الكتاب : المغني
المؤلف : أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد ، الشهير بابن قدامة المقدسي

( 5048 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَإِنْ كَانَتْ غَلَّةً فَخَلَطَهَا فِي صِحَاحٍ ، أَوْ صِحَاحًا فَخَلَطَهَا فِي غَلَّةٍ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ) يَعْنِي بِالْغَلَّةِ الْمُكَسَّرَةَ إذَا خَلَطَهَا بِصِحَاحٍ مِنْ مَالِهِ أَوْ خَلَطَ الصِّحَاحَ بِالْمُكَسَّرَةِ لَمْ يَضْمَنْهَا ؛ لِأَنَّهَا تَتَمَيَّزُ مِنْهَا فَلَا يَعْجِزُ بِذَلِكَ عَنْ رَدِّهَا عَلَى صَاحِبِهَا ، فَلَمْ يَضْمَنْهَا ، كَمَا لَوْ تَرَكَهَا فِي صُنْدُوقٍ وَفِيهِ أَكْيَاسٌ لَهُ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَمَالِكٌ ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ اخْتِلَافًا .
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إذَا خَلَطَ دَرَاهِمَ بِدَنَانِيرَ ، وَبِيضًا بِسُودٍ .
وَقَدْ حُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ ، فِي مَنْ خَلَطَ دَرَاهِمَ بِيضًا بِسُودٍ : يَضْمَنُهَا .
وَلَعَلَّهُ قَالَ ذَلِكَ لِكَوْنِهَا تَكْتَسِبُ مِنْهَا سَوَادًا ، أَوْ يَتَغَيَّرُ لَوْنُهَا ، فَتَنْقُصُ قِيمَتُهَا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا ضَرَرٌ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ .
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

( 5049 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَجْعَلَهَا فِي مَنْزِلٍ ، فَأَخْرَجَهَا عَنْ الْمَنْزِلِ ، لِغَشَيَانِ نَارٍ ، أَوْ سَيْلٍ ، أَوْ شَيْءٍ الْغَالِبُ مِنْهُ الْبَوَارُ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ رَبَّ الْوَدِيعَةِ إذَا أَمَرَ الْمُسْتَوْدَعَ بِحِفْظِهَا فِي مَكَان عَيَّنَهُ ، فَحَفِظَهَا فِيهِ ، وَلَمْ يَخْشَ عَلَيْهَا ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ .
بِغَيْرِ خِلَافٍ لِأَنَّهُ مُمْتَثِلٌ لِأَمْرِهِ ، غَيْرُ مُفَرِّطٍ فِي مَالِهِ .
وَإِنْ خَافَ عَلَيْهَا سَيْلًا وَتَوًى ، يَعْنِي هَلَاكًا ، فَأَخْرَجَهَا مِنْهُ إلَى حِرْزِهَا ، فَتَلِفَتْ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ .
بِغَيْرِ خِلَافٍ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ نَقْلَهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ تَعَيَّنَ حِفْظًا لَهَا ، وَهُوَ مَأْمُورٌ بِحِفْظِهَا .
وَإِنْ تَرَكَهَا مَعَ الْخَوْفِ فَتَلِفَتْ ، ضَمِنَهَا سَوَاءٌ تَلِفَتْ بِالْأَمْرِ الْمَخُوفِ أَوْ بِغَيْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ فَرَّطَ فِي حِفْظِهَا ، لِأَنَّ حِفْظَهَا نَقْلُهَا ، وَتَرْكَهَا تَضْيِيعٌ لَهَا .
وَإِنْ لَمْ يَخَفْ عَلَيْهَا فَنَقَلَهَا عَنْ الْحِرْزِ إلَى دُونِهِ ، ضَمِنَهَا ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَهُ فِي الْحِفْظِ الْمَأْمُورِ بِهِ .
وَإِنْ نَقَلَهَا إلَى دُونِهِ عِنْدَ الْخَوْفِ عَلَيْهَا ، نَظَرْنَا ؛ فَإِنْ أَمْكَنَهُ إحْرَازُهَا بِمِثْلِهِ ، أَوْ أَعْلَى مِنْهُ ، ضَمِنَهَا أَيْضًا ؛ لِتَفْرِيطِهِ ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ إحْرَازُهَا إلَّا بِمَا دُونَهُ ، لَمْ يَضْمَنْهَا ؛ لِأَنَّ إحْرَازَهَا بِذَلِكَ أَحْفَظُ لَهَا مِنْ تَرْكِهِ ، وَلَيْسَ فِي وُسْعِهِ سِوَاهُ .
وَإِنْ نَقَلَهَا إلَى مِثْلِ ذَلِكَ الْحِرْزِ لِغَيْرِ عُذْرٍ ، فَقَالَ الْقَاضِي : لَا يَضْمَنُهَا .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ تَقْيِيدَهُ بِهَذَا الْحِرْزِ يَقْتَضِي مَا هُوَ مِثْلُهُ ، كَمَنْ اكْتَرَى أَرْضًا لِزَرْعِ حِنْطَةٍ ، فَلَهُ زَرْعُهَا وَزَرْعُ مِثْلِهَا فِي الضَّرَرِ .
وَيَحْتَمِلُ كَلَامُ الْخِرَقِيِّ لُزُومَ الضَّمَانِ ، لِأَنَّ الْأَمْرَ بِشَيْءٍ يَقْتَضِي تَعْيِينَهُ ، فَلَا يَعْدِلُ عَنْهُ إلَّا بِدَلِيلٍ .
وَإِنْ نَقَلَهَا إلَى أَحْرَزَ مِنْهُ كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ مَا لَوْ أَخْرَجَهَا إلَى مِثْلِهِ .
فَإِنْ نَهَاهُ عَنْ إخْرَاجِهَا مِنْ

ذَلِكَ الْمَكَانِ ، فَالْحُكْمُ فِيهِ كَمَا لَوْ أَمَرَهُ بِتَرْكِهَا فِيهِ وَلَمْ يَنْهَهُ عَنْ إخْرَاجِهَا مِنْهُ ، إلَّا فِي أَنَّهُ إذَا خَافَ عَلَيْهَا فَلَمْ يُخْرِجْهَا حَتَّى تَلِفَتْ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، يَضْمَنُ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الَّتِي قَبْلَهَا .
وَالثَّانِي ، لَا يَضْمَنُ ؛ لِأَنَّهُ مُمْتَثِلٌ لِقَوْلِ صَاحِبِهَا وَفِي أَنَّهُ إذَا أَخْرَجَهَا لِغَيْرِ عُذْرٍ ضَمِنَهَا ، سَوَاءٌ أَخْرَجَهَا إلَى مِثْلِهِ أَوْ دُونَهُ أَوْ فَوْقَهُ لِأَنَّهُ خَالَفَ صَاحِبَهَا لِغَيْرِ فَائِدَةٍ .
وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنْ نَهَاهُ عَنْ نَقْلِهَا مِنْ بَيْتٍ ، فَنَقَلَهَا إلَى بَيْتٍ آخَرَ مِنْ الدَّارِ ، لَمْ يَضْمَنْ ؛ لِأَنَّهُ الْبَيْتَيْنِ مِنْ دَارٍ وَاحِدَةٍ حِرْزٌ وَاحِدٌ ، وَطَرِيقُ أَحَدِهِمَا طَرِيقُ الْآخَرِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَقَلَهَا مِنْ زَاوِيَةٍ إلَى زَاوِيَةٍ .
وَإِنْ نَقَلَهَا مِنْ دَارٍ إلَى دَارٍ أُخْرَى ، ضَمِنَ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ خَالَفَ أَمْرَ صَاحِبِهَا بِمَا لَا مَصْلَحَةَ فِيهِ ، فَيَضْمَنُ ، كَمَا لَوْ نَقَلَهَا مِنْ دَارٍ إلَى دَارٍ .
وَلَيْسَ مَا فَرَّقَ بِهِ صَحِيحًا ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الدَّارِ تَخْتَلِفُ ، فَمِنْهَا مَا هُوَ أَقْرَبُ إلَى الطَّرِيقِ ، أَوْ إلَى مَوْضِعِ الْوَقُودِ ، أَوْ إلَى الِانْهِدَامِ ، أَوْ أَسْهَلُ فَتْحًا ، أَوْ بَابُهُ أَسْهَلُ كَسْرًا ، أَوْ أَضْعَفُ حَائِطًا ، أَوَأَسْهَلُ نَقْبًا ، أَوْ لِكَوْنِ الْمَالِكِ يَسْكُنُ بِهِ ، أَوْ يَسْكُنُ فِي غَيْرِهِ ، وَأَشْبَاهُ هَذَا مِمَّا يُؤَثِّرُ فِي الْحِفْظِ أَوْ فِي عَدَمِهِ ، فَلَا يَجُوزُ تَفْوِيتُ غَرَضِ رَبِّ الْوَدِيعَةِ مِنْ تَعْيِينِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ .
وَإِنْ خَافَ عَلَيْهَا فِي مَوْضِعِهَا ، فَعَلَيْهِ نَقْلُهَا .
فَإِنْ تَرَكَهَا فَتَلِفَتْ ضَمِنَهَا ؛ لِأَنَّ نَهْيَ صَاحِبِهَا عَنْ إخْرَاجِهَا إنَّمَا كَانَ لِحِفْظِهَا ، وَحِفْظُهَا هَاهُنَا فِي إخْرَاجِهَا ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَنْهَهُ عَنْ إخْرَاجِهَا .
فَإِنْ قَالَ : لَا تُخْرِجْهَا وَإِنْ خِفْت عَلَيْهَا .
فَأَخْرَجَهَا مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ ضَمِنَهَا ، وَإِنْ أَخْرَجَهَا عِنْدَ خَوْفِهِ عَلَيْهَا ، أَوْ تَرَكَهَا فَتَلِفَتْ ،

لَمْ يَضْمَنْهَا ؛ لِأَنَّ نَهْيَهُ مَعَ خَوْفِ الْهَلَاكِ نَصٌّ فِيهِ ، وَتَصْرِيحٌ بِهِ ، فَيَكُونُ مَأْذُونًا فِي تَرْكِهَا فِي تِلْكَ الْحَالِ ، فَلَمْ يَضْمَنْهَا ؛ لِامْتِثَالِهِ أَمْرَ صَاحِبِهَا ، كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ : أَتْلِفْهَا .
فَأَتْلَفَهَا .
وَلَا يَضْمَنُ إذَا أَخْرَجَهَا ؛ لِأَنَّهُ زِيَادَةُ خَيْرٍ وَحِفْظٍ ، فَلَمْ يَضْمَنْ بِهِ ، كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ : أَتْلِفْهَا .
فَلَمْ يُتْلِفْهَا حَتَّى تَلِفَتْ .

( 5050 ) فَصْلٌ : وَإِنْ أَوْدَعَهُ وَدِيعَةً ، وَلَمْ يُعَيِّنْ لَهُ مَوْضِعَ إحْرَازِهَا ، فَإِنَّ الْمُودَعَ يَحْفَظُهَا فِي حِرْزِ مِثْلِهَا أَيِّ مَوْضِعٍ شَاءَ .
فَإِنْ وَضَعَهَا فِي حِرْزٍ ، ثُمَّ نَقَلَهَا عَنْهُ إلَى حِرْزِ مِثْلِهَا ، لَمْ يَضْمَنْهَا ، سَوَاءٌ نَقَلَهَا إلَى مِثْلِ الْأَوَّلِ أَوْ دُونَهُ ؛ لِأَنَّ رَبَّهَا رَدَّ حِفْظَهَا إلَى رَأْيِهِ وَاجْتِهَادِهِ ، وَأَذِنَ لَهُ فِي إحْرَازِهَا بِمَا شَاءَ مِنْ إحْرَازِ مِثْلِهَا ، وَلِهَذَا لَوْ تَرَكَهَا فِي هَذَا الثَّانِي أَوَّلًا لَمْ يَضْمَنْهَا ، فَكَذَلِكَ إذَا نَقَلَهَا إلَيْهِ .
وَلَوْ كَانَتْ الْعَيْنُ فِي بَيْتِ صَاحِبِهَا فَقَالَ لِرَجُلٍ : احْفَظْهَا فِي مَوْضِعِهَا .
فَنَقَلَهَا عَنْهُ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ ، ضَمِنَهَا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُودَعٍ ، إنَّمَا هُوَ وَكِيلٌ فِي حِفْظِهَا ، وَلَيْسَ لَهُ إخْرَاجُهَا مِنْ مِلْكِ صَاحِبِهَا ، وَلَا مِنْ مَوْضِعٍ اسْتَأْجَرَهُ لَهَا ، إلَّا أَنْ يَخَافَ عَلَيْهَا .
فَعَلَيْهِ إخْرَاجُهَا ، لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِحِفْظِهَا ، وَقَدْ تَعَيَّنَ حِفْظُهَا فِي إخْرَاجِهَا ، وَيَعْلَمُ أَنَّ صَاحِبَهَا لَوْ حَضَرَ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ لَأَخْرَجَهَا ، وَلِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِحِفْظِهَا عَلَى صِفَةٍ ، فَإِذَا تَعَذَّرَتْ الصِّفَةُ ، لَزِمَهُ حِفْظُهَا بِدُونِهَا ، كَالْمُسْتَوْدَعِ إذَا خَافَ عَلَيْهَا .

( 5051 ) فَصْلٌ : إذَا أَخْرَجَ الْوَدِيعَةَ الْمَنْهِيَّ عَنْ إخْرَاجِهَا ، فَتَلِفَتْ ، وَادَّعَى أَنَّهُ أَخْرَجَهَا لِغَشَيَانِ نَارٍ أَوْ سَيْلٍ ، أَوْ شَيْءٍ ظَاهِرٍ ، فَأَنْكَرَ صَاحِبُهَا وُجُودَهُ ، فَعَلَى الْمُسْتَوْدَعِ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ كَانَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مَا ادَّعَاهُ ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا تَتَعَذَّرُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ ، لِأَنَّهُ أَمْرٌ ظَاهِرٌ .
فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ ، كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي التَّلَفِ مَعَ يَمِينِهِ ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى بَيِّنَةٍ ، لِأَنَّهُ تَتَعَذَّرُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ ، فَلَمْ يُطَالَبْ بِهَا ، كَمَا لَوْ ادَّعَى التَّلَفَ بِأَمْرٍ خَفِيٍّ ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ .
وَالْحُكْمُ فِي إخْرَاجِهَا مِنْ الْخَرِيطَةِ وَالصُّنْدُوقِ ، حُكْمُ إخْرَاجِهَا مِنْ الْبَيْتِ ، عَلَى مَا مَضَى مِنْ التَّفْصِيلِ فِيهِ .

( 5052 ) فَصْلٌ : وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَجْعَلَهَا فِي مَنْزِلِهِ ، فَتَرَكَهَا فِي ثِيَابِهِ ، وَخَرَجَ بِهَا ، ضَمِنَهَا ؛ لِأَنَّ الْبَيْتَ أُحْرِزَ لَهَا .
وَإِنْ جَاءَهُ بِهَا فِي السُّوقِ ، فَقَالَ : احْفَظْهَا فِي بَيْتِكَ .
فَقَامَ بِهَا فِي الْحَالِ ، فَتَلِفَتْ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ .
وَإِنْ تَرَكَهَا فِي دُكَّانِهِ أَوْ ثِيَابِهِ ، وَلَمْ يَحْمِلْهَا إلَى بَيْتِهِ مَعَ إمْكَانِهِ ، فَتَلِفَتْ ، ضَمِنَهَا ؛ لِأَنَّ بَيْتَهُ أُحْرِزَ لَهَا .
هَكَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا .
وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَتَى تَرَكَهَا عِنْدَهُ إلَى وَقْتِ مُضِيِّهِ إلَى مَنْزِلِهِ فِي الْعَادَةِ فَتَلِفَتْ ، لَمْ يَضْمَنْهَا ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا أَوْدَعَ شَيْئًا وَهُوَ فِي دُكَّانِهِ ، أَمْسَكَهُ فِي دُكَّانِهِ أَوْ فِي ثِيَابِهِ إلَى وَقْتِ مُضِيِّهِ إلَى مَنْزِلِهِ فَيَسْتَصْحِبُهُ مَعَهُ ، وَالْمُودِعُ عَالِمٌ بِهَذِهِ الْحَالَةِ رَاضٍ بِهَا ، وَلَوْ لَمْ يَرْضَ بِهَا لَشَرَطَ عَلَيْهِ خِلَافَهَا ، وَأَمَرَهُ بِتَعْجِيلِ حَمْلِهَا ، فَإِمَّا أَنْ يَقْبَلَهَا بِهَذَا الشَّرْطِ أَوْ يَرُدَّهَا .
وَإِنْ قَالَ : اجْعَلْهَا فِي كُمِّك .
فَجَعَلَهَا فِي جَيْبِهِ ، لَمْ يَضْمَنْهَا لِأَنَّ الْجَيْبَ أُحْرِزَ لَهَا ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا نَسِيَ ، فَيَسْقُطُ الشَّيْءُ مِنْ كُمِّهِ بِخِلَافِ الْجَيْبِ .
وَإِنْ قَالَ : اجْعَلْهَا فِي جَيْبِكَ .
فَتَرَكَهَا فِي كُمِّهِ ، ضَمِنَهَا لِذَلِكَ .
وَإِنْ جَعَلَهَا فِي يَدِهِ ، ضَمِنَ أَيْضًا ، كَذَلِكَ .
وَإِنْ قَالَ : اجْعَلْهَا فِي كُمِّك .
فَتَرَكَهَا فِي يَدِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، يَضْمَنُ ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ الشَّيْءِ مِنْ الْيَدِ مَعَ النِّسْيَانِ أَكْثَرُ مِنْ سُقُوطِهِ مِنْ الْكُمِّ وَالثَّانِي ، لَا يَضْمَنُ ؛ لِأَنَّ الْيَدَ لَا يَتَسَلَّطُ عَلَيْهَا الطَّرَّارُ بِالْبَطِّ ، وَالْكُمُّ بِخِلَافِهِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أُحْرِزَ مِنْ وَجْهٍ ، فَيَتَسَاوَيَانِ .
وَلِمَنْ نَصَرَ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ أَنْ يَقُولَ : مَتَى كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَحْرَزَ مِنْ وَجْهٍ ، وَجَبَ أَنْ يَضْمَنَ ؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَ الْوَجْهَ الْمَأْمُورَ بِالْحِفْظِ بِهِ ، وَأَتَى بِمَا لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ ،

فَضَمِنَ لِمُخَالَفَتِهِ .
وَعَلَى هَذَا لَوْ أَمَرَ بِتَرْكِهَا فِي يَدِهِ ، فَجَعَلَهَا فِي كُمِّهِ ، ضَمِنَ لِذَلِكَ .
وَقَالَ الْقَاضِي : الْيَدُ أَحْرَزُ عِنْدَ الْمُغَالَبَةِ ، وَالْكُمُّ أَحْرَزُ مِنْهُ عِنْدَ عَدَمِ الْمُغَالَبَةِ .
فَعَلَى هَذَا ، إنْ أُمِرَ بِتَرْكِهَا فِي يَدِهِ ، فَشَدَّهَا فِي كُمِّهِ عِنْدَ غَيْرِ الْمُغَالَبَةِ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ .
وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ عِنْدَ الْمُغَالَبَةِ ضَمِنَ وَإِنْ أَمَرَهُ بِشَدِّهَا فِي كُمِّهِ ، فَأَمْسَكَهَا فِي يَدِهِ عِنْدَ الْمُغَالَبَةِ لَمْ يَضْمَنْ ، وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ عِنْدَ غَيْرِ الْمُغَالَبَةِ ضَمِنَ .
وَإِنْ أَمَرَهُ بِحِفْظِهَا مُطْلَقًا ، فَتَرَكَهَا فِي جَيْبِهِ ، أَوْ شَدَّهَا فِي كُمِّهِ ، لَمْ يَضْمَنْهَا .
وَإِنْ تَرَكَهَا فِي كُمِّهِ غَيْرَ مَشْدُودَةٍ ، وَكَانَتْ خَفِيفَةً لَا يَشْعُرُ بِهَا إذَا سَقَطَتْ ، ضَمِنَهَا ؛ لِأَنَّهُ مُفَرِّطٌ ، وَإِنْ كَانَتْ ثَقِيلَةً يَشْعُرُ بِهَا ، لَمْ يَضْمَنْهَا ؛ لِأَنَّ هَذَا عَادَةُ النَّاسِ فِي حِفْظِ أَمْوَالِهِمْ .
وَإِنْ شَدَّهَا عَلَى عَضُدِهِ ، لَمْ يَضْمَنْهَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَحْفَظُ لَهَا .
وَقَالَ الْقَاضِي : إنْ شَدَّهَا مِنْ جَانِبِ الْجَيْبِ ، لَمْ يَضْمَنْ ، وَإِنْ شَدَّهَا مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ ، ضَمِنَهَا لِأَنَّ الطَّرَّارَ يَقْدِرُ عَلَى بَطِّهَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا شَدَّهَا مِمَّا يَلِي الْجَيْبَ .
وَهَذَا يَبْطُلُ بِمَا إذَا تَرَكَهَا فِي جَيْبِهِ ، أَوْ شَدَّهَا فِي كُمِّهِ ، فَإِنَّ الطَّرَّارَ يَقْدِرُ عَلَى بَطِّهَا وَلَا يَضْمَنُ ، وَلَيْسَ إمْكَانُ إحْرَازِهَا بِأَحْفَظِ الْحِرْزَيْنِ مَانِعًا مِنْ إحْرَازِهَا بِمَا دُونَهُ ، إذَا كَانَ حِرْزًا لِمِثْلِهَا .
وَشَدُّهَا عَلَى الْعَضُدِ حِرْزٌ لَهَا كَيْفَمَا كَانَ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يُحْرِزُونَ بِهِ أَمْوَالَهُمْ ، فَأَشْبَهَ شَدَّهَا فِي الْكُمِّ وَتَرْكَهَا فِي الْجَيْبِ ، وَلَكِنْ لَوْ أَمَرَهُ بِشَدِّهَا مِمَّا يَلِي الْجَيْبَ ، فَشَدَّهَا مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ ، ضَمِنَ .
وَإِنْ أَمَرَهُ بِشَدِّهَا مِمَّا يَلِي الْجَانِبَ الْآخَرَ ، فَشَدَّهَا مِمَّا يَلِي الْجَيْبَ ، لَمْ يَضْمَنْ ؛ لِأَنَّهُ أُحْرِزَ .
وَإِنْ أَمَرَهُ بِشَدِّهَا عَلَى عَضُدِهِ

مُطْلَقًا ، أَوْ أَمَرَهُ بِحِفْظِهَا مَعَهُ ، فَشَدَّهَا مِنْ أَيِّ الْجَانِبَيْنِ كَانَ ، لَمْ يَضْمَنْ ؛ لِأَنَّهُ مُمْتَثِلٌ أَمْرَ مَالِكِهَا ، مُحْرِزٌ لَهَا بِحِرْزِ مِثْلِهَا .
وَأَنْ شَدَّهَا عَلَى وَسَطِهِ ، فَهُوَ أَحْرَزُ لَهَا ، وَكَذَلِكَ إنْ تَرَكَهَا فِي بَيْتِهِ فِي حِرْزِهَا .

( 5053 ) فَصْلٌ : وَإِنْ أَمَرَهُ أَنْ يَجْعَلَهَا فِي صُنْدُوقٍ ، وَقَالَ : لَا تَقْفِلْ عَلَيْهَا ، وَلَا تَنَمْ فَوْقَهَا .
فَخَالَفَهُ فِي ذَلِكَ ، أَوْ قَالَ : لَا تَقْفِلْ عَلَيْهَا إلَّا قُفْلَا وَاحِدًا ، فَجَعَلَ عَلَيْهَا قُفْلَيْنِ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ .
ذَكَرَهُ الْقَاضِي .
وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ .
وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يَضْمَنُ ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ رَبَّهَا فِي شَيْءٍ لَهُ فِيهِ غَرَضٌ يَتَعَلَّقُ بِحِفْظِهَا ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَهَاهُ عَنْ إخْرَاجِهَا عَنْ مَنْزِلِهِ فَأَخْرَجَهَا لِغَيْرِ حَاجَةٍ وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّوْمَ عَلَيْهَا ، وَتَرْكَ قُفْلَيْنِ عَلَيْهَا ، وَزِيَادَةَ الِاحْتِفَاظِ بِهَا ، يُنَبِّهُ اللِّصَّ عَلَيْهَا ، وَيَحُثُّهُ عَلَى الْجِدِّ فِي سَرِقَتِهَا ، وَالِاحْتِيَالِ لِأَخْذِهَا .
وَلَنَا ، أَنَّ ذَلِكَ أُحْرِزَ لَهَا ، فَلَا يَضْمَنُ بِفِعْلِهِ ، كَمَا لَوْ أَمَرَهُ بِتَرْكِهَا فِي صَحْنِ الدَّارِ ، فَتَرَكَهَا فِي الْبَيْتِ ، وَبِهَذَا يَنْتَقِضُ مَا ذَكَرُوهُ .

( 5054 ) فَصْلٌ : إذَا : قَالَ : اجْعَلْهَا فِي هَذَا الْبَيْتِ ، وَلَا تُدْخِلْهُ أَحَدًا .
فَأَدْخَلَ إلَيْهِ قَوْمًا ، فَسَرَقَهَا أَحَدُهُمْ ، ضَمِنَهَا ؛ لِأَنَّهَا ذَهَبَتْ بِتَعَدِّيهِ وَمُخَالَفَتِهِ ، وَسَوَاءٌ سَرَقَهَا حَالَ إدْخَالِهِمْ ، أَوْ بَعْدَهُ لِأَنَّهُ رُبَّمَا شَاهَدَ الْوَدِيعَةَ فِي دُخُولِهِ الْبَيْتَ ، وَعَلِمَ مَوْضِعَهَا ، وَطَرِيقَ الْوُصُولِ إلَيْهَا .
وَإِنْ سَرَقَهَا مَنْ لَمْ يَدْخُلْ الْبَيْتَ ، فَقَالَ الْقَاضِي : لَا يَضْمَنُ ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ لَمْ يَكُنْ سَبَبًا لِإِتْلَافِهَا .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَلْزَمَهُ الضَّمَانُ ؛ لِأَنَّ الدَّاخِلَ رُبَّمَا دَلَّ عَلَيْهَا مَنْ لَمْ يَدْخُلْ ، وَلِأَنَّهَا مُخَالَفَةٌ فَوَجَبَ الضَّمَانُ .
إذَا كَانَتْ سَبَبًا لِإِتْلَافِهَا فَأَوْجَبَتْهُ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ سَبَبًا كَمَا لَوْ نَهَاهُ عَنْ إخْرَاجِهَا فَأَخْرَجَهَا لِغَيْرِ حَاجَةٍ .

( 5055 ) فَصْلٌ : إذَا قَالَ : ضَعْ هَذَا الْخَاتَمَ فِي الْخِنْصَرِ .
فَوَضَعَهُ فِي الْبِنْصِرِ ، لَمْ يَضْمَنْهُ ؛ لِأَنَّهَا أَغْلَظُ وَأَحْفَظُ لَهُ ، إلَّا أَنْ لَا يَدْخُلَ فِيهَا ، فَيَضَعَهُ فِي أُنْمُلَتِهَا الْعُلْيَا فَيَضْمَنَهُ ، أَوْ يَنْكَسِرَ بِهَا لِغِلَظِهَا عَلَيْهِ ، فَيَضْمَنَهُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ مُخَالَفَتَهُ سَبَبٌ لِتَلَفِهِ .

( 5056 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَإِذَا أَوْدَعَهُ شَيْئًا ، ثُمَّ سَأَلَهُ دَفْعَهُ إلَيْهِ فِي وَقْتٍ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ ، فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى تَلِفَ ، فَهُوَ ضَامِنٌ ) لَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ رَدِّ الْوَدِيعَةِ عَلَى مَالِكِهَا ، إذَا طَلَبِهَا ، فَأَمْكَنَ أَدَاؤُهَا إلَيْهِ بِغَيْرِ ضَرُورَةٍ ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ ، فَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا } .
وَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ { : أَدِّ الْأَمَانَةَ إلَى مَنْ ائْتَمَنَك ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ } يَعْنِي عِنْدَ طَلَبِهَا .
وَلِأَنَّهَا حَقٌّ لِمَالِكِهَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا حَقُّ غَيْرِهِ ، فَلَزِمَ أَدَاؤُهَا إلَيْهِ ، كَالْمَغْصُوبِ وَالدَّيْنِ الْحَالِ .
فَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ دَفْعِهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ ، فَتَلِفَتْ ، ضَمِنَهَا ؛ لِأَنَّهُ صَارَ غَاصِبًا ، لِكَوْنِهِ أَمْسَكَ مَالَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ بِفِعْلٍ مُحَرَّمٍ ، فَأَشْبَهَ الْغَاصِبَ .
فَأَمَّا إنْ طَلَبِهَا فِي وَقْتٍ لَمْ يُمْكِنْ دَفْعُهَا إلَيْهِ ، لِبُعْدِهَا ، أَوْ لِمَخَافَةٍ فِي طَرِيقِهَا ، أَوْ لِلْعَجْزِ عَنْ حَمْلِهَا ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ، لَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا بِتَرْكِ تَسْلِيمِهَا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا .
وَإِنْ تَلِفَتْ لَمْ يَضْمَنْهَا ؛ لِعَدَمِ عُدْوَانِهِ .
وَإِنْ قَالَ أَمْهِلُونِي حَتَّى أَقْضِيَ صَلَاتِي ، أَوْ آكُلَ ، فَإِنِّي جَائِعٌ أَوْ أَنَامَ فَإِنِّي نَاعِسٌ ، أَوْ يَنْهَضِمَ عَنِّي الطَّعَامُ فَإِنِّي مُمْتَلِئٌ أُمْهِلَ بِقَدْرِ ذَلِكَ .

( 5057 ) فَصْلٌ : وَلَيْسَ عَلَى الْمُسْتَوْدَعِ مُؤْنَةُ الرَّدِّ وَحَمْلُهَا إلَى رَبِّهَا إذَا كَانَتْ مِمَّا لِحَمْلِهِ مُؤْنَةٌ ، قُلْت الْمُؤْنَةُ أَوْ كَثُرَتْ ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ الْعَيْنَ لِمَنْفَعَةِ مَالِكِهَا عَلَى الْخُصُوصِ ، فَلَمْ تَلْزَمْهُ الْغَرَامَةُ عَلَيْهَا ، كَمَا لَوْ وَكَّلَهُ فِي حِفْظِهَا فِي مِلْكِ صَاحِبِهَا ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ التَّمْكِينُ مِنْ أَخْذِهَا .
وَإِنْ سَافَرَ بِهَا بِغَيْرِ إذْنِ رَبِّهَا ، فَعَلَيْهِ رَدُّهَا إلَى بَلَدِهَا ، لِأَنَّهُ أَبْعَدَهَا بِغَيْرِ إذْنِ رَبِّهَا ، فَلَزِمَهُ رَدُّهَا ، كَالْغَاصِبِ .

( 5058 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : : ( وَإِذَا مَاتَ وَعِنْدَهُ وَدِيعَةٌ لَا تَتَمَيَّزُ مِنْ مَالِهِ ، فَصَاحِبُهَا غَرِيمٌ بِهَا ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا مَاتَ ، وَثَبَتَ أَنَّ عِنْدَهُ وَدِيعَةً لَمْ تُوجَدْ بِعَيْنِهَا ، فَهِيَ دَيْنٌ عَلَيْهِ ، يَغْرَمُ مِنْ تَرِكَتِهِ ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ سِوَاهَا ، فَهِيَ وَالدَّيْنُ سَوَاءٌ فَإِنْ وَفَتْ تَرِكَتُهُ بِهِمَا ، وَإِلَّا اقْتَسَمَاهَا بِالْحِصَصِ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّعْبِيُّ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَدَاوُد بْنُ أَبِي هِنْدٍ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَأَصْحَابُهُ وَإِسْحَاقُ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ شُرَيْحٍ ، وَمَسْرُوقٍ ، وَعَطَاءٍ ، وَطَاوُسٍ ، وَالزُّهْرِيِّ ، وَأَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ .
وَرُوِيَ عَنْ النَّخَعِيِّ : الْأَمَانَةُ قَبْلَ الدَّيْنِ .
وَقَالَ الْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ : الدَّيْنُ قَبْلَ الْأَمَانَةِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُمَا حَقَّانِ وَجَبَا فِي ذِمَّتِهِ ، فَتَسَاوَيَا كَالدَّيْنَيْنِ ، وَسَوَاءٌ وُجِدَ فِي تَرِكَتِهِ مِنْ جِنْسِ الْوَدِيعَةِ أَوْ لَمْ يُوجَدْ .
وَهَذَا إذَا أَقَرَّ الْمُودَعُ أَنَّ عِنْدِي وَدِيعَةً أَوْ عَلَيَّ وَدِيعَةٌ لَفُلَانٍ ، أَوْ ثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ أَنَّهُ مَاتَ وَعِنْدَهُ وَدِيعَةٌ ، فَأَمَّا إنْ كَانَتْ عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ فِي حَيَاتِهِ ، وَلَمْ تُوجَدُ بِعَيْنِهَا ، وَلَمْ يُعْلَمْ هَلْ هِيَ بَاقِيَةٌ عِنْدَهُ أَوْ تَلِفَتْ .
فَفِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، وُجُوبُ ضَمَانِهَا ؛ لِأَنَّ الْوَدِيعَةَ يَجِبُ رَدُّهَا .
إلَّا أَنْ يَثْبُتَ سُقُوطُ الرَّدِّ بِالتَّلَفِ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ ، وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ ، وَلِأَنَّ الْجَهْلَ بِعَيْنِهَا كَالْجَهْلِ بِهَا ، وَذَلِكَ لَا يُسْقِطُ الرَّدَّ .
وَالثَّانِي ، لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْوَدِيعَةَ أَمَانَةٌ ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ إتْلَافِهَا وَالتَّعَدِّي فِيهَا ، فَلَمْ يَجِبْ ضَمَانُهَا .
وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى ، وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ .
وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ الْأَوَّلُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ وُجُوبُ الرَّدِّ ، فَيَبْقَى عَلَيْهِ ، مَا لَمْ يُوجَدْ مَا يُزِيلُهُ .

( 5059 ) فَصْلٌ : وَإِنْ مَاتَ وَعِنْدَهُ وَدِيعَةٌ مَعْلُومَةٌ بِعَيْنِهَا ، فَعَلَى وَرَثَتِهِ تَمْكِينُ صَاحِبِهَا مِنْ أَخْذِهَا ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِمَوْتِ صَاحِبهَا مَنْ أَخَذَهَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ إعْلَامُهُ بِهِ ، وَلَيْسَ لَهُمْ إمْسَاكُهَا قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ بِهَا رَبُّهَا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتَمِنْهُمْ عَلَيْهَا ، وَإِنَّمَا حَصَلَ مَالُ غَيْرِهِمْ فِي أَيْدِيهِمْ ، بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَطَارَتْ الرِّيحُ إلَى دَارِهِ ثَوْبًا وَعَلِمَ بِهِ ، فَعَلَيْهِ إعْلَامُ صَاحِبِهِ بِهِ ، فَإِنْ أَخَّرَ ذَلِكَ مَعَ الْإِمْكَانِ ضَمِنَ .
كَذَا هَا هُنَا .
وَلَا تَثْبُتُ الْوَدِيعَةُ إلَّا بِإِقْرَارٍ مِنْ الْمَيِّتِ أَوْ وَرَثَتِهِ ، أَوْ بِبَيِّنَةِ تَشْهَدُ بِهَا .
وَإِنْ وُجِدَ عَلَيْهَا مَكْتُوبًا وَدِيعَةً ، لَمْ يَكُنْ حُجَّةً عَلَيْهِمْ ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الظَّرْفُ كَانَتْ فِيهِ وَدِيعَةٌ قَبْلَ هَذَا ، أَوْ كَانَ وَدِيعَةً لِمَوْرُوثِهِمْ عِنْدَ غَيْرِهِ .
أَوْ كَانَتْ وَدِيعَةً فَابْتَاعَهَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَجَدَ فِي رزمانج أَبِيهِ ، أَنَّ لَفُلَانٍ عِنْدِي وَدِيعَةً .
لَمْ يَلْزَمْهُ بِذَلِكَ ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ قَدْ رَدَّهَا وَنَسِيَ الضَّرْبَ عَلَى مَا كَتَبَ ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ .

( 5060 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَإِذَا طَالَبَهُ الْوَدِيعَةِ ، فَقَالَ : مَا أَوْدَعْتنِي .
ثُمَّ قَالَ : ضَاعَتْ مِنْ حِرْزٍ ، كَانَ ضَامِنًا ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ حَالِ الْأَمَانَةِ .
وَلَوْ قَالَ : مَا لَكَ عِنْدِي شَيْءٌ .
ثُمَّ قَالَ : ضَاعَتْ مِنْ حِرْزٍ .
كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ وَدِيعَةً ، فَقَالَ : مَا أَوْدَعْتنِي .
ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ أَوْدَعَهُ ، فَقَالَ : أَوْدَعْتنِي ، وَهَلَكَتْ مِنْ حِرْزِي .
لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ ، وَلَزِمَهُ ضَمَانُهَا .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ؛ لِأَنَّهُ مُكَذِّبٌ لِإِنْكَارِهِ الْأَوَّلِ وَمُعْتَرِفٌ عَلَى نَفْسِهِ بِالْكَذِبِ الْمُنَافِي لِلْأَمَانَةِ .
وَإِنْ أَقَرَّ لَهُ بِتَلَفِهَا مِنْ حِرْزِهِ قَبْلَ جَحْدِهِ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ .
وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهَا تَلِفَتْ بَعْدَ جُحُودِهِ ، لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الضَّمَانُ ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ بِالْجُحُودِ عَنْ الْأَمَانَةِ ، فَصَارَ ضَامِنًا كَمَنْ طُولِبَ الْوَدِيعَةِ فَامْتَنَعَ مِنْ رَدِّهَا .
وَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ بِتَلَفِهَا بَعْدَ الْجُحُودِ ، لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الضَّمَانُ لِذَلِكَ .
وَإِنْ شَهِدَتْ بِتَلَفِهَا قَبْلَ الْجُحُودِ مِنْ الْحِرْزِ .
فَهَلْ تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ ؟ فَفِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، لَا تُسْمَعُ ؛ لِأَنَّهُ مُكَذِّبٌ لَهَا بِإِنْكَارِهِ الْإِيدَاعَ .
وَالثَّانِي ، تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ ؛ لِأَنَّ الْمُودَعَ لَوْ اعْتَرَفَ بِذَلِكَ سَقَطَ حَقُّهُ ، فَتُسْمَعُ الْبَيِّنَةُ بِهِ ، فَإِنْ شَهِدَتْ بِالتَّلَفِ مِنْ الْحِرْزِ ، وَلَمْ تُعَيَّنْ قَبْلَ الْجُحُودِ وَلَا بَعْدَهُ ، وَاحْتَمَلَ الْأَمْرَيْنِ ، لَمْ يَسْقُطْ الضَّمَانُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ وُجُوبُهُ ، فَلَا يَنْتَفِي بِأَمْرِ مُتَرَدِّدٍ .
وَأَمَّا إذَا ادَّعَى الْوَدِيعَةَ ، فَقَالَ : مَا لَكَ عِنْدِي شَيْءٌ ، أَوْ لَا تَسْتَحِقُّ عَلَيَّ شَيْئًا .
فَقَالَتْ الْبَيِّنَةُ بِالْإِيدَاعِ ، أَوْ أَقَرَّ بِهِ الْمُودَعُ ، ثُمَّ قَالَ : ضَاعَتْ مِنْ حِرْزٍ .
كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ

قَوْلَهُ لَا يُنَافِي مَا شَهِدَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ وَلَا يُكَذِّبُهَا ، فَإِنَّ مَنْ تَلِفَتْ الْوَدِيعَةُ مِنْ حِرْزِهِ بِغَيْرِ تَفْرِيطِهِ فَلَا شَيْءَ لِمَالِكِهَا عِنْدَهُ ، وَلَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ شَيْئًا ، لَكِنْ إنْ ادَّعَى تَلَفَهَا بَعْدَ جُحُودِهِ ، أَوْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ بِتَلَفِهَا بَعْدَ الْجُحُودِ ، أَوْ أَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَهُ حَالَ جُحُودِهِ ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُهَا ؛ لِأَنَّ جُحُودَهُ أَوْجَبَ الضَّمَانَ عَلَيْهِ ، فَصَارَ كَالْغَاصِبِ .

( 5061 ) فَصْلٌ : إذَا نَوَى الْخِيَانَةَ فِي الْوَدِيعَةِ ، بِالْجُحُودِ أَوْ الِاسْتِعْمَالِ ، وَلَمْ يَفْعَلْ ، لَمْ يَصِرْ ضَامِنًا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُحْدِثْ فِي الْوَدِيعَةِ قَوْلًا وَلَا فِعْلًا ، فَلَا يَضْمَنُ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَنْوِ .
وَقَالَ ابْنُ شُرَيْحٍ : يَضْمَنُهَا ؛ لِأَنَّهُ أَمْسَكَهَا بِنِيَّةِ الْخِيَانَةِ ، فَيَضْمَنُهَا ، كَالْمُلْتَقِطِ بِقَصْدِ التَّمَلُّكِ وَلَنَا : قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : عُفِيَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ ، وَمَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا ، مَا لَمْ تَكَلَّمْ بِهِ ، أَوْ تَعْمَلْ بِهِ } .
وَلِأَنَّهُ لَمْ يَخُنْ فِيهَا بِقَوْلٍ وَلَا فِعْلٍ ، فَلَمْ يَضْمَنْهَا ، كَاَلَّذِي لَمْ يَنْوِ ، وَفَارَقَ الْمُلْتَقِطَ بِقَصْدِ التَّمَلُّكِ ، فَإِنَّهُ عَمِلَ فِيهَا بِأَخْذِهَا نَاوِيًا لِلْخِيَانَةِ فِيهَا ، فَوَجَبَ الضَّمَانُ بِفِعْلِهِ الْمَنْوِيِّ ، لَا بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ .
وَلَوْ الْتَقَطَهَا قَاصِدًا لَتَعْرِيفِهَا ، ثُمَّ نَوَى بَعْدَ ذَلِكَ إمْسَاكَهَا لِنَفْسِهِ ، كَانَتْ كَمَسْأَلَتِنَا .
وَلَوْ أَخْرَجَهَا بِنِيَّةِ الِاسْتِعْمَالِ ، فَلَمْ يَسْتَعْمِلْهَا ، ضَمِنَهَا .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَضْمَنُهَا إلَّا بِالِاسْتِعْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَخْرَجَهَا لِنَقْلِهَا لَمْ يَضْمَنْهَا .
وَلَنَا ، أَنَّهُ تَعَدَّى بِإِخْرَاجِهَا ، أَشْبَهَ مَا لَوْ اسْتَعْمَلَهَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا نَقَلَهَا .

( 5062 ) فَصْلٌ : وَالْمُودَعُ أَمِينٌ ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِيمَا يَدَّعِيهِ مِنْ تَلَفِ الْوَدِيعَةِ .
بِغَيْرِ خِلَافٍ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ أَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُودَعَ إذَا أَحْرَزَ الْوَدِيعَةَ ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهَا ضَاعَتْ ، أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ .
وَقَالَ أَكْثَرُهُمْ : مَعَ يَمِينِهِ .
وَإِنْ ادَّعَى رَدَّهَا عَلَى صَاحِبِهَا ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ أَيْضًا .
وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ إنْ كَانَ دَفَعَهَا إلَيْهِ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ .
وَإِنْ كَانَ أَوْدَعَهُ بِبَيِّنَةٍ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي الرَّدِّ إلَّا بِبَيِّنَةٍ وَلَنَا ، أَنَّهُ أَمِينٌ لَا مَنْفَعَةَ لَهُ فِي قَبْضِهَا ، فَقُبِلَ قَوْلُهُ فِي الرَّدِّ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ ، كَمَا لَوْ أَوْدَعَ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ .
وَإِنْ قَالَ : دَفَعْتهَا إلَى فُلَانٍ بِأَمْرِكَ .
فَأَنْكَرَ مَالِكُهَا الْإِذْنَ فِي دَفْعِهَا ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُودَعِ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ .
وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى .
وَقَالَ مَالِكٌ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالْعَنْبَرِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ : الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْإِذْنِ ، وَلَهُ تَضْمِينُهُ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ ادَّعَى دَفْعًا يَبْرَأُ بِهِ مِنْ الْوَدِيعَةِ ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ ، كَمَا لَوْ ادَّعَى رَدَّهَا عَلَى مَالِكِهَا .
وَلَوْ اعْتَرَفَ الْمَالِكُ بِالْإِذْنِ ، وَلَكِنْ قَالَ : لَمْ يَدْفَعْهَا .
فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَوْدَعِ أَيْضًا ، ثُمَّ نَنْظُرُ فِي الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ ؛ فَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ قَبَضَهُ ، وَكَانَ الدَّفْعُ فِي دَيْنٍ ، فَقَدْ بَرِئَ الْكُلُّ ، وَإِنْ أَنْكَرَ .
فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ .
وَقَدْ ذَكَرَ أَصْحَابُنَا أَنَّ الدَّافِعَ يَضْمَنُ ؛ لِكَوْنِهِ قَضَى الدَّيْنَ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ ، وَلَا يَجِبُ الْيَمِينُ عَلَى صَاحِبِ الْوَدِيعَةِ ؛ لِأَنَّ الْمُودَعَ مُفَرِّطٌ ، لِكَوْنِهِ أَذِنَ فِي قَضَاءٍ يُبَرِّئُهُ مِنْ الْحَقِّ وَلَمْ يَبْرَأْ بِدَفْعِهِ ، فَكَانَ

ضَامِنًا ، سَوَاءٌ صَدَّقَهُ أَوْ كَذَّبَهُ .
وَإِنْ أَمَرَهُ بِدَفْعِهِ وَدِيعَةً ، لَمْ يَحْتَجْ إلَى بَيِّنَةٍ ، لِأَنَّ الْمُودَعَ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي التَّلَفِ وَالرَّدِّ ، فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِشْهَادِ عَلَيْهِ .
فَعَلَى هَذَا يَحْلِفُ الْمُودَعُ ، وَيَبْرَأُ ، وَيَحْلِفُ الْآخِرُ وَيَبْرَأُ أَيْضًا ، وَيَكُونُ ذَهَابُهَا مِنْ مَالِكِهَا .

( 5063 ) فَصْلٌ : وَإِذَا أَوْدَعَ بَهِيمَةً ، فَأَمَرَهُ صَاحِبُهَا بِعَلْفِهَا وَسَقْيِهَا ، لَزِمَهُ ذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا ، لِحُرْمَةِ صَاحِبِهَا ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهَا مِنْهُ عَلَى ذَلِكَ .
وَالثَّانِي ، لِحُرْمَةِ الْبَهِيمَةِ ، فَإِنَّ الْحَيَوَانَ يَجِبُ إحْيَاؤُهُ بِالْعَلْفِ وَالسَّقْيِ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ عَلْفُهَا .
إلَّا أَنْ يَقْبَلَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ هَذَا تَبَرُّعٌ مِنْهُ ، فَلَا يَلْزَمُهُ بِمُجَرَّدِ أَمْرِ صَاحِبِهَا ، كَغَيْرِ الْوَدِيعَةِ .
وَإِنْ أَطْلَقَ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِعَلْفِهَا ، لَزِمَهُ ذَلِكَ أَيْضًا .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ ذَلِكَ .
وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَحْفَظَهُ إيَّاهَا ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِعَلْفِهَا ، وَالْعَلْفُ عَلَى مَالِكِهَا ، فَإِذَا لَمْ يَعْلِفْهَا كَانَ هُوَ الْمُفَرِّطَ فِي مَالِهِ وَلَنَا ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إتْلَافُهَا ، وَلَا التَّفْرِيطُ فِيهَا ، فَإِذَا أَمَرَهُ بِحِفْظِهَا تَضَمَّنَ ذَلِكَ عَلْفَهَا وَسَقْيَهَا ، ثُمَّ نَنْظُرُ ؛ فَإِنْ قَدَرَ الْمُسْتَوْدَعُ عَلَى صَاحِبِهَا أَوْ وَكِيلِهِ ، طَالَبَهُ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا ، أَوْ بِرَدِّهَا عَلَيْهِ ، أَوْ يَأْذَنُ لَهُ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا لِيَرْجِعَ بِهِ .
فَإِذَا عَجَزَ عَنْ صَاحِبِهَا أَوْ وَكِيلِهِ ، رَفَعَ الْأَمْرَ إلَى الْحَاكِمِ ، فَإِنْ وَجَدَ لِصَاحِبِهَا مَالًا أَنْفَقَ عَلَيْهَا مِنْهُ ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَالًا فَعَلَ مَا يَرَى لَصَاحِبِهَا الْحَظَّ فِيهِ ، مِنْ بَيْعِهَا ، أَوْ بَيْعِ بَعْضِهَا وَإِنْفَاقِهِ عَلَيْهَا ، أَوْ إجَارَتِهَا ، أَوْ الِاسْتِدَانَةِ عَلَى صَاحِبِهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ، أَوْ مِنْ غَيْرِهِ ، وَيَدْفَعُ ذَلِكَ إلَى الْمُودَعِ إنْ أَرَادَ ذَلِكَ لِيُنْفِقَهُ عَلَيْهَا ، وَإِنْ رَأَى دَفْعَهُ إلَى غَيْرِهِ لِيَتَوَلَّى الْإِنْفَاقَ عَلَيْهَا ، جَازَ .
وَإِنْ اسْتَدَانَ مِنْ الْمُودَعِ ، جَازَ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَيْهِ لِيَتَوَلَّى الْإِنْفَاقَ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ عَلَيْهَا .
وَيَجُوزُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ الْحَاكِمُ فِي أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهَا مِنْ مَالِهِ ، وَيَكُونَ قَابِضًا لِنَفْسِهِ مِنْ نَفْسِهِ ، وَيَكِلُ

ذَلِكَ إلَى اجْتِهَادِهِ فِي قَدْرِ مَا يُنْفِقُ ، وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى صَاحِبِهَا ، فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ النَّفَقَةِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُودَعِ إذَا ادَّعَى النَّفَقَةَ بِالْمَعْرُوفِ ، وَإِنْ ادَّعَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ، لَمْ يَثْبُتْ لَهُ .
وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الْمُدَّةِ الَّتِي أَنْفَقَ فِيهَا ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِهَا ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ ذَلِكَ .
فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْحَاكِمِ ، فَأَنْفَقَ عَلَيْهَا مُحْتَسِبًا بِالرُّجُوعِ عَلَى صَاحِبِهَا ، وَأَشْهَدَ عَلَى الرُّجُوعِ ، رَجَعَ بِمَا أَنْفَقَ ، رِوَايَةً وَاحِدَةً .
لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِيهِ عُرْفًا ، وَلَا تَفْرِيطَ مِنْهُ إذَا لَمْ يَجِدْ حَاكِمًا .
وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ مَعَ إمْكَانِ اسْتِئْذَانِ الْحَاكِمِ مِنْ غَيْرِ إذْنِهِ ، فَهَلْ لَهُ الرُّجُوعُ ؟ يُخَرَّجُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ .
نَصَّ عَلَيْهَا فِيمَا إذَا أَنْفَقَ عَلَى الْبَهِيمَةِ الْمَرْهُونَةِ مِنْ غَيْرِ إذْنِ الرَّاهِنِ ، وَفِي الضَّامِنِ إذَا ضَمِنَ وَأَدَّى بِغَيْرِ إذْنِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ ، هَلْ يَرْجِعُ بِهِ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ ؛ إحْدَاهُمَا ، يَرْجِعُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِيهِ عُرْفًا .
وَالثَّانِيَةُ ، لَا يَرْجِعُ ؛ لِأَنَّهُ مُفَرِّطٌ بِتَرْكِ اسْتِئْذَانِ الْحَاكِمِ .
وَإِنْ أَنْفَقَ مِنْ غَيْرِ إشْهَادٍ ، مَعَ الْعَجْزِ عَنْ اسْتِئْذَانِ الْحَاكِمِ ، أَوْ مَعَ إمْكَانِهِ ، فَفِي الرُّجُوعِ وَجْهَانِ أَيْضًا كَذَلِكَ .
وَمَتَى عَلَفَ الْبَهِيمَةَ أَوْ سَقَاهَا فِي دَارِهِ ، أَوْ غَيْرِهَا ، بِنَفْسِهِ ، أَوْ أَمَرَ غُلَامَهُ أَوْ صَاحِبَهُ ، فَفَعَلَ ذَلِكَ ، كَمَا يَفْعَلُ فِي بَهَائِمِهِ .
عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ هَذَا مَأْذُونٌ فِيهِ عُرْفًا ، لِجَرَيَانِ الْعَادَةِ بِهِ ، فَأَشْبَهَ الْمُصَرَّحَ بِهِ .

( 5064 ) فَصْلٌ وَإِنْ أَوْدَعَهُ الْبَهِيمَةَ ، وَقَالَ : لَا تَعْلِفْهَا ، وَلَا تَسْقِهَا .
لَمْ يَجُزْ لَهُ تَرْكُ عَلْفِهَا ؛ لِأَنَّ لِلْحَيَوَانِ حُرْمَةً فِي نَفْسِهِ يَجِبُ إحْيَاؤُهُ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى .
فَإِنْ عَلَفَهَا وَسَقَاهَا ، كَانَ كَالْقِسْمِ الَّذِي قَبْلَهُ ، وَإِنْ تَرَكَهَا حَتَّى تَلِفَتْ ، لَمْ يَضْمَنْهَا .
وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَضْمَنُ لِأَنَّهُ تَعَدَّى بِتَرْكِ عَلْفِهَا ، أَشْبَهَ مَا إذَا لَمْ يَنْهَهُ .
وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ الْمُنْذِرِ ؛ لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ .
فَيَصِيرُ أَمْرُ مَالِكِهَا وَسُكُوتُهُ سَوَاءً .
وَلَنَا ، أَنَّهُ مُمْتَثِلٌ لِأَمْرِ صَاحِبِهَا ، فَلَمْ يَضْمَنْهَا ، كَمَا لَوْ قَالَ : اُقْتُلْهَا فَقَتَلَهَا ، وَكَمَا لَوْ قَالَ : لَا تُخْرِجْ الْوَدِيعَةَ ، وَإِنْ خِفْت عَلَيْهَا .
فَخَافَ عَلَيْهَا وَلَمْ يُخْرِجْهَا ، أَوْ أَمَرَهُ صَاحِبُهَا بِإِلْقَائِهَا فِي نَارٍ أَوْ بَحْرٍ .
وَبِهَذَا يُنْتَقَضُ مَا ذَكَرُوهُ .
وَمَنَعَ ابْنُ الْمُنْذِرِ الْحُكْمَ فِيمَا إذَا أَمَرَهُ بِإِتْلَافِهَا وَأَتْلَفَهَا ؛ لِمَا تَقَدَّمَ .
وَلَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ لِصَاحِبِهَا فَلَمْ يَغْرَمْ لَهُ شَيْئًا ، كَمَا لَوْ اسْتَنَابَهُ فِي مُبَاحٍ ، وَالتَّحْرِيمُ أَثَرُهُ فِي بَقَاءِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ التَّأْثِيمُ ، أَمَّا حَقُّ الْآدَمِيِّ فَلَا يَبْقَى مَعَ إذْنِهِ فِي تَفْوِيتِهِ ، وَلِأَنَّهَا لَمْ تَتْلَفْ بِفِعْلِهِ ، وَإِنَّمَا تَلِفَتْ بِتَرْكِ الْعَلْفِ الْمَأْذُونِ فِيهِ ، أَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ لَهُ : لَا تُخْرِجْهَا إذَا خِفْت عَلَيْهَا .
فَلَمْ يُخْرِجْهَا .

( 5065 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَلَوْ كَانَ فِي يَدِهِ وَدِيعَةٌ ، فَادَّعَاهَا نَفْسَانِ ، فَقَالَ : أَوْدَعَنِي أَحَدُهُمَا وَلَا أَعْرِفُهُ عَيْنًا .
أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا ، فَمَنْ خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ حَلَفَ أَنَّهَا لَهُ ، وَسُلِّمَتْ إلَيْهِ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ ، فَادَّعَاهَا نَفْسَانِ ، فَأَقَرَّ بِهَا لِأَحَدِهِمَا ، سُلِّمَتْ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ يَدَهُ دَلِيلُ مِلْكِهِ ، فَلَوْ ادَّعَاهَا لِنَفْسِهِ ، كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ .
فَإِذَا أَقَرَّ بِهَا لِغَيْرِهِ ، وَجَبَ أَنْ يُقْبَلَ ، وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَحْلِفَ لِلْآخَرِ ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِحَقِّهِ ، فَإِنْ حَلَفَ بَرِئَ ، وَإِنْ نَكَلَ لَزِمَهُ أَنْ يَغْرَمَ لَهُ قِيمَتَهَا .
لِأَنَّهُ فَوَّتَهَا عَلَيْهِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ لِلثَّانِي بِهَا بَعْدَ أَنْ أَقَرَّ بِهَا لِلْأَوَّلِ ، سُلِّمَتْ إلَى الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّهَا بِإِقْرَارِهِ ، وَغَرِمَ قِيمَتَهَا لِلثَّانِي .
نَصَّ عَلَى هَذَا أَحْمَدُ .
وَإِنْ أَقَرَّ بِهَا لَهُمَا جَمِيعًا ، فَهِيَ بَيْنَهُمَا ، وَيَلْزَمُهُ الْيَمِينُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نِصْفِهَا .
وَإِنْ قَالَ : هِيَ لِأَحَدِهِمَا لَا أَعْرِفُهُ عَيْنًا .
فَاعْتَرَفَا لَهُ بِجَهْلِهِ ، تَعَيَّنَ الْمُسْتَحِقُّ لَهَا ، فَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ .
وَإِنْ ادَّعَيَا مَعْرِفَتَهُ ، فَعَلَيْهِ يَمِينٌ وَاحِدَةٌ أَنَّهُ لَا يَعْلَمْ ذَلِكَ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَحْلِفُ يَمِينَيْنِ ، كَمَا لَوْ أَنْكَرَ أَنَّهَا لَهُمَا .
وَلَنَا ، أَنَّ الَّذِي يُدَّعَى عَلَيْهِ أَمْرٌ وَاحِدٌ ، وَهُوَ الْعِلْمُ بِعَيْنِ الْمَالِكِ ، فَكَفَاهُ يَمِينٌ وَاحِدَةٌ كَمَا لَوْ ادَّعَيَاهَا فَأَقَرَّ بِهَا لِأَحَدِهِمَا ، وَيُفَارِقُ مَا إذَا أَنْكَرَهَا .
لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي عَلَيْهِ أَنَّهَا لَهُ ، فَهُمَا دَعْوَيَانِ ، فَإِنْ حَلَفَ أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا ، فَمَنْ قَرَعَ صَاحِبَهُ حَلَفَ ، وَسُلِّمَتْ إلَيْهِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَتَحَالَفَانِ ، وَيُوقَفُ الشَّيْءُ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَصْطَلِحَا .
وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ الْمَالِكَ مِنْهُمَا .
وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلٌ آخَرُ ، أَنَّهَا

تُقْسَمُ بَيْنَهُمَا ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِهَا لَهُمَا .
وَهَذَا الَّذِي حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ فِيمَا حُكِيَ عَنْهُمْ ، قَالُوا : وَيَضْمَنُ الْمُسْتَوْدَعُ نِصْفَهَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَ مَا اسْتَوْدَعَ بِجَهْلِهِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُمَا تَسَاوَيَا فِي الْحَقِّ فِيمَا لَيْسَ بِأَيْدِيهِمَا ، فَوَجَبَ أَنْ يُقْرَعَ بَيْنَهُمَا ، كَالْعَبْدَيْنِ إذَا أَعْتَقَهُمَا فِي مَرَضِهِ فَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ الثُّلُثِ إلَّا أَحَدُهُمَا ، أَوْ كَمَا لَوْ أَرَادَ السَّفَرَ بِإِحْدَى نِسَائِهِ وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ فَإِنَّ الْعَيْنَ لَمْ تَتْلَفْ ، وَلَوْ تَلِفَتْ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنْهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، وَلَيْسَ فِي جَهْلِهِ تَفْرِيطٌ ، إذْ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ أَنْ لَا يَنْسَى وَلَا يَجْهَلَ .

( 5066 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَمَنْ أَوْدَعَ شَيْئًا ، فَأَخَذَ بَعْضَهُ ، ثُمَّ رَدَّهُ أَوْ مِثْلَهُ ، فَضَاعَ الْكُلُّ ، لَزِمَهُ مِقْدَارُ مَا أَخَذَ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَنْ أَوْدَعَ شَيْئًا ، فَأَخَذَ بَعْضَهُ ، لَزِمَهُ ضَمَانُ مَا أَخَذَ ، فَإِنْ رَدَّهُ أَوْ مِثْلَهُ ، لَمْ يَزُلْ الضَّمَانُ عَنْهُ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ مَالِكٌ : لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إذَا رَدَّهُ أَوْ مِثْلَهُ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ : إنْ لَمْ يُنْفِقْ مَا أَخَذَهُ ، وَرَدَّ ، لَمْ يَضْمَنْ ، وَإِنْ أَنْفَقَهُ ثُمَّ رَدَّهُ أَوْ مِثْلَهُ ضَمِنَ .
وَلَنَا ، أَنَّ الضَّمَانَ تَعَلَّقَ بِذِمَّتِهِ بِالْأَخْذِ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ تَلَفَ فِي يَدِهِ قَبْلَ رَدِّهِ ضَمِنَهُ ، فَلَا يَزُولُ إلَّا بِرَدِّهِ إلَى صَاحِبِهِ كَالْمَغْصُوبِ .
فَأَمَّا سَائِرُ الْوَدِيعَةِ ، فَيُنْظَرُ فِيهِ ؛ فَإِنْ كَانَ فِي كِيسٍ مَخْتُومٍ أَوْ مَشْدُودٍ ، فَكَسَرَ الْخَتْمَ أَوْ حَلَّ الشَّدَّ ، ضَمِنَ ، سَوَاءٌ أُخْرِجَ مِنْهُ أَوْ لَمْ يُخْرَجْ ؛ لِأَنَّهُ هَتَكَ الْحِرْزَ بِفِعْلٍ تَعَدَّى بِهِ .
وَإِنْ خَرَقَ الْكِيسَ فَوْقَ الشَّدِّ ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُ مَا خَرَقَ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّهُ مَا هَتَكَ الْحِرْزَ .
وَإِنْ لَمْ تَكُنْ الدَّرَاهِمُ فِي كِيسٍ ، أَوْ كَانَتْ فِي كِيسٍ غَيْرِ مَشْدُودٍ ، أَوْ كَانَتْ ثِيَابًا فَأَخَذَ مِنْهَا وَاحِدًا ثُمَّ رَدَّهُ بِعَيْنِهِ ، لَمْ يَضْمَنْ غَيْرَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَدَّ فِي غَيْرِهِ .
وَإِنْ رَدَّ بَدَلَهُ وَكَانَ مُتَمَيِّزًا ، لَمْ يَضْمَنْ غَيْرَهُ لِذَلِكَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَمَيِّزًا ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ هَاهُنَا أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ غَيْرَهُ لِأَنَّ التَّعَدِّيَ اخْتَصَّ بِهِ ، فَيَخْتَصُّ الضَّمَانُ بِهِ ، وَخَلْطُ الْمَرْدُودِ بِغَيْرِهِ لَا يَقْتَضِي الضَّمَانَ ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ رَدُّهُ مَعَهَا ، فَلَمْ يُفَوِّتْ عَلَى نَفْسِهِ إمْكَانَ رَدِّهَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا خَلَطَهُ بِغَيْرِهِ .
وَلَوْ أَذِنَ لَهُ صَاحِبُ الْوَدِيعَةِ فِي الْأَخْذِ مِنْهَا ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِرَدِّ بَدَلِهِ ، فَأَخَذَ ثُمَّ رَدَّ بَدَلَ مَا أَخَذَ فَهُوَ كَرَدِّ بَدَلِ مَا لَمْ يُؤْذَنْ فِي أَخْذِهِ .
وَقَالَ الْقَاضِي :

يَضْمَنُ الْكُلَّ .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ خَلَطَ الْوَدِيعَةَ بِمَا لَا يَتَمَيَّزُ مِنْهَا ، فَضَمِنَ الْكُلَّ ، كَمَا لَوْ خَلَطَهَا بِغَيْرِ الْبَدَلِ .
وَقَدْ ذَكَرْنَا فَرْقًا بَيْنَ الْبَدَلِ وَغَيْرِهِ ، فَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إذَا كَسَرَ خَتْمَ الْكِيسِ ، لَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانُ الْوَدِيعَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَدَّ فِي غَيْرِهِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ هَتَكَ حِرْزَهَا ، فَضَمِنَهَا إذَا تَلِفَتْ ، كَمَا لَوْ أَوْدَعَهُ إيَّاهَا فِي صُنْدُوقٍ مُقْفَلٍ ، فَفَتَحَهُ وَتَرَكَهُ مَفْتُوحًا .
وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَمْ يَتَعَدَّ فِي غَيْرِ الْخَتْمِ .

( 5067 ) فَصْلٌ : وَإِذَا ضَمِنَ الْوَدِيعَةَ بِالِاسْتِعْمَالِ أَوْ بِالْجَحْدِ ، ثُمَّ رَدَّهَا إلَى صَاحِبِهَا ، زَالَ عَنْهُ الضَّمَانُ ، فَإِنْ رَدَّهَا صَاحِبُهَا إلَيْهِ ، كَانَ ابْتِدَاءَ اسْتِئْمَانٍ ، وَإِنْ لَمْ يَرُدَّهَا إلَيْهِ ، وَلَكِنْ جَدَّدَ لَهُ الِاسْتِئْمَانَ أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْ الضَّمَانِ ، بَرِئَ مِنْ الضَّمَانِ ، فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ حَقُّهُ ، فَإِذَا أَبْرَأَهُ مِنْهُ بَرِئَ ، كَمَا لَوْ أَبْرَأَهُ مِنْ دَيْنٍ فِي ذِمَّتِهِ .
وَإِذَا جَدَّدَ لَهُ اسْتِئْمَانًا ، فَقَدْ انْتَهَى الْقَبْضُ الْمَضْمُونُ بِهِ ، فَزَالَ الضَّمَانُ .
وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا : إذَا رَهَنَ الْمَغْصُوبَ عِنْدَ الْغَاصِبِ ، أَوْ أَوْدَعَهُ عِنْدَهُ ، زَالَ عَنْهُ ضَمَانُ الْغَصْبِ ، فَهَاهُنَا أَوْلَى .

( 5068 ) فَصْلٌ : وَلَوْ تَعَدَّى فَلَبِسَ الثَّوْبَ ، وَرَكِبَ الدَّابَّةَ ، أَوْ أَخَذَ الْوَدِيعَةَ لِيَسْتَعْمِلَهَا ، أَوْ لِيُخَزِّنَ فِيهَا ، ثُمَّ رَدَّهَا إلَى مَوْضِعِهَا بِنِيَّةِ الْأَمَانَةِ ، لَمْ يَبْرَأْ مِنْ الضَّمَانِ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَبْرَأُ ؛ لِأَنَّهُ مُمْسِكٌ لَهَا بِإِذْنِ مَالِكِهَا فَأَشْبَهَ مَا قَبْلَ التَّعَدِّي .
وَلَنَا ، أَنَّهُ ضَمِنَهَا بِعُدْوَانٍ ، فَبَطَلَ الِاسْتِئْمَانُ ، كَمَا لَوْ جَحَدَهَا ثُمَّ أَقَرَّ بِهَا ، وَبِهَذَا يَبْطُلُ مَا ذَكَرُوهُ .

( 5069 ) فَصْلٌ : وَلَا يَصِحُّ الْإِيدَاعُ إلَّا مِنْ جَائِزِ التَّصَرُّفِ ، فَإِنْ أَوْدَعَ طِفْلٌ أَوْ مَعْتُوهٌ إنْسَانًا وَدِيعَةً ، ضَمِنَهَا بِقَبْضِهَا ، وَلَا يَزُولُ الضَّمَانُ عَنْهُ بِرَدِّهَا إلَيْهِ ، وَإِنَّمَا يَزُولُ بِدَفْعِهَا إلَى وَلِيِّهِ النَّاظِرِ لَهُ فِي مَالِهِ ، أَوْ الْحَاكِمِ .
فَإِنْ كَانَ الصَّبِيُّ مُمَيِّزًا ، صَحَّ إيدَاعُهُ لِمَا أُذِنَ لَهُ فِي التَّصَرُّفِ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ كَالْبَالِغِ بِالنِّسْبَةِ إلَى ذَلِكَ .
فَإِنْ أَوْدَعَ رَجُلٌ عِنْدَ صَبِيٍّ أَوْ مَعْتُوهٍ وَدِيعَةً ، فَتَلِفَتْ ، لَمْ يَضْمَنْهَا ، سَوَاءٌ حَفِظَهَا أَوْ فَرَّطَ فِي حِفْظِهَا .
فَإِنْ أَتْلَفَهَا ، أَوْ أَكَلَهَا ، ضَمِنَهَا فِي قَوْلِ الْقَاضِي وَظَاهِرِ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ .
وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ : لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ سَلَّطَهُ عَلَى إتْلَافِهَا بِدَفْعِهَا إلَيْهِ ، فَلَا يَلْزَمُهُ ضَمَانُهَا ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ دَفَعَ إلَى صَغِيرٍ سِكِّينًا ، فَوَقَعَ عَلَيْهَا ، كَانَ ضَمَانُهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ ؟ وَلَنَا ، أَنَّ مَا ضَمِنَهُ بِإِتْلَافِهِ قَبْلَ الْإِيدَاعِ ، ضَمِنَهُ بَعْدَ الْإِيدَاعِ ، كَالْبَالِغِ .
وَلَا يَصِحُّ قَوْلُهُمْ : إنَّهُ سَلَّطَهُ عَلَى إتْلَافِهَا .
وَإِنَّمَا اسْتَحْفَظَهُ إيَّاهَا ، وَفَارَقَ دَفْعَ السِّكِّينِ ، فَإِنَّهُ سَبَبٌ لِلْإِتْلَافِ ، وَدَفْعُ الْوَدِيعَةِ بِخِلَافِهِ .

( 5070 ) فَصْلٌ : وَإِنْ أَوْدَعَ عَبْدًا وَدِيعَةً ، خُرِّجَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي الصَّغِيرِ ، إنْ قُلْنَا : لَا يَضْمَنُ الصَّبِيُّ .
فَأَتْلَفَهَا الْعَبْدُ ، كَانَتْ فِي ذِمَّتِهِ .
وَإِنْ قُلْنَا : يَضْمَنُ .
كَانَتْ فِي رَقَبَتِهِ .

( 5071 ) فَصْلٌ : وَإِنْ غُصِبَتْ الْوَدِيعَةُ مِنْ الْمُودَعِ قَهْرًا ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، سَوَاءٌ أُخِذَتْ مِنْ يَدِهِ ، أَوْ أُكْرِهَ عَلَى تَسْلِيمِهَا فَسَلَّمَهَا بِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ عُذْرٌ لَهُ ، يُبِيحُ لَهُ دَفْعَهَا ، فَلَمْ يَضْمَنْهَا ، كَمَا لَوْ أُخِذَتْ مِنْ يَدِهِ قَهْرًا .

بَابُ قِسْمَةِ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ وَالصَّدَقَةِ الْفَيْءُ : هُوَ الرَّاجِعُ إلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ مَالِ الْكُفَّارِ بِغَيْرِ قِتَالٍ .
يُقَالُ : فَاءَ الْفَيْءُ .
إذَا رَجَعَ نَحْوَ الْمَشْرِقِ .
وَالْغَنِيمَةُ : مَا أُخِذَ مِنْهُمْ قَهْرًا بِالْقِتَالِ .
وَاشْتِقَاقُهَا مِنْ الْغَنَمِ ، وَهُوَ الْفَائِدَةُ .
وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ فَيْءٌ وَغَنِيمَةٌ ، وَإِنَّمَا خُصَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِاسْمٍ مُيِّزَ بِهِ عَنْ الْآخَرِ ، وَالْأَصْلُ فِيهِمَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } الْآيَةَ ، وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ } الْآيَةَ .

( 5072 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَالْأَمْوَالُ ثَلَاثَةٌ فَيْءٌ وَغَنِيمَةٌ ، وَصَدَقَةٌ ) يَعْنِي - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ الْأَمْوَالَ الَّتِي تَلِيهَا الْوُلَاةُ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ ، فَأَنَّهَا ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ ؛ قِسْمَانِ يُؤْخَذَانِ مِنْ مَالِ الْمُشْرِكِينَ ، أَحَدُهُمَا الْفَيْءُ : وَهُوَ مَا أُخِذَ مِنْ مَالِ مُشْرِكٍ لَمْ يُوجَفْ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ ، كَاَلَّذِي تَرَكُوهُ فَزَعًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَهَرَبُوا ، وَالْجِزْيَةُ عُشْرُ أَمْوَالِ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ إذَا دَخَلُوا إلَيْنَا تُجَّارًا ، وَنِصْفُ عُشْرِ تِجَارَاتِ أَهْلِ الذِّمَّةِ ، وَخَرَاجُ الْأَرْضِينَ ، وَمَالُ مَنْ مَاتَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَلَا وَارِثَ لَهُ .
وَالْغَنِيمَةُ : مَا أُخِذَ بِالْقَهْرِ وَالْقِتَالِ مِنْ الْكُفَّارِ .
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ ؛ الصَّدَقَةُ : وَهُوَ مَا أُخِذَ مِنْ مَالِ مُسْلِمٍ تَطْهِيرًا لَهُ ، وَهُوَ الزَّكَاةُ ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا .
يُرْوَى أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَرَأَ قَوْله تَعَالَى { : إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ } حَتَّى بَلَغَ : { عَلِيمٌ حَكِيمٌ } .
ثُمَّ قَالَ : هَذِهِ لِهَؤُلَاءِ .
ثُمَّ قَرَأَ { : وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ } حَتَّى بَلَغَ : { وَابْنِ السَّبِيلِ } .
ثُمَّ قَالَ : هَذِهِ لِهَؤُلَاءِ .
ثُمَّ قَرَأَ { : مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } حَتَّى بَلَغَ : { وَاَلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ } .
ثُمَّ قَالَ : هَذِهِ اسْتَوْعَبَتْ الْمُسْلِمِينَ عَامَّةً ، وَلَئِنْ عِشْت لِيَأْتِيَنَّ الرَّاعِي وَهُوَ بِسَرْوِ حِمْيَرَ نَصِيبُهُ مِنْهَا ، لَمْ يَعْرَقْ بِهِ جَبِينُهُ ( 5073 ) فَصْلٌ : وَلَمْ تَكُنْ الْغَنَائِمُ تَحِلُّ لِمَنْ مَضَى مِنْ الْأُمَمِ وَإِنَّمَا عَلِمَ اللَّهُ ضَعْفَنَا ، فَطَيَّبَهَا لَنَا ، رَحْمَةً لَنَا ، وَرَأْفَةً بِنَا ، وَكَرَامَةً لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ نَبِيٌّ قَبْلِي } .
فَذَكَرَ فِيهَا : { أُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .

وَقَالَ سَعِيدٌ : حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ ، عَنْ الْأَعْمَشِ ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : لَمْ تَحِلَّ الْغَنَائِمُ لِقَوْمٍ سُودِ الرُّءُوسِ غَيْرِكُمْ ، كَانَتْ تَنْزِلُ نَارٌ مِنْ السَّمَاءِ تَأْكُلُهَا } ثُمَّ كَانَتْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
بِدَلِيلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْأَنْفَالِ قُلْ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ } ثُمَّ صَارَ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهَا لِلْغَانِمِينَ ، وَالْخُمُسُ لِغَيْرِهِمْ ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ } .
فَأَضَافَ الْغَنِيمَةَ إلَيْهِمْ ، وَجَعَلَ الْخُمُسَ لِغَيْرِهِمْ ، فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ سَائِرَهَا لَهُمْ ، وَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى قَوْله تَعَالَى : { وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ } .
أَضَافَ مِيرَاثَهُ إلَيْهِمَا ، ثُمَّ جَعَلَ لِلْأُمِّ مِنْهُ الثُّلُثَ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْبَاقِيَ لِلْأَبِ .
وَقَالَ تَعَالَى : { فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا } فَأَحَلَّهَا لَهُمْ .

مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( فَالْفَيْءُ مَا أُخِذَ مِنْ مَالِ مُشْرِكٍ بِحَالٍ ، وَلَمْ يُوجَفْ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ .
وَالْغَنِيمَةُ مَا أُوجِفَ عَلَيْهَا ) الرِّكَابُ : الْإِبِلُ خَاصَّةً .
وَالْإِيجَافُ أَصْلُهُ التَّحْرِيكُ ، وَالْمُرَادُ هَا هُنَا الْحَرَكَةُ فِي السَّيْرِ إلَيْهِ .
قَالَ قَتَادَةُ : { فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ } مَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا ، وَلَا سَيَّرْتُمْ إلَيْهَا دَابَّةً ، إنَّمَا كَانَتْ حَوَائِطَ بَنِي النَّضِيرِ ، أَطْعَمَهَا اللَّهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : الْإِيجَافُ ، الْإِيضَاعُ .
يَعْنِي الْإِسْرَاعَ .
وَقَالَ الزَّجَّاجُ : الْوَجِيفُ دُونَ التَّقْرِيبِ مِنْ السَّيْرِ .
يُقَالُ : وَجَفَ الْفَرَسُ ، وَأَوْجَفْت أَنَا .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ } فَكُلُّ مَا أُخِذَ مِنْ مَالِ مُشْرِكٍ بِغَيْرِ إيجَافٍ ، مِثْلُ الْأَمْوَالِ الَّتِي يَتْرُكُونَهَا فَزَعًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، وَنَحْوُ ذَلِكَ ، فَهُوَ فَيْءٌ .
وَمَا أَجْلَبَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ وَسَارُوا إلَيْهِ ، وَقَاتَلُوهُمْ عَلَيْهِ ، فَهُوَ غَنِيمَةٌ ، سَوَاءٌ أُخِذَ عَنْوَةً أَوْ اسْتَنْزَلُوا أَهْلَهُ بِأَمَانٍ .
فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { افْتَتَحَ حُصُونَ خَيْبَرَ بَعْضَهَا عَنْوَةً ، وَبَعْضَهَا اسْتَنْزَلَ أَهْلَهُ بِالْأَمَانِ ، فَكَانَتْ غَنِيمَةً كُلَّهَا .
}

( 5075 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( فَخُمُسُ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ مَقْسُومٌ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ ) فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فُصُولٌ أَرْبَعَةٌ : ( 5076 ) الْفَصْلُ الْأَوَّلُ : أَنَّ الْفَيْءَ مَخْمُوسٌ ، كَمَا تُخَمَّسُ الْغَنِيمَةُ ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ ، لَا يُخَمَّسُ .
نَقْلَهَا أَبُو طَالِبٍ ، فَقَالَ : إنَّمَا تُخَمَّسُ الْغَنِيمَةُ .
قَالَ الْقَاضِي : لَمْ أَجِدْ مِمَّا قَالَ الْخِرَقِيِّ مِنْ أَنَّ الْفَيْءَ مَخْمُوسٌ نَصًّا فَأَحْكِيهِ ، وَإِنَّمَا نَصَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَخْمُوسٍ .
وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : وَلَا تُحْفَظُ عَنْ أَحَدٍ قَبْلَ الشَّافِعِيِّ فِي الْفَيْءِ خُمُسٌ ، كَخُمُسِ الْغَنِيمَةِ .
وَأَخْبَارُ عُمَرَ تَدُلُّ عَلَى مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ } إلَى قَوْلِهِ : { وَاَلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ } .
الْآيَةَ .
فَجَعَلَهُ كُلَّهُ لَهُمْ ، وَلَمْ يَذْكُرْ خُمُسًا .
وَلَمَّا قَرَأَ عُمَرُ هَذِهِ الْآيَةَ قَالَ : هَذِهِ اسْتَوْعَبَتْ الْمُسْلِمِينَ .
وَوَجْهُ الْأَوَّلِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ } فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ جَمِيعَهُ لِهَؤُلَاءِ .
وَهُمْ أَهْلُ الْخُمُسِ ، وَجَاءَتْ الْأَخْبَارُ عَنْ عُمَرَ دَالَّةً عَلَى اشْتِرَاكِ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ فِيهِ ، فَوَجَبَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا ، كَيْ لَا تَتَنَاقَضَ الْآيَةُ وَالْأَخْبَارُ وَتَتَعَارَضَ ، وَفِي إيجَابِ الْخُمُسِ فِيهِ جَمْعٌ بَيْنَهُمَا وَتَوْفِيقٌ ، فَإِنَّ خُمُسَهُ لِلَّذِي سُمِّيَ فِي الْآيَةِ ، وَسَائِرُهُ يَنْصَرِفُ إلَى مَنْ فِي الْخَبَرِ ، كَالْغَنِيمَةِ .
وَلِأَنَّهُ مَالٌ مُشْتَرَكٌ مَظْهُورٌ عَلَيْهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يُخَمَّسَ ، كَالْغَنِيمَةِ وَالرِّكَازِ .
وَرَوَى الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ ، قَالَ : لَقِيت خَالِي وَمَعَهُ الرَّايَةُ ، فَقُلْت :

إلَى أَيْنَ ؟ فَقَالَ : { بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى رَجُلٍ عَرَسَ بِامْرَأَةِ أَبِيهِ ، أَنْ أَضْرِبَ عُنُقَهُ وَأُخَمِّسَ مَالَهُ } .

( 5077 ) الْفَصْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْغَنِيمَةَ مَخْمُوسَةٌ ، وَلَا اخْتِلَافَ فِي هَذَا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِحَمْدِ اللَّهِ .
وَقَدْ نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ } لَكِنْ اُخْتُلِفَ فِي أَشْيَاءَ ؛ مِنْهَا سَلَبُ الْقَاتِلِ ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُخَمَّسُ ؛ فَإِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : كُنَّا لَا نُخَمِّسُ السَّلَبَ .
وَقَوْلُ النَّبِيِّ { : مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ } .
يَقْتَضِي أَنَّهُ لَهُ كُلُّهُ ، وَلَوْ خُمِّسَ لَمْ يَكُنْ جَمِيعُهُ لَهُ .
وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ { ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَلَهُ سَلَبَ رَجُلٍ قَتَلَهُ يَوْمَ حُنَيْنٍ ، وَلَمْ يُخَمِّسْ } رَوَاهُ سَعِيدٌ ، فِي " سُنَنِهِ " .
وَمِنْهَا ، إذَا قَالَ الْإِمَامُ : مَنْ جَاءَ بِعَشْرَةِ رُءُوسٍ فَلَهُ رَأْسٌ ، وَمَنْ طَلَعَ الْحِصْنَ فَلَهُ كَذَا مِنْ النَّفْلِ .
فَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا غَيْرُ مَخْمُوسٍ ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى السَّلَبِ .
وَمِنْهَا ، إذَا قَالَ الْإِمَامُ : مَنْ أَخَذَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ .
وَقُلْنَا : يَجُوزُ ذَلِكَ .
فَقَدْ قِيلَ : لَا خُمُسَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الَّذِي قَبْلَهُ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْخُمُسَ لَا يَسْقُطُ ؛ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْآيَةِ ، وَلَا يَدْخُلُ فِي مَعْنَى السَّلَبِ وَالنَّفَلِ ؛ لِأَنَّ تَرْكَ تَخْمِيسِهِمَا لَا يُسْقِطُ خُمُسَ الْغَنِيمَةِ بِالْكُلِّيَّةِ ، وَهَذَا يُسْقِطُهُ ، فَلَا يَكُونُ تَخْصِيصًا بَلْ نَسْخًا لِحُكْمِهَا ، وَنَسْخُهَا بِالْقِيَاسِ غَيْرُ جَائِزٍ اتِّفَاقًا .
وَمِنْهَا ؛ إذَا دَخَلَ قَوْمٌ لَا مَنَعَةَ لَهُمْ دَارَ الْحَرْبِ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ ، فَقَدْ قِيلَ : إنَّ مَا غَنِمُوهُ لَهُمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُخَمَّسَ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُخَمَّسُ ، وَيُدْفَعُ إلَيْهِمْ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ ؛ لِدُخُولِهِ فِي عُمُومِ الْآيَةِ ، وَعَدَمِ دَلِيلٍ يُوجِبُ تَخْصِيصَهُ .

( 5078 ) الْفَصْلُ الثَّالِثُ : أَنَّ الْخُمُسَ مِمَّا يَجِبُ خُمْسُهُ مِنْ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ شَيْءٌ وَاحِدٌ ، فِي مَصْرِفِهِمَا ، وَحُكْمِهِمَا ، وَلَا اخْتِلَافَ فِي هَذَا بَيْنَ الْقَائِلِينَ بِوُجُوبِ الْخُمُسِ فِيهِمَا ، فَإِنَّ الْقَائِلَ بِوُجُوبِ الْخُمُسِ فِي الْفَيْءِ غَيْرَ مَنْ قَالَهُ مِنْ أَصْحَابِنَا الشَّافِعِيُّ ، وَقَدْ وَافَقَ عَلَى هَذَا ، فَإِنَّهُ قَالَ : فِي الْفَيْءُ وَالْغَنِيمَةُ يَجْتَمِعَانِ فِي أَنَّ فِيهِمَا الْخُمُسَ لِمَنْ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى : يَعْنِي فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ ، فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ } .
وَفِي سُورَةِ الْحَشْرِ ، فِي قَوْله تَعَالَى : { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } الْآيَةَ ، وَالْمُسَمَّوْنَ فِي الْآيَتَيْنِ شَيْءٌ وَاحِدٌ .

( 5079 ) الْفَصْلُ الرَّابِعُ : أَنَّ الْخُمُسَ يُقَسَّمُ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ .
وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَقَتَادَةُ ، وَابْنُ جُرَيْجٍ ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَقِيلَ : يُقَسَّمُ عَلَى سِتَّةٍ ؛ سَهْمٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَسَهْمٌ لِرَسُولِهِ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ } .
فَعَدَّ سِتَّةً ، وَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَفْسِهِ سَهْمًا سَادِسًا ، وَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَى عِبَادِ اللَّهِ أَهْلِ الْحَاجَةِ .
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ : سَهْمُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ أَنَّهُ إذَا عَزَلَ الْخُمُسَ ضَرَبَ بِيَدِهِ فِيهِ ، فَمَا قَبَضَ عَلَيْهِ مِنْ شَيْءٍ جَعَلَهُ لِلْكَعْبَةِ ، فَهُوَ الَّذِي سُمِّيَ لِلَّهِ لَا تَجْعَلُوا لَهُ نَصِيبًا ، فَإِنَّ لِلَّهِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ، ثُمَّ يُقَسِّمُ بَقِيَّةَ السَّهْمِ الَّذِي عَزَلَهُ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ .
وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ ، وَقَتَادَةَ ، فِي سَهْمِ ذِي الْقُرْبَى ، كَانَتْ طُعْمَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ حَمَلَ عَلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ .
وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ قَسَّمَا الْخُمُسَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ وَنَحْوِهِ حُكِيَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ .
وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ ، قَالُوا : يُقَسَّمُ الْخُمُسُ عَلَى ثَلَاثَةٍ ؛ الْيَتَامَى ، وَالْمَسَاكِينِ ، وَابْنِ السَّبِيلِ .
وَأَسْقَطُوا سَهْمَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَوْتِهِ ، وَسَهْمَ قَرَابَتِهِ أَيْضًا .
وَقَالَ مَالِكٌ : الْفَيْءُ وَالْخُمُسُ وَاحِدٌ ، يُجْعَلَانِ فِي بَيْتِ الْمَالِ .
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : وَبَلَغَنِي عَمَّنْ أَثِقُ بِهِ ، أَنَّ مَالِكًا قَالَ : يُعْطِي الْإِمَامُ أَقْرِبَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا يَرَى وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ : يَضَعُهُ الْإِمَامُ حَيْثُ أَرَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ .
وَلَنَا ، قَوْلُ اللَّهِ

تَعَالَى : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ } .
وَسَهْمُ اللَّهِ وَالرَّسُولِ وَاحِدٌ .
كَذَا قَالَ عَطَاءٌ ، وَالشَّعْبِيُّ .
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ وَغَيْرُهُ : قَوْلُهُ : { فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ } افْتِتَاحُ كَلَامٍ .
يَعْنِي أَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ تَعَالَى لِافْتِتَاحِ الْكَلَامِ بِاسْمِهِ ، تَبَرُّكًا بِهِ .
لَا لِإِفْرَادِهِ بِسَهْمٍ ، فَإِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَا : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَسِّمُ الْخُمُسَ عَلَى خَمْسَةٍ } وَمَا ذَكَرَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ فَشَيْءٌ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ رَأْيٌ ، وَلَا يَقْتَضِيهِ قِيَاسٌ ، وَلَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا بِنَصٍّ صَحِيحٍ يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهُ ، وَلَا نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ أَثَرًا صَحِيحًا ، سِوَى قَوْلِهِ ، فَلَا يُتْرَكُ ظَاهِرُ النَّصِّ وَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِعْلُهُ مِنْ أَجْلِ قَوْلِ أَبِي الْعَالِيَةِ .
وَمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ ، فَمُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الْآيَةِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى لِرَسُولِهِ وَقَرَابَتِهِ شَيْئًا ، وَجَعَلَ لَهُمَا فِي الْخُمُسِ حَقًّا ، كَمَا سَمَّى لِلثَّلَاثَةِ الْأَصْنَافِ الْبَاقِيَةِ ، فَمَنْ خَالَفَ ذَلِكَ ، فَقَدْ خَالَفَ نَصَّ الْكِتَابِ .
وَأَمَّا حَمْلُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، عَلَى سَهْمِ ذِي الْقُرْبَى فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، فَقَدْ ذُكِرَ لِأَحْمَدَ ، فَسَكَتَ ، وَحَرَّكَ رَأْسَهُ ، وَلَمْ يَذْهَبْ إلَيْهِ ، وَرَأَى أَنَّ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَنْ وَافَقَهُ أَوْلَى ؛ لَمُوَافَقَتِهِ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةَ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ ابْنِ عَبَّاسٍ لَمَّا سُئِلَ عَنْ سَهْمِ ذِي الْقُرْبَى ، قَالَ : إنَّا كُنَّا نَزْعُمُ أَنَّهُ لَنَا ، فَأَبَى ذَلِكَ عَلَيْنَا قَوْمُنَا .
وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ : أَبَى ذَلِكَ عَلَيْنَا قَوْمُنَا .
فِعْلَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، فِي

حَمْلِهِمَا عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَمَنْ تَبِعَهُمَا عَلَى ذَلِكَ .
وَمَتَى اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ ، وَكَانَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ يُوَافِقُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ ، كَانَ أَوْلَى .
وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ مُوَافِقٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ؛ فَإِنَّ جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمٍ رَوَى ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَمْ يَقْسِمْ لِبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَلَا بَنِي نَوْفَلٍ مِنْ الْخُمُسِ شَيْئًا ، كَمَا كَانَ يَقْسِمُ لِبَنِي هَاشِمٍ وَلِبَنِي الْمُطَّلِبِ } وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يَقْسِمُ الْخُمُسَ نَحْوَ قَسْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُعْطِي قُرْبَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، كَمَا كَانَ يُعْطِيهِمْ ، وَكَانَ عُمَرُ يُعْطِيهِمْ وَعُثْمَانُ مِنْ بَعْدِهِ رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي " مُسْنَدِهِ " وَقَدْ تَكَلَّمَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ، أَنَّهُمَا حَمَلَا عَلَى سَهْمِ ذِي الْقُرْبَى فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؛ فَقِيلَ : إنَّهُ يَرْوِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ وَهُوَ ضَعِيفٌ ، عَنْ الْكَلْبِيِّ ، وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا .
وَلَا يَصِحُّ عِنْدَ أَهْلِ النَّقْلِ .
فَإِنْ قَالُوا : فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ بِبَاقٍ ، فَكَيْفَ يَبْقَى سَهْمُهُ ؟ قُلْنَا : جِهَةُ صَرْفِهِ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَصْلَحَةُ الْمُسْلِمِينَ ، الْمَصَالِحُ بَاقِيَةٌ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَا يَحِلُّ لِي مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ وَلَا مِثْلُ هَذِهِ ، إلَّا الْخُمُسُ } ، وَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ " رَوَاهُ سَعِيدٌ .

( 5080 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَسَهْمٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصْرَفُ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ وَمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ ) وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ، فَإِنَّهُ قَالَ : أَخْتَارُ أَنْ يَضَعَهُ الْإِمَامُ فِي كُلِّ أَمْرٍ خُصَّ بِهِ الْإِسْلَامُ وَأَهْلُهُ ، مِنْ سَدِّ ثَغْرٍ ، وَإِعْدَادِ كُرَاعٍ أَوْ سِلَاحٍ ، أَوْ إعْطَائِهِ أَهْلَ الْبَلَاءِ فِي الْإِسْلَامِ نَفْلًا عِنْدَ الْحَرْبِ وَغَيْرِ الْحَرْبِ .
وَهَذَا نَحْوُ مَا قَالَ الْخِرَقِيِّ .
وَهَذَا السَّهْمُ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْغَنِيمَةِ ، حَضَرَ أَوْ لَمْ يَحْضُرْ ، كَمَا أَنَّ سِهَامَ بَقِيَّةِ أَصْحَابِ الْخُمُسِ لَهُمْ ، حَضَرُوا أَوْ لَمْ يَحْضُرُوا وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُ بِهِ مَا شَاءَ ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ وَلِيُّهُ أَبُو بَكْرٍ ، وَلَمْ يَسْقُطْ بِمَوْتِهِ .
وَقَدْ قِيلَ : إنَّمَا أَضَافَهُ اللَّهُ تَعَالَى إلَى نَفْسِهِ وَإِلَى رَسُولِهِ ، لِيُعْلَمَ أَنَّ جِهَتَهُ جِهَةُ الْمَصْلَحَةِ ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِمُخْتَصٍّ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَسْقُطُ بِمَوْتِهِ .
وَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّهُ سَقَطَ بِمَوْتِهِ ، وَيُرَدُّ عَلَى أَنْصِبَاءِ الْبَاقِينَ مِنْ أَهْلِ الْخُمُسِ ؛ لِأَنَّهُمْ شُرَكَاؤُهُ .
وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ يُرَدُّ عَلَى الْغَانِمِينَ ؛ لِأَنَّهُمْ اسْتَحَلُّوهَا بِقِتَالِهِمْ ، وَخَرَجَتْ مِنْهَا سِهَامٌ مِنْهَا سَهْمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا دَامَ حَيًّا ، فَإِذَا مَاتَ وَجَبَ رَدُّهُ إلَى مَنْ وُجِدَ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ فِيهِ ، كَمَا أَنَّ تَرِكَةَ الْمَيِّتِ إذَا خَرَجَ مِنْهَا سَهْمٌ بِوَصِيَّةٍ ، ثُمَّ بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ ، رُدَّ إلَى التَّرِكَةِ .
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ : هُوَ لِلْخَلِيفَةِ بَعْدَهُ ؛ لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَوَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : إذَا أَطْعَمَ اللَّهُ نَبِيًّا طُعْمَةً ، ثُمَّ قَبَضَهُ فَهِيَ لِلَّذِي يَقُومُ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ ، } وَقَدْ رَأَيْت أَنَّ أَرُدَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ بَاقٍ ، وَأَنَّهُ يُصْرَفُ فِي

مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ ، لَكِنَّ الْإِمَامَ يَقُومُ مَقَامَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَرْفِهِ فِيمَا يَرَى ، فَإِنَّ ، أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : لَا أَدَعُ أَمْرًا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُهُ فِيهِ إلَّا صَنَعْته .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ ، أَنَّهُ قَالَ : اخْتَلَفُوا فِي هَذَيْنِ السَّهْمَيْنِ - يَعْنِي سَهْمَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَهْمَ ذِي الْقُرْبَى - فَأَجْمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَنْ يَجْعَلُوهُمَا فِي الْخَيْلِ وَالْعُدَّةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، فَكَانَا فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فِي الْخَيْلِ وَالْعُدَّةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ .

( 5081 ) فَصْلٌ : وَكَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَغْنَمِ الصَّفِيُّ ، وَهُوَ شَيْءٌ يَخْتَارُهُ مِنْ الْمَغْنَمِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ ، كَالْجَارِيَةِ وَالْعَبْدِ وَالثَّوْبِ وَالسَّيْفِ وَنَحْوِهِ .
وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ ، وَالشَّعْبِيِّ ، وَقَتَادَةَ ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَقَالَ أَكْثَرُهُمْ : إنَّ ذَلِكَ انْقَطَعَ بِمَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قَالَ أَحْمَدُ : الصَّفِيُّ إنَّمَا كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً ، لَمْ يَبْقَ بَعْدَهُ .
وَلَا نَعْلَمُ مُخَالِفًا لِهَذَا إلَّا أَبَا ثَوْرٍ ، فَإِنَّهُ قَالَ : إنْ كَانَ الصَّفِيُّ ثَابِتًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلِلْإِمَامِ أَنْ يَأْخُذَهُ عَلَى نَحْوِ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَجْعَلُهُ مَجْعَلَ سَهْمِ النَّبِيِّ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ .
فَجَمَعَ بَيْنَ الشَّكِّ فِيهِ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ فِي إبْقَائِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : لَا أَعْلَمُ أَحَدًا سَبَقَ أَبَا ثَوْرٍ إلَى هَذَا الْقَوْلِ وَقَدْ أَنْكَرَ قَوْمٌ كَوْنَ الصَّفِيِّ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَفَعَ وَبَرَةً مِنْ ظَهْرِ بَعِيرِهِ ، فَقَالَ : { مَا يَحِلُّ لَيّ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ وَلَا مِثْلُ هَذِهِ ، إلَّا الْخُمُسَ } ، وَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ رَوَاهُ سَعِيدٌ .
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ } .
فَمَفْهُومُهُ أَنَّ بَاقِيَهَا لِلْغَانِمِينَ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى أَبُو دَاوُد ، بِإِسْنَادِهِ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إلَى بَنِي زُهَيْرِ بْنِ أَقْيَشَ : إنَّكُمْ إنْ شَهِدْتُمْ أَنْ لَا إلَهَ

إلَّا اللَّهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، وَأَدَّيْتُمْ الزَّكَاةَ ، وَأَدَّيْتُمْ الْخُمُسَ مِنْ الْمَغْنَمِ ، وَسَهْمَ الصَّفِيِّ ، إنَّكُمْ آمِنُونَ بِأَمَانِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } .
وَفِي حَدِيثِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ ، الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ : " وَأَنْ يُعْطُوا سَهْمَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّفِيِّ .
وَقَالَتْ عَائِشَةُ : كَانَتْ صَفِيَّةُ مِنْ الصَّفِيِّ .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَأَمَّا انْقِطَاعُهُ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَثَابِتٌ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ قَبْلَ أَبِي ثَوْرٍ وَبَعْدَهُ عَلَيْهِ ، وَكَوْنِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ لَمْ يَأْخُذُوهُ ، وَلَا ذَكَرَهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ ، وَلَا يُجْمِعُونَ عَلَى تَرْكِ سُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

( 5082 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَخُمُسٌ مَقْسُومٌ فِي صَلِيبَةِ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ ابْنَيْ عَبْدِ مَنَافٍ ، حَيْثُ كَانُوا ، لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) يَعْنِي بِقَوْلِهِ : " فِي صَلِيبَةِ بَنِي هَاشِمٍ " .
أَوْلَادَهُ دُونَ مَنْ يُعَدُّ مَعَهُمْ مِنْ مَوَالِيهِمْ وَحُلَفَائِهِمْ .
وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فُصُولٌ خَمْسَةٌ : ( 5083 ) أَحَدُهَا : أَنَّ سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى ثَابِتٌ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَدْ مَضَى ذِكْرُ ذَلِكَ ، وَالْخِلَافُ فِيهِ .
وَقَدْ ذَكَرَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ مِنْ ذَوِي السِّهَامِ ، وَثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعْطِيهِمْ ، فَرَوَى جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ ، قَالَ : { وَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى فِي بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ ، وَتَرَكَ بَنِي نَوْفَلٍ وَبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ .
} وَذَكَرَ الْحَدِيثَ ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَلَمْ يَأْتِ لِذَلِكَ نَسْخٌ وَلَا تَغْيِيرٌ ، فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ ، وَالْعَمَلُ بِحُكْمِهِ .
قَالَ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا وَكِيعٌ ، حَدَّثَنَا أَبُو مَعْشَرٍ ، عَنْ الْمَقْبُرِيِّ ، قَالَ : كَتَبَ نَجْدَةُ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَسْأَلُهُ عَنْ سَهْمِ ذِي الْقُرْبَى ، فَكَتَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ : إنَّا كُنَّا نَزْعُمُ أَنَّهُ لَنَا ، فَأَبَى ذَلِكَ عَلَيْنَا قَوْمُنَا .
قَالَ أَحْمَدُ : أَنَا أَذْهَبُ إلَى أَنَّهُ لِقَرَابَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : " هُوَ لَنَا " .

( 5084 ) الْفَصْلُ الثَّانِي : أَنَّ ذَا الْقُرْبَى هُمْ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ ابْنَيْ عَبْدِ مَنَافٍ دُونَ غَيْرِهِمْ ؛ بِدَلِيلِ مَا رَوَى جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ ، قَالَ : { لَمَّا قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهْمَ ذَوِي الْقُرْبَى مِنْ خَيْبَرَ ، بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ ، أَتَيْت أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَمَّا بَنُو هَاشِمٍ فَلَا نُنْكِرُ فَضْلَهُمْ ، لِمَكَانِكَ الَّذِي وَضَعَكَ اللَّهُ بِهِ مِنْهُمْ ، فَمَا بَالُ إخْوَانِنَا مِنْ بَنِي الْمُطَّلِبِ أَعْطَيْتهمْ وَتَرَكْتَنَا ، وَإِنَّمَا نَحْنُ وَهُمْ مِنْك بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ ؟ فَقَالَ : إنَّهُمْ لَمْ يُفَارِقُونِي فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إسْلَامٍ ، وَإِنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ .
وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ .
} وَفِي رِوَايَةٍ : { إنَّهُمْ لَمْ يُفَارِقُونَا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إسْلَامٍ } .
رَوَاهُ أَحْمَدُ ، وَالْبُخَارِيُّ .
فَرَعَى لَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُصْرَتَهُمْ وَمُوَافَقَتَهُمْ بَنِي هَاشِمٍ .
وَمَنْ كَانَتْ أُمُّهُ مِنْهُمْ وَأَبُوهُ مِنْ غَيْرِهِمْ ، لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَدْفَعْ إلَى أَقَارِبِ أُمِّهِ وَهُمْ بَنُو زُهْرَةَ شَيْئًا ، وَإِنَّمَا دَفَعَ إلَى أَقَارِبِ أَبِيهِ ، وَلَوْ دَفَعَ إلَى أَقَارِبِ أُمِّهِ لَدَفَعَ إلَى بَنِي زُهْرَةَ ، وَخَبَرُ جُبَيْرٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُعْطِهِمْ شَيْئًا ، وَلَمْ يَدْفَعْ أَيْضًا إلَى بَنِي عَمَّاتِهِ ، وَهُمْ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ وَعَبْدُ اللَّهِ وَالْمُهَاجِرُ ابْنَا أَبِي أُمَيَّةَ ، وَبَنُو جَحْشٍ .

( 5085 ) الْفَصْلُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ يَشْتَرِكُ فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى ؛ لَدُخُولِهِمْ فِي اسْمِ الْقَرَابَةِ .
وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي قِسْمَتِهِ بَيْنَهُمْ .
فَعَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهُ يُقْسَمُ بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ .
وَهُوَ اخْتِيَارُ الْخِرَقِيِّ ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ سَهْمٌ اُسْتُحِقَّ بِقَرَابَةِ الْأَبِ شَرْعًا ، فَفُضِّلَ فِيهِ الذَّكَرُ عَلَى الْأُنْثَى كَالْمِيرَاثِ ، وَيُفَارِقُ الْوَصِيَّةَ وَمِيرَاثَ وَلَدِ الْأُمِّ ؛ فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ اُسْتُحِقَّتْ بِقَوْلِ الْمُوصِي ، وَمِيرَاثُ وَلَدِ الْأُمِّ اُسْتُحِقَّ بِقَرَابَةِ الْأُمِّ .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ ، يُسَوَّى بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ ، وَالْمُزَنِيِّ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ ؛ لِأَنَّهُمْ أُعْطُوا بِاسْمِ الْقَرَابَةِ ، وَالذَّكَرُ وَالْأُنْثَى فِيهَا سَوَاءٌ .
فَأَشْبَهَ مَا لَوْ وَصَّى لِقَرَابَةِ فُلَانٍ ، أَوْ وَقَفَ عَلَيْهِمْ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْجَدَّ يَأْخُذُ مَعَ الْأَبِ ، وَابْنَ الِابْنِ يَأْخُذُ مَعَ الِابْنِ ؟ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مُخَالَفَةِ الْمَوَارِيثِ ، وَلِأَنَّهُ سَهْمٌ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ لَجَمَاعَةٍ ، فَيَسْتَوِي فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى كَسَائِرِ سِهَامِهِ ، وَيَسْتَوِي بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ ، عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ ؛ لِاسْتِوَائِهِمْ فِي الْقَرَابَةِ ، فَأَشْبَهَ الْمِيرَاثَ .

( 5086 ) الْفَصْلُ الرَّابِعُ : أَنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمْ حَيْثُ كَانُوا مِنْ الْأَمْصَارِ ، وَيَجِبُ تَعْمِيمُهُمْ بِهِ حَسْبَ الْإِمْكَانِ .
وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَخُصُّ أَهْلُ كُلِّ نَاحِيَةٍ بِخُمُسِ مَغْزَاهَا الَّذِي لَيْسَ لَهُمْ مَغْزَى سِوَاهُ ، فَمَا يُؤْخَذُ مِنْ مَغْزَى الرُّومِ لِأَهْلِ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ ، وَمَا يُؤْخَذُ مِنْ مَغْزَى التُّرْكِ لِمَنْ فِي خُرَاسَانَ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى ؛ لِمَا يَلْحَقُ مِنْ الْمَشَقَّةِ فِي نَقْلِهِ مِنْ الْمَشْرِقِ إلَى الْمَغْرِبِ ، وَلِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ تَعْمِيمُهُمْ بِهِ ، فَلَمْ يُحِبَّ ، كَسَائِرِ أَهْلِ السَّهْمِ .
وَوَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّهُ سَهْمٌ مُسْتَحَقٌّ بِقَرَابَةِ الْأَبِ ، فَوَجَبَ دَفْعُهُ إلَى جَمِيعِ الْمُسْتَحِقِّينَ ، كَالْمِيرَاثِ فَعَلَى هَذَا يَبْعَثُ الْإِمَامُ إلَى عُمَّالِهِ فِي الْأَقَالِيمِ ، وَيَنْظُرُ كَمْ حَصَلَ مِنْ ذَلِكَ ؟ فَإِنْ اسْتَوَتْ فِيهِ ، فَرَّقَ كُلَّ خُمُسٍ فِي مَنْ قَارَبَهُ ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ ، أَمَرَ بِحَمْلِ الْفَضْلِ لِيُدْفَعَ إلَى مُسْتَحِقِّهِ ، كَالْمِيرَاثِ .
وَفَارَقَ الصَّدَقَةَ ، حَيْثُ لَا تُنْقَلُ ؛ لِأَنَّ كُلَّ بَلَدٍ يَكَادُ لَا يَخْلُو مِنْ صَدَقَةٍ تُفَرَّقُ عَلَى فُقَرَاءِ أَهْلِهِ ، وَالْخُمُسُ يُؤْخَذُ فِي بَعْضِ الْأَقَالِيمِ ، فَلَوْ لَمْ يُنْقَلْ لَأَدَّى إلَى إعْطَاءِ الْبَعْضِ وَحِرْمَانِ الْبَعْضِ .
وَالصَّحِيحُ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ ، أَنَّهُ لَا يَجِبُ التَّعْمِيمُ ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ ، فَلَمْ يَجِبْ ، كَتَعْمِيمِ الْمَسَاكِينِ .
وَمَا ذُكِرَ مِنْ بَعْثِ الْإِمَامِ عُمَّالَهُ وَسُعَاتَهُ ، فَهُوَ مُتَعَذِّرٌ فِي زَمَانِنَا ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ لَمْ يَبْقَ لَهُ حُكْمٌ إلَّا فِي قَلِيلٍ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ جِهَةٌ فِي الْغَزْوِ ، وَلَا لَهُ فِيهِ أَمْرٌ ، وَلِأَنَّ هَذَا سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ الْخُمُسِ ، فَلَمْ يَجِبْ تَعْمِيمُهُ ، كَسَائِرِ سِهَامِهِ .
فَعَلَى هَذَا يُفَرِّقُهُ كُلُّ سُلْطَانٍ فِيمَا أَمْكَنَ مِنْ بِلَادِهِ .

( 5087 ) الْفَصْلُ الْخَامِسُ : أَنَّ غَنِيَّهُمْ وَفَقِيرَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ .
وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ، وَأَبِي ثَوْرٍ .
وَقِيلَ : لَا حَقَّ فِيهِ لِغَنِيٍّ .
قِيَاسًا لَهُ عَلَى بَقِيَّةِ السِّهَامِ .
وَلَنَا عُمُومُ قَوْله تَعَالَى : { وَلِذِي الْقُرْبَى } .
وَهَذَا عَامٌّ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِغَيْرِ دَلِيلٍ ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعْطِي أَقَارِبَهُ كُلَّهُمْ ، وَفِيهِمْ الْأَغْنِيَاءُ ، كَالْعَبَّاسِ وَغَيْرِهِ .
وَلَمْ يُنْقَلْ تَخْصِيصُ الْفُقَرَاءِ مِنْهُمْ ، وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، فِي " مُسْنَدِهِ " ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى الزُّبَيْرَ سَهْمًا وَأُمَّهُ سَهْمًا ، وَفَرَسَهُ سَهْمَيْنِ } .
وَإِنَّمَا أَعْطَى أُمَّهُ مِنْ سَهْمِ ذِي الْقُرْبَى ، وَقَدْ كَانَتْ مُوسِرَةً ، وَلَهَا مَوَالٍ وَمَالٌ ، وَلِأَنَّهُ مَالٌ مُسْتَحَقٌّ بِالْقَرَابَةِ ، فَاسْتَوَى فِيهِ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ ، كَالْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ لِلْأَقَارِبِ .
وَلِأَنَّ عُثْمَانَ وَجُبَيْرًا طَلَبَا حَقَّهُمَا مِنْهُ ، وَسَأَلَا عَنْ عِلَّةِ مَنْعِهِمَا وَمَنْعِ قَرَابَتِهِمَا ، وَهُمَا مُوسِرَانِ ، فَعَلَّلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنُصْرَةِ بَنِي الْمُطَّلِبِ دُونَهُمْ ، وَكَوْنِهِمْ مَعَ بَنِي هَاشِمٍ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ ، وَلَوْ كَانَ الْيَسَارُ مَانِعًا وَالْفَقْرُ شَرْطًا ، لَمْ يَطْلُبَا مَعَ عَدَمِهِ ، وَلَعَلَّلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْعَهُمَا بِيَسَارِهِمَا وَانْتِفَاءِ فَقْرِهِمَا .

( 5088 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَالْخُمُسُ الثَّالِثُ لِلْيَتَامَى ) وَهُمْ الَّذِينَ لَا آبَاءَ لَهُمْ ، وَلَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا يُتْمَ بَعْدَ احْتِلَامٍ } .
قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : لَا يَسْتَحِقُّونَ إلَّا مَعَ الْفَقْرِ .
وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ ذَا الْأَبِ لَا يَسْتَحِقُّ ، وَالْمَالُ أَنْفَعُ مِنْ وُجُودِ الْأَبِ ، وَلِأَنَّهُ صُرِفَ إلَيْهِمْ لِحَاجَتِهِمْ ، فَإِنَّ اسْمَ الْيُتْمِ يُطْلَقُ عَلَيْهِمْ فِي الْعُرْفِ لِلرَّحْمَةِ ، وَمَنْ كَانَ إعْطَاؤُهُ لِذَلِكَ اُعْتُبِرَتْ الْحَاجَةُ فِيهِ .
وَفَارَقَ ذَوِي الْقُرْبَى ، فَإِنَّهُمْ اسْتَحَقُّوا لِقُرْبِهِمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكْرِمَةً لَهُمْ ، وَالْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ فِي الْقُرْبِ سَوَاءٌ ، فَاسْتَوَيَا فِي الِاسْتِحْقَاقِ .
وَلَمْ أَعْلَمْ هَذَا نَصًّا عَنْ أَحْمَدَ .
وَعُمُومُ الْآيَةِ يَقْتَضِي تَعْمِيمَهُمْ .
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ : لَهُ قَوْلٌ آخَرُ ، أَنَّهُ لِلْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ ؛ لِعُمُومِ النَّصِّ فِي كُلِّ يَتِيمٍ ، وَقِيَاسًا لَهُ عَلَى سَهْمِ ذِي الْقُرْبَى ، وَلِأَنَّهُ لَوْ خَصَّ بِهِ الْفَقِيرَ ، لَكَانَ دَاخِلًا فِي جُمْلَةِ الْمَسَاكِينِ الَّذِينَ هُمْ أَصْحَابُ السَّهْمِ الرَّابِعِ ، وَكَانَ يُسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِهِمْ وَتَسْمِيَتِهِمْ .
قَالَ أَصْحَابُنَا : وَيُفَرَّقُ عَلَى الْأَيْتَامِ فِي جَمِيعِ الْأَقْطَارِ ، وَلَا يَخُصُّ بِهِ أَهْلُ ذَلِكَ الْمَغْزَى .
وَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي سَهْمِ ذِي الْقُرْبَى .
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ .

مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَالْخُمُسُ الرَّابِعُ لِلْمَسَاكِينِ ) وَهُمْ أَهْلُ الْحَاجَةِ ، وَيَدْخُلُ فِيهِمْ الْفُقَرَاءُ ، وَالْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ صِنْفَانِ فِي الزَّكَاةِ ، وَصِنْفٌ وَاحِدٌ هَا هُنَا ، وَفِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ ، وَإِنَّمَا يَقَعُ التَّمْيِيزُ بَيْنَهُمَا إذَا جُمِعَ بَيْنَهُمَا بِلَفْظَيْنِ ، وَلَمْ يَرِدْ ذَلِكَ إلَّا فِي الزَّكَاةِ ، وَسَنَذْكُرُهُمْ فِي أَصْنَافِهَا .
قَالَ أَصْحَابُنَا : وَيَعُمُّ بِهَا جَمِيعُهُمْ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ ، كَقَوْلِهِمْ فِي سَهْمِ ذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى .
وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُنَا فِي ذَلِكَ .

( 5090 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَالْخُمُسُ الْخَامِسُ لِابْنِ السَّبِيلِ ) وَسَنَذْكُرُهُ أَيْضًا فِي أَصْنَافِ الصَّدَقَةِ ، وَيُعْطَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَدْرَ مَا يُوَصِّلُهُ إلَى بَلَدِهِ ؛ لِأَنَّ دَفْعَنَا إلَيْهِ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ ، فَأُعْطِيَ بِقَدْرِهَا .
فَإِنْ اجْتَمَعَ فِي وَاحِدٍ أَسْبَابٌ ، كَالْمِسْكِينِ إذَا كَانَ يَتِيمًا وَابْنَ سَبِيلٍ ، اسْتَحَقَّ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا ؛ لِأَنَّهَا أَسْبَابٌ لِأَحْكَامٍ ، فَوَجَبَ أَنْ نُثَبِّتَ أَحْكَامَهَا ، كَمَا لَوْ انْفَرَدَتْ .
فَإِنْ أَعْطَاهُ لِيُتْمِهِ ، فَزَالَ فَقْرُهُ ، لَمْ يُعْطَ لِفَقْرِهِ شَيْئًا .

( 5091 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ ؛ غَنِيُّهُمْ وَفَقِيرُهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ ، إلَّا الْعَبِيدَ ) لَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ الْيَوْمَ فِي أَنَّ الْعَبِيدَ لَا حَقَّ لَهُمْ فِي الْفَيْءِ .
وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ ، وَالْخِرَقِيِّ ، أَنَّ سَائِرَ النَّاسِ لَهُمْ حَقٌّ فِي الْفَيْءِ ، غَنِيَّهُمْ وَفَقِيرَهُمْ .
ذَكَرَ أَحْمَدُ الْفَيْءَ فَقَالَ : فِيهِ حَقٌّ لِكُلِّ الْمُسْلِمِينَ ، وَهُوَ بَيْنَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ .
وَقَالَ عُمَرُ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إلَّا لَهُ فِي هَذَا الْمَالِ نَصِيبٌ ، إلَّا الْعَبِيدَ ، فَلَيْسَ لَهُمْ فِيهِ شَيْءٌ .
وَقَرَأَ عُمَرُ : { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } حَتَّى بَلَغَ : { وَاَلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ } ثُمَّ قَالَ : هَذِهِ اسْتَوْعَبَتْ الْمُسْلِمِينَ عَامَّةً ، وَلَئِنْ عِشْت لَيَأْتِيَنَّ الرَّاعِيَ بِسَرْوِ حِمْيَرَ نَصِيبُهُ مِنْهَا ، لَمْ يَعْرَقْ فِيهَا جَبِينُهُ .
وَلِأَنَّهُ مَالٌ مَخْمُوسٌ ، فَلَمْ يَخْتَصَّ بِهِ مَنْ فِيهِ مَنْفَعَةٌ ، كَأَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ .
وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ أَهْلَ الْفَيْءِ هُمْ أَهْلُ الْجِهَادِ مِنْ الْمُرَابِطِينَ فِي الثُّغُورِ ، وَجُنْدِ الْمُسْلِمِينَ ، وَمَنْ يَقُومُ بِمَصَالِحِهِمْ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ ، لِحُصُولِ النُّصْرَةِ وَالْمَصْلَحَةِ بِهِ ، فَلَمَّا مَاتَ صَارَتْ لِلْجُنْدِ ، وَمَنْ يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ ، فَصَارَ ذَلِكَ لَهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ ، وَأَمَّا الْأَعْرَابُ وَنَحْوُهُمْ مِمَّنْ لَا يُعِدُّ نَفْسَهُ لِلْجِهَادِ ، فَلَا حَقَّ لَهُمْ فِيهِ .
وَاَلَّذِينَ يَغْزُونَ إذَا نَشِطُوا ، يُعْطَوْنَ مِنْ سَهْمِ سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ الصَّدَقَةِ .
قَالَ : وَمَعْنَى كَلَامِ أَحْمَدَ ، أَنَّهُ بَيْنَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ ، يَعْنِي الْغَنِيَّ الَّذِي فِيهِ مَصْلَحَةُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْمُجَاهِدِينَ وَالْقُضَاةِ وَالْفُقَهَاءِ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى كَلَامِهِ ، أَنَّ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الِانْتِفَاعَ بِذَلِكَ الْمَالِ

؛ لِكَوْنِهِ يُصْرَفُ إلَى مَنْ يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ ، وَكَذَلِكَ يَنْتَفِعُونَ بِالْعُبُورِ عَلَى الْقَنَاطِرِ وَالْجُسُورِ الْمَعْقُودَةِ بِذَلِكَ الْمَالِ ، وَبِالْأَنْهَارِ وَالطُّرُقَاتِ الَّتِي أُصْلِحَتْ بِهِ .
وَسِيَاقُ كَلَامِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِالْجُنْدِ وَإِنَّمَا هُوَ مَصْرُوفٌ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ ، لَكِنْ يَبْدَأُ بِجُنْدِ الْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْمَصَالِحِ ؛ لِكَوْنِهِمْ يَحْفَظُونَ الْمُسْلِمِينَ .
فَيُعْطُونَ كِفَايَاتَهُمْ ، فَمَا فَضَلَ قُدِّمَ الْأَهَمُّ فَالْأَهَمُّ مِنْ عِمَارَةِ الثُّغُورِ وَكِفَايَتِهَا بِالْأَسْلِحَةِ وَالْكُرَاعِ ، وَمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ ، ثُمَّ الْأَهَمُّ فَالْأَهَمُّ ، مِنْ عِمَارَةِ الْمَسَاجِدِ وَالْقَنَاطِرِ ، وَإِصْلَاحِ الطُّرُقِ ، وَكِرَاءِ الْأَنْهَارِ ، وَسَدِّ بُثُوقِهَا ، وَأَرْزَاقِ الْقُضَاةِ وَالْأَئِمَّةِ وَالْمُؤَذِّنِينَ وَالْفُقَهَاءِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ نَفْعٌ .
وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ ، كَنَحْوِ مِمَّا ذَكَرْنَا .
وَاحْتَجُّوا عَلَى أَنَّ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ ، بِمَا رَوَى مَالِكُ بْنُ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ قَالَ : سَمِعْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ، وَالْعَبَّاسُ وَعَلِيٌّ يَخْتَصِمَانِ إلَيْهِ فِي أَمْوَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عُمَرُ : كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ ، مِمَّا لَمْ يُوجِفْ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ .
وَكَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِصًا دُونَ الْمُسْلِمِينَ ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنْفِقُ مِنْهَا عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِ ، فَمَا فَضَلَ جَعَلَهُ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ ، ثُمَّ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَلِيَهَا أَبُو بَكْرٍ بِمِثْلِ مَا وَلِيَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ وَلِيتهَا بِمِثْلِ مَا وَلِيَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو

بَكْرٍ .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
إلَّا أَنَّ فِيهِ : يَجْعَلُ مَا بَقِيَ أُسْوَةَ الْمَالِ .
وَظَاهِرُ أَخْبَارِ عُمَرَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْفَيْءِ حَقًّا ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا قَرَأَ الْآيَةَ الَّتِي فِي سُورَةِ الْحَشْرِ قَالَ : هَذِهِ الْآيَةُ اسْتَوْعَبَتْ الْمُسْلِمِينَ وَجَعَلَ لِلرَّاعِي بِسَرْوِ حِمْيَرَ مِنْهُ نَصِيبًا ، وَقَالَ : مَا أَحَدٌ إلَّا لَهُ فِي هَذَا الْمَالِ نَصِيبٌ .
وَأَمَّا أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُنْفِقُ مِنْهُ عَلَى أَهْلِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَهَمِّ الْمَصَالِحِ ، فَبَدَأَ بِهِمْ ، ثُمَّ جَعَلَ بَاقِيَةُ أُسْوَةَ الْمَالِ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ اخْتَصَّ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْفَيْءِ ، وَتَرَكَ سَائِرَهُ لِمَنْ سُمِّيَ فِي الْآيَةِ .
وَهَذَا مُبَيَّنٌ فِي قَوْلِ عُمَرَ : وَكَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِصًا دُونَ الْمُسْلِمِينَ .

( 5092 ) فَصْلٌ : وَاخْتَلَفَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، فِي قَسْمِ الْفَيْءِ بَيْنَ أَهْلِهِ ، فَذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمْ فِيهِ .
وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
فَرُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَوَّى بَيْنَ النَّاسِ فِي الْعَطَاءِ ، وَأَدْخَلَ فِيهِ الْعَبِيدَ ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ ، أَتَجْعَلُ الَّذِينَ جَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ، وَهَجَرُوا دِيَارَهُمْ لَهُ ، كَمَنْ إنَّمَا دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ كَرْهًا ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : إنَّمَا عَمِلُوا لِلَّهِ ، وَإِنَّمَا أُجُورُهُمْ عَلَى اللَّهِ ، وَإِنَّمَا الدُّنْيَا بَلَاغٌ .
فَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَاضَلَ بَيْنَهُمْ ، وَأَخْرَجَ الْعَبِيدَ ، فَلَمَّا وَلِيَ عَلِيٌّ ، سَوَّى بَيْنَهُمْ ، وَأَخْرَجَ الْعَبِيدَ .
وَذُكِرَ عَنْ عُثْمَانَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ فَضَّلَ بَيْنَهُمْ فِي الْقِسْمَةِ .
فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَذْهَبُ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ .
أَبِي بَكْرٍ وَعَلِيٍّ التَّسْوِيَةَ ، وَمَذْهَبُ اثْنَيْنِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ التَّفْضِيلَ .
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَجَازَ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا ، عَلَى مَا يَرَاهُ الْإِمَامُ ، وَيُؤَدِّي اجْتِهَادِهِ إلَيْهِ .
فَرَوَى عَنْهُ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ ، أَنَّهُ قَالَ : لِلْإِمَامِ أَنْ يُفَضِّلَ قَوْمًا عَلَى قَوْمٍ .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : اخْتِيَارُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَنْ لَا يُفَضِّلُوا .
وَهَذَا اخْتِيَارُ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ أَبِي : رَأَيْت قَسْمَ اللَّهِ الْمَوَارِيثَ عَلَى الْعَدَدِ ، يَكُونُ الْإِخْوَةُ مُتَفَاضِلِينَ فِي الْغَنَاءِ عَنْ الْمَيِّتِ ، وَالصِّلَةِ فِي الْحَيَاةِ ، وَالْحِفْظِ بَعْدَ الْمَوْتِ ، فَلَا يُفَضَّلُونَ ، وَقَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ عَلَى الْعَدَدِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطَى غَايَةَ الْغَنَاءِ وَيَكُونُ الْفَتْحُ عَلَى يَدَيْهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ مَحْضَرُهُ إمَّا غَيْرُ نَافِعٍ ، وَإِمَّا

ضَرَرٌ بِالْجُبْنِ وَالْهَزِيمَةِ ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ اسْتَوَوْا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ ، وَهُوَ انْتِصَابُهُمْ لِلْجِهَادِ ، فَصَارُوا كَالْغَانِمِينَ .
وَالصَّحِيحُ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ مُفَوَّضٌ إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ ، يَفْعَلُ مَا يَرَاهُ مِنْ تَسْوِيَةٍ وَتَفْضِيلٍ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعْطِي الْأَنْفَالَ ، فَيُفَضِّلُ قَوْمًا عَلَى قَوْمٍ عَلَى قَدْرِ غَنَائِهِمْ .
وَهَذَا فِي مَعْنَاهُ .
وَالْمَشْهُورُ عَنْ عُمَرَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ حِينَ كَثُرَ عِنْدَهُ الْمَالُ ، فَرَضَ لِلْمُسْلِمِينَ أَعْطِيَاتِهِمْ ، فَفَرَضَ لِلْمُهَاجِرِينَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ خَمْسَةَ آلَافٍ خَمْسَةَ آلَافٍ ، وَلِلْأَنْصَارِ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ أَرْبَعَةَ آلَافٍ أَرْبَعَةَ آلَافٍ ، وَفَرَضَ لِأَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ ثَلَاثَةَ آلَافٍ ثَلَاثَةَ آلَافٍ ، وَلِأَهْلِ الْفَتْحِ أَلْفَيْنِ ، وَقَالَ : بِمَنْ أَبْدَأُ ؟ قِيلَ لَهُ : بِنَفْسِك .
قَالَ : لَا ، وَلَكِنْ أَبْدَأُ بِقَرَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَبَدَأَ بِبَنِي هَاشِمٍ ثُمَّ بِبَنِي الْمُطَّلِبِ ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ } .
ثُمَّ بِبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ ؛ لِأَنَّهُ أَخُو هَاشِمٍ لِأَبَوَيْهِ ، ثُمَّ بِبَنِي نَوْفَلٍ ؛ لِأَنَّهُ أَخُوهُمَا لِأَبِيهِمَا ، ثُمَّ الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ .
قَالَ أَصْحَابُنَا : يَنْبَغِي أَنْ يَتَّخِذَ الْإِمَامُ دِيوَانًا ، وَهُوَ دَفْتَرٌ فِيهِ أَسْمَاءُ أَهْلِ الدِّيوَانِ ، وَذِكْرُ أَعْطِيَاتِهِمْ ، وَيَجْعَلَ لِكُلِّ قَبِيلَةٍ عَرِيفًا .
فَقَدْ رَوَى الزُّهْرِيُّ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَّفَ عَامَ حُنَيْنٍ عَلَى كُلِّ عَشْرَةٍ عَرِيفًا .
وَإِذَا أَرَادَ إعْطَاءَهُمْ بَدَأَ بِقَرَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَيُقَدِّمُ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ وَيُقَدِّمُ بَنِي عَبْدِ الْعُزَّى عَلَى بَنِي عَبْدِ الدَّارِ ؛ لِأَنَّ فِيهِمْ أَصْهَارَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ لِأَنَّ خَدِيجَةَ مِنْهُمْ ، حَتَّى يَنْقَضِيَ قُرَيْشٌ ، وَهُمْ بَنُو النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ ، ثُمَّ مِنْ بَعْدِ قُرَيْشٍ الْأَنْصَارُ ، ثُمَّ سَائِرُ الْعَرَبِ ، ثُمَّ الْعَجَمُ وَالْمَوَالِي ، ثُمَّ تُفْرَضُ الْأَرْزَاقُ لِمَنْ يَحْتَاجُ الْمُسْلِمُونَ إلَيْهِمْ ، مِنْ الْقُضَاةِ ، وَالْمُؤَذِّنِينَ ، وَالْأَئِمَّةِ ، وَالْفُقَهَاءِ ، وَالْقُرَّاءِ ، وَالْبُرْدِ ، وَالْعُيُونِ ، وَمَنْ لَا غِنَى لِلْمُسْلِمِينَ عَنْهُ ، ثُمَّ فِي إصْلَاحِ الْحُصُونِ ، وَالْكُرَاعِ ، وَالسِّلَاحِ ، ثُمَّ بِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ ، مِنْ بِنَاءِ الْقَنَاطِرِ وَالْجُسُورِ ، وَإِصْلَاحِ الطُّرُقِ وَكَرْيِ الْأَنْهَارِ ، وَسَدِّ بُثُوقِهَا ، وَعِمَارَةِ الْمَسَاجِدِ ، ثُمَّ مَا فَضَلَ قَسَّمَهُ عَلَى سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ ، وَيَخُصُّ ذَا الْحَاجَةِ .

( 5093 ) فَصْلٌ : قَالَ الْقَاضِي : وَيَعْرِفُ قَدْرَ حَاجَتِهِمْ - يَعْنِي أَهْلَ الْعَطَاءِ - وَكِفَايَتِهِمْ ، وَيَزْدَادُ ذُو الْوَلَدِ مِنْ أَجْلِ وَلَدِهِ ، وَذُو الْفَرَسِ مِنْ أَجْلِ فَرَسِهِ .
وَإِنْ كَانَ لَهُ عَبِيدٌ لِمَصَالِحِ الْحَرْبِ حَسْبَ مَئُونَتِهِمْ فِي كِفَايَتِهِ ، وَإِنْ كَانُوا لَزِينَةٍ أَوْ تِجَارَةٍ ، لَمْ يَدْخُلُوا فِي مَئُونَتِهِ .
وَيَنْظُرُ فِي أَسْعَارِهِمْ فِي بُلْدَانِهِمْ ؛ لِأَنَّ أَسْعَارَ الْبُلْدَانِ تَخْتَلِفُ ، وَالْغَرَضُ الْكِفَايَةُ ، وَلِهَذَا تُعْتَبَرُ الذُّرِّيَّةُ وَالْوَلَدُ ، فَيَخْتَلِفُ عَطَاؤُهُمْ لِاخْتِلَافِ ذَلِكَ .
وَإِنْ كَانُوا سَوَاءً فِي الْكِفَايَةِ ، لَا يُفَضِّلُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ، وَإِنَّمَا تَتَفَاضَلُ كِفَايَتُهُمْ ، وَيُعْطُونَ قَدْرَ كِفَايَتِهِمْ ، فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً .
وَهَذَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - عَلَى قَوْلِ مَنْ رَأَى التَّسْوِيَةَ .
فَأَمَّا مِنْ يَرَى التَّفْضِيلَ ، فَإِنَّهُ يُفَضِّلُ أَهْلَ السَّوَابِقِ وَالْغَنَاءِ فِي الْإِسْلَامِ ، عَلَى غَيْرِهِمْ ، بِحَسْبِ مَا يَرَاهُ ، كَمَا أَنَّ عُمَرَ ، فَضَّلَ أَهْلَ السَّوَابِقِ ، فَقَسَمَ لَقَوْمٍ خَمْسَةَ آلَافٍ ، وَلِآخَرِينَ أَرْبَعَةَ آلَافٍ ، وَلِآخَرِينَ ثَلَاثَةَ آلَافٍ ، وَلِآخَرِينَ أَلْفَيْنِ أَلْفَيْنِ ، وَلَمْ يُقَدِّرْ ذَلِكَ بِالْكِفَايَةِ .

( 5094 ) فَصْلٌ : وَالْعَطَاءُ الْوَاجِبُ لَا يَكُونُ إلَّا لِبَالِغٍ يُطِيقُ مِثْلُهُ الْقِتَالَ ، وَيَكُونُ عَاقِلًا حُرًّا بَصِيرًا صَحِيحًا ، لَيْسَ بِهِ مَرَضٌ يَمْنَعُهُ الْقِتَالَ ، فَإِنْ مَرِضَ الصَّحِيحُ مَرَضًا غَيْرَ مَرْجُوِّ الزَّوَالِ ، كَالزَّمَانَةِ وَنَحْوِهَا ، خَرَجَ مِنْ الْمُقَاتَلَةِ ، وَسَقَطَ سَهْمُهُ ، وَإِنْ كَانَ مَرَضًا مَرْجُوَّ الزَّوَالِ ، كَالْحُمَّى وَالصُّدَاعِ وَالْبِرْسَامِ ، لَمْ يَسْقُطْ عَطَاؤُهُ ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الصَّحِيحِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَسْتَنِيبُ فِي الْحَجِّ كَالصَّحِيحِ .
وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ حُلُولِ وَقْتِ الْعَطَاءِ ، دُفِعَ حَقُّهُ إلَى وَرَثَتِهِ .
وَمَنْ مَاتَ مِنْ أَجْنَادِ الْمُسْلِمِينَ ، دُفِعَ إلَى زَوْجَتِهِ وَأَوْلَادِهِ الصِّغَارِ قَدْرُ كِفَايَتِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ تُعْطَ ذُرِّيَّتُهُ بَعْدَهُ ، لَمْ يُجَرِّدْ نَفْسَهُ لِلْقِتَالِ ؛ لِأَنَّهُ يَخَافُ عَلَى ذُرِّيَّتِهِ الضَّيَاعَ ، فَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُمْ يُكْفَوْنَ بَعْد مَوْتِهِ ، سَهُلَ عَلَيْهِ ذَلِكَ ، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو خَالِدٍ الْقَنَانِيُ : لَقَدْ زَادَ الْحَيَاةَ إلَيَّ حُبًّا بَنَاتِي إنَّهُنَّ مِنْ الضِّعَافِ مَخَافَةَ أَنْ يَرَيْنَ الْفَقْرَ بَعْدِي وَأَنْ يَشْرَبْنَ رَنْقًا بَعْدَ صَافِ وَأَنْ يَعْرَيْنَ إنْ كُسِيَ الْجَوَارِي فَتَنْبُوا الْعَيْنُ عَنْ كَرَمٍ عِجَافِ وَلَوْلَا ذَاكَ قَدْ سَوَّمْت مُهْرِي وَفِي الرَّحْمَنِ لِلضُّعَفَاءِ كَافِ وَإِذَا بَلَغَ ذُكُورُ أَوْلَادِهِمْ ، وَاخْتَارُوا أَنْ يَكُونُوا فِي الْمُقَاتِلَةِ ، فُرِضَ لَهُمْ ، وَإِنْ لَمْ يَخْتَارُوا ، تُرِكُوا ، وَمَنْ خَرَجَ مِنْ الْمُقَاتِلَةِ ، سَقَطَ حَقُّهُ مِنْ الْعَطَاءِ .

( 5095 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ لِمَنْ شَهِدَ الْوَاقِعَةَ ، لِلرَّاجِلِ سَهْمٌ ، وَلِلْفَارِسِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْفَارِسُ عَلَى هَجِينٍ ، فَيَكُونَ لَهُ سَهْمَانِ ، سَهْمٌ لَهُ ، وَسَهْمٌ لِهَجِينِهِ أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ لِلْغَانِمِينَ ، وقَوْله تَعَالَى : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ } يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهَا لَهُمْ ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَهَا إلَيْهِمْ ، ثُمَّ أَخَذَ مِنْهَا سَهْمًا لِغَيْرِهِمْ ، فَبَقِيَ سَائِرُهَا لَهُمْ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ } .
وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ .
وَذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ ، إلَى أَنَّ لِلرَّاجِلِ سَهْمًا ، وَلِلْفَارِسِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لِلْفَارِسِ سَهْمَانِ .
وَخَالَفَهُ أَصْحَابُهُ فَوَافَقُوا سَائِرَ الْعُلَمَاءِ .
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْهَمَ لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ ؛ سَهْمٌ لَهُ ، وَسَهْمَانِ لِفَرَسِهِ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَقَالَ خَالِدٌ الْحَذَّاءُ : إنَّهُ لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ أَسْهَمَ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ ، وَلِصَاحِبِهِ سَهْمًا ، وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا } .
وَالْهَجِينُ مِنْ الْخَيْلِ : هُوَ الَّذِي أَبُوهُ عَرَبِيٌّ وَأُمُّهُ غَيْرُ عَرَبِيَّةٍ .
وَالْمُقْرِفُ عَكْسُ ذَلِكَ ، وَهُوَ الَّذِي أَبُوهُ غَيْرُ عَرَبِيٍّ وَأُمُّهُ عَرَبِيَّةٌ .
وَمِنْهُ قَوْلُ هِنْدَ بِنْتِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ : وَمَا هِنْدُ إلَّا مُهْرَةٌ عَرَبِيَّةٌ سَلِيلَةُ أَفْرَاسٍ تَحَلَّلَهَا بَغْلُ فَإِنْ وَلَدَتْ مُهْرًا كَرِيمًا فَبِالْحُرِي وَإِنْ يَكُ إقْرَافٌ فَمَا أَنْجَبَ الْفَحْلُ وَأَرَادَ الْخِرَقِيِّ بِالْهَجِينِ هَا هُنَا مَا عَدَا الْعَرَبِيَّ مِنْ الْخَيْلِ ، مِنْ الْبَرَاذِينِ وَغَيْرِهَا ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى ، أَنَّ الْبَرَاذِينَ إذَا أَدْرَكَتْ

مِثْلَ الْعَرَّابِ ، فَلَهَا مِثْلُ سَهْمِهَا .
وَذَكَرَ الْقَاضِي رِوَايَةً أُخْرَى ، فِيمَا عَدَا الْعَرَّابَ مِنْ الْخَيْلِ لَا يُسْهَمُ لَهَا .
وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ اخْتِلَافٌ كَثِيرٌ ، وَأَدِلَّةٌ عَلَى كُلِّ قَوْلٍ ، أَخَّرْنَا ذِكْرَهَا إلَى بَابِ الْجِهَادِ ، فَإِنَّ الْمَسْأَلَةَ مَذْكُورَةٌ فِيهِ ، وَهُوَ أَلْيَقُ بِهَا ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

( 5096 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَالصَّدَقَةُ لَا يُجَاوِزُ بِهَا الثَّمَانِيَةَ الْأَصْنَافِ الَّتِي سَمَّى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ) يَعْنِي قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى : { إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } .
وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَعْطِنِي مِنْ هَذِهِ الصَّدَقَاتِ .
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ اللَّهَ لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِ نَبِيٍّ وَلَا غَيْرِهِ فِي الصَّدَقَاتِ ، حَتَّى حَكَمَ فِيهَا ، فَجَزَّأَهَا ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ ، فَإِنْ كُنْت مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ أَعْطَيْتُك حَقَّك } .
وَالْمُرَادُ بِالصَّدَقَةِ هَا هُنَا الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ ، دُونَ غَيْرِهَا مِنْ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ وَالْوَصَايَا .
وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَى غَيْرِ هَذِهِ الْأَصْنَافِ ، إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ ، وَالْحَسَنِ ، أَنَّهُمَا قَالَا : مَا أَعْطَيْت فِي الْجُسُورِ وَالطُّرُقِ ، فَهِيَ صَدَقَةٌ مَاضِيَةٌ .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { إنَّمَا الصَّدَقَاتُ } .
وَ " إنَّمَا " لِلْحَصْرِ تُثْبِتُ الْمَذْكُورَ ، وَتَنْفِي مَا عَدَاهُ ؛ لِأَنَّهَا مُرَكَّبَةٌ مِنْ حَرْفَيْ نَفْيٍ وَإِثْبَاتٍ ، فَجَرَى مَجْرَى قَوْله تَعَالَى : { إنَّمَا اللَّهُ إلَهٌ وَاحِدٌ } .
أَيْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ .
وَقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ } .
أَيْ مَا أَنْتَ إلَّا نَذِيرٌ .
وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ " .

( 5097 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( الْفُقَرَاءُ ، وَهُمْ الزَّمْنَى ، وَالْمَكَافِيفُ الَّذِينَ لَا حِرْفَةَ لَهُمْ ، وَالْحِرْفَةُ الصِّنَاعَةُ ، وَلَا يَمْلِكُونَ خَمْسِينَ دِرْهَمًا ، وَلَا قِيمَتَهَا مِنْ الذَّهَبِ .
وَالْمَسَاكِينُ ، وَهُمْ السُّؤَّالُ ، وَغَيْرُ السُّؤَّالِ ، وَمَنْ لَهُمْ الْحِرْفَةُ ، إلَّا أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ خَمْسِينَ دِرْهَمًا ، وَلَا قِيمَتَهَا مِنْ الذَّهَبِ ) الْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ صِنْفَانِ فِي الزَّكَاةِ ، وَصِنْفٌ وَاحِدٌ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الِاسْمَيْنِ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِمَا ، فَأَمَّا إذَا جُمِعَ بَيْنَ الِاسْمَيْنِ ، وَمُيِّزَ بَيْنَ الْمُسَمَّيَيْنِ تَمَيَّزَا ، وَكِلَاهُمَا يُشْعِرُ بِالْحَاجَةِ وَالْفَاقَةِ وَعَدَمِ الْغِنَى ، إلَّا أَنَّ الْفَقِيرَ أَشَدُّ حَاجَةً مِنْ الْمِسْكِينِ ، مِنْ قِبَلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَدَأَ بِهِ ، وَإِنَّمَا يَبْدَأُ بِالْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَالْأَصْمَعِيُّ .
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى أَنَّ الْمِسْكِينَ أَشَدُّ حَاجَةً .
وَبِهِ قَالَ الْفَرَّاءُ ، وَثَعْلَبٌ ، وَابْنُ قُتَيْبَةَ ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ } .
وَهُوَ الْمَطْرُوحُ عَلَى التُّرَابِ لِشِدَّةِ حَاجَتِهِ ، وَأَنْشَدُوا : أَمَّا الْفَقِيرُ الَّذِي كَانَتْ حَلُوبَتُهُ وَفْقَ الْعِيَالِ فَلَمْ يُتْرَكْ لَهُ سَبَدُ فَأَخْبَرَ أَنَّ الْفَقِيرَ حَلُوبَتُهُ وَفْقَ عِيَالِهِ .
وَلَنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَدَأَ بِالْفُقَرَاءِ ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ أَهَمُّ ، وَقَالَ تَعَالَى : { أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ } .
فَأَخْبَرَ أَنَّ الْمَسَاكِينَ لَهُمْ سَفِينَةٌ يَعْمَلُونَ بِهَا .
وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا ، وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا ، وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ .
وَكَانَ يَسْتَعِيذُ مِنْ الْفَقْرِ ، } وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى شِدَّةَ الْحَاجَةِ ، وَيَسْتَعِيذَ مِنْ حَالَةٍ أَصْلَحَ مِنْهَا .
وَلِأَنَّ الْفَقْرَ مُشْتَقٌّ مِنْ فَقْرِ الظَّهْرِ ، فَعِيلَ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ ،

أَيْ مَفْقُودٌ ، وَهُوَ الَّذِي نُزِعَتْ فِقْرَةُ ظَهْرِهِ ، فَانْقَطَعَ صُلْبُهُ .
قَالَ الشَّاعِرُ : لَمَّا رَأَى لُبَدُ النُّسُورِ تَطَايَرَتْ رَفَعَ الْقَوَادِمَ كَالْفَقِيرِ الْأَعْزَلِ أَيْ لَمْ يُطِقْ الطَّيَرَانَ ، كَاَلَّذِي انْقَطَعَ صُلْبُهُ .
وَالْمِسْكِينُ مِفْعِيلٌ مِنْ السُّكُونِ ، وَهُوَ الَّذِي أَسْكَنَتْهُ الْحَاجَةُ ، وَمَنْ كُسِرَ صُلْبُهُ أَشَدُّ حَالًا مِنْ السَّاكِنِ .
فَأَمَّا الْآيَةُ فَهِيَ حُجَّةٌ لَنَا ، فَإِنَّ نَعْتَ اللَّهِ تَعَالَى لِلْمِسْكِينِ بِكَوْنِهِ ذَا مَتْرَبَةٍ ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا النَّعْتَ لَا يَسْتَحِقُّهُ بِإِطْلَاقِ اسْمِ الْمَسْكَنَةِ ، كَمَا يُقَالُ : ثَوْبٌ ذُو عَلَمِ .
وَيَجُوزُ التَّعْبِيرُ بِالْمِسْكِينِ عَنْ الْفَقِيرِ ، بِقَرِينَةٍ وَبِغَيْرِ قَرِينَةٍ ، وَالشِّعْرُ أَيْضًا حُجَّةٌ لَنَا ، فَإِنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّ الَّذِي كَانَتْ حَلُوبَتُهُ وَفْقَ الْعِيَالِ ، لَمْ يُتْرَكْ لَهُ سَبْدٌ ، فَصَارَ فَقِيرًا لَا شَيْءَ لَهُ .
إذَا تَقَرَّرَ هَذَا ، فَالْفَقِيرُ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى كَسْبِ مَا يَقَعْ مَوْقِعًا مِنْ كِفَايَتِهِ ، وَلَا لَهُ مِنْ الْأُجْرَةِ أَوْ مِنْ الْمَالِ الدَّائِمِ مَا يَقَعُ مُوقِعًا مِنْ كِفَايَتِهِ ، وَلَا لَهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا ، وَلَا قِيمَتُهَا مِنْ الذَّهَبِ ، مِثْلُ الزَّمْنَى وَالْمَكَافِيفِ وَهُمْ الْعُمْيَانُ ، سُمُّوا بِذَلِكَ لِكَفِّ أَبْصَارِهِمْ ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ فِي الْغَالِبِ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى اكْتِسَابِ مَا يَقَعُ مَوْقِعًا مِنْ كِفَايَتِهِمْ ، وَرُبَّمَا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ أَصْلًا ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إلْحَافًا } .
وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ : يَقَعُ مَوْقِعًا مِنْ كِفَايَتِهِمْ أَنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ مُعْظَمُ الْكِفَايَةِ ، أَوْ نِصْفُ الْكِفَايَةِ مِثْلُ مَنْ يَكْفِيهِ عَشْرَةٌ فَيَحْصُلُ لَهُ مِنْ مَكْسَبِهِ أَوْ غَيْرِهِ خَمْسَةٌ فَمَا زَادَ ، وَاَلَّذِي لَا يَحْصُلُ لَهُ إلَّا مَا لَا يَقَعُ مَوْقِعًا مِنْ كِفَايَتِهِ ، كَاَلَّذِي لَا

يَحْصُلُ لَهُ إلَّا ثَلَاثَةٌ أَوْ دُونَهَا ، فَهَذَا هُوَ الْفَقِيرُ ، وَالْأُوَلُ هُوَ الْمِسْكِينُ ، فَيُعْطَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا يُتِمُّ بِهِ كِفَايَتَهُ ، وَتَنْسَدُّ بِهِ حَاجَتُهُ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ دَفْعُهَا وَإِغْنَاءُ صَاحِبِهَا ، وَلَا يَحْصُلُ إلَّا بِذَلِكَ .
وَاَلَّذِي يَسْأَلُ ، وَيُحَصِّلُ الْكِفَايَةَ أَوْ مُعْظَمَهَا مِنْ مَسْأَلَتِهِ ، فَهُوَ مِنْ الْمَسَاكِينِ ، لَكِنَّهُ يُعْطَى جَمِيعَ كِفَايَتِهِ ، وَيُغْنَى عَنْ السُّؤَالِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِالطَّوَّافِ الَّذِي تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ ، وَلَكِنَّ الْمِسْكِينَ الَّذِي لَا يَسْأَلُ النَّاسَ ، وَلَا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ } .
قُلْنَا ، هَذَا تَجَوُّزٌ ، وَإِنَّمَا نَفْيُ الْمَسْكَنَةِ عَنْهُ مَعَ وُجُودِهَا فِيهِ حَقِيقَةً ، مُبَالَغَةٌ فِي إثْبَاتِهَا فِي الَّذِي لَا يَسْأَلُ النَّاسَ ، كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ ، وَإِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَغْلِبُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ } .
وَقَالَ : { مَا تَعُدُّونَ الرَّقُوبَ فِيكُمْ ؟ .
قَالُوا : الَّذِي لَا يَعِيشُ لَهُ وَلَدٌ .
قَالَ : لَا ، وَلَكِنَّ الرَّقُوبَ الَّذِي لَمْ يُقَدِّمْ مِنْ وَلَدِهِ شَيْئًا } .
وَقَالَ : { مَا تَعُدُّونَ الْمُفْلِسَ فِيكُمْ ؟ .
قَالُوا : الَّذِي لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ .
قَالَ : لَا ، وَلَكِنَّ الْمُفْلِسَ الَّذِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ الْجِبَالِ ، وَيَأْتِي وَقَدْ ظَلَمَ هَذَا ، وَلَطَمَ هَذَا ، وَأَخَذَ مِنْ عِرْضِ هَذَا ، فَيَأْخُذُ هَذَا مِنْ حَسَنَاته ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، حَتَّى إذَا نَفِدَتْ حَسَنَاتُهُ ، أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ ، فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ، ثُمَّ يَصُكُّ لَهُ صَكٌّ إلَى النَّارِ } .

( 5098 ) فَصْلٌ : وَمَنْ كَانَ ذَا مَكْسَبٍ يُغْنِي بِهِ نَفْسَهُ وَعِيَالَهُ إنْ كَانَ لَهُ عِيَالٌ ، وَكَانَ لَهُ قَدْرُ كِفَايَتِهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ ، مِنْ أَجَّرَ عَقَارٍ ، أَوْ غَلَّةِ مَمْلُوكٍ أَوْ سَائِمَةٍ ، فَهُوَ غَنِيٌّ لَا حَقَّ لَهُ فِي الزَّكَاةِ .
وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنْ لَمْ يَمْلِكْ نِصَابًا فَلَهُ الْأَخْذُ مِنْهَا ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَعْلِمْهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً ، تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ ، فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ .
} فَجَعَلَ الْغَنِيَّ مَنْ تُؤْخَذُ مِنْهُ الصَّدَقَةُ ، وَلَا تُؤْخَذُ إلَّا مِنْ النِّصَابِ .
وَلِأَنَّ هَذَا لَا يَمْلِكُ نِصَابًا ، وَلَا قِيمَتَهُ ، فَجَازَ لَهُ الْأَخْذُ ، كَاَلَّذِي لَا كِفَايَةَ لَهُ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ ، { أَنَّ رَجُلَيْنِ أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقْسِمُ الصَّدَقَةَ ، فَسَأَلَاهُ شَيْئًا مِنْهَا ، فَصَعَّدَ بَصَرَهُ فِيهِمَا ، وَقَالَ لَهُمَا : إنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا مِنْهَا ، وَلَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ ، وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ .
وَقَالَ : هَذَا أَجْوَدُهُمَا إسْنَادًا ، مَا أَجْوَدَهُ مِنْ حَدِيثٍ ، مَا أَعْلَمُ رُوِيَ فِي هَذَا أَجْوَدُ مِنْ هَذَا .
قِيلَ لَهُ : فَالْحَدِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ ، وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ } ؟ قَالَ : لَا أَعْلَمُ فِيهِ شَيْئًا يَصِحُّ .
قِيلَ لَهُ : يَرْوِيهِ سَالِمُ بْنُ أَبِي الْجَعْدِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : سَالِمٌ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ .
وَالْغِنَى يَخْتَلِفُ ؛ فَمِنْهُ غِنًى يُوجِبُ الزَّكَاةَ ، وَغِنًى يَمْنَعُ أَخْذَهَا ، وَغِنًى يَمْنَعُ الْمَسْأَلَةَ ، وَيُخَالِفُ مَا قَاسُوا عَلَيْهِ هَذَا ، فَإِنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَيْهَا ، وَالصَّدَقَةُ أَوْسَاخُ النَّاسِ ،

فَلَا تُبَاحُ إلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهَا ، وَهَذَا الْمُخْتَلَفُ فِيهِ لَا حَاجَةَ بِهِ إلَيْهَا ، فَلَا تُبَاحُ لَهُ .

( 5099 ) فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ صَحِيحًا جَلْدًا ، وَذَكَرَ أَنَّهُ لَا كَسْبَ لَهُ ، أُعْطِيَ مِنْهَا ، وَقُبِلَ قَوْلُهُ بِغَيْرِ يَمِينٍ ، إذَا لَمْ يُعْلَمْ يَقِينُ كَذِبِهِ ، وَلَا يُحَلِّفُهُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَعْطَى الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ سَأَلَاهُ ، وَلَمْ يُحَلِّفْهُمَا .
} وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ ، أَنَّهُ قَالَ : { أَتَيْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلْنَاهُ مِنْ الصَّدَقَةِ ، فَصَعَّدَ فِينَا الْبَصَرَ وَصَوَّبَهُ ، فَرَآنَا جَلْدَيْنِ ، فَقَالَ : إنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا } .
وَذَكَرَ الْحَدِيثَ .

( 5100 ) فَصْلٌ : فَإِنْ ادَّعَى أَنَّ لَهُ عِيَالًا ، فَقَالَ الْقَاضِي ، وَأَبُو الْخَطَّابِ : يُقَلَّدُ وَيُعْطَى لَهُمْ ، كَمَا يُقَلَّدُ فِي دَعْوَى حَاجَتِهِ .
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ عِنْدِي لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْعِيَالِ ، وَلَا تَتَعَذَّرُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ ، وَفَارَقَ مَا إذَا ادَّعَى أَنَّهُ لَا كَسْبَ لَهُ ، فَإِنَّهُ يَدَّعِي مَا يُوَافِقُ الْأَصْلَ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْكَسْبِ وَالْمَالِ ، وَتَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ .
وَلَوْ ادَّعَى الْفَقْرَ مَنْ عُرِفَ بِالْغِنَى ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ بِأَنَّ مَالَهُ تَلِفَ أَوْ نَفِدَ ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا تَحِلُّ الْمَسْأَلَةُ إلَّا لِثَلَاثَةٍ ؛ رَجُلٍ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَشْهَدَ لَهُ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ لَقَدْ أَصَابَتْ فُلَانًا فَاقَةٌ ، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ ، حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ ، أَوْ سَدَادًا مِنْ عَيْشٍ } .
وَهَلْ يُعْتَبَرُ فِي الْبَيِّنَةِ عَلَى الْفَقْرِ ثَلَاثَةٌ ، أَوْ يُكْتَفَى بِاثْنَيْنِ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، لَا يَكْفِي إلَّا ثَلَاثَةٌ ؛ لِظَاهِرِ الْخَبَرِ .
وَالثَّانِي ، يُقْبَلُ قَوْلُ اثْنَيْنِ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُمَا يُقْبَلُ فِي الْفَقْرِ بِالنِّسْبَةِ إلَى حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ ، الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الشُّحِّ وَالضِّيقِ ، فَفِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى أَوْلَى ، وَالْخَبَرُ إنَّمَا وَرَدَ فِي حِلِّ الْمَسْأَلَةِ ، فَيُقْتَصَرُ عَلَيْهِ .
وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ لَهُ مَالٌ ، قُبِلَ قَوْلُهُ ، وَلَمْ يَسْتَحْلِفْ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسْتَحْلِفْ الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ رَآهُمَا جَلْدَيْنِ .
فَإِنْ رَآهُ مُتَجَمِّلًا قَبِلَ قَوْلَهُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الْغِنَى ، بِدَلِيلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ } لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُخْبِرَهُ أَنْ مَا يُعْطِيهِ مِنْ الزَّكَاةِ ؛ لِئَلَّا يَكُونَ مِمَّنْ لَا تَحِلُّ لَهُ الزَّكَاةُ .
وَإِنْ رَآهُ

ظَاهِرَ الْمَسْكَنَةِ ، أَعْطَاهُ مِنْهَا ، وَلَمْ يَحْتَجْ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُ شَرْطَ جَوَازِ الْأَخْذِ ، وَلَا أَنَّ مَا يَدْفَعُهُ إلَيْهِ زَكَاةٌ .
قَالَ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَدْ سُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يَدْفَعُ زَكَاتَهُ إلَى رَجُلٍ : هَلْ يَقُولُ لَهُ : هَذِهِ زَكَاةٌ ؟ فَقَالَ : يُعْطِيهِ وَيَسْكُتُ ، وَلَا يُقْرِعُهُ .
فَاكْتَفَى بِظَاهِرِ حَالِهِ عَنْ سُؤَالِهِ وَتَعْرِيفِهِ .

( 5101 ) فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ لِلرَّجُلِ بِضَاعَةٌ يَتَّجِرُ بِهَا ، أَوْ ضَيْعَةٌ يَسْتَغِلُّهَا تَكْفِيهِ غَلَّتُهَا ، لَهُ وَلِعِيَالِهِ ، فَهُوَ غَنِيٌّ ، لَا يُعْطَى مِنْ الصَّدَقَةِ شَيْئًا ، وَإِنْ لَمْ تَكْفِهِ ، جَازَ لَهُ الْأَخْذُ مِنْهَا قَدْرَ مَا يُتِمُّ بِهِ الْكِفَايَةَ ، وَإِنْ كَثُرَتْ قِيمَةُ ذَلِكَ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ فِي الزَّكَاةِ .

مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَالْعَامِلِينَ عَلَى الزَّكَاةِ ، وَهُمْ الْجُبَاةُ لَهَا ، وَالْحَافِظُونَ لَهَا ) يَعْنِي الْعَامِلِينَ عَلَى الزَّكَاةِ ، وَهُمْ الصِّنْفُ الثَّالِثُ مِنْ أَصْنَافِ الزَّكَاةِ ، وَهُمْ السُّعَاةُ الَّذِينَ يَبْعَثُهُمْ الْإِمَامُ لِأَخْذِهَا مِنْ أَرْبَابِهَا ، وَجَمْعِهَا وَحِفْظِهَا وَنَقْلِهَا ، وَمَنْ يُعِينُهُمْ مِمَّنْ يَسُوقُهَا وَيَرْعَاهَا وَيَحْمِلُهَا ، وَكَذَلِكَ الْحَاسِبُ وَالْكَاتِبُ وَالْكَيَّالُ وَالْوَزَّانُ وَالْعَدَّادُ ، وَكُلُّ مَنْ يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِيهَا فَإِنَّهُ يُعْطَى أُجْرَتَهُ مِنْهَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ مُؤْنَتِهَا ، فَهُوَ كَعَلْفِهَا ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبْعَثُ عَلَى الصَّدَقَةِ سُعَاةً ، وَيُعْطِيهِمْ عِمَالَتَهُمْ ، { فَبَعَثَ عُمَرَ ، وَمُعَاذًا ، وَأَبَا مُوسَى ، وَرَجُلًا مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ ، وَابْنَ اللُّتْبِيَّةِ ، وَغَيْرَهُمْ .
وَطَلَبَ مِنْهُ ابْنَا عَمِّهِ الْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ ، وَعَبْدُ الْمُطَّلِبِ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ ، أَنْ يَبْعَثَهُمَا ، فَقَالَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لَوْ بَعَثْتنَا عَلَى هَذِهِ الصَّدَقَةِ ، فَنُصِيبَ مَا يُصِيبُ النَّاسُ ، وَنُؤَدِّيَ إلَيْك مَا يُؤَدِّي النَّاسُ ؟ فَأَبَى أَنْ يَبْعَثَهُمَا ، وَقَالَ : إنَّ هَذِهِ الصَّدَقَةَ أَوْسَاخُ النَّاسِ } .
وَهَذِهِ قِصَصٌ اشْتَهَرَتْ ، فَصَارَتْ كَالْمُتَوَاتِرِ ، وَلَيْسَ فِيهِ اخْتِلَافٌ ، مَعَ مَا وَرَدَ مِنْ نَصِّ الْكِتَابِ فِيهِ فَأَغْنَى عَنْ التَّطْوِيلِ .

( 5103 ) فَصْلٌ : وَمِنْ شَرْطِ الْعَامِلِ أَنْ يَكُونَ بَالِغًا عَاقِلًا أَمِينًا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ ضَرْبٌ مِنْ الْوِلَايَةِ ، وَالْوِلَايَةُ تُشْتَرَطُ فِيهَا هَذِهِ الْخِصَالُ ، وَلِأَنَّ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ لَا قَبْضَ لَهُمَا ، وَالْخَائِنَ يَذْهَبُ بِمَالِ الزَّكَاةِ وَيُضَيِّعُهُ عَلَى أَرْبَابِهِ .
وَيُشْتَرَطُ إسْلَامُهُ .
وَاخْتَارَ هَذَا الْقَاضِي .
وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ وَغَيْرُهُ ، أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ إسْلَامُهُ ؛ لِأَنَّهُ إجَارَةٌ عَلَى عَمَلٍ ، فَجَازَ أَنْ يَتَوَلَّاهُ الْكَافِرُ ، كَجِبَايَةِ الْخَرَاجِ .
وَقِيلَ عَنْ أَحْمَدَ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لَهُ الْأَمَانَةُ ، فَاشْتُرِطَ لَهُ الْإِسْلَامُ ، كَالشَّهَادَةِ ، وَلِأَنَّهُ وِلَايَةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَوَلَّاهَا الْكَافِرُ ، كَسَائِرِ الْوِلَايَاتِ ، وَلِأَنَّ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ .
لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّى الْعِمَالَةَ كَالْحَرْبِيِّ ، وَلِأَنَّ الْكَافِرَ لَيْسَ بِأَمِينٍ ، وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ : لَا تَأْتَمِنُوهُمْ وَقَدْ خَوَّنَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى .
وَقَدْ أَنْكَرَ عُمَرُ عَلَى أَبِي مُوسَى تَوْلِيَتَهُ الْكِتَابَةَ نَصْرَانِيًّا .
فَالزَّكَاةُ الَّتِي هِيَ رُكْنُ الْإِسْلَامِ أَوْلَى .
وَيُشْتَرَطُ كَوْنُهُ مِنْ غَيْرِ ذَوِي الْقُرْبَى ، إلَّا أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ أُجْرَتَهُ مِنْ غَيْرِ الزَّكَاةِ .
وَقَالَ أَصْحَابُنَا : يَجُوزُ لَهُ الْأَخْذُ مِنْهَا ؛ لِأَنَّهَا أُجْرَةٌ عَلَى عَمَلٍ تَجُوزُ لِلْغَنِيِّ ، فَجَازَتْ لِذَوِي الْقُرْبَى ، كَأُجْرَةِ النَّقَّالِ وَالْحَافِظِ .
وَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ .
وَلَنَا ، حَدِيثُ الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ وَعَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ ، حِينَ سَأَلَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبْعَثَهُمَا عَلَى الصَّدَقَةِ ، فَأَبَى أَنْ يَبْعَثَهُمَا .
وَقَالَ : { إنَّمَا هَذِهِ الصَّدَقَةُ أَوْسَاخُ النَّاسِ ، وَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ وَلَا لِآلِ مُحَمَّدٍ } .
وَحَدِيثُ أَبِي رَافِعٍ أَيْضًا .
وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي تَحْرِيمِ أَخْذِهِمْ الْعِمَالَةَ ، فَلَا تَجُوزُ مُخَالَفَتُهُ .

وَيُفَارِقُ النَّقَّالَ وَالْحَمَّالَ وَالرَّاعِيَ ، فَإِنَّهُ يَأْخُذُهُ أُجْرَةً لِحَمْلِهِ لَا لِعِمَالَتِهِ .
وَلَا يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ حُرًّا ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ يَحْصُلُ مِنْهُ الْمَقْصُودُ كَالْحُرِّ ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ عَامِلًا كَالْحُرِّ .
وَلَا كَوْنُهُ فَقِيهًا إذَا كُتِبَ لَهُ مَا يَأْخُذُهُ ، وَحُدَّ لَهُ ، كَمَا كَتَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَّالِهِ فَرَائِضَ الصَّدَقَةِ ، وَكَمَا كَتَبَ أَبُو بَكْرٍ لِعُمَّالِهِ ، أَوْ بَعَثَ مَعَهُ مَنْ يُعَرِّفُهُ ذَلِكَ .
وَلَا كَوْنُهُ فَقِيرًا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْعَامِلَ صِنْفًا غَيْرَ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ، فَلَا يُشْتَرَطُ وُجُودُ مَعْنَاهُمَا فِيهِ ، كَمَا لَا يُشْتَرَطُ مَعْنَاهُ فِيهِمَا .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ ، إلَّا لَخَمْسَةٍ ؛ لِغَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، أَوْ لِعَامِلٍ عَلَيْهَا ، أَوْ لِرَجُلٍ ابْتَاعَهَا بِمَالِهِ ، أَوْ لِرَجُلٍ كَانَ لَهُ جَارٌ مِسْكِينٌ فَتَصَدَّقَ عَلَى الْمِسْكِينِ ، فَأَهْدَى الْمِسْكِينُ إلَى الْغَنِيِّ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَذَكَرَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ تُشْتَرَطُ الْحُرِّيَّةُ ؛ لِأَنَّ الْعِمَالَةَ وِلَايَةٌ ، فَنَافَاهَا الرِّقُّ ، كَالْقَضَاءِ .
وَيُشْتَرَطُ الْفِقْهُ ؛ لِيَعْلَم قَدْرَ الْوَاجِبِ وَصِفَتَهُ .
وَلَنَا ، مَا ذَكَرْنَاهُ ، وَلَا نُسَلِّمُ مُنَافَاةَ الرِّقِّ لِلْوِلَايَاتِ الدِّينِيَّةِ ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إمَامًا فِي الصَّلَاةِ ، وَمُفْتِيًا ، وَرَاوِيًا لِلْحَدِيثِ ، وَشَاهِدًا ، وَهَذِهِ مِنْ الْوِلَايَاتِ الدِّينِيَّةِ .
وَأَمَّا الْفِقْهُ ، فَإِنَّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ لِمَعْرِفَةِ مَا يَأْخُذُهُ وَيَتْرُكُهُ ، وَيَحْصُلُ ذَلِكَ بِالْكِتَابِ لَهُ ، كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبَاهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا .

( 5104 ) فَصْلٌ : وَالْإِمَامُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ الْعَامِلَ إجَارَةً صَحِيحَةً ، بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ ، إمَّا عَلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ ، وَإِمَّا عَلَى عَمَلٍ مَعْلُومٍ ، وَبَيْنَ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ جَعْلًا مَعْلُومًا عَلَى عَمَلِهِ ، فَإِذَا عَمِلَهُ اسْتَحَقَّ الْمَشْرُوطَ ، وَإِنْ شَاءَ بَعَثَهُ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ ثُمَّ أَعْطَاهُ ؛ فَإِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { بَعَثَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الصَّدَقَةِ ، فَلَمَّا رَجَعْت عَمَّلَنِي ، فَقُلْت : أَعْطِهِ مَنْ هُوَ أَحْوَجُ مِنِّي .
} وَذَكَرَ الْحَدِيثَ .
فَإِنْ تَلْفِت الصَّدَقَةُ فِي يَدِهِ قَبْلَ وُصُولِهَا إلَى أَرْبَابِهَا مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ .
وَيَسْتَحِقُّ أَجْرَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ، وَإِنْ لَمْ تَتْلَفْ أُعْطِيَ أَجْرَ عَمَلِهِ مِنْهَا ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهَا أَوْ أَقَلَّ .
ثُمَّ قُسِّمَ الْبَاقِي عَلَى أَرْبَابِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ مُؤْنَتِهَا ، فَجَرَى مَجْرَى عَلْفِهَا وَمُدَاوَاتِهَا .
وَإِنْ رَأَى الْإِمَامُ أَعْطَاهُ أُجْرَةً مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ، أَوْ يَجْعَلُ لَهُ رِزْقًا فِي بَيْتِ الْمَالِ ، وَلَا يُعْطِيهِ مِنْهَا شَيْئًا ، فَعَلَ .
وَإِنْ تَوَلَّى الْإِمَامُ أَوْ الْوَالِي مِنْ قِبَلِهِ ، أَخْذَ الصَّدَقَةِ وَقِسْمَتَهَا ، لَمْ يَسْتَحِقَّ مِنْهَا شَيْئًا ؛ لِأَنَّهُ يَأْخُذُ رِزْقَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ .

( 5105 ) فَصْلٌ : وَيَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُوَلِّيَ السَّاعِيَ جِبَايَتَهَا دُونَ تَفْرِقَتِهَا .
وَيَجُوزُ أَنْ يُوَلِّيَهُ جِبَايَتَهَا وَتَفْرِيقَهَا ؛ { فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَّى ابْنَ اللُّتْبِيَّةِ فَقَدِمَ بِصَدَقَتِهِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : هَذَا لَكُمْ ، وَهَذَا أُهْدِيَ إلَيَّ .
وَقَالَ لَقَبِيصَةَ : أَقِمْ يَا قَبِيصَةُ حَتَّى تَأْتِيَنَا الصَّدَقَةُ ، فَنَأْمُرَ لَك بِهَا .
وَأَمَرَ مُعَاذًا أَنْ يَأْخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَيَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِهِمْ .
} وَيُرْوَى أَنَّ زِيَادًا وَلَّى عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ الصَّدَقَةَ ، فَلَمَّا جَاءَ قِيلَ لَهُ : أَيْنَ الْمَالُ ؟ قَالَ : أَوَ لِلْمَالِ بَعَثْتنِي ، أَخَذْنَاهَا كَمَا كُنَّا نَأْخُذُهَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَضَعْنَاهَا حَيْثُ كُنَّا نَضَعُهَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَعَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ : أَتَانَا مُصَدِّقُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِنَا ، فَوَضَعَهَا فِي فُقَرَائِنَا ، وَكُنْت غُلَامًا يَتِيمًا ، فَأَعْطَانِي مِنْهَا قَلُوصًا .
أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ .

( 5106 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَالْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ ، وَهُمْ الْمُشْرِكُونَ الْمُتَأَلَّفُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ ) هَذَا الصِّنْفُ الرَّابِعُ مِنْ أَصْنَافِ الزَّكَاةِ الْمُسْتَحِقُّونَ لَهَا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : انْقَطَعَ سَهْمُهُمْ .
وَهُوَ أَحَدُ أَقْوَالِ الشَّافِعِيِّ ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ مُشْرِكًا جَاءَ يَلْتَمِسُ مِنْ عُمَرَ مَالًا ، فَلَمْ يُعْطِهِ ، وَقَالَ : { فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ } .
وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ عُمَرَ وَلَا عُثْمَانَ وَلَا عَلِيٍّ أَنَّهُمْ أَعْطَوْا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ ، وَقَمَعَ الْمُشْرِكِينَ ، فَلَا حَاجَةَ بِنَا إلَى التَّأْلِيفِ .
وَحَكَى حَنْبَلٌ ، عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهُ قَالَ : الْمُؤَلَّفَةُ قَدْ انْقَطَعَ حُكْمُهُمْ الْيَوْمَ .
وَالْمَذْهَبُ عَلَى خِلَافِ مَا حَكَاهُ حَنْبَلٌ ، وَلَعَلَّ مَعْنَى قَوْلِ أَحْمَدَ : انْقَطَعَ حُكْمُهُمْ .
أَيْ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِمْ فِي الْغَالِبِ ، أَوْ أَرَادَ أَنَّ الْأَئِمَّةَ لَا يُعْطُونَهُمْ الْيَوْمَ شَيْئًا ، فَأَمَّا إنْ احْتَاجَ إلَيْهِمْ جَازَ الدَّفْعُ إلَيْهِمْ ، فَلَا يَجُوزُ الدَّفْعُ إلَيْهِمْ إلَّا مَعَ الْحَاجَةِ .
وَلَنَا ، عَلَى جَوَازِ الدَّفْعِ إلَيْهِمْ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ } .
وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ ، وَهِيَ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى الْمُؤَلَّفَةَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُسْلِمِينَ .
وَأَعْطَى أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ ، وَقَدْ قَدِمَ عَلَيْهِ بِثَلَاثِمِائَةٍ جَمَلٍ مِنْ إبِلِ الصَّدَقَةِ ، ثَلَاثِينَ بَعِيرًا .
وَمُخَالَفَةُ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ ، وَاطِّرَاحُهَا بِلَا حُجَّةٍ لَا يَجُوزُ ، وَلَا يَثْبُتُ النَّسْخُ بِتَرْكِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ إعْطَاءَ الْمُؤَلَّفَةِ ، وَلَعَلَّهُمْ لَمْ يَحْتَاجُوا إلَى إعْطَائِهِمْ ، فَتَرَكُوا ذَلِكَ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ ، لَا لِسُقُوطِهِ .

( 5107 ) فَصْلٌ : وَالْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ ضَرْبَانِ ؛ كُفَّارٌ وَمُسْلِمُونَ ، وَهُمْ جَمِيعًا السَّادَةُ الْمُطَاعُونَ فِي قَوْمِهِمْ وَعَشَائِرِهِمْ .
فَالْكُفَّارُ ضَرْبَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، مَنْ يُرْجَى إسْلَامُهُ ، فَيُعْطَى لِتَقْوَى نِيَّتُهُ فِي الْإِسْلَامِ ، وَتَمِيلَ نَفْسُهُ إلَيْهِ ، فَيُسْلِمَ ؛ { فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ ، أَعْطَى صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ الْأَمَانَ ، وَاسْتَنْظَرَهُ صَفْوَانُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ لِيَنْظُرَ فِي أَمْرِهِ ، وَخَرَجَ مَعَهُ إلَى حُنَيْنٍ ، فَلَمَّا أَعْطَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَطَايَا قَالَ صَفْوَانُ : مَا لِي ؟ فَأَوْمَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى وَادٍ فِيهِ إبِلٌ مُحَمَّلَةٌ ، فَقَالَ : هَذَا لَك .
فَقَالَ صَفْوَانُ : هَذَا عَطَاءُ مَنْ لَا يَخْشَى الْفَقْرَ .
} وَالضَّرْبُ الثَّانِي ، مَنْ يُخْشَى شَرُّهُ ، وَيُرْجَى بِعَطِيَّتِهِ كَفُّ شَرِّهِ وَكَفُّ غَيْرِهِ مَعَهُ .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ قَوْمًا كَانُوا يَأْتُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ أَعْطَاهُمْ مَدَحُوا الْإِسْلَامَ ، وَقَالُوا : هَذَا دِينٌ حَسَنٌ .
وَإِنْ مَنَعَهُمْ ذَمُّوا وَعَابُوا .
وَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ فَأَرْبَعَةُ أَضْرُبٍ ؛ قَوْمٌ مِنْ سَادَاتِ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ نُظَرَاءُ مِنْ الْكُفَّارِ ، وَمِنْ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ لَهُمْ نِيَّةٌ حَسَنَةٌ فِي الْإِسْلَامِ ، فَإِذَا أُعْطُوا رُجِيَ إسْلَامُ نُظَرَائِهِمْ وَحُسْنُ نِيَّاتِهِمْ ، فَيَجُوزُ إعْطَاؤُهُمْ ؛ لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَعْطَى عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ ، وَالزِّبْرِقَانَ بْنَ بَدْرٍ ، مَعَ حُسْنِ نِيَّاتِهِمَا وَإِسْلَامِهِمَا .
الضَّرْبُ الثَّانِي ، سَادَاتٌ مُطَاعُونَ فِي قَوْمِهِمْ يُرْجَى بِعَطِيَّتِهِمْ قُوَّةُ إيمَانِهِمْ ، وَمُنَاصَحَتُهُمْ فِي الْجِهَادِ ، فَإِنَّهُمْ يُعْطَوْنَ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ ، وَالْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ ، وَعَلْقَمَةَ بْنَ عُلَاثَةَ ، وَالطُّلَقَاءَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ ، وَقَالَ لِلْأَنْصَارِ : { يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ

عَلَامَ تَأْسَوْنَ ؟ عَلَى لُعَاعَةٍ مِنْ الدُّنْيَا تَأَلَّفْت بِهَا قَوْمًا لَا إيمَانَ لَهُمْ ، وَوَكَلْتُكُمْ إلَى إيمَانِكُمْ ؟ } .
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ تَغْلِبَ ، { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى أُنَاسًا وَتَرَكَ أُنَاسًا ، فَبَلَغَهُ عَنْ الَّذِينَ تَرَكَ أَنَّهُمْ عَتَبُوا ، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ : إنِّي أُعْطِي أُنَاسًا وَأَدَعُ أُنَاسًا ، وَاَلَّذِي أَدَعُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ الَّذِي أُعْطِي ، أُعْطِي أُنَاسًا لِمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْجَزَعِ وَالْهَلَعِ ، وَأَكِلُ أُنَاسًا إلَى مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْغِنَى وَالْخَيْرِ ؛ مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ } .
وَعَنْ أَنَسٍ ، قَالَ : حِينَ { أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ أَمْوَالَ هَوَازِنَ ، طَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِي رِجَالًا مِنْ قُرَيْشٍ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ ، فَقَالَ نَاسٌ مِنْ الْأَنْصَارِ : يَغْفِرُ اللَّهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِي قُرَيْشًا وَيَمْنَعُنَا ، وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنِّي أُعْطِي رِجَالًا حُدَثَاءَ عَهْدٍ بِكُفْرٍ أَتَأَلَّفُهُمْ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
الضَّرْبُ الثَّالِثُ ، قَوْمٌ فِي طَرَفِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ ، إذَا أُعْطُوا دَفَعُوا عَمَّنْ يَلِيهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ .
الضَّرْبُ الرَّابِعُ : قَوْمٌ إذَا أُعْطُوا أَجَبُّوا الزَّكَاةَ مِمَّنْ لَا يُعْطِيهَا إلَّا أَنْ يَخَافَ .
وَكُلُّ هَؤُلَاءِ يَجُوزُ الدَّفْعُ إلَيْهِمْ مِنْ الزَّكَاةِ ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ، فَيَدْخُلُونَ فِي عُمُومِ الْآيَةِ .

( 5108 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَفِي الرِّقَابِ ، وَهُمْ الْمُكَاتَبُونَ ) لَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا فِي ثُبُوتِ سَهْمِ الرِّقَابِ ، وَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ فِي أَنَّ الْمُكَاتَبِينَ مِنْ الرِّقَابِ يَجُوزُ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَيْهِمْ .
وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ .
وَخَالَفَهُمْ مَالِكٌ ، فَقَالَ : إنَّمَا يُصْرَفُ سَهْمُ الرِّقَابِ فِي إعْتَاقِ الْعَبِيدِ ، وَلَا يُعْجِبُنِي أَنْ يُعَانَ مِنْهَا مُكَاتَبٌ .
وَخَالَفَ أَيْضًا ظَاهِرَ الْآيَةِ ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ مِنْ الرِّقَابِ ، لِأَنَّهُ عَبْدٌ ، وَاللَّفْظُ عَامٌ ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِهِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّهُ يُدْفَعُ إلَى الْمُكَاتَبِ جَمِيعُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِوَفَاءِ كِتَابَتِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ شَيْءٌ ، جَازَ أَنْ يُدْفَعَ إلَيْهِ جَمِيعُهَا .
وَإِنْ كَانَ مَعَهُ شَيْءٌ ، تَمَّمَ لَهُ مَا يَتَخَلَّصُ بِهِ ؛ لِأَنَّ حَاجَتَهُ لَا تَنْدَفِعُ إلَّا بِذَلِكَ .
وَلَا يُدْفَعُ إلَى مَنْ مَعَهُ وَفَاءُ كِتَابَتِهِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَغْنٍ عَنْهُ فِي وَفَاءِ الْكِتَابَةِ .
قِيلَ : وَلَا يُدْفَعُ إلَيْهِ بِحُكْمِ الْفَقْرِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ عَبْدٌ .
وَيَجُوزُ أَنْ يُدْفَعَ إلَيْهِ فِي كِتَابَتِهِ قَبْلَ حُلُولِ النَّجْمِ ؛ لِئَلَّا يَحِلَّ النَّجْمُ وَلَا شَيْءَ مَعَهُ ، فَتَنْفَسِخَ الْكِتَابَةُ .
وَلَا يُدْفَعُ إلَى مُكَاتَبٍ كَافِرٍ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَصَارِفِ الزَّكَاةِ .
وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْمُكَاتَبِ إنَّهُ مُكَاتَبٌ إلَّا بِبَيِّنَةٍ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهَا ، فَإِنْ صَدَّقَهُ السَّيِّدُ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا يُقْبَلُ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ فِي الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ ، فَإِذَا أَقَرَّ بِانْتِقَالِ حَقِّهِ عَنْهُ قُبِلَ .
وَالثَّانِي ، لَا يُقْبَلُ ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي أَنَّهُ يُوَاطِئُهُ لِيَأْخُذَ بِهِ الْمَالَ .

( 5109 ) فَصْلٌ : وَيَجُوزُ لِلسَّيِّدِ دَفْعُ زَكَاتِهِ إلَى مُكَاتَبِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مَعَهُ فِي بَابِ الْمُعَامَلَةِ كَالْأَجْنَبِيِّ .
حَتَّى يَجْرِيَ بَيْنَهُمَا الرِّبَا ، فَصَارَ كَالْغَرِيمِ يَدْفَعُ زَكَاتَهُ إلَى غَرِيمِهِ .
وَيَجُوزُ لِلْمُكَاتَبِ رَدُّهَا إلَى سَيِّدِهِ بِحُكْمِ الْوَفَاءِ ؛ لِأَنَّهَا رَجَعَتْ إلَيْهِ بِحُكْمِ الْإِيفَاءِ ، أَشْبَهَ إيفَاءَ الْغَرِيمِ دَيْنَهُ بِهَا .
قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ وَيَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَى سَيِّدِ الْمُكَاتَبِ وَفَاءً عَنْ الْكِتَابَةِ .
وَهُوَ الْأَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ أَعْجَلُ لِعِتْقِهِ ، وَأَوْصَلُ إلَى الْمَقْصُودِ الَّذِي كَانَ الدَّفْعُ مِنْ أَجْلِهِ ، فَإِنَّهُ إذَا أَخَذَهُ الْمُكَاتَبُ قَدْ يَدْفَعُهُ وَقَدْ لَا يَدْفَعُهُ .
وَنَقَلَ حَنْبَلٌ أَنَّهُ قَالَ : قَالَ سُفْيَانُ : لَا تُعْطِي مُكَاتَبًا لَك مِنْ الزَّكَاةِ .
قَالَ : وَسَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ : وَأَنَا أَرَى مِثْلَ ذَلِكَ .
وَقَالَ الْأَثْرَمُ : سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ : أَيُعْطَى الْمُكَاتَبُ مِنْ الزَّكَاةِ ؟ قَالَ : الْمُكَاتَبُ بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ ، فَكَيْفَ يُعْطَى ؟ وَمَعْنَاهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - لَا يُعْطِي مُكَاتَبَهُ مِنْ الزَّكَاةِ ؛ لِأَنَّهُ عَبْدُهُ وَمَالُهُ ، يَرْجِعُ إلَيْهِ إنْ عَجَزَ ، وَإِنْ عَتَقَ فَلَهُ وَلَاؤُهُ ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِمُكَاتَبِهِ ، وَلَا شَهَادَةُ مُكَاتَبِهِ لَهُ .

مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ رَحِمَهُ اللَّهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى ، أَنَّهُ يُعْتَقُ مِنْهَا .
اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي جَوَازِ الْإِعْتَاقِ مِنْ الزَّكَاةِ ، فَرُوِيَ عَنْهُ جَوَازُ ذَلِكَ .
وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَالْحَسَنِ ، وَالزُّهْرِيِّ ، وَمَالِكٍ ، وَإِسْحَاقَ ، وَأَبِي عُبَيْدٍ ، وَالْعَنْبَرِيِّ ، وَأَبِي ثَوْرٍ ، لِعُمُومِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَفِي الرِّقَابِ } .
وَهُوَ مُتَنَاوِلٌ لِلْقِنِّ ، بَلْ هُوَ ظَاهِرٌ فِيهِ ، فَإِنَّ الرَّقَبَةَ إذَا أُطْلِقَتْ انْصَرَفَتْ إلَيْهِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } .
وَتَقْدِيرُ الْآيَةِ ، وَفِي إعْتَاقِ الرِّقَابِ وَلِأَنَّهُ إعْتَاقٌ لِلرَّقَبَةِ ، فَجَازَ صَرْفُ الزَّكَاةِ فِيهِ ، كَدَفْعِهِ فِي الْكِتَابَةِ .
وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى ، لَا يَجُوزُ .
وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ ، وَالشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ تَقْتَضِي صَرْفَ الزَّكَاةِ إلَى الرِّقَابِ ، كَقَوْلِهِ : { فِي سَبِيلِ اللَّهِ } يُرِيدُ الدَّفْعَ إلَى الْمُجَاهِدِينَ ، كَذَلِكَ هَا هُنَا .
وَالْعَبْدُ الْقِنُّ لَا يُدْفَعُ إلَيْهِ شَيْءٌ .
قَالَ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ : قَدْ كُنْت أَقُولُ : يُعْتَقُ مِنْ زَكَاتِهِ ، وَلَكِنْ أَهَابُهُ الْيَوْمَ ؛ لِأَنَّهُ يَجُرُّ الْوَلَاءَ .
وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ ، قِيلَ لَهُ : فَمَا يُعْجِبُكَ مِنْ ذَلِكَ ؟ قَالَ : يُعِينُ مِنْ ثَمَنِهَا ، فَهُوَ أَسْلَمُ .
وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ النَّخَعِيِّ ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، فَإِنَّهُمَا قَالَا : لَا يُعْتَقُ مِنْ الزَّكَاةِ رَقَبَةٌ كَامِلَةٌ ، لَكِنَّ يُعْطِي مِنْهَا فِي رَقَبَةٍ ، وَيُعِينُ مُكَاتَبًا .
وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَعْتَقَ مِنْ زَكَاتِهِ ، انْتَفَعَ بِوَلَاءِ مَنْ أَعْتَقَهُ ، فَكَأَنَّهُ صَرَفَ الزَّكَاةَ إلَى نَفْسِهِ .
وَأَخَذَ ابْنُ عَقِيلٍ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ ، أَنَّ أَحْمَدَ رَجَعَ عَنْ الْقَوْلِ بِالْإِعْتَاقِ مِنْ الزَّكَاةِ .
وَهَذَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - مِنْ أَحْمَدَ إنَّمَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْوَرَعِ ، فَلَا يَقْتَضِي رُجُوعًا ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ الَّتِي تَمَلَّكَ بِهَا

جَرُّ الْوَلَاءِ ، وَمَذْهَبُهُ أَنَّ مَا رَجَعَ مِنْ الْوَلَاءِ رُدَّ فِي مِثْلِهِ ، فَلَا يَنْتَفِعُ إذًا بِإِعْتَاقِهِ مِنْ الزَّكَاةِ .

( 5111 ) فَصْلٌ : وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ زَكَاتِهِ مَنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ بِالرَّحِمِ ، وَهُوَ كُلُّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ ، فَإِنْ فَعَلَ عَتَقَ عَلَيْهِ ، وَلَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ الزَّكَاةُ .
وَقَالَ الْحَسَنُ لَا بَأْسَ أَنْ يُعْتِقَ أَبَاهُ مِنْ الزَّكَاةِ ؛ لِأَنَّ دَفْعَ الزَّكَاةِ لَمْ يَحْصُلْ إلَى أَبِيهِ ، وَإِنَّمَا دَفَعَ الثَّمَنَ إلَى بَائِعِهِ .
وَلَنَا ، أَنَّ نَفْعَ زَكَاتِهِ عَادَ إلَى أَبِيهِ ، فَلَمْ يَجُزْ ، كَمَا لَوْ دَفَعَهَا إلَيْهِ ، وَلِأَنَّ عِتْقَهُ حَصَلَ بِنَفْسِ الشِّرَاءِ مُجَازَاةً وَصِلَةً لِلرَّحِمِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْتَسِبَ لَهُ بِهِ عَنْ الزَّكَاةِ ، كَنَفَقَةِ أَقَارِبِهِ .
وَلَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ الْمَمْلُوكَ لَهُ عَنْ زَكَاتِهِ ، لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ أَدَاءَ الزَّكَاةِ عَنْ كُلِّ مَالٍ مِنْ جِنْسِهِ ، وَالْعَبْدُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ مَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ .
وَلَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا مِنْ عَبِيدِهِ لِلتِّجَارَةِ ، لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي قِيمَتِهِمْ ، لَا فِي عَيْنِهِمْ .

( 5112 ) فَصْلٌ : وَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ زَكَاتِهِ أَسِيرًا مُسْلِمًا مِنْ أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ ؛ لِأَنَّهُ فَكُّ رَقَبَةٍ مِنْ الْأَسْرِ ، فَهُوَ كَفَكِّ رَقَبَةِ الْعَبْدِ مِنْ الرِّقِّ ، وَلِأَنَّ فِيهِ إعْزَازًا لِلدِّينِ ، فَهُوَ كَصَرْفِهِ إلَى الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ، وَلِأَنَّهُ يَدْفَعُهُ إلَى الْأَسِيرِ لِفَكِّ رَقَبَتِهِ ، فَأَشْبَهَ مَا يَدْفَعُهُ إلَى الْغَارِمِ لِفَكِّ رَقَبَتِهِ مِنْ الدَّيْنِ .

مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( فَمَا رَجَعَ مِنْ الْوَلَاءِ رُدَّ فِي مِثْلِهِ ) يَعْنِي يُعْتَقُ بِهِ أَيْضًا .
وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ ، وَإِسْحَاقُ .
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : الْوَلَاءُ لِلْمُعْتِقِ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ } .
وَقَالَ مَالِكٌ وَلَاؤُهُ لِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ لَا مُسْتَحِقَّ لَهُ ، أَشْبَهَ مَالَ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ .
وَقَالَ الْعَنْبَرِيُّ : يَجْعَلُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِلصَّدَقَاتِ ؛ لِأَنَّ عِتْقَهُ مِنْ الصَّدَقَةِ ، فَوَلَاؤُهُ يَرْجِعُ إلَيْهَا ، وَلِأَنَّ عِتْقَهُ بِمَالٍ هُوَ لِلَّهِ ، وَالْمُعْتِقُ نَائِبٌ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي الشِّرَاءِ وَالْإِعْتَاقِ ، فَلَمْ يَكُنْ الْوَلَاءُ لَهُ .
كَمَا لَوْ تَوَكَّلَ فِي الْإِعْتَاقِ ، وَكَالسَّاعِي إذَا اشْتَرَى مِنْ الزَّكَاةِ رَقَبَةً وَأَعْتَقَهَا ، وَلِأَنَّ الْوَلَاءَ أَثَرُ الرِّقِّ ، وَفَائِدَةٌ مِنْ الْمُعْتَقِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الْمُزَكِّي ، لِإِفْضَائِهِ إلَى أَنْ يَنْتَفِعَ بِزَكَاتِهِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَلَاءَ لَهُ .
وَقَدْ سَبَقَ ذَلِكَ فِي بَابِ الْوَلَاءِ .

( 5114 ) فَصْلٌ : وَلَا يَعْقِلُ عَنْهُ .
اخْتَارَهُ الْخَلَّالُ .
وَعَنْ أَحْمَدَ ، رِوَايَةٌ أُخْرَى ، أَنَّهُ يَعْقِلُ عَنْهُ .
اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ ؛ لِأَنَّهُ مُعْتِقٌ ، فَيَعْقِلُ عَنْهُ ، كَاَلَّذِي أَعْتَقَهُ مِنْ مَالِهِ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَأْخُذْ مِيرَاثَهُ بِالْوَلَاءِ ؛ لِئَلَّا يَنْتَفِعَ بِزَكَاتِهِ ، وَالْعَقْلُ عَنْهُ لَيْسَ بِانْتِفَاعٍ ، فَيَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ لَا وَلَاءَ عَلَيْهِ ، فَلَمْ يَعْقِلْ عَنْهُ ، كَمَا لَوْ كَانَ وَكِيلًا فِي الْعِتْقِ ، وَلِأَنَّهُ لَا يَرِثُهُ ، فَلَمْ يَعْقِلْ عَنْهُ ، كَمَا لَوْ اخْتَلَفَ دِينُهُمَا ، وَمَا ذَكَرَهُ يَبْطُلُ بِالْوَكِيلِ وَالسَّاعِي إذَا أَعْتَقَ مِنْ الزَّكَاةِ .

( 5115 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَالْغَارِمِينَ ) وَهُمْ الْمَدِينُونَ الْعَاجِزُونَ عَنْ وَفَاءِ دُيُونِهِمْ .
هَذَا الصِّنْفُ السَّادِسُ مِنْ أَصْنَافِ الزَّكَاةِ .
وَلَا خِلَافَ فِي اسْتِحْقَاقِهِمْ ، وَثُبُوتِ سَهْمِهِمْ ، وَأَنَّ الْمَدِينِينَ الْعَاجِزِينَ عَنْ وَفَاءِ دُيُونِهِمْ مِنْهُمْ ، لَكِنْ إنْ غَرِمَ فِي مَعْصِيَةٍ ، مِثْلُ أَنْ يَشْتَرِيَ خَمْرًا ، أَوْ يَصْرِفَهُ فِي زِنَاءٍ أَوْ قِمَارٍ أَوْ غِنَاءٍ وَنَحْوِهِ ، لَمْ يُدْفَعْ إلَيْهِ قَبْلَ التَّوْبَةِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ إعَانَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ ، وَإِنْ تَابَ ، فَقَالَ الْقَاضِي : يُدْفَعُ إلَيْهِ .
وَاخْتَارَهُ ابْنُ عَقِيلٍ ؛ لِأَنَّ إبْقَاءَ الدَّيْنِ الَّذِي فِي الذِّمَّةِ لَيْسَ مِنْ الْمَعْصِيَةِ ، بَلْ يَجِبُ تَفْرِيغُهَا ، وَالْإِعَانَةُ عَلَى الْوَاجِبِ قُرْبَةٌ لَا مَعْصِيَةٌ فَأَشْبَهَ مَنْ أَتْلَفَ مَالَهُ فِي الْمَعَاصِي حَتَّى افْتَقَرَ ، فَإِنَّهُ يُدْفَعُ إلَيْهِ مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ .
وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ ، لَا يُدْفَعُ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَدَانَهُ لِلْمَعْصِيَةِ ، فَلَمْ يُدْفَعْ إلَيْهِ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَتُبْ ، وَلِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَعُودَ إلَى الِاسْتِدَانَةِ لِلْمَعَاصِي ، ثِقَةً مِنْهُ بِأَنَّ دَيْنَهُ يُقْضَى ، بِخِلَافِ مَنْ أَتْلَفَ مَالَهُ فِي الْمَعَاصِي ، فَإِنَّهُ يُعْطَى لِفَقْرِهِ ، لَا لِمَعْصِيَتِهِ .

( 5116 ) فَصْلٌ : وَلَا يُدْفَعُ إلَى غَارِمٍ كَافِرٍ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ ، وَلِذَلِكَ لَا يُدْفَعُ إلَى فَقِيرِهِمْ وَلَا مُكَاتَبِهِمْ .
وَإِنْ كَانَ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا : يَجُوزُ الدَّفْعُ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ عِلَّةَ مَنْعِهِ مِنْ الْأَخْذِ مِنْهَا لِفَقْرِهِ صِيَانَتُهُ عَنْ أَكْلِهَا ، لِكَوْنِهَا أَوْسَاخَ النَّاسِ ، وَإِذَا أَخَذَهَا لِغُرْمِهِ ، فَصَرَفَهَا إلَى الْغُرَمَاءِ ، فَلَا يَنَالُهُ دَنَاءَةُ وَسَخِهَا ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَجُوزَ ؛ لِعُمُومِ النُّصُوصِ فِي مَنْعِهِمْ مِنْ أَخْذِهَا ، وَكَوْنِهَا لَا تَحِلُّ لَهُمْ ، وَلِأَنَّ دَنَاءَةَ أَخْذِهَا تَحْصُلُ ، سَوَاءٌ أَكَلَهَا أَوْ لَمْ يَأْكُلْهَا ، وَلَا يُدْفَعُ مِنْهَا إلَى غَارِمٍ لَهُ مَا يَقْضِي بِهِ غُرْمَهُ ؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ إلَيْهِ لِحَاجَتِهِ ، وَهُوَ مُسْتَغْنٍ عَنْهَا .

فَصْلٌ : وَمِنْ الْغَارِمِينَ صِنْفٌ يُعْطَوْنَ مَعَ الْغِنَى ، وَهُوَ غُرْمٌ لِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ ، وَهُوَ أَنْ يَقَعَ بَيْنَ الْحَيَّيْنِ وَأَهْلِ الْقَرْيَتَيْنِ عَدَاوَةٌ وَضَغَائِنُ ، يَتْلَفُ فِيهَا نَفْسٌ أَوْ مَالٌ ، وَيَتَوَقَّفُ صُلْحُهُمْ عَلَى مَنْ يَتَحَمَّلُ ذَلِكَ ، فَيَسْعَى إنْسَانٌ فِي الْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمْ ، وَيَتَحَمَّلُ الدِّمَاءَ الَّتِي بَيْنَهُمْ وَالْأَمْوَالَ ، فَيُسَمَّى ذَلِكَ حَمَالَةً ، بِفَتْحِ الْحَاءِ ، وَكَانَتْ الْعَرَبُ تَعْرِفُ ذَلِكَ ، وَكَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يَتَحَمَّلُ الْحَمَالَةَ ، ثُمَّ يَخْرُجُ فِي الْقَبَائِلِ فَيَسْأَلُ حَتَّى يُؤَدِّيَهَا ، فَوَرَدَ الشَّرْعُ بِإِبَاحَةِ الْمَسْأَلَةِ فِيهَا ، وَجَعَلَ لَهُمْ نَصِيبًا مِنْ الصَّدَقَةِ ، فَرَوَى قَبِيصَةُ بْنُ الْمُخَارِقِ ، قَالَ : تَحَمَّلْت حَمَالَةً ، فَأَتَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَأَلْته فِيهَا .
فَقَالَ : { أَقِمْ يَا قَبِيصَةُ حَتَّى تَأْتِيَنَا الصَّدَقَةُ ، فَنَأْمُرَ لَك بِهَا } .
ثُمَّ قَالَ : { يَا قَبِيصَةُ ، إنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إلَّا لِثَلَاثَةٍ ؛ رَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمَالَةً فَيَسْأَلُ فِيهَا حَتَّى يُؤَدِّيَهَا ، ثُمَّ يُمْسِكُ ، وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ فَاجْتَاحَتْ مَالَهُ ، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ ، أَوْ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ ، وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَشْهَدَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ ، لَقَدْ أَصَابَتْ فُلَانًا فَاقَةٌ ، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ ، أَوْ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ سُحْتٌ يَأْكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ } أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ .
وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ ، إلَّا لِخَمْسَةٍ } .
ذَكَرَ مِنْهُمْ الْغَارِمَ .
وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يُقْبَلُ ضَمَانُهُ وَتَحَمُّلُهُ إذَا كَانَ مَلِيًّا ، وَبِهِ حَاجَةٌ إلَى ذَلِكَ مَعَ الْغِنَى ، وَإِنْ أَدَّى ذَلِكَ مِنْ مَالِهِ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ سَقَطَ الْغُرْمُ ، وَإِنْ

اسْتَدَانَ وَأَدَّاهَا ، جَازَ لَهُ الْأَخْذُ ؛ لِأَنَّ الْغُرْمَ بَاقٍ ، وَالْمُطَالَبَةَ قَائِمَةٌ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْغُرْمِ وَالْغُرْمِ لِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ ، أَنَّ هَذَا الْغُرْمَ يُؤْخَذَ لِحَاجَتِنَا إلَيْهِ لِإِطْفَاءِ الثَّائِرَةِ ، وَإِخْمَادِ الْفِتْنَةِ ، فَجَازَ لَهُ الْأَخْذُ مَعَ الْغِنَى ، كَالْغَازِي وَالْمُؤَلَّفِ وَالْعَامِلِ .
وَالْغَارِمُ لِمُصْلِحَةِ نَفْسِهِ يَأْخُذُ لِحَاجَةِ نَفْسِهِ ، فَاعْتُبِرَتْ حَاجَتُهُ وَعَجْزُهُ ، كَالْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ وَالْمُكَاتَبِ وَابْنِ السَّبِيلِ .
وَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ غَنِيًّا ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لَمَصْلَحَةٍ لَا يُطِيقُ قَضَاءَهُ ، جَازَ أَنْ يُدْفَعَ إلَيْهِ مَا يُتِمُّ بِهِ قَضَاءَهُ ، مَعَ مَا زَادَ عَنْ حَدِّ الْغِنَى .
فَإِذَا قُلْنَا : الْغِنَى يَحْصُلُ بِخَمْسِينَ دِرْهَمًا .
وَلَهُ مِائَةٌ ، وَعَلَيْهِ مِائَةٌ ، جَازَ أَنْ يُدْفَعَ إلَيْهِ خَمْسُونَ ، لِيَتِمَّ قَضَاءُ الْمِائَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ غِنَاهُ .
قَالَ أَحْمَدُ : لَا يُعْطَى مَنْ عِنْدَهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا أَوْ حِسَابُهَا مِنْ الذَّهَبِ ، إلَّا مَدِينًا ، فَيُعْطَى دَيْنَهُ ، وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُهُ قَضَاءُ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ نَقْصٍ مِنْ الْغِنَى لَمْ يُعْطَ شَيْئًا .

( 5118 ) فَصْلٌ : وَإِذَا أَرَادَ الرَّجُلُ دَفْعَ زَكَاتِهِ إلَى الْغَارِمِ ، فَلَهُ أَنْ يُسَلِّمَهَا إلَيْهِ لِيَدْفَعَهَا إلَى غَرِيمِهِ ، وَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَدْفَعَهَا إلَى غَرِيمِهِ قَضَاءً عَنْ دَيْنِهِ ، فَعَنْ أَحْمَدَ فِيهِ رِوَايَتَانِ ؛ إحْدَاهُمَا ، يَجُوزُ ذَلِكَ .
نَقَلَ أَبُو الْحَارِثِ ، قَالَ : قُلْت لِأَحْمَدَ : رَجُلٌ عَلَيْهِ أَلْفٌ ، وَكَانَ عَلَى رَجُلٍ زَكَاةُ مَالِهِ أَلْفٌ ، فَأَدَّاهَا عَنْ هَذَا الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ ، يَجُوزُ هَذَا مِنْ زَكَاتِهِ ؟ قَالَ : نَعَمْ مَا أَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا .
وَذَلِكَ لِأَنَّهُ دَفَعَ الزَّكَاةَ فِي قَضَاءِ دَيْنِهِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ دَفَعَهَا إلَيْهِ يَقْضِي بِهَا دَيْنَهُ .
وَالثَّانِيَةُ ، لَا يَجُوزُ دَفْعُهَا إلَى الْغَرِيمِ .
قَالَ أَحْمَدُ : أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَيْهِ ، حَتَّى يَقْضِيَ هُوَ عَنْ نَفْسِهِ قِيلَ : هُوَ مُحْتَاجٌ يَخَافُ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَيْهِ ، فَيَأْكُلَهُ ، وَلَا يَقْضِيَ دَيْنَهُ .
قَالَ : فَقُلْ لَهُ يُوَكِّلُهُ حَتَّى يَقْضِيَهُ .
فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَا يَدْفَعُ الزَّكَاةَ إلَى الْغَرِيمِ إلَّا بِوَكَالَةِ الْغَارِمِ ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ إنَّمَا هُوَ عَلَى الْغَارِمِ ، فَلَا يَصِحُّ قَضَاؤُهُ إلَّا بِتَوْكِيلِهِ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُحْمَلَ هَذَا عَلَى الِاسْتِحْبَابِ ، وَيَكُونُ قَضَاؤُهُ عَنْهُ جَائِزًا .
وَإِنْ كَانَ دَافِعُ الزَّكَاةِ الْإِمَامَ ، جَازَ أَنْ يَقْضِيَ بِهَا دَيْنَهُ مِنْ غَيْرِ تَوْكِيلِهِ ؛ لِأَنَّ لِلْإِمَامِ وِلَايَةً عَلَيْهِ فِي إيفَاءِ الدَّيْنِ ، وَلِهَذَا يُجْبِرُهُ عَلَيْهِ إذَا امْتَنَعَ مِنْهُ .
وَإِذَا ادَّعَى الرَّجُلُ أَنَّ عَلَيْهِ دَيْنًا ، فَإِنْ كَانَ يَدَّعِيهِ مِنْ جِهَةِ إصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ ، فَالْأَمْرُ فِيهِ ظَاهِرٌ لَا يَكَادُ يَخْفَى ، فَإِنْ خَفِيَ ذَلِكَ ، لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ ، وَإِنْ غَرِمَ لِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ .
لَمْ يُدْفَعْ إلَيْهِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْغُرْمِ ، وَبَرَاءَةُ الذِّمَّةِ .
فَإِنْ صَدَّقَهُ الْغَرِيمُ ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ ، كَالْمُكَاتَبِ إذَا صَدَّقَهُ سَيِّدُهُ .

( 5119 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَسَهْمٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَهُمْ الْغُزَاةُ يُعْطَوْنَ مَا يَشْتَرُونَ بِهِ الدَّوَابَّ وَالسِّلَاحَ ، وَمَا يُنْفِقُونَ بِهِ عَلَى الْعَدُوِّ ، وَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ ) .
هَذَا الصِّنْفُ السَّابِعُ مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ .
وَلَا خِلَافَ فِي اسْتِحْقَاقِهِمْ ، وَبَقَاءِ حُكْمِهِمْ .
وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُمْ الْغُزَاةُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؛ لِأَنَّ سَبِيلَ اللَّهِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ هُوَ الْغَزْوُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } .
وَقَالَ : { يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } .
وَقَالَ : { إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا } .
وَذَكَرَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ ، فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا ، فَإِنَّهُمْ يُعْطَوْنَ وَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَأَبُو عُبَيْدٍ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ : لَا تُدْفَعُ إلَّا إلَى فَقِيرٍ .
وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي الْغَارِمِ لِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ ؛ لِأَنَّ مِنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ لَا تَحِلُّ لَهُ ، كَسَائِرِ أَصْحَابِ السَّهْمَانِ ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِمُعَاذٍ : { أَعْلِمْهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ ، فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ } .
فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهَا كُلَّهَا تُرَدُّ فِي الْفُقَرَاءِ ، وَالْفَقِيرُ عِنْدَهُمْ مَنْ لَا يَمْلِكُ نِصَابًا .
وَلَنَا ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إلَّا لِخَمْسَةٍ ؛ لِغَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، أَوْ لِغَارِمٍ } .
وَذَكَرَ بَقِيَّتَهُمْ .
وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْفُقَرَاءَ وَالْمَسَاكِينَ صِنْفَيْنِ ، وَعَدَّ بَعْدَهُمَا سِتَّةَ أَصْنَافٍ ، فَلَا يَلْزَمُ وُجُودُ صِفَةِ الصِّنْفَيْنِ فِي بَقِيَّةِ الْأَصْنَافِ ، كَمَا لَا يَلْزَمُ وُجُودُ صِفَةِ الْأَصْنَافِ فِيهِمَا ، وَلِأَنَّ هَذَا يَأْخُذُ لِحَاجَتِنَا إلَيْهِ ، فَأَشْبَهَ الْعَامِلَ وَالْمُؤَلَّفَ ، فَأَمَّا أَهْلُ سَائِرِ السَّهْمَانِ ، فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ

فَقْرُ مَنْ يَأْخُذُ لِحَاجَتِهِ إلَيْهَا ، دُونَ مَنْ يَأْخُذُ لِحَاجَتِنَا إلَيْهِ .
فَإِذَا تُقَرَّرَ هَذَا ، فَمَنْ قَالَ ، إنَّهُ يُرِيدُ الْغَزْوَ .
قُبِلَ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى نِيَّتِهِ ، وَيُدْفَعُ إلَيْهِ قَدْرُ كِفَايَتِهِ لِمُؤْنَتِهِ وَشِرَاءِ السِّلَاحِ وَالْفَرَسِ إنْ كَانَ فَارِسًا ، وَحُمُولَتِهِ وَدِرْعِهِ وَلِبَاسِهِ وَسَائِرِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِغَزْوِهِ ، وَإِنْ كَثُرَ ذَلِكَ ، وَيُدْفَعَ إلَيْهِ دَفْعًا مُرَاعًى ، فَإِنْ لَمْ يَغْزُ رَدَّهُ ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ كَذَلِكَ ، وَإِنْ غَزَا وَعَادَ ، فَقَدْ مَلَكَ مَا أَخَذَهُ ؛ لِأَنَّنَا دَفَعْنَا إلَيْهِ قَدْرَ الْكِفَايَةِ وَإِنَّمَا ضَيَّقَ عَلَى نَفْسِهِ .
وَإِنْ مَضَى إلَى الْغَزْوِ ، فَرَجَعَ مِنْ الطَّرِيقِ ، أَوْ لَمْ يُتِمَّ الْغَزْوَ الَّذِي دُفِعَ إلَيْهِ مِنْ أَجْلِهِ ، رَدَّ مَا فَضَلَ مَعَهُ ؛ لِأَنَّ الَّذِي أَخَذَ لِأَجْلِهِ لَمْ يَفْعَلْهُ كُلَّهُ .
( 5120 ) فَصْلٌ : وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ هَذَا السَّهْمَ الْغُزَاةُ الَّذِينَ لَا حَقَّ لَهُمْ فِي الدِّيوَانِ ، وَإِنَّمَا يَتَطَوَّعُونَ بِالْغَزْوِ إذَا نَشِطُوا .
قَالَ أَحْمَدُ : وَيُعْطَى ثَمَنَ الْفَرَسِ ، وَلَا يَتَوَلَّى مُخْرِجُ الزَّكَاةِ شِرَاءَ الْفَرَسِ بِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ إيتَاءُ الزَّكَاةِ ، فَإِذَا اشْتَرَاهَا بِنَفْسِهِ ، فَمَا أَعْطَى إلَّا فَرَسًا .
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي شِرَاءِ السِّلَاحِ وَالْمُؤْنَةِ .
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : إنْ دَفَعَ ثَمَنَ الْفَرَسِ وَثَمَنَ السَّيْفِ ، فَهُوَ أَعْجَبُ إلَيَّ ، وَإِنْ اشْتَرَاهُ هُوَ ، رَجَوْت أَنْ يُجَزِّئَهُ .
وَقَالَ أَيْضًا : يَشْتَرِي الرَّجُلُ مِنْ زَكَاتِهِ الْفَرَسَ ، وَيَحْمِلُ عَلَيْهِ ، وَالْقَنَاةَ ، وَيُجَهِّزُ الرَّجُلَ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ صَرَفَ الزَّكَاةَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، فَجَازَ ، كَمَا لَوْ دَفَعَهَا إلَى الْغَازِي فَاشْتَرَى بِهَا .
قَالَ : وَلَا يَشْتَرِي مِنْ الزَّكَاةِ فَرَسًا يَصِيرُ حَبِيسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَلَا دَارًا ، وَلَا ضَيْعَةً يُصَيِّرُهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِلرِّبَاطِ ، وَلَا يَقِفُهَا عَلَى الْمُجَاهِدِينَ .
لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْتِ الزَّكَاةَ لِأَحَدٍ ، وَهُوَ

مَأْمُورٌ بِإِتْيَانِهَا .
قَالَ : وَلَا يَغْزُو الرَّجُلُ عَلَى الْفَرَسِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مِنْ زَكَاةِ مَالِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ مَصْرِفًا لِزَكَاتِهِ ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَقْضِيَ بِهَا دَيْنَهُ ، وَمَتَى أَخَذَ الْفَرَسَ الَّتِي اُشْتُرِيَتْ بِمَالِهِ ، صَارَ مَصْرِفًا لِزَكَاتِهِ .

( 5121 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَيُعْطَى أَيْضًا فِي الْحَجِّ ، وَهُوَ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ ) وَيُرْوَى هَذَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ .
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ ، الْحَجُّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ .
وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ ؛ لِمَا رُوِيَ { أَنَّ رَجُلًا جَعَلَ نَاقَةً لَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، فَأَرَادَتْ امْرَأَتُهُ الْحَجَّ ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ارْكَبِيهَا ، فَإِنَّ الْحَجَّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } .
وَعَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى ، لَا يَصْرِفُ مِنْهَا فِي الْحَجِّ .
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَهَذَا أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ سَبِيلَ اللَّهِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إنَّمَا يَنْصَرِفُ إلَى الْجِهَادِ ، فَإِنَّ كُلَّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذِكْرِ سَبِيلِ اللَّهِ .
إنَّمَا أُرِيدَ بِهِ الْجِهَادُ ، إلَّا الْيَسِيرَ ، فَيَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ إرَادَتُهُ بِهِ ، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ إنَّمَا تُصْرَفُ إلَى أَحَدِ رَجُلَيْنِ ، مُحْتَاجٍ إلَيْهَا ، كَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ لِقَضَاءِ دُيُونِهِمْ ، أَوْ مَنْ يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ ، كَالْعَامِلِ وَالْغَازِي وَالْمُؤَلَّفِ وَالْغَارِمِ لِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ .
وَالْحَجُّ مِنْ الْفَقِيرِ لَا نَفْعَ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ ، وَلَا حَاجَةَ بِهِمْ إلَيْهِ ، وَلَا حَاجَةَ بِهِ أَيْضًا إلَيْهِ ، لِأَنَّ الْفَقِيرَ لَا فَرَضَ عَلَيْهِ فَيُسْقِطُهُ ، وَلَا مَصْلَحَةَ لَهُ فِي إيجَابِهِ عَلَيْهِ ، وَتَكْلِيفُهُ مَشَقَّةٌ قَدْ رَفَّهَهُ اللَّهُ مِنْهَا ، وَخَفَّفَ عَنْهُ إيجَابَهَا ، وَتَوْفِيرُ هَذَا الْقَدْرِ عَلَى ذَوِي الْحَاجَةِ مِنْ سَائِرِ الْأَصْنَافِ ، أَوْ دَفْعُهُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ أَوْلَى .
وَأَمَّا الْخَبَرُ فَلَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ الْحَجُّ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ ، وَالْمُرَادُ بِالْآيَةِ غَيْرُهُ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَجُوزُ الدَّفْعُ إلَى مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ ، لِكَوْنِهِ ابْنَ سَبِيلٍ .
وَلَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ ابْنَ السَّبِيلِ الْمُسَافِرُ

الْمُنْقَطِعُ بِهِ ، وَمَنْ هُوَ مُحْتَاجٌ إلَى السَّفَرِ ، وَلَا حَاجَةَ بِهَذَا إلَى هَذَا السَّفَرِ .
فَإِنْ قُلْنَا : يُدْفَعُ فِي الْحَجِّ مِنْهَا .
فَلَا يُعْطَى إلَّا بِشَرْطَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا ، أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ مَا يَحُجُّ بِهِ سِوَاهَا ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ ، وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ } .
وَقَالَ : { لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ ، إلَّا لِخَمْسَةٍ } .
وَلَمْ يَذْكُرْ الْحَاجَّ مِنْهُمْ .
وَلِأَنَّهُ يَأْخُذُ لِحَاجَتِهِ ، لَا لِحَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ إلَيْهِ ، فَاعْتُبِرَتْ فِيهِ الْحَاجَةُ ، كَمَنْ يَأْخُذُ لِفَقْرِهِ وَالثَّانِي ، أَنْ يَأْخُذَهُ لِحِجَّةِ الْفَرْضِ .
ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى إسْقَاطِ فَرْضِهِ وَإِبْرَاءِ ذِمَّتِهِ ، أَمَّا التَّطَوُّعُ فَلَهُ مَنْدُوحَةٌ عَنْهُ .
وَقَالَ الْقَاضِي : ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ جَوَازُ ذَلِكَ فِي الْفَرْضِ وَالتَّطَوُّعِ مَعًا .
وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ ، وَلِأَنَّ الْفَقِيرَ لَا فَرْضَ عَلَيْهِ ، فَالْحِجَّةُ مِنْهُ كَالتَّطَوُّعِ ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يُدْفَعَ إلَيْهِ ، مَا يَحُجُّ بِهِ حِجَّةً كَامِلَةً ، وَمَا يُغْنِيهِ فِي حِجَّةٍ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحُجَّ مِنْ زَكَاةِ نَفْسِهِ ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَغْزُوَ بِهَا .

( 5122 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَابْنُ السَّبِيلِ ، وَهُوَ الْمُنْقَطِعُ بِهِ ، وَلَهُ الْيَسَارُ فِي بَلَدِهِ ، فَيُعْطَى مِنْ الصَّدَقَةِ مَا يَبْلُغُهُ ) ابْنُ السَّبِيلِ : هُوَ الصِّنْفُ الثَّامِنُ مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ .
وَلَا خِلَافَ فِي اسْتِحْقَاقِهِ وَبَقَاءِ سَهْمِهِ ، وَابْنُ السَّبِيلِ هُوَ الْمُسَافِرُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ مَا يَرْجِعُ بِهِ إلَى بَلَدِهِ ، وَلَهُ الْيَسَارُ فِي بَلَدِهِ ، فَيُعْطَى مَا يَرْجِعُ بِهِ .
وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ .
وَنَحْوُهُ قَالَ مَالِكٌ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ، هُوَ الْمُخْتَارُ ، وَمَنْ يُرِيدُ إنْشَاءَ السَّفَرِ إلَى بَلَدٍ أَيْضًا ، فَيُدْفَعُ إلَيْهِمَا مَا يَحْتَاجَانِ إلَيْهِ لِذَهَابِهِمَا وَعَوْدِهِمَا ؛ لِأَنَّهُ يُرِيدُ السَّفَرَ لِغَيْرِ مَعْصِيَةٍ ، فَأَشْبَهَ الْمُجْتَازَ .
وَلَنَا ، أَنَّ ابْنَ السَّبِيلِ هُوَ الْمُلَازِمُ لِلطَّرِيقِ الْكَائِنِ فِيهَا ، كَمَا يُقَالُ : وَلَدُ اللَّيْلِ .
لِلَّذِي يُكْثِرُ الْخُرُوجَ فِيهِ ، وَالْقَاطِنُ فِي بَلَدِهِ لَيْسَ فِي طَرِيقٍ ، وَلَا يَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ الْكَائِنِ فِيهَا ، وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ السَّفَرِ بِهَمِّهِ بِهِ دُونَ فِعْلِهِ ، وَلِأَنَّهُ لَا يُفْهَمُ مِنْ ابْنِ السَّبِيلِ إلَّا الْغَرِيبَ دُونَ مَنْ هُوَ فِي وَطَنِهِ وَمَنْزِلِهِ ، وَإِنْ انْتَهَتْ بِهِ الْحَاجَةُ مُنْتَهَاهَا ، فَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ عَلَى الْغَرِيبِ دُونَ غَيْرِهِ ، وَإِنَّمَا يُعْطَى وَلَهُ الْيَسَارُ فِي بَلَدِهِ ؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ الْوُصُولِ إلَيْهِ ، وَالِانْتِفَاعِ بِهِ ، فَهُوَ كَالْمَعْدُومِ فِي حَقِّهِ .
فَإِنْ كَانَ ابْنُ السَّبِيلِ فَقِيرًا فِي بَلَدِهِ ، أُعْطِيَ لِفَقْرِهِ وَكَوْنِهِ ابْنَ السَّبِيلِ ، لِوُجُودِ الْأَمْرَيْنِ فِيهِ ، وَيُعْطَى لِكَوْنِهِ ابْنَ سَبِيلٍ قَدْرَ مَا يُوَصِّلُهُ إلَى بَلَدِهِ ؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ إلَيْهِ لِلْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ .
فَتُقَدَّرُ بِقَدْرِهِ ، وَتُدْفَعُ إلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا فِي بَلَدِهِ إذَا كَانَ مُحْتَاجًا فِي الْحَالِ ؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ الْوُصُولِ إلَى مَالِهِ ، فَصَارَ كَالْمَعْدُومِ .
وَإِنْ فَضَلَ مَعَهُ شَيْءٌ بَعْدَ رُجُوعِهِ إلَى بَلَدِهِ

رَدَّهُ ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ لِلْحَاجَةِ ، وَقَدْ حَصَلَ الْغِنَى بِدُونِهِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَخَذَ لِغَزْوٍ فَلَمْ يَغْزُ .
وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا ، أَوْ اتَّصَلَ بِسَفَرِهِ الْفَقْرُ ، أَخَذَ الْفَضْلَ لِفَقْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ إنْ فَاتَ الِاسْتِحْقَاقُ بِكَوْنِهِ ابْنَ سَبِيلٍ ، حَصَلَ الِاسْتِحْقَاقُ بِجِهَةٍ أُخْرَى .
وَإِنْ كَانَ غَارِمًا ، أَخَذَ الْفَضْلَ لِغُرْمِهِ .

( 5123 ) فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ ابْنُ السَّبِيلِ مُجْتَازًا يُرِيدُ بَلَدًا غَيْرَ بَلَدِهِ ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا : يَجُوزُ أَنْ يُدْفَعَ إلَيْهِ مَا يَكْفِيهِ فِي مُضِيِّهِ إلَى مَقْصِدِهِ وَرُجُوعِهِ إلَى بَلَدِهِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ إعَانَةً عَلَى السَّفَرِ الْمُبَاحِ ، وَبُلُوغِ الْغَرَضِ الصَّحِيحِ ، لَكِنْ يُشْتَرَطُ كَوْنُ السَّفَرِ مُبَاحًا ، إمَّا قُرْبَةً كَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَزِيَارَةِ الْوَالِدَيْنِ ، أَوْ مُبَاحًا كَطَلَبِ الْمَعَاشِ وَالتِّجَارَاتِ .
فَأَمَّا الْمَعْصِيَةُ فَلَا يَجُوزُ الدَّفْعُ إلَيْهِ فِيهَا ؛ لِأَنَّهُ إعَانَةٌ عَلَيْهَا ، وَتَسَبُّبٌ إلَيْهَا ، فَهُوَ كَفِعْلِهَا ، فَإِنَّ وَسِيلَةَ الشَّيْءِ جَارِيَةٌ مَجْرَاهُ .
وَإِنْ كَانَ السَّفَرُ لِلنُّزْهَةِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، يُدْفَعُ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْصِيَةٍ .
وَالثَّانِي ، لَا يُدْفَعُ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ بِهِ إلَى هَذَا السَّفَرِ .
وَيَقْوَى عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الدَّفْعُ لِلسَّفَرِ إلَى غَيْرِ بَلَدِهِ .
لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ لِلْمُنْشِئِ لِلسَّفَرِ مِنْ بَلَدِهِ ، وَلِأَنَّ هَذَا السَّفَرَ إنْ كَانَ لِجِهَادٍ ، فَهُوَ يَأْخُذُ لَهُ مِنْ سَهْمِ سَبِيلِ اللَّهِ ، وَإِنْ كَانَ حَجًّا فَغَيْرُهُ أَهَمُّ مِنْهُ .
وَإِذَا لَمْ يَجُزْ الدَّفْعُ فِي هَذَيْنِ ، فَفِي غَيْرِهِمَا أَوْلَى .
وَإِنَّمَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ لِلرُّجُوعِ إلَى بَلَدِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ تَدْعُو حَاجَتُهُ إلَيْهِ وَلَا غِنَى بِهِ عَنْهُ ، فَلَا يَجُوزُ إلْحَاقُ غَيْرِهِ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ ، فَلَا يَجُوزُ قِيَاسُهُ عَلَيْهِ ، وَلَا نَصَّ فِيهِ ، فَلَا يَثْبُتُ جَوَازُهُ لِعَدَمِ النَّصِّ وَالْقِيَاسِ .

( 5124 ) فَصْلٌ : وَإِذَا ادَّعَى الرَّجُلُ أَنَّهُ ابْنُ سَبِيلٍ ، وَلَمْ يُعْرَفْ ذَلِكَ ، لَمْ يُقْبَلْ إلَّا بِبَيِّنَةٍ .
وَإِنْ ادَّعَى الْحَاجَةَ ، وَلَمْ يَكُنْ عُرِفَ لَهُ مَالٌ فِي مَكَانِهِ الَّذِي هُوَ بِهِ ، قُبِلَ قَوْلُهُ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ مَعَهُ .
وَإِنْ عُرِفَ لَهُ مَالٌ فِي مَكَانِهِ ، لَمْ تُقْبَلْ دَعْوَاهُ لِلْفَقْرِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ ، كَمَا لَوْ ادَّعَى إنْسَانٌ الْمَسْكَنَةَ .

( 5125 ) فَصْلٌ : وَجُمْلَةُ مَنْ يَأْخُذُ مَعَ الْغِنَى خَمْسَةٌ ؛ الْعَامِلُ ، وَالْمُؤَلَّفُ قَلْبُهُ ، وَالْغَازِي ، وَالْغَارِمُ لِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ ، وَابْنُ السَّبِيلِ الَّذِي لَهُ الْيَسَارُ فِي بَلَدِهِ .
وَخَمْسَةٌ لَا يُعْطَوْنَ إلَّا مَعَ الْحَاجَةِ ؛ الْفَقِيرُ ، وَالْمِسْكِينُ ، وَالْمُكَاتَبُ ، وَالْغَارِمُ لِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ فِي مُبَاحٍ ، وَابْنُ السَّبِيلِ .
وَأَرْبَعَةٌ يَأْخُذُونَ أَخْذًا مُسْتَقِرًّا ، لَا يَلْزَمُهُمْ رَدُّ شَيْءٍ بِحَالٍ ؛ الْفَقِيرُ ، وَالْمِسْكِينُ ، وَالْعَامِلُ ، وَالْمُؤَلَّفُ .
وَأَرْبَعَةٌ يَأْخُذُونَ أَخْذًا غَيْرَ مُسْتَقِرٍّ ؛ الْمُكَاتَبُ ، وَالْغَارِمُ ، وَالْغَازِي ، وَابْنُ السَّبِيلِ .

( 5126 ) فَصْلٌ : وَمَنْ سَافَرَ لِمَعْصِيَةٍ ، فَأَرَادَ الرُّجُوعَ إلَى بَلَدِهِ ، لَمْ يُدْفَعْ إلَيْهِ ، مَا لَمْ يَتُبْ .
فَإِنْ تَابَ ، اُحْتُمِلَ جَوَازُ الدَّفْعِ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ رُجُوعَهُ لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ ، فَأَشْبَهَ رُجُوعَ غَيْرِهِ ، بَلْ رُبَّمَا كَانَ رُجُوعُهُ إلَى بَلَدِهِ تَرْكًا لِلْمَعْصِيَةِ ، وَإِقْلَاعًا عَنْهَا ، كَالْعَاقِّ يُرِيدُ الرُّجُوعَ إلَى أَبَوَيْهِ ، وَالْفَارِّ مِنْ غَرِيمِهِ أَوْ امْرَأَتِهِ يُرِيدُ الرُّجُوعَ إلَيْهِمَا .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يُدْفَعَ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ الْمَعْصِيَةُ ، فَأَشْبَهَ الْغَارِمَ فِي الْمَعْصِيَةِ .

( 5127 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَ لِكُلِّ هَؤُلَاءِ الْأَصْنَافِ ، وَإِنْ كَانُوا مَوْجُودِينَ ، إنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ لَا يُجَاوِزَهُمْ ) وَذَلِكَ لِأَنَّ الْآيَةَ إنَّمَا سِيقَتْ لِبَيَانِ مَنْ يَجُوزُ الصَّرْفُ إلَيْهِ ، لَا لِإِيجَابِ الصَّرْفِ إلَى الْجَمِيعِ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ تَعْمِيمُ كُلِّ صِنْفٍ بِهَا .
وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى صَرْفَهَا إلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ : { إنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ : { أَعْلِمْهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ ، فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
فَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْآيَةِ وَلَا فِي الْخَبَرِ إلَّا صِنْفًا وَاحِدًا .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَبِيصَةَ حِينَ تَحَمَّلَ حَمَالَةً : { أَقِمْ يَا قَبِيصَةُ ، حَتَّى تَأْتِيَنَا الصَّدَقَةُ ، فَنَأْمُرَ لَكَ بِهَا } .
فَذَكَرَ دَفْعَهَا إلَى صِنْفٍ ، وَهُوَ مِنْ الْغَارِمِينَ .
وَأَمَرَ بَنِي زُرَيْقٍ بِدَفْعِ صَدَقَتِهِمْ إلَى سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ .
وَهُوَ شَخْصٌ وَاحِدٌ .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَبَعَثَ إلَيْهِ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِذُهَيْبَةٍ فِي تُرْبَتِهَا ، فَقَسَّمَهَا بَيْنَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ، وَهُمْ صِنْفٌ وَاحِدٌ .
وَالْآثَارُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ ، تَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَعْتَقِدُ فِي كُلِّ صَدَقَةٍ ثَابِتَةٍ دَفْعَهَا إلَى جَمِيعِ الْأَصْنَافِ .
وَلَا تَعْمِيمَهُمْ بِهَا ، بَلْ كَانَ يَدْفَعُهَا إلَى مَنْ تَيَسَّرَ مِنْ أَهْلِهَا ، وَهَذَا هُوَ اللَّائِقُ بِحِكْمَةِ الشَّرْعِ وَحُسْنِهِ ، إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُكَلِّفَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ شَاةٌ ، أَوْ صَاعٌ مِنْ الْبُرِّ ، أَوْ نِصْفُ مِثْقَالٍ ، أَوْ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ ، دَفْعَهَا إلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ نَفْسًا ، أَوْ أَحَدًا وَعِشْرِينَ ، أَوْ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ نَفْسًا ، مِنْ ثَمَانِيَةِ

أَصْنَافٍ ، لِكُلِّ ثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ ثُمُنُهَا ، وَالْغَالِبُ تَعَذُّرُ وُجُودِهِمْ فِي الْإِقْلِيمِ الْعَظِيمِ ، وَعَجْزُ السُّلْطَانِ عَنْ إيصَالِ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ مَعَ كَثْرَتِهِ إلَيْهِمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ، فَكَيْفَ يُكَلِّفُ اللَّهُ تَعَالَى كُلَّ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ زَكَاةٌ جَمْعَهُمْ وَإِعْطَاءَهُمْ ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ الْقَائِلُ : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } .
وَقَالَ : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ } .
وَقَالَ : { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا } .
وَأَظُنُّ مَنْ قَالَ بِوُجُوبِ دَفْعِهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ إنَّمَا يَقُولُهُ بِلِسَانِهِ ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى فِعْلِهِ ، وَمَا بَلَغَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ هَذَا فِي صَدَقَةٍ مِنْ الصَّدَقَاتِ ، وَلَا أَحَدًا مِنْ خُلَفَائِهِ ، وَلَا مِنْ صَحَابَتِهِ ، وَلَا غَيْرِهِمْ ، وَلَوْ كَانَ هَذَا هُوَ الْوَاجِبُ فِي الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ لَمَا أَغْفَلُوهُ ، وَلَوْ فَعَلُوهُ مَعَ مَشَقَّتِهِ لَنُقِلَ وَمَا أُهْمِلَ ، إذْ لَا يَجُوزُ عَلَى أَهْلِ التَّوَاتُرِ إهْمَالُ نَقْلِ مَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَى نَقْلِهِ ، سِيَّمَا مَعَ كَثْرَةِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ ، وَوُجُودِ ذَلِكَ فِي كُلِّ زَمَانٍ ، وَفِي كُلِّ مِصْرٍ وَبَلَدٍ ، وَهَذَا أَمْرٌ ظَاهِرٌ ، وَقَدْ سَبَقَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَالْكَلَامُ فِيهَا فِيمَا تَقَدَّمَ .

( 5128 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ تَفْرِيقُهَا عَلَى مَا أَمْكَنَ مِنْ الْأَصْنَافِ ، لِيَخْرُجَ مِنْ الْخِلَافِ ، وَتَعْمِيمُ مَنْ أَمْكَنَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ .
فَإِنْ كَانَ الْمُتَوَلِّي لِتَفْرِيقِهَا السَّاعِي ، اُسْتُحِبَّ إحْصَاءُ أَهْلِ السَّهْمَانِ مِنْ عَمَلِهِ ، حَتَّى يَكُونَ فَرَاغُهُ مِنْ قَبْضِ الصَّدَقَاتِ بَعْدَ تَنَاهِي أَسْمَائِهِمْ ، وَأَنْسَابِهِمْ ، وَحَاجَاتِهِمْ ، وَقَدْرِ كِفَايَاتِهِمْ ، لِتَكُونَ تَفْرِقَتُهُ عَقِيبَ جَمْعِ الصَّدَقَةِ .
وَيَبْدَأُ بِإِعْطَاءِ الْعَامِلِ ؛ لِأَنَّهُ يَأْخُذُهُ عَلَى طَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ ، فَكَانَ اسْتِحْقَاقُهُ أَقْوَى ، وَلِذَلِكَ إذَا عَجَزَتْ الصَّدَقَةُ عَنْ أَجْرِهِ ، تَمَّمَ لَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ، وَلِأَنَّ مَا يَأْخُذُهُ أَجْرٌ .
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَعْطُوا الْأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ } .
ثُمَّ بِالْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ ، وَأَهَمُّهُمْ أَشَدُّ حَاجَةً ، فَإِنْ كَانَتْ الصَّدَقَةُ تَفِي بِحَاجَةِ جَمِيعِهِمْ ، أَعْطَى كُلَّ إنْسَانٍ مِنْهُمْ قَدْرَ مَا يَدْفَعُ بِهِ حَاجَتَهُ ، فَيُعْطِي الْفَقِيرَ مَا يُغْنِيهِ ، وَهُوَ مَا تَحْصُلُ لَهُ بِهِ الْكِفَايَةُ فِي عَامِهِ ذَلِكَ ، لَهُ وَلِعِيَالِهِ ، وَيُعْطِي الْمِسْكِينَ مَا تَتِمُّ بِهِ الْكِفَايَةُ .
إلَّا أَنْ يُعْطِيَهُ مِنْ الذَّهَبِ أَوْ الْوَرِقِ ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ ؛ إحْدَاهُمَا ؛ يُعْطِيهِ مَا تَتِمُّ بِهِ الْكِفَايَةُ ، وَالثَّانِيَةُ ، لَا يَزِيدُهُ عَلَى خَمْسِينَ دِرْهَمًا ، أَوْ قِيمَتِهَا مِنْ الذَّهَبِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ عِيَالٌ ، فَيَدْفَعَ إلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خَمْسِينَ دِرْهَمًا ، وَيَدْفَعَ إلَى الْعَامِلِ قَدْرَ أَجْرِهِ ، وَإِلَى الْغَارِمِ مَا يَقْضِي بِهِ غُرْمَهُ ، وَإِلَى الْمُكَاتَبِ مَا يُوفِي كِتَابَتَهُ ، وَالْغَازِي يُعْطَى مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِمُؤْنَةِ غَزْوِهِ ، وَابْنُ السَّبِيلِ مَا يُبَلِّغُهُ إلَى بَلَدِهِ .
وَإِنْ نَقَصَتْ الصَّدَقَةُ عَنْ كِفَايَتِهِمْ ، فَرَّقَ فِيهِمْ عَلَى حَسَبِ مَا يَرَى .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَنْقُصَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ عَنْ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ ؛ لِأَنَّهُمْ أَقَلُّ الْجَمْعِ ، إلَّا الْعَامِلَ

، فَإِنَّهُ يَكُونُ وَاحِدًا .
وَإِنْ فَضَلَتْ الصَّدَقَةُ عَنْ كِفَايَتِهِمْ ، نَقَلَ الْفَاضِلَ إلَى أَقْرَبِ الْبِلَادِ إلَيْهِ .
وَإِنْ كَانَ الْمُتَوَلِّي لِتَفْرِيقِهَا رَبَّهَا ، فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَبْدَأَ بِأَهْلِهَا مِنْ أَهْلِهِ ، وَيُفَرِّقَهَا فِي الْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ ، وَهُوَ مَنْ اشْتَدَّتْ حَاجَتُهُ ، وَقَرُبَ مِنْهُ نَسَبُهُ ، وَيُعْطِي مَنْ أَمْكَنَهُ .

( 5129 ) فَصْلٌ : وَإِنْ اجْتَمَعَ فِي وَاحِدٍ سَبَبَانِ ، يَجُوزُ الْأَخْذُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْفَرِدًا ، كَالْفَقِيرِ الْغَارِمِ ، أُعْطِيَ بِهِمَا جَمِيعًا ، فَيُعْطَى مَا يَقْضِي غُرْمَهُ ، ثُمَّ يُعْطَى مَا يُغْنِيهِ ؛ لِأَنَّ الشَّخْصَ الَّذِي فِيهِ الْمَعْنَيَانِ كَشَخْصَيْنِ ، وُجِدَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ ، فَيَسْتَحِقُّ بِهِمَا كَالْمِيرَاثِ لِابْنِ عَمٍّ هُوَ زَوْجٌ أَوْ أَخٌ مِنْ أُمٍّ ، وَلَوْ أَوْصَى لِقَرَابَتِهِ وَلِلْفُقَرَاءِ ، اسْتَحَقَّ الْقَرِيبُ الْفَقِيرُ سَهْمَيْنِ .

( 5130 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَلَا يُعْطِي مِنْ الصَّدَقَةِ لِبَنِي هَاشِمٍ ) وَلَا لِمَوَالِيهِمْ ، وَلَا لِلْوَالِدَيْنِ وَإِنْ عَلَوْا ، وَلَا لِلْوَلَدِ وَإِنْ سَفَلَ .
وَلَا لِلزَّوْجِ ، وَلَا لِلزَّوْجَةِ ، وَلَا لِمَنْ تَلْزَمُهُ مُؤْنَتُهُ ، وَلَا لِكَافِرٍ ، وَلَا لِمَمْلُوكٍ ، إلَّا أَنْ يَكُونُوا مِنْ الْعَامِلِينَ عَلَيْهَا ، فَيُعْطَوْنَ بِحَقِّ مَا عَمِلُوا ، وَلَا لِغَنِيٍّ ، وَهُوَ الَّذِي يَمْلِكُ خَمْسِينَ دِرْهَمًا أَوْ قِيمَتَهَا مِنْ الذَّهَبِ .
هَذِهِ الْمَسَائِلُ قَدْ تَكَرَّرَتْ ، وَذَكَرْنَا شَرْحَهَا فِي بَابِ الزَّكَاةِ ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ هَا هُنَا .

مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَإِذَا تَوَلَّى الرَّجُلُ إخْرَاجَ زَكَاتِهِ ، سَقَطَ الْعَامِلُونَ ) وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَامِلَ إنَّمَا يَأْخُذُ أَجْرَ عِمَالَتِهِ ، فَإِذَا أَخْرَجَ الرَّجُلُ زَكَاةَ نَفْسِهِ ، لَمْ يَكُنْ ثَمَّ عَامِلٌ عَلَيْهَا ، وَلَا مَنْ يَسْتَحِقُّ أَجْرًا ، فَيَسْقُطُ سَهْمُهُ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( 5132 ) فَصْلٌ : فِي جَوَائِزِ السُّلْطَانِ ، كَانَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ يَتَوَرَّعُ عَنْهَا ، وَيَمْنَعُ بَنِيهِ وَعَمَّهُ مِنْ أَخْذِهَا ، وَهَجَرَهُمْ حِينَ قَبِلُوهَا ، وَسَدَّ الْأَبْوَابَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ حِينَ أَخَذُوهَا ، وَلَمْ يَكُنْ يَأْكُلُ مِنْ بُيُوتِهِمْ شَيْئًا ، وَلَا يَنْتَفِعُ بِشَيْءٍ يُصْنَعُ عِنْدَهُمْ .
وَأَمَرَهُمْ بِالصَّدَقَةِ بِمَا أَخَذُوهُ .
وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ ، لِأَنَّ أَمْوَالَهُمْ تَخْتَلِطُ بِمَا يَأْخُذُونَهُ مِنْ الْحَرَامِ مِنْ الظُّلْمِ وَغَيْرِهِ ، فَيَصِيرُ شُبْهَةً ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْحَلَالُ بَيِّنٌ ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ ، وَبَيْنَ ذَلِكَ أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ ، لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ ، فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ ، وَمَنْ وَاقَعَ الشُّبُهَاتِ أَوْشَكَ أَنْ يَقَعَ فِي الْحَرَامِ ، كَالرَّاتِعِ حَوْلَ الْحِمَى ، يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ } .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { دَعْ مَا يَرِيبُكَ إلَى مَا لَا يَرِيبُكَ } .
وَاحْتَجَّ أَحْمَدُ بِأَنْ جَمَاعَةً مِنْ الصَّحَابَةِ تَنَزَّهُوا عَنْ مَالِ السُّلْطَانِ ؛ مِنْهُمْ حُذَيْفَةُ ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ ، وَمُعَاذٌ ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ ، وَابْنُ عُمَرَ .
وَلَمْ يَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ذَلِكَ حَرَامًا ؛ فَإِنَّهُ سُئِلَ ، فَقِيلَ لَهُ : مَالُ السُّلْطَانِ حَرَامٌ ؟ فَقَالَ : لَا ، وَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُتَنَزَّهَ عَنْهُ .
وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ : لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إلَّا وَلَهُ فِي هَذِهِ الدَّرَاهِمِ حَقٌّ ، فَكَيْفَ أَقُولُ إنَّهَا سُحْتٌ ؟ وَقَدْ كَانَ الْحَسَنُ ، وَالْحُسَيْنُ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ ، وَكَثِيرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ ، يَقْبَلُونَ جَوَائِزَ مُعَاوِيَةَ .
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : لَا بَأْسَ بِجَوَائِزِ السُّلْطَانِ ، مَا يُعْطِيكُمْ مِنْ الْحَلَالِ أَكْثَرُ مِمَّا يُعْطِيكُمْ مِنْ الْحَرَامِ وَقَالَ : لَا تَسْأَلْ السُّلْطَانَ شَيْئًا ، فَإِنْ أَعْطَاكَ فَخُذْ ؛ فَإِنَّ مَا فِي بَيْتِ الْمَالِ مِنْ الْحَلَالِ أَكْثَرُ مِمَّا فِيهِ مِنْ

الْحَرَامِ .
وَرَوَى عُمَرُ بْنُ شَيْبَةَ الْبُحْتُرِيُّ " فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ " أَنَّ الْحَسَنَ ، وَابْنَ سِيرِينَ ، وَالشَّعْبِيَّ ، دَخَلُوا عَلَى عُمَرَ بْنِ هُبَيْرَةَ فَأَمَرَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ أَلِفِ دِرْهَمٍ ، وَأَمَرَ لِلْحَسَنِ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ ، فَقَبَضَ الْحَسَنُ جَائِزَتَهُ ، وَأَبَى ابْنُ سِيرِينَ أَنْ يَقْبِضَ ، فَقَالَ لِابْنِ سِيرِينَ : مَا لَكَ لَا تَقْبِضُ ؟ قَالَ : حَتَّى يَعُمَّ النَّاسَ .
فَقَالَ الْحَسَنُ : وَاَللَّهِ لَوْ عَرَضَ لَكَ وَلِي لِصٌّ ، فَأَخَذَ رِدَائِي وَرِدَاءَك ، ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَيَّ رِدَائِي ، كُنْت أَقُولُ : لَا أَقْبَلُ رِدَائِي حَتَّى تَرُدَّ عَلَى ابْنِ سِيرِينَ رِدَاءَهُ ؟ كُنْت أُحِبُّ أَنْ تَكُونَ أَفْقَهَ مِمَّا أَنْتَ يَا ابْنَ سِيرِينَ .
وَلِأَنَّ جَوَائِزَ السُّلْطَانِ لَهَا وَجْهٌ فِي الْإِبَاحَةِ وَالتَّحْلِيلِ ، فَإِنَّ لَهُ جِهَاتٍ كَثِيرَةً مِنْ الْفَيْءِ وَالصَّدَقَةِ وَغَيْرِهِمَا .
( 5133 ) فَصْلٌ : قَالَ أَحْمَدُ : جَوَائِزُ السُّلْطَانِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ الصَّدَقَةِ .
يَعْنِي أَنَّ الصَّدَقَةَ أَوْسَاخُ النَّاسِ ، صِينَ عَنْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآلُهُ ، لِدَنَاءَتِهَا ، وَلَمْ يُصَانُوا عَنْ جَوَائِزِ السُّلْطَانِ .
وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَمَّنْ عَامَلَ السُّلْطَانَ فَرَبِحَ أَلْفًا ، وَآخَرَ أَجَازَهُ السُّلْطَانُ بِأَلْفٍ ، أَيُّهُمَا أَحَبُّ إلَيْك ؟ قَالَ : الْجَائِزَةُ .
وَذَلِكَ لِأَنَّ الَّذِي يَرْبَحُ عَلَيْهِ أَلْفًا ، لَا يَرْبَحُهَا فِي الْغَالِبِ إلَّا بِنَوْعٍ مِنْ التَّدْلِيسِ وَالْغَبْنِ الْفَاحِشِ ، وَالْجَائِزَةُ عَطَاءٌ مِنْ الْإِمَامِ بِرِضَاهُ ، لَا تَدْلِيسَ فِيهَا وَلَا غَبْنَ .
وَقَالَ أَحْمَدُ : إذَا كَانَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ السُّلْطَانِ رَجُلٌ .
يَعْنِي فَهُوَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَخْذِهِ مِنْهُ .
وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَسَائِطَ كُلَّمَا كَثُرَتْ ، قَرُبَتْ إلَى الْحِلِّ ؛ لِأَنَّهَا مَعَ الْبُعْدِ تَتَبَدَّلُ ، وَتَحْصُلُ فِيهَا أَسْبَابٌ مُبِيحَةٌ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .

كِتَابُ النِّكَاحِ النِّكَاحُ فِي الشَّرْعِ : هُوَ عَقْدُ التَّزْوِيجِ ، فَعِنْدَ إطْلَاقِ لَفْظِهِ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ ، مَا لَمْ يَصْرِفْهُ عَنْهُ دَلِيلٌ .
وَقَالَ الْقَاضِي : الْأَشْبَهُ بِأَصْلِنَا أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْعَقْدِ وَالْوَطْءِ جَمِيعًا ؛ لِقَوْلِنَا بِتَحْرِيمِ مَوْطُوءَةِ الْأَبِ مِنْ غَيْرِ تَزْوِيجٍ ، لِدُخُولِهِ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ } .
وَقِيلَ : بَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْوَطْءِ ، مَجَازٌ فِي الْعَقْدِ ، تَقُولُ الْعَرَبُ : أَنْكَحْنَا الْفَرَا ، فَسَنَرَى .
أَيْ أَضْرَبْنَا فَحْلَ حُمُرِ الْوَحْشِ أُمَّهُ ، فَسَنَرَى مَا يَتَوَلَّدُ مِنْهُمَا .
يُضْرَبُ مَثَلًا لِلْأَمْرِ يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ ، ثُمَّ يَتَفَرَّقُونَ عَنْهُ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : وَمِنْ أَيِّمٍ قَدْ أَنْكَحَتْنَا رِمَاحُنَا وَأُخْرَى عَلَى خَالٍ وَعَمٍّ تَلَهَّفُ وَالصَّحِيحُ مَا قُلْنَا ؛ لِأَنَّ الْأَشْهَرَ اسْتِعْمَالُ لَفْظَةِ النِّكَاحِ بِإِزَاءِ الْعَقْدِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلِسَانِ أَهْلِ الْعُرْفِ .
وَقَدْ قِيلَ : لَيْسَ فِي الْكِتَابِ لَفْظُ نِكَاحٍ بِمَعْنَى الْوَطْءِ ، إلَّا قَوْلُهُ : { حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } .
وَلِأَنَّهُ يَصِحُّ نَفْيُهُ عَنْ الْوَطْءِ ، فَيُقَال : هَذَا سِفَاحٌ وَلَيْسَ بِنِكَاحٍ .
وَيُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَنَّهُ قَالَ : { وُلِدْت مِنْ نِكَاحٍ ، لَا مِنْ سِفَاحٍ } .
وَيُقَالُ عَنْ السُّرِّيَّةِ : لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ ، وَلَا مَنْكُوحَةٍ .
وَلِأَنَّ النِّكَاحَ أَحَدُ اللَّفْظَيْنِ اللَّذَيْنِ يَنْعَقِدُ بِهِمَا عَقْدُ النِّكَاحِ ، فَكَانَ حَقِيقَةً فِيهِ ، كَاللَّفْظِ الْآخَرِ .
وَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي يُفْضِي إلَى كَوْنِ اللَّفْظِ مُشْتَرَكًا وَهُوَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ ، وَمَا ذَكَرَهُ الْآخَرُونَ يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِعْمَالِ فِي الْجُمْلَةِ ، وَالِاسْتِعْمَالُ فِيمَا قُلْنَا أَكْثَرُ وَأَشْهَرُ ، ثُمَّ لَوْ قُدِّرَ كَوْنُهُ مَجَازًا فِي الْعَقْدِ لَكَانَ اسْمًا عُرْفِيًّا ، يَجِبُ صَرْفُ اللَّفْظِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إلَيْهِ ؛ لِشُهْرَتِهِ ، كَسَائِرِ الْأَسْمَاءِ الْعُرْفِيَّةِ .
( 5134 ) فَصْلٌ : وَالْأَصْلُ فِي

مَشْرُوعِيَّةِ النِّكَاحِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ ؛ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ } .
الْآيَةَ .
وقَوْله تَعَالَى : { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ } .
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ ، مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيَصُمْ ، فَإِنَّ الصَّوْمَ لَهُ وِجَاءٌ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
فِي آيٍ وَأَخْبَارٍ سِوَى ذَلِكَ كَثِيرَةٍ .
وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ مَشْرُوعٌ .
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُجُوبِهِ ؛ فَالْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ ، إلَّا أَنْ يَخَافَ أَحَدٌ عَلَى نَفْسِهِ الْوُقُوعَ فِي مَحْظُورٍ بِتَرْكِهِ ، فَيَلْزَمُهُ إعْفَافُ نَفْسِهِ وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ : هُوَ وَاجِبٌ .
وَحَكَاهُ عَنْ أَحْمَدَ .
وَحَكَى عَنْ دَاوُد أَنَّهُ يَجِبُ فِي الْعُمَرِ مَرَّةً وَاحِدَةً ؛ لِلْآيَةِ وَالْخَبَرِ .
وَلَنَا ، أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حِينَ أَمَرَ بِهِ .
عَلَّقَهُ عَلَى الِاسْتِطَابَةِ ، بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ } وَالْوَاجِبُ لَا يَقِفُ عَلَى الِاسْتِطَابَةِ ، وَقَالَ : { مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ } .
وَلَا يَجِبُ ذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَمْرِ النَّدْبُ ، وَكَذَلِكَ الْخَبَرُ يُحْمَلُ عَلَى النَّدْبِ ، أَوْ عَلَى مَنْ يَخْشَى عَلَى نَفْسِهِ الْوُقُوعَ فِي الْمَحْظُورِ بِتَرْكِ النِّكَاحِ .
قَالَ الْقَاضِي : وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ كَلَامُ أَحْمَدَ وَأَبِي بَكْرٍ ، فِي إيجَابِ النِّكَاحِ .

( 5135 ) فَصْلٌ : وَالنَّاسُ فِي النِّكَاحِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ ؛ مِنْهُمْ مَنْ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ الْوُقُوعَ فِي مَحْظُورٍ إنْ تَرَكَ النِّكَاحَ ، فَهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ النِّكَاحُ فِي قَوْلِ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ إعْفَافُ نَفْسِهِ ، وَصَوْنُهَا عَنْ الْحَرَامِ ، وَطَرِيقُهُ النِّكَاحُ .
الثَّانِي ، مَنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ ، وَهُوَ مَنْ لَهُ شَهْوَةٌ يَأْمَنُ مَعَهَا الْوُقُوعَ فِي مَحْظُورٍ ، فَهَذَا الِاشْتِغَالُ لَهُ بِهِ أَوْلَى مِنْ التَّخَلِّي لِنَوَافِلِ الْعِبَادَةِ .
وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ .
وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَفِعْلِهِمْ .
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنْ أَجَلِي إلَّا عَشْرَةُ أَيَّامٍ ، وَأَعْلَمُ أَنِّي أَمُوتُ فِي آخِرِهَا يَوْمًا ، وَلِي طَوْلُ النِّكَاحِ فِيهِنَّ ، لَتَزَوَّجْت مَخَافَةَ الْفِتْنَةِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ : تَزَوَّجْ ، فَإِنَّ خَيْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَكْثَرُهَا نِسَاءً .
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ مَيْسَرَةَ : قَالَ لِي طَاوُسٌ : لَتَنْكِحْنَ ، أَوْ لَأَقُولَنَّ لَك مَا قَالَ عُمَرُ لِأَبِي الزَّوَائِدِ : مَا يَمْنَعُك عَنْ النِّكَاحِ إلَّا عَجْزٌ أَوْ فُجُورٌ .
قَالَ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ : لَيْسَتْ الْعُزْبَةُ مِنْ أَمْرِ الْإِسْلَامِ ، فِي شَيْءٍ .
وَقَالَ : مَنْ دَعَاكَ إلَى غَيْرِ التَّزْوِيجِ ، فَقَدْ دَعَاكَ إلَى غَيْرِ الْإِسْلَامِ ، وَلَوْ تَزَوَّجَ بِشْرٌ كَانَ قَدْ تَمَّ أَمْرُهُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : التَّخَلِّي لِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَفْضَلُ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَدَحَ يَحْيَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقَوْلِهِ : { وَسَيِّدًا وَحَصُورًا } وَالْحَصُورُ : الَّذِي لَا يَأْتِي النِّسَاءَ فَلَوْ كَانَ النِّكَاحُ أَفْضَلَ لَمَا مَدَحَ بِتَرْكِهِ .
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ } .
وَهَذَا فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ ، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ ، فَكَانَ الِاشْتِغَالُ بِالْعِبَادَةِ أَفْضَلَ مِنْهُ ، كَالْبَيْعِ .
وَلَنَا ، مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ بِهِ وَحَثِّهِمَا

عَلَيْهِ ، { وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَلَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي } .
وَقَالَ سَعْدٌ : لَقَدْ { رَدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ التَّبَتُّلَ } ، وَلَوْ أَحَلَّهُ لَهُ لَاخْتَصَيْنَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا .
وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ { : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ بِالْبَاءَةِ ، وَيَنْهَى عَنْ التَّبَتُّلِ نَهْيًا شَدِيدًا ، وَيَقُولُ : تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ ، فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ الْأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ .
} رَوَاهُ سَعِيدٌ .
وَهَذَا حَثٌّ عَلَى النِّكَاحِ شَدِيدٌ ، وَوَعِيدٌ عَلَى تَرْكِهِ يُقَرِّبُهُ إلَى الْوُجُوبِ ، وَالتَّخَلِّي مِنْهُ إلَى التَّحْرِيمِ ، وَلَوْ كَانَ التَّخَلِّي أَفْضَلَ لَانْعَكَسَ الْأَمْرُ ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ ، وَبَالَغَ فِي الْعَدَدِ ، وَفَعَلَ ذَلِكَ أَصْحَابُهُ ، وَلَا يَشْتَغِلُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ إلَّا بِالْأَفْضَلِ ، وَلَا تَجْتَمِعُ الصَّحَابَةُ عَلَى تَرْكِ الْأَفْضَلِ ، وَالِاشْتِغَالِ بِالْأَدْنَى ، وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّ مَنْ يُفَضِّلُ التَّخَلِّيَ لَمْ يَفْعَلْهُ .
فَكَيْفَ أَجْمَعُوا عَلَى النِّكَاحِ فِي فِعْلِهِ ، وَخَالَفُوهُ فِي فَضْلِهِ ، أَفَمَا كَانَ فِيهِمْ مَنْ يَتْبَعُ الْأَفْضَلَ عِنْدَهُ وَيَعْمَلُ بِالْأَوْلَى ؟ وَلِأَنَّ مَصَالِحَ النِّكَاحِ أَكْثَرُ ، فَإِنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى تَحْصِينِ الدِّينِ ، وَإِحْرَازِهِ ، وَتَحْصِينِ الْمَرْأَةِ وَحِفْظِهَا ، وَالْقِيَامِ بِهَا ، وَإِيجَادِ النَّسْلِ ، وَتَكْثِيرِ الْأُمَّةِ ، وَتَحْقِيقِ مُبَاهَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَصَالِحِ الرَّاجِحِ أَحَدُهَا عَلَى نَفْلِ الْعِبَادَةِ ، فَمَجْمُوعُهَا أَوْلَى .
وَقَدْ رَوَيْنَا فِي أَخْبَارِ الْمُتَقَدِّمِينَ ، أَنَّ قَوْمًا ذَكَرُوا لَنَبِيٍّ لَهُمْ فَضْلَ عَابِدٍ لَهُمْ ، فَقَالَ : أَمَّا إنَّهُ لَتَارِكٌ لِشَيْءٍ مِنْ السُّنَّةِ ، فَبَلَغَ الْعَابِدَ ، فَأَتَى النَّبِيَّ ،

فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ ، فَقَالَ : إنَّك تَرَكْت التَّزْوِيجَ .
فَقَالَ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ ، وَمَا هُوَ إلَّا هَذَا ، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيُّ احْتِقَارَهُ لِذَلِكَ ، قَالَ : أَرَأَيْت لَوْ تَرَكَ النَّاسُ كُلُّهُمْ التَّزْوِيجَ مَنْ كَانَ يَقُومُ بِالْجِهَادِ ، وَيَنْفِي الْعَدُوَّ ، وَيَقُومُ بِفَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُدُودِهِ ؟ وَأَمَّا مَا ذُكِرَ عَنْ يَحْيَى ، فَهُوَ شَرْعُهُ ، وَشَرْعُنَا وَارِدٌ بِخِلَافِهِ ، فَهُوَ أَوْلَى وَالْبَيْعُ لَا يَشْتَمِلُ عَلَى مَصَالِحِ النِّكَاحِ ، وَلَا يُقَارِبُهَا .
الْقِسْمُ الثَّالِثُ ، مَنْ لَا شَهْوَةَ لَهُ ، إمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يُخْلَقْ لَهُ شَهْوَةٌ كَالْعِنِّينِ ، أَوْ كَانَتْ لَهُ شَهْوَةٌ فَذَهَبَتْ بِكِبَرٍ أَوْ مَرَضٍ وَنَحْوِهِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، يُسْتَحَبُّ لَهُ النِّكَاحُ ؛ لِعُمُومِ مَا ذَكَرْنَا .
وَالثَّانِي ، التَّخَلِّي لَهُ أَفْضَلُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُحَصِّلُ مَصَالِحَ النِّكَاحِ ، وَيَمْنَعُ زَوْجَتَهُ مِنْ التَّحْصِينِ بِغَيْرِهِ ، وَيُضِرُّ بِهَا ، وَيَحْبِسُهَا عَلَى نَفْسِهِ ، وَيُعَرِّضُ نَفْسَهُ لِوَاجِبَاتٍ وَحُقُوقٍ لَعَلَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْقِيَامِ بِهَا ، وَيَشْتَغِلُ عَنْ الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ بِمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ وَالْأَخْبَارُ تُحْمَلُ عَلَى مَنْ لَهُ شَهْوَةٌ ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ الْقَرَائِنِ الدَّالَّةِ عَلَيْهَا .
وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْقَادِرِ عَلَى الْإِنْفَاقِ وَالْعَاجِزِ عَنْهُ ، قَالَ : يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ ، فَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ مَا يُنْفِقُ ، أَنْفَقَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ ، صَبَرَ ، وَلَوْ تَزَوَّجَ بِشْرٌ كَانَ قَدْ تَمَّ أَمْرُهُ .
وَاحْتَجَّ { بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصْبِحُ وَمَا عِنْدَهُمْ شَيْءٌ ، وَيُمْسِي وَمَا عِنْدَهُمْ شَيْءٌ } .
{ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَوَّجَ رَجُلًا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى خَاتَمِ حَدِيدٍ ، وَلَا وَجَدَ إلَّا إزَارَهُ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ رِدَاءٌ .
} أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ قَالَ أَحْمَدُ ، فِي رَجُلٍ قَلِيلِ الْكَسْبِ ، يَضْعُفُ قَلْبُهُ عَنْ الْعِيَالِ : اللَّهُ يَرْزُقُهُمْ ،

التَّزْوِيجُ أَحْصَنُ لَهُ ، رُبَّمَا أَتَى عَلَيْهِ وَقْتٌ لَا يَمْلِكُ قَلْبَهُ .
وَهَذَا فِي حَقِّ مَنْ يُمْكِنُهُ التَّزْوِيجُ ، فَأَمَّا مَنْ لَا يُمْكِنُهُ ، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلْيَسْتَعْفِفْ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ .
}

( 5136 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : وَلَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعَةُ فُصُولٍ : ( 5137 ) أَحَدُهَا : أَنَّ النِّكَاحَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِوَلِيٍّ ، وَلَا تَمْلِكُ الْمَرْأَةُ تَزْوِيجَ نَفْسِهَا وَلَا غَيْرِهَا ، وَلَا تَوْكِيلَ غَيْرِ وَلِيِّهَا فِي تَزْوِيجِهَا .
فَإِنْ فَعَلَتْ ، لَمْ يَصِحَّ النِّكَاحُ .
رُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَرَ ، وَعَلِيٍّ ، وَابْنِ مَسْعُودٍ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ ، وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَالْحَسَنُ ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَابْنُ شُبْرُمَةَ ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ الْعَنْبَرِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو عُبَيْدٍ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ ، وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ ، وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ ، وَأَبِي يُوسُفَ : لَا يَجُوزُ لَهَا ذَلِكَ بِغَيْرِ إذْنِ الْوَلِيِّ ، فَإِنْ فَعَلَتْ كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَتِهِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَهَا أَنْ تُزَوِّجَ نَفْسَهَا وَغَيْرَهَا ، وَتُوَكِّلَ فِي النِّكَاحِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ } .
أَضَافَ النِّكَاحَ إلَيْهِنَّ ، وَنَهَى عَنْ مَنْعِهِنَّ مِنْهُ ، وَلِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّهَا ، وَهِيَ مِنْ أَهْلِ الْمُبَاشَرَةِ ، فَصَحَّ مِنْهَا ، كَبَيْعِ أَمَتِهَا ، وَلِأَنَّهَا إذَا مَلَكَتْ بَيْعَ أَمَتِهَا ، وَهُوَ تَصَرُّفٌ فِي رَقَبَتِهَا وَسَائِرِ مَنَافِعِهَا ، فَفِي النِّكَاحِ الَّذِي هُوَ عَقْدٌ عَلَى بَعْضِ مَنَافِعِهَا أَوْلَى وَلَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ } .
رَوَتْهُ عَائِشَةُ ، وَأَبُو مُوسَى ، وَابْنُ عَبَّاسٍ .
قَالَ الْمَرُّوذِيُّ : سَأَلْت أَحْمَدَ وَيَحْيَى عَنْ حَدِيثِ { : لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ } .
فَقَالَا : صَحِيحٌ .
وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَنَّهُ قَالَ : { أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا ، فَنِكَاحُهَا

بَاطِلٌ بَاطِلٌ بَاطِلٌ ، فَإِنْ أَصَابَهَا ، فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا ، فَإِنْ اشْتَجَرُوا ، فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ } .
رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، وَأَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُمَا فَإِنْ قِيلَ : فَإِنَّ الزُّهْرِيَّ رَوَاهُ وَقَدْ أَنْكَرَهُ .
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ : سَأَلْت الزُّهْرِيَّ عَنْهُ فَلَمْ يَعْرِفْهُ .
قُلْنَا لَهُ : لَمْ يَقُلْ هَذَا عَنْ ابْنِ جُرَيْجٌ غَيْرُ ابْنِ عُلَيَّةَ ، كَذَلِكَ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَيَحْيَى ، وَلَوْ ثَبَتَ هَذَا لَمْ يَكُنْ حُجَّةً ؛ لِأَنَّهُ قَدْ نَقَلَهُ ثِقَاتٌ عَنْهُ ، فَلَوْ نَسِيَهُ الزُّهْرِيُّ لَمْ يَضُرَّهُ ؛ لِأَنَّ النِّسْيَانَ لَمْ يُعْصَمْ مِنْهُ إنْسَانٌ .
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : نَسِيَ آدَم ، فَنَسِيَتْ ذُرِّيَّتُهُ } .
وَلِأَنَّهَا مَوْلَى عَلَيْهَا فِي النِّكَاحِ ، فَلَا تَلِيهِ ، كَالصَّغِيرَةِ ، وَأَمَّا الْآيَةُ ، فَإِنَّ عَضْلَهَا الِامْتِنَاعُ مِنْ تَزْوِيجِهَا ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نِكَاحَهَا إلَى الْوَلِيِّ .
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ ، حِينَ امْتَنَعَ مِنْ تَزْوِيجِ أُخْتِهِ ، فَدَعَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَزَوَّجَهَا .
وَأَضَافَهُ إلَيْهَا لِأَنَّهَا مَحَلٌّ لَهُ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهَا تَزْوِيجُ أَحَدٍ .
وَعَنْ أَحْمَدَ ، لَهَا تَزْوِيجُ أَمَتِهَا .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ عِبَارَتِهَا فِي النِّكَاحِ ، فَيُخَرَّجُ مِنْهُ أَنَّ لَهَا تَزْوِيجَ نَفْسِهَا بِإِذْنِ وَلِيِّهَا ، وَتَزْوِيجَ غَيْرِهَا بِالْوَكَالَةِ .
وَهُوَ مَذْهَبُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ .
وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَوْلًا لِابْنِ سِيرِينَ وَمَنْ مَعَهُ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : أَيُّمَا امْرَأَةٍ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ } .
فَمَفْهُومُهُ صِحَّتُهُ بِإِذْنِهِ وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ إنَّمَا مُنِعَتْ الِاسْتِقْلَالَ بِالنِّكَاحِ ، لِقُصُورِ عَقْلِهَا ، فَلَا يُؤْمَنُ انْخِدَاعُهَا وَوُقُوعُهُ مِنْهَا عَلَى وَجْهِ الْمَفْسَدَةِ ، وَهَذَا مَأْمُونٌ فِيمَا إذَا أَذِنَ فِيهِ

وَلِيُّهَا .
وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ { : لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ } .
وَهَذَا يُقَدَّمُ عَلَى دَلِيلِ الْخِطَابِ ، وَالتَّخْصِيصُ هَاهُنَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ ، فَإِنَّ الْغَالِبَ أَنَّهَا لَا تُزَوِّجُ نَفْسَهَا إلَّا بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا ، وَالْعِلَّةُ فِي مَنْعِهَا ، صِيَانَتُهَا عَنْ مُبَاشَرَةِ مَا يُشْعِرُ بِوَقَاحَتِهَا وَرُعُونَتِهَا وَمَيْلِهَا إلَى الرِّجَالِ ، وَذَلِكَ يُنَافِي حَالَ أَهْلِ الصِّيَانَةِ وَالْمُرُوءَةِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( 5138 ) فَصْلٌ : فَإِنْ حَكَمَ بِصِحَّةِ هَذَا الْعَقْدِ حَاكِمٌ ، أَوْ كَانَ الْمُتَوَلِّي لِعَقْدِهِ حَاكِمًا ، لَمْ يَجُزْ نَقْضُهُ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَنْكِحَةِ الْفَاسِدَةِ .
وَخَرَّجَ الْقَاضِي فِي هَذَا وَجْهًا خَاصَّةً أَنَّهُ يُنْقَضُ .
وَهُوَ قَوْلُ الْإِصْطَخْرِيِّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ نَصًّا .
وَالْأَوَّلُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهَا مَسْأَلَةٌ مُخْتَلَفٌ فِيهَا ، وَيَسُوغُ فِيهَا الِاجْتِهَادُ ، فَلَمْ يَجُزْ نَقْضُ الْحُكْمِ لَهُ ، كَمَا لَوْ حَكَمَ بِالشُّفْعَةِ لِلْجَارِ ، وَهَذَا النَّصُّ مُتَأَوَّلٌ وَفِي صِحَّتِهِ كَلَامٌ ، وَقَدْ عَارَضَهُ ظَوَاهِرُ .

( 5139 ) الْفَصْلُ الثَّانِي : أَنَّ النِّكَاحَ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ .
هَذَا الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ ، وَعَلِيٍّ ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ ، وَالْحَسَنِ ، وَالنَّخَعِيِّ ، وَقَتَادَةَ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ .
وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَصِحُّ بِغَيْرِ شُهُودٍ .
وَفَعَلَهُ ابْنُ عُمَرَ ، وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ ، وَسَالِمٌ وَحَمْزَةُ ابْنَا ابْنِ عُمَرَ .
وَبِهِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إدْرِيسَ ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ ، وَيَزِيدُ بْنُ هَارُونُ ، وَالْعَنْبَرِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ ، وَمَالِكٍ ، إذَا أَعْلَنُوهُ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : لَا يَثْبُتُ فِي الشَّاهِدَيْنِ فِي النِّكَاحِ خَبَرٌ .
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ } .
مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عُمَرَ ، إلَّا أَنَّ فِي نَقْلِهِ ذَلِكَ ضَعِيفًا ، فَلَمْ أَذْكُرْهُ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : وَقَدْ أَعْتَقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيِّ فَتَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ شُهُودٍ .
قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : { اشْتَرَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَارِيَةً بِسَبْعَةِ قُرُوشٍ ، فَقَالَ النَّاسُ : مَا نَدْرِي أَتَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ أَمْ جَعَلَهَا أُمَّ وَلَدٍ ؟ فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَرْكَبَ حَجَبَهَا ، فَعَلِمُوا أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
قَالَ : فَاسْتَدَلُّوا عَلَى تَزْوِيجِهَا بِالْحِجَابِ .
وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونُ : أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْإِشْهَادِ فِي الْبَيْعِ دُونَ النِّكَاحِ ، فَاشْتَرَطَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ الشَّهَادَةَ لِلنِّكَاحِ ، وَلَمْ يَشْتَرِطُوهَا لِلْبَيْعِ ، وَوَجْهُ الْأُولَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : لَا نِكَاحَ إلَّا

بِوَلِيٍّ مُرْشِدٍ ، وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ } .
رَوَاهُ الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ .
وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ ، عَنْ عَائِشَةَ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : لَا بُدَّ فِي النِّكَاحِ مِنْ أَرْبَعَةٍ ؛ الْوَلِيُّ ، وَالزَّوْجُ ، وَالشَّاهِدَانِ } .
وَلِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ غَيْرِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ ، وَهُوَ الْوَلَدُ ، فَاشْتُرِطَتْ الشَّهَادَةُ فِيهِ ، لِئَلَّا يَجْحَدَهُ أَبُوهُ ، فَيَضِيعَ نَسَبُهُ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَأَمَّا نِكَاحُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغَيْرِ وَلِيٍّ وَغَيْرِ شُهُودٍ ، فَمِنْ خَصَائِصِهِ فِي النِّكَاحِ ، فَلَا يُلْحَقُ بِهِ غَيْرُهُ .
( 5140 ) الْفَصْلُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِشَهَادَةِ مُسْلِمَيْنِ ، سَوَاءٌ كَانَ الزَّوْجَانِ مُسْلِمَيْنِ ، أَوْ الزَّوْجُ وَحْدَهُ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ ذِمِّيَّةً ، صَحَّ بِشَهَادَةِ ذِمِّيَّيْنِ .
قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : وَيَتَخَرَّجُ لَنَا مِثْلُ ذَلِكَ ، مَبْنِيًّا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تَقُولُ بِقَبُولِ شَهَادَةِ بَعْضِ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى بَعْضٍ .
وَلَنَا ، قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { : لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ ، وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ } وَلِأَنَّهُ نِكَاحُ مُسْلِمٍ ، فَلَمْ يَنْعَقِدْ بِشَهَادَةِ ذِمِّيَّيْنِ ، كَنِكَاحِ الْمُسْلِمَيْنِ .
( 5141 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا الْفَاسِقَانِ ، فَفِي انْعِقَادِ النِّكَاحِ بِشَهَادَتِهِمَا رِوَايَتَانِ ؛ إحْدَاهُمَا ، لَا يَنْعَقِدُ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِلْخَبَرِ .
وَلِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَثْبُتُ بِشَهَادَتِهِمَا ، فَلَمْ يَنْعَقِدْ بِحُضُورِهِمَا ، كَالْمَجْنُونَيْنِ .
وَالثَّانِيَةُ ، يَنْعَقِدُ بِشَهَادَتِهِمَا .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهَا تَحَمُّلٌ ، فَصَحَّتْ مِنْ الْفَاسِقِ ، كَسَائِرِ التَّحَمُّلَاتِ .
وَعَلَى كِلْتَا الرِّوَايَتَيْنِ لَا يُعْتَبَرُ حَقِيقَةُ الْعَدَالَةِ ، بَلْ يَنْعَقِدُ بِشَهَادَةِ مَسْتُورِي الْحَالِ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ يَكُونُ فِي الْقُرَى وَالْبَادِيَةِ ، وَبَيْنَ عَامَّةِ النَّاسِ ، مِمَّنْ لَا يَعْرِفُ حَقِيقَةَ

الْعَدَالَةِ ، فَاعْتِبَارُ ذَلِكَ يَشُقُّ فَاكْتُفِيَ بِظَاهِرِ الْحَالِ ، وَكَوْنِ الشَّاهِدِ مَسْتُورًا لَمْ يَظْهَرْ فِسْقُهُ ، فَإِنْ تَبَيَّنَ بَعْدَ الْعَقْدِ أَنَّهُ كَانَ فَاسِقًا ، لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ الْعَدَالَةُ ظَاهِرًا ، وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ ظَاهِرَ الْفِسْقِ ، وَقَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ .
وَقِيلَ : نَتَبَيَّنُ أَنَّ النِّكَاحَ كَانَ فَاسِدًا ؛ لِعَدَمِ الشَّرْطِ .
وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ الْعَدَالَةُ فِي الْبَاطِنِ شَرْطًا ، لَوَجَبَ الْكَشْفُ عَنْهَا ؛ لِأَنَّهُ مَعَ الشَّكِّ فِيهَا يَكُونُ مَشْكُوكًا فِي شَرْطِ النِّكَاحِ ، فَلَا يَنْعَقِدُ ، وَلَا تَحِلُّ الْمَرْأَةُ مَعَ الشَّكِّ فِي صِحَّةِ نِكَاحِهَا .
وَإِنْ حَدَثَ الْفِسْقُ فِيهِمَا ، لَمْ يُؤَثِّرْ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ إنَّمَا يُعْتَبَرُ حَالَةَ الْعَقْدِ .
وَلَوْ أَقَرَّ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ أَنَّهُمَا نَكَحَا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ ، قُبِلَ قَوْلُهُمَا ، وَثَبَتَ النِّكَاحُ بِإِقْرَارِهِمَا .
( 5142 ) فَصْلٌ : وَلَا يَنْعَقِدُ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ .
وَهَذَا قَوْلُ النَّخَعِيِّ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ ، وَالشَّافِعِيِّ .
وَعَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهُ قَالَ : إذَا تَزَوَّجَ بِشَهَادَةِ نِسْوَةٍ ، لَمْ يَجُزْ ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُنَّ رَجُلٌ ، فَهُوَ أَهْوَنُ .
فَيُحْتَمَلُ أَنَّ هَذَا رِوَايَةٌ أُخْرَى فِي انْعِقَادِهِ بِذَلِكَ .
وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ .
وَيُرْوَى عَنْ الشَّعْبِيِّ ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ ، فَانْعَقَدَ بِشَهَادَتِهِنَّ مَعَ الرِّجَالِ ، كَالْبَيْعِ .
وَلَنَا ، أَنَّ الزُّهْرِيَّ قَالَ : مَضَتْ السُّنَّةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا تَجُوزَ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ ، وَلَا فِي النِّكَاحِ ، وَلَا فِي الطَّلَاقِ .
رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ ، فِي " الْأَمْوَالِ " وَهَذَا يَنْصَرِفُ إلَى سُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ لَيْسَ بِمَالٍ ، وَلَا الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْمَالُ ، وَيَحْضُرُهُ الرِّجَالُ فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ ، فَلَمْ يَثْبُتْ بِشَهَادَتِهِنَّ كَالْحُدُودِ ، وَبِهَذَا فَارَقَ

الْبَيْعَ .
وَيُحْتَمَلُ أَنَّ أَحْمَدَ إنَّمَا قَالَ : هُوَ أَهْوَنُ .
لِوُقُوعِ الْخِلَافِ فِيهِ ، فَلَا يَكُونُ رِوَايَةً .
( 5143 ) فَصْلٌ : وَلَا يَنْعَقِدُ بِشَهَادَةِ صَبِيَّيْنِ ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَنْعَقِدَ بِشَهَادَةِ مُرَاهِقَيْنِ عَاقِلَيْنِ .
وَلَا يَنْعَقِدُ بِشَهَادَةِ مَجْنُونَيْنِ ، وَلَا سَائِرِ مَنْ لَا شَهَادَةَ لَهُ ؛ لِأَنَّ وُجُودَهُ كَالْعَدَمِ .
وَلَا يَنْعَقِدُ بِشَهَادَةِ أَصَمَّيْنِ ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَسْمَعَانِ .
وَلَا أَخْرَسَيْنِ ؛ لِعَدَمِ إمْكَانِ الْأَدَاءِ مِنْهُمَا .
وَفِي انْعِقَادِهِ بِحُضُورِ أَهْلِ الصَّنَائِعِ الزَّرِيَّةِ كَالْحَجَّامِ وَنَحْوِهِ ، وَجْهَانِ ، بِنَاءً عَلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ وَفِي انْعِقَادِهِ بِشَهَادَةِ عَدُوَّيْنِ أَوْ ابْنَيْ الزَّوْجَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، يَنْعَقِدُ .
اخْتَارَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ابْنُ بَطَّةَ ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ { إلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ .
} وَلِأَنَّهُ يَنْعَقِدُ بِهِمَا نِكَاحُ غَيْرِ هَذَا الزَّوَاجِ ، فَانْعَقَدَ بِهِمَا نِكَاحُهُ ، كَسَائِرِ الْعُدُولِ .
وَالثَّانِي ، لَا يَنْعَقِدُ بِشَهَادَتِهِمَا ؛ لِأَنَّ الْعَدُوَّ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَى عَدُوِّهِ ، وَالِابْنُ لَا تَقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِوَالِدِهِ .
( 5144 ) فَصْلٌ : وَيَنْعَقِدُ بِشَهَادَةِ عَبْدَيْنِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ : لَا يَنْعَقِدُ .
وَمَبْنَى الْخِلَافِ عَلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِمَا فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ وَنَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَيَنْعَقِدُ بِشَهَادَةِ ضَرِيرَيْنِ .
وَلِلشَّافِعِيَّةِ وَجْهَانِ فِي ذَلِكَ .
وَلَنَا ، أَنَّهَا شَهَادَةٌ عَلَى قَوْلٍ ، فَصَحَّتْ مِنْ الْأَعْمَى ، كَالشَّهَادَةِ بِالِاسْتِفَاضَةِ ، وَإِنَّمَا يَنْعَقِدُ بِشَهَادَتِهِمَا إذَا تَيَقَّنَ الصَّوْتَ وَعَلِمَ صَوْتَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَشُكُّ فِيهِمَا ، كَمَا يَعْلَمُ ذَلِكَ مَنْ يَرَاهُمَا ، وَإِلَّا فَلَا .

فَصْلٌ : وَإِذَا تَزَوَّجَتْ الْمَرْأَةُ تَزْوِيجًا فَاسِدًا ، لَمْ يَجُزْ تَزْوِيجُهَا لِغَيْرِ مَنْ تَزَوَّجَهَا حَتَّى يُطَلِّقَهَا أَوْ يَفْسَخَ نِكَاحَهَا .
وَإِذَا امْتَنَعَ مِنْ طَلَاقِهَا ، فَسَخَ الْحَاكِمُ نِكَاحَهُ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا حَاجَةَ إلَى فَسْخٍ وَلَا طَلَاقٍ ؛ لِأَنَّهُ نِكَاحٌ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ ، أَشْبَهَ النِّكَاحَ فِي الْعِدَّةِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ نِكَاحٌ يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ ، فَاحْتِيجَ فِي التَّفْرِيقِ فِيهِ إلَى إيقَاعِ فُرْقَةٍ ، كَالصَّحِيحِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ ، وَلِأَنَّ تَزْوِيجَهَا مِنْ غَيْرِ تَفْرِيقٍ يُفْضِي إلَى تَسْلِيطِ زَوْجَيْنِ عَلَيْهَا ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَعْتَقِدُ أَنَّ نِكَاحَهُ الصَّحِيحُ ، وَنِكَاحَ الْآخَرِ الْفَاسِدُ ، وَيُفَارِقُ النِّكَاحَ الْبَاطِلَ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ وَإِذَا زُوِّجَتْ بِآخَرَ قَبْلَ التَّفْرِيقِ ، لَمْ يَصِحَّ الثَّانِي أَيْضًا ، وَلَمْ يَجُزْ تَزْوِيجُهَا الثَّالِثَ حَتَّى يُطَلِّقَ الْأَوَّلَانِ أَوْ يُفْسَخَ نِكَاحُهُمَا ، وَمَتَى فُرِّقَ بَيْنَهُمَا قَبْلَ الدُّخُولِ ، فَلَا مَهْرَ لَهَا ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ فَاسِدٌ لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ قَبْضٌ ، فَلَمْ يَجِبْ بِهِ عِوَضٌ كَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ ، وَإِنْ كَانَ التَّفْرِيقُ بَعْدَ الدُّخُولِ ، فَلَهَا الْمَهْرُ ؛ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { : فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا } .
وَإِنْ تَكَرَّرَ الْوَطْءُ فَالْمَهْرُ وَاحِدٌ ؛ لِلْحَدِيثِ ، وَلِأَنَّهُ إصَابَةٌ فِي عَقْدٍ فَاسِدٍ ، أَشْبَهَ الْإِصَابَةَ فِي عَقْدٍ صَحِيحٍ .
( 5146 ) فَصْلٌ : وَالْوَاجِبُ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا ، أَوْمَأَ إلَيْهِ أَحْمَدُ ؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْعَبْدِ يَتَزَوَّجُ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ : يُعْطِي شَيْئًا قَالَ الْقَاضِي : يَعْنِي مَهْرَ الْمِثْلِ .
وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ ؛ لِقَوْلِهِ : { وَإِذَا زَوَّجَ الْوَلِيَّانِ فَالنِّكَاحُ لِلْأَوَّلِ مِنْهُمَا ، فَإِنْ دَخَلَ بِهَا الثَّانِي فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا } .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ لَهَا الْمُسَمَّى ؛ لِأَنَّ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ حَدِيثِ عَائِشَةَ { : وَلَهَا

الَّذِي أَعْطَاهَا بِمَا أَصَابَ مِنْهَا .
} قَالَ الْقَاضِي : حَدَّثْنَاهُ أَبُو بَكْرٍ الْبَرْقَانِيُّ ، وَأَبُو مُحَمَّدٍ الْخَلَّالُ ، بِإِسْنَادَيْهِمَا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْوَاجِبُ الْأَقَلُّ مِنْ الْمُسَمَّى أَوْ مَهْرُ الْمِثْلِ ؛ لِأَنَّهَا إنْ رَضِيَتْ بِدُونِ مَهْرِ مِثْلِهَا فَلَيْسَ لَهَا أَكْثَرُ مِنْهُ ، كَالْعَقْدِ الصَّحِيحِ ، وَإِنْ كَانَ الْمُسَمَّى أَكْثَرَ لَمْ يَجِبْ الزَّائِدُ ؛ لِأَنَّهُ بِغَيْرِ عَقْدٍ صَحِيحٍ وَلَنَا ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا } .
فَجَعَلَ لَهَا الْمَهْرَ الْمُمَيَّزَ بِالْإِصَابَةِ ، وَالْإِصَابَةُ إنَّمَا تُوجِبُ مَهْرَ الْمِثْلِ ، وَلِأَنَّ الْعَقْدَ لَيْسَ بِمُوجِبٍ ، بِدَلِيلِ الْخَبَرِ ، وَأَنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ مَسِّهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا شَيْءٌ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا كَانَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ ، وَبَقِيَ الْوَطْءُ مُوجِبًا بِمُفْرَدِهِ ، فَأَوْجَبَ مَهْرَ الْمِثْلِ ، كَوَطْءِ الشُّبْهَةِ ، وَلِأَنَّ التَّسْمِيَةَ لَوْ فَسَدَتْ لَوَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ ، فَإِذَا فَسَدَ الْعَقْدُ مِنْ أَصِلْهُ كَانَ أَوْلَى .
وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ إنَّهَا رَضِيَتْ بِدُونِ صَدَاقِهَا .
إنَّمَا يَصِحُّ إذَا كَانَ الْعَقْدُ هُوَ الْمُوجِبُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ إنَّمَا يَجِبُ بِالْإِصَابَةِ ، فَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ كَامِلًا ، كَوَطْءِ الشُّبْهَةِ .
( 5147 ) فَصْلٌ : وَلَا يَجِبُ لَهَا بِالْخَلْوَةِ شَيْءٌ .
فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ لَهَا الْمَهْرَ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا .
يَعْنِي أَصَابَ .
وَلَمْ يُصِبْهَا .
وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْمَهْرَ يَسْتَقِرُّ بِالْخَلْوَةِ ، قِيَاسًا عَلَى الْعَقْدِ الصَّحِيحِ ، وَبِنَاءً عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ الْمُسَمَّى بِالْعَقْدِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ .

( 5148 ) فَصْلٌ : وَلَا حَدَّ فِي وَطْءِ النِّكَاحِ الْفَاسِدِ ، سَوَاءٌ اعْتَقَدَا حِلَّهُ أَوْ حُرْمَتَهُ .
وَعَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ الْحَدُّ بِالْوَطْءِ فِي النِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ ، إذَا اعْتَقَدَا حُرْمَتَهُ .
وَهُوَ اخْتِيَارُ الصَّيْرَفِيِّ ، مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ؛ لِمَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : لَا تُزَوِّجُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ ، وَلَا تُزَوِّجُ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا ، إنَّ الزَّانِيَةَ هِيَ الَّتِي تُزَوِّجُ نَفْسَهَا } .
وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ : مَا كَانَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدَّ فِي النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ مِنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَضْرِبُ فِيهِ وَرَوَى الشَّالَنْجِيُّ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ ، أَنَّ الطَّرِيقَ جَمَعَتْ رَكْبًا فِيهِ امْرَأَةٌ ثَيِّبٌ ، فَخَطَبَهَا رَجُلٌ ، فَأَنْكَحَهَا رَجُلٌ وَهُوَ غَيْرُ وَلِيٍّ بِصَدَاقٍ وَشُهُودٍ ، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى عُمَرَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رُفِعَ إلَيْهِ أَمْرُهُمَا ، فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا ، وَجَلَدَ النَّاكِحَ وَالْمُنْكِحَ .
وَلَنَا ، أَنَّ هَذَا مُخْتَلَفٌ فِي إبَاحَتِهِ ، فَلَمْ يَجِبْ بِهِ الْحَدُّ ، كَالنِّكَاحِ بِغَيْرِ شُهُودٍ ، وَلِأَنَّ الْحَدَّ يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ ، وَالِاخْتِلَافُ فِيهِ أَقْوَى الشُّبُهَاتِ ، وَتَسْمِيَتُهَا زَانِيَةً يَجُوزُ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ سَمَّاهَا بِذَلِكَ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ ، وَعُمَرُ جَلَدَهُمَا أَدَبًا وَتَعْزِيرًا ، وَلِذَلِكَ جَلَدَ الْمُنْكِحَ وَلَمْ يَجْلِدْ الْمَرْأَةَ ، وَجَلَدَهُمَا بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ مَعَ اعْتِقَادِهِمَا حِلَّهُ .
وَكَذَلِكَ حَدِيثُ عَلِيٍّ عَلَى أَنَّ حَدِيثَ عَلِيٍّ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ أَوْجَبَ الْحَدَّ فِيهِ ، فَإِنَّ عَلِيًّا أَشَدُّ النَّاسِ فِيهِ ، وَقَدْ انْتَهَى الْأَمْرُ إلَى الْجَلْدِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ سَائِرَ النَّاسِ وَالصَّحَابَةِ لَمْ يَرَوْا فِيهِ جَلْدًا فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ أَوْجَبْتُمْ الْحَدَّ عَلَى شَارِبِ النَّبِيذِ ، مَعَ الِاخْتِلَافِ فِيهِ ؟ قُلْنَا :

هُوَ مُفَارِقٌ لِمَسْأَلَتِنَا ، بِدَلِيلِ أَنَّا نَحُدُّ مَنْ اعْتَقَدَ حِلَّهُ ، وَلِأَنَّ يَسِيرَ النَّبِيذِ يَدْعُو إلَى كَثِيرِهِ ، الْمُتَّفَقِ عَلَى تَحْرِيمِهِ ، وَهَذَا الْمُخْتَلَفُ فِيهِ يُغْنِي عَنْ الزِّنَى الْمَجْمَعِ عَلَى تَحْرِيمِهِ ، فَافْتَرَقَا .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّ مَنْ اعْتَقَدَ حِلَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ إثْمٌ وَلَا أَدَبٌ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ مَسَائِلِ الْفُرُوعِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا ، وَمَنْ اعْتَقَدَ حُرْمَتَهُ أَثِمَ وَأُدِّبَ .
وَإِنْ أَتَتْ بِوَلَدٍ مِنْهُ ، لَحِقَهُ نَسَبُهُ فِي الْحَالَيْنِ .
( 5149 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا الْأَنْكِحَةُ الْبَاطِلَةُ ، كَنِكَاحِ الْمَرْأَةِ الْمُزَوَّجَةِ أَوْ الْمُعْتَدَّةِ ، أَوْ شِبْهِهِ ، فَإِذَا عَلِمَا الْحِلَّ وَالتَّحْرِيمَ ، فَهُمَا زَانِيَانِ ، وَعَلَيْهِمَا الْحَدُّ ، وَلَا يَلْحَقُ النَّسَبُ فِيهِ .

( 5150 ) فَصْلٌ : وَيُسَاوِي الْفَاسِدُ الصَّحِيحَ فِي اللِّعَانِ ، إذَا كَانَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ يُرِيدُ نَفْيَهُ عَنْهُ ، لِكَوْنِ النَّسَبِ لَاحِقًا بِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَلَدٌ ، فَلَا لِعَانَ بَيْنَهُمَا ؛ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ ، وَتَجِبُ الْعِدَّةُ بِالْخَلْوَةِ فِيهِ ، وَعِدَّةُ الْوَفَاةِ بِالْمَوْتِ فِيهِ ، وَالْإِحْدَادُ ، وَكُلُّ ذَلِكَ احْتِيَاطًا لَهَا .
وَيُفَارِقُ الصَّحِيحَ فِي أَنَّهُ لَا يُثْبِتُ التَّوَارُثَ ، وَلَا تَحْصُلُ بِهِ الْإِبَاحَةُ لِلْمُتَزَوِّجِ ، وَلَا الْحِلُّ لِلزَّوْجِ الْمُطَلَّقِ ثَلَاثًا بِالْوَطْءِ فِيهِ ، وَلَا يَحْصُلُ الْإِحْصَانُ بِالْوَطْءِ فِيهِ ، وَلَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْإِيلَاءِ بِالْيَمِينِ فِيهِ ، وَلَا يَحْرُمُ الطَّلَاقُ فِيهِ فِي زَمَنِ الْحَيْضِ .

( 5151 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَأَحَقُّ النَّاسِ بِنِكَاحِ الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ أَبُوهَا ) .
إنَّمَا قَيَّدَ الْمَرْأَةَ بِالْحُرَّةِ هَاهُنَا ؛ لِأَنَّ الْأَمَةَ لَا وِلَايَةَ لِأَبِيهَا عَلَيْهَا ، وَإِنَّمَا وَلِيُّهَا سَيِّدُهَا .
بِغَيْرِ خِلَافٍ عَلِمْنَاهُ .
وَأَمَّا الْمَرْأَةُ الْحُرَّةُ ، فَأَوْلَى النَّاسِ بِتَزْوِيجِهَا أَبُوهَا ، وَلَا وِلَايَةَ لَأَحَدٍ مَعَهُ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ وَقَالَ مَالِكٌ وَالْعَنْبَرِيُّ ، وَأَبُو يُوسُفَ ، وَإِسْحَاقُ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ : الِابْنُ أَوْلَى .
وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ أَوْلَى مِنْهُ بِالْمِيرَاثِ ، وَأَقْوَى تَعْصِيبًا ، وَلِهَذَا يَرِثُ بِوَلَاءِ أَبِيهِ دُونَ جَدِّهِ وَلَنَا ، أَنَّ الْوَلَدَ مَوْهُوبٌ لِأَبِيهِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى } .
وَقَالَ زَكَرِيَّا : { رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً } .
وَقَالَ : { فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا } وَقَالَ إبْرَاهِيمُ : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ } .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيك } .
وَإِثْبَاتُ وِلَايَةِ الْمَوْهُوبِ لَهُ عَلَى الْهِبَةِ أَوْلَى مِنْ الْعَكْسِ ، وَلِأَنَّ الْأَبَ أَكْمَلُ نَظَرًا ، وَأَشَدُّ شَفَقَةً ، فَوَجَبَ تَقْدِيمُهُ فِي الْوِلَايَةِ ، كَتَقْدِيمِهِ عَلَى الْجَدِّ ، وَلِأَنَّ الْأَبَ يَلِي وَلَدَهُ فِي صِغَرِهِ وَسَفَهِهِ وَجُنُونِهِ ، فَيَلِيهِ فِي سَائِرِ مَا ثَبَتَتْ الْوِلَايَةُ عَلَيْهِ فِيهِ ، بِخِلَافِ وِلَايَةِ الِابْنِ ، وَلِذَلِكَ اخْتَصَّ بِوِلَايَةِ الْمَالِ ، وَجَازَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهَا مِنْ مَالِهِ .
وَلَهُ مِنْ مَالِهَا ، إذَا كَانَتْ صَغِيرَةً ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ ، وَلِأَنَّ الْوِلَايَةَ احْتِكَامٌ ، وَاحْتِكَامُ الْأَصْلِ عَلَى فَرْعِهِ أَوْلَى مِنْ الْعَكْسِ ، وَفَارَقَ الْمِيرَاثَ ، فَإِنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ لَهُ النَّظَرُ ، وَلِهَذَا يَرِثُ الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ وَلَيْسَ فِيهِ احْتِكَامٌ وَلَا وِلَايَةَ عَلَى الْمَوْرُوثِ ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ .

( 5152 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ثُمَّ أَبُوهُ وَإِنْ عَلَا يَعْنِي أَنَّ الْجَدَّ أَبَا الْأَبِ وَإِنْ عَلَتْ دَرَجَتُهُ ، فَهُوَ أَحَقُّ بِالْوِلَايَةِ مِنْ الِابْنِ وَسَائِرِ الْأَوْلِيَاءِ .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ .
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى ، أَنَّ الِابْنَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْجَدِّ .
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ؛ وَمَنْ وَافَقَهُ ؛ لِمَا تَقَدَّمَ .
وَعَنْ أَحْمَدَ ، رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ ، أَنَّ الْأَخَ يُقَدَّمُ عَلَى الْجَدِّ .
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ؛ لِأَنَّ الْجَدَّ يُدْلِي بِأُبُوَّةِ الْأَبِ ، وَالْأَخَ يُدْلِي بِبُنُوَّةٍ ، وَالْبُنُوَّةُ مُقَدَّمَةٌ وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْجَدَّ وَالْأَخَ سَوَاءٌ ؛ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْمِيرَاثِ بِالتَّعْصِيبِ ، وَاسْتِوَائِهِمَا فِي الْقَرَابَةِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي الْوِلَايَةِ كَالْأَخَوَيْنِ ، وَلِأَنَّهُمَا عَصَبَتَانِ لَا يَسْقُطُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ ، فَاسْتَوَيَا فِي الْوِلَايَةِ كَالْأَخَوَيْنِ .
وَلَنَا ، أَنَّ الْجَدَّ لَهُ إيلَادٌ وَتَعْصِيبٌ ، فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِمَا ، كَالْأَبِ ، وَلِأَنَّ الِابْنَ وَالْأَخَ يُقَادَانِ بِهَا ، وَيُقْطَعَانِ بِسَرِقَةِ مَالِهَا ، وَالْجَدَّ بِخِلَافِهِ ، وَالْجَدُّ لَا يَسْقُطُ فِي الْمِيرَاثِ إلَّا بِالْأَبِ ، وَالْأَخُ يَسْقُطُ بِهِ وَبِالِابْنِ وَابْنِهِ ، وَإِذَا ضَاقَ الْمَالُ ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ جَدٌّ وَأَخٌ ، سَقَطَ الْأَخُ وَحْدَهُ ، فَوَجَبَ تَقْدِيمُهُ عَلَيْهِمَا كَالْأَبِ ، وَلِتَقَدُّمِهِ عَلَى الْعَمِّ وَسَائِرِ الْعَصَبَاتِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَالْجَدُّ وَإِنْ عَلَا أَوْلَى مِنْ جَمِيعِ الْعَصَبَاتِ غَيْرَ الْأَبِ ، وَأَوْلَى الْأَجْدَادِ أَقْرَبُهُمْ وَأَحَقُّهُمْ فِي الْمِيرَاثِ .

( 5153 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ثُمَّ ابْنُهَا وَابْنُهُ وَإِنْ سَفَلَ وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ مَتَى عُدِمَ الْأَبُ وَآبَاؤُهُ ، فَأَوْلَى النَّاسِ بِتَزْوِيجِ الْمَرْأَةِ ابْنُهَا ، ثُمَّ ابْنُهُ بَعْدَهُ وَإِنْ نَزَلَتْ دَرَجَتُهُ ، الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ مِنْهُمْ .
وَبِهِ قَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا وِلَايَةَ لِلِابْنِ إلَّا أَنْ يَكُونَ ابْنَ عَمٍّ ، أَوْ مَوْلَى ، أَوْ حَاكِمًا ، فَيَلِي بِذَلِكَ ، لَا بِالْبُنُوَّةِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُنَاسِبٍ لَهَا ، فَلَا يَلِي نِكَاحَهَا كَخَالِهَا ، وَلِأَنَّ طَبْعَهُ يَنْفِرُ مِنْ تَزْوِيجِهَا ، فَلَا يَنْظُرُ لَهَا .
وَلَنَا ، مَا رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنَّهَا لَمَّا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا ، أَرْسَلَ إلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُهَا ، فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ : لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَوْلِيَائِي شَاهِدًا .
قَالَ : لَيْسَ مِنْ أَوْلِيَائِك شَاهِدٌ وَلَا غَائِبٌ يَكْرَهُ ذَلِكَ .
فَقَالَتْ : قُمْ يَا عُمَرُ ، فَزَوِّجْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَزَوَّجَهُ } .
رَوَاهُ النَّسَائِيّ .
قَالَ الْأَثْرَمُ : قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ ، فَحَدِيثُ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ ، حِينَ تَزَوَّجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّهُ أُمَّ سَلَمَةَ ، أَلَيْسَ كَانَ صَغِيرًا ؟ قَالَ : وَمَنْ يَقُولُ كَانَ صَغِيرًا ، لَيْسَ فِيهِ بَيَانٌ .
وَلِأَنَّهُ عَدْلٌ مِنْ عَصَبَتِهَا ، فَثَبَتَ لَهُ وِلَايَةُ تَزْوِيجِهَا كَأَخِيهَا .
وَقَوْلُهُمْ : لَيْسَ بِمُنَاسِبٍ لَهَا .
يَبْطُلُ بِالْحَاكِمِ وَالْمَوْلَى .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّ طَبْعَهُ يَنْفِرُ مِنْ تَزْوِيجِهَا قُلْنَا : هَذَا مُعَارِضٌ فِي الْفَرْعِ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ ، ثُمَّ يَبْطُلُ بِمَا إذَا كَانَ ابْنَ عَمٍّ أَوْ مَوْلَى أَوْ حَاكِمًا .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَى الْأَخِ وَمَنْ بَعْدَهُ .
بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِوِلَايَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَقْوَى مِنْهُ تَعْصِيبًا ، وَقَدْ اسْتَوَيَا فِي عَدَمِ الْإِيلَادِ .

مَسْأَلَةٌ ؛ ( 5154 ) قَالَ : ثُمَّ أَخُوهَا لِأَبِيهَا وَأُمِّهَا .
لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي تَقْدِيمِ الْأَخِ بَعْدَ عَمُودَيْ النَّسَبِ ؛ لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ الْعُصُبَاتِ بَعْدَهُمْ ، فَإِنَّهُ ابْنُ الْأَبِ ، وَأَقْوَاهُمْ تَعْصِيبًا ، وَأَحَقُّهُمْ بِالْمِيرَاثِ .

( 5155 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : وَالْأَخُ لِلْأَبِ مِثْلُهُ .
اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِي الْأَخِ لِلْأَبَوَيْنِ وَالْأَخِ لِلْأَبِ إذَا اجْتَمَعَا فَالْمَشْهُورُ عَنْهُ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي الْوِلَايَةِ .
وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ ؛ لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي الْإِدْلَاءِ بِالْجِهَةِ الَّتِي تُسْتَفَادُ مِنْهَا الْعُصُوبَةُ ، وَهِيَ جِهَةُ الْأَبِ ، فَاسْتَوَيَا فِي الْوِلَايَةِ ، كَمَا لَوْ كَانَا مِنْ أَبٍ ، وَإِنَّمَا يُرَجَّحُ الْآخَرُ فِي الْمِيرَاثِ بِجِهَةِ الْأُمِّ ، وَلَا مَدْخَلَ لَهَا فِي الْوِلَايَةِ ، فَلَمْ يُرَجَّحْ بِهَا ، كَالْعَمَّيْنِ أَحَدُهُمَا خَالٌ ، وَابْنَيْ عَمٍّ أَحَدُهُمَا أَخٌ مِنْ أُمٍّ .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ ، الْأَخُ مِنْ الْأَبَوَيْنِ أَوْلَى .
وَاخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ .
وَهُوَ الصَّحِيحُ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّهُ حَقٌّ يُسْتَفَادُ بِالتَّعْصِيبِ ، فَقُدِّمَ فِيهِ الْأَخُ مِنْ الْأَبَوَيْنِ ، كَالْمِيرَاثِ وَكَاسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ بِالْوَلَاءِ ، فَإِنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلنِّسَاءِ فِيهِ ، وَقَدْ قُدِّمَ الْأَخُ لِلْأَبَوَيْنِ فِيهِ .
وَبِهَذَا يَبْطُلُ مَا ذَكَرْنَاهُ لِلرِّوَايَةِ الْأُولَى .
وَهَكَذَا الْخِلَافُ فِي بَنِي الْإِخْوَةِ وَالْأَعْمَامِ وَبَنِيهِمْ .
فَأَمَّا إذَا كَانَ ابْنَا عَمٍّ لِأَبٍ ، أَحَدُهُمَا أَخٌ لِأُمٍّ ، فَهُمَا سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي التَّعْصِيبِ وَالْإِرْثِ بِهِ .
وَقَالَ الْقَاضِي : فِيهِمَا مِنْ الْخِلَافِ مِثْلُ مَا فِي ابْنِ عَمٍّ مِنْ أَبَوَيْنِ وَابْنِ عَمٍّ مِنْ أَبٍ ؛ لِأَنَّهُ يُرَجَّحُ بِجِهَةِ أُمِّهِ .
وَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ جِهَةَ أُمِّهِ يَرِثُ بِهَا مُنْفَرِدَةً ، وَمَا وَرِثَ بِهِ مُنْفَرِدًا لَمْ يُرَجَّحْ بِهِ ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُرَجَّحْ بِهِ فِي الْمِيرَاثِ بِالْوَلَاءِ وَلَا فِي غَيْرِهِ فَعَلَى هَذَا ، إذَا اجْتَمَعَ ابْنُ عَمٍّ لِأَبَوَيْنِ وَابْنُ عَمٍّ لِأَبٍ هُوَ أَخٌ مِنْ أُمٍّ ، فَالْوِلَايَةُ لِابْنِ الْعَمِّ مِنْ الْأَبَوَيْنِ عِنْدَ مَنْ يَرَى تَقْدِيمَ وَلَدِ الْأَبَوَيْنِ .

( 5156 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ثُمَّ أَوْلَادُهُمْ وَإِنْ سَفَلُوا ، ثُمَّ الْعُمُومَةُ ، ثُمَّ أَوْلَادُهُمْ وَإِنْ سَفَلُوا ، ثُمَّ عُمُومَةُ الْأَبِ .
وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْوِلَايَةَ بَعْدَ مَنْ ذَكَرْنَا تَتَرَتَّبُ عَلَى تَرْتِيبِ الْإِرْثِ بِالتَّعْصِيبِ ، فَأَحَقُّهُمْ بِالْمِيرَاثِ أَحَقُّهُمْ بِالْوِلَايَةِ ، فَأَوْلَاهُمْ بَعْدَ الْآبَاءِ بَنُو الْمَرْأَةِ ، ثُمَّ بَنُوهُمْ وَإِنْ سَفَلُوا ، ثُمَّ بَنَوْا أَبِيهَا وَهُمْ الْإِخْوَةُ ، ثُمَّ بَنُوهُمْ وَإِنْ سَفَلُوا ، ثُمَّ بَنُو جَدِّهَا وَهُمْ الْأَعْمَامُ ، ثُمَّ بَنُوهُمْ وَإِنْ سَفَلُوا ، ثُمَّ بَنُو جَدِّ الْأَبِ وَهُمْ أَعْمَامُ الْأَبِ ، ثُمَّ بَنُوهُمْ وَإِنْ سَفَلُوا ، ثُمَّ بَنُو جَدِّ الْجَدِّ ، ثُمَّ بَنُوهُمْ ، وَعَلَى هَذَا لَا يَلِي بَنُو أَبٍ أَعْلَى مَعَ بَنِي أَبٍ أَقْرَبَ مِنْهُ وَإِنْ نَزَلَتْ دَرَجَتُهُمْ ، وَأَوْلَى وَلَدِ كُلِّ أَبٍ أَقْرَبُهُمْ إلَيْهِ لِأَنَّ مَبْنَى الْوِلَايَةِ عَلَى النَّظَرِ وَالشَّفَقَةِ ، وَذَلِكَ مُعْتَبَرٌ بِمَظِنَّتِهِ ، وَهِيَ الْقَرَابَةُ ، فَأَقْرَبُهُمْ أَشْفَقُهُمْ .
وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ .

( 5157 ) فَصْلٌ : وَلَا وِلَايَةَ لِغَيْرِ الْعَصَبَاتِ مِنْ الْأَقَارِبِ ، كَالْأَخِ مِنْ الْأُمِّ ، وَالْخَالِ ، وَعَمِّ الْأُمِّ ، وَالْجَدِّ أَبِي الْأُمِّ وَنَحْوِهِمْ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي مَوَاضِعَ .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَالثَّانِيَةُ ، أَنَّ كُلَّ مَنْ يَرِثُ بِفَرْضٍ أَوْ تَعْصِيبٍ يَلِي ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ مِيرَاثِهَا ، فَوَلِيَهَا كَعَصَبَاتِهَا .
وَلَنَا ، مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ ، أَنَّهُ قَالَ : إذَا بَلَغَ النِّسَاءُ نَصَّ الْحَقَائِقِ ، فَالْعَصَبَةُ أَوْلَى .
إذَا أَدْرَكْنَ رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ ، فِي " الْغَرِيبِ " .
وَلِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَصَبَاتِهَا فَأَشْبَهَ الْأَجْنَبِيَّ .

( 5158 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ثُمَّ الْمَوْلَى الْمُنْعِمُ ، ثُمَّ أَقْرَبُ عَصَبَتِهِ بِهِ .
لَا خِلَافَ نَعْلَمُهُ فِي أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا عَصَبَةٌ مِنْ نَسَبِهَا ، أَنَّ مَوْلَاهَا يُزَوِّجُهَا ، وَلَا فِي أَنَّ الْعَصَبَةَ الْمُنَاسِبَ أَوْلَى مِنْهُ ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عَصَبَةُ مَوْلَاتِهِ ، يَرِثُهَا وَيَعْقِلُ عَنْهَا عِنْدَ عَدَمِ عَصَبَاتِهَا ، فَلِذَلِكَ يُزَوِّجُهَا ، وَقُدِّمَ عَلَيْهِ الْمُنَاسِبُونَ كَمَا قُدِّمُوا عَلَيْهِ فِي الْإِرْثِ وَالْعَقْلِ .
فَإِنْ عُدِمَ الْمَوْلَى ، أَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ ، كَالْمَرْأَةِ وَالطِّفْلِ وَالْكَافِرِ ، فَعَصَبَاتُهُ الْأَقْرَبُ مِنْهُمْ فَالْأَقْرَبُ ، عَلَى تَرْتِيبِ الْمِيرَاثِ ، ثُمَّ مَوْلَى الْمَوْلَى ، ثُمَّ عَصَبَاتُهُ مِنْ بَعْدِهِ ، كَالْمِيرَاثِ سَوَاءٌ .
فَإِنْ اجْتَمَعَ ابْنُ الْمُعْتِقِ وَأَبُوهُ ، فَالِابْنُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِالْمِيرَاثِ وَأَقْوَى فِي التَّعْصِيبِ ، وَإِنَّمَا قُدِّمَ الْأَبُ الْمُنَاسِبُ عَلَى الِابْنِ الْمُنَاسِبِ لِزِيَادَةِ شَفَقَتِهِ وَفَضِيلَةِ وِلَادَتِهِ ، وَهَذَا مَعْدُومٌ فِي أَبِي الْمُعْتِقِ ، فَرُجِعَ بِهِ إلَى الْأَصْلِ .

( 5159 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ثُمَّ السُّلْطَانُ .
لَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ ، فِي أَنَّ لِلسُّلْطَانِ وِلَايَةَ تَزْوِيجِ الْمَرْأَةِ عِنْدَ عَدَمِ أَوْلِيَائِهَا أَوْ عَضْلِهِمْ .
وَبِهِ يَقُولُ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو عُبَيْدٍ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ } وَرَوَى أَبُو دَاوُد ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ { أَنَّ النَّجَاشِيَّ زَوَّجَهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ عِنْدَهُ .
وَلِأَنَّ } لِلسُّلْطَانِ وِلَايَةً عَامَّةً بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَلِي الْمَالَ ، وَيَحْفَظُ الضَّوَالَّ ، فَكَانَتْ لَهُ الْوِلَايَةُ فِي النِّكَاحِ كَالْأَبِ .

( 5160 ) فَصْلٌ : وَالسُّلْطَانُ هَاهُنَا هُوَ الْإِمَامُ ، أَوْ الْحَاكِمُ ، أَوْ مَنْ فَوَّضَا إلَيْهِ ذَلِكَ .
وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِي وَالِي الْبَلَدِ ، فَقَالَ فِي مَوْضِعٍ : يُزَوِّجُ وَالِي الْبَلَدِ .
وَقَالَ فِي الرُّسْتَاقِ يَكُونُ فِيهِ الْوَالِي وَلَيْسَ فِيهِ قَاضٍ : يُزَوِّجُ إذَا احْتَاطَ لَهَا فِي الْمَهْرِ وَالْكُفْءِ ، أَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ ؛ لِأَنَّهُ ذُو سُلْطَانٍ ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْحَدِيثِ .
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ، فِي الْمَرْأَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلِيٌّ : فَالسُّلْطَانُ الْمُسَلَّطُ عَلَى الشَّيْءِ ؛ الْقَاضِي يَقْضِي فِي الْفُرُوجِ وَالْحُدُودِ وَالرَّجْمِ ، وَصَاحِبُ الشُّرْطَةِ إنَّمَا هُوَ مُسَلَّطٌ فِي الْأَدَبِ وَالْجِنَايَةِ وَقَالَ : مَا لِلْوَالِي وِلَايَةٌ إنَّمَا هُوَ الْقَاضِي .
وَتَأَوَّلَ الْقَاضِي الرِّوَايَةَ الْأُولَى عَلَى أَنَّ الْوَالِيَ أَذِنَ لَهُ فِي التَّزْوِيجِ .
وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ جَعَلَ لَهُ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي مَوْضِعِ وِلَايَتِهِ قَاضٍ ، فَكَأَنَّهُ قَدْ فَوَّضَ إلَيْهِ النَّظَرَ فِيمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي وِلَايَتِهِ ، وَهَذَا مِنْهَا .

فَصْلٌ : وَإِذَا اسْتَوْلَى أَهْلُ الْبَغْيِ عَلَى بَلَدٍ ، جَرَى حُكْمُ سُلْطَانِهِمْ وَقَاضِيهِمْ فِي ذَلِكَ مَجْرَى الْإِمَامِ وَقَاضِيهِ ؛ لِأَنَّهُ أُجْرِيَ مُجْرَاهُ فِي قَبْضِ الصَّدَقَاتِ وَالْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ وَالْأَحْكَامِ ، فَكَذَلِكَ فِي هَذَا .

( 5162 ) فَصْلٌ : وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي الْمَرْأَةِ تُسْلِمُ عَلَى يَدِ رَجُلٍ ، فَقَالَ فِي مَوْضِعٍ : لَا يَكُونُ وَلِيًّا لَهَا ، وَلَا يُزَوِّجُ حَتَّى يَأْتِيَ السُّلْطَانَ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَصَبَتِهَا ، وَلَا يَعْقِلُ عَنْهَا ، وَلَا يَرِثُهَا ، فَأَشْبَهَ الْأَجْنَبِيَّ .
وَقَالَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى ، فِي امْرَأَةٍ أَسْلَمَتْ عَلَى يَدِ رَجُلٍ : يُزَوِّجُهَا هُوَ .
وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ حَتَّى يَأْتِيَ السُّلْطَانَ .
وَعَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بَأْسًا أَنْ يُزَوِّجَهَا نَفْسَهُ وَذَلِكَ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ ، { أَنَّهُ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا السُّنَّةُ فِي الرَّجُلِ يُسْلِمُ عَلَى يَدِ الرَّجُلِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ؟ قَالَ : هُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِمَحْيَاهُ وَمَمَاتِهِ } .
إلَّا أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ ضَعَّفَهُ أَحْمَدُ ، وَقَالَ : رَاوِيهِ عَبْدُ الْعَزِيزِ يَعْنِي ابْنَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْحِفْظِ وَالْإِتْقَانِ .

( 5163 ) فَصْلٌ : فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ لِلْمَرْأَةِ وَلِيٌّ وَلَا ذُو سُلْطَانٍ ، فَعَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُزَوِّجُهَا رَجُلٌ عَدْلٌ بِإِذْنِهَا ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي دُهْقَانِ قَرْيَةٍ : يُزَوِّجُ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهَا إذَا احْتَاطَ لَهَا فِي الْكُفْءِ وَالْمَهْرِ ، إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الرُّسْتَاقِ قَاضٍ .
قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : أَخَذَ قَوْمٌ مِنْ أَصْحَابِنَا مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ ، أَنَّ النِّكَاحَ لَا يَقِفُ عَلَى وَلِيٍّ .
قَالَ : وَقَالَ الْقَاضِي : نُصُوصُ أَحْمَدَ تَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مُخْتَصٌّ بِحَالِ عَدَمِ الْوَلِيِّ وَالسُّلْطَانِ ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ أَنْ لَا يَكُونَ فِي الرُّسْتَاقِ قَاضٍ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ اشْتِرَاطَ الْوَلِيِّ هَاهُنَا يَمْنَعُ النِّكَاحَ بِالْكُلِّيَّةِ ، فَلَمْ يَجُزْ ، كَاشْتِرَاطِ الْمُنَاسِبِ فِي حَقِّ مَنْ لَا مُنَاسِبَ لَهَا .
وَرُوِيَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ النِّكَاحُ إلَّا بِوَلِيٍّ ؛ لِعُمُومِ الْأَخْبَارِ فِيهِ .

( 5164 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : وَوَكِيلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ يَقُومُ مَقَامَهُ وَإِنْ كَانَ حَاضِرًا .
وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِي النِّكَاحِ ، سَوَاءٌ كَانَ الْوَلِيُّ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا ، مُجْبَرًا أَوْ غَيْرَ مُجْبَرٍ ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَكَّلَ أَبَا رَافِعٍ فِي تَزْوِيجِهِ مَيْمُونَةَ ، وَوَكَّلَ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ فِي تَزْوِيجِهِ أُمَّ حَبِيبَةَ } .
وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ ، فَجَازَ التَّوْكِيلُ فِيهِ كَالْبَيْعِ .
وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي تَوْكِيلِ غَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ يَلِي بِالْإِذْنِ ، فَلَمْ يَجُزْ التَّوْكِيلُ لَهُ ، كَالْوَكِيلِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ يَلِي شَرْعًا ، فَكَانَ لَهُ التَّوْكِيلُ كَالْأَبِ ، وَلَا يَصِحُّ قَوْلُهُمْ : إنَّهُ يَلِي بِالْإِذْنِ .
فَإِنَّ وِلَايَتَهُ ثَابِتَةٌ قَبْلَ إذْنِهَا ، وَإِنَّمَا إذْنُهَا شَرْطٌ لِصِحَّةِ تَصَرُّفِهِ ، فَأَشْبَهَ وِلَايَةَ الْحَاكِمِ عَلَيْهَا ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِي التَّزْوِيجِ مِنْ غَيْرِ إذْنِ الْمَرْأَةِ ، وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا وِلَايَةَ لَهَا عَلَى نَفْسِهَا ، فَكَيْفَ تُنِيبُ لِنَائِبِهَا مِنْ قِبَلِهَا ، ( 5165 ) فَصْلٌ : وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ مُطْلَقًا وَمُقَيَّدًا ، فَالْمُقَيَّدُ التَّوْكِيلُ فِي تَزْوِيج رَجُلٍ بِعَيْنِهِ .
وَالْمُطْلَقُ التَّوْكِيلُ فِي تَزْوِيجِ مَنْ يَرْضَاهُ أَوْ مَنْ يَشَاءُ .
قَالَ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ ، فِي الرَّجُلِ يُوَلَّى عَلَى أُخْتِهِ أَوْ ابْنَتِهِ ، يَقُولُ : إذَا وَجَدْت مَنْ تَرْضَاهُ فَزَوِّجْهُ فَتَزْوِيجُهُ جَائِزٌ .
وَمَنَعَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ التَّوْكِيلَ الْمُطْلَقَ .
وَلَا يَصِحُّ ؛ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْعَرَبِ تَرَكَ ابْنَتَهُ عِنْدَ عُمَرَ .
وَقَالَ : إذَا وَجَدْت لَهَا كُفُؤًا فَزَوِّجْهُ إيَّاهَا ، وَلَوْ بِشِرَاكِ نَعْلِهِ .
فَزَوَّجَهَا عُمَرُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَهِيَ أُمُّ عُمَرَ بْنِ عُثْمَانَ .
وَاشْتَهَرَ ذَلِكَ فَلَمْ يُنْكَرْ ، وَلِأَنَّهُ إذْنٌ فِي النِّكَاحِ ،

فَجَازَ مُطْلَقًا ، كَإِذْنِ الْمَرْأَةِ ، أَوْ عَقْدٌ فَجَازَ التَّوْكِيلُ فِيهِ مُطْلَقًا .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( 5166 ) فَصْلٌ : وَلَا يُعْتَبَرُ فِي صِحَّةِ الْوَكَالَةِ إذْنُ الْمَرْأَةِ فِي التَّوْكِيلِ ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُوَكِّلُ أَبًا أَوْ غَيْرَهُ .
وَلَا يَفْتَقِرُ إلَى حُضُورِ شَاهِدَيْنِ .
وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ : لَا يَجُوزُ لِغَيْرِ الْمُجْبِرِ التَّوْكِيلُ إلَّا بِإِذْنِ الْمَرْأَةِ .
وَخَرَّجَهُ الْقَاضِي عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي تَوْكِيلِ الْوَكِيلِ مِنْ غَيْرِ إذْنِ الْمُوَكَّلِ .
وَحُكِيَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ ، أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إلَّا بِحَضْرَةِ شَاهِدَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ يُرَادُ لِحِلِّ الْوَطْءِ ، فَافْتَقَرَ إلَى الشَّهَادَةِ ، كَالنِّكَاحِ وَلَنَا ، أَنَّهُ إذْنٌ مِنْ الْوَلِيِّ فِي التَّزْوِيجِ ، فَلَمْ يَفْتَقِرْ إلَى إذْنِ الْمَرْأَةِ ، وَلَا إلَى إشْهَادٍ ، كَإِذْنِ الْحَاكِمِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْوَلِيَّ لَيْسَ بِوَكِيلٍ لِلْمَرْأَةِ ، وَهَذَا التَّوْكِيلُ لَا يَمْلِكُ بِهِ الْبُضْعَ ، فَلَمْ يَفْتَقِرْ إلَى إشْهَادٍ ، بِخِلَافِ النِّكَاحِ .
وَيَبْطُلُ مَا ذَكَرَهُ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ بِالتَّسَرِّي .

( 5167 ) فَصْلٌ : وَيَثْبُتُ لِلْوَكِيلِ مَا يَثْبُتُ لِلْمُوَكِّلِ .
وَإِنْ كَانَ لِلْوَلِيِّ الْإِجْبَارُ ثَبَتَ ذَلِكَ لِوَكِيلِهِ .
وَإِنْ كَانَتْ وِلَايَتُهُ وِلَايَةَ مُرَاجَعَةٍ ، احْتَاجَ الْوَكِيلُ إلَى إذْنِهَا وَمُرَاجَعَتِهَا ؛ لِأَنَّهُ نَائِبٌ فَيَثْبُتُ لَهُ مِثْلُ مَا ثَبَتَ لِمَنْ يَنُوبُ عَنْهُ .
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي السُّلْطَانِ وَالْحَاكِمِ يَأْذَنُ لِغَيْرِهِ فِي التَّزْوِيجِ ، فَيَكُونُ الْمَأْذُونُ لَهُ قَائِمًا مَقَامَهُ .

( 5168 ) فَصْلٌ : وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ هَلْ تُسْتَفَادُ وِلَايَةُ النِّكَاحِ بِالْوَصِيَّةِ ؟ فَرُوِيَ أَنَّهَا تُسْتَفَادُ بِهَا .
وَهُوَ اخْتِيَارُ الْخِرَقِيِّ ؛ لِقَوْلِهِ : أَوْ وَصَّى نَاظِرًا لَهُ فِي التَّزْوِيجِ .
وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ ، وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ ، وَمَالِكٍ وَعَنْهُ لَا تُسْتَفَادُ بِالْوَصِيَّةِ .
وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَالْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ ؛ لِأَنَّهَا وِلَايَةٌ تَنْتَقِلُ إلَى غَيْرِهِ شَرْعًا ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُوصِيَ بِهَا كَالْحَضَانَةِ ، وَلِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى الْوَصِيِّ فِي تَضْيِيعِهَا وَوَضْعِهَا عِنْدَ مَنْ لَا يُكَافِئُهَا ، فَلَمْ تَثْبُتْ لَهُ الْوِلَايَةُ كَالْأَجْنَبِيِّ ، وَلِأَنَّهَا وِلَايَةُ نِكَاحٍ ، فَلَمْ تَجُزْ الْوَصِيَّةُ بِهَا ، كَوِلَايَةِ الْحَاكِمِ وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ : إنْ كَانَ لَهَا عَصَبَةٌ ، لَمْ تَجُزْ الْوَصِيَّةُ بِنِكَاحِهَا ؛ لِأَنَّهُ يُسْقِطُ حَقَّهُمْ بِوَصِيَّتِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَصَبَةٌ ، جَازَ لِعَدَمِ ذَلِكَ .
وَلَنَا ، أَنَّهَا وِلَايَةٌ ثَابِتَةٌ لِلْأَبِ ، فَجَازَتْ وَصِيَّتُهُ بِهَا ، كَوِلَايَةِ الْمَالِ ، وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِيهَا فِي حَيَاتِهِ ، فَيَكُونَ نَائِبُهُ قَائِمًا مَقَامَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ ، فَجَازَ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِيهَا ، كَوِلَايَةِ الْمَالِ .
وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِوِلَايَةِ الْمَالِ .
فَعَلَى هَذَا لَا يَصِيرُ وَصِيًّا فِي النِّكَاحِ بِالْوَصِيَّةِ إلَيْهِ فِي الْمَالِ ؛ لِأَنَّهَا إحْدَى الْوِلَايَتَيْنِ ، فَلَمْ يَمْلِكْهَا بِالْوَصِيَّةِ إلَيْهِ فِي الْمَالِ ، كَالْوَصِيَّةِ الْأُخْرَى ، قِيَاسًا عَلَى وَصِيَّةِ الْمَالِ لَا تُمْلَكُ بِالْوَصِيَّةِ فِي النِّكَاحِ .

( 5169 ) فَصْلٌ : فَعَلَى هَذَا تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ بِالنِّكَاحِ مِنْ كُلِّ ذِي وِلَايَةٍ ، سَوَاءٌ كَانَ مُجْبِرًا كَالْأَبِ ، أَوْ غَيْرَ مُجْبِرٍ كَغَيْرِهِ ، وَوَصِيُّ كُلِّ وَلِيٍّ يَقُومُ مَقَامَهُ ، فَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ لَهُ الْإِجْبَارُ فَكَذَلِكَ لِوَصِيِّهِ .
وَإِنْ كَانَ يَحْتَاجُ إلَى إذْنِهَا فَوَصِيُّهُ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَهُ ، فَهُوَ كَالْوَكِيلِ .
وَقَالَ مَالِكٌ : إنْ عَيَّنَ الْأَبُ الزَّوْجَ ، مَلَكَ الْوَصِيُّ إجْبَارَهَا ، صَغِيرَةً كَانَتْ أَوْ كَبِيرَةً ، وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ الزَّوْجَ ، وَكَانَتْ ابْنَتُهُ كَبِيرَةً ، صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ ، وَاعْتُبِرَ إذْنُهَا ، وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً ، انْتَظَرْنَا بُلُوغَهَا ، فَإِذَا أَذِنَتْ ، جَازَ أَنْ يُزَوِّجَهَا بِإِذْنِهَا وَلَنَا ، أَنَّ مَنْ مَلَكَ التَّزْوِيجَ إذَا عُيِّنَ لَهُ الزَّوْجُ ، مَلَكَ مَعَ الْإِطْلَاقِ ، كَالْوَكِيلِ ، وَمَتَى زَوَّجَ وَصِيُّ الْأَبِ الصَّغِيرَةَ فَبَلَغَتْ ، فَلَا خِيَارَ لَهَا ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوصِي ، فَلَمْ يَثْبُتْ فِي تَزْوِيجِهِ خِيَارٌ ، كَالْوَكِيلِ .

( 5170 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : وَإِذَا كَانَ الْأَقْرَبُ مِنْ عَصَبَتِهَا طِفْلًا أَوْ كَافِرًا أَوْ عَبْدًا ، زَوَّجَهَا الْأَبْعَدُ مِنْ عَصَبَتِهَا .
وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْوِلَايَةَ لَا تَثْبُتُ لِطِفْلٍ وَلَا عَبْدٍ وَلَا كَافِرٍ عَلَى مُسْلِمَةٍ بِحَالٍ ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ وُجُودُهُمْ كَالْعَدَمِ ، فَتَثْبُتُ الْوِلَايَةُ لِمَنْ هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُمْ كَمَا لَوْ مَاتُوا .
وَتُعْتَبَرُ لِثُبُوتِ الْوِلَايَةِ لِمَنْ سَمَّيْنَا سِتَّةُ شُرُوطٍ ؛ الْعَقْلُ ، وَالْحُرِّيَّةُ ، وَالْإِسْلَامُ ، وَالذُّكُورِيَّةُ ، وَالْبُلُوغُ ، وَالْعَدَالَةُ ، عَلَى اخْتِلَافٍ نَذْكُرُهُ .
فَأَمَّا الْعَقْلُ ، فَلَا خِلَافَ فِي اعْتِبَارِهِ ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ إنَّمَا تَثْبُتُ نَظَرًا لِلْمُوَلَّى عَلَيْهِ عِنْدَ عَجْزِهِ عَنْ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ ، وَمَنْ لَا عَقْلَ لَهُ لَا يُمْكِنُهُ النَّظَرُ ، وَلَا يَلِي نَفْسَهُ ، فَغَيْرُهُ أَوْلَى ، وَسَوَاءٌ فِي هَذَا مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ لِصِغَرِهِ كَطِفْلٍ ، أَوْ مَنْ ذَهَبَ عَقْلُهُ بِجُنُونٍ أَوْ كِبَرٍ ، كَالشَّيْخِ إذَا أَفْنَدَ قَالَ الْقَاضِي : وَالشَّيْخُ الَّذِي قَدْ ضَعُفَ لِكِبَرِهِ ، فَلَا يَعْرِفُ مَوْضِعَ الْحَظِّ لَهَا ، لَا وِلَايَةَ لَهُ .
فَأَمَّا الْإِغْمَاءُ فَلَا يُزِيلُ الْوِلَايَةَ ؛ لِأَنَّهُ يَزُولُ عَنْ قُرْبٍ ، فَهُوَ كَالنَّوْمِ ، وَلِذَلِكَ لَا تَثْبُتُ الْوِلَايَةُ عَلَيْهِ ، وَيَجُوزُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ .
وَمَنْ كَانَ يُجَنُّ فِي الْأَحْيَانِ لَمْ تَزُلْ وِلَايَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَدِيمُ زَوَالُ عَقْلِهِ ، فَهُوَ كَالْإِغْمَاءِ .
الشَّرْطُ الثَّانِي ، الْحُرِّيَّةُ ، فَلَا وِلَايَةَ لَعَبْدٍ فِي قَوْلِ جَمَاعَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، فَإِنَّ الْعَبْدَ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ ، فَعَلَى غَيْرِهِ أَوْلَى .
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ : يَجُوزُ أَنْ يُزَوِّجَهَا الْعَبْدُ بِإِذْنِهَا ، بِنَاءً مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ تُزَوِّجُ نَفْسَهَا ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الشَّرْطُ الثَّالِثُ ، الْإِسْلَامُ ، فَلَا يَثْبُتُ لِكَافِرٍ وِلَايَةٌ عَلَى مُسْلِمَةٍ .
وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَيْضًا .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ :

أَجْمَعَ عَامَّةُ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى هَذَا .
قَالَ أَحْمَدُ : بَلَغَنَا أَنَّ عَلِيًّا أَجَازَ نِكَاحَ أَخٍ ، وَرَدَّ نِكَاحَ الْأَبِ وَكَانَ نَصْرَانِيًّا .
الشَّرْطُ الرَّابِعُ ، الذُّكُورِيَّةُ شَرْطٌ لِلْوِلَايَةِ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ ؛ لِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِيهَا الْكَمَالُ ، وَالْمَرْأَةُ نَاقِصَةٌ قَاصِرَةٌ ، تَثْبُتُ الْوِلَايَةُ عَلَيْهَا لِقُصُورِهَا عَنْ النَّظَرِ لِنَفْسِهَا ، فَلَأَنْ لَا تَثْبُتَ لَهَا وِلَايَةٌ عَلَى غَيْرِهَا أَوْلَى .
الشَّرْطُ الْخَامِسُ ، الْبُلُوغُ شَرْطٌ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ .
قَالَ أَحْمَدُ : لَا يُزَوِّجُ الْغُلَامُ حَتَّى يَحْتَلِمَ ، لَيْسَ لَهُ أَمْرٌ .
وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، مِنْهُمْ الثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ ، وَأَبُو ثَوْرٍ .
وَعَنْ أَحْمَدَ ، رِوَايَةٌ أُخْرَى ، أَنَّهُ إذَا بَلَغَ عَشْرًا زَوَّجَ ، وَتَزَوَّجَ ، وَطَلَّقَ ، وَأُجِيزَتْ وَكَالَتُهُ فِي الطَّلَاقِ .
وَهَذَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُ الْخِرَقِيِّ ؛ لِتَخْصِيصِهِ الْمَسْلُوبَ الْوِلَايَةُ بِكَوْنِهِ طِفْلًا ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ يَصِحُّ بَيْعُهُ وَوَصِيَّتُهُ وَطَلَاقُهُ ، فَثَبَتَتْ لَهُ الْوِلَايَةُ كَالْبَالِغِ .
وَالْأَوَّلُ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ يُعْتَبَرُ لَهَا كَمَالُ الْحَالِ ، لِأَنَّهَا تَنْفِيذُ التَّصَرُّفِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ اُعْتُبِرَتْ نَظَرًا لَهُ ، وَالصَّبِيُّ مَوْلًى عَلَيْهِ لِقُصُورِهِ ، فَلَا تَثْبُتُ لَهُ الْوِلَايَةُ ، كَالْمَرْأَةِ .
الشَّرْطُ السَّادِسُ ، الْعَدَالَةُ .
فِي كَوْنِهَا شَرْطًا رِوَايَتَانِ ؛ إحْدَاهُمَا ، هِيَ شَرْطٌ .
قَالَ أَحْمَدُ : إذَا كَانَ الْقَاضِي مِثْلَ ابْنِ الْحَلَبِيِّ وَابْنِ الْجَعْدِيِّ اسْتَقْبَلَ النِّكَاحَ .
فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ أَفْسَدَ النِّكَاحَ لِانْتِفَاءِ عَدَالَةِ الْمُتَوَلِّي لَهُ .
وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ؛ وَذَلِكَ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : لَا نِكَاحَ إلَّا بِشَاهِدَيْ عَدْلٍ وَوَلِيٍّ مُرْشِدٍ .
قَالَ أَحْمَدُ : أَصَحُّ شَيْءٍ فِي هَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَقَدْ رُوِيَ - يَعْنِي عَنْ ابْنِ

عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ .
وَأَيُّمَا امْرَأَةٍ أَنْكَحَهَا وَلِيٌّ مَسْخُوطٌ عَلَيْهِ ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ } وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْبَرْقَانِيِّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ مُرْشِدٍ ، وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ } .
وَلِأَنَّهَا وِلَايَةٌ نَظَرِيَّةٌ ، فَلَا يَسْتَبِدُّ بِهَا الْفَاسِقُ ، كَوِلَايَةِ الْمَالِ .
وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى ، لَيْسَتْ بِشَرْطٍ .
نَقَلَ مُثَنَّى بْنُ جَامِعٍ ، أَنَّهُ سَأَلَ أَحْمَدَ : إذَا تَزَوَّجَ بِوَلِيٍّ فَاسِقٍ ، وَشُهُودٍ غَيْرِ عُدُولٍ ؟ فَلَمْ يَرَ أَنَّهُ يَفْسُدُ مِنْ النِّكَاحِ شَيْءٌ ، وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الطِّفْلَ وَالْعَبْدَ وَالْكَافِرَ ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْفَاسِقَ .
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ يَلِي نِكَاحَ نَفْسِهِ ، فَتَثْبُتُ لَهُ الْوِلَايَةُ عَلَى غَيْرِهِ ، كَالْعَدْلِ ، وَلِأَنَّ سَبَبَ الْوِلَايَةِ الْقَرَابَةُ ، وَشَرْطَهَا النَّظَرُ ، وَهَذَا قَرِيبٌ نَاظِرٌ ، فَيَلِي كَالْعَدْلِ ( 5171 ) فَصْلٌ : وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ بَصِيرًا ؛ لِأَنَّ شُعَيْبًا عَلَيْهِ السَّلَامُ ، زَوَّجَ ابْنَتَهُ وَهُوَ أَعْمَى ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِي النِّكَاحِ يُعْرَفُ بِالسَّمَاعِ وَالِاسْتِفَاضَةِ ، فَلَا يَفْتَقِرُ إلَى النَّظَرِ .
وَلَا يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ نَاطِقًا ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَلِيَ الْأَخْرَسُ إذَا كَانَ مَفْهُومَ الْإِشَارَةِ ؛ لِأَنَّ إشَارَتَهُ تَقُومُ مَقَامَ نُطْقِهِ فِي سَائِرِ الْعُقُودِ وَالْأَحْكَامِ ، فَكَذَلِكَ فِي النِّكَاحِ .

( 5172 ) فَصْلٌ : وَمَنْ لَمْ تَثْبُتْ لَهُ الْوِلَايَةُ ، لَا يَصِحُّ تَوْكِيلُهُ ؛ لِأَنَّ وَكِيلَهُ نَائِبٌ عَنْهُ وَقَائِمٌ مَقَامَهُ .
وَإِنْ وَكَّلَهُ الْوَلِيُّ فِي تَزْوِيجِ مُوَلِّيَتِهِ ، لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهَا وِلَايَةٌ ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِهَا ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَمْلِكْ تَزْوِيجَ مُنَاسَبَتِهِ بِوِلَايَةِ النَّسَبِ ، فَلَأَنْ لَا يَمْلِكَ تَزْوِيجَ مُنَاسَبَةِ غَيْرِهِ بِالتَّوْكِيلِ أَوْلَى .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَصِحَّ تَوْكِيلُ الْعَبْدِ وَالْفَاسِقِ وَالصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ فِي الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ اللَّفْظِ بِالْعَقْدِ ، وَعِبَارَتُهُمْ فِيهِ صَحِيحَةٌ ، وَلِذَلِكَ صَحَّ قَبُولُهُمْ النِّكَاحَ لِأَنْفُسِهِمْ ، وَإِنَّمَا سُلِبُوا الْوِلَايَةَ نَفْسَهَا ؛ لِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ لَهَا الْكَمَالُ ، وَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ فِي اللَّفْظِ بِهِ فَأَمَّا إنْ وَكَّلَهُ الزَّوْجُ فِي قَبُولِ النِّكَاحِ لَهُ ، أَوْ وَكَّلَهُ الْأَبُ فِي قَبُولِ النِّكَاحِ لَابْنِهِ الصَّغِيرِ ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا : لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ طَرَفَيْ الْعَقْدِ ، فَلَمْ يَجُزْ تَوْكِيلُهُ فِيهِ كَالْإِيجَابِ .
وَيُحْتَمَلُ جَوَازُ تَوْكِيلِ مَنْ ذَكَرْنَا فِيهِ ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِهِ ، وَيَصِحُّ قَبُولُهُمْ النِّكَاحَ لِأَنْفُسِهِمْ ، فَجَازَ أَنْ يَنُوبُوا فِيهِ عَنْ غَيْرِهِمْ ، كَالْبَيْعِ .
وَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي الْعَبْدِ .

( 5173 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَيُزَوِّجُ أَمَةَ الْمَرْأَةِ بِإِذْنِهَا مَنْ يُزَوِّجُهَا ) اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِي مَنْ يُزَوِّجُ أَمَةَ الْمَرْأَةِ ، فَرُوِيَ عَنْهُ ، أَنَّهُ يَلِي نِكَاحَهَا وَلِيُّ سَيِّدَتِهَا .
قَالَ الْقَاضِي : هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ كَوْنُ الْوِلَايَةِ لَهَا ، فَامْتَنَعَتْ فِي حَقِّهَا لِقُصُورِهَا ، فَتَثْبُتُ لِأَوْلِيَائِهَا ، كَوِلَايَةِ نَفْسِهَا ، وَلِأَنَّهُمْ يَلُونَهَا لَوْ عَتَقَتْ ، فَفِي حَالِ رِقِّهَا أَوْلَى .
ثُمَّ إنْ كَانَتْ سَيِّدَتُهَا رَشِيدَةً ، لَمْ يَجُزْ تَزْوِيجُ أَمَتِهَا إلَّا بِإِذْنِهَا ؛ لِأَنَّهَا مَالُهَا ، وَلَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي مَالِ رَشِيدٍ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، وَيُعْتَبَرُ نُطْقُهَا بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا ؛ لِأَنَّ صُمَاتَهَا إنَّمَا اُكْتُفِيَ بِهِ فِي تَزْوِيجِ نَفْسِهَا لِحَيَائِهَا .
وَلَا تَسْتَحْيِي مِنْ تَزْوِيجِ أَمَتِهَا ، وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً أَوْ مَجْنُونَةً أَوْ سَفِيهَةً ، وَلِوَلِيِّهَا وِلَايَةٌ عَلَى مَالِهَا ، فَلَهُ تَزْوِيجُ أَمَتِهَا ، إنْ كَانَ الْحَظُّ فِي تَزْوِيجِهَا ، وَإِلَّا فَلَا يَمْلِكُ تَزْوِيجَهَا .
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي أَمَةِ ابْنِهِ الصَّغِيرِ .
وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ : لَيْسَ لَهُ تَزْوِيجُهَا بِحَالٍ ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَغْرِيرًا بِمَالِ الصَّغِيرَةِ ؛ لِأَنَّهَا رُبَّمَا حَمَلَتْ .
فَتَلِفَتْ .
وَلَنَا ، أَنَّ لَهُ التَّصَرُّفَ بِمَا فِيهِ الْحَظُّ ، وَالتَّزْوِيجُ هَاهُنَا فِيهِ الْحَظُّ ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيهِ ، فَجَازَ ، كَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ الْجَائِزَةِ وَاحْتِمَالُ الْخَطَرِ مَرْجُوحٌ لِمَا فِيهِ مِنْ تَحْصِيلِ مَهْرِهَا ، وَوَلَدِهَا ، وَكِفَايَةِ مُؤْنَتِهَا ، وَصِيَانَتِهَا عَنْ الزِّنَى الْمُوجِبِ لِلْحَدِّ فِي حَقِّهَا ، وَنَقْصِ قِيمَتِهَا ، وَالْمَرْجُوحُ كَالْمَعْدُومِ وَإِنْ كَانَ وَلِيُّهَا فِي مَالِهَا غَيْرَ وَلِيِّ تَزْوِيجِهَا ، فَوِلَايَةُ تَزْوِيجِهَا لِلْوَلِيِّ فِي الْمَالِ دُونَ وَلِيِّ التَّزْوِيجِ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِي الْمَالِ ، وَهِيَ مَالٌ .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ ، أَنَّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُوَلِّيَ

أَمْرَ أَمَتِهَا رَجُلًا يُزَوِّجُهَا .
نَقَلَهَا عَنْ أَحْمَدَ جَمَاعَةٌ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْوِلَايَةِ الْمِلْكُ ، وَقَدْ تَحَقُّقَ فِي الْمَرْأَةِ ، وَامْتَنَعَتْ الْمُنَاشَزَةُ لِنَقْصِ الْأُنُوثَة ، فَمَلَكَتْ التَّوْكِيلَ ، كَالرَّجُلِ الْمَرِيضِ وَالْغَائِبِ .
وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ كَلَامٌ يَحْتَمِلُ رِوَايَةً ثَالِثَةً ، وَهُوَ أَنَّ سَيِّدَتَهَا تُزَوِّجُهَا ، فَإِنَّهُ قِيلَ لَهُ : تُزَوِّجُ أَمَتَهَا ؟ قَالَ : قَدْ قِيلَ ذَلِكَ ، هِيَ مَالُهَا .
وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنَّهُ ذَهَبَ إلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهَا مَالِكَةٌ لَهَا ، وَوِلَايَتُهَا تَامَّةٌ عَلَيْهَا ، فَمَلَكَتْ تَزْوِيجَهَا ، كَالسَّيِّدِ ، وَلِأَنَّهَا تَمْلِكُ بَيْعَهَا وَإِجَارَتَهَا ، فَمَلَكَتْ تَزْوِيجَهَا ، كَسَيِّدِهَا ، وَلِأَنَّ الْوِلَايَةَ إنَّمَا تَثْبُتُ عَلَى الْمَرْأَةِ لِتَحْصِيلِ الْكِفَايَةِ ، وَصِيَانَةً لِحَظِّ الْأَوْلِيَاءِ فِي تَحْصِيلِهَا ، فَلَا تَثْبُتُ عَلَيْهَا الْوِلَايَةُ فِي أَمَتِهَا ؛ لِعَدَمِ اعْتِبَارِ الْكِفَايَةِ ، وَعَدَمِ الْحَقِّ لِلْأَوْلِيَاءِ فِيهَا .
وَيُحْتَمَلُ أَنَّ أَحْمَدَ قَالَ هَذَا حِكَايَةً لِمَذْهَبِ غَيْرِهِ ، فَإِنَّهُ قَدْ قَالَ فِي سِيَاقِهَا : أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ تَأْمُرَ مَنْ يُزَوِّجُهَا ؛ لِأَنَّ النِّسَاءَ لَا يَعْقِدْنَ .
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي خَبَرِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : لَا تُنْكِحُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ } .
وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : زَوِّجُوا ، فَإِنَّ النِّسَاءَ لَا يُزَوِّجْنَ ، وَاعْقِدُوا ، فَإِنَّ النِّسَاءَ لَا يَعْقِدْنَ .
وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَمْلِكُ أَنْ تُزَوِّجَ نَفْسَهَا ، فَغَيْرَهَا أَوْلَى .

مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : وَيُزَوِّجُ مَوْلَاتَهَا مَنْ يُزَوِّجُ أَمَتَهَا يَعْنِي عَتِيقَتَهَا .
وَهَذِهِ فِيهَا رِوَايَتَانِ ؛ إحْدَاهُمَا ، أَنَّ لِمَوْلَاتِهَا التَّوْكِيلَ فِي تَزْوِيجِهَا رَجُلًا ؛ لِأَنَّهَا عَصَبَتُهَا ، وَتَرِثُهَا بِالتَّعْصِيبِ ، فَأَشْبَهْت الْمُعْتِقَ .
وَالثَّانِيَةُ ، وَلِيُّ سَيِّدَتِهَا وَلِيُّهَا .
وَهِيَ الْأَصَحُّ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ وِلَايَةٌ لِنِكَاحِ حُرَّةٍ ، وَالْمَرْأَةُ لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ ، فَيَكُونُ إلَى عَصَبَاتِهَا ، لِأَنَّهُمْ الَّذِينَ يَعْقِلُونَ عَنْهَا ، وَيَرِثُونَهَا بِالتَّعْصِيبِ عِنْدَ عَدَمِ سَيِّدَتِهَا ، فَكَانُوا أَوْلِيَاءَهَا ، كَمَا لَوْ تَعَذَّرَ عَلَى الْمُعْتِقِ تَزْوِيجُ مُعْتَقَتِهِ لِمَوْتٍ أَوْ جُنُونٍ .
وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ إذَا انْقَرَضَ الْعَصَبَةُ مِنْ النَّسَبِ ، وَلِي الْمَوْلَى الْمُعْتِقُ ثُمَّ عَصَبَاتُهُ مِنْ بَعْدِهِ ، الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ ، كَذَا هَاهُنَا ، إلَّا أَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ هَاهُنَا تَقْدِيمُ أَبِي الْمُعْتَقَةِ عَلَى ابْنِهَا ، لِأَنَّهُ الَّذِي يُزَوِّجُهَا .
وَذَكَرْنَا ثَمَّ خِلَافَ هَذَا .
وَيُعْتَبَرُ فِي وِلَايَتِهِ شَرْطَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، عَدَمُ الْعَصَبَةِ مِنْ النَّسَبِ ؛ لِأَنَّ الْمُنَاسِبَ أَقْرَبُ مِنْ الْمُعْتِقِ ، وَأَوْلَى مِنْهُ .
الثَّانِي ، إذْنُ الْمُزَوِّجَةِ ؛ لِأَنَّهَا حُرَّةٌ ، وَلَيْسَتْ لَهُ وِلَايَةُ إجْبَارٍ ، فَإِنَّهُ أَبْعَدُ الْعَصَبَاتِ ، وَلَا يَفْتَقِرُ إلَى إذْنِ مَوْلَاتِهَا ؛ لِأَنَّهَا لَا وِلَايَةَ لَهَا وَلَا مِلْكَ ، فَأَشْبَهَتْ قَرِيبَ الطِّفْلِ إذَا زَوَّجَ الْبَعِيدَ .

( 5175 ) فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ لِلْأَمَةِ مَوْلًى ، فَهُوَ وَلِيُّهَا ، وَإِنْ كَانَ لَهَا مَوْلَيَانِ ، فَالْوِلَايَةُ لَهُمَا ، وَلَيْسَ لَوَاحِدٍ مِنْهُمَا الِاسْتِقْلَالُ بِالْوِلَايَةِ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إلَّا نِصْفَهَا .
وَإِنْ اشْتَجَرَا لَمْ يَكُنْ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَنُوبَ عَنْهُمَا ؛ لِأَنَّ تَزْوِيجَهَا تَصَرُّفٌ فِي الْمَالِ ، بِخِلَافِ الْحُرَّةِ ، فَإِنَّ نِكَاحَهَا حَقٌّ لَهَا ، وَنَفْعَهُ عَائِدٌ إلَيْهَا ، وَنِكَاحُ الْأَمَةِ حَقٌّ لِسَيِّدِهَا ، وَنَفْعُهُ عَائِدٌ إلَيْهِ ، فَلَمْ يَثْبُتْ لِلسُّلْطَانِ عَنْهُ فِيهِ .
فَإِنْ أَعْتَقَاهَا وَلَهَا عَصَبَةٌ مُنَاسِبٌ ، فَهُوَ أَوْلَى مِنْهُمَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا عَصَبَةٌ ، فَهُمَا وَلِيَّاهَا ، وَلَا يَسْتَقِلُّ أَحَدُهُمَا بِالتَّزْوِيجِ ؛ لِأَنَّ وِلَايَتَهُ عَلَى نِصْفِهَا فَإِنْ اشْتَجَرَا أَمَامَ الْحَاكِمِ أَقَامَ الْحَاكِمُ مُقَامَ الْمُمْتَنِعِ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ حُرَّةً ، وَصَارَ نِكَاحُهَا حَقًّا لَهَا .
وَإِنْ كَانَ الْمُعْتِقُ أَوْ الْمُعْتِقَةُ وَاحِدًا ، وَلَهُ عَصَبَتَانِ فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ ، كَالِابْنَيْنِ أَوْ الْأَخَوَيْنِ ، فَلِأَحَدِهِمَا الِاسْتِقْلَالُ بِتَزْوِيجِهَا ، كَمَا يَمْلِكُ تَزْوِيجَ سَيِّدَتِهَا .

( 5176 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً هُوَ وَلِيُّهَا ، جَعَلَ أَمْرَهَا إلَى رَجُلٍ يُزَوِّجُهَا مِنْهُ بِإِذْنِهَا ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ وَلِيَّ الْمَرْأَةِ الَّتِي يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا ، وَهُوَ ابْنُ الْعَمِّ ، أَوْ الْمَوْلَى أَوْ الْحَاكِمُ ، أَوْ السُّلْطَانُ ، إذَا أَذِنَتْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا ، فَلَهُ ذَلِكَ ، وَهَلْ لَهُ أَنْ يَلِيَ طَرَفَيْ الْعَقْدِ بِنَفْسِهِ ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ ؛ إحْدَاهُمَا ، لَهُ ذَلِكَ .
وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ ، وَابْنِ سِيرِينَ ، وَرَبِيعَةَ ، وَمَالِكٍ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ ، وَإِسْحَاقَ ، وَأَبِي ثَوْرٍ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ ؛ لِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ ، قَالَ : قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ ، لِأُمِّ حَكِيمٍ ابْنَةِ قَارِظٍ : أَتَجْعَلِينَ أَمْرَكِ إلَيَّ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ .
قَالَ : قَدْ تَزَوَّجْتُك .
وَلِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْإِيجَابَ وَالْقَبُولَ ، فَجَازَ أَنْ يَتَوَلَّاهُمَا ، كَمَا لَوْ زَوَّجَ أَمَتَهُ عَبْدَهُ الصَّغِيرَ ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ وُجِدَ فِيهِ الْإِيجَابُ مِنْ وَلِيٍّ ثَابِتِ الْوِلَايَةِ ، وَالْقَبُولُ مِنْ زَوْجٍ هُوَ أَهْلٌ لِلْقَبُولِ ، فَصَحَّ ، كَمَا لَوْ وُجِدَا مِنْ رَجُلَيْنِ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : أَعْتَقَ صَفِيَّةَ ، وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا .
} فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : كُلُّ نِكَاحٍ لَمْ يَحْضُرْهُ أَرْبَعَةٌ فَهُوَ سِفَاحٌ : زَوْجٌ ، وَوَلِيٌّ ، وَشَاهِدَانِ } .
قُلْنَا : هَذَا لَا نَعْرِفُ صِحَّتَهُ ، وَإِنْ صَحَّ فَهُوَ مَخْصُوصٌ بِمَنْ زَوَّجَ أَمَتَهُ عَبْدَهُ الصَّغِيرَ ، فَيُخَصُّ مِنْهُ مَحِلُّ النِّزَاعِ أَيْضًا وَهَلْ يَفْتَقِرُ إلَى ذِكْرِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ ، أَمْ يُكْتَفَى بِمُجَرَّدِ الْإِيجَابِ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، يَحْتَاجُ أَنْ يَقُولَ : زَوَّجْت نَفْسِي فُلَانَةَ ، وَقَبِلْت هَذَا النِّكَاحَ .
لِأَنَّ مَا افْتَقَرَ إلَى الْإِيجَابِ افْتَقَرَ إلَى الْقَبُولِ ، كَسَائِرِ الْعُقُودِ .
وَالثَّانِي ، يَكْفِيهِ أَنْ يَقُولَ : زَوَّجْت نَفْسِي فُلَانَةَ ، أَوْ تَزَوَّجْت فُلَانَةَ .

وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، وَأَبِي حَنِيفَة ؛ لِحَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ، وَلِأَنَّ إيجَابَهُ يَتَضَمَّنُ الْقَبُولَ ، فَأَشْبَهَ إذَا تَقَدَّمَ الِاسْتِدْعَاءُ ، وَلِهَذَا قُلْنَا : إذَا قَالَ لِأَمَتِهِ : قَدْ أَعْتَقْتُك ، وَجَعَلْت عِتْقَك صَدَاقَك .
انْعَقَدَ النِّكَاحُ بِمُجَرَّدِ هَذَا الْقَوْلِ وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّى طَرَفَيْ الْعَقْدِ ، وَلَكِنْ يُوَكِّلُ رَجُلًا يُزَوِّجُهُ إيَّاهَا بِإِذْنِهَا .
قَالَ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ : لَا يُزَوِّجُ نَفْسَهُ حَتَّى يُوَلِّيَ رَجُلًا ، عَلَى حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ ، وَهُوَ مَا رَوَى أَبُو دَاوُد ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ ، أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ أَمَرَ رَجُلًا زَوَّجَهُ امْرَأَةً الْمُغِيرَةُ أَوْلَى بِهِ مِنْهُ .
وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ مَلَكَهُ بِالْإِذْنِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَوَلَّى طَرَفَيْهِ ، كَالْبَيْعِ .
وَبِهَذَا فَارَقَ مَا إذَا زَوَّجَ أَمَتَهُ عَبْدَهُ الصَّغِيرَ وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ ، إنْ وَكَّلَ مَنْ يَقْبَلُ لَهُ النِّكَاحَ ، وَتَوَلَّى هُوَ الْإِيجَابَ ، جَازَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي ابْنِ الْعَمِّ وَالْمَوْلَى : لَا يُزَوِّجُهَا إلَّا الْحَاكِمُ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّى طَرَفَيْ الْعَقْدِ ، وَلَا أَنْ يُوَكِّلَ مَنْ يُزَوِّجُهُ ؛ لِأَنَّ وَكِيلَهُ بِمَنْزِلَتِهِ ، وَهَذَا عَقْدٌ مَلَكَهُ بِالْإِذْنِ ، فَلَا يَتَوَلَّى طَرَفَيْهِ ، كَالْبَيْعِ .
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُزَوِّجَهُ مَنْ هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُمْ مَعَ وُجُودِهِ .
وَلَنَا ، مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ فِعْلِ الصَّحَابَةِ ، وَلَمْ يَظْهَرْ خِلَافُهُ ، وَلِأَنَّ وَكِيلَهُ يَجُوزُ أَنْ يَلِيَ الْعَقْدَ عَلَيْهَا لِغَيْرِهِ ، فَصَحَّ أَنْ يَلِيَهُ عَلَيْهَا لَهُ إذَا كَانَتْ تَحِلُّ لَهُ ، كَالْإِمَامِ إذَا أَرَادَ أَنْ يُزَوِّجَ مُوَلِّيَتَهُ وَلِأَنَّ هَذِهِ امْرَأَةٌ ، وَلَهَا وَلِيٌّ حَاضِرٌ غَيْرُ عَاضِلٍ ، فَلَمْ يَلِهَا الْحَاكِمُ ، كَمَا لَوْ أَرَادَ أَنْ يُزَوِّجَهَا غَيْرَهُ .
وَمَفْهُومُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { : السُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا

وَلِيَّ لَهُ } .
أَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى هَذِهِ .
( 5177 ) فَصْلٌ : وَإِذَا أَذِنَتْ لَهُ فِي تَزْوِيجِهَا ، وَلَمْ تُعَيِّنْ الزَّوْجَ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُزَوِّجَهَا نَفْسَهُ ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَ الْإِذْنِ يَقْتَضِي تَزْوِيجَهَا غَيْرَهُ ، وَيَجُوزُ تَزْوِيجُهَا لِوَلَدِهِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُهُ .
فَإِنْ زَوَّجَهَا لِابْنِهِ الْكَبِيرِ ، قَبِلَ لِنَفْسِهِ ، وَإِنْ زَوَّجَهَا لِابْنِهِ الصَّغِيرِ ، فَفِيهِ الرِّوَايَتَانِ فِي تَوَلِّي طَرَفَيْ الْعَقْدِ ؛ فَإِنْ قُلْنَا : لَا يَتَوَلَّاهُ فَوَكَّلَ رَجُلًا يُزَوِّجُهَا لِوَلَدِهِ ، وَقَبِلَ هُوَ النِّكَاحَ لَهُ ، افْتَقَرَ إلَى إذْنِهَا لِلْوَكِيلِ ، عَلَى مَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ الْوَكِيلَ لَا يُزَوِّجُهَا إلَّا بِإِذْنِهَا .
وَإِنْ وَكَّلَ رَجُلًا يَقْبَلُ لِوَلَدِهِ النِّكَاحَ ، وَأَوْجَبَ هُوَ النِّكَاحَ ، لَمْ يَحْتَجْ إلَى إذْنِهَا ؛ لِأَنَّهَا قَدْ أَذِنَتْ لَهُ .

( 5178 ) فَصْلٌ : وَإِذَا زَوَّجَ أَمَتَهُ عَبْدَهُ الصَّغِيرَ ، جَازَ لَهُ أَنْ يَتَوَلَّى طَرَفَيْ الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّهُ مَالِكُ ذَلِكَ بِحُكْمِ الْمِلْكِ ، لَا بِحُكْمِ الْإِذْنِ ، فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا .
وَإِنْ كَانَ مَالِكًا لِأَحَدِ طَرَفَيْ الْعَقْدِ ، فَوَكَّلَهُ مَالِكُ الطَّرَفِ الْآخَرِ فِيهِ ، أَوْ وَكَّلَهُ الْوَلِيُّ فِي الْإِيجَابِ وَالزَّوْجُ فِي الْقَبُولِ ، خُرِّجَ فِيهِ وَجْهَانِ ، بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ ذَلِكَ بِالْإِذْنِ وَإِنْ زَوَّجَ ابْنَتَهُ الْكَبِيرَةَ عَبْدَهُ الصَّغِيرَ ، لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ إلَّا بِرِضَاهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكَادُ يُكَافِئُهَا ، فَيُخَرَّجُ فِيهِ أَيْضًا وَجْهَانِ .
وَإِنْ زَوَّجَهُ ابْنَتَهُ الصَّغِيرَةَ ، لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ تَزْوِيجُهَا مِمَّنْ لَا يُكَافِئُهَا .
وَعَنْهُ يَجُوزُ .
وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

( 5179 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَلَا يُزَوِّجُ كَافِرٌ مُسْلِمَةً بِحَالٍ ، وَلَا مُسْلِمٌ كَافِرَةً إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُ سُلْطَانًا ، أَوْ سَيِّدَ أَمَةٍ ) أَمَّا الْكَافِرُ فَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى مُسْلِمَةٍ بِحَالٍ ، بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، مِنْهُمْ ؛ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو عُبَيْدٍ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ عَلَى هَذَا كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ فِي الذِّمِّيِّ : إذَا أَسْلَمَتْ أُمُّ وَلَدِهِ ، هَلْ يَلِي نِكَاحَهَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا ، يَلِيهِ ؛ لِأَنَّهَا مَمْلُوكَتُهُ ، فَيَلِي نِكَاحَهَا كَالْمُسْلِمِ ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَيْهَا فَيَلِيهِ كَإِجَارَتِهَا .
وَالثَّانِي ، لَا يَلِيهِ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } وَلِأَنَّهَا مُسْلِمَةٌ فَلَا يَلِي نِكَاحَهَا كَابْنَتِهِ .
فَعَلَى هَذَا يُزَوِّجُهَا الْحَاكِمُ وَهَذَا أَوْلَى ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْإِجْمَاعِ .
وَأَمَّا الْمُسْلِمُ فَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الْكَافِرَةِ ، غَيْرَ السَّيِّدِ وَالسُّلْطَانِ وَوَلِيِّ سَيِّدِ الْأَمَةِ الْكَافِرَةِ ؛ وَذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } .
وَلِأَنَّ مُخْتَلِفَيْ الدِّينِ لَا يَرِثُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ ، وَلَا يَعْقِلُ عَنْهُ ، فَلَمْ يَلِ عَلَيْهِ ، كَمَا لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا رَقِيقًا .
وَأَمَّا سَيِّدُ الْأَمَةِ الْكَافِرَةِ ، فَلَهُ تَزْوِيجُهَا لِكَافِرٍ ؛ لِكَوْنِهَا لَا تَحِلُّ لِلْمُسْلِمِينَ ، وَكَذَلِكَ وَلِيُّ سَيِّدِ الْأَمَةِ الْكَافِرَةِ يَلِي تَزْوِيجَهَا لِكَافِرٍ ؛ لِأَنَّهَا وِلَايَةٌ بِالْمِلْكِ ، فَلَمْ يَمْنَعْهَا كَوْنُ سَيِّدِ الْأَمَةِ الْكَافِرَةِ مُسْلِمًا ، كَسَائِرِ الْوِلَايَاتِ ، وَلِأَنَّ هَذِهِ تَحْتَاجُ إلَى التَّزْوِيجِ .
وَلَا وَلِيَّ لَهَا غَيْرُ سَيِّدِهَا فَأَمَّا السُّلْطَانُ ، فَلَهُ الْوِلَايَةُ عَلَى مَنْ لَا وَلِيَّ لَهَا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ ؛ لِأَنَّ وِلَايَتَهُ عَامَّةٌ عَلَى أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَهَذِهِ مِنْ أَهْلِ الدَّارِ ، فَتَثْبُتُ لَهُ

الْوِلَايَةُ عَلَيْهَا ، كَالْمُسْلِمَةِ .
وَأَمَّا الْكَافِرُ ، فَتَثْبُتُ لَهُ الْوِلَايَةُ عَلَى أَهْلِ دِينِهِ ، عَلَى حَسَبِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْمُسْلِمِينَ ، وَيُعْتَبَرُ فِيهِمْ الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْمُسْلِمِينَ ، وَيُخَرَّجُ فِي اعْتِبَارِ عَدَالَتِهِ فِي دِينِهِ وَجْهَانِ ، بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي اعْتِبَارِهَا فِي الْمُسْلِمِينَ .

( 5180 ) فَصْلٌ : إذَا تَزَوَّجَ الْمُسْلِمُ ذِمِّيَّةً ، فَوَلِيُّهَا الْكَافِرُ يُزَوِّجُهَا إيَّاهُ .
ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ وَلِيُّهَا ، فَصَحَّ تَزْوِيجُهُ لَهَا ، كَمَا لَوْ زَوَّجَهَا كَافِرًا ، وَلِأَنَّ هَذِهِ امْرَأَةٌ لَهَا وَلِيَّ مُنَاسِبٌ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَلِيَهَا غَيْرُهُ ، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا ذِمِّيٌّ وَقَالَ الْقَاضِي : لَا يُزَوِّجُهَا إلَّا الْحَاكِمُ ؛ لِأَنَّ أَحْمَدَ قَالَ : لَا يَعْقِدُ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ عُقْدَةَ نِكَاحٍ لِمُسْلِمٍ وَلَا مُسْلِمَةٍ .
وَوَجْهُهُ أَنَّهُ عَقْدٌ يَفْتَقِرُ إلَى شَهَادَةِ مُسْلِمَيْنِ ، فَلَمْ يَصِحَّ بِوِلَايَةِ كَافِرٍ ، كَنِكَاحِ الْمُسْلِمِينَ ، وَالْأُوَلُ أَصَحُّ ، وَالشُّهُودُ يُرَادُونَ لِإِثْبَاتِ النِّكَاحِ عِنْدَ الْحَاكِمِ ، بِخِلَافِ الْوِلَايَةِ .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71