الكتاب : المغني
المؤلف : أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد ، الشهير بابن قدامة المقدسي

مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ ، فَقَالَتْ : هُوَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أَبِي إنْ تَزَوَّجْتُهُ .
ثُمَّ رَغِبَتْ فِيهِ بَعْدُ ، فَاسْتَفْتَتْ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ يَوْمئِذٍ كَثِيرٌ ، فَأَمَرُوهَا أَنْ تَعْتِقَ رَقَبَةً وَتَتَزَوَّجَهُ ، فَأَعْتَقَتْنِي وَتَزَوَّجَتْهُ .
وَرَوَى سَعِيدٌ هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ مُخْتَصَرَيْنِ ، وَلِأَنَّهَا زَوْجٌ أَتَى بِالْمُنْكَرِ مِنْ الْقَوْلِ وَالزُّورِ ، فَلَزِمَهُ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ كَالْآخَرِ ، وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ، فَاسْتَوَى فِيهَا الزَّوْجَانِ ، كَالْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ : لَيْسَ عَلَيْهَا كَفَّارَةٌ .
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَإِسْحَاقَ ، وَأَبِي ثَوْرٍ ؛ لِأَنَّهُ قَوْلٌ مُنْكَرٌ وَزُورٌ ، وَلَيْسَ بِظِهَارٍ ، فَلَمْ يُوجِبْ كَفَّارَةً ، كَالسَّبِّ وَالْقَذْفِ .
وَلِأَنَّهُ قَوْلٌ لَيس بِظِهَارٍ ، فَلَمْ يُوجِبْ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ ، كَسَائِرِ الْأَقْوَالِ ، أَوْ تَحْرِيمٌ مِمَّا لَا يَصِحُّ مِنْهُ الظِّهَارُ ، فَأَشْبَهَ الظِّهَارَ مِنْ أَمَتِهِ .
وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ : عَلَيْهَا كَفَّارَةُ الْيَمِينِ .
قَالَ أَحْمَدُ : قَدْ ذَهَبَ عَطَاءٌ مَذْهَبًا حَسَنًا ، جَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا مِثْلَ الطَّعَامِ وَمَا أَشْبَهَ .
وَهَذَا أَقْيَسُ عَلَى مَذْهَبِ أَحْمَدَ ، وَأَشْبَهُ بِأُصُولِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِظِهَارٍ ، وَمُجَرَّدُ الْقَوْلِ مِنْ الْمُنْكَرِ وَالزُّورِ لَا يُوجِبُ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ ، بِدَلِيلِ سَائِرِ الْكَذِبِ ، وَالظِّهَارِ قَبْلَ الْعَوْدِ ، وَالظِّهَارِ مِنْ أَمَتِهِ وَأُمِّ وَلَدِهِ ، وَلِأَنَّهُ تَحْرِيمٌ لَا يُثْبِتُ التَّحْرِيمَ فِي الْمَحَلِّ ، فَلَمْ يُوجِبْ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ ، كَتَحْرِيمِ سَائِرِ الْحَلَالِ .
وَلِأَنَّهُ ظِهَارٌ مِنْ غَيْرِ امْرَأَتِهِ ، فَأَشْبَهَ الظِّهَارَ مِنْ أَمَتِهِ ، وَمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ ، فِي عِتْقِ الرَّقَبَةِ ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إعْتَاقُهَا تَكْفِيرًا لَيَمِينِهَا ، فَإِنَّ عِتْقَ الرَّقَبَةِ أَحَدُ خِصَالِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ ، وَيَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى هَذَا ؛ لِكَوْنِ

الْمَوْجُودِ مِنْهَا لَيْسَ بِظِهَارٍ ، وَكَلَامُ أَحْمَدَ ، فِي رِوَايَةٍ الْأَثْرَمِ ، لَا يَقْتَضِي وُجُوبَ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ ، إنَّمَا قَالَ : الْأَحْوَطُ أَنْ تُكَفِّرَ .
وَكَذَا حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ الْأَحْوَطَ التَّكْفِيرُ بِأَغْلَظِ الْكَفَّارَاتِ ، لِيَخْرُجَ مِنْ الْخِلَافِ ، وَلَكِنْ لَيْسَ ذَلِكَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ عَلَيْهِ ، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ ، وَإِنَّمَا هُوَ تَحْرِيمٌ لِلْحَلَالِ مِنْ غَيْرِ ظِهَارٍ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ حَرَّمَ أَمَتَهُ ، أَوْ طَعَامَهُ .
وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( 6227 ) فَصْلٌ : وَإِذَا قُلْنَا بِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهَا ، فَلَا تَجِبُ عَلَيْهَا حَتَّى يَطَأَهَا وَهِيَ مُطَاوِعَةٌ ، فَإِنْ طَلَّقَهَا ، أَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ وَطْئِهَا ، أَوْ إكْرَاهِهَا عَلَى الْوَطْءِ ، فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّهَا يَمِينٌ ، فَلَا تَجِبُ كَفَّارَتُهَا قَبْلَ الْحِنْثِ فِيهَا ، كَسَائِرِ الْأَيْمَانِ .
وَلَا يَجِبُ تَقْدِيمُهَا قَبْلَ الْمَسِيسِ ، كَكَفَّارَاتِ سَائِرِ الْأَيْمَانِ ، وَيَجُوزُ تَقْدِيمُهَا لِذَلِكَ ، وَعَلَيْهَا تَمْكِينُ زَوْجِهَا مِنْ وَطْئِهَا قَبْلَ التَّكْفِيرِ ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهُ عَلَيْهَا ، فَلَا يَسْقُطُ بِيَمِينِهَا ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِظِهَارٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ تَحْرِيمٌ لَحَلَالٍ ، فَلَا يُثْبِتُ تَحْرِيمًا ، كَمَا لَوْ حَرَّمَ طَعَامَهُ .
وَحُكِيَ أَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ أَبِي بَكْرٍ ، أَنَّهَا لَا تُمَكِّنُهُ قَبْلُ التَّكْفِيرِ ، إلْحَاقًا بِالرَّجُلِ .
وَلَيْسَ ذَلِكَ بِجَيِّدٍ ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ الظِّهَارُ مِنْهُ صَحِيحٌ ، وَلَا يَصِحُّ ظِهَارُ الْمَرْأَةِ ، وَلِأَنَّ الْحِلَّ حَقُّ الرَّجُلِ ، فَمَلَكَ رَفْعَهُ ، وَالْحِلُّ حَقٌّ عَلَيْهَا ، فَلَا تَمْلِكُ إزَالَتَهُ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( 6228 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : وَإِذَا ظَاهَرَ مِنْ زَوْجَتِهِ مِرَارًا ، فَلَمْ يُكَفِّرْ ، فَكَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ هَذَا ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ ، سَوَاءٌ كَانَ فِي مَجْلِسٍ أَوْ مَجَالِسَ ، يَنْوِي بِذَلِكَ التَّأْكِيدَ ، أَوْ الِاسْتِئْنَافَ ، أَوْ أَطْلَقَ .
نَقَلَهُ عَنْ أَحْمَدَ جَمَاعَةٌ .
وَاخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ ، وَابْنُ حَامِدٍ ، وَالْقَاضِي .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ ، وَطَاوُسٌ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَمَالِكٌ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو عُبَيْدٍ ، وَأَبُو ثَوْرٍ .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ الْقَدِيمُ وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ ، فِي مَنْ حَلَفَ أَيْمَانًا كَثِيرَةً ، فَإِنْ أَرَادَ تَأْكِيدَ الْيَمِينِ ، فَكَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ .
فَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ إنْ نَوَى الِاسْتِئْنَافَ فَكَفَّارَتَانِ .
وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ : إنْ كَانَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ، فَكَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَإِنْ كَانَ فِي مَجَالِسَ ، فَكَفَّارَاتٌ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ ، وَقَتَادَةَ ؛ لِأَنَّهُ قَوْلٌ يُوجِبُ تَحْرِيمَ الزَّوْجَةِ ، فَإِذَا نَوَى الِاسْتِئْنَافَ تَعَلَّقَ بِكُلِّ مَرَّةٍ حُكْمُ حَالِهَا ، كَالطَّلَاقِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ قَوْلٌ لَمْ يُؤَثِّرْ تَحْرِيمًا فِي الزَّوْجَةِ ، فَلَمْ تَجِبْ بِهِ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ ، كَالْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَمْ يُؤَثِّرْ تَحْرِيمًا ، فَإِنَّهَا قَدْ حُرِّمَتْ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ ، وَلَمْ يَزِدْ تَحْرِيمُهَا ، وَلِأَنَّهُ لَفْظٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ كَفَّارَةٌ ، فَإِذَا كَرَّرَهُ كَفَاهُ وَاحِدَةٌ ، كَالْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى .
وَأَمَّا الطَّلَاقُ ، فَمَا زَادَ عَنْ ثَلَاثٍ ، لَا يَثْبُتُ لَهُ حُكْمٌ بِالْإِجْمَاعِ ، وَبِهَذَا يَنْتَقِضُ مَا ذَكَرُوهُ .
وَأَمَّا الثَّالِثَةُ ، فَإِنَّهَا تُثْبِتُ تَحْرِيمًا زَائِدًا ، وَهُوَ التَّحْرِيمُ قَبْلَ زَوْجٍ وَإِصَابَةٍ ، بِخِلَافِ الظِّهَارِ الثَّانِي ، فَإِنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِهِ تَحْرِيمٌ ، فَنَظِيرُهُ مَا زَادَ عَلَى الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ ، لَا يَثْبُتُ لَهُ حُكْمٌ ،

فَكَذَلِكَ الظِّهَارُ الثَّانِي .
فَأَمَّا إنْ كَفَّرَ عَنْ الْأَوَّلِ ، ثُمَّ ظَاهَرَ ، لَزِمَتْهُ لِلثَّانِي كَفَّارَةٌ ، بِلَا خِلَافٍ ؛ لِأَنَّ الظِّهَارَ الثَّانِيَ مِثْلُ الْأَوَّلِ ، فَإِنَّهُ حَرَّمَ الزَّوْجَةَ الْمُحَلَّلَةَ ، فَأَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ كَالْأَوَّلِ ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ التَّكْفِيرِ .

( 6229 ) فَصْلٌ : وَالنِّيَّةُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْكَفَّارَةِ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ } .
وَلِأَنَّ الْعِتْقَ يَقَعُ مُتَبَرَّعًا بِهِ ، وَعَنْ كَفَّارَةٍ أُخْرَى ، أَوْ نَذْرٍ ، فَلَمْ يَنْصَرِفْ إلَى هَذِهِ الْكَفَّارَةِ إلَّا بِنِيَّةٍ ، وَصِفَتُهَا أَنْ يَنْوِيَ الْعِتْقَ ، أَوْ الصِّيَامَ ، أَوْ الْإِطْعَامَ عَنْ الْكَفَّارَةِ ، فَإِنْ زَادَ الْوَاجِبَةَ كَانَ تَأْكِيدًا ، وَإِلَّا أَجْزَأَتْ نِيَّتُهُ الْكَفَّارَةَ .
وَإِنْ نَوَى وُجُوبَهَا ، وَلَمْ يَنْوِ الْكَفَّارَةَ ، لَمْ يُجْزِئْهُ ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ يَتَنَوَّعُ عَنْ كَفَّارَةٍ وَنَذْرٍ ، فَوَجَبَ تَمْيِيزُهُ .
وَمَوْضِعُ النِّيَّةِ مَعَ التَّكْفِيرِ ، أَوْ قَبْلَهُ بِيَسِيرٍ .
وَهَذَا الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ ، وَقَالَ بِهِ بَعْضُ أَصْحَابِهِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا يُجْزِئُ حَتَّى يَسْتَصْحِبَ النِّيَّةَ ، وَإِنْ كَانَتْ الْكَفَّارَةُ صِيَامًا اُشْتُرِطَ نِيَّةُ الصِّيَامِ عَنْ الْكَفَّارَةِ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ ؛ لِقَوْلِهِ : عَلَيْهِ السَّلَامُ { لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتْ الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ } .
وَإِنْ اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَاتٌ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ ، لَمْ يَجِبْ تَعْيِينُ سَبَبِهَا .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا .
فَعَلَى هَذَا ، لَوْ كَانَ مُظَاهِرًا مِنْ أَرْبَعِ نِسَاءٍ ، فَأَعْتَقَ عَبْدًا عَنْ ظِهَارِهِ ، أَجْزَأَهُ عَنْ إحْدَاهُنَّ ، وَحَلَّتْ لَهُ وَاحِدَةٌ غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ ، فَأَجْزَأَتْهُ نِيَّةٌ مُطْلَقَةٌ ، كَمَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ صَوْمُ يَوْمَيْنِ مِنْ رَمَضَانَ .
وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنْ يُقْرِعَ بَيْنَهُنَّ ، فَتَخْرُجَ بِالْقُرْعَةِ الْمُحَلَّلَةُ مِنْهُنَّ .
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَهُ أَنْ يَصْرِفَهَا إلَى أَيَّتِهِنَّ شَاءَ ، فَتَحِلُّ .
وَهَذَا يُفْضِي إلَى أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ كَوْنِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ مُحَلَّلَةً لَهُ ، أَوْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ .
وَإِنْ كَانَ الظِّهَارُ مِنْ ثَلَاثِ نِسْوَةٍ ، فَأَعْتَقَ عَبْدًا عَنْ

إحْدَاهُنَّ ، ثُمَّ صَامَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ عَنْ أُخْرَى ، ثُمَّ مَرِضَ ، فَأَطْعَمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا عَنْ أُخْرَى ، أَجْزَأَهُ ، وَحَلَّ لَهُ الْجَمِيعُ ، مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ وَلَا تَعْيِينٍ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ : يُقْرِعُ بَيْنَهُنَّ ، فَمَنْ تَقَعُ لَهَا الْقُرْعَةُ ، فَالْعِتْقُ لَهَا ، ثُمَّ يُقْرِعُ بَيْنَ الْبَاقِيَتَيْنِ ، فَمَنْ تَقَعُ لَهَا الْقُرْعَةُ فَالصِّيَامُ لَهَا ، وَالْإِطْعَامُ عَنْ الثَّالِثَةِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ لَوْ انْفَرَدَتْ ، احْتَاجَتْ إلَى قُرْعَةٍ ، فَكَذَلِكَ إذَا اجْتَمَعَتْ .
وَلَنَا أَنَّ التَّكْفِيرَ قَدْ حَصَلَ عَنْ الثَّلَاثِ ، وَزَالَتْ حُرْمَةُ الظِّهَارِ ، فَلَمْ يَحْتَجْ إلَى قُرْعَةٍ ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَ ثَلَاثَةَ أَعْبُدٍ عَنْ ظِهَارِهِنَّ دَفْعَةً وَاحِدَةً .
فَأَمَّا إنْ كَانَتْ الْكَفَّارَةُ مِنْ أَجْنَاسٍ ؛ كَظِهَارٍ ، وَقَتْلٍ ، وَجِمَاعٍ فِي رَمَضَانَ ، وَيَمِينٍ ، فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : لَا يَفْتَقِرُ إلَى تَعْيِينِ السَّبَبِ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ وَاجِبَةٌ ، فَلَمْ تَفْتَقِرْ صِحَّةُ أَدَائِهَا إلَى تَعْيِينِ سَبَبِهَا ، كَمَا لَوْ كَانَتْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ .
وَقَالَ الْقَاضِي : يَحْتَمِلُ أَنْ يَشْتَرِطَ تَعْيِينَ سَبَبِهَا ، وَلَا تُجْزِئُ نِيَّةٌ مُطْلَقَةٌ .
وَحَكَاهُ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ عَنْ أَحْمَدَ .
وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةِ ؛ لِأَنَّهُمَا عِبَادَتَانِ مِنْ جِنْسَيْنِ ، فَوَجَبَ تَعْيِينُ النِّيَّةِ لَهُمَا ، كَمَا لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ صَوْمٌ مِنْ قَضَاءٍ وَنَذْرٍ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ ، لَا يُعْلَمُ سَبَبُهَا ، فَكَفَّرَ كَفَّارَةً وَاحِدَةً ، أَجْزَأَهُ ، عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ .
قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ .
وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي ، يَنْبَغِي أَنْ يَلْزَمَهُ التَّكْفِيرُ بِعَدَدِ أَسْبَابِ الْكَفَّارَاتِ ، كُلُّ وَاحِدَةٍ عَنْ سَبَبٍ ، كَمَنْ نَسِيَ صَلَاةً مِنْ يَوْمٍ لَا يَعْلَمُ عَيْنَهَا ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ خَمْسُ صَلَوَاتٍ ، وَلَوْ عَلِمَ أَنَّ عَلَيْهِ صَوْمَ يَوْمٍ ، لَا يَعْلَمُ أَمِنَ قَضَاءٍ هُوَ ،

أَوْ نَذْرٍ ، لَزِمَهُ صَوْمُ يَوْمَيْنِ .
فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، لَا يَدْرِي أَهِيَ مِنْ كَفَّارَةِ يَمِينٍ ، أَوْ قَضَاءٍ ، أَوْ نَذْرٍ ، لَزِمَهُ صَوْمُ تِسْعَةِ أَيَّامٍ ، كُلُّ ثَلَاثَةٍ عَنْ وَاحِدَةٍ مِنْ الْجِهَاتِ الثَّلَاثِ .

( 6230 ) فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَتْ عَلَى رَجُلٍ كَفَّارَتَانِ ، فَأَعْتَقَ عَنْهُمَا عَبْدَيْنِ ، لَمْ يَخْلُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدهَا ، أَنْ يَقُولَ : أَعْتَقْت هَذَا عَنْ هَذِهِ الْكَفَّارَةِ ، وَهَذَا عَنْ هَذِهِ .
فَيُجْزِئُهُ ، إجْمَاعًا .
الثَّانِي ، أَنْ يَقُولَ : أَعْتَقْت هَذَا عَنْ إحْدَى الْكَفَّارَتَيْنِ ، وَهَذَا عَنْ الْأُخْرَى .
مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ ، فَيَنْظُرُ ؛ فَإِنْ كَانَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ ، كَكَفَّارَتَيْ ظِهَارٍ ، أَوْ كَفَّارَتَيْ قَتْلٍ ، أَجْزَأَهُ .
وَإِنْ كَانَتَا مِنْ جِنْسَيْنِ ، كَكَفَّارَةِ ظِهَارٍ ، وَكَفَّارَةِ قَتْلٍ ، خُرِّجَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي اشْتِرَاطِ تَعْيِينِ السَّبَبِ ؛ إنْ قُلْنَا : يُشْتَرَطُ .
لَمْ يُجْزِئْهُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا .
وَإِنْ قُلْنَا : لَا يُشْتَرَطُ .
أَجْزَأَهُ عَنْهُمَا .
الثَّالِثُ ، أَنْ يَقُولَ : أَعْتَقْتُهُمَا عَنْ الْكَفَّارَتَيْنِ .
فَإِنْ كَانَتَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ أَجْزَأَ عَنْهُمَا ، وَيَقَعُ كُلُّ وَاحِدٍ عَنْ كَفَّارَةٍ ، وَلِأَنَّ عُرْفَ الشَّرْعِ وَالِاسْتِعْمَالِ إعْتَاقُ الرَّقَبَةِ عَنْ الْكَفَّارَةِ ، فَإِذَا أَطْلَقَ ذَلِكَ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَتَا مِنْ جِنْسَيْنِ ، خُرِّجَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ .
الرَّابِعُ - أَنْ يَعْتِقَ كُلَّ وَاحِدَةٍ عَنْهُمَا جَمِيعًا ، فَيَكُونَ مُعْتِقًا عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْكَفَّارَتَيْنِ نِصْفَ الْعَبْدَيْنِ ، فَيَنْبَنِي ذَلِكَ عَلَى أَصْلٍ آخَرَ ، وَهُوَ إذَا أَعْتَقَ نِصْفَ رَقَبَتَيْنِ عَنْ كَفَّارَةٍ ، هَلْ يُجْزِئُهُ أَوْ لَا ؟ فَعَلَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ يُجْزِئُهُ ؛ لِأَنَّ الْأَشْقَاصَ بِمَنْزِلَةِ الْأَشْخَاصِ ، فِيمَا لَا يَمْنَعُ مِنْهُ الْعَيْبُ الْيَسِيرُ ، بِدَلِيلِ الزَّكَاةِ ، فَإِنَّ مَنْ مَلَكَ نِصْفَ ثَمَانِينَ شَاةً ، كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ مَلَكِ أَرْبَعِينَ ، وَلَا تَلْزَمُ الْأُضْحِيَّةُ ، فَإِنَّهُ يَمْنَعُ مِنْهُ الْعَيْبُ الْيَسِيرُ .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ ، وَابْنُ حَامِدٍ : لَا يُجْزِئُهُ .
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ مَا أُمِرَ بِصَرْفِهِ إلَى شَخْصٍ فِي الْكَفَّارَةِ ، لَمْ يَجُزْ تَفْرِيقُهُ عَلَى اثْنَيْنِ ، كَالْمُدِّ فِي الْإِطْعَامِ وَلِأَصْحَابِ

الشَّافِعِيِّ كَهَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ ، وَلَهُمْ وَجْهٌ ثَالِثٌ ، وَهُوَ أَنَّهُ إنْ كَانَ بَاقِيهِمَا حُرًّا أَجْزَأَ ، وَإِلَّا فَلَا ؛ لِأَنَّهُ مَتَى كَانَ بَاقِيهِمَا حُرًّا ، حَصَلَ تَكْمِيلُ الْأَحْكَامِ وَالتَّصَرُّفُ .
وَخَرَّجَهُ الْقَاضِي وَجْهًا لَنَا أَيْضًا ، إلَّا أَنَّ لِلْمُعْتَرِضِ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ : إنَّ تَكْمِيلَ الْأَحْكَامِ مَا حَصَلَ بِعِتْقِ هَذَا ، وَإِنَّمَا حَصَلَ بِانْضِمَامِهِ إلَى عِتْقِ النِّصْفِ الْآخَرِ ، فَلَمْ يُجْزِئْهُ .
فَإِذَا قُلْنَا : لَا يُجْزِئُ .
عِتْقُ النِّصْفَيْنِ .
لَمْ يُجْزِئْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَنْ شَيْءٍ مِنْ الْكَفَّارَتَيْنِ .
وَإِنْ قُلْنَا : يُجْزِئُ .
وَكَانَتْ الْكَفَّارَتَانِ مِنْ جِنْسٍ ، أَجْزَأَ الْعِتْقُ عَنْهُمَا .
وَإِنْ كَانَتَا مِنْ جِنْسَيْنِ ، فَقَدْ قِيلَ : يُخَرَّجُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُجْزِئُ وَجْهًا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّ عِتْقَ النِّصْفَيْنِ عَنْهُمَا كَعِتْقِ عَبْدَيْنِ عَنْهُمَا .

( 6231 ) فَصْلٌ : وَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ قَبْلَهُ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ عَلَى سَبَبِهِ ، فَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ : أَنْتَ حُرٌّ السَّاعَةَ عَنْ ظِهَارِي إنْ تَظَاهَرْتُ عَتَقَ وَلَمْ يُجْزِئْهُ عَنْ ظِهَارِهِ إنْ ظَاهَرَ ؛ لِأَنَّهُ قَدَّمَ الْكَفَّارَةَ عَلَى سَبَبِهَا الْمُخْتَصِّ ، فَلَمْ يَجُزْ ، كَمَا لَوْ قَدَّمَ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ عَلَيْهَا ، أَوْ كَفَّارَةَ الْقَتْلِ عَلَى الْجُرْحِ .
وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي .
لَمْ يَجُزْ التَّكْفِيرُ قَبْلَ دُخُولِ الدَّارِ ؛ لِأَنَّهُ تَقْدِيمٌ لِلْكَفَّارَةِ قَبْلَ الظِّهَارِ .
فَإِنْ أَعْتَقَ عَبْدًا عَنْ ظِهَارِهِ ، ثُمَّ دَخَلَتْ الدَّارَ ، عَتَقَ الْعَبْدُ ، وَصَارَ مُظَاهِرًا ، وَلَمْ يُجْزِئْهُ ؛ لِأَنَّ الظِّهَارَ مُعَلَّقٌ عَلَى شَرْطٍ ، فَلَا يُوجَدُ قَبْلَ وُجُودِ شَرْطِهِ .
وَإِنْ قَالَ لِعَبْدِهِ : إنْ تَظَاهَرْتُ ، فَأَنْتَ حُرٌّ عَنْ ظِهَارِي .
ثُمَّ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي .
عَتَقَ الْعَبْدُ ، لِوُجُودِ الشَّرْطِ ، وَهَلْ يُجْزِئُهُ عَنْ الظِّهَارِ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا - يُجْزِئُهُ ؛ لِأَنَّهُ عَتَقَ بَعْدَ الظِّهَارِ ، وَقَدْ نَوَى إعْتَاقَهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ .
وَالثَّانِي - لَا يُجْزِئُهُ ؛ لِأَنَّ عِتْقَهُ مُسْتَحَقٌّ بِسَبَبٍ آخَرَ ، وَهُوَ الشَّرْطُ ، وَلِأَنَّ النِّيَّةَ لَمْ تُوجَدْ عِنْدَ الْعِتْقِ ، وَالنِّيَّةُ عِنْدَ التَّعْلِيقِ لَا تُجْزِئُ ؛ لِأَنَّهُ تَقْدِيمٌ لَهَا عَلَى سَبَبِهَا .
وَإِنْ قَالَ لِعَبْدِهِ : إنْ تَظَاهَرْت فَأَنْتَ حُرٌّ عَنْ ظِهَارِي .
فَالْحُكْمُ فِيهِ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيقٌ لِعِتْقِهِ عَلَى الْمُظَاهَرَةِ .

كِتَابُ اللِّعَانِ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ اللَّعْنِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ يَلْعَنُ نَفْسَهُ فِي الْخَامِسَةِ إنْ كَانَ كَاذِبًا .
وَقَالَ الْقَاضِي : سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ الزَّوْجَيْنِ لَا يَنْفَكَّانِ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا كَاذِبًا ، فَتَحْصُلُ اللَّعْنَةُ عَلَيْهِ ، وَهِيَ الطَّرْدُ وَالْإِبْعَادُ .
وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إلَّا أَنْفُسُهُمْ } الْآيَاتِ .
وَرَوَى سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ ، { أَنَّ عُوَيْمِرًا الْعَجْلَانِيَّ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَرَأَيْت رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا فَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ ، أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيك وَفِي صَاحِبَتِك ، فَاذْهَبْ فَائْتِ بِهَا .
قَالَ سَهْلٌ : فَتَلَاعَنَا ، وَأَنَا مَعَ النَّاسِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا فَرَغَا ، قَالَ عُوَيْمِرٌ : كَذَبْت عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ أَمْسَكْتُهَا .
فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا بِحَضْرَةِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ { ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : جَاءَ هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ ، وَهُوَ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ، فَجَاءَ مِنْ أَرْضِهِ عِشَاءً ، فَوَجَدَ عِنْدَ أَهْلِهِ رَجُلًا فَرَأَى بِعَيْنَيْهِ ، وَسَمِعَ بِأُذُنَيْهِ ، فَلَمْ يَهِجْهُ حَتَّى أَصْبَحَ ، ثُمَّ غَدَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنِّي جِئْت أَهْلِي ، فَوَجَدْت عِنْدَهُمْ رَجُلًا ، فَرَأَيْت بِعَيْنَيَّ ، وَسَمِعْتُ بِأُذُنِيَّ .
فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا جَاءَ بِهِ ، وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ ، فَنَزَلَتْ { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ

شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ } الْآيَتَيْنِ كِلْتَيْهِمَا فَسُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : أَبْشِرْ يَا هِلَالُ ، فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَكَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا قَالَ هِلَالٌ : قَدْ كُنْت أَرْجُو ذَلِكَ مِنْ رَبِّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَرْسِلُوا إلَيْهَا .
فَأَرْسَلُوا إلَيْهَا ، فَتَلَاهَا عَلَيْهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَّرَهُمَا ، وَأَخْبَرَهُمَا أَنَّ عَذَابَ الْآخِرَةِ أَشَدُّ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا .
فَقَالَ هِلَالٌ : وَاَللَّهِ لَقَدْ صَدَقْت عَلَيْهَا .
فَقَالَتْ : كَذَبَ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَاعِنُوا بَيْنَهُمَا .
فَقِيلَ لَهِلَالٍ : اشْهَدْ .
فَشَهِدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ إنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ ، فَلَمَّا كَانَتْ الْخَامِسَةُ قِيلَ : يَا هِلَالُ اتَّقِ اللَّهَ ، فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ ، وَإِنَّ هَذِهِ الْمُوجِبَةُ الَّتِي تُوجِبُ عَلَيْكَ الْعَذَابَ .
فَقَالَ : وَاَللَّهِ لَا يُعَذِّبُنِي اللَّهُ عَلَيْهَا ، كَمَا لَمْ يَجْلِدْنِي عَلَيْهَا .
فَشَهِدَ الْخَامِسَةَ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ .
ثُمَّ قِيلَ لَهَا : اشْهَدِي .
فَشَهِدَتْ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ إنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ ، فَلَمَّا كَانَتْ الْخَامِسَةُ قِيلَ لَهَا : اتَّقِي اللَّهَ ، فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ ، وَإِنَّ هَذِهِ الْمُوجِبَةُ الَّتِي تُوجِبُ عَلَيْكِ الْعَذَابَ .
فَتَلَكَّأَتْ سَاعَةً ، ثُمَّ قَالَتْ : وَاَللَّهِ لَا أَفْضَحُ قَوْمِي .
فَشَهِدَتْ الْخَامِسَةَ ، أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إنْ كَانَ مِنْ الصَّادِقِينَ .
فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا ، وَقَضَى أَنْ لَا بَيْتَ لَهَا عَلَيْهِ ، وَلَا قُوتَ ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمَا يَتَفَرَّقَانِ مِنْ غَيْرِ طَلَاقٍ ، وَلَا مُتَوَفَّى عَنْهَا ، وَقَالَ : إنْ جَاءَتْ بِهِ أُصَيْهِبَ أُرَيْصِحَ أُثَيْبِجَ حَمْشَ السَّاقَيْنِ ، فَهُوَ لِهِلَالٍ ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَوْرَقَ جَعْدًا جُمَالِيًّا

خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ سَابِغَ الْأَلْيَتَيْنِ ، فَهُوَ لِلَّذِي رُمِيَتْ بِهِ .
فَجَاءَتْ بِهِ أَوْرَقَ ، جَعْدًا ، جُمَالِيًّا ، خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ ، سَابِغَ الْأَلْيَتَيْنِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَوْلَا الْأَيْمَانُ ، لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ .
قَالَ عِكْرِمَةُ : فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ أَمِيرًا عَلَى مِصْرَ ، وَمَا يُدْعَى لِأَبٍ .
وَلِأَنَّ الزَّوْجَ يُبْتَلَى بِقَذْفِ امْرَأَتِهِ لِيَنْفِيَ الْعَارَ وَالنَّسَبَ الْفَاسِدَ ، وَتَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ ، فَجُعِلَ اللِّعَانُ بَيِّنَةً لَهُ ، وَلِهَذَا لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ اللِّعَانِ ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَبْشِرْ يَا هِلَالُ ، فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَكَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا .
}

( 6232 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : ( وَإِذَا قَذَفَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ الْبَالِغَةَ الْحُرَّةَ الْمُسْلِمَةَ ، فَقَالَ لَهَا : زَنَيْتِ .
أَوْ : يَا زَانِيَةُ .
أَوْ : رَأَيْتُك تَزْنِينَ .
وَلَمْ يَأْتِ بِالْبَيِّنَةِ ، لَزِمَهُ الْحَدُّ ، إنْ لَمْ يَلْتَعْنَ ، مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا ، حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا ) .
الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي فُصُولٍ : ( 6233 ) الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي صِفَةِ الزَّوْجَيْنِ اللَّذَيْنِ يَصِحُّ اللِّعَانُ بَيْنَهُمَا .
وَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِيهِمَا ، فَرُوِيَ أَنَّهُ يَصِحُّ مِنْ كُلِّ زَوْجَيْنِ مُكَلَّفَيْنِ ، سَوَاءٌ كَانَا مُسْلِمَيْنِ أَوْ كَافِرَيْنِ ، أَوْ عَدْلَيْنِ أَوْ فَاسِقَيْنِ ، أَوْ مَحْدُودَيْنِ فِي قَذْفٍ ، أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا كَذَلِكَ .
وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ ، وَالْحَسَنُ ، وَرَبِيعَةُ ، وَمَالِكٍ ، وَإِسْحَاقُ .
قَالَ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ : جَمِيعُ الْأَزْوَاجِ يَلْتَعِنُونَ ؛ الْحُرُّ مِنْ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ إذَا كَانَتْ زَوْجَةً ، وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ مِنْ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ إذَا كَانَتْ زَوْجَةً .
وَكَذَلِكَ الْمُسْلِمُ مِنْ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ .
وَعَنْ أَحْمَدَ ، رِوَايَةٌ أُخْرَى : لَا يَصِحُّ اللِّعَانُ إلَّا مِنْ زَوْجَيْنِ مُسْلِمَيْنِ ، عَدْلَيْنِ ، حُرَّيْنِ ، غَيْرِ مَحْدُودَيْنِ فِي قَذْفٍ .
وَرُوِيَ هَذَا عَنْ الزُّهْرِيِّ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ ، وَحَمَّادٍ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ .
وَعَنْ مَكْحُولٍ : لَيْسَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيَّةِ لِعَانٌ .
وَعَنْ عَطَاءٍ ، وَالنَّخَعِيِّ ، فِي الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ : يُضْرَبُ الْحَدَّ ، وَلَا يُلَاعِنُ .
وَرُوِيَ فِيهِ حَدِيثٌ لَا يَثْبُتُ .
كَذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَالسَّاجِيُّ .
لِأَنَّ اللِّعَانَ شَهَادَةٌ ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : { وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إلَّا أَنْفُسُهُمْ } .
فَاسْتَثْنَى أَنْفُسَهُمْ مِنْ الشُّهَدَاءِ .
وَقَالَ تَعَالَى : { فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ } .
فَلَا يُقْبَلُ مِمَّنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ .
وَإِنْ

كَانَتْ الْمَرْأَةُ مِمَّنْ لَا يُحَدُّ بِقَذْفِهَا ، لَمْ يَجِبْ اللِّعَانُ ؛ لِأَنَّهُ يُرَادُ لِإِسْقَاطِ الْحَدِّ ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى : { وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ } .
وَلَا حَدَّ هَاهُنَا ، فَيَنْتَفِي اللِّعَانُ لِانْتِفَائِهِ .
وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي ( الْمُجَرَّدِ ) أَنَّ مَنْ لَا يَجِبُ الْحَدُّ بِقَذْفِهَا ، وَهِيَ الْأَمَةُ ، وَالذِّمِّيَّةُ ، وَالْمَحْدُودَةُ فِي الزِّنَا ، لِزَوْجِهَا لِعَانُهَا ؛ لِنَفْيِ الْوَلَدِ خَاصَّةً ، وَلَيْسَ لَهُ لِعَانُهَا لِإِسْقَاطِ الْقَذْفِ وَالتَّعْزِيرِ ، لِأَنَّ الْحَدَّ لَا يَجِبُ ، وَاللِّعَانُ إنَّمَا يُشْرَعُ لِإِسْقَاطِ حَدٍّ ، أَوْ نَفْيِ وَلَدٍ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا لَمْ يُشْرَعْ اللِّعَانُ .
وَلَنَا ، عُمُومُ قَوْله تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ } .
الْآيَةَ ، وَلِأَنَّ اللِّعَانَ يَمِينٌ ، فَلَا يَفْتَقِرُ إلَى مَا شَرَطُوهُ ، كَسَائِرِ الْأَيْمَانِ ، وَدَلِيلُ أَنَّهُ يَمِينٌ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَوْلَا الْأَيْمَانُ ، لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ } .
وَأَنَّهُ يَفْتَقِرُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَيَسْتَوِي فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى .
وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ شَهَادَةً ، فَلِقَوْلِهِ فِي يَمِينِهِ : أَشْهَدُ بِاَللَّهِ .
فَسَمَّى ذَلِكَ شَهَادَةً وَإِنْ كَانَ يَمِينًا ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ } وَلِأَنَّ الزَّوْجَ يَحْتَاجُ إلَى نَفْيِ الْوَلَدِ ، فَيُشْرَعُ لَهُ طَرِيقًا إلَى نَفْيِهِ ، كَمَا لَوْ كَانَتْ امْرَأَتُهُ مِمَّنْ يُحَدُّ بِقَذْفِهَا وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ هِيَ الْمَنْصُوصَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ وَمَا يُخَالِفُهَا شَاذٌّ فِي النَّقْلِ .
وَأَمَّا قَوْلُ الْخِرَقِيِّ : وَإِذَا قَذَفَ زَوْجَتَهُ الْبَالِغَةَ الْحُرَّةَ الْمُسْلِمَةَ .
فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ شَرَطَ هَذَا لِوُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ ، لَا لِنَفْيِ اللِّعَانِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا شَرْطًا عِنْدَهُ فِي الْمَرْأَةِ ، لِتَكُونَ مِمَّنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِقَذْفِهَا ، فَيَنْفِيَهُ بِاللِّعَانِ ،

وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الزَّوْجِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ يَجِبُ عَلَيْهِ بِقَذْفِ الْمُحْصَنَةِ ، وَإِنْ كَانَ ذِمِّيًّا أَوْ فَاسِقًا .
فَأَمَّا قَوْلُهُ : مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا .
فَفِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّهُ أُوجِبَ عَلَيْهِ بِقَذْفِ زَوْجَتِهِ الْمُسْلِمَةِ ، وَالْكَافِرُ لَا يَكُونُ زَوْجًا لَمُسْلِمَةٍ ، فَيَحْتَاجُ إلَى تَأْوِيلِ لَفْظِهِ بِحَمْلِهِ عَلَى أَحَدِ شَيْئَيْنِ أَحَدِهِمَا : أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ الزَّوْجَ يُلَاعِنُ زَوْجَتَهُ ، وَإِنْ كَانَ كَافِرًا ، فَرَدَّ ذَلِكَ إلَى اللِّعَانِ ، لَا إلَى الْحَدِّ .
الثَّانِي ، أَنَّهُ أَرَادَ مَا إذَا أَسْلَمَتْ زَوْجَتُهُ ، فَقَذَفَهَا فِي عِدَّتِهَا ، ثُمَّ أَسْلَمْ الزَّوْجُ ، فَإِنَّهُ يُلَاعِنُ .
( 6234 ) فَصْلٌ : وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الزَّوْجَةِ مَدْخُولًا بِهَا ، أَوْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا ، فِي أَنَّهُ يُلَاعِنُهَا .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ عَلَى هَذَا كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ ؛ مِنْهُمْ عَطَاءٌ ، وَالْحَسَنُ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ ، وَقَتَادَةُ ، وَمَالِكٌ ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَأَهْلُ الْعِرَاقِ ، وَالشَّافِعِيُّ ، بِظَاهِرِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ } .
فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا ، فَلَهَا نِصْفُ الصَّدَاقِ ؛ لِأَنَّهَا فُرْقَةٌ مِنْهُ .
كَذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَقَتَادَةُ ، وَمَالِكٌ .
وَفِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى ، لَا صَدَاقَ لَهَا ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ حَصَلَتْ بِلِعَانِهِمَا جَمِيعًا ، فَأَشْبَهَ الْفُرْقَةَ لَعَيْبٍ فِي أَحَدِهِمَا .

( 6235 ) فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ غَيْرَ مُكَلَّفٍ ، فَلَا لِعَانَ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّهُ قَوْلٌ تَحْصُلُ بِهِ الْفُرْقَةُ ، وَلَا يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ مُكَلَّفٍ ، كَالطَّلَاقِ ، أَوْ يَمِينٌ ، فَلَا تَصِحُّ مِنْ غَيْرِ الْمُكَلَّفِ ، كَسَائِرِ الْأَيْمَانِ .
وَلَا يَخْلُو غَيْرُ الْمُكَلَّفِ مِنْ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجَ ، أَوْ الزَّوْجَةَ ، أَوْ هُمَا ؛ فَإِنْ كَانَ الزَّوْجَ فَلَهُ حَالَانِ : أَحَدِهِمَا ، أَنْ يَكُونَ طِفْلًا .
وَالثَّانِي ، أَنْ يَكُونُ بَالِغًا زَائِلَ الْعَقْلِ .
فَإِنْ كَانَ طِفْلًا لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ الْقَذْفُ ، وَلَا يَلْزَمُهُ بِهِ حَدٌّ ؛ لِأَنَّ الْقَلَمَ مَرْفُوعٌ عَنْهُ ، وَقَوْلَهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ ، وَإِنْ أَتَتْ امْرَأَتُهُ بِوَلَدٍ نَظَرْنَا ، فَإِنْ كَانَ لِدُونِ عَشْرِ سِنِينَ ، لَمْ يَلْحَقْهُ الْوَلَدُ ، وَيَكُونُ مَنْفِيًّا عَنْهُ ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ يُحِيطُ بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُجْرِ الْعَادَةَ بِأَنْ يُولَدَ لَهُ لِدُونِ ذَلِكَ ، فَيَنْتَفِي عَنْهُ ، كَمَا لَوْ أَتَتْ بِهِ الْمَرْأَةُ لِدُونِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ تَزَوَّجَهَا .
وَإِنْ كَانَ ابْنَ عَشْرٍ فَصَاعِدًا ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : لَا يُلْحَقُ بِهِ إلَّا بَعْدَ الْبُلُوغِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ لَا يُخْلَقُ إلَّا مِنْ مَاء الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ ، وَلَوْ أَنْزَلَ لَبَلَغَ .
وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ : يُلْحَقُ بِهِ .
قَالَ الْقَاضِي : وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يُلْحَقُ بِالْإِمْكَانِ ، وَإِنْ خَالَفَ الظَّاهِرَ ، وَلِهَذَا لَوْ أَتَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الْعَقْدِ ، لَحِقَ بِالزَّوْجِ ، وَإِنْ كَانَ خِلَافَ الظَّاهِرِ ، وَكَذَلِكَ يُلْحَقُ بِهِ إذَا أَتَتْ بِهِ لِأَرْبَعِ سِنِينَ ، مَعَ نُدْرَتِهِ .
وَلَيْسَ لَهُ نَفْيُهُ فِي الْحَالِ ، حَتَّى يَتَحَقَّقَ بُلُوغُهُ بِأَحَدِ أَسْبَابِ الْبُلُوغِ ، فَلَهُ نَفْيُ الْوَلَدِ وَاسْتِلْحَاقُهُ .
فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا أَلْحَقْتُمْ بِهِ الْوَلَدَ ، فَقَدْ حَكَمْتُمْ بِبُلُوغِهِ ، فَهَلَّا سَمِعْتُمْ نَفْيَهُ وَلِعَانَهُ ؟ قُلْنَا : إلْحَاقُ الْوَلَدِ يَكْفِي فِيهِ الْإِمْكَانُ ،

وَالْبُلُوغُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِسَبَبٍ ظَاهِرٍ ، وَلِأَنَّ إلْحَاقَ الْوَلَدِ بِهِ حَقٌّ عَلَيْهِ ، وَاللِّعَانُ حَقٌّ لَهُ ، فَلَمْ يَثْبُتْ مَعَ الشَّكِّ .
فَإِنْ قِيلَ : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَالِغًا انْتَفَى عَنْهُ الْوَلَدُ ، وَإِنْ كَانَ بَالِغًا انْتَفَى عَنْهُ اللِّعَانُ .
قُلْنَا : إلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَبْتَدِئَ الْيَمِينَ مَعَ الشَّكِّ فِي صِحَّتِهَا ، فَسَقَطَتْ لِلشَّكِّ فِيهَا .
الثَّانِي ، إذَا كَانَ زَائِلَ الْعَقْلِ لَجُنُونٍ ، فَلَا حُكْمَ لِقَذْفِهِ ؛ لِأَنَّ الْقَلَمَ عَنْهُ مَرْفُوعٌ أَيْضًا ، وَإِنْ أَتَتْ امْرَأَتُهُ بِوَلَدٍ ، فَنَسَبُهُ لَاحِقٌ بِهِ ، لِإِمْكَانِهِ ، وَلَا سَبِيلَ إلَى نَفْيِهِ مَعَ زَوَالِ عَقْلِهِ ، فَإِذَا عَقَلَ ، فَلَهُ نَفْيُ الْوَلَدِ حِينَئِذٍ وَاسْتِلْحَاقُهُ .
وَإِنْ ادَّعَى أَنَّهُ كَانَ ذَاهِبَ الْعَقْلِ حِينَ قَذَفَهُ ، وَأَنْكَرَتْ ذَلِكَ ، وَلِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ بِمَا قَالَ ، ثَبَتَ قَوْلُهُ .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَوَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ حَالَةٌ عُلِمَ فِيهَا زَوَالُ عَقْلِهِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ وَالظَّاهِرَ الصِّحَّةُ وَالسَّلَامَةُ .
وَإِنْ عُرِفَتْ لَهُ حَالَةُ جُنُونٍ ، وَلَمْ تُعْرَفْ لَهُ حَالَةُ إفَاقَةٍ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ، وَإِنْ عُرِفَتْ لَهُ حَالَةُ جُنُونٍ وَحَالَةُ إفَاقَةٍ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا ، الْقَوْلُ قَوْلُهَا .
قَالَ الْقَاضِي : هَذَا قِيَاسُ قَوْلِ أَصْحَابِنَا فِي الْمَلْفُوفِ إذَا ضَرَبَهُ فَقَدَّهُ ، ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ كَانَ مَيِّتًا ، وَقَالَ الْوَلِيُّ : كَانَ حَيًّا .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي ، أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ مِنْ الْحَدِّ ، فَلَا يَجِبُ بِالشَّكِّ ، وَلِأَنَّ الْحَدَّ يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ ، وَلَا يُشْبِهُ هَذَا الْمَلْفُوفَ ، لِأَنَّ الْمَلْفُوفَ قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ كَانَ حَيًّا ، وَلَمْ يُعْلَمْ مِنْهُ ضِدُّ ذَلِكَ ، فَنَظِيرُهُ فِي مَسْأَلَتِنَا أَنَّهُ يُعْرَفُ لَهُ حَالَةُ إفَاقَةٍ ، وَلَا يُعْلَمُ مِنْهُ ضِدُّهَا ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا قَدْ تَقَدَّمَ لَهُ حَالَةُ جُنُونٍ ، فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ قَدْ اسْتَمَرَّتْ إلَى

حِينِ قَذْفِهِ .
وَأَمَّا إنْ كَانَتْ الزَّوْجَةُ غَيْرَ مُكَلَّفَةٍ ، فَقَذَفَهَا الزَّوْجُ ؛ نَظَرْنَا ، فَإِنْ كَانَتْ طِفْلَةً لَا يُجَامَعُ مِثْلُهَا ، فَلَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِهَا ؛ لِأَنَّهُ قَوْلٌ يُتَيَقَّنُ كَذِبُهُ فِيهِ ، وَبَرَاءَةُ عِرْضِهَا مِنْهُ ، فَلَمْ يَجِبْ بِهِ حَدٌّ كَمَا لَوْ قَالَ : أَهْلُ الدُّنْيَا زُنَاةٌ .
وَلَكِنَّهُ يُعَزَّرُ لِلسَّبِّ ، لَا لِلْقَذْفِ ، وَلَا يُحْتَاجُ فِي التَّعْزِيرِ إلَى مُطَالَبَةٍ ؛ لِأَنَّهُ مَشْرُوعٌ لَتَأْدِيبِهِ ، وَلِلْإِمَامِ فِعْلُهُ إذَا رَأَى ذَلِكَ .
فَإِنْ كَانَتْ يُجَامَعُ مِثْلُهَا ، كَابْنَةِ تِسْعِ سِنِينَ ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ ، وَلَيْسَ لِوَلِيِّهَا وَلَا لَهَا الْمُطَالَبَةُ بِهِ حَتَّى تَبْلُغَ ، فَإِذَا بَلَغَتْ فَطَالَبَتْ ، فَلَهَا الْحَدُّ ، وَلَهُ إسْقَاطُهُ بِاللِّعَانِ ، وَلَيْسَ لَهُ لِعَانُهَا قَبْلَ الْبُلُوغِ ؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ يُرَادُ لِإِسْقَاطِ الْحَدِّ أَوْ نَفْي الْوَلَدِ ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ قَبْلَ بُلُوغِهَا ، وَلَا وَلَدَ فَيَنْفِيَهُ ، فَإِنْ أَتَتْ بِوَلَدٍ حُكِمَ بِبُلُوغِهَا ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ أَحَدُ أَسْبَابِ الْبُلُوغِ ، وَلِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ نُطْفَتِهَا ، فَمِنْ ضَرُورَتِهِ إنْزَالُهَا ، وَهُوَ مِنْ أَسْبَابِ بُلُوغِهَا .
وَإِنْ قَذَفَ امْرَأَتَهُ الْمَجْنُونَةَ بِزِنًا أَضَافَهُ إلَى حَالِ إفَاقَتِهَا ، أَوْ قَذَفَهَا وَهِيَ عَاقِلَةٌ ، ثُمَّ حَنِثَ ، لَمْ يَكُنْ لَهَا الْمُطَالَبَةُ ، وَلَا لِوَلِيِّهَا قَبْلَ إفَاقَتِهَا ؛ لِأَنَّ هَذَا طَرِيقُهُ التَّشَفِّي ، فَلَا يَنُوبُ عَنْهُ الْوَلِيُّ فِيهِ ، كَالْقِصَاصِ ، فَإِذَا أَفَاقَتْ فَلَهَا الْمُطَالَبَةُ بِالْحَدِّ ، وَلِلزَّوْجِ إسْقَاطُهُ بِاللِّعَانِ ، وَإِنْ أَرَادَ لِعَانَهَا فِي حَالِ جُنُونِهَا ، وَلَا وَلَدَ يَنْفِيهِ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَوَجَّهْ عَلَيْهِ حَدٌّ فَيُسْقِطَهُ ، وَلَا نَسَبٌ فَيَنْفِيَهُ .
وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ وَلَدٌ يُرِيدُ نَفْيَهُ ، فَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ الْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يُلَاعِنُ ، وَيَلْحَقُهُ الْوَلَدُ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ إنَّمَا يَنْتَفِي بِاللِّعَانِ مِنْ الزَّوْجَيْنِ ، وَهَذِهِ لَا يَصِحُّ مِنْهَا

لِعَانٌ وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ ، فِي الْخَرْسَاءِ ، أَنَّ زَوْجَهَا لَا يُلَاعِنُ .
فَهَذِهِ أَوْلَى .
وَقَالَ الْخِرَقِيِّ فِي الْعَاقِلَةِ : لَا يُعْرَضُ لَهُ حَتَّى تُطَالِبَهُ زَوْجَتُهُ .
وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ ؛ لِأَنَّهَا أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ ، فَلَمْ يُشْرَعْ اللِّعَانُ مَعَ جُنُونِهِ ، كَالزَّوْجِ ، وَلِأَنَّ لِعَانَ الزَّوْجِ وَحْدَهُ لَا يَنْتَفِي بِهِ الْوَلَدُ ، فَلَا فَائِدَةَ فِي مَشْرُوعِيَّتِهِ .
وَقَالَ الْقَاضِي : لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ لِنَفْيِ الْوَلَدِ ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى نَفْيِهِ ، فَشُرِعَ لَهُ طَرِيقٌ إلَى نَفْيِهِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ .
وَظَاهِرُ مَذْهَبِهِ أَنَّ لَهُ لِعَانَهَا مَعَ عَدَمِ الْوَلَدِ ، لِدُخُولِهِ فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ } .
وَلِأَنَّهُ زَوْجٌ مُكَلَّفٌ ، قَاذِفٌ لِامْرَأَتِهِ ، الَّتِي يُولَدُ لِمِثْلِهَا ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَهَا ، كَمَا لَوْ كَانَتْ عَاقِلَةً .

( 6236 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا الْأَخْرَسُ وَالْخَرْسَاءُ ؛ فَإِنْ كَانَا غَيْرَ مَعْلُومَيْ الْإِشَارَةِ وَالْكِتَابَةِ ، فَهُمَا كَالْمَجْنُونَيْنِ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُمَا لِعَانٌ ، وَلَا يُعْلَمُ مِنْ الزَّوْجِ قَذْفٌ ، وَلَا مِنْ الْمَرْأَةِ مُطَالَبَةٌ .
وَإِنْ كَانَا مَعْلُومَيْ الْإِشَارَةِ وَالْكِتَابَةِ ، فَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ ؛ إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ خَرْسَاءُ لَمْ تُلَاعَنَ ؛ لِأَنَّهُ لَا تُعْلَمُ مُطَالَبَتُهَا .
وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَحْمَدَ ، وَأَبِي عُبَيْدٍ ، وَإِسْحَاقَ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ .
وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي الْأَخْرَسِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللِّعَانَ لَفْظٌ يَفْتَقِرُ إلَى الشَّهَادَةِ ، فَلَمْ يَصِحَّ مِنْ الْأَخْرَسِ ، كَالشَّهَادَةِ الْحَقِيقِيَّةِ ، وَلِأَنَّ الْحَدَّ يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ ، وَالْإِشَارَةُ لَيْسَتْ صَرِيحَةً كَالنُّطْقِ ، فَلَا تَخْلُو مِنْ احْتِمَالٍ وَتَرَدُّدٍ ، فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ بِهَا ، كَمَا لَا يَجِبُ عَلَى أَجْنَبِيٍّ بِشَهَادَتِهِ .
وَقَالَ الْقَاضِي ، وَأَبُو الْخَطَّابِ : هُوَ كَالنَّاطِقِ فِي قَذْفِهِ وَلِعَانِهِ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ يَصِحُّ طَلَاقُهُ ، فَصَحَّ قَذْفُهُ وَلِعَانُهُ ، كَالنَّاطِقِ ، وَيُفَارِقُ الشَّهَادَةَ ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنْ حُصُولُهَا مِنْ غَيْرِهِ ، فَلَمْ تَدْعُ الْحَاجَةُ إلَى الْأَخْرَسِ ، وَفِي اللِّعَانِ لَا يَحْصُلُ إلَّا مِنْهُ ، فَدَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى قَبُولِهِ مِنْهُ ، كَالطَّلَاقِ .
وَالْأَوَّلُ أَحْسَنُ ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الْقَذْفِ وُجُوبُ الْحَدِّ ، وَهُوَ يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ ، وَمَقْصُودُ اللِّعَانِ الْأَصْلِيُّ نَفْيُ النَّسَبِ ، وَهُوَ يَثْبُتُ بِالْإِمْكَانِ ، مَعَ ظُهُورِ انْتِفَائِهِ ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُشْرَعَ مَا يَنْفِيهِ ، وَلَا مَا يُوجِبُ الْحَدَّ مَعَ الشُّبْهَةِ الْعَظِيمَةِ ، وَلِذَلِكَ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّ الشَّهَادَةَ تَحْصُلُ مِنْ غَيْرِهِ .
قُلْنَا : قَدْ لَا تَحْصُلُ إلَّا مِنْهُ ؛ لِاخْتِصَاصِهِ بِرُؤْيَةِ الْمَشْهُودِ بِهِ ، أَوْ سَمَاعِهِ إيَّاهُ .

( 6237 ) فَصْلٌ : فَإِنْ قَذَفَ الْأَخْرَسُ أَوْ لَاعَنَ ثُمَّ تَكَلَّمَ ، فَأَنْكَرَ الْقَذْفَ وَاللِّعَانَ ، لَمْ يُقْبَلْ إنْكَارُهُ لِلْقَذْفِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ لِغَيْرِهِ بِحُكْمِ الظَّاهِرِ ، فَلَا يُقْبَلُ إنْكَارُهُ لَهُ ، وَيُقْبَلُ إنْكَارُهُ لِلِّعَانِ فِيمَا عَلَيْهِ ، فَيُطَالَبُ بِالْحَدِّ ، وَيَلْحَقُهُ النَّسَبُ ، وَلَا تَعُودُ الزَّوْجِيَّةُ ، فَإِنْ قَالَ : أَنَا أُلَاعِنُ لِلْحَدِّ وَنَفْيِ النَّسَبِ .
كَانَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا لَزِمَهُ بِإِقْرَارِهِ أَنَّهُ لَمْ يُلَاعِنْ ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُلَاعِنَ كَانَ لَهُ ذَلِكَ .

( 6238 ) فَصْلٌ : فَإِنْ قَذَفَهَا وَهُوَ نَاطِقٌ ، ثُمَّ خَرِسَ ، وَأَيِسَ مِنْ نُطْقِهِ ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْأَخْرَسِ الْأَصْلِيِّ ، وَإِنْ رُجِيَ عَوْدُ نُطْقِهِ ، وَزَوَالُ خَرَسِهِ ، اُنْتُظِرَ بِهِ ذَلِكَ ، وَيُرْجَعُ فِي مَعْرِفَةِ ذَلِكَ إلَى قَوْلِ عَدْلَيْنِ مِنْ أَطِبَّاءِ الْمُسْلِمِينَ .
وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ .
وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ يُلَاعِنُ فِي الْحَالَيْنِ بِالْإِشَارَةِ ؛ لِأَنَّ أُمَامَةَ بِنْتَ أَبِي الْعَاصِ أُصْمِتَتْ ، فَقِيلَ لَهَا : لِفُلَانٍ كَذَا ، وَلَفُلَانً كَذَا ؟ فَأَشَارَتْ أَنْ نَعَمْ ، فَرَأَوْا أَنَّهَا وَصِيَّةٌ .
وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ مَنْ الرَّاوِي لِذَلِكَ ، وَلَمْ يُعْلَم أَنَّهُ قَوْلُ مَنْ قَوْلُهُ حُجَّةٌ ، وَلَا عُلِمَ هَلْ كَانَ ذَلِكَ لَخَرَسٍ يُرْجَى زَوَالُهُ أَوْ لَا ؟ وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ فِي مَنْ اُعْتُقِلَ لِسَانُهُ ، وَأَيِسَ مِنْ نُطْقِهِ : هَلْ يَصِحُّ لِعَانُهُ بِالْإِشَارَةِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ .

( 6239 ) فَصْلٌ : وَكُلُّ مَوْضِعٍ لَا لِعَانَ فِيهِ ، فَالنَّسَبُ لَاحِقٌ فِيهِ ، وَيَجِبُ بِالْقَذْفِ مُوجَبُهُ مِنْ الْحَدِّ وَالتَّعْزِيرِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْقَاذِفُ صَبِيًّا ، أَوْ مَجْنُونًا ، فَلَا ضَرْبَ فِيهِ ، وَلَا لِعَانَ .
كَذَلِكَ قَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو عُبَيْدٍ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ ، وَقَالَ : وَلَا أَحْفَظُ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافَهُمْ .

( 6240 ) الْفَصْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا لِعَانَ بَيْنَ غَيْرِ الزَّوْجَيْنِ ، فَإِذَا قَذَفَ أَجْنَبِيَّةً مُحْصَنَةً ، حُدَّ وَلَمْ يُلَاعَنْ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُحْصَنَةً عُزِّرَ ، وَلَا لِعَانَ أَيْضًا .
وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } .
ثُمَّ خَصَّ الزَّوْجَاتِ مِنْ عُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ } .
فَفِيمَا عَدَاهُنَّ يَبْقَى عَلَى قَضِيَّةِ الْعُمُومِ .
وَإِنْ مَلَكَ أَمَةً ، ثُمَّ قَذَفَهَا ، فَلَا لِعَانَ ، سَوَاءٌ كَانَتْ فِرَاشًا لَهُ ، أَوْ لَمْ تَكُنْ ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ بِقَذْفِهَا ، وَيُعَزَّرُ .
فَإِنْ أَتَتْ بِوَلَدٍ نَظَرْنَا ؛ فَإِنْ لَمْ يَعْتَرِفْ بِوَطْئِهَا ، لَمْ يَلْحَقْهُ نَسَبُهُ ، وَلَمْ يَحْتَجْ إلَى نَفْيِهِ ، وَإِنْ اعْتَرَفَ بِوَطْئِهَا ، صَارَتْ فِرَاشًا لَهُ .
وَإِذَا أَتَتْ بِوَلَدٍ لِمُدَّةِ الْحَمْلِ مِنْ يَوْمِ الْوَطْءِ لَحِقَهُ .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ : لَا تَصِيرُ فِرَاشًا لَهُ حَتَّى يُقِرّ بِوَلَدِهَا ، فَإِذَا أَقَرَّ بِهِ صَارَتْ فِرَاشًا لَهُ ، وَلَحِقَهُ أَوْلَادُهَا بَعْدَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهَا لَوْ صَارَتْ فِرَاشًا بِالْوَطْءِ ، لَصَارَتْ فِرَاشًا بِإِبَاحَتِهِ ، كَالزَّوْجَةِ .
وَلَنَا ، أَنَّ سَعْدًا نَازَعَ عَبْدَ بْنَ زَمْعَةَ فِي ابْنِ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ ، فَقَالَ : هُوَ أَخِي ، وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي ، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ .
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ ، الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ ، أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : مَا بَالُ رِجَالٍ يَطَئُونَ وَلَائِدَهُمْ ، ثُمَّ يَعْزِلُونَهُنَّ ، لَا تَأْتِينِي وَلِيدَةٌ يَعْتَرِفُ سَيِّدُهَا أَنَّهُ أَلَمَّ بِهَا ، إلَّا أَلْحَقْت بِهِ وَلَدَهَا ، فَاعْزِلُوا بَعْدَ ذَلِكَ ، أَوْ اُتْرُكُوا .
وَلِأَنَّ الْوَطْءَ يَتَعَلَّقُ بِهِ تَحْرِيمُ

الْمُصَاهَرَةِ ، فَإِذَا كَانَ مَشْرُوعًا صَارَتْ بِهِ الْمَرْأَةُ فِرَاشًا ، كَالنِّكَاحِ ، وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ إنَّمَا سُمِّيَتْ فِرَاشًا تَجَوُّزًا ، إمَّا لِمُضَاجَعَتِهِ لَهَا عَلَى الْفِرَاشِ ، وَإِمَّا لِكَوْنِهَا تَحْتَهُ فِي حَالِ الْمُجَامَعَةِ ، وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ يَحْصُلُ فِي الْجِمَاعِ ، وَقِيَاسُهُمْ الْوَطْءَ عَلَى الْمِلْكِ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ ، وَلَا يَحْصُلُ مِنْهُ الْوَلَدُ بِدُونِ الْوَطْءِ ، وَيُفَارِقُ النِّكَاحَ ؛ فَإِنَّهُ لَا يُرَدْ إلَّا لِلْوَطْءِ ، وَيَتَعَلَّقُ بِهِ تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ ، وَلَا يَنْعَقِدُ فِي مَحَلٍّ يَحْرُمُ الْوَطْءُ فِيهِ ، كَالْمَجُوسِيَّةِ وَالْوَثَنِيَّةِ وَذَوَاتِ مَحَارِمِهِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنْ أَرَادَ نَفْيَ وَلَدِ أَمَتِهِ الَّتِي يَلْحَقهُ وَلَدُهَا ، فَطَرِيقُهُ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ اسْتَبْرَأَهَا بَعْدَ وَطْئِهِ لَهَا بِحَيْضَةٍ ، فَيَنْتَفِي بِذَلِكَ .
وَإِنْ ادَّعَى أَنَّهُ كَانَ يَعْزِلُ عَنْهَا ، لَمْ يَنْتَفِ عَنْهُ بِذَلِكَ ؛ لِمَا رَوَى جَابِرٌ قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنَّ لِي جَارِيَةً ، وَأَنَا أَطُوفُ عَلَيْهَا ، وَأَنَا أَكْرَهُ أَنْ تَحْمِلَ .
فَقَالَ : { اعْزِلْ عَنْهَا إنْ شِئْت ، فَإِنَّهُ سَيَأْتِيهَا مَا قُدِّرَ لَهَا .
قَالَ : فَلَبِثَ الرَّجُلُ ، ثُمَّ أَتَاهُ ، فَقَالَ : إنَّ الْجَارِيَةَ قَدْ حَمَلَتْ .
قَالَ : قَدْ أَخْبَرْتُك أَنَّهُ سَيَأْتِيهَا مَا قُدِّرَ لَهَا } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ ، أَنَّهُ قَالَ : كُنْت أَعْزِلُ عَنْ جَارِيَتِي ، فَوَلَدَتْ أَحَبَّ الْخَلْقِ إلَيَّ .
يَعْنِي ابْنَهُ .
وَلِحَدِيثِ عُمَرَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ .
وَلِأَنَّهُ حُكْمٌ تَعَلَّقَ بِالْوَطْءِ ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ مَعَهُ الْإِنْزَالُ ، كَسَائِرِ الْأَحْكَامِ .
وَقَدْ قِيلَ : إنَّهُ يَنْزِلُ مِنْ الْمَاءِ مَا لَا يُحِسُّ بِهِ .
وَإِنْ أَقَرَّ بِالْوَطْءِ دُونَ الْفَرْجِ ، أَوْ فِي الدُّبُرِ ، لَمْ تَصِرْ بِذَلِكَ فِرَاشًا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ عَلَيْهِ ، وَلَا فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ ، وَلِأَنَّهُ يَنْتَفِي

عَنْهُ الْوَلَدُ بِدَعْوَى الِاسْتِبْرَاءِ إذَا أَتَتْ بِهِ بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ بِمُدَّةِ الْحَمْلِ ، فَهَاهُنَا أَوْلَى .
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهَا تَصِيرُ فِرَاشًا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُجَامِعُ ، فَيَسْبِقُ الْمَاءُ إلَى الْفَرْجِ .
وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ كَهَذَيْنِ ، وَإِذَا ادَّعَى الِاسْتِبْرَاءَ ، قُبِلَ قَوْلُهُ بِغَيْرِ يَمِينٍ ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ؛ لِأَنَّ مِنْ قُبِلَ قَوْلُهُ فِي الِاسْتِبْرَاءِ ، قُبِلَ بِغَيْرِ يَمِينٍ ، كَالْمَرْأَةِ تَدَّعِي انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا .
وَفِي الْآخَرِ ، يُسْتَحْلَفُ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : " وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ " .
وَلِأَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِهِ ، فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِيهِ بِغَيْرِ يَمِينٍ ، كَسَائِرِ الْحُقُوقِ ، بِخِلَافِ الْعِدَّةِ .
وَمَتَى لَمْ يَدَّعِ الِاسْتِبْرَاءَ ، لَحِقَهُ وَلَدُهَا ، وَلَمْ يَنْتَفِ عَنْهُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ، فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ : لَهُ نَفْيُهُ بِاللِّعَانِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِهِ ، فَأَشْبَهَ وَلَدَ الْمَرْأَةِ .
وَلَنَا ، قَوْله تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ } .
فَخَصَّ بِذَلِكَ الْأَزْوَاجَ ، وَلِأَنَّهُ وَلَدٌ يَلْحَقُهُ نَسَبُهُ مِنْ غَيْرِ الزَّوْجَةِ ، فَلَمْ يَمْلِكْ نَفْيَهُ بِاللِّعَانِ ، كَمَا لَوْ وَطِئَ أَجْنَبِيَّةً بِشُبْهَةٍ ، فَأَلْحَقَتْ الْقَافَةُ وَلَدَهَا بِهِ ، وَلِأَنَّ لَهُ طَرِيقًا إلَى نَفْيِ الْوَلَدِ بِغَيْرِ اللِّعَانِ ، فَلَمْ يَحْتَجْ إلَى نَفْيِهِ بِاللِّعَانِ ، فَلَا يُشْرَعُ ، وَلِأَنَّهُ إذَا وَطِئَ أَمَتَهُ وَلَمْ يَسْتَبْرِئْهَا ، فَأَتَتْ بِوَلَدٍ ، اُحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ نَفْيُهُ ؛ لِكَوْنِ النَّسَبِ يَلْحَقُ بِالْإِمْكَانِ ، فَكَيْفَ مَعَ ظُهُورِ وُجُودِ سَبَبِهِ ، وَلَوْ ادَّعَى الِاسْتِبْرَاءَ .
فَأَتَتْ بِوَلَدَيْنِ ، فَأَقَرَّ بِأَحَدِهِمَا وَنَفَى الْآخَرَ ، لَحِقَاهُ مَعًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ جَعْلُ أَحَدِهِمَا مِنْهُ وَالْآخَرِ مِنْ غَيْرِهِ ، وَهُمَا حَمْلٌ وَاحِدٌ ، وَلَا يَجُوزُ نَفْيُ الْوَلَدِ الْمُقَرِّ بِهِ عَنْهُ مَعَ إقْرَارِهِ بِهِ ، فَوَجَبَ

إلْحَاقُهُمَا بِهِ مَعًا .
وَكَذَلِكَ إنْ أَتَتْ أَمَتُهُ الَّتِي لَمْ يَعْتَرِفْ بِوَطْئِهَا بِتَوْأَمَيْنِ ، فَاعْتَرَفَ بِأَحَدِهِمَا ، وَنَفَى الْآخَرَ .

( 6241 ) فَصْلٌ : وَإِذَا نَكَحَ امْرَأَةً نِكَاحًا فَاسِدًا ، ثُمَّ قَذَفَهَا ، وَبَيْنَهُمَا وَلَدٌ يُرِيدُ نَفْيَهُ ، فَلَهُ أَنْ يُلَاعِنَ لِنَفْيِهِ ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ ، حُدَّ وَلَا لِعَانَ بَيْنَهُمَا .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَلْحَقُهُ الْوَلَدُ ، وَلَيْسَ لَهُ نَفْيُهُ ، وَلَا اللِّعَانُ ؛ لِأَنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ ، فَأَشْبَهَتْ سَائِرَ الْأَجْنَبِيَّاتِ ، أَوْ إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ .
وَلَنَا ، أَنَّ هَذَا وَلَدٌ يَلْحَقُهُ بِحُكْمِ عَقْدِ النِّكَاحِ ، فَكَانَ لَهُ نَفْيُهُ ، كَمَا لَوْ كَانَ النِّكَاحُ صَحِيحًا ، وَيُفَارِقُ إذَا لَمْ يَكُنْ وَلَدٌ ، فَإِنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى الْقَذْفِ ؛ لِكَوْنِهَا أَجْنَبِيَّةً ، وَيُفَارِقُ سَائِرَ الْأَجْنَبِيَّاتِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ وَلَدُهُنَّ ، فَلَا حَاجَةَ بِهِ إلَى قَذْفِهِنَّ ، وَيُفَارِقُ الزَّوْجَةَ .
فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى قَذْفِهَا مَعَ عَدَمِ الْوَلَدِ ، لِكَوْنِهَا خَانَتْهُ وَغَاظَتْهُ وَأَفْسَدَتْ فِرَاشَهُ ، فَإِذَا كَانَ لَهُ مِنْهَا وَلَدٌ ، فَالْحَاجَةُ مَوْجُودَةٌ فِيهِمَا ، وَإِذَا لَاعَنَ سَقَطَ الْحَدُّ ؛ لِأَنَّهُ لِعَانٌ مَشْرُوعٌ لِنَفْيِ الْحَدِّ ، فَأَسْقَطَ الْحَدَّ ، كَاللِّعَانِ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ .
وَهَلْ يُثْبِتُ التَّحْرِيمَ الْمُؤَبَّدَ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا ، يُثْبِتُهُ ؛ لِأَنَّهُ لِعَانٌ صَحِيحٌ ، أَشْبَهَ لِعَانَ الزَّوْجَةِ .
وَالثَّانِي ، لَا يُثْبِتُهُ ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ لَمْ تَحْصُلْ بِهِ ، فَإِنَّهُ لَا نِكَاحَ بَيْنَهُمَا يَحْصُلُ قَطْعُهُ بِهِ ، بِخِلَافِ لِعَانِ الزَّوْجَةِ ، فَإِنَّ الْفُرْقَةَ حَصَلَتْ بِهِ .
وَلَوْ لَاعَنَهَا مِنْ غَيْرِ وَلَدٍ ، لَمْ يَسْقُطْ الْحَدُّ ، وَلَمْ يَثْبُتْ التَّحْرِيمُ الْمُؤَبَّدُ ؛ لِأَنَّهُ لِعَانٌ فَاسِدٌ ، فَلَمْ تَثْبُتْ أَحْكَامُهُ .
وَسَوَاءٌ اعْتَقَدَ أَنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ أَوْ لَمْ يَعْتَقِدْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ فِي نَفْسِهِ لَيْسَ بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَاعَنَ أَجْنَبِيَّةً يَظُنُّهَا زَوْجَتَهُ .

( 6242 ) فَصْلٌ : فَلَوْ أَبَانَ زَوْجَتَهُ ، ثُمَّ قَذَفَهَا بِزِنًا أَضَافَهُ إلَى حَالِ الزَّوْجِيَّةِ ، فَهِيَ كَالْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا ؛ إنْ كَانَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ يُرِيدُ نَفْيَهُ ، فَلَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ بِاللِّعَانِ ، وَإِلَّا حُدَّ وَلَمْ يُلَاعِنْ .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُحَدُّ ، وَيَلْحَقُهُ الْوَلَدُ ، وَلَا يُلَاعِنُ .
وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ .
وَوَجْهُ الْمَذْهَبَيْنِ مَا تَقَدَّمَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا .
وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ : لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَالْحَسَنِ ، أَنَّهُ يُلَاعِنُهَا ؛ لِأَنَّهُ قَذْفٌ مُضَافٌ إلَى حَالِ الزَّوْجِيَّةِ ، أَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَتْ زَوْجَتَهُ .
وَلَنَا أَنَّهُ إذَا كَانَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فَبِهِ حَاجَةٌ إلَى الْقَذْفِ ، فَشُرِعَ ، كَمَا لَوْ قَذَفَهَا وَهِيَ زَوْجَتُهُ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ ، فَلَا حَاجَةَ بِهِ إلَيْهِ ، وَقَدْ قَذَفَهَا وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يُضِفْهُ إلَى حَالِ الزَّوْجِيَّةِ .
وَمَتَى لَاعَنَهَا لِنَفْيِ وَلَدِهَا انْتَفَى ، وَسَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ .
وَفِي ثُبُوتِ التَّحْرِيمِ الْمُؤَبَّدِ وَجْهَانِ .
وَهَلْ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَهَا قَبْلَ وَضْعِ الْوَلَدِ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا ، لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ مَنْ كَانَ لَهُ لِعَانُهَا بَعْدَ الْوَضْعِ ، كَانَ لَهُ لِعَانُهَا قَبْلَهُ ، كَالزَّوْجَةِ .
وَالثَّانِي ، لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ عِنْدَهُ لَا يَنْتَفِي فِي حَالِ الْحَمْلِ ، وَلِأَنَّ اللِّعَانَ إنَّمَا يَثْبُتُ هَاهُنَا لِأَجْلِ الْوَلَدِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُلَاعِنَ إلَّا بَعْدَ تَحَقُّقِهِ بِوَضْعِهِ ، بِخِلَافِ الزَّوْجَةِ ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِعَانِهَا مَعَ عَدَمِ الْوَلَدِ .
وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي نَفْيِ الْحَمْلِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ .

( 6243 ) فَصْلٌ : إذَا اشْتَرَى زَوْجَتَهُ الْأَمَةَ ، ثُمَّ أَقَرَّ بِوَطْئِهَا ، ثُمَّ أَتَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ ، كَانَ لَاحِقًا بِهِ ، وَلَمْ يَنْتَفِ عَنْهُ إلَّا بِدَعْوَى الِاسْتِبْرَاءِ ؛ لِأَنَّهُ مُلْحَقٌ بِهِ بِالْوَطْءِ فِي الْمِلْكِ دُونَ النِّكَاحِ ، لِكَوْنِ الْمِلْكِ حَاضِرًا ، فَصَارَ كَالزَّوْجِ الثَّانِي ، يَلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْأَوَّلِ .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَقَرَّ بِوَطْئِهَا ، أَوْ أَقَرَّ بِهِ فَأَتَتْ بِوَلَدٍ لِدُونِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ وَطِئَ ، كَانَ مُلْحَقًا بِالنِّكَاحِ ، إنْ أَمْكَنَ ذَلِكَ ، وَلَهُ نَفْيُهُ بِاللِّعَانِ ، وَهَلْ يُثْبِتُ هَذَا اللِّعَانُ التَّحْرِيمَ الْمُؤَبَّدَ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ .

( 6244 ) فَصْلٌ : إذَا قَذَفَ مُطَلَّقَتَهُ الرَّجْعِيَّةَ ، فَلَهُ لِعَانُهَا ، سَوَاءٌ كَانَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ .
قَالَ أَبُو طَالِبٍ : سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ، عَنْ الرَّجُلِ يُطَلِّقُ تَطْلِيقَةً أَوْ تَطْلِيقَتَيْنِ ، ثُمَّ يَقْذِفُهَا .
قَالَ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لَا يُلَاعِنُ ، وَيُجْلَدُ .
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : يُلَاعِنُ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ .
قَالَ : وَقَوْلُ ابْنِ عُمَرَ أَجْوَدُ ؛ لِأَنَّهَا زَوْجَتُهُ ، وَهُوَ يَرِثُهَا وَتَرِثُهُ ، فَهُوَ يُلَاعِنُ .
وَبِهَذَا قَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَقَتَادَةُ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو عُبَيْدٍ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ؛ لِأَنَّ الرَّجْعِيَّةَ زَوْجَةٌ فَكَانَ لَهُ لِعَانُهَا ، كَمَا لَوْ لَمْ يُطَلِّقْهَا .

( 6245 ) فَصْلٌ : وَإِنْ قَذَفَ زَوْجَتَهُ ثُمَّ أَبَانَهَا ، فَلَهُ لِعَانُهَا .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، سَوَاءٌ كَانَ لَهُ وَلَدٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ .
وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، وَمَكْحُولٌ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو عُبَيْدٍ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَقَالَ الْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ ، وَقَتَادَةُ ، وَالْحَكَمُ : يُجْلَدُ .
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ : لَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ ؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ إنَّمَا يَكُونُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ ، وَلَيْسَ هَذَانِ بِزَوْجَيْنِ ، وَلَا يُحَدُّ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْذِفْ أَجْنَبِيَّةً .
وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ } .
وَهَذَا قَدْ رَمَى زَوْجَتَهُ ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُوم الْآيَةِ ، وَإِذَا لَمْ يُلَاعِنْ وَجَبَ الْحَدُّ بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } .
وَلِأَنَّهُ قَاذِفٌ لِزَوْجَتِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ ، كَمَا لَوْ كَانَا عَلَى النِّكَاحِ إلَى حَالَةِ اللِّعَانِ .

( 6246 ) فَصْلٌ : وَإِنْ قَالَتْ : قَذَفَنِي قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَنِي .
وَقَالَ : بَلْ بَعْدَهُ .
أَوْ قَالَتْ : قَذَفَنِي بَعْدَ مَا بِنْتُ مِنْهُ .
وَقَالَ : بَلْ قَبْلَهُ .
فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ فِي أَصْلِ الْقَذْفِ ، فَكَذَلِكَ فِي وَقْتِهِ .
وَإِنْ قَالَتْ أَجْنَبِيَّةٌ : قَذَفَنِي .
فَقَالَ : كُنْت زَوْجَتِي حِينَئِذٍ .
فَأَنْكَرَتْ الزَّوْجِيَّةَ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهَا .

( 6247 ) فَصْلٌ : وَلَوْ قَذَفَ أَجْنَبِيَّةً ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ ، وَلَا يُلَاعِنُ ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ فِي حَالِ كَوْنِهَا أَجْنَبِيَّةً ، فَلَمْ يَمْلِكْ اللِّعَانَ مِنْ أَجْلِهِ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَتَزَوَّجْهَا .
وَإِنْ قَذَفَهَا بَعْدَ تَزَوُّجِهَا بِزِنًا أَضَافَهُ إلَى مَا قَبْلَ النِّكَاحِ ، حُدَّ ، وَلَمْ يُلَاعِنْ ، سَوَاءٌ كَانَ ثَمَّ وَلَدٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ .
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي ثَوْرٍ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، وَالشَّعْبِيِّ .
وَقَالَ الْحَسَنُ ، وَزُرَارَةُ بْنُ أَبِي أَوْفَى ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ : لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ ؛ لِأَنَّهُ قَذَفَ امْرَأَتَهُ ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ } .
وَلِأَنَّهُ قَذَفَ امْرَأَتَهُ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَذَفَهَا وَلَمْ يُضِفْهُ إلَى مَا قَبْلَ النِّكَاحِ .
وَحَكَى الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةً أُخْرَى كَذَلِكَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ وَلَدٌ ، لَمْ يُلَاعِنْ ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ .
وَلَنَا أَنَّهُ قَذَفَهَا قَذْفًا مُضَافًا إلَى حَالِ الْبَيْنُونَةِ ، أَشْبَهَ مَا لَوْ قَذَفَهَا وَهِيَ بَائِنٌ ، وَفَارَقَ قَذْفَ الزَّوْجَةِ ، لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ لِأَنَّهَا غَاظَتْهُ وَخَانَتْهُ ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ ، فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى نَفْيِهِ ، وَهَاهُنَا إذَا تَزَوَّجَهَا وَهُوَ يَعْلَمُ زِنَاهَا ، فَهُوَ الْمُفَرِّطُ فِي نِكَاحِ حَامِلٍ مِنْ الزِّنَا ، فَلَا يُشْرَعُ لَهُ طَرِيقٌ إلَى نَفْيِهِ .

( 6248 ) فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا يَا زَانِيَةُ .
فَنَقَلَ مُهَنَّا ، قَالَ : سَأَلْت أَحْمَدَ ، عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ يَا زَانِيَةُ .
ثَلَاثًا ، فَقَالَ : يُلَاعِنُ .
قُلْت : فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ : يُحَدُّ ، وَلَا يَلْزَمُهَا إلَّا وَاحِدَةٌ .
قَالَ : بِئْسَ مَا يَقُولُونَ .
فَهَذَا يُلَاعِنُ ؛ لِأَنَّهُ قَذَفَهَا قَبْلَ الْحُكْمِ بِبَيْنُونَتِهَا ، فَأَشْبَهَ قَذْفَ الرَّجْعِيَّةِ .
وَأَمَّا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى ، فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ ، فَإِنَّهُ يُلَاعِنُ ؛ لِنَفْيِهِ ، وَإِلَّا حُدَّ وَلَمْ يُلَاعِنْ ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَيَّنُ إضَافَةُ الْقَذْفِ إلَى حَالِ الزَّوْجِيَّةِ ؛ لِاسْتِحَالَةِ الزِّنَا مِنْهَا بَعْدَ طَلَاقِهِ لَهَا ، فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ لَهَا بَعْدَ إبَانَتِهَا : زَنَيْت إذْ كُنْت زَوْجَتِي .
عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ .

( 6249 ) الْفَصْلُ الثَّالِثُ : أَنَّ كُلَّ قَذْفٍ لِلزَّوْجَةِ يَجِبُ بِهِ اللِّعَانُ ، سَوَاءٌ قَالَ لَهَا : زَنَيْت .
أَوْ : رَأَيْتُك تَزْنِينَ .
سَوَاءٌ كَانَ الْقَاذِفُ أَعْمًى أَوْ بَصِيرًا .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو عُبَيْدٍ ، وَأَبُو ثَوْرٍ .
وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ .
وَقَالَ يَحْيَى الْأَنْصَارِيُّ ، وَأَبُو الزِّنَادِ ، وَمَالِكٌ : لَا يَكُونُ اللِّعَانُ إلَّا بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ : إمَّا رُؤْيَةٍ ، وَإِمَّا إنْكَارٍ لِلْحَمْلِ ؛ لِأَنَّ آيَةَ اللِّعَانِ نَزَلَتْ فِي هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ ، وَكَانَ قَالَ : رَأَيْت بِعَيْنَيَّ ، وَسَمِعْت بِأُذُنَيَّ .
فَلَا يَثْبُتُ اللِّعَانُ إلَّا فِي مِثْلِهِ .
وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ } الْآيَةَ .
وَهَذَا رَامٍ لِزَوْجَتِهِ ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْآيَةِ ، وَلِأَنَّ اللِّعَانَ مَعْنًى يَتَخَلَّصُ بِهِ مِنْ مُوجَبِ الْقَذْفِ ، فَيُشْرَعُ فِي حَقِّ كُلِّ رَامٍ لِزَوْجَتِهِ ، كَالْبَيِّنَةِ .
وَالْأَخْذُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ أَوْلَى مِنْ خُصُوصِ السَّبَبِ ، ثُمَّ لَمْ يَعْمَلُوا بِهِ فِي قَوْلِهِ : وَسَمِعْت بِأُذُنَيَّ .
وَسَوَاءٌ قَذَفَهَا بِزِنًا فِي الْقُبُلِ أَوْ فِي الدُّبُرِ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَثْبُتُ اللِّعَانُ بِالْقَذْفِ بِالْوَطْءِ فِي الدُّبُرِ .
وَبَنَاهُ عَلَى أَصْلِهِ ، فِي أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ رَامٍ لِزَوْجَتِهِ بِوَطْءٍ فِي فَرْجِهَا ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَذَفَهَا بِالْوَطْءِ فِي قُبُلِهَا .
وَأَمَّا إنْ قَذَفَهَا بِالْوَطْءِ دُونَ الْفَرْجِ ، أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ الْفَوَاحِشِ غَيْرِ الزِّنَا ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ، وَلَا لِعَانَ ؛ لِأَنَّهُ قَذَفَهَا بِمَا لَا يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ فَلَمْ يَثْبُتْ بِهِ الْحَدُّ وَاللِّعَانُ ، كَمَا لَوْ قَذَفَهَا بِضَرْبِ النَّاسِ وَأَذَاهُمْ .

( 6250 ) الْفَصْلُ الرَّابِعُ : أَنَّهُ إذَا قَذَفَ زَوْجَتَهُ الْمُحْصَنَةَ ، وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ ، وَحُكِمَ بِفِسْقِهِ ، وَرَدِّ شَهَادَتِهِ ، إلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِبَيِّنَةٍ أَوْ يُلَاعِنَ ، فَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ، أَوْ امْتَنَعَ مِنْ اللِّعَانِ ، لَزِمَهُ ذَلِكَ كُلُّهُ .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجِبُ اللِّعَانُ دُونَ الْحَدِّ ، فَإِنْ أَبَى حُبِسَ حَتَّى يُلَاعِنَ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ } الْآيَاتِ .
فَلَمْ يُوجِبْ بِقَذْفِ الْأَزْوَاجِ إلَّا اللِّعَانَ .
وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ } وَهَذَا عَامٌّ فِي الزَّوْجِ وَغَيْرِهِ ، وَإِنَّمَا خَصَّ الزَّوْجَ بِأَنْ أَقَامَ لِعَانَهُ مَقَامَ الشَّهَادَةِ ، فِي نَفْيِ الْحَدِّ وَالْفِسْقِ وَرَدِّ الشَّهَادَةِ عَنْهُ .
وَأَيْضًا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْبَيِّنَةُ وَإِلَّا حَدٌّ فِي ظَهْرِك } .
وَقَوْلُهُ لَمَّا لَاعَنَ : " عَذَابُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ " .
وَلِأَنَّهُ قَاذِفٌ يَلْزَمُهُ الْحَدُّ لَوْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ ، فَلَزِمَهُ إذَا لَمْ يَأْتِ بِالْبَيِّنَةِ الْمَشْرُوعَةِ ، كَالْأَجْنَبِيِّ .
فَأَمَّا إنْ قَذَفَ غَيْرَهَا كَالْكِتَابِيَّةِ وَالْأَمَةِ ، وَالْمَجْنُونَةِ ، وَالطِّفْلَةِ ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّعْزِيرُ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ أَدْخَلَ عَلَيْهِنَّ الْمَعَرَّةَ بِالْقَذْفِ ، وَلَا يُحَدُّ لَهُنَّ حَدًّا كَامِلًا لِنُقْصَانِهِنَّ بِذَلِكَ ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِسْقٌ ، وَلَا رَدُّ شَهَادَةٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ .
قَالَ الْقَاضِي : وَلَيْسَ لَهُ إسْقَاطُ هَذَا التَّعْزِيرِ بِاللِّعَانِ ؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ إمَّا لِنَفْيِ النَّسَبِ ، أَوْ لِدَرْءِ الْحَدِّ ، وَلَيْسَ هَاهُنَا وَاحِدٌ مِنْهُمَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَهُ

إسْقَاطُهُ بِاللِّعَانِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا مَلَكَ إسْقَاطَ الْحَدِّ الْكَامِلِ بِاللِّعَانِ ، فَإِسْقَاطُ مَا دُونَهُ أَوْلَى .
وَلِلْقَاضِي أَنْ يَقُولَ : لَا يَلْزَمُ مِنْ مَشْرُوعِيَّتِهِ لِدَفْعِ الْحَدِّ الَّذِي يَعْظُمُ ضَرَرُهُ ، مَشْرُوعِيَّتُهُ لِدَفْعِ مَا يَقِلُّ ضَرَرُهُ ، كَمَا لَوْ قَذَفَ طِفْلَةً لَا يُتَصَوَّرُ وَطْؤُهَا ، فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ تَعْزِيرَ السَّبِّ وَالْأَذَى ، وَلَيْسَ لَهُ إسْقَاطُهُ بِاللِّعَانِ .
كَذَا هَاهُنَا .
وَأَمَّا إنْ كَانَ لِأَحَدِ هَؤُلَاءِ ، وَلَا يُرِيدُ نَفْيَهُ ، فَقَالَ الْقَاضِي : لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ لِنَفْيِهِ .
وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ ، فِي الْأَمَةِ وَالْكِتَابِيَّةِ ، سَوَاءٌ كَانَ لَهُمَا وَلَدٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ .
وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِيمَا مَضَى .

( 6251 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( وَلَا يُعْرَضُ لَهُ ، حَتَّى تُطَالِبَهُ زَوْجَتُهُ ) .
يَعْنِي لَا يُتَعَرَّضُ لَهُ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ ، وَلَا طَلَبِ اللِّعَانِ مِنْهُ ، حَتَّى تُطَالِبَهُ زَوْجَتُهُ بِذَلِكَ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ حَقٌّ لَهَا ، فَلَا يُقَامُ مِنْ غَيْرِ طَلَبِهَا ، كَسَائِرِ حُقُوقِهَا .
وَلَيْسَ لِوَلِيِّهَا الْمُطَالَبَةُ عَنْهَا إنْ كَانَتْ مَجْنُونَةً أَوْ مَحْجُورًا عَلَيْهَا ، وَلَا لِوَلِيِّ الصَّغِيرَةِ وَسَيِّدِ الْأَمَةِ الْمُطَالَبَةُ بِالتَّعْزِيرِ مِنْ أَجْلِهِمَا ؛ لِأَنَّ هَذَا حَقٌّ ثَبَتَ لِلتَّشَفِّي ، فَلَا يَقُومُ الْغَيْرُ فِيهِ مَقَامَ الْمُسْتَحِقِّ ، كَالْقِصَاصِ .
فَإِنْ أَرَادَ الزَّوْجُ اللِّعَانَ مِنْ غَيْرِ مُطَالَبَةٍ ، نَظَرْنَا ؛ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ نَسَبٌ يُرِيدُ نَفْيَهُ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَوْضِعٍ سَقَطَ فِيهِ الْحَدُّ ، مِثْلُ إنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ بِزِنَاهَا ، أَوْ أَبْرَأَتْهُ مِنْ قَذْفِهَا ، أَوْ حُدَّ لَهَا ثُمَّ أَرَادَ لِعَانَهَا ، وَلَا نَسَبَ هُنَاكَ يُنْفَى ، فَإِنَّهُ لَا يُشْرَعُ اللِّعَانُ .
وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا ، إلَّا بَعْضَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ قَالُوا : لَهُ الْمُلَاعَنَةُ ؛ لِإِزَالَةِ الْفِرَاشِ .
وَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ مِثْلُ قَوْلِ الْجَمَاعَةِ ؛ لِأَنَّ إزَالَةَ الْفِرَاشِ تُمَكِّنُهُ بِالطَّلَاقِ ، وَالتَّحْرِيمُ الْمُؤَبَّدُ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ يُشْرَعُ اللِّعَانُ مِنْ أَجْلِهِ ، وَإِنَّمَا حَصَلَ ذَلِكَ ضِمْنًا .
فَأَمَّا إنْ كَانَ هُنَاكَ وَلَدٌ يُرِيدُ نَفْيَهُ ، فَقَالَ الْقَاضِي : لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ لِنَفْيِهِ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ لَمَّا قَذَفَ امْرَأَتَهُ ، وَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ ، أَرْسَلَ إلَيْهَا ، فَلَاعَنَ بَيْنَهُمَا ، وَلَمْ تَكُنْ طَالَبَتْهُ .
وَلِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى نَفْيِهِ ، فَشُرِعَ لَهُ طَرِيقٌ إلَيْهِ ، كَمَا لَوْ طَالَبَتْهُ ، وَلِأَنَّ نَفْيَ النَّسَبِ الْبَاطِلِ حَقٌّ لَهُ ، فَلَا يَسْقُطُ بِرِضَاهَا بِهِ ، كَمَا لَوْ طَالَبَتْ بِاللِّعَانِ وَرَضِيَتْ بِالْوَلَدِ .

وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُشْرَعَ اللِّعَانُ هَاهُنَا ، كَمَا لَوْ قَذَفَهَا فَصَدَّقَتْهُ ، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ ؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ مُوجَبَيْ الْقَذْفِ فَلَا يُشْرَعُ مَعَ عَدَمِ الْمُطَالَبَةِ ، كَالْحَدِّ .

( 6252 ) فَصْلٌ : وَإِذَا قَذَفَهَا ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ لِعَانِهِمَا ، أَوْ قَبْلَ إتْمَامِ لِعَانِهِ ، سَقَطَ اللِّعَانُ ، وَلَحِقَهُ الْوَلَدُ ، وَوَرِثَتْهُ ، فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ ؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ لَمْ يُوجَدْ ، فَلَمْ يَثْبُتْ حُكْمُهُ .
وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ أَنْ أَكْمَلَ لِعَانَهُ ، وَقَبْلَ لِعَانِهَا ، فَكَذَلِكَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : تَبِينُ بِلِعَانِهِ ، وَيَسْقُطُ التَّوَارُثُ ، وَيَنْتَفِي الْوَلَدُ ، وَيَلْزَمُهَا الْحَدُّ ، إلَّا أَنْ تَلْتَعِنَ .
وَلَنَا أَنَّهُ مَاتَ قَبْلَ إكْمَالِ اللِّعَانِ ، أَشْبَهَ مَا لَوْ مَاتَ قَبْلَ إكْمَالِ الْتِعَانِهِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّرْعَ إنَّمَا رَتَّبَ هَذِهِ الْأَحْكَامَ عَلَى اللِّعَان التَّامِّ ، وَالْحُكْمُ لَا يَثْبُتُ قَبْلَ كَمَالِ سَبَبِهِ .
وَإِنْ مَاتَتْ الْمَرْأَةُ قَبْلَ اللِّعَانِ ، فَقَدْ مَاتَتْ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ ، وَيَرِثُهَا فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : إنْ الْتَعَنَ ، لَمْ يَرِثْ .
وَنَحْوُ ذَلِكَ عَنْ الشَّعْبِيِّ ، وَعِكْرِمَةَ ؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ يُوجِبُ فُرْقَةً تَبِينُ بِهَا ، فَيَمْنَعُ التَّوَارُثَ ، كَمَا لَوْ الْتَعَنَ فِي حَيَاتِهَا .
وَلَنَا ، أَنَّهَا مَاتَتْ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ ، فَوَرِثَهَا ، كَمَا لَوْ لَمْ يَلْتَعِنْ ، وَلِأَنَّ اللِّعَانَ سَبَبُ الْفُرْقَةِ فَلَمْ يَثْبُتْ حُكْمٌ بَعْدَ مَوْتِهَا كَالطَّلَاقِ ، وَفَارَقَ اللِّعَانُ فِي الْحَيَاةِ ، فَإِنَّهُ يَقْطَعُ الزَّوْجِيَّةَ ، عَلَى أَنَّنَا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَوْ لَاعَنَهَا وَلَمْ تَلْتَعِنْ هِيَ ، لَمْ تَنْقَطِعْ الزَّوْجِيَّةُ أَيْضًا ، فَهَاهُنَا أَوْلَى .
فَإِنْ قِيلَ : أَلَيْسَ قَدْ قُلْتُمْ : لَوْ الْتَعَنَ مِنْ الْوَلَدِ الْمَيِّتِ وَنَفَاهُ لَمْ يَرِثْهُ فَكَذَلِكَ الزَّوْجَةُ ؟ قُلْنَا : لَوْ الْتَعَنَ الزَّوْجُ وَحْدَهُ دُونَهَا ، لَمْ يَنْتَفِ الْوَلَدُ ، وَلَمْ يَثْبُتْ حُكْمُ اللِّعَانِ ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ إذَا نَفَى الْوَلَدَ ، تَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ أَصْلًا فِي حَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ ، وَالزَّوْجَةُ قَدْ كَانَتْ امْرَأَتَهُ فِيمَا قَبْلَ اللِّعَانِ ، وَإِنَّمَا يُزِيلُ نِكَاحَهَا اللِّعَانُ

، كَمَا يُزِيلُهُ الطَّلَاقُ .
فَإِذَا مَاتَتْ قَبْلَهُ ، فَقَدْ مَاتَتْ قَبْلَ وُجُودِ مَا يُزِيلُهُ ، فَيَكُونُ مَوْجُودًا حَالَ الْمَوْتِ ، فَيُوجِبُ التَّوَارُثَ ، وَيَنْقَطِعُ بِالْمَوْتِ ، فَلَا يُمْكِنُ انْقِطَاعُهُ مَرَّةً أُخْرَى .
وَإِنْ أَرَادَ الزَّوْجُ اللِّعَانَ ، وَلَمْ تَكُنْ طَالَبَتْ بِالْحَدِّ فِي حَيَاتِهَا ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَلْتَعِنَ ، سَوَاءٌ كَانَ ثَمَّ وَلَدٌ يُرِيدُ نَفْيَهُ أَوْ لَمْ يَكُنْ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إنْ كَانَ ثَمَّ وَلَدٌ يُرِيدُ نَفْيَهُ ، فَلَهُ أَنْ يَلْتَعِنَ .
وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى أَصْلٍ ، وَهُوَ أَنَّ اللِّعَانَ إنَّمَا يَكُونُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ ، فَإِنَّ لِعَانَ الرَّجُلِ وَحْدَهُ لَا يَثْبُتُ بِهِ حُكْمٌ ، وَعِنْدَهُمْ بِخِلَافِ ذَلِكَ .
فَأَمَّا إنْ كَانَتْ طَالَبَتْ بِالْحَدِّ فِي حَيَاتِهَا ، فَإِنَّ أَوْلِيَاءَهَا يَقُومُونَ فِي الطَّلَبِ بِهِ مَقَامَهَا ، فَإِنْ طُولِبَ بِهِ ، فَلَهُ إسْقَاطُهُ بِاللِّعَانِ .
ذَكَرَهُ الْقَاضِي ، وَإِلَّا فَلَا ؛ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ مَعَ عَدَمِ الطَّلَبِ ، فَإِنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : إنْ كَانَ لِلْمَرْأَةِ وَارِثٌ غَيْرَ الزَّوْجِ ، فَلَهُ اللِّعَانُ ، لِيُسْقِطَ الْحَدَّ عَنْ نَفْسِهِ ، وَإِلَّا فَلَا ؛ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ .

( 6253 ) فَصْلٌ : وَإِذَا مَاتَ الْمَقْذُوفُ قَبْلَ الْمُطَالَبَةِ بِالْحَدِّ ، سَقَطَ ، وَلَمْ يَكُنْ لِوَرَثَتِهِ الطَّلَبُ بِهِ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ يُورَثُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ طَالَبَ بِهِ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ تَرَكَ حَقًّا فَلِوَرَثَتِهِ } .
وَلِأَنَّهُ حَقٌّ ثَبَتَ لَهُ فِي الْحَيَاةِ ، يُورَثُ إذَا طَالَبَ بِهِ ، فَيُورَثُ وَإِنْ لَمْ يُطَالِبْ بِهِ ، كَحَقِّ الْقِصَاصِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ حَدٌّ تُعْتَبَرُ فِيهِ الْمُطَالَبَةُ ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ الطَّلَبُ مِنْ الْمَالِكِ ، لَمْ يَجِبْ ، كَحَدِّ الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ ، وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ الْمَتْرُوكَ يُورَثُ ، وَهَذَا لَيْسَ بِمَتْرُوكٍ ، وَأَمَّا حَقُّ الْقِصَاصِ ، فَإِنَّهُ حَقٌّ يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ ، وَيَنْتَقِلُ إلَى الْمَالِ ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ ، فَأَمَّا إنْ طَالَبَ بِهِ ثُمَّ مَاتَ ، فَإِنَّهُ تَرِثُهُ الْعَصَبَاتُ مِنْ النَّسَبِ دُونَ غَيْرِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ يَثْبُتُ لِدَفْعِ الْعَارِ ، فَاخْتَصَّ بِهِ الْعَصَبَاتُ ، كَوِلَايَةِ النِّكَاحِ .
وَهَذَا أَحَدُ الْوُجُوهِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ .
وَمَتَى ثَبَتَ لِلْعَصَبَاتِ ، فَلَهُمْ اسْتِيفَاؤُهُ .
وَإِنْ طَلَبَ أَحَدُهُمْ وَحْدَهُ ، فَلَهُ اسْتِيفَاؤُهُ .
وَإِنْ عَفَى بَعْضُهُمْ ، لَمْ يَسْقُطْ ، وَكَانَ لِلْبَاقِينَ اسْتِيفَاؤُهُ .
وَلَوْ بَقِيَ وَاحِدٌ ، كَانَ لَهُ اسْتِيفَاءُ جَمِيعِهِ ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ يُرَادُ لِلرَّدْعِ وَالزَّجْرِ ، فَلَمْ يَتَبَعَّضْ ، كَسَائِرِ الْحُدُودِ ، وَلَا يَسْقُطُ بِإِسْقَاطِ الْبَعْضِ ؛ لِأَنَّهُ يُرَادُ لِدَفْعِ الْعَارِ عَنْ الْمَقْذُوفِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَصَبَاتِ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي اسْتِيفَائِهِ ، فَيَثْبُتُ لَهُ جَمِيعُهُ ، كَوِلَايَةِ النِّكَاحِ ، وَيُفَارِقُ حَقَّ الْقِصَاصِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَفُوتُ إلَى بَدَلٍ ، وَلَوْ أَسْقَطْنَاهُ هَاهُنَا ، لَسَقَطَ حَقُّ غَيْرِ الْعَافِي إلَى غَيْرِ بَدَلٍ .
فَعَلَى هَذَا ، لَوْ قَذَفَ امْرَأَتَهُ فَمَاتَتْ بَعْدَ الْمُطَالَبَةِ ، وَلَهَا أَحَدٌ مِنْ عَصَبَاتهَا غَيْرُهُ ، فَلَهُ اسْتِيفَاؤُهُ ، وَإِنْ كَانَ زَوْجُهَا عَصَبَتَهَا ، وَلَيْسَ لَهَا

أَحَدٌ سِوَاهُ ، سَقَطَ .
وَإِنْ كَانَ لَهَا مِنْ عَصَبَتهَا غَيْرُهُ ، فَلَهُ الطَّلَبُ بِهِ ، وَلَا يَسْقُطُ ؛ بِمَا ذَكَرْنَا ، مِنْ أَنَّهُ يَكْمُلُ لِكُلِّ وَاحِدٍ ، بِخِلَافِ الْقِصَاصِ .

( 6254 ) فَصْلٌ : وَإِذَا قَذَفَ امْرَأَتَهُ ، وَلَهُ بَيِّنَةٌ ، تَشْهَدُ بِزِنَاهَا ، فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ لِعَانِهَا وَبَيْنَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ ؛ لِأَنَّهُمَا بَيِّنَتَانِ ، فَكَانَتْ لَهُ الْخِيرَةُ فِي إقَامَةِ أَيَّتِهِمَا شَاءَ ، كَمَنْ لَهُ بِدَيْنٍ شَاهِدَانِ وَشَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا يَحْصُلُ بِهَا مَا لَا يَحْصُلُ بِالْأُخْرَى ، فَإِنَّهُ يَحْصُلُ بِاللِّعَانِ نَفْيُ النَّسَبِ الْبَاطِلِ ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ ، وَيَحْصُلُ بِالْبَيِّنَةِ ثُبُوتُ زِنَاهَا ، وَإِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْهَا ، وَلَا يَحْصُلُ بِاللِّعَانِ ، فَإِنْ لَاعَنَهَا وَنَفَى وَلَدَهَا ، ثُمَّ أَرَادَ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ ، فَلَهُ ذَلِكَ ، فَإِذَا أَقَامَهَا ، ثَبَتَ مُوجَبُ اللِّعَانِ وَمُوجَبُ الْبَيِّنَةِ ، وَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَوَّلًا ، ثَبَتَ الزِّنَا وَمُوجَبُهُ ، وَلَمْ يَنْتَفِ عَنْهُ الْوَلَدُ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ الزِّنَا كَوْنُ الْوَلَدِ مِنْهُ .
وَإِنْ أَرَادَ لِعَانَهَا بَعْدَ ذَلِكَ ، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ يُرِيدُ نَفْيَهُ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ قَدْ انْتَفَى عَنْهُ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ ، فَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ يُرِيدُ نَفْيَهُ ، فَعَلَى قَوْلِ الْقَاضِي ، لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِيمَا مَضَى .

( 6255 ) فَصْلٌ : وَإِنْ قَذَفَهَا ، فَطَالَبَتْهُ بِالْحَدِّ ، فَأَقَامَ شَاهِدَيْنِ عَلَى إقْرَارِهَا بِالزِّنَا ، سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ تَصْدِيقُهَا إيَّاهُ ، وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا الْحَدُّ ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ لَا يَجِبُ إلَّا بِالْإِقْرَارِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ ، وَيَسْقُطُ بِالرُّجُوعِ عَنْ الْإِقْرَارِ ، وَهَلْ يَثْبُتُ الْإِقْرَارُ بِالزِّنَا بِشَاهِدَيْنِ ؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ : فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا ، يَثْبُتُ بِشَاهِدَيْنِ ، كَسَائِرِ الْأَقَارِيرِ .
وَاخْتَارَهُ .
وَالثَّانِي ، لَا يَثْبُتُ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِهِ الْمُقَرُّ بِهِ ، فَلَا يَثْبُتُ بِهِ الْإِقْرَارُ بِهِ ، كَرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ .
وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ ، فَقَالَ : لِي بَيِّنَةٌ غَائِبَةٌ ، أُقِيمُهَا عَلَى الزِّنَا .
أُمْهِلَ الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَرِيبٌ ، فَإِنْ أَتَى بِالْبَيِّنَةِ ، وَإِلَّا حُدَّ ، إلَّا أَنْ يُلَاعِنَ إذَا كَانَ زَوْجًا .
فَإِنْ قَالَ : قَذَفْتُهَا وَهِيَ صَغِيرَةٌ .
وَقَالَتْ : قَذَفَنِي وَأَنَا كَبِيرَةٌ .
وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً بِمَا قَالَ ، فَهُمَا قَذْفَانِ .
وَكَذَلِكَ إنْ اخْتَلَفَا فِي الْكُفْرِ وَالرِّقِّ أَوْ الْوَقْتِ ؛ لِأَنَّهُ لَا تَنَافِي بَيْنَهُمَا ، إلَّا أَنْ يَكُونَا مُؤَرَّخَيْنِ تَأْرِيخًا وَاحِدًا ، فَيَسْقُطَانِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ، وَفِي الْآخَرِ ، يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا ، فَمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ ، قُدِّمَتْ بَيِّنَتُهُ .

( 6256 ) فَصْلٌ : فَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ قَذَفَ فُلَانَةَ وَقَذَفَنَا .
لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا ؛ لَاعْتِرَافِهِمَا بِعَدَاوَتِهِ لَهُمَا ، وَشَهَادَةُ الْعَدُوِّ لَا تُقْبَلُ عَلَى عَدُوِّهِ .
فَإِنْ أَبْرَآهُ وَزَالَتْ الْعَدَاوَةُ ، ثُمَّ شَهِدَا عَلَيْهِ بِذَلِكَ الْقَذْفِ ، لَمْ تُقْبَلْ ؛ لِأَنَّهَا رُدَّتْ لِلتُّهْمَةِ ، فَلَمْ تُقْبَلْ بَعْدُ ، كَالْفَاسِقِ إذَا شَهِدَ فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ لِفِسْقِهِ ثُمَّ تَابَ وَأَعَادَهَا .
وَلَوْ أَنَّهُمَا ادَّعَيَا عَلَيْهِ أَنَّهُ قَذَفَهُمَا ، ثُمَّ أَبْرَآهُ وَزَالَتْ الْعَدَاوَةُ ، ثُمَّ شَهِدَا عَلَيْهِ بِقَذْفِ زَوْجَتِهِ ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يُرَدَّا فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ .
وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ قَذَفَ امْرَأَتَهُ ، ثُمَّ ادَّعَيَا بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ قَذَفَهُمَا ، فَإِنْ أَضَافَا دَعْوَاهُمَا إلَى مَا قَبْلَ شَهَادَتِهِمَا ، بَطَلَتْ شَهَادَتُهُمَا ؛ لَاعْتِرَافِهِمَا أَنَّهُ كَانَ عَدُوًّا لَهُمَا حِينَ شَهِدَا عَلَيْهِ .
وَإِنْ لَمْ يُضِيفَاهَا إلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ ، وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمَا ، لَمْ يُحْكَمْ بِهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِشَهَادَةِ عَدُوَّيْنِ ، وَإِنْ كَانَا بَعْدَ الْحُكْمِ ، لَمْ يَبْطُلْ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ تَمَّ قَبْلَ وُجُودِ الْمَانِعِ ، كَظُهُورِ الْفِسْقِ .
وَإِنْ شَهِدَا أَنَّهُ قَذَفَ امْرَأَتَهُ وَأُمَّنَا ، لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا ؛ لِأَنَّهَا رُدَّتْ فِي الْبَعْضِ لِلتُّهْمَةِ ، فَوَجَبَ أَنْ تُرَدَّ لِلْكُلِّ .
وَإِنْ شَهِدَا عَلَى أَبِيهِمَا أَنَّهُ قَذَفَ ضَرَّةَ أُمِّهِمَا ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ .
وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ : لَا تُقْبَلُ ؛ لِأَنَّهُمَا يَجُرَّانِ إلَى أُمِّهِمَا نَفْعًا ، وَهُوَ أَنَّهُ يُلَاعِنُهَا ، فَتَبِينُ ، وَيَتَوَفَّرُ عَلَى أُمِّهِمَا .
وَلَيْسَ بِشَيْءٍ ، لِأَنَّ لِعَانَهُ لَهَا يَنْبَنِي عَلَى مَعْرِفَتِهِ بِزِنَاهَا ، لَا عَلَى الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ بِمَا لَا يَعْتَرِفُ بِهِ .
وَإِنْ شَهِدَا بِطَلَاقِ الضَّرَّةِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا ، لَا تُقْبَلُ ؛ لِأَنَّهُمَا

يَجُرَّانِ إلَى أُمِّهِمَا نَفْعًا ، وَهُوَ تَوْفِيرُهُ عَلَى أُمِّهِمَا .
وَالثَّانِي ، تُقْبَلُ ، لِأَنَّهُمَا لَا يَجُرَّانِ إلَى أَنْفُسِهِمَا نَفْعًا .

( 6257 ) فَصْلٌ : وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدٌ أَنَّهُ أَقَرَّ بِالْعَرَبِيَّةِ أَنَّهُ قَذَفَهَا ، وَشَهِدَ آخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِذَلِكَ بِالْعَجَمِيَّةِ ، تَمَّتْ الشَّهَادَةُ ، لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَالْعَجَمِيَّةِ عَائِدٌ إلَى الْإِقْرَارِ دُونَ الْقَذْفِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَذْفُ وَاحِدًا وَالْإِقْرَارُ بِهِ فِي مَرَّتَيْنِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَقَرَّ يَوْمَ الْخَمِيسِ بِقَذْفِهَا ، وَشَهْدَ آخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، تَمَّتْ الشَّهَادَةُ ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ .
وَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَذَفَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ قَذَفَهَا بِالْعَجَمِيَّةِ ، أَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَذَفَهَا يَوْمَ الْخَمِيسِ ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ قَذَفَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، أَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ قَذَفَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ أَوْ يَوْمَ الْخَمِيسِ ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ قَذَفَهَا بِالْعَجَمِيَّةِ أَوْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا ، تَكْمُلُ الشَّهَادَةُ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ لَيْسَ ذِكْرُهُ شَرْطًا فِي الشَّهَادَةِ بِالْقَذْفِ ، وَكَذَلِكَ اللِّسَانُ ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ الِاخْتِلَافُ ، كَمَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَقَرَّ بِقَذْفِهَا يَوْمَ الْخَمِيسِ بِالْعَرَبِيَّةِ ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِقَذْفِهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِالْعَجَمِيَّةِ .
وَالْآخَرُ لَا تَكْمُلُ الشَّهَادَةُ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُمَا قَذْفَانِ لَمْ تَتِمَّ الشَّهَادَةُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، فَلَمْ تَثْبُتْ ، كَمَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا يَوْمَ الْخَمِيسِ ، وَشَهْدَ الْآخَرُ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، وَفَارَقَ الْإِقْرَارَ بِالْقَذْفِ ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُقَرُّ بِهِ وَاحِدًا ، أَقَرَّ بِهِ فِي وَقْتَيْنِ بِلِسَانَيْنِ .

( 6258 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( فَمَتَى تَلَاعَنَا وَفَرَّقَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا ، لَمْ يَجْتَمِعَا أَبَدًا ) .
فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَسْأَلَتَانِ : ( 6259 ) الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : أَنَّ الْفُرْقَةَ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِلِعَانِهِمَا جَمِيعًا ، وَهَلْ يُعْتَبَرُ تَفْرِيقُ الْحَاكِمِ بَيْنَهُمَا ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا ، أَنَّهُ مُعْتَبَرٌ فَلَا تَحْصُلُ الْفُرْقَةُ حَتَّى يُفَرِّقَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا .
وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ ، وَقَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ ؛ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي حَدِيثِهِ : فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا .
وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْفُرْقَةَ لَمْ تَحْصُلْ قَبْلَهُ .
وَفِي حَدِيثِ عُوَيْمِرٍ ، قَالَ : كَذَبْت عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنْ أَمْسَكْتهَا .
فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَهَذَا يَقْتَضِي إمْكَانَ إمْسَاكِهَا ، وَأَنَّهُ وَقَعَ طَلَاقُهُ ، وَلَوْ كَانَتْ الْفُرْقَةُ وَقَعَتْ قَبْلَ ذَلِكَ ، لَمَا وَقَعَ طَلَاقُهُ ، وَلَا أَمْكَنَهُ إمْسَاكُهَا .
وَلِأَنَّ سَبَبَ هَذِهِ الْفُرْقَةِ يَقِفُ عَلَى الْحَاكِمِ ، فَالْفُرْقَةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهِ لَمْ تَقَعْ إلَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ ، كَفُرْقَةِ الْعُنَّةِ .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ ، تَحْصُلُ الْفُرْقَةُ بِمُجَرَّدِ لِعَانِهِمَا .
وَهِيَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ ، وَقَوْلُ مَالِكٍ ، وَأَبِي عُبَيْدٍ ، عَنْهُ وَأَبِي ثَوْرٍ ، وَدَاوُد ، وَزُفَرَ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : الْمُتَلَاعِنَانِ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا ، وَلَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا .
رَوَاهُ سَعِيدٌ .
وَلِأَنَّهُ مَعْنًى يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ الْمُؤَبَّدَ ، فَلَمْ يَقِفْ عَلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ ، كَالرَّضَاعِ ، وَلِأَنَّ الْفُرْقَةَ لَوْ لَمْ تَحْصُلْ إلَّا بِتَفْرِيقِ الْحَاكِمِ ، لَسَاغَ تَرْكُ التَّفْرِيقِ إذَا كَرِهَاهُ ، كَالتَّفْرِيقِ لِلْعَيْبِ وَالْإِعْسَارِ ، وَلَوَجَبَ أَنَّ الْحَاكِمَ إذَا لَمْ يُفَرِّقْ

بَيْنَهُمَا ، أَنْ يَبْقَى النِّكَاحُ مُسْتَمِرًّا ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا } .
يَدُلُّ عَلَى هَذَا ، وَتَفْرِيقُهُ بَيْنَهُمَا ، بِمَعْنَى إعْلَامِهِ لَهُمَا بِحُصُولِ الْفُرْقَةِ ، وَعَلَى كِلْتَا الرِّوَايَتَيْنِ ، لَا تَحْصُلُ الْفُرْقَةُ قَبْلَ تَمَامِ اللِّعَانِ مِنْهُمَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : تَحْصُلُ الْفُرْقَةُ بِلِعَانِ الزَّوْجِ وَحْدَهُ ، وَإِنْ لَمْ تَلْتَعِنْ الْمَرْأَةُ ؛ لِأَنَّهَا فُرْقَةٌ حَاصِلَةٌ بِالْقَوْلِ ، فَتَحْصُلُ بِقَوْلِ الزَّوْجِ وَحْدَهُ ، كَالطَّلَاقِ .
وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا وَافَقَ الشَّافِعِيَّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ ، وَحُكِيَ عَنْ الْبَتِّيِّ أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِاللِّعَانِ فُرْقَةٌ ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ الْعَجْلَانِيَّ لَمَّا لَاعَنَ امْرَأَتَهُ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ، فَأَنْفَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ ، لَمَا نَفَذَ طَلَاقُهُ ، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ .
رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ ، وَسَهْلُ بْنُ سَعْدٍ ، وَأَخْرَجَهُمَا مُسْلِمٌ .
وَقَالَ سَهْلٌ : فَكَانَتْ سُنَّةً لِمَنْ كَانَ بَعْدَهُمَا ، أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ .
وَقَالَ عُمَرُ : الْمُتَلَاعِنَانِ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا ، ثُمَّ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا .
وَأَمَّا الْقَوْلُ الْآخَرُ ، فَلَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ إنَّمَا وَرَدَ بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ ، وَلَا يَكُونَانِ مُتَلَاعِنَيْنِ بِلِعَانِ أَحَدِهِمَا ، وَإِنَّمَا فَرَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا بَعْدَ تَمَامِ اللِّعَانِ مِنْهُمَا ، فَالْقَوْلُ بِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ قَبْلَهُ ، تَحَكُّمٌ يُخَالِفُ مَدْلُولَ السُّنَّةِ وَفِعْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَنَّ لَفْظَ اللِّعَانِ لَا يَقْتَضِي فُرْقَةً ؛ فَإِنَّهُ إمَّا أَيْمَانٌ عَلَى زِنَاهَا ، أَوْ شَهَادَةٌ بِذَلِكَ ، وَلَوْلَا وُرُودُ الشَّرْعِ بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا ، لَمْ يَحْصُلْ التَّفْرِيقُ ، وَإِنَّمَا

وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ بَعْدَ لِعَانِهِمَا ، فَلَا يَجُوزُ تَعْلِيقُهُ عَلَى بَعْضِهِ ، كَمَا لَمْ يَجُزْ تَعْلِيقُهُ عَلَى بَعْضِ لِعَانِ الزَّوْجِ ، وَلِأَنَّهُ فَسْخٌ ثَبَتَ بِأَيْمَانِ مُخْتَلِفَيْنِ ، فَلَمْ يَثْبُتْ بِيَمِينِ أَحَدِهِمَا ، كَالْفَسْخِ لِتَحَالُفِ الْمُتَبَايِعَيْنِ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ ، وَيَبْطُلُ مَا ذَكَرُوهُ بِالْفَسْخِ بِالْعَيْبِ أَوْ الْعِتْقِ ، وَقَوْلِ الزَّوْجِ : اخْتَارِي .
وَأَمْرُك بِيَدِك .
أَوْ : وَهَبْتُك لِأَهْلِك أَوْ لِنَفْسِك .
وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ كَثِيرٌ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنْ قُلْنَا : إنَّ الْفُرْقَةَ تَحْصُلُ بِلِعَانِهِمَا .
فَلَا تَحْصُلُ إلَّا بَعْدَ إكْمَالِ اللِّعَانِ مِنْهُمَا .
وَإِنْ قُلْنَا : لَا تَحْصُلُ إلَّا بِتَفْرِيقِ الْحَاكِمِ .
لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا إلَّا بَعْدَ كَمَالِ لِعَانِهِمَا ، فَإِنْ فَرَّقَ قَبْلَ ذَلِكَ كَانَ تَفْرِيقُهُ بَاطِلًا ، وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ حَتَّى يُكْمِلَ الزَّوْجُ لِعَانَهُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : إذَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بَعْدَ أَنْ لَاعَنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، أَخْطَأَ السُّنَّةَ ، وَالْفُرْقَةُ جَائِزَةٌ ، وَإِنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ ، فَالْفُرْقَةُ بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّ مَنْ أَتَى بِالثَّلَاثِ فَقَدْ أَتَى بِالْأَكْثَرِ ، فَيَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِهِ .
وَلَنَا أَنَّهُ تَفْرِيقٌ قَبْلَ تَمَامِ اللِّعَانِ ، فَلَمْ يَصِحَّ ، كَمَا لَوْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا لِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ ، أَوْ قَبْلَ لِعَانِ الْمَرْأَةِ ، وَلِأَنَّهَا أَيْمَانٌ مَشْرُوعَةٌ ، لَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ الْحُكْمُ قَبْلَهَا بِالْإِجْمَاعِ ، فَإِذَا حَكَمَ ، لَمْ يَصِحَّ حُكْمُهُ .
كَأَيْمَانِ الْمُخْتَلِفَيْنِ فِي الْبَيْعِ .
وَكَمَا قَبْلَ الثَّلَاثِ ، وَلِأَنَّ الشَّرْعَ إنَّمَا وَرَدَ بِالتَّفْرِيقِ بَعْدَ كَمَالِ السَّبَبِ فَلَمْ يَجُزْ قَبْلَهُ ، كَسَائِرِ الْأَسْبَابِ ، وَمَا ذَكَرُوهُ تَحَكُّمٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ ، وَلَا أَصْلَ لَهُ ، ثُمَّ يَبْطُلُ بِمَا إذَا شَهِدَ بِالدَّيْنِ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ .
أَوْ بِمَنْ

تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ إذَا أَتَى بِأَكْثَرِ حُرُوفِهَا ، وَبِالْمُسَابِقَةِ إذَا قَالَ : مَنْ سَبَقَ إلَى خَمْسِ إصَابَاتٍ .
فَسَبَقَ إلَى ثَلَاثَةٍ ، وَبِسَائِرِ الْأَسْبَابِ ، فَأَمَّا إذَا تَمَّ اللِّعَانُ فَلِلْحَاكِمِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانِهِمَا ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ ، وَلَمْ يَسْتَأْذِنْهُمَا .
وَرَوَى مَالِكٌ ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، { أَنَّ رَجُلًا لَاعَنَ امْرَأَتَهُ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَانْتَفَى مِنْ وَلَدِهَا ، فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا ، وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالْمَرْأَةِ } .
وَرَوَى سُفْيَانُ ، عَنْ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ ، قَالَ : { شَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَّقَ بَيْن الْمُتَلَاعِنَيْنِ } .
أَخْرَجَهُمَا سَعِيدٌ .
وَمَتَى قُلْنَا : إنَّ الْفُرْقَةَ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِتَفْرِيقِ الْحَاكِمِ .
فَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا ، فَالنِّكَاحُ بَاقٍ بِحَالِهِ ؛ لِأَنَّ مَا يُبْطِلُ النِّكَاحَ لَمْ يُوجَدْ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يُلَاعِنْ .

( 6260 ) فَصْلٌ : وَفُرْقَةُ اللِّعَانِ فَسْخٌ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : هِيَ طَلَاقٌ ؛ لِأَنَّهَا فُرْقَةٌ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ ، تَخْتَصُّ النِّكَاحَ ، فَكَانَتْ طَلَاقًا ، كَالْفُرْقَةِ بِقَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ .
وَلَنَا أَنَّهَا فُرْقَةٌ تُوجِبُ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا ، فَكَانَتْ فَسْخًا ، كَفُرْقَةِ الرَّضَاعِ ، وَلِأَنَّ اللِّعَانَ لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي الطَّلَاقِ ، وَلَا نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ ، فَلَمْ يَكُنْ طَلَاقًا ، كَسَائِرِ مَا يَنْفَسِخُ بِهِ النِّكَاحُ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ طَلَاقًا ، لَوَقَعَ بِلِعَانِ الزَّوْجِ دُونَ لِعَانِ الْمَرْأَةِ .

( 6261 ) فَصْلٌ : وَذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ ، أَنَّ الْفُرْقَةَ إنَّمَا حَصَلَتْ بِاللِّعَانِ ؛ لِأَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ وَغَضَبَهُ قَدْ وَقَعَ بِأَحَدِهِمَا لَتَلَاعُنِهِمَا ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ عِنْدَ الْخَامِسَةِ : { إنَّهَا الْمُوجِبَةُ } .
أَيْ إنَّهَا تُوجِبُ لَعْنَةَ اللَّهِ وَغَضَبَهُ ، وَلَا نَعْلَمُ مَنْ هُوَ مِنْهُمَا يَقِينًا ، فَفَرَّقْنَا بَيْنَهُمَا خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَلْعُونَ ، فَيَعْلُوَ امْرَأَةً غَيْرَ مَلْعُونَةٍ ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْلُوَ الْمُسْلِمَةَ كَافِرٌ ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ عَلَى هَذَا : لَوْ كَانَ هَذَا الِاحْتِمَالُ مَانِعًا مِنْ دَوَامِ نِكَاحِهِمَا ، لَمَنَعَهُ مِنْ نِكَاحِ غَيْرِهَا ، فَإِنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ مُتَحَقِّقٌ فِيهِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُوجِبُ لِلْفُرْقَةِ وُقُوعَ اللَّعْنَةِ وَالْغَضَبِ بِأَحَدِهِمَا غَيْرَ مُعَيَّنٍ ، فَيُفْضِي إلَى عُلُوِّ مَلْعُونٍ لِغَيْرِ مَلْعُونَةٍ ، أَوْ إلَى إمْسَاكِهِ لِمَلْعُونَةٍ مَغْضُوبٍ عَلَيْهَا .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّ سَبَبَ الْفُرْقَةِ النَّفْرَةُ الْحَاصِلَةُ مِنْ إسَاءَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى صَاحِبِهِ ، فَإِنَّ الرَّجُلَ إنْ كَانَ صَادِقًا ، فَقَدْ أَشَاعَ فَاحِشَتَهَا ، وَفَضَحَهَا عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ ، وَأَقَامَهَا مُقَامَ خِزْيٍ ، وَحَقَّقَ عَلَيْهَا اللَّعْنَةَ وَالْغَضَبَ ، وَقَطَعَ نَسَبَ وَلَدِهَا ، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا ، فَقَدْ أَضَافَ إلَى ذَلِكَ بَهْتَهَا وَقَذْفَهَا بِهَذِهِ الْفِرْيَةِ الْعَظِيمَةِ ، وَالْمَرْأَةُ إنْ كَانَتْ صَادِقَةً ، فَقَدْ أَكْذَبَتْهُ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ ، وَأَوْجَبَتْ عَلَيْهِ لَعْنَةَ اللَّهِ ، وَإِنْ كَانَتْ كَاذِبَةً ، فَقَدْ أَفْسَدَتْ فِرَاشَهُ ، وَخَانَتْهُ فِي نَفْسِهَا ، وَأَلْزَمَتْهُ الْعَارَ وَالْفَضِيحَةَ ، وَأَحْوَجَتْهُ إلَى هَذَا الْمَقَامِ الْمُخْزِي ، فَحَصَلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَفْرَةً مِنْ صَاحِبِهِ ، لِمَا حَصَلَ إلَيْهِ مِنْ إسَاءَةٍ لَا يَكَادُ يَلْتَئِمُ لَهُمَا مَعَهَا حَالٌ ، فَاقْتَضَتْ حِكْمَةُ الشَّارِعِ انْحِتَامَ الْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا ، وَإِزَالَةَ الصُّحْبَةِ الْمُتَمَحِّضَةِ

مَفْسَدَةً ، وَلِأَنَّهُ إنْ كَانَ كَاذِبًا عَلَيْهَا ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُسَلَّطَ عَلَى إمْسَاكِهَا ، مَعَ مَا صَنَعَ مِنْ الْقَبِيحِ إلَيْهَا ، وَإِنْ كَانَ صَادِقًا ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُمْسِكَهَا مَعَ عِلْمِهِ بِحَالِهَا ، وَلِهَذَا قَالَ الْعَجْلَانِيُّ : كَذَبْت عَلَيْهَا إنْ أَمْسَكْتهَا .

( 6262 ) الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ، أَنَّهَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ بِاللِّعَانِ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا ، فَلَا تَحِلُّ لَهُ ، وَإِنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ ، فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ .
وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ ، فِي أَنَّهُ إذَا لَمْ يُكْذِبْ نَفْسَهُ لَا تَحِلُّ لَهُ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ قَوْلًا شَاذًّا ، وَأَمَّا إذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ ، فَاَلَّذِي رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهَا لَا تَحِلُّ لَهُ أَيْضًا .
وَجَاءَتْ الْأَخْبَارُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، أَنَّ الْمُتَلَاعِنَيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا .
وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ ، وَعَطَاءٌ ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَالْحَكَمُ ، وَمَالِكٌ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو عُبَيْدٍ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَأَبُو يُوسُفَ .
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى : إنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ ، حَلَّتْ لَهُ ، وَعَادَ فِرَاشُهُ بِحَالِهِ .
وَهِيَ رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ .
شَذَّ بِهَا حَنْبَلٌ عَنْ أَصْحَابِهِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : لَا نَعْلَمُ أَحَدًا رَوَاهَا غَيْرَهُ .
وَيَنْبَغِي أَنْ تُحْمَلَ هَذِهِ الرِّوَايَةُ عَلَى مَا إذَا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا الْحَاكِمُ ، فَأَمَّا مَعَ تَفْرِيقِ الْحَاكِمِ بَيْنَهُمَا ، فَلَا وَجْهَ لِبَقَاءِ النِّكَاحِ بِحَالِهِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَ الْبَتِّيِّ ، أَنَّ اللِّعَانَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فُرْقَةٌ .
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ : إنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ ، فَهُوَ خَاطِبٌ مِنْ الْخُطَّابِ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ ؛ لِأَنَّ فُرْقَةَ اللِّعَانِ عِنْدَهُمَا طَلَاقٌ .
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : إنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ ، رُدَّتْ إلَيْهِ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ .
وَلَنَا مَا رَوَى سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ ، قَالَ : مَضَتْ السُّنَّةُ فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا ، ثُمَّ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا .
رَوَاهُ الْجُوزَجَانِيُّ ، فِي كِتَابِهِ بِإِسْنَادِهِ .
وَرُوِيَ مِثْلُ هَذَا عَنْ الزُّهْرِيِّ وَمَالِكٍ ، وَلِأَنَّهُ تَحْرِيمٌ لَا يَرْتَفِعُ قَبْلَ الْحَدِّ وَالتَّكْذِيبِ

، فَلَمْ يَرْتَفِعْ بِهِمَا ، كَتَحْرِيمِ الرَّضَاعِ .

( 6263 ) فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَتْ أَمَةً ، فَاشْتَرَاهَا مُلَاعِنُهَا ، لَمْ تَحِلَّ لَهُ ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَهَا تَحْرِيمٌ مُؤَبَّدٌ ، فَحَرُمَتْ بِهِ عَلَى مُشْتَرِيهَا ، كَالرَّضَاعِ ، وَلِأَنَّ الْمُطَلِّقَ ثَلَاثًا إذَا اشْتَرَى مُطَلَّقَتَهُ ، لَا تَحِلُّ لَهُ قَبْلَ زَوْجٍ وَإِصَابَةٍ ، فَهَاهُنَا أَوْلَى ؛ لِأَنَّ هَذَا التَّحْرِيمَ مُؤَبَّدٌ ، وَتَحْرِيمُ الطَّلَاقِ لَيْسَ بِمُؤَبَّدٍ ، وَلِأَنَّ تَحْرِيمَ الطَّلَاقِ يَخْتَصُّ النِّكَاحَ ، وَهَذَا لَا يَخْتَصُّ بِهِ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .

( 6264 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( فَإِنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ ، فَلَهَا عَلَيْهِ الْحَدُّ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا قَذَفَ امْرَأَتَهُ ، ثُمَّ أَكْذَبَ نَفْسَهُ ، فَلَهَا عَلَيْهِ الْحَدُّ ، سَوَاءٌ أَكْذَبَهَا قَبْلَ لِعَانِهَا أَوْ بَعْدَهُ .
وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ، وَأَبِي ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ ، وَلَا نَعْلَمُ لَهُمْ مُخَالِفًا ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللِّعَانَ أُقِيمَ مُقَامَ الْبَيِّنَةِ فِي حَقِّ الزَّوْجِ ، فَإِذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ بَانَ أَنَّ لِعَانَهَا كَذِبٌ ، وَزِيَادَةٌ فِي هَتْكِهَا ، وَتَكْرَارٌ لِقَذْفِهَا ، فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَجِبَ الْحَدُّ الَّذِي كَانَ وَاجِبًا بِالْقَذْفِ الْمُجَرَّدِ .
فَإِنْ عَادَ عَنْ إكْذَابِ نَفْسِهِ ، وَقَالَ : لِي بَيِّنَةٌ أُقِيمُهَا بِزِنَاهَا .
أَوْ أَرَادَ إسْقَاطَ الْحَدِّ عَنْهُ بِاللِّعَانِ ، لَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ وَاللِّعَانَ لِتَحْقِيقِ مَا قَالَهُ ، وَقَدْ أَقَرَّ بِكَذِبِ نَفْسِهِ ، فَلَا يُسْمَعُ مِنْهُ خِلَافُهُ ، وَهَذَا فِيمَا إذَا كَانَتْ الْمَقْذُوفَةُ مُحْصَنَةً ، فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُحْصَنَةٍ ، فَعَلَيْهِ التَّعْزِيرُ .

( 6265 ) فَصْلٌ : وَيَلْحَقُهُ نَسَبُ الْوَلَدِ ، سَوَاءٌ كَانَ الْوَلَدُ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا ، غَنِيًّا كَانَ أَوْ فَقِيرًا .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ .
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ : إذَا اسْتَلْحَقَ الْوَلَدَ الْمَيِّتَ نَظَرْنَا ؛ فَإِنْ كَانَ ذَا مَالٍ ، لَمْ يَلْحَقْهُ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَدَّعِي مَالًا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَا مَالٍ ، لَحِقَهُ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ : إنْ كَانَ الْوَلَدُ الْمَيِّتُ تَرَكَ وَلَدًا ، ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْ الْمُسْتَلْحِقِ ، وَتَبِعَهُ نَسَبُ ابْنِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَرَكَ وَلَدًا ، لَمْ يَصِحَّ اسْتِلْحَاقُهُ ، وَلَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ ، وَلَا يَرِثُ مِنْهُ الْمُدَّعِي شَيْئًا ؛ لِأَنَّ نَسَبَهُ مُنْقَطِعٌ بِالْمَوْتِ ، فَلَمْ يَصِحَّ اسْتِلْحَاقُهُ ، فَإِذَا كَانَ لَهُ وَلَدٌ كَانَ مُسْتَلْحِقًا لِوَلَدِهِ ، وَتَبِعَهُ نَسَبُ الْمَيِّتِ .
وَلَنَا أَنَّ هَذَا وَلَدٌ نَفَاهُ بِاللِّعَانِ ، فَكَانَ لَهُ اسْتِلْحَاقُهُ ، كَمَا لَوْ كَانَ حَيًّا ، أَوْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ ، وَلِأَنَّ وَلَدَ الْوَلَدِ يَتْبَعُ نَسَبَ الْوَلَدِ ، وَقَدْ جَعَلَ أَبُو حَنِيفَةَ نَسَبَ الْوَلَدِ تَابِعًا لِنَسَبِ ابْنِهِ ، فَجَعَلَ الْأَصْلَ تَابِعًا لِلْفَرْعِ ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ .
فَأَمَّا قَوْلُ الثَّوْرِيِّ : إنَّهُ إنَّمَا يَدَّعِي مَالًا .
قُلْنَا : إنَّمَا يَدَّعِي النَّسَبَ وَالْمِيرَاثَ ، وَالْمَالُ تَبَعٌ لَهُ .
فَإِنْ قِيلَ : فَهُوَ مُتَّهَمٌ فِي أَنَّ غَرَضَهُ حُصُولُ الْمِيرَاثِ .
قُلْنَا : إنَّ النَّسَبَ لَا تَمْنَعُ التُّهْمَةُ لُحُوقَهُ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ أَخٌ يُعَادِيهِ ، فَأَقَرَّ بِابْنٍ ، لَزِمَهُ ، وَسَقَطَ مِيرَاثُ أَخِيهِ ، وَلَوْ كَانَ الِابْنُ حَيًّا وَهُوَ غَنِيٌّ ، وَالْأَبُ فَقِيرٌ ، فَاسْتَلْحَقَهُ ، فَهُوَ مُتَّهَمٌ فِي إيجَابِ نَفَقَتِهِ عَلَى ابْنِهِ ، وَيُقْبَلُ قَوْلُهُ ، فَكَذَلِكَ هَاهُنَا ، ثُمَّ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَثْبُتَ النَّسَبُ هَاهُنَا ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لِلْوَلَدِ ، وَلَا تُهْمَةَ فِيهِ ، وَلَا يَثْبُتُ الْمِيرَاثُ الْمُخْتَصُّ بِالتُّهْمَةِ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ انْقِطَاعِ التَّبَعِ انْقِطَاعُ الْأَصْلِ .
قَالَ الْقَاضِي : وَيَتَعَلَّقُ بِاللِّعَانِ أَرْبَعَةُ

أَحْكَامٍ : حَقَّانِ عَلَيْهِ ، وُجُوبُ الْحَدِّ ، وَلُحُوقُ النَّسَبِ .
وَحَقَّانِ لَهُ : الْفُرْقَةُ ، وَالتَّحْرِيمُ الْمُؤَبَّدُ ، فَإِذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ ، قُبِلَ قَوْلُهُ فِيمَا عَلَيْهِ ، فَلَزِمَهُ الْحَدُّ وَالنَّسَبُ ، وَلَمْ يُقْبَلْ فِيمَا لَهُ ، فَلَمْ تَزُلْ الْفُرْقَةُ ، وَلَا التَّحْرِيمُ الْمُؤَبَّدُ .

( 6266 ) فَصْلٌ : فَإِنْ لَمْ يُكْذِبْ نَفْسَهُ ، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ ، وَلَا لَاعَنَ ، أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ .
فَإِنْ أُقِيمَ عَلَيْهِ بَعْضَهُ ، فَبَذَلَ اللِّعَانَ ، وَقَالَ : أَنَا أُلَاعِنُ .
قُبِلَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ يُسْقِطُ جَمِيعَ الْحَدِّ ، فَيُسْقِطُ بَعْضَهُ ، كَالْبَيِّنَةِ .
فَإِنْ ادَّعَتْ زَوْجَتُهُ أَنَّهُ قَذَفَهَا بِالزِّنَا ، فَأَنْكَرَ ، فَأَقَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةً أَنَّهُ قَذَفَهَا بِالزِّنَا ، فَقَالَ : صَدَقَتْ الْبَيِّنَةُ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ قَذْفًا ؛ لِأَنَّ الْقَذْفَ الرَّمْيُ بِالزِّنَا كَذِبًا ، وَأَنَا صَادِقٌ فِيمَا رَمَيْتهَا بِهِ .
لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إكْذَابًا لِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ مُصِرٌّ عَلَى رَمْيِهَا بِالزِّنَا ، وَلَهُ إسْقَاطُ الْحَدِّ بِاللِّعَانِ .
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْفَصْلِ كَمَذْهَبِنَا .
فَإِنْ قَالَ : مَا زَنَتْ ، وَلَا رَمَيْتهَا بِالزِّنَا .
فَقَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ بِقَذْفِهَا ، لَزِمَهُ الْحَدُّ ، وَلَمْ تُسْمَعْ بَيِّنَتُهُ وَلَا لِعَانُهُ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ : مَا زَنَتْ .
تَكْذِيبٌ لِلْبَيِّنَةِ وَاللِّعَانِ ، فَلَا تَثْبُتُ لَهُ حُجَّةٌ قَدْ أَكْذَبَهَا .
وَجَرَى هَذَا مَجْرَى قَوْلِهِ فِي الْوَدِيعَةِ إذَا اُدُّعِيَتْ عَلَيْهِ ، فَقَالَ : مَا أَوْدَعْتَنِي .
فَقَامَتْ : عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ الْوَدِيعَةِ ، فَادَّعَى الرَّدَّ أَوْ التَّلَفَ ، لَمْ يُقْبَلْ .
وَلَوْ أَجَابَ بِأَنَّهُ مَا لَهُ عِنْدِي شَيْءٌ .
وَلَا يَسْتَحِقُّ عَلَيَّ شَيْئًا .
فَقَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ فَادَّعَى الرَّدّ أَوْ التَّلَفَ ، قُبِلَ مِنْهُ .

( 6267 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( وَإِنْ قَذَفَهَا ، وَانْتَفَى مِنْ وَلَدِهَا ، وَتَمَّ اللِّعَانُ بَيْنَهُمَا بِتَفْرِيقِ الْحَاكِمِ ، نُفِيَ عَنْهُ ، إذَا ذَكَرَهُ فِي اللِّعَانِ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الزَّوْجَ إذَا وَلَدْت امْرَأَتُهُ وَلَدًا يُمْكِنُ كَوْنُهُ مِنْهُ ، فَهُوَ وَلَدُهُ فِي الْحُكْمِ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ } .
وَلَا يَنْتَفِي عَنْهُ إلَّا أَنْ يَنْفِيَهُ بِاللِّعَانِ التَّامِّ ، الَّذِي اجْتَمَعَتْ شُرُوطُهُ ، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ : أَحَدُهَا ، أَنْ يُوجَدَ اللِّعَانُ مِنْهُمَا جَمِيعًا .
وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَنْتَفِي بِلِعَانِ الزَّوْجِ وَحْدَهُ ؛ لِأَنَّ نَفْيَ الْوَلَدِ إنَّمَا كَانَ بِيَمِينِهِ وَالْتِعَانِهِ ، لَا بِيَمِينِ الْمَرْأَةِ عَلَى تَكْذِيبِهِ ، وَلَا مَعْنَى لِيَمِينِ الْمَرْأَةِ فِي نَفْيِ النَّسَبِ ، وَهِيَ تُثْبِتُهُ وَتُكَذِّبُ قَوْلَ مَنْ يَنْفِيهِ ، وَإِنَّمَا لِعَانُهَا لِدَرْءِ الْحَدِّ عَنْهَا ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَيَدْرَءُوا عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ إنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ } .
وَلَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا نَفَى الْوَلَدَ عَنْهُ بَعْدَ تَلَاعُنِهِمَا ، فَلَا يَجُوزُ النَّفْيُ بِبَعْضِهِ ، كَبَعْضِ لِعَانِ الزَّوْجِ .
وَالثَّانِي : أَنْ تَكْمُلَ أَلْفَاظُ اللِّعَانِ مِنْهُمَا جَمِيعًا .
الشَّرْطُ الثَّالِثُ ، أَنْ يَبْدَأَ بِلِعَانِ الزَّوْجِ قَبْلَ الْمَرْأَةِ ، فَإِنْ بَدَأَ بِلِعَانِ الْمَرْأَةِ لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ .
وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَقَالَ مَالِكٌ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ : إنْ فَعَلَ أَخْطَأَ السُّنَّةَ ، وَالْفُرْقَةُ جَائِزَةٌ ، وَيَنْتَفِي الْوَلَدُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَطَفَ لِعَانِهَا عَلَى لِعَانِهِ بِالْوَاوِ ، وَهِيَ لَا تَقْتَضِي تَرْتِيبًا ، وَلِأَنَّ اللِّعَانَ قَدْ وُجِدَ مِنْهُمَا جَمِيعًا ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ رَتَّبَتْ .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ ، لَا يَتِمُّ اللِّعَانُ إلَّا بِالتَّرْتِيبِ ، إلَّا أَنَّهُ يَكْفِي عِنْدَهُ لِعَانُ الرَّجُلِ وَحْدَهُ لِنَفْيِ

الْوَلَدِ ، وَذَلِكَ حَاصِلٌ مَعَ إخْلَالِهِ بِالتَّرْتِيبِ ، وَعَدَمِ كَمَالِ أَلْفَاظِ اللِّعَانِ مِنْ الْمَرْأَةِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ أَتَى بِاللِّعَانِ عَلَى غَيْرِ مَا وَرَدَ بِهِ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ ، فَلَمْ يَصِحَّ ، كَمَا لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى لَفْظَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَلِأَنَّ لِعَانَ الرَّجُلِ بَيِّنَتُهُ لِإِثْبَاتِ زِنَاهَا وَنَفْيِ وَلَدِهَا ، وَلِعَانَ الْمَرْأَةِ لِلْإِنْكَارِ ، فَقُدِّمَتْ بَيِّنَةُ الْإِثْبَاتِ ، كَتَقْدِيمِ الشُّهُودِ عَلَى الْأَيْمَانِ ، وَلِأَنَّ لِعَانِ الْمَرْأَةِ لِدَرْءِ الْعَذَابِ عَنْهَا ، وَلَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهَا ذَلِكَ إلَّا بِلِعَانِ الرَّجُلِ ، فَإِذَا قَدَّمَتْ لِعَانَهَا عَلَى لِعَانِهِ ، فَقَدْ قَدَّمَتْهُ عَلَى وَقْتِهِ ، فَلَمْ يَصِحَّ ، كَمَا لَوْ قَدَّمَتْهُ عَلَى الْقَذْفِ .
الشَّرْطُ الرَّابِعُ : أَنْ يَذْكُرَ نَفْيَ الْوَلَدِ فِي اللِّعَانِ ، فَإِذَا لَمْ يَذْكُرْ ، لَمْ يَنْتَفِ ، إلَّا أَنْ يُعِيدَ اللِّعَانَ وَيَذْكُرَ نَفْيَهُ .
وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ ، وَاخْتِيَارُ الْقَاضِي ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَلَا يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِ الْوَلَدِ وَنَفْيِهِ ، وَيَنْتَفِي بِزَوَالِ الْفِرَاشِ ؛ وَلِأَنَّ حَدِيثَ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ ، الَّذِي وَصَفَ فِيهِ اللِّعَانَ ، لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الْوَلَدَ ، وَقَالَ فِيهِ : فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا ، وَقَضَى أَنْ لَا يُدْعَى وَلَدُهَا لِأَبٍ ، وَلَا يُرْمَى وَلَدُهَا .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَفِي حَدِيثٍ رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ، أَنَّ { رَجُلًا لَاعَنَ امْرَأَتَهُ عَلَى عَهْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفَرَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا ، وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِأُمِّهِ } .
وَلَنَا ، أَنَّ مَنْ سَقَطَ حَقُّهُ بِاللِّعَانِ ، كَانَ ذِكْرُهُ شَرْطًا ، كَالْمَرْأَةِ ، وَلِأَنَّ غَايَةَ مَا فِي اللِّعَانِ أَنْ يُثْبِتَ زِنَاهَا ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ نَفْيَ الْوَلَدِ ، كَمَا لَوْ أَقَرَّتْ بِهِ ، أَوْ قَامَتْ بِهِ بَيِّنَةٌ ، فَأَمَّا حَدِيثُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ ، فَقَدْ رُوِيَ فِيهِ : وَكَانَتْ حَامِلًا ، فَأَنْكَرَ

حَمْلَهَا .
مِنْ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ .
وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ { رَجُلًا لَاعَنَ امْرَأَتَهُ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَانْتَفَى مِنْ وَلَدِهَا ، فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا ، وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالْمَرْأَةِ } .
وَالزِّيَادَةُ مِنْ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ .
فَعَلَى هَذَا ، لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الْوَلَدِ فِي كُلِّ لَفْظَةٍ ، وَمَعَ اللَّعْنِ فِي الْخَامِسَةِ ؛ لِأَنَّهَا مِنْ لَفْظَاتِ اللِّعَانِ .
وَذَكَرَ الْخِرَقِيِّ شَرْطًا خَامِسًا ، وَهُوَ تَفْرِيقُ الْحَاكِمِ بَيْنَهُمَا .
وَهَذَا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تَشْتَرِطُ تَفْرِيقَ الْحَاكِمِ لِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ ، فَأَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى ، فَلَا يُشْتَرَطُ تَفْرِيقُ الْحَاكِمِ لِنَفْيِ الْوَلَدِ ، كَمَا لَا يُشْتَرَطُ لِدَرْءِ الْحَدِّ عَنْهُ ، وَلَا لِفَسْخِ النِّكَاحِ .
وَشَرَطَ أَيْضًا شَرْطًا سَادِسًا ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَدْ قَذَفَهَا .
وَهَذَا شَرْطُ اللِّعَانِ ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الْقَذْفِ ، وَسَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

( 6268 ) فَصْلٌ : وَإِنْ وَلَدْت امْرَأَتُهُ تَوْأَمَانٍ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا دُونَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ .
فَاسْتَلْحَقَ أَحَدَهُمَا ، وَنَفَى الْآخَرَ ، لَحِقَا بِهِ ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ الْوَاحِدَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُ مِنْهُ وَبَعْضُهُ مِنْ غَيْرِهِ ، فَإِذَا ثَبَتَ نَسَبُ أَحَدِهِمَا مِنْهُ ، ثَبَتَ نَسَبُ الْآخَرِ ضَرُورَةً ، فَجَعَلْنَا مَا نَفَاهُ تَابِعًا لِمَا اسْتَلْحَقَهُ ، وَلَمْ نَجْعَلْ مَا أَقَرَّ بِهِ تَابِعًا لِمَا نَفَاهُ ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ يُحْتَاطُ لِإِثْبَاتِهِ لَا لِنَفْيِهِ ، وَلِهَذَا لَوْ أَتَتْ امْرَأَتُهُ بِوَلَدٍ يُمْكِن كَوْنُهُ مِنْهُ ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِهِ ، أَلْحَقْنَاهُ بِهِ احْتِيَاطًا ، وَلَمْ نَقْطَعْهُ عَنْهُ احْتِيَاطًا لِنَفْيِهِ .
فَإِنْ كَانَ قَدْ قَذَفَ أُمَّهُمَا وَطَالَبَتْهُ بِالْحَدِّ ، فَلَهُ إسْقَاطُهُ بِاللِّعَانِ .
وَحُكِيَ عَنْ الْقَاضِي ، أَنَّهُ يُحَدُّ ، وَلَا يَمْلِكُ إسْقَاطَهُ بِاللِّعَانِ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ بِاسْتِلْحَاقِهِ اعْتَرَفَ بِكَذِبِهِ فِي قَذْفِهِ ، فَلَمْ يُسْمَعْ إنْكَارُهُ بَعْدَ ذَلِكَ .
وَوَجْهُ الْأَوَّلِ ، أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْوَلَدِ مِنْهُ ، انْتِفَاءُ الزِّنَا عَنْهَا ، كَمَا لَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ الزِّنَا مِنْهَا كَوْنُ الْوَلَدِ مِنْهُ ، وَلِذَلِكَ لَوْ أَقَرَّتْ بِالزِّنَا ، أَوْ قَامَتْ بِهِ بَيِّنَةٌ ، لَمْ يَنْتَفِ الْوَلَدُ عَنْهُ ، فَلَا تَنَافِي بَيْنَ لِعَانِهِ وَبَيْنَ اسْتِلْحَاقِهِ لِلْوَلَدِ .
وَإِنْ اسْتَلْحَقَ أَحَدَ التَّوْأَمَيْنِ وَسَكَتَ عَنْ الْآخَرِ ، لَحِقَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نَفَاهُ لَلَحِقَهُ ، فَإِذَا سَكَتَ عَنْهُ كَانَ أَوْلَى ، وَلِأَنَّ امْرَأَتَهُ مَتَى أَتَتْ بِوَلَدٍ ، لَحِقَهُ مَا لَمْ يَنْفِهِ عَنْهُ بِاللِّعَانِ .
وَإِنْ نَفَى أَحَدَهُمَا ، وَسَكَتَ عَنْ الْآخَرِ ، لَحِقَاهُ جَمِيعًا .
فَإِنْ قِيلَ : أَلَا نَفَيْتُمْ الْمَسْكُوتَ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ نَفَى أَخَاهُ ، وَهُمَا حَمْلٌ وَاحِدٌ ؟ قُلْنَا لُحُوقُ النَّسَبِ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّغْلِيبِ ، وَهُوَ يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ الْإِمْكَانِ ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَثْبُتْ الْوَطْءُ ، وَلَا يَنْتَفِي الْإِمْكَانُ لِلنَّفْيِ ،

فَافْتَرَقَا .
فَإِنْ أَتَتْ بِوَلَدٍ ، فَنَفَاهُ ، وَلَاعَنَ لِنَفْيِهِ ، ثُمَّ وَلَدَتْ آخَرَ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ، لَمْ يَنْتَفِ الثَّانِي بِاللِّعَانِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ تَنَاوَلَ الْأَوَّلَ وَحْدَهُ ، وَيَحْتَاجُ فِي نَفْيِ الثَّانِي إلَى لِعَانٍ ثَانٍ .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ يَنْتَفِي بِنَفْيِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى لِعَانٍ ثَانٍ ؛ لِأَنَّهُمَا حَمْلٌ وَاحِدٌ ، وَقَدْ لَاعَنَ لِنَفْيِهِ مَرَّةً ، فَلَا يَحْتَاجُ إلَى لِعَانٍ ثَانٍ .
ذَكَرَهُ الْقَاضِي .
فَإِنْ أَقَرَّ بِالثَّانِي ، لَحِقَهُ هُوَ وَالْأَوَّلُ ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ ، وَإِنْ سَكَتَ عَنْ نَفْيِهِ ، لَحِقَاهُ أَيْضًا .
فَأَمَّا إنْ نَفَى الْوَلَدَ بِاللِّعَانِ ، ثُمَّ أَتَتْ بِوَلَدٍ آخَرَ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ، فَهَذَا مِنْ حَمْلٍ آخَرَ ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ وَلَدَيْنِ مِنْ حَمْلٍ وَاحِدٍ مُدَّةُ الْحَمْلِ ، وَلَوْ أَمْكَنَ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ مُدَّةَ حَمْلٍ كَامِلٍ .
فَإِنْ نَفَى هَذَا الْوَلَدَ بِاللِّعَانِ انْتَفَى ، وَلَا يَنْتَفِي بِغَيْرِ اللِّعَانِ ؛ لِأَنَّهُ حَمْلٌ مُنْفَرِدٌ ، وَإِنْ اسْتَلْحَقَهُ ، أَوْ تَرَكَ نَفْيَهُ ، لَحِقَهُ وَإِنْ كَانَتْ قَدْ بَانَتْ بِاللِّعَانِ ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَدْ وَطِئَهَا بَعْدَ وَضْعِ الْأَوَّلِ .
وَإِنْ لَاعَنَهَا قَبْلَ وَضْعِ الْأَوَّلِ ، فَأَتَتْ بِوَلَدٍ ، ثُمَّ وَلَدَتْ آخَرَ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ، لَمْ يَلْحَقْهُ الثَّانِي ؛ لِأَنَّهَا بَانَتْ بِاللِّعَانِ ، وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوَضْعِ الْأَوَّلِ ، وَكَانَ حَمْلُهَا الثَّانِي بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا فِي غَيْرِ نِكَاحٍ ، فَلَمْ يَحْتَجْ إلَى نَفْيِهِ .

( 6269 ) فَصْلٌ : وَإِنْ مَاتَ أَحَدُ التَّوْأَمَيْنِ ، أَوْ مَاتَا مَعًا ، فَلَهُ أَنْ يُلَاعِنَ لِنَفْيِ نَسَبِهِمَا .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَلْزَمُهُ نَسَبُ الْحَيِّ ، وَلَا يُلَاعِنُ إلَّا لِنَفْيِ الْحَدِّ ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَصِحُّ نَفْيُهُ بِاللِّعَانِ ، فَإِنَّ نَسَبَهُ قَدْ انْقَطَعَ بِمَوْتِهِ ، فَلَا حَاجَةَ إلَى نَفْيِهِ بِاللِّعَانِ ، كَمَا لَوْ مَاتَتْ امْرَأَتُهُ ، فَإِنَّهُ لَا يُلَاعِنُهَا بَعْدَ مَوْتِهَا ، لِقَطْعِ النِّكَاحِ ، لِكَوْنِهِ قَدْ انْقَطَعَ ، وَإِذَا لَمْ يَنْتَفِ الْمَيِّتُ لَمْ يَنْتَفِ الْحَيُّ ؛ لِأَنَّهُمَا حَمْلٌ وَاحِدٌ .
وَلَنَا أَنَّ الْمَيِّتَ يُنْسَبُ إلَيْهِ ، فَيُقَالُ : ابْنُ فُلَانٍ .
وَيَلْزَمُهُ تَجْهِيزُهُ ، وَتَكْفِينُهُ ، فَكَانَ لَهُ نَفْيُ نَسَبِهِ ، وَإِسْقَاطُ مُؤْنَتِهِ ، كَالْحَيِّ ، وَكَمَا لَوْ كَانَ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ .

( 6270 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( وَإِنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ بَعْدَ ذَلِكَ ، لَحِقَهُ الْوَلَدُ ) .
وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا لَاعَنَ امْرَأَتَهُ ، وَنَفَى وَلَدَهَا ، ثُمَّ أَكْذَبَ نَفْسَهُ ، لَحِقَهُ الْوَلَدُ إذَا كَانَ حَيًّا .
بِغَيْرِ خِلَافٍ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا ، لَحِقَهُ نَسَبُهُ أَيْضًا .
فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، سَوَاءٌ كَانَ لَهُ وَلَدٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ ، وَسَوَاءٌ خَلَّفَ مَالًا أَوْ لَمْ يُخَلِّفْ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّسَبَ حَقٌّ لِلْوَلَدِ ، فَإِذَا أَقَرَّ بِهِ ، لَزِمَهُ ، وَسَوَاءٌ تَقَدَّمَ إنْكَارُهُ لَهُ أَوْ لَمْ يَكُنْ ، وَلِأَنَّ سَبَبَ نَفْيِهِ عَنْهُ نَفْيُهُ لَهُ ، فَإِذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ .
فَقَدْ زَالَ سَبَبُ النَّفْيِ ، وَبَطَلَ ، فَوَجَبَ أَنْ يَلْحَقَهُ نَسَبُهُ بِحُكْمِ النِّكَاحِ الْمُوجِبِ لِلُحُوقِ نَسَبِهِ بِهِ .

( 6271 ) فَصْلٌ : وَالْقَذْفُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : وَاجِبٌ ، وَهُوَ أَنْ يَرَى امْرَأَتَهُ تَزْنِي فِي طُهْرٍ لَمْ يَطَأْهَا فِيهِ ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ اعْتِزَالُهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا ، فَإِذَا أَتَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الزِّنَا ، وَأَمْكَنَهُ نَفْيُهُ عَنْهُ ، لَزِمَهُ قَذْفُهَا ، وَنَفْيُ وَلَدِهَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى الْيَقِينِ فِي أَنَّ الْوَلَدَ مِنْ الزَّانِي ، فَإِذَا لَمْ يَنْفِهِ لَحِقَهُ الْوَلَدُ ، وَوَرِثَهُ ، وَوَرِثَ أَقَارِبَهُ ، وَوَرِثُوا مِنْهُ ، وَنَظَرَ إلَى بَنَاتِهِ وَأَخَوَاتِهِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِجَائِزٍ ، فَيَجِبُ نَفْيُهُ لِإِزَالَةِ ذَلِكَ .
وَلَوْ أَقَرَّتْ بِالزِّنَا ، وَوَقَعَ فِي قَلْبِهِ صِدْقُهَا ، فَهُوَ كَمَا لَوْ رَآهَا .
الثَّانِي - أَنْ يَرَاهَا تَزْنِي ، أَوْ يَثْبُتَ عِنْدَهُ زِنَاهَا ، وَلَيْسَ ثَمَّ وَلَدٌ يَلْحَقُهُ نَسَبُهُ ، أَوْ ثَمَّ وَلَدٌ لَكِنْ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مِنْ الزِّنَا ، أَوْ يُخْبِرَهُ بِزِنَاهَا ثِقَةٌ يُصَدِّقُهُ ، أَوْ يَشِيعَ فِي النَّاسِ أَنَّ فُلَانًا يَفْجُرُ بِفُلَانَةَ ، وَيُشَاهِدُهُ عِنْدَهَا ، أَوْ دَاخِلًا إلَيْهَا أَوْ خَارِجًا مِنْ عِنْدِهَا ، أَوْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ فُجُورُهَا ، فَهَذَا لَهُ قَذْفُهَا ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ، { أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : أَرَأَيْت رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا ، فَتَكَلَّمَ جَلَدْتُمُوهُ ، أَوْ قَتَلَ قَتَلْتُمُوهُ ، أَوْ سَكَتَ سَكَتَ عَلَى غَيْظٍ .
فَذَكَرَ أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ أَوْ يَسْكُتُ ، وَلَمْ يُنْكِرُ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
} وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُنْكِرْ عَلَى هِلَالٍ وَالْعَجْلَانِيِّ قَذْفَهُمَا حِينَ رَأَيَا .
وَإِنْ سَكَتَ جَازَ ، وَهُوَ أَحْسَنُ ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ فِرَاقُهَا بِطَلَاقِهَا ، وَيَكُونُ فِيهِ سَتْرُهَا وَسَتْرُ نَفْسِهِ ، وَلَيْسَ ثَمَّ وَلَدٌ يَحْتَاجُ إلَى نَفْيِهِ .
الْحَالُ الثَّالِثُ ، مُحَرَّمٌ ، وَهُوَ مَا عَدَا ذَلِكَ ، مِنْ قَذْفِ أَزْوَاجِهِ وَالْأَجَانِبِ ؛ فَإِنَّهُ مِنْ الْكَبَائِرِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {

إنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَدْخَلَتْ عَلَى قَوْمٍ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ ، فَلَيْسَتْ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ ، وَلَنْ يُدْخِلَهَا اللَّهُ جَنَّتَهُ ، وَأَيُّمَا رَجُلٍ جَحَدَ وَلَدَهُ وَهُوَ يَنْظُرُ إلَيْهِ ، احْتَجَبَ اللَّهُ مِنْهُ ، وَفَضَحَهُ عَلَى رُءُوسِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
قَوْلُهُ : " وَهُوَ يَنْظُرُ إلَيْهِ " .
يَعْنِي يَرَاهُ مِنْهُ ، فَكَمَا حَرَّمَ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تُدْخِلَ عَلَى قَوْمٍ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ ، حَرَّمَ عَلَى الرَّجُلِ جَحْدَ وَلَدِهِ .
وَلَا يَجُوزُ قَذْفُهَا بِخَبَرِ مَنْ لَا يُوثَقُ بِخَبَرِهِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْمُونٍ عَلَى الْكَذِبِ عَلَيْهَا ، وَلَا بِرُؤْيَتِهِ رَجُلًا خَارِجًا مِنْ عِنْدِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَفِيضَ زِنَاهَا ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دَخَلَ سَارِقًا ، أَوْ هَارِبًا ، أَوْ لِحَاجَةٍ ، أَوْ لِغَرَضٍ فَاسِدٍ ، فَلَمْ يُمْكِنْهُ ، وَلَا لِاسْتِفَاضَةِ ذَلِكَ فِي النَّاسِ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِمْ ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ أَعْدَاؤُهَا أَشَاعُوا ذَلِكَ عَنْهَا .
وَفِيهِ وَجْهٌ آخِرُ ، أَنَّهُ يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِفَاضَةَ أَقْوَى مِنْ خَبَرِ الثِّقَةِ .
وَلَا بِمُخَالَفَةِ الْوَلَدِ لَوْنَ وَالِدَيْهِ أَوْ شَبَهِهِمَا ، وَلَا لِشَبَهِهِ بِغَيْرِ وَالِدَيْهِ ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ : { جَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنَّ امْرَأَتِي جَاءَتْ بِوَلَدٍ أَسْوَدَ .
يُعَرِّضُ بِنَفْيِهِ ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هَلْ لَكَ مِنْ إبِلٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ .
قَالَ : فَمَا أَلْوَانُهَا ؟ .
قَالَ : حُمْرٌ .
قَالَ : هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ ؟ .
قَالَ : إنَّ فِيهَا أَوْرَقَ .
قَالَ : فَأَنَّى أَتَاهَا ذَلِكَ ؟ قَالَ : عَسَى أَنْ يَكُونَ نَزَعَهُ عِرْقٌ .
قَالَ : فَهَذَا عَسَى أَنْ يَكُونَ نَزَعَهُ عِرْقٌ } .
قَالَ : " وَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُ فِي الِانْتِفَاءِ مِنْهُ

.
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَلِأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ مِنْ آدَمَ وَحَوَّاءَ ، وَأَلْوَانُهُمْ وَخَلْقُهُمْ مُخْتَلِفَةٌ ، فَلَوْلَا مُخَالَفَتُهُمْ شَبَهَ وَالِدَيْهِمْ ، لَكَانُوا عَلَى خِلْقَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَلِأَنَّ دَلَالَةَ الشَّبَهِ ضَعِيفَةٌ ، وَدَلَالَةَ وِلَادَتِهِ عَلَى الْفِرَاشِ قَوِيَّةٌ ، فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الْقَوِيِّ لِمُعَارَضَةِ الضَّعِيفِ ، وَلِذَلِكَ لَمَّا تَنَازَعَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ ، وَعَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ ، فِي ابْنِ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ ، وَرَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ شَبَهًا بَيِّنًا بِعُتْبَةَ ، أَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالْفِرَاشِ ، وَتَرَكَ الشَّبَهَ .
وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَامِدٍ ، وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ .
وَذَكَرَ الْقَاضِي ، وَأَبُو الْخَطَّابِ ، أَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ أَحْمَدَ ، جَوَازُ نَفْيِهِ .
وَهُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ اللِّعَانِ : { إنْ جَاءَتْ بِهِ أَوْرَقَ جَعْدًا جُمَالِيًّا خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ سَابِغَ الْأَلْيَتَيْنِ ، فَهُوَ لِلَّذِي رُمِيَتْ بِهِ .
فَأَتَتْ بِهِ عَلَى النَّعْتِ الْمَكْرُوهِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَوْلَا الْأَيْمَانُ ، لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ } .
فَجَعَلَ الشَّبَهَ دَلِيلًا عَلَى نَفْيِهِ عَنْهُ ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ .
وَهَذَا الْحَدِيثُ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِهِ عَنْهُ ، مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ لِعَانِهِ وَنَفْيِهِ إيَّاهُ عَنْ نَفْسِهِ ، فَجَعَلَ الشَّبَهَ مُرَجِّحًا لِقَوْلِهِ ، وَدَلِيلًا عَلَى تَصْدِيقِهِ ، وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَحَادِيثِ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ اسْتِقْلَالِ الشَّبَهِ بِالنَّفْيِ ، وَلِأَنَّ هَذَا كَانَ فِي مَوْضِعٍ زَالَ الْفِرَاشُ ، وَانْقَطَعَ نَسَبُ الْوَلَدِ عَنْ صَاحِبِهِ ، فَلَا يَثْبُتُ مَعَ بَقَاءِ الْفِرَاشِ الْمُقْتَضِي لُحُوقَ نَسَبِ الْوَلَدِ بِصَاحِبِهِ .
وَإِنْ كَانَ يَعْزِلُ عَنْ امْرَأَتِهِ ، فَأَتَتْ بِوَلَدٍ ، لَمْ يُبَحْ لَهُ نَفْيُهُ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَأَبِي سَعِيدٍ .
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ ، أَنَّهُ قَالَ : يَا رَسُولَ

اللَّهِ ، إنَّا نُصِيبُ مِنْ النِّسَاءِ ، وَنُحِبُّ الْأَثْمَانَ ، أَفَنَعْزِلُ عَنْهُنَّ ؟ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ إذَا قَضَى خَلْقَ نَسَمَةٍ خَلَقَهَا } .
وَلِأَنَّهُ قَدْ يَسْبِقُ مِنْ الْمَاءِ مَا لَا يُحِسُّ بِهِ فَتَعْلَقُ .
وَأَمَّا إنْ كَانَ لَا يَطَؤُهَا إلَّا دُونَ الْفَرْجِ ، أَوْ فِي الدُّبُرِ ، فَأَتَتْ بِوَلَدٍ ، فَذَكَرَ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ نَفْيُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَسْبِقَ الْمَاءُ إلَى الْفَرْجِ فَيَعْلَقَ بِهِ .
وَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ .
وَهُوَ بَعِيدٌ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَحْكَامِ الْوَطْءِ فِي الْفَرْجِ ، فَلَا يَتَعَلَّقُ بِمَا دُونَهُ كَسَائِرِ الْأَحْكَامِ ، وَدَلَالَةُ عَدَمِ الْوَطْءِ فِي الْفَرْجِ عَلَى انْتِفَاءِ الْوَلَدِ أَشَدُّ مِنْ دَلَالَةِ مُخَالَفَةِ الْوَلَدِ لَوْنَ وَالِدَيْهِ .
فَأَمَّا إنْ وُجِدَ أَحَدُ هَذِهِ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا مَعَ الزِّنَا ، وَيُحْتَمَلُ كَوْنُهُ مِنْهُ أَوْ مِنْ الزَّانِي ، مِثْلُ إنْ زَنَتْ فِي طُهْرٍ أَصَابَهَا فِيهِ ، أَوْ زَنَتْ فَلَمْ يَعْتَزِلْهَا ، وَلَكِنَّهُ كَانَ يَعْزِلُ عَنْهَا ، أَوْ كَانَ لَا يَطَؤُهَا إلَّا دُونَ الْفَرْجِ ، لَوْ كَانَ الْوَلَدُ شَبِيهًا بِالزَّانِي دُونَهُ ، لَزِمَهُ نَفْيُهُ ؛ لِأَنَّ هَذَا مَعَ الزِّنَا يُوجِبُ نِسْبَتَهُ إلَى الزَّانِي ، بِدَلِيلِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكَمَ بِوَلَدِ امْرَأَةِ هِلَالٍ لِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاءَ ، بِشَبَهِهِ لَهُ ، مَعَ لِعَانِ هِلَالٍ لَهَا ، وَقَذْفِهِ إيَّاهَا .
وَأَمَّا إذَا أَتَتْ زَوْجَتُهُ بِوَلَدٍ ، فَشَكَّ فِيهِ مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَتِهِ لِزِنَاهَا ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ قَذْفُهَا ، وَلَا لِعَانُهَا ؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ الْفَزَارِيِّ .
وَكَذَلِكَ إنْ عَرَفَ زِنَاهَا ، وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الْوَلَدَ مِنْ الزَّانِي ، وَلَا وُجِدَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ ، فَلَيْسَ لَهُ نَفْيُهُ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ .

( 6272 ) فَصْلٌ : فَإِنْ أُكْرِهَتْ زَوْجَتُهُ عَلَى الزِّنَا فِي طُهْرٍ لَمْ يُصِبْهَا فِيهِ ، فَأَتَتْ بِوَلَدٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْوَاطِئِ ، فَهُوَ مِنْهُ ، وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ قَذْفُهَا بِالزِّنَا ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِزِنًا مِنْهَا .
وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ نَفْيُهُ ، وَيَلْحَقُهُ النَّسَبُ ؛ لِأَنَّ نَفْيَ الْوَلَدِ لَا يَكُونُ إلَّا بِاللِّعَانِ ، وَمِنْ شَرْطِ اللِّعَانِ الْقَذْفُ ، وَلِأَنَّ اللِّعَانَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِلِعَانِ الْمَرْأَةِ ، وَلَا يَصِحُّ اللِّعَانُ مِنْ الْمَرْأَةِ هَاهُنَا ؛ لِأَنَّهَا لَا تُكَذِّبُ الزَّوْجَ فِي إكْرَاهِهَا عَلَى ذَلِكَ .
وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ .
وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فِي ذَلِكَ رِوَايَتَيْنِ ؛ إحْدَاهُمَا ، لَهُ نَفْيُهُ بِاللِّعَانِ ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى نَفْيِهِ ، فَكَانَ لَهُ نَفْيُهُ ، كَمَا لَوْ زَنَتْ مُطَاوِعَةً .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَهَذَا إنَّمَا يَصِحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ يَرَى نَفْيَ الْوَلَدِ بِلِعَانِ الزَّوْجِ وَحْدَهُ .
وَأَمَّا مَنْ لَا يَرَى ذَلِكَ ، فَلَا يَصِحُّ عِنْدَهُ النَّفْيُ بِاللِّعَانِ هَاهُنَا .
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَم .

( 6273 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( وَإِنْ نَفَى الْحَمْلَ فِي الْتِعَانِهِ ، لَمْ يَنْتَفِ عَنْهُ حَتَّى يَنْفِيَهُ عِنْدَ وَضْعِهَا لَهُ وَيُلَاعِنَ ) اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا إذَا لَاعَنَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَامِلٌ ، وَنَفَى حَمْلَهَا فِي لِعَانُهُ ، فَقَالَ الْخِرَقِيِّ وَجَمَاعَةٌ : لَا يَنْتَفِي الْحَمْلُ بِنَفْيِهِ قَبْلَ الْوَضْعِ ، وَلَا يَنْتَفِي حَتَّى يُلَاعِنَهَا بَعْدَ الْوَضْعِ ، وَيَنْتَفِي الْوَلَدُ فِيهِ .
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ غَيْرُ مُسْتَيْقَنٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رِيحًا ، أَوْ غَيْرهَا ، فَيَصِيرُ نَفْيُهُ مَشْرُوطًا بِوُجُودِهِ ، وَلَا يَجُوزُ تَعْلِيقُ اللِّعَانِ بِشَرْطٍ .
وَقَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ : يَصِحُّ نَفْيُ الْحَمْلِ ، وَيَنْتَفِي عَنْهُ ، مُحْتَجِّينَ بِحَدِيثِ هِلَالٍ ، وَأَنَّهُ نَفَى حَمْلَهَا فَنَفَاهُ عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَلْحَقَهُ بِالْأَوَّلِ .
وَلَا خَفَاءَ بِأَنَّهُ كَانَ حَمْلًا ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { اُنْظُرُوهَا ، فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ كَذَا وَكَذَا } .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : الْآثَارُ الدَّالَّةُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ كَثِيرَةٌ .
وَأَوْرَدَهَا .
وَلِأَنَّ الْحَمْلَ مَظْنُونٌ بِأَمَارَاتٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ ، وَلِهَذَا ثَبَتَتْ لِلْحَامِلِ أَحْكَامٌ تُخَالِفُ بِهَا الْحَائِلَ : مِنْ النَّفَقَةِ ، وَالْفِطْرِ فِي الصِّيَامِ ، وَتَرْكِ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهَا ، وَتَأْخِيرِ الْقِصَاصِ عَنْهَا ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ ذِكْرُهُ .
وَيَصِحُّ اسْتِلْحَاقُ الْحَمْلِ ، فَكَانَ كَالْوَلَدِ بَعْدَ وَضْعِهِ .
وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِمُوَافَقَتِهِ ظَوَاهِرَ الْأَحَادِيثِ وَمَا خَالَفَ الْحَدِيثَ لَا يُعْبَأُ بِهِ كَائِنًا مَا كَانَ .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : يَنْتَفِي الْوَلَدُ بِزَوَالِ الْفِرَاشِ ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِهِ فِي اللِّعَانِ احْتِجَاجًا بِظَاهِرِ الْأَحَادِيثِ ، حَيْثُ لَمْ يُنْقَلْ فِيهَا نَفْيُ الْحَمْلِ ، وَلَا التَّعَرُّضُ لِنَفْيِهِ .
وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّ

الْوَلَدَ لَا يَنْتَفِي إلَّا بِنَفْيِهِ بَعْدَ الْوَضْعِ ، فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ فِي نَفْيِهِ إلَى إعَادَةِ اللِّعَانِ بَعْدَ الْوَضْعِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَنْ وَافَقَهُ : إنْ لَاعَنَهَا حَامِلًا ، ثُمَّ أَتَتْ بِالْوَلَدِ لَزِمَهُ ، وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ نَفْيِهِ ؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ لَا يَكُونُ إلَّا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ ، وَهَذِهِ قَدْ بَانَتْ بِلِعَانِهَا فِي حَالِ حَمْلِهَا .
وَهَذَا فِيهِ إلْزَامُهُ وَلَدًا لَيْسَ مِنْهُ ، وَسَدُّ بَابِ الِانْتِفَاءِ مِنْ أَوْلَادِ الزِّنَا - وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ لَهُ إلَى ذَلِكَ طَرِيقًا ، فَلَا يَجُوزُ سَدُّهُ وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ الزَّوْجِيَّةُ فِي الْحَالِ الَّتِي أَضَافَ الزِّنَا إلَيْهَا فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ الَّذِي تَأْتِي بِهِ يَلْحَقُهُ إذَا لَمْ يَنْفِهِ ، فَيَحْتَاجُ إلَى نَفْيِهِ ، وَهَذِهِ كَانَتْ زَوْجَةً فِي تِلْكَ الْحَالِ ، فَمَلَكَ نَفْيَ وَلَدِهَا .
وَاَللَّهُ أَعْلَم .

( 6274 ) فَصْلٌ : وَإِنْ اسْتَلْحَقَ الْحَمْلَ ، فَمَنْ قَالَ : لَا يَصِحُّ نَفْيُهُ .
قَالَ : لَا يَصِحُّ اسْتِلْحَاقُهُ .
وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ .
وَمِنْ أَجَازَ نَفْيَهُ ، قَالَ : لَا يَصِحُّ اسْتِلْحَاقُهُ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ مَحْكُومٌ بِوُجُودِهِ ، بِدَلِيلِ وُجُوبِ النَّفَقَةِ ، وَوَقْفِ الْمِيرَاثِ ، فَصَحَّ الْإِقْرَارُ بِهِ كَالْمَوْلُودِ ، وَإِذَا اسْتَلْحَقَهُ لَمْ يَمْلِكْ نَفْيَهُ بَعْدَ ذَلِكَ ، كَمَا لَوْ اسْتَلْحَقَهُ بَعْدَ الْوَضْعِ .
وَمَنْ قَالَ : لَا يَصِحُّ اسْتِلْحَاقُهُ .
قَالَ : لَوْ صَحَّ اسْتِلْحَاقُهُ لَزِمَهُ بِتَرْكِ نَفْيِهِ كَالْمَوْلُودِ ، وَلَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ .
وَلِأَنَّ لِلشَّبَهِ أَثَرًا فِي الْإِلْحَاقِ ، بِدَلِيلِ حَدِيثِ الْمُلَاعَنَةِ ، وَذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِمَا بَعْدَ الْوَضْعِ ، فَاخْتُصَّ صِحَّةُ الِاسْتِلْحَاقِ بِهِ .
فَعَلَى هَذَا ، لَوْ اسْتَلْحَقَهُ ثُمَّ نَفَاهُ بَعْدَ وَضْعِهِ ، كَانَ لَهُ ذَلِكَ ، فَأَمَّا إنْ سَكَتَ عَنْهُ ، فَلَمْ يَنْفِهِ ، وَلَمْ يَسْتَلْحِقْهُ ، لَمْ يَلْزَمْهُ عِنْدَ أَحَدٍ عَلِمْنَا قَوْلَهُ ؛ لِأَنَّ تَرْكَهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ وُجُودَهُ إلَّا أَنْ يُلَاعِنَهَا ، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ أَلْزَمَهُ الْوَلَدَ ، عَلَى مَا أَسْلَفْنَاهُ .

( 6275 ) فَصْلٌ : وَإِذَا وَلَدْت امْرَأَتُهُ وَلَدًا ، فَسَكَتَ عَنْ نَفْيِهِ ، مَعَ إمْكَانِهِ ، لَزِمَهُ نَسَبُهُ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ نَفْيُهُ بَعْدَ ذَلِكَ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ : لَا يَتَقَدَّرُ ذَلِكَ بِثَلَاثٍ ، بَلْ هُوَ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ ، إنْ كَانَ لَيْلًا فَحَتَّى يُصْبِحَ وَيَنْتَشِرَ النَّاسُ ، وَإِنْ كَانَ جَائِعًا أَوْ ظَمْآنَ فَحَتَّى يَأْكُلَ أَوْ يَشْرَبَ ، أَوْ يَنَامَ إنْ كَانَ نَاعِسًا ، أَوْ يَلْبَسَ ثِيَابَهُ وَيُسْرِجَ دَابَّتَهُ وَيَرْكَبَ وَيُصَلِّيَ إنْ حَضَرَتْهُ الصَّلَاةُ ، وَيُحْرِزَ مَالَهُ إنْ كَانَ غَيْرَ مُحْرَزٍ ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِنْ أَشْغَالِهِ ، فَإِنْ أَخَّرَهُ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ نَفْيُهُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَهُ تَأْخِيرُ نَفْيِهِ يَوْمًا وَيَوْمَيْنِ اسْتِحْسَانًا ؛ لِأَنَّ النَّفْيَ عَقِيبَ الْوِلَادَةِ يَشُقُّ ، فَقُدِّرَ بِالْيَوْمَيْنِ لِقِلَّتِهِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : يَتَقَدَّرُ بِمُدَّةِ النِّفَاسِ ؛ لِأَنَّهَا جَارِيَةٌ مَجْرَى الْوِلَادَةِ فِي الْحُكْمِ .
وَحُكِيَ عَنْ عَطَاءٍ ، وَمُجَاهِدٍ ، أَنَّ لَهُ نَفْيَهُ مَا لَمْ يَعْتَرِفْ بِهِ فَكَانَ لَهُ نَفْيُهُ ، كَحَالَةِ الْوِلَادَةِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ خِيَارٌ لِدَفْعِ ضَرَرٍ مُتَحَقِّقٍ ، فَكَانَ عَلَى الْفَوْرِ ، كَخِيَارِ الشُّفْعَةِ ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ } .
عَامٌّ خَرَجَ مِنْهُ مَا اتَّفَقْنَا عَلَيْهِ مَعَ السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ ، فَمَا عَدَاهُ يَبْقَى عَلَى عُمُومِ الْحَدِيثِ ، وَمَا ذَكَرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ يَبْطُلُ بِخِيَارِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ ، وَالْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ ، وَتَقْدِيرُهُ بِمُدَّةِ النِّفَاسِ تَحَكُّمٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ ، وَمَا قَالَهُ عَطَاءٌ يَبْطُلُ أَيْضًا بِمَا ذَكَرْنَاهُ ، وَلَا يَلْزَمُ الْقِصَاصُ ؛ لِأَنَّهُ لِاسْتِيفَاءِ حَقٍّ لَا لِدَفْعِ ضَرَرٍ ، وَلَا الْحَمْلُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ ضَرَرُهُ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَهَلْ يَتَقَدَّرُ الْخِيَارُ فِي النَّفْيِ بِمَجْلِسِ الْعِلْمِ ، أَوْ بِإِمْكَانِ النَّفْيِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : بِنَاءً عَلَى الْمُطَالَبَةِ

بِالشُّفْعَةِ ، فَإِنْ أَخَّرَ نَفْيَهُ عَنْ ذَلِكَ ، ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ بِالْوِلَادَةِ ، وَأَمْكَنَ صِدْقُهُ ، بِأَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعٍ يَخْفَى عَلَيْهِ ذَلِكَ ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلَّةٍ أُخْرَى ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْعِلْمِ ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ مَعَهَا فِي الدَّارِ ، لَمْ يُقْبَلْ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَكَادُ يَخْفَى عَلَيْهِ .
وَإِنْ قَالَ : عَلِمْت وِلَادَتَهُ ، وَلَمْ أَعْلَمْ أَنَّ لِي نَفْيَهُ .
أَوْ عَلِمْت ذَلِكَ ، وَلَمْ أَعْلَمْ أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ .
وَكَانَ مِمَّنْ يَخْفَى عَلَيْهِ ذَلِكَ ، كَعَامَّةِ النَّاسِ ، قُبِلَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يَخْفَى عَلَيْهِمْ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ حَدِيثَ عَهْدٍ بِإِسْلَامٍ ، وَإِنْ كَانَ فَقِيهًا ، لَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يَخْفَى عَلَيْهِ ذَلِكَ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الْفَقِيهَ يَخْفَى عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ الْأَحْكَامِ .
وَقَالَ أَصْحَابُنَا : لَا يُقْبَلُ ذَلِكَ مِنْ الْفَقِيهِ ، وَيُقْبَلُ مِنْ النَّاشِئِ بِبَادِيَةٍ ، وَحَدِيثِ الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ ، وَهَلْ يُقْبَلُ مِنْ سَائِرِ الْعَامَّةِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ .
وَإِنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ يَمْنَعُهُ مِنْ الْحُضُورِ لِنَفْيِهِ ، كَالْمَرَضِ وَالْحَبْسِ ، أَوْ الِاشْتِغَالِ بِحِفْظِ مَالٍ يَخَافُ ضَيْعَتَهُ ، أَوْ بِمُلَازَمَةِ غَرِيمٍ يَخَافُ فَوْتَهُ أَوْ غَيْبَتَهُ ، نُظِرَتْ ؛ فَإِنْ كَانَتْ مُدَّةُ ذَلِكَ قَصِيرَةً فَأَخَّرَهُ إلَى الْحُضُورِ لِيَزُولَ عُذْرُهُ ، لَمْ يَبْطُلْ نَفْيُهُ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ عَلِمَ ذَلِكَ لَيْلًا فَأَخَّرَهُ إلَى الصُّبْحِ ، وَإِنْ كَانَتْ تَتَطَاوَلُ ، فَأَمْكَنَهُ التَّنْفِيذُ إلَى الْحَاكِمِ لِيَبْعَثَ إلَيْهِ مَنْ يَسْتَوْفِي عَلَيْهِ اللِّعَانَ وَالنَّفْيَ ، فَلَمْ يَفْعَلْ ، سَقَطَ نَفْيُهُ ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ ، أَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ نَافٍ لِوَلَدِ امْرَأَتِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ، بَطَلَ خِيَارُهُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى نَفْيِهِ كَانَ الْإِشْهَادُ قَائِمًا مَقَامَهُ ، كَمَا يُقِيمُ الْمَرِيضُ الْفَيْئَةَ بِقَوْلِهِ ،

بَدَلًا عَنْ الْفَيْئَةِ بِالْجِمَاعِ .
فَإِنْ قَالَ : لَمْ أُصَدِّقْ الْمُخْبِرَ عَنْهُ .
نُظِرَتْ ؛ فَإِنْ كَانَ مُسْتَفِيضًا مُنْتَشِرًا ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَفِيضًا ، وَكَانَ الْمُخْبِرُ مَشْهُورَ الْعَدَالَةِ ، لَمْ يُقْبَلْ ، وَإِلَّا قُبِلَ .
وَإِنْ قَالَ : لَمْ أَعْلَمْ أَنَّ عَلَيَّ ذَلِكَ .
قُبِلَ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَخْفَى ، وَإِنْ عَلِمَ وَهُوَ غَائِبٌ ، فَأَمْكَنَهُ السَّيْرُ ، فَاشْتَغَلَ بِهِ ، لَمْ يَبْطُلْ خِيَارُهُ ، وَإِنْ أَقَامَ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ بَطَلَ ؛ لِأَنَّهُ أَخَّرَهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ تَمْنَعُهُ مِنْ السَّيْرِ ، فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ .
وَإِنْ أَخَّرَ نَفْيَهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ ، وَقَالَ : أَخَّرْت نَفْيَهُ رَجَاءَ أَنْ يَمُوتَ ، فَأَسْتُرَ عَلَيْهِ وَعَلَيَّ .
بَطَلَ خِيَارُهُ ؛ لِأَنَّهُ أَخَّرَ نَفْيَهُ مَعَ الْإِمْكَانِ لِغَيْرِ عُذْرٍ .

( 6276 ) فَصْلٌ : فَإِنْ هُنِّئَ بِهِ ، فَأَمَّنَ عَلَى الدُّعَاءِ ، لَزِمَهُ .
فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا .
وَإِنْ قَالَ : أَحْسَنَ اللَّهُ جَزَاءَك .
أَوْ : بَارَكَ اللَّهُ عَلَيْك .
أَوْ : رَزَقَكَ اللَّهُ مِثْلَهُ .
لَزِمَهُ الْوَلَدُ .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَلْزَمُهُ ؛ لِأَنَّهُ جَازَاهُ عَلَى قَصْدِهِ .
وَإِذَا قَالَ : رَزَقَكَ اللَّهُ مِثْلَهُ .
فَلَيْسَ ذَلِكَ إقْرَارًا ، وَلَا مُتَضَمِّنًا لَهُ .
وَلَنَا ، أَنَّ ذَلِكَ جَوَابُ الرَّاضِي فِي الْعَادَةِ ، فَكَانَ إقْرَارًا ، كَالتَّأْمِينِ عَلَى الدُّعَاءِ .
وَإِنْ سَكَتَ ، كَانَ إقْرَارًا .
ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ ؛ لِأَنَّ السُّكُوتَ صُلْحٌ دَالًّا عَلَى الرِّضَى فِي حَقِّ الْبِكْرِ ، وَفِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ، فَهَاهُنَا أَوْلَى .
وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ لَزِمَهُ الْوَلَدُ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ نَفْيُهُ بَعْدَ ذَلِكَ .
فِي قَوْلِ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ؛ مِنْهُمْ الشَّعْبِيُّ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ ؛ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَقَالَ الْحَسَنُ : لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ لِنَفْيِهِ مَا دَامَتْ أُمُّهُ عِنْدَهُ يَصِيرُ لَهَا الْوَلَدُ ، وَلَوْ أَقَرَّ بِهِ ، وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَوْلَى ؛ فَإِنَّهُ أَقَرَّ بِهِ ، فَلَمْ يَمْلِكْ جَحْدَهُ ، كَمَا لَوْ بَانَتْ مِنْهُ أُمُّهُ ، وَلِأَنَّهُ أَقَرَّ بِحَقٍّ عَلَيْهِ ، فَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ جَحْدُهُ ، كَسَائِرِ الْحُقُوقِ .

( 6277 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( وَلَوْ جَاءَتْ امْرَأَتُهُ بِوَلَدٍ ، فَقَالَ : لَمْ تَزْنِ ، وَلَكِنْ لَيْسَ هَذَا الْوَلَدُ مِنِّي .
فَهُوَ وَلَدُهُ فِي الْحُكْمِ ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ لَهَا ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا وَلَدَتْ .
فَقَالَ زَوْجُهَا : لَيْسَ هَذَا الْوَلَدُ مِنِّي .
أَوْ قَالَ لَيْسَ هَذَا وَلَدِي .
فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِقَذْفٍ بِظَاهِرِهِ ، لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنَّهُ مِنْ زَوْجٍ آخَرَ ، أَوْ مِنْ وَطْءٍ بِشُبْهَةٍ ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ، وَلَكِنَّهُ يُسْأَلُ ، فَإِنْ قَالَ : زَنَتْ ، فَوَلَدَتْ هَذَا مِنْ الزِّنَا .
فَهَذَا قَذْفٌ يَثْبُتُ بِهِ اللِّعَانُ ، وَإِنْ قَالَ : أَرَدْت أَنَّهُ لَا يُشْبِهُنِي خَلْقًا وَلَا خُلُقًا .
فَقَالَتْ : بَلْ أَرَدْتَ قَذْفِي .
فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ ، لَا سِيَّمَا إذَا صَرَّحَ بِقَوْلِهِ : لَمْ تَزْنِ .
وَإِنْ قَالَ : وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ ، وَالْوَلَدُ مِنْ الْوَاطِئِ .
فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْذِفْهَا ، وَلَا قَذَفَ وَاطِئَهَا .
وَإِنْ قَالَ : أُكْرِهَتْ عَلَى الزِّنَا .
فَلَا حَدَّ أَيْضًا ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقْذِفْهَا ، وَلَا لِعَانَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْذِفْهَا ، وَمِنْ شَرْطِ اللِّعَانِ الْقَذْفُ ، وَيَلْحَقُهُ نَسَبُ الْوَلَدِ .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الْآخِرَةِ رِوَايَةً أُخْرَى ، أَنَّ لَهُ اللِّعَانَ ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى نَفْيِ الْوَلَدِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ : وُطِئْتِ بِشُبْهَةٍ .
فَإِنَّهُ يُمْكِنُ نَفْيُ النَّسَبِ بِعَرْضِ الْوَلَدِ عَلَى الْقَافَةِ ، فَيُسْتَغْنَى بِذَلِكَ عَنْ اللِّعَانِ .
فَلَا يُشْرَعُ ، كَمَا لَا يُشْرَعُ لِعَانُ أَمَتِهِ ، لَمَّا أَمْكَنَ نَفْيُ نَسَبِ وَلَدِهَا بِدَعْوَى الِاسْتِبْرَاءِ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَلَنَا أَنَّ اللِّعَانَ إنَّمَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ بَعْدَ الْقَذْفِ ، فِي قَوْله تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إلَّا أَنْفُسُهُمْ } الْآيَةَ .
وَلَمَّا لَاعَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ

هِلَالٍ وَامْرَأَتِهِ كَانَ بَعْدَ قَذْفِهِ إيَّاهَا ، وَكَذَلِكَ لَمَّا لَاعَنَ بَيْنَ عُوَيْمِرٍ الْعَجْلَانِيُّ وَامْرَأَتِهِ كَانَ بَعْدَ قَذْفِهِ إيَّاهَا ، وَلَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ إلَّا فِي مِثْلِهِ ، وَلِأَنَّ نَفْيَ اللِّعَانِ إنَّمَا يَنْتَفِي بِهِ الْوَلَدُ بِتَمَامِهِ مِنْهُمَا ، وَلَا يَتَحَقَّقُ اللِّعَانُ مِنْ الْمَرْأَةِ هَاهُنَا .
فَأَمَّا إنْ قَالَ : وَطِئَك فُلَانٌ بِشُبْهَةٍ ، وَأَنْتَ تَعْلَمِينَ الْحَالَ .
فَقَدْ قَذَفَهَا ، وَلَهُ لِعَانُهَا ، وَنَفْيُ نَسَبِ وَلَدِهَا ، وَقَالَ الْقَاضِي : لَيْسَ لَهُ نَفْيُهُ بِاللِّعَانِ .
وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ نَفْيُ نَسَبِهِ بِعَرْضِهِ عَلَى الْقَافَةِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ : وَاشْتَبَهَ عَلَيْك أَيْضًا .
وَلَنَا أَنَّهُ رَامٍ لِزَوْجَتِهِ ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ } وَلِأَنَّهُ رَامٍ لِزَوْجَتِهِ بِالزِّنَا ، فَمَلَكَ لِعَانَهَا وَنَفَى وَلَدَهَا ، كَمَا لَوْ قَالَ : زَنَى بِكِ فُلَانٌ .
وَمَا ذَكَرُوهُ لَا يَصِحُّ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ لَا يُوجَدُ قَافَةٌ ، وَقَدْ لَا يَعْتَرِفُ الرَّجُلُ بِمَا نُسِبَ إلَيْهِ ، أَوْ يَغِيبُ أَوْ يَمُوتُ ، فَلَا يَنْتَفِي الْوَلَدُ .
وَإِنْ قَالَ : مَا وَلَدَتْهُ وَإِنَّمَا الْتَقَطْتُهُ أَوْ اسْتَعَرْتُهُ فَقَالَتْ : بَلْ هُوَ وَلَدِي مِنْك .
لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُ الْمَرْأَةِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ .
وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ، وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ ؛ لِأَنَّ الْوِلَادَةَ يُمْكِنُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهَا ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهَا ، فَلَمْ تُقْبَلْ دَعْوَاهَا مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ ، كَالدَّيْنِ .
قَالَ الْقَاضِي : وَكَذَلِكَ لَا تُقْبَلُ دَعْوَاهَا لِلْوِلَادَةِ ، فِيمَا إذَا عَلَّقَ طَلَاقَهَا بِهَا ، وَلَا دَعْوَى الْأَمَةِ لَهَا لِتَصِيرَ بِهَا أُمَّ وَلَدٍ ، وَيُقْبَلُ قَوْلُهَا فِيهَا لِتَقْضِيَ عِدَّتَهَا بِهَا .
فَعَلَى هَذَا لَا يَلْحَقُهُ الْوَلَدُ إلَّا أَنْ تُقِيمَ بَيِّنَةً ، وَهِيَ امْرَأَةٌ مَرْضِيَّةٌ ، تَشْهَدُ بِوِلَادَتِهَا لَهُ فَإِذَا ثَبَتَتْ وِلَادَتُهَا لَهُ ، لَحِقَهُ نَسَبُهُ ؛ لِأَنَّهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ ، وَالْوَلَدُ

لِلْفِرَاشِ .
وَذَكَرَ الْقَاضِي ، فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ، أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَرْأَةِ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { : وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ } .
وَتَحْرِيمُ كِتْمَانِهِ دَلِيلٌ عَلَى قَبُولِ قَوْلِهَا فِيهِ ، وَلِأَنَّهُ خَارِجٌ مِنْ الْمَرْأَةِ ، تَنْقَضِي بِهِ عِدَّتُهَا ، فَقُبِلَ قَوْلُهَا فِيهِ ، كَالْحَيْضِ ، وَلِأَنَّهُ حُكْمٌ يَتَعَلَّقُ بِالْوِلَادَةِ ، فَقُبِلَ قَوْلُهَا فِيهِ ، كَالْحَيْضِ .
فَعَلَى هَذَا ، النَّسَبُ لَاحِقٌ بِهِ ، وَهَلْ نَفْيُهُ بِاللِّعَانِ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا ، لَيْسَ لَهُ نَفْيُهُ ؛ لِأَنَّ إنْكَارَهُ لِوِلَادَتِهَا إيَّاهُ ، إقْرَارٌ بِأَنَّهَا لَمْ تَلِدْهُ مِنْ زِنًا ، فَلَا يُقْبَلُ إنْكَارُهُ لِذَلِكَ ، لِأَنَّهُ تَكْذِيبٌ لِنَفْسِهِ .
وَالثَّانِي ، لَهُ نَفْيُهُ ؛ لِأَنَّهُ رَامٍ لِزَوْجَتِهِ ، وَنَافٍ لِوَلَدِهَا ، فَكَانَ لَهُ نَفْيُهُ بِاللِّعَانِ ، كَغَيْرِهِ .

( 6278 ) فَصْلٌ : وَمَنْ وَلَدَتْ امْرَأَتُهُ وَلَدًا لَا يُمْكِنُ كَوْنُهُ مِنْهُ فِي النِّكَاحِ ، لَمْ يَلْحَقْهُ نَسَبُهُ ، وَلَمْ يَحْتَجْ إلَى نَفْيِهِ ؛ لِأَنَّهُ يُعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ ، فَلَمْ يَلْحَقْهُ ، كَمَا لَوْ أَتَتْ بِهِ عَقِيبَ نِكَاحِهِ لَهَا ، وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ تَأْتِيَ بِهِ لِدُونِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ تَزَوَّجَهَا ، فَلَا يَلْحَقُ بِهِ ، فِي قَوْلِ كُلِّ مَنْ عَلِمْنَا قَوْلَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ؛ لِأَنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّهَا عَلِقَتْ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا .
وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ طِفْلًا لَهُ أَقَلُّ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ ، فَأَتَتْ امْرَأَتُهُ بِوَلَدٍ ، لَمْ يَلْحَقْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدُ وَلَدٌ لِمِثْلِهِ ، وَلَا يُمْكِنُهُ الْوَطْءُ .
وَإِنْ كَانَ لَهُ عَشْرٌ ، فَحَمَلْت امْرَأَتُهُ ، لَحِقَهُ وَلَدُهَا ؛ لِقَوْلِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَاضْرِبُوهُمْ عَلَى الصَّلَاةِ لِعَشْرٍ ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ } وَقَالَ الْقَاضِي : يَلْحَقُ بِهِ ، إذَا أَتَتْ بِهِ لِتِسْعَةِ أَعْوَامٍ وَنِصْفِ عَامٍ مُدَّةِ الْحَمْلِ ؛ لِأَنَّ الْجَارِيَةَ يُولَدُ لَهَا لِتِسْعٍ ، فَكَذَلِكَ الْغُلَامُ .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : لَا يَلْحَقُهُ حَتَّى يَبْلُغَ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ إنَّمَا يَكُونُ مِنْ الْمَاءِ ، وَلَا يَنْزِلُ حَتَّى يَبْلُغَ .
وَلَنَا أَنَّهُ زَمَنٌ يُمْكِنُ الْبُلُوغُ فِيهِ ، فَيَلْحَقُهُ الْوَلَدُ ، كَالْبَالِغِ ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ ، وَابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ ، لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا إلَّا اثْنَا عَشَرَ عَامًا ، وَأَمْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَهُمْ ، دَلِيلٌ عَلَى إمْكَانِ الْوَطْءِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْوِلَادَةِ ، وَأَمَّا قِيَاسُ الْغُلَامِ عَلَى الْجَارِيَةِ ، فَغَيْرُ صَحِيحٍ ، فَإِنَّ الْجَارِيَةَ يُمْكِنُ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا لِتِسْعٍ عَادَةً ، وَالْغُلَامُ لَا يُمْكِنُهُ الِاسْتِمْتَاعُ لَتِسْعٍ ، وَقَدْ تَحِيضُ لَتِسْعٍ ، وَمَا عُهِدَ بُلُوغُ غُلَامٍ لَتِسْعٍ .
وَلَوْ تَزَوَّجَ رَجُلٌ امْرَأَةً فِي مَجْلِسٍ ، ثُمَّ طَلَّقَهَا فِيهِ قَبْلَ غَيْبَتِهِ عَنْهُمْ ، ثُمَّ أَتَتْ امْرَأَتُهُ بِوَلَدٍ

لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الْعَقْدِ ، أَوْ تَزَوَّجَ مَشْرِقِيٌّ بِمَغْرِبِيَّةٍ ، ثُمَّ مَضَتْ سِتَّةُ أَشْهُرٍ ، وَأَتَتْ بِوَلَدٍ ، لَمْ يَلْحَقْهُ .
وَبِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَلْحَقُهُ نَسَبُهُ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ إنَّمَا يَلْحَقُهُ بِالْعَقْدِ ، وَمُدَّةِ الْحَمْلِ ، أَلَا تَرَى أَنَّكُمْ قُلْتُمْ : إذَا مَضَى زَمَانُ الْإِمْكَانِ ، لَحِقَ الْوَلَدُ ، وَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ الْوَطْءُ .
وَلَنَا أَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ إمْكَانُ الْوَطْءِ بِهَذَا الْعَقْدِ ، فَلَمْ يَلْحَقْ بِهِ الْوَلَدُ ، كَزَوْجَةِ ابْنِ سَنَةٍ ، أَوْ كَمَا لَوْ وَلَدَتْهُ لِدُونِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ، وَفَارَقَ مَا قَاسُوا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْإِمْكَانَ إذَا وُجِدَ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ قَطْعًا ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ وَطِئَهَا مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُ ، وَلَا سَبِيلَ لَنَا إلَى مَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ الْوَطْءِ ، فَعَلَّقْنَا الْحُكْمَ عَلَى إمْكَانِهِ فِي النِّكَاحِ ، وَلَمْ يَجُزْ حَذْفُ الْإِمْكَانِ عَنْ الِاعْتِبَارِ ، لِأَنَّهُ إذَا انْتَفَى حَصَلَ الْيَقِينُ بِانْتِفَائِهِ عَنْهُ ، فَلَمْ يَحُزْ إلْحَاقُهُ بِهِ مَعَ يَقِينِ كَوْنِهِ لَيْسَ مِنْهُ .
وَإِنْ وَلَدَتْ امْرَأَةُ مَقْطُوعِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ ، لَمْ يَلْحَقْ نَسَبُهُ بِهِ .
فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ مِنْهُ الْإِنْزَالُ وَالْإِيلَاجُ .
وَإِنْ قُطِعَتْ أُنْثَيَاهُ دُونَ ذَكَرِهِ ، فَكَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنْزِلُ مَا يُخْلَقُ مِنْهُ الْوَلَدُ .
وَقَالَ أَصْحَابُنَا : يَلْحَقُهُ النَّسَبُ ؛ لِأَنَّهُ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْإِيلَاجُ ، وَيُنْزِلُ مَاءً رَقِيقًا .
وَلَنَا .
أَنَّ هَذَا لَا يُخْلَقُ مِنْهُ وَلَدٌ عَادَةً ، وَلَا وُجِدَ ذَلِكَ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قُطِعَ ذَكَرُهُ مَعَهُمَا ، وَلَا اعْتِبَارَ بِإِيلَاجٍ لَا يُخْلَقُ مِنْهُ الْوَلَدُ ، كَمَا لَوْ أَوْلَجَ إصْبَعَهُ .
وَأَمَّا قَطْعُ ذَكَرِهِ وَحْدَهُ ، فَإِنَّهُ يَلْحَقُهُ الْوَلَدُ ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُسَاحِقَ ، فَيُنْزِلَ مَاءً يُخْلَقُ مِنْهُ الْوَلَدُ .
وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ اخْتِلَافٌ فِي ذَلِكَ ، عَلَى نَحْو مَا ذَكَرْنَا مِنْ

الْخِلَافِ عِنْدَنَا .
قَالَ ابْنُ اللَّبَّانِ : لَا يَلْحَقُهُ الْوَلَدُ فِي هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ .
فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَلْحَقُهُ بِالْفِرَاشِ .
وَهُوَ غَلَطٌ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ إنَّمَا يَلْحَقُ بِالْفِرَاشِ إذَا أَمْكَنَ ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا إذَا وَلَدَتْ بَعْدَ شَهْرٍ مُنْذُ تَزَوَّجَهَا لَمْ يَلْحَقْهُ ، وَهَاهُنَا لَا يُمْكِنُ ؛ لِفَقْدِ الْمَنِيِّ مِنْ الْمَسْلُولِ ، وَتَعَذُّرِ إيصَالِ الْمَنِيِّ إلَى قَعْرِ الرَّحِمِ مِنْ الْمَجْبُوبِ .
وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ قَالَ : يَجُوزُ أَنْ تَسْتَدْخِلَ الْمَرْأَةُ مَنِيَّ الرَّجُلِ ، فَتَحْمِلَ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ مَخْلُوقٌ مِنْ مَنِيِّ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ جَمِيعًا ، وَلِذَلِكَ يَأْخُذُ الشَّبَهَ مِنْهُمَا ، وَإِذَا اسْتَدْخَلَتِ الْمَنِيَّ بِغَيْرِ جِمَاعٍ ، لَمْ تَحْدُثْ لَهَا لَذَّةٌ تُمْنِي بِهَا ، فَلَا يَخْتَلِطُ نَسَبُهُمَا ، وَلَوْ صَحَّ ذَلِكَ لَكَانَ الْأَجْنَبِيَّانِ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ إذَا تَصَادَقَا أَنَّهَا اسْتَدْخَلَتْ مَنِيَّهُ ، وَأَنَّ الْوَلَدَ مِنْ ذَلِكَ الْمَنِيِّ ، يَلْحَقُهُ نَسَبُهُ ، وَمَا قَالَ ذَلِكَ أَحَدٌ .

( 6279 ) فَصْلٌ : وَإِنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَامِلٌ ، فَوَضَعَتْ وَلَدًا ، ثُمَّ وَلَدَتْ آخِرَ قَبْلَ مُضِيِّ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ، فَهُوَ مِنْ الزَّوْجِ ؛ لِأَنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّهُمَا حَمْلٌ وَاحِدٌ ، فَإِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مِنْهُ ، فَالْآخَرُ مِنْهُ .
وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا أَكْثَرُ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ، لَمْ يَلْحَقْ الزَّوْجَ ، وَانْتَفَى عَنْهُ مِنْ غَيْرِ لِعَانٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدَانِ حَمْلًا وَاحِدًا وَبَيْنَهُمَا مُدَّةُ الْحَمْلِ ، فَعُلِمَ أَنَّهَا عَلِقَتْ بِهِ بَعْدَ زَوَالِ الزَّوْجِيَّةِ ، وَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ، وَكَوْنِهَا أَجْنَبِيَّةً ، فَهِيَ كَسَائِرِ الْأَجْنَبِيَّاتِ .
وَإِنْ طَلَّقَهَا ، فَاعْتَدَّتْ بِالْأَقْرَاءِ ، ثُمَّ وَلَدَتْ وَلَدًا قَبْلَ مُضِيِّ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ آخِرِ إقْرَائِهَا ، لَحِقَهُ ؛ لِأَنَّنَا تَيَقَّنَّا أَنَّهَا لَمْ تَحْمِلْهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا ، وَنَعْلَمُ أَنَّهَا كَانَتْ حَامِلًا بِهِ فِي زَمَنِ رُؤْيَةِ الدَّمِ ، فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ الدَّمُ حَيْضًا ، فَلَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا بِهِ وَإِنْ أَتَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ، لَمْ يَلْحَقْ بِالزَّوْجِ .
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ .
وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ : يَلْحَقُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ ، وَالْوَلَدُ يَلْحَقُ بِالْإِمْكَانِ .
وَلَنَا ، أَنَّهَا أَتَتْ بِهِ بَعْدَ الْحُكْمِ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا ، فِي وَقْتٍ يُمْكِنُ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْهُ ، فَلَمْ يَلْحَقْهُ ، كَمَا لَوْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ الْإِمْكَانُ مَعَ بَقَاءِ الزَّوْجِيَّةِ أَوْ الْعِدَّةِ ، وَأَمَّا بَعْدَهُمَا ، فَلَا يُكْتَفَى بِالْإِمْكَانِ لِلَحَاقِهِ ، وَإِنَّمَا يُكْتَفَى بِالْإِمْكَانِ لِنَفْيِهِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْفِرَاشَ سَبَبٌ ، وَمَعَ وُجُودِ السَّبَبِ يُكْتَفَى بِإِمْكَانِ الْحِكْمَةِ وَاحْتِمَالِهَا ، فَإِذَا انْتَفَى السَّبَبُ وَآثَارُهُ ، فَيَنْتَفِي الْحُكْمُ لِانْتِفَائِهِ ، وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى مُجَرَّدِ الْإِمْكَانِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَأَمَّا إنْ وَضَعَتْهُ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لِأَقَلَّ مِنْ

أَرْبَعِ سِنِينَ ، لَحِقَ بِالزَّوْجِ ، وَلَمْ يَنْتَفِ عَنْهُ إلَّا بِاللِّعَانِ .
وَإِنْ وَضَعَتْهُ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ حِينِ الطَّلَاقِ ، وَكَانَ بَائِنًا ، انْتَفَى عَنْهُ بِغَيْرِ لِعَانٍ ؛ لِأَنَّنَا عَلِمْنَا أَنَّهَا عَلِقَتْ بِهِ بَعْدَ زَوَالِ الْفِرَاشِ .
وَإِنْ كَانَ رَجْعِيًّا ، فَوَضَعَتْهُ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مُنْذُ انْقَضَتْ الْعِدَّةُ ، فَكَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهَا عَلِقَتْ بِهِ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ .
وَإِنْ وَضَعَتْهُ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مُنْذُ الطَّلَاقِ ، وَلِأَقَلَّ مِنْهَا مُنْذُ انْقَضَتْ الْعِدَّةُ ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا - لَا يَلْحَقُهُ ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَعْلَقْ بِهِ قَبْلَ طَلَاقِهَا ، فَأَشْبَهَتْ الْبَائِنَ .
وَالثَّانِيَةُ ، يَلْحَقُهُ ؛ لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ الزَّوْجَاتِ فِي السُّكْنَى وَالنَّفَقَةِ وَالطَّلَاقِ وَالظِّهَارِ وَالْإِيلَاءِ وَالْحِلِّ ، فِي رِوَايَةٍ ، فَأَشْبَهَ مَا قَبْلَ الطَّلَاقِ .

( 6280 ) فَصْلٌ : فَإِنْ غَابَ عَنْ زَوْجَتِهِ سِنِينَ ، فَبَلَغَتْهَا وَفَاتُهُ ، فَاعْتَدَّتْ ، وَنَكَحَتْ نِكَاحًا صَحِيحًا فِي الظَّاهِرِ ، وَدَخَلَ بِهَا الثَّانِي ، وَأَوْلَدَهَا أَوْلَادًا ، ثُمَّ قَدِمَ الْأَوَّلُ ، فُسِخَ نِكَاحُ الثَّانِي ، وَرُدَّتْ إلَى الْأَوَّلِ ، وَتَعْتَدُّ مِنْ الثَّانِي ، وَلَهَا عَلَيْهِ صَدَاقُ مِثْلِهَا ، وَالْأَوْلَادُ لَهُ ؛ لِأَنَّهُمْ وُلِدُوا عَلَى فِرَاشِهِ .
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ ، وَأَهْلِ الْعِرَاقِ ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى ، وَمَالِكٍ ، وَأَهْلِ الْحِجَازِ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَإِسْحَاقَ ، وَأَبِي يُوسُفَ ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إلَّا أَبَا حَنِيفَةَ ، قَالَ : الْوَلَدُ لِلْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ صَاحِبُ الْفِرَاشِ ، لِأَنَّ نِكَاحَهُ صَحِيحٌ ثَابِتٌ ، وَنِكَاحُ الثَّانِي غَيْرُ ثَابِتٍ ، فَأَشْبَهَ الْأَجْنَبِيَّ .
وَلَنَا أَنَّ الثَّانِي انْفَرَدَ بِوَطْئِهَا فِي نِكَاحٍ يَلْحَقُ النَّسَبُ فِي مِثْلِهِ ، فَكَانَ الْوَلَدُ لَهُ دُونَ غَيْرِهِ ، كَوَلَدِ الْأَمَةِ مِنْ زَوْجِهَا يَلْحَقُهُ دُونَ سَيِّدِهَا ، وَفَارَقَ الْأَجْنَبِيَّ ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ نِكَاحٌ .

( 6281 ) فَصْلٌ : وَإِنْ وَطِئَ رَجُلٌ امْرَأَةً لَا زَوْجَ لَهَا بِشُبْهَةٍ ، فَأَتَتْ بِوَلَدٍ ، لَحِقَهُ نَسَبُهُ .
وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ الْقَاضِي : وَجَدْت بِخَطِّ أَبِي بَكْرٍ ، أَنَّهُ لَا يَلْحَقُ بِهِ ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ لَا يَلْحَقُ إلَّا فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ ، أَوْ فَاسِدٍ ، أَوْ مِلْكٍ ، أَوْ شُبْهَةٍ مِلْكٍ ، وَلَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ، وَلِأَنَّهُ وَطْءٌ لَا يَسْتَنِدُ إلَى عَقْدٍ ، فَلَمْ يَلْحَقْ الْوَلَدُ فِيهِ بِالْوَطْءِ ، كَالزِّنَا .
وَالصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ .
قَالَ أَحْمَدُ : كُلُّ مِنْ دَرَأْت عَنْهُ الْحَدَّ أَلْحَقْت بِهِ الْوَلَدَ .
وَلِأَنَّهُ وَطْءٌ اعْتَقَدَ الْوَاطِئُ حِلَّهُ ، فَلَحِقَ بِهِ النَّسَبُ ، كَالْوَطْءِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ .
وَفَارَقَ وَطْءَ الزِّنَا ، فَإِنَّهُ لَا يَعْتَقِدُ الْحِلَّ فِيهِ .
وَلَوْ تَزَوَّجَ رَجُلَانِ أُخْتَيْنِ ، فَغَلِطَ بِهِمَا عِنْدَ الدُّخُولِ ، فَزُفَّتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا إلَى زَوْجِ الْأُخْرَى ، فَوَطِئَهَا ، وَحَمَلَتْ مِنْهُ ، لَحِقَ الْوَلَدُ بِالْوَاطِئِ ؛ لِأَنَّهُ وَطْءٌ يَعْتَقِدُ حِلَّهُ ، فَلَحِقَ بِهِ النَّسَبُ ، كَالْوَطْءِ فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : لَا يَكُونُ الْوَلَدُ لِلْوَاطِئِ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ لِلزَّوْجِ .
وَهَذَا الَّذِي يَقْتَضِيهِ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ، لِأَنَّ الْوَلَدَ لِلْفِرَاشِ .
وَلَنَا أَنَّ الْوَاطِئَ انْفَرَدَ بِوَطْئِهَا فِيمَا يَلْحَقُ بِهِ النَّسَبُ ، فَلَحِقَ بِهِ كَمَا لَوْ لَمْ تَكُنْ ذَاتَ زَوْجٍ ، وَكَمَا لَوْ تَزَوَّجَتْ امْرَأَةُ الْمَفْقُودِ عِنْدَ الْحُكْمِ بِوَفَاتِهِ ثُمَّ بَانَ حَيًّا ، وَالْخَبَرُ مَخْصُوصٌ بِهَذَا ، فَنَقِيسُ عَلَيْهِ مَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ .
وَإِنْ وُطِئَتْ امْرَأَتُهُ أَوْ أَمَتُهُ بِشُبْهَةٍ فِي طُهْرٍ لَمْ يُصِبْهَا فِيهِ ، فَاعْتَزَلَهَا حَتَّى أَتَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الْوَطْءِ ، لَحِقَ الْوَاطِئَ ، وَانْتَفَى عَنْ الزَّوْجِ مِنْ غَيْرِ لِعَانٍ ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ يَلْحَقُ بِالزَّوْجِ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ لِلْفِرَاشِ .
وَإِنْ أَنْكَرَ الْوَاطِئُ الْوَطْءَ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ بِغَيْرِ

يَمِينٍ ، وَيَلْحَقُ نَسَبُ الْوَلَدِ بِالزَّوْجِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إلْحَاقُهُ بِالْمُنْكِرِ ، وَلَا تُقْبَلُ دَعْوَى الزَّوْجِ فِي قَطْعِ نَسَبِ الْوَلَدِ .
وَإِنْ أَتَتْ بِالْوَلَدِ لِدُونِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الْوَطْءِ لَحِقَ الزَّوْجَ بِكُلِّ حَالٍ ؛ لِأَنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْوَاطِئِ .
وَإِنْ اشْتَرَكَا فِي وَطْئِهَا فِي طُهْرٍ ، فَأَتَتْ بِوَلَدٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمَا ، لَحِقَ الزَّوْجَ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ لِلْفِرَاشِ ، وَقَدْ أَمْكَنَ كَوْنُهُ مِنْهُ .
وَإِنْ ادَّعَى الزَّوْجُ أَنَّهُ مِنْ الْوَاطِئِ .
فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : يُعْرَضُ عَلَى الْقَافَةِ مَعَهُمَا فَيُلْحَقُ بِمِنْ أَلْحَقَتْهُ مِنْهُمَا ، فَإِنْ أَلْحَقَتْهُ بِالْوَاطِئِ لَحِقَهُ ، وَلَمْ يَمْلِكْ نَفْيَهُ عَنْ نَفْسِهِ ، وَانْتَفَى عَنْ الزَّوْجِ بِغَيْرِ لِعَانٍ ، وَإِنْ أَلْحَقَتْهُ بِالزَّوْجِ لَحِقَهُ ، وَلَمْ يَمْلِكْ نَفْيَهُ بِاللِّعَانِ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ .
وَالْأُخْرَى ، لَهُ ذَلِكَ .
وَإِنْ أَلْحَقَتْهُ بِهِمَا ، لَحِقَ بِهِمَا ، وَلَمْ يَمْلِكْ الْوَاطِئُ نَفْيَهُ عَنْ نَفْسِهِ .
وَهَلْ يَمْلِكُ الزَّوْجُ نَفْيَهُ بِاللِّعَانِ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ .
وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ قَافَةٌ ، أَوْ أَنْكَرَ الْوَاطِئُ الْوَطْءَ ، أَوْ اشْتَبَهَ عَلَى الْقَافَةِ ، لَحِقَ الزَّوْجَ ؛ لِأَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِلِحَاقِ النَّسَبِ بِهِ مُتَحَقِّقٌ ، وَلَمْ يُوجَدْ مَا يُعَارِضُهُ ، فَوَجَبَ إثْبَاتُ حُكْمِهِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَلْحَقَ الزَّوْجَ بِكُلِّ حَالٍ ؛ لِأَنَّ دَلَالَةَ قَوْلِ الْقَافَةِ ضَعِيفَةٌ ، وَدَلَالَةَ الْفِرَاشِ قَوِيَّةٌ ، فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ دَلَالَتِهِ لِمُعَارَضَةِ دَلَالَةٍ ضَعِيفَةٍ .

( 6282 ) فَصْلٌ : وَإِنْ أَتَتْ بِوَلَدٍ ، فَادَّعَى أَنَّهُ مِنْ زَوْجٍ قَبْلَهُ ، نَظَرْنَا ؛ فَإِنْ كَانَتْ تَزَوَّجَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ، لَمْ يَلْحَقْ بِالْأَوَّلِ بِحَالٍ ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ أَرْبَعِ سِنِينَ مُنْذُ بَانَتْ مِنْ الْأَوَّلِ ، لَمْ يَلْحَقْ بِهِ أَيْضًا ، وَإِنْ وَضَعَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ تَزَوَّجَهَا الثَّانِي ، لَمْ يَلْحَقْ بِهِ ، وَيَنْتَفِي عَنْهُمَا ، وَإِنْ كَانَ لِأَكْثَرِ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ، فَهُوَ وَلَدُهُ ، وَإِنْ كَانَ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ تَزَوَّجَهَا الثَّانِي ، وَلِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ طَلَاقِ الْأَوَّلِ ، وَلَمْ يَعْلَمْ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ ، عُرِضَ عَلَى الْقَافَةِ ، وَلَحِقَ بِمِنْ أَلْحَقَتْهُ بِهِ مِنْهُمَا ، فَإِنْ أَلْحَقَتْهُ بِالْأَوَّلِ ، انْتَفَى عَنْ الزَّوْجِ بِغَيْرِ لِعَانٍ ، وَإِنْ أَلْحَقَتْهُ بِالزَّوْجِ انْتَفَى عَنْ الْأَوَّلِ وَلَحِقَ الزَّوْجَ .
وَهَلْ لَهُ نَفْيُهُ بِاللِّعَانِ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ .

( 6283 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( وَاللِّعَانُ الَّذِي يَبْرَأُ بِهِ مِنْ الْحَدِّ أَنْ يَقُولَ الزَّوْجُ بِمَحْضَرٍ مِنْ الْحَاكِمِ : أَشْهَدُ بِاَللَّهِ لَقَدْ زَنَتْ .
وَيُشِيرَ إلَيْهَا .
وَإِنْ لَمْ تَكُنْ حَاضِرَةً سَمَّاهَا ، وَنَسَبَهَا ، حَتَّى يُكْمِلَ ذَلِكَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ ، ثُمَّ يُوقَفُ عِنْدَ الْخَامِسَةِ ، وَيُقَالُ لَهُ : اتَّقِ اللَّهَ ، فَإِنَّهَا الْمُوجِبَةُ ، وَعَذَابُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ .
فَإِنْ أَبَى إلَّا أَنْ يُتِمَّ ، فَلْيَقُلْ : وَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ مِنْ الزِّنَا ، وَتَقُولُ هِيَ : أَشْهَدُ بِاَللَّهِ لَقَدْ كَذَبَ .
أَرْبَعَ مَرَّاتٍ ، ثُمَّ تُوقَفُ عِنْدَ الْخَامِسَةِ ، وَتُخَوَّفُ كَمَا خُوِّفَ الرَّجُلُ ، فَإِنْ أَبَتْ إلَّا أَنْ تُتِمَّ ، فَلْتَقُلْ : وَغَضَبُ اللَّهِ عَلَيْهَا إنْ كَانَ مِنْ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَانِي بِهِ مِنْ الزِّنَا ) فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَسْأَلَتَانِ : ( 6284 ) الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : أَنَّ اللِّعَانَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْحَاكِمِ ، أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ أَنْ يَسْتَدْعِيَ زَوْجَتَهُ إلَيْهِ ، وَلَاعَنَ بَيْنَهُمَا .
وَلِأَنَّهُ إمَّا يَمِينٌ ، وَإِمَّا شَهَادَةٌ ، وَأَيُّهُمَا كَانَ ، فَمِنْ شَرْطِهِ الْحَاكِمُ .
وَإِنْ تَرَاضَى الزَّوْجَانِ بِغَيْرِ الْحَاكِمِ يُلَاعِنُ بَيْنَهُمَا ، لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّغْلِيظِ وَالتَّأْكِيدِ ، فَلَمْ يَجُزْ بِغَيْرِ الْحَاكِمِ ، كَالْحَدِّ .
وَسَوَاءٌ كَانَ الزَّوْجَانِ حُرَّيْنِ أَوْ مَمْلُوكَيْنِ ، فِي ظَاهِرِ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : لِلسَّيِّدِ أَنْ يُلَاعِنَ بَيْنَ عَبْدِهِ وَأَمَتِهِ ؛ لِأَنَّ لَهُ إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَيْهِمَا .
وَلَنَا أَنَّهُ لِعَانٌ بَيْنَ زَوْجَيْنِ ، فَلَمْ يَجُزْ لِغَيْرِ الْحَاكِمِ أَوْ نَائِبِهِ ، كَاللِّعَانِ بَيْنَ الْحُرَّيْنِ .
وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ السَّيِّدَ يَمْلِكُ إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى أَمَتِهِ الْمُزَوَّجَةِ ، ثُمَّ لَا يُشْبِهُ

اللِّعَانُ الْحَدَّ ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ زَجْرٌ وَتَأْدِيبٌ ، وَاللِّعَانُ إمَّا شَهَادَةٌ وَإِمَّا يَمِينٌ ، فَافْتَرَقَا ، وَلِأَنَّ اللِّعَانَ دَارِئٌ لِلْحَدِّ ، وَمُوجِبٌ لَهُ ، فَجَرَى مَجْرَى إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الزِّنَا وَالْحُكْمِ بِهِ أَوْ بِنَفْيِهِ وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ خَفِرَةً لَا تَبْرُزُ لِحَوَائِجِهَا ، بَعَثَ الْحَاكِمُ نَائِبَهُ ، وَبَعَثَ مَعَهُ عُدُولًا ، لِيُلَاعِنُوا بَيْنَهُمَا ، وَإِنْ بَعَثَ نَائِبَهُ وَحْدَهُ جَازَ ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ غَيْرُ وَاجِبٍ .

( 6285 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ اللِّعَانُ بِمَحْضَرِ جَمَاعَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَابْنَ عُمَرَ وَسَهْلَ بْنَ سَعْدٍ حَضَرُوهُ مَعَ حَدَاثَةِ أَسْنَانِهِمْ ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ حَضَرَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ ؛ لِأَنَّ الصِّبْيَانَ إنَّمَا يَحْضُرُونَ الْمَجَالِسَ تَبَعًا لِلرِّجَالِ ، وَلِأَنَّ اللِّعَانَ بُنِيَ عَلَى التَّغْلِيظِ ، مُبَالَغَةً فِي الرَّدْعِ بِهِ وَالزَّجْرِ ، وَفِعْلُهُ فِي الْجَمَاعَةِ أَبْلَغُ فِي ذَلِكَ .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَنْقُصُوا عَنْ أَرْبَعَةٍ ، لِأَنَّ بَيِّنَةَ الزِّنَا الَّذِي شُرِعَ اللِّعَانُ مِنْ أَجْلِ الرَّمْيِ بِهِ أَرْبَعَةٌ ، وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا وَاجِبًا ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَلَاعَنَا قِيَامًا ، فَيَبْدَأُ الزَّوْجُ فَيَلْتَعِنُ وَهُوَ قَائِمٌ ، فَإِذَا فَرَغَ قَامَتْ الْمَرْأَةُ فَالْتَعَنَتْ وَهِيَ قَائِمَةٌ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِهِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ : { قُمْ فَاشْهَدْ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ } وَلِأَنَّهُ إذَا قَامَ شَاهَدَهُ النَّاسُ ، فَكَانَ أَبْلَغَ فِي شُهْرَتِهِ ، فَاسْتُحِبَّ كَثْرَةُ الْجَمْعِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ وَاجِبًا .
وَبِهَذَا كُلِّهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا .

( 6286 ) فَصْلٌ : قَالَ الْقَاضِي : وَلَا يُسْتَحَبُّ التَّغْلِيظُ فِي اللِّعَانِ بِمَكَانٍ ، وَلَا زَمَانٍ .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَطْلَقَ الْأَمْرَ بِذَلِكَ ، وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِزَمَانٍ وَلَا مَكَان ، فَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُهُ إلَّا بِدَلِيلٍ ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ الرَّجُلَ بِإِحْضَارِ امْرَأَتِهِ ، وَلَمْ يَخُصّهُ بِزَمَنٍ ، وَلَوْ خَصَّهُ بِذَلِكَ لَنُقِلَ وَلَمْ يُهْمَلْ .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَلَاعَنَا فِي الْأَزْمَانِ وَالْأَمَاكِنِ الَّتِي تُعَظَّمُ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، إلَّا أَنَّ عِنْدَهُ فِي التَّغْلِيظِ بِالْمَكَانِ قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا ، أَنَّ التَّغْلِيظَ بِهِ مُسْتَحَبُّ كَالزَّمَانِ .
وَالثَّانِي ، أَنَّهُ وَاجِبٌ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَاعَنَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ ، فَكَانَ فِعْلُهُ بَيَانًا لِلِّعَانِ .
وَمَعْنَى التَّغْلِيظِ بِالْمَكَانِ ، أَنَّهُمَا إذَا كَانَا بِمَكَّةَ لَاعَنَ بَيْنَهُمَا بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ ، فَإِنَّهُ أَشْرَفُ الْبِقَاعِ ، وَإِنْ كَانَ فِي الْمَدِينَةِ فَعِنْدَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ عَنَدَ الصَّخْرَةِ ، وَفِي سَائِرِ الْبُلْدَانِ فِي جَوَامِعِهَا .
وَأَمَّا الزَّمَانُ فَبَعْدَ الْعَصْرِ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاَللَّهِ } .
وَأَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّلَاةِ صَلَاةُ الْعَصْرِ .
قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ فِي مَوْضِعٍ أَوْ بَيْنَ الْأَذَانَيْنِ ؛ لِأَنَّ الدُّعَاءَ بَيْنَهُمَا لَا يُرَدُّ .
وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ ، وَلَوْ اُسْتُحِبَّ ذَلِكَ لَفَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ فَعَلَهُ لَنُقِلَ ، وَلَمْ يَسُغْ تَرْكُهُ وَإِهْمَالُهُ .
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَاعَنَ بَيْنَهُمَا عِنْدَ الْمِنْبَرِ .
فَلَيْسَ هَذَا فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْمَشْهُورَةِ .
وَإِنْ ثَبَتَ هَذَا ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ بِحُكْمِ الِاتِّفَاقِ ؛ لِأَنَّ

مَجْلِسَهُ كَانَ عِنْدَهُ ، فَلَاعَنَ بَيْنَهُمَا فِي مَجْلِسِهِ .
وَإِنْ كَانَ اللِّعَانُ بَيْنَ كَافِرَيْنِ ، فَالْحُكْمُ فِيهِ كَالْحُكْمِ فِي اللِّعَانِ بَيْنَ الْمُسْلِمَيْنِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُغَلَّظَ فِي الْمَكَانِ ؛ لِقَوْلِهِ فِي الْأَيْمَانِ : وَإِنْ كَانَ لَهُمْ مَوَاضِعُ يُعَظِّمُونَهَا ، وَيَتَوَقَّوْنَ أَنْ يَحْلِفُوا فِيهَا كَاذِبِينَ ، حُلِّفُوا فِيهَا .
فَعَلَى هَذَا ، يُلَاعَنُ بَيْنَهُمَا فِي مَوَاضِعِهِمْ اللَّاتِي يُعَظِّمُونَهَا ؛ النَّصْرَانِيُّ فِي الْكَنِيسَةِ ، وَالْيَهُودِيُّ فِي الْبِيعَةِ وَالْمَجُوسِيُّ فِي بَيْتِ النَّارِ .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَوَاضِعُ يُعَظِّمُونَهَا ، حَلَّفَهُمْ الْحَاكِمُ فِي مَجْلِسِهِ ؛ لِتَعَذُّرِ التَّغْلِيظِ بِالْمَكَانِ .
وَإِنْ كَانَتْ الْمُسْلِمَةُ حَائِضًا ، وَقُلْنَا : إنَّ اللِّعَانَ بَيْنَهُمَا يَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ .
وَقَفَتْ عَلَى بَابِهِ ، وَلَمْ تَدْخُلْهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ الْمَوَاضِعِ إلَيْهِ .

( 6287 ) الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي أَلْفَاظِ اللِّعَانِ وَصِفَتِهِ ، أَمَّا أَلْفَاظُهُ فَهِيَ خَمْسَةٌ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا .
وَصِفَتُهُ أَنَّ الْإِمَامَ يَبْدَأُ بِالزَّوْجِ ، فَيُقِيمُهُ ، لَهُ : وَيَقُولُ لَهُ : قُلْ أَرْبَعَ مَرَّات : أَشْهَدُ بِاَللَّهِ إنِّي لَمِنْ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْت بِهِ زَوْجَتِي هَذِهِ مِنْ الزِّنَا .
وَيُشِيرُ إلَيْهَا إنْ كَانَتْ حَاضِرَةً ، وَلَا يَحْتَاجُ مَعَ الْحُضُورِ وَالْإِشَارَةِ إلَى نَسَبِهِ وَتَسْمِيَتِهِ ، كَمَا لَا يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ فِي سَائِرِ الْعُقُودِ ، وَإِنْ كَانَتْ غَائِبَةً أَسْمَاهَا وَنَسَبَهَا ، فَقَالَ : امْرَأَتِي فُلَانَةُ بِنْتُ فُلَانٍ .
وَيَرْفَعُ فِي نَسَبِهَا حَتَّى يَنْفِي الْمُشَارَكَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرهَا .
فَإِذَا شَهِدَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ ، وَقَفَهُ الْحَاكِمُ ، وَقَالَ لَهُ : اتَّقِ اللَّهَ ، فَإِنَّهَا الْمُوجِبَةُ ، وَعَذَابُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ ، وَكُلُّ شَيْءٍ أَهْوَنُ مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ .
وَيَأْمُرُ رَجُلًا فَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى فِيهِ ، حَتَّى لَا يُبَادِرَ بِالْخَامِسَةِ قَبْلَ الْمَوْعِظَةِ ، ثُمَّ يَأْمُرُ الرَّجُلَ ، فَيُرْسِلُ يَدَهُ عَنْ فِيهِ ، فَإِنْ رَآهُ يَمْضِي فِي ذَلِكَ ، قَالَ لَهُ : قُلْ : وَإِنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيَّ إنْ كُنْت مِنْ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَيْت بِهِ زَوْجَتِي هَذِهِ مِنْ الزِّنَا .
ثُمَّ يَأْمُرُ الْمَرْأَةَ بِالْقِيَامِ ، وَيَقُولُ لَهَا قُولِي : أَشْهَدُ بِاَللَّهِ أَنَّ زَوْجِي هَذَا لَمِنْ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَانِي بِهِ مِنْ الزِّنَا .
وَتُشِيرُ إلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا أَسْمَتْهُ وَنَسَبَتْهُ ، فَإِذَا كَرَّرَتْ ذَلِكَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ ، وَقَفَهَا ، وَوَعَظَهَا كَمَا ذَكَرْنَا فِي حَقِّ الزَّوْجِ ، وَيَأْمُرُ امْرَأَةً فَتَضَعُ يَدَهَا عَلَى فِيهَا ، فَإِنْ رَآهَا تَمْضِي عَلَى ذَلِكَ ، قَالَ لَهَا : قُولِي : وَإِنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيَّ إنْ كَانَ زَوْجِي هَذَا مِنْ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَانِي بِهِ مِنْ الزِّنَا .
قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ : قُلْت لِأَحْمَدَ : كَيْفَ يُلَاعِنُ ؟ قَالَ : عَلَى مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ، يَقُولُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ : أَشْهَدُ

بِاَللَّهِ إنِّي فِيمَا رَمَيْتُهَا بِهِ لَمِنْ الصَّادِقِينَ .
ثُمَّ يُوقَفُ عِنْدَ الْخَامِسَةِ ، فَيَقُولُ : لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ .
وَالْمَرْأَةُ مِثْلُ ذَلِكَ ، تُوقَفُ عِنْدَ الْخَامِسَةِ ، فَيُقَالُ لَهَا اتَّقِ اللَّهَ ، فَإِنَّهَا الْمُوجِبَةُ ، تُوجِبُ عَلَيْكِ الْعَذَابَ .
فَإِنْ حَلَفَتْ ، قَالَتْ : غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهَا إنْ كَانَ مِنْ الصَّادِقِينَ .
وَعَدَدُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْخَمْسَةِ شَرْطٌ فِي اللِّعَانِ ، فَإِنْ أَخَلَّ بِوَاحِدَةٍ مِنْهَا ، لَمْ يَصِحَّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا مَضَى ، وَإِنْ أَبْدَلَ لَفْظًا مِنْهَا ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُبَدِّلَ قَوْلَهُ : إنِّي لَمِنْ الصَّادِقِينَ .
بِقَوْلِهِ : لَقَدْ زَنَتْ .
لِأَنَّ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ ، وَيَجُوزُ لَهَا إبْدَالُ : إنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ .
بِقَوْلِهَا : لَقَدْ كَذَبَ .
لِأَنَّهُ ذَكَرَ صِفَةَ اللِّعَانِ كَذَلِكَ .
وَاتِّبَاعُ لَفْظِ النَّصِّ أَوْلَى وَأَحْسَنُ .
وَإِنْ أَبْدَلَ لَفْظَةَ : ( أَشْهَدُ ) بِلَفْظٍ مِنْ أَلْفَاظِ الْيَمِينِ ، فَقَالَ : أَحْلِفُ أَوْ أُقْسِمُ أَوْ أُولِي .
لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ ، أَنَّهُ يُعْتَدُّ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِالْمَعْنَى ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَبْدَلَ : إنِّي لَمِنْ الصَّادِقِينَ .
بِقَوْلِهِ : لَقَدْ زَنَتْ .
وَلِلشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ فِي هَذَا .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ مَا اُعْتُبِرَ فِيهِ لَفْظُ الشَّهَادَةِ ، لَمْ يَقُمْ غَيْرُهُ مَقَامَهُ ، كَالشَّهَادَاتِ فِي الْحُقُوقِ ، وَلِأَنَّ اللِّعَانَ يُقْصَدُ فِيهِ التَّغْلِيظُ ، وَاعْتِبَارُ لَفْظِ الشَّهَادَاتِ أَبْلَغُ فِي التَّغْلِيظِ ، فَلَمْ يَجُزْ تَرْكُهُ ، وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقْسِمَ بِاَللَّهِ مِنْ غَيْرِ كَلِمَةٍ تَقُومُ مَقَامَ أَشْهَدُ .
وَالثَّانِي ، يُعْتَدُّ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِالْمَعْنَى ، أَشْبَهَ مَا قَبْلَهُ .
وَلِلشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ كَهَذَيْنِ .
وَإِنْ أَبْدَلَ لَفْظَةَ اللَّعْنَةِ بِالْإِبْعَادِ ، لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ لَفْظَ اللَّعْنَةِ أَبْلَغُ فِي الزَّجْرِ وَأَشَدُّ فِي أَنْفُسِ النَّاسِ ، وَلِأَنَّهُ عَدَلَ عَنْ

الْمَنْصُوصِ .
وَقِيلَ : يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ .
وَإِنْ أَبْدَلَتْ الْمَرْأَةُ لَفْظَةَ الْغَضَبِ بِاللَّعْنَةِ ، لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ الْغَضَبَ أَغْلَظُ ، وَلِهَذَا خُصَّتْ الْمَرْأَةُ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَعَرَّةَ بِزِنَاهَا أَقْبَحُ ، وَإِثْمُهَا بِفِعْلِ الزِّنَا أَعْظَمُ مِنْ إثْمِهِ بِالْقَذْفِ .
وَإِنْ أَبْدَلَتْهَا بِالسَّخَطِ ، خُرِّجَ عَلَى وَجْهَيْنِ فِيمَا إذَا أَبْدَلَ الرَّجُلُ لَفْظَ اللَّعْنَةِ بِالْإِبْعَادِ .
وَإِنْ أَبْدَلَ الرَّجُلُ لَفْظَةَ اللَّعْنَةِ بِالْغَضَبِ احْتَمَلَ أَنْ يَجُوزَ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ ، وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا يَجُوزَ ؛ لِمُخَالَفَتِهِ الْمَنْصُوصَ .
قَالَ الْوَزِيرُ يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ هُبَيْرَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : مِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ اشْتَرَطَ أَنْ يُزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ : مِنْ الصَّادِقِينَ : فِيمَا رَمَيْتُهَا بِهِ مِنْ الزِّنَا .
وَاشْتَرَطَ فِي نَفْيِهَا عَنْ نَفْسِهَا : فِيمَا رَمَانِي بِهِ مِنْ الزِّنَى .
وَلَا أَرَاهُ يَحْتَاجُ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَنْزَلَ ذَلِكَ وَبَيَّنَهُ ، وَلَمْ يَذْكُرْ هَذَا الِاشْتِرَاطَ .
وَأَمَّا مَوْعِظَةُ الْإِمَامِ لَهُمَا بَعْدَ الرَّابِعَةِ وَقَبْلَ الْخَامِسَةِ فَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ : لَمَّا كَانَتْ الْخَامِسَةُ ، قِيلَ : يَا هِلَالُ ، اتَّقِ اللَّهَ ، فَإِنَّهَا الْمُوجِبَةُ الَّتِي تُوجِبُ عَلَيْك الْعَذَابَ .
فَقَالَ : وَاَللَّهِ لَا يُعَذِّبُنِي اللَّهُ عَلَيْهَا ، كَمَا لَمْ يَجْلِدْنِي عَلَيْهَا .
فَشَهِدَ الْخَامِسَةَ .
فَلَمَّا كَانَتْ الْخَامِسَةُ ، قِيلَ لَهَا : اتَّقِ اللَّهَ ، فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ ، وَإِنَّ هَذِهِ الْمُوجِبَةُ الَّتِي تُوجِبُ عَلَيْك الْعَذَابَ .
فَتَلَكَّأَتْ سَاعَةً ، ثُمَّ قَالَتْ : وَاَللَّهِ لَا أَفْضَحُ قَوْمِي .
فَشَهِدَتْ الْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إنْ كَانَ مِنْ الصَّادِقِينَ .
وَرَوَى أَبُو إِسْحَاقَ الْجُوزَجَانِيُّ ، بِإِسْنَادِهِ ، حَدِيثَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ ، قَالَ : { فَشَهِدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ إنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ

فَأُمْسِكَ عَلَى فِيهِ فَوَعَظَهُ ، وَقَالَ : وَيْحَكَ كُلُّ شَيْءٍ أَهْوَنُ عَلَيْكَ مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ ثُمَّ أُرْسِلَ ، فَقَالَ : لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ .
ثُمَّ دَعَاهَا ، فَقَرَأَ عَلَيْهَا ، فَشَهِدَتْ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ إنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ ، ثُمَّ أُمِرَ بِهَا فَأُمْسِكَ عَلَى فِيهَا ، وَقَالَ : وَيْحَكِ كُلُّ شَيْءٍ أَهْوَنُ عَلَيْكِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ } وَذَكَرَ الْحَدِيثَ .

( 6288 ) فَصْلٌ : وَيُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ اللِّعَانِ شُرُوطٌ سِتَّةٌ : أَحَدهَا ، أَنْ يَكُونَ بِمَحْضَرِ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ .
الثَّانِي ، أَنْ يَأْتِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِاللِّعَانِ بَعْدَ إلْقَائِهِ عَلَيْهِ ، فَإِنْ بَادَرَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يُلْقِيَهُ الْإِمَامُ عَلَيْهِ ، لَمْ يَصِحَّ ، كَمَا لَوْ حَلَفَ قَبْلَ أَنْ يُحَلِّفَهُ الْحَاكِمُ .
الثَّالِثُ ، اسْتِكْمَالُ لَفْظَاتِ اللِّعَانِ الْخَمْسَةِ ، فَإِنْ نَقَصَ مِنْهَا لَفْظَةً ، لَمْ يَصِحَّ .
الرَّابِعُ أَنْ يَأْتِيَ بِصُورَتِهِ ، إلَّا مَا ذَكَرْنَا مِنْ الِاخْتِلَافِ فِي إبْدَالِ لَفْظَةٍ بِمِثْلِهَا فِي الْمَعْنَى .
الْخَامِسُ ، التَّرْتِيبُ ، فَإِنْ قَدَّمَ لَفْظَةَ اللَّعْنَةِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْأَرْبَعَةِ ، أَوْ قَدَّمَتْ الْمَرْأَةُ لِعَانَهَا عَلَى لِعَانِ الرَّجُلِ ، لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ .
السَّادِسُ ، الْإِشَارَةُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى صَاحِبِهِ إنْ كَانَ حَاضِرًا ، وَتَسْمِيَتُهُ وَنِسْبَتُهُ إنْ كَانَ غَائِبًا .
وَلَا يُشْتَرَطُ حُضُورُهُمَا مَعًا ، بَلْ لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا غَائِبًا عَنْ صَاحِبِهِ ، مِثْلُ إنْ لَاعَنَ الرَّجُلُ فِي الْمَسْجِدِ وَالْمَرْأَةُ عَلَى بَابِهِ ، لِعَدَمِ إمْكَانِ دُخُولِهَا ، جَازَ .

( 6289 ) فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ الزَّوْجَانِ يَعْرِفَانِ الْعَرَبِيَّةَ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَلْتَعِنَا بِغَيْرِهَا ؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ بِلَفْظِ الْعَرَبِيَّةِ .
وَإِنْ كَانَا لَا يُحْسِنَانِ ذَلِكَ ، جَازَ لَهُمَا الِالْتِعَانُ بِلِسَانِهِمَا ؛ لِمَوْضِعِ الْحَاجَةِ ، فَإِنْ كَانَ الْحَاكِمُ يُحْسِنُ لِسَانَهُمَا ، أَجْزَأَ ذَلِكَ ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَحْضُرَ مَعَهُ أَرْبَعَةٌ يُحْسِنُونَ لِسَانَهُمَا ، وَإِنْ كَانَ الْحَاكِمُ لَا يُحْسِنُ لِسَانَهُمَا ، فَلَا بُدَّ مِنْ تُرْجُمَانٍ .
قَالَ الْقَاضِي : وَلَا يُجْزِئُ فِي التَّرْجَمَةِ أَقَلُّ مِنْ اثْنَيْنِ عَدْلَيْنِ .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَظَاهِرُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ : وَلَا يُقْبَلُ فِي التَّرْجَمَةِ عَنْ أَعْجَمِيٍّ حَاكَمَ إلَيْهِ ، إذَا لَمْ يَعْرِفْ لِسَانَهُ ؛ أَقَلُّ مِنْ عَدْلَيْنِ يَعْرِفَانِ لِسَانَهُ .
وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ رِوَايَةً أُخْرَى ، أَنَّهُ يُجْزِئُ قَوْلُ عَدْلٍ وَاحِدٍ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

( 6290 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمْ فِي اللِّعَانِ وَلَدٌ ، ذَكَرَ الْوَلَدَ ، فَإِذَا قَالَ : أَشْهَدُ بِاَللَّهِ ، لَقَدْ زَنَتْ .
يَقُولُ : وَمَا هَذَا الْوَلَدُ وَلَدِي .
وَتَقُولُ هِيَ : أَشْهَدُ بِاَللَّهِ لَقَدْ كَذَبَ ، وَهَذَا الْوَلَدُ وَلَدُهُ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ ، أَنَّهُ مَتَى كَانَ اللِّعَانُ لِنَفْيِ وَلَدٍ ، فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِهِ فِي لِعَانِهِمَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا تَحْتَاجُ الْمَرْأَةُ إلَى ذِكْرِهِ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَنْفِيهِ ، وَإِنَّمَا احْتَاجَ الزَّوْجُ إلَى ذِكْرِهِ لِنَفْيِهِ .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : لَا يَحْتَاجُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا إلَى ذِكْرِهِ ، وَيَنْتَفِي بِزَوَالِ الْفِرَاشِ .
وَلَنَا ، أَنَّ مَنْ سَقَطَ حَقُّهُ بِاللِّعَانِ ، اُشْتُرِطَ ذِكْرُهُ فِيهِ ، كَالْمَرْأَةِ ، وَالْمَرْأَةُ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ ، فَكَانَ ذِكْرُ الْوَلَدِ شَرْطًا فِي لِعَانِهَا كَالزَّوْجِ ، وَلِأَنَّهُمَا مُتَحَالِفَانِ عَلَى شَيْءٍ ، فَاشْتُرِطَ ذِكْرُهُ فِي تَحَالُفِهِمَا كَالْمُخْتَلِفِينَ فِي الْيَمِينِ .
وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ يُكْتَفَى بِقَوْلِ الزَّوْجِ : وَمَا هَذَا الْوَلَدُ وَلَدِي .
وَمِنْ الْمَرْأَةِ بِقَوْلِهَا : وَهَذَا الْوَلَدُ وَلَدُهُ .
وَقَالَ الْقَاضِي : يُشْتَرَطُ أَنْ يَقُولَ : هَذَا الْوَلَدُ مِنْ زِنًا ، وَلَيْسَ هُوَ مِنِّي .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُرِيدُ بِقَوْلِهِ : لَيْسَ هُوَ مِنِّي .
يَعْنِي خَلْقًا وَخُلُقًا .
وَلَمْ تَقْتَصِرْ عَلَى قَوْلِهِ : مِنْ زِنًا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْوَطْءَ فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ زِنًا ، فَأَكَّدْنَا بِذِكْرِهِمَا جَمِيعًا .
وَلَنَا أَنَّهُ نَفَى الْوَلَدَ فِي اللِّعَانِ فَاكْتُفِيَ بِهِ ، كَمَا لَوْ ذَكَرَ اللَّفْظَيْنِ ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ التَّأْكِيدِ تَحَكُّمٌ بِغَيْرِ دَلِيلٍ ، وَلَا يَنْتَفِي الِاحْتِمَالُ بِضَمِّ إحْدَى اللَّفْظَتَيْنِ إلَى الْأُخْرَى ، فَإِنَّهُ إذَا اعْتَقَدَ أَنَّهُ مِنْ وَطْءٍ فَاسِدٍ ، وَاعْتَقَدَ أَنَّ ذَلِكَ زِنًا صَحَّ مِنْهُ أَنْ يَقُولَ اللَّفْظَيْنِ جَمِيعًا ، وَقَدْ يُرِيدُ أَنَّهُ لَا يُشْبِهُنِي خَلْقًا وَخُلُقًا ، أَوْ أَنَّهُ مِنْ وَطْءٍ فَاسِدٍ .
فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ الْوَلَدَ

فِي اللِّعَانِ ، لَمْ يَنْتَفِ عَنْهُ .
فَإِنْ أَرَادَ نَفْيَهُ ، أَعَادَ اللِّعَانَ ، وَيَذْكُرُ نَفْيَ الْوَلَدِ فِيهِ .

( 6291 ) فَصْلٌ : وَإِذَا قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِالزِّنَا بِرَجُلٍ بِعَيْنِهِ ، فَقَدْ قَذَفَهُمَا ، وَإِذَا لَاعَنَهَا سَقَطَ الْحَدُّ عَنْهُ لَهُمَا ، سَوَاءٌ ذَكَرَ الرَّجُلَ فِي لِعَانِهِ أَوْ لَمْ يَذْكُرْهُ ، وَإِنْ لَمْ يُلَاعِنْ ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْمُطَالَبَةُ ، وَأَيُّهُمَا طَالَبَ ، حُدَّ لَهُ ، وَمَنْ لَمْ يُطَالِبْ ، فَلَا يُحَدُّ لَهُ ، كَمَا لَوْ قَذَفَ رَجُلًا بِالزِّنَا بِامْرَأَةٍ مُعَيَّنَةٍ .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٍ ، إلَّا فِي أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ حَدُّهُ بِلِعَانِهَا .
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : الْقَذْفُ لِلزَّوْجَةِ وَحْدَهَا ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِغَيْرِهَا حَقٌّ فِي الْمُطَالَبَةِ وَلَا الْحَدِّ ؛ لِأَنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ زَوْجَتَهُ بِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاءَ ، فَلَمْ يَحُدَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَزَّرَهُ لَهُ .
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ : يَجِبُ الْحَدُّ لَهُمَا ، وَهَلْ يَجِبُ حَدٌّ وَاحِدٌ أَوْ حَدَّانِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا يَجِبُ إلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ ، قَوْلًا وَاحِدًا .
وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ أَنَّهُ إذَا لَاعَنَ ، وَذَكَرَ الْأَجْنَبِيَّ فِي لِعَانِهِ ، أَنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ حُكْمُهُ ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ .
وَلَنَا ، أَنَّ اللِّعَانَ بَيِّنَةٌ فِي أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ ، فَكَانَ بَيِّنَةً فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ ، كَالشَّهَادَةِ ، وَلِأَنَّ بِهِ حَاجَةً إلَى قَذْفِ الزَّانِي ، لِمَا أَفْسَدَ عَلَيْهِ مِنْ فِرَاشِهِ ، وَرُبَّمَا يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِهِ لِيَسْتَدِلَّ بِشَبَهِ الْوَلَدِ لِلْمَقْذُوفِ عَلَى صِدْقِ قَاذِفِهِ .
كَمَا اسْتَدَلَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى صِدْقِ هِلَالٍ بِشَبَهِ الْوَلَدِ لِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاءَ ، فَوَجَبَ أَنْ يُسْقِطَ حُكْمَ قَذْفِهِ مَا أَسْقَطَ حُكْمَ قَذْفِهَا ، قِيَاسًا لَهُ عَلَيْهَا .

( 6292 ) فَصْلٌ : وَلَوْ قَذَفَ امْرَأَتَهُ وَأَجْنَبِيَّةً أَوْ أَجْنَبِيًّا بِكَلِمَتَيْنِ ، فَعَلَيْهِ حَدَّانِ لَهُمَا ، فَيَخْرُجُ مِنْ حَدِّ الْأَجْنَبِيَّةِ بِالْبَيِّنَةِ خَاصَّةً ، وَمِنْ حَدِّ الزَّوْجَةِ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ اللِّعَانِ .
وَإِنْ قَذَفَهُمَا بِكَلِمَةٍ ، فَكَذَلِكَ ، إلَّا أَنَّهُ إذَا لَمْ يُلَاعِنْ ، وَلَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ ، فَهَلْ يُحَدُّ لَهُمَا حَدًّا وَاحِدًا أَوْ حَدَّيْنِ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا ، يُحَدُّ حَدًّا وَاحِدًا .
وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ .
وَزَادَ أَبُو حَنِيفَةَ : سَوَاءٌ كَانَ بِكَلِمَةٍ أَوْ بِكَلِمَاتٍ ؛ لِأَنَّهُمَا حُدُودٌ مِنْ جِنْسٍ ، فَوَجَبَ أَنْ تَتَدَاخَلَ ، كَحُدُودِ الزِّنَا .
وَالثَّانِيَةُ : إنْ طَالَبُوا مُجْتَمِعِينَ فَحَدٌّ وَاحِدٌ ، وَإِنْ طَالَبُوا مُتَفَرِّقِينَ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ حَدٌّ ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا اجْتَمَعُوا فِي الطَّلَبِ ، أَمْكَنَ إيفَاؤُهُمْ بِالْحَدِّ الْوَاحِدِ ، وَإِذَا تَفَرَّقُوا لَمْ يُمْكِنْ جَعْلُ الْحَدِّ الْوَاحِدِ إيفَاءً لِمَنْ لَمْ يُطَالِبْ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إقَامَةُ الْحَدِّ لَهُ قَبْلَ الْمُطَالَبَةِ مِنْهُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ، فِي الْجَدِيدِ : يُقَامُ لِكُلِّ وَاحِدٍ حَدٌّ بِكُلِّ حَالٍ ؛ لِأَنَّهَا حُقُوقٌ لِآدَمِيِّينَ ، فَلَمْ تَتَدَاخَلْ ، كَالدُّيُونِ .
وَلَنَا أَنَّهُ إذَا قَذَفَهُمَا بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ يُجْزِئُ حَدٌّ وَاحِدٌ ، أَنَّهُ يَظْهَرُ كَذِبُهُ فِي قَذْفِهِ ، وَبَرَاءَةُ عِرْضِهِمَا مِنْ رَمْيِهِ بِحَدٍّ وَاحِدٍ ، فَأَجْزَأَ ، كَمَا لَوْ كَانَ الْقَذْفُ لَوَاحِدٍ .
وَإِذَا قَذَفَهُمَا بِكَلِمَتَيْنِ ، وَجَبَ حَدَّانِ ؛ لِأَنَّهُمَا قَذْفَانِ لِشَخْصَيْنِ ، فَوَجَبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ حَدٌّ ، كَمَا لَوْ قَذَفَ الثَّانِي بَعْدَ حَدِّ الْأَوَّلِ .
وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِيمَا إذَا قَذَفَ أَجْنَبِيَّتَيْنِ أَوْ أَجْنَبِيَّاتٍ ، فَالتَّفْصِيلُ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ .
وَإِنْ قَذَفَ أَرْبَعَ نِسَائِهِ ، فَالْحُكْمُ فِي الْحَدِّ كَذَلِكَ .
وَإِنْ أَرَادَ اللِّعَانَ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُلَاعِنَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ لِعَانًا مُفْرَدًا ، وَيَبْدَأُ بِلِعَانِ الَّتِي تَبْدَأُ بِالْمُطَالَبَةِ ، فَإِنْ طَالَبْنَ

جَمِيعًا ، وَتَشَاحَحْنَ ، بَدَأَ بِإِحْدَاهُنَّ بِالْقُرْعَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَتَشَاحَحْنَ ، بَدَأَ بِلِعَانِ مَنْ شَاءَ مِنْهُنَّ ، وَلَوْ بَدَأَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ مَعَ الْمُشَاحَّةِ صَحَّ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُجْزِئَهُ لِعَانٌ وَاحِدٌ ، فَيَقُولُ : أَشْهَدُ بِاَللَّهِ إنِّي لَمِنْ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْت بِهِ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ زَوْجَاتِي هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعِ مِنْ الزِّنَا .
وَتَقُولُ كُلُّ وَاحِدَةٍ : أَشْهَدُ بِاَللَّهِ إنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَانِي بِهِ مِنْ الزِّنَى .
لِأَنَّهُ يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ بِذَلِكَ .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ أَيْمَانٌ فَلَا تَتَدَاخَلُ لِجَمَاعَةٍ ، كَالْأَيْمَانِ فِي الدُّيُونِ .

( 6293 ) فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ : يَا زَانِيَةُ بِنْتَ الزَّانِيَةِ .
فَقَدْ قَذَفَهَا ، وَقَذَفَ أُمَّهَا بِكَلِمَتَيْنِ ، وَالْحُكْمُ فِي الْحَدِّ لَهُمَا عَلَى مَا مَضَى مِنْ التَّفْصِيلِ فِيهِ ، فَإِنْ اجْتَمَعَا فِي الْمُطَالَبَةِ ، فَفِي أَيَّتِهِمَا يُقَدَّمُ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا الْأُمُّ ؛ لِأَنَّ حَقَّهَا آكَدُ ، لِكَوْنِهِ لَا يَسْقُطُ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ ، وَلِأَنَّ لَهَا فَضِيلَةَ الْأُمُومَةِ .
وَالثَّانِي ، تَقْدِيمُ الْبِنْتُ ؛ لِأَنَّهُ بَدَأَ بِقَذْفِهَا .
وَمَتَى حُدَّ لِإِحْدَاهُمَا ، ثُمَّ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِلْأُخْرَى ، لَمْ يُحَدَّ حَتَّى يَبْرَأَ جِلْدُهُ مِنْ حَدِّ الْأُولَى .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّ الْحَدَّ هَاهُنَا حَقٌّ لِآدَمِيٍّ ، فَلَمْ لَا يُوَالَى بَيْنَهُمَا كَالْقِصَاصِ ، فَإِنَّهُ لَوْ قَطَعَ يَدَيْ رَجُلَيْنِ ، قَطَعْنَا يَدَيْهِ لَهُمَا ، وَلَمْ نُؤَخِّرْهُ ؟ قُلْنَا : لِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ لَا يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ سَبَبِهِ قَبْلَ إقَامَةِ حَدِّهِ ، فَالْمُوَالَاةُ بَيْنَ حَدَّيْنِ فِيهِ تُخْرِجُهُ عَنْ مَوْضُوعِهِ ، وَالْقِصَاصُ يَجُوزُ أَنْ تُقْطَعَ الْأَطْرَافُ كُلُّهَا فِي قِصَاصٍ وَاحِدٍ ، فَإِذَا جَازَ لِوَاحِدٍ ، فَلِاثْنَيْنِ أَوْلَى .

( 6294 ) فَصْلٌ : وَإِنْ قَذَفَ مُحْصَنًا مَرَّاتٍ ، فَحَدٌّ وَاحِدٌ ، رِوَايَةً وَاحِدَةً ، سَوَاءٌ قَذَفَهُ بِزِنًا آخَرَ ، أَوْ كَرَّرَ الْقَذْفَ بِالْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُمَا حَدَّانِ تَرَادَفَ سَبَبُهُمَا ، فَتَدَاخَلَا ، كَالزِّنَا مِرَارًا .
وَإِنْ قَذَفَهُ فَحُدَّ لَهُ ، ثُمَّ قَذَفَهُ مَرَّةً أُخْرَى بِذَلِكَ الزِّنَا ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تُحُقِّقَ كَذِبُهُ فِيهِ بِالْحَدِّ ، فَلَا حَاجَةَ إلَى إظْهَارِ كَذِبِهِ فِيهِ ثَانِيًا ، وَلَمَّا جَلَدَ عُمَرُ أَبَا بَكْرَةَ حِينَ شَهِدَ عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ ، أَعَادَ قَذْفَهُ ، فَهَمَّ عُمَرُ بِإِعَادَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ : إنْ جَلَدْتَهُ فَارْجُمْ صَاحِبَهُ .
فَتَرَكَهُ .
وَلَكِنَّهُ يُعَزَّرُ تَعْزِيرَ السَّبِّ وَالشَّتْمِ .
وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ فِيهِ رِوَايَةً أُخْرَى ، أَنَّ عَلَيْهِ الْحَدَّ ثَانِيًا ؛ لِأَنَّهُ قَذْفٌ ثَانٍ بَعْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَذَفَهُ بِزِنًا ثَانٍ .
وَأَمَّا إنْ قَذَفَهُ بِزِنًا آخَرَ ، فَعَلَيْهِ حَدٌّ آخَرُ ؛ لِأَنَّهُ قَذْفٌ لِمُحْصَنٍ لَمْ يُحَدَّ فِيهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَقَّبَهُ الْحَدُّ كَالْأَوَّلِ ، وَلِأَنَّ سَبَبَ الْحَدِّ وُجِدَ بَعْدَ إقَامَتِهِ ، فَأُعِيدَ عَلَيْهِ ، كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ .
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى ، لَا حَدَّ عَلَيْهِ فِي الثَّانِي ؛ لِأَنَّهُ حُدَّ لِصَاحِبِهِ مَرَّةً ، فَلَا يُعَادُ عَلَيْهِ الْحَدُّ ، كَمَا لَوْ قَذَفَهُ بِالزِّنَا الْأَوَّلِ .
وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يُعَزَّرُ تَعْزِيرَ السَّبِّ وَالشَّتْمِ .
وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ فِيمَا إذَا تَقَارَبَ الْقَذْفُ الثَّانِي مِنْ الْحَدِّ ، فَأَمَّا إذَا تَبَاعَدَ زَمَانُهُمَا ، وَجَبَ الْحَدُّ بِكُلِّ حَالٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَدُّهُ مَرَّةً مِنْ أَجْلِهِ فَوَجَبَ إطْلَاقَ عِرْضِهِ لَهُ .
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا كَمَذْهَبِنَا ، إلَّا أَنَّهُمْ حَكَوْا عَنْ الشَّافِعِيِّ ، فِيمَا إذَا أَعَادَ الْقَذْفَ بِزِنًا ثَانٍ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ ، قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا ، يَجِبُ حَدٌّ وَاحِدٌ .
وَالثَّانِي ، يَجِبُ حَدَّانِ .
فَأَمَّا إنْ قَذَفَ أَجْنَبِيَّةً ،

ثُمَّ تَزَوَّجَهَا ، ثُمَّ قَذَفَهَا ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ لِلْقَذْفِ الْأَوَّلِ ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِلثَّانِي .
فِي قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ وَحُكِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ الزُّهْرِيِّ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَذَفَ أَجْنَبِيَّةً قَذْفَيْنِ ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ حَدٍّ وَاحِدٍ .
وَاخْتَارَ الْقَاضِي أَنَّهُ إنْ قَذَفَهَا بِالزِّنَا الْأَوَّلِ ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ حَدٍّ وَاحِدٍ ، وَلَيْسَ لَهُ إسْقَاطُهُ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ ، وَإِنْ قَذَفَهَا بِزِنًا آخَرَ ، فَهُوَ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِيمَا إذَا قَذَفَ الْأَجْنَبِيَّةَ ، ثُمَّ حُدَّ لَهَا ، ثُمَّ قَذَفَهَا بِزِنَا آخَرَ ، فَإِنْ قُلْنَا : يَجِبُ حَدَّانِ .
فَطَالَبَتْ الْمَرْأَةُ بِمُوجَبِ الْقَذْفِ الْأَوَّلِ ، فَأَقَامَ بِهِ بَيِّنَةً ، سَقَطَ عَنْهُ حَدُّهُ ، وَلَمْ يَجِبْ فِي الثَّانِي حَدُّ ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُحْصَنَةٍ ، وَإِنْ لَمْ يُقِمْ بَيِّنَةً ، حُدَّ لَهَا .
وَمَتَى طَالَبَتْهُ بِمُوجَبِ الثَّانِي ، فَأَقَامَ بِهِ بَيِّنَةً ، أَوْ لَاعَنَهَا ، سَقَطَ ، وَإِلَّا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَذْفَ مُوجَبُهُ غَيْرُ مُوجَبِ الْأَوَّلِ ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ مُوجَبُهُ الْحَدُّ عَلَى الْخُصُوصِ ، وَالثَّانِي مُوجَبُهُ اللِّعَانُ أَوْ الْحَدُّ .
وَإِنْ بَدَأَتْ بِالْمُطَالَبَةِ بِمُوجَبِ الثَّانِي ، فَأَقَامَ بَيِّنَةً بِهِ ، أَوْ لَاعَنَ ، سَقَطَ حَدُّهُ ، وَلَهَا الْمُطَالَبَةُ بِمُوجَبِ الْأَوَّلِ ، فَإِنْ أَقَامَ بِهِ بَيِّنَةً ، وَإِلَّا حُدَّ .
قَالَ الْقَاضِي : إنْ أَقَامَ بِالثَّانِي بَيِّنَةً ، سَقَطَ مُوجَبُ الْأَوَّلِ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ غَيْرَ مُحْصَنَةٍ ، فَلَا يَثْبُتُ لَهَا حَدُّ الْمُحْصَنَاتِ .
وَلَنَا أَنَّ سُقُوطَ إحْصَانِهَا فِي الثَّانِي ، لَا يُوجِبُ سُقُوطَهُ فِيمَا قَبْلَ ذَلِكَ ، كَمَا لَوْ اسْتَوْفَى حَدَّهُ قَبْلَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ .
وَلَعَلَّ هَذَا يَنْبَنِي عَلَى مَا إذَا قَذَفَ رَجُلًا فَلَمْ يُقِمْ الْحَدَّ عَلَى الْقَاذِفِ حَتَّى زَنَى الْمَقْذُوفُ .
وَإِنْ لَمْ يُقِمْ بَيِّنَةً عَلَيْهِمَا ، وَلَمْ يَلْتَعِنَ لِلثَّانِي ، لَمْ يَجِبْ إلَّا حَدٌّ

وَاحِدٌ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ؛ وَلِأَنَّهُمَا حَدَّانِ مِنْ جِنْسَيْنِ تَرَادَفَا ، فَلَمْ يَقُمْ أَحَدُهُمَا ، فَتَدَاخَلَا ، كَمَا لَوْ قَذَفَهَا وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ قَذْفَيْنِ .
وَلَوْ قَذَفَ زَوْجَتَهُ ، فَحُدَّ لَهَا ، ثُمَّ أَعَادَ قَذْفَهَا بِذَلِكَ الزِّنَا ، لَمْ يُحَدَّ لَهَا ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي إعَادَةِ قَذْفِ الْأَجْنَبِيِّ ، لَكِنْ يُعَزَّرُ لِلْأَذَى وَالسَّبِّ ، وَلَيْسَ لَهُ إسْقَاطُ التَّعْزِيرِ بِاللِّعَانِ ؛ لِأَنَّهُ تَعْزِيرُ سَبٍّ ، لَا تَعْزِيرُ قَذْفٍ ، إلَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تُلْزِمُ الْأَجْنَبِيَّ حَدًّا ثَانِيًا بِإِعَادَةِ الْقَذْفِ ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ هَاهُنَا حَدٌّ ، وَلَهُ إسْقَاطُهُ بِاللِّعَانِ .
وَإِنْ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ بَعْدَ حَدِّهِ ، فَذَكَرَ أَنَّهُ مِنْ ذَلِكَ الزِّنَا ، فَلَهُ اللِّعَانُ لِإِسْقَاطِهِ ، عَلَى كِلْتَا الرِّوَايَتَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى نَفْيِهِ .
وَإِنْ قَذَفَهَا فِي الزَّوْجِيَّةِ قَذْفَيْنِ بِزِنَاءَيْنِ ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ ، وَيَكْفِيهِ لِعَانٌ وَاحِدٌ ؛ لِأَنَّهُ يَمِينٌ ، فَإِذَا كَانَ الْحَقَّانِ لِوَاحِدٍ كَفَتْهُ ، يَمِينٌ وَاحِدَةٌ ، لَكِنَّهُ يَحْتَاجُ أَنْ يَقُولَ : أَشْهَدُ بِاَللَّهِ إنِّي لَمِنْ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتُهَا بِهِ مِنْ الزِّنَاءَيْنِ .
وَفَارَقَ مَا إذَا قَذَفَ زَوْجَتَيْنِ ، حَيْثُ لَا يَكْفِيهِ لِعَانٌ وَاحِدٌ ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ وَجَبَتْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، فَلَا تَتَدَاخَلُ ، كَسَائِرِ الْأَيْمَانِ .
وَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ بِالْأَوَّلِ ، سَقَطَ عَنْهُ مُوجَبُ الثَّانِي ؛ لِأَنَّهُ زَالَ إحْصَانُهَا ، وَلَا لِعَانَ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ نَسَبٌ يُرِيدُ نَفْيَهُ .
وَإِنْ أَقَامَهَا بِالثَّانِي لَمْ يَسْقُطْ الْحَدُّ الْأَوَّلُ ، وَلَهُ إسْقَاطُهُ بِاللِّعَانِ ، إلَّا عَلَى قَوْلِ الْقَاضِي ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الثَّانِي .
وَإِنْ قَذَفَهَا فِي الزَّوْجِيَّةِ وَلَاعَنَهَا ثُمَّ قَذَفَهَا بِالزِّنَا الْأَوَّلِ ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ حَقَّقَهُ بِلِعَانِهِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُحَدَّ ، كَمَا لَوْ قَذَفَهَا بِهِ أَجْنَبِيٌّ .
وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي .
وَلَوْ

قَذَفَهَا بِهِ أَجْنَبِيٌّ ، أَوْ بِزِنَا غَيْرِهِ ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، مِنْهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَقَتَادَةُ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو عُبَيْدٍ وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ عَنْ أَصْحَابِ الرَّأْيِ ، أَنَّهُمْ قَالُوا : إنْ لَمْ يَنْفِ بِلِعَانِهَا وَلَدًا ، حُدَّ قَاذِفُهَا ، وَإِنْ نَفَاهُ ، فَلَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِهَا ؛ لِأَنَّهُ مُنْتَفٍ عَنْ زَوْجِهَا بِالشَّرْعِ .
وَلَنَا مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ رَمَاهَا ، أَوْ وَلَدَهَا ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَهَذَا نَصٌّ ، فَإِنَّهُ نَصَّ عَلَى مَنْ رَمَاهَا ، مَعَ أَنَّ وَلَدَهَا مَنْفِيٌّ عَنْ الْمُلَاعِنِ شَرْعًا ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ زِنَاهَا ، وَلَا زَالَ إحْصَانُهَا ، فَيَلْزَمُ قَاذِفَهَا الْحَدُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } ، وَكَمَا لَوْ لَمْ يَنْفِ وَلَدَهَا .
فَأَمَّا إنْ أَقَامَ بَيِّنَةً ، فَقَذَفَهَا قَاذِفٌ بِذَلِكَ الزِّنَا ، أَوْ بِغَيْرِهِ ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ زَالَ إحْصَانُهَا ، وَلِأَنَّ هَذَا الْقَذْفَ لَمْ يُدْخِلْ الْمَعَرَّةَ عَلَيْهَا ، وَإِنَّمَا دَخَلَتْ الْمَعَرَّةُ بِقِيَامِ الْبَيِّنَةِ ، وَلَكِنَّهُ يُعَزَّرُ تَعْزِيرَ السَّبِّ وَالْأَذَى .
وَهَكَذَا كُلُّ مَنْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ بِزِنَاهُ ، لَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِهِ .
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَلَكِنَّهُ يُعَزَّرُ تَعْزِيرَ السَّبِّ وَالْأَذَى ، وَلَا يَمْلِكُ الزَّوْجُ إسْقَاطَهُ عَنْ نَفْسِهِ بِاللِّعَانِ ؛ لِمَا قَدَّمْنَاهُ .
وَإِنْ قَذَفَ زَوْجَتَهُ وَلَاعَنَهَا ، ثُمَّ قَذَفَهَا بِزِنًا آخَرَ ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ ؛ لِأَنَّهَا بَانَتْ مِنْهُ بِاللِّعَانِ ، وَصَارَتْ أَجْنَبِيَّةً ، إلَّا أَنْ يُضِيفَ الزِّنَا إلَى حَالِ الزَّوْجِيَّةِ ، فَعِنْدَ ذَلِكَ إنْ كَانَ ثَمَّ نَسَبٌ يُرِيدُ نَفْيَهُ ، فَلَهُ الْمُلَاعَنَةُ لِنَفْيِهِ ، وَإِلَّا لَزِمَهُ الْحَدُّ ، وَلَا

لِعَانَ بَيْنَهُمَا .

( 6295 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( فَإِنْ الْتَعَنَ هُوَ ، وَلَمْ تَلْتَعِنْ هِيَ ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهَا ، وَالزَّوْجِيَّةُ بِحَالِهَا ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا لَاعَنَهَا ، وَامْتَنَعَتْ هِيَ مِنْ الْمُلَاعَنَةِ ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهَا .
وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَارِثِ الْعُكْلِيِّ وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ وَذَهَبَ مَكْحُولٌ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو عُبَيْدٍ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَأَبُو إِسْحَاقَ الْجُوزَجَانِيُّ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ ، إلَى أَنَّ عَلَيْهَا الْحَدَّ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ } وَالْعَذَابُ الَّذِي يَدْرَؤُهُ لِعَانُهَا ، هُوَ الْحَدُّ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ } وَلِأَنَّهُ بِلِعَانِهِ حَقَّقَ زِنَاهَا ، فَوَجَبَ عَلَيْهَا الْحَدُّ ، كَمَا لَوْ شَهِدَ عَلَيْهَا أَرْبَعَةٌ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ مِنْ زِنَاهَا ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهَا الْحَدُّ ، كَمَا لَوْ لَمْ يُلَاعِنْ ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ أَنَّ تَحَقُّقَ زِنَاهَا لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ بِلِعَانِ الزَّوْجِ ، أَوْ بِنُكُولِهَا ، أَوْ بِهِمَا ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِلِعَانِ الزَّوْجِ وَحْدَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ زِنَاهَا بِهِ ، لَمَا سُمِعَ لِعَانُهَا ، وَلَا وَجَبَ الْحَدُّ عَلَى قَاذِفِهَا ، وَلِأَنَّهُ إمَّا يَمِينٌ ، وَإِمَّا شَهَادَةٌ ، وَكِلَاهُمَا لَا يُثْبِتُ لَهُ الْحَقَّ عَلَى غَيْرِهِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ بِنُكُولِهَا ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ لَا يَثْبُتُ بِالنُّكُولِ ، فَإِنَّهُ يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ ، فَلَا يَثْبُتُ بِهَا ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ النُّكُولَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِشِدَّةِ خَفَرِهَا ، أَوْ لِعُقْلَةِ عَلَى لِسَانِهَا ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ، فَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُ الْحَدِّ الَّذِي اُعْتُبِرَ فِي بَيِّنَتِهِ مِنْ الْعَدَدِ ضِعْفُ مَا اُعْتُبِرَ فِي سَائِرِ الْحُدُودِ ، وَاعْتُبِرَ فِي حَقِّهِمْ أَنْ يَصِفُوا صُورَةَ الْفِعْلِ ، وَأَنْ يُصَرِّحُوا بِلَفْظِهِ ، وَغَيْرُ ذَلِكَ ، مُبَالَغَةً فِي نَفْيِ

الشُّبُهَاتِ عَنْهُ ، وَتَوَسُّلًا إلَى إسْقَاطِهِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقْضَى فِيهِ بِالنُّكُولِ الَّذِي هُوَ فِي نَفْسِهِ شُبْهَةٌ ، لَا يُقْضَى بِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْحُدُودِ وَلَا الْعُقُوبَاتِ ، وَلَا مَا عَدَا الْأَمْوَالَ ، مَعَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ لَا يَرَى الْقَضَاءَ بِالنُّكُولِ فِي شَيْءٍ ، فَكَيْفَ يَقْضِي بِهِ فِي أَعْظَمِ الْأُمُورِ وَأَبْعَدِهَا ثُبُوتًا ، وَأَسْرَعِهَا سُقُوطًا ، وَلِأَنَّهَا لَوْ أَقَرَّتْ بِلِسَانِهَا ، ثُمَّ رَجَعَتْ ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا الْحَدُّ فَلَأَنْ لَا يَجِبَ بِمُجَرَّدِ امْتِنَاعِهَا مِنْ الْيَمِينِ عَلَى بَرَاءَتِهَا أَوْلَى ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقْضَى فِيهِ بِهِمَا ؛ لِأَنَّ مَا لَا يُقْضَى فِيهِ بِالْيَمِينِ الْمُفْرَدَةِ ، لَا يُقْضَى فِيهِ بِالْيَمِينِ مَعَ النُّكُولِ ، كَسَائِرِ الْحُقُوقِ ، وَلِأَنَّ مَا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الشُّبْهَةِ لَا يَنْتَفِي بِضَمِّ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخِرِ ، فَإِنَّ احْتِمَالَ نُكُولِهَا ، لِفَرْطِ حَيَائِهَا وَعَجْزِهَا عَنْ النُّطْقِ بِاللِّعَانِ فِي مَجْمَعِ النَّاسِ ، لَا يَزُولُ بِلِعَانِ الزَّوْجِ ، وَالْعَذَابُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحَبْسَ أَوْ غَيْرَهُ ، فَلَا يَتَعَيَّنُ فِي الْحَدِّ ، وَإِنْ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُرَادَ ، فَلَا يَثْبُتُ الْحَدُّ بِالِاحْتِمَالِ ، وَقَدْ يُرَجَّحُ مَا ذَكَرْنَاهُ بِقَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، إنَّ الْحَدَّ عَلَى مَنْ زَنَى وَقَدْ أَحْصَنَ ، إذَا كَانَتْ بَيِّنَةٌ ، أَوْ كَانَ الْحَمْلُ ، أَوْ الِاعْتِرَافُ .
فَذَكَرَ مُوجِبَاتِ الْحَدِّ ، وَلَمْ يَذْكُرْ اللِّعَانَ .
وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِيمَا يُصْنَعُ بِهَا ؛ فَرُوِيَ أَنَّهَا تُحْبَسُ حَتَّى تَلْتَعِنَ أَوْ تُقِرَّ أَرْبَعًا .
قَالَ أَحْمَدُ : فَإِنْ أَبَتِ الْمَرْأَةُ أَنْ تَلْتَعِنَ بَعْدَ الْتِعَانِ الرَّجُلِ ، أَجْبَرْتُهَا عَلَيْهِ ، وَهِبْت أَنْ أَحْكُمَ عَلَيْهَا بِالرَّجْمِ ؛ لِأَنَّهَا لَوْ أَقَرَّتْ بِلِسَانِهَا لَمْ أَرْجُمْهَا إذَا رَجَعَتْ ، فَكَيْفَ إذَا أَبَتِ اللِّعَانَ ، وَلَا يَسْقُطُ النَّسَبُ إلَّا بِالْتِعَانِهِمَا جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ الْفِرَاشَ قَائِمٌ حَتَّى تَلْتَعِنَ ، وَالْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ .
قَالَ الْقَاضِي : هَذِهِ

الرِّوَايَةُ أَصَحُّ .
وَهَذَا قَوْلُ مَنْ وَافَقَنَا فِي أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهَا ؛ وَذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ } فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا إذَا لَمْ تَشْهَدْ لَا يُدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابُ .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ ، يُخْلَى سَبِيلُهَا .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا الْحَدُّ ، فَيَجِبُ تَخْلِيَةُ سَبِيلِهَا ، كَمَا لَوْ لَمْ تَكْمُلْ الْبَيِّنَةُ .
فَأَمَّا الزَّوْجِيَّةُ ، فَلَا تَزُولُ ، وَالْوَلَدُ لَا يَنْتَفِي مَا لَمْ يَتِمَّ اللِّعَانُ بَيْنَهُمَا ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، إلَّا الشَّافِعِيَّ ، فَإِنَّهُ قَضَى بِالْفُرْقَةِ وَنَفْيِ الْوَلَدِ بِمُجَرَّدِ لِعَانِ الرَّجُلِ .
وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ .

مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( وَكَذَلِكَ إنْ أَقَرَّتْ دُونَ الْأَرْبَعِ مَرَّاتٍ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا قَذَفَ امْرَأَتَهُ ، فَصَدَّقَتْهُ ، وَأَقَرَّتْ بِالزِّنَا مَرَّةً ، أَوْ مَرَّتَيْنِ ، أَوْ ثَلَاثًا ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا الْحَدُّ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِإِقْرَارِ أَرْبَعِ مَرَّاتٍ ، عَلَى مَا يُذْكَرُ فِي الْحُدُودِ ، ثُمَّ إنْ كَانَ تَصْدِيقُهَا لَهُ قَبْلَ لِعَانِهِ ، فَلَا لِعَانَ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ كَالْبَيِّنَةِ ، إنَّمَا يُقَامُ مَعَ الْإِنْكَارِ ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ لِعَانِهِ ، لَمْ تُلَاعِنْ هِيَ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَحْلِفُ مَعَ الْإِقْرَارِ ، وَحُكْمُهَا حُكْمُ مَا لَوْ امْتَنَعَتْ مِنْ غَيْرِ إقْرَارٍ .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إنْ صَدَّقَتْهُ قَبْلَ لِعَانِهِ ، فَعَلَيْهَا الْحَدُّ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ ثَمَّ نَسَبٌ يَنْفِيهِ ، فَيُلَاعِنُ وَحْدَهُ ، وَيَنْتَفِي النَّسَبُ بِمُجَرَّدِ لِعَانِهِ ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ لِعَانِهِ ، فَقَدْ انْتَفَى النَّسَبُ ، وَلَزِمَهَا الْحَدُّ ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ النَّسَبَ يَنْتَفِي بِمُجَرَّدِ لِعَانِهِ ، وَتَقَعُ الْفُرْقَةُ ، وَيَجِبُ الْحَدُّ ، فَإِنَّ الْحَدَّ يَجِبُ بِإِقْرَارِ مَرَّةٍ .
وَهَذِهِ الْأُصُولُ قَدْ مَضَى أَكْثَرُهَا .
وَلَوْ أَقَرَّتْ أَرْبَعًا ، وَجَبَ الْحَدُّ ، وَلَا لِعَانَ بَيْنَهُمَا إذَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّ نَسَبٌ يُنْفَى .
وَإِنْ رَجَعَتْ سَقَطَ الْحَدُّ عَنْهَا ، بِغَيْرِ خِلَافٍ عَلِمْنَاهُ .
وَبِهِ يَقُولُ الشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
فَإِنَّ الرُّجُوعَ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالْحَدِّ مَقْبُولٌ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ لِلْحَدِّ ، فَإِنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ لِتَصْدِيقِهَا إيَّاهُ .
وَإِنْ أَرَادَ لِعَانَهَا لِنَفْيِ نَسَبٍ ، فَظَاهِرُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ ، أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الصُّوَرِ .
وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَهُ لِعَانُهَا لِنَفْيِ النَّسَبِ فِيهَا كُلِّهَا ؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ عَفِيفَةً صَالِحَةً فَكَذَّبَتْهُ ، مَلَكَ نَفْيَ وَلَدِهَا ، فَإِذَا كَانَتْ فَاجِرَةً فَصَدَّقَتْهُ ، فَلَأَنْ

يَمْلِكَ نَفْيَ وَلَدِهَا أَوْلَى ، وَوَجْهُ الْأَوَّلِ ، أَنَّ نَفْيَ الْوَلَدِ إنَّمَا يَكُونُ بِلِعَانِهِمَا مَعًا ، وَقَدْ تَعَذَّرَ اللِّعَانُ مِنْهُمَا ؛ وَلِأَنَّهَا لَا تُسْتَحْلَفُ عَلَى نَفْيِ مَا تَقْرَبُهُ ، فَتَعَذَّرَ نَفْيُ الْوَلَدِ لِتَعَذُّرِ سَبَبِهِ ، كَمَا لَوْ مَاتَ بَعْدَ الْقَذْفِ وَقَبْلَ اللِّعَانِ .

( 6297 ) فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : يَا زَانِيَةُ .
فَقَالَتْ : بِك زَنَيْت .
فَلَا حَدَّ عَلَيْهَا ، وَلَا عَلَيْهِ وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهَا أَرَادَتْ بِذَلِكَ نَفْيَ الزِّنَا عَنْ نَفْسِهَا ، كَمَا يَسْتَعْمِلُ أَهْلُ الْعُرْفِ فِيمَا إذَا قَالَ قَائِلٌ : سَرَقْت .
قَالَ : مَعَك سَرَقْت .
أَيْ أَنَا لَمْ أَسْرِقْ ؛ لِكَوْنِك أَنْتَ لَمْ تَسْرِقْ .
وَلَنَا أَنَّهَا صَدَّقَتْهُ فِي قَذْفِهِ إيَّاهَا ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَتْ : صَدَقْت .
وَلَا حَدَّ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّ حَدَّ الزِّنَا لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالْإِقْرَارِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ ، وَلَيْسَ عَلَيْهَا حَدُّ الْقَذْفِ ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَقْذِفْهُ ، وَإِنَّمَا أَقَرَّتْ عَلَى نَفْسِهَا بِزِنَاهَا بِهِ ، وَيُمْكِنُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ كَوْنِهِ زَانِيًا ، بِأَنْ يَظُنَّهَا زَوْجَتَهُ وَهِيَ عَالِمَةٌ أَنَّهُ أَجْنَبِيٌّ ، وَلِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ تُرِيدَ نَفْيَ ذَلِكَ عَنْهُمَا ، كَمَا ذَكَرُوهُ ، أَوْ أَنَّهُ لَمْ يَطَأْنِي سِوَاكَ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ زِنًا فَأَنْتَ شَرِيكِي فِيهِ .
وَلَا يَجِبُ الْحَدُّ مَعَ الِاحْتِمَالِ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ سُقُوطِهِ عَنْ الرَّجُلِ بِظَاهِرِ تَصْدِيقِهَا ، وُجُوبُهُ عَلَيْهَا مَعَ الِاحْتِمَالِ ؛ فَإِنَّ الْحَدَّ يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ ، وَلَا يَجِبُ بِهَا .
وَلَوْ قَالَ : يَا زَانِيَةُ .
فَقَالَتْ : أَنْتِ أَزْنَى مِنِّي .
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ فِيهَا كَاَلَّتِي قَبْلَهَا : لَا حَدَّ عَلَى الزَّوْجِ ؛ بِتَصْدِيقِهَا لَهُ ، وَلَا عَلَى الْمَرْأَةِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الَّتِي قَبْلَهَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ : لَيْسَ قَوْلُهَا قَذْفًا .
قَالَ الشَّافِعِيُّ : إلَّا أَنْ تُرِيدَ الْقَذْفَ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ تُرِيدَ أَنَّهُ أَصَابَنِي وَهُوَ زَوْجِي ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ ، فَهُوَ أَبْلَغُ مِنِّي فِيهِ .
وَقَالَ الْقَاضِي : عَلَيْهَا حَدٌّ لِقَذْفِهَا ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ لِتَصْدِيقِهَا إيَّاهُ ، وَقَدْ أَتَتْ بِصَرِيحِ قَذْفِهِ بِالزِّنَا ، فَوَجَبَ عَلَيْهَا الْحَدُّ ، كَمَا لَوْ قَالَتْ : أَنْتَ زَانٍ .
وَالِاحْتِمَالُ مَعَ التَّصْرِيحِ

بِالْقَذْفِ ، لَا يَمْنَعُ الْحَدَّ ، كَمَا لَوْ قَالَتْ : أَنْتَ زَانٍ .
فَأَمَّا إنْ قَالَ : يَا زَانِيَةُ .
فَقَالَتْ : بَلْ أَنْتَ زَانٍ .
فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَاذِفٌ لِصَاحِبِهِ ، عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ ؛ إلَّا أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَمْلِكُ إسْقَاطَ حَدِّهَا إلَّا بِالْبَيِّنَةِ ، وَالزَّوْجُ يَمْلِكُ إسْقَاطَهُ بِبَيِّنَةِ أَوْ لِعَانٍ .

كِتَابُ الْعِدَدِ الْأَصْلُ فِي وُجُوبِ الْعِدَّةِ : الْكِتَابُ وَالسَّنَةُ وَالْإِجْمَاعُ ؛ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : { وَاَللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاَللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } وقَوْله تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } .
وَأَمَّا السُّنَّةُ ، فَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ، أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ ، إلَّا عَلَى زَوْجٍ ، أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } .
{ وَقَالَ لَفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ : اعْتَدِّي فِي بَيْتِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ } فِي آيٍ وَأَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ .
وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى وُجُوبِ الْعِدَّةِ فِي الْجُمْلَةِ ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي أَنْوَاعٍ مِنْهَا .
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ قَبْلَ الْمَسِيسِ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا } وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ تَجِبُ لِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ ، وَقَدْ تَيَقَّنَّاهَا هَاهُنَا .
وَهَكَذَا كُلّ فُرْقَةٍ فِي الْحَيَاةِ ، كَالْفَسْخِ لِرَضَاعٍ ، أَوْ عَيْبٍ ، أَوْ عِتْقٍ ، أَوْ لِعَانٍ ، أَوْ اخْتِلَافِ دِينٍ .

( 6298 ) فَصْلٌ : وَتَجِبُ الْعِدَّةُ عَلَى الذِّمِّيَّةِ مِنْ الذِّمِّيِّ وَالْمُسْلِمِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ دِينِهِمْ ، لَمْ تَلْزَمْهَا ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الدِّينِ .
وَلَنَا عُمُومُ الْآيَاتِ ، وَلِأَنَّهَا بَائِنٌ بَعْدَ الدُّخُولِ ، أَشْبَهَ الْمُسْلِمَةَ .
وَعِدَّتُهَا كَعِدَّةِ الْمُسْلِمَةِ ، فِي قَوْلِ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ ؛ مِنْهُمْ مَالِكٌ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو عُبَيْدٍ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْي وَمَنْ تَبِعَهُمْ ، إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ ، أَنَّهُ قَالَ : تَعْتَدُّ مِنْ الْوَفَاةِ بِحَيْضَةِ .
وَلَنَا عُمُومُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } وَلِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ مِنْ الْوَفَاةِ ، أَشْبَهَتْ الْمُسْلِمَةَ .

( 6299 ) فَصْلٌ : وَالْمُعْتَدَّاتُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : مُعْتَدَّةٌ بِالْحَمْلِ ، وَهِيَ كُلُّ امْرَأَةٍ حَامِلٍ مِنْ زَوْجٍ ، إذَا فَارَقَتْ زَوْجَهَا بِطَلَاقٍ أَوْ فَسْخٍ أَوْ مَوْتِهِ عَنْهَا ، حُرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً ، مُسْلِمَةً أَوْ كَافِرَةً ، فَعِدَّتُهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ ، وَلَوْ بَعْدَ سَاعَةٍ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } .
وَالثَّانِي ، مُعْتَدَّةٌ بِالْقُرُوءِ ، وَهِيَ كُلُّ مُعْتَدَّةٍ مِنْ فُرْقَةٍ فِي الْحَيَاةِ ، أَوْ وَطْءٍ فِي غَيْرِ نِكَاحٍ ، إذَا كَانَتْ ذَاتَ قُرْءٍ ، فَعِدَّتُهَا الْقُرْءُ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } .
وَالثَّالِثُ ، مُعْتَدَّةٌ بِالشُّهُورِ ، وَهِيَ كُلّ مَنْ تَعْتَدُّ بِالشَّهْرِ إذَا لَمْ تَكُنْ ذَاتَ قُرْءٍ ؛ لِصِغَرٍ ، أَوْ يَأْسٍ ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَاَللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاَللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ } .
وَذَوَاتُ الْقُرْءِ إذَا ارْتَفَعَ حَيْضُهَا لَا تَدْرِي مَا رَفَعَهُ ، اعْتَدَّتْ بِتِسْعَةِ أَشْهُرٍ لِلْحَمْلِ .
وَعِدَّةُ الْآيِسَةِ ، وَكُلُّ مَنْ تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَلَا حَمْلَ بِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ ، حُرَّةً أَوْ أَمَةً ، فَعِدَّتُهَا بِالشُّهُورِ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا .
}

( 6300 ) فَصْلٌ : وَكَّلَ فُرْقَةٍ بَيْنَ زَوْجَيْنِ فَعِدَّتُهَا عِدَّةُ الطَّلَاقِ ، سَوَاءٌ كَانَتْ بِخُلْعٍ أَوْ لِعَانٍ أَوْ رَضَاعٍ ، أَوْ فَسْخٍ بِعَيْبٍ ، أَوْ إعْسَارٍ ، أَوْ إعْتَاقٍ ، أَوْ اخْتِلَافِ دِينٍ ، أَوْ غَيْرِهِ ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّ عِدَّةَ الْمُلَاعَنَةِ تِسْعَةُ أَشْهُرٍ .
وَأَبَى ذَلِكَ سَائِرُ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَقَالُوا : عِدَّتُهَا عِدَّةُ الطَّلَاقِ ؛ لِأَنَّهَا مُفَارِقَةٌ فِي الْحَيَاةِ ، فَأَشْبَهَتْ الْمُطَلَّقَةَ .
وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُونَ : عِدَّةُ الْمُخْتَلِعَةِ عِدَّةُ الْمُطَلَّقَةِ ؛ مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، وَعُرْوَةُ ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَالْحَسَنُ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَقَتَادَةُ وَخِلَاسُ بْنُ عَمْرٍو ، وَأَبُو عِيَاضٍ وَمَالِكٌ ، وَاللَّيْثُ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ ، وَابْنِ عُمَرَ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَأَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ ، وَإِسْحَاقَ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ ، أَنَّ عِدَّةَ الْمُخْتَلِعَةِ حَيْضَةٌ .
وَرَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ أَحْمَدَ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِدَّتَهَا حَيْضَةً .
رَوَاهُ النَّسَائِيّ .
وَعَنْ رُبَيِّعٍ بِنْتِ مُعَوِّذٍ مِثْلُ ذَلِكَ ، وَأَنْ عُثْمَانَ قَضَى بِهِ .
رَوَاهُ النَّسَائِيّ ، وَابْنُ مَاجَهْ .
وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } .
وَلِأَنَّهَا فُرْقَةٌ بَعْدَ الدُّخُولِ فِي الْحَيَاةِ ، فَكَانَتْ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ، كَغَيْرِ الْخُلْعِ ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { قُرْءُ الْأَمَةِ حَيْضَتَانِ } .
عَامٌ ، وَحَدِيثُهُمْ يَرْوِيهِ عِكْرِمَةُ مُرْسَلًا ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ : هُوَ ضَعِيفٌ مُرْسَلٌ وَقَوْلُ عُثْمَانَ وَابْنِ عَبَّاسٍ ، قَدْ خَالَفَهُ قَوْلُ عُمَرَ وَعَلِيٌّ ، فَإِنَّهُمَا قَالَا : عِدَّتُهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ .
وَقَوْلُهُمَا

أَوْلَى .
وَأَمَّا ابْنُ عُمَرَ ، فَقَدْ رَوَى مَالِكٌ ، عَنْ نَافِعٍ ، أَنَّهُ قَالَ : عِدَّةُ الْمُخْتَلِعَةِ عِدَّةُ مُطَلَّقَةٍ .
وَهُوَ أَصَحُّ عَنْهُ .

( 6301 ) فَصْلٌ : وَالْمَوْطُوءَةُ بِشُبْهَةٍ تَعْتَدُّ عِدَّةَ الْمُطَلَّقَةِ ، وَكَذَلِكَ الْمَوْطُوءَةُ فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ؛ لِأَنَّ وَطْءَ الشُّبْهَةِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ ، فِي شَغْلِ الرَّحِمِ وَلُحُوقِ النَّسَبِ ، كَالْوَطْءِ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ ، فَكَانَ مِثْلَهُ فِيمَا تَحْصُلُ بِهِ الْبَرَاءَةُ .
وَإِنْ وُطِئَتْ الْمُزَوِّجَة بِشُبْهَةٍ ، لَمْ يَحِلَّ لِزَوْجِهَا وَطْؤُهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا ، كَيْ لَا يُفْضِيَ إلَى اخْتِلَاطِ الْمِيَاهِ وَاشْتِبَاهِ الْأَنْسَابِ ، وَلَهُ الِاسْتِمْتَاعُ مِنْهَا بِمَا دُونَ الْفَرْجِ ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ؛ لِأَنَّهَا زَوْجَةٌ حَرُمَ وَطْؤُهَا لِعَارِضٍ مُخْتَصٍّ بِالْفَرْجِ ، فَأُبِيحَ الِاسْتِمْتَاعُ مِنْهَا بِمَا دُونَهُ ، كَالْحَائِضِ .

( 6302 ) فَصْلٌ : وَالْمَزْنِيُّ بِهَا ، كَالْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ فِي الْعِدَّةِ .
وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ ، وَالنَّخَعِيُّ .
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى ، أَنَّهَا تُسْتَبْرَأُ بِحَيْضَةٍ ذَكَرهَا ابْنُ أَبِي مُوسَى .
وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا .
وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ لِحِفْظِ النَّسَبِ ، وَلَا يَلْحَقُهُ نَسَبٌ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ .
وَلَنَا أَنَّهُ وَطْءٌ يَقْتَضِي شَغْلَ الرَّحِمِ ، فَوَجَبَتْ الْعِدَّةُ مِنْهُ ، كَوَطْءِ الشُّبْهَةِ .
وَأَمَّا وُجُوبُهَا كَعِدَّةِ الْمُطَلَّقَةِ ، فَلِأَنَّهَا حُرَّةٌ فَوَجَبَ اسْتِبْرَاؤُهَا بِعِدَّةٍ كَامِلَةٍ ، كَالْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّمَا تَجِبُ لِحِفْظِ النَّسَبِ .
لَا يَصِحُّ ، فَإِنَّهَا لَوْ اخْتَصَّتْ بِذَلِكَ ، لَمَا وَجَبَتْ عَلَى الْمُلَاعَنَةِ الْمَنْفِيِّ وَلَدُهَا ، وَالْآيِسَةِ ، وَالصَّغِيرَةِ ، وَلَمَا وَجَبَ اسْتِبْرَاءُ الْأَمَةِ الَّتِي لَا يَلْحَقُ وَلَدُهَا بِالْبَائِعِ ، وَلَوْ وَجَبَتْ لِذَلِكَ ، لَكَانَ اسْتِبْرَاءُ الْأَمَهِ عَلَى الْبَائِعِ ، ثُمَّ لَوْ ثَبَتَ أَنَّهَا وَجَبَتْ لِذَلِكَ ، فَالْحَاجَةُ إلَيْهَا دَاعِيَةٌ ؛ فَإِنَّ الْمَزْنِيَّ بِهَا إذَا تَزَوَّجَتْ قَبْلَ الِاعْتِدَادِ ، اشْتَبَهَ وَلَدُ الزَّوْجِ بِالْوَلَدِ مِنْ الزِّنَا ، فَلَا يَحْصُلُ حِفْظُ النَّسَبِ .

( 6303 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : ( وَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ وَقَدْ خَلَا بِهَا ، فَعِدَّتُهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ غَيْرَ الْحَيْضَةِ الَّتِي طَلَّقَهَا فِيهَا ) فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ فُصُولٍ : ( 6304 ) الْفَصْلُ الْأَوَّلُ : أَنَّ الْعِدَّةَ تَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ خَلَا بِهَا زَوْجُهَا ، وَإِنْ لَمْ يَمَسَّهَا .
وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي وُجُوبِهَا عَلَى الْمُطَلَّقَةِ بَعْدَ الْمَسِيسِ ، فَأَمَّا إنْ خَلَا بِهَا وَلَمْ يُصِبْهَا ، ثُمَّ طَلَّقَهَا ، فَإِنَّ مَذْهَبَ أَحْمَدَ وُجُوبُ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَزَيْدٍ ، وَابْنِ عُمَرَ .
وَبِهِ قَالَ عُرْوَةُ ، وَعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ ، وَعَطَاءٌ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ، وَالشَّافِعِيُّ فِي قَدِيمِ قَوْلَيْهِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ : لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا ؛ وقَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } وَهَذَا نَصٌّ ، وَلِأَنَّهَا مُطَلَّقَةٌ لَمْ تُمَسَّ ، فَأَشْبَهَتْ مَنْ لَمْ يُخْلَ بِهَا .
وَلَنَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ ، رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، الْأَثْرَمُ ، بِإِسْنَادِهِمَا عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى ، قَالَ : قَضَى الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ أَنَّ مَنْ أَرْخَى سِتْرًا ، أَوْ أَغْلَقَ بَابًا ، فَقَدْ وَجَبَ الْمَهْرُ ، وَوَجَبَتْ الْعِدَّةُ .
وَرَوَاهُ الْأَثْرَمُ أَيْضًا عَنْ الْأَحْنَفِ ، عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، عَنْ عُمَرَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ .
وَهَذِهِ قَضَايَا اشْتَهَرَتْ ، فَلَمْ تُنْكَرْ ، فَصَارَتْ إجْمَاعًا .
وَضَعَّفَ أَحْمَدُ مَا رُوِيَ فِي خِلَافِ ذَلِكَ ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ الصَّدَاقِ .
وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى الْمَنَافِعِ ، وَالتَّمْكِينُ فِيهِ يَجْرِي مَجْرَى الِاسْتِيفَاءِ فِي الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ ، كَعَقْدِ الْإِجَارَةِ ، وَالْآيَةُ مَخْصُوصَةٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ ، وَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَى

مَنْ لَمْ يَخْلُ بِهَا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهَا التَّمْكِينُ .

( 6305 ) فَصْلٌ : وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ ، أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَخْلُوَ بِهَا مَعَ الْمَانِعِ مِنْ الْوَطْءِ ، أَوْ مَعَ عَدَمِهِ ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَانِعُ حَقِيقِيًّا ، كَالْجُبِّ وَالْعُنَّةِ وَالْفَتْقِ وَالرَّتْقُ ، أَوْ شَرْعِيًّا كَالصَّوْمِ وَالْإِحْرَامِ وَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالظِّهَارِ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ عُلِّقَ هَاهُنَا عَلَى الْخَلْوَةِ الَّتِي هِيَ مَظِنَّةُ الْإِصَابَةِ دُونَ حَقِيقَتِهَا ، وَلِهَذَا لَوْ خَلَا بِهَا فَأَتَتْ بِوَلَدٍ لِمُدَّةِ الْحَمْلِ ، لَحِقَهُ نَسَبُهُ ، وَإِنْ لَمْ يَطَأْ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّ الصَّدَاقَ لَا يَكْمُلُ مَعَ وُجُودِ الْمَانِعِ ، فَكَذَلِكَ يُخَرَّجُ فِي الْعِدَّةِ .
وَرُوِيَ عَنْهُ ، أَنَّ صَوْمَ شَهْرِ رَمَضَانَ يَمْنَعُ كَمَالَ الصَّدَاقِ مَعَ الْخَلْوَةِ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَتَى كَانَ الْمَانِعُ مُتَأَكِّدًا ، كَالْإِحْرَامِ وَشِبْهِهِ ، مَنَعَ كَمَالَ الصَّدَاقِ ، وَلَمْ تَجِبْ الْعِدَّةُ ؛ لِأَنَّ الْخَلْوَةَ إنَّمَا أُقِيمَتْ مُقَامَ الْمَسِيسِ ؛ لِأَنَّهَا مَظِنَّةٌ لَهُ ، وَمَعَ الْمَانِعِ لَا تَتَحَقَّقُ الْمَظِنَّةُ .
فَأَمَّا إنْ خَلَا بِهَا ، وَهِيَ صَغِيرَةٌ لَا يُمْكِنُ وَطْؤُهَا ، أَوْ كَانَ أَعْمَى فَلَمْ يَعْلَمْ بِهَا ، فَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا ، وَلَا يَكْمُلُ صَدَاقُهَا ؛ لِأَنَّ الْمَظِنَّةَ لَا تَتَحَقَّقُ مَعَ ظُهُورِ اسْتِحَالَةِ الْمَسِيسِ .

( 6306 ) الْفَصْلُ الثَّانِي : إنَّ عِدَّةَ الْمُطَلَّقَةِ ، إذَا كَانَتْ حُرَّةً وَهِيَ مِنْ ذَوَاتِ الْقُرُوءِ ، ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ .
بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ ؛ وَذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } .
وَالْقُرْءُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ يَقَعُ عَلَى الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ جَمِيعًا ، فَهُوَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَرَكَةِ ، قَالَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ ثَعْلَبٍ : الْقُرُوءُ الْأَوْقَاتُ ، الْوَاحِدُ قُرْءٌ ، وَقَدْ يَكُونُ حَيْضًا وَقَدْ يَكُونُ طُهْرًا ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَأْتِي لِوَقْتٍ .
قَالَ الشَّاعِرُ : كَرِهْت الْعَقْرَ عَقْرَ بَنِي تَمِيمٍ إذَا هَبَّتْ لِقَارِيهَا الرِّيَاحُ يَعْنِي : لِوَقْتِهَا .
وَقَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ يُقَالُ : أَقْرَأَتْ الْمَرْأَةُ : إذَا دَنَا حَيْضُهَا وَأَقْرَأَتْ : إذَا دَنَا طُهْرُهَا ، وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِك .
فَهَذَا الْحَيْضُ .
} وَقَالَ الشَّاعِرُ : مُوَرِّثَةً عِزًّا وَفِي الْحَيِّ رِفْعَةً لِمَا ضَاعَ فِيهَا مِنْ قُرُوءِ نِسَائِكَا فَهَذَا الطُّهْرُ .
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } .
وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي ذَلِكَ عَنْ أَحْمَدَ ، فَرُوِيَ أَنَّهَا الْحَيْضُ .
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ ، وَعَلِيٍّ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ ، وَالْعَنْبَرِيِّ ، وَإِسْحَاقَ وَأَبِي عُبَيْدٍ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ ، وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَأَبِي مُوسَى ، وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ .
قَالَ الْقَاضِي : الصَّحِيحُ عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّ الْأَقْرَاءَ الْحَيْضُ .
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَصْحَابُنَا ، وَرَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ بِالْأَطْهَارِ ، فَقَالَ : فِي رِوَايَةِ النَّيْسَابُورِيِّ : كُنْتُ أَقُولُ : إنَّهُ الْأَطْهَارُ ، وَأَنَا أَذْهَبُ الْيَوْمَ إلَى أَنَّ الْأَقْرَاءَ الْحَيْضُ .
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ

الْأَثْرَمِ : كُنْتُ أَقُولُ الْأَطْهَارَ ، ثُمَّ وَقَفْتُ لِقَوْلِ الْأَكَابِرِ .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّ الْقُرُوءَ الْأَطْهَارُ .
وَهُوَ قَوْلُ زَيْدٍ ، وَابْنِ عُمَرَ ، وَعَائِشَةَ ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ ، وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ ، وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، وَأَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَالزُّهْرِيِّ وَمَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَبِي ثَوْرٍ .
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ : مَا أَدْرَكْت أَحَدًا مِنْ فُقَهَائِنَا إلَّا وَهُوَ يَقُولُ ذَلِكَ .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : رَجَعَ أَحْمَدُ إلَى أَنَّ الْقُرُوءَ الْأَطْهَارُ ، قَالَ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ : رَأَيْت الْأَحَادِيثَ عَمَّنْ قَالَ : الْقُرُوءُ الْحَيْضُ .
تَخْتَلِفُ ، وَالْأَحَادِيثُ عَمَّنْ قَالَ : إنَّهُ أَحَقُّ بِهَا حَتَّى تَدْخُلَ فِي الْحَيْضَةَ الثَّالِثَةَ .
أَحَادِيثُهَا صِحَاحٌ وَقَوِيَّةٌ .
وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } .
أَيْ فِي عِدَّتِهِنَّ .
كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ .
أَيْ : فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ .
} وَإِنَّمَا أَمَرَ بِالطَّلَاقِ فِي الطُّهْرِ لَا فِي الْحَيْضِ .
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ : مُرْهُ { فَلْيُرَاجِعْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ، ثُمَّ تَحِيضَ ، ثُمَّ تَطْهُرَ ، فَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ ، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ ، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ : ( فَطَلِّقُوهُنَّ فِي قُبُلِ عِدَّتِهِنَّ ) .
وَلِأَنَّهَا عِدَّةٌ عَنْ طَلَاقٍ مُجَرَّدٍ مُبَاحٍ ، فَوَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ عَقِيبَ الطَّلَاقِ ، وَكَعِدَّةِ الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { وَاَللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاَللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ } .
فَنَقَلَهُنَّ عِنْدَ عَدَمِ الْحَيْضِ إلَى الِاعْتِدَادِ بِالْأَشْهُرِ ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ

الْحَيْضُ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا } .
الْآيَةَ ، وَلِأَنَّ الْمَعْهُودَ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ اسْتِعْمَالُ الْقُرْءِ بِمَعْنَى الْحَيْضِ ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { تَدَعُ الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا .
} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَقَالَ لَفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ : { اُنْظُرِي ، فَإِذَا أَتَى قُرْؤُكِ ، فَلَا تُصَلِّي ، وَإِذَا مَرَّ قُرْؤُك ، فَتَطَهَّرِي ، ثُمَّ صَلِّي مَا بَيْنَ الْقُرْءِ إلَى الْقُرْءِ } رَوَاهُ النَّسَائِيّ .
وَلَمْ يُعْهَدْ فِي لِسَانِهِ اسْتِعْمَالُهُ بِمَعْنَى الطُّهْرِ فِي مَوْضِعٍ ، فَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُهُ عَلَى الْمَعْهُودِ فِي لِسَانِهِ .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { طَلَاقُ الْأَمَةِ طَلْقَتَانِ ، وَقُرْؤُهَا حَيْضَتَانِ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَغَيْرُهُ .
فَإِنْ قَالُوا : هَذَا يَرْوِيهِ مُظَاهِرُ بْنُ مُسْلِمٍ ، وَهُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ .
قُلْنَا : قَدْ رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِيسَى ، عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، كَذَلِكَ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ ، فِي ( سُنَنِهِ ) ، وَأَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ ، فِي ( جَامِعِهِ ) ، وَهُوَ نَصٌّ فِي عِدَّةِ الْأَمَةِ ، فَكَذَلِكَ عِدَّةُ الْحُرَّةِ .
وَلِأَنَّ ظَاهِرَ قَوْله تَعَالَى : { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } .
وُجُوبُ التَّرَبُّصِ ثَلَاثَةً كَامِلَةً ، وَمَنْ جَعَلَ الْقُرُوءَ الْأَطْهَارَ ، لَمْ يُوجِبْ ثَلَاثَةً ؛ لِأَنَّهُ يَكْتَفِي بِطُهْرَيْنِ وَبَعْضِ الثَّالِثِ ، فَيُخَالِفُ ظَاهِرَ النَّصِّ ، وَمَنْ جَعَلَهُ الْحَيْضَ ، أَوْجَبَ ثَلَاثَةً كَامِلَةً ، فَيُوَافِقُ ظَاهِرَ النَّصِّ ، فَيَكُونُ أَوْلَى مِنْ مُخَالَفَتِهِ ، وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ اسْتِبْرَاءٌ ، فَكَانَتْ بِالْحَيْضِ ، كَاسْتِبْرَاءِ الْأَمَةِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ لِمَعْرِفَةِ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ مِنْ الْحَمْلِ ، وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَيْضُ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِبْرَاءُ بِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَا نُسَلِّمُ أَنَّ اسْتِبْرَاءَ الْأَمَةِ بِالْحَيْضَةِ ، وَإِنَّمَا هُوَ بِالطُّهْرِ الَّذِي قَبْلَ

الْحَيْضَةِ .
كَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ ، وَقَالَ : قَوْلُهُمْ : إنَّ اسْتِبْرَاءَ الْأَمَةِ حَيْضَةٌ بِإِجْمَاعٍ .
لَيْسَ كَمَا ظَنُّوا ، بَلْ جَائِزٌ لَهَا عِنْدَنَا أَنْ تَنْكِحَ إذَا دَخَلَتْ فِي الْحَيْضَةِ ، وَاسْتَيْقَنَتْ أَنَّ دَمَهَا دَمُ حَيْضٍ ، كَذَلِكَ قَالَ إسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ لِيَحْيَى بْنِ أَكْثَمِ حِينَ دَخَلَ عَلَيْهِ فِي مُنَاظَرَتِهِ إيَّاهُ .
قُلْنَا : هَذَا يَرُدُّهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ ، وَلَا حَائِلٌ حَتَّى تُسْتَبْرَأَ بِحَيْضَةٍ } .
وَلِأَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ تَعَرُّفُ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ بِالْحَيْضَةِ ، لَا بِالطُّهْرِ الَّذِي قَبْلَهَا ، وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ تَتَعَلَّقُ بِخُرُوجِ خَارِجٍ مِنْ الرَّحِمِ ، فَوَجَبَ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِالطُّهْرِ ، كَوَضْعِ الْحَمْلِ ، يُحَقِّقُهُ أَنَّ الْعِدَّةَ مَقْصُودُهَا مَعْرِفَةُ بَرَاءَةِ الْمَرْأَةِ مِنْ الْحَمْلِ ، فَتَارَةً تَحْصُلُ بِوَضْعِهِ ، وَتَارَةً تَحْصُلُ بِمَا يُنَافِيهِ ، وَهُوَ الْحَيْضُ الَّذِي لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُهُ مَعَهُ .
فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى : { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ قَبْلَ عِدَّتِهِنَّ ، إذْ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الطَّلَاقِ فِي الْعِدَّةِ ، ضَرُورَةَ أَنَّ الطَّلَاقَ سَبَقَ الْعِدَّةَ ، لِكَوْنِهِ سَبَبَهَا ، وَالسَّبَبُ يَتَقَدَّمُ عَلَى الْحُكْمِ ، فَلَا يُوجَدْ قَبْلَهُ ، وَالطَّلَاقُ فِي الطُّهْرِ تَطْلِيقٌ قَبْلَ الْعِدَّةِ إذَا كَانَتْ الْأَقْرَاءُ الْحَيْضَ .

الْفَصْلُ الثَّالِثُ : أَنَّ الْحَيْضَةَ الَّتِي تَطْلُقُ فِيهَا ، لَا تُحْسَبُ مِنْ عِدَّتِهَا .
بِغَيْرِ خِلَافٍ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ ، فَتَنَاوَلَ ثَلَاثَةً كَامِلَةً ، وَاَلَّتِي طَلَّقَ فِيهَا لَمْ يَبْقَ مِنْهَا مَا تَتِمُّ بِهِ مَعَ اثْنَتَيْنِ ثَلَاثَةٌ كَامِلَةٌ ، فَلَا يُعْتَدُّ بِهَا .
وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ إنَّمَا حُرِّمَ فِي الْحَيْضِ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا ، فَلَوْ احْتَسَبَتْ بِتِلْكَ الْحَيْضَةِ قُرْءًا ، كَانَ أَقْصَرَ لِعِدَّتِهَا ، وَأَنْفَعَ لَهَا ، فَلَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا ، وَمَنْ قَالَ : الْقُرُوءُ الْأَطْهَارُ .
احْتَسَبَ لَهَا بِالطُّهْرِ الَّذِي طَلَّقَهَا فِيهِ قُرْءًا ، فَلَوْ طَلَّقَهَا وَقَدْ بَقِيَ مِنْ قُرْئِهَا لَحْظَةٌ ، حَسَبَهَا قُرْءًا ، وَهَذَا قَوْلُ كُلِّ مَنْ قَالَ : الْقُرُوءُ الْأَطْهَارُ .
إلَّا الزُّهْرِيَّ وَحْدَهُ ، قَالَ : تَعْتَدُّ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ سِوَى الطُّهْرِ الَّذِي طَلَّقَهَا فِيهِ .
.
وَحُكِيَ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ ، أَنَّهُ إنْ كَانَ جَامَعَهَا فِي الطُّهْرِ ، لَمْ يَحْتَسِبْ بِبَقِيَّتِهِ ؛ لِأَنَّهُ زَمَنٌ حُرِّمَ فِيهِ الطَّلَاقُ ، فَلَمْ يَحْتَسِبْ بِهِ مِنْ الْعِدَّةِ ، كَزَمَنِ الْحَيْضِ .
وَلَنَا أَنَّ الطَّلَاقَ حُرِّمَ فِي زَمَنِ الْحَيْضِ دَفْعًا لِضَرَرِ تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا ، فَلَوْ لَمْ يَحْتَسِبْ بِبَقِيَّةِ الطُّهْرِ قُرْءًا ، كَانَ الطَّلَاقُ فِي الطُّهْرِ أَضَرَّ بِهَا ، وَأَطْوَلَ عَلَيْهَا ، وَمَا ذُكِرَ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَ الطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ لِكَوْنِهَا لَا تَحْتَسِبُ بِبَقِيَّتِهِ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُجْعَلَ الْعِلَّةُ فِي عَدَمِ الِاحْتِسَابِ تَحْرِيمَ الطَّلَاقِ ، فَتَصِيرَ الْعِلَّةُ مَعْلُولًا ، وَإِنَّمَا تَحْرِيمُ الطَّلَاقِ فِي الطُّهْرِ الَّذِي أَصَابَهَا فِيهِ ، لِكَوْنِهَا مُرْتَابَةً ، وَلِكَوْنِهِ لَا يَأْمَنُ النَّدَمَ بِظُهُورِ حَمْلِهَا ، فَأَمَّا إنْ انْقَضَتْ حُرُوفُ الطَّلَاقِ مَعَ انْقِضَاءِ الطُّهْرِ ، فَإِنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ فِي أَوَّلِ الْحَيْضَةِ ، وَيَكُونُ مُحَرَّمًا ، وَلَا تَحْتَسِبُ بِتِلْكَ الْحَيْضَةِ مِنْ عِدَّتِهَا ،

وَتَحْتَاجُ أَنْ تَعْتَدَّ بِثَلَاثِ حِيَضٍ بَعْدَهَا ، أَوْ ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ ، عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى .
وَلَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ فِي آخِرِ طُهْرِكِ .
أَوْ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ طُهْرِك .
أَوْ انْقَضَتْ حُرُوفُ الْإِيقَاعِ ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْ الطُّهْرِ إلَّا زَمَنُ الْوُقُوعِ ، فَإِنَّهَا لَا تَحْتَسِبُ بِالطُّهْرِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الطَّلَاقُ ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ لَا تَكُونُ إلَّا بَعْدَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ ، وَلَيْسَ بَعْدَهُ طُهْرٌ تَعْتَدُّ بِهِ ، وَلَا يَجُوزُ الِاعْتِدَادُ بِمَا قَبْلَهُ .
وَلَا بِمَا قَارَبَهُ ، وَمَنْ جَعَلَ الْقُرْءَ الْحَيْضَ ، اعْتَدَّ لَهَا بِالْحَيْضَةِ الَّتِي تَلِي الطَّلَاقَ ؛ لِأَنَّهَا حَيْضَةٌ كَامِلَةٌ ، لَمْ يَقَعْ فِيهَا طَلَاقٌ ، فَوَجَبَ أَنْ تَعْتَدَّ بِهَا قُرْءًا .
وَإِنْ اخْتَلَفَا ، فَقَالَ الزَّوْجُ : وَقَعَ الطَّلَاقُ فِي أَوَّلِ الْحَيْضِ .
وَقَالَتْ : بَلْ فِي آخِرِ الطُّهْرِ .
أَوْ قَالَ : انْقَضَتْ حُرُوفُ الطَّلَاقِ مَعَ انْقِضَاءِ الطُّهْرِ .
وَقَالَتْ : بَلْ قَدْ بَقِيَ مِنْهُ بَقِيَّةٌ .
فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا ؛ لِأَنَّ قَوْلَهَا مَقْبُولٌ فِي الْحَيْضِ ، وَفِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ .

( 6308 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( فَإِذَا اغْتَسَلَتْ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ ، أُبِيحَتْ لِلْأَزْوَاجِ ) حَكَى أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ ، فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا ، أَنَّهَا فِي الْعِدَّةِ مَا لَمْ تَغْتَسِلْ ، فَيُبَاحُ لِزَوْجِهَا ارْتِجَاعُهَا ، وَلَا يَحِلُّ لِغَيْرِهِ نِكَاحُهَا .
قَالَ أَحْمَدُ عُمَرُ وَعَلِيُّ وَابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُونَ : قَبْلَ أَنْ تَغْتَسِلَ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَالثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَأَبِي مُوسَى وَعُبَادَةَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ شَرِيكٌ لَهُ الرَّجْعَةُ وَإِنْ فَرَّطَتْ فِي الْغُسْلِ عِشْرِينَ سَنَةً .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهَا فِي عِدَّتِهَا ، وَلِزَوْجِهَا رَجْعَتُهَا حَتَّى يَمْضِيَ وَقْتُ الصَّلَاةِ الَّتِي طَهُرَتْ فِي وَقْتِهَا .
وَهَذَا قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إذَا انْقَطَعَ الدَّمُ لِدُونِ أَكْثَرِ الْحَيْضِ .
فَإِنْ انْقَطَعَ لِأَكْثَرِهِ ، انْقَضَتْ الْعِدَّةُ بِانْقِطَاعِهِ .
وَوَجْهُ اعْتِبَارِ الْغُسْلِ قَوْلُ الْأَكَابِرِ مِنْ الصَّحَابَةِ ، وَلَا مُخَالِفَ لَهُمْ فِي عَصْرِهِمْ ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا .
وَلِأَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ مِنْ الصَّلَاةِ بِحُكْمِ حَدَثِ الْحَيْضِ ، فَأَشْبَهَتْ الْحَائِضَ ، وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ أَنَّ الْعِدَّةَ تَنْقَضِي بِطُهْرِهَا مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ وَانْقِطَاعِ دَمِهَا .
اخْتَارَهُ أَبُو الْخَطَّابِ وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } .
وَقَدْ كَمَّلَتْ الْقُرُوءُ ، بِدَلِيلِ وُجُوبِ الْغُسْلِ عَلَيْهَا ، وَوُجُوبِ الصَّلَاةِ ، وَفِعْلِ الصِّيَامِ ، وَصِحَّتِهِ مِنْهَا ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ حُكْمُ الْعِدَّةِ فِي الْمِيرَاثِ ، وَوُقُوعِ الطَّلَاقِ بِهَا ، وَاللِّعَانِ ، وَالنَّفَقَةِ ، فَكَذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ .
قَالَ الْقَاضِي : إذَا شَرَطْنَا الْغُسْلَ ، أَفَادَ عَدَمُهُ

إبَاحَةَ الرَّجْعَةِ وَتَحْرِيمَهَا عَلَى الْأَزْوَاجِ ، فَأَمَّا سَائِرُ الْأَحْكَامِ ، فَإِنَّهَا تَنْقَطِعُ بِانْقِطَاعِ دَمِهَا .
فَصْلٌ : ( 6309 ) وَإِنْ قُلْنَا : الْقُرُوءُ الْأَطْهَارُ .
فَطَلَّقَهَا وَهِيَ طَاهِرٌ ، انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِرُؤْيَةِ الدَّمِ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ ، وَإِنْ طَلَّقَهَا حَائِضًا ، انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِرُؤْيَةِ الدَّمِ مِنْ الْحَيْضَةِ الرَّابِعَةِ .
وَهَذَا قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ وَمَالِكٍ ، وَأَبِي ثَوْرٍ .
وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ .
وَحُكِيَ عَنْهُ قَوْلٌ آخَرُ ، لَا تَنْقَضِي الْعِدَّةُ حَتَّى يَمْضِيَ مِنْ الدَّمِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الدَّمُ دَمَ فَسَادٍ ، فَلَا نَحْكُمُ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ حَتَّى يَزُولَ الِاحْتِمَالُ .
وَحَكَى الْقَاضِي هَذَا احْتِمَالًا فِي مَذْهَبِنَا أَيْضًا .
وَلَنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْعِدَّةَ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ، فَالزِّيَادَةُ عَلَيْهَا مُخَالِفَةٌ لِلنَّصِّ ، فَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّهُ قَوْلُ مِنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ ، رَوَاهُ الْأَثْرَمُ عَنْهُمْ بِإِسْنَادِهِ ، وَلَفْظُ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ { إذَا دَخَلَتْ فِي الدَّمِ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ ، فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ ، وَبَرِئَ مِنْهَا ، وَلَا تَرِثُهُ وَلَا يَرِثُهَا .
} وَقَوْلُهُمْ : إنَّ الدَّمَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دَمَ فَسَادٍ .
قُلْنَا : قَدْ حُكِمَ بِكَوْنِهِ حَيْضًا فِي تَرْكِ الصَّلَاةِ ، وَتَحْرِيمِهَا عَلَى الزَّوْجِ ، وَسَائِرِ أَحْكَامِ الْحَيْضِ ، فَكَذَلِكَ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ .
ثُمَّ إنْ كَانَ التَّوَقُّفُ عَنْ الْحُكْمِ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لِلِاحْتِمَالِ ، فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ حَيْضٌ ، عَلِمْنَا أَنَّ الْعِدَّةَ قَدْ انْقَضَتْ حِينَ رَأَتْ الدَّمَ ، كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا : إنْ حِضْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ .
اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : الْيَوْمُ وَاللَّيْلَةُ مِنْ الْعِدَّةِ ؛ لِأَنَّهُ دَمٌ تَكْمُلُ بِهِ الْعِدَّةُ ، فَكَانَ مِنْهَا ، كَاَلَّذِي فِي أَثْنَاءِ الْأَطْهَارِ .

وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَيْسَ مِنْهَا ، إنَّمَا يَتَبَيَّنُ بِهِ انْقِضَاؤُهَا ، وَلِأَنَّنَا لَوْ جَعَلْنَاهُ مِنْهَا ، أَوْجَبْنَا الزِّيَادَةَ عَلَى ثَلَاثَةِ قُرُوءٍ ، وَلَكِنَّا نَمْنَعُهَا مِنْ النِّكَاحِ حَتَّى يَمْضِيَ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ ، وَلَوْ رَاجَعَهَا زَوْجُهَا فِيهَا ، لَمْ تَصِحَّ الرَّجْعَةُ .
وَهَذَا أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ .

( 6310 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً ، فَإِذَا اغْتَسَلَتْ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّانِيَةِ ) .
أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُونَ : عِدَّةُ الْأَمَةِ بِالْقُرْءِ قُرْءَانِ .
مِنْهُمْ ؛ عُمَرُ وَعَلِيُّ وَابْنُ عُمَرَ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَعَطَاءٌ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُتْبَةَ وَالْقَاسِمُ وَسَالِمٌ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَالزُّهْرِيُّ وَقَتَادَةُ وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
، وَعَنْ ابْنِ سِيرِينَ ، عِدَّتُهَا عِدَّةُ الْحُرَّةِ ، إلَّا أَنْ تَكُونَ قَدْ مَضَتْ بِذَلِكَ سُنَّةٌ .
وَهُوَ قَوْلُ دَاوُد لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { : وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ .
} .
وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قُرْءُ الْأَمَةِ حَيْضَتَانِ } .
وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ ، وَقَوْلُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ ، وَلَمْ نَعْرِفْ لَهُمْ مُخَالِفًا فِي الصَّحَابَةِ ، فَكَانَ إجْمَاعًا ، وَهَذَا يَخُصُّ عُمُومَ الْآيَةِ .
وَلِأَنَّهُ مَعْنًى ذُو عَدَدٍ ، بُنِيَ عَلَى التَّفَاضُلِ ، فَلَا تُسَاوِي فِيهِ الْأَمَةُ الْحُرَّةَ ، كَالْحَدِّ .
وَكَانَ الْقِيَاسُ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ حَيْضَةً وَنِصْفًا ، كَمَا كَانَ حَدُّهَا عَلَى النِّصْفِ مِنْ حَدِّ الْحُرَّةِ ، إلَّا أَنَّ الْحَيْضَ لَا يَتَبَعَّضُ ، فَكَمَّلَ حَيْضَتَيْنِ ، وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَوْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَجْعَلَ الْعِدَّةَ حَيْضَةً وَنِصْفًا لَفَعَلْت .
فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا ، فَانْقِضَاءُ عِدَّتِهَا بِالْغُسْلِ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّانِيَةِ ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ ، وَفِي الْأُخْرَى ، بِانْقِطَاعِ الدَّمِ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّانِيَةِ .
وَعَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تَقُولُ : إنَّ الْقُرُوءَ الْأَطْهَارُ .
فَانْقِضَاءُ عِدَّتِهَا بِرُؤْيَةِ الدَّمِ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّانِيَةِ .

( 6311 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( وَإِنْ كَانَتْ مِنْ الْآيِسَاتِ ، أَوْ مِمَّنْ لَمْ يَحِضْنَ ، فَعِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ ) أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى هَذَا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَهُ فِي كِتَابِهِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : { وَاَللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاَللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ } فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ فِي أَوَّلِ الْهِلَالِ ، اُعْتُبِرَ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ بِالْأَهِلَّةِ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } .
وَقَالَ سُبْحَانَهُ : { إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } .
وَلَمْ يَخْتَلِفْ النَّاسُ فِي أَنَّ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ مُعْتَبَرَةٌ بِالْأَهِلَّةِ .
وَإِنْ وَقَعَ الطَّلَاقُ فِي أَثْنَاءِ شَهْرٍ اعْتَدَّتْ بَقِيَّتَهُ ، ثُمَّ اعْتَدَّتْ شَهْرَيْنِ بِالْأَهِلَّةِ ، ثُمَّ اعْتَدَّتْ مِنْ الشَّهْرِ الثَّالِثِ تَمَامَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا .
وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ تَحْتَسِبُ بَقِيَّةَ الْأَوَّلِ ، وَتَعْتَدُّ مِنْ الرَّابِعِ بِقَدْرِ مَا فَاتَهَا مِنْ الْأَوَّلِ ، تَامَّا كَانَ أَوْ نَاقِصًا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ أَوَّلِ الْهِلَالِ ، كَانَتْ الْعِدَّةُ بِالْأَهِلَّةِ ، فَإِذَا كَانَ مِنْ بَعْضِ الشَّهْرِ ، وَجَبَ قَضَاءُ مَا فَاتَ مِنْهُ .
وَخَرَّجَ أَصْحَابُنَا وَجْهًا ثَانِيًا ، أَنَّ جَمِيعَ الشُّهُورِ مَحْسُوبَةٌ بِالْعَدَدِ .
وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ بِنْتِ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ إذَا حَسَبَ الْأَوَّلَ بِالْعَدَدِ ، كَانَ ابْتِدَاءُ الثَّانِي مِنْ بَعْضِ الشَّهْرِ ، فَيَجِبُ أَنْ يَحْسِبَ بِالْعَدَدِ ، وَكَذَلِكَ الثَّالِثُ .
وَلَنَا أَنَّ الشَّهْرَ يَقَعُ عَلَى مَا بَيْنَ الْهِلَالَيْنِ وَعَلَى الثَّلَاثِينَ ، وَلِذَلِكَ إذَا غُمَّ الشَّهْرُ كُمِّلَ ثَلَاثِينَ ، وَالْأَصْلُ الْهِلَالُ ، فَإِذَا أَمْكَنَ اعْتِبَارُ الْهِلَالِ ، اُعْتُبِرُوا ، وَإِذَا تَعَذَّرَ ، رُجِعَ إلَى الْعَدَدِ .
وَفِي هَذَا انْفِصَالٌ عَمَّا ذُكِرَ لِأَبِي حَنِيفَةَ .

وَأَمَّا التَّخْرِيجُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ إتْمَامُ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ مِنْ الثَّانِي ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَمَامُهُ مِنْ الرَّابِعِ .

( 6312 ) فَصْلٌ : وَتُحْسَبُ الْعِدَّةُ مِنْ السَّاعَةِ الَّتِي فَارَقَهَا زَوْجُهَا فِيهَا ، فَلَوْ فَارَقَهَا نِصْفَ اللَّيْلِ ، أَوْ نِصْفَ النَّهَارِ ، اعْتَدَّتْ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ إلَى مِثْلِهِ .
فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ : لَا تَحْتَسِبُ بِالسَّاعَاتِ ، وَإِنَّمَا تَحْتَسِبُ بِأَوَّلِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ، فَإِذَا طَلَّقَهَا نَهَارًا ، احْتَسَبَتْ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ الَّذِي يَلِيهِ ، وَإِنْ طَلَّقَهَا لَيْلًا ، احْتَسَبَتْ بِأَوَّلِ النَّهَارِ الَّذِي يَلِيهِ ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ ؛ لِأَنَّ حِسَابَ السَّاعَاتِ يَشُقُّ ، فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ .
وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى { فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ } فَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا بِغَيْرِ دَلِيلٍ ، وَحِسَابُ السَّاعَاتِ مُمْكِنٌ ، إمَّا يَقِينًا ، وَإِمَّا اسْتِظْهَارًا ، فَلَا وَجْهَ لِلزِّيَادَةِ عَلَى مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى .

( 6313 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : وَالْأَمَةُ شَهْرَانِ اخْتَلَفْت الرِّوَايَاتُ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فِي عِدَّةِ الْأَمَةِ ، فَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ ، أَنَّهَا شَهْرَانِ .
رَوَاهُ عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ ، وَاحْتَجَّ فِيهِ بِقَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : عِدَّةُ أُمِّ الْوَلَدِ حَيْضَتَانِ ، وَلَوْ لَمْ تَحِضْ كَانَ عِدَّتُهَا شَهْرَيْنِ .
رَوَاهُ الْأَثْرَمُ عَنْهُ بِإِسْنَادِهِ .
وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ ، وَالزُّهْرِيِّ وَإِسْحَاقَ وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ الْأَشْهُرَ بَدَلٌ مِنْ الْقُرُوءِ ، وَعِدَّةُ ذَاتِ الْقُرُوءِ قُرْءَانِ ، فَبَدَلُهُمَا شَهْرَانِ ، وَلِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ بِالشُّهُورِ عَنْ غَيْرِ الْوَفَاةِ ، فَكَانَ عَدَدُهَا كَعَدَدِ الْقُرُوءِ ، لَوْ كَانَتْ ذَاتَ قُرُوءٍ ، كَالْحُرَّةِ .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ ، أَنَّ عِدَّتَهَا شَهْرٌ وَنِصْفٌ .
نَقَلَهَا الْمَيْمُونِيُّ ، وَالْأَثْرَمُ ، وَاخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ .
وَهَذَا قَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ الْمُسَيِّبِ وَسَالِمٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ .
وَهُوَ قَوْلٌ ثَانٍ لِلشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ عِدَّةَ الْأَمَةِ نِصْفُ عِدَّةِ الْحُرَّةِ ، وَعِدَّةُ الْحُرَّةِ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ ، فَنِصْفُهَا شَهْرٌ وَنِصْفٌ ، وَإِنَّمَا كَمَّلْنَا لِذَاتِ الْحَيْضِ حَيْضَتَيْنِ ، لِتَعَذُّرِ تَبْعِيضِ الْحَيْضَةِ ، فَإِذَا صِرْنَا إلَى الشُّهُورِ ، أَمْكَنَ التَّنْصِيفُ ، فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إلَيْهِ ، كَمَا فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ ، وَيَصِيرُ هَذَا كَالْمُحْرِمِ ، إذَا وَجَبَ عَلَيْهِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ نِصْفُ مُدٍّ ، أَجْزَأَهُ إخْرَاجُهُ ، فَإِنْ أَرَادَ الصِّيَامَ مَكَانَهُ ، صَامَ يَوْمًا كَامِلًا .
وَلِأَنَّهَا عِدَّةٌ أَمْكَنَ تَنْصِيفُهَا ، فَكَانَتْ عَلَى النِّصْفِ مِنْ عِدَّةِ الْحُرَّةِ ، كَعِدَّةِ الْوَفَاةِ ، وَلِأَنَّهَا مُعْتَدَّةً بِالشُّهُورِ فَكَانَتْ عَلَى النِّصْفِ مِنْ عِدَّةِ الْحُرَّةِ كَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا .
وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ ، أَنَّ عِدَّتَهَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ

وَالنَّخَعِيِّ وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيِّ وَرَبِيعَةَ وَمَالِكٍ ، وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ لِلشَّافِعِيِّ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى { فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ .
} .
وَلِأَنَّهُ اسْتِبْرَاءٌ لِلْأَمَةِ الْآيِسَةِ بِالشُّهُورِ ، فَكَانَ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ ، كَاسْتِبْرَاءِ الْأَمَةِ إذَا مَلَكَهَا ، أَوْ مَاتَ سَيِّدُهَا ، وَلِأَنَّ اعْتِبَارَ الشُّهُورِ هَاهُنَا لِلْعِلْمِ بِبَرَاءَةِ رَحِمِهَا ، وَلَا يَحْصُلُ هَذَا بِدُونِ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ فِي الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ جَمِيعًا ، لِأَنَّ الْحَمْلَ يَكُونُ نُطْفَةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا ، وَعَلَقَةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا ، ثُمَّ يَصِيرُ مُضْغَةً ، ثُمَّ يَتَحَرَّكُ ، وَيَعْلُو بَطْنُ الْمَرْأَةِ ، فَيَظْهَرُ الْحَمْلُ ، وَهَذَا مَعْنًى لَا يَخْتَلِفُ بِالرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ ، وَلِذَلِكَ كَانَ اسْتِبْرَاءُ الْأَمَةِ فِي حَقِّ سَيِّدهَا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ .
وَمَنْ رَدَّ هَذِهِ الرِّوَايَةِ قَالَ : هِيَ مُخَالِفَةٌ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ ؛ لِأَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ ، وَمَتَى اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ ، لَمْ يَجُزْ إحْدَاثُ قَوْلٍ ثَالِثٍ ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى تَخْطِئَتِهِمْ ، وَخُرُوجِ الْحَقِّ عَنْ قَوْلِ جَمِيعِهِمْ ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ ، وَلِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ لِغَيْرِ الْحَمْلِ ، فَكَانَتْ دُونَ عِدَّةِ الْحُرَّةِ ، كَذَاتِ الْقُرُوءِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا .

( 6314 ) فَصْلٌ : وَاخْتُلِفَ عَنْ أَحْمَدَ فِي السِّنِّ الَّذِي تَصِيرُ بِهِ الْمَرْأَةُ مِنْ الْآيِسَاتِ ، فَعَنْهُ : أَوَّلُهُ خَمْسُونَ سَنَةً ؛ لِأَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ : لَنْ تَرَى الْمَرْأَةُ فِي بَطْنِهَا وَلَدًا بَعْدَ خَمْسِينَ سَنَةً .
وَعَنْهُ : إنْ كَانَتْ مِنْ نِسَاءِ الْعَجَمِ فَخَمْسُونَ ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ نِسَاءِ الْعَرَبِ فَسِتُّونَ ؛ لِأَنَّهُنَّ أَقْوَى طَبِيعَةً .
وَقَدْ ذَكَرَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارَ فِي كِتَابِ " النَّسَبِ " ، أَنَّ هِنْدًا بِنْتَ أَبِي عُبَيْدَةَ ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ ، وَلَدَتْ مُوسَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَلَهَا سِتُّونَ سَنَةً .
وَقَالَ : يُقَالُ : إنَّهُ لَنْ تَلِدَ بَعْدَ خَمْسِينَ سَنَةً إلَّا عَرَبِيَّةٌ ، وَلَا تَلِدَ لِسِتِّينَ إلَّا قُرَشِيَّةٌ .
وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا ، يُعْتَبَرُ السِّنُّ الَّذِي يُتَيَقَّنُ أَنَّهُ إذَا بَلَغَتْهُ لَمْ تَحِضْ .
قَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ اثْنَانِ وَسِتُّونَ سَنَةً .
وَالثَّانِي ، يُعْتَبَرُ السِّنُّ الَّذِي يَيْأَسُ فِيهِ نِسَاءُ عَشِيرَتِهَا ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ نَشْأَهَا كَنَشْئِهِنَّ ، وَطَبْعَهَا كَطَبْعِهِنَّ .
وَالصَّحِيحُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ مَتَى بَلَغَتْ الْمَرْأَةُ خَمْسِينَ سَنَةً ، فَانْقَطَعَ حَيْضُهَا عَنْ عَادَتِهَا مَرَّاتٍ لِغَيْرِ سَبَبٍ ، فَقَدْ صَارَتْ آيِسَةً ؛ لِأَنَّ وُجُودَ الْحَيْضِ فِي حَقِّ هَذِهِ نَادِرٌ ، بِدَلِيلِ قَوْلِ عَائِشَةَ وَقِلَّةِ وُجُودِهِ ، فَإِذَا انْضَمَّ إلَى هَذَا انْقِطَاعُهُ عَنْ الْعَادَاتِ مَرَّاتٍ ، حَصَلَ الْيَأْسُ مِنْ وُجُودِهِ ، فَلَهَا حِينَئِذٍ أَنْ تَعْتَدَّ بِالْأَشْهُرِ ، وَإِنْ انْقَطَعَ قَبْلَ ذَلِكَ ، فَحُكْمُهَا حُكْمُ مَنْ ارْتَفَعَ حَيْضُهَا لَا تَدْرِي مَا رَفَعَهُ .
عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَإِنْ رَأَتْ الدَّمَ بَعْدَ الْخَمْسِينَ ، عَلَى الْعَادَةِ الَّتِي كَانَتْ تَرَاهُ فِيهَا ، فَهُوَ حَيْضٌ فِي الصَّحِيحِ ؛ لِأَنَّ دَلِيلَ الْحَيْضِ الْوُجُودُ فِي زَمَنِ الْإِمْكَانِ ، وَهَذَا يُمْكِنُ وُجُودُ الْحَيْضِ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ نَادِرًا .
وَإِنْ رَأَتْهُ بَعْدَ

السِّتِّينَ ، فَقَدْ تُيُقِّنَ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَيْضٍ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ .
قَالَ الْخِرَقِيِّ وَإِذَا رَأَتْهُ بَعْدَ السِّتِّينَ ، فَقَدْ تُيُقِّنَ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَيْضٍ .
فَعِنْدَ ذَلِكَ لَا تَعْتَدُّ بِهِ ، وَتَعْتَدُّ بِالْأَشْهُرِ ، كَاَلَّتِي لَا تَرَى دَمًا .

( 6315 ) فَصْلٌ : وَأَقَلُّ سِنٍّ تَحِيضُ فِيهِ الْمَرْأَةُ تِسْعُ سِنِينَ ؛ لِأَنَّ الْمَرْجِعَ فِيهِ إلَى الْوُجُودِ ، وَقَدْ وُجِدَ مَنْ تَحِيضُ لِتِسْعٍ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ : رَأَيْت جَدَّةً لَهَا إحْدَى وَعِشْرُونَ سَنَةً .
فَهَذِهِ إذَا أَسْقَطْتَ مِنْ عُمْرِهَا مُدَّةَ الْحَمْلَيْنِ فِي الْغَالِبِ عَامًا وَنِصْفًا ، وَقَسَمْت الْبَاقِي بَيْنَهَا وَبَيْنَ ابْنَتِهَا ، كَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا قَدْ حَلَمَتْ لِدُونِ عَشْرِ سِنِينَ .
فَإِنْ رَأَتْ دَمًا قَبْلَ ذَلِكَ ، فَلَيْسَ بِحَيْضٍ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِثْلُهَا مُتَكَرِّرًا ، وَالْمُعْتَبَرُ مِنْ ذَلِكَ مَا تَكَرَّرَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي حَالِ الصِّحَّةِ ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ ، فَلَا يُعْتَدُّ بِهِ .
( 6316 ) فَصْلٌ : فَإِنْ بَلَغَتْ سِنًّا تَحِيضُ فِيهِ النِّسَاءُ فِي الْغَالِبِ ، فَلَمْ تَحِضْ ، كَخَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً ، فَعِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ ، فِي ظَاهِرِ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَضَعَّفَ أَبُو بَكْرٍ الرِّوَايَةَ الْمُخَالِفَةَ لِهَذَا ، وَقَالَ : رَوَاهَا أَبُو طَالِبٍ فَخَالَفَ فِيهَا أَصْحَابَهُ ، وَذَلِكَ مَا رَوَى أَبُو طَالِبٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهَا تَعْتَدُّ سَنَةً .
قَالَ الْقَاضِي : هَذِهِ الرِّوَايَةُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّهُ مَتَى أَتَى عَلَيْهَا زَمَانُ الْحَيْضِ فَلَمْ تَحِضْ ، صَارَتْ مُرْتَابَةً ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِهَا حَمْلٌ مَنَعَ حَيْضَهَا ، فَيَجِبُ أَنْ تَعْتَدَّ بِسَنَةٍ ، كَاَلَّتِي ارْتَفَعَ حَيْضُهَا بَعْدَ وُجُودِهِ .
وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { وَاَللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاَللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ } وَهَذِهِ مِنْ اللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ ، وَلِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِحَالِ الْمُعْتَدَّةِ ، لَا بِحَالِ غَيْرِهَا ، وَلِهَذَا لَوْ حَاضَتْ قَبْلَ بُلُوغِ سِنٍّ يَحِيضُ لِمِثْلِهِ النِّسَاءُ فِي الْغَالِبِ ، مِثْلُ أَنْ تَحِيضَ وَلَهَا عَشْرُ سِنِينَ ، اعْتَدَّتْ بِالْحَيْضِ ، وَفَارَقَ مَنْ ارْتَفَعَ حَيْضُهَا وَلَا تَدْرِي مَا رَفَعَهُ ؛ فَإِنَّهَا مِنْ ذَوَات

الْقُرُوءِ ، وَهَذِهِ لَمْ تَكُنْ مِنْهُنَّ .

مَسْأَلَةٌ قَالَ : وَإِذَا طَلَّقَهَا طَلَاقًا يَمْلِكُ فِيهِ الرَّجْعَةَ ، وَهِيَ أَمَةٌ ، فَلَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا حَتَّى أُعْتِقَتْ ، بَنَتْ عَلَى عِدَّةِ حُرَّةٍ .
وَإِنْ طَلَّقَهَا طَلَاقًا لَا يَمْلِكُ فِيهِ الرَّجْعَةَ ، فَأُعْتِقَتْ ، اعْتَدَّتْ عِدَّةَ أَمَةٍ هَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ وَالضَّحَّاكِ وَإِسْحَاقَ وَأَصْحَابِ الرَّأْي .
وَهُوَ أَحَدُ أَقْوَالِ .
الشَّافِعِيِّ وَالْقَوْلُ الثَّانِي ، تُكْمِلُ عِدَّةَ أَمَةٍ ، سَوَاءٌ كَانَتْ بَائِنًا أَوْ رَجْعِيَّةً .
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي ثَوْرٍ ؛ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ طَرَأَتْ بَعْدَ وُجُوبِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا ، فَلَا يُعْتَبَرُ حُكْمُهَا ، كَمَا لَوْ كَانَتْ بَائِنًا .
أَوْ كَمَا لَوْ طَرَأَتْ بَعْدَ وُجُوبِ الِاسْتِبْرَاءِ ، وَلِأَنَّهُ مَعْنًى يَخْتَلِفُ بِالرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ ، فَكَانَ الِاعْتِبَارُ بِحَالَةِ الْوُجُوبِ ، كَالْحَدِّ .
وَقَالَ عَطَاءٌ وَالزُّهْرِيُّ وَقَتَادَةُ تَبْنِي عَلَى عِدَّةِ حُرَّةٍ بِكُلِّ حَالٍ .
وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ لِلشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْعِدَّةِ الْكَامِلَةِ إذَا وُجِدَ فِي أَثْنَاءِ الْعِدَّةِ ، انْتَقَلَتْ إلَيْهَا وَإِنْ كَانَتْ بَائِنًا ، كَمَا لَوْ اعْتَدَّتْ بِالشُّهُورِ ثُمَّ رَأَتْ الدَّمَ .
وَلَنَا أَنَّهَا إذَا أُعْتِقَتْ وَهِيَ رَجْعِيَّةٌ ، فَقَدْ وُجِدَتْ الْحُرِّيَّةُ ، وَهِيَ زَوْجَةٌ تَعْتَدُّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ لَوْ مَاتَ ، فَوَجَبَ أَنْ تَعْتَدَّ عِدَّةَ الْحَرَائِرِ ، كَمَا لَوْ أُعْتِقَتْ قَبْلَ الطَّلَاقِ .
وَإِنْ أُعْتِقَتْ وَهِيَ بَائِنٌ ، فَلَمْ تُوجَدْ الْحُرِّيَّةُ فِي الزَّوْجِيَّةِ ، فَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهَا عِدَّةُ الْحَرَائِرِ ، كَمَا لَوْ أُعْتِقَتْ بَعْدَ مُضِيِّ الْقُرْأَيْنِ .
وَلِأَنَّ الرَّجْعِيَّةَ تَنْتَقِلُ إلَى عِدَّةِ الْوَفَاةِ لَوْ مَاتَ ، فَتَنْتَقِلُ إلَى عِدَّةِ الْحَرَائِرِ ، وَالْبَائِنُ لَا تَنْتَقِلُ إلَى عِدَّةِ الْوَفَاةِ ، فَلَا تَنْتَقِلُ إلَى عِدَّةِ الْحَرَائِرِ ، كَمَا لَوْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا .
وَمَا ذَكَرْنَاهُ لِمَالِكٍ يَبْطُلُ بِمَا إذَا مَاتَ زَوْجُ الرَّجْعِيَّةِ ، فَإِنَّهَا تَنْتَقِلُ إلَى عِدَّةِ الْوَفَاةِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ وَبَيْنَ مَا إذَا

حَاضَتْ الصَّغِيرَةُ ، أَنَّ الشُّهُورَ بَدَلٌ عَنْ الْحَيْضِ ، فَإِذَا وُجِدَ الْمُبْدَلُ ، زَالَ حُكْمُ الْبَدَلِ ، كَالْمُتَيَمِّمِ يَجِدُ الْمَاءَ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ هَاهُنَا ، فَإِنْ عِدَّةَ الْأَمَةِ لَيْسَتْ بِبَدَلٍ ، وَلِذَلِكَ تَبْنِي الْأَمَةُ عَلَى مَا مَضَى مِنْ عِدَّتِهَا اتِّفَاقًا ، وَإِذَا حَاضَتْ الصَّغِيرَةُ اسْتَأْنَفَتْ الْعِدَّةَ فَافْتَرَقَا ، وَتُخَالِفُ الِاسْتِبْرَاءَ ؛ فَإِنَّ الْحُرِّيَّةَ لَوْ قَارَنَتْ سَبَبَ وُجُوبِهِ ، لَمْ تَكْمُلْ ، أَلَا تَرَى أَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ إذَا مَاتَ سَيِّدُهَا عَتَقَتْ لِمَوْتِهِ ، وَوَجَبَ الِاسْتِبْرَاءُ ، كَمَا يَجِبُ عَلَى الَّتِي لَمْ تَعْتِقْ ، وَلِأَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ لَا يَخْتَلِفُ بِالرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا .

( 6318 ) فَصْلٌ : إذَا عَتَقَتْ الْأَمَةُ تَحْتَ الْعَبْدِ ، فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا ، اعْتَدَّتْ عِدَّةَ الْحُرَّةِ ؛ لِأَنَّهَا بَانَتْ مِنْ زَوْجِهَا وَهِيَ حُرَّةٌ .
وَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ، أَمَرَ بَرِيرَةَ أَنْ تَعْتَدَّ عِدَّةَ الْحُرَّةِ .
} وَإِنْ طَلَّقَهَا الْعَبْدُ طَلَاقًا رَجْعِيًّا ، فَأَعْتَقَهَا سَيِّدُهَا ، بَنَتْ عَلَى عِدَّةِ الْحُرَّةِ .
سَوَاءٌ فَسَخَتْ ، أَوْ أَقَامَتْ عَلَى النِّكَاحِ ؛ لِأَنَّهَا عَتَقَتْ فِي عِدَّةِ رَجْعِيَّةٍ .
وَإِنْ لَمْ تَفْسَخْ ، فَرَاجَعَهَا فِي عِدَّتِهَا ، فَلَهَا الْخِيَارُ بَعْدَ رَجْعَتِهَا ، فَإِنْ اخْتَارَتْ الْفَسْخَ قَبْلَ الْمَسِيسِ ، فَهَلْ تَسْتَأْنِفُ الْعِدَّةَ ، أَمْ تَبْنِي عَلَى مَا مَضَى مِنْ عِدَّتِهَا ؟ .
عَلَى وَجْهَيْنِ .
فَإِنْ قُلْنَا : تَسْتَأْنِفُ .
فَإِنَّهَا تَسْتَأْنِفُ عِدَّةَ حُرَّةٍ .
وَإِنْ قُلْنَا : تَبْنِي .
بَنَتْ عَلَى عِدَّةِ حُرَّةٍ .

( 6319 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : وَإِذَا طَلَّقَهَا وَهِيَ مِمَّنْ قَدْ حَاضَتْ ، فَارْتَفَعَ حَيْضُهَا ، لَا تَدْرِي مَا رَفَعَهُ ، اعْتَدَّتْ سَنَةً وَجُمْلَةُ ذَلِكَ ، أَنَّ الرَّجُلَ إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ، وَهِيَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ ، فَلَمْ تَرَ الْحَيْضَ فِي عَادَتِهَا ، وَلَمْ تَدْرِ مَا رَفَعَهُ ، فَإِنَّهَا تَعْتَدُّ سَنَةً ؛ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ مِنْهَا تَتَرَبَّصُ فِيهَا لِتَعْلَمَ بَرَاءَةَ رَحِمِهَا ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمُدَّةَ هِيَ غَالِبُ مُدَّةُ الْحَمْلِ ، فَإِذَا لَمْ يَبْنِ الْحَمْلُ فِيهَا ، عُلِمَ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ ظَاهِرًا ، فَتَعْتَدَّ بَعْدَ ذَلِكَ عِدَّةَ الْآيِسَاتِ ، ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ .
هَذَا قَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ هَذَا قَضَاءُ عُمَرَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ، لَا يُنْكِرُهُ مِنْهُمْ مُنْكِرٌ عَلِمْنَاهُ .
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ آخَرَ : تَتَرَبَّصُ أَرْبَعَ سِنِينَ ، أَكْثَرَ مُدَّةِ الْحَمْلِ ، ثُمَّ تَعْتَدُّ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمُدَّةَ هِيَ الَّتِي يُتَيَقَّنُ بِهَا بَرَاءَةُ رَحِمِهَا ، فَوَجَبَ اعْتِبَارُهَا احْتِيَاطًا .
وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ : تَكُونُ فِي عِدَّةٍ أَبَدًا ، حَتَّى تَحِيضَ ، أَوْ تَبْلُغَ سِنَّ الْإِيَاسِ ، تَعْتَدُّ حِينَئِذٍ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ .
وَهَذَا قَوْلُ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَأَبِي الزِّنَادِ وَالثَّوْرِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَأَهْلِ الْعِرَاقِ ؛ لِأَنَّ الِاعْتِدَادَ بِالْأَشْهُرِ جُعِلَ بَعْدَ الْإِيَاسِ ، فَلَمْ يَجُزْ قَبْلَهُ ، وَهَذِهِ لَيْسَتْ آيِسَةً ، وَلِأَنَّهَا تَرْجُو عَوْدَ الدَّمِ ، فَلَمْ تَعْتَدَّ بِالشُّهُورِ ، كَمَا لَوْ تَبَاعَدَ حَيْضُهَا لِعَارِضٍ وَلَنَا الْإِجْمَاعُ الَّذِي حَكَاهُ الشَّافِعِيُّ ، وَلِأَنَّ الْغَرَضَ بِالِاعْتِدَادِ مَعْرِفَةُ بَرَاءَةِ رَحِمِهَا ، وَهَذَا تَحْصُلُ بِهِ بَرَاءَةُ رَحِمِهَا ، فَاكْتُفِيَ بِهِ ، وَلِهَذَا اكْتَفِي فِي حَقِّ ذَاتِ الْقُرْءِ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ ، وَفِي حَقِّ الْآيِسَةِ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ ، وَلَوْ

رُوعِيَ الْيَقِينُ ، لَاعْتُبِرَ أَقْصَى مُدَّةِ الْحَمْلِ ، وَلِأَنَّ عَلَيْهَا فِي تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ ضَرَرًا ، فَإِنَّهَا تُمْنَعُ مِنْ الْأَزْوَاجِ ، وَتُحْبَسُ دَائِمًا ، وَيَتَضَرَّرُ الزَّوْجُ بِإِيجَابِ السُّكْنَى وَالنَّفَقَةِ عَلَيْهِ .
وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لَا تُطَوِّلُوا عَلَيْهَا الشُّقَّةَ ، كَفَاهَا تِسْعَةُ أَشْهُرٍ .
فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا مَضَتْ تِسْعَةُ أَشْهُرٍ ، فَقَدْ عُلِمَ بَرَاءَةُ رَحِمِهَا ظَاهِرًا ، فَلِمَ اعْتَبَرْتُمْ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ بَعْدَهَا ؟ قُلْنَا : الِاعْتِدَادُ بِالْقُرُوءِ وَالْأَشْهُرِ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ عَدَمِ الْحَمْلِ ، وَقَدْ تَجِبُ الْعِدَّةُ مَعَ الْعِلْمِ بِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ عَلَّقَ طَلَاقَهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ ، فَوَضَعَتْهُ ، وَقَعَ الطَّلَاقُ ، وَلَزِمَتْهَا الْعِدَّةُ .

( 6320 ) فَصْلٌ : فَإِنْ عَادَ الْحَيْضُ إلَيْهَا فِي السَّنَةِ ، وَلَوْ فِي آخِرهَا ، لَزِمَهَا الِانْتِقَالُ إلَى الْقُرُوءِ ؛ لِأَنَّهَا الْأَصْلُ ، فَبَطَلِ بِهَا حُكْمُ الْبَدَلِ .
وَإِنْ عَادَ بَعْدَ مُضِيِّهَا وَنِكَاحِهَا ، لَمْ تَعُدْ إلَى الْقُرُوءِ ؛ لِأَنَّ عِدَّتَهَا انْقَضَتْ وَحَكَمْنَا بِصِحَّةِ نِكَاحِهَا ، فَلَمْ تَبْطُلْ ، كَمَا لَوْ اعْتَدَّتْ الصَّغِيرَةُ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ ، وَتَزَوَّجَتْ ، ثُمَّ حَاضَتْ .
وَإِنْ حَاضَتْ بَعْدَ السَّنَةِ ، وَقَبْلَ نِكَاحهَا ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا ، لَا تَعُودُ ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ انْقَضَتْ بِالشُّهُورِ ، فَلَمْ تَعُدْ ، كَالصَّغِيرَةِ .
وَالثَّانِي ، تَعُودُ ؛ لِأَنَّهَا مِنْ ذَوَاتِ الْقُرُوءِ ، وَقَدْ قَدَرَتْ عَلَى الْمُبْدَلِ قَبْلَ تَعَلُّقِ حَقِّ زَوْجٍ بِهَا ، فَلَزِمَهَا الْعَوْدُ ، كَمَا لَوْ حَاضَتْ فِي السَّنَةِ .

( 6321 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً ، اعْتَدَّتْ بِأَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا ، تِسْعَةُ أَشْهُرٍ لِلْحَمْلِ ، وَشَهْرَانِ لِلْعِدَّةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا ، أَنَّ الْحُرَّةَ تَعْتَدُّ بِسَنَةٍ إذَا ارْتَفَعَ حَيْضُهَا لَا تَدْرِي مَا رَفَعَهُ .
الثَّانِي أَنَّ عِدَّةَ الْأَمَةِ الْآيِسَةِ شَهْرَانِ ، فَتَتَرَبَّصُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ ؛ لِأَنَّ مُدَّةَ الْحَمْلِ تَتَسَاوَى فِيهَا الْحُرَّةُ وَالْأَمَةُ ، لِكَوْنِهِ أَمْرًا حَقِيقِيًّا ، فَإِذَا يَئِسَتْ مِنْ الْحَمْلِ ، اعْتَدَّتْ عِدَّةَ الْآيِسَةِ شَهْرَيْنِ .
وَعَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي جَعَلَ عِدَّتَهَا شَهْرًا وَنِصْفًا ، تَكُونُ عِدَّتُهَا عَشَرَةَ أَشْهُرٍ وَنِصْفًا .
وَمَنْ جَعَلَهَا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ ، فَعِدَّتُهَا سَنَةٌ كَالْحُرَّةِ .

( 6322 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : وَإِنْ عَرَفَتْ مَا رَفَعَ الْحَيْضَ ، كَانَتْ فِي عِدَّةٍ حَتَّى يَعُودَ الْحَيْضُ ، فَتَعْتَدُّ بِهِ ، إلَّا أَنْ تَصِيرَ مِنْ الْآيِسَاتِ ، فَتَعْتَدُّ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتٍ تَصِيرُ فِي عِدَادِ الْآيِسَاتِ أَمَّا إذَا عَرَفَتْ أَنَّ ارْتِفَاعَ الْحَيْضِ بِعَارِضٍ ؛ مِنْ مَرَضٍ ، أَوْ نِفَاسٍ ، أَوْ رَضَاعٍ ، فَإِنَّهَا تَنْتَظِرُ زَوَالَ الْعَارِضِ ، وَعَوْدَ الدَّمِ وَإِنْ طَالَ ، إلَّا أَنْ تَصِيرَ فِي سِنِّ الْإِيَاسِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ .
فَعِنْدَ ذَلِكَ تَعْتَدَّ عِدَّةَ الْآيِسَاتِ .
وَقَدْ رَوَى الشَّافِعِيُّ ، فِي مُسْنَدِهِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ حِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ طَلْقَةً وَاحِدَةً ، وَكَانَتْ لَهَا مِنْهُ بُنَيَّةً تُرْضِعُهَا ، فَتَبَاعَدَ حَيْضُهَا ، وَمَرِضَ حِبَّانُ ، فَقِيلَ لَهُ : إنَّك إنْ مِتَّ وَرِثَتْك .
فَمَضَى إلَى عُثْمَانَ وَعِنْدَهُ عَلِيٌّ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ ، فَقَالَ عُثْمَانُ لِعَلِيٍّ وَزَيْدٍ مَا تَرَيَانِ ؟ فَقَالَا : نَرَى أَنَّهَا إنْ مَاتَتْ وَرِثَهَا ، وَإِنْ مَاتَ وَرِثَتْهُ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْقَوَاعِدِ اللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ ، وَلَا مِنْ الْأَبْكَارِ اللَّائِي لَمْ يَبْلُغْنَ الْمَحِيضَ .
فَرَجَعَ حِبَّانُ إلَى أَهْلِهِ ، فَانْتَزَعَ الْبِنْتَ مِنْهَا ، فَعَادَ إلَيْهَا الْحَيْضُ ، فَحَاضَتْ حَيْضَتَيْنِ ، وَمَاتَ حِبَّانُ قَبْلَ انْقِضَاءِ الثَّالِثَةِ ، فَوَرَّثَهَا عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَرَوَى الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ ، أَنَّهُ كَانَتْ عِنْدَ جَدِّهِ امْرَأَتَانِ ؛ هَاشِمِيَّةٌ ، وَأَنْصَارِيَّةٌ ، فَطَلَّقَ الْأَنْصَارِيَّةَ وَهِيَ مُرْضِعٌ ، فَمَرَّتْ بِهَا سَنَةٌ ، ثُمَّ هَلَكَ وَلَمْ تَحِضْ ، فَقَالَتْ الْأَنْصَارِيَّةُ : لَمْ أَحِضْ .
فَاخْتَصَمُوا إلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَضَى لَهَا بِالْمِيرَاثِ ، فَلَامَتْ الْهَاشِمِيَّةُ عُثْمَانَ فَقَالَ : هَذَا عَمَلُ ابْنِ عَمِّكِ ، هُوَ أَشَارَ عَلَيْنَا بِهَذَا .
يَعْنِي عَلَيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71