الكتاب : المغني
المؤلف : أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد ، الشهير بابن قدامة المقدسي

( 7875 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : وَلَا تُبَاعُ أُضْحِيَّةُ الْمَيِّتِ فِي دَيْنِهِ ، وَيَأْكُلُهَا وَرَثَتُهُ يَعْنِي إذَا أَوْجَبَ أُضْحِيَّةً ثُمَّ مَاتَ ، لَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا ، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ لَا وَفَاءَ لَهُ .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو ثَوْرٍ ، وَيُشْبِهُ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : إنْ تَرَكَ دَيْنًا لَا وَفَاءَ لَهُ إلَّا مِنْهَا ، بِيعَتْ فِيهِ .
وَقَالَ مَالِكٌ : إنْ تَشَاجَرَ الْوَرَثَةُ فِيهَا بَاعُوهَا .
وَلَنَا ، أَنَّهُ تَعَيَّنَ ذَبْحُهَا ، فَلَمْ يَصِحَّ بَيْعُهَا فِي دَيْنِهِ ، كَمَا لَوْ كَانَ حَيًّا .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّ وَرَثَتَهُ يَقُومُونَ مَقَامَهُ فِي الْأَكْلِ وَالصَّدَقَةِ وَالْهَدِيَّةِ ؛ لِأَنَّهُمْ يَقُومُونَ مَقَامَ مَوْرُوثِهِمْ فِيمَا لَهُ وَعَلَيْهِ .

( 7876 ) فَصْلٌ : وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ ، هَلْ تَجُوزُ التَّضْحِيَةُ عَنْ الْيَتِيمِ مِنْ مَالِهِ ؟ فَرُوِيَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَلِيِّ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ إخْرَاجُ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ ، فَلَمْ يَجُزْ ، كَالصَّدَقَةِ وَالْهَدِيَّةِ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَرُوِيَ أَنَّ لِلْوَلِيِّ أَنْ يُضَحِّيَ عَنْهُ إذَا كَانَ مُوسِرًا .
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٍ .
قَالَ مَالِكٌ : إذَا كَانَ لَهُ ثَلَاثُونَ دِينَارًا ، يُضَحِّي عَنْهُ بِالشَّاةِ ، بِنِصْفِ دِينَارٍ ؛ لِأَنَّهُ إخْرَاجُ مَالٍ يَتَعَلَّقُ بِيَوْمِ الْعِيدِ ، فَجَازَ إخْرَاجُهُ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ كَصَدَقَةِ الْفِطْرِ .
فَعَلَى هَذَا ، يَكُونُ إخْرَاجُهَا مِنْ مَالِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّوْسِعَةِ عَلَيْهِ ، وَالتَّطْيِيبِ لِقَلْبِهِ ، وَإِشْرَاكِهِ لِأَمْثَالِهِ فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ ، كَمَا يَشْتَرِي لَهُ الثِّيَابَ الرَّفِيعَةَ لِلتَّجَمُّلِ ، وَالطَّعَامَ الطَّيِّبَ ، وَيُوَسِّعُ عَلَيْهِ فِي النَّفَقَةِ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ ذَلِكَ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُ أَحْمَدَ فِي الرِّوَايَتَيْنِ عَلَى حَالَيْنِ ؛ فَالْمَوْضِعُ الَّذِي مَنَعَ التَّضْحِيَةَ ، إذَا كَانَ الْيَتِيمُ طِفْلًا لَا يَعْقِلُ التَّضْحِيَةَ ، وَلَا يَفْرَحُ بِهَا ، وَلَا يَنْكَسِرُ قَلْبُهُ بِتَرْكِهَا ؛ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِيهَا ، فَيُحَصِّلُ إخْرَاجُ ثَمَنِهَا تَضْيِيعَ مَالٍ لَا فَائِدَةَ فِيهِ ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي أَجَازَهَا ، إذَا كَانَ الْيَتِيمُ يَعْقِلُهَا ، وَيَنْجَبِرُ قَلْبُهُ بِهَا وَيَنْكَسِرُ بِتَرْكِهَا ؛ لِحُصُولِ الْفَائِدَةِ مِنْهَا ، وَالضَّرَرِ بِتَفْوِيتِهَا .
وَاسْتَدَلَّ أَبُو الْخَطَّابِ بُقُولِ أَحْمَدَ : يُضَحِّي عَنْهُ .
عَلَى وُجُوبِ الْأُضْحِيَّةِ .
وَالصَّحِيحُ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، مَا ذَكَرْنَاهُ .
وَعَلَى كُلِّ حَالٍ ، مَتَى ضَحَّى عَنْ الْيَتِيمِ ، لَمْ يَتَصَدَّقْ بِشَيْءٍ مِنْهَا ، وَيُوَفِّرُهَا لِنَفْسِهِ ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الصَّدَقَةُ بِشَيْءِ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ تَطَوُّعًا .

( 7877 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : وَالِاسْتِحْبَابُ أَنْ يَأْكُلَ ثُلُثَ أُضْحِيَّتِهِ ، وَيُهْدِيَ ثُلُثَهَا ، وَيَتَصَدَّقَ بِثُلُثِهَا ، وَلَوْ أَكَلَ أَكْثَرَ جَازَ قَالَ أَحْمَدُ : نَحْنُ نَذْهَبُ إلَى حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ : يَأْكُلُ هُوَ الثُّلُثَ ، وَيُطْعِمُ مَنْ أَرَادَ الثُّلُثَ ، وَيَتَصَدَّقُ عَلَى الْمَسَاكِينِ بِالثُّلُثِ .
قَالَ عَلْقَمَةُ : بَعَثَ مَعِي عَبْدُ اللَّهِ بِهَدِيَّةٍ ، فَأَمَرَنِي أَنْ آكُلَ ثُلُثًا ، وَأَنْ أُرْسِلَ إلَى أَهْلِ أَخِيهِ عُتْبَةَ بِثُلُثٍ ، وَأَنْ أَتَصَدَّقَ بِثُلُثٍ ، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : الضَّحَايَا وَالْهَدَايَا ثُلُثٌ لَك ، وَثُلُثٌ لِأَهْلِك ، وَثُلُثٌ لِلْمَسَاكِينِ .
وَهَذَا قَوْلُ إِسْحَاقَ ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ فِي الْآخَرِ : يَجْعَلُهَا نِصْفَيْنِ ، يَأْكُلُ نِصْفًا ، وَيَتَصَدَّقُ بِنِصْفٍ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ } .
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ : مَا كَثُرَ مِنْ الصَّدَقَةِ فَهُوَ أَفْضَلُ ؛ لِأَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْدَى مِائَةَ بَدَنَةٍ ، وَأَمَرَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ بِبِضْعَةٍ ، فَجُعِلَتْ فِي قِدْرٍ ، فَأَكَلَ هُوَ وَعَلِيٌّ مِنْ لَحْمِهَا ، وَحَسِيَا مِنْ مَرَقِهَا .
وَنَحَرَ خَمْسَ بَدَنَاتٍ ، أَوْ سِتَّ بَدَنَاتٍ ، وَقَالَ : مَنْ شَاءَ فَلْيَقْتَطِعْ .
وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُنَّ شَيْئًا } .
وَلَنَا ، مَا رُوِيَ { عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، فِي صِفَةِ أُضْحِيَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : يُطْعِمُ أَهْلَ بَيْتِهِ الثُّلُثَ ، وَيُطْعِمُ فُقَرَاءَ جِيرَانِهِ الثُّلُثَ ، وَيَتَصَدَّقُ عَلَى السُّؤَّالِ بِالثُّلُثِ .
} رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو مُوسَى الْأَصْفَهَانِيُّ ، فِي الْوَظَائِفِ ، وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ .
وَلِأَنَّهُ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ ، وَلَمْ نَعْرِفْ لَهُمَا مُخَالِفًا فِي الصَّحَابَةِ ، فَكَانَ إجْمَاعًا ؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ } .
وَالْقَانِعُ : السَّائِلُ يُقَالُ : قَنِعَ قَنُوعًا .
إذَا سَأَلَ وَقَنِعَ قَنَاعَةً إذَا رَضِيَ .
قَالَ الشَّاعِر : لَمَالُ الْمَرْءِ

يُصْلِحُهُ فَيُغْنِي مَفَاقِرَهُ أَعَفُّ مِنْ الْقَنُوعِ وَالْمُعْتَرُّ : الَّذِي يَعْتَرِيك .
أَيْ يَتَعَرَّضُ لَك لِتُطْعِمَهُ ، فَلَا يَسْأَلُ ، فَذَكَرَ ثَلَاثَةَ أَصْنَافِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُقْسَمَ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا .
وَأَمَّا الْآيَةُ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ ، فَإِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - لَمْ يُبَيِّنْ قَدْرَ الْمَأْكُولِ مِنْهَا وَالْمُتَصَدَّقِ بِهِ ، وَقَدْ نَبَّهَ عَلَيْهِ فِي آيَتِنَا ، وَفَسَّرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفِعْلِهِ ، وَابْنُ عُمَرَ بِقَوْلِهِ ، وَابْنُ مَسْعُودٍ بِأَمْرِهِ .
وَأَمَّا خَبَرُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ ، فَهُوَ فِي الْهَدْيِ ، وَالْهَدْيُ يَكْثُرُ ، فَلَا يَتَمَكَّنُ الْإِنْسَانُ مِنْ قَسْمِهِ ، وَأَخْذِ ثُلُثِهِ ، فَتَتَعَيَّنُ الصَّدَقَةُ بِهَا ، وَالْأَمْرُ فِي هَذَا وَاسِعٌ ، فَلَوْ تَصَدَّقَ بِهَا كُلِّهَا أَوْ بِأَكْثَرِهَا جَازَ ، وَإِنْ أَكَلَهَا كُلَّهَا إلَّا أُوقِيَّةً تَصَدَّقَ بِهَا جَازَ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : يَجُوزُ أَكْلُهَا كُلِّهَا .
وَلَنَا ، أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ } .
وَقَالَ : { وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ } وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ : يَجِبُ الْأَكْلُ مِنْهَا ، وَلَا تَجُوزُ الصَّدَقَةُ بِجَمِيعِهَا ؛ لِلْأَمْرِ بِالْأَكْلِ مِنْهَا .
وَلَنَا ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحَرَ خَمْسَ بَدَنَاتٍ ، وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُنَّ شَيْئًا ، وَقَالَ " مَنْ شَاءَ فَلْيَقْتَطِعْ " .
وَلِأَنَّهَا ذَبِيحَةٌ يُتَقَرَّبُ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - بِهَا فَلَمْ يَجِبْ الْأَكْلُ مِنْهَا ، كَالْعَقِيقَةِ ، وَالْأَمْرُ لِلِاسْتِحْبَابِ ، أَوْ الْإِبَاحَةِ ، كَالْأَمْرِ بِالْأَكْلِ مِنْ الثِّمَارِ وَالزَّرْعِ ، وَالنَّظَرِ إلَيْهَا .

( 7878 ) فَصْلٌ : وَيَجُوزُ ادِّخَارُ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ فَوْقَ ثَلَاثٍ ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَلَمْ يُجِزْهُ عَلِيٌّ ، وَلَا ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ ادِّخَارِ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ فَوْقَ ثَلَاثٍ .
وَلَنَا ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ ادِّخَارِ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ فَوْقَ ثَلَاثٍ فَامْسِكُوا مَا بَدَا لَكُمْ } رَوَاهُ .
مُسْلِمٌ .
وَرَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّمَا نَهَيْتُكُمْ لِلدَّافَّةِ الَّتِي دَفَّتْ ، فَكُلُوا ، وَتَزَوَّدُوا ، وَتَصَدَّقُوا ، وَادَّخِرُوا } .
وَقَالَ أَحْمَدُ : فِيهِ أَسَانِيدُ صِحَاحٌ فَأَمَّا عَلِيٌّ وَابْنُ عُمَرَ فَلَمْ يَبْلُغْهُمَا تَرْخِيصُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ كَانُوا سَمِعُوا النَّهْيَ ، فَرَوَوْا عَلَى مَا سَمِعُوا .

( 7879 ) فَصْلٌ : وَيَجُوزُ أَنْ يُطْعِمَ مِنْهَا كَافِرًا .
وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَقَالَ مَالِكٌ : غَيْرُهُمْ أَحَبُّ إلَيْنَا .
وَكَرِهَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ إعْطَاءَ النَّصْرَانِيِّ جِلْدَ الْأُضْحِيَّةِ .
وَلَنَا أَنَّهُ طَعَامٌ لَهُ أَكْلُهُ فَجَازَ إطْعَامُهُ لِلذِّمِّيِّ ، كَسَائِرِ طَعَامِهِ ، وَلِأَنَّهُ صَدَقَةُ تَطَوُّعٍ ، فَجَازَ إطْعَامُهَا الذِّمِّيَّ وَالْأَسِيرَ ، كَسَائِرِ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ .
فَأَمَّا الصَّدَقَةُ الْوَاجِبَةُ مِنْهَا ، فَلَا يُجْزِئُ دَفْعُهَا إلَى كَافِرٍ لِأَنَّهَا صَدَقَةٌ وَاجِبَةٌ ، فَأَشْبَهَتْ الزَّكَاةَ ، وَكَفَّارَةَ الْيَمِينِ .

( 7880 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : وَلَا يُعْطَى الْجَازِرُ بِأُجْرَتِهِ شَيْئًا مِنْهَا .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَرَخَّصَ الْحَسَنُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ ، فِي إعْطَائِهِ الْجِلْدَ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَقُومَ عَلَى بُدْنِهِ ، وَأَنْ أَقْسِمَ جُلُودَهَا وَجِلَالَهَا ، وَأَنْ لَا أُعْطِيَ الْجَازِرَ مِنْهَا شَيْئًا ، وَقَالَ : نَحْنُ نُعْطِيهِ مِنْ عِنْدِنَا } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَلِأَنَّ مَا يَدْفَعُهُ إلَى الْجَزَّارِ أُجْرَةً عِوَضٌ عَنْ عَمَلِهِ وَجِزَارَتِهِ ، وَلَا تَجُوزُ الْمُعَاوَضَةُ بِشَيْءٍ مِنْهَا .
فَأَمَّا إنْ دَفَعَ إلَيْهِ لِفَقْرِهِ ، أَوْ عَلَى سَبِيلِ الْهَدِيَّةِ ، فَلَا بَأْسَ ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلْأَخْذِ ، فَهُوَ كَغَيْرِهِ ، بَلْ هُوَ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ بَاشَرَهَا ، وَتَاقَتْ نَفْسُهُ إلَيْهَا .

( 7881 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : وَلَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِجِلْدِهَا ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَهُ ، وَلَا شَيْئًا مِنْهَا .
وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ شَيْءٍ مِنْ الْأُضْحِيَّةِ ، لَا لَحْمِهَا وَلَا جِلْدِهَا ، وَاجِبَةً كَانَتْ أَوْ تَطَوُّعًا لِأَنَّهَا تَعَيَّنَتْ بِالذَّبْحِ .
قَالَ أَحْمَدُ : لَا يَبِيعُهَا ، وَلَا يَبِيعُ شَيْئًا مِنْهَا .
وَقَالَ : سُبْحَانَ اللَّهِ كَيْفَ يَبِيعُهَا ، وَقَدْ جَعَلَهَا لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، وَقَالَ الْمَيْمُونِيُّ : قَالُوا لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : فَجِلْدُ الْأُضْحِيَّةِ يُعْطَاهُ السَّلَّاخُ ؟ قَالَ : لَا .
وَحَكَى قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا يُعْطَى الْجَازِرُ فِي جِزَارَتِهَا شَيْئًا مِنْهَا .
ثُمَّ قَالَ إسْنَادُهُ جَيِّدٌ .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَرَخَّصَ الْحَسَنُ ، وَالنَّخَعِيُّ فِي الْجِلْدِ أَنْ يَبِيعَهُ وَيَشْتَرِيَ بِهِ الْغِرْبَالَ وَالْمُنْخُلَ وَآلَةَ الْبَيْتِ .
وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِهِ هُوَ وَغَيْرُهُ ، فَجَرَى مَجْرَى تَفْرِيقِ اللَّحْمِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَبِيعُ مَا شَاءَ مِنْهَا ، وَيَتَصَدَّقُ بِثَمَنِهِ .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، أَنَّهُ يَبِيعُ الْجِلْدَ ، وَيَتَصَدَّقُ بِثَمَنِهِ .
وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَحْمَدَ ، وَإِسْحَاقَ .
وَلَنَا ، أَمْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَسْمِ جُلُودِهَا وَجِلَالِهَا ، وَنَهْيُهُ أَنْ يُعْطَى الْجَازِرُ شَيْئًا مِنْهَا .
وَلِأَنَّهُ جَعَلَهُ لِلَّهِ - تَعَالَى ، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ ، كَالْوَقْفِ ، وَمَا ذَكَرُوهُ فِي شِرَاءِ آلَةِ الْبَيْتِ ، يَبْطُلُ بِاللَّحْمِ ، لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِآلَةِ الْبَيْتِ وَإِنْ كَانَ يَنْتَفِعُ بِهِ ، فَأَمَّا جَوَازُ الِانْتِفَاعِ بِجُلُودِهَا وَجِلَالِهَا ، فَلَا خِلَافَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْهَا ، فَجَازَ لِلْمُضَحِّي الِانْتِفَاعُ بِهِ ، كَاللَّحْمِ ، وَكَانَ عَلْقَمَةُ وَمَسْرُوقٌ يَدْبُغَانِ جِلْدَ أُضْحِيَّتِهِمَا ، وَيُصَلِّيَانِ عَلَيْهِ .
وَرَوَتْ عَائِشَةُ ، قَالَتْ : { قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَدْ كَانُوا

يَنْتَفِعُونَ مِنْ ضَحَايَاهُمْ ، يُجَمِّلُونَ مِنْهَا الْوَدَكَ ، وَيَتَّخِذُونَ مِنْهَا الْأَسْقِيَةَ .
قَالَ : وَمَا ذَاكَ ؟ قَالَتْ : نَهَيْت عَنْ إمْسَاكِ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ فَوْق ثَلَاثٍ .
قَالَ : إنَّمَا نَهَيْتُكُمْ لِلدَّافَّةِ الَّتِي دَفَّتْ ، فَكُلُوا ، وَتَزَوَّدُوا ، وَتَصَدَّقُوا .
} حَدِيثٌ صَحِيحٌ ، رَوَاهُ مَالِكٌ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَلِأَنَّهُ انْتِفَاعٌ بِهِ ، فَجَازَ كَلَحْمِهَا .

( 7882 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ وَيَجُوزَ أَنْ يُبَدِّلَ الْأُضْحِيَّةَ إذَا أَوْجَبَهَا بِخَيْرٍ مِنْهَا هَذَا الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ .
وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَعِكْرِمَةُ ، وَمَالِكٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ ، وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا ، وَلَا إبْدَالُهَا ؛ لِأَنَّ أَحْمَدَ نَصَّ فِي الْهَدْيِ إذَا عَطِبَ ، أَنَّهُ يُجْزِئُ عَنْهُ ، وَفِي الْأُضْحِيَّةِ إذَا هَلَكَتْ ، أَوْ ذَبَحَهَا فَسُرِقَتْ ، لَا بَدَلَ عَلَيْهِ .
وَلَوْ كَانَ مِلْكَهُ مَازَالَ عَنْهَا ، لَزِمَهُ بَدَلُهَا فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ .
وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي يُوسُفَ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَبِي ثَوْرٍ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ جَعَلَهَا لِلَّهِ تَعَالَى فَلَمْ يَمْلِكْ التَّصَرُّفَ فِيهَا بِالْبَيْعِ وَالْإِبْدَالِ ، كَالْوَقْفِ .
وَلَنَا ، مَا رُوِيَ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاقَ مِائَةَ بَدَنَةٍ فِي حِجَّتِهِ ، وَقَدِمَ عَلِيٌّ مِنْ الْيَمَنِ ، فَأَشْرَكَهُ فِيهَا } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَهَذَا نَوْعٌ مِنْ الْهِبَةِ أَوْ بَيْعٌ ، وَلِأَنَّهُ عَدَلَ عَنْ عَيْنٍ وَجَبَتْ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى إلَى خَيْرٍ مِنْهَا مِنْ جِنْسِهَا ، فَجَازَ ، كَمَا لَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِنْتُ لَبُونٍ ، فَأَخْرَجَ حِقَّةً فِي الزَّكَاةِ ، فَأَمَّا بَيْعُهَا ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ .
وَقَالَ الْقَاضِي : يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَهَا ، وَيَشْتَرِيَ خَيْرًا مِنْهَا ، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ بُدْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِشْرَاكِهِ فِيهَا ، وَلِأَنَّ مِلْكَهُ لَمْ يَزُلْ عَنْهَا ، بِدَلِيلِ جَوَازِ إبْدَالِهَا ، وَلِأَنَّهَا عَيْنٌ يَجُوزُ إبْدَالُهَا ، فَجَازَ بَيْعُهَا كَمَا قَبْلَ إيجَابِهَا .
وَلَنَا ، أَنَّهُ جَعَلَهَا لِلَّهِ تَعَالَى ، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا ، كَالْوَقْفِ ، وَإِنَّمَا جَازَ إبْدَالُهَا بِجِنْسِهَا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَزُلْ الْحَقُّ فِيهَا عَنْ جِنْسِهَا ، وَإِنَّمَا انْتَقَلَ إلَى خَيْرٍ مِنْهَا ، فَكَأَنَّهُ فِي الْمَعْنَى ضَمُّ زِيَادَةٍ إلَيْهَا ، وَقَدْ جَازَ إبْدَالُ الْمُصْحَفِ ، وَلَمْ

يَجُزْ بَيْعُهُ .
وَأَمَّا حَدِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالظَّاهِرُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَبِعْهَا ، وَإِنَّمَا شَرَكَ عَلِيًّا فِي ثَوَابِهَا وَأَجْرِهَا .
وَيُحْتَمَلُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ إيجَابِهَا .
وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ : بِخَيْرٍ مِنْهَا .
يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بِدُونِهَا ، وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا ؛ لِأَنَّهُ تَفْوِيتُ جُزْءٍ مِنْهَا ، فَلَمْ يَجُزْ ، كَإِتْلَافِهِ .
وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ بِمِثْلِهَا ؛ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي هَذَا .
وَقَالَ الْقَاضِي : فِي إبْدَالِهَا بِمِثْلِهَا احْتِمَالَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، جَوَازُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْقُصُ مِمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ شَيْءٌ ، وَلَنَا أَنَّهُ بِغَيْرِ مَا أَوْجَبَهُ لِغَيْرِ فَائِدَةٍ ، فَلَمْ يَجُزْ ، كَإِبْدَالِهِ بِمَا دُونَهَا .

( 7883 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ وَإِذَا مَضَى مِنْ نَهَارِ يَوْمِ الْأَضْحَى مِقْدَارُ صَلَاةِ الْعِيدِ وَخُطْبَتِهِ ، فَقَدْ حَلَّ الذَّبْحُ إلَى آخِر يَوْمَيْنِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ نَهَارًا ، وَلَا يَجُوزُ لَيْلًا الْكَلَامُ فِي وَقْتِ الذَّبْحِ فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ أَوَّلِهِ ، وَآخِرِهِ ، وَعُمُومِ وَقْتِهِ أَوْ خُصُوصِهِ .
أَمَّا أَوَّلُهُ ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ إذَا مَضَى مِنْ نَهَارِ يَوْمِ الْعِيدِ قَدْرٌ تَحُلُّ فِيهِ الصَّلَاةُ ، وَقَدْرُ الصَّلَاةِ وَالْخُطْبَتَيْنِ التَّامَّتَيْنِ فِي أَخَفِّ مَا يَكُونُ ، فَقَدْ حَلَّ وَقْتُ الذَّبْحِ ، وَلَا تُعْتَبَرُ نَفْسُ الصَّلَاةِ ، لَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ أَهْلِ الْمِصْرِ وَغَيْرِهِمْ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ ، أَنَّ مِنْ شَرْطِ جَوَازِ التَّضْحِيَةِ فِي حَقِّ أَهْلِ الْمِصْرِ صَلَاةَ الْإِمَامِ وَخُطْبَتَهُ .
وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ الْحَسَنِ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ ، وَمَالِكٍ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ ، وَإِسْحَاقَ ؛ لِمَا رَوَى جُنْدُبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ فَلْيُعِدْ مَكَانَهَا أُخْرَى .
} وَعَنْ الْبَرَاءِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا ، وَنَسَكَ نُسُكَنَا ، فَقَدْ أَصَابَ النُّسُكَ ، وَمَنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ ، فَلْيُعِدْ مَكَانَهَا أُخْرَى } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَفِي لَفْظٍ قَالَ : إنَّ أَوَّلَ نُسُكِنَا فِي يَوْمِنَا هَذَا الصَّلَاةُ ثُمَّ ، الذَّبْحُ ، فَمِنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ ، فَتِلْكَ شَاةُ لَحْمٍ قَدَّمَهَا لِأَهْلِهِ ، لَيْسَ مِنْ النُّسُكِ فِي شَيْءٍ " وَظَاهِرُ هَذَا اعْتِبَارُ نَفْسِ الصَّلَاةِ .
وَقَالَ عَطَاءٌ : وَقْتُهَا إذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يَتَعَلَّقُ آخِرُهَا بِالْوَقْتِ ، فَتَعَلَّقَ أَوَّلُهَا بِالْوَقْتِ ، كَالصِّيَامِ .
وَهَذَا وَجْهُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ .
وَالصَّحِيحُ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، أَنَّ وَقْتَهَا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يُصَلَّى فِيهِ بَعْدَ الصَّلَاةِ ؛

لِظَاهِرِ الْخَبَرِ ، وَالْعَمَلُ بِظَاهِرِهِ أَوْلَى .
فَأَمَّا غَيْرُ أَهْلِ الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى ، فَأَوَّلُ وَقْتِهَا فِي حَقِّهِمْ قَدْرُ الصَّلَاةِ وَالْخُطْبَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا صَلَاةَ فِي حَقِّهِمْ تُعْتَبَرُ ، فَوَجَبَ الِاعْتِبَارُ بِقَدْرِهَا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : أَوَّلُ وَقْتِهَا فِي حَقِّهِمْ إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ الثَّانِي ؛ لِأَنَّهُ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ ، فَكَانَ وَقْتُهَا مِنْهُ كَسَائِرِ الْيَوْمِ .
وَلَنَا ، أَنَّهَا عِبَادَةٌ وَقْتُهَا فِي حَقِّ أَهْلِ الْمِصْرِ بَعْدَ إشْرَاقِ الشَّمْسِ ، فَلَا تَتَقَدَّمُ وَقْتَهَا فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ ، كَصَلَاةِ الْعِيدِ .
وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِأَهْلِ الْأَمْصَارِ فَإِنْ لَمْ يُصَلِّ الْإِمَامُ فِي الْمِصْرِ ، لَمْ يَجْزِ الذَّبْحُ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ ؛ لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ تَسْقُطُ ، فَكَأَنَّهُ قَدْ صَلَّى ، وَسَوَاءٌ تَرَكَ الصَّلَاةَ عَمْدًا أَوْ غَيْرَ عَمْدٍ ، لِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِهِ .
فَأَمَّا الذَّبْحُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي ، فَهُوَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ فِيهِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ ، وَلِأَنَّ الْوَقْتَ قَدْ دَخَلَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ ، وَهَذَا مِنْ أَثْنَائِهِ ، فَلَا تُعْتَبَرُ فِيهِ صَلَاةٌ وَلَا غَيْرُهَا .
وَإِنْ صَلَّى الْإِمَامُ فِي الْمُصَلَّى ، وَاسْتَخْلَفَ مَنْ صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ ، فَمَتَى صَلَّوْا فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ جَازَ الذَّبْحُ ؛ لِوُجُودِ الصَّلَاةِ الَّتِي يَسْقُطُ بِهَا الْفَرْضُ عَنْ سَائِرِ النَّاسِ فَإِنْ ذَبَحَ بَعْدَ الصَّلَاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ أَجْزَأَ ، فِي ظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّقَ الْمَنْعَ عَلَى فِعْلِ الصَّلَاةِ ، فَلَا يَتَعَلَّقُ بِغَيْرِهِ ، وَلِأَنَّ الْخُطْبَةَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ .
وَهَذَا قَوْلُ الثَّوْرِيِّ .
الثَّانِي ، آخِرُ الْوَقْتِ ، وَآخِرُهُ آخِرُ الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَتَكُونُ أَيَّامُ النَّحْرِ ثَلَاثَةً ؛ يَوْمُ الْعِيدِ ، وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ .
وَهَذَا قَوْلُ عُمَرَ ، وَعَلِيٍّ ، وَابْنِ عُمَرَ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ ، وَأَنَسٍ .
قَالَ أَحْمَدُ : أَيَّامُ النَّحْرِ ثَلَاثَةٌ ،

عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَفِي رِوَايَةٍ ، قَالَ : خَمْسَةٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَسًا .
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ .
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ ، آخِرُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَقَوْلُ عَطَاءٍ ، وَالْحَسَنِ ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَيَّامُ مِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ } .
وَلِأَنَّهَا أَيَّامُ تَكْبِيرٍ وَإِفْطَارٍ ، فَكَانَتْ مَحَلًّا لِلنَّحْرِ كَالْأَوَّلَيْنِ .
وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ : لَا تَجُوزُ إلَّا فِي يَوْمِ النَّحْرِ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّهَا وَظِيفَةُ عِيدٍ ، فَلَا تَجُوزُ إلَّا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ ، كَأَدَاءِ الْفِطْرِ .
يَوْمَ الْفِطْرِ .
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ ، كَقَوْلِ ابْنِ سِيرِينَ فِي أَهْلِ الْأَمْصَارِ ، وَقَوْلِنَا فِي أَهْلِ مِنًى ، وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، وَعَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ : تَجُوزُ التَّضْحِيَةُ إلَى هِلَالِ الْمُحَرَّمِ .
وَقَالَ أَبُو أُمَامَةَ بْنُ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ : كَانَ الرَّجُلُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَشْتَرِي أُضْحِيَّةً ، فَيُسَمِّنُهَا حَتَّى يَكُونَ آخِرُ ذِي الْحِجَّةِ ، فَيُضَحِّيَ بِهَا .
رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادِهِ .
وَقَالَ : هَذَا الْحَدِيثُ عَجِيبٌ .
وَقَالَ : أَيَّامُ الْأَضْحَى الَّتِي أُجْمِعَ عَلَيْهَا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ .
وَلَنَا ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ ادِّخَارِ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ فَوْقَ ثَلَاثٍ .
وَلَا يَجُوزُ الذَّبْحُ فِي وَقْتٍ لَا يَجُوزُ ادِّخَارُ الْأُضْحِيَّةِ إلَيْهِ ، وَلِأَنَّ الْيَوْمَ الرَّابِعَ لَا يَجِبُ الرَّمْيُ فِيهِ ، فَلَمْ تَجُزْ التَّضْحِيَةُ فِيهِ ، كَاَلَّذِي بَعْدَهُ ، وَلِأَنَّهُ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ ، وَلَا مُخَالِفَ لَهُمْ إلَّا رِوَايَةً عَنْ عَلِيٍّ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ مِثْلُ مَذْهَبِنَا ، وَحَدِيثُهُمْ إنَّمَا هُوَ : " وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ " .
لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْأَيَّامِ ،

وَالتَّكْبِيرُ أَعَمُّ مِنْ الذَّبْحِ ، وَكَذَلِكَ الْإِفْطَارُ ، بِدَلِيلِ أَوَّلِ يَوْمِ النَّحْرِ ، وَيَوْمُ عَرَفَةَ يَوْمُ تَكْبِيرٍ ، وَلَا يَجُوزُ الذَّبْحُ فِيهِ .
الثَّالِثُ ، فِي زَمَنِ الذَّبْحِ ، وَهُوَ النَّهَارُ دُونَ اللَّيْلِ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ .
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ .
وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ .
وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ ، رِوَايَةٌ أُخْرَى ، أَنَّ الذَّبْحَ يَجُوزُ لَيْلًا .
وَهُوَ اخْتِيَارُ أَصْحَابِنَا الْمُتَأَخِّرِينَ ، وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ ، وَإِسْحَاقَ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابه ؛ لِأَنَّ اللَّيْلَ زَمَنٌ يَصِحُّ فِيهِ الرَّمْيُ ، فَأَشْبَهَ النَّهَارَ .
وَوَجْهُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ } وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ الذَّبْحِ بِاللَّيْلِ .
وَلِأَنَّهُ لَيْلُ يَوْمٍ يَجُوزُ الذَّبْحُ فِيهِ ، فَأَشْبَهَ لَيْلَةَ يَوْمِ النَّحْرِ ، وَلِأَنَّ اللَّيْلَ تَتَعَذَّرُ فِيهِ تَفْرِقَةُ اللَّحْمِ فِي الْغَالِبِ ، فَلَا يُفَرَّقُ طَرِيًّا ، فَيَفُوتُ بَعْضُ الْمَقْصُودِ ؛ وَلِهَذَا قَالُوا : يُكْرَهُ الذَّبْحُ فِيهِ .
فَعَلَى هَذَا ، إنْ ذَبَحَ لَيْلًا لَمْ يُجْزِئْهُ عَنْ الْوَاجِبِ ، وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا فَذَبَحَهَا ، كَانَتْ شَاةَ لَحْمٍ ، وَلَمْ تَكُنْ أُضْحِيَّةً ، فَإِنْ فَرَّقَهَا ، حَصَلَتْ الْقُرْبَةُ بِتَفْرِيقِهَا ، دُونَ ذَبْحِهَا .

( 7884 ) فَصْلٌ : إذَا فَاتَ وَقْتُ الذَّبْحِ ، ذَبَحَ الْوَاجِبَ قَضَاءً ، وَصَنَعَ بِهِ مَا يُصْنَعُ بِالْمَذْبُوحِ فِي وَقْتِهِ ، وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي التَّطَوُّعِ ، فَإِنْ فَرَّقَ لَحْمَهَا كَانَتْ الْقُرْبَةُ بِذَلِكَ دُونَ الذَّبْحِ ؛ لِأَنَّهَا شَاةُ لَحْمٍ ، وَلَيْسَتْ أُضْحِيَّةً ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُسَلِّمُهَا إلَى الْفُقَرَاءِ ، وَلَا يَذْبَحُهَا ، فَإِنْ ذَبَحَهَا فَرَّقَ لَحْمَهَا ، وَعَلَيْهِ أَرْشُ مَا نَقَصَهَا الذَّبْحُ ؛ لِأَنَّ الذَّبْحَ قَدْ سَقَطَ بِفَوَاتِ وَقْتِهِ .
وَلَنَا ، أَنَّ الذَّبْحَ أَحَدُ مَقْصُودَيْ الْأُضْحِيَّةِ ، فَلَا يَسْقُطُ بِفَوَاتِ وَقْتِهِ كَتَفْرِقَةِ اللَّحْمِ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ ذَبَحَهَا فِي الْأَيَّامِ ، ثُمَّ خَرَجَتْ قَبْلَ تَفْرِيقِهَا ، فَرَّقَهَا بَعْدَ ذَلِكَ .
وَيُفَارِقُ الْوُقُوفَ وَالرَّمْيَ ، وَلِأَنَّ الْأُضْحِيَّةَ لَا تَسْقُطُ بِفَوَاتِهَا ، بِخِلَافِ ذَلِكَ .

( 7885 ) فَصْلٌ : إذَا وَجَبَتْ الْأُضْحِيَّةُ بِإِيجَابِهِ لَهَا ، فَضَلَّتْ أَوْ سُرِقَتْ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنْهُ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، لِأَنَّهَا أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ ، فَإِنْ عَادَتْ إلَيْهِ ذَبَحَهَا ، سَوَاءٌ كَانَ فِي زَمَنِ الذَّبْحِ ، أَوْ فِيمَا بَعْدُ ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ .

( 7886 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ فَإِنْ ذَبَحَ قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يُجْزِئْهُ ، وَلَزِمَهُ الْبَدَلُ وَذَلِكَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ فَلْيُعِدْ مَكَانَهَا أُخْرَى } .
وَلِأَنَّهَا نَسِيكَةٌ وَاجِبَةٌ ، ذَبَحَهَا قَبْلَ وَقْتِهَا ، فَلَزِمَهُ بَدَلُهَا ، كَالْهَدْيِ إذَا ذَبَحَهُ قَبْلَ مَحِلِّهِ .
وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ بَدَلُهَا مِثْلَهَا أَوْ خَيْرًا مِنْهَا ؛ لِأَنَّ ذَبْحَهَا قَبْلَ مَحِلِّهَا إتْلَافٌ لَهَا .
وَكَلَامُ الْخِرَقِيِّ ، وَمَنْ أَطْلَقَ مِنْ أَصْحَابِنَا ، مَحْمُولٌ عَلَى الْأُضْحِيَّةِ الْوَاجِبَةِ بِنَذْرٍ أَوْ تَعْيِينٍ ، فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ وَاجِبَةٍ بِوَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرَيْنِ ، فَهِيَ شَاةُ لَحْمٍ ، وَلَا بَدَلَ عَلَيْهِ ، إلَّا أَنْ يَشَاءَ ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ التَّطَوُّعَ فَأَفْسَدَهُ ، فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ بَدَلُهُ ، كَمَا لَوْ خَرَجَ بِصَدَقَةِ تَطَوُّعٍ فَدَفَعَهَا إلَى غَيْرِ مُسْتَحِقِّهَا ، وَالْحَدِيثُ يُحْمَلُ عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ ؛ إمَّا النَّدْبُ ، وَإِمَّا عَلَى التَّخْصِيصِ بِمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ ؛ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا .
فَأَمَّا الشَّاةُ الْمَذْبُوحَةُ ، فَهِيَ شَاةُ لَحْمٍ ، كَمَا وَصَفَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعْنَاهُ يَصْنَعُ بِهَا مَا شَاءَ ، كَشَاةٍ ذَبَحَهَا لِلَحْمِهَا ، لَا لِغَيْرِ ذَلِكَ ، فَإِنَّ هَذِهِ إنْ كَانَتْ وَاجِبَةً ، فَقَدْ لَزِمَهُ إبْدَالُهَا ، وَذَبْحُ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا ، فَخَرَجَتْ هَذِهِ عَنْ كَوْنِهَا وَاجِبَةً ، كَالْهَدْيِ الْوَاجِبِ ، إذَا عَطِبَ دُونَ مَحِلِّهِ ، وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا ، فَقَدْ أَخْرَجَهَا بِذَبْحِهِ إيَّاهَا قَبْلَ مَحِلِّهَا عَنْ الْقُرْبَةِ ، فَبَقِيَتْ مُجَرَّدَ شَاةِ لَحْمٍ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهَا حُكْمَ الْأُضْحِيَّةِ ، كَالْهَدْيِ إذَا عَطِبَ ؛ لَا يَخْرُجُ عَنْ حُكْمِ الْهَدْيِ عَلَى رِوَايَةٍ ، وَيَكُونُ ، مَعْنَى قَوْلِهِ " شَاةُ لَحْمٍ " .
أَيْ فِي فَضْلِهَا وَثَوَابِهَا خَاصَّةً ، دُونَ مَا يَصْنَعُ بِهَا .

( 7887 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : وَلَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَذْبَحَهَا إلَّا مُسْلِمٌ ، وَإِنْ ذَبَحَهَا بِيَدِهِ كَانَ أَفْضَلَ وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَذْبَحَ الْأُضْحِيَّةَ إلَّا مُسْلِمٌ ؛ لِأَنَّهَا قُرْبَةٌ ، فَلَا يَلِيهَا غَيْرُ أَهْلِ الْقُرْبَةِ ، وَإِنْ اسْتَنَابَ ذِمِّيًّا فِي ذَبْحِهَا ، جَازَ مَعَ الْكَرَاهَةِ .
وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ، وَأَبِي ثَوْرٍ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ .
وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَذْبَحَهَا إلَّا مُسْلِمٌ .
وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَمِمَّنْ كَرِهَ ذَلِكَ عَلِيٌّ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَجَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ ، وَابْنُ سِيرِينَ .
وَقَالَ جَابِرٌ : لَا يَذْبَحُ النُّسُكَ إلَّا مُسْلِمٌ ؛ لِمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الطَّوِيلِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " وَلَا يَذْبَحْ ضَحَايَاكُمْ إلَّا طَاهِرٌ " .
وَلِأَنَّ الشُّحُومَ تَحْرُمُ عَلَيْنَا مِمَّا يَذْبَحُونَهُ عَلَى رِوَايَةٍ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ إتْلَافِهِ .
وَلَنَا ، أَنَّ مَنْ جَازَ لَهُ ذَبْحُ غَيْرِ الْأُضْحِيَّةِ ، جَازَ لَهُ ذَبْحُ الْأُضْحِيَّةِ ، كَالْمُسْلِمِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّى الْكَافِرُ مَا كَانَ قُرْبَةً لِلْمُسْلِمِ ، كَبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَالْقَنَاطِرِ ، وَلَا نُسَلِّمُ تَحْرِيمَ الشُّحُومِ عَلَيْنَا بِذَبْحِهِمْ ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ ، وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَذْبَحَهَا الْمُسْلِمُ لِيَخْرُجَ مِنْ الْخِلَافِ .
وَإِنْ ذَبَحَهَا بِيَدِهِ كَانَ أَفْضَلَ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ أَقْرَنَيْنِ أَمْلَحَيْنِ ، ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ ، وَسَمَّى وَكَبَّرَ ، وَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا .
وَنَحَرَ الْبَدَنَاتِ السِّتَّ بِيَدِهِ .
وَنَحَرَ مِنْ الْبُدْنِ الَّتِي سَاقَهَا فِي حِجَّتِهِ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بَدَنَةً بِيَدِهِ .
وَلِأَنَّ فِعْلَهُ قُرْبَةٌ ، وَفِعْلُ الْقُرْبَةِ أَوْلَى مِنْ اسْتِنَابَتِهِ فِيهَا فَإِنْ اسْتَنَابَ فِيهَا ، جَازَ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَنَابَ مَنْ نَحَرَ بَاقِيَ بُدْنِهِ بَعْدَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ .
وَهَذَا لَا شَكَّ

فِيهِ .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَحْضُرَ ذَبْحَهَا ؛ لِأَنَّ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الطَّوِيلِ " وَاحْضُرُوهَا إذَا ذَبَحْتُمْ فَإِنَّهُ يُغْفَرُ لَكُمْ عِنْدَ أَوَّلِ قَطْرَةٍ مِنْ دَمِهَا " .
وَرُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِفَاطِمَةَ : اُحْضُرِي أُضْحِيَّتَك ، يُغْفَرْ لَك بِأَوَّلِ قَطْرَةٍ مِنْ دَمِهَا .
}

( 7888 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ وَيَقُولُ عِنْدَ الذَّبْحِ : بِسْمِ اللَّهِ ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ .
وَإِنْ نَسِيَ فَلَا يَضُرُّهُ .
ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَانَ إذَا ذَبَحَ قَالَ : بِسْمِ اللَّهِ ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ } وَفِي حَدِيثِ أَنَسٌ : وَسَمَّى وَكَبَّرَ .
وَكَذَلِكَ كَانَ يَقُولُ ابْنُ عُمَرَ .
وَبِهِ يَقُولُ أَصْحَابُ الرَّأْيِ ، وَلَا نَعْلَمُ فِي اسْتِحْبَابِ هَذَا خِلَافًا ، وَلَا فِي أَنَّ التَّسْمِيَةَ مُجْزِئَةٌ .
وَإِنْ نَسِيَ التَّسْمِيَةَ ، أَجْزَأَهُ ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الذَّبَائِحِ .
وَإِنْ زَادَ فَقَالَ : اللَّهُمَّ هَذَا مِنْك وَلَك ، اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنِّي ، أَوْ مِنْ فُلَانٍ .
فَحَسَنٌ .
وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُكْرَهُ أَنْ يَذْكُرَ اسْمَ غَيْرِ اللَّهِ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ } .
وَلَنَا ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِكَبْشٍ لَهُ لِيَذْبَحَهُ ، فَأَضْجَعَهُ ، ثُمَّ قَالَ : اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ وَأُمَّةِ مُحَمَّدٍ .
ثُمَّ ضَحَّى } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { اللَّهُمَّ مِنْك وَلَك ، عَنْ مُحَمَّدٍ وَأُمَّتِهِ ، بِسْمِ اللَّهِ ، وَاَللَّهُ اكْبَرْ .
ثُمَّ ذَبَحَ } .
وَهَذَا نَصٌّ لَا يُعَرَّجُ عَلَى خِلَافِهِ .
( 7889 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ الذَّبْحِ عَمَّنْ لِأَنَّ النِّيَّةَ تُجْزِئُ لَا أَعْلَمُ خِلَافًا فِي أَنَّ النِّيَّةَ تُجْزِئُ ، وَإِنْ ذَكَرَ مَنْ يُضَحِّي عَنْهُ فَحَسَنٌ ؛ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ .
قَالَ الْحَسَنُ : يَقُولُ بِسْمِ اللَّهِ ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ ، هَذَا مِنْك وَلَك ، تَقَبَّلْ مِنْ فُلَانٍ .
وَكَرِهَ أَهْلُ الرَّأْي هَذَا .
وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الَّتِي قَبْلَهَا .

( 7890 ) فَصْلٌ : وَإِنْ عَيَّنَ أُضْحِيَّةً ، فَذَبَحَهَا غَيْرُهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، أَجْزَأَتْ عَنْ صَاحِبِهَا ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى ذَابِحِهَا .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَقَالَ مَالِكٌ : هِيَ شَاةُ لَحْمٍ ، لِصَاحِبِهَا أَرْشُهَا ، وَعَلَيْهِ بَدَلُهَا ؛ لِأَنَّ الذَّبْحَ عِبَادَةٌ ، فَإِذَا فَعَلَهَا غَيْرُ صَاحِبِهَا عَنْهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ لَمْ تَقَعْ الْمَوْقِعَ ، كَالزَّكَاةِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : تُجْزِئُ عَنْ صَاحِبِهَا ، وَلَهُ عَلَى ذَابِحِهَا أَرْشُ مَا بَيْنَ قِيمَتِهَا صَحِيحَةً وَمَذْبُوحَةً ؛ لِأَنَّ الذَّبْحَ أَحَدُ مَقْصُودَيْ الْهَدْيِ ، فَإِذَا فَعَلَهُ فَاعِلٌ بِغَيْرِ إذْنِ الْمُضَحِّي ، ضَمِنَهُ ، كَتَفْرِقَةِ اللَّحْمِ .
وَلَنَا ، عَلَى مَالِكٍ ، أَنَّهُ فِعْلٌ لَا يَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ ، فَإِذَا فَعَلَهُ غَيْرُ الصَّاحِبِ أَجْزَأَ عَنْهُ ، كَغَسْلِ ثَوْبِهِ مِنْ النَّجَاسَةِ .
وَعَنْ الشَّافِعِيِّ ، أَنَّهَا أُضْحِيَّةٌ أَجْزَأَتْ عَنْ صَاحِبِهَا ، وَوَقَعَتْ مَوْقِعَهَا ، فَلَمْ يَضْمَنْ ذَابِحُهَا ، كَمَا لَوْ كَانَ بِإِذْنٍ ، وَلِأَنَّهُ إرَاقَةُ دَمٍ تَعَيَّنَ إرَاقَتُهُ لِحَقِّ اللَّهِ - تَعَالَى ، فَلَمْ يَضْمَنْ مُرِيقُهُ ، كَقَاتِلِ الْمُرْتَدِّ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ ، وَلِأَنَّ الْأَرْشَ لَوْ وَجَبَ ، فَإِنَّمَا يَجِبُ مَا بَيْنَ كَوْنِهَا مُسْتَحَقَّةَ الذَّبْحِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ مُتَعَيِّنَةً لَهُ وَمَا بَيْنَ كَوْنِهَا مَذْبُوحَةً ، وَلَا قِيمَةَ لِهَذِهِ الْحَيَاةِ ، وَلَا تَفَاوُتَ بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ ، فَتَعَذَّرَ وُجُودُ الْأَرْشِ وَوُجُوبُهُ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ الْأَرْشُ لَمْ يَخْلُ إمَّا أَنْ يَجِبَ لِلْمُضَحِّي ، أَوْ لِلْفُقَرَاءِ ، لَا جَائِزٌ أَنْ يَجِبَ لِلْفُقَرَاءِ ؛ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا يَسْتَحِقُّونَهَا مَذْبُوحَةً ، وَلَوْ دَفَعَهَا إلَيْهِمْ فِي الْحَيَاةِ لَمْ يَجُزْ ، وَلَا جَائِزٌ أَنْ يَجِبَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ بَدَلَ شَيْءٍ مِنْهَا ، كَعُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهَا ، وَلِأَنَّهُمْ وَافَقُونَا فِي أَنَّ الْأَرْشَ لَا يُدْفَعُ إلَيْهِ ، فَيَتَعَذَّرُ إيجَابُهُ ، لِعَدَمِ مُسْتَحِقِّهِ .

( 7891 ) فَصْلٌ : وَإِنْ نَذَرَ أُضْحِيَّةً فِي ذِمَّتِهِ ثُمَّ ذَبَحَهَا ، فَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا .
وَقَالَ الْقَاضِي : مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ مَنَعَ الْأَكْلَ مِنْهَا .
وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ ، وَبَنَاهُ عَلَى الْهَدْيِ الْمَنْذُورِ .
وَلَنَا ، أَنَّ النَّذْرَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْهُودِ ، وَالْمَعْهُودُ مِنْ الْأُضْحِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ ذَبْحُهَا ، وَالْأَكْلُ مِنْهَا ، وَالنَّذْرُ لَا يُغَيِّرُ مِنْ صِفَةِ الْمَنْذُورِ إلَّا الْإِيجَابَ ، وَفَارَقَ الْهَدْيَ الْوَاجِبَ بِأَصْلِ الشَّرْعِ ؛ لَا يَجُوزُ الْأَكْلُ مِنْهُ ، فَالْمَنْذُورُ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ ، بِخِلَافِ الْأُضْحِيَّةِ .

( 7892 ) فَصْلٌ : وَلَا يُضَحِّي عَمَّا فِي الْبَطْنِ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ .
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَلَا نَعْلَمُ مُخَالِفًا لَهُمْ .
وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ ، وَالْمُدَبَّرِ ، وَالْمُكَاتَبِ ، وَأُمِّ الْوَلَدِ ، أَنْ يُضَحُّوا إلَّا بِإِذْنِ سَادَتِهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ مَمْنُوعُونَ مِنْ التَّصَرُّفِ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ ، إلَّا الْمَكَاتِب ، فَإِنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ التَّبَرُّعِ ، وَالْأُضْحِيَّةُ تَبَرُّعٌ .
وَأَمَّا مَنْ نِصْفُهُ حُرٌّ إذَا مَلَكَ بِجُزْئِهِ الْحُرِّ شَيْئًا ، فَلَهُ أَنْ يُضَحِّيَ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَتَبَرَّعَ بِغَيْرِ إذْنِهِ

( 7893 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : وَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِكَ السَّبْعَةُ ، فَيُضَحُّوا بِالْبَدَنَةِ وَالْبَقَرَةِ وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِكَ فِي التَّضْحِيَةِ بِالْبَدَنَةِ وَالْبَقَرَةِ سَبْعَةٌ ، وَاجِبًا كَانَ أَوْ تَطَوُّعًا ، سَوَاءٌ كَانُوا كُلُّهُمْ مُتَقَرِّبِينَ ، أَوْ يُرِيدُ بَعْضُهُمْ الْقُرْبَةَ وَبَعْضُهُمْ اللَّحْمَ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَجُوزُ الِاشْتِرَاكُ فِي الْهَدْيِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجُوزُ لِلْمُتَقَرِّبِينَ ، وَلَا يَجُوزُ إذَا كَانَ بَعْضُهُمْ غَيْرَ مُتَقَرِّبٍ ؛ لِأَنَّ الذَّبْحَ وَاحِدٌ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَخْتَلَّ نِيَّةُ الْقُرْبَةِ فِيهِ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى جَابِرٌ ، قَالَ : { أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَشْتَرِكَ فِي الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ ، كُلُّ سَبْعَةٍ مِنَّا فِي بَدَنَةٍ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَلَنَا ، عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ ، أَنَّ الْجُزْءَ الْمُجَزَّأَ لَا يَنْقُصُ بِإِرَادَةِ الشَّرِيكِ غَيْرَ الْقُرْبَةِ ، فَجَازَ ، كَمَا لَوْ اخْتَلَفَتْ جِهَاتُ الْقُرْبِ ، فَأَرَادَ بَعْضُهُمْ التَّضْحِيَةَ ، وَبَعْضُهُمْ الْفِدْيَةَ .
( 7894 ) فَصْلٌ : وَيَحُوزُ لِلْمُشْتَرَكِينَ قِسْمَةُ اللَّحْمِ ، وَمَنَعَ مِنْهُ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِي وَجْهٍ ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقِسْمَةَ بَيْعٌ ، وَبَيْعُ لَحْمِ الْهَدْيِ وَالْأُضْحِيَّةِ غَيْرُ جَائِزٍ .
وَلَنَا ، أَنَّ أَمْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالِاشْتِرَاكِ ، مَعَ أَنَّ سُنَّةَ الْهَدْيِ وَالْأُضْحِيَّةِ الْأَكْلُ مِنْهَا ، دَلِيلٌ عَلَى تَجْوِيزِ الْقِسْمَةِ ، إذْ لَا يَتَمَكَّنُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ مِنْ الْأَكْلِ إلَّا بِالْقِسْمَةِ ، وَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ وَالْهَدِيَّةُ ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْقِسْمَةَ بَيْعٌ ، بَلْ هِيَ إفْرَازُ حَقٍّ ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي بَابِ الْقِسْمَةُ .

( 7895 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ وَالْعَقِيقَةُ سُنَّةٌ ، عَنْ الْغُلَامِ شَاتَانِ ، وَعَنْ الْجَارِيَةِ شَاةٌ الْعَقِيقَةُ : الذَّبِيحَةُ الَّتِي تُذْبَحُ عَنْ الْمَوْلُودِ ، وَقِيلَ : هِيَ الطَّعَامُ الَّذِي يُصْنَعُ وَيُدْعَى إلَيْهِ مِنْ أَجْلِ الْمَوْلُودِ .
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : الْأَصْلُ فِي الْعَقِيقَةِ .
الشَّعْرُ الَّذِي عَلَى الْمَوْلُودِ ، وَجَمْعُهَا عَقَائِقُ ، وَمِنْهَا قَوْلُ الشَّاعِر : أَيَا هِنْدُ لَا تَنْكِحِي بُوهَةً عَلَيْهِ عَقِيقَتُهُ أَحْسَبَا ثُمَّ إنَّ الْعَرَبَ سَمَّتْ الذَّبِيحَةَ عِنْدَ حَلْقِ شَعْرِهِ عَقِيقَةً ، عَلَى عَادَاتِهِمْ فِي تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِاسْمِ سَبَبِهِ أَوْ مَا جَاوَرَهُ ، ثُمَّ اُشْتُهِرَ ذَلِكَ حَتَّى صَارَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْعُرْفِيَّةِ ، وَصَارَتْ الْحَقِيقَةُ مَغْمُورَةً فِيهِ ، فَلَا يُفْهَمُ مِنْ الْعَقِيقَةِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إلَّا الذَّبِيحَةُ .
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : أَنْكَرَ أَحْمَدُ هَذَا التَّفْسِيرَ ، وَقَالَ : إنَّمَا الْعَقِيقَةُ الذَّبْحُ نَفْسُهُ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ أَصْلَ الْعَقِّ الْقَطْعُ ، وَمِنْهُ عَقَّ وَالِدَيْهِ ، إذَا قَطَعَهُمَا .
وَالذَّبْحُ قَطْعُ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ وَالْوَدَجَيْنِ .
وَالْعَقِيقَةُ سُنَّةٌ فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ ؛ مِنْهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَابْنُ عُمَرَ ، وَعَائِشَةُ ، وَفُقَهَاءُ التَّابِعِينَ ، وَأَئِمَّةُ الْأَمْصَارِ ، إلَّا أَصْحَابَ الرَّأْيِ ، قَالُوا لَيْسَتْ سُنَّةً ، وَهِيَ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْعَقِيقَةِ ، فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - لَا يُحِبُّ الْعُقُوقَ .
فَكَأَنَّهُ كَرِهَ الِاسْمَ ، وَقَالَ : مَنْ وُلِدَ لَهُ مَوْلُودٌ ، فَأَحَبَّ أَنْ يَنْسُكَ عَنْهُ فَلْيَفْعَلْ .
} رَوَاهُ مَالِكٌ فِي " مُوَطَّئِهِ " لَوْ .
وَقَالَ الْحَسَنُ وَدَاوُد : هِيَ وَاجِبَةٌ .
وَرُوِيَ عَنْ بُرَيْدَةَ ، أَنَّ النَّاسَ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا ، كَمَا يُعْرَضُونَ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ ؛ لِمَا رَوَى سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { كُلُّ غُلَامٍ رَهِينَةٌ بِعَقِيقَتِهِ ، تُذْبَحُ عَنْهُ

يَوْمَ سَابِعِهِ ، وَيُسَمَّى فِيهِ ، وَتُحْلَقُ رَأْسُهُ } .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلُهُ .
قَالَ أَحْمَدُ : إسْنَادُهُ جَيِّدٌ ، وَرَوَى حَدِيثَ سَمُرَةَ الْأَثْرَمُ ، وَأَبُو دَاوُد .
وَعَنْ عَائِشَةَ ، { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُمْ عَنْ الْغُلَامِ بِشَاتَيْنِ ، وَعَنْ الْجَارِيَةِ بِشَاةٍ .
} وَظَاهِرُ الْأَمْرِ الْوُجُوبُ .
وَلَنَا ، عَلَى اسْتِحْبَابِهَا هَذِهِ الْأَحَادِيثُ ، وَعَنْ أُمِّ كَرْزٍ الْكَعْبِيَّةِ ، قَالَتْ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { عَنْ الْغُلَامِ شَاتَانِ مُكَافِئَتَانِ ، وَعَنْ الْجَارِيَةِ شَاةٌ } .
وَفِي لَفْظٍ : { عَنْ الْغُلَامِ شَاتَانِ مِثْلَانِ ، وَعَنْ الْجَارِيَةِ شَاةٌ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ : " الْعَقِيقَةُ عَنْ الْغُلَامِ شَاتَانِ " .
وَالْإِجْمَاعُ ، قَالَ أَبُو الزِّنَادِ : الْعَقِيقَةُ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ ، كَانُوا يَكْرَهُونَ تَرْكَهُ .
وَقَالَ أَحْمَدُ : الْعَقِيقَةُ سُنَّةٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ عَقَّ عَنْ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ ، وَفَعَلَهُ أَصْحَابُهُ ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " الْغُلَامُ مُرْتَهَنٌ بِعَقِيقَتِهِ " .
وَهُوَ إسْنَادٌ جَيِّدٌ ، يَرْوِيهِ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَجَعَلَهَا أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ ، وَذَلِكَ لِقِلَّةِ عِلْمِهِ وَمَعْرِفَتِهِ بِالْأَخْبَارِ .
وَأَمَّا بَيَانُ كَوْنِهَا غَيْرَ وَاجِبَةٍ ، فَدَلِيلُهُ مَا احْتَجَّ بِهِ أَصْحَابُ الرَّأْيِ مِنْ الْخَبَرِ ، وَمَا رَوَوْهُ مَحْمُولٌ عَلَى تَأْكِيدِ الِاسْتِحْبَابِ ، جَمْعًا بَيْنَ الْأَخْبَارِ ، وَلِأَنَّهَا ذَبِيحَةٌ لِسُرُورٍ حَادِثٍ ، فَلَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً ، كَالْوَلِيمَةِ وَالنَّقِيعَةِ .

( 7896 ) فَصْلٌ : وَالْعَقِيقَةُ أَفْضَلُ مِنْ الصَّدَقَةِ بِقِيمَتِهَا .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، وَقَالَ : إذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يَعُقُّ ، فَاسْتَقْرَضَ ، رَجَوْت أَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَلَيْهِ ، إحْيَاءَ سُنَّةٍ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : صَدَقَ أَحْمَدُ ، إحْيَاءُ السُّنَنِ وَاتِّبَاعُهَا أَفْضَلُ ، وَقَدْ وَرَدَ فِيهَا مِنْ التَّأْكِيدِ فِي الْأَخْبَارِ الَّتِي رَوَيْنَاهَا مَا لَمْ يَرِدْ فِي غَيْرِهَا .
وَلِأَنَّهَا ذَبِيحَةٌ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا ، فَكَانَتْ أَوْلَى ، كَالْوَلِيمَةِ وَالْأُضْحِيَّةِ .

( 7897 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ عَنْ الْغُلَامِ ، وَعَنْ الْجَارِيَةِ شَاةٌ .
هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْقَائِلِينَ بِهَا وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَعَائِشَةُ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ .
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُول : شَاةٌ شَاةٌ عَنْ الْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ .
لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ عَقَّ عَنْ الْحَسَنِ شَاةً ، وَعَنْ الْحُسَيْنِ شَاةً } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد كَانَ الْحَسَنُ ، وَقَتَادَةُ ، لَا يَرَيَانِ عَنْ الْجَارِيَةِ عَقِيقَةً ؛ لِأَنَّ الْعَقِيقَةَ شُكْرٌ لِلنِّعْمَةِ الْحَاصِلَةِ بِالْوَلَدِ ، وَالْجَارِيَةُ لَا يَحْصُلُ بِهَا سُرُورٌ ، فَلَا يُشْرَعُ لَهَا عَقِيقَةٌ .
وَلَنَا ، حَدِيثُ عَائِشَةَ ، وَأُمِّ كَرْزٍ ، وَهَذَا نَصٌّ ، وَمَا رَوَوْهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْجَوَازِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ تَكُونَ الشَّاتَانِ مُتَمَاثِلَتَيْنِ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " شَاتَانِ مُكَافِئَتَانِ " .
وَفِي رِوَايَةٍ " مِثْلَانِ " قَالَ أَحْمَدُ : يَعْنِي مُتَمَاثِلَتَيْنِ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " شَاتَانِ مُكَافِئَتَانِ " وَفِي رِوَايَةٍ : " مِثْلَانِ " .
قَالَ أَحْمَدُ : يَعْنِي لِمَا جَاءَ مِنْ الْحَدِيثِ فِيهِ ، وَيَجُوزُ فِيهَا الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى لِمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ أُمِّ كَرْزٍ ، أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { عَنْ الْغُلَامِ شَاتَانِ مُكَافِئَتَانِ ، وَعَنْ الْجَارِيَةِ شَاةٌ ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَكُونَ ذُكُورًا أَوْ إنَاثًا } .
رَوَاهُ سَعِيدٌ ، وَأَبُو دَاوُد .
وَالذَّكَرُ أَفْضَلُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقَّ عَنْ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ بِكَبْشٍ كَبْشٍ ، وَضَحَّى بِكَبْشَيْنِ أَقْرَنَيْنِ .
وَالْعَقِيقَةُ تَجْرِي مَجْرَى الْأُضْحِيَّةِ .
وَالْأَفْضَلُ فِي لَوْنِهَا الْبَيَاضُ ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْأُضْحِيَّةِ ؛ لِأَنَّهَا تُشْبِهُهَا .
وَيُسْتَحَبُّ اسْتِسْمَانُهَا ، وَاسْتِعْظَامُهَا ، وَاسْتِحْسَانُهَا كَذَلِكَ .
وَإِنْ خَالَفَ ذَلِكَ ، أَوْ عَقَّ بِكَبْشٍ وَاحِدٍ أَجْزَأَ ؛ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ

الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ .

( 7898 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ وَيُذْبَحُ يَوْمَ السَّابِعِ قَالَ أَصْحَابُنَا : السُّنَّةُ أَنْ تُذْبَحَ يَوْمَ السَّابِعِ ، فَإِنْ فَاتَ فَفِي أَرْبَعَ عَشْرَةَ ، فَإِنْ فَاتَ فَفِي إحْدَى وَعِشْرِينَ .
وَيُرْوَى هَذَا عَنْ عَائِشَةَ .
وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ .
وَعَنْ مَالِكٍ ، فِي الرَّجُلِ يُرِيدُ أَنْ يَعُقَّ عَنْ وَلَدِهِ ، فَقَالَ : مَا عَلِمْت هَذَا مِنْ أَمْرِ النَّاسِ ، وَمَا يُعْجِبُنِي .
وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْن أَهْلِ الْعِلْمِ الْقَائِلِينَ بِمَشْرُوعِيَّتِهَا فِي اسْتِحْبَابِ ذَبْحِهَا يَوْمَ السَّابِعِ .
وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ سَمُرَةَ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { كُلُّ غُلَامٍ رَهِينَةٌ بِعَقِيقَتِهِ ، تُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ سَابِعِهِ ، وَيُسَمَّى فِيهِ ، وَيُحْلَقُ رَأْسُهُ } .
وَأَمَّا كَوْنُهُ فِي أَرْبَعَ عَشْرَةَ ، ثُمَّ فِي أَحَدٍ وَعِشْرِينَ ، فَالْحُجَّةُ فِيهِ قَوْلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَهَذَا تَقْدِيرٌ ، الظَّاهِرُ أَنَّهَا لَا تَقُولُهُ إلَّا تَوْقِيفًا .
وَإِنْ ذَبَحَ قَبْلَ ذَلِكَ أَوْ بَعْدَهُ ، أَجْزَأَهُ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ .
وَإِنْ تَجَاوَزَ أَحَدًا وَعِشْرِينَ ، احْتَمَلَ أَنْ يُسْتَحَبَّ فِي كُلِّ سَابِعٍ ، فَيَجْعَلَهُ فِي ثَمَانِيَةٍ وَعُشْرِينَ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ، فَفِي خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ ، وَعَلَى هَذَا ، قِيَاسًا عَلَى مَا قَبْلَهُ ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَجُوزَ فِي كُلِّ وَقْتٍ ؛ لِأَنَّ هَذَا قَضَاءُ فَائِتٍ ، فَلَمْ يَتَوَقَّفْ ، كَقَضَاءِ الْأُضْحِيَّةِ وَغَيْرِهَا .
وَإِنْ لَمْ يَعُقَّ أَصْلًا ، فَبَلَغَ الْغُلَامُ ، وَكَسَبَ ، فَلَا عَقِيقَةَ عَلَيْهِ .
وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، فَقَالَ : ذَلِكَ عَلَى الْوَالِدِ .
يَعْنِي لَا يَعُقُّ عَنْ نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ .
وَقَالَ عَطَاءٌ ، وَالْحَسَنُ : يَعُقُّ عَنْ نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهَا مَشْرُوعَةٌ عَنْهُ وَلِأَنَّهُ مُرْتَهَنٌ بِهَا ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُشْرَعَ لَهُ فِكَاكُ نَفْسِهِ .
وَلَنَا ، أَنَّهَا مَشْرُوعَةٌ فِي حَقِّ الْوَالِدِ ، فَلَا يَفْعَلُهَا غَيْرُهُ ، كَالْأَجْنَبِيِّ ، وَكَصَدَقَةِ الْفِطْرِ .

( 7899 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُحْلَقَ رَأْسُ الصَّبِيِّ يَوْمَ السَّابِعِ ، وَيُسَمَّى ؛ لِحَدِيثِ سَمُرَةَ .
وَإِنْ تَصَدَّقَ بِزِنَةِ شَعْرِهِ فِضَّةً فَحَسَنٌ ؛ لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِفَاطِمَةَ ، لَمَّا وَلَدَتْ الْحَسَنَ : احْلِقِي رَأْسَهُ ، وَتَصَدَّقِي بِزِنَةِ شَعْرِهِ فِضَّةً عَلَى الْمَسَاكِينِ وَالْأَفَاوِضِ } .
يَعْنِي أَهْلَ الصُّفَّةِ .
رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ .
وَرَوَى سَعِيدٌ ، فِي سُنَنِهِ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ ، { أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقَّ عَنْ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ بِكَبْشٍ كَبْشٍ ، وَأَنَّهُ تَصَدَّقَ بِوَزْنِ شُعُورِهِمَا وَرِقًا } ، وَأَنَّ فَاطِمَةَ كَانَتْ إذَا وَلَدَتْ وَلَدًا ، حَلَقَتْ شَعَرَهُ ، وَتَصَدَّقَتْ بِوَزْنِهِ وَرِقًا .
وَإِنْ سَمَّاهُ قَبْلَ السَّابِعِ ، جَازَ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : وُلِدَ اللَّيْلَةَ لِي غُلَامٌ ، فَسَمَّيْتُهُ بِاسْمِ أَبِي إبْرَاهِيمَ .
} وَسَمَّى الْغُلَامَ الَّذِي جَاءَهُ بِهِ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ ، فَحَنَّكَهُ وَسَمَّاهُ عَبْدَ اللَّهِ .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُحْسِنَ اسْمَهُ ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { إنَّكُمْ تُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَسْمَائِكُمْ ، وَأَسْمَاءِ آبَائِكُمْ ، فَأَحْسِنُوا أَسْمَاءَكُمْ } .
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { أَحَبُّ الْأَسْمَاءِ إلَيَّ عَبْدُ اللَّهِ ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ } حَدِيثٌ صَحِيحٌ .
وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، أَنَّهُ قَالَ : أَحَبُّ الْأَسْمَاءِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى ، أَسْمَاءُ الْأَنْبِيَاءِ ، { وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسَمَّوْا بِاسْمِي ، وَلَا تَكَنَّوْا بِكُنْيَتِي } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { لَا تَجْمَعُوا بَيْنَ اسْمِي وَبَيْنَ كُنْيَتِي .
}

( 7900 ) فَصْلٌ : وَيُكْرَهُ أَنْ يُلَطَّخَ رَأْسُهُ بِدَمٍ .
كَرِهَ ذَلِكَ أَحْمَدُ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَحُكِيَ عَنْ الْحَسَنِ ، وَقَتَادَةَ ، أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ ؛ لِمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ سَمُرَةَ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : الْغُلَامُ مُرْتَهَنٌ بِعَقِيقَتِهِ ، تُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ السَّابِعِ ، وَيُدْمَى } .
رَوَاهُ هَمَّامٌ ، عَنْ قَتَادَةَ ، عَنْ الْحَسَنِ ، عَنْ سَمُرَةَ .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : لَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ هَذَا إلَّا الْحَسَنَ وَقَتَادَةَ ، وَأَنْكَرَهُ سَائِرُ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَكَرِهُوهُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَعَ الْغُلَامِ عَقِيقَتُهُ فَأَهْرِيقُوا عَنْهُ دَمًا ، وَأَمِيطُوا عَنْهُ الْأَذَى } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يُمَسَّ بِدَمٍ ؛ لِأَنَّهُ أَذًى .
وَرَوَى يَزِيدُ بْنُ عَبْدٍ الْمُزَنِيّ ، عَنْ أَبِيهِ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { يُعَقُّ عَنْ الْغُلَامِ ، وَلَا يُمَسُّ رَأْسُهُ بِدَمٍ } .
قَالَ مُهَنَّا : ذَكَرْت هَذَا الْحَدِيثَ لِأَحْمَدَ ، فَقَالَ : مَا أَظْرَفَهُ .
وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ ، وَلَمْ يَقُلْ : عَنْ أَبِيهِ .
وَلِأَنَّ هَذَا تَنْجِيسٌ لَهُ ، فَلَا يُشْرَعُ ، كَلَطْخِهِ بِغَيْرِهِ مِنْ النَّجَاسَاتِ ، وَقَالَ بُرَيْدَةَ : كُنَّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، إذَا وُلِدَ لِأَحَدِنَا غُلَامٌ ، ذَبَحَ شَاةً ، وَيُلَطِّخُ رَأْسَهُ بِدَمِهَا ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ ، كُنَّا نَذْبَحُ شَاةً ، وَنَحْلِقُ رَأْسَهُ ، وَنُلَطِّخُهُ بِزَعْفَرَانٍ .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
فَأَمَّا رِوَايَةُ مَنْ رَوَى : " وَيُدْمَى " فَقَالَ أَبُو دَاوُد " وَيُسَمَّى " أَصَحُّ .
هَكَذَا قَالَ سَلَّامٍ بْنُ أَبِي مُطِيعٍ ، عَنْ قَتَادَةَ ، وَإِيَاسُ بْنُ دَغْفَلٍ ، عَنْ الْحَسَنِ ، وَوَهَمَ هَمَّامٌ ، فَقَالَ : " وَيُدْمَى " ، قَالَ أَحْمَدُ : قَالَ فِيهِ ابْنُ أَبِي عَرُوبَةَ " يُسَمَّى " .
وَقَالَ هَمَّامٌ " يُدْمَى " وَمَا أُرَاهُ إلَّا خَطَأً .
وَقَدْ قِيلَ : هُوَ تَصْحِيفٌ مِنْ الرَّاوِي .

( 7901 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : وَيُجْتَنَبُ فِيهَا مِنْ الْعَيْبِ مَا يُجْتَنَبُ فِي الْأُضْحِيَّةِ وَجُمْلَتُهُ أَنَّ حُكْمَ الْعَقِيقَةِ حُكْمُ الْأُضْحِيَّةِ ؛ فِي سَنِّهَا ، وَأَنَّهُ يُمْنَعُ فِيهَا مِنْ الْعَيْبِ مَا يُمْنَعُ فِيهَا ، وَيُسْتَحَبُّ فِيهَا مِنْ الصِّفَةِ مَا يُسْتَحَبُّ فِيهَا .
وَكَانَتْ عَائِشَةُ تَقُولُ : ائْتُونِي بِهِ أَعْيَنَ أَقْرَنَ .
وَقَالَ عَطَاءٌ : لَذَكَرٌ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ الْأُنْثَى ، وَالضَّأْنُ أَحَبُّ مِنْ الْمَعْزِ .
فَلَا يُجْزِئُ فِيهَا أَقَلُّ مِنْ الْجَذَعِ مِنْ الضَّأْنِ وَالثَّنِيِّ مِنْ الْمَعْزِ ، وَلَا تَجُوزُ فِيهَا الْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا ، وَالْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ ظَلْعُهَا ، وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا ، وَالْعَجْفَاءُ الَّتِي لَا تُنَقَّى ، وَالْعَضْبَاءُ الَّتِي ذَهَبَ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ أُذُنِهَا أَوْ قَرْنِهَا .
وَتُكْرَهُ فِيهَا الشَّرْقَاءُ ، وَالْخَرْقَاءُ ، وَالْمُقَابَلَةُ ، وَالْمُدَابَرَةُ ، وَيُسْتَحَبُّ اسْتِشْرَافُ الْعَيْنِ وَالْأُذُنِ ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْأُضْحِيَّةِ سَوَاءً ؛ لِأَنَّهَا تُشْبِهُهَا ، فَتُقَاسُ عَلَيْهَا .

( 7902 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : وَسَبِيلُهَا فِي الْأَكْلِ وَالْهَدِيَّةِ وَالصَّدَقَةِ سَبِيلُهَا ، إلَّا أَنَّهَا تُطْبَخُ أَجْدَالًا .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ : اصْنَعْ بِلَحْمِهَا كَيْف شِئْت .
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٌ : تُطْبَخُ بِمَاءٍ وَمِلْحٍ ، وَتُهْدَى الْجِيرَانَ وَالصَّدِيقَ ، وَلَا يُتَصَدَّقُ مِنْهَا بِشَيْءٍ ، وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَنْهَا ، فَحَكَى قَوْلَ ابْنِ سِيرِينَ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ ذَهَبَ إلَيْهِ .
وَسُئِلَ هَلْ يَأْكُلُهَا كُلَّهَا ؟ قَالَ : لَمْ أَقُلْ يَأْكُلُهَا كُلَّهَا ، وَلَا يَتَصَدَّقُ مِنْهَا بِشَيْءٍ .
وَالْأَشْبَهُ قِيَاسُهَا عَلَى الْأُضْحِيَّةِ ؛ لِأَنَّهَا نَسِيكَةٌ مَشْرُوعَةٌ غَيْرُ وَاجِبَةٍ ، فَأَشْبَهَتْ الْأُضْحِيَّةَ ، وَلِأَنَّهَا أَشْبَهَتْهَا فِي صِفَاتِهَا وَسَنِّهَا وَقَدْرِهَا وَشُرُوطِهَا ، فَأَشْبَهَتْهَا فِي مَصْرِفِهَا .
وَإِنْ طَبَخَهَا ، وَدَعَا إخْوَانَهُ فَأَكَلُوهَا ، فَحَسَنٌ .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ تُفْصَلَ أَعْضَاؤُهَا ، وَلَا تُكْسَرَ عِظَامُهَا ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ ، أَنَّهَا قَالَتْ : السُّنَّةُ شَاتَانِ مُكَافِئَتَانِ عَنْ الْغُلَامِ ، وَعَنْ الْجَارِيَةِ شَاةٌ ، تُطْبَخُ جُدُولًا ، وَلَا يُكْسَرُ عَظْمٌ ، يَأْكُلُ ، وَيُطْعِمُ ، وَيَتَصَدَّقُ ، وَذَلِكَ يَوْمُ السَّابِعُ .
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْهَرَوِيُّ فِي الْعَقِيقَةِ تُطْبَخُ جُدُولًا ، لَا يُكْسَرُ لَهَا عَظْمٌ .
أَيْ عُضْوًا عُضْوًا ، وَهُوَ الْجَدْلُ ، بِالدَّالِ غَيْرِ الْمُعْجَمَةِ ، وَالْإِرْبُ ، وَالشِّلْوُ ، وَالْعُضْوُ وَالْوَصْلُ ، كُلُّهُ وَاحِدٌ .
وَإِنَّمَا فُعِلَ بِهَا ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهَا أَوَّلُ ذَبِيحَةٍ ذُبِحَتْ عَنْ الْمَوْلُودِ ، فَاسْتُحِبَّ فِيهَا ذَلِكَ تَفَاؤُلًا بِالسَّلَامَةِ .
كَذَلِكَ قَالَتْ عَائِشَةُ .
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَطَاءٍ ، وَابْنِ جُرَيْجٍ .
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .

( 7903 ) فَصْلٌ : قَالَ أَحْمَدُ : يُبَاعُ الْجِلْدُ وَالرَّأْسُ وَالسِّقْطُ ، يُتَصَدَّقُ بِهِ .
وَقَدْ نَصَّ فِي الْأُضْحِيَّةِ عَلَى خِلَافِ هَذَا ، وَهُوَ أَقْيَسُ فِي مَذْهَبِهِ ؛ لِأَنَّهَا ذَبِيحَةٌ لِلَّهِ ، فَلَا يُبَاعُ مِنْهَا شَيْءٌ ، كَالْهَدْيِ ، وَلِأَنَّهُ تُمْكِنُ الصَّدَقَةُ بِذَلِكَ بِعَيْنِهِ ، فَلَا حَاجَةَ إلَى بَيْعِهِ .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : يُحْتَمَلُ أَنْ يُنْقَلَ حُكْمُ إحْدَاهُمَا إلَى الْأُخْرَى ، فَيَخْرُج فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ رِوَايَتَانِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ إنَّ الْأُضْحِيَّةَ ذَبِيحَةٌ شُرِعَتْ يَوْمَ النَّحْرِ ، فَأَشْبَهَتْ الْهَدْيَ ، وَالْعَقِيقَةُ شُرِعَتْ عِنْدَ سُرُورِ حَادِثٍ ، وَتَجَدُّدِ نِعْمَةٍ ، فَأَشْبَهْت الذَّبِيحَةَ فِي الْوَلِيمَةِ ، وَلِأَنَّ الذَّبِيحَةَ هَاهُنَا لَمْ تَخْرُجْ عَنْ مِلْكِهِ ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ بِهَا مَا شَاءَ ، مِنْ بَيْعٍ وَغَيْرِهِ ، وَالصَّدَقَةُ بِثَمَنِ مَا بِيعَ مِنْهَا بِمَنْزِلَةِ الصَّدَقَةِ بِهِ فِي فَضْلِهَا ، وَثَوَابِهَا ، وَحُصُولِ النَّفْعِ بِهِ ، فَكَانَ لَهُ ذَلِكَ

( 7904 ) فَصْلٌ : قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْم : يُسْتَحَبُّ لِلْوَالِدِ أَنْ يُؤَذِّنَ فِي أُذُنِ ابْنِهِ حِينَ يُولَدُ ؛ لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَافِعٍ ، عَنْ أُمِّهِ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذَّنَ فِي أُذُنِ الْحَسَنِ حِينَ وَلَدَتْهُ فَاطِمَةُ } .
وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، أَنَّهُ كَانَ إذَا وُلِدَ لَهُ مَوْلُودٌ ، أَخَذَهُ فِي خِرْقَةٍ ، فَأَذَّنَ فِي أُذُنِهِ الْيُمْنَى ، وَأَقَامَ فِي الْيُسْرَى ، وَسَمَّاهُ .
وَرَوَيْنَا أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِرَجُلٍ عِنْدَ الْحَسَنِ يُهَنِّئُهُ بِابْنٍ لَهُ : لِيَهْنِكَ الْفَارِسُ .
فَقَالَ الْحَسَنُ : وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهُ فَارِسٌ هُوَ أَوْ حِمَارٌ ؟ فَقَالَ : كَيْفَ نَقُولُ ؟ قَالَ : قُلْ : بُورِكَ فِي الْمَوْهُوبِ ، وَشَكَرْت الْوَاهِبَ ، وَبَلَغَ أَشُدَّهُ ، وَرُزِقْت بِرَّهُ .
وَرُوِيَ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُحَنِّكُ أَوْلَادَ الْأَنْصَارِ بِالتَّمْرِ } .
وَرَوَى أَنَسٌ قَالَ : { ذَهَبْت بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ وُلِدَ قَالَ : هَلْ مَعَك تَمْرٌ ؟ .
فَنَاوَلْته تَمَرَاتٍ ، فَلَاكَهُنَّ ، ثُمَّ فَغَرَ فَاهُ ثُمَّ مَجَّهُ فِيهِ ، فَجَعَلَ يَتَلَمَّظُ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : حُبُّ الْأَنْصَارِ التَّمْرُ وَسَمَّاهُ عَبْدَ اللَّهِ } .

فَصْلٌ : قَالَ أَصْحَابُنَا : لَا تُسَنُّ الْفَرَعَةُ وَلَا الْعَتِيرَةُ .
وَهُوَ قَوْلُ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ سِوَى ابْنِ سِيرِينَ ، فَإِنَّهُ كَانَ يَذْبَحُ الْعَتِيرَةَ فِي رَجَبٍ ، وَيَرْوِي فِيهَا شَيْئًا .
وَالْفَرَعَةُ وَالْفَرَعُ ؛ بِفَتْحِ الرَّاءِ : أَوَّلُ وَلَدِ النَّاقَةِ .
كَانُوا يَذْبَحُونَهُ لِآلِهَتِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَنُهُوا عَنْهَا .
قَالَ ذَلِكَ أَبُو عَمْرٍو الشَّيْبَانِيُّ .
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْعَتِيرَةُ هِيَ الرَّجَبِيَّةُ ، كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ إذَا طَلَبَ أَحَدُهُمْ أَمْرًا ، نَذَرَ أَنْ يَذْبَحَ مِنْ غَنَمِهِ شَاةً فِي رَجَبٍ ، وَهِيَ الْعَتَائِرُ .
وَالصَّحِيحُ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، أَنَّهُمْ كَانُوا يَذْبَحُونَهَا فِي رَجَبٍ مِنْ غَيْرِ نَذْرٍ ، جَعَلُوا ذَلِكَ سُنَّةً فِيمَا بَيْنَهُمْ ، كَالْأُضْحِيَّةِ فِي الْأَضْحَى ، وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْذِرُهَا كَمَا قَدْ تُنْذَرُ الْأُضْحِيَّةِ ، بِدَلِيلِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { عَلَى كُلِّ أَهْلِ بَيْتٍ أَضْحَاةٌ وَعَتِيرَةٌ } .
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَدْءِ الْإِسْلَامِ تَقْرِيرٌ لِمَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، وَهُوَ يَقْتَضِي ثُبُوتَهَا بِغَيْرِ نَذْرٍ ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بَعْدُ .
وَلِأَنَّ الْعَتِيرَةَ لَوْ كَانَتْ هِيَ الْمَنْذُورَةَ لَمْ تَكُنْ مَنْسُوخَةً ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَوْ نَذَرَ ذَبْحَ شَاةٍ فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ ، لَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِنَذْرِهِ .
وَاَللَّه أَعْلَمُ .
وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : { أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْفَرَعَةِ ، مِنْ كُلِّ خَمْسٍ وَاحِدَةٌ } .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : هَذَا حَدِيثٌ ثَابِتٌ .
وَلَنَا مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا فَرَعَ ، وَلَا عَتِيرَةَ .
} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَهَذَا الْحَدِيثُ مُتَأَخِّرٌ عَنْ الْأَمْرِ بِهَا ، فَيَكُونُ نَاسِخًا ، وَدَلِيلُ تَأَخُّرِهِ أَمْرَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، أَنَّ رَاوِيَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ ، وَهُوَ مُتَأَخِّرُ الْإِسْلَامِ ، فَإِنَّ إسْلَامَهُ فِي سَنَةِ فَتْحِ

خَيْبَرَ ، وَهِيَ السَّنَةُ السَّابِعَةُ مِنْ الْهِجْرَةِ .
وَالثَّانِي ، أَنَّ الْفَرَعَ وَالْعَتِيرَةَ كَانَ فِعْلُهُمَا أَمْرًا مُتَقَدِّمًا عَلَى الْإِسْلَامِ ، فَالظَّاهِرُ بَقَاؤُهُمْ عَلَيْهِ إلَى حِينِ نَسْخِهِ ، وَاسْتِمْرَارُ النَّسْخِ مِنْ غَيْرِ رَفْعٍ لَهُ ، وَلَوْ قَدَّرْنَا تَقَدُّمَ النَّهْيِ عَلَى الْأَمْرِ بِهَا ، لَكَانَتْ قَدْ نُسِخَتْ ثُمَّ نُسِخَ نَاسِخُهَا ، وَهَذَا خِلَافُ الظَّاهِرِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْخَبَرِ نَفْيُ كَوْنِهَا سُنَّةً ، لَا تَحْرِيمُ فِعْلِهَا ، وَلَا كَرَاهَتُهُ ، فَلَوْ ذَبَحَ إنْسَانٌ ذَبِيحَةً فِي رَجَبٍ ، أَوْ ذَبَحَ وَلَدَ النَّاقَةِ لِحَاجَتِهِ إلَى ذَلِكَ ، أَوْ لِلصَّدَقَةِ بِهِ وَإِطْعَامِهِ ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَكْرُوهًا ، وَاَللَّه - تَعَالَى - أَعْلَمُ .

كِتَابُ السَّبْقِ وَالرَّمْيِ الْمُسَابَقَةُ جَائِزَةٌ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ .
أَمَّا السُّنَّةُ ، فَرَوَى ابْنُ عُمَرَ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الْمُضَمَّرَةِ مِنْ الْحَفْيَاءِ إلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ ، وَبَيْنَ الَّتِي لَمْ تُضَمَّرْ مِنْ ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ إلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ .
} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ : مِنْ الْحَفْيَاءِ .
إلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ سِتَّةُ أَمْيَالٍ أَوْ سَبْعَةُ أَمْيَالٍ .
وَقَالَ سُفْيَانُ : مِنْ الثَّنِيَّةِ إلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ مِيلٌ أَوْ نَحْوُهُ .
وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ الْمُسَابَقَةِ فِي الْجُمْلَةِ .
وَالْمُسَابَقَةُ عَلَى ضَرْبَيْنِ ؛ مُسَابَقَةٌ بِغَيْرِ عِوَضٍ ، وَمُسَابَقَةٌ بِعِوَضٍ .
فَأَمَّا الْمُسَابَقَةُ بِغَيْرِ عِوَضٍ ، فَتَجُوزُ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ ، كَالْمُسَابَقَةِ عَلَى الْأَقْدَامِ ، وَالسُّفُنِ ، وَالطُّيُورِ ، وَالْبِغَالِ ، وَالْحَمِيرِ ، وَالْفِيَلَةِ ، وَالْمَزَارِيقِ ، وَتَجُوزُ الْمُصَارَعَةُ ، وَرَفْعُ الْحَجَرِ ، لِيُعْرَفَ الْأَشَدُّ ، وَغَيْرِ هَذَا ؛ لِأَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي سَفَرٍ مَعَ عَائِشَةَ فَسَابَقَتْهُ عَلَى رِجْلِهَا ، فَسَبَقَتْهُ ، قَالَتْ : فَلَمَّا حَمَلْت اللَّحْمَ ، سَابَقْته ، فَسَبَقَنِي ، فَقَالَ : هَذِهِ بِتِلْكَ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَسَابَقَ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ بَيْنَ يَدَيْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَوْمِ ذِي قَرَدٍ .
{ صَارَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُكَانَةَ ، فَصَرَعَهُ } .
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ .
وَمَرَّ بِقَوْمٍ يُرَبِّعُونَ حَجَرًا - يَعْنِي يَرْفَعُونَهُ لِيَعْرِفُوا الْأَشَدَّ مِنْهُمْ - فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ .
وَسَائِرُ الْمُسَابَقَةِ يُقَاسُ عَلَى هَذَا .
وَأَمَّا الْمُسَابَقَةُ بِعِوَضٍ ، فَلَا تَجُوزُ إلَّا بَيْنَ الْخَيْلِ ، وَالْإِبِلِ ، وَالرَّمْيِ ؛ لِمَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَاخْتُصَّتْ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ بِتَجْوِيزِ الْعِوَضِ فِيهَا ؛ لِأَنَّهَا مِنْ آلَاتِ الْحَرْبِ

الْمَأْمُورِ بِتَعَلُّمِهَا ، وَإِحْكَامِهَا ، وَالتَّفَوُّقِ فِيهَا ، وَفِي الْمُسَابَقَةِ بِهَا مَعَ الْعِوَضِ مُبَالَغَةٌ فِي الِاجْتِهَادِ فِي النِّهَايَةِ لَهَا ، وَالْإِحْكَامِ لَهَا ، وَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِالْأَمْرِ بِهَا ، وَالتَّرْغِيبِ فِي فِعْلِهَا ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ } .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَلَا إنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ ، أَلَا إنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ } .
وَرَوَى سَعِيدٌ فِي " سُنَنِهِ " عَنْ خَالِدِ بْن زَيْدٍ ، قَالَ : كُنْت رَجُلًا رَامِيًا { ، وَكَانَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ الْجُهَنِيُّ يَمُرُّ بِي فَيَقُولُ : يَا خَالِدُ ، اُخْرُجْ بِنَا نَرْمِي .
فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ ، أَبْطَأْت عَنْهُ ، فَقَالَ : هَلُمَّ أُحَدِّثْك حَدِيثًا سَمِعْته مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : إنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ بِالسَّهْمِ الْوَاحِدِ ثَلَاثَةً الْجَنَّةَ صَانِعَهُ يَحْتَسِبُ فِي صُنْعِهِ الْخَيْرَ ، وَالرَّامِيَ بِهِ ، وَمُنَبِّلَهُ ، ارْمُوا وَارْكَبُوا ، وَأَنْ تَرْمُوا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ تَرْكَبُوا ، وَلَيْسَ مِنْ اللَّهْوِ إلَّا ثَلَاثٌ ؛ تَأْدِيبُ الرَّجُلِ فَرَسَهُ ، وَمُلَاعَبَتُهُ أَهْلَهُ ، وَرَمْيُهُ بِقَوْسِهِ وَنَبْلِهِ ، وَمَنْ تَرَكَ الرَّمْيَ بَعْدَ مَا عَلِمَهُ ، رَغْبَةً عَنْهُ ، فَإِنَّهَا نِعْمَةٌ تَرَكَهَا } .
وَعَنْ مُجَاهِدٍ ، قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { : إنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَحْضُرُ مِنْ لَهْوِكُمْ إلَّا الرِّهَانَ وَالنِّضَالَ } .
قَالَ الْأَزْهَرِيُّ : النِّضَالُ فِي الرَّمْيِ ، وَالرِّهَانُ فِي الْخَيْلِ ، وَالسِّبَاقُ فِيهِمَا .
قَالَ مُجَاهِدٌ : وَرَأَيْت ابْنَ عُمَرَ يَشْتَدُّ بَيْنَ الْهَدَفَيْنِ ، إذَا أَصَابَ خَصْلَةً قَالَ : أَنَا بِهَا ، أَنَا بِهَا .
وَعَنْ حُذَيْفَةَ مِثْلُهُ .

( 7906 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَالسَّبْقُ فِي النَّصْلِ وَالْحَافِرِ وَالْخُفِّ لَا غَيْرُ ) السَّبْقُ بِسُكُونِ الْبَاءِ ، الْمُسَابِقَةُ وَالسَّبَقُ بِفَتْحِهَا : الْجُعْلُ الْمُخْرَجُ فِي الْمُسَابَقَةِ .
وَالْمُرَادُ بِالنَّصْلِ هَاهُنَا السَّهْمُ ذُو النَّصْلِ ، وَبِالْحَافِرِ الْفَرَسُ ، وَبِالْخُفِّ الْبَعِيرُ ، عَبَّرَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِجُزْءٍ مِنْهُ يَخْتَصُّ بِهِ .
وَمُرَادُ الْخِرَقِيِّ أَنَّ الْمُسَابَقَةَ بِعِوَضِ لَا تَجُوزُ إلَّا فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ .
وَبِهَذَا قَالَ : الزُّهْرِيُّ ، وَمَالِكٌ وَقَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ : يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْمُسَابَقَةِ عَلَى الْأَقْدَامِ ، وَالْمُصَارَعَةِ ؛ لِوُرُودِ الْأَثَرِ بِهِمَا { ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَابَقَ عَائِشَةَ ، وَصَارَعَ رُكَانَةَ .
} وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ ، كَالْمَذْهَبَيْنِ .
وَلَهُمْ فِي الْمُسَابَقَةِ فِي الطُّيُورِ وَالسُّفُنِ وَجْهَانِ ، بِنَاءً عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي الْمُسَابَقَةِ عَلَى الْأَقْدَامِ وَالْمُصَارَعَةِ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا سَبْقَ إلَّا فِي نَصْلٍ ، أَوْ خُفٍّ ، أَوْ حَافِرٍ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
فَنَفَى السَّبْقَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ نَفْيُ الْجُعْلِ ، أَيْ لَا يَجُوزُ الْجُعْلُ إلَّا فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ نَفْيُ الْمُسَابَقَةِ بِعِوَضٍ ، فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ حَمْلُ الْخَبَرِ عَلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ ، لِلْإِجْمَاعِ عَلَى جَوَازِ الْمُسَابَقَةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ لَنَا .
وَلِأَنَّ غَيْرَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهَا فِي الْجِهَادِ ، كَالْحَاجَةِ إلَيْهَا ، فَلَمْ تَجُزْ الْمُسَابَقَةُ عَلَيْهَا بِعِوَضٍ ، كَالرَّمْيِ بِالْحِجَارَةِ وَرَفْعِهَا .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَالْمُرَادُ بِالنَّصْلِ السِّهَامُ مِنْ النُّشَّابِ وَالنَّبْلِ دُونَ غَيْرِهِمَا ، وَالْحَافِرِ الْخَيْلُ وَحْدَهَا ، وَالْخُفِّ الْإِبِلُ وَحْدَهَا .
وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : تَجُوزُ

الْمُسَابَقَةُ بِكُلِّ مَا لَهُ نَصْلٌ مِنْ الْمَزَارِيقِ ، وَفِي الرُّمْحِ وَالسَّيْفِ وَجْهَانِ ، وَفِي الْفِيلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ وَجْهَانِ لِأَنَّ لِلْمَزَارِيقِ وَالرِّمَاحِ وَالسُّيُوفِ نَصْلًا ، وَلِلْفِيلِ خُفٌّ ، وَلِلْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ حَوَافِرُ ، فَتَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْخَبَرِ .
وَلَنَا ، أَنَّ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ الْمُخْتَلَفَ فِيهَا لَا تَصْلُحُ لِلْكَرِّ وَالْفَرِّ ، وَلَا يُقَاتَلُ عَلَيْهَا ، وَلَا يُسْهَمُ لَهَا ، وَالْفِيلُ لَا يُقَاتِلُ عَلَيْهِ أَهْلُ الْإِسْلَامِ ، وَالرِّمَاحُ وَالسُّيُوفُ لَا يُرْمَى بِهَا ، فَلَمْ تَجُزْ الْمُسَابَقَةُ عَلَيْهَا ، كَالْبَقَرِ وَالتِّرَاسِ ، وَالْخَبَرُ لَيْسَ بِعَامٍّ فِيمَا تَجُوزُ الْمُسَابَقَةُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ فِي إثْبَاتٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ عَامٌّ فِي نَفْيِ مَا لَا تَجُوزُ الْمُسَابَقَةُ بِهِ بِعِوَضٍ ؛ لِكَوْنِهِ نَكِرَةً فِي سِيَاقِ النَّفْيِ ، ثُمَّ لَوْ كَانَ عَامًّا ، لَحُمِلَ عَلَى مَا عُهِدَتْ الْمُسَابِقَةُ عَلَيْهِ ، وَوَرَدَ الشَّرْعُ بِالْحَثِّ عَلَى تَعَلُّمِهِ ، وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ .

( 7907 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ وَإِذَا أَرَادَا أَنْ يَسْتَبِقَا ، أَخْرَجَ أَحَدُهُمَا ، وَلَمْ يُخْرِجْ الْآخَرُ ، فَإِنْ سَبَقَ مَنْ أَخْرَجَ ، أَحْرَزَ سَبْقَهُ ، وَلَمْ يَأْخُذْ مِنْ الْمَسْبُوقِ شَيْئًا وَإِنْ سَبَقَ مَنْ لَمْ يُخْرِجْ ، أَحْرَزَ سَبْقَ صَاحِبِهِ وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْمُسَابَقَةَ إذَا كَانَتْ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَوْ حِزْبَيْنِ ، لَمْ تَخْلُ إمَّا أَنْ يَكُونَ الْعِوَضُ مِنْهُمَا ، أَوْ مِنْ غَيْرِهِمَا ، فَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِهِمَا نَظَرْت ، فَإِنْ كَانَ مِنْ الْإِمَامِ جَازَ ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ مَالِهِ ، أَوْ مِنْ بَيْت الْمَالِ ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةً وَحَثًّا عَلَى تَعَلُّمِ الْجِهَادِ ، وَنَفْعًا لِلْمُسْلِمِينَ .
وَإِنْ كَانَ غَيْرَ إمَامٍ ، جَازَ لَهُ بَذْلُ الْعِوَضِ مِنْ مَالِهِ .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَجُوزُ بَذْلُ الْعِوَضِ مِنْ غَيْرِ الْإِمَامِ ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يُحْتَاجُ إلَيْهِ لِلْجِهَادِ ، فَاخْتُصَّ بِهِ الْإِمَامُ لِتَوْلِيَةِ الْوِلَايَات وَتَأْمِيرِ الْأُمَرَاءِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ بَذْلٌ لِمَالِهِ فِيمَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ وَقُرْبَةٌ فَجَازَ كَمَا لَوْ اشْتَرَى بِهِ خَيْلًا وَسِلَاحًا .
فَأَمَّا إنْ كَانَ مِنْهُمَا ، اُشْتُرِطَ كَوْنُ الْجُعْلِ مِنْ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ ، فَيَقُولُ : إنْ سَبَقْتَنِي فَلَكَ عَشَرَةٌ ، وَإِنْ سَبَقْتُك فَلَا شَيْءَ عَلَيْك .
فَهَذَا جَائِزٌ .
وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ قِمَارٌ .
وَلَنَا ، أَنَّ أَحَدُهُمَا يَخْتَصُّ بِالسَّبْقِ ، فَجَازَ ، كَمَا لَوْ أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ .
وَلَا يَصِحُّ مَا ذَكَرَهُ ؛ لِأَنَّ الْقِمَارَ أَنْ لَا يَخْلُوَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ أَنْ يَغْنَمَ أَوْ يَغْرَمَ ، وَهَا هُنَا لَا خَطَرَ عَلَى أَحَدِهِمَا ، فَلَا يَكُونُ قِمَارًا فَإِذَا سَبَقَ الْمُخْرِجُ أَحْرَزَ سَبَقَهُ ، وَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَى صَاحِبِهِ ، وَإِنْ سَبَقَ الْآخَرُ أَخَذَ سَبْقَ الْمُخْرِجِ فَمَلَكَهُ ، وَكَانَ كَسَائِرِ مَالِهِ ؛ لِأَنَّهُ عِوَضٌ فِي الْجَعَالَةِ ، فَيُمْلَكُ فِيهَا ، كَالْعِوَضِ الْمَجْعُولِ فِي رَدِّ الضَّالَّةِ وَالْآبِقِ .
وَإِنْ كَانَ الْعِوَضُ فِي الذِّمَّةِ ، فَهُوَ

دَيْنٌ يُقْضَى بِهِ عَلَيْهِ ، وَيُجْبَرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ إنْ كَانَ مُوسِرًا ، وَإِنْ أَفْلَسَ ، ضُرِبَ بِهِ مَعَ الْغُرَمَاءِ .

( 7908 ) فَصْلٌ : وَالْمُسَابَقَةُ عَقْدٌ جَائِزٌ .
ذَكَرَهُ ابْنُ حَامِدٍ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ ، وَقَالَ فِي الْآخَرِ : هُوَ لَازِمٌ إنْ كَانَ الْعِوَضُ مِنْهُمَا ، وَجَائِزٌ إذَا كَانَ مِنْ أَحَدِهِمَا أَوْ مِنْ غَيْرِهِمَا .
وَذَكَرَهُ الْقَاضِي احْتِمَالًا ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ الْعِوَضُ وَالْمُعَوَّضُ مَعْلُومَيْنِ ، فَكَانَ لَازِمًا ، كَالْإِجَارَةِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى مَا لَا تَتَحَقَّقُ الْقُدْرَةُ عَلَى تَسْلِيمِهِ ، فَكَانَ جَائِزًا ، كَرَدِّ الْآبِقِ ، فَإِنَّهُ عَقْدٌ عَلَى الْإِصَابَةِ ، وَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ قُدْرَتِهِ ، وَبِهَذَا فَارَقَ الْإِجَارَةَ .
فَعَلَى هَذَا ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ الْفَسْخُ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْمُسَابَقَةِ ، وَإِنْ أَرَادَ أَحَدُهُمَا الزِّيَادَةَ فِيهَا أَوْ النُّقْصَانَ مِنْهَا ، لَمْ يَلْزَمْ الْآخَرَ إجَابَتُهُ ، فَأَمَّا بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْمُسَابَقَةِ ، فَإِنْ كَانَ لَمْ يَظْهَرْ لِأَحَدِهِمَا فَضْلٌ عَلَى الْآخَرِ ، جَازَ الْفَسْخُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَإِنْ ظَهَرَ لِأَحَدِهِمَا فَضْلٌ ، مِثْلُ أَنْ يَسْبِقَهُ بِفَرَسِهِ فِي بَعْضِ الْمُسَابَقَةِ ، أَوْ يُصِيبَ بِسِهَامِهِ أَكْثَرَ مِنْهُ ، فَلِلْفَاضِلِ الْفَسْخُ ، وَلَا يَجُوزُ لِلْمَفْضُولِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ لَهُ ذَلِكَ لَفَاتَ غَرَضُ الْمُسَابَقَةِ ، لِأَنَّهُ مَتَى بَانَ لَهُ سَبْقُ صَاحِبِهِ لَهُ فَسَخَهَا ، وَتَرَكَ الْمُسَابِقَةَ ، فَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : إذَا قُلْنَا : الْعَقْدُ جَائِزٌ .
فَقِي جَوَازِ الْفَسْخِ مِنْ الْمَفْضُولِ وَجْهَانِ .

( 7909 ) فَصْلٌ : وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْعِوَضُ مَعْلُومًا ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ فِي عَقْدٍ فَكَانَ مَعْلُومًا ، كَسَائِرِ الْعُقُودِ ، وَيَكُونُ مَعْلُومًا بِالْمُشَاهَدَةِ ، أَوْ بِالْقَدْرِ وَالصِّفَةِ ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ .
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًّا وَمُؤَجَّلًا ، كَالْعِوَضِ فِي الْبَيْعِ .
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُ حَالًّا وَبَعْضُهُ مُؤَجَّلًا ، فَلَوْ قَالَ : إنْ نَضَلْتنِي فَلَكَ دِينَارٌ حَالٌّ ، وَقَفِيزُ حِنْطَةٍ بَعْدَ شَهْرٍ .
جَازَ وَصَحَّ النِّضَالُ ؛ لِأَنَّ مَا جَازَ أَنْ يَكُونَ حَالًّا وَمُؤَجَّلًا ، جَازَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُ حَالًّا وَبَعْضُهُ مُؤَجَّلًا ، كَالثَّمَنِ ، غَيْرَ أَنَّهُ يُحْتَاجُ إلَى صِفَةِ الْحِنْطَةِ بِمَا تَصِيرُ بِهِ مَعْلُومَةً .

( 7910 ) فَصْلٌ : فَإِنْ شَرْطَ أَنْ يُطْعِمَ السَّبَقَ أَصْحَابَهُ ، فَالشَّرْطُ فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّهُ عِوَضٌ عَلَى عَمَلٍ ، فَلَا يَسْتَحِقُّهُ غَيْرُ الْعَامِلِ ، كَالْعِوَضِ فِي رَدِّ الْآبِقِ ، وَلَا يَفْسُدُ الْعَقْدُ .
وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَفْسُدُ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ عَقْدٌ لَا تَقِفُ صِحَّتُهُ عَلَى تَسْمِيَةِ بَدَلٍ ، فَلَمْ يَفْسُدْ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ كَالنِّكَاحِ .
وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ الشُّرُوطَ الْفَاسِدَةَ فِي الْمُسَابَقَةِ تَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا ، مَا يُخِلُّ بِشَرْطِ صِحَّةِ الْعَقْدِ ، نَحْوَ أَنْ يَعُودَ إلَى جَهَالَةِ الْعِوَضِ ، أَوْ الْمَسَافَةِ ، وَنَحْوِهِمَا ، فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَا يَصِحُّ مَعَ فَوَاتِ شَرْطِهِ .
وَالثَّانِي ، مَا لَا يُخِلُّ بِشَرْطِ الْعَقْدِ ، نَحْوَ أَنْ يَشْتَرِطَ أَنْ يُطْعِمَ السَّبْقَ أَصْحَابُهُ أَوْ غَيْرُهُمْ ، أَوْ يَشْرِطَ أَنَّهُ إذَا نَضَلَ لَا يَرْمِي أَبَدًا ، أَوْ لَا يَرْمِي شَهْرًا أَوْ شَرَطَا أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا فَسْخَ الْعَقْدِ مَتَى شَاءَ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْعَمَلِ ، وَأَشْبَاهَ هَذَا ، فَهَذِهِ شُرُوطٌ بَاطِلَةٌ فِي نَفْسِهَا ، وَفِي الْعَقْدِ الْمُقْتَرِنِ بِهَا وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، صِحَّتُهُ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ تَمَّ بِأَرْكَانِهِ وَشُرُوطِهِ ، فَإِذَا حُذِفَ الزَّائِدُ الْفَاسِدُ ، بَقِيَ الْعَقْدُ صَحِيحًا .
وَالثَّانِي ، يَبْطُلُ ؛ لِأَنَّهُ بَذَلَ الْعِوَضَ لِهَذَا الْغَرَضِ ، فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ غَرَضُهُ لَا يَلْزَمُهُ الْعِوَضُ .
وَكُلُّ مَوْضِعٍ فَسَدَتْ الْمُسَابَقَةُ ، فَإِنْ كَانَ السَّابِقُ الْمُخْرِجَ أَمْسَكَ سَبْقَهُ ، وَإِنْ كَانَ الْآخَرَ ، فَلَهُ أَجْرُ عَمَلِهِ ؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ بِعِوَضٍ لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ ، فَاسْتَحَقَّ أَجْرَ الْمِثْلِ ، كَالْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ .

( 7911 ) فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ الْمُخْرِجُ غَيْرَ الْمُتَسَابِقَيْنِ ، فَقَالَ لَهُمَا أَوْ لِجَمَاعَةٍ : أَيُّكُمْ سَبَقَ فَلَهُ عَشَرَةٌ .
جَازَ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَطْلُبُ أَنْ يَكُونَ سَابِقًا ، وَأَيُّهُمْ سَبَقَ ، اسْتَحَقَّ الْعَشَرَةَ ، وَإِنْ جَاءُوا جَمِيعًا ، فَلَا شَيْءَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ ؛ لِأَنَّهُ لَا سَابِقَ فِيهِمْ .
وَإِنْ قَالَ لِاثْنَيْنِ : أَيّكُمَا سَبَقَ فَلَهُ عَشَرَةٌ ، وَأَيُّكُمَا صَلَّى فَلَهُ عَشَرَةٌ .
لَمْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي طَلَبِ السَّبْقِ ، فَلَا يَحْرِصُ عَلَيْهِ ، لِعَدَمِ فَائِدَتِهِ فِيهِ .
وَإِنْ قَالَ : وَمَنْ صَلَّى فَلَهُ خَمْسَةٌ صَحَّ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَطْلُبُ السَّبْقَ لِفَائِدَتِهِ فِيهِ بِزِيَادَةِ الْجُعْلِ .
وَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ اثْنَيْنِ ، فَقَالَ : مَنْ سَبَقَ فَلَهُ عَشَرَةٌ ، وَمَنْ صَلَّى فَلَهُ كَذَلِكَ .
صَحَّ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَطْلُبُ أَنْ يَكُونَ سَابِقًا أَوْ مُصَلِّيًا ، وَالْمُصَلِّي هُوَ الثَّانِي ؛ لِأَنَّ رَأْسَهُ عِنْدَ صَلَى الْآخَرِ ، وَالصَّلَوَانِ : هُمَا الْعَظْمَانِ النَّاتِئَانِ مِنْ جَانِبَيْ الذَّنَبِ .
وَفِي الْأَثَرِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : " سَبَقَ أَبُو بَكْرٍ ، وَصَلَّى عُمَرُ ، وَخَبَطَتْنَا عَشْوَاءٌ وَقَالَ الشَّاعِرُ : إنْ تَبْتَدِرْ غَايَةً يَوْمًا لِمَكْرُمَةٍ تَلْقَ السَّوَابِقَ مِنَّا وَالْمُصَلِّينَا فَإِنْ قَالَ : لِلْمُجَلِّي - وَهُوَ الْأَوَّلُ - مِائَةٌ ، وَلِلْمُصَلِّي - وَهُوَ الثَّانِي - تِسْعُونَ ، وَلِلتَّالِي - وَهُوَ الثَّالِثُ - ثَمَانُونَ ، وَلِلنَّازِعِ - وَهُوَ الرَّابِعُ - سَبْعُونَ ، وَلِلْمُرْتَاحِ وَهُوَ الْخَامِسُ - سِتُّونَ ، وَلِلْحَظِّيِّ - وَهُوَ السَّادِسُ - خَمْسُونَ ، وَلِلْعَاطِفِ - وَهُوَ السَّابِعُ - أَرْبَعُونَ ، وَلِلْمُؤَمِّلِ - وَهُوَ الثَّامِنُ - ثَلَاثُونَ ، وَلِلَّطِيمِ - وَهُوَ التَّاسِعُ - عِشْرُونَ ، وَلِلسِّكِّيتِ - وَهُوَ الْعَاشِرُ - عَشَرَةٌ ، وَلِلْفَسْكَلِ - وَهُوَ الْآخِرُ - خَمْسَةٌ .
صَحَّ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَطْلُبُ السَّبْقَ ، فَإِذَا فَاتَهُ طَلَبَ مَا يَلِي السَّابِقَ ، وَالْفِسْكِلُ اسْمٌ لِلْآخِرِ ، ثُمَّ يُسْتَعْمَلُ هَذَا فِي

غَيْرِ الْمُسَابَقَةِ بِالْخَيْلِ تَجَوُّزًا ، كَمَا رُوِيَ أَنَّ أَسْمَاءَ ابْنَةَ عُمَيْسٍ ، كَانَتْ تَزَوَّجَتْ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ ، وَوَلَدَتْ لَهُ عَبْدَ اللَّهِ وَمُحَمَّدًا وَعَوْنًا ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ ، فَوَلَدَتْ لَهُ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَتْ لَهُ : إنَّ ثَلَاثَةً أَنْتَ آخِرُهُمْ لَأَخْيَارٌ .
فَقَالَ لِوَلَدِهَا : فَسْكَلَتْنِي أُمُّكُمْ .
وَإِنْ جَعَلَ لِلْمُصَلِّي أَكْثَرَ مِنْ السَّابِقِ ، أَوْ مِثْلَهُ ، أَوْ جَعَلَ لِلتَّالِي أَكْثَرَ مِنْ الْمُصَلِّي أَوْ مِثْلَهُ ، أَوْ لَمْ يَجْعَلْ لِلْمُصَلِّي شَيْئًا .
لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى أَنْ لَا يَقْصِدَ السَّبْقَ .
بَلْ يَقْصِدُ التَّأَخُّرَ ، فَيُفَوِّتُ الْمَقْصُودَ .

( 7912 ) فَصْلٌ : إذَا قَالَ لِعَشَرَةٍ : مَنْ سَبَقَ مِنْكُمْ فَلَهُ عَشَرَةٌ .
صَحَّ .
فَإِنْ جَاءُوا مَعًا ، فَلَا شَيْءَ لَهُمْ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ الَّذِي يُسْتَحَقُّ بِهِ الْجُعْلُ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمْ .
وَإِنْ سَبَقَهُمْ وَاحِدٌ ، فَلَهُ الْعَشَرَةُ ؛ لِوُجُودِ الشَّرْطِ فِيهِ .
وَإِنْ سَبَقَ اثْنَانِ ، فَلَهُمَا الْعَشَرَةُ .
وَإِنْ سَبَقَ تِسْعَةٌ ، وَتَأَخَّرَ وَاحِدٌ ، فَالْعَشَرَةُ لِلتِّسْعَةِ ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ وُجِدَ فِيهِمْ ، فَكَانَ الْجُعْلُ بَيْنَهُمْ ، كَمَا لَوْ قَالَ : مَنْ رَدَّ عَبْدِي الْآبِقَ فَلَهُ عَشَرَةٌ .
فَرَدَّهُ تِسْعَةٌ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ السَّابِقِينَ عَشَرَةٌ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَابِقٌ ، فَيَسْتَحِقُّ الْجُعْلَ بِكَمَالِهِ ، كَمَا لَوْ قَالَ : مَنْ رَدَّ عَبْدًا لِي فَلَهُ عَشَرَةٌ .
فَرَدَّ كُلُّ وَاحِدٍ عَبْدًا .
وَفَارَقَ مَا لَوْ قَالَ : مَنْ رَدَّ عَبْدِي .
فَرَدَّهُ تِسْعَةٌ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَمْ يَرُدَّهُ ، إنَّمَا رَدُّهُ حَصَلَ مِنْ الْكُلِّ .
وَيَصِيرُ هَذَا كَمَا لَوْ قَالَ : مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ .
فَإِنْ قَتَلَ كُلُّ وَاحِدٍ وَاحِدًا ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ سَلَبُ قَتِيلِهِ كَامِلًا ، وَإِنْ قَتَلَ الْجَمَاعَةُ وَاحِدًا ، فَلِجَمِيعِهِمْ سَلَبٌ وَاحِدٌ .
وَهَا هُنَا كُلُّ وَاحِدٍ لَهُ سَبْقٌ مُفْرَدٌ ، فَكَانَ لَهُ الْجُعْلُ كَامِلًا .
فَعَلَى هَذَا ، لَوْ قَالَ : مَنْ سَبَقَ فَلَهُ عَشَرَةٌ ، وَمِنْ صَلَّى فَلَهُ خَمْسَةٌ ، فَسَبَقَ خَمْسَةٌ ، وَصَلَّى خَمْسَةٌ ، فَعَلَى الْأَوَّلِ مِنْ الْوَجْهَيْنِ ، لِلسَّابِقِينَ عَشَرَةٌ ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ دِرْهَمَانِ ، وَلِلْمُصَلِّينَ خَمْسَةٌ ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ دِرْهَمٌ .
وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ السَّابِقِينَ عَشَرَةٌ ، فَيَكُونُ لَهُمْ خَمْسُونَ ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُصَلِّينَ خَمْسَةٌ ، فَيَكُونُ لَهُمْ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ .
وَمَنْ قَالَ بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ ، اُحْتُمِلَ عَلَى قَوْلِهِ أَنْ لَا يَصِحَّ الْعَقْدُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَسْبِقَ تِسْعَةٌ ، فَيَكُونَ لَهُمْ عَشَرَةٌ ، لِكُلِّ وَاحِدٍ دِرْهَمٌ

وَتُسْعٌ ، وَيُصَلِّيَ وَاحِدٌ ، فَيَكُونَ لَهُ خَمْسَةٌ ، فَيَصِيرَ لِلْمُصَلِّي مِنْ الْجُعْلِ فَوْقَ مَا لِلسَّابِقِ ، فَيَفُوتَ الْمَقْصُودُ .

( 7913 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ ؛ وَإِنْ أَخْرَجَا جَمِيعًا ، لَمْ يَجُزْ إلَّا أَنْ يُدْخِلَا بَيْنَهُمَا مُحَلِّلًا يُكَافِئُ فَرَسُهُ فَرَسَيْهِمَا ، أَوْ بَعِيرُهُ بَعِيرَيْهِمَا ، أَوْ رَمْيُهُ رَمْيَيْهِمَا ، فَإِنْ سَبَقَهُمَا أَحْرَزَ سَبْقَيْهِمَا ، وَإِنْ كَانَ السَّابِقُ أَحَدَهُمَا ، أَحْرَزَ سَبَقَهُ ، وَأَخَذَ سَبَقَ صَاحِبِهِ فَكَانَ كَسَائِرِ مَالِهِ ، وَلَمْ يَأْخُذْ مِنْ الْمُحَلِّلِ شَيْئًا السَّبَقُ ؛ بِالْفَتْحِ : الْجُعْلُ الَّذِي يُسَابَقُ عَلَيْهِ ، وَيُسَمَّى الْخَطَرَ وَالنَّدَبَ وَالْقَرَعَ وَالرَّهْنَ .
وَيُقَالُ : سَبَقَ .
إذَا أَخَذَ وَإِذَا أَعْطَى .
وَمِنْ الْأَضْدَادِ .
وَمَتَى اسْتَبَقَ الِاثْنَانِ ، وَالْجُعْلُ بَيْنَهُمَا ، فَأَخْرَجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، لَمْ يَجُزْ ، وَكَانَ قِمَارًا ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَغْنَمَ أَوْ يَغْرَمَ ، وَسَوَاءٌ كَانَ مَا أَخْرَجَاهُ مُتَسَاوِيًا ، مِثْلَ أَنْ يُخْرِجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَشَرَةً ، أَوْ مُتَفَاوِتًا مِثْلَ أَنْ أَخْرَجَ أَحَدُهُمَا عَشَرَةً وَالْآخَرُ خَمْسَةً .
وَلَوْ قَالَ : إنْ سَبَقْتَنِي فَلَكَ عَلَيَّ عَشَرَةٌ ، وَإِنْ سَبَقْتُك فَلِي عَلَيْك قَفِيزٌ حِنْطَةً .
أَوْ قَالَ إنْ سَبَقْتَنِي فَلَكَ عَلَيَّ عَشَرَةٌ وَلِي عَلَيْك قَفِيزٌ لَمْ يَجُزْ ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ .
فَإِنْ أَدْخَلَا بَيْنَهُمَا مُحَلِّلًا ، وَهُوَ ثَالِثٌ لَمْ يُخْرِجْ شَيْئًا ، جَازَ .
وَبِهَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَحَكَى أَشْهَبُ ، عَنْ مَالِكٍ ، أَنَّهُ قَالَ فِي الْمُحَلِّلِ : لَا أُحِبُّهُ .
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ ، أَنَّهُ قِيلَ لَهُ : إنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا لَا يَرَوْنَ بِالدَّخِيلِ بَأْسًا .
قَالَ : هُمْ أَعَفُّ مِنْ ذَلِكَ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ ، وَهُوَ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَسْبِقَ ، فَلَيْسَ بِقِمَارٍ ، وَمَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ ، وَقَدْ أُمِنَ أَنْ يَسْبِقَ فَهُوَ قِمَارٌ } .
رَوَاهُ أَبُو

دَاوُد .
فَجَعْلُهُ قِمَارًا إذَا أُمِنَ أَنْ يَسْبِقَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ أَنْ يَغْنَمَ أَوْ يَغْرَمَ ، وَإِذَا لَمْ يُؤْمَنْ أَنْ يَسْبِقَ ، لَمْ يَكُنْ قِمَارًا ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَجُوزُ أَنْ يَخْلُوَ عَنْ ذَلِكَ .
وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ فَرَسُ الْمُحَلِّلِ مُكَافِئًا لِفَرَسَيْهِمَا ، أَوْ بَعِيرُهُ مُكَافِئًا لِبَعِيرَيْهِمَا ، وَرَمْيُهُ لِرَمِيَّيْهِمَا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُكَافِئًا ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ فَرَسَاهُمَا جَوَادَيْنِ وَفَرَسُهُ بَطِيئٌ ، فَهُوَ قِمَارٌ ؛ لِلْخَبَرِ ، وَلِأَنَّهُ مَأْمُونٌ سَبْقُهُ ، فَوُجُودُهُ كَعَدَمِهِ .
وَإِنْ كَانَ مُكَافِئًا لَهُمَا ، جَازَ .
فَإِنْ جَاءُوا كُلُّهُمْ الْغَايَةَ دَفْعَةً وَاحِدَةً ، أَحْرَزَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَقَ نَفْسِهِ ، وَلَا شَيْءَ لِلْمُحَلِّلِ ؛ لِأَنَّهُ لَا سَابِقَ فِيهِمَا ، وَكَذَلِكَ إنْ سَبَقَ الْمُسْتَبِقَانِ الْمُحَلِّلَ ، وَإِنْ سَبَقَ الْمُحَلِّلُ وَحْدَهُ ، أَحْرَزَ السَّبَقَيْنِ بِالِاتِّفَاقِ ، وَإِنْ سَبَقَ أَحَدُ الْمُسْتَبِقَيْنِ وَحْدَهُ ، أَحْرَزَ سَبَقَ نَفْسِهِ ، وَأَخَذَ سَبَقَ صَاحِبِهِ ، وَلَمْ يَأْخُذْ مِنْ الْمُحَلِّلِ شَيْئًا ، وَإِنْ سَبَقَ أَحَدُ الْمُسْتَبِقَيْنِ وَالْمُحَلِّلُ ، أَحْرَزَ السَّابِقُ مَالَ نَفْسِهِ ، وَيَكُونُ سَبَقُ الْمَسْبُوقِ بَيْنَ السَّابِقِ وَالْمُحَلِّلِ نِصْفَيْنِ ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُسْتَبِقُونَ اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ ، حَتَّى لَوْ كَانُوا مِائَةً ، وَبَيْنَهُمْ مُحَلِّلٌ لَا سَبَقَ مِنْهُ ، جَازَ .
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُحَلِّلُ جَمَاعَةً ، جَازَ ؛ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ وَالْجَمَاعَةِ .
وَهَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .

( 7914 ) فَصْلٌ : وَيُشْتَرَطُ فِي الْمُسَابَقَةِ بِالْحَيَوَانِ تَحْدِيدُ الْمَسَافَةِ ، وَأَنْ يَكُونَ لِابْتِدَاءِ عَدْوِهِمَا وَآخِرِهِ غَايَةٌ لَا يَخْتَلِفَانِ فِيهَا ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ مَعْرِفَةُ أَسْبَقِهِمَا ، وَلَا يُعْلَمُ ذَلِكَ إلَّا بِتَسَاوِيهِمَا فِي الْغَايَةِ ، وَلِأَنَّ أَحَدَهُمَا قَدْ يَكُونُ مُقَصِّرًا فِي أَوَّلِ عَدْوِهِ ، سَرِيعًا فِي انْتِهَائِهِ ، وَقَدْ يَكُونُ بِضِدِّ ذَلِكَ ، فَيَحْتَاجُ إلَى غَايَةٍ تَجْمَعُ حَالَيْهِ ، وَمِنْ الْخَيْلِ مَا هُوَ أَصْبَرُ ، وَالْقَارِحُ أَصْبَرُ مِنْ غَيْرِهِ .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ عُمَرَ ، { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبَّقَ بَيْنَ الْخَيْلِ ، وَفَضَّلَ الْقُرَّحَ فِي الْغَايَةِ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَسَبَّقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الْمُضَمَّرَةِ مِنْ الْحَفْيَاءِ إلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ ، وَذَلِكَ سِتَّةُ أَمْيَالٌ أَوْ سَبْعَةٌ ، وَبَيْنَ الَّتِي لَمْ تُضَمَّرْ مِنْ الثَّنِيَّةِ إلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ ، وَذَلِكَ مِيلٌ أَوْ نَحْوُهُ .
فَإِنْ اسْتَبَقَا بِغَيْرِ غَايَةٍ ، لِيُنْظَر أَيُّهُمَا يَقِفُ أَوَّلًا ، لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى أَنْ لَا يَقِفَ أَحَدُهُمَا حَتَّى يَنْقَطِعَ فَرَسُهُ ، وَيَتَعَذَّرَ الْإِشْهَادُ عَلَى السَّبْقِ فِيهِ .
وَيُشْتَرَطُ فِي الْمُسَابَقَةِ إرْسَالُ الْفَرَسَيْنِ أَوْ الْبَعِيرَيْنِ دَفْعَةً وَاحِدَةً ، فَإِنْ أَرْسَلَ أَحَدَهُمَا قَبْلَ الْآخَرِ ، لِيُعْلَمَ هَلْ يُدْرِكُهُ الْآخَرُ أَوْ لَا لَمْ يَجُزْ هَذَا فِي الْمُسَابَقَةِ بِعِوَضٍ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يُدْرِكُهُ مَعَ كَوْنِهِ أَسْرَعَ مِنْهُ ، لِبُعْدِ الْمَسَافَةِ بَيْنَهُمَا .
وَيَكُونُ عِنْد أَوَّلِ الْمَسَافَةِ مَنْ يُشَاهِدُ إرْسَالَهُمَا ، وَيُرَتِّبُهُمَا ، وَعِنْدَ الْغَايَةِ مَنْ يَضْبِطُ السَّابِقَ مِنْهُمَا ؛ لِئَلَّا يَخْتَلِفَا فِي ذَلِكَ .
وَيَحْصُلُ السَّبَقُ فِي الْخَيْلِ بِالرَّأْسِ إذَا تَمَاثَلَتْ الْأَعْنَاقُ ، فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي طُولِ الْعُنُقِ ، أَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي الْإِبِلِ ، اُعْتُبِرَ السَّبَقُ بِالْكَتِفِ ؛ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالرَّأْسِ مُتَعَذِّرٌ ، فَإِنَّ طَوِيلَ الْعُنُقِ قَدْ يَسْبِقُ رَأْسَهُ لِطُولِ عُنُقِهِ ، لَا

لِسُرْعَةِ عَدْوِهِ .
وَفِي الْإِبِلِ مَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ ، وَفِيهَا مَا يَمُدُّ عُنُقَهُ ، فَرُبَّمَا سَبَقَ رَأْسُهُ لِمَدِّ عُنُقِهِ ، لَا لِسَبْقِهِ ، فَلِذَلِكَ اعْتَبَرْنَا الْكَتِفَ ، فَإِنْ سَبَقَ رَأْسُ قَصِيرِ الْعُنُقِ فَهُوَ سَابِقٌ ؛ لِأَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ ذَلِكَ كَوْنَهُ سَابِقًا ، وَإِنْ سَبَقَ طَوِيلُ الْعُنُقِ بِأَكْثَرَ مِمَّا بَيْنَهُمَا فِي طُولِ الْعُنُقِ ، فَقَدْ سَبَقَ ، وَإِنْ كَانَ بِقَدْرِهِ لَمْ يَسْبِقْهُ ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ ، فَالْآخَرُ السَّابِقُ .
وَنَحْوُ هَذَا كُلُّهُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ الثَّوْرِيُّ : إذَا سَبَقَ أَحَدُهُمَا بِالْأُذُنِ كَانَ سَابِقًا .
وَلَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا قَدْ يَرْفَعُ رَأْسَهُ وَيَمُدُّ الْآخَرُ عُنُقَهُ ، فَيَكُونُ سَابِقًا بِأُذُنِهِ لِذَلِكَ لَا لِسَبْقِهِ .
وَإِنْ شَرَطَا السَّبْقَ بِأَقْدَامٍ مَعْلُومَةٍ ، كَثَلَاثَةٍ أَوْ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلِّ ، لَمْ يَصِحّ .
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ : يَصِحُّ ، وَيَتَخَاطَّانِ ذَلِكَ ، كَمَا فِي الرَّمْيِ .
وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يَنْضَبِطُ ، وَلَا يَقِفُ الْفَرَسَانِ عَنَدَ الْغَايَةِ ، بِحَيْثُ يُعْرَفُ مِسَاحَةُ مَا بَيْنَهُمَا .
وَقَدْ رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَلِيٍّ قَدْ جَعَلْت لَك هَذِهِ السَّبْقَةَ بَيْنَ النَّاسِ } .
فَخَرَجَ عَلِيٌّ فَدَعَا سُرَاقَةَ بْنَ مَالِكٍ ، فَقَالَ : يَا سُرَاقَةُ ، إنِّي قَدْ جَعَلْت إلَيْك مَا جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُنُقِي مِنْ هَذِهِ السَّبْقَةِ فِي عُنُقِك ، فَإِذَا أَتَيْت الْمِيطَانَ - قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمِيطَانُ مُرْسِلُهَا مِنْ الْغَايَةِ - فَصُفَّ الْخَيْلَ ، ثُمَّ نَادِ : هَلْ مِنْ مُصْلِحٍ لَلِجَامٍ ، أَوْ حَامِلٍ لِغُلَامٍ ، أَوْ طَارِحٍ لِجَلٍّ .
فَإِذَا لَمْ يُجِبْك أَحَدٌ ، فَكَبِّرْ ثَلَاثًا ، ثُمَّ خَلِّهَا عِنْدَ الثَّالِثَةِ ، فَيُسْعِدُ اللَّهُ بِسَبَقِهِ مَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ .
وَكَانَ عَلِيٌّ يَقْعُدُ عَلَى مُنْتَهَى الْغَايَةِ يَخُطُّ خَطًّا ، وَيُقِيمُ رَجُلَيْنِ مُتَقَابِلَيْنِ عِنْدَ طَرَفِ

الْخَطِّ طَرَفَيْهِ بَيْنَ إبْهَامَيْ أَرْجُلِهِمَا ، وَتَمُرُّ الْخَيْلُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ ، وَيَقُولُ لَهُمَا : إذَا خَرَجَ أَحَدُ الْفَرَسَيْنِ عَلَى صَاحِبِهِ بِطَرَفِ أُذُنَيْهِ ، أَوْ أُذُنٍ ، أَوْ عَذَارٍ فَاجْعَلَا السَّبْقَةَ لَهُ ، فَإِنْ شَكَكْتُمَا ، فَاجْعَلُوا سَبَقَهُمَا نِصْفَيْنِ ، فَإِذَا قَرَنْتُمْ ثِنْتَيْنِ ، فَاجْعَلَا الْغَايَةَ مِنْ غَايَةِ أَصْغَرِ الثِّنْتَيْنِ ، وَلَا جَلَبَ وَلَا جَنَبَ وَلَا شِغَارَ فِي الْإِسْلَامِ .
وَهَذَا الْأَدَبُ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ، فِي ابْتِدَاءِ الْإِرْسَالِ وَانْتِهَاءِ الْغَايَةِ ، مِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِي هَذَا ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَضِيَّةٍ أَمَرَهُ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَوَّضَهَا إلَيْهِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ تُتَّبَعَ ، وَيُعْمَلَ بِهَا .

( 7915 ) فَصْلٌ : وَيُشْتَرَطُ فِي الرِّهَانِ أَنْ تَكُونَ الدَّابَّتَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ ، فَإِنْ كَانَتَا مِنْ جِنْسَيْنِ ، كَالْفَرَسِ وَالْبَعِيرِ ، لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ الْبَعِيرَ لَا يَكَادُ يَسْبِقُ الْفَرَسَ ، فَلَا يَحْصُلُ الْغَرَضُ مِنْ هَذِهِ الْمُسَابَقَةِ .
وَإِنْ كَانَتَا مِنْ نَوْعَيْنِ ، كَالْعَرَبِيِّ وَالْبِرْذَوْنِ ، أَوْ الْبُخْتِيِّ وَالْعِرَابِيِّ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، لَا يَصِحُّ .
ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ ؛ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَهُمَا فِي الْجَرْيِ مَعْلُومٌ بِحُكْمِ الْعَادَةِ ، فَأَشْبَهَا الْجِنْسَيْنِ .
وَالثَّانِي : يَصِحُّ ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ ، وَقَدْ يَسْبِقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْآخَرَ ، وَالضَّابِطُ الْجِنْسُ وَقَدْ وُجِدَ ، وَيَكْفِي فِي الْمَظِنَّةِ احْتِمَالُ الْحِكْمَةِ ، وَلَوْ عَلَى بُعْدٍ .

( 7916 ) فُصُولٌ فِي الْمُنَاضَلَةِ : وَهِيَ الْمُسَابَقَةُ فِي الرَّمْيِ بِالسِّهَامِ ، وَالْمُنَاضَلَةُ ، مَصْدَرُ نَاضَلْته نِضَالًا وَمُنَاضَلَةً ، وَسُمِّيَ الرَّمْيُ نِضَالًا ؛ لِأَنَّ السَّهْمَ التَّامَّ يُسَمَّى نَضْلًا ، فَالرَّمْيُ بِهِ عَمَلٌ بِالنَّضْلِ ، فَسُمِّيَ نِضَالًا وَمُنَاضَلَةً ، مِثْلَ قَاتَلْتُهُ قِتَالًا وَمُقَاتَلَةً ، وَجَادَلْته جِدَالًا وَمُجَادَلَةً .
وَيُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهِ ثَمَانِيَةُ شُرُوطٍ ؛ أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ عَدَدُ ، الرَّشْقِ مَعْلُومًا ، وَالرِّشْقُ ؛ بِكَسْرِ الرَّاءِ : عَدَدُ الرَّمْيِ .
وَأَهْلُ اللُّغَةِ يَقُولُونَ : هُوَ عِبَارَةٌ عَمَّا بَيْنَ الْعِشْرِينَ وَالثَّلَاثِينَ .
وَالرَّشْقُ ؛ بِفَتْحِ الرَّاءِ الرَّمْيُ نَفْسُهُ ، مَصْدَرُ رَشَقْتُهُ رَشْقًا .
أَيْ رَمَيْت رَمْيًا .
وَإِنَّمَا اُشْتُرِطَ عِلْمُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَجْهُولًا لَأَفْضَى إلَى الْخِلَافِ ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يُرِيدُ الْقَطْعَ ، وَالْآخَرُ يُرِيدُ الزِّيَادَةَ ، فَيَخْتَلِفَانِ .
الثَّانِي ، أَنْ يَكُونَ عَدَدُ الْإِصَابَةِ مَعْلُومًا ، فَيَقُولَانِ : الرِّشْقُ عِشْرُونَ ، وَالْإِصَابَةُ خَمْسَةٌ أَوْ سِتَّةٌ ، أَوْ مَا يَتَّفِقَانِ عَلَيْهِ مِنْهَا ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُ إصَابَةٍ نَادِرَةٍ ، كَإِصَابَةِ جَمِيعِ الرَّشْقِ أَوْ إصَابَةِ تِسْعَةِ أَعْشَارِهِ ، وَنَحْوِ هَذَا ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ هَذَا لَا يُوجَدُ ، فَيَفُوتُ الْغَرَضُ .
الثَّالِثُ ، اسْتِوَاؤُهُمَا فِي عَدَدِ الرَّشْقِ وَالْإِصَابَةِ ، وَصِفَتِهَا ، وَسَائِرِ أَحْوَالِ الرَّمْيِ .
فَإِنْ جَعَلَا رَشْقَ أَحَدِهِمَا عَشَرَةً ، وَالْآخَرِ عِشْرِينَ ، أَوْ شَرَطَا أَنْ يُصِيبَ أَحَدُهُمَا خَمْسَةً ، وَالْآخَرُ ثَلَاثَةً ، أَوْ شَرَطَا إصَابَةَ أَحَدِهِمَا خَوَاسِقَ وَالْآخَرِ خَوَاصِلَ ، أَوْ شَرَطَا أَنْ يَحُطَّ أَحَدُهُمَا مِنْ إصَابَتِهِ سَهْمَيْنِ ، أَوْ يَحُطَّ سَهْمَيْنِ مِنْ إصَابَتِهِ بِسَهْمٍ مِنْ إصَابَةِ صَاحِبِهِ ، أَوْ شَرَطَا أَنْ يَرْمِيَ أَحَدُهُمَا مِنْ بُعْدٍ ، وَالْآخَرُ مِنْ قُرْبٍ ، أَوْ أَنْ يَرْمِيَ أَحَدُهُمَا وَبَيْنَ أَصَابِعِهِ سَهْمٌ ، وَالْآخَرُ بَيْنَ أَصَابِعِهِ سَهْمَانِ ، أَوْ أَنْ يَرْمِيَ أَحَدُهُمَا وَعَلَى رَأْسِهِ

شَيْءٌ وَالْآخَرُ خَالٍ عَنْ شَاغِلٍ ، أَوْ أَنْ يَحُطَّ عَنْ أَحَدِهِمَا وَاحِدًا مِنْ خَطَئِهِ لَا لَهُ وَلَا عَلَيْهِ ، وَأَشْبَاهِ هَذَا مِمَّا تَفُوتُ بِهِ الْمُسَاوَاةُ ، لَمْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّ مَوْضُوعَهَا عَلَى الْمُسَاوَاةِ ، وَالْغَرَضُ مَعْرِفَةُ الْحِذْقِ ، وَزِيَادَةِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ فِيهِ ، وَمَعَ التَّفَاضُلِ لَا يَحْصُلُ ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا أَصَابَ أَحَدُهُمَا لِكَثْرَةِ رَمْيِهِ لَا لِحِذْقِهِ ، فَاعْتُبِرَتْ الْمُسَاوَاةُ ، كَالْمُسَابَقَةِ عَلَى الْحَيَوَانِ .
الرَّابِعُ ، أَنْ يَصِفَا الْإِصَابَةَ ، فَيَقُولَانِ : خَوَاصِلُ .
وَهُوَ الْمُصِيبُ لِلْغَرَضِ كَيْفَمَا كَانَ .
قَالَ الْأَزْهَرِيُّ : يُقَالُ خَصَلْت مُنَاضِلِي خَصْلَةً وَخُصَلًا .
وَيُسَمَّى ذَلِكَ الْقَرَعَ .
وَالْقَرْطَسَةَ ، يُقَالُ : قَرْطَسَ .
إذَا أَصَابَ .
أَوْ حَوَابِي .
وَهُوَ مَا وَقَعَ بَيْنَ يَدَيْ الْغَرَضِ ، ثُمَّ وَثَبَ إلَيْهِ .
وَمِنْهُ يُقَالُ : حَبَا الصَّبِيُّ .
أَوْ خَوَاصِرُ .
وَهُوَ مَا وَقَعَ فِي أَحَدِ جَانِبَيْ الْغَرَضِ ، وَمِنْهُ قِيلَ : الْخَاصِرَةُ .
لِأَنَّهَا فِي جَانِبِ الْإِنْسَانِ .
أَوْ خَوَارِقُ .
وَهُوَ مَا خَرَقَ الْغَرَضَ ، ثُمَّ وَقَعَ بَيْنَ يَدَيْهِ .
أَوْ خَوَاسِقُ وَهُوَ مَا خَرَقَ الْغَرَضَ ، وَثَبَتَ فِيهِ .
أَوْ مَوَارِقُ .
وَهُوَ مَا أَنْفَذَ الْغَرَضَ ، وَوَقَعَ مِنْ وَرَائِهِ .
أَوْ خَوَازِمُ .
وَهُوَ مَا خَزَمَ جَانِبَ الْغَرَضِ .
وَإِنْ شَرَطَا الْخَوَاسِقَ وَالْحَوَابِيَ مَعًا ، صَحَّ .
الْخَامِسُ ، قَدْرُ الْغَرَضِ ، وَالْغَرَضُ هُوَ مَا يُقْصَدُ إصَابَتُهُ مِنْ قِرْطَاسٍ أَوْ وَرَقٍ أَوْ جِلْدٍ أَوْ خَشَبٍ أَوْ قَرْعٍ أَوْ غَيْرِهِ ، وَيُسَمَّى غَرَضًا ؛ لِأَنَّهُ يُقْصَدُ ، وَيُسَمَّى شَارَةً وَشَنًّا .
قَالَ الْأَزْهَرِيُّ : مَا نُصِبَ فِي الْهَدَفِ فَهُوَ الْقِرْطَاسُ ، وَمَا نُصِبَ فِي الْهَوَاءِ فَهُوَ الْغَرَضُ .
وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَدْرُهُ مَعْلُومًا بِالْمُشَاهَدَةِ ، أَوْ بِتَقْدِيرِهِ بِشِبْرٍ أَوْ شِبْرَيْنِ ، بِحَسَبِ الِاتِّفَاقِ ، فَإِنَّ الْإِصَابَةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ سَعَتِهِ وَضِيقِهِ .
السَّادِسُ .
مَعْرِفَةُ الْمَسَافَةِ ؛ إمَّا بِالْمُشَاهَدَةِ ، أَوْ بِالذُّرْعَانِ ، فَيَقُولُ : مِائَةَ

ذِرَاعٍ ؛ أَوْ مِائَتَيْ ذِرَاعٍ ؛ لِأَنَّ الْإِصَابَةَ تَخْتَلِفُ بِقُرْبِهَا وَبُعْدِهَا ، وَمَهْمَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ جَازَ ، إلَّا أَنْ يَجْعَلَا مَسَافَةً بَعِيدَةً تَتَعَذَّرُ الْإِصَابَةُ فِي مِثْلِهَا ، وَهُوَ مَا زَادَ عَلَى ثَلَاثِمِائَةِ ذِرَاعٍ فَلَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ يَفُوتُ بِذَلِكَ ، وَقَدْ قِيلَ : إنَّهُ مَا رَمَى إلَى أَرْبَعِمِائَةِ ذِرَاعٍ إلَّا عُقْبَهُ بْنُ عَامِرٍ الْجُهَنِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
السَّابِعُ ، تَعْيِينُ الرُّمَاةِ ، فَلَا يَصِحُّ مَعَ الْإِبْهَامِ ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ مَعْرِفَةٌ حِذْقِ الرَّامِي بِعَيْنِهِ ، لَا مَعْرِفَةُ حِذْقِ رَامِ فِي الْجُمْلَةِ .
وَلَوْ عَقَدَ اثْنَانِ نِضَالًا عَلَى أَرْبَعٍ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَلَاثَةٌ ، لَمْ يَجُزْ لِذَلِكَ .
وَلَا يُشْتَرَطُ تَعْيِينُ الْقَوْسِ وَالسِّهَامِ ، وَلَوْ عَيَّنَهَا لَمْ تَتَعَيَّنْ ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ مَعْرِفَةُ الْحِذْقِ ، وَهَذَا لَا يَخْتَلِفُ إلَّا بِالرَّامِي ، لَا بِاخْتِلَافِ الْقَوْسِ وَالسِّهَامِ .
وَفِي الرِّهَانِ يُعْتَبَرُ تَعْيِينُ الْحَيَوَانِ الَّذِي يُسَابَقُ بِهِ ، وَلَا يُعْتَبَرُ تَعْيِينُ الرَّاكِبِ ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ مَعْرِفَةُ عَدْوِ الْفَرَسِ ، لَا حِذْقِ الرَّاكِبِ .
وَكُلُّ مَا يُعْتَبَرُ تَعْيِينُهُ ، إذَا تَلِفَ انْفَسَخَ الْعَقْدُ ، وَلَمْ يَقُمْ غَيْرُهُ مَقَامَهُ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ تَعَلَّقَ بِعَيْنِهِ ، فَانْفَسَخَ بِتَلَفِ الْعَيْنِ ، وَلِأَنَّ الْغَرَضَ مَعْرِفَةُ حِذْقِ الرَّامِي ، أَوْ عَدْوِ الْفَرَسِ ، وَقَدْ فَاتَتْ مَعْرِفَةُ ذَلِكَ بِمَوْتِهِ ، وَلَا يُعْرَفُ حِذْقُهُ مِنْ غَيْرِهِ .
وَمَا لَا يَتَعَيَّنُ ، يَجُوزُ إبْدَالُهُ لِعُذْرٍ وَغَيْرِهِ ، وَإِذَا تَلِفَ ، قَامَ غَيْرُهُ مَقَامَهُ .
فَإِنْ شَرَطَا أَنْ لَا يَرْمِيَ بِغَيْرِ هَذَا الْقَوْسِ ، وَلَا بِغَيْرِ هَذَا السَّهْمِ ، أَوْ لَا يَرْكَبَ غَيْرُ هَذَا الرَّاكِبِ فَهَذِهِ شُرُوطٌ فَاسِدَةٌ ؛ لِأَنَّهَا تُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ ، أَشْبَهَتْ مَا إذَا شَرْطَ إصَابَةً بِإِصَابَتَيْنِ .
الثَّامِنُ ، أَنْ تَكُونَ الْمُسَابَقَةُ فِي الْإِصَابَةِ .
وَلَوْ قَالَا : السَّبَقُ لِأَبْعَدِنَا رَمْيًا ، لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ الرَّمْيِ

الْإِصَابَةُ .
لَا بُعْدُ الْمَسَافَةِ ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الرَّمْيِ إمَّا قَتْلُ الْعَدُوِّ ، أَوْ جَرْحُهُ ، أَوْ الصَّيْدُ ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ ، وَكُلُّ هَذَا إنَّمَا يَحْصُلُ مِنْ الْإِصَابَةِ ، لَا مِنْ الْإِبْعَادِ .

( 7917 ) فَصْلٌ : وَالْمُنَاضَلَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ ؛ أَحَدُهَا ، تُسَمَّى الْمُبَادَرَةَ ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَا : مَنْ سَبَقَ إلَى خَمْسِ إصَابَاتٍ مِنْ عِشْرِينَ رَمْيَةً فَهُوَ السَّابِقُ .
فَأَيُّهُمَا سَبَقَ إلَيْهَا مَعَ تَسَاوِيهِمَا فِي الرَّشْقِ ، فَقَدْ سَبَقَ .
فَإِذَا رَمَيَا عَشَرَةً عَشَرَةً ، فَأَصَابَ أَحَدُهُمَا خَمْسًا ، وَلَمْ يُصِبْ الْآخَرُ خَمْسًا ، فَالْمُصِيبُ خَمْسًا هُوَ السَّابِقُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ سَبَقَ إلَى خَمْسٍ ، وَسَوَاءٌ أَصَابَ الْآخَرُ أَرْبَعًا ، أَوْ مَا دُونَهَا ، أَوْ لَمْ يُصِبْ شَيْئًا ، وَلَا حَاجَةَ إلَى إتْمَامِ الرَّشْقِ ؛ لِأَنَّ السَّبْقَ قَدْ حَصَلَ بِسَبْقِهِ إلَى مَا شَرَطَا السَّبْقَ إلَيْهِ ، وَإِنْ أَصَابَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْعَشْرِ خَمْسًا ، فَلَا سَابِقَ فِيهِمَا وَلَا يُكْمِلَانِ الرَّشْقَ ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الْإِصَابَةِ الْمَشْرُوطَةِ قَدْ حَصَلَتْ ، وَاسْتَوَيَا فِيهَا ، فَإِنْ رَمَى أَحَدُهُمَا عَشْرًا فَأَصَابَ خَمْسًا ، وَرَمَى الْآخَرُ تِسْعًا فَأَصَابَ أَرْبَعًا ، لَمْ يُحْكَمْ بِالسَّبْقِ وَلَا بِعَدَمِهِ ، حَتَّى يَرْمِيَ الْعَاشِرَ ، فَإِنْ أَخْطَأَ بِهِ ، فَقَدْ سَبَقَ الْأَوَّلُ ، وَإِنْ أَصَابَ بِهِ ، فَلَا سَابِقَ فِيهِمَا .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَصَابَ مِنْ التِّسْعَةِ إلَّا ثَلَاثًا ، فَقَدْ سَبَقَهُ الْأَوَّلُ ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى رَمْيِ الْعَاشِرِ ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا يُحْتَمَلُ أَنَّهُ يُصِيبُ بِهِ ، وَلَا يُخْرِجُهُ ذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ مَسْبُوقًا .
الضَّرْبُ الثَّانِي ، أَنْ يَقُولَ : أَيُّنَا فَضَلَ صَاحِبَهُ بِإِصَابَةٍ أَوْ إصَابَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ مِنْ عِشْرِينَ رَمْيَةً ، فَقَدْ سَبَقَ .
وَيُسَمَّى مُفَاضَلَةً وَمُحَاطَّةً ؛ لِأَنَّ مَا تَسَاوَيَا فِيهِ مِنْ الْإِصَابَةِ مَحْطُوطٌ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ .
وَيَلْزَمُ إكْمَالُ الرَّشْقِ ؛ إذَا كَانَ فِي إتْمَامِهِ فَائِدَةٌ ، فَإِذَا قَالَا : أَيُّنَا فَضَلَ صَاحِبَهُ بِثَلَاثٍ ، فَهُوَ سَابِقٌ .
فَرَمَيَا اثْنَتَيْ عَشَرَةَ رَمْيَةً ، فَأَصَابَهَا أَحَدُهُمَا ، وَأَخْطَأَهَا الْآخَرُ كُلَّهَا ، لَمْ يَلْزَمْ إتْمَامُ الرَّشْقِ ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا يُحْتَمَلُ أَنْ يُصِيبَ الْآخَرُ الثَّمَانِيَ الْبَاقِيَةَ ،

يَحُطُّهَا الْأَوَّلُ ، وَلَا يَخْرُجُ الْأَوَّلُ بِهَذَا عَنْ كَوْنِهِ سَابِقًا .
وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ إنَّمَا أَصَابَ مِنْ الِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ عَشْرًا ، لَزِمَهُمَا أَنْ يَرْمِيَا الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ ، فَإِنْ أَصَابَاهَا ، أَوْ أَخْطَآ ، أَوْ أَصَابَهَا الْأَوَّلُ وَحْدَهُ .
فَقَدْ سَبَقَ ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى إتْمَامِ الرَّشْقِ ، فَإِنْ أَصَابَهَا الْآخَرُ ، وَأَخْطَأَهَا الْأَوَّلُ ، فَعَلَيْهِمَا أَنْ يَرْمِيَا الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ ، وَالْحَكَمُ فِيهَا وَفِيمَا بَعْدَهَا كَالْحُكْمِ فِي الثَّالِثَةِ عَشْرَةَ ، وَأَنَّهُ مَتَى أَصَابَاهَا ، أَوْ أَخْطَآ ، أَوْ أَصَابَهَا الْأَوَّلُ ، فَقَدْ سَبَقَ ، وَلَا يَرْمِيَانِ مَا بَعْدَهَا .
وَإِنْ أَصَابَهَا الْآخَرُ وَحْدَهُ ، رَمَيَا مَا بَعْدَهَا .
وَهَكَذَا كُلُّ مَوْضِعٍ كَانَ فِي إتْمَامِ ، الرَّشْقِ فَائِدَةٌ لِأَحَدِهِمَا لَزِمَ إتْمَامُهُ ، وَإِنْ يَئِسَ مِنْ الْفَائِدَةِ ، لَمْ يَلْزَمْ إتْمَامُهُ ، فَإِذَا بَقِيَ مِنْ الْعَدَدِ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَسْبِقَ أَحَدُهُمَا بِهِ صَاحِبَهُ ، أَوْ يُسْقِطَ أَحَدُهُمَا بِهِ سَبْقَ صَاحِبِهِ ، لَزِمَ الْإِتْمَامُ ، وَإِلَّا فَلَا ، فَإِذَا كَانَ السَّبْقُ يَحْصُلُ بِثَلَاثِ إصَابَاتٍ مِنْ عِشْرِينَ ، فَرَمَيَا ثَمَانِي عَشْرَةَ ، فَأَخْطَآهَا ، أَوْ أَصَابَاهَا ، أَوْ تَسَاوَيَا فِي الْإِصَابَةِ فِيهَا ، لَمْ يَلْزَمْ إتْمَامُ الرَّشْقِ لِأَنَّ ؛ أَكْثَرَ مَا يُحْتَمَلُ أَنْ يُصِيبَ أَحَدُهُمَا هَاتَيْنِ الرَّمْيَتَيْنِ ، وَيُخْطِئَهُمَا الْآخَرُ ، وَلَا يَحْصُلُ السَّبْقُ بِذَلِكَ .
وَكَذَلِكَ إنْ فَضَلَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ بِخَمْسِ إصَابَاتٍ فَمَا زَادَ ، لَمْ يَلْزَمْ الْإِتْمَامُ ؛ لِأَنَّ إصَابَةَ الْآخَرِ بِالسَّهْمَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ لَا يُخْرِجُ الْآخَرَ عَنْ كَوْنِهِ فَاضِلًا بِثَلَاثِ إصَابَاتٍ ، وَإِنْ لَمْ يَفْضُلْهُ إلَّا بِأَرْبَعٍ ، رَمَيَا السَّهْمَ الْآخَرَ ، فَإِنْ أَصَابَهُ الْمَفْضُولُ وَحْدَهُ ، فَعَلَيْهِمَا رَمْيُ الْآخَرِ فَإِنْ أَصَابَهُ الْمَفْضُولُ أَيْضًا ، سَقَطَ سَبْقُ الْأَوَّلِ ، وَإِنْ أَخْطَآ فِي أَحَدِ السَّهْمَيْنِ ، أَوْ أَصَابَ الْأَوَّلُ فِي أَحَدِهِمَا ، فَهُوَ سَابِقٌ .
فَصْلٌ : الثَّالِثُ أَنْ يَقُولَا : أَيُّنَا

أَصَابَ خَمْسًا مِنْ عِشْرِينَ ، فَهُوَ سَابِقٌ .
فَمَتَى أَصَابَ أَحَدُهُمَا خَمْسًا مِنْ الْعِشْرِينَ ، وَلَمْ يُصِبْهَا الْآخَرُ ، فَالْأَوَّلُ سَابِقٌ ، وَإِنْ أَصَابَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسًا ، أَوْ لَمْ يُصِبْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا خَمْسًا ، فَلَا سَابِقَ فِيهِمَا .
وَهَذِهِ فِي مَعْنَى الْمُحَاطَّةِ ، فِي أَنَّهُ يَلْزَمُ إتْمَامُ الرَّشْقِ مَا كَانَ فِي إِتْمَامِهِ فَائِدَة ، فَإِذَا خَلَا عَنْ الْفَائِدَةِ ، لَمْ يَلْزَمْ إتْمَامُهُ .
وَمَتَى أَصَابَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسًا ، لَمْ يَلْزَمْ إتْمَامُهُ ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمَا سَابِقٌ .
إنْ رَمَيَا سِتَّ عَشْرَةَ رَمْيَةً ، وَلَمْ يُصِبْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا شَيْئًا ، لَمْ يَلْزَمْ إتْمَامُهُ ، وَلَا سَابِقَ فِيهِمَا ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا يُحْتَمَلُ أَنْ يُصِيبَ أَحَدُهُمَا الْأَرْبَعَةَ كُلَّهَا ، وَلَا يَحْصُلُ السَّبْقُ بِذَلِكَ .
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا ، فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ الرَّمْيِ ، هَلْ هُوَ مُبَادَرَةٌ أَوْ مُحَاطَّةٌ أَوْ مُفَاضَلَةٌ ؟ لِأَنَّ غَرَضَ الرُّمَاةِ يَخْتَلِفُ ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ تَكْثُرُ إصَابَتُهُ فِي الِابْتِدَاءِ دُونَ الِانْتِهَاءِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ بِالْعَكْسِ ، فَوَجَبَ بَيَانُ ذَلِكَ ، لِيُعْلَمَ مَا دَخَلَ فِيهِ .
وَظَاهِرُ كَلَامِ الْقَاضِي ، أَنَّهُ لَا يُحْتَاجُ إلَى اشْتِرَاطِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ مُقْتَضَى النِّضَالِ الْمُبَادَرَةُ ، وَأَنَّ مَنْ بَادَرَ إلَى الْإِصَابَةِ فَهُوَ السَّابِقُ ؛ فَإِنَّهُ إذَا شُرِطَ أَنَّ السَّبْقَ لِمَنْ أَصَابَ خَمْسَةً مِنْ عِشْرِينَ ، فَسَبَقَ إلَيْهَا وَاحِدٌ ، فَقَدْ وُجِدَ الشَّرْطُ .
وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ ، كَهَذَيْنِ .

( 7919 ) فَصْلٌ فَإِنْ شَرَطَا إصَابَةَ مَوْضِعٍ مِنْ الْهَدَفِ ، عَلَى أَنْ يَسْقُطَ مَا قَرُبَ مِنْ إصَابَةِ أَحَدِهِمَا مَا بَعُدَ مِنْ إصَابَةِ الْآخَرِ ، فَفَعَلَ ، ثُمَّ فَضَلَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ بِمَا شَرَطَاهُ ، كَانَ سَابِقًا .
ذَكَرَهُ الْقَاضِي .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ هَذَا نَوْعٌ مِنْ الْمُحَاطَّةِ ، فَإِذَا أَصَابَ أَحَدُهُمَا مَوْضِعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغَرَضِ شِبْرٌ ، وَأَصَابَ الْآخَرُ مَوْضِعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغَرَضِ أَقَلُّ مِنْ شِبْرٍ ، أَسْقَطَ الْأَوَّلَ ، وَأَنْ أَصَابَ الْأَوَّلُ الْغَرَضَ ، أَسْقَطَ الثَّانِيَ ، فَإِنْ أَصَابَ الثَّانِي الدَّائِرَةَ الَّتِي فِي الْغَرَضِ ، لَمْ يُسْقِطْ بِهِ الْأَوَّلَ ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ كُلَّهُ مَوْضِعٌ لِلْإِصَابَةِ ، فَلَا يَفْضُلُ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ إذَا أَصَابَاهُ جَمِيعًا إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَا ذَلِكَ .
وَإِنْ شَرَطَا إنْ يَحْسِبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَاسِقَهُ بِإِصَابَتَيْنِ ، جَازَ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَمْ يَفْضُلْ صَاحِبَهُ فِي شَيْءٍ ، فَقَدْ اسْتَوَيَا .

( 7920 ) فَصْلٌ : وَالسُّنَّةُ أَنْ يَكُونَ لَهُمَا غَرَضَانِ يَرْمِيَانِ أَحَدَهُمَا ، ثُمَّ يَمْضِيَانِ إلَيْهِ ، فَيَأْخُذَانِ السِّهَامَ يَرْمِيَانِ الْآخَرَ ؛ لِأَنَّ هَذَا كَانَ فِعْلَ أَصْحَابِ رَسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : مَا بَيْنَ الْغَرَضَيْنِ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ ، الْجَنَّةِ } وَقَالَ إبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ : رَأَيْت حُذَيْفَةَ يَشْتَدُّ بَيْنَ الْهَدَفَيْنِ يَقُولُ : أَنَا بِهَا ، أَنَا بِهَا .
فِي قَمِيصٍ .
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ مِثْلُ ذَلِكَ .
وَالْهَدَفُ مَا يُنْصَبُ الْغَرَضُ عَلَيْهِ ؛ إمَّا تُرَابٌ مَجْمُوعٌ ، وَإِمَّا حَائِطٌ .
وَيُرْوَى عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَشْتَدُّونَ بَيْنَ الْأَغْرَاضِ ، يَضْحَكُ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ فَإِذَا جَاءَ اللَّيْلُ كَانُوا رُهْبَانًا .
فَإِنْ جَعَلُوا غَرَضًا وَاحِدًا ، جَازَ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ بِهِ ، وَهُوَ عَادَةُ أَهْلِ عَصْرِنَا .
وَلَا بُدَّ فِي الْمُنَاضَلَةِ أَنْ يَبْتَدِئَ أَحَدُهُمَا بِالرَّمْيِ ، لِأَنَّهُمَا لَوْ رَمَيَا مَعًا ، أَفْضَى إلَى الِاخْتِلَافِ ، وَلَمْ يُعْرَفْ الْمُصِيبُ مِنْهُمَا .
فَإِنْ كَانَ الْمُخْرِجُ أَجْنَبِيًّا ، قُدِّمَ مَنْ يَخْتَارُهُ مِنْهُمَا ، فَإِنْ لَمْ يَخْتَرْ وَتَشَاحَّا ، أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا ، وَأَيُّهُمَا كَانَ أَحَقَّ بِالتَّقْدِيمِ فَبَدَرَهُ الْآخَرُ فَرَمَى ، لَمْ يُعْتَدَّ لَهُ بِسَهْمِهِ ، أَصَابَ أَوْ أَخْطَأَ .
وَإِذَا بَدَأَ أَحَدُهُمَا فِي وَجْهٍ ، بَدَأَ الْآخَرُ فِي الثَّانِي ، تَعْدِيلًا بَيْنَهُمَا .
وَإِنْ شَرَطَا الْبُدَاءَةَ لِأَحَدِهِمَا فِي كُلِّ الْوُجُوهِ ، لَمْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّ مَوْضُوعَ الْمُنَاضَلَةِ عَلَى الْمُسَاوَاةِ ، وَهَذَا تَفَاضُلٌ ، فَإِنْ فُعِلَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ بِاتِّفَاقٍ مِنْهُمَا ، جَازَ ؛ لِأَنَّ الْبُدَاءَةَ لَا أَثَرَ لَهَا فِي الْإِصَابَةِ ، وَلَا فِي تَجْوِيدِ الرَّمْيِ ، وَإِنْ شَرَطَا أَنْ يَبْدَأَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ مُتَوَالِيَيْنِ ، جَازَ ؛ لِتَسَاوِيهِمَا .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اشْتِرَاطُ الْبُدَاءَةِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ

ذَكَرْنَا غَيْرَ لَازِمٍ ، وَلَا يُؤَثِّرُ فِي الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّهُ لَا أَثَرَ لَهُ فِي تَجْوِيدِ رَمْيٍ ، وَلَا كَثْرَةِ إصَابَةٍ ، وَكَثِيرٌ مِنْ الرُّمَاةِ يَخْتَارُ التَّأَخُّرَ عَلَى الْبِدَايَةِ ، فَيَكُونُ وُجُودُ هَذَا الشَّرْطِ كَعَدَمِهِ .
إذَا رَمَى الْبَادِئُ بِسَهْمٍ ، رَمَى الثَّانِي بِسَهْمٍ كَذَلِكَ ، حَتَّى يَقْضِيَا رَمْيَهُمَا ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَ الْمُنَاضَلَةِ يَقْتَضِي الْمُرَاسَلَةَ ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ إلَى التَّسَاوِي ، وَأَنْجَزُ لِلرَّمْيِ ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يُصْلِحُ قَوْسَهُ وَيَعْدِلُ سَهْمَهُ ، حَتَّى يَرْمِيَ الْآخَرُ .
وَإِنْ رَمَيَا بِسَهْمَيْنِ سَهْمَيْنِ ، فَحَسَنٌ ، وَهُوَ الْعَادَةُ بَيْنَ الرُّمَاةِ فِيمَا رَأَيْنَا .
وَإِنْ اشْتَرَطَا أَنْ يَرْمِيَ أَحَدُهُمَا رَشْقًا ، ثُمَّ يَرْمِيَ الْآخَرُ ، أَوْ يَرْمِيَ أَحَدُهُمَا عَدَدًا ، ثُمَّ يَرْمِيَ الْآخَرُ مِثْلَهُ ، جَازَ ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يُؤَثِّرُ فِي مَقْصُودِ الْمُنَاضَلَةِ ، وَإِنْ خَالَفَ مُقْتَضَى الْإِطْلَاقِ ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يُشْتَرَطَ فِي الْبَيْعِ مَا لَا يَقْتَضِيهِ الْإِطْلَاقُ مِنْ النُّقُودِ وَالْخِيَارِ وَالْأَجَلِ لِمَا كَانَ غَيْرَ مَانِعٍ مِنْ الْمَقْصُودِ .

( 7921 ) فَصْلٌ : وَإِنْ شَرَطَا أَنْ يَرْمِيَا أَرْشَاقًا كَثِيرَةً ، جَازَ ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَازَ عَلَى الْقَلِيلِ ، جَازَ عَلَى الْكَثِيرِ ، وَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً .
ثُمَّ إنْ شَرَطَا أَنْ يَرْمِيَا مِنْهَا كُلَّ يَوْمٍ قَدْرًا اتَّفَقَا عَلَيْهِ ، جَازَ ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ فِي هَذَا صَحِيحٌ ، فَإِنَّهُمَا أَوْ أَحَدَهُمَا قَدْ يَضْعُفُ عَنْ الرَّمْيِ كُلِّهِ مَعَ حِذْقِهِ .
وَإِنْ أَطْلَقَا الْعَقْدَ ، جَازَ وَحُمِلَ عَلَى التَّعْجِيلِ وَالْحُلُولِ ، كَسَائِرِ الْعُقُودِ ، فَيَرْمِيَانِ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إلَى آخِرِهِ ، إلَّا أَنْ يَعْرِضَ عُذْرٌ يَمْنَعُ مِنْ مَرَضٍ ، أَوْ رِيحٍ أَوْ تَشَوُّشِ السِّهَامِ ، أَوْ لِحَاجَتِهِ إلَى طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ أَوْ صَلَاةٍ أَوْ قَضَاءِ حَاجَةٍ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ مُسْتَثْنَاةٌ بِالْعُرْفِ ، وَكَذَلِكَ الْمَطَرُ فَإِنَّهُ يُرْخِي الْوَتَرَ ، وَيُفْسِدُ الرَّشْقَ إذَا جَاءَ اللَّيْلُ تَرَكَاهُ ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ تَرْكُ الرَّمْيِ بِاللَّيْلِ ، فَحُمِلَ الْعَقْدُ عَلَيْهِ مَعَ الْإِطْلَاقِ ، إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَا الرَّمْيَ لَيْلًا ، فَيَأْخُذَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ بِذَلِكَ .
فَإِنْ كَانَتْ اللَّيْلَةُ مُقْمِرَةً ، مُنِيرَةً ، اُكْتُفِيَ بِذَلِكَ ، وَإِلَّا رَمَيَا فِي ضَوْءِ شَمْعَةٍ أَوْ مِشْعَلٍ .
وَإِنْ عَرَضَ عَارِضٌ يَمْنَعُ الرَّمْيَ ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ ، أَوْ كُسِرَ قَوْسٌ ، أَوْ قُطِعَ وَتَرٌ ، أَوْ انْكَسَرَ سَهْمٌ ، جَازَ إبْدَالُهُ .
فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ ، أُخِّرَ الرَّمْيُ حَتَّى يَزُولَ الْعَارِضُ .

( 7922 ) فَصْلٌ : فَإِنْ أَرَادَ أَحَدُهُمَا التَّطْوِيلَ ، وَالتَّشَاغُلَ عَنْ الرَّمْيِ بِمَا لَا حَاجَةَ إلَيْهِ ، مِنْ مَسْحِ الْقَوْسِ وَالْوَتَرِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ ، إرَادَةَ التَّطْوِيلِ عَلَى صَاحِبِهِ ، لَعَلَّهُ يَنْسَى الْقَصْدَ الَّذِي أَصَابَ بِهِ ، أَوْ يَفْتُرُ ، مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ ، وَطُولِبَ بِالرَّمْيِ ، وَلَا يُدْهَشُ بِالِاسْتِعْجَالِ بِالْكُلِّيَّةِ ، بِحَيْثُ يُمْنَعُ مِنْ تَحَرِّي الْإِصَابَةِ .
وَيُمْنَعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْكَلَامِ الَّذِي يَغِيظُ بِهِ صَاحِبَهُ ، مِثْلُ أَنْ يَرْتَجِزَ ، وَيَفْتَخِرَ ، وَيَتَبَجَّحَ بِالْإِصَابَةِ ، وَيُعَنِّفَ صَاحِبَهُ عَلَى الْخَطَأِ ، أَوْ يُظْهِرَ لَهُ أَنَّهُ يُعَلِّمُهُ .
وَهَكَذَا الْحَاضِرُ مَعَهُمَا ، مِثْلُ الْأَمِيرِ وَالشَّاهِدَيْنِ وَغَيْرِهِمْ ، يُكْرَهُ لَهُمْ مَدْحُ الْمُصِيبِ ، وَزَهْزَهَتُهُ ، وَتَعْنِيفُ الْمُخْطِئِ وَزَجْرُهُ ؛ لِأَنَّ فِيهِ كَسْرَ قَلْبِ أَحَدِهِمَا وَغَيْظَهُ .

( 7923 ) فَصْلٌ : وَإِذَا تَشَاحَّا فِي مَوْضِعِ الْوُقُوفِ ، فَإِنْ كَانَ مَا طَلَبَهُ أَحَدُهُمَا أَوْلَى ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ فِي أَحَدِ الْمَوْقِفَيْنِ يَسْتَقْبِلُ الشَّمْسَ ، أَوْ رِيحًا يُؤْذِيهِ اسْتِقْبَالُهَا ، وَنَحْو ذَلِكَ ، وَالْآخَرُ يَسْتَدْبِرُهَا ، قُدِّمَ قَوْلُ مَنْ طَلَبَ اسْتِدْبَارَهَا ؛ لِأَنَّهُ الْعُرْفُ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي شَرْطِهِمَا اسْتِقْبَالُ ذَلِكَ ، فَالشَّرْطُ أَمْلَكُ ، كَمَا قُلْنَا فِي الرَّمْيِ لَيْلًا .
وَإِنْ كَانَ الْمَوْقِفَانِ سَوَاءً ، كَانَ ذَلِكَ إلَى الَّذِي لَهُ الْبُدَاءَةُ ، فَيَتْبَعُهُ الْآخَرُ ، فَإِذَا كَانَ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي ، وَقَفَ حَيْثُ شَاءَ ، وَيَتْبَعُهُ الْأَوَّلُ .

( 7924 ) فَصْلٌ : وَيَجُوزُ عَقْدُ النِّضَالِ عَلَى جَمَاعَةٍ ؛ لِأَنَّهُ يُرْوَى { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَى أَصْحَابٍ لَهُ يَنْتَضِلُونَ ، فَقَالَ : ارْمُوا ، وَأَنَا مَعَ ابْنِ الْأَدْرَعِ .
فَأَمْسَكَ الْآخَرُونَ ، وَقَالُوا : كَيْفَ نَرْمِي وَأَنْتَ مَعَ ابْنِ الْأَدْرَعِ ؟ قَالَ : ارْمُوا ، وَأَنَا مَعَكُمْ كُلِّكُمْ .
} رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَلِأَنَّهُ إذَا جَازَ أَنْ يَكُونَا اثْنَيْنِ ، جَازَ أَنْ يَكُونُوا جَمَاعَتَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مَعْرِفَةُ الْحِذْقِ ، وَهَذَا يَحْصُلُ فِي الْجَمَاعَتَيْنِ ، فَجَازَ ، كَمَا فِي سِبَاقِ الْخَيْلِ .
وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبَّقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الْمُضَمَّرَةِ ، وَسَبَّقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الَّتِي لَمْ تُضَمَّرْ .
وَعَلَى هَذَا يَكُونُ كُلُّ حِزْبٍ بِمَنْزِلَةِ وَاحِدٍ .
فَإِنْ عَقَدَ النِّضَالَ جَمَاعَةٌ لِيَتَنَاضَلُوا حِزْبَيْنِ .
فَذَكَرَ الْقَاضِي ، أَنَّهُ يَجُوزُ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَجُوزَ ؛ لِأَنَّ التَّعْيِينَ شَرْطٌ ، وَقَبْلَ التَّفَاضُلِ لَمْ يَتَعَيَّنْ مَنْ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْحِزْبَيْنِ .
فَعَلَى هَذَا ، إذَا تَفَاضَلُوا ، عَقَدُوا النِّضَالَ بَعْدَهُ .
وَعَلَى قَوْلِ الْقَاضِي ، يَجُوزُ الْعَقْدُ قَبْلَ التَّفَاضُلِ .
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْتَسِمُوا بِالْقُرْعَةِ ؛ لِأَنَّهَا رُبَّمَا وَقَعَتْ عَلَى الْحُذَّاقِ فِي أَحَدِ الْحِزْبَيْنِ ، وَعَلَى الْكَوَادِنِ فِي الْآخَرِ ، فَيَبْطُلُ مَقْصُودُ النِّضَالِ ، بَلْ يَكُونُ لِكُلِّ حِزْبٍ رَئِيسٌ ، فَيَخْتَارُ أَحَدُهُمَا وَاحِدًا ، ثُمَّ يَخْتَارُ الْآخَرُ وَاحِدًا كَذَلِكَ ، حَتَّى يَتَفَاضَلُوا جَمِيعًا ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ الْخِيَارُ إلَى أَحَدِهِمَا فِي الْجَمِيعِ ، وَلَا أَنْ يَخْتَارَ جَمِيعَ حِزْبِهِ أَوَّلًا ؛ لِأَنَّهُ يَخْتَارُ الْحُذَّاقَ كُلَّهُمْ فِي حِزْبِهِ .
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ رَئِيسُ الْحِزْبَيْنِ وَاحِدًا ؛ لِأَنَّهُ يَمِيلُ إلَى حِزْبِهِ ، فَتَلْحَقُهُ التُّهْمَةُ .
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَخْتَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الرَّئِيسَيْنِ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ ؛ لِأَنَّهُ أَبْعَدُ مِنْ التَّسَاوِي .

وَإِذَا اخْتَلَفَا فِي الْمُبْتَدِئِ بِالْخِيَارِ مِنْهُمَا ، أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا .
وَلَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا : أَنَا أَخْتَارُ أَوَّلًا ، وَأُخْرِجُ السَّبَقَ ، أَوْ يُخْرِجُهُ أَصْحَابِي .
لَمْ يَحُزْ لِأَنَّ السَّبَقَ إنَّمَا يُسْتَحَقُّ بِالسَّبْقِ لَا فِي مُقَابَلَةِ تَفَضُّلِ أَحَدِهِمَا بِشَيْءٍ .

( 7925 ) فَصْلٌ : وَإِذَا أَخْرَجَ أَحَدُ الزَّعِيمِينَ السَّبَقَ مِنْ عِنْدِهِ ، فَسَبَقَ حِزْبُهُ ، لَمْ يَكُنْ عَلَى حِزْبِهِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ دُونَهُمْ .
وَإِنْ شَرَطَهُ عَلَيْهِمْ ، فَهُوَ عَلَيْهِمْ بِالسَّوِيَّةِ ، وَيَكُونُ لِلْحِزْبِ الْآخَرِ بِالسَّوِيَّةِ ، مَنْ أَصَابَ مِنْهُمْ وَمَنْ لَمْ يُصِبْ ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ، كَمَا أَنَّهُ عَلَى الْحِزْبِ الْآخَرِ بِالسَّوِيَّةِ .
وَفِي الْوَجْهِ الْآخَرِ ، يُقْسَمُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ الْإِصَابَةِ .
وَلَيْسَ لِمَنْ لَمْ يُصِبْ مِنْهُمْ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ بِالْإِصَابَةِ ، فَكَانَ عَلَى قَدْرِهَا ، وَاخْتَصَّ بِمَنْ وُجِدَتْ مِنْهُ ، بِخِلَافِ الْمَسْبُوقِينَ فَإِنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِمْ ؛ لِالْتِزَامِهِمْ لَهُ ، وَقَدْ اسْتَوَوْا فِي ذَلِكَ .
"

( 7926 ) فَصْلٌ : وَمَتَى كَانَ النِّضَالُ بَيْنَ حِزْبَيْنِ ، اُشْتُرِطَ كَوْنُ الرَّشْقِ يُمْكِنُ قَسْمُهُ بَيْنَهُمْ بِغَيْرِ كَسْرٍ ، وَيَتَسَاوُونَ فِيهِ ، فَإِنْ كَانُوا ثَلَاثَةً ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهُ ثُلُثٌ ، وَإِنْ كَانُوا أَرْبَعَةً ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهُ رُبُعٌ ، وَكَذَلِكَ مَا زَادَ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ ، بَقِيَ سَهْمٌ أَوْ أَكْثَرُ ، لَا يُمْكِنُ الْجَمَاعَةَ الِاشْتِرَاكُ فِيهِ .

( 7927 ) فَصْلٌ : وَإِذَا كَانُوا حِزْبَيْنِ ، فَدَخَلَ مَعَهُمْ رَجُلٌ لَا يَعْرِفُونَهُ فِي أَحَدِ الْحِزْبَيْنِ ، وَكَانَ يُحْسِنُ الرَّمْيَ ، جَازَ ، وَإِنْ كَانَ لَا يُحْسِنُهُ ، بَطَلَ الْعَقْدُ فِيهِ ، وَأُخْرِجَ مِنْ الْحِزْبِ الْآخَرِ مَنْ جُعِلَ بِإِزَائِهِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُجْعَلُ فِي مُقَابَلَتِهِ آخَرُ ، أَوْ يَخْتَارُ أَحَدُ الزَّعِيمَيْنِ وَاحِدًا ، وَيَخْتَارُ الْآخَرُ آخَرَ فِي مُقَابَلَتِهِ .
وَهَلْ يَبْطُلُ فِي الْبَاقِينَ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ، بِنَاءً عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ .
فَإِنْ قُلْنَا : لَا يَبْطُلُ .
فَلِكُلِّ حِزْبٍ الْخِيَارُ لِتَبْعِيضِ الصَّفْقَةِ فِي حَقِّهِمْ .
وَإِنْ بَانَ رَامِيًا ، لَكِنَّهُ قَلِيلُ الْإِصَابَةِ ، فَقَالَ حِزْبُهُ : ظَنَنَّاهُ كَثِيرَ الْإِصَابَةِ ، أَوْ لَمْ نَعْلَمْ ، أَوْ بَانَ كَثِيرَ الْإِصَابَةِ .
فَقَالَ الْحِزْبُ الْآخِرُ : ظَنَنَّاهُ قَلِيلَ الْإِصَابَةِ .
لَمْ يُسْمَعْ ذَلِكَ مِنْهُمْ ، وَكَانَ كَمَنْ عَرَفُوهُ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ دُخُولِهِ أَنْ يَكُونَ فِي الْعَقْدِ مِنْ أَهْلِ الصَّنْعَةِ دُونَ الْحِذْقِ ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى عَبْدًا عَلَى أَنَّهُ كَاتِبٌ ، فَبَانَ حَاذِقًا أَوْ نَاقِصًا فِيهَا ، لَمْ يُؤَثِّرْ .

( 7928 ) فَصْلٌ : وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولُوا : نُقْرِعُ ، فَمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ ، فَهُوَ السَّابِقُ .
وَلَا أَنَّ مَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ ، فَالسَّبَقُ { عَلَيْهِ } .
وَلَا أَنْ يَقُولُوا : نَرْمِي ، فَأَيُّنَا أَصَابَ فَالسَّبَقُ عَلَى الْآخَرِ ؛ لِأَنَّهُ عِوَضٌ فِي عَقْدٍ ، فَلَا يُسْتَحَقُّ بِالْقُرْعَةِ ، وَلَا بِالْإِصَابَةِ ، وَإِنْ شَرَطُوا أَنْ يَكُونَ فُلَانٌ مُقَدَّمَ حِزْبٍ ، وَفُلَانٌ مُقَدَّمَ الْآخَرِ ، ثُمَّ فُلَانٌ ثَانِيًا مِنْ الْحِزْبِ الْأَوَّلِ ، وَفُلَانٌ ثَانِيًا مِنْ الْحِزْبِ الثَّانِي ، كَانَ فَاسِدًا ؛ لِأَنَّ تَقْدِيمَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْحِزْبِ يَكُونُ إلَى زَعِيمِهِ ، وَلَيْسَ لِلْحِزْبِ الْآخَرِ مُشَارَكَتُهُ فِي ذَلِكَ ، فَإِذَا شَرَطُوهُ كَانَ فَاسِدًا .

( 7929 ) فَصْلٌ : وَإِذَا تَنَاضَلَ اثْنَانِ ، وَأَخْرَجَ أَحَدُهُمَا السَّبَقَ ، فَقَالَ أَجْنَبِيٌّ : أَنَا شَرِيكُك فِي الْغُنْمِ وَالْغُرْمِ ، إنْ نَضَلَكَ فَنِصْفُ السَّبَقِ عَلَيَّ ، وَإِنْ نَضَلْته فَنِصْفُهُ لِي .
لَمْ يَجُزْ .
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُتَنَاضِلُونَ ثَلَاثَةً فِيهِمْ مُحَلِّلٌ ، فَقَالَ رَابِعٌ لِلْمُسْتَبِقَيْنِ : أَنَا شَرِيكُكُمَا فِي الْغُنْمِ وَالْغُرْمِ .
كَانَ بَاطِلًا ؛ لِأَنَّ الْغُنْمَ وَالْغُرْمَ إنَّمَا يَكُونَ مِنْ الْمُنَاضِلِ ، فَأَمَّا مَنْ لَا يَرْمِي ، فَلَا يَكُونُ لَهُ غُنْمٌ وَلَا غُرْمٌ .
وَلَوْ شَرَطَا فِي النِّضَالِ أَنَّهُ إذَا جَلَسَ الْمُسْتَبِقُ كَانَ عَلَيْهِ السَّبَقُ ، لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ السَّبَقَ عَلَى النِّضَالِ ، وَهَذَا الشَّرْطُ يُخَالِفُ مُقْتَضَى النِّضَالِ ، فَكَانَ فَاسِدًا .

( 7930 ) فَصْلٌ : وَلَوْ فَضَلَ أَحَدُ الْمُتَنَاضِلَيْنِ صَاحِبَهُ ، فَقَالَ الْمَفْضُولُ : اطْرَحْ فَضْلَك ، وَأُعْطِيك دِينَارًا .
لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مَعْرِفَةُ الْحِذْقِ ، وَذَلِكَ يُمْنَعُ مِنْهُ .
وَإِنْ فَسَخَا الْعَقْدَ ، وَعَقَدَا عَقْدًا آخَرَ ، جَازَ .
وَإِنْ لَمْ يَفْسَخَاهُ ، وَلَكِنْ رَمَيَا تَمَامَ الرَّشْقِ ، فَتَمَّتْ الْإِصَابَةُ لَهُ مَعَ مَا أَسْقَطَهُ ، اسْتَحَقَّ السَّبَقَ ، وَرَدَّ الدِّينَارَ إنْ كَانَ أَخَذَهُ .

( 7931 ) فَصْلٌ : إذَا كَانَ شَرْطُهُمَا حَوَاصِلَ ، وَهِيَ الْإِصَابَةُ الْمُطْلَقَةُ ، اُعْتُدَّ بِهَا كَيْفَمَا وُجِدَتْ ، بِشَرْطِ أَنْ يُصِيبَ بِنَصْلِ السَّهْمِ ، فَإِنْ أَصَابَ بِعَرْضِهِ ، أَوْ بِفَوْقِهِ ، نَحْوَ أَنْ يَنْقَلِبَ السَّهْمُ بَيْنَ يَدَيْ الْغَرَضِ ، فَيُصِيبَ فَوْقَهُ الْغَرَضَ ، لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ سَيِّئِ الْخَطَأِ .
وَإِنْ انْقَطَعَ السَّهْمُ قِطْعَتَيْنِ ، فَأَصَابَتْ الْقِطْعَةُ الْأُخْرَى ، لَمْ يُحْتَسَبْ بِهِ .
فَإِنْ كَانَ الْغَرَضُ جِلْدًا خِيطَ عَلَيْهِ شَنْبَرٌ كَشَنْبَرِ الْمُنْخُلِ ، وَجَعَلَا لَهُ عُرًى وَخُيُوطًا تُعَلَّقُ بِهِ فِي الْعُرَى ، فَأَصَابَ الشَّنْبَرَ أَوْ الْعُرَى ، نَظَرْت فِي شَرْطِهِمَا ؛ فَإِنْ شُرِطَ إصَابَةُ الْغَرَضِ ، اُعْتُدَّ لَهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْغَرَضِ ، فَأَمَّا الْمَعَالِيقُ ، وَهِيَ الْخُيُوطُ ، فَلَا يُعْتَدُّ لَهُ بِإِصَابَتِهَا عَلَى كِلَا الشَّرْطَيْنِ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْجِلْدَةِ ، وَلَا مِنْ الْغَرَضِ ، فَأَشْبَهَ إصَابَةَ الْهَدَفِ .

( 7932 ) فَصْلٌ : وَإِنْ أَطَارَتْ الرِّيحُ الْغَرَضَ ، فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي مَوْضِعِهِ ، فَإِنْ كَانَ شَرْطُهُمَا حَوَاصِلَ ، اُحْتُسِبَ لَهُ بِهِ ؛ لِعِلْمِنَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْغَرَضُ فِي مَوْضِعِهِ أَصَابَهُ .
وَإِنْ كَانَ شَرْطُهُمَا خَوَاسِقَ ، فَقَالَ الْقَاضِي : يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَتْ صَلَابَةُ الْهَدَفِ كَصَلَابَةِ الْغَرَضِ ، فَثَبَتَ فِي الْهَدَفِ ، اُحْتُسِبَ لَهُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ بَقِيَ مَكَانَهُ لَثَبَتَ فِيهِ ، كَثُبُوتِهِ فِي الْهَدَفِ ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ مَعَ التَّسَاوِي ، لَمْ يُحْتَسَبْ .
وَإِنْ كَانَ الْهَدَفُ أَصْلَبَ فَلَمْ يَثْبُتْ فِيهِ ، أَوْ كَانَ رِخْوًا ، لَمْ يُحْتَسَبْ السَّهْمُ لَهُ وَلَا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّنَا لَا نَعْلَمُ هَلْ كَانَ يَثْبُتُ فِي الْغَرَضِ لَوْ بَقِيَ مَكَانَهُ أَوَّلًا ؟ وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : إنْ كَانَ شَرْطُهُمَا خَوَاسِقَ ، لَمْ يُحْتَسَبْ لَهُ بِالسَّهْمِ الَّذِي وَقَعَ فِي مَوْضِعِهِ ، وَلَا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّنَا لَا نَدْرِي هَلْ يَثْبُتُ فِي الْغَرَضِ لَوْ كَانَ مَوْجُودًا أَوْ لَا ؟ وَإِنْ وَقَعَ السَّهْمُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْغَرَضِ ، اُحْتُسِبَ بِهِ عَلَى رَامِيهِ ؛ لِأَنَّهُ خَطَأٌ ، وَلَوْ وَقَعَ فِي الْغَرَضِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي طَارَ إلَيْهِ ، حُسِبَ عَلَيْهِ أَيْضًا ، لَا لَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَا اتَّفَقَا عَلَى رَمْيِهِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي طَارَ إلَيْهِ .
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إذَا أَلْقَتْ الرِّيحُ الْغَرَضَ عَلَى وَجْهِهِ .

( 7933 ) فَصْلٌ : وَإِذَا رَمَى فَأَخْطَأَ لِعَارِضٍ ؛ مِنْ كَسْرِ قَوْسٍ ، أَوْ قَطْعِ وَتَرٍ ، أَوْ حَيَوَانٍ اعْتَرَضَ بَيْنَ يَدَيْهِ أَوْ رِيحٍ شَدِيدَةٍ تَرُدُّ السَّهْمَ عَرْضًا ، لَمْ يُحْسَبْ عَلَيْهِ بِذَلِكَ السَّهْمِ ؛ لِأَنَّ خَطَأَهُ لِلْعَارِضِ ، لَا لِسُوءِ رَمْيِهِ .
قَالَ الْقَاضِي : وَلَوْ أَصَابَ ، لَمْ يُحْتَسَبْ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُحْتَسَبْ عَلَيْهِ لَمْ يُحْتَسَبْ لَهُ ، وَلِأَنَّ الرِّيحَ الشَّدِيدَةَ كَمَا يَجُوزُ أَنْ تَصْرِفَ الرَّمْيَ الشَّدِيدَ فَيُخْطِئَ ، يَجُوزُ أَنْ تَصْرِفَ السَّهْمَ الْمُخْطِئَ عَنْ خَطَئِهِ فَيَقَعَ مُصِيبًا ، فَتَكُونَ إصَابَتُهُ بِالرِّيحِ ، لَا بِحِذْقِ رَمْيِهِ .
فَأَمَّا إنْ وَقَعَ السَّهْمُ فِي حَائِلٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغَرَضِ ، فَمَرَقَهُ ، وَأَصَابَ الْغَرَضَ حُسِبَ لَهُ ؛ لِأَنَّ إصَابَتَهُ لِسَدَادِ رَمْيِهِ ، وَمُرُوقَهُ لِقُوَّتِهِ ، فَهُوَ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ .
وَإِنْ كَانَتْ الرِّيحُ لَيِّنَةً خَفِيفَةً ، لَا تَرُدُّ السَّهْمَ عَادَةً ، لَمْ يُمْنَعْ ؛ لِأَنَّ الْجَوَّ لَا يَخْلُو مِنْ رِيحٍ ، وَلِأَنَّ الرِّيحَ اللَّيِّنَةَ لَا تُؤَثِّرُ إلَّا فِي الرَّمْيِ الرَّخْوِ الَّذِي لَا يُنْتَفَعُ بِهِ .

( 7934 ) فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ شَرْطُهُمَا خَوَاسِقَ ، وَالْخَاسِقُ : مَا ثَقَبَ الْغَرَضَ ، وَثَبَتَ فِيهِ .
فَمَتَى أَصَابَ الْغَرَضَ بِنَصْلِهِ ، وَثَبَتَ فِيهِ ، حُسِبَ لَهُ ، وَإِنْ خَدَشَهُ وَلَمْ يَثْقُبْهُ ، لَمْ يُحْتَسَبْ لَهُ ، وَحُسِبَ بِهِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ مَرَقَ مِنْهُ اُحْتُسِبَ لَهُ بِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لِقُوَّةِ رَمْيِهِ ، فَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ الْخَاسِقِ ، وَإِنْ خَرَقَهُ ، وَهُوَ أَنْ يَثْقُبَهُ ، وَيَقَعَ بَيْنَ يَدَيْهِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، يُحْتَسَبُ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ ثَقَبَ ثَقْبًا يَصْلُحُ لِلْخَسْقِ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَثْبُتْ السَّهْمُ لِسَبَبٍ آخَرَ ، مِنْ سَعَةِ الثَّقْبِ أَوْ غَيْرِهِ .
وَالثَّانِي ، لَا يُحْتَسَبُ لَهُ ؛ لِأَنَّ شَرْطَهُمَا الْخَوَاسِقُ ، وَالْخَاسِقُ مَا ثَبَتَ ، وَثُبُوتُهُ يَكُونُ بِحِذْقِ الرَّامِي ، وَقَصْدِهِ بِرَمْيِهِ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ .
فَإِنْ كَانَ امْتِنَاعُ السَّهْمِ مِنْ الثُّبُوتِ لِمُصَادَفَتِهِ مَا يَمْنَعُ الثُّبُوتَ ؛ مِنْ حَصَاةٍ ، أَوْ حَجَرٍ ، أَوْ عَظْمٍ ، أَوْ أَرْضٍ غَلِيظَةٍ ، فَفِيهِ الْوَجْهَانِ ، إلَّا أَنَّهُ إذَا لَمْ يُحْتَسَبْ لَهُ ، لَمْ يُعَدَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْعَارِضَ مَنَعَهُ مِنْ الثُّبُوتِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ مَنَعَهُ عَارِضٌ مِنْ الْإِصَابَةِ .
وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي وُجُودِ الْعَارِضِ ، نَظَرْت ، فَإِنْ عُلِمَ مَوْضِعُ الثَّقْبِ بِاتِّفَاقِهِمَا أَوْ بِبَيِّنَةٍ ، نُظِرَ فِي الْمَوْضِعِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا يَمْنَعُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَا يَمْنَعُ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُدَّعِي ، وَلَا يَمِينَ ؛ لِأَنَّ الْحَالَ تَشْهَدُ بِصِدْقِ مَا ادَّعَاهُ .
وَإِنْ لَمْ يَعْلَمَا مَوْضِعَ الثَّقْبِ ، إلَّا أَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ خَرَقَ الْغَرَضَ ، وَلَمْ يَكُنْ وَرَاءَهُ شَيْءٌ يَمْنَعُ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ بِغَيْرِ يَمِينٍ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ لَا مَانِعَ .
وَإِنْ كَانَ وَرَاءَهُ مَا يَمْنَعُ ، وَادَّعَى الْمُصَابُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ السَّهْمُ فِي مَوْضِعٍ وَرَاءَهُ مَا يَمْنَعُ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْإِصَابَةِ مَعَ احْتِمَالِ مَا يَقُولُهُ

الْمُصِيبُ .
وَإِنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ خَرَقَ أَيْضًا ، فَالْقَوْلُ أَيْضًا قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ .

فَصْلٌ : وَإِنْ شَرَطًا خَاسِقًا ، فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي ثَقْبٍ فِي الْغَرَضِ أَوْ مَوْضِعٍ بَالٍ ، فَنَقَبَهُ وَثَبَتَ فِي الْهَدَفِ مُعَلَّقًا فِي الْغَرَضِ نَظَرْت ؛ فَإِنْ كَانَ الْهَدَفُ صَلِيبًا كَصَلَابَةِ الْغَرَضِ ، فَثَبَتَ فِيهِ ، حُسِبَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ عُلِمَ أَنَّ الْغَرَضَ لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَثَبَتَ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ الْهَدَفُ تُرَابًا أُهِيلَ ، لَمْ يُحْتَسَبْ لَهُ وَلَا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّنَا لَا نَعْلَمُ هَلْ كَانَ يَثْبُتُ فِي الْغَرَضِ لَوْ أَصَابَ مَوْضِعًا مِنْهُ قَوِيًّا أَوْ لَا .
وَإِنْ صَادَفَ السَّهْمَ فِي ثَقْبٍ فِي الْغَرَضِ قَدْ ثَبَتَ فِي الْهَدَفِ مَعَ قِطْعَةٍ مِنْ الْغَرَضِ ، فَقَالَ الرَّامِي : خُسِقَتْ ، وَهَذِهِ الْجِلْدَةُ قَطَعَهَا سَهْمِي لِشِدَّةِ الرَّمْيَةِ .
فَأَنْكَرَ صَاحِبُهُ ، وَقَالَ : بَلْ هِيَ كَانَتْ مَقْطُوعَةً .
فَإِنْ عُلِمَ أَنَّ الْغَرَضَ كَانَ صَحِيحًا ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّامِي ، وَإِنْ اخْتَلَفَا ، فَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهَا كَاَلَّتِي قَبْلَهَا ؛ إنْ كَانَ الْهَدَفُ رِخْوًا لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ قَوِيًّا صُلْبًا ، اُعْتُدَّ بِهِ ، وَإِنْ وَقَعَ سَهْمُهُ فِي سَهْمٍ ثَابِتٍ فِي الْغَرَضِ ، اُعْتُدَّ لَهُ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ شَرْطُهُمَا خَوَاسِقَ ، لَمْ يُحْتَسَبْ لَهُ بِهِ وَلَا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّنَا لَا نَعْلَمُ يَقِينًا أَنَّهُ لَوْلَا فَوْقَ السَّهْمِ الثَّابِتِ لَخَسَقَ .
وَإِنْ أَصَابَ السَّهْمُ ، ثُمَّ سَبَحَ عَنْهُ ، فَخَسَقَ ، اُحْتُسِبَ لَهُ بِهِ .

( 7936 ) فَصْلٌ : إذَا قَالَ رَجُلٌ لِآخَرَ : ارْمِ هَذَا السَّهْمَ ، فَإِنْ أَصَبْت بِهِ ، فَلَكَ دِرْهَمٌ .
صَحَّ ، وَكَانَ جَعَالَةً ؛ لِأَنَّهُ بَذَلَ مَالًا لَهُ فِي فِعْلٍ لَهُ فِيهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ ، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا نِضَالًا ؛ لِأَنَّ النِّضَالَ يَكُونُ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَوْ جَمَاعَةٍ عَلَى أَنْ يَرْمُوا جَمِيعًا ، وَيَكُونُ الْجُعْلُ لِبَعْضِهِمْ إذَا كَانَ سَابِقًا .
وَإِنْ قَالَ : إنْ أَصَبْت بِهِ فَلَكَ دِرْهَمٌ ، وَإِنْ أَخْطَأْت فَعَلَيْك دِرْهَمٌ .
لَمْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّهُ قِمَارٌ .
وَإِنْ قَالَ : ارْمِ عَشَرَةَ أَسْهُمٍ ، فَإِنْ كَانَ صَوَابُك أَكْثَرَ مِنْ خَطَئِك ، فَلَكَ دِرْهَمٌ .
صَحَّ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْجُعْلَ فِي مُقَابَلَةِ الْإِصَابَةِ الْمَعْلُومَةِ ، فَإِنَّ أَكْثَرَ الْعَشَرَةِ أَقَلُّهُ سِتَّةٌ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَجْهُولٍ ؛ لِأَنَّهُ بِالْأَقَلِّ يَسْتَحِقُّ الْجُعْلَ .
وَإِنْ قَالَ : إنْ كَانَ صَوَابُك أَكْثَرَ ، فَلَكَ بِكُلِّ سَهْمٍ أَصَبْت بِهِ دِرْهَمٌ .
صَحَّ .
وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ : ارْمِ عَشَرَةً ، وَلَك بِكُلِّ سَهْمٍ أَصَبْت بِهِ مِنْهَا دِرْهَمٌ .
أَوْ قَالَ : فَلَكَ بِكُلِّ سَهْمٍ زَائِدٍ عَلَى النِّصْفِ مِنْ الْمُصِيبَاتِ دِرْهَمٌ .
لِأَنَّ الْجُعْلَ مَعْلُومٌ بِتَقْدِيرِهِ بِالْإِصَابَةِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ اسْتَقِ لِي مِنْ هَذَا الْبِئْرِ ، وَلَك بِكُلِّ دَلْوٍ تَمْرَةٌ .
أَوْ قَالَ : مَنْ رَدَّ عَبْدًا مِنْ عَبِيدِي ، فَلَهُ بِكُلِّ عَبْدٍ دِرْهَمٌ .
وَإِنْ قَالَ : وَإِنْ كَانَ خَطَؤُك أَكْثَرَ ، فَعَلَيْك دِرْهَمٌ .
أَوْ نَحْوَ هَذَا ، لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ قِمَارٌ .
وَإِنْ قَالَ : ارْمِ عَشَرَةً ، فَإِنْ أَخْطَأْتهَا فَعَلَيْك دِرْهَمٌ .
أَوْ نَحْوَ هَذَا ، لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ الْجُعْلَ يَكُونُ فِي مُقَابَلَةِ عَمَلٍ ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ الْقَابِلِ عَمَلٌ يَسْتَحِقُّ بِهِ شَيْئًا .
وَلَوْ قَالَ الرَّامِي لِأَجْنَبِيٍّ : إنْ أَخْطَأْت ، فَلَكَ دِرْهَمٌ .
لَمْ يَصِحَّ ؛ لِذَلِكَ .

( 7937 ) فَصْلٌ : وَإِذَا عَقَدَا النِّضَالَ ، وَلَمْ يَذْكُرَا قَوْسًا ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْقَاضِي ، أَنَّهُ يَصِحُّ ، وَيَسْتَوِيَانِ فِي الْقَوْسِ ، إمَّا الْعَرَبِيَّةِ ، وَإِمَّا الْعَجَمِيَّةِ ، وَقَالَ غَيْرُهُ : لَا يَصِحُّ حَتَّى يَذْكُرَا نَوْعَ الْقَوْسِ الَّذِي يَرْمِيَانِ عَلَيْهِ فِي الِابْتِدَاءِ ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَهُ رُبَّمَا أَفْضَى إلَى الِاخْتِلَافِ ، وَقَدْ أَمْكَنَ التَّحَرُّزُ عَنْهُ بِالتَّعْيِينِ لِلنَّوْعِ ، فَيَجِبُ ذَلِكَ .
وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُمَا يَرْمِيَانِ بِالنُّشَّابِ فِي الِابْتِدَاءِ ، صَحَّ ، وَيَنْصَرِفُ إلَى الرَّمْيِ بِالْقَوْسِ الْأَعْجَمِيَّةِ ؛ لِأَنَّ سِهَامَهَا هُوَ الْمُسَمَّى بِالنُّشَّابِ ، وَسِهَامُ الْعَرَبِيَّةِ يُسَمَّى نَبْلًا .
فَإِنْ عَيَّنَ نَوْعًا مِنْ الْقِسِيِّ ، لَمْ يَجُزْ الْعُدُولُ عَنْهَا إلَى غَيْرِهَا ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا قَدْ يَكُونُ أَحْذَقَ بِالرَّمْيِ بِأَحَدِ النَّوْعَيْنِ دُونَ الْآخَرِ .
وَإِنْ عَيَّنَا قَوْسًا بِعَيْنِهَا ، لَمْ تَتَعَيَّنْ ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَنْكَسِرُ ، وَيُحْتَاجُ إلَى إبْدَالِهَا ؛ لِأَنَّ الْحِذْقَ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ عَيْنِ الْقَوْسِ ، بِخِلَافِ النَّوْعِ .
وَإِنْ تَنَاضَلَا عَلَى أَنْ يَرْمِيَ أَحَدُهُمَا بِالْعَرَبِيَّةِ ، وَالْآخَرُ بِالْفَارِسِيَّةِ ، أَوْ أَحَدُهُمَا بِقَوْسِ الزُّنْبُورِ ، وَالْآخَرُ بِقَوْسِ الْجَرْخِ ، أَوْ قَوْسِ الْحُسْبَانِ ، وَهُوَ قَوْسٌ سِهَامُهُ قِصَارٌ ، يُجْعَلُ فِي مَجْرًى مِثْلِ الْقَصَبَةِ ، ثُمَّ يَرْمِي بِهَا ، فَفِيهَا وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، يَصِحُّ .
وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُمَا نَوْعَا جِنْسٍ ، فَصَحَّتْ الْمُسَابَقَةُ مَعَ اخْتِلَافِهِمَا ، كَالْخَيْلِ وَالْإِبِلِ .
وَالثَّانِي ، لَا تَصِحُّ الْمُسَابَقَةُ مَعَ اخْتِلَافِهِمَا ؛ لِأَنَّهُمَا يَخْتَلِفَانِ فِي الْإِصَابَةِ ، فَجَرَى مَجْرَى الْمُسَابَقَةِ بَيْنَ جِنْسَيْنِ .
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْمُسَابَقَةِ بَيْنَ نَوْعَيْ الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ .

( 7938 ) فَصْلٌ : وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ إبَاحَةُ الرَّمْيِ بِالْقَوْسِ الْفَارِسِيَّةِ .
وَنَصَّ عَلَى جَوَازِ الْمُسَابَقَةِ بِهَا ، وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ جَعْفَرٍ : يُكْرَهُ ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ رَأَى مَعَ رَجُلٍ قَوْسًا فَارِسِيَّةً ، فَقَالَ : أَلْقِهَا ، فَإِنَّهَا مَلْعُونَةٌ وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِالْقِسِيِّ الْعَرَبِيَّةِ ، وَبِرِمَاحِ الْقَنَا ، فَبِهَا يُؤَيِّدُ اللَّهُ الدِّينَ ، وَبِهَا يُمَكِّنُ اللَّهُ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ } .
رَوَاهُ الْأَثْرَمُ .
وَلَنَا ، انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ عَلَى الرَّمْيِ بِهَا ، وَإِبَاحَةِ حَمْلِهَا ، فَإِنَّ ذَلِكَ جَازَ فِي أَكْثَرِ الْأَعْصَارِ ، وَهِيَ الَّتِي يَحْصُلُ الْجِهَادُ بِهَا فِي عَصْرِنَا وَأَكْثَرِ الْأَعْصَارِ الْمُتَقَدِّمَةِ .
وَأَمَّا الْخَبَرُ ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَعَنَهَا لِأَنَّ حَمَلَتَهَا فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ الْعَجَمُ ، وَلَمْ يَكُونُوا أَسْلَمُوا بَعْدُ ، وَمَنَعَ الْعَرَبَ مِنْ حَمْلِهَا لِعَدَمِ مَعْرِفَتِهِمْ بِهَا ، وَلِهَذَا أَمَرَ بِرِمَاحِ الْقَنَا ، وَلَوْ حَمَلَ إنْسَانٌ رُمْحًا غَيْرَهَا لَمْ يَكُنْ مَذْمُومًا .
وَحَكَى أَحْمَدُ ، أَنَّ قَوْمًا اسْتَدَلُّوا عَلَى الْقِسِيِّ الْفَارِسِيَّةِ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ } .
يَعْنِي أَنَّ هَذَا مِمَّا اسْتَطَاعَهُ مِنْ الْقُوَّةِ ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْآيَةِ .

( 7939 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَلَا يَجُوزُ إذَا أُرْسِلَ الْفُرْسَانُ أَنْ يُجَنِّبَ أَحَدُهُمَا إلَى فَرَسِهِ فَرَسًا ، يُحَرِّضُهُ عَلَى الْعَدْوِ ، وَلَا يَصِيحُ بِهِ وَقْتَ سِبَاقِهِ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا جَنَبَ وَلَا جَلَبَ } ) مَعْنَى الْجَنَبِ ، أَنْ يُجَنِّبَ الْمُسَابِقُ إلَى فَرَسِهِ فَرَسًا لَا رَاكِبَ عَلَيْهِ ، يُحَرِّضُ الَّذِي تَحْتَهُ عَلَى الْعَدْوِ ، وَيَحُثُّهُ عَلَيْهِ .
هَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ .
وَقَالَ الْقَاضِي : مَعْنَاهُ أَنْ يُجَنِّبَ فَرَسًا يَتَحَوَّلُ عِنْدَ الْغَايَةِ عَلَيْهِ ؛ لِكَوْنِهَا أَقَلَّ كَلَالًا وَإِعْيَاءً .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : كَذَا قِيلَ ، وَلَا أَحْسَبُ هَذَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ الْفَرَسَ الَّتِي يُسَابَقُ عَلَيْهَا لَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِهَا ، فَإِنْ كَانَتْ الَّتِي يَتَحَوَّلُ عَنْهَا ، فَمَا حَصَلَ السَّبْقُ بِهَا ، وَإِنْ كَانَتْ الَّتِي يَتَحَوَّلُ إلَيْهَا ، فَمَا حَصَلَتْ الْمُسَابَقَةُ بِهَا فِي جَمِيعِ الْحَلْبَةِ ، وَمِنْ شَرْطِ السِّبَاقِ ذَلِكَ ، وَلِأَنَّ هَذَا مَتَى احْتَاجَ إلَى التَّحَوُّلِ وَالِاشْتِغَالِ بِهِ ، فَرُبَّمَا سُبِقَ بِاشْتِغَالِهِ ، لَا سُرْعَةِ غَيْرِهِ ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مَعْرِفَةُ عَدْوِ الْفَرَسِ فِي الْحَلْبَةِ كُلِّهَا ، فَمَتَى كَانَ إنَّمَا يَرْكَبُهُ فِي آخِرِ الْحَلْبَةِ ، فَمَا حَصَلَ الْمَقْصُودُ .
وَأَمَّا الْجَلَبُ ، فَهُوَ أَنْ يَتْبَعَ الرَّجُلُ فَرَسَهُ ، يَرْكُضُ خَلْفَهُ ، وَيَجْلِبُ عَلَيْهِ ، وَيَصِيحُ وَرَاءَهُ ، يَسْتَحِثُّهُ بِذَلِكَ عَلَى الْعَدْوِ .
هَكَذَا فَسَّرَهُ مَالِكٌ .
وَقَالَ قَتَادَةُ : الْجَلَبُ وَالْجَنَبُ فِي الرِّهَانِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ كَقَوْلِ مَالِكٍ .
وَحُكِيَ عَنْهُ ، أَنَّ مَعْنَى الْجَلَبِ أَنْ يَحْشُرَ السَّاعِي أَهْلَ الْمَاشِيَةِ لِيَصْدُقَهُمْ ، قَالَ : فَلَا يَفْعَلْ ، لِيَأْتِهِمْ عَلَى مِيَاهِهِمْ فَيَصْدُقَهُمْ .
وَالتَّفْسِيرُ الْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِمَا رَوَى عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا جَلَبَ ، وَلَا جَنَبَ فِي الرِّهَانِ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَفِي

حَدِيثِ عَلِيٍّ فِي السِّبَاقِ وَفِي آخِرِهِ : { وَلَا جَلَبَ ، وَلَا جَنَبَ ، وَلَا شِغَارَ فِي الْإِسْلَامِ } .
وَيُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ أَجْلَبَ عَلَى الْخَيْلِ يَوْمَ الرِّهَانِ ، فَلَيْسَ مِنَّا .
}

كِتَابُ الْأَيْمَانِ الْأَصْلُ فِي مَشْرُوعِيَّتِهَا وَثُبُوتِ حُكْمِهَا ، الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ .
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ : { لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ } .
الْآيَةَ ، وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } .
وَأَمَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَلِفِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ ، فَقَالَ : { وَيَسْتَنْبِئُونَك أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إي وَرَبِّي إنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ } .
وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ } .
وَالثَّالِثُ : { قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ } .
وَأَمَّا السُّنَّةُ : فَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنِّي وَاَللَّهِ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ ، لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ ، فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا ، إلَّا أَتَيْت الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَتَحَلَّلْتهَا } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَكَانَ أَكْثَرُ قَسَمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " وَمُصَرِّفِ الْقُلُوبِ ، وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ " .
ثَبَتَ هَذَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آيٍ وَأَخْبَارٍ سِوَى هَذَيْنِ كَثِيرٍ ، وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْيَمِينِ ، وَثُبُوتِ أَحْكَامِهَا .
وَوَضْعُهَا فِي الْأَصْلِ لِتَوْكِيدِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ .
( 7940 ) فَصْلٌ : وَتَصِحُّ مِنْ كُلِّ مُكَلَّفٍ مُخْتَارٍ قَاصِدٍ إلَى الْيَمِينِ ، وَلَا تَصِحُّ مِنْ غَيْرِ مُكَلَّفٍ ، كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالنَّائِمِ ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ } .
وَلِأَنَّهُ قَوْلٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ حَقٍّ ، فَلَمْ يَصِحَّ مِنْ غَيْرِ مُكَلَّفٍ ، أَوْ غَيْرِ مُكَلَّفٍ ؟ وَلَا تَنْعَقِدُ يَمِينُ مُكْرَهٍ .
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تَنْعَقِدُ ؛ لِأَنَّهَا يَمِينُ مُكَلَّفٍ ، فَانْعَقَدَتْ ، كَيَمِينِ الْمُخْتَارِ .
وَلَنَا مَا رَوَى أَبُو أُمَامَةَ ، وَوَاثِلَةُ بْنُ الْأَسْقَعِ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : {

لَيْسَ عَلَى مَقْهُورٍ يَمِينٌ } .
وَلِأَنَّهُ قَوْلٌ حُمِلَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ حَقٍّ ، فَلَمْ يَصِحّ كَكَلِمَةِ الْكُفْرِ .

( 7941 ) فَصْلٌ : وَتَصِحُّ الْيَمِينُ مِنْ الْكَافِرِ ، وَتَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ بِالْحِنْثِ ، سَوَاءٌ حَنِثَ فِي كُفْرِهِ أَوْ بَعْدَ إسْلَامِهِ .
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ إذَا حَنِثَ بَعْدَ إسْلَامِهِ .
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ : لَا يَنْعَقِدُ يَمِينُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُكَلَّفٍ .
وَلَنَا { ، أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَذَرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْوَفَاءِ بِنَذْرِهِ } .
وَلِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْقَسَمِ ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى : { فَيُقْسِمَانِ بِاَللَّهِ } .
وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ ، وَإِنَّمَا تَسْقُطُ عَنْهُ الْعِبَادَاتُ بِإِسْلَامِهِ ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ ، فَأَمَّا مَا يَلْزَمُهُ بِنَذْرِهِ أَوْ يَمِينِهِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَبْقَى حُكْمُهُ فِي حَقِّهِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جِهَتِهِ .

( 7942 ) فَصْلٌ : وَلَا يَجُوزُ الْحَلِفُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَصِفَاتِهِ ، نَحْوَ أَنْ يَحْلِفَ بِأَبِيهِ ، أَوْ الْكَعْبَةِ ، أَوْ صَحَابِيٍّ ، أَوْ إمَامٍ قَالَ الشَّافِعِيُّ : أَخْشَى أَنْ يَكُونَ مَعْصِيَةً .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : وَهَذَا أَصْلُ مَجْمَعٌ عَلَيْهِ .
وَقِيلَ : يَجُوزُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ اللَّهِ تَعَالَى أَقْسَمَ بِمَخْلُوقَاتِهِ ، فَقَالَ : { وَالصَّافَّاتِ صَفًّا } .
{ وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا } .
{ وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا } .
{ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَعْرَابِيِّ السَّائِلِ عَنْ الصَّلَاةِ : أَفْلَحَ ، وَأَبِيهِ ، إنْ صَدَقَ } .
وَقَالَ فِي حَدِيثِ أَبِي الْعُشَرَاءِ : { وَأَبِيك لَوْ طَعَنْت فِي فَخِذِهَا لَأَجْزَأَك } .
وَلَنَا ، مَا رَوَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَدْرَكَهُ وَهُوَ يَحْلِفُ بِأَبِيهِ ، فَقَالَ : { إنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ ، مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ ، أَوْ لِيَصْمُتْ } .
قَالَ عُمَرُ : فَمَا حَلَفْت بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ ، ذَاكِرًا وَلَا آثَرَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
يَعْنِي وَلَا حَاكِيًا لَهَا عَنْ غَيْرِي .
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ ، فَقَدْ أَشْرَكَ } .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ حَلَفَ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى فَلْيَقُلْ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ } وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الْإِسْلَامِ كَاذِبًا ، فَهُوَ كَمَا قَالَ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَفِي لَفْظٍ : { مَنْ حَلَفَ إنَّهُ بَرِيءٌ مِنْ الْإِسْلَامِ ، فَإِنْ كَانَ قَدْ كَذَبَ ، فَهُوَ كَمَا قَالَ ، وَإِنْ كَانَ صَادِقًا ، لَمْ يَرْجِعْ إلَى الْإِسْلَامِ سَالِمًا } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
فَأَمَّا قَسَمُ اللَّهِ بِمَصْنُوعَاتِهِ ، فَإِنَّمَا أَقْسَمَ بِهِ دَلَالَةً عَلَى قُدْرَتِهِ وَعَظَمَتِهِ ، وَلِلَّهِ - تَعَالَى - أَنْ يُقْسِمَ بِمَا شَاءَ مِنْ

خَلْقِهِ ، وَلَا وَجْهَ لِلْقِيَاسِ عَلَى إقْسَامِهِ .
وَقَدْ قِيلَ : إنَّ فِي إقْسَامِهِ إضْمَارَ الْقَسَمِ بِرَبِّ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ ، فَقَوْلُهُ : { وَالضُّحَى } .
أَيْ وَرَبِّ الضُّحَى .
وَأَمَّا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَفْلَحَ ، وَأَبِيهِ إنَّ صَدَقَ " .
فَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : هَذِهِ اللَّفْظَةُ غَيْرُ مَحْفُوظَةٍ مِنْ وَجْهٍ صَحِيحٍ ، فَقَدْ رَوَاهُ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ مِنْ الْحُفَّاظِ فَلَمْ يَقُولُوهَا فِيهِ .
وَحَدِيثُ أَبِي الْعُشَرَاءِ ، قَدْ قَالَ أَحْمَدُ : لَوْ كَانَ يَثْبُتُ .
يَعْنِي أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ ، وَلِهَذَا لَمْ يَعْمَلْ بِهِ الْفُقَهَاءُ فِي إبَاحَةِ الذَّبْحِ فِي الْفَخِذِ .
ثُمَّ لَوْ ثَبَتَ فَالظَّاهِرُ أَنَّ النَّهْيَ بَعْدَهُ ؛ لِأَنَّ عُمَرَ قَدْ كَانَ يَحْلِفُ بِهَا كَمَا حَلَفَ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ نُهِيَ عَنْ الْحَلِفِ بِهَا ، وَلَمْ يَرِدْ بَعْدَ النَّهْيِ إبَاحَةٌ ، وَلِذَلِكَ قَالَ عُمَرُ ، وَهُوَ يَرْوِي الْحَدِيثَ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَمَا حَلَفْت بِهَا ذَاكِرًا ، وَلَا آثَرَا .
ثُمَّ إنْ لَمْ يَكُنْ الْحَلِفُ بِغَيْرِ اللَّهِ مُحَرَّمًا فَهُوَ مَكْرُوهٌ ، فَإِنْ حَلَفَ فَلْيَسْتَغْفِرْ اللَّهِ تَعَالَى ، أَوْ لِيَذْكُرَ اللَّهَ تَعَالَى ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ حَلَفَ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى ، فَلْيَقُلْ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ } .
لِأَنَّ الْحَلِفَ بِغَيْرِ اللَّهِ سَيِّئَةٌ ، وَالْحَسَنَةُ تَمْحُو السَّيِّئَةَ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا عَمِلْت سَيِّئَةً ، فَأَتْبِعْهَا حَسَنَةً تَمْحُهَا } .
وَلِأَنَّ مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ ، فَقَدْ عَظَّمَ غَيْرَ اللَّهِ تَعْظِيمًا يُشْبِهُ تَعْظِيمَ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، وَلِهَذَا سُمِّيَ شِرْكًا ؛ لِكَوْنِهِ أَشْرَكَ غَيْرَ اللَّهِ مَعَ اللَّهِ - تَعَالَى - فِي تَعْظِيمِهِ بِالْقَسَمِ بِهِ ، فَيَقُولُ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ .
تَوْحِيدًا لِلَّهِ - تَعَالَى ، وَبَرَاءَةً مِنْ الشِّرْكِ .

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ - تَعَالَى ، فَلْيَقُلْ : أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ .

( 7943 ) فَصْلٌ : وَيُكْرَهُ الْإِفْرَاطُ فِي الْحَلِفِ بِاَللَّهِ تَعَالَى ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ } .
وَهَذَا ذَمٌّ لَهُ يَقْتَضِي كَرَاهَةَ فِعْلِهِ .
فَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ إلَى حَدِّ الْإِفْرَاطِ ، فَلَيْسَ بِمَكْرُوهٍ ، إلَّا أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ مَا يُوجِبُ كَرَاهَتَهُ .
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ : الْأَيْمَانُ كُلُّهَا مَكْرُوهَةٌ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ } .
وَلَنَا ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَحْلِفُ كَثِيرًا ، وَقَدْ كَانَ يَحْلِفُ فِي الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ أَيْمَانًا كَثِيرَةً ، وَرُبَّمَا كَرَّرَ الْيَمِينَ الْوَاحِدَةَ ثَلَاثًا ، فَإِنَّهُ { قَالَ فِي خُطْبَةِ الْكُسُوفِ : وَاَللَّهِ يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ ، مَا أَحَدٌ أَغْيَرُ مِنْ اللَّهِ أَنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ ، أَوْ تَزْنِيَ أَمَتُهُ ، يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ ، وَاَللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ ، لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا ، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا .
وَلَقِيَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ ، مَعَهَا أَوْلَادُهَا ، فَقَالَ : وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، إنَّكُمْ لَأَحَبُّ النَّاسِ إلَيَّ .
ثَلَاثَ مَرَّاتٍ .
وَقَالَ : وَاَللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا ، وَاَللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا ، وَاَللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا } .
وَلَوْ كَانَ هَذَا مَكْرُوهًا ، لَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ .
وَلِأَنَّ الْحَلِفَ بِاَللَّهِ تَعْظِيمٌ لَهُ ، وَرُبَّمَا ضَمَّ إلَى يَمِينِهِ وَصْفَ اللَّهِ - تَعَالَى - بِتَعْظِيمِهِ وَتَوْحِيدِهِ ، فَيَكُونُ مُثَابًا عَلَى ذَلِكَ .
وَقَدْ رُوِيَ { أَنَّ رَجُلًا حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ ، فَقَالَ : وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ ، مَا فَعَلْت كَذَا .
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَمَا إنَّهُ قَدْ كَذَبَ ، وَلَكِنْ قَدْ غُفِرَ لَهُ بِتَوْحِيدِهِ } .
وَأَمَّا الْإِفْرَاطُ فِي الْحَلِفِ ، فَإِنَّمَا كُرِهَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكَادُ يَخْلُو مِنْ الْكَذِبِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَأَمَّا قَوْلُهُ : { وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ } .
فَمَعْنَاهُ لَا

تَجْعَلُوا أَيْمَانَكُمْ بِاَللَّهِ مَانِعَةً لَكُمْ مِنْ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَالْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ ، وَهُوَ أَنْ يَحْلِفَ بِاَللَّهِ أَنْ لَا يَفْعَلَ بِرًّا وَلَا تَقْوَى وَلَا يُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ ، ثُمَّ يَمْتَنِعَ مِنْ فِعْلِهِ ، لِيَبَرَّ فِي يَمِينِهِ ، وَلَا يَحْنَثَ فِيهَا ، فَنُهُوا عَنْ الْمُضِيِّ فِيهَا .
قَالَ أَحْمَدُ ، وَذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ بِإِسْنَادِهِ ، فِي قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ } : الرَّجُلُ يَحْلِفُ أَنْ لَا يَصِلَ قَرَابَتَهُ ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهَ لَهُ مَخْرَجًا فِي التَّكْفِيرِ ، فَأَمَرَهُ أَنْ لَا يَعْتَلَّ بِاَللَّهِ ، فَلِيُكَفِّرْ ، وَلْيَبَرَّ .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَأَنْ يَسْتَلِجَّ أَحَدُكُمْ فِي يَمِينِهِ ، آثَمُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَنْ يُؤَدِّيَ الْكَفَّارَةَ الَّتِي فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا حَلَفْت عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْت غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا ، فَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِك .
وَقَالَ : إنِّي وَاَللَّهِ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ ، فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا ، إلَّا أَتَيْت الَّذِي هُوَ خَيْرٌ ، وَتَحَلَّلْتهَا } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا .
وَإِنْ كَانَ النَّهْيُ عَادَ إلَى الْيَمِينِ ، فَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ الْحَلِفُ عَلَى تَرْكِ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَالْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ ، لَا عَلَى كُلِّ يَمِينٍ ، فَلَا حُجَّةَ فِيهَا لَهُمْ إذًا .

( 7944 ) فَصْلٌ : وَالْأَيْمَانُ تَنْقَسِمُ خَمْسَةَ أَقْسَامٍ ؛ أَحَدُهَا ، وَاجِبٌ ، وَهِيَ الَّتِي يُنْجِي بِهَا إنْسَانًا مَعْصُومًا مِنْ هَلَكَةٍ ، كَمَا رُوِيَ عَنْ سُوَيْد بْنِ حَنْظَلَةَ ، قَالَ : خَرَجْنَا نُرِيدُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَنَا وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ ، فَأَخَذَهُ عَدُوٌّ لَهُ ، فَتَحَرَّجَ الْقَوْمُ أَنْ يَحْلِفُوا ، وَحَلَفْت أَنَا أَنَّهُ أَخِي ، فَذَكَرْت ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { صَدَقْت ، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ .
فَهَذَا وَمِثْلُهُ وَاجِبٌ لِأَنَّ إنْجَاءَ الْمَعْصُومِ وَاجِبٌ ، وَقَدْ تَعَيَّنَ فِي الْيَمِينِ ، فَيَجِبُ ، وَكَذَلِكَ إنْجَاءُ نَفْسِهِ ، مِثْلُ أَنْ تَتَوَجَّهَ عَلَيْهِ أَيْمَانُ الْقَسَامَةِ فِي دَعْوَى الْقَتْلِ عَلَيْهِ ، وَهُوَ بَرِيءٌ .
الثَّانِي ، مَنْدُوبٌ ، وَهُوَ الْحَلِفُ الَّذِي تَتَعَلَّقُ بِهِ مَصْلَحَةٌ ؛ مِنْ إصْلَاحٍ بَيْنَ مُتَخَاصِمَيْنِ ، أَوْ إزَالَةِ حِقْدٍ مِنْ قَلْبِ مُسْلِمٍ عَنْ الْحَالِفِ أَوْ غَيْرِهِ ، أَوْ دَفْعِ شَرٍّ ، فَهَذَا مَنْدُوبٌ ؛ لِأَنَّ فِعْلَ هَذِهِ الْأُمُورِ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ ، وَالْيَمِينُ مُفْضِيَةٌ إلَيْهِ .
وَإِنْ حَلَفَ عَلَى فِعْلِ طَاعَةٍ ، أَوْ تَرْكِ مَعْصِيَةٍ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، أَنَّهُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ .
وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا ، وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَدْعُوهُ إلَى فِعْلِ الطَّاعَاتِ ، وَتَرْكِ الْمَعَاصِي .
وَالثَّانِي ، لَيْسَ بِمَنْدُوبٍ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ لَمْ يَكُونُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي الْأَكْثَرِ الْأَغْلَبِ ، وَلَا حَثَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدًا عَلَيْهِ ، وَلَا نَدَبَهُ إلَيْهِ ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ طَاعَةً لَمْ يُخِلُّوا بِهِ ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى النَّذْرِ ، وَقَدْ { نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ النَّذْرِ ، وَقَالَ : إنَّهُ لَا يَأْتِي بِخَيْرٍ ، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .

الثَّالِثُ ، الْمُبَاحُ ، مِثْلُ الْحَلِفِ عَلَى فِعْلِ مُبَاحٍ أَوْ تَرْكِهِ ، وَالْحَلِفِ عَلَى الْخَبَرِ بِشَيْءِ ، وَهُوَ صَادِقٌ فِيهِ ، أَوْ يَظُنُّ أَنَّهُ فِيهِ صَادِقٌ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ } .
وَمِنْ صُورِ اللَّغْوِ قَوْلُهُ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى شَيْءٍ يَظُنُّهُ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ ، وَيَبِينُ بِخِلَافِهِ .
فَأَمَّا الْحَلِفُ عَلَى الْحُقُوقِ عِنْدَ الْحَاكِمِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، أَنَّ تَرْكَهُ أَوْلَى مِنْ فِعْلِهِ ، فَيَكُونُ مَكْرُوهًا .
ذَكَرَ ذَلِكَ أَصْحَابُنَا ، وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ وَالْمِقْدَادَ تَحَاكَمَا إلَى عُمَرَ ، فِي مَالٍ اسْتَقْرَضَهُ الْمِقْدَادُ ، فَجَعَلَ عُمَرُ الْيَمِينَ عَلَى الْمِقْدَادِ ، فَرَدَّهَا عَلَى عُثْمَانَ ، فَقَالَ عُمَرُ : لَقَدْ أَنْصَفَك .
فَأَخَذَ عُثْمَانُ مَا أَعْطَاهُ الْمِقْدَادُ ، وَلَمْ يَحْلِفْ ، فَقَالَ : خِفْت أَنْ يُوَافِقَ قَدَرٌ بَلَاءً ، فَيُقَالَ : بِيَمِينِ عُثْمَانَ .
وَالثَّانِي ، أَنَّهُ مُبَاحٌ فِعْلُهُ كَتَرْكِهِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - أَمَرَ نَبِيَّهُ بِالْحَلِفِ عَلَى الْحَقِّ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ .
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيّ ، أَنَّ عُمَرَ قَالَ عَلَى الْمِنْبَرِ ، وَفِي يَدِهِ عَصًا : يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، لَا تَمْنَعُكُمْ الْيَمِينُ مِنْ حُقُوقِكُمْ ، فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، إنَّ فِي يَدِي لَعَصًا .
وَرَوَى عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ ، فِي كِتَابِ " قُضَاةِ الْبَصْرَةِ " ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ الشَّعْبِيِّ ، أَنَّ عُمَرَ وَأُبَيًّا تَحَاكَمَا إلَى زَيْدٍ فِي نَخْلٍ ادَّعَاهُ أُبَيٌّ ، فَتَوَجَّهَتْ الْيَمِينُ عَلَى عُمَرَ ، فَقَالَ زَيْدٌ : أَعْفِ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ .
فَقَالَ عُمَرُ : وَلِمَ يُعْفِي أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؟ إنْ عَرَفْت شَيْئًا اسْتَحْقَقْته بِيَمِينِي ، وَإِلَّا تَرَكْته ، وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ ، إنَّ النَّخْلَ لَنَخْلِي ، وَمَا لِأُبَيٍّ فِيهِ حَقٌّ .
فَلَمَّا خَرَجَا وَهَبَ النَّخْلَ لِأُبَيٍّ ، فَقِيلَ لَهُ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَلَّا كَانَ هَذَا قَبْلَ الْيَمِينِ ؟ فَقَالَ : خِفْت أَنْ لَا

أَحْلِفَ ، فَلَا يَحْلِفُ النَّاسُ عَلَى حُقُوقِهِمْ بَعْدِي ، فَيَكُونَ سُنَّةً .
وَلِأَنَّهُ حَلِفُ صِدْقٍ عَلَى حَقٍّ ، فَأَشْبَهَ الْحَلِفَ عِنْدَ غَيْرِ الْحَاكِمِ .
الرَّابِعُ ، الْمَكْرُوهُ ، وَهُوَ الْحَلِفُ عَلَى فِعْلِ مَكْرُوهٍ ، أَوْ تَرْكِ مَنْدُوبٍ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ } .
وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَلَفَ لَا يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ بَعْدَ الَّذِي قَالَ لِعَائِشَةَ مَا قَالَ ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ أَهْلِ الْإِفْكِ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا فِي عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا } وَقِيلَ : الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ : { وَلَا يَأْتَلِ } أَيْ لَا يَمْتَنِعْ .
وَلِأَنَّ الْيَمِينَ عَلَى ذَلِكَ مَانِعَةٌ مِنْ فِعْلِ الطَّاعَةِ ، أَوْ حَامِلَةٌ عَلَى فِعْلِ الْمَكْرُوهِ ، فَتَكُونُ مَكْرُوهَةً .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَتْ مَكْرُوهَةً لَأَنْكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي سَأَلَهُ عَنْ الصَّلَوَاتِ ، فَقَالَ : هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا ؟ فَقَالَ : " لَا ، إلَّا أَنْ تَطَوَّعَ " .
فَقَالَ : وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ ، لَا أَزِيدُ عَلَيْهَا وَلَا أَنْقُصُ مِنْهَا .
وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، بَلْ قَالَ : " أَفْلَحَ الرَّجُلُ إنْ صَدَقَ " .
قُلْنَا : لَا يَلْزَمُ هَذَا ، فَإِنَّ الْيَمِينَ عَلَى تَرْكِهَا ، لَا تَزِيدُ عَلَى تَرْكِهَا ، وَلَوْ تَرَكَهَا لَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهِ ، وَيَكْفِي فِي ذَلِكَ بَيَانُ أَنَّ مَا تَرَكَهُ تَطَوُّعٌ ، وَقَدْ بَيَّنَهُ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ : " إلَّا أَنْ تَطَوَّعَ " .
وَلِأَنَّ هَذِهِ الْيَمِينَ إنْ تَضَمَّنَتْ تَرْكَ الْمَنْدُوبِ ، فَقَدْ تَنَاوَلَتْ فِعْلَ الْوَاجِبِ ، وَالْمُحَافَظَةَ عَلَيْهِ كُلِّهِ ، بِحَيْثُ لَا يَنْقُصُ مِنْهُ شَيْئًا ، وَهَذَا

فِي الْفَضْلِ يَزِيدُ عَلَى مَا قَابَلَهُ مِنْ تَرْكِ التَّطَوُّعِ ، فَيَتَرَجَّحُ جَانِبُ الْإِثْبَاتِ بِهَا عَلَى تَرْكِهَا ، فَيَكُونُ مِنْ قَبِيلِ الْمَنْدُوبِ ، فَكَيْفَ يُنْكَرُ ، وَلِأَنَّ فِي الْإِقْرَارِ عَلَى هَذِهِ الْيَمِينِ بَيَانَ حُكْمٍ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ ، وَهُوَ بَيَانُ أَنَّ تَرْكَ التَّطَوُّعِ غَيْرُ مُؤَاخَذٍ بِهِ ، وَلَوْ أَنْكَرَ عَلَى الْحَالِفِ ، لَحَصَلَ ضِدُّ هَذَا ، وَتَوَهَّمَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ لُحُوقَ الْإِثْمِ بِتَرْكِهِ فَيَفُوتُ الْغَرَضُ .
وَمِنْ قِسْمِ الْمَكْرُوهِ الْحَلِفُ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الْحَلِفُ مُنْفِقٌ لِلسِّلْعَةِ ، مُمْحِقٌ لِلْبَرَكَةِ } .
رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
الْقِسْمُ الْخَامِسُ ، الْمُحَرَّمُ ، وَهُوَ الْحَلِفُ الْكَاذِبُ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - ذَمَّهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } .
وَلِأَنَّ الْكَذِبَ حَرَامٌ ، فَإِذَا كَانَ مَحْلُوفًا عَلَيْهِ ، كَانَ أَشَدَّ فِي التَّحْرِيمِ .
وَإِنْ أَبْطَلَ بِهِ حَقًّا ، أَوْ اقْتَطَعَ بِهِ مَالَ مَعْصُومٍ ، كَانَ أَشَدَّ ؛ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ حَلَفَ يَمِينًا فَاجِرَةً ، يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ } .
وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي ذَلِكَ : { إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
وَمِنْ هَذَا الْقِسْمِ الْحَلِفُ عَلَى فِعْلِ مَعْصِيَةٍ ، أَوْ تَرْكِ وَاجِبٍ ؛ فَإِنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ حَرَامٌ ، فَكَانَ الْحَلِفُ حَرَامًا ؛ لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ إلَيْهِ ، وَالْوَسِيلَةُ تَأْخُذُ حُكْمَ الْمُتَوَسَّلِ إلَيْهِ .

( 7945 ) فَصْلٌ : وَمَتَى كَانَتْ الْيَمِينُ عَلَى فِعْلِ وَاجِبٍ ، أَوْ تَرْكِ مُحَرَّمٍ ، كَانَ حَلُّهَا مُحَرَّمًا ؛ لِأَنَّ حَلَّهَا بِفِعْلِ الْمُحَرَّمِ وَهُوَ مُحَرَّمٌ .
وَإِنْ كَانَتْ عَلَى فِعْلِ مَنْدُوبٍ ، أَوْ تَرْكِ مَكْرُوهٍ ، فَحَلُّهَا مَكْرُوهٌ .
وَإِنْ كَانَتْ عَلَى فِعْلِ مُبَاحٍ ، فَحَلُّهَا مُبَاحٌ .
فَإِنْ قِيلَ : فَكَيْفَ يَكُونُ حَلُّهَا مُبَاحًا ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } ؟ قُلْنَا : هَذَا فِي الْأَيْمَانِ فِي الْعُهُودِ وَالْمَوَاثِيقِ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى : { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } إلَى قَوْلِهِ : { تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ } .
وَالْعَهْدُ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ بِغَيْرِ يَمِينٍ ، فَمَعَ الْيَمِينِ أَوْلَى ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إذَا عَاهَدْتُمْ } وَقَالَ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } .
وَلِهَذَا نَهَى عَنْ نَقْضِ الْيَمِينِ ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ ، وَذَمَّهُمْ عَلَيْهِ ، وَضَرَبَ لَهُمْ مَثَلَ الَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْحَلَّ الْمُخْتَلَفَ فِيهِ لَا يَدْخُلُهُ شَيْءٌ مِنْ هَذَا .
وَإِنْ كَانَتْ عَلَى فِعْلِ مَكْرُوهٍ ، أَوْ تَرْكِ مَنْدُوبٍ ، فَحَلُّهَا مَنْدُوبٌ إلَيْهِ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا حَلَفْت عَلَى يَمِينٍ ، فَرَأَيْت غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا ، فَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ ، وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِك } .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنِّي وَاَللَّهِ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ ، لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ ، فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا ، إلَّا أَتَيْت الَّذِي هُوَ خَيْرٌ ، وَتَحَلَّلْتهَا } .
وَإِنْ كَانَتْ الْيَمِينُ عَلَى فِعْلِ مُحَرَّمٍ ، أَوْ تَرْكِ وَاجِبٍ ، فَحَلُّهَا وَاجِبٌ ؛ لِأَنَّ حَلَّهَا بِفِعْلِ الْوَاجِبِ ، وَفِعْلُ الْوَاجِبِ وَاجِبٌ .

( 7946 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَمَنْ حَلَفَ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا ، فَلَمْ يَفْعَلْهُ ، أَوْ لَا يَفْعَلَ شَيْئًا ، فَفَعَلَهُ ، فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ ) لَا خِلَافَ فِي هَذَا عِنْدَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : الْيَمِينُ الَّتِي فِيهَا الْكَفَّارَةُ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ ، هِيَ الَّتِي عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ مِنْ الْأَفْعَالِ .
وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إلَى أَنَّ الْحِنْثَ مَتَى كَانَ طَاعَةً ، لَمْ يُوجِبْ كَفَّارَةً .
وَقَالَ قَوْمٌ : مَنْ حَلَفَ عَلَى فِعْلِ مَعْصِيَةٍ ، فَكَفَّارَتُهَا تَرْكُهَا .
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : اللَّغْوُ أَنْ يَحْلِفَ الرَّجُلُ فِيمَا لَا يَنْبَغِي لَهُ .
يَعْنِي فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ فِي الْحِنْثِ .
وَقَدْ رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا نَذْرَ وَلَا يَمِينَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ ، وَلَا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ - تَعَالَى وَلَا فِي قَطِيعَةِ رَحِمٍ ، وَمَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا ، فَلْيَدَعْهَا ، وَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ ، فَإِنَّ تَرْكَهَا كَفَّارَةٌ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا تَجِبُ لِرَفْعِ الْإِثْمِ ، وَلَا إثْمَ فِي الطَّاعَةِ .
وَلِأَنَّ الْيَمِينَ كَالنَّذْرِ ، وَلَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ - تَعَالَى .
وَلَنَا ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ ، فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا ، فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ ، وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ .
وَقَالَ : إنِّي وَاَللَّهِ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ ، لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ ، فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا ، إلَّا أَتَيْت الَّذِي هُوَ خَيْرٌ ، وَكَفَّرْت عَنْ يَمِينِي } .
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ .
وَحَدِيثُهُمْ لَا يُعَارِضُ حَدِيثَنَا ؛ لِأَنَّ حَدِيثَنَا أَصَحُّ مِنْهُ وَأَثْبَتُ .
ثُمَّ إنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ تَرْكَهَا كَفَّارَةٌ لِإِثْمِ الْحَلِفِ ، وَالْكَفَّارَةُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا كَفَّارَةُ الْمُخَالَفَةِ .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّ الْحِنْثَ طَاعَةٌ .
قُلْنَا : فَالْيَمِينُ غَيْرُ طَاعَةٍ ،

فَتَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ ؛ لِلْمُخَالَفَةِ ، وَلِتَعْظِيمِ اسْمِ اللَّهِ - تَعَالَى - إذَا حَلَفَ بِهِ وَلَمْ يَبَرَّ يَمِينَهُ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، نَظَرْنَا فِي يَمِينِهِ ، فَإِنْ كَانَتْ عَلَى تَرْكِ شَيْءٍ فَفَعَلَهُ ، حَنِثَ ، وَوَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ .
وَإِنْ كَانَتْ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ فَلَمْ يَفْعَلْهُ ، وَكَانَتْ يَمِينُهُ مُؤَقَّتَةً بِلَفْظِهِ ، أَوْ نِيَّتِهِ ، أَوْ قَرِينَةِ حَالِهِ ، فَفَاتَ الْوَقْتُ ، حَنِثَ ، وَكَفَّرَ .
وَإِنْ كَانَتْ مُطْلَقَةً ، لَمْ يَحْنَثْ إلَّا بِفَوَاتِ وَقْتِ الْإِمْكَانِ ؛ لِأَنَّهُ مَا دَامَ فِي الْوَقْتِ وَالْفِعْلُ مُمْكِنٌ ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَفْعَلَ فَلَا يَحْنَثُ ؛ وَلِهَذَا { قَالَ عُمَرُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَلَمْ تُخْبِرْنَا أَنَّا نَأْتِي الْبَيْتَ ، وَنَطُوفُ بِهِ ؟ قَالَ : فَأَخْبَرْتُك أَنَّك تَأْتِيهِ الْعَامَ ؟ قَالَ : لَا .
قَالَ : فَإِنَّك آتِيهِ وَمُطَوِّفٌ بِهِ } .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى : { قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ } .
وَهُوَ حَقٌّ ، وَلَمْ يَأْتِ بَعْدُ .

( 7947 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَإِنْ فَعَلَهُ نَاسِيًا ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إذَا كَانَتْ الْيَمِينُ بِغَيْرِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَفْعَلَ شَيْئًا ، فَفَعَلَهُ نَاسِيًا .
فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ .
نَقَلَهُ عَنْ أَحْمَدَ الْجَمَاعَةُ ، إلَّا فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ ، فَإِنَّهُ يَحْنَثُ .
هَذَا ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ .
وَاخْتَارَهُ الْخَلَّالُ وَصَاحِبُهُ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ .
وَعَنْ أَحْمَدَ ، رِوَايَةٌ أُخْرَى ، أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ أَيْضًا ، وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ ، وَابْنِ أَبِي نَجِيحٍ ، وَإِسْحَاقَ ، قَالُوا : لَا حِنْثَ عَلَى النَّاسِي فِي طَلَاقٍ وَلَا غَيْرِهِ .
وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ } .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَنْ الْخَطَأِ ، وَالنِّسْيَانِ ، وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ } .
وَلِأَنَّهُ غَيْرُ قَاصِدٍ لِلْمُخَالَفَةِ ، فَلَمْ يَحْنَثْ ، كَالنَّائِمِ وَالْمَجْنُونِ .
وَلِأَنَّهُ أَحَدُ طَرَفِي الْيَمِينِ فَاعْتُبِرَ فِيهِ الْقَصْدُ ، كَحَالَةِ الِابْتِدَاءِ بِهَا .
وَعَنْ أَحْمَدَ ، رِوَايَةٌ أُخْرَى ، أَنَّهُ يَحْنَثُ فِي الْجَمِيعِ ، وَتَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ فِي الْيَمِينِ الْمُكَفَّرَةِ .
وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَالزُّهْرِيِّ ، وَقَتَادَةَ ، وَرَبِيعَةَ ، وَمَالِكٍ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيَّ ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ قَاصِدًا لِفِعْلِهِ ، فَلَزِمَهُ الْحِنْثُ ، كَالذَّاكِرِ ، وَكَمَا لَوْ كَانَتْ الْيَمِينُ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ .
وَلَنَا ، عَلَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَجِبُ فِي الْيَمِينِ الْمُكَفَّرَةِ ، مَا تَقَدَّمَ ، وَلِأَنَّهَا تَجِبُ لِرَفْعِ الْإِثْمِ ، وَلَا إثْمَ عَلَى النَّاسِي .
وَأَمَّا الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ ، فَهُوَ مُعَلَّقٌ بِشَرْطٍ ، فَيَقَعُ بِوُجُودِ شَرْطِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ كَمَا لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ ، إنْ طَلَعَتْ

الشَّمْسُ ، أَوْ قَدِمَ الْحَاجُّ .

( 7948 ) فَصْلٌ : وَإِنْ فَعَلَهُ غَيْرَ عَالِمٍ بِالْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ ، كَرَجُلٍ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ يَحْسَبُهُ أَجْنَبِيًّا ، أَوْ حَلَفَ إنَّهُ لَا يُفَارِقُ غَرِيمَهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ ، فَأَعْطَاهُ قَدْرَ حَقِّهِ ، فَفَارَقَهُ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ قَدْ بَرَّ ، فَوَجَدَ مَا أَخَذَهُ رَدِيئًا ، أَوْ حَلَفَ : لَا بِعْت لِزَيْدٍ ثَوْبًا .
فَوَكَّلَ زَيْدٌ مَنْ يَدْفَعُهُ إلَى مَنْ يَبِيعُهُ ، فَدَفَعَهُ إلَى الْحَالِفِ ، فَبَاعَهُ مِنْ غَيْرِ عِلْمِهِ ، فَهُوَ كَالنَّاسِي ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ قَاصِدٍ لِلْمُخَالَفَةِ ، أَشْبَهَ النَّاسِيَ .

( 7949 ) فَصْلٌ : وَالْمُكْرَهُ عَلَى الْفِعْلِ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا : أَنْ يُلْجَأَ إلَيْهِ ، مِثْلَ مَنْ يَحْلِفُ لَا يَدْخُلُ دَارًا ، فَحُمِلَ فَأُدْخِلَهَا .
أَوْ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا ، فَأُخْرِجَ مَحْمُولًا ، أَوْ مَدْفُوعًا بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ ، وَلَمْ يُمْكِنْهُ الِامْتِنَاعُ .
فَهَذَا لَا يَحْنَثُ فِي قَوْلِ أَكْثَرِهِمْ .
وَبِهِ قَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَقَالَ مَالِكٌ : إنْ دَخَلَ مَرْبُوطًا ، لَمْ يَحْنَثْ .
وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ الدُّخُولَ وَالْخُرُوجَ ، فَلَمْ يَحْنَثْ ، كَمَا لَوْ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ .
الثَّانِي أَنْ يُكْرَهَ بِالضَّرْبِ وَالتَّهْدِيدِ بِالْقَتْلِ وَنَحْوِهِ ، فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : فِيهِ رِوَايَتَانِ ، كَالنَّاسِي .
وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ .
وَقَالَ مَالِكٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ : يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ ، فَوَجَبَ مَعَ الْإِكْرَاهِ وَالنِّسْيَانِ ، كَكَفَّارَةِ الصَّيْدِ .
وَلَنَا ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنْ الْخَطَأِ ، وَالنِّسْيَانِ ، وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ } .
وَلِأَنَّهُ نَوْعُ إكْرَاهٍ ، فَلَمْ يَحْنَثْ بِهِ ، كَمَا لَوْ حُمِلَ وَلَمْ يُمْكِنْهُ الِامْتِنَاعُ ، وَلِأَنَّ الْفِعْلَ لَا يُنْسَبُ إلَيْهِ ، فَأَشْبَهَ مَنْ لَمْ يَفْعَلْهُ ، وَلَا نُسَلِّمُ الْكَفَّارَةَ فِي الصَّيْدِ ، بَلْ إنَّمَا تَجِبُ عَلَى الْمُكْرَهِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( 7950 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَمَنْ حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَاذِبٌ ، فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الَّذِي أَتَى بِهِ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تَكُونَ فِيهِ الْكَفَّارَةُ ) .
هَذَا ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ ، نَقَلَهُ الْجَمَاعَةُ عَنْ أَحْمَدَ .
وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، مِنْهُمْ ؛ ابْنُ مَسْعُودٍ ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَالْحَسَنُ ، وَمَالِكٌ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَاللَّيْثُ ، وَأَبُو عُبَيْدٍ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ .
وَهَذِهِ الْيَمِينُ تُسَمَّى يَمِينَ الْغَمُوسِ ؛ لِأَنَّهَا تَغْمِسُ صَاحِبَهَا فِي الْإِثْمِ .
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : كُنَّا نَعُدُّ مِنْ الْيَمِينِ الَّتِي لَا كَفَّارَةَ لَهَا ، الْيَمِينَ الْغَمُوسَ .
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، قَالَ : هِيَ مِنْ الْكَبَائِرِ ، وَهِيَ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تُكَفَّرَ .
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّ فِيهَا الْكَفَّارَةَ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ ، وَالزُّهْرِيِّ ، وَالْحَكَمِ ، وَالْبَتِّيِّ .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَتْ مِنْهُ الْيَمِينُ بِاَللَّهِ تَعَالَى ، وَالْمُخَالَفَةُ مَعَ الْقَصْدِ ، فَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ ، كَالْمُسْتَقْبِلَةِ .
وَلَنَا ، أَنَّهَا يَمِينٌ غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ ، فَلَا تُوجِبُ الْكَفَّارَةَ ، كَاللَّغْوِ ، أَوْ يَمِينٌ عَلَى مَاضٍ ، فَأَشْبَهْت اللَّغْوَ ، وَبَيَانُ كَوْنِهَا غَيْرَ مُنْعَقِدَةٍ ، أَنَّهَا لَا تُوجِبُ بِرًّا ، وَلَا يُمْكِنُ فِيهَا ؛ وَلِأَنَّهُ قَارَنَهَا مَا يُنَافِيهَا ، وَهُوَ الْحِنْثُ ، فَلَمْ تَنْعَقِدْ ، كَالنِّكَاحِ الَّذِي قَارَنَهُ الرَّضَاعُ ، وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَرْفَعُ إثْمَهَا ، فَلَا تُشْرَعُ فِيهَا ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ أَنَّهَا كَبِيرَةٌ ، فَإِنَّهُ يُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مِنْ الْكَبَائِرِ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ، وَقَتْلُ النَّفْسِ ، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ } .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ، وَرُوِيَ فِيهِ : { خَمْسٌ مِنْ الْكَبَائِرِ لَا كَفَّارَةَ لَهُنَّ ؛ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ ، وَالْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ

، وَبَهْتُ الْمُؤْمِنِ ، وَقَتْلُ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَالْحَلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَاجِرَةٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ } .
وَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَى الْمُسْتَقْبَلَةِ ؛ لِأَنَّهَا يَمِينٌ مُنْعَقِدَةٌ ، يُمْكِنُ حَلُّهَا وَالْبِرُّ فِيهَا ، وَهَذِهِ غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ ، فَلَا حَلَّ لَهَا .
وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ ، وَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ } .
يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا تَجِبُ بِالْحَلِفِ عَلَى فِعْلٍ يَفْعَلُهُ فِيمَا يَسْتَقْبِلُهُ .
قَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ .

( 7951 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَالْكَفَّارَةُ إنَّمَا تَلْزَمُ مَنْ حَلَفَ يُرِيدُ عَقْدَ الْيَمِينِ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْيَمِينَ الَّتِي تَمُرُّ عَلَى لِسَانِهِ فِي عَرَضِ حَدِيثِهِ ، مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إلَيْهَا ، لَا كَفَّارَةَ فِيهَا ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ؛ لِأَنَّهَا مِنْ لَغْوِ الْيَمِينِ .
نَقَلَ عَبْدُ اللَّهِ ، عَنْ أَبِيهِ ، أَنَّهُ قَالَ : اللَّغْوُ عِنْدِي أَنْ يَحْلِفَ عَلَى الْيَمِينِ ، يَرَى أَنَّهَا كَذَلِكَ ، وَالرَّجُلُ يَحْلِفُ فَلَا يَعْقِدُ قَلْبَهُ عَلَى شَيْءٍ .
وَمِمَّنْ قَالَ : إنَّ اللَّغْوَ الْيَمِينُ الَّتِي لَا يَعْقِدُ عَلَيْهَا قَلْبَهُ ؛ عُمَرُ ، وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا .
وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ ، وَالْقَاسِمُ ، وَعِكْرِمَةُ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ ، قَالَ : قَالَتْ عَائِشَةُ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ، يَعْنِي اللَّغْوَ فِي الْيَمِينِ : { هُوَ كَلَامُ الرَّجُلِ فِي بَيْتِهِ ، لَا وَاَللَّهِ .
وَبَلَى وَاَللَّهِ } .
أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد .
قَالَ : وَرَوَاهُ الزُّهْرِيُّ ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ ، وَمَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ ، عَنْ عَطَاءٍ ، عَنْ عَائِشَةَ ، مَوْقُوفًا .
وَرَوَى الزُّهْرِيُّ ، أَنَّ عُرْوَةَ حَدَّثَهُ ، عَنْ عَائِشَةَ ، قَالَتْ ، أَيْمَانُ اللَّغْوِ ، مَا كَانَ فِي الْمِرَاءِ ، وَالْهَزْلِ ، وَالْمُزَاحَةِ ، وَالْحَدِيثِ الَّذِي لَا يُعْقَدُ عَلَيْهِ الْقَلْبُ ، وَأَيْمَانُ الْكَفَّارَةِ كُلُّ يَمِينٍ حَلَفَ عَلَيْهَا عَلَى وَجْهٍ مِنْ الْأَمْرِ ، فِي غَضَبٍ أَوْ غَيْرِهِ ، لَيَفْعَلَنَّ ، أَوْ لَيَتْرُكَنَّ ، فَذَلِكَ عَقْدُ الْأَيْمَانِ الَّتِي فَرَضَ اللَّهُ - تَعَالَى - فِيهَا الْكَفَّارَةَ .
وَلِأَنَّ اللَّغْوَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْكَلَامُ غَيْرُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ .
وَهَذَا كَذَلِكَ .
وَمِمَّنْ قَالَ : لَا كَفَّارَةَ فِي هَذَا ؛ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ ، وَأَبُو مَالِكٍ ، وَزُرَارَةُ بْنُ أَوْفَى ، وَالْحَسَنُ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَمَالِكٌ .
وَهُوَ قَوْلُ مَنْ قَالَ : إنَّهُ مِنْ لَغْوِ الْيَمِينِ .
وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا .
وَوَجْهُ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ

تَعَالَى : { لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } .
فَجَعَلَ الْكَفَّارَةَ لِلْيَمِينِ الَّتِي يُؤَاخَذُ بِهَا ، وَنَفَى الْمُؤَاخَذَةَ بِاللَّغْوِ ، فَيَلْزَمُ انْتِفَاءُ الْكَفَّارَةِ ، وَلِأَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهَا إيجَابَ الْكَفَّارَةِ ، بِدَلِيلِ أَنَّهَا تَجِبُ فِي الْأَيْمَانِ الَّتِي لَا مَأْثَمَ فِيهَا ، وَإِذَا كَانَتْ الْمُؤَاخَذَةُ إيجَابَ الْكَفَّارَةِ ، فَقَدْ نَفَاهَا فِي اللَّغْوِ ، فَلَا تَجِبُ ، وَلِأَنَّهُ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ ، وَلَمْ نَعْرِفْ لَهُمْ مُخَالِفًا فِي عَصْرِهِمْ ، فَكَانَ إجْمَاعًا ، وَلِأَنَّ قَوْلَ عَائِشَةَ فِي تَفْسِيرِ اللَّغْوِ ، وَبَيَانِ الْأَيْمَانِ الَّتِي فِيهَا الْكَفَّارَةُ ، خَرَجَ مِنْهَا تَفْسِيرًا لِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَتَفْسِيرُ الصَّحَابِيِّ مَقْبُولٌ .

( 7952 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَمَنْ حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ يَظُنُّهُ كَمَا حَلَفَ ، فَلَمْ يَكُنْ ، فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ لَغْوِ الْيَمِينِ ) أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْيَمِينَ لَا كَفَّارَةَ فِيهَا .
قَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ .
يُرْوَى هَذَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ ، وَأَبِي مَالِكٍ ، وَزُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى ، وَالْحَسَنِ ، وَالنَّخَعِيِّ ، وَمَالِكٍ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ ، وَالثَّوْرِيِّ .
وَمِمَّنْ قَالَ : هَذَا لَغْوُ الْيَمِينِ .
مُجَاهِدٌ ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ .
وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ لَغْوَ الْيَمِينِ لَا كَفَّارَةَ فِيهِ .
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى هَذَا .
وَقَدْ حُكِيَ عَنْ النَّخَعِيِّ فِي الْيَمِينِ عَلَى شَيْءٍ يَظُنُّهُ حَقًّا ، فَيَتَبَيَّنُ بِخِلَافِهِ ، أَنَّهُ مِنْ لَغْوِ الْيَمِينِ ، وَفِيهِ الْكَفَّارَةُ .
وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ .
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّ فِيهِ الْكَفَّارَةَ ، وَلَيْسَ مِنْ لَغْوِ الْيَمِينِ ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ - تَعَالَى - وُجِدَتْ مَعَ الْمُخَالَفَةِ ، فَأَوْجَبَتْ الْكَفَّارَةَ ، كَالْيَمِينِ عَلَى مُسْتَقْبَلٍ .
وَلَنَا ، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ } .
وَهَذِهِ مِنْهُ ، وَلِأَنَّهَا يَمِينٌ غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ ، فَلَمْ تَجِبْ فِيهَا كَفَّارَةٌ ، كَيَمِينِ الْغَمُوسِ ، وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِلْمُخَالَفَةِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ حَنِثَ نَاسِيًا .
وَفِي الْجُمْلَةِ ، لَا كَفَّارَةَ فِي يَمِينٍ عَلَى مَاضٍ ؛ لِأَنَّهَا تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ ؛ مَا هُوَ صَادِقٌ فِيهِ ، فَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ إجْمَاعًا .
وَمَا تَعَمَّدَ الْكَذِبَ فِيهِ ، فَهُوَ يَمِينُ الْغَمُوسِ ، لَا كَفَّارَةَ فِيهَا ؛ لِأَنَّهَا أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تَكُونَ فِيهَا كَفَّارَةٌ .
وَمَا يَظُنُّهُ حَقًّا ، فَيَتَبَيَّنُ بِخِلَافِهِ ، فَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ لَغْوِ الْيَمِينِ .
فَأَمَّا الْيَمِينُ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ ، فَمَا عَقَدَ عَلَيْهِ قَلْبَهُ ، وَقَصَدَ

الْيَمِينَ عَلَيْهِ ، ثُمَّ خَالَفَ ، فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ ، وَمَا لَمْ يَعْقِدْ عَلَيْهِ قَلْبَهُ ، وَلَمْ يَقْصِدْ الْيَمِينَ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا جَرَتْ عَلَى لِسَانِهِ ، فَهُوَ مِنْ لَغْوِ الْيَمِينِ .
وَكَلَامُ عَائِشَةَ يَدُلُّ عَلَى هَذَا ، فَإِنَّهَا قَالَتْ : أَيْمَانُ اللَّغْوِ ؛ مَا كَانَ فِي الْمِرَاءِ وَالْمُزَاحَةِ ، وَالْهَزْلِ ، وَالْحَدِيثِ الَّذِي لَا يُعْقَدُ عَلَيْهِ الْقَلْبُ ، وَأَيْمَانُ الْكَفَّارَةِ ؛ كُلُّ يَمِينٍ حَلَفَ عَلَيْهَا عَلَى وَجْهٍ مِنْ الْأَمْرِ ، فِي غَضَبٍ أَوْ غَيْرِهِ ، لَيَفْعَلَنَّ أَوْ لَيَتْرُكَنَّ ، فَذَلِكَ عَقْدُ الْأَيْمَانِ الَّتِي فَرَضَ اللَّهُ فِيهَا الْكَفَّارَةَ .
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ ، فِي " جَامِعِهِ " : الْأَيْمَانُ أَرْبَعَةٌ ؛ يَمِينَانِ يُكَفَّرَانِ ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ : وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ .
فَيَفْعَلُ .
أَوْ يَقُولَ : وَاَللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ .
ثُمَّ لَا يَفْعَلُ .
وَيَمِينَانِ لَا يُكَفَّرَانِ ، أَنْ يَقُولَ : وَاَللَّهِ مَا فَعَلْت .
وَقَدْ فَعَلَ ، أَوْ يَقُولَ : وَاَللَّهِ لَقَدْ فَعَلْت .
وَمَا فَعَلَ .

( 7953 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَالْيَمِينُ الْمُكَفَّرَةُ ، أَنْ يَحْلِفَ بِاَللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ ، أَوْ بِاسْمِ مِنْ أَسْمَائِهِ ) أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ حَلَفَ بِاَللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ ، فَقَالَ : وَاَللَّهِ ، أَوْ بِاَللَّهِ ، أَوْ تَاللَّهِ .
فَحَنِثَ ، أَنَّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : وَكَانَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو عُبَيْدٍ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ، يَقُولُونَ : مَنْ حَلَفَ بَاسِمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ - تَعَالَى ، فَحَنِثَ ، أَنَّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ .
وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا إذَا كَانَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ ، الَّتِي لَا يُسَمَّى بِهَا سِوَاهُ .
وَأَسْمَاءُ اللَّهِ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ ؛ أَحَدُهَا ، مَا لَا يُسَمَّى بِهَا غَيْرُهُ ، نَحْوُ قَوْلِهِ : وَاَللَّهِ وَالرَّحْمَنِ ، وَالْأَوَّلِ الَّذِي لَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ ، وَالْآخِرِ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ شَيْءٌ ، وَرَبِّ الْعَالَمِينَ ، وَمَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ، وَرَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ، وَالْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ .
وَنَحْوِ هَذَا ، فَالْحَلِفُ بِهَذَا يَمِينٌ بِكُلِّ حَالٍ .
وَالثَّانِي ، مَا يُسَمَّى بِهِ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى مَجَازًا ، وَإِطْلَاقُهُ يَنْصَرِفُ إلَى اللَّهِ - سُبْحَانَهُ ، مِثْلَ الْخَالِقِ ، وَالرَّازِقِ ، وَالرَّبِّ ، وَالرَّحِيمِ ، وَالْقَادِرِ ، وَالْقَاهِرِ ، وَالْمَلِكِ ، وَالْجَبَّارِ .
وَنَحْوِهِ ، فَهَذَا يُسَمَّى بِهِ غَيْرُ اللَّهِ مَجَازًا ؛ بِدَلِيلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَتَخْلُقُونَ إفْكًا } .
{ وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ } .
وَقَوْلُهُ : { ارْجِعْ إلَى رَبِّكَ } وَ .
{ اُذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ .
} فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ وَقَالَ : { فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ } .
وَقَالَ : { بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } .
فَهَذَا إنْ نَوَى بِهِ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى ، أَوْ أَطْلَقَ ، كَانَ يَمِينًا ؛ لِأَنَّهُ بِإِطْلَاقِهِ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ .
وَإِنْ نَوَى بِهِ غَيْرَ اللَّهِ - تَعَالَى ، لَمْ يَكُنْ يَمِينًا ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِهِ ، فَيَنْصَرِفُ بِالنِّيَّةِ إلَى مَا نَوَاهُ .
وَهَذَا مَذْهَبُ

الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ طَلْحَةُ الْعَاقُولِيُّ إذَا قَالَ : وَالرَّبِّ ، وَالْخَالِقِ وَالرَّازِقِ .
كَانَ يَمِينًا عَلَى كُلِّ حَالٍ ، كَالْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهَا لَا تُسْتَعْمَلُ مَعَ التَّعْرِيفِ فَاللَّامُ التَّعْرِيفِ إلَّا فِي اسْمِ اللَّهِ ، فَأَشْبَهَتْ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ .
الثَّالِثُ ، مَا يُسَمَّى بِهِ اللَّهُ - تَعَالَى ، وَغَيْرُهُ ، وَلَا يَنْصَرِفُ إلَيْهِ بِإِطْلَاقِهِ ، كَالْحَيِّ ، وَالْعَالِمِ ، وَالْمَوْجُودِ ، وَالْمُؤْمِنِ ، وَالْكَرِيمِ ، وَالشَّاكِرِ .
فَهَذَا إنْ قَصَدَ بِهِ الْيَمِينَ بِاسْمِ اللَّهِ - تَعَالَى - كَانَ يَمِينًا ، وَإِنْ أَطْلَقَ ، أَوْ قَصَدَ غَيْرَ اللَّهِ - تَعَالَى ، لَمْ يَكُنْ يَمِينًا ، فَيَخْتَلِفُ هَذَا الْقِسْمُ وَاَلَّذِي قَبْلَهُ فِي حَالَةِ الْإِطْلَاقِ ، فَفِي الْأَوَّلِ يَكُونُ يَمِينًا ، وَفِي الثَّانِي لَا يَكُونُ يَمِينًا .
وَقَالَ الْقَاضِي ، وَالشَّافِعِيُّ ، فِي هَذَا الْقِسْمِ : لَا يَكُونُ يَمِينًا ، وَإِنْ قَصَدَ بِهِ اسْمَ اللَّهِ - تَعَالَى ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ إنَّمَا تَنْعَقِدُ لِحُرْمَةِ الِاسْمِ ، فَمَعَ الِاشْتِرَاكِ لَا تَكُونُ لَهُ حُرْمَةٌ ، وَالنِّيَّةُ الْمُجَرَّدَةُ لَا تَنْعَقِدُ بِهَا الْيَمِينُ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ أَقْسَمَ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى ، قَاصِدًا بِهِ الْحَلِفَ بِهِ ، فَكَانَ يَمِينًا مُكَفَّرَةً ، كَالْقِسْمِ الَّذِي قَبْلَهُ .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّ النِّيَّةَ الْمُجَرَّدَةَ لَا تَنْعَقِدُ بِهَا الْيَمِينُ .
نَقُولُ بِهِ ، وَمَا انْعَقَدَ بِالنِّيَّةِ الْمُجَرَّدَةِ إنَّمَا انْعَقَدَ بِالِاسْمِ الْمُحْتَمِلِ ، الْمُرَادِ بِهِ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى ، فَإِنَّ النِّيَّةَ تَصْرِفُ اللَّفْظَ الْمُحْتَمِلَ إلَى أَحَدِ مُحْتَمَلَاتِهِ ، فَيَصِيرُ كَالْمُصَرَّحِ بِهِ ، كَالْكِنَايَاتِ وَغَيْرِهَا ، وَلِهَذَا لَوْ نَوَى بِالْقِسْمِ الَّذِي قَبْلَهُ غَيْرَ اللَّهِ - تَعَالَى ، لَمْ يَكُنْ يَمِينًا ، لِنِيَّتِهِ .

( 7954 ) فَصْلٌ : وَالْقَسَمُ بِصِفَاتِ اللَّهِ - تَعَالَى ، كَالْقَسَمِ بِأَسْمَائِهِ .
وَصِفَاتُهُ تَنْقَسِمُ أَيْضًا ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ ؛ أَحَدُهَا ، مَا هُوَ صِفَاتٌ لِذَاتِ اللَّهِ - تَعَالَى ، لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهَا ، كَعِزَّةِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَعَظَمَتِهِ ، وَجَلَالِهِ ، وَكِبْرِيَائِهِ ، وَكَلَامِهِ .
فَهَذِهِ تَنْعَقِدُ بِهَا الْيَمِينُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا .
وَبِهِ يَقُولُ الشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ ، لَمْ يَزَلْ مَوْصُوفًا بِهَا ، وَقَدْ وَرَدَ الْأَثَرُ بِالْقَسَمِ بِبَعْضِهَا ، فَرُوِيَ أَنَّ النَّارَ تَقُولُ : " قَطُّ قَطُّ ، وَعِزَّتِك " .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَاَلَّذِي يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ يَقُولُ : " وَعِزَّتِك ، لَا أَسْأَلُك غَيْرَهَا " .
وَفِي كِتَابِ اللَّهِ - تَعَالَى - : { فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } .
الثَّانِي ، مَا هُوَ صِفَةٌ لِلذَّاتِ ، وَيُعَبَّرُ بِهِ عَنْ غَيْرِهَا مَجَازًا ، كَعِلْمِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ ، فَهَذِهِ صِفَةٌ لِلذَّاتِ لَمْ يَزَلْ مَوْصُوفًا بِهَا ، وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ فِي الْمَعْلُومِ وَالْمَقْدُورِ اتِّسَاعًا ، كَقَوْلِهِمْ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا عِلْمَك فِينَا .
وَيُقَالُ : اللَّهُمَّ قَدْ أَرَيْتنَا قُدْرَتَك ، فَأَرِنَا عَفْوَك .
وَيُقَالُ : اُنْظُرْ إلَى قُدْرَةِ اللَّهِ .
أَيْ مَقْدُورِهِ .
فَمَتَى أَقْسَمَ بِهَذَا ، كَانَ يَمِينًا .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، إذَا قَالَ : وَعِلْمِ اللَّهِ .
لَا يَكُونُ يَمِينًا ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْمَعْلُومَ .
وَلَنَا ، أَنَّ الْعِلْمَ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ - تَعَالَى ، فَكَانَتْ الْيَمِينُ بِهِ يَمِينًا مُوجِبَةً لِلْكَفَّارَةِ ، كَالْعَظَمَةِ ، وَالْعِزَّةِ ، وَالْقُدْرَةِ ، وَيَنْتَقِضُ مَا ذَكَرُوهُ بِالْقُدْرَةِ ، فَإِنَّهُمْ قَدْ سَلَّمُوهَا ، وَهِيَ قَرِينَتُهَا .
فَأَمَّا إنْ نَوَى الْقَسَمَ بِالْمَعْلُومِ ، وَالْمَقْدُورِ ، اُحْتُمِلَ أَنْ لَا يَكُونَ يَمِينًا .
وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ نَوَى بِالِاسْمِ غَيْرَ صِفَةٍ لِلَّهِ ، مَعَ احْتِمَالِ اللَّفْظِ مَا نَوَاهُ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَوَى الْقَسَمَ بِمَحْلُوفٍ فِي

الْأَسْمَاءِ الَّتِي يُسَمَّى بِهَا غَيْرُ اللَّهِ - تَعَالَى .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ يَمِينًا بِكُلِّ حَالٍ ، وَلَا تُقْبَلُ مِنْهُ نِيَّةُ غَيْرِ صِفَةِ اللَّهِ - تَعَالَى .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْقُدْرَةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَوْضُوعٌ لِلصِّفَةِ ، فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ نِيَّةُ غَيْرِ الصِّفَةِ ، كَالْعَظَمَةِ .
وَقَدْ ذَكَرَ طَلْحَةُ الْعَاقُولِيُّ ، فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُعَرَّفَةِ فَاللَّامُ التَّعْرِيفِ ، كَالْخَالِقِ وَالرَّازِقِ ، أَنَّهَا تَكُونُ يَمِينًا بِكُلِّ حَالٍ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَنْصَرِفُ إلَّا إلَى اسْمِ اللَّهِ ، كَذَا هَذَا .
الثَّالِثُ ، مَالًا يَنْصَرِفُ بِإِطْلَاقِهِ إلَى صِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى ، لَكِنْ يَنْصَرِفُ بِإِضَافَتِهِ إلَى اللَّهِ - سُبْحَانَهُ - لَفْظًا أَوْ نِيَّةً ، كَالْعَهْدِ ، وَالْمِيثَاقِ ، وَالْأَمَانَةِ ، وَنَحْوِهِ .
فَهَذَا لَا يَكُونُ يَمِينًا مُكَفَّرَةً إلَّا بِإِضَافَتِهِ أَوْ نِيَّتِهِ .
وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ فِيمَا بَعْدُ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

( 7955 ) فَصْلٌ : وَإِنْ قَالَ : وَحَقِّ اللَّهِ فَهِيَ يَمِينٌ مُكَفَّرَةٌ .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا كَفَّارَةَ لَهَا ؛ لِأَنَّ حَقَّ اللَّهِ طَاعَتُهُ وَمَفْرُوضَاتُهُ ، وَلَيْسَتْ صِفَةً لَهُ .
وَلَنَا ، أَنَّ لِلَّهِ حُقُوقًا يَسْتَحِقُّهَا لِنَفْسِهِ ؛ مِنْ الْبَقَاءِ ، وَالْعَظَمَةِ ، وَالْجَلَالِ ، وَالْعِزَّةِ ، وَقَدْ اقْتَرَنَ عُرْفُ الِاسْتِعْمَالِ بِالْحَلِفِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ ، فَتَنْصَرِفُ إلَى صِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى ، كَقَوْلِهِ : وَقُدْرَةِ اللَّهِ .
وَإِنْ نَوَى بِذَلِكَ الْقَسَمَ بِمَخْلُوقٍ ، فَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي الْحَلِفِ بِالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ ، إلَّا أَنَّ احْتِمَالَ الْمَخْلُوقِ بِهَذَا اللَّفْظِ أَظْهَرُ .

( 7956 ) فَصْلٌ : وَإِنْ قَالَ : لَعَمْرُ اللَّهِ .
فَهِيَ يَمِينٌ مُوجِبَةٌ لِلْكَفَّارَةِ .
وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ، إنْ قَصَدَ الْيَمِينَ ، فَهِيَ يَمِينٌ ، وَإِلَّا فَلَا .
وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَكُونُ يَمِينًا بِتَقْدِيرِ خَبَرٍ مَحْذُوفٍ ، فَكَأَنَّهُ قَالَ : لَعَمْرُ اللَّهِ مَا أُقْسِمُ بِهِ .
فَيَكُونُ مَجَازًا ، وَالْمَجَازُ لَا يَنْصَرِفُ إلَيْهِ الْإِطْلَاقُ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ أَقْسَمَ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِ اللَّهِ ، فَكَانَ يَمِينًا مُوجِبًا لِلْكَفَّارَةِ ، كَالْحَلِفِ بِبَقَاءِ اللَّهِ - تَعَالَى ، فَإِنَّ مَعْنَى ذَلِكَ الْحَلِفُ بِبَقَاءِ اللَّهِ - تَعَالَى ، وَحَيَاتِهِ .
وَيُقَالُ : الْعَمْرُ وَالْعُمُرُ وَاحِدٌ .
وَقِيلَ : مَعْنَاهُ وَحَقِّ اللَّهِ .
وَقَدْ ثَبَتَ لَهُ عُرْفُ الشَّرْعِ وَالِاسْتِعْمَالِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَعَمْرُك إنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } .
وَقَالَ النَّابِغَةُ : فَلَا لَعَمْرُ الَّذِي قَدْ زُرْتُهُ حِجَجًا وَمَا أُرِيقَ عَلَى الْأَنْصَابِ مِنْ جَسَدِ وَقَالَ آخَرُ : إذَا رَضِيَتْ كِرَامُ بَنِي قُشَيْرٍ لَعَمْرُ اللَّهِ أَعْجَبَنِي رِضَاهَا وَقَالَ آخَرُ : وَلَكِنْ لَعَمْرُ اللَّهِ مَا ظَلَّ مُسْلِمًا كَغُرِّ الثَّنَايَا وَاضِحَاتِ الْمَلَاغِمِ وَهَذَا فِي الشِّعْرِ ، وَالْكَلَامِ كَثِيرٌ .
وَأَمَّا احْتِيَاجُهُ إلَى التَّقْدِيرِ ، فَلَا يَصِحُّ ؛ فَإِنَّ اللَّفْظَ إذَا اشْتَهَرَ فِي الْعُرْفِ ، صَارَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْعُرْفِيَّةِ ، يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ دُونَ مَوْضُوعِهِ الْأَصْلِيِّ ، عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ سَائِرِ الْأَسْمَاءِ الْعُرْفِيَّةِ ، وَمَتَى احْتَاجَ اللَّفْظُ إلَى التَّقْدِيرِ ، وَجَبَ التَّقْدِيرُ لَهُ ، وَلَمْ يَجُزْ اطِّرَاحُهُ ، وَلِهَذَا يُفْهَمُ مُرَادُ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ مِنْ غَيْرِ اطِّلَاعٍ عَلَى نِيَّةِ قَائِلِهِ وَقَصْدِهِ ، كَمَا يُفْهَمُ أَنَّ مُرَادَ الْمُتَكَلِّمِ بِهَذَا مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ الْقَسَمُ ، وَيُفْهَمُ مِنْ الْقَسَمِ بِغَيْرِ حَرْفِ الْقَسَمِ فِي أَشْعَارِهِمْ الْقَسَمُ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : فَقُلْت يَمِينَ اللَّهِ أَبْرَحُ قَاعِدًا وَيُفْهَمُ مِنْ الْقَسَمِ الَّذِي

حُذِفَ فِي جَوَابِهِ حَرْفُ " لَا " أَنَّهُ مُقَدَّرٌ مُرَادٌ ، كَهَذَا الْبَيْتِ ، وَيُفْهَمُ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ } - .
{ وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ } .
التَّقْدِيرُ ، فَكَذَا هَاهُنَا .
وَإِنْ قَالَ : عَمْرَك اللَّهَ كَمَا فِي قَوْلِهِ : أَيُّهَا الْمُنْكِحُ الثُّرَيَّا سُهَيْلًا عَمْرَك اللَّهَ كَيْفَ يَلْتَقِيَانِ فَقَدْ قِيلَ : هُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ : نَشَدْتُك اللَّهَ .
وَلِهَذَا يُنْصَبُ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ .
وَإِنْ قَالَ : لَعَمْرِي ، أَوْ عَمْرَك .
فَلَيْسَ بِيَمِينٍ ؛ فِي قَوْلِ أَكْثَرِهِمْ .
وَقَالَ الْحَسَنُ ، فِي قَوْلِهِ : لَعَمْرُك : عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ أَقْسَمَ بِحَيَاةِ مَخْلُوقٍ ، فَلَمْ تَلْزَمْهُ كَفَّارَةٌ ، كَمَا لَوْ قَالَ : وَحَيَاتِي .
وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يَكُونُ قَسَمًا بِحَيَاةِ الَّذِي أُضِيفَ إلَيْهِ الْعَمْرُ ، فَإِنَّ التَّقْدِيرَ ، لَعَمْرُك قَسَمِي ، أَوْ مَا أُقْسِمُ بِهِ ، وَالْعَمْرُ : الْحَيَاةُ أَوْ الْبَقَاءُ .

( 7957 ) فَصْلٌ : وَإِنْ قَالَ : وَاَيْمُ اللَّهِ ، أَوْ وَايُمْن اللَّهِ .
فَهِيَ يَمِينٌ مُوجِبَةٌ لِلْكَفَّارَةِ ، وَالْخِلَافُ فِيهِ كَاَلَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَهُ .
وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقْسِمُ بِهِ ، وَانْضَمَّ إلَيْهِ عُرْفُ الِاسْتِعْمَالِ ، فَوَجَبَ أَنْ يُصْرَفَ إلَيْهِ .
وَاخْتُلِفَ فِي اشْتِقَاقِهِ ، فَقِيلَ : هُوَ جَمْعُ يَمِينٍ ، وَحُذِفَتْ النُّونُ فِيهِ فِي الْبَعْضِ تَخْفِيقًا لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ .
وَقِيلَ : هُوَ مِنْ الْيَمِينِ ، فَكَأَنَّهُ قَالَ : وَيَمِينُ اللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ .
وَأَلِفُهُ أَلِفُ وَصْلٍ .

( 7958 ) فَصْلٌ : وَحُرُوفُ الْقَسَمِ ثَلَاثَةٌ ؛ الْبَاءُ ، وَهِيَ الْأَصْلُ ، وَتَدْخُلُ عَلَى الْمُظْهَرِ وَالْمُضْمَرِ جَمِيعًا .
وَالْوَاوُ ، وَهِيَ بَدَلٌ مِنْ الْبَاءِ ، وَتَدْخُلُ عَلَى الْمُظْهَرِ دُونَ الْمُضْمَرِ لِذَلِكَ ، وَهِيَ أَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا ، وَبِهَا جَاءَتْ أَكْثَرُ الْأَقْسَامِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ؛ وَإِنَّمَا كَانَتْ الْبَاءُ الْأَصْلَ ، لِأَنَّهَا الْحَرْفُ الَّذِي تَصِلُ بِهِ الْأَفْعَالُ الْقَاصِرَةُ عَنْ التَّعَدِّي إلَى مَفْعُولَاتِهَا ، وَالتَّقْدِيرُ فِي الْقَسَمِ ، أُقْسِمُ بِاَللَّهِ ، كَمَا قَالَ اللَّهِ تَعَالَى : { وَأَقْسَمُوا بِاَللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ } .
وَالتَّاءُ بَدَلٌ مِنْ الْوَاوِ ، وَتَخْتَصُّ بَاسِمٍ وَاحِدٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ - تَعَالَى ، وَهُوَ اللَّهُ ، وَلَا تَدْخُلُ عَلَى غَيْرِهِ فَيُقَالُ : تَاللَّهِ .
وَلَوْ قَالَ : تَالرَّحْمَنِ ، أَوْ تَالرَّحِيمِ .
لَمْ يَكُنْ قَسَمًا .
فَإِذَا أَقْسَمَ بِأَحَدِ هَذِهِ الْحُرُوفِ الثَّلَاثَةِ فِي مَوْضِعِهِ ، كَانَ قَسَمًا صَحِيحًا ؛ لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لَهُ .
وَقَدْ جَاءَ فِي كِتَابِ اللَّهِ - تَعَالَى ، وَكَلَامِ الْعَرَبِ ، قَالَ اللَّهِ تَعَالَى : { تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ } .
{ تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا } .
{ تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ } .
{ تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ } .
{ تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ } .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : تَاللَّهِ يَبْقَى عَلَى الْأَيَّامِ ذُو حَيَدٍ بِمُشْمَخِرٍّ بِهِ الضَّيَّانُ وَالْآسُ فَإِنْ قَالَ : مَا أَرَدْت بِهِ الْقَسَمَ .
لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ فِي الْقَسَمِ ، وَاقْتَرَنَتْ بِهِ قَرِينَةٌ دَالَّةٌ عَلَيْهِ ، وَهُوَ الْجَوَابُ بِجَوَابِ الْقَسَمِ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ فِي قَوْلِهِ : تَاللَّهِ لَأَقُومَنَّ .
إذَا قَالَ : أَرَدْت أَنَّ قِيَامِي بِمَعُونَةِ اللَّهِ وَفَضْلِهِ .
لِأَنَّهُ فَسَّرَ كَلَامَهُ بِمَا يَحْتَمِلُهُ .
وَلَا يُقْبَلُ فِي الْحَرْفَيْنِ الْآخَرَيْنِ ؛ لِعَدَمِ الِاحْتِمَالِ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يُقْبَلَ بِحَالٍ ؛ لِأَنَّهُ أَجَابَ بِجَوَابِ الْقَسَمِ ، فَيُمْنَعُ صَرْفُهُ إلَى

غَيْرِهِ .

( 7959 ) فَصْلٌ : وَإِنْ أَقْسَمَ بِغَيْرِ حَرْفِ الْقَسَمِ ، فَقَالَ : اللَّهِ لَأَقُومَنَّ .
بِالْجَرِّ أَوْ النَّصْبِ ، كَانَ يَمِينًا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَكُونُ يَمِينًا ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَ ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى بِغَيْرِ حَرْفِ الْقَسَمِ ، لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي الْقَسَمِ ، فَلَا يَنْصَرِفُ إلَيْهِ إلَّا بِالنِّيَّةِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ سَائِغٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ ، وَقَدْ وَرَدَ بِهِ عُرْفُ الِاسْتِعْمَالِ فِي الشَّرْعِ ، فَرُوِيَ { أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ أَخْبَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَتَلَ أَبَا جَهْلٍ ، فَقَالَ : آللَّهِ إنَّك قَتَلْته ؟ .
قَالَ : اللَّهِ إنِّي قَتَلْته } .
ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ .
{ وَقَالَ لِرُكَانَةَ بْنِ عَبْدِ يَزِيدَ : اللَّهِ مَا أَرَدْت إلَّا وَاحِدَةً ؟ قَالَ مَا أَرَدْت إلَّا وَاحِدَةً } .
وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ : فَقُلْت يَمِينَ اللَّهِ أَبْرَحُ قَاعِدًا وَقَالَ أَيْضًا : فَقَالَتْ يَمِينَ اللَّهِ مَا لَكَ حِيلَةٌ وَقَدْ اقْتَرَنَتْ بِهِ قَرِينَتَانِ تَدُلَّانِ عَلَيْهِ ؛ إحْدَاهُمَا ؛ الْجَوَابُ بِجَوَابِ الْقَسَمِ .
وَالثَّانِي ، النَّصْبُ وَالْجَرُّ فِي اسْمِ اللَّهِ - تَعَالَى ؛ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ يَمِينًا ، كَمَا لَوْ قَالَ : وَاَللَّهِ .
وَإِنْ قَالَ : اللَّهُ لَأَفْعَلَنَّ .
بِالرَّفْعِ ، وَنَوَى الْيَمِينَ ، فَهِيَ يَمِينٌ ، لَكِنَّهُ قَدْ لَحَنَ ، فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ : وَاَللَّهُ .
بِالرَّفْعِ .
وَإِنْ لَمْ يَنْوِ الْيَمِينَ ، فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : يَكُونُ يَمِينًا ؛ لِأَنَّ قَرِينَةَ الْجَوَابِ بِجَوَابِ الْقَسَمِ كَافِيَةٌ ، وَالْعَامِّيُّ لَا يَعْرِفُ الْإِعْرَابَ فَيَأْتِي بِهِ ، إلَّا أَنْ يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ ، فَإِنَّ عُدُولَهُ عَنْ إعْرَابِ الْقَسَمِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْهُ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ قَسَمًا فِي حَقِّ الْعَامِّيِّ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِقَسَمٍ فِي حَقِّ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ ، فَلَمْ يَكُنْ قَسَمًا فِي غَيْرِهِمْ ، كَمَا لَوْ لَمْ يُجِبْهُ بِجَوَابِ الْقَسَمِ .

( 7960 ) فَصْلٌ وَيُجَابُ الْقَسَمُ بِأَرْبَعَةِ أَحْرُفٍ ؛ حَرْفَانِ لِلنَّفْيِ ، وَهُمَا " مَا " وَ " لَا " ، وَحَرْفَانِ لِلْإِثْبَاتِ ، وَهُمَا " إنَّ " وَ " اللَّامُ " الْمَفْتُوحَةُ .
وَتَقُومُ " إنْ " الْمَكْسُورَةُ ، مَقَامَ " مَا " النَّافِيَةِ ، مِثْلَ قَوْلِهِ : { وَلَيَحْلِفُنَّ إنْ أَرَدْنَا إلَّا الْحُسْنَى } .
وَإِنْ قَالَ : وَاَللَّهِ أَفْعَلُ .
بِغَيْرِ حَرْفٍ ، فَالْمَحْذُوفُ هَاهُنَا " لَا " ، وَتَكُونُ يَمِينُهُ عَلَى النَّفْيِ ؛ لِأَنَّ مَوْضُوعَهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ كَذَلِكَ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ } أَيْ لَا تَفْتَأُ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : تَاللَّهِ يَبْقَى عَلَى الْأَيَّامِ ذُو حَيَدٍ وَقَالَ آخَرُ : فَقُلْت يَمِينَ اللَّهِ أَبْرَحُ قَاعِدًا أَيْ : لَا أَبْرَحُ .

( 7961 ) فَصْلٌ : فَإِنْ قَالَ : لَاهَا اللَّهِ .
وَنَوَى الْيَمِينَ .
فَهُوَ يَمِينٌ ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ فِي سَلَبَ قَتِيلِ أَبِي قَتَادَةَ : لَاهَا اللَّهِ ، إذَا تَعَمَّدَ إلَى أَسَدٍ مِنْ أُسْدِ اللَّهِ ، يُقَاتِلُ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، فَيُعْطِيك سَلَبَهُ ؟ { فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : صَدَقَ .
وَإِنْ لَمْ يَنْوِ الْيَمِينَ } ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ يَمِينًا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ عُرْفٌ وَلَا نِيَّةٌ ، وَلَا فِي جَوَابِهِ حَرْفٌ يَدُلُّ عَلَى الْقَسَمِ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .

( 7962 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( أَوْ بِآيَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْحَلِفَ بِالْقُرْآنِ ، أَوْ بِآيَةٍ مِنْهُ ، أَوْ بِكَلَامِ اللَّهِ ، يَمِينٌ مُنْعَقِدَةٌ ، تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِالْحِنْثِ فِيهَا .
وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ ، وَالْحَسَنُ ، وَقَتَادَةُ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو عُبَيْدٍ ، وَعَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ : لَيْسَ بِيَمِينٍ ، وَلَا تَجِبُ بِهِ كَفَّارَةٌ ، فَمِنْهُمْ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَا يُعْهَدُ الْيَمِينُ بِهِ .
وَلَنَا ، أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ ، وَصِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ ، فَتَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِهِ ، كَمَا لَوْ قَالَ : وَجَلَالِ اللَّهِ ، وَعَظَمَتِهِ .
وَقَوْلُهُمْ : هُوَ مَخْلُوقٌ .
قُلْنَا : هَذَا كَلَامُ الْمُعْتَزِلَةِ ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ مَعَ الْفُقَهَاءِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ } .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى : { قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ } .
أَيْ : غَيْرَ مَخْلُوقٍ .
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : لَا يُعْهَدُ الْيَمِينُ بِهِ .
فَيَلْزَمُهُمْ قَوْلُهُمْ : وَكِبْرِيَاءِ اللَّهِ ، وَعَظَمَتِهِ ، وَجَلَالِهِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّ الْحَلِفَ بِآيَةٍ مِنْهُ كَالْحَلِفِ بِجَمِيعِهِ ؛ لِأَنَّهَا مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى .

( 7963 ) فَصْلٌ : وَإِنْ حَلَفَ بِالْمُصْحَفِ ، انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ .
وَكَانَ قَتَادَةُ يَحْلِفُ بِالْمُصْحَفِ .
وَلَمْ يَكْرَهْ ذَلِكَ إمَامُنَا ، وَإِسْحَاقُ ؛ لِأَنَّ الْحَالِفَ بِالْمُصْحَفِ إنَّمَا قَصَدَ الْحَلِفَ بِالْمَكْتُوبِ فِيهِ ، وَهُوَ الْقُرْآنُ ، فَإِنَّهُ بَيْنَ دَفَّتَيْ الْمُصْحَفِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ .

( 7964 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( أَوَتَصَدَّقَ بِمِلْكِهِ ، أَوْ بِالْحَجِّ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا أَخْرَجَ النَّذْرَ مَخْرَجَ الْيَمِينِ ، بِأَنْ يَمْنَعَ نَفْسَهُ أَوْ غَيْرَهُ بِهِ شَيْئًا ، أَوْ يَحُثَّ بِهِ عَلَى شَيْءٍ ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : إنْ كَلَّمْت زَيْدًا ، فَلِلَّهِ عَلَيَّ الْحَجُّ ، أَوْ صَدَقَةُ مَالِي ، أَوْ صَوْمُ سَنَةٍ .
فَهَذَا يَمِينٌ ، حُكْمُهُ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْوَفَاءِ بِمَا حَلَفَ عَلَيْهِ ، فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ ، وَبَيْنَ أَنْ يَحْنَثَ ، فَيَتَخَيَّرَ بَيْنَ فِعْلِ الْمَنْذُورِ ، وَبَيْنَ كَفَّارَةِ يَمِينٍ ، وَيُسَمَّى نَذْرَ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ ، وَلَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ نَذْرُ التَّبَرُّرِ ، وَسَنَذْكُرُهُ فِي بَابِهِ .
وَهَذَا قَوْلُ عُمَرَ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَابْنِ عُمَرَ ، وَعَائِشَةَ ، وَحَفْصَةَ ، وَزَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ .
وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ ، وَطَاوُسٌ ، وَعِكْرِمَةُ ، وَالْقَاسِمُ ، وَالْحَسَنُ ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَقَتَادَةُ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَرِيكٍ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَالْعَنْبَرِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو عُبَيْدٍ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ : لَا شَيْءَ فِي الْحَلِفِ بِالْحَجِّ .
وَعَنْ الشَّعْبِيِّ ، وَالْحَارِثِ الْعُكْلِيِّ ، وَحَمَّادٍ ، وَالْحَكَمِ : لَا شَيْءَ فِي الْحَلِفِ بِصَدَقَةِ مَالِهِ ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا تَلْزَمُ بِالْحَلِفِ بِاَللَّهِ تَعَالَى ، لِحُرْمَةِ الِاسْمِ ، وَهَذَا مَا حَلَفَ بِاسْمِ اللَّهِ ، وَلَا يَجِبُ مَا سَمَّاهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُخْرِجْهُ مَخْرَجَ الْقُرْبَةِ ، وَإِنَّمَا الْتَزَمَهُ عَلَى طَرِيقِ الْعُقُوبَةِ ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٌ : يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِنَذْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ نَذْرٌ فَيَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهِ ، كَنَذْرِ التَّبَرُّرِ .
وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ الشَّعْبِيِّ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ ، قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { لَا نَذْرَ فِي غَضَبٍ ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ } .
رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ

، وَالْجُوزَجَانِيُّ ، فِي " الْمُتَرْجَمِ " .
وَعَنْ عَائِشَةَ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ حَلَفَ بِالْمَشْيِ ، أَوْ الْهَدْيِ ، أَوْ جَعْلِ مَالِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، أَوْ فِي الْمَسَاكِينِ ، أَوْ فِي رِتَاجِ الْكَعْبَةِ ، فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ } .
وَلِأَنَّهُ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ ، وَلَا مُخَالِفَ لَهُمْ فِي عَصْرِهِمْ ، وَلِأَنَّهُ يَمِينٌ ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى : { وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } .
وَدَلِيلُ أَنَّهُ يَمِينٌ ، أَنَّهُ يُسَمَّى بِذَلِكَ ، وَيُسَمَّى قَائِلُهُ حَالِفًا ، وَفَارَقَ نَذْرَ التَّبَرُّرِ ؛ لِكَوْنِهِ قَصَدَ بِهِ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالْبِرَّ ، وَلَمْ يُخْرِجْهُ مَخْرَجَ الْيَمِينِ ، وَهَا هُنَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْيَمِينِ ، وَلَمْ يَقْصِدْ بِهِ قُرْبَةً وَلَا بِرًّا ، فَأَشْبَهَ الْيَمِينَ مِنْ وَجْهٍ وَالنَّذْرَ مِنْ وَجْهٍ ، فَخُيِّرَ بَيْنَ الْوَفَاءِ بِهِ وَبَيْنَ الْكَفَّارَةِ .
وَعَنْ أَحْمَدَ ، رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ ، أَنَّهُ تَتَعَيَّنُ الْكَفَّارَةُ ، وَلَا يُجْزِئُهُ الْوَفَاءُ بِنَذْرِهِ .
وَهُوَ قَوْلٌ لِبَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ يَمِينٌ .
وَالْأَوَّلُ أُولَى ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا الْتَزَمَ فِعْلَ مَا نَذَرَهُ ، فَلَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْهُ ، كَنَذْرِ التَّبَرُّرِ .
وَفَارَقَ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ تَعَالَى ؛ لِأَنَّهُ أَقْسَمَ بِالِاسْمِ الْمُحْتَرَمِ ، فَاذًّا خَالَفَ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ ، تَعْظِيمًا لِلِاسْمِ ، بِخِلَافِ هَذَا .

مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( أَوْ بِالْعَهْدِ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا حَلَفَ بِالْعَهْدِ ، أَوْ قَالَ : وَعَهْدِ اللَّهِ ، وَكَفَالَتِهِ .
فَذَلِكَ يَمِينٌ ، يَجِبُ تَكْفِيرُهَا إذَا حَنِثَ فِيهَا .
وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ ، وَطَاوُسٌ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَالْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ ، وَقَتَادَةُ ، وَالْحَكَمُ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَمَالِكٌ .
وَحَلَفَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِالْعَهْدِ أَنْ لَا تُكَلِّمَ ابْنَ الزُّبَيْرَ ، فَلَمَّا كَلَّمَتْهُ أَعْتَقَتْ أَرْبَعِينَ رَقَبَةً ، وَكَانَتْ إذَا ذَكَرَتْهُ تَبْكِي ، وَتَقُولُ : وَاعْهَدَاهُ .
قَالَ أَحْمَدُ : الْعَهْدُ شَدِيدٌ فِي عَشَرَةِ مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ : { وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا } .
وَيَتَقَرَّبُ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - إذَا حَلَفَ بِالْعَهْدِ وَحَنِثَ ، مَا اسْتَطَاعَ .
وَعَائِشَةُ أَعْتَقَتْ أَرْبَعِينَ رَقَبَةً ، ثُمَّ تَبْكِي حَتَّى تَبُلَّ خِمَارَهَا ، وَتَقُولُ : وَاعْهَدَاهُ .
وَقَالَ عَطَاءٌ ، وَأَبُو عُبَيْدٍ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ : لَا يَكُونُ يَمِينًا إلَّا أَنْ يَنْوِيَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَكُونُ يَمِينًا إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الْيَمِينَ بِعَهْدِ اللَّهِ ، الَّذِي هُوَ صِفَتُهُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَيْسَ بِيَمِينٍ .
وَلَعَلَّهمْ ذَهَبُوا إلَى أَنَّ الْعَهْدَ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ ، فَلَا يَكُونُ الْحَلِفُ بِهِ يَمِينًا ، كَمَا لَوْ قَالَ : وَخَلْقِ اللَّهِ .
وَقَدْ وَافَقَنَا أَبُو حَنِيفَةَ فِي أَنَّهُ إذَا قَالَ : عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ لَأَفْعَلَنَّ .
ثُمَّ حَنِثَ ، أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ .
وَلَنَا ، أَنَّ عَهْدَ اللَّهِ يَحْتَمِلُ كَلَامَهُ الَّذِي أَمَرَنَا بِهِ وَنَهَانَا ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { أَلَمْ أَعْهَدْ إلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ } .
وَكَلَامُهُ قَدِيمٌ صِفَةٌ لَهُ ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ اسْتِحْقَاقُهُ لِمَا تَعَبَّدَنَا بِهِ ، وَقَدْ ثَبَتَ لَهُ عُرْفُ الِاسْتِعْمَالِ ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ يَمِينًا بِإِطْلَاقِهِ ، كَمَا لَوْ قَالَ : وَكَلَامِ اللَّهِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّهُ إنْ قَالَ : عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ لَأَفْعَلَنَّ .
أَوْ قَالَ : وَعَهْدِ اللَّهِ وَمِيثَاقِهِ

لَأَفْعَلَنَّ .
فَهُوَ يَمِينٌ ، وَإِنْ قَالَ : وَالْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ لَأَفْعَلَنَّ .
وَنَوَى عَهْدَ اللَّهِ ، كَانَ يَمِينًا ؛ لِأَنَّهُ نَوَى الْحَلِفَ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ - تَعَالَى .
وَإِنْ أَطْلَقَ ، فَقَالَ الْقَاضِي : فِيهِ رِوَايَتَانِ ؛ إحْدَاهُمَا يَكُونُ يَمِينًا ؛ لِأَنَّ لَامَ التَّعْرِيفِ إنْ كَانَتْ لِلْعَهْدِ ، يَجِبُ أَنْ تَنْصَرِفَ إلَى عَهْدِ اللَّهِ ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي عُهِدَتْ الْيَمِينُ بِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ لِلِاسْتِغْرَاقِ ، دَخَلَ فِيهِ ذَلِكَ وَالثَّانِيَةُ ، لَا يَكُونُ يَمِينًا ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ غَيْرَ مَا وَجَبَتْ بِهِ الْكَفَّارَةُ ، وَلَمْ يَصْرِفْهُ إلَى ذَلِكَ بِنِيَّتِهِ ، فَلَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهَا .

( 7966 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( أَوْ بِالْخُرُوجِ مِنْ الْإِسْلَامِ ) اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ ، فِي الْحَلِفِ بِالْخُرُوجِ مِنْ الْإِسْلَامِ ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : هُوَ يَهُودِيٌّ ، أَوْ نَصْرَانِيٌّ ، أَوْ مَجُوسِيٌّ ، إنْ فَعَلَ كَذَا أَوْ : هُوَ بَرِيءٌ مِنْ الْإِسْلَامِ ، أَوْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ مِنْ الْقُرْآنِ ، إنْ فَعَلَ .
أَوْ يَقُولَ : هُوَ يَعْبُدُ الصَّلِيبَ ، أَوْ يَعْبُدُك ، أَوْ يَعْبُدُ غَيْرَ اللَّهِ - تَعَالَى ، إنْ فَعَلَ .
أَوْ نَحْوَ هَذَا ، فَعَنْ أَحْمَدَ : عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ إذَا حَنِثَ .
يُرْوَى هَذَا عَنْ عَطَاءٍ ، وَطَاوُسٍ ، وَالْحَسَنِ ، وَالشَّعْبِيِّ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ ، وَإِسْحَاقَ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ .
وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ : لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ .
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَاللَّيْثِ ، وَأَبِي ثَوْرٍ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْلِفْ بِاسْمِ اللَّهِ ، وَلَا صِفَتِهِ ، فَلَمْ تَلْزَمْهُ كَفَّارَةٌ ، كَمَا لَوْ قَالَ : عَصَيْت اللَّهَ فِيمَا أَمَرَنِي .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُ أَحْمَدَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى عَلَى النَّدْبِ ، دُونَ الْإِيجَابِ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ ، فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ : إذَا قَالَ : أَكْفُرُ بِاَللَّهِ ، أَوْ أُشْرِكُ بِاَللَّهِ .
فَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُكَفِّرَ كَفَّارَةَ يَمِينٍ إذَا حَنِثَ .
وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى ، مَا رُوِيَ عَنْ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يَقُولُ : هُوَ يَهُودِيٌّ ، أَوْ نَصْرَانِيٌّ ، أَوْ مَجُوسِيٌّ ، أَوْ بَرِيءٌ مِنْ الْإِسْلَامِ .
فِي الْيَمِينِ يَحْلِفُ بِهَا ، فَيَحْنَثُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ، فَقَالَ : { عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ } .
أَخْرَجَهُ أَبُو بَكْرٍ .
وَلِأَنَّ الْبَرَاءَةَ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ تُوجِبُ الْكُفْرَ بِاَللَّهِ ، فَكَانَ الْحَلِفُ يَمِينًا ، كَالْحَلِفِ بِاَللَّهِ - تَعَالَى .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ أَصَحُّ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ -

تَعَالَى ، فَإِنَّ الْوُجُوبَ مِنْ الشَّارِعِ ، وَلَمْ يَرِدْ فِي هَذِهِ الْيَمِينِ نَصٌّ ، وَلَا هِيَ فِي قِيَاسِ الْمَنْصُوصِ ، فَإِنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا وَجَبَتْ فِي الْحَلِفِ بِاسْمِ اللَّهِ تَعْظِيمًا لِاسْمِهِ ، وَإِظْهَارًا لِشَرَفِهِ وَعَظَمَتِهِ ، وَلَا تَتَحَقَّقُ التَّسْوِيَةُ .

( 7967 ) فَصْلٌ : وَإِنْ قَالَ : هُوَ يَسْتَحِلُّ الْخَمْرَ وَالزِّنَى إنْ فَعَلَ .
ثُمَّ حَنِثَ ، أَوْ قَالَ : هُوَ يَسْتَحِلُّ تَرْكَ الصَّلَاةِ أَوْ الصِّيَامِ أَوْ الزَّكَاةِ .
فَهُوَ كَالْحَلِفِ بِالْبَرَاءَةِ مِنْ الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّ اسْتِحْلَالَ ذَلِكَ يُوجِبُ الْكُفْرَ .
وَإِنْ قَالَ : عَصَيْت اللَّهَ فِيمَا أَمَرَنِي ، أَوْ فِي كُلِّ مَا افْتَرَضَ عَلَيَّ ، أَوْ مَحَوْت الْمُصْحَفَ ، أَوْ أَنَا أَسْرِقُ ، أَوْ أَقْتُلُ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إنْ فَعَلْت .
وَحَنِثَ ، لَمْ تَلْزَمْهُ كَفَّارَةٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا دُونَ الشِّرْكِ ، وَإِنْ قَالَ : أَخْزَاهُ اللَّهُ ، أَوْ أَقْطَعَ يَدَهُ ، أَوْ لَعَنَهُ اللَّهُ ، إنْ فَعَلَ .
ثُمَّ حَنِثَ ، فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَأَبُو عُبَيْدٍ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَقَالَ طَاوُسٌ ، وَاللَّيْثُ : عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ .
وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ إذَا قَالَ : عَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ .
وَلَنَا ، أَنَّ هَذَا لَا يُوجِبُ الْكُفْرَ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ : مَحَوْت الْمُصْحَفَ .
وَإِنْ قَالَ : لَا يَرَانِي اللَّهُ فِي مَوْضِعِ كَذَا إنْ فَعَلْت .
وَحَنِثَ .
فَقَالَ الْقَاضِي : عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ .
وَذَكَرَ أَنَّ أَحْمَدَ نَصَّ عَلَيْهِ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا لَا كَفَّارَةَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ إيجَابَهَا فِي هَذَا وَمِثْلِهِ تَحَكُّمٌ بِغَيْرِ نَصٍّ ، وَلَا قِيَاسٍ صَحِيحٍ .

( 7968 ) فَصْلٌ : وَلَا يَجُوزُ الْحَلِفُ بِالْبَرَاءَةِ مِنْ الْإِسْلَامِ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ قَالَ : إنِّي بَرِيءٌ مِنْ الْإِسْلَامِ .
فَإِنْ كَانَ كَاذِبًا ، فَهُوَ كَمَا قَالَ ، وَإِنْ كَانَ صَادِقًا ، لَمْ يَعُدْ إلَى الْإِسْلَامِ سَالِمًا } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .

( 7969 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( أَوْ بِتَحْرِيمِ مَمْلُوكِهِ ، أَوْ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا قَالَ : هَذَا حَرَامٌ عَلَيَّ إنْ فَعَلْت .
وَفَعَلَ ، أَوْ قَالَ : مَا أَحَلَّ اللَّهُ عَلَيَّ حَرَامٌ إنْ فَعَلْت .
ثُمَّ فَعَلَ ، فَهُوَ مُخَيَّرٌ ، إنْ شَاءَ تَرَكَ مَا حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ ، وَإِنْ شَاءَ كَفَّرَ .
وَإِنْ قَالَ : هَذَا الطَّعَامُ حَرَامٌ عَلَيَّ .
فَهُوَ كَالْحَلِفِ عَلَى تَرْكِهِ .
وَيُرْوَى نَحْوُ هَذَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَالْحَسَنِ ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ ، وَقَتَادَةَ ، وَإِسْحَاقَ ، ، وَأَهْلِ الْعِرَاقِ .
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، فِيمَنْ قَالَ : الْحِلُّ عَلَيَّ حَرَامٌ : يَمِينٌ مِنْ الْأَيْمَانِ ، يُكَفِّرُهَا .
وَقَالَ الْحَسَنُ : هِيَ يَمِينٌ ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ .
وَعَنْ إبْرَاهِيمَ مِثْلُهُ .
وَعَنْهُ : إنْ نَوَى طَلَاقًا ، وَإِلَّا فَلَيْسَ بِشَيْءٍ .
وَعَنْ الضَّحَّاكِ ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَابْنَ مَسْعُودٍ قَالُوا : الْحَرَامُ يَمِينُ طَلَاقٍ .
وَقَالَ طَاوُسٌ : هُوَ مَا نَوَى .
وَقَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ : لَيْسَ بِيَمِينٍ ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ تَغْيِيرَ الْمَشْرُوعِ ، فَلَغَا مَا قَصَدَهُ ، كَمَا لَوْ قَالَ هَذِهِ رَبِيبَتِي .
وَلَنَا ، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَك } إلَى قَوْلِهِ { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } .
سَمَّى تَحْرِيمَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ يَمِينًا ، وَفَرَضَ لَهُ تَحِلَّةً ، وَهِيَ الْكَفَّارَةُ .
وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْكُثُ عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ ، وَيَشْرَبُ عِنْدَهَا عَسَلًا ، فَتَوَاصَيْت أَنَا وَحَفْصَةُ ، أَنَّ أَيَّتُنَا دَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلْتَقُلْ : إنِّي أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ .
فَدَخَلَ عَلَى إحْدَانَا ، فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ ، فَقَالَ : { لَا ، بَلْ شَرِبْت عَسَلًا عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ ، وَلَنْ أَعُودَ لَهُ } .
فَنَزَلَ : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ

تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا نَزَلَتْ الْآيَةُ فِي تَحْرِيمِ مَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةِ ، كَذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ ، وَقَتَادَةُ .
قُلْنَا : مَا ذَكَرْنَاهُ أَصَحُّ ؛ فَإِنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَقَوْلُ عَائِشَةَ صَاحِبَةِ الْقِصَّةِ الْحَاضِرَةِ لِلتَّنْزِيلِ ، الْمُشَاهِدَةِ لِلْحَالِ ، أَوْلَى ، وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ لَوْ سَمِعَا قَوْلَ عَائِشَةَ ، لَمْ يَعْدِلَا بِهِ شَيْئًا ، وَلَمْ يَصِيرَا إلَى غَيْرِهِ ، فَكَيْفَ يُصَارُ إلَى قَوْلِهِمَا ، وَيُتْرَكُ قَوْلُهَا ؟ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَابْنِ عُمَرَ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ جَعَلَ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ يَمِينًا .
وَلَوْ ثَبَتَ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي تَحْرِيمِ مَارِيَةَ ، كَانَ حُجَّةً لَنَا ؛ لِأَنَّهَا مِنْ الْحَلَالِ الَّذِي حُرِّمَ ، وَلَيْسَتْ زَوْجَةً ، فَوُجُوبُ الْكَفَّارَةِ بِتَحْرِيمِهَا يَقْتَضِي وُجُوبَهُ فِي كُلِّ حَلَالٍ حُرِّمَ ، بِالْقِيَاسِ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّهُ حَرَّمَ الْحَلَالَ فَأَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ ، كَتَحْرِيمِ الْأَمَةِ وَالزَّوْجَةِ ، وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِتَحْرِيمِهَا .
وَإِذَا قَالَ : هَذِهِ رَبِيبَتِي .
يَقْصِدُ تَحْرِيمَهَا ، فَهُوَ ظِهَارٌ .

( 7970 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( أَوْ يَقُولُ : أُقْسِمُ بِاَللَّهِ ، أَوْ أَشْهَدُ بِاَللَّهِ ، أَوْ أَعْزِمُ بِاَللَّهِ ) هَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ ، لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا ، وَسَوَاءٌ نَوَى الْيَمِينَ ، أَوْ أَطْلَقَ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ : بِاَللَّهِ .
وَلَمْ يَقُلْ : أُقْسِمُ ، وَلَا أَشْهَدُ ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْفِعْلَ ، كَانَ يَمِينًا ، وَإِنَّمَا كَانَ يَمِينًا بِتَقْدِيرِ الْفِعْلِ قَبْلَهُ ؛ لِأَنَّ الْبَاءَ تَتَعَلَّقُ بِفِعْلِ مُقَدَّرٍ ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ ، فَإِذَا أَظْهَرَ الْفِعْلَ ، وَنَطَقَ بِالْمُقَدَّرِ ، كَانَ أَوْلَى بِثُبُوتِ حُكْمِهِ ، وَقَدْ ثَبَتَ لَهُ عُرْفُ الِاسْتِعْمَالِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَيُقْسِمَانِ بِاَللَّهِ } .
وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَقْسَمُوا بِاَللَّهِ } .
وَقَالَ : { فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ إنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ } وَيَقُولُ الْمُلَاعِنُ فِي لِعَانِهِ : أَشْهَدُ بِاَللَّهِ إنِّي لَمِنْ الصَّادِقِينَ .
وَتَقُولُ الْمَرْأَةُ : أَشْهَدُ بِاَللَّهِ إنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ .
وَأَنْشَدَ أَعْرَابِيٌّ عُمَرَ أُقْسِمُ بِاَللَّهِ لَتَفْعَلَنَّهُ وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إنْ ذَكَرَ الْفِعْلَ بِلَفْظِ الْمَاضِي ، فَقَالَ : أَقْسَمْت بِاَللَّهِ ، أَوْ شَهِدْت بِاَللَّهِ .
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ : أَقْسَمْت بِاَللَّهِ لَتَنْزِلَنَّهُ وَإِنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ : أَقْسَمْت بِاَللَّهِ .
الْخَبَرَ عَنْ قَسَمٍ مَاضٍ ، أَوْ بِقَوْلِهِ : أُقْسِمُ بِاَللَّهِ .
عَنْ قَسَمٍ يَأْتِي بِهِ ، فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ .
وَإِنَّ ادَّعَى إرَادَةَ ذَلِكَ ، قُبِلَ مِنْهُ .
وَقَالَ الْقَاضِي : لَا يُقْبَلُ فِي الْحُكْمِ .
وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ .
وَلَنَا ، أَنَّ هَذَا حُكْمٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ - تَعَالَى ، فَإِذَا عَلِمَ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ نَوَى شَيْئًا أَوْ أَرَادَهُ ، مَعَ احْتِمَالِ اللَّفْظِ إيَّاهُ ، لَمْ تَلْزَمْهُ كَفَّارَةٌ .
وَإِنْ قَالَ : شَهِدْت بِاَللَّهِ أَنِّي آمَنْت بِاَللَّهِ .
فَلَيْسَ بِيَمِينٍ .
وَإِنْ قَالَ : أَعْزِمُ بِاَللَّهِ .
يَقْصِدُ الْيَمِينَ ، فَهُوَ يَمِينٌ .
وَإِنْ أَطْلَقَ ،

فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ يَمِينٌ .
وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ حَامِدٍ .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : لَيْسَ بِيَمِينٍ .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ عُرْفُ الشَّرْعِ ، وَلَا الِاسْتِعْمَالِ ، وَظَاهِرُهُ غَيْرُ الْيَمِينِ ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَقْصِدُ بِاَللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ .
وَوَجْهُ الْأَوَّلِ ، أَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْيَمِينَ ، وَقَدْ اقْتَرَنَ بِهِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ، وَهُوَ جَوَابُهُ بِجَوَابِ الْقَسَمِ ، فَيَكُونُ يَمِينًا .
فَأَمَّا إنْ نَوَى بِقَوْلِهِ غَيْرَ الْيَمِينَ ، لَمْ يَكُنْ يَمِينًا .

( 7971 ) فَصْلٌ : وَإِنْ قَالَ : أَحْلِفُ بِاَللَّهِ ، أَوْ أُولِي بِاَللَّهِ ، أَوْ حَلَفْت بِاَللَّهِ ، أَوْ آلَيْت بِاَللَّهِ ، أَوْ أَلْيَةً بِاَللَّهِ ، أَوْ حَلِفًا بِاَللَّهِ ، أَوْ قَسَمًا بِاَللَّهِ .
فَهُوَ يَمِينٌ ، سَوَاءٌ نَوَى بِهِ الْيَمِينَ أَوْ أَطْلَقَ ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي : أُقْسِمُ بِاَللَّهِ .
وَحُكْمُهُ حُكْمُهُ فِي تَفْصِيلِهِ ؛ لِأَنَّ الْإِيلَاءَ وَالْحَلِفَ وَالْقَسَمَ وَاحِدٌ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ } .
وَقَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ : أَحْلِفُ بِاَللَّهِ ، لَقَدْ جَاءَكُمْ أُسَيْدَ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي ذَهَبَ بِهِ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : أُولِي بِرَبِّ الرَّاقِصَاتِ إلَى مِنًى وَمَطَارِحِ الْأَكْوَارِ حَيْثُ تَبِيتُ وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ : أَلِيَّةً بِالْيَعْمُلَاتِ تَرْتَمِي بِهَا النَّجَاءُ بَيْنَ أَجْوَازِ الْفَلَا وَقَالَ : بَلْ قَسَمًا بِالشُّمِّ مِنْ يَعْرُبَ هَلْ لِمُقْسِمٍ مِنْ بَعْدِ هَذَا مُنْتَهَى

( 7972 ) فَصْلٌ : فَإِنْ قَالَ : أَقْسَمْت ، أَوْ آلَيْت ، أَوْ حَلَفْت ، أَوْ شَهِدْت لَأَفْعَلَنَّ .
وَلَمْ يَذْكُرْ بِاَللَّهِ ، فَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ ؛ إحْدَاهُمَا ، أَنَّهَا يَمِينٌ ، سَوَاءٌ نَوَى الْيَمِينَ أَوْ أَطْلَقَ .
وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَالنَّخَعِيِّ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَصْحَابِهِ .
وَعَنْ أَحْمَدَ ، إنْ نَوَى الْيَمِينَ بِاَللَّهِ كَانَ يَمِينًا ، وَإِلَّا فَلَا .
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، وَإِسْحَاقَ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْقَسَمَ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَبِغَيْرِهِ ، فَلَمْ تَكُنْ يَمِينًا حَتَّى يَصْرِفَهُ بِنِيَّتِهِ إلَى مَا تَجِبُ بِهِ الْكَفَّارَةُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَيْسَ بِيَمِينٍ وَإِنْ نَوَى .
وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ ، وَالْحَسَنِ ، وَالزُّهْرِيِّ ، وَقَتَادَةَ ، وَأَبِي عُبَيْدٍ ؛ لِأَنَّهَا عَرِيَتْ عَنْ اسْمِ اللَّهِ وَصِفَتِهِ ، فَلَمْ تَكُنْ يَمِينًا ، كَمَا لَوْ قَالَ : أَقْسَمْت بِالْبَيْتِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ لَهَا عُرْفُ الشَّرْعِ وَالِاسْتِعْمَالِ ، فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ : أَقْسَمْت عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لَتُخْبِرَنِّي بِمَا أَصَبْت مِمَّا أَخْطَأْت .
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تُقْسِمْ يَا أَبَا بَكْرٍ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَقَالَ الْعَبَّاسُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَقْسَمْت عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لَتُبَايِعَنَّهُ .
فَبَايَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : { أَبْرَرْت قَسَمَ عَمِّي ، وَلَا هِجْرَةَ } .
وَفِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى : { إذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ } إلَى قَوْلِهِ { اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً } .
فَسَمَّاهَا يَمِينًا ، وَسَمَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسَمًا .
وَقَالَتْ عَاتِكَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلَبِ ، عَمَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : حَلَفْت لَئِنْ عَادُوا لَنَصْطَلِمَنّهُم لَجَاءُوا تَرَدَّى حُجْرَتَيْهَا الْمَقَانِبُ وَقَالَتْ عَاتِكَةُ بِنْتُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ

: فَآلَيْت لَا تَنْفَكُّ عَيْنِي حَزِينَةً عَلَيْك وَلَا يَنْفَكُّ جِلْدِي أَغْبَرَا وَقَوْلُهُمْ : يَحْتَمِلُ الْقَسَمَ بِغَيْرِ اللَّهِ .
قُلْنَا : إنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى الْقَسَمِ الْمَشْرُوعِ ، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا مَكْرُوهًا ، وَلَوْ حُمِلَ عَلَى الْقَسَمِ بِغَيْرِ اللَّهِ ، كَانَ مَكْرُوهًا ، وَلَوْ كَانَ مَكْرُوهًا لَمْ يَفْعَلْهُ أَبُو بَكْرٍ بَيْنَ يَدَيْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَبَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسَمَ الْعَبَّاسِ حِينَ أَقْسَمَ عَلَيْهِ .

( 7973 ) فَصْلٌ : وَإِنْ قَالَ : أَعْزِمُ ، أَوْ عَزَمْت .
لَمْ يَكُنْ قَسَمًا ، نَوَى بِهِ الْقَسَمَ أَوْ لَمْ يَنْوِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لِهَذَا اللَّفْظِ عُرْفٌ فِي شَرْعٍ وَلَا اسْتِعْمَالٍ ، وَلَا هُوَ مَوْضِعٌ لِلْقَسَمِ ، وَلَا فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : أَسْتَعِينُ بِاَللَّهِ ، أَوْ أَعْتَصِمُ بِاَللَّهِ ، أَوْ أَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ ، أَوْ عَلِمَ اللَّهُ ، أَوْ عَزَّ اللَّهُ ، أَوْ تَبَارَكَ اللَّهُ .
وَنَحْوُ هَذَا ، لَمْ يَكُنْ يَمِينًا ، نَوَى أَوْ لَمْ يَنْوِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَوْضُوعٍ لِلْقَسَمِ لُغَةً ، وَلَا ثَبَتَ لَهُ عُرْفٌ فِي شَرْعٍ وَلَا اسْتِعْمَالٍ ، فَلَمْ يَجِبْ بِهِ شَيْءٌ ، كَمَا لَوْ قَالَ : سُبْحَانَ اللَّهِ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ ، وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ .

( 7974 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( أَوْ بِأَمَانَةِ اللَّهِ ) قَالَ الْقَاضِي : لَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ فِي أَنَّ الْحَلِفَ بِأَمَانَةِ اللَّهِ يَمِينٌ مُكَفَّرَةٌ .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِهَا ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الْحَلِفَ بِصِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ الْأَمَانَةَ تُطْلَقُ عَلَى الْفَرَائِضِ وَالْوَدَائِعِ وَالْحُقُوقِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ } .
وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا } .
يَعْنِي الْوَدَائِعَ وَالْحُقُوقَ .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَدِّ الْأَمَانَةَ إلَى مَنْ ائْتَمَنَكَ ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ } .
وَإِذَا كَانَ اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا ، لَمْ يُصْرَفْ إلَى أَحَدِ مُحْتَمَلَاتِهِ إلَّا بِنِيَّتِهِ أَوْ دَلِيلٍ صَارِفٍ إلَيْهِ .
وَلَنَا ، أَنَّ أَمَانَةَ اللَّهِ صِفَةٌ لَهُ ، بِدَلِيلِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ حَلَفَ بِهَا إذَا نَوَى ، وَيَجِبُ حَمْلُهَا عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ ، لِوُجُوهٍ ؛ أَحَدُهَا ، أَنَّ حَمْلَهَا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ صَرْفٌ لِيَمِينِ الْمُسْلِمِ إلَى الْمَعْصِيَةِ ، أَوْ الْمَكْرُوهِ ؛ لِكَوْنِهِ قَسَمًا بِمَخْلُوقٍ ، وَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْمُسْلِمِ خِلَافُهُ .
وَالثَّانِي ، أَنَّ الْقَسَمَ فِي الْعَادَةِ يَكُونُ بِالْمُعَظَّمِ الْمُحْتَرَمِ دُونَ غَيْرِهِ ، وَصِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى أَعْظَمُ حُرْمَةً وَقَدْرًا .
وَالثَّالِثُ ، أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْفَرَائِضِ وَالْوَدَائِعِ لَمْ يُعْهَدْ الْقَسَمُ بِهَا ، وَلَا يُسْتَحْسَنُ ذَلِكَ لَوْ صُرِّحَ بِهِ ، فَكَذَلِكَ لَا يُقْسَمُ بِمَا هُوَ عِبَارَةٌ عَنْهُ .
الرَّابِعُ ، أَنَّ أَمَانَةَ اللَّهِ الْمُضَافَةَ إلَيْهِ ، هِيَ صِفَتُهُ ، وَغَيْرُهَا يُذْكَرُ غَيْرَ مُضَافٍ إلَيْهِ ، كَمَا ذُكِرَ فِي الْآيَاتِ وَالْخَبَرِ .
الْخَامِسُ ، أَنَّ اللَّفْظَ عَامٌ فِي كُلِّ أَمَانَةِ اللَّهِ ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْجِنْسِ إذَا أُضِيفَ إلَى مَعْرِفَةٍ ، أَفَادَ

الِاسْتِغْرَاقَ ، فَيَدْخُلُ فِيهِ أَمَانَةُ اللَّهِ الَّتِي هِيَ صِفَتُهُ ، فَتَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِهَا مُوجِبَةً لِلْكَفَّارَةِ ، كَمَا لَوْ نَوَاهَا .

( 7975 ) فَصْلٌ : فَإِنْ قَالَ : وَالْأَمَانَةِ لَا فَعَلْت .
وَنَوَى الْحَلِفَ بِأَمَانَةِ اللَّهِ ، فَهُوَ يَمِينٌ مُكَفَّرَةٌ مُوجِبَةٌ لِلْكَفَّارَةِ .
وَإِنْ أَطْلَقَ ، فَعَلَى رِوَايَتَيْنِ ؛ إحْدَاهُمَا ؛ يَكُونُ يَمِينًا ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْوُجُوهِ .
وَالثَّانِيَةُ ، لَا يَكُونُ يَمِينًا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُضِفْهَا إلَى اللَّهِ - تَعَالَى ، فَيَحْتَمِلُ غَيْرَ ذَلِكَ .
قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : وَالْعَهْدِ ، وَالْمِيثَاقِ ، وَالْجَبَرُوتِ ، وَالْعَظَمَةِ ، وَالْأَمَانَاتِ .
فَإِنْ نَوَى يَمِينًا كَانَ يَمِينًا ، وَإِلَّا فَلَا .
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي الْأَمَانَةِ رِوَايَتَيْنِ ، فَيَخْرُجُ فِي سَائِرِ مَا ذَكَرُوهُ وَجْهَانِ ، قِيَاسًا عَلَيْهَا .

( 7976 ) فَصْلٌ : وَيُكْرَهُ الْحَلِفُ بِالْأَمَانَةِ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ حَلَفَ بِالْأَمَانَةِ ، فَلَيْسَ مِنَّا } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَرُوِيَ عَنْ زِيَادِ بْنِ حُدَيْرٍ : أَنَّ رَجُلًا حَلَفَ عِنْدَهُ بِالْأَمَانَةِ ، فَجَعَلَ يَبْكِي بُكَاءً شَدِيدًا ، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ : هَلْ كَانَ هَذَا يُكْرَهُ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، كَانَ عُمَرُ يَنْهَى عَنْ الْحَلِفِ بِالْأَمَانَةِ أَشَدَّ النَّهْيِ .

( 7977 ) فَصْلٌ : وَلَا تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِالْحَلِفِ بِمَخْلُوقٍ ؛ كَالْكَعْبَةِ ، وَالْأَنْبِيَاءِ ، وَسَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ ، وَلَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِالْحِنْثِ فِيهَا .
هَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ .
وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ .
وَقَالَ أَصْحَابُنَا : الْحَلِفُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمِينٌ مُوجِبَةٌ لِلْكَفَّارَةِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ : إذَا حَلَفَ بِحَقِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَنِثَ ، فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ .
قَالَ أَصْحَابُنَا : لِأَنَّهُ أَحَدُ شَرْطَيْ الشَّهَادَةِ ، فَالْحَلِفُ بِهِ مُوجِبٌ لِلْكَفَّارَةِ ، كَالْحَلِفِ بِاسْمِ اللَّهِ - تَعَالَى .
وَوَجْهُ الْأَوَّلِ ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ كَانَ حَالِفًا ، فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ ، أَوْ لِيَصْمُتْ } .
وَلِأَنَّهُ حَلِفٌ بِغَيْرِ اللَّهِ ، فَلَمْ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ ، كَسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ ، وَلِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ ، فَلَمْ تَجِبْ الْكَفَّارَةُ بِالْحَلِفِ بِهِ ، كَإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ عَلَيْهِ ، وَلَا فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ اسْمِ غَيْرِ اللَّهِ عَلَى اسْمِهِ ؛ لِعَدَمِ الشَّبَهِ ، وَانْتِفَاءِ الْمُمَاثَلَةِ .
وَكَلَامُ أَحْمَدَ فِي هَذَا يُحْمَلُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ دُونَ الْإِيجَابِ .

( 7978 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَلَوْ حَلَفَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ ، فَحَنِثَ ، فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا حَلَفَ بِجَمِيعِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْخِرَقِيِّ ، وَمَا يَقُومُ مَقَامَهَا ، أَوْ كَرَّرَ الْيَمِينَ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ ، مِثْلَ إنْ قَالَ : وَاَللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا ، وَاَللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا ، وَاَللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا .
فَحَنِثَ ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ .
رُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ .
وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ ، وَعُرْوَةُ ، وَإِسْحَاقُ .
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَطَاءٍ ، وَعِكْرِمَةَ ، وَالنَّخَعِيِّ ، وَحَمَّادٍ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ .
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ ، فِيمَنْ قَالَ : عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ وَكَفَالَتُهُ .
ثُمَّ حَنِثَ : فَعَلَيْهِ ثَلَاثُ كَفَّارَاتٍ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ : عَلَيْهِ بِكُلِّ يَمِينٍ كَفَّارَةٌ ، إلَّا أَنْ يُرِيدَ التَّأْكِيدَ وَالتَّفْهِيمَ .
وَنَحْوُهُ عَنْ الثَّوْرِيِّ ، وَأَبِي ثَوْرٍ .
وَعَنْ الشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ ، كَالْمَذْهَبَيْنِ .
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ ، إنْ كَانَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ كَقَوْلِنَا ، وَإِنْ كَانَ فِي مَجَالِسَ كَقَوْلِهِمْ .
وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ أَسْبَابَ الْكَفَّارَاتِ تَكَرَّرَتْ ، فَتُكَرَّرُ الْكَفَّارَاتُ ، كَالْقَتْلِ لِآدَمِيٍّ ، وَصَيْدِ حَرَمِيٍّ .
وَلِأَنَّ الْيَمِينَ الثَّانِيَةَ مِثْلُ الْأُولَى ، فَتَقْتَضِي مَا تَقْتَضِيهِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ حِنْثٌ وَاحِدٌ أَوْجَبَ جِنْسًا وَاحِدًا مِنْ الْكَفَّارَاتِ ، فَلَمْ يَجِبْ بِهِ أَكْثَرُ مِنْ كَفَّارَةٍ ، كَمَا لَوْ قَصْدَ التَّأْكِيدَ وَالتَّفْهِيمَ .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّهَا أَسْبَابٌ تَكَرَّرَتْ .
لَا نُسَلِّمُهُ ؛ فَإِنَّ السَّبَبَ الْحِنْثُ ، وَهُوَ وَاحِدٌ ، وَإِنْ سَلَّمْنَا ، فَيَنْتَقِضُ بِمَا إذَا تَكَرَّرَ الْوَطْءُ فِي رَمَضَانَ فِي أَيَّامٍ ، وَبِالْحُدُودِ إذَا تَكَرَّرَتْ أَسْبَابُهَا ، فَإِنَّهَا كَفَّارَاتٌ ، وَبِمَا إذَا قَصْدَ التَّأْكِيدَ ، وَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَى الصَّيْدِ الْحَرَمِيِّ ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ بَدَلٌ ، وَلِذَلِكَ تَزْدَادُ بِكِبَرِ

الصَّيْدِ ، وَتَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهِ ، فَهِيَ كَدِيَةِ الْقَتِيلِ ، وَلَا عَلَى كَفَّارَةِ قَتْلِ الْآدَمِيِّ ؛ لِأَنَّهَا أُجْرِيَتْ مَجْرَى الْبَدَلِ أَيْضًا لِحَقِّ اللَّهِ - تَعَالَى ، لِأَنَّهُ لَمَّا أَتْلَفَ آدَمِيًّا عَابِدًا لِلَّهِ تَعَالَى ، نَاسَبَ أَنْ يُوجِدَ عَبْدًا يَقُومُ مَقَامَهُ فِي الْعِبَادَةِ ، فَلَمَّا عَجَزَ عَنْ الْإِيجَادِ ، لَزِمَهُ إعْتَاقُ رَقَبَةٍ ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ إيجَادٌ لِلْعَبْدِ بِتَخْلِيصِهِ مِنْ رِقِّ الْعُبُودِيَّةِ وَشُغْلِهَا ، إلَى فَرَاغِ الْبَالِ لِلْعِبَادَةِ بِالْحُرِّيَّةِ الَّتِي حَصَلَتْ بِالْإِعْتَاقِ .
ثُمَّ الْفَرْقُ ظَاهِرٌ ، وَهُوَ أَنَّ السَّبَبَ هَاهُنَا تَكَرَّرَ بِكَمَالِهِ وَشُرُوطِهِ ، وَفِي مَحَلِّ النِّزَاعِ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْحِنْثَ إمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ السَّبَبَ ، أَوْ جُزْءًا مِنْهُ ، أَوْ شَرْطًا لَهُ ، بِدَلِيلِ تَوَقُّفِ الْحُكْمِ عَلَى وُجُودِهِ ، وَأَيًّا مَا كَانَ ، فَلَمْ يَتَكَرَّرْ ، فَلَمْ يَجُزْ الْإِلْحَاقُ ثَمَّ ، وَإِنْ صَحَّ الْقِيَاسُ ، فَقِيَاسُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ عَلَى مِثْلِهَا ، أَوْلَى مِنْ قِيَاسِهَا عَلَى الْقَتْلِ ؛ لِبُعْدِ مَا بَيْنَهُمَا .

( 7979 ) فَصْلٌ : وَإِذَا حَلَفَ يَمِينًا وَاحِدَةً عَلَى أَجْنَاسٍ مُخْتَلِفَةٍ ، فَقَالَ : وَاَللَّهِ لَا أَكَلْت ، وَلَا شَرِبْت ، وَلَا لَبِسْت .
فَحَنِثَ فِي الْجَمِيعِ ، فَكَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ .
لَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ وَاحِدَةٌ ، وَالْحِنْثَ وَاحِدٌ ، فَإِنَّهُ بِفِعْلِ وَاحِدٍ مِنْ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ يَحْنَثُ ، وَتَنْحَلُّ الْيَمِينُ .
وَإِنْ حَلَفَ أَيْمَانًا عَلَى أَجْنَاسٍ ، فَقَالَ : وَاَللَّهِ لَا أَكَلَتْ ، وَاَللَّهِ لَا شَرِبْت ، وَاَللَّهِ لَا لَبِسْت .
فَحَنِثَ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهَا ، فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ ، فَإِنْ أَخْرَجَهَا ثُمَّ حَنِثَ فِي يَمِينٍ أُخْرَى ، لَزِمَتْهُ كَفَّارَةٌ أُخْرَى .
لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا أَيْضًا خِلَافًا ؛ لِأَنَّ الْحِنْثَ فِي الثَّانِيَةِ تَجِبُ بِهِ الْكَفَّارَةُ بَعْدَ أَنْ كَفَّرَ عَنْ الْأُولَى ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ وَطِئَ فِي رَمَضَانَ فَكَفَّرَ ، ثُمَّ وَطِئَ مَرَّةً أُخْرَى .
وَإِنْ حَنِثَ فِي الْجَمِيعِ قَبْلَ التَّكْفِيرِ ، فَعَلَيْهِ فِي كُلِّ يَمِينٍ كَفَّارَةٌ .
هَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ .
وَرَوَاهُ الْمَرُّوذِيُّ عَنْ أَحْمَدَ .
وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : تُجْزِئُهُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ .
وَرَوَاهَا ابْنُ مَنْصُورٍ عَنْ أَحْمَدَ .
قَالَ الْقَاضِي : وَهِيَ الصَّحِيحَةُ .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : مَا نَقَلَهُ الْمَرُّوذِيُّ عَنْ أَحْمَدَ قَوْلٌ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ ، وَمَذْهَبُهُ أَنَّ كَفَّارَةً وَاحِدَةً تُجْزِئُهُ .
وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ ؛ لِأَنَّهَا كَفَّارَاتٌ مِنْ جِنْسٍ ، فَتَدَاخَلَتْ ، كَالْحُدُودِ مِنْ جِنْسٍ ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ مَحَالُّهَا ، بِأَنْ يَسْرِقَ مِنْ جَمَاعَةٍ ، أَوْ يَزْنِيَ بِنِسَاءٍ .
وَلَنَا ، أَنَّهُنَّ أَيْمَانٌ لَا يَحْنَثُ فِي إحْدَاهُنَّ بِالْحِنْثِ فِي الْأُخْرَى ، فَلَمْ تَتَكَفَّرْ إحْدَاهُمَا بِكَفَّارَةِ الْأُخْرَى ، كَمَا لَوْ كَفَّرَ عَنْ إحْدَاهُمَا قَبْلَ الْحِنْثِ فِي الْأُخْرَى ، وَكَالْأَيْمَانِ الْمُخْتَلِفَةِ الْكَفَّارَةِ ، وَبِهَذَا فَارَقَ الْأَيْمَانَ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ ؛ فَإِنَّهُ مَتَى حَنِثَ فِي إحْدَاهُمَا كَانَ حَانِثًا فِي الْأُخْرَى ، فَإِنْ كَانَ الْحِنْثُ وَاحِدًا ،

كَانَتْ الْكَفَّارَةُ وَاحِدَةً ، وَهَا هُنَا تَعَدَّدَ الْحِنْثُ ، فَتَعَدَّدَتْ الْكَفَّارَاتُ ، وَفَارَقَ الْحُدُودَ ؛ فَإِنَّهَا وَجَبَتْ لِلزَّجْرِ ، وَتَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا ، وَلِأَنَّ الْحُدُودَ عُقُوبَةٌ بَدَنِيَّةٌ ، فَالْمُوَالَاةُ بَيْنَهَا رُبَّمَا أَفْضَتْ إلَى التَّلَفِ ، فَاجْتُزِئَ بِأَحَدِهَا ، وَهَا هُنَا الْوَاجِبُ إخْرَاجُ مَالٍ يَسِيرٍ ، أَوْ صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، فَلَا يَلْزَمُ الضَّرَرُ الْكَثِيرُ بِالْمُوَالَاةِ فِيهِ ، وَلَا يُخْشَى مِنْهُ التَّلَفُ .

( 7980 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَلَوْ حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ بِيَمِينَيْنِ مُخْتَلِفَيْ الْكَفَّارَةِ ، لَزِمَتْهُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْيَمِينَيْنِ كَفَّارَتُهَا ) هَذَا مِثْلُ الْحَلِفِ بِاَللَّهِ وَبِالظِّهَارِ ، وَبِعِتْقِ عَبْدِهِ ، فَإِذَا حَنِثَ ، فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ، وَكَفَّارَةُ ظِهَارٍ ، وَيَعْتِقُ الْعَبْدُ ؛ لِأَنَّ تَدَاخُلَ الْأَحْكَامِ إنَّمَا يَكُونُ مَعَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ ، كَالْحُدُودِ مِنْ جِنْسٍ ، وَالْكَفَّارَاتُ هَاهُنَا أَجْنَاسٌ ، وَأَسْبَابُهَا مُخْتَلِفَةٌ ، فَلَمْ تَتَدَاخَلْ ، كَحَدِّ الزِّنَى وَالسَّرِقَةِ وَالْقَذْفِ وَالشُّرْبِ .

( 7981 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَمَنْ حَلَفَ بِحَقِّ الْقُرْآنِ ، لَزِمَتْهُ بِكُلِّ آيَةٍ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ) نَصَّ عَلَى هَذَا أَحْمَدُ .
وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَالْحَسَنِ .
وَعَنْهُ ، أَنَّ الْوَاجِبَ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ .
وَهُوَ قِيَاسُ الْمَذْهَبِ .
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَأَبِي عُبَيْدٍ ؛ لِأَنَّ الْحَلِفَ بِصِفَاتِ اللَّهِ كُلِّهَا ، وَتَكَرُّرَ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ سُبْحَانَهُ ، لَا يُوجِبُ أَكْثَرَ مِنْ كَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ ، فَالْحَلِفُ بِصِفَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ أَوْلَى أَنْ تُجْزِئَهُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ .
وَوَجْهُ الْأَوَّلِ ، مَا رَوَى مُجَاهِدٌ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ حَلَفَ بِسُورَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ ، فَعَلَيْهِ بِكُلِّ آيَةٍ كَفَّارَةُ يَمِينٍ صَبْرٍ ، فَمَنْ شَاءَ بَرَّ ، وَمَنْ شَاءَ فَجَرَ } .
رَوَاهُ الْأَثْرَمُ .
وَلِأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَالَ : عَلَيْهِ بِكُلِّ آيَةٍ كَفَّارَةُ يَمِينٍ .
وَلَمْ نَعْرِفْ مُخَالِفًا لَهُ فِي الصَّحَابَةِ ، فَكَانَ إجْمَاعًا .
قَالَ أَحْمَدُ : وَمَا أَعْلَمُ شَيْئًا يَدْفَعُهُ .
وَيُحْتَمَلُ أَنَّ كَلَامَ أَحْمَدَ ، فِي كُلِّ آيَةٍ كَفَّارَةٌ ، عَلَى الِاسْتِحْبَابِ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ ، فَإِنَّهُ قَالَ : عَلَيْهِ بِكُلِّ آيَةٍ كَفَّارَةٌ ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ فَكَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ .
وَرَدُّهُ إلَى وَاحِدَةٍ عِنْدَ الْعَجْزِ ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا زَادَ عَلَيْهَا غَيْرُ وَاجِبٍ .
وَكَلَامُ ابْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا يُحْمَلُ عَلَى الِاخْتِيَارِ ، وَالِاحْتِيَاطِ لِكَلَامِ اللَّهِ ، وَالْمُبَالَغَةِ فِي تَعْظِيمِهِ ، كَمَا أَنَّ عَائِشَةَ أَعْتَقَتْ أَرْبَعِينَ رَقَبَةً حِينَ حَلَفَتْ بِالْعَهْدِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِوَاجِبٍ ، وَلَا يَجِبُ أَكْثَرُ مِنْ كَفَّارَةٍ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ - تَعَالَى : { لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } .
وَهَذِهِ يَمِينٌ ، فَتَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْأَيْمَانِ الْمُنْعَقِدَةِ ، وَلِأَنَّهَا يَمِينٌ وَاحِدَةٌ ، فَلَمْ تُوجِبْ كَفَّارَاتٍ ، كَسَائِرِ الْأَيْمَانِ ، وَلِأَنَّ إيجَابَ

كَفَّارَاتٍ بِعَدَدِ الْآيَاتِ يُفْضِي إلَى الْمَنْعِ مِنْ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَالْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ ؛ لِأَنَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ بِحِنْثِهِ تَلْزَمُهُ هَذِهِ الْكَفَّارَاتُ كُلُّهَا ، تَرَكَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ كَائِنًا مَا كَانَ ، وَقَدْ يَكُونُ بِرًّا وَتَقْوَى وَإِصْلَاحًا ، فَتَمْنَعُهُ مِنْهُ ، وَقَدْ نَهَى اللَّهُ - تَعَالَى - عَنْهُ بِقَوْلِهِ : { وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ } .
وَإِنْ قُلْنَا بِوُجُوبِ كَفَّارَاتٍ بِعَدَدِ الْآيَاتِ ، فَلَمْ يُطِقْ ، أَجْزَأَتْهُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .

( 7982 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ، فِيمَنْ حَلَفَ بِنَحْرِ وَلَدِهِ رِوَايَتَانِ ؛ إحْدَاهُمَا ، كَفَّارَةُ يَمِينٍ ، وَالْأُخْرَى يَذْبَحُ كَبْشًا ) اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِيمَنْ حَلَفَ بِنَحْرِ وَلَدِهِ ، نَحْوَ أَنْ يَقُولَ : إنَّ فَعَلْت كَذَا ، فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَذْبَحَ وَلَدِي .
أَوْ يَقُولَ : وَلَدِي نَحِيرٌ إنْ فَعَلْت كَذَا .
أَوْ نَذَرَ ذَبْحَ وَلَدِهِ مُطْلَقًا ، غَيْرَ مُعَلَّقٍ بِشَرْطٍ .
فَعَنْ أَحْمَدَ ، عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ .
وَهَذَا قِيَاسُ الْمَذْهَبِ ؛ لِأَنَّ هَذَا نَذْرُ مَعْصِيَةٍ ، أَوْ نَذْرُ لَجَاجٍ ، وَكِلَاهُمَا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ .
وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ؛ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِامْرَأَةٍ نَذَرَتْ أَنْ تَذْبَحَ ابْنَهَا : لَا تَنْحَرِي ابْنَك ، وَكَفِّرِي عَنْ يَمِينِك .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ ، كَفَّارَتُهُ ذَبْحُ كَبْشٍ ، وَيُطْعِمُهُ لِلْمَسَاكِينِ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ نَذْرَ ذَبْحِ الْوَلَدِ جُعِلَ فِي الشَّرْعِ كَنَذْرِ ذَبْحِ شَاةٍ ، بِدَلِيلِ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى أَمَرَ إبْرَاهِيمَ بِذَبْحِ وَلَدِهِ ، وَكَانَ أَمْرًا بِذَبْحِ شَاةٍ ، وَشَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا مَا لَمْ يَثْبُتْ نَسْخُهُ ، وَدَلِيلُ أَنَّهُ أُمِرَ بِذَبْحِ شَاةٍ ، أَنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ ، وَلَا بِالْمَعَاصِي ، وَذَبْحُ الْوَلَدِ مِنْ كَبَائِرِ الْمَعَاصِي .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إمْلَاقٍ } .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ .
قِيلَ : ثُمَّ أَيٌّ ؟ قَالَ : أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ ؛ خَشْيَةَ أَنْ يُطْعِمَ مَعَكَ } .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَيْسَ هَذَا بِشَيْءِ ، وَلَا يَجِبُ بِهِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ نَذْرُ مَعْصِيَةٍ لَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ ، وَلَا يَجُوزُ ، وَلَا تَجِبُ بِهِ كَفَّارَةٌ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ ، وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ } .
وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { وَمَنْ

نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ ، فَلَا يَعْصِهِ } .
وَلَنَا ، قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ } .
وَلِأَنَّ النَّذْرَ حُكْمُهُ حُكْمُ الْيَمِينِ ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { النَّذْرُ حَلِفُهُ ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ } .
فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ حَلَفَ لَيَذْبَحَنَّ وَلَدَهُ .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّ النَّذْرَ لِذَبْحِ الْوَلَدِ كِنَايَةٌ عَنْ ذَبْحِ كَبْشٍ .
لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ إبْرَاهِيمَ لَوْ كَانَ مَأْمُورًا بِذَبْحِ كَبْشٍ ، لَمْ يَكُنْ الْكَبْشُ فِدَاءً ، وَلَا كَانَ مُصَدِّقًا لِلرُّؤْيَا قَبْلَ ذَبْحِ الْكَبْشِ ، وَإِنَّمَا أُمِرَ بِذَبْحِ ابْنِهِ ابْتِلَاءً ، ثُمَّ فُدِيَ بِالْكَبْشِ ، وَهَذَا أَمْرٌ اخْتَصَّ بِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، لَا يَتَعَدَّاهُ إلَى غَيْرِهِ ، لَحِكْمَةٍ عَلِمَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ .
ثُمَّ لَوْ كَانَ إبْرَاهِيمُ مَأْمُورًا بِذَبْحِ كَبْشٍ ، فَقَدْ وَرَدَ شَرْعُنَا بِخِلَافِهِ ، فَإِنَّ نَذْرَ ذَبْحِ الِابْنِ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ فِي شَرْعِنَا ، وَلَا مُبَاحٍ ، بَلْ هُوَ مَعْصِيَةٌ ، فَتَكُونُ كَفَّارَتُهُ كَكَفَّارَةِ سَائِرِ نُذُورِ الْمَعَاصِي .

( 7983 ) فَصْلٌ : وَإِنْ نَذَرَ ذَبْحَ نَفْسِهِ ، أَوْ أَجْنَبِيٍّ ، فَفِيهِ أَيْضًا عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا فِيهِ رِوَايَتَانِ ؛ نَقَلَ ابْنُ مَنْصُورٍ عَنْ أَحْمَدَ ، فِيمَنْ نَذَرَ أَنْ يَنْحَرَ نَفْسَهُ إذَا حَنِثَ : يَذْبَحُ شَاةً .
وَكَذَلِكَ إنْ نَذَرَ ذَبْحَ أَجْنَبِيٍّ ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، فِي الَّذِي قَالَ : أَنَا أَنْحَرُ فُلَانًا .
فَقَالَ : عَلَيْهِ ذَبْحُ كَبْشٍ .
وَلِأَنَّهُ نَذَرَ ذَبْحَ آدَمِيٍّ ، فَكَانَ عَلَيْهِ ذَبْحُ كَبْشٍ ، كَنَذْرِ ذَبْحِ ابْنِهِ .
وَالثَّانِيَةُ ، عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ؛ لِأَنَّهُ نَذْرُ مَعْصِيَةٍ ، فَكَانَ مُوجَبُهُ كَفَّارَةً ، لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ .
وَرَوَى الْجُوزَجَانِيُّ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ ، قَالَ : حَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدٍ ، قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إلَى ابْنِ عُمَرَ ، فَقَالَ : إنِّي نَذَرْت أَنَّ أَنْحَرَ نَفْسِي .
قَالَ : فَتَجَهَّمَهُ ابْنُ عُمَرَ ، وَأَفَّفَ مِنْهُ ، ثُمَّ أَتَى ابْنَ عَبَّاسٍ ، فَقَالَ لَهُ : أَهْدِ مِائَةَ بَدَنَةٍ .
ثُمَّ أَتَى عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ ، فَقَالَ لَهُ : أَرَأَيْت لَوْ نَذَرْت أَنْ لَا تُكَلِّمَ أَبَاكَ أَوْ أَخَاكَ ؟ إنَّمَا هَذِهِ خُطْوَةٌ مِنْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ، اسْتَغْفِرْ اللَّهَ ، وَتُبْ إلَيْهِ .
ثُمَّ رَجَعَ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَأَخْبَرَهُ ، فَقَالَ : أَصَابَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ .
وَرَجَعَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ .
وَالصَّحِيحُ فِي هَذَا ، أَنَّهُ نَذْرُ مَعْصِيَةٍ ، حُكْمُهُ حُكْمُ نَذْرِ سَائِرِ الْمَعَاصِي لَا غَيْرُ .

( 7984 ) فَصْلٌ : قَالَ أَحْمَدُ ، فِي امْرَأَةٍ نَذَرَتْ نَحْرَ وَلَدِهَا ، وَلَهَا ثَلَاثَةُ أَوْلَادٍ : تَذْبَحُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ كَبْشًا ، وَتُكَفِّرُ يَمِينَهَا .
وَهَذَا عَلَى قَوْلِهِ : إنَّ كَفَّارَةَ نَذْرِ ذَبْحِ الْوَلَدِ ذَبْحُ كَبْشٍ .
جَعَلَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ كَبْشًا ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْوَاحِدِ إذَا أُضِيفَ اقْتَضَى التَّعْمِيمَ ، فَكَانَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ كَبْشٌ .
فَإِنْ عَنَتْ بِنَذْرِهَا وَاحِدًا فَإِنَّمَا عَلَيْهَا كَبْشٌ وَاحِدٌ ؛ بِدَلِيلِ أَنَّ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، لَمَّا أُمِرَ بِذَبْحِ ابْنِهِ الْوَاحِدِ ، فُدِيَ بِكَبْشٍ وَاحِدٍ ، وَلَمْ يَفْدِ غَيْرَ مَنْ أُمِرَ بِذَبْحِهِ مِنْ أَوْلَادِهِ ، وَكَذَا هَاهُنَا ، وَعَبْدُ الْمُطَّلِبِ لَمَّا نَذَرَ ذَبْحَ ابْنٍ مِنْ بَنِيهِ إنْ بَلَغُوا عَشَرَةً ، لَمْ يَفْدِ مِنْهُمْ إلَّا وَاحِدًا .
وَسَوَاءٌ نَذَرَتْهُ مُعَيَّنًا ، أَوْ عَنَتْ وَاحِدًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ ، فَأَمَّا قَوْلُ أَحْمَدَ : وَتُكَفِّرُ يَمِينَهَا .
فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ ذَبْحَ الْكِبَاشِ كَفَّارَةُ يَمِينِهَا .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ مَعَ نَذْرِهَا يَمِينٌ .
وَأَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى ، تُجْزِئُهَا كَفَّارَةُ يَمِينٍ ، عَلَى مَا سَبَقَ .

( 7985 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَمَنْ حَلَفَ بِعِتْقِ مَا يَمْلِكُ ، فَحَنِثَ ، عَتَقَ عَلَيْهِ كُلُّ مَا يَمْلِكُ مِنْ عَبِيدِهِ ، وَإِمَائِهِ ، وَمُكَاتَبِيهِ ، وَمُدَبَّرِيهِ ، وَأُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ ، وَشِقْصٍ يَمْلِكُهُ مِنْ مَمْلُوكِهِ ) مَعْنَاهُ إذَا قَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا ، فَكُلُّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ أَوْ عَتِيقٌ ، أَوْ فَكُلٌّ مَا أَمْلِكُ حُرٌّ .
فَإِنَّ هَذَا إذَا حَنِثَ عَتَقَ مَمَالِيكُهُ ، وَلَمْ تُغْنِ عَنْهُ كَفَّارَةٌ .
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ .
وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَمَالِكٌ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَاللَّيْثُ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ ، وَعَائِشَةَ ، وَأَبِي سَلَمَةَ ، وَحَفْصَةَ ، وَزَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ ، وَالْحَسَنِ ، وَأَبِي ثَوْرٍ : تُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ .
لِأَنَّهَا يَمِينٌ ، فَتَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي رَافِعٍ ، قَالَ : قَالَتْ مَوْلَاتِي لَيْلَى بِنْتُ الْعَجْمَاءِ : كُلُّ مَمْلُوكٍ لَهَا مُحَرَّرٌ ، وَكُلُّ مَالٍ لَهَا هَدْيٌ ، وَهِيَ يَهُودِيَّةٌ وَهِيَ نَصْرَانِيَّةٌ إنْ لَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَك وَبَيْنَ امْرَأَتِك .
قَالَ : فَأَتَيْت زَيْنَبَ بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ ، ثُمَّ أَتَيْت حَفْصَةَ .
إلَى أَنْ قَالَ : ثُمَّ أَتَيْت ابْنَ عُمَرَ ، فَجَاءَ مَعِي إلَيْهَا ، فَقَامَ عَلَى الْبَابِ فَسَلَّمَ ، فَقَالَ : أَمِنْ حِجَارَةٍ أَنْتِ أَمْ مِنْ حَدِيدٍ ؟ أَفْتَتْكِ زَيْنَبُ ، وَأَفْتَتْكِ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ ، كَفِّرِي عَنْ يَمِينِك ، وَخَلِّي بَيْنَ الرَّجُلِ وَامْرَأَتِهِ .
رَوَاهُ الْأَثْرَمُ ، وَالْجُوزَجَانِيُّ مُطَوَّلًا .
وَلَنَا ، أَنَّهُ عَلَّقَ الْعِتْقَ عَلَى شَرْطٍ ، وَهُوَ قَابِلٌ لِلتَّعْلِيقِ ، فَيَقَعُ بِوُجُودِ شَرْطِهِ ، كَالطَّلَاقِ ، وَالْآيَةُ مَخْصُوصَةٌ بِالطَّلَاقِ ، وَالْعِتْقُ فِي مَعْنَاهُ ، وَلِأَنَّ الْعِتْقَ لَيْسَ بِيَمِينٍ فِي الْحَقِيقَةِ ، إنَّمَا هُوَ تَعْلِيقٌ عَلَى شَرْطٍ ، فَأَشْبَهَ الطَّلَاقَ .
فَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي رَافِعٍ ، قَالَ أَحْمَدُ : قَالَ فِيهِ : كَفِّرِي يَمِينَك ،

وَأَعْتِقِي جَارِيَتَك .
وَهَذِهِ زِيَادَةٌ يَجِبُ قَبُولُهَا .
وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا مَمْلُوكٌ سِوَاهَا .

( 7986 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا إنْ قَالَ : إنْ فَعَلْت ، فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُعْتِقَ عَبْدِي أَوْ أُحَرِّرَهُ .
أَوْ نَحْوَ هَذَا ، لَمْ يُعْتَقْ بِحِنْثِهِ ، وَكَفَّرَ كَفَّارَةَ يَمِينٍ ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي نَذْرِ اللَّجَاجِ ؛ لِأَنَّ هَذَا لَمْ يُعَلِّقْ عِتْقَ الْعَبْدِ ، إنَّمَا حَلَفَ عَلَى تَعْلِيقِ الْعِتْقِ بِشَرْطٍ ، بِخِلَافِ الَّذِي قَبْلَهُ .
( 7987 ) فَصْلٌ : وَإِذَا حَنِثَ ، عَتَقَ عَلَيْهِ عَبِيدُهُ ، وَإِمَاؤُهُ ، وَمُدَبَّرُوهُ ، وَأُمَّهَاتُ أَوْلَادِهِ ، وَمُكَاتَبُوهُ ، وَالْأَشْقَاصُ الَّتِي يَمْلِكُهَا مِنْ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو ثَوْرٍ ، وَالْمُزَنِيُّ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَعَنْ أَحْمَدَ ، رِوَايَةٌ أُخْرَى ؛ لَا يَعْتِقُ الشِّقْصُ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ .
وَلَعَلَّهُ ذَهَبَ إلَى أَنَّ الشِّقْصَ لَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْعَبْدِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَصَاحِبَاهُ ، وَإِسْحَاقُ : لَا يَعْتِقُ الْمُكَاتَبُ .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ مِلْكِ سَيِّدِهِ وَتَصَرُّفِهِ ، فَلَمْ يَدْخُلْ فِي اسْمِ مَمَالِيكِهِ ، كَالْحُرِّ .
وَقَالَ الرَّبِيعُ : سَمَاعِي مِنْ الشَّافِعِيِّ ، أَنَّهُ يَعْتِقُ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ مَمْلُوكُهُ ، فَيَعْتِقُ ، كَالْمُدَبَّرِ ؛ وَدَلِيلُ كَوْنِهِ مَمْلُوكَهُ ، قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ } .
وَقَوْلُهُ لِعَائِشَةَ : { اشْتَرِي بَرِيرَةَ ، وَأَعْتِقِيهَا } وَكَانَتْ مُكَاتَبَةً ، وَلَا يَصِحُّ شِرَاءُ غَيْرِ الْمَمْلُوكِ وَلَا عِتْقُهُ ، وَلِأَنَّهُ يَصِحُّ إعْتَاقُهُ بِالْإِجْمَاعِ ، وَأَحْكَامُهُ أَحْكَامُ الْعَبِيدِ ، وَلِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ ، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَالِكٍ ، وَلِأَنَّهُ يَصِحُّ إعْتَاقُهُ بِالْمُبَاشَرَةِ ، فَدَخَلَ فِي الْعِتْقِ بِالتَّعْلِيقِ ، كَسَائِرِ عَبِيدِهِ .
وَأَمَّا الشِّقْصُ ، فَإِنَّهُ مَمْلُوكٌ لَهُ ، قَابِلٌ لِلتَّحْرِيرِ ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ لَفْظِهِ .

( 7988 ) فَصْلٌ : فَإِنْ قَالَ : عَبْدُ فُلَانٍ حُرٌّ ، إنْ دَخَلْت الدَّارَ .
ثُمَّ دَخَلَهَا ، لَمْ يَعْتِقْ الْعَبْدُ ، بِغَيْرِ خِلَافٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْتِقُ بِإِعْتَاقِهِ نَاجِزًا ، فَلَا يَعْتِقُ بِالتَّعْلِيقِ أَوْلَى .
وَهَلْ تَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ؟ فِيهِ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ ، ذَكَرَهُمَا ابْنُ أَبِي مُوسَى ؛ إحْدَاهُمَا ؛ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ ؛ لِأَنَّهُ حَلَفَ بِالْعِتْقِ فِيمَا لَا يَقَعُ بِالْحِنْثِ ، فَلَزِمَتْهُ كَفَّارَةٌ ، كَمَا لَوْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُعْتِقَ فُلَانًا .
وَالثَّانِيَةُ ، لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ حَلَفَ بِإِخْرَاجِ مَالِ غَيْرِهِ ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ ، كَمَا لَوْ قَالَ : مَالُ فُلَانٍ صَدَقَةٌ ، إنْ دَخَلْت الدَّارَ .
وَلِأَنَّهُ تَعْلِيقٌ لِلْعِتْقِ عَلَى صِفَةٍ ، فَلَمْ تَجِبْ بِهِ كَفَّارَةٌ ، كَسَائِرِ التَّعْلِيقِ .
وَأَمَّا إذَا قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتِقَ عَبْدًا .
فَإِنَّهُ نَذْرٌ ، فَأَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ ؛ لِكَوْنِ النَّذْرِ كَالْيَمِينِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ هَاهُنَا ، فَإِنَّهُ إنَّمَا عَلَّقَ الْعِتْقَ عَلَى صِفَةٍ ، فَوُجُودُ الصِّفَةِ أَثَّرَ فِي جَعْلِ الْمُعَلَّقِ كَالْمُنْجَزِ ، وَلَوْ نَجَزَ الْعِتْقُ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ ، فَكَذَلِكَ هَاهُنَا .

( 7989 ) فَصْلٌ فَإِنْ قَالَ إنْ فَعَلْت كَذَا فَمَالُ فُلَانٍ صَدَقَةٌ ، أَوْ فَعَلَى فُلَانٍ حِجَّةٌ ، أَوْ فَمَالُ فُلَانٍ حَرَامٌ عَلَيْهِ أَوْ هُوَ بَرِيءٌ مِنْ الْإِسْلَامِ .
وَأَشْبَاهَ هَذَا ، فَلَيْسَ ذَلِكَ بِيَمِينٍ ، وَلَا تَجِبُ بِهِ كَفَّارَةٌ .
وَلَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيهِ خِلَافًا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ فِيهِ بِكَفَّارَةٍ وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ .

( 7990 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : وَمَنْ حَلَفَ فَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْحِنْثِ وَبَعْدَهُ ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْكَفَّارَةُ صَوْمًا ، أَوْ غَيْرَهُ ، إلَّا فِي الظِّهَارِ وَالْحَرَامِ ، فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ قَبْلَ الْحِنْثِ الظِّهَارُ وَالْحَرَامُ شَيْءٌ وَاحِدٌ ، وَإِنَّمَا عَطَفَ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ لِاخْتِلَافِ اللَّفْظَيْنِ ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ ، فِيمَا عَلِمْنَاهُ ، فِي وُجُوبِ تَقْدِيمِ كَفَّارَتِهِ عَلَى الْوَطْءِ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا } .
فَأَمَّا كَفَّارَةُ سَائِرِ الْأَيْمَانِ ، فَإِنَّهَا تَجُوزُ قَبْلَ الْحِنْثِ وَبَعْدَهُ ، صَوْمًا كَانَتْ أَوْ غَيْرَهُ ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ جَوَازُ تَقْدِيمِ التَّكْفِيرِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ، وَابْنُهُ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ وَسَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ ، وَمَسْلَمَةُ بْنُ مَخْلَدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ ، وَابْنُ سِيرِينَ ، وَرَبِيعَةُ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو عُبَيْدٍ ، وَأَبُو خَيْثَمَةَ ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد .
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ : لَا تُجْزِئُ الْكَفَّارَةُ قَبْلَ الْحِنْثِ ؛ لِأَنَّهُ تَكْفِيرٌ قَبْلَ وُجُودِ سَبَبِهِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَفَّرَ قَبْلَ الْيَمِينِ ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ أَنَّ سَبَبَ التَّكْفِيرِ الْحِنْثُ ، إذْ هُوَ هَتْكُ الِاسْمِ الْمُعَظَّمِ الْمُحْتَرَمِ ، وَلَمْ يُوجَدْ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ كَقَوْلِنَا فِي الْإِعْتَاقِ وَالْإِطْعَامِ وَالْكِسْوَةِ ، وَكَقَوْلِهِمْ فِي الصِّيَامِ ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ .
فَلَمْ يَجُزْ فِعْلُهُ قَبْلَ وُجُوبِهِ لِغَيْرِ مَشَقَّةٍ ، كَالصَّلَاةِ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَمُرَةَ ، قَالَ : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا حَلَفْت عَلَى يَمِينٍ ، فَرَأَيْت غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا ، فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ ، ثُمَّ ائْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَفِي لَفْظٍ : { وَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ }

رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ، وَالْأَثْرَمُ وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ ، وَعْدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَ ذَلِكَ .
رَوَاهُ الْأَثْرَمُ .
وَعَنْ أَبِي مُوسَى ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنِّي إنْ شَاءَ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ ، فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا ، إلَّا كَفَّرْت عَنْ يَمِينِي ، وَأَتَيْت الَّذِي هُوَ خَيْرٌ .
أَوْ أَتَيْت الَّذِي هُوَ خَيْرٌ ، وَكَفَّرْت عَنْ يَمِينِي } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَلِأَنَّهُ كَفَّرَ بَعْدَ وُجُودِ السَّبَبِ ، فَأَجْزَأَ ، كَمَا لَوْ كَفَّرَ بَعْدَ الْجَرْحِ ، وَقَبْلَ الزَّهُوقِ ، وَالسَّبَبُ هُوَ الْيَمِينُ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى { ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ } .
وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } .
وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَكَفَّرْت عَنْ يَمِينِي وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِك } .
وَتَسْمِيَةِ الْكَفَّارَةِ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ ، وَبِهَذَا يَنْفَصِلُ عَمَّا ذَكَرُوهُ ، فَإِنَّ الْحِنْثَ شَرْطٌ وَلَيْسَ بِسَبَبٍ ، وَتَعْجِيلُ حَقِّ الْمَالِ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِهِ وَقَبْلَ وُجُودِ شَرْطِهِ جَائِزٌ ، بِدَلِيلِ تَعْجِيلِ الزَّكَاةِ بَعْدَ وُجُودِ النِّصَابِ وَقَبْلَ الْحَوْلِ ، وَكَفَّارَةِ الْقَتْلِ بَعْدَ الْجَرْحِ وَقَبْلَ الزَّهُوقِ .
قَالَ ابْنُ عَبْدَ الْبَرِّ : الْعَجَبُ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ ، أَجَازُوا تَقْدِيمَ الزَّكَاةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرْوُوا فِيهَا مِثْلَ هَذِهِ الْآثَارِ الْوَارِدَةِ فِي تَقْدِيمِ الْكَفَّارَةِ ، وَيَأْبُونَ تَقْدِيمَ الْكَفَّارَةِ مَعَ كَثْرَةِ الرِّوَايَةِ الْوَارِدَةِ فِيهَا ، وَالْحُجَّةُ فِي السُّنَّةِ ، وَمَنْ خَالَفَهَا مَحْجُوجٌ بِهَا .
فَأَمَّا أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فَهُمْ مَحْجُوجُونَ بِالْأَحَادِيثِ ، مَعَ أَنَّهُمْ قَدْ احْتَجُّوا بِهَا فِي الْبَعْضِ ، وَخَالَفُوهَا فِي الْبَعْضِ ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ مَا جَمَعَ بَيْنَهُ النَّصُّ وَلِأَنَّ الصِّيَامَ نَوْعُ تَكْفِيرٍ ، فَجَازَ قَبْلَ الْحِنْثِ ، كَالتَّكْفِيرِ بِالْمَالِ ، وَقِيَاسُ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْكَفَّارَةِ أَوْلَى مِنْ

قِيَاسِهَا عَلَى الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ بِأَصْلِ الْوَضْعِ .

( 7991 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا التَّكْفِيرُ قَبْلَ الْيَمِينِ ، فَلَا يَجُوزُ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ ؛ لِأَنَّهُ تَقْدِيمٌ لِلْحُكْمِ قَبْلَ سَبَبِهِ ، فَلَمْ يَجُزْ ، كَتَقْدِيمِ الزَّكَاةِ قَبْلَ مِلْكِ النِّصَابِ ، وَكَفَّارَةِ الْقَتْلِ قَبْلَ الْجَرْحِ .

( 7992 ) فَصْلٌ وَالتَّكْفِيرُ قَبْلَ الْحِنْثِ وَبَعْدَهُ سَوَاءٌ فِي الْفَضِيلَةِ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى : بَعْدَهُ أَفْضَلُ عِنْدَ أَحْمَدَ .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ، وَمَالِكٍ ، وَالثَّوْرِيِّ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْخُرُوجِ مِنْ الْخِلَافِ وَحُصُولِ الْيَقِينِ بِبَرَاءَةِ الذِّمَّةِ .
وَلَنَا ، أَنَّ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِيهِ ، فِيهَا التَّقْدِيمُ مَرَّةً وَالتَّأْخِيرُ أُخْرَى ، وَهَذَا دَلِيلُ التَّسْوِيَةِ ، وَلِأَنَّهُ تَعْجِيلُ مَالٍ يَجُوزُ تَعْجِيلُهُ قَبْلَ وُجُوبِهِ ، فَلَمْ يَكُنْ التَّأْخِيرُ أَفْضَلَ ، كَتَعْجِيلِ الزَّكَاةِ وَكَفَّارَةِ الْقَتْلِ ، وَمَا ذَكَرُوهُ مُعَارَضٌ بِتَعْجِيلِ النَّفْعِ لِلْفُقَرَاءِ ، وَالتَّبَرُّعِ بِمَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ ، وَعَلَى أَنَّ الْخِلَافَ الْمُخَالِفَ لِلنُّصُوصِ لَا يُوجِبُ تَفْضِيلَ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ ، كَتَرْكِ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ .

( 7993 ) فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ الْحِنْثُ فِي الْيَمِينِ مَحْظُورًا ، فَعَجَّلَ الْكَفَّارَةَ قَبْلَهُ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَجَّلَ أَحَدَهُمَا تُجْزِئُهُ ؛ لِأَنَّهُ عَجَّلَ الْكَفَّارَةَ بَعْدَ سَبَبَهَا ، فَأَجْزَأَتْهُ ، كَمَا لَوْ كَانَ الْحِنْثُ مُبَاحًا .
وَالثَّانِي ، لَا تُجْزِئُهُ ؛ لِأَنَّ التَّعْجِيلَ رُخْصَةٌ ، فَلَا يُسْتَبَاحُ بِالْمَعْصِيَةِ ؛ كَالْقَصْرِ فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ ، وَالْحَدِيثُ لَمْ يَتَنَاوَلْ الْمَعْصِيَةَ ؛ فَإِنَّهُ قَالَ : { إذَا حَلَفْت عَلَى يَمِينٍ ، فَرَأَيْت غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا ، فَكَفِّرْ } .
وَهَذَا لَمْ يَرَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا .
وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا وَجْهَانِ ، كَمَا ذَكَرْنَا .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71