الكتاب : المغني
المؤلف : أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد ، الشهير بابن قدامة المقدسي

( 5615 ) فَصْلٌ : إذَا زَوَّجَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ أَمَتَهُ ، فَقَالَ الْقَاضِي : لَا يَجِبُ مَهْرٌ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ لَوَجَبَ لِسَيِّدِهَا ، وَلَا يَجِبُ لِلسَّيِّدِ عَلَى عَبْدِهِ مَالٌ .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : يَجِبُ الْمُسَمَّى ، أَوْ مَهْرُ الْمِثْلِ إنْ لَمْ يَكُنْ مُسَمًّى ، كَيْ لَا يَخْلُوَ النِّكَاحُ عَنْ مَهْرٍ ، ثُمَّ يَسْقُطُ لِتَعَذُّرِ إثْبَاتِهِ .
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : إذَا زَوَّجَ عَبْدَهُ مِنْ أَمَتِهِ ، فَأُحِبُّ أَنْ يَكُونَ بِمَهْرٍ وَشُهُودٍ .
قِيلَ : فَإِنْ طَلَّقَهَا ؟ قَالَ : يَكُونُ الصَّدَاقُ عَلَيْهِ إذَا أُعْتِقَ قِيلَ : فَإِنْ زَوَّجَهَا مِنْهُ بِغَيْرِ مَهْرٍ ؟ قَالَ : قَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ ، فَذَهَبَ جَابِرٌ إلَى أَنَّهُ جَائِزٌ .

مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَإِذَا خَلَا بِهَا بَعْدَ الْعَقْدِ ، فَقَالَ : لَمْ أَطَأْهَا وَصَدَّقَتْهُ ، لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى قَوْلِهِمَا ، وَكَانَ حُكْمُهُمَا حُكْمَ الدُّخُولِ ، فِي جَمِيعِ أُمُورِهِمَا ، إلَّا فِي الرُّجُوعِ إلَى زَوْجٍ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ، أَوْ فِي الزِّنَى ، فَإِنَّهُمَا يُجْلَدَانِ ، وَلَا يُرْجَمَانِ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا خَلَا بِامْرَأَتِهِ بَعْدَ الْعَقْدِ الصَّحِيحِ اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ مَهْرُهَا وَوَجَبَتْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ ، وَإِنْ لَمْ يَطَأْ .
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَزَيْدٍ ، وَابْنِ عُمَرَ .
وَبِهِ قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ وَعُرْوَةُ ، وَعَطَاءٌ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَهُوَ قَدِيمُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ شُرَيْحٌ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَطَاوُسٌ ، وَابْنُ سِيرِينَ ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ : لَا يَسْتَقِرُّ إلَّا بِالْوَطْءِ .
وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ .
وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ أَحْمَدَ وَرَوَى عَنْهُ يَعْقُوبُ بْنِ بُخْتَانَ ، أَنَّهُ قَالَ : إذَا صَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ ، أَنَّهُ لَمْ يَطَأْهَا ، لَمْ يُكْمِلْ لَهَا الصَّدَاقَ ، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ .
وَذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } وَهَذِهِ قَدْ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا .
وَقَالَ تَعَالَى : { وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إلَى بَعْضٍ } وَالْإِفْضَاءُ : الْجِمَاعُ .
وَلِأَنَّهَا مُطَلَّقَةٌ لَمْ تُمَسَّ ، أَشْبَهَتْ مَنْ لَمْ يَخْلُ بِهَا .
وَلَنَا : إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، وَالْأَثْرَمُ ، بِإِسْنَادِهِمَا ، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى ، قَالَ : قَضَى الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ الْمَهْدِيُّونَ ، أَنَّ مَنْ أَغْلَقَ بَابًا ، أَوْ أَرْخَى سِتْرًا ، فَقَدْ وَجَبَ الْمَهْرُ ، وَوَجَبَتْ الْعِدَّةُ .
وَرَوَاهُ الْأَثْرَمُ أَيْضًا ، عَنْ الْأَحْنَفِ ، عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ .
وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ :

عَلَيْهَا الْعِدَّةُ ، وَلَهَا الصَّدَاقُ كَامِلًا .
وَهَذِهِ قَضَايَا تَشْتَهِرُ ، وَلَمْ يُخَالِفْهُمْ أَحَدٌ فِي عَصْرِهِمْ ، فَكَانَ إجْمَاعًا .
وَمَا رَوَوْهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، لَا يَصِحُّ ، قَالَ أَحْمَدُ : يَرْوِيهِ لَيْثٌ ، وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ ، وَقَدْ رَوَاهُ حَنْظَلَةُ خِلَافَ مَا رَوَاهُ لَيْثٌ ، وَحَنْظَلَةُ أَقْوَى مِنْ لَيْثٍ .
وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ مُنْقَطِعٌ .
قَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَلِأَنَّ التَّسْلِيمَ الْمُسْتَحَقَّ وُجِدَ مِنْ جِهَتِهَا ، فَيَسْتَقِرُّ بِهِ الْبَدَلُ ، كَمَا لَوْ وَطِئَهَا ، أَوْ كَمَا لَوْ أَجَّرَتْ دَارَهَا ، أَوْ بَاعَتْهَا وَسَلَّمَتْهَا .
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى : { مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ } فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَنَّى بِالْمُسَبَّبِ عَنْ السَّبَبِ ، الَّذِي هُوَ الْخَلْوَةُ ، بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَاهُ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : { وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إلَى بَعْضٍ } فَقَدْ حُكِيَ عَنْ الْفَرَّاءِ ، أَنَّهُ قَالَ : الْإِفْضَاءُ الْخَلْوَةُ ، دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ .
وَهَذَا صَحِيحٌ ؛ فَإِنَّ الْإِفْضَاءَ مَأْخُوذٌ مِنْ الْفَضَاءِ ، وَهُوَ الْخَالِي ، فَكَأَنَّهُ قَالَ : وَقَدْ خَلَا بَعْضُكُمْ إلَى بَعْضٍ .
وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ : حُكْمُهَا حُكْمُ الدُّخُولِ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِمَا .
يَعْنِي فِي حُكْمِ مَا لَوْ وَطِئَهَا ، مِنْ تَكْمِيلِ الْمَهْرِ ، وَوُجُوبِ الْعِدَّةِ ، وَتَحْرِيمِ أُخْتِهَا وَأَرْبَعٍ سِوَاهَا إذَا طَلَّقَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا ، وَثُبُوتِ الرَّجْعَةِ لَهُ عَلَيْهَا فِي عِدَّتِهَا .
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ : لَا رَجْعَةَ لَهُ عَلَيْهَا ، إذَا أَقَرَّ أَنَّهُ لَمْ يُصِبْهَا .
وَلَنَا : قَوْله تَعَالَى : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ } وَلِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ مِنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ ، لَمْ يَنْفَسِخْ نِكَاحُهَا ، وَلَا كَمَلَ عَدَدُ طَلَاقِهَا ، وَلَا طَلَّقَهَا بِعِوَضٍ فَكَانَ لَهُ عَلَيْهَا الرَّجْعَةُ ، كَمَا لَوْ أَصَابَهَا .
وَلَهَا عَلَيْهِ نَفَقَةُ الْعِدَّةِ وَالسُّكْنَى ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لِمَنْ لِزَوْجِهَا عَلَيْهَا الرَّجْعَةُ .
وَلَا تَثْبُتُ بِهَا الْإِبَاحَةُ لِلزَّوْجِ الْمُطَلِّقِ ثَلَاثًا ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِامْرَأَةِ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ : { أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إلَى رِفَاعَةَ ؟ ، لَا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَك .
} وَلَا الْإِحْصَانُ لِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ لِإِيجَابِ الْحَدِّ ، وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ ، وَلَا الْغُسْلُ لِأَنَّ مُوجِبَاتِ الْغُسْلِ خَمْسَةٌ وَلَيْسَ هَذَا مِنْهَا .
وَلَا يَخْرُجُ بِهِ مِنْ الْعُنَّةِ ؛ لِأَنَّ الْعُنَّةَ الْعَجْزُ عَنْ الْوَطْءِ فَلَا يَزُولُ إلَّا بِحَقِيقَةِ الْوَطْءِ .
وَلَا تَحْصُلُ بِهِ الْفَيْئَةُ ، لِأَنَّهَا الرُّجُوعُ عَمَّا حَلَفَ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا حَلَفَ عَلَى تَرْكِ الْوَطْءِ ، وَلِأَنَّ حَقَّ الْمَرْأَةِ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِنَفْسِ الْوَطْءِ .
وَلَا تَفْسُدُ بِهِ الْعِبَادَاتُ .
وَلَا تَجِبُ بِهِ الْكَفَّارَةُ .
وَأَمَّا تَحْرِيمُ الرَّبِيبَةِ ، فَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَحْصُلُ بِالْخَلْوَةِ .
وَقَالَ الْقَاضِي ، وَابْنُ عَقِيلٍ : لَا تُحَرَّمُ .
وَحَمَلَ الْقَاضِي كَلَامَ أَحْمَدَ عَلَى أَنَّهُ حَصَلَ مَعَ الْخَلْوَةِ نَظَرٌ أَوْ مُبَاشَرَةٌ ، فَيُخَرَّجُ كَلَامُهُ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي أَنَّ ذَلِكَ يُحَرِّمُ وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا لَا تُحَرَّمُ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } وَالدُّخُولُ كِنَايَةٌ عَنْ الْوَطْءِ ، وَالنَّصُّ صَرِيحٌ فِي إبَاحَتِهَا بِدُونِهِ ، فَلَا يَجُوزُ خِلَافُهُ .

( 5617 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَسَوَاءٌ خَلَا بِهَا وَهُمَا مُحْرِمَانِ ، أَوْ صَائِمَانِ ، أَوْ حَائِضٌ ، أَوْ سَالِمَانِ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ) اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِيمَا إذَا خَلَا بِهَا ، وَبِهِمَا أَوْ بِأَحَدِهِمَا مَانِعٌ مِنْ الْوَطْءِ ، كَالْإِحْرَامِ وَالصِّيَامِ وَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ ، أَوْ مَانِعٌ حَقِيقِيٌّ ، كَالْجَبِّ وَالْعُنَّةِ ، أَوْ الرَّتْقِ فِي الْمَرْأَةِ ، فَعَنْهُ أَنَّ الصَّدَاقَ يَسْتَقِرُّ بِكُلِّ حَالٍ .
وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى ، وَالثَّوْرِيُّ لِعُمُومِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْإِجْمَاعِ .
وَقَالَ عُمَرُ فِي الْعِنِّينِ : يُؤَجَّلُ سَنَةً ، فَإِنْ هُوَ غَشِيَهَا ، وَإِلَّا أَخَذَتْ الصَّدَاقَ كَامِلًا ، وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا ، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ .
وَلِأَنَّ التَّسْلِيمَ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهَا قَدْ وُجِدَ ، وَإِنَّمَا الْحَيْضُ وَالْإِحْرَامُ وَالرَّتْقُ مِنْ غَيْرِ جِهَتِهَا ، فَلَا يُؤَثِّرُ فِي الْمَهْرِ ، كَمَا لَا يُؤَثِّرُ فِي إسْقَاطِ النَّفَقَةِ .
وَرُوِيَ أَنَّهُ لَا يَكْمُلُ بِهِ الصَّدَاقُ ، وَهُوَ قَوْلُ شُرَيْحٍ ، وَأَبِي ثَوْرٍ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ تَسَلُّمِهَا ، فَلَمْ تَسْتَحِقَّ عَلَيْهِ مَهْرًا بِمَنْعِهَا ، كَمَا لَوْ مَنَعَتْ تَسْلِيمَ نَفْسِهَا إلَيْهِ يُحَقِّقُهُ أَنَّ الْمَنْعَ مِنْ التَّسْلِيمِ لَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِهِ مِنْ أَجْنَبِيٍّ أَوْ مِنْ الْعَاقِدِ كَالْإِجَارَةِ .
وَعَنْ أَحْمَدَ ، رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ : إنْ كَانَا صَائِمَيْنِ صَوْمَ رَمَضَانَ ، لَمْ يَكْمُلْ الصَّدَاقُ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ ، كَمَلَ .
قَالَ أَبُو دَاوُد سَمِعْت أَحْمَدَ وَسُئِلَ عَنْ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَى أَهْلِهِ ، وَهُمَا صَائِمَانِ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ فَأَغْلَقَ الْبَابَ ، وَأَرْخَى السِّتْرَ ؟ قَالَ : وَجَبَ الصَّدَاقُ .
قِيلَ لِأَحْمَدَ فَشَهْرُ رَمَضَانَ ؟ قَالَ : شَهْرُ رَمَضَانَ خِلَافٌ لِهَذَا .
قِيلَ لَهُ : فَكَانَ مُسَافِرًا فِي رَمَضَانَ .
قَالَ : هَذَا مُفْطِرٌ يَعْنِي وَجَبَ الصَّدَاقُ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَتَى كَانَ الْمَانِعُ مُتَأَكِّدًا ، كَالْإِحْرَامِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ ، لَمْ يَكْمُلْ الصَّدَاقُ .
وَقَالَ الْقَاضِي : إنْ كَانَ

الْمَانِعُ لَا يَمْنَعُ دَوَاعِيَ الْوَطْءِ ، كَالْجَبِّ ، وَالْعُنَّةِ ، وَالرَّتْقِ ، وَالْمَرَضِ ، وَالْحَيْضِ ، وَالنِّفَاسِ ، وَجَبَ الصَّدَاقُ ، وَإِنْ كَانَ يَمْنَعُ دَوَاعِيَهُ ، كَالْإِحْرَامِ ، وَصِيَامِ الْفَرْضِ ، فَعَلَى رِوَايَتَيْنِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنْ كَانَ الْمَانِعُ مِنْ جِهَتِهَا ، لَمْ يَسْتَقِرَّ الصَّدَاقُ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جِهَتِهِ ؛ صِيَامُ فَرْضٍ أَوْ إحْرَامٌ ، لَمْ يَسْتَقِرَّ الصَّدَاقُ ، وَإِنْ كَانَ جَبًّا أَوْ عُنَّةً ، كَمَلَ الصَّدَاقُ ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ جِهَتِهِ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ وُجُودَ التَّسْلِيمِ الْمُسْتَحَقِّ مِنْهَا ، فَكَمَلَ حَقُّهَا ، كَمَا يَلْزَمُ الصَّغِيرَ نَفَقَةُ امْرَأَتِهِ إذَا سَلَّمَتْ نَفْسَهَا إلَيْهِ .

( 5618 ) فَصْلٌ : وَإِنْ خَلَا بِهَا ، وَهِيَ صَغِيرَةٌ لَا يُمْكِنُ وَطْؤُهَا ، أَوْ كَانَتْ كَبِيرَةً فَمَنَعَتْهُ نَفْسَهَا ، أَوْ كَانَ أَعْمَى فَلَمْ يَعْلَمْ بِدُخُولِهَا عَلَيْهِ ، لَمْ يَكْمُلْ صَدَاقُهَا .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، فِي الْمَكْفُوفِ يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ ، فَأُدْخِلَتْ عَلَيْهِ ، فَأُرْخِيَ السِّتْرُ وَأُغْلِقَ الْبَابُ ، فَإِنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ بِدُخُولِهَا عَلَيْهِ ، فَلَهَا نِصْفُ الصَّدَاقِ ، وَأَوْمَأَ إلَى أَنَّهَا إذَا نَشَزَتْ عَلَيْهِ ، أَوْ مَنَعَتْهُ نَفْسَهَا ، لَا يَكْمُلُ صَدَاقُهَا .
وَذَكَرَهُ ابْنُ حَامِدٍ .
وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ التَّمَكُّنُ مِنْ جِهَتِهَا ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَخْلُ بِهَا .
وَكَذَلِكَ إنْ خَلَا بِهَا ، وَهُوَ طِفْلٌ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْوَطْءِ ، لَمْ يَكْمُلْ الصَّدَاقُ ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الصَّغِيرَةِ فِي عَدَمِ التَّمَكُّنِ مِنْ الْوَطْءِ .

( 5619 ) فَصْلٌ : وَالْخَلْوَةُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ لَا يَجِبُ بِهَا شَيْءٌ مِنْ الْمَهْرِ ؛ لِأَنَّ الصَّدَاقَ لَمْ يَجِبْ بِالْعَقْدِ وَإِنَّمَا يُوجِبُهُ الْوَطْءُ ، وَلَمْ يُوجَدْ ، وَلِذَلِكَ لَا يَتَنَصَّفُ بِالطَّلَاقِ قَبْلِ الدُّخُولِ ، فَأَشْبَهَ ذَلِكَ الْخَلْوَةَ بِالْأَجْنَبِيَّةِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخَلْوَةَ فِيهِ كَالْخَلْوَةِ فِي الصَّحِيحِ ؛ لِأَنَّ الِابْتِدَاءَ بِالْخَلْوَةِ فِيهِ كَالِابْتِدَاءِ بِذَلِكَ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ فَيَتَقَرَّرُ بِهِ الْمَهْرُ كَالصَّحِيحِ ، وَالْأُولَى أَوْلَى .

( 5620 ) فَصْلٌ : فَإِنْ اسْتَمْتَعَ بِامْرَأَتِهِ بِمُبَاشَرَةِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ ، مِنْ غَيْرِ خَلْوَةٍ ، كَالْقُبْلَةِ وَنَحْوهَا ، فَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهُ يَكْمُلُ بِهِ الصَّدَاقُ ؛ فَإِنَّهُ قَالَ : إذَا أَخَذَهَا فَمَسَّهَا ، وَقَبَضَ عَلَيْهَا ، مِنْ غَيْر أَنْ يَخْلُوَ بِهَا ، لَهَا الصَّدَاقُ كَامِلًا إذَا نَالَ مِنْهَا شَيْئًا لَا يَحِلُّ لِغَيْرِهِ وَقَالَ فِي رِوَايَةٍ مُهَنَّا : إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَنَظَرَ إلَيْهَا وَهِيَ عُرْيَانَةُ تَغْتَسِلُ ، أُوجِبُ عَلَيْهِ الْمَهْرُ .
وَرَوَاهُ عَنْ إبْرَاهِيمَ : إذَا اطَّلَعَ مِنْهَا عَلَى مَا يَحْرُمُ عَلَى غَيْرِهِ ، فَعَلَيْهِ الْمَهْرُ ؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ اسْتِمْتَاعٍ ، فَهُوَ كَالْقُبْلَةِ .
قَالَ الْقَاضِي : يَحْتَمِلُ أَنَّ هَذَا يَنْبَنِي عَلَى ثُبُوتِ تَحْرِيمِ الْمُصَاهَرَةِ بِذَلِكَ ، وَفِيهِ رِوَايَتَانِ ، فَيَكُونُ فِي تَكْمِيلِ الصَّدَاقِ بِهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا يَكْمُلُ بِهِ الصَّدَاقُ ؛ لِمَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَوْبَانِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ كَشَفَ خِمَارَ امْرَأَةٍ ، وَنَظَرَ إلَيْهَا ، وَجَبَ الصَّدَاقُ ، دَخَلَ بِهَا ، أَوْ لَمْ يَدْخُلْ .
} وَلِأَنَّهُ مَسِيسٌ ، فَيَدْخُلُ فِي قَوْله تَعَالَى : { مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ } .
وَلِأَنَّهُ اسْتِمْتَاعٌ بِامْرَأَتِهِ فَكَمَلَ بِهِ الصَّدَاقُ ، كَالْوَطْءِ .
وَالْوَجْهُ الْآخِرُ : لَا يَكْمُلُ بِهِ الصَّدَاقُ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى : { تَمَسُّوهُنَّ } إنَّمَا أُرِيدَ بِهِ فِي الظَّاهِرِ الْجِمَاعُ ، وَمُقْتَضَى قَوْلِهِ : { وَإِنَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ } أَنْ لَا يَكْمُلَ الصَّدَاقُ لِغَيْرِ مَنْ وَطِئَهَا ، وَلَا تَجِبُ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ ، تُرِكَ عُمُومُهُ فِي مَنْ خَلَا بِهَا ، لِلْإِجْمَاعِ الْوَارِدِ عَنْ الصَّحَابَةِ ، فَيَبْقَى فِيمَا عَدَاهُ عَلَى مُقْتَضَى الْعُمُومِ .

فَصْلٌ : إذَا دَفَعَ زَوْجَتَهُ ، فَأَذْهَبَ عُذْرَتَهَا ، ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا نِصْفُ صَدَاقِهَا ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٌ : عَلَيْهِ الصَّدَاقُ كَامِلًا ؛ لِأَنَّهُ أَذْهَبَ عُذْرَتَهَا فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ ، فَكَانَ عَلَيْهِ الْمَهْرُ كَامِلًا ، كَمَا لَوْ وَطِئَهَا .
وَلَنَا ، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } وَهَذِهِ مُطَلَّقَةٌ قَبْلَ الْمَسِيسِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَدْفَعْهَا ، وَلِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَا يَسْتَحِقُّ إتْلَافَهُ بِالْعَقْدِ ، فَلَمْ يَضْمَنْهُ لِغَيْرِهِ ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَ عُذْرَةَ أَمَتِهِ .
وَيَتَخَرَّجُ أَنْ يَجِبَ لَهَا الصَّدَاقُ كَامِلًا ؛ لِأَنَّ أَحْمَدَ قَالَ : إنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَجْنَبِيٌّ ، عَلَيْهِ الصَّدَاقُ .
فَفِيمَا إذَا فَعَلَهُ الزَّوْجُ أَوْلَى ، فَإِنَّ مَا يَجِبُ بِهِ الصَّدَاقُ ابْتِدَاءً أَحَقُّ بِتَقْرِيرِ الْمَهْرِ .
وَنَصَّ أَحْمَدُ فِي مَنْ أَخَذَ امْرَأَتَهُ ، وَقَبَضَ عَلَيْهَا ، وَفِي مَنْ نَظَرَ إلَيْهَا وَهِيَ عُرْيَانَةٌ : عَلَيْهِ الصَّدَاقُ كَامِلًا .
فَهَذَا أَوْلَى .

( 5622 ) فَصْلٌ : وَإِنْ دَفَعَ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً ، فَأَذْهَبَ عُذْرَتَهَا ، أَوْ فَعَلَ ذَلِكَ بِأُصْبُعِهِ أَوْ غَيْرِهَا ، فَقَالَ أَحْمَدُ : لَهَا صَدَاقُ نِسَائِهَا .
وَقَالَ : إنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَذْرَاءَ ، فَدَفَعَهَا هُوَ وَأَخُوهُ ، فَأَذْهَبَا عُذْرَتَهَا ، ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ ، فَعَلَى الزَّوْجِ نِصْفُ الصَّدَاقِ ، وَعَلَى الْأَخِ نِصْفُ الْعَقْرِ .
وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ ، وَابْنِهِ الْحَسَنِ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ ، وَعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا أَرْشُ بَكَارَتِهَا ؛ لِأَنَّهُ إتْلَافُ جُزْءٍ لَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِتَقْدِيرِ عِوَضِهِ ، فَرُجِعَ فِي دِيَتِهِ إلَى الْحُكُومَةِ ، كَسَائِرِ مَا لَمْ يُقَدَّرْ ، وَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكْمُلْ بِهِ الصَّدَاقُ فِي حَقِّ الزَّوْجِ ، فَفِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ أَوْلَى .
وَلَنَا ، مَا رَوَى سَعِيدٌ قَالَ : حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ ، حَدَّثَنَا مُغِيرَةُ ، عَنْ إبْرَاهِيمَ ، أَنَّ رَجُلًا كَانَتْ عِنْدَهُ يَتِيمَةٌ ، فَخَافَتْ امْرَأَتُهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا ، فَاسْتَعَانَتْ بِنِسْوَةٍ فَضَبَطْنَهَا لَهَا ، فَأَفْسَدَتْ عُذْرَتَهَا ، وَقَالَتْ لِزَوْجِهَا : إنَّهَا فَجَرَتْ .
فَأَخْبَرَ عَلِيًّا ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِذَلِكَ ، فَأَرْسَلَ عَلِيٌّ إلَى امْرَأَتِهِ وَالنِّسْوَةِ ، فَلَمَّا أَتَيْنَهُ ، لَمْ يَلْبَثْنَ إنْ اعْتَرَفْنَ بِمَا صَنَعْنَ ، فَقَالَ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ : اقْضِ فِيهَا يَا حَسَنُ فَقَالَ : الْحَدُّ عَلَى مَنْ قَذَفَهَا ، وَالْعَقْرُ عَلَيْهَا وَعَلَى الْمُمْسِكَاتِ .
قَالَ عَلِيٌّ : لَوْ كُلِّفَتْ الْإِبِلُ طَحْنًا لَطَحَنَتْ .
وَمَا يَطْحَنُ يَوْمئِذٍ بَعِيرٌ .
وَقَالَ : حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ ، أَخْبَرَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ سَالِمٍ ، حَدَّثَنَا الشَّعْبِيُّ ، أَنَّ جَوَارِيَ أَرْبَعًا قَالَتْ إحْدَاهُنَّ : هِيَ رَجُلٌ ، وَقَالَتْ الْأُخْرَى ، هِيَ امْرَأَةٌ ، وَقَالَتْ الثَّالِثَةُ ، : هِيَ أَبُو الَّتِي زَعَمَتْ أَنَّهَا رَجُلٌ ، وَقَالَتْ الرَّابِعَةُ ، : هِيَ أَبُو الَّتِي زَعَمَتْ أَنَّهَا امْرَأَةٌ .
فَخَطَبَتْ الَّتِي زَعَمَتْ أَنَّهَا أَبُو الرَّجُلِ إلَى الَّتِي زَعَمَتْ أَنَّهَا أَبُو

الْمَرْأَةِ ، فَزَوَّجُوهَا إيَّاهَا فَعَمَدَتْ إلَيْهَا فَأَفْسَدَتْهَا بِأُصْبُعِهَا ، فَرُفِعَ ذَلِكَ إلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ ، فَجَعَلَ الصَّدَاقَ بَيْنَهُنَّ أَرْبَاعًا ، وَأَلْغَى حِصَّةَ الَّتِي أَمْكَنَتْ مِنْ نَفْسِهَا ، فَبَلَغَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَعْقِلٍ ، فَقَالَ : لَوْ وُلِّيت أَنَا ، لَجَعَلْت الصَّدَاقَ عَلَى الَّتِي أَفْسَدَتْ الْجَارِيَةَ وَحْدَهَا .
وَهَذِهِ قَصَصٌ تَنْتَشِرُ فَلَمْ تُنْكَرْ ، فَكَانَتْ إجْمَاعًا ، وَلِأَنَّ إتْلَافَ الْعُذْرَةِ مُسْتَحَقُّ بِعَقْدِ النِّكَاحِ ، فَإِذَا أَتْلَفَهُ أَجْنَبِيٌّ ، وَجَبَ الْمَهْرُ ، كَمَنْفَعَةِ الْبُضْعِ .

مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَالزَّوْجُ هُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ، فَإِذَا طَلَّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ ، فَأَيُّهُمَا عَفَا لِصَاحِبِهِ عَمَّا وَجَبَ لَهُ مِنْ الْمَهْرِ ، وَهُوَ جَائِزُ الْأَمْرِ فِي مَالِهِ ، بَرِئَ مِنْهُ صَاحِبُهُ ) اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ، فَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، أَنَّهُ الزَّوْجُ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَجُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَشُرَيْحٌ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَنَافِعُ بْنُ جُبَيْرٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَإِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ ، وَابْن سِيرِينَ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْي ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ .
وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ الْوَلِيُّ إذَا كَانَ أَبَا الصَّغِيرَةِ .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ الْقَدِيمُ ، إذَا كَانَ أَبًا أَوْ جَدًّا .
وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَعَلْقَمَةَ ، وَالْحَسَنِ ، وَطَاوُسٍ ، وَالزُّهْرِيِّ ، وَرَبِيعَةَ ، وَمَالِكٍ أَنَّهُ الْوَلِيُّ ؛ لِأَنَّ الْوَلِيَّ بَعْدَ الطَّلَاقِ هُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ، لِكَوْنِهَا قَدْ خَرَجَتْ عَنْ يَدِ الزَّوْجِ ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ عَفْوَ النِّسَاءِ عَنْ نَصِيبِهِنَّ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَفْوُ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ عَنْهُ ، لِيَكُونَ الْمَعْفُوُّ عَنْهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَاحِدًا ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَدَأَ بِخِطَابِ الْأَزْوَاجِ عَلَى الْمُوَاجَهَةِ ، بِقَوْلِهِ : { وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ } ثُمَّ قَالَ : { أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ } وَهَذَا خِطَابُ غَيْرِ حَاضِرٍ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ عَنْ { النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : وَلِيُّ الْعُقْدَةِ الزَّوْجُ .
} وَلِأَنَّ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ بَعْدَ الْعَقْدِ هُوَ الزَّوْجُ ، فَإِنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ قَطْعِهِ

وَفَسْخِهِ وَإِمْسَاكِهِ ، وَلَيْسَ إلَى الْوَلِيِّ مِنْهُ شَيْءٌ ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } وَالْعَفْوُ الَّذِي هُوَ أَقْرَبُ إلَى التَّقْوَى هُوَ عَفْوُ الزَّوْجِ عَنْ حَقِّهِ ، أَمَّا عَفْوُ الْوَلِيِّ عَنْ مَالِ الْمَرْأَةِ ، فَلَيْسَ هُوَ أَقْرَبَ إلَى التَّقْوَى ، وَلِأَنَّ الْمَهْرَ مَالٌ لِلزَّوْجَةِ ، فَلَا يَمْلِكُ الْوَلِيُّ هِبَتَهُ وَإِسْقَاطَهُ ، كَغَيْرِهِ مِنْ أَمْوَالِهَا وَحُقُوقِهَا ، وَكَسَائِرِ الْأَوْلِيَاءِ ، وَلَا يَمْتَنِعُ الْعُدُولُ عَنْ خِطَابِ الْحَاضِرِ إلَى خِطَابِ الْغَائِبِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { حَتَّى إذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ } فَعَلَى هَذَا مَتَى طَلَّقَ الزَّوْجُ قَبْلَ الدُّخُولِ تَنَصَّفَ الْمَهْرُ بَيْنَهُمَا ، فَإِنْ عَفَا الزَّوْجُ لَهَا عَنْ النِّصْفِ الَّذِي لَهُ ، كَمَلَ لَهَا الصَّدَاقُ جَمِيعُهُ ، وَإِنْ عَفَتْ الْمَرْأَةُ عَنْ النِّصْفِ الَّذِي لَهَا مِنْهُ ، وَتَرَكَتْ لَهُ جَمِيعَ الصَّدَاقِ ، جَازَ ، إذَا كَانَ الْعَافِي مِنْهُمَا رَشِيدًا جَائِزًا تَصَرُّفُهُ فِي مَالِهِ ، وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا ، أَوْ سَفِيهًا ، لَمْ يَصِحَّ عَفْوُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي مَالِهِ بِهِبَةٍ وَلَا إسْقَاطٍ .
وَلَا يَصِحُّ عَفْوُ الْوَلِيِّ عَنْ صَدَاق الزَّوْجَةِ ، أَبًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ صَغِيرَةً كَانَتْ أَوْ كَبِيرَةً .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ .
وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ مَنْصُورٍ : إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ بِكْرٌ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا ، فَعَفَا أَبُوهَا أَوْ زَوْجُهَا ، مَا أَرَى عَفْوَ الْأَبِ إلَّا جَائِزًا .
قَالَ أَبُو حَفْصٍ : مَا أَرَى مَا نَقَلَهُ ابْنُ مَنْصُورٍ إلَّا قَوْلًا لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ قَدِيمًا .
وَظَاهِرُ قَوْلِ أَبِي حَفْصٍ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ رِوَايَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَأَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ بِجَوَازِ عَفْوِ الْأَبِ .
وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْأَبِ

إسْقَاطُ دُيُونِ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ ، وَلَا إعْتَاقُ عَبِيدِهِ ، وَلَا تَصَرُّفُهُ لَهُ إلَّا بِمَا فِيهِ مَصْلَحَتُهُ ، وَلَا حَظَّ لَهَا فِي هَذَا الْإِسْقَاطِ ، فَلَا يَصِحُّ .
وَإِنْ قُلْنَا بِرِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ ، لَمْ يَصِحَّ إلَّا بِخَمْسِ شَرَائِطَ ؛ : أَوَّلُهَا أَنْ يَكُونَ أَبًا ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي يَلِي مَالَهَا ، وَلَا يُتَّهَمُ عَلَيْهَا .
الثَّانِي ، أَنْ تَكُونَ صَغِيرَةً ، لِيَكُونَ وَلِيًّا عَلَى مَالِهَا ، فَإِنَّ الْكَبِيرَةَ تَلِي مَالَ نَفْسِهَا .
الثَّالِثُ ، أَنْ تَكُونَ بِكْرًا لِتَكُونَ غَيْرَ مُبْتَذَلَةٍ ، وَلِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ تَزْوِيجَ الثَّيِّبِ وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً ، فَلَا تَكُونُ وِلَايَتُهُ عَلَيْهَا تَامَّةً .
الرَّابِعُ ، أَنْ تَكُونَ مُطَلَّقَةً ؛ لِأَنَّهَا قَبْلَ الطَّلَاقِ مُعَرَّضَةٌ لِإِتْلَافِ الْبُضْعِ .
الْخَامِسُ ، أَنْ تَكُونَ قَبْلَ الدُّخُولِ ؛ لِأَنَّ مَا بَعْدَهُ قَدْ أَتْلَفَ الْبُضْعَ ، فَلَا يَعْفُو عَنْ بَدَلٍ مُتْلَفٍ .
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ عَلَى نَحْوٍ مِنْ هَذَا ، إلَّا أَنَّهُ يَجْعَلُ الْجَدَّ كَالْأَبِ .

( 5624 ) فَصْلٌ : وَلَوْ بَانَتْ امْرَأَةُ الصَّغِيرِ أَوْ السَّفِيهِ أَوْ الْمَجْنُونِ ، عَلَى وَجْهٍ يُسْقِطُ صَدَاقَهَا عَنْهُمْ ، مِثْلُ أَنْ تَفْعَلَ امْرَأَتُهُ مَا يَنْفَسِخُ بِهِ نِكَاحُهَا ؛ مِنْ رَضَاعِ مَنْ يَنْفَسِخُ نِكَاحُهَا بِرَضَاعِهِ ، أَوْ رِدَّةٍ ، أَوْ بِصِفَةٍ لَطَلَاقٍ مِنْ السَّفِيهِ ، أَوْ رَضَاعٍ مِنْ أَجْنَبِيَّةٍ لِمَنْ يَنْفَسِخُ نِكَاحُهَا بِرَضَاعِهِ ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ ، لَمْ يَكُنْ لَوَلِيِّهِمْ الْعَفْوُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ الصَّدَاقِ ، رِوَايَةً وَاحِدَةً .
وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ قَوْلًا وَاحِدًا .
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الصَّغِيرَةِ أَنَّ وَلِيَّهَا أَكْسَبَهَا الْمَهْرَ بِتَزْوِيجِهَا ، وَهَاهُنَا لَمْ يُكْسِبْهُ شَيْئًا ، إنَّمَا رَجَعَ الْمَهْرُ إلَيْهِ بِالْفُرْقَةِ .

( 5625 ) فَصْلٌ : وَإِذَا عَفَتْ الْمَرْأَةُ عَنْ صَدَاقِهَا الَّذِي لَهَا عَلَى زَوْجِهَا أَوْ عَنْ بَعْضِهِ أَوْ وَهَبَتْهُ لَهُ بَعْدَ قَبْضِهِ ، وَهِيَ جَائِزَةُ الْأَمْرِ فِي مَالِهَا جَازَ ذَلِكَ وَصَحَّ .
وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { إلَّا أَنْ يَعْفُونَ } يَعْنِي الزَّوْجَاتِ .
وَقَالَ تَعَالَى : { فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا } قَالَ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ : لَيْسَ شَيْءٌ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا } سَمَّاهُ غَيْرَ الْمَهْرِ تَهَبُهُ الْمَرْأَةُ لِلزَّوْجِ .
وَقَالَ عَلْقَمَةُ لِامْرَأَتِهِ : هَبِي لِي مِنْ الْهَنِيءِ الْمَرِيءِ .
يَعْنِي مِنْ صَدَاقِهَا .
وَهَلْ لَهَا الرُّجُوعُ فِيمَا وَهَبَتْ زَوْجَهَا ؟ فِيهِ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَاتٌ ، وَاخْتِلَافٌ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا مَضَى .

( 5626 ) فَصْلٌ : إذَا طَلُقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ ، وَتَنَصَّفَ الْمَهْرُ بَيْنَهُمَا ، لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ دَيْنًا أَوْ عَيْنًا ، فَإِنْ كَانَ دَيْنًا لَمْ يَخْلُ إمَّا أَنْ يَكُونَ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ لَمْ يُسَلِّمْهُ إلَيْهَا ، أَوْ فِي ذِمَّتِهَا ، بِأَنْ تَكُونَ قَدْ قَبَضَتْهُ ، وَتَصَرَّفَتْ فِيهِ أَوْ تَلِفَ فِي يَدِهَا ، وَأَيُّهُمَا كَانَ فَإِنَّ لِلَّذِي لَهُ الدَّيْنُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْ حَقِّهِ مِنْهُ ، بِأَنْ يَقُولَ : عَفَوْت عَنْ حَقِّي مِنْ الصَّدَاقِ ، أَوْ أَسْقَطْته ، أَوْ أَبْرَأْتُك مِنْهُ أَوْ مَلَّكْتُك إيَّاهُ ، أَوْ وَهَبْتُك ، أَوْ أَحْلَلْتُك مِنْهُ ، أَوْ أَنْتَ مِنْهُ فِي حِلٍّ ، أَوْ تَرَكْته لَك .
وَأَيُّ ذَلِكَ قَالَ : سَقَطَ بِهِ الْمَهْرُ ، وَبَرِئَ مِنْهُ الْآخَرُ ، وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْهُ ، لِأَنَّهُ إسْقَاطُ حَقٍّ فَلَمْ يَفْتَقِرْ إلَى قَبُولٍ ، كَإِسْقَاطِ الْقِصَاصِ وَالشُّفْعَةِ وَالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ ، وَلِذَلِكَ صَحَّ إبْرَاءُ الْمَيِّتِ مَعَ عَدَمِ الْقَبُولِ مِنْهُ ، وَلَوْ رَدَّ ذَلِكَ لَمْ يَرْتَدَّ ، وَبَرِئَ مِنْهُ ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ .
وَإِنْ أَحَبَّ الْعَفْوَ مِنْ الصَّدَاقِ فِي ذِمَّتِهِ ، لَمْ يَصِحَّ الْعَفْوُ ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ فَقَدْ سَقَطَ عَنْهُ بِالطَّلَاقِ وَإِنْ كَانَ فِي ذِمَّةِ الزَّوْجَةِ ، فَلَا يَثْبُتُ فِي ذِمَّتِهَا إلَّا النِّصْفُ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ الزَّوْجُ ، وَأَمَّا النِّصْفُ الَّذِي لَهَا ، فَهُوَ حَقُّهَا تَصَرَّفَتْ فِيهِ ، فَلَمْ يَثْبُتْ فِي ذِمَّتِهَا مِنْهُ شَيْءٌ ، وَلِأَنَّ الْجَمِيعَ كَانَ مِلْكًا لَهَا تَصَرَّفَتْ فِيهِ ، وَإِنَّمَا يَتَجَدَّدُ مِلْكُ الزَّوْجِ لِلنِّصْفِ بِطَلَاقِهِ ، فَلَا يَثْبُتُ فِي ذِمَّتِهَا غَيْرُ ذَلِكَ .
وَأَيُّهُمَا أَرَادَ تَكْمِيلَ الصَّدَاقِ لِصَاحِبِهِ ، فَإِنَّهُ يُجَدِّدُ لَهُ هِبَةً مُبْتَدَأَةً .
وَأَمَّا إنْ كَانَ الصَّدَاقُ عَيْنًا فِي يَدِ أَحَدِهِمَا ، فَعَفَا الَّذِي هُوَ فِي يَدِهِ لِلْآخَرِ ، فَهُوَ هِبَةٌ لَهُ تَصِحُّ بِلَفْظِ الْعَفْوِ وَالْهِبَةِ وَالتَّمْلِيكِ ، وَلَا تَصِحُّ بِلَفْظِ الْإِبْرَاءِ وَالْإِسْقَاطِ ، وَيَفْتَقِرُ إلَى الْقَبْضِ فِيمَا يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِيهِ .
وَإِنْ

عَفَا غَيْرُ الَّذِي هُوَ فِي يَدِهِ ، صَحَّ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ ، وَافْتَقَرَ إلَى مُضِيِّ زَمَنٍ يَتَأَتَّى الْقَبْضُ فِيهِ ، إنْ كَانَ الْمَوْهُوبُ مِمَّا يَفْتَقِرُ إلَى الْقَبْضِ .

( 5627 ) فَصْلٌ : إذَا أَصْدَقَ امْرَأَتَهُ عَيْنًا ، فَوَهَبَتْهَا لَهُ ، ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا ، فَعَنْ أَحْمَدَ فِيهِ رِوَايَتَانِ ؛ : إحْدَاهُمَا ، يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ قِيمَتِهَا .
وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهَا عَادَتْ إلَى الزَّوْجِ بِعَقْدٍ مُسْتَأْنَفٍ ، فَلَا تَمْنَعُ اسْتِحْقَاقَهَا بِالطَّلَاقِ ، كَمَا لَوْ عَادَتْ إلَيْهِ بِالْبَيْعِ ، أَوْ وَهَبَتْهَا لِأَجْنَبِيٍّ ثُمَّ وَهَبَتْهَا لَهُ .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ ، لَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا .
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالْمُزَنِيِّ ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنْ تَزِيدَ الْعَيْنُ أَوْ تَنْقُصَ ، ثُمَّ تَهَبَهَا لَهُ ؛ لِأَنَّ الصَّدَاقَ عَادَ إلَيْهِ وَلَوْ لَمْ تَهَبْهُ لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ ، وَعَقْدُ الْهِبَةِ لَا يَقْتَضِي ضَمَانًا ، وَلِأَنَّ نِصْفَ الصَّدَاقِ تُعَجِّلُ لَهُ بِالْهِبَةِ .
فَإِنْ كَانَ الصَّدَاقُ دَيْنًا ، فَأَبْرَأَتْهُ مِنْهُ ، فَإِنْ قُلْنَا : لَا يَرْجِعُ ثَمَّ .
فَهَاهُنَا أَوْلَى ، وَإِنْ قُلْنَا : يَرْجِعُ ثَمَّ .
خُرِّجَ هَاهُنَا وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، لَا يَرْجِعُ ؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ إسْقَاطُ حَقٍّ ، وَلَيْسَ بِتَمْلِيكٍ كَتَمْلِيكِ الْأَعْيَانِ وَلِهَذَا لَا يَفْتَقِرُ إلَى قَبُولٍ ، وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ بِدِينِ ، فَأَبْرَأْهُ مُسْتَحِقُّهُ ، ثُمَّ رَجَعَ الشَّاهِدَانِ ، لَمْ يَغْرَمَا شَيْئًا ، وَلَوْ كَانَ قَبَضَهُ مِنْهُ ، ثُمَّ وَهَبَهُ لَهُ ، ثُمَّ رَجَعَ الشَّاهِدَانِ ، غَرِمَا .
وَالثَّانِي ، يَرْجِعُ ؛ لِأَنَّهُ عَادَ إلَيْهِ بِغَيْرِ الطَّلَاقِ ، فَهُوَ كَالْعَيْنِ ، وَالْإِبْرَاءُ بِمَنْزِلَةِ الْهِبَةِ ، وَلِهَذَا يَصِحُّ بِلَفْظِهَا وَإِنْ قَبَضَتْ الدِّينَ مِنْهُ ، ثُمَّ وَهَبَتْهُ لَهُ ، ثُمَّ طَلَّقَهَا ، فَهُوَ كَهِبَةٍ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ بِقَبْضِهِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَرْجِعُ هَاهُنَا ؛ لِأَنَّ الصَّدَاقَ قَدْ اسْتَوْفَتْهُ كُلَّهُ ، ثُمَّ تَصَرَّفَتْ فِيهِ ، فَوَجَبَ الرُّجُوعُ عَلَيْهَا ، كَمَا لَوْ وَهَبَتْهُ أَجْنَبِيًّا .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَرْجِعَ ؛ لِأَنَّهُ عَادَ إلَيْهِ مَا أَصْدَقَهَا ،

فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ عَيْنًا ، فَقَبَضَتْهَا ، ثُمَّ وَهَبَتْهَا .
أَوْ وَهَبَتْهُ الْعَيْنَ ، أَوْ أَبْرَأَتْهُ مِنْ الدَّيْنِ ، ثُمَّ فَسَخَتْ النِّكَاحَ بِفِعْلٍ مِنْ جِهَتِهَا ، كَإِسْلَامِهَا ، أَوْ رِدَّتِهَا ، أَوْ إرْضَاعِهَا لِمَنْ يَنْفَسِخُ نِكَاحُهَا بِرَضَاعِهِ ، فَفِي الرُّجُوعِ بِجَمِيعِ الصَّدَاقِ عَلَيْهَا رِوَايَتَانِ ، كَمَا فِي الرُّجُوعِ بِالنِّصْفِ سَوَاءً .

( 5628 ) فَصْلٌ : وَإِنْ أَصْدَقَهَا عَبْدًا ، فَوَهَبَتْهُ نِصْفَهُ ، ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ ، انْبَنَى ذَلِكَ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ ؛ فَإِنْ قُلْنَا : إذَا وَهَبَتْهُ الْكُلَّ لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ .
رَجَعَ هَاهُنَا فِي رُبْعِهِ ، وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى ، يَرْجِعُ فِي النِّصْفِ الْبَاقِي كُلِّهِ ؛ لِأَنَّهُ وَجَدَهُ بِعَيْنِهِ .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالْمُزَنِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ النِّصْفَ حُصِلَ فِي يَدِهِ ، فَقَدْ اسْتَعْجَلَ حَقَّهُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ، فِي أَحَدِ أَقْوَالِهِ كَقَوْلِنَا .
وَالثَّانِي ، لَهُ نِصْفُ النِّصْفِ الْبَاقِي ، وَنِصْفُ قِيمَةِ الْمَوْهُوبِ .
وَالثَّالِثُ ، يَتَخَيَّرُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الرُّجُوعِ بِقِيمَةِ النِّصْفِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ وَجَدَ نِصْفَ مَا أَصْدَقَهَا بِعَيْنِهِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَمْ تَهَبْهُ شَيْئًا .

( 5629 ) فَصْلٌ : فَإِنْ خَالَعَ امْرَأَتَهُ بِنِصْفِ صَدَاقِهَا ، قَبْلَ دُخُولِهِ ، بِهَا صَحَّ وَصَارَ الصَّدَاقُ كُلُّهُ ؛ لَهُ نِصْفُهُ بِالطَّلَاقِ ، وَنِصْفُهُ بِالْخُلْعِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَصِيرَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا خَالَعَهَا بِنِصْفِهِ ، مَعَ عِلْمِهِ أَنَّ النِّصْفَ يَسْقُطُ عَنْهُ ، صَارَ مُخَالِعًا بِنِصْفِ النِّصْفِ الَّذِي يَبْقَى لَهَا ، فَيَصِيرُ لَهُ النِّصْفُ بِالطَّلَاقِ ، وَالرُّبْعُ بِالْخُلْعِ .
وَإِنْ خَالَعَهَا بِمِثْلِ نِصْفِ الصَّدَاقِ فِي ذِمَّتِهَا ، صَحَّ ، وَسَقَطَ جَمِيعُ الصَّدَاقِ ؛ نِصْفُهُ بِالطَّلَاقِ بِالْمُقَاصَّةِ بِمَا فِي ذِمَّتِهَا لَهُ مِنْ عِوَضِ الْخُلْعِ .
وَلَوْ قَالَتْ لَهُ : اخْلَعْنِي بِمَا تُسَلِّمُ لِي مِنْ صَدَاقِي .
فَفَعَلَ ، صَحَّ ، وَبَرِئَ مِنْ جَمِيعِ الصَّدَاقِ .
وَكَذَلِكَ إنْ قَالَتْ : اخْلَعْنِي عَلَى أَنْ لَا تَبِعَةَ عَلَيْك فِي الْمَهْرِ .
صَحَّ ، وَسَقَطَ جَمِيعُهُ عَنْهُ .
وَإِنْ خَالَعَتْهُ بِمِثْلِ جَمِيعِ الصَّدَاقِ فِي ذِمَّتِهَا ، صَحَّ ، وَيَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَسْقُطُ نِصْفُهُ بِالْمُقَاصَّةِ بِالنِّصْفِ الَّذِي لَهَا عَلَيْهِ ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ النِّصْفُ بِالطَّلَاقِ ، يَبْقَى لَهَا عَلَيْهَا النِّصْفُ .
وَإِنْ خَالَعَتْهُ بِصَدَاقِهَا كُلِّهِ فَكَذَلِكَ ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ .
وَفِي الْآخَرِ ، لَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ لَمَّا خَالَعَهَا بِهِ ، مَعَ عِلْمِهِ بِسُقُوطِ نِصْفِهِ بِالطَّلَاقِ ، كَانَ مُخَالِعًا لَهَا بِنِصْفِهِ ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ بِالطَّلَاقِ نِصْفُهُ ، وَلَا يَبْقَى لَهَا شَيْءٌ .

( 5630 ) فَصْلٌ : وَإِذَا أَبْرَأْت الْمُفَوِّضَةُ مِنْ الْمَهْرِ ، صَحَّ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مُفَوِّضَةُ الْبُضْعِ وَمُفَوِّضَةُ الْمَهْرِ .
وَكَذَلِكَ مَنْ سُمِّيَ لَهَا مَهْرٌ فَاسِدٌ كَالْخَمْرِ وَالْمَجْهُولِ ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ وَاجِبٌ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ ، وَإِنَّمَا جَهْلُ قَدْرِهِ ، وَالْبَرَاءَةُ مِنْ الْمَجْهُولِ صَحِيحَةٌ ؛ لِأَنَّهَا إسْقَاطٌ ، فَصَحَّتْ فِي الْمَجْهُولِ كَالطَّلَاقِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا تَصِحُّ الْبَرَاءَةُ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا ؛ لِأَنَّ الْمُفَوِّضَةَ لَمْ يَجِبْ لَهَا مَهْرٌ ، فَلَا يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ مِمَّا لَمْ يَجِبْ ، وَغَيْرُهَا مَهْرُهَا مَجْهُولٌ ، وَالْبَرَاءَةُ مِنْ الْمَجْهُولِ لَا تَصِحُّ ، إلَّا أَنْ تَقُولَ : أَبْرَأْتُك مِنْ دِرْهَمٍ إلَى أَلْفٍ .
فَيَبْرَأُ مِنْ مَهْرِهَا إذَا كَانَ دُونَ الْأَلْفِ .
وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى وُجُوبِهِ فِيمَا مَضَى ، فَيَصِحُّ الْإِبْرَاءُ مِنْهُ ، كَمَا لَوْ قَالَتْ : أَبْرَأْتُك مِنْ دِرْهَمٍ إلَى أَلْفٍ .
وَإِذَا أَبْرَأَتْ الْمُفَوِّضَةُ ، ثُمَّ طَلُقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ ، فَإِنْ قُلْنَا : لَا يَرْجِعُ إلَى الْمُسَمَّى لَهَا .
لَمْ يَرْجِعْ هَاهُنَا ، وَإِنْ قُلْنَا : يَرْجِعُ ثَمَّ .
احْتَمَلَ أَنْ لَا يَرْجِعَ هَاهُنَا ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ كُلَّهُ سَقَطَ بِالطَّلَاقِ ، وَوَجَبَتْ الْمُتْعَةُ بِالطَّلَاقِ ابْتِدَاءً .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَرْجِعَ ؛ لِأَنَّهُ عَادَ إلَيْهِ مَهْرُهَا بِسَبَبِ غَيْرِ الطَّلَاقِ .
وَبِكَمْ يَرْجِعُ ؟ يَحْتَمِلُ أَنْ يَرْجِعَ بِنِصْفِ مَهْرِ الْمِثْلِ ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي وَجَبَ بِالْعَقْدِ ، فَهُوَ كَنِصْفِ الْمَفْرُوضِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَرْجِعَ بِنِصْفِ الْمُتْعَةِ ؛ لِأَنَّهَا الَّتِي تَجِبُ بِالطَّلَاقِ ، فَأَشْبَهَتْ الْمُسَمَّى .

( 5631 ) فَصْلٌ : وَإِنْ أَبْرَأَتْهُ الْمُفَوِّضَةُ مِنْ نِصْفِ صَدَاقِهَا ، ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ ، فَلَا مُتْعَةَ لَهَا ؛ لِأَنَّ الْمُتْعَةَ قَائِمَةٌ مَقَامَ نِصْفِ الصَّدَاقِ ، وَقَدْ أَبْرَأَتْ مِنْهُ ، فَصَارَ كَمَا لَوْ قَبَضَتْهُ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَجِبَ لَهَا نِصْفُ الْمُتْعَةِ إذَا قُلْنَا : إنَّ الزَّوْجَ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِشَيْءِ إذَا أَبْرَأَتْ مِنْ جَمِيعِ صَدَاقِهَا .

( 5632 ) فَصْلٌ : وَلَوْ بَاعَ رَجُلًا عَبْدًا بِمِائَةٍ ، فَأَبْرَأْهُ الْبَائِعُ مِنْ الثَّمَنِ ، أَوْ قَبْضَهُ ثُمَّ وَهَبَهُ إيَّاهُ ، ثُمَّ وَجَدَ الْمُشْتَرِي بِالْعَبْدِ عَيْبًا ، فَهَلْ لَهُ رَدُّ الْمَبِيعِ ، وَالْمُطَالَبَةُ بِالثَّمَنِ ، أَوْ أَخْذُ أَرْشَ الْعَيْبِ مَعَ إمْسَاكِهِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ، بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي الصَّدَاقِ إذَا وَهَبَتْهُ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ .
وَإِنْ كَانَتْ بِحَالِهَا ، فَوَهَبَ الْمُشْتَرِي الْعَبْدَ لِلْبَائِعِ ، ثُمَّ أَفْلَسَ الْمُشْتَرِي ، وَالثَّمَنُ فِي ذِمَّتِهِ ، فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَضْرِبَ بِالثَّمَنِ مَعَ الْغُرَمَاءِ ، وَجْهًا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ مَا عَادَ إلَى الْبَائِعِ مِنْهُ شَيْءٌ ، وَلِذَلِكَ كَانَ يَجِبُ أَدَاؤُهُ إلَيْهِ قَبْلَ الْفَلْسِ ، بِخِلَافِ الَّتِي قَبْلَهَا .
وَلَوْ كَاتَبَ عَبْدًا ، ثُمَّ أَسْقَطَ عَنْهُ مَالَ الْكِتَابَةِ ، بَرِئَ ، وَعَتَقَ ، وَلَمْ يَرْجِعْ عَلَى سَيِّدِهِ بِالْقَدْرِ الَّذِي كَانَ يَجِبُ عَلَى السَّيِّدِ أَنْ يُؤْتِيَهُ إيَّاهُ ، كَذَلِكَ لَوْ أَسْقَطَ عَنْهُ الْقَدْرَ الَّذِي يَلْزَمَهُ إيتَاؤُهُ إيَّاهُ ، وَاسْتَوْفَى الْبَاقِي ، لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يُؤْتِيَهُ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ إسْقَاطَهُ عَنْهُ يَقُومُ مَقَامَ الْإِيتَاءِ .
وَخَرَّجَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَلَى وَجْهَيْنِ ، بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي الصَّدَاقِ ، وَلَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ أَسْقَطَتْ الصَّدَاقَ الْوَاجِبَ لَهَا قَبْلَ وُجُودِ سَبَبِ اسْتِحْقَاقِ الزَّوْجِ عَلَيْهَا نِصْفَهُ ، وَهَاهُنَا أَسْقَطَ السَّيِّدُ عَنْ الْمُكَاتِبِ مَا وُجِدَ سَبَبُ إيتَائِهِ إيَّاهُ ، فَكَانَ إسْقَاطُهُ مَقَامَ إيتَائِهِ ، وَلِهَذَا لَوْ قَبَضَهُ السَّيِّدُ مِنْهُ ، ثُمَّ آتَاهُ إيَّاهُ ، لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ .
وَلَوْ قَبَضَتْ الْمَرْأَةُ صَدَاقَهَا ، وَوَهَبَتْهُ لِزَوْجِهَا ، ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ لَرَجَعَ عَلَيْهَا ، فَافْتَرَقَا .

( 5633 ) فَصْلٌ : وَلَا يَبْرَأُ الزَّوْجُ مِنْ الصَّدَاقِ إلَّا بِتَسْلِيمِهِ إلَى مَنْ يَتَسَلَّمُ مَالَهَا ، فَإِنْ كَانَتْ رَشِيدَةً ، لَمْ يَبْرَأْ إلَّا بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهَا ، أَوْ إلَى وَكِيلِهَا ، وَلَا يَبْرَأُ بِالتَّسْلِيمِ إلَى أَبِيهَا وَلَا إلَى غَيْرِهِ ؛ بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا .
قَالَ أَحْمَدُ : إذَا أَخَذَ مَهْرَ ابْنَتِهِ ، وَأَنْكَرَتْ ، فَذَاكَ لَهَا ، تَرْجِعُ عَلَى زَوْجِهَا بِالْمَهْرِ ، وَيَرْجِعُ الزَّوْجُ عَلَى أَبِيهَا .
فَقِيلَ لَهُ : أَلَيْسَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيكَ } ؟ قَالَ : نَعَمْ ، وَلَكِنَّ هَذَا لَمْ يَأْخُذْ مِنْهَا ، إنَّمَا أَخَذَ مِنْ زَوْجِهَا .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَهُ قَبْضُ صَدَاقِ الْبِكْرِ دُونَ الثَّيِّبِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْعَادَةُ ، وَلِأَنَّ الْبِكْرَ تَسْتَحِي ، فَقَامَ أَبُوهَا مَقَامَهَا ، كَمَا قَامَ مَقَامَهَا فِي تَزْوِيجِهَا .
وَلَنَا ، أَنَّهَا رَشِيدَةٌ ، فَلَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهَا قَبْضُ صَدَاقِهَا ، كَالثَّيِّبِ ، أَوْ عِوَضٌ مَلَكَتْهُ وَهِيَ رَشِيدَةٌ ، فَلَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهَا قَبْضُهُ بِغَيْرِ إذْنِهَا ، كَثَمَنِ مَبِيعِهَا ، وَأَجْرِ دَارِهَا .
وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ رَشِيدَةٍ ، سَلَّمَهُ إلَى وَلِيِّهَا فِي مَالِهَا ، مِنْ أَبِيهَا ، أَوْ وَصِيِّهِ ، أَوْ الْحَاكِمِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ أَمْوَالِهَا ، فَهُوَ كَثَمَنِ مَبِيعِهَا ، وَأَجْرِ دَارِهَا .

( 5634 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَفْعُ نَفَقَةِ زَوْجَتِهِ ، إذَا كَانَ مِثْلُهَا لَا يُوطَأُ ، أَوْ مُنِعَ مِنْهَا بِغَيْرِ عُذْرٍ ، فَإِنْ كَانَ الْمَنْعُ مِنْ قِبَلِهِ ، لَزِمَتْهُ النَّفَقَةُ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا كَانَتْ لَا يُوطَأُ مِثْلُهَا ؛ لِصِغَرِهَا ، فَطَلَبَ وَلِيُّهَا تَسَلُّمَهَا ، وَالْإِنْفَاقَ عَلَيْهَا ، لَمْ يَجِبْ ذَلِكَ عَلَى الزَّوْجِ ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ فِي مُقَابَلَةِ الِاسْتِمْتَاعِ ، وَلِهَذَا تَسْقُطُ بِالنُّشُوزِ ، وَهَذِهِ لَا يُمْكِنُهُ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا .
وَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً فَمَنَعَتْهُ نَفْسَهَا ، أَوْ مَنَعَهَا أَوْلِيَاؤُهَا ، فَلَا نَفَقَةَ لَهَا أَيْضًا ؛ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى النَّاشِزِ ؛ لِكَوْنِهَا لَمْ تُسَلِّمْ الْوَاجِبَ عَلَيْهَا ، فَلَا يَجِبُ تَسْلِيمُ مَا فِي مُقَابَلَتِهِ مِنْ الْإِنْفَاقِ .
وَكُلُّ مَوْضِعٍ لَزِمَتْهُ النَّفَقَةُ ، لَزِمَهُ تَسْلِيمُ الصَّدَاقِ الْحَالِّ إذَا طُولِبَ بِهِ .
فَأَمَّا الْمَوْضِعُ الَّذِي لَا تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهَا فِيهِ ، كَالصَّغِيرَةِ ، وَالْمَانِعَةِ نَفْسَهَا ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَامِدٍ : يَجِبُ تَسْلِيمُ الصَّدَاقِ .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ فِي مُقَابَلَةِ مِلْكِ الْبُضْعِ ، وَقَدْ مَلَكَهُ ، بِخِلَافِ النَّفَقَةِ ، فَإِنَّهَا فِي مُقَابَلَةِ التَّمْكِينِ .
وَرَدَّ قَوْمٌ هَذَا وَقَالُوا : الْمَهْرُ قَدْ مَلَكَتْهُ فِي مُقَابَلَةِ مَا مَلَكَهُ مِنْ بُضْعِهَا ، فَلَيْسَ لَهَا الْمُطَالَبَةُ بِالِاسْتِيفَاءِ إلَّا عِنْدَ إمْكَانِ الزَّوْجِ اسْتِيفَاءَ الْعِوَضِ .

( 5635 ) فَصْلٌ : وَإِمْكَانُ الْوَطْءِ فِي الصَّغِيرَةِ مُعْتَبَرٌ بِحَالِهَا وَاحْتِمَالِهَا لِذَلِكَ .
قَالَهُ الْقَاضِي .
وَذَكَرَ أَنَّهُنَّ يَخْتَلِفْنَ ، فَقَدْ تَكُونُ صَغِيرَةَ السِّنِّ تَصْلُحُ ، وَكَبِيرَةً لَا تَصْلُحُ .
وَحَدَّهُ أَحْمَدُ بِتِسْعِ سِنِينَ ، فَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ فِي الصَّغِيرَةِ يَطْلُبُهَا زَوْجُهَا : فَإِنْ أَتَى عَلَيْهَا تِسْعُ سِنِينَ ، دُفِعَتْ إلَيْهِ ، لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَحْبِسُوهَا بَعْدَ التِّسْعِ .
وَذَهَبَ فِي ذَلِكَ إلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنَى بِعَائِشَةَ وَهِيَ ابْنَةُ تِسْعٍ .
قَالَ الْقَاضِي : وَهَذَا عِنْدِي لَيْسَ عَلَى طَرِيقِ التَّحْدِيدِ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ ابْنَةَ تِسْعٍ يَتَمَكَّنُ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا ، فَمَتَى كَانَتْ لَا تَصْلُحُ لِلْوَطْءِ ، لَمْ يَجِبْ عَلَى أَهْلِهَا تَسْلِيمُهَا إلَيْهِ ، وَإِنْ ذَكَرَ أَنَّهُ يَحْضُنُهَا وَيُرَبِّيهَا وَلَهُ مَنْ يَخْدِمُهَا ، لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الِاسْتِمْتَاعَ بِهَا ، وَلَيْسَتْ لَهُ بِمَحِلٍّ ، وَلَا يُؤْمَنُ شَرَهُ نَفْسِهِ إلَى مُوَاقَعَتِهَا ، فَيَفُضُّهَا أَوْ يَقْتُلُهَا .
وَإِنْ طَلَبَ أَهْلُهَا دَفْعَهَا إلَيْهِ ، فَامْتَنَعَ ، فَلَهُ ذَلِكَ ، وَلَا تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمَكَّنُ مِنْ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ مِنْهَا .
وَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً إلَّا أَنَّهَا مَرِيضَةٌ مَرَضًا مَرْجُوَّ الزَّوَالِ ، لَمْ يَلْزَمْهَا تَسْلِيمُ نَفْسِهَا قَبْلَ بَرِئَهَا ؛ لِأَنَّهُ مَانِعٌ مَرْجُوُّ الزَّوَالِ ، فَهُوَ كَالصِّغَرِ ، وَلِأَنَّ الْعَادَةَ لَمْ تَجْرِ بِزَفِّ الْمَرِيضَةِ إلَى زَوْجِهَا ، وَالتَّسْلِيمُ فِي الْعَقْدِ يَجِبُ عَلَى حَسَبِ الْعُرْفِ .
فَإِنْ سَلَّمَتْ نَفْسَهَا ، فَتَسَلَّمَهَا الزَّوْجُ ، فَعَلَيْهِ نَفَقَتُهَا ؛ لِأَنَّ الْمَرَضَ عَارِضٌ يَعْرِضُ وَيَتَكَرَّرُ ، فَيَشُقُّ إسْقَاطُ النَّفَقَةِ بِهِ ، فَجَرَى مَجْرَى الْحَيْضِ ، وَلِهَذَا لَوْ مَرِضَتْ بَعْدَ تَسْلِيمِهَا ، لَمْ تَسْقُطْ نَفَقَتُهَا .
وَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ تَسَلُّمِهَا ، فَلَهُ ذَلِكَ ، وَلَا تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهَا ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجِبْ تَسْلِيمُهَا إلَيْهِ ، لَمْ يَجِبْ

عَلَيْهِ تَسَلُّمُهَا ، كَالصَّغِيرَةِ ، وَلِأَنَّ الْعَادَةَ لَمْ تَجْرِ بِتَسَلُّمِهَا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ .
وَقَالَ الْقَاضِي : يَلْزَمُهُ تَسَلُّمُهَا ، وَإِنْ امْتَنَعَ ، فَعَلَيْهِ نَفَقَتُهَا ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ عَارِضٌ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ ، وَيَتَكَرَّرُ ، فَأَشْبَهَ الْحَيْضَ .
فَأَمَّا إنْ كَانَ الْمَرَضُ غَيْرَ مَرْجُوِّ الزَّوَالِ ، لَزِمَ تَسْلِيمُهَا إلَى الزَّوْجِ إذَا طَلَبَهَا ، وَلَزِمَهُ تَسَلُّمُهَا إذَا عُرِضَتْ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ لَهَا حَالَةٌ يُرْجَى زَوَالُ ذَلِكَ فِيهَا ، فَلَوْ لَمْ تُسَلِّمْ نَفْسَهَا لَمْ يُفِدْ التَّزْوِيجُ فَائِدَةً ، وَلَهُ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِهَا ، فَإِنْ كَانَتْ نِضْوَةَ الْخَلْقِ ، وَهُوَ جَسِيمٌ ، تَخَافُ عَلَى نَفْسِهَا الْإِفْضَاءَ مِنْ عِظَمِ خَلْقِهِ ، فَلَهَا مَنْعُهُ مِنْ جِمَاعِهَا ، وَلَهُ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ ، وَعَلَيْهِ نَفَقَتُهَا ، وَلَا يَثْبُتُ لَهُ خِيَارُ الْفَسْخِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ يُمْكِنُ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا لِغَيْرِهِ ، وَإِنَّمَا امْتِنَاعُ الِاسْتِمْتَاعِ لِمَعْنَى فِيهِ ، وَهُوَ عِظَمُ خَلْقِهِ ، بِخِلَافِ الرَّتْقَاءِ .
وَإِنْ طَلَبَ تَسْلِيمَهَا إلَيْهِ وَهِيَ حَائِضٌ ، احْتَمَلَ أَنْ لَا يَجِبَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الْعَادَةِ ، فَأَشْبَهَ الْمَرَضَ الْمَرْجُوَّ الزَّوَالِ ، وَاحْتَمَلَ وُجُوبَ التَّسْلِيمِ ؛ لِأَنَّهُ يَزُولُ قَرِيبًا ، وَلَا يَمْنَعُ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ بِمَا دُونَ الْفَرْجِ ، فَإِذَا طَلَبَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ مَنْعُهُ مِنْهُ ، كَمَا لَمْ يَجُزْ لَهَا مَنْعُهُ مِنْهُ بَعْدَ تَسَلُّمِهَا .
وَإِنْ عُرِضَتْ عَلَيْهِ ، فَأَبَاهَا حَتَّى تَطْهُرَ ، فَعَلَى قَوْلِ الْقَاضِي ، يَلْزَمُهُ تَسَلُّمُهَا وَنَفَقَتُهَا إنْ امْتَنَعَ مِنْهُ ، وَيَتَخَرَّجُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنْ لَا يَلْزَمَهُ ذَلِكَ كَالْمَرَضِ الْمَرْجُوِّ الزَّوَالِ .

( 5636 ) فَصْلٌ : فَإِنْ مَنَعَتْ نَفْسَهَا حَتَّى تَتَسَلَّمَ صَدَاقَهَا ، وَكَانَ حَالًّا ، فَلَهَا ذَلِكَ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَمْتَنِعَ مِنْ دُخُولِ الزَّوْجِ عَلَيْهَا ، حَتَّى يُعْطِيَهَا مَهْرَهَا .
وَإِنْ قَالَ الزَّوْجُ : لَا أُسَلِّمُ إلَيْهَا الصَّدَاقَ حَتَّى أَتَسَلَّمَهَا .
أُجْبِرَ الزَّوْجُ عَلَى تَسْلِيمِ الصَّدَاقِ أَوَّلًا ، ثُمَّ تُجْبَرُ هِيَ عَلَى تَسْلِيمِ نَفْسِهَا .
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا عَلَى نَحْوِ مَذْهَبِهِ فِي الْبَيْعِ .
وَلَنَا ، أَنَّ فِي إجْبَارِهَا عَلَى تَسْلِيمِ نَفْسِهَا أَوَّلًا خَطَرَ إتْلَافِ الْبُضْعِ ، وَالِامْتِنَاعِ مِنْ بَذْلِ الصَّدَاقِ ، وَلَا يُمْكِنُ الرُّجُوعُ فِي الْبُضْعِ ، بِخِلَافِ الْمَبِيعِ الَّذِي يُجْبَرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ قَبْلَ تَسْلِيمِهِ ثَمَنَهُ .
فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا ، فَلَهَا النَّفَقَةُ مَا امْتَنَعَتْ لِذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا بِالصَّدَاقِ ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَهَا بِحَقٍّ .
وَإِنْ كَانَ الصَّدَاقُ مُؤَجَّلًا ، فَلَيْسَ لَهَا مَنْعُ نَفْسِهَا قَبْلَ قَبْضِهِ ؛ لِأَنَّ رِضَاهَا بِتَأْجِيلِهِ رِضَى بِتَسْلِيمِ نَفْسِهَا قَبْلَ قَبْضِهِ ، كَالثَّمَنِ الْمُؤَجَّلِ فِي الْبَيْعِ .
فَإِنْ حَلَّ الْمُؤَجَّلُ قَبْلَ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا ، لَمْ يَكُنْ لَهَا مَنْعُ نَفْسِهَا أَيْضًا ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهَا ، وَاسْتَقَرَّ قَبْلَ قَبْضِهِ ، فَلَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تَمْتَنِعَ مِنْهُ .
وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُ حَالًّا وَبَعْضُهُ مُؤَجَّلًا ، فَلَهَا مَنْعُ نَفْسِهَا قَبْلَ قَبْضِ الْعَاجِلِ دُونَ الْآجِلِ .
وَإِنْ كَانَ الْكُلُّ حَالًّا ، فَلَهَا مَنْعُ نَفْسِهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا .
فَإِنْ سَلَّمَتْ نَفْسَهَا قَبْلَ قَبْضِهِ ، ثُمَّ أَرَادَتْ مَنَعَ نَفْسِهَا حَتَّى تَقْبِضَهُ ، فَقَدْ تَوَقَّفَ أَحْمَدُ عَنْ الْجَوَابِ فِيهَا .
وَذَهَبَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ابْنُ بَطَّةَ وَأَبُو إِسْحَاقَ بْنُ شَاقِلَا إلَى أَنَّهَا لَيْسَ لَهَا ذَلِكَ .
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَبِي يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٍ ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ اسْتَقَرَّ بِهِ الْعِوَضُ بِرِضَى الْمُسَلِّمِ ،

فَلَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تَمْتَنِعَ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ ، كَمَا لَوْ سَلَّمَ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ .
وَذَهَبَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَامِدٍ ، إلَى أَنَّ لَهَا ذَلِكَ .
وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ تَسْلِيمٌ يُوجِبُهُ عَلَيْهَا عَقْدُ النِّكَاحِ فَمَلَكَتْ أَنْ تَمْتَنِعَ مِنْهُ قَبْلَ قَبْضِ صَدَاقِهَا ، كَالْأَوَّلِ .
فَأَمَّا إنْ وَطِئَهَا مُكْرَهَةً ، لَمْ يَسْقُطْ بِهِ حَقُّهَا مِنْ الِامْتِنَاعِ ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ بِغَيْرِ رِضَاهَا ، كَالْمَبِيعِ إذَا أَخَذَهُ الْمُشْتَرِي مِنْ الْبَائِعِ كُرْهًا وَإِنْ أَخَذَتْ الصَّدَاقَ ، فَوَجَدَتْهُ مَعِيبًا ، فَلَهَا مَنْعُ نَفْسِهَا حَتَّى يُبَدِّلَهُ ، أَوْ يُعْطِيَهَا أَرْشَهُ ؛ لِأَنَّ صَدَاقَهَا صَحِيحٌ .
وَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ عَيْبَهُ حَتَّى سَلَّمَتْ نَفْسَهَا ، خُرِّجَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِيمَا إذَا سَلَّمَتْ نَفْسَهَا قَبْلَ قَبْضِ صَدَاقِهَا ثُمَّ بَدَا لَهَا أَنْ تَمْتَنِعَ .
وَكُلُّ مَوْضِعٍ قُلْنَا : لَهَا الِامْتِنَاعُ مِنْ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا .
فَلَهَا السَّفَرُ بِغَيْرِ إذْنِ الزَّوْجِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لِلزَّوْجِ عَلَيْهَا حَقُّ الْحَبْسِ ، فَصَارَتْ كَمَنْ لَا زَوْجَ لَهَا .
وَلَوْ بَقَّى مِنْهُ دِرْهَمٌ ، كَانَ كَبَقَاءِ جَمِيعِهِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ ثَبَتَ لَهُ الْحَبْسُ بِجَمِيعِ الْبَدَلِ ، ثَبَتَ لَهُ الْحَبْسُ بِبَعْضِهِ ، كَسَائِرِ الدُّيُونِ .

( 5637 ) فَصْلٌ : وَإِنْ أَعْسَرَ الزَّوْجُ بِالْمَهْرِ الْحَالِّ قَبْلَ الدُّخُولِ ، فَلَهَا الْفَسْخُ ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ الْوُصُولُ إلَى عِوَضِ الْعَقْدِ قَبْلَ تَسْلِيمِ الْمُعَوَّضِ ، فَكَانَ لَهَا الْفَسْخُ ، كَمَا لَوْ أَعْسَرَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ قَبْلَ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ .
وَأَجَازَ ابْنُ حَامِدٍ أَنَّهُ لَا فَسْخَ لَهَا .
وَإِنْ أَعْسَرَ بَعْدَ الدُّخُولِ ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ ، مَبْنِيَّيْنِ عَلَى مَنْعِ نَفْسِهَا ، فَإِنْ قُلْنَا : لَهَا مَنْعُ نَفْسِهَا بَعْدَ الدُّخُولِ .
فَلَهَا الْفَسْخُ كَمَا قَبْلَ الدُّخُولِ ، وَإِنْ قُلْنَا : لَيْسَ لَهَا مَنْعُ نَفْسِهَا .
فَلَيْسَ لَهَا الْفَسْخُ ، كَمَا لَوْ أَفْلَسَ بِدَيْنٍ لَهَا آخَرَ .
وَلَا يَجُوزُ الْفَسْخُ إلَّا بِحُكْمِ حَاكِمٍ ؛ لِأَنَّهُ مُجْتَهَدٌ فِيهِ .

( 5638 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَإِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى صَدَاقَيْنِ سِرٍّ وَعَلَانِيَةٍ ، أُخِذَ بِالْعَلَانِيَةِ ، وَإِنْ كَانَ السِّرُّ قَدْ انْعَقَدَ بِهِ النِّكَاحُ ) ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ ، أَنَّ الرَّجُلَ إذَا تَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ فِي السِّرِّ بِمَهْرٍ ، ثُمَّ عَقَدَ عَلَيْهَا فِي الْعَلَانِيَةِ بِمَهْرٍ آخَرَ ، أَنَّهُ يُؤْخَذُ بِالْعَلَانِيَةِ .
وَهَذَا ظَاهِرُ قَوْلِ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَأَبِي عُبَيْدٍ وَقَالَ الْقَاضِي : الْوَاجِبُ الْمَهْرُ الَّذِي انْعَقَدَ بِهِ النِّكَاحُ سِرًّا كَانَ أَوْ عَلَانِيَةً .
وَحُمِلَ كَلَامُ أَحْمَدَ ، وَالْخِرَقِيِّ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لَمْ تُقِرَّ بِنِكَاحِ السِّرِّ فَثَبَتَ مَهْرُ الْعَلَانِيَةِ ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي ثَبَتَ بِهِ النِّكَاحُ .
وَهَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ ، وَالشَّافِعِيِّ .
وَنَحْوُهُ عَنْ شُرَيْحٍ ، وَالْحَسَنِ ، وَالزُّهْرِيِّ ، وَالْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ ، وَمَالِكٍ ، وَإِسْحَاقَ ؛ لِأَنَّ الْعَلَانِيَةَ لَيْسَ بِعَقْدٍ ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ شَيْءٍ .
وَوَجْهُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ ، أَنَّهُ إذَا عَقَدَ فِي الظَّاهِرِ عَقْدًا بَعْدَ عَقْدِ السِّرِّ ، فَقَدْ وُجِدَ مِنْهُ بَذْلُ الزَّائِدِ عَلَى مَهْرِ السِّرِّ ، فَيَجِبُ ذَلِكَ عَلَيْهِ ، كَمَا لَوْ زَادَهَا عَلَى صَدَاقِهَا .
وَمُقْتَضَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّعْلِيلِ لِكَلَامِ الْخِرَقِيِّ ، أَنَّهُ إنْ كَانَ مَهْرُ السِّرِّ أَكْثَرَ مِنْ الْعَلَانِيَةِ ، وَجَبَ مَهْرُ السِّرِّ ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ بِعَقْدِهِ ، وَلَمْ تُسْقِطْهُ الْعَلَانِيَةُ فَبَقِيَ وُجُوبُهُ ، فَأَمَّا إنْ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ الْمَهْرَ أَلْفٌ وَأَنَّهُمَا يَعْقِدَانِ الْعَقْدَ بِأَلْفَيْنِ تَجَمُّلًا ، فَفَعَلَا ذَلِكَ فَالْمَهْرُ أَلْفَانِ ؛ لِأَنَّهَا تَسْمِيَةٌ صَحِيحَةٌ فِي عَقْدٍ صَحِيحٍ ، فَوَجَبَتْ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَتَقَدَّمْهَا اتِّفَاقٌ عَلَى خِلَافِهَا .
وَهَذَا أَيْضًا قَوْلُ الْقَاضِي ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَلَا فَرْقَ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ السِّرُّ مِنْ جِنْسِ

الْعَلَانِيَةِ ، نَحْوُ أَنْ يَكُونَ السِّرُّ أَلْفًا وَالْعَلَانِيَةُ أَلْفَيْنِ ، أَوْ يَكُونَا مِنْ جِنْسَيْنِ ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ السِّرُّ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَالْعَلَانِيَةُ مِائَةَ دِينَارٍ .
وَإِذَا قُلْنَا : إنَّ الْوَاجِبَ مَهْرُ الْعَلَانِيَةِ .
فَيُسْتَحَبُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَفِيَ لِلزَّوْجِ بِمَا وَعَدَتْ بِهِ ، وَشَرَطَتْهُ عَلَى نَفْسِهَا ، مِنْ أَنَّهَا لَا تَأْخُذُ إلَّا مَهْرَ السِّرِّ .
قَالَ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ : إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً فِي السِّرِّ بِمَهْرٍ ، وَأَعْلَنُوا مَهْرًا ، يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَفُوا ، وَيُؤْخَذَ بِالْعَلَانِيَةِ .
فَاسْتَحَبَّ الْوَفَاءُ بِالشَّرْطِ ، لِئَلَّا يَحْصُلَ مِنْهُمْ غُرُورٌ ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الْمُؤْمِنُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ .
} وَعَلَى قَوْلِ الْقَاضِي ، إذَا ادَّعَى الزَّوْجُ عَقْدًا فِي السِّرِّ انْعَقَدَ بِهِ النِّكَاحُ ، فِيهِ مَهْرٌ قَلِيلٌ ، فَصَدَّقَتْهُ ، فَلَيْسَ لَهَا سِوَاهُ ، وَإِنْ أَنْكَرَتْهُ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا ؛ لِأَنَّهَا مُنْكِرَةٌ .
وَإِنْ أَقَرَّتْ بِهِ ، وَقَالَتْ : هُمَا مَهْرَانِ فِي نِكَاحَيْنِ .
وَقَالَ : بَلْ نِكَاحٌ وَاحِدٌ ، أَسْرَرْنَاهُ ثُمَّ أَظْهَرْنَاهُ .
فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الثَّانِيَ عَقْدٌ صَحِيحٌ يُفِيدُ حُكْمًا كَالْأَوَّلِ ، وَلَهَا الْمَهْرُ فِي الْعَقْدِ الثَّانِي ، وَنِصْفُ الْمَهْرِ فِي الْعَقْدِ الْأَوَّلِ ، إنْ ادَّعَى سُقُوطَ نِصْفِهِ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَإِنْ أَصَرَّ عَلَى الْإِنْكَارِ ، سُئِلَتْ الْمَرْأَةُ فَإِنْ ادَّعَتْ أَنَّهُ دَخَلَ بِهَا فِي النِّكَاحِ الْأَوَّلِ ، ثُمَّ طَلَّقَهَا طَلَاقًا بَائِنًا ، ثُمَّ نَكَحَهَا نِكَاحًا ثَانِيًا ، حَلَفَتْ عَلَى ذَلِكَ وَاسْتَحَقَّتْ ، وَإِنْ أَقَرَّتْ بِمَا يُسْقِطُ نِصْفَ الْمَهْرِ أَوْ جَمِيعَهُ ، لَزِمَهَا مَا أَقَرَّتْ بِهِ .

( 5639 ) فَصْلٌ إذَا تَزَوَّجَ أَرْبَعَ نِسْوَةٍ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ بِمَهْرٍ وَاحِدٍ ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ لَهُنَّ وَلِيٌّ وَاحِدٌ كَبَنَاتِ الْأَعْمَامِ ، أَوْ مَوْلَيَاتٌ لِمَوْلَى وَاحِدٍ ، أَوْ مَنْ لَيْسَ لَهُنَّ وَلِيٌّ ، فَزَوَّجَهُنَّ الْحَاكِمُ ، أَوْ كَانَ لَهُنَّ أَوْلِيَاءٌ فَوَكَّلُوا وَكِيلًا وَاحِدًا ، فَعَقَدَ نِكَاحَهُنَّ مَعَ رَجُلٍ ، فَقَبِلَهُ ، فَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ ، وَالْمَهْرُ صَحِيحٌ .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَهُوَ أَشْهَرُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَالْقَوْلُ الثَّانِي ، أَنَّ الْمَهْرَ فَاسِدٌ ، وَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ ؛ لِأَنَّ مَا يَجِبُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مِنْ الْمَهْرِ غَيْرُ مَعْلُومٍ .
وَلَنَا ، أَنَّ الْفَرْضَ فِي الْجُمْلَةِ مَعْلُومٌ ، فَلَا يَفْسُدُ لِجَهَالَتِهِ فِي التَّفْصِيلِ ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى أَرْبَعَةَ أَعْبُدٍ مِنْ رَجُلٍ بِثَمَنِ وَاحِدٍ وَكَذَلِكَ الصُّبْرَةُ بِثَمَنِ وَاحِدٍ ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ قَدْرَ قَفَزَانِهَا .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّ الصَّدَاقَ يُقْسَمُ بَيْنَهُنَّ عَلَى قَدْرِ مُهُورِهِنَّ فِي قَوْلِ الْقَاضِي ، وَابْنِ حَامِدٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَصَاحِبَيْهِ ، وَالشَّافِعِيِّ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : يُقْسَمُ بَيْنَهُنَّ بِالسَّوِيَّةِ ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَهُ إلَيْهِنَّ إضَافَةً وَاحِدَةً ، فَكَانَ بَيْنَهُنَّ بِالسَّوَاءِ ، كَمَا لَوْ وَهَبَهُ لَهُنَّ ، أَوْ أَقَرَّ بِهِ لَهُنَّ ، وَكَمَا لَوْ اشْتَرَى جَمَاعَةٌ ثَوْبًا بِأَثْمَانٍ مُخْتَلِفَةٍ ، ثُمَّ بَاعُوهُ مُرَابَحَةً أَوْ مُسَاوَمَةً ، كَانَ الثَّمَنُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوَاءِ ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ رُءُوسُ أَمْوَالِهِمْ ، وَلِأَنَّ الْقَوْلَ بِتَقْسِيطِهِ يُفْضِي إلَى جَهَالَةِ الْعِوَضِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ وَذَلِكَ يُفْسِدُهُ .
وَلَنَا ، أَنَّ الصَّفْقَةَ اشْتَمَلَتْ عَلَى شَيْئَيْنِ مُخْتَلِفِي الْقِيمَةِ ، فَوَجَبَ تَقْسِيطُ الْعِوَضِ عَلَيْهِمَا بِالْقِيمَةِ ، كَمَا لَوْ بَاعَ شِقْصًا وَسَيْفًا ، أَوْ كَمَا لَوْ ابْتَاعَ عَبْدَيْنِ ، فَوَجَدَ أَحَدَهُمَا حُرًّا أَوْ مَغْصُوبًا .
وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ ، فِي مِنْ ابْتَاعَ عَبْدَيْنِ ، فَإِذَا أَحَدُهُمَا حُرٌّ ، أَنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيمَتِهِ مِنْ الثَّمَنِ .

وَكَذَلِكَ نَصَّ فِي مَنْ تَزَوَّجَ عَلَى جَارِيَتَيْنِ ، فَإِذَا إحْدَاهُمَا حُرَّةٌ ، أَنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْحُرَّةِ وَلَوْ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ فَوَجَدَ أَحَدَهُمَا مَعِيبًا فَرَدَّهُ لَرَجَعَ بِقِسْطِهِ مِنْ الثَّمَنِ .
مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْمَسْأَلَةِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ لَهُ ، وَإِنْ سُلِّمَ فَالْقِيمَةُ ثَمَّ وَاحِدَةٌ ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا .
وَأَمَّا الْهِبَةُ وَالْإِقْرَارُ ، فَلَيْسَ فِيهِمَا قِيمَةٌ يُرْجَعُ إلَيْهَا ، وَتُقَسَّمُ الْهِبَةُ عَلَيْهِمَا ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا ، وَإِفْضَاؤُهُ إلَى جَهَالَةِ التَّفْصِيلِ ، لَا يَمْنَعُ الصِّحَّةَ إذَا كَانَ مَعْلُومَ الْجُمْلَةِ ، وَيَتَفَرَّعُ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، إذَا خَالَعَ امْرَأَتَيْنِ بِعِوَضٍ وَاحِدٍ ، أَوْ كَاتَبَ عَبِيدًا بِعِوَضٍ وَاحِدٍ ، أَنَّهُ يَصِحُّ مَعَ الْخِلَافِ فِيهِ وَيُقَسَّمُ الْعِوَضُ فِي الْخُلْعِ عَلَى قَدْرِ الْمَهْرَيْنِ ، وَفِي الْكِتَابَةِ عَلَى قَدْرِ قِيمَةِ الْعَبِيدِ .
وَعَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ ، يُقَسَّمُ بِالسَّوِيَّةِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ .

( 5640 ) فَصْلٌ : وَإِذَا تَزَوَّجَ امْرَأَتَيْنِ بِصَدَاقٍ وَاحِدٍ ، وَإِحْدَاهُمَا مِمَّنْ لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ عَلَيْهَا ؛ لِكَوْنِهَا مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ وَقُلْنَا بِصِحَّةِ النِّكَاحِ فِي الْأُخْرَى ، فَلَهَا بِحِصَّتِهَا مِنْ الْمُسَمَّى .
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ عَلَى قَوْلٍ وَأَبُو يُوسُفَ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْمُسَمَّى كُلُّهُ لِلَّتِي يَصِحُّ نِكَاحُهَا ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ الْفَاسِدَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ بِحَالٍ ، فَصَارَ كَأَنَّهُ تَزَوَّجَهَا وَالْحَائِطُ بِالْمُسَمَّى .
وَلَنَا ، أَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى عَيْنَيْنِ ، إحْدَاهُمَا لَا يَجُوزُ الْعَقْدُ عَلَيْهَا ، فَلَزِمَهُ فِي الْأُخْرَى بِحِصَّتِهَا ، كَمَا لَوْ بَاعَ عَبْدَهُ وَأُمَّ وَلَدِهِ .
مَا ذَكَرُوهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ فِي مُقَابَلَةِ نِكَاحِهَا مَهْرٌ بِخِلَافِ الْحَائِطِ .

( 5641 ) فَصْلٌ : فَإِنْ جَمَعَ بَيْنَ نِكَاحٍ وَبَيْعٍ ، فَقَالَ : زَوَّجْتُك ابْنَتِي ، وَبِعْتُك دَارِي هَذَا بِأَلْفٍ .
صَحَّ ، وَيُقَسَّطُ الْأَلْفُ ، عَلَى صَدَاقِهَا ، وَقِيمَةُ الدَّارِ .
وَإِنْ قَالَ زَوَّجْتُك ابْنَتِي ، وَاشْتَرَيْت مِنْك عَبْدَك هَذَا بِأَلْفٍ .
فَقَالَ : بِعْتُكَهُ ، وَقَبِلْت النِّكَاحَ .
صَحَّ ، وَيُقَسَّطُ الْأَلْفُ عَلَى الْعَبْدِ وَمَهْرِ الْمِثْلِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ : لَا يَصِحُّ الْبَيْعُ وَالْمَهْرُ ؛ لِإِفْضَائِهِ إلَى الْجَهَالَةِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُمَا عَقْدَانِ يَصِحُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْفَرِدًا ، فَصَحَّ جَمْعُهُمَا ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ ثَوْبَيْنِ .
فَإِنْ قَالَ : زَوَّجْتُك وَلَك هَذَا الْأَلْفُ بِأَلْفَيْنِ .
لَمْ يَصِحَّ الْمَهْرُ ؛ لِأَنَّهُ كَمَسْأَلَةِ مَدِّ عَجْوَةٍ .

( 5642 ) فَصْلٌ : وَإِنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ إنْ كَانَ أَبُوهَا حَيًّا ، وَعَلَى أَلْفَيْنِ إنْ كَانَ أَبُوهَا مَيِّتًا ، فَالتَّسْمِيَةُ فَاسِدَةٌ ، وَلَهَا صَدَاقُ نِسَائِهَا .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا ؛ لِأَنَّ حَالَ الْأَبِ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ ، فَيَكُونُ مَجْهُولًا .
وَإِنْ قَالَ : تَزَوَّجْتُك عَلَى أَلْفٍ إنْ لَمْ أُخْرِجْك مِنْ دَارِك ، وَعَلَى أَلْفَيْنِ إنْ أَخْرَجْتُك مِنْهَا .
أَوْ عَلَى أَلْفٍ إنْ لَمْ يَكُنْ لِي امْرَأَةٌ ، وَعَلَى أَلْفَيْنِ إنْ كَانَتْ لِي امْرَأَةٌ .
فَنَصَّ أَحْمَدُ عَلَى صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ .
وَقَالَ الْقَاضِي ، وَأَبُو بَكْرٍ : فِي الْجَمِيعِ رِوَايَتَانِ ؛ إحْدَاهُمَا ، لَا يَصِحُّ .
وَاخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ ؛ لِأَنَّ سَبِيلَهُ سَبِيلُ الشَّرْطَيْنِ ، فَلَمْ يَجُزْ ، كَالْبَيْعِ .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ ، يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ أَلْفًا مَعْلُومٌ ، وَإِنَّمَا جَهْلُ الثَّانِي وَهُوَ مَعْلُومٌ عَلَى شَرْطٍ ، فَإِنْ وُجِدَ الشَّرْطُ كَانَ زِيَادَةً فِي الصَّدَاقِ وَالصَّدَاقُ تَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِيهِ .
وَالْأُولَى أَوْلَى .
وَالْقَوْلُ بِأَنَّ هَذَا تَعْلِيقٌ عَلَى شَرْطٍ لَا يَصِحُّ لِوَجْهَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا ، أَنَّ الزِّيَادَةَ لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهَا عَلَى شَرْطٍ ، فَلَوْ قَالَ : إنْ مَاتَ أَبُوك ، فَقَدْ زِدْتُك فِي صَدَاقِك أَلْفًا .
لَمْ تَصِحَّ ، وَلَمْ تَلْزَمْ الزِّيَادَةُ عِنْدَ مَوْتِ الْأَبِ .
وَالثَّانِي ، أَنَّ الشَّرْطَ هَاهُنَا لَمْ يَتَجَدَّدْ فِي قَوْلِهِ : إنْ كَانَ لِي زَوْجَةٌ ، أَوْ إنْ كَانَ أَبُوك مَيِّتًا .
وَلَا الَّذِي جَعَلَ الْأَلْفَ فِيهِ مَعْلُومَ الْوُجُودِ ، لِيَكُونَ الْأَلْفُ الثَّانِي زِيَادَةً عَلَيْهِ .
وَيُمْكِنُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى إبْطَالِ التَّسْمِيَةِ فِيهَا ، وَبَيْنَ الَّتِي نَصَّ عَلَى الصِّحَّةِ فِيهَا ، بِأَنَّ الصِّفَةَ الَّتِي جَعَلَ الزِّيَادَةَ فِيهَا لَيْسَ لِلْمَرْأَةِ فِيهَا غَرَضٌ يَصِحُّ بَذْلُ الْعِوَضِ فِيهِ ، وَهُوَ كَوْنُ أَبِيهَا مَيِّتًا ، بِخِلَافِ الْمَسْأَلَتَيْنِ اللَّتَيْنِ صَحَّتْ التَّسْمِيَةُ فِيهِمَا ، فَإِنَّ خُلُوَّ الْمَرْأَةِ مِنْ ضَرَّةٍ تُغِيرُهَا

، وَتُقَاسِمُهَا ، وَتُضَيَّقُ عَلَيْهَا ، مِنْ أَكْبَرِ أَغْرَاضِهَا ، وَكَذَلِكَ إقْرَارُهَا فِي دَارِهَا بَيْنَ أَهْلِهَا وَفِي وَطَنِهَا ، فَلِذَلِكَ خَفَّفَتْ صَدَاقَهَا لِتَحْصِيلِ غَرَضِهَا ، وَثَقَّلَتْهُ عِنْد فَوَاتِهِ .
فَعَلَى هَذَا يَمْتَنِعُ قِيَاسُ إحْدَى الصُّورَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى ، وَلَا يَكُونُ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ إلَّا رِوَايَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَهِيَ الصِّحَّةُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ الْآخِرَتَيْنِ ، وَالْبُطْلَانُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى ، وَمَا جَاءَ مِنْ الْمَسَائِلِ أُلْحِقَ بِأَشْبَهِهِمَا بِهِ .

( 5643 ) فَصْلٌ : وَإِنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى طَلَاقِ امْرَأَةٍ لَهُ أُخْرَى ، لَمْ تَصِحَّ التَّسْمِيَةُ ، وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا .
وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ ، وَقَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَالٍ .
وَإِنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ } وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا تَسْأَلُ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا لِتُكْفِئَ مَا فِي صَحْفَتِهَا ، وَلِتُنْكَحَ ، فَإِنَّمَا لَهَا مَا قُدِّرَ لَهَا .
} صَحِيحٌ .
وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يَنْكِحَ امْرَأَةً بِطَلَاقِ أُخْرَى .
} وَلِأَنَّ هَذَا لَا يَصْلُحُ ثَمَنًا فِي بَيْعٍ ، وَلَا أَجْرًا فِي إجَارَةٍ ، فَلَمْ يَصِحَّ صَدَاقًا ، كَالْمَنَافِعِ الْمُحَرَّمَةِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ مَا لَوْ أَصْدَقَهَا خَمْرًا وَنَحْوَهُ ، يَكُونُ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ أَوْ نِصْفُهُ إنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ الْمُتْعَةِ عِنْدَ مَنْ يُوجِبُهَا فِي التَّسْمِيَةِ الْفَاسِدَةِ .
وَعَنْ أَحْمَدَ ، رِوَايَةٌ أُخْرَى ، أَنَّ التَّسْمِيَةَ صَحِيحَةٌ ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ فِعْلًا لَهَا فِيهِ نَفْعٌ وَفَائِدَةٌ ، لِمَا يَحْصُلُ لَهَا مِنْ الرَّاحَةِ بِطَلَاقِهَا مِنْ مُقَاسَمَتِهَا ، وَضَرَرِهَا ، وَالْغَيْرَةِ مِنْهَا ، فَصَحَّ صَدَاقًا ، كَعِتْقِ أَبِيهَا ، وَخِيَاطَةِ قَمِيصِهَا ، وَلِهَذَا صَحَّ بَذْلُ الْعِوَضِ فِي طَلَاقِهَا بِالْخُلْعِ .
فَعَلَى هَذَا إنْ لَمْ يُطَلِّقْ ضَرَّتَهَا ، فَلَهَا مِثْلُ صَدَاقِ الضَّرَّةِ ؛ لِأَنَّهُ سَمَّى لَهَا صَدَاقًا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ ، فَكَانَ لَهَا قِيمَتُهُ ، كَمَا لَوْ أَصْدَقَهَا عَبْدًا ، فَخَرَجَ حُرًّا ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ لَهَا مَهْرَ مِثْلِهَا ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا قِيمَةَ لَهُ .
وَإِنْ جَعَلَ صَدَاقَهَا أَنَّ طَلَاقَ ضَرَّتِهَا إلَيْهَا إلَى سَنَةٍ ، فَلَمْ تُطَلِّقْهَا ، فَقَالَ أَحْمَدُ إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً ، وَجَعَلَ طَلَاقَ الْأُولَى مَهْرَ الْأُخْرَى إلَى سَنَةٍ أَوْ إلَى وَقْتٍ ، فَجَاءَ الْوَقْتُ وَلَمْ تَقْضِ شَيْئًا ، رَجَعَ الْأَمْرُ إلَيْهِ .
فَقَدْ

أَسْقَطَ أَحْمَدُ حَقَّهَا ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ لَهَا إلَى وَقْتٍ ، فَإِذَا مَضَى الْوَقْتُ وَلَمْ تَقْضِ فِيهِ شَيْئًا ، بَطَلَ تَصَرُّفُهَا كَالْوَكِيلِ ، وَهَلْ يَسْقُطُ حَقُّهَا مِنْ الْمَهْرِ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ ، ذَكَرَهُمَا أَبُو بَكْرٍ ؛ أَحَدُهُمَا ، يَسْقُطُ ؛ لِأَنَّهَا تَرَكَتْ مَا شَرَطَ لَهَا بِاخْتِيَارِهَا ، فَسَقَطَ حَقُّهَا ، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى عَبْدٍ فَأَعْتَقَتْهُ .
وَالثَّانِي ، لَا يَسْقُطُ ؛ لِأَنَّهَا أَخَّرَتْ اسْتِيفَاءَ حَقِّهَا ، فَلَا يَسْقُطُ ، كَمَا لَوْ أَجْلَتْ قَبَضَ دَرَاهِمِهَا .
وَهَلْ تَرْجِعُ إلَى مَهْرِ مِثْلِهَا ، أَوْ إلَى مَهْرِ الْأُخْرَى ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَانِ .

( 5644 ) فَصْلٌ : الزِّيَادَةُ فِي الصَّدَاقِ بَعْدَ الْعَقْدِ تَلْحَقُ بِهِ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، قَالَ ، فِي الرَّجُلِ يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ عَلَى مَهْرٍ ، فَلَمَّا رَآهَا زَادَهَا فِي مَهْرِهَا : فَهُوَ جَائِزٌ ، فَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا ، فَلَهَا نِصْفُ الصَّدَاقِ الْأَوَّلِ ، وَاَلَّذِي زَادَهَا .
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا تَلْحَقُ الزِّيَادَةُ بِالْعَقْدِ ، فَإِنْ زَادَهَا فَهِيَ هِبَةٌ تَفْتَقِرُ إلَى شُرُوطِ الْهِبَةِ ، وَإِنْ طَلَّقَهَا بَعْدَ هِبَتِهَا ، لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ مِنْ الزِّيَادَةِ .
قَالَ الْقَاضِي : وَعَنْ أَحْمَدَ مِثْلُ ذَلِكَ ، فَإِنَّهُ قَالَ : إذَا زَوَّجَ رَجُلٌ أَمَتَهُ عَبْدَهُ ، ثُمَّ أَعْتَقَهُمَا جَمِيعًا ، فَقَالَتْ الْأَمَةُ : زِدْنِي فِي مَهْرِي حَتَّى أَخْتَارَك فَالزِّيَادَةُ لِلْأَمَةِ ، وَلَوْ لَحِقَتْ بِالْعَقْدِ ، كَانَتْ الزِّيَادَةُ لِلسَّيِّدِ .
وَلَيْسَ هَذَا دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الزِّيَادَةَ لَا تَلْحَقُ بِالْعَقْدِ ، فَإِنَّ مَعْنَى لُحُوقِ الزِّيَادَةِ بِالْعَقْدِ ، أَنَّهَا تَلْزَمُ وَيَثْبُتُ فِيهَا أَحْكَامُ الصَّدَاقِ ؛ مِنْ التَّنْصِيفِ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَغَيْرِهِ ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ فِيهَا قَبْلَ وُجُودِهَا ، وَأَنَّهَا تَكُونُ لِلسَّيِّدِ .
وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّ الزَّوْجَ مَلَكَ الْبُضْعَ بِالْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ ، فَلَمْ يَحْصُلْ بِالزِّيَادَةِ شَيْءٌ مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، فَلَا تَكُونُ عِوَضًا فِي النِّكَاحِ ، كَمَا لَوْ وَهَبَهَا شَيْئًا ، وَلِأَنَّهَا زِيَادَةٌ فِي عِوَضِ الْعَقْدِ بَعْدَ لُزُومِهِ ، فَلَمْ يُلْحَقُ بِهِ ، كَمَا فِي الْبَيْعِ .
وَلَنَا ، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ } وَلِأَنَّ مَا بَعْدَ الْعَقْدِ زَمَنٌ لِفَرْضِ الْمَهْرِ ، فَكَانَ حَالَةَ الزِّيَادَةِ كَحَالَةِ الْعَقْدِ وَبِهَذَا فَارَقَ الْبَيْعَ وَالْإِجَارَةَ وَقَوْلُهُمْ : إنَّهُ لَمْ يَمْلِكْ بِهِ شَيْئًا مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ .
قُلْنَا : هَذَا يَبْطُلُ بِجَمِيعِ الصَّدَاقِ فَإِنَّ الْمِلْكَ مَا حَصَلَ بِهِ ، وَلِهَذَا صَحَّ

خُلُوُّهُ عَنْهُ ، وَهَذَا أَلْزَمُ عِنْدَهُمْ ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا : مَهْرُ الْمُفَوِّضَةِ إنَّمَا وَجَبَ بِفَرْضِهِ لَا بِالْعَقْدِ ، وَقَدْ مَلَكَ الْبُضْعَ بِدُونِهِ .
ثُمَّ إنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَنِدَ ثُبُوتُ هَذِهِ الزِّيَادَةِ إلَى حَالَةِ الْعَقْدِ ، فَيَكُونَ كَأَنَّهُ ثَبَتَ بِهِمَا جَمِيعًا ، كَمَا قَالُوا فِي مَهْرِ الْمُفَوِّضَةِ إذَا فَرَضَهُ ، وَكَمَا قُلْنَا جَمِيعًا فِيمَا إذَا فَرَضَ لَهَا أَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّ مَعْنَى لُحُوقِ الزِّيَادَةِ بِالْعَقْدِ أَنَّهُ يَثْبُتُ لَهَا حُكْمُ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ ، فِي أَنَّهَا تَتَنَصَّفُ بِالطَّلَاقِ ، وَلَا تَفْتَقِرُ إلَى شُرُوطِ الْهِبَةِ ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ فِيهَا مِنْ حِينِ الْعَقْدِ ، وَلِأَنَّهَا تَثْبُتُ لِمَنْ كَانَ الصَّدَاقُ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَا يَجُوزُ تَقَدُّمُهُ عَلَى سَبَبِهِ ، وَلَا وُجُودِهِ فِي حَالِ عَدَمِهِ ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ بَعْدَ سَبَبَهُ مِنْ حِينَئِذٍ .
وَقَالَ الْقَاضِي : فِي الزِّيَادَةِ وَجْهٌ آخَرُ ، أَنَّهَا تَسْقُطُ بِالطَّلَاقِ .
وَلَا أَعْرِفُ وَجْهَ ذَلِكَ ، فَإِنَّ مَنْ جَعَلَهَا صَدَاقًا ، جَعَلَهَا تَسْتَقِرُّ بِالدُّخُولِ وَتَتَنَصَّفُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَهُ ، وَتَسْقُطُ كُلُّهَا إذَا جَاءَ الْفَسْخُ مِنْ قِبَلِ الْمَرْأَةِ ، وَمَنْ جَعَلَهَا هِبَةً جَعَلَهَا جَمِيعَهَا لِلْمَرْأَةِ ، لَا تَتَنَصَّفُ بِطَلَاقِهَا ، إلَّا أَنْ تَكُونَ غَيْرَ مَقْبُوضَةٍ ، فَإِنَّهَا تَسْقُطُ لِكَوْنِهَا عِدَّةً غَيْرَ لَازِمَةٍ ، فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي أَرَادَ ذَلِكَ فَهَذَا وَجْهٌ ، وَإِلَّا فَلَا .

( 5645 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَإِذَا أَصْدَقَهَا غَنَمًا فَتَوَالَدَتْ ، ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ ، كَانَتْ الْأَوْلَادُ لَهَا ، وَرَجَعَ بِنِصْفِ الْأُمَّهَاتِ ، إلَّا أَنْ تَكُونَ الْوِلَادَةُ نَقَصَتْهَا ، فَيَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ نِصْفَ قِيمَتِهَا وَقْتَ مَا أَصْدَقَهَا أَوْ يَأْخُذَ نِصْفَهَا نَاقِصَةً ) قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَهْرَ يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْمَرْأَةِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ ، فَإِذَا زَادَ فَالزِّيَادَةُ لَهَا ، وَإِنْ نَقَصَ فَعَلَيْهَا .
وَإِذَا كَانَتْ غَنَمًا فَتَوَالَدَتْ ، فَالْأَوْلَادُ زِيَادَةٌ مُنْفَصِلَةٌ ، تَنْفَرِدُ بِهَا دُونَهُ ، لِأَنَّهُ نَمَاءُ مِلْكِهَا .
وَيَرْجِعُ فِي نِصْفِ الْأُمَّهَاتِ ، إنْ لَمْ تَكُنْ نَقَصَتْ وَلَا زَادَتْ زِيَادَةً مُتَّصِلَةً ؛ لِأَنَّهُ نِصْفُ مَا فَرَضَ لَهَا ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } وَإِنْ كَانَتْ نَقَصَتْ بِالْوِلَادَةِ أَوْ بِغَيْرِهَا ، فَلَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ أَخْذِ نِصْفِهَا نَاقِصًا ؛ لِأَنَّهُ رَاضٍ بِدُونِ حَقِّهِ ، وَبَيْنَ أَخْذِ نِصْفِ قِيمَتِهَا : وَقْتَ مَا أَصْدَقَهَا ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ النَّقْصِ عَلَيْهَا ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَرْجِعُ فِي نِصْفِ الْأَصْلِ وَإِنَّمَا يَرْجِعُ فِي نِصْفِ الْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ فَسْخُ الْعَقْدِ فِي الْأَصْلِ دُونَ النَّمَاءِ ؛ لِأَنَّهُ مُوجِبُ الْعَقْدِ ، فَلَمْ يَجُزْ رُجُوعُهُ فِي الْأَصْلِ بِدُونِهِ .
وَلَنَا ، أَنَّ هَذَا نَمَاءٌ مُنْفَصِلٌ عَنْ الصَّدَاقِ ، فَلَمْ يَمْنَعْ رُجُوعَ الزَّوْجِ ، كَمَا لَوْ انْفَصَلَ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَمَا ذَكَرُوهُ فَغَيْرُ صَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَيْسَ بِرَفْعٍ لِلْعَقْدِ ، وَلَا النَّمَاءُ مِنْ مُوجِبَاتِ الْعَقْدِ ، إنَّمَا هُوَ مِنْ مُوجِبَاتِ الْمِلْكِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الْوِلَادَةِ قَبْلَ تَسْلِيمِهِ إلَيْهَا أَوْ بَعْدَهُ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ مَنَعَهَا قَبْضَهُ .
فَيَكُونُ النَّقْصُ مِنْ ضَمَانِهِ ، وَالزِّيَادَةُ لَهَا ، فَتَنْفَرِدُ بِالْأَوْلَادِ .
وَإِنْ

نَقَصَتْ الْأُمَّهَاتُ ، خُيِّرَتْ بَيْنَ أَخَذَ نِصْفِهَا نَاقِصَةً ، وَبَيْنَ أَخْذِ نِصْفِ قِيمَتِهَا أَكْثَرَ مَا كَانَتْ مِنْ يَوْمِ أَصْدَقَهَا إلَى يَوْمِ طَلَّقَهَا .
وَإِنْ أَرَادَ الزَّوْجُ نِصْفَ قِيمَةِ الْأُمَّهَاتِ مِنْ الْمَرْأَةِ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إذَا وَلَدَتْ فِي يَدِ الزَّوْجِ ، ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ ، رَجَعَ فِي نِصْفِ الْأَوْلَادِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ دَخَلَ فِي التَّسْلِيمِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ ، لِأَنَّ حَقَّ التَّسْلِيمِ تَعَلَّقَ بِالْأُمِّ ، فَسَرَى إلَى الْوَلَدِ ، كَحَقِّ الِاسْتِيلَادِ ، وَمَا دَخَلَ فِي التَّسْلِيمِ الْمُسْتَحَقِّ يَتَنَصَّفُ بِالطَّلَاقِ ، كَاَلَّذِي دَخَلَ فِي الْعَقْدِ .
وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } وَمَا فُرِضَ هَا هُنَا إلَّا الْأُمَّهَاتُ ، فَلَا يَتَنَصَّفُ سِوَاهَا ، وَلِأَنَّ الْوَلَدَ حَدَثَ فِي مِلْكِهَا ، فَأَشْبَهَ مَا حَدَثَ فِي يَدِهَا ، وَلَا يُشْبِهُ حَقُّ التَّسْلِيمِ حَقَّ الِاسْتِيلَادِ ، فَإِنْ حَقَّ الِاسْتِيلَادِ يَسْرِي ، وَحَقَّ التَّسْلِيمِ لَا سِرَايَةَ لَهُ ، فَإِنْ تَلِفَ فِي يَدِ الزَّوْجِ ، وَكَانَتْ الْمَرْأَةُ قَدْ طَالَبَتْ بِهِ فَمَنَعَهَا ، ضَمِنَهُ كَالْغَاصِبِ ، وَإِلَّا لَمْ يَضْمَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِأُمِّهِ .

( 5646 ) فَصْلٌ : وَالْحُكْمُ فِي الصَّدَاقِ إذَا كَانَ جَارِيَةً ، كَالْحُكْمِ فِي الْغَنَمِ ، فَإِذَا وَلَدَتْ كَانَ الْوَلَدُ لَهَا ، كَوَلَدِ الْغَنَمِ ، إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ فِي نِصْفِ الْأَصْلِ ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْأُمِّ وَوَلَدِهَا فِي بَعْضِ الزَّمَانِ ، وَكَمَا لَا يَجُوزُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ وَلَدِهَا فِي جَمِيعِ الزَّمَانِ ، لَا يَجُوزُ فِي بَعْضِهِ ، فَيَرْجِعُ أَيْضًا فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا وَقْتَ مَا أَصْدَقَهَا لَا غَيْر .

( 5647 ) فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ الصَّدَاقُ بَهِيمَةً حَائِلًا ، فَحَمَلَتْ فَالْحَمْلُ فِيهَا زِيَادَةٌ مُتَّصِلَةٌ ، إنْ بَذَلَتْهَا لَهُ بِزِيَادَتِهَا ، لَزِمَهُ قَبُولُهَا ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مَعْدُودًا نَقْصًا ، وَلِذَلِكَ لَا يُرَدُّ بِهِ الْمَبِيعُ ، وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً ، فَحَمَلَتْ ، فَقَدْ زَادَتْ مِنْ وَجْهٍ لِأَجَلِ وَلَدِهَا ، وَنَقَصَتْ مِنْ وَجْهٍ ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ فِي النِّسَاءِ نَقْصٌ ، لِخَوْفِ التَّلَفِ عَلَيْهَا حِينَ الْوِلَادَةِ ، وَلِهَذَا يُرَدُّ بِهَا الْمَبِيعُ ، فَحِينَئِذٍ لَا يَلْزَمُهَا بَذْلُهَا لِأَجْلِ الزِّيَادَةِ ، وَلَا يَلْزَمُهُ قَبُولُهَا لِأَجْلِ النَّقْصِ ، وَلَهُ نِصْفُ قِيمَتِهَا .
وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى تَنْصِيفِهَا ، جَازَ .
وَإِنْ أَصْدَقَهَا حَامِلًا ، فَوَلَدَتْ ، فَقَدْ أَصْدَقَهَا عَيْنَيْنِ الْجَارِيَةَ وَوَلَدَهَا ، وَزَادَ الْوَلَدُ فِي مِلْكِهَا ، فَإِنْ طَلَّقَهَا ، فَرَضِيَتْ بِبَذْلِ النِّصْفِ مِنْ الْأُمِّ وَالْوَلَدِ جَمِيعًا ، أُجْبِرَ عَلَى قَبُولِهِمَا ؛ لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ غَيْرُ مُتَمَيِّزَةٍ وَإِنْ لَمْ تَبْذُلْهُ ، لَمْ يَجُزْ لَهُ الرُّجُوعُ فِي نِصْفِ الْوَلَد ؛ لِزِيَادَتِهِ ، وَلَا فِي نِصْفِ الْأُمِّ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ وَلَدِهَا ، وَيَرْجِعُ بِنِصْفِ قِيمَةِ الْأُمِّ ، وَفِي نِصْفِ الْوَلَدِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، لَا يَسْتَحِقُّ نِصْفَ قِيمَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ حَالَةَ الْعَقْدِ لَا قِيمَةَ لَهُ ، وَحَالَةَ الِانْفِصَالِ قَدْ زَادَ فِي مِلْكِهَا ، فَلَا يُقَوَّمُ الزَّوْجُ بِزِيَادَتِهِ .
وَيُفَارِقُ وَلَدَ الْمَغْرُورِ ، فَإِنَّ وَقْتَ الِانْفِصَالِ وَقْتُ الْحَيْلُولَةِ ، فَلِهَذَا قُوِّمَ فِيهَا ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا .
وَالثَّانِي ، لَهُ نِصْفُ قِيمَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَصْدَقَهَا عَيْنَيْنِ ، فَلَا يَرْجِعُ فِي إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى ، وَيُقَوَّمُ حَالَةَ الِانْفِصَالِ ؛ لِأَنَّهَا أَوَّلُ حَالَةِ إمْكَانِ تَقْوِيمِهِ .
وَفِي الْمَسْأَلَةِ وَجْهٌ آخِرُ وَهُوَ أَنَّ الْحَمْلَ لَا حُكْمَ لَهُ ، فَيَكُونُ كَأَنَّهُ حَادِثٌ .

( 5648 ) فَصْلٌ : إذَا كَانَ الصَّدَاقُ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا ، فَنَقَصَ فِي يَدِ الزَّوْجِ قَبْلَ تَسْلِيمِهِ إلَيْهَا ، أَوْ كَانَ غَيْرَ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ ، فَمَنَعَهَا أَنْ تَتَسَلَّمَهُ ، فَالنَّقْصُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ ضَمَانِهِ ، وَتَتَخَيَّرُ الْمَرْأَةُ بَيْنَ أَخْذِ نِصْفِهِ نَاقِصًا مَعَ أَرْشِ النَّقْصِ ، وَبَيْنَ أَخْذِ نِصْفِ قِيمَتِهِ أَكْثَرَ مَا كَانَتْ ، مِنْ يَوْمِ أَصْدَقَهَا إلَى يَوْمِ طَلَّقَهَا ؛ لِأَنَّهُ إنْ زَادَ فَلَهَا ، وَإِنْ نَقَصَ فَعَلَيْهِ ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ ، وَلَا يَضْمَنُ زِيَادَةَ الْقِيمَةِ لِتَغَيُّرِ الْأَسْعَارِ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ ضَمَانِ الْغَاصِبِ ، فَهَاهُنَا أَوْلَى .

( 5649 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( وَإِذَا أَصْدَقَهَا أَرْضًا ، فَبَنَتْهَا دَارًا ، أَوْ ثَوْبًا فَصَبَغَتْهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ ، رَجَعَ بِنِصْفِ قِيمَتِهِ وَقْتَ مَا أَصْدَقَهَا ، إلَّا أَنْ يَشَاءَ أَنْ يُعْطِيَهَا نِصْفَ قِيمَةِ الْبِنَاءِ وَالصَّبْغِ ، فَيَكُونُ لَهُ النِّصْفُ ، أَوْ تَشَاءَ هِيَ أَنْ تُعْطِيَهُ زَائِدًا ، فَلَا يَكُونُ لَهُ غَيْرُهُ ) .
إنَّمَا كَانَ لَهُ نِصْفُ الْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ فِي الْأَرْضِ وَالثَّوْبِ زِيَادَةٌ لِلْمَرْأَةِ ، وَهِيَ الْبِنَاءُ وَالصَّبْغُ ، فَإِنْ دَفَعَتْ إلَيْهِ نِصْفَ الْجَمِيعِ زَائِدًا ، فَعَلَيْهِ قَبُولُهُ ؛ لِأَنَّهُ حَقُّهُ وَزِيَادَةٌ .
وَإِنْ بَذَلَ لَهَا نِصْفَ قِيمَةِ الْبِنَاءِ وَالصَّبْغِ ، وَيَكُونُ لَهُ النِّصْفُ ، فَقَالَ الْخِرَقِيِّ : " لَهُ ذَلِكَ " .
قَالَ الْقَاضِي : هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُمَا تَرَاضَيَا بِذَلِكَ ، لَا أَنَّهَا تُجْبَرُ عَلَى قَبُولِهِ ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْبِنَاءِ مُعَاوَضَةٌ ، فَلَا تُجْبَرُ الْمَرْأَةُ عَلَيْهَا .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا تُجْبَرُ ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ حَصَلَتْ لَهُ ، وَفِيهَا بِنَاءٌ لَغَيْرِهِ ، فَإِذَا بَذَلَ الْقِيمَةَ ، لَزِمَ الْآخَرَ قَبُولُهُ ، كَالشَّفِيعِ إذَا أَخَذَ الْأَرْضَ بَعْدَ بِنَاءِ الْمُشْتَرِي فِيهَا ، فَبَذَلَ الشَّفِيعُ قِيمَتَهُ ، لَزِمَ الْمُشْتَرِيَ ، قَبُولُهَا ، وَكَذَلِكَ إذَا رَجَعَ الْمُعِيرُ فِي أَرْضِهِ ، وَفِيهَا بِنَاءٌ أَوْ غَرْسٌ لَلْمُسْتَعِيرِ ، فَبَذَلَ الْمُعِيرُ قِيمَةَ ذَلِكَ لَزِمَ الْمُسْتَعِيرَ قَبُولُهَا .
.

( 5650 ) فَصْلٌ : إذَا أَصْدَقَهَا نَخْلًا حَائِلًا ، فَأَثْمَرَتْ فِي يَدِهِ ، فَالثَّمَرَةُ لَهَا ؛ لِأَنَّهَا نَمَاءُ مِلْكِهَا ، فَإِنْ جَذَّهَا بَعْدَ تَنَاهِيهَا ، وَجَعَلَهَا فِي ظُرُوفٍ ، وَأَلْقَى عَلَيْهَا صَقْرًا ، مِنْ صَقْرِهَا ، وَهُوَ سَيَلَانُ الرُّطَبِ بِغَيْرِ طَبْخٍ ، وَهَذَا يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْحِجَازِ حِفْظًا لِرُطُوبَتِهَا ، لَمْ يَخْلُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا ، أَنْ لَا تَنْقُصَ قِيمَةُ الثَّمَرَةِ وَالصَّقْرِ ، بَلْ كَانَا بِحَالِهِمَا ، أَوْ زَادَا ، فَإِنَّهُ يَرُدُّهُمَا عَلَيْهَا ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ .
الثَّانِي ، أَنْ تَنْقُصَ قِيمَتُهَا ، وَذَلِكَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا ، أَنْ يَكُونَ نَقْصُهُمَا مُتَنَاهِيًا ، فَإِنَّهُ يَدْفَعُهُمَا إلَيْهَا وَأَرْشَ نَقْصِهِمَا ؛ لِأَنَّهُ تَعَدَّى بِمَا فَعَلَهُ مِنْ ذَلِكَ .
الضَّرْبُ الثَّانِي ، أَنْ لَا يَتَنَاهَى ، بَلْ يَتَزَايَدُ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، أَنَّهَا تَأْخُذُ قِيمَتَهَا ؛ لِأَنَّهَا كَالْمُسْتَهْلِكَةِ وَالثَّانِي ، هِيَ مُخَيَّرَةٌ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ تَرْكِهَا حَتَّى يَسْتَقِرَّ نَقْصُهَا ، وَتَأْخُذُهَا وَأَرْشَهَا ، كَالْمَغْصُوبِ مِنْهُ .
الْحَالُ الثَّالِثُ ، أَنْ لَا تَنْقُصَ قِيمَتُهَا لَكِنْ إنْ أَخْرَجَهَا مِنْ ظُرُوفِهَا نَقَصَتْ قِيمَتُهَا ، فَلِلزَّوْجِ إخْرَاجُهَا وَأَخْذُ ظُرُوفِهَا ، إنْ كَانَتْ الظُّرُوفُ مِلْكَهُ .
وَإِذَا نَقَصَتْ ، فَالْحُكْمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ .
وَإِنْ قَالَ الزَّوْجُ : أَنَا أُعْطِيكَهَا مَعَ ظُرُوفِهَا .
فَقَالَ الْقَاضِي : يَلْزَمُهَا قَبُولُهَا ؛ لِأَنَّ ظُرُوفَهَا كَالْمُتَّصِلَةِ بِهَا التَّابِعَةَ لَهَا .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَلْزَمَهَا قَبُولُهَا ؛ لِأَنَّ الظُّرُوفَ عَيْنُ مَالِهِ ، فَلَا يَلْزَمُهَا قَبُولُهَا ، كَالْمُنْفَصِلَةِ عَنْهَا .
( 5651 ) فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَتْ بِحَالِهَا ، إلَّا أَنَّ الصَّقْرَ الْمَتْرُوكَ عَلَى الثَّمَرَةِ مِلْكُ الزَّوْجِ ، فَإِنَّهُ يَنْزِعُ الصَّقْرَ ، وَيَرُدُّ الثَّمَرَةَ ، وَالْحُكْمُ فِيهَا إنْ نَقَصَتْ أَوْ لَمْ تَنْقُصْ ، كَاَلَّتِي قَبْلَهَا .
وَإِنْ قَالَ : أَنَا أُسَلِّمُهَا مَعَ الصَّقْرِ وَالظُّرُوفِ .
فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ

ذَكَرْنَاهُمَا .
وَفِي الْمَوْضِعِ الَّذِي حَكَمْنَا أَنَّ لَهُ رَدَّهُ ، إذَا قَالَتْ : أَنَا أَرُدُّ الثَّمَرَةَ ، وَآخُذُ الْأَصْلَ .
فَلَهَا ذَلِكَ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ .
وَالْآخَرِ ، لَيْسَ لَهَا ذَلِكَ .
مَبْنِيَّانِ عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ فِي الْبَيْعِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي مَوْضِعِهَا .

( 5652 ) فَصْلٌ : إذَا كَانَ الصَّدَاقُ جَارِيَةً فَوَطِئَهَا الزَّوْجُ ، عَالِمًا بِزَوَالِ مِلْكِهِ ، وَتَحْرِيمِ الْوَطْءِ عَلَيْهِ ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ ؛ لِأَنَّهُ وَطْءٌ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ ، وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ لِسَيِّدَتِهَا ، أَكْرَهَهَا أَوْ طَاوَعَتْهُ ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ لِمَوْلَاتِهَا ، فَلَا يَسْقُطُ بِبَذْلِهَا وَمُطَاوَعَتِهَا ، كَمَا لَوْ بَذَلَتْ يَدَهَا لِلْقَطْعِ ، وَالْوَلَدُ رَقِيقٌ لِلْمَرْأَةِ .
وَإِنْ اعْتَقَدَ أَنَّ مِلْكَهُ لَمْ يَزُلْ عَنْ جَمِيعِهَا ، كَمَا حُكِيَ عَنْ مَالِكٍ ، أَوْ كَانَ غَيْرَ عَالَمٍ بِتَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ لِلشُّبْهَةِ ، وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ ، وَالْوَلَدُ حُرٌّ لَا حَقَّ نَسَبُهُ بِهِ ، وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ يَوْمَ وِلَادَتِهِ ، وَلَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ، وَإِنْ مَلَكَهَا بَعْدَ ذَلِكَ ، لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ فِيهَا ، وَتُخَيَّرُ الْمَرْأَةُ بَيْنَ أَخْذِهَا فِي حَالِ حَمْلِهَا ، وَبَيْنَ أَخْذِ قِيمَتِهَا ؛ لِأَنَّهُ نَقَصَهَا بِإِحْبَالِهَا ، وَهَلْ لَهَا الْأَرْشُ مَعَ ذَلِكَ ؟ يَحْتَمِلُ أَنَّ لَهَا الْأَرْشَ ؛ لِأَنَّهَا نَقَصَتْ بِعُدْوَانِهِ أَشْبَهَ مَا لَوْ نَقَصَهَا الْغَاصِبُ بِذَلِكَ .
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي الْأَرْشِ هَاهُنَا قَوْلَانِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَهَا الْمُطَالَبَةُ بِالْأَرْشِ ، قَوْلًا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّ النَّقْصَ حَصَلَ بِفِعْلِهِ الَّذِي تَعَدَّى بِهِ ، فَهُوَ كَالْغَاصِبِ ، وَكَمَا لَوْ طَالَبَتْهُ فَمَنَعَ تَسْلِيمَهَا .
وَهَذَا أَصَحُّ .

( 5653 ) فَصْلٌ : إذَا أَصْدَقَ ذِمِّيٌّ ذِمِّيَّهُ خَمْرًا ، فَتَخَلَّلَتْ فِي يَدِهَا ، ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ ، احْتَمَلَ أَنْ لَا يَرْجِعَ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّهَا قَدْ زَادَتْ فِي يَدِهَا بِالتَّخَلُّلِ ، وَالزِّيَادَةُ لَهَا ، وَإِنْ أَرَادَ الرُّجُوعَ بِنِصْفِ قِيمَتِهَا قَبْلَ التَّخَلُّلِ ، فَلَا قِيمَةَ لَهَا ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ إذَا زَادَتْ فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا أَقَلَّ مَا كَانَتْ مِنْ حِينَ الْعَقْدِ إلَى حِينِ الْقَبْضِ ، وَحِينَئِذٍ لَا قِيمَةَ لَهَا ، وَإِنْ تَخَلَّلَتْ فِي يَدِ الزَّوْجِ ، ثُمَّ طَلَّقَهَا ، فَلَهَا ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَهَا .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْخَلُّ لَهُ ، وَعَلَيْهِ نِصْفُ مَهْرِ مِثْلِهَا ، إذَا تَرَافَعَا إلَيْنَا قَبْلَ الْقَبْضِ ، أَوْ أَسْلَمَا ، أَوْ أَحَدُهُمَا .

فَصْلٌ : إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَضَمِنَ أَبُوهُ نَفَقَتَهَا عَشْرَ سِنِينَ ، صَحَّ ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنَّهُ ضَمَانُ مَجْهُولٍ ، أَوْ ضَمَانُ مَا لَمْ يَجِبْ ، وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ ، وَلَا فَرْقَ بَيْن كَوْنِ الزَّوْجِ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا .
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ ؛ فَمِنْهُمْ مِنْ قَالَ كَقَوْلِنَا ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَا يَصِحُّ إلَّا ضَمَانُ نَفَقَةِ الْمُعْسِرِ ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْمُعْسِرِ يَتَغَيَّرُ حَالُهُ ، فَيَكُونُ عَلَيْهِ نَفَقَةُ الْمُوسِرِ أَوْ الْمُتَوَسِّطِ ، فَيَكُونُ ضَمَانَ مَجْهُولٍ ، وَالْمُعْسِرُ مَعْلُومٌ مَا عَلَيْهِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَا يَصِحُّ أَصْلًا ، لِأَنَّهُ ضَمَانُ مَا لَمْ يَجِبْ .
وَلَنَا أَنَّ الْحَبَلَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الضَّمَانِ ، بِدَلِيلِ صِحَّةِ ضَمَانِ نَفَقَةِ الْمُعْسِرِ ، مَعَ احْتِمَالِ أَنْ يَمُوتَ أَحَدُهُمَا فَتَسْقُطُ النَّفَقَةُ ، وَمَعَ ذَلِكَ صَحَّ الضَّمَانُ ، فَكَذَلِكَ هَذَا .

( 5655 ) فَصْلٌ : وَيَجِبُ الْمَهْرُ لِلْمَنْكُوحَةِ نِكَاحًا صَحِيحًا ، وَالْمَوْطُوءَةِ فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ ، وَالْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ .
بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ .
وَيَجِبُ لِلْمُكْرَهَةِ عَلَى الزِّنَى .
وَعَنْ أَحْمَدَ ، رِوَايَةٌ أُخْرَى : أَنَّهُ لَا مَهْرَ لَهَا إنْ كَانَتْ ثَيِّبًا .
وَاخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ .
وَلَا يَجِبُ مَعَ ذَلِكَ أَرْشُ الْبَكَارَةِ .
وَذَكَرَ الْقَاضِي ، أَنَّ أَحْمَدَ قَدْ قَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ ، فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيَّةِ إذَا أَكْرَهَهَا عَلَى الزِّنَى ، وَهِيَ بِكْرٌ : فَعَلَيْهِ الْمَهْرُ ، وَأَرْشُ الْبَكَارَةِ .
وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا مَهْرَ لِلْمُكْرَهَةِ عَلَى الزِّنَى .
وَلَنَا { قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا } .
وَهَذَا حُجَّةٌ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ ؛ فَإِنَّ الْمُكْرَهَ مُسْتَحِلٌّ لِفَرْجِهَا ، فَإِنَّ الِاسْتِحْلَالَ الْفِعْلُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْحِلِّ ، كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { : مَا آمَنَ بِالْقُرْآنِ مَنْ اسْتَحَلَّ مَحَارِمَهُ } .
وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ أَوْجَبَ الْأَرْشَ لِكَوْنِهِ أَوْجَبَ الْمَهْرَ وَحْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَرْشٍ ، وَلِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَا يَجِبُ بَدَلُهُ بِالشُّبْهَةِ ، وَفِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ كَرِهَا ، فَوَجَبَ بَدَلُهُ كَإِتْلَافِ الْمَالِ ، وَأَكْلِ طَعَامِ الْغَيْرِ .
وَلَنَا ، عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْأَرْشُ ، أَنَّهُ وَطْءٌ ضَمِنَ بِالْمَهْرِ ، فَلَمْ يَجِبْ مَعَهُ أَرْشٌ ، كَسَائِرِ الْوَطْءِ ، يُحَقِّقُهُ أَنَّ الْمَهْرَ بَدَلُ الْمَنْفَعَةِ الْمُسْتَوْفَاةِ بِالْوَطْءِ ، وَبَدَلُ الْمُتْلَفِ لَا يَخْتَلِفُ بِكَوْنِهِ فِي عَقْدٍ فَاسِدٍ ، وَكَوْنِهِ تَمَحَّضَ عُدْوَانًا ، وَلِأَنَّ الْأَرْشَ يَدْخُلُ فِي الْمَهْرِ ، لِكَوْنِ الْوَاجِبِ لَهَا مَهْرَ الْمِثْلِ ، وَمَهْرُ الْبِكْرِ يَزِيدُ عَلَى مَهْرِ الثَّيِّبِ بِبَكَارَتِهَا ، فَكَانَتْ الزِّيَادَةُ فِي الْمَهْرِ مُقَابِلَةً لِمَا أُتْلِفَ مِنْ الْبَكَارَةِ ، فَلَا يَجِبُ عِوَضُهَا مَرَّةً ثَانِيَةً .
يُحَقِّقُهُ أَنَّهُ إذَا أُخِذَ أَرْشُ الْبَكَارَةِ مَرَّةً ، لَمْ يَجُزْ أَخْذُهُ مَرَّةً

أُخْرَى ، فَتَصِيرُ كَأَنَّهَا مَعْدُومَةٌ ، فَلَا يَجِبُ لَهَا إلَّا مَهْرُ ثَيِّبٍ ، وَمَهْرُ الثَّيِّبِ مَعَ أَرْشِ الْبَكَارَةِ هُوَ مَهْرُ مِثْلِ الْبِكْرِ ، فَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( 5656 ) فَصْلٌ : وَلَا فَرْقَ بَيْن كَوْنِ الْمَوْطُوءَةِ أَجْنَبِيَّةً أَوْ مِنْ ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ .
وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ .
وَمَذْهَبُ النَّخَعِيِّ ، وَمَكْحُولٍ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيِّ .
وَعَنْ أَحْمَدَ ، رِوَايَةٌ أُخْرَى ، أَنَّ ذَوَاتَ مَحَارِمِهِ مِنْ النِّسَاءِ لَا مَهْرَ لَهُنَّ .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَهُنَّ تَحْرِيمُ أَصْلٍ ، فَلَا يُسْتَحَقُّ بِهِ مَهْرٌ .
كَاللِّوَاطِ ، وَفَارَقَ مَنْ حُرِّمَتْ تَحْرِيمَ الْمُصَاهَرَةِ ، فَإِنَّ تَحْرِيمَهَا طَارِئٌ ، وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِي مَنْ حُرِّمَتْ بِالرَّضَاعِ ؛ لِأَنَّهُ طَارِئٌ أَيْضًا .
وَعَنْ أَحْمَدَ ، رِوَايَةٌ أُخْرَى ، أَنَّ مَنْ تَحْرُمُ ابْنَتُهَا لَا مَهْرَ لَهَا ، كَالْأُمِّ وَالْبِنْتِ وَالْأُخْتِ ، وَمِنْ تَحِلُّ ابْنَتُهَا ، كَالْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ ، فَلَهَا الْمَهْرُ ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَهَا أَخَفُّ .
وَلَنَا ، أَنَّ مَا ضَمِنَ لِلْأَجْنَبِيِّ ، ضَمِنَ لِلْمُنَاسِبِ ، كَالْمَالِ وَمَهْرِ الْأَمَةِ ، وَلِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَنْفَعَةَ بُضْعِهَا بِالْوَطْءِ ، فَلَزِمَهُ مَهْرُهَا ، كَالْأَجْنَبِيَّةِ ، وَلِأَنَّهُ مَحَلٌّ مَضْمُونٌ عَلَى غَيْرِهِ ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ ، كَالْمَالِ ، وَبِهَذَا فَارَقَ اللِّوَاطَ ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَضْمُونٍ عَلَى أَحَدٍ .

( 5657 ) فَصْلٌ : وَلَا يَجِبُ الْمَهْرُ بِالْوَطْءِ فِي الدُّبُرِ وَلَا اللِّوَاطِ ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِبَدَلِهِ ، وَلَا هُوَ إتْلَافٌ لَشَيْءٍ ، فَأَشْبَهَ الْقُبْلَةَ وَالْوَطْءَ دُونَ الْفَرْجِ ، وَلَا يَجِبُ لِلْمُطَاوِعَةِ عَلَى الزِّنَى ، لِأَنَّهَا بَاذِلَةٌ لِمَا يَجِبُ بَذْلُهُ لَهَا ، فَلَمْ يَجِبْ لَهَا شَيْءٌ ، كَمَا لَوْ أَذِنَتْ لَهُ فِي قَطْعِ يَدِهَا فَقَطَعَهَا ، إلَّا أَنْ تَكُونَ أَمَةً ، فَيَكُونُ الْمَهْرُ لِسَيِّدِهَا ، وَلَا يَسْقُطُ بِبَذْلِهَا ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لِغَيْرِهَا ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ بَذَلَتْ قَطْعَ يَدِهَا .

( 5658 ) فَصْلٌ : وَلَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ طَلْقَةً ، وَظَنَّ أَنَّهَا لَا تَبِينُ بِهَا ، فَوَطِئَهَا ، لَزِمَهُ مَهْرُ الْمِثْلِ ، وَنِصْفُ الْمُسَمَّى .
وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَلْزَمُهُ إلَّا مَهْرٌ وَاحِدٌ .
وَلَنَا أَنَّ الْمَفْرُوضَ يَتَنَصَّفُ بِطَلَاقِهِ ، بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : { فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } .
وَوَطْؤُهُ بَعْدَ ذَلِكَ عَرِيَ عَنْ الْعَقْدِ ، فَوَجَبَ بِهِ مَهْرُ الْمِثْلِ ، كَمَا لَوْ عَلِمَ أَوْ كَغَيْرِهَا ، أَوْ كَمَا لَوْ وَطِئَهَا غَيْرُهُ .

( 5659 ) فَصْلٌ : وَمَنْ نِكَاحُهَا بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ كَالْمُزَوَّجَةِ ، وَالْمُعْتَدَّةِ ، إذَا نَكَحَهَا رَجُلٌ فَوَطِئَهَا عَالِمًا بِالْحَالِ ، وَتَحْرِيمِ الْوَطْءِ ، وَهِيَ مُطَاوِعَةٌ عَالِمَةٌ ، فَلَا مَهْرَ لَهَا ؛ لِأَنَّهُ زِنَى يُوجِبُ الْحَدَّ ، وَهِيَ مُطَاوِعَةٌ عَلَيْهِ .
وَإِنْ جَهِلَتْ تَحْرِيمَ ذَلِكَ ، أَوْ كَوْنَهَا فِي الْعِدَّةِ فَالْمَهْرُ لَهَا ؛ لِأَنَّهُ وَطْءُ شُبْهَةٍ .
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد ، بِإِسْنَادِهِ ، { أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ بَصْرَةُ بْنُ أَكْثَمَ ، نَكَحَ امْرَأَةً ، فَوَلَدَتْ لِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا الصَّدَاقَ .
وَفِي لَفْظٍ قَالَ : لَهَا الصَّدَاقُ بِمَا اسْتَحْلَلْت مِنْ فَرْجِهَا ، فَإِذَا وَلَدَتْ فَاجْلِدُوهَا } .
وَرَوَى سَعِيدٌ ، فِي " سُنَنِهِ " ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ كَثِيرٍ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنِ الْحُرِّ تَزَوَّجَ جَارِيَةً مِنْ قَوْمِهِ ، يُقَالُ لَهَا الدَّرْدَاءُ ، فَانْطَلَقَ عُبَيْدُ اللَّهِ ، فَلَحِقَ بِمُعَاوِيَةَ ، وَمَاتَ أَبُو الْجَارِيَةِ فَزَوَّجَهَا أَهْلُهَا رَجُلًا ، يُقَالُ لَهُ عِكْرِمَةُ ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُبَيْدَ اللَّهِ ، فَقَدِمَ فَخَاصَمَهُمْ إلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَصُّوا عَلَيْهِ قِصَّتَهُمْ ، فَرَدَّ عَلَيْهِ الْمَرْأَةَ ، وَكَانَتْ حَامِلًا مِنْ عِكْرِمَةَ ، فَوَضَعَتْ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ ، فَقَالَتْ الْمَرْأَةُ لَعَلِيٍّ : أَنَا أَحَقُّ بِمَالِيِّ أَوْ عُبَيْدُ اللَّهِ ؟ قَالَ : بَلْ أَنْتِ أَحَقُّ بِمَالِك .
قَالَتْ : فَاشْهَدُوا أَنَّ مَا كَانَ لِي عَلَى عِكْرِمَةَ مِنْ صَدَاقٍ فَهُوَ لَهُ ، فَلَمَّا وَضَعَتْ مَا فِي بَطْنِهَا ، رَدَّهَا عَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْن الْحُرِّ ، وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِأَبِيهِ .

( 5660 ) فَصْلٌ : وَالصَّدَاقُ إذَا كَانَ فِي الذِّمَّةِ ، فَهُوَ دَيْنٌ ، إذَا مَاتَ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ سِوَاهُ ، قُسِّمَ مَالُهُ بَيْنهمْ بِالْحِصَصِ .
قَالَ أَحْمَدُ فِي مَرِيضٍ تَزَوَّجَ فِي مَرَضِهِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ وَمَاتَ : مَا تَرَكَ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ وَالْمَرْأَةِ بِالْحِصَصِ .
وَذَلِكَ لِأَنَّ نِكَاحَ الْمَرِيضِ صَحِيحٌ ، وَالصَّدَاقَ دَيْنٌ ، فَتَسَاوَى سَائِرُ الدُّيُونِ .

فَصْلٌ : وَكُلُّ فُرْقَةٍ كَانَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ مِنْ قِبَلِ الْمَرْأَةِ ، مِثْلُ إسْلَامِهَا ، أَوْ رِدَّتِهَا ، أَوْ إرْضَاعِهَا مَنْ يَنْفَسِخُ النِّكَاحُ بِإِرْضَاعِهِ ، أَوْ ارْتِضَاعِهَا وَهِيَ صَغِيرَةٌ ، أَوْ فَسَخَتْ لِإِعْسَارَةِ ، أَوْ عَيْبِهِ ، أَوْ لِعِتْقِهَا تَحْت عَبْدٍ ، أَوْ فَسْخِهِ بِعَيْبِهَا ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ بِهِ مَهْرُهَا ، وَلَا يَجِبُ لَا مُتْعَةٌ ؛ لِأَنَّهَا أَتْلَفَتْ الْمُعَوَّضَ قَبْلَ تَسْلِيمِهِ ، فَسَقَطَ الْبَدَلُ كُلُّهُ ، كَالْبَائِعِ يُتْلِفُ الْمَبِيعَ قَبْلَ تَسْلِيمِهِ .
وَإِنْ كَانَتْ بِسَبَبِ الزَّوْجِ ، كَطَلَاقِهِ ، وَخُلْعِهِ ، وَإِسْلَامِهِ ، وَرِدَّتِهِ ، أَوْ جَاءَتْ مِنْ أَجْنَبِيٍّ ، كَالرَّضَاعِ ، أَوْ وَطْءٍ يَنْفَسِخُ بِهِ النِّكَاحُ ، سَقَطَ نِصْفُ الْمَهْرِ ، وَوَجَبَ نِصْفُهُ أَوْ الْمُتْعَةُ لِغَيْرِ مَنْ سُمِّيَ لَهَا ، ثُمَّ يَرْجِعُ الزَّوْجُ عَلَى مَنْ فَسَخَ النِّكَاحَ إذَا جَاءَ الْفَسْخُ مِنْ قِبَلِ أَجْنَبِيٍّ .
وَإِنْ قَتَلَتْ الْمَرْأَةُ ، اسْتَقَرَّ الْمَهْرُ جَمِيعُهُ ؛ لِأَنَّهَا فُرْقَةٌ حَصَلَتْ بِالْمَوْتِ ، وَانْتِهَاءِ النِّكَاحِ ، فَلَا يَسْقُطُ بِهَا الْمَهْرُ ، كَمَا لَوْ مَاتَتْ حَتْفَ أَنْفِهَا ، سَوَاءٌ قَتَلَهَا زَوْجُهَا أَوْ أَجْنَبِيٌّ ، أَوْ قَتَلَتْ نَفْسَهَا ، أَوْ قَتَلَ الْأَمَةَ سَيِّدُهَا .
وَإِنْ طَلَّقَ الْحَاكِمُ عَلَى الزَّوْجِ فِي الْإِيلَاءِ ، فَهُوَ كَطَلَاقِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَامَ مَقَامَهُ فِي إيفَاءِ الْحَقِّ عَلَيْهِ عِنْدَ امْتِنَاعِهِ مِنْهُ .
وَفِي فُرْقَةِ اللِّعَانِ رِوَايَتَانِ ؛ إحْدَاهُمَا ، هِيَ كَطَلَاقِهِ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ اللِّعَانِ قَذْفُهُ الصَّادِرُ مِنْهُ .
وَالثَّانِيَةُ ، يَسْقُطُ بِهِ مَهْرُهَا ؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ عَقِيبَ لِعَانِهَا ، فَهُوَ كَفَسْخِهَا لِعُنَّتِهِ .
وَفِي فُرْقَةِ شِرَائِهَا لِزَوْجِهَا أَيْضًا رِوَايَتَانِ ؛ إحْدَاهُمَا ، يَتَنَصَّفُ بِهَا مَهْرُهَا ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ الْمُوجِبَ لِلْفَسْخِ تَمَّ بِالسَّيِّدِ الْقَائِمِ مَقَامَ الزَّوْجِ وَبِالْمَرْأَةِ ، فَأَشْبَهَ الْخُلْعَ .
وَالثَّانِيَةُ ، يَسْقُطُ الْمَهْرُ ؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ وُجِدَ عَقِيبَ قَبُولِهَا ، فَأَشْبَهَ فَسْخَهَا لِعُنَّتِهِ .
وَفِيمَا إذَا اشْتَرَى

الْحُرُّ امْرَأَتَهُ وَجْهَانِ ، مَبْنِيَّانِ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي شِرَائِهَا لِزَوْجِهَا .
وَإِذَا جَعَلَ لَهَا الْخِيَارَ ، فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا ، أَوْ وَكَّلَهَا فِي الطَّلَاقِ ، فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا ، فَهُوَ كَطَلَاقِهِ .
لَا يَسْقُطُ مَهْرُهَا ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ وَإِنْ بَاشَرَتْ الطَّلَاقَ ، فَهِيَ نَائِبَةٌ عَنْهُ ، وَوَكِيلَةٌ لَهُ ، وَفِعْلُ الْوَكِيلِ كَفِعْلِ الْمُوَكِّلِ ، فَكَأَنَّهُ صَدَرَ عَنْ مُبَاشَرَتِهِ .
وَإِنْ عَلَّقَ طَلَاقَهَا عَلَى فِعْلٍ مِنْ قِبَلِهَا ، لَمْ يَسْقُطْ مَهْرُهَا ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ وُجِدَ مِنْهُ ، وَإِنَّمَا هِيَ حَقَّقَتْ شَرْطَهُ ، وَالْحُكْمُ يُنْسَبُ إلَى صَاحِبِ السَّبَبِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

كِتَابُ الْوَلِيمَةِ الْوَلِيمَةُ : اسْمٌ لِلطَّعَامِ فِي الْعُرْسِ خَاصَّةً ، لَا يَقَعُ هَذَا الِاسْمُ عَلَى غَيْرِهِ .
كَذَلِكَ حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ ثَعْلَبٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ : إنَّ الْوَلِيمَةَ تَقَعُ عَلَى كُلِّ طَعَامٍ لَسُرُورٍ حَادِثٍ ، إلَّا أَنَّ اسْتِعْمَالَهَا فِي طَعَامِ الْعُرْسِ أَكْثَرُ .
وَقَوْلُ أَهْلِ اللُّغَةِ أَقْوَى ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ اللِّسَانِ ، وَهُمْ أَعْرَفُ بِمَوْضُوعَاتِ اللُّغَةِ ، وَأَعْلَمُ بِلِسَانِ الْعَرَبِ .
وَالْعَذِيرَةُ : اسْمٌ لِدَعْوَةِ الْخِتَان ، وَتُسَمَّى الْإِعْذَارَ .
وَالْخُرْسُ وَالْخُرْسَةُ : عِنْدَ الْوِلَادَة .
وَالْوَكِيرَةُ : دَعْوَةُ الْبِنَاءِ .
يُقَالُ : وَكَّرَ وَخَرَّسَ ، مُشَدَّدٌ .
وَالنَّقِيعَةُ : عِنْد قُدُومِ الْغَائِبِ ، يُقَالُ : نَقَعَ ، مُخَفَّفٌ .
وَالْعَقِيقَةُ : الذَّبْحُ لِأَجْلِ الْوَلَدِ ، قَالَ الشَّاعِرُ : كُلُّ الطَّعَامِ تَشْتَهِي رَبِيعَةُ الْخَرْسَ وَالْإِعْذَارَ وَالنَّقِيعَةَ وَالْحُذَّاق : الطَّعَامُ عِنْد حُذَّاقِ الصَّبِيِّ .
وَالْمَأْدُبَةُ : اسْمٌ لِكُلِّ دَعْوَةٍ لَسَبَبٍ كَانَتْ أَوْ لِغَيْرِ سَبَبٍ .
وَالْآدِبُ ، صَاحِبُ الْمَأْدُبَةِ ، قَالَ الشَّاعِرُ : نَحْنُ فِي الْمَشْتَاةِ نَدْعُو الْجَفَلَى لَا يَرَى الْآدِبَ مِنَّا يَنْتَقِرُ وَالْجَفَلَى فِي الدَّعْوَةِ : أَنْ يَعُمَّ النَّاسَ بِدَعْوَتِهِ .
وَالنَّقَرَى : هُوَ أَنْ يَخُصَّ قَوْمًا دُون قَوْمٍ .

مَسْأَلَةٌ ( 5662 ) ؛ قَالَ ( وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ تَزَوَّجَ أَنْ يُولِمَ وَلَوْ بِشَاةٍ ) .
لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أَنَّ الْوَلِيمَةَ سُنَّةٌ فِي الْعُرْسِ مَشْرُوعَةٌ ؛ لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِهَا وَفَعَلَهَا .
فَقَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ، حِينَ قَالَ : تَزَوَّجْت : أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ } .
وَقَالَ أَنَسٌ : { مَا أَوْلَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهِ مَا أَوْلَمَ عَلَى زَيْنَبَ ، جَعَلَ يَبْعَثُنِي فَأَدْعُو لَهُ النَّاسَ ، فَأَطْعَمَهُمْ خُبْزًا وَلَحْمًا حَتَّى شَبِعُوا .
وَقَالَ أَنَسٌ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اصْطَفَى صَفِيَّةَ لِنَفْسِهِ ، فَخَرَجَ بِهَا حَتَّى بَلَغَ ثَنِيَّةَ الصَّهْبَاءِ ، فَبَنَى بِهَا ، ثُمَّ صَنَعَ حَيْسًا فِي نِطَعٍ صَغِيرٍ ، ثُمَّ قَالَ : ائْذَنْ لِمَنْ حَوْلَك .
فَكَانَتْ وَلِيمَةَ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى صَفِيَّةَ .
} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِنَّ .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُولِمَ بِشَاةٍ ، إنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ ؛ لِقَوْلِ { رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ : أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ } .
وَقَالَ أَنَسٌ : { مَا أَوْلَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ نِسَائِهِ مَا أَوْلَمَ عَلَى زَيْنَب ، أَوْلَمَ بِشَاةِ .
} لَفْظُ الْبُخَارِيِّ .
فَإِنْ أَوْلَمَ بِغَيْرِ هَذَا جَازَ ؛ فَقَدْ أَوْلَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى صَفِيَّةَ بِحَيْسٍ ، وَأَوْلَمَ عَلَى بَعْضِ نِسَائِهِ بِمُدَّيْنِ مِنْ شَعِيرٍ .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
( 5663 ) فَصْلٌ : وَلَيْسَتْ وَاجِبَةً فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ : هِيَ وَاجِبَةٌ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِهَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ ، وَلِأَنَّ الْإِجَابَةَ إلَيْهَا وَاجِبَةٌ ؛ فَكَانَتْ وَاجِبَةً .
وَلَنَا ، أَنَّهَا طَعَامٌ لَسُرُورٍ حَادِثٍ ؛ فَأَشْبَهَ سَائِرَ الْأَطْعِمَةِ ، وَالْخَبَرُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ ؛ بِدَلِيلِ مَا

ذَكَرْنَاهُ ، وَكَوْنِهِ أَمَرَ بِشَاةِ وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهَا لَا تَجِبُ ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْمَعْنَى لَا أَصْلَ لَهُ ، ثُمَّ هُوَ بَاطِلٌ بِالسَّلَامِ ، لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَإِجَابَةُ الْمُسَلِّمِ وَاجِبَةٌ .

مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( وَعَلَى مَنْ دُعِيَ أَنْ يُجِيبَ ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ الْإِجَابَةِ إلَى الْوَلِيمَةِ لِمَنْ دُعِيَ إلَيْهَا ، إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا لَهْوٌ .
وَبِهِ يَقُولُ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ وَالْعَنْبَرِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ .
وَمِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مَنْ قَالَ : هِيَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ ؛ لِأَنَّ الْإِجَابَةَ إكْرَامٌ وَمُوَالَاةٌ ، فَهِيَ كَرَدِّ السَّلَامِ .
وَلَنَا مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إلَى الْوَلِيمَةِ فَلْيَأْتِهَا } .
وَفِي لَفْظٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَجِيبُوا هَذِهِ الدَّعْوَةَ إذَا دُعِيتُمْ إلَيْهَا } .
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ ؛ يُدْعَى لَهَا الْأَغْنِيَاءُ وَيُتْرَكُ الْفُقَرَاءُ وَمَنْ لَمْ يُجِبْ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ .
رَوَاهُنَّ الْبُخَارِيُّ .
وَهَذَا عَامٌ ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ : شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَيْ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ الَّتِي يُدْعَى إلَيْهَا الْأَغْنِيَاءُ وَيُتْرَكُ الْفُقَرَاءُ ، وَلَمْ يُرِدْ أَنَّ كُلَّ وَلِيمَةٍ طَعَامُهَا شَرُّ الطَّعَامِ ؛ فَإِنَّهُ لَوْ أَرَادَ ذَلِكَ لَمَا أَمَرَ بِهَا ، وَلَا نَدَبَ إلَيْهَا ، وَلَا أَمَرَ بِالْإِجَابَةِ إلَيْهَا ، وَلَا فَعَلَهَا ؛ وَلِأَنَّ الْإِجَابَةَ تَجِبُ بِالدَّعْوَةِ ، فَكُلُّ مَنْ دُعِيَ فَقَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْإِجَابَةُ .
( 5665 ) فَصْلٌ : وَإِنَّمَا تَجِبُ الْإِجَابَةُ عَلَى مَنْ عُيِّنَ بِالدَّعْوَةِ ، بِأَنْ يَدْعُوَ رَجُلًا بِعَيْنِهِ ، أَوْ جَمَاعَةً مُعَيَّنِينَ .
فَإِنْ دَعَا الْجَفَلَى ؛ بِأَنْ يَقُولَ : يَا أَيُّهَا النَّاسِ ، أَجِيبُوا إلَى الْوَلِيمَةِ .
أَوْ يَقُولَ الرَّسُولُ : أُمِرْت أَنْ أَدْعُوَ كُلَّ مَنْ لَقِيت ، أَوْ مَنْ شِئْت .
لَمْ تَجِبْ الْإِجَابَةُ ، وَلَمْ تُسْتَحَبُّ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعَيَّنْ بِالدَّعْوَةِ ، فَلَمْ تَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ الْإِجَابَةُ ، وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ ، وَلَا يَحْصُلُ كَسْرُ قَلْبِ الدَّاعِي بِتَرْكِ إجَابَتِهِ

، وَتَجُوزُ الْإِجَابَةُ بِهَذَا ؛ لِدُخُولِهِ فِي عُمُومِ الدُّعَاءِ .

( 5666 ) فَصْلٌ : وَإِذَا صُنِعَتْ الْوَلِيمَةُ أَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ ، جَازَ ؛ فَقَدْ رَوَى الْخَلَّالُ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي ، أَنَّهُ أَعْرَسَ وَدَعَا الْأَنْصَارَ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ .
وَإِذَا دُعِيَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَجَبْت الْإِجَابَةُ ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّانِي تُسْتَحَبُّ الْإِجَابَةُ ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ لَا تُسْتَحَبُّ .
قَالَ أَحْمَدُ : الْأُوَلُ يَجِبُ ، وَالثَّانِي إنْ أَحَبَّ ، وَالثَّالِثُ فَلَا .
وَهَكَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْوَلِيمَةُ أَوَّلَ يَوْمٍ حَقٌّ ، وَالثَّانِي مَعْرُوفٌ ، وَالثَّالِثُ رِيَاءٌ وَسُمْعَةٌ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَابْنُ مَاجَهْ ، وَغَيْرُهُمَا .
وَقَالَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّب أَيْضًا .
وَدُعِيَ سَعِيدٌ إلَى وَلِيمَةٍ مَرَّتَيْنِ فَأَجَابَ ، فَدُعِيَ الثَّالِثَةَ ، فَحَصَبَ الرَّسُولَ .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالْخَلَّالُ .

( 5667 ) فَصْلٌ : وَالدُّعَاءُ إلَى الْوَلِيمَةِ إذْنٌ فِي الدُّخُولِ وَالْأَكْلِ ؛ بِدَلِيلِ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ ، فَجَاءَ مَعَ الرَّسُولِ ، فَذَلِكَ إذْنٌ لَهُ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : إذَا دُعِيت فَقَدْ أُذِنَ لَك .
رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادِهِ .

( 5668 ) فَصْلٌ : فَإِنْ دَعَاهُ ذِمِّيٌّ ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا : لَا تَجِبُ إجَابَتُهُ ؛ لِأَنَّ الْإِجَابَةَ لِلْمُسْلِمِ لِلْإِكْرَامِ وَالْمُوَالَاةِ وَتَأْكِيدِ الْمَوَدَّةِ وَالْإِخَاءِ ، فَلَا تَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ لِلذِّمِّيِّ ، وَلِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ اخْتِلَاطَ طَعَامِهِمْ بِالْحَرَامِ وَالنَّجَاسَةِ ، وَلَكِنْ تَجُوزُ إجَابَتُهُمْ ؛ لِمَا رَوَى أَنَسٌ ، أَنْ يَهُودِيًّا { دَعَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى خُبْزِ شَعِيرٍ ، وَإِهَالَةٍ سَنِخَةٍ ، فَأَجَابَهُ } .
ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، فِي " الزُّهْدِ " .

فَصْلٌ : فَإِنْ دَعَاهُ رَجُلَانِ ، وَلَمْ يُمْكِنْ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا ، وَسَبَقَ أَحَدُهُمَا ، أَجَابَ السَّابِقَ ؛ لِأَنَّ إجَابَتَهُ وَجَبَتْ حِينَ دَعَاهُ ، فَلَمْ يَزُلْ الْوُجُوبُ بِدُعَاءِ الثَّانِي ، وَلَمْ تَجِبْ إجَابَةُ الثَّانِي ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُمْكِنَةٍ مَعَ إجَابَةِ الْأَوَّلِ ، فَإِنْ اسْتَوَيَا ، أَجَابَ أَقْرَبَهُمَا مِنْهُ بَابًا ؛ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا اجْتَمَعَ دَاعِيَانِ ، فَأَجِبْ أَقْرَبَهُمَا بَابًا ؛ فَإِنَّ أَقْرَبَهُمَا جِوَارًا ، فَإِنْ سَبَقَ أَحَدُهُمَا ، فَأَجِبْ الَّذِي سَبَقَ } .
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ بِإِسْنَادِهِ { عَنْ عَائِشَةَ ، قَالَتْ : قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنَّ لِي جَارَيْنِ ، فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِي ؟ قَالَ أَقْرَبُهُمَا مِنْك بَابًا } .
وَلِأَنَّ هَذَا مِنْ أَبْوَابِ الْبِرِّ ؛ فَقُدِّمَ بِهَذِهِ الْمَعَانِي ، فَإِنْ اسْتَوَيَا ، أَجَابَ أَقْرَبَهُمَا رَحِمًا ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ ، فَإِنْ اسْتَوَيَا ، أَجَابَ أَدْيَنَهُمَا ، فَإِنْ اسْتَوَيَا أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ الْقُرْعَةَ تُعَيِّنُ الْمُسْتَحِقَّ عِنْدَ اسْتِوَاءِ الْحُقُوقِ .

( 5670 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( فَإِنْ لَمْ يُحِبَّ أَنْ يُطْعِمَ ، دَعَا وَانْصَرَفَ ) .
وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْوَاجِبَ الْإِجَابَةُ إلَى الدَّعْوَةِ ؛ لِأَنَّهَا الَّذِي أَمَرَ بِهِ وَتَوَعَّدَ عَلَى تَرْكِهِ ، أَمَّا الْأَكْلُ فَغَيْرُ وَاجِبٍ ، صَائِمًا كَانَ أَوْ مُفْطِرًا .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، لَكِنْ إنْ كَانَ الْمَدْعُوُّ صَائِمًا صَوْمًا وَاجِبًا أَجَابَ ، وَلَمْ يُفْطِرْ ؛ لِأَنَّ الْفِطْرَ غَيْرُ جَائِزٍ ؛ فَإِنَّ الصَّوْمَ وَاجِبٌ ، وَالْأَكْلَ غَيْرُ وَاجِبٍ ، وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ فَلْيُجِبْ ، فَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيَدْعُ - وَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَلْيُطْعِمْ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَفِي رِوَايَةٍ " فَلْيُصَلِّ " .
يَعْنِي : يَدْعُو .
وَدُعِيَ ابْنُ عُمَرَ إلَى وَلِيمَةٍ ، فَحَضَرَ وَمَدَّ يَدَهُ وَقَالَ : بِسْمِ اللَّهِ ، ثُمَّ قَبَضَ يَدَهُ ، وَقَالَ : كُلُوا ، فَإِنِّي صَائِمٌ .
وَإِنْ كَانَ صَوْمًا تَطَوُّعًا ، اُسْتُحِبَّ لَهُ الْأَكْلُ ؛ لِأَنَّ لَهُ الْخُرُوجَ مِنْ الصَّوْمِ ، فَإِذَا كَانَ فِي الْأَكْلِ إجَابَةُ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ ، وَإِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَى قَلْبِهِ ، كَانَ أُولَى .
وَقَدْ رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي دَعْوَةٍ ، وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ ، فَاعْتَزَلَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ نَاحِيَةً ، فَقَالَ : إنِّي صَائِمٌ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : دَعَاكُمْ أَخُوكُمْ ، وَتَكَلَّفَ لَكُمْ ، كُلْ ، ثُمَّ صُمْ يَوْمًا مَكَانَهُ إنْ شِئْت ، } وَإِنْ أَحَبَّ إتْمَامَ الصِّيَامِ جَازَ ؛ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْخَبَرِ الْمُتَقَدِّمِ ، وَلَكِنْ يَدْعُو لَهُمْ ، وَيَتْرُكُ ، وَيُخْبِرُهُمْ بِصِيَامِهِ ؛ لِيَعْلَمُوا عُذْرَهُ ، فَتَزُولَ عَنْهُ التُّهْمَةُ فِي تَرْكِ الْأَكْلِ .
وَقَدْ رَوَى أَبُو حَفْصٍ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَجَابَ عَبْدَ الْمُغِيرَةِ وَهُوَ صَائِمٌ ، فَقَالَ : إنِّي صَائِمٌ ، وَلَكِنِّي أَحْبَبْت أَنْ أُجِيبَ الدَّاعِيَ ، فَأَدْعُوَ بِالْبَرَكَةِ .
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : إذَا عُرِضَ عَلَى

أَحَدِكُمْ الطَّعَامُ وَهُوَ صَائِمٌ ، فَلْيَقُلْ : إنِّي صَائِمٌ .
وَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا ، فَالْأَوْلَى لَهُ الْأَكْلُ ؛ لِأَنَّهُ أَبْلُغُ فِي إكْرَامِ الدَّاعِي ، وَجَبْرِ قَلْبِهِ .
وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : فِيهِ وَجْهٌ آخِرُ ، أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْأَكْلُ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَلْيُطْعِمْ } .
وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الْأَكْلُ ، فَكَانَ وَاجِبًا .
وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ فَلْيُجِبْ ، فَإِنْ شَاءَ أَكَلَ ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ } .
حَدِيثٌ صَحِيحٌ .
وَلِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ الْأَكْلُ ، لَوَجَبَ عَلَى الْمُتَطَوِّعِ بِالصَّوْمِ ، فَلَمَّا لَمْ يَلْزَمْهُ الْأَكْلُ ، لَمْ يَلْزَمْهُ إذَا كَانَ مُفْطِرًا .
وَقَوْلُهُمْ : الْمَقْصُودُ الْأَكْلُ .
قُلْنَا : بَلْ الْمَقْصُودُ الْإِجَابَةُ ، وَلِذَلِكَ وَجَبَتْ عَلَى الصَّائِمِ الَّذِي لَا يَأْكُلُ .

( 5671 ) فَصْلٌ : إذَا دُعِيَ إلَى وَلِيمَةٍ ، فِيهَا مَعْصِيَةٌ ، كَالْخَمْرِ ، وَالزَّمْرِ ، وَالْعُودِ وَنَحْوِهِ ، وَأَمْكَنَهُ الْإِنْكَارُ ، وَإِزَالَةُ الْمُنْكَرِ ، لَزِمَهُ الْحُضُورُ وَالْإِنْكَارُ ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي فَرْضَيْنِ ؛ إجَابَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ ، وَإِزَالَةَ الْمُنْكَرِ .
وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْإِنْكَارِ ، لَمْ يَحْضُرْ .
وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِالْمُنْكَرِ حَتَّى حَضَرَ ، أَزَالَهُ ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ انْصَرَفَ .
وَنَحْوُ هَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ مَالِكٌ : أَمَّا اللَّهْوُ الْخَفِيفُ ، كَالدُّفِّ وَالْكِيرِ فَلَا يَرْجِعُ .
وَقَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ .
وَقَالَ أُصْبَغُ : أَرَى أَنْ يَرْجِعَ ؛ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إذَا وَجَدَ اللَّعِبَ ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يَقْعُدَ فَيَأْكُلَ .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : إنْ كَانَ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ ، فَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَخْرُجَ .
وَقَالَ اللَّيْثُ : إذَا كَانَ فِيهَا الضَّرْبُ بِالْعُودِ ، فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَشْهَدَهَا .
وَالْأَصْلُ فِي هَذَا مَا رَوَى سَفِينَةُ { أَنَّ رَجُلًا أَضَافَهُ عَلِيٌّ ، فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا ، فَقَالَتْ فَاطِمَةُ : لَوْ دَعَوْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأَكَلَ مَعَنَا ؟ فَدَعَوْهُ ، فَجَاءَ .
فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى عِضَادَتَيْ الْبَابِ ، فَرَأَى قِرَامًا فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ ، فَرَجَعَ ، فَقَالَتْ فَاطِمَةُ لِعَلِيٍّ : الْحَقْهُ ، فَقُلْ لَهُ : مَا رَجَعَك يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَقَالَ : إنَّهُ لَيْسَ لِي أَنْ أَدْخُلَ بَيْتًا مُزَوَّقًا } .
حَدِيثٌ حَسَنٌ .
وَرَوَى أَبُو حَفْصٍ ، بِإِسْنَادِهِ .
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ، فَلَا يَقْعُدْ عَلَى مَائِدَةٍ يُدَارُ عَلَيْهَا الْخَمْرُ } .
{ وَعَنْ نَافِعٍ ، قَالَ : كُنْت أَسِيرُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، فَسَمِعَ زَمَّارَةَ رَاعٍ ، فَوَضَعَ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذْنَيْهِ ، ثُمَّ عَدَلَ عَنْ الطَّرِيقِ ، فَلَمْ يَزَلْ يَقُولُ : يَا نَافِعُ أَتَسْمَعُ ؟ حَتَّى قُلْت : لَا .
فَأَخْرَجَ أُصْبُعَيْهِ مِنْ أُذُنَيْهِ ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى الطَّرِيقِ ، ثُمَّ قَالَ :

هَكَذَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَنَعَ .
} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْخِلَالُ .
وَلِأَنَّهُ يُشَاهِدُ الْمُنْكَرَ وَيَسْمَعُهُ ، مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى ذَلِكَ ، فَمُنِعَ مِنْهُ ، كَمَا لَوْ قَدَرَ عَلَى إزَالَتِهِ .
وَيُفَارِقُ مَنْ لَهُ جَارٌ مُقِيمٌ عَلَى الْمُنْكَرِ وَالزَّمْرِ ، حَيْثُ يُبَاحُ لَهُ الْمُقَامُ ، فَإِنَّ تِلْكَ حَالُ حَاجَةٍ ؛ لِمَا فِي الْخُرُوجِ مِنْ الْمَنْزِلِ مِنْ الضَّرَرِ .

( 5672 ) فَصْلٌ : فَإِنْ رَأَى نُقُوشًا ، وَصُوَرَ شَجَرٍ ، وَنَحْوَهَا ، فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ تِلْكَ نُقُوشٌ ، فَهِيَ كَالْعَلَمِ فِي الثَّوْبِ .
وَإِنْ كَانَتْ فِيهِ صُوَرُ حَيَوَانٍ ، فِي مَوْضِعٍ يُوطَأُ أَوْ يُتَّكَأُ عَلَيْهَا ، كَاَلَّتِي فِي الْبُسُطِ ، وَالْوَسَائِد ، جَازَ أَيْضًا .
وَإِنْ كَانَتْ عَلَى السُّتُورِ وَالْحِيطَانِ ، وَمَا لَا يُوطَأُ ، وَأَمْكَنَهُ حَطُّهَا ، أَوْ قَطْعُ رُءُوسِهَا ، فَعَلَ وَجَلَسَ ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ ذَلِكَ ، انْصَرَفَ وَلَمْ يَجْلِسْ ؛ وَعَلَى هَذَا أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : هَذَا أَعْدَلُ الْمَذَاهِبِ .
وَحَكَاهُ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ ، وَسَالِمٍ ، وَعُرْوَةَ ، وَابْنِ سِيرِينَ ، وَعَطَاءٍ ، وَعِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ ، وَعِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَكْرَهُ التَّصَاوِيرَ ، مَا نُصِبَ مِنْهَا وَمَا بُسِطَ .
وَكَذَلِكَ مَالِكٌ ، إلَّا أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُهَا تَنَزُّهًا ، وَلَا يَرَاهَا مُحَرَّمَةً .
وَلَعَلَّهُمْ يَذْهَبُونَ إلَى عُمُومِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ ، أَنَّهُ دُعِيَ إلَى طَعَامٍ ، فَلَمَّا قِيلَ لَهُ : إنَّ فِي الْبَيْتِ صُورَةً أَبَى أَنْ يَذْهَبَ حَتَّى كُسِرَتْ .
وَلَنَا مَا رَوَتْ عَائِشَةُ ، قَالَتْ { قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ سَفَرٍ ، وَقَدْ سَتَرْت لِي سَهْوَةً بِنَمَطٍ فِيهِ تَصَاوِيرُ ، فَلَمَّا رَآهُ قَالَ : أَتَسْتُرِينَ الْخِدْرَ بِسِتْرٍ فِيهِ تَصَاوِيرُ ؟ فَهَتَكَهُ .
قَالَتْ : فَجَعَلْت مِنْهُ مُنْتَبَذَتَيْنِ ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَّكِئًا عَلَى إحْدَاهُمَا } .
رَوَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ .
وَلِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ تُدَاسُ وَتُبْتَذَلُ ، لَمْ تَكُنْ مُعَزَّزَةً وَلَا مُعَظَّمَةً ، فَلَا تُشْبِهُ الْأَصْنَامَ الَّتِي تُعْبَدُ وَتُتَّخَذُ آلِهَةً ، فَلَا تُكْرَمُ .
وَمَا رَوَيْنَاهُ أَخُصُّ مِمَّا رَوَوْهُ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ

{ أَبِي طَلْحَةَ .
أَنَّهُ قِيلَ لَهُ : أَلَمْ يَقُلْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ وَلَا كَلْبٌ ؟ قَالَ : أَلَمْ تَسْمَعْهُ قَالَ : إلَّا رَقْمًا فِي ثَوْبٍ ؟ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمُبَاحَ مَا كَانَ مَبْسُوطًا ، وَالْمَكْرُوهَ مِنْهُ مَا كَانَ مُعَلَّقًا ، بِدَلِيلِ حَدِيثِ عَائِشَةَ .

( 5673 ) فَصْلٌ : فَإِنْ قَطَعَ رَأْسَ الصُّورَةِ ، ذَهَبَتْ الْكَرَاهَةُ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : الصُّورَةُ الرَّأْسُ ، فَإِذَا قُطِعَ الرَّأْسُ فَلِيس بِصُورَةٍ .
وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ عِكْرِمَةَ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ { صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَتَانِي جِبْرِيلُ ، فَقَالَ : أَتَيْتُك الْبَارِحَةَ ، فَلَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَكُونَ دَخَلْت إلَّا أَنَّهُ كَانَ عَلَى الْبَابِ تَمَاثِيلُ ، وَكَانَ فِي الْبَيْتِ سِتْرٌ فِيهِ تَمَاثِيلُ ، وَكَانَ فِي الْبَيْتِ كَلْبٌ ، فَمُرْ بِرَأْسِ التِّمْثَالِ الَّذِي عَلَى الْبَابِ فَيُقْطَعُ ، فَيَصِيرُ كَهَيْئَةِ الشَّجَرَ ، وَمُرْ بِالسِّتْرِ فَلْتُقْطَعْ مِنْهُ وِسَادَتَانِ مَنْبُوذَتَانِ يُوطَآنِ ، وَمُرْ بِالْكَلْبِ فَلْيُخْرَجْ .
فَفَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
} وَإِنْ قَطَعَ مِنْهُ مَا لَا يُبْقِي الْحَيَوَانَ بَعْدَ ذَهَابِهِ ، كَصَدْرِهِ أَوْ بَطْنِهِ ، أَوْ جُعِلَ لَهُ رَأْسٌ مُنْفَصِلٌ عَنْ بَدَنِهِ ، لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ النَّهْيِ ، لِأَنَّ الصُّورَةَ لَا تَبْقَيْ بَعْدَ ذَهَابِهِ ، فَهُوَ كَقَطْعِ الرَّأْسِ .
وَإِنْ كَانَ الذَّاهِبُ يُبْقِي الْحَيَوَانَ بَعْدَهُ ، كَالْعَيْنِ وَالْيَدِ وَالرِّجْلِ ، فَهُوَ صُورَةٌ دَاخِلَةٌ تَحْتَ النَّهْيِ .
وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ فِي ابْتِدَاءِ التَّصْوِيرِ صُورَةُ بَدَنٍ بِلَا رَأْسٍ ، أَوْ رَأْسٍ بِلَا بَدَنٍ ، أَوْ جُعِلَ لَهُ رَأْسٌ وَسَائِرُ بَدَنِهِ صُورَةُ غَيْرِ حَيَوَانٍ ، لَمْ يَدْخُلْ فِي النَّهْي ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِصُورَةِ حَيَوَانٍ .

( 5674 ) فَصْلٌ : وَصَنْعَةُ التَّصَاوِيرِ مُحَرَّمَةٌ عَلَى فَاعِلِهَا ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الَّذِينَ يَصْنَعُونَ هَذِهِ الصُّوَرَ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، يُقَالُ لَهُمْ : أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ } .
وَعَنْ { مَسْرُوقٍ قَالَ : دَخَلْنَا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بَيْتًا فِيهِ تَمَاثِيلُ ، فَقَالَ لَتِمْثَالٍ مِنْهَا : تِمْثَالُ مَنْ هَذَا ؟ قَالُوا : تِمْثَالُ مَرْيَمَ ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : إنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُصَوِّرُونَ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا ، وَالْأَمْرُ بِعَمَلِهِ مُحَرَّمٌ .
كَعَمَلِهِ .

( 5675 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا دُخُولُ مَنْزِلٍ فِيهِ صُورَةٌ ، فَلَيْسَ بِمُحَرَّمٍ ، وَإِنَّمَا أُبِيحَ تَرْكُ الدَّعْوَةِ مِنْ أَجَلِهِ عُقُوبَةً لِلدَّاعِي ، بِإِسْقَاطِ حُرْمَتِهِ ؛ لِإِيجَادِهِ الْمُنْكَرَ فِي دَارِهِ .
وَلَا يَجِبُ عَلَى مَنْ رَآهُ فِي مَنْزِلِ الدَّاعِي الْخُرُوجُ ، فِي ظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ ؛ فَإِنَّهُ قَالَ ، فِي رِوَايَةِ الْفَضْلِ بْنِ زِيَادٍ ، إذَا رَأَى صُوَرًا عَلَى السِّتْرِ ، لَمْ يَكُنْ رَآهَا حِينَ دَخَلَ ؟ قَالَ : هُوَ أَسْهَلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْجِدَارِ .
قِيلَ : فَإِنْ لَمْ يَرَهُ إلَّا عِنْدَ وَضْعِ الْخِوَانُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ، أَيَخْرُجُ ؟ فَقَالَ : لَا تُضَيِّقْ عَلَيْنَا ، وَلَكِنْ إذَا رَأَى هَذَا وَبَّخَهُمْ وَنَهَاهُمْ .
يَعْنِي لَا يَخْرُجُ .
وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ فَإِنَّهُ كَانَ يَكْرَهُهَا تَنَزُّهًا ، وَلَا يَرَاهَا مُحَرَّمَةً .
وَقَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ : إذَا كَانَتْ الصُّوَرُ عَلَى السُّتُورِ ، أَوْ مَا لَيْسَ بِمَوْطُوءٍ ، لَمْ يَجُزْ لَهُ الدُّخُولُ ؛ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُهُ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا ، لَمَا جَازَ تَرْكُ الدَّعْوَةِ الْوَاجِبَةِ مِنْ أَجْلِهِ .
وَلَنَا مَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ الْكَعْبَةَ ، فَرَأَى فِيهَا صُورَةَ إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ يَسْتَقْسِمَانِ بِالْأَزْلَامِ ، فَقَالَ : قَاتَلَهُمْ اللَّهُ ، لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُمَا مَا اسْتَقْسَمَا بِهَا قَطُّ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ خَبَرِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ دَخَلَ بَيْتًا فِيهِ تَمَاثِيلُ ، وَفِي شُرُوطِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ : أَنْ يُوَسِّعُوا أَبْوَابَ كَنَائِسِهِمْ وَبِيَعِهِمْ ، لِيَدْخُلَهَا الْمُسْلِمُونَ لِلْمَبِيتِ بِهَا ، وَالْمَارَّةُ بِدَوَابِّهِمْ ، وَرَوَى ابْنُ عَائِذٍ فِي " فُتُوحِ الشَّامِ " ، أَنَّ النَّصَارَى صَنَعُوا لَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، حِينَ قَدِمَ الشَّامَ ، طَعَامًا ، فَدَعَوْهُ ، فَقَالَ : أَيْنَ هُوَ ؟ قَالُوا : فِي الْكَنِيسَةِ ، فَأَبَى أَنْ يَذْهَبَ ، وَقَالَ لَعَلِيٍّ : امْضِ بِالنَّاسِ ، فَلِيَتَغَدَّوْا .
فَذَهَبَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ

عَنْهُ بِالنَّاسِ ، فَدَخَلَ الْكَنِيسَةَ ، وَتَغَدَّى هُوَ وَالْمُسْلِمُونَ ، وَجَعَلَ عَلِيٌّ يَنْظُرُ إلَى الصُّوَرِ ، وَقَالَ : مَا عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ لَوْ دَخَلَ فَأَكَلَ ، وَهَذَا اتِّفَاقٌ مِنْهُمْ عَلَى إبَاحَةِ دُخُولِهَا وَفِيهَا الصُّورُ ، وَلِأَنَّ دُخُولَ الْكَنَائِسِ وَالْبِيَعِ غَيْرُ مُحَرَّمٍ ، فَكَذَلِكَ الْمَنَازِلُ الَّتِي فِيهَا الصُّوَرُ ، وَكَوْنُ الْمَلَائِكَةِ لَا تَدْخُلُهُ لَا يُوجِبُ تَحْرِيمَ دُخُولِهِ عَلَيْنَا ، كَمَا لَوْ كَانَ فِيهِ كَلْبٌ ، وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْنَا صُحْبَةُ رُفْقَةٍ فِيهَا جَرَسٌ ، مَعَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَصْحَبُهُمْ ، وَإِنَّمَا أُبِيحَ تَرْكُ الدَّعْوَةِ مِنْ أَجْلِهِ عُقُوبَةً لِفَاعِلِهِ ، وَزَجْرًا لَهُ عَنْ فِعْلِهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( 5676 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا سَتْرُ الْحِيطَانِ بِسُتُورٍ غَيْرِ مُصَوَّرَةٍ ؛ فَإِنْ كَانَ لَحَاجَةٍ مِنْ وِقَايَةِ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ ، فَلَا بَأْسَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَعْمِلُهُ فِي حَاجَتِهِ ، فَأَشْبَهَ السِّتْرَ عَلَى الْبَاب ، وَمَا يَلْبَسُهُ عَلَى بَدَنِهِ ، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ ، فَهُوَ مَكْرُوهٌ ، وَعُذْرٌ فِي الرُّجُوعِ عَنْ الدَّعْوَةِ وَتَرْكِ الْإِجَابَةِ ؛ بِدَلِيلِ مَا رَوَى سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، قَالَ : أَعْرَسْت فِي عَهْدِ أَبِي فَآذَنَ أَبِي النَّاسَ ، فَكَانَ أَبُو أَيُّوبَ فِيمَنْ آذَنَ ، وَقَدْ سَتَرُوا بَيْتِي بِخِبَاءٍ أَخْضَرَ ، فَأَقْبَلَ أَبُو أَيُّوبَ مُسْرِعًا ، فَاطَّلَعَ ، فَرَأَى الْبَيْتَ مُسْتَتِرًا بِخِبَاءٍ أَخْضَرَ ، فَقَالَ : يَا عَبْد اللَّهِ أَتَسْتُرُونَ الْجُدُرَ ؟ فَقَالَ أَبِي ، وَاسْتَحْيَا : غَلَبَتْنَا النِّسَاءُ يَا أَبَا أَيُّوبَ .
فَقَالَ : مَنْ خَشِيت أَنْ يَغْلِبَهُ النِّسَاءُ ، فَلَمْ أَخْشَ أَنْ يَغْلِبَنَّكَ ثُمَّ قَالَ : لَا أَطْعَمُ لَكُمْ طَعَامًا ، وَلَا أَدْخُلُ لَكُمْ بَيْتًا ، ثُمَّ خَرَجَ .
رَوَاهُ الْأَثْرَمُ وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْخِطْمِيِّ ، أَنَّهُ دُعِيَ إلَى طَعَامٍ ، فَرَأَى الْبَيْتَ مُنَجَّدًا ، فَقَعَدَ خَارِجًا وَبَكَى ، قِيلَ لَهُ : مَا يُبْكِيك ؟ قَالَ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا قَدْ رَقَّعَ بُرْدَةً لَهُ بِقِطْعَةِ أَدَمٍ ، فَقَالَ : { تَطَالَعَتْ عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا .
ثَلَاثًا ، ثُمَّ قَالَ : أَنْتُمْ الْيَوْمَ خَيْرٌ أَمْ إذَا غَدَتْ عَلَيْكُمْ قَصْعَةٌ وَرَاحَتْ أُخْرَى ، وَيَغْدُوا أَحَدُكُمْ فِي حُلَّةٍ وَيَرُوحُ فِي أُخْرَى ، وَتَسْتُرُونَ بُيُوتَكُمْ كَمَا تُسْتَرُ الْكَعْبَةُ ؟ .
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : أَفَلَا أَبْكِي ، وَقَدْ بَقِيت حَتَّى رَأَيْتُكُمْ تَسْتُرُونَ بُيُوتَكُمْ كَمَا تُسْتَرُ الْكَعْبَةُ ؟ .
} وَقَدْ رَوَى الْخَلَّالُ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ نَهَى أَنْ تُسْتَرَ الْجُدُرُ .
} وَرَوَتْ عَائِشَةُ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْمُرْ فِيمَا

رُزِقْنَا أَنْ نَسْتُرَ الْجُدُرَ .
} إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّ سِتْرَ الْحِيطَانِ مَكْرُوهٌ غَيْرُ مُحَرَّمٍ وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ إذْ لَمْ يَثْبُتْ فِي تَحْرِيمِهِ دَلِيلٌ ، وَقَدْ فَعَلَهُ ابْنُ عُمَرَ ، وَفُعِلَ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَإِنَّمَا كَرِهَ لِمَا فِيهِ مِنْ السَّرَفِ ، كَالزِّيَادَةِ فِي الْمَلْبُوسِ ، وَالْمَأْكُولِ .
وَقَدْ قِيلَ : هُوَ مُحَرَّمٌ ؛ لِلنَّهْيِ عَنْهُ .
وَالْأَوَّلُ أَوْلَى ؛ فَإِنَّ النَّهْيَ لَمْ يَثْبُتْ ، وَلَوْ ثَبَتَ الْحَمْلُ عَلَى الْكَرَاهَةِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ .

( 5677 ) فَصْلٌ : وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ السُّتُورِ فِيهَا الْقُرْآنُ ؟ فَقَالَ : لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ شَيْئًا مُعَلَّقًا فِيهِ الْقُرْآنُ ، يُسْتَهَانُ بِهِ ، وَيُمْسَحُ بِهِ .
قِيلَ لَهُ : فَيُقْلَعُ ؟ فَكَرِهَ أَنْ يُقْلِعَ الْقُرْآنُ ، وَقَالَ : إذَا كَانَ سِتْرٌ فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى ، فَلَا بَأْسَ بِهِ .
وَكَرِهَ أَنْ يُشْتَرَى الثَّوْبُ فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ ، مِمَّا يُجْلَسُ عَلَيْهِ أَوْ يُدَاسُ .

( 5678 ) فَصْلٌ : قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : الرَّجُلُ يَكْتَرِي الْبَيْتَ فِيهِ تَصَاوِيرُ ، تَرَى أَنْ يَحُكَّهَا ؟ قَالَ : نَعَمْ .
قَالَ الْمَرُّوذِيُّ : قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : دَخَلْت حَمَّامًا ، فَرَأَيْت صُورَةً ، أَتَرَى أَنْ أَحُكَّ الرَّأْسَ ؟ قَالَ : نَعَمْ .
إنَّمَا جَازَ ذَلِكَ لِأَنَّ اتِّخَاذَ الصُّورَةِ مُنْكَرٌ ، فَجَازَ تَغْيِيرُهَا ، كَآلَةِ اللَّهْوِ وَالصَّلِيبِ ، وَالصَّنَمِ ، وَيُتْلَفُ مِنْهَا مَا يُخْرِجُهَا عَنْ حَدِّ الصُّورَةِ ، كَالرَّأْسِ وَنَحْوِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَكْفِي .
قَالَ أَحْمَدُ : وَلَا بَأْسَ بِاللُّعَبِ مَا لَمْ تَكُنْ صُورَةً ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ ، قَالَتْ : { دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَلْعَبُ بِاللُّعَبِ ، فَقَالَ : مَا هَذَا يَا عَائِشَةُ ؟ .
فَقُلْت : هَذِهِ خَيْلُ سُلَيْمَانَ .
فَجَعَلَ يَضْحَكُ .
} رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِنَحْوِهِ .

( 5679 ) فَصْلٌ : وَالدُّفُّ لَيْسَ بِمُنْكَرٍ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَحَادِيثِ فِيهِ ، وَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ فِي النِّكَاحِ ، وَرَوَتْ عَائِشَةُ ؛ { أَنَّ أَبَا بَكْرٍ دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا جَارِيَتَانِ فِي أَيَّامِ مِنًى تَدُفَّانِ وَتَضْرِبَانِ ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَغَشٍّ بِثَوْبِهِ ، فَانْتَهَرَهُمَا أَبُو بَكْرٍ ، فَكَشَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ وَجْهِهِ ، فَقَالَ : دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ ، فَإِنَّهَا أَيَّامُ عِيدٍ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .

( 5680 ) فَصْلٌ : وَاِتِّخَاذُ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مُحَرَّمٌ ، فَإِذَا رَآهُ الْمَدْعُوُّ فِي مَنْزِلِ الدَّاعِي ، فَهُوَ مُنْكَرٌ يَخْرُجُ مِنْ أَجْلِهِ .
وَكَذَلِكَ مَا كَانَ مِنْ الْفِضَّةِ مُسْتَعْمَلًا كَالْمُكْحُلَةِ وَنَحْوِهَا .
قَالَ الْأَثْرَمُ : سُئِلَ أَحْمَدُ : إذَا رَأَى حَلْقَةَ مِرْآةٍ فِضَّةً ، وَرَأْسَ مُكْحُلَةِ ، يَخْرُجُ مِنْ ذَلِكَ ؟ فَقَالَ : هَذَا تَأْوِيلٌ تَأَوَّلْته ، وَأَمَّا الْآنِيَةُ نَفْسُهَا فَلَيْسَ فِيهَا شَكٌّ .
وَقَالَ : مَا لَا يُسْتَعْمَلُ فَهُوَ أَسْهَلُ ، مِثْلُ الضَّبَّةِ فِي السِّكِّينِ وَالْقَدَحِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ رُؤْيَةَ الْمُنْكَرِ كَسَمَاعِهِ ، فَكَمَا لَا يَجْلِسُ فِي مَوْضِعٍ يَسْمَعُ فِيهِ صَوْتَ الزَّمْرِ ، لَا يَجْلِسُ فِي مَوْضِعٍ يَرَى فِيهِ مَنْ يَشْرَبُ الْخَمْرَ وَغَيْرَهُ مِنْ الْمُنْكَرِ .

( 5681 ) فَصْلٌ : وَإِنْ عِلْمَ أَنَّ عِنْدَ أَهْلِ الْوَلِيمَةِ مُنْكَرًا ، لَا يَرَاهُ وَلَا يَسْمَعُهُ ، لِكَوْنِهِ بِمَعْزِلٍ عَنْ مَوْضِعِ الطَّعَامِ ، أَوْ يُخْفُونَهُ وَقْتَ حُضُورِهِ فَلَهُ أَنْ يَحْضُرَ وَيَأْكُلَ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، وَلَهُ الِامْتِنَاعُ مِنْ الْحُضُورِ فِي ظَاهِرِ كَلَامِهِ ؛ فَإِنَّهُ سُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يُدْعَى إلَى الْخِتَانِ أَوْ الْعُرْسِ ، وَعِنْدَهُ الْمُخَنَّثُونَ ، فَيَدْعُوهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ أَوْ سَاعَةٍ ، وَلَيْسَ عِنْدَهُ أُولَئِكَ ؟ قَالَ : أَرْجُو أَنْ لَا يَأْثَمَ إنْ لَمْ يُجِبْ ، وَإِنْ أَجَابَ فَأَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ آثِمًا .
فَأَسْقُطَ الْوُجُوبَ ؛ لِإِسْقَاطِ الدَّاعِي حُرْمَةَ نَفْسِهِ بِاِتِّخَاذِ الْمُنْكَرِ ، وَلَمْ يَمْنَعْ الْإِجَابَةَ ؛ لِكَوْنِ الْمُجِيبِ لَا يَرَى مُنْكَرًا وَلَا يَسْمَعُهُ .
وَقَالَ أَحْمَدُ : إنَّمَا تَجِبُ الْإِجَابَةُ إذَا كَانَ الْمَكْسَبُ طَيِّبًا ، وَلَمْ يَرَ مُنْكَرًا .
فَعَلَى قَوْلِهِ هَذَا ، لَا تَجِبُ إجَابَةُ مَنْ طَعَامُهُ مِنْ مَكْسَبٍ خَبِيثٍ ؛ لِأَنَّ اتِّخَاذَهُ مُنْكَرٌ ، وَالْأَكْلَ مِنْهُ مُنْكَرٌ ، فَهُوَ أَوْلَى بِالِامْتِنَاعِ ، وَإِنْ حَضَرَ لَمْ يَسُغْ لَهُ الْأَكْلُ مِنْهُ .

( 5682 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَدَعْوَةُ الْخِتَانِ لَا يَعْرِفُهَا الْمُتَقَدِّمُونَ ، وَلَا عَلَى مَنْ دُعِيَ إلَيْهَا أَنْ يُجِيبَ ، وَإِنَّمَا وَرَدَتْ السُّنَّةُ فِي إجَابَةِ مَنْ دُعِيَ إلَى وَلِيمَةِ تَزْوِيجٍ ) يَعْنِي بِالْمُتَقَدِّمِينَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّذَيْنِ يُقْتَدَى بِهِمْ ؛ وَذَلِكَ لِمَا رُوِيَ { أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ ، دُعِيَ إلَى خِتَانٍ ، فَأَبَى أَنْ يُجِيبَ ، فَقِيلَ لَهُ ؟ فَقَالَ : إنَّا كُنَّا لَا نَأْتِي الْخِتَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا نُدْعَى إلَيْهِ .
} رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادِهِ ، إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَحُكْمُ الدَّعْوَةِ لِلْخِتَانِ وَسَائِرِ الدَّعَوَاتِ غَيْرِ الْوَلِيمَةِ أَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ إطْعَامِ الطَّعَامِ ، وَالْإِجَابَةُ إلَيْهَا مُسْتَحَبَّةٌ غَيْرُ وَاجِبَةٍ .
وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ .
وَقَالَ الْعَنْبَرِيُّ : تَجِبُ إجَابَةُ كُلِّ دَعْوَةٍ ؛ لِعُمُومِ الْأَمْرِ بِهِ .
فَإِنَّ ابْنَ عُمَرَ رَوَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا دَعَا أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُجِبْهُ ، عُرْسًا كَانَ أَوْ غَيْرَ عُرْسٍ } .
أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد .
وَلَنَا ، أَنَّ الصَّحِيحَ مِنْ السُّنَّةِ إنَّمَا وَرَدَ فِي إجَابَةِ الدَّاعِي إلَى الْوَلِيمَةِ ، وَهِيَ الطَّعَامُ فِي الْعُرْسِ خَاصَّةً ، كَذَلِكَ قَالَ الْخَلِيلُ ، وَثَعْلَبٌ ، وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ .
وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ ابْنِ عُمَرَ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إلَى وَلِيمَةِ عُرْسٍ فَلْيُجِبْ } .
رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ ، وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ : { كُنَّا لَا نَأْتِي الْخِتَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا نُدْعَى إلَيْهِ .
} وَلِأَنَّ التَّزْوِيجَ يُسْتَحَبُّ إعْلَانُهُ ، وَكَثْرَةُ الْجَمْعِ فِيهِ ، وَالتَّصْوِيتُ ، وَالضَّرْبُ بِالدُّفِّ ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ .
فَأَمَّا الْأَمْرُ بِالْإِجَابَةِ

إلَى غَيْرِهِ ، فَمَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَاب ؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَمْ يَخُصَّ بِهِ دَعْوَةً ذَاتَ سَبَبٍ دُونَ غَيْرِهَا ، وَإِجَابَةُ كُلِّ دَاعٍ مُسْتَحَبَّةٌ لِهَذَا الْخَبَرِ ، وَلِأَنَّ فِيهِ جَبْرَ قَلْبِ الدَّاعِي ، وَتَطْيِيبَ قَلْبِهِ ، وَقَدْ دُعِيَ أَحْمَدُ إلَى خِتَانٍ ، فَأَجَابَ وَأَكَلَ .
فَأَمَّا الدَّعْوَةُ فِي حَقِّ فَاعِلِهَا ، فَلَيْسَتْ لَهَا فَضِيلَةٌ تَخْتَصُّ بِهَا ؛ لِعَدَمِ وُرُودِ الشَّرْعِ بِهَا ، وَلَكِنْ هِيَ بِمَنْزِلَةِ الدَّعْوَةِ لِغَيْرِ سَبَبٍ حَادِثٍ ، فَإِذَا قَصْدَ فَاعِلُهَا شُكْرَ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ ، وَإِطْعَامَ إخْوَانِهِ ، وَبَذْلَ طَعَامِهِ ، فَلَهُ أَجْرُ ذَلِكَ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

( 5683 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَالنِّثَارُ مَكْرُوهٌ ؛ لِأَنَّهُ شِبْهُ النُّهْبَةِ ، وَقَدْ يَأْخُذُهُ مَنْ غَيْرُهُ أَحَبُّ إلَى صَاحِبِ النِّثَارِ مِنْهُ ) .
اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِي النِّثَارِ وَالْتِقَاطِهِ ؛ فَرُوِيَ أَنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ فِي الْعُرْسِ وَغَيْرِهِ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ ، وَعِكْرِمَةَ ، وَابْنِ سِيرِينَ وَعَطَاءٍ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْخِطْمِيِّ ، وَطَلْحَةَ ، وَزُبَيْدٍ الْيَامِيِّ .
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ ، رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ : لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ .
اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ .
وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ ، وَقَتَادَةَ ، وَالنَّخَعِيِّ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَبِي عُبَيْدٍ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ ؛ لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قُرْطٍ ، قَالَ : { قُرِّبَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسُ بَدَنَاتٍ أَوْ سِتٌّ ، فَطَفِقْنَ يَزْدَلِفْنَ إلَيْهِ بِأَيَّتِهِنَّ يَبْدَأُ ، فَنَحَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ كَلِمَةً لَمْ أَسْمَعْهَا ، فَسَأَلْت مَنْ قَرُبَ مِنْهُ ، فَقَالَ : قَالَ : مَنْ شَاءَ اقْتَطَعَ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَهَذَا جَارٍ مَجْرَى النِّثَارِ ، وَقَدْ رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُعِيَ إلَى وَلِيمَةِ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ ، ثُمَّ أَتَوْا بِنَهْبٍ فَأَنْهَبَ عَلَيْهِ .
قَالَ الرَّاوِي : وَنَظَرْت إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُزَاحِمُ النَّاسَ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ .
قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَمَا نَهَيْتَنَا عَنْ النُّهْبَةِ ؟ قَالَ : نَهَيْتُكُمْ عَنْ نُهْبَةِ الْعَسَاكِرِ } .
وَلِأَنَّهُ نَوْعُ إبَاحَةٍ فَأَشْبَهَ إبَاحَةَ الطَّعَامِ لَلضَّيْفَانِ .
وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تَحِلُّ النُّهْبَى وَالْمُثْلَةُ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَفِي لَفْظٍ { ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ النُّهْبَى وَالْمُثْلَةِ .
} وَلِأَنَّ فِيهِ نَهْبًا ، وَتَزَاحُمًا ، وَقِتَالًا ، وَرُبَّمَا

أَخَذَهُ مَنْ يَكْرَهُ صَاحِبَ النِّثَارِ ، لِحِرْصِهِ وَشَرَهِهِ وَدَنَاءَةِ نَفْسِهِ ، وَيُحْرَمُهُ مَنْ يُحِبُّ صَاحِبَهُ ؛ لِمُرُوءَتِهِ وَصِيَانَةِ نَفْسِهِ وَعِرْضِهِ ، وَالْغَالِبُ هَذَا ، فَإِنَّ أَهْلَ الْمُرُوآتِ يَصُونُونَ أَنْفُسَهُمْ عَنْ مُزَاحَمَةِ سَفَلَةِ النَّاسِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الطَّعَامِ أَوْ غَيْرِهِ ، وَلِأَنَّ فِي هَذَا دَنَاءَةً ، وَاَللَّهُ يُحِبُّ مَعَالِي الْأُمُورِ ، وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا .
فَأَمَّا خَبَرُ الْبَدَنَاتِ ؛ فَيَحْتَمِلُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِمَ أَنَّهُ لَا نُهْبَةَ فِي ذَلِكَ ؛ لِكَثْرَةِ اللَّحْمِ ، وَقِلَّةِ الْآخِذِينَ ، أَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لِاشْتِغَالِهِ بِالْمَنَاسِكِ عَنْ تَفْرِيقِهَا .
وَفِي الْجُمْلَةِ فَالْخِلَافُ إنَّمَا هُوَ فِي كَرَاهِيَةِ ذَلِكَ ، وَأَمَّا إبَاحَتُهُ فَلَا خِلَافَ فِيهَا ، وَلَا فِي الِالْتِقَاطِ ؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ إبَاحَةٍ لِمَالِهِ ، فَأَشْبَهَ سَائِرَ الْإِبَاحَاتِ .

( 5684 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( فَإِنْ قَسَمَ عَلَى الْحَاضِرِينَ ، فَلَا بَأْسَ بِأَخْذِهِ ) .
كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ رَحِمَهُ اللَّهُ ، أَنَّ بَعْضَ أَوْلَادِهِ حَذَقَ ، فَقَسَمَ عَلَى الصِّبْيَانِ الْجَوْزَ .
أَمَّا إذَا قَسَمَ عَلَى الْحَاضِرِينَ مَا يُنْثَرُ مِثْلُ اللَّوْزِ ، وَالسُّكَّرِ ، وَغَيْرِهِ ، فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ ذَلِكَ حَسَنٌ ، غَيْرُ مَكْرُوهٍ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : { : قَسَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا بَيْنَ أَصْحَابِهِ تَمْرًا ، فَأَعْطَى كُلَّ إنْسَانٍ سَبْعَ تَمَرَاتٍ ، فَأَعْطَانِي سَبْعَ تَمَرَاتٍ إحْدَاهُنَّ حَشَفَةٌ ، لَمْ تَكُنْ فِيهِنَّ تَمْرَةٌ أَعْجَبُ إلَيَّ مِنْهَا ، شَدَّتْ إلَى مَضَاغِي .
} رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَكَذَلِكَ إنْ وَضَعَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ، وَأَذِنَ لَهُمْ فِي أَخْذِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَقَعُ تَنَاهُبٌ ، فَلَا يُكْرَهُ أَيْضًا .
قَالَ الْمَرُّوذِيُّ : سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الْجَوْزِ يُنْثَرُ ؟ فَكَرِهَهُ ، وَقَالَ : يُعْطُونَ يُقْسَمُ عَلَيْهِمْ .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ بَحْرٍ : سَمِعْت حُسْنَ أُمَّ وَلَدِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلِ تَقُولُ : لَمَّا حَذَقَ ابْنِي حَسَنٌ ، قَالَ لِي مَوْلَايَ : حُسْنُ ، لَا تَنْثُرِي عَلَيْهِ .
فَاشْتَرَى تَمْرًا وَجَوْزًا ، فَأَرْسَلَهُ إلَى الْمُعَلِّمِ ، قَالَتْ : وَعَمِلْت أَنَا عَصِيدَةً ، وَأَطْعَمْت الْفُقَرَاءَ ، فَقَالَ : أَحْسَنْت أَحْسَنْت .
وَفَرَّقَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَلَى الصِّبْيَان الْجَوْزَ ، لِكُلِّ وَاحِدٍ خَمْسَةٌ خَمْسَةٌ .

( 5685 ) فَصْلٌ : وَمَنْ حَصَلَ فِي حِجْرِهِ شَيْءٌ مِنْ النِّثَارِ فَهُوَ لَهُ ، غَيْرُ مَكْرُوهٍ ؛ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ حَصَلَ فِي حِجْرِهِ فَمَلَكَهُ ، كَمَا لَوْ وَثَبَتْ سَمَكَةٌ مِنْ الْبَحْرِ فَوَقَعَتْ فِي حِجْرِهِ ، وَلَيْسَ لَأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ حِجْرِهِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ .

( 5686 ) فَصْلٌ : وَلَا بَأْسَ أَنْ يَخْلِطَ الْمُسَافِرُونَ أَزْوَادَهُمْ وَيَأْكُلُوا جَمِيعًا .
وَإِنْ بَعْضُهُمْ أَكْثَرَ مِنْ بَعْضٍ ، فَلَا بَأْسَ .
وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ يَتَعَاهَدُونَ فِي الْغَزْوِ وَالْحَجِّ .
وَيُفَارِقُ النِّثَارَ ؛ فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ بِنَهْبٍ وَتَسَالُبٍ وَتَجَاذُبٍ ، بِخِلَافِ هَذَا .

( 5687 ) فَصْلٌ : فِي آدَابِ الطَّعَامِ يُسْتَحَبُّ غَسْلُ الْيَدَيْنِ قَبْلَ الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى وُضُوءٍ ، قَالَ الْمَرُّوذِيُّ : رَأَيْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَغْسِلُ يَدَيْهِ قَبْلَ الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى وُضُوءٍ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُكْثِرَ خَيْرَ بَيْتِهِ ، فَلْيَتَوَضَّأْ إذَا حَضَرَ غَدَاؤُهُ وَإِذَا رُفِعَ .
} رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ الْحَسَنِ بْن عَلِيٍّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الْوُضُوءُ قَبْلَ الطَّعَامِ يَنْفِي الْفَقْرَ ، وَبَعْدَهُ يَنْفِي اللَّمَمَ .
} يَعْنِي بِهِ غَسْلَ الْيَدَيْنِ .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ نَامَ وَفِي يَدِهِ رِيحُ غَمْرٍ ، فَأَصَابَهُ شَيْءٌ ، فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَلَا بَأْسَ بِتَرْكِ الْوُضُوءِ ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مِنْ الْغَائِطِ فَأُتِيَ بِطَعَامِ ، فَقَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَلَا آتِيكَ بِوُضُوءٍ ؟ قَالَ : لَا أُرِيدُ الصَّلَاةَ } .
رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ : { أَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ شِعْبِ الْجَبَلِ ، وَقَدْ قَضَى حَاجَتَهُ ، وَبَيْن أَيْدِينَا تَمْرٌ عَلَى تُرْسٍ أَوْ جُحْفَةٍ ، فَدَعَوْنَاهُ فَأَكَلَ مَعَنَا ، وَمَا مَسَّ مَاءً } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَرُوِيَ عَنْهُ ، { أَنَّهُ كَانَ يَحْتَزُّ مِنْ كَتِفِ شَاةٍ فِي يَدِهِ ، فَدُعِيَ إلَى الصَّلَاةِ ، فَأَلْقَاهَا مِنْ يَدِهِ ، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى ، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ } .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ، .
وَلَا بَأْسَ بِتَقْطِيعِ اللَّحْمِ بِالسِّكِّينِ ؛ لِهَذَا الْحَدِيثِ .
وَقَالَ مُهَنَّا : سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ حَدِيثٍ يُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تَقْطَعُوا اللَّحْمَ بِالسِّكِّينِ ، فَإِنَّهُ مِنْ صُنْعِ الْأَعَاجِمِ ، وَانْهَشُوهُ نَهْشًا ؛ فَإِنَّهُ أَهْنَأُ وَأَمْرَأُ } .
قَالَ : لَيْسَ بِصَحِيحِ .
وَاحْتَجَّ

بِهَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ .

( 5688 ) فَصْلٌ : وَتُسْتَحَبُّ التَّسْمِيَةُ عِنْدَ الْأَكْلِ ، وَأَنْ يَأْكُلَ بِيَمِينِهِ مِمَّا يَلِيهِ ؛ لِمَا رَوَى عُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ : { كُنْت يَتِيمًا فِي حِجْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ ، فَقَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا غُلَامُ ، سَمِّ اللَّهَ ، وَكُلْ بِيَمِينِك ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيك } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَأْكُلْ بِيَمِينِهِ ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ ، وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَعَنْ عَائِشَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ ، فَإِنْ نَسِيَ أَنْ يَذْكُرَ اسْمَ اللَّهِ فِي أَوَّلِهِ فَلْيَقُلْ : بِسْمِ اللَّهِ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ .
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا وَرَجُلٌ يَأْكُلُ ، فَلَمْ يُسَمِّ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْ طَعَامِهِ إلَّا لُقْمَةٌ ، فَلَمَّا رَفَعَهَا إلَى فِيهِ قَالَ : بِسْمِ اللَّهِ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ .
فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ : مَا زَالَ الشَّيْطَانُ يَأْكُلُ مَعَهُ ، فَلَمَّا ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ قَاءَ مَا فِي بَطْنِهِ } .
رَوَاهُنَّ أَبُو دَاوُد .
وَعَنْ عِكْرَاشِ بْنِ ذُؤَيْبٍ قَالَ : { أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجَفْنَةٍ كَثِيرَةِ الثَّرِيدِ وَالْوَدَكِ ، فَأَقْبَلْنَا نَأْكُلُ ، فَخَبَطَتْ يَدِي فِي نَوَاحِيهَا ، فَقَالَ : يَا عِكْرَاشُ ، كُلْ مِنْ مَوْضِعٍ وَاحِدٍ ؛ فَإِنَّهُ طَعَامٌ وَاحِدٌ .
ثُمَّ أُتِينَا بِطَبَقٍ فِيهِ أَلْوَانُ الرُّطَبِ ، فَجَالَتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الطَّبَقِ ، وَقَالَ : يَا عِكْرَاشُ ، كُلْ مِنْ حَيْثُ شِئْت ؛ فَإِنَّهُ غَيْرُ لَوْنٍ وَاحِدٍ } .
رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
وَلَا يَأْكُلُ مِنْ ذِرْوَةِ الثَّرِيدِ ، لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ

طَعَامًا ، فَلَا يَأْكُلْ مِنْ أَعْلَى الصَّحْفَةِ ، وَلَكِنْ لِيَأْكُلَ مِنْ أَسْفَلِهَا ، فَإِنَّ الْبَرَكَةَ تَنْزِلُ مِنْ أَعْلَاهَا } .
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ { : كُلُوا مِنْ جَوَانِبِهَا ، وَدَعُوا ذِرْوَتَهَا ، يُبَارَكْ فِيهَا } رَوَاهُمَا ابْنُ مَاجَهْ .

( 5689 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ الْأَكْلُ بِالْأَصَابِعِ الثَّلَاثِ ، وَلَا يَمْسَحُ يَدَهُ حَتَّى يَلْعَقَهَا .
قَالَ مُثَنَّى : سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الْأَكْلِ بِالْأَصَابِعِ كُلِّهَا ؟ فَذَهَبَ إلَى ثَلَاثِ أَصَابِعَ ، فَذَكَرْت لَهُ الْحَدِيثَ الَّذِي يُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ بِكَفِّهِ كُلِّهَا .
فَلَمْ يُصَحِّحْهُ ، وَلَمْ يَرَ إلَّا ثَلَاثَ أَصَابِعَ .
وَقَدْ رَوَى كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ ، قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَأْكُلُ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ ، وَلَا يَمْسَحُ يَدَهُ حَتَّى يَلْعَقَهَا } .
رَوَاهُ الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ .

وَيُكْرَهُ الْأَكْلُ مُتَّكِئًا ؛ لِمَا رَوَى أَبُو جُحَيْفَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا آكُلُ مُتَّكِئًا } .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَلَا يَمْسَحُ يَدَهُ بِالْمِنْدِيلِ حَتَّى يَلْعَقَهَا ؛ لِمَا رَوَيْنَا ، وَلِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا ، فَلَا يَمْسَحْ يَدَهُ حَتَّى يُلْعِقَهَا أَوْ يَلْعَقهَا } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَعَنْ نُبَيْشَةَ قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
{ مَنْ أَكَلَ فِي قَصْعَةٍ فَلَحِسَهَا ، اسْتَغْفَرَتْ لَهُ الْقَصْعَةُ } .
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ .
وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا وَقَعَتْ اللُّقْمَةُ مِنْ يَدِ أَحَدِكُمْ ، فَلْيَمْسَحْ مَا عَلَيْهَا مِنْ الْأَرْضِ ، وَلْيَأْكُلْهَا } .
رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .

( 5690 ) فَصْلٌ : وَيَحْمَدُ اللَّه تَعَالَى إذَا فَرَغَ ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى مِنْ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ ، أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ ، فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ ، قَالَ : { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَكَلَ طَعَامًا ، قَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا ، وَسَقَانَا ، وَجَعَلَنَا مُسْلِمِينَ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
.
وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ إذَا رُفِعَ طَعَامُهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا ، مُبَارَكًا فِيهِ ، غَيْرَ مَكْفِيٍّ ، وَلَا مُوَدَّعٍ ، وَلَا مُسْتَغْنَى عَنْهُ ، رَبِّنَا } .
وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الْجُهَنِيِّ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ أَكَلَ طَعَامًا ، فَقَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنِي هَذَا وَرَزَقَنِيهِ ، مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلَا قُوَّةٍ ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ } .
رَوَاهُنَّ ابْنُ مَاجَهْ وَرُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكَلَ طَعَامًا ، هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ ، ثُمَّ قَالَ : مَنْ قَالَ فِي أَوَّلِهِ : بِسْمِ اللَّهِ ، وَبَرَكَةِ اللَّهِ .
وَفِي آخِرِهِ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَ وَأَرْوَى وَأَنْعَمَ وَأَفْضَلَ ، فَقَدْ أَدَّى شُكْرَهُ } .

وَيُسْتَحَبُّ الدُّعَاءُ لِصَاحِبِ الطَّعَامِ ؛ لِمَا رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، قَالَ : صَنَعَ أَبُو الْهَيْثَمِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ طَعَامًا فَدَعَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ : " أَثِيبُوا صَاحِبَكُمْ " .
قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَمَا إثَابَتُهُ ؟ قَالَ : { إنَّ الرَّجُلَ إذَا دُخِلَ بَيْتُهُ ، وَأُكِلَ طَعَامُهُ ، وَشُرِبَ شَرَابُهُ ، فَدَعَوْا لَهُ ، فَذَلِكَ إثَابَتُهُ } .
وَعَنْ أَنَسٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ إلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ ، قَالَ : فَجَاءَ بِخُبْزٍ وَزَيْتٍ ، فَأَكَلَ ، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَفْطَرَ عِنْدَكُمْ الصَّائِمُونَ ، وَأَكَلَ طَعَامَكُمْ الْأَبْرَارُ ، وَصَلَّتْ عَلَيْكُمْ الْمَلَائِكَةُ } .
رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد .

( 5691 ) فَصْلٌ : وَلَا بَأْسَ بِالْجَمْعِ بَيْن طَعَامَيْنِ ؛ فَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْن جَعْفَرٍ قَالَ : { رَأَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ الْقِثَّاءَ بِالرُّطَبِ .
وَيُكْرَهُ عَيْبُ الطَّعَامِ ؛ لِقَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ : مَا عَابَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَعَامًا قَطُّ ، إذَا اشْتَهَى شَيْئًا أَكَلَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَهِهِ تَرَكَهُ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا .
وَإِذَا حَضَرَ فَصَادَفَ قَوْمًا يَأْكُلُونَ ، فَدَعَوْهُ ، لَمْ يُكْرَهُ لَهُ الْأَكْلُ ؛ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ ، { حِين دَعَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَكَلَ مَعَهُمْ .
} وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَحَيَّنَ وَقْتَ أَكْلِهِمْ ، فَيَهْجُمَ عَلَيْهِمْ لِيُطْعَمَ مَعَهُمْ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إنَاهُ } أَيْ غَيْرَ مُنْتَظِرِينَ بُلُوغَ نُضْجِهِ .
وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ : { مَا أَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خِوَانٍ ، وَلَا فِي سُكْرُجَةٍ } .
قَالَ : فَعَلَامَ كُنْتُمْ تَأْكُلُونَ ؟ قَالَ : عَلَى السَّفَرِ .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : { لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْفُخُ فِي طَعَامٍ وَلَا شَرَابٍ ، وَلَا يَتَنَفَّسُ فِي الْإِنَاءِ } .
وَفِي الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ : { وَلَا يَتَنَفَّسْ أَحَدُكُمْ فِي الْإِنَاءِ } .
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا وُضِعَتْ الْمَائِدَةُ ، فَلَا يَقُومُ رَجُلٌ حَتَّى تُرْفَعَ الْمَائِدَةُ ، وَلَا يَرْفَعُ يَدَهُ وَإِنْ شَبِعَ حَتَّى يَفْرُغَ وَالْقَوْمُ ، وَلْيُعْذِرْ ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ يُخْجِلُ جَلِيسَهُ فَيَقْبِضُ يَدَهُ ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي الطَّعَامِ حَاجَةٌ } .
رَوَاهُنَّ كُلَّهُنَّ ابْنُ مَاجَهْ .

( 5692 ) فَصْلٌ : قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى : قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : الْإِنَاءُ يُؤْكَلُ فِيهِ ، ثُمَّ تُغْسَلُ فِيهِ الْيَدُ ؟ فَقَالَ : لَا بَأْسَ .
وَقِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : مَا تَقُولُ فِي غَسْلِ الْيَدِ بِالنُّخَالَةِ ؟ فَقَالَ : لَا بَأْسَ بِهِ ، نَحْنُ نَفْعَلُهُ .
وَاسْتَدَلَّ الْخَطَّابِيُّ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ ، بِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ أَمَرَ امْرَأَةً أَنْ تَجْعَلَ مَعَ الْمَاءِ مِلْحًا ، ثُمَّ تَغْسِلَ بِهِ الدَّمَ مِنْ حَيْضَةٍ .
} وَالْمِلْحُ طَعَامٌ ، فَفِي مَعْنَاهُ مَا أَشْبَهَهُ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

كِتَابُ عِشْرَةِ النِّسَاءِ وَالْخُلْعِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } .
وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ } .
وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ : يَتَّقُونَ اللَّهَ فِيهِنَّ ، كَمَا عَلَيْهِنَّ أَنْ يَتَّقِينَ اللَّهَ فِيهِمْ .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : إنِّي لِأُحِبّ أَنْ أَتَزَيَّنَ لِلْمَرْأَةِ ، كَمَا أُحِبُّ أَنْ تَتَزَيَّنَ لِي ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ } وَقَالَ الضَّحَّاكُ فِي تَفْسِيرِهَا : إذَا أَطَعْنَ اللَّهُ ، وَأَطَعْنَ أَزْوَاجَهُنَّ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُحْسِنَ صُحْبَتَهَا ، وَيَكُفُّ عَنْهَا أَذَاهُ ، وَيُنْفِقَ عَلَيْهَا مِنْ سَعَتِهِ .
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ : التَّمَاثُلُ هَاهُنَا فِي تَأْدِيَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا عَلَيْهِ مِنْ الْحَقِّ لِصَاحِبِهِ بِالْمَعْرُوفِ ، وَلَا يُمْطِلُهُ بِهِ ، وَلَا يُظْهِرُ الْكَرَاهَةَ ، بَلْ بِبِشْرٍ وَطَلَاقَةٍ ، وَلَا يُتْبِعُهُ أَذًى وَلَا مِنَّةً ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } .
وَهَذَا مِنْ الْمَعْرُوفِ ، وَيُسْتَحَبُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَحْسِينُ الْخُلُقِ مَعَ صَاحِبِهِ ، وَالرِّفْقُ بِهِ ، وَاحْتِمَالُ أَذَاهُ ؛ لِقَوْلِ اللَّه تَعَالَى : { وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى } إلَى قَوْلِهِ { وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ } قِيلَ : هُوَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا ، فَإِنَّهُنَّ عَوَانٌ عِنْدَكُمْ ، أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلْعٍ أَعْوَجَ ، لَنْ تَسْتَقِيمَ عَلَى طَرِيقَةٍ ، فَإِنْ ذَهَبْت تُقِيمُهَا كَسَرْتهَا ، وَإِنْ اسْتَمْتَعْت بِهَا اسْتَمْتَعْت بِهَا وَفِيهَا عِوَجٌ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَقَالَ { خِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ } .
رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
وَحَقُّ الزَّوْجِ عَلَيْهَا أَعْظَمُ مِنْ حَقِّهَا عَلَيْهِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى

: { وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ } .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَوْ كُنْت آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ ، لَأَمَرْت النِّسَاءَ أَنْ يَسْجُدْنَ لِأَزْوَاجِهِنَّ ؛ لِمَا جَعَلَ اللَّهُ لَهُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ الْحَقِّ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَقَالَ : { إذَا بَاتَتْ الْمَرْأَةُ هَاجِرَةً فِرَاشَ زَوْجِهَا ، لَعَنَتْهَا الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تَرْجِعَ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، { وَقَالَ لَامْرَأَةٍ أَذَاتُ زَوْجٍ أَنْتِ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ ، قَالَ : فَإِنَّهُ جَنَّتُك وَنَارُك .
وَقَالَ : لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ أَنْ تَصُومَ وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ إلَّا بِإِذْنِهِ ، وَلَا تَأْذَنَ فِي بَيْتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ ، وَمَا أَنْفَقَتْ مِنْ نَفَقَةٍ مِنْ غَيْرِ إذْنِهِ فَإِنَّهُ يُرَدُّ إلَيْهِ شَطْرُهُ } .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .

( 5693 ) فَصْلٌ : إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً ، مِثْلُهَا يُوطَأُ ، فَطَلَبَ تَسْلِيمَهَا ، إلَيْهِ وَجَبَ ذَلِكَ وَإِنْ عَرَضَتْ نَفْسَهَا عَلَيْهِ ، لَزِمَهُ تَسَلُّمُهَا ، وَوَجَبَتْ نَفَقَتُهَا .
وَإِنْ طَلَبَهَا ، فَسَأَلْت الْإِنْظَارَ ، أُنْظِرَتْ مُدَّةً جَرَتْ الْعَادَةُ أَنْ تُصْلِحَ أَمَرَهَا فِيهَا ، كَالْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَسِيرٌ جَرَتْ الْعَادَةُ بِمِثْلِهِ ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تَطْرُقُوا النِّسَاءَ لَيْلًا ، حَتَّى تَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ ، وَتَسْتَحِدَّ الْمُغَيَّبَةُ } .
فَمَنَعَ مِنْ الطُّرُوقِ ، وَأَمَرَ بِإِمْهَالِهَا لِتُصْلِحَ أَمْرَهَا ؛ مَعَ تَقَدُّمِ صُحْبَتِهِ لَهَا ، فَهَاهُنَا أَوْلَى .
ثُمَّ إنْ كَانَتْ حُرَّةً ، وَجَبَ تَسْلِيمُهَا لَيْلًا وَنَهَارًا ، وَلَهُ السَّفَرُ بِهَا ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُسَافِرُ بِنِسَائِهِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ سَفَرًا مَخُوفًا ، فَلَا يَلْزَمُهَا ذَلِكَ ؛ وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً ، لَمْ يَلْزَمْ تَسْلِيمُهَا إلَّا بِاللَّيْلِ ؛ لِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ عُقِدَ عَلَى إحْدَى مَنْفَعَتَيْهَا ، فَلَمْ يَلْزَمْ تَسْلِيمُهَا فِي غَيْرِ وَقْتِهَا ، كَمَا لَوْ أَجَّرَهَا لِخِدْمَةِ النَّهَارِ ، لَمْ يَلْزَمْ تَسْلِيمُهَا بِاللَّيْلِ .
وَيَجُوزُ لِلْمَوْلَى بَيْعُهَا ؛ { لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ لِعَائِشَةَ فِي شِرَاءِ بَرِيرَةَ ، وَهِيَ ذَاتُ زَوْجٍ .
وَلَا يَنْفَسِخُ النِّكَاحُ بِذَلِكَ ، بِدَلِيلِ أَنَّ بَيْعَ بَرِيرَةَ لَمْ يُبْطِلْ نِكَاحَهَا } .

( 5694 ) فَصْل : وَلِلزَّوْجِ إجْبَارُ زَوْجَتِهِ عَلَى الْغُسْلِ مِنْ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ ، مُسْلِمَةً كَانَتْ أَوْ ذِمِّيَّةً ، حُرَّةً كَانَتْ أَوْ مَمْلُوكَةً ؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الِاسْتِمْتَاعَ الَّذِي هُوَ حَقٌّ لَهُ ، فَمَلَكَ إجْبَارَهَا عَلَى إزَالَةِ مَا يَمْنَعُ حَقَّهُ .
وَإِنْ احْتَاجَتْ إلَى شِرَاءِ الْمَاءِ فَثَمَنُهُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لِحَقِّهِ .
وَلَهُ إجْبَارُ الْمُسْلِمَةِ الْبَالِغَةِ عَلَى الْغُسْلِ مِنْ الْجَنَابَةِ ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهَا ، وَلَا تَتَمَكَّنُ مِنْهَا إلَّا بِالْغُسْلِ .
فَأَمَّا الذِّمِّيَّةُ ، فَفِيهَا رِوَايَتَانِ ؛ : إحْدَاهُمَا ، لَهُ إجْبَارُهَا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ كَمَالَ الِاسْتِمْتَاعِ يَقِفُ عَلَيْهِ ، فَإِنَّ النَّفْسَ تَعَافُ مَنْ لَا يَغْتَسِلُ مِنْ جَنَابَةٍ .
وَالثَّانِيَةُ ، لَيْسَ لَهُ إجْبَارُهَا عَلَيْهِ .
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا يَقِفُ عَلَيْهِ ، فَإِنَّهُ مُبَاحٌ بِدُونِهِ ؛ وَلِلشَّافِعِي قَوْلَانِ كَالرِّوَايَتَيْنِ .
وَفِي إزَالَةِ الْوَسَخِ وَالدَّرَنِ وَتَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ وَجْهَانِ ؛ بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ .
وَتَسْتَوِي فِي هَذَا الْمُسْلِمَةُ وَالذِّمِّيَّةُ ، لِاسْتِوَائِهِمَا فِي حُصُولِ النَّفْرَةِ مِمَّنْ ذَلِكَ حَالُهَا .
وَلَهُ إجْبَارُهَا عَلَى إزَالَةِ شَعْرِ الْعَانَةِ ، إذَا خَرَجَ عَنْ الْعَادَةِ ، رِوَايَةً وَاحِدَةً .
ذَكَرَهُ الْقَاضِي .
وَكَذَلِكَ الْأَظْفَارُ .
وَإِنْ طَالَا قَلِيلًا ، بِحَيْثُ تَعَافُهُ النَّفْسُ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ .
وَهَلْ لَهُ مَنْعُهَا مِنْ أَكْلِ مَا لَهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ ، كَالْبَصَلِ وَالثُّومِ وَالْكُرَّاتِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا ، لَهُ مَنْعُهَا مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الْقُبْلَةَ ، وَكَمَالَ الِاسْتِمْتَاعِ .
وَالثَّانِي ، لَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ الْوَطْءَ .
وَلَهُ مَنْعُهَا مِنْ السُّكْرِ وَإِنْ كَانَتْ ذِمِّيَّةً ؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الِاسْتِمْتَاعَ بِهَا ، فَإِنَّهُ يُزِيلُ عَقْلَهَا ، وَيَجْعَلُهَا كَالزِّقِّ الْمَنْفُوخِ ، وَلَا يَأْمَنُ أَنْ تَجْنِيَ عَلَيْهِ .
وَإِنْ أَرَادَتْ شُرْبَ مَا لَا يُسْكِرُهَا ،

فَلَهُ مَنْعُ الْمُسْلِمَةِ ؛ لِأَنَّهُمَا يَعْتَقِدَانِ تَحْرِيمَهُ ، وَإِنْ كَانَتْ ذِمِّيَّةً لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْعُهَا مِنْهُ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ؛ لِأَنَّهَا تَعْتَقِدُ إبَاحَتَهُ فِي دِينِهَا .
وَلَهُ إجْبَارُهَا عَلَى غَسْلِ فَمِهَا مِنْهُ وَمِنْ سَائِرِ النَّجَاسَاتِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ بِفِيهَا .
وَيَتَخَرَّجُ أَنْ يَمْلِكَ مَنْعَهَا مِنْهُ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ ، وَهُوَ كَالثُّومِ .
وَهَكَذَا الْحُكْمُ لَوْ تَزَوَّجَ مُسْلِمَةً تَعْتَقِدُ إبَاحَةَ يَسِيرِ النَّبِيذِ ، هَلْ لَهُ مَنْعُهَا مِنْهُ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ .
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ عَلَى نَحْوٍ مِنْ هَذَا الْفَصْلِ كُلِّهِ .

( 5695 ) فَصْلٌ : وَلِلزَّوْجِ مَنْعُهَا مِنْ الْخُرُوجِ مِنْ مَنْزِلِهِ إلَى مَا لَهَا مِنْهُ بُدٌّ سَوَاءٌ أَرَادَتْ زِيَارَةَ وَالِدَيْهَا ، أَوْ عِيَادَتَهُمَا ، أَوْ حُضُورَ جِنَازَة أَحَدِهِمَا .
قَالَ أَحْمَدُ ، فِي امْرَأَةٍ لَهَا زَوْجٌ وَأُمٌّ مَرِيضَةٌ : طَاعَةُ زَوْجِهَا أَوْجَبَ عَلَيْهَا مِنْ أُمِّهَا ، إلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهَا .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ بَطَّةَ ، فِي " أَحْكَامِ النِّسَاءِ " ، عَنْ أَنَسٍ ، { أَنَّ رَجُلًا سَافَرَ وَمَنَعَ زَوْجَتَهُ مِنْ الْخُرُوجِ ، فَمَرِضَ أَبُوهَا ، فَاسْتَأْذَنَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عِيَادَةِ أَبِيهَا ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّقِي اللَّهَ ، وَلَا تُخَالِفِي زَوْجَك .
فَمَاتَ أَبُوهَا ، فَاسْتَأْذَنَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حُضُورِ جِنَازَتِهِ ، فَقَالَ لَهَا : اتَّقِي اللَّهَ ، وَلَا تُخَالِفِي زَوْجَك .
فَأَوْحَى اللَّهُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنِّي قَدْ غَفَرْت لَهَا بِطَاعَةِ زَوْجِهَا } .
وَلِأَنَّ طَاعَةَ الزَّوْجِ وَاجِبَةٌ ، وَالْعِيَادَةَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ ، فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الْوَاجِبِ لِمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ ؛ وَلَا يَجُوزُ لَهَا الْخُرُوجُ إلَّا بِإِذْنِهِ ، وَلَكِنْ لَا يَنْبَغِي لِلزَّوْجِ مَنْعُهَا مِنْ عِيَادَةِ وَالِدَيْهَا ، وَزِيَارَتِهِمَا ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ قَطِيعَةً لَهُمَا ، وَحَمْلًا لِزَوْجَتِهِ عَلَى مُخَالِفَتِهِ ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْمُعَاشَرَةِ بِالْمَعْرُوفِ ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ الْمُعَاشَرَةِ بِالْمَعْرُوفِ .
وَإِنْ كَانَتْ زَوْجَتُهُ ذِمِّيَّةً ، فَلَهُ مَنْعُهَا مِنْ الْخُرُوجِ إلَى الْكَنِيسَةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِطَاعَةٍ ، وَلَا نَفْعٍ .
وَإِنْ كَانَتْ مُسْلِمَةً ، فَقَالَ الْقَاضِي : لَهُ مَنْعُهَا مِنْ الْخُرُوجِ إلَى الْمَسَاجِدِ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَمْنَعُهُ مِنْ مَنْعِهَا ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تَمْنَعُوا إمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ } .
وَرُوِيَ أَنَّ الزُّبَيْرَ تَزَوَّجَ عَاتِكَةَ بِنْتَ زَيْدِ بْنِ عَمْرو بْنِ نُفَيْلٍ ، فَكَانَتْ

تَخْرُجُ إلَى الْمَسَاجِدِ ، وَكَانَ غَيُورًا ، فَيَقُولُ لَهَا : لَوْ صَلَّيْت فِي بَيْتِك .
فَتَقُولُ : لَا أَزَالَ أَخْرُجُ أَوْ تَمْنَعُنِي .
فَكَرِهَ مَنْعَهَا لِهَذَا الْخَبَرِ .
وَقَالَ أَحْمَدُ فِي الرَّجُلِ تَكُونُ لَهُ الْمَرْأَةُ أَوْ الْأَمَةُ النَّصْرَانِيَّةُ يَشْتَرِي لَهَا زُنَّارًا ؟ قَالَ : لَا بَلْ تَخْرُجُ هِيَ تَشْتَرِي لِنَفْسِهَا .
فَقِيلَ لَهُ : جَارِيَتُهُ تَعْمَلُ الزَّنَانِيرَ ؟ قَالَ : لَا .

( 5696 ) فَصْلٌ : وَلَيْسَ عَلَى الْمَرْأَةِ خِدْمَةُ زَوْجِهَا ، مِنْ الْعَجْنِ ، وَالْخَبْزِ ، وَالطَّبْخِ وَأَشْبَاهِهِ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ، وَأَبُو إِسْحَاقَ الْجُوزَجَانِيُّ : عَلَيْهَا ذَلِكَ .
وَاحْتَجَّا { بِقِصَّةِ عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى عَلَى ابْنَتِهِ فَاطِمَةَ بِخِدْمَةِ الْبَيْتِ ، وَعَلَى عَلِيٍّ مَا كَانَ خَارِجًا مِنْ الْبَيْتِ مِنْ عَمَلٍ } .
رَوَاهُ الْجُوزَجَانِيُّ مِنْ طُرُقٍ .
قَالَ الْجُوزَجَانِيُّ : وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَوْ كُنْت آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ ، لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَمَرَ امْرَأَتَهُ أَنْ تَنْقُلَ مِنْ جَبَلٍ أَسْوَدَ إلَى جَبَلٍ أَحْمَرَ ، أَوْ مِنْ جَبَلٍ أَحْمَرَ إلَى جَبَلٍ أَسْوَدَ ، كَانَ عَلَيْهَا أَنْ تَفْعَلَ } .
وَرَوَاهُ بِإِسْنَادِهِ .
قَالَ : فَهَذِهِ طَاعَتُهُ فِيمَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ ، فَكَيْفَ بِمُؤْنَةِ مَعَاشِهِ ؟ { وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ نِسَاءَهُ بِخِدْمَتِهِ .
فَقَالَ : يَا عَائِشَةُ اسْقِينَا ، يَا عَائِشَةُ أَطْعِمِينَا ، يَا عَائِشَةُ هَلُمِّي الشَّفْرَةَ ، وَاشْحَذِيهَا بِحَجَرٍ } .
وَقَدْ رُوِيَ { أَنَّ فَاطِمَةَ أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَشْكُو إلَيْهِ مَا تَلْقَى مِنْ الرَّحَى ، وَسَأَلَتْهُ خَادِمًا يَكْفِيهَا ذَلِكَ .
} وَلَنَا - أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مِنْ جِهَتِهَا الِاسْتِمْتَاعُ ، فَلَا يَلْزَمُهَا غَيْرُهُ ، كَسَقْيِ دَوَابِّهِ ، وَحَصَادِ زَرْعِهِ .
فَأَمَّا قَسْمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ ، فَعَلَى مَا تَلِيقُ بِهِ الْأَخْلَاقُ الْمَرْضِيَّةُ ، وَمَجْرَى الْعَادَةِ ، لَا عَلَى سَبِيلِ الْإِيجَابِ ، كَمَا قَدْ رُوِيَ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ ، أَنَّهَا كَانَتْ تَقُومُ بِفَرَسِ الزُّبَيْرِ ، وَتَلْتَقِطُ لَهُ النَّوَى ، وَتَحْمِلُهُ عَلَى رَأْسِهَا .
وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ وَاجِبًا عَلَيْهَا ، وَلِهَذَا لَا يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ الْقِيَامُ

بِمَصَالِحٍ خَارِجَ الْبَيْتِ ، وَلَا الزِّيَادَةُ عَلَى مَا يَجِبُ لَهَا مِنْ النَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ ، وَلَكِنْ الْأَوْلَى لَهَا فِعْلُ مَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِقِيَامِهَا بِهِ ؛ لِأَنَّهُ الْعَادَةُ ، وَلَا تَصْلُحُ الْحَالُ إلَّا بِهِ ، وَلَا تَنْتَظِمُ الْمَعِيشَةُ بِدُونِهِ .

( 5697 ) فَصْلٌ : وَلَا يَحِلُّ وَطْءُ الزَّوْجَةِ فِي الدُّبُرِ ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ؛ مِنْهُمْ عَلِيٌّ ، وَعَبْدُ اللَّهِ ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ .
وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَعِكْرِمَةُ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْي ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَرُوِيَتْ إبَاحَتُهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ، وَنَافِعٍ ، وَمَالِكٍ .
وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ : مَا أَدْرَكْت أَحَدًا أَقْتَدِي بِهِ فِي دِينِي فِي أَنَّهُ حَلَالٌ .
وَأَهْلُ الْعِرَاقِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ يُنْكِرُونَ ذَلِكَ وَاحْتَجَّ مَنْ أَحَلَّهُ ، بُقُولِ اللَّهِ تَعَالَى : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } .
وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : { وَاَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } .
وَلَنَا مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنْ الْحَقِّ ، لَا تَأْتُوا النِّسَاءَ مِنْ أَعْجَازِهِنَّ .
} وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إلَى رَجُلٍ جَامَعَ امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا } .
رَوَاهُمَا ابْنُ مَاجَهْ .
وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَحَاشُّ النِّسَاءِ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ } .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ أَتَى حَائِضًا أَوْ امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا ، أَوْ كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ ، فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ } .
رَوَاهُنَّ كُلَّهُنَّ الْأَثْرَمُ .
فَأَمَّا الْآيَةُ ، فَرَوَى جَابِرٌ قَالَ : كَانَ الْيَهُودُ يَقُولُونَ : إذَا جَامِعَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فِي فَرْجِهَا مِنْ وَرَائِهَا ، جَاءَ الْوَلَدُ أَحْوَلَ .
فَأَنْزَلَ اللَّهَ { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } .
مِنْ بَيْنِ يَدَيْهَا ، وَمِنْ خَلْفِهَا ،

غَيْرَ أَنْ لَا يَأْتِيَهَا إلَّا فِي الْمَأْتَى .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَفِي رِوَايَةٍ : { ائْتِهَا مُقْبِلَةً وَمُدْبِرَةً ، إذَا كَانَ ذَلِكَ فِي الْفَرْجِ } .
وَالْآيَةُ الْأُخْرَى الْمُرَادُ بِهَا ذَلِكَ .

( 5698 ) فَصْلٌ : فَإِنْ وَطِئَ زَوْجَتَهُ فِي دُبُرِهَا ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ لَهُ فِي ذَلِكَ شُبْهَةً ، وَيُعَزَّرُ لَفِعْلِهِ الْمُحَرَّمَ ، وَعَلَيْهَا الْغُسْلُ ؛ لِأَنَّهُ إيلَاجُ فَرْجٍ فِي فَرْجٍ ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ الْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ فِي إفْسَادِ الْعِبَادَاتِ ، وَتَقْرِيرِ الْمَهْرِ ، وَوُجُوبِ الْعِدَّةِ .
وَإِنْ كَانَ الْوَطْءُ لَأَجْنَبِيَّةٍ ، وَجَبَ حَدُّ اللُّوطِيِّ ، وَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُفَوِّتْ مَنْفَعَةً لَهَا عِوَضٌ فِي الشَّرْعِ .
وَلَا يَحْصُلُ بِوَطْءِ زَوْجَتِهِ فِي الدُّبُرِ إحْصَانٌ ، إنَّمَا يَحْصُلُ بِالْوَطْءِ الْكَامِلِ ، وَلَيْسَ هَذَا بِوَطْءٍ كَامِلٍ ، وَالْإِحْلَالُ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَذُوقُ بِهِ عُسَيْلَةَ الرَّجُلِ .
وَلَا تَحْصُلُ بِهِ الْفَيْنَةُ ، وَلَا الْخُرُوجُ مِنْ الْعُنَّةِ ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ فِيهِمَا لِحَقِّ الْمَرْأَةِ ، وَحَقُّهَا الْوَطْءُ فِي الْقُبُلِ .
وَلَا يَزُولُ بِهِ الِاكْتِفَاءُ بِصَمْتِهَا فِي الْإِذْنِ بِالنِّكَاحِ ؛ لِأَنَّ بَكَارَةَ الْأَصْلِ بَاقِيَةٌ .
( 5699 ) فَصْلٌ : وَلَا بَأْسَ بِالتَّلَذُّذِ بِهَا بَيْنَ الْأَلْيَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ إيلَاجٍ ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ إنَّمَا وَرَدَتْ بِتَحْرِيمِ الدُّبُرِ ، فَهُوَ مَخْصُوصٌ بِذَلِكَ ، وَلِأَنَّهُ حُرِّمَ لِأَجَلِ الْأَذَى ، وَذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِالدُّبُرِ ، فَاخْتَصَّ التَّحْرِيمُ بِهِ .

( 5700 ) فَصْلٌ : وَالْعَزْلُ مَكْرُوهٌ ، وَمَعْنَاهُ أَنْ يَنْزِعَ إذَا قَرُبَ الْإِنْزَالُ ، فَيُنْزِلُ خَارِجًا مِنْ الْفَرْجِ ، رُوِيَتْ كَرَاهَتُهُ عَنْ عُمَرَ ، وَعَلِيٍّ ، وَابْنِ عُمَرَ ، وَابْنِ مَسْعُودٍ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَقْلِيلَ النَّسْلِ ، وَقَطْعَ اللَّذَّةِ عَنْ الْمَوْطُوءَةِ ، وَقَدْ حَثَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى تَعَاطِي أَسْبَابِ الْوَلَدِ ، فَقَالَ : { تَنَاكَحُوا ، تَنَاسَلُوا ، تَكْثُرُوا } .
وَقَالَ : { سَوْدَاءُ وَلُودٌ ، خَيْرٌ مِنْ حَسْنَاءَ عَقِيمٍ } إلَّا أَنْ يَكُونَ لَحَاجَةٍ ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، فَتَدْعُوهُ حَاجَتُهُ إلَى الْوَطْءِ ، فَيَطَأُ وَيَعْزِلُ ، ذَكَرَ الْخِرَقِيِّ هَذِهِ الصُّورَةَ ، أَوْ تَكُونَ زَوْجَتُهُ أَمَةً ، فَيَخْشَى الرِّقَّ عَلَى وَلَدِهِ ، أَوْ تَكُونَ لَهُ أَمَةٌ ، فَيَحْتَاجُ إلَى وَطْئِهَا وَإِلَى بَيْعِهَا ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَعْزِلُ عَنْ إمَائِهِ فَإِنْ عَزَلَ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ كَرِهَ وَلَمْ يَحْرُمْ ، وَرُوِيَتْ الرُّخْصَةُ فِيهِ عَنْ عَلِيٍّ ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ ، وَأَبِي أَيُّوبَ ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، وَجَابِرٍ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ ، وَخَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، وَطَاوُسٍ ، وَعَطَاءٍ ، وَالنَّخَعِيِّ ، وَمَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ .
وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ ، قَالَ : { ذُكِرَ - يَعْنِي - الْعَزْلَ ، عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : وَلِمَ يَفْعَلُ ذَلِكَ أَحَدُكُمْ ؟ .
وَلَمْ يَقُلْ : فَلَا يَفْعَلْ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَفْسٍ مَخْلُوقَةٍ ، إلَّا اللَّهُ خَالِقُهَا } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَعَنْهُ { أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنَّ لِي جَارِيَةً ، وَأَنَا أَعْزِلُ عَنْهَا ، وَأَنَا أَكْرَهُ أَنْ تَحْمِلَ ، وَأَنَا أُرِيدُ مَا يُرِيدُ الرِّجَالُ ، وَإِنَّ الْيَهُودَ تُحَدِّثُ أَنَّ الْعَزْلَ الْمَوْءُودَةُ الصُّغْرَى .
قَالَ : كَذَبَتْ يَهُودُ ، لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَخْلُقَهُ مَا اسْتَطَعْت أَنْ تَصْرِفَهُ .
}

رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .

( 5701 ) فَصْلٌ : وَيَجُوزُ الْعَزْلُ عَنْ أَمَتِهِ بِغَيْرِ إذْنِهَا نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيِّ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهَا فِي الْوَطْءِ ، وَلَا فِي الْوَلَدِ ، وَلِذَلِكَ لَمْ تَمْلِكْ الْمُطَالَبَةَ بِالْقَسَمِ وَلَا الْفَيْئَةِ ، فَلَأَنْ لَا تَمْلِكَ الْمَنْعَ مِنْ الْعَزْلِ أَوْلَى .
وَلَا يَعْزِلُ عَنْ زَوْجَتِهِ الْحُرَّةِ إلَّا بِإِذْنِهَا .
قَالَ الْقَاضِي : ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ وُجُوبُ اسْتِئْذَانِ الزَّوْجَةِ فِي الْعَزْلِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحَبًّا ؛ لِأَنَّ حَقَّهَا فِي الْوَطْءِ دُونَ الْإِنْزَالِ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَخْرُج بِهِ مِنْ الْفَيْئَةِ وَالْعُنَّةِ .
وَلِلشَّافِعِيَّةِ فِي ذَلِكَ وَجْهَانِ .
وَالْأَوَّلُ أَوْلَى ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعْزَلَ عَنْ الْحُرَّةِ إلَّا بِإِذْنِهَا .
} رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، فِي " الْمُسْنَدِ " وَابْنُ مَاجَهْ .
وَلِأَنَّ لَهَا فِي الْوَلَدِ حَقًّا ، وَعَلَيْهَا فِي الْعَزْلِ ضَرَرٌ ، فَلَمْ يَجُزْ إلَّا بِإِذْنِهَا .
فَأَمَّا زَوْجَتُهُ الْأَمَهُ ، فَيَحْتَمِلُ جَوَازُ الْعَزْلِ عَنْهَا بِغَيْرِ إذْنِهَا .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ اسْتِدْلَالًا بِمَفْهُومِ هَذَا الْحَدِيثِ .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : تُسْتَأْذَنُ الْحُرَّةُ ، وَلَا تُسْتَأْذَنُ الْأَمَةُ .
وَلِأَنَّ عَلَيْهِ ضَرَرًا فِي اسْتِرْقَاقِ وَلَدِهِ ، بِخِلَافِ الْحُرَّةِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَجُوزَ إلَّا بِإِذْنِهَا ؛ لِأَنَّهَا زَوْجَةٌ تَمْلِكُ الْمُطَالَبَةَ بِالْوَطْءِ فِي الْفَيْئَةِ ، وَالْفَسْخَ عِنْدَ تَعَذُّرِهِ بِالْعُنَّةِ ، وَتَرْكُ الْعَزْلِ مِنْ تَمَامِهِ ، فَلَمْ يَجُزْ بِغَيْرِ إذْنِهَا ، كَالْحُرَّةِ .

( 5702 ) فَصْلٌ : فَإِنْ عَزَلَ عَنْ زَوْجَتِهِ أَوْ أَمَتِهِ ، ثُمَّ أَتَتْ بِوَلَدٍ ، لَحِقَهُ نَسَبُهُ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد ، عَنْ جَابِرٍ ، قَالَ : { جَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنَّ لِي جَارِيَةً ، وَأَنَا أَطُوفُ عَلَيْهَا وَأَنَا أَكْرَهُ أَنْ تَحْمِلَ ، فَقَالَ : اعْزِلْ عَنْهَا إنْ شِئْت ، فَإِنَّهُ سَيَأْتِيهَا مَا قُدِّرَ لَهَا } وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ : كُنْت أَعْزِلُ عَنْ جَارِيَةٍ لِي ، فَوَلَدَتْ أَحَبَّ النَّاسِ إلَيَّ .
وَلِأَنَّ لُحُوقَ النَّسَبِ حُكْمٌ يَتَعَلَّقُ بِالْوَطْءِ ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ الْإِنْزَالُ ، كَسَائِرِ الْأَحْكَامِ .
وَقَدْ قِيلَ : إنَّ الْوَطْءَ فِي الْفَرْجِ يَحْصُلُ بِهِ الْإِنْزَالُ ، وَلَا يُحِسُّ بِهِ .

فَصْلٌ : آدَابُ الْجِمَاعِ .
تُسْتَحَبُّ التَّسْمِيَةُ قَبْلَهُ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ } .
قَالَ عَطَاءٌ : هِيَ التَّسْمِيَةُ عِنْد الْجِمَاعِ .
وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ حِينَ يَأْتِي أَهْلَهُ قَالَ : بِسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ ، وَجَنِّبْ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا ، فَوُلِدَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ ، لَمْ يَضُرَّهُ الشَّيْطَانُ أَبَدًا .
} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَيُكْرَهُ التَّجَرُّدُ عِنْدُ الْمُجَامَعَةِ ؛ لِمَا رَوَى عُتْبَةُ بْنُ عَبْدٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا أَتَى أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ ، فَلْيَسْتَتِرْ وَلَا يَتَجَرَّدْ تَجَرُّدَ الْعِيرَيْنِ } ، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
وَعَنْ عَائِشَةَ ، قَالَتْ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا دَخَلَ الْخَلَاءَ غَطَّى رَأْسَهُ ، وَإِذَا أَتَى أَهْلَهُ غَطَّى رَأْسَهُ } .
وَلَا يُجَامِعُ بِحَيْثُ يَرَاهُمَا أَحَدٌ ، أَوْ يَسْمَعُ حِسَّهُمَا .
وَلَا يُقَبِّلُهَا وَيُبَاشِرُهَا عِنْدَ النَّاسِ .
قَالَ أَحْمَدُ : مَا يُعْجِبُنِي إلَّا أَنْ يَكْتُمَ هَذَا كُلَّهُ .
وَقَالَ الْحَسَنُ ، فِي الَّذِي يُجَامِعُ الْمَرْأَةَ ، وَالْأُخْرَى تَسْمَعُ ، قَالَ : كَانُوا يَكْرَهُونَ الْوَجْسَ وَهُوَ الصَّوْتُ الْخَفِيُّ .
وَلَا يَتَحَدَّثُ بِمَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِهِ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ ، قَالَ : { جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ ، فَأَقْبَلَ عَلَى الرِّجَالِ ، فَقَالَ : لَعَلَّ أَحَدَكُمْ يُحَدِّثُ بِمَا يَصْنَعُ بِأَهْلِهِ إذَا خَلَا ؟ .
ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النِّسَاءِ فَقَالَ : لَعَلَّ إحْدَاكُنَّ تُحَدِّثُ النِّسَاءَ بِمَا يَصْنَعُ بِهَا زَوْجُهَا ؟ .
قَالَ : فَقَالَتْ امْرَأَةٌ : إنَّهُمْ لَيَفْعَلُونَ ، وَإِنَّا لِنَفْعَلَ .
فَقَالَ : لَا تَفْعَلُوا ، فَإِنَّمَا مَثَلُ ذَلِكُمْ كَمَثَلِ شَيْطَانٍ لَقِيَ شَيْطَانَةً ، فَجَامَعَهَا وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ .
} وَرَوَى أَبُو دَاوُد ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ بِمَعْنَاهُ .
وَلَا يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ حَالَ الْجِمَاعِ ؛ لِأَنَّ عَمْرَو بْنَ حَزْمٍ ، وَعَطَاءً ، كَرِهَا ذَلِكَ .
وَيُكْرَهُ الْإِكْثَارُ مِنْ الْكَلَامِ حَالَ الْجِمَاعِ ؛ لِمَا رَوَى قَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا تُكْثِرُوا الْكَلَامَ عِنْدَ مُجَامَعَةِ النِّسَاءِ ؛ فَإِنَّ مِنْهُ يَكُونُ الْخَرَسُ وَالْفَأْفَاءُ } .
وَلِأَنَّهُ يُكْرَهُ الْكَلَامُ حَالَةَ الْبَوْلِ ، وَحَالُ الْجِمَاعِ فِي مَعْنَاهُ ، وَأَوْلَى بِذَلِكَ مِنْهُ .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُلَاعِبَ امْرَأَتَهُ قَبْلَ الْجِمَاعِ ؛ لِتَنْهَضَ شَهْوَتُهَا ، فَتَنَالَ مِنْ لَذَّةِ الْجِمَاعِ مِثْلَ مَا نَالَهُ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تُوَاقِعْهَا إلَّا وَقَدْ أَتَاهَا مِنْ الشَّهْوَةِ مِثْلُ مَا أَتَاك ، لِكَيْ لَا تَسْبِقَهَا بِالْفَرَاغِ .
قُلْت : وَذَلِكَ إلَيَّ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، إنَّك تُقَبِّلُهَا ، وَتَغْمِزُهَا ، وَتَلْمِزُهَا ، فَإِذَا رَأَيْت أَنَّهُ قَدْ جَاءَهَا مِثْلُ مَا جَاءَك ، وَاقَعْتَهَا } .
فَإِنْ فَرَغَ قَبْلَهَا ، كُرِهَ لَهُ النَّزْعُ حَتَّى تَفْرُغَ ؛ لِمَا رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا جَامَعَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ فَلْيَصْدُقْهَا ، ثُمَّ إذَا قَضَى حَاجَتَهُ ، فَلَا يُعَجِّلْهَا حَتَّى تَقْضِيَ حَاجَتَهَا } .
وَلِأَنَّ فِي ذَلِكَ ضَرَرًا عَلَيْهَا ، وَمَنْعًا لَهَا مِنْ قَضَاءِ شَهْوَتِهَا .
وَيُسْتَحَبُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَتَّخِذَ خِرْقَةً ، تُنَاوِلُهَا الزَّوْجَ بَعْدَ فَرَاغِهِ ، فَيَتَمَسَّحُ بِهَا ؛ فَإِنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ : يَنْبَغِي لِلْمَرْأَةِ إذَا كَانَتْ عَاقِلَةً ، أَنْ تَتَّخِذَ خِرْقَةً ، فَإِذَا جَامَعَهَا زَوْجُهَا ، نَاوَلَتْهُ ، فَمَسَحَ عَنْهُ ، ثُمَّ تَمْسَحُ عَنْهَا ، فَيُصَلِّيَانِ فِي ثَوْبِهِمَا ذَلِكَ ، مَا لَمْ تُصِبْهُ جَنَابَةٌ .
وَلَا بَأْسَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْن نِسَائِهِ وَإِمَائِهِ بِغُسْلِ وَاحِدٍ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ ، قَالَ : { سَكَبْت لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نِسَائِهِ غُسْلًا وَاحِدًا ، فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ } .
فَإِنَّ حَدَثَ الْجَنَابَةِ لَا يَمْنَعُ الْوَطْءَ ؛ بِدَلِيلِ إتْمَامِ الْجِمَاعِ .
قَالَ أَحْمَدُ : إذَا أَرَادَ أَنْ يَعُودَ ، فَأَعْجَبُ إلَيَّ الْوُضُوءُ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ، فَأَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ .
وَلِأَنَّ الْوُضُوءَ يَزِيدُهُ نَشَاطًا وَنَظَافَةً ، فَاسْتُحِبَّ .
وَإِنْ اغْتَسَلَ بَيْنَ كُلِّ وَطْأَيْنِ ، فَهُوَ أَفْضَلُ ، فَإِنَّ أَبَا رَافِعٍ رَوَى ، { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَافَ عَلَى نِسَائِهِ جَمِيعًا ، فَاغْتَسَلَ عِنْدَ كُلِّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ غُسْلًا ، فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لَوْ جَعَلْتَهُ غُسْلًا وَاحِدًا ؟ قَالَ : هَذَا أَزْكَى وَأَطْيَبُ وَأَطْهَرُ } .
رَوَاهُ أَحْمَدُ ، فِي " الْمُسْنَدِ " وَرَوَى أَحَادِيثَ هَذَا الْفَصْلِ كُلِّهَا أَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ ، وَرَوَى ابْنُ بَطَّةَ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا جَامَعَ الرَّجُلُ أَوَّلَ اللَّيْلِ ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَعُودَ ، تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ .
}

( 5704 ) فَصْلٌ : وَلَيْسَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْن امْرَأَتَيْهِ فِي مَسْكَنٍ وَاحِدٍ بِغَيْرِ رِضَاهُمَا ، صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِمَا ضَرَرًا ؛ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْعَدَاوَةِ وَالْغَيْرَةِ ، وَاجْتِمَاعُهُمَا يُثِيرُ الْمُخَاصَمَةَ وَالْمُقَاتَلَةَ ، وَتَسْمَعُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حِسَّهُ إذَا أَتَى إلَى الْأُخْرَى ، أَوْ تَرَى ذَلِكَ ، فَإِنْ رَضِيَتَا بِذَلِكَ جَازَ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا ، فَلَهُمَا الْمُسَامَحَةُ بِتَرْكِهِ ، وَكَذَلِكَ إنْ رَضِيَتَا بِنَوْمِهِ بَيْنَهُمَا فِي لِحَافٍ وَاحِدٍ ، وَإِنْ رَضِيَتَا بِأَنْ يُجَامِعَ وَاحِدَةً بِحَيْثُ تَرَاهُ الْأُخْرَى ، لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ فِيهِ دَنَاءَةً وَسُخْفًا وَسُقُوطَ مُرُوءَةٍ ، فَلَمْ يُبَحْ بِرِضَاهُمَا .
وَإِنْ أَسْكَنَهُمَا فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ ، كُلَّ وَاحِدَةٍ فِي بَيْتٍ ، جَازَ ، إذَا كَانَ ذَلِكَ مَسْكَنَ مِثْلِهَا .

( 5705 ) فَصْلٌ : رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ ؟ ؟ لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ ، وَاَللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي } وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : بَلَغَنِي أَنَّ نِسَاءَكُمْ لَيُزَاحِمْنَ الْعُلُوجَ فِي الْأَسْوَاقِ ، أَمَا تَغَارُونَ ؟ إنَّهُ لَا خَيْرَ فِي مَنْ لَا يَغَارُ .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ : كَانَ إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ غَيُورًا ، وَمَا مِنْ امْرِئِ لَا يَغَارُ إلَّا مَنْكُوسُ الْقَلْبِ .

( 5706 ) مَسْأَلَة : قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ : ( وَعَلَى الرَّجُلِ أَنْ يُسَاوِيَ بَيْنَ زَوْجَاتِهِ فِي الْقَسْمِ ) لَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي وُجُوبِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ فِي الْقَسْمِ خِلَافًا ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } .
وَلَيْسَ مَعَ الْمَيْلِ مَعْرُوفٌ .
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ } .
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَة ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ ، فَمَالَ إلَى إحْدَاهُمَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ مَائِلٌ } .
وَعَنْ عَائِشَةَ ، قَالَتْ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ بَيْنَنَا فَيَعْدِلُ ، ثُمَّ يَقُول : اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ ، فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا لَا أَمْلِكُ } .
رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ عِنْدَهُ نِسْوَةٌ ، لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَبْتَدِئَ بِوَاحِدَةِ مِنْهُنَّ إلَّا بِقُرْعَةٍ ؛ لِأَنَّ الْبُدَاءَةَ بِهَا ، تَفْضِيلٌ لَهَا ، وَالتَّسْوِيَةُ وَاجِبَةٌ ، وَلِأَنَّهُنَّ مُتَسَاوِيَاتٌ فِي الْحَقِّ ، وَلَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُنَّ ، فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى الْقُرْعَةِ ، كَمَا لَوْ أَرَادَ السَّفَرَ بِإِحْدَاهُنَّ .
فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ ، كَفَاهُ قُرْعَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَيَصِيرُ فِي اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ إلَى الثَّانِيَةِ بِغَيْرِ قُرْعَةٍ ؛ لِأَنَّ حَقَّهَا مُتَعَيِّنٌ .
وَإِنْ كُنَّ ثَلَاثًا ، أَقْرَعَ فِي اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ لِلْبِدَايَةِ بِإِحْدَى الْبَاقِيَتَيْنِ .
وَإِنْ كُنَّ أَرْبَعًا أَقْرَعَ فِي اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ ، وَيَصِيرُ فِي اللَّيْلَةِ الرَّابِعَةِ إلَى الرَّابِعَةِ بِغَيْرِ قُرْعَةٍ .
وَلَوْ أَقْرَعَ فِي اللَّيْلَةِ الْأُولَى ، فَجَعَلَ سَهْمًا لِلْأُولَى ، وَسَهْمًا لِلثَّانِيَةِ ، وَسَهْمًا لِلثَّالِثَةِ ، وَسَهْمًا لِلرَّابِعَةِ ، ثُمَّ أَخْرَجَهَا عَلَيْهِنَّ مَرَّةً وَاحِدَةً ، جَازَ ، وَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مَا خَرَجَ لَهَا .

( 5707 ) فَصْلٌ : وَيَقْسِمُ الْمَرِيضُ وَالْمَجْبُوبُ وَالْعِنِّينُ وَالْخُنْثَى وَالْخَصِيُّ .
وَبِذَلِكَ قَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ؛ لِأَنَّ الْقَسْمَ لِلْأُنْسِ ، وَذَلِكَ حَاصِلٌ مِمَّنْ لَا يَطَأُ .
وَقَدْ رَوَتْ عَائِشَةُ ، { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا كَانَ فِي مَرَضِهِ ، جَعَلَ يَدُورُ فِي نِسَائِهِ ، وَيَقُولُ : أَيْنَ أَنَا غَدًا ؟ أَيْنَ أَنَا غَدًا ؟ } .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
فَإِنْ شَقَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ ، اسْتَأْذَنَهُنَّ فِي الْكَوْنِ عِنْدَ إحْدَاهُنَّ ، كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ عَائِشَةُ { إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ إلَى النِّسَاءِ فَاجْتَمَعْنَ ، قَالَ : إنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَدُورَ بَيْنَكُنَّ ، فَإِنْ رَأَيْتُنَّ أَنْ تَأْذَنَّ لِي ، فَأَكُونَ عِنْدَ عَائِشَةَ ، فَعَلْتُنَّ .
فَأَذِنَّ لَهُ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
فَإِنْ لَمْ يَأْذَنَّ لَهُ ، أَقَامَ عِنْدَ إحْدَاهُنَّ بِالْقُرْعَةِ أَوْ اعْتَزَلَهُنَّ جَمِيعًا إنْ أَحَبَّ .
فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ مَجْنُونًا لَا يُخَافُ مِنْهُ ، طَافَ بِهِ الْوَلِيُّ عَلَيْهِنَّ ، وَإِنْ كَانَ يُخَافُ مِنْهُ ، فَلَا قَسْمَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ مِنْهُ أُنْسٌ وَلَا فَائِدَةٌ .
وَإِنْ لَمْ يَعْدِلْ الْوَلِيُّ فِي الْقَسْمِ بَيْنَهُنَّ ، ثُمَّ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ لِلْمَظْلُومَةِ ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ ثَبَتَ فِي ذِمَّتِهِ ، فَلَزِمَهُ إيفَاؤُهُ حَالَ الْإِفَاقَةِ كَالْمَالِ .

( 5708 ) فَصْلٌ : وَيُقْسَمُ لِلْمَرِيضَةِ ، وَالرَّتْقَاءِ ، وَالْحَائِضِ ، وَالنُّفَسَاءِ ، وَالْمُحْرِمَةِ ، وَالصَّغِيرَةِ الْمُمْكِنِ وَطْؤُهَا ، وَكُلُّهُنَّ سَوَاءٌ فِي الْقَسْمِ .
وَبِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْي ، وَلَا نَعْلَمُ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافَهُمْ .
وَكَذَلِكَ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ الْإِيوَاءُ وَالسَّكَنُ وَالْأُنْسُ ، وَهُوَ حَاصِلٌ لَهُنَّ ، وَأَمَّا الْمَجْنُونَةُ ، فَإِنْ كَانَتْ لَا يُخَافُ مِنْهَا ، فَهِيَ كَالصَّحِيحَةِ ، وَإِنْ خَافَ مِنْهَا ، فَلَا قَسْمَ لَهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُهَا عَلَى نَفْسِهِ ، وَلَا يَحْصُلُ لَهَا أُنْسٌ وَلَا بِهَا .

( 5709 ) فَصْلٌ : وَيَجِبُ قَسْمُ الِابْتِدَاءِ ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ إذَا كَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ ، لَزِمَهُ الْمَبِيتُ عِنْدَهَا لَيْلَةً مِنْ كُلِّ أَرْبَعِ لَيَالٍ ، مَا لَمْ يَكُنْ عُذْرٌ ، وَإِنْ كَانَ لَهُ نِسَاءٌ فَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ لَيْلَةٌ مِنْ كُلِّ أَرْبَعٍ .
وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ .
وَقَالَ الْقَاضِي ، فِي " الْمُجَرَّدِ " لَا يَجِبُ قَسْمُ الِابْتِدَاءِ ، إلَّا أَنْ يَتْرُكَ الْوَطْءَ مُصِرًّا ، فَإِنْ تَرَكَهُ غَيْرَ مُصِرٍّ لَمْ يَلْزَمْهُ قَسْمٌ ، وَلَا وَطْءٌ ؛ لِأَنَّ أَحْمَدَ قَالَ : إذَا وَصَلَ الرَّجُلُ إلَى امْرَأَتِهِ مَرَّةً ، بَطَلَ أَنْ يَكُونَ عِنِّينًا .
أَيْ لَا يُؤَجَّلُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَجِبُ قَسْمُ الِابْتِدَاءِ بِحَالٍ ؛ لِأَنَّ الْقَسْمَ لِحَقِّهِ ، فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ .
وَلَنَا قَوْلُ { النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو بْنِ الْعَاصِ : يَا عَبْدَ اللَّهِ ، أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّك تَصُومُ النَّهَارَ ، وَتَقُومُ اللَّيْلَ ؟ قُلْت : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ .
قَالَ : فَلَا تَفْعَلْ ، صُمْ ، وَأَفْطِرْ ، وَقُمْ وَنَمْ ؛ فَإِنَّ لِجَسَدِك عَلَيْك حَقًّا ، وَإِنَّ لِعَيْنِك عَلَيْك حَقًّا ، وَإِنَّ لِزَوْجِك عَلَيْك حَقًّا } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
فَأَخْبَرَ أَنَّ لِلْمَرْأَةِ عَلَيْهِ حَقًّا .
وَقَدْ اشْتَهَرَتْ قِصَّةُ كَعْبِ بْنِ سَوْرٍ ، وَرَوَاهَا عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ فِي كِتَابِ " قُضَاةُ الْبَصْرَةِ " مِنْ وُجُوهٍ ؛ إحْدَاهُنَّ عَنْ الشَّعْبِيِّ ، أَنَّ كَعْبَ بْن سَوْرٍ كَانَ جَالِسًا عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ ، فَقَالَتْ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، مَا رَأَيْت رَجُلًا قَطُّ أَفْضَلَ مِنْ زَوْجِي ، وَاَللَّهِ إنَّهُ لَيَبِيت لَيْلَهُ قَائِمًا ، وَيَظَلُّ نَهَارَهُ صَائِمًا .
فَاسْتَغْفَرَ لَهَا ، وَأَثْنَى عَلَيْهَا .
وَاسْتَحْيَتْ الْمَرْأَةُ ، وَقَامَتْ رَاجِعَةً ، فَقَالَ كَعْبٌ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، هَلَّا أَعْدَيْت الْمَرْأَةَ عَلَى زَوْجِهَا ؟ فَقَالَ : وَمَا ذَاكَ ؟ فَقَالَ إنَّهَا جَاءَتْ تَشْكُوهُ ، إذَا كَانَتْ حَالُهُ هَذِهِ فِي الْعِبَادَةِ ، مَتَى يَتَفَرَّغُ لَهَا ؟ فَبَعَثَ عُمَرُ إلَى

زَوْجِهَا ، فَجَاءَ ، فَقَالَ لَكَعْبٍ : اقْضِ بَيْنَهُمَا ، فَإِنَّك فَهِمْت مِنْ أَمْرِهِمَا مَا لَمْ أَفْهَمْ .
قَالَ : فَإِنِّي أَرَى كَأَنَّهَا امْرَأَةٌ عَلَيْهَا ثَلَاثُ نِسْوَةٍ ، هِيَ رَابِعَتُهُنَّ ، فَأَقْضِي لَهُ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ يَتَعَبَّدُ فِيهِنَّ ، وَلَهَا يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ .
فَقَالَ عُمَرُ : وَاَللَّهِ مَا رَأْيُك الْأَوَّلُ بِأَعْجَبَ إلَيَّ مِنْ الْآخِرِ ، اذْهَبْ فَأَنْتَ قَاضٍ عَلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَفِي رِوَايَةٍ ، فَقَالَ عُمَرُ : نِعْمَ الْقَاضِي أَنْتَ .
وَهَذِهِ قَضِيَّةٌ انْتَشَرَتْ فَلَمْ تُنْكَرْ ، فَكَانَتْ إجْمَاعًا .
وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ حَقًّا ، لَمْ تَسْتَحِقَّ فَسْخَ النِّكَاحِ لِتَعَذُّرِهِ بِالْجَبِّ وَالْعُنَّةِ ، وَامْتِنَاعِهِ بِالْإِيلَاءِ .
وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ حَقًّا لِلْمَرْأَةِ ، لَمَلَكَ الزَّوْجُ تَخْصِيصَ إحْدَى زَوْجَتَيْهِ بِهِ ، كَالزِّيَادَةِ فِي النَّفَقَةِ عَلَى قَدْرِ الْوَاجِبِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا : حَقُّ الْمَرْأَةِ لَيْلَةٌ مِنْ كُلِّ أَرْبَعٍ ، وَلِلْأَمَةِ لَيْلَةٌ مِنْ كُلِّ سَبْعٍ ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْمَعَ مَعَهَا ثَلَاثَ حَرَائِرَ ، وَلَهَا السَّابِعَةُ ، وَاَلَّذِي يَقْوَى عِنْدِي ، أَنَّ لَهَا لَيْلَةً مِنْ ثَمَانٍ ، لِتَكُونَ عَلَى النِّصْفِ مِمَّا لِلْحُرَّةِ ، فَإِنَّ حَقَّ الْحُرَّةِ مِنْ كُلِّ ثَمَانٍ لَيْلَتَانِ ، لَيْسَ لَهَا أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ ، فَلَوْ كَانَ لِلْأَمَةِ لَيْلَةٌ مِنْ سَبْعٍ لَزَادَ عَلَى النِّصْفِ ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْحُرَّةِ لَيْلَتَانِ وَلِلْأَمَةِ لَيْلَةٌ ، وَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ تَحْتَهُ ثَلَاثُ حَرَائِرَ وَأَمَهٌ ، فَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَزِيدَهُنَّ عَلَى الْوَاجِبِ لَهُنَّ ، فَقَسَمَ بَيْنَهُنَّ سَبْعًا ، فَمَاذَا يَصْنَعُ فِي اللَّيْلَةِ الثَّامِنَةِ ؟ إنْ أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ مَبِيتَهَا عِنْدَ حُرَّةٍ ، فَقَدْ زَادَهَا عَلَى مَا يَجِبُ لَهَا ، وَإِنْ بَاتَهَا عِنْدَ الْأَمَةِ جَعَلَهَا كَالْحُرَّةِ ، وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ ، وَعَلَى مَا اخْتَرْنَ تَكُونُ هَذِهِ اللَّيْلَةُ الثَّامِنَةُ لَهُ ، إنْ أَحَبَّ انْفَرَدَ فِيهَا ، وَإِنْ أَحَبَّ بَاتَ عِنْدَ الْأُولَى مُسْتَأْنِفًا لِلْقَسْمِ .

وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ حُرَّةٌ وَأَمَةٌ ، قَسَمَ لَهُنَّ لَيَالٍ مِنْ ثَمَانٍ ، وَلَهُ الِانْفِرَادُ فِي خَمْسٍ .
وَإِنْ كَانَ تَحْتَهُ حُرَّتَانِ وَأَمَةٌ ، فَلَهُنَّ خَمْسٌ وَلَهُ ثَلَاثٌ .
وَإِنْ كَانَ حُرَّتَانِ وَأَمَتَانِ ، فَلَهُنَّ سِتٌّ وَلَهُ اثْنَتَانِ .
وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً وَاحِدَةً ، فَلَهَا لَيْلَةٌ وَلَهُ سَبْعٌ ، وَعَلَى قَوْلِهِمْ لَهَا لَيْلَةٌ وَلَهُ سِتٌّ .

( 5710 ) فَصَلِّ وَالْوَطْءُ وَاجِبٌ عَلَى الرَّجُلِ ، إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ .
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ .
وَعَلَى قَوْلِ الْقَاضِي : لَا يَجِبُ إلَّا أَنْ يَتْرُكَهُ لِلْإِضْرَارِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهُ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ ، كَسَائِرِ حُقُوقِهِ .
وَلَنَا ، مَا تَقَدَّمَ فِي الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَهُ ، وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ حَدِيثِ كَعْبٍ أَنَّهُ حِينَ قَضَى بَيْنَ الرَّجُلِ وَامْرَأَتِهِ ، قَالَ : إنَّ لَهَا عَلَيْك حَقًّا يَا بَعْلُ تُصِيبُهَا فِي أَرْبَعٍ لِمَنْ عَدَلَ فَأَعْطِهَا ذَاكَ وَدَعْ عَنْك الْعِلَلَ ، فَاسْتَحْسَنَ عُمَرُ قَضَاءَهُ ، وَرَضِيَهُ .
وَلِأَنَّهُ حَقٌّ وَاجِبٌ بِالِاتِّفَاقِ ، وَإِذَا حَلَفَ عَلَى تَرْكِهِ ، فَيَجِبُ قَبْلَ أَنْ يَحْلِفَ ، كَسَائِرِ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ ، يُحَقِّقُ هَذَا أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا ، لَمْ يَصِرْ بِالْيَمِينِ عَلَى تَرْكِهِ وَاجِبًا ، كَسَائِرِ مَا لَا يَجِبُ ، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ شُرِعَ لِمَصْلَحَةِ الزَّوْجَيْنِ ، وَدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُمَا ، وَهُوَ مُفْضٍ إلَى دَفْعِ ضَرَرِ الشَّهْوَةِ عَنْ الْمَرْأَةِ كَإِفْضَائِهِ إلَى دَفْعِ ذَلِكَ عَنْ الرَّجُلِ ، فَيَجِبُ تَعْلِيلُهُ بِذَلِكَ ، وَيَكُون النِّكَاحُ حَقًّا لَهُمَا جَمِيعًا ، وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهَا فِيهِ حَقٌّ ، لَمَا وَجَبَ اسْتِئْذَانُهَا فِي الْعَزْلِ ، كَالْأَمَةِ .
إذَا ثَبَتَ وُجُوبُهُ ، فَهُوَ مُقَدَّرٌ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَوَجْهُهُ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّرَهُ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فِي حَقِّ الْمُولِي ، فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ لَا تُوجِبُ مَا حُلِفَ عَلَى تَرْكِهِ ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ بِدُونِهَا .
فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى تَرْكِ الْوَطْءِ ، وَطَالَبَتْ الْمَرْأَةُ ، فَقَدْ رَوَى ابْنُ مَنْصُورٍ ، عَنْ أَحْمَدَ فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً ، وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا ، يَقُولُ : غَدًا أَدْخُلُ بِهَا ، إلَى شَهْرٍ ، هَلْ يُجْبَرُ عَلَى الدُّخُولِ ؟ فَقَالَ : أَذْهَبُ إلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ، إنْ دَخَلَ بِهَا ، وَإِلَّا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا .
فَجَعَلَهُ أَحْمَدُ كَالْمُولِي .
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ

جَعْفَرٍ : لَمْ يَرْوِ مَسْأَلَةَ ابْنِ مَنْصُورٍ غَيْرُهُ ، وَفِيهَا نَظَرٌ ، وَظَاهِرُ قَوْلِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا لِذَلِكَ ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ ضَرَبَ لَهُ الْمُدَّةُ لِذَلِكَ ، وَفُرِّقَ بَيْنَهُمْ ، لَمْ يَكُنْ لِلْإِيلَاءِ أَثَرٌ ، وَلَا خِلَافَ فِي اعْتِبَارِهِ .

( 5711 ) فَصْلٌ : وَإِنْ سَافَرَ عَنْ امْرَأَتِهِ لَعُذْرٍ وَحَاجَةٍ ، سَقَطَ حَقُّهَا مِنْ الْقَسْمِ وَالْوَطْءِ ، وَإِنْ طَالَ سَفَرُهُ ، وَلِذَلِكَ لَا يَصِحُّ نِكَاحُ الْمَفْقُودِ إذَا تَرَكَ لِامْرَأَتِهِ نَفَقَةً .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ مَانِعٌ مِنْ الرُّجُوعِ ، فَإِنَّ أَحْمَدَ ذَهَبَ إلَى تَوْقِيتِهِ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ ، فَإِنَّهُ قِيلَ لَهُ : كَمْ يَغِيبُ الرَّجُلُ عَنْ زَوْجَتِهِ ؟ قَالَ : سِتَّةَ أَشْهُرٍ ، يُكْتَبُ إلَيْهِ ، فَإِنْ أَبَى أَنْ يَرْجِعَ ، فَرَّقَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا .
وَإِنَّمَا صَارَ إلَى تَقْدِيرِهِ بِهَذَا الْحَدِيثِ عُمَرُ رَوَاهُ أَبُو حَفْصٍ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ : بَيْنَمَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَحْرُسُ الْمَدِينَةَ ، فَمَرَّ بِامْرَأَةٍ فِي بَيْتِهَا وَهِيَ تَقُولُ : تَطَاوَلَ هَذَا اللَّيْلُ وَاسْوَدَّ جَانِبُهُ وَطَالَ عَلَيَّ أَنْ لَا خَلِيلَ أُلَاعِبُهُ وَوَاللَّهِ لَوْلَا خَشْيَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَحُرِّك مِنْ هَذَا السَّرِيرِ جَوَانِبُهُ فَسَأَلَ عَنْهَا عُمَرُ فَقِيلَ لَهُ : هَذِهِ فُلَانَةُ ، زَوْجُهَا غَائِبٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ .
فَأَرْسَلَ إلَيْهَا امْرَأَةً تَكُونُ مَعَهَا ، وَبَعَثَ إلَى زَوْجِهَا فَأَقْفَلَهُ ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ ، فَقَالَ : يَا بُنَيَّةُ ، كَمْ تَصْبِرُ الْمَرْأَةُ عَنْ زَوْجِهَا ؟ فَقَالَتْ : سُبْحَانَ اللَّهِ ، مِثْلُك يَسْأَلُ مِثْلِي عَنْ هَذَا ، فَقَالَ : لَوْلَا أَنِّي أُرِيدُ النَّظَرَ لِلْمُسْلِمِينَ مَا سَأَلْتُك .
قَالَتْ : خَمْسَةَ أَشْهُرٍ .
سِتَّةَ أَشْهُرٍ .
فَوَقَّتَ لِلنَّاسِ فِي مَغَازِيهِمْ سِتَّةَ أَشْهُرٍ ؛ يَسِيرُونَ شَهْرًا ، وَيُقِيمُونَ أَرْبَعَةً ، وَيَسِيرُونَ شَهْرًا رَاجِعِينَ وَسُئِلَ أَحْمَدُ كَمْ لِلرَّجُلِ أَنْ يَغِيبَ عَنْ أَهْلِهِ ؟ قَالَ : يُرْوَى سِتَّةُ أَشْهُرٍ .
وَقَدْ يَغِيبُ الرَّجُلُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لَأَمْرٍ لَا بُدَّ لَهُ ، فَإِنْ غَابَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لِغَيْرِ عُذْرٍ ، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : يُرَاسِلُهُ الْحَاكِمُ فَإِنْ أَبَى أَنْ يَقْدَمَ ، فَسَخَ نِكَاحَهُ .
وَمَنْ قَالَ : لَا يُفْسَخُ نِكَاحُهُ إذَا تَرَكَ الْوَطْءَ وَهُوَ حَاضِرٌ ، فَهَاهُنَا أَوْلَى .
وَفِي جَمِيعِ ذَلِكَ ، لَا

يَجُوزُ الْفَسْخُ عِنْدَ مَنْ يَرَاهُ إلَّا بِحُكْمِ حَاكِمٍ ؛ لِأَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ .

( 5712 ) فَصْلٌ وَسُئِلَ أَحْمَدُ يُؤْجَرُ الرَّجُلُ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ وَلَيْسَ لَهُ شَهْوَةٌ ؟ فَقَالَ : إي وَاَللَّهِ ، يَحْتَسِبُ الْوَلَدَ ، وَإِنْ لَمْ يُرْدِ الْوَلَدَ ؟ يَقُولُ : هَذِهِ امْرَأَةٌ شَابَّةٌ ، لِمَ لَا يُؤْجَرُ ؟ وَهَذَا صَحِيحٌ ، فَإِنَّ أَبَا ذَرٍّ رَوَى ، { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مُبَاضَعَتُك أَهْلَك صَدَقَةٌ .
قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنُصِيبُ شَهْوَتَنَا وَنُؤْجَرُ ؟ قَالَ : أَرَأَيْت لَوْ وَضَعَهُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ ، كَانَ عَلَيْهِ وِزْرٌ ؟ قَالَ : قُلْت : بَلَى .
قَالَ : أَفَتَحْتَسِبُونَ بِالسَّيِّئَةِ ، وَلَا تَحْتَسِبُونَ بِالْخَيْرِ .
} وَلِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ إلَى الْوَلَدِ ، وَإِعْفَافِ نَفْسِهِ وَامْرَأَتِهِ ، وَغَضِّ بَصَرِهِ ، وَسُكُونِ نَفْسِهِ ، أَوْ إلَى بَعْضِ ذَلِكَ .

( 5713 ) فَصْلٌ وَلَيْسَ عَلَيْهِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ نِسَائِهِ فِي النَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ إذَا قَامَ بِالْوَاجِبِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ .
قَالَ أَحْمَدُ فِي الرَّجُلِ لَهُ امْرَأَتَانِ : لَهُ أَنْ يُفَضِّلَ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فِي النَّفَقَةِ وَالشَّهَوَاتِ وَالْكُسَى ، إذَا كَانَتْ الْأُخْرَى فِي كِفَايَةٍ ، وَيَشْتَرِي لِهَذِهِ أَرْفَعَ مِنْ ثَوْبِ هَذِهِ ، وَتَكُونُ تِلْكَ فِي كِفَايَةٍ .
وَهَذَا لِأَنَّ التَّسْوِيَةَ فِي هَذَا كُلِّهِ تَشُقُّ ، فَلَوْ وَجَبَ لَمْ يُمْكِنْهُ الْقِيَامُ بِهِ إلَّا بِحَرَجٍ ، فَسَقَطَ وُجُوبُهُ ، كَالتَّسْوِيَةِ فِي الْوَطْءِ .
.

مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( وَعِمَادُ الْقَسْمِ اللَّيْلُ ) لَا خِلَافَ فِي هَذَا ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّيْلَ لِلسَّكَنِ وَالْإِيوَاءِ ، يَأْوِي فِيهِ الْإِنْسَانُ إلَى مَنْزِلِهِ ، وَيَسْكُنُ إلَى أَهْلِهِ ، وَيَنَامُ فِي فِرَاشِهِ مَعَ زَوْجَتِهِ عَادَةً ، وَالنَّهَارَ لِلْمَعَاشِ ، وَالْخُرُوجِ ، وَالتَّكَسُّبِ ، وَالِاشْتِغَالِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا } وَقَالَ { وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ } فَعَلَى هَذَا يَقْسِمُ الرَّجُلُ بَيْنَ نِسَائِهِ لَيْلَةً وَلَيْلَةً ، وَيَكُونُ فِي النَّهَارِ فِي مَعَاشِهِ ، وَقَضَاءِ حُقُوقِ النَّاسِ ، وَمَا شَاءَ مِمَّا يُبَاحُ لَهُ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ مَعَاشُهُ بِاللَّيْلِ ، كَالْحُرَّاسِ وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ ، فَإِنَّهُ يَقْسِمُ بَيْنَ نِسَائِهِ بِالنَّهَارِ ، وَيَكُونُ اللَّيْلُ فِي حَقِّهِ كَالنَّهَارِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ .

( 5715 ) فَصْلٌ : وَالنَّهَارُ يَدْخُلُ فِي الْقَسْمِ تَبَعًا لِلَّيْلِ ؛ بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ أَنَّ سَوْدَةَ وَهَبَتْ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَقَالَتْ عَائِشَةُ { قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِي ، وَفِي يَوْمِي .
وَإِنَّمَا قُبِضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَارًا .
} وَيَتْبَعُ الْيَوْمُ اللَّيْلَةَ الْمَاضِيَةَ ؛ لِأَنَّ النَّهَارَ تَابِعٌ لِلَّيْلِ ، وَلِهَذَا يَكُونُ أَوَّلُ الشَّهْرِ اللَّيْلَ وَلَوْ نَذَرَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ دَخَلَ مُعْتَكَفَهُ قَبْلَ غُرُوبِ شَمْسِ الشَّهْرِ الَّذِي قَبْلَهُ ، وَيَخْرُجُ مِنْهُ بَعْدَ غُرُوبِ شَمْسِ آخِرِ يَوْمٍ مِنْهُ ، فَيَبْدَأُ بِاللَّيْلِ ، وَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَجْعَلَ النَّهَارَ مُضَافًا إلَى اللَّيْلِ الَّذِي يَتَعَقَّبُهُ جَازَ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَتَفَاوَتُ .
( 5716 ) فَصْلٌ : وَإِنْ خَرَجَ مِنْ عِنْدِ بَعْضِ نِسَائِهِ فِي زَمَانِهَا فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي النَّهَارِ أَوْ أَوَّلِ اللَّيْلِ ، أَوْ آخِرِهِ الَّذِي جَرَتْ الْعَادَةُ بِالِانْتِشَارِ فِيهِ ، وَالْخُرُوجِ إلَى الصَّلَاةِ ، جَازَ ؛ فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ يَخْرُجُونَ لِصَلَاةِ الْعِشَاءِ ، وَلِصَلَاةِ الْفَجْرِ قَبْلَ طُلُوعِهِ ، وَأَمَّا النَّهَارُ ، فَهُوَ لِلْمَعَاشِ وَالِانْتِشَارِ .
وَإِنْ خَرَجَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ ، وَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ عَادَ ، لَمْ يَقْضِ لَهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي قَضَاءِ ذَلِكَ .
وَإِنْ أَقَامَ ، قَضَاهُ لَهَا سَوَاءٌ كَانَتْ إقَامَتُهُ لَعُذْرٍ ؛ مِنْ شُغْلٍ أَوْ حَبْسٍ ، أَوْ لِغَيْرِ عُذْرٍ ؛ لِأَنَّ حَقَّهَا قَدْ فَاتَ بِغَيْبَتِهِ عَنْهَا .
وَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَجْعَلَ قَضَاءَهُ لِذَلِكَ غَيْبَتَهُ عَنْ الْأُخْرَى ، مِثْلُ مَا غَابَ عَنْ هَذِهِ ، جَازَ ؛ لِأَنَّ التَّسْوِيَةَ تَحْصُلُ بِذَلِكَ ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا جَازَ لَهُ تَرْكُ اللَّيْلَةِ بِكَمَالِهَا فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ، فَبَعْضُهَا أَوْلَى .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْضِيَ لَهَا فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْوَقْتِ ؛ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْمُمَاثَلَةِ ، وَالْقَضَاءُ تُعْتَبَرُ الْمُمَاثَلَةُ فِيهِ ، كَقَضَاءِ الْعِبَادَاتِ وَالْحُقُوقِ .
وَإِنْ قَضَاهُ فِي غَيْرِهِ مِنْ

اللَّيْلِ ، مِثْلُ إنْ فَاتَهَا فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ ، فَقَضَاهُ فِي آخِرِهِ ، أَوْ مِنْ آخِرِهِ ، فَقَضَاهُ فِي أَوَّلِهِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ قَضَى قَدْرَ مَا فَاتَهُ مِنْ اللَّيْلِ .
وَالْآخَرُ ، لَا يَجُوزُ ؛ لِعَدَمِ الْمُمَاثَلَةِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ قَضَاؤُهُ كُلَّهُ مِنْ لَيْلَةِ الْأُخْرَى ، لِئَلَّا يَفُوتَ حَقُّ الْأُخْرَى ، فَتَحْتَاجَ إلَى قَضَاءٍ ، وَلَكِنْ إمَّا أَنْ يَنْفَرِدَ بِنَفْسِهِ فِي لَيْلَةٍ ، فَيَقْضِيَ مِنْهَا ، وَإِمَّا أَنْ يَقْسِمَ لَيْلَةً ، بَيْنَهُنَّ ، وَيُفَضِّلُ هَذِهِ بِقَدْرِ مَا فَاتَ مِنْ حَقِّهَا ، وَإِمَّا أَنْ يَتْرُكَ مِنْ لَيْلَةِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِثْلَ مَا فَاتَ مِنْ لَيْلَةِ هَذِهِ ، وَإِمَّا أَنْ يَقْسِمَ الْمَتْرُوكَ بَيْنَهُمَا ، مِثْلُ أَنْ يَتْرُكَ مِنْ لَيْلَةِ إحْدَاهُمَا سَاعَتَيْنِ ، فَيَقْضِيَ لَهَا مِنْ لَيْلَةِ الْأُخْرَى سَاعَةً وَاحِدَةً ، فَيَصِيرَ الْفَائِتُ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا سَاعَةً .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الدُّخُولُ عَلَى ضَرَّتِهَا فِي زَمَنِهَا ، فَإِنْ كَانَ لَيْلًا لَمْ يَجُزْ إلَّا الضَّرُورَةُ ، مِثْلُ أَنْ تَكُونَ مَنْزُولًا بِهَا ، فَيُرِيدُ أَنْ يَحْضُرَهَا ، أَوْ تُوصِي إلَيْهِ ، أَوْ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ ، وَلَمْ يَلْبَثْ أَنَّ خَرَجَ ، لَمْ يَقْضِ .
وَإِنْ أَقَامَ وَبَرِئَتْ الْمَرْأَةُ الْمَرِيضَةُ ، قَضَى لِلْأُخْرَى مِنْ لَيْلَتِهَا بِقَدْرِ مَا أَقَامَ عِنْدَهَا .
وَإِنْ خَرَجَ لَحَاجَةٍ غَيْرِ ضَرُورِيَّةٍ ، أُتِمَّ .
وَالْحُكْمُ فِي الْقَضَاءِ ، كَمَا لَوْ دَخَلَ لَضَرُورَةٍ ، لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي قَضَاءِ الْيَسِيرِ .
وَإِنْ دَخَلَ عَلَيْهَا ، فَجَامَعَهَا فِي زَمَنٍ يَسِيرٍ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا لَا يَلْزَمُهُ قَضَاؤُهُ ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا يُسْتَحَقُّ فِي الْقَسْمِ ، وَالزَّمَنُ الْيَسِيرُ لَا يُقْضَى .
وَالثَّانِي ، يَلْزَمُهُ أَنْ يَقْضِيَهُ ، وَهُوَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى الْمَظْلُومَةِ فِي لَيْلَةِ الْمُجَامَعَةِ ، فَيُجَامِعُهَا ، لِيَعْدِلَ بَيْنَهُمَا ، وَلِأَنَّ الْيَسِيرَ مَعَ الْجِمَاعِ يَحْصُلُ بِهِ السَّكَنُ ، فَأَشْبَهَ الْكَثِيرَ .
وَأَمَّا الدُّخُولُ فِي النَّهَارِ إلَى الْمَرْأَةِ فِي يَوْمِ غَيْرِهَا ، فَيَجُوزُ لِلْحَاجَةِ ، مِنْ دَفْعِ النَّفَقَةِ ، أَوْ عِيَادَةٍ ، أَوْ سُؤَالٍ عَنْ أَمْرٍ يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَتِهِ ، أَوْ زِيَارَتِهَا لِبُعْدِ عَهْدِهِ بِهَا ، وَنَحْوُ ذَلِكَ ؛ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ ، قَالَتْ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُ عَلَيَّ فِي يَوْمِ غَيْرِي ، فَيَنَالُ مِنِّي كُلَّ شَيْءٍ إلَّا الْجِمَاعَ .
} وَإِذَا دَخَلَ إلَيْهَا لَمْ يُجَامِعْهَا ، وَلَمْ يُطِلْ عِنْدَهَا ؛ لِأَنَّ السَّكَنَ يَحْصُلُ بِذَلِكَ ، وَهِيَ لَا تَسْتَحِقُّهُ ، وَفِي الِاسْتِمْتَاعِ مِنْهَا بِمَا دُونَ الْفَرْجِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا ، يَجُوزُ ؛ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ .
وَالثَّانِي ، لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ لَهَا بِهِ السَّكَنُ ، فَأَشْبَهَ الْجِمَاعَ .
فَإِنْ أَطَالَ الْمُقَامَ عِنْدَهَا ، قَضَاهُ .
وَإِنْ جَامَعَهَا فِي الزَّمَنِ الْيَسِيرِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا .
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ عَلَى نَحْوِ مَا

ذَكَرْنَا ، إلَّا أَنَّهُمْ قَالُوا : لَا يَقْضِي إذَا جَامَعَ فِي النَّهَارِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ زَمَنٌ يَقْضِيهِ إذَا طَالَ الْمُقَامُ ، فَيَقْضِيهِ إذَا جَامَعَ فِيهِ ، كَاللَّيْلِ .
( 5718 ) فَصْلٌ : وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مَسْكَنٌ يَأْتِيهَا فِيهِ ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْسِمُ هَكَذَا ، وَلِأَنَّهُ أَصْوَنُ لَهُنَّ وَأَسْتَرُ ، حَتَّى لَا يَخْرُجْنَ مِنْ بُيُوتِهِنَّ .
وَإِنَّ اتَّخَذَ لِنَفْسِهِ مَنْزِلًا يَسْتَدْعِي إلَيْهِ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فِي لَيْلَتِهَا وَيَوْمِهَا ، كَانَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ لِلرَّجُلِ نَقْلَ زَوْجَتِهِ حَيْثُ شَاءَ ، وَمَنْ امْتَنَعَتْ مِنْهُنَّ مِنْ إجَابَتِهِ سَقَطَ حَقُّهَا مِنْ الْقَسْمِ ؛ لِنُشُوزِهَا .
وَإِنْ اخْتَارَ أَنْ يَقْصِدَ بَعْضَهُنَّ فِي مَنَازِلِهِنَّ ، وَيَسْتَدْعِيَ الْبَعْضَ ، كَانَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يُسْكِنَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ حَيْثُ شَاءَ .
وَإِنْ حُبِسَ الزَّوْجُ ، فَأَحَبَّ الْقَسْمَ بَيْنَ نِسَائِهِ ، بِأَنْ يَسْتَدْعِيَ كُلَّ وَاحِدَةٍ فِي لَيْلَتِهَا ، فَعَلَيْهِنَّ طَاعَتُهُ ، إنْ كَانَ ذَلِكَ سُكْنَى مِثْلِهِنَّ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ، لَمْ تَلْزَمْهُنَّ إجَابَتُهُ ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِنَّ فِي ذَلِكَ ضَرَرًا .
وَإِنْ أَطَعْنَهُ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ الْعَدْلَ بَيْنَهُنَّ ، وَلَا اسْتِدْعَاءُ بَعْضِهِنَّ دُونَ بَعْضٍ ، كَمَا فِي غَيْرِ الْحَبْسِ .

( 5719 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( وَلَوْ وَطِئَ زَوْجَتَهُ ، وَلَمْ يَطَأْ الْأُخْرَى ، فَلَيْسَ بِعَاصٍ ) لَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ ، فِي أَنَّهُ لَا تَجِبُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ النِّسَاءِ فِي الْجِمَاعِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِك وَالشَّافِعِيِّ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْجِمَاعَ طَرِيقُهُ الشَّهْوَةُ وَالْمَيْلُ ، وَلَا سَبِيلَ إلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُنَّ فِي ذَلِكَ ، فَإِنَّ قَلْبَهُ قَدْ يَمِيلُ إلَى إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ } قَالَ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ فِي الْحُبِّ وَالْجِمَاعِ .
وَإِنْ أَمْكَنَتْ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْجِمَاعِ ، كَانَ أَحْسَنَ وَأَوْلَى ؛ فَإِنَّهُ أَبْلُغُ فِي الْعَدْلِ ، { وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ بَيْنَهُنَّ فَيَعْدِلُ ، ثُمَّ يَقُولُ : اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ ، فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا لَا أَمْلِكُ .
} وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يُسَوِّي بَيْنَهُنَّ حَتَّى فِي الْقُبَلِ .
وَلَا تَجِبُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُنَّ فِي الِاسْتِمْتَاعِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ ؛ مِنْ الْقُبَلِ ، وَاللَّمْسِ ، وَنَحْوِهِمَا ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ تَجِبْ التَّسْوِيَةُ فِي الْجِمَاعِ ، فَفِي دَوَاعِيهِ أَوْلَى .

( 5720 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَيَقْسِمُ لِزَوْجَتِهِ الْأَمَةِ لَيْلَةً ، وَلِلْحُرَّةِ لَيْلَتَيْنِ ، وَإِنْ كَانَتْ كِتَابِيَّةً ) وَبِهَذَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَمَسْرُوقٌ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ أَنَّهُ مَذْهَبُ الثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَأَهْلِ الرَّأْيِ .
وَقَالَ مَالِكٌ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ : يُسَوِّي بَيْنَ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ فِي الْقَسْمِ ؛ لِأَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي حُقُوقِ النِّكَاحِ ؛ مِنْ النَّفَقَةِ ، وَالسُّكْنَى ، وَقَسْمُ الِابْتِدَاءِ ، كَذَلِكَ هَاهُنَا .
وَلَنَا ، مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولَ : إذَا تَزَوَّجَ الْحُرَّةَ عَلَى الْأَمَةِ ، قَسَمَ لِلْأَمَةِ لَيْلَةً وَلِلْحُرَّةِ لَيْلَتَيْنِ .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ ، وَاحْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ وَلِأَنَّ الْحُرَّةَ يَجِبُ تَسْلِيمُهَا لَيْلًا وَنَهَارًا ، فَكَانَ حَظُّهَا أَكْثَرَ فِي الْإِيوَاءِ ، وَيُخَالِفُ النَّفَقَةَ وَالسُّكْنَى ، فَإِنَّهُ مُقَدَّرٌ بِالْحَاجَةِ ، وَحَاجَتُهَا إلَى ذَلِكَ كَحَاجَةِ الْحُرَّةِ .
وَأَمَّا قَسْمُ الِابْتِدَاءِ فَإِنَّمَا شُرِعَ لِيَزُولَ الِاحْتِشَامُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ ، وَلَا يَخْتَلِفَانِ فِي ذَلِكَ ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا يَقْسِمُ لَهُمَا لِتَسَاوِي حَظِّهِمَا .
( 5721 ) فَصْلٌ : وَالْمُسْلِمَةُ وَالْكِتَابِيَّةُ سَوَاءٌ فِي الْقَسْمِ ، فَلَوْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ ، أَمَهٌ مُسْلِمَةٌ ، وَحُرَّةٌ كِتَابِيَّةٌ ، قَسَمَ لِلْأَمَةِ لَيْلَةً وَلِلْحُرَّةِ لَيْلَتَيْنِ ، وَإِنْ كَانَتَا جَمِيعًا حُرَّتَيْنِ ، فَلَيْلَةٌ وَلَيْلَةٌ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، عَلَى أَنَّ الْقَسْمَ بَيْنَ الْمُسْلِمَةِ وَالذِّمِّيَّةِ سَوَاءٌ .
كَذَلِكَ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَالْحَكَمُ ، وَحَمَّادُ ، وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَسْمَ مِنْ حُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ ، فَاسْتَوَتْ فِيهِ الْمُسْلِمَةُ

وَالْكِتَابِيَّةُ ، كَالنَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى .
وَيُفَارِقُ الْأَمَةَ ؛ لِأَنَّ الْأَمَةَ لَا يَتِمُّ تَسْلِيمُهَا ، وَلَا يَحْصُلُ لَهَا الْإِيوَاءُ التَّامُّ ، بِخِلَافِ الْكِتَابِيَّةِ .

( 5722 ) فَصْلٌ : فَإِنْ أُعْتِقَتْ الْأَمَةُ فِي أَثْنَاءِ مُدَّتِهَا ، أَضَافَ إلَى لَيْلَتِهَا لَيْلَةً أُخْرَى ، لِتُسَاوِي الْحُرَّةَ ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّتِهَا ، اُسْتُؤْنِفَ الْقَسْمُ مُتَسَاوِيًا ، وَلَمْ يَقْضِ لَهَا مَا مَضَى ؛ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ حَصَلَتْ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ حَقِّهَا .
وَإِنْ عَتَقَتْ ، وَقَدْ قَسَمَ لِلْحُرَّةِ لَيْلَةً ، لَمْ يَزِدْهَا عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُمَا تَسَاوَيَا ، فَيُسَوِّي بَيْنَهُمَا .

( 5723 ) فَصْلٌ : وَالْحَقُّ فِي الْقَسْمِ لِلْأَمَةِ دُونَ سَيِّدِهَا ، فَلَهَا أَنْ تَهَبَ لَيْلَتَهَا لِزَوْجِهَا ، وَلِبَعْضِ ضَرَائِرِهَا ، كَالْحُرَّةِ ، وَلَيْسَ لِسَيِّدِهَا الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهَا ، وَلَا أَنْ يَهَبَهُ دُونَهَا ؛ لِأَنَّ الْإِيوَاءَ وَالسَّكَنَ حَقٌّ لَهَا دُونَ سَيِّدِهَا ، فَمَلَكَتْ إسْقَاطَهُ .
وَذَكَرَ الْقَاضِي ، أَنَّ قِيَاسَ قَوْلِ أَحْمَدَ إنَّهُ يَسْتَأْذِنُ سَيِّدَ الْأَمَةِ فِي الْعَزْلِ عَنْهَا .
أَنْ لَا تَجُوزَ هِبَتُهَا لِحَقِّهَا مِنْ الْقَسْمِ إلَّا بِإِذْنِهِ .
وَلَا يَصِحُّ هَذَا ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا يَتَنَاوَلُهُ الْقَسْمُ ، فَلَمْ يَكُنْ لِلْوَلِيِّ فِيهِ حَقٌّ ، وَلِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ بِالْفَيْئَةِ لِلْأَمَةِ دُونَ سَيِّدِهَا ، وَفَسْخُ النِّكَاحِ بِالْجَبِّ وَالْعُنَّةِ لَهَا دُونَ سَيِّدِهَا ، فَلَا وَجْهَ لِإِثْبَاتِ الْحَقِّ لَهُ هَاهُنَا .

( 5724 ) فَصْلٌ : وَلَا قَسْمَ عَلَى الرَّجُلِ فِي مِلْكِ يَمِينِهِ ، فَمَنْ كَانَ لَهُ نِسَاءٌ وَإِمَاءٌ ، فَلَهُ الدُّخُولُ عَلَى الْإِمَاءِ كَيْفَ شَاءَ ، وَالِاسْتِمْتَاعُ بِهِنَّ إنْ شَاءَ كَالنِّسَاءِ ، وَإِنْ شَاءَ أَقَلَّ ، وَإِنْ شَاءَ أَكْثَرَ ، وَإِنْ شَاءَ سَاوَى بَيْن الْإِمَاءِ ، وَإِنْ شَاءَ فَضَّلَ ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَمْتَعَ مِنْ بَعْضِهِنَّ دُونَ بَعْضٍ ؛ بِدَلِيلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } وَقَدْ { كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَارِيَةُ الْقِبْطِيَّةُ ، وَرَيْحَانَةُ ، فَلَمْ يَكُنْ يَقْسِمُ لَهُمَا .
} وَلِأَنَّ الْأَمَةَ لَا حَقَّ لَهَا فِي الِاسْتِمْتَاعِ ، وَلِذَلِكَ لَا يَثْبُتُ ، لَهَا الْخِيَارُ بِكَوْنِ السَّيِّدِ مَجْبُوبًا أَوْ عِنِّينًا ، وَلَا تُضْرَبُ لَهَا مُدَّةُ الْإِيلَاءِ ، لَكِنْ إنْ احْتَاجَتْ إلَى النِّكَاحِ ، فَعَلَيْهِ إعْفَافُهَا ، إمَّا بِوَطْئِهَا ، أَوْ تَزْوِيجِهَا ، أَوْ بَيْعِهَا .

( 5725 ) فَصْلٌ وَيَقْسِمُ بَيْنَ نِسَائِهِ لَيْلَةً لَيْلَةً فَإِنْ أَحَبَّ الزِّيَادَةَ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ إلَّا بِرِضَاهُنَّ .
وَقَالَ الْقَاضِي : لَهُ أَنْ يَقْسِمَ لَيْلَتَيْنِ لَيْلَتَيْنِ ، وَثَلَاثًا ثَلَاثًا .
وَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ إلَّا بِرِضَاهُنَّ .
وَالْأَوْلَى مَعَ هَذَا لَيْلَةٌ وَلَيْلَةٌ ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ لَعَهْدِهِنَّ بِهِ ، وَتَجُوزُ الثَّلَاثُ لِأَنَّهَا فِي حَدِّ الْقِلَّةِ ، فَهِيَ كَاللَّيْلَةِ ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَلَنَا ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا قَسَمَ لَيْلَةً وَلَيْلَةً ، وَلِأَنَّ التَّسْوِيَةَ وَاجِبَةٌ ، وَإِنَّمَا جَوَّزَ بِالْبِدَايَةِ بِوَاحِدَةٍ ، لِتَعَذُّرِ الْجَمْعِ ، فَإِذَا بَاتَ عِنْدَ وَاحِدَةٍ لَيْلَةً ، تَعَيَّنَتْ اللَّيْلَةُ الثَّانِيَةُ حَقًّا لِلْأُخْرَى ، فَلَمْ يَجُزْ جَعْلُهَا لِلْأُولَى بِغَيْرِ رِضَاهَا ، وَلِأَنَّهُ تَأْخِيرٌ لِحُقُوقِ بَعْضِهِنَّ ، فَلَمْ يَجُزْ بِغَيْرِ رِضَاهُنَّ ، كَالزِّيَادَةِ عَلَى الثَّلَاثِ ، وَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ لَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ ، فَجَعَلَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ ثَلَاثًا ، حَصَلَ تَأْخِيرُ الْأَخِيرَةِ فِي تِسْعِ لَيَالٍ ، وَذَلِكَ كَثِيرٌ ، فَلَمْ يَجُزْ ، كَمَا لَوْ كَانَ لَهُ امْرَأَتَانِ ، فَأَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ تِسْعًا ، وَلِأَنَّ لِلتَّأْخِيرِ آفَاتٌ ، فَلَا يَجُوزُ مَعَ إمْكَانِ التَّعْجِيلِ بِغَيْرِ رِضَى الْمُسْتَحِقِّ ، كَتَأْخِيرِ الدَّيْنِ الْحَالِّ ، وَالتَّحْدِيدُ بِالثَّلَاثِ تَحَكُّمٌ لَا يُسْمَعُ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ ، وَكَوْنُهُ فِي حَدِّ الْقِلَّةِ لَا يُوجِبُ جَوَازَ تَأْخِيرِ الْحَقِّ ، كَالدُّيُونِ الْحَالَّةِ وَسَائِرِ الْحُقُوقِ .

( 5726 ) فَصْلٌ : فَإِنْ قَسَمَ لِإِحْدَاهُمَا ، ثُمَّ طَلَّقَ الْأُخْرَى قَبْلَ قَسْمِهَا ، أَثِمَ ؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَ حَقَّهَا الْوَاجِبَ لَهَا ، فَإِنْ عَادَتْ إلَيْهِ ، بِرَجْعَةٍ أَوْ نِكَاحٍ ؛ قَضَى لَهَا ؛ لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى إيفَاءِ حَقِّهَا ، فَلَزِمَهُ ، كَالْمُعْسِرِ إذَا أَيْسَرَ بِالدَّيْنِ .
فَإِنْ قَسَمَ لِإِحْدَاهُمَا ، ثُمَّ جَاءَ لِيَقْسِمَ لِلثَّانِيَةِ ، فَأَغْلَقَتْ الْبَابَ دُونَهُ ، أَوْ مَنَعَتْهُ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا ، أَوْ قَالَتْ : لَا تَدْخُلْ عَلَيَّ ، أَوْ لَا تَبِتْ عِنْدِي .
أَوْ ادَّعَتْ الطَّلَاقَ ، سَقَطَ حَقُّهَا مِنْ الْقَسْمِ .
فَإِنْ عَادَتْ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى الْمُطَاوَعَةِ ، اسْتَأْنَفَ الْقَسْمَ بَيْنَهُمَا ، وَلَمْ يَقْضِ النَّاشِزَ ؛ لِأَنَّهَا أَسْقَطَتْ حَقَّ نَفْسِهَا .
وَإِنْ كَانَ لَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ ، فَأَقَامَ عِنْدَ ثَلَاثٍ مِنْهُنَّ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً ، لَزِمَهُ أَنْ يُقِيمَ عِنْدَ الرَّابِعَةِ عَشْرًا ؛ لِتَسَاوِيهِنَّ ، فَإِنْ نَشَزَتْ إحْدَاهُنَّ عَلَيْهِ ، وَظَلَمَ وَاحِدَةً فَلَمْ يَقْسِمْ لَهَا ، وَأَقَامَ عِنْدَ الِاثْنَتَيْنِ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً ، ثُمَّ أَطَاعَتْهُ النَّاشِزُ ، وَأَرَادَ الْقَضَاءَ لِلْمَظْلُومَةِ ، فَإِنَّهُ يَقْسِمُ لَهَا ثَلَاثًا ، وَلِلنَّاشِزِ لَيْلَةً خَمْسَةَ أَدْوَارٍ ، فَيُكْمِلُ لِلْمَظْلُومَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً ، وَيَحْصُلُ لِلنَّاشِزِ خَمْسٌ ، ثُمَّ يَسْتَأْنِفُ الْقَسْمَ بَيْنَ الْجَمِيعِ ، فَإِنْ كَانَ لَهُ ثَلَاثُ نِسْوَةٍ ، فَقَسَمَ بَيْنَ اثْنَتَيْنِ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً ، وَظَلَمَ الثَّالِثَةَ ، ثُمَّ تَزَوَّجَ جَدِيدَةً ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَقْضِيَ لِلْمَظْلُومَةِ ، فَإِنَّهُ يَخُصُّ الْجَدِيدَةَ بِسَبْعٍ إنْ كَانَتْ بِكْرًا ، وَثَلَاثٍ إنْ كَانَتْ ثَيِّبًا لِحَقِّ الْعَقْدِ ، ثُمَّ يَقْسِمُ ، بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَظْلُومَةِ خَمْسَةَ أَدْوَارٍ ، عَلَى مَا قَدَّمْنَا لِلْمَظْلُومَةِ مِنْ كُلِّ دُورٍ ثَلَاثًا ، وَوَاحِدَةً لِلْجَدِيدَةِ .

( 5727 ) فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَتْ امْرَأَتَاهُ فِي بَلَدَيْنِ ، فَعَلَيْهِ الْعَدْلُ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّهُ اخْتَارَ الْمُبَاعَدَةَ بَيْنَهُمَا ، فَلَا يَسْقُطُ حَقُّهُمَا عَنْهُ بِذَلِكَ ، فَإِمَّا أَنْ يَمْضِيَ إلَى الْغَائِبَةِ فِي أَيَّامِهَا ، وَإِمَّا أَنْ يُقْدِمَهَا إلَيْهِ ، وَيَجْمَعَ بَيْنَهُمَا فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ ، فَإِنْ امْتَنَعَتْ مِنْ الْقُدُومِ مَعَ الْإِمْكَانِ ، سَقَطَ حَقُّهَا لِنُشُوزِهَا .
وَإِنْ أَحَبَّ الْقَسْمَ بَيْنَهُمَا فِي بَلَدَيْهِمَا ، لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَقْسِمَ لَيْلَةً وَلَيْلَةً ، فَيَجْعَلَ الْمُدَّةَ بِحَسَبِ مَا يُمْكِنُ ، كَشَهْرِ وَشَهْرٍ ، أَوْ أَكْثَرَ ، أَوْ أَقَلَّ ، عَلَى حَسَبِ مَا يُمْكِنُهُ ، وَعَلَى حَسَبِ تَقَارُبِ الْبَلَدَيْنِ وَتَبَاعُدِهِمَا .

( 5728 ) فَصْلٌ : وَيَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَهَبَ حَقَّهَا مِنْ الْقَسْمِ لِزَوْجِهَا ، أَوْ لِبَعْضِ ضَرَائِرِهَا ، أَوْ لَهُنًّ جَمِيعًا ، وَلَا يَجُوزُ إلَّا بِرِضَى الزَّوْجِ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا لَا يَسْقُطُ إلَّا بِرِضَاهُ ، فَإِذَا رَضِيَتْ هِيَ وَالزَّوْجُ جَازَ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ فِي ذَلِكَ لَهُمَا ، لَا يَخْرُجُ عَنْهُمَا ، فَإِنْ أَبَتْ الْمَوْهُوبَةُ قَبُولَ الْهِبَةِ ، لَمْ يَكُنْ لَهَا ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا ثَابِتٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ ، إنَّمَا مَنَعَتْهُ الْمُزَاحَمَةُ بِحَقِّ صَاحِبَتِهَا ، فَإِذَا زَالَتْ الْمُزَاحَمَةُ بِهِبَتِهَا ، ثَبَتَ حَقُّهُ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا ، وَإِنْ كَرِهَتْ ، كَمَا لَوْ كَانَتْ مُنْفَرِدَةً .
وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ { سَوْدَةَ وَهَبَتْ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ لِعَائِشَةَ يَوْمَهَا وَيَوْمَ سَوْدَةَ .
} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَيَجُوزُ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الزَّمَانِ وَفِي بَعْضِهِ ، فَإِنَّ سَوْدَةَ وَهَبَتْ يَوْمَهَا فِي جَمِيعِ زَمَانِهَا .
وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ ، عَنْ عَائِشَةَ ، { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَدَ عَلَى صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ فِي شَيْءٍ ، فَقَالَتْ صَفِيَّةُ لِعَائِشَةَ : هَلْ لَك أَنْ تُرْضِي عَنِّي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَك يَوْمِي ؟ فَأَخَذَتْ خِمَارًا مَصْبُوغًا بِزَعْفَرَانَ ، فرشته لِيَفُوحَ رِيحُهُ ، ثُمَّ اخْتَمَرَتْ بِهِ ، وَقَعَدَتْ إلَى جَنْبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : إلَيْك يَا عَائِشَةُ ، إنَّهُ لَيْسَ يَوْمَك .
قَالَتْ : ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ .
فَأَخْبَرَتْهُ بِالْأَمْرِ ، فَرَضِيَ عَنْهَا .
} فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنْ وَهَبَتْ لَيْلَتَهَا لِجَمِيعِ ضَرَائِرِهَا ، صَارَ الْقَسْمُ بَيْنَهُنَّ كَمَا لَوْ طَلَّقَ الْوَاهِبَةَ .
وَإِنْ وَهَبَتْهَا لِلزَّوْجِ ، فَلَهُ جَعْلُهُ لِمَنْ شَاءَ ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى الْبَاقِيَاتِ فِي ذَلِكَ ، إنْ شَاءَ جَعَلَهُ لِلْجَمِيعِ ، وَإِنْ شَاءَ خَصَّ بِهَا وَاحِدَةً مِنْهُنَّ ، وَإِنْ شَاءَ

جَعَلَ لَبَعْضِهِنَّ فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ بَعْضٍ .
وَإِنْ وَهَبَتْهَا لَوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ كَفِعْلِ سَوْدَةَ ، جَازَ .
ثُمَّ إنْ كَانَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةُ تَلِي لَيْلَةَ الْمَوْهُوبَةِ ، وَإِلَى بَيْنَهُمَا ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَلِيهَا ، لَمْ يَجُزْ لَهُ الْمُوَالَاةُ بَيْنَهُمَا ، إلَّا بِرِضَى الْبَاقِيَاتِ ، وَيَجْعَلُهَا لَهَا فِي الْوَقْتِ الَّذِي كَانَ لِلْوَاهِبَةِ ؛ وَلِأَنَّ الْمَوْهُوبَةَ قَامَتْ مَقَامَ الْوَاهِبَةِ فِي لَيْلَتِهَا ، فَلَمْ يَجُزْ تَغْيِيرُهَا عَنْ مَوْضِعِهَا ، كَمَا لَوْ كَانَتْ بَاقِيَةً لِلْوَاهِبَةِ ، وَلِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَأْخِيرَ حَقِّ غَيْرِهَا ، وَتَغْيِيرًا لِلَيْلَتِهَا بِغَيْرِ رِضَاهَا ، فَلَمْ يَجُزْ .
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إذَا وَهَبَتْهَا لِلزَّوْجِ ، فَآثَرَ بِهَا امْرَأَةً مِنْهُنَّ بِعَيْنِهَا .
وَفِيهِ وَجْهٌ آخِرُ ، إنَّهُ يَجُوزُ الْمُوَالَاةُ بَيْنَ اللَّيْلَتَيْنِ ؛ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي التَّفْرِيقِ .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيهِ فَائِدَةً ، فَلَا يَجُوزُ اطِّرَاحُهَا .
وَمَتَى رَجَعَتْ الْوَاهِبَةُ فِي لَيْلَتِهَا ، فَلَهَا ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ؛ لِأَنَّهَا هِبَةٌ لَمْ تُقْبَضْ ، وَلَيْسَ لَهَا الرُّجُوعُ فِيمَا مَضَى ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَقْبُوضِ .
وَلَوْ رَجَعَتْ فِي بَعْضِ اللَّيْلِ ، كَانَ عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَنْتَقِلَ إلَيْهَا ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ حَتَّى أَتَمَّ اللَّيْلَةَ ، لَمْ يَقْضِ لَهَا شَيْئًا ؛ لِأَنَّ التَّفْرِيطَ مِنْهَا .
( 5729 ) فَصْلٌ : فَإِنْ بَذَلَتْ لَيْلَتَهَا بِمَالٍ ، لَمْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّ حَقَّهَا فِي كَوْنِ الزَّوْجِ عِنْدَهَا ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَالٍ ، فَلَا يَجُوزُ مُقَابَلَتُهُ بِمَالٍ ، فَإِذَا أَخَذَتْ عَلَيْهِ مَالًا ، لَزِمَهَا رَدُّهُ ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ لَهَا ، لِأَنَّهَا تَرَكَتْهُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ ، وَلَمْ يَسْلَمْ لَهَا ، وَإِنْ كَانَ عِوَضُهَا غَيْرَ الْمَالِ ، مِثْلُ إرْضَاءِ زَوْجِهَا ، أَوْ غَيْرِهِ عَنْهَا ، جَازَ ؛ فَإِنَّ عَائِشَةَ أَرْضَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَفِيَّةَ ، وَأَخَذَتْ يَوْمَهَا ، وَأَخْبَرَتْ بِذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ

يُنْكِرْهُ .

مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَإِذَا سَافَرَتْ زَوْجَتُهُ بِإِذْنِهِ ، فَلَا نَفَقَةَ لَهَا ، وَلَا قَسْمَ ، وَإِنْ كَانَ هُوَ أَشْخَصَهَا ، فَهِيَ عَلَى حَقِّهَا مِنْ ذَلِكَ ) وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ أَنَّهَا إذَا سَافَرَتْ فِي حَاجَتِهَا ، بِإِذْنِ زَوْجِهَا ، لَتِجَارَةٍ لَهَا ، أَوْ زِيَارَةٍ ، أَوْ حَجِّ تَطَوُّعٍ ، أَوْ عُمْرَةٍ ، لَمْ يَبْقَ لَهَا حَقٌّ فِي نَفَقَةٍ وَلَا قَسْمٍ .
هَكَذَا ذَكَرَ الْخِرَقِيِّ وَالْقَاضِي .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ فِي ذَلِكَ وَجْهَانِ .
وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ ؛ : أَحَدُهُمَا ، لَا يَسْقُطُ حَقُّهَا ؛ لِأَنَّهَا سَافَرَتْ بِإِذْنِهِ ، أَشْبَهَ مَا لَوْ سَافَرَتْ مَعَهُ .
وَلَنَا ، أَنَّ الْقَسْمَ لِلْأُنْسِ ، وَالنَّفَقَةَ لِلتَّمْكِينِ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ ، وَقَدْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهَا ، فَسَقَطَ ، كَمَا لَوْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ قَبْلَ دُخُولٍ بِهَا .
وَفَارَقَ مَا إذَا سَافَرَتْ مَعَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَذَّرْ ذَلِكَ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَسْقُطَ الْقَسْمُ ، وَجْهًا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ سَافَرَ عَنْهَا لَسَقَطَ قَسَمَهَا ، وَالتَّعَذُّرُ مِنْ جِهَتِهِ ، فَإِذَا تَعَذَّرَ مِنْ جِهَتِهَا بِسَفَرِهَا ، كَانَ أَوْلَى ، وَيَكُونُ فِي النَّفَقَةِ الْوَجْهَانِ .
وَفِي هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى سُقُوطِهِمَا إذَا سَافَرَتْ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، فَإِنَّهُ إذَا سَقَطَ حَقُّهَا مِنْ ذَلِكَ لِعَدَمِ التَّمْكِينِ بِأَمْرٍ لَيْسَ فِيهِ نُشُوزٌ وَلَا مَعْصِيَةٌ ، فَلَأَنْ يَسْقُطَ بِالنُّشُوزِ وَالْمَعْصِيَةِ أَوْلَى .
وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ نَعْلَمُهُ .
فَأَمَّا إنْ أَشْخَصَهَا ، وَهُوَ أَنْ يَبْعَثَهَا لِحَاجَتِهِ ، أَوْ يَأْمُرَهَا بِالنَّقْلَةِ مِنْ بَلَدِهَا ، لَمْ يَسْقُطْ حَقُّهَا مِنْ نَفَقَةٍ وَلَا قَسْمٍ ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُفَوِّتْ عَلَيْهِ التَّمْكِينَ ، وَلَا فَاتَ مِنْ جِهَتِهَا ، وَإِنَّمَا حَصَلَ بِتَفْوِيتِهِ ، فَلَمْ يَسْقُطْ حَقُّهَا ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ ، لَمْ يَسْقُطْ حَقُّ الْبَائِعِ مِنْ تَسْلِيمِ ثَمَنِهِ إلَيْهِ .
فَعَلَى هَذَا ، يَقْضِي لَهَا بِحَسَبِ مَا أَقَامَ عِنْدَ ضَرَّتِهَا .
وَإِنْ سَافَرَتْ مَعَهُ ، فَهِيَ عَلَى حَقِّهَا مِنْهُمَا جَمِيعًا .

( 5731 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَإِذَا أَرَادَ سَفَرًا ، فَلَا يَخْرُجُ مَعَهُ مِنْهُنَّ إلَّا بِقُرْعَةٍ ، فَإِذَا قَدِمَ ابْتَدَأَ الْقَسْمَ بَيْنَهُنَّ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الزَّوْجَ إذَا أَرَادَ سَفَرًا ، فَأَحَبَّ حَمْلَ نِسَائِهِ مَعَهُ كُلِّهِنَّ ، أَوْ تَرْكَهُنَّ كُلِّهِنَّ ، لَمْ يَحْتَجْ إلَى قُرْعَةٍ ؛ لِأَنَّ الْقُرْعَةَ لِتَعْيِينِ الْمَخْصُوصَةِ مِنْهُنَّ بِالسَّفَرِ ، وَهَاهُنَا قَدْ سَوَّى ، وَإِنْ أَرَادَ السَّفَرَ بِبَعْضِهِنَّ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهَا إلَّا بِقُرْعَةٍ .
وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ لَهُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ .
وَلَيْسَ بِصَحِيحِ ، فَإِنَّ عَائِشَةَ رَوَتْ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا أَرَادَ سَفَرًا ، أَقْرَعَ بَيْن نِسَائِهِ ، وَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا ، خَرَجَ بِهَا مَعَهُ .
} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَلِأَنَّ فِي الْمُسَافَرَةِ بِبَعْضِهِنَّ مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ تَفْضِيلًا لَهَا ، وَمَيْلًا إلَيْهَا ، فَلَمْ يَجُزْ بِغَيْرِ قُرْعَةٍ كَالْبِدَايَةِ بِهَا فِي الْقَسْمِ .
وَإِنْ أَحَبَّ الْمُسَافَرَةَ بِأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ ، أَقْرَعِ أَيْضًا ، فَقَدْ رَوَتْ عَائِشَةُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا خَرَجَ أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ ، فَصَارَتْ الْقُرْعَةُ لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ .
} رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَمَتَى سَافَرَ بِأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ ، سَوَّى بَيْنَهُنَّ كَمَا يُسَوِّي بَيْنَهُنَّ فِي الْحَضَرِ ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ لِلْحَاضِرَاتِ بَعْدَ قُدُومِهِ .
وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ " فَإِذَا قَدِمَ ابْتَدَأَ الْقَسْمَ بَيْنَهُنَّ " .
وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَحُكِيَ عَنْ دَاوُد أَنَّهُ يَقْضِي ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ } وَلَنَا ، أَنَّ عَائِشَةَ لَمْ تَذْكُرْ قَضَاءً فِي حَدِيثِهَا ، وَلِأَنَّ هَذِهِ الَّتِي سَافَرَ بِهَا يَلْحَقُهَا مِنْ مَشَقَّةِ السَّفَرِ بِإِزَاءِ مَا حَصَلَ لَهَا مِنْ السَّكَنِ ، وَلَا يَحْصُلُ لَهَا مِنْ السَّكَنِ مِثْلُ مَا يَحْصُلُ فِي الْحَضَرِ ، فَلَوْ قُضِيَ لِلْحَاضِرَاتِ ، لَكَانَ قَدْ

مَالَ عَلَى الْمُسَافِرَةِ كُلَّ الْمَيْلِ ، لَكِنْ إنْ سَافَرَ بِإِحْدَاهُنَّ بِغَيْرِ قُرْعَةٍ ، أَثِمَ ، وَقَضَى لِلْبَوَاقِي بَعْدَ سَفَرِهِ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٌ : لَا يَقْضِي ؛ لِأَنَّ قَسْمَ الْحَضَرِ لَيْسَ بِمِثْلٍ لَقَسْمِ السَّفَرِ ، فَيَتَعَذَّرُ الْقَضَاءُ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ خَصَّ بَعْضَهُنَّ بِمُدَّةٍ ، عَلَى وَجْهٍ تَلْحَقُهُ التُّهْمَةُ فِيهِ ، فَلَزِمَهُ الْقَضَاءُ ، كَمَا لَوْ كَانَ حَاضِرًا .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَلْزَمَهُ قَضَاءُ الْمُدَّةِ ، وَإِنَّمَا يَقْضِي مِنْهَا مَا أَقَامَ مِنْهَا مَعَهَا بِمَبِيتٍ وَنَحْوِهِ ، فَأَمَّا زَمَانُ السَّيْرِ ، فَلَمْ يَحْصُلْ لَهَا مِنْهُ إلَّا التَّعَبُ وَالْمَشَقَّةُ فَلَوْ جَعَلَ لِلْحَاضِرَةِ فِي مُقَابَلَةِ ذَلِكَ مَبِيتًا عِنْدَهَا ، وَاسْتِمْتَاعًا بِهَا ، لَمَالَ كُلَّ الْمَيْلِ .

( 5732 ) فَصْلٌ : إذَا خَرَجَتْ الْقُرْعَةُ لِإِحْدَاهُنَّ ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ السَّفَرُ بِهَا ، وَلَهُ تَرْكُهَا وَالسَّفَرُ وَحْدَهُ ؛ لِأَنَّ الْقُرْعَةَ لَا تُوجِبُ ، وَإِنَّمَا تُعَيِّنُ مَنْ تَسْتَحِقُّ التَّقْدِيمَ .
وَإِنْ أَرَادَ السَّفَرَ بِغَيْرِهَا ، لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهَا تَعَيَّنَتْ بِالْقُرْعَةِ ، فَلَمْ يَجُزْ الْعُدُولُ عَنْهَا إلَى غَيْرِهَا .
وَإِنْ وَهَبَتْ حَقَّهَا مِنْ ذَلِكَ لِغَيْرِهَا ، جَازَ إذَا رَضِيَ الزَّوْجُ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهَا ، فَصَحَّتْ هِبَتُهَا لَهُ ، كَمَا لَوْ وَهَبَتْ لَيْلَتَهَا فِي الْحَضَرِ .
وَلَا يَجُوزُ بِغَيْرِ رِضَى الزَّوْجِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي هِبَةِ اللَّيْلَةِ فِي الْحَضَرِ .
وَإِنْ وَهَبَتْهُ لِلزَّوْجِ ، أَوْ لِلْجَمِيعِ ، جَازَ .
وَإِنْ امْتَنَعَتْ مِنْ السَّفَرِ مَعَهُ ، سَقَطَ حَقُّهَا إذَا رَضِيَ الزَّوْجُ ، وَإِنْ أَبَى ، فَلَهُ إكْرَاهُهَا عَلَى السَّفَرِ مَعَهُ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا .
وَإِنْ رَضِيَ بِذَلِكَ ، أَسْتَأْنَفَ الْقُرْعَةَ بَيْنَ الْبَوَاقِي .
وَإِنْ رَضِيَ الزَّوْجَاتُ كُلُّهُنَّ بِسَفَرِ وَاحِدَةٍ مَعَهُ مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ ، جَازَ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُنَّ ، إلَّا أَنْ لَا يَرْضَى الزَّوْجُ ، وَيُرِيدَ غَيْرَ مَنْ اتَّفَقْنَ عَلَيْهَا ، فَيُصَارُ إلَى الْقُرْعَةِ .
وَلَا فَرْقَ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا بَيْنَ السَّفَرِ الطَّوِيلِ وَالْقَصِيرِ ؛ لِعُمُومِ الْخَبَرِ وَالْمَعْنَى .
وَذَكَرَ الْقَاضِي احْتِمَالًا ثَانِيًا ، أَنَّهُ يَقْضِي لِلْبَوَاقِي فِي السَّفَرِ الْقَصِيرِ ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْإِقَامَةِ ، وَهُوَ وَجْهٌ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ سَافَرَ بِهَا بِقُرْعَةٍ ، فَلَمْ يَقْضِ كَالطَّوِيلِ ، وَلَوْ كَانَ فِي حُكْمِ الْإِقَامَةِ لَمْ يَجُزْ الْمُسَافَرَةُ بِإِحْدَاهُنَّ دُونَ الْأُخْرَى ، كَمَا لَا يَجُوزُ إفْرَادُ إحْدَاهُنَّ بِالْقَسْمِ دُونَ الْأُخْرَى .
وَمَتَى سَافَرَ بِإِحْدَاهُنَّ بِقُرْعَةٍ ، ثُمَّ بَدَا لَهُ بُعْدُ السَّفَرِ ، نَحْوُ أَنْ يُسَافِرَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، ثُمَّ يَبْدُو لَهُ فَيَمْضِي إلَى مِصْرَ ، فَلَهُ اسْتِصْحَابُهَا مَعَهُ ؛ لِأَنَّهُ سَفَرٌ وَاحِدٌ قَدْ أَقْرَعَ لَهُ .
وَإِنْ أَقَامَ فِي بَلْدَةٍ مُدَّةَ إحْدَى

وَعُشْرِينَ صَلَاةً فَمَا دُونَ ، لَمْ يُحْتَسَبْ عَلَيْهِ بِهَا ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ السَّفَرِ ، تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُهُ .
وَإِنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ ، قَضَى الْجَمِيعَ مِمَّا أَقَامَهُ ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ حُكْمِ السَّفَرِ .
وَإِنْ أَزْمَعَ عَلَى الْمُقَامِ قَضَى مَا أَقَامَهُ ، وَإِنْ قَلَّ ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ حُكْمِ السَّفَرِ .
ثُمَّ إذَا خَرَجَ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى بَلَدِهِ ، أَوْ بَلَدٍ أُخْرَى ، لَمْ يَقْضِ مَا سَافَرَهُ ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ السَّفَرِ الْوَاحِدِ ، وَقَدْ أَقْرَعَ لَهُ .

( 5733 ) فَصْلٌ : وَإِذَا أَرَادَ الِانْتِقَالَ بِنِسَائِهِ إلَى بَلَدٍ آخَرَ ، فَأَمْكَنَهُ اسْتِصْحَابُهُنَّ كُلَّهُنَّ فِي سَفَرِهِ فَعَلَ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ إفْرَادُ إحْدَاهُنَّ بِهِ ؛ لِأَنَّ هَذَا السَّفَرَ لَا يَخْتَصُّ بِوَاحِدَةٍ ، بَلْ يَحْتَاجُ إلَى نَقْلِ جَمِيعِهِنَّ ، فَإِنْ خَصَّ إحْدَاهُنَّ ، قَضَى لِلْبَاقِيَاتِ كَالْحَاضِرِ ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ صُحْبَةُ جَمِيعِهِنَّ ، أَوْ شَقَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ ، وَبَعَثَ بِهِنَّ جَمِيعًا مَعَ غَيْرِهِ مِمَّنْ هُوَ مَحْرَمٌ لَهُنَّ ، جَازَ ، وَلَا يَقْضِي لَأَحَدٍ ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى قُرْعَةٍ ؛ لِأَنَّهُ سَوَّى بَيْنَهُنَّ .
وَإِنْ أَرَادَ إفْرَادَ بَعْضِهِنَّ بِالسَّفَرِ مَعَهُ ، لَمْ يَجُزْ إلَّا بِقُرْعَةٍ .
فَإِذَا وَصَلَ إلَى الْبَلَدِ الَّذِي انْتَقَلَ إلَيْهِ ، فَأَقَامَتْ مَعَهُ فِيهِ ، قَضَى لِلْبَاقِيَاتِ مُدَّةَ كَوْنِهَا مَعَهُ فِي الْبَلَدِ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُقِيمًا ، وَانْقَطَعَ حُكْمُ السَّفَرِ عَنْهُ .

فَصْلٌ : إذَا كَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ ، فَتَزَوَّجَ أُخْرَى ، وَأَرَادَ السَّفَرَ بِهِمَا جَمِيعًا ، قَسَمَ لِلْجَدِيدَةِ سَبْعًا إنْ كَانَتْ بِكْرًا ، وَثَلَاثًا إنْ كَانَتْ ثَيِّبًا ، ثُمَّ يَقْسِمُ بَعْدَ ذَلِكَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْقَدِيمَةِ .
وَإِنْ أَرَادَ السَّفَرَ بِإِحْدَاهُمَا ، أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا ، فَإِنْ خَرَجَتْ قُرْعَةُ الْجَدِيدَةِ ، سَافَرَ بِهَا مَعَهُ ، وَدَخَلَ حَقُّ الْعَقْدِ فِي قَسْمِ السَّفَرِ ؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ قَسْمٍ .
وَإِنْ وَقَعَتْ الْقُرْعَةُ لِلْأُخْرَى ، سَافَرَ بِهَا ، فَإِذَا حَضَرَ ، قَضَى لِلْجَدِيدَةِ حَقَّ الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّهُ سَافَرَ بَعْدَ وُجُوبِهِ عَلَيْهِ .
وَإِنْ تَزَوَّجَ اثْنَتَيْنِ ، وَعَزَمَ عَلَى السَّفَرِ ، أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا ، فَسَافَرَ بِاَلَّتِي تَخْرُجُ لَهَا الْقُرْعَةُ ، وَيَدْخُلُ حَقُّ الْعَقْدِ فِي قَسْمِ السَّفَرِ ، فَإِذَا قَدِمَ ، قَضَى لِلثَّانِيَةِ حَقَّ الْعَقْدِ ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ وَجَبَ لَهَا قَبْلَ سَفَرِهِ ، لَمْ يُؤَدِّهِ إلَيْهَا ، فَلَزِمَهُ قَضَاؤُهُ ، كَمَا لَوْ لَمْ يُسَافِرْ بِالْأُخْرَى مَعَهُ .
وَالثَّانِي ، لَا يَقْضِيهِ ؛ لِئَلَّا يَكُونَ تَفْضِيلًا لَهَا عَلَى الَّتِي سَافَرَ بِهَا ، لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ لِلْمُسَافِرَةِ مِنْ الْإِيوَاءِ وَالسَّكَنِ وَالْمَبِيتِ عِنْدَهَا ، مِثْلُ مَا يَحْصُلُ فِي الْحَضَرِ ، فَيَكُونُ مَيْلًا فَيَتَعَذَّرُ قَضَاؤُهُ .
فَإِنْ قَدِمَ مِنْ سَفَرِهِ قَبْلَ مُضِيِّ مُدَّةٍ يَنْقَضِي فِيهَا حَقُّ عَقْدِ الْأُولَى ، أَتَمَّهُ فِي الْحَضَرِ ، وَقَضَى لِلْحَاضِرَةِ مِثْلَهُ ، وَجْهًا وَاحِدًا ، وَفِيمَا زَادَ الْوَجْهَانِ .
وَيَحْتَمِلُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَجْهًا ثَالِثًا ، وَهُوَ أَنْ يَسْتَأْنِفَ قَضَاءَ حَقِّ الْعَقْدِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ، وَلَا يَحْتَسِبُ عَلَى الْمُسَافِرَةِ بِمُدَّةِ سَفَرِهَا ، كَمَا لَا يَحْتَسِبُ بِهِ عَلَيْهَا فِيمَا عَدَا حَقِّ الْعَقْدِ .
وَهَذَا أَقْرَبُ إلَى الصَّوَابِ مِنْ إسْقَاطِ حَقِّ الْعَقْدِ الْوَاجِبِ بِالشَّرْعِ بِغَيْرِ مُسْقِطٍ .

( 5735 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَإِذَا أَعْرَسَ عِنْدَ بَكْرٍ ، أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعًا ، ثُمَّ دَارَ ، وَلَا يَحْتَسِبُ عَلَيْهَا بِمَا أَقَامَ عِنْدَهَا ، وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا ، أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ دَارَ ، وَلَا يَحْتَسِبُ عَلَيْهَا أَيْضًا بِمَا أَقَامَ عِنْدَهَا ) مَتَى تَزَوَّجَ صَاحِبُ النِّسْوَةِ امْرَأَةً جَدِيدَةً ، قَطَعَ الدُّورَ ، وَأَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعًا إنْ كَانَتْ بِكْرًا ، وَلَا يَقْضِيهَا لِلْبَاقِيَاتِ ، وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلَاثًا ، وَلَا يَقْضِيهَا ، إلَّا أَنْ تَشَاءَ هِيَ أَنْ يُقِيمَ عِنْدَهَا سَبْعًا ، فَإِنَّهُ يُقِيمُهَا عِنْدَهَا ، وَيَقْضِي الْجَمِيعَ لِلْبَاقِيَاتِ .
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَنَسٍ وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدٍ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنِ وَخِلَاسِ بْنِ عَمْرٍو ، وَنَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ : لِلْبِكْرِ ثَلَاثٌ وَلِلثَّيِّبِ لَيْلَتَانِ .
وَنَحْوُهُ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَقَالَ الْحَكَمُ وَحَمَّادٌ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ : لَا فَضْلَ لِلْجَدِيدَةِ فِي الْقَسْمِ ، فَإِنْ أَقَامَ عِنْدَهَا شَيْئًا قَضَاهُ لِلْبَاقِيَاتِ ؛ لِأَنَّهُ فَضَّلَهَا بِمُدَّةٍ ، فَوَجَبَ قَضَاؤُهَا ، كَمَا لَوْ أَقَامَ عِنْدَ الثَّيِّبِ سَبْعًا .
وَلَنَا ، مَا رَوَى أَبُو قِلَابَةَ ، عَنْ أَنَسٍ ، قَالَ : مِنْ السُّنَّةِ إذَا تَزَوَّجَ الْبِكْرَ عَلَى الثَّيِّبِ ، أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعًا وَقَسَمَ ، وَإِذَا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ ، أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلَاثًا ، ثُمَّ قَسَمَ .
قَالَ أَبُو قِلَابَةَ : لَوْ شِئْت لَقُلْت : أَنَّ أَنَسًا رَفَعَهُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ ، { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا تَزَوَّجَ أُمَّ سَلَمَةَ ، أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلَاثًا ، وَقَالَ : لَيْسَ بِك عَلَى أَهْلِك هَوَانٌ ، إنْ شِئْت سَبَّعْت لَك ، وَإِنْ سَبَّعْت لَك سَبَّعْت لِنِسَائِي } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَفِي لَفْظٍ : { وَإِنْ شِئْت ثَلَّثْت ثُمَّ دُرْت } .
وَفِي لَفْظٍ : { وَإِنْ شِئْت زِدْتُك ، ثُمَّ حَاسَبْتُك

بِهِ ، لِلْبِكْرِ سَبْعٌ ، وَلِلثَّيِّبِ ثَلَاثٌ } ، وَفِي لَفْظٍ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ : { إنْ شِئْت أَقَمْت عِنْدَك ثَلَاثًا خَالِصَةً لَك ، وَإِنْ شِئْت سَبَّعْت لَك ، ثُمَّ سَبَّعْت لِنِسَائِي .
} وَهَذَا يَمْنَعُ قِيَاسَهُمْ .
وَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْأَحَادِيثُ الْمَرْفُوعَةُ فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى مَا قُلْنَاهُ ، وَلَيْسَ مَعَ مَنْ خَالَفَنَا حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ ، وَالْحُجَّةُ مَعَ مِنْ أَدْلَى بِالسُّنَّةِ ( 5736 ) فَصْلٌ : وَالْأَمَةُ وَالْحُرَّةُ فِي هَذَا سَوَاءٌ .
وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهُمَا : كَقَوْلِنَا .
وَالثَّانِي : الْأَمَةُ عَلَى النَّصْبِ مِنْ الْحُرَّةِ ، كَسَائِرِ الْقَسْمِ .
وَالثَّالِثُ : لِلْبِكْرِ مِنْ الْإِمَاءِ أَرْبَعٌ ، وَلِلثَّيِّبِ لَيْلَتَانِ ، تَكْمِيلًا لِبَعْضِ اللَّيْلَةِ .
وَلَنَا عُمُومُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { : لِلْبِكْرِ سَبْعٌ ، وَلِلثَّيِّبِ ثَلَاثٌ .
} وَلِأَنَّهُ يُرَادُ لِلْأُنْسِ وَإِزَالَةِ الِاحْتِشَامِ ، وَالْأَمَةُ وَالْحُرَّةُ سَوَاءٌ فِي الْحَاجَةِ إلَيْهِ ، فَاسْتَوَيَا فِيهِ ، كَالنَّفَقَةِ .

( 5737 ) فَصْلٌ : يُكْرَهُ أَنْ يُزَفَّ إلَيْهِ امْرَأَتَانِ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ ، أَوْ فِي مُدَّةِ حَقِّ عَقْدِ إحْدَاهُمَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمَكِّنُهُ أَنْ يُوَفِّيَهُمَا حَقَّهُمَا ، وَتَسْتَضِرُّ الَّتِي لَا يُوَفِّيهَا حَقَّهَا وَتَسْتَوْحِشُ .
فَإِنْ فَعَلَ ، فَأُدْخِلَتْ إحْدَاهُمَا قَبْلَ الْأُخْرَى ، بَدَأَ بِهَا ، فَوَفَّاهَا حَقَّهَا ، ثُمَّ عَادَ فَوَفَّى الثَّانِيَةَ ، ثُمَّ ابْتَدَأَ الْقَسْمَ .
وَإِنْ زُفَّتْ الثَّانِيَةُ فِي أَثْنَاءِ مُدَّةِ حَقِّ الْعَقْدِ ، أَتَمَّهُ لِلْأُولَى ، ثُمَّ قَضَى حَقَّ الثَّانِيَةَ .
وَإِنْ أُدْخِلَتَا عَلَيْهِ جَمِيعًا فِي مَكَان وَاحِدٍ ، أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا ، وَقَدَّمَ مَنْ خَرَجَتْ لَهَا الْقُرْعَةُ مِنْهُمَا ، ثُمَّ وَفَّى الْأُخْرَى بَعْدَهَا .

( 5738 ) فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَتْ عِنْدَهُ امْرَأَتَانِ ، فَبَاتَ عِنْدَ إحْدَاهُمَا لَيْلَةً ، ثُمَّ تَزَوَّجَ ثَالِثَةً قَبْلَ لَيْلَةِ الثَّانِيَةِ ، قَدَّمَ الْمَزْفُوفَةَ بِلَيَالِيِهَا ؛ لِأَنَّ حَقَّهَا آكَدُ ، لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِالْعَقْدِ ، وَحَقُّ الثَّانِيَةِ ثَبَتَ بِفِعْلِهِ ، فَإِذَا قَضَى حَقَّ الْجَدِيدَةِ ، بَدَأَ بِالثَّانِيَةِ ، فَوَفَّاهَا لَيْلَتَهَا ، ثُمَّ يَبِيتُ عِنْدَ الْجَدِيدَةِ ، ثُمَّ يَبْتَدِئُ الْقَسْمَ .
وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ إذَا وَفَّى الثَّانِيَةَ لَيْلَتَهَا ، بَاتَ عِنْدَ الْجَدِيدَةِ نِصْفَ لَيْلَةٍ ثُمَّ يَبْتَدِئُ الْقَسْمَ ؛ لِأَنَّ اللَّيْلَةَ الَّتِي يُوَفِّيهَا لِلثَّانِيَةِ نِصْفُهَا مِنْ حَقِّهَا وَنِصْفُهَا مِنْ حَقِّ الْأُخْرَى ، فَيَثْبُتُ لِلْجَدِيدَةِ فِي مُقَابَلَةِ ذَلِكَ نِصْفُ لَيْلَةٍ بِإِزَاءِ مَا حَصَلَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ ضَرَّتَيْهَا ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَحْتَاجُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِنَفْسِهِ فِي نِصْفِ لَيْلَةٍ ، وَفِيهِ حَرَجٌ ؛ فَإِنَّهُ رُبَّمَا لَا يَجِدُ مَكَانًا يَنْفَرِدُ فِيهِ ، أَوْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْخُرُوجِ إلَيْهِ فِي نِصْفِ اللَّيْلَةِ ، أَوْ الْمَجِيءِ مِنْهُ ، وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْبِدَايَةِ بِهَا بَعْدَ الثَّانِيَةِ وَفَاءٌ بِحَقِّهَا بِدُونِ هَذَا الْحَرَجِ ، فَيَكُونُ أَوْلَى ، إنْ شَاءَ اللَّهُ .

( 5739 ) فَصْلٌ : وَحُكْمُ السَّبْعَةِ وَالثَّلَاثَةِ الَّتِي يُقِيمُهَا عِنْدَ الْمَزْفُوفَةِ حُكْمُ سَائِرِ الْقَسْمِ ، فِي أَنَّ عِمَادَهُ اللَّيْلُ ، وَلَهُ الْخُرُوجُ نَهَارًا لِمَعَاشِهِ ، وَقَضَاءِ حُقُوقِ النَّاسِ .
وَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْمُقَامُ عِنْدَهَا لَيْلًا ؛ لِشُغْلٍ ، أَوْ حَبْسٍ ، أَوْ تَرَكَ ذَلِكَ لِغَيْرِ عُذْرٍ ، قَضَاهُ لَهَا ، وَلَهُ الْخُرُوجُ لِصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَتْرُكُ الْجَمَاعَةَ لِذَلِكَ ، وَيَخْرُجُ لِمَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ ؛ فَإِنْ أَطَالَ قَضَاهُ ، وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ .

( 5740 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَإِذَا ظَهَرَ مِنْهَا مَا يَخَافُ مَعَهُ نُشُوزَهَا وَعَظَهَا ، فَإِنْ أَظْهَرَتْ نُشُوزًا هَجَرَهَا ، فَإِنْ أَرْدَعَهَا ، وَإِلَّا فَلَهُ أَنْ يَضْرِبَهَا ضَرْبًا لَا يَكُونُ مُبَرِّحًا ) مَعْنَى النُّشُوزِ مَعْصِيَةُ الزَّوْجِ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهَا مِنْ طَاعَتِهِ ، مَأْخُوذٌ مِنْ النَّشْزِ ، وَهُوَ الِارْتِفَاعُ ، فَكَأَنَّهَا ارْتَفَعَتْ وَتَعَالَتْ عَمَّا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهَا مِنْ طَاعَتِهِ ، فَمَتَى ظَهَرَتْ مِنْهَا أَمَارَاتُ النُّشُوزِ ، مِثْلُ أَنْ تَتَثَاقَلَ وَتُدَافِعَ إذَا دَعَاهَا ، وَلَا تَصِيرَ إلَيْهِ إلَّا بِتَكَرُّهٍ وَدَمْدَمَةٍ ، فَإِنَّهُ يَعِظُهَا ، فَيُخَوِّفُهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ ، وَيَذْكُرُ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ عَلَيْهَا مِنْ الْحَقِّ وَالطَّاعَةِ ، وَمَا يَلْحَقُهَا مِنْ الْإِثْمِ بِالْمُخَالَفَةِ وَالْمَعْصِيَةِ ، وَمَا يَسْقُطُ بِذَلِكَ مِنْ حُقُوقِهَا ، مِنْ النَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ ، وَمَا يُبَاحُ لَهُ مِنْ ضَرْبِهَا وَهَجْرِهَا ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { وَاَللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ } فَإِنْ أَظْهَرَتْ النُّشُوزَ ، وَهُوَ أَنْ تَعْصِيَهُ ، وَتَمْتَنِعَ مِنْ فِرَاشِهِ ، أَوْ تَخْرُجَ مِنْ مَنْزِلِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، فَلَهُ أَنْ يَهْجُرَهَا فِي الْمَضْجَعِ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ } .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَا تُضَاجِعْهَا فِي فِرَاشِك .
فَأَمَّا الْهِجْرَانُ فِي الْكَلَامِ ، فَلَا يَجُوزُ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ } وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ضَرْبُهَا فِي النُّشُوزِ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ إذَا عَصَتْ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا ، فَلَهُ ضَرْبُهَا ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ .
فَظَاهِرُ هَذَا إبَاحَةُ ضَرْبِهَا بِأَوَّلِ مَرَّةٍ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَاضْرِبُوهُنَّ } .
وَلِأَنَّهَا صَرَّحَتْ بِالْمَنْعِ فَكَانَ لَهُ ضَرْبُهَا ، كَمَا لَوْ أَصَرَّتْ وَلِأَنَّ عُقُوبَاتِ الْمَعَاصِي لَا تَخْتَلِفُ

بِالتَّكْرَارِ وَعَدَمِهِ ، كَالْحُدُودِ وَوَجْهُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ الْمَقْصُودُ زَجْرُهَا عَنْ الْمَعْصِيَةِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، وَمَا هَذَا سَبِيلُهُ يُبْدَأُ فِيهِ بِالْأَسْهَلِ فَالْأَسْهَلِ ، كَمَنْ هُجِمَ مَنْزِلُهُ فَأَرَادَ إخْرَاجَهُ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : { وَاَللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ } الْآيَةَ ، فَفِيهَا إضْمَارٌ تَقْدِيرُهُ وَاَللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ ، فَإِنْ نَشَزْنَ فَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ ، فَإِنْ أَصْرَرْنَ فَاضْرِبُوهُنَّ ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ : { إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنْ الْأَرْضِ } وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى هَذَا أَنَّهُ رَتَّبَ هَذِهِ الْعُقُوبَاتِ عَلَى خَوْفِ النُّشُوزِ ؛ وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا يَضْرِبُهَا لِخَوْفِ النُّشُوزِ قَبْلَ إظْهَارِهِ .
وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ كَهَذَيْنِ فَإِنْ لَمْ تَرْتَدِعْ بِالْوَعْظِ وَالْهَجْرِ ، فَلَهُ ضَرْبُهَا ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَاضْرِبُوهُنَّ .
} وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ لَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ ، فَإِنْ فَعَلْنَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ .
} رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَمَعْنَى " غَيْرَ مُبَرِّحٍ " أَيْ لَيْسَ بِالشَّدِيدِ .
قَالَ الْخَلَّالُ : سَأَلْت أَحْمَدَ بْنَ يَحْيَى عَنْ قَوْلِهِ : " ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ " قَالَ : غَيْرَ شَدِيدٍ .
وَعَلَيْهِ أَنْ يَجْتَنِبَ الْوَجْهَ وَالْمَوَاضِعَ الْمَخُوفَةَ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ التَّأْدِيبُ لَا الْإِتْلَافُ .
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد ، عَنْ { حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْقُشَيْرِيِّ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا حَقُّ زَوْجَةِ أَحَدِنَا عَلَيْهِ ؟ قَالَ : أَنْ تُطْعِمَهَا إذَا طَعِمْتَ ، وَتَكْسُوَهَا إذَا اكْتَسَيْت ، وَلَا يُقَبِّحْ ، وَلَا يَهْجُرْ إلَّا فِي الْبَيْتِ .
} وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَمْعَةَ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا يَجْلِدُ أَحَدُكُمْ

امْرَأَتَهُ جَلْدَ الْعَبْدِ ، ثُمَّ يُضَاجِعُهَا فِي آخِرِ الْيَوْمِ وَلَا يَزِيدُ فِي ضَرْبِهَا عَلَى عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا يَجْلِدْ أَحَدٌ فَوْقَ عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ ، إلَّا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ .
} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .

( 5741 ) فَصْلٌ : وَلَهُ تَأْدِيبُهَا عَلَى تَرْكِ فَرَائِضِ اللَّهِ .
وَسَأَلَ إسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ أَحْمَدَ عَمَّا يَجُوزُ ضَرْبُ الْمَرْأَةِ عَلَيْهِ ، قَالَ : عَلَى تَرْكِ فَرَائِضِ اللَّهِ .
وَقَالَ فِي الرَّجُلِ لَهُ امْرَأَةٌ لَا تُصَلِّي : يَضْرِبُهَا ضَرْبًا رَفِيقًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ .
وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى : { قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا .
} قَالَ : عَلِّمُوهُمْ أَدِّبُوهُمْ .
وَرَوَى أَبُو مُحَمَّدٍ الْخَلَّالُ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ جَابِرٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً عَلَّقَ فِي بَيْتِهِ سَوْطًا يُؤَدِّبُ أَهْلَهُ .
} فَإِنْ لَمْ تُصَلِّ فَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ أَخْشَى أَنْ لَا يَحِلَّ لِرَجُلِ أَنْ يُقِيمَ مَعَ امْرَأَةٍ لَا تُصَلِّي ، وَلَا تَغْتَسِلُ مِنْ جَنَابَةٍ ، وَلَا تَتَعَلَّمُ الْقُرْآنَ .
قَالَ أَحْمَدُ فِي الرَّجُلِ يَضْرِبُ امْرَأَتَهُ : لَا يَنْبَغِي لَأَحَدٍ أَنْ يَسْأَلَهُ وَلَا أَبُوهَا ، لِمَ ضَرَبَهَا ؟ وَالْأَصْلُ فِي هَذَا مَا رَوَى { الْأَشْعَثُ ، عَنْ عُمَرَ ، أَنَّهُ قَالَ يَا أَشْعَثُ ، احْفَظْ عَنِّي شَيْئًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا تَسْأَلْنَ رَجُلًا فِيمَا ضَرَبَ امْرَأَتَهُ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَلِأَنَّهُ قَدْ يَضْرِبُهَا لِأَجْلِ الْفِرَاشِ ، فَإِنْ أَخْبَرَ بِذَلِكَ اسْتَحْيَا ، وَإِنْ أَخْبَرَ بِغَيْرِهِ كَذَبَ .

( 5742 ) فَصْلٌ : وَإِذَا خَافَتْ الْمَرْأَةُ نُشُوزَ زَوْجِهَا وَإِعْرَاضَهُ عَنْهَا ، لِرَغْبَةٍ عَنْهَا ، إمَّا لِمَرَضٍ بِهَا ، أَوْ كِبَرٍ ، أَوْ دَمَامَةٍ ، فَلَا بَأْسَ أَنْ تَضَعَ عَنْهُ بَعْضَ حُقُوقِهَا تَسْتَرْضِيهِ بِذَلِكَ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا } رَوَى الْبُخَارِيُّ ، عَنْ عَائِشَةَ { وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا وَالصُّلْح خَيْرٌ } قَالَتْ : هِيَ الْمَرْأَةُ تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ ، لَا يَسْتَكْثِرُ مِنْهَا ، فَيُرِيدُ طَلَاقَهَا ، وَيَتَزَوَّجُ عَلَيْهَا ، فَتَقُولُ لَهُ أَمْسِكْنِي ، وَلَا تُطَلِّقْنِي ، ثُمَّ تَزَوَّجْ غَيْرِي ، فَأَنْتَ فِي حِلٍّ مِنْ النَّفَقَةِ عَلَيَّ ، وَالْقِسْمَةِ لِي .
وَعَنْ عَائِشَةَ ، { أَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ ، حِينَ أَسَنَّتْ ، وَفَرَّقَتْ أَنْ يُفَارِقَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، يَوْمِي لِعَائِشَةَ .
فَقَبِلَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا .
} قَالَتْ : وَفِي ذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَفِي أَشْبَاهِهَا أَرَاهُ قَالَ : { وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إعْرَاضًا } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَمَتَى صَالَحَتْهُ عَلَى تَرْكِ شَيْءٍ مِنْ قَسْمِهَا أَوْ نَفَقَتِهَا ، أَوْ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ ، جَازَ .
فَإِنْ رَجَعَتْ ، فَلَهَا ذَلِكَ .
قَالَ أَحْمَدُ فِي الرَّجُلِ يَغِيبُ عَنْ امْرَأَتِهِ ، فَيَقُولُ لَهَا : إنْ رَضِيت عَلَى هَذَا ، وَإِلَّا فَأَنْتِ أَعْلَمُ .
فَتَقُولُ : قَدْ رَضِيت .
فَهُوَ جَائِزٌ ، فَإِنْ شَاءَتْ رَجَعَتْ .

( 5743 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَالزَّوْجَانِ إذَا وَقَعَتْ بَيْنَهُمَا الْعَدَاوَةُ ، وَخُشِيَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُخْرِجَهُمَا ذَلِكَ إلَى الْعِصْيَانِ بَعَثَ الْحَاكِمُ حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا ، مَأْمُونَيْنِ ، بِرِضَى الزَّوْجَيْنِ ، وَتَوْكِيلِهِمَا ، بِأَنْ يَجْمَعَا إذَا رَأَيَا أَوْ يُفَرِّقَا ، فَمَا فَعَلَا مِنْ ذَلِكَ لَزِمَهُمَا ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الزَّوْجَيْنِ إذَا وَقَعَ بَيْنَهُمَا شِقَاقٌ ، نَظَرَ الْحَاكِمُ ، فَإِنْ بَانَ لَهُ أَنَّهُ مِنْ الْمَرْأَةِ ، فَهُوَ نُشُوزٌ ، قَدْ مَضَى حُكْمُهُ ، وَإِنْ بَانَ أَنَّهُ مِنْ الرَّجُلِ ، أَسْكَنَهُمَا إلَى جَانِبِ ثِقَةٍ ، يَمْنَعُهُ مِنْ الْإِضْرَارِ بِهَا ، وَالتَّعَدِّي عَلَيْهَا .
وَكَذَلِكَ إنْ بَانَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَعَدٍّ ، أَوْ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّ الْآخَرَ ظَلَمَهُ ، أَسْكَنَهُمَا إلَى جَانِبِ مَنْ يُشْرِفُ عَلَيْهِمَا وَيُلْزِمُهُمَا الْإِنْصَافَ ، فَإِنْ لَمْ يَتَهَيَّأْ ذَلِكَ ، وَتَمَادَى الشَّرُّ بَيْنَهُمَا ، وَخِيفَ الشِّقَاقُ عَلَيْهِمَا وَالْعِصْيَانُ ، بَعَثَ الْحَاكِمُ حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا ، فَنَظَرَا بَيْنَهُمَا ، وَفَعَلَا مَا يَرَيَانِ الْمَصْلَحَةَ فِيهِ ، مِنْ جَمْعٍ أَوْ تَفْرِيقٍ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إنْ يُرِيدَا إصْلَاحًا يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا } .
وَاخْتَلَفْت الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، فِي الْحَكَمَيْنِ ، فَفِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ ، أَنَّهُمَا وَكِيلَانِ لَهُمَا ، لَا يَمْلِكَانِ التَّفْرِيقَ إلَّا بِإِذْنِهِمَا .
وَهَذَا مَذْهَبُ عَطَاءٍ وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ وَأَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الْبُضْعَ حَقُّهُ ، وَالْمَالَ حَقُّهَا ، وَهُمَا رَشِيدَانِ ، فَلَا يَجُوزُ لَغَيْرِهِمَا التَّصَرُّفُ فِيهِ إلَّا بِوَكَالَةٍ مِنْهُمَا ، أَوْ وِلَايَةٍ عَلَيْهِمَا .
وَالثَّانِيَةُ ، أَنَّهُمَا حَاكِمَانِ ، وَلَهُمَا أَنْ يَفْعَلَا مَا يَرَيَانِ مِنْ جَمْعٍ وَتَفْرِيقٍ ، بِعِوَضٍ وَغَيْرِ عِوَضٍ ، وَلَا يَحْتَاجَانِ إلَى

تَوْكِيلِ الزَّوْجَيْنِ وَلَا رِضَاهُمَا .
وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَإِسْحَاقَ وَابْنِ الْمُنْذِرِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا } .
فَسَمَّاهُمَا حَكَمَيْنِ ، وَلَمْ يَعْتَبِرْ رِضَى الزَّوْجَيْنِ ، ثُمَّ قَالَ : { إنْ يُرِيدَا إصْلَاحًا } فَخَاطَبَ الْحَكَمَيْنِ بِذَلِكَ .
وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيِّ ، أَنَّ رَجُلًا وَامْرَأَةً أَتَيَا عَلِيًّا مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِئَامٌ مِنْ النَّاسِ ، فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ ، وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا ، فَبَعَثُوا حَكَمَيْنِ ، ثُمَّ قَالَ عَلِيٌّ لِلْحَكَمَيْنِ : هَلْ تَدْرِيَانِ مَا عَلَيْكُمَا مِنْ الْحَقِّ ؟ إنْ رَأَيْتُمَا أَنْ تَجْمَعَا جَمَعْتُمَا ، وَإِنْ رَأَيْتُمَا أَنْ تُفَرِّقَا فَرَّقْتُمَا .
فَقَالَتْ الْمَرْأَةُ : رَضِيت بِكِتَابِ اللَّهِ عَلَيَّ وَلِي .
فَقَالَ الرَّجُلُ : أَمَّا الْفُرْقَةُ فَلَا .
فَقَالَ عَلِيٌّ كَذَبْت حَتَّى تَرْضَى بِمَا رَضِيَتْ بِهِ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَجْبَرَهُ عَلَى ذَلِكَ ، وَيُرْوَى أَنَّ عَقِيلًا تَزَوَّجَ فَاطِمَةَ بِنْتَ عُتْبَةَ ، فَتَخَاصَمَا ، فَجَمَعَتْ ثِيَابَهَا ، وَمَضَتْ إلَى عُثْمَانَ فَبَعَثَ حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ ، وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا مُعَاوِيَةَ ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لَأُفَرِّقَنَّ بَيْنَهُمَا .
وَقَالَ مُعَاوِيَةُ : مَا كُنْت لِأُفَرِّقَ بَيْنَ شَيْخَيْنِ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ .
فَلَمَّا بَلَغَا الْبَابَ كَانَا قَدْ غَلَّقَا الْبَابَ وَاصْطَلَحَا .
وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ تَثْبُت الْوِلَايَةُ عَلَى الرَّشِيدِ عِنْدَ امْتِنَاعِهِ مِنْ أَدَاءِ الْحَقِّ ، كَمَا يَقْضِي الدَّيْنَ عَنْهُ مِنْ مَالِهِ إذَا امْتَنَعَ ، وَيُطَلِّقُ الْحَاكِمُ عَلَى الْمُولِي إذَا امْتَنَعَ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّ الْحَكَمَيْنِ لَا يَكُونَانِ إلَّا عَاقِلَيْنِ بَالِغَيْنِ عَدْلَيْنِ مُسْلِمَيْنِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ مِنْ شُرُوطِ

الْعَدَالَةِ سَوَاءٌ قُلْنَا : هُمَا حَاكَمَانِ أَوْ وَكِيلَانِ ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ إذَا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِنَظَرِ الْحَاكِمِ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ إلَّا عَدْلًا ، كَمَا لَوْ نُصِبَ وَكِيلًا لَصَبِيٍّ أَوْ مُفْلِسٍ ، يَكُونَانِ ذَكَرَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ مُفْتَقِرٌ إلَى الرَّأْيِ وَالنَّظَرِ .
قَالَ الْقَاضِي : يُشْتَرَطُ كَوْنُهُمَا حُرَّيْنِ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ الْعَبْدَ عِنْدَهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ ، فَتَكُونُ الْحُرِّيَّةُ مِنْ شُرُوطِ الْعَدَالَةِ .
وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ : إنْ كَانَا وَكِيلَيْنِ ، لَمْ تُعْتَبَرْ الْحُرِّيَّةُ ؛ لِأَنَّ تَوْكِيلَ الْعَبْدِ جَائِزٌ ، وَإِنْ كَانَا حَكَمَيْنِ ، اُعْتُبِرَتْ الْحُرِّيَّةُ ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا .
وَيُعْتَبَرُ أَنْ يَكُونَا عَالِمَيْنِ بِالْجَمْعِ وَالتَّفْرِيقِ ؛ لِأَنَّهُمَا يَتَصَرَّفَانِ فِي ذَلِكَ ، فَيُعْتَبَرُ عِلْمُهُمَا بِهِ .
وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَا مِنْ أَهْلِهِمَا ؛ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِذَلِكَ ، وَلِأَنَّهُمَا أَشْفَقُ وَأَعْلَمُ بِالْحَالِ ، فَإِنْ كَانَا مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِمَا جَازَ ؛ لِأَنَّ الْقَرَابَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي الْحُكْمِ وَلَا الْوَكَالَةِ ، فَكَانَ الْأَمْرُ بِذَلِكَ إرْشَادًا وَاسْتِحْبَابًا ، فَإِنْ قُلْنَا : هُمَا وَكِيلَانِ فَلَا يَفْعَلَانِ شَيْئًا حَتَّى يَأْذَنَ الرَّجُلُ لِوَكِيلِهِ فِيمَا يَرَاهُ مِنْ طَلَاقٍ أَوَصُلْحً ، وَتَأْذَنَ الْمَرْأَةُ لِوَكِيلِهَا فِي الْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَلَى مَا يَرَاهُ ، فَإِنْ امْتَنَعَا مِنْ التَّوْكِيلِ ، لَمْ يُجْبَرَا .
وَإِنْ قُلْنَا : إنَّهُمَا حَكَمَانِ .
فَإِنَّهُمَا يُمْضِيَانِ مَا يَرَيَانِهِ مِنْ طَلَاقٍ وَخُلْعَ ، فَيَنْفُذُ ذَلِكَ عَلَيْهِمَا ، رَضِيَاهُ أَوْ أَبَيَاهُ .

( 5744 ) فَصْلٌ : فَإِنْ غَابَ الزَّوْجَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا بَعْدَ بَعْثِ حَكَمَيْنِ ، جَازَ لِلْحَكَمَيْنِ إمْضَاءُ رَأْيِهِمَا إنْ قُلْنَا : إنَّهُمَا وَكِيلَانِ .
لِأَنَّ الْوَكَالَةَ لَا تَبْطُلُ بِالْغَيْبَةِ ، وَإِنْ قُلْنَا : إنَّهُمَا حَاكِمَانِ .
لَمْ يَجُزْ لَهُمَا إمْضَاءُ الْحُكْمِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ مَحْكُومٌ لَهُ وَعَلَيْهِ ، وَالْقَضَاءُ لِلْغَائِبِ لَا يَجُوزُ ، إلَّا أَنْ يَكُونَا قَدْ وَكَّلَاهُمَا ، فَيَفْعَلَانِ ذَلِكَ بِحُكْمِ التَّوْكِيلِ ، لَا بِالْحُكْمِ .
وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا قَدْ وَكَّلَ ، جَازَ لِوَكِيلِهِ فِعْلُ مَا وَكَّلَهُ فِيهِ مَعَ غَيْبَتِهِ .
وَإِنْ جُنَّ أَحَدُهُمَا ، بَطَلَ حُكْمُ وَكِيلِهِ ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ تَبْطُلُ بِجُنُونِ الْمُوَكِّلِ .
وَإِنْ كَانَ حَاكِمًا لَمْ يَجُزْ لَهُ الْحُكْمُ ؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ ذَلِكَ بَقَاءَ الشِّقَاقِ ، وَحُضُورَ الْمُتَدَاعِيَيْنِ ، وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ مَعَ الْجُنُونِ .

( 5745 ) فَصْلٌ : فَإِنْ شَرَطَ الْحَكَمَانِ شَرْطًا أَوْ شَرَطَهُ الزَّوْجَانِ لَمْ يَلْزَمْ ، مِثْلُ أَنْ يَشْتَرِطَا تَرْكَ بَعْضِ النَّفَقَةِ وَالْقَسْمِ ، لَمْ يَلْزَمْ الْوَفَاءُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَلْزَمْ بِرِضَى الْمُوَكِّلَيْنِ ، فَبِرِضَى الْوَكِلَيْنِ أَوْلَى .
وَإِنْ أَبْرَأَ وَكِيلُ الْمَرْأَةِ مِنْ الصَّدَاقِ أَوْ دَيْنٍ لَهَا ، لَمْ يَبْرَأْ الزَّوْجُ إلَّا فِي الْخُلْعِ .
وَإِنْ أَبْرَأَ وَكِيلُ الزَّوْجِ مِنْ دَيْنٍ لَهُ ، أَوْ مِنْ الرَّجُلِ ، لَمْ تَبْرَأْ الزَّوْجَةُ ؛ لِأَنَّهُمَا وَكِيلَانِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْإِصْلَاحِ ، لَا فِي إسْقَاطِ الْحُقُوقُ .

كِتَابُ الْخُلْعِ ( 5746 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَالْمَرْأَةُ إذَا كَانَتْ مُبْغِضَةً لِلرَّجُلِ ، وَتَكْرَهُ أَنْ تَمْنَعَهُ مَا تَكُونُ عَاصِيَةً بِمَنْعِهِ فَلَا بَأْسَ أَنْ تَفْتَدِيَ نَفْسَهَا مِنْهُ ) وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا كَرِهَتْ زَوْجَهَا ، لِخَلْقِهِ ، أَوْ خُلُقِهِ ، أَوْ دِينِهِ ، أَوْ كِبَرِهِ ، أَوْ ضَعْفِهِ ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ ، وَخَشِيَتْ أَنْ لَا تُؤَدِّيَ حَقَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي طَاعَتِهِ ، جَازَ لَهَا أَنْ تُخَالِعَهُ بِعِوَضٍ تَفْتَدِي بِهِ نَفْسَهَا مِنْهُ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } وَرُوِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إلَى الصُّبْحِ ، فَوَجَدَ حَبِيبَةَ بِنْتَ سَهْلٍ عِنْدَ بَابِهِ فِي الْغَلَسِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا شَأْنُك ؟ قَالَتْ : لَا أَنَا وَلَا ثَابِتٌ ، لِزَوْجِهَا ، فَلَمَّا جَاءَ ثَابِتٌ ، قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هَذِهِ حَبِيبَةُ بِنْتُ سَهْلٍ ، فَذَكَرَتْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَذْكُرَ وَقَالَتْ حَبِيبَةُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ كُلُّ مَا أَعْطَانِي عِنْدِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ : خُذْ مِنْهَا .
فَأَخَذَ مِنْهَا ، وَجَلَسَتْ فِي أَهْلِهَا .
} وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ ، ثَابِتُ الْإِسْنَادِ ، رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمَا ، وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ ، قَالَ : { جَاءَتْ امْرَأَةُ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا أَنْقِمُ عَلَى ثَابِتٍ فِي دِينٍ وَلَا خُلُقٍ ، إلَّا أَنِّي أَخَافُ الْكُفْرَ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ .
فَرَدَّتْهَا عَلَيْهِ ، وَأَمَرَهُ فَفَارَقَهَا .
} وَفِي رِوَايَةٍ ، فَقَالَ لَهُ : { اقْبَلْ الْحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً } وَبِهَذَا قَالَ جَمِيعُ الْفُقَهَاءِ بِالْحِجَازِ وَالشَّامِ .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَلَا

نَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَهُ ، إلَّا بَكْرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيّ ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يُجِزْهُ ، وَزَعَمَ أَنَّ آيَةَ الْخُلْعِ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : { وَإِنْ أَرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ } .
الْآيَةَ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ وَأَبِي قِلَابَةَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ الْخُلْعُ حَتَّى يَجِدَ عَلَى بَطْنِهَا رَجُلًا ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } .
وَلَنَا الْآيَةُ الَّتِي تَلَوْنَاهَا ، وَالْخَبَرُ ، وَأَنَّهُ قَوْلُ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ ، لَمْ نَعْرِفْ لَهُمْ فِي عَصْرِهِمْ مُخَالِفًا ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا ، وَدَعْوَى النَّسْخِ لَا تُسْمَعُ حَتَّى يَثْبُت تَعَذُّرُ الْجَمْعِ ، وَأَنَّ الْآيَةَ النَّاسِخَةَ مُتَأَخِّرَةٌ ، وَلَمْ يَثْبُت شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّ هَذَا يُسَمَّى خُلْعًا ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَنْخَلِعُ مِنْ لِبَاسِ زَوْجِهَا .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ } وَيُسَمَّى افْتِدَاءً ؛ لِأَنَّهَا تَفْتَدِي نَفْسَهَا بِمَالٍ تَبْذُلُهُ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ .
}

( 5747 ) فَصْلٌ : وَلَا يُفْتَقَرُ الْخُلْعُ إلَى حَاكِمٍ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، فَقَالَ : يَجُوزُ الْخُلْعُ دُونَ السُّلْطَانِ .
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَبِهِ قَالَ شُرَيْحٌ وَالزُّهْرِيُّ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَهْلُ الرَّأْيِ .
وَعَنْ الْحَسَنِ ، وَابْن سِيرِينَ لَا يَجُوزُ إلَّا عِنْدَ السُّلْطَانِ .
وَلَنَا ، قَوْلُ عُمَرَ وَعُثْمَانَ ، وَلِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ ، فَلَمْ يَفْتَقِرْ إلَى السُّلْطَانِ ، كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ ، وَلِأَنَّهُ قَطْعُ عَقْدٍ بِالتَّرَاضِي ، أَشْبَهَ الْإِقَالَةَ .

( 5748 ) فَصْلٌ : وَلَا بَأْسَ بِالْخُلْعِ فِي الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ الَّذِي أَصَابَهَا فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ الطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ مِنْ أَجْلِ الضَّرَرِ الَّذِي يَلْحَقُهَا بِطُولِ الْعِدَّةِ ، وَالْخُلْعُ لِإِزَالَةِ الضَّرَرِ الَّذِي يَلْحَقُهَا بِسُوءِ الْعِشْرَةِ وَالْمُقَامِ مَعَ مَنْ تَكْرَهُهُ وَتُبْغِضُهُ ، وَذَلِكَ أَعْظَمُ مِنْ ضَرَرِ طُولِ الْعِدَّةِ ، فَجَازَ دَفْعُ أَعْلَاهُمَا بِأَدْنَاهُمَا ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَسْأَلْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُخْتَلِعَةَ عَنْ حَالِهَا ، وَلِأَنَّ ضَرَرَ تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا ، وَالْخُلْعُ يَحْصُلُ بِسُؤَالِهَا ، فَيَكُونُ ذَلِكَ رِضَاءً مِنْهَا بِهِ ، وَدَلِيلًا عَلَى رُجْحَانِ مَصْلَحَتِهَا فِيهِ .

( 5749 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَلَا يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا ) هَذَا الْقَوْلُ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْخُلْعِ بِأَكْثَرَ مِنْ الصَّدَاقِ ، وَأَنَّهُمَا إذَا تَرَاضَيَا عَلَى الْخُلْعِ بِشَيْءٍ صَحَّ .
وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ وَمُجَاهِدٍ وَقَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ وَالنَّخَعِيِّ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ .
وَيُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ أَنَّهُمَا قَالَا : لَوْ اخْتَلَعَتْ امْرَأَةٌ مِنْ زَوْجِهَا بِمِيرَاثِهَا ، وَعِقَاصِ رَأْسِهَا كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا .
وَقَالَ عَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَالزُّهْرِيُّ وَعَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ : لَا يَأْخُذُ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ بِإِسْنَادٍ مُنْقَطِعٍ .
وَاخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ قَالَ : فَإِنْ فَعَلَ رَدَّ الزِّيَادَةَ .
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ : مَا أَرَى أَنْ يَأْخُذَ كُلَّ مَالِهَا ، وَلَكِنْ لِيَدَعَ لَهَا شَيْئًا .
وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ { أَنَّ جَمِيلَةَ بِنْتَ سَلُولَ أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : وَاَللَّهِ مَا أَعِيبُ عَلَى ثَابِتٍ فِي دِينٍ وَلَا خُلُقٍ ، وَلَكِنْ أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الْإِسْلَامِ ، لَا أُطِيقُهُ بُغْضًا .
فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ .
فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا حَدِيقَتَهُ ، وَلَا يَزْدَادَ .
} رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
وَلِأَنَّهُ بَدَلٌ فِي مُقَابَلَةِ فَسْخٍ ، فَلَمْ يَزِدْ عَلَى قَدْرِهِ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ ، كَالْعِوَضِ فِي الْإِقَالَةِ .
وَلَنَا ، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } .
وَلِأَنَّهُ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ ، قَالَتْ الرُّبَيِّعُ بِنْتُ مُعَوِّذٍ : اخْتَلَعْت مِنْ زَوْجِي بِمَا دُونَ عِقَاصِ رَأْسِي ، فَأَجَازَ ذَلِكَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَمِثْلُ هَذَا يَشْتَهِرُ ، فَلَمْ يُنْكَرْ ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا وَلَمْ يَصِحَّ عَنْ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71