الكتاب : المغني
المؤلف : أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد ، الشهير بابن قدامة المقدسي

دُوَيْرَةِ أَهْلِك .
وَلَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ أَحْرَمُوا مِنْ الْمِيقَاتِ ، وَلَا يَفْعَلُونَ إلَّا الْأَفْضَلَ .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا فَعَلَ هَذَا لِتَبْيِينِ الْجَوَازِ ، قُلْنَا : قَدْ حَصَلَ بَيَانُ الْجَوَازِ بِقَوْلِهِ ، كَمَا فِي سَائِرِ الْمَوَاقِيتِ .
ثُمَّ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَاؤُهُ يُحْرِمُونَ مِنْ بُيُوتِهِمْ ، وَلَمَا تَوَاطَئُوا عَلَى تَرْكِ الْأَفْضَلِ ، وَاخْتِيَارِ الْأَدْنَى ، وَهُمْ أَهْلُ التَّقْوَى وَالْفَضْلِ ، وَأَفْضَلُ الْخَلْقِ ، وَلَهُمْ مِنْ الْحِرْصِ عَلَى الْفَضَائِلِ وَالدَّرَجَاتِ مَا لَهُمْ .
وَقَدْ رَوَى أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ ، فِي ( مُسْنَدِهِ ) ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { يَسْتَمْتِعُ أَحَدُكُمْ بِحِلِّهِ مَا اسْتَطَاعَ ، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي مَا يَعْرِضُ لَهُ فِي إحْرَامِهِ } .
وَرَوَى الْحَسَنُ ، أَنَّ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ أَحْرَمَ مِنْ مِصْرِهِ ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَغَضِبَ ، وَقَالَ : يَتَسَامَعُ النَّاسُ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْرَمَ مِنْ مِصْرِهِ .
وَقَالَ : إنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرٍ أَحْرَمَ مِنْ خُرَاسَانَ ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى عُثْمَانَ لَامَهُ فِيمَا صَنَعَ ، وَكَرِهَهُ لَهُ .
رَوَاهُمَا سَعِيدٌ ، وَالْأَثْرَمُ ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ : كَرِهَ عُثْمَانُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ خُرَاسَانَ أَوْ كَرْمَانَ .
وَلِأَنَّهُ أَحْرَمَ قَبْلَ الْمِيقَاتِ ، فَكُرِهَ ، كَالْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِهِ .
وَلِأَنَّهُ تَغْرِيرٌ بِالْإِحْرَامِ ، وَتَعَرُّضٌ لِفِعْلِ مَحْظُورَاتِهِ ، وَفِيهِ مَشَقَّةٌ عَلَى النَّفْسِ ، فَكُرِهَ ، كَالْوِصَالِ فِي الصَّوْمِ .
قَالَ عَطَاءٌ : اُنْظُرُوا هَذِهِ الْمَوَاقِيتَ الَّتِي وُقِّتَتْ لَكُمْ ، فَخُذُوا بِرُخْصَةِ اللَّهِ فِيهَا ، فَإِنَّهُ عَسَى أَنْ يُصِيبَ أَحَدُكُمْ ذَنْبًا فِي إحْرَامِهِ ، فَيَكُونَ أَعْظَمَ لِوِزْرِهِ ، فَإِنَّ الذَّنْبَ فِي الْإِحْرَامِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ .
فَأَمَّا حَدِيثُ

الْإِحْرَامِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، فَفِيهِ ضَعْفٌ ، يَرْوِيهِ ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ ؛ وَفِيهِمَا مَقَالٌ .
وَيَحْتَمِلُ اخْتِصَاصَ هَذَا بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ دُونَ غَيْرِهِ ، لِيَجْمَعَ بَيْنَ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدَيْنِ فِي إحْرَامٍ وَاحِدٍ ، وَلِذَلِكَ أَحْرَمَ ابْنُ عُمَرَ مِنْهُ ، وَلَمْ يَكُنْ يُحْرِمْ مِنْ غَيْرِهِ إلَّا مِنْ الْمِيقَاتِ .
وَقَوْلُ عُمَرَ لِلصَّبِّي : هُدِيت لِسُنَّةِ نَبِيِّك .
يَعْنِي فِي الْقِرَانِ ، وَالْجَمْعِ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ، لَا فِي الْإِحْرَامِ مِنْ قَبْلِ الْمِيقَاتِ ، فَإِنَّ سُنَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِحْرَامُ مِنْ الْمِيقَاتِ ، بَيَّنَ ذَلِكَ بِفِعْلِهِ وَقَوْلِهِ ، وَقَدْ بَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَرُدَّ ذَلِكَ إنْكَارُهُ عَلَى عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ إحْرَامَهُ مِنْ مِصْرِهِ .
وَأَمَّا قَوْلُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ ، فَإِنَّهُمَا قَالَا : إتْمَامُ الْعُمْرَةِ أَنْ تُنْشِئَهَا مِنْ بَلَدِك .
وَمَعْنَاهُ أَنْ تُنْشِئَ لَهَا سَفَرًا مِنْ بَلَدِك ، تَقْصِدُ لَهُ ، لَيْسَ أَنْ تُحْرِمَ بِهَا مِنْ أَهْلِك .
قَالَ أَحْمَدُ : كَانَ سُفْيَانُ يُفَسِّرُهُ بِهَذَا .
وَكَذَلِكَ فَسَّرَهُ بِهِ أَحْمَدُ .
وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُفَسَّرَ بِنَفْسِ الْإِحْرَامِ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ مَا أَحْرَمُوا بِهَا مِنْ بُيُوتِهِمْ ، وَقَدْ أَمَرَهُمْ اللَّهُ بِإِتْمَامِ الْعُمْرَةِ ، فَلَوْ حُمِلَ قَوْلُهُمْ عَلَى ذَلِكَ لَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ تَارِكِينَ لِأَمْرِ اللَّهِ .
ثُمَّ إنَّ عُمَرَ وَعَلِيًّا مَا كَانَا يُحْرِمَانِ إلَّا مِنْ الْمِيقَاتِ ، أَفَتَرَاهُمَا يَرَيَانِ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِإِتْمَامٍ لَهَا وَيَفْعَلَانِهِ ، هَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَوَهَّمَهُ أَحَدٌ .
وَلِذَلِكَ أَنْكَرَ عُمَرُ عَلَى عِمْرَانَ إحْرَامَهُ مِنْ مِصْرِهِ ، وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ ، وَكَرِهَ أَنْ يَتَسَامَعَ النَّاسُ ، مَخَافَةَ أَنْ يُؤْخَذَ بِهِ .
أَفَتَرَاهُ كَرِهَ إتْمَامَ الْعُمْرَةِ وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ النَّاسُ بِالْأَفْضَلِ ، هَذَا لَا يَجُوزُ ، فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُ قَوْلِهِمَا فِي ذَلِكَ عَلَى

مَا حَمَلَهُ عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( 2277 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَمَنْ أَرَادَ الْإِحْرَامَ ، فَجَاوَزَ الْمِيقَاتَ غَيْرَ مُحْرِمٍ ، رَجَعَ فَأَحْرَمَ مِنْ الْمِيقَاتِ ، فَإِنْ أَحْرَمَ مِنْ مَكَانِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ ، وَإِنْ رَجَعَ مُحْرِمًا إلَى الْمِيقَاتِ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ مُرِيدًا لِلنُّسُكِ غَيْرَ مُحْرِمٍ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ إلَيْهِ لِيُحْرِمَ مِنْهُ ، إنْ أَمْكَنَهُ ، سَوَاءٌ تَجَاوَزَهُ عَالِمًا بِهِ أَوْ جَاهِلًا ، عَلِمَ تَحْرِيمَ ذَلِكَ أَوْ جَهِلَهُ .
فَإِنْ رَجَعَ إلَيْهِ ، فَأَحْرَمَ مِنْهُ ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ .
لَا نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا .
وَبِهِ يَقُولُ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ ، وَالْحَسَنُ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَغَيْرُهُمْ ؛ لِأَنَّهُ أَحْرَمَ مِنْ الْمِيقَاتِ الَّذِي أُمِرَ بِالْإِحْرَامِ مِنْهُ ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَتَجَاوَزْهُ .
وَإِنْ أَحْرَمَ مِنْ دُونِ الْمِيقَاتِ ، فَعَلَيْهِ دَمٌ ، سَوَاءٌ رَجَعَ إلَى الْمِيقَاتِ أَوْ لَمْ يَرْجِعْ .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ .
وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ إنْ رَجَعَ إلَى الْمِيقَاتِ ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ تَلَبَّسَ بِشَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ ، كَالْوُقُوفِ ، وَطَوَافِ الْقُدُومِ ، فَيَسْتَقِرُّ الدَّمُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ مُحْرِمًا فِي الْمِيقَاتِ قَبْلَ التَّلَبُّس بِأَفْعَالِ الْحَجِّ ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ دَمٌ ، كَمَا لَوْ أَحْرَمَ مِنْهُ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ : إنْ رَجَعَ إلَى الْمِيقَاتِ ، فَلَبَّى ، سَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ ، وَإِنْ لَمْ يُلَبِّ ، لَمْ يَسْقُطْ .
وَعَنْ عَطَاءٍ ، وَالْحَسَنِ ، وَالنَّخَعِيِّ : لَا شَيْءَ عَلَى مَنْ تَرَكَ الْمِيقَاتَ .
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ : لَا حَجَّ لِمَنْ تَرَكَ الْمِيقَاتَ .
وَلَنَا مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ تَرَكَ نُسُكًا ، فَعَلَيْهِ دَمٌ } .
رُوِيَ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا .
وَلِأَنَّهُ أَحْرَمَ دُونَ مِيقَاتِهِ ، فَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الدَّمُ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَرْجِعْ ، أَوْ كَمَا لَوْ طَافَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ ، أَوْ كَمَا

لَوْ لَمْ يُلَبِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَلِأَنَّهُ تَرَكَ الْإِحْرَامَ مِنْ مِيقَاتِهِ ، فَلَزِمَهُ الدَّمُ ، كَمَا ذَكَرْنَا ، وَلِأَنَّ الدَّمَ وَجَبَ لِتَرْكِهِ الْإِحْرَامَ مِنْ الْمِيقَاتِ ، وَلَا يَزُولُ هَذَا بِرُجُوعِهِ وَلَا بِتَلْبِيَتِهِ ، وَفَارَقَ مَا إذَا رَجَعَ قَبْلَ إحْرَامِهِ فَأَحْرَمَ مِنْهُ ، فَإِنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ الْإِحْرَامَ مِنْهُ ، وَلَمْ يَهْتِكْهُ .

( 2278 ) فَصْلٌ : وَلَوْ أَفْسَدَ الْمُحْرِمُ مِنْ دُونِ الْمِيقَاتِ حَجَّهُ ، لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الدَّمُ .
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ : يَسْقُطُ ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ وَاجِبٌ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ بِمُوجِبِ هَذَا الْإِحْرَامِ ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِوُجُوبِ الْقَضَاءِ ، كَبَقِيَّةِ الْمَنَاسِكِ ، وَكَجَزَاءِ الصَّيْدِ .

( 2279 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُجَاوِزُ لِلْمِيقَاتِ ، مِمَّنْ لَا يُرِيدُ النُّسُكَ ، فَعَلَى قِسْمَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا ، لَا يُرِيدُ دُخُولَ الْحَرَمِ ، بَلْ يُرِيدُ حَاجَةً فِيمَا سِوَاهُ ، فَهَذَا لَا يَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ بِغَيْرِ خِلَافٍ ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي تَرْكِ الْإِحْرَامِ ، وَقَدْ أَتَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ بَدْرًا مَرَّتَيْنِ ، وَكَانُوا يُسَافِرُونَ لِلْجِهَادِ وَغَيْرِهِ ، فَيَمُرُّونَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ ، فَلَا يُحْرِمُونَ ، وَلَا يَرَوْنَ بِذَلِكَ بَأْسًا .
ثُمَّ مَتَى بَدَا لِهَذَا الْإِحْرَامُ ، وَتُجَدَّدَ لَهُ الْعَزْمُ عَلَيْهِ ، أَحْرَمَ مِنْ مَوْضِعِهِ ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ .
هَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ .
وَبِهِ يَقُولُ مَالِكٌ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَصَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ .
وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ ، عَنْ أَحْمَدَ ، فِي الرَّجُلِ يَخْرُجُ لِحَاجَةٍ ، وَهُوَ لَا يُرِيدُ الْحَجَّ ، فَجَاوَزَ ذَا الْحُلَيْفَةِ ، ثُمَّ أَرَادَ الْحَجَّ ، يَرْجِعُ إلَى ذِي الْحُلَيْفَةِ ، فَيُحْرِمُ .
وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ .
وَلِأَنَّهُ أَحْرَمَ مِنْ دُونِ الْمِيقَاتِ ، فَلَزِمَهُ الدَّمُ ، كَاَلَّذِي يُرِيدُ دُخُولَ الْحَرَمِ .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ .
وَكَلَامُ أَحْمَدَ يُحْمَلُ عَلَى مَنْ يُجَاوِزُ الْمِيقَاتَ مِمَّنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِحْرَامُ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { فَهُنَّ لَهُنَّ ، وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ مِمَّنْ كَانَ يُرِيدُ حَجًّا أَوْ عُمْرَةً } .
وَلِأَنَّهُ حَصَلَ دُونَ الْمِيقَاتِ عَلَى وَجْهٍ مُبَاحٍ .
فَكَانَ لَهُ الْإِحْرَامُ مِنْهُ ، كَأَهْلِ ذَلِكَ الْمَكَانِ .
وَلِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ يُفْضِي إلَى أَنَّ مَنْ كَانَ مَنْزِلُهُ دُونَ الْمِيقَاتِ ، إذَا خَرَجَ إلَى الْمِيقَاتِ ، ثُمَّ عَادَ إلَى مَنْزِلِهِ ، وَأَرَادَ الْإِحْرَامَ ، لَزِمَهُ الْخُرُوجُ إلَى الْمِيقَاتِ ، وَلَا قَائِلَ بِهِ .
وَهُوَ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَمَنْ كَانَ مَنْزِلُهُ دُونَ الْمِيقَاتِ ، فَمُهَلُّهُ مِنْ أَهْلِهِ ) .
الْقِسْمُ الثَّانِي ، مَنْ يُرِيدُ دُخُولَ الْحَرَمِ ، إمَّا إلَى

مَكَّةَ أَوْ غَيْرِهَا ، فَهُمْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ ؛ أَحَدُهَا ، مَنْ يَدْخُلُهَا لِقِتَالٍ مُبَاحٍ ، أَوْ مِنْ خَوْفٍ ، أَوْ لِحَاجَةٍ مُتَكَرِّرَةٍ ، كَالْحَشَّاشِ ، وَالْحَطَّابِ ، وَنَاقِلِ الْمِيرَةِ وَالْفَيْحِ ، وَمَنْ كَانَتْ لَهُ ضَيْعَةٌ يَتَكَرَّرُ دُخُولُهُ وَخُرُوجُهُ إلَيْهَا ، فَهَؤُلَاءِ لَا إحْرَامَ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ يَوْمَ الْفَتْحِ مَكَّةَ حَلَالًا وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ ، وَكَذَلِكَ أَصْحَابُهُ ، وَلَمْ نَعْلَمْ أَحَدًا مِنْهُمْ أَحْرَمَ يَوْمَئِذٍ ، وَلَوْ أَوْجَبْنَا الْإِحْرَامَ عَلَى كُلِّ مَنْ يَتَكَرَّرُ دُخُولُهُ ، أَفْضَى إلَى أَنْ يَكُونَ جَمِيعَ زَمَانِهِ مُحْرِمًا ، فَسَقَطَ لِلْحَرَجِ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَجُوزُ لَأَحَدٍ دُخُولُ الْحَرَمِ بِغَيْرِ إحْرَامٍ ، إلَّا مَنْ كَانَ دُونَ الْمِيقَاتِ ؛ لِأَنَّهُ يُجَاوِزُ الْمِيقَاتَ مُرِيدًا لِلْحَرَمِ ، فَلَمْ يَجُزْ بِغَيْرِ إحْرَامٍ كَغَيْرِهِ .
وَلَنَا ، مَا ذَكَرْنَاهُ ، وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { دَخَلَ يَوْمَ الْفَتْحِ مَكَّةَ وَعَلَى رَأْسِهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ } .
وَقَالَ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَمَتَى أَرَادَ هَذَا النُّسُكَ بَعْدَ مُجَاوَزَةِ الْمِيقَاتِ أَحْرَمَ مِنْ مَوْضِعِهِ كَالْقِسْمِ الَّذِي قَبْلَهُ ، وَفِيهِ مِنْ الْخِلَافِ مَا فِيهِ .
النَّوْعُ الثَّانِي : مَنْ لَا يُكَلَّفُ الْحَجَّ كَالْعَبْدِ ، وَالصَّبِيِّ ، وَالْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ بَعْدَ مُجَاوَزَةِ الْمِيقَاتِ ، أَوْ عَتَقَ الْعَبْدُ ، وَبَلَغَ الصَّبِيُّ ، وَأَرَادُوا الْإِحْرَامَ ، فَإِنَّهُمْ يُحْرِمُونَ مِنْ مَوْضِعِهِمْ ، وَلَا دَمَ عَلَيْهِمْ .
وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ ، وَمَالِكٌ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ فِي الْكَافِرِ يُسْلِمُ ، وَالصَّبِيِّ يَبْلُغُ ، وَقَالُوا فِي الْعَبْدِ : عَلَيْهِ دَمٌ وَقَالَ الشَّافِعِيّ فِي جَمِيعِهِمْ : عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ دَمٌ .
وَعَنْ أَحْمَدَ ، فِي الْكَافِرِ يُسْلِمُ ، كَقَوْلِهِ .
وَيَتَخَرَّجُ فِي الصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ

كَذَلِكَ ، قِيَاسًا عَلَى الْكَافِرِ يُسْلِمُ ؛ لِأَنَّهُمْ تَجَاوَزُوا الْمِيقَاتَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ وَأَحْرَمُوا دُونَهُ ، فَلَزِمَهُمْ الدَّمُ ، كَالْمُسْلِمِ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُمْ أَحْرَمُوا مِنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِمْ الْإِحْرَامُ مِنْهُ ، فَأَشْبَهُوا الْمَكِّيَّ ، وَمَنْ قَرْيَتُهُ دُونَ الْمِيقَاتِ إذَا أَحْرَمَ مِنْهَا ، وَفَارَقَ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِحْرَامُ إذَا تَرَكَهُ ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ .
النَّوْعُ الثَّالِثُ : الْمُكَلَّفُ الَّذِي يَدْخُلُ لِغَيْرِ قِتَالٍ وَلَا حَاجَةٍ مُتَكَرِّرَةٍ ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ تَجَاوُزُ الْمِيقَاتِ غَيْرَ مُحْرِمٍ .
وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا يَجِبُ الْإِحْرَامُ عَلَيْهِ .
وَعَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ دَخَلَهَا بِغَيْرِ إحْرَامٍ .
وَلِأَنَّهُ أَحَدُ الْحَرَمَيْنِ ، فَلَمْ يَلْزَمْ الْإِحْرَامُ لِدُخُولِهِ ، كَحَرَمِ الْمَدِينَةِ ، وَلِأَنَّ الْوُجُوبَ مِنْ الشَّرْعِ ، وَلَمْ يَرِدْ مِنْ الشَّارِعِ إيجَابُ ذَلِكَ عَلَى كُلِّ دَاخِلٍ ، فَبَقِيَ عَلَى الْأَصْلِ .
وَوَجْهُ الْأُولَى أَنَّهُ لَوْ نَذَرَ دُخُولَهَا ، لَزِمَهُ الْإِحْرَامُ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا لَمْ يَجِبْ بِنَذْرِ الدُّخُولِ ، كَسَائِرِ الْبُلْدَانِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَمَتَى أَرَادَ هَذَا الْإِحْرَامَ بَعْدَ تَجَاوُزِ الْمِيقَاتِ ، رَجَعَ فَأَحْرَمَ مِنْهُ ، فَإِنْ أَحْرَمَ مِنْ دُونِهِ ، فَعَلَيْهِ دَمٌ ، كَالْمُرِيدِ لِلنُّسُكِ .

( 2280 ) فَصْلٌ : وَمَنْ دَخَلَ الْحَرَمَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ ، مِمَّنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِحْرَامُ ، فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ .
هَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِحَجَّةٍ أَوْ عُمْرَةٍ ، فَإِنْ أَتَى بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ فِي سَنَتِهِ ، أَوْ مَنْذُورَةٍ ، أَوْ عُمْرَةٍ ، أَجْزَأَهُ عَنْ عُمْرَةِ الدُّخُولِ اسْتِحْسَانًا ؛ لِأَنَّ مُرُورَهُ عَلَى الْمِيقَاتِ مُرِيدًا لِلْحَرَمِ يُوجِبُ الْإِحْرَامَ ، فَإِذَا لَمْ يَأْتِ بِهِ وَجَبَ قَضَاؤُهُ ، كَالْمَنْذُورِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ مَشْرُوعٌ لِتَحِيَّةِ الْبُقْعَةِ ، فَإِذَا لَمْ يَأْتِ بِهِ سَقَطَ ، كَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ .
فَإِنْ قِيلَ : تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ .
قُلْنَا : إلَّا أَنَّ النَّوَافِلَ الْمُرَتَّبَاتِ تُقْضَى ، وَإِنَّمَا سَقَطَ الْقَضَاءُ لِمَا ذَكَرْنَا ، فَأَمَّا إنْ تَجَاوَزَ الْمِيقَاتَ وَرَجَعَ وَلَمْ يَدْخُلْ الْحَرَمَ ، فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ ، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ ، سَوَاءٌ أَرَادَ النُّسُكَ أَوْ لَمْ يُرِدْهُ .

فَصْلٌ : وَمَنْ كَانَ مَنْزِلُهُ دُونَ الْمِيقَاتِ خَارِجًا مِنْ الْحَرَمِ ، فَحُكْمُهُ فِي مُجَاوَزَةِ قَرْيَتِهِ إلَى مَا يَلِي الْحَرَمَ ، حُكْمُ الْمُجَاوِزِ لِلْمِيقَاتِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثِ ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَهُ مِيقَاتُهُ ، فَهُوَ فِي حَقِّهِ كَالْمَوَاقِيتِ الْخَمْسَةِ فِي حَقِّ الْآفَاقِيِّ .

( 2282 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَمَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ غَيْرَ مُحْرِمٍ ، فَخَشِيَ إنْ رَجَعَ إلَى الْمِيقَاتِ فَاتَهُ الْحَجُّ ، أَحْرَمَ مِنْ مَكَانِهِ ، وَعَلَيْهِ دَمٌ ) لَا خِلَافَ فِي أَنَّ مَنْ خَشِيَ فَوَاتَ الْحَجِّ بِرُجُوعِهِ إلَى الْمِيقَاتِ ، أَنَّهُ يُحْرِمُ مِنْ مَوْضِعِهِ ، فِيمَا نَعْلَمُهُ .
إلَّا أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ : مَنْ تَرَكَ الْمِيقَاتَ ، فَلَا حَجَّ لَهُ .
وَمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَوْلَى ؛ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ ، لَمْ يَخْتَلِفْ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ وَالْأَمَاكِنِ ، كَالْوُقُوفِ وَالطَّوَافِ .
وَإِذَا أَحْرَمَ مِنْ دُونِ الْمِيقَاتِ عِنْدَ خَوْفِ الْفَوَاتِ ، فَعَلَيْهِ دَمٌ .
لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا عِنْدَ مَنْ أَوْجَبَ الْإِحْرَامَ مِنْ الْمِيقَاتِ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ تَرَكَ نُسُكًا ، فَعَلَيْهِ دَمٌ } .
وَإِنَّمَا أَبَحْنَا لَهُ الْإِحْرَامَ مِنْ مَوْضِعِهِ ، مُرَاعَاةً لِإِدْرَاكِ الْحَجِّ ، فَإِنَّ مُرَاعَاةَ ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ مُرَاعَاةِ وَاجِبٍ فِيهِ مَعَ فَوَاتِهِ .
وَمَنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الرُّجُوعُ ؛ لِعَدَمِ الرُّفْقَةِ ، أَوْ الْخَوْفِ مِنْ عَدُوٍّ أَوْ لِصٍّ أَوْ مَرَضٍ ، أَوْ لَا يَعْرِفُ الطَّرِيقَ ، وَنَحْوِ هَذَا مِمَّا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ ، فَهُوَ كَخَائِفِ الْفَوَاتِ ، فِي أَنَّهُ يُحْرِمُ مِنْ مَوْضِعِهِ ، وَعَلَيْهِ دَمٌ .

بَابُ ذِكْرِ الْإِحْرَامِ ( 2283 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ : ( وَمَنْ أَرَادَ الْحَجَّ ، وَقَدْ دَخَلَ أَشْهُرُ الْحَجِّ ، فَإِذَا بَلَغَ الْمِيقَاتَ ، فَالِاخْتِيَارُ لَهُ أَنْ يَغْتَسِلَ ) قَوْلُهُ : ( وَقَدْ دَخَلَ أَشْهُرُ الْحَجِّ ) .
يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِهِ ، وَهَذَا هُوَ الْأَوْلَى ، فَإِنَّ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِهِ مَكْرُوهٌ ؛ لِكَوْنِهِ إحْرَامًا بِهِ قَبْلَ وَقْتِهِ ، فَأَشْبَهَ الْإِحْرَامَ بِهِ قَبْلَ مِيقَاتِهِ ، وَلِأَنَّ فِي صِحَّتِهِ اخْتِلَافًا ، فَإِنْ أَحْرَمَ بِهِ قَبْلَ أَشْهُرِهِ صَحَّ ، وَإِذَا بَقِيَ عَلَى إحْرَامِهِ إلَى وَقْتِ الْحَجِّ ، جَازَ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
وَهُوَ قَوْلُ النَّخَعِيِّ ، وَمَالِكٍ .
وَالثَّوْرِيِّ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ ، وَإِسْحَاقَ .
وَقَالَ عَطَاءٌ ، وَطَاوُسٌ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَالشَّافِعِيُّ : يَجْعَلُهُ عُمْرَةً ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } .
تَقْدِيرُهُ وَقْتُ الْحَجِّ أَشْهُرٌ ، أَوْ أَشْهُرُ الْحَجِّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ .
فَحَذَفَ الْمُضَافَ ، وَأَقَامَ الْمُضَافَ إلَيْهِ مَقَامَهُ ، وَمَتَى ثَبَتَ أَنَّهُ وَقْتُهُ ، لَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُ إحْرَامِهِ عَلَيْهِ ، كَأَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ .
وَلَنَا ، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { يَسْأَلُونَك عَنْ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } .
فَدَلَّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْأَشْهُرِ مِيقَاتٌ .
وَلِأَنَّهُ أَحَدُ نُسُكَيْ الْقِرَانِ ، فَجَازَ الْإِحْرَامُ بِهِ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ ، كَالْعُمْرَةِ ، أَوْ أَحَدِ الْمِيقَاتَيْنِ ، فَصَحَّ الْإِحْرَامُ قَبْلَهُ كَمِيقَاتِ الْمَكَانِ ، وَالْآيَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى أَنَّ الْإِحْرَامَ بِهِ إنَّمَا يُسْتَحَبُّ فِيهَا .
وَعَلَى كُلِّ حَالٍ ، فَمَنْ أَرَادَ الْإِحْرَامَ ، اُسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يَغْتَسِلَ قَبْلَهُ ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، مِنْهُمْ طَاوُسٌ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَمَالِكٌ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ؛ لِمَا رَوَى خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، أَنَّهُ { رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَجَرَّدَ

لِإِهْلَالِهِ ، وَاغْتَسَلَ } .
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ .
وَثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَسْمَاءَ بِنْتَ عُمَيْسٍ ، وَهِيَ نُفَسَاءُ ، أَنْ تَغْتَسِلَ عِنْدَ الْإِحْرَامِ .
وَأَمَرَ عَائِشَةَ أَنْ تَغْتَسِلَ عِنْدَ الْإِهْلَالِ بِالْحَجِّ ، وَهِيَ حَائِضٌ .
وَلِأَنَّ هَذِهِ الْعِبَادَةَ يَجْتَمِعُ لَهَا النَّاسُ ، فَسُنَّ لَهَا الِاغْتِسَالُ ، كَالْجُمُعَةِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ وَاجِبًا فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْإِحْرَامَ جَائِزٌ بِغَيْرِ اغْتِسَالٍ ، وَأَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ .
وَحُكِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ : إذَا نَسِيَ الْغُسْلَ ، يَغْتَسِلُ إذَا ذَكَرَ .
وَقَالَ الْأَثْرَمُ : سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قِيلَ لَهُ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ : مَنْ تَرَكَ الْغُسْلَ عِنْدَ الْإِحْرَامِ ، فَعَلَيْهِ دَمٌ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَسْمَاءِ وَهِيَ نُفَسَاءُ : ( اغْتَسِلِي ) فَكَيْفَ الطَّاهِرُ ؟ فَأَظْهَرَ التَّعَجُّبَ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ .
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَغْتَسِلُ أَحْيَانًا ، وَيَتَوَضَّأُ أَحْيَانًا .
وَأَيُّ ذَلِكَ فَعَلَ أَجْزَأَهُ ، وَلَا يَجِبُ الِاغْتِسَالُ ، وَلَا نُقِلَ الْأَمْرُ بِهِ إلَّا لِحَائِضٍ أَوْ نُفَسَاءَ ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَأَمَرَ بِهِ غَيْرَهُمَا ، وَلِأَنَّهُ لِأَمْرٍ مُسْتَقْبَلٍ ، فَأَشْبَهَ غُسْلَ الْجُمُعَةِ .
( 2284 ) فَصْلٌ : فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَاءً ، لَمْ يُسَنَّ لَهُ التَّيَمُّمُ .
وَقَالَ الْقَاضِي : يَتَيَمَّمُ ؛ لِأَنَّهُ غُسْلٌ مَشْرُوعٌ ، فَنَابَ عَنْهُ التَّيَمُّمُ ، كَالْوَاجِبِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ غُسْلٌ مَسْنُونٌ ، فَلَمْ يُسْتَحَبَّ التَّيَمُّمُ عِنْدَ عَدَمِهِ ، كَغُسْلِ الْجُمُعَةِ ، وَمَا ذَكَرَهُ مُنْتَقَضٌ بِغُسْلِ الْجُمُعَةِ وَنَحْوِهِ مِنْ الْأَغْسَالِ الْمَسْنُونَةِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالْمَسْنُونِ ، أَنَّ الْوَاجِبَ يُرَادُ لِإِبَاحَةِ الصَّلَاةِ ، وَالتَّيَمُّمُ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي ذَلِكَ ، وَالْمَسْنُونُ يُرَادُ لِلتَّنْظِيفِ وَقَطْعِ الرَّائِحَةِ ، وَالتَّيَمُّمُ لَا يُحَصِّلُ هَذَا ، بَلْ

يَزِيدُ شُعْثًا وَتَغْيِيرًا ، وَلِذَلِكَ افْتَرَقَا فِي الطَّهَارَةِ الصُّغْرَى ، فَلَمْ يُشْرَعْ تَجْدِيدُ التَّيَمُّمِ ، وَلَا تَكْرَارُ الْمَسْحِ بِهِ .

( 2285 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ التَّنَظُّفُ بِإِزَالَةِ الشُّعْثِ ، وَقَطْعِ الرَّائِحَةِ ، وَنَتْفِ الْإِبِطِ ، وَقَصِّ الشَّارِبِ ، وَقَلْمِ الْأَظْفَارِ ، وَحَلْقِ الْعَانَةِ ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ يُسَنُّ لَهُ الِاغْتِسَالُ وَالطِّيبُ ، فَسُنَّ لَهُ هَذَا كَالْجُمُعَةِ ، وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ يَمْنَعُ قَطْعَ الشَّعْرِ وَقَلْمَ الْأَظْفَارِ ، فَاسْتُحِبَّ فِعْلُهُ قَبْلَهُ ؛ لِئَلَّا يَحْتَاجَ إلَيْهِ فِي إحْرَامِهِ ، فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُ .

( 2286 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَيَلْبَسُ ثَوْبَيْنِ نَظِيفَيْنِ ) يَعْنِي إزَارًا وَرِدَاءً ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { وَلْيُحْرِمْ أَحَدُكُمْ فِي إزَارٍ وَرِدَاءٍ وَنَعْلَيْنِ } .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَثَبَتَ أَيْضًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا لَمْ يَجِدْ إزَارًا ، فَلْيَلْبَسْ السَّرَاوِيلَ ، وَإِذَا لَمْ يَجِدْ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ } .
وَلِأَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ لُبْسِ الْمَخِيطِ فِي شَيْءٍ مِنْ بَدَنِهِ ، يَعْنِي بِذَلِكَ مَا يُخَاطُ عَلَى قَدْرِ الْمَلْبُوسِ عَلَيْهِ ، كَالْقَمِيصِ وَالسَّرَاوِيلِ .
وَلَوْ لَبِسَ إزَارًا مُوَصَّلًا ، أَوْ اتَّشَحَ بِثَوْبٍ مَخِيطٍ ، جَازَ .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَا نَظِيفَيْنِ ؛ إمَّا جَدِيدَيْنِ ، وَإِمَّا غَسِيلَيْنِ ؛ لِأَنَّنَا أَحْبَبْنَا لَهُ التَّنَظُّفَ فِي بَدَنِهِ ، فَكَذَلِكَ فِي ثِيَابِهِ ، كَشَاهِدِ الْجُمُعَةِ ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَا أَبْيَضَيْنِ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { خَيْرُ ثِيَابِكُمْ الْبَيَاضُ ، فَأَلْبِسُوهَا أَحْيَاءَكُمْ ، وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ } .

( 2287 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَيَتَطَيَّبُ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ أَرَادَ الْإِحْرَامَ أَنْ يَتَطَيَّبَ فِي بَدَنِهِ خَاصَّةً ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا يَبْقَى عَيْنُهُ كَالْمِسْكِ وَالْغَالِيَةِ ، أَوْ أَثَرُهُ كَالْعُودِ وَالْبَخُورِ وَمَاءِ الْوَرْدِ .
هَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ ، وَسَعْدِ بْن أَبِي وَقَّاصٍ ، وَعَائِشَةَ ، وَأُمِّ حَبِيبَةَ ، وَمُعَاوِيَةَ .
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، وَعُرْوَةَ ، وَالْقَاسِمِ ، وَالشَّعْبِيِّ ، وَابْنِ جُرَيْجٍ .
وَكَانَ عَطَاءٌ يَكْرَهُ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ ، وَعُثْمَانَ ، وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
وَاحْتَجَّ مَالِكٌ بِمَا رَوَى يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ ، أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، { كَيْفَ تَرَى فِي رَجُلٍ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ ، وَهُوَ مُتَضَمِّخٌ بِطِيبٍ ؟ فَسَكَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
يَعْنِي سَاعَةً .
ثُمَّ قَالَ : اغْسِلْ الطِّيبَ الَّذِي بِك ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَانْزِعْ عَنْك الْجُبَّةَ ، وَاصْنَعْ فِي عُمْرَتِك مَا تَصْنَعُ فِي حَجَّتِك } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَلِأَنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ ابْتِدَائِهِ ، فَمُنِعَ اسْتَدَامَتْهُ كَاللُّبْسِ .
وَلَنَا ، قَوْلُ عَائِشَةَ : { كُنْت أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ ، وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ .
قَالَتْ : وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إلَى وَبِيصِ الطِّيبِ فِي مَفَارِقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ : { طَيَّبْته بِأَطْيَبِ الطِّيبِ .
وَقَالَتْ بِطِيبٍ فِيهِ مِسْكٌ } .
وَفِي لَفْظٍ لِلنَّسَائِيِّ : { كَأَنِّي أَنْظُرُ إلَى وَبِيصِ طِيبِ الْمِسْكِ فِي مَفْرِقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
} وَحَدِيثُهُمْ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ : عَلَيْهِ جُبَّةٌ بِهَا أَثَرُ خَلُوقٍ .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَفِي بَعْضِهَا : وَهُوَ مُتَضَمِّخٌ بِالْخَلُوقِ .
وَفِي بَعْضِهَا : عَلَيْهِ

دِرْعٌ مِنْ زَعْفَرَانٍ .
وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ طِيبَ الرَّجُلِ كَانَ مِنْ الزَّعْفَرَانِ ، وَهُوَ مَنْهِيُّ عَنْهُ لِلرِّجَالِ فِي غَيْرِ الْإِحْرَامِ ، فَفِيهِ أَوْلَى .
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى أَنْ يَتَزَعْفَرَ الرَّجُلُ } .
وَلِأَنَّ حَدِيثَهُمْ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ ، وَحَدِيثُنَا فِي سَنَةِ عَشْرٍ .
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ : كَانَ شَأْنُ صَاحِبِ الْجُبَّةِ قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : لَا خِلَافَ بَيْنَ جَمَاعَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالسِّيَرِ وَالْآثَارِ ، أَنَّ قِصَّةَ صَاحِبِ الْجُبَّةِ كَانَتْ عَامَ حُنَيْنٍ ، بِالْجِعْرَانَةِ سَنَةَ ثَمَانٍ ، وَحَدِيثَ عَائِشَةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ سَنَةَ عَشْرٍ ، فَعِنْدَ ذَلِكَ إنْ قُدِّرَ التَّعَارُضُ ، فَحَدِيثُنَا نَاسِخٌ لِحَدِيثِهِمْ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْتَشِرِ ، قَالَ : سَمِعْت ابْنَ عُمَرَ يَنْهَى عَنْ الطِّيبِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ ، فَقَالَ : لَأَنْ أُطْلَى بِالْقَطِرَانِ أَحَبُّ إلَى مِنْ ذَلِكَ .
قُلْنَا تَمَامُ الْحَدِيثِ ، قَالَ : فَذَكَرْت ذَلِكَ لِعَائِشَةَ ، فَقَالَتْ : يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، قَدْ { كُنْت أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَطُوفُ فِي نِسَائِهِ ، ثُمَّ يُصْبِحُ يَنْضَحُ طِيبًا } .
فَإِذَا صَارَ الْخَبَرُ حُجَّةً عَلَى مَنْ احْتَجَّ بِهِ ، فَإِنَّ فِعْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُجَّةٌ عَلَى ابْنِ عُمِرَ وَغَيْرِهِ ، وَقِيَاسُهُمْ يَبْطُلُ بِالنِّكَاحِ ، فَإِنَّهُ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَهُ دُونَ اسْتِدَامَتِهِ .

( 2288 ) فَصْلٌ : وَإِنْ طَيَّبَ ثَوْبَهُ ، فَلَهُ اسْتِدَامَةُ لُبْسِهِ ، مَا لَمْ يَنْزِعْهُ ، فَإِنْ نَزَعَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَلْبَسَهُ ، فَإِنْ لَبِسَهُ افْتَدَى ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الطِّيبِ ، وَلُبْسُ الْمُطَيَّبِ دُونَ الِاسْتِدَامَةِ ، وَكَذَلِكَ إنْ نَقَلَ الطِّيبَ مِنْ مَوْضِعٍ مِنْ بَدَنِهِ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ ، افْتَدَى ؛ لِأَنَّهُ تَطَيَّبَ فِي إحْرَامِهِ ، وَكَذَا إنْ تَعَمَّدَ مَسَّهُ بِيَدِهِ ، أَوْ نَحَّاهُ مِنْ مَوْضِعِهِ ، ثُمَّ رَدَّهُ إلَيْهِ ، فَأَمَّا إنْ عَرِقَ الطِّيبُ ، أَوْ ذَابَ بِالشَّمْسِ ، فَسَالَ مِنْ مَوْضِعِهِ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِ ، فَجَرَى مَجْرَى النَّاسِي .
قَالَتْ عَائِشَةُ : { كُنَّا نَخْرُجُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى مَكَّةَ فَنُضَمِّدُ جِبَاهَنَا بِالْمِسْكِ الْمُطَيِّبِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ ، فَإِذَا عَرِقَتْ إحْدَانَا سَالَ عَلَى وَجْهِهَا ، فَيَرَاهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَنْهَاهَا } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .

( 2289 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( فَإِنْ حَضَرَ وَقْتُ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ ، وَإِلَّا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ) الْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُحْرِمَ عَقِيبَ الصَّلَاةِ ، فَإِنْ حَضَرَتْ صَلَاةٌ مَكْتُوبَةٌ ، أَحْرَمَ عَقِيبَهَا ، وَإِلَّا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ تَطَوُّعًا وَأَحْرَمَ عَقِيبَهُمَا .
اسْتَحَبَّ ذَلِكَ عَطَاءٌ ، وَطَاوُسٌ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْإِحْرَامَ عَقِيبَ الصَّلَاةِ ، وَإِذَا اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ ، وَإِذَا بَدَأَ بِالسَّيْرِ ، سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طُرُقٍ صَحِيحَةٍ ، قَالَ الْأَثْرَمُ : سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ، أَيُّمَا أَحَبُّ إلَيْك : الْإِحْرَامُ فِي دُبُرِ الصَّلَاةِ ، أَوْ إذَا اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ ؟ فَقَالَ : كُلُّ ذَلِكَ قَدْ جَاءَ ، فِي دُبُرِ الصَّلَاةِ ، وَإِذَا عَلَا الْبَيْدَاءَ ، وَإِذَا اسْتَوَتْ بِهِ نَاقَتُهُ ، فَوَسَّعَ فِي ذَلِكَ .
كُلِّهِ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : { رَكِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاحِلَتَهُ ، حَتَّى اسْتَوَتْ عَلَى الْبَيْدَاءِ أَهَلَّ هُوَ وَأَصْحَابُهُ } ، وَقَالَ أَنَسٌ : { لَمَّا رَكِبَ رَاحِلَتَهُ ، وَاسْتَوَتْ بِهِ ، أَهَلَّ .
} وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : { أَهَلَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ قَائِمَةً } .
رَوَاهُنَّ الْبُخَارِيُّ ، وَالْأَوْلَى الْإِحْرَامُ عَقِيبَ الصَّلَاةِ ، لِمَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ قَالَ : ذَكَرْت لِابْنِ عَبَّاسٍ إهْلَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : { أَوْجَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِحْرَامَ حِينَ فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ ، ثُمَّ خَرَجَ ، فَلَمَّا رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاحِلَتَهُ ، وَاسْتَوَتْ بِهِ قَائِمَةً ، أَهَلَّ ، فَأَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْهُ قَوْمٌ ، فَقَالُوا : أَهَلَّ حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ الرَّاحِلَةُ ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمْ يُدْرِكُوا إلَّا

ذَلِكَ ، ثُمَّ سَارَ حَتَّى عَلَا الْبَيْدَاءَ ، فَأَهَلَّ ، فَأَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْهُ قَوْمٌ ، فَقَالُوا : أَهَلَّ حِينَ عَلَا الْبَيْدَاءَ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالْأَثْرَمُ .
وَهَذَا لَفْظُ الْأَثْرَمِ .
وَهَذَا فِيهِ بَيَانٌ وَزِيَادَةُ عِلْمٍ ، فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُ الْأَمْرِ عَلَيْهِ ، وَلَوْ لَمْ يَقُلْهُ ابْنُ عَبَّاسٍ لَتَعَيَّنَ حَمْلُ الْأَمْرِ عَلَيْهِ ، جَمْعًا بَيْنَ الْأَخْبَارِ الْمُخْتَلِفَةِ ، وَهَذَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْبَابِ ، فَكَيْفَمَا أَحْرَمَ جَازَ ، لَا نَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَ فِي ذَلِكَ .

( 2290 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( فَإِنْ أَرَادَ التَّمَتُّعَ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ، فَيَقُولُ : اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيدُ الْعُمْرَةَ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْإِحْرَامَ يَقَعُ بِالنُّسُكِ مِنْ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ ؛ تَمَتُّعٍ ، وَإِفْرَادٍ ، وَقِرَانٍ .
فَالتَّمَتُّعُ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ مُفْرَدَةٍ مِنْ الْمِيقَاتِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْهَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنْ عَامِهِ .
وَالْإِفْرَادُ أَنْ يُهِلَّ بِالْحَجِّ مُفْرَدًا .
وَالْقِرَانُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الْإِحْرَامِ بِهِمَا ، أَوْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ ، ثُمَّ يُدْخِلَ عَلَيْهَا الْحَجَّ قَبْلَ الطَّوَافِ .
فَأَيُّ ذَلِكَ أَحْرَمَ بِهِ جَازَ .
قَالَتْ عَائِشَةُ : { خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
فَهَذَا هُوَ التَّمَتُّعُ وَالْإِفْرَادُ وَالْقِرَانُ .
وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى جَوَازِ الْإِحْرَامِ بِأَيِّ الْأَنْسَاكِ الثَّلَاثَةِ شَاءَ ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَفْضَلِهَا ، فَاخْتَارَ إمَامُنَا التَّمَتُّعَ ، ثُمَّ الْإِفْرَادَ ، ثُمَّ الْقِرَانَ .
وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ اخْتِيَارُ التَّمَتُّعِ ابْنُ عُمَرَ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ ، وَعَائِشَةُ ، وَالْحَسَنُ ، وَعَطَاءٌ ، وَطَاوُسٌ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ ، وَالْقَاسِمُ وَسَالِمٌ وَعِكْرِمَةُ .
وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ .
وَرَوَى الْمَرُّوذِيُّ عَنْ أَحْمَدَ : إنْ سَاقَ الْهَدْيَ ، فَالْقِرَانُ أَفْضَلُ ، وَإِنْ لَمْ يَسُقْهُ فَالتَّمَتُّعُ أَفْضَلُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَنَ حِينَ سَاقَ الْهَدْيَ وَمَنَعَ كُلَّ مِنْ سَاقَ الْهَدْيَ مِنْ الْحِلِّ حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيَهُ .
وَذَهَبَ الثَّوْرِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ إلَى اخْتِيَارِ الْقِرَانِ ؛ لِمَا رَوَى أَنَسٌ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَهَلَّ بِهِمَا جَمِيعًا : لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا ، لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَحَدِيثُ الصُّبَيّ بْنِ

مَعْبَدٍ ، حِينَ لَبَّى بِهِمَا ، ثُمَّ أَتَى عُمَرَ فَسَأَلَهُ فَقَالَ { : هُدِيت لِسُنَّةِ نَبِيِّك صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
} وَرُوِيَ عَنْ مَرْوَان بْن الْحَكَمِ ، قَالَ : كُنْت جَالِسًا عِنْدَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ ، فَسَمِعَ عَلِيًّا يُلَبِّي بِعُمْرَةٍ وَحَجٍّ ، فَأَرْسَلَ إلَيْهِ ، فَقَالَ : أَلَمْ نَكُنْ نُهِينَا عَنْ هَذَا ؟ قَالَ : بَلَى ، وَلَكِنْ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يُلَبِّي بِهِمَا جَمِيعًا ، فَلَمْ أَكُنْ أَدَعُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِك } .
رَوَاهُ سَعِيدٌ .
وَلِأَنَّ الْقِرَانَ مُبَادَرَةٌ إلَى فِعْلِ الْعِبَادَةِ ، وَإِحْرَامٌ بِالنُّسُكَيْنِ مِنْ الْمِيقَاتِ ، وَفِيهِ زِيَادَةُ نُسُكٍ هُوَ الدَّمُ ، فَكَانَ أَوْلَى .
وَذَهَبَ مَالِكٌ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، إلَى اخْتِيَارِ الْإِفْرَادِ .
وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ ، وَعُثْمَانَ ، وَابْنِ عُمَرَ ، وَجَابِرٍ ، وَعَائِشَةَ ، لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ ، وَجَابِرٌ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْرَدَ الْحَجَّ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا .
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُ ذَلِكَ .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا .
وَلِأَنَّهُ يَأْتِي بِالْحَجِّ تَامًّا مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إلَى جَبْرٍ ، فَكَانَ أَوْلَى .
قَالَ عُثْمَانُ : أَلَا إنَّ الْحَجَّ التَّامَّ مِنْ أَهْلِيكُمْ ، وَالْعُمْرَةَ التَّامَّةَ مِنْ أَهْلِيكُمْ .
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ : إنَّ أَبَا بَكْرٍ ، وَعُمَرَ ، وَابْنَ مَسْعُودٍ ، وَعَائِشَةَ ، كَانُوا يُجَرِّدُونَ الْحَجَّ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَجَابِرٌ ، وَأَبُو مُوسَى ، وَعَائِشَةُ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ لَمَّا طَافُوا بِالْبَيْتِ ، أَنْ يَحِلُّوا ، وَيَجْعَلُوهَا عُمْرَةً } .
فَنَقَلَهُمْ مِنْ الْإِفْرَادِ وَالْقِرَانِ إلَى الْمُتْعَةِ ، وَلَا يَنْقُلُهُمْ إلَّا إلَى الْأَفْضَلِ .
وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا وَلَمْ يَخْتَلِفْ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ ، أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَحِلُّوا ، إلَّا مَنْ سَاقَ

هَدْيًا ، وَثَبَتَ عَلَى إحْرَامِهِ ، وَقَالَ : { لَوْ اسْتَقْبَلْت مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْت ، مَا سُقْت الْهَدْيَ ، وَلَجَعَلْتهَا عُمْرَةً } .
قَالَ جَابِرٌ : حَجَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ سَاقَ الْبُدْنَ مَعَهُ ، وَقَدْ أَهَلُّوا بِالْحَجِّ مُفْرَدًا ، فَقَالَ لَهُمْ : { أَحِلُّوا مِنْ إحْرَامِكُمْ ، بِطَوَافٍ بِالْبَيْتِ ، وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، ثُمَّ أَقِيمُوا حَلَالًا ، حَتَّى إذَا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ ، فَأَهَلُّوا بِالْحَجِّ ، وَاجْعَلُوا الَّتِي قَدِمْتُمْ بِهَا مُتْعَةً .
فَقَالُوا : كَيْفَ نَجْعَلُهَا مُتْعَةً وَقَدْ سَمَّيْنَا الْحَجَّ ؟ فَقَالَ : افْعَلُوا مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ ، فَلَوْلَا أَنِّي سُقْت الْهَدْيَ ، لَفَعَلْت مِثْلَ الَّذِي أَمَرْتُكُمْ بِهِ } .
وَفِي لَفْظٍ : فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : { قَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي أَتْقَاكُمْ لِلَّهِ ، وَأَصْدَقُكُمْ ، وَأَبَرُّكُمْ ، وَلَوْلَا هَدْيِي لَحَلَلْت كَمَا تَحِلُّونَ ، وَلَوْ اسْتَقْبَلْت مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْت ، مَا أَهْدَيْت .
فَحَلَلْنَا ، وَسَمِعْنَا ، وَأَطَعْنَا } ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا فَنَقَلَهُمْ إلَى التَّمَتُّعِ ، وَتَأَسَّفَ إذْ لَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ ، فَدَلَّ عَلَى فَضْلِهِ .
وَلِأَنَّ التَّمَتُّعَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ : { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ } دُونَ سَائِرِ الْأَنْسَاكِ .
وَلِأَنَّ الْمُتَمَتِّعَ يَجْتَمِعُ لَهُ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مَعَ كَمَالِهِمَا ، وَكَمَالِ أَفْعَالِهِمَا عَلَى وَجْهِ الْيُسْرِ وَالسُّهُولَةِ ، مَعَ زِيَادَةِ نُسُكٍ ، فَكَانَ ذَلِكَ أُولَى ، فَأَمَّا الْقِرَانُ فَإِنَّمَا يُؤْتَى فِيهِ بِأَفْعَالِ الْحَجِّ ، وَتَدْخُلُ أَفْعَالُ الْعُمْرَةِ فِيهِ ، وَالْمُفْرِدُ فَإِنَّمَا يَأْتِي بِالْحَجِّ وَحْدَهُ ، وَإِنْ اعْتَمَرَ بَعْدَهُ مِنْ التَّنْعِيمِ ، فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي إجْزَائِهَا عَنْ عُمْرَةِ الْإِسْلَامِ ، وَكَذَلِكَ اُخْتُلِفَ فِي إجْزَاءِ عُمْرَةِ الْقِرَانِ ، وَلَا خِلَافَ فِي إجْزَاءِ التَّمَتُّعِ عَنْ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ جَمِيعًا ، فَكَانَ أَوْلَى .

فَأَمَّا حُجَّتُهُمْ ، فَإِنَّمَا احْتَجُّوا بِفِعْلِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْجَوَابُ عَنْهَا مِنْ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ ، أَنَّا نَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحْرِمًا بِغَيْرِ التَّمَتُّعِ ، وَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِأَحَادِيثِهِمْ لَأُمُورٍ ؛ أَحَدُهَا ، أَنَّ رُوَاةَ أَحَادِيثِهِمْ قَدْ رَوَوْا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ ، رَوَى ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ ، وَجَابِرٌ ، وَعَائِشَةُ ، مِنْ طُرُقٍ صِحَاحٍ ، فَسَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِهَا .
الثَّانِي ، أَنَّ رِوَايَتَهُمْ اخْتَلَفَتْ ، فَرَوَوْا مَرَّةً أَنَّهُ أَفْرَدَ ، وَمَرَّةً أَنَّهُ تَمَتَّعَ ، وَمَرَّةً أَنَّهُ قَرَنَ ، وَالْقَضِيَّةُ وَاحِدَةٌ ، وَلَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهَا ، فَيَجِبُ اطِّرَاحُهَا كُلِّهَا ، وَأَحَادِيثُ الْقِرَانِ أَصَحُّهَا حَدِيثُ أَنَسٍ ، وَقَدْ أَنْكَرَهُ ابْنُ عُمَرَ ، فَقَالَ : يَرْحَمُ اللَّهُ أَنَسًا ، ذَهِلَ أَنَسٌ .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَفِي رِوَايَةٍ : كَانَ أَنَسٌ يَتَوَلَّجُ عَلَى النِّسَاءِ .
يَعْنِي أَنَّهُ كَانَ صَغِيرًا .
وَحَدِيثُ عَلِيٍّ رَوَاهُ حَفْصُ بْنُ أَبِي دَاوُد ، وَهُوَ ضَعِيفٌ ، عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى ، وَهُوَ كَثِيرُ الْوَهْمِ .
قَالَهُ الدَّارَقُطْنِيّ .
الثَّالِثُ ، أَنَّ أَكْثَرَ الرِّوَايَاتِ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُتَمَتِّعًا .
رَوَى ذَلِكَ عُمَرُ ، وَعَلِيٌّ ، وَعُثْمَانُ ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَابْنُ عُمَرَ ، وَمُعَاوِيَةُ ، وَأَبُو مُوسَى ، وَجَابِرٌ ، وَعَائِشَةُ ، وَحَفْصَةُ ، بِأَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ ، وَإِنَّمَا مَنَعَهُ مِنْ الْحِلِّ الْهَدْيُ الَّذِي كَانَ مَعَهُ ، فَفِي حَدِيثِ عُمَرَ ، أَنَّهُ قَالَ { : إنِّي لَا أَنْهَاكُمْ عَنْ الْمُتْعَةِ ، وَإِنَّهَا لَفِي كِتَابِ اللَّهِ ، وَلَقَدْ صَنَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
} يَعْنِي الْعُمْرَةَ فِي الْحَجِّ .
وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ ، أَنَّهُ اخْتَلَفَ هُوَ وَعُثْمَانُ فِي الْمُتْعَةِ بِعُسْفَانَ ، فَقَالَ عَلِيٌّ : { مَا تُرِيدُ إلَى أَمْرٍ فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى

اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنْهَى عَنْهُ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَلِلنَّسَائِيِّ ، وَقَالَ عَلِيٌّ لِعُثْمَانَ : { أَلَمْ تَسْمَعْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَمَتَّعَ ؟ قَالَ : بَلَى } .
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ ، قَالَ : { تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ } .
وَعَنْهُ أَنَّ حَفْصَةَ قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا وَلَمْ تَحْلِلْ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِك ؟ فَقَالَ : إنِّي لَبَّدْت رَأْسِي ، وَقَلَّدْت هَدْيِي ، فَلَا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا .
وَقَالَ سَعْدٌ : صَنَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَنَعْنَاهَا مَعَهُ .
وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ رَاجِحَةٌ ؛ لِأَنَّ رُوَاتَهَا أَكْثَرُ وَأَعْلَمُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ بِالْمُتْعَةِ عَنْ نَفْسِهِ ، فِي حَدِيثِ حَفْصَةَ ، فَلَا تُعَارَضُ بِظَنِّ غَيْرِهِ .
وَلِأَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ مُتَمَتِّعَةً بِغَيْرِ خِلَافٍ ، وَهِيَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا تُحْرِمُ إلَّا بِأَمْرِهِ ، وَلَمْ يَكُنْ لِيَأْمُرَهَا بِأَمْرٍ ، ثُمَّ يُخَالِفُ إلَى غَيْرِهِ .
وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ ، بِأَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ ، ثُمَّ لَمْ يَحِلَّ مِنْهَا لِأَجْلِ هَدْيِهِ ، حَتَّى أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ، فَصَارَ قَارِنًا ، وَسَمَّاهُ مَنْ سَمَّاهُ مُفْرِدًا ؛ لِأَنَّهُ اشْتَغَلَ بِأَفْعَالِ الْحَجِّ وَحْدَهَا ، بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ ، فَإِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ مَهْمَا أَمْكَنَ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهَا عَلَى التَّعَارُضِ .
الْوَجْهُ الثَّانِي فِي الْجَوَابِ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالِانْتِقَالِ إلَى الْمُتْعَةِ عَنْ الْإِفْرَادِ وَالْقِرَانِ ، وَلَا يَأْمُرُهُمْ إلَّا بِالِانْتِقَالِ إلَى الْأَفْضَلِ ، فَإِنَّهُ مِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَنْقُلَهُمْ مِنْ الْأَفْضَلِ إلَى

الْأَدْنَى ، وَهُوَ الدَّاعِي إلَى الْخَيْرِ ، الْهَادِي إلَى الْفَضْلِ ، ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ بِتَأَسُّفِهِ عَلَى فَوَاتِ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ ، وَأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى انْتِقَالِهِ وَحِلِّهِ ، لِسَوْقِهِ الْهَدْيَ ، وَهَذَا ظَاهِرُ الدَّلَالَةِ .
الثَّالِثُ ، أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ يَحْتَجُّونَ بِفِعْلِهِ ، وَعِنْدَ التَّعَارُضِ يَجِبُ تَقْدِيمُ الْقَوْلِ ، لِاحْتِمَالِ اخْتِصَاصِهِ بِفِعْلِهِ دُونَ غَيْرِهِ ، كَنَهْيِهِ عَنْ الْوِصَالِ مَعَ فِعْلِهِ لَهُ ، وَنِكَاحِهِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ ، مَعَ قَوْلِهِ : { لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ } .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ أَبُو ذَرٍّ : كَانَتْ مُتْعَةُ الْحَجِّ لِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
قُلْنَا : هَذَا قَوْلُ صَحَابِيٍّ ، يُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالْإِجْمَاعَ وَقَوْلَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ وَأَعْلَمُ ؛ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ } وَهَذَا عَامٌّ .
وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى إبَاحَةِ التَّمَتُّعِ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي فَضْلِهِ ، وَأَمَّا السُّنَّةُ فَرَوَى سَعِيدٌ ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ ، أَنْبَأْنَا حَجَّاجٌ ، عَنْ عَطَاءٍ ، عَنْ جَابِرٍ ، { أَنَّ سُرَاقَةَ بْنَ مَالِكٍ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، الْمُتْعَةُ لَنَا خَاصَّةً ، أَوْ هِيَ لِلْأَبَدِ ؟ فَقَالَ : بَلْ هِيَ لِلْأَبَدِ } .
وَفِي لَفْظٍ قَالَ : { أَلِعَامِنَا أَوْ لِلْأَبَدِ ؟ قَالَ : بَلْ لِأَبَدِ الْأَبَدِ ، دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } .
وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صِفَةِ حَجِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوُ هَذَا ، وَمَعْنَاهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ، أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا لَا يُجِيزُونَ التَّمَتُّعَ ، وَيَرَوْنَ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ ، فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ شَرَعَ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ،

وَجَوَّزَ الْمُتْعَةَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ .
وَقَالَ طَاوُسٌ : كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَرَوْنَ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ أَفْجَرَ الْفُجُورِ ، وَيَقُولُونَ : إذَا انْفَسَخَ صَفَرْ ، وَبَرَا الدَّبَرْ ، وَعَفَا الْأَثَرُ ، حَلَّتْ الْعُمْرَةُ لِمَنْ اعْتَمَرْ .
فَلَمَّا كَانَ الْإِسْلَامُ أُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَعْتَمِرُوا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ، فَدَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ .
رَوَاهُ سَعِيدٌ .
وَقَدْ خَالَفَ أَبَا ذَرٍّ عَلِيٌّ ، وَسَعْدٌ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَابْنُ عُمَرَ ، وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ ، وَسَائِرُ الصَّحَابَةِ ، وَسَائِرُ الْمُسْلِمِينَ ، قَالَ عِمْرَانُ : { تَمَتَّعْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَزَلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ، وَلَمْ يَنْهَنَا عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَنْسَخْهَا شَيْءٌ } ، فَقَالَ فِيهَا رَجُلٌ بِرَأْيِهِ مَا شَاءَ .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَقَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ : { فَعَلْنَاهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْنِي الْمُتْعَةَ } - وَهَذَا يَوْمَئِذٍ كَافِرٌ بِالْعَرْشِ .
يَعْنِي الَّذِي نَهَى عَنْهَا ، وَالْعَرْشُ : بُيُوتُ مَكَّةَ .
وَقَالَ أَحْمَدُ ، حِينَ ذُكِرَ لَهُ حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ : أَفَيَقُولُ بِهَذَا أَحَدٌ ، الْمُتْعَةُ فِي كِتَابِ اللَّهِ ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِهَا .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، { أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى عُمَرَ ، فَشَهِدَ عِنْدَهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى عَنْ الْعُمْرَةِ قَبْلَ الْحَجِّ } .
قُلْنَا : هَذَا حَالُهُ فِي مُخَالَفَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ ، كَحَالِ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ ، بَلْ هُوَ أَدْنَى حَالًا ، فَإِنَّ فِي إسْنَادِهِ مَقَالًا .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ نَهَى عَنْهَا عُمَرُ ، وَعُثْمَانُ ، وَمُعَاوِيَةُ .
قُلْنَا : فَقَدْ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ عُلَمَاءُ الصَّحَابَةِ نَهْيَهُمْ عَنْهَا ، وَخَالَفُوهُمْ فِي فِعْلِهَا ، وَالْحَقُّ

مَعَ الْمُنْكِرِينَ عَلَيْهِمْ دُونَهُمْ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا إنْكَارَ عَلِيٍّ عَلَى عُثْمَانَ ، وَاعْتِرَافَ عُثْمَانَ لَهُ ، وَقَوْلَ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ مُنْكِرًا لِنَهْيِ مَنْ نَهَى ، وَقَوْلَ سَعْدٍ عَائِبًا عَلَى مُعَاوِيَةَ نَهْيَهُ عَنْهَا ، وَرَدِّهِمْ عَلَيْهِمْ بِحُجَجٍ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَوَابٌ عَنْهَا ، بَلْ قَدْ ذَكَرَ بَعْضُ مَنْ نَهَى عَنْهَا فِي كَلَامِهِ ، مَا يَرُدُّ نَهْيَهُ ، فَقَالَ عُمَرُ : وَاَللَّهِ إنِّي لِأَنْهَاكُمْ عَنْهَا ، وَإِنَّهَا لَفِي كِتَابِ اللَّهِ ، وَقَدْ صَنَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ مَنْ خَالَفَ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ ، وَنَهَى عَمَّا فِيهِمَا ، حَقِيقٌ بِأَنْ لَا يُقْبَلَ نَهْيُهُ ، وَلَا يُحْتَجَّ بِهِ ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ سُئِلَ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، أَنَهَى عُمَرُ عَنْ الْمُتْعَةِ ؟ قَالَ : لَا ، وَاَللَّهِ مَا نَهَى عَنْهَا عُمَرُ ، وَلَكِنْ قَدْ نَهَى عُثْمَانُ .
وَسُئِلَ ابْنُ عُمَرَ عَنْ مُتْعَةِ الْحَجِّ ، فَأَمَرَ بِهَا ، فَقِيلَ : إنَّك تُخَالِفُ أَبَاك .
قَالَ : إنَّ عُمَرَ لَمْ يَقُلْ الَّذِي يَقُولُونَ .
وَلَمَّا نَهَى مُعَاوِيَةُ عَنْ الْمُتْعَةِ ، أَمَرَتْ عَائِشَةُ حَشَمَهَا وَمَوَالِيَهَا أَنْ يُهِلُّوا بِهَا ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ : مَنْ هَؤُلَاءِ ؟ فَقِيلَ : حَشَمُ أَوْ مَوَالِي عَائِشَةَ .
فَأَرْسَلَ إلَيْهَا : مَا حَمَلَك عَلَى ذَلِكَ ؟ قَالَتْ : أَحْبَبْت أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الَّذِي قُلْت لَيْسَ كَمَا قُلْت .
وَقِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ : إنَّ فُلَانًا يَنْهَى عَنْ الْمُتْعَةِ .
قَالَ : اُنْظُرُوا فِي كِتَابِ اللَّهِ ، فَإِنْ وَجَدْتُمُوهَا فِيهِ ، فَقَدْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى رَسُولِهِ ، وَإِنْ لَمْ تَجِدُوهَا فَقَدْ صَدَقَ .
فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالِاتِّبَاعِ ، وَأَوْلَى بِالصَّوَابِ ، الَّذِينَ مَعَهُمْ كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ ، أَمْ الَّذِينَ خَالَفُوهُمَا ؟ ثُمَّ قَدْ ثَبَتَتْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي قَوْلُهُ حُجَّةٌ عَلَى الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ ، فَكَيْفَ يُعَارَضُ بِقَوْلِ غَيْرِهِ ؟ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : قَالَ : {

تَمَتَّعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } فَقَالَ عُرْوَةُ : نَهَى أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ عَنْ الْمُتْعَةِ .
فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : أَرَاهُمْ سَيَهْلَكُونَ ، أَقُولُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَقُولُونَ نَهَى عَنْهَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ .
وَسُئِلَ ابْنُ عُمَرَ عَنْ مُتْعَةِ الْحَجِّ ، فَأَمَرَ بِهَا ، فَقَالَ : إنَّك تُخَالِفُ أَبَاك ، فَقَالَ : عُمَرُ لَمْ يَقُلْ الَّذِي يَقُولُونَ .
فَلَمَّا أَكْثَرُوا عَلَيْهِ ، قَالَ : أَفَكِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ تَتَّبِعُوا أَمْ عُمَرُ ؟ .
رَوَى الْأَثْرَمُ هَذَا كُلَّهُ .

( 2291 ) فَصْلٌ : فَمَنْ أَرَادَ الْإِحْرَامَ بِعُمْرَةٍ ، فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ : اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيدُ الْعُمْرَةَ فَيَسِّرْهَا لِي ، وَتَقَبَّلْهَا مِنِّي ، وَمَحِلِّي حَيْثُ تَحْبِسُنِي .
فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْإِنْسَانِ النُّطْقُ بِمَا أَحْرَمَ بِهِ ، لِيَزُولَ الِالْتِبَاسُ ، فَإِنْ لَمْ يَنْطِقْ بِشَيْءٍ ، وَاقْتَصَرَ عَلَى مُجَرَّدِ النِّيَّةِ ، كَفَاهُ ، فِي قَوْلِ إمَامِنَا ، وَمَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَنْعَقِدُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ ، حَتَّى تَنْضَافَ إلَيْهَا التَّلْبِيَةُ ، أَوْ سَوْقُ الْهَدْيِ ؛ لِمَا رَوَى خَلَّادُ بْنُ السَّائِبِ الْأَنْصَارِيُّ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { جَاءَنِي جِبْرِيلُ ، فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ ، مُرْ أَصْحَابَك أَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ } .
رَوَاهُ النَّسَائِيّ ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ : هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ ذَاتُ تَحْرِيمٍ وَتَحْلِيلٍ ، فَكَانَ لَهَا نُطْقٌ وَاجِبٌ كَالصَّلَاةِ ، وَلِأَنَّ الْهَدْيَ وَالْأُضْحِيَّةَ لَا يَجِبَانِ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ كَذَلِكَ النُّسُكُ .
وَلَنَا ، أَنَّهَا عِبَادَةٌ لَيْسَ فِي آخِرِهَا نُطْقٌ وَاجِبٌ ، فَلَمْ يَكُنْ فِي أَوَّلِهَا ، كَالصِّيَامِ ، وَالْخَبَرُ الْمُرَادُ بِهِ الِاسْتِحْبَابُ ، فَإِنَّ مَنْطُوقَهُ رَفْعُ الصَّوْتِ ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ ، فَمَا هُوَ مِنْ ضَرُورَتِهِ أَوْلَى ، وَلَوْ وَجَبَ النُّطْقُ ، لَمْ يَلْزَمْ كَوْنُهُ شَرْطًا ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ وَاجِبَاتٍ الْحَجِّ غَيْرُ مُشْتَرَطَةٍ فِيهِ ، وَالصَّلَاةُ فِي آخِرِهَا نُطْقٌ وَاجِبٌ ، بِخِلَافِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ .
وَأَمَّا الْهَدْيُ وَالْأُضْحِيَّةُ ، فَإِيجَابُ مَالٍ ، فَأَشْبَهَ النَّذْرَ ، بِخِلَافِ الْحَجِّ ، فَإِنَّهُ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ .
فَعَلَى هَذَا لَوْ نَطَقَ بِغَيْرِ مَا نَوَاهُ ، نَحْوُ أَنْ يَنْوِيَ الْعُمْرَةَ ، فَيَسْبِقَ لِسَانُهُ إلَى الْحَجِّ ، أَوْ بِالْعَكْسِ ، انْعَقَدَ مَا نَوَاهُ دُونَ مَا لَفَظَ بِهِ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، عَلَى هَذَا .
وَذَلِكَ

لِأَنَّ الْوَاجِبَ النِّيَّةُ ، وَعَلَيْهَا الِاعْتِمَادُ ، وَاللَّفْظُ لَا عِبْرَةَ بِهِ ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ ، كَمَا لَا يُؤَثِّرُ اخْتِلَافُ النِّيَّةِ فِيمَا يُعْتَبَرُ لَهُ اللَّفْظُ دُونَ النِّيَّةِ .

( 2292 ) فَصْلٌ : فَإِنْ لَبَّى ، أَوْ سَاقَ الْهَدْيَ ، مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ ، لَمْ يَنْعَقِدْ إحْرَامُهُ ؛ لِأَنَّ مَا اُعْتُبِرَتْ لَهُ النِّيَّةُ لَمْ يَنْعَقِدْ بِدُونِهَا ، كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( 2293 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَيَشْتَرِطُ فَيَقُولُ : إنْ حَبَسَنِي حَابِسٌ فَمَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي .
فَإِنْ حُبِسَ حَلَّ مِنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي حُبِسَ فِيهِ ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ) يُسْتَحَبُّ لِمَنْ أَحْرَمَ بِنُسُكٍ ، أَنْ يَشْتَرِطَ عِنْدَ إحْرَامِهِ ، فَيَقُولَ : إنْ حَبَسَنِي حَابِسٌ ، فَمَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتنِي .
وَيُفِيدُ هَذَا الشَّرْطُ شَيْئَيْنِ : أَحَدُهُمَا ، أَنَّهُ إذَا عَاقَهُ عَائِقٌ مِنْ عَدُوٍّ ، أَوْ مَرَضٍ ، أَوْ ذَهَابِ نَفَقَةٍ ، وَنَحْوه ، أَنَّ لَهُ التَّحَلُّلَ .
وَالثَّانِي ، أَنَّهُ مَتَى حَلَّ بِذَلِكَ ، فَلَا دَمَ عَلَيْهِ وَلَا صَوْمَ .
وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ رَأَى الِاشْتِرَاطَ عِنْدَ الْإِحْرَامِ ؛ عُمَرُ ، وَعَلِيٌّ ، وَابْنُ مَسْعُودٍ ، وَعَمَّارٌ .
وَذَهَبَ إلَيْهِ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ ، وَعَلْقَمَةُ ، وَالْأَسْوَدُ ، وَشُرَيْحٌ ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ ، وَعَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ ، وَعِكْرِمَةُ ، وَالشَّافِعِيُّ إذْ هُوَ بِالْعِرَاقِ .
وَأَنْكَرَهُ ابْنُ عُمَرَ ، وَطَاوُسٌ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَمَالِكٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الِاشْتِرَاطَ يُفِيدُ سُقُوطَ الدَّمِ ، فَأَمَّا التَّحَلُّلُ فَهُوَ ثَابِتٌ عِنْدَهُ بِكُلِّ إحْصَارٍ .
وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُنْكِرُ الِاشْتِرَاطَ ، وَيَقُولُ : حَسْبُكُمْ سُنَّةُ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَجِبُ بِأَصْلِ الشَّرْعِ .
فَلَمْ يُفِدْ الِاشْتِرَاطُ فِيهَا ، كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ .
وَلَنَا ، مَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : { دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ ، فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ ، وَأَنَا شَاكِيَةٌ .
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : حُجِّي ، وَاشْتَرِطِي أَنَّ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتنِي } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، { أَنَّ ضُبَاعَةَ أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ ، فَكَيْفَ أَقُولُ ؟

فَقَالَ : قُولِي لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ ، وَمَحِلِّي مِنْ الْأَرْضِ حَيْثُ تَحْبِسُنِي .
فَإِنَّ لَك عَلَى رَبِّك مَا اسْتَثْنَيْت } رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَلَا قَوْلَ لَأَحَدٍ مَعَ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَكَيْفَ يُعَارَضُ بُقُولِ ابْنِ عُمَرَ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حَدِيثٌ لَكَانَ قَوْلُ الْخَلِيفَتَيْنِ الرَّاشِدَيْنِ مَعَ مَنْ قَدْ ذَكَرْنَا قَوْلَهُ مِنْ فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ ، أَوْلَى مِنْ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ ، وَغَيْرُ هَذَا اللَّفْظِ ، مِمَّا يُؤَدِّي مَعْنَاهُ ، يَقُومُ مَقَامَهُ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْمَعْنَى ، وَالْعِبَارَةُ إنَّمَا تُعْتَبَرُ لِتَأْدِيَةِ الْمَعْنَى .
قَالَ إبْرَاهِيمُ : خَرَجْنَا مَعَ عَلْقَمَةَ ، وَهُوَ يُرِيدُ الْعُمْرَةَ ، فَقَالَ : اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيدُ الْعُمْرَةَ إنْ تَيَسَّرَتْ ، وَإِلَّا فَلَا حَرَجَ عَلَيَّ .
وَكَانَ شُرَيْحٌ يَشْتَرِطُ : اللَّهُمَّ قَدْ عَرَفْت نِيَّتِي ، وَمَا أُرِيدُ ، فَإِنْ كَانَ أَمْرًا تُتِمُّهُ فَهُوَ أَحَبُّ إلَيَّ ، وَإِلَّا فَلَا حَرَجَ عَلَيَّ .
وَنَحْوُهُ عَنْ الْأَسْوَدِ .
وَقَالَتْ عَائِشَةُ لِعُرْوَةِ : قُلْ ، اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ ، وَإِيَّاهُ نَوَيْت ، فَإِنْ تَيَسَّرَ ، وَإِلَّا فَعُمْرَةٌ .
وَنَحْوُهُ عَنْ عَمِيرَةَ بْنِ زِيَادٍ .

( 2294 ) فَصْلٌ : فَإِنْ نَوَى الِاشْتِرَاطَ ، وَلَمْ يَتَلَفَّظْ بِهِ ، احْتَمَلَ أَنْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِعَقْدِ الْإِحْرَامِ ، وَالْإِحْرَامُ يَنْعَقِدُ بِالنِّيَّةِ ، فَكَذَلِكَ تَابِعُهُ ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يُعْتَبَرَ فِيهِ الْقَوْلُ لِأَنَّهُ اشْتِرَاطٌ ، فَاعْتُبِرَ فِيهِ الْقَوْلُ ، كَالِاشْتِرَاطِ فِي النَّذْر وَالْوَقْفِ وَالِاعْتِكَافِ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ : ( قُولِي مَحِلِّي مِنْ الْأَرْضِ حَيْثُ تَحْبِسُنِي ) .

( 2295 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَإِنْ أَرَادَ الْإِفْرَادَ ، قَالَ : اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ .
وَيَشْتَرِطُ ) الْإِفْرَادُ : هُوَ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ مُفْرَدًا مِنْ الْمِيقَاتِ ، وَهُوَ أَحَدُ الْأَنْسَاكِ الثَّلَاثَةِ ، وَالْحُكْمُ فِي إحْرَامِهِ كَالْحُكْمِ فِي إحْرَامِ الْعُمْرَةِ ، سَوَاءٌ ، فِيمَا يَجِبُ وَيُسْتَحَبُّ وَحُكْمِ الِاشْتِرَاطِ .

( 2296 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَإِنْ أَرَادَ الْقِرَانَ ، قَالَ : اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيدُ الْعُمْرَةَ وَالْحَجَّ .
وَيَشْتَرِطُ ) مَعْنَى الْقِرَانِ : الْإِحْرَامُ بِالْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ مَعًا ، أَوْ يُحْرِمُ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ يُدْخِلُ عَلَيْهَا الْحَجَّ .
وَهُوَ أَحَدُ الْأَنْسَاكِ الْمَشْرُوعَةِ ، الثَّابِتَةِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ قَالَ لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يُقْرَنَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ؟ قَالُوا : أَمَّا هَذَا فَلَا .
قَالَ : إنَّهَا مَعَهُنَّ - يَعْنِي مَعَ الْمَنْهِيَّاتِ - وَلَكِنَّكُمْ نَسِيتُمْ .
وَهَذَا مِمَّا لَمْ يُوَافِقْ الصَّحَابَةُ مُعَاوِيَةَ عَلَيْهِ ، مَعَ مَا يَتَضَمَّنُهُ مِنْ مُخَالَفَةِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَالْإِجْمَاعِ ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ : وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ ذَهَبَ إلَى تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، حِينَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ فِي حَجَّتِهِ بِالْإِحْلَالِ ، وَقَالَ : { لَوْ اسْتَقْبَلْت مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْت ، لَمَا سُقْت الْهَدْيَ .
وَكَانَ قَارِنًا ، فَحَمَلَهُ مُعَاوِيَةُ عَلَى النَّهْيِ } .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( 2297 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُعَيِّنَ مَا أَحْرَمَ بِهِ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ، فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ : الْإِطْلَاقُ أَوْلَى ؛ لِمَا رَوَى طَاوُسٌ ، قَالَ : خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَدِينَةِ ، لَا يُسَمِّي حَجًّا ، يَنْتَظِرُ الْقَضَاءَ ، فَنَزَلَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَهُوَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، فَأَمَرَ أَصْحَابَهُ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ أَهَلَّ ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ ، أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً .
وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَحْوَطُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ الْإِحْصَارَ ، أَوْ تَعَذَّرَ فِعْلُ الْحَجِّ عَلَيْهِ ، فَيَجْعَلُهَا عُمْرَةً ، وَلَنَا ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالْإِحْرَامِ بِنُسُكٍ مُعَيَّنٍ ، فَقَالَ : { مَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يُهِلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ ، فَلْيُهِلَّ ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُهِلَّ بِحَجٍّ ، فَلْيُهِلَّ ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ ، فَلْيُهِلَّ } .
وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ إنَّمَا أَحْرَمُوا بِمُعَيَّنٍ ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ ، وَأَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ فِي حَجَّتِهِ ، يَطَّلِعُونَ عَلَى أَحْوَالِهِ ، وَيَقْتَدُونَ بِأَفْعَالِهِ ، وَيَقِفُونَ عَلَى ظَاهِرِ أَمْرِهِ وَبَاطِنِهِ ، أَعْلَمُ بِهِ مِنْ طَاوُسٍ ، وَحَدِيثُهُ مُرْسَلٌ ، وَالشَّافِعِيُّ لَا يَحْتَجُّ بِالْمَرَاسِيلِ الْمُفْرَدَةِ ، فَكَيْفَ يَصِيرُ إلَى هَذَا ، مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِلرِّوَايَاتِ الْمُسْتَفِيضَةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا ، وَالِاحْتِيَاطُ مُمْكِنٌ ، بِأَنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةً ، فَإِنْ شَاءَ كَانَ مُتَمَتِّعًا ، وَإِنْ شَاءَ أَدْخَلَ الْحَجَّ عَلَيْهَا ، فَكَانَ قَارِنًا .

( 2298 ) فَصْلٌ : فَإِنْ أَطْلَقَ الْإِحْرَامَ ، فَنَوَى الْإِحْرَامَ بِنُسُكٍ ، وَلَمْ يُعَيِّنْ حَجًّا وَلَا عُمْرَةً ، صَحَّ ، وَصَارَ مُحْرِمًا ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ يَصِحُّ مَعَ الْإِبْهَامِ ، فَصَحَّ مَعَ الْإِطْلَاقِ .
فَإِذَا أَحْرَمَ مُطْلَقًا ، فَلَهُ صَرْفُهُ إلَى أَيِّ الْأَنْسَاكِ شَاءَ ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَبْتَدِئَ الْإِحْرَامَ بِمَا شَاءَ مِنْهَا ، فَكَانَ لَهُ صَرْفُ الْمُطْلَقِ إلَى ذَلِكَ ، وَالْأَوْلَى صَرْفُهُ إلَى الْعُمْرَةِ ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ ، فَالْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ مَكْرُوهٌ أَوْ مُمْتَنِعٌ ، وَإِنْ كَانَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَالْعُمْرَةُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ التَّمَتُّعَ أَفْضَلُ .
وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ ، رَحِمَهُ اللَّهُ : يَجْعَلُهُ عُمْرَةً ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَبَا مُوسَى ، حِينَ أَحْرَمَ بِمَا أَهَلَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَجْعَلَهُ عُمْرَةً .
كَذَا هَاهُنَا .

( 2299 ) فَصْلٌ : وَيَصِحُّ إبْهَامُ الْإِحْرَامِ ، وَهُوَ أَنْ يُحْرِمَ بِمَا أَحْرَمَ بِهِ فُلَانٌ ؛ لِمَا رَوَى أَبُو مُوسَى ، قَالَ : قَدِمْت عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُنِيخٌ بِالْبَطْحَاءِ ، فَقَالَ لِي : { بِمَ أَهْلَلْت ؟ .
قُلْت : لَبَّيْكَ بِإِهْلَالٍ كَإِهْلَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قَالَ : أَحْسَنْت .
فَأَمَرَنِي فَطُفْت بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، ثُمَّ قَالَ : حِلَّ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَرَوَى جَابِرٌ ، وَأَنَسٌ ، أَنَّ عَلِيًّا قَدِمَ مِنْ الْيَمَنِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { بِمَ أَهْلَلْت ؟ قَالَ : أَهْلَلْت بِمَا أَهَلَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
} قَالَ جَابِرٌ فِي حَدِيثِهِ ، قَالَ : ( فَاهْدِ ، وَامْكُثْ حَرَامًا ) .
وَقَالَ أَنَسٌ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَوْلَا أَنَّ مَعِي هَدْيًا لَحَلَلْت ) .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا .
ثُمَّ لَا يَخْلُو مَنْ أَبْهَمَ إحْرَامَهُ مِنْ أَحْوَالٍ أَرْبَعَةٍ : أَحَدُهَا ، أَنْ يَعْلَمَ مَا أَحْرَمَ بِهِ فُلَانٌ ، فَيَنْعَقِدُ إحْرَامُهُ بِمِثْلِهِ ؛ فَإِنَّ عَلِيًّا قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَاذَا قُلْت حِينَ فَرَضْت الْحَجَّ ؟ ) قَالَ : قُلْت : اللَّهُمَّ إنِّي أُهِلُّ بِمَا أَهَلَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : فَإِنَّ مَعِي الْهَدْيَ ، فَلَا تَحِلَّ الثَّانِي ، أَنْ لَا يَعْلَمَ مَا أَحْرَمَ بِهِ فُلَانٌ ، فَيَكُون حُكْمُهُ حُكْمَ النَّاسِي ، عَلَى مَا سَنُبَيِّنُهُ .
الثَّالِثُ ، أَنْ لَا يَكُونَ فُلَانٌ أَحْرَمَ ، فَيَكُونَ إحْرَامُهُ مُطْلَقًا ، حُكْمُهُ حُكْمُ الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَهُ .
الرَّابِعُ ، أَنْ لَا يَعْلَمَ هَلْ أَحْرَمَ فُلَانٌ ، أَوْ لَا فَحُكْمُهُ حُكْمُ مِنْ لَمْ يُحْرِمْ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ إحْرَامِهِ ، فَيَكُونُ إحْرَامُهُ هَاهُنَا مُطْلَقًا ، يَصْرِفُهُ إلَى مَا شَاءَ ، فَإِنْ صَرَفَهُ قَبْلَ الطَّوَافِ ، فَحَسَنٌ ، وَإِنْ طَافَ قَبْلَ صَرْفِهِ ، لَمْ يُعْتَدَّ بِطَوَافِهِ ؛

لِأَنَّهُ طَافَ لَا فِي حَجٍّ وَلَا عُمْرَةٍ .

( 2300 ) فَصْلٌ : إذَا أَحْرَمَ بِنُسُكٍ ، ثُمَّ نَسِيَهُ قَبْلَ الطَّوَافِ ، فَلَهُ صَرْفُهُ إلَى أَيِّ الْأَنْسَاكِ شَاءَ ، فَإِنَّهُ إنْ صَرَفَهُ إلَى عُمْرَةٍ ، وَكَانَ الْمَنْسِيُّ عُمْرَةً ، فَقَدْ أَصَابَ ، وَإِنْ كَانَ حَجًّا مُفْرَدًا أَوْ قِرَانًا فَلَهُ فَسْخُهُمَا إلَى الْعُمْرَةِ ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ ، وَإِنْ صَرَفَهُ إلَى الْقِرَانِ ، وَكَانَ الْمَنْسِيُّ قِرَانًا ، فَقَدْ أَصَابَ ، وَإِنْ كَانَ عُمْرَةً ، فَإِدْخَالُ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ جَائِزٌ قَبْلَ الطَّوَافِ ، فَيَصِيرُ قَارِنًا ، وَإِنْ كَانَ مُفْرِدًا ، لَغَا إحْرَامُهُ بِالْعُمْرَةِ ، وَصَحَّ بِالْحَجِّ ، وَسَقَطَ فَرْضَهُ ، وَإِنْ صَرَفَهُ إلَى الْإِفْرَادِ ، وَكَانَ مُفْرِدًا ، فَقَدْ أَصَابَ ، وَإِنْ كَانَ مُتَمَتِّعًا ، فَقَدْ أَدْخَلَ الْحَجَّ عَلَى الْعُمْرَةِ ، وَصَارَ قَارِنًا فِي الْحُكْمِ ، وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ مُفْرِدٌ ، وَإِنْ كَانَ قَارِنًا فَكَذَلِكَ ، وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهُ يَجْعَلُهُ عُمْرَةً .
قَالَ الْقَاضِي : هَذَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْبَابِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا اُسْتُحِبَّ ذَلِكَ فِي حَالِ الْعِلْمِ ، فَمَعَ عَدَمِهِ أَوْلَى .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَصْرِفُهُ إلَى الْقِرَانِ .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ ، وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ : يَتَحَرَّى ، فَيَبْنِي عَلَى غَالِبِ ظَنِّهِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ شَرَائِط الْعِبَادَةِ ، فَيَدْخُلُهُ التَّحَرِّي كَالْقِبْلَةِ .
وَمُنْشَأُ الْخِلَافِ عَلَى فَسْخِ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ ، فَإِنَّهُ جَائِزٌ عِنْدَنَا ، وَغَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَهُمْ ، فَعَلَى هَذَا إنْ صَرَفَهُ إلَى الْمُتْعَةِ فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ .
عَلَيْهِ دَمُ الْمُتْعَةِ ، وَيُجْزِئُهُ عَنْ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ جَمِيعًا .
وَإِنْ صَرَفَهُ إلَى إفْرَادٍ أَوْ قِرَانٍ ، لَمْ يُجْزِئْهُ عَنْ الْعُمْرَةِ ، إذْ مِنْ الْمُحْتَمِلِ أَنْ يَكُونَ الْمَنْسِيُّ حَجًّا مُفْرَدًا ، وَلَيْسَ لَهُ إدْخَالُ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ ، فَتَكُونُ صِحَّةُ الْعُمْرَةِ مَشْكُوكًا فِيهَا ، فَلَا تَسْقُطُ مِنْ ذِمَّتِهِ بِالشَّكِّ ، وَلَا دَمَ عَلَيْهِ لِذَلِكَ ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ حُكْمُ الْقِرَانِ

يَقِينًا ، وَلَا يَجِبُ الدَّمُ مَعَ الشَّكِّ فِي سَبَبِهِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَجِبَ .
فَأَمَّا إنْ شَكَّ بَعْدَ الطَّوَافِ ، لَمْ يَجُزْ صَرْفُهُ إلَّا إلَى الْعُمْرَةِ ؛ لِأَنَّ إدْخَالَ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ بَعْدَ الطَّوَافِ غَيْرُ جَائِزٍ .
فَإِنْ صَرَفَهُ إلَى حَجٍّ أَوْ قِرَانٍ ، فَإِنَّهُ يَتَحَلَّلُ بِفِعْلِ الْحَجِّ وَلَا يُجْزِئُهُ عَنْ وَاحِدٍ مِنْ النُّسُكَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَنْسِيُّ عُمْرَةً ، فَلَمْ يَصِحَّ إدْخَالُ الْحَجِّ عَلَيْهَا بَعْدَ طَوَافِهَا ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حَجًّا ، وَإِدْخَالُ الْعُمْرَةِ عَلَيْهِ غَيْرُ جَائِزٍ ، فَلَمْ يُجْزِئْهُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مَعَ الشَّكِّ ، وَلَا دَمَ عَلَيْهِ ؛ لِلشَّكِّ فِيمَا يُوجِبُ الدَّمَ ، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ ، لِلشَّكِّ فِيمَا يُوجِبُهُ .
وَإِنْ شَكَّ وَهُوَ فِي الْوُقُوفِ بَعْدَ أَنْ طَافَ وَسَعَى ، جَعَلَهُ عُمْرَةً ، فَقَصَّرَ ، ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ، فَإِنَّهُ إنْ كَانَ الْمَنْسِيُّ عُمْرَةً فَقَدْ أَصَابَ وَكَانَ مُتَمَتِّعًا ، وَإِنْ كَانَ إفْرَادًا أَوْ قِرَانًا لَمْ يَنْفَسِخْ بِتَقْصِيرِهِ ، وَعَلَيْهِ دَمٌ بِكُلِّ حَالٍ ، فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مُتَمَتِّعًا عَلَيْهِ دَمُ الْمُتْعَةِ ، أَوْ غَيْرَ مُتَمَتِّعٍ فَيَلْزَمُهُ دَمٌ لِتَقْصِيرِهِ ، وَإِنْ شَكَّ ، وَلَمْ يَكُنْ طَافَ وَسَعَى ، جَعَلَهُ قِرَانًا ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ قَارِنًا فَقَدْ أَصَابَ ، وَإِنْ كَانَ مُعْتَمِرًا فَقَدْ أَدْخَلَ الْحَجَّ عَلَى الْعُمْرَةِ ، وَصَارَ قَارِنًا ، وَإِنْ كَانَ مُفْرِدًا لَغَا إحْرَامُهُ بِالْعُمْرَةِ ، وَصَحَّ إحْرَامُهُ بِالْحَجِّ ، وَإِنْ صَرَفَهُ إلَى الْحَجِّ جَازَ أَيْضًا ، وَلَا يُجْزِئُهُ عَنْ الْعُمْرَةِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مُفْرِدًا ، وَإِدْخَالُ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ غَيْرُ جَائِزٍ ، وَلَا دَمَ عَلَيْهِ ؛ لِلشَّكِّ فِي وُجُودِ سَبَبِهِ .

( 2301 ) فَصْلٌ : وَإِنْ أَحْرَمَ بِحَجَّتَيْنِ أَوْ عُمْرَتَيْنِ ، انْعَقَدَ بِإِحْدَاهُمَا ، وَلَغَتْ الْأُخْرَى .
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، يَنْعَقِدُ بِهِمَا ، وَعَلَيْهِ قَضَاءُ إحْدَاهُمَا ؛ لِأَنَّهُ أَحْرَمَ بِهَا ، وَلَمْ يُتِمَّهَا .
وَلَنَا ، أَنَّهُمَا عِبَادَتَانِ لَا يَلْزَمُهُ الْمُضِيُّ فِيهِمَا ، فَلَمْ يَصِحَّ الْإِحْرَامُ بِهِمَا ، كَالصَّلَاتَيْنِ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ أَفْسَدَ حَجَّهُ أَوْ عُمْرَتَهُ ، لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا قَضَاؤُهَا ؟ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَلْزَمُهُ قَضَاؤُهُمَا مَعًا ؛ بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ إحْرَامِهِ بِهِمَا .

( 2302 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( فَإِذَا اسْتَوَى عَلَى رَاحِلَتِهِ لَبَّى ) التَّلْبِيَةُ فِي الْإِحْرَامِ مَسْنُونَةٌ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهَا ، وَأَمَرَ بِرَفْعِ الصَّوْتِ بِهَا ، وَأَقَلُّ أَحْوَالِ ذَلِكَ الِاسْتِحْبَابُ ، وَسُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَيُّ الْحَجِّ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : الْعَجُّ ، وَالثَّجُّ } .
وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ .
وَمَعْنَى الْعَجِّ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ ، وَالثَّجِّ إسَالَةُ الدِّمَاءِ بِالذَّبْحِ وَالنَّحْرِ .
وَرَوَى سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُلَبِّي ، إلَّا لَبَّى مَا عَنْ يَمِينِهِ مِنْ حَجَرٍ أَوْ شَجَرٍ أَوْ مَدَرٍ ، حَتَّى تَنْقَطِعَ الْأَرْضُ مِنْ هَاهُنَا وَهَاهُنَا } .
رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ ، وَلَيْسَتْ وَاجِبَةً ، وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَعَنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ ، يَجِبُ بِتَرْكِهَا دَمٌ .
وَعَنْ الثَّوْرِيِّ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ ، أَنَّهَا مِنْ شَرْطِ الْإِحْرَامِ ، لَا يَصِحُّ إلَّا بِهَا ، كَالتَّكْبِيرِ لِلصَّلَاةِ ، لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ ، قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى : { فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ } ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : الْإِهْلَالُ .
وَعَنْ عَطَاءٍ ، وَطَاوُسٍ ، وَعِكْرِمَةَ : هُوَ التَّلْبِيَةُ .
وَلِأَنَّ النُّسُكَ عِبَادَةٌ ذَاتُ إحْرَامٍ وَإِحْلَالٍ ، فَكَانَ فِيهَا ذِكْرٌ وَاجِبٌ ، كَالصَّلَاةِ .
وَلَنَا ، أَنَّهَا ذِكْرٌ ، فَلَمْ تَجِبْ فِي الْحَجِّ ، كَسَائِرِ الْأَذْكَارِ .
وَفَارَقَ الصَّلَاةَ ، فَإِنَّ النُّطْقَ يَجِبُ فِي آخِرِهَا ؛ فَوَجَبَ فِي أَوَّلِهَا ، وَالْحَجُّ بِخِلَافِهِ .
وَيُسْتَحَبُّ الْبِدَايَةُ بِهَا إذَا اسْتَوَى عَلَى رَاحِلَتِهِ ؛ لِمَا رَوَى أَنَسٌ ، وَابْنُ عُمَرَ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَمَّا رَكِبَ رَاحِلَتَهُ ، وَاسْتَوَتْ بِهِ ، أَهَلَّ } .
رَوَاهُمَا الْبُخَارِيُّ .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : أَوْجَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِحْرَامَ حِينَ فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ ، فَلَمَّا رَكِبَ رَاحِلَتَهُ ، وَاسْتَوَتْ بِهِ

قَائِمَةً ، أَهَلَّ .
يَعْنِي لَبَّى ، وَمَعْنَى الْإِهْلَالِ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ ، مِنْ قَوْلِهِمْ : اسْتَهَلَّ الصَّبِيُّ .
إذَا صَاحَ .
وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا رُئِيَ الْهِلَالُ صَاحُوا .
فَيُقَالُ : اسْتَهَلَّ الْهِلَالُ .
ثُمَّ قِيلَ لِكُلِّ صَائِحٍ مُسْتَهِلٌّ ، وَإِنَّمَا يَرْفَعُ الصَّوْتَ بِالتَّلْبِيَةِ .

( 2303 ) فَصْلٌ : وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالتَّلْبِيَةِ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَتَانِي جِبْرِيلُ ، فَأَمَرَنِي أَنْ آمُرَ أَصْحَابِي أَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالْإِهْلَالِ وَالتَّلْبِيَةِ } .
رَوَاهُ النَّسَائِيّ ، وَأَبُو دَاوُد ، وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَقَالَ أَنَسٌ : سَمِعْتُهُمْ يَصْرُخُونَ بِهِمَا صُرَاخًا .
وَقَالَ أَبُو حَازِمٍ : كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَبْلُغُونَ الرَّوْحَاءَ ، حَتَّى تُبَحَّ حُلُوقُهُمْ مِنْ التَّلْبِيَةِ .
وَقَالَ سَالِمٌ : كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالتَّلْبِيَةِ ، فَلَا يَأْتِي الرَّوْحَاءَ حَتَّى يَصْحَلَ صَوْتُهُ .
وَلَا يُجْهِدُ نَفْسَهُ فِي رَفْعِ الصَّوْتِ زِيَادَةً عَلَى الطَّاقَةِ ؛ لِئَلَّا يَنْقَطِعَ صَوْتُهُ وَتَلْبِيَتُهُ .

( 2304 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( فَيَقُولُ : لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَك لَبَّيْكَ ، إنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَك وَالْمُلْكَ ، لَا شَرِيكَ لَك ) هَذِهِ تَلْبِيَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، أَنَّ { تَلْبِيَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَك لَبَّيْكَ ، إنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَك وَالْمُلْكَ ، لَا شَرِيكَ لَك } وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ، عَنْ عَائِشَةَ ، وَمُسْلِمٌ عَنْ جَابِرٍ .
وَالتَّلْبِيَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ لَبَّ بِالْمَكَانِ .
إذَا لَزِمَهُ ، فَكَأَنَّهُ قَالَ : أَنَا مُقِيمٌ عَلَى طَاعَتِك وَأَمْرِك ، غَيْرُ خَارِجٍ عَنْ ذَلِكَ ، وَلَا شَارِدٌ عَلَيْك .
هَذَا أَوْ مَا أَشْبَهَهُ ، وَثَنَّوْهَا وَكَرَّرُوهَا ؛ لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا إقَامَةً بَعْدَ إقَامَةٍ ، كَمَا قَالُوا : حَنَانَيْكَ .
أَيْ رَحْمَةً بَعْدَ رَحْمَةٍ ، أَوْ رَحْمَةً مَعَ رَحْمَةٍ ، أَوْ مَا أَشْبَهَهُ .
وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ : مَعْنَى التَّلْبِيَةِ إجَابَةُ نِدَاءِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، حِينَ نَادَى بِالْحَجِّ .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : { لَمَّا فَرَغَ إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ بِنَاءِ الْبَيْتِ ، قِيلَ لَهُ : أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ .
فَقَالَ : رَبِّ وَمَا يَبْلُغُ صَوْتِي .
قَالَ : أَذِّنْ وَعَلَيَّ الْبَلَاغُ .
فَنَادَى إبْرَاهِيمُ : أَيُّهَا النَّاسُ ، كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْحَجُّ .
قَالَ فَسَمِعَهُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ } .
أَفَلَا تَرَى النَّاسَ يَجِيئُونَ مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ يُلَبُّونَ .
وَيَقُولُونَ : لَبَّيْكَ ، إنَّ الْحَمْدَ .
بِكَسْرِ الْأَلِفِ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَالْفَتْحُ جَائِزٌ ، إلَّا أَنَّ الْكَسْرَ أَجْوَدُ .
قَالَ ثَعْلَبٌ : مَنْ قَالَ أَنَّ بِفَتْحِهَا فَقَدْ خَصَّ ، وَمَنْ قَالَ بِكَسْرِ الْأَلِفِ فَقَدْ عَمَّ .
يَعْنِي أَنَّ مَنْ كَسَرَ جَعَلَ الْحَمْدَ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ ، وَمِنْ فَتَحَ فَمَعْنَاهُ لَبَّيْكَ ؛ لِأَنَّ الْحَمْدَ لَك ، أَيْ لِهَذَا السَّبَبِ .

فَصْلٌ : وَلَا تُسْتَحَبُّ الزِّيَادَةُ عَلَى تَلْبِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَا تُكْرَهُ .
وَنَحْوَ ذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ ؛ وَذَلِكَ لِقَوْلِ جَابِرٍ : فَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّوْحِيدِ : ( لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَك لَبَّيْكَ ، إنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَك ، وَالْمُلْكَ ، لَا شَرِيكَ لَك ) .
وَأَهَلَّ النَّاسُ بِهَذَا الَّذِي يُهِلُّونَ ، وَلَزِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلْبِيَتَهُ ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُلَبِّي بِتَلْبِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَزِيدُ مَعَ هَذَا : لَبَّيْكَ ، لَبَّيْكَ ، لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ ، وَالْخَيْرُ بِيَدَيْك ، وَالرَّغْبَاءُ إلَيْك وَالْعَمَلُ .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَزَادَ عُمَرُ : لَبَّيْكَ ذَا النَّعْمَاءِ وَالْفَضْلِ ، لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ مَرْهُوبًا وَمَرْغُوبًا إلَيْك ، لَبَّيْكَ .
هَذَا مَعْنَاهُ .
رَوَاهُ الْأَثْرَمُ .
وَيُرْوَى أَنَّ أَنَسًا كَانَ يَزِيدُ : لَبَّيْكَ حَقًّا حَقًّا ، تَعَبُّدًا وَرِقًّا .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالزِّيَادَةِ ، وَلَا تُسْتَحَبُّ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَزِمَ تَلْبِيَتَهُ فَكَرَّرَهَا ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهَا .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ سَعْدًا سَمِعَ بَعْضَ بَنِي أَخِيهِ وَهُوَ يُلَبِّي : يَا ذَا الْمَعَارِجِ .
فَقَالَ : إنَّهُ لَذُو الْمَعَارِجِ ، وَمَا هَكَذَا كُنَّا نُلَبِّي عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ .
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

( 2306 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ ذِكْرُ مَا أَحْرَمَ بِهِ فِي تَلْبِيَته .
قَالَ أَحْمَدُ : إنْ شِئْت لَبَّيْت بِالْحَجِّ ، وَإِنْ شِئْت لَبَّيْت بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ، وَإِنْ شِئْت بِعُمْرَةٍ ، وَإِنْ لَبَّيْت بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ بَدَأْت بِالْعُمْرَةِ ، فَقُلْت : لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : لَا يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ .
وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ عُمَرَ ، وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ جَابِرًا قَالَ : مَا سَمَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَلْبِيَتِهِ حَجًّا ، وَلَا عُمْرَةً .
وَسَمِعَ ابْنُ عُمَرَ رَجُلًا يَقُولُ : لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ .
فَضَرَبَ صَدْرَهُ ، وَقَالَ : تُعْلِمُهُ مَا فِي نَفْسِك .
وَلَنَا مَا رَوَى أَنَسٌ ، قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا } .
وَقَالَ جَابِرٌ : { قَدِمْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ نَقُولُ : لَبَّيْكَ بِالْحَجِّ } .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : { قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ ، وَهُمْ يُلَبُّونَ بِالْحَجِّ } .
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : { بَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ ، ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ } .
مُتَّفَقٌ عَلَى هَذِهِ الْأَحَادِيثِ .
وَقَالَ أَنَسٌ : { سَمِعْتهمْ يَصْرُخُونَ بِهِمَا صُرَاخًا } .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ : { خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصْرُخُ بِالْحَجِّ فَحَلَلْنَا ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ لَبَّيْنَا بِالْحَجِّ ، وَانْطَلَقْنَا إلَى مِنًى .
} وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ أَصَحُّ وَأَكْثَرُ مِنْ حَدِيثِهِمْ .
وَقَوْلُ ابْنِ عُمَرَ يُخَالِفُهُ قَوْلُ أَبِيهِ ؛ فَإِنَّ النَّسَائِيَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ ، عَنْ { الصُّبَيّ بْنِ مَعْبَدٍ ، أَنَّهُ أَوَّلَ مَا حَجَّ لَبَّى بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ جَمِيعًا ، ثُمَّ ذَكَرَ ذَلِكَ لِعُمَرَ .
فَقَالَ : هُدِيت لِسُنَّةِ نَبِيِّك } .
وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ فِي تَلْبِيَتِهِ ، فَلَا بَأْسَ ؛ فَإِنَّ النِّيَّةَ مَحَلُّهَا الْقَلْبُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِهَا .

( 2307 ) فَصْلٌ : وَإِنْ حَجَّ عَنْ غَيْرِهِ ، كَفَاهُ مُجَرَّدُ النِّيَّةِ عَنْهُ .
قَالَ أَحْمَدُ : لَا بَأْسَ بِالْحَجِّ عَنْ الرَّجُلِ ، وَلَا يُسَمِّيهِ .
وَإِنْ ذَكَرَهُ فِي التَّلْبِيَةِ ، فَحَسَنٌ .
قَالَ أَحْمَدُ : إذَا حَجَّ عَنْ رَجُلٍ يَقُولُ أَوَّلَ مَا يُلَبِّي : عَنْ فُلَانٍ .
ثُمَّ لَا يُبَالِي أَنْ لَا يَقُولَ بَعْدُ .
وَذَلِكَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي سَمِعَهُ يُلَبِّي عَنْ شُبْرُمَةَ : { لَبِّ عَنْ نَفْسِك ، ثُمَّ لَبِّ عَنْ شُبْرُمَةَ } .
وَمَتِّي أُتِيَ بِهِمَا جَمِيعًا .
بَدَأَ بِذِكْرِ الْعُمْرَةِ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي مَوَاضِعَ ؛ وَذَلِكَ لِقَوْلِ أَنَسٍ ، إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ وَحَجٍّ .
}

( 2308 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( ثُمَّ لَا يَزَالُ يُلَبِّي إذَا عَلَا نَشَزًا ، أَوْ هَبَطَ وَادِيًا ، وَإِذَا الْتَقَتْ الرِّفَاقُ ، وَإِذَا غَطَّى رَأْسَهُ نَاسِيًا ، وَفِي دُبُرِ الصَّلَوَات الْمَكْتُوبَةِ ) يُسْتَحَبُّ اسْتِدَامَةُ التَّلْبِيَةِ ، وَالْإِكْثَارُ مِنْهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ مَاجَهْ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُضَحِّي لِلَّهِ ، يُلَبِّي حَتَّى تَغِيبَ الشَّمْسُ ، إلَّا غَابَتْ بِذُنُوبِهِ ، فَعَادَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ } .
وَهِيَ أَشَدُّ اسْتِحْبَابًا فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي سَمَّى الْخِرَقِيِّ ؛ لِمَا رَوَى جَابِرٌ ، قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُلَبِّي فِي حَجَّتِهِ إذَا لَقِيَ رَاكِبًا ، أَوْ عَلَا أَكَمَةً ، أَوْ هَبَطَ وَادِيًا ، وَفِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَةِ ، وَمِنْ آخِرِ اللَّيْلِ } .
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ : كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ التَّلْبِيَةَ دُبُرَ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ ، وَإِذَا هَبَطَ وَادِيًا ، وَإِذَا عَلَا نَشَزًا ، وَإِذَا لَقِيَ رَاكِبًا ، وَإِذَا اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَدْ كَانَ قَبْلُ يَقُولُ مِثْلَ قَوْلِ مَالِكٍ : لَا يُلَبِّي عِنْدَ اصْطِدَامِ الرِّفَاقِ .
وَقَوْلُ النَّخَعِيِّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّلَفَ ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ ، كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ ذَلِكَ ، وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا .

( 2309 ) فَصْلٌ : وَيُجْزِئُ مِنْ التَّلْبِيَةِ فِي دُبُرِ الصَّلَاةِ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ .
قَالَ الْأَثْرَمُ : قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : مَا شَيْءٌ يَفْعَلُهُ الْعَامَّةُ ، يُلَبُّونَ فِي دُبُرِ الصَّلَاةِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ؟ فَتَبَسَّمَ ، وَقَالَ : مَا أَدْرِي مِنْ أَيْنَ جَاءُوا بِهِ ؟ قُلْت : أَلَيْسَ يُجْزِئُهُ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ ؟ قَالَ : بَلَى .
وَهَذَا لِأَنَّ الْمَرْوِيَّ التَّلْبِيَةُ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ ، وَهَكَذَا التَّكْبِيرُ فِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ فِي أَيَّامِ الْأَضْحَى وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ .
وَلَا بَأْسَ بِالزِّيَادَةِ عَلَى مَرَّةٍ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ زِيَادَةُ ذِكْرٍ وَخَيْرٍ ، وَتَكْرَارُهُ ثَلَاثًا حَسَنٌ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرِ .

( 2310 ) فَصْلٌ : وَلَا يُسْتَحَبُّ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ فِي الْأَمْصَارِ ، وَلَا فِي مَسَاجِدِهَا ، إلَّا فِي مَكَّةَ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يُلَبِّي بِالْمَدِينَةِ ، فَقَالَ : إنَّ هَذَا لَمَجْنُونٌ ، إنَّمَا التَّلْبِيَةُ إذَا بَرَزْت .
وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُلَبِّي فِي الْمَسَاجِدِ كُلِّهَا ، وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ ، أَخْذًا مِنْ عُمُومِ الْحَدِيثِ .
وَلَنَا ، قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَلِأَنَّ الْمَسَاجِدَ إنَّمَا بُنِيَتْ لِلصَّلَاةِ ، وَجَاءَتْ الْكَرَاهَةُ لِرَفْعِ الصَّوْتِ فِيهَا عَامًّا إلَّا الْإِمَامَ خَاصَّةً ، فَوَجَبَ إبْقَاؤُهَا عَلَى عُمُومِهَا .
فَأَمَّا مَكَّةُ فَتُسْتَحَبُّ التَّلْبِيَةُ فِيهَا ؛ لِأَنَّهَا مَحَلُّ النُّسُكِ ، وَكَذَلِكَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ ، وَسَائِرُ مَسَاجِدِ الْحَرَمِ ، كَمَسْجِدِ مِنًى ، وَفِي عَرَفَاتٍ أَيْضًا .

( 2311 ) فَصْلٌ : وَلَا يُلَبِّي بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ ، إلَّا أَنْ يَعْجِزَ عَنْهَا ؛ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ مَشْرُوعٌ ، فَلَا يُشْرَعُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ ، كَالْأَذَانِ وَالْأَذْكَارِ الْمَشْرُوعَةِ فِي الصَّلَاةِ .

( 2312 ) فَصْلٌ : وَلَا بَأْسَ بِالتَّلْبِيَةِ فِي طَوَافِ الْقُدُومِ .
وَبِهِ يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَعَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ ، وَرَبِيعَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى ، وَدَاوُد ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَرُوِيَ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ : لَا يُلَبِّي حَوْلَ الْبَيْتِ .
وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ : مَا رَأَيْنَا أَحَدًا يُقْتَدَى بِهِ يُلَبِّي حَوْلَ الْبَيْتِ إلَّا عَطَاءَ بْنَ السَّائِبِ .
وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ ، أَنَّهُ لَا يُلَبِّي .
وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِي ؛ لِأَنَّهُ مُشْتَغِلٌ بِذِكْرٍ يَخُصُّهُ ، فَكَانَ أَوْلَى .
وَلَنَا ، أَنَّهُ زَمَنُ التَّلْبِيَةِ ، فَلَمْ يُكْرَهْ لَهُ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ حَوْلَ الْبَيْتِ ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ التَّلْبِيَةِ وَالذِّكْرِ الْمَشْرُوعِ فِي الطَّوَافِ .
وَيُكْرَهُ لَهُ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ ، لِئَلَّا يَشْغَلَ الطَّائِفِينَ عَنْ طَوَافِهِمْ وَأَذْكَارِهِمْ .
وَإِذَا فَرَغَ مِنْ التَّلْبِيَةِ صَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَعَا بِمَا أَحَبَّ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، لِمَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَانَ إذَا فَرَغَ مِنْ تَلْبِيَتِهِ ، سَأَلَ اللَّهَ مَغْفِرَتَهُ وَرِضْوَانَهُ ، وَاسْتَعَاذَهُ بِرَحْمَتِهِ مِنْ النَّارِ } .
وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ : يُسْتَحَبُّ لِلرَّجُلِ إذَا فَرَغَ مِنْ تَلْبِيَتِهِ ، أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَجَاءَ فِي التَّفْسِيرِ ، فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى : { وَرَفَعْنَا لَك ذِكْرَكَ } .
لَا أُذْكَرُ إلَّا ذُكِرْت مَعِي .
وَلِأَنَّ أَكْثَرَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي شُرِعَ فِيهَا ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى ، شُرِعَ فِيهَا ذِكْرُ نَبِيِّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، كَالْأَذَانِ وَالصَّلَاةِ .

( 2313 ) فَصْلٌ : وَلَا بَأْسَ أَنْ يُلَبِّيَ الْحَلَالُ .
وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَعَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَكَرِهَهُ مَالِكٌ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ ذِكْرٌ يُسْتَحَبُّ لِلْمُحْرِمِ ، فَلَمْ يُكْرَهْ لِغَيْرِهِ ، كَسَائِرِ الْأَذْكَارِ .

( 2314 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَالْمَرْأَةُ يُسْتَحَبُّ لَهَا أَنْ تَغْتَسِلَ عِنْدَ الْإِحْرَامِ ، وَإِنْ كَانَتْ حَائِضًا أَوْ نُفَسَاءَ ؛ ) ( لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَسْمَاءَ بِنْتَ عُمَيْسٍ وَهِيَ نُفَسَاءُ أَنْ تَغْتَسِلَ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الِاغْتِسَالَ مَشْرُوعٌ لِلنِّسَاءِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ ، كَمَا يُشْرَعُ لِلرِّجَالِ ؛ لِأَنَّهُ نُسُكٌ ، وَهُوَ فِي حَقِّ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ آكَدُ ؛ لِوُرُودِ الْخَبَرِ فِيهِمَا .
قَالَ جَابِرٌ : حَتَّى أَتَيْنَا ذَا الْحُلَيْفَةِ ، فَوَلَدَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ ، فَأَرْسَلَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كَيْفَ أَصْنَعُ ؟ قَالَ : { اغْتَسِلِي ، وَاسْتَثْفِرِي بِثَوْبٍ ، وَأَحْرِمِي } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { النُّفَسَاءُ وَالْحَائِضُ ، إذَا أَتَيَا عَلَى الْوَقْتِ ، يَغْتَسِلَانِ ، وَيُحْرِمَانِ ، وَيَقْضِيَانِ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا ، غَيْرَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَائِشَةَ أَنْ تَغْتَسِلَ لِإِهْلَالِ الْحَجِّ ، وَهِيَ حَائِضٌ .
وَإِنْ رَجَتْ الْحَائِضُ الطُّهْرَ قَبْلَ الْخُرُوجِ مِنْ الْمِيقَاتِ ، أَوْ النُّفَسَاءُ ، اُسْتُحِبَّ لَهَا تَأْخِيرُ الِاغْتِسَالِ حَتَّى تَطْهُرَ ؛ لِيَكُونَ أَكْمَلَ لَهَا ، فَإِنْ خَشِيت الرَّحِيلَ قَبْلَهُ ، اغْتَسَلَتْ ، وَأَحْرَمَتْ .

( 2315 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَمَنْ أَحْرَمَ وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ خَلَعَهُ ، وَلَمْ يَشُقَّهُ ) هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَحُكِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ ، وَالنَّخَعِيِّ ، وَأَبِي قِلَابَةَ ، وَأَبِي صَالِحٍ ذَكْوَانَ ، أَنَّهُ يَشُقُّ ثِيَابَهُ ؛ لِئَلَّا يَتَغَطَّى رَأْسُهُ حِينَ يَنْزِعُ الْقَمِيصَ مِنْهُ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى يَعْلَى بْنَ أُمَيَّةَ ، أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، { كَيْفَ تَرَى فِي رَجُلٍ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ فِي جُبَّةٍ ، بَعْدَمَا تَضَمَّخَ بِطِيبٍ ؟ فَنَظَرَ إلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاعَةً ، ثُمَّ سَكَتَ ، فَجَاءَهُ الْوَحْيُ ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَمَّا الطِّيبُ الَّذِي بِك فَاغْسِلْهُ ، وَأَمَّا الْجُبَّةُ فَانْزِعْهَا ، ثُمَّ اصْنَعْ فِي عُمْرَتِك مَا تَصْنَعُ فِي حَجِّك } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَهَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ .
قَالَ عَطَاءٌ : كُنَّا قَبْلَ أَنْ نَسْمَعَ هَذَا الْحَدِيثَ نَقُولُ فِي مَنْ أَحْرَمَ وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ أَوْ جُبَّةٌ ، فَلْيَخْرِقْهَا عَنْهُ .
فَلَمَّا بَلَغَنَا هَذَا الْحَدِيثُ ، أَخَذْنَا بِهِ ، وَتَرَكْنَا مَا كُنَّا نُفْتِي بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ .
وَلِأَنَّ فِي شَقِّ الثَّوْبِ إضَاعَةَ مَالِيَّتِهِ ، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ .
( 2316 ) فَصْلٌ : وَإِذَا نَزَعَ فِي الْحَالِ ، فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْمُر الرَّجُلَ بِفِدْيَةٍ .
وَإِنْ اسْتَدَامَ اللُّبْسَ بَعْدَ إمْكَانِ نَزْعِهِ ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ ؛ لِأَنَّ اسْتِدَامَةَ اللُّبْسِ مُحَرَّمٌ كَابْتِدَائِهِ ، بِدَلِيلِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ الرَّجُلَ بِنَزْعِ جُبَّتِهِ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَأْمُرْهُ بِفِدْيَةٍ لِمَا مَضَى فِيمَا نَرَى ؛ لِأَنَّهُ كَانَ جَاهِلًا بِالتَّحْرِيمِ ، فَجَرَى مَجْرَى النَّاسِي .

( 2317 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَأَشْهُرُ الْحَجِّ : شَوَّالٌ ، وَذُو الْقَعْدَةِ ، وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ ) هَذَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَابْنِ عُمَرَ ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ ، وَعَطَاءٍ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَالْحَسَنِ ، وَالشَّعْبِيِّ ، وَالنَّخَعِيِّ ، وَقَتَادَةَ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ .
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ ، وَابْنِهِ وَابْنِ عَبَّاسٍ : أَشْهُرُ الْحَجِّ شَوَّالٌ ، وَذُو الْقَعْدَةِ ، وَذُو الْحِجَّةِ .
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ؛ لِأَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : آخِرُ أَشْهُرِ الْحَجِّ لَيْلَةُ النَّحْرِ ، وَلَيْسَ يَوْمُ النَّحْرِ مِنْهَا ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ } .
وَلَا يُمْكِنُ فَرْضُهُ بَعْدَ لَيْلَةِ النَّحْرِ .
وَلَنَا ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يَوْمُ النَّحْرِ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ لَيْسَ مِنْ أَشْهُرِهِ ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ ، وَلِأَنَّ يَوْمَ النَّحْرِ فِيهِ رُكْنُ الْحَجِّ ، وَهُوَ طَوَافُ الزِّيَارَةِ ، وَفِيهِ كَثِيرٌ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ ، مِنْهَا : رَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ ، وَالنَّحْرُ ، وَالْحَلْقُ ، وَالطَّوَافُ ، وَالسَّعْيُ ، وَالرُّجُوعُ إلَى مِنًى ، وَمَا بَعْدَهُ لَيْسَ مِنْ أَشْهُرِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَقْتٍ لِإِحْرَامِهِ ، وَلَا لِأَرْكَانِهِ ، فَهُوَ كَالْمُحَرَّمِ ، وَلَا يَمْتَنِعُ التَّعْبِيرُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ عَنْ شَيْئَيْنِ ، وَبَعْضِ الثَّالِثِ ، فَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ : عِشْرُونَ جَمْعُ عَشْرٍ ، وَإِنَّمَا هِيَ عُشْرَانِ وَبَعْضُ الثَّالِثِ ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } .
وَالْقُرْءُ الطُّهْرُ عِنْدَهُ ، وَلَوْ طَلَّقَهَا فِي طُهْرٍ احْتَسَبَتْ بِبَقِيَّتِهِ .
وَتَقُولُ الْعَرَبُ : ثَلَاثٌ خَلَوْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ ، وَهُمْ فِي الثَّالِثَةِ .
وَقَوْلِهِ : { فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ } .
أَيْ فِي أَكْثَرِهِنَّ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

بَاب مَا يَتَوَقَّى الْمُحْرِم وَمَا أُبِيحَ لَهُ ( 2318 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ أَبُو الْقَاسِم : ( وَيَتَوَقَّى فِي إحْرَامِهِ مَا نَهَاهُ اللَّهُ عَنْهُ ، مِنْ الرَّفَثِ وَهُوَ الْجِمَاعُ ، وَالْفُسُوقِ ، وَهُوَ السِّبَابُ ، وَالْجِدَالِ ، وَهُوَ الْمِرَاءُ ) يَعْنِي بِقَوْلِهِ ( مَا نَهَاهُ اللَّهُ عَنْهُ ) قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ : { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } .
وَهَذَا صِيغَتُهُ صِيغَةُ النَّفْيِ أُرِيدَ بِهِ النَّهْيُ ، كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : { لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا } .
وَالرَّفَثُ : هُوَ الْجِمَاعُ .
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَابْنِ عُمَرَ ، وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ ، وَعَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَالْحَسَنِ ، وَالنَّخَعِيِّ ، وَالزُّهْرِيِّ ، وَقَتَادَةَ .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّهُ قَالَ : الرَّفَثُ : غَشَيَانُ النِّسَاءِ ، وَالتَّقْبِيلُ ، وَالْغَمْزُ ، وَأَنْ يَعْرِضَ لَهَا بِالْفُحْشِ مِنْ الْكَلَامِ .
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ : الرَّفَثُ لَغَا الْكَلَامِ .
وَأَنْشَدَ قَوْلَ الْعَجَّاجِ : عَنْ اللَّغَا وَرَفَثِ التَّكَلُّمِ وَقِيلَ : الرَّفَثُ ؛ هُوَ مَا يُكَنَّى عَنْهُ مِنْ ذِكْرِ الْجِمَاعِ .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّهُ أَنْشَدَ بَيْتًا فِيهِ التَّصْرِيحُ بِمَا يُكَنَّى عَنْهُ مِنْ الْجِمَاعِ وَهُوَ مُحْرِمٌ ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ ، فَقَالَ : إنَّمَا الرَّفَثُ مَا رُوجِعَ بِهِ النِّسَاءُ .
وَفِي لَفْظٍ : مَا قِيلَ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ النِّسَاءِ .
وَكُلُّ مَا فُسِّرَ بِهِ الرَّفَثُ يَنْبَغِي لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَجْتَنِبَهُ ، إلَّا أَنَّهُ فِي الْجِمَاعِ أَظْهَرُ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ تَفْسِيرِ الْأَئِمَّةِ لَهُ بِذَلِكَ ، وَلِأَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي الْكِتَابِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ، وَأُرِيدَ بِهِ الْجِمَاعُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إلَى نِسَائِكُمْ } فَأَمَّا الْفُسُوقُ : فَهُوَ السِّبَابُ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَقِيلَ : الْفُسُوقُ الْمَعَاصِي .
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ

ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَابْنِ عُمَرَ ، وَعَطَاءٍ ، وَإِبْرَاهِيمَ .
وَقَالُوا أَيْضًا : الْجِدَالُ الْمِرَاءُ .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : هُوَ أَنْ تُمَارِيَ صَاحِبَك حَتَّى تُغْضِبَهُ .
وَالْمُحْرِمُ مَمْنُوعٌ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ حَجَّ ، فَلَمْ يَرْفُثْ ، وَلَمْ يَفْسُقْ ، خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ ، كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ ، فِي قَوْله تَعَالَى : { وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } .
أَيْ : لَا مُجَادَلَةَ ، وَلَا شَكَّ فِي الْحَجِّ أَنَّهُ فِي ذِي الْحِجَّةِ .
وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ أَوْلَى .

( 2319 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَيُسْتَحَبُّ لَهُ قِلَّةُ الْكَلَامِ ، إلَّا فِيمَا يَنْفَعُ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ شُرَيْحٍ ، أَنَّهُ كَانَ إذَا أَحْرَمَ كَأَنَّهُ حَيَّةٌ صَمَّاءُ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ قِلَّةَ الْكَلَامِ فِيمَا لَا يَنْفَعُ مُسْتَحَبَّةٌ فِي كُلِّ حَالٍ ، صِيَانَةً لِنَفْسِهِ عَنْ اللَّغْوِ ، وَالْوُقُوعِ فِي الْكَذِبِ ، وَمَا لَا يَحِلُّ ، فَإِنَّ مَنْ كَثُرَ كَلَامُهُ كَثُرَ سَقَطُهُ ، وَفِي الْحَدِيثِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ، فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ } .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَعَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مِنْ { حُسْنِ إسْلَامِ الْمَرْءِ ، تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ } رَوَاهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ ، عَنْ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ .
وَرُوِيَ فِي ( الْمُسْنَدِ ) ، عَنْ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقَالَ أَبُو دَاوُد : أُصُولُ السُّنَنِ أَرْبَعَةُ أَحَادِيثَ ، هَذَا أَحَدُهَا .
وَهَذَا فِي حَالِ الْإِحْرَامِ أَشَدُّ اسْتِحْبَابًا ؛ لِأَنَّهُ حَالُ عِبَادَةٍ وَاسْتِشْعَارٍ بِطَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، فَيُشْبِهُ الِاعْتِكَافَ ، وَقَدْ احْتَجَّ أَحْمَدُ عَلَى ذَلِكَ ، بِأَنَّ شُرَيْحًا ، رَحِمَهُ اللَّهُ ، كَانَ إذَا أَحْرَمَ كَأَنَّهُ حَيَّةٌ صَمَّاءُ .
فَيُسْتَحَبُّ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَشْتَغِلَ بِالتَّلْبِيَةِ ، وَذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى ، أَوْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ ، أَوْ أَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ ، أَوْ نَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ ، أَوْ تَعْلِيمٍ لِجَاهِلٍ ، أَوْ يَأْمُرَ بِحَاجَتِهِ ، أَوْ يَسْكُتَ ، وَإِنْ تَكَلَّمَ بِمَا لَا مَأْثَمَ فِيهِ ، أَوْ أَنْشَدَ شِعْرًا لَا يَقْبُحُ ، فَهُوَ مُبَاحٌ ، وَلَا يُكْثِرُ ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ عَلَى نَاقَةٍ لَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ ، فَجَعَلَ يَقُولُ : كَأَنَّ رَاكِبَهَا غُصْنٌ بِمِرْوَحَةٍ إذَا تَدَلَّتْ بِهِ أَوْ شَارِبٌ ثَمِلُ اللَّهُ أَكْبَرُ ، اللَّهُ

أَكْبَرُ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْإِبَاحَةِ ، وَالْفَضِيلَةُ الْأَوَّلُ .

( 2320 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَلَا يَتَفَلَّى الْمُحْرِمُ ، وَلَا يَقْتُلُ الْقَمْلَ ، وَيَحُكُّ رَأْسَهُ وَجَسَدَهُ حَكًّا رَفِيقًا ) اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ ، رَحِمَهُ اللَّهُ ، فِي إبَاحَةِ قَتْلِ الْقَمْلِ ؛ فَعَنْهُ إبَاحَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَكْثَرِ الْهَوَامِّ أَذًى ، فَأُبِيحَ قَتْلُهُ ، كَالْبَرَاغِيثِ وَسَائِرِ مَا يُؤْذِي ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { خَمْسٌ فَوَاسِقُ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ } .
يَدُلُّ بِمَعْنَاهُ عَلَى إبَاحَةِ قَتْلِ كُلِّ مَا يُؤْذِي بَنِي آدَمَ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ .
وَعَنْهُ أَنَّ قَتْلَهُ مُحَرَّمٌ .
وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ ؛ لِأَنَّهُ يَتَرَفَّهُ بِإِزَالَتِهِ عَنْهُ ، فَحُرِّمَ كَقَطْعِ الشَّعْرِ ، وَلِأَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِهِ ، فَقَالَ لَهُ : احْلِقْ رَأْسَك } .
فَلَوْ كَانَ قَتْلُ الْقَمْلِ أَوْ إزَالَتُهُ مُبَاحًا ، لَمْ يَكُنْ كَعْبٌ لِيَتْرُكهُ حَتَّى يَصِيرَ كَذَلِكَ ، أَوْ لَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ بِإِزَالَتِهِ خَاصَّةً .
وَالصِّئْبَانُ كَالْقَمْلِ فِي ذَلِكَ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ قَتْلِ الْقَمْلِ ، أَوْ إزَالَتِهِ بِإِلْقَائِهِ عَلَى الْأَرْضِ ، أَوْ قَتْلِهِ بِالزِّئْبَقِ ، فَإِنَّ قَتْلَهُ لَمْ يَحْرُمْ لِحُرْمَتِهِ ، لَكِنْ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّرَفُّهِ ، فَعَمَّ الْمَنْعُ إزَالَتَهُ كَيْفَمَا كَانَتْ .
وَلَا يَتَفَلَّى ، فَإِنَّ التَّفَلِّيَ عِبَارَةٌ عَنْ إزَالَةِ الْقَمْلِ ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ .
وَيَجُوزُ لَهُ حَكُّ رَأْسِهِ ، وَيَرْفُقُ فِي الْحَكِّ ، كَيْ لَا يَقْطَعَ شَعْرًا ، أَوْ يَقْتُلَ قَمْلَةً ، فَإِنْ حَكَّ فَرَأَى فِي يَده شَعْرًا ، أَحْبَبْنَا أَنْ يَفْدِيَهُ احْتِيَاطًا ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ حَتَّى يَسْتَيْقِنَ أَنَّهُ قَلَعَهُ .
قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : إنَّمَا اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي الْقَمْلِ الَّذِي فِي شَعْرِهِ ، فَأَمَّا مَا أَلْقَاهُ مِنْ ظَاهِرِ بَدَنِهِ ، فَلَا فِدْيَةَ فِيهِ .
( 2321 ) فَصْلٌ : فَإِنْ خَالَفَ وَتَفَلَّى ، أَوْ قَتَلَ قَمْلًا ، فَلَا فِدْيَةَ فِيهِ

؛ فَإِنَّ كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ حِينَ حَلَقَ رَأْسَهُ ، قَدْ أَذْهَبَ قَمْلًا كَثِيرًا ، وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ لِذَلِكَ شَيْءٌ ، وَإِنَّمَا وَجَبَتْ الْفِدْيَةُ بِحَلْقِ الشَّعْرِ ، وَلِأَنَّ الْقَمْلَ لَا قِيمَةَ لَهُ ، فَأَشْبَهَ الْبَعُوضَ وَالْبَرَاغِيثَ ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِصَيْدٍ ، وَلَا هُوَ مَأْكُولٌ ، وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : هِيَ أَهْوَنُ مَقْتُولٍ .
وَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ ، عَنْ مُحْرِمٍ أَلْقَى قَمْلَةً ، ثُمَّ طَلَبَهَا فَلَمْ يَجِدْهَا .
فَقَالَ : تِلْكَ ضَالَّةٌ لَا تُبْتَغَى .
وَهَذَا قَوْلُ طَاوُسٍ ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، وَعَطَاءٍ ، وَأَبِي ثَوْرٍ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ .
وَعَنْ أَحْمَدَ فِي مَنْ قَتَلَ قَمْلَةً ، قَالَ : يُطْعِمُ شَيْئًا .
فَعَلَى هَذَا أَيُّ شَيْءٍ تَصَدَّقَ بِهِ أَجْزَاهُ ، سَوَاءٌ قَتَلَ كَثِيرًا أَوْ قَلِيلًا .
وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ .
وَقَالَ إِسْحَاقُ : تَمْرَةٌ فَمَا فَوْقَهَا .
وَقَالَ مَالِكٌ : حَفْنَةٌ مِنْ طَعَامٍ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ .
وَقَالَ عَطَاءٌ : قَبْضَةٌ مِنْ طَعَامٍ .
وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا تَرْجِعُ إلَى مَا قُلْنَاهُ ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يُرِيدُوا بِذَلِكَ التَّقْدِيرَ ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى التَّقْرِيبِ لِأَقَلِّ مَا يُتَصَدَّقُ بِهِ .

فَصْلٌ : وَلَا بَأْسَ أَنْ يَغْسِلَ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ وَبَدَنَهُ بِرِفْقٍ ، فَعَلَ ذَلِكَ عُمَرُ ، وَابْنُهُ ، وَرَخَّصَ فِيهِ عَلِيٌّ ، وَجَابِرٌ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَكَرِهَ مَالِكٌ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَغْطِسَ فِي الْمَاءِ ، وَيُغَيِّبَ فِيهِ رَأْسَهُ .
وَلَعَلَّهُ ذَهَبَ إلَى أَنَّ ذَلِكَ سِتْرٌ لَهُ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِسِتْرٍ ، وَلِهَذَا لَا يَقُومُ مَقَامَ السُّتْرَةِ فِي الصَّلَاةِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : رُبَّمَا قَالَ لِي عُمَرُ وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ بِالْجُحْفَةِ : تَعَالَ أُبَاقِيك أَيُّنَا أَطْوَلُ نَفَسًا فِي الْمَاءِ .
وَقَالَ : رُبَّمَا قَامَسْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ بِالْجُحْفَةِ وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ .
رَوَاهُمَا سَعِيدٌ .
وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِسِتْرٍ مُعْتَادٍ ، أَشْبَهَ صَبَّ الْمَاءِ عَلَيْهِ ، أَوْ وَضْعَ يَدَيْهِ عَلَيْهِ .
وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُنَيْنٍ ، قَالَ : { أَرْسَلَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ إلَى أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ ، فَأَتَيْته وَهُوَ يَغْتَسِلُ ، فَسَلَّمْت عَلَيْهِ ، فَقَالَ : مَنْ هَذَا ؟ فَقُلْت : أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُبَيْرٍ أَرْسَلَنِي إلَيْك عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ يَسْأَلُك : كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْسِلُ رَأْسَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ ؟ فَوَضَعَ أَبُو أَيُّوبَ يَدَهُ عَلَى الثَّوْبِ ، فَطَأْطَأَهُ حَتَّى بَدَا لِي رَأْسُهُ ، ثُمَّ قَالَ لِإِنْسَانٍ يَصُبُّ عَلَيْهِ الْمَاءَ : صُبَّ .
فَصَبَّ عَلَى رَأْسِهِ ، ثُمَّ حَرَّك رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ ، فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ ، ثُمَّ قَالَ : هَكَذَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ يَغْتَسِلُ مِنْ الْجَنَابَةِ .

( 2323 ) فَصْلٌ : وَيُكْرَهُ لَهُ غَسْلُ رَأْسِهِ بِالسِّدْرِ وَالْخِطْمِيِّ وَنَحْوِهِمَا ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ إزَالَةِ الشُّعْثِ ، وَالتَّعَرُّضِ لِقَلْعِ الشَّعْرِ .
وَكَرِهَهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
فَإِنْ فَعَلَ فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَعَنْ أَحْمَدَ : عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ .
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ .
وَقَالَ صَاحِبَاهُ : عَلَيْهِ صَدَقَةٌ ؛ لِأَنَّ الْخِطْمِيَّ تُسْتَلَذُّ رَائِحَتُهُ ، وَتُزِيلُ الشُّعْثَ ، وَتَقْتُلُ الْهَوَامَّ ، فَوَجَبَتْ بِهِ الْفِدْيَةُ كَالْوَرْسِ .
وَلَنَا ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ، فِي الْمُحْرِمِ الَّذِي وَقَصَّهُ بَعِيرُهُ { : اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ ، وَلَا تُحَنِّطُوهُ ، وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ ؛ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
فَأَمَرَ بِغَسْلِهِ بِالسِّدْرِ ، مَعَ إثْبَاتِ حُكْمِ الْإِحْرَامِ فِي حَقِّهِ ، وَالْخِطْمِيُّ كَالسِّدْرِ .
وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِطِيبٍ ، فَلَمْ تَجِبْ الْفِدْيَةُ بِاسْتِعْمَالِهِ كَالتُّرَابِ .
وَقَوْلُهُمْ : تُسْتَلَذُّ رَائِحَتُهُ .
مَمْنُوعٌ ، ثُمَّ يَبْطُلُ بِالْفَاكِهَةِ وَبَعْضِ التُّرَابِ .
وَإِزَالَةُ الشُّعْثِ تَحْصُلُ بِذَلِكَ أَيْضًا ، وَقَتْلُ الْهَوَامِّ لَا يُعْلَمُ حُصُولُهُ ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى الْوَرْسِ ؛ لِأَنَّهُ طِيبٌ ، وَلِذَلِكَ لَوْ اسْتَعْمَلَهُ فِي غَيْرِ الْغَسْلِ ، أَوْ فِي ثَوْبٍ لَمُنِعَ مِنْهُ ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا .

( 2324 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَلَا يَلْبَسُ الْقُمَّصَ ، وَلَا السَّرَاوِيلَ ، وَلَا الْبُرْنُسَ ) قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ لُبْسِ الْقُمَّصِ ، وَالْعَمَائِمِ ، وَالسَّرَاوِيلَاتِ ، وَالْخِفَافِ ، وَالْبَرَانِسِ .
وَالْأَصْلُ فِي هَذَا مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ ، { أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنْ الثِّيَابِ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا يَلْبَسُ الْقُمَّصَ ، وَلَا الْعَمَائِمَ ، وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ ، وَلَا الْبَرَانِسَ ، وَلَا الْخِفَافَ ، إلَّا أَحَدًا لَا يَجِدُ نَعْلَيْنِ ، فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ ، وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ ، وَلَا يَلْبَسْ مِنْ الثِّيَابِ شَيْئًا مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ ، وَلَا الْوَرْسُ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
نَصَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ، وَأَلْحَقَ بِهَا أَهْلُ الْعِلْمِ مَا فِي مَعْنَاهَا ، مِثْلَ الْجُبَّةِ ، وَالدُّرَّاعَةِ ، وَالثِّيَابِ ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ .
فَلَيْسَ لِلْمُحْرِمِ سَتْرُ بَدَنِهِ بِمَا عُمِلَ عَلَى قَدْرِهِ ، وَلَا سَتْرُ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ بِمَا عُمِلَ عَلَى قَدْرِهِ ، كَالْقَمِيصِ لِلْبَدَنِ ، وَالسَّرَاوِيلِ لِبَعْضِ الْبَدَنِ ، وَالْقُفَّازَيْنِ لِلْيَدَيْنِ ، وَالْخُفَّيْنِ لِلرِّجْلَيْنِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَلَيْسَ فِي هَذَا كُلِّهِ اخْتِلَافٌ .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : لَا يَجُوزُ لِبَاسُ شَيْءٍ مِنْ الْمَخِيطِ عِنْدَ جَمِيعِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الذُّكُورُ دُونَ النِّسَاءِ .

( 2325 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( فَإِنْ لَمْ يَجِدْ إزَارًا ، لَبِسَ السَّرَاوِيلَ ، وَإِنْ لَمْ يَجِدَ نَعْلَيْنِ ، لَبِسَ الْخُفَّيْنِ ، وَلَا يَقْطَعْهُمَا ، وَلَا فِدَاءَ عَلَيْهِ ) لَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ ، فِي أَنَّ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَلْبَسَ السَّرَاوِيلَ ، إذَا لَمْ يَجِدْ الْإِزَارَ ، وَالْخُفَّيْنِ إذَا لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ .
وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ ، وَعِكْرِمَةُ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ، وَغَيْرُهُمْ .
وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ ، قَالَ : { سَمِعْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ بِعَرَفَاتٍ ، يَقُولُ : مَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ إزَارًا فَلْيَلْبَسْ سَرَاوِيلَ لِلْمُحْرِمِ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَرَوَى جَابِرٌ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ ذَلِكَ .
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ .
وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ فِي لُبْسِهِمَا عِنْدَ ذَلِكَ ، فِي قَوْلِ مَنْ سَمَّيْنَا ، إلَّا مَالِكًا وَأَبَا حَنِيفَةَ قَالَا : عَلَى كُلِّ مَنْ لَبِسَ السَّرَاوِيلَ الْفِدْيَةُ ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ .
وَلِأَنَّ مَا وَجَبَتْ الْفِدْيَةُ بِلُبْسِهِ مَعَ وُجُودِ الْإِزَارِ ، وَجَبَتْ مَعَ عَدَمِهِ ، كَالْقَمِيصِ .
وَلَنَا ، خَبَرُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي الْإِبَاحَةِ ، ظَاهِرٌ فِي إسْقَاطِ الْفِدْيَةِ ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَ بِلُبْسِهِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِدْيَةً ، وَلِأَنَّهُ يَخْتَصُّ لُبْسُهُ بِحَالَةِ عَدَمِ غَيْرِهِ ، فَلَمْ تَجِبْ بِهِ فِدْيَةٌ ، كَالْخُفَّيْنِ الْمَقْطُوعَيْنِ .
وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ مَخْصُوصٌ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ .
فَأَمَّا الْقَمِيصُ فَيُمْكِنُهُ أَنْ يَتَّزِرَ بِهِ مِنْ غَيْرِ لُبْسٍ ، وَيَسْتَتِرَ ، بِخِلَافِ السَّرَاوِيلِ .

( 2326 ) فَصْلٌ : وَإِذَا لَبِسَ الْخُفَّيْنِ ، لِعَدَمِ النَّعْلَيْنِ ، لَمْ يَلْزَمْهُ قَطْعُهُمَا ، فِي الْمَشْهُورِ عَنْ أَحْمَدَ ، وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ .
وَعِكْرِمَةُ ، وَسَعِيدُ بْنُ سَالِمٍ الْقَدَّاحُ .
وَعَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهُ يَقْطَعُهُمَا ، حَتَّى يَكُونَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ ، فَإِنْ لَبِسَهُمَا مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ ، افْتَدَى .
وَهَذَا قَوْلُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ ، وَمَالِكٍ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَإِسْحَاقَ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ ، فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ ، وَلْيَقْطَعْهُمَا ، حَتَّى يَكُونَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَهُوَ مُتَضَمِّنٌ لِزِيَادَةٍ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَجَابِرٍ ، وَالزِّيَادَةُ مِنْ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ .
قَالَ الْخَطَّابِيُّ : الْعَجَبُ مِنْ أَحْمَدَ فِي هَذَا ، فَإِنَّهُ لَا يَكَادُ يُخَالِفُ سُنَّةً تَبْلُغُهُ ، وَقَلَّتْ سُنَّةٌ لَمْ تَبْلُغْهُ .
وَاحْتَجَّ أَحْمَدُ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَجَابِرٍ : ( مَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ ، فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ ) .
مَعَ قَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : قَطْعُ الْخُفَّيْنِ فَسَادٌ ، يَلْبَسُهُمَا كَمَا هُمَا .
مَعَ مُوَافَقَةِ الْقِيَاسِ ، فَإِنَّهُ مَلْبُوسٌ أُبِيحَ لِعَدَمِ غَيْرِهِ ، فَأَشْبَهَ السَّرَاوِيلَ ، وَقَطْعُهُ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ حَالَةِ الْحَظْرِ ، فَإِنَّ لُبْسَ الْمَقْطُوعِ مُحَرَّمٌ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى النَّعْلَيْنِ ، كَلُبْسِ الصَّحِيحِ ، وَفِيهِ إتْلَافُ مَالِهِ ، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ إضَاعَتِهِ .
فَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ ، فَقَدْ قِيلَ إنَّ قَوْلَهُ : ( وَلْيَقْطَعْهُمَا ) مِنْ كَلَامِ نَافِعٍ .
كَذَلِكَ رَوَيْنَاهُ فِي ( أَمَالِي أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ بَشْرَانَ ) ، بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ ، أَنَّ نَافِعًا قَالَ بَعْدَ رِوَايَتِهِ لِلْحَدِيثِ : وَلْيَقْطَعْ الْخُفَّيْنِ أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ .
وَرَوَى ابْنُ أَبِي مُوسَى ،

عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِي عُبَيْدٍ ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَلْبَسَ الْخُفَّيْنِ ، وَلَا يَقْطَعَهُمَا } ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُفْتِي بِقَطْعِهِمَا ، قَالَتْ صَفِيَّةُ : فَلَمَّا أَخْبَرْته بِهَذَا رَجَعَ .
وَرَوَى أَبُو حَفْصٍ ، فِي ( شَرْحِهِ ) بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ، { أَنَّهُ طَافَ وَعَلَيْهِ خُفَّانِ ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : وَالْخُفَّانِ مَعَ الْقَبَاءِ ، فَقَالَ : قَدْ لَبِسْتُهُمَا مَعَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْك } .
يَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِقَطْعِهِمَا مَنْسُوخًا ؛ فَإِنَّ عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ رَوَى الْحَدِيثَيْنِ جَمِيعًا ، وَقَالَ : اُنْظُرُوا أَيَّهُمَا كَانَ قَبْلُ ؛ قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيُّ .
حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ قَبْلُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ ، قَالَ : { نَادَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ ، يَعْنِي بِالْمَدِينَةِ ، فَكَأَنَّهُ كَانَ قَبْلَ الْإِحْرَامِ } .
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَقُولُ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَخْطُبُ بِعَرَفَاتٍ ، يَقُولُ : مَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ ، فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ } .
فَيَدُلُّ عَلَى تَأَخُّرِهِ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فَيَكُونُ نَاسِخًا لَهُ ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْقَطْعُ وَاجِبًا لَبَيَّنَهُ لِلنَّاسِ ، إذْ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ ، وَالْمَفْهُومُ مِنْ إطْلَاقِ لُبْسِهِمَا لُبْسُهُمَا عَلَى حَالِهِمَا مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ .
وَالْأَوْلَى قَطْعُهُمَا ، عَمَلًا بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ ، وَخُرُوجًا مِنْ الْخِلَافِ ، وَأَخْذًا بِالِاحْتِيَاطِ .

( 2327 ) فَصْلٌ : فَإِنْ لَبِسَ الْمَقْطُوعَ ، مَعَ وُجُودِ النَّعْلِ ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ ، وَلَيْسَ لَهُ لُبْسُهُ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لُبْسُهُ مُحَرَّمًا ، وَفِيهِ فِدْيَةٌ ، لَمْ يَأْمُرْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَطْعِهِمَا ، لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِيهِ ، وَعَنْ الشَّافِعِيِّ كَالْمَذْهَبَيْنِ .
وَلَنَا ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرَطَ فِي إبَاحَةِ لُبْسِهِمَا عَدَمَ النَّعْلَيْنِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مَعَ وُجُودِهِمَا ، وَلِأَنَّهُ مَخِيطٌ لِعُضْوٍ عَلَى قَدْرِهِ ، فَوَجَبَتْ عَلَى الْمُحْرِمِ الْفِدْيَةُ بِلُبْسِهِ ، كَالْقُفَّازَيْنِ .

( 2328 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا اللَّالَكَةُ ، وَالْجُمْجُمُ ، وَنَحْوُهُمَا ، فَقِيَاسُ قَوْلِ أَحْمَدَ ، أَنَّهُ لَا يَلْبَسُ ذَلِكَ ، فَإِنَّهُ قَالَ : لَا يَلْبَسُ النَّعْلَ الَّتِي لَهَا قَيْدٌ .
وَهَذَا أَشَدُّ مِنْ النَّعْلِ الَّتِي لَهَا قَيْدٌ .
وَقَدْ قَالَ فِي رَأْسِ الْخُفِّ الصَّغِيرِ : لَا يَلْبَسُهُ .
وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَسْتُرُ الْقَدَمَ ، وَقَدْ عُمِلَ لَهَا عَلَى قَدْرِهَا ، فَأَشْبَهَ الْخُفَّ فَإِنْ عَدِمَ النَّعْلَيْنِ ، كَانَ لَهُ لُبْسُ ذَلِكَ ، وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَاحَ لُبْسَ الْخُفِّ عِنْدَ ذَلِكَ ، فَمَا دُونَ الْخُفِّ أَوْلَى .

( 2329 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا النَّعْلُ ، فَيُبَاحُ لُبْسُهَا كَيْفَمَا كَانَتْ ، وَلَا يَجِبُ قَطْعُ شَيْءٍ مِنْهَا ؛ لِأَنَّ إبَاحَتَهَا وَرَدَتْ مُطْلَقًا .
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي الْقَيْدِ فِي النَّعْلِ : يَفْتَدِي ؛ لِأَنَّنَا لَا نَعْرِفُ النِّعَالَ هَكَذَا .
وَقَالَ : إذَا أَحْرَمْت فَاقْطَعْ الْمَحْمَلَ الَّذِي عَلَى النِّعَالِ ، وَالْعَقِبَ الَّذِي يُجْعَلُ لِلنَّعْلِ ، فَقَدْ كَانَ عَطَاءٌ يَقُولُ : فِيهِ دَمٌ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى ، فِي ( الْإِرْشَادِ ) : فِي الْقَيْدِ وَالْعَقِبِ الْفِدْيَةُ ، وَالْقَيْدُ : هُوَ السَّيْرُ الْمُعْتَرِضُ عَلَى الزِّمَامِ .
قَالَ الْقَاضِي : إنَّمَا كَرِهَهُمَا إذَا كَانَا عَرِيضَيْنِ .
وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ ؛ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَجِبْ قَطْعُ الْخُفَّيْنِ السَّاتِرَيْنِ لِلْقَدَمَيْنِ وَالسَّاقَيْنِ فَقَطْعُ سَيْرِ النَّعْلِ أَوْلَى أَنْ لَا يَجِبَ .
وَلِأَنَّ ذَلِكَ مُعْتَادٌ فِي النَّعْلِ ، فَلَمْ تَجِبْ إزَالَتُهُ ، كَسَائِرِ سُيُورِهَا ، وَلِأَنَّ قَطْعَ الْقَيْدِ وَالْعَقِبِ رُبَّمَا تَعَذَّرَ مَعَهُ الْمَشْيُ فِي النَّعْلَيْنِ ؛ لِسُقُوطِهِمَا بِزَوَالِ ذَلِكَ ، فَلَمْ يَجِبْ ، كَقَطْعِ الْقُبَالِ .

( 2330 ) فَصْلٌ : وَإِنْ وَجَدَ نَعْلًا لَمْ يُمْكِنْهُ لُبْسُهَا ، فَلَهُ لُبْسُ الْخُفِّ ، وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ مَا لَا يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهُ كَالْمَعْدُومِ ، كَمَا لَوْ كَانَتْ النَّعْلُ لِغَيْرِهِ ، أَوْ صَغِيرَةً ، وَكَالْمَاءِ فِي التَّيَمُّمِ ، وَالرَّقَبَةِ الَّتِي لَا يُمْكِنُهُ عِتْقُهَا ، وَلِأَنَّ الْعَجْزَ عَنْ لُبْسِهَا قَامَ مَقَامَ الْعَدَمِ ، فِي إبَاحَةِ لُبْسِ الْخُفِّ ، فَكَذَلِكَ فِي إسْقَاطِ الْفِدْيَةِ .
وَالْمَنْصُوصُ أَنَّ عَلَيْهِ الْفِدْيَةِ ؛ لِقَوْلِهِ : ( مَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ ، فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ ) .
وَهَذَا وَاجِدٌ .

( 2331 ) فَصْلٌ : وَلَيْسَ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَعْقِدَ عَلَيْهِ الرِّدَاءَ ، وَلَا غَيْرَهُ ، إلَّا الْإِزَارَ وَالْهِمْيَانَ .
وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ لِذَلِكَ زِرًّا وَعُرْوَةً ، وَلَا يُخْلِلْهُ بِشَوْكَةٍ وَلَا إبْرَةٍ وَلَا خَيْطٍ ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمَخِيطِ .
رَوَى الْأَثْرَمُ ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ جُنْدُبٍ ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ يَسْأَلُهُ وَأَنَا مَعَهُ ، أُخَالِفُ بَيْنَ طَرَفَيْ ثَوْبِي مِنْ وَرَائِي ، ثُمَّ أَعْقِدُهُ ؟ وَهُوَ مُحْرِمٌ ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : لَا تَعْقِدْ عَلَيْهِ شَيْئًا .
وَعَنْ أَبِي مَعْبَدٍ ، مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ لَهُ : يَا أَبَا مَعْبَدٍ ، زِرَّ عَلَيَّ طَيْلَسَانِي .
وَهُوَ مُحْرِمٌ ، فَقَالَ لَهُ : كُنْت تَكْرَهُ هَذَا .
قَالَ : إنِّي أُرِيدُ أَنْ أَفْتَدِيَ .
وَلَا بَأْسَ أَنْ يَتَّشِحَ بِالْقَمِيصِ ، وَيَرْتَدِيَ بِهِ ، وَيَرْتَدِيَ بِرِدَاءِ مُوَصَّلٍ ، وَلَا يَعْقِدُهُ ؛ لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ الْمَخِيطُ عَلَى قَدْرِ الْعُضْوِ .

( 2332 ) فَصْلٌ : وَيَجُوزُ أَنْ يَعْقِدَ إزَارَهُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِسَتْرِ الْعَوْرَةِ فَيُبَاحُ ، كَاللِّبَاسِ لِلْمَرْأَةِ .
وَإِنْ شَدَّ وَسَطَهُ بِالْمِنْدِيلِ ، أَوْ بِحَبْلٍ ، أَوْ سَرَاوِيلَ ، جَازَ إذَا لَمْ يَعْقِدْهُ .
قَالَ أَحْمَدُ ، فِي مُحْرِمٍ حَزَمَ عِمَامَةً عَلَى وَسَطِهِ : لَا تَعْقِدْهَا .
وَيُدْخِلُ بَعْضَهَا فِي بَعْضٍ .
قَالَ طَاوُسٌ : رَأَيْت ابْنَ عُمَرَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ ، وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ قَدْ شَدَّهَا عَلَى وَسَطِهِ ، فَأَدْخَلَهَا هَكَذَا .
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشُقَّ أَسْفَلَ إزَارِهِ نِصْفَيْنِ ، وَيَعْقِدَ كُلَّ نِصْفٍ عَلَى سَاقٍ ؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ السَّرَاوِيلَ .
وَلَا يَلْبَسُ الرَّانَّ ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ ، وَلِأَنَّهُ مَعْمُولٌ عَلَى قَدْرِ الْعُضْوِ الْمَلْبُوسِ فِيهِ ، فَأَشْبَهَ الْخُفَّ .

( 2333 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَيَلْبَسُ الْهِمْيَانَ ، وَيُدْخِلُ السُّيُورَ بَعْضَهَا فِي بَعْضٍ ، وَلَا يَعْقِدُهَا ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ لُبْسَ الْهِمْيَانِ مُبَاحٌ لِلْمُحْرِمِ ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَابْنِ عُمَرَ ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، وَعَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ ، وَطَاوُسٍ ، وَالْقَاسِمِ ، وَالنَّخَعِيِّ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَإِسْحَاقَ ، وَأَبِي ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : أَجَازَ ذَلِكَ جَمَاعَةُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ ، مُتَقَدِّمُوهُمْ وَمُتَأَخِّرُوهُمْ .
وَمَتَى أَمْكَنَهُ أَنْ يُدْخِلَ السُّيُورَ بَعْضَهَا فِي بَعْضٍ ، وَيَثْبُتَ بِذَلِكَ ، لَمْ يَعْقِدْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى عَقْدِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ إلَّا بِعَقْدِهِ عَقَدَهُ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ .
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ : كَانُوا يُرَخِّصُونَ فِي عَقْدِ الْهِمْيَانِ لِلْمُحْرِمِ ، وَلَا يُرَخِّصُونَ فِي عَقْدِ غَيْرِهِ .
وَقَالَتْ عَائِشَةُ : أَوْثِقْ عَلَيْك نَفَقَتَك .
وَذَكَرَ الْقَاضِي ، فِي ( الشَّرْحِ ) ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ : { رَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُحْرِمِ فِي الْهِمْيَانِ أَنْ يَرْبِطَهُ ، إذَا كَانَتْ فِيهِ نَفَقَتُهُ .
} وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : أَوْثِقُوا عَلَيْكُمْ نَفَقَاتِكُمْ .
وَرَخَّصَ فِي الْخَاتَمِ وَالْهِمْيَانِ لِلْمُحْرِمِ .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْمُحْرِمِ يَشُدُّ الْهِمْيَانَ عَلَيْهِ ، فَقَالَ : لَا بَأْسَ بِهِ ، إذَا كَانَتْ فِيهِ نَفَقَتُهُ ، يَسْتَوْثِقُ مِنْ نَفَقَتِهِ .
وَلِأَنَّهُ مِمَّا تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَى شَدِّهِ ، فَجَازَ ، كَعِقْدِ الْإِزَارِ .
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْهِمْيَانِ نَفَقَةٌ ، لَمْ يَجُزْ عَقْدُهُ ، لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ الْمِنْطَقَةُ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَرِهَ الْهِمْيَانَ وَالْمِنْطَقَةَ لِلْمُحْرِمِ ، وَكَرِهَهُ نَافِعٌ مَوْلَاهُ .
وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا لَيْسَ فِيهِ نَفَقَةٌ ؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الرُّخْصَةِ فِيمَا فِيهِ النَّفَقَةُ ، وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ الْمُحْرِمِ

يَلْبَسُ الْمِنْطَقَةَ مِنْ وَجَعِ الظَّهْرِ ، أَوْ حَاجَةٍ إلَيْهَا .
قَالَ : يَفْتَدِي .
فَقِيلَ لَهُ : أَفَلَا تَكُونُ مِثْلَ الْهِمْيَانِ ؟ قَالَ : لَا .
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَرِهَ الْمِنْطَقَةَ لِلْمُحْرِمِ ، وَأَنَّهُ أَبَاحَ شَدَّ الْهِمْيَانِ ، إذَا كَانَتْ فِيهِ النَّفَقَةُ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْهِمْيَانَ تَكُونُ فِيهِ النَّفَقَةُ ، وَالْمِنْطَقَةُ لَا نَفَقَةَ فِيهَا ، فَأُبِيحَ شَدُّ مَا فِيهِ النَّفَقَةُ ، لِلْحَاجَةِ إلَى حِفْظِهَا ، وَلَمْ يُبَحْ شَدُّ مَا سِوَى ذَلِكَ .
فَإِنْ كَانَتْ فِيهِمَا نَفَقَةٌ ، أَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمَا نَفَقَةٌ ، فَهُمَا سَوَاءٌ .
وَقَدْ قَالَتْ عَائِشَةُ فِي الْمِنْطَقَةِ لِلْمُحْرِمِ : أُوثِقْ عَلَيْك نَفَقَتَك .
فَرَخَّصَتْ فِيهَا إذَا كَانَتْ فِيهَا النَّفَقَةُ .
وَلَمْ يُبِحْ أَحْمَدُ شَدَّ الْمِنْطَقَةِ لِوَجَعِ الظَّهْرِ ، إلَّا أَنْ يَفْتَدِيَ ؛ لِأَنَّ الْمِنْطَقَةَ لَيْسَتْ مُعَدَّةً لِذَلِكَ ، وَلِأَنَّهُ فِعْلٌ لِمَحْظُورٍ فِي الْإِحْرَامِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ ، أَشْبَهَ مَنْ لَبِسَ الْمَخِيطَ لِدَفْعِ الْبَرْدِ ، أَوْ حَلَقَ رَأْسَهُ لِإِزَالَةِ أَذَى الْقَمْلِ ، أَوْ تَطَيَّبَ لِأَجْلِ الْمَرَضِ .

( 2334 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَلَهُ أَنْ يَحْتَجِمَ ، وَلَا يَقْطَعَ شَعْرًا ) أَمَّا الْحِجَامَةُ إذَا لَمْ يَقْطَعْ شَعْرًا فَمُبَاحَةٌ مِنْ غَيْرِ فِدْيَةٍ ، فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ ؛ لِأَنَّهُ تَدَاوٍ بِإِخْرَاجِ دَمٍ ، فَأَشْبَهَ الْفَصْدَ ، وَبَطَّ الْجُرْحِ .
وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَحْتَجِمُ إلَّا مِنْ ضَرُورَةٍ ، وَكَانَ الْحَسَنُ يَرَى فِي الْحِجَامَةِ دَمًا .
وَلَنَا ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَوَى { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَلَمْ يَذْكُرْ فِدْيَةً ، وَلِأَنَّهُ لَا يَتَرَفَّهُ بِذَلِكَ ، فَأَشْبَهَ شُرْبَ الْأَدْوِيَةِ .
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي قَطْعِ الْعُضْوِ عِنْدَ الْحَاجَةِ ، وَالْخِتَانِ كُلُّ ذَلِكَ مُبَاحٌ مِنْ غَيْرِ فِدْيَةٍ .
فَإِنْ احْتَاجَ فِي الْحِجَامَةِ إلَى قَطْعِ شَعْرٍ ، فَلَهُ قَطْعُهُ ؛ لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُحَيْنَةَ ، { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ بِلَحْيِ جَمَلٍ ، فِي طَرِيقِ مَكَّةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ ، وَسَطَ رَأْسِهِ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَمِنْ ضَرُورَةِ ذَلِكَ قَطْعُ الشَّعْرِ .
وَلِأَنَّهُ يُبَاحُ حَلْقُ الشَّعْرِ لِإِزَالَةِ أَذَى الْقَمْلِ ، فَكَذَلِكَ هَاهُنَا .
وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَقَالَ صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ : يَتَصَدَّقُ بِشَيْءٍ .
وَلَنَا ، قَوْله تَعَالَى : { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ } .
الْآيَةَ ، وَلِأَنَّهُ حَلْقُ شَعْرٍ لِإِزَالَةِ ضَرَرِ غَيْرِهِ ، فَلَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ ، كَمَا لَوْ حَلَقَهُ لِإِزَالَةِ قَمْلِهِ .
فَأَمَّا إنْ قَطَعَ عُضْوًا عَلَيْهِ شَعْرٌ ، أَوْ جِلْدَةً عَلَيْهَا شَعْرٌ ، فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ ، لِأَنَّهُ زَالَ تَبَعًا لِمَا لَا فِدْيَةَ فِيهِ .

( 2335 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَيَتَقَلَّدُ بِالسَّيْفِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا احْتَاجَ إلَى تَقَلُّدِ السَّيْفِ ، فَلَهُ ذَلِكَ .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ .
وَأَبَاحَ عَطَاءٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ تَقَلُّدَهُ .
وَكَرِهَهُ الْحَسَنُ .
وَالْأَوَّلُ أَوْلَى ؛ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ الْبَرَاءِ ، قَالَ : { لَمَّا صَالَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ الْحُدَيْبِيَةِ ، صَالَحَهُمْ عَلَى أَنْ لَا يَدْخُلُوهَا إلَّا بِجُلْبَانِ السِّلَاحِ } .
- الْقِرَابُ بِمَا فِيهِ - وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي إبَاحَةِ حَمْلِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَأْمَنُونَ أَهْلَ مَكَّةَ أَنْ يَنْقُضُوا الْعَهْدَ ، وَيَخْفِرُوا الذِّمَّةَ ، وَاشْتَرَطُوا حَمْلَ السِّلَاحِ فِي قِرَابِهِ .
فَأَمَّا مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ ، فَإِنَّ أَحْمَدَ قَالَ : لَا ، إلَّا مِنْ ضَرُورَةٍ .
وَإِنَّمَا مَنَعَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ : لَا يَحْمِلُ الْمُحْرِمُ السِّلَاحَ فِي الْحَرَمِ .
وَالْقِيَاسُ إبَاحَتُهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ هُوَ فِي مَعْنَى الْمَلْبُوسِ الْمَنْصُوصِ عَلَى تَحْرِيمِهِ ، وَلِذَلِكَ لَوْ حَمَلَ قِرْبَةً فِي عُنُقِهِ ، لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ ذَلِكَ ، وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ فِيهِ .
وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ الْمُحْرِمِ يُلْقِي جِرَابَهُ فِي رَقَبَتِهِ ، كَهَيْئَةِ الْقِرْبَةِ .
قَالَ : أَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ .

( 2336 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ ( وَإِنْ طَرَحَ عَلَى كَتِفَيْهِ الْقَبَاءَ وَالدُّوَاجَ ، فَلَا يُدْخِلْ يَدَيْهِ فِي الْكُمَّيْنِ ) ظَاهِرُ هَذَا اللَّفْظِ إبَاحَةُ لُبْسِ الْقَبَاءِ ، مَا لَمْ يُدْخِلْ يَدَيْهِ فِي كُمَّيْهِ ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ ، وَعَطَاءٍ ، وَإِبْرَاهِيمَ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَقَالَ الْقَاضِي ، وَأَبُو الْخَطَّابِ : إذَا أَدْخَلَ كَتِفَيْهِ فِي الْقَبَاءِ ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ ، وَإِنْ لَمْ يُدْخِلْ يَدَيْهِ فِي كُمَّيْهِ .
وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ مَخِيطٌ لَبِسَهُ الْمُحْرِمُ عَلَى الْعَادَةِ فِي لُبْسِهِ ، فَلَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ إذَا كَانَ عَامِدًا ، كَالْقَمِيصِ .
وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ لُبْسِ الْأَقْبِيَةِ } .
وَوَجْهُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ ، مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ، فِي مَسْأَلَةِ إنْ لَمْ يَجِدْ إزَارًا لَبِسَ السَّرَاوِيلَ ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ لَبِسَ الْخُفَّيْنِ .
وَلِأَنَّ الْقَبَاءَ لَا يُحِيطُ بِالْبَدَنِ ، فَلَمْ تَلْزَمْهُ الْفِدْيَةُ بِوَضْعِهِ عَلَى كَتِفَيْهِ ، إذَا لَمْ يُدْخِلْ يَدَيْهِ فِي كُمَّيْهِ ، كَالْقَمِيصِ يَتَّشِحُ بِهِ ، وَقِيَاسُهُمْ مَنْقُوضٌ بِالرِّدَاءِ الْمُوَصَّلِ ، وَالْخَبَرُ مَحْمُولٌ عَلَى لُبْسِهِ مَعَ إدْخَالِ يَدَيْهِ فِي كُمَّيْهِ .

( 2337 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَلَا يُظَلِّلُ عَلَى رَأْسِهِ فِي الْمَحْمِلِ ، فَإِنْ فَعَلَ فَعَلَيْهِ دَمٌ ) كَرِهَ أَحْمَدُ الِاسْتِظْلَالَ فِي الْمَحْمِلِ خَاصَّةً ، وَمَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ ، كَالْهَوْدَجِ وَالْعَمَّارِيَّة وَالْكَبِيسَة وَنَحْوِ ذَلِكَ عَلَى الْبَعِيرِ .
وَكَرِهَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ ، وَمَالِكٌ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ .
وَكَانَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ يَقُولُ : لَا يَسْتَظِلُّ أَلْبَتَّةَ .
وَرَخَّصَ فِيهِ رَبِيعَةُ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ ، وَعَطَاءٍ ؛ لِمَا رَوَتْ أُمُّ الْحُصَيْنِ ، قَالَتْ : { حَجَجْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّةَ الْوَدَاعِ ، فَرَأَيْت أُسَامَةَ وَبِلَالًا ، وَأَحَدُهُمَا آخِذٌ بِخِطَامِ نَاقَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْآخَرُ رَافِعٌ ثَوْبَهُ يَسْتُرُهُ مِنْ الْحَرِّ ، حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ .
وَلِأَنَّهُ يُبَاحُ لَهُ التَّظَلُّلُ فِي الْبَيْتِ وَالْخِبَاءِ ، فَجَازَ فِي حَالِ الرُّكُوبِ ، كَالْحَلَالِ ، وَلِأَنَّ مَا حَلَّ لِلْحَلَالِ حَلَّ لِلْمُحْرِمِ ، إلَّا مَا قَامَ عَلَى تَحْرِيمِهِ دَلِيلٌ .
وَاحْتَجَّ أَحْمَدُ بُقُولِ ابْنِ عُمَرَ ، رَوَى عَطَاءٌ قَالَ : رَأَى ابْنُ عُمَرَ عَلَى رَحْلِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ عُودًا يَسْتُرُهُ مِنْ الشَّمْسِ ، فَنَهَاهُ .
وَعَنْ نَافِعٍ ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا مُحْرِمًا عَلَى رَحْلٍ ، قَدْ رَفَعَ ثَوْبًا عَلَى عُودٍ يَسْتَتِرُ بِهِ مِنْ الشَّمْسِ ، فَقَالَ : اضْحَ لِمَنْ أَحْرَمْت لَهُ .
أَيْ اُبْرُزْ لِلشَّمْسِ .
رَوَاهُمَا الْأَثْرَمُ .
وَلِأَنَّهُ سَتَرَ بِمَا يَقْصِدُ بِهِ التَّرَفُّهَ ، أَشْبَهَ مَا لَوْ غَطَّاهُ .
وَالْحَدِيثُ ذَهَبَ إلَيْهِ أَحْمَدُ ، فَلَمْ يَكْرَهْ أَنْ يَسْتَتِرَ بِثَوْبٍ وَنَحْوِهِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُقْصَدُ لِلِاسْتِدَامَةِ ، وَالْهَوْدَجُ بِخِلَافِهِ ، وَالْخَيْمَةُ وَالْبَيْتُ يُرَادَانِ لِجَمْعِ الرَّحْلِ وَحِفْظِهِ ، لَا لِلتَّرَفُّهِ .
وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ ، أَنَّهُ إنَّمَا كَرِهَ ذَلِكَ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ ،

لِوُقُوعِ الْخِلَافِ فِيهِ ، وَقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ ، وَلَمْ يَرَ ذَلِكَ حَرَامًا ، وَلَا مُوجِبًا لِفِدْيَةٍ .
قَالَ الْأَثْرَمُ : سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ الْمُحْرِمِ يَسْتَظِلُّ عَلَى الْمَحْمِلِ ؟ قَالَ : لَا .
وَذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ : اضْحَ لِمَنْ أَحْرَمْت لَهُ .
قِيلَ لَهُ : فَإِنْ فَعَلَ يُهْرِيقُ دَمًا ؟ قَالَ : أَمَّا الدَّمُ فَلَا .
قِيلَ : فَإِنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ يَقُولُونَ : عَلَيْهِ دَمٌ .
قَالَ : نَعَمْ ، أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَغْلَطُونَ فِيهِ .
وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَحْمَدَ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْخِرَقِيِّ ؛ لِأَنَّهُ سَتَرَ رَأْسَهُ بِمَا يُسْتَدَامُ وَيُلَازِمُهُ غَالِبًا ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ سَتَرَهُ بِشَيْءٍ يُلَاقِيهِ .
وَيُرْوَى عَنْ الرِّيَاشِيِّ قَالَ : رَأَيْت أَحْمَدَ بْنَ الْمُعَذَّلِ فِي الْمَوْقِفِ ، فِي يَوْمٍ حُرّ شَدِيد ، وَقَدْ ضُحَى لِلشَّمْسِ ، فَقُلْت لَهُ : يَا أَبَا الْفَضْلِ : هَذَا أَمْرٌ قَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ ، فَلَوْ أَخَذْت بِالتَّوَسُّعَةِ .
فَأَنْشَأَ يَقُولُ : ضَحَّيْت لَهُ كَيْ أَسْتَظِلَّ بِظِلِّهِ إذَا الظِّلُّ أَضْحَى فِي الْقِيَامَةِ قَالِصَا فَوَا أَسَفَا إنْ كَانَ سَعْيُك بَاطِلًا وَيَا حَسْرَتَا إنْ كَانَ حَجُّك نَاقِصَا "

( 2338 ) فَصْلٌ : وَلَا بَأْسَ أَنْ يَسْتَظِلَّ بِالسَّقْفِ وَالْحَائِطِ وَالشَّجَرَةِ وَالْخِبَاءِ ، وَإِنْ نَزَلَ تَحْتَ شَجَرَةٍ ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يَطْرَحَ عَلَيْهَا ثَوْبًا يَسْتَظِلُّ بِهِ ، عِنْدَ جَمِيعِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَقَدْ صَحَّ بِهِ النَّقْلُ ، فَإِنَّ جَابِرًا قَالَ فِي حَدِيثِ حَجَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَأَمَرَ بِقُبَّةٍ مِنْ شَعَرٍ ، فَضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ ، فَأَتَى عَرَفَةَ ، فَوَجَدَ الْقُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ ، فَنَزَلَ بِهَا ، حَتَّى إذَا زَاغَتْ الشَّمْسُ } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، وَابْنُ مَاجَهْ ، وَغَيْرُهُمَا .
وَلَا بَأْسَ أَيْضًا أَنْ يَنْصِبَ حِيَالَهُ ثَوْبًا يَقِيهِ الشَّمْسَ وَالْبَرْدَ ، إمَّا أَنْ يُمْسِكَهُ إنْسَانٌ ، أَوْ يَرْفَعَهُ عَلَى عُودٍ ، عَلَى نَحْوِ مَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ أُمِّ الْحُصَيْنِ ، { أَنَّ بِلَالًا أَوْ أُسَامَةَ كَانَ رَافِعًا ثَوْبًا يَسْتُرُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْحَرِّ } .
وَلِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُقْصَدُ بِهِ الِاسْتِدَامَةُ ، فَلَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ ، كَالِاسْتِظْلَالِ بِحَائِطٍ .

( 2339 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَلَا يَقْتُلُ الصَّيْدَ ، وَلَا يَصِيدُهُ ، وَلَا يُشِيرُ إلَيْهِ ، وَلَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ، حَلَالًا وَلَا حَرَامًا ) لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ ، فِي تَحْرِيمِ قَتْلِ الصَّيْدِ وَاصْطِيَادِهِ عَلَى الْمُحْرِمِ .
وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } .
وَقَالَ تَعَالَى : { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا } .
وَتَحْرُمُ عَلَيْهِ الْإِشَارَةُ إلَى الصَّيْدِ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ ؛ فَإِنَّ فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ { لَمَّا صَادَ الْحِمَارَ الْوَحْشِيَّ ، وَأَصْحَابُهُ مُحْرِمُونَ ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ : هَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا ، أَوْ أَشَارَ إلَيْهَا ؟ } .
وَفِي لَفْظٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ : { فَأَبْصَرُوا حِمَارًا وَحْشِيًّا ، وَأَنَا مَشْغُولٌ أَخْصِفُ نَعْلِي ، فَلَمْ يُؤْذِنُونِي ، وَأَحَبُّوا لَوْ أَنِّي أَبْصَرْته } .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ اعْتَقَدُوا تَحْرِيمَ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ .
وَسُؤَالُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ : ( هَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا ، أَوْ أَشَارَ إلَيْهَا ؟ ) يَدُلُّ عَلَى تَعَلُّقِ التَّحْرِيمِ بِذَلِكَ لَوْ وُجِدَ مِنْهُمْ .
وَلِأَنَّهُ تَسَبَّبَ إلَى مُحَرَّمٍ عَلَيْهِ ، فَحُرِّمَ ، كَنَصْبِهِ الْأُحْبُولَةَ .

( 2340 ) فَصْلٌ : وَلَا تَحِلُّ لَهُ الْإِعَانَةُ عَلَى الصَّيْدِ بِشَيْءٍ ، فَإِنَّ فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ : { ثُمَّ رَكِبْت ، وَنَسِيت السَّوْطَ وَالرُّمْحَ ، فَقُلْت لَهُمْ : نَاوِلُونِي السَّوْطَ وَالرُّمْحَ ، قَالُوا : وَاَللَّهِ لَا نُعِينُك عَلَيْهِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { فَاسْتَعَنْتهمْ ، فَأَبَوْا أَنْ يُعِينُونِي } .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ اعْتَقَدُوا تَحْرِيمَ الْإِعَانَةِ ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَرَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ .
وَلِأَنَّهُ إعَانَةٌ عَلَى مُحَرَّمٍ ، فَحُرِّمَ ، كَالْإِعَانَةِ عَلَى قَتْلِ الْآدَمِيِّ .

( 2341 ) فَصْلٌ : وَيَضْمَنُ الصَّيْدَ بِالدَّلَالَةِ ، فَإِذَا دَلَّ الْمُحْرِمُ حَلَالًا عَلَى الصَّيْدِ فَأَتْلَفَهُ ، فَالْجَزَاءُ كُلُّهُ عَلَى الْمُحْرِمِ .
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَبَكْرٍ الْمُزَنِيّ ، وَإِسْحَاقَ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ .
وَقَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ : لَا شَيْءَ عَلَى الدَّالِ ؛ لِأَنَّهُ يَضْمَنُ بِالْجِنَايَةِ ، فَلَا يَضْمَنُ بِالدَّلَالَةِ ، كَالْآدَمِيِّ .
وَلَنَا ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِ أَبِي قَتَادَةَ : { هَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا ، أَوْ أَشَارَ إلَيْهَا ؟ } وَلِأَنَّهُ سَبَبٌ يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى إتْلَافِ الصَّيْدِ ، فَتَعَلَّقَ بِهِ الضَّمَانُ ، كَمَا لَوْ نَصَبَ أُحْبُولَةً ، وَلِأَنَّهُ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ .
وَلَا نَعْرِفُ لَهُمَا مُخَالِفًا فِي الصَّحَابَةِ .

( 2342 ) فَصْلٌ : فَإِنْ دَلَّ مُحْرِمًا عَلَى الصَّيْدِ ، فَقَتَلَهُ فَالْجَزَاءُ بَيْنَهُمَا .
وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ .
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَالْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ : عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ جَزَاءٌ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْفِعْلَيْنِ يَسْتَقِلُّ بِجَزَاءٍ كَامِلٍ إذَا كَانَ مُنْفَرِدًا .
فَكَذَلِكَ إذَا انْضَمَّ إلَيْهِ غَيْرُهُ .
وَقَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ : لَا ضَمَانَ عَلَى الدَّالِ .
وَلَنَا ، أَنَّ الْوَاجِبَ جَزَاءُ الْمُتْلَفِ ، وَهُوَ وَاحِدٌ ، فَيَكُونُ الْجَزَاءُ وَاحِدًا ، وَعَلَى قَوْلِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ مَا سَبَقَ ، وَلَا فَرْقَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ بَيْنَ كَوْنِ الْمَدْلُولِ ظَاهِرًا أَوْ خَفِيًّا لَا يَرَاهُ إلَّا بِالدَّلَالَةِ عَلَيْهِ .
وَلَوْ دَلَّ مُحْرِمٌ مُحْرِمًا عَلَى صَيْدٍ ، ثُمَّ دَلَّ الْآخَرُ آخَرَ ، ثُمَّ كَذَلِكَ إلَى عَشَرَةٍ ، فَقَتَلَهُ الْعَاشِرُ ، كَانَ الْجَزَاءُ عَلَى جَمِيعِهِمْ .
وَإِنْ قَتَلَهُ الْأَوَّلُ ، لَمْ يَضْمَنْ غَيْرُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدُلَّهُ عَلَيْهِ أَحَدٌ ، فَلَا يُشَارِكُهُ فِي ضَمَانِهِ أَحَدٌ .
وَلَوْ كَانَ الْمَدْلُولُ رَأَى الصَّيْدَ قَبْلَ الدَّلَالَةِ وَالْإِشَارَةِ ، فَلَا شَيْءَ عَلَى الدَّالِ وَالْمُشِيرِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ سَبَبًا فِي تَلَفِهِ ، وَلِأَنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ دَلَالَةً عَلَى الْحَقِيقَةِ ، وَكَذَلِكَ إنْ وُجِدَ مِنْ الْمُحْرِمِ حَدَثٌ عِنْدَ رُؤْيَةِ الصَّيْدِ ، مِنْ ضَحِكٍ ، أَوْ اسْتِشْرَافٍ إلَى الصَّيْدِ ، فَفَطِنَ لَهُ غَيْرُهُ فَصَادَهُ ، فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُحْرِمِ ؛ بِدَلِيلِ مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ : { خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إذَا كُنَّا بِالْقَاحَّةِ ، وَمِنَّا الْمُحْرِمُ ، وَمِنَّا غَيْرُ الْمُحْرِمِ ، إذْ بَصُرْت بِأَصْحَابِي يَتَرَاءَوْنَ شَيْئًا ، فَنَظَرْت ، فَإِذَا حِمَارُ وَحْشٍ } .
وَفِي لَفْظٍ : { فَبَيْنَا أَنَا مَعَ أَصْحَابِي يَضْحَكُ بَعْضُهُمْ ، إذْ نَظَرْت ، فَإِذَا أَنَا بِحِمَارِ وَحْشٍ } .
وَفِي لَفْظٍ : { فَلَمَّا كُنَّا بِالصِّفَاحِ فَإِذَا هُمْ يَتَرَاءَوْنَ .
فَقُلْت :

أَيَّ شَيْءٍ تَنْظُرُونَ ؟ فَلَمْ يُخْبِرُونِي } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .

( 2343 ) فَصْلٌ : فَإِنْ أَعَارَ قَاتِلَ الصَّيْدِ سِلَاحًا ، فَقَتَلَهُ بِهِ ، فَهُوَ كَمَا لَوْ دَلَّهُ عَلَيْهِ ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُسْتَعَارُ مِمَّا لَا يَتِمُّ قَتْلُهُ إلَّا بِهِ ، أَوْ أَعَارَهُ شَيْئًا هُوَ مُسْتَغْنٍ عَنْهُ ، مِثْلَ أَنْ يُعِيرَهُ رُمْحًا وَمَعَهُ رُمْحٌ ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَعَانَهُ عَلَيْهِ بِمُنَاوَلَتِهِ سَوْطَهُ أَوْ رُمْحَهُ ، أَوْ أَمَرَهُ بِاصْطِيَادِهِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ ، وَقَوْلِ أَصْحَابِهِ : وَاَللَّهِ لَا نُعِينُك عَلَيْهِ بِشَيْءٍ .
وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { هَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا ، أَوْ أَشَارَ إلَيْهَا ؟ } .
وَكَذَلِكَ إنْ أَعَارَهُ سِكِّينًا ، فَذَبَحَهُ بِهَا .
فَإِنْ أَعَارَهُ آلَةً لِيَسْتَعْمِلهَا فِي غَيْرِ الصَّيْدِ ، فَاسْتَعْمَلَهَا فِي الصَّيْدِ ، لَمْ يَضْمَنْ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُحَرَّمٍ عَلَيْهِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ ضَحِكَ عِنْدَ رُؤْيَةِ الصَّيْدِ ، فَفَطِنَ لَهُ إنْسَانٌ ، فَصَادَهُ .

( 2344 ) فَصْلٌ : وَإِنْ دَلَّ الْحَلَالُ مُحْرِمًا عَلَى الصَّيْدِ ، فَقَتَلَهُ ، فَلَا شَيْءَ عَلَى الْحَلَالِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَضْمَنُ الصَّيْدَ بِالْإِتْلَافِ ، فَبِالدَّلَالَةِ أَوْلَى ، إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي الْحَرَمِ ، فَيُشَارِكَهُ فِي الْجَزَاءِ ؛ لِأَنَّ صَيْدَ الْحَرَمِ حَرَامٌ عَلَى الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .

( 2345 ) فَصْلٌ : وَإِنْ صَادَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا لَمْ يَمْلِكْهُ ، فَإِنْ تَلِفَ فِي يَدِهِ ، فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ ، وَإِنْ أَمْسَكَهُ حَتَّى حَلَّ ، لَزِمَهُ إرْسَالُهُ ، وَلَيْسَ لَهُ ذَبَحَهُ ، فَإِنْ فَعَلَ ، أَوْ تَلِفَ الصَّيْدُ ، ضَمِنَهُ ، وَحَرُمَ أَكْلُهُ ؛ لِأَنَّهُ صَيْدٌ ضَمِنَهُ بِحُرْمَةِ الْإِحْرَامِ ، فَلَمْ يُبَحْ أَكْلُهُ ، كَمَا لَوْ ذَبَحَهُ حَالَ إحْرَامِهِ ، وَلِأَنَّهَا ذَكَاةٌ مُنِعَ مِنْهَا بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ ، فَأَشْبَهَتْ مَا لَوْ كَانَ الْإِحْرَامُ بَاقِيًا .
وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّ لَهُ أَكْلَهُ وَعَلَيْهِ ضَمَانَهُ ؛ لِأَنَّهُ ذَبَحَهُ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ ذَبْحِ الصَّيْدِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ صَادَهُ بَعْدَ الْحِلِّ .
وَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا يَلْزَمُهُ ضَمَانُهُ وَاَلَّذِي صَادَهُ بَعْدَ الْحِلِّ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيهِ .

( 2346 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَلَا يَأْكُلُهُ إذَا صَادَهُ الْحَلَالُ لِأَجْلِهِ ) لَا خِلَافَ فِي تَحْرِيمِ الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ إذَا صَادَهُ أَوْ ذَبَحَهُ .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا } .
وَإِنْ صَادَهُ حَلَالٌ وَذَبَحَهُ ، وَكَانَ مِنْ الْمُحْرِمِ إعَانَةٌ فِيهِ ، أَوْ دَلَالَةٌ عَلَيْهِ ، أَوْ إشَارَةٌ إلَيْهِ ، لَمْ يُبَحْ أَيْضًا .
وَإِنْ صِيدَ مِنْ أَجْلِهِ ، لَمْ يُبَحْ لَهُ أَيْضًا أَكْلُهُ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ .
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَهُ أَكْلُهُ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ : { هَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ ، أَوْ أَشَارَ إلَيْهِ بِشَيْءٍ ؟ قَالُوا : لَا .
قَالَ : فَكُلُوا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
فَدَلَّ عَلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْإِشَارَةِ وَالْأَمْرِ وَالْإِعَانَةِ ، وَلِأَنَّهُ صَيْدٌ مُذَكًّى ، لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ وَلَا فِي سَبَبِهِ صُنْعٌ مِنْهُ ، فَلَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ أَكْلُهُ ، كَمَا لَوْ لَمْ يُصَدْ لَهُ .
وَحُكِيَ عَنْ عَلِيٍّ ، وَابْنِ عُمَرَ ، وَعَائِشَةَ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّ لَحْمَ الصَّيْدِ يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ بِكُلِّ حَالٍ ، وَبِهِ قَالَ طَاوُسٌ .
وَكَرِهَهُ الثَّوْرِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ : { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا } .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنُ عَبَّاسٍ ، عَنْ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ اللَّيْثِيِّ ، أَنَّهُ { أَهْدَى إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِمَارًا وَحْشِيًّا ، وَهُوَ بِالْأَبْوَاءِ أَوْ بِوَدَّانَ ، فَرَدَّهُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا فِي وَجْهِهِ ، قَالَ : إنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْك إلَّا أَنَّا حُرُمٌ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَفِي لَفْظٍ : { أَهْدَى الصَّعْبُ بْنُ جَثَّامَةَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِجْلَ حِمَارٍ .
وَفِي رِوَايَةٍ : عَجُزَ حِمَارٍ .
} وَفِي رِوَايَةٍ :

شِقَّ حِمَارٍ .
رَوَى ذَلِكَ كُلَّهُ مُسْلِمٌ .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ : كَانَ الْحَارِثُ خَلِيفَةَ عُثْمَانَ عَلَى الطَّائِفِ ، فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا ، وَصَنَعَ فِيهِ مِنْ الْحَجَلِ وَالْيَعَاقِيبِ وَلَحْمِ الْوَحْشِ ، فَبَعَثَ إلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَجَاءَهُ فَقَالَ : أَطْعِمُوهُ قَوْمًا حَلَالًا ، فَأَنَا حُرُمٌ .
ثُمَّ قَالَ عَلِيٌّ : أَنْشُدُ اللَّهَ مَنْ كَانَ هَاهُنَا مِنْ أَشْجَعَ ، أَتَعْلَمُونَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْدَى إلَيْهِ رَجُلٌ حِمَارَ وَحْشٍ ، فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَهُ } ؟ قَالُوا : نَعَمْ .
وَلِأَنَّهُ لَحْمُ صَيْدٍ فَحَرُمَ عَلَى الْمُحْرِمِ ، كَمَا لَوْ دَلَّ عَلَيْهِ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى جَابِرٌ ، قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { صَيْدُ الْبَرِّ لَكُمْ حَلَالٌ مَا لَمْ تَصِيدُوهُ ، أَوْ يُصَدْ لَكُمْ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ ، وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ : هُوَ أَحْسَنُ حَدِيثٍ فِي الْبَابِ .
وَهَذَا صَرِيحٌ فِي الْحُكْمِ ، ؛ وَفِيهِ جَمْعٌ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ ، وَبَيَانُ الْمُخْتَلِفِ مِنْهَا ، فَإِنَّ تَرْكَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَكْلِ مِمَّا أُهْدِيَ إلَيْهِ ، يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِعِلْمِهِ أَنَّهُ صِيدَ مِنْ أَجْلِهِ أَوْ ظَنِّهِ ، وَيَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى ذَلِكَ ، لِمَا قَدَّمْت مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ ، وَأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ بِأَكْلِ الْحِمَارِ الَّذِي صَادَهُ .
وَعَنْ طَلْحَةَ ، { أَنَّهُ أُهْدِيَ لَهُ طَيْرٌ ، وَهُوَ رَاقِدٌ ، فَأَكَلَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ وَهُمْ مُحْرِمُونَ ، وَتَوَرَّعَ بَعْضٌ ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ طَلْحَةُ وَافَقَ مَنْ أَكَلَهُ ، وَقَالَ : أَكَلْنَاهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَفِي ( الْمُوَطَّأِ ) ، { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ يُرِيدُ مَكَّةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ ، حَتَّى إذَا كَانَ بِالرَّوْحَاءِ ، إذَا حِمَارُ وَحْشٍ عَقِيرٌ ، فَجَاءَ الْبَهْزِيُّ وَهُوَ صَاحِبُهُ ،

فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّه ، شَأْنَكُمْ بِهَذَا الْحِمَارِ ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ فَقَسَمَهُ بَيْنَ الرِّفَاقِ } .
وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ .
وَأَحَادِيثُهُمْ إنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا ذِكْرٌ أَنَّهُ صِيدَ مِنْ أَجْلِهِمْ ، فَتَعَيَّنَ ضَمُّ هَذَا الْقَيْدِ إلَيْهَا لِحَدِيثِنَا ، وَجَمْعًا بَيْنَ الْأَحَادِيثِ ، وَدَفْعًا لِلتَّنَاقُضِ عَنْهَا ، وَلِأَنَّهُ صِيدَ لِلْمُحْرِمِ ، فَحُرِّمَ ، كَمَا لَوْ أَمَرَ أَوْ أَعَانَ .

( 2347 ) فَصْلٌ : وَمَا حَرُمَ عَلَى الْمُحْرِمِ ، لِكَوْنِهِ صِيدَ مِنْ أَجْلِهِ ، أَوْ دَلَّ عَلَيْهِ ، أَوْ أَعَانَ عَلَيْهِ ، لَمْ يَحْرُمْ عَلَى الْحَلَالِ أَكْلُهُ ؛ لِقَوْلِ عَلِيٍّ ، أَطْعِمُوهُ حَلَالًا .
وَقَدْ بَيَّنَّا حَمْلَهُ عَلَى أَنَّهُ صِيدَ مِنْ أَجْلِهِمْ ، وَحَدِيثِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ ، حِينَ رَدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّيْدَ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يَنْهَهُ عَنْ أَكْلِهِ .
وَلِأَنَّهُ صَيْدٌ حَلَالٌ ، فَأُبِيحَ لِلْحَلَالِ أَكْلُهُ ، كَمَا لَوْ صِيدَ لَهُمْ .
وَهَلْ يُبَاحُ أَكْلُهُ لِمُحْرِمٍ آخَرَ ؟ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ إبَاحَتُهُ لَهُ ؛ لِقَوْلِهِ : { صَيْدُ الْبَرِّ لَكُمْ حَلَالٌ ، مَا لَمْ تَصِيدُوهُ ، أَوْ يُصَدْ لَكُمْ } .
وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ أُهْدِيَ إلَيْهِ صَيْدٌ ، وَهُوَ مُحْرِمٌ ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ : كُلُوا .
وَلَمْ يَأْكُلْ هُوَ ، وَقَالَ : إنَّمَا صِيدَ مِنْ أَجْلِي .
وَلِأَنَّهُ لَمْ يُصَدْ مِنْ أَجْلِهِ ، فَحَلَّ لَهُ كَمَا لَوْ صَادَهُ الْحَلَالُ لِنَفْسِهِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَحْرُمَ عَلَيْهِ .
وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ عَلِيٍّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ؛ لِقَوْلِهِ : أَطْعِمُوهُ حَلَالًا ، فَأَنَا حُرُمٌ .
وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ : { هَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا ، أَوْ أَشَارَ إلَيْهَا ؟ قَالُوا : لَا ، قَالَ : فَكُلُوهُ } .
فَمَفْهُومُهُ أَنَّ إشَارَةَ وَاحِدٍ مِنْهُمْ تُحَرِّمُهُ عَلَيْهِمْ .

( 2348 ) فَصْلٌ : إذَا قَتَلَ الْمُحْرِمُ الصَّيْدَ ، ثُمَّ أَكَلَهُ ، ضَمِنَهُ لِلْقَتْلِ دُونَ الْأَكْلِ .
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ عَطَاءٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ : يَضْمَنُهُ لِلْأَكْلِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ أَكَلَ مِنْ صَيْدٍ مُحَرَّمٍ عَلَيْهِ ، فَيَضْمَنُهُ ، كَمَا لَوْ أَكَلَ مِمَّا صِيدَ لِأَجْلِهِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ صَيْدٌ مَضْمُونٌ بِالْجَزَاءِ ، فَلَمْ يَضْمَن ثَانِيًا ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ بِغَيْرِ الْأَكْلِ ، وَكَصَيْدِ الْحَرَمِ إذَا قَتَلَهُ الْحَلَالُ وَأَكَلَهُ ، وَكَذَلِكَ إنْ قَتَلَهُ مُحْرِمٌ آخَرُ ، ثُمَّ أَكَلَ هَذَا مِنْهُ ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا .
وَلِأَنَّ تَحْرِيمَهُ لِكَوْنِهِ مَيْتَةً ، وَالْمَيْتَةُ لَا تُضْمَنُ بِالْجَزَاءِ .
وَكَذَلِكَ إنْ حَرُمَ عَلَيْهِ أَكْلُهُ لِلدَّلَالَةِ عَلَيْهِ ، وَالْإِعَانَةِ عَلَيْهِ ، فَأَكَلَ مِنْهُ ، لَمْ يَضْمَنْ ؛ لِأَنَّهُ صَيْدٌ مَضْمُونٌ بِالْجَزَاءِ مَرَّةً ، فَلَا يَجِبُ بِهِ جَزَاءٌ ثَانٍ ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ .
وَإِنْ أَكَلَ مِمَّا صِيدَ لِأَجْلِهِ ، ضَمِنَهُ .
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ .
وَقَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ .
وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ : لَا جَزَاءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ أَكْلٌ لِلصَّيْدِ ، فَلَمْ يَجِبْ بِهِ الْجَزَاءُ ، كَمَا لَوْ قَتَلَهُ ثُمَّ أَكَلَهُ .
وَلَنَا ، إنَّهُ إتْلَافٌ مَمْنُوعٌ مِنْهُ لِحُرْمَةِ الْإِحْرَامِ ، فَتَعَلَّقَ بِهِ الضَّمَانُ ، كَالْقَتْلِ .
أَمَّا إذَا قَتَلَهُ ، ثُمَّ أَكَلَهُ ، لَا يُحَرَّمُ لِلْإِتْلَافِ ، إنَّمَا حُرِّمَ لِكَوْنِهِ مَيْتَةً .
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ بِمِثْلِهِ مِنْ اللَّحْمِ ؛ لِأَنَّ أَصْلَهُ مَضْمُونٌ بِمِثْلِهِ مِنْ النَّعَمِ ، فَكَذَلِكَ أَبْعَاضُهُ تُضْمَنُ بِمِثْلِهَا ، بِخِلَافِ حَيَوَانِ الْآدَمِيِّ ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ بِقِيمَتِهِ ، فَكَذَلِكَ أَبْعَاضُهُ .

( 2349 ) فَصْلٌ : وَإِذَا ذَبَحَ الْمُحْرِمُ الصَّيْدَ صَارَ مَيْتَةً ، يَحْرُمُ أَكْلُهُ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ .
وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ ، وَالْقَاسِمِ ، وَسَالِمٍ ، وَمَالِكٍ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَإِسْحَاقَ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ .
وَقَالَ الْحَكَمُ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ : لَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ ذَبِيحَةِ السَّارِقِ .
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ ، وَأَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ : يَأْكُلُهُ الْحَلَالُ .
وَحُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ قَوْلٌ قَدِيمٌ ، أَنَّهُ يَحِلُّ لِغَيْرِهِ الْأَكْلُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ مَنْ أَبَاحَتْ ذَكَاتُهُ غَيْرَ الصَّيْدِ أَبَاحَتْ الصَّيْدَ ، كَالْحَلَالِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ حَيَوَانٌ حُرِّمَ عَلَيْهِ ذَبْحُهُ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ، فَلَمْ يَحِلَّ بِذَبْحِهِ كَالْمَجُوسِيِّ ، وَبِهَذَا فَارَقَ سَائِرَ الْحَيَوَانَاتِ ، وَفَارَقَ غَيْرَ الصَّيْدِ ، فَإِنَّهُ لَا يُحَرَّمُ ذَبْحُهُ ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي صَيْدِ الْحَرَمِ إذَا ذَبَحَهُ الْحَلَالُ .

( 2350 ) فَصْلٌ : إذَا اُضْطُرَّ الْمُحْرِمُ ، فَوَجَدَ صَيْدًا وَمَيْتَةً ، أَكَلَ الْمَيْتَةَ .
وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَمَالِكٌ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ : يَأْكُلُ الصَّيْدَ .
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّهُ إذَا ذُبِحَ الصَّيْدُ كَانَ مَيْتَةً ، فَيُسَاوِي الْمَيْتَةَ فِي التَّحْرِيمِ ، وَيَمْتَازُ بِإِيجَابِ الْجَزَاءِ ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ هَتْكِ حُرْمَةِ الْإِحْرَامِ ، فَلِذَلِكَ كَانَ أَكْلُ الْمَيْتَةِ أَوْلَى ، إلَّا أَنْ لَا تَطِيبَ نَفْسُهُ بِأَكْلِهَا ، فَيَأْكُلَ الصَّيْدَ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ .

( 2351 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَلَا يَتَطَيَّبُ الْمُحْرِمُ ) أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ الطِّيبِ .
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُحْرِمِ الَّذِي وَقَصَتْهُ رَاحِلَتُهُ : { لَا تَمَسُّوهُ بِطِيبٍ } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَفِي لَفْظٍ : ( لَا تُحَنِّطُوهُ ) .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
فَلَمَّا مُنِعَ الْمَيِّتُ مِنْ الطِّيبِ لِإِحْرَامِهِ ، فَالْحَيُّ أَوْلَى .
وَمَتَى تَطَيَّبَ ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَعْمَلَ مَا حَرَّمَهُ الْإِحْرَامُ ، فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ ، كَاللِّبَاسِ .
وَمَعْنَى الطِّيبِ : مَا تَطِيبُ رَائِحَتُهُ ، وَيُتَّخَذُ لِلشَّمِّ ، كَالْمِسْكِ ، وَالْعَنْبَرِ ، وَالْكَافُورِ ، وَالْغَالِيَةِ ، وَالزَّعْفَرَانِ ، وَمَاءِ الْوَرْدِ ، وَالْأَدْهَانِ الْمُطَيِّبَةِ ، كَدُهْنِ الْبَنَفْسَجِ وَنَحْوِهِ .
( 2352 ) فَصْلٌ : وَالنَّبَاتُ الَّذِي تُسْتَطَابُ رَائِحَتُهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا ، مَا لَا يَنْبُتُ لِلطِّيبِ ، وَلَا يُتَّخَذُ مِنْهُ ، كَنَبَاتِ الصَّحْرَاءِ ، مِنْ الشِّيحِ وَالْقَيْصُومِ وَالْخَزَامَى ، وَالْفَوَاكِهِ كُلِّهَا مِنْ الْأُتْرُجِّ وَالتُّفَّاحِ وَالسَّفَرْجَلِ وَغَيْرِهِ ، وَمَا يُنْبِتُهُ الْآدَمِيُّونَ لِغَيْرِ قَصْدِ الطِّيبِ ، كَالْحِنَّاءِ وَالْعُصْفُرِ ، فَمُبَاحٌ شَمُّهُ ، وَلَا فِدْيَةَ فِيهِ .
وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا ، إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَشَمَّ شَيْئًا مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ ، مِنْ الشِّيحِ وَالْقَيْصُومِ وَغَيْرِهِمَا .
وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا أَوْجَبَ فِي ذَلِكَ شَيْئًا ، فَإِنَّهُ لَا يُقْصَدُ لِلطِّيبِ ، وَلَا يُتَّخَذُ مِنْهُ طِيبٌ ، أَشْبَهَ سَائِرَ نَبَاتِ الْأَرْضِ .
قَدْ رُوِيَ { أَنَّ أَزْوَاجَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُنَّ يُحْرِمْنَ فِي الْمُعَصْفَرَاتِ } .
الثَّانِي ، مَا يُنْبِتُهُ الْآدَمِيُّونَ لِلطِّيبِ ، وَلَا يُتَّخَذُ مِنْهُ طِيبٌ ، كَالرَّيْحَانِ الْفَارِسِيِّ ، وَالْمَرْزَجُوشِ وَالنَّرْجِسِ ، وَالْبَرَمِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، يُبَاحُ بِغَيْرِ فِدْيَةٍ .
قَالَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ ،

وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَالْحَسَنُ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَإِسْحَاقُ .
وَالْآخَرُ ، يَحْرُمُ شَمُّهُ ، فَإِنْ فَعَلَ فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ .
وَهُوَ قَوْلُ جَابِرٍ ، وَابْنِ عُمَرَ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَبِي ثَوْرٍ ؛ لِأَنَّهُ يُتَّخَذُ لِلطِّيبِ ، فَأَشْبَهَ الْوَرْدَ .
وَكَرِهَهُ مَالِكٌ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ، وَلَمْ يُوجِبُوا فِيهِ شَيْئًا .
وَكَلَامُ أَحْمَدَ فِيهِ مُحْتَمِلٌ لَهَا ؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِي الرَّيْحَانِ : لَيْسَ مِنْ آلَةِ الْمُحْرِمِ .
وَلَمْ يَذْكُرْ فِدْيَتَهُ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يُتَّخَذُ مِنْهُ طِيبٌ ، فَأَشْبَهَ الْعُصْفُرَ .
الثَّالِثُ ، مَا يَنْبُتُ لِلطِّيبِ ، وَيُتَّخَذُ مِنْهُ طِيبٌ ، كَالْوَرْدِ وَالْبَنَفْسَجِ وَالْيَاسَمِينِ وَالْخَيْرِيِّ ، فَهَذَا إذَا اسْتَعْمَلَهُ وَشَمَّهُ ، فَفِيهِ الْفِدْيَةُ ؛ لِأَنَّ الْفِدْيَةَ تَجِبُ فِيمَا يُتَّخَذُ مِنْهُ ، فَكَذَلِكَ فِي أَصْلِهِ .
وَعَنْ أَحْمَدَ ، رِوَايَةٌ أُخْرَى فِي الْوَرْدِ : لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ فِي شَمِّهِ ؛ لِأَنَّهُ زَهْرٌ شَمَّهُ عَلَى جِهَتِهِ ، أَشْبَهَ زَهْرَ سَائِرِ الشَّجَرِ .
وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ فِي هَذَا وَاَلَّذِي قَبْلَهُ رِوَايَتَيْنِ .
وَالْأَوْلَى تَحْرِيمُهُ ؛ لِأَنَّهُ يَنْبُتُ لِلطِّيبِ ، وَيُتَّخَذُ مِنْهُ ، أَشْبَهَ الزَّعْفَرَانَ وَالْعَنْبَرَ .
قَالَ الْقَاضِي : يُقَالُ إنَّ الْعَنْبَرَ ثَمَرُ شَجَرٍ ، وَكَذَلِكَ الْكَافُورُ .
( 2353 ) فَصْلٌ : وَإِنْ مَسَّ مِنْ الطِّيبِ مَا يَعْلَقُ بِيَدِهِ ، كَالْغَالِيَةِ ، وَمَاءِ الْوَرْدِ ، وَالْمِسْكِ الْمَسْحُوقِ الَّذِي يَعْلَقُ بِأَصَابِعِهِ ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ لِلطِّيبِ .
وَإِنْ مَسَّ مَا لَا يَعْلَقُ بِيَدِهِ ، كَالْمِسْكِ غَيْرِ الْمَسْحُوقِ ، وَقِطَعِ الْكَافُورِ ، وَالْعَنْبَرِ ، فَلَا فِدْيَةَ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ لِلطِّيبِ .
فَإِنْ شَمَّهُ ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ هَكَذَا .
وَإِنْ شَمَّ الْعُودَ ، فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَطَيَّبُ بِهِ هَكَذَا .

( 2354 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَلَا يَلْبَسُ ثَوْبًا مَسَّهُ وَرْسٌ وَلَا زَعْفَرَانٌ وَلَا طِيبٌ ) لَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا فِي هَذَا .
وَهُوَ قَوْلُ جَابِرٍ ، وَابْنِ عُمَرَ ، وَمَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَبِي ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْي .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : لَا خِلَافَ فِي هَذَا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تَلْبَسُوا مِنْ الثِّيَابِ شَيْئًا مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ ، وَلَا الْوَرْسُ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
فَكُلُّ مَا صُبِغَ بِزَعْفَرَانٍ أَوْ وَرْسٍ ، أَوْ غُمِسَ فِي مَاءِ وَرْدٍ ، أَوْ بُخِّرَ بِعُودٍ ، فَلَيْسَ لِلْمُحْرِمِ لُبْسُهُ ، وَلَا الْجُلُوسُ عَلَيْهِ ، وَلَا النَّوْمُ عَلَيْهِ .
نَصَّ أَحْمَدُ عَلَيْهِ .
وَذَلِكَ لِأَنَّهُ اسْتِعْمَالٌ لَهُ ، فَأَشْبَهَ لُبْسَهُ .
وَمَتَى لَبِسَهُ ، أَوْ اسْتَعْمَلَهُ ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ .
وَبِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنْ كَانَ رَطْبًا يَلِي بَدَنَهُ ، أَوْ يَابِسًا يُنْفَضُ ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ ، وَإِلَّا فَلَا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَطَيِّبٍ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ مَنْهِيُّ عَنْهُ لِأَجْلِ الْإِحْرَامِ فَلَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ بِهِ ، كَاسْتِعْمَالِ الطِّيبِ فِي بَدَنِهِ .
وَلِأَنَّهُ مُحْرِمٌ اسْتَعْمَلَ ثَوْبًا مُطَيَّبًا ، فَلَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ بِهِ كَالرَّطْبِ .
فَإِنْ غَسَلَهُ حَتَّى ذَهَبَ مَا فِيهِ مِنْ ذَلِكَ ، فَلَا بَأْسَ بِهِ عِنْدَ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ .

( 2355 ) فَصْلٌ : وَإِنْ انْقَطَعَتْ رَائِحَةُ الثَّوْبِ ، لِطُولِ الزَّمَنِ عَلَيْهِ ، أَوْ لِكَوْنِهِ صُبِغَ بِغَيْرِهِ ، فَغَلَبَ عَلَيْهِ ، بِحَيْثُ لَا يَفُوحُ لَهُ رَائِحَةٌ إذَا رُشَّ فِيهِ الْمَاءُ ، فَلَا بَأْسَ بِاسْتِعْمَالِهِ ، لِزَوَالِ الطِّيبِ مِنْهُ .
وَبِهَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَالْحَسَنُ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ ، وَطَاوُسٍ .
وَكَرِهَ ذَلِكَ مَالِكٌ ، إلَّا أَنْ يُغْسَلَ وَيَذْهَبَ لَوْنُهُ ؛ لِأَنَّ عَيْنَ الزَّعْفَرَانِ وَنَحْوِهِ فِيهِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ إنَّمَا نُهِيَ عَنْهُ مِنْ أَجْلِ رَائِحَتِهِ ، وَقَدْ ذَهَبَتْ بِالْكُلِّيَّةِ .
فَأَمَّا إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَائِحَةٌ فِي الْحَالِ ، لَكِنَّ كَانَ بِحَيْثُ إذَا رُشَّ فِيهِ مَاءٌ فَاحَ رِيحُهُ ، فَفِيهِ الْفِدْيَةُ ؛ لِأَنَّهُ مُتَطَيِّبٌ ، بِطِيبٍ ، بِدَلِيلِ أَنَّ رَائِحَتَهُ تَظْهَرُ عِنْدَ رَشِّ الْمَاءِ فِيهِ ، وَالْمَاءُ لَا رَائِحَةَ لَهُ ، وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ الصِّبْغِ الَّذِي فِيهِ .
فَأَمَّا إنْ فَرَشَ فَوْقَ الثَّوْبِ ثَوْبًا صَفِيقًا يَمْنَعُ الرَّائِحَةَ وَالْمُبَاشَرَةَ ، فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ بِالْجُلُوسِ وَالنَّوْمِ عَلَيْهِ .
وَإِنْ كَانَ الْحَائِلُ بَيْنَهُمَا ثِيَابَ بَدَنِهِ ، فَفِيهِ الْفِدْيَةُ ؛ لِأَنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ اسْتِعْمَالِ الطِّيبِ فِي الثَّوْبِ الَّذِي عَلَيْهِ ، كَمَنْعِهِ مِنْ اسْتِعْمَالِهِ فِي بَدَنِهِ .

( 2356 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَلَا بَأْسَ بِمَا صُبِغَ بِالْعُصْفُرِ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْعُصْفُرَ لَيْسَ بِطِيبٍ ، وَلَا بَأْسَ بِاسْتِعْمَالِهِ وَشَمِّهِ ، وَلَا بِمَا صُبِغَ بِهِ .
وَهَذَا قَوْلُ جَابِرٍ ، وَابْنِ عُمَرَ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ ، وَعَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَعَنْ عَائِشَةَ ، وَأَسْمَاءَ ، وَأَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُنَّ كُنَّ يُحْرِمْنَ فِي الْمُعَصْفَرَاتِ .
وَكَرِهَهُ مَالِكٌ إذَا كَانَ يَنْتَفِضُ فِي بَدَنِهِ ، وَلَمْ يُوجِبْ فِيهِ فِدْيَةً .
وَمَنَعَ مِنْهُ الثَّوْرِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ ، وَشَبَّهُوهُ بِالْمُوَرَّسِ وَالْمُزَعْفَرِ ؛ لِأَنَّهُ صِبْغٌ طَيِّبُ الرَّائِحَةِ ، فَأَشْبَهَ ذَلِكَ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى أَبُو دَاوُد ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى النِّسَاءَ فِي إحْرَامِهِنَّ عَنْ الْقُفَّازَيْنِ وَالنِّقَابِ ، وَمَا مَسَّ الْوَرْسَ وَالزَّعْفَرَانَ مِنْ الثِّيَابِ ، } وَلْتَلْبَسْ بَعْدَ ذَلِكَ مَا أَحَبَّتْ مِنْ أَلْوَانِ الثِّيَابِ ، مِنْ مُعَصْفَرٍ ، أَوْ خَزٍّ ، أَوْ حُلِيٍّ ، أَوْ سَرَاوِيلَ ، أَوْ قَمِيصٍ ، أَوْ خُفٍّ .
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، فِي الْمَنَاسِكِ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ سَعْدٍ ، قَالَتْ { : كُنَّا أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُحْرِمُ فِي الْمُعَصْفَرَاتِ } .
وَلِأَنَّهُ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ ، وَلَمْ نَعْرِفْ لَهُمْ مُخَالِفًا ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِطِيبٍ ، فَلَمْ يُكْرَهْ مَا صُبِغَ بِهِ ، كَالسَّوَادِ ، وَالْمَصْبُوغِ بِالْمَغْرَةِ ، وَأَمَّا الْوَرْسُ وَالزَّعْفَرَانُ فَإِنَّهُ طِيبٌ ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا .

( 2357 ) فَصْلٌ : وَلَا بَأْسَ بِالْمُمَشَّقِ ، وَهُوَ الْمَصْبُوغُ بِالْمَغْرَةِ ؛ لِأَنَّهُ مَصْبُوغٌ بِطِينٍ لَا بِطِيبٍ ، وَكَذَلِكَ الْمَصْبُوغُ بِسَائِرِ الْأَصْبَاغِ ، سِوَى مَا ذَكَرْنَا ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الْإِبَاحَةُ ، إلَّا مَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِتَحْرِيمِهِ ، وَمَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ ، وَلَيْسَ هَذَا كَذَلِكَ .
وَأَمَّا الْمَصْبُوغُ بِالرَّيَاحِينِ ، فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الرَّيَاحِينِ فِي نَفْسِهَا ، فَمَا مُنِعَ الْمُحْرِمُ مِنْ اسْتِعْمَالِهِ ، مُنِعَ لُبْسَ الْمَصْبُوغِ بِهِ ، إذَا ظَهَرَتْ رَائِحَتُهُ ، وَإِلَّا فَلَا .

( 2358 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَلَا يَقْطَعُ شَعْرًا مِنْ رَأْسِهِ ، وَلَا جَسَدِهِ ) أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ أَخْذِ شَعْرِهِ ، إلَّا مِنْ عُذْرٍ .
وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى { : وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } .
وَرَوَى كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنَّهُ قَالَ : { لَعَلَّك يُؤْذِيك هَوَامُّ رَأْسِك ؟ قَالَ : نَعَمْ ، يَا رَسُولَ اللَّهِ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : احْلِقْ رَأْسَك ، وَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ ، أَوْ اُنْسُكْ شَاةً } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَلْقَ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ مُحَرَّمًا ، وَشَعْرُ الرَّأْسِ وَالْجَسَدِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ .
( 2359 ) فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ ، مِنْ مَرَضٍ ، أَوْ وَقَعَ فِي رَأْسِهِ قَمْلٌ ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَتَضَرَّرُ بِإِبْقَاءِ الشَّعْرِ ، فَلَهُ إزَالَتُهُ ، لِلْآيَةِ وَالْخَبَرِ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا } .
أَيْ بِرَأْسِهِ قُرُوحٌ ، { أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ } .
أَيْ قَمْلٌ .
ثُمَّ يَنْظُرُ ؛ فَإِنْ كَانَ الضَّرَرُ اللَّاحِقُ بِهِ مِنْ نَفْسِ الشَّعْرِ ، مِثْلَ أَنْ يَنْبُتَ فِي عَيْنِهِ ، أَوْ طَالَ حَاجِبَاهُ فَغَطَّيَا عَيْنَيْهِ ، فَلَهُ قَلْعُ مَا فِي الْعَيْنِ ، وَقَطْعُ مَا اسْتَرْسَلَ عَلَى عَيْنَيْهِ ، وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الشَّعْرَ آذَاهُ ، فَكَانَ لَهُ دَفْعُ أَذِيَّتِهِ بِغَيْرِ فِدْيَةٍ ، كَالصَّيْدِ إذَا صَالَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ الْأَذَى مِنْ غَيْرِ الشَّعْرِ ، لَكِنَّ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إزَالَةِ الْأَذَى إلَّا بِإِزَالَةِ الشَّعْرِ ، كَالْقَمْلِ وَالْقُرُوحِ بِرَأْسِهِ ، أَوْ صُدَاعٍ بِرَأْسِهِ ، أَوْ شِدَّةِ الْحَرِّ عَلَيْهِ لِكَثْرَةِ شَعْرِهِ ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ ؛ لِأَنَّهُ قَطَعَ الشَّعْرَ لِإِزَالَةِ ضَرَرِ غَيْرِهِ ، فَأَشْبَهَ أَكْلَ الصَّيْدِ لِلْمَخْمَصَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَالْقَمْلُ مِنْ ضَرَرِ الشَّعْرِ ، وَالْحَرُّ سَبَبُهُ كَثْرَةُ الشَّعْرِ .
قُلْنَا : لَيْسَ الْقَمْلُ

مِنْ الشَّعْرِ ، وَإِنَّمَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْمُقَامِ فِي الرَّأْسِ إلَّا بِهِ ، فَهُوَ مَحَلٌّ لَهُ ، لَا سَبَبٌ فِيهِ .
وَكَذَلِكَ الْحَرُّ مِنْ الزَّمَانِ ، بِدَلِيلِ أَنَّ الشَّعْرَ يُوجَدُ فِي زَمَنِ الْبَرْدِ ، فَلَا يَتَأَذَّى بِهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( 2360 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَلَا يَقْطَعُ ظُفْرًا إلَّا أَنْ يَنْكَسِرَ ) أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ قَلْمِ أَظْفَارِهِ ، إلَّا مِنْ عُذْرٍ ؛ لِأَنَّ قَطْعَ الْأَظْفَارِ إزَالَةُ جُزْءٍ يَتَرَفَّهُ بِهِ ، فَحُرِّمَ ، كَإِزَالَةِ الشَّعْرِ .
فَإِنْ انْكَسَرَ ، فَلَهُ إزَالَتُهُ مِنْ غَيْرِ فِدْيَةٍ تَلْزَمُهُ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، أَنَّ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يُزِيلَ ظُفْرَهُ بِنَفْسِهِ إذَا انْكَسَرَ ، وَلِأَنَّ مَا انْكَسَرَ يُؤْذِيهِ وَيُؤْلِمُهُ ، فَأَشْبَهَ الشَّعْرَ النَّابِتَ فِي عَيْنِهِ ، وَالصَّيْدَ الصَّائِلَ عَلَيْهِ .
فَإِنْ قَصَّ أَكْثَرَ مِمَّا انْكَسَرَ ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ لِذَلِكَ الزَّائِدِ ، كَمَا لَوْ قَطَعَ مِنْ الشَّعْرِ أَكْثَرِ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ .
وَإِنْ احْتَاجَ إلَى مُدَوَّاةِ قُرْحَةٍ ، فَلَمْ يُمْكِنْهُ إلَّا بِقَصِّ أَظْفَارِهِ ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ لِذَلِكَ .
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ ، صَاحِبُ مَالِكٍ : لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ أَزَالَ مَا مُنِعَ إزَالَتُهُ لِضَرَرِ فِي غَيْرِهِ ، فَأَشْبَهَ حَلْقَ رَأْسِهِ دَفْعًا لِضَرَرِ قَمْلِهِ .
وَإِنْ وَقَعَ فِي أَظْفَاره مَرَضٌ ، فَأَزَالَهَا لِذَلِكَ الْمَرَضِ ، فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ ، لِأَنَّهُ أَزَالَهَا لِإِزَالَةِ مَرَضِهَا ، فَأَشْبَهَ قَصَّهَا لِكَسْرِهَا .

( 2361 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَلَا يَنْظُرُ فِي الْمِرْآةِ لِإِصْلَاحِ شَيْءٍ ) يَعْنِي لَا يَنْظُرُ فِيهَا لِإِزَالَةِ شُعْثٍ ، أَوْ تَسْوِيَةِ شَعْرٍ ، أَوْ شَيْءٍ مِنْ الزِّينَةِ .
قَالَ أَحْمَدُ : لَا بَأْسَ أَنْ يَنْظُرَ فِي الْمِرْآةِ ، وَلَا يُصْلِحُ شُعْثًا ، وَلَا يَنْفُضُ عَنْهُ غُبَارًا .
وَقَالَ أَيْضًا : إذَا كَانَ يُرِيدُ بِهِ زِينَةً فَلَا .
قِيلَ : فَكَيْفَ يُرِيدُ زِينَةً ؟ قَالَ : يَرَى شَعْرَةً فَيُسَوِّيهَا .
وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ .
وَالْوَجْهُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثٍ : { إنَّ الْمُحْرِمَ الْأَشْعَثُ الْأَغْبَرُ } .
وَفِي آخَرَ : { إنَّ اللَّهَ يُبَاهِي بِأَهْلِ عَرَفَةَ مَلَائِكَتَهُ ، فَيَقُولُ : يَا مَلَائِكَتِي ، اُنْظُرُوا إلَى عِبَادِي ، قَدْ أَتَوْنِي شُعْثًا غُبْرًا ضَاحِينَ } .
أَوْ كَمَا جَاءَ لَفْظُ الْحَدِيثِ .
فَإِنْ نَظَرَ فِيهَا لِحَاجَةٍ ، كَمُدَاوَاةِ جُرْحٍ ، أَوْ إزَالَةِ شَعْرٍ يَنْبُتُ فِي عَيْنِهِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا أَبَاحَ الشَّرْعُ لَهُ فِعْلَهُ ، فَلَا بَأْسَ ، وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ بِالنَّظَرِ فِي الْمِرْآةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ أَدَبٌ لَا شَيْءَ عَلَى تَارِكِهِ .
لَا نَعْلَمُ أَحَدًا أَوْجَبَ فِي ذَلِكَ شَيْئًا .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، أَنَّهُمَا كَانَا يَنْظُرَانِ فِي الْمِرْآةِ ، وَهُمَا مُحْرِمَانِ .

( 2362 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَلَا يَأْكُلُ مِنْ الزَّعْفَرَانِ مَا يَجِدُ رِيحَهُ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الزَّعْفَرَانَ وَغَيْرَهُ مِنْ الطِّيبِ ، إذَا جُعِلَ فِي مَأْكُولٍ أَوْ مَشْرُوبٍ ، فَلَمْ تَذْهَبْ رَائِحَتُهُ ، لَمْ يُبَحْ لِلْمُحْرِمِ تَنَاوُلُهُ ، نِيئًا كَانَ أَوْ قَدْ مَسَّتْهُ النَّارُ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَكَانَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ لَا يَرَوْنَ بِمَا مَسَّتْ النَّارُ مِنْ الطَّعَامِ بَأْسًا ، سَوَاءٌ ذَهَبَ لَوْنُهُ وَرِيحُهُ وَطَعْمُهُ ، أَوْ بَقِيَ ذَلِكَ كُلُّهُ ؛ لِأَنَّهُ بِالطَّبْخِ .
اسْتَحَالَ عَنْ كَوْنِهِ طِيبًا .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، وَعَطَاءٍ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، وَطَاوُسٍ ، أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَ بِأَكْلِ الخشكنانج الْأَصْفَرِ بَأْسًا ، وَكَرِهَهُ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، وَجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، وَلَنَا ، أَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ بِهِ ، وَالتَّرَفُّهَ بِهِ ، حَاصِلٌ مِنْ حَيْثُ الْمُبَاشَرَةُ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ نِيئًا ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الطِّيبِ رَائِحَتُهُ ، وَهِيَ بَاقِيَةٌ ، وَقَوْلُ مَنْ أَبَاحَ الخشكنانج الْأَصْفَرَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا لَمْ يَبْقَ فِيهِ رَائِحَةٌ ، فَإِنَّ مَا ذَهَبَتْ رَائِحَتُهُ وَطَعْمُهُ ، وَلَمْ يَبْقَ فِيهِ إلَّا اللَّوْنُ مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ ، لَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ .
لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا ، سِوَى أَنَّ الْقَاسِمَ وَجَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ ، كَرِهَا الخشكنانج الْأَصْفَرَ .
وَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى مَا بَقِيَتْ رَائِحَتُهُ ؛ لِيَزُولَ الْخِلَافُ .
فَإِنْ لَمْ تَمَسَّهُ النَّارُ ، لَكِنْ ذَهَبَتْ رَائِحَتُهُ وَطَعْمُهُ ، فَلَا بَأْسَ بِهِ .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ .
وَكَرِهَ مَالِكٌ ، وَالْحُمَيْدِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ، الْمِلْحَ الْأَصْفَرَ ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ مَا مَسَّتْهُ النَّارُ ، وَمَا لَمْ تَمَسَّهُ .
وَلَنَا ، أَنَّ الْمَقْصُودَ الرَّائِحَةُ ، فَإِنَّ الطِّيبَ إنَّمَا كَانَ طِيبًا لِرَائِحَتِهِ ، لَا لِلَوْنِهِ ، فَوَجَبَ دَوَرَانُ الْحُكْمِ مَعَهَا دُونَهُ .
( 2363 ) فَصْلٌ : فَإِنْ ذَهَبَتْ رَائِحَتُهُ ، وَبَقِيَ لَوْنُهُ وَطَعْمُهُ ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ

إبَاحَتُهُ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهَا الْمَقْصُودُ ، فَيَزُولُ الْمَنْعُ بِزَوَالِهَا .
وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ ، فِي رِوَايَةِ ، صَالِحٍ تَحْرِيمُهُ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
قَالَ الْقَاضِي : مُحَالٌ أَنْ تَنْفَكَّ الرَّائِحَةُ عَنْ الطَّعْمِ ، فَمَتَى بَقِيَ الطَّعْمُ دَلَّ عَلَى بَقَائِهَا ، فَلِذَلِكَ وَجَبَتْ الْفِدْيَةُ بِاسْتِعْمَالِهِ .

( 2364 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَلَا يَدَّهِنُ بِمَا فِيهِ طِيبٌ ، وَمَا لَا طِيبَ فِيهِ ) أَمَّا الْمُطَيِّبُ مِنْ الْأَدْهَانِ ، كَدُهْنِ الْوَرْدِ وَالْبَنَفْسَجِ وَالزَّنْبَقِ وَالْخَيْرِيِّ وَاللِّينُوفَرِ ، فَلِيس فِي تَحْرِيمِ الِادِّهَانِ بِهِ خِلَافٌ فِي الْمَذْهَبِ .
وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ .
وَكَرِهَ مَالِكٌ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ، الِادِّهَانَ بِدُهْنِ الْبَنَفْسَجِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَيْسَ بِطِيبٍ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ يُتَّخَذُ لِلطِّيبِ ، وَتُقْصَدُ رَائِحَتُهُ ، فَكَانَ طِيبًا ، كَمَاءِ الْوَرْدِ .
فَأَمَّا مَا لَا طِيبَ فِيهِ ، كَالزَّيْتِ وَالشَّيْرَجِ وَالسَّمْنِ وَالشَّحْمِ وَدُهْنِ الْبَانِ السَّاذَجِ ، فَنَقَلَ الْأَثْرَمُ ، قَالَ : سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ الْمُحْرِمِ يَدَّهِنُ بِالزَّيْتِ وَالشَّيْرَجِ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ ، يَدَّهِنُ بِهِ إذَا احْتَاجَ إلَيْهِ .
وَيَتَدَاوَى الْمُحْرِمُ بِمَا يَأْكُلُ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ عَوَامُّ أَهْلِ الْعِلْمِ ، عَلَى أَنَّ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَدْهُنَ بَدَنَهُ بِالشَّحْمِ وَالزَّيْتِ وَالسَّمْنِ .
وَنَقَلَ الْأَثْرَمُ جَوَازَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَأَبِي ذَرٍّ ، وَالْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ ، وَعَطَاءٍ ، وَالضَّحَّاكِ ، وَغَيْرِهِمْ .
وَنَقَلَ أَبُو دَاوُد ، عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهُ قَالَ : الزَّيْتُ الَّذِي يُؤْكَلُ لَا يَدْهُنُ الْمُحْرِمُ بِهِ رَأْسَهُ .
فَظَاهِرُ هَذَا ، أَنَّهُ لَا يَدْهُنُ رَأْسَهُ بِشَيْءٍ مِنْ الْأَدْهَانِ .
وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ ، وَمَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَبِي ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ ؛ لِأَنَّهُ يُزِيلُ الشُّعْثَ ، وَيُسَكِّنُ الشَّعْرَ .
فَأَمَّا دَهْنُ سَائِرِ الْبَدَنِ ، فَلَا نَعْلَمُ عَنْ أَحْمَدَ فِيهِ مَنْعًا .
وَقَدْ ذَكَرْنَا إجْمَاعَ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى إبَاحَتِهِ فِي الْيَدَيْنِ ، وَإِنَّمَا الْكَرَاهَةُ فِي الرَّأْسِ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّهُ مَحَلُّ الشَّعْرِ .
وَقَالَ الْقَاضِي : فِي إبَاحَتِهِ فِي جَمِيعِ الْبَدَنِ رِوَايَتَانِ ؛ فَإِنْ فَعَلَهُ فَلَا فِدْيَةَ فِيهِ ، فِي ظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ ، سَوَاءٌ دَهَنَ رَأْسَهُ أَوْ غَيْرَهُ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مُطَيِّبًا .
وَقَدْ رُوِيَ

عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ صُدِعَ وَهُوَ مُحْرِمٌ ، فَقَالُوا : أَلَا نَدْهُنُك بِالسَّمْنِ ؟ قَالَ : لَا .
قَالُوا : أَلَيْسَ تَأْكُلُهُ ؟ قَالَ : لَيْسَ أَكْلُهُ كَالِادِّهَانِ بِهِ .
وَعَنْ مُجَاهِدٍ ، قَالَ : إنْ تَدَاوَى بِهِ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ .
وَقَالَ الَّذِينَ مَنَعُوا مِنْ دَهْنِ الرَّأْسِ : فِيهِ الْفِدْيَةُ ؛ لِأَنَّهُ مُزِيلٌ لِلشُّعْثِ ، أَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ مُطَيِّبًا .
وَلَنَا ، أَنَّ وُجُوبَ الْفِدْيَةِ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ ، وَلَا دَلِيلَ فِيهِ مِنْ نَصٍّ وَلَا إجْمَاعٍ ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى الطِّيبِ ، فَإِنَّ الطِّيبَ يُوجِبُ الْفِدْيَةَ ، وَإِنْ لَمْ يُزِلْ شُعْثًا ، وَيَسْتَوِي فِيهِ الرَّأْسُ وَغَيْرُهُ ، وَالدُّهْنُ بِخِلَافِهِ ، وَلِأَنَّهُ مَائِعٌ لَا تَجِبُ الْفِدْيَةُ بِاسْتِعْمَالِهِ فِي الْيَدَيْنِ ، فَلَمْ تَجِبْ بِاسْتِعْمَالِهِ فِي الرَّأْسِ ، كَالْمَاءِ .

( 2365 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَلَا يَتَعَمَّدُ لِشَمِّ الطِّيبِ ) أَيْ لَا يَقْصِدُ شَمَّهُ مِنْ غَيْرِهِ بِفِعْلٍ مِنْهُ ، نَحْوِ أَنْ يَجْلِسَ عِنْدَ الْعَطَّارِينَ لِذَلِكَ ، أَوْ يَدْخُلَ الْكَعْبَةَ حَالَ تَجْمِيرِهَا ، لِيَشُمَّ طِيبَهَا ، أَوْ يَحْمِلَ مَعَهُ عُقْدَةً فِيهَا مِسْكٌ لِيَجِدَ رِيحَهَا .
قَالَ أَحْمَدُ : سُبْحَانَ اللَّهِ ، كَيْفَ يَجُوزُ هَذَا ؟ وَأَبَاحَ الشَّافِعِيُّ ذَلِكَ ، إلَّا الْعُقْدَةَ تَكُونُ مَعَهُ يَشُمُّهَا ، فَإِنَّ أَصْحَابَهُ اخْتَلَفُوا فِيهَا ؛ لِأَنَّهُ يَشُمُّ الطِّيبَ مِنْ غَيْرِهِ ، أَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَقْصِدْهُ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ شَمَّ الطِّيبَ قَاصِدًا مُبْتَدِئًا بِهِ فِي الْإِحْرَامِ ، فَحُرِّمَ ، كَمَا لَوْ بَاشَرَهُ ، يُحَقِّقُهُ أَنَّ الْقَصْدَ شَمُّهُ لَا مُبَاشَرَتُهُ ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ مَسَّ الْيَابِسَ الَّذِي لَا يَعْلَقُ بِيَدِهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ ، وَلَوْ رَفَعَهُ بِخِرْقَةٍ وَشَمَّهُ لَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ ، وَلَوْ لَمْ يُبَاشِرْهُ ، فَأَمَّا شَمُّهُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ ، كَالْجَالِسِ عِنْدَ الْعَطَّارِ لِحَاجَتِهِ ، وَدَاخِلِ السُّوقِ ، أَوْ دَاخِلِ الْكَعْبَةِ لِلتَّبَرُّكِ بِهَا ، وَمَنْ يَشْتَرِي طِيبًا لِنَفْسِهِ وَلِلتِّجَارَةِ وَلَا يَمَسُّهُ ، فَغَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْ هَذَا ، فَعُفِيَ عَنْهُ ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ .

( 2366 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَلَا يُغَطِّي شَيْئًا مِنْ رَأْسِهِ ، وَالْأُذُنَانِ مِنْ الرَّأْسِ ) قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ تَخْمِيرِ رَأْسِهِ .
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ { نَهْيُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لُبْسِ الْعَمَائِمِ وَالْبَرَانِسِ } .
وَقَوْلُهُ فِي الْمُحْرِمِ الَّذِي وَقَصَتْهُ رَاحِلَتُهُ : { لَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا } .
عَلَّلَ مَنْعَ تَخْمِيرِ رَأْسِهِ بِبَقَائِهِ عَلَى إحْرَامِهِ ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ ذَلِكَ .
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ : إحْرَامُ الرَّجُلِ فِي رَأْسِهِ .
.
وَذَكَرَ الْقَاضِي ، فِي ( الشَّرْحِ ) أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إحْرَامُ الرَّجُلِ فِي رَأْسِهِ ، وَإِحْرَامُ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا } .
وَأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَهَى أَنْ يَشُدَّ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ بِالسَّيْرِ .
وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ : ( وَالْأُذُنَانِ مِنْ الرَّأْسِ ) .
فَائِدَتُهُ تَحْرِيمُ تَغْطِيَتِهِمَا .
وَأَبَاحَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْأُذُنَانِ مِنْ الرَّأْسِ } .
وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الطَّهَارَةِ .
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ تَغْطِيَةِ بَعْضِ رَأْسِهِ ، كَمَا يُمْنَعُ مِنْ تَغْطِيَةِ جَمِيعِهِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ } .
وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ يَحْرُمُ فِعْلُ بَعْضِهِ ، وَلِذَلِكَ لَمَّا قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ } .
حَرُمَ حَلْقُ بَعْضِهِ .
وَسَوَاءٌ غَطَّاهُ بِالْمَلْبُوسِ الْمُعْتَادِ أَوْ بِغَيْرِهِ ، مِثْلُ أَنْ عَصَبَهُ بِعِصَابَةٍ ، أَوْ شَدَّهُ بِسَيْرٍ ، أَوْ جَعَلَ عَلَيْهِ قِرْطَاسًا فِيهِ دَوَاءٌ أَوْ لَا دَوَاءَ فِيهِ ، أَوْ خَضَّبَهُ بِحِنَّاءَ ، أَوْ طَلَاهُ بِطِينٍ أَوْ نُورَةٍ ، أَوْ جَعَلَ عَلَيْهِ دَوَاءً ، فَإِنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ سِتْرٌ لَهُ ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ .
وَسَوَاء كَانَ ذَلِكَ لِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِهِ ؛ فَإِنَّ الْعُذْرَ لَا يُسْقِطُ

الْفِدْيَةَ ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى : { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ } .
وَقِصَّةِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ .
وَبِهَذَا كُلِّهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَكَانَ عَطَاءٌ يُرَخِّصُ فِي الْعِصَابَةِ مِنْ الضَّرُورَةِ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا تَسْقُطُ الْفِدْيَةُ عَنْهُ بِالْعُذْرِ ، كَمَا لَوْ لَبِسَ قَلَنْسُوَةً مِنْ أَجْلِ الْبَرْدِ .

( 2367 ) فَصْلٌ : فَإِنْ حَمَلَ عَلَى رَأْسِهِ مِكْتَلًا أَوْ طَبَقًا أَوْ نَحْوَهُ ؛ فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ ، وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ ، وَمَالِكٌ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ ؛ لِأَنَّهُ سَتَرَهُ .
وَلَنَا ، أَنَّ هَذَا لَا يُقْصَدُ بِهِ السَّتْرُ غَالِبًا ، فَلَمْ تَجِبْ بِهِ الْفِدْيَةُ ، كَمَا لَوْ وَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ .
وَسَوَاءٌ قَصَدَ بِهِ السِّتْرَ أَوْ لَمْ يَقْصِدْ ؛ لِأَنَّ مَا تَجِبُ بِهِ الْفِدْيَةُ لَا يَخْتَلِفُ بِالْقَصْدِ وَعَدَمِهِ ، فَكَذَلِكَ مَا لَا تَجِبُ بِهِ الْفِدْيَةُ .
وَاخْتَارَ ابْنُ عَقِيل وُجُوبَ الْفِدْيَةِ عَلَيْهِ إذَا قَصَدَ بِهِ السَّتْرَ ؛ لِأَنَّ الْحِيَلَ لَا تُحِيلُ الْحُقُوقَ .
وَإِنْ سَتَرَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، لِمَا ذَكَرْنَا ، وَلِأَنَّ السَّتْرَ بِمَا هُوَ مُتَّصِلٌ بِهِ لَا يَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ السَّتْرِ ، وَلِذَلِكَ لَوْ وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى فَرْجِهِ ، لَمْ تُجْزِئْهُ فِي السَّتْرِ ، وَلِأَنَّ الْمُحْرِمَ مَأْمُورٌ بِمَسْحِ رَأْسِهِ ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِوَضْعِ يَدَيْهِ أَوْ إحْدَاهُمَا عَلَيْهِ .
وَإِنْ طَلَى رَأْسَهُ بِعَسَلٍ أَوْ صَمْغٍ ؛ لِيَجْتَمِعَ الشَّعْرُ وَيَتَلَبَّدَ ، فَلَا يَتَخَلَّلُهُ الْغُبَارُ ، وَلَا يُصِيبُهُ الشُّعْثُ ، وَلَا يَقَعُ فِيهِ الدَّبِيبُ ، جَازَ .
وَهُوَ التَّلْبِيدُ الَّذِي جَاءَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ : { رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُهِلُّ مُلَبِّدًا } .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَعَنْ حَفْصَةَ ، { أَنَّهَا قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا شَأْنُ النَّاسِ ، حَلُّوا وَلَمْ تَحْلُلْ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِك ؟ قَالَ : إنِّي لَبَّدْت رَأْسِي ، وَقَلَّدْت هَدْيِي ، فَلَا أُحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا .
وَإِنْ كَانَ فِي رَأْسِهِ طِيبٌ مِمَّا جَعَلَهُ فِيهِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ ، فَلَا بَأْسَ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ ، قَالَتْ : { كَأَنِّي أَنْظُرُ إلَى وَبِيصِ الطِّيبِ فِي رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَكَانَ عَلَى رَأْسِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُ الرُّبِّ مِنْ الْغَالِيَةِ ، وَهُوَ مُحْرِمٌ .
}

( 2368 ) فَصْلٌ : وَفِي تَغْطِيَةِ الْمُحْرِمِ وَجْهَهُ رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا ، يُبَاحُ .
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ ، وَجَابِرٍ ، وَالْقَاسِمِ ، وَطَاوُسٍ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَالشَّافِعِيِّ .
وَالثَّانِيَةُ ، لَا يُبَاحُ .
وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٍ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، ، { أَنَّ رَجُلًا وَقَعَ عَنْ رَاحِلَتِهِ ، فَأَقْعَصَتْهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ ، وَلَا تُخَمِّرُوا وَجْهَهُ وَلَا رَأْسَهُ ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُلَبِّي } .
وَلِأَنَّهُ مُحَرَّمٌ عَلَى الْمَرْأَةِ ، فَحُرِّمَ عَلَى الرَّجُلِ ، كَالطِّيبِ .
وَلَنَا ، مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِ الصَّحَابَةِ ، وَلَمْ نَعْرِفْ لَهُمْ مُخَالِفًا فِي عَصْرِهِمْ ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا ، وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { إحْرَامُ الرَّجُلِ فِي رَأْسِهِ ، وَإِحْرَامُ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا } .
وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَشْهُورُ فِيهِ : ( وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ ) هَذَا الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ .
وَقَوْلُهُ : ( وَلَا تُخَمِّرُوا وَجْهَهُ ) .
فَقَالَ شُعْبَةُ : حَدَّثَنِيهِ أَبُو بِشْرٍ .
ثُمَّ سَأَلْته عَنْهُ بَعْدَ عَشْرِ سِنِينَ ، فَجَاءَ بِالْحَدِيثِ كَمَا كَانَ يُحَدِّثُ ، إلَّا أَنَّهُ قَالَ { وَلَا تُخَمِّرُوا وَجْهَهُ وَرَأْسَهُ } .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ ضَعَّفَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ .
وَقَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ : ( خَمِّرُوا وَجْهَهُ ، وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ ) فَتَتَعَارَضُ الرِّوَايَتَانِ .
.
وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِلُبْسِ الْقُفَّازَيْنِ .

( 2369 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَالْمَرْأَةُ إحْرَامُهَا فِي وَجْهِهَا ، فَإِنْ احْتَاجَتْ سَدَلَتْ عَلَى وَجْهِهَا ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَرْأَةَ يَحْرُمُ عَلَيْهَا تَغْطِيَةُ وَجْهِهَا فِي إحْرَامِهَا ، كَمَا يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ تَغْطِيَةُ رَأْسِهِ .
لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا ، إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ أَسْمَاءَ ، أَنَّهَا كَانَتْ تُغَطِّي وَجْهَهَا وَهِيَ مُحْرِمَةٌ .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا كَانَتْ تُغَطِّيهِ بِالسَّدْلِ عِنْدَ الْحَاجَةِ ، فَلَا يَكُونُ اخْتِلَافًا .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : وَكَرَاهِيَةُ الْبُرْقُعِ ثَابِتَةٌ عَنْ سَعْدٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَ فِيهِ .
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { وَلَا تَنْتَقِبُ الْمَرْأَةُ الْمُحْرِمَةُ ، وَلَا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ } .
فَأَمَّا إذَا احْتَاجَتْ إلَى سَتْرِ وَجْهِهَا ، لِمُرُورِ الرِّجَالِ قَرِيبًا مِنْهَا ، فَإِنَّهَا تَسْدُلُ الثَّوْبَ مِنْ فَوْقِ رَأْسِهَا عَلَى وَجْهِهَا .
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ ، وَعَائِشَةَ .
وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَمَالِكٌ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ .
وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا ؛ وَذَلِكَ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : { كَانَ الرُّكْبَانُ يَمُرُّونَ بِنَا ، وَنَحْنُ مُحْرِمَاتٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا حَاذَوْنَا ، سَدَلَتْ إحْدَانَا جِلْبَابَهَا مِنْ رَأْسِهَا عَلَى وَجْهِهَا ، فَإِذَا جَاوَزُونَا كَشَفْنَاهُ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالْأَثْرَمُ .
وَلِأَنَّ بِالْمَرْأَةِ حَاجَةً إلَى سَتْرِ وَجْهِهَا ، فَلَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهَا سَتْرُهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ ، كَالْعَوْرَةِ .
وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ الثَّوْبَ يَكُونُ مُتَجَافِيًا عَنْ وَجْهِهَا ، بِحَيْثُ لَا يُصِيبُ الْبَشَرَةَ ، فَإِنْ أَصَابَهَا ، ثُمَّ زَالَ أَوْ أَزَالَتْهُ بِسُرْعَةٍ ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا ، كَمَا لَوْ أَطَارَتْ الرِّيحُ الثَّوْبَ عَنْ عَوْرَةِ الْمُصَلِّي ، ثُمَّ عَادَ بِسُرْعَةٍ ، لَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ .
وَإِنْ لَمْ تَرْفَعْهُ مَعَ

الْقُدْرَةِ ؛ افْتَدَتْ ؛ لِأَنَّهَا اسْتَدَامَتْ السِّتْرَ .
وَلَمْ أَرَ هَذَا الشَّرْطَ عَنْ أَحْمَدَ ، وَلَا هُوَ فِي الْخَبَرِ ، مَعَ أَنَّ الظَّاهِرَ خِلَافُهُ ، فَإِنَّ الثَّوْبَ الْمَسْدُولَ لَا يَكَادُ يَسْلَمُ مِنْ إصَابَةِ الْبَشَرَةِ ، فَلَوْ كَانَ هَذَا شَرْطًا لَبُيِّنَ ، وَإِنَّمَا مُنِعَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ الْبُرْقُعِ وَالنِّقَابِ وَنَحْوِهِمَا ، مِمَّا يُعَدَّ لِسَتْرِ الْوَجْهِ .
قَالَ أَحْمَدُ : إنَّمَا لَهَا أَنَّ تَسْدُلَ عَلَى وَجْهِهَا مِنْ فَوْق ، وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَرْفَعَ الثَّوْبَ مِنْ أَسْفَلَ .
كَأَنَّهُ يَقُولُ : إنَّ النِّقَابَ مِنْ أَسْفَلَ عَلَى وَجْهِهَا .

( 2370 ) فَصْلٌ : وَيَجْتَمِعُ فِي حَقِّ الْمُحْرِمَةِ وُجُوبُ تَغْطِيَةِ الرَّأْسِ ، وَتَحْرِيمُ تَغْطِيَةِ الْوَجْهِ .
وَلَا يُمْكِنُ تَغْطِيَةُ جَمِيعِ الرَّأْسِ إلَّا بِجُزْءٍ مِنْ الْوَجْهِ ، وَلَا كَشْفُ جَمِيعِ الْوَجْهِ إلَّا بِكَشْفِ جُزْءٍ مِنْ الرَّأْسِ ، فَعِنْدَ ذَلِكَ سَتْرُ الرَّأْسِ كُلِّهِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ آكَدُ ، إذْ هُوَ عَوْرَةٌ ، لَا يَخْتَصُّ تَحْرِيمُهُ حَالَةَ الْإِحْرَامِ ، وَكَشْفُ الْوَجْهِ بِخِلَافِهِ ، وَقَدْ أَبَحْنَا سَتْرَ جُمْلَتِهِ لِلْحَاجَةِ الْعَارِضَةِ ، فَسَتْرُ جُزْءٍ مِنْهُ لِسَتْرِ الْعَوْرَةِ أَوْلَى .

( 2371 ) فَصْلٌ : وَلَا بَأْسَ أَنْ تَطُوفَ الْمَرْأَةُ مُنْتَقِبَةً ، إذَا كَانَتْ غَيْرَ مُحْرِمَةٍ ، وَطَافَتْ عَائِشَةُ وَهِيَ مُنْتَقِبَةٌ .
وَكَرِهَ ذَلِكَ عَطَاءٌ ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ .
وَذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ حَدِيثَ ابْنِ جُرَيْجٍ ، أَنَّ عَطَاءً كَانَ يَكْرَهُ لِغَيْرِ الْمُحْرِمَةِ أَنْ تَطُوفَ مُنْتَقِبَةً ، حَتَّى حَدَّثْته عَنْ الْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ ، عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ ، أَنَّ عَائِشَةَ طَافَتْ وَهِيَ مُنْتَقِبَةٌ ، فَأَخَذَ بِهِ .

( 2372 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَلَا تَكْتَحِلُ بِكُحْلٍ أَسْوَدَ ) الْكُحْلُ بِالْإِثْمِدِ فِي الْإِحْرَامِ مَكْرُوهٌ لِلْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ ، وَإِنَّمَا خَصَّ الْمَرْأَةَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا مَحَلُّ الزِّينَةِ ، وَهُوَ فِي حَقِّهَا أَكْثَرُ مِنْ الرَّجُلِ .
وَيُرْوَى هَذَا عَنْ عَطَاءٍ ، وَالْحَسَنِ ، وَمُجَاهِدٍ .
قَالَ مُجَاهِدٌ : هُوَ زِينَةٌ .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : يَكْتَحِلُ الْمُحْرِمُ بِكُلِّ كُحْلٍ لَيْسَ فِيهِ طِيبٌ .
قَالَ مَالِكٌ : لَا بَأْسَ أَنْ يَكْتَحِلَ الْمُحْرِمُ مِنْ حَرٍّ يَجِدُهُ فِي عَيْنَيْهِ بِالْإِثْمِدِ وَغَيْرِهِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهُ قَالَ : يَكْتَحِلُ الْمُحْرِمُ ، مَا لَمْ يُرِدْ بِهِ الزِّينَةَ .
قِيلَ لَهُ : الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ ؟ قَالَ : نَعَمْ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى كَرَاهَتِهِ مَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ ، { أَنَّ عَلِيًّا قَدِمَ مِنْ الْيَمَنِ ، فَوَجَدَ فَاطِمَةَ مِمَّنْ حَلَّ ، فَلَبِسَتْ ثِيَابًا صَبِيغًا ، وَاكْتَحَلَتْ ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهَا ، فَقَالَتْ : أَبِي أَمَرَنِي بِهَذَا .
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : صَدَقَتْ ، صَدَقَتْ } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ مَمْنُوعَةً مِنْ ذَلِكَ .
وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ لَامْرَأَةٍ : اكْتَحِلِي بِأَيِّ كُحْلٍ شِئْت ، غَيْرِ الْإِثْمِدِ أَوْ الْأَسْوَدِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ الْكُحْلَ بِالْإِثْمِدِ مَكْرُوهٌ ، وَلَا فِدْيَةَ فِيهِ .
وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا ، وَرَوَتْ شُمَيْسَةُ ، عَنْ عَائِشَةَ ، قَالَتْ : اشْتَكَيْت عَيْنِي وَأَنَا مُحْرِمَةٌ ، فَسَأَلْت عَائِشَةَ ، فَقَالَتْ : اكْتَحِلِي بِأَيِّ كَحِلِّ شِئْت غَيْرِ الْإِثْمِدِ ، أَمَّا إنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ ، وَلَكِنَّهُ زِينَةٌ ، فَنَحْنُ نَكْرَهُهُ .
قَالَ الشَّافِعِيُّ : إنْ فَعَلَا فَلَا أَعْلَمُ عَلَيْهِمَا فِيهِ فِدْيَةً بِشَيْءٍ .

( 2373 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا الْكُحْلُ بِغَيْرِ الْإِثْمِدِ ، فَلَا كَرَاهَةَ فِيهِ ، مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ طِيبٌ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ ، وَقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ .
وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ ، عَنْ نُبَيْهِ بْنِ وَهْبٍ ، قَالَ : خَرَجْنَا مَعَ أَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ ، حَتَّى إذَا كُنَّا بملل ، اشْتَكَى عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ عَيْنَيْهِ ، فَأَرْسَلَ إلَى أَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ ، لِيَسْأَلَهُ ، فَأَرْسَلَ إلَيْهِ : أَنْ اضْمِدْهَا بِالصَّبْرِ ، فَإِنَّ عُثْمَانَ حَدَّثَ { عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرَّجُلِ إذَا اشْتَكَى عَيْنَيْهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ ، ضَمَّدَهَا بِالصَّبْرِ } .
فَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى إبَاحَةِ مَا فِي مَعْنَاهُ ، مِمَّا لَيْسَ فِيهِ زِينَةٌ وَلَا طِيبٌ .
وَكَانَ إبْرَاهِيمُ لَا يَرَى بِالذَّرُورِ الْأَحْمَرِ بَأْسًا .

( 2374 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَتَجْتَنِبُ كُلَّ مَا يَجْتَنِبُهُ الرَّجُلُ ، إلَّا فِي اللِّبَاسِ ، وَتَظْلِيلِ الْمَحْمِلِ ) قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ ، مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ مَمْنُوعَةٌ مِمَّا مُنِعَ مِنْهُ الرِّجَالُ ، إلَّا بَعْضَ اللِّبَاسِ ، وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ ، عَلَى أَنَّ لِلْمُحْرِمَةِ لُبْسَ الْقُمُصِ وَالدُّرُوعِ وَالسَّرَاوِيلَاتِ وَالْخُمُرِ وَالْخِفَافِ .
وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ، لِأَنَّ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُحْرِمَ بِأَمْرٍ ، وَحُكْمَهُ عَلَيْهِ ، يَدْخُلُ فِيهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ ، وَإِنَّمَا اسْتَثْنَى مِنْهُ اللِّبَاسَ لِلْحَاجَةِ إلَى سَتْرِ الْمَرْأَةِ ، لِكَوْنِهَا عَوْرَةً ، إلَّا وَجْهَهَا ، فَتَجَرُّدُهَا يُفْضِي إلَى انْكِشَافِهَا ، فَأُبِيحَ لَهَا اللِّبَاسُ لِلسَّتْرِ ، كَمَا أُبِيحَ لِلرَّجُلِ عَقْدُ الْإِزَارِ ، كَيْلًا يَسْقُطَ ، فَتَنْكَشِفَ الْعَوْرَةُ ، وَلَمْ يُبَحْ عَقْدُ الرِّدَاءِ .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ عُمَرَ ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى النِّسَاءَ فِي إحْرَامِهِنَّ عَنْ الْقُفَّازَيْنِ وَالنِّقَابِ ، وَمَا مَسَّ الْوَرْسَ وَالزَّعْفَرَانَ مِنْ الثِّيَابِ ، وَلْتَلْبَسْ بَعْدَ ذَلِكَ مَا أَحَبَّتْ مِنْ أَلْوَانِ الثِّيَابِ ، مِنْ مُعَصْفَرٍ أَوْ خَزٍّ أَوْ حُلِيٍّ أَوْ سَرَاوِيلَ أَوْ قَمِيصٍ أَوْ خُفٍّ } .
وَهَذَا صَرِيحٌ ، وَالْمُرَادُ بِاللِّبَاسِ هَاهُنَا الْمَخِيطُ مِنْ الْقَمِيصِ وَالدُّرُوعِ وَالسَّرَاوِيلَاتِ وَالْخِفَافِ ، وَمَا يَسْتُرُ الرَّأْسَ ، وَنَحْوَهُ .

فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ لِلْمَرْأَةِ مَا يُسْتَحَبُّ لِلرَّجُلِ ؛ مِنْ الْغُسْلِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ ، وَالتَّطَيُّبِ ، وَالتَّنَظُّفِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ ، أَنَّهَا قَالَتْ { : كُنَّا نَخْرُجُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنُضَمِّدُ جِبَاهَنَا بِالْمِسْكِ الْمُطَيِّبِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ ، فَإِذَا عَرِقَتْ إحْدَانَا ، سَالَ عَلَى وَجْهِهَا ، فَيَرَاهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يُنْكِرُهُ عَلَيْهَا } .
وَالشَّابَّةُ وَالْكَبِيرَةُ فِي هَذَا سَوَاءٌ ؛ فَإِنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تَفْعَلُهُ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ شَابَّةٌ .
فَإِنْ قِيلَ : أَلَيْسَ قَدْ كُرِهَ ذَلِكَ فِي الْجُمُعَةِ ؟ قُلْنَا : لِأَنَّهَا فِي الْجُمُعَةِ تَقْرَبُ مِنْ الرِّجَالِ ، فَيُخَافُ الِافْتِتَانُ بِهَا ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا .
وَلِهَذَا يَلْزَمُ الْحَجُّ النِّسَاءَ ، وَلَا تَلْزَمُهُنَّ الْجُمُعَةُ .
وَكَذَلِكَ يُسْتَحَبُّ لَهَا قِلَّةُ الْكَلَامِ فِيمَا لَا يَنْفَعُ ، وَالْإِكْثَارُ مِنْ التَّلْبِيَةِ ، وَذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى .

( 2376 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَلَا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ ، وَلَا الْخَلْخَالَ ، وَمَا أَشْبَهَهُ ) الْقُفَّازَانِ : شَيْءٌ يُعْمَلُ لِلْيَدَيْنِ ، تُدَخِّلهُمَا فِيهِمَا مِنْ خَرْقٍ ، تَسْتُرُهُمَا مِنْ الْحَرِّ ، مِثْلُ مَا يُعْمَلُ لِلْبَرْدِ ، فَيَحْرُمُ عَلَى الْمَرْأَةِ لُبْسُهُ فِي يَدَيْهَا فِي حَالِ إحْرَامِهَا .
وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ .
وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ ، وَطَاوُسٌ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَمَالِكٌ ، وَإِسْحَاقُ .
وَكَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ يُلْبِسُ بَنَاتِهِ الْقُفَّازَيْنِ وَهُنَّ مُحْرِمَاتٌ .
وَرَخَّصَ فِيهِ عَلِيٌّ ، وَعَائِشَةُ ، وَعَطَاءٌ .
وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ .
وَلِلشَّافِعِيِّ كَالْمَذْهَبَيْنِ .
وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إحْرَامُ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا } .
وَأَنَّهُ عُضْوٌ يَجُوزُ سَتْرُهُ بِغَيْرِ الْمَخِيطِ ، فَجَازَ سَتْرُهُ بِهِ كَالرِّجْلَيْنِ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تَنْتَقِبُ الْمَرْأَةُ الْحَرَامُ ، وَلَا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ } .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَرُوِيَ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى النِّسَاءَ فِي إحْرَامِهِنَّ عَنْ الْقُفَّازَيْنِ وَالْخَلْخَالِ } .
وَلِأَنَّ الرَّجُلَ لَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ كَشْفُ رَأْسِهِ ، تَعَلَّقَ حُكْمُ إحْرَامِهِ بِغَيْرِهِ ، فَمُنِعَ مِنْ لُبْسِ الْمَخِيطِ فِي سَائِرِ بَدَنِهِ ، كَذَلِكَ الْمَرْأَةُ لَمَّا لَزِمَهَا كَشْفُ وَجْهِهَا ، يَنْبَغِي أَنْ يَتَعَلَّقَ حُكْمُ الْإِحْرَامِ بِغَيْرِ ذَلِكَ الْبَعْضِ ، وَهُوَ الْيَدَانِ .
وَحَدِيثُهُمْ الْمُرَادُ بِهِ الْكَشْفُ .
فَأَمَّا السَّتْرُ بِغَيْرِ الْمَخِيطِ ، فَيَجُوزُ لِلرَّجُلِ ، وَلَا يَجُوزُ بِالْمَخِيطِ .
فَأَمَّا الْخَلْخَالُ ، وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ الْحُلِيِّ ، مِثْلِ السُّوَارِ وَالدُّمْلُوجِ ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لُبْسُهُ .
وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ : الْمُحْرِمَةُ ، وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا ، يَتْرُكَانِ الطِّيبَ وَالزِّينَةَ ، وَلَهُمَا مَا سِوَى ذَلِكَ .

وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ : أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ لِلْمُحْرِمَةِ الْحَرِيرَ وَالْحُلِيَّ .
وَكَرِهَهُ الثَّوْرِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ .
وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بَأْسًا ، أَنْ تَلْبَسَ الْمَرْأَةُ الْخَاتَمَ وَالْقُرْطَ وَهِيَ مُحْرِمَةٌ وَكَرِهَ السِّوَارَيْنِ وَالدُّمْلُجَيْنِ وَالْخَلْخَالَيْنِ .
وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ الرُّخْصَةُ فِيهِ .
وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ .
قَالَ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ : تَلْبَسُ الْمُحْرِمَةُ الْحُلِيَّ وَالْمُعَصْفَرَ .
وَقَالَ عَنْ نَافِعٍ : كَانَ نِسَاءُ ابْنِ عُمَرَ وَبَنَاتُهُ يَلْبَسْنَ الْحُلِيَّ وَالْمُعَصْفَرَ ، وَهُنَّ مُحْرِمَاتٌ ، لَا يُنْكِرُ ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ .
وَرَوَى أَحْمَدُ فِي ( الْمَنَاسِكِ ) ، عَنْ عَائِشَةَ ، أَنَّهَا قَالَتْ : تَلْبَسُ الْمُحْرِمَةُ مَا تَلْبَسُ وَهِيَ حَلَالٌ ، مِنْ خَزِّهَا وَقَزِّهَا وَحُلِيِّهَا .
وَقَدْ ذَكَرْنَا حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { وَلْتَلْبَسْ بَعْدَ ذَلِكَ مَا أَحَبَّتْ مِنْ أَلْوَانِ الثِّيَابِ ، مِنْ مُعَصْفَرٍ أَوْ خَزٍّ ، أَوْ حُلِيٍّ } .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : لَا يَجُوزُ الْمَنْعُ مِنْهُ بِغَيْرِ حُجَّةٍ .
وَيُحْمَلُ كَلَامُ أَحْمَدَ وَالْخِرَقِيَّ فِي الْمَنْعِ عَلَى الْكَرَاهَةِ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الزِّينَةِ ، وَشِبْهِهِ بِالْكُحْلِ بِالْإِثْمِدِ ، وَلَا فِدْيَةَ فِيهِ ، كَمَا لَا فِدْيَةَ فِي الْكُحْلِ .
وَأَمَّا لُبْسُ الْقُفَّازَيْنِ ، فَفِيهِ الْفِدْيَةُ ؛ لِأَنَّهَا لَبِسَتْ مَا نُهِيَتْ عَنْ لُبْسِهِ فِي الْإِحْرَامِ ، فَلَزِمَتْهَا الْفِدْيَةُ ، كَالنِّقَابِ .

فَصْلٌ : قَالَ الْقَاضِي : يَحْرُمُ عَلَيْهَا شَدُّ يَدَيْهَا بِخِرْقَةٍ ؛ لِأَنَّهُ سَتْرٌ لِبَدَنِهَا بِمَا يَخْتَصُّ بِهَا ، أَشْبَهَ الْقُفَّازَيْنِ ، وَكَمَا لَوْ شَدَّ الرَّجُلُ عَلَى جَسَدِهِ شَيْئًا .
وَإِنْ لَفَّتْ يَدَيْهَا مِنْ غَيْرِ شَدٍّ ، فَلَا فِدْيَةَ ؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ هُوَ اللُّبْسُ ، لَا تَغْطِيَتُهُمَا ، كَبَدَنِ الرَّجُلِ .

( 2378 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَلَا تَرْفَعُ الْمَرْأَةُ صَوْتَهَا بِالتَّلْبِيَةِ ، إلَّا بِمِقْدَارِ مَا تُسْمِعُ رَفِيقَتَهَا ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ فِي الْمَرْأَةِ أَنْ لَا تَرْفَعَ صَوْتَهَا ، وَإِنَّمَا عَلَيْهَا أَنْ تُسْمِعَ نَفْسَهَا .
وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ ، وَمَالِكٌ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَرُوِيَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ قَالَ : السُّنَّةُ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَرْفَعُ صَوْتَهَا بِالْإِهْلَالِ .
وَإِنَّمَا كُرِهَ لَهَا رَفْعُ الصَّوْتِ مَخَافَةَ الْفِتْنَةِ بِهَا ، وَلِهَذَا لَا يُسَنُّ لَهَا أَذَانٌ وَلَا إقَامَةٌ ، وَالْمَسْنُونُ لَهَا فِي التَّنْبِيهِ فِي الصَّلَاةِ التَّصْفِيقُ دُونَ التَّسْبِيحِ .

( 2379 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَخْتَضِبَ بِالْحِنَّاءِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، أَنَّهُ قَالَ : مِنْ السُّنَّةِ أَنْ تَدْلُكَ الْمَرْأَةُ يَدَيْهَا فِي حِنَّاءٍ .
وَلِأَنَّ هَذَا مِنْ زِينَةِ النِّسَاءِ ، فَاسْتُحِبَّ عِنْدَ الْإِحْرَامِ ، كَالطِّيبِ .
وَلَا بَأْسَ بِالْخِضَابِ فِي حَالِ إحْرَامِهَا .
وَقَالَ الْقَاضِي : يُكْرَهُ ؛ لِكَوْنِهِ مِنْ الزِّينَةِ ، فَأَشْبَهَ الْكُحْلَ بِالْإِثْمِدِ .
فَإِنْ فَعَلَتْهُ ، وَلَمْ تَشُدَّ يَدَيْهَا بِالْخِرَقِ ، فَلَا فِدْيَةَ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَكَانَ مَالِكٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ ، يَكْرَهَانِ الْخِضَابَ لِلْمُحْرِمَةِ ، وَأَلْزَمَاهَا الْفِدْيَةَ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى عِكْرِمَةُ ، أَنَّهُ قَالَ : كَانَتْ عَائِشَةُ ، وَأَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْتَضِبْنَ بِالْحِنَّاءِ ، وَهُنَّ حُرُمٌ .
وَلِأَنَّ الْأَصْلَ الْإِبَاحَةُ ، وَلَيْسَ هَاهُنَا دَلِيلٌ يَمْنَعُ مِنْ نَصٍّ وَلَا إجْمَاعٍ ، وَلَا هِيَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ .

( 2380 ) فَصْلٌ : إذَا أَحْرَمَ الْخُنْثَى الْمُشْكِلُ ، لَمْ يَلْزَمْهُ اجْتِنَابُ الْمَخِيطِ ؛ لِأَنَّنَا لَا نَتَيَقَّنُ الذُّكُورِيَّةَ الْمُوجِبَةَ لِذَلِكَ .
وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ : يُغَطِّي رَأْسَهُ وَيُكَفِّرُ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَلْزَمُهُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهَا ، فَلَا نُوجِبُهَا بِالشَّكِّ .
وَإِنْ غَطَّى وَجْهَهُ وَحْدَهُ ، لَمْ يَلْزَمْهُ فِدْيَةٌ لِذَلِكَ .
وَإِنْ جَمَعَ بَيْنَ تَغْطِيَةِ وَجْهِهِ بِنِقَابٍ أَوْ بُرْقُعٍ ، وَبَيْنَ تَغْطِيَةِ رَأْسِهِ أَوْ لُبْسِ الْمَخِيطِ عَلَى بَدَنِهِ لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً .

( 2381 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ لِلْمَرْأَةِ الطَّوَافُ لَيْلًا ؛ لِأَنَّهُ أُسْتَرُ لَهَا ، وَأَقَلُّ لِلزِّحَامِ ، فَيُمْكِنُهَا أَنْ تَدْنُوَ مِنْ الْبَيْتِ ، وَتَسْتَلِمَ الْحَجَرَ .
وَقَدْ رَوَى حَنْبَلٌ ، فِي ( الْمَنَاسِكِ ) بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ ، أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تَطُوفُ بَعْدَ الْعِشَاءَ أُسْبُوعًا أَوْ أُسْبُوعَيْنِ ، وَتُرْسِلُ إلَى أَهْلِ الْمَجَالِسِ فِي الْمَسْجِدِ : ارْتَفِعُوا إلَى أَهْلَيْكُمْ ، فَإِنَّ لَهُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا .
وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ بْنِ بَرَكَةَ ، عَنْ أُمِّهِ ، عَنْ عَائِشَةَ ، أَنَّهَا أَرْسَلَتْ إلَى أَصْحَابِ الْمَصَابِيحِ ، أَنْ يُطْفِئُوهَا ، فَأَطْفَئُوهَا ، فَطُفْت مَعَهَا فِي سِتْرٍ أَوْ حِجَابٍ ، فَكَانَتْ كُلَّمَا فَرَغَتْ مِنْ أُسْبُوعٍ اسْتَلَمَتْ الرُّكْنَ الْأَسْوَدَ ، وَتَعَوَّذَتْ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْبَابِ ، حَتَّى إذَا فَرَغَتْ مِنْ ثَلَاثَةِ أَسَابِيعَ ، ذَهَبَتْ إلَى دُبُرِ سِقَايَةِ زَمْزَمِ ، مِمَّا يَلِي النَّاسَ ، فَصَلَّتْ سِتَّ رَكَعَاتٍ ، كُلَّمَا رَكَعَتْ رَكْعَتَيْنِ انْحَرَفَتْ إلَى النِّسَاءِ ، فَكَلَّمَتْهُنَّ ، تَفْصِلُ بِذَلِكَ صَلَاتَهَا ، حَتَّى فَرَغَتْ .

( 2382 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَلَا يَتَزَوَّجُ الْمُحْرِمُ ، وَلَا يُزَوِّجُ ، فَإِنْ فَعَلَ ، فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ ) قَوْلُهُ : ( لَا يَتَزَوَّج ) أَيْ لَا يَقْبَلُ النِّكَاحَ لِنَفْسِهِ ، ( وَلَا يُزَوِّجُ ) أَيْ لَا يَكُونُ وَلِيَّا فِي النِّكَاحِ وَلَا وَكِيلًا فِيهِ .
وَلَا يَجُوزُ تَزْوِيجُ الْمُحْرِمَةِ أَيْضًا .
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ ، وَابْنِهِ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَأَجَازَ ذَلِكَ كُلَّهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ يَمْلِكُ بِهِ الِاسْتِمْتَاعَ ، فَلَا يُحَرِّمُهُ الْإِحْرَامُ ، كَشِرَاءِ الْإِمَاءِ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ ، وَلَا يُنْكِحُ ، وَلَا يَخْطُبُ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ يُحَرِّمُ الطِّيبَ ، فَيُحَرِّمُ النِّكَاحَ ، كَالْعِدَّةِ .
فَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، فَقَدْ رَوَى يَزِيدُ بْنُ الْأَصَمِّ ، { عَنْ مَيْمُونَةَ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَهَا حَلَالًا ، وَبَنَى بِهَا حَلَالًا ، وَمَاتَتْ بِسَرِفٍ ، فِي الظُّلَّةِ الَّتِي بَنَى بِهَا فِيهَا } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالْأَثْرَمُ .
وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ ، قَالَ { : تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ حَلَالٌ ، وَبَنَى بِهَا وَهُوَ حَلَالٌ ، وَكُنْت أَنَا الرَّسُولَ بَيْنَهُمَا } .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ .
وَمَيْمُونَةُ أَعْلَمُ بِنَفْسِهَا ، وَأَبُو رَافِعٍ صَاحِبُ الْقِصَّةِ ، وَهُوَ السَّفِيرُ فِيهَا ، فَهُمَا أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَأَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ لَوْ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَبِيرًا ، فَكَيْفَ وَقَدْ كَانَ صَغِيرًا لَا يَعْرِفُ

حَقَائِقَ الْأُمُورِ ، وَلَا يَقِفُ عَلَيْهَا ، وَقَدْ أُنْكِرَ عَلَيْهِ هَذَا الْقَوْلُ .
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ : وَهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَمَا تَزَوَّجَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا حَلَالًا .
فَكَيْفَ يُعْمَلُ بِحَدِيثٍ هَذَا حَالُهُ ؟ وَيُمْكِنُ حَمْلُ قَوْلِهِ : ( وَهُوَ مُحْرِمٌ ) .
أَيْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ ، أَوْ فِي الْبَلَدِ الْحَرَامِ ، كَمَا قِيلَ : قَتَلُوا ابْنَ عَفَّانِ الْخَلِيفَةَ مُحْرِمًا وَقِيلَ : تَزَوَّجَهَا حَلَالًا ، وَأَظْهَر أَمْرُ تَزْوِيجِهَا وَهُوَ مُحْرِمٌ .
ثُمَّ لَوْ صَحَّ الْحَدِيثَانِ ، كَانَ تَقْدِيمُ حَدِيثِنَا أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ فِعْلُهُ ، وَالْقَوْلُ آكَدُ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُخْتَصًّا بِمَا فَعَلَهُ .
وَعَقْدُ النِّكَاحِ يُخَالِفُ شِرَاءَ الْأَمَةِ ، فَإِنَّهُ يَحْرُمُ بِالْعِدَّةِ وَالرِّدَّةِ وَاخْتِلَافِ الدِّينِ ، وَكَوْنِ الْمَنْكُوحَةِ أُخْتًا لَهُ مِنْ الرَّضَاعِ ، وَيُعْتَبَرُ لَهُ شُرُوطٌ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي الشِّرَاءِ .

( 2383 ) فَصْلٌ : وَمَتَى تَزَوَّجَ الْمُحْرِمُ ، أَوْ زَوَّجَ ، أَوْ زُوِّجَتْ مُحْرِمَةٌ ، فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ ، سَوَاءٌ كَانَ الْكُلُّ مُحْرِمِينَ أَوْ بَعْضُهُمْ ؛ لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ، فَلَمْ يَصِحَّ ، كَنِكَاحِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا .
وَعَنْ أَحْمَدَ : إنْ زَوَّجَ الْمُحْرِمُ لَمْ أَفْسَخْ النِّكَاحَ .
قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ الْوَلِيُّ بِمُفْرَدِهِ أَوْ الْوَكِيلُ مُحْرِمًا ، لَمْ يَفْسُدْ النِّكَاحُ .
وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ .
وَكَلَامُ أَحْمَدَ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَفْسَخُهُ لِكَوْنِهِ مُخْتَلَفًا فِيهِ .
قَالَ الْقَاضِي : وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِطَلْقَةٍ .
وَهَكَذَا كُلُّ نِكَاحٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ .
قَالَ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ : إذَا تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ وَلِيٍّ ، لَمْ يَكُنْ لِلْوَلِيِّ أَنْ يُزَوِّجهَا مِنْ غَيْرِهِ حَتَّى يُطَلِّقَ .
وَلِأَنَّ تَزْوِيجَهَا مِنْ غَيْرِ طَلَاقٍ يُفْضِي إلَى أَنْ يَجْتَمِعَ لِلْمَرْأَةِ زَوْجَانِ ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَعْتَقِدُ حِلَّهَا .

( 2384 ) فَصْلٌ : وَتُكْرَهُ الْخِطْبَةُ لِلْمُحْرِمِ ، وَخِطْبَةُ الْمُحْرِمَةِ ، وَيُكْرَهُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَخْطُبَ لِلْمُحِلَّيْنِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ حَدِيثِ عُثْمَانَ : { لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ ، وَلَا يُنْكِحُ ، وَلَا يَخْطُبُ } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَلِأَنَّهُ تَسَبُّبٌ إلَى الْحَرَامِ ، فَأَشْبَهَ الْإِشَارَةَ إلَى الصَّيْدِ .
وَالْإِحْرَامُ الْفَاسِدُ كَالصَّحِيحِ فِي مَنْعِ النِّكَاح ، وَسَائِرِ الْمَحْظُورَات ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ بَاقٍ فِي وُجُوبِ مَا يَجِبُ فِي الْإِحْرَامِ ، فَكَذَلِكَ مَا يَحْرُمُ بِهِ .

( 2385 ) فَصْلٌ : وَيُكْرَهُ أَنْ يَشْهَدَ فِي النِّكَاحِ ؛ لِأَنَّهُ مُعَاوَنَةٌ عَلَى النِّكَاحِ فَأَشْبَهَ الْخِطْبَةَ .
وَإِنْ شَهِدَ أَوْ خَطَبَ ، لَمْ يَفْسُدْ النِّكَاحُ .
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ : لَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِشَهَادَةِ الْمُحْرِمِينَ ؛ لِأَنَّ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ : { وَلَا يَشْهَدُ } .
وَلَنَا ، أَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلشَّاهِدِ فِي الْعَقْدِ ، فَأَشْبَهَ الْخَطِيبَ ، وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ غَيْرُ مَعْرُوفَةٍ ، فَلَمْ يَثْبُتْ بِهَا حُكْمٌ .
وَمَتَى تَزَوَّجَ الْمُحْرِمُ ، أَوْ زَوَّجَ ، أَوْ زَوَّجَتْ مُحْرِمَةٌ ، لَمْ يَجِبْ بِذَلِكَ فِدْيَةٌ ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ فَسَدَ لِأَجْلِ الْإِحْرَامِ ، فَلَمْ تَجِبْ بِهِ فِدْيَةٌ ، كَشِرَاءِ الصَّيْدِ .

( 2386 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( فَإِنْ وَطِئَ الْمُحْرِمُ فِي الْفَرْجِ فَأَنْزَلَ ، أَوْ لَمْ يُنْزِلْ ، فَقَدْ فَسَدَ حَجُّهُمَا ، وَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ إنْ كَانَ اسْتَكْرَهَهَا ، وَإِنْ كَانَتْ طَاوَعَتْهُ ، فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَدَنَةٌ ) أَمَّا فَسَادُ الْحَجِّ بِالْجِمَاعِ فِي الْفَرْجِ ، فَلَيْسَ فِيهِ اخْتِلَافٌ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْحَجَّ لَا يَفْسُدُ بِإِتْيَانِ شَيْءٍ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ إلَّا الْجِمَاعَ .
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ ، فَقَالَ : إنِّي وَقَعْت بِامْرَأَتِي ، وَنَحْنُ مُحْرِمَانِ .
فَقَالَ : أَفْسَدْت حَجَّك ، انْطَلِقْ أَنْتَ وَأَهْلُك مَعَ النَّاسِ ، فَاقْضُوا مَا يَقْضُونَ ، وَحِلَّ إذَا حَلُّوا ، فَإِذَا كَانَ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ فَاحْجُجْ أَنْتَ وَامْرَأَتُك ، وَاهْدِيَا هَدْيًا ، فَإِنْ لَمْ تَجِدَا ، فَصُومَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ ، وَسَبْعَةً إذَا رَجَعْتُمْ .
وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو .
لَمْ نَعْلَمْ لَهُمْ فِي عَصْرِهِمْ مُخَالِفًا .
رَوَى حَدِيثَهُمْ الْأَثْرَمُ فِي ( سُنَنِهِ ) ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ : ( وَيَتَفَرَّقَانِ ) مِنْ حَيْثُ يُحْرِمَانِ ، حَتَّى يَقْضِيَا حَجَّهُمَا .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَعْلَى شَيْءٍ رُوِيَ فِي مَنْ وَطِئَ فِي حَجِّهِ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَعَطَاءٌ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا قَبْلَ الْوُقُوفِ وَبَعْدَهُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنْ جَامَعَ قَبْلَ الْوُقُوفِ فَسَدَ حَجُّهُ ، وَإِنْ جَامَعَ بَعْدَهُ لَمْ يَفْسُدْ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْحَجُّ عَرَفَةَ } .
وَلِأَنَّهُ مَعْنًى يَأْمَنُ بِهِ الْفَوَاتَ ، فَأَمِنَ بِهِ الْفَسَادَ ، كَالتَّحَلُّلِ .
وَلَنَا ، أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ رَوَيْنَا قَوْلَهُمْ ، مُطْلَقٌ فِي مَنْ وَاقَعَ مُحْرِمًا ، وَلِأَنَّهُ جِمَاعٌ صَادَفَ إحْرَامًا تَامًّا ،

فَأَفْسَدَهُ ، كَمَا قَبْلَ الْوُقُوفِ .
وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { الْحَجُّ عَرَفَةَ } يَعْنِي : مُعْظَمُهُ .
أَوْ أَنَّهُ رُكْنٌ مُتَأَكِّدٌ فِيهِ .
وَلَا يَلْزَمُ مِنْ أَمْنِ الْفَوَاتِ أَمْنُ الْفَسَادِ ، بِدَلِيلِ الْعُمْرَةِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُجَامِعِ بَدَنَةٌ .
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَعَطَاءٍ ، وَطَاوُسٍ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَمَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَبِي ثَوْرٍ .
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَإِسْحَاقُ : عَلَيْهِ بَدَنَةٌ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَشَاةٌ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ : إنْ جَامَعَ قَبْلَ الْوُقُوفِ فَسَدَ حَجُّهُ ، وَعَلَيْهِ شَاةٌ ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ ، وَحَجُّهُ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ الْوُقُوف مَعْنًى يُوجِبُ الْقَضَاءَ ، فَلَمْ يَجِبْ بِهِ بَدَنَةٌ ، كَالْفَوَاتِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ جِمَاعٌ صَادَفَ إحْرَامًا تَامًّا ، فَوَجَبَتْ بِهِ الْبَدَنَةُ ، كَبَعْدِ الْوُقُوفِ ، وَلِأَنَّهُ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ قَبْلَ الْوُقُوفِ وَبَعْدَهُ .
وَأَمَّا الْفَوَاتُ فَهُوَ مُفَارِقٌ لِلْجِمَاعِ بِالْإِجْمَاعِ ، وَلِذَلِكَ لَا يُوجِبُونَ فِيهِ الشَّاةَ ، بِخِلَافِ الْجِمَاعِ .
وَإِذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ مُكْرَهَةً عَلَى الْجِمَاعِ ، فَلَا هَدْيَ عَلَيْهَا ، وَلَا عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يُهْدِيَ عَنْهَا .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ؛ لِأَنَّهُ جِمَاعٌ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ ، فَلَمْ تَجِبْ بِهِ حَالَ الْإِكْرَاهِ أَكْثَرُ مِنْ كَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ ، كَمَا فِي الصِّيَامِ .
وَهَذَا قَوْلُ إِسْحَاقَ ، وَأَبِي ثَوْرٍ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ .
وَعَنْ أَحْمَدَ ، رِوَايَةٌ أُخْرَى : أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُهْدِيَ عَنْهَا .
وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ ، وَمَالِكٍ ؛ لِأَنَّ إفْسَادَ الْحَجَّ وُجِدَ مِنْهُ فِي حَقِّهِمَا ، فَكَانَ عَلَيْهِ لِإِفْسَادِهِ حَجَّهَا هَدْيٌ ، قِيَاسًا عَلَى حَجِّهِ ، وَعَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْهَدْيَ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّ فَسَادَ الْحَجَّ ثَبَتَ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا ، فَكَانَ الْهَدْيُ عَلَيْهَا ، كَمَا لَوْ طَاوَعَتْ .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ الْهَدْيَ عَلَيْهَا ، يَتَحَمَّلُهُ الزَّوْجُ عَنْهَا ، فَلَا يَكُونُ

رِوَايَةً ثَالِثَةً .
فَأَمَّا حَالَ الْمُطَاوَعَةِ ، فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَدَنَةٌ .
هَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، وَالنَّخَعِيِّ ، وَالضَّحَّاكِ ، وَمَالِكٍ ، وَالْحَكَمِ ، وَحَمَّادٍ ؛ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ : اهْدِ نَاقَةً ، وَلْتُهْدِ نَاقَةً .
لِأَنَّهَا أَحَدُ الْمُتَجَامِعَيْنِ مِنْ غَيْرِ إكْرَاهٍ ، فَلَزِمَتْهَا بَدَنَةٌ كَالرَّجُلِ .
وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ : أَرْجُو أَنْ يُجْزِئَهُمَا هَدْيٌ وَاحِدٌ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ جِمَاعٌ وَاحِدٌ فَلَمْ يُوجِبْ أَكْثَرَ مِنْ بَدَنَةٍ ، كَحَالَةِ الْإِكْرَاهِ ، وَالنَّائِمَةُ كَالْمُكْرَهَةِ فِي هَذَا .
وَأَمَّا فَسَادُ الْحَجِّ ، فَلَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ حَالِ الْإِكْرَاهِ وَالْمُطَاوَعَةِ .
لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا .

( 2387 ) فَصْلٌ : وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ وَالدُّبُرِ ، مِنْ آدَمِيٍّ أَوْ بَهِيمَةٍ .
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ .
وَيَتَخَرَّجُ فِي وَطْءِ الْبَهِيمَةِ أَنَّ الْحَجَّ لَا يَفْسُدُ بِهِ .
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ ، فَأَشْبَهَ الْوَطْءَ دُونَ الْفَرْجِ .
وَحَكَى أَبُو ثَوْرٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ اللِّوَاطَ وَالْوَطْءَ فِي الدُّبُرِ لَا يُفْسِدُ الْحَجَّ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِهِ الْإِحْصَانُ ، فَلَمْ يُفْسِدْ الْحَجَّ كَالْوَطْءِ دُونَ الْفَرْجِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ وَطْءٌ فِي فَرْجٍ يُوجِبُ الِاغْتِسَالَ ، فَأَفْسَدَ الْحَجَّ ، كَوَطْءِ الْآدَمِيَّةِ فِي الْقُبُلِ .
وَيُفَارِقُ الْوَطْءَ دُونَ الْفَرْجِ ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْكَبَائِرِ فِي الْأَجْنَبِيَّةِ .
وَلَا يُوجِبُ مَهْرًا ، وَلَا عِدَّةً ، وَلَا حَدًّا ، وَلَا غُسْلًا إلَّا أَنْ يُنْزِلَ ، فَيَكُونَ كَمَسْأَلَتِنَا ، فِي رِوَايَةٍ .

( 2388 ) فَصْلٌ : إذَا تَكَرَّرَ الْجِمَاعُ ، فَإِنْ كَفَّرَ عَنْ الْأَوَّلِ ، فَعَلَيْهِ لِلثَّانِي كَفَّارَةٌ ثَانِيَةٌ ، كَالْأَوَّلِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَفَّرَ عَنْ الْأَوَّلِ ، فَكَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ .
وَعَنْهُ أَنَّ لِكُلِّ وَطْءٍ كَفَّارَةً ؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِلْكَفَّارَةِ ، فَأَوْجَبَهَا كَالْأَوَّلِ .
وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ ؛ لِأَنَّهُ جِمَاعٌ مُوجِبٌ لِلْكَفَّارَةِ ، فَإِذَا تَكَرَّرَ قَبْلَ التَّكْفِيرِ عَنْ الْأَوَّلِ ، لَمْ يُوجِبْ كَفَّارَةً ثَانِيَةً ، كَمَا فِي الصِّيَامِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : عَلَيْهِ لِلْوَطْءِ الثَّانِي شَاةٌ ، سَوَاءٌ كَفَّرَ عَنْ الْأَوَّلِ أَوْ لَمْ يُكَفِّرْ ، إلَّا أَنْ يَتَكَرَّرَ الْوَطْءُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ، عَلَى وَجْهِ الرَّفْضِ لِلْإِحْرَامِ ؛ لِأَنَّهُ وَطْءٌ صَادَفَ إحْرَامًا نَاقِصَ الْحُرْمَةِ ، فَأَوْجَبَ شَاةً ، كَالْوَطْءِ بَعْدَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ .
وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَجِبُ بِالثَّانِي شَيْءٌ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُفْسِدُ الْحَجَّ ، فَلَا يَجِبُ بِهِ شَيْءٌ ، كَمَا لَوْ كَانَ قَبْلَ التَّكْفِيرِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ، كَقَوْلِنَا ، وَقَرِيبًا مِنْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَلَنَا ، عَلَى وُجُوبِ الْبَدَنَةِ إذَا كَفَّرَ ، أَنَّهُ وَطِئَ فِي إحْرَامٍ ، وَلَمْ يَتَحَلَّلْ مِنْهُ ، وَلَا أَمْكَنَ تَدَاخُلُ كَفَّارَتِهِ فِي غَيْرِهِ ، فَأَشْبَهَ الْوَطْءَ الْأَوَّلَ .
وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ الْفَاسِدَ كَالصَّحِيحِ فِي سَائِرِ الْكَفَّارَاتِ ، فَكَذَلِكَ فِي الْوَطْءِ ، وَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُكَفِّرْ عَنْ الْأَوَّلِ ، فَتَتَدَاخَلُ كَفَّارَاتُهُ ، كَمَا يَتَدَاخَلُ حُكْمُ الْمَهْرِ وَالْحَدِّ ، وَالتَّحْدِيدُ بِعَدَمِ التَّكْفِيرِ أَوْلَى مِنْ التَّحْدِيدِ بِالْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَهْرِ وَالْحَدِّ وَالتَّكْفِيرِ فِي الْيَمِينِ وَالظِّهَارِ وَغَيْرِهِمَا .

( 2389 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَإِنْ وَطِئَ دُونَ الْفَرْجِ ، فَلَمْ يُنْزِلْ فَعَلَيْهِ دَمٌ ، وَإِنْ أَنْزَلَ فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ ، وَقَدْ فَسَدَ حَجُّهُ ) أَمَّا إذَا لَمْ يُنْزِلْ ، فَإِنَّ حَجَّهُ لَا يَفْسُدُ بِذَلِكَ .
لَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ بِفَسَادِ حَجِّهِ ؛ لِأَنَّهَا مُبَاشَرَةٌ دُونَ الْفَرْجِ عَرِيَتْ عَنْ الْإِنْزَالِ ، فَلَمْ يَفْسُدْ بِهَا الْحَجُّ ، كَاللَّمْسِ ، أَوْ مُبَاشَرَةٌ لَا تُوجِبُ الِاغْتِسَالَ ، أَشْبَهَتْ اللَّمْسَ ، وَعَلَيْهِ شَاةٌ .
وَقَالَ الْحَسَنُ فِي مَنْ ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى فَرْجِ جَارِيَتِهِ : عَلَيْهِ بَدَنَةٌ .
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ : إذَا نَالَ مِنْهَا مَا دُونَ الْجِمَاعَ ، ذَبَحَ بَقَرَةً .
وَلَنَا ، أَنَّهَا مُلَامَسَةٌ مِنْ غَيْرِ إنْزَالٍ ، فَأَشْبَهَتْ لَمْسَ غَيْرِ الْفَرْجِ .
فَأَمَّا إنْ أَنْزَلَ ، فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ .
وَبِذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ : عَلَيْهِ شَاةٌ ؛ لِأَنَّهَا مُبَاشَرَةٌ دُونَ الْفَرْجِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يُنْزِلْ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ جِمَاعٌ أَوْجَبَ الْغُسْلَ ، فَأَوْجَبَ بَدَنَةً ، كَالْوَطْءِ فِي الْفَرْجِ .
وَفِي فَسَادِ حَجِّهِ بِذَلِكَ رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا ، يَفْسُدُ .
اخْتَارَهَا الْخِرَقِيِّ ، وَأَبُو بَكْرٍ .
وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ ، وَالْحَسَنِ ، وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ ، وَمَالِكٍ ، وَإِسْحَاقَ ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يُفْسِدُهَا الْوَطْءُ ، فَأَفْسَدَهَا الْإِنْزَالُ عَنْ مُبَاشَرَةٍ ، كَالصِّيَامِ .
وَالثَّانِيَةُ ، لَا يَفْسُدُ الْحَجُّ .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ وَابْنِ الْمُنْذِرِ ، وَهِيَ الصَّحِيحَةُ إنْ شَاءَ اللَّهُ ؛ لِأَنَّهُ اسْتِمْتَاعٌ لَا يَجِبُ بِنَوْعِهِ الْحَدُّ ، فَلَمْ يُفْسِدْ الْحَجَّ .
كَمَا لَوْ لَمْ يُنْزِلْ ، وَلِأَنَّهُ لَا نَصَّ فِيهِ وَلَا إجْمَاعَ وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ الْوَطْءَ فِي الْفَرْجِ يَجِبُ بِنَوْعِهِ الْحَدُّ ، وَيَتَعَلَّقُ بِهِ اثْنَا عَشَرِ حُكْمًا ، وَلَا يَفْتَرِقُ فِيهِ الْحَالُ بَيْنَ الْإِنْزَالِ وَعَدَمِهِ ، وَالصِّيَامُ

يُخَالِفُ الْحَجَّ فِي الْمُفْسِدَاتِ ، وَلِذَلِكَ يَفْسُدُ بِتَكْرَارِ النَّظَرِ مَعَ الْإِنْزَالِ وَالْمَذْيِ وَسَائِرِ مَحْظُورَاتِهِ ، وَالْحَجُّ لَا يَفْسُدُ بِشَيْءٍ مِنْ مَحْظُورَاتِهِ غَيْرِ الْجِمَاعِ ، فَافْتَرَقَا .
وَالْمَرْأَةُ كَالرَّجُلِ فِي هَذَا ، إذَا كَانَتْ ذَاتَ شَهْوَةٍ ، وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا ، كَالرَّجُلِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ شَهْوَةٌ .

( 2390 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( فَإِنْ قَبَّلَ فَلَمْ يُنْزِلْ ، فَعَلَيْهِ دَمٌ ، وَإِنْ أَنْزَلَ فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ ، وَعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ، رَحِمَهُ اللَّهُ ، رِوَايَةٌ أُخْرَى : إنْ أَنْزَلَ فَسَدَ حَجُّهُ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ حُكْمَ الْقُبْلَةِ حُكْمُ الْمُبَاشَرَةِ دُونَ الْفَرْجِ ، سَوَاءٌ ، إلَّا أَنَّ الْخِرَقِيِّ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَيْنِ فِي إفْسَادِ الْحَجِّ عِنْدَ الْإِنْزَالِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي إفْسَادِ الْحَجِّ فِي الْوَطْءِ دُونَ الْفَرْجِ إلَّا رِوَايَةً وَاحِدَةً ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ فِيهَا أَيْضًا رِوَايَتَيْنِ ، وَذَكَرْنَا الْخِلَافَ فِيهِ ، لَكِنْ نُشِيرُ إلَى الْفَرْقِ تَوْجِيهًا لِقَوْلِ الْخِرَقِيِّ فَنَقُولُ : إنْزَالٌ بِغَيْرِ وَطْءٍ فَلَمْ يَفْسُدْ بِهِ الْحَجُّ ، كَالنَّظَرِ ، وَلِأَنَّ اللَّذَّةَ بِالْوَطْءِ فَوْقَ اللَّذَّةِ بِالْقُبْلَةِ ، فَكَانَتْ فَوْقَهَا فِي الْوَاجِبِ ؛ لِأَنَّ مَرَاتِبَ أَحْكَامِ الِاسْتِمْتَاعِ عَلَى وَفْقِ مَا يَحْصُلُ بِهِ مِنْ اللَّذَّةِ ، فَالْوَطْءُ فِي الْفَرْجِ أَبْلَغُ الِاسْتِمْتَاعِ ، فَأَفْسَدَ الْحَجَّ مَعَ الْإِنْزَالِ وَعَدَمِهِ ، وَالْوَطْءُ دُونَ الْفَرْجِ دُونَهُ ، فَأَوْجَبَ الْبَدَنَةَ وَأَفْسَدَ الْحَجَّ عِنْدَ الْإِنْزَالِ ، وَالدَّمَ عِنْدَ عَدَمِهِ ، وَالْقُبْلَةُ دُونَهُمَا ، فَتَكُونُ دُونَهُمَا فِيمَا يَجِبُ بِهَا ، فَيَجِبُ بِهَا بَدَنَةٌ عِنْدَ الْإِنْزَالِ مِنْ غَيْرِ إفْسَادٍ ، وَتَكْرَارُ النَّظَرِ دُونَ الْجَمِيعِ ، فَيَجِبُ بِهِ الدَّمُ عِنْدَ الْإِنْزَالِ ، وَلَا يَجِبُ عِنْدَ عَدَمِهِ شَيْءٌ .
وَمِنْ جَمَعَ بَيْنَ الْوَطْءِ دُونَ الْفَرْجِ وَالْقُبْلَةِ ، قَالَ : كِلَاهُمَا مُبَاشَرَةٌ ، فَاسْتَوَى حُكْمُهُمَا فِي الْوَاجِبِ بِهِمَا .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ قَبَّلَ زَوْجَتَهُ : أَفْسَدْت حَجَّتَك .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ .
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَعَطَاءٌ ، وَابْنُ سِيرِينَ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَقَتَادَةُ ، وَمَالِكٌ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ : عَلَيْهِ دَمٌ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الشَّعْبِيِّ ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ

.
وَرَوَى الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ قَبَّلَ عَائِشَةَ بِنْتَ طَلْحَةَ مُحْرِمًا ، فَسَأَلَ ، فَأُجْمِعَ لَهُ عَلَى أَنْ يُهْرِيقَ دَمًا .
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَنْزَلَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ .
وَسَوَاءٌ أَمْذَى أَوْ لَمْ يُمْذِ .
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : إنْ قَبَّلَ فَمَذَى أَوْ لَمْ يُمْذِ ، فَعَلَيْهِ دَمٌ .
وَسَائِرُ اللَّمْسِ لِشَهْوَةٍ كَالْقُبْلَةِ فِيمَا ذَكَرْنَا ؛ لِأَنَّهُ اسْتِمْتَاعٌ يَلْتَذُّ بِهِ ، فَهُوَ كَالْقُبْلَةِ .
قَالَ أَحْمَدُ ، فِي مَنْ قَبَضَ عَلَى فَرْجِ امْرَأَتِهِ ، وَهُوَ مُحْرِمٌ : فَإِنَّهُ يُهْرِيقُ دَمَ شَاةٍ .
وَقَالَ عَطَاءٌ : إذَا قَبَّلَ الْمُحْرِمُ ، أَوْ لَمَسَ ، فَلْيُهْرِقْ دَمًا .

( 2391 ) مَسْأَلَة : قَالَ : ( وَإِنْ نَظَرَ ، فَصَرَفَ بَصَرَهُ ، فَأَمْنَى ، فَعَلَيْهِ دَمٌ ، وَإِنْ كَرَّرَ النَّظَرَ حَتَّى أَمْنَى ، فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ ، أَنَّ الْحَجَّ لَا يَفْسُدُ بِتَكْرَارِ النَّظَرِ ، أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ .
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيِّ .
وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ ، وَعَطَاءٍ ، وَمَالِكٍ ، فِي مَنْ رَدَّدَ النَّظَرَ حَتَّى أَمْنَى : عَلَيْهِ حَجٌّ قَابِلٍ ؛ لِأَنَّهُ أَنْزَلَ بِفِعْلِ مَحْظُورٍ ، أَشْبَهَ الْإِنْزَالَ بِالْمُبَاشَرَةِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ إنْزَالٌ عَنْ غَيْرِ مُبَاشَرَةٍ ، فَأَشْبَهَ الْإِنْزَالَ بِالْفِكْرِ وَالِاحْتِلَامِ ، وَالْأَصْلُ الَّذِي قَاسُوا عَلَيْهِ مَمْنُوعٌ .
ثُمَّ إنَّ الْمُبَاشَرَةَ أَبْلَغُ فِي اللَّذَّةِ ، وَآكَدُ فِي اسْتِدْعَاءِ الشَّهْوَةِ ، فَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ .
فَأَمَّا إنْ نَظَرَ وَلَمْ يُكَرِّرْ ، فَأَمْنَى ، فَعَلَيْهِ شَاةٌ .
وَإِنْ كَرَّرَهُ ، فَأَنْزَلَ ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ ؛ إحْدَاهُمَا ، عَلَيْهِ بَدَنَةٌ .
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ .
وَالثَّانِيَةُ ، عَلَيْهِ شَاةٌ .
وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، وَإِسْحَاقَ وَرِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ .
وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ : لَا شَيْءَ عَلَيْهِ .
وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُبَاشَرَةٍ ، أَشْبَهَ الْفِكْرَ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ إنْزَالٌ بِفِعْلِ مَحْظُورٍ ، فَأَوْجَبَ الْفِدْيَة ، كَاللَّمْسِ .
وَقَدْ رَوَى الْأَثْرَمُ ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّهُ قَالَ لَهُ رَجُلٌ : فَعَلَ اللَّهُ بِهَذِهِ وَفَعَلَ ، إنَّهَا تَطَيَّبَتْ لِي ، فَكَلَّمَتْنِي ، وَحَدَّثَتْنِي ، حَتَّى سَبَقَتْنِي الشَّهْوَةُ .
فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : أَتْمِمْ حَجَّك ، وَأَهْرِقْ دَمًا .
وَرَوَى حَنْبَلٌ .
فِي ( الْمَنَاسِكِ ) ، عَنْ مُجَاهِدٍ ، أَنَّ مُحْرِمًا نَظَرَ إلَى امْرَأَتِهِ حَتَّى أَمْذَى ، فَجَعَلَ يَشْتُمُهَا .
فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : أَهْرِقْ دَمًا ، وَلَا تَشْتُمْهَا .

( 2392 ) فَصْلٌ : فَإِنْ كَرَّرَ النَّظَرَ حَتَّى أَمْذَى : فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : عَلَيْهِ دَمٌ .
وَقَالَ الْقَاضِي : ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ .
قَالَ الْقَاضِي : لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ الْمَنِيِّ ، وَلِأَنَّهُ حَصَلَ بِهِ الْتِذَاذٌ ، فَهُوَ كَاللَّمْسِ .
وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِالنَّظَرِ مَنِيٌّ أَوْ مَذْيٌ ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، سَوَاءٌ كَرَّرَ النَّظَرَ أَوْ لَمْ يُكَرِّرْهُ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي مَنْ جَرَّدَ امْرَأَتَهُ ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُ غَيْرُ التَّجْرِيدِ ، أَنَّ عَلَيْهِ شَاةً ، وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْسٌ ، فَإِنَّ التَّجْرِيدَ لَا يُعَرَّى عَنْ اللَّمْسِ ظَاهِرًا ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ أَمْنَى أَوْ أَمْذَى ، أَمَّا مُجَرَّدُ ، النَّظَرِ ، فَلَا شَيْءَ فِيهِ ، فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ إلَى نِسَائِهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ ، وَكَذَلِكَ أَصْحَابُهُ .

( 2393 ) فَصْلٌ : فَإِنْ فَكَّرَ فَأَنْزَلَ ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ فَإِنَّ الْفِكْرَ يَعْرِضُ لِلْإِنْسَانِ مِنْ غَيْرِ إرَادَةٍ وَلَا اخْتِيَارٍ ، فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حُكْمٌ ، كَمَا فِي الصِّيَامِ ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا ، مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ ، أَوْ تَكَلَّمْ بِهِ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .

( 2394 ) فَصْلٌ : وَالْعَمْدُ وَالنِّسْيَانُ فِي الْوَطْءِ سَوَاءٌ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فَقَالَ : إذَا جَامَعَ أَهْلَهُ بَطَلَ حَجُّهُ ؛ لِأَنَّهُ شَيْءٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى رَدِّهِ ، وَالشَّعْرُ إذَا حَلَقَهُ ، فَقَدْ ذَهَبَ ، لَا يَقْدِرُ عَلَى رَدِّهِ ، وَالصَّيْدُ إذَا قَتَلَهُ ، فَقَدْ ذَهَبَ ، لَا يَقْدِرُ عَلَى رَدِّهِ ، فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ الْعَمْدُ وَالنِّسْيَانُ فِيهَا سَوَاءٌ .
وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِرَقِيِّ النِّسْيَانَ هَاهُنَا ، وَلَكِنْ ذَكَرَهُ فِي الصِّيَامِ ، وَبَيَّنَ أَنَّ الْوَطْءَ فِي الْفَرْجِ أَوْ دُونَ الْفَرْجِ مَعَ الْإِنْزَالِ يَسْتَوِي عَمْدُهُ وَسَهْوُهُ ، وَمَا عَدَاهُ مِنْ الْقُبْلَةِ وَاللَّمْسِ وَالْمَذْيِ بِتَكْرَارِ النَّظَرِ يَخْتَلِفُ حُكْمُ عَمْدِهِ وَسَهْوِهِ ، فَهَاهُنَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا يَكَادُ يَتَطَرَّقُ النِّسْيَانُ إلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ ، وَلِأَنَّ الْجِمَاعَ مُفْسِدٌ لِلصَّوْمِ دُونَ غَيْرِهِ ، فَاسْتَوَى عَمْدُهُ وَسَهْوُهُ ، كَالْفَوَاتِ ، بِخِلَافِ مَا دُونَهُ .
وَالْجَاهِلُ بِالتَّحْرِيمِ وَالْمُكْرَهُ فِي حُكْمِ النَّاسِي ؛ لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ .
وَمِمَّنْ قَالَ : إنَّ عَمْدَ الْوَطْءِ وَنِسْيَانَهُ سَوَاءٌ .
أَبُو حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ فِي قَدِيمِ قَوْلَيْهِ .
وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ : لَا يُفْسِدُ الْحَجَّ ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مَعَ النِّسْيَانِ وَالْجَهْلِ ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يَجِبُ بِإِفْسَادِهَا الْكَفَّارَةُ ، فَافْتَرَقَ فِيهَا وَطْءُ الْعَامِدِ وَالنَّاسِي ، كَالصَّوْمِ .
وَلَنَا أَنَّهُ سَبَبٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الْقَضَاءِ فِي الْحَجِّ ، فَاسْتَوَى عَمْدُهُ وَسَهْوُهُ ، كَالْفَوَاتِ ، وَالصَّوْمُ مَمْنُوعٌ .
ثُمَّ إنَّ الصَّوْمَ لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ فِيهِ بِالْإِفْسَادِ ؛ بِدَلِيلِ أَنَّ إفْسَادَهُ بِكُلِّ مَا عَدَا الْجِمَاعَ لَا يُوجِبُ كَفَّارَةً ، وَإِنَّمَا تَجِبُ بِخُصُوصِ الْجِمَاعِ فَافْتَرَقَا .

( 2395 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَلِلْمُحْرِمِ أَنْ يَتَّجِرَ ، وَيَصْنَعَ الصَّنَائِعَ ، وَيَرْتَجِعَ زَوْجَتَهُ ) وَعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ، رَحِمَهُ اللَّهُ ، رِوَايَةٌ أُخْرَى فِي الِارْتِجَاعِ ، أَنْ لَا يَفْعَلَ .
أَمَّا التِّجَارَةُ وَالصِّنَاعَةُ فَلَا نَعْلَمُ فِي إبَاحَتِهِمَا اخْتِلَافًا .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ ، قَالَ : كَانَ ذُو الْمَجَازِ وَعُكَاظٌ مَتْجَر النَّاسِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ كَأَنَّهُمْ كَرِهُوا ذَلِكَ ، حَتَّى نَزَلَتْ : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ } .
فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ .
فَأَمَّا الرَّجْعَةُ ، فَالْمَشْهُورُ إبَاحَتُهَا .
وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَفِيهِ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ ، أَنَّهَا لَا تُبَاحُ ؛ لِأَنَّهَا اسْتِبَاحَةُ فَرْجٍ مَقْصُودٍ بِعَقْدٍ ، فَلَا تُبَاحُ لِلْمُحْرِمِ ، كَالنِّكَاحِ .
وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ ، أَنَّ الرَّجْعِيَّةَ زَوْجَةٌ ، وَالرَّجْعَةُ إمْسَاكٌ ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى : { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } .
فَأُبِيحَ ذَلِكَ كَالْإِمْسَاكِ قَبْلَ الطَّلَاقِ .
وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الرَّجْعَةَ اسْتِبَاحَةٌ ، فَإِنَّ الرَّجْعِيَّةَ مُبَاحَةٌ ، وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهَا اسْتِبَاحَةٌ ، فَتَبْطُلُ بُشْرَى الْأَمَةِ لِلشِّرَاءِ ، وَلِأَنَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ إبَاحَةُ الزَّوْجَةِ مُبَاحٌ فِي النِّكَاحِ ، كَالتَّكْفِيرِ فِي الظِّهَارِ .
وَأَمَّا شِرَاءُ الْإِمَاءِ فَمُبَاحٌ ، وَسَوَاءٌ قَصَدَ بِهِ الشِّرَاء أَوْ لَمْ يَقْصِدْ .
لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَوْضُوعِ الِاسْتِبَاحَةِ فِي الْبِضْعِ ، فَأَشْبَهَ شِرَاءَ الْعَبِيدِ وَالْبَهَائِمِ ، وَلِذَلِكَ أُبِيحَ شِرَاءُ مَنْ لَا يَحِلُّ وَطْؤُهَا ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَحْرُمْ فِي حَالَةٍ يُحْرِم فِيهَا الْوَطْءُ .

( 2396 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَلَهُ أَنْ يَقْتُلَ الْحِدَأَةَ ، وَالْغُرَابَ ، وَالْفَأْرَةَ ، وَالْعَقْرَبَ ، وَالْكَلْبَ الْعَقُورَ ، وَكُلَّ مَا عَدَا عَلَيْهِ ، أَوْ آذَاهُ ، وَلَا فِدَاءَ عَلَيْهِ ) هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ؛ مِنْهُمْ الثَّوْرِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ، وَحُكِيَ عَنْ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ مَنَعَ قَتْلَ الْفَأْرَةِ .
وَالْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي حِلِّ قَتْلِهَا ، فَلَا يُعَوَّلُ عَلَى مَا خَالَفَهُ .
وَالْمُرَادُ بِالْغُرَابِ الْأَبْقَعِ غُرَابُ الْبَيْنِ .
وَقَالَ قَوْمٌ : لَا يُبَاحُ مِنْ الْغِرْبَانِ إلَّا الْأَبْقَعُ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ : { خَمْسٌ فَوَاسِقُ ، يُقْتَلْنَ فِي الْحَرَمِ : الْحَيَّةُ ، وَالْغُرَابُ الْأَبْقَعُ ، وَالْفَأْرَةُ ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ ، وَالْحِدَأَةُ } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَهَذَا يُقَيِّدُ الْمُطْلَقَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ ، وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْعُمُومِ ؛ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُبَاحَ مِنْ الْغِرْبَانِ لَا يَحِلُّ قَتْلُهُ .
وَلَنَا ، مَا رَوَتْ عَائِشَةُ ؛ قَالَتْ : { أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِ خَمْسِ فَوَاسِقَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ : الْحِدَأَةِ ، وَالْغُرَابِ ، وَالْفَأْرَةِ ، وَالْعَقْرَبِ ، وَالْكَلْبِ الْعَقُورِ } .
وَعَنْ ابْنِ عُمَر ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { خَمْسٌ مِنْ الدَّوَابِّ ، لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ جُنَاحٌ فِي قَتْلِهِنَّ } .
وَذَكَرَ مِثْلَ حَدِيثِ عَائِشَةَ .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ ، فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ : { خَمْسٌ لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ قَتْلَهُنَّ فِي الْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ } .
وَهَذَا عَامٌّ فِي الْغُرَابِ ، وَهُوَ أَصَحُّ مِنْ الْحَدِيثِ الْآخَرِ .
وَلِأَنَّ غُرَابَ الْبَيْنِ مُحَرَّمُ الْأَكْلِ ، يَعْدُو عَلَى أَمْوَالِ النَّاسِ ، فَلَا وَجْهَ لِإِخْرَاجِهِ مِنْ الْعُمُومِ .
وَفَارَقَ مَا أُبِيحَ أَكْلُهُ ، فَإِنَّهُ مُبَاحٌ لَيْسَ هُوَ فِي مَعْنَى مَا أُبِيحَ قَتْلُهُ ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَخْصِيصِهِ تَخْصِيصُ مَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ .
وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ : ( وَكُلَّ مَا عَدَا عَلَيْهِ أَوْ آذَاهُ ) .

يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ مَا يَبْدَأُ الْمُحْرِمَ ، فَيَعْدُو عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ ، فَهَذَا لَا جُنَاحَ عَلَى قَاتِلِهِ ، سَوَاء كَانَ مِنْ جِنْسٍ طَبْعُهُ الْأَذَى ، أَوْ لَمْ يَكُنْ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ يُحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، عَلَى أَنَّ السَّبُعَ إذَا بَدَأَ الْمُحْرِمَ ، فَقَتَلَهُ ، لَا شَيْءَ عَلَيْهِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ مَا كَانَ طَبْعُهُ الْأَذَى وَالْعُدْوَانَ ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ أَذًى فِي الْحَالِ .
قَالَ مَالِكٌ : الْكَلْبُ الْعَقُورُ ، مَا عَقَرَ النَّاسَ وَعَدَا عَلَيْهِمْ ، مِثْلُ الْأَسَدِ وَالنَّمِرِ وَالْفَهْدِ وَالذِّئْبِ .
فَعَلَى هَذَا يُبَاحُ قَتْلُ كُلِّ مَا فِيهِ أَذًى لِلنَّاسِ فِي أَنْفُسِهِمْ أَوْ فِي أَمْوَالِهِمْ ، مِثْلُ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ كُلِّهَا ، الْمُحَرَّمِ أَكْلُهَا ، وَجَوَارِحِ الطَّيْرِ ، كَالْبَازِي ، وَالْعُقَابِ ، وَالصَّقْرِ ، وَالشَّاهَيْنِ ، وَنَحْوِهَا ، وَالْحَشَرَاتِ الْمُؤْذِيَةِ ، وَالزُّنْبُورِ ، وَالْبَقِّ ، وَالْبَعُوضِ ، وَالْبَرَاغِيثِ ، وَالذُّبَابِ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ : يَقْتُلُ مَا جَاءَ فِي الْخَبَرِ ، وَالذِّئْبَ ، قِيَاسًا عَلَيْهِ .
وَلَنَا ، أَنَّ الْخَبَرَ نَصَّ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ عَلَى صُورَةٍ مِنْ أَدْنَاهُ ، تَنْبِيهًا عَلَى مَا هُوَ أَعْلَى مِنْهَا ، وَدَلَالَةً عَلَى مَا كَانَ فِي مَعْنَاهَا ، فَنَصُّهُ عَلَى الْحِدَأَةِ وَالْغُرَابِ تَنْبِيهٌ عَلَى الْبَازِي وَنَحْوِهِ ، وَعَلَى الْفَأْرَةِ تَنْبِيهٌ عَلَى الْحَشَرَاتِ ، وَعَلَى الْعَقْرَبِ تَنْبِيهٌ عَلَى الْحَيَّةِ ، وَعَلَى الْكَلْبِ الْعَقُورِ تَنْبِيهٌ عَلَى السِّبَاعِ الَّتِي هِيَ أَعْلَى مِنْهُ ، وَلِأَنَّ مَا لَا يُضْمَنُ بِمِثْلِهِ ، وَلَا بِقِيمَتِهِ ، لَا يُضْمَنُ ، كَالْحَشَرَاتِ .

( 2397 ) فَصْلٌ : وَمَا لَا يُؤْذِي بِطَبْعِهِ ، وَلَا يُؤْكَلُ كَالرَّخَمِ ، وَالدِّيدَانِ ، فَلَا أَثَرَ لِلْحَرَمِ وَلَا لِلْإِحْرَامِ فِيهِ ، وَلَا جَزَاءَ فِيهِ إنْ قَتَلَهُ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ مَالِكٌ : يَحْرُمُ قَتْلُهَا ، وَإِنْ قَتَلَهَا فَدَاهَا ، وَكَذَلِكَ كُلُّ سَبُعٍ لَا يَعْدُو عَلَى النَّاسِ .
وَإِذَا وَطِئَ الذُّبَابَ وَالنَّمْلَ أَوْ الذَّرَّ ، أَوْ قَتَلَ الزُّنْبُورَ ، تَصَدَّقَ بِشَيْءٍ مِنْ الطَّعَامِ .
وَلَنَا ، أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا أَوْجَبَ الْجَزَاءَ فِي الصَّيْدِ ، وَلَيْسَ هَذَا بِصَيْدٍ .
قَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ : الصَّيْدُ مَا جَمَعَ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ ، فَيَكُونُ مُبَاحًا وَحْشِيًّا مُمْتَنِعًا .
وَلِأَنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ وَلَا قِيمَةَ ، وَالضَّمَانُ إنَّمَا يَكُونُ بِأَحَدِ هَذَيْنِ الشَّيْئَيْنِ .
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ ، أَنَّهُ قَرَدَ بَعِيرَهُ بِالسُّقْيَا وَهُوَ مُحْرِمٌ .
وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ نَزَعَ الْقُرَادَ عَنْهُ ، وَرَمَاهُ .
وَهَذَا قَوْلُ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ ، وَعَطَاءٍ .
وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ لِعِكْرِمَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ : قُرِدَ الْبَعِيرُ .
فَكَرِهَ ذَلِكَ .
فَقَالَ : قُمْ فَانْحَرْهُ .
فَنَحَرَهُ .
فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ : لَا أُمَّ لَك ، كَمْ قَتَلْت فِيهَا مِنْ قُرَادٍ وَحَلَمَةٍ وَحَمْنَانَة ؟ يَعْنِي كِبَارَ الْقُرَادِ .
رَوَاهُ كُلَّهُ سَعِيدٌ .

( 2398 ) فَصْلٌ : وَلَا تَأْثِيرَ لِلْإِحْرَامِ وَلَا لِلْحَرَمِ فِي تَحْرِيمِ شَيْءٍ مِنْ الْحَيَوَانِ الْأَهْلِيِّ ، كَبَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ وَنَحْوِهَا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِصَيْدٍ ، وَإِنَّمَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى الصَّيْدَ ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْبَحُ الْبُدْنَ فِي إحْرَامِهِ فِي الْحَرَمِ ، يَتَقَرَّبُ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِذَلِكَ ، وَقَالَ : { أَفْضَلُ الْحَجِّ الْعَجُّ وَالثَّجُّ } .
يَعْنِي إسَالَةَ الدِّمَاءِ بِالذَّبْحِ وَالنَّحْرِ .
وَلَيْسَ فِي هَذَا اخْتِلَافٌ .

( 2399 ) فَصْلٌ : وَيَحِلُّ لِلْمُحْرِمِ صَيْدُ الْبَحْرِ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ } .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ : طَعَامُهُ مَا أَلْقَاهُ .
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : طَعَامُهُ مِلْحُهُ .
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ : طَعَامُهُ الْمِلْحُ ، وَصَيْدُهُ مَا اصْطَدْنَا .
وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ صَيْدَ الْبَحْرِ مُبَاحٌ لِلْمُحْرِمِ اصْطِيَادُهُ وَأَكْلُهُ وَبَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ .
وَصَيْدُ الْبَحْرِ : الْحَيَوَانُ الَّذِي يَعِيشُ فِي الْمَاءِ ، وَيَبِيضُ فِيهِ ، وَيُفْرِخُ فِيهِ ، كَالسَّمَكِ وَالسُّلَحْفَاةِ وَالسَّرَطَانِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ .
وَحُكِيَ عَنْ عَطَاءٍ فِيمَا يَعِيشُ فِي الْبَرِّ ، مِثْلَ السُّلَحْفَاةِ وَالسَّرَطَانِ ، فَأَشْبَهَ طَيْرَ الْمَاءِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ يَبِيضُ فِي الْمَاءِ ، وَيُفْرِخُ فِيهِ ، فَأَشْبَهَ السَّمَكَ .
فَأَمَّا طَيْرُ الْمَاءِ ، كَالْبَطِّ وَنَحْوِهِ ، فَهُوَ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَفِيهِ الْجَزَاءُ .
وَحُكِيَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ قَالَ : حَيْثُ يَكُونُ أَكْثَرَ ، فَهُوَ صَيْدُهُ .
وَقَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ يَبِيضُ فِي الْبَرِّ ، وَيُفْرِخُ فِيهِ ، فَكَانَ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ ، كَسَائِرِ طَيْرِهِ ، وَإِنَّمَا إقَامَتُهُ فِي الْبَحْرِ لِطَلَبِ الرِّزْقِ ، وَالْمَعِيشَةِ مِنْهُ ، كَالصَّيَّادِ .
فَإِنْ كَانَ جِنْسٌ مِنْ الْحَيَوَانِ ، نَوْعٌ مِنْهُ فِي الْبَحْرِ وَنَوْعٌ فِي الْبَرِّ ، كَالسُّلَحْفَاةِ ، فَلِكُلِّ نَوْعٍ حُكْمُ نَفْسِهِ ، كَالْبَقَرِ ، مِنْهَا الْوَحْشِيُّ مُحَرَّمٌ ، وَالْأَهْلِيُّ مُبَاحٌ .

( 2400 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَصَيْدُ الْحَرَمِ حَرَامٌ عَلَى الْحَلَالِ وَالْمُحْرِمِ ) الْأَصْلُ فِي تَحْرِيمِ صَيْدِ الْحَرَمِ النَّصُّ وَالْإِجْمَاعُ ؛ أَمَّا النَّصُّ ، فَمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ : { إنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهِ لَأَحَدٍ قَبْلِي ، وَلَمْ يَحِلَّ لِي إلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا ، وَلَا يُعْضَدُ شَوْكُهَا ، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا ، وَلَا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهَا ، إلَّا مَنْ عَرَّفَهَا .
فَقَالَ الْعَبَّاسُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إلَّا الْإِذْخِرَ ، فَإِنَّهُ لِقَيْنِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا الْإِذْخِرَ .
} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيمِ صَيْدِ الْحَرَمِ عَلَى الْحَلَالِ وَالْمُحْرِمِ .

( 2401 ) فَصْلٌ : وَفِيهِ الْجَزَاءُ عَلَى مَنْ يَقْتُلُهُ ، وَيُجْزَى بِمِثْلِ مَا يُجْزَى بِهِ الصَّيْدُ فِي الْإِحْرَامِ .
وَحُكِيَ عَنْ دَاوُد ، أَنَّهُ لَا جَزَاءَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ ، وَلَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ فَيَبْقَى بِحَالِهِ .
وَلَنَا ، أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، قَضَوْا فِي حَمَامِ الْحَرَمِ بِشَاةٍ شَاةً .
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ ، وَعُثْمَانَ ، وَابْنِ عُمَرَ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ .
وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافُهُمْ ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا .
وَلِأَنَّهُ صَيْدٌ مَمْنُوعٌ مِنْهُ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ، أَشْبَهَ الصَّيْدَ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ .

( 2402 ) فَصْلٌ : وَمَا يُحَرَّمُ وَيُضْمَنُ فِي الْإِحْرَامِ يُحَرَّمُ وَيُضْمَنُ فِي الْحَرَمِ ، وَمَا لَا فَلَا ، إلَّا شَيْئَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا ، الْقَمْلُ .
مُخْتَلَفٌ فِي قَتْلِهِ فِي الْإِحْرَامِ ، وَهُوَ مُبَاحٌ فِي الْحَرَمِ بِلَا اخْتِلَافٍ ؛ لِأَنَّهُ حُرِّمَ فِي الْإِحْرَامِ لِلتَّرَفُّهِ بِقَتْلِهِ وَإِزَالَتِهِ ، لَا لِحُرْمَتِهِ ، وَلَا يُحَرَّمُ التَّرَفُّهُ فِي الْحِلِّ ، فَأَشْبَهَ ذَلِكَ قَصَّ الشَّعْرِ وَتَقْلِيمَ الظُّفْرِ .
الثَّانِي ، صَيْدُ الْبَحْرِ .
مُبَاحٌ فِي الْإِحْرَام بِغَيْرِ خِلَافٍ ، وَلَا يَحِلُّ صَيْدُهُ مِنْ آبَارِ الْحَرَمِ وَعُيُونِهِ .
وَكَرِهَهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { لَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا .
} وَلِأَنَّ الْحُرْمَةَ تَثْبُتُ لِلصَّيْدِ ، كَحُرْمَةِ الْمَكَانِ ، وَهُوَ شَامِلٌ لِكُلِّ صَيْدٍ ، وَلِأَنَّهُ صَيْدٌ غَيْرُ مُؤْذٍ ، فَأَشْبَهَ الظِّبَاءَ .
وَعَنْ أَحْمَدَ ، رِوَايَةٌ أُخْرَى : أَنَّهُ مُبَاحٌ ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ لَا يُحَرِّمُهُ ، فَأَشْبَهَ السِّبَاعَ وَالْحَيَوَانَ الْأَهْلِيَّ .

( 2403 ) فَصْلٌ : وَيُضْمَنُ صَيْدُ الْحَرَمِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ ، وَالْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ ، وَالْحُرِّ وَالْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ تَعَلَّقَتْ بِمَحَلِّهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْجَمِيعِ ، فَوَجَبَ ضَمَانُهُ كَالْآدَمِيِّ .

( 2404 ) فَصْلٌ : وَمَنْ مَلَكَ صَيْدًا فِي الْحِلِّ ، فَأَدْخَلَهُ الْحَرَمَ ، لَزِمَهُ رَفْعُ يَدِهِ عَنْهُ وَإِرْسَالُهُ ، فَإِنْ تَلِفَ فِي يَدِهِ ، أَوْ أَتْلَفَهُ ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ ، كَصَيْدِ الْحِلِّ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ .
وَقَالَ عَطَاءٌ : إنْ ذَبَحَهُ ، فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ .
وَمِمَّنْ كَرِهَ إدْخَالَ الصَّيْدِ الْحَرَمَ ، ابْنُ عُمَرَ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَعَائِشَةُ ، وَعَطَاءٌ ، وَطَاوُسٌ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَرَخَّصَ فِيهِ جَابِرُ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، وَرُوِيَتْ عَنْهُ الْكَرَاهَةُ لَهُ .
أَخْرَجَهُ سَعِيدٌ .
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ : كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ تِسْعَ سِنِينَ يَرَاهَا فِي الْأَقْفَاصِ ، وَأَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَرَوْنَ بِهِ بَأْسًا .
وَرَخَّصَ فِيهِ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ خَارِجًا ، وَحَلَّ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ ، فَجَازَ لَهُ ذَلِكَ فِي الْحَرَمِ ، كَصَيْدِ الْمَدِينَةِ إذَا أَدْخَلَهُ حَرَمَهَا .
وَلَنَا ، أَنَّ الْحَرَمَ سَبَبٌ مُحَرِّمٌ لِلصَّيْدِ ، وَيُوجِبُ ضَمَانَهُ فَحَرَّمَ اسْتِدَامَةَ إمْسَاكِهِ كَالْإِحْرَامِ ، وَلِأَنَّهُ صَيْدٌ ذَبَحَهُ فِي الْحَرَمِ ، فَلَزِمَهُ جَزَاؤُهُ ، كَمَا لَوْ صَادَهُ مِنْهُ ، وَصَيْدُ الْمَدِينَةِ لَا جَزَاءَ فِيهِ ، بِخِلَافِ صَيْدِ الْحَرَمِ .

( 2405 ) فَصْلٌ : وَيُضْمَنُ صَيْدُ الْحَرَمِ بِالدَّلَالَةِ وَالْإِشَارَةِ ، كَصَيْدِ الْإِحْرَامِ ، وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِمَا جَزَاءٌ وَاحِدٌ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
وَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الدَّالِ فِي الْحِلِّ أَوْ الْحَرَمِ .
وَقَالَ الْقَاضِي : لَا جَزَاءَ عَلَى الدَّالِ إذَا كَانَ فِي الْحِلِّ ، وَالْجَزَاءُ عَلَى الْمَدْلُولِ وَحْدَهُ ، كَالْحَلَالِ إذَا دَلَّ مُحْرِمًا عَلَى صَيْدِهِ .
وَلَنَا ، أَنَّ قَتْل الصَّيْدِ الْحَرَمِيِّ حَرَامٌ عَلَى الدَّالِّ ، فَيَضْمَنُهُ بِالدَّلَالَةِ ، كَمَا لَوْ كَانَ فِي الْحَرَمِ ، يُحَقِّقُهُ أَنَّ صَيْدَ الْحَرَمِ مُحَرَّمٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { لَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا } .
وَفِي لَفْظٍ : { لَا يُصَادُ صَيْدُهَا } .
وَهَذَا عَامٌّ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ ، وَلِأَنَّ صَيْدَ الْحَرَمِ مَعْصُومٌ بِمَحَلِّهِ ، فَحُرِّمَ قَتْلُهُ عَلَيْهِمَا كَالْمُلْتَجِئِ إلَى الْحَرَمِ .
وَإِذَا ثَبَتَ تَحْرِيمُهُ عَلَيْهِمَا فَيُضْمَنُ بِالدَّلَالَةِ مِمَّنْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ قَتْلُهُ ، كَمَا يُضْمَنُ بِدَلَالَةِ الْمُحْرِمِ عَلَيْهِ .

( 2406 ) فَصْلٌ : وَإِذَا رَمَى الْحَلَالُ مِنْ الْحِلِّ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ ، فَقَتَلَهُ ، أَوْ أَرْسَلَ كَلْبَهُ عَلَيْهِ ، فَقَتَلَهُ ، أَوْ قَتَلَ صَيْدًا عَلَى فَرْعٍ فِي الْحَرَمِ أَصِلُهُ فِي الْحِلِّ ، ضَمِنَهُ .
وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ، وَحَكَى أَبُو الْخَطَّابِ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةً أُخْرَى ، لَا جَزَاءَ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْقَاتِلَ حَلَالٌ فِي الْحِلِّ .
وَهَذَا لَا يَصِحُّ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا } .
وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَنْ هُوَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيمِ صَيْدِ الْحَرَمِ ، وَهَذَا مِنْ صَيْدِهِ ، وَلِأَنَّ صَيْدَ الْحَرَمِ مَعْصُومٌ بِمَحَلِّهِ بِحُرْمَةِ الْحَرَمِ ، فَلَا يَخْتَصُّ تَحْرِيمُهُ بِمَنْ فِي الْحَرَمِ ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إنْ أَمْسَكَ طَائِرًا فِي الْحِلِّ ، فَهَلَكَ فِرَاخُهُ فِي الْحَرَمِ ، ضَمِنَ الْفِرَاخَ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَلَا يَضْمَنُ الْأُمَّ ؛ لِأَنَّهَا مِنْ صَيْدِ الْحِلِّ ، وَهُوَ حَلَالٌ .
وَإِنْ انْعَكَسَتْ الْحَالُ ، فَرَمَى مِنْ الْحَرَمِ صَيْدًا فِي الْحِلِّ ، أَوْ أَرْسَلَ كَلْبَهُ عَلَيْهِ ، أَوْ قَتَلَ صَيْدًا عَلَى غُصْنٍ فِي الْحِلِّ أَصْلُهُ فِي الْحَرَمِ ، أَوْ أَمْسَكَ حَمَامَةً فِي الْحَرَمِ ، فَهَلَكَ فِرَاخُهَا فِي الْحِلِّ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، كَمَا فِي الْحِلِّ .
قَالَ أَحْمَدُ ، فِي مَنْ أَرْسَلَ كَلْبَهُ فِي الْحَرَمِ ، فَصَادَ فِي الْحِلِّ : فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ .
وَحُكِيَ عَنْهُ ، رِوَايَةٌ أُخْرَى ، فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ : يَضْمَنُ .
وَعَنْ الشَّافِعِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ .
وَذَهَبَ الثَّوْرِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ؛ وَأَبُو ثَوْرِ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ ، فِي مَنْ قَتَلَ طَائِرًا عَلَى غُصْنٍ فِي الْحِلِّ ، أَصْلُهُ فِي الْحَرَمِ : لَا جَزَاءَ عَلَيْهِ .
وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ أَصْحَابِ الرَّأْيِ .
وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ ، وَإِسْحَاقُ : عَلَيْهِ الْجَزَاءُ ؛ لِأَنَّ الْغُصْنَ تَابِعٌ لِلْأَصْلِ ، وَهُوَ فِي الْحَرَمِ .
وَلَنَا ، أَنَّ الْأَصْلَ حِلُّ الصَّيْدِ ،

فَحَرَّمَ صَيْدُ الْحَرَمِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { لَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا } .
وَبِالْإِجْمَاعِ ، فَبَقِيَ مَا عَدَاهُ عَلَى الْأَصْلِ ، وَلِأَنَّهُ صَيْدُ حِلٍّ صَادَهُ حَلَالٌ ، فَلَمْ يُحَرَّمْ ، كَمَا لَوْ كَانَا فِي الْحِلِّ ، وَلِأَنَّ الْجَزَاءَ إنَّمَا يَجِبُ فِي صَيْدِ الْحَرَمِ ، أَوْ صَيْدِ الْمُحْرِمِ ، وَلَيْسَ هَذَا بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا .

( 2407 ) فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَ الصَّيْدُ وَالصَّائِدُ فِي الْحِلِّ ، فَرَمَى الصَّيْدَ بِسَهْمِهِ ، أَوْ أَرْسَلَ عَلَيْهِ كَلْبَهُ ، فَدَخَلَ الْحَرَمَ ، ثُمَّ خَرَجَ فَقَتَلَ الصَّيْدَ فِي الْحِلِّ ، فَلَا جَزَاءَ فِيهِ .
وَبِهَا قَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَحَكَى أَبُو ثَوْرٍ عَنْ الشَّافِعِيِّ ، أَنَّ عَلَيْهِ الْجَزَاءَ .
وَلَنَا ، مَا ذَكَرْنَاهُ .
قَالَ الْقَاضِي : لَا يَزِيدُ سَهْمُهُ عَلَى نَفْسِهِ ، وَلَوْ عَدَا بِنَفْسِهِ ، فَسَلَكَ الْحَرَمَ فِي طَرِيقِهِ ، ثُمَّ قَتَلَ صَيْدًا فِي الْحِلِّ ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ ، فَسَهْمُهُ أَوْلَى .

( 2408 ) فَصْلٌ : وَإِنْ رَمَى مِنْ الْحِلِّ صَيْدًا فِي الْحِلِّ ، فَقَتَلَ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ ، فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ .
وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ : لَا جَزَاءَ عَلَيْهِ .
وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ صَيْدًا حَرَمِيًّا ، فَلَزِمَهُ جَزَاؤُهُ ، كَمَا لَوْ رَمَى حَجَرًا فِي الْحَرَمِ فَقَتَلَ صَيْدًا ، يُحَقِّقُهُ أَنَّ الْخَطَأَ كَالْعَمْدِ فِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ ، وَهَذَا لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ وَاحِدًا مِنْهُمَا .
فَأَمَّا إنْ أَرْسَلَ كَلْبَهُ عَلَى صَيْدٍ فِي الْحِلِّ ، فَدَخَلَ الْكَلْبُ الْحَرَمَ ، فَقَتَلَ صَيْدًا آخَرَ ، لَمْ يَضْمَنْهُ .
وَهَذَا قَوْلُ الثَّوْرِيِّ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ ، وَأَبِي ثَوْرٍ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُرْسِلْ الْكَلْبَ عَلَى ذَلِكَ الصَّيْدِ ، وَإِنَّمَا دَخَلَ بِاخْتِيَارِ نَفْسِهِ ، فَهُوَ كَمَا لَوْ اسْتَرْسَلَ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ إرْسَالٍ .
وَإِنْ أَرْسَلَهُ عَلَى صَيْدٍ ، فَدَخَلَ الصَّيْدُ الْحَرَمَ ، وَدَخَلَ الْكَلْبُ خَلْفَهُ ، فَقَتَلَهُ فِي الْحَرَمِ ، فَكَذَلِكَ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ، وَأَبِي ثَوْرٍ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ .
وَقَالَ عَطَاءٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَصَاحِبَاهُ : عَلَيْهِ الْجَزَاءُ ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ صَيْدًا حَرَمِيًّا ، بِإِرْسَالِ كَلْبِهِ عَلَيْهِ ، فَضَمِنَهُ ، كَمَا لَوْ قَتَلَهُ بِسَهْمِهِ .
وَاخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ .
وَحَكَى صَالِحٌ ، عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهُ قَالَ : إنْ كَانَ الصَّيْدُ قَرِيبًا مِنْ الْحَرَمِ ، ضَمِنَهُ ؛ لِأَنَّهُ فَرَّطَ بِإِرْسَالِهِ فِي مَوْضِعٍ يَظْهَرُ أَنَّهُ يَدْخُلُ الْحَرَمَ ، وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا ، لَمْ يَضْمَنْ ؛ لِعَدَمِ التَّفْرِيطِ .
وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ أَرْسَلَ الْكَلْبَ عَلَى صَيْدٍ مُبَاحٍ ، فَلَمْ يَضْمَنْ .
كَمَا لَوْ قَتَلَ صَيْدًا سِوَاهُ ، وَفَارَقَ السَّهْمَ ؛ لِأَنَّ الْكَلْبَ لَهُ قَصْدٌ وَاخْتِيَارٌ ، وَلِهَذَا يَسْتَرْسِلُ بِنَفْسِهِ ، وَيُرْسِلُهُ إلَى جِهَةٍ فَيَمْضِي إلَى غَيْرِهَا ، وَالسَّهْمُ بِخِلَافِهِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ لَا يَأْكُلُ الصَّيْدَ

فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ كُلِّهَا ، ضَمِنَهُ أَوْ لَمْ يَضْمَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ صَيْدٌ حَرَمِيٌّ ، قُتِلَ فِي الْحَرَمِ ، فَحُرِّمَ ، كَمَا لَوْ ضَمِنَهُ ، وَلِأَنَّنَا إذَا قَطَعْنَا فِعْلَ الْآدَمِيِّ ، صَارَ كَأَنَّ الْكَلْبَ اسْتَرْسَلَ بِنَفْسِهِ ، فَقَتَلَهُ .
وَلَكِنْ لَوْ رَمَى الْحَلَالُ مِنْ الْحِلِّ صَيْدًا فِي الْحِلِّ ، فَجَرَحَهُ ، وَتَحَامَلَ الصَّيْدُ فَدَخَلَ الْحَرَمَ ، فَمَاتَ فِيهِ ، حَلَّ أَكْلُهُ ، وَلَا جَزَاءَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الذَّكَاةَ حَصَلَتْ فِي الْحِلِّ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ جَرَحَ صَيْدًا ، ثُمَّ أَحْرَمَ ، فَمَاتَ الصَّيْدُ بَعْدَ إحْرَامِهِ .
وَيُكْرَهُ أَكْلُهُ ؛ لِمَوْتِهِ فِي الْحَرَمِ .

( 2409 ) فَصْلٌ : وَإِنْ وَقَفَ صَيْدٌ ، بَعْضُ قَوَائِمِهِ فِي الْحِلِّ ، وَبَعْضُهَا فِي الْحَرَمِ ، فَقَتَلَهُ قَاتِلٌ ، ضَمِنَهُ تَغْلِيبًا لِلْحَرَمِ .
وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَإِنْ نَفَّرَ صَيْدًا مِنْ الْحَرَمِ ، فَأَصَابَهُ شَيْءٌ فِي حَالِ نُفُورِهِ ، ضَمِنَهُ ؛ لِأَنَّهُ تَسَبَّبَ إلَى إتْلَافِهِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ تَلِفَ بِشَرَكِهِ أَوْ شَبَكَتِهِ .
وَإِنْ سَكَنَ مِنْ نُفُورِهِ ، ثُمَّ أَصَابَهُ شَيْءٌ ، فَلَا شَيْءَ عَلَى مَنْ نَفَّرَهُ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ سَبَبًا لِإِتْلَافِهِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ ، أَنَّهُ وَقَعَتْ عَلَى رِدَائِهِ حَمَامَةٌ ، فَأَطَارَهَا ، فَوَقَعَتْ عَلَى وَاقِفٍ فَانْتَهَزَتْهَا حَيَّةٌ ، فَاسْتَشَارَ فِي ذَلِكَ عُثْمَانَ وَنَافِعَ بْنَ عَبْدِ الْحَارِث فَحَكَمَا عَلَيْهِ بِشَاةٍ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ رَأَوْا عَلَيْهِ الضَّمَانَ بَعْدَ سُكُوتِهِ .
لَكِنْ لَوْ انْتَقَلَ عَنْ الْمَكَانِ الثَّانِي ، فَأَصَابَهُ شَيْءٌ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ الْمَكَانِ الَّذِي طَرْد إلَيْهِ ، وَقَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَأَحْمَدَ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا ؛ لِأَنَّ سُفْيَان قَالَ : إذَا طَرَدْت فِي الْحَرَمِ شَيْئًا ، فَأَصَابَ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يَقَعَ ، أَوْ حِينَ وَقَعَ ، ضَمِنْت ، وَإِنْ وَقَعَ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ إلَى مَكَان آخَرَ ، فَلَيْسَ عَلَيْك شَيْءٌ .
فَقَالَ أَحْمَدُ : جَيِّدٌ .

( 2410 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَكَذَلِكَ شَجَرُهُ وَنَبَاتُهُ ، إلَّا الْإِذْخِرَ ، وَمَا زَرَعَهُ الْإِنْسَانُ ) أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى تَحْرِيمِ قَطْعِ شَجَرِ الْحَرَمِ ، وَإِبَاحَةِ أَخْذِ الْإِذْخِر ، وَمَا أَنْبَتَهُ الْآدَمِيُّ مِنْ الْبُقُولِ وَالزُّرُوعِ وَالرَّيَاحِينِ .
حَكَى ذَلِكَ ابْنُ الْمُنْذِرِ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ .
وَرَوَى أَبُو شُرَيْحٍ ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ نَحْوًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَكُلُّهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا .
وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ : { أَلَا وَإِنَّهَا سَاعَتِي هَذِهِ حَرَامٌ ، لَا يُخْتَلَى شَوْكُهَا ، وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا } .
وَفِي حَدِيثِ أَبِي شُرَيْحٍ ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ ، قَالَ : { إنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ ، وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ ، فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا ، وَلَا يَعْضُدَ بِهَا شَجَرَةً } .
وَرَوَى الْأَثْرَمُ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةِ ، فِي ( سُنَنِهِ ) ، وَفِيهِ : { لَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا ، وَلَا يُحْتَشُّ حَشِيشُهَا ، وَلَا يُصَادُ صَيْدُهَا } .
فَأَمَّا مَا أَنْبَتَهُ الْآدَمِيُّ مِنْ الشَّجَرِ ، فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ ، وَابْنُ عَقِيلٍ : لَهُ قَلْعُهُ مِنْ غَيْرِ ضَمَانٍ ، كَالزَّرْعِ .
وَقَالَ الْقَاضِي : مَا نَبَتَ فِي الْحِلِّ ، ثُمَّ غُرِسَ فِي الْحَرَمِ ، فَلَا جَزَاءَ فِيهِ ، وَمَا نَبَتَ أَصْلُهُ فِي الْحَرَمِ .
فَفِيهِ الْجَزَاءُ بِكُلِّ حَالٍ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : فِي شَجَرِ الْحَرَمِ الْجَزَاءُ بِكُلِّ حَالٍ ، أَنْبَتَهُ الْآدَمِيُّونَ ، أَوْ نَبَتَ بِنَفْسِهِ ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { لَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا } .
وَلِأَنَّهَا شَجَرَةٌ نَابِتَةٌ فِي الْحَرَمِ ، أَشْبَهَ مَا لَمْ يُنْبِتْهُ الْآدَمِيُّونَ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا جَزَاءَ فِيمَا يُنْبِتُ الْآدَمِيُّونَ جِنْسَهُ ، كَالْجَوْزِ وَاللَّوْزِ وَالنَّخْلِ وَنَحْوِهِ ، وَلَا يَجِبُ فِيمَا يُنْبِتُهُ الْآدَمِيُّ مِنْ غَيْرِهِ ، كَالدَّوْحِ وَالسَّلَم وَالْعِضَاهِ ؛ لِأَنَّ الْحَرَمِ يَخْتَصُّ تَحْرِيمُهُ مَا كَانَ

وَحْشِيًّا مِنْ الصَّيْدِ ، كَذَلِكَ الشَّجَرُ .
وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ : ( وَمَا زَرَعَهُ الْإِنْسَانُ ) يَحْتَمِلُ اخْتِصَاصَهُ بِالزَّرْعِ دُونَ الشَّجَرِ ، فَيَكُونُ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَعُمَّ جَمِيعَ مَا يُزْرَعُ ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الشَّجَرُ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ مَا يُنْبِتُ الْآدَمِيُّونَ جِنْسَهُ .
وَالْأَوْلَى الْأَخْذُ بِعُمُومِ الْحَدِيثِ فِي تَحْرِيمِ الشَّجَرِ كُلِّهِ ، بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { لَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا .
} إلَّا مَا أَنْبَتَهُ الْآدَمِيُّ مِنْ جِنْسِ شَجَرِهِمْ ، بِالْقِيَاسِ عَلَى مَا أَنْبَتُوهُ مِنْ الزَّرْعِ ، وَالْأَهْلِيِّ مِنْ الْحَيَوَانِ ، فَإِنَّنَا إنَّمَا أَخْرَجْنَا مِنْ الصَّيْدِ مَا كَانَ أَصْلُهُ إنْسِيًّا ، دُونَ مَا تَأَنَّسَ مِنْ الْوَحْشِيِّ ، كَذَا هَاهُنَا .

( 2411 ) فَصْلٌ : وَيَحْرُمُ قَطْعُ الشَّوْكِ ، وَالْعَوْسَجِ .
وَقَالَ الْقَاضِي ، وَأَبُو الْخَطَّابِ : لَا يَحْرُمُ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ يُؤْذِي بِطَبْعِهِ ، فَأَشْبَهَ السِّبَاعَ مِنْ الْحَيَوَانِ .
وَلَنَا ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا } .
وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ : { لَا يُخْتَلَى شَوْكُهَا } .
وَهَذَا صَرِيحٌ .
وَلِأَنَّ الْغَالِبَ فِي شَجَرِ الْحَرَمِ الشَّوْكُ ، فَلَمَّا حَرَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطْعَ شَجَرِهَا ، وَالشَّوْكُ غَالِبُهُ ، كَانَ ظَاهِرًا فِي تَحْرِيمِهِ .

( 2412 ) فَصْلٌ : وَلَا بَأْسَ بِقَطْعِ الْيَابِسِ مِنْ الشَّجَرِ وَالْحَشِيشِ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَيِّتِ .
وَلَا بِقَطْعِ مَا انْكَسَرَ وَلَمْ يَبِنْ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَلِفَ ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الظُّفْرِ الْمُنْكَسِرِ .
وَلَا بَأْسَ بِالِانْتِفَاعِ بِمَا انْكَسَرَ مِنْ الْأَغْصَانِ ، وَانْقَلَعَ مِنْ الشَّجَرِ بِغَيْرِ فِعْلِ آدَمِيٍّ .
وَلَا مَا سَقَطَ مِنْ الْوَرَقِ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ إنَّمَا وَرَدَ فِي الْقَطْعِ ، وَهَذَا لَمْ يُقْطَعْ .
فَأَمَّا إنْ قَطَعَهُ آدَمِيٌّ ، فَقَالَ أَحْمَدُ : لَمْ أَسْمَعْ ، إذَا قُطِعَ يُنْتَفَعُ بِهِ .
وَقَالَ فِي الدَّوْحَةِ تُقْلَعُ : مَنْ شَبَّهَهُ بِالصَّيْدِ ، لَمْ يَنْتَفِعْ بِحَطَبِهَا .
وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ إتْلَافِهِ ؛ لِحُرْمَةِ الْحَرَمِ ، فَإِذَا قَطَعَهُ مَنْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ قَطْعُهُ ، لَمْ يُنْتَفَعْ بِهِ ، كَالصَّيْدِ يَذْبَحُهُ الْمُحْرِمُ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُبَاحَ لِغَيْرِ الْقَاطِعِ الِانْتِفَاعُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ انْقَطَعَ بِغَيْرِ فِعْلِهِ ، فَأُبِيحَ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ ، كَمَا لَوْ قَطَعَهُ حَيَوَانٌ بَهِيمِيٌّ ، وَيُفَارِقُ الصَّيْدَ الَّذِي ذَبَحَهُ ، لِأَنَّ الذَّكَاةَ تُعْتَبَرُ لَهَا الْأَهْلِيَّةُ ، وَلِهَذَا لَا يَحْصُلُ بِفِعْلِ بَهِيمَةٍ ، بِخِلَافِ هَذَا .

( 2413 ) فَصْلٌ : وَلَيْسَ لَهُ أَخْذُ وَرَقِ الشَّجَرِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَهُ أَخْذُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَضُرُّ بِهِ .
وَكَانَ عَطَاءٌ يُرَخِّصُ فِي أَخْذِ وَرَقِ السَّنَى ، يَسْتَمْشِي بِهِ ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ أَصْلِهِ .
وَرَخَّصَ فِيهِ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ .
وَلَنَا ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا يُخْبَطُ شَوْكُهَا ، وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا } ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَلِأَنَّ مَا حُرِّمَ أَخْذُهُ حُرِّمَ كُلُّ شَيْءٍ مِنْهُ ، كَرِيشِ الطَّائِرِ .
وَقَوْلُهُمْ : لَا يَضُرُّ بِهِ .
لَا يَصِحُّ فَإِنَّهُ يُضْعِفُهَا ، وَرُبَّمَا آلَ إلَى تَلَفِهَا .

( 2414 ) فَصْلٌ : وَيَحْرُمُ قَطْعُ حَشِيشِ الْحَرَمِ ، إلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ الشَّرْعُ مِنْ الْإِذْخِرِ ، وَمَا أَنْبَتَهُ الْآدَمِيُّونَ ، وَالْيَابِسَ ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا } .
وَفِي لَفْظٍ : { لَا يُحْتَشُّ حَشِيشُهَا .
} وَفِي اسْتِثْنَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِذْخِرَ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ مَا عَدَاهُ ، وَفِي جَوَازِ رَعْيِهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، لَا يَجُوزُ ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ مَا حَرُمَ إتْلَافُهُ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُرْسَلَ عَلَيْهِ مَا يُتْلِفُهُ ، كَالصَّيْدِ .
وَالثَّانِي ، يَجُوزُ .
وَهُوَ مَذْهَبُ عَطَاءٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ الْهَدَايَا كَانَتْ تَدْخُلُ الْحَرَمَ ، فَتَكْثُرُ فِيهِ ، فَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ كَانَتْ تُسَدُّ أَفْوَاهُهَا ، وَلِأَنَّ بِهِمْ حَاجَةً إلَى ذَلِكَ ، أَشْبَهَ قَطْعَ الْإِذْخِرِ .

( 2415 ) فَصْلٌ : وَيُبَاحُ أَخْذُ الْكَمْأَةِ مِنْ الْحَرَمِ ، وَكَذَلِكَ الْفَقْعُ ؛ لِأَنَّهُ لَا أَصْلَ لَهُ ، فَأَشْبَهَ الثَّمَرَةَ .
وَرَوَى حَنْبَلٌ ، قَالَ : يُؤْكَلُ مِنْ شَجَرِ الْحَرَمِ الضَّغَابِيسُ ، والعشرق ، وَمَا سَقَطَ مِنْ الشَّجَرِ ، وَمَا أَنْبَتَ النَّاسُ .

( 2416 ) فَصْلٌ : وَيَجِبُ فِي إتْلَافِ الشَّجَرِ وَالْحَشِيشِ الضَّمَانُ .
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَعَطَاءٍ .
وَقَالَ مَالِكٌ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَدَاوُد ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ : لَا يَضْمَنُ ؛ لِأَنَّ الْمُحْرِمَ لَا يَضْمَنُهُ فِي الْحِلِّ ، فَلَا يَضْمَنُ فِي الْحَرَمِ ، كَالزَّرْعِ .
وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : لَا أَجِدُ دَلِيلًا أُوجِبُ بِهِ فِي شَجَرِ الْحَرَمِ ، فَرْضًا مِنْ كِتَابٍ ، وَلَا سُنَّةٍ ، وَلَا إجْمَاعٍ ، وَأَقُولُ كَمَا قَالَ مَالِكٌ : نَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعَالَى ، وَلَنَا ، مَا رَوَى أَبُو هُشَيْمَةَ ، قَالَ : رَأَيْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ، أَمَرَ بِشَجَرٍ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ يَضُرُّ بِأَهْلِ الطَّوَافِ ، فَقُطِعَ ، وَفَدَى .
قَالَ : وَذَكَرَ الْبَقَرَةَ .
رَوَاهُ حَنْبَلٌ فِي ( الْمَنَاسِكِ ) .
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّهُ قَالَ : فِي الدَّوْحَةِ بَقَرَةٌ ، وَفِي الْجَزْلَةِ شَاةٌ .
وَالدَّوْحَةُ : الشَّجَرَةُ الْعَظِيمَةُ .
وَالْجَزْلَةُ : الصَّغِيرَةُ .
وَعَنْ عَطَاءٍ نَحْوُهُ .
وَلِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ إتْلَافِهِ لِحُرْمَةِ الْحَرَمِ ، فَكَانَ مَضْمُونًا كَالصَّيْدِ ، وَيُخَالِفُ الْمُحْرِمَ ، فَإِنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ مِنْ قَطْعِ شَجَرِ الْحِلِّ ، وَلَا زَرْعِ الْحَرَمِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ الشَّجَرَةَ الْكَبِيرَة بِبَقَرَةٍ ، وَالصَّغِيرَةَ بِشَاةٍ ، وَالْحَشِيشَ بِقِيمَتِهِ ، وَالْغُصْنَ بِمَا نَقَصَ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ : يَضْمَنُ الْكُلَّ بِقِيمَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا مُقَدَّرَ فِيهِ ، فَأَشْبَهَ الْحَشِيشَ .
وَلَنَا ، قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ وَلِأَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيْ مَا يَحْرُمُ إتْلَافُهُ ، فَكَانَ فِيهِ مَا يُضْمَنُ بِمُقَدَّرٍ كَالصَّيْدِ .
فَإِنْ قَطَعَ غُصْنًا أَوْ حَشِيشًا ، فَاسْتَخْلَفَ ، احْتَمَلَ سُقُوطُ ضَمَانِهِ ، كَمَا إذَا جَرَحَ صَيْدًا فَانْدَمَلَ ، أَوْ قَطَعَ شَعْرَ آدَمِيٍّ فَنَبَتَ ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَضْمَنَهُ ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ غَيْرُ الْأَوَّلِ .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71