَرِدُهَا السِّبَاعُ وَالْكِلَابُ وَالْحُمُرُ ، وَعَنْ الطَّهَارَةِ بِهَا ، فَقَالَ : لَهَا مَا حَمَلَتْ فِي بُطُونِهَا ، وَلَنَا مَا غَبَرَ طَهُورٌ } وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ ؛ وَلِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ إحْدَى صِفَاتُ النَّجَاسَةِ ، فَلَمْ يَنْجُسْ بِهَا كَالزَّائِدِ عَنْ الْقُلَّتَيْنِ .
وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى ، مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ الْمَاءِ وَمَا يَنُوبُهُ مِنْ الدَّوَابِّ

وَالسِّبَاعِ ، فَقَالَ إذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ ، وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَابْنُ مَاجَهْ ، وَفِي لَفْظٍ : { إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ } .
وَتَحْدِيدُهُ بِالْقُلَّتَيْنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا دُونَهُمَا يَنْجُسُ ، إذْ لَوْ اسْتَوَى حُكْمُ الْقُلَّتَيْنِ وَمَا دُونَهُمَا لَمْ يَكُنْ التَّحْدِيدُ مُفِيدًا .
وَصَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا ، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ } .
فَلَوْلَا أَنَّهُ يُفِيدُهُ مَنْعًا لَمْ يَنْهَ عَنْهُ .
أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغَسْلِ الْإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ ، وَإِرَاقَةِ سُؤْرِهِ ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَا تَغَيَّرَ وَمَا لَمْ يَتَغَيَّرْ ، مَعَ أَنَّ الظَّاهِرَ عَدَمُ التَّغَيُّرِ ، وَخَبَرُ أَبِي أُمَامَةَ ضَعِيفٌ ، وَخَبَرُ بِئْرِ بُضَاعَةَ وَالْخَبَرُ الْآخَرُ مَحْمُولَانِ عَلَى الْمَاءِ الْكَثِيرِ ، بِدَلِيلِ أَنَّ مَا تَغَيَّرَ نَجِسٌ ، أَوْ نَخُصُّهُمَا بِخَبَرِ الْقُلَّتَيْنِ ، فَإِنَّهُ أَخُصُّ مِنْهُمَا ، وَالْخَاصُّ يُقَدَّمَ عَلَى الْعَامِّ .
وَأَمَّا الزَّائِدُ عَنْ الْقُلَّتَيْنِ ، إذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ ، وَلَمْ تَكُنْ النَّجَاسَةُ بَوْلًا أَوْ عَذِرَةً ، فَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ فِي طَهَارَتِهِ ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ، وَإِسْحَاقَ ، وَأَبِي عُبَيْدَةَ وَأَبِي ثَوْرٍ ، وَهُوَ قَوْلُ مَنْ حَكَيْنَا عَنْهُمْ أَنَّ الْيَسِيرَ لَا يَنْجُسُ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ .
وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّهُ قَالَ : إذَا كَانَ الْمَاءُ ذَنُوبَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ .
وَقَالَ عِكْرِمَةُ : ذَنُوبًا أَوْ ذَنُوبَيْنِ .
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ إلَى أَنَّ الْكَثِيرَ يَنْجُسُ بِالنَّجَاسَةِ ، إلَّا أَنْ يَبْلُغَ حَدًّا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ النَّجَاسَةَ لَا تَصِلُ إلَيْهِ .
وَاخْتَلَفُوا فِي حَدِّهِ ؛ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : مَا إذَا

حُرِّكَ أَحَدُ طَرَفَيْهِ لَمْ يَتَحَرَّكْ الْآخَرُ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : مَا بَلَغَ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ فِي عَشَرَةِ أَذْرُعٍ ، وَمَا دُونَ ذَلِكَ يَنْجُسُ ، وَإِنْ بَلَغَ أَلْفَ قُلَّةٍ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ مِنْهُ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، فَنَهَى عَنْ الْوُضُوءِ مِنْ الْمَاءِ الرَّاكِدِ بَعْدَ الْبَوْلِ فِيهِ ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ ؛ وَلِأَنَّهُ مَاءٌ حَلَّتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ لَا يُؤْمَنُ انْتِشَارُهَا إلَيْهِ ، فَيَنْجُسُ بِهَا كَالْيَسِيرِ .
وَلَنَا خَبَرُ الْقُلَّتَيْنِ ، وَبِئْرِ بُضَاعَةَ ، اللَّذَانِ ذَكَرْنَاهُمَا ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ } ، مَعَ قَوْلِهِمْ لَهُ : أَنَتَوَضَّأُ مِنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ وَهِيَ بِئْرٌ يُلْقَى فِيهَا الْحَيْضُ وَلُحُومُ الْكِلَابِ وَالنَّتِنُ ؟ وَبِئْرُ بُضَاعَةَ لَا يَبْلُغُ الْحَدَّ الَّذِي ذَكَرُوهُ .
قَالَ أَبُو دَاوُد : قَدَّرْت بِئْرَ بُضَاعَةَ بِرِدَائِي ، مَدَدْته عَلَيْهَا ، ثُمَّ ذَرَعْته ، فَإِذَا عَرْضُهَا سِتَّةُ أَذْرُعٍ ، وَسَأَلْت الَّذِي فَتَحَ لِي بَابَ الْبُسْتَانِ : هَلْ غُيِّرَ بِنَاؤُهَا عَمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ ؟ قَالَ : لَا .
وَسَأَلْت قَيِّمَهَا عَنْ عُمْقِهَا ، فَقُلْت : أَكْثَرُ مَا يَكُونُ فِيهَا الْمَاءُ ؟ قَالَ : إلَى الْعَانَةِ .
قُلْت : فَإِذَا نَقَصَ .
قَالَ : دُونَ الْعَوْرَةِ ؛ وَلِأَنَّهُ مَاءٌ يَبْلُغُ الْقُلَّتَيْنِ ، فَأَشْبَهَ مَا زَادَ عَلَى عَشَرَةِ أَذْرُعٍ ، وَحَدِيثُهُمْ عَامٌّ وَحَدِيثُنَا خَاصٌّ ، فَيَجِبُ تَقْدِيمُهُ .
الثَّانِي ، أَنَّ حَدِيثَهُمْ لَا بُدَّ مِنْ تَخْصِيصِهِ ، فَإِنَّ مَا زَادَ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي ذَكَرُوهُ لَا يَمْنَعُ مِنْ الْوُضُوءِ بِهِ اتِّفَاقًا ، وَإِذَا وَجَبَ تَخْصِيصُهُ كَانَ تَخْصِيصُهُ بُقُولِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى مِنْ تَخْصِيصِهِ بِالرَّأْيِ وَالتَّشَهِّي مِنْ غَيْرِ أَصْلٍ يُرْجَعُ إلَيْهِ ، وَلَا دَلِيلٍ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ ؛ وَلِأَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْحَدِّ تَقْدِيرٌ طَرِيقُهُ التَّوْقِيفُ لَا

يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ ؛ وَلِأَنَّ حَدِيثَهُمْ خَاصٌّ فِي الْبَوْلِ ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ ، وَنَقْصُرُ الْحُكْمَ عَلَى مَا تَنَاوَلَهُ النَّصُّ ، وَهُوَ الْبَوْلُ ؛ لِأَنَّ لَهُ مِنْ التَّأْكِيدِ وَالِانْتِشَارِ فِي الْمَاءِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
فَإِنْ قِيلَ : الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ : { لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ } .
أَيْ لَمْ يَدْفَعْ الْخَبَثَ عَنْ نَفْسِهِ ، أَيْ أَنَّهُ يَنْجُسُ بِالْوَاقِعِ فِيهِ .
قُلْنَا هَذَا فَاسِدٌ لِوُجُوهٍ : أَحَدُهَا ، أَنَّ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ { لَمْ يَنْجُسْ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَابْنُ مَاجَهْ ، وَاحْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ .
الثَّانِي أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَنَّ مَا بَلَغَ الْقُلَّتَيْنِ فِي الْقِلَّةِ يَنْجُسُ لَكَانَ مَا فَوْقَهُمَا لَا يَنْجُسُ ، لِتَحَقُّقِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا ، فَإِنَّهُ جَعَلَ الْقُلَّتَيْنِ فَصْلًا بَيْنَ مَا يَتَنَجَّسُ وَمَا لَمْ يَتَنَجَّسْ ؛ فَلَوْ سَوَّيْنَا بَيْنَهُمَا لَمْ يَبْقَ فَصْلٌ .
الثَّالِثُ أَنَّ مُقْتَضَاهُ فِي اللُّغَةِ أَنَّهُ يَدْفَعُ الْخَبَثَ عَنْ نَفْسِهِ ، مِنْ قَوْلِهِمْ : فُلَانٌ لَا يَحْتَمِلُ الضَّيْمَ .
أَيْ يَدْفَعُهُ عَنْ نَفْسِهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( 21 ) فَصْلٌ : اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا : هَلْ الْقُلَّتَانِ خَمْسُمِائَةِ رِطْلٍ تَحْدِيدًا أَوْ تَقْرِيبًا ؟ قَالَ : أَبُو الْحَسَنِ الْآمِدِيُّ : الصَّحِيحُ أَنَّهَا تَحْدِيدٌ ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الْقَاضِي ، وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ ذَلِكَ كَانَ احْتِيَاطًا ، وَمَا اُعْتُبِرَ احْتِيَاطًا كَانَ وَاجِبًا ، كَغَسْلِ جُزْءٍ مِنْ الرَّأْسِ مَعَ الْوَجْهِ ، وَإِمْسَاكِ جُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ مَعَ النَّهَارِ فِي الصَّوْمِ ؛ وَلِأَنَّهُ قَدْرٌ يَدْفَعُ النَّجَاسَةَ عَنْ نَفْسِهِ ، فَاعْتُبِرَ تَحْقِيقُهُ كَالْعَدَدِ فِي الْغَسَلَاتِ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ تَقْرِيبٌ ؛ لِأَنَّ الَّذِينَ نَقَلُوا تَقْدِيرَ الْقِلَالِ لَمْ يَضْبِطُوهُمَا بِحَدٍّ ، إنَّمَا قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ : الْقُلَّةُ تَسَعُ قِرْبَتَيْنِ أَوْ قِرْبَتَيْنِ وَشَيْئًا .

وَقَالَ يَحْيَى بْنُ عُقَيْلٍ : أَظُنُّهَا تَسَعُ قِرْبَتَيْنِ .
وَهَذَا لَا تَحْدِيدَ فِيهِ ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا قَرَّبَا الْأَمْرَ ، وَالشَّيْءُ الزَّائِدُ عَنْ الْقِرْبَتَيْنِ مَشْكُوكٌ فِيهِ ، مَعَ أَنَّهُ يَقَعُ عَلَى الْمَجْهُولِ ، وَالظَّاهِرُ قِلَّتُهُ ؛ لِأَنَّ لَفْظَهُ يَدُلُّ عَلَى تَقَارُبِ مَا بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ ، وَكُلَّمَا قَلَّ الشَّيْءُ كَانَ أَقْرَبَ إلَى الْقِرْبَتَيْنِ ، وَكَلَامُ أَحْمَدَ يَدُلُّ عَلَى هَذَا ؛ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّ الْقُلَّةَ قِرْبَتَانِ ، وَرُوِيَ قِرْبَتَانِ وَنِصْفٌ ، وَرُوِيَ : وَثُلُثٌ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَحُدَّ فِي ذَلِكَ حَدًّا .
ثُمَّ لَيْسَ لِلْقِرْبَةِ حَدٌّ مَعْلُومٌ ؛ فَإِنَّ الْقِرَبَ تَخْتَلِفُ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ، فَلَا يَكَادُ قِرْبَتَانِ يَتَّفِقَانِ فِي حَدٍّ وَاحِدٍ ، وَلِهَذَا لَوْ اشْتَرَى مِنْهُ شَيْئًا مُقَدَّرًا بِالْقِرَبِ ، أَوْ أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ مَحْدُودٍ بِالْقِرَبِ ؛ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ ؛ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ عَلِمَ أَنَّ النَّاسَ لَا يَكِيلُونَ الْمَاءَ وَلَا يَزِنُونَهُ ، فَلَمْ يَكُنْ لِيُعَرِّفَهُمْ الْحَدَّ بِمَا لَا يُعَرَّفُ بِهِ ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ مَنْ وَجَدَ مَاءً فِيهِ نَجَاسَةٌ فَظَنَّهُ مُقَارِبًا لِلْقُلَّتَيْنِ تَوَضَّأَ مِنْهُ ، وَإِنْ ظَنَّهُ نَاقِصًا عَنْهُمَا مِنْ غَيْرِ مُقَارَبَةٍ لَهُمَا تَرَكَهُ .
وَفَائِدَةُ هَذَا ، أَنَّ مَنْ اعْتَبَرَ التَّحْدِيدَ ، فَنَقَصَ عَنْ الْحَدِّ شَيْئًا يَسِيرًا ، لَمْ يُعْفَ عَنْهُ ، وَنَجِسَ بِوُرُودِ النَّجَاسَةِ عَلَيْهِ ، وَمَنْ قَالَ بِالتَّقْرِيبِ عُفِيَ عَنْ النَّقْصِ الْيَسِيرِ عِنْدَهُ ، وَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِمَا يُقَارِبُ الْقُلَّتَيْنِ ، إنْ شَكَّ فِي بُلُوغِ الْمَاءِ قَدْرًا يَدْفَعُ النَّجَاسَةَ أَوْ لَا يَدْفَعُهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا ، يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ طَاهِرًا قَبْلَ وُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ ، وَشَكَّ هَلْ يَنْجُسُ بِهِ أَوْ لَا ؟ فَلَا يَزُولُ الْيَقِينُ بِالشَّكِّ .
وَالثَّانِي يُحْكَمُ بِنَجَاسَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ قِلَّةُ الْمَاءِ ، فَنَبْنِي عَلَيْهِ ، وَيَلْزَمُ

مِنْ ذَلِكَ النَّجَاسَةُ .

( 22 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا غَيْرُ الْمَاءِ مِنْ الْمَائِعَاتِ فَفِيهِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ : إحْدَاهُنَّ ، أَنَّهُ يَنْجُسُ بِالنَّجَاسَةِ وَإِنْ كَثُرَ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ ، قَالَ : إنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ } رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ .
فِي " مُسْنَدِهِ ، إسْنَادُهُ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ " الصَّحِيحَيْنِ " ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ كَثِيرِهِ وَقَلِيلِهِ ، وَلِأَنَّهَا لَا قُوَّةَ لَهَا عَلَى دَفْعِ النَّجَاسَةِ ، فَإِنَّهَا لَا تُطَهِّرُ غَيْرَهَا ، فَلَا تَدْفَعُهَا عَنْ نَفْسِهَا كَالْيَسِيرِ .
وَالثَّانِيَةُ أَنَّهَا كَالْمَاءِ ، لَا يَنْجُسُ مِنْهَا مَا بَلَغَ الْقُلَّتَيْنِ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ .
قَالَ حَرْبٌ : سَأَلْت أَحْمَدَ ، قُلْت : كَلْبٌ وَلَغَ فِي سَمْنٍ أَوْ زَيْتٍ ؟ قَالَ : إذَا كَانَ فِي آنِيَةٍ كَبِيرَةٍ مِثْلِ جُبٍّ أَوْ نَحْوِهِ ، رَجَوْت أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ وَيُؤْكَلُ ، وَإِنْ كَانَ فِي آنِيَةٍ صَغِيرَةٍ فَلَا يُعْجِبُنِي وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَثِيرٌ ، فَلَمْ يَنْجُسْ بِالنَّجَاسَةِ مِنْ غَيْرِ تَغَيُّرٍ كَالْمَاءِ .
وَالثَّالِثَةُ مَا أَصْلُهُ الْمَاءُ ، كَالْخَلِّ التَّمْرِيِّ ، يَدْفَعُ النَّجَاسَةَ ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِيهِ الْمَاءُ ، وَمَا لَا فَلَا وَالْأُولَى أَوْلَى .

( 23 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ ، وَمَا كَانَ طَاهِرًا غَيْرَ مُطَهِّرٍ مِنْ الْمَاءِ ، فَإِنَّهُ يَدْفَعُ النَّجَاسَةَ عَنْ نَفْسِهِ إذَا كَثُرَ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ خَبَثًا .
} وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَنْجُسَ ؛ لِأَنَّهُ طَاهِرٌ غَيْرُ مُطَهِّرٍ ، فَأَشْبَهَ الْخَلَّ .

( 24 ) فَصْلٌ : إذَا كَانَ الْمَاءُ كَثِيرًا ، فَوَقَعَ فِي جَانِبٍ مِنْهُ نَجَاسَةٌ ، فَتَغَيَّرَ بِهَا ، نَظَرْت فِيمَا لَمْ يَتَغَيَّرْ ، فَإِنْ نَقَصَ عَنْ الْقُلَّتَيْنِ فَالْجَمِيعُ نَجِسٌ ؛ لِأَنَّ الْمُتَغَيِّرَ نَجِسٌ بِالتَّغَيُّرِ ، وَالْبَاقِيَ تَنَجَّسَ بِمُلَاقَاتِهِ ، وَإِنْ زَادَ عَنْ الْقُلَّتَيْنِ فَهُوَ طَاهِرٌ .
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ ، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ : يَكُونُ نَجِسًا أَيْضًا ، وَإِنْ كَثُرَ وَتَبَاعَدَتْ أَقْطَارُهُ ؛ لِأَنَّهُ مَاءٌ رَاكِدٌ بَعْضُهُ نَجِسٌ ، فَكَانَ جَمِيعُهُ نَجِسًا ، كَمَا لَوْ تَقَارَبْت أَقْطَارُهُ ؛ وَلِأَنَّ الْمُتَغَيِّرَ مَائِعٌ نَجِسٌ ، فَيَنْجُسُ مَا يُلَاقِيهِ ، ثُمَّ تَنَجَّسَ بِذَلِكَ مَا يُلَاقِيهِ إلَى آخِرِهِ .
فَإِنْ اضْطَرَبَ فَزَالَ التَّغَيُّرُ زَالَ التَّنْجِيسُ ؛ لِزَوَالِ عِلَّتِهِ .
وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ .
} وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ } .
وَغَيْرُ الْمُتَغَيِّرِ قَدْ بَلَغَ الْقُلَّتَيْنِ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْأَحَادِيثِ ؛ وَلِأَنَّهُ مَاءٌ كَثِيرٌ لَمْ يَتَغَيَّرْ بِالنَّجَاسَةِ ، فَكَانَ طَاهِرًا ، كَمَا لَوْ لَمْ يَتَغَيَّرْ مِنْهُ شَيْءٌ ؛ وَلِأَنَّ الْعِلَّةَ فِي نَجَاسَةِ الْمَاءِ الْكَثِيرِ التَّغَيُّرِ فَقَطْ ، فَيَخْتَصُّ التَّنْجِيسُ بِمَحَلِّ الْعِلَّةِ ، كَمَا لَوْ تَغَيَّرَ بَعْضُهُ بِطَاهِرٍ ، فَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَى مَا إذَا كَانَ غَيْرُ الْمُتَغَيِّرِ نَاقِصًا عَنْ الْقُلَّتَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ قَلِيلٌ يَنْجُسُ بِمُجَرَّدِ الْمُلَاقَاةِ لِلنَّجَاسَةِ ، بِخِلَافِ الْكَثِيرِ .
وَأَمَّا تَبَاعُدُ الْأَقْطَارِ وَتَقَارُبُهَا فَلَا عِبْرَةَ بِهَا ، إنَّمَا الْعِبْرَةُ بِكَوْنِ غَيْرِ الْمُتَغَيِّرِ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا ، فَلَا يَمْتَنِعُ الْحُكْمُ بِطَهَارَةِ الْمَاءِ الْمُلَاصِقِ لِلنَّجَاسَةِ ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ كَانَ فِيهِ كَلْبٌ أَوْ مَيْتَةٌ ، فَإِنَّ الْمُلَاصِقَ لَهُ طَاهِرٌ ، وَإِنْ مُنِعَتْ طَهَارَتُهُ فَالْمُلَاصِقُ لِلْمُلَاصِقِ طَاهِرٌ ، وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِمْ يَنْبَغِي أَنْ

يَتَنَجَّسَ الْبَحْرُ إذَا تَغَيَّرَ جَانِبِهِ وَالْمَاءُ الْجَارِي وَكُلُّ مَا تَغَيَّرَ بَعْضُهُ وَلَا قَائِلَ بِهِ ، وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ فِي الْمَصَانِعِ الَّتِي بِطَرِيقِ مَكَّةَ : لَا يُنَجِّسُ تِلْكَ شَيْءٌ .

( 25 ) فَصْلٌ : وَلَا فَرْقَ بَيْنَ يَسِيرِ النَّجَاسَةِ وَكَثِيرِهَا ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْيَسِيرُ مِمَّا يُدْرِكُهُ الطَّرَفُ أَوْ لَا يُدْرِكُهُ مِنْ جَمِيعِ النَّجَاسَاتِ ، إلَّا أَنَّ مَا يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهِ فِي الثَّوْبِ ، كَالدَّمِ وَنَحْوِهِ ، حُكْمُ الْمَاءِ الْمُتَنَجِّسِ بِهِ حُكْمُهُ فِي الْعَفْوِ عَنْ يَسِيرِهِ ، وَكُلُّ نَجَاسَةٍ يَنْجُسُ بِهَا الْمَاءُ يَصِيرُ حُكْمُهُ حُكْمَهَا ؛ لِأَنَّ نَجَاسَةَ الْمَاءِ نَاشِئَةٌ عَنْ نَجَاسَةِ الْوَاقِعِ ، وَفَرَّعَ عَلَيْهَا ، وَالْفَرْعُ يَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ أَصْلِهِ .
وَقِيلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ : إنَّ مَا لَا يُدْرِكُهُ الطَّرَفُ مِنْ النَّجَاسَةِ مَعْفُوٌّ عَنْهُ ؛ لِلْمَشَقَّةِ اللَّاحِقَةِ بِهِ .
وَنَصَّ فِي مَوْضِعٍ عَلَى أَنَّ الذُّبَابَ إذَا وَقَعَ عَلَى خَلَاءٍ رَقِيقٍ ، أَوْ بَوْلٍ ، ثُمَّ وَقَعَ عَلَى الثَّوْبِ ، غُسِلَ مَوْضِعُهُ ، وَنَجَاسَةُ الذُّبَابِ مِمَّا لَا يُدْرِكُهَا الطَّرَفُ ؛ وَلِأَنَّ دَلِيلَ التَّنْجِيسِ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ يَسِيرِ النَّجَاسَةِ وَكَثِيرِهَا ، وَلَا بَيْنَ مَا يُدْرِكُهُ الطَّرَفُ وَمَا لَا يُدْرِكُهُ ، فَالتَّفْرِيقُ تَحَكُّمٌ بِغَيْرِ دَلِيلٍ ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْمَشَقَّةِ غَيْرُ صَحِيحٍ ؛ لِأَنَّنَا إنَّمَا نَحْكُمُ بِنَجَاسَةِ مَا عَلِمْنَا وُصُولَ النَّجَاسَةِ إلَيْهِ ، وَمَعَ الْعِلْمِ لَا يَفْتَرِقَانِ فِي الْمَشَقَّةِ ، ثُمَّ إنَّ الْمَشَقَّةَ حِكْمَةٌ لَا يَجُوزُ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِهَا بِمُجَرَّدِهَا .
وَجَعْلُ مَا لَا يُدْرِكُهُ الطَّرَفُ ضَابِطًا لَهَا غَيْرُ صَحِيحٍ ، فَإِنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يُعْرَفُ بِتَوْقِيفٍ ، أَوْ اعْتِبَارِ الشَّرْعِ لَهُ فِي مَوْضِعٍ ، وَلَمْ يُوجَدْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا .

( 26 ) فَصْلٌ : وَالْغَدِيرَانِ إذَا اتَّصَلَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ بِسَاقِيَةٍ بَيْنَهُمَا ، فِيهَا مَاءٌ قَلِيلٌ أَوْ كَثِيرٌ ، فَهُمَا مَاءٌ وَاحِدٌ ، حُكْمُهُمَا حُكْمُ الْغَدِيرِ الْوَاحِدِ ، إنْ بَلَغَا جَمِيعًا قُلَّتَيْنِ لَمْ يَتَنَجَّسْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا إلَّا بِالتَّغَيُّرِ ، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغَاهَا تَنَجَّسَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِي أَحَدِهِمَا ؛ لِأَنَّهُ مَاءٌ رَاكِدٌ مُتَّصِلٌ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ ، أَشْبَهَ الْغَدِيرَ الْوَاحِدَ

( 27 ) فَصْلٌ فِي الْمَاءِ الْجَارِي : نُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ ، رَحِمَهُ اللَّهُ ، مَا يَدُلُّ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَاءِ الْجَارِي وَالرَّاكِدِ ؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِي حَوْضِ الْحَمَّامِ : قَدْ قِيلَ إنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَاءِ الْجَارِي .
وَقَالَ فِي الْبِئْرِ يَكُونُ لَهَا مَادَّةٌ : هُوَ وَاقِفٌ لَا يَجْرِي ، لَيْسَ هُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا يَجْرِي .
فَعَلَى هَذَا لَا يَتَنَجَّسُ الْجَارِي إلَّا بِتَغَيُّرِهِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ طَهَارَتُهُ ، وَلَا نَعْلَمُ فِي تَنْجِيسِهِ نَصًّا وَلَا إجْمَاعًا ، فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِ الطَّهَارَةِ ؛ وَلِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ } ، وَقَوْلِهِ : " الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إلَّا مَا غَلَبَ عَلَى رِيحِهِ وَطَعْمِهِ وَلَوْنِهِ " .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِتَنْجِيسِ قَلِيلِهِ ؛ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ } .
قُلْنَا : هَذَا حُجَّةٌ عَلَى طَهَارَتِهِ ؛ لِأَنَّ مَاءَ السَّاقِيَةِ بِمَجْمُوعِهِ قَدْ بَلَغَ الْقُلَّتَيْنِ ، فَلَا يَحْمِلُ الْخَبَثَ ، وَتَخْصِيصُ الْجِرْيَةِ مِنْهُ بِهَذَا التَّقْدِيرِ تَحَكُّمٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ ، ثُمَّ الْخَبَرُ إنَّمَا وَرَدَ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ الْجَارِي عَلَيْهِ ، لِقُوَّتِهِ بِجَرَيَانِهِ وَاتِّصَالِهِ بِمَادَّتِهِ ، ثُمَّ الْخَبَرُ إنَّمَا يَدُلُّ بِمَنْطُوقِهِ عَلَى نَفْيِ النَّجَاسَةِ عَمَّا بَلَغَ الْقُلَّتَيْنِ ، وَإِنَّمَا يُسْتَدَلُّ هَاهُنَا بِمَفْهُومِهِ ، وَقَضَاءُ حَقِّ الْمَفْهُومِ يَحْصُلُ بِمُخَالَفَةِ مَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ لِمَا بَلَغَهُمَا ، وَقَدْ حَصَلْت الْمُخَالَفَةُ بِكَوْنِ مَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ يَفْتَرِقُ فِيهِ الْمَاءُ الْجَارِي وَالرَّاكِدُ فِي التَّنْجِيسِ ، وَمَا بَلَغَهُمَا لَا يَخْتَلِفُ ، وَهَذَا كَافٍ .
وَقَالَ الْقَاضِي ، وَأَصْحَابُهُ : كُلُّ جِرْيَةٍ مِنْ الْمَاءِ الْجَارِي مُعْتَبَرَةٌ بِنَفْسِهَا ، فَإِذَا كَانَتْ النَّجَاسَةُ جَارِيَةً مَعَ الْمَاءِ ، فَمَا أَمَامَهَا طَاهِرٌ ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَصِلْ إلَيْهِ ، وَمَا خَلْفَهَا طَاهِرٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ

إلَيْهَا ، وَالْجِرْيَةُ الَّتِي فِيهَا النَّجَاسَةُ إنْ بَلَغَتْ قُلَّتَيْنِ فَهِيَ طَاهِرَةٌ ، إلَّا أَنْ تَتَغَيَّرَ بِالنَّجَاسَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ فَهِيَ نَجِسَةٌ ، وَإِنْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ وَاقِفَةً فِي جَانِبِ النَّهْرِ ، أَوْ قَرَارِهِ ، أَوْ فِي وَهْدَةٍ مِنْهُ ، فَكُلُّ جِرْيَةٍ تَمُرُّ عَلَيْهَا إنْ كَانَتْ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ فَهِيَ نَجِسَةٌ ، وَإِنْ بَلَغَتْ قُلَّتَيْنِ فَهِيَ طَاهِرَةٌ ، إلَّا أَنْ تَتَغَيَّرَ .
وَالْجِرْيَةُ : هِيَ الْمَاءُ الَّذِي فِيهِ النَّجَاسَةُ ، وَمَا قَرُبَ مِنْهَا مِنْ خَلْفِهَا وَأَمَامِهَا ، مِمَّا الْعَادَةُ انْتِشَارُهَا إلَيْهِ إنْ كَانَتْ مِمَّا يَنْتَشِرُ ، مَعَ مَا يُحَاذِي ذَلِكَ كُلَّهُ مِمَّا بَيْنَ طَرَفَيْ النَّهْرِ .
فَإِنْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ مُمْتَدَّةً فَلِكُلِّ جُزْءٍ مِنْهَا مِثْلُ تِلْكَ الْجِرْيَةِ الْمُعْتَبَرَةِ لِلنَّجَاسَةِ الْقَلِيلَةِ ، وَلَا يُجْعَلُ جَمِيعُ مَا يُحَاذِيهَا جِرْيَةً وَاحِدَةً ، لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى تَنْجِيسِ الْمَاءِ الْكَثِيرِ بِالنَّجَاسَةِ الْقَلِيلَةِ ، وَنَفْيِ التَّنْجِيسِ عَنْ الْكَثِيرِ مَعَ وُجُودِ النَّجَاسَةِ الْكَثِيرَةِ ، فَإِنَّ الْمُحَاذِيَ لِلْكَثِيرَةِ كَثِيرٌ فَلَا يَتَنَجَّسُ ، وَالْمُحَاذِي لِلْقَلِيلَةِ قَلِيلٌ فَيَتَنَجَّسُ ، فَإِنَّنَا لَوْ فَرَضْنَا كَلْبًا فِي جَانِبِ نَهْرٍ ، وَشَعْرَةٌ مِنْهُ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ ، لَكَانَ الْمُحَاذِي لِلشَّعْرَةِ لَا يَبْلُغُ قُلَّتَيْنِ ؛ لِقِلَّةِ مَا يُحَاذِيهَا ، وَالْمُحَاذِي لِلْكَلْبِ يَبْلُغُ قِلَالًا ، وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ ، أَنَّ الْجِرْيَةَ الْمُحَاذِيَةَ لِلنَّجَاسَةِ فِيمَا بَيْنَ طَرَفَيْ النَّهْرِ وَيَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ ، لِمَا بَيَّنَّاهُ .
فَإِنْ قِيلَ : فَهَذَا يُفْضِي إلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ النَّجَاسَةِ الْكَثِيرَةِ وَالْقَلِيلَةِ ، قُلْنَا : الشَّرْعُ سَوَّى بَيْنَهُمَا فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ ، وَهُوَ أَصْلٌ ، فَتَجِبُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْجَارِي ، الَّذِي هُوَ فَرْعٌ .

( 28 ) فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَ فِي جَانِبِ النَّهْرِ مَاءٌ وَاقِفٌ ، مَائِلٌ عَنْ سَنَنِ الْمَاءِ ، مُتَّصِلٌ بِالْجَارِي ، أَوْ كَانَ فِي أَرْضِ النَّهْرِ وَهْدَةٌ ، فِيهَا مَاءٌ وَاقِفٌ وَكَانَ ذَلِكَ مَعَ الْجِرْيَةِ الْمُقَابِلَةِ لَهُ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ ، نَجِسَا جَمِيعًا بِوُجُودِ النَّجَاسَةِ فِي أَحَدِهِمَا ؛ لِأَنَّهُ مَاءٌ مُتَّصِلٌ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ ، فَيَنْجُسُ بِهَا جَمِيعُهُ كَالرَّاكِدِ .
وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا قُلَّتَيْنِ لَمْ يَنْجُسْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مَا دَامَا مُتَلَاقِيَيْنِ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ ؛ لِأَنَّ الْقُلَّتَيْنِ تَدْفَعُ النَّجَاسَةَ عَنْ نَفْسِهَا ، وَعَمَّا لَاقَتْهُ .
ثُمَّ لَا يَخْلُو مِنْ كَوْنِ النَّجَاسَةِ فِي النَّهْرِ ، أَوْ فِي الْوَاقِفِ ، فَإِنْ كَانَتْ فِي النَّهْرِ وَهُوَ قُلَّتَانِ فَهُوَ طَاهِرٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ ، وَكَذَلِكَ الْوَاقِفُ ، وَإِنْ كَانَ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ فَهُوَ نَجِسٌ قَبْلَ مُلَاقَاتِهِ لِلْوَاقِفِ ، فَإِذَا حَاذَاهُ طَهُرَ بِاتِّصَالِهِ بِهِ ، فَإِذَا فَارَقَهُ عَادَ إلَى التَّنَجُّسِ ؛ لِقِلَّتِهِ مَعَ وُجُودِ النَّجَاسَةِ فِيهِ .
وَإِنْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ فِي الْوَاقِفِ لَمْ يَنْجُسْ بِحَالٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَزَالُ هُوَ وَمَا لَاقَاهُ قُلَّتَيْنِ فَإِنْ كَانَ الْوَاقِفُ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ ، وَالْجِرْيَةُ كَذَلِكَ ، إلَّا أَنَّهُمَا بِمَجْمُوعِهِمَا يَزِيدَانِ عَنْ الْقُلَّتَيْنِ ، وَكَانَتْ النَّجَاسَةُ فِي الْوَاقِفِ ، لَمْ يَنْجُسْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّهَا مَعَ مَا تُلَاقِيهِ أَكْثَرُ مِنْ قُلَّتَيْنِ ، وَإِنْ كَانَتْ فِي النَّهْرِ ، فَقِيَاسُ قَوْلِ أَصْحَابِنَا أَنْ يَنْجُسَ الْوَاقِفُ ، وَالْجِرْيَةُ الَّتِي فِيهَا النَّجَاسَةُ ، وَكُلُّ مَا يَمُرُّ بَعْدَهَا بِالْوَاقِفِ ؛ لِأَنَّ الْجِرْيَةَ الَّتِي فِيهَا النَّجَاسَةُ كَانَتْ نَجِسَةً قَبْلَ مُلَاقَاةِ الْوَاقِفِ ، ثُمَّ نَجِسَ بِهَا الْوَاقِفُ ؛ لِكَوْنِهِ مَاءً دُونَ الْقُلَّتَيْنِ وَرَدَ عَلَيْهِ مَاءٌ نَجِسٌ ، وَلَمْ تَطْهُرْ الْجِرْيَةُ ؛ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ مَاءٍ نَجِسٍ صُبَّ عَلَى مَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ ، فَلَمَّا صَارَ الْوَاقِفُ نَجِسًا نَجَّسَ مَا يَمُرُّ عَلَيْهِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُحْكَمَ بِطَهَارَةِ

الْجِرْيَةِ حَالَ مُلَاقَاتِهَا لِلْوَاقِفِ ، وَلَا يَتَنَجَّسُ الْوَاقِفُ بِهَا ؛ لِأَنَّهُ مَاءٌ كَثِيرٌ لَمْ يَتَغَيَّرْ فَلَا يَنْجُسُ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ } .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَهَذَا كُلُّهُ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ ، فَإِنْ تَغَيَّرَ فَهُوَ نَجِسٌ ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ أَعْيَانِ النَّجَاسَةِ ، فَإِذَا كَانَ الْوَاقِفُ مُتَغَيِّرًا وَحْدَهُ فَالْجِرْيَةُ الَّتِي تَمُرُّ بِهِ إنْ كَانَتْ قُلَّتَيْنِ فَهِيَ طَاهِرَةٌ ، وَإِنْ كَانَتْ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ فَهِيَ نَجِسَةٌ ، وَإِنْ كَانَتْ الْجِرْيَةُ مُتَغَيِّرَةً ، وَالْوَاقِفُ قُلَّتَانِ ، فَهُوَ طَاهِرٌ ، وَإِلَّا فَهُوَ نَجِسٌ ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْوَاقِفِ مُتَغَيِّرًا وَبَعْضُهُ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ ، وَكَانَ غَيْرُ الْمُتَغَيِّرِ مَعَ الْجِرْيَةِ الْمُلَاقِيَةِ لَهُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَنْجُسْ ؛ لِأَنَّهُ مَاءٌ زَائِدٌ عَنْ الْقُلَّتَيْنِ لَمْ يَتَغَيَّرْ ، فَكَانَ طَاهِرًا ، كَمَا لَوْ كَانَتْ الْجِرْيَةُ قُلَّتَيْنِ .
وَإِنْ كَانَ الْمُتَغَيِّرُ مِنْهُ الْوَاقِفُ يَلِي الْجَارِيَ وَغَيْرُ الْمُتَغَيِّرِ لَا يَلِيهِ وَلَا يَتَّصِلُ بِهِ مِنْ أَعْلَى الْمَاءِ وَلَا أَسْفَلِهِ ، وَلَا مِنْ نَاحِيَةٍ مِنْ نَوَاحِيهِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْكُلُّ نَجِسًا ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا يُلَاقِي الْمَاءَ النَّجِسَ لَا يَبْلُغُ الْقُلَّتَيْنِ ، وَإِنْ اتَّصَلَ بِهِ مِنْ نَاحِيَةٍ فَكُلُّ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ طَاهِرٌ إذَا بَلَغَ الْقُلَّتَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ كَالْغَدِيرَيْنِ اللَّذَيْنِ بَيْنَهُمَا سَاقِيَةٌ ، وَإِنْ شَكَّ فِي ذَلِكَ فَالْمَاءُ طَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ ، فَلَا تَزُولُ بِالشَّكِّ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( 29 ) فَصْلٌ : إذَا اجْتَمَعْت الْجِرْيَاتُ فِي مَوْضِعٍ ، فَإِنْ كَانَ مُتَغَيِّرًا بِالنَّجَاسَةِ فَهُوَ نَجِسٌ ، وَإِنْ كَثُرَ ، وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِ الْجِرْيَاتِ مَاءٌ طَاهِرٌ مُتَوَالٍ يَبْلُغُ قُلَّتَيْنِ ، إمَّا سَابِقًا وَإِمَّا لَاحِقًا ، فَالْجَمِيعُ طَاهِرٌ .
مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ ؛ لِأَنَّ الْقُلَّتَيْنِ تَدْفَعُ

النَّجَاسَةَ عَنْ نَفْسِهَا ، وَعَمَّا اجْتَمَعَتْ مَعَهُ .
وَإِنْ كَانَ الْمُجْتَمِعُ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ ، وَفِي بَعْضِ الْجِرْيَاتِ شَيْءٌ نَجِسٌ ، فَالْكُلُّ نَجِسٌ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ .
وَإِنْ كَانَ قُلَّتَيْنِ إلَّا أَنَّ الْجِرْيَاتِ كُلَّهَا نَجِسَةٌ ، أَوْ بَعْضَ الْجِرْيَاتِ طَاهِرٌ وَبَعْضَهَا نَجِسٌ ، وَلَا يَتَوَالَى مِنْ الطَّاهِرِ قُلَّتَانِ ، ، فَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْجَمِيعَ نَجِسٌ ، وَإِنْ كَثُرَ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ } ؛ وَلِأَنَّهُ مَاءٌ كَثِيرٌ لَمْ يَتَغَيَّرْ بِالنَّجَاسَةِ ، فَكَانَ طَاهِرًا ، كَمَا لَوْ كَانَ مُتَغَيِّرًا فَزَالَ تَغَيُّرُهُ بِمُكْثِهِ .
وَلَنَا أَنَّهُ انْضَمَّ النَّجِسُ إلَى النَّجِسِ ، فَصَارَ الْجَمِيعُ نَجِسًا كَغَيْرِ الْمَاءِ ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْجِرْيَاتِ طَاهِرًا ، لَكِنَّهُ قَلِيلٌ ، فَهُوَ مِمَّا لَا يَدْفَعُ النَّجَاسَةَ عَنْ نَفْسِهِ ، فَعَنْ غَيْرِهِ أَوْلَى .
فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ كَثِيرًا مُتَغَيِّرًا بِالنَّجَاسَةِ ، فَزَالَ تَغَيُّرُهُ بِنَفْسِهِ ، طَهُرَ الْجَمِيعُ ، وَإِنْ زَالَ بِمَاءٍ طَاهِرٍ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ ، أَوْ بِاجْتِمَاعِ مَاءٍ نَجِسٍ إلَيْهِ ، فَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ نَجِسٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْفَعُ النَّجَاسَةَ عَنْ نَفْسِهِ ، فَلَا يَدْفَعُهَا عَنْ غَيْرِهِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَطْهُرَ ؛ لِأَنَّهُ أَزَالَ عِلَّةَ التَّنْجِيسِ ، فَأَزَالَ التَّنْجِيسَ ، كَمَا لَوْ زَالَ بِنَزَحٍ أَوْ بِمُكْثِهِ .

( 30 ) فَصْلٌ : فِي تَطْهِيرِ الْمَاءِ النَّجِسِ .
وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا مَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ ، فَتَطْهِيرُهُ بِالْمُكَاثَرَةِ بِقُلَّتَيْنِ طَاهِرَتَيْنِ ، إمَّا أَنْ يُصَبَّ فِيهِ ، أَوْ يَنْبُعَ فِيهِ ، فَيَزُولَ بِهِمَا تَغَيُّرُهُ إنْ كَانَ مُتَغَيِّرًا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَغَيِّرًا طَهُرَ بِمُجَرَّدِ الْمُكَاثَرَةِ ؛ لِأَنَّ الْقُلَّتَيْنِ لَا تَحْمِلُ الْخَبَثَ ، وَلَا تَنْجُسُ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ ، وَلِذَلِكَ لَوْ وَرَدَ عَلَيْهَا مَاءٌ نَجِسٌ لَمْ يُنَجِّسْهَا مَا لَمْ تَتَغَيَّرْ بِهِ ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ وَارِدَةً ، وَمِنْ ضَرُورَةِ الْحُكْمِ بِطَهَارَتِهِمَا طَهَارَةُ مَا اخْتَلَطَتَا بِهِ .
الْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ وَفْقَ الْقُلَّتَيْنِ ، فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ بِالنَّجَاسَةِ ، فَيَطْهُرُ بِالْمُكَاثَرَةِ الْمَذْكُورَةِ لَا غَيْرُ ، الثَّانِي أَنْ يَكُونَ مُتَغَيِّرًا فَيَطْهُرَ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ ؛ بِالْمُكَاثَرَةِ الْمَذْكُورَةِ إذَا أَزَالَتْ التَّغَيُّرَ ، أَوْ بِتَرْكِهِ حَتَّى يَزُولَ تَغَيُّرُهُ بِطُولِ مُكْثِهِ .
الْقِسْمُ الثَّالِثُ ، الزَّائِدُ عَنْ الْقُلَّتَيْنِ ، فَلَهُ حَالَانِ ، أَحَدُهُمَا ، أَنْ يَكُونَ نَجِسًا بِغَيْرِ التَّغَيُّرِ ، فَلَا طَرِيقَ إلَى تَطْهِيرِهِ بِغَيْرِ الْمُكَاثَرَةِ ، الثَّانِي أَنْ يَكُونَ مُتَغَيِّرًا بِالنَّجَاسَةِ ، فَتَطْهِيرُهُ بِأَحَدِ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ ؛ الْمُكَاثَرَةُ ، أَوْ زَوَالُ تَغَيُّرِهِ بِمُكْثِهِ ، أَوْ أَنْ يُنْزَحَ مِنْهُ مَا يَزُولُ بِهِ التَّغَيُّرُ ، وَيَبْقَى بَعْدَ ذَلِكَ قُلَّتَانِ فَصَاعِدًا ، فَإِنَّهُ إنْ بَقِيَ مَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ ، قَبْلَ زَوَالِ تَغَيُّرِهِ ، لَمْ يَبْقَ التَّغَيُّرُ عِلَّةَ تَنْجِيسِهِ ؛ لِأَنَّهُ تَنَجَّسَ بِدُونِهِ ، فَلَا يَزُولُ التَّنْجِيسُ بِزَوَالِهِ ، وَلِذَلِكَ طَهُرَ الْكَثِيرُ بِالنَّزْحِ وَطُولِ الْمُكْثِ ، وَلَمْ يَطْهُرْ الْقَلِيلُ ، فَإِنَّ الْكَثِيرَ لَمَّا كَانَتْ عِلَّةُ تَنْجِيسِهِ التَّغَيُّرَ زَالَ تَنْجِيسُهُ بِزَوَالِ عِلَّتِهِ ، كَالْخَمْرَةِ إذَا انْقَلَبَتْ خَلًّا ، وَالْقَلِيلُ عِلَّةُ تَنْجِيسِهِ الْمُلَاقَاةُ لَا التَّغَيُّرُ ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ زَوَالُهُ فِي

زَوَالِ التَّنْجِيسِ .
( 31 ) فَصْلٌ : وَلَا يُعْتَبَرُ فِي الْمُكَاثَرَةِ صَبُّ الْمَاءِ دُفْعَةً وَاحِدَةً ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ ، لَكِنْ يُوصِلُ الْمَاءَ عَلَى مَا يُمْكِنُهُ مِنْ الْمُتَابَعَةِ ، إمَّا مِنْ سَاقِيَةٍ ، وَإِمَّا دَلْوًا فَدَلْوًا ، أَوْ يَسِيلُ إلَيْهِ مَاءُ الْمَطَرِ ، أَوْ يَنْبُعُ قَلِيلًا قَلِيلًا ، حَتَّى يَبْلُغَ قُلَّتَيْنِ فَيَحْصُلُ بِهِ التَّطْهِيرُ .
( 32 ) فَصْلٌ : فَإِنْ كُوثِرَ بِمَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ ، فَزَالَ تَغَيُّرُهُ ، أَوْ طُرِحَ فِيهِ تُرَابٌ أَوْ مَائِعٌ غَيَّرَ الْمَاءَ ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ ، فَزَالَ تَغَيُّرُهُ بِهِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا لَا يَطْهُرُ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْفَعُ النَّجَاسَةَ عَنْ نَفْسِهِ ، فَعَنْ غَيْرِهِ أَوْلَى ؛ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِطَهُورٍ ، فَلَا يَحْصُلُ بِهِ الطَّهَارَةُ كَالْمَاءِ النَّجِسِ .
وَالثَّانِي ، يَطْهُرُ ؛ لِأَنَّ عِلَّةَ نَجَاسَتِهِ التَّغَيُّرُ ، وَقَدْ زَالَ ، فَيَزُولُ التَّنْجِيسُ ، كَمَا لَوْ زَالَ بِمُكْثِهِ ، وَكَالْخَمْرَةِ إذَا انْقَلَبَتْ خَلًّا .

( 33 ) فَصْلٌ : وَلَا يَطْهُرُ غَيْرُ الْمَاءِ مِنْ الْمَائِعَاتِ بِالتَّطْهِيرِ ، فِي قَوْلِ الْقَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : إلَّا الزِّئْبَقَ ؛ فَإِنَّهُ لِقُوَّتِهِ وَتَمَاسُكِهِ يَجْرِي مَجْرَى الْجَامِدِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { سُئِلَ عَنْ السَّمْنِ إذَا وَقَعَتْ فِيهِ الْفَأْرَةُ ، فَقَالَ : إنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَلَوْ كَانَ إلَى تَطْهِيرِهِ طَرِيقٌ لَمْ يَأْمُرْ بِإِرَاقَتِهِ .
وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّ مَا يَتَأَتَّى تَطْهِيرُهُ كَالزَّيْتِ ، يَطْهُرُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ غَسْلُهُ بِالْمَاءِ فَيَطْهُرُ بِهِ ، كَالْجَامِدِ ، وَطَرِيقُ تَطْهِيرِهِ جَعْلُهُ فِي مَاءٍ كَثِيرٍ ، وَيُخَاضُ فِيهِ حَتَّى يُصِيبَ الْمَاءُ جَمِيعَ أَجْزَائِهِ ، ثُمَّ يُتْرَكُ حَتَّى يَعْلُوَ عَلَى الْمَاءِ ، فَيُؤْخَذُ ، وَإِنْ تَرَكَهُ فِي جَرَّةٍ وَصَبَّ عَلَيْهِ مَاءً ، فَخَاضَهُ بِهِ ، وَجَعَلَ لَهَا بُزَالًا يَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ ، جَازَ ، وَالْخَبَرُ وَرَدَ فِي السَّمْنِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُمْكِنَ تَطْهِيرُهُ ؛ لِأَنَّهُ يَجْمُدُ فِي الْمَاءِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ الْأَمْرَ بِتَطْهِيرِهِ لِمَشَقَّةِ ذَلِكَ ، وَقِلَّةِ وُقُوعِهِ .

( 34 ) فَصْلٌ : وَإِذَا وَقَعَتْ النَّجَاسَةُ فِي غَيْرِ الْمَاءِ وَكَانَ مَائِعًا نَجِسَ ، وَإِنْ كَانَ جَامِدًا كَالسَّمْنِ الْجَامِدِ أُخِذَتْ النَّجَاسَةُ بِمَا حَوْلَهَا فَأُلْقِيَتْ ، وَالْبَاقِي طَاهِرٌ : لِمَا رَوَتْ مَيْمُونَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ سَقَطَتْ فِي سَمْنٍ ، فَقَالَ : أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا ، وَكُلُوا سَمْنَكُمْ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ الْفَأْرَةِ تَمُوتُ فِي السَّمْنِ ، فَقَالَ : إنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ } أَخْرُجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، فِي " مُسْنَدِهِ " ، وَإِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ " الصَّحِيحَيْنِ " .
وَحَدُّ الْجَامِدِ الَّذِي لَا تَسْرِي النَّجَاسَةُ إلَى جَمِيعِهِ ، هُوَ الْمُتَمَاسِكُ الَّذِي فِيهِ قُوَّةٌ تَمْنَعُ انْتِقَالَ أَجْزَاءِ النَّجَاسَةِ عَنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي وَقَعَتْ عَلَيْهِ النَّجَاسَةُ إلَى مَا سِوَاهُ .
قَالَ الْمَرُّوذِيُّ : قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ فِي الدُّوشَابِ .
يَعْنِي : يَقَعُ فِيهِ نَجَاسَةٌ ؟ قَالَ : إذَا كَانَ كَثِيرًا أَخَذُوا مَا حَوْلَهُ ، مِثْلُ السَّمْنِ .
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ حَدُّ الْجَامِدِ مَا إذَا فُتِحَ وِعَاؤُهُ لَمْ تَسِلْ أَجْزَاؤُهُ .
وَظَاهِرُ مَا رَوَيْنَاهُ عَنْ أَحْمَدَ خِلَافُ هَذَا ؛ فَإِنَّ الدُّوشَابَ لَا يَكَادُ يَبْلُغُ هَذَا ، وَسَمْنُ الْحِجَازِ لَا يَكَادُ يَبْلُغُهُ ، وَالْمَقْصُودُ بِالْجُمُودِ أَنْ لَا تَسْرِيَ أَجْزَاءُ النَّجَاسَةِ ، وَهَذَا حَاصِلٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ ، فَيُقْتَصَرُ عَلَيْهِ .

( 35 ) فَصْلٌ : وَإِنْ تَنَجَّسَ الْعَجِينُ وَنَحْوُهُ فَلَا سَبِيلَ إلَى تَطْهِيرِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ غَسْلُهُ ، وَكَذَلِكَ إنْ نُقِعَ السِّمْسِمُ أَوْ شَيْءٌ مِنْ الْحُبُوبِ فِي الْمَاءِ النَّجِسِ ، حَتَّى انْتَفَخَ وَابْتَلَّ ، لَمْ يَطْهُرْ .
قِيلَ لِأَحْمَدَ فِي سِمْسِمٍ نُقِعَ فِي تِيغَارٍ ، فَوَقَعَتْ فِيهِ فَأْرَةٌ ، فَمَاتَتْ ؟ قَالَ : لَا يُنْتَفَعُ بِشَيْءٍ مِنْهُ .
قِيلَ : أَفَيُغْسَلُ مِرَارًا حَتَّى يَذْهَبَ ذَلِكَ الْمَاءُ ؟ قَالَ : أَلَيْسَ قَدْ ابْتَلَّ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ ؛ لَا يُنَقَّى مِنْهُ وَإِنْ غُسِلَ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ أَحْمَدَ قَالَ فِي الْعَجِينِ وَالسِّمْسِمِ : يُطْعَمُ النَّوَاضِحَ ، وَلَا يُطْعَمُ لِمَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ .
يَعْنِي لِمَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ قَرِيبًا .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ ، وَعَطَاءٌ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَأَبُو عُبَيْدٍ : يُطْعَمُ الدَّجَاجَ .
وَقَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ : يُطْعَمُ الْبَهَائِمَ .
وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : لَا يُطْعَمُ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { سُئِلَ عَنْ شُحُومِ الْمَيْتَةِ تُطْلَى بِهَا السُّفُنُ ، وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ ، وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ ؟ فَقَالَ لَا هُوَ حَرَامٌ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَهَذَا فِي مَعْنَاهُ .
وَلَنَا : مَا رَوَى أَحْمَدُ ، بِإِسْنَادِهِ ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، { أَنَّ قَوْمًا اخْتَبَزُوا مِنْ آبَارِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَعْلِفُوهُ النَّوَاضِحَ } وَاحْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ .
وَقَالَ فِي كَسْبِ الْحَجَّامِ : " أَطْعِمْهُ نَاضِحَك أَوْ رَقِيقَك " .
وَقَالَ أَحْمَدُ : لَيْسَ هَذَا بِمَيْتَةٍ .
يَعْنِي أَنَّ نَهْيَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا تَنَاوَلَ الْمَيْتَةَ ، وَلَيْسَ هَذَا بِدَاخِلٍ فِي النَّهْيِ ، وَلَا فِي مَعْنَاهَا ؛ وَلِأَنَّ اسْتِعْمَالَ شُحُومِ الْمَيْتَةِ فِيمَا سُئِلَ عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُفْضِي إلَى تَعَدِّي نَجَاسَتِهَا ، وَاسْتِعْمَالِ مَا دُهِنَتْ بِهِ مِنْ الْجُلُودِ ، فَيَكُونُ مُسْتَعْمِلًا لِلنَّجَاسَةِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ هَاهُنَا ؛

فَإِنَّ نَجَاسَةَ هَذَا لَا تَتَعَدَّى أَكْلَهُ .
قَالَ أَحْمَدُ : وَلَا يُطْعَمُ لِشَيْءٍ يُؤْكَلُ فِي الْحَالِ ، وَلَا يُحْلَبُ لَبَنُهُ ، لِئَلَّا يَتَنَجَّسَ بِهِ ، وَيَصِيرَ كَالْجَلَّالِ .

( 36 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( إلَّا أَنْ تَكُونَ النَّجَاسَةُ بَوْلًا أَوْ عَذِرَةً مَائِعَةً فَإِنَّهُ يَنْجُسُ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مِثْلَ الْمَصَانِعِ الَّتِي بِطَرِيقِ مَكَّةَ ، وَمَا أَشْبَهَهَا مِنْ الْمِيَاهِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ نَزْحُهَا ، فَذَاكَ الَّذِي لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ ) يَعْنِي بِالْمَصَانِعِ : الْبِرَكَ الَّتِي صُنِعَتْ مَوْرِدًا لِلْحَاجِّ ، يَشْرَبُونَ مِنْهَا ، يَجْتَمِعُ فِيهَا مَاءٌ كَثِيرٌ وَيَفْضُلُ عَنْهُمْ ، فَتِلْكَ لَا تَتَنَجَّسُ بِشَيْءٍ مِنْ النَّجَاسَاتِ مَا لَمْ تَتَغَيَّرْ ، لَا نَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَ فِي هَذَا .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْكَثِيرَ ، مِثْلُ الرِّجْلِ مِنْ الْبَحْرِ وَنَحْوِهِ ، إذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ ، فَلَمْ تُغَيِّرْ لَهُ لَوْنًا وَلَا طَعْمًا وَلَا رِيحًا ، أَنَّهُ بِحَالِهِ يُتَطَهَّرُ مِنْهُ ، فَأَمَّا مَا يُمْكِنُ نَزْحُهُ إذَا بَلَغَ قُلَّتَيْنِ فَلَا يَتَنَجَّسُ بِشَيْءٍ مِنْ النَّجَاسَاتِ ، إلَّا بِبَوْلِ الْآدَمِيِّينَ ، أَوْ عَذِرَتِهِمْ الْمَائِعَةِ ؛ فَإِنَّ فِيهِ رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ ، أَشْهَرُهُمَا : أَنَّهُ يَتَنَجَّسُ بِذَلِكَ .
رُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ عَلِيٍّ ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ .
قَالَ الْخَلَّالُ : وَحَدَّثَنَا عَنْ عَلِيٍّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ صَبِيٍّ بَالَ فِي بِئْرٍ ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَنْزِفُوهَا ، وَمِثْلُ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ .
وَوَجْهُ ذَلِكَ : مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لَا يَجْرِي ، ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَفِي لَفْظٍ : " ثُمَّ يَتَوَضَّأُ مِنْهُ " .
صَحِيحٌ .
وَلِلْبُخَارِيِّ : { ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ .
} وَهَذَا مُتَنَاوِلٌ لِلْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ ، وَهُوَ خَاصٌّ فِي الْبَوْلِ ، وَأَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ الْقُلَّتَيْنِ فَيَتَعَيَّنُ تَقْدِيمُهُ .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ ، أَنَّهُ لَا يَتَنَجَّسُ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ ، كَسَائِرِ النَّجَاسَاتِ ، اخْتَارَهَا أَبُو الْخَطَّابِ ، وَابْنُ عَقِيلٍ ، وَهَذَا مَذْهَبُ

الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْبَوْلِ وَغَيْرِهِ مِنْ النَّجَاسَاتِ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَنْجُسْ } .
وَلِأَنَّ بَوْلَ الْآدَمِيِّ لَا تَزِيدُ عَلَى نَجَاسَةِ بَوْلِ الْكَلْبِ ، وَهُوَ لَا يُنَجِّسُ الْقُلَّتَيْنِ ، فَبَوْلُ الْآدَمِيِّ أَوْلَى ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا بُدَّ مِنْ تَخْصِيصِهِ ، بِدَلِيلِ مَا لَا يُمْكِنُ نَزْحُهُ ، فَيُقَاسُ عَلَيْهِ مَا بَلَغَ الْقُلَّتَيْنِ ، أَوْ يُخَصُّ بِخَبَرِ الْقُلَّتَيْنِ ، فَإِنَّ تَخْصِيصَهُ بِخَبَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى مِنْ تَخْصِيصِهِ بِالرَّأْيِ وَالتَّحَكُّمِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ تَسَاوَى الْحَدِيثَانِ لَوَجَبَ الْعُدُولُ إلَى الْقِيَاسِ عَلَى سَائِرِ النَّجَاسَاتِ .
فَصْلٌ : وَلَمْ أَجِدْ عَنْ إمَامِنَا ، رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَلَا عَنْ أَصْحَابِنَا ، تَحْدِيدَ مَا يُمْكِنُ نَزْحُهُ ، بِأَكْثَرَ مِنْ تَشْبِيهِهِ بِمَصَانِعِ مَكَّةَ .
قَالَ أَحْمَدُ : إنَّمَا نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الرَّاكِدِ مِنْ آبَارِ الْمَدِينَةِ عَلَى قِلَّةِ مَا فِيهَا ؛ لِأَنَّ الْمَصَانِعَ لَمْ تَكُنْ ، إنَّمَا أُحْدِثَتْ .
وَقَالَ الْأَثْرَمُ : سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ الْمَصَانِعِ الَّتِي بِطَرِيقِ مَكَّةَ ؟ فَقَالَ : لَيْسَ يُنَجِّسُ تِلْكَ عِنْدِي بَوْلٌ وَلَا شَيْءٌ إذَا كَثُرَ الْمَاءُ ، حَتَّى يَكُونَ مِثْلَ تِلْكَ الْمَصَانِعِ .
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ : سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ بِئْرٍ بَالَ فِيهَا إنْسَانٌ " قَالَ تُنْزَحُ حَتَّى تَغْلِبَهُمْ .
قُلْت : مَا حَدُّهُ ؟ قَالَ : لَا يَقْدِرُونَ عَلَى نَزْحِهَا .
وَقِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : الْغَدِيرُ يُبَالُ فِيهِ ؟ قَالَ : الْغَدِيرُ أَسْهَلُ .
وَلَمْ يَرَ بِهِ بَأْسًا ، وَقَالَ فِي الْبِئْرِ ، يَكُونُ لَهَا مَادَّةٌ : هُوَ وَاقِفٌ لَا يَجْرِي لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ مَا يَجْرِي .
يَعْنِي أَنَّهُ يَتَنَجَّسُ بِالْبَوْلِ فِيهِ إذَا أَمْكَنَ نَزْحُهُ .
( 38 ) فَصْلٌ : وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْبَوْلِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ قَالَ مُهَنَّا : سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ

بِئْرٍ غَزِيرَةٍ وَقَعَتْ فِيهَا خِرْقَةٌ أَصَابَهَا بَوْلٌ ؟ قَالَ : تُنْزَحُ .
وَقَالَ فِي قَطْرَةِ بَوْلٍ وَقَعَتْ فِي مَاءٍ : لَا يُتَوَضَّأُ مِنْهُ وَذَلِكَ لِأَنَّ سَائِرَ النَّجَاسَاتِ لَا فَرْقَ بَيْنَ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا .

( 39 ) فَصْلٌ : إذَا كَانَتْ بِئْرُ الْمَاءِ مُلَاصِقَةً لَبِئْرٍ فِيهَا بَوْلٌ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ النَّجَاسَاتِ ، وَشُكَّ فِي وُصُولِهَا إلَى الْمَاءِ ، فَهُوَ عَلَى أَصْلِهِ فِي الطَّهَارَةِ .
قَالَ أَحْمَدُ : يَكُونُ بَيْنَ الْبِئْرِ وَالْبَالُوعَةِ مَا لَمْ يُغَيِّرْ طَعْمًا وَلَا رِيحًا - وَقَالَ الْحَسَنُ : مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ لَوْنُهُ أَوْ رِيحُهُ - فَلَا بَأْسَ أَنْ يُتَوَضَّأَ مِنْهَا وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ ، فَلَا تَزُولُ بِالشَّكِّ ، وَإِنْ أَحَبَّ عِلْمَ حَقِيقَةِ ذَلِكَ فَلْيَطْرَحْ فِي الْبِئْرِ النَّجِسَةِ نَفْطًا ، فَإِنْ وَجَدَ رَائِحَتَهُ فِي الْمَاءِ عَلِمَ وُصُولَهُ إلَيْهِ ، وَإِلَّا فَلَا ، وَإِنْ تَغَيَّرَ الْمَاءُ تَغَيُّرًا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مِنْ النَّجَاسَةِ ، وَلَمْ يَعْلَمْ لَهُ سَبَبًا آخَرَ ، فَهُوَ نَجِسٌ ؛ لِأَنَّ الْمُلَاصَقَةَ سَبَبٌ ، فَيُحَالُ الْحُكْمُ عَلَيْهِ ، وَمَا عَدَاهُ مَشْكُوكٌ فِيهِ وَلَوْ وَجَدَ مَاءً مُتَغَيِّرًا فِي غَيْرِ هَذِهِ الصُّورَةِ ، وَلَمْ يَعْلَمْ سَبَبَ تَغَيُّرِهِ فَهُوَ طَاهِرٌ ، وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ نَجَاسَتُهُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ ، فَلَا تَزُولُ بِالشَّكِّ .
وَإِنْ وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ فَوَجَدَهُ مُتَغَيِّرًا تَغَيُّرًا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مِنْهَا فَهُوَ نَجِسٌ ؛ إلَّا أَنْ يَكُونَ التَّغَيُّرُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مِنْ النَّجَاسَةِ الْوَاقِعَةِ فِيهِ ، لِكَثْرَتِهِ وَقِلَّتِهَا ، أَوْ لِمُخَالَفَتِهِ لَوْنَهَا أَوْ طَعْمَهَا ، فَهُوَ طَاهِرٌ ؛ لِأَنَّنَا لَا نَعْلَمُ لِلنَّجَاسَةِ سَبَبًا ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَقَعْ فِيهِ شَيْءٌ .

( 40 ) فَصْلٌ : وَإِنْ تَوَضَّأَ مِنْ الْمَاءِ الْقَلِيلِ ، وَصَلَّى ، ثُمَّ وَجَدَ فِيهِ نَجَاسَةً ، أَوْ تَوَضَّأَ مِنْ مَاءٍ كَثِيرٍ ، ثُمَّ وَجَدَهُ مُتَغَيِّرًا بِنَجَاسَةٍ ، وَشَكَّ هَلْ كَانَ قَبْلَ وُضُوئِهِ ، أَوْ بَعْدَهُ ؟ فَالْأَصْلُ صِحَّةُ طَهَارَتِهِ ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ وُضُوئِهِ بِأَمَارَةٍ أَعَادَ ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ النَّجَاسَةَ قَبْلَ وُضُوئِهِ وَلَمْ يَعْلَمْ أَكَانَ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ ، أَوْ كَانَ قُلَّتَيْنِ فَنَقَصَ بِالِاسْتِعْمَالِ أَعَادَ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ نَقْصُ الْمَاءِ .

( 41 ) فَصْلٌ : إذَا نُزِحَ مَاءُ الْبِئْرِ النَّجِسِ ، فَنَبَعَ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ مَاءٌ ، أَوْ صُبَّ فِيهِ فَهُوَ طَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ أَرْضَ الْبِئْرِ مِنْ جُمْلَةِ الْأَرْضِ الَّتِي تَطْهُرُ بِالْمُكَاثَرَةِ بِمُرُورِ الْمَاءِ عَلَيْهَا ، وَإِنْ نَجِسَتْ جَوَانِبُ الْبِئْرِ ، فَهَلْ يَجِبُ غَسْلُهَا ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا يَجِبُ ؛ لِأَنَّهُ مَحَلُّ نَجَسٍ ، فَأَشْبَهَ رَأْسَ الْبِئْرِ .
وَالثَّانِيَةُ لَا يَجِبُ ؛ لِلْمَشَقَّةِ اللَّاحِقَةِ بِذَلِكَ ، فَعُفِيَ عَنْهُ ، كَمَحَلِّ الِاسْتِنْجَاءِ ، وَأَسْفَلِ الْحِذَاءِ .

فَصْلٌ : قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى : سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ قُبُورِ الْحِجَارَةِ الَّتِي لِلرُّومِ يَجِيءُ الْمَطَرُ فَيَصِيرُ فِيهَا ، وَيَشْرَبُونَ مِنْ ذَلِكَ ، وَيَتَوَضَّئُونَ ؟ قَالَ : لَوْ غُسِلَتْ كَيْفَ تُغْسَلُ وَالْمَاءُ يَجِيءُ الْمَطَرُ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ غَسَلَهَا مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ .
وَالْأَوْلَى الْحُكْمُ بِطَهَارَتِهَا ؛ لِأَنَّ هَذِهِ قَدْ أَصَابَهَا الْمَاءُ مَرَّاتٍ لَا يُحْصَى عَدَدُهَا ، وَجَرَى عَلَى حِيطَانِهَا مِنْ مَاءِ الْمَطَرِ مَا يُطَهِّرُهَا بَعْضُهُ ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ يَشُقُّ غَسْلُهَا ، فَأَشْبَهَتْ الْأَرْضَ الَّتِي تَطْهُرُ بِمَجِيءِ الْمَطَرِ عَلَيْهَا .

( 43 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( وَإِذَا مَاتَ فِي الْمَاءِ الْيَسِيرِ مَا لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ مِثْلُ الذُّبَابِ وَالْعَقْرَبِ وَالْخُنْفُسَاءِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ، فَلَا يُنَجِّسُهُ ) النَّفْسُ هَاهُنَا : الدَّمُ يَعْنِي : مَا لَيْسَ لَهُ دَمٌ سَائِلٌ ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الدَّمَ نَفْسًا ، قَالَ الشَّاعِرُ : أُنْبِئْت أَنَّ بَنِي سُحَيْمٍ أَدْخَلُوا أَبْيَاتَهُمْ تَامُورَ نَفْسِ الْمُنْذِرِ يَعْنِي : دَمَهُ .
وَمِنْهُ قِيلَ لِلْمَرْأَةِ : نُفَسَاءُ ؛ لِسَيَلَانِ دَمِهَا عِنْدَ الْوِلَادَةِ ، وَتَقُولُ الْعَرَبُ : نَفِسَتْ الْمَرْأَةُ .
إذَا حَاضَتْ ، وَنَفِسَتْ مِنْ النِّفَاسِ .
وَكُلُّ مَا لَيْسَ لَهُ دَمٌ سَائِلٌ : كَاَلَّذِي ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ مِنْ الْحَيَوَانِ الْبَرِّيِّ ، أَوْ حَيَوَانِ الْبَحْرِ ، مِنْهُ الْعَلَقُ ، وَالدِّيدَانُ ، وَالسَّرَطَانُ ، وَنَحْوُهَا ، لَا يَتَنَجَّسُ بِالْمَوْتِ ، وَلَا يَتَنَجَّسُ الْمَاءُ إذَا مَاتَ فِيهِ ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ ؛ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : لَا أَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا ، إلَّا مَا كَانَ مِنْ أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ ، قَالَ فِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَنْجُسُ قَلِيلُ الْمَاءِ .
قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ : وَهُوَ الْقِيَاسُ وَالثَّانِي : لَا يَنْجُسُ وَهُوَ الْأَصْلَحُ لِلنَّاسِ فَأَمَّا الْحَيَوَانُ فِي نَفْسِهِ فَهُوَ عِنْدَهُ نَجِسٌ ، قَوْلًا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّهُ حَيَوَانٌ لَا يُؤْكَلُ لَا لِحُرْمَتِهِ ، فَيَنْجُسُ بِالْمَوْتِ ، كَالْبَغْلِ وَالْحِمَارِ ، وَلَنَا : قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَمْقُلْهُ ، فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ دَاءً ، وَفِي الْآخَرِ شِفَاءً .
} رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ، وَأَبُو دَاوُد ، وَفِي لَفْظٍ : { إذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي شَرَابِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ كُلَّهُ ، ثُمَّ لِيَطْرَحْهُ ؛ فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ سُمًّا ، وَفِي الْآخَرِ شِفَاءً } .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَلِكَ .
قَالَ الشَّافِعِيُّ : مَقْلُهُ لَيْسَ بِقَتْلِهِ .
قُلْنَا : اللَّفْظُ عَامٌّ فِي كُلِّ شَرَابٍ بَارِدٍ ، أَوْ

حَارٍّ ، أَوْ دُهْنٍ ، مِمَّا يَمُوتُ بِغَمْسِهِ فِيهِ ، فَلَوْ كَانَ يُنَجِّسُ الْمَاءَ كَانَ أَمْرًا بِإِفْسَادِهِ ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَالَ لِسَلْمَانَ : يَا سَلْمَانُ ، أَيُّمَا طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ مَاتَتْ فِيهِ دَابَّةٌ لَيْسَتْ لَهَا نَفْسٌ سَائِلَةٌ ، فَهُوَ الْحَلَالُ : أَكْلُهُ ، وَشُرْبُهُ ، وَوُضُوءُهُ } .
وَهَذَا صَرِيحٌ .
أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ ، وَالدَّارَقُطْنِيّ ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ : يَرْوِيهِ بَقِيَّةُ ، وَهُوَ مُدَلِّسٌ ، فَإِذَا رَوَى عَنْ الثِّقَاتِ جَوَّدَ وَلِأَنَّهُ لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ ، لَمْ يَتَوَلَّدْ مِنْ النَّجَاسَةِ ، فَأَشْبَهَ دُودَ الْخَلِّ إذَا مَاتَ فِيهِ ، فَإِنَّهُمْ سَلَّمُوا ذَلِكَ وَنَحْوَهُ ، أَنَّهُ لَا يُنَجِّسُ الْمَائِعَ الَّذِي تَوَلَّدَ مِنْهُ ، إلَّا أَنْ يُؤْخَذَ ثُمَّ يُطْرَحَ فِيهِ ، أَوْ يَشُقَّ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ ، أَشْبَهَ مَا ذَكَرْنَاهُ ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُنَجِّسُ ، لَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ نَجِسًا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ نَجِسًا لَنَجَّسَ كَسَائِرِ النَّجَاسَاتِ .
( 44 ) فَصْلٌ : فَإِنْ غَيَّرَ الْمَاءَ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الطَّاهِرَاتِ ؛ إنْ كَانَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ ، كَالْجَرَادِ يَتَسَاقَطُ فِي الْمَاءِ وَنَحْوِهِ ، فَهُوَ كَوَرَقِ الشَّجَرِ الْمُتَنَاثِرِ فِي الْمَاءِ ، يُعْفَى عَنْهُ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ ، كَاَلَّذِي يُلْقَى فِي الْمَاءِ قَصْدًا ، فَهُوَ كَالْوَرَقِ الَّذِي يُلْقَى فِي الْمَاءِ ، وَلَوْ تَغَيَّرَ الْمَاءُ بِحَيَوَانٍ مُذَكًّى ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يُصِيبَ نَجَاسَةً ، فَقَدْ نَقَلَ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ ، قَالَ : سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ شَاةٍ مَذْبُوحَةٍ ، وَقَعَتْ فِي مَاءٍ فَتَغَيَّرَ رِيحُ الْمَاءِ ؟ قَالَ : لَا بَأْسَ ، إنَّمَا ذَلِكَ إذَا كَانَ مِنْ نَجَاسَةٍ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ : قَالَ أَبِي : وَأَمَّا السَّمَكُ إذَا غَيَّرَ الْمَاءَ ، فَأَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ .

( 45 ) فَصْلٌ : ذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ فِيمَنْ ضَرَبَ حَيَوَانًا مَأْكُولًا ، فَوَقَعَ فِي مَاءٍ ، ثُمَّ وَجَدَهُ مَيِّتًا ، وَلَمْ يَعْلَمْ هَلْ مَاتَ بِالْجِرَاحَةِ ، أَوْ بِالْمَاءِ ، فَالْمَاءُ عَلَى أَصْلِهِ فِي الطَّهَارَةِ ، وَالْحَيَوَانُ عَلَى أَصْلِهِ فِي الْحَظْرِ ، إلَّا أَنْ تَكُونَ الْجِرَاحَةُ مُوجِبَةً ، فَيَكُونُ الْحَيَوَانُ أَيْضًا مُبَاحًا ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مَوْتُهُ بِالْجِرَاحِ وَالْمَاءُ طَاهِرٌ ، إلَّا أَنْ يَقَعَ فِيهِ دَمٌ .
( 46 ) فَصْلٌ : الْحَيَوَانُ ضَرْبَانِ : مَا لَيْسَتْ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ ، وَهُوَ نَوْعَانِ : مَا يَتَوَلَّدُ مِنْ الطَّاهِرَاتِ ، فَهُوَ طَاهِرٌ حَيًّا وَمَيِّتًا ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ .
الثَّانِي ، مَا يَتَوَلَّدُ مِنْ النَّجَاسَاتِ ، كَدُودِ الْحُشِّ وَصَرَاصِرِهِ ، فَهُوَ نَجِسٌ حَيًّا وَمَيِّتًا ؛ لِأَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ النَّجَاسَةِ فَكَانَ نَجِسًا ، كَوَلَدِ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ .
قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ : صَرَاصِرُ الْكَنِيفِ وَالْبَالُوعَةِ ، إذَا وَقَعَ فِي الْإِنَاءِ أَوْ الْحَبِّ ، صُبَّ وَصَرَاصِرُ الْبِئْرِ لَيْسَتْ بِقَذِرَةٍ ، وَلَا تَأْكُلُ الْعَذِرَةَ .
الضَّرْبُ الثَّانِي مَا لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ : أَحَدُهَا مَا تُبَاحُ مَيْتَتُهُ ، وَهُوَ السَّمَكُ وَسَائِرُ حَيَوَانِ الْبَحْرِ الَّذِي لَا يَعِيشُ إلَّا فِي الْمَاءِ ، فَهُوَ طَاهِرٌ حَيًّا وَمَيِّتًا ، لَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يُبَحْ أَكْلُهُ ، وَإِنْ غَيَّرَ الْمَاءَ لَمْ يَمْنَعْ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ .
النَّوْعُ الثَّانِي مَا لَا تُبَاحُ مَيْتَتُهُ غَيْرَ الْآدَمِيِّ ؛ كَحَيَوَانِ الْبَرِّ الْمَأْكُولِ ، وَغَيْرِهِ ، كَحَيَوَانِ الْبَحْرِ الَّذِي يَعِيشُ فِي الْبَرِّ ، كَالضِّفْدَعِ ، وَالتِّمْسَاحِ ، وَشَبَهِهِمَا ، فَكُلُّ ذَلِكَ يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ ، وَيُنَجِّسُ الْمَاءَ الْقَلِيلَ إذَا مَاتَ فِيهِ ، وَالْكَثِيرَ إذَا غَيَّرَهُ .
وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو يُوسُفَ .
وَقَالَ مَالِكٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ ، فِي الضِّفْدَعِ : إذَا مَاتَتْ فِي الْمَاءِ لَا تُفْسِدُهُ ؛ لِأَنَّهَا تَعِيشُ فِي الْمَاءِ

أَشْبَهَتْ السَّمَكَ .
وَلَنَا أَنَّهَا تُنَجِّسُ غَيْرَ الْمَاءِ ، فَتُنَجِّسُ الْمَاءَ ، كَحَيَوَانِ الْبَرِّ ؛ وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ ، لَا تُبَاحُ مَيْتَتُهُ فَأَشْبَهَ طَيْرَ الْمَاءِ ، وَيُفَارِقُ السَّمَكُ ؛ فَإِنَّهُ مُبَاحٌ ، وَلَا يُنَجِّسُ غَيْرَ الْمَاءِ .
النَّوْعُ الثَّالِثُ ، الْآدَمِيُّ الصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ طَاهِرٌ حَيًّا وَمَيِّتًا ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْمُؤْمِنُ لَا يَنْجُسُ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَعَنْ أَحْمَدَ : أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ بِئْرٍ وَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ ، فَمَاتَ ؟ قَالَ : يُنْزَحُ حَتَّى يَغْلِبَهُمْ .
وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ، قَالَ : يَنْجُسُ وَيَطْهُرُ بِالْغَسْلِ ؛ لِأَنَّهُ حَيَوَانٌ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ ، فَنَجُسَ بِالْمَوْتِ ، كَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ .
وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ .
كَالرِّوَايَتَيْنِ وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرْنَا أَوَّلًا ؛ لِلْخَبَرِ ؛ وَلِأَنَّهُ آدَمِيٌّ ، فَلَمْ يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ ، كَالشَّهِيدِ ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ نَجِسَ بِالْمَوْتِ لَمْ يَطْهُرْ بِالْغَسْلِ ؛ كَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي تَنْجُسُ ، وَلَمْ يُفَرِّقْ أَصْحَابُنَا بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ ؛ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْآدَمِيَّةِ ، وَفِي حَالِ الْحَيَاةِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَنْجُسَ الْكَافِرُ بِمَوْتِهِ ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ إنَّمَا وَرَدَ فِي الْمُسْلِمِ ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ الْكَافِرِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ ، وَلَيْسَ لَهُ حُرْمَةٌ كَحُرْمَةِ الْمُسْلِمِ .

( 47 ) فَصْلٌ : وَحُكْمُ أَجْزَاءِ الْآدَمِيِّ وَأَبْعَاضِهِ حُكْمُ جُمْلَتِهِ ، سَوَاءٌ انْفَصَلَتْ فِي حَيَاتِهِ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ ؛ لِأَنَّهَا أَجْزَاءٌ مِنْ جُمْلَةٍ .
فَكَانَ حُكْمُهَا كَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ الطَّاهِرَةِ وَالنَّجِسَةِ ؛ وَلِأَنَّهَا يُصَلَّى عَلَيْهَا ، فَكَانَتْ طَاهِرَةً كَجُمْلَتِهِ .
وَذِكْرُ الْقَاضِي أَنَّهَا نَجِسَةٌ ، رِوَايَةً وَاحِدَةً ؛ لِأَنَّهَا لَا حُرْمَةَ لَهَا ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهَا .
وَلَا يَصِحُّ هَذَا ؛ فَإِنَّ لَهَا حُرْمَةً ، بِدَلِيلِ أَنَّ كَسْرَ عَظْمِ الْمَيِّتِ كَكَسْرِ عَظْمِ الْحَيِّ ، وَيُصَلَّى عَلَيْهَا إذَا وُجِدَتْ مِنْ الْمَيِّتِ ، ثُمَّ تَبْطُلُ بِشَهِيدِ الْمَعْرَكَةِ ، فَإِنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ ، وَهُوَ طَاهِرٌ .

( 48 ) فَصْلٌ وَفِي الْوَزَغِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا لَا يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ ؛ لِأَنَّهُ لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةً ، أَشْبَهَ الْعَقْرَبَ ؛ وَلِأَنَّهُ إنْ شُكَّ فِي نَجَاسَتِهِ فَالْمَاءُ يَبْقَى عَلَى أَصْلِهِ فِي الطَّهَارَةِ .
وَالثَّانِي أَنَّهُ يَنْجُسُ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ .
إنْ مَاتَتْ الْوَزَغَةُ أَوْ الْفَأْرَةُ فِي الْجُبِّ يُصَبُّ مَا فِيهِ ، وَاذَا مَاتَتْ فِي بِئْرٍ فَانْزَحْهَا حَتَّى تَغْلِبَك .

( 49 ) فَصْلٌ : وَإِذَا مَاتَ فِي الْمَاءِ حَيَوَانٌ لَا يُعْلَمُ ، هَلْ يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ أَمْ لَا ؟ فَالْمَاءُ طَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ طَهَارَتُهُ ، وَالنَّجَاسَةُ مَشْكُوكٌ فِيهَا ، فَلَا نُزُولَ عَنْ الْيَقِينِ بِالشَّكِّ وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إنْ شَرِبَ مِنْهُ حَيَوَانٌ يُشَكُّ فِي نَجَاسَةِ سُؤْرِهِ وَطَهَارَتِهِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا .

( 50 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( وَلَا يُتَوَضَّأُ بِسُؤْرِ كُلِّ بَهِيمَةٍ لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهَا ، إلَّا السِّنَّوْرَ وَمَا دُونَهَا فِي الْخِلْقَةِ ) .
السُّؤْرُ فَضْلَةُ الشُّرْبِ .
وَالْحَيَوَانُ قِسْمَانِ : نَجِسٌ وَطَاهِرٌ .
فَالنَّجِسُ نَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا مَا هُوَ نَجِسٌ ، رِوَايَةً وَاحِدَةً ، وَهُوَ الْكَلْبُ ، وَالْخِنْزِيرُ ، وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُمَا ، أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا ، فَهَذَا نَجِسٌ ، عَيْنُهُ ، وَسُؤْرُهُ ، وَجَمِيعُ مَا خَرَجَ مِنْهُ ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُرْوَةَ ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَأَبِي عُبَيْدٍ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي السُّؤْرِ خَاصَّةً .
وَقَالَ مَالِكٌ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَدَاوُد : سُؤْرُهُمَا طَاهِرٌ ، يُتَوَضَّأُ بِهِ وَيُشْرَبُ ، وَإِنْ وَلَغَا فِي طَعَامٍ لَمْ يَحْرُمْ أَكْلُهُ .
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ : يَتَوَضَّأُ بِهِ إذَا لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ .
وَقَالَ عَبْدَةُ بْنُ أَبِي لُبَابَةَ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَابْنُ الْمَاجِشُونِ ، وَابْنُ مَسْلَمَةَ : يَتَوَضَّأُ وَيَتَيَمَّمُ .
قَالَ مَالِكٌ : وَيُغْسَلُ الْإِنَاءُ الَّذِي وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ تَعَبُّدًا .
وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ عَلَى طَهَارَتِهِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ { : فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } وَلَمْ يَأْمُرْ بِغَسْلِ مَا أَصَابَهُ فَمُهُ ، وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادِهِ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { سُئِلَ عَنْ الْحِيَاضِ الَّتِي بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ ، تَرِدُهَا السِّبَاعُ وَالْكِلَابُ وَالْحُمُرُ ، وَعَنْ الطَّهَارَةِ بِهَا ؟ فَقَالَ : لَهَا مَا حَمَلَتْ فِي بُطُونِهَا ، وَلَنَا مَا غَبَرَ طَهُورٌ } ؛ وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ فَكَانَ طَاهِرًا كَالْمَأْكُولِ .
وَلَنَا مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعًا } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَلِمُسْلِمٍ : { فَلْيُرِقْهُ ، ثُمَّ لِيَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ } ، وَلَوْ كَانَ سُؤْرُهُ طَاهِرًا لَمْ تَجُزْ إرَاقَتُهُ ، وَلَا وَجَبَ غَسْلُهُ .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا وَجَبَ غَسْلُهُ

تَعَبُّدًا ، كَمَا تُغْسَلُ أَعْضَاءُ الْوُضُوءِ وَتُغْسَلُ الْيَدُ مِنْ نَوْمِ اللَّيْلِ .
قُلْنَا : الْأَصْلُ وُجُوبُ الْغَسْلِ مِنْ النَّجَاسَةِ ؛ بِدَلِيلِ سَائِرِ الْغَسْلِ ، ثُمَّ لَوْ كَانَ تَعَبُّدًا لَمَا أَمَرَ بِإِرَاقَةِ الْمَاءِ ، وَلَمَا اخْتَصَّ الْغَسْلَ بِمَوْضِعِ الْوُلُوغِ ؛ لِعُمُومِ اللَّفْظِ فِي الْإِنَاءِ كُلِّهِ .
وَأَمَّا غَسْلُ الْيَدِ مِنْ النَّوْمِ فَإِنَّمَا أَمَرَ بِهِ لِلِاحْتِفَاظِ ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ يَدُهُ قَدْ أَصَابَتْهَا نَجَاسَةٌ ، فَيَتَنَجَّسُ الْمَاءُ ، ثُمَّ تُنَجَّسُ أَعْضَاؤُهُ بِهِ ، وَغَسْلُ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ شُرِعَ لِلْوَضَاءَةِ وَالنَّظَافَةِ لِيَكُونَ الْعَبْدُ فِي حَالِ قِيَامِهِ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى أَحْسَنِ حَالٍ وَأَكْمَلِهَا ، ثُمَّ إنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ ، فَإِنَّمَا عَهِدْنَا التَّعَبُّدَ فِي غَسْلِ الْيَدَيْنِ .
أَمَّا الْآنِيَةُ وَالثِّيَابُ فَإِنَّمَا يَجِبُ غَسْلُهَا مِنْ النَّجَاسَاتِ ، وَقَدْ رُوِيَ فِي لَفْظٍ : { طَهُورُ إنَاءِ أَحَدِكُمْ إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِيهِ أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعًا } أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد ، وَلَا يَكُونُ الطَّهُورُ إلَّا فِي مَحَلِّ الطَّهَارَةِ .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِأَكْلِ مَا أَمْسَكَهُ الْكَلْبُ قَبْلَ غَسْلِهِ ، قُلْنَا : اللَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِأَكْلِهِ ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِغَسْلِهِ ، فَيُعْمَلُ بِأَمْرِهِمَا ، وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا يَجِبُ غَسْلُهُ فَلِأَنَّهُ يَشُقُّ ، فَعُفِيَ عَنْهُ ، وَحَدِيثُهُمْ قَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ ، يَحْتَمِلُ أَنَّ الْمَاءَ الْمَسْئُولَ عَنْهُ كَانَ كَثِيرًا ، وَلِذَلِكَ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ، حِينَ سُئِلَ عَنْ الْمَاءِ ، وَمَا يَنُوبُهُ مِنْ السِّبَاعِ : { إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ } ؛ وَلِأَنَّ الْمَاءَ لَا يَنْجُسُ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ عَلَى رِوَايَةٍ لَنَا ، وَشُرْبُهَا مِنْ الْمَاءِ لَا يُغَيِّرُهُ ، فَلَمْ يُنَجِّسْهُ ذَلِكَ النَّوْعُ الثَّانِي مَا اُخْتُلِفَ فِيهِ ، وَهُوَ سَائِرُ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ ، إلَّا السِّنَّوْرَ وَمَا دُونَهَا فِي الْخِلْقَةِ ، وَكَذَلِكَ جَوَارِحُ الطَّيْرِ ،

وَالْحِمَارُ الْأَهْلِيُّ وَالْبَغْلُ ؛ فَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّ سُؤْرَهَا نَجِسٌ ، إذَا لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ تَيَمَّمَ ، وَتَرَكَهُ .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ : أَنَّهُ كَرِهَ سُؤْرَ الْحِمَارِ .
وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ ، وَابْنِ سِيرِينَ ، وَالشَّعْبِيِّ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ ، وَحَمَّادٍ ، وَإِسْحَاقَ وَعَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَنَّهُ قَالَ فِي الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ : إذَا لَمْ يَجِدْ غَيْرَ سُؤْرِهِمَا تَيَمَّمَ مَعَهُ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَالثَّوْرِيِّ .
وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تَدُلُّ عَلَى طَهَارَةِ سُؤْرِهِمَا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ نَجِسًا لَمْ تَجُزْ الطَّهَارَةُ بِهِ وَرُوِيَ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدٍ : لَا بَأْسَ بِسُؤْرِ السِّبَاعِ ؛ لِأَنَّ عُمَرَ قَالَ فِي السِّبَاعِ : تَرِدُ عَلَيْنَا ، وَنَرِدُ عَلَيْهَا .
وَرَخَّصَ فِي سُؤْرِ جَمِيعِ ذَلِكَ الْحَسَنُ ، وَعَطَاءٌ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيُّ ، وَبُكَيْر بْنُ الْأَشَجِّ ، وَرَبِيعَةُ ، وَأَبُو الزِّنَادِ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ ؛ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ فِي الْحِيَاضِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ أَيْضًا ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ عَنْ جَابِرٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { سُئِلَ : أَنَتَوَضَّأُ بِمَا أَفْضَلَتْ الْحُمُرُ ؟ قَالَ : نَعَمْ وَبِمَا أَفْضَلَتْ السِّبَاعُ كُلُّهَا } رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي " مُسْنَدِهِ " ، وَهَذَا نَصٌّ ؛ وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ ، فَكَانَ طَاهِرًا كَالشَّاةِ .
وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ الْمَاءِ ، وَمَا يَنُوبُهُ مِنْ السِّبَاعِ ؟ فَقَالَ : " إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَنْجُسْ " .
وَلَوْ كَانَتْ طَاهِرَةً لَمْ يَحُدَّهُ بِالْقُلَّتَيْنِ ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فِي الْحُمُرِ يَوْمَ خَيْبَرَ : إنَّهَا رِجْسٌ } وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ حَرُمَ أَكْلُهُ ، لَا لِحُرْمَتِهِ ، يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ غَالِبًا ، أَشْبَهَ الْكَلْبَ ؛ وَلِأَنَّ السِّبَاعَ وَالْجَوَارِحَ الْغَالِبُ عَلَيْهَا أَكْلُ الْمَيْتَاتِ وَالنَّجَاسَاتِ ،

فَتُنَجَّسُ أَفْوَاهُهَا ، وَلَا يَتَحَقَّقُ وُجُودُ مُطَهِّرٍ لَهَا ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُقْضَى بِنَجَاسَتِهَا ، كَالْكِلَابِ ، وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ قَدْ أَجَبْنَا عَنْهُ ، وَيَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى الْمَاءِ الْكَثِيرِ ، عِنْدَ مَنْ يَرَى نَجَاسَةَ سُؤْرِ الْكَلْبِ ، وَالْحَدِيثُ الْآخَرُ يَرْوِيهِ ابْنُ أَبِي حَبِيبَةَ ، وَهُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ .
قَالَهُ الْبُخَارِيُّ .
وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ يَحْيَى ، وَهُوَ كَذَّابٌ .
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي : طَهَارَةُ الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرْكَبُهَا ، وَتُرْكَبُ فِي زَمَنِهِ ، وَفِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ ، فَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ ؛ وَلِأَنَّهُمَا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُمَا لِمُقْتَنِيهِمَا .
فَأَشْبَهَا السِّنَّوْرَ ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إنَّهَا رِجْسٌ " .
أَرَادَ أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَالْأَنْصَابِ وَالْأَزْلَامِ إنَّهَا " رِجْسٌ " ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ لَحْمَهَا الَّذِي كَانَ فِي قُدُورِهِمْ ، فَإِنَّهُ رِجْسٌ ، فَإِنَّ ذَبْحَ مَا لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ لَا يُطَهِّرُهُ .
الْقِسْمُ الثَّانِي طَاهِرٌ فِي نَفْسِهِ ، وَسُؤْرِهِ وَعَرَقِهِ ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ : الْأَوَّلُ ، الْآدَمِيُّ ، فَهُوَ طَاهِرٌ ، وَسُؤْرُهُ طَاهِرٌ ، سَوَاءٌ كَانَ مُسْلِمًا أَمْ كَافِرًا ، عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، إلَّا أَنَّهُ حُكِيَ عَنْ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ كَرِهَ سُؤْرَ الْحَائِضِ ، وَعَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ ، لَا يُتَوَضَّأُ مِنْهُ ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الْمُؤْمِنُ لَا يَنْجُسُ } .
وَعَنْ عَائِشَةَ { أَنَّهَا كَانَتْ تَشْرَبُ مِنْ الْإِنَاءِ ، وَهِيَ حَائِضٌ ، فَيَأْخُذُهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَضَعُ فَاهُ عَلَى مَوْضِعِ فِيهَا فَيَشْرَبُ ، وَتَتَعَرَّقُ الْعَرْقَ فَيَأْخُذُهُ فَيَضَعُ فَاهُ عَلَى مَوْضِعِ فِيهَا .
} رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، { وَكَانَتْ تَغْسِلُ رَأْسَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ

حَائِضٌ } ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لِعَائِشَةَ : نَاوِلِينِي الْخُمْرَةَ مِنْ الْمَسْجِدِ قَالَتْ : إنِّي حَائِضٌ .
قَالَ : إنَّ حَيْضَتَك لَيْسَتْ فِي يَدِك } .

الضَّرْبُ الثَّانِي مَا أُكِلَ لَحْمُهُ ؛ فَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْمُنْذِرِ أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ سُؤْرَ مَا أُكِلَ لَحْمُهُ يَجُوزُ شُرْبُهُ ، وَالْوُضُوءُ بِهِ .
فَإِنْ كَانَ جَلَّالًا يَأْكُلُ النَّجَاسَاتِ .
فَذَكَرَ الْقَاضِي رِوَايَتَيْنِ إحْدَاهُمَا : أَنَّهُ نَجِسٌ .
وَالثَّانِيَةُ : طَاهِرٌ فَيَكُونُ هَذَا مِنْ النَّوْعِ الثَّانِي مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ .

الضَّرْبُ الثَّالِثُ السِّنَّوْرُ وَمَا دُونَهَا فِي الْخِلْقَةِ ؛ كَالْفَأْرَةِ ، وَابْنِ عِرْسٍ ، فَهَذَا وَنَحْوُهُ مِنْ حَشَرَاتِ الْأَرْضِ سُؤْرُهُ طَاهِرٌ ، يَجُوزُ شُرْبُهُ وَالْوُضُوءُ بِهِ .
وَلَا يُكْرَهُ .
وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ؛ مِنْ الصَّحَابَةِ ، وَالتَّابِعِينَ ، مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، وَالشَّامِ ، وَأَهْلِ الْكُوفَةِ أَصْحَابِ الرَّأْيِ ، إلَّا أَبَا حَنِيفَةَ ، فَإِنَّهُ كَرِهَ الْوُضُوءَ بِسُؤْرِ الْهِرِّ ، فَإِنْ فَعَلَ أَجْزَأَهُ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَرِهَهُ ، وَكَذَلِكَ يَحْيَى الْأَنْصَارِيُّ ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى .
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ ، يُغْسَلُ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ .
وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَقَالَ الْحَسَنُ ، وَابْنُ سِيرِينَ : يُغْسَلُ مَرَّةً .
وَقَالَ طَاوُسٌ : يُغْسَلُ سَبْعًا ، كَالْكَلْبِ .
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد ، بِإِسْنَادِهِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ ، وَقَالَ : { إذَا وَلَغَتْ فِيهِ الْهِرَّةُ غُسِلَ مَرَّةً } .
وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ كَبْشَةَ بِنْتِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ ، وَكَانَتْ تَحْتَ أَبِي قَتَادَةَ ، أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ دَخَلَ عَلَيْهَا ، فَسَكَبَتْ لَهُ وَضُوءًا ، قَالَتْ : فَجَاءَتْ هِرَّةٌ فَأَصْغَى لَهَا الْإِنَاءَ حَتَّى شَرِبَتْ ، قَالَتْ كَبْشَةُ : فَرَآنِي أَنْظُرُ إلَيْهِ ، فَقَالَ : أَتَعْجَبِينَ يَا ابْنَةَ أَخِي ؟ فَقُلْت : نَعَمْ .
فَقَالَ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَالَ : إنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجَسٍ ، إنَّهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ } .
أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ ، وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَهَذَا أَحْسَنُ شَيْءٍ فِي الْبَابِ .
وَقَدْ دَلَّ بِلَفْظِهِ عَلَى نَفْيِ الْكَرَاهَةِ عَنْ سُؤْرِ الْهِرِّ ، وَبِتَعْلِيلِهِ عَلَى نَفْيِ الْكَرَاهَةِ عَمَّا دُونَهَا مِمَّا يَطُوفُ عَلَيْنَا .
وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ ، عَنْ عَائِشَةَ ، قَالَتْ : { كُنْت أَتَوَضَّأُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إنَاءٍ ، قَدْ أَصَابَتْ مِنْهُ

الْهِرَّةُ قَبْلَ ذَلِكَ } .
وَعَنْ عَائِشَةَ ، أَنَّهَا قَالَتْ { : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجَسٍ ، إنَّمَا هِيَ مِنْ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ .
وَقَدْ رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ بِفَضْلِهَا .
} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .

( 51 ) فَصْلٌ : إذَا أَكَلَتْ الْهِرَّةُ نَجَاسَةً ثُمَّ شَرِبَتْ مِنْ مَاءٍ يَسِيرٍ بَعْدَ أَنْ غَابَتْ ، فَالْمَاءُ طَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَى عَنْهَا النَّجَاسَةَ ، وَتَوَضَّأَ بِفَضْلِهَا ، مَعَ عِلْمِهِ بِأَكْلِهَا النَّجَاسَاتِ .
وَإِنْ شَرِبَتْ قَبْلَ أَنْ تَغِيبَ ، فَقَالَ الْقَاضِي ، وَابْنُ عَقِيلٍ : يَنْجُسُ ؛ لِأَنَّهُ وَرَدَتْ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ مُتَيَقَّنَةٌ ، أَشْبَهَ مَا لَوْ أَصَابَهُ بَوْلٌ .
وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْآمِدِيُّ : ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ طَاهِرٌ ، وَإِنْ لَمْ تَغِبْ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَفَى عَنْهَا مُطْلَقًا ، وَعَلَّلَ بِعَدَمِ إمْكَانِ الِاحْتِرَازِ عَنْهَا ؛ وَلِأَنَّنَا حَكَمْنَا بِطَهَارَةِ سُؤْرِهَا مَعَ الْغَيْبَةِ فِي مَكَان لَا يُحْتَمَلُ وُرُودُهَا عَلَى مَاءٍ كَثِيرٍ يُطَهِّرُ فَاهَا ، وَلَوْ احْتَمَلَ ذَلِكَ فَهُوَ شَكٌّ لَا يُزِيلُ يَقِينَ النَّجَاسَةِ ، فَوَجَبَ إحَالَةُ الطَّهَارَةِ عَلَى الْعَفْوِ عَنْهَا ، وَهُوَ شَامِلٌ لِمَا قَبْلَ الْغَيْبَةِ .

( 52 ) فَصْلٌ : وَإِنْ وَقَعْت الْفَأْرَةُ أَوْ الْهِرَّةُ وَنَحْوُهُمَا ، فِي مَائِعٍ ، أَوْ مَاءٍ يَسِيرٍ ، ثُمَّ خَرَجَتْ حَيَّةٌ ، فَهُوَ طَاهِرٌ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، فَإِنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْفَأْرَةِ تَقَعُ فِي السَّمْنِ الذَّائِبِ ، فَلَمْ تَمُتْ ؟ قَالَ : لَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ .
وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ : إذَا كَانَ حَيًّا فَلَا شَيْءَ ، إنَّمَا الْكَلَامُ فِي الْمَيِّتِ .
وَقِيلَ : يُحْتَمَلُ أَنْ يَنْجُسَ إذَا أَصَابَ الْمَاءُ مَخْرَجَهَا ؛ لِأَنَّ مَخْرَجَ النَّجَاسَةِ نَجِسٌ ، فَيَنْجُسُ بِهِ الْمَاءُ .
وَلَنَا أَنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ ، وَإِصَابَةُ الْمَاءِ لِمَوْضِعِ النَّجَاسَةِ مَشْكُوكٌ فِيهِ ، فَإِنَّ الْمَخْرَجَ يَنْضَمُّ إذَا وَقَعَ الْحَيَوَانُ فِي الْمَاءِ ، فَلَا يَزُولُ الْيَقِينُ بِالشَّكِّ .

فَصْلٌ : كُلُّ حَيَوَانٍ حُكْمُ جِلْدِهِ وَشَعْرِهِ وَعَرَقِهِ وَدَمْعِهِ وَلُعَابِهِ حُكْمُ سُؤْرِهِ فِي الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ ؛ لِأَنَّ السُّؤْرَ إنَّمَا يَثْبُتُ فِيهِ حُكْمُ النَّجَاسَةِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَنْجُسُ لِمُلَاقَاتِهِ لُعَابَ الْحَيَوَانِ وَجِسْمَهُ ، فَلَوْ كَانَ طَاهِرًا كَانَ سُؤْرُهُ طَاهِرًا ، وَإِذَا كَانَ نَجِسًا كَانَ سُؤْرُهُ نَجِسًا .

( 54 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( وَكُلُّ إنَاءٍ حَلَّتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ ؛ مِنْ وُلُوغِ كَلْبٍ ، أَوْ بَوْلٍ ، أَوْ غَيْرِهِ ، فَإِنَّهُ يُغْسَلُ سَبْعَ مَرَّاتٍ إحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ ) النَّجَاسَةُ تَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ : أَحَدُهُمَا ؛ نَجَاسَةُ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْمُتَوَلِّدِ مِنْهُمَا ، فَهَذَا لَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ فِي أَنَّهُ يَجِبُ غَسْلُهَا سَبْعًا ، إحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ .
وَعَنْ أَحْمَدَ : أَنَّهُ يَجِبُ غَسْلُهَا ثَمَانِيًا ، إحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ ؛ لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغَفَّلِ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَالَ : إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي الْإِنَاءِ فَاغْسِلُوهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ ، وَعَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ بِالتُّرَابِ .
} رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَالرِّوَايَةُ الْأُولَى أَصَحُّ ، وَيُحْمَلُ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّهُ عَدَّ التُّرَابَ ثَامِنَةً ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ وُجِدَ مَعَ إحْدَى الْغَسَلَاتِ فَهُوَ جِنْسٌ آخَرُ ، فَيُجْمَعُ بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَجِبُ الْعَدَدُ فِي شَيْءٍ مِنْ النَّجَاسَاتِ ، وَإِنَّمَا يُغْسَلُ حَتَّى يَغْلِبَ عَلَى الظَّنِّ نَقَاؤُهُ مِنْ النَّجَاسَةِ ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْكَلْبِ يَلَغُ فِي الْإِنَاءِ : { يُغْسَلُ ثَلَاثًا ، أَوْ خَمْسًا ، أَوْ سَبْعًا } فَلَمْ يُعَيِّنْ عَدَدًا ؛ وَلِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ ، فَلَمْ يَجِبْ فِيهَا الْعَدَدُ ، كَمَا لَوْ كَانَتْ عَلَى الْأَرْضِ .
وَلَنَا مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعًا } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَلِمُسْلِمٍ ، وَأَبِي دَاوُد : { أُولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ } .
وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغَفَّلِ ، الَّذِي ذَكَرْنَاهُ .
وَحَدِيثُهُمْ يَرْوِيهِ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ الضَّحَّاكِ ، وَهُوَ ضَعِيفٌ .
وَقَدْ رَوَى غَيْرُهُ مِنْ الثِّقَاتِ : { فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعًا } .
وَعَلَى أَنَّهُ يَحْتَمِلُ الشَّكَّ مِنْ الرَّاوِي ، فَيَنْبَغِي أَنْ

يُتَوَقَّفَ فِيهِ ، وَيُعْمَلَ بِغَيْرِهِ .
وَأَمَّا الْأَرْضُ فَإِنَّهُ سُومِحَ فِي غَسْلِهَا لِلْمَشَقَّةِ ، بِخِلَافِ غَيْرِهَا .
( 55 ) فَصْلٌ : فَإِنْ جَعَلَ مَكَانَ التُّرَابِ غَيْرَهُ ؛ مِنْ الْأُشْنَانِ ، وَالصَّابُونِ ، وَالنُّخَالَةِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ ، أَوْ غَسَلَهُ غَسْلَةً ثَامِنَةً ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا لَا يُجْزِئُهُ ؛ لِأَنَّهُ طَهَارَةٌ أُمِرَ فِيهَا بِالتُّرَابِ ، فَلَمْ يَقُمْ غَيْرُهُ مَقَامَهُ ، كَالتَّيَمُّمِ ؛ وَلِأَنَّ الْأَمْرَ بِهِ تَعَبُّدٌ غَيْرُ مَعْقُولٍ ، فَلَا يَجُوزُ الْقِيَاسُ فِيهِ .
وَالثَّانِي : يُجْزِئُهُ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ أَبْلَغُ مِنْ التُّرَابِ فِي الْإِزَالَةِ ، فَنَصُّهُ عَلَى التُّرَابِ تَنْبِيهٌ عَلَيْهَا ؛ وَلِأَنَّهُ جَامِدٌ أُمِرَ بِهِ فِي إزَالَةِ النَّجَاسَةِ ، فَأُلْحِقَ بِهِ مَا يُمَاثِلُهُ كَالْحَجَرِ فِي الِاسْتِجْمَارِ .
فَأَمَّا الْغَسْلَةُ الثَّامِنَةُ فَالصَّحِيحُ أَنَّهَا لَا تَقُومُ مَقَامَ التُّرَابِ ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْقَصْدُ بِهِ تَقْوِيَةُ الْمَاءِ فِي الْإِزَالَةِ فَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِالثَّامِنَةِ ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا أَبْلَغُ فِي الْإِزَالَةِ ، وَإِنْ وَجَبَ تَعَبُّدًا امْتَنَعَ إبْدَالُهُ ، وَالْقِيَاسُ عَلَيْهِ .
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : إنَّمَا يَجُوزُ الْعُدُولُ إلَى غَيْرِ التُّرَابِ عِنْدَ عَدَمِهِ ، أَوْ إفْسَادِ الْمَحَلِّ الْمَغْسُولِ بِهِ ، فَأَمَّا مَعَ وُجُودِهِ وَعَدَمِ الضَّرَرِ فَلَا وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ حَامِدٍ .
الْقِسْمُ الثَّانِي : نَجَاسَةُ غَيْرِ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ ، فَفِيهَا رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا يَجِبُ الْعَدَدُ فِيهَا قِيَاسًا عَلَى نَجَاسَةِ الْوُلُوغِ ، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، ، أَنَّهُ قَالَ : { أُمِرْنَا بِغَسْلِ الْأَنْجَاسِ سَبْعًا .
} فَيَنْصَرِفُ إلَى أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَالثَّانِيَةُ ، لَا يَجِبُ الْعَدَدُ ، بَلْ يُجْزِئُ فِيهَا الْمُكَاثَرَةُ بِالْمَاءِ مِنْ غَيْرِ عَدَدٍ ، بِحَيْثُ تَزُولُ عَيْنُ النَّجَاسَةِ ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، قَالَ : { كَانَتْ الصَّلَاةُ خَمْسِينَ ، وَالْغُسْلُ مِنْ الْجَنَابَةِ

سَبْعَ مَرَّاتٍ ، وَالْغَسْلُ مِنْ الْبَوْلِ سَبْعَ مَرَّاتٍ ، فَلَمْ يَزَلْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُ حَتَّى جُعِلَتْ الصَّلَاةُ خَمْسًا ، وَالْغَسْلُ مِنْ الْبَوْلِ مَرَّةً ، وَالْغُسْلُ مِنْ الْجَنَابَةِ مَرَّةً } رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، فِي " مُسْنَدِهِ " وَأَبُو دَاوُد ، فِي " سُنَنِهِ " وَهَذَا نَصٌّ ، إلَّا أَنَّ فِي مُرَاجَعَةِ أَيُّوبَ بْنِ جَابِرٍ ، وَهُوَ ضَعِيفٌ ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا أَصَابَ إحْدَاكُنَّ الدَّمُ مِنْ الْحَيْضَةِ فَلْتَقْرُصْهُ ، ثُمَّ لِتَنْضَحْهُ بِمَاءٍ ، ثُمَّ لِتُصَلِّ فِيهِ } .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَلَمْ يَأْمُرْ فِيهِ بِعَدَدٍ ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ ، { أَنَّ امْرَأَةً رَكِبَتْ رِدْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نَاقَتِهِ ، فَلَمَّا نَزَلَتْ إذَا عَلَى حَقِيبَتِهِ شَيْءٌ مِنْ دَمِهَا ، فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَجْعَلَ فِي الْمَاءِ مِلْحًا ، ثُمَّ تَغْسِلَ بِهِ الدَّمَ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَلَمْ يَأْمُرْهَا بِعَدَدٍ { ، وَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُصَبَّ عَلَى بَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ سَجْلٌ مِنْ مَاءٍ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِالْعَدَدِ .
وَلِأَنَّهَا نَجَاسَةُ غَيْرِ الْكَلْبِ ، فَلَمْ يَجِبْ فِيهَا الْعَدَدُ ، وَرُوِيَ أَنَّ الْعَدَدَ لَا يُعْتَبَرُ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الِاسْتِنْجَاءِ مِنْ الْبَدَنِ ، وَيُعْتَبَرُ فِي مَحَلِّ الِاسْتِنْجَاءِ وَبَقِيَّةِ الْمَحَالِّ ، قَالَ الْخَلَّالُ : هَذِهِ الرِّوَايَةُ وَهَمٌ .
وَلَمْ يُثْبِتْهَا .
فَإِذَا قُلْنَا : بِوُجُوبِ الْعَدَدِ ، فَفِي قَدْرِهِ رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا سَبْعٌ ؛ لِمَا قَدَّمْنَا .
وَالثَّانِيَةُ ، ثَلَاثٌ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا ؛ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
إلَّا قَوْلَهُ " ثَلَاثًا " انْفَرَدَ بِهِ مُسْلِمٌ ، أَمَرَ بِغَسْلِهَا ثَلَاثًا ؛ لِيَرْتَفِعَ وَهْمُ النَّجَاسَةِ ، وَلَا يَرْفَعُ وَهْمَ

النَّجَاسَةِ إلَّا مَا يَرْفَعُ حَقِيقَتَهَا .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّجَاسَةَ فِي مَحَلِّ الِاسْتِنْجَاءِ تَطْهُرُ بِثَلَاثٍ ، وَفِي غَيْرِهِ تَطْهُرُ بِسَبْعٍ ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ الِاسْتِنْجَاءِ تَتَكَرَّرُ فِيهِ النَّجَاسَةُ ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ التَّخْفِيفَ ، وَقَدْ اُجْتُزِئَ فِيهَا بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ ، مَعَ أَنَّ الْمَاءَ أَبْلَغُ فِي الْإِزَالَةِ ، فَأَوْلَى أَنْ يَجْتَزِئَ فِيهَا بِثَلَاثِ غَسَلَاتٍ .
قَالَ الْقَاضِي : الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ أَحْمَدَ مَا اخْتَارَ الْخِرَقِيِّ ، وَهُوَ وُجُوبُ الْعَدَدِ فِي جَمِيعِ النَّجَاسَاتِ .
فَإِنْ قُلْنَا لَا يَجِبُ الْعَدَدُ لَمْ يَجِبْ التُّرَابُ ، وَكَذَلِكَ إنْ قُلْنَا : لَا يَجِبُ الْغَسْلُ سَبْعًا ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ وُجُوبِهِ ، وَلَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِهِ إلَّا فِي نَجَاسَةِ الْوُلُوغِ .
وَإِنْ قُلْنَا بِوُجُوبِ السَّبْعِ ، فَفِي وُجُوبِ التُّرَابِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا يَجِبُ ؛ قِيَاسًا عَلَى الْوُلُوغِ .
وَالثَّانِي لَا يَجِبُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِالْغَسْلِ لِلدَّمِ وَغَيْرِهِ ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِالتُّرَابِ إلَّا فِي نَجَاسَةِ الْوُلُوغِ ، فَوَجَبَ أَنْ يُقْتَصَرَ عَلَيْهِ ؛ وَلِأَنَّ التُّرَابَ إنْ أُمِرَ بِهِ تَعَبُّدًا وَجَبَ قَصْرُهُ عَلَى مَحَلِّهِ ، وَإِنْ أُمِرَ بِهِ لِمَعْنًى فِي الْوُلُوغِ لِلزَّوْجَةِ فِيهِ لَا تَنْقَلِعُ إلَّا بِالتُّرَابِ ، فَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي غَيْرِهِ ، وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْعَلَ التُّرَابَ فِي الْغَسْلَةِ الْأُولَى ؛ لِمُوَافَقَتِهِ لَفْظَ الْخَبَرِ ، وَلِيَأْتِيَ الْمَاءُ عَلَيْهِ بَعْدَهُ فَيُنَظِّفُهُ ، وَمَتَى غَسَلَ بِهِ أَجْزَأَهُ ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ فِي حَدِيثٍ : " إحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ " .
وَفِي حَدِيثٍ : " أُولَاهُنَّ " ، وَفِي حَدِيثٍ : " فِي الثَّامِنَةِ " ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَحَلَّ التُّرَابِ مِنْ الْغَسَلَاتِ غَيْرُ مَقْصُودٍ .

( 56 ) فَصْلٌ : إذَا أَصَابَ الْمَحَلَّ نَجَاسَاتٌ مُتَسَاوِيَةٌ فِي الْحُكْمِ فَهِيَ كَنَجَاسَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا أَغْلَظَ ، كَالْوُلُوغِ مَعَ غَيْرِهِ ، فَالْحُكْمُ لِأَغْلَظِهَا ، وَيَدْخُلُ فِيهِ مَا دُونَهُ .
وَلَوْ غَسَلَ الْإِنَاءَ دُونَ السَّبْعِ ، ثُمَّ وَلَغَ فِيهِ مَرَّةً أُخْرَى ، فَغَسَلَهُ سَبْعًا ، أَجْزَأَ ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَجْزَأَ عَمَّا يُمَاثِلُ فَعَمَّا دُونَهُ أَوْلَى .

( 57 ) فَصْلٌ : وَإِذَا غَسَلَ مَحَلَّ النَّجَاسَةِ فَأَصَابَ مَاءُ بَعْضِ الْغَسَلَاتِ مَحَلًّا آخَرَ ، قَبْلَ تَمَامِ السَّبْعِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا ، يَجِبُ غَسْلُهُ سَبْعًا ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ ، وَاخْتِيَارُ ابْنِ حَامِدٍ ؛ لِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ ، فَلَا يُرَاعَى فِيهَا حُكْمُ الْمَحَلِّ الَّذِي انْفَصَلَتْ عَنْهُ ، كَنَجَاسَةِ الْأَرْضِ وَمَحَلِّ الِاسْتِنْجَاءِ .
وَظَاهِرُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ يَجِبُ غَسْلُهَا بِالتُّرَابِ ، وَإِنْ كَانَ الْمَحَلُّ الَّذِي انْفَصَلَتْ عَنْهُ قَدْ غُسِلَ بِالتُّرَابِ ؛ لِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ أَصَابَتْ غَيْرَ الْأَرْضِ ، فَأَشْبَهْت الْأُولَى .
وَالثَّانِي : يَجِبُ غَسْلُهُ مِنْ الْأُولَى سِتًّا ، وَمِنْ الثَّانِيَةِ خَمْسًا ، وَمِنْ الثَّالِثَةِ أَرْبَعًا ، كَذَلِكَ إلَى آخِرِهِ ؛ لِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ تَطْهُرُ فِي مَحَلِّهَا بِدُونِ السَّبْعِ ، فَطَهُرَتْ فِي مِثْلِهِ ، كَالنَّجَاسَةِ عَلَى الْأَرْضِ ؛ وَلِأَنَّ الْمُنْفَصِلَ بَعْضُ الْمُتَّصِلِ ، وَالْمُتَّصِلُ يَطْهُرُ بِذَلِكَ ، فَكَذَلِكَ الْمُنْفَصِلُ ، وَتُفَارِقُ الْمُنْفَصِلَ عَنْ الْأَرْضِ وَمَحَلَّ الِاسْتِنْجَاءِ ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ فِي خِفَّتهَا الْمَحَلُّ ، وَقَدْ زَالَتْ عَنْهُ ، فَزَالَ التَّخْفِيفُ ، وَالْعِلَّةُ فِي تَخْفِيفِهَا هَاهُنَا قُصُورُ حُكْمِهَا بِمَا مَرَّ عَلَيْهَا مِنْ الْغَسْلِ .
وَهَذَا لَازِمٌ لَهَا حَسَبَ مَا كَانَ ، ثُمَّ إنْ كَانَتْ قَدْ انْفَصَلَتْ عَنْ مَحَلِّ غَسْلٍ بِالتُّرَابِ غُسِلَ مَحَلُّهَا بِغَيْرِ تُرَابٍ ، وَإِنْ كَانَتْ الْأُولَى بِغَيْرِ تُرَابٍ غُسِلَتْ هَذِهِ بِالتُّرَابِ .
وَهَذَا اخْتِيَارُ الْقَاضِي ، وَهُوَ أَصَحُّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ( 58 ) فَصْلٌ : وَلَا فَرْقَ بَيْنَ النَّجَاسَةِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ ، أَوْ يَدِهِ ، أَوْ رِجْلِهِ ، أَوْ شَعْرِهِ ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَجْزَائِهِ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْحَيَوَانِ حُكْمُ بَقِيَّةِ أَجْزَائِهِ ، عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ ، وَحُكْمُ الْخِنْزِيرِ حُكْمُ الْكَلْبِ ؛ لِأَنَّ النَّصَّ وَقَعَ فِي الْكَلْبِ ، وَالْخِنْزِيرُ شَرٌّ مِنْهُ وَأَغْلَظُ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَّ عَلَى تَحْرِيمِهِ ، وَأَجْمَعَ

الْمُسْلِمُونَ عَلَى ذَلِكَ ، وَحَرُمَ اقْتِنَاؤُهُ .

( 59 ) فَصْلٌ : وَغَسْلُ النَّجَاسَةِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَحَلِّهَا ؛ إنْ كَانَتْ جِسْمًا لَا يَتَشَرَّبُ النَّجَاسَةَ كَالْآنِيَةِ ، فَغَسْلُهُ بِمُرُورِ الْمَاءِ عَلَيْهِ كُلَّ مَرَّةٍ غَسْلَةٌ ، سَوَاءٌ كَانَ بِفِعْلِ آدَمِيٍّ أَوْ غَيْرِ فِعْلِهِ ، مِثْلُ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ مَاءُ الْمَطَرِ ، أَوْ يَكُونَ فِي نَهْرٍ جَارٍ ، فَتَمُرُّ عَلَيْهِ جِرْيَاتُ النَّهْرِ ، فَكُلُّ جِرْيَةٍ تَمُرُّ عَلَيْهِ غَسْلَةٌ ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ صَبَّهُ آدَمِيٌّ بِغَيْرِ قَصْدٍ ، وَإِنْ وَقَعَ فِي مَاءٍ قَلِيلٍ رَاكِدٍ نَجَّسَهُ وَلَمْ يَطْهُرْ ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا اُحْتُسِبَ بِوَضْعِهِ فِيهِ وَمُرُورِ الْمَاءِ عَلَى أَجْزَائِهِ غَسْلَةً ، فَإِنْ خَضْخَضَهُ فِي الْمَاءِ وَحَرَّكَهُ بِحَيْثُ يَمُرُّ عَلَيْهِ أَجْزَاءٌ غَيْرُ الَّتِي كَانَتْ مُلَاقِيَةً لَهُ ، اُحْتُسِبَ بِذَلِكَ غَسْلَةً ثَانِيَةً ، كَمَا لَوْ مَرَّتْ عَلَيْهِ جِرْيَاتٌ مِنْ الْمَاءِ الْجَارِي .
وَإِنْ كَانَ الْمَغْسُولُ إنَاءً فَطُرِحَ فِيهِ الْمَاءُ ، لَمْ يُحْتَسَبْ بِهِ غَسْلَةٌ حَتَّى يُفْرِغَهُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ الْعَادَةُ فِي غَسْلِهِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ يَسَعُ قُلَّتَيْنِ فَصَاعِدًا ، فَمَلَأَهُ ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّ إدَارَةَ الْمَاءِ فِيهِ تَجْرِي مَجْرَى الْغَسَلَاتِ ؛ لِأَنَّ أَجْزَاءَهُ تَمُرُّ عَلَيْهَا جِرْيَاتٌ مِنْ الْمَاءِ غَيْرُ الَّتِي كَانَتْ مُلَاقِيَةً لَهُ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ مَرَّتْ عَلَيْهَا جِرْيَاتٌ مِنْ مَاءٍ جَارٍ .
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : لَا يَكُونُ غَسْلُهُ إلَّا بِتَفْرِيغِهِ مِنْهُ أَيْضًا .
وَإِنْ كَانَ الْمَغْسُولُ جِسْمًا تَدْخُلُ فِيهِ أَجْزَاءُ النَّجَاسَةِ ، لَمْ يُحْتَسَبْ بِرَفْعِهِ مِنْ الْمَاءِ غَسْلَةً ، إلَّا بَعْدَ عَصْرِهِ ، وَعَصْرِ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ ، فَإِنْ كَانَ بِسَاطًا ثَقِيلًا أَوْ زِلِّيًّا فَعَصْرُهُ بِتَقْلِيبِهِ وَدَقِّهِ .

( 60 ) فَصْلٌ : مَا أُزِيلَتْ بِهِ النَّجَاسَةُ ، إنْ انْفَصَلَ مُتَغَيِّرًا بِالنَّجَاسَةِ ، أَوْ قَبْلَ طَهَارَةِ الْمَحَلِّ ، فَهُوَ نَجِسٌ ؛ لِأَنَّهُ تَغَيَّرَ بِالنَّجَاسَةِ أَوْ مَاءٌ قَلِيلٌ لَاقَى مَحَلًّا نَجِسًا لَمْ يُطَهِّرْهُ ، فَكَانَ نَجِسًا ، كَمَا لَوْ وَرَدَتْ عَلَيْهِ .
وَإِنْ انْفَصَلَ غَيْرُ مُتَغَيِّرٍ مِنْ الْغَسْلَةِ الَّتِي طَهُرَ بِهَا الْمَحَلُّ ، فَإِنْ كَانَ الْمَحَلُّ أَرْضًا فَهُوَ طَاهِرٌ ، رِوَايَةً وَاحِدَةً ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَنْ يُصَبَّ عَلَى بَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ ذَنُوبٌ مِنْ مَاءٍ ، لِيُطَهِّرَ الْأَرْضَ الَّتِي بَالَ عَلَيْهَا ، فَلَوْ كَانَ الْمُنْفَصِلُ نَجِسًا لَنَجَّسَ بِهِ مَا انْتَشَرَ إلَيْهِ مِنْ الْأَرْضِ ، فَتَكْثُرُ النَّجَاسَةُ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ الْأَرْضِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ ؛ قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ طَاهِرٌ .
وَهُوَ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ انْفَصَلَ عَنْ مَحَلٍّ مَحْكُومٍ بِطَهَارَتِهِ ، فَكَانَ طَاهِرًا ، كَالْغَسْلَةِ الثَّامِنَةِ ، وَأَنَّ الْمُنْفَصِلَ بَعْضُ الْمُتَّصِلِ وَالْمُتَّصِلَ طَاهِرٌ ، وَكَذَلِكَ الْمُنْفَصِلُ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ نَجِسٌ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَاخْتَارَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَامِدٍ ؛ لِأَنَّهُ مَاءٌ قَلِيلٌ ، لَاقَى مَحَلًّا نَجِسًا ، أَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يُطَهِّرْهَا .
قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : إنَّمَا يُحْكَمُ بِطَهَارَةِ الْمُنْفَصِلُ مِنْ الْأَرْضِ إذَا كَانَتْ قَدْ نَشِفَتْ أَعْيَانُ الْبَوْلَةِ ، فَإِنْ كَانَتْ أَعْيَانُهَا قَائِمَةً ، فَجَرَى الْمَاءُ عَلَيْهَا ، طَهَّرَهَا .
وَفِي الْمُنْفَصِلِ رِوَايَتَانِ ، كَالْمُنْفَصِلِ عَنْ غَيْرِ الْأَرْضِ .
قَالَ : وَكَوْنُهُ نَجِسًا أَصَحُّ فِي كَلَامِهِ .
وَالْأَوْلَى الْحُكْمُ بِطَهَارَتِهِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِغَسْلِ بَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ عَقِيبَ بَوْلِهِ ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ نُشَافَهَ .

( 61 ) فَصْلٌ : إذَا غُسِلَ بَعْضُ الثَّوْبِ النَّجِسِ ، جَازَ ، وَيَطْهُرُ الْمَغْسُولُ دُونَ غَيْرِهِ ؛ فَإِنْ كَانَ يُغْمَسُ بَعْضُهُ فِي مَاءٍ يَسِيرٍ رَاكِدٍ يَعْرُكُهُ فِيهِ ، نَجِسَ الْمَاءُ ، وَلَمْ يَطْهُرْ مِنْهُ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ بِغَمْسِهِ فِي الْمَاءِ صَارَ نَجِسًا ، فَلَمْ يُطَهِّرْ مِنْهُ شَيْئًا ، وَإِنْ كَانَ يَصُبُّ عَلَى بَعْضِهِ فِي جَفْنَةٍ طَهُرَ مَا طَهَّرَهُ ، وَكَانَ الْمُنْفَصِلُ نَجِسًا ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُلَاقِيَ الْمَاءَ الْمُنْفَصِلَ جُزْءٌ غَيْرُ الْمَغْسُولِ ، فَيَنْجُسُ بِهِ .

( 62 ) فَصْلٌ : إذَا أَصَابَ ثَوْبَ الْمَرْأَةِ دَمُ حَيْضِهَا ، اُسْتُحِبَّ أَنْ تَحُتَّهُ بِظُفُرِهَا ، لِتَذْهَبَ خُشُونَتُهُ ، ثُمَّ تَقْرُصَهُ لِيَلِينَ لِلْغَسْلِ ، ثُمَّ تَغْسِلَهُ بِالْمَاءِ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لِأَسْمَاءِ فِي دَمِ الْحَيْضِ : حُتِّيهِ ، ثُمَّ اُقْرُصِيهِ ، ثُمَّ غَسِّلِيهِ بِالْمَاءِ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
فَإِنْ اقْتَصَرَتْ عَلَى إزَالَتِهِ بِالْمَاءِ جَازَ ، فَإِنْ لَمْ يَزُلْ لَوْنُهُ ، وَكَانَتْ إزَالَتُهُ تَشُقُّ أَوْ يَتْلَفُ الثَّوْبُ وَيَضُرُّهُ ، عُفِيَ عَنْهُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَلَا يَضُرُّك أَثَرُهُ } .
وَإِنْ اسْتَعْمَلَتْ فِي إزَالَتِهِ شَيْئًا يُزِيلُهُ كَالْمِلْحِ وَغَيْرِهِ ، فَحَسَنٌ ؛ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ { امْرَأَةٍ مِنْ غِفَارٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْدَفَهَا عَلَى حَقِيبَتِهِ ، فَحَاضَتْ ، قَالَتْ : فَنَزَلْت ، فَإِذَا بِهَا دَمٌ مِنِّي ، فَقَالَ : مَا لَكِ ؟ لَعَلَّك نُفِسْتِ ؟ .
قُلْت : نَعَمْ .
قَالَ : فَأَصْلِحِي مِنْ نَفْسِك ، ثُمَّ خُذِي إنَاءً مِنْ مَاءٍ فَاطْرَحِي فِيهِ مِلْحًا ، ثُمَّ اغْسِلِي مَا أَصَابَ الْحَقِيبَةَ مِنْ الدَّمِ } .
قَالَ الْخَطَّابِيُّ : فِيهِ مِنْ الْفِقْهِ ؛ جَوَازُ اسْتِعْمَالِ الْمِلْحِ ، وَهُوَ مَطْعُومٌ ، فِي غَسْلِ الثَّوْبِ وَتَنْقِيَتِهِ مِنْ الدَّمِ ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ غَسْلُ الثِّيَابِ بِالْعَسَلِ ، إذَا كَانَ يُفْسِدُهَا الصَّابُونُ ، وَبِالْخَلِّ إذَا أَصَابَهَا الْحِبْرُ ، وَالتَّدَلُّكُ بِالنُّخَالَةِ ، وَغَسْلُ الْأَيْدِي بِهَا ، وَالْبِطِّيخِ وَدَقِيقِ الْبَاقِلَّا ، وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَهَا قُوَّةُ الْجَلَاءِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( 63 ) فَصْلٌ : فَإِذَا كَانَ فِي الْإِنَاءِ خَمْرٌ أَوْ شِبْهُهُ مِنْ النَّجَاسَاتِ الَّتِي يَتَشَرَّبُهَا الْإِنَاءُ ثُمَّ مَتَى جُعِلَ فِيهِ مَائِعٌ سِوَاهُ ظَهَرَ فِيهِ طَعْمُ النَّجَاسَةِ ، أَوْ لَوْنُهَا لَمْ يَطْهُرْ بِالْغَسْلِ ؛ لِأَنَّ الْغَسْلَ لَا يَسْتَأْصِلُ أَجْزَاءَ النَّجَاسَةِ مِنْ جِسْمِ الْإِنَاءِ ، فَلَمْ يُطَهِّرْهُ ، كَالسِّمْسِمِ إذَا ابْتَلَّ بِالنَّجَاسَةِ .
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ الْمَقْدِسِيُّ فِي " الْمُبْهِجِ " : آنِيَةُ الْخَمْرِ مِنْهَا الْمُزَفَّتُ ، فَتَطْهُرُ بِالْغَسْلِ ؛ لِأَنَّ الزِّفْتَ يَمْنَعُ وُصُولَ النَّجَاسَةِ إلَى جِسْمِ الْإِنَاءِ ، وَمِنْهَا مَا لَيْسَ بِمُزَفَّتٍ ، فَيَتَشَرَّبُ أَجْزَاءَ النَّجَاسَةِ ، فَلَا يَطْهُرُ بِالتَّطْهِيرِ ، فَإِنَّهُ مَتَى تُرِكَ فِيهِ مَائِعٌ ظَهَرَ فِيهِ طَعْمُ الْخَمْرِ وَلَوْنُهُ .

( 64 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( وَإِذَا كَانَ مَعَهُ فِي السَّفَرِ إنَاءَانِ ؛ نَجِسٌ وَطَاهِرٌ ، وَاشْتَبَهَا عَلَيْهِ ، أَرَاقَهُمَا ، وَيَتَيَمَّمُ ) .
إنَّمَا خَصَّ حَالَةَ السَّفَرِ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ؛ لِأَنَّهَا الْحَالَةُ الَّتِي يَجُوزُ التَّيَمُّمُ فِيهَا ، وَيُعْدَمُ فِيهَا الْمَاءُ غَالِبًا ، وَأَرَادَ : إذَا لَمْ يَجِدْ مَاءً غَيْرَ الْإِنَاءَيْنِ الْمُشْتَبِهَيْنِ ، فَإِنَّهُ مَتَى وَجَدَ مَاءً طَهُورًا غَيْرَهُمَا تَوَضَّأَ بِهِ ، وَلَمْ يَجُزْ التَّحَرِّي وَلَا التَّيَمُّمُ ، بِغَيْرِ خِلَافٍ .
وَلَا تَخْلُو الْآنِيَةُ الْمُشْتَبِهَةُ مِنْ حَالَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنْ لَا يَزِيدَ عَدَدُ الطَّاهِرِ عَلَى النَّجِسِ ، فَلَا خِلَافَ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّحَرِّي فِيهِمَا .
وَالثَّانِي أَنْ يَكْثُرَ عَدَدُ الطَّاهِرَاتِ ؛ فَذَهَبَ أَبُو عَلِيٍّ النَّجَّادُ ، مِنْ أَصْحَابِنَا ، إلَى جَوَازِ التَّحَرِّي فِيهَا .
وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ إصَابَةُ الطَّاهِرِ ؛ وَلِأَنَّ جِهَةَ الْإِبَاحَةِ قَدْ تَرَجَّحَتْ ، فَجَازَ التَّحَرِّي ، كَمَا لَوْ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ أُخْتُهُ فِي نِسَاءِ مِصْرَ .
، وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّحَرِّي فِيهَا بِحَالٍ .
وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ .
وَهُوَ قَوْلُ الْمُزَنِيِّ ، وَأَبِي ثَوْرٍ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَتَحَرَّى وَيَتَوَضَّأُ بِالْأَغْلَبِ عِنْدَهُ فِي الْحَالَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ لِلصَّلَاةِ ، فَجَازَ التَّحَرِّي مِنْ أَجْلِهِ ، كَمَا لَوْ اشْتَبَهْت الْقِبْلَةُ ؛ وَلِأَنَّ الطَّهَارَةَ تُؤَدَّى بِالْيَقِينِ تَارَةً ، وَبِالظَّنِّ أُخْرَى ، وَلِهَذَا جَازَ التَّوَضُّؤُ بِالْمَاءِ الْقَلِيلِ الْمُتَغَيِّرِ ، الَّذِي لَا يُعْلَمُ سَبَبُ تَغَيُّرِهِ .
وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ : يَتَوَضَّأُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وُضُوءًا ، وَيُصَلِّي بِهِ .
وَبِهِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ ، إلَّا أَنَّهُ قَالَ : يَغْسِلُ مَا أَصَابَهُ مِنْ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَهُ أَدَاءُ فَرْضِهِ بِيَقِينٍ ، فَلَزِمَهُ ، كَمَا لَوْ اشْتَبَهَ طَاهِرٌ بِطَهُورٍ ، وَكَمَا لَوْ نَسِيَ صَلَاةً مِنْ يَوْمٍ لَا يَعْلَمُ عَيْنَهَا ، أَوْ اشْتَبَهَتْ

عَلَيْهِ الثِّيَابُ .
وَلَنَا أَنَّهُ اشْتَبَهَ الْمُبَاحُ بِالْمَحْظُورِ ، فِيمَا لَا تُبِيحُهُ الضَّرُورَةُ ، فَلَمْ يَجُزْ التَّحَرِّي ، كَمَا لَوْ اسْتَوَى الْعَدَدُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَكَمَا لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا بَوْلًا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ ، فَإِنَّهُ قَدْ سَلَّمَهُ ، وَاعْتَذَرَ أَصْحَابُهُ بِأَنَّهُ لَا أَصْلَ لَهُ فِي الطَّهَارَةِ .
قُلْنَا : وَهَذَا الْمَاءُ قَدْ زَالَ عَنْهُ أَصْلُ الطَّهَارَةِ ، وَصَارَ نَجِسًا ، فَلَمْ يَبْقَ لِلْأَصْلِ الزَّائِلِ أَثَرٌ ، عَلَى أَنَّ الْبَوْلَ قَدْ كَانَ مَاءً ، فَلَهُ أَصْلٌ فِي الطَّهَارَةِ ، كَهَذَا الْمَاءِ النَّجِسِ .
وَقَوْلُهُمْ : إذَا كَثُرَ الطَّاهِرُ تَرَجَّحَتْ الْإِبَاحَةُ .
يَبْطُلُ بِمَا إذَا اشْتَبَهَتْ أُخْتُهُ فِي مِائَةٍ أَوْ مَيْتَةٌ بِمُذَكَّيَاتٍ ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّحَرِّي ، وَإِنْ كَثُرَ الْمُبَاحُ ، وَأَمَّا إذَا اشْتَبَهَتْ فِي نِسَاءِ مِصْرٍ ، فَإِنَّهُ يَشُقُّ اجْتِنَابُهُنَّ جَمِيعًا ، وَلِذَلِكَ يَجُوزُ لَهُ النِّكَاحُ مِنْ غَيْرِ تَحَرٍّ .
وَأَمَّا الْقِبْلَةُ فَيُبَاحُ تَرْكُهَا لِلضَّرُورَةِ ، كَحَالَةِ الْخَوْفِ ، وَيَجُوزُ أَيْضًا فِي السَّفَرِ فِي صَلَاةِ النَّافِلَةِ ؛ وَلِأَنَّ قِبْلَتَهُ مَا يَتَوَجَّهُ إلَيْهِ بِظَنِّهِ ، وَلَوْ بَانَ لَهُ يَقِينُ الْخَطَأِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِعَادَةُ ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا .
وَأَمَّا الْمُتَغَيِّرُ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ يَعْلَمُهُ ، فَيَجُوزُ الْوُضُوءُ بِهِ اسْتِنَادًا إلَى أَصْلِ الطَّهَارَةِ ، وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ نَجَاسَتُهُ ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى تَحَرٍّ .
وَفِي مَسْأَلَتِنَا عَارَضَ يَقِينُ الطَّهَارَةِ يَقِينَ النَّجَاسَةِ ، فَلَمْ يَبْقَ لَهُ حُكْمٌ ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ مِنْ غَيْرِ تَحَرٍّ .
ثُمَّ يَبْطُلُ قِيَاسُهُمْ بِمَا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا بَوْلًا وَالْآخَرُ مَاءً .
وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا : أَنَّهُ لَوْ تَوَضَّأَ مِنْ أَحَدِ الْإِنَاءَيْنِ وَصَلَّى ، ثُمَّ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ فِي الصَّلَاةِ الثَّانِيَةِ أَنَّ الْآخَرَ هُوَ الطَّاهِرُ ، فَتَوَضَّأَ بِهِ وَصَلَّى مِنْ غَيْرِ غَسْلِ أَثَرِ الْأَوَّلِ ، فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ صَلَّى بِالنَّجَاسَةِ يَقِينًا ، وَإِنْ غَسَلَ

أَثَرَ الْأَوَّلِ فَفِيهِ حَرَجٌ وَنَقْضٌ لِاجْتِهَادِهِ بِاجْتِهَادِهِ ، وَنَعْلَمُ أَنَّ إحْدَى الصَّلَاتَيْنِ بَاطِلَةٌ ، لَا بِعَيْنِهَا فَيَلْزَمُهُ إعَادَتُهُمَا ، فَإِنْ تَوَضَّأَ مِنْ الْأَوَّلِ فَقَدْ تَوَضَّأَ بِمَا يَعْتَقِدُهُ نَجِسًا .
وَمَا قَالَهُ ابْنُ الْمَاجِشُونِ فَبَاطِلٌ ؛ فَإِنَّهُ يُفْضِي إلَى تَنْجِيسِ نَفْسِهِ يَقِينًا ، وَبُطْلَانِ صَلَاتِهِ إجْمَاعًا .
وَمَا قَالَهُ ابْنُ مَسْلَمَةَ فَفِيهِ حَرَجٌ ، وَيَبْطُلُ بِالْقِبْلَةِ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُصَلِّيَ إلَى أَرْبَعِ جِهَاتٍ .
( 65 ) فَصْلٌ : وَهَلْ يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ قَبْلَ إرَاقَتِهِمَا ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا ، لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ مَعَهُ مَاءً طَاهِرًا بِيَقِينٍ ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ التَّيَمُّمُ مَعَ وُجُودِهِ .
فَإِنْ خَلَطَهُمَا ، أَوْ أَرَاقَهُمَا ، جَازَ لَهُ التَّيَمُّمُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مَعَهُ مَاءٌ طَاهِرٌ .
وَالثَّانِيَةُ يَجُوزُ التَّيَمُّمُ قَبْلَ ذَلِكَ .
اخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ .
وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى اسْتِعْمَالِ الطَّاهِرِ ، أَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ فِي بِئْرٍ لَا يُمْكِنُهُ اسْتِقَاؤُهُ ، وَإِنْ احْتَاجَ إلَيْهِمَا لِلشُّرْبِ لَمْ تَجِبْ إرَاقَتُهُمَا ، بِغَيْرِ خِلَافٍ ؛ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ لَوْ كَانَا طَاهِرَيْنِ ، فَمَعَ الِاشْتِبَاهِ أَوْلَى .
وَإِذَا أَرَادَ الشُّرْبَ تَحَرَّى وَشَرِبَ مِنْ الطَّاهِرِ عِنْدَهُ ؛ لِأَنَّهَا ضَرُورَةٌ تُبِيحُ الشُّرْبَ مِنْ النَّجِسِ إذَا لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ ، فَمِنْ الَّذِي يَظُنُّ طَهَارَتَهُ أَوْلَى .
وَإِنْ لَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّهِ طَهَارَةُ أَحَدِهِمَا شَرِبَ مِنْ أَحَدِهِمَا ، وَصَارَ هَذَا كَمَا لَوْ اشْتَبَهَتْ مَيْتَةٌ بِمُذَكَّاةٍ فِي حَالِ الِاضْطِرَارِ ، وَلَمْ يَجِدْ غَيْرَهَا ، فَإِنَّهُ إذَا جَازَ اسْتِعْمَالُ النَّجِسِ فَاسْتِعْمَالُ مَا يَظُنُّ طَهَارَتَهُ أَوْلَى .
وَإِذَا شَرِبَ مِنْ أَحَدِهِمَا ، أَوْ أَكَلَ مِنْ الْمُشْتَبِهَاتِ ، ثُمَّ وَجَدَ مَاءً طَهُورًا ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ غُسْلٌ فِيهِ ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا لَا يَلْزَمُهُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ طَهَارَةٌ فِيهِ ، فَلَا تَزُولُ عَنْ ذَلِكَ بِالشَّكِّ .

وَالثَّانِي يَلْزَمُهُ ؛ لِأَنَّهُ مَحَلٌّ مُنِعَ اسْتِعْمَالُهُ مِنْ أَجْلِ النَّجَاسَةِ ، فَلَزِمَهُ غَسْلُ أَثَرِهِ ، كَالْمُتَيَقِّنِ .
( 66 ) فَصْلٌ : وَإِذَا عَلِمَ عَيْنَ النَّجِسِ اُسْتُحِبَّ إرَاقَتُهُ لِيُزِيلَ الشَّكَّ عَنْ نَفْسِهِ .
وَإِنْ احْتَاجَ إلَى الشُّرْبِ شَرِبَ مِنْ الطَّاهِرِ ، وَيَتَيَمَّمُ إذَا لَمْ يَجِدْ غَيْرَ النَّجِسِ .
وَإِنْ خَافَ الْعَطَشَ فِي ثَانِي الْحَالِ ، فَقَالَ الْقَاضِي : يَتَوَضَّأُ بِالْمَاءِ الطَّاهِرِ وَيَحْبِسُ النَّجِسَ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَى شُرْبِهِ فِي الْحَالِ ، فَلَمْ يَجُزْ التَّيَمُّمُ مَعَ وُجُودِهِ .
وَالصَّحِيحُ إنْ شَاءَ اللَّهُ ، أَنَّهُ يَحْبِسُ الطَّاهِرَ وَيَتَيَمَّمُ ؛ لِأَنَّ وُجُودَ النَّجِسِ كَعَدَمِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى الشُّرْبِ فِي الْحَالِ ، وَكَذَلِكَ فِي الْمَآلِ ، وَخَوْفُ الْعَطَشِ فِي إبَاحَةِ التَّيَمُّمِ كَحَقِيقَتِهِ .

( 67 ) فَصْلٌ : وَإِنْ اشْتَبَهَ مَاءٌ طَهُورٌ بِمَاءٍ قَدْ بَطَلَتْ طُهُورِيَّتُهُ ، تَوَضَّأَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وُضُوءًا كَامِلًا ، وَصَلَّى بِالْوُضُوءَيْنِ صَلَاةً وَاحِدَةً .
لَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَهُ أَدَاءُ فَرْضِهِ بِيَقِينٍ ، مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ فِيهِ ، فَيَلْزَمُهُ ، كَمَا لَوْ كَانَا طَاهِرَيْنِ وَلَمْ يَكْفِهِ أَحَدُهُمَا ، وَفَارَقَ مَا إذَا كَانَ نَجِسًا ؛ لِأَنَّهُ يُنَجِّسُ أَعْضَاءَهُ يَقِينًا ، وَلَا يَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ النَّجِسُ هُوَ الثَّانِي ، فَيَبْقَى نَجِسًا ، وَلَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ ، فَإِنْ احْتَاجَ إلَى أَحَدِ الْإِنَاءَيْنِ لِلشُّرْبِ تَحَرَّى ، فَتَوَضَّأَ بِالطَّهُورِ عِنْدَهُ ، وَتَيَمَّمَ مَعَهُ لِيَحْصُلَ لَهُ الْيَقِينُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( 68 ) فَصْلٌ : وَإِنْ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ ثِيَابٌ طَاهِرَةٌ بِنَجِسَةِ ، لَمْ يَجُزْ التَّحَرِّي ، وَصَلَّى فِي كُلِّ ثَوْبٍ بِعَدَدِ النَّجِسِ ، وَزَادَ صَلَاةً .
وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ الْمَاجِشُونِ .
وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ ، وَالْمُزَنِيُّ : لَا يُصَلِّي فِي شَيْءٍ مِنْهَا كَالْأَوَانِي ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ : يَتَحَرَّى فِيهَا ، كَقَوْلِهِمْ فِي الْأَوَانِي وَالْقِبْلَةِ .
وَلَنَا أَنَّهُ أَمْكَنَهُ أَدَاءُ فَرْضِهِ بِيَقِينٍ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ فَيَلْزَمُهُ ، كَمَا لَوْ اشْتَبَهَ الطَّهُورُ بِالطَّاهِرِ ، وَكَمَا لَوْ نَسِيَ صَلَاةً مِنْ يَوْمٍ لَا يَعْلَمُ عَيْنَهَا .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْأَوَانِي النَّجِسَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ اسْتِعْمَالَ النَّجِسِ يَتَنَجَّسُ بِهِ ، وَيَمْنَعُ صِحَّةَ صَلَاتِهِ فِي الْحَالِ وَالْمَآلِ ، وَهَذَا بِخِلَافِهِ .
الثَّانِي أَنَّ الثَّوْبَ النَّجِسَ تُبَاحُ لَهُ الصَّلَاةُ فِيهِ إذَا لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ ، وَالْمَاءُ النَّجِسُ بِخِلَافِهِ .
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا ، أَنَّ الْقِبْلَةَ يَكْثُرُ الِاشْتِبَاهُ فِيهَا ، فَيَشُقُّ اعْتِبَارُ الْيَقِينِ ، فَسَقَطَ دَفْعًا لِلْمَشَقَّةِ ، وَهَذَا بِخِلَافِهِ .
الثَّانِي أَنَّ الِاشْتِبَاهَ هَاهُنَا حَصَلَ بِتَفْرِيطِهِ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُهُ تَعْلِيمُ النَّجِسِ أَوْ غَسْلُهُ ، وَلَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ فِي الْقِبْلَةِ .
الثَّالِثُ أَنَّ الْقِبْلَةَ عَلَيْهَا أَدِلَّةٌ مِنْ النُّجُومِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَغَيْرِهَا ، فَيَصِحُّ الِاجْتِهَادُ فِي طَلَبِهَا ، وَيَقْوَى دَلِيلُ الْإِصَابَةِ لَهَا ، بِحَيْثُ لَا يَبْقَى احْتِمَالُ الْخَطَأِ إلَّا وَهْمًا ضَعِيفًا ، بِخِلَافِ الثِّيَابِ .
( 69 ) فَصْلٌ : فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ عَدَدَ النَّجِسِ ، صَلَّى فِيمَا يَتَيَقَّنُ بِهِ أَنَّهُ صَلَّى فِي ثَوْبٍ طَاهِرٍ ، فَإِنْ كَثُرَ ذَلِكَ وَشَقَّ ، فَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : يَتَحَرَّى فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ ؛ دَفْعًا لِلْمَشَقَّةِ .
وَالثَّانِي لَا يَتَحَرَّى ؛ لِأَنَّ هَذَا يَنْدُرُ جِدًّا ، فَلَا يُفْرَدُ بِحُكْمٍ ، وَيُحْسَبُ عَلَيْهِ دَلِيلُ الْغَالِبِ .

( 70 ) فَصْلٌ : وَإِنْ وَرَدَ مَاءً فَأَخْبَرَهُ بِنَجَاسَتِهِ صَبِيٌّ أَوْ كَافِرٌ أَوْ فَاسِقٌ ، لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُ خَبَرِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ وَلَا الرِّوَايَةِ ، فَلَا يَلْزَمُهُ قَبُولُ خَبَرِهِ ، كَالطِّفْلِ وَالْمَجْنُونِ ، وَإِنْ كَانَ الْمُخْبِرُ بَالِغًا عَاقِلًا مُسْلِمًا غَيْرَ مَعْلُومٍ فِسْقُهُ ، وَعَيَّنَ سَبَبَ النَّجَاسَةِ ، لَزِمَ قَبُولُ خَبَرِهِ ، سَوَاءٌ كَانَ رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً ، حُرًّا أَوْ عَبْدًا ، مَعْلُومَ الْعَدَالَةِ أَوْ مَسْتُورَ الْحَالِ ؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ دِينِيٌّ ، فَأَشْبَهَ الْخَبَرَ بِدُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ ، وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ سَبَبَهَا ، فَقَالَ الْقَاضِي : لَا يَلْزَمُ قَبُولُ خَبَرِهِ ؛ لِاحْتِمَالِ اعْتِقَادِهِ نَجَاسَةَ الْمَاءِ بِسَبَبٍ لَا يَعْتَقِدُهُ الْمُخْبَرُ ، كَالْحَنَفِيِّ يَرَى نَجَاسَةَ الْمَاءِ الْكَثِيرِ ، وَالشَّافِعِيُّ يَرَى نَجَاسَةَ الْمَاءِ الْيَسِيرِ بِمَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ ، وَالْمُوَسْوَسُ الَّذِي يَعْتَقِدُ نَجَاسَتَهُ بِمَا لَا يُنَجِّسُهُ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَلْزَمَ قَبُولَ خَبَرِهِ ، إذَا انْتَفَتْ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتُ فِي حَقِّهِ .

( 71 ) فَصْلٌ : فَإِنْ أُخْبِرْهُ أَنَّ كَلْبًا وَلَغَ فِي هَذَا الْإِنَاءِ ، لَزِمَ قَبُولُ خَبَرِهِ ، سَوَاءٌ كَانَ بَصِيرًا أَوْ ضَرِيرًا ؛ لِأَنَّ لِلضَّرِيرِ طَرِيقًا إلَى الْعِلْمِ بِذَلِكَ بِالْخَبَرِ وَالْحِسِّ .
وَإِنْ أَخْبَرَهُ أَنَّ كَلْبًا وَلَغَ فِي هَذَا الْإِنَاءِ وَلَمْ يَلَغْ فِي هَذَا .
وَقَالَ آخَرُ : لَمْ يَلَغْ فِي الْأَوَّلِ ، وَإِنَّمَا وَلَغَ فِي الثَّانِي .
وَجَبَ اجْتِنَابُهُمَا ، فَيَقْبَلُ قَوْلَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْإِثْبَاتِ دُونَ النَّفْيِ ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَعْلَمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا خَفِيَ عَلَى الْآخَرِ ، إلَّا أَنْ يُعَيِّنَا وَقْتًا مُعَيَّنًا ، وَكَلْبًا وَاحِدًا ، يَضِيقُ الْوَقْتُ عَنْ شُرْبِهِ مِنْهُمَا ، فَيَتَعَارَضُ قَوْلَاهُمَا ، وَيَسْقُطَانِ ، وَيُبَاحُ اسْتِعْمَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا .
فَإِنْ قَالَ أَحَدُهُمَا : شَرِبَ مِنْ هَذَا الْإِنَاءِ ، وَقَالَ الْآخَرُ : نَزَلَ وَلَمْ يَشْرَبْ قُدِّمَ قَوْلُ الْمُثْبِتِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ لَمْ يَتَحَقَّقْ شُرْبُهُ ، مِثْلُ الضَّرِيرِ الَّذِي يُخْبِرُ عَنْ حِسِّهِ ، فَيُقَدَّمُ قَوْلُ الْبَصِيرِ ؛ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ .

( 72 ) فَصْلٌ : إذَا سَقَطَ عَلَى إنْسَانٍ مِنْ طَرِيقٍ مَاءٌ ، لَمْ يَلْزَمْهُ السُّؤَالُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ طَهَارَتُهُ ، قَالَ صَالِحٌ : سَأَلْت أَبِي عَنْ الرَّجُلِ يَمُرُّ بِالْمَوْضِعِ ، فَيَقْطُرُ عَلَيْهِ قَطْرَةٌ أَوْ قَطْرَتَانِ ؟ فَقَالَ : إنْ كَانَ مَخْرَجًا - يَعْنِي خَلَاءً - فَاغْسِلْهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَخْرَجًا فَلَا يُسْأَلُ عَنْهُ ؛ فَإِنَّ عُمَرَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرَّ هُوَ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ عَلَى حَوْضٍ ، فَقَالَ عَمْرٌو : يَا صَاحِبَ الْحَوْضِ ، أَتَرِدُ عَلَى حَوْضِك السِّبَاعُ ؟ فَقَالَ عُمَرُ : يَا صَاحِبَ الْحَوْضِ ، لَا تُخْبِرْنَا ، فَإِنَّا نَرِدُ عَلَيْهَا ، وَتَرِدُ عَلَيْنَا .
رَوَاهُ مَالِكٌ ، فِي " الْمُوَطَّأِ " .
فَإِنْ سَأَلَ ، فَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : لَا يَلْزَمُ الْمَسْئُولَ رَدُّ الْجَوَابِ ؛ لِخَبَرِ عُمَرَ ، وَيَحْتَمِلَ أَنْ يَلْزَمَهُ ؛ لِأَنَّهُ سُئِلَ عَنْ شَرْطِ الصَّلَاةِ ، فَلَزِمَهُ الْجَوَابُ ، إذَا عَلِمَ ، كَمَا لَوْ سَأَلَهُ عَنْ الْقِبْلَةِ .
وَخَبَرُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سُؤْرَ السِّبَاعِ غَيْرُ نَجِسٍ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

( 73 ) مَسْأَلَةٌ ، قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ رَحِمَهُ اللَّهُ : ( وَكُلُّ جِلْدِ مَيْتَةٍ دُبِغَ أَوْ لَمْ يُدْبَغْ فَهُوَ نَجِسٌ ) لَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ فِي نَجَاسَةِ الْمَيْتَةِ قَبْلَ الدَّبْغِ ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَ فِيهِ ، وَأَمَّا بَعْدَ الدَّبْغِ فَالْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ نَجِسٌ أَيْضًا ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ ، وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ ، وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى : أَنَّهُ يَطْهُرُ مِنْهَا جِلْدُ مَا كَانَ طَاهِرًا فِي حَالِ الْحَيَاةِ .
وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ عَطَاءٍ ، وَالْحَسَنِ ، وَالشَّعْبِيِّ ، وَالنَّخَعِيِّ ، وَقَتَادَةَ ، وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيِّ ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ ، وَاللَّيْثِ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَابْنِ الْمُبَارَكِ ، وَإِسْحَاقَ ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَابْنِ مَسْعُودٍ ، وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِيمَا هُوَ طَاهِرٌ فِي الْحَيَاةِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَهُوَ يَرَى طَهَارَةَ الْحَيَوَانَاتِ كُلِّهَا ، إلَّا الْكَلْبَ وَالْخِنْزِيرَ ، فَيَطْهُرُ عِنْدَهُ كُلُّ جِلْدٍ إلَّا جِلْدَهُمَا .
وَلَهُ فِي جِلْدِ الْآدَمِيِّ وَجْهَانِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَطْهُرُ كُلُّ جِلْدٍ بِالدَّبْغِ إلَّا جِلْدَ الْخِنْزِيرِ .
وَحُكِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ : أَنَّهُ يَطْهُرُ كُلُّ جِلْدٍ .
وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ ، وَمَذْهَبُ مَنْ حَكَمَ بِطَهَارَةِ الْحَيَوَانَاتِ كُلِّهَا ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا دُبِغَ الْإِهَابُ فَقَدْ طَهُرَ .
} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ؛ وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَجَدَ شَاةً مَيِّتَةً أُعْطِيَتْهَا مَوْلَاةٌ لِمَيْمُونَةَ مِنْ الصَّدَقَةِ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلَّا انْتَفَعْتُمْ بِجِلْدِهَا ؟ قَالُوا : إنَّهَا مَيْتَةٌ .
قَالَ : إنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا .
} وَفِي لَفْظٍ : { أَلَا أَخَذُوا إهَابَهَا فَدَبَغُوهُ فَانْتَفَعُوا بِهِ } .

مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ؛ وَلِأَنَّهُ إنَّمَا نَجُسَ بِاتِّصَالِ الدِّمَاءِ وَالرُّطُوبَاتِ بِهِ بِالْمَوْتِ ، وَالدَّبْغُ يُزِيلُ ذَلِكَ ، فَيَرْتَدُّ الْجِلْدُ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ .
وَلَنَا مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُكَيْمٍ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إلَى جُهَيْنَةَ إنِّي كُنْت رَخَّصْت لَكُمْ فِي جُلُودِ الْمَيْتَةِ ، فَإِذَا جَاءَكُمْ كِتَابِي هَذَا فَلَا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، فِي " سُنَنِهِ " ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ ، فِي " مُسْنَدِهِ " وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : إسْنَادٌ جَيِّدٌ ، يَرْوِيهِ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ شُعْبَةَ ، عَنْ الْحَكَمِ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ .
وَفِي لَفْظٍ : { أَتَانَا كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ وَفَاتِهِ بِشَهْرٍ أَوْ شَهْرَيْنِ } وَهُوَ نَاسِخٌ لِمَا قَبْلَهُ ؛ لِأَنَّهُ فِي آخِرِ عُمُرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَفْظُهُ دَالٌّ عَلَى سَبْقِ التَّرْخِيصِ ، وَأَنَّهُ مُتَأَخِّرٌ عَنْهُ ، لِقَوْلِهِ " كُنْت رَخَّصْت لَكُمْ " وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ بِالْآخِرِ فَالْآخِرِ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ قِيلَ : هَذَا مُرْسَلٌ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ كِتَابٍ لَا يُعْرَفُ حَامِلُهُ .
قُلْنَا : كِتَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلَفْظِهِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَكْتُبْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى أَحَدٍ ، وَقَدْ كَتَبَ إلَى مُلُوكِ الْأَطْرَافِ ، وَإِلَى غَيْرِهِمْ فَلَزِمَتْهُمْ الْحُجَّةُ بِهِ ، وَحَصَلَ لَهُ الْبَلَاغُ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً لَمْ تَلْزَمْهُمْ الْإِجَابَةُ ، وَلَا حَصَلَ بِهِ بَلَاغٌ ، وَلَكَانَ لَهُمْ عُذْرٌ فِي تَرْكِ الْإِجَابَة ؛ لِجَهْلِهِمْ بِحَامِلِ الْكِتَابِ وَعَدَالَتِهِ .
وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ الشَّافِعِيُّ بِإِسْنَادِهِ ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ ، عَنْ جَابِرٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِشَيْءٍ } .
وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ ؛ وَلِأَنَّهُ

جُزْءٌ مِنْ الْمَيْتَةِ ، فَكَانَ مُحَرَّمًا ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ } فَلَمْ يَطْهُرْ بِالدَّبْغِ كَاللَّحْمِ ؛ وَلِأَنَّهُ حَرُمَ بِالْمَوْتِ ، فَكَانَ نَجِسًا كَمَا قَبْلَ الدَّبْغِ .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّهُ إنَّمَا نَجِسَ لِاتِّصَالِ الدِّمَاءِ وَالرُّطُوبَاتِ بِهِ ، غَيْرُ صَحِيحٍ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ نَجِسًا لِذَلِكَ لَمْ يَنْجُسْ ظَاهِرُ الْجِلْدِ ، وَلَا مَا ذَكَّاهُ الْمَجُوسِيُّ وَالْوَثَنِيُّ ، وَلَا مَا قُدَّ نِصْفَيْنِ ، وَلَا مَتْرُوكُ التَّسْمِيَةِ ؛ لِعَدَمِ عِلَّةِ التَّنْجِيسِ ، وَلَوَجَبَ الْحُكْمُ بِنَجَاسَةِ الصَّيْدِ الَّذِي لَمْ تَنْسَفِحْ دِمَاؤُهُ وَرُطُوبَاتُهُ .
ثُمَّ كَيْفَ يَصِحُّ هَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ ، وَهُوَ يَحْكُمُ بِنَجَاسَةِ الشَّعْرِ وَالصُّوفِ وَالْعَظْمِ ؟ وَأَبُو حَنِيفَةَ يُطَهِّرُ جِلْدَ الْكَلْبِ وَهُوَ نَجِسٌ فِي الْحَيَاةِ .
( 74 ) فَصْلٌ : هَلْ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِي الْيَابِسَاتِ ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا : لَا يَجُوزُ ؛ لِقَوْلِهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِشَيْءٍ ، } وَقَوْلِهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ } وَالثَّانِيَةُ : يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَلَا أَخَذُوا إهَابَهَا فَانْتَفَعُوا بِهِ } .
وَفِي لَفْظٍ : { أَلَا أَخَذُوا إهَابَهَا فَدَبَغُوهُ فَانْتَفَعُوا بِهِ ؛ } وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، لَمَّا فَتَحُوا فَارِسَ ، انْتَفَعُوا بِسُرُوجِهِمْ وَأَسْلِحَتِهِمْ وَذَبَائِحُهُمْ مَيْتَةٌ ؛ وَلِأَنَّهُ انْتِفَاعٌ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ ، أَشْبَهَ الِاصْطِيَادَ بِالْكَلْبِ ، وَرُكُوبَ الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ .

( 75 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا جُلُودُ السِّبَاعِ فَقَالَ الْقَاضِي : لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهَا قَبْلَ الدَّبْغِ ، وَلَا بَعْدَهُ .
وَبِذَلِكَ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ ، وَيَزِيدُ بْنُ هَارُونَ ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ ، وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ .
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، كَرَاهِيَةُ الصَّلَاةِ فِي جُلُودِ الثَّعَالِبِ ، وَكَرِهَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَالْحَكَمُ ، وَمَكْحُولٌ ، وَإِسْحَاقُ وَكَرِهَ الِانْتِفَاعَ بِجُلُودِ السَّنَانِيرِ عَطَاءٌ ، وَطَاوُسٌ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَعَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ .
وَرَخَّصَ فِي جُلُودِ السِّبَاعِ جَابِرٌ ، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ ، وَعُرْوَةَ أَنَّهُمْ رَخَّصُوا فِي الرُّكُوبِ عَلَى جُلُودِ النُّمُورِ ، وَرَخَّصَ فِيهَا الزُّهْرِيُّ وَأَبَاحَ الْحَسَنُ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ، الصَّلَاةَ فِي جُلُودِ الثَّعَالِبِ : لِأَنَّ الثَّعَالِبَ تُفْدَى فِي الْإِحْرَامِ ، فَكَانَتْ مُبَاحَةً ، وَلِمَا ثَبَتَ مِنْ الدَّلِيلِ عَلَى طَهَارَةِ جُلُودِ الْمَيْتَةِ بِالدِّبَاغِ .
وَلَنَا : مَا رَوَى أَبُو رَيْحَانَةَ ، قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ رُكُوبِ النُّمُورِ .
} أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد ، وَابْنُ مَاجَهْ ، وَعَنْ مُعَاوِيَةَ ، وَالْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ ، { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ لُبْسِ جُلُودِ السِّبَاعِ ، وَالرُّكُوبِ عَلَيْهَا .
} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَرُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ افْتِرَاشِ جُلُودِ السِّبَاعِ .
} رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَلَفْظُهُ أَنَّ النَّبِيَّ { صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ جُلُودِ السِّبَاعِ .
} مَعَ مَا سَبَقَ مِنْ نَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الِانْتِفَاعِ بِشَيْءِ مِنْ الْمَيْتَةِ .
وَأَمَّا الثَّعَالِبُ فَيُبْنَى حُكْمُهَا عَلَى حِلِّهَا ، وَفِيهَا رِوَايَتَانِ ، كَذَلِكَ يُخَرَّجُ فِي جُلُودِهَا ؛ فَإِنْ قُلْنَا بِتَحْرِيمِهَا فَحُكْمُ جُلُودِهَا حُكْمُ جُلُودِ بَقِيَّةِ السِّبَاعِ ، وَكَذَلِكَ السَّنَانِيرُ الْبَرِّيَّةُ ، فَأَمَّا

الْأَهْلِيَّةُ فَمُحَرَّمَةٌ ، وَهَلْ تَطْهُرُ جُلُودُهَا بِالدِّبَاغِ ؟ يُخَرَّجُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ .
( 76 ) فَصْلٌ : إذَا قُلْنَا بِطَهَارَةِ الْجُلُودِ بِالدِّبَاغِ لَمْ يَطْهُرْ مِنْهَا جِلْدُ مَا لَمْ يَكُنْ طَاهِرًا فِي الْحَيَاةِ ، نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّهُ يَطْهُرُ .
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : لَا يَطْهُرُ إلَّا مَا كَانَ مَأْكُولَ اللَّحْمِ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَوْزَاعِيِّ ، وَأَبِي ثَوْرٍ ، وَإِسْحَاقَ ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { دِبَاغُ الْأَدِيمِ ذَكَاتُهُ } .
فَشَبَّهَ الدَّبْغَ بِالذَّكَاةِ ؛ وَالذَّكَاةُ إنَّمَا تُعْمَلُ فِي مَأْكُولِ اللَّحْمِ ؛ وَلِأَنَّهُ أَحَدُ الْمُطَهِّرَيْنِ لِلْجِلْدِ ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِي غَيْرِ مَأْكُولٍ كَالذَّبْحِ .
وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّ كُلَّ طَاهِرٍ فِي الْحَيَاةِ يَطْهُرُ بِالدَّبْغِ ؛ لِعُمُومِ لَفْظِهِ فِي ذَلِكَ ؛ وَلِأَنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ } يَتَنَاوَلُ الْمَأْكُولَ وَغَيْرَهُ وَخَرَجَ مِنْهُ مَا كَانَ نَجِسًا فِي الْحَيَاةِ ؛ لِكَوْنِ الدَّبْغِ إنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي دَفْعِ نَجَاسَةٍ حَادِثَةٍ بِالْمَوْتِ ، فَيَبْقَى فِيمَا عَدَاهُ عَلَى قَضِيَّةِ الْعُمُومِ .
وَحَدِيثُهُمْ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالذَّكَاةِ التَّطْيِيبَ ، مِنْ قَوْلِهِمْ : رَائِحَةٌ ذَكِيَّةٌ ، أَيْ : طَيِّبَةٌ وَهَذَا يُطَيِّبُ الْجَمِيعَ ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا : أَنَّهُ أَضَافَ الذَّكَاةَ إلَى الْجِلْدِ خَاصَّةً ، وَاَلَّذِي يَخْتَصُّ بِهِ الْجِلْدُ هُوَ تَطْيِيبُهُ وَطَهَارَتُهُ ، أَمَّا الذَّكَاةُ الَّتِي هِيَ الذَّبْحُ ، فَلَا تُضَافُ إلَّا إلَى الْحَيَوَانِ كُلِّهِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالذَّكَاةِ الطَّهَارَةَ ، فَسَمَّى الطَّهَارَةَ ذَكَاةٌ ، فَيَكُونُ اللَّفْظُ عَامًّا فِي كُلِّ جِلْدٍ ، فَيَتَنَاوَلُ مَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ .

( 77 ) فَصْلٌ : وَلَا يَحِلُّ أَكْلُهُ بَعْدَ الدَّبْغِ ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ حَامِدٍ : أَنَّهُ يَحِلُّ .
وَهُوَ وَجْهٌ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ؛ لِقَوْلِهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { دِبَاغُ الْأَدِيمِ ذَكَاتُهُ } وَلِأَنَّهُ مَعْنًى يُفِيدُ الطَّهَارَةَ فِي الْجِلْدِ ، فَأَبَاحَ الْأَكْلَ كَالذَّبْحِ ، وَلَنَا قَوْله تَعَالَى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ } ، وَالْجِلْدُ مِنْهَا ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّمَا حُرِّمَ مِنْ الْمَيْتَةِ أَكْلُهَا .
} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ؛ وَلِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ الْمَيْتَةِ ، فَحَرُمَ أَكْلُهُ كَسَائِرِ أَجْزَائِهَا ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ الطَّهَارَةِ إبَاحَةُ الْأَكْلِ ، بِدَلِيلِ الْخَبَائِثِ مِمَّا لَا يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ ، ثُمَّ لَا يُسْمَعُ قِيَاسُهُمْ فِي تَرْكِ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( 78 ) فَصْلٌ : وَيَجُوزُ بَيْعُهُ ، وَإِجَارَتُهُ ، وَالِانْتِفَاعُ بِهِ فِي كُلِّ مَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِيهِ ، سِوَى الْأَكْلِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمُذَكَّى فِي غَيْرِ الْأَكْلِ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ دَبْغِهِ ؛ لِأَنَّهُ نَجِسٌ ، مُتَّفَقٌ عَلَى نَجَاسَةِ عَيْنِهِ ، فَأَشْبَهَ الْخِنْزِيرَ .

( 79 ) فَصْلٌ : وَيَفْتَقِرُ مَا يُدْبَغُ بِهِ إلَى أَنْ يَكُونَ مُنَشِّفًا لِلرُّطُوبَةِ ، مُنَقِّيًا لِلْخُبْثِ ، كَالشَّبِّ وَالْقَرَظِ ، قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : وَيُشْتَرَطُ كَوْنُهُ طَاهِرًا ، فَإِنْ كَانَ نَجِسًا لَمْ يُطَهِّرْ الْجِلْدَ ؛ لِأَنَّهَا طَهَارَةٌ مِنْ نَجَاسَةٍ ، فَلَمْ تَحْصُلْ بِنَجِسٍ ، كَالِاسْتِجْمَارِ وَالْغُسْلِ ، وَهَلْ يَطْهُرُ الْجِلْدُ بِمُجَرَّدِ الدَّبْغِ قَبْلَ غَسْلِهِ بِالْمَاءِ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا ، لَا تَحْصُلُ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جِلْدِ الشَّاةِ الْمَيْتَةِ : { يُطَهِّرُهَا الْمَاءُ وَالْقَرَظُ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ؛ وَلِأَنَّ مَا يُدْبَغُ بِهِ نَجِسَ بِمُلَاقَاةِ الْجِلْدِ ، فَإِذَا انْدَبَغَ الْجِلْدُ بَقِيَتْ الْآلَةُ نَجِسَةً فَتَبْقَى نَجَاسَةُ الْجِلْدِ لِمُلَاقَاتِهَا لَهُ ، فَلَا يَزُولُ إلَّا بِالْغَسْلِ .
وَالثَّانِي : يَطْهُرُ ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ } ؛ وَلِأَنَّهُ طَهُرَ بِانْقِلَابِهِ ، فَلَمْ يَفْتَقِرْ إلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ ، كَالْخَمْرَةِ إذَا انْقَلَبَتْ خَلًّا .
وَالْأَوَّلُ أَوْلَى ، وَالْخَبَرُ وَالْمَعْنَى يَدُلَّانِ عَلَى طَهَارَةِ عَيْنِهِ ، وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ وُجُوبِ غَسْلِهِ مِنْ نَجَاسَةٍ تُلَاقِيهِ ، كَمَا لَوْ أَصَابَتْهُ نَجَاسَةٌ سِوَى آلَةِ الدَّبْغِ ، أَوْ أَصَابَتْهُ آلَةُ الدَّبْغِ بَعْدَ فَصْلِهِ عَنْهَا .
( 80 ) فَصْلٌ وَلَا يَفْتَقِرُ الدَّبْغُ إلَى فِعْلٍ ؛ لِأَنَّهَا إزَالَةُ نَجَاسَةٍ ، فَأَشْبَهَتْ غَسْلَ الْأَرْضِ ، فَلَوْ وَقَعَ جِلْدُ مَيْتَةٍ فِي مَدْبَغَةٍ ، بِغَيْرِ فِعْلٍ ، فَانْدَبَغَ ، طَهُرَ ، كَمَا لَوْ نَزَلَ مَاءُ السَّمَاءِ عَلَى أَرْضٍ نَجِسَةٍ طَهَّرَهَا .

( 81 ) فَصْلٌ : وَإِذَا ذُبِحَ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ كَانَ جِلْدُهُ نَجِسًا .
وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٌ : يَطْهُرُ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { دِبَاغُ الْأَدِيمِ ذَكَاتُهُ .
} أَيْ : كَذَكَاتِهِ ، فَشَبَّهَ الدَّبْغَ بِالذَّكَاةِ ، وَالْمُشَبَّهُ بِهِ أَقْوَى مِنْ الْمُشَبَّهِ ، فَإِذَا طَهَّرَ الدَّبْغُ مَعَ ضَعْفِهِ فَالذَّكَاةُ أَوْلَى ؛ وَلِأَنَّ الدَّبْغَ يَرْفَعُ الْعِلَّةَ بَعْدَ وُجُودِهَا ، وَالذَّكَاةُ تَمْنَعُهَا ، وَالْمَنْعُ أَقْوَى مِنْ الرَّفْعِ .
وَلَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ افْتِرَاشِ جُلُودِ السِّبَاعِ ، وَرُكُوبِ النُّمُورِ ، } وَهُوَ عَامٌ فِي الْمُذَكَّى وَغَيْرِهِ ؛ وَلِأَنَّهُ ذَبْحٌ لَا يُطَهِّرُ اللَّحْمَ ، فَلَمْ يُطَهِّرْ الْجِلْدَ ، كَذَبْحِ الْمَجُوسِيِّ .
أَوْ ذَبْحٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ ، فَأَشْبَهَ الْأَصْلَ ، وَالْخَبَرُ قَدْ أَجَبْنَا عَنْهُ فِيمَا مَضَى ، ثُمَّ نَقُولُ : إنَّ الدَّبْغَ إنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي مَأْكُولِ اللَّحْمِ ، فَكَذَلِكَ مَا شُبِّهَ بِهِ ، وَلَوْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ يُؤَثِّرُ فِي تَطْهِيرِ غَيْرِهِ ، فَلَا يَلْزَمُ حُصُولُ التَّطْهِيرِ بِالذَّكَاةِ ، لِكَوْنِ الدَّبْغِ مُزِيلًا لِلْخُبْثِ وَالرُّطُوبَاتِ كُلِّهَا ، مُطَيِّبًا لِلْجِلْدِ عَلَى وَجْهٍ يَتَهَيَّأُ بِهِ لِلْبَقَاءِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَغَيَّرُ ، وَالذَّكَاةُ لَا يَحْصُلُ بِهَا ذَلِكَ ، فَلَا يُسْتَغْنَى بِهَا عَنْ الدَّبْغِ .
وَقَوْلُهُمْ : الْمُشَبَّهُ أَضْعَفُ مِنْ الْمُشَبَّهُ بِهِ .
غَيْرُ لَازِمِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي صِفَةِ الْحُورِ { : كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ } ، وَهُنَّ أَحْسَنُ مِنْ الْبَيْضِ ، وَالْمَرْأَةُ الْحَسْنَاءُ تُشَبَّهُ بِالظَّبْيَةِ وَبَقَرَةِ الْوَحْشِ ، وَهِيَ أَحْسَنُ مِنْهُمَا .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّ الدَّبْغَ يَرْفَعُ الْعِلَّةَ مَمْنُوعٌ فَإِنَّنَا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْجِلْدَ لَمْ يَنْجُسْ ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ ، وَإِنْ سَلَّمْنَا فَإِنَّ الذَّبْحَ لَا يَمْنَعُ مِنْهَا ثُمَّ يَبْطُلُ مَا ذَكَرُوهُ بِذَبْحِ الْمَجُوسِيِّ وَالْوَثَنِيِّ وَالْمُحْرِمِ ، وَبِتَرْكِ التَّسْمِيَةِ ، وَمَا شُقَّ

بِنِصْفَيْنِ .

( 82 ) فَصْلٌ : ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ ، أَنَّهُ لَا يَطْهُرُ شَيْءٌ مِنْ النَّجَاسَاتِ بِالِاسْتِحَالَةِ ، إلَّا الْخَمْرَةَ ، إذَا انْقَلَبَتْ بِنَفْسِهَا خَلًّا ، وَمَا عَدَاهُ لَا يَطْهُرُ ؛ كَالنَّجَاسَاتِ إذَا احْتَرَقَتْ وَصَارَتْ رَمَادًا ، وَالْخِنْزِيرِ إذَا وَقَعَ فِي الْمَلَّاحَةِ وَصَارَ مِلْحًا ، وَالدُّخَانِ الْمُتَرَقِّي مِنْ وَقُودِ النَّجَاسَةِ ، وَالْبُخَارِ الْمُتَصَاعِدِ مِنْ الْمَاءِ النَّجِسِ إذَا اجْتَمَعَتْ مِنْهُ نَدَاوَةٌ عَلَى جِسْمٍ صَقِيلٍ ثُمَّ قَطَّرَ ، فَهُوَ نَجِسٌ .
وَيَتَخَرَّجُ أَنْ تَطْهُرَ النَّجَاسَاتُ كُلُّهَا بِالِاسْتِحَالَةِ قِيَاسًا عَلَى الْخَمْرَةِ إذَا انْقَلَبَتْ ، وَجُلُودِ الْمَيْتَةِ إذَا دُبِغَتْ ، وَالْجَلَّالَةِ إذَا حُبِسَتْ ، وَالْأَوَّلُ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ .
وَقَدْ نَهَى إمَامُنَا رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ الْخَبْزِ فِي تَنُّورٍ شُوِيَ فِيهِ خِنْزِيرٌ .

( 83 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( وَكَذَلِكَ آنِيَةُ عِظَامِ الْمَيْتَةِ ) يَعْنِي : أَنَّهَا نَجِسَةٌ ، وَجُمْلَةُ ذَلِكَ ، أَنَّ عِظَامَ الْمَيْتَةِ نَجِسَةٌ ، سَوَاءٌ كَانَتْ مَيْتَةَ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ ، أَوْ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ ، كَالْفِيَلَةِ ، وَلَا يَطْهُرُ بِحَالٍ ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَإِسْحَاقَ ، وَكَرِهَ عَطَاءٌ ، وَطَاوُسٌ ، وَالْحَسَنُ ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عِظَامَ الْفِيَلَةِ ، وَرَخَّصَ فِي الِانْتِفَاعِ بِهَا مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ ، وَغَيْرُهُ ، وَابْنُ جُرَيْجٍ ؛ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادِهِ عَنْ ثَوْبَانِ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { اشْتَرِ لِفَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قِلَادَةً مِنْ عَصَبٍ وَسِوَارَيْنِ مِنْ عَاجٍ } .
وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ } وَالْعَظْمُ مِنْ جُمْلَتِهَا ، فَيَكُونُ مُحَرَّمًا ، وَالْفِيلُ لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ فَهُوَ نَجِسٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ ، فَقَالَ الْخَطَّابِيُّ : قَالَ الْأَصْمَعِيُّ : الْعَاجُ الذَّبْلُ ، وَيُقَال : هُوَ عَظْمُ ظَهْرِ السُّلَحْفَاةِ الْبَحْرِيَّةِ .
وَذَهَبَ مَالِكٌ إلَى أَنَّ الْفِيلَ إنَّ ذُكِّيَ فَعَظْمُهُ طَاهِرٌ ، وَإِلَّا فَهُوَ نَجِسٌ ؛ لِأَنَّ الْفِيلَ مَأْكُولٌ عِنْدَهُ ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالْفِيلُ أَعْظَمُهَا نَابًا فَأَمَّا عِظَامُ بَقِيَّةِ الْمَيْتَاتِ ، فَذَهَبَ الثَّوْرِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، إلَى طَهَارَتِهَا ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ لَا يُحِلُّهَا فَلَا تَنْجُسُ بِهِ ، كَالشَّعْرِ ؛ وَلِأَنَّ عِلَّةَ التَّنْجِيسِ فِي اللَّحْمِ وَالْجِلْدِ اتِّصَالُ الدِّمَاءِ وَالرُّطُوبَاتِ بِهِ ، وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي الْعِظَامِ وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى { قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } وَمَا يَحْيَا فَهُوَ يَمُوتُ ؛ وَلِأَنَّ دَلِيلَ الْحَيَاةِ الْإِحْسَاسُ وَالْأَلَمُ ، وَالْأَلَمُ

فِي الْعَظْمِ أَشَدُّ مِنْ الْأَلَمِ فِي اللَّحْمِ وَالْجِلْدِ ، وَالضِّرْسُ يَأْلَمُ ، وَيَلْحَقُهُ الضِّرْسُ ، وَيُحِسُّ بِبَرْدِ الْمَاءِ وَحَرَارَتِهِ ، وَمَا تَحِلُّهُ الْحَيَاةُ يَحِلُّهُ الْمَوْتُ ؛ إذْ كَانَ الْمَوْتُ مُفَارَقَةَ الْحَيَاةِ ، وَمَا يَحُلُّهُ الْمَوْتُ يَنْجُسُ بِهِ كَاللَّحْمِ .
قَالَ الْحَسَنُ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ ، لَمَّا سَقَطَ ضِرْسُهُ : أُشْعِرْت أَنَّ بَعْضِي مَاتَ الْيَوْمَ ، وَقَوْلُهُمْ : إنَّ سَبَبَ التَّنْجِيسِ اتِّصَالُ الدِّمَاءِ وَالرُّطُوبَاتِ ، قَدْ أَجَبْنَا عَنْهُ فِيمَا مَضَى .

( 84 ) فَصْل : وَالْقَرْنُ وَالظُّفْرُ وَالْحَافِرُ كَالْعَظْمِ ، إنْ أُخِذَ مِنْ مُذَكًّى فَهُوَ طَاهِرٌ ؛ وَإِنْ أُخِذَ مِنْ حَيٍّ فَهُوَ نَجِسٌ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَا يُقْطَعُ مِنْ الْبَهِيمَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ فَهُوَ مَيْتَةٌ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ ، وَكَذَلِكَ مَا يَتَسَاقَطُ مِنْ قُرُونِ الْوُعُولِ فِي حَيَاتِهَا ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ هَذَا طَاهِرٌ ؛ لِأَنَّهُ طَاهِرٌ مُتَّصِلٌ ، مَعَ عَدَمِ الْحَيَاةِ فِيهِ ، فَلَمْ يَنْجُسُ بِفَصْلِهِ مِنْ الْحَيَوَانِ ، وَلَا بِمَوْتِ الْحَيَوَانِ كَالشَّعْرِ ، وَالْخَبَرُ أُرِيدَ بِهِ مَا يُقْطَعُ مِنْ الْبَهِيمَةِ مِمَّا فِيهِ حَيَاةٌ ؛ لِأَنَّهُ بِفَصْلِهِ يَمُوتُ ، وَتُفَارِقُهُ الْحَيَاةُ ، بِخِلَافِ هَذَا ، فَإِنَّهُ لَا يَمُوتُ بِفَصْلِهِ ، فَهُوَ أَشْبَهَ بِالشَّعْرِ ، وَمَا لَا يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ لَا بَأْسَ بِعِظَامِهِ كَالسَّمَكِ ؛ لِأَنَّ مَوْتَهُ كَتَذْكِيَةِ الْحَيَوَانَاتِ الْمَأْكُولَةِ .

( 85 ) فَصْل : وَلَبَنُ الْمَيْتَةِ وَإِنْفَحَتُهَا نَجِسٌ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ .
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَرُوِيَ أَنَّهَا طَاهِرَةٌ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَدَاوُد ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَكَلُوا الْجُبْنَ لَمَّا دَخَلُوا الْمَدَائِنَ ، وَهُوَ يُعْمَلُ بِالْإِنْفَحَةِ ، وَهِيَ تُؤْخَذُ مِنْ صِغَارِ الْمَعْزِ ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ اللَّبَنِ ، وَذَبَائِحُهُمْ مَيْتَةٌ .
وَلَنَا أَنَّهُ مَائِعٌ فِي وِعَاءٍ نَجِسٍ ، فَكَانَ نَجِسًا ، كَمَا لَوْ حَلَبَ فِي وِعَاءٍ نَجِسٍ ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ أَصَابَ الْمَيْتَةَ بَعْدَ فَصْلِهِ عَنْهَا لَكَانَ نَجِسًا ، فَكَذَلِكَ قَبْلَ فَصْلِهِ ، وَأَمَّا الْمَجُوسُ فَقَدْ قِيلَ : إنَّهُمْ مَا كَانُوا يَتَوَلَّوْنَ الذَّبْحَ بِأَنْفُسِهِمْ ، وَكَانَ جَزَّارُوهُمْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى ، وَلَوْ لَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ عَنْهُمْ لَكَانَ الِاحْتِمَالُ مَوْجُودًا ، فَقَدْ كَانَ فِيهِمْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى ، وَالْأَصْلُ الْحِلُّ ، فَلَا يَزُولُ بِالشَّكِّ ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ قَدِمُوا الْعِرَاقَ مَعَ خَالِدٍ ، كَسَرُوا جَيْشًا مِنْ أَهْلِ فَارِسَ ، بَعْدَ أَنْ نَصَبُوا الْمَوَائِدَ وَوَضَعُوا طَعَامَهُمْ لِيَأْكُلُوا ، فَلَمَّا فَرَغَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ جَلَسُوا فَأَكَلُوا ذَلِكَ الطَّعَامَ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ لَحْمًا ، فَلَوْ حُكِمَ بِنَجَاسَةِ مَا ذُبِحَ بِبَلَدِهِمْ لَمَا أَكَلُوا مِنْ لَحْمِهِمْ شَيْئًا ، وَإِذَا حَكَمُوا بِحِلِّ اللَّحْمِ فَالْجُبْنُ أَوْلَى ، وَعَلَى هَذَا لَوْ دَخَلَ أَرْضًا فِيهَا مَجُوسٌ وَأَهْلُ كِتَابٍ ، كَانَ لَهُ أَكْلُ جُبْنِهِمْ وَلَحْمِهِمْ ، احْتِجَاجًا بِفِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَحَابَتِهِ .

( 86 ) فَصْلٌ : وَإِنْ مَاتَتْ الدَّجَاجَةُ ، وَفِي بَطْنِهَا بَيْضَةٌ قَدْ صَلُبَ قِشْرُهَا ، فَهِيَ طَاهِرَةٌ .
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ وَابْنِ الْمُنْذِرِ .
وَكَرِهَهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، وَابْنُ عُمَرَ ، وَرَبِيعَةُ ، وَمَالِكٌ ، وَاللَّيْثُ ، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ ؛ لِأَنَّهَا جُزْءٌ مِنْ الدَّجَاجَةِ .
وَلَنَا أَنَّهَا بَيْضَةٌ صُلْبَةُ الْقِشْرِ ، طَرَأَتْ النَّجَاسَةُ عَلَيْهَا ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ وَقَعَتْ فِي مَاءٍ نَجِسٍ .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّهَا جُزْءٌ مِنْهَا .
غَيْرُ صَحِيحٍ ، وَإِنَّمَا هِيَ مُودَعَةٌ فِيهَا ، غَيْرُ مُتَّصِلَةٍ بِهَا ، فَأَشْبَهَتْ الْوَلَدَ إذَا خَرَجَ حَيًّا مِنْ الْمَيْتَةِ ؛ وَلِأَنَّهَا خَارِجَةٌ مِنْ حَيَوَانٍ يُخْلَقُ مِنْهَا مِثْلُ أَصْلِهَا ، أَشْبَهَتْ الْوَلَدَ الْحَيَّ ، وَكَرَاهَةُ الصَّحَابَةِ لَهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ ، اسْتِقْذَارًا لَهَا ، وَلَوْ وُضِعَتْ الْبَيْضَةُ تَحْتَ طَائِرٍ ، فَصَارَتْ فَرْخًا ، كَانَ طَاهِرًا بِكُلِّ حَالٍ .
فَإِنْ لَمْ تَكْمُلْ الْبَيْضَةُ ، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : مَا كَانَ قِشْرُهُ أَبْيَضَ ، فَهُوَ طَاهِرٌ .
وَمَا لَمْ يَبْيَضَّ قِشْرُهُ فَهُوَ نَجِسٌ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ حَائِلٌ حَصِينٌ .
وَاخْتَارَ ابْنُ عَقِيلٍ أَنَّهُ لَا يَنْجُسُ ؛ لِأَنَّ الْبَيْضَةَ عَلَيْهَا غَاشِيَةٌ رَقِيقَةٌ كَالْجِلْدِ ، وَهُوَ الْقِشْرُ قَبْلَ أَنْ يَقْوَى ، فَلَا يَنْجُسُ مِنْهَا إلَّا مَا كَانَ لَاقَى النَّجَاسَةَ ، كَالسَّمْنِ الْجَامِدِ إذَا مَاتَتْ فِيهِ فَأْرَةٌ ، إلَّا أَنَّ هَذِهِ تَطْهُرُ إذَا غَسَلَهَا ؛ لِأَنَّ لَهَا مِنْ الْقُوَّةِ مَا يَمْنَعُ تَدَاخُلَ أَجْزَاءِ النَّجَاسَةِ فِيهَا ، بِخِلَافِ السَّمْنِ .

( 87 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَيُكْرَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ) فَإِنْ فَعَلَ كُرِهَ .
أَرَادَ بِالْكَرَاهَةِ التَّحْرِيمَ ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِي أَنَّ اسْتِعْمَالَ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ حَرَامٌ ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ، وَلَا تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهَا فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَكُمْ فِي الْآخِرَةِ .
} وَنَهَى عَنْ الشُّرْبِ فِي آنِيَةِ الْفِضَّةِ ، وَقَالَ { : مَنْ شَرِبَ فِيهَا فِي الدُّنْيَا لَمْ يَشْرَبْ فِيهَا فِي الْآخِرَةِ .
} وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { الَّذِي يَشْرَبُ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِنَّ .
فَنَهَى وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ ، وَذَكَرَ فِي ذَلِكَ وَعِيدًا شَدِيدًا ، يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ وَيُرْوَى " نَارُ جَهَنَّمَ " بِرَفْعِ الرَّاءِ وَنَصْبِهَا ؛ فَمَنْ رَفَعَهَا نَسَبِ الْفِعْلَ إلَى النَّارِ ، وَمَنْ نَصَبَهَا أَضْمَرَ الْفَاعِلَ فِي الْفِعْلِ ، وَجَعَلَ النَّارَ مَفْعُولًا ، تَقْدِيرُهُ : يُجَرْجِرُ الشَّارِبُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ .
وَالْعِلَّةُ فِي تَحْرِيمِ الشُّرْبِ فِيهَا مَا يَتَضَمَّنُهُ ذَلِكَ مِنْ الْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ ، وَكَسْرِ قُلُوبِ الْفُقَرَاءِ ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الطَّهَارَةِ مِنْهَا وَاسْتِعْمَالِهَا كَيْفَمَا كَانَ ، بَلْ إذَا حَرُمَ فِي غَيْرِ الْعِبَادَةِ فَفِيهَا أَوْلَى ، فَإِنْ تَوَضَّأَ مِنْهَا ، أَوْ اغْتَسَلَ ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدهمَا تَصِحُّ طَهَارَتُهُ .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ، وَإِسْحَاقَ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الطَّهَارَةِ وَمَاءَهَا لَا يَتَعَلَّقُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ، أَشْبَهَ الطَّهَارَةَ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ .
وَالثَّانِي : لَا يَصِحُّ اخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَعْمَلَ الْمُحَرَّمَ فِي الْعِبَادَةِ ، فَلَمْ يَصِحَّ ، كَالصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ

وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ، وَيُفَارِقُ هَذَا الصَّلَاةَ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ ؛ لِأَنَّ أَفْعَالَ الصَّلَاةِ مِنْ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ، فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ ؛ مُحَرَّمٌ ؛ لِكَوْنِهِ تَصَرُّفًا فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، وَشُغْلًا لَهُ ، وَأَفْعَالُ الْوُضُوءِ ؛ مِنْ الْغَسْلِ ، وَالْمَسْحِ ، لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ ، إذْ لَيْسَ هُوَ اسْتِعْمَالًا لِلْإِنَاءِ ، وَلَا تَصَرُّفًا فِيهِ ، وَإِنَّمَا يَقَعُ ذَلِكَ بَعْدَ رَفْعِ الْمَاءِ مِنْ الْإِنَاءِ ، وَفَصْلِهِ عَنْهُ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ غَرَفَ بِآنِيَةِ الْفِضَّةِ فِي إنَاءٍ غَيْرِهِ ، ثُمَّ تَوَضَّأَ بِهِ ؛ وَلِأَنَّ الْمَكَانَ شَرْطٌ لِلصَّلَاةِ ، إذْ لَا يُمْكِنُ وُجُودُهَا فِي غَيْرِ مَكَان ، وَالْإِنَاءُ لَيْسَ بِشَرْطٍ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ صَلَّى وَفِي يَدِهِ خَاتَمُ ذَهَبٍ .

مَسْأَلَةٌ : فَإِنْ جَعَلَ آنِيَةَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مَصَبًّا لِمَاءِ الْوُضُوءِ ، يَنْفَصِلُ الْمَاءُ عَنْ أَعْضَائِهِ إلَيْهِ ، صَحَّ الْوُضُوءُ ؛ لِأَنَّ الْمُنْفَصِلَ الَّذِي يَقَعُ فِي الْآنِيَةِ قَدْ رَفَعَ الْحَدَثَ ، فَلَمْ يَزُلْ ذَلِكَ بِوُقُوعِهِ فِي الْإِنَاء ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ كَاَلَّتِي قَبْلَهَا ؛ لِأَنَّ الْفَخْرَ وَالْخُيَلَاءَ وَكَسْرَ قُلُوبِ الْفُقَرَاءِ يَحْصُلُ بِاسْتِعْمَالِهِ هَاهُنَا ؛ كَحُصُولِهِ فِي الَّتِي قَبْلَهَا ، وَفِعْلُ الطَّهَارَةِ يَحْصُلُ هَاهُنَا قَبْلَ وُصُولِ الْمَاءِ إلَى الْإِنَاءِ ، وَفِي الَّتِي قَبْلَهَا بَعْدَ فَصْلِهِ عَنْهُ ، فَهِيَ مِثْلُهَا فِي الْمَعْنَى ، وَإِنْ افْتَرَقَا فِي الصُّورَةِ .

( 89 ) فَصْلٌ : وَيَحْرُمُ اتِّخَاذُ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ .
وَحُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَحْرُمُ ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ إنَّمَا وَرَدَ بِتَحْرِيمِ الِاسْتِعْمَالِ ، فَلَا يَحْرُمُ الِاتِّخَاذُ ، كَمَا لَوْ اتَّخَذَ الرَّجُلُ ثِيَابَ الْحَرِيرِ .
وَلَنَا ، أَنَّ مَا حَرُمَ اسْتِعْمَالُهُ مُطْلَقًا حَرُمَ اتِّخَاذُهُ عَلَى هَيْئَةِ الِاسْتِعْمَالِ ، كَالطُّنْبُورِ ، وَأَمَّا ثِيَابُ الْحَرِيرِ فَإِنَّهَا لَا تَحْرُمُ مُطْلَقًا ، فَإِنَّهَا تُبَاحُ لِلنِّسَاءِ ، وَتُبَاحُ التِّجَارَةُ فِيهَا ، وَيَحْرُمُ اسْتِعْمَالُ الْآنِيَةِ مُطْلَقًا فِي الشُّرْبِ وَالْأَكْلِ وَغَيْرِهِمَا ؛ لِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِتَحْرِيمِ الشُّرْبِ وَالْأَكْلِ ، وَغَيْرُهُمَا فِي مَعْنَاهُمَا .
وَيَحْرُمُ ذَلِكَ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ ؛ لِعُمُومِ النَّصِّ فِيهِمَا ، وَوُجُودِ مَعْنَى التَّحْرِيمِ فِي حَقِّهِمَا ، وَإِنَّمَا أُبِيحَ التَّحَلِّي فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ ؛ لِحَاجَتِهَا إلَى التَّزَيُّنِ لِلزَّوْجِ ، وَالتَّجَمُّلِ عِنْدَهُ ، وَهَذَا يَخْتَصُّ الْحُلِيَّ ، فَتَخْتَصُّ الْإِبَاحَةُ بِهِ

( 90 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُضَبَّبُ بِالذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ ، فَإِنْ كَانَ كَثِيرًا فَهُوَ مُحَرَّمٌ بِكُلِّ حَالٍ ؛ ذَهَبًا كَانَ أَوْ فِضَّةً ، لَحَاجَةٍ أَوْ لِغَيْرِهَا .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَأَبَاحَ أَبُو حَنِيفَةَ الْمُضَبَّبَ ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا ؛ لِأَنَّهُ صَارَ تَابِعًا لِلْمُبَاحِ ، فَأَشْبَهَ الْمُضَبَّبَ بِالْيَسِيرِ وَلَنَا أَنَّ هَذَا فِيهِ سَرَفٌ وَخُيَلَاءُ ، فَأَشْبَهَ الْخَالِصَ ، وَيَبْطُلُ مَا قَالَهُ بِمَا إذَا اتَّخَذَ أَبْوَابًا مِنْ فِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ ، أَوْ رُفُوفًا ، فَإِنَّهُ يَحْرُمُ ، وَإِنْ كَانَ تَابِعًا ، وَفَارَقَ الْيَسِيرَ ، فَإِنَّهُ لَا يُوجَدُ فِيهِ الْمَعْنَى الْمُحَرَّمُ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا ؛ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ يُبَاحُ الْيَسِيرُ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَأَكْثَرُ أَصْحَابِنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يُبَاحُ الْيَسِيرُ مِنْ الذَّهَبِ ، وَلَا يُبَاحُ مِنْهُ إلَّا مَا دَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَيْهِ ، كَأَنْفِ الذَّهَبِ ، وَمَا رَبَطَ بِهِ أَسْنَانَهُ .
وَأَمَّا الْفِضَّةُ فَيُبَاحُ مِنْهَا الْيَسِيرُ ؛ لِمَا رَوَى أَنَسٌ ، { أَنَّ قَدَحَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْكَسَرَ ، فَاتَّخَذَ مَكَانَ الشَّعْبِ سِلْسِلَةً مِنْ فِضَّةٍ .
} رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ؛ وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَيْهِ ، وَلَيْسَ فِيهِ سَرَفٌ وَلَا خُيَلَاءُ ، فَأَشْبَهَ الضَّبَّةَ مِنْ الصُّفْرِ .
قَالَ الْقَاضِي : وَيُبَاحُ ذَلِكَ مَعَ الْحَاجَةِ وَعَدَمِهَا ؛ لِمَا ذَكَرْنَا ، إلَّا أَنَّ مَا يُسْتَعْمَلُ مِنْ ذَلِكَ لَا يُبَاحُ كَالْحَلْقَةِ ، وَمَا لَا يُسْتَعْمَلُ كَالضَّبَّةِ يُبَاحُ .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ لَا يُبَاحُ الْيَسِيرُ إلَّا لِحَاجَةٍ ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ إنَّمَا وَرَدَ فِي تَشْعِيبِ الْقَدَحِ فِي مَوْضِعِ الْكَسْرِ ، وَهُوَ لِحَاجَةٍ ، وَمَعْنَى الْحَاجَةِ أَنْ تَدْعُوَ الْحَاجَةُ إلَى مَا فَعَلَهُ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ يَقُومُ مَقَامَهُ ، وَتُكْرَهُ مُبَاشَرَةُ مَوْضِعِ الْفِضَّةِ بِالِاسْتِعْمَالِ ؛ كَيْ لَا يَكُونَ مُسْتَعْمِلًا لَهَا ، وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ بِأَبْسَطِ مِنْ هَذَا ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى

.

( 91 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا سَائِرُ الْآنِيَةِ فَمُبَاحٌ اتِّخَاذُهَا وَاسْتِعْمَالُهَا ، سَوَاءٌ كَانَتْ ثَمِينَةً ، كَالْيَاقُوتِ وَالْبِلَّوْرِ وَالْعَقِيقِ وَالصُّفْرِ وَالْمَخْرُوطِ مِنْ الزُّجَاجِ ، أَوْ غَيْرَ ثَمِينَةٍ ، كَالْخَشَبِ وَالْخَزَفِ وَالْجُلُودِ .
وَلَا يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُ شَيْءٍ مِنْهَا فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، إلَّا أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَرِهَ الْوُضُوءَ فِي الصُّفْرِ وَالنُّحَاسِ وَالرَّصَاصِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ .
وَاخْتَارَ ذَلِكَ الشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ الْمَقْدِسِيُّ ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ يَتَغَيَّرُ فِيهَا ، وَرُوِيَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَكْرَهُ رِيحَ النُّحَاسِ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ : مَا كَانَ ثَمِينًا لِنَفَاسَةِ جَوْهَرِهِ فَهُوَ مُحَرَّمٌ ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْأَثْمَانِ تَنْبِيهٌ عَلَى تَحْرِيمِ مَا هُوَ أَعْلَى مِنْهُ ؛ وَلِأَنَّ فِيهِ سَرَفًا وَخُيَلَاءَ وَكَسْرَ قُلُوبِ الْفُقَرَاءِ ، فَكَانَ مُحَرَّمًا كَالْأَثْمَانِ .
وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ ، قَالَ : { أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْرَجْنَا لَهُ مَاءً فِي تَوْرٍ مِنْ صُفْرٍ ، فَتَوَضَّأَ .
} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَرَوَى أَبُو دَاوُد فِي " سُنَنِهِ " ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : { كُنْت أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَوْرٍ مِنْ شَبَهٍ } وَلِأَنَّ الْأَصْلَ الْحِلُّ ، فَيَبْقَى عَلَيْهِ ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى الْأَثْمَانِ ؛ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ هَذَا لَا يَعْرِفُهُ إلَّا خَوَاصُّ النَّاسِ ، فَلَا تَنْكَسِرُ قُلُوبُ الْفُقَرَاءِ بِاسْتِعْمَالِهِ ، بِخِلَافِ الْأَثْمَانِ .
وَالثَّانِي أَنَّ هَذِهِ الْجَوَاهِرَ لِقِلَّتِهَا لَا يَحْصُلُ اتِّخَاذُ الْآنِيَةِ مِنْهَا إلَّا نَادِرًا ، فَلَا تُفْضِي إبَاحَتُهَا إلَى اتِّخَاذِهَا وَاسْتِعْمَالِهَا ، وَتَعَلُّقُ التَّحْرِيمِ بِالْأَثْمَانِ الَّتِي هِيَ وَاقِعَةٌ فِي مَظِنَّةِ الْكَثْرَةِ ، فَلَمْ يَتَجَاوَزْهُ ، كَمَا تَعَلَّقَ حُكْمُ التَّحْرِيمِ فِي اللِّبَاسِ بِالْحَرِيرِ ، وَجَازَ اسْتِعْمَالُ الْقَصَبِ مِنْ الثِّيَابِ ، وَإِنْ زَادَتْ قِيمَتُهُ عَلَى

قِيمَةِ الْحَرِيرِ ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ جَعَلَ فَصَّ خَاتَمَهُ جَوْهَرَةً ثَمِينَةً جَازَ ، وَخَاتَمُ الذَّهَبِ حَرَامٌ ، وَلَوْ جَعَلَ فَصَّهُ ذَهَبًا كَانَ حَرَامًا ، وَإِنْ قَلَّتْ قِيمَتُهُ .

( 92 ) مَسْأَلَةٌ ، قَالَ : ( وَصُوفُ الْمَيْتَةِ وَشَعْرُهَا طَاهِرٌ ) يَعْنِي شَعْرَ مَا كَانَ طَاهِرًا فِي حَيَاتِهِ وَصُوفَهُ ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ ، وَابْنِ سِيرِينَ ، وَأَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ ، قَالُوا : إذَا غُسِلَ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ نَجِسٌ .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ يَنْمُو مِنْ الْحَيَوَانِ ، فَيَنْجُسُ بِمَوْتِهِ ، كَأَعْضَائِهِ .
وَلَنَا : مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا بَأْسَ بِمَسْكِ الْمَيْتَةِ إذَا دُبِغَ ، وَصُوفِهَا وَشَعْرِهَا إذَا غُسِلَ .
} رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ ، وَقَالَ : لَمْ يَأْتِ بِهِ إلَّا يُوسُفُ بْنُ السَّفْرِ ، وَهُوَ ضَعِيفٌ ؛ وَلِأَنَّهُ لَا تَفْتَقِرُ طَهَارَةٌ مُنْفَصِلَةٌ إلَى ذَكَاةِ أَصْلِهِ ، فَلَمْ يَنْجُسْ بِمَوْتِهِ ، كَأَجْزَاءِ السَّمَكِ وَالْجَرَادِ ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَحُلُّهُ الْمَوْتُ فَلَمْ يَنْجُسُ بِمَوْتِ الْحَيَوَانِ ، كَبَيْضِهِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا حَيَاةَ فِيهِ ، أَنَّهُ لَا يُحِسُّ وَلَا يَأْلَمُ ، وَهُمَا دَلِيلَا الْحَيَاةِ ، وَلَوْ انْفَصَلَ فِي الْحَيَاةِ كَانَ طَاهِرًا ، وَلَوْ كَانَتْ فِيهِ حَيَاةٌ لَنَجِسَ بِفَصْلِهِ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ فَهُوَ مَيِّتٌ .
} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِمَعْنَاهُ ، وَمَا ذَكَرُوهُ يُنْتَقَضُ بِالْبَيْضِ ، وَيُفَارِقُ الْأَعْضَاءَ ، فَإِنَّ فِيهَا حَيَاةً ، وَتَنْجُسُ بِفَصْلِهَا فِي حَيَاةِ الْحَيَوَانِ ، وَالنُّمُوُّ بِمُجَرَّدِهِ لَيْسَ بِدَلِيلِ الْحَيَاةِ ، فَإِنَّ الْحَشِيشَ يَنْمُو ، وَلَا يَنْجُسُ .
( 93 ) فَصْلٌ : وَالرِّيشُ كَالشَّعْرِ فِيمَا ذَكَرْنَا ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ ، فَأَمَّا أُصُولُ الرِّيشِ ، وَالشَّعْرِ ، إذَا كَانَ رَطْبًا إذَا نُتِفَ مِنْ الْمَيْتَةِ ، فَهُوَ نَجِسٌ ؛ لِأَنَّهُ رَطْبٌ فِي مَحَلٍّ نَجِسٍ ، وَهَلْ يَكُونُ طَاهِرًا بَعْدَ غَسْلِهِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدِهِمَا أَنَّهُ طَاهِرٌ ، كَرُءُوسِ الشَّعْرِ إذَا تَنَجَّسَ .

وَالثَّانِي أَنَّهُ نَجِسٌ ؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ اللَّحْمِ لَمْ يُسْتَكْمَلْ شَعْرًا وَلَا رِيشًا .

فَصْلٌ : ( 94 ) وَشَعْرُ الْآدَمِيِّ طَاهِرٌ مُتَّصِلُهُ وَمُنْفَصِلُهُ ، فِي حَيَاةِ الْآدَمِيِّ وَبَعْدَ مَوْتِهِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ، فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ : إذَا انْفَصَلَ فَهُوَ نَجِسٌ ؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ الْآدَمِيِّ انْفَصَلَ فِي حَيَاتِهِ ، فَكَانَ نَجِسًا كَعُضْوِهِ .
وَلَنَا : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَّقَ شَعْرَهُ بَيْنَ أَصْحَابِهِ ، قَالَ أَنَسٌ : { لَمَّا رَمَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحَرَ نُسُكَهُ ، نَاوَلَ الْحَالِقَ شِقَّهُ الْأَيْمَنَ ، فَحَلَقَهُ ، ثُمَّ دَعَا أَبَا طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيَّ فَأَعْطَاهُ إيَّاهُ ، ثُمَّ نَاوَلَهُ الشِّقَّ الْأَيْسَرَ ، فَقَالَ : احْلِقْهُ ، فَحَلَقَهُ وَأَعْطَاهُ أَبَا طَلْحَةَ ، فَقَالَ : اقْسِمْهُ بَيْنَ النَّاسِ } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، وَأَبُو دَاوُد .
وَرُوِيَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ أَوْصَى أَنْ يُجْعَلَ نَصِيبُهُ مِنْهُ فِي فِيهِ إذَا مَاتَ ، وَكَانَتْ فِي قَلَنْسُوَةِ خَالِدٍ شَعَرَاتٌ مِنْ شَعْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَمَا سَاغَ هَذَا وَلَمَا فَرَّقَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَهُ يَتَبَرَّكُونَ بِهِ ، وَيَحْمِلُونَهُ مَعَهُمْ تَبَرُّكًا بِهِ ، وَمَا كَانَ طَاهِرًا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ طَاهِرًا مِمَّنْ سِوَاهُ كَسَائِرِهِ ؛ وَلِأَنَّهُ شَعْرٌ مُتَّصِلُهُ طَاهِرٌ ، فَمُنْفَصِلُهُ طَاهِرٌ ، كَشَعْرِ الْحَيَوَانَاتِ كُلِّهَا ، وَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي أَعْضَاءِ الْآدَمِيِّ ، وَلَئِنْ سَلَّمْنَا نَجَاسَتَهَا ، فَإِنَّهَا تَنْجُسُ مِنْ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ بِفَصْلِهَا فِي حَيَاتِهِ ، بِخِلَافِ الشَّعْر .

( 95 ) فَصْلٌ : وَكُلُّ حَيَوَانٍ فَشَعْرُهُ مِثْلُ بَقِيَّةِ أَجْزَائِهِ مَا كَانَ طَاهِرًا فَشَعْرُهُ طَاهِرٌ ، وَمَا كَانَ نَجِسًا فَشَعْرُهُ كَذَلِكَ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ حَالَةِ الْحَيَاةِ وَحَالَةِ الْمَوْتِ ، إلَّا أَنَّ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي حَكَمْنَا بِطَهَارَتِهَا لِمَشَقَّةِ الِاحْتِرَازِ مِنْهَا ؛ كَالسِّنَّوْرِ ، وَمَا دُونَهَا فِي الْخِلْقَةِ ، فِيهَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَجْهَانِ : أَحَدهمَا أَنَّهَا نَجِسَةٌ ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ طَاهِرَةً مَعَ وُجُودِ عِلَّةِ التَّنْجِيسِ لِمُعَارِضٍ ، وَهُوَ الْحَاجَةُ إلَى الْعَفْوِ عَنْهَا لِلْمَشَقَّةِ وَقَدْ انْتَفَتْ الْحَاجَةُ فَتَنْتَفِي الطَّهَارَةُ .
وَالثَّانِي هِيَ طَاهِرَةٌ .
وَهَذَا أَصَحُّ ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ طَاهِرَةً فِي الْحَيَاةِ ، وَالْمَوْتُ لَا يَقْتَضِي تَنْجِيسَهَا .
فَتَبْقَى الطَّهَارَةُ ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ لِلْوَجْهِ الْأَوَّلِ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّنَا لَا نُسَلِّمُ وُجُودَ عِلَّةِ التَّنْجِيسِ ، وَلَئِنْ سَلَّمْنَاهُ غَيْرَ أَنَّ الشَّرْعَ أَلْغَاهُ ، وَلَمْ يَثْبُتْ اعْتِبَارُهُ فِي مَوْضِعٍ ، فَلَيْسَ لَنَا إثْبَاتُ حُكْمِهِ بِالتَّحَكُّمِ .

( 96 ) فَصْلٌ : وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِي الْخَرْزِ بِشَعْرِ الْخِنْزِيرِ ، فَرُوِيَ عَنْهُ كَرَاهَتُهُ ، وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ وَالْحَكَمِ ، وَحَمَّادِ ، وَإِسْحَاقَ ، وَالشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ اسْتِعْمَالٌ لِلْعَيْنِ النَّجِسَةِ ، وَلَا يَسْلَمُ مِنْ التَّنَجُّسِ بِهَا ، فَحَرُمَ الِانْتِفَاعُ بِهَا ، كَجِلْدِهِ .
وَالثَّانِيَةُ يَجُوزُ الْخَرْزُ بِهِ .
قَالَ : وَبِاللِّيفِ أَحَبُّ إلَيْنَا وَرَخَّصَ فِيهِ الْحَسَنُ وَمَالِكٌ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَيْهِ وَإِذَا خَرَزَ بِهِ شَيْئًا رَطْبًا ، أَوْ كَانَتْ الشَّعْرَةُ رَطْبَةً نَجِسَ ، وَلَمْ يَطْهُرْ إلَّا بِالْغَسْلِ .
قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ ، وَلَعَلَّهُ قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَسْلَمُ النَّاسُ مِنْهُ ، وَفِي تَكْلِيفِ غَسْلِهِ إتْلَافُ أَمْوَالِ النَّاسِ ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ أَحْمَدَ إنَّمَا عَنَى لَا بَأْسَ بِالْخَرْزِ ، فَأَمَّا الطَّهَارَةُ فَلَا بُدَّ مِنْهَا .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( 97 ) فَصْلٌ : وَالْمُشْرِكُونَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَهْلُ كِتَابٍ وَغَيْرُهُمْ .
فَأَهْلُ الْكِتَابِ يُبَاحُ أَكْلُ طَعَامِهِمْ وَشَرَابِهِمْ ، وَالْأَكْلُ فِي آنِيَتِهِمْ ، مَا لَمْ يَتَحَقَّقْ نَجَاسَتُهَا .
قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : لَا تَخْتَلِفُ الرِّوَايَةُ فِي أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُ أَوَانِيهِمْ ؛ وَذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ } وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغَفَّلِ ، قَالَ : { دُلِّيَ جِرَابٌ مِنْ شَحْمٍ يَوْمَ خَيْبَرَ ، فَالْتَزَمْته ، وَقُلْت : وَاَللَّهِ لَا أُعْطِي أَحَدًا مِنْهُ شَيْئًا .
فَالْتَفَتُّ ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبْتَسِمُ .
} رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ بِمَعْنَاهُ .
وَرُوِيَ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَضَافَهُ يَهُودِيٌّ بِخُبْزٍ وَإِهَالَةٍ سَنِخَةٍ .
} رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، فِي " الْمُسْنَدِ " وَكِتَابِ " الزُّهْدِ " ، وَتَوَضَّأَ عُمَرُ مِنْ جَرَّةِ نَصْرَانِيَّةٍ .
وَهَلْ يُكْرَهُ لَهُ اسْتِعْمَالُ أَوَانِيهِمْ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا : لَا يُكْرَهُ ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ .
وَالثَّانِيَة يُكْرَهُ لِمَا رَوَى أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ ، قَالَ : قُلْت { يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنَّا بِأَرْضِ قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ ، أَفَنَأْكُلُ فِي آنِيَتِهِمْ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنْ وَجَدْتُمْ غَيْرَهَا فَلَا تَأْكُلُوا فِيهَا ، وَإِنْ لَمْ تَجِدُوا غَيْرَهَا فَاغْسِلُوهَا وَكُلُوا فِيهَا } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَأَقَلُّ أَحْوَالِ النَّهْيِ الْكَرَاهَةُ ؛ وَلِأَنَّهُمْ لَا يَتَوَرَّعُونَ عَنْ النَّجَاسَةِ ، وَلَا تَسْلَمُ آنِيَتُهُمْ مِنْ أَطْعِمَتِهِمْ ، وَأَدْنَى مَا يُؤَثِّرُ ذَلِكَ الْكَرَاهَةُ ، وَأَمَّا ثِيَابُهُمْ فَمَا لَمْ يَسْتَعْمِلُوهُ ، أَوْ عَلَا مِنْهَا ؛ كَالْعِمَامَةِ وَالطَّيْلَسَانِ وَالثَّوْبِ الْفَوْقَانِيِّ ، فَهُوَ طَاهِرٌ ، لَا بَأْسَ بِلُبْسِهِ ، وَمَا لَاقَى عَوْرَاتِهِمْ ؛ كَالسَّرَاوِيلِ وَالثَّوْبِ السُّفْلَانِيِّ وَالْإِزَارِ ، فَقَالَ أَحْمَدُ : أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُعِيدَ ،

يَعْنِي : مَنْ صَلَّى فِيهِ .
فَيَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ : أَحَدهمَا وُجُوبُ الْإِعَادَةِ وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي .
وَكَرِهَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ ، الْإِزَارَ وَالسَّرَاوِيلَاتِ ؛ لِأَنَّهُمْ يَتَعَبَّدُونَ .
بِتَرْكِ النَّجَاسَةِ ، وَلَا يَتَحَرَّزُونَ مِنْهَا ، فَالظَّاهِرُ نَجَاسَةُ مَا وَلِيَ مَخْرَجَهَا .
وَالثَّانِي لَا يَجِبُ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْخَطَّابِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ ، فَلَا تَزُولُ بِالشَّكِّ .
الضَّرْبُ الثَّانِي : غَيْرُ أَهْلِ الْكِتَابِ ، وَهُمْ الْمَجُوسُ ، وَعَبَدَةُ الْأَوْثَانِ ، وَنَحْوُهُمْ ، فَحُكْمُ ثِيَابِهِمْ حُكْمُ ثِيَابِ أَهْلِ الذِّمَّةِ ، وَأَمَّا أَوَانِيهِمْ ، فَقَالَ الْقَاضِي : لَا يُسْتَعْمَلُ مَا اسْتَعْمَلُوهُ مِنْ آنِيَتِهِمْ ؛ لِأَنَّ أَوَانِيَهُمْ لَا تَخْلُو مِنْ أَطْعِمَتِهِمْ ، وَذَبَائِحُهُمْ مَيْتَةٌ ، فَلَا تَخْلُو أَوَانِيهِمْ مِنْ وَضْعِهَا فِيهَا .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ حُكْمُهُمْ حُكْمُ أَهْلِ الْكِتَابِ ، وَثِيَابُهُمْ وَأَوَانِيهِمْ طَاهِرَةٌ ، مُبَاحَةُ الِاسْتِعْمَالِ ، مَا لَمْ يَتَيَقَّنْ نَجَاسَتَهَا ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ { لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ تَوَضَّئُوا مِنْ مَزَادَةِ مُشْرِكَةٍ ، } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ؛ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ ، فَلَا تَزُولُ بِالشَّكِّ .
وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ ، رَحِمَهُ اللَّهُ ، مِثْلُ قَوْلِ الْقَاضِي ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْمَجُوسِ : لَا يُؤْكَلُ مِنْ طَعَامِهِمْ إلَّا الْفَاكِهَةُ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ نَجَاسَةُ آنِيَتِهِمْ الْمُسْتَعْمَلَةِ فِي أَطْعِمَتِهِمْ ، فَأَشْبَهَتْ السَّرَاوِيلَاتِ مِنْ ثِيَابِهِمْ .
وَمَنْ يَأْكُلُ الْخِنْزِيرَ مِنْ النَّصَارَى ، فِي مَوْضِعٍ يُمْكِنُهُمْ أَكْلُهُ ، أَوْ يَأْكُلُ الْمِيتَةَ ، أَوْ يَذْبَحُ بِالسِّنِّ وَالظُّفْرِ وَنَحْوِهِ ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ ؛ لِاتِّفَاقِهِمْ فِي نَجَاسَةِ أَطْعِمَتِهِمْ .
وَمَتَى شَكَّ فِي الْإِنَاءِ ؛ هَلْ اسْتَعْمَلُوهُ فِي أَطْعِمَتِهِمْ ، أَوْ لَمْ يَسْتَعْمِلُوهُ ، فَهُوَ طَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ طَهَارَتُهُ .
وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي إبَاحَةِ الصَّلَاةِ فِي

الثَّوْبِ الَّذِي يَنْسِجُهُ الْكُفَّارُ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ ، إنَّمَا كَانَ لِبَاسُهُمْ مِنْ نَسْجِ الْكُفَّارِ .
فَأَمَّا ثِيَابُهُمْ ، الَّتِي يَلْبَسُونَهَا ، فَأَبَاحَ الصَّلَاةَ فِيهَا الثَّوْرِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ، وَقَالَ مَالِكٌ فِي ثَوْبِ الْكُفَّارِ : يَلْبَسُهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ ، وَإِنْ صَلَّى فِيهِ يُعِيدُ ، مَا دَامَ فِي الْوَقْتِ .
وَلَنَا أَنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ ، وَلَمْ تَتَرَجَّحْ جِهَةُ التَّنْجِيسِ فِيهِ ، فَأَشْبَهَ مَا نَسَجَهُ الْكُفَّارُ .

( 98 ) فَصْلٌ : وَتُبَاحُ الصَّلَاةُ فِي ثِيَابِ الصِّبْيَانِ ، مَا لَمْ تَتَيَقَّنْ نَجَاسَتُهَا وَبِذَلِكَ قَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ؛ لِأَنَّ أَبَا قَتَادَةَ رَوَى ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { صَلَّى وَهُوَ حَامِلٌ أُمَامَةَ بِنْتَ أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ .
} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، { وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فَإِذَا سَجَدَ وَثَبَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ عَلَى ظَهْرِهِ .
} وَتُكْرَهُ الصَّلَاةُ فِيهِ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ احْتِمَالِ غَلَبَةِ النَّجَاسَةِ لَهُ .
وَتَصِحُّ الصَّلَاةُ فِي ثَوْبِ الْمَرْأَةِ الَّذِي تَحِيضُ فِيهِ ؛ إذَا لَمْ تَتَحَقَّقْ إصَابَةُ النَّجَاسَةِ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ ، وَالتَّوَقِّي لِذَلِكَ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ إصَابَةُ النَّجَاسَةِ إيَّاهُ ، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُصَلِّي فِي شُعُرِنَا وَلُحُفِنَا .
} وَلُعَابُ الصِّبْيَانِ طَاهِرٌ ، وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ، قَالَ : { رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَامِلَ الْحُسَيْنِ عَلَى عَاتِقِهِ ، وَلُعَابُهُ يَسِيلُ عَلَيْهِ .
} وَحَمَلَ أَبُو بَكْرٍ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ عَلَى عَاتِقِهِ وَلُعَابُهُ يَسِيلُ ، وَعَلِيٌّ إلَى جَانِبِهِ ، وَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ يَقُولُ : وَا بِأَبِي شِبْهَ النَّبِيِّ لَا شَبِيهًا بِعَلِيٍّ وَعَلِيٌّ يَضْحَكُ .

( 99 ) فَصْلٌ : وَإِذَا صَبَغَ فِي حُبِّ صَبَّاغٍ لَمْ يَجِبْ غَسْلُ الثَّوْبِ الْمَصْبُوغِ ، سَوَاءٌ كَانَ الصَّبَّاغُ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ لِأَنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ ، فَإِنْ تَحَقَّقَتْ نَجَاسَتُهُ طَهُرَ بِالْغَسْلِ ، وَإِنْ بَقِيَ اللَّوْنُ ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الدَّمِ : { لَا يَضُرُّك أَثَرُهُ } .

( 100 ) فُصُولٌ فِي الْفِطْرَةِ : رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْفِطْرَةُ خَمْسٌ : الْخِتَانُ ، وَالِاسْتِحْدَادُ ، وَقَصُّ الشَّارِبِ ، وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ ، وَنَتْفُ الْإِبْطِ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، { عَشْرٌ مِنْ الْفِطْرَةِ : قَصُّ الشَّارِبِ ، وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ ، وَالسِّوَاكُ ، وَاسْتِنْشَاقُ الْمَاءِ ، وَقَصُّ الْأَظْفَارِ ، وَغَسْلُ الْبَرَاجِمِ ، وَنَتْفُ الْإِبْطِ ، وَحَلْقُ الْعَانَةِ ، وَانْتِقَاصُ الْمَاءِ } .
قَالَ بَعْضُ الرُّوَاةِ : وَنَسِيت الْعَاشِرَةَ ، إلَّا أَنْ تَكُونَ الْمَضْمَضَةَ .
الِاسْتِحْدَادُ : حَلْقُ الْعَانَةِ ، اسْتِفْعَالٌ مِنْ الْحَدِيدِ ، وَانْتِقَاصُ الْمَاءِ : الِاسْتِنْجَاءُ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ يَقْطَعُ الْبَوْلَ وَيَرُدُّهُ .
قَالَ أَبُو دَاوُد : وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوُ حَدِيثِ عَائِشَةَ ، قَالَ : خَمْسٌ كُلُّهَا فِي الرَّأْسِ ذَكَرَ مِنْهَا الْفَرْقَ وَلَمْ يَذْكُرْ إعْفَاءَ اللِّحْيَةِ ، قَالَ أَحْمَدُ : الْفَرْقُ سُنَّةٌ .
قِيلَ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُشْهِرُ نَفْسَهُ ، { قَالَ : النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ فَرَقَ ، وَأَمَرَ بِالْفَرْقِ .
} ( 101 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا الْخِتَانُ فَوَاجِبٌ عَلَى الرِّجَالِ ، وَمَكْرُمَةٌ فِي حَقِّ النِّسَاءِ ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِنَّ .
هَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ .
قَالَ أَحْمَدُ : الرَّجُلُ أَشَدُّ ، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا لَمْ يَخْتَتِنْ ، فَتِلْكَ الْجِلْدَةُ مُدَلَّاةٌ عَلَى الْكَمَرَةِ ، وَلَا يُنَقَّى مَا ثَمَّ ، وَالْمَرْأَةُ أَهْوَنُ .
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُشَدِّدُ فِي أَمْرِهِ ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا حَجَّ لَهُ وَلَا صَلَاةَ ، يَعْنِي : إذَا لَمْ يَخْتَتِنْ ، وَالْحَسَنُ يُرَخِّصُ فِيهِ يَقُولُ : إذَا أَسْلَمَ لَا يُبَالِي أَنْ لَا يَخْتَتِنَ وَيَقُولُ : أَسْلَمَ النَّاسُ الْأَسْوَدُ ، وَالْأَبْيَضُ ، لَمْ يُفَتَّشْ أَحَدٌ مِنْهُمْ ، وَلَمْ يَخْتَتِنُوا

.
وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِهِ : أَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ وَاجِبٌ ، فَلَوْلَا أَنَّ الْخِتَانَ وَاجِبٌ لَمْ يَجُزْ هَتْكُ حُرْمَةِ الْمَخْتُونِ بِالنَّظَرِ إلَى عَوْرَتِهِ مِنْ أَجْلِهِ ؛ وَلِأَنَّهُ مِنْ شِعَارِ الْمُسْلِمِينَ ، فَكَانَ وَاجِبًا ، كَسَائِرِ شِعَارِهِمْ ، وَإِنْ أَسْلَمَ رَجُلٌ كَبِيرٌ فَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الْخِتَانِ سَقَطَ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ الْغُسْلَ وَالْوُضُوءَ وَغَيْرَهُمَا يَسْقُطُ إذَا خَافَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْهُ ، فَهَذَا أَوْلَى .
وَإِنْ أَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ لَزِمَهُ فِعْلُهُ ، قَالَ حَنْبَلُ : سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الذِّمِّيِّ إذَا أَسْلَمَ ، تَرَى لَهُ أَنْ يُطَهَّرَ بِالْخِتَانَةِ ؟ قَالَ : لَا بُدَّ لَهُ مِنْ ذَاكَ .
قُلْت : وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا أَوْ كَبِيرَةً ؟ قَالَ : أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَتَطَهَّرَ ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ : { اخْتَتَنَ إبْرَاهِيمُ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِينَ سَنَةً } ، قَالَ تَعَالَى : { مِلَّةَ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ } .
وَيُشْرَعُ الْخِتَانُ فِي حَقِّ النِّسَاءِ أَيْضًا ، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ حَدِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ وَجَبَ الْغُسْلُ } فِيهِ بَيَانُ أَنَّ النِّسَاءَ كُنَّ يَخْتَتِنَّ ، وَحَدِيثُ عُمَرَ : إنَّ خَتَّانَةً خَتَنَتْ ، فَقَالَ : " أَبْقِي مِنْهُ شَيْئًا إذَا خَفَضْت " .
وَرَوَى الْخَلَّالُ ، بِإِسْنَادِهِ ، عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْخِتَانُ سُنَّةٌ لِلرِّجَالِ ، وَمَكْرُمَةٌ لِلنِّسَاءِ } ، وَعَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ مِثْلُ ذَلِكَ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ ، وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ قَالَ لِلْخَافِضَةِ : أَشِمِّي وَلَا تَنْهَكِي ، فَإِنَّهُ أَحْظَى لِلزَّوْجِ ، وَأَسْرَى لِلْوَجْهِ } .
وَالْخَفْضُ : خِتَانَةُ الْمَرْأَةِ .

( 102 ) فَصْلٌ : وَالِاسْتِحْدَادُ : حَلْقُ الْعَانَةِ .
وَهُوَ مُسْتَحَبٌّ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْفِطْرَةِ ، وَيَفْحُشُ بِتَرْكِهِ ، فَاسْتُحِبَّتْ إزَالَتُهُ ، وَبِأَيِّ شَيْءٍ أَزَالَهُ صَاحِبُهُ فَلَا بَأْسَ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إزَالَتُهُ ، قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : تَرَى أَنْ يَأْخُذَ الرَّجُلُ سِفْلَتَهُ بِالْمِقْرَاضِ ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَقْصِ ؟ قَالَ : أَرْجُو أَنْ يُجْزِئَ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ .
قِيلَ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ، مَا تَقُولُ فِي الرَّجُلِ إذَا نَتَفَ عَانَتَهُ ؟ قَالَ : وَهَلْ يَقْوَى عَلَى هَذَا أَحَدٌ وَإِنْ اطَّلَى بِنَوْرَةٍ فَلَا بَأْسَ ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَدَعُ أَحَدًا يَلِي عَوْرَتَهُ ، إلَّا مَنْ يَحِلُّ لَهُ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهَا ؛ مِنْ زَوْجَةٍ ، أَوْ أَمَةٍ .
قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ النَّسَائِيّ : ضَرَبْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ نُورَةً ، وَنَوَّرْته بِهَا ، فَلَمَّا بَلَغَ إلَى عَانَتِهِ نَوَّرَهَا هُوَ .
وَرَوَى الْخَلَّالُ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ نَافِعٍ ، قَالَ : كُنْت أَطْلِي ابْنَ عُمَرَ ، فَإِذَا بَلَغَ عَانَتَهُ نَوَّرَهَا هُوَ بِيَدِهِ .
وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ الْمَرُّوذِيُّ : كَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ لَا يَدْخُلُ الْحَمَّامَ ، وَإِذَا احْتَاجَ إلَى النُّورَةِ تَنَوَّرَ فِي الْبَيْتِ ، وَأَصْلَحْت لَهُ غَيْرَ مَرَّةٍ نُورَةً تَنَوَّرَ بِهَا ، وَاشْتَرَيْت لَهُ جِلْدًا لِيَدَيْهِ ، فَكَانَ يُدْخِلُ يَدَيْهِ فِيهِ ، وَيُنَوِّرُ نَفْسَهُ .
وَالْحَلْقُ أَفْضَلُ لِمُوَافَقَتِهِ الْخَبَرَ ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ عُمَرَ هُوَ مِمَّا أَحْدَثُوا مِنْ النَّعِيمِ ، يَعْنِي : النُّورَةَ .

( 103 ) فَصْلٌ : وَنَتْفُ الْإِبْطِ سُنَّةٌ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْفِطْرَةِ ، وَيَفْحُشُ بِتَرْكِهِ .
وَإِنْ أَزَالَ الشَّعْرَ بِالْحَلْقِ أَوْ النُّورَةِ جَازَ ، وَنَتْفُهُ أَفْضَلُ لِمُوَافَقَتِهِ الْخَبَرَ ، قَالَ حَرْبٌ : قُلْت لِإِسْحَاقَ : نَتْفُ الْإِبْطِ أَحَبُّ إلَيْك أَوْ بِنُورَةٍ ؟ قَالَ : نَتْفُهُ إنْ قَدَرَ .

( 104 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ تَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْفِطْرَةِ ، وَيَتَفَاحَشُ إذَا تَرَكَهَا ، وَرُبَّمَا حَكَّ بِهِ الْوَسَخَ ، فَيَجْتَمِعُ تَحْتَهَا مِنْ الْمَوَاضِعِ الْمُنْتِنَةِ ، فَتَصِيرُ رَائِحَةُ ذَلِكَ فِي رُءُوسِ الْأَصَابِعِ .
وَرُبَّمَا مَنَعَ وُصُولَ الطَّهَارَةِ إلَى مَا تَحْتَهُ ، وَقَدْ رُوِّينَا فِي خَبَرٍ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَالِي لَا أَسْهُو وَأَنْتُمْ تَدْخُلُونَ عَلَيَّ قُلْحًا وَرُفْغُ أَحَدِكُمْ بَيْنَ ظُفْرِهِ وَأُنْمُلَتِهِ } .
وَمَعْنَاهُ : أَنَّ أَحَدَكُمْ يُطِيلُ أَظْفَارَهُ ثُمَّ يَحُكُّ بِهَا رُفْغَهُ وَمَوَاضِعَ النَّتْنِ ، فَتَصِيرُ رَائِحَةُ ذَلِكَ تَحْتَ أَظْفَارِهِ .
وَرُوِيَ فِي حَدِيثٍ مُسَلْسَلٍ قَدْ سَمِعْنَاهُ أَنَّ عَلِيًّا ، قَالَ : { رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَلِّمُ أَظْفَارَهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ ، ثُمَّ قَالَ : يَا عَلِيٌّ ، قَصُّ الظُّفْرِ وَنَتْفُ الْإِبْطِ وَحَلْقُ الْعَانَةِ يَوْمَ الْخَمِيسِ ، وَالْغُسْلُ وَالطِّيبُ وَاللِّبَاسُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ } .
وَرُوِيَ فِي حَدِيثٍ { مَنْ قَصَّ أَظْفَارَهُ مُخَالِفًا لَمْ يَرَ فِي عَيْنَيْهِ رَمَدًا } ، وَفَسَّرَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَطَّةَ بِأَنْ يَبْدَأَ بِخِنْصَرِ الْيُمْنَى ثُمَّ الْوُسْطَى ثُمَّ الْإِبْهَامِ ثُمَّ الْبِنْصِرِ ثُمَّ السَّبَّابَةِ ثُمَّ بِإِبْهَامِ الْيُسْرَى ثُمَّ الْوُسْطَى ثُمَّ الْخِنْصَرِ ثُمَّ السَّبَّابَةِ ثُمَّ الْبِنْصِرِ .

( 105 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ غَسْلُ رُءُوسِ الْأَصَابِعِ بَعْدَ قَصِّ الْأَظْفَارِ ، وَقَدْ قِيلَ : إنَّ الْحَكَّ بِالْأَظْفَارِ قَبْلَ غَسْلِهَا يَضُرُّ بِالْجَسَدِ .
وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ " غَسْلُ الْبَرَاجِمِ " فِي تَفْسِيرِ الْفِطْرَةِ ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ ذَلِكَ ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ : الْبَرَاجِمُ : الْعُقَدُ الَّتِي فِي ظُهُورِ الْأَصَابِعِ ، وَالرَّوَاجِبُ : مَا بَيْنَ الْبَرَاجِمِ .
وَمَعْنَاهُ قَالَ : تَنْظِيفُ الْمَوَاضِعِ الَّتِي تَتَشَنَّجُ وَيَجْتَمِعُ فِيهَا الْوَسَخُ .
وَيُسْتَحَبُّ دَفْنُ مَا قَلَّمَ مِنْ أَظْفَارِهِ أَوْ أَزَالَ مِنْ شَعْرِهِ ، لِمَا رَوَى الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ { عَنْ مِيلَ بِنْتِ مِشْرَحٍ الْأَشْعَرِيَّةِ قَالَتْ : رَأَيْت أَبِي يُقَلِّمُ أَظْفَارَهُ وَيَدْفِنُهَا ، وَيَقُولُ : رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ ذَلِكَ } .
وَعَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ ، { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : كَانَ يُعْجِبُهُ دَفْنُ الدَّمِ } .
وَقَالَ مُهَنَّا : سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ الرَّجُلِ يَأْخُذُ مِنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ أَيَدْفِنُهُ أَمْ يُلْقِيهِ ؟ قَالَ : يَدْفِنُهُ ، قُلْت : بَلَغَك فِيهِ شَيْءٌ ؟ قَالَ : كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَدْفِنُهُ .
وَرُوِّينَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ أَمَرَ بِدَفْنِ الشَّعْرِ وَالْأَظْفَارِ ، وَقَالَ : لَا يَتَلَاعَبُ بِهِ سَحَرَةُ بَنِي آدَمَ } .

( 106 ) فَصْلٌ وَاِتِّخَاذُ الشَّعْرِ أَفْضَلُ مِنْ إزَالَتِهِ .
قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ : سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الرَّجُلِ يَتَّخِذُ الشَّعْرَ ؟ فَقَالَ : سُنَّةٌ حَسَنَةٌ ، لَوْ أَمْكَنَنَا اتَّخَذْنَاهُ .
وَقَالَ : { كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُمَّةٌ .
} وَقَالَ : تِسْعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ شَعْرٌ .
وَقَالَ : عَشَرَةٌ لَهُمْ جُمَمٌ .
وَقَالَ : فِي بَعْضِ الْحَدِيثِ { إنَّ شَعْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إلَى شَحْمَةِ أُذُنَيْهِ .
وَفِي بَعْضِ الْحَدِيثِ : إلَى مَنْكِبَيْهِ .
} وَرَوَى الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ ، قَالَ : { مَا رَأَيْت مِنْ ذِي لِمَّةٍ فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ أَحْسَنَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ شَعْرٌ يَضْرِبُ مَنْكِبَيْهِ .
} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { رَأَيْت ابْنَ مَرْيَمَ لَهُ لِمَّةٌ } .
قَالَ الْخَلَّالُ سَأَلْت أَحْمَدَ بْنَ يَحْيَى - يَعْنِي ثَعْلَبًا - عَنْ اللِّمَّةِ ؟ فَقَالَ : مَا أَلَمَّتْ بِالْأُذُنِ .
وَالْجُمَّةُ : مَا طَالَتْ .
وَقَدْ ذَكَرِ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ فِي حَدِيثِهِ : { أَنَّ شَعْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضْرِبُ مَنْكِبَيْهِ } ، وَقَدْ سَمَّاهُ لِمَّةً .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ شَعْرُ الْإِنْسَانِ عَلَى صِفَةِ شَعْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا طَالَ فَإِلَى مَنْكِبَيْهِ ، وَإِنْ قَصُرَ فَإِلَى شَحْمَةِ أُذُنَيْهِ .
وَإِنْ طَوَّلَهُ فَلَا بَأْسَ ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَقَالَ : أَبُو عُبَيْدَةَ كَانَتْ لَهُ عَقِيصَتَانِ وَعُثْمَانُ كَانَتْ لَهُ عَقِيصَتَانِ .
وَقَالَ وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ : { أَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِي شَعْرٌ طَوِيلٌ ، فَلَمَّا رَآنِي قَالَ : ذُبَابٌ ذُبَابٌ .
فَرَجَعْتُ فَجَزَزْته ، ثُمَّ أَتَيْته مِنْ الْغَدِ ، فَقَالَ : لَمْ أَعْنِك } ، وَهَذَا حَسَنٌ .
رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
وَيُسْتَحَبُّ تَرْجِيلُ الشَّعْرِ وَإِكْرَامُهُ ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ يَرْفَعُهُ { مَنْ كَانَ لَهُ شَعْرٌ

فَلْيُكْرِمْهُ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَيُسْتَحَبُّ فَرْقُ الشَّعْرِ ؛ { لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَقَ شَعْرَهُ ، وَذَكَرَهُ مِنْ الْفِطْرَةِ } فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَفِي شُرُوطِ عُمَرَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ : أَنْ لَا يَفْرُقُوا شُعُورَهُمْ ، لِئَلَّا يَتَشَبَّهُوا بِالْمُسْلِمِينَ .

( 107 ) فَصْلٌ : وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِي حَلْقِ الرَّأْسِ .
فَعَنْهُ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ ، لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ قَالَ فِي الْخَوَارِجِ : سِيمَاهُمْ التَّحْلِيقُ } .
فَجَعَلَهُ عَلَامَةً لَهُمْ .
وَقَالَ عُمَرُ لِصَبِيغٍ : لَوْ وَجَدْتُك مَحْلُوقًا لَضَرَبْت الَّذِي فِيهِ عَيْنَاك بِالسَّيْفِ .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تُوضَعُ النَّوَاصِي إلَّا فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ } .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ ، فِي الْأَفْرَادِ ، وَرَوَى أَبُو مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَيس مِنَّا مَنْ حَلَقَ } رَوَاهُ أَحْمَدُ .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الَّذِي يَحْلِقُ رَأْسَهُ فِي الْمِصْرِ شَيْطَانٌ .
قَالَ أَحْمَدُ كَانُوا يَكْرَهُونَ ذَلِكَ .
وَرُوِيَ عَنْهُ : لَا يُكْرَهُ ذَلِكَ لَكِنْ تَرْكُهُ أَفْضَلُ .
قَالَ حَنْبَلُ : كُنْت أَنَا وَأَبِي نَحْلِقُ رُءُوسَنَا فِي حَيَاةِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَيَرَانَا وَنَحْنُ نَحْلِقُ فَلَا يَنْهَانَا ، وَكَانَ هُوَ يَأْخُذُ رَأْسَهُ بِالْجَلَمَيْنِ وَلَا يُحْفِيهِ وَيَأْخُذُهُ وَسَطًا .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ عُمَرَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى غُلَامًا قَدْ حَلَقَ بَعْضَ رَأْسِهِ وَتَرَكَ بَعْضَهُ ، فَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ .
} رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، وَفِي لَفْظٍ قَالَ : { احْلِقْهُ كُلَّهُ أَوْ دَعْهُ كُلَّهُ } .
وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا جَاءَ نَعِيُّ جَعْفَرٍ أَمْهَلَ آلَ جَعْفَرٍ ثَلَاثًا أَنْ يَأْتِيَهُمْ ، ثُمَّ أَتَاهُمْ ، فَقَالَ : لَا تَبْكُوا عَلَى أَخِي بَعْدَ الْيَوْمِ ، ثُمَّ قَالَ : اُدْعُوا بَنِي أَخِي ، فَجِيءَ بِنَا ، قَالَ : اُدْعُوا لِي الْحَالِقَ فَأَمَرَ بِنَا فَحَلَقَ رُءُوسَنَا .
} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالطَّيَالِسِيُّ ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يُكْرَهُ اسْتِئْصَالُ الشَّعْرِ بِالْمِقْرَاضِ .
وَهَذَا فِي مَعْنَاهُ ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَيْسَ مِنَّا مَنْ حَلَقَ } يَعْنِي فِي الْمُصِيبَةِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ " أَوْ صَلَقَ " أَوْ خَرَقَ .

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى إبَاحَةِ الْحَلْقِ ، وَكَفَى بِهَذَا حُجَّةٌ .
وَأَمَّا اسْتِئْصَالُ الشَّعْرِ بِالْمِقْرَاضِ فَغَيْرُ مَكْرُوهٍ رِوَايَةً وَاحِدَةً .
قَالَ أَحْمَدُ : إنَّمَا كَرِهُوا الْحَلْقَ بِالْمُوسَى وَأَمَّا بِالْمِقْرَاضِ فَلَيْسَ بِهِ بَأْسٌ ؛ لِأَنَّ أَدِلَّةَ الْكَرَاهَةِ تَخْتَصُّ بِالْحَلْقِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا حَلْقُ بَعْضِ الرَّأْسِ فَمَكْرُوهٌ .
وَيُسَمَّى الْقَزَعَ ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَلَفْظُهُ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الْقَزَعِ وَقَالَ : احْلِقْهُ كُلَّهُ أَوْ دَعْهُ كُلَّهُ } .
وَفِي شُرُوطِ عُمَرَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ : أَنْ يَحْلِقُوا مَقَادِمَ رُءُوسِهِمْ لِيَتَمَيَّزُوا بِذَلِكَ عَنْ الْمُسْلِمِينَ .
فَمَنْ فَعَلَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَانَ مُتَشَبِّهًا بِهِمْ .

( 109 ) فَصْلٌ : وَلَا تَخْتَلِفُ الرِّوَايَةُ فِي كَرَاهَةِ حَلْقِ الْمَرْأَةِ رَأْسَهَا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ .
قَالَ أَبُو مُوسَى : { بَرِئَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الصَّالِقَةِ وَالْحَالِقَةِ .
} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَرَوَى الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ : { نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَحْلِقَ الْمَرْأَةُ رَأْسَهَا .
} قَالَ الْحَسَنُ : هِيَ مُثْلَةٌ .
قَالَ الْأَثْرَمُ : سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَسْأَلُ عَنْ الْمَرْأَةِ تَعْجِزُ عَنْ شَعْرِهَا وَعَنْ مُعَالَجَتِهِ ، أَتَأْخُذُهُ عَلَى حَدِيثِ مَيْمُونَةَ ؟ قَالَ : لِأَيِّ شَيْءٍ تَأْخُذُهُ ؟ قِيلَ لَهُ : لَا تَقْدِرُ عَلَى الدَّهْنِ وَمَا يُصْلِحُهُ وَتَقَعُ فِيهِ الدَّوَابُّ .
قَالَ : إذَا كَانَ لِضَرُورَةٍ ، فَأَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ .

( 110 ) فَصْلٌ : وَيُكْرَهُ نَتْفُ الشَّيْبِ ، لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، قَالَ : { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نَتْفِ الشَّيْبِ ، وَقَالَ : إنَّهُ نُورُ الْإِسْلَامِ .
} وَعَنْ طَارِقِ بْنِ حَبِيبٍ ، { أَنَّ حَجَّامًا أَخَذَ مِنْ شَارِبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَأَى شَيْبَةً فِي لِحْيَتِهِ فَأَهْوَى إلَيْهَا لِيَأْخُذَهَا ، فَأَمْسَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ ، وَقَالَ : مَنْ شَابَ شَيْبَةً فِي الْإِسْلَامِ كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
رَوَاهُمَا الْخَلَّالُ فِي جَامِعِهِ .

( 111 ) فَصْلٌ : وَيُكْرَهُ حَلْقُ الْقَفَا لِمَنْ لَمْ يَحْلِقْ رَأْسَهُ وَلَمْ يَحْتَجْ إلَيْهِ .
قَالَ الْمَرُّوذِيُّ : سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ حَلْقِ الْقَفَا .
فَقَالَ : هُوَ مِنْ فِعْلِ الْمَجُوسِ ، وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ .
وَقَالَ لَا بَأْسَ أَنْ يَحْلِقَ قَفَاهُ وَقْتَ الْحِجَامَةِ .
وَأَمَّا حَفُّ الْوَجْهِ ، فَقَالَ مُهَنَّا : سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الْحَفِّ ؟ فَقَالَ : لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ لِلنِّسَاءِ ، وَأَكْرَهُهُ لِلرِّجَالِ .

( 112 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ خِضَابُ الشَّيْبِ بِغَيْرِ السَّوَادِ ، قَالَ أَحْمَدُ إنِّي لَأَرَى الشَّيْخَ الْمَخْضُوبَ فَأَفْرَحُ بِهِ .
وَذَاكَرَ رَجُلًا ، فَقَالَ : لِمَ لَا تَخْتَضِبُ ؟ فَقَالَ : أَسْتَحِي .
قَالَ : سُبْحَانَ اللَّهِ ، سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ الْمَرُّوذِيُّ : قُلْت : يُحْكَى عَنْ بِشْرِ بْنِ الْحَارِثِ أَنَّهُ قَالَ : قَالَ لِي ابْنُ دَاوُد : خَضَّبْت ؟ قُلْت : أَنَا لَا أَتَفَرَّغُ لِغَسْلِهَا فَكَيْفَ أَتَفَرَّغُ لَخِضَابِهَا ، فَقَالَ : أَنَا أُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ بِشْرٌ كَشَفَ عَمَلَهُ لِابْنِ دَاوُد ، ثُمَّ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { غَيِّرُوا الشَّيْبَ } ، وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ خَضَبَا ، وَالْمُهَاجِرُونَ ، فَهَؤُلَاءِ لَمْ يَتَفَرَّغُوا لِغَسْلِهَا ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَمَرَ بِالْخِضَابِ ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَيْسَ مِنْ الدِّينِ فِي شَيْءٍ ، وَحَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَحَدِيثُ أَبِي رِمْثَةَ ، وَحَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ .
وَيُسْتَحَبُّ الْخِضَابُ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ ؛ لِمَا رَوَى الْخَلَّالُ ، وَابْنُ مَاجَهْ ، بِإِسْنَادِهِمَا عَنْ تَمِيمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ ، قَالَ : { دَخَلْت عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ ، فَأَخْرَجَتْ إلَيْنَا شَعْرًا مِنْ شَعْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَخْضُوبًا بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ .
} وَخَضَّبَ أَبُو بَكْرٍ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ .
وَلَا بَأْسَ بِالْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانِ ؛ لِأَنَّ أَبَا مَالِكٍ الْأَشْجَعِيَّ قَالَ : { كَانَ خِضَابُنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَرْسَ وَالزَّعْفَرَانَ .
} وَعَنْ الْحَكَمِ بْنِ عَمْرٍو الْغِفَارِيِّ ، قَالَ : دَخَلْت أَنَا وَأَخِي رَافِعٌ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ وَأَنَا مَخْضُوبٌ بِالْحِنَّاءِ ، وَأَخِي مَخْضُوبٌ بِالصُّفْرَةِ ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ هَذَا خِضَابُ الْإِسْلَامِ ، وَقَالَ لِأَخِي رَافِعٍ : هَذَا خِضَابُ الْإِيمَانِ .
وَيُكْرَهُ الْخِضَابُ

بِالسَّوَادِ .
قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : تَكْرَهُ الْخِضَابَ بِالسَّوَادِ ؟ قَالَ : إي وَاَللَّهِ .
قَالَ : { وَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ بِأَبِيهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَأْسُهُ وَلِحْيَتُهُ كَالثَّغَامَةِ بَيَاضًا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيِّرُوهُمَا وَجَنِّبُوهُ السَّوَادَ } .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا { يَكُونُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ يُخَضِّبُونَ بِالسَّوَادِ كَحَوَاصِلِ الْحَمَامِ ، لَا يَرِيحُونَ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ } .
وَرَخَّصَ فِيهِ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ لِلْمَرْأَةِ تَتَزَيَّنُ بِهِ لِزَوْجِهَا .

( 113 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكْتَحِلَ وِتْرًا ، وَيَدَّهِنَ غِبًّا ، وَيَنْظُرَ فِي الْمِرْآةِ وَيَتَطَيَّبَ .
قَالَ حَنْبَلُ : رَأَيْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَكَانَتْ لَهُ صِينِيَّةٌ فِيهَا مِرْآةٌ وَمُكْحُلَةٌ وَمِشْطٌ ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ حِزْبِهِ نَظَرَ فِي الْمِرْآةِ وَاكْتَحَلَ وَامْتَشَطَ ، وَقَدْ رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { عَلَيْكُمْ بِالْإِثْمِدِ فَإِنَّهُ يَجْلُو الْبَصَرَ وَيُنْبِتُ الشَّعْرَ } .
قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ كَيْفَ يَكْتَحِلُ الرَّجُلُ ؟ قَالَ : وِتْرًا .
وَلَيْسَ لَهُ إسْنَادٌ .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادِهِ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ اكْتَحَلَ فَلْيُوتِرْ ، مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ ، وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ } .
وَالْوَتْرُ ثَلَاثٌ فِي كُلِّ عَيْنٍ ، وَقِيلَ : ثَلَاثٌ فِي الْيُمْنَى وَاثْنَتَانِ فِي الْيُسْرَى ، لِيَكُونَ الْوَتْرُ حَاصِلًا فِي الْعَيْنَيْنِ مَعًا .
وَرَوَى الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغَفَّلِ قَالَ : { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ التَّرَجُّلِ إلَّا غِبًّا .
} قَالَ أَحْمَدُ مَعْنَاهُ يَدَّهِنُ يَوْمًا وَيَوْمًا لَا .
وَكَانَ أَحْمَدُ يُعْجِبُهُ الطِّيبُ ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَانَ يُحِبُّ الطِّيبَ وَيَتَطَيَّبُ كَثِيرًا .
}

( 114 ) فَصْلٌ : وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { لَعَنَ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ ، وَالنَّامِصَةَ وَالْمُتَنَمِّصَةَ ، وَالْوَاشِرَةَ وَالْمُسْتَوْشِرَةَ .
} فَهَذِهِ الْخِصَالُ مُحَرَّمَةٌ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ فَاعِلَهَا وَلَا يَجُوزُ لَعْنُ فَاعِلِ الْمُبَاحِ .
وَالْوَاصِلَةُ : هِيَ الَّتِي تَصِلُ شَعْرَهَا بِغَيْرِهِ ، أَوْ شَعْرَ غَيْرِهَا .
وَالْمُسْتَوْصِلَةُ : الْمَوْصُولُ شَعْرُهَا بِأَمْرِهَا ، فَهَذَا لَا يَجُوزُ لِلْخَبَرِ ، لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { ، أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : إنَّ ابْنَتِي عِرْسٌ وَقَدْ تَمَزَّقَ شَعْرُهَا ، أَفَأَصِلُهُ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لُعِنَتْ الْوَاصِلَةُ ، وَالْمُسْتَوْصِلَةُ .
} فَلَا يَجُوزُ وَصْلُ شَعْرِ الْمَرْأَةِ بِشَعْرٍ آخَرَ ؟ لِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ ، وَلِمَا رُوِيَ عَنْ مُعَاوِيَةَ ، أَنَّهُ { أَخْرَجَ كُبَّةً مِنْ شَعْرٍ ، فَقَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى عَنْ مِثْلِ هَذَا ، وَقَالَ : إنَّمَا هَلَكَ بَنُو إسْرَائِيلَ حِينَ اتَّخَذَ هَذَا نِسَاؤُهُمْ .
} وَأَمَّا وَصْلُهُ بِغَيْرِ الشَّعْرِ ، فَإِنْ كَانَ بِقَدْرِ مَا تَشُدُّ بِهِ رَأْسَهَا فَلَا بَأْسَ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَيْهِ ، وَلَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ .
وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا ، أَنَّهُ مَكْرُوهٌ غَيْرُ مُحَرَّمٍ ، لِحَدِيثِ مُعَاوِيَةَ فِي تَخْصِيصِ الَّتِي تَصِلُهُ بِالشَّعْرِ ، فَيُمْكِنُ جَعْلُ ذَلِكَ تَفْسِيرًا لِلَّفْظِ الْعَامِّ ، وَبَقِيَتْ الْكَرَاهَةُ لِعُمُومِ اللَّفْظِ فِي سَائِرِ الْأَحَادِيثِ ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : لَا تَصِلُ الْمَرْأَةُ بِرَأْسِهَا الشَّعْرَ وَلَا الْقَرَامِلَ وَلَا الصُّوفَ ، نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْوِصَالِ ، فَكُلُّ شَيْءٍ يَصِلُ فَهُوَ وِصَالٌ ، وَرُوِيَ عَنْ جَابِرٍ ، قَالَ : { نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَصِلَ الْمَرْأَةُ بِرَأْسِهَا شَيْئًا } .

وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ : جَاءَتْ امْرَأَةٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُمَشِّطُونَ إلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَتْ : إنِّي أَصِلُ رَأْسَ الْمَرْأَةِ بِقَرَامِلَ وَأُمَشِّطُهَا ، فَتَرَى لِي أَنْ أَحُجَّ مِمَّا اكْتَسَبْت ؟ قَالَ : لَا وَكَرِهَ كَسْبَهَا ، وَقَالَ لَهَا : يَكُونُ مِنْ مَالٍ أَطْيَبَ مِنْ هَذَا .
وَالظَّاهِرُ : أَنَّ الْمُحَرَّمَ إنَّمَا هُوَ وَصْلُ الشَّعْرِ بِالشَّعْرِ ، لِمَا فِيهِ مِنْ التَّدْلِيسِ وَاسْتِعْمَالِ الشَّعْرِ الْمُخْتَلَفِ فِي نَجَاسَتِهِ ، وَغَيْرُ ذَلِكَ لَا يَحْرُمُ ، لِعَدَمِ هَذِهِ الْمَعَانِي فِيهَا ، وَحُصُولِ الْمَصْلَحَةِ مِنْ تَحْسِينِ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا مِنْ غَيْرِ مَضَرَّةٍ .
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
( 115 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا النَّامِصَةُ : فَهِيَ الَّتِي تَنْتِفُ الشَّعْرَ مِنْ الْوَجْهِ ، وَالْمُتَنَمِّصَةُ : الْمَنْتُوفُ شَعْرُهَا بِأَمْرِهَا ، فَلَا يَجُوزُ لِلْخَبَرِ .
وَإِنْ حَلَقَ الشَّعْرَ فَلَا بَأْسَ ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ إنَّمَا وَرَدَ فِي النَّتْفِ .
نَصَّ عَلَى هَذَا أَحْمَدُ وَأَمَّا الْوَاشِرَةُ : فَهِيَ الَّتِي تَبْرُدُ الْأَسْنَانَ بِمِبْرَدٍ وَنَحْوِهِ ؛ لِتُحَدِّدَهَا وَتُفَلِّجَهَا وَتُحَسِّنَهَا ، وَالْمُسْتَوْشِرَةُ : الْمَفْعُولُ بِهَا ذَلِكَ بِإِذْنِهَا ، وَفِي خَبَرٍ آخَرَ : { لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَةَ ، وَالْمُسْتَوْشِمَةَ } .
وَالْوَاشِمَةُ : الَّتِي تَغْرِزُ جِلْدَهَا بِإِبْرَةٍ ، ثُمَّ تَحْشُوهُ كُحْلًا .
وَالْمُسْتَوْشِمَةُ : الَّتِي يُفْعَلُ بِهَا ذَلِكَ .

مَسْأَلَةٌ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ وَالسِّوَاكُ سُنَّةٌ ، يُسْتَحَبُّ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَرَوْنَ السِّوَاكَ سُنَّةً غَيْرَ وَاجِبٍ ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ بِوُجُوبِهِ إلَّا إِسْحَاقَ وَدَاوُد ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ ، وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ .
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادِهِ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِالْوُضُوءِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ طَاهِرًا وَغَيْرَ طَاهِرٍ ، فَلَمَّا شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ أَمَرَ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ } .
وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتهمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، يَعْنِي لَأَمَرْتهمْ أَمْرَ إيجَابٍ ؛ لِأَنَّ الْمَشَقَّةَ إنَّمَا تَلْحَقُ بِالْإِيجَابِ لَا بِالنَّدْبِ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ فِي حَدِيثِهِمْ أَمْرُ نَدْبٍ وَاسْتِحْبَابٍ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَاجِبًا فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْخُصُوصِ ، جَمْعًا بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ ، وَاتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ ، لِحَثِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُوَاظَبَتِهِ عَلَيْهِ ، وَتَرْغِيبِهِ فِيهِ وَنَدْبِهِ إلَيْهِ ، وَتَسْمِيَتِهِ إيَّاهُ مِنْ الْفِطْرَةِ فِيمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ } .
رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، فِي مُسْنَدِهِ ، وَعَنْ عَائِشَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا دَخَلَ بَيْتَهُ بَدَأَ بِالسِّوَاكِ ، } رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنِّي لَأَسْتَاكُ ، حَتَّى لَقَدْ خَشِيت أَنْ أُحْفِيَ مَقَادِمَ فَمِي } رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
وَيَتَأَكَّدُ اسْتِحْبَابُهُ فِي مَوَاضِعَ ثَلَاثَةٍ : عِنْدَ الصَّلَاةِ ؛ لِلْخَبَرِ الْأَوَّلِ .
وَعِنْدَ

الْقِيَامِ مِنْ النَّوْمِ ؛ لِمَا رَوَى حُذَيْفَةُ ، قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ يَشُوصُ فَاهُ بِالسِّوَاكِ .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، يَعْنِي : يَغْسِلُهُ ، يُقَالُ : شَاصَهُ ، يَشُوصُهُ ، وَمَاصَهُ : إذَا غَسَلَهُ ، وَعَنْ عَائِشَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَرْقُدُ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ فَيَسْتَيْقِظُ إلَّا تَسَوَّكَ قَبْلَ أَنْ يَتَوَضَّأَ .
} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا نَامَ يَنْطَبِقُ فُوهُ فَتَتَغَيَّرُ رَائِحَتُهُ .
وَعِنْدَ تَغَيُّرِ رَائِحَةِ فِيهِ بِمَأْكُولٍ أَوْ غَيْرِهِ ؛ وَلِأَنَّ السِّوَاكَ مَشْرُوعٌ لِإِزَالَةِ رَائِحَتِهِ وَتَطْيِيبِهِ .
( 117 ) فَصْلٌ : وَيَسْتَاكُ عَلَى أَسْنَانِهِ وَلِسَانِهِ ، قَالَ أَبُو مُوسَى : { أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ فَرَأَيْته يَسْتَاكُ عَلَى لِسَانِهِ .
} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { إنِّي لَأَسْتَاكُ حَتَّى لَقَدْ خَشِيت أَنْ أُحْفِيَ مَقَادِمَ فَمِي .
} وَيَسْتَاكُ عَرْضًا ، لَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { اسْتَاكُوا عَرْضًا ، وَادَّهِنُوا غِبًّا ، وَاكْتَحِلُوا وِتْرًا } ؛ وَلِأَنَّ السِّوَاكَ طُولًا مِنْ أَطْرَافِ الْأَسْنَانِ إلَى عَمُودِهَا رُبَّمَا أَدْمَى اللِّثَةَ وَأَفْسَدَ الْعَمُودَ .
وَيُسْتَحَبُّ التَّيَامُنُ فِي سِوَاكِهِ ؛ لِأَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ فِي تَنَعُّلِهِ ، وَتَرَجُّلِهِ ، وَطُهُورِهِ ، وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ .
} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَيَغْسِلُهُ بِالْمَاءِ ؛ لِيُزِيلَ مَا عَلَيْهِ ، قَالَتْ عَائِشَةُ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِينِي السِّوَاكَ لِأَغْسِلَهُ ، فَأَبْدَأُ بِهِ فَأَسْتَاكُ ، ثُمَّ أَغْسِلُهُ ، ثُمَّ أَدْفَعُهُ إلَيْهِ .
} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَرُوِيَ عَنْهَا ، قَالَتْ : { كُنَّا نُعِدُّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةَ آنِيَةٍ مُخَمَّرَةً مِنْ اللَّيْلِ : إنَاءً لِطَهُورِهِ ، وَإِنَاءً لِسِوَاكِهِ ، وَإِنَاءً

لِشَرَابِهِ .
} أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ .
( 118 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ السِّوَاكُ عُودًا لَيِّنًا يُنَقِّي الْفَمَ ، وَلَا يَجْرَحُهُ ، وَلَا يَضُرُّهُ ، وَلَا يَتَفَتَّتُ فِيهِ ، كَالْأَرَاكِ وَالْعُرْجُونِ ، وَلَا يُسْتَاكُ بِعُودِ الرُّمَّانِ وَلَا الْآسِ وَلَا الْأَعْوَادِ الذَّكِيَّةِ ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تَخَلَّلُوا بِعُودِ الرَّيْحَانِ ، وَلَا الرُّمَّانِ ، فَإِنَّهُمَا يُحَرِّكَانِ عِرْقَ الْجُذَامِ } .
رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْأَزْدِيُّ الْحَافِظُ بِإِسْنَادِهِ ، وَقِيلَ : السِّوَاكُ بِعُودِ الرَّيْحَانِ يَضُرُّ بِلَحْمِ الْفَمِ .
وَإِنْ اسْتَاكَ بِأُصْبُعِهِ أَوْ خِرْقَةٍ ، فَقَدْ قِيلَ : لَا يُصِيبُ السُّنَّةَ ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِهِ ، وَلَا يَحْصُلُ الْإِنْقَاءُ بِهِ حُصُولَهُ بِالْعُودِ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُصِيبُ بِقَدْرِ مَا يَحْصُلُ مِنْ الْإِنْقَاءِ ، وَلَا يُتْرَكُ الْقَلِيلُ مِنْ السُّنَّةِ لِلْعَجْزِ عَنْ كَثِيرِهَا .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَدْ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي ، أَخْبَرَنَا رِزْقُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ التَّمِيمِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ بَشْرَانَ ، أَخْبَرَنَا ابْنُ الْبَخْتَرِيِّ ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ صَالِحٍ ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ خِدَاشٍ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى ، حَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِي ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، { أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ ، قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنَّكَ رَغَّبْتَنَا فِي السِّوَاكِ ، فَهَلْ دُونَ ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ ؟ قَالَ : أُصْبُعَيْك ، سِوَاكٌ عِنْدَ وُضُوئِك ، أَمِرَّهُمَا عَلَى أَسْنَانِك ، إنَّهُ لَا عَمَلَ لِمَنْ لَا نِيَّةَ لَهُ ، وَلَا أَجْرَ لِمَنْ لَا حَسَنَةَ لَهُ .
}

( 119 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : إلَّا أَنْ يَكُونَ صَائِمًا ، فَيُمْسِكَ مِنْ وَقْتِ صَلَاةِ الظُّهْرِ إلَى أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ .
قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ لَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ لِلصَّائِمِ السِّوَاكُ بَعْدَ الزَّوَالِ ، وَهَلْ يُكْرَهُ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا يُكْرَهُ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ، وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : يَسْتَاكُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الظُّهْرِ ، وَلَا يَسْتَاكُ بَعْدَ ذَلِكَ .
وَلِأَنَّ السِّوَاكَ إنَّمَا اُسْتُحِبَّ لِإِزَالَةِ رَائِحَةِ الْفَمِ ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ } .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ .
وَإِزَالَةُ الْمُسْتَطَابِ مَكْرُوهٌ ، كَدَمِ الشُّهَدَاءِ وَشَعَثِ الْإِحْرَامِ .
وَالثَّانِيَةُ لَا يُكْرَهُ ، وَرَخَّصَ فِيهِ غَدْوَةً وَعَشِيًّا النَّخَعِيُّ وَابْنُ سِيرِينَ وَعُرْوَةُ وَمَالِكٌ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَعَائِشَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، لِعُمُومِ الْأَحَادِيثِ الْمَرْوِيَّةِ فِي السِّوَاكِ ، وَقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مِنْ خَيْرِ خِصَالِ الصَّائِمِ السِّوَاكُ } .
رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
وَقَالَ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ : { رَأَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَا أُحْصِي يَتَسَوَّكُ وَهُوَ صَائِمٌ .
} قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ .

( 120 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَغَسْلُ الْيَدَيْنِ إذَا قَامَ مِنْ نَوْمِ اللَّيْلِ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهُمَا الْإِنَاءَ ثَلَاثًا .
غَسْلُ الْيَدَيْنِ فِي أَوَّلِ الْوُضُوءِ مَسْنُونٌ فِي الْجُمْلَةِ ، سَوَاءٌ قَامَ مِنْ النَّوْمِ أَوْ لَمْ يَقُمْ ؛ لِأَنَّهَا الَّتِي تَغْمِسُ فِي الْإِنَاءِ وَتَنْقُلُ الْوُضُوءَ إلَى الْأَعْضَاءِ ، فَفِي غَسْلِهِمَا إحْرَازٌ لِجَمِيعِ الْوُضُوءِ ، { وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهُ ، فَإِنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَصَفَ وُضُوءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : دَعَا بِالْمَاءِ فَأَفْرَغَ عَلَى كَفَّيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، فَغَسَلَهُمَا ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ .
} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَكَذَلِكَ وَصَفَ عَلِيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ ، وَغَيْرُهُمَا ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِوَاجِبٍ عِنْدَ غَيْرِ الْقِيَامِ مِنْ النَّوْمِ ، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ ، فَأَمَّا عِنْدَ الْقِيَامِ مِنْ نَوْمِ اللَّيْلِ ، فَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي وُجُوبِهِ ؛ فَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ وُجُوبُهُ ، وَهُوَ الظَّاهِرُ عَنْهُ ، وَاخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلْيَغْسِلْ يَدَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهُمَا الْإِنَاءَ ثَلَاثًا ؛ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ : " فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي وَضُوءٍ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا " .
وَأَمْرُهُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ ، وَنَهْيُهُ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ .
وَرُوِيَ أَنَّ ذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ .
وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَمَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { : إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } .
الْآيَةَ .
قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ فِي تَفْسِيرِهَا : إذَا قُمْتُمْ مِنْ نَوْمٍ .
وَلِأَنَّ الْقِيَامَ مِنْ النَّوْمِ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ الْآيَةِ ، وَقَدْ أَمَرَهُ

بِالْوُضُوءِ مِنْ غَيْرِ غَسْلِ الْكَفَّيْنِ فِي أَوَّلِهِ ، وَالْأَمْرُ بِالشَّيْءِ يَقْتَضِي حُصُولَ الْإِجْزَاءِ بِهِ ؛ وَلِأَنَّهُ قَائِمٌ مِنْ نَوْمٍ ، فَأَشْبَهَ الْقَائِمَ مِنْ نَوْمِ النَّهَارِ ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ ، لَتَعْلِيلِهِ بِمَا يَقْتَضِي ذَلِكَ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : { فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ } وَطَرَيَانُ الشَّكِّ عَلَى يَقِينِ الطَّهَارَةِ لَا يُؤَثِّرُ فِيهَا ، كَمَا لَوْ تَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ وَشَكَّ فِي الْحَدَثِ ، فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ النَّدْبَ .
( 121 ) فَصْلٌ : وَلَا تَخْتَلِفُ الرِّوَايَةُ فِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ غَسْلُهُمَا مِنْ نَوْمِ النَّهَارِ ، وَسَوَّى الْحَسَنُ بَيْنَ نُومِ اللَّيْلِ وَنَوْمِ النَّهَارِ فِي الْوُجُوبِ ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ : ( إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ ) .
وَلَنَا أَنَّ فِي الْخَبَرِ مَا يَدُلُّ عَلَى إرَادَةِ نَوْمِ اللَّيْلِ ؛ لِقَوْلِهِ : ( فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدِهِ ) ، وَالْمَبِيتُ يَكُون بِاللَّيْلِ خَاصَّةً ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ غَيْرِهِ عَلَيْهِ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ الْحُكْمَ ثَبَتَ تَعَبُّدًا ، فَلَا يَصِحُّ تَعْدِيَتُهُ .
الثَّانِي أَنَّ اللَّيْلَ مَظِنَّةُ النَّوْمِ وَالِاسْتِغْرَاقِ فِيهِ وَطُولِ مُدَّتِهِ ، فَاحْتِمَالُ إصَابَةِ يَدِهِ لِنَجَاسَةٍ لَا يَشْعُرُ بِهَا أَكْثَرُ مِنْ احْتِمَالِ ذَلِكَ فِي نَوْمِ النَّهَارِ .
قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ : الْحَدِيثُ فِي الْمَبِيتِ بِاللَّيْلِ ، فَأَمَّا النَّهَارُ فَلَا بَأْسَ بِهِ .

( 122 ) فَصْلٌ : فَإِنْ غَمَسَ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ قَبْلَ غَسْلِهَا ، فَعَلَى قَوْلِ مَنْ لَمْ يُوجِبْ غَسْلَهَا ، لَا يُؤَثِّرُ غَمْسُهَا شَيْئًا ، وَمَنْ أَوْجَبَهُ قَالَ : إنْ كَانَ الْمَاءُ كَثِيرًا يَدْفَعُ النَّجَاسَةَ عَنْ نَفْسِهِ ، لَمْ يُؤَثِّرْ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ يَدْفَعُ الْخُبْثَ عَنْ نَفْسِهِ ، وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا ، فَقَالَ أَحْمَدُ : أَعْجَبُ إلَيَّ أَنْ يُهْرِيقَ الْمَاءَ ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ تَجِبَ إرَاقَتُهُ ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ غَمْسِ الْيَدِ فِيهِ يَدُلُّ عَلَى تَأْثِيرِهِ فِيهِ ، وَقَدْ رَوَى أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ بْنُ الْمُسْلِمِ الْعُكْبَرِيُّ فِي الْخَبَرِ زِيَادَةً عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { فَإِنْ أَدْخَلَهَا قَبْلَ الْغَسْلِ أَرَاقَ الْمَاءَ } .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَزُولَ طُهُورِيَّتُهُ وَلَا تَجِبَ إرَاقَتُهُ ؛ لِأَنَّ طُهُورِيَّةَ الْمَاءِ كَانَتْ ثَابِتَةً بِيَقِينٍ ، وَالْغَمْسُ الْمُحَرَّمُ لَا يَقْتَضِي إبْطَالَ طُهُورِيَّةَ الْمَاءِ ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ لِوَهْمِ النَّجَاسَةِ ، فَالْوَهْمُ لَا يَزُولُ بِهِ يَقِينُ الطُّهُورِيَّةِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُزِلْ يَقِينَ الطَّهَارَةِ ، فَكَذَلِكَ لَا يُزِيلُ الطُّهُورِيَّةَ ، فَإِنَّنَا لَمْ نَحْكُمْ بِنَجَاسَةِ الْيَدِ وَلَا الْمَاءِ ؛ وَلِأَنَّ الْيَقِينَ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ فَبِالْوَهْمِ أَوْلَى ، وَإِنْ كَانَ تَعَبُّدًا فَنَقْتَصِرُ عَلَى مُقْتَضَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ ، وَهُوَ وُجُوبُ الْغَسْلِ وَتَحْرِيمُ الْغَمْسِ ، وَلَا يُعَدَّى إلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى رَفْعِ الْحَدَثِ ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِحَدَثٍ ؛ وَلِأَنَّ مِنْ شَرْطِ تَأْثِيرِ غَمْسِ الْمُحْدِثِ أَنْ يَنْوِيَ رَفْعَ الْحَدَثِ ، وَلَا فَرْقَ هَاهُنَا بَيْنَ أَنْ يَنْوِيَ أَوْ لَا يَنْوِيَ .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : إنْ غَمَسَ يَدَهُ فِي الْمَاءِ قَبْلَ غَسْلِهَا ، فَهَلْ تَبْطُلُ طُهُورِيَّتُهُ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ .

( 123 ) فَصْلٌ : وَحَدُّ الْيَدِ الْمَأْمُورِ بِغَسْلِهَا مِنْ الْكُوعِ ؛ لِأَنَّ الْيَدَ الْمُطْلَقَةَ فِي الشَّرْعِ تَتَنَاوَلُ ذَلِكَ ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ، } وَإِنَّمَا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ مِنْ مَفْصِلِ الْكُوعِ ، وَكَذَلِكَ فِي التَّيَمُّمُ يَكُونُ فِي الْيَدَيْنِ إلَى الْكُوعِ ، وَالدِّيَةُ الْوَاجِبَةُ فِي الْيَدِ تَجِبُ عَلَى مَنْ قَطَعَهَا مِنْ مَفْصِلِ الْكُوعِ .
وَغَمْسُ بَعْضِهَا ، وَلَوْ أُصْبُعٍ أَوْ ظُفْرٍ مِنْهَا ، كَغَمْسِ جَمِيعِهَا فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ؛ لِأَنَّ مَا تَعَلَّقَ الْمَنْعُ بِجَمِيعِهِ تَعَلَّقَ بِبَعْضِهِ ، كَالْحَدَثِ وَالنَّجَاسَةِ .
وَالثَّانِي لَا يَمْنَعُ ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ لِأَنَّ النَّهْيَ تَنَاوَلَ غَمْسَ جَمِيعِهَا ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الشَّيْءِ مَانِعًا كَوْنُ بَعْضِهِ مَانِعًا ، كَمَا لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الشَّيْءِ سَبَبًا كَوْنُ بَعْضِهِ سَبَبًا ، وَغَمْسُهَا بَعْدَ غَسْلِهَا دُونَ الثَّلَاثِ كَغَمْسِهَا قَبْلَ غَسْلِهَا ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ لَا يَزُولُ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا .

( 124 ) فَصْلٌ : وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ يَدِ النَّائِمِ مُطْلَقَةً أَوْ مَشْدُودَةً بِشَيْءٍ ، أَوْ فِي جِرَابٍ ، أَوْ كَوْنِ النَّائِمِ عَلَيْهِ سَرَاوِيلُهُ أَوْ لَمْ يَكُنْ .
قَالَ أَبُو دَاوُد : سُئِلَ أَحْمَدُ إذَا نَامَ الرَّجُلُ وَعَلَيْهِ سَرَاوِيلُهُ ؟ قَالَ : السَّرَاوِيلُ وَغَيْرُهُ وَاحِدٌ ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا انْتَبَهَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فَلَا يُدْخِلْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا } .
يَعْنِي أَنَّ الْحَدِيثَ عَامٌّ ، فَيَجِبُ الْأَخْذُ بِعُمُومِهِ .
وَلِأَنَّ الْحُكْمَ إذَا تَعَلَّقَ عَلَى الْمَظِنَّةِ لَمْ يُعْتَبَرْ حَقِيقَةُ الْحِكْمَةِ ، كَالْعِدَّةِ الْوَاجِبَةِ لِاسْتِبْرَاءِ الرَّحِمِ ، تَجِبُ فِي حَقِّ الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ ، وَكَذَاك الِاسْتِبْرَاءُ ، مَعَ أَنَّ احْتِمَالَ النَّجَاسَةِ لَا يَنْحَصِرُ فِي مَسِّ الْفَرْجِ ، فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي الْبَدَنِ بَثْرَةٌ أَوْ دُمَّلٌ ، وَقَدْ يَحُكُّ جَسَدَهُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ دَمٌ بَيْنَ أَظْفَارِهِ ، أَوْ يَخْرُجُ مِنْ أَنْفِهِ دَمٌ ، وَقَدْ تَكُونُ نَجِسَةً قَبْلَ نَوْمِهِ فَيَنْسَى نَجَاسَتَهَا لِطُولِ نَوْمِهِ ، عَلَى أَنَّ الظَّاهِرَ عِنْدَ مَنْ أَوْجَبَ الْغَسْلَ أَنَّهُ تَعَبُّدٌ ؛ لَا لِعِلَّةِ التَّنْجِيسِ ، وَلِهَذَا لَمْ يَحْكُمْ بِنَجَاسَةِ الْيَدِ وَلَا الْمَاءِ ، فَيَعُمُّ الْوُجُوبُ كُلَّ مَنْ تَنَاوَلَهُ الْخَبَرُ .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71