الكتاب : المغني
المؤلف : أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد ، الشهير بابن قدامة المقدسي

الرَّبَضِ ، أَوْ قَطِيعَةٌ ، فَأَرَادَ التَّنَزُّهَ مِنْهَا .
قَالَ : يَقِفُهَا .
قَالَ : الْقَطَائِعُ تَرْجِعُ إلَى الْأَصْلِ إذَا جَعَلَهَا لِلْمَسَاكِينِ .
فَظَاهِرُ هَذَا إبَاحَةُ وَقْفِ السَّوَادِ ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ وَقْفٌ وَمَعْنَاهُ أَنَّ وَقْفَهَا يُطَابِقُ الْأَصْلَ لَا أَنَّهَا تَصِيرُ بِهَذَا الْقَوْلِ وَقْفًا .

( 4430 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( وَيَصِحُّ وَقْفُ الْمَشَاعِ ) وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو يُوسُفَ .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : لَا يَصِحُّ وَبَنَاهُ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ الْقَبْضَ شَرْطٌ ، وَأَنَّ الْقَبْضَ لَا يَصِحُّ فِي الْمَشَاعِ .
وَلَنَا ، أَنَّ فِي حَدِيثِ عُمَرَ { أَنَّهُ أَصَابَ مِائَةَ سَهْمٍ مِنْ خَيْبَرَ ، وَاسْتَأْذَنَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا ، فَأَمَرَهُ بِوَقْفِهَا .
} وَهَذَا صِفَةُ الْمَشَاعِ ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ يَجُوزُ عَلَى بَعْضِ الْجُمْلَةِ مُفْرَزًا فَجَازَ عَلَيْهِ مَشَاعًا ، كَالْبَيْعِ ، أَوْ عَرْصَةٍ يَجُوزُ بَيْعُهَا ، فَجَازَ وَقْفُهَا ، كَالْمُفْرَزَةِ ، وَلِأَنَّ الْوَقْفَ تَحْبِيسُ الْأَصْلِ وَتَسْبِيلُ الْمَنْفَعَةِ ، وَهَذَا يَحْصُلُ فِي الْمَشَاعِ ، كَحُصُولِهِ فِي الْمُفْرَزِ ، وَلَا نُسَلِّمُ اعْتِبَارَ الْقَبْضِ ، وَإِنْ سَلَّمْنَا فَإِذَا صَحَّ فِي الْبَيْعِ صَحَّ فِي الْوَقْفِ .

( 4431 ) فَصْلٌ : وَإِنْ وَقَفَ دَارِهِ عَلَى جِهَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ ، مِثْلُ أَنْ يَقِفَهَا عَلَى أَوْلَادِهِ وَعَلَى الْمَسَاكِينِ ، نِصْفَيْنِ ، أَوْ أَثْلَاثًا ، أَوْ كَيْفَمَا كَانَ جَازَ .
وَسَوَاءٌ جَعَلَ مَآلَ الْمَوْقُوفِ عَلَى أَوْلَادِهِ وَعَلَى الْمَسَاكِينِ ، أَوْ عَلَى جِهَةٍ أُخْرَى سِوَاهُمْ ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَازَ وَقْفُ الْجُزْءِ مُفْرَدًا ، جَازَ وَقْفُ الْجُزْأَيْنِ .
وَإِنْ أَطْلَقَ الْوَقْفَ ، فَقَالَ : أَوْقَفْت دَارِي هَذِهِ عَلَى أَوْلَادِي ، وَعَلَى الْمَسَاكِينِ .
فَهِيَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَ الْإِضَافَةِ إلَيْهِمَا تَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْجِهَتَيْنِ ، وَلَا تَتَحَقَّقُ التَّسْوِيَةُ إلَّا بِالتَّنْصِيفِ وَإِنْ قَالَ : وَقَفْتُهَا عَلَى زَيْدٍ وَعُمَرَ وَالْمَسَاكِينِ .
فَهِيَ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا .
( 4432 ) فَصْلٌ : فَإِنْ أُرِيدَ تَمْيِيزُ الْوَقْفِ عَنْ الطَّلْقِ بِالْقِسْمَةِ ، فَذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقِسْمَةِ ، هَلْ هِيَ بَيْعٌ أَوْ إفْرَازُ حَقٍّ ؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا إفْرَازُ حَقٍّ ، فَيُنْظَرُ ؛ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا رَدٌّ جَازَتْ الْقِسْمَةُ .
وَإِنْ كَانَ فِيهَا رَدٌّ مِنْ جَانِبِ أَصْحَابِ الْوَقْفِ ، جَازَتْ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ شِرَاءٌ لِشَيْءٍ مِنْ الطَّلْق .
وَإِنْ كَانَ مِنْ صَاحِبِ الطَّلْقِ ، لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ شِرَاءُ بَعْضِ الْوَقْفِ ، وَبَيْعُهُ غَيْرُ جَائِزٍ .
وَإِنْ كَانَ الْمَشَاعُ وَقْفًا عَلَى جِهَتَيْنِ ، فَأَرَادَ أَهْلُهُ قِسْمَتَهُ ، انْبَنِي عَلَى مَا ذَكَرْنَا .
وَلَمْ يَجُزْ فِيمَا إذَا كَانَ فِيهَا رَدٌّ بِحَالٍ .
وَمَتَى جَازَتْ الْقِسْمَةُ فِي الْوَقْفِ ، وَطَلَبَهَا أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ ، أَوْ وَلِيُّ الْوَقْفِ ، أُجْبِرَ الْآخَرُ ؛ لِأَنَّ كُلَّ قِسْمَةٍ جَازَتْ مِنْ غَيْرِ رَدٍّ وَلَا ضَرَرٍ ، فَهِيَ وَاجِبَةُ .

( 4433 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْوَقْفُ عَلَى مَعْرُوفٍ أَوْ بِرٍّ فَهُوَ بَاطِلٌ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْوَقْفَ لَا يَصِحُّ إلَّا عَلَى مَنْ يُعْرَفُ ، كَوَلَدِهِ ، وَأَقَارِبِهِ ، وَرَجُلٍ مُعَيَّنٍ ، أَوْ عَلَى بِرٍّ ، كَبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَالْقَنَاطِرِ ، وَكُتُبِ الْفِقْهِ وَالْعِلْمِ وَالْقُرْآنِ ، وَالْمَقَابِرِ ، وَالسِّقَايَاتِ وَسَبِيلِ اللَّهِ ، وَلَا يَصْلُحُ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ ، كَرَجُلِ وَامْرَأَةٍ ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ تَمْلِيكٌ لِلْعَيْنِ أَوْ لِلْمَنْفَعَةِ ، فَلَا يَصِحُّ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ ، كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ ، وَلَا عَلَى مَعْصِيَةٍ كَبَيْتِ النَّارِ ، وَالْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ ، وَكُتُبِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْصِيَةٌ ، فَإِنَّ هَذِهِ الْمَوَاضِعَ بُنِيَتْ لِلْكُفْرِ .
وَهَذِهِ الْكُتُبُ مُبَدَّلَةٌ مَنْسُوخَةٌ ، وَلِذَلِكَ غَضِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَأَى مَعَ عُمَرَ صَحِيفَةً فِيهَا شَيْءٌ مِنْ التَّوْرَاةِ ، وَقَالَ : { أَفِي شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ؟ أَلَمِ آتِ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً ؟ لَوْ كَانَ مُوسَى أَخِي حَيًّا مَا وَسِعَهُ إلَّا اتِّبَاعِي } .
وَلَوْلَا أَنَّ ذَلِكَ مَعْصِيَةٌ مَا غَضِبَ مِنْهُ .
وَالْوَقْفُ عَلَى قَنَادِيلِ الْبِيعَةِ وَفَرْشِهَا وَمَنْ يَخْدِمُهَا وَيُعَمِّرُهَا ، كَالْوَقْفِ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّهُ يُرَادُ لِتَعْظِيمِهَا .
وَسَوَاءٌ كَانَ الْوَاقِفُ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا قَالَ أَحْمَدُ فِي نَصَارَى وَقَفُوا عَلَى الْبِيعَةِ ضِيَاعًا كَثِيرَةً ، وَمَاتُوا وَلَهُمْ أَبْنَاءُ نَصَارَى ، فَأَسْلَمُوا وَالضَّيَاعُ بِيَدِ النَّصَارَى : فَلَهُمْ أَخْذُهَا ، وَلِلْمُسْلِمِينَ عَوْنُهُمْ حَتَّى يَسْتَخْرِجُوهَا مِنْ أَيْدِيهِمْ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا لَا يَصِحُّ مِنْ الْمُسْلِمِ الْوَقْفُ عَلَيْهِ ، لَا يَصِحُّ مِنْ الذِّمِّيِّ ، كَالْوَقْفِ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قُلْتُمْ إنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ إذَا عَقَدُوا عُقُودًا فَاسِدَةً ، وَتَقَابَضُوا ، ثُمَّ أَسْلَمُوا وَتَرَافَعُوا إلَيْنَا ، لَمْ نَنْقُضْ مَا فَعَلُوهُ ، فَكَيْفَ

أَجَزْتُمْ الرُّجُوعَ فِيمَا وَقَفُوهُ عَلَى كَنَائِسِهِمْ ؟ قُلْنَا : الْوَقْفُ لَيْسَ بِعَقْدِ مُعَاوَضَةٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ إزَالَةٌ لِلْمِلْكِ فِي الْمَوْقُوفِ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ ، فَإِذَا لَمْ يَقَعْ صَحِيحًا ، لَمْ يَزُلْ الْمِلْكُ ، فَيَبْقَى بِحَالِهِ كَالْعِتْقِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، فِي نَصْرَانِيٍّ أَشْهَدَ فِي وَصِيَّتِهِ ، أَنَّ غُلَامَهُ فُلَانًا يَخْدِمُ الْبِيعَةَ خَمْسَ سِنِينَ ، ثُمَّ هُوَ حُرٌّ .
ثُمَّ مَاتَ مَوْلَاهُ ، وَخَدَمَ سَنَةً ، ثُمَّ أَسْلَمَ ، مَا عَلَيْهِ ؟ قَالَ : هُوَ حُرٌّ .
وَيَرْجِعُ عَلَى الْغُلَامِ بِأُجْرَةِ خِدْمَةِ مَبْلَغِ أَرْبَعِ سِنِينَ .
وَرُوِيَ عَنْهُ ، قَالَ : هُوَ حُرٌّ سَاعَةَ مَاتَ مَوْلَاهُ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ مَعْصِيَةٌ .
وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أَصَحُّ وَأَوْفَقُ لِأُصُولِهِ وَيَحْتَمِلُ أَنَّ قَوْلَهُ : يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِخِدْمَتِهِ أَرْبَعَ سِنِينَ .
لَمْ يَكُنْ لِصِحَّةِ الْوَصِيَّةِ ، بَلْ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَعْتَقَهُ بِعِوَضٍ يَعْتَقِدَانِ صِحَّتَهُ ، فَإِذَا تَعَذَّرَ الْعِوَضُ بِإِسْلَامِهِ ، كَانَ عَلَيْهِ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ ، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ الذِّمِّيُّ ذِمِّيَّةً عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ أَسْلَمَ ؛ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْمَهْرُ ، كَذَا هَاهُنَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْعِوَضُ .
وَالْأَوَّلُ أَوْلَى .

( 4434 ) فَصْلٌ : وَلَا يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى مَنْ لَا يَمْلِكُ ، كَالْعَبْدِ الْقِنِّ ، وَأُمِّ الْوَلَدِ ، وَالْمُدَبَّرِ ، وَالْمَيِّتِ ، وَالْحَمْلِ ، وَالْمَلَكِ وَالْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ .
قَالَ أَحْمَدُ فِي مَنْ وَقَفَ عَلَى مَمَالِيكِهِ : لَا يَصِحُّ الْوَقْفُ حَتَّى يَعْتِقَهُمْ .
وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَقْفَ تَمْلِيكٌ ، فَلَا يَصِحُّ عَلَى مَنْ لَا يَمْلِكُ .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ جَوَّزْتُمْ الْوَقْفَ عَلَى الْمَسَاجِدِ وَالسِّقَايَات وَأَشْبَاهِهَا ، وَهِيَ لَا تُمْلَكُ قُلْنَا : الْوَقْفُ هُنَاكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، إلَّا أَنَّهُ عُيِّنَ فِي نَفْعٍ خَاصٍّ لَهُمْ .
فَإِنْ قِيلَ : فَيَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ الْوَقْفُ عَلَى الْكَنَائِسِ ، وَيَكُونُ الْوَقْفُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ .
قُلْنَا : الْجِهَةُ الَّتِي عُيِّنَ صَرْفُ الْوَقْفِ فِيهَا لَيْسَتْ نَفْعًا ، بَلْ هِيَ مَعْصِيَةٌ مُحَرَّمَةٌ ، يُزَادُونَ بِهَا عِقَابًا وَإِثْمًا ، بِخِلَافِ الْمَسَاجِد .
وَلَا يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى الْعَبْدِ ، وَإِنْ قُلْنَا : إنَّهُ يَمْلِكُ بِالتَّمْلِيكِ ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ يَقْتَضِي تَحْبِيسَ الْأَصْلِ ، وَالْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ مِلْكًا لَازِمًا وَلَا يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى الْمُكَاتَبِ ، وَإِنْ كَانَ يَمْلِكُ ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ .
وَلَا عَلَى مُرْتَدٍّ ، وَلَا عَلَى حَرْبِيٍّ ؛ لِأَنَّ أَمْوَالَهُمْ مُبَاحَةُ فِي الْأَصْلِ ، وَيَجُوزُ أَخْذُهَا مِنْهُمْ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ ، فَمَا يَتَجَدَّدُ لَهُمْ أَوْلَى ، وَالْوَقْفُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبَاحَ الْأَخْذِ ؛ لِأَنَّهُ تَحْبِيسُ الْأَصْلِ .

( 4435 ) فَصْلٌ : وَيَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ ؛ لِأَنَّهُمْ يَمْلِكُونَ مِلْكًا مُحْتَرَمًا ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَيْهِمْ ، فَجَازَ الْوَقْفُ عَلَيْهِمْ ، كَالْمُسْلِمِينَ .
وَيَجُوزُ أَنْ يَقِفَ الْمُسْلِمُ عَلَيْهِ ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيِّ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَتْ عَلَى أَخٍ لَهَا يَهُودِيٍّ ، وَلِأَنَّ مَنْ جَازَ أَنْ يَقِفَ الذِّمِّيُّ عَلَيْهِ جَازَ أَنْ يَقِفَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُ كَالْمُسْلِمِ .
وَلَوْ وَقَفَ عَلَى مِنْ يَنْزِلُ كَنَائِسَهُمْ وَبِيعَهُمْ مِنْ الْمَارَّةِ وَالْمُجْتَازِينَ ، صَحَّ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ عَلَيْهِمْ لَا عَلَى الْمَوْضِعِ .

( 4436 ) فَصْلٌ : وَيَنْظُرُ فِي الْوَقْفِ مَنْ شَرَطَهُ الْوَاقِفُ ؛ لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَعَلَ وَقْفَهُ إلَى حَفْصَةَ تَلِيه مَا عَاشَتْ ، ثُمَّ إلَى ذَوِي الرَّأْيِ مِنْ أَهْلِهَا .
وَلِأَنَّ مَصْرِفَ الْوَقْفِ يُتْبَعُ فِيهِ شَرْطُ الْوَاقِفِ ، فَكَذَلِكَ النَّاظِرُ فِيهِ .
فَإِنْ جَعَلَ النَّظَرَ لِنَفْسِهِ جَازَ ، وَإِنْ جَعَلَهُ إلَى غَيْرِهِ فَهُوَ لَهُ ، فَإِنْ لَمْ يَجْعَلْهُ لِأَحَدٍ ، أَوْ جَعَلَهُ لِإِنْسَانٍ فَمَاتَ نَظَرَ فِيهِ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ وَنَفْعُهُ لَهُ ، فَكَانَ نَظَرَهُ إلَيْهِ كَمِلْكِهِ الْمُطْلَقِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ الْحَاكِمُ .
اخْتَارَهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْوَجْهَانِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ هَلْ يَنْتَقِلُ فِيهِ إلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ ، أَوْ إلَى اللَّهِ تَعَالَى ؟ فَإِنْ قُلْنَا : هُوَ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ .
فَالنَّظَرُ فِيهِ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ ، عَيْنُهُ وَنَفْعُهُ .
وَإِنْ قُلْنَا : هُوَ لِلَّهِ .
فَالْحَاكِمُ يَنُوبُ فِيهِ ، وَيَصْرِفُهُ إلَى مَصَارِفِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَالُ اللَّهِ ، فَكَانَ النَّظَرُ فِيهِ إلَى حَاكِمِ الْمُسْلِمِينَ ، كَالْوَقْفِ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَأَمَّا الْوَقْفُ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَالْمَسَاجِدِ وَنَحْوِهَا ، أَوْ عَلَى مَنْ لَا يُمْكِنُ حَصْرُهُمْ وَاسْتِيعَابُهُمْ ، فَالنَّظَرُ فِيهِ إلَى الْحَاكِمِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مَالِكٌ مُتَعَيِّنٌ يَنْظُرُ فِيهِ .
وَلَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ لَا يُمْكِنُهُ تَوَلِّي النَّظَرَ بِنَفْسِهِ .
وَمَتَى كَانَ النَّظَرُ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ ، إمَّا بِجَعْلِ الْوَاقِفِ ذَلِكَ لَهُ ، أَوْ لِكَوْنِهِ أَحَقَّ بِذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ نَاظِرٍ سِوَاهُ ، وَكَانَ وَاحِدًا مُكَلَّفًا رَشِيدًا ، فَهُوَ أَحَقُّ بِذَلِكَ ، رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً ، عَدْلًا كَانَ أَوْ فَاسِقًا ؛ لِأَنَّهُ يَنْظُرُ لِنَفْسِهِ ، فَكَانَ لَهُ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ ، كَالطَّلْقِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُضَمَّ إلَى الْفَاسِقِ أَمِينٌ ، حِفْظًا لِأَصْلِ الْوَقْفِ عَنْ الْبَيْعِ أَوْ التَّضْيِيعِ .
وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ لِجَمَاعَةٍ رَشِيدِينَ ، فَالنَّظَرُ

لِلْجَمِيعِ ، لِكُلِّ إنْسَانٍ فِي نَصِيبِهِ .
وَإِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ غَيْرَ رَشِيدٍ ، إمَّا لِصِغَرٍ ، أَوْ سَفَهٍ ، أَوْ جُنُونٍ ، قَامَ وَلِيُّهُ فِي النَّظَرِ مَقَامَهُ ، كَمَا يَقُومُ مَقَامَهُ فِي مَالِهِ الْمُطْلَقِ .
وَإِنْ كَانَ النَّظَرُ لِغَيْرِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ ، أَوْ لِبَعْضِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ ، بِتَوْلِيَةِ الْوَاقِفِ أَوْ الْحَاكِمِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ إلَّا أَمِينًا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَمِينًا ، وَكَانَتْ تَوْلِيَتُهُ مِنْ الْحَاكِمِ ، لَمْ تَصِحَّ .
وَأُزِيلَتْ يَدُهُ .
وَإِنْ وَلَّاهُ الْوَاقِفُ وَهُوَ فَاسِقٌ ، أَوْ وَلَّاهُ وَهُوَ عَدْلٌ وَصَارَ فَاسِقًا ، ضُمَّ إلَيْهِ أَمِينٌ يَنْحَفِظُ بِهِ الْوَقْفُ ، وَلَمْ تَزُلْ يَدُهُ ؛ وَلِأَنَّهُ أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقَّيْنِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَصِحَّ تَوْلِيَتُهُ ، وَأَنَّهُ يَنْعَزِلُ إذَا فَسَقَ فِي أَثْنَاء وِلَايَتِهِ ؛ لِأَنَّهَا وِلَايَةٌ عَلَى حَقِّ غَيْرِهِ ، فَنَافَاهَا الْفِسْقُ ، كَمَا لَوْ وَلَّاهُ الْحَاكِمُ ، وَكَمَا لَوْ لَمْ يُمْكِنْ حِفْظُ الْوَقْفِ مِنْهُ مَعَ بَقَاءِ وِلَايَتِهِ عَلَى حَقِّ غَيْرِهِ ، فَإِنَّهُ مَتَى لَمْ يُمْكِنْ حِفْظُهُ مِنْهُ أُزِيلَتْ وِلَايَتُهُ ، فَإِنَّ مُرَاعَاةَ حِفْظِ الْوَقْفِ أَهَمُّ مِنْ إبْقَاءِ وِلَايَةِ الْفَاسِقِ عَلَيْهِ .

( 4437 ) فَصْلٌ : وَنَفَقَةُ الْوَقْفِ مِنْ حَيْثُ شَرَطَ الْوَاقِفُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اُتُّبِعَ شَرْطُهُ فِي تَسْبِيلِهِ ، وَجَبَ اتِّبَاعُ شَرْطِهِ فِي نَفَقَتِهِ .
فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ فَمِنْ غَلَّتِهِ ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ اقْتَضَى تَحْبِيسَ أَصْلِهِ وَتَسْبِيلَ نَفْعِهِ ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ ضَرُورَتِهِ .
وَإِنْ تَعَطَّلَتْ مَنَافِعُ الْحَيَوَانِ الْمَوْقُوفِ ، فَنَفَقَتُهُ عَلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ وَيَحْتَمِلُ وُجُوبَهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ .
وَيَجُوزُ بَيْعُهُ ، عَلَى مَا سَلَفَ بَيَانُهُ .

مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( وَلَا تَصِحُّ الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ فِيمَا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ إلَّا بِقَبْضِهِ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْهِبَةَ وَالصَّدَقَةَ وَالْهَدِيَّةَ وَالْعَطِيَّةَ مَعَانِيهَا مُتَقَارِبَةٌ ، وَكُلُّهَا تَمْلِيكٌ فِي الْحَيَاةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ ، وَاسْمُ الْعَطِيَّةِ شَامِلٌ لِجَمِيعِهَا ، وَكَذَلِكَ الْهِبَةُ .
وَالصَّدَقَةُ وَالْهَدِيَّةُ مُتَغَايِرَانِ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْكُلُ الْهَدِيَّةَ ، وَلَا يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ .
وَقَالَ فِي اللَّحْمِ الَّذِي تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ : { هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ ، وَلَنَا هَدِيَّةٌ } فَالظَّاهِرُ أَنَّ مَنْ أَعْطَى شَيْئًا يَنْوِي بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لِلْمُحْتَاجِ ، فَهُوَ صَدَقَةٌ .
وَمَنْ دَفَعَ إلَى إنْسَانٍ شَيْئًا لِلتَّقَرُّبِ إلَيْهِ ، وَالْمَحَبَّةِ لَهُ ، فَهُوَ هَدِيَّةٌ .
وَجَمِيعُ ذَلِكَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ ، وَمَحْثُوثٌ عَلَيْهِ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { تَهَادَوْا تَحَابُّوا } .
وَأَمَّا الصَّدَقَةُ ، فَمَا وَرَدَ فِي فَضْلِهَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُمْكِنَنَا حَصْرُهُ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرُ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ } إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّ الْمَكِيلَ وَالْمَوْزُونَ لَا تَلْزَمُ فِيهِ الصَّدَقَةُ وَالْهِبَةُ إلَّا بِالْقَبْضِ .
وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ مِنْهُمْ ؛ النَّخَعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَقَالَ مَالِكٌ ، وَأَبُو ثَوْرٍ : يَلْزَمُ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ ، كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ } .
وَلِأَنَّهُ إزَالَةُ مِلْكٍ بِغَيْرِ عِوَضٍ ، فَلَزِمَ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ ، كَالْوَقْفِ وَالْعِتْقِ وَرُبَّمَا قَالُوا : تَبَرُّعٌ ، فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْقَبْضُ ، كَالْوَصِيَّةِ وَالْوَقْفِ .
وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ لَازِمٌ يَنْقُلُ الْمِلْكَ ، فَلَمْ يَقِفْ لُزُومُهُ عَلَى الْقَبْضِ كَالْبَيْعِ .
وَلَنَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ

رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَإِنَّ مَا قُلْنَاهُ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُمَا فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ ، فَرَوَى عُرْوَةُ ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، أَنْ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، نَحَلَهَا جُذَاذَ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ مَالِهِ بِالْعَالِيَةِ فَلَمَّا مَرِضَ ، قَالَ : يَا بُنَيَّةُ ، مَا أَحَدٌ أَحَبُّ إلَيَّ غِنًى بَعْدِي مِنْك ، وَلَا أَحَدٌ أَعَزُّ عَلَيَّ فَقْرًا مِنْك وَكُنْت نَحَلْتُك جُذَاذَ عِشْرِينَ وَسْقًا ، وَوَدِدْت أَنَّك حُزْتِيهِ أَوْ قَبْضَتَيْهِ ، وَهُوَ الْيَوْمَ مَالُ الْوَارِثِ أَخَوَاك وَأُخْتَاك ، فَاقْتَسِمُوا عَلَى كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ .
وَرَوَى ابْنُ عُيَيْنَةَ ، عَنْ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ عُرْوَةَ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِي أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ، قَالَ : مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَنْحَلُونَ أَوْلَادَهُمْ ، فَإِذَا مَاتَ أَحَدُهُمْ ، قَالَ : مَالِي وَفِي يَدِي .
وَإِذَا مَاتَ هُوَ ، قَالَ : كُنْت نَحَلْتُهُ وَلَدِي ؟ لَا نِحْلَةَ إلَّا نِحْلَةٌ يَحُوزُهَا الْوَلَدُ دُونَ الْوَالِدِ ، فَإِنْ مَاتَ وَرِثَهُ وَرَوَى عُثْمَانُ أَنَّ الْوَالِدَ يَحُوزُ لِوَلَدِهِ إذَا كَانُوا صِغَارًا .
قَالَ الْمَرُّوذِيُّ : اتَّفَقَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ ، أَنَّ الْهِبَةَ لَا تَجُوزُ إلَّا مَقْبُوضَةً .
وَلِأَنَّهَا هِبَةٌ غَيْرُ مَقْبُوضَةٍ ، فَلَمْ تَلْزَمْ ، كَمَا لَوْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ ، فَإِنَّ مَالِكًا يَقُولُ : لَا يَلْزَمُ الْوَرَثَةَ التَّسْلِيمُ ، وَالْخَبَرُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَقْبُوضِ ، وَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَى الْوَقْفِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْعِتْقِ .
لِأَنَّ الْوَقْفَ إخْرَاجُ مِلْكٍ إلَى اللَّهِ تَعَالَى ، فَخَالَفَ التَّمْلِيكَاتِ ، وَالْوَصِيَّةُ تَلْزَمُ فِي حَقِّ الْوَارِثِ ، وَالْعِتْقُ إسْقَاطُ حَقٍّ وَلَيْسَ بِتَمْلِيكٍ ، وَلِأَنَّ الْوَقْفَ وَالْعِتْقَ لَا يَكُونُ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ .
( 4439 ) فَصْلٌ : وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ ( لَا يَصِحُّ ) .
يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ لَا يَلْزَمُ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ لَا يَثْبُتُ بِهَا الْمِلْكُ قَبْلَ الْقَبْضِ ،

فَإِنَّ حُكْمَ الْمِلْكِ حُكْمُ الْهِبَةِ ، وَالصِّحَّةُ اعْتِبَارُ الشَّيْءِ فِي حَقِّ حُكْمِهِ .
وَأَمَّا الصِّحَّةُ بِمَعْنَى انْعِقَادِ اللَّفْظِ بِحَيْثُ إذَا انْضَمَّ إلَيْهِ الْقَبْضُ اُعْتُبِرَ وَثَبَتَ حُكْمُهُ ، فَلَا يَصِحُّ حَمْلُ لَفْظِهِ عَلَى نَفْيِهِ ، لِعَدَمِ الْخِلَافِ فِيهِ ، وَلِأَنَّهُ قَالَ فِي سِيَاقِ الْمَسْأَلَةِ : " كَمَا يَصِحُّ فِي الْبَيْعِ " وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْبَيْعِ أَنَّ بَيْعَ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ صَحِيحٌ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَإِنَّمَا يَنْتَفِي الضَّمَانُ وَإِطْلَاقُهُ فِي التَّصَرُّفَاتِ .
وَقَوْلُهُ : " مَا يُكَالُ وَمَا يُوزَنُ " ظَاهِرُهُ الْعُمُومُ فِي كُلِّ مَوْزُونٍ وَمَكِيلٍ ، وَخَصَّهُ أَصْحَابُنَا الْمُتَأَخِّرُونَ بِمَا لَيْسَ بِمُتَعَيِّنٍ فِيهِ ، كَالْقَفِيزِ مِنْ صُبْرَةٍ ، وَالرِّطْلِ مِنْ زُبْدَةٍ .
وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي الْبَيْعِ ، وَرَجَّحْنَا الْعُمُومَ .

( 4440 ) فَصْلٌ : وَالْوَاهِبُ بِالْخِيَارِ قَبْلَ الْقَبْضِ ، إنْ شَاءَ أَقْبَضَهَا وَأَمْضَاهَا ، وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ فِيهَا وَمَنَعَهَا .
وَلَا يَصِحُّ قَبْضُهَا إلَّا بِإِذْنِهِ ، فَإِنْ قَبَضَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ لَمْ تَتِمَّ الْهِبَةُ ، وَلَمْ يَصِحَّ الْقَبْضُ .
وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا قَبَضَهَا فِي الْمَجْلِسِ صَحَّ ، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ قَامَتْ مَقَامَ الْإِذْنِ فِي الْقَبْضِ ، لِكَوْنِهَا دَالَّةً عَلَى رِضَاهُ بِالتَّمْلِيكِ الَّذِي لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْقَبْضِ .
وَلَنَا أَنَّهُ قَبَضَ الْهِبَةَ بِغَيْرِ إذْنِ الْوَاهِبِ ، فَلَمْ يَصِحَّ ، كَمَا بَعْدَ الْمَجْلِسِ ، أَوْ كَمَا لَوْ نَهَاهُ عَنْ قَبْضِهَا ، وَلِأَنَّ التَّسْلِيمَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَى الْوَاهِبِ .
فَلَا يَصِحُّ التَّسْلِيمُ إلَّا بِإِذْنِهِ ، كَمَا لَوْ أَخَذَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ مِنْ الْبَائِعِ قَبْلَ تَسْلِيمِ ثَمَنِهِ .
وَلَا يَصِحُّ جَعْلُ الْهِبَةِ إذْنًا فِي الْقَبْضِ ، بِدَلِيلِ مَا بَعْدَ الْمَجْلِسِ .
وَلَوْ أَذِنَ الْوَاهِبُ فِي الْقَبْضِ ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ الْإِذْنِ ، أَوْ رَجَعَ فِي الْهِبَةِ ، صَحَّ رُجُوعُهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِقَبْضٍ وَإِنْ رَجَعَ بَعْدَ الْقَبْضِ ، لَمْ يَنْفَعْ رُجُوعُهُ ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ تَمَّتْ .

( 4441 ) فَصْلٌ : وَإِذَا مَاتَ الْوَاهِبُ أَوْ الْمَوْهُوبُ لَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ ، بَطَلَتْ الْهِبَةُ ، سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ الْإِذْنِ فِي الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ .
ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي مَوْتِ الْوَاهِبِ ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ جَائِزٌ فَبَطَلَ بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ ، كَالْوَكَالَةِ وَالشَّرِكَةِ .
وَقَالَ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ ، وَأَبِي الْحَارِثِ ، فِي رَجُلٍ أَهْدَى هَدِيَّةً فَلَمْ تَصِلْ إلَى الْمُهْدَيْ إلَيْهِ ، حَتَّى مَاتَ ؛ فَإِنَّهَا تَعُودُ إلَى صَاحِبِهَا مَا لَمْ يَقْبِضْهَا .
وَرُوِيَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أُمِّ كُلْثُومِ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ ، قَالَتْ : { لَمَّا تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّ سَلَمَةَ ، قَالَ لَهَا : إنِّي قَدْ أَهْدَيْت إلَى النَّجَاشِيِّ حُلَّةً وَأَوَاقِيَّ مِسْكٍ ، وَلَا أَرَى النَّجَاشِيَّ إلَّا قَدْ مَاتَ وَلَا أَرَى هَدِيَّتِي إلَّا مَرْدُودَةً عَلَيَّ ، فَإِنْ رُدَّتْ فَهِيَ لَك .
قَالَتْ : فَكَانَ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرُدَّتْ عَلَيْهِ هَدِيَّتُهُ ، فَأَعْطَى كُلَّ امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهِ أُوقِيَّةً مِنْ مِسْكٍ ، وَأَعْطَى أُمَّ سَلَمَةَ بَقِيَّةَ الْمِسْكِ وَالْحُلَّةَ .
} وَإِنْ مَاتَ صَاحِبُ الْهَدِيَّةِ قَبْلَ أَنْ تَصِلَ إلَى الْمُهْدَى إلَيْهِ ، رَجَعَتْ إلَى وَرَثَةِ الْمُهْدِي ، وَلَيْسَ لِلرَّسُولِ حَمْلُهَا إلَى الْمُهْدَى إلَيْهِ ، إلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ الْوَارِثُ وَلَوْ رَجَعَ الْمُهْدِي فِي هَدِيَّتِهِ قَبْلَ وُصُولِهَا إلَى الْمُهْدَى إلَيْهِ ، صَحَّ رُجُوعُهُ فِيهَا ، وَالْهِبَةُ كَالْهَدِيَّةِ .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ إذَا مَاتَ الْوَاهِبُ ، قَامَ وَارِثُهُ مَقَامَهُ فِي الْإِذْنِ فِي الْقَبْضِ وَالْفَسْخِ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْهِبَةَ لَا تَنْفَسِخُ بِمَوْتِهِ .
وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ مَآلُهُ إلَى اللُّزُومِ ، فَلَمْ يَنْفَسِخْ بِالْمَوْتِ كَالْبَيْعِ الْمَشْرُوطِ فِيهِ الْخِيَارُ .
وَكَذَلِكَ يُخَرَّجُ فِيمَا إذَا مَاتَ الْمَوْهُوبُ لَهُ بَعْدَ قَبُولِهِ وَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَبُولِ ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ ، بَطَلَتْ ، وَجْهًا

وَاحِدًا ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَتِمَّ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَوْجَبَ الْبَيْعَ ، فَمَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَبُولِ مِنْ الْمُشْتَرِي .
وَإِذَا قُلْنَا : إنَّ الْهِبَةَ لَا تَبْطُلُ فَمَاتَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْإِذْنِ فِي الْقَبْضِ ، بَطَلَ الْإِذْنُ ، وَجْهًا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ إنْ كَانَ هُوَ الْوَاهِبَ فَقَدْ انْتَقَلَ حَقُّهُ فِي الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ إلَى وَارِثِهِ ، فَلَمْ يَلْزَمْ بِغَيْرِ إذْنِهِ .
وَإِنْ كَانَ الْمَوْهُوبَ لَهُ ، فَلَمْ يُوجَدْ الْإِذْنُ ، لِوَارِثِهِ ، فَلَمْ يَمْلِكْ الْقَبْضَ بِغَيْرِ إذْنٍ .

( 4442 ) فَصْلٌ : وَإِنْ وَهَبَهُ شَيْئًا فِي يَدِ الْمُتَّهِبِ ، كَوَدِيعَةٍ ، أَوْ مَغْصُوبٍ ، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّ الْهِبَةَ تَلْزَمُ مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ ، وَلَا مُضِيِّ مُدَّةٍ يَتَأَتَّى الْقَبْضُ فِيهَا ؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ : إذَا وَهَبَ لِامْرَأَتِهِ شَيْئًا وَلَمْ تَقْبِضْهُ ، فَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا خِيَارٌ ، هِيَ مَعَهُ فِي الْبَيْتِ .
فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَمْ يَعْتَبِرْ قَبْضًا ، وَلَا مُضِيَّ مُدَّةٍ يَتَأَتَّى فِيهَا ، لِكَوْنِهَا مَعَهُ فِي الْبَيْتِ ، فَيَدُهَا عَلَى مَا فِيهِ .
وَقَالَ الْقَاضِي : لَا بُدَّ مِنْ مُضِيِّ مُدَّةٍ يَتَأَتَّى فِيهَا الْقَبْضُ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى ، أَنَّهُ يَفْتَقِرُ إلَى إذْنٍ فِي الْقَبْضِ .
وَقَدْ مَضَى تَعْلِيلُ ذَلِكَ وَتَفْصِيلُهُ فِي الرَّهْنِ .
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ كَمَذْهَبِنَا ، فِي الِاخْتِلَافِ فِي اعْتِبَارِ الْإِذْنِ ، وَاعْتِبَارِ مُضِيِّ مُدَّةٍ يَتَأَتَّى الْقَبْضُ فِيهَا .

( 4443 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( وَيَصِحُّ فِي غَيْرِ ذَلِكَ بِغَيْرِ قَبْضٍ إذَا قَبِلَ ، كَمَا يَصِحُّ فِي الْبَيْعِ ) يَعْنِي أَنَّ غَيْرَ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ تَلْزَمُ الْهِبَةُ فِيهِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ ، وَيَثْبُتُ الْمِلْكُ فِي الْمَوْهُوبِ قَبْلَ قَبْضِهِ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَإِنَّهُ يُرْوَى عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالَا : الْهِبَةُ جَائِزَةٌ إذَا كَانَتْ مَعْلُومَةً قُبِضَتْ أَوْ لَمْ تُقْبَضْ .
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي ثَوْرٍ وَعَنْ أَحْمَدَ ، رِوَايَةٌ أُخْرَى : لَا تَلْزَمُ الْهِبَةُ فِي الْجَمِيعِ إلَّا بِالْقَبْضِ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
قَالَ الْمَرُّوذِيُّ : اتَّفَقَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيُّ عَلَى أَنَّ الْهِبَةَ لَا تَجُوزُ إلَّا مَقْبُوضَةً .
وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ النَّخَعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ ، وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ ، وَالْعَنْبَرِيِّ ، وَالشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ ، لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى .
وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّ الْهِبَةَ أَحَدُ نَوْعَيْ التَّمْلِيكِ ، فَكَانَ مِنْهَا مَا لَا يَلْزَمُ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَمِنْهَا مَا يَلْزَمُ قَبْلَهُ ، كَالْبَيْعِ ، فَإِنَّ فِيهِ مَا لَا يَلْزَمُ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَهُوَ الصَّرْفُ ، وَبَيْعُ الرِّبَوِيَّاتِ ، وَمِنْهُ مَا يَلْزَمُ قَبْلَهُ ، وَهُوَ مَا عَدَا ذَلِكَ فَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ ، فَلَا يَلْزَمُ ، فَإِنَّ جُذَاذَ عِشْرِينَ وَسْقًا ، يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ عِشْرِينَ وَسْقًا مَجْذُوذَةً ، فَيَكُون مَكِيلًا ، غَيْرَ مُعَيَّنٍ ، وَهَذَا لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الْقَبْضِ .
وَإِنْ أَرَادَ نَخْلًا يَجُذُّ عِشْرِينَ وَسْقًا ، فَهُوَ أَيْضًا غَيْرُ مُعَيَّنٍ وَلَا تَصِحُّ الْهِبَةُ فِيهِ قَبْلَ تَعْيِينِهِ ، فَيَكُونُ مَعْنَاهُ : وَعَدْتُك بِالنِّحْلَةِ .
وَقَوْلُ عُمَرَ أَرَادَ بِهِ النَّهْيَ عَنْ التَّحَيُّلِ بِنِحْلَةِ الْوَالِدِ وَلَدَهُ نِحْلَةً مَوْقُوفَةً عَلَى الْمَوْتِ ، فَيُظْهِرُ : إنِّي نَحَلْت وَلَدِي شَيْئًا وَيُمْسِكُهُ فِي يَدِهِ وَيَسْتَغِلُّهُ ، فَإِذَا مَاتَ أَخَذَهُ وَلَدُهُ بِحُكْمِ النِّحْلَةِ الَّتِي أَظْهَرَهَا ، وَإِنْ مَاتَ

وَلَدُهُ أَمْسَكَهُ ، وَلَمْ يُعْطِ وَرَثَةَ وَلَدِهِ شَيْئًا .
وَهَذَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مُحَرَّمٌ ، فَنَهَاهُمْ عَنْ هَذَا حَتَّى يَحُوزَهَا الْوَلَدُ دُونَ وَالِدِهِ ، فَإِنْ مَاتَ وَرِثَهَا وَرَثَتُهُ ، كَسَائِرِ مَالِهِ .
وَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ هَذَا اخْتَصَّ بِهِبَةِ الْوَلَدِ دُونَ وَالِدِهِ ، وَشِبْهِهِ ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ خِلَافُ ذَلِكَ ، فَتَعَارَضَتْ أَقْوَالُهُمْ .

( 4444 ) فَصْلٌ : قَوْلُ الْخِرَقِيِّ : ( إذَا قَبِلَ ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا يُسْتَغْنَى عَنْ الْقَبْضِ فِي مَوْضِعٍ وُجِدَ فِيهِ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ .
وَالْإِيجَابُ أَنْ يَقُولَ : وَهَبْتُك ، أَوْ أَهْدَيْت إلَيْك ، أَوْ أَعْطَيْتُك ، أَوْ هَذَا لَك .
وَنَحْوَهُ مِنْ الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى .
وَالْقَبُولُ أَنْ يَقُولَ : قَبِلْت ، أَوْ رَضِيت ، أَوْ نَحْوَ هَذَا .
وَذَكَرَ الْقَاضِي ، وَأَبُو الْخَطَّابِ ، أَنَّ الْهِبَةَ وَالْعَطِيَّةَ لَا تَصِحُّ كُلُّهَا إلَّا بِإِيجَابٍ وَقَبُولٍ ، وَلَا بُدَّ مِنْهُمَا ، سَوَاءٌ وُجِدَ الْقَبْضُ أَوْ لَمْ يُوجَدْ وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ تَمْلِيكٍ ، فَافْتَقَرَ إلَى الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ ، كَالنِّكَاحِ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُعَاطَاةَ وَالْأَفْعَالَ الدَّالَّةَ عَلَى الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ كَافِيَةٌ ، وَلَا يُحْتَاجُ إلَى لَفْظٍ .
وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ عَقِيلٍ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُهْدِي وَيُهْدَى إلَيْهِ ، وَيُعْطِي وَيُعْطَى ، وَيُفَرِّقُ الصَّدَقَاتِ ، وَيَأْمُرُ سُعَاتَهُ بِتَفْرِيقِهَا وَأَخْذِهَا ، وَكَانَ أَصْحَابُهُ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ " وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ إيجَابٌ وَلَا قَبُولٌ ، وَلَا أَمْرٌ بِهِ وَلَا تَعْلِيمُهُ لِأَحَدٍ ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ شَرْطًا لَنُقِلَ عَنْهُمْ نَقْلًا مَشْهُورًا ، { وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ عَلَى بَعِيرٍ لِعُمَرَ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ : بِعْنِيهِ .
فَقَالَ : هُوَ لَك يَا رَسُولَ اللَّهِ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هُوَ لَك يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ ، فَاصْنَعْ بِهِ مَا شِئْت } .
وَلَمْ يُنْقَلْ قَبُولُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عُمَرَ ، وَلَا قَبُولُ ابْنِ عُمَرَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ كَانَ شَرْطًا لَفَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلِمَهُ ابْنُ عُمَرَ ، وَلَمْ يَكُنْ لِيَأْمُرَهُ أَنْ يَصْنَعَ بِهِ مَا شَاءَ قَبْلَ أَنْ يَقْبَلَهُ وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا أُتِيَ بِطَعَامٍ سَأَلَ عَنْهُ ، فَإِنْ قَالُوا : صَدَقَةً .
قَالَ لِأَصْحَابِهِ : كُلُوا .
وَلَمْ يَأْكُلْ ، وَإِنْ قَالُوا : هَدِيَّةً .
ضَرَبَ بِيَدِهِ ، فَأَكَلَ مَعَهُمْ } .
وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ ، فِيمَا عَلِمْنَاهُ ، فِي أَنَّ تَقْدِيمَ الطَّعَامِ بَيْنَ يَدَيْ الضَّيْفَانِ إذْنٌ فِي الْأَكْلِ ، وَأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى قَبُولٍ بِقَوْلِهِ .
وَلِأَنَّهُ وُجِدَ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّرَاضِي بِنَقْلِ الْمِلْكِ ، فَاكْتُفِيَ بِهِ ، كَمَا لَوْ وُجِدَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ إنَّمَا يُشْتَرَطُ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ مَعَ الْإِطْلَاقِ ، وَعَدَمِ الْعُرْفِ الْقَائِمِ بَيْنَ الْمُعْطِي وَالْمُعْطَى ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عُرْفٌ يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا ، فَلَا بُدَّ مِنْ قَوْلٍ دَالٍ عَلَيْهِ ، أَمَّا مَعَ قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ وَالدَّلَائِلِ ، فَلَا وَجْهَ لِتَوْقِيفِهِ عَلَى اللَّفْظِ ، أَلَا تَرَى أَنَّا اكْتَفَيْنَا بِالْمُعَاطَاةِ فِي الْبَيْعِ ، وَاكْتَفَيْنَا بِدَلَالَةِ الْحَالِ فِي دُخُولِ الْحَمَّامِ ، وَهُوَ إجَارَةٌ وَبَيْعُ أَعْيَانٍ ، فَإِذَا اكْتَفَيْنَا فِي الْمُعَاوَضَاتِ مَعَ تَأَكُّدِهَا بِدَلَالَةِ الْحَالِ ، وَأَنَّهَا تَنْقُلُ الْمِلْكَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ، فَلَأَنْ نَكْتَفِيَ بِهِ فِي الْهِبَةِ أَوْلَى .

( 4445 ) فَصْلٌ : وَالْقَبْضُ فِيمَا لَا يُنْقَلُ بِالتَّخْلِيَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ ، لَا حَائِلَ دُونَهُ ، وَفِيمَا يُنْقَلُ بِالنَّقْلِ ، وَفِي الْمَشَاعِ بِتَسْلِيمِ الْكُلِّ إلَيْهِ .
فَإِنْ أَبَى الشَّرِيكُ أَنْ يُسَلِّمَ نَصِيبَهُ ، قِيلَ لِلْمُتَّهِبِ : وَكِّلْ الشَّرِيكَ فِي قَبْضِهِ لَك وَنَقْلِهِ .
فَإِنْ أَبَى ، نَصَّبَ الْحَاكِمُ مَنْ يَكُونُ فِي يَدِهِ لَهُمَا ، فَيَنْقُلُهُ ، لِيَحْصُلَ الْقَبْضُ ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى الشَّرِيكِ فِي ذَلِكَ وَيَتِمُّ بِهِ عَقْدُ شَرِيكِهِ .

( 4446 ) فَصْلٌ : وَتَصِحُّ هِبَةُ الْمَشَاعِ .
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ .
قَالَ الشَّافِعِيُّ : سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مَا أَمْكَنَ قِسْمَتُهُ ؛ أَوْ لَمْ يُمْكِنْ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ : لَا تَصِحُّ هِبَةُ الْمَشَاعِ الَّذِي يُمْكِنُ قِسْمَتُهُ ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ شَرْطٌ فِي الْهِبَةِ ، وَوُجُوبُ الْقِسْمَةِ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْقَبْضِ وَتَمَامَهُ .
فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ قِسْمَتُهُ ، صَحَّتْ هِبَتُهُ ؛ لِعَدَمِ ذَلِكَ فِيهِ .
وَإِنْ وَهَبَ وَاحِدٌ اثْنَيْنِ شَيْئًا مِمَّا يَنْقَسِمُ ، لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَجَازَ عِنْدَ صَاحِبَيْهِ .
وَإِنْ وَهَبَ اثْنَانِ اثْنَيْنِ شَيْئًا مِمَّا يَنْقَسِمُ ، لَمْ يَصِحَّ فِي قِيَاسِ قَوْلِهِمْ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَّهَبَيْنِ قَدْ وُهِبَ لَهُ جُزْءٌ مَشَاعٌ .
وَلَنَا أَنَّ وَفْدَ هَوَازِنَ لَمَّا جَاءُوا يَطْلُبُونَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ مَا غَنِمَهُ مِنْهُمْ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، فَهُوَ لَكُمْ } .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَهَذَا هِبَةُ مَشَاعٍ وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، قَالَ : سَمِعْت { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ جَاءَهُ رَجُلٌ وَمَعَهُ كُبَّةٌ مِنْ شَعْرٍ ، فَقَالَ : أَخَذْت هَذِهِ مِنْ الْمَغْنَمِ لِأُصْلِحَ بَرْدَعَةً لِي ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَهُوَ لَك } .
وَرَوَى عُمَيْرُ بْنُ سَلَمَةَ الضَّمْرِيُّ ، قَالَ { : خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَتَيْنَا الرَّوْحَاءَ ، فَرَأَيْنَا حِمَارَ وَحْشٍ مَعْقُورًا ، فَأَرَدْنَا أَخْذَهُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : دَعُوهُ ، فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَجِيءَ صَاحِبُهُ .
فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَهْزٍ ، وَهُوَ الَّذِي عَقَرَهُ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ : شَأْنَكُمْ الْحِمَارُ .
فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ أَنْ يُقَسِّمَهُ بَيْنَ النَّاسِ

.
} رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، وَالنَّسَائِيُّ .
وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ ، فَجَازَتْ هِبَتُهُ ، كَاَلَّذِي لَا يَنْقَسِمُ ، وَلِأَنَّهُ مَشَاعٌ ، فَأَشْبَهَ مَا لَا يَنْقَسِمُ .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّ وُجُوبَ الْقِسْمَةِ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْقَبْضِ .
لَا يَصِحُّ ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْ صِحَّتَهُ فِي الْبَيْعِ ، فَكَذَا هَاهُنَا .
وَمَتَى كَانَتْ الْهِبَةُ لِاثْنَيْنِ ، فَقَبَضَاهُ بِإِذْنِهِ ، ثَبَتَ مِلْكُهُمَا فِيهِ ، وَإِنْ قَبَضَهُ أَحَدُهُمَا ، ثَبَتَ الْمِلْكُ فِي نَصِيبِهِ دُونَ نَصِيبِ صَاحِبِهِ .

( 4447 ) فَصْلٌ : وَمَتَى قُلْنَا : إنَّ الْقَبْضَ شَرْطٌ فِي الْهِبَةِ .
لَمْ تَصِحَّ الْهِبَةُ فِيمَا لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ .
كَالْعَبْدِ الْآبِقِ ، وَالْجَمَلِ الشَّارِدِ ، وَالْمَغْصُوبِ لِغَيْرِ غَاصِبِهِ مِمَّنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِهِ مِنْ غَاصِبِهِ .
وَبِهَذَا يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ يَفْتَقِرُ إلَى الْقَبْضِ ، فَلَمْ يَصِحَّ فِي ذَلِكَ ، كَالْبَيْعِ .
وَإِنْ وَهَبَ الْمَغْصُوبَ لِغَاصِبِهِ ، أَوْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ أَخْذِهِ مِنْهُ صَحَّ ؛ لِأَنَّهُ مُمْكِنٌ قَبْضُهُ ، وَلَيْسَ لِغَيْرِ الْغَاصِبِ الْقَبْضُ إلَّا بِإِذْنِ الْوَاهِبِ فَإِنْ وَكَّلَ الْمَالِكُ الْغَاصِبَ فِي تَقْبِيضِهِ ، صَحَّ .
وَإِنْ وَكَّلَ الْمُتَّهِبُ الْغَاصِبَ فِي الْقَبْضِ لَهُ ، فَقَبِلَ ، وَمَضَى زَمَنٌ يُمْكِنُ قَبْضُهُ فِيهِ ، صَارَ مَقْبُوضًا ، وَمَلَكَهُ الْمُتَّهِبُ ، وَبَرِئَ الْغَاصِبُ مِنْ ضَمَانِهِ .
وَإِنْ قُلْنَا : الْقَبْضُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْهِبَةِ .
فَمَا لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْقَبْضُ مِنْ ذَلِكَ احْتَمَلَ أَنْ لَا يُعْتَبَرَ فِي صِحَّةِ هِبَتِهِ الْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ ؛ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ بِغَيْرِ عِوَضٍ ، أَشْبَهَ الْوَصِيَّةَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَصِحَّ هِبَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ ، فَلَمْ تَصِحَّ هِبَتُهُ ، كَالْحَمْلِ فِي الْبَطْنِ .
وَكَذَلِكَ يَخْرُجُ فِي هِبَةِ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ ، وَالسَّمَكِ فِي الْمَاءِ ، إذَا كَانَ مَمْلُوكًا .

( 4448 ) فَصْلٌ : وَلَا تَصِحُّ هِبَةُ الْحَمْلِ فِي الْبَطْنِ ، وَاللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ مَعْجُوزٌ عَنْ تَسْلِيمِهِ .
وَفِي الصُّوفِ عَلَى الظَّهْرِ وَجْهَانِ ، بِنَاءً عَلَى صِحَّة بَيْعِهِ .
وَمَتَى أَذِنَ لَهُ فِي جَزِّ الصُّوفِ ، وَحَلْبِ الشَّاةِ ، كَانَ إبَاحَةً وَإِنْ وَهَبَ دُهْنَ سِمْسِمِهِ قَبْلَ عَصْرِهِ ، أَوْ زَيْتَ زَيْتُونِهِ ، أَوْ جفته ، لَمْ يَصِحَّ .
وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْي وَلَا نَعْلَمُ لَهُمْ مُخَالِفًا .
وَلَا تَصِحُّ هِبَةُ الْمَعْدُومِ ، كَاَلَّذِي تُثْمِرُ شَجَرَتُهُ ، أَوْ تَحْمِلُ أَمَتُهُ ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ عَقْدُ تَمْلِيكٍ فِي الْحَيَاةِ ، فَلَمْ تَصِحَّ فِي هَذَا كُلِّهِ ، كَالْبَيْعِ .

( 4449 ) فَصْلٌ : قَالَ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد ، وَحَرْبٍ : لَا تَصِحُّ هِبَةُ الْمَجْهُولِ .
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ : إذَا قَالَ : شَاةً مِنْ غَنَمِي .
يَعْنِي : وَهَبْتهَا لَك .
لَمْ يَجُزْ .
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْجَهْلَ إذَا كَانَ فِي حَقِّ الْوَاهِبِ ، مَنَعَ الصِّحَّةَ ؛ لِأَنَّهُ غَرَرٌ فِي حَقِّهِ وَإِنْ كَانَ مِنْ الْمَوْهُوبِ لَهُ ، لَمْ يَمْنَعْهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا غَرَرَ فِي حَقِّهِ ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِي حَقِّهِ الْعِلْمُ بِمَا يُوهَبُ لَهُ ، كَالْمُوصَى لَهُ .
وَقَالَ مَالِكٌ : تَصِحُّ هِبَةُ الْمَجْهُولِ ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ ، فَصَحَّ فِي الْمَجْهُولِ ، كَالنَّذْرِ وَالْوَصِيَّةِ .
وَوَجْهُ الْأَوَّلِ ، أَنَّهُ عَقْدُ تَمْلِيكٍ لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِالشُّرُوطِ ، فَلَمْ يَصِحَّ فِي الْمَجْهُولِ ، كَالْبَيْعِ ، بِخِلَافِ النَّذْرِ وَالْوَصِيَّةِ .

( 4450 ) فَصْلٌ : وَلَا يَصِحُّ تَعْلِيقُ الْهِبَةِ بِشَرْطٍ ؛ لِأَنَّهَا تَمْلِيكٌ لِمُعَيَّنٍ فِي الْحَيَاةِ ، فَلَمْ يَجُزْ تَعْلِيقُهَا عَلَى شَرْطٍ ، كَالْبَيْعِ .
فَإِنْ عَلَّقَهَا عَلَى شَرْطٍ ، كَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمِّ سَلَمَةَ : { إنْ رَجَعَتْ هَدِيَّتُنَا إلَى النَّجَاشِيِّ فَهِيَ لَك } .
كَانَ وَعْدًا .
وَإِنْ شَرَطَ فِي الْهِبَةِ شُرُوطًا تُنَافِي مُقْتَضَاهَا ، نَحْوَ أَنْ يَقُولَ : وَهَبْتُك هَذَا ، بِشَرْطِ أَنْ لَا تَهَبَهُ ، أَوْ لَا تَبِيعَهُ ، أَوْ بِشَرْطِ أَنْ تَهَبَهُ أَوْ تَبِيعَهُ ، أَوْ بِشَرْطِ أَنْ تَهَبَ فُلَانًا شَيْئًا يَصِحُّ .
الشَّرْطُ وَفِي صِحَّةِ الْهِبَةِ وَجْهَانِ ، بِنَاءً عَلَى الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فِي الْبَيْعِ .
وَإِنْ وَقَّتَ الْهِبَةَ ، فَقَالَ : وَهَبْتُك هَذَا سَنَةً ، ثُمَّ يَعُودُ إلَيَّ .
لَمْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ تَمْلِيكٍ لِعَيْنٍ ، فَلَمْ يَصِحَّ مُؤَقَّتًا ، كَالْبَيْعِ .

( 4451 ) فَصْلٌ : وَإِنْ وَهَبَ أَمَةً وَاسْتَثْنَى مَا فِي بَطْنِهَا ، صَحَّ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَحْمَدَ ، فِي مَنْ أَعْتَقَ أَمَةً وَاسْتَثْنَى مَا فِي بَطْنِهَا ؛ لِأَنَّهُ تَبَرَّعَ بِالْأُمِّ دُونَ مَا فِي بَطْنِهَا ، فَأَشْبَهَ الْعِتْقَ .
وَبِهِ يَقُولُ فِي الْعِتْقِ النَّخَعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ : تَصِحُّ الْهِبَةُ ، وَيَبْطُلُ الِاسْتِثْنَاءُ .
وَلَنَا أَنَّهُ لَمْ يَهَبْ الْوَلَدَ ، فَلَمْ يَمْلِكْ الْمَوْهُوبَ لَهُ ، كَالْمُنْفَصِلِ ، وَكَالْمُوصَى بِهِ .

( 4452 ) فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ لَهُ فِي ذِمَّةِ إنْسَانٍ دَيْنٌ ، فَوَهَبَهُ لَهُ ، أَوْ أَبْرَأْهُ مِنْهُ ، أَوْ أَحَلَّهُ مِنْهُ ، صَحَّ ، وَبَرِئَتْ ذِمَّةُ الْغَرِيمِ مِنْهُ ، وَإِنْ رَدَّ ذَلِكَ ، وَلَمْ يَقْبَلْهُ ؛ لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ ، فَلَمْ يَفْتَقِرْ إلَى الْقَبُولِ ، كَإِسْقَاطِ الْقِصَاصِ وَالشُّفْعَةِ وَحَدِّ الْقَذْفِ ، وَكَالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ .
وَإِنْ قَالَ : تَصَدَّقْت بِهِ عَلَيْك .
صَحَّ ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ وَرَدَ فِي الْإِبْرَاءِ بِلَفْظِ الصَّدَقَةِ ، بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ إلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا } .
وَإِنْ قَالَ : عَفَوْت لَك عَنْهُ .
صَحَّ ؛ لِأَنَّ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ : { إلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ } .
يَعْنِي بِهِ الْإِبْرَاءَ مِنْ الصَّدَاقِ وَإِنْ قَالَ : أَسْقَطْتُهُ عَنْك .
صَحَّ ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِحَقِيقَةِ اللَّفْظِ الْمَوْضُوعِ لَهُ .
وَإِنْ قَالَ : مَلَّكْتُك إيَّاهُ .
صَحَّ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ هِبَتِهِ إيَّاهُ .

( 4453 ) فَصْلٌ : وَإِنْ وَهَبَ الدَّيْنَ لِغَيْرِ مَنْ هُوَ فِي ذِمَّتِهِ ، أَوْ بَاعَهُ إيَّاهُ ، لَمْ يَصِحَّ .
وَبِهِ قَالَ فِي الْبَيْعِ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَإِسْحَاقُ .
قَالَ أَحْمَدُ : إذَا كَانَ لَك عَلَى رَجُلٍ طَعَامٌ قَرْضًا ، فَبِعْهُ مِنْ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ بِنَقْدٍ ، وَلَا تَبِعْهُ مِنْ غَيْرِهِ بِنَقْدٍ وَلَا نَسِيئَةٍ ، وَإِذَا أَقْرَضْت رَجُلًا دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ ، فَلَا تَأْخُذْ مِنْ غَيْرِهِ عَرْضًا بِمَا لَك عَلَيْهِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إنْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَى مُعْسِرٍ ، أَوْ مُمَاطِلٍ ، أَوْ جَاحِدٍ لَهُ ، لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ ؛ لِأَنَّهُ مَعْجُوزٌ عَنْ تَسْلِيمِهِ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى مَلِيءٍ بَاذِلٍ لَهُ .
فَفِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ ابْتَاعَ بِمَالٍ ثَابِتٍ فِي الذِّمَّةِ ، فَصَحَّ ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى فِي ذِمَّتِهِ ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِعَيْنٍ ، أَوْ يَتَقَابَضَانِ فِي الْمَجْلِسِ ، لِئَلَّا يَكُونَ بَيْعَ دَيْنٍ بِدَيْنٍ .
وَلَنَا أَنَّهُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى تَسْلِيمِهِ ، فَلَمْ يَصِحَّ ، كَبَيْعِ الْآبِقِ .
فَأَمَّا هِبَتُهُ ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا تَصِحَّ ، كَالْبَيْعِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَصِحَّ ؛ لِأَنَّهُ لَا غَرَرَ فِيهَا عَلَى الْمُتَّهَبِ ، وَلَا الْوَاهِبِ ، فَتَصِحُّ ، كَهِبَةِ الْأَعْيَانِ .

( 4454 ) فَصْلٌ : تَصِحُّ الْبَرَاءَةُ مِنْ الْمَجْهُولِ ، إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمَا سَبِيلٌ إلَى مَعْرِفَتِهِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تَصِحُّ مُطْلَقًا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا تَصِحُّ ، إلَّا أَنَّهُ إذَا أَرَادَ ذَلِكَ قَالَ : أَبْرَأْتُك مِنْ دِرْهَمٍ إلَى أَلْفٍ .
لِأَنَّ الْجَهَالَةَ إنَّمَا مُنِعَتْ لِأَجْلِ الْغَرَرِ ، فَإِذَا رَضِيَ بِالْجُمْلَةِ ، فَقَدْ زَالَ الْغَرَرُ ، وَصَحَّتْ الْبَرَاءَةُ .
وَلَنَا ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِرَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إلَيْهِ فِي مَوَارِيثَ دَرَسَتْ : { اقْتَسِمَا ، وَتَوَخَّيَا الْحَقَّ ، ثُمَّ اسْتِهِمَا ، ثُمَّ تَحَالَّا } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَلِأَنَّهُ إسْقَاطٌ ، فَصَحَّ فِي الْمَجْهُولِ ، كَالْعَتَاقِ وَالطَّلَاقِ ، وَكَمَا لَوْ قَالَ : مِنْ دِرْهَمٍ إلَى أَلْفٍ .
وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَى تَبْرِئَةِ الذِّمَّةِ ، وَلَا سَبِيلَ إلَى الْعِلْمِ بِمَا فِيهَا ، فَلَوْ وَقَفَ صِحَّةَ الْبَرَاءَةِ عَلَى الْعِلْمِ ، لَكَانَ سَدًّا لِبَابِ عَفْوِ الْإِنْسَانِ عَنْ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ ، وَتَبْرِئَةِ ذِمَّتِهِ ، فَلَمْ يَجُزْ ذَلِكَ ، كَالْمَنْعِ مِنْ الْعِتْقِ .
وَأَمَّا إنْ كَانَ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ يَعْلَمُهُ ، وَيَكْتُمُهُ الْمُسْتَحِقَّ ، خَوْفًا مِنْ أَنَّهُ إذَا عَلِمَهُ لَمْ يَسْمَحْ بِإِبْرَائِهِ مِنْهُ ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تَصِحَّ الْبَرَاءَةُ فِيهِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَغْرِيرًا بِالْمُشْتَرِي ، وَقَدْ أَمْكَنَ التَّحَرُّزُ مِنْهُ وَقَالَ أَصْحَابُنَا : لَوْ أَبْرَأهُ مِنْ مِائَةٍ ، وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَا شَيْءَ لَهُ عَلَيْهِ ، وَكَانَ لَهُ عَلَيْهِ مِائَةٌ ، فَفِي صِحَّةِ الْبَرَاءَةِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، صِحَّتُهَا ؛ لِأَنَّهَا صَادَفَتْ مِلْكَهُ ، فَأَسْقَطَتْهُ ، كَمَا لَوْ عَلِمَهَا .
وَالثَّانِي ، لَا تَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ أَبْرَأْهُ مِمَّا لَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ عَلَيْهِ ، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إبْرَاءً فِي الْحَقِيقَةِ .
وَأَصْلُ الْوَجْهَيْنِ مَا لَوْ بَاعَ مَالًا كَانَ لِمَوْرُوثِهِ ، يَعْتَقِدُ أَنَّهُ بَاقٍ لِمُوَرِّثِهِ ، وَكَانَ مُوَرِّثُهُ قَدْ مَاتَ ، وَانْتَقَلَ مِلْكُهُ إلَيْهِ ، فَهَلْ يَصِحُّ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ .
وَلِلشَّافِعِيِّ

قَوْلَانِ فِي الْبَيْعِ ، وَفِي صِحَّةِ الْإِبْرَاءِ وَجْهَانِ .

( 4455 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( وَيَقْبِضُ لِلطِّفْلِ أَبُوهُ ، أَوْ وَصِيُّهُ ، أَوْ الْحَاكِمُ ، أَوْ أَمِينُهُ بِأَمْرِهِ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الطِّفْلَ لَا يَصِحُّ قَبْضُهُ لِنَفْسِهِ ، وَلَا قَبُولُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّصَرُّفِ ، وَوَلِيُّهُ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي ذَلِكَ ؛ فَإِنْ كَانَ لَهُ أَبٌ أَمِينٌ ، فَهُوَ وَلِيُّهُ ؛ لِأَنَّهُ أَشْفَقُ عَلَيْهِ ، وَأَقْرَبُ إلَيْهِ ، وَإِنْ مَاتَ أَبُوهُ الْأَمِينُ ، وَلَهُ وَصِيٌّ ، فَوَلِيُّهُ وَصِيُّهُ ؛ لِأَنَّ الْأَبَ أَقَامَهُ مُقَامَ نَفْسِهِ ، فَجَرَى مَجْرَى وَكِيلِهِ .
وَإِنْ كَانَ الْأَبُ غَيْرَ مَأْمُونٍ ، لِفِسْقِ أَوْ جُنُونٍ ، أَوْ مَاتَ عَنْ غَيْرِ وَصِيٍّ ، فَأَمِينُهُ الْحَاكِمُ .
وَلَا يَلِي مَالَهُ غَيْرُ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ ، وَأَمِينُ الْحَاكِمِ يَقُومُ مَقَامَهُ ، وَكَذَلِكَ وَكِيلُ الْأَبِ وَالْوَصِيُّ ، فَيَقُومُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَقَامَ الصَّبِيِّ فِي الْقَبُولِ وَالْقَبْضِ إنْ اُحْتِيجَ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَبُولٌ لِمَا لِلصَّبِيِّ فِيهِ حَظٌّ ، فَكَانَ إلَى الْوَلِيِّ ، كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ .
وَلَا يَصِحُّ الْقَبْضُ وَالْقَبُولُ مِنْ غَيْرِ هَؤُلَاءِ .
قَالَ أَحْمَدَ ، فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ ، فِي صَبِيٍّ وُهِبَتْ لَهُ هِبَةٌ ، أَوْ تُصُدِّقَ عَلَيْهِ بِصَدَقَةٍ ، فَقَبَضَتْ الْأُمُّ ذَلِكَ وَأَبُوهُ حَاضِرٌ ، فَقَالَ : لَا أَعْرِفُ لِلْأُمِّ قَبْضًا ، وَلَا يَكُونُ إلَّا لِلْأَبِ .
وَقَالَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَحَقُّ مَنْ يَحُوزُ عَلَى الصَّبِيِّ أَبُوهُ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ إنَّمَا يَكُونُ مِنْ الْمُتَّهَبِ أَوْ نَائِبِهِ ، وَالْوَالِي نَائِبٌ بِالشَّرْعِ ، فَصَحَّ قَبْضُهُ لَهُ ، أَمَّا غَيْرُهُ فَلَا نِيَابَةَ لَهُ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَصِحَّ الْقَبْضُ وَالْقَبُولُ مِنْ غَيْرِهِمْ عِنْدَ عَدَمِهِمْ ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَى ذَلِكَ فَإِنَّ الصَّبِيَّ قَدْ يَكُونُ فِي مَكَان لَا حَاكِمَ فِيهِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَبٌ وَلَا وَصِيٌّ ، وَيَكُونُ فَقِيرًا لَا غِنَى بِهِ عَنْ الصَّدَقَاتِ ، فَإِنْ لَمْ يَصِحَّ قَبْضُ غَيْرِهِمْ لَهُ ، انْسَدَّ بَابُ وُصُولِهَا إلَيْهِ ،

فَيَضِيعُ وَيَهْلَكُ ، وَمُرَاعَاةُ حِفْظِهِ عَنْ الْهَلَاكِ أَوْلَى مِنْ مُرَاعَاةِ الْوِلَايَةِ .
فَعَلَى هَذَا ، لِلْأُمِّ الْقَبْضُ لَهُ ، وَكُلِّ مَنْ يَلِيهِ مِنْ أَقَارِبِهِ وَغَيْرِهِمْ .
وَإِنْ كَانَ الصَّبِيُّ مُمَيَّزًا ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الطِّفْلِ ، فِي قِيَامِ وَلِيِّهِ مَقَامَهُ ، لِأَنَّ الْوِلَايَةَ لَا تَزُولُ عَنْهُ قَبْلَ الْبُلُوغِ ، إلَّا أَنَّهُ إذَا قَبِلَ لِنَفْسِهِ ، وَقَبَضَ لَهَا صَحَّ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ التَّصَرُّفِ ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ بَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ ، فَهَاهُنَا أَوْلَى .
وَلَا يَحْتَاجُ إلَى إذْنِ الْوَلِيِّ هَاهُنَا ؛ لِأَنَّهُ مَحْضُ مَصْلَحَةٍ ، وَلَا ضَرَرَ فِيهِ ، فَصَحَّ مِنْ غَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهِ ، كَوَصِيَّتِهِ ، وَكَسْبِ الْمُبَاحَاتِ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَقِفَ صِحَّةُ الْقَبْضِ مِنْهُ عَلَى إذْنِ وَلِيِّهِ ، دُونَ الْقَبُولِ ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ يَحْصُلُ بِهِ مُسْتَوْلِيًا عَلَى الْمَالِ ، فَلَا يُؤْمَنُ تَضْيِيعُهُ لَهُ وَتَفْرِيطُهُ فِيهِ ، فَيَتَعَيَّنُ حِفْظُهُ عَنْ ذَلِكَ بِوَقْفِهِ عَلَى إذْنِ وَلِيِّهِ ، كَقَبْضِهِ لِوَدِيعَتِهِ .
وَأَمَّا الْقَبُولُ ، فَيَحْصُلُ لَهُ بِهِ الْمِلْكُ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ ، فَجَازَ مِنْ غَيْرِ إذْنٍ ، كَاحْتِشَاشِهِ وَاصْطِيَادِهِ .

( 4456 ) فَصْلٌ : فَإِنْ وَهَبَ الْأَبُ لِابْنِهِ شَيْئًا ، قَامَ مَقَامَهُ فِي الْقَبْضِ وَالْقَبُولِ ، إنْ اُحْتِيجَ إلَيْهِ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ إذَا وَهَبَ لِوَلَدِهِ الطِّفْلِ دَارًا بِعَيْنِهَا ، أَوْ عَبْدًا بِعَيْنِهِ ، وَقَبَضَهُ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ ، وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ ، أَنَّ الْهِبَةَ تَامَّةٌ .
هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ .
وَرَوَيْنَا مَعْنَى ذَلِكَ عَنْ شُرَيْحٍ ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ .
ثُمَّ إنْ كَانَ الْمَوْهُوبُ مِمَّا يَفْتَقِرُ إلَى قَبْضٍ ، اُكْتُفِيَ بِقَوْلِهِ : قَدْ وَهَبْت هَذَا لِابْنِي ، وَقَبَضْته لَهُ لِأَنَّهُ يُغْنِي عَنْ الْقَبُولِ كَمَا ذَكَرْنَا .
وَلَا يُغْنِي قَوْلُهُ : قَدْ قَبِلْته .
لِأَنَّ الْقَبُولَ لَا يُغْنِي عَنْ الْقَبْضِ .
وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَفْتَقِرُ اُكْتُفِيَ بِقَوْلِهِ : قَدْ وَهَبْت هَذَا لِابْنِي .
وَلَا يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِ قَبْضٍ وَلَا قَبُولٍ .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ هِبَةَ الْأَبِ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ فِي حِجْرِهِ لَا يَحْتَاجُ إلَى قَبْضٍ ، وَأَنَّ الْإِشْهَادَ فِيهَا يُغْنِي عَنْ الْقَبْضِ ، وَإِنْ وَلِيَهَا أَبُوهُ ؛ لِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ ، عَنْ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ ، أَنَّ عُثْمَانَ قَالَ : مَنْ نَحَلَ وَلَدًا لَهُ صَغِيرًا ، لَمْ يَبْلُغْ أَنْ يَحُوزَ نِحْلَةً ، فَأَعْلَنَ ذَلِكَ ، وَأَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ ، فَهِيَ جَائِزَةٌ ، وَإِنْ وَلِيَهَا أَبُوهُ وَقَالَ الْقَاضِي : لَا بُدَّ فِي هِبَةِ الْوَلَدِ مِنْ أَنْ يَقُولَ : قَدْ قَبِلْته .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ عِنْدَهُمْ لَا تَصِحُّ إلَّا بِإِيجَابٍ وَقَبُولٍ .
وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ أَنَّ قَرَائِنَ الْأَحْوَالِ وَدَلَالَتَهَا تُغْنِي عَنْ لَفْظِ الْقَبُولِ ، وَلَا أَدَلَّ عَلَى الْقَبُولِ مِنْ كَوْنِ الْقَابِلِ هُوَ الْوَاهِبُ ، فَاعْتِبَارُ لَفْظٍ لَا يُفِيدُ مَعْنًى مِنْ غَيْرِ وُرُودِ الشَّرْعِ بِهِ تَحَكُّمٌ لَا مَعْنَى لَهُ ، مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِظَاهِرِ حَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

وَصَحَابَتِهِ .
وَلَيْسَ هَذَا مَذْهَبًا لِأَحْمَدْ ، فَقَدْ قَالَ فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ ، فِي رَجُلٍ أَشْهَدَ بِسَهْمٍ مِنْ ضَيْعَتِهِ وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ لِابْنِهِ ، وَلَيْسَ لَهُ وَلَدٌ غَيْرُهُ ، فَقَالَ : أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ الْإِشْهَادِ : قَدْ قَبَضْته لَهُ قِيلَ لَهُ : فَإِنْ سَهَا ؟ قَالَ : إذَا كَانَ مُفْرَزًا رَجَوْت .
فَقَدْ ذَكَرَ أَحْمَدُ أَنَّهُ يُكْتَفَى بِقَوْلِهِ : قَدْ قَبَضْته .
وَأَنَّهُ يَرْجُو أَنْ يُكْتَفَى مَعَ التَّمْيِيزِ بِالْإِشْهَادِ فَحَسْبُ .
وَهَذَا مُوَافِقٌ لِلْإِجْمَاعِ الْمَذْكُورِ عَنْ سَائِرِ الْعُلَمَاءِ .
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : يُكْتَفَى بِأَحَدِ لَفْظَيْنِ ، إمَّا أَنْ يَقُولَ : قَدْ قَبِلْته ، أَوْ قَبَضْته .
لِأَنَّ الْقَبُولَ يُغْنِي عَنْ الْقَبْضِ .
وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ مَا ذَكَرْنَاهُ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَثْمَانِ وَغَيْرِهَا فِيمَا ذَكَرْنَا ، وَبِهِ يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ مَالِكٌ : إنْ وَهَبَ لَهُ مَا يُعْرَفُ بِعَيْنِهِ كَالْأَثْمَانِ ، لَمْ يَجُزْ ، إلَّا أَنْ يَضَعَهَا عَلَى يَدِ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ الْأَبَ قَدْ يُتْلِفُ ذَلِكَ ، وَيَتْلَفُ بِغَيْرِ سَبَبِهِ ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُشْهِدَ عَلَى شَيْءٍ بِعَيْنِهِ ، فَلَا يَنْفَعُ الْقَبْضُ شَيْئًا .
وَلَنَا أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا تَصِحُّ هِبَتُهُ ، فَإِذَا وَهَبَهُ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ ، وَقَبَضَهُ لَهُ ، وَجَبَ أَنْ تَصِحَّ كَالْعُرُوضِ .

( 4457 ) فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ الْوَاهِبُ لِلصَّبِيِّ غَيْرَ الْأَبِ مِنْ أَوْلِيَائِهِ ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا : لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُوَكِّلَ مَنْ يَقْبَلُ لِلصَّبِيِّ ، وَيَقْبِضُ لَهُ ، لِيَكُونَ الْإِيجَابُ مِنْهُ ، وَالْقَبُولُ ، وَالْقَبْضُ مِنْ غَيْرِهِ ، كَمَا فِي الْبَيْعِ .
بِخِلَافِ الْأَبِ ؛ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُوجِبَ وَيَقْبَلَ وَيَقْبِضَ ، لِكَوْنِهِ يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ لِنَفْسِهِ .
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّ الْأَبَ وَغَيْرَهُ فِي هَذَا سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ يَجُوزُ أَنْ يَصْدُرَ مِنْهُ وَمِنْ وَكِيلِهِ ، فَجَازَ لَهُ أَنْ يَتَوَلَّى طَرَفَيْهِ ، كَالْأَبِ وَفَارَقَ الْبَيْعَ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُوَكِّلَ مَنْ يَشْتَرِي لَهُ ، وَلِأَنَّ الْبَيْعَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ وَمُرَابَحَةٍ ، فَيُتَّهَمُ فِي عَقْدِهِ لِنَفْسِهِ ، وَالْهِبَةُ مَحْضُ مَصْلَحَةٍ لَا تُهْمَةَ فِيهَا ، وَهُوَ وَلِيٌّ فِيهِ ، فَجَازَ أَنْ يَتَوَلَّى طَرَفَيْ الْعَقْدِ ، كَالْأَبِ ، وَلِأَنَّ الْبَيْعَ إنَّمَا مُنِعَ مِنْهُ لِمَا يَأْخُذُهُ مِنْ الْعِوَضِ لِنَفْسِهِ مِنْ مَالِ الصَّبِيِّ ، وَهُوَ هَاهُنَا يُعْطِي وَلَا يَأْخُذُ ، فَلَا وَجْهَ لِمَنْعِهِ مِنْ ذَلِكَ ، وَتَوْقِيفِهِ عَلَى تَوْكِيلِ غَيْرِهِ ، وَلِأَنَّنَا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ يُسْتَغْنَى بِالْإِيجَابِ وَالْإِشْهَادِ عَنْ الْقَبْضِ وَالْقَبُولِ ، فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّوْكِيلِ فِيهِمَا مَعَ غِنَاهُ عَنْهُمَا .

( 4458 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا الْهِبَةُ مِنْ الصَّبِيِّ لِغَيْرِهِ ، فَلَا تَصِحُّ ، سَوَاءٌ أَذِنَ فِيهَا الْوَلِيُّ أَوْ لَمْ يَأْذَنْ ؛ لِأَنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ لِحَظِّ نَفْسِهِ ، فَلَمْ يَصِحَّ تَبَرُّعُهُ ، كَالسَّفِيهِ .
وَأَمَّا الْعَبْدُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَهَبَ إلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ لِسَيِّدِهِ ، وَمَالُهُ مَالٌ لِسَيِّدِهِ ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ إزَالَةُ مِلْكِ سَيِّدِهِ عَنْهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، كَالْأَجْنَبِيِّ .
وَلَهُ أَنْ يَقْبَلَ الْهِبَةَ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ؛ لِأَنَّهُ تَحْصِيلٌ لِلْمَالِ لِسَيِّدِهِ ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ إذْنُهُ فِيهِ ، كَالِالْتِقَاطِ ، وَمَا وُهِبَهُ لِسَيِّدِهِ ، لِأَنَّهُ مِنْ اكْتِسَابِهِ ، فَأَشْبَهَ اصْطِيَادَهُ .

( 4459 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( وَإِذَا فَاضَلَ بَيْنَ وَلَدِهِ فِي الْعَطِيَّةِ ، أُمِرَ بِرَدِّهِ ، كَأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ أَوْلَادِهِ فِي الْعَطِيَّةِ ، وَإِذَا لَمْ يَخْتَصَّ أَحَدُهُمْ بِمَعْنًى يُبِيحُ التَّفْضِيلَ ، فَإِنْ خَصَّ بَعْضَهُمْ بِعَطِيَّتِهِ ، أَوْ فَاضَلَ بَيْنَهُمْ فِيهَا أَثِمَ ، وَوَجَبَتْ عَلَيْهِ التَّسْوِيَةُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ ؛ إمَّا رَدُّ مَا فَضَّلَ بِهِ الْبَعْضَ ، وَإِمَّا إتْمَامُ نَصِيبِ الْآخَرِ .
قَالَ طَاوُسٌ : لَا يَجُوزُ ذَلِكَ ، وَلَا رَغِيفٌ مُحْتَرِقٌ .
وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَرُوِيَ مَعْنَاهُ عَنْ مُجَاهِدٍ ، وَعُرْوَةَ .
وَكَانَ الْحَسَنُ يَكْرَهُهُ ، وَيُجِيزُهُ فِي الْقَضَاءِ .
وَقَالَ مَالِكٌ ، وَاللَّيْثُ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ : ذَلِكَ جَائِزٌ .
وَرُوِيَ مَعْنَى ذَلِكَ عَنْ شُرَيْحٍ ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ ، وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ ؛ لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَحَلَ عَائِشَةَ ابْنَتَهُ جُذَاذَ عِشْرِينَ وَسْقًا ، دُونَ سَائِرِ وَلَدِهِ .
وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بُقُولِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ : { أَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي } فَأَمَرَهُ بِتَأْكِيدِهَا دُونَ الرُّجُوعِ فِيهَا ، وَلِأَنَّهَا عَطِيَّةٌ تَلْزَمُ بِمَوْتِ الْأَبِ ، فَكَانَتْ جَائِزَةً ، كَمَا لَوْ سَوَّى بَيْنَهُمْ .
وَلَنَا مَا رَوَى النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ قَالَ { : تَصَدَّقَ عَلَيَّ أَبِي بِبَعْضِ مَالِهِ ، فَقَالَتْ أُمِّي عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ : لَا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ عَلَيْهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَجَاءَ أَبِي إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُشْهِدَهُ عَلَى صَدَقَتِهِ ، فَقَالَ : أَكُلَّ وَلَدِك أَعْطَيْت مِثْلَهُ ؟ قَالَ : لَا .
قَالَ : فَاتَّقُوا اللَّهَ ، وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ .
قَالَ : فَرَجَعَ أَبِي ، فَرَدَّ تِلْكَ الصَّدَقَةَ } .
وَفِي لَفْظٍ قَالَ : " فَارْدُدْهُ " .
وَفِي لَفْظٍ قَالَ : " فَأَرْجِعْهُ " .
وَفِي لَفْظٍ : " لَا

تُشْهِدْنِي عَلَى جَوْرٍ " وَفِي لَفْظٍ : " فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي " .
وَفِي لَفْظٍ : " سَوِّ بَيْنَهُمْ " .
وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى التَّحْرِيمِ ؛ لِأَنَّهُ سَمَّاهُ جَوْرًا ، وَأَمَرَ بِرَدِّهِ ، وَامْتَنَعَ مِنْ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ ، وَالْجَوْرُ حَرَامٌ ، وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ ، وَلِأَنَّ تَفْضِيلَ بَعْضِهِمْ يُورِثُ بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَة وَالْبَغْضَاءَ وَقَطِيعَةَ الرَّحِمِ ، فَمُنِعَ مِنْهُ ، كَتَزْوِيجِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا .
وَقَوْلُ أَبِي بَكْرٍ لَا يُعَارِضُ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ مَعَهُ .
وَيُحْتَمَلُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَصَّهَا بِعَطِيَّتِهِ لِحَاجَتِهَا وَعَجْزِهَا عَنْ الْكَسْبِ وَالتَّسَبُّبِ فِيهِ ، مَعَ اخْتِصَاصِهَا بِفَضْلِهَا ، وَكَوْنِهَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ زَوْجَ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ فَضَائِلِهَا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ نَحَلَهَا وَنَحَلَ غَيْرَهَا مِنْ وَلَدِهِ ، أَوْ نَحَلَهَا وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَنْحَلَ غَيْرَهَا ، فَأَدْرَكَهُ الْمَوْتُ قَبْلَ ذَلِكَ .
وَيَتَعَيَّنُ حَمْلُ حَدِيثِهِ عَلَى أَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ ؛ لِأَنَّ حَمْلَهُ عَلَى مِثْلِ مَحَلِّ النِّزَاعِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ، وَأَقَلُّ أَحْوَالِهِ الْكَرَاهَةُ ، وَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِ أَبِي بَكْرٍ اجْتِنَابُ الْمَكْرُوهَاتِ .
وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي } .
لَيْسَ بِأَمْرٍ ؛ لِأَنَّ أَدْنَى أَحْوَالِ الْأَمْرِ الِاسْتِحْبَابُ وَالنَّدْبُ ، وَلَا خِلَافَ فِي كَرَاهَةِ هَذَا .
وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَهُ بِتَأْكِيدِهِ ، مَعَ أَمْرِهِ بِرَدِّهِ ، وَتَسْمِيَتِهِ إيَّاهُ جَوْرًا ، وَحَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى هَذَا حَمْلٌ لِحَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى التَّنَاقُضِ وَالتَّضَادِّ .
وَلَوْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِشْهَادِ غَيْرِهِ ، لَامْتَثَلَ بَشِيرٌ أَمْرَهُ ، وَلَمْ يَرُدَّ ، وَإِنَّمَا هَذَا تَهْدِيدٌ لَهُ عَلَى هَذَا ، فَيُفِيدُ مَا أَفَادَهُ

النَّهْيُ عَنْ إتْمَامِهِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( 4460 ) فَصْلٌ : فَإِنْ خَصَّ بَعْضَهُمْ لِمَعْنًى يَقْتَضِي تَخْصِيصَهُ ، مِثْلَ اخْتِصَاصِهِ بِحَاجَةٍ ، أَوْ زَمَانَةٍ ، أَوْ عَمَى ، أَوْ كَثْرَةِ عَائِلَةٍ ، أَوْ اشْتِغَالِهِ بِالْعِلْمِ أَوْ نَحْوِهِ مِنْ الْفَضَائِلِ ، أَوْ صَرَفَ عَطِيَّتَهُ عَنْ بَعْضِ وَلَدِهِ لِفِسْقِهِ ، أَوْ بِدْعَتِهِ ، أَوْ لِكَوْنِهِ يَسْتَعِينُ بِمَا يَأْخُذُهُ عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ ، أَوْ يُنْفِقُهُ فِيهَا ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ ؛ لِقَوْلِهِ فِي تَخْصِيصِ بَعْضِهِمْ بِالْوَقْفِ : لَا بَأْسَ بِهِ إذَا كَانَ لَحَاجَةٍ ، وَأَكْرَهُهُ إذَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْأَثَرَةِ .
وَالْعَطِيَّةُ فِي مَعْنَاهُ .
وَيَحْتَمِلُ ظَاهِرُ لَفْظِهِ الْمَنْعَ مِنْ التَّفْضِيلِ أَوْ التَّخْصِيصِ عَلَى كُلِّ حَالٍ ؛ لِكَوْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسْتَفْصِلْ بَشِيرًا فِي عَطِيَّتِهِ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى إنْ شَاءَ اللَّهُ ؛ لِحَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ ، وَلِأَنَّ بَعْضَهُمْ اخْتَصَّ بِمَعْنًى يَقْتَضِي الْعَطِيَّةَ ، فَجَازَ أَنْ يَخْتَصَّ بِهَا ، كَمَا لَوْ اخْتَصَّ بِالْقَرَابَةِ .
وَحَدِيثُ بَشِيرٍ قَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ لَا عُمُومَ لَهَا ، وَتَرْكُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الِاسْتِفْصَالَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِعِلْمِهِ بِالْحَالِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ عَلِمَ بِالْحَالِ لَمَا قَالَ : " أَلَك وَلَدٌ غَيْرُهُ ؟ " .
قُلْنَا : يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ هَاهُنَا لِبَيَانِ الْعِلَّةِ ، كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلَّذِي سَأَلَهُ عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ { : أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إذَا يَبِسَ ؟ قَالَ : نَعَمْ : قَالَ : فَلَا إذًا } وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ الرُّطَبَ يَنْقُضُ ، لَكِنْ نَبَّهَ السَّائِلَ بِهَذَا عَلَى عِلَّةِ الْمَنْعِ مِنْ الْبَيْعِ ، كَذَا هَاهُنَا .

( 4461 ) فَصْلٌ : وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي اسْتِحْبَابِ التَّسْوِيَةِ ، وَكَرَاهَةِ التَّفْضِيلِ .
قَالَ إبْرَاهِيمُ : كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يُسَوُّوا بَيْنَهُمْ حَتَّى فِي الْقُبَلِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَالتَّسْوِيَةُ الْمُسْتَحَبَّةُ أَنْ يُقَسِّمَ بَيْنَهُمْ عَلَى حَسَبِ قِسْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى الْمِيرَاثَ ، فَيَجْعَلَ لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ ، وَشُرَيْحٌ ، وَإِسْحَاقُ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ .
قَالَ شُرَيْحٌ لِرَجُلٍ قَسَّمَ مَالَهُ بَيْنَ وَلَدِهِ : اُرْدُدْهُمْ إلَى سِهَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَفَرَائِضِهِ .
وَقَالَ عَطَاءٌ : مَا كَانُوا يُقَسِّمُونَ إلَّا عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ : تُعْطَى الْأُنْثَى مِثْلُ مَا يُعْطَى الذَّكَرُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِبَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ : " سَوِّ بَيْنَهُمْ " .
وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ { : أَيَسُرُّك أَنْ يَسْتَوُوا فِي بِرِّك ؟ .
قَالَ : نَعَمْ .
قَالَ : فَسَوِّ بَيْنَهُمْ } .
وَالْبِنْتُ كَالِابْنِ فِي اسْتِحْقَاقِ بِرِّهَا ، وَكَذَلِكَ فِي عَطِيَّتِهَا .
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : سَوُّوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ فِي الْعَطِيَّةِ ، وَلَوْ كُنْت مُؤْثِرًا لِأَحَدٍ لَآثَرْتُ النِّسَاءَ عَلَى الرِّجَالِ } .
رَوَاهُ سَعِيدٌ فِي " سُنَنِهِ " .
وَلِأَنَّهَا عَطِيَّةٌ فِي الْحَيَاةِ ، فَاسْتَوَى فِيهَا الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى ، كَالنَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ .
وَلَنَا أَنَّ اللَّهِ تَعَالَى قَسَّمَ بَيْنَهُمْ ، فَجَعَلَ لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ، وَأَوْلَى مَا اقْتَدَى بِقِسْمَةِ اللَّهِ ، وَلِأَنَّ الْعَطِيَّةَ فِي الْحَيَاةِ أَحَدُ حَالَيْ الْعَطِيَّةِ ، فَيُجْعَلُ لِلذَّكَرِ مِنْهَا مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ، كَحَالَةِ الْمَوْتِ .
يَعْنِي الْمِيرَاثَ يُحَقِّقُهُ أَنَّ الْعَطِيَّةَ اسْتِعْجَالٌ لِمَا يَكُونُ بَعْدَ الْمَوْتِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ عَلَى حَسَبِهِ ، كَمَا أَنَّ مُعَجِّلَ الزَّكَاةِ قَبْلَ وُجُوبِهَا يُؤَدِّيهَا عَلَى صِفَةِ أَدَائِهَا

بَعْدَ وُجُوبِهَا ، وَكَذَلِكَ الْكَفَّارَاتُ الْمُعَجَّلَةُ ، وَلِأَنَّ الذَّكَرَ أَحْوَجُ مِنْ الْأُنْثَى ، مِنْ قِبَلِ أَنَّهُمَا إذَا تَزَوَّجَا جَمِيعًا فَالصَّدَاقُ وَالنَّفَقَةُ وَنَفَقَةُ الْأَوْلَادِ عَلَى الذَّكَرِ ، وَالْأُنْثَى لَهَا ذَلِكَ ، فَكَانَ أَوْلَى بِالتَّفْضِيلِ ؛ لِزِيَادَةِ حَاجَتِهِ ، وَقَدْ قَسَّمَ اللَّهُ تَعَالَى الْمِيرَاثَ ، فَفَضَّلَ الذَّكَرَ مَقْرُونًا بِهَذَا الْمَعْنَى فَتُعَلَّلُ بِهِ ، وَيَتَعَدَّى ذَلِكَ إلَى الْعَطِيَّةِ فِي الْحَيَاةِ .
وَحَدِيثُ بَشِيرٍ قَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ ، وَحِكَايَةُ حَالٍ لَا عُمُومَ لَهَا ، وَإِنَّمَا ثَبَتَ حُكْمُهَا فِيمَا مَاثَلَهَا ، وَلَا نَعْلَمُ حَالَ أَوْلَادِ بَشِيرٍ ، هَلْ كَانَ فِيهِمْ أُنْثَى أَوْ لَا ؟ وَلَعَلَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ إلَّا وَلَدٌ ذَكَرٌ .
ثُمَّ تُحْمَلُ التَّسْوِيَةُ عَلَى الْقِسْمَةِ عَلَى كِتَابِ اللَّه تَعَالَى .
وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ التَّسْوِيَةَ فِي أَصْلِ الْعَطَاءِ ، لَا فِي صِفَتِهِ ، فَإِنَّ الْقِسْمَةَ لَا تَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ الْآخَرُ ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ قَوْلُ عَطَاءٍ : مَا كَانُوا يُقَسِّمُونَ إلَّا عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى .
وَهَذَا خَبَرٌ عَنْ جَمِيعِهِمْ ، عَلَى أَنَّ الصَّحِيحَ مِنْ خَبَرِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ مُرْسَلٌ .

( 4462 ) فَصْلٌ : وَلَيْسَ عَلَيْهِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ سَائِرِ أَقَارِبِهِ ، وَلَا إعْطَاؤُهُمْ عَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِهِمْ سَوَاءٌ كَانُوا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ ، كَإِخْوَةٍ وَأَخَوَاتٍ ، وَأَعْمَامٍ وَبَنِي عَمٍّ ، أَوْ مِنْ جِهَاتٍ ، كَبَنَاتٍ وَأَخَوَاتٍ وَغَيْرِهِمْ .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ الْمَشْرُوعُ فِي عَطِيَّةِ الْأَوْلَادِ وَسَائِرِ الْأَقَارِبِ ، أَنْ يُعْطِيَهُمْ عَلَى قَدْرِ مِيرَاثِهِمْ ، فَإِنْ خَالَفَ وَفَعَلَ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ وَيَعُمَّهُمْ بِالنِّحْلَةِ ؛ لِأَنَّهُمْ فِي مَعْنَى الْأَوْلَادِ ، فَثَبَتَ فِيهِمْ مِثْلُ حُكْمِهِمْ .
وَلَنَا أَنَّهَا عَطِيَّةٌ لِغَيْرِ الْأَوْلَادِ فِي صِحَّتِهِ ، فَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ التَّسْوِيَةُ ، كَمَا لَوْ كَانُوا غَيْرَ وَارِثِينَ .
وَلِأَنَّ الْأَصْلَ إبَاحَةُ تَصَرُّفِ الْإِنْسَانِ فِي مَالِهِ كَيْفَ شَاءَ ، وَإِنَّمَا وَجَبَتْ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْأَوْلَادِ بِالْخَبَرِ ، وَلَيْسَ غَيْرُهُمْ فِي مَعْنَاهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ اسْتَوَوْا فِي وُجُوبِ بِرِّ وَالِدِهِمْ ، فَاسْتَوَوْا فِي عَطِيَّتِهِ .
وَبِهَذَا عَلَّلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ { : أَيَسُرُّك أَنْ يَسْتَوُوا فِي بِرِّك ؟ قَالَ : نَعَمْ .
قَالَ : فَسَوِّ بَيْنَهُمْ } .
وَلَمْ يُوجَدْ هَذَا فِي غَيْرِهِمْ ، وَلِأَنَّ لِلْوَالِدِ الرُّجُوعَ فِيمَا أَعْطَى وَلَدَهُ ، فَيُمْكِنُهُ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَهُمْ بِاسْتِرْجَاعِ مَا أَعْطَاهُ لِبَعْضِهِمْ ، وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ فِي غَيْرِهِمْ ، وَلِأَنَّ الْأَوْلَادَ لِشِدَّةِ مَحَبَّةِ الْوَالِدِ لَهُمْ ، وَصَرْفِ مَالِهِ إلَيْهِمْ عَادَةً .
يَتَنَافَسُونَ فِي ذَلِكَ ، وَيَشْتَدُّ عَلَيْهِمْ تَفْضِيلُ بَعْضِهِمْ ، وَلَا يُبَارِيهِمْ فِي ذَلِكَ غَيْرُهُمْ ، فَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَيْهِمْ ، وَلَا نَصَّ فِي غَيْرِهِمْ ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ عَلِمَ لِبَشِيرٍ زَوْجَةً ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِإِعْطَائِهَا شَيْئًا حِينَ أَمَرَهُ بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ أَوْلَادِهِ ، وَلَمْ يَسْأَلْهُ هَلْ لَك وَارِثٌ غَيْرُ وَلَدِك ؟ .

( 4463 ) فَصْلٌ : وَالْأُمُّ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ الْأَوْلَادِ كَالْأَبِ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : اتَّقُوا اللَّهِ ، وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ } .
وَلِأَنَّهَا أَحَدُ الْوَالِدَيْنِ ، فَمُنِعَتْ التَّفْضِيلَ كَالْأَبِ ، وَلِأَنَّ مَا يَحْصُلُ بِتَخْصِيصِ الْأَبِ بَعْضَ وَلَدِهِ مِنْ الْحَسَدِ وَالْعَدَاوَةِ ، يُوجَدُ مِثْلُهُ فِي تَخْصِيصِ الْأُمِّ بَعْضَ وَلَدِهَا ، فَثَبَتَ لَهَا مِثْلُ حُكْمِهِ فِي ذَلِكَ .

( 4464 ) فَصْلٌ : وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ : " أُمِرَ بِرَدِّهِ " .
يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْأَبِ الرُّجُوعَ فِيمَا وَهَبَ لِوَلَدِهِ .
وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ ، سَوَاءٌ قَصَدَ بِرُجُوعِهِ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْأَوْلَادِ أَوْ لَمْ يُرِدْ ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَإِسْحَاقَ ، وَأَبِي ثَوْرٍ .
وَعَنْ أَحْمَدَ ، رِوَايَةٌ أُخْرَى : لَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا .
وَبِهَا قَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالْعَنْبَرِيُّ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ ، كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : مَنْ وَهَبَ هِبَةً يَرَى أَنَّهُ أَرَادَ بِهَا صِلَةَ رَحِمٍ ، أَوْ عَلَى وَجْهِ صَدَقَةٍ ، فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ فِيهَا ، وَمَنْ وَهَبَ هِبَةً أَرَادَ بِهَا الثَّوَابَ ، فَهُوَ عَلَى هِبَتِهِ ، يَرْجِعُ فِيهَا إذَا لَمْ يَرْضَ مِنْهَا .
رَوَاهُ مَالِكٌ ، فِي " الْمُوَطَّأِ " .
وَلِأَنَّهَا هِبَةٌ يَحْصُلُ بِهَا الْأَجْرُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى ، فَلَمْ يَجُزْ الرُّجُوعُ فِيهَا ، كَصَدَقَةِ التَّطَوُّعِ .
وَلَنَا ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ : " فَارْدُدْهُ " .
وَرُوِيَ : " فَأَرْجِعْهُ " .
رَوَاهُ كَذَلِكَ مَالِكٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ حُمَيْدٍ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَنْ النُّعْمَانِ فَأَمَرَهُ بِالرُّجُوعِ فِي هِبَتِهِ ، وَأَقَلُّ أَحْوَالِ الْأَمْرِ الْجَوَازُ وَقَدْ امْتَثَلَ بَشِيرُ بْنُ سَعْدٍ فِي ذَلِكَ ، فَرَجَعَ فِي هِبَتِهِ لِوَلَدِهِ ، أَلَّا تَرَاهُ قَالَ فِي الْحَدِيثِ : فَرَجَعَ أَبِي ، فَرَدَّ تِلْكَ الصَّدَقَةَ .
وَحَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَعْطَاهُ شَيْئًا ، يُخَالِفُ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ ؛ لِقَوْلِهِ : تَصَدَّقَ عَلَيَّ أَبِي بِصَدَقَةٍ .
وَقَوْلُ بَشِيرٍ : إنِّي نَحَلْت ابْنِي غُلَامًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَدْ أَعْطَاهُ .
وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " فَارْدُدْهُ " .
وَقَوْلُهُ : " فَأَرْجِعْهُ " .
وَرَوَى طَاوُسٌ ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، يَرْفَعَانِ

الْحَدِيثَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُعْطِيَ عَطِيَّةً ، فَيَرْجِعَ فِيهَا ، إلَّا الْوَالِدَ فِيمَا يُعْطِي وَلَدَهُ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ .
وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ .
وَهَذَا يَخُصُّ عُمُومَ مَا رَوَوْهُ وَيُفَسِّرُهُ .
وَقِيَاسُهُمْ مَنْقُوضٌ بِهِبَةِ الْأَجْنَبِيِّ ؛ فَإِنَّ فِيهَا أَجْرًا وَثَوَابًا ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَدَبَ إلَيْهَا .
وَعِنْدَهُمْ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا ، وَالصَّدَقَةُ عَلَى الْوَلَدِ كَمَسْأَلَتِنَا ، وَقَدْ دَلَّ حَدِيثُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ عَلَى الرُّجُوعِ فِي الصَّدَقَةِ ؛ لِقَوْلِهِ : تَصَدَّقَ عَلَيَّ أَبِي بِصَدَقَةٍ .

( 4465 ) فَصْلٌ : وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ ، أَنَّ الْأُمَّ كَالْأَبِ ، فِي الرُّجُوعَ فِي الْهِبَةِ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ : " وَإِذَا فَاضَلَ بَيْنَ أَوْلَادِهِ " يَتَنَاوَلُ كُلَّ وَالِدٍ ، ثُمَّ قَالَ فِي سِيَاقِهِ : " أُمِرَ بِرَدِّهِ " .
فَيَدْخُلُ فِيهِ الْأُمُّ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي قَوْلِهِ : " إلَّا الْوَالِدَ فِيمَا يُعْطِي وَلَدَهُ " .
وَلِأَنَّهَا لَمَّا دَخَلَتْ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : سَوُّوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ } .
يَنْبَغِي أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ التَّسْوِيَةِ ، وَالرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ طَرِيقٌ فِي التَّسْوِيَةِ ، وَرُبَّمَا تَعَيَّنَ طَرِيقًا فِيهَا إذَا لَمْ يُمْكِنْ إعْطَاءُ الْآخَرِ مِثْلَ عَطِيَّةِ الْأَوَّلِ .
وَلِأَنَّهَا لَمَّا دَخَلَتْ فِي الْمَعْنَى فِي حَدِيثِ بَشِيرِ بْنِ سَعْدِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ تَدْخُلَ فِي جَمِيعِ مَدْلُولِهِ ؛ لِقَوْلِهِ : " فَارْدُدْهُ " .
وَقَوْلِهِ : " فَأَرْجِعْهُ " .
وَلِأَنَّهَا لَمَّا سَاوَتْ الْأَبَ فِي تَحْرِيمِ تَفْضِيلِ بَعْضِ وَلَدِهَا ، يَنْبَغِي أَنْ تُسَاوِيَهُ فِي التَّمَكُّنِ مِنْ الرُّجُوعِ فِيمَا فَضَّلَهُ بِهِ ، تَخْلِيصًا لَهَا مِنْ الْإِثْمِ ، وَإِزَالَةً لِلتَّفْضِيلِ الْمُحَرَّمِ ، كَالْأَبِ .
وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا الرُّجُوعُ .
قَالَ الْأَثْرَمُ : قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : الرُّجُوعُ لِلْمَرْأَةِ فِيمَا أَعْطَتْهُ وَلَدَهَا كَالرَّجُلِ ؟ قَالَ : لَيْسَ هِيَ عِنْدِي فِي هَذَا كَالرَّجُلِ ؛ لِأَنَّ لِلْأَبِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ ، وَالْأُمُّ لَا تَأْخُذُ وَذَكَرَ حَدِيثَ عَائِشَةَ { : أَطْيَبُ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ ، وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ } .
أَيْ كَأَنَّهُ الرَّجُلُ .
قَالَ أَصْحَابُنَا : وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ لَنَا ، فَإِنَّهُ خَصَّ الْوَالِدَ ، وَهُوَ بِإِطْلَاقِهِ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْأَبَ دُونَ الْأُمِّ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ لِلْأَبِ وِلَايَةً عَلَى وَلَدِهِ ، وَيَحُوزُ جَمِيعَ الْمَالِ فِي الْمِيرَاثِ ، وَالْأُمُّ بِخِلَافِهِ .
وَقَالَ مَالِكٌ : لِلْأُمِّ الرُّجُوعُ فِي هِبَةِ وَلَدِهَا مَا كَانَ أَبُوهُ حَيًّا ، فَإِنْ كَانَ مَيِّتًا

، فَلَا رُجُوعَ لَهَا ؛ لِأَنَّهَا هِبَةٌ لِيَتِيمٍ وَهِبَةُ الْيَتِيمِ ، لَازِمَةٌ ، كَصَدَقَةِ التَّطَوُّعِ ، وَمِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ .

( 4466 ) فَصْلٌ : وَلَا فَرْقَ فِيمَا ذَكَرْنَا بَيْنَ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ .
وَفَرَّقَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ بَيْنَهُمَا ، فَلَمْ يُجِيزُوا الرُّجُوعَ فِي الصَّدَقَةِ بِحَالٍ ، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ عُمَرَ : مَنْ وَهَبَ هِبَةً ، وَأَرَادَ بِهَا صِلَةَ رَحِمٍ ، أَوْ عَلَى وَجْهِ صَدَقَةٍ فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ .
وَلَنَا ، حَدِيثُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ ، فَإِنَّهُ قَالَ : تَصَدَّقَ عَلَيَّ أَبِي بِصَدَقَةٍ .
وَقَالَ : فَرَجَعَ أَبِي ، فَرَدَّ تِلْكَ الصَّدَقَةَ وَأَيْضًا عُمُومُ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إلَّا الْوَالِدَ فِيمَا يُعْطِي وَلَدَهُ } .
وَهَذَا يُقَدَّمُ عَلَى قَوْلِ عُمَرَ ، ثُمَّ هُوَ خَاصٌّ فِي الْوَالِدِ ، وَحَدِيثُ عُمَرَ عَامٌّ ، فَيَجِبُ تَقْدِيمُ الْخَاصِّ .

( 4467 ) فَصْلٌ : وَلِلرُّجُوعِ فِي هِبَةِ الْوَلَدِ شُرُوطٌ أَرْبَعَةٌ : أَحَدُهَا أَنْ تَكُونَ بَاقِيَةً فِي مِلْكِ الِابْنِ ، فَإِنْ خَرَجَتْ عَنْ مِلْكِهِ ، بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ وَقْفٍ أَوْ إرْثٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا ؛ لِأَنَّهُ إبْطَالٌ لِمِلْكِ غَيْرِ الْوَالِدِ .
وَإِنْ عَادَتْ إلَيْهِ بِسَبَبٍ جَدِيدٍ ، كَبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ أَوْ إرْثٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، لَمْ يَمْلِكْ الرُّجُوعَ فِيهَا ؛ لِأَنَّهَا عَادَتْ بِمِلْكٍ جَدِيدٍ لَمْ يَسْتَفِدْهُ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ ، فَلَا يَمْلِكُ فَسْخَهُ وَإِزَالَتَهُ ، كَاَلَّذِي لَمْ يَكُنْ مَوْهُوبًا لَهُ وَإِنْ عَادَتْ إلَيْهِ بِفَسْخِ الْبَيْعِ ، لِعَيْبٍ ، أَوْ إقَالَةٍ أَوْ فَلَسِ الْمُشْتَرِي ، فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا ، يَمْلِكُ الرُّجُوعَ ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُزِيلَ ارْتَفَعَ ، وَعَادَ الْمِلْكُ بِالسَّبَبِ الْأَوَّلِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ فَسَخَ الْبَيْعَ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ أَوْ خِيَارِ الشَّرْطِ .
وَالثَّانِي لَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ عَادَ إلَيْهِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ مِلْكِ مَنْ انْتَقَلَ إلَيْهِ عَلَيْهِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ عَادَ إلَيْهِ بِهِبَةٍ .
فَأَمَّا إنْ عَادَ إلَيْهِ لِلْفَسْخِ بِخِيَارِ الشَّرْطِ ، أَوْ خِيَارِ الْمَجْلِسِ ، فَلَهُ الرُّجُوعُ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَمْ يَسْتَقِرَّ عَلَيْهِ .
( 4468 ) فَصْلٌ : الثَّانِي أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ بَاقِيَةً فِي تَصَرُّفِ الْوَلَدِ ، بِحَيْثُ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي رَقَبَتِهَا ، فَإِنْ اسْتَوْلَدَ الْأَمَةَ ، لَمْ يَمْلِكْ الْأَبُ الرُّجُوعَ فِيهَا ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهَا لَا يَجُوزُ نَقْلُهُ إلَى غَيْرِ سَيِّدِهَا .
وَإِنْ رَهَنَ الْعَيْنَ ، أَوْ أَفْلَسَ وَحُجِرَ عَلَيْهِ ، لَمْ يَمْلِكْ الْأَبُ الرُّجُوعَ فِيهَا ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إبْطَالًا لِحَقِّ غَيْرِ الْوَلَدِ فَإِنْ زَالَ الْمَانِعُ مِنْ التَّصَرُّفِ ، فَلَهُ الرُّجُوعُ ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الِابْنِ لَمْ يَزُلْ ، وَإِنَّمَا طَرَأَ مَعْنًى قَطَعَ التَّصَرُّفَ مَعَ بَقَاءِ الْمِلْكِ ، فَمَنَعَ الرُّجُوعَ ، فَإِذَا زَالَ زَالَ الْمَنْعُ ، وَالْكِتَابَةُ كَذَلِكَ عِنْدَ مَنْ لَا يَرَى بَيْعَ الْمُكَاتَبِ .
وَهُوَ

مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَجَمَاعَةٍ سِوَاهُ .
فَأَمَّا مَنْ أَجَازَ بَيْعَ الْمُكَاتَبِ ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُزَوِّجِ .
وَأَمَّا التَّدْبِيرُ ، فَالصَّحِيحَ أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ الْبَيْعَ ، فَلَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ .
وَإِنْ قُلْنَا : يَمْنَعُ الْبَيْعَ .
مَنَعَ الرُّجُوعَ .
وَكُلُّ تَصَرُّفٍ لَا يَمْنَعُ الِابْنَ التَّصَرُّفَ فِي الرَّقَبَةِ ، كَالْوَصِيَّةِ وَالْهِبَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ فِيمَا يَفْتَقِرُ إلَيْهِ ، وَالْوَطْءِ وَالتَّزْوِيجِ وَالْإِجَارَةِ وَالْكِتَابَةِ وَالتَّدْبِيرِ ، إنْ قُلْنَا : لَا يَمْنَعُ الْبَيْعَ ، وَالْمُزَارَعَةَ عَلَيْهَا ، وَجَعْلَهَا مُضَارَبَةً ، أَوْ فِي عَقْدِ شَرِكَةٍ ، فَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ تَصَرُّفَ الِابْنِ فِي رَقَبَتِهَا ، وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ الْمُعَلَّقُ عَلَى صِفَةٍ .
وَإِذَا رَجَعَ وَكَانَ التَّصَرُّفُ لَازِمًا ، كَالْإِجَارَةِ وَالتَّزْوِيجِ وَالْكِتَابَةِ ، فَهُوَ بَاقٍ بِحَالِهِ ؛ لِأَنَّ الِابْنِ لَا يَمْلِكُ إبْطَالَهُ ، فَكَذَلِكَ مَنْ انْتَقَلَ إلَيْهِ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا ، كَالْوَصِيَّةِ وَالْهِبَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ ، بَطَلَ ؛ لِأَنَّ الِابْنَ يَمْلِكُ إبْطَالَهُ .
وَأَمَّا التَّدْبِيرُ وَالْعِتْقُ الْمُعَلَّقُ بِصِفَةٍ ، فَلَا يَبْقَى حُكْمُهُمَا فِي حَقِّ الْأَبِ ، وَمَتَى عَادَ إلَى الِابْنِ ، عَادَ حُكْمُهُمَا .
فَأَمَّا الْبَيْعُ الَّذِي لِلِابْنِ فِيهِ خِيَارٌ ، إمَّا لِشَرْطٍ ، أَوْ عَيْبٍ فِي الثَّمَنِ ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ، فَيَمْنَعُ الرُّجُوعَ ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ يَتَضَمَّنُ فَسْخَ مِلْكِ الِابْنِ فِي عِوَضِ الْمَبِيعِ ، وَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ ذَلِكَ مِنْ جِهَتِهِ .
وَإِنْ وَهَبَهُ الِابْنُ لِابْنِهِ ، لَمْ يَمْلِكْ الرُّجُوعَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ رُجُوعَهُ إبْطَالٌ لِمُلْكِ غَيْرِ ابْنِهِ .
فَإِنْ رَجَعَ الِابْنُ فِي هِبَتِهِ ، احْتَمَلَ أَنْ يَمْلِكَ الْأَبُ الرُّجُوعَ فِي هِبَتِهِ حِينَئِذٍ لِأَنَّهُ فَسَخَ هِبَتَهُ بِرُجُوعِهِ ، فَعَادَ إلَيْهِ الْمِلْكُ بِالسَّبَبِ الْأَوَّلِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَمْلِكَ الْأَبُ الرُّجُوعَ ؛ لِأَنَّهُ رَجَعَ إلَى ابْنِهِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ مِلْكِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ وَهَبَهُ ابْنُ

الِابْنِ لِأَبِيهِ .
فَصْلٌ : الثَّالِثُ أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِهَا رَغْبَةٌ لِغَيْرِ الْوَلَدِ ، فَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِهَا رَغْبَةٌ لِغَيْرِهِ ، مِثْلُ أَنْ يَهَبَ وَلَدَهُ شَيْئًا فَيَرْغَبَ النَّاسُ فِي مُعَامَلَتِهِ ، وَأَدَانُوهُ دُيُونًا ، أَوْ رَغِبُوا فِي مُنَاكَحَتِهِ ، فَزَوَّجُوهُ إنْ كَانَ ذَكَرًا ، أَوْ تَزَوَّجَتْ الْأُنْثَى لِذَلِكَ ، فَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ ؛ أُولَاهُمَا ، لَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ قَالَ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ ، فِي الرَّجُلِ يَهَبُ لِابْنِهِ مَالًا : فَلَهُ الرُّجُوعُ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ غَرَّ بِهِ قَوْمًا ، فَإِنْ غَرَّ بِهِ ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا .
وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ ؛ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ غَيْرِ الِابْنِ ، فَفِي الرُّجُوعِ إبْطَالُ حَقِّهِ ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ } .
وَفِي الرُّجُوعِ ضَرَرٌ ، وَلِأَنَّ فِي هَذَا تَحَيُّلًا عَلَى إلْحَاقِ الضَّرَرِ بِالْمُسْلِمِينَ ، وَلَا يَجُوزُ التَّحَيُّلُ عَلَى ذَلِكَ .
وَالثَّانِيَةُ ، لَهُ الرُّجُوعُ ؛ لِعُمُومِ الْخَبَرِ ، وَلِأَنَّ حَقَّ الْمُتَزَوِّجِ وَالْغَرِيمِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِعَيْنِ هَذَا الْمَالِ ، فَلَمْ يَمْنَعْ الرُّجُوعَ فِيهِ .
( 4470 ) فَصْلٌ : الرَّابِعُ أَنْ لَا تَزِيدَ زِيَادَةً مُتَّصِلَةً ، كَالسِّمَنِ وَالْكِبَرِ وَتَعَلُّمِ صَنْعَةٍ .
فَإِنْ زَادَتْ ، فَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا لَا تَمْنَعُ الرُّجُوعَ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ فِي الْمَوْهُوبِ ، فَلَمْ تَمْنَعْ الرُّجُوعَ ، كَالزِّيَادَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَالْمُنْفَصِلَةِ .
وَالثَّانِيَةُ ، تَمْنَعُ .
وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ لِكَوْنِهَا نَمَاءَ مِلْكِهِ ، وَلَمْ تَنْتَقِلْ إلَيْهِ مِنْ جِهَةِ أَبِيهِ ، فَلَمْ يَمْلِكْ الرُّجُوعَ فِيهَا ، كَالْمُنْفَصِلَةِ ، وَإِذَا امْتَنَعَ الرُّجُوعُ فِيهَا ، امْتَنَعَ الرُّجُوعُ فِي الْأَصْلِ .
لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى سُوءِ الْمُشَارَكَةِ ، وَضَرَرِ التَّشْقِيصِ ، وَلِأَنَّهُ اسْتِرْجَاعٌ لِلْمَالِ بِفَسْخِ عَقْدٍ لِغَيْرِ عَيْبٍ فِي عِوَضِهِ ، فَمَنْعُهُ الزِّيَادَةَ الْمُتَّصِلَةَ ،

كَاسْتِرْجَاعِ الصَّدَاقِ بِفَسْخِ النِّكَاحِ ، أَوْ نِصْفِهِ بِالطَّلَاقِ ، أَوْ رُجُوعِ الْبَائِعِ فِي الْمَبِيعِ لِفَلَسِ الْمُشْتَرِي .
وَيُفَارِقُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الرَّدَّ مِنْ الْمُشْتَرِي ، وَقَدْ رَضِيَ بِبَدَلِ الزِّيَادَةِ .
وَإِنْ فَرَضَ الْكَلَامَ فِيمَا إذَا بَاعَ عَرْضًا بِعَرْضِ ، فَزَادَ أَحَدُهُمَا ، وَوَجَدَ الْمُشْتَرِي الْآخَرَ بِهِ عَيْبًا ، قُلْنَا : بَائِعُ الْمَعِيبِ سَلَّطَ مُشْتَرِيَهُ عَلَى الْفَسْخِ ، بِبَيْعِهِ الْمَعِيبَ ، فَكَأَنَّ الْفَسْخَ وُجِدَ مِنْهُ .
وَلِهَذَا قُلْنَا ، فِيمَا إذَا فَسَخَ الزَّوْجُ النِّكَاحَ لِعَيْبِ الْمَرْأَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ : لَا صَدَاقَ لَهَا ، كَمَا لَوْ فَسَخَتْهُ .
وَعَلَى هَذَا لَا فَرْقَ بَيْنَ الزِّيَادَةِ فِي الْعَيْنِ ، كَالسِّمَنِ وَالطُّولِ وَنَحْوِهِمَا ، أَوْ فِي الْمَعَانِي ، كَتَعَلُّمِ صَنْعَةٍ أَوْ كِتَابَةٍ أَوْ قُرْآنٍ أَوْ عِلْمٍ ، أَوْ إسْلَامٍ ، أَوْ قَضَاءِ دَيْنٍ عَنْهُ .
وَبِهَذَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الزِّيَادَةُ بِتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَقَضَاءِ الدَّيْنِ عَنْهُ لَا تَمْنَعُ الرُّجُوعَ .
وَلَنَا أَنَّهَا زِيَادَةٌ لَهَا مُقَابِلٌ مِنْ الثَّمَنِ ، فَمَنَعَتْ الرُّجُوعَ ، كَالسِّمَنِ وَتَعَلُّمِ الصَّنْعَةِ .
وَإِنْ زَادَ بِبُرْئِهِ مِنْ مَرَضٍ أَوْ صَمَمٍ ، مَنَعَ الرُّجُوعَ ، كَسَائِرِ الزِّيَادَاتِ ، وَإِنْ كَانَتْ زِيَادَةُ الْعَيْنِ أَوْ التَّعَلُّمِ لَا تَزِيدُ فِي قِيمَتِهِ شَيْئًا ، أَوْ يَنْقُصُ مِنْهَا ، لَمْ يَمْنَعْ الرُّجُوعَ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِزِيَادَةٍ فِي الْمَالِيَّةِ .
وَأَمَّا الزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ ، كَوَلَدِ الْبَهِيمَةِ ، وَثَمَرَةِ الشَّجَرَةِ ، وَكَسْبِ الْعَبْدِ ، فَلَا تَمْنَعُ الرُّجُوعَ بِغَيْرِ اخْتِلَافٍ نَعْلَمُهُ وَالزِّيَادَةُ لِلْوَلَدِ ؛ لِأَنَّهَا حَادِثَةٌ فِي مِلْكِهِ ، وَلَا تَتْبَعُ فِي الْفُسُوخِ ، فَلَا تَتْبَعُ هَاهُنَا .
وَذَكَرَ الْقَاضِي وَجْهًا آخَرَ ، أَنَّهَا لِلْأَبِ .
وَهُوَ بَعِيدٌ ، فَإِنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ وَلَدَ أَمَةٍ لَا يَجُوزُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُمِّهِ ، مُنِعَ الرُّجُوعُ ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ

أُمِّهِ ، وَذَلِكَ مُحَرَّمٌ ، إلَّا أَنْ نَقُولَ إنَّ الزِّيَادَةَ الْمُنْفَصِلَةَ لِلْأَبِ ، فَلَا يُمْنَعُ الرُّجُوعُ ؛ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ فِيهِمَا جَمِيعًا ، أَوْ يَرْجِعُ فِي الْأُمِّ ، وَيَتَمَلَّكُ الْوَالِدُ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ .

( 4471 ) فَصْلٌ : وَإِنْ قَصَّرَ الْعَيْنَ أَوْ فَصَّلَهَا ، فَلَمْ تَزِدْ قِيمَتُهَا ، لَمْ تَمْنَع الرُّجُوعَ ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ لَمْ تَزِدْ وَلَا الْقِيمَةُ وَإِنْ زَادَتْ قِيمَتُهَا ، فَهِيَ زِيَادَةٌ مُتَّصِلَةٌ ، هَلْ تَمْنَعُ الرُّجُوعَ أَوْ لَا ؟ يُبْنَى عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي السِّمْنَةِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَمْنَعَ هَذِهِ الزِّيَادَةُ الرُّجُوعَ بِكُلِّ حَالٍ ؛ لِأَنَّهَا حَاصِلَةٌ بِفِعْلِ الِابْنِ ، فَجَرَتْ مَجْرَى الْعَيْنِ الْحَاصِلَةِ بِفِعْلِهِ ، بِخِلَافِ السِّمَنِ ، فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِلْأَبِ ، فَلَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ ، لِأَنَّهُ نَمَاءُ الْعَيْنِ ، فَيَكُونُ تَابِعًا لَهَا وَإِنْ وَهَبَهُ حَامِلًا فَوَلَدَتْ فِي يَدِ الِابْنِ ، فَهِيَ زِيَادَةٌ مُتَّصِلَةٌ فِي الْوَلَدِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ زِيَادَةً مُنْفَصِلَةً إذَا قُلْنَا : الْحَمْلُ لَا حُكْمَ لَهُ .
وَإِنْ وَهَبَهُ حَامِلًا ، ثُمَّ رَجَعَ فِيهَا حَامِلًا ، جَازَ إذَا لَمْ تَزِدْ قِيمَتُهَا ، وَإِنْ زَادَتْ قِيمَتُهَا ، فَهِيَ زِيَادَةٌ مُنْفَصِلَةٌ .
وَإِنْ وَهَبْتَهُ حَائِلًا فَحَمَلَتْ ، فَهِيَ زِيَادَةٌ مُنْفَصِلَةٌ ، وَلَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا دُونَ حَمْلِهَا .
وَإِنْ قُلْنَا : إنَّ الْحَمْلَ لَا حُكْمَ لَهُ ، فَزَادَتْ بِهِ قِيمَتُهَا ، فَهِيَ زِيَادَةٌ مُتَّصِلَةٌ وَإِنْ لَمْ تَزِدْ قِيمَتُهَا ، جَازَ الرُّجُوعُ فِيهَا .
وَإِنْ وَهَبَهُ نَخْلًا فَحَمَلَتْ ، فَهِيَ قَبْلَ التَّأْبِيرِ زِيَادَةٌ مُتَّصِلَةٌ ، وَبَعْدَهُ زِيَادَةٌ مُنْفَصِلَةٌ .

( 4472 ) فَصْلٌ : وَإِنْ تَلِفَ بَعْضُ الْعَيْنِ ، أَوْ نَقَصَتْ قِيمَتُهَا ، لَمْ يَمْنَعْ الرُّجُوعَ فِيهَا ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الِابْنِ فِيمَا تَلِفَ مِنْهَا ؛ لِأَنَّهَا تَتْلَفُ عَلَى مِلْكِهِ .
وَسَوَاءٌ تَلِفَ بِفِعْلِ الِابْنِ أَوْ بِغَيْرِ فِعْلِهِ .
وَإِنْ جَنَى الْعَبْدُ جِنَايَةً تَعَلَّقَ أَرْشُهَا بِرَقَبَتِهِ ، فَهُوَ كَنُقْصَانِهِ بِذَهَابِ بَعْضِ أَجْزَائِهِ ، وَلِلْأَبِ الرُّجُوعُ فِيهِ ، فَإِنْ رَجَعَ فِيهِ ، ضَمِنَ أَرْشَ الْجِنَايَةِ .
وَإِنْ جُنِيَ عَلَى الْعَبْدِ ، فَرَجَعَ الْأَبُ فَيَرْجِعُ الْأَبُ فِيهِ ، فَأَرْشُ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ لِلِابْنِ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ فَإِنْ قِيلَ : فَلَوْ أَرَادَ الْأَبُ الرُّجُوعَ فِي الرَّهْنِ ، وَعَلَيْهِ فِكَاكُهُ ، لَمْ يَمْلِكْ ذَلِكَ ، فَكَيْفَ مَلَكَ الرُّجُوعَ فِي الْعَبْدِ الْجَانِي إذَا أَدَّى أَرْشَ جِنَايَتِهِ ؟ قُلْنَا : الرَّهْنُ يَمْنَعُ التَّصَرُّفَ فِي الْعَيْنِ ، بِخِلَافِ الْجِنَايَةِ ، وَلِأَنَّ فَكَّ الرَّهْنِ فَسْخٌ لِعَقْدٍ عَقَدَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ ، وَهَا هُنَا لَمْ يَتَعَلَّقْ الْحَقُّ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْعَقْدِ ، فَافْتَرَقَا .

( 4473 ) فَصْلٌ : وَالرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ أَنْ يَقُولَ قَدْ رَجَعْت فِيهَا ، أَوْ ارْتَجَعْتهَا ، أَوْ ارْتَدَدْتَهَا .
أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى الرُّجُوعِ ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى حُكْمِ حَاكِمٍ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ إلَّا بِقَضَاءِ قَاضٍ ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمَوْهُوبِ لَهُ مُسْتَقِرٌّ .
وَلَنَا أَنَّهُ خِيَارٌ فِي فَسْخِ عَقْدٍ ، فَلَمْ يَفْتَقِرْ إلَى قَضَاءٍ ، كَالْفَسْخِ بِخِيَارِ الشَّرْطِ .
فَأَمَّا إنْ أَخَذَ مَا وَهَبَهُ لِوَلَدِهِ ، فَإِنْ نَوَى بِهِ الرُّجُوعَ ، كَانَ رُجُوعًا ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي نِيَّتِهِ ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ هَلْ نَوَى الرُّجُوعَ أَوْ لَا ، وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ ، فَإِنْ لَمْ تُوجَدْ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى الرُّجُوعِ .
لَمْ يُحْكَمْ بِكَوْنِهِ رُجُوعًا ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ وَغَيْرَهُ ، فَلَا نُزِيلُ حُكْمًا يَقِينِيًّا بِأَمْرٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ .
وَإِنْ اقْتَرَنَتْ بِهِ قَرَائِنُ دَالَّةٌ عَلَى الرُّجُوعِ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا ، يَكُونُ رُجُوعًا .
اخْتَارَهُ ابْنُ عَقِيلٍ ؛ لِأَنَّنَا اكْتَفَيْنَا فِي الْعَقْدِ بِدَلَالَةِ الْحَالِ ، فَفِي الْفَسْخِ أَوْلَى ، وَلِأَنَّ لَفْظَ الرُّجُوعِ إنَّمَا كَانَ رُجُوعًا لِدَلَالَتِهِ عَلَيْهِ ، فَكَذَلِكَ كُلُّ مَا دَلَّ عَلَيْهِ .
وَالْآخَرُ ، لَا يَكُونُ رُجُوعًا .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ ثَابِتٌ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ يَقِينًا ، فَلَا يَزُولُ إلَّا بِالصَّرِيحِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُبْنَى هَذَا عَلَى نَفْسِ الْعَقْدِ ، فَمَنْ أَوْجَبَ الْإِيجَابَ وَالْقَبُولَ فِيهِ ، لَمْ يَكْتَفِ هَاهُنَا إلَّا بِلَفْظٍ يَقْتَضِي زَوَالَهُ ، وَمَنْ اكْتَفَى فِي الْعَقْدِ بِالْمُعَاطَاةِ الدَّالَّةِ عَلَى الرِّضَا بِهِ ، فَهَاهُنَا أَوْلَى .
وَإِنْ نَوَى الرُّجُوعَ مِنْ غَيْرِ فِعْلٍ وَلَا قَوْلٍ ، لَمْ يَحْصُلْ الرُّجُوعُ ، وَجْهًا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّهُ إثْبَاتُ الْمِلِكِ عَلَى مَالٍ مَمْلُوكٍ لِغَيْرِهِ ، فَلَمْ يَحْصُلْ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ ، كَسَائِرِ الْعُقُودِ .
وَإِنْ عَلَّقَ الرُّجُوعَ بِشَرْطٍ ، فَقَالَ : إذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ فَقَدْ

رَجَعْت فِي الْهِبَةِ لَمْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ لِلْعَقْدِ لَا يَقِفُ عَلَى شَرْطٍ ، كَمَا لَا يَقِفُ الْعَقْدُ عَلَيْهِ .

( 4474 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( فَإِنْ مَاتَ وَلَمْ يَرْدُدْهُ ، فَقَدْ ثَبَتَ لِمَنْ وَهَبَ لَهُ ، إذَا كَانَ ذَلِكَ فِي صِحَّتِهِ ) يَعْنِي إذَا فَاضَلَ بَيْنَ وَلَدِهِ فِي الْعَطَايَا ، أَوْ خَصَّ بَعْضَهُمْ بِعَطِيَّةٍ ، ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ ، ثَبَتَ ذَلِكَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ ، وَلَزِمَ ، وَلَيْسَ لِبَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ الرُّجُوعُ .
هَذَا الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ ، فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ ، وَالْمَيْمُونِيِّ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْخَلَّالِ ، وَصَاحِبِهِ أَبِي بَكْرٍ .
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَفِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّ لِسَائِرِ الْوَرَثَةِ أَنْ يَرْتَجِعُوا مَا وَهَبَهُ .
اخْتَارَهُ ابْنُ بَطَّةَ وَأَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيَّانِ .
وَهُوَ قَوْلُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ ، وَإِسْحَاقَ .
وَقَالَ أَحْمَدُ : عُرْوَةُ قَدْ رَوَى الْأَحَادِيثَ الثَّلَاثَةَ ؛ حَدِيثَ عَائِشَةَ ، وَحَدِيثَ عُمَرَ ، وَحَدِيثَ عُثْمَانَ ، وَتَرَكَهَا وَذَهَبَ إلَى حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَرُدُّ فِي حَيَاةِ الرَّجُلِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ } وَهَذَا قَوْلُ إِسْحَاقَ ، إلَّا أَنَّهُ قَالَ : إذَا مَاتَ الرَّجُلُ فَهُوَ مِيرَاثٌ بَيْنَهُمْ ، لَا يَسَعُ أَنْ يَنْتَفِعَ أَحَدٌ مِمَّا أُعْطِيَ دُونَ إخْوَتِهِ وَأَخَوَاتِهِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّى ذَلِكَ جَوْرًا بِقَوْلِهِ : { لَا تُشْهِدْنِي عَلَى جَوْرٍ } .
وَالْجَوْرُ حَرَامٌ لَا يَحِلُّ لِلْفَاعِلِ فِعْلُهُ ، وَلَا لِلْمُعْطَى تَنَاوُلُهُ .
وَالْمَوْتُ لَا يُغَيِّرُهُ عَنْ كَوْنِهِ جَوْرًا حَرَامًا ، فَيَجِبُ رَدَّهُ ، وَلِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ أَمَرَا قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ ، أَنْ يَرُدَّ قِسْمَةَ أَبِيهِ حِينَ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ ، وَلَمْ يَكُنْ عَلِمَ بِهِ ، وَلَا أَعْطَاهُ شَيْئًا ، وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ سَعْدٍ ، فَرَوَى سَعِيدٌ ، بِإِسْنَادِهِ مِنْ طَرِيقَيْنِ .
أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ قَسَّمَ مَالَهُ بَيْنَ أَوْلَادِهِ ، وَخَرَجَ إلَى الشَّامِ ، فَمَاتَ بِهَا ، ثُمَّ وُلِدَ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَدٌ فَمَشَى أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ

اللَّهُ عَنْهُمَا ، إلَى قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ ، فَقَالَا : إنَّ سَعْدًا قَسَّمَ مَالَهُ ، وَلَمْ يَدْرِ مَا يَكُونُ ، وَإِنَّا نَرَى أَنْ تَرُدَّ هَذِهِ الْقِسْمَةَ .
فَقَالَ قَيْسٌ : لَمْ أَكُنْ لِأُغَيِّرَ شَيْئًا صَنَعَهُ سَعْدٌ ، وَلَكِنْ نَصِيبِي لَهُ .
وَهَذَا مَعْنَى الْخَبَرِ .
وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، لِعَائِشَةَ ، لَمَّا نَحَلَهَا نِحَلًا : وَدِدْت لَوْ أَنَّك كُنْت حُزْتِيهِ .
فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ حَازَتْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ .
وَكَذَلِكَ قَوْلُ عُمَرَ : لَا نِحْلَةَ إلَّا نِحْلَةً يَحُوزُهَا الْوَلَدُ دُونَ الْوَالِدِ وَلِأَنَّهَا عَطِيَّةٌ لِوَلَدِهِ فَلَزِمَتْ بِالْمَوْتِ كَمَا لَوْ انْفَرَدَ .
وَقَوْلُهُ : " إذَا كَانَ ذَلِكَ فِي صِحَّتِهِ " يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَطِيَّتَهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ لِبَعْضِ وَرَثَتِهِ لَا تَنْفُذُ ؛ لِأَنَّ الْعَطَايَا فِي مَرَضِ الْمَوْتِ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ ، فِي أَنَّهَا تُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ إذَا كَانَتْ لِأَجْنَبِيٍّ إجْمَاعًا ، فَكَذَلِكَ لَا تَنْفُذُ فِي حَقِّ الْوَارِثِ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ أَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، أَنَّ حُكْمَ الْهِبَاتِ فِي الْمَرَضِ الَّذِي يَمُوتُ فِيهِ الْوَاهِبُ ، حُكْمُ الْوَصَايَا ، هَذَا مَذْهَبُ الْمَدِينِيِّ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَالْكُوفِيِّ فَإِنْ أَعْطَى أَحَدَ بَنِيهِ فِي صِحَّتِهِ ، ثُمَّ أَعْطَى الْآخَرَ فِي مَرَضِهِ ، فَقَدْ تَوَقَّفَ أَحْمَدُ فِيهِ ، فَإِنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ زَوَّجَ ابْنَهُ ، فَأَعْطَى عَنْهُ الصَّدَاقَ ، ثُمَّ مَرِضَ الْأَبُ ، وَلَهُ ابْنٌ آخَرَ ، هَلْ يُعْطِيه فِي مَرَضِهِ كَمَا أَعْطَى الْآخَرَ فِي صِحَّتِهِ ؟ فَقَالَ : لَوْ كَانَ أَعْطَاهُ فِي صِحَّتِهِ ، فَيَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا ، لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ عَطِيَّتَهُ فِي مَرَضِهِ كَوَصِيَّتِهِ ، وَلَوْ وَصَّى لَهُ لَمْ يَصِحَّ ، فَكَذَلِكَ إذَا أَعْطَاهُ .
وَالثَّانِي يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا وَاجِبَةٌ ، وَلَا طَرِيقَ لَهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إلَّا بِعَطِيَّةِ الْآخَرِ ، فَتَكُونُ وَاجِبَةً ، فَتَصِحُّ ، كَقَضَاءِ دَيْنِهِ ( 4475 ) فَصْلٌ : قَالَ أَحْمَدُ :

أُحِبُّ أَنْ لَا يُقَسِّمَ مَالَهُ ، وَيَدَعَهُ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى ، لَعَلَّهُ أَنْ يُولَدَ لَهُ ، فَإِنْ أَعْطَى وَلَدَهُ مَالَهُ ، ثُمَّ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ ، فَأَعْجَبُ إلَيَّ أَنْ يَرْجِعَ فَيُسَوِّيَ بَيْنَهُمْ .
يَعْنِي يَرْجِعُ فِي الْجَمِيعِ ، أَوْ يَرْجِعُ فِي بَعْضِ مَا أَعْطَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لِيَدْفَعُوهُ إلَى هَذَا الْوَلَدِ الْحَادِثِ ، لِيُسَاوِيَ إخْوَتَهُ .
فَإِنْ كَانَ هَذَا الْوَلَدُ الْحَادِثُ بَعْدَ الْمَوْتِ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَى إخْوَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْعَطِيَّةَ لَزِمَتْ بِمَوْتِ أَبِيهِ ، إلَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى ، الَّتِي ذَهَبَ إلَيْهَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ أُعْطِيَ أَنْ يُسَاوِيَ أَخَاهُ فِي عَطِيَّتِهِ ، وَلِذَلِكَ أَمَرَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ ، بِرَدِّ قِسْمَةِ أَبِيهِ لِيُسَاوُوا الْمَوْلُودَ الْحَادِثَ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ .

فَصْلٌ : وَلِأَبٍ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ مَا شَاءَ ، وَيَتَمَلَّكَهُ ، مَعَ حَاجَةِ الْأَبِ إلَى مَا يَأْخُذُهُ ، وَمَعَ عَدَمِهَا ، صَغِيرًا كَانَ الْوَلَدُ أَوْ كَبِيرًا ، بِشَرْطَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ لَا يُجْحِفَ بِالِابْنِ ، وَلَا يَضُرَّ بِهِ ، وَلَا يَأْخُذَ شَيْئًا تَعَلَّقَتْ بِهِ حَاجَتُهُ .
الثَّانِي أَنْ لَا يَأْخُذَ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ فَيُعْطِيَهُ الْآخَرَ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ إسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدٍ ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ تَخْصِيصِ بَعْضِ وَلَدِهِ بِالْعَطِيَّةِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ ، فَلَأَنْ يُمْنَعَ مِنْ تَخْصِيصِهِ بِمَا أَخَذَ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ الْآخَرِ أَوْلَى وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ مَسْرُوقًا زَوَّجَ ابْنَتَهُ بِصَدَاقٍ عَشَرَةِ آلَافٍ ، فَأَخَذَهَا ، وَأَنْفَقَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَقَالَ لِلزَّوْجِ : جَهِّزْ امْرَأَتَك .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ : لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ إلَّا بِقَدْرِ حَاجَتِهِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا ، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا } ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَرَوَى الْحَسَنُ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : كُلُّ أَحَدٍ أَحَقُّ بِكَسْبِهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ .
} رَوَاهُ سَعِيدٌ فِي " سُنَنِهِ " .
وَهَذَا نَصٌّ وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئِ مُسْلِمٍ إلَّا عَنْ طِيبِ نَفْسِهِ } .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ .
وَلِأَنَّ مِلْكَ الِابْنِ تَامٌّ عَلَى مَالِ نَفْسِهِ ، فَلَمْ يَجُزْ انْتِزَاعُهُ مِنْهُ ، كَاَلَّذِي تَعَلَّقَتْ بِهِ حَاجَتُهُ .
وَلَنَا مَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : إنَّ أَطْيَبِ مَا أَكَلْتُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ ، وَإِنَّ أَوْلَادَكُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ } .
أَخْرَجَهُ سَعِيدٌ ، وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ .
وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، قَالَ { : جَاءَ رَجُلٌ

إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنَّ أَبِي احْتَاجَ مَالِي .
فَقَالَ : أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيك } .
رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ ، فِي " مُعْجَمِهِ " مُطَوَّلًا ، وَرَوَاهُ غَيْرُهُ ، وَزَادَ { : إنَّ أَوْلَادَكُمْ مِنْ أَطْيَبِ كَسْبِكُمْ ، فَكُلُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ } .
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ ، وَالْمُطْلِبُ بْنُ حَنْطَبٍ ، قَالَ { : جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنَّ لِي مَالًا وَعِيَالًا ، وَلِأَبِي مَالٌ وَعِيَالٌ ، وَأَبِي يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَ مَالِيَ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيك } .
أَخْرُجَهُ سَعِيدٌ ، فِي " سُنَنِهِ " وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْوَلَدَ مَوْهُوبًا لِأَبِيهِ ، فَقَالَ : { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ } .
وَقَالَ : { وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى } .
وَقَالَ زَكَرِيَّا : { فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيَّا } .
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ } .
وَمَا كَانَ مَوْهُوبًا لَهُ ، كَانَ لَهُ أَخْذُ مَالِهِ ، كَعَبْدِهِ .
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ ، فِي قَوْلِهِ : { وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ } ثُمَّ ذَكَرَ بُيُوتَ سَائِرِ الْقَرَابَاتِ إلَّا الْأَوْلَادَ لَمْ يَذْكُرْهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ دَخَلُوا فِي قَوْلِهِ : { بُيُوتِكُمْ } .
فَلَمَّا كَانَتْ بُيُوتُ أَوْلَادِهِمْ كَبُيُوتِهِمْ ، لَمْ يَذْكُرْ بُيُوتَ أَوْلَادِهِمْ .
وَلِأَنَّ الرَّجُلَ يَلِي مَالَ وَلَدِهِ مِنْ غَيْرِ تَوْلِيَةٍ ، فَكَانَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ كَمَالِ نَفْسِهِ .
وَأَمَّا أَحَادِيثُهُمْ ، فَأَحَادِيثُنَا تَخُصُّهَا وَتُفَسِّرُهَا ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ مَالَ الِابْنِ مَالًا لِأَبِيهِ ، بِقَوْلِهِ : { أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيك } .
فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا وَقَوْلُهُ : { أَحَقُّ بِهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ } مُرْسَلٌ ، ثُمَّ هُوَ يَدُلُّ عَلَى تَرْجِيحِ حَقِّهِ عَلَى حَقِّهِ ، لَا عَلَى نَفْيِ الْحَقِّ بِالْكُلِّيَّةِ ، وَالْوَلَدُ أَحَقُّ مِنْ

الْوَالِدِ بِمَا تَعَلَّقَتْ بِهِ حَاجَتُهُ .

( 4477 ) فَصْلٌ : وَلَيْسَ لِلْوَلَدِ مُطَالَبَةُ أَبِيهِ بِدَيْنٍ عَلَيْهِ .
وَبِهِ قَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارَ .
وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ : لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ ثَابِتٌ ، فَجَازَتْ الْمُطَالَبَةُ بِهِ ، كَغَيْرِهِ .
وَلَنَا { أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَبِيهِ يَقْتَضِيهِ دَيْنًا عَلَيْهِ ، فَقَالَ : أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيك } .
رَوَاهُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ .
وَرَوَى الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارَ ، فِي كِتَابِ " الْمُوَفَّقِيَّاتِ " ، بِإِسْنَادِهِ ، أَنَّ رَجُلًا اسْتَقْرَضَ مِنْ ابْنِهِ مَالًا ، فَحَبَسَهُ ، فَأَطَالَ حَبْسَهُ ، فَاسْتَعْدَى عَلَيْهِ الِابْنُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَذَكَرَ قِصَّتَهُ فِي شِعْرٍ ، فَأَجَابَهُ أَبُوهُ بِشَعْرٍ أَيْضًا ، فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : قَدْ سَمِعَ الْقَاضِي وَمِنْ رَبِّي الْفَهْم الْمَالُ لِلشَّيْخِ جَزَاءً بِالنِّعَمْ يَأْكُلُهُ بِرَغْمِ أَنْفِ مَنْ رَغَمْ مَنْ قَالَ قَوْلًا غَيْرَ ذَا فَقَدْ ظَلَمْ وَجَارَ فِي الْحُكْمِ وَبِئْسَ مَا جَرَمْ قَالَ الزُّبَيْرُ : إلَى هَذَا نَذْهَبُ .
وَلِأَنَّ الْمَالَ أَحَدُ نَوْعَيْ الْحُقُوقِ ، فَلَمْ يَمْلِكْ مُطَالَبَةَ أَبِيهِ بِهَا ، كَحُقُوقِ الْأَبْدَانِ .
وَيُفَارِقُ الْأَبُ غَيْرَهُ ، بِمَا ثَبَتَ لَهُ مِنْ الْحَقِّ عَلَى وَلَدِهِ .
وَإِنْ مَاتَ الِابْنُ ، فَانْتَقَلَ الدَّيْنُ إلَى وَرَثَتِهِ ، لَمْ يَمْلِكُوا مُطَالَبَةَ الْأَبِ بِهِ ؛ لِأَنَّ مَوْرُوثَهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ ، فَهُمْ أَوْلَى .
وَإِنْ مَاتَ الْأَبُ ، رَجَعَ الِابْنُ فِي تَرِكَتِهِ بِدَيْنِهِ ؛ لِأَنَّ دَيْنَهُ لَمْ يَسْقُطْ عَنْ الْأَبِ ، وَإِنَّمَا تَأَخَّرَتْ الْمُطَالَبَةُ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهُ قَالَ : إذَا مَاتَ الْأَبُ ، بَطَلَ دَيْنُ الِابْنِ .
وَقَالَ فِي مَنْ أَخَذَ مِنْ مَهْرِ ابْنَتِهِ شَيْئًا فَأَنْفَقَهُ : فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ ، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ بَعْدِهِ ، وَمَا أَصَابَتْ مِنْ الْمَهْرِ مِنْ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ أَخَذَتْهُ وَتَأَوَّلَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا كَلَامَهُ

عَلَى أَنَّ لَهُ مَا أَخَذَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّمْلِيكِ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَخْذُهُ لَهُ ، وَإِنْفَاقُهُ إيَّاهُ ، دَلِيلًا عَلَى قَصْدِ التَّمَلُّكِ ، فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ بِذَلِكَ الْأَخْذِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَم .

( 4478 ) فَصْلٌ : وَإِنْ تَصَرَّفَ الْأَبُ فِي مَالِ الِابْنِ قَبْلَ تَمَلُّكِهِ ، لَمْ يَصِحَّ تَصَرُّفُهُ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، فَقَالَ : لَا يَجُوزُ عِتْقُ الْأَبِ لِعَبْدِ ابْنِهِ ، مَا لَمْ يَقْبِضْهُ .
فَعَلَى هَذَا ، لَا يَصِحُّ إبْرَاؤُهُ مِنْ دَيْنِهِ ، وَلَا هِبَتُهُ لِمَالِهِ ، وَلَا بَيْعُهُ لَهُ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ مِلْكَ الِابْنِ تَامٌّ عَلَى مَالِ نَفْسِهِ ، فَصَحَّ تَصَرُّفُهُ فِيهِ ، وَيَحِلُّ لَهُ وَطْءُ جَوَارِيهِ ، وَلَوْ كَانَ الْمِلْكُ مُشْتَرَكًا ، لَمْ يَحِلَّ لَهُ الْوَطْءُ ، كَمَا لَا يَجُوزُ وَطْءُ الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ ، وَإِنَّمَا لِلْأَبِ انْتِزَاعُهُ مِنْهُ ، كَالْعَيْنِ الَّتِي وَهَبَهَا إيَّاهُ ، فَقَبْلَ انْتِزَاعِهَا لَا يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ ؛ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ وِلَايَةٍ وَإِنْ كَانَ الِابْنُ صَغِيرًا ، لَمْ يَصِحَّ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ بِمَا لَا حَظَّ لِلصَّغِيرِ فِيهِ ، وَلَيْسَ مِنْ الْحَظِّ إسْقَاطُ دَيْنِهِ ، وَعِتْقُ عَبْدِهِ ، وَهِبَةُ مَالِهِ .
( 4479 ) فَصْلٌ : قَالَ أَحْمَدُ : بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ وَلَدِهِ رِبًا .
لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ مِلْكَ الِابْنِ عَلَى مَالِهِ تَامٌّ .
وَقَالَ : لَا يَطَأُ جَارِيَةَ الِابْنِ ، إلَّا أَنْ يَقْبِضَهَا .
يَعْنِي يَتَمَلَّكُهَا .
وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إذَا وَطِئَهَا قَبْلَ تَمَلُّكِهَا ، فَقَدْ وَطِئَهَا وَلَيْسَتْ زَوْجَةً وَلَا مِلْكَ يَمِينٍ ، وَإِنْ تَمَلَّكَهَا ، لَمْ يَحِلَّ لَهُ وَطْؤُهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا ؛ لِأَنَّهُ ابْتِدَاءُ مِلْكٍ فَوَجَبَ الِاسْتِبْرَاءُ فِيهِ ، كَمَا لَوْ اشْتَرَاهَا وَإِنْ كَانَ الِابْنُ قَدْ وَطِئَهَا ، لَمْ تَحِلَّ لَهُ بِحَالٍ وَإِنْ وَطِئَهَا قَبْلَ تَمَلُّكِهَا ، كَانَ مُحَرَّمًا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ وَطِئَهَا قَبْلَ مِلْكِهَا .
وَالثَّانِي أَنَّهُ وَطِئَهَا قَبْلَ اسْتِبْرَائِهَا .
وَإِنْ كَانَ الِابْنُ وَطِئَهَا ، حُرِّمَتْ بِوَجْهِ ثَالِثٍ وَهِيَ أَنَّهَا صَارَتْ بِمَنْزِلَةِ حَلِيلَةِ ابْنِهِ ، فَإِنْ فَعَلَ ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ؛ لِشُبْهَةِ الْمِلْكِ ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَضَافَ مَالَ الْوَلَدِ إلَى أَبِيهِ ،

فَقَالَ { : أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك } .
وَإِنْ وَلَدَتْ مِنْهُ ، صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ، وَوَلَدُهُ حُرٌّ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ وَطْءٍ انْتَفَى عَنْهُ الْحَدُّ لِلشَّبَهِ .
وَتَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ، وَلَيْسَ لِلِابْنِ مُطَالَبَتُهُ بِشَيْءٍ مِنْ قِيمَتِهَا ، وَلَا قِيمَةِ وَلَدِهَا وَلَا مَهْرِهَا .
وَهَلْ يُعَزَّرُ ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا ، يُعَزَّرُ ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَ وَطْئًا مُحَرَّمًا ، أَشْبَهَ مَا لَوْ وَطِئَ جَارِيَةً مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ .
وَالثَّانِي ، لَا يُعَزَّرُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْتَصُّ مِنْهُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى وَلَدِهِ ، فَلَا يُعَزَّرُ بِالتَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ .

( 4480 ) فَصْلٌ : وَلَيْسَ لِغَيْرِ الْأَبِ الْأَخْذُ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ وَرَدَ فِي الْأَبِ بِقَوْلِهِ { : أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيك } .
وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ غَيْرِ الْأَبِ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ لِلْأَبِ وِلَايَةً عَلَى وَلَدِهِ وَمَالِهِ إذَا كَانَ صَغِيرًا ، وَلَهُ شَفَقَةٌ تَامَّةٌ ، وَحَقٌّ مُتَأَكِّدٌ ، وَلَا يَسْقُطُ مِيرَاثُهُ بِحَالٍ .
وَالْأُمُّ لَا تَأْخُذُ ؛ لِأَنَّهَا لَا وِلَايَةَ لَهَا .
وَالْجَدُّ أَيْضًا لَا يَلِي عَلَى مَالِ وَلَدِ ابْنِهِ ، وَشَفَقَتُهُ قَاصِرَةٌ عَنْ شَفَقَةِ الْأَبِ ، وَيُحْجَبُ بِهِ فِي الْمِيرَاثِ ، وَفِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ .
وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْأَقَارِبِ وَالْأَجَانِبِ لَيْسَ لَهُمْ الْأَخْذُ بِطَرِيقِ التَّنْبِيه ؛ لِأَنَّهُ إذَا امْتَنَعَ الْأَخْذُ فِي حَقِّ الْأُمِّ وَالْجَدِّ ، مَعَ مُشَارَكَتِهِمَا لِلْأَبِ فِي بَعْضِ الْمَعَانِي ، فَغَيْرُهُمَا مِمَّنْ لَا يُشَارِكُ الْأَبَ فِي ذَلِكَ أَوْلَى .

( 4481 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( وَلَا يَحِلُّ لِوَاهِبٍ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ ، وَلَا لِمُهْدٍ أَنْ يَرْجِعَ فِي هَدِيَّتِهِ ، وَإِنْ لَمْ يُثَبْ عَلَيْهَا ) يَعْنِي وَإِنْ لَمْ يُعَوَّضْ عَنْهَا .
وَأَرَادَ مَنْ عَدَا الْأَبَ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ أَنَّ لِلْأَبِ الرُّجُوعَ ، بِقَوْلِهِ : " أُمِرَ بِرَدِّهِ " .
فَأَمَّا غَيْرُهُ فَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ فِي هِبَتِهِ وَلَا هَدِيَّتِهِ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ .
وَقَالَ النَّخَعِيُّ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ : مَنْ وَهَبَ لِغَيْرِ ذِي رَحِمٍ فَلَهُ الرُّجُوعُ ، مَا لَمْ يُثَبْ عَلَيْهَا ، وَمِنْ وَهَبَ لِذِي رَحِمٍ فَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الرَّجُلُ أَحَقُّ بِهِبَتِهِ ، مَا لَمْ يُثَبْ مِنْهَا } .
رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ ، فِي " سُنَنِهِ " وَبِقَوْلِ عُمَرَ ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ عَنْهَا عِوَضٌ ، فَجَازَ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا ، كَالْعَارِيَّةِ .
وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ ، كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ .
وَفِي لَفْظٍ : كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ .
وَفِي رِوَايَةٍ إنَّهُ لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ ، الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَأَيْضًا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُعْطِيَ عَطِيَّةً ، فَيَرْجِعَ فِيهَا ، إلَّا الْوَالِدَ فِيمَا يُعْطِي وَلَدَهُ } .
وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ أَنَّ نَبِيَّ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا يَرْجِعُ وَاهِبٌ فِي هِبَتِهِ ، إلَّا الْوَالِدَ فِيمَا يُعْطِي وَلَدَهُ } .
وَلِأَنَّهُ وَاهِبٌ لَا وِلَايَةَ لَهُ فِي الْمَالِ ، فَلَمْ يَرْجِعْ فِي هِبَتِهِ ، كَذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ .
وَأَحَادِيثُنَا أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِهِمْ وَأَوْلَى .
وَقَوْلُ عُمَرَ ، قَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِهِ وَابْنِ عَبَّاسٍ خِلَافُهُ .

وَأَمَّا الْعَارِيَّةُ فَإِنَّمَا هِيَ هِبَةُ الْمَنَافِعِ ، وَلَمْ يَحْصُلْ الْقَبْضُ فِيهَا فَإِنَّ قَبَضَهَا بِاسْتِيفَائِهَا ، فَنَظِيرُ مَسْأَلَتِنَا مَا اسْتَوْفَى مِنْ مَنَافِعِ الْعَارِيَّةُ ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا .
( 4482 ) فَصْلٌ : فَحَصَلَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ مَا وَهَبَهُ الْإِنْسَانُ لِذَوِي رَحِمِهِ الْمَحْرَمِ غَيْرِ وَلَدِهِ ، لَا رُجُوعَ فِيهِ .
وَكَذَلِكَ مَا وَهَبَ الزَّوْجُ لِامْرَأَتِهِ .
وَالْخِلَافُ فِيمَا عَدَا هَؤُلَاءِ ، فَعِنْدنَا لَا يَرْجِعُ إلَّا الْوَالِدُ ، وَعِنْدَهُمْ لَا يَرْجِعُ إلَّا الْأَجْنَبِيُّ .
فَأَمَّا هِبَةُ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا ، فَعَنْ أَحْمَدَ فِيهِ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا لَا رُجُوعَ لَهَا فِيهَا .
وَهَذَا قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَالنَّخَعِيِّ ، وَرَبِيعَةَ ، وَمَالِكٍ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَبِي ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْي وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ ، وَقَتَادَةَ .
وَالثَّانِيَةُ ، لَهَا الرُّجُوعُ .
قَالَ الْأَثْرَمُ : سَمِعْت أَحْمَدَ يُسْأَلُ عَنْ الْمَرْأَةِ تَهَبُ ، ثُمَّ تَرْجِعُ ، فَرَأَيْته يَجْعَلُ النِّسَاءَ غَيْرَ الرِّجَالِ .
ثُمَّ ذَكَرَ الْحَدِيثَ { : إنَّمَا يَرْجِعُ فِي الْمَوَاهِبِ النِّسَاءُ وَشِرَارُ الْأَقْوَامِ } .
وَذَكَرَ حَدِيثَ عُمَرَ : إنَّ النِّسَاءَ يُعْطِينَ أَزْوَاجَهُنَّ رَغْبَةً وَرَهْبَةً ، فَأَيُّمَا امْرَأَةٍ أَعْطَتْ زَوْجَهَا شَيْئًا ، ثُمَّ أَرَادَتْ أَنْ تَعْتَصِرَهُ ، فَهِيَ أَحَقُّ بِهِ .
رَوَاهُ الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ .
وَهَذَا قَوْلُ شُرَيْحٍ ، وَالشَّعْبِيِّ ، وَحَكَاهُ الزُّهْرِيُّ عَنْ الْقُضَاةِ .
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى ثَالِثَةٌ ، نَقَلَهَا أَبُو طَالِبٍ ، إذَا وَهَبَتْ لَهُ مَهْرَهَا ، فَإِنْ كَانَ سَأَلَهَا ذَلِكَ ، رَدَّهُ إلَيْهَا ، رَضِيَتْ أَوْ كَرِهَتْ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَهَبُ إلَّا مَخَافَةَ غَضَبِهِ ، أَوْ إضْرَارٍ بِهَا بِأَنْ يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَأَلَهَا ، وَتَبَرَّعَتْ بِهِ ، فَهُوَ جَائِزٌ .
فَظَاهِرُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ ، أَنَّهُ مَتَى كَانَتْ مَعَ الْهِبَةِ قَرِينَةٌ ، مِنْ مَسْأَلَتِهِ لَهَا ، أَوْ غَضَبِهِ عَلَيْهَا ، أَوْ مَا يَدُلُّ عَلَى خَوْفِهَا مِنْهُ ،

فَلَهُ الرُّجُوعُ ؛ لِأَنَّ شَاهِدَ الْحَالِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَطِبْ بِهَا نَفْسُهَا ، وَإِنَّمَا أَبَاحَهُ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ طِيبِ نَفْسِهَا ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا } وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ الرِّوَايَةُ الْأُولَى ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { إلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ } .
وَقَالَ تَعَالَى : { فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا } .
وَعُمُومِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا .
( 4483 ) فَصْلٌ : وَلَا يَجُوزُ لِلْمُتَصَدِّقِ الرُّجُوعُ فِي صَدَقَتِهِ ، فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ عُمَرَ قَالَ فِي حَدِيثِهِ : مَنْ وَهَبَ هِبَةً عَلَى وَجْهِ صَدَقَةٍ ، فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ فِيهَا مَعَ عُمُومِ أَحَادِيثِنَا ، فَاتَّفَقَ دَلِيلُهُمْ وَدَلِيلُنَا ، فَلِذَلِكَ اتَّفَقَ قَوْلُهُمْ وَقَوْلُنَا .

( 4484 ) فَصْلٌ : وَالْهِبَةُ الْمُطْلَقَةُ ، لَا تَقْتَضِي ثَوَابًا ، سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ الْإِنْسَانِ لِمِثْلِهِ أَوْ دُونِهِ أَوْ أَعْلَى مِنْهُ .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْهِبَةِ لِمِثْلِهِ أَوْ دُونِهِ كَقَوْلِنَا .
فَإِنْ كَانَتْ لِأَعْلَى مِنْهُ ، فَفِيهَا قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهَا تَقْتَضِي الثَّوَابَ .
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، لِقَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَمَنْ وَهَبَ هِبَةً أَرَادَ بِهَا الثَّوَابَ ، فَهُوَ عَلَى هِبَتِهِ ، يَرْجِعُ فِيهَا إذَا لَمْ يَرْضَ مِنْهَا وَلَنَا أَنَّهَا عَطِيَّةٌ عَلَى وَجْهِ التَّبَرُّعِ ، فَلَمْ تَقْتَضِ ثَوَابًا ، كَهِبَةِ الْمِثْلِ وَالْوَصِيَّةِ ، وَحَدِيثُ عُمَرَ قَدْ خَالَفَهُ ابْنُهُ وَابْنُ عَبَّاسٍ ، فَإِنْ عَوَّضَهُ عَنْ الْهِبَةِ ، كَانَتْ هِبَةً مُبْتَدَأَةً لَا عِوَضًا ، أَيُّهُمَا أَصَابَ عَيْبًا لَمْ يَكُنْ لَهُ الرَّدُّ .
وَإِنْ خَرَجَتْ مُسْتَحَقَّةً ، أَخَذَهَا صَاحِبُهَا ، وَلَمْ يَرْجِعْ الْمَوْهُوبُ لَهُ بِبَدَلِهَا .
فَإِنْ شَرَطَ فِي الْهِبَةِ ثَوَابًا مَعْلُومًا ، صَحَّ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ؛ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ بِعِوَضِ مَعْلُومٍ ، فَهُوَ كَالْبَيْعِ ، وَحُكْمُهَا حُكْمُ الْبَيْعِ ، فِي ضَمَانِ الدَّرْكِ ، وَثُبُوتِ الْخِيَارِ وَالشُّفْعَةِ وَبِهَذَا قَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ قَوْلٌ ، أَنَّهُ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ فِي الْهِبَةِ مَا يُنَافِي مُقْتَضَاهَا .
وَلَنَا أَنَّهُ تَمْلِيكٌ بِعِوَضٍ ، فَصَحَّ مَا لَوْ قَالَ : مَلَّكْتُك هَذَا بِدِرْهَمٍ .
فَإِنَّهُ لَوْ أَطْلَقَ التَّمْلِيكَ كَانَ هِبَةً ، وَإِذَا ذَكَرَ الْعِوَضَ صَارَ بَيْعًا .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَقْتَضِي أَنْ يُغَلَّبَ فِي هَذَا حُكْمُ الْهِبَةِ ، فَلَا تَثْبُتُ فِيهَا أَحْكَامُ الْبَيْعِ الْمُخْتَصَّةُ بِهِ فَأَمَّا إنْ شَرَطَ ثَوَابًا مَجْهُولًا ، لَمْ يَصِحَّ ، وَفَسَدَتْ الْهِبَةُ ، وَحُكْمُهَا حُكْمُ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ ، يَرُدُّهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ بِزِيَادَتِهَا الْمُتَّصِلَةِ وَالْمُنْفَصِلَةِ ؛ لِأَنَّهُ نَمَاءُ مِلْكِ الْوَاهِبِ .
وَإِنْ كَانَتْ تَالِفَةً ، رَدَّ قِيمَتَهَا .
وَهَذَا قَوْلُ

الشَّافِعِيِّ ، وَأَبِي ثَوْرٍ .
وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ ، رَحِمَهُ اللَّهُ ، أَنَّهَا تَصِحُّ ، فَإِذَا أَعْطَاهُ عَنْهَا عِوَضًا رَضِيَهُ ، لَزِمَ الْعَقْدُ بِذَلِكَ ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ : إذَا قَالَ الْوَاهِبُ : هَذَا لَك عَلَى أَنْ تُثِيبَنِي .
فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ إذَا لَمْ يُثِبْهُ ، لِأَنَّهُ شَرْطٌ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ إسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدٍ : إذَا وَهَبَ لَهُ عَلَى وَجْهِ الْإِثَابَةِ ، فَلَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يُثِيبَهُ عَنْهَا ، فَعَلَى هَذَا عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهُ حَتَّى يُرْضِيَهُ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلِلْوَاهِبِ الرُّجُوعُ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُعْطِيَهُ قَدْرَ قِيمَتِهَا .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ هَذَا بَيْعٌ ، فَيُعْتَبَرُ فِيهِ التَّرَاضِي ، إلَّا أَنَّهُ بَيْعٌ بِالْمُعَاطَاةِ ، فَإِذَا عَوَّضَهُ عِوَضًا رَضِيَهُ ، حَصَلَ الْبَيْعُ بِمَا حَصَلَ مِنْ الْمُعَاطَاةِ مَعَ التَّرَاضِي بِهَا ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ التَّرَاضِي ، لَمْ تَصِحَّ ؛ لِعَدَمِ الْعَقْدِ ، فَإِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ وَلَا الْمُعَاطَاةُ مَعَ التَّرَاضِي وَالْأَصْلُ فِي هَذَا قَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَنْ وَهَبَ هِبَةً أَرَادَ بِهَا الثَّوَابَ ، فَهُوَ عَلَى هِبَتِهِ ، يَرْجِعُ فِيهَا إذَا لَمْ يَرْضَ مِنْهَا .
وَرُوِيَ مَعْنَى ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ ، وَفُضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ ، وَمَالِكٍ بْنِ أَنَسٍ .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ، عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَرَى أَنَّ الْهِبَةَ الْمُطْلَقَةَ تَقْتَضِي ثَوَابًا .
وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ، { أَنَّ أَعْرَابِيًّا وَهَبَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاقَةً ، فَأَعْطَاهُ ثَلَاثًا فَأَبَى ، فَزَادَهُ ثَلَاثًا ، فَأَبَى ، فَزَادَهُ ثَلَاثًا ، فَلَمَّا كَمُلَتْ تِسْعًا ، قَالَ : رَضِيت : فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَقَدْ هَمَمْت أَنْ لَا أَتَّهِبَ إلَّا مِنْ قُرَشِيٍّ أَوْ أَنْصَارِيٍّ أَوْ ثَقَفِيٍّ أَوْ دَوْسِيٍّ } .
مِنْ " الْمُسْنَدِ " قَالَ أَحْمَدُ : إذَا تَغَيَّرَتْ الْعَيْنُ الْمَوْهُوبَةُ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ ، وَلَمْ يُثِبْهُ مِنْهَا ، فَلَا أَرَى عَلَيْهِ نُقْصَانَ مَا نَقَصَ عِنْدَهُ

إذَا رَدَّهُ إلَى صَاحِبِهِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ ثَوْبًا لَبِسَهُ ، أَوْ غُلَامًا اسْتَعْمَلَهُ ، أَوْ جَارِيَةً اسْتَخْدَمَهَا ، فَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ إذَا نَقَصَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، فَكَانَ عِنْدِي مِثْلَ الرَّهْنِ ، الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ لِصَاحِبِهِ .

( 4485 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( وَإِذَا قَالَ : دَارِي لَك عُمُرِي .
أَوْ هِيَ لَك عُمُرَك .
فَهِيَ لَهُ وَلِوَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ ) الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى : نَوْعَانِ مِنْ الْهِبَةِ ، يَفْتَقِرَانِ إلَى مَا يَفْتَقِرُ إلَيْهِ سَائِرُ الْهِبَاتِ مِنْ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَالْقَبْضِ ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَ ذَلِكَ عِنْدَ مِنْ اعْتَبَرَهُ .
وَصُورَةُ الْعُمْرَى أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ : أَعْمَرْتُك دَارِي هَذِهِ ، أَوْ هِيَ لَك عُمُرِي ، أَوْ مَا عَاشَتْ ، أَوْ مُدَّةَ حَيَاتِك ، أَوْ مَا حَيِيت ، أَوْ نَحْوَ هَذَا .
سُمِّيَتْ عُمْرَى لِتَقْيِيدِهَا بِالْعُمُرِ .
وَالرُّقْبَى أَنْ يَقُولَ : أَرْقَبْتُك هَذِهِ الدَّارَ ، أَوْ هِيَ لَك حَيَاتَك ، عَلَى أَنَّك إنْ مِتَّ قَبْلِي عَادَتْ إلَيَّ ، وَإِنْ مِتُّ قَبْلَك فَهِيَ لَك وَلِعَقِبِك .
فَكَأَنَّهُ يَقُولُ : هِيَ لِآخِرِنَا مَوْتًا .
وَبِذَلِكَ سُمِّيَتْ رُقْبَى ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَرْقُبُ مَوْتَ صَاحِبِهِ .
وَكِلَاهُمَا جَائِزٌ ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهَا لَا تَصِحُّ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : لَا تَعْمُرُوا وَلَا تَرْقُبُوا } .
وَلَنَا مَا رَوَى جَابِرٌ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْعُمْرَى جَائِزَةٌ لِأَهْلِهَا ، وَالرُّقْبَى جَائِزَةٌ لِأَهْلِهَا } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالتِّرْمِذِيُّ .
وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ .
فَأَمَّا النَّهْيُ ، فَإِنَّمَا وَرَدَ عَلَى سَبِيلِ الْإِعْلَامِ لَهُمْ إنَّكُمْ إنْ أَعَمَرْتُمْ أَوْ أَرْقَبْتُمْ يَعُدْ لِلْمُعْمِرِ وَالْمُرْقِبِ ، وَلَمْ يَعُدْ إلَيْكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ .
وَسِيَاقُ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَيْهِ ، فَإِنَّهُ قَالَ { : فَمَنْ أَعْمَرَ عُمْرَى ، فَهِيَ لِمَنْ أَعْمَرَهَا حَيًّا وَمَيِّتًا وَعَقِبِهِ } .
وَلَوْ أُرِيدَ بِهِ حَقِيقَةُ النَّهْيِ ، لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ صِحَّتَهَا ؛ فَإِنَّ النَّهْيَ إنَّمَا يَمْنَعُ صِحَّةَ مَا يُفِيدُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ فَائِدَةً ، أَمَّا إذَا كَانَ صِحَّةُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ ضَرَرًا عَلَى مُرْتَكِبَهُ ، لَمْ يَمْنَعْ صِحَّتَهُ ، كَالطَّلَاقِ فِي زَمَنِ الْحَيْضِ .
وَصِحَّةُ الْعُمْرَى

ضَرَرٌ عَلَى الْمُعْمِرِ ، فَإِنَّ مِلْكَهُ يَزُولُ بِغَيْرِ عِوَضٍ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّ الْعُمْرَى تَنْقُلُ الْمِلْكَ إلَى الْمُعْمَرِ .
وَبِهَذَا قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، وَابْنُ عُمَرَ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَشُرَيْحٌ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَطَاوُسٌ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ .
وَقَالَ مَالِكٌ ، وَاللَّيْثُ : الْعُمْرَى تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ ، لَا تُمْلَكُ بِهَا رَقَبَةُ الْمُعْمَرِ بِحَالٍ ، وَيَكُونُ لِلْمُعْمَرِ السُّكْنَى ، فَإِذَا مَاتَ عَادَتْ إلَى الْمُعْمِرِ .
وَإِنْ قَالَ : لَهُ وَلِعَقِبِهِ .
كَانَ سُكْنَاهَا لَهُمْ ، فَإِذَا انْقَرَضُوا عَادَتْ إلَى الْمُعْمِرِ .
وَاحْتَجَّا بِمَا رَوَى يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ ، قَالَ : سَمِعْت مَكْحُولًا يَسْأَلُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ عَنْ الْعُمْرَى ، مَا يَقُولُ النَّاسُ فِيهَا ؟ فَقَالَ الْقَاسِمُ : مَا أَدْرَكْت النَّاسَ إلَّا عَلَى شُرُوطِهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ وَمَا أَعْطَوْا .
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ الْحَرْبِيُّ ، عَنْ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ : لَمْ يَخْتَلِفْ الْعَرَبُ فِي الْعُمْرَى ، وَالرُّقْبَى ، وَالْإِفْقَارِ ، وَالْإِخْبَالِ ، وَالْمِنْحَةِ ، وَالْعَرِيَّةِ .
وَالْعَارِيَّةِ ، وَالسُّكْنَى ، وَالْإِطْرَاقِ ، أَنَّهَا عَلَى مِلْكِ أَرْبَابِهَا ، وَمَنَافِعُهَا لِمَنْ جُعِلَتْ لَهُ .
وَلِأَنَّ التَّمْلِيكَ لَا يَتَأَقَّت ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ إلَى مُدَّةٍ ، فَإِذَا كَانَ لَا يَتَأَقَّت ، حُمِلَ قَوْلُهُ عَلَى تَمْلِيكِ الْمَنَافِعِ ؛ لِأَنَّهُ يَصِحُّ تَوْقِيتُهُ .
وَلَنَا مَا رَوَى جَابِرٌ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَمْسِكُوا عَلَيْكُمْ أَمْوَالَكُمْ ، وَلَا تُفْسِدُوهَا ، فَإِنَّهُ مَنْ أَعْمَرَ عُمْرَى ، فَهِيَ لِلَّذِي أَعْمَرَهَا حَيًّا وَمَيِّتًا وَلِعَقِبِهِ } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَفِي لَفْظٍ : { قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعُمْرَى لِمَنْ وُهِبَتْ لَهُ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا رُقْبَى ،

فَمَنْ أُرْقِبَ شَيْئًا ، فَهُوَ لَهُ حَيَاتَهُ وَمَوْتَهُ } .
وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ الْعُمْرَى لِلْوَارِثِ } .
وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ حَدِيثَ الْعُمْرَى ، فِي " مُوَطَّئِهِ " ، وَهُوَ صَحِيحٌ رَوَاهُ جَابِرٌ ، وَابْنُ عُمَرَ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَمُعَاوِيَةُ ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ .
وَقَوْلُ الْقَاسِمِ لَا يُقْبَلُ فِي مُخَالَفَةِ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ، فَكَيْفَ يُقْبَلُ فِي مُخَالَفَةِ قَوْلِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُدَّعَى إجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، لِكَثْرَةِ مَنْ قَالَ بِهَا مِنْهُمْ ، وَقَضَى بِهَا طَارِقٌ بِالْمَدِينَةِ بِأَمْرِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ .
وَقَوْلُ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ : إنَّهَا عِنْدَ الْعَرَبِ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ .
لَا يَضُرُّ إذَا نَقَلَهَا الشَّرْعُ إلَى تَمْلِيكِ الرَّقَبَةِ ، كَمَا نَقَلَ الصَّلَاةَ مِنْ الدُّعَاءِ إلَى الْأَفْعَالِ الْمَنْظُومَةِ ، وَنَقَلَ الظِّهَارَ وَالْإِيلَاءَ مِنْ الطَّلَاقِ إلَى أَحْكَامٍ مَخْصُوصَةِ .
قَوْلُهُمْ : إنَّ التَّمْلِيكَ لَا يَتَأَقَّتُ .
قُلْنَا : فَلِذَلِكَ أَبْطَلَ الشَّرْعُ تَأْقِيتَهَا ، وَجَعَلَهَا تَمْلِيكًا مُطْلَقًا .
( 4486 ) فَصْلٌ : إذَا شَرَطَ فِي الْعُمْرَى أَنَّهَا لِلْمُعْمَرِ وَعَقِبِهِ ، فَهَذَا تَأْكِيدٌ لِحُكْمِهَا ، وَتَكُونُ لِلْمُعْمَرِ وَوَرَثَتِهِ .
وَهَذَا قَوْلُ جَمِيعِ الْقَائِلِينَ بِهَا وَإِذَا أَطْلَقَهَا فَهِيَ لِلْمُعْمَرِ وَوَرَثَتِهِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهَا تَمْلِيكٌ لِلرَّقَبَةِ ، فَأَشْبَهَتْ الْهِبَةَ .
فَإِنْ شَرَطَ أَنَّك إذَا مِتَّ فَهِيَ لِي .
فَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ ؛ إحْدَاهُمَا ، صِحَّةُ الْعَقْدِ وَالشَّرْطِ ، وَمَتَى مَاتَ الْمُعْمَرُ رَجَعَتْ إلَى الْمُعْمِرِ .
وَبِهِ قَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، وَزَيْدُ بْنُ قُسَيْطٍ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَمَالِكٌ ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، وَابْنُ أَبِي ذِئْبٍ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَدَاوُد وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ ؛ لِمَا رَوَى جَابِرٌ ، قَالَ : إنَّمَا الْعُمْرَى الَّتِي أَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ

يَقُولَ : هِيَ لَك وَلِعَقِبِك .
فَأَمَّا إذَا قَالَ : هِيَ لَك مَا عِشْت .
فَإِنَّهَا تَرْجِعُ إلَى صَاحِبِهَا .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَرَوَى مَالِكٌ ، فِي " مُوَطَّئِهِ " ، عَنْ جَابِرٍ ، { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَيُّمَا رَجُلٍ أَعْمَرَ عُمْرَى لَهُ ، وَلِعَقِبِهِ ، فَإِنَّهَا لِلَّذِي أُعْطِيَهَا ، لَا تَرْجِعُ إلَى الَّذِي أَعْطَاهَا } .
لِأَنَّهُ أَعْطَى عَطَاءً وَقَعَتْ فِيهِ الْمَوَارِيثُ .
وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ : مَا أَدْرَكْت النَّاسَ إلَّا عَلَى شُرُوطِهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ ، أَنَّهَا تَكُونُ لِلْمُعْمَرِ وَلِوَرَثَتِهِ ، وَيَسْقُطُ الشَّرْطُ .
وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ الْجَدِيدُ ، وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ ؛ لِلْأَحَادِيثِ الْمُطْلَقَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا ، وَقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا رُقْبَى ، فَمَنْ أُرْقِبَ شَيْئًا ، فَهُوَ لَهُ فِي حَيَاتِهِ وَمَوْتِهِ } .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ : الرُّقْبَى أَنْ يَقُولَ هِيَ لِلْآخِرِ مِنِّي وَمِنْك مَوْتًا .
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، بِإِسْنَادِهِ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَنَّهُ قَالَ : { لَا عُمْرَى ، وَلَا رُقْبَى ، فَمَنْ أُعْمِرَ شَيْئًا ، أَوْ أُرْقِبَهُ ، فَهُوَ لَهُ حَيَاتَهُ وَمَوْتَهُ } وَهَذَا صَرِيحٌ فِي إبْطَالِ الشَّرْطِ ؛ لِأَنَّ الرُّقْبَى يُشْتَرَطُ فِيهَا عَوْدُهَا إلَى الْمُرْقِبِ إنْ مَاتَ الْآخَرُ قَبْلَهُ .
وَأَمَّا حَدِيثُهُمْ الَّذِي احْتَجُّوا بِهِ ، فَمِنْ قَوْلِ جَابِرٍ نَفْسِهِ ، وَأَمَّا نَقْلُ لَفْظِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَمْسِكُوا عَلَيْكُمْ أَمْوَالَكُمْ ، وَلَا تُفْسِدُوهَا ، فَإِنَّهُ مَنْ أُعْمِرَ عُمْرَى فَهِيَ لِلَّذِي أُعْمِرَهَا حَيًّا وَمَيِّتًا ، وَلِعَقِبِهِ } .
وَلِأَنَّا لَوْ أَجَزْنَا هَذَا الشَّرْطَ ، كَانَتْ هِبَةً مُؤَقَّتَةً ، وَالْهِبَةُ لَا يَجُوزُ فِيهَا التَّأْقِيتُ ، وَلَمْ يُفْسِدْهَا الشَّرْطُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ عَلَى الْمُعْمَرِ ، وَإِنَّمَا شَرْطُ ذَلِكَ عَلَى وَرَثَتِهِ ،

وَمَتَى لَمْ يَكُنْ الشَّرْطُ مَعَ الْمَعْقُودِ مَعَهُ ، لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ : إنَّهُ أَعْطَى عَطَاءً وَقَعَتْ فِيهِ الْمَوَارِيثُ .
فَهَذِهِ الزِّيَادَةُ مِنْ كَلَامِ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، كَذَلِكَ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ ، وَفَصَّلَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ فَقَالَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّهُ قَضَى فِي مَنْ أُعْمِرَ عُمْرَى لَهُ وَلِعَقِبِهِ ، فَهِيَ لَهُ بَتْلَةً ، لَا يَجُوزُ لِلْمُعْطِي فِيهَا شَرْطٌ وَلَا مَثْنَوِيَّةٌ .
قَالَ أَبُو سَلَمَةَ : لِأَنَّهُ أَعْطَى عَطَاءً وَقَعَتْ فِيهِ الْمَوَارِيثُ .
( 4487 ) فَصْلٌ : وَالرُّقْبَى هِيَ أَنْ يَقُولَ : هَذَا لَك عُمُرَك ، فَإِنْ مِتَّ قَبْلِي رَجَعَ إلَيَّ ، وَإِنْ مِتَّ قَبْلَك فَهُوَ لَك وَمَعْنَاهُ هِيَ لِآخِرِنَا مَوْتًا .
وَكَذَلِكَ فَسَّرَهَا مُجَاهِدٌ .
سُمِّيَتْ رُقْبَى لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَرْقُبُ مَوْتَ صَاحِبِهِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ : هِيَ أَنْ يَقُولَ : هِيَ لَك حَيَاتَك ، فَإِذَا مِتَّ فَهِيَ لِفُلَانٍ ، أَوْ هِيَ رَاجِعَةٌ إلَيَّ .
وَالْحُكْمُ فِيهَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، وَأَنَّهَا كَالْعُمْرَى إذَا شَرَطَ عَوْدَهَا إلَى الْمُعْمَرِ .
وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى سَوَاءٌ .
وَقَالَ طَاوُسٌ : مَنْ أُرْقِبَ شَيْئًا فَهُوَ عَلَى سَبِيل الْمِيرَاثِ وَقَالَ الزُّهْرِيُّ : الرُّقْبَى وَصِيَّةٌ .
يَعْنِي أَنَّ مَعْنَاهَا إذَا مِتُّ فَهَذَا لَك .
وَقَالَ الْحَسَنُ ، وَمَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ : الرُّقْبَى بَاطِلَةٌ ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَازَ الْعُمْرَى ، وَأَبْطَلَ الرُّقْبَى .
وَلِأَنَّ مَعْنَاهَا أَنَّهَا لِلْآخِرِ مِنَّا ، وَهَذَا تَمْلِيكٌ مُعَلَّقٌ بِخَطَرٍ ، وَلَا يَجُوزُ تَعْلِيقُ التَّمْلِيكِ بِالْخَطَرِ .
وَلَنَا مَا رَوَيْنَاهُ مِنْ الْأَخْبَارِ ، وَحَدِيثُهُمْ لَا نَعْرِفُهُ ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَعْنَاهَا مَا ذَكَرُوهُ ، بَلْ مَعْنَاهَا أَنَّهَا لَك حَيَاتَك ، فَإِنْ مِتَّ رَجَعَتْ إلَيَّ فَتَكُونُ كَالْعُمْرَى سَوَاءً ، إلَّا أَنَّهُ زَادَ شَرْطَهَا لِوَرَثَةِ الْمُرْقَبِ ، إنْ

مَاتَ الْمُرْقَبُ قَبْلَهُ ، وَهَذَا يُبَيِّنُ تَأْكِيدَهَا عَلَى الْعُمْرَى .
( 4488 ) فَصْلٌ : وَتَصِحُّ الْعُمْرَى فِي غَيْرِ الْعَقَارِ ، مِنْ الْحَيَوَانِ ، وَالنَّبَاتِ ؛ لِأَنَّهَا نَوْعُ هِبَةٍ ، فَصَحَّتْ فِي ذَلِكَ ، كَسَائِرِ الْهِبَاتِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي الرَّجُلِ يَعْمُرُ الْجَارِيَةَ : فَلَا أَرَى لَهُ وَطْأَهَا .
قَالَ الْقَاضِي : لَمْ يَتَوَقَّفْ أَحْمَدُ عَنْ وَطْءِ الْجَارِيَةِ لِعَدَمِ الْمِلْكِ فِيهَا ، لَكِنْ عَلَى طَرِيقِ الْوَرَعِ ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ اسْتِبَاحَةُ فَرْجٍ ، وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي صِحَّةِ الْعُمْرَى ، وَجَعَلَهَا بَعْضُهُمْ تَمْلِيكَ الْمَنَافِعِ ، فَلَمْ يَرَ لَهُ وَطْأَهَا لِهَذَا ، وَلَوْ وَطِئَهَا كَانَ جَائِزًا .
( 4489 ) فَصْلٌ : وَإِنْ وَقَّتَ الْهِبَةَ إلَى غَيْرِ الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى ، فَقَالَ : وَهَبْتُك هَذَا لِسَنَةٍ ، أَوْ إلَى أَنْ يَقْدَمَ الْحَاجُّ ، أَوْ إلَى أَنْ يَبْلُغَ وَلَدِي ، أَوْ مُدَّةَ حَيَاةِ فُلَانٍ .
وَنَحْوَ هَذَا لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّهَا تَمْلِيكٌ لِلرَّقَبَةِ ، فَلَمْ تَصِحَّ مُؤَقَّتَةً ، كَالْبَيْعِ ، وَتُفَارِقُ الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إنَّمَا يَمْلِكُ الشَّيْءَ عُمُرَهُ ، فَإِذَا مَلَكَهُ عُمُرَهُ فَقَدْ وَقَّتَهُ بِمَا هُوَ مُؤَقَّتٌ بِهِ فِي الْحَقِيقَةِ ، فَصَارَ ذَلِكَ كَالْمُطْلَقِ .
وَإِنْ شَرَطَ رُجُوعَهَا إلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ ، كَانَ شَرْطًا عَلَى غَيْرِ الْمَوْهُوبِ لَهُ ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ .

( 4490 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( وَإِنْ قَالَ : سُكْنَاهَا لَك عُمُرَك .
كَانَ لَهُ أَخْذُهَا أَيَّ وَقْتٍ أَحَبَّ ؛ لِأَنَّ السُّكْنَى لَيْسَتْ كَالْعُمْرَى وَالرُّقْبَى ) أَمَّا إذَا قَالَ : سُكْنَى هَذِهِ الدَّارِ لَك عُمُرَك ، أَوْ اُسْكُنْهَا عُمُرَك .
أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ ، فَلَيْسَ ذَلِكَ بِعَقْدٍ لَازِمٍ ؛ لِأَنَّهُ فِي التَّحْقِيقِ هِبَةُ الْمَنَافِعِ ، وَالْمَنَافِعُ إنَّمَا تُسْتَوْفَى بِمُضِيِّ الزَّمَانِ شَيْئًا فَشَيْئًا ، فَلَا تَلْزَمُ إلَّا فِي قَدْرِ مَا قَبَضَهُ مِنْهَا وَاسْتَوْفَاهُ بِالسُّكْنَى .
وَلِلْمُسْكِنِ الرُّجُوعُ مَتَى شَاءَ ، وَأَيُّهُمَا مَاتَ بَطَلَتْ الْإِبَاحَةُ وَبِهَذَا قَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ ، وَجَمَاعَةُ أَهْلِ الْفَتْوَى ، مِنْهُمْ ؛ الشَّعْبِيُّ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَرُوِيَ مَعْنَى ذَلِكَ عَنْ حَفْصَةَ .
وَقَالَ الْحَسَنُ ، وَعَطَاءٌ ، وَقَتَادَةُ : هِيَ كَالْعُمْرَى ، تَكُونُ لَهُ وَلِعَقِبِهِ ؛ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْعُمْرَى ، فَيَثْبُتُ فِيهَا مِثْلُ حُكْمِهَا .
وَحُكِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ إذَا قَالَ : هِيَ لَك ، اُسْكُنْ حَتَّى تَمُوتَ .
فَهِيَ لَهُ حَيَاتَهُ وَمَوْتَهُ .
وَإِنْ قَالَ : دَارِي هَذِهِ اُسْكُنْهَا حَتَّى تَمُوتَ .
فَإِنَّهَا تَرْجِعُ إلَى صَاحِبِهَا ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَالَ : هِيَ لَك .
فَقَدْ جَعَلَ لَهُ رَقَبَتَهَا ، فَتَكُونُ عُمْرَى .
فَإِذَا قَالَ : اُسْكُنْ دَارِي هَذِهِ .
فَإِنَّمَا جَعَلَ لَهُ نَفْعَهَا دُونَ رَقَبَتِهَا ، فَتَكُونُ عَارِيَّةً .
وَلَنَا أَنَّ هَذَا إبَاحَةُ الْمَنَافِعِ ، فَلَمْ يَقَعْ لَازِمًا كَالْعَارِيَّةِ .
وَفَارَقَ الْعُمْرَى فَإِنَّهَا هِبَةٌ لِلرَّقَبَةِ .
فَأَمَّا إذَا قَالَ : هَذِهِ لَك ، اُسْكُنْهَا حَتَّى تَمُوتَ .
فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ لَك سُكْنَاهَا حَتَّى تَمُوتَ .
وَتَفْسِيرُهَا بِذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ السُّكْنَى ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ : هَذِهِ لَك سُكْنَاهَا .
وَإِذَا احْتَمَلَ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الرَّقَبَةَ ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يُرِيدَ السُّكْنَى ، فَلَا نُزِيلُ مِلْكَهُ بِالِاحْتِمَالِ .

( 4491 ) فَصْلٌ : إذَا وَهَبَ هِبَةً فَاسِدَةً ، أَوْ بَاعَ بَيْعًا فَاسِدًا ، ثُمَّ وَهَبَ تِلْكَ الْعَيْنَ ، أَوْ بَاعَهَا بِعَقْدٍ صَحِيحٍ ، مَعَ عِلْمِهِ بِفَسَادِ الْأَوَّلِ ، صَحَّ الْعَقْدُ الثَّانِي ؛ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِهِ ، عَالِمًا بِأَنَّهُ مِلْكُهُ .
وَإِنْ كَانَ يَعْتَقِدُ صِحَّةَ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ ، فَفِي صِحَّةِ الثَّانِي وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا ، صِحَّتُهُ ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ صَادَفَ مِلْكَهُ ، وَتَمَّ بِشُرُوطِهِ ، فَصَحَّ ، كَمَا لَوْ عَلِمَ فَسَادَ الْأَوَّلِ .
وَالثَّانِي ، لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ تَصَرُّفًا يَعْتَقِدُ فَسَادَهُ ، فَفَسَدَ ، كَمَا لَوْ صَلَّى يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مُحْدِثٌ ، فَبَانَ مُتَطَهِّرًا وَهَكَذَا لَوْ تَصَرَّفَ فِي عَيْنٍ يَعْتَقِدُ أَنَّهَا لِأَبِيهِ ، فَبَانَ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ وَمَلَكَهَا بِالْمِيرَاثِ ، أَوْ غَصَبَ عَيْنَهَا فَبَاعَهَا يَعْتَقِدُهَا مَغْصُوبَةً ، فَبَانَ أَنَّهَا مِلْكُهُ ، فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ .
قَالَ الْقَاضِي : أَصْلُ الْوَجْهَيْنِ مَنْ بَاشَرَ امْرَأَةً بِطَلَاقٍ يَعْتَقِدُهَا أَجْنَبِيَّةً ، فَبَانَتْ امْرَأَتَهُ ، أَوْ وَاجَهَ بِالْعِتْقِ مَنْ يَعْتَقِدُهَا حُرَّةً ، فَبَانَتْ أَمَتُهُ ، فَفِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ وَالْحُرِّيَّةِ رِوَايَتَانِ .
وَلِلشَّافِعِيَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَجْهَانِ ، كَمَا حَكَيْنَا .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

كِتَابُ اللُّقَطَةِ وَهِيَ الْمَالُ الضَّائِعُ مِنْ رَبِّهِ ، يَلْتَقِطُهُ غَيْرُهُ قَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ اللُّقَطَةُ ، بِفَتْحِ الْقَافِ : اسْمٌ لِلْمُلْتَقِطِ ، لِأَنَّ مَا جَاءَ عَلَى فُعَّلَةٌ فَهُوَ اسْمٌ لِلْفَاعِلِ ، كَقَوْلِهِمْ : هُمَزَةٌ وَلُمَزَةٌ وَضُحَكَةٌ وَهُزَأَةٌ ، وَاللُّقْطَةُ ، بِسُكُونِ الْقَافِ : الْمَالُ الْمَلْقُوطُ ، مِثْلُ الضُّحْكَةِ الَّذِي يُضْحَكُ مِنْهُ ، وَالْهُزْأَةُ الَّذِي يُهْزَأُ بِهِ .
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ وَابْنُ الْأَعْرَابِيِّ وَالْفَرَّاءُ : هِيَ بِفَتْحِ الْقَافِ ، اسْمٌ لِلْمَالِ الْمَلْقُوطِ أَيْضًا وَالْأَصْلُ فِي اللُّقَطَةِ مَا رَوَى زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ الْجُهَنِيُّ قَالَ { : سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لُقَطَةِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ ، فَقَالَ : اعْرِفْ وِكَاءَهَا ، وَعِفَاصَهَا ، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً ، فَإِنْ لَمْ تُعْرَفْ فَاسْتَنْفِقْهَا وَلْتَكُنْ وَدِيعَةً عِنْدَك ، فَإِنْ جَاءَ طَالِبُهَا يَوْمًا مِنْ الدَّهْرِ ، فَادْفَعْهَا إلَيْهِ .
وَسَأَلَهُ عَنْ ضَالَّةِ الْإِبِلِ ، فَقَالَ : مَالَك وَلَهَا ، دَعْهَا ، فَإِنَّ مَعَهَا حِذَاءَهَا وَسَقَاهَا ، تَرِدُ الْمَاءَ ، وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ ، حَتَّى يَجِدَهَا رَبُّهَا وَسَأَلَهُ عَنْ الشَّاةِ ، فَقَالَ : خُذْهَا ، فَإِنَّمَا هِيَ لَك ، أَوْ لِأَخِيك ، أَوْ لِلذِّئْبِ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَالْوِكَاءُ : الْخَيْطُ الَّذِي يُشَدُّ بِهِ الْمَالُ فِي الْخِرْقَةِ وَالْعِفَاصُ : الْوِعَاءَ الَّذِي هِيَ فِيهِ ، مِنْ خِرْقَةٍ أَوْ قِرْطَاسٍ أَوْ غَيْرِهِ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَالْأَصْلُ فِي الْعِفَاصِ أَنَّهُ الْجِلْدُ الَّذِي يُلْبِسُهُ رَأْسَ الْقَارُورَةِ قَوْلُهُ : ( مَعَهَا حِذَاءَهَا ) يَعْنِي خُفَّهَا ، فَإِنَّهُ لِقُوَّتِهِ وَصَلَابَتِهِ يَجْرِي مَجْرَى الْحِذَاءِ ، وَسِقَاؤُهَا : بَطْنُهَا لِأَنَّهَا تَأْخُذُ فِيهِ مَاءً كَثِيرًا ، فَيَبْقَى مَعَهَا يَمْنَعُهَا الْعَطَشَ .
وَالضَّالَّةُ : اسْمٌ لِلْحَيَوَانِ خَاصَّةً ، دُونَ سَائِرِ اللُّقَطَةِ ، وَالْجَمْعُ ضَوَالُّ ، وَيُقَالُ لَهَا أَيْضًا : الْهَوَامِي وَالْهَوَافِي وَالْهَوَامِلُ ( 4492 ) فَصْلٌ : قَالَ إمَامُنَا ، رَحِمَهُ اللَّهُ : الْأَفْضَلُ تَرْكُ

الِالْتِقَاطِ وَرُوِيَ مَعْنَى ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَبِهِ قَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَالرَّبِيعُ بْنُ خَيْثَمٍ وَعَطَاءٌ ، وَمَرَّ شُرَيْحٌ بِدِرْهَمِ ، فَلَمْ يَعْرِضْ لَهُ .
وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّهُ إذَا وَجَدَهَا بِمَضْيَعَةٍ وَأَمِنَ نَفْسَهُ عَلَيْهَا ، فَالْأَفْضَلُ أَخْذُهَا .
وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَحُكِيَ عَنْهُ قَوْلٌ آخَرُ ، أَنَّهُ يَجِبُ أَخْذُهَا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } فَإِذَا كَانَ وَلِيَّهُ ، وَجَبَ عَلَيْهِ حِفْظُ مَالِهِ وَمِمَّنْ رَأَى أَخْذَهَا سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَخَذَهَا أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ وَسُوَيْدُ بْنُ غَفَلَةَ وَقَالَ مَالِكٌ إنْ كَانَ شَيْئًا لَهُ بَالٌ يَأْخُذُهُ أَحَبُّ إلَيَّ ، وَيُعَرِّفُهُ ، لِأَنَّ فِيهِ حِفْظَ مَالِ الْمُسْلِمِ عَلَيْهِ ، فَكَانَ أَوْلَى مِنْ تَضْيِيعِهِ ، وَتَخْلِيصِهِ مِنْ الْغَرَقِ .
وَلَنَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَلَا نَعْرِفُ لَهُمَا مُخَالِفًا فِي الصَّحَابَةِ ، وَلِأَنَّهُ تَعْرِيضٌ لِنَفْسِهِ لِأَكْلِ الْحَرَامِ ، وَتَضْيِيعِ الْوَاجِبِ مِنْ تَعْرِيفهَا ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ فِيهَا ، فَكَانَ تَرْكُهُ أَوْلَى وَأَسْلَمَ ، كَوِلَايَةِ مَالِ الْيَتِيمِ وَتَخْلِيلِ الْخَمْرِ وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِالضَّوَالِّ ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَخْذُهَا مَعَ مَا ذَكَرُوهُ ، وَكَذَلِكَ وِلَايَةُ مَالِ الْأَيْتَامِ .

مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( وَمَنْ وَجَدَ لُقَطَةً ، عَرَّفَهَا سَنَةً فِي الْأَسْوَاقِ وَأَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ فِي التَّعْرِيفِ سِتَّةَ فُصُولٍ فِي وُجُوبِهِ ، وَقَدْرِهِ وَزَمَانِهِ ، وَمَكَانِهِ وَكَيْفِيَّتِهِ ، وَمَنْ يَتَوَلَّاهُ ( 4494 ) أَمَّا وُجُوبُهُ ، فَإِنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُلْتَقِطٍ ، سَوَاءٌ أَرَادَ تَمَلُّكَهَا أَوْ حِفْظَهَا لِصَاحِبِهَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا تَجِبُ عَلَى مَنْ أَرَادَ حِفْظَهَا لِصَاحِبِهَا وَلَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِهِ زَيْدَ بْنَ خَالِدٍ وَأُبَيُّ بْنَ كَعْبٍ ، وَلَمْ يُفَرِّقْ ، وَلِأَنَّ حِفْظَهَا لِصَاحِبِهَا إنَّمَا يُقَيَّدُ بِإِيصَالِهَا إلَيْهِ وَطَرِيقُهُ التَّعْرِيفُ ، أَمَّا بَقَاؤُهَا فِي يَدِ الْمُلْتَقِطِ مِنْ غَيْرِ وُصُولِهَا إلَى صَاحِبِهَا ، فَهُوَ وَهَلَاكُهَا سِيَّانِ ، وَلِأَنَّ إمْسَاكَهَا مِنْ غَيْرِ تَعْرِيفٍ ، تَضْيِيعٌ لَهَا عَنْ صَاحِبِهَا ، فَلَمْ يَجُزْ ، كَرَدِّهَا إلَى مَوْضِعِهَا ، أَوْ إلْقَائِهَا فِي غَيْرِهِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَجِبْ التَّعْرِيفُ ، لَمَا جَازَ الِالْتِقَاطُ ؛ لِأَنَّ بَقَاءَهَا فِي مَكَانِهَا إذًا أَقْرَبُ إلَى وُصُولِهَا إلَى صَاحِبِهَا ، إمَّا بِأَنْ يَطْلُبَهَا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي ضَاعَتْ فِيهِ فَيَجِدَهَا ، وَإِمَّا بِأَنْ يَجِدَهَا مَنْ يَعْرِفُهَا ، وَأَخْذُهُ لَهَا يُفَوِّتُ الْأَمْرَيْنِ ، فَيَحْرُمُ ، فَلَمَّا جَازَ الِالْتِقَاطُ وَجَبَ التَّعْرِيفُ ، كَيْ لَا يَحْصُلَ هَذَا الضَّرَرُ وَلِأَنَّ التَّعْرِيفَ وَاجِبٌ عَلَى مَنْ أَرَادَ تَمَلُّكَهَا ، فَكَذَلِكَ عَلَى مَنْ أَرَادَ حِفْظَهَا ، فَإِنَّ التَّمَلُّكَ غَيْرُ وَاجِبٍ ، فَلَا تَجِبُ الْوَسِيلَةُ إلَيْهِ ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْوُجُوبُ فِي الْمَحَلِّ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ ، لِصِيَانَتِهَا عَنْ الضَّيَاعِ عَنْ صَاحِبِهَا ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ .

( 4495 ) الْفَصْلُ الثَّانِي : فِي قَدْرِ التَّعْرِيفِ ، وَذَلِكَ سَنَةٌ .
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ ، وَعَلِيٍّ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ .
وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ ، رِوَايَةٌ أُخْرَى ، أَنَّهُ يُعَرِّفُهَا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ .
وَعَنْهُ ثَلَاثَةَ أَعْوَامٍ ؛ لِأَنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ رَوَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ بِتَعْرِيفِ مِائَةِ الدِّينَارِ ثَلَاثَةَ أَعْوَامٍ وَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ الْهَاشِمِيُّ مَا دُونَ الْخَمْسِينَ دِرْهَمًا يُعَرِّفُهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إلَى سَبْعَةِ أَيَّامٍ .
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ : مَا دُونَ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ يُعَرِّفُهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ .
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ فِي الدِّرْهَمِ : يُعَرِّفُهُ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ .
وَقَالَ إِسْحَاقُ : مَا دُونَ الدِّينَارِ يُعَرِّفُهُ جُمُعَةً أَوْ نَحْوَهَا .
وَرَوَى أَبُو إِسْحَاقَ الْجُوزَجَانِيُّ ، بِإِسْنَادِهِ ، عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ الْتَقَطَ دِرْهَمًا ، أَوْ حَبْلًا ، أَوْ شِبْهَ ذَلِكَ ، فَلْيُعَرِّفْهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، فَإِنْ كَانَ فَوْقَ ذَلِكَ ، فَلْيُعَرِّفْهُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ .
} وَلَنَا : حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الصَّحِيحُ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ بِعَامٍ وَاحِدٍ ، وَلِأَنَّ السَّنَةَ لَا تَتَأَخَّرُ عَنْهَا الْقَوَافِلُ ، وَيَمْضِي فِيهَا الزَّمَانُ الَّذِي تُقْصَدُ فِيهِ الْبِلَادُ ، مِنْ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَالِاعْتِدَالِ ، فَصَلُحَتْ قَدْرًا كَمُدَّةِ أَجَلِ الْعَيْنِ .
وَأَمَّا حَدِيثُ أُبَيٍّ ، فَقَدْ قَالَ الرَّاوِي : لَا أَدْرِي ثَلَاثَةَ أَعْوَام أَوْ عَامًا وَاحِدًا قَالَ أَبُو دَاوُد : شَكَّ الرَّاوِي فِي ذَلِكَ .
وَحَدِيثُ يَعْلَى لَمْ يَقُلْ بِهِ قَائِلٌ عَلَى وَجْهِهِ ، وَحَدِيثُ زَيْدٍ وَأُبَيُّ أَصَحُّ مِنْهُ وَأَوْلَى .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ السَّنَةُ تَلِي الِالْتِقَاطَ ، وَتَكُونَ مُتَوَالِيَةً فِي نَفْسِهَا لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

أَمَرَ بِتَعْرِيفِهَا حِينَ سُئِلَ عَنْهَا ، وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْفَوْرَ ، وَلِأَنَّ الْقَصْدَ بِالتَّعْرِيفِ وُصُولُ الْخَبَرِ إلَى صَاحِبِهَا ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالتَّعْرِيفِ عَقِيبَ ضَيَاعِهَا مُتَوَالِيًا ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهَا فِي الْغَالِبِ إنَّمَا يَتَوَقَّعُهَا وَيَطْلُبُهَا عَقِيبَ ضَيَاعِهَا ، فَيَجِبُ تَخْصِيصُ التَّعْرِيفِ بِهِ .

الْفَصْلُ الثَّالِثُ : فِي زَمَانِهِ وَهُوَ النَّهَارُ دُونَ اللَّيْلِ ؛ لِأَنَّ النَّهَارَ مَجْمَعُ النَّاسِ وَمُلْتَقَاهُمْ دُونَ اللَّيْلِ ، وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي وَجَدَهَا ، وَالْأُسْبُوعُ أَكْثَرُ ؛ لِأَنَّ الطَّلَبَ فِيهِ أَكْثَرُ ، وَلَا يَجِبُ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ مُتَوَالِيًا .
وَقَدْ رَوَى الْجُوزَجَانِيُّ بِإِسْنَادِهِ ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ زَيْدٍ الْجُهَنِيِّ ، قَالَ : نَزَلْنَا مُنَاخَ رَكْبٍ ، فَوَجَدْت خِرْقَةً فِيهَا قَرِيبٌ مِنْ مِائَةِ دِينَارٍ ، فَجِئْت بِهَا إلَى عُمَرَ ، فَقَالَ : عَرِّفْهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ ، ثُمَّ أَمْسِكْهَا حَتَّى قَرْنِ السَّنَةِ ، وَلَا يَفِدُ مِنْ رَكْبٍ إلَّا نَشَدْتهَا ، وَقُلْت : الذَّهَبُ بِطَرِيقِ الشَّامِ ثُمَّ شَأْنَك بِهَا .

( 4497 ) الْفَصْلُ الرَّابِعُ : فِي مَكَانِهِ ، وَهُوَ الْأَسْوَاقُ ، وَأَبْوَابُ الْمَسَاجِدِ وَالْجَوَامِعِ ، فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَجْتَمِعُونَ فِيهِ ، كَأَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ فِي الْمَسَاجِدِ ، وَكَذَلِكَ فِي مَجَامِعِ النَّاسِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إشَاعَةُ ذِكْرِهَا ، وَإِظْهَارُهَا ، لِيَظْهَرَ عَلَيْهَا صَاحِبُهَا ، فَيَجِبُ تَحَرِّي مَجَامِعِ النَّاسِ ، وَلَا يَنْشُدُهَا فِي الْمَسْجِدِ ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ لَمْ يُبْنَ لِهَذَا .
وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ سَمِعَ رَجُلًا يَنْشُدُ ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ ، فَلْيَقُلْ : لَا رَدَّهَا اللَّهُ إلَيْك ، فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا } .
وَأَمَرَ عُمَرُ وَاجِدَ اللُّقَطَةِ بِتَعْرِيفِهَا عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ .

( 4498 ) الْفَصْلُ الْخَامِسُ : فِيمَنْ يَتَوَلَّاهُ ، وَلِلْمُلْتَقِطِ أَنْ يَتَوَلَّى ذَلِكَ بِنَفْسِهِ ، وَلَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِيهِ ، فَإِنْ وَجَدَ مُتَبَرِّعًا بِذَلِكَ ، وَإِلَّا إنْ احْتَاجَ إلَى أَجْرٍ ، فَهُوَ عَلَى الْمُلْتَقِطِ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّهُ إنْ قَصَدَ الْحِفْظَ لِصَاحِبِهَا دُونَ تَمَلُّكِهَا ، رَجَعَ بِالْأَجْرِ عَلَى مَالِكِهَا .
وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ ، فِيمَا لَا يُمْلَكُ بِالتَّعْرِيفِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ مُؤْنَةِ إيصَالِهَا إلَى صَاحِبِهَا ، فَكَانَ عَلَى مَالِكِهَا ، كَأَجْرِ مَخْزَنِهَا وَرَعْيِهَا وَتَجْفِيفِهَا وَلَنَا أَنَّ هَذَا أَجْرٌ وَاجِبٌ عَلَى الْمُعَرِّفِ ، فَكَانَ عَلَيْهِ ، كَمَا لَوْ قَصَدَ تَمَلُّكَهَا ، وَلِأَنَّهُ لَوْ وَلِيَهُ بِنَفْسِهِ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَجْرٌ عَلَى صَاحِبِهَا ، فَكَذَلِكَ إذَا اسْتَأْجَرَ عَلَيْهِ لَا يَلْزَمُ صَاحِبَهَا شَيْءٌ ، وَلِأَنَّهُ سَبَبٌ لِتَمَلُّكِهَا ، فَكَانَ عَلَى الْمُلْتَقِطِ ، كَمَا لَوْ قَصَدَ تَمَلُّكَهَا .
وَقَالَ مَالِكٌ : إنْ أَعْطَى مِنْهَا شَيْئًا لِمَنْ عَرَّفَهَا ، فَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ ، كَمَا لَوْ دَفَعَ مِنْهَا شَيْئًا لِمَنْ حَفِظَهَا .
وَقَدْ ذَكَرْنَا الدَّلِيلَ عَلَى ذَلِكَ .

( 4499 ) الْفَصْلُ السَّادِسُ : فِي كَيْفِيَّةِ التَّعْرِيفِ ، وَهُوَ أَنْ يَذْكُرَ جِنْسَهَا لَا غَيْرُ ، فَيَقُولَ : مَنْ ضَاعَ مِنْهُ ذَهَبٌ أَوْ فِضَّةٌ أَوْ دَنَانِيرُ أَوْ ثِيَابٌ .
وَنَحْوُ ذَلِكَ ؛ لِقَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِوَاجِدِ الذَّهَبِ قُلْ : الذَّهَبُ بِطَرِيقِ الشَّامِ وَلَا تَصِفْهَا لِأَنَّهُ لَوْ وَصَفَهَا لَعَلِمَ صِفَتَهَا مَنْ يَسْمَعُهَا ، فَلَا تَبْقَى صِفَتُهَا دَلِيلًا عَلَى مِلْكِهَا ، لِمُشَارَكَةِ غَيْرِ الْمَالِكِ فِي ذَلِكَ ، وَلِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَدَّعِيَهَا بَعْضُ مِنْ سَمِعَ صِفَتَهَا ، وَيَذْكُرَ صِفَتَهَا الَّتِي يَجِبُ دَفْعُهَا بِهَا ، فَيَأْخُذَهَا وَهُوَ لَا يَمْلِكُهَا ، فَتَضِيعَ عَلَى مَالِكِهَا .

( 4500 ) فَصْلٌ : لَمْ يُفَرِّقْ الْخِرَقِيِّ بَيْنَ يَسِيرِ اللُّقَطَةِ وَكَثِيرِهَا .
وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ ، إلَّا فِي الْيَسِيرِ الَّذِي لَا تَتْبَعُهُ النَّفْسُ ، كَالتَّمْرَةِ وَالْكِسْرَةِ وَالْخِرْقَةِ ، وَمَا لَا خَطَرَ لَهُ ، فَإِنَّهُ لَا بَأْسَ بِأَخْذِهِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَعْرِيفٍ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُنْكِرْ عَلَى وَاجِدِ التَّمْرَةِ حَيْثُ أَكَلَهَا ، بَلْ { قَالَ لَهُ : لَوْ لَمْ تَأْتِهَا لَأَتَتْك } .
{ وَرَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَمْرَةً فَقَالَ : لَوْلَا أَنِّي أَخْشَى أَنْ تَكُونَ مِنْ الصَّدَقَةِ ، لَأَكَلْتُهَا } وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي إبَاحَةِ أَخْذِ الْيَسِيرِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ ، وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ ، وَعَلِيٍّ ، وَابْنِ عُمَرَ ، وَعَائِشَةَ ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ ، وَطَاوُسٌ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَيَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَلَيْسَ عَنْ أَحْمَدَ وَأَكْثَرَ مَنْ ذَكَرْنَا تَحْدِيدُ الْيَسِيرِ الَّذِي يُبَاحُ .
وَقَالَ مَالِكٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَجِبُ تَعْرِيفُ مَا لَا يُقْطَعُ بِهِ السَّارِقُ ، وَهُوَ رُبْعُ دِينَارٍ عِنْدَ مَالِكٍ ، وَعَشَرَةُ دَرَاهِمَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ مَا دُونَ ذَلِكَ تَافِهٌ ، فَلَا يَجِبُ تَعْرِيفُهُ ، كَالْكِسْرَةِ وَالتَّمْرَةِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ تَافِهٌ قَوْلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : كَانُوا لَا يَقْطَعُونَ فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ .
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَنَّهُ وَجَدَ دِينَارًا فَتَصَرَّفَ فِيهِ .
وَرَوَى الْجُوزَجَانِيُّ ، عَنْ سَلْمَى بِنْتِ كَعْبٍ ، قَالَتْ : وَجَدْت خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ ، فِي طَرِيقِ مَكَّةَ ، فَسَأَلْت عَائِشَةَ عَنْهُ ، فَقَالَتْ : تَمَتَّعِي بِهِ .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ جَابِرٍ ، قَالَ : { رَخَّصَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَصَا وَالسَّوْطِ وَالْحَبْلِ وَأَشْبَاهِهِ ، يَلْتَقِطُهُ الرَّجُلُ يَنْتَفِعُ بِهِ } .
وَالْحَبْلُ قَدْ يَكُونُ قِيمَتُهُ دَرَاهِم وَعَنْ

ابْنِ مَاجَهْ بِإِسْنَادِهِ ، عَنْ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ ، قَالَ : خَرَجْت مَعَ سَلْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ ، وَزَيْدِ بْنِ صُوحَانَ ، حَتَّى إذَا كُنَّا بِالْعُذَيْبِ ، الْتَقَطْت سَوْطًا ، فَقَالَا لِي : أَلْقِهِ .
فَأَبَيْت ، فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ ، أَتَيْت أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ ، فَذَكَرْت ذَلِكَ لَهُ ، فَقَالَ : أَصَبْت .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَلِلشَّافِعِيَّةِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ كَالْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ .
وَلَنَا عَلَى إبْطَالِ تَحْدِيدِهِ بِمَا ذَكَرُوهُ ، أَنَّ حَدِيثَ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ عَامٌّ فِي كُلِّ لُقَطَةٍ ، فَيَجِبُ إبْقَاؤُهُ عَلَى عُمُومِهِ ، إلَّا مَا خَرَجَ مِنْهُ بِالدَّلِيلِ ، وَلَمْ يَرِدْ بِمَا ذَكَرُوهُ نَصٌّ ، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ النَّصُّ بِهِ وَلِأَنَّ التَّحْدِيدَ وَالتَّقْدِيرَ لَا يُعْرَفُ بِالْقِيَاسِ ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ نَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ ، وَلَيْسَ فِيمَا ذَكَرُوهُ نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ .
وَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ ، فَهُوَ ضَعِيفٌ ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَقَالَ : طُرُقُهُ كُلُّهَا مُضْطَرِبَةٌ .
ثُمَّ هُوَ مُخَالِفٌ لِمَذْهَبِهِمْ وَلِسَائِرِ الْمَذَاهِبِ ، فَتَعَيَّنَ حَمْلُهُ عَلَى وَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ غَيْرِ اللُّقَطَةِ ، إمَّا لِكَوْنِهِ مُضْطَرًّا إلَيْهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ قَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ ، لَا يُدْرَى كَمْ قَدْرُ الْخَاتَمِ ، ثُمَّ هُوَ قَوْلُ صَحَابِيٍّ ، وَكَذَلِكَ حَدِيثُ عَلِيٍّ ، وَهُمْ لَا يَرَوْنَ ذَلِكَ حُجَّةً ، وَسَائِرُ الْأَحَادِيثِ لَيْسَ فِيهَا تَقْدِيرٌ ، لَكِنْ يُبَاحُ أَخْذُ مَا ذَكَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَصَّ فِي أَخْذِهِ مِنْ السَّوْطِ وَالْعَصَا وَالْحَبْلِ ، وَمَا قِيمَتُهُ كَقِيمَةِ ذَلِكَ وَقَدَّرَهُ الشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ فِي كِتَابِهِ بِمَا دُونَ الْقِيرَاطِ ، وَلَا يَصِحُّ تَحْدِيدُهُ لِمَا ذَكَرْنَا .

( 4501 ) فَصْلٌ : إذَا أَخَّرَ التَّعْرِيفَ عَنْ الْحَوْلِ الْأَوَّلِ ، مَعَ إمْكَانِهِ أَثِمَ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِهِ فِيهِ ، وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ .
وَقَالَ فِي حَدِيثِ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ : { لَا يَكْتُمُ وَلَا يُغَيِّبُ } .
وَلِأَنَّ ذَلِكَ وَسِيلَةٌ إلَى أَنْ لَا يَعْرِفَهَا صَاحِبُهَا ، فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ بَعْدَ الْحَوْلِ يَيْأَسُ مِنْهَا ، وَيَسْلُو عَنْهَا ، وَيَتْرُكُ طَلَبِهَا .
وَيَسْقُطُ التَّعْرِيفُ بِتَأْخِيرِهِ عَنْ الْحَوْلِ الْأَوَّلِ ، فِي الْمَنْصُوصِ عَنْ أَحْمَدَ ؛ لِأَنَّ حِكْمَةَ التَّعْرِيفِ لَا تَحْصُلُ بَعْدَ الْحَوْلِ الْأَوَّلِ وَإِنْ تَرَكَهُ فِي بَعْضِ الْحَوْلِ ، عَرَّفَ بَقِيَّتَهُ .
وَيَتَخَرَّجُ أَنْ لَا يَسْقُطَ التَّعْرِيفُ بِتَأَخُّرِهِ ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ ، فَلَا يَسْقُطُ بِتَأْخِيرِهِ عَنْ وَقْتِهِ ، كَالْعِبَادَاتِ وَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ .
وَلِأَنَّ التَّعْرِيفَ فِي الْحَوْلِ الثَّانِي يَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ عَلَى نَوْعٍ مِنْ الْقُصُورِ ، فَيَجِبُ الْإِتْيَانُ بِهِ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ } فَعَلَى هَذَا إنْ أَخَّرَ التَّعْرِيفَ بَعْضَ الْحَوْلِ ، أَتَى بِالتَّعْرِيفِ فِي بَقِيَّتِهِ ، وَأَتَمَّهُ مِنْ الْحَوْلِ الثَّانِي .
وَعَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ ، لَا يَمْلِكُهَا بِالتَّعْرِيفِ فِيمَا عَدَا الْحَوْلَ الْأَوَّلَ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْمِلْكِ التَّعْرِيفُ فِي الْحَوْلِ الْأَوَّلِ ، وَلَمْ يُوجَدْ .
وَهَلْ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا أَوْ يَحْبِسَهَا عِنْدَهُ أَبَدًا ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَلْزَمَهُ دَفْعُهَا إلَى الْحَاكِمِ ، كَقَوْلِنَا فِيمَا إذَا الْتَقَطَ مَا لَا يَجُوزُ الْتِقَاطُهُ .
وَلَوْ تَرَكَ التَّعْرِيفَ فِي بَعْضِ الْحَوْلِ الْأَوَّلِ ، لَمْ يَمْلِكْهَا أَيْضًا بِالتَّعْرِيفِ فِيمَا بَعْدَهُ ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ لَمْ يَكْمُلْ ، وَعَدَمُ بَعْضِ الشَّرْطِ كَعَدَمِ جَمِيعِهِ ، كَمَا لَوْ أَخَلَّ بِبَعْضِ الطَّهَارَةِ ، أَوْ بِبَعْضِ السُّتْرَةِ فِي الصَّلَاةِ .

( 4502 ) فَصْلٌ : وَإِنْ تَرَكَ التَّعْرِيفَ فِي الْحَوْلِ الْأَوَّلِ ؛ لِعَجْزِهِ عَنْهُ ، مِثْلُ أَنْ يَتْرُكَهُ لِمَرَضٍ أَوْ حَبْسٍ أَوْ نِسْيَانٍ وَنَحْوِهِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ مَا لَوْ تَرَكَهُ مَعَ إمْكَانِهِ ؛ لِأَنَّ تَعْرِيفَهُ فِي الْحَوْلِ سَبَبُ الْمِلْكِ ، وَالْحُكْمُ يَنْتَفِي لِانْتِفَاءِ سَبَبِهِ ، سَوَاءٌ انْتَفَى لِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِ عُذْرٍ .
وَالثَّانِي ، أَنَّهُ يُعَرِّفُهُ فِي الْحَوْلِ الثَّانِي ، وَيَمْلِكُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤَخِّرْ التَّعْرِيفَ عَنْ وَقْتِ إمْكَانِهِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ عَرَّفَهُ فِي الْحَوْلِ الْأَوَّلِ .

( 4503 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا ، وَإِلَّا كَانَتْ كَسَائِرِ مَالِهِ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا عَرَّفَ اللُّقَطَةَ حَوْلًا ، فَلَمْ تُعْرَفْ ، مَلَكَهَا مُلْتَقِطُهَا ، وَصَارَتْ مِنْ مَالِهِ ، كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ ، غَنِيًّا كَانَ الْمُلْتَقِطُ أَوْ فَقِيرًا .
وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ ، وَابْنِ مَسْعُودٍ ، وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَالشَّعْبِيِّ ، وَالنَّخَعِيِّ ، وَطَاوُسٍ ، وَعِكْرِمَةَ وَقَالَ مَالِكٌ ، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ : يَتَصَدَّقُ بِهَا ، فَإِذَا جَاءَ صَاحِبُهَا خَيَّرَهُ بَيْنَ الْأَجْرِ وَالْغُرْمِ ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ اللُّقَطَةِ ، فَقَالَ : عَرِّفْهَا حَوْلًا .
وَرُوِيَ : ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ ، فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا ، وَإِلَّا تَصَدَّقْ بِهَا ، فَإِذَا جَاءَ رَبُّهَا ، فَرَضِيَ بِالْأَجْرِ ، وَإِلَّا غَرِمَهَا } .
وَلِأَنَّهَا مَالٌ لِمَعْصُومٍ ، لَمْ يَرْضَ بِزَوَالِ مِلْكِهِ عَنْهَا ، وَلَا وُجِدَ مِنْهُ سَبَبٌ يَقْتَضِي ذَلِكَ ، فَلَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْهُ ، كَغَيْرِهَا قَالُوا : وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا ، إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ : لَهُ ذَلِكَ إنْ كَانَ فَقِيرًا مِنْ غَيْرِ ذَوِي الْقُرْبَى ؛ لِمَا رَوَى عِيَاضُ بْنُ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيُّ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ وَجَدَ لُقَطَةً فَلْيُشْهِدْ عَلَيْهَا ذَا عَدْلٍ ، وَلَا يَكْتُمْ وَلَا يُغَيِّبْ ، فَإِنْ وَجَدَ صَاحِبَهَا فَلْيَرْدُدْهَا عَلَيْهِ ، وَإِلَّا فَهِيَ مَالُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ } .
رَوَاهُ النَّسَائِيّ .
قَالُوا : وَمَا يُضَافُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى ، إنَّمَا يَتَمَلَّكُهُ مَنْ يَسْتَحِقُّ الصَّدَقَةَ .
وَنَقَلَ حَنْبَلٌ ، عَنْ أَحْمَدَ مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ وَأَنْكَرَهُ الْخَلَّالُ ، وَقَالَ : لَيْسَ هَذَا مَذْهَبًا لِأَحْمَدْ .
وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي

حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ : { فَإِنْ لَمْ تُعْرَفْ ، فَاسْتَنْفِقْهَا } .
وَفِي لَفْظٍ : " وَإِلَّا فَهِيَ كَسَبِيلِ مَالِكَ " .
وَفِي لَفْظٍ : " ثُمَّ كُلْهَا " .
وَفِي لَفْظٍ : " فَانْتَفِعْ بِهَا " .
وَفِي لَفْظٍ : " فَشَأْنَك بِهَا " .
وَفِي حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ : " فَاسْتَنْفِقْهَا " .
وَفِي لَفْظٍ : " فَاسْتَمْتِعْ بِهَا " .
وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ .
وَلِأَنَّ مَنْ مَلَكَ بِالْقَرْضِ مَلَكَ بِاللُّقَطَةِ كَالْفَقِيرِ ، وَمَنْ جَازَ لَهُ الِالْتِقَاطُ مَلَكَ بِهِ بَعْدَ التَّعْرِيفِ ، كَالْفَقِيرِ .
وَحَدِيثُهُمْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ لَمْ يَثْبُتْ ، وَلَا نُقِلَ فِي كِتَابٍ يُوثَقُ بِهِ وَدَعْوَاهُمْ فِي حَدِيثِ عِيَاضٍ أَنَّ مَا يُضَافُ إلَى اللَّهِ لَا يَتَمَلَّكُهُ إلَّا مَنْ يَسْتَحِقُّ الصَّدَقَةَ .
لَا بُرْهَانَ لَهَا ، وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهَا ، وَبُطْلَانُهَا ظَاهِرٌ ؛ فَإِنَّ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا تُضَافُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى خَلْقًا وَمِلْكًا ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ } .

( 4504 ) فَصْلٌ : وَتَدْخُلُ اللُّقَطَةُ فِي مِلْكِهِ عِنْدَ تَمَامِ التَّعْرِيفِ حُكْمًا ، كَالْمِيرَاثِ .
هَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ ؛ لِقَوْلِهِ : " وَإِلَّا كَانَتْ كَسَائِرِ مَالِهِ " .
وَكَذَلِكَ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ : إذَا جَاءَ صَاحِبُهَا ، وَإِلَّا كَانَتْ كَسَائِرِ مَالِهِ .
وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّهَا لَا تَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ حَتَّى يَخْتَارَ .
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ كَقَوْلِنَا ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : يَمْلِكُهَا بِالنِّيَّةِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : يَمْلِكُهَا بِقَوْلِهِ : اخْتَرْت تَمَلُّكَهَا .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَا يَمْلِكُهَا إلَّا بِقَوْلِهِ ، وَالتَّصَرُّفِ فِيهَا ؛ لِأَنَّ هَذَا تَمَلُّكٌ بِعِوَضِ ؛ فَلَمْ يَحْصُلْ إلَّا بِاخْتِيَارِ الْمُتَمَلِّكِ ، كَالشِّرَاءِ .
وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { فَإِذَا جَاءَ صَاحِبُهَا ، وَإِلَّا فَهِيَ كَسَبِيلِ مَالِكَ } .
وَقَوْلُهُ : " فَاسْتَنْفِقْهَا " .
وَلَوْ وَقَفَ مِلْكُهَا عَلَى تَمَلُّكِهَا لَبَيَّنَهُ لَهُ ، وَلَمْ يُجَوِّزْ لَهُ التَّصَرُّفَ قَبْلَهُ .
وَفِي لَفْظٍ : " فَهِيَ لَك " .
وَفِي لَفْظٍ : " كُلْهَا " .
وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ كُلّهَا تَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَا وَلِأَنَّ الِالْتِقَاطَ وَالتَّعْرِيفَ سَبَبٌ لِلتَّمَلُّكِ ، فَإِذَا تَمَّ وَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ بِهِ الْمِلْكُ حُكْمًا ، كَالْإِحْيَاءِ وَالِاصْطِيَادِ .
وَلِأَنَّهُ سَبَبٌ يُمْلَكُ بِهِ ، فَلَمْ يَقِفْ الْمِلْكُ بَعْدَهُ عَلَى قَوْلِهِ ، وَلَا اخْتِيَارِهِ ، كَسَائِرِ الْأَسْبَابِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ لَيْسَ إلَيْهِ إلَّا مُبَاشَرَةُ الْأَسْبَابِ ، فَإِذَا أَتَى بِهَا ، ثَبَتَ الْحُكْمُ قَهْرًا وَجَبْرًا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى ، غَيْرَ مَوْقُوفٍ عَلَى اخْتِيَارِ الْمُكَلَّفِ .
وَأَمَّا الِاقْتِرَاضُ فَهُوَ السَّبَبُ فِي نَفْسِهِ ، فَلَمْ يَثْبُت الْمِلْكُ بِدُونِهِ .

( 4505 ) فَصْلٌ : فَإِنْ الْتَقَطَهَا اثْنَانِ ، فَعَرَّفَاهَا حَوْلًا ، مَلَكَاهَا جَمِيعًا .
وَإِنْ قُلْنَا بِوُقُوفِ الْمِلْكِ عَلَى الِاخْتِيَارِ ، فَاخْتَارَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ ، مَلَكَ الْمُخْتَارُ نِصْفَهَا دُونَ الْآخَر .
وَإِنْ رَأَيَاهَا مَعًا ، فَبَادَرَ أَحَدُهُمَا فَأَخَذَهَا ، أَوْ رَآهَا أَحَدُهُمَا ، فَأَعْلَمَ بِهَا صَاحِبَهُ ، فَأَخَذَهَا ، فَهِيَ لِآخِذِهَا ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ اللُّقَطَةِ بِالْأَخْذِ لَا بِالرُّؤْيَةِ ، كَالِاصْطِيَادِ .
وَإِنْ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ : هَاتِهَا .
فَأَخَذَهَا ، نَظَرْت فِي نِيَّتِهِ ؛ فَإِنْ أَخَذَهَا لِنَفْسِهِ ، فَهِيَ لَهُ دُونَ الْآمِرِ ، وَإِنْ أَخَذَهَا لِلْآمِرِ ، فَهِيَ لَهُ ، كَمَا لَوْ وَكَّلَهُ فِي الِاصْطِيَادِ لَهُ .

( 4506 ) فَصْلٌ : وَتُمْلَكُ اللُّقَطَةُ مِلْكًا مُرَاعًى ، يَزُولُ بِمَجِيءِ صَاحِبِهَا ، وَيَضْمَنُ لَهُ بَدَلَهَا إنْ تَعَذَّرَ رَدُّهَا .
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَمْلِكُهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ يَثْبُتُ فِي ذِمَّتِهِ ، وَإِنَّمَا يَتَجَدَّدُ وُجُوبُ الْعِوَضِ بِمَجِيءِ صَاحِبِهَا ، كَمَا يَتَجَدَّدُ زَوَالُ الْمِلْكِ عَنْهَا بِمَجِيئِهِ ، وَكَمَا يَتَجَدَّدُ وُجُوبُ نِصْفِ الصَّدَاقِ لِلزَّوْجِ ، أَوْ بَدَلِهِ إنْ تَعَذَّرَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ فِيهِ بِالطَّلَاقِ .
وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ أَكْثَرُهُمْ : لَا يَمْلِكُهَا إلَّا بِعِوَضٍ يَثْبُتُ فِي ذِمَّتِهِ لِصَاحِبِهَا وَهَذَا قَوْلُ الْقَاضِي وَأَصْحَابِهِ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَمْلِكُ الْمُطَالَبَةَ بِهِ ، فَأَشْبَهَ الْقَرْضَ .
وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا ، وَإِلَّا فَهِيَ مَالُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ } .
فَجَعَلَهَا مِنْ الْمُبَاحَاتِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ مَاتَ لَمْ يُعْزَلْ مِنْ تَرِكَتِهِ بَدَلُهَا ، وَلَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الزَّكَاةِ بِسَبَبِ الْغُرْمِ ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُوصِيَ بِهِ ، وَلَا يَمْتَنِعُ وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِي مَالِهِ بِسَبَبِ الدَّيْنِ ، وَلَا يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ الدَّيْنِ فِي حَقِّهِ ، وَانْتِفَاءُ أَحْكَامِهِ دَلِيلٌ عَلَى انْتِفَائِهِ .
وَقَالَ الْقَاضِي : يَمْنَعُ ذَلِكَ وُجُوبَ الزَّكَاةِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ مَلَكَهَا بِعِوَضٍ لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْهَا بِمَجِيءِ صَاحِبِهَا وَلَوْ وَقَفَ مِلْكُهُ لَهَا عَلَى رِضَاهُ بِالْمُعَاوَضَةِ وَاخْتِيَارِهِ لِأَحَدِهِمَا كَالْقَرْضِ ، وَالْأَمْرُ بِخِلَافِ ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهَا الْمُطَالَبَةَ بَعْدَ مَجِيئِهِ ، بِشَرْطِ تَلَفِهَا ، فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَوْجُودَةً لَأَخَذَهَا ، وَلَمْ يَسْتَحِقّ لَهَا بَدَلًا .
وَإِنْ كَانَتْ تَالِفَةً تَجَدَّدَ لَهُ مِلْكُ الْمُطَالَبَةِ بِبَدَلِهَا ، كَمَا يَتَجَدَّدُ لَهُ الْمِلْكُ فِيهَا لَوْ كَانَتْ مَوْجُودَةً ، وَكَمَا يَتَجَدَّدُ لَهُ الْمِلْكُ فِي نِصْفِ الصَّدَاقِ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ ، وَفِي بَدَلِهِ إنْ كَانَ مَعْدُومًا .
وَهَذَا أَشْبَهُ

بِمَسْأَلَتِنَا ، وَبِهِ يَبْطُلُ مَا ذَكَرُوهُ .
وَأَمَّا الْقَرْضُ ، فَإِنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ بَدَلُهُ فِي الذِّمَّةِ ، لَمْ يَعُدْ الْمِلْكُ لَهُ فِي الْمُقْرِضِ إلَّا بِرِضَاءِ الْمُقْرِضِ وَاخْتِيَارِهِ .

( 4507 ) فَصْلٌ : وَكُلُّ مَا جَازَ الْتِقَاطُهُ ، مُلِكَ بِالتَّعْرِيفِ عِنْدَ تَمَامِهِ ، أَثْمَانًا كَانَتْ أَوْ غَيْرَهَا هَذَا كَلَامُ الْخِرَقِيِّ ، فَإِنَّ لَفْظَهُ عَامٌّ فِي كُلِّ لَفْظِهِ .
وَقَدْ نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ أَحْمَدَ ، فَإِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَكَمِ ، رَوَى عَنْهُ فِي الصَّيَّادِ يَقَعُ فِي شِصِّهِ الْكِيسُ أَوْ النُّحَاسُ : يُعَرِّفُهُ سَنَةً ، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهُ ، وَإِلَّا فَهُوَ كَسَائِرِ مَالِهِ .
وَهَذَا نَصٌّ فِي النُّحَاسِ .
وَقَالَ الشَّرِيفُ بْنُ أَبِي مُوسَى : هَلْ حُكْمُ الْعُرُوضِ فِي التَّعْرِيفِ ، وَجَوَازِ التَّصَرُّفِ فِيهَا بَعْدَ ذَلِكَ ، حُكْمُ الْأَثْمَانِ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ ، أَظْهَرُهُمَا أَنَّهَا كَالْأَثْمَانِ ، وَلَا أَعْلَمُ بَيْنَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ فَرْقًا بَيْنَ الْأَثْمَانِ وَالْعُرُوضِ فِي ذَلِكَ وَقَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا : لَا تُمْلَكُ الْعُرُوض بِالتَّعْرِيفِ .
قَالَ الْقَاضِي : نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى هَذَا ، فِي رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ .
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا يَصْنَعُ بِهَا ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ ، وَابْنُ عَقِيلٍ : يُعَرِّفُهَا أَبَدًا .
وَقَالَ الْقَاضِي : هُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُقِيمَ عَلَى تَعْرِيفهَا حَتَّى يَجِيءَ صَاحِبُهَا ، وَبَيْنَ دَفْعِهَا إلَى الْحَاكِمِ لِيَرَى رَأْيَهُ فِيهَا .
وَهَلْ لَهُ بَيْعُهَا بَعْدَ الْحَوْلِ ، وَيَتَصَدَّقُ بِهَا ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ ، وَقَالَ الْخَلَّالُ : كُلُّ مَا رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهُ يُعَرِّفُهُ سَنَةً ، وَيَتَصَدَّقُ بِهِ ، وَاَلَّذِي نُقِلَ أَنَّهُ يُعَرِّفُ أَبَدًا قَوْلٌ قَدِيمٌ ، رَجَعَ عَنْهُ وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَابْنِ مَسْعُودٍ ، مِثْلَ قَوْلِهِمْ ، وَلِأَنَّهَا لُقَطَةٌ لَا تُمْلَكُ فِي الْحَرَمِ ، فَلَا تُمْلَكُ فِي غَيْرِهِ كَالْإِبِلِ ، وَلِأَنَّ الْخَبَرَ وَرَدَ فِي الْأَثْمَانِ ، وَغَيْرُهَا لَا يُسَاوِيهَا ؛ لِعَدَمِ الْغَرَضِ الْمُتَعَلِّقِ بِعَيْنِهَا ، فَمِثْلُهَا يَقُومُ مَقَامَهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، بِخِلَافِ غَيْرِهَا .
وَلَنَا عُمُومُ الْأَحَادِيثِ فِي اللُّقَطَةِ جَمِيعهَا { ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ اللُّقَطَةِ ، فَقَالَ :

عَرِّفْهَا سَنَةً ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهِ : فَانْتَفِعْ بِهَا ، أَوْ فَشَأْنَك بِهَا } وَفِي حَدِيثِ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ : " مَنْ وَجَدَ لُقَطَةً " وَهُوَ لَفْظٌ عَامٌّ وَرَوَى الْجُوزَجَانِيُّ ، وَالْأَثْرَمُ فِي " كِتَابَيْهِمَا " ، قَالَا : حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ ، ثِنَا هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ ، قَالَ حَدَّثَنِي عَمْرو بْنُ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، قَالَ { : أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، كَيْفَ تَرَى فِي مَتَاعٍ يُوجَدُ فِي الطَّرِيقِ الْمَيْتَاءِ ، أَوْ فِي قَرْيَةٍ مَسْكُونَةٍ ؟ فَقَالَ : عَرِّفْهُ سَنَةً ، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهُ ، وَإِلَّا فَشَأْنَك بِهِ } .
وَرَوَيَا أَنَّ سُفْيَانَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ ، وَجَدَ عَيْبَةً فَأَتَى بِهَا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَقَالَ : عَرِّفْهَا سَنَةً ، فَإِنْ عُرِفَتْ ، وَإِلَّا فَهِيَ لَك .
زَادَ الْجُوزَجَانِيُّ : فَلَمْ تُعْرَفْ ، فَلَقِيَهُ بِهَا الْعَامَ الْمُقْبِلَ ، فَذَكَرَهَا لَهُ ، فَقَالَ عُمَرُ : هِيَ لَك ، إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَنَا بِذَلِكَ وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ كَذَلِكَ .
وَهَذَا نَصٌّ فِي غَيْرِ الْأَثْمَانِ .
وَرَوَى الْجُوزَجَانِيُّ بِإِسْنَادِهِ ، عَنْ الْحُرِّ بْنِ الصَّبَّاحِ قَالَ : كُنْت عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ بِمَكَّةَ ، إذْ جَاءَهُ رَجُلٌ .
فَقَالَ : إنِّي وَجَدْت هَذَا الْبُرْدَ ، وَقَدْ نَشَدْته وَعَرَّفْته فَلَمْ يَعْرِفْهُ أَحَدٌ ، وَهَذَا يَوْمُ التَّرْوِيَةِ ، وَيَوْمُ يَتَفَرَّقُ النَّاسُ .
فَقَالَ : إنْ شِئْت قَوَّمْته قِيمَةَ عَدْلٍ ، وَلَبِسْته ، وَكُنْت لَهُ ضَامِنًا ، مَتَى جَاءَك صَاحِبُهُ دَفَعْت إلَيْهِ ثَمَنَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَجِئْ لَهُ طَالِبٌ فَهُوَ لَك إنْ شِئْت وَلِأَنَّ مَا جَازَ الْتِقَاطُهُ مُلِكَ بِالتَّعْرِيفِ ، كَالْأَثْمَانِ ، وَمَا حَكَوْهُ عَنْ الصَّحَابَةِ إنْ صَحَّ ، فَقَدْ حَكَيْنَا عَنْ عُمَرَ وَابْنِهِ خِلَافَهُ .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّهَا لُقَطَةٌ لَا تُمْلَكُ فِي الْحَرَمِ مَمْنُوعٌ ، ثُمَّ هُوَ مَنْقُوضٌ بِالْأَثْمَانِ ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهَا عَلَى الْإِبِلِ ؛ لِأَنَّ مَعَهَا حِذَاءَهَا وَسِقَاءَهَا ، تَرِدُ الْمَاءَ ، وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ ،

حَتَّى يَأْتِيَهَا رَبُّهَا ، وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي غَيْرِهَا ، وَلِأَنَّ الْإِبِلَ لَا يَجُوزُ الْتِقَاطُهَا ، فَلَا تُمْلَكُ بِهِ ، وَهَاهُنَا يَجُوزُ الْتِقَاطُهَا ، فَتُمْلَكُ بِهِ ، كَالْأَثْمَانِ .
ثُمَّ إذَا لَمْ تُمْلَكْ فِي الْحَرَمِ ، لَا تُمْلَكُ فِي الْحِلِّ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَرَمَ مُيِّزَ بِكَوْنِ لُقَطَتِهِ لَا يَلْتَقِطُهَا إلَّا مُنْشِدٌ ، وَلِهَذَا لَمْ تُمْلَكْ الْأَثْمَانُ بِالْتِقَاطِهَا فِيهِ ، فَلَا يَلْزَمُ أَنْ لَا تُمْلَكَ فِي مَوْضِعٍ لَمْ يُوجَدْ الْمَانِعُ فِيهِ وَقَوْلُهُمْ : إنَّ النَّصَّ خَاصٌّ فِي الْأَثْمَانِ .
قُلْنَا : بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ لُقَطَةٍ ، فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِعُمُومِهِ ، وَإِنْ وَرَدَ فِيهَا نَصٌّ خَاصٌّ ، فَقَدْ رُوِيَ خَبَرٌ عَامٌ ، فَيُعْمَلُ بِهِمَا ، ثُمَّ قَدْ رَوَيْنَا نَصًّا خَاصًّا فِي الْعُرُوضِ ، فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ ، كَمَا وَجَبَ الْعَمَلُ بِالْخَاصِّ فِي الْأَثْمَانِ ، ثُمَّ لَوْ اخْتَصَّ الْخَبَرُ بِالْأَثْمَانِ ، لَوَجَبَ أَنْ يُقَاسَ عَلَيْهَا مَا كَانَ فِي مَعْنَاهَا ، كَسَائِرِ النُّصُوصِ الَّتِي عُقِلَ مَعْنَاهَا وَوُجِدَ فِي غَيْرِهَا ، وَهَاهُنَا قَدْ وُجِدَ الْمَعْنَى ، فَيَجِبُ قِيَاسُهُ عَلَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ ، أَوْ نَقُولُ : إنَّ الْمَعْنَى هَاهُنَا آكَدُ ، فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ فِيهِ بِطَرِيقِ التَّنْبِيه وَبَيَانُهُ أَنَّ الْأَثْمَانَ لَا تَتْلَفُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ عَلَيْهَا ، وَانْتِظَارِ صَاحِبِهَا بِهَا أَبَدًا ، وَالْعُرُوضُ تَتْلَفُ بِذَلِكَ ، فَفِي النِّدَاءِ عَلَيْهَا دَائِمًا هَلَاكُهَا ، وَضَيَاعُ مَالِيَّتِهَا عَلَى صَاحِبِهَا ، وَمُلْتَقِطِهَا ، وَسَائِرِ النَّاسِ ، فِي إبَاحَةِ الِانْتِفَاعِ بِهَا وَمِلْكِهَا بَعْدَ التَّعْرِيفِ ، حِفْظًا لِمَالِيَّتِهَا عَلَى صَاحِبِهَا بِدَفْعِ قِيمَتِهَا إلَيْهِ ، وَتَقَعُ لِغَيْرِهِ ، فَيَجِبُ ذَلِكَ لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ وَالْحِفْظِ لِمَالِ الْمُسْلِمِ عَلَيْهِ وَعَلَى أَخِيهِ ، وَلِأَنَّ فِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ فِيهَا حَثًّا عَلَى الْتِقَاطِهَا وَحِفْظِهَا وَتَعْرِيفِهَا ، لِكَوْنِهِ وَسِيلَةً إلَى الْمِلْكِ الْمَقْصُودِ

لِلْآدَمِيِّ ، وَفِي نَفْيِ مِلْكِهَا تَضْيِيعٌ لَهَا ، لِمَا فِي الْتِقَاطِهَا مِنْ الْخَطَرِ وَالْمَشَقَّةِ وَالْكُلْفَةِ مِنْ غَيْرِ نَفْعٍ يَصِلُ إلَيْهِ ، فَيُؤَدِّي إلَى أَنْ لَا يَلْتَقِطَهَا أَحَدٌ لِتَعْرِيفِهَا فَتَضِيعَ وَمَا ذَكَرُوهُ فِي الْفَرْقِ مُلْغًى بِالشَّاةِ ، فَقَدْ ثَبَتَ الْمِلْكُ فِيهَا مَعَ هَذَا الْفَرْقِ ، ثُمَّ يُمْكِنُنَا أَنْ نَقِيسَ عَلَى الشَّاةِ ، فَلَا يَحْصُلُ هَذَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
ثُمَّ نَقْلِبُ دَلِيلَهُمْ ، فَنَقُولُ : لُقَطَةٌ لَا تُمْلَكُ فِي الْحَرَمِ ، فَمَا أُبِيحَ الْتِقَاطُهُ مِنْهَا مُلِكَ إذَا كَانَ فِي الْحِلِّ ، كَالْإِبِلِ .

( 4508 ) فَصْلٌ : وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ وَالْخِرَقِيِّ ، أَنَّ لُقَطَةَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ سَوَاءٌ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَعَائِشَةَ ، وَابْنِ الْمُسَيِّبِ .
وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ .
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْتِقَاطُ لُقَطَةُ الْحَرَمِ لِلتَّمَلُّكِ ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ حِفْظُهَا لِصَاحِبِهَا ، فَإِنْ الْتَقَطَهَا عَرَّفَهَا أَبَدًا حَتَّى يَأْتِيَ صَاحِبُهَا .
وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ ، وَأَبِي عُبَيْدٍ .
وَعَنْ الشَّافِعِيِّ كَالْمَذْهَبَيْنِ .
وَالْحُجَّةُ لِهَذَا الْقَوْلِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَكَّةَ : { لَا تَحِلُّ سَاقِطَتُهَا إلَّا لِمُنْشِدٍ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : الْمُنْشِدُ الْمُعَرِّفُ ، وَالنَّاشِدُ الطَّالِبُ .
وَيُنْشَدُ : إصَاخَةُ النَّاشِدِ لِلْمُنْشِدِ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ لَا تَحِلُّ لُقَطَةُ مَكَّةَ إلَّا لِمَنْ يُعَرِّفُهَا ؛ لِأَنَّهَا خُصَّتْ بِهَذَا مِنْ سَائِرِ الْبُلْدَانِ .
وَرَوَى يَعْقُوبُ بْنُ شَيْبَةَ ، فِي " مُسْنَدِهِ " عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ التَّيْمِيِّ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ لُقَطَةِ الْحَاجِّ } .
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : يَعْنِي يَتْرُكُهَا حَتَّى يَجِدَهَا صَاحِبُهَا .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَيْضًا .
وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى عُمُومُ الْأَحَادِيثِ ، وَأَنَّهُ أَحَدُ الْحَرَمَيْنِ ، فَأَشْبَهَ حَرَمَ الْمَدِينَةِ ، وَلِأَنَّهَا أَمَانَةٌ فَلَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُهَا بِالْحِلِّ وَالْحَرَمِ ، كَالْوَدِيعَةِ .
وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إلَّا لِمُنْشِدٍ } يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ إلَّا لِمَنْ عَرَّفَهَا عَامًا ، وَتَخْصِيصُهَا بِذَلِكَ لِتَأْكِيدِهَا ، لَا لِتَخْصِيصِهَا كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { ضَالَّةُ الْمُسْلِمِ حَرْقُ النَّارِ } .
وَضَالَّةُ الذِّمِّيِّ مَقِيسَةٌ عَلَيْهَا .

( 4509 ) فَصْلٌ : إذَا الْتَقَطَ لُقَطَةً ، عَازِمًا عَلَى تَمَلُّكِهَا بِغَيْرِ تَعْرِيفٍ ، فَقَدْ فَعَلَ مُحَرَّمًا ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُهَا بِهَذِهِ النِّيَّةِ ، فَإِذَا أَخَذَهَا لَزِمَهُ ضَمَانُهَا ، سَوَاءٌ تَلِفَتْ بِتَفْرِيطٍ أَوْ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ ، وَلَا يَمْلِكُهَا وَإِنْ عَرَّفَهَا ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ مَالَ غَيْرِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُهُ ، فَأَشْبَهَ الْغَاصِبَ .
نَصَّ عَلَى هَذَا أَحْمَدُ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَمْلِكَهَا ؛ لِأَنَّ مِلْكَهَا بِالتَّعْرِيفِ وَالِالْتِقَاطِ ، وَقَدْ وُجِدَ ، فَيَمْلِكُهَا بِهِ ، كَالِاصْطِيَادِ وَالِاحْتِشَاشِ ، فَإِنَّهُ لَوْ دَخَلَ حَائِطًا لِغَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، فَاحْتَشَّ أَوْ اصْطَادَ مِنْهُ صَيْدًا ، مَلَكَهُ ، وَإِنْ كَانَ دُخُولُهُ مُحَرَّمًا ، كَذَا هَاهُنَا وَلِأَنَّ عُمُومَ النَّصِّ يَتَنَاوَلُ هَذَا الْمُلْتَقَطَ ، فَيَثْبُتُ حُكْمُهُ فِيهِ ، وَلِأَنَّنَا لَوْ اعْتَبَرْنَا نِيَّةَ التَّعْرِيفِ وَقْتَ الِالْتِقَاطِ ، لَافْتَرَقَ الْحَالُ بَيْنَ الْعَدْلِ وَالْفَاسِقِ وَالصَّبِيِّ وَالسَّفِيه ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى هَؤُلَاءِ الِالْتِقَاطُ لِلتَّمَلُّكِ مِنْ غَيْرِ تَعْرِيفٍ .

( 4510 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( وَحَفِظَ وِكَاءَهَا وَعِفَاصَهَا ، وَحَفِظَ عَدَدَهَا وَصِفَتَهَا ) الْأَصْلُ فِي هَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ : { اعْرِفْ وِكَاءَهَا وَعِفَاصَهَا } .
وَقَالَ فِي حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ : { اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا وَعَدَدَهَا ، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً } .
وَفِي لَفْظٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ، أَنَّهُ قَالَ : { وَجَدْت مِائَةَ دِينَارٍ ، فَأَتَيْت بِهَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : عَرِّفْهَا حَوْلًا .
فَعَرَّفْتُهَا حَوْلًا فَلَمْ تُعْرَفْ ، فَرَجَعْت إلَيْهِ ، فَقَالَ : اعْرِفْ عِدَّتَهَا وَوِعَاءَهَا وَوِكَاءَهَا ، وَاخْلِطْهَا بِمَالِك ، فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا فَأَدِّهَا إلَيْهِ } فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِمَعْرِفَةِ صِفَاتهَا بَعْدَ التَّعْرِيفِ ، وَفِي غَيْرِهِ أَمَرَهُ بِمَعْرِفَتِهَا حِينَ الْتِقَاطِهَا قَبْلَ تَعْرِيفِهَا وَهُوَ الْأَوْلَى ؛ لِيَحْصُلَ عِنْدَهُ عِلْمُ ذَلِكَ ، فَإِذَا جَاءَ صَاحِبُهَا فَنَعَتَهَا ، غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ صِدْقُهُ فَيَجُوزُ الدَّفْعُ إلَيْهِ حِينَئِذٍ .
وَإِنْ أَخَّرَ مَعْرِفَةَ ذَلِكَ إلَى حِينِ مَجِيءِ بَاغِيهَا ، جَازَ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ بِمَعْرِفَتِهَا حِينَئِذٍ .
وَإِنْ لَمْ يَجِئْ طَالِبُهَا ، فَأَرَادَ التَّصَرُّفَ فِيهَا بَعْدَ الْحَوْلِ ، لَمْ يَجُزْ لَهُ حَتَّى يَعْرِفَ صِفَاتهَا ؛ لِأَنَّ عَيْنَهَا تَنْعَدِمُ بِالتَّصَرُّفِ ، فَلَا يَبْقَى لَهُ سَبِيلٌ إلَى مَعْرِفَةِ صِفَاتهَا إذَا جَاءَ صَاحِبُهَا .
وَكَذَلِكَ إنْ خَلَطَهَا بِمَالِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا تَتَمَيَّزُ مِنْهُ ، فَيَكُونُ أَمْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُبَيٍّ بِمَعْرِفَةِ صِفَاتِهَا عِنْدَ خَلْطِهَا بِمَالِهِ أَمْرَ إيجَابٍ مُضَيِّقٍ ، وَأَمْرُهُ لِزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ بِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ حِينَ الِالْتِقَاطِ وَاجِبًا مُوَسِّعًا .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ الْقَاضِي : يَنْبَغِي أَنْ يُعَرِّفَ جِنْسَهَا دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ ، وَنَوْعَهَا ، وَإِنْ كَانَتْ ثِيَابًا عَرَّفَ لِفَافَتَهَا وَجِنْسَهَا ، وَيُعَرِّفُ قَدْرَهَا بِالْكَيْلِ ، وَبِالْوَزْنِ أَوْ بِالْعَدَدِ ، أَوْ

الذَّرْعِ ، وَيُعَرِّفُ الْعَقْدَ عَلَيْهَا ، هَلْ هُوَ عَقْدٌ وَاحِدٌ أَوْ أَكْثَرُ ، أُنْشُوطَةٌ أَوْ غَيْرُهَا ، وَيُعَرِّفُ صِمَامَ الْقَارُورَةِ الَّذِي تَدْخُلُ رَأْسَهَا ، وَعِفَاصَهَا الَّذِي تَلْبَسُهُ .

( 4511 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُشْهِدَ عَلَيْهَا حِينَ يَجِدُهَا .
قَالَ أَحْمَدُ ، رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا أُحِبُّ أَنْ يَمَسّهَا حَتَّى يُشْهِدَ عَلَيْهَا .
فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ غَيْرُ وَاجِبٍ ، وَأَنَّهُ إنْ لَمْ يُشْهِدْ عَلَيْهَا لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إذَا لَمْ يُشْهِدْ عَلَيْهَا ضَمِنَهَا ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ وَجَدَ لُقَطَةً ، فَلْيُشْهِدْ ذَا عَدْلٍ ، أَوْ ذَوِي عَدْلٍ } .
وَهَذَا أَمْرٌ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ ، وَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُشْهِدْ كَانَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ أَخَذَهَا لِنَفْسِهِ .
وَلَنَا خَبَرُ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ ، وَأُبَيُّ بْنِ كَعْبٍ ، فَإِنَّهُ أَمَرَهُمَا بِالتَّعْرِيفِ دُونَ الْإِشْهَادِ ، وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ ، فَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِيَّمَا وَقَدْ سُئِلَ عَنْ حُكْمِ اللُّقَطَةِ فَلَمْ يَكُنْ لِيُخِلَّ بِذَكَرِ الْوَاجِبِ فِيهَا ، فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُ الْأَمْرِ فِي حَدِيثِ عِيَاضٍ عَلَى النَّدْبِ وَالِاسْتِحْبَابِ وَلِأَنَّهُ أَخْذُ أَمَانَةٍ ، فَلَمْ يَفْتَقِرْ إلَى الْإِشْهَادِ ، كَالْوَدِيعَةِ وَالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرُوهُ غَيْرُ صَحِيحٍ ، فَإِنَّهُ إذَا حَفِظَهَا وَعَرَّفَهَا فَلَمْ يَأْخُذْهَا لِنَفْسِهِ ، وَفَائِدَةُ الْإِشْهَادِ صِيَانَةُ نَفْسِهِ عَنْ الطَّمَعِ فِيهَا ، وَكَتْمُهَا وَحِفْظُهَا مِنْ وَرَثَتِهِ إنْ مَاتَ ، وَمِنْ غُرَمَائِهِ إنْ أَفْلَسَ .
وَإِذَا أَشْهَدَ عَلَيْهَا ، لَمْ يَذْكُرْ لِلشُّهُودِ صِفَاتِهَا ، لِئَلَّا يَنْتَشِرَ ذَلِكَ فَيَدَّعِيَهَا مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا ، وَيَذْكُرَ صِفَاتِهَا ، كَمَا قُلْنَا فِي التَّعْرِيفِ ، وَلَكِنْ يَذْكُرُ لِلشُّهُودِ مَا يَذْكُرُهُ فِي التَّعْرِيفِ مِنْ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ .
قَالَ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ ، وَقَدْ سَأَلَهُ : إذَا أَشْهَدَ عَلَيْهَا هَلْ يُبَيِّنُ كَمْ هِيَ ؟ قَالَ : لَا ، وَلَكِنْ يَقُولُ : قَدْ أَصَبْت لُقَطَةً .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكْتُبَ صِفَاتِهَا ؛ لِيَكُونَ أَثْبَتَ لَهَا مَخَافَةَ أَنْ يَنْسَاهَا إنْ اقْتَصَرَ

عَلَى حِفْظِهَا بِقَلْبِهِ ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ عُرْضَةُ النِّسْيَانِ .

( 4512 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا فَوَصَفَهَا لَهُ ، دُفِعَتْ إلَيْهِ بِلَا بَيِّنَةٍ ) يَعْنِي إذَا وَصَفَهَا بِصِفَاتِهَا الْمَذْكُورَةِ ، دَفَعَهَا إلَيْهِ ، سَوَاءٌ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ صِدْقُهُ أَوْ لَمْ يَغْلِبْ .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ ، وَأَبُو عُبَيْدٍ ، وَدَاوُد ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ : لَا يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ إلَّا بِبَيِّنَةٍ ، وَيَجُوزُ لَهُ دَفْعُهَا إلَيْهِ إذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ صِدْقُهُ .
قَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ : إنْ شَاءَ دَفَعَهَا إلَيْهِ وَأَخَذَ كَفِيلًا بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي } وَلِأَنَّ صِفَةَ الْمُدَّعِي لَا يَسْتَحِقُّ بِهَا كَالْمَغْصُوبِ .
وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { فَإِنْ جَاءَك أَحَدٌ يُخْبِرُك بِعَدَدِهَا وَوِعَائِهَا وَوِكَائِهَا ، فَادْفَعْهَا إلَيْهِ } .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : هَذَا الثَّابِتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِهِ أَقُولُ .
وَرَوَاهُ ابْنُ الْقَصَّارِ : " فَإِنْ جَاءَ بَاغِيَهَا ، وَوَصَفَ عِفَاصَهَا وَعَدَدَهَا ، فَادْفَعْهَا إلَيْهِ " .
وَفِي حَدِيثِ زَيْدٍ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ { اعْرِفْ وِكَاءَهَا وَعِفَاصَهَا ، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً ، فَإِنْ لَمْ تُعْرَفْ ، فَاسْتَنْفِقْهَا ، وَإِنْ جَاءَ طَالِبُهَا يَوْمًا مِنْ الدَّهْرِ ، فَأَدِّهَا إلَيْهِ } .
يَعْنِي إذَا ذَكَرَ صِفَاتِهَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي صَدْرِ الْحَدِيثِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْبَيِّنَةَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْحَدِيثِ ، وَلَوْ كَانَتْ شَرْطًا لِلدَّفْعِ ، لَمْ يَجُزْ الْإِخْلَالُ بِهِ ، وَلَا أَمَرَ بِالدَّفْعِ بِدُونِهِ ، وَلِأَنَّ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى اللُّقَطَةِ تَتَعَذَّرُ ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا سَقَطَتْ حَالَ الْغَفْلَةِ وَالسَّهْوِ ، فَتَوْقِيفُ دَفْعِهَا مَنْعٌ لِوُصُولِهَا إلَى صَاحِبِهَا أَبَدًا ، وَهَذَا يُفَوِّتُ مَقْصُودَ الِالْتِقَاطِ ، وَيُفْضِي إلَى تَضْيِيعِ أَمْوَالِ النَّاسِ ، وَمَا هَذَا سَبِيلُهُ يَسْقُطُ اعْتِبَارُ الْبَيِّنَةِ فِيهِ ، كَالْإِنْفَاقِ عَلَى الْيَتِيمِ .
وَالْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا

الْقَوْلِ وَبَيْنَ تَفْضِيلِ الِالْتِقَاطِ عَلَى تَرْكِهِ مُتَنَاقِضٌ جِدًّا ؛ لِأَنَّ الِالْتِقَاطَ حِينَئِذٍ يَكُونُ تَضْيِيعًا لِمَالِ الْمُسْلِمِ يَقِينًا ، وَإِتْعَابًا لِنَفْسِهِ بِالتَّعْرِيفِ الَّذِي لَا يُفِيدُ ، وَالْمُخَاطَرَةِ بِدِينِهِ بِتَرْكِهِ الْوَاجِبَ مِنْ تَعْرِيفهَا ، وَمَا هَذَا سَبِيلُهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حَرَامًا ، فَكَيْفَ يَكُونُ فَاضِلًا .
وَعَلَى هَذَا نَقُولُ : لَوْ لَمْ يَجِبْ دَفْعُهَا بِالصِّفَةِ ، لَمْ يَجُزْ الْتِقَاطُهَا ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي } .
يَعْنِي إذَا كَانَ ثَمَّ مُنْكِرٌ ؛ لِقَوْلِهِ فِي سِيَاقِهِ : { وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ } .
وَلَا مُنْكِرَ هَاهُنَا ، عَلَى أَنَّ الْبَيِّنَةَ تَخْتَلِفُ ، وَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيِّنَةَ مُدَّعِي اللُّقَطَةِ وَصْفَهَا ، فَإِذَا وَصَفَهَا فَقَدْ أَقَامَ بَيِّنَتَهُ .
وَقِيَاسُ اللُّقَطَةِ عَلَى الْمَغْصُوبِ غَيْرُ صَحِيحٍ ؛ فَإِنَّ النِّزَاعَ ثَمَّ فِي كَوْنِهِ مَغْصُوبًا ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ ، وَقَوْلُ الْمُنْكِرِ يُعَارِضُ دَعْوَاهُ ، فَاحْتِيجَ إلَى الْبَيِّنَةِ ، وَهَا هُنَا قَدْ ثَبَتَ كَوْنُ هَذَا الْمَالِ لُقَطَةً ، وَأَنَّ لَهُ صَاحِبًا غَيْرَ مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ ، وَلَا مُدَّعِيَ لَهُ إلَّا الْوَاصِفُ ، وَقَدْ تَرَجَّحَ صِدْقُهُ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُدْفَعَ إلَيْهِ .

( 4513 ) فَصْلٌ : فَإِنْ وَصَفَهَا اثْنَانِ ، أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا ، فَمَنْ وَقَعَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ حَلَفَ أَنَّهَا لَهُ ، وَسُلِّمَتْ إلَيْهِ .
وَهَكَذَا إنْ أَقَامَا بَيِّنَتَيْنِ ، أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا ، فَمَنْ وَقَعَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ حَلَفَ ، وَدُفِعَتْ إلَيْهِ .
ذَكَرَهُ الْقَاضِي ، وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : تُقْسَمُ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا تَسَاوَيَا فِيمَا يُسْتَحَقُّ بِهِ الدَّفْعُ ، فَتَسَاوَيَا فِيهَا ، كَمَا لَوْ كَانَتْ فِي أَيْدِيهِمَا .
وَاَلَّذِي قُلْنَاهُ أَصَحُّ وَأَشْبَهُ بِأُصُولِنَا ، فِيمَا إذَا تَدَاعَيَا عَيْنًا فِي يَدِ غَيْرِهِمَا ، وَلِأَنَّهُمَا تَدَاعَيَا عَيْنًا فِي يَدِ غَيْرِهِمَا ، وَتَسَاوَيَا فِي الْبَيِّنَةِ ، أَوْ فِي عَدَمِهَا ، فَتَكُونُ لِمَنْ وَقَعَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ ، كَمَا لَوْ ادَّعَيَا وَدِيعَةً فِي يَدِ إنْسَانٍ ، فَقَالَ : هِيَ لِأَحَدِكُمَا ، لَا أَعْرِفُهُ عَيْنًا .
وَفَارَقَ مَا إذَا كَانَتْ فِي أَيْدِيهِمَا ؛ لِأَنَّ يَدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى نِصْفِهِ فَرَجَحَ قَوْلُهُ فِيهِ .
وَإِنْ وَصَفَهَا إنْسَانٌ ، فَأَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُ ، فَهِيَ لِصَاحِبِ الْبَيِّنَةِ ؛ لِأَنَّهَا أَقْوَى مِنْ الْوَصْفِ ، فَإِنْ كَانَ الْوَاصِفُ قَدْ أَخَذَهَا ، اُنْتُزِعَتْ مِنْهُ ، وَرُدَّتْ إلَى صَاحِبِ الْبَيِّنَةِ ؛ لِأَنَّنَا تَبَيَّنَّا أَنَّهَا لَهُ ، فَإِنْ كَانَتْ قَدْ هَلَكَتْ ، فَلِصَاحِبِهَا تَضْمِينُ مَنْ شَاءَ مِنْ الْوَاصِفِ أَوْ الدَّافِعِ إلَيْهِ .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَيَتَخَرَّجُ أَنْ لَا يَلْزَمَ الْمُلْتَقِطَ شَيْءٌ .
وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ صَاحِبِ مَالِكٍ ، وَأَبِي عُبَيْدٍ ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ ، لِأَنَّهُ أَمِينٌ غَيْرُ مُفَرِّطٍ وَلَا مُقَصِّرٍ ، فَلَا يَضْمَنُ كَمَا لَوْ دَفَعَهَا بِأَمْرِ الْحَاكِمِ ، وَلِأَنَّ الدَّفْعَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ ، فَصَارَ الدَّفْعُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ ، فَلَمْ يَضْمَنْهَا ، كَمَا لَوْ أَخَذَهَا كَرْهًا .
وَلَنَا أَنَّهُ دَفَعَ مَالَ غَيْرِهِ إلَى غَيْرِ مُسْتَحِقِّهِ اخْتِيَارًا مِنْهُ ، فَضَمِنَهُ ، كَمَا لَوْ دَفَعَ الْوَدِيعَةَ إلَى غَيْرِ مَالِكِهَا ، إذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ

مَالِكُهَا .
فَأَمَّا إنْ دَفَعَهَا بِحُكْمِ حَاكِمٍ ، لَمْ يَمْلِكْ صَاحِبُهَا مُطَالَبَةَ الدَّافِعِ ؛ لِأَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْهُ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ ، فَلَمْ يَضْمَنْهَا ، كَمَا لَوْ غَصَبَهَا غَاصِبٌ .
وَمَتَى ضَمِنَ الْوَاصِفُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ ؛ لِأَنَّ الْعُدْوَانَ مِنْهُ وَالتَّلَفَ عِنْدَهُ .
فَإِنْ ضَمِنَ الدَّافِعُ ، رَجَعَ عَلَى الْوَاصِفِ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ سَبَبَ تَغْرِيمِهِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُلْتَقِطُ قَدْ أَقَرَّ لِلْوَاصِفِ أَنَّهُ صَاحِبُهَا وَمَالِكُهَا ، فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ ، لِأَنَّهُ اعْتَرَفَ أَنَّهُ صَاحِبُهَا وَمُسْتَحِقُّهَا ، وَأَنَّ صَاحِبَ الْبَيِّنَةِ ظَلَمَهُ بِتَضْمِينِهِ ، فَلَا يَرْجِعُ ، بِهِ عَلَى غَيْرِ مَنْ ظَلَمَهُ .
وَإِنْ كَانَتْ اللُّقَطَةُ قَدْ تَلِفَتْ عِنْدَ الْمُلْتَقِطِ ، فَضَمَّنَهُ إيَّاهَا ، رَجَعَ عَلَى الْوَاصِفِ بِمَا غَرِمَهُ ، وَلَيْسَ لِمَالِكِهَا تَضْمِينُ الْوَاصِفِ ؛ لِأَنَّ الَّذِي قَبَضَهُ إنَّمَا هُوَ مَالُ الْمُلْتَقِطِ ، لَا مَالُ صَاحِبِ اللُّقَطَةِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا سَلَّمَ الْعَيْنَ .
فَأَمَّا إنْ وَصَفَهَا إنْسَانٌ ، فَأَخَذَهَا ، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَوَصَفَهَا وَادَّعَاهَا ، لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ اسْتَحَقَّهَا لِوَصْفِهِ إيَّاهَا ، وَعَدَمِ الْمُنَازِعِ فِيهَا ، وَثَبَتَتْ يَدُهُ عَلَيْهَا ، وَلَمْ يُوجَدْ مَا يَقْتَضِي انْتِزَاعَهَا مِنْهُ ، فَوَجَبَ إبْقَاؤُهَا لَهُ ، كَسَائِرِ مَالِهِ .

( 4514 ) فَصْلٌ : وَلَوْ جَاءَ مُدَّعٍ لِلُقَطَةٍ ، فَلَمْ يَصِفْهَا ، وَلَا أَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّهَا لَهُ ، لَمْ يَجُزْ دَفْعُهَا إلَيْهِ ، سَوَاءٌ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ صِدْقُهُ أَوْ كَذِبُهُ ؛ لِأَنَّهَا أَمَانَةٌ ، فَلَمْ يَجُزْ دَفْعُهَا إلَى مَنْ لَمْ يُثْبِتْ أَنَّهُ صَاحِبُهَا ، كَالْوَدِيعَةِ ، فَإِنْ دَفَعَهَا ، فَجَاءَ آخَرُ فَوَصَفَهَا ، أَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً لَزِمَ الْوَاصِفَ غَرَامَتُهَا لَهُ ؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَهَا عَلَى مَالِكِهَا بِتَفْرِيطِهِ ، وَلَهُ الرُّجُوعُ عَلَى مُدَّعِيهَا ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ مَالَ غَيْرِهِ ، وَلِصَاحِبِهَا تَضْمِينُ آخِذِهَا ، فَإِذَا ضَمَّنَهُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ .
وَإِنْ لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ يَدَّعِيهَا فَلِلْمُلْتَقِطِ مُطَالَبَةُ آخِذِهَا بِهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ مَجِيءَ صَاحِبِهَا ، فَيُغَرِّمُهُ إيَّاهَا ، وَلِأَنَّهَا أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ ، فَمَلَكَ أَخْذَهَا مِنْ غَاصِبِهَا ، كَالْوَدِيعَةِ .

( 4515 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( أَوْ مِثْلُهَا إنْ كَانَتْ قَدْ اُسْتُهْلِكَتْ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ اللُّقَطَةَ فِي الْحَوْلِ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُلْتَقِطِ ، إنْ تَلِفَتْ بِغَيْرِ تَفْرِيطِهِ أَوْ نَقَصَتْ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، كَالْوَدِيعَةِ .
وَمَتَى جَاءَ صَاحِبُهَا ، فَوَجَدَهَا أَخَذَهَا بِزِيَادَتِهَا الْمُتَّصِلَةِ وَالْمُنْفَصِلَةِ ؛ لِأَنَّهَا نَمَاءُ مِلِكِهِ .
وَإِنْ أَتْلَفَهَا الْمُلْتَقِطُ ، أَوْ تَلِفَتْ بِتَفْرِيطِهِ ، ضَمِنَهَا بِمِثْلِهَا إنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ ، وَبِقِيمَتِهَا إنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مِثْلٌ .
لَا أَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا وَإِنْ تَلِفَتْ بَعْدَ الْحَوْلِ ، ثَبَتَ فِي ذِمَّتِهِ مِثْلُهَا أَوْ قِيمَتُهَا بِكُلِّ حَالٍ ؛ لِأَنَّهَا دَخَلَتْ فِي مِلِكِهِ ، وَتَلِفَتْ مِنْ مَالِهِ ، وَسَوَاءٌ فَرَّطَ فِي حِفْظِهَا أَوْ لَمْ يُفَرِّطْ .
وَإِنْ وَجَدَ الْعَيْنَ نَاقِصَةً ، وَكَانَ نَقْصُهَا بَعْدَ الْحَوْلِ ، أَخَذَ الْعَيْنَ وَأَرْشَ نَقْصِهَا ؛ لِأَنَّ جَمِيعَهَا مَضْمُونٌ إذَا تَلِفَتْ ، فَكَذَلِكَ إذَا نَقَصَتْ .
وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ حَكَمُوا بِمِلْكِهِ لَهَا بِمُضِيِّ حَوْلِ التَّعْرِيفِ ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ : لَا يَمْلِكُهَا حَتَّى يَتَمَلَّكَهَا .
لَمْ يُضَمِّنْهُ إيَّاهَا حَتَّى يَتَمَلَّكَهَا ، وَحُكْمُهَا قَبْلَ تَمَلُّكِهِ إيَّاهَا حُكْمُهَا قَبْلَ مُضِيِّ حَوْلِ التَّعْرِيفِ .
وَمَنْ قَالَ : لَا تُمْلَكُ اللُّقَطَةُ بِحَالٍ لَمْ يُضَمِّنْهُ إيَّاهَا .
وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَأَبُو مِجْلَزٍ وَالْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ ، وَمَالِكٌ ، وَأَبُو يُوسُفَ ، قَالُوا : لَا يَضْمَنُ ، وَإِنْ ضَاعَتْ بَعْدَ الْحَوْلِ .
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ دَلِيلَ دُخُولِهَا فِي مِلْكِهِ .
وَقَالَ دَاوُد : إذَا تَمَلَّكَ الْعَيْنَ وَأَتْلَفَهَا ، لَمْ يَضْمَنْهَا .
وَحَكَى ابْنُ أَبِي مُوسَى ، عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهُ لَوَّحَ إلَى مِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ ؛ لِحَدِيثِ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا ، وَإِلَّا فَهِيَ مَالُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ } فَجَعَلَهُ مُبَاحًا .
وَقَوْلِهِ فِي

حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ : { فَإِنْ جَاءَ مَنْ يَعْرِفُهَا ، وَإِلَّا فَهِيَ كَسَبِيلِ مَالِك } .
وَفِي حَدِيثِ زَيْدٍ : { فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا ، وَإِلَّا فَشَأْنَك بِهَا } .
وَرُوِيَ : " فَهِيَ لَك " .
وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِرَدِّ بَدَلَهَا .
وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { فَإِنْ لَمْ تُعْرَفْ فَاسْتَنْفِقْهَا ، وَلْتَكُنْ وَدِيعَةً عِنْدَك ، فَإِنْ جَاءَ طَالِبُهَا يَوْمًا مِنْ الدَّهْرِ ، فَادْفَعْهَا إلَيْهِ } .
وَقَالَ الْأَثْرَمُ : قَالَ أَحْمَدُ : أَذْهَبُ إلَى حَدِيثِ الضَّحَّاكِ بْنِ عُثْمَانَ .
جَوَّدَهُ ، وَلَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِثْلَ مَا رَوَاهُ : { إنْ جَاءَ صَاحِبُهَا بَعْدَ سَنَةٍ ، وَقَدْ أَنْفَقَهَا ، رَدَّهَا إلَيْهِ } لِأَنَّهَا عَيْنٌ يَلْزَمُ رَدُّهَا لَوْ كَانَتْ بَاقِيَةً ، فَيَلْزَمُهُ ضَمَانُهَا إذَا أَتْلَفَهَا ، كَمَا قَبْلَ الْحَوْلِ ، وَلِأَنَّهُ مَالٌ مَعْصُومٌ ، فَلَمْ يَجُزْ إسْقَاطُ حَقِّهِ مِنْهُ مُطْلَقًا ، كَمَا لَوْ اُضْطُرَّ إلَى مَالِ غَيْرِهِ ، وَإِنْ وَجَدَ الْعَيْنَ زَائِدَةً بَعْدَ الْحَوْلِ زِيَادَةً مُتَّصِلَةً ، أَخَذَهَا بِزِيَادَتِهَا ؛ لِأَنَّهَا تَتْبَعُ فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَالْإِقَالَةِ ، فَتَبِعَتْ هَاهُنَا .
وَإِنْ حَدَثَ بَعْدَ الْحَوْلِ لَهَا نَمَاءٌ مُنْفَصِلٌ ، فَهُوَ لِلْمُلْتَقِطِ ؛ لِأَنَّهُ نَمَاءُ مِلْكِهِ مُتَمَيِّزٌ لَا يَتْبَعُ فِي الْفُسُوخِ ، فَكَانَ لَهُ ، كَنَمَاءِ الْمَبِيعِ إذَا رُدَّ بِعَيْبٍ .
وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ فِيهِ وَجْهًا آخَرَ ، بِنَاءً عَلَى الْمُفْلِسِ إذَا اُسْتُرْجِعَتْ مِنْهُ الْعَيْنُ بَعْدَ أَنْ زَادَتْ زِيَادَةً مُتَمَيِّزَةً ، وَالْوَلَدِ إذَا اسْتَرْجَعَ أَبُوهُ مَا وَهَبَهُ لَهُ بَعْدَ زِيَادَتِهِ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الزِّيَادَةَ لِلْمُلْتَقِطِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ .
وَكَذَلِكَ الصَّحِيحُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا أَنَّ الزِّيَادَةَ لِمَنْ حَدَثَتْ فِي مِلِكِهِ .
ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ فِي مَسْأَلَتِنَا يَضْمَنُ النَّقْصَ ، فَتَكُونُ لَهُ الزِّيَادَةُ ، لِيَكُونَ الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ ، وَثَمَّ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، فَأَمْكَنَ أَنْ لَا يَكُونَ الْخَرَاجُ لَهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَمَتَى

اخْتَلَفَا فِي الْقِيمَةِ أَوْ الْمِثْلِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُلْتَقِطِ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ مِمَّا حَلَفَ عَلَيْهِ .

( 4516 ) فَصْلٌ : وَإِنْ وَجَدَ الْعَيْنَ بَعْدَ خُرُوجِهَا مِنْ مِلْكِ الْمُلْتَقِطِ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ نَحْوِهِمَا ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا ، وَلَهُ أَخْذُ بَدَلِهَا ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْمُلْتَقِطِ وَقَعَ صَحِيحًا ؛ لِكَوْنِهَا صَارَتْ فِي مِلْكِهِ .
وَإِنْ صَادَفَهَا قَدْ رَجَعَتْ إلَى الْمُلْتَقِطِ بِفَسْخٍ أَوْ شِرَاءٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ، فَلَهُ أَخْذُهَا ؛ لِأَنَّهُ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ فِي يَدِ مُلْتَقِطِهِ ، فَكَانَ لَهُ أَخْذُهُ كَالزَّوْجِ إذَا طَلَّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَوَجَدَ الصَّدَاقَ قَدْ رَجَعَ إلَى الْمَرْأَةِ .
وَسَائِرُ أَحْكَامِ الرُّجُوعِ هَاهُنَا كَحُكْمِ رُجُوعِ الزَّوْجِ ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

( 4517 ) فَصْلٌ : إذَا أَخَذَ اللُّقَطَةَ ، ثُمَّ رَدَّهَا إلَى مَوْضِعِهَا ، ضَمِنَهَا .
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ طَاوُسٍ .
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ مَالِكٌ : لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِمَا رَوَى الْأَثْرَمُ ، عَنْ الْقَعْنَبِيِّ ، عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ ، عَنْ عُمَرَ ، أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ وَجَدَ بَعِيرًا : أَرْسِلْهُ حَيْثُ وَجَدَتْهُ .
وَلِمَا رُوِيَ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، أَنَّهُ رَأَى فِي بَقَرِهِ بَقَرَةً قَدْ لَحِقَتْ بِهَا ، فَأَمَرَ بِهَا فَطُرِدَتْ حَتَّى تَوَارَتْ وَلَنَا : أَنَّهَا أَمَانَةٌ حَصَلَتْ فِي يَدِهِ ، فَلَزِمَهُ حِفْظُهَا ، فَإِذَا ضَيَّعَهَا لَزِمَهُ ضَمَانُهَا كَمَا لَوْ ضَيَّعَ الْوَدِيعَةَ .
وَلِأَنَّهَا لَمَّا حَصَلَتْ فِي يَدِهِ ، لَزِمَهُ حِفْظُهَا ، وَتَرْكُهَا تَضْيِيعُهَا .
فَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ فَهُوَ فِي الضَّالَّةِ الَّتِي لَا تَحِلُّ .
فَأَمَّا مَا لَا يَحِلُّ الْتِقَاطُهُ إذَا أَخَذَهُ ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّ لَهُ رَدَّهُ إلَى مَكَانِهِ ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِهَذِهِ الْآثَارِ ، وَلِأَنَّهُ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ تَرْكُهُ فِي مَكَانِهِ ابْتِدَاءٍ ، فَكَانَ لَهُ ذَلِكَ بَعْدَ أَخْذِهِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَبْرَأَ مِنْ ضَمَانِهِ بِرَدِّهِ ، لِأَنَّهُ دَخَلَ فِي ضَمَانِهِ ، فَلَمْ يَبْرَأْ مِنْ ضَمَانِهِ بِرَدِّهِ إلَى مَكَانِهِ ، كَالْمَسْرُوقِ وَمَا يَجُوزُ الْتِقَاطُهُ ، فَعَلَى هَذَا لَا يَبْرَأُ إلَّا بِرَدِّهِ إلَى الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ .
وَأَمَّا عُمَرُ فَهُوَ كَانَ الْإِمَامَ ، فَإِذَا أَمَرَ بِرَدِّهِ كَانَ كَأَخْذِهِ مِنْهُ .
وَحَدِيثُ جَرِيرٍ لَا حُجَّةَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ الْبَقَرَةَ ، وَلَا أَخَذَهَا غُلَامُهُ ، إنَّمَا لَحِقَتْ بِالْبَقَرِ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ وَلَا اخْتِيَارِهِ .

( 4518 ) فَصْلٌ : وَإِنْ ضَاعَتْ اللُّقَطَةُ مِنْ مُلْتَقِطِهَا بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهَا أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ ، فَأَشْبَهَتْ الْوَدِيعَةَ .
فَإِنْ الْتَقَطَهَا آخَرُ ، فَعَرَفَ أَنَّهَا ضَاعَتْ مِنْ الْأَوَّلِ ، فَعَلَيْهِ رَدُّهَا إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ لَهُ حَقُّ التَّمَوُّلِ وَوِلَايَةُ التَّعْرِيفِ وَالْحِفْظِ ، فَلَا يَزُولُ ذَلِكَ بِالضَّيَاعِ .
فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الثَّانِي بِالْحَالِ حَتَّى عَرَّفَهَا حَوْلًا ، مَلَكَهَا ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ وُجِدَ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ عُدْوَانٍ ، فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ بِهِ كَالْأَوَّلِ ، وَلَا يَمْلِكُ الْأَوَّلُ انْتِزَاعَهَا ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ التَّمَلُّكِ ، وَإِذَا جَاءَ صَاحِبُهَا فَلَهُ أَخْذُهَا مِنْ الثَّانِي ، وَلَيْسَ لَهُ مُطَالَبَةُ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُفَرِّطْ ، وَإِنْ عَلِمَ الثَّانِي بِالْأَوَّلِ ، فَرَدَّهَا إلَيْهِ ، فَأَبَى أَخْذَهَا ، وَقَالَ : عَرِّفْهَا أَنْتَ فَعَرَّفَهَا ، مَلَكَهَا أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ تَرَكَ حَقَّهُ فَسَقَطَ .
وَإِنْ قَالَ : عَرِّفْهَا ، وَيَكُونُ مِلْكُهَا لِي .
فَفَعَلَ ، فَهُوَ مُسْتَنِيبٌ لَهُ فِي التَّعْرِيفِ ، وَيَمْلِكُهَا الْأَوَّلُ ؛ لِأَنَّهُ وَكَّلَهُ فِي التَّعْرِيفِ ، فَصَحَّ ، كَمَا لَوْ كَانَتْ فِي يَدِ الْأَوَّلِ .
وَإِنْ قَالَ : عَرِّفْهَا ، وَتَكُونُ بَيْنَنَا .
فَفَعَلَ ، صَحَّ أَيْضًا ، وَكَانَتْ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ مِنْ نِصْفِهَا ، وَوَكَّلَهُ فِي الْبَاقِي .
وَإِنْ قَصَدَ الثَّانِي بِالتَّعْرِيفِ تَمَلُّكَهَا لِنَفْسِهِ دُونِ الْأَوَّلِ ، احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا ، يَمْلِكُهَا ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ وُجِدَ مِنْهُ ، فَمَلَكَهَا ، كَمَا لَوْ أَذِنَ لَهُ الْأَوَّلُ فِي تَعْرِيفِهَا لِنَفْسِهِ وَالثَّانِي لَا يَمْلِكُهَا ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ التَّعْرِيفِ لِلْأَوَّلِ ، أَشْبَهَ مَا لَوْ غَصَبَهَا مِنْ الْمُلْتَقِطِ غَاصِبٌ فَعَرَّفَهَا .
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إذَا عَلِمَ الثَّانِي بِالْأَوَّلِ فَعَرَّفَهَا ، وَلَمْ يُعْلِمْهُ بِهَا .
وَيُشْبِهُ هَذَا الْمُتَحَجِّرَ فِي الْمَوَاتِ إذَا سَبَقَهُ غَيْرُهُ إلَى مَا حَجَرَهُ ، فَأَحْيَاهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ

.
فَأَمَّا إنْ غَصَبَهَا غَاصِبٌ مِنْ الْمُلْتَقِطِ ، فَعَرَّفَهَا ، لَمْ يَمْلِكْهَا ، وَجْهًا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّهُ مُعْتَدٍ بِأَخْذِهَا وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ سَبَبُ تَمَلُّكِهَا ، فَإِنَّ الِالْتِقَاطَ مِنْ جُمْلَةِ السَّبَبِ ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ .
وَيُفَارِقُ هَذَا مَا إذَا الْتَقَطَهَا ثَانٍ ، فَإِنَّهُ وُجِدَ مِنْهُ الِالْتِقَاطُ وَالتَّعْرِيفُ .

( 4519 ) فَصْلٌ : وَمَنْ اصْطَادَ سَمَكَةً ، فَوَجَدَ فِيهَا دُرَّةً ، فَهِيَ لِلصَّيَّادِ ؛ لِأَنَّ الدُّرَّ يَكُونُ فِي الْبَحْرِ ، بِدَلِيلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَتَسْتَخْرِجُونَ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا } .
فَتَكُونُ لِآخِذِهَا ، فَإِنْ بَاعَهَا الصَّيَّادُ وَلَمْ يَعْلَمْ ، فَوَجَدَهَا الْمُشْتَرِي فِي بَطْنِهَا ، فَهِيَ لِلصَّيَّادِ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ مَا فِي بَطْنِهَا فَلَمْ يَبِعْهُ ، وَلَمْ يَرْضَ بِزَوَالِ مِلْكِهِ عَنْهُ ، فَلَمْ يَدْخُلْ فِي الْبَيْعِ ، كَمَنْ بَاعَ دَارًا لَهُ مَالٌ مَدْفُونٌ فِيهَا .
وَإِنْ وَجَدَ فِي بَطْنِهَا عَنْبَرَةً أَوْ شَيْئًا مِمَّا يَكُونُ فِي الْبَحْرِ ، فَهُوَ لِلصَّيَّادِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا .
وَحُكْمُهُ حُكْمُ الْجَوْهَرَةِ وَإِنْ وَجَدَ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ ، فَهِيَ لُقَطَةٌ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُخْلَقُ فِي الْبَحْرِ ، وَلَا يَكُونُ إلَّا لِآدَمِيٍّ ، فَيَكُونُ لُقَطَةً ، كَمَا لَوْ وَجَدَهُ فِي الْبَحْرِ .
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الدُّرَّةِ إذَا كَانَ فِيهَا أَثَرٌ لِآدَمِيٍّ ، مِثْلُ أَنْ تَكُونَ مَثْقُوبَةً أَوْ مُتَّصِلَةً بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا ، فَإِنَّهَا تَكُونُ لُقَطَةً لَا يَمْلِكُهَا الصَّيَّادُ ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَقَعْ فِي الْبَحْرِ حَتَّى تَثْبُتَ الْيَدُ عَلَيْهَا ، فَهِيَ كَالدِّينَارِ .
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْعَنْبَرَةِ إذَا كَانَتْ مَوْصُولَةً بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ ، أَوْ مَصْنُوعَةً ، كَالتُّفَّاحَةِ مَثْقُوبَةً ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُخْلَقُ عَلَيْهِ فِي الْبَحْرِ ، فَهِيَ لُقَطَةٌ وَإِنْ وَجَدَهَا الصَّيَّادُ فَعَلَيْهِ تَعْرِيفُهَا ؛ لِأَنَّهُ مُلْتَقِطُهَا ، وَإِنْ وَجَدَهَا الْمُشْتَرِي ، فَالتَّعْرِيفُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ وَاجِدُهَا ، وَلَا حَاجَةَ إلَى الْبِدَايَةِ بِالْبَائِعِ ، فَإِنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ السَّمَكَةُ ابْتَلَعَتْ ذَلِكَ بَعْدَ اصْطِيَادِهَا وَمِلْكِ الصَّيَّادِ لَهَا ، فَاسْتَوَى هُوَ وَغَيْرُهُ .
فَأَمَّا إنْ اشْتَرَى شَاةً ، وَوَجَدَ فِي بَطْنِهَا دُرَّةً أَوْ عَنْبَرَةً أَوْ دَنَانِيرَ أَوْ دَرَاهِمَ ، فَهِيَ لُقَطَةٌ يُعَرِّفُهَا ، وَيَبْدَأُ بِالْبَائِعِ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ

أَنْ تَكُونَ ابْتَلَعَتْهَا مِنْ مِلْكِهِ فَيَبْدَأُ بِهِ ، كَقَوْلِنَا فِي مُشْتَرِي الدَّارِ إذَا وَجَدَ فِيهَا مَالًا مَدْفُونًا وَإِنْ اصْطَادَ السَّمَكَةَ مِنْ غَيْرِ الْبَحْرِ ، كَالنَّهْرِ وَالْعَيْنِ ، فَحُكْمُهَا حُكْمُ الشَّاةِ ، فِي أَنَّ مَا وُجِدَ فِي بَطْنِهَا مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ لُقَطَةٌ ، دُرَّةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَهَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْبَحْرِ بِحُكْمِ الْعَادَةِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الدُّرَّةُ لِلصَّيَّادِ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا } .

( 4520 ) فَصْلٌ : وَإِنْ وَجَدَ عَنْبَرَةً عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ ، فَهِيَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْبَحْرُ أَلْقَاهَا ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ الْمِلْكِ فِيهَا ، فَكَانَتْ مُبَاحَةً لِآخِذِهَا ، كَالصَّيْدِ .
وَقَدْ رَوَى سَعِيدٌ ، قَالَ : حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمْرٍو الْعَبْدِيِّ ، قَالَ : أَلْقَى بَحْرُ عَدَنَ عَنْبَرَةً مِثْلَ الْبَعِيرِ ، فَأَخَذَهَا نَاسٌ بِعَدَنَ .
فَكُتِبَ إلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، فَكَتَبَ إلَيْنَا ، أَنْ خُذُوا مِنْهَا الْخُمُسَ ، وَادْفَعُوا إلَيْهِمْ سَائِرَهَا ، وَإِنْ بَاعُوكُمُوهَا فَاشْتَرُوهَا .
فَأَرَدْنَا أَنْ نَزِنَهَا فَلَمْ نَجِدْ مِيزَانًا يُخْرِجُهَا ، فَقَطَعْنَاهَا اثْنَيْنِ ، وَوَزَنَّاهَا ، فَوَجَدْنَاهَا سِتَّمِائَةِ رِطْلٍ ، فَأَخَذْنَا خُمُسَهَا ، وَدَفَعْنَا سَائِرَهَا إلَيْهِمْ ، ثُمَّ اشْتَرَيْنَاهَا بِخَمْسَةِ آلَافِ دِينَارٍ ، وَبَعَثْنَا بِهَا إلَى عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، فَلَمْ يَلْبَثْ إلَّا قَلِيلًا حَتَّى بَاعَهَا بِثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ .

( 4521 ) فَصْلٌ : وَإِنْ صَادَ غَزَالًا ، فَوَجَدَهُ مَخْضُوبًا ، أَوْ فِي عُنُقِهِ حِرْزٌ ، أَوْ فِي أُذُنِهِ قُرْطٌ ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْيَدِ عَلَيْهِ ، فَهُوَ لُقَطَةٌ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَمْلُوكًا .
وَقَالَ أَحْمَدُ ، فِي مَنْ أَلْقَى شَبَكَةً فِي الْبَحْرِ ، فَوَقَعَتْ فِيهَا سَمَكَةٌ ، فَجَذَبَتْ الشَّبَكَةَ ، فَمَرَّتْ بِهَا فِي الْبَحْرِ ، فَصَادَهَا رَجُلٌ ، فَإِنَّ السَّمَكَةَ لِلَّذِي حَازَهَا ، وَالشَّبَكَةُ يُعَرِّفُهَا وَيَدْفَعُهَا إلَى صَاحِبِهَا .
فَجَعَلَ الشَّبَكَةَ لُقَطَةً ؛ لِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لِآدَمِيٍّ ، وَالسَّمَكَةَ لِمَنْ صَادَهَا ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ مُبَاحَةً وَلَمْ يَمْلِكْهَا صَاحِبُ الشَّبَكَةِ ، لِكَوْنِ شَبَكَتِهِ لَمْ تُثْبِتْهَا ، فَبَقِيَتْ عَلَى الْإِبَاحَةِ ، وَهَكَذَا لَوْ نَصَبَ فَخًّا أَوْ شَرَكًا ، فَوَقَعَ فِيهِ صَيْدٌ مِنْ صَيُودِ الْبَرِّ ، فَأَخَذَهُ وَذَهَبَ بِهِ ، وَصَادَهُ آخَرُ ، فَهُوَ لِمَنْ صَادَهُ ، وَيَرُدُّ الْآلَةَ إلَى صَاحِبِهَا ، فَهِيَ لُقَطَةٌ يُعَرِّفُهَا وَقَالَ أَحْمَدُ ، فِي رَجُلٍ انْتَهَى إلَى شَرَكٍ فِيهِ حِمَارُ وَحْشٍ ، أَوْ ظَبْيَةٌ ، قَدْ شَارَفَ الْمَوْتَ ، فَخَلَّصَهُ وَذَبَحَهُ : هُوَ لِصَاحِبِ الْأُحْبُولَةِ ، وَمَا كَانَ مِنْ الصَّيْدِ فِي الْأُحْبُولَةِ فَهُوَ لِمَنْ نَصَبَهَا ، وَإِنْ كَانَ بَازِيًا أَوْ صَقْرًا أَوْ عُقَابًا .
وَسُئِلَ عَنْ بَازِي أَوْ صَقْرٍ أَوْ كَلْبٍ مُعَلَّمٍ أَوْ فَهْدٍ ، ذَهَبَ عَنْ صَاحِبِهِ ، فَدَعَاهُ فَلَمْ يُجِبْهُ ، وَمَرَّ فِي الْأَرْضِ حَتَّى أَتَى لِذَلِكَ أَيَّامٌ ، فَأَتَى قَرْيَةً ، فَسَقَطَ عَلَى حَائِطٍ ، فَدَعَاهُ رَجُلٌ فَأَجَابَهُ ؟ قَالَ : يَرُدُّهُ عَلَى صَاحِبِهِ .
قِيلَ لَهُ : فَإِنْ دَعَاهُ فَلَمْ يُجِبْهُ فَنَصَبَ لَهُ شَرَكًا فَصَادَهُ بِهِ ؟ قَالَ : يَرُدُّهُ عَلَى صَاحِبِهِ فَجَعَلَ هَذَا لِصَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ مَلَكَهُ ، فَلَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْهُ بِذَهَابِهِ عَنْهُ ، وَالسَّمَكَةِ فِي الشَّبَكَةِ لَمْ يَكُنْ مَلَكَهَا وَلَا حَازَهَا ، وَكَذَلِكَ جَعَلَ مَا وَقَعَ فِي الْأُحْبُولَةِ مِنْ الْبَازِي وَالصَّقْرِ وَالْعُقَابِ لِصَاحِبِ الْأُحْبُولَةِ .
وَلَمْ يَجْعَلُهُ

هَاهُنَا لِمَنْ وَقَعَ فِي شَرَكِهِ ؛ لِأَنَّ هَذَا فِيمَا عُلِمَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ مَمْلُوكًا لَإِنْسَانٍ فَذَهَبَ ، وَإِنَّمَا يُعْلَمُ هَذَا بِالْخَبَرِ ، أَوْ بِوُجُودِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ فِيهِ ، مِثْلَ وُجُودِ السَّيْرِ فِي رِجْلِهِ ، أَوْ آثَارِ التَّعَلُّمِ ، مِثْلَ اسْتِجَابَتِهِ لِلَّذِي يَدْعُوهُ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ .
وَمَتَى لَمْ يُوجَدْ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَمْلُوكٌ ، فَهُوَ لِمَنْ اصْطَادَهُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْمِلْكِ فِيهِ وَإِبَاحَتُهُ .

( 4522 ) فَصْلٌ : وَمَنْ أُخِذَتْ ثِيَابُهُ مِنْ الْحَمَّامِ ، وَوَجَدَ بَدَلَهَا ، وَأُخِذَ مَدَاسُهُ ، وَتُرِكَ لَهُ بَدَلُهُ ، لَمْ يَمْلِكْهُ بِذَلِكَ .
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ، فِي مَنْ سُرِقَتْ ثِيَابُهُ وَوَجَدَ غَيْرَهَا : لَمْ يَأْخُذْهَا ، فَإِنْ أَخَذَهَا عَرَّفَهَا سَنَةً ، ثُمَّ تَصَدَّقَ بِهَا .
إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ سَارِقَ الثِّيَابِ لَمْ تَجْرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَالِكِهَا مُعَاوَضَةٌ تَقْتَضِي زَوَالَ مِلْكِهِ عَنْ ثِيَابِهِ ، فَإِذَا أَخَذَهَا فَقَدْ أَخَذَ مَالَ غَيْرِهِ ، وَلَمْ يَعْرِفْ صَاحِبَهُ ، فَيُعَرِّفُهُ كَاللُّقَطَةِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُنْظَرَ فِي هَذَا ، فَإِنْ كَانَتْ ثَمَّ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى السَّرِقَةِ ، بِأَنْ تَكُونَ ثِيَابُهُ أَوْ مَدَاسُهُ خَيْرًا مِنْ الْمَتْرُوكَةِ ، وَكَانَتْ مِمَّا لَا تَشْتَبِهُ عَلَى الْآخِذِ بِثِيَابِهِ وَمَدَاسِهِ ، فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّعْرِيفِ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ إنَّمَا جُعِلَ فِي الْمَالِ الضَّائِعِ عَنْ رَبِّهِ ، لِيَعْلَمَ بِهِ وَيَأْخُذَهُ ، وَتَارِكُ هَذَا عَالِمٌ بِهِ رَاضٍ بِبَدَلِهِ عِوَضًا عَمَّا أَخَذَهُ ، وَلَا يَعْتَرِفُ أَنَّهُ لَهُ ، فَلَا يَحْصُلُ فِي تَعْرِيفِهِ فَائِدَةٌ ، فَإِذًا لَيْسَ هُوَ بِمَنْصُوصٍ عَلَيْهِ ، وَلَا فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ ، وَفِيمَا يَصْنَعُ بِهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا أَنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا .
الثَّانِي أَنَّهُ يُبَاحُ لَهُ أَخْذُهَا ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهَا فِي الظَّاهِرِ تَرَكَهَا لَهُ بَاذِلًا إيَّاهَا لَهُ عِوَضًا عَمَّا أَخَذَهُ ، فَصَارَ كَالْمُبِيحِ لَهُ أَخْذَهَا بِلِسَانِهِ ، فَصَارَ كَمَنْ قَهَرَ إنْسَانًا عَلَى أَخْذِ ثَوْبِهِ ، وَدَفَعَ إلَيْهِ دِرْهَمًا .
الثَّالِثُ أَنَّهُ يَرْفَعُهَا إلَى الْحَاكِمِ ، لِيَبِيعَهَا ، وَيَدْفَعَ إلَيْهِ ثَمَنَهَا عِوَضًا عَنْ مَالِهِ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَقْرَبُ إلَى الرِّفْقِ بِالنَّاسِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ نَفْعًا لِمَنْ سُرِقَتْ ثِيَابُهُ ، بِحُصُولِ عِوَضٍ عَنْهَا ، وَنَفْعًا لِلسَّارِقِ بِالتَّخْفِيفِ عَنْهُ مِنْ الْإِثْمِ ، وَحِفْظًا لِهَذِهِ الثِّيَابِ الْمَتْرُوكَةِ مِنْ الضَّيَاعِ ، وَقَدْ أَبَاحَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ لِمَنْ لَهُ عَلَى إنْسَانٍ حَقٌّ مِنْ

دَيْنٍ أَوْ غَصْبٍ ، أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ بِقَدْرِ مَا عَلَيْهِ ، إذَا عَجَزَ عَنْ اسْتِيفَائِهِ بِغَيْرِ ذَلِكَ ، فَهُنَا مَعَ رِضَاءِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ بِأَخْذِهِ أَوْلَى .
وَإِنْ كَانَتْ ثَمَّ قَرِينَةٌ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْآخِذَ لِلثِّيَابِ إنَّمَا أَخَذَهَا ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهَا ثِيَابُهُ ، مِثْلُ أَنْ تَكُونَ الْمَتْرُوكَةُ خَيْرًا مِنْ الْمَأْخُوذَةِ أَوْ مَثَلَهَا ، وَهِيَ مِمَّا تَشْتَبِهُ بِهَا ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُعَرِّفَهَا هَاهُنَا ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهَا لَمْ يَتْرُكْهَا عَمْدًا ، فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الضَّائِعَةِ مِنْهُ .
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إذَا عَلِمَ بِهَا ، أَخَذَهَا وَرَدَّ مَا كَانَ أَخَذَهُ فَتَصِيرُ كَاللُّقَطَةِ فِي الْمَعْنَى ، وَبَعْدَ التَّعْرِيفِ إذَا لَمْ تُعْرَفْ ، فَفِيهَا الْأَوْجُهُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا إلَّا أَنَّنَا إذَا قُلْنَا يَأْخُذُهَا أَوْ يَبِيعُهَا الْحَاكِمُ وَيَدْفَعُ إلَيْهِ ثَمَنَهَا ، فَإِنَّمَا يَأْخُذُ بِقَدْرِ قِيمَةِ ثِيَابِهِ ، لَا يَزِيدُ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّ الزَّائِدَ فَاضِلٌ عَمَّا يَسْتَحِقُّهُ ، وَلَمْ يَرْضَ صَاحِبُهَا بِتَرْكِهَا عِوَضًا عَمَّا أَخَذَهُ ، فَإِنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ غَيْرَهَا اخْتِيَارًا مِنْهُ لِتَرْكِهَا ، وَلَا رِضًى بِالْمُعَاوَضَةِ بِهَا .
وَإِذَا قُلْنَا : إنَّهُ يَدْفَعُهَا إلَى الْحَاكِمِ لِيَبِيعَهَا ، وَيَدْفَعَ إلَيْهِ ثَمَنَهَا .
فَلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا بِثَمَنٍ فِي ذِمَّتِهِ ، وَيُسْقِطَ عَنْهُ مِنْ ثَمَنِهَا مَا قَابَلَ ثِيَابَهُ ، وَيَتَصَدَّقَ بِالْبَاقِي .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( 4523 ) فَصْلٌ : قَالَ أَحْمَدُ ، فِي مَنْ عِنْدَهُ رُهُونٌ ، قَدْ أَتَى عَلَيْهَا زَمَانٌ لَا يُعْرَفُ صَاحِبُهَا : يَبِيعُهَا ، وَيَتَصَدَّقُ بِثَمَنِهَا ، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا غَرِمَهَا لَهُ .
وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ اسْتَوْفَى دُيُونَهُ الَّتِي رَهَنَ الرَّهْنَ بِهَا ، فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَسْتَوْفِ دَيْنَهُ ، فَإِنْ كَانَ قَدْ أَذِنَ لَهُ فِي بَيْعِهَا ، بَاعَهَا ، وَاسْتَوْفَى دَيْنَهُ مِنْ ثَمَنِهَا ، وَتَصَدَّقَ بِالْبَاقِي ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَذِنَ لَهُ فِي بَيْعِهَا ، رَفَعَهَا إلَى الْحَاكِمِ لِيَبِيعَهَا ، وَيُقْبِضَهُ حَقَّهُ مِنْ ثَمَنِهَا ، وَيَتَصَدَّقَ بِبَاقِيهِ .

( 4524 ) فَصْلٌ : نَقَلَ الْفَضْلُ بْنُ زِيَادٍ ، عَنْ أَحْمَدَ ، إذَا تَنَازَعَ صَاحِبُ الدَّارِ وَالسَّاكِنُ فِي دَفْنٍ فِي الدَّارِ ، فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا : أَنَا دَفَنْته .
بَيَّنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا الَّذِي دَفَنَ ، فَكُلُّ مَنْ أَصَابَ الْوَصْفَ فَهُوَ لَهُ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا يُوجَد فِي الْأَرْضِ مِنْ الدَّفْنِ مِمَّا عَلَيْهِ عَلَامَةُ الْمُسْلِمِينَ ، فَهُوَ لُقَطَةٌ ، وَاللُّقَطَةُ تُسْتَحَقُّ بِوَصْفِهَا ، وَلِأَنَّ الْمُصِيبَ لِلْوَصْفِ فِي الظَّاهِرِ هُوَ مَنْ كَانَ ذَلِكَ فِي يَدِهِ ، فَكَانَ أَحَقَّ بِهِ ، كَمَا لَوْ تَنَازَعَهُ أَجْنَبِيَّانِ ، فَوَصَفَهُ أَحَدُهُمَا .

( 4525 ) فَصْلٌ : وَمَنْ وَجَدَ لُقَطَةً فِي دَارِ الْحَرْبِ ، فَإِنْ كَانَ فِي الْجَيْشِ ، فَقَالَ أَحْمَدُ : يُعَرِّفُهَا سَنَةً فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، ثُمَّ يَطْرَحُهَا فِي الْمَقْسِمِ .
إنَّمَا عَرَّفَهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّ أَمْوَالَ أَهْلِ الْحَرْبِ مُبَاحَةٌ ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِمُسْلِمٍ ، وَلِأَنَّهُ قَدْ لَا يُمْكِنُهُ الْمُقَامُ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِتَعْرِيفِهَا .
وَمَعْنَاهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - يُتَمِّمُ التَّعْرِيفَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، فَأَمَّا ابْتِدَاءُ التَّعْرِيفِ فَيَكُونُ فِي الْجَيْشِ الَّذِي هُوَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ لِأَحَدِهِمْ ، فَإِذَا قَفَلَ أَتَمَّ التَّعْرِيفَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ .
فَأَمَّا إنْ كَانَ دَخَلَ دَارَهُمْ بِأَمَانٍ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُعَرِّفَهَا فِي دَارِهِمْ ؛ لِأَنَّ أَمْوَالَهُمْ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ ، فَإِذَا لَمْ تُعْرَفْ ، مَلَكَهَا كَمَا يَمْلِكُهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَإِنْ كَانَ فِي الْجَيْشِ ، طَرَحَهَا فِي الْمَقْسِمِ بَعْدَ التَّعْرِيفِ ؛ لِأَنَّهُ وَصَلَ إلَيْهَا بِقُوَّةِ الْجَيْشِ ، فَأَشْبَهَتْ مُبَاحَاتِ دَارِ الْحَرْبِ إذَا أَخَذَ مِنْهَا شَيْئًا .
وَإِنْ دَخَلَ إلَيْهِمْ مُتَلَصِّصًا ، فَوَجَدَ لُقَطَةً ، عَرَّفَهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّ أَمْوَالَهُمْ مُبَاحَةٌ لَهُ ، ثُمَّ يَكُونُ حُكْمُهَا حُكْمَ غَنِيمَتِهِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ غَنِيمَةً لَهُ ، لَا تَحْتَاجُ إلَى تَعْرِيفٍ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ، وَأَمْوَالُهُمْ غَنِيمَةٌ .

( 4526 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( وَإِنْ كَانَ الْمُلْتَقِطُ قَدْ مَاتَ ، فَصَاحِبُهَا غَرِيمٌ بِهَا ) .
وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُلْتَقِطَ إذَا مَاتَ ، وَاللُّقَطَةُ مَوْجُودَةٌ بِعَيْنِهَا ، قَامَ وَارِثُهُ مَقَامَهُ فِي إتْمَامِ تَعْرِيفِهَا إنْ مَاتَ قَبْلَ الْحَوْلِ ، وَيَمْلِكُهَا بَعْدَ إتْمَامِ التَّعْرِيفِ ، فَإِنْ مَاتَ بَعْدَ الْحَوْلِ ، وِرْثَهَا الْوَارِثُ ، كَسَائِرِ أَمْوَالِ الْمَيِّتِ ، وَمَتَى جَاءَ صَاحِبُهَا ، أَخَذَهَا مِنْ الْوَارِثِ ، كَمَا يَأْخُذُهَا مِنْ الْمَوْرُوثِ ، فَإِنْ كَانَتْ مَعْدُومَةَ الْعَيْنِ ، فَصَاحِبُهَا غَرِيمٌ لِلْمَيِّتِ بِمِثْلِهَا إنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ ، أَوْ بِقِيمَتِهَا إنْ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ ، فَيَأْخُذُ ذَلِكَ مِنْ تَرِكَتِهِ إنْ اتَّسَعَتْ لِذَلِكَ ، وَإِنْ ضَاقَتْ التَّرِكَةُ زَاحَمَ الْغُرَمَاءُ بِبَدَلِهَا ، سَوَاءٌ تَلِفَتْ بَعْدَ الْحُلُولِ بِفِعْلِهِ أَوْ بِغَيْرِ فِعْلِهِ ؛ لِأَنَّهَا قَدْ دَخَلَتْ فِي مِلْكِهِ بِمُضِيِّ الْحَوْلِ وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهَا تَلِفَتْ قَبْلَ الْحَوْلِ بِغَيْرِ تَفْرِيطِهِ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، وَلَا شَيْءَ لِصَاحِبِهَا ؛ لِأَنَّهَا أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ تَلِفَتْ بِغَيْرِ تَفْرِيطِهِ ، فَلَمْ يَضْمَنْهَا ، كَالْوَدِيعَةِ ، وَكَذَلِكَ إنْ تَلِفَتْ بَعْدَ الْحَوْلِ قَبْلَ تَمَلُّكِهَا مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ ، عَلَى رَأْيِ مِنْ رَأَى أَنَّهَا لَا تَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ حَتَّى يَتَمَلَّكَهَا .
وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ .
فَأَمَّا إنْ لَمْ يَعْلَمْ تَلَفَهَا ، وَلَمْ يَجِدْهَا فِي تَرِكَتِهِ ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّ صَاحِبَهَا غَرِيمٌ بِهَا ، سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ الْحَوْلِ أَوْ بَعْدَهُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاؤُهَا وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَلْزَمَ الْمُلْتَقَطِ شَيْءٌ ، وَيَسْقُطَ حَقُّ صَاحِبِهَا ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّةِ الْمُلْتَقِطِ مِنْهَا وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ قَدْ تَلِفَتْ بِغَيْرِ تَفْرِيطِهِ ، فَلَا تُشْغَلُ ذِمَّتُهُ بِالشَّكِّ .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمَوْتُ قَبْلَ الْحَوْلِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ أَمَانَةً عِنْدَهُ ، وَلَمْ تُعْلَمْ جِنَايَتُهُ فِيهَا ، وَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ

مِنْهَا .
وَإِنْ مَاتَ بَعْد الْحَوْلِ ، فَهِيَ فِي تَرِكَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاؤُهَا إلَى مَا بَعْدَ الْحَوْلِ ، وَدُخُولُهَا فِي مِلْكِهِ ، وَوُجُوبُ بَدَلِهَا عَلَيْهِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قُلْتُمْ إنَّ صَاحِبَهَا لَوْ جَاءَ بَعْدَ بَيْعِ الْمُلْتَقِطِ لَهَا ، أَوْ هِبَتِهِ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا بَدَلُهَا ، فَلِمَ قُلْتُمْ إنَّهَا إذَا انْتَقَلَتْ إلَى الْوَارِثِ يَمْلِكُ صَاحِبُهَا أَخْذَهَا ؟ قُلْنَا : لِأَنَّ الْوَارِثَ خَلِيفَةُ الْمَوْرُوثِ ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ الْمِلْكُ فِيهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي كَانَ ثَابِتًا لِمَوْرُوثِهِ ، وَمِلْكُ مَوْرُوثِهِ فِيهَا كَانَ مُرَاعَاةً مَشْرُوطًا بِعَدَمِ مَجِيءِ صَاحِبِهَا ، فَكَذَلِكَ مِلْكُ وَارِثِهِ ، بِخِلَافِ مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَالْمُتَّهَبِ ، فَإِنَّهُمَا يَمْلِكَانِ مِلْكًا مُسْتَقِرًّا .

( 4527 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهَا جَعَلَ لِمَنْ وَجَدَهَا شَيْئًا مَعْلُومًا ، فَلَهُ أَخْذُهُ إنْ كَانَ الْتَقَطَهَا بَعْدَ أَنْ بَلَغَهُ الْجُعْلُ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْجَعَالَةَ فِي رَدِّ الضَّالَّةِ وَالْآبِقِ وَغَيْرِهِمَا جَائِزَةٌ .
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ .
وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا .
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : { وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ } .
وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ { أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَوْا حَيًّا مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ ، فَلَمْ يُقْرُوهُمْ ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إذْ لُدِغَ سَيِّدُ أُولَئِكَ ، فَقَالُوا : هَلْ فِيكُمْ رَاقٍ ؟ فَقَالُوا : لَمْ تُقْرُونَا ، فَلَا نَفْعَلُ حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلًا فَجَعَلُوا لَهُمْ قَطِيعَ شِيَاهٍ ، فَجَعَلَ رَجُلٌ يَقْرَأُ بِأُمِّ الْقُرْآنِ ، وَيَجْمَعُ بُزَاقَهُ وَيَتْفُلُ ، فَبَرَأَ الرَّجُلُ ، فَأَتَوْهُمْ بِالشَّاءِ ، فَقَالُوا : لَا نَأْخُذُهَا حَتَّى نَسْأَلَ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَسَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : وَمَا أَدْرَاكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ ؟ خُذُوهَا ، وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ بِسَهْمٍ } .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى ذَلِكَ ، فَإِنَّ الْعَمَلَ قَدْ يَكُونُ مَجْهُولًا ، كَرَدِّ الْآبِقِ وَالضَّالَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَلَا تَنْعَقِدُ الْإِجَارَةُ فِيهِ ، وَالْحَاجَةُ دَاعِيَةٌ إلَى رَدِّهِمَا ، وَقَدْ لَا يَجِدُ مَنْ يَتَبَرَّعُ بِهِ ، فَدَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى إبَاحَةِ بَذْلِ الْجُعْلِ فِيهِ ، مَعَ جَهَالَةِ الْعَمَلِ ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ لَازِمَةٍ ، بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِجَارَةَ لَمَّا كَانَتْ لَازِمَةً ، افْتَقَرَتْ إلَى تَقْدِيرِ مُدَّةٍ ، وَالْعُقُودُ الْجَائِزَةُ كَالشَّرِكَةِ وَالْوَكَالَةِ لَا يَجِبُ تَقْدِيرُ مُدَّتِهَا ، وَلِأَنَّ الْجَائِزَةَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَرْكُهَا ، فَلَا يُؤَدِّي إلَى أَنْ يَلْزَمَهُ مَجْهُولٌ عِنْدَهُ ، بِخِلَافِ اللَّازِمَةِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ،

فَإِذَا قَالَ : مَنْ رَدَّ عَلَيَّ ضَالَّتِي أَوْ عَبْدِي الْآبِقَ ، أَوْ خَاطَ لِي هَذَا الْقَمِيصَ ، أَوْ بَنَى لِي هَذَا الْحَائِطَ ، فَلَهُ كَذَا وَكَذَا .
صَحَّ ، وَكَانَ عَقْدًا جَائِزًا ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الرُّجُوعُ فِيهِ قَبْلَ حُصُولِ الْعَمَلِ .
لَكِنْ إنْ رَجَعَ الْجَاعِلُ قَبْلَ التَّلَبُّسِ بِالْعَمَلِ ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ رَجَعَ بَعْدَ التَّلَبُّسِ بِهِ ، فَعَلَيْهِ لِلْعَامِلِ أُجْرَةُ مِثْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا عَمِلَ بِعِوَضٍ ، فَلَمْ يُسَلَّمْ لَهُ وَإِنْ فَسَخَ الْعَامِلُ قَبْلَ إتْمَامِ الْعَمَلِ ، فَلَا شَيْءَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ ، حَيْثُ لَمْ يَأْتِ بِمَا شَرَطَ عَلَيْهِ الْعِوَضَ ، وَيَصِيرُ كَعَامِلِ الْمُضَارَبَةِ إذَا فَسَخَ قَبْلَ ظُهُورِ الرِّبْحِ .
وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْعِوَضُ مَعْلُومًا .
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَمَلِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى كَوْنِ الْعَمَلِ مَجْهُولًا ، بِأَنْ لَا يَعْلَمَ مَوْضِعَ الضَّالَّةِ وَالْآبِقِ ، وَلَا حَاجَةَ تَدْعُو إلَى جَهَالَةِ الْعِوَضِ وَالثَّانِي أَنَّ الْعَمَلَ لَا يَصِيرُ لَازِمًا ، فَلَمْ يَجِبْ كَوْنُهُ مَعْلُومًا ، وَالْعِوَضُ يَصِيرُ لَازِمًا بِإِتْمَامِ الْعَمَلِ ، فَوَجَبَ كَوْنُهُ مَعْلُومًا .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَجُوزَ الْجَعَالَةُ مَعَ جَهَالَةِ الْعِوَضِ إذَا كَانَتْ الْجَهَالَةُ لَا تَمْنَعُ التَّسْلِيمَ ، نَحْوَ أَنْ يَقُولَ : مَنْ رَدَّ عَبْدِي الْآبِقَ فَلَهُ نِصْفُهُ ، وَمَنْ رَدَّ ضَالَّتِي فَلَهُ ثُلُثُهَا .
فَإِنَّ أَحْمَدَ قَالَ : إذَا قَالَ الْأَمِيرُ فِي الْغَزْوِ : مَنْ جَاءَ بِعَشَرَةِ رُءُوسٍ فَلَهُ رَأْسٌ .
جَازَ وَقَالُوا : إذَا جَعَلَ جُعْلًا لِمَنْ يَدُلُّهُ عَلَى قَلْعَةٍ ، أَوْ طَرِيقٍ سَهْلٍ ، وَكَانَ الْجُعْلُ مِنْ مَالِ الْكُفَّارِ ، جَازَ أَنْ يَكُونَ مَجْهُولًا ، كَجَارِيَةٍ يُعَيِّنُهَا الْعَامِلُ فَيُخَرَّجُ هَاهُنَا مِثْلُهُ .
فَأَمَّا إنْ كَانَتْ الْجَهَالَةُ تَمْنَعُ التَّسْلِيمَ ، لَمْ تَصِحَّ الْجَعَالَةُ ، وَجْهًا وَاحِدًا .
وَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ مَعْلُومًا ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : مَنْ رَدَّ عَبْدِي مِنْ الْبَصْرَةِ ، أَوْ بَنَى لِي هَذَا الْحَائِطَ ، أَوْ خَاطَ

قَمِيصِي هَذَا ، فَلَهُ كَذَا صَحَّ ؛ لِأَنَّهُ إذَا صَحَّ مَعَ الْجَهَالَةِ فَمَعَ الْعِلْمِ أَوْلَى .
وَإِنْ عَلَّقَهُ بِمُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ ، فَقَالَ : مَنْ رَدَّ لِي عَبْدِي مِنْ الْعِرَاقِ فِي شَهْرٍ ، فَلَهُ دِينَارٌ .
أَوْ مَنْ خَاطَ قَمِيصِي هَذَا فِي الْيَوْمِ ، فَلَهُ دِرْهَمٌ .
صَحَّ ؛ لِأَنَّ الْمُدَّةَ إذَا جَازَتْ مَجْهُولَةً ، فَمَعَ التَّقْدِيرِ أَوْلَى فَإِنْ قِيلَ : الصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَجُوزُ فِي الْإِجَارَةِ ، فَكَيْفَ أَجَزْتُمُوهُ فِي الْجَعَالَةِ ؟ قُلْنَا : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وُجُوهٍ ، أَحَدُهَا أَنَّ الْجَعَالَةَ يُحْتَمَلُ فِيهَا الْغَرَرُ ، وَتَجُوزُ مَعَ جَهَالَةِ الْعَمَلِ وَالْمُدَّةِ ، بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ .
الثَّانِي أَنَّ الْجَعَالَةَ عَقْدٌ جَائِزٌ ، فَلَا يَلْزَمُهُ بِالدُّخُولِ فِيهَا مَعَ الْغَرَرِ ضَرَرٌ ، بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ ، فَإِنَّهَا عَقْدٌ لَازِمٌ ، فَإِذَا دَخَلَ فِيهَا مَعَ الْغَرَرِ ، لَزِمَهُ ذَلِكَ .
الثَّالِثُ أَنَّ الْإِجَارَةَ إذَا قُدِّرَتْ بِمُدَّةٍ ، لَزِمَهُ الْعَمَلُ فِي جَمِيعِهَا ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْعَمَلُ بَعْدَهَا ، فَإِذَا جَمَعَ بَيْنَ تَقْدِيرِ الْمُدَّةِ وَالْعَمَلِ ، فَرُبَّمَا عَمِلَهُ قَبْلَ الْمُدَّةِ ، فَإِنْ قُلْنَا : يَلْزَمُهُ الْعَمَلُ فِي بَقِيَّةِ الْمُدَّةِ فَقَدْ لَزِمَهُ مِنْ الْعَمَلِ أَكْثَرُ مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ قُلْنَا : لَا يَلْزَمُهُ .
فَقَدْ خَلَا بَعْضُ الْمُدَّةِ مِنْ الْعَمَلِ ، إنْ انْقَضَتْ الْمُدَّةُ قَبْلَ عَمَلِهِ ، فَأَلْزَمْنَاهُ إتْمَامَ الْعَمَلِ ، فَقَدْ لَزِمَهُ الْعَمَلُ فِي غَيْرِ الْمُدَّةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا ، وَإِنْ قُلْنَا : لَا يَلْزَمُهُ الْعَمَلُ .
فَمَا أَتَى بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مِنْ الْعَمَلِ ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا ، فَإِنَّ الْعَمَلَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ بِهِ الْجُعْلَ هُوَ عَمَلٌ مُقَيَّدٌ بِمُدَّةٍ ، إنْ أَتَى بِهِ فِيهَا اسْتَحَقَّ الْجُعْلَ ، وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ آخَرُ ، وَإِنْ لَمْ يَفِ بِهِ فِيهَا ، فَلَا شَيْءَ لَهُ إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ الْجُعْلَ مَنْ عَمِلَ الْعَمَلَ بَعْدَ أَنْ بَلَغَهُ ذَلِكَ ، لِأَنَّهُ عِوَضٌ يُسْتَحَقُّ بِعَمَلٍ ، فَلَا

يَسْتَحِقُّهُ مَنْ لَمْ يَعْمَلْ ، كَالْأَجْرِ فِي الْإِجَارَةِ .

( 4528 ) فَصْلٌ : وَيَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ الْجُعْلَ فِي الْجَعَالَةِ لِوَاحِدٍ بِعَيْنِهِ ، فَيَقُولَ لَهُ : إنْ رَدَدْت عَبْدِي فَلَكَ دِينَارٌ .
فَلَا يَسْتَحِقُّ الْجُعْلَ مَنْ يَرُدُّهُ سِوَاهُ .
وَيَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَهُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ ، فَيَقُولَ : مَنْ رَدَّ عَبْدِي فَلَهُ دِينَارٌ .
فَمَنْ رَدَّهُ اسْتَحَقَّ الْجُعْلَ .
وَيَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ لِوَاحِدٍ فِي رَدِّهِ شَيْئًا مَعْلُومًا ، وَلِآخَرَ أَكْثَرَ مِنْهُ أَوْ أَقَلَّ .
وَيَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ لِلْمُعَيَّنِ عِوَضًا ، وَلِسَائِرِ النَّاسِ عِوَضًا آخَرَ ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَجْرُ فِي الْإِجَارَةِ مُخْتَلِفًا مَعَ التَّسَاوِي فِي الْعَمَلِ ، فَهَاهُنَا أَوْلَى فَإِنْ قَالَ : مَنْ رَدَّ لُقَطَتِي فَلَهُ دِينَارٌ .
فَرَدَّهَا ثَلَاثَةٌ ، فَلَهُمْ الدِّينَارُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا ؛ لِأَنَّهُمْ اشْتَرَكُوا فِي الْعَمَلِ الَّذِي يُسْتَحَقُّ بِهِ الْعِوَضُ ، فَاشْتَرَكُوا فِي الْعِوَضِ ، كَالْأَجْرِ فِي الْإِجَارَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : أَلَيْسَ لَوْ قَالَ : مَنْ دَخَلَ هَذَا النَّقْبَ فَلَهُ دِينَارٌ .
فَدَخَلَهُ جَمَاعَةٌ ، اسْتَحَقَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ دِينَارًا كَامِلًا ، فَلِمَ لَا يَكُونُ هَاهُنَا كَذَلِكَ ؟ قُلْنَا : لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الدَّاخِلِينَ دَخَلَ دُخُولًا كَامِلًا ، كَدُخُولِ الْمُنْفَرِدِ ، فَاسْتَحَقَّ الْعِوَضَ كَامِلًا ، وَهَا هُنَا لَمْ يَرُدُّهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ كَامِلًا ، إنَّمَا اشْتَرَكُوا فِيهِ ، فَاشْتَرَكُوا فِي عِوَضِهِ .
فَنَظِيرُ مَسْأَلَةِ الدُّخُولِ مَا لَوْ قَالَ : مَنْ رَدَّ عَبْدًا مِنْ عَبِيدِي فَلَهُ دِينَارٌ فَرَدَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَبْدًا .
وَنَظِيرُ مَسْأَلَةِ الرَّدِّ مَا لَوْ قَالَ : مَنْ نَقَبَ السُّورَ فَلَهُ دِينَارٌ .
فَنَقَبَ ثَلَاثَةٌ نَقْبًا وَاحِدًا .
فَإِنْ جَعَلَ لِوَاحِدٍ فِي رَدِّهَا دِينَارًا ، وَلِآخَرَ دِينَارَيْنِ ، وَلِثَالِثٍ ثَلَاثَةً ، فَرَدَّهُ الثَّلَاثَةُ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثُ مَا جَعَلَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ عَمَلَ ثُلُثَ الْعَمَلِ ، فَاسْتَحَقَّ ثُلُثَ الْمُسَمَّى .
فَإِنْ جَعَلَ لِوَاحِدٍ دِينَارًا ، وَلِآخَرَيْنِ عِوَضًا مَجْهُولًا ، فَرَدُّوهُ مَعًا ، فَلِصَاحِبِ الدِّينَارِ ثَلَاثَةٌ ،

وَلِلْآخَرَيْنِ أَجْرُ عَمَلِهِمَا وَإِنْ جَعَلَ لِوَاحِدٍ شَيْئًا فِي رَدِّهَا ، فَرَدَّهَا هُوَ وَآخَرَانِ مَعَهُ ، وَقَالَا : رَدَدْنَا مُعَاوَنَةً لَهُ .
اسْتَحَقَّ جَمِيعَ الْجُعْلِ ، وَلَا شَيْءَ لَهُمَا ، وَإِنْ قَالَا : رَدَدْنَاهُ لِنَأْخُذَ الْعِوَضَ لِأَنْفُسِنَا .
فَلَا شَيْءَ لَهُمَا ، وَلَهُ ثُلُثُ الْجُعْلِ ؛ لِأَنَّهُ عَمِلَ ثُلُثَ الْعَمَلِ ، فَاسْتَحَقَّ ثُلُثَ الْجُعْلِ ، وَلَمْ يَسْتَحِقَّ الْآخَرَانِ شَيْئًا ؛ لِأَنَّهُمَا عَمِلَا مِنْ غَيْرِ جُعْلٍ .
وَهَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا .

فَصْلٌ : وَإِنْ قَالَ : مَنْ رَدَّ عَبْدِي مِنْ بَلَدِ كَذَا فَلَهُ دِينَارٌ .
فَرَدَّهُ إنْسَانٌ مِنْ نِصْفِ طَرِيقِ ذَلِكَ الْبَلَدِ ، اسْتَحَقَّ نِصْفَ الْجُعْلِ ؛ لِأَنَّهُ عَمِلَ نِصْفَ الْعَمَلِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : مَنْ رَدَّ عَبْدَيَّ فَلَهُ دِينَارٌ .
فَرَدَّ أَحَدَهُمَا ، فَلَهُ نِصْفُ الدِّينَارِ ؛ لِأَنَّهُ رَدَّ نِصْفَ الْعَبْدَيْنِ ، وَإِنْ رَدَّ الْعَبْدَ مِنْ غَيْرِ الْبَلَدِ الْمُسَمَّى ، فَلَا شَيْءَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلَ فِي رَدِّهِ مِنْهُ شَيْئًا ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ جَعَلَ فِي رَدِّ أَحَدِ عَبْدَيْهِ شَيْئًا فَرَدَّ الْآخَرَ .
وَلَوْ قَالَ : مَنْ رَدَّ عَبْدِي فَلَهُ دِينَارٌ .
فَرَدَّهُ إنْسَانٌ إلَى نِصْفِ الطَّرِيقِ ، فَهَرَبَ مِنْهُ ، لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ الْجُعْلَ بِرَدِّهِ ، وَلَمْ يَرُدَّهُ وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِخِيَاطَةِ ثَوْبٍ ، فَخَاطَهُ ، وَلَمْ يُسَلِّمْهُ حَتَّى تَلِفَ ، لَمْ يَسْتَحِقَّ أُجْرَةً .
فَإِنْ قِيلَ : فَإِنْ كَانَ الْجَاعِلُ قَالَ : مَنْ وَجَدَ لُقَطَتِي فَلَهُ دِينَارٌ فَقَدْ وُجِدَ الْوِجْدَانُ ؟ قُلْنَا : قَرِينَةُ الْحَالِ تَدُلُّ عَلَى اشْتِرَاطِ الرَّدِّ ، وَالْمَقْصُودُ هُوَ الرَّدُّ لَا الْوِجْدَانُ الْمُجَرَّدُ ، وَإِنَّمَا اكْتَفَى بِذِكْرِ الْوِجْدَانِ لِأَنَّهُ سَبَبُ الرَّدِّ ، فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ : مَنْ وَجَدَ لُقَطَتِي فَرَدَّهَا عَلَيَّ .

( 4530 ) فَصْلٌ : وَالْجَعَالَةُ تُسَاوِي الْإِجَارَةِ فِي اعْتِبَارِ الْعِلْمِ بِالْعِوَضِ ، وَمَا كَانَ عِوَضًا فِي الْإِجَارَةِ جَازَ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا فِي الْجَعَالَةِ ، وَمَا لَا فَلَا ، وَفِي أَنَّ مَا جَازَ أَخْذُ الْعِوَضِ عَلَيْهِ فِي الْإِجَارَةِ مِنْ الْأَعْمَالِ ، جَازَ أَخْذُهُ عَلَيْهِ فِي الْجَعَالَةِ ، وَمَا لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ فِي الْإِجَارَةِ ، مِثْلُ الْغِنَاءِ وَالزَّمْرِ وَسَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ ، لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْجُعْلِ عَلَيْهِ ، وَمَا يَخْتَصُّ فَاعِلُهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْقُرْبَةِ ، مِمَّا لَا يَتَعَدَّى نَفْعُهُ فَاعِلَهُ ، كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ ، لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْجُعْلِ عَلَيْهِ ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَتَعَدَّى نَفْعُهُ ، كَالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَالْحَجِّ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ ، كَالرِّوَايَتَيْنِ فِي الْإِجَارَةَ وَيُفَارِقُ الْإِجَارَةَ فِي أَنَّهُ عَقْدٌ جَائِزٌ ، وَهِيَ لَازِمَةٌ ، وَأَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ الْعِلْمُ بِالْمُدَّةِ ، وَلَا بِمِقْدَارِ الْعَمَلِ ، وَلَا يُعْتَبَرُ وُقُوعُ الْعَقْدِ مَعَ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ .
فَعَلَى هَذَا مَتَى شَرَطَ عِوَضًا مَجْهُولًا ، كَقَوْلِهِ : إنْ رَدَدْت عَبْدِي فَلَكَ ثَوْبٌ ، أَوْ فَلَكَ سَلَبُهُ .
أَوْ شَرَطَ عِوَضًا مُحَرَّمًا ، كَالْخَمْرِ وَالْحُرِّ ، أَوْ غَيْرَ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ ، كَقَوْلِهِ : مَنْ رَدَّ عَبْدِي فَلَهُ ثُلُثُهُ ، أَوْ مَنْ رَدَّ عَبْدَيَّ فَلَهُ أَحَدُهُمَا .
فَرَدَّهُ إنْسَانٌ اسْتَحَقَّ أَجْرَ الْمِثْلِ ؛ لِأَنَّهُ عَمِلَ عَمَلًا بِعِوَضٍ لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ ، فَاسْتَحَقَّ أَجْرَهُ ، كَمَا فِي الْإِجَارَةِ .

( 4531 ) فَصْلٌ : وَمَنْ رَدَّ لُقَطَةً أَوْ ضَالَّةً ، أَوْ عَمِلَ لِغَيْرِهِ عَمَلًا غَيْرَ رَدِّ الْآبِقِ ، بِغَيْرِ جُعْلٍ ، لَمْ يَسْتَحِقَّ عِوَضًا .
لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا ؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ يَسْتَحِقُّ بِهِ الْعِوَضَ مَعَ الْمُعَاوَضَةِ ، فَلَا يَسْتَحِقُّ مَعَ عَدَمِهَا ، كَالْعَمَلِ فِي الْإِجَارَةِ .
فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْجُعْلِ ، فَقَالَ : جَعَلْت لِي فِي رَدِّ لُقَطَتِي كَذَا .
فَأَنْكَرَ الْمَالِكُ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ مَعَهُ وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى الْعِوَضِ ، وَاخْتَلَفَا فِي قَدْرِهِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الزَّائِدِ الْمُخْتَلَفَ فِيهِ ، وَلِأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ فِي أَصْلِ الْعِوَضِ ، فَكَذَلِكَ فِي قَدْرِهِ ، كَرَبِّ الْمَالِ فِي الْمُضَارَبَةِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَتَحَالَفَا ، كَالْمُتَبَايِعِينَ إذَا اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الثَّمَنِ ، وَالْأَجِيرُ وَالْمُسْتَأْجِرِ إذَا اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الْأَجْرِ .
فَعَلَى هَذَا إنْ تَحَالَفَا فُسِخَ الْعَقْدُ ، وَوَجَبَ أَجْرُ الْمِثْلِ .
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إنْ اخْتَلَفَا فِي الْمَسَافَةِ ، فَقَالَ : جَعَلْت لَك الْجُعْلَ عَلَى رَدِّهَا مِنْ حَلَبَ فَقَالَ : بَلْ عَلَى رَدِّهَا مِنْ حِمْصَ .
وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي عَيْنِ الْعَبْدِ الَّذِي جُعِلَ الْجُعْلُ فِي رَدِّهِ ، فَقَالَ : رَدَدْت الْعَبْدَ الَّذِي شَرَطْت لِي الْجُعْلَ فِيهِ .
قَالَ : بَلْ شَرَطْت لَك الْجُعْلَ فِي الْعَبْدِ الَّذِي لَمْ تَرُدَّهُ .
فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ ؛ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِشَرْطِهِ ، وَلِأَنَّهُ ادَّعَى عَلَيْهِ شَرْطًا فِي هَذَا الْعَقْدِ فَأَنْكَرَهُ ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ الشَّرْطِ .

( 4532 ) فَصْلٌ : أَمَّا رَدُّ الْعَبْدِ الْآبِقِ ، فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْجُعْلَ بِرَدِّهِ وَإِنْ لَمْ يَشْرُطْ لَهُ .
رُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَرَ ، وَعَلِيٍّ ، وَابْنِ مَسْعُودٍ .
وَبِهِ قَالَ شُرَيْحٌ ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَمَالِكٌ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُوجِبُ ذَلِكَ .
قَالَ ابْنُ مَنْصُورٍ : سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ جُعْلِ الْآبِقِ ؟ فَقَالَ : لَا أَدْرِي ، قَدْ تَكَلَّمَ النَّاسُ فِيهِ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ فِيهِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ .
فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَا جُعْلَ لَهُ فِيهِ ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ فَإِنَّهُ قَالَ : " وَإِذَا أَبَقَ الْعَبْدُ فَلِمَنْ جَاءَ بِهِ إلَى سَيِّدِهِ مَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ " .
وَلَمْ يَذْكُرْ جُعْلًا .
وَهَذَا قَوْلُ النَّخَعِيِّ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ ؛ لِأَنَّهُ عَمِلَ لِغَيْرِهِ عَمَلًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْرُطَ لَهُ عِوَضًا ، فَلَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا ، كَمَا لَوْ رَدَّ جَمَلَهُ الشَّارِدَ .
وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى ، مَا رَوَى عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ ، وَابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ فِي جُعْلِ الْآبِقِ ، إذَا جَاءَ بِهِ خَارِجًا مِنْ الْحَرَمِ ، دِينَارًا وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ ، وَلَمْ نَعْرِفْ لَهُمْ فِي زَمَنِهِمْ مُخَالِفًا ، فَكَانَ إجْمَاعًا .
وَلِأَنَّ فِي شَرْطِ الْجُعْلِ فِي رَدِّهِمْ حَثًّا عَلَى رَدِّ الْإِبَاقِ ، وَصِيَانَةً لَهُمْ عَنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ ، وَرِدَّتِهِمْ عَنْ دِينِهِمْ ، وَتَقْوِيَةِ أَهْلِ الْحَرْبِ بِهِمْ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا لِهَذِهِ الْمَصْلَحَةِ .
وَبِهَذَا فَارَقَ رَدَّ الشَّارِدِ ، فَإِنَّهُ لَا يُفْضِي إلَى ذَلِكَ .
وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى أَقْرَبُ إلَى الْمَصْلَحَةِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْوُجُوبِ ، وَالْخَبَرُ الْمَرْوِيُّ فِي هَذَا مُرْسَلٌ ، وَفِيهِ مَقَالٌ ، وَلَمْ يَثْبُتْ الْإِجْمَاعُ فِيهِ وَلَا الْقِيَاسُ ، فَإِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ اعْتِبَارُ الشَّرْعِ لِهَذِهِ الْمَصْلَحَةِ الْمَذْكُورَةِ فِيهِ ، وَلَا تَحَقَّقَتْ أَيْضًا ، فَإِنَّهُ لَيْسَ الظَّاهِرُ

هَرَبَهُمْ إلَى دَارِ الْحَرْبِ إلَّا فِي الْمَجْلُوبِ مِنْهَا ، إذَا كَانَتْ قَرِيبَةً ، وَهَذَا بَعِيدٌ فِيهِمْ فَأَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى ، فَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي قَدْرِ الْجُعْلِ ، فَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ ، أَوْ دِينَارٌ ، إنْ رَدَّهُ مِنْ الْمِصْرِ ، وَإِنْ رَدَّهُ مِنْ خَارِجِهِ ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا يَلْزَمُهُ دِينَارٌ ، أَوْ اثْنَا عَشَرَ دِرْهَمًا ، لِلْخَبَرِ الْمَرْوِيِّ فِيهِ ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ يُرْوَى عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا .
وَالثَّانِيَةُ ، لَهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا إنْ رَدَّهُ مِنْ خَارِجِ الْمِصْرِ اخْتَارَهَا الْخَلَّالُ ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَشُرَيْحٍ .
فَرَوَى أَبُو عَمْرٍو الشَّيْبَانِيُّ قَالَ : قُلْت لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ : إنِّي أَصَبْت عَبِيدًا إبَاقًا .
فَقَالَ : لَك أَجْرٌ وَغَنِيمَةٌ .
فَقُلْت : هَذَا الْأَجْرُ ، فَمَا الْغَنِيمَةُ ؟ قَالَ : مِنْ كُلِّ رَأْسٍ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا .
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ : أَعْطَيْت الْجُعْلَ فِي زَمَنِ مُعَاوِيَةَ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَفِيضٌ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ .
قَالَ الْخَلَّالُ : حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ أَصَحُّ إسْنَادًا .
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، أَنَّهُ قَالَ : إذَا وَجَدَهُ عَلَى مَسِيرَةِ ثَلَاثٍ ، فَلَهُ ثَلَاثَةُ دَنَانِيرَ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنْ رَدَّهُ مِنْ مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، فَلَهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا ، وَإِنْ كَانَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ ، يُرْضَخُ لَهُ عَلَى قَدْرِ الْمَكَانِ الَّذِي تَعْنِي إلَيْهِ وَلَا فَرْقَ عِنْدَ إمَامِنَا بَيْنَ أَنْ يَزِيدَ الْجُعْلَ عَلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ أَوْ لَا يَزِيدَ .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنْ كَانَ قَلِيلَ الْقِيمَةِ نَقَصَ الْجُعْلُ مِنْ قِيمَتِهِ دِرْهَمًا ، لِئَلَّا يَفُوتَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ جَمِيعُهُ .
وَلَنَا عُمُومُ الدَّلِيلِ ، وَلِأَنَّهُ جُعْلٌ يُسْتَحَقُّ فِي رَدِّ الْآبِقِ ، فَاسْتَحَقَّهُ وَإِنْ زَادَ عَلَى قِيمَتِهِ ، كَمَا لَوْ جَعَلَهُ لَهُ صَاحِبُهُ ، وَيَسْتَحِقُّهُ إنْ مَاتَ سَيِّدُهُ فِي

تَرِكَتِهِ .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : إنْ كَانَ الَّذِي رَدَّهُ مِنْ وَرَثَةِ الْمَوْلَى ، سَقَطَ الْجُعْلُ وَلَنَا أَنَّ هَذَا عِوَضٌ عَنْ عَمَلِهِ ، فَلَا يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ ، كَالْأَجْرِ فِي الْإِجَارَةِ ، وَكَمَا لَوْ كَانَ مِنْ غَيْرِ وَرَثَةِ الْمَوْلَى .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ مَنْ رَدَّهُ مَعْرُوفًا بِرَدِّ الْإِبَاقِ أَوْ لَمْ يَكُنْ .
وَبِهَذَا قَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَقَالَ مَالِكٌ : إنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِذَلِكَ ، اسْتَحَقَّ الْجُعْلَ ، وَإِلَّا فَلَا .
وَلَنَا الْخَبَرُ ، وَالْأَثَرُ الْمَذْكُورُ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيقٍ ، وَلِأَنَّهُ رَدَّ آبِقًا ، فَاسْتَحَقَّ الْجُعْلَ ، كَالْمَعْرُوفِ بِرَدِّهِمْ .

( 4533 ) فَصْل : وَيَجُوزُ أَخْذُ الْآبِقِ لِمَنْ وَجَدَهُ .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يُؤْمَنُ لَحَاقُهُ بِدَارِ الْحَرْبِ ، وَارْتِدَادُهُ ، وَاشْتِغَالُهُ بِالْفَسَادِ فِي سَائِر الْبِلَادِ ، بِخِلَافِ الضَّوَالِّ الَّتِي تَحْفَظُ نَفْسَهَا .
فَإِذَا أَخَذَهُ فَهُوَ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ ، إنْ تَلِفَ بِغَيْرِ تَفْرِيطِهِ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ وَجَدَ صَاحِبَهُ ، دَفَعَهُ إلَيْهِ إذَا أَقَامَ بِهِ الْبَيِّنَةَ ، أَوْ اعْتَرَفَ الْعَبْدُ أَنَّهُ سَيِّدُهُ .
وَإِنْ لَمْ يَجِدْ سَيِّدَهُ ، دَفَعَهُ إلَى الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ ، فَيَحْفَظُهُ لِصَاحِبِهِ ، أَوْ يَبِيعُهُ إنْ رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي بَيْعِهِ ، وَنَحْوَ ذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا وَلَيْسَ لِمُلْتَقِطِهِ بَيْعُهُ وَلَا تَمَلُّكُهُ بَعْدَ تَعْرِيفِهِ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ يَنْحَفِظُ بِنَفْسِهِ ، فَهُوَ كَضَوَالِّ الْإِبِلِ .
فَإِنْ بَاعَهُ ، فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، مِنْهُمْ ؛ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ .
وَإِنْ بَاعَهُ الْإِمَامُ لِمَصْلَحَةٍ رَآهَا فِي بَيْعِهِ ، فَجَاءَ سَيِّدُهُ فَاعْتَرَفَ أَنَّهُ كَانَ أَعْتَقَهُ ، قُبِلَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُرُّ إلَى نَفْسِهِ بِهَذَا نَفْعًا ، وَلَا يَدْفَعُ عَنْهَا ضَرَرًا .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُقْبَلَ ؛ لِأَنَّهُ مِلْكٌ لِغَيْرِهِ ، فَلَا يُقْبَلُ إقْرَارُهُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ السَّيِّدُ ثُمَّ أَقَرَّ بِعِتْقِهِ .
فَعَلَى هَذَا لَيْسَ لِسَيِّدِهِ أَخْذُ ثَمَنِهِ ؛ لِأَنَّهُ يُقِرُّ أَنَّهُ حُرٌّ وَلَا يَسْتَحِقُّ ثَمَنَهُ ، وَلَكِنْ يُؤْخَذُ إلَى بَيْتِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ لَا مُسْتَحِقَّ لَهُ ، فَهُوَ كَتَرِكَةِ مَنْ مَاتَ وَلَا وَارِثَ لَهُ .
فَإِنْ عَادَ السَّيِّدُ فَأَنْكَرَ الْعِتْقَ ، وَطَلَبَ الْمَالَ ، دُفِعَ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ لَا مُنَازِعَ لَهُ فِيهِ .

( 4534 ) فَصْلٌ : وَإِذَا أَبَقَ الْعَبْدُ ، فَحَصَلَ فِي يَدِ حَاكِمٍ ، فَأَقَامَ سَيِّدُهُ بَيِّنَةً عِنْدَ حَاكِمِ بَلَدٍ آخَرَ أَنَّ فُلَانًا الَّذِي صِفَتُهُ كَذَا وَكَذَا ، وَاسْتَقْصَى صِفَاتِهِ ، عَبْدَ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ أَبَقَ مِنْهُ ، فَقَبِلَ الْحَاكِمُ بَيِّنَتَهُ ، وَكَتَبَ الْحَاكِمُ إلَى الْحَاكِمِ الَّذِي عِنْدَهُ الْعَبْدُ : ثَبَتَ عِنْدِي إبَاقُ فُلَانٍ الَّذِي صِفَتُهُ كَذَا وَكَذَا .
قَبِلَ كِتَابَهُ ، وَسَلَّمَ إلَيْهِ الْعَبْدَ .
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ ، إلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ قَالَ : يَأْخُذُ بِهِ كَفِيلًا ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ أَثْبَتَتْهُ بِصِفَاتِهِ ، كَمَا ثَبَتَ فِي الذِّمَّةِ بِوَصْفِهِ فِي السَّلَمِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَمُحَمَّدٌ : لَا يَجِبُ تَسْلِيمُهُ ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَشْهَدُونَ عَلَى عَيْنِهِ ، وَإِنَّمَا يَشْهَدُونَ بِالصِّفَاتِ ، وَقَدْ تَتَّفِقُ الصِّفَاتُ مَعَ اخْتِلَافِ الْأَعْيَانِ ، وَيُفَارِقُ الْمُسْلَمَ فِيهِ ، فَإِنَّ الْوَاجِبَ أَقَلُّ مَا يُوجَدُ مِنْهُ الصِّفَةُ ، وَهُوَ غَيْرُ مُعَيِّنٍ .
وَلَنَا أَنَّهُ يُقْبَلُ كِتَابُ الْحَاكِمِ إلَى الْحَاكِمِ عَلَى شَخْصٍ غَائِبٍ ، وَيُؤْخَذُ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ بِالْحَقِّ ، وَلَيْسَ ثَمَّ شَهَادَةٌ عَلَى عَيْنٍ ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ وَصِفَتِهِ ، فَكَذَا هَاهُنَا ، إذَا ثَبَتَ وُجُوبُ تَسْلِيمِهِ ، فَإِنَّ الْحَاكِمَ الَّذِي يُسَلِّمُهُ يَخْتِمُ فِي عُنُقِهِ خَيْطًا ضَيِّقًا لَا يَخْرُجُ مِنْ رَأْسِهِ ، وَيَدْفَعُهُ إلَى الْمُدَّعِي أَوْ وَكِيلِهِ ، لِيَحْمِلَهُ إلَى الْحَاكِمِ الْكَاتِبِ ، لِيُشْهِدَ الشُّهُودَ عَلَى عَيْنِهِ ، فَإِنْ شَهِدُوا بِعَيْنِهِ ، سُلِّمَ إلَى مُدَّعِيه ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدُوا وَجَبَ رَدُّهُ إلَى الْحَاكِمِ الْأَوَّلِ ، وَيَكُونُ فِي ضَمَانِ الَّذِي أَخَذَهُ ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ .

مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( وَإِنْ كَانَ الْتَقَطَهَا قَبْلَ ذَلِكَ ، فَرَدَّهَا لِعِلَّةِ الْجُعْلِ ، لَمْ يَجُزْ لَهُ أَخْذُهُ ) .
إنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ إذَا الْتَقَطَهَا قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَهُ الْجُعْلُ ، فَقَدْ الْتَقَطَهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ ، وَعَمِلَ فِي مَالِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ جُعْلٍ ، فَلَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا ، كَمَا لَوْ الْتَقَطَهَا وَلَمْ يَجْعَلْ رَبُّهَا فِيهَا شَيْئًا .
وَفَارَقَ الْمُلْتَقِطَ بَعْدَ بُلُوغِهِ الْجُعْلَ ؛ فَإِنَّهُ إنَّمَا بَذَلَ مَنَافِعَهُ بِعِوَضٍ جُعِلَ لَهُ ، فَاسْتَحَقَّهُ ، كَالْأَجِيرِ إذَا عَمِلَ بَعْدَ الْعَقْدِ .
وَسَوَاءٌ كَانَ الْتِقَاطُهُ لَهَا بَعْدَ الْجُعْلِ أَوْ قَبْلَهُ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا وَلَا يَسْتَحِقُّ أَخْذَ الْجُعْلِ بِرَدِّهَا ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ وَاجِبٌ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ ، فَلَمْ يَجُزْ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْ الْوَاجِبِ ، كَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ .
وَإِنَّمَا يَأْخُذُهُ الْمُلْتَقِطُ ، فِي مَوْضِعٍ يَجُوزُ لَهُ أَخْذُهُ عِوَضًا عَنْ الِالْتِقَاطِ الْمُبَاحِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ مُلْتَقِطَهَا قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَهُ الْجُعْلُ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا ، سَوَاءٌ رَدَّهَا لِعِلَّةِ الْجُعْلِ أَوْ لِغَيْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَسْتَحِقَّهُ مَعَ قَصْدِهِ إيَّاهُ ، وَعَمَلِهِ مِنْ أَجْلِهِ ، فَلَأَنْ لَا يَسْتَحِقَّهُ مَعَ عَدَمِ ذَلِكَ أَوْلَى .
وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْخِرَقِيِّ رَدَّهَا لِعِلَّةِ الْجُعْلِ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ ، لِيُنَبِّهَ بِهِ عَلَى عَدَمِ اسْتِحْقَاقِهِ فِيمَا إذَا رَدَّهَا لِغَيْرِ عِلَّتِهِ ، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ إنَّمَا تَدْعُو إلَى مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ فِي مِنْ يُرِيدُ الْجُعْلَ ، أَمَّا مَنْ تَرَكَهُ وَلَا يُرِيدُهُ ، فَلَا يَقَعُ التَّنَازُعُ فِيهِ غَالِبًا .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( 4536 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( وَإِنْ كَانَ الَّذِي وَجَدَ اللُّقَطَةَ سَفِيهًا أَوْ طِفْلًا ، قَامَ وَلِيُّهُ بِتَعْرِيفِهَا ، فَإِنْ تَمَّتْ السَّنَةُ ، ضَمَّهَا إلَى مَالِ وَاجِدِهَا ) .
وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ وَالسَّفِيهَ ، إذَا الْتَقَطَ أَحَدُهُمْ لُقَطَةً ، ثَبَتَتْ يَدُهُ عَلَيْهَا ؛ لِعُمُومِ الْأَخْبَارِ ، وَلِأَنَّ هَذَا تَكَسُّبٌ ، فَصَحَّ مِنْهُ ، كَالِاصْطِيَادِ وَالِاحْتِطَابِ .
وَإِنْ تَلِفَتْ فِي يَدِهِ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ مَا لَهُ أَخْذُهُ .
وَإِنْ تَلِفَتْ بِتَفْرِيطِهِ ، ضَمِنَهَا فِي مَالِهِ .
وَإِذَا عَلِمَ بِهَا وَلِيُّهُ ، لَزِمَهُ أَخْذُهَا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْحِفْظِ وَالْأَمَانَةِ ، فَإِنْ تَرَكَهَا فِي يَدِهِ ضَمِنَهَا ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ حِفْظُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الصَّبِيِّ .
وَهَذَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّهُ ، فَإِذَا تَرَكَهَا فِي يَدِهِ كَانَ مُضَيِّعًا لَهَا ، وَإِذَا أَخَذَهَا الْوَلِيُّ ، عَرَّفَهَا ؛ لِأَنَّ وَاجِدَهَا لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّعْرِيفِ ، فَإِذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ التَّعْرِيفِ ، دَخَلَتْ فِي مِلْكِ وَاجِدِهَا ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ تَمَّ شَرْطُهُ ، فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ لَهُ ، كَمَا لَوْ اصْطَادَ صَيْدًا .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، إلَّا أَنَّ أَصْحَابَهُ قَالُوا : إذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ التَّعْرِيفِ ، فَكَأَنَّ الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ بِحَيْثُ يُسْتَقْرَضُ لَهُمَا ، يَتَمَلَّكُهُ لَهُمَا ، وَإِلَّا فَلَا .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَتَمَلَّكُهُ لَهُمَا بِكُلِّ حَالٍ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ عَدَمُ ظُهُورِ صَاحِبِهِ ، فَيَكُونُ تَمَلُّكُهُ مَصْلَحَةً لَهُ وَلَنَا عُمُومُ الْأَخْبَارِ ، وَلَوْ جَرَى هَذَا مَجْرَى الِاقْتِرَاضِ لَمَا صَحَّ الْتِقَاطُ صَبِيٍّ لَا يَجُوزُ الِاقْتِرَاضُ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ تَبَرُّعًا بِحِفْظِ مَالِ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ .
( 4537 ) فَصْلٌ : قَالَ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ الْعَبَّاسِ بْنِ مُوسَى ، فِي غُلَامٍ لَهُ عَشْرُ سِنِينَ ، الْتَقَطَ لُقَطَةً ، ثُمَّ كَبِرَ : فَإِنْ وَجَدَ صَاحِبَهَا دَفَعَهَا إلَيْهِ ، وَإِلَّا تَصَدَّقَ بِهَا .
قَدْ مَضَى أَجَلُ التَّعْرِيفِ فِيمَا

تَقَدَّمَ مِنْ السِّنِينَ ، وَلَمْ يَرَ عَلَيْهِ اسْتِقْبَالَ أَجَلِ التَّعْرِيفِ .
قَالَ : وَقَدْ كُنْت سَمِعْته قَبْلَ هَذَا أَوْ بَعْدَهُ يَقُولُ فِي انْقِضَاءِ أَجَلِ التَّعْرِيفِ إذَا لَمْ يَجِدْ صَاحِبَهَا : أَيَتَصَدَّقُ بِمَالِ الْغَيْر ؟ ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَدْ مَضَى نَحْوُهَا فِيمَا إذَا لَمْ يُعَرِّفْ الْمُلْتَقِطُ اللُّقَطَةَ فِي حَوْلِهَا ، فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُهَا وَإِنْ عَرَّفَهَا فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ بَعْدَهُ لَا يُفِيدُ ظَاهِرًا ، لِكَوْنِ صَاحِبِهَا يَئِسَ مِنْهَا ، وَتَرَكَ طَلَبَهَا .
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا تَرَكَ التَّعْرِيفَ لِعُذْرٍ ، كَانَ كَتَرْكِهِ لِغَيْرِ عُذْرٍ ؛ لِكَوْنِ الصَّبِيِّ مِنْ أَهْلِ الْعُذْرِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي هَذَا وَجْهَيْنِ فِيمَا تَقَدَّمَ .
وَقَالَ أَحْمَدُ ، فِي غُلَامٍ لَمْ يَبْلُغْ ، أَصَابَ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ ، فَذَهَبَ بِهَا إلَى مَنْزِلِهِ ، فَضَاعَتْ ، فَلَمَّا بَلَغَ أَرَادَ رَدَّهَا ، فَلَمْ يَعْرِفْ صَاحِبَهَا : تَصَدَّقَ بِهَا ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ عَشَرَةً ، وَكَانَ يُجْحِفُ بِهِ ، تَصَدَّقَ قَلِيلًا قَلِيلًا قَالَ الْقَاضِي : مَعْنَى هَذَا أَنَّهَا تَلِفَتْ بِتَفْرِيطِ الصَّبِيِّ ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يُعْلِمْ وَلِيَّهُ حَتَّى يَقُومَ بِتَعْرِيفِهَا .

( 4538 ) فَصْلٌ : وَإِذَا وَجَدَ الْعَبْدُ لُقَطَةً ، فَلَهُ أَخْذُهَا بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ ، وَيَصِحُّ الْتِقَاطُهُ .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ فِي الْآخَرِ : لَا يَصِحُّ الْتِقَاطُهُ ؛ لِأَنَّ اللُّقَطَةَ فِي الْحَوْلِ الْأَوَّلِ أَمَانَةُ وِلَايَةٍ ، فِي الثَّانِي تَمَلُّكٌ ، وَالْعَبْدُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَاتِ وَلَا الْمِلْكِ .
وَلَنَا عُمُومُ الْخَبَرِ ، وَلِأَنَّ الِالْتِقَاطَ سَبَبٌ يَمْلِكُ بِهِ الصَّبِيُّ وَيَصِحُّ مِنْهُ ، فَصَحَّ مِنْ الْعَبْدِ ، كَالِاحْتِطَابِ وَالِاصْطِيَادِ ، وَلِأَنَّ مَنْ جَازَ لَهُ قَبُولُ الْوَدِيعَةِ ، صَحَّ مِنْهُ الِالْتِقَاطُ ، كَالْحُرِّ وَقَوْلُهُمْ : إنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَاتِ وَالْأَمَانَاتِ .
يَبْطُلُ بِالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ ، فَإِنَّهُمَا أَدْنَى حَالًا مِنْهُ فِي هَذَا .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ مَمْنُوعٌ ، وَإِنْ سَلَّمْنَا ، فَإِنَّهُ يَتَمَلَّكُ لِسَيِّدِهِ ، كَمَا يَحْصُلُ بِسَائِرِ الِاكْتِسَابِ ، وَلِأَنَّ الِالْتِقَاطَ تَخْلِيصُ مَالٍ مِنْ الْهَلَاكِ ، فَجَازَ مِنْ الْعَبْدِ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ ، كَإِنْقَاذِ الْمَالِ الْغَرِيقِ وَالْمَغْصُوبِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنْ الْتَقَطَ الْعَبْدُ لُقَطَةً كَانَتْ أَمَانَةً فِي يَدِهِ ، إنْ تَلِفَتْ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ فِي حَوْلِ التَّعْرِيفِ ، لَمْ يَضْمَنْ ، وَإِنْ تَلِفَتْ بِتَفْرِيطٍ أَوْ إتْلَافٍ ، وَجَبَ ضَمَانُهَا فِي رَقَبَتِهِ ، كَسَائِرِ جِنَايَاتِهِ ، وَإِنْ عَرَّفَهَا ، صَحَّ تَعْرِيفُهُ ؛ لِأَنَّ لَهُ قَوْلًا صَحِيحًا ، فَصَحَّ تَعْرِيفُهُ ، كَالْحُرِّ ، فَإِذَا تَمَّ حَوْلُ التَّعْرِيفِ ، مَلَكَهَا سَيِّدُهُ ؛ لِأَنَّ الِالْتِقَاطَ كَسْبُ الْعَبْدِ ، وَكَسْبُهُ لِسَيِّدِهِ وَإِنْ عَلِمَ السَّيِّدُ بِلُقَطَةِ عَبْدِهِ ، كَانَ لَهُ انْتِزَاعُهَا مِنْهُ ؛ لِأَنَّهَا مِنْ كَسْبِ الْعَبْدِ ، وَلِلسَّيِّدِ انْتِزَاعُ كَسْبِهِ مِنْ يَدِهِ ، فَإِذَا انْتَزَعَهَا بَعْدَ أَنْ عَرَّفَهَا الْعَبْدُ مَلَكَهَا ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُعَرِّفْهَا ، عَرَّفَهَا سَيِّدُهُ حَوْلًا كَامِلًا ، وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ قَدْ عَرَّفَهَا بَعْضَ الْحَوْلِ ، عَرَّفَهَا

السَّيِّدُ تَمَامَهُ .
فَإِنْ اخْتَارَ السَّيِّدُ إقْرَارَهَا فِي يَدِ عَبْدِهِ ، نَظَرْت ؛ فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ أَمِينًا جَازَ ، وَكَانَ السَّيِّدُ مُسْتَعِينًا بِعَبْدِهِ فِي حِفْظِهَا ، كَمَا يَسْتَعِينُ بِهِ فِي حِفْظِ مَالِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ غَيْرَ أَمِينٍ ، كَانَ السَّيِّدُ مُفَرِّطًا بِإِقْرَارِهَا فِي يَدِهِ ، وَلَزِمَهُ ضَمَانُهَا ، كَمَا لَوْ أَخَذَهَا مِنْ يَدِهِ ثُمَّ رَدَّهَا إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ يَدَ الْعَبْدِ كَيَدِهِ ، وَمَا يَسْتَحِقُّ بِهَا فَهُوَ لِسَيِّدِهِ وَإِنْ أَعْتَقَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ بَعْدَ الِالْتِقَاطِ ، فَلَهُ انْتِزَاعُ اللُّقَطَةِ مِنْ يَدِهِ ؛ لِأَنَّهَا مِنْ كَسْبِهِ ، وَأَكْسَابُهُ لِسَيِّدِهِ .
وَمَتَى عَلِمَ الْعَبْدُ أَنَّ سَيِّدَهُ غَيْرُ مَأْمُونٍ عَلَيْهَا ، لَزِمَهُ سَتْرُهَا عَنْهُ ، وَتَسْلِيمُهَا إلَى الْحَاكِمِ ، لِيُعَرِّفهَا ، ثُمَّ يَدْفَعَهَا إلَى سَيِّدِهِ بِشَرْطِ الضَّمَانِ .
فَإِنْ أَعْلَمَ سَيِّدَهُ بِهَا ، فَلَمْ يَأْخُذْهَا مِنْهُ ، أَوْ أَخَذَهَا فَعَرَّفَهَا وَأَدَّى الْأَمَانَةَ فِيهَا فَتَلِفَتْ فِي الْحَوْلِ الْأَوَّلِ بِغَيْرِ تَفْرِيطَهُ ، فَلَا ضَمَانَ فِيهَا ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَتْلَفْ بِتَفْرِيطٍ مِنْ أَحَدِهِمَا ، وَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ الْأَمَانَةَ فِيهَا ، وَجَبَ ضَمَانُهَا ، وَيَتَعَلَّقُ الضَّمَانُ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ وَذِمَّةِ السَّيِّدِ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ التَّفْرِيطَ حَصَلَ مِنْهُمَا جَمِيعًا .

( 4539 ) فَصْلٌ : وَالْمُكَاتَبُ كَالْحُرِّ فِي اللُّقَطَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَالَ لَهُ فِي الْحَالِ ، وَأَكْسَابُهُ لَهُ دُونَ سَيِّدِهِ ، وَاللُّقَطَةُ مِنْ أَكْسَابِهِ ، فَإِنْ عَجَزَ عَادَ عَبْدًا ، وَصَارَ حُكْمُهُ فِي اللُّقَطَةِ حُكْمَ الْعَبْدِ ، عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ .
وَأُمُّ الْوَلَدِ ، وَالْمُعَلَّقُ عِتْقُهُ بِصِفَةٍ ، وَالْمُدَبَّرُ كَالْقِنِّ .
وَمَنْ نِصْفُهُ حُرٌّ إذَا الْتَقَطَ شَيْئًا ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَيِّدِهِ مُهَايَأَةٌ ، فَهُوَ بَيْنَهُمَا بَعْدَ التَّعْرِيفِ نِصْفَيْنِ ، كَسَائِرِ أَكْسَابِهِ ، وَهِيَ بَيْنَهُمَا فِي حَوْلِ التَّعْرِيفِ كَالْحُرَّيْنِ إذَا الْتَقَطَا لُقَطَةً ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا مُهَايَأَةٌ ، فَفِيهَا وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا لَا تَدْخُلُ فِي الْمُهَايَأَةِ ؛ لِأَنَّهَا كَسْبٌ نَادِرٌ ، لَا يُعْلَمُ وُجُودُهُ وَلَا يُظَنُّ ، فَلَمْ تَدْخُلْ فِي الْمُهَايَأَةِ ، وَتَكُونُ بَيْنَهُمَا وَالثَّانِي : تَدْخُلُ فِي الْمُهَايَأَةِ ؛ لِأَنَّهَا مِنْ كَسْبِهِ ، فَأَشْبَهَتْ سَائِرَ أَكْسَابِهِ ، فَإِنْ وَجَدَهَا فِي يَوْمِهِ فَهِيَ لَهُ ، وَإِنْ وَجَدَهَا فِي يَوْمِ سَيِّدِهِ فَهِيَ لَهُ ، وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ اثْنَيْنِ ، فَلُقَطَتُهُ بَيْنَهُمَا ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي مَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ وَبَعْضُهُ رَقِيقٌ .

( 4540 ) فَصْلٌ : وَالذِّمِّيُّ فِي الِالْتِقَاطِ كَالْمُسْلِمِ .
وَمِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مَنْ قَالَ : لَيْسَ لَهُ الِالْتِقَاطُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْأَمَانَةِ .
وَلَنَا أَنَّهَا نَوْعُ اكْتِسَابٍ ، فَكَانَ مِنْ أَهْلِهَا ، كَالْحَشِّ وَالِاحْتِطَابِ .
وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ الْتِقَاطُهُمَا ، مَعَ عَدَمِ الْأَمَانَةِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّهُ إنْ عَرَّفَ اللُّقَطَةَ حَوْلًا كَامِلًا ، مَلَكَهَا كَالْمُسْلِمِ ، وَإِنْ عَلِمَ بِهَا الْحَاكِمُ أَوْ السُّلْطَانُ ، أَقَرَّهَا فِي يَدِهِ .
وَضَمَّ إلَيْهِ مُشْرِفًا عَدْلًا يُشْرِفُ عَلَيْهِ ، وَيُعَرِّفُهَا ؛ لِأَنَّنَا لَا نَأْمَنُ الْكَافِرَ عَلَى تَعْرِيفِهَا ، وَلَا نَأْمَنُهُ أَنْ يُخِلَّ فِي التَّعْرِيفِ بِشَيْءٍ مِنْ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ فِيهِ ، وَأَجْرُ الْمُشْرِفِ عَلَيْهِ ، فَإِذَا تَمَّ حَوْلُ التَّعْرِيفِ مَلَكَهَا الْمُلْتَقِطُ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ تُنْزَعَ مِنْ يَدِ الذِّمِّيِّ ، وَتُوضَعَ عَلَى يَدِ عَدْلٍ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْمُونٍ عَلَيْهَا .

( 4541 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ لَيْسَ بِأَمِينٍ أَنْ لَا يَأْخُذَ اللُّقَطَةَ ؛ لِأَنَّهُ يُعَرِّضُ نَفْسَهُ لِلْأَمَانَةِ ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِهَا ، فَإِنْ الْتَقَطَ صَحَّ الْتِقَاطُهُ ؛ لِأَنَّهَا جِهَةٌ مِنْ جِهَاتِ الْكَسْبِ ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْكَسْبِ ، وَلِأَنَّهُ إذَا صَحَّ الْتِقَاطُ الْكَافِرِ ، فَالْمُسْلِمُ أَوْلَى ، فَإِذَا الْتَقَطَهَا فَعَرَّفَهَا حَوْلًا ، مَلَكَهَا كَالْعَدْلِ .
وَإِنْ عَلِمَ الْحَاكِمُ أَوْ السُّلْطَانُ بِهَا ، أَقَرَّهَا فِي يَدِهِ ، وَضَمَّ إلَيْهِ مُشْرِفًا يُشْرِفُ عَلَيْهِ ، وَيَتَوَلَّى تَعْرِيفَهَا كَمَا قُلْنَا فِي الذِّمِّيِّ ؛ لِأَنَّهُ لَا نَأْمَنُهُ عَلَيْهَا .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ ، وَقَالَ فِي الْآخَرِ : يَنْزِعُهَا مِنْ يَدِهِ ، وَيَضَعُهَا فِي يَدِ عَدْلٍ وَلَنَا أَنَّ مَنْ خَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَدِيعَةِ ، لَمْ تَزُلْ يَدُهُ عَنْ اللُّقَطَةِ ، كَالْعَدْلِ ، وَالْحِفْظُ يَحْصُلُ بِضَمِّ الْمُشْرِفِ إلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ الْمُشْرِفَ حِفْظُهَا مِنْهُ ، اُنْتُزِعَتْ مِنْ يَدِهِ ، وَتُرِكَتْ فِي يَدِ عَدْلٍ ، فَإِذَا عَرَّفَهَا وَتَمَّتْ السَّنَةُ ، مَلَكَهَا مُلْتَقِطُهَا ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ وُجِدَ مِنْهُ .

مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( وَإِذَا وَجَدَ الشَّاةَ بِمِصْرٍ ، أَوْ بِمَهْلَكَةٍ ، فَهِيَ لُقَطَةٌ ) يَعْنِي أَنَّهُ يُبَاحُ أَخْذُهَا وَالْتِقَاطُهَا ، وَحُكْمُهَا إذَا أَخَذَهَا حُكْمُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ، فِي التَّعْرِيفِ وَالْمِلْكِ بَعْدَهُ .
هَذَا الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ ، وَقَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ ضَالَّةَ الْغَنَمِ فِي الْمَوْضِعِ الْمَخُوفِ عَلَيْهَا لَهُ أَكْلُهَا ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي كُلِّ حَيَوَانٍ لَا يَمْتَنِعُ بِنَفْسِهِ مِنْ صِغَارِ السِّبَاعِ ، وَهِيَ الثَّعْلَبُ ، وَابْنُ آوَى ، وَالذِّئْبُ ، وَوَلَدُ الْأَسَدِ وَنَحْوُهَا فَمَا لَا يَمْتَنِعُ مِنْهَا ، كَفُصْلَانِ الْإِبِلِ ، وَعُجُولِ الْبَقَرِ ، وَأَفْلَاءِ الْخَيْلِ ، وَالدَّجَاجِ ، وَالْإِوَزِّ وَنَحْوِهَا ، يَجُوزُ الْتِقَاطُهُ .
وَيُرْوَى عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى ، لَيْسَ لِغَيْرِ الْإِمَامِ الْتِقَاطُهَا .
وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ : لَا أُحِبُّ أَنْ يَقْرَبَهَا ، إلَّا أَنْ يَحُوزَهَا لِصَاحِبِهَا ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا يُؤْوِي الضَّالَّةَ إلَّا ضَالٌّ } .
وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ أَشْبَهَ الْإِبِلَ .
وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَمَّا سُئِلَ عَنْ الشَّاةِ : خُذْهَا ، فَإِنَّمَا هِيَ لَك أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَلِأَنَّهُ يُخْشَى عَلَيْهِ التَّلَفُ وَالضَّيَاعُ ، فَأَشْبَهَ لُقَطَةَ غَيْرِ الْحَيَوَانِ ، وَحَدِيثُنَا أَخَصُّ مِنْ حَدِيثِهِمْ ، فَنَخُصُّهُ بِهِ ، وَالْقِيَاسُ عَلَى الْإِبِلِ لَا يَصِحُّ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّلَ مَنْعَ الْتِقَاطِهَا بِأَنَّ مَعَهَا حِذَاءَهَا وَسِقَاءَهَا ، وَهَذَا مَعْدُومٌ فِي الْغَنَمِ ، ثُمَّ قَدْ فَرَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا فِي خَبَرٍ وَاحِدٍ ، فَلَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ مَا فَرَّقَ الشَّارِعُ بَيْنَهُمَا ، وَلَا قِيَاسُ مَا أَمَرَ بِالْتِقَاطِهِ عَلَى مَا مَنَعَ ذَلِكَ فِيهِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَجِدَهَا بِمِصْرٍ أَوْ بِمَهْلَكَةٍ .
وَقَالَ مَالِكٌ ،

وَأَبُو عُبَيْدٍ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ ، فِي الشَّاةِ تُوجَدُ فِي الصَّحْرَاءِ : اذْبَحْهَا ، وَكُلْهَا .
وَفِي الْمِصْرِ : ضُمَّهَا حَتَّى يَجِدَهَا صَاحِبُهَا ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { هِيَ لَك أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ } .
وَالذِّئْبُ لَا يَكُونُ فِي الْمِصْرِ وَلَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " خُذْهَا " .
وَلَمْ يُفَرِّقْ ، وَلَمْ يَسْتَفْصِلْ ، وَلَوْ افْتَرَقَ الْحَالُ لَسَأَلَ وَاسْتَفْصَلَ ، وَلِأَنَّهَا لُقَطَةٌ ، فَاسْتَوَى فِيهَا الْمِصْرُ وَالصَّحْرَاءُ ، كَسَائِرِ اللُّقَطَاتِ .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّ الذِّئْبَ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الصَّحْرَاءِ .
قُلْنَا : كَوْنُهَا لِلذِّئْبِ فِي الصَّحْرَاءِ لَا يَمْنَعُ كَوْنَهَا لِغَيْرِهِ فِي الْمِصْرِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّهُ مَتَى عَرَّفَهَا حَوْلًا كَامِلًا ، مَلَكَهَا .
وَذَكَرَ الْقَاضِي ، وَأَبُو الْخَطَّابِ ، عَنْ أَحْمَدَ ، رِوَايَةً أُخْرَى ، أَنَّهُ لَا يَمْلِكُهَا .
وَلَعَلَّهَا الرِّوَايَةُ الَّتِي مَنَعَ مِنْ الْتِقَاطِهَا فِيهَا .
وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { هِيَ لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ } ، فَأَضَافَهَا إلَيْهِ فَاللَّامُ التَّمْلِيكِ ، وَلِأَنَّهَا يُبَاحُ الْتِقَاطُهَا ، فَمُلِكَتْ بِالتَّعْرِيفِ ، كَالْأَثْمَانِ ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ إجْمَاعٌ ، حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ .

( 4543 ) فَصْلٌ : وَيَتَخَيَّرُ مُلْتَقِطُهَا بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ ؛ أَكْلُهَا فِي الْحَالِ .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَغَيْرُهُمْ .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ ضَالَّةَ الْغَنَمِ ، فِي الْمَوْضِعِ الْمَخُوفِ عَلَيْهَا ، لَهُ أَكْلُهَا .
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { هِيَ لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ } .
فَجَعَلَهَا لَهُ فِي الْحَالِ ، وَسَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الذِّئْبِ ، وَالذِّئْبُ لَا يَسْتَأْنِي بِأَكْلِهَا ، وَلِأَنَّ فِي أَكْلِهَا فِي الْحَالِ إغْنَاءً عَنْ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا ، وَحِرَاسَةً لِمَالِيَّتِهَا عَلَى صَاحِبِهَا إذَا جَاءَ .
فَإِنَّهُ يَأْخُذُ قِيمَتَهَا بِكَمَالِهَا مِنْ غَيْرِ نَقْصٍ ، وَفِي إبْقَائِهَا تَضْيِيعٌ لِلْمَالِ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا ، وَالْغَرَامَةِ فِي عَلَفِهَا ، فَكَانَ أَكْلُهَا أَوْلَى .
وَمَتَى أَرَادَ أَكْلَهَا حَفِظَ صِفَتَهَا ، فَمَتَى جَاءَ صَاحِبُهَا غَرِمَهَا لَهُ ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، إلَّا مَالِكًا ، فَإِنَّهُ قَالَ : كُلْهَا ، وَلَا غُرْمَ عَلَيْك لِصَاحِبِهَا وَلَا تَعْرِيفَ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " هِيَ لَك " .
وَلَمْ يُوجِبْ فِيهَا تَعْرِيفًا وَلَا غُرْمًا ، وَسَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الذِّئْبِ ، وَالذِّئْبُ لَا يُعَرِّفُ وَلَا يَغْرَمُ .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : لَمْ يُوَافِقْ مَالِكًا أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ عَلَى قَوْلِهِ .
وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو : { رُدَّ عَلَى أَخِيك ضَالَّتَهُ } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الشَّاةَ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهَا ، وَلِأَنَّهَا لُقَطَةٌ لَهَا قِيمَةٌ ، وَتَتْبَعُهَا النَّفْسُ ، فَتَجِبُ غَرَامَتُهَا لِصَاحِبِهَا إذَا جَاءَ كَغَيْرِهَا ، وَلِأَنَّهَا مِلْكٌ لِصَاحِبِهَا ، فَلَمْ يَجُزْ تَمَلُّكُهَا عَلَيْهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ ، كَمَا لَوْ كَانَتْ بَيْنَ الْبُنْيَانِ ، وَلِأَنَّهَا عَيْنٌ يَجِبُ رَدُّهَا مَعَ بَقَائِهَا ، فَوَجَبَ غُرْمُهَا إذَا أَتْلَفَهَا ، كَلُقَطَةِ الذَّهَبِ .
وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " هِيَ لَك " .
لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ غَرَامَتِهَا ، فَإِنَّهُ قَدْ أَذِنَ فِي لُقَطَةِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ بَعْدَ تَعْرِيفِهَا ، فِي أَكْلِهَا وَإِنْفَاقِهَا ، وَقَالَ : " هِيَ كَسَائِرِ مَالِك " .
ثُمَّ أَجْمَعْنَا عَلَى وُجُوبِ غَرَامَتِهَا ، كَذَلِكَ الشَّاةُ ، وَلَا فَرْقَ فِي إبَاحَةِ أَكْلِهَا بَيْنَ وِجْدَانِهَا فِي الصَّحْرَاءِ أَوْ فِي الْمِصْرِ وَقَالَ مَالِكٌ ، وَأَبُو عُبَيْدٍ ، وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ : لَيْسَ لَهُ أَكْلُهَا فِي الْمِصْرِ ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ بَيْعُهَا ، بِخِلَافِ الصَّحْرَاءِ .
وَلَنَا أَنَّ مَا جَازَ أَكْلُهُ فِي الصَّحْرَاءِ ، أُبِيحَ فِي الْمِصْرِ ، كَسَائِرِ الْمَأْكُولَاتِ ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " هِيَ لَك " .
وَلَمْ يُفَرِّقْ ، وَلِأَنَّ أَكْلَهَا مُعَلَّلٌ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا ، وَهَذَا فِي الْمِصْرِ أَشَدُّ مِنْهُ فِي الصَّحْرَاءِ .
الثَّانِي ، أَنْ يُمْسِكَهَا عَلَى صَاحِبِهَا ، وَيُنْفِقَ عَلَيْهَا مِنْ مَالِهِ ، وَلَا يَتَمَلَّكهَا .
وَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهَا مُحْتَسِبًا بِالنَّفَقَةِ عَلَى مَالِكِهَا ، وَأَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ ، فَهَلْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِالنَّفَقَةِ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ إحْدَاهُمَا يَرْجِعُ بِهِ نَصَّ عَلَيْهِ ، فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ ، فِي طِيَرَةٍ أَفْرَخَتْ عِنْدَ قَوْمٍ ، فَقَضَى أَنَّ الْفِرَاخَ لِصَاحِبِ الطِّيَرَةِ ، وَيَرْجِعُ بِالْعَلَفِ إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَطَوِّعًا .
وَقَضَى عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي مَنْ وَجَدَ ضَالَّةً ، فَأَنْفَقَ عَلَيْهَا ، وَجَاءَ رَبُّهَا ، بِأَنَّهُ يَغْرَمُ لَهُ مَا أَنْفَقَ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَنْفَقَ عَلَى اللُّقَطَةِ لِحِفْظِهَا ، فَكَانَ مِنْ مَالِ صَاحِبِهَا ، كَمُؤْنَةِ الرُّطَبِ وَالْعِنَبِ .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ ، لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ ، وَالشَّافِعِيِّ .
وَلَمْ يُعْجِبْ الشَّعْبِيَّ قَضَاءُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ؛ لِأَنَّهُ أَنْفَقَ عَلَى مَالِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، فَلَمْ يَرْجِعْ .
كَمَا لَوْ بَنِي دَارِهِ ، وَيُفَارِقُ الْعِنَبَ وَالرُّطَبَ ،

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71