الكتاب : المغني
المؤلف : أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد ، الشهير بابن قدامة المقدسي

بْنِ مُطْعِمٍ ، وَأَبُو أَسْمَاءَ الرَّحَبِيُّ ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ .
وَكَرِهَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَشُرَيْحٌ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِهِ ؛ لِمَا رَوَى الْحَارِثُ عَنْ عَلِيٍّ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَفْتَحُ عَلَى الْإِمَامِ } وَلَنَا : مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ ، { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى صَلَاةً ، فَقَرَأَ فِيهَا ، فَلُبِسَ عَلَيْهِ ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ لِأُبَيٍّ أَصْلَيْتَ مَعَنَا ؟ .
قَالَ : نَعَمْ قَالَ : فَمَا مَنَعَك ؟ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ { : تَرَدَّدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقِرَاءَةِ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ ، فَلَمْ يَفْتَحُوا عَلَيْهِ ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ نَظَرَ فِي وُجُوهِ الْقَوْمِ ، فَقَالَ : أَمَا شَهِدَ الصَّلَاةَ مَعَكُمْ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ ؟ قَالُوا : لَا } فَرَأَى الْقَوْمُ أَنَّهُ إنَّمَا تَفَقَّدَهُ لِيَفْتَحَ عَلَيْهِ .
رَوَاهُ الْأَثْرَمُ وَرَوَى مُسَوَّرُ بْنُ يَزِيدَ الْمَالِكِيُّ قَالَ : { شَهِدْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ فَتَرَكَ آيَةً مِنْ الْقُرْآنِ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، آيَةَ كَذَا وَكَذَا تَرَكْتَهَا .
قَالَ : فَهَلَّا ذَكَّرْتَنِيهَا ؟ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْأَثْرَمُ وَلِأَنَّهُ تَنْبِيهٌ لِإِمَامِهِ بِمَا هُوَ مَشْرُوعٌ فِي الصَّلَاةِ ، فَأَشْبَهَ التَّسْبِيحَ وَحَدِيثُ عَلِيٍّ يَرْوِيهِ الْحَارِثُ وَقَالَ الشَّعْبِيُّ : كَانَ كَذَّابًا ، وَقَدْ قَالَ عَنْ نَفْسِهِ : إذَا اسْتَطْعَمَك الْإِمَامُ فَأَطْعِمْهُ .
يَعْنِي إذَا تَعَايَى فَارْدُدْ عَلَيْهِ .
رَوَاهُ الْأَثْرَمُ .
وَقَالَ الْحَسَنُ إنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ يَقُولُونَ : لَا تَفْتَحْ عَلَى الْإِمَامِ .
وَمَا بَأْسٌ بِهِ ، أَلَيْسَ يَقُولُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَقَالَ أَبُو دَاوُد : لَمْ يَسْمَعْ أَبُو إِسْحَاقَ مِنْ الْحَارِثِ إلَّا أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ ، لَيْسَ هَذَا مِنْهَا .

( 944 ) فَصْلٌ : وَإِذَا ارْتَجَّ عَلَى الْإِمَامِ فِي الْفَاتِحَةِ لَزِمَ مَنْ وَرَاءَهُ الْفَتْحُ عَلَيْهِ ، كَمَا لَوْ نَسِيَ سَجْدَةً لَزِمَهُمْ تَنْبِيهُهُ بِالتَّسْبِيحِ .
فَإِنْ عَجَزَ عَنْ إتْمَامِ الْفَاتِحَةِ فَلَهُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ مَنْ يُصَلِّي بِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ عُذْرٌ ، فَجَازَ أَنْ يَسْتَخْلِفَ مِنْ أَجْلِهِ ، كَمَا لَوْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ .
وَكَذَلِكَ لَوْ عَجَزَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ عَنْ رُكْنٍ يَمْنَعُ الِائْتِمَامَ ، كَالرُّكُوعِ أَوْ السُّجُودِ ، فَإِنَّهُ يَسْتَخْلِفُ مَنْ يُتِمُّ بِهِمْ الصَّلَاةَ ، كَمَنْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ بَلْ هَذَا أَوْلَى بِالِاسْتِخْلَافِ ؛ لِأَنَّ مَنْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ قَدْ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ ، وَهَذَا صَلَاتُهُ صَحِيحَةُ فَكَانَ بِالِاسْتِخْلَافِ أَوْلَى .
وَإِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى إتْمَامِ الْفَاتِحَةِ ، فَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : يَأْتِي بِمَا يُحْسِنُ وَيَسْقُطُ عَنْهُ مَا عَجَزَ عَنْهُ ، وَتَصِحُّ صَلَاتُهُ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ رُكْنٌ عَجَزَ عَنْهُ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ ، فَسَقَطَ كَالْقِيَامِ ، فَأَمَّا الْمَأْمُومُ فَإِنْ كَانَ أُمِّيًّا عَاجِزًا عَنْ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ صَحَّتْ صَلَاتُهُ أَيْضًا وَإِنْ كَانَ قَارِئًا نَوَى مُفَارَقَتَهُ ، وَأَتَمَّ وَحْدَهُ ، وَلَا يَصِحُّ لَهُ إتْمَامُ الصَّلَاةِ خَلْفَهُ لِأَنَّ هَذَا قَدْ صَارَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْأُمِّيِّ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ أَنَّ صَلَاتَهُ تَفْسُدُ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الصَّلَاةِ بِقِرَاءَتِهَا فَلَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ بِدُونِ ذَلِكَ ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ } وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ هَذَا عَلَى الْأُمِّيِّ لِأَنَّ الْأُمِّيَّ لَوْ قَدَرَ عَلَى تَعَلُّمِهَا قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ ، لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ بِدُونِهَا ، وَهَذَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَخْرُجَ فَيَسْأَلَ عَمَّا وَقَفَ عَلَيْهِ وَيُصَلِّيَ ، وَلَا قِيَاسُهُ عَلَى أَرْكَانِ الْأَفْعَالِ ؛ لِأَنَّ خُرُوجَهُ عَنْ الصَّلَاةِ لَا يُزِيلُ عَجْزَهُ عَنْهَا ، وَلَا يَأْمَنُ عَوْدَ مِثْلِ ذَلِكَ لِعَجْزٍ بِخِلَافِ هَذَا .
النَّوْعُ الثَّانِي : مَا لَا يَتَعَلَّقُ

بِتَنْبِيهِ آدَمِيٍّ ، إلَّا أَنَّهُ لِسَبَبٍ مِنْ غَيْرِ الصَّلَاةِ ، مِثْلُ أَنْ يَعْطِسُ فَيَحْمَدَ اللَّهَ ، أَوْ تَلْسَعَهُ عَقْرَبٌ فَيَقُولَ : بِسْمِ اللَّهِ .
أَوْ يَسْمَعَ ، أَوْ يَرَى مَا يَغُمُّهُ فَيَقُولَ : { إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ } أَوْ يَرَى عَجَبًا فَيَقُولَ : سُبْحَانَ اللَّهِ .
فَهَذَا لَا يُسْتَحَبُّ فِي الصَّلَاةِ وَلَا يُبْطِلُهَا نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ ، فِي مَنْ عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ ، لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ وَقَالَ ، فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا ، فِي مَنْ قِيلَ لَهُ وَهُوَ يُصَلِّي : وُلِدَ لَك غُلَامٌ .
فَقَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ أَوْ قِيلَ لَهُ : احْتَرَقَ دُكَّانُك قَالَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ أَوْ ذَهَبَ كِيسُك : فَقَالَ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ فَقَدْ مَضَتْ صَلَاتُهُ وَلَوْ قِيلَ : لَهُ مَاتَ أَبُوك .
فَقَالَ { إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ } فَلَا يُعِيدُ صَلَاتَهُ .
وَذَكَرَ حَدِيثَ عَلِيٍّ حِينَ أَجَابَ الْخَارِجِيَّ .
وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ، وَأَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تَفْسُدُ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ كَلَامُ آدَمِيٍّ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مِثْلُ هَذَا ؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِي مَنْ قِيلَ لَهُ : وُلِدَ لَك غُلَامٌ .
فَقَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .
أَوْ ذَكَرَ مُصِيبَةً ، فَقَالَ : { إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ } .
قَالَ يُعِيدُ الصَّلَاةَ .
وَقَالَ الْقَاضِي : هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ قَصَدَ خِطَابَ آدَمِيٍّ .
وَلَنَا مَا رَوَى عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ ، قَالَ : { عَطَسَ شَابٌّ مِنْ الْأَنْصَارِ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ ، فَقَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ ، حَتَّى يَرْضَى رَبُّنَا ، وَبَعْدَمَا يَرْضَى مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ .
فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَنْ الْقَائِلُ هَذِهِ الْكَلِمَةَ ؟ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ بَأْسًا ، مَا تَنَاهَتْ دُونَ الْعَرْشِ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَعَنْ عَلِيٍّ ، أَنَّهُ قَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ الْخَوَارِجِ ، وَهُوَ فِي

صَلَاةِ الْغَدَاةِ ، فَنَادَاهُ : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ } .
قَالَ : فَأَنْصَتَ لَهُ حَتَّى فَهِمَ ، ثُمَّ أَجَابَهُ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ : { فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ } احْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ ، وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ النَّجَّادُ ، بِإِسْنَادِهِ .
وَلِأَنَّ مَا لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ ابْتِدَاءً لَا يُبْطِلُهَا إذَا أَتَى بِهِ عَقِيبَ سَبَبٍ ، كَالتَّسْبِيحِ لِتَنْبِيهِ إمَامِهِ .
قَالَ الْخَلَّالُ : اتَّفَقَ الْجَمِيعُ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ، عَلَى أَنَّهُ - لَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ - يَعْنِي : الْعَاطِسُ لَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ - بِالْحَمْدِ ، وَإِنْ رَفَعَ فَلَا بَأْسَ ؛ بِدَلِيلِ حَدِيثِ الْأَنْصَارِيِّ .
وَقَالَ أَحْمَدُ ، فِي الْإِمَامِ يَقُولُ : " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " .
فَيَقُولُ مَنْ خَلْفَهُ : " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " يَرْفَعُونَ بِهَا أَصْوَاتَهُمْ ، قَالَ : يَقُولُونَ ، وَلَكِنْ يُخْفُونَ ذَلِكَ فِي أَنْفُسِهِمْ .
وَإِنَّمَا لَمْ يَكْرَهْ أَحْمَدُ ذَلِكَ ، كَمَا كَرِهَ الْقِرَاءَةَ خَلْفَ الْإِمَامِ ؛ لِأَنَّهُ يَسِيرٌ لَا يَمْنَعُ الْإِنْصَاتَ ، فَجَرَى مَجْرَى التَّأْمِينِ .
قِيلَ لِأَحْمَدَ : فَإِنْ رَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِهَذَا ؟ قَالَ : أَكْرَهُهُ .
قِيلَ : فَيَنْهَاهُمْ الْإِمَامُ ؟ قَالَ : لَا يَنْهَاهُمْ .
قَالَ الْقَاضِي : إنَّمَا لَمْ يَنْهَهُمْ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَهْرُ بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي صَلَاةِ الْإِخْفَاءِ ، فَإِنَّهُ كَانَ يُسْمِعُهُمْ الْآيَةَ أَحْيَانًا .
( 945 ) فَصْلٌ : قِيلَ لِأَحْمَدَ ، رَحِمَهُ اللَّهُ : إذَا قَرَأَ : { أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى } هَلْ يَقُولُ : " سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى " .
قَالَ : إنْ شَاءَ قَالَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ ، وَلَا يَجْهَرُ بِهِ فِي الْمَكْتُوبَةِ وَغَيْرِهَا .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَرَأَ فِي الصَّلَاةِ : { سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } .
فَقَالَ : سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى ، .
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّهُ قَرَأَ فِي الصَّلَاةِ :

{ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى } .
فَقَالَ : سُبْحَانَكَ ، وَبَلَى .
وَعَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ ، قَالَ : { كَانَ رَجُلٌ يُصَلِّي فَوْقَ بَيْتِهِ ، فَكَانَ إذَا قَرَأَ : { أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى } .
قَالَ : سُبْحَانَكَ فَبَكَى ، فَسَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ ، فَقَالَ : سَمِعْته عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَلِأَنَّهُ ذِكْرٌ وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ ، فَجَازَ التَّسْبِيحُ فِي مَوْضِعِهِ .
النَّوْعُ الثَّالِثُ : أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ يَقْصِدُ بِهِ تَنْبِيهَ آدَمِيٍّ ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ : { اُدْخُلُوهَا بِسَلَامٍ } .
يُرِيدُ الْإِذْنَ ، أَوْ يَقُولَ لِرَجُلٍ اسْمُهُ يَحْيَى : { يَا يَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ } .
أَوْ { : يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا } .
فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ صَلَاتَهُ تَبْطُلُ بِذَلِكَ .
وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ خِطَابُ آدَمِيٍّ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَلَّمَهُ .
وَرُوِيَ عَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَا تَبْطُلُ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِي مَنْ قِيلَ لَهُ : مَاتَ أَبُوكَ .
فَقَالَ { إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ } .
لَا يُعِيدُ الصَّلَاةَ .
وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ عَلِيٍّ ، حِينَ قَالَ لِلْخَارِجِيِّ : { فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ } .
وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى .
وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ ، قَالَ : اسْتَأْذَنَّا عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى ، وَهُوَ يُصَلِّي .
فَقَالَ { : اُدْخُلُوا مِصْرَ إنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ } .
فَقُلْنَا : كَيْفَ صَنَعْتَ ، فَقَالَ : اسْتَأْذَنَّا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ يُصَلِّي ، فَقَالَ { : اُدْخُلُوا مِصْرَ إنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ } .
وَلِأَنَّهُ قَرَأَ الْقُرْآنَ ، فَلَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ التَّنْبِيهَ .
وَقَالَ الْقَاضِي : إنْ قَصَدَ التِّلَاوَةَ دُونَ التَّنْبِيهِ ، لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ ، وَإِنْ قَصَدَ التَّنْبِيهَ دُونَ التِّلَاوَةِ ، فَسَدَتْ صَلَاتُهُ ؛

لِأَنَّهُ خَاطَبَ آدَمِيًّا ، وَإِنْ قَصَدَهُمَا جَمِيعًا فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا ، لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْآثَارِ وَالْمَعْنَى .
وَالثَّانِي : تَفْسُدُ صَلَاتُهُ ؛ لِأَنَّهُ خَاطَبَ آدَمِيًّا ، أَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَقْصِدْ التِّلَاوَةَ .
فَأَمَّا إنْ أَتَى مَا لَا يَتَمَيَّزُ بِهِ الْقُرْآنُ مِنْ غَيْرِهِ ، كَقَوْلِهِ لِرَجُلٍ اسْمُهُ إبْرَاهِيمُ .
يَا إبْرَاهِيمُ .
أَوْ لِعِيسَى : يَا عِيسَى .
وَنَحْوِ ذَلِكَ ، فَسَدَتْ صَلَاتُهُ ؛ لِأَنَّ هَذَا كَلَامُ النَّاسِ ، وَلَمْ يَتَمَيَّزْ عَنْ كَلَامِهِمْ بِمَا يَتَمَيَّزُ بِهِ الْقُرْآنُ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ جَمَعَ بَيْنَ كَلِمَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ فِي الْقُرْآنِ ، فَقَالَ يَا إبْرَاهِيمُ خُذْ الْكِتَابَ الْكَبِيرَ .

( 946 ) فَصْلٌ : يُكْرَهُ أَنْ يَفْتَحَ مَنْ هُوَ فِي الصَّلَاةِ عَلَى مَنْ هُوَ فِي صَلَاةٍ أُخْرَى ، أَوْ عَلَى مَنْ لَيْسَ فِي صَلَاةٍ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَشْغَلُهُ عَنْ صَلَاتِهِ ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : إنَّ فِي الصَّلَاةِ لَشُغْلًا } .
وَقَدْ سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ رَجُلٍ جَالِسٍ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي يَقْرَأُ ، فَإِذَا أَخْطَأَ ، فَتَحَ عَلَيْهِ الْمُصَلِّي .
فَقَالَ : كَيْفَ يَفْتَحُ إذَا أَخْطَأَ هَذَا ، وَيَتَعَجَّبُ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ .
فَإِنْ فَعَلَ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ ؛ لِأَنَّهُ قُرْآنٌ ، وَإِنَّمَا قَصَدَ قِرَاءَتَهُ دُونَ خِطَابِ الْآدَمِيِّ بِغَيْرِهِ .
وَلَا بَأْسَ أَنْ يَفْتَحَ عَلَى الْمُصَلِّي مَنْ لَيْسَ مَعَهُ فِي الصَّلَاةِ .
وَقَدْ رَوَى النَّجَّادُ بِإِسْنَادِهِ ، قَالَ : كُنْتُ قَاعِدًا بِمَكَّةَ ، فَإِذَا رَجُلٌ عِنْدَ الْمَقَامِ يُصَلِّي ، وَإِذَا رَجُلٌ قَاعِدٌ خَلْفَهُ يُلَقِّنُهُ ، فَإِذَا هُوَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .

( 947 ) فَصْلٌ : إذَا سَلَّمَ عَلَى الْمُصَلِّي ، لَمْ يَكُنْ لَهُ رَدُّ السَّلَامِ بِالْكَلَامِ ، فَإِنْ فَعَلَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ .
رُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ وَعَطَاءٍ وَالنَّخَعِيِّ .
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ .
وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ ، لَا يَرَوْنَ بِهِ بَأْسًا ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ أَمَرَ بِذَلِكَ .
وَقَالَ إِسْحَاقُ : إنَّ فَعَلَهُ مُتَأَوِّلًا ، جَازَتْ صَلَاتُهُ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى جَابِرٌ قَالَ { : كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَاجَةٍ ، فَرَجَعْت وَهُوَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ ، وَوَجْهُهُ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ ، فَسَلَّمْت عَلَيْهِ ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ ، فَلَمَّا انْصَرَفَ ، قَالَ : أَمَا إنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَرُدَّ عَلَيْك إلَّا أَنِّي كُنْت أُصَلِّي } .
وَقَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ { ، قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، كُنَّا نُسَلِّمُ عَلَيْك فِي الصَّلَاةِ فَتَرُدُّ عَلَيْنَا ؟ قَالَ : إنَّ فِي الصَّلَاةِ لَشُغْلًا } .
رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ .
وَلِأَنَّهُ كَلَامُ آدَمِيٍّ ، فَأَشْبَهَ تَشْمِيتَ الْعَاطِسِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ يَرُدُّ السَّلَامَ بِالْإِشَارَةِ .
وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَإِسْحَاقَ ، وَأَبِي ثَوْرٍ .
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سَلَّمَ عَلَيْهِ مُوسَى بْنُ جَمِيلٍ وَهُوَ يُصَلِّي ، فَقَبَضَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى ذِرَاعِهِ ، فَكَانَ ذَلِكَ رَدًّا مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَيْهِ .
وَإِنْ رَدَّ عَلَيْهِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الصَّلَاةِ فَحَسَنٌ .
رُوِيَ هَذَا عَنْ أَبِي ذَرٍّ وَعَطَاءٍ وَالنَّخَعِيِّ وَدَاوُد ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ ، قَالَ { : فَقَدِمْت عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي ، فَسَلَّمْت عَلَيْهِ ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ ، فَأَخَذَنِي مَا قُدِّمَ وَمَا حَدَثَ ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ قَالَ : وَإِنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحْدَثَ أَنْ لَا تَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ } .
فَرَدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ .
وَقَدْ

رَوَى صُهَيْبٌ ، قَالَ { : مَرَرْت بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ، وَكَلَّمْتُهُ فَرَدَّ إشَارَةً ، } .
قَالَ بَعْضُ الرُّوَاةِ : وَلَا أَعْلَمُهُ إلَّا قَالَ إشَارَةً بِأُصْبُعِهِ .
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ ، قَالَ : { خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى قُبَاءَ ، فَصَلَّى فِيهِ قَالَ : فَجَاءَتْهُ الْأَنْصَارُ فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ وَهُوَ يُصَلِّي ، قَالَ : فَقُلْت لِبِلَالٍ : كَيْفَ رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ حِينَ كَانُوا يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ وَهُوَ يُصَلِّي ؟ قَالَ يَعْقُوبُ : هَكَذَا : وَبَسَطَ - يَعْنِي كَفَّهُ - وَجَعَلَ بَطْنَهُ أَسْفَلَ ، وَظُهْرَهُ إلَى فَوْقُ .
} قَالَ التِّرْمِذِيُّ : كِلَا الْحَدِيثَيْنِ صَحِيحٌ .
رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد ، وَالْأَثْرَمُ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِيمَا مَضَى .

( 948 ) فَصْلٌ : وَإِذَا دَخَلَ قَوْمٌ عَلَى قَوْمٍ وَهُمْ يُصَلُّونَ ، فَسُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ الرَّجُلِ يَدْخُلُ عَلَى الْقَوْمِ وَهُمْ يُصَلُّونَ ، أَيُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ ؟ قَالَ : نَعَمْ .
وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ سَلَّمَ عَلَى مُصَلٍّ .
وَفَعَلَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ ، وَكَرِهَهُ عَطَاءٌ ، وَأَبُو مِجْلَزٍ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا غَلِطَ الْمُصَلِّي فَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ .
وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ : أَنَّ ابْنَ عُمَرَ سَلَّمَ عَلَى رَجُلٍ وَهُوَ يُصَلِّي ، فَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، فَرَجَعَ إلَيْهِ ابْنُ عُمَرَ فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ ، وَمَنْ ذَهَبَ إلَى تَجْوِيزِهِ احْتَجَّ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ } أَيْ عَلَى أَهْلِ دِينِكُمْ ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ سَلَّمَ أَصْحَابُهُ عَلَيْهِ رَدَّ عَلَيْهِمْ إشَارَةً ، وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ .

( 949 ) فَصْلٌ : إذَا أَكَلَ أَوْ شَرِبَ فِي الْفَرِيضَةِ عَامِدًا ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ ، رِوَايَةً ، وَاحِدَةً .
وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ مَمْنُوعٌ مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ ، وَأَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ عَامِدًا أَنَّ عَلَيْهِ الْإِعَادَةَ ، وَأَنَّ ذَلِكَ يُفْسِدُ الصَّوْمَ الَّذِي لَا يَفْسُدُ بِالْأَفْعَالِ ، فَالصَّلَاةُ أَوْلَى .
فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي التَّطَوُّعِ أَبْطَلَهُ ، فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ ؛ لِأَنَّ مَا أَبْطَلَ الْفَرْضَ أَبْطَلَ التَّطَوُّعَ ، كَسَائِرِ مُبْطِلَاتِهِ .
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى ، أَنَّهُ لَا يُبْطِلُهَا .
وَيُرْوَى عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، أَنَّهُمَا شَرِبَا فِي التَّطَوُّعِ .
وَعَنْ طَاوُسٍ ، أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ .
وَكَذَلِكَ قَالَ إِسْحَاقُ ؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ يَسِيرٌ ، فَأَشْبَهَ غَيْرَ الْأَكْلِ ، فَأَمَّا إنْ أَكْثَرَ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ يُفْسِدُهَا ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْأَكْلِ مِنْ الْأَعْمَالِ يُفْسِدُ إذَا كَثُرَ ، فَالْأَكْلُ وَالشُّرْبُ أَوْلَى .
وَإِنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ فِي فَرِيضَةٍ أَوْ تَطَوُّعٍ نَاسِيًا لَمْ تَفْسُدْ .
وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ وَالشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ ؛ لِأَنَّهُ فِعْلٌ مُبْطِلٌ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الصَّلَاةِ ، فَاسْتَوَى عَمْدُهُ وَسَهْوُهُ ، كَالْعَمَلِ الْكَثِيرِ .
وَلَنَا عُمُومُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنْ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ } .
وَلِأَنَّهُ يُسَوَّى بَيْنَ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ حَالَ الْعَمْدِ .
وَيُعْفَى عَنْهُ فِي الصَّلَاةِ كَالْعَمَلِ مِنْ جِنْسِهَا ، وَيُشْرَعُ لِذَلِكَ سُجُودُ السَّهْوِ .
وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ؛ فَإِنَّ مَا يُبْطِلُ عَمْدُهُ الصَّلَاةَ إذَا عُفِيَ عَنْهُ لِأَجْلِ السَّهْوِ شُرِعَ لَهُ السُّجُودُ ، كَالزِّيَادَةِ مِنْ جِنْسِ الصَّلَاةِ ، وَمَتَى كَثُرَ ذَلِكَ أَبْطَلَ الصَّلَاةَ بِغَيْرِ خِلَافٍ ؛ لِأَنَّ الْأَفْعَالَ

الْمَعْفُوَّ عَنْ يَسِيرِهَا إذَا كَثُرَتْ أَبْطَلَتْ ، فَهَذَا أَوْلَى .

فَصْلٌ : إذَا تَرَكَ فِي فِيهِ مَا يَذُوبُ كَالسُّكَّرِ ، فَذَابَ مِنْهُ شَيْءٌ ، فَابْتَلَعَهُ ، أَفْسَدَ صَلَاتَهُ ؛ لِأَنَّهُ أَكْلٌ .
وَإِنْ بَقِيَ بَيْنَ أَسْنَانِهِ ، أَوْ فِي فِيهِ مِنْ بَقَايَا الطَّعَامِ يَسِيرٌ يَجْرِي بِهِ الرِّيقُ ، فَابْتَلَعَهُ ، لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ .
وَإِنْ تَرَكَ فِي فِيهِ لُقْمَةً وَلَمْ يَبْتَلِعْهَا ، كُرِهَ ؛ لِأَنَّهُ يَشْغَلُهُ عَنْ خُشُوعِ الصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ وَالْقِرَاءَةِ فِيهَا ، وَلَا يُبْطِلُهَا ؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ يَسِيرٌ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَمْسَكَ شَيْئًا فِي يَدِهِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَإِذَا لَمْ تَكُنْ ثِيَابُهُ طَاهِرَةً ، وَمَوْضِعُ صَلَاتِهِ طَاهِرًا ، أَعَادَ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ ، أَنَّ الطَّهَارَةَ مِنْ النَّجَاسَةِ فِي بَدَنِ الْمُصَلِّي وَثَوْبِهِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ؛ مِنْهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَقَتَادَةُ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَيُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : لَيْسَ عَلَى ثَوْبٍ جَنَابَةٌ .
وَنَحْوُهُ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالنَّخَعِيِّ .
وَقَالَ الْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى : لَيْسَ فِي ثَوْبٍ إعَادَةٌ ، وَرَأَى طَاوُسٌ دَمًا كَثِيرًا فِي ثَوْبِهِ ، وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَلَمْ يُبَالِهِ .
وَسُئِلَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، عَنْ الرَّجُلِ يَرَى فِي ثَوْبِهِ الْأَذَى وَقَدْ صَلَّى ؟ فَقَالَ : اقْرَأْ عَلَيَّ الْآيَةَ الَّتِي فِيهَا غَسْلُ الثِّيَابِ .
وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } .
قَالَ ابْنُ سِيرِينَ : هُوَ الْغَسْلُ بِالْمَاءِ .
وَعَنْ أَسْمَاءَ ابْنَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَتْ : { سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ دَمِ الْحَيْضِ يَكُونُ فِي الثَّوْبِ ؟ قَالَ : اُقْرُصِيهِ ، وَصَلِّي فِيهِ } .
وَفِي لَفْظٍ قَالَتْ : { سَمِعْت امْرَأَةً تَسْأَلُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كَيْفَ تَصْنَعُ إحْدَانَا بِثَوْبِهَا إذَا رَأَتْ الطُّهْرَ ، أَتُصَلِّي فِيهِ ؟ قَالَ : تَنْظُرُ فِيهِ ، فَإِنْ رَأَتْ دَمًا فَلْتَقْرُصْهُ بِشَيْءٍ مِنْ مَاءٍ ، وَلْتَنْضَحْ مَا لَمْ تَرَ ، وَلْتُصَلِّ فِيهِ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { إنَّهُمَا يُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَفِي رِوَايَةٍ : " لَا يَسْتَنْزِهُ مِنْ بَوْلِهِ " .
وَلِأَنَّهَا إحْدَى الطَّهَارَتَيْنِ ، فَكَانَتْ شَرْطًا لِلصَّلَاةِ ، كَالطَّهَارَةِ مِنْ الْحَدَثِ .

( 952 ) فَصْلٌ : وَطَهَارَةُ مَوْضِعِ الصَّلَاةِ شَرْطٌ أَيْضًا ، وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي تَقَعُ عَلَيْهِ أَعْضَاؤُهُ وَتُلَاقِيهِ ثِيَابُهُ الَّتِي عَلَيْهِ ، فَلَوْ كَانَ عَلَى رَأْسِهِ طَرَفُ عِمَامَةٍ ، وَطَرَفُهَا الْآخَرُ يَسْقُطُ عَلَى نَجَاسَةٍ ، لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ .
وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ احْتِمَالًا فِيمَا تَقَعُ عَلَيْهِ ثِيَابُهُ خَاصَّةً ، أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ طَهَارَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ يُبَاشِرُهَا بِمَا هُوَ مُنْفَصِلٌ عَنْ ذَاتِهِ ، أَشْبَهَ مَا لَوْ صَلَّى إلَى جَانِبِهِ إنْسَانٌ نَجِسُ الثَّوْبِ ، فَالْتَصَقَ ثَوْبُهُ بِهِ .
وَالْأَوَّلُ الْمَذْهَبُ لِأَنَّ سُتْرَتَهُ تَابِعَةٌ لَهُ ، فَهِيَ كَأَعْضَاءِ سُجُودِهِ .
فَأَمَّا إذَا كَانَ ثَوْبُهُ يَمَسُّ شَيْئًا نَجِسًا ، كَثَوْبِ مَنْ يُصَلِّي إلَى جَانِبِهِ ، أَوْ حَائِطٍ لَا يَسْتَنِدُ إلَيْهِ ، فَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِبَدَنِهِ وَلَا سُتْرَتِهِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَفْسُدَ ؛ لِأَنَّ سُتْرَتَهُ مُلَاقِيَةٌ لِنَجَاسَةِ ، أَشْبَهَ مَا لَوْ وَقَعَتْ عَلَيْهَا .
وَإِنْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ مُحَاذِيَةً لِجِسْمِهِ فِي حَالِ سُجُودِهِ بِحَيْثُ لَا يَلْتَصِقُ بِهَا شَيْءٌ مِنْ بَدَنِهِ وَلَا أَعْضَائِهِ ، لَمْ يَمْنَعْ صِحَّةَ صَلَاتِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُبَاشِرْ النَّجَاسَةَ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ خَرَجَتْ عَنْ مُحَاذَاتِهِ .

( 953 ) فَصْلٌ : وَإِذَا صَلَّى ، ثُمَّ رَأَى عَلَيْهِ نَجَاسَةً فِي بَدَنِهِ أَوْ ثِيَابِهِ ، لَا يَعْلَمُ ؛ هَلْ كَانَتْ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ ، أَوْ لَا ؟ فَصَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهَا فِي الصَّلَاةِ .
وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهَا كَانَتْ فِي الصَّلَاةِ ، لَكِنْ جَهِلَهَا حَتَّى فَرَغَ مِنْ الصَّلَاةِ ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا ، لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ .
هَذَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَعَطَاءٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَسَالِمٍ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَالشَّعْبِيِّ ، وَالنَّخَعِيِّ ، وَالزُّهْرِيِّ وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيِّ ، وَإِسْحَاقَ وَابْنِ الْمُنْذِرِ .
وَالثَّانِيَةُ : يُعِيدُ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي قِلَابَةَ وَالشَّافِعِيِّ لِأَنَّهَا طَهَارَةٌ مُشْتَرَطَةٌ لِلصَّلَاةِ ، فَلَمْ تَسْقُطْ بِجَهْلِهَا ، كَطَهَارَةِ الْحَدَثِ .
وَقَالَ رَبِيعَةُ وَمَالِكٌ : يُعِيدُ مَا كَانَ فِي الْوَقْتِ ، وَلَا يُعِيدُ بَعْدَهُ .
وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى ، مَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ ، قَالَ { : بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ ، إذْ خَلَعَ نَعْلَيْهِ فَوَضَعَهُمَا عَنْ يَسَارِهِ ، فَخَلَعَ النَّاسُ نِعَالَهُمْ ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاتَهُ قَالَ : مَا حَمَلَكُمْ عَلَى إلْقَائِكُمْ نِعَالَكُمْ ؟ .
قَالُوا : رَأَيْنَاكَ أَلْقَيْتَ نَعْلَيْكَ ، فَأَلْقَيْنَا نِعَالَنَا .
قَالَ : إنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي فَأَخْبَرَنِي أَنَّ فِيهِمَا قَذَرًا } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَلَوْ كَانَتْ الطَّهَارَةُ شَرْطًا ، مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِهَا ، لَزِمَهُ اسْتِئْنَافُ الصَّلَاةِ ، وَتُفَارِقُ طَهَارَةَ الْحَدَثِ ؛ لِأَنَّهَا آكَدُ ؛ لِأَنَّهَا لَا يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهَا ، وَتَخْتَصُّ الْبَدَنَ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ عَلِمَ بِالنَّجَاسَةِ ثُمَّ نَسِيَهَا ، وَصَلَّى ، فَقَالَ الْقَاضِي : حَكَى أَصْحَابُنَا فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ رِوَايَتَيْنِ .
وَذَكَرَ هُوَ فِي مَسْأَلَةِ النِّسْيَانِ ، أَنَّ الصَّلَاةَ بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّهُ مَنْسُوبٌ إلَى التَّفْرِيطِ ، بِخِلَافِ الْجَاهِلِ بِهَا .
قَالَ الْآمِدِيُّ : يُعِيدُ إذَا كَانَ قَدْ تَوَانَى ، رِوَايَةً وَاحِدَةً .
وَالصَّحِيحُ

التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ مَا عُذِرَ فِيهِ بِالْجَهْلِ عُذِرَ فِيهِ بِالنِّسْيَانِ ، بَلْ النِّسْيَانُ أَوْلَى ؛ لِوُرُودِ النَّصِّ بِالْعَفْوِ فِيهِ ، بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنْ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ } وَإِنْ عَلِمَ بِالنَّجَاسَةِ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ ، فَإِنْ قُلْنَا .
يُعْذَرُ .
فَصَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ .
ثُمَّ إنْ طَرَحَ النَّجَاسَةَ مِنْ غَيْرِ زَمَنٍ طَوِيلٍ ، وَلَا عَمَلٍ كَثِيرٍ ، أَلْقَاهَا ، وَبَنَى ، كَمَا خَلَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعْلَيْهِ حِينَ أَخْبَرَهُ جِبْرِيلُ بِالْقَذَرِ فِيهِمَا .
وَإِنْ احْتَاجَ أَحَدَ هَذَيْنِ ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ ؛ إمَّا اسْتِصْحَابُ النَّجَاسَةِ مَعَ الْعِلْمِ بِهَا زَمَنًا طَوِيلًا ، أَوْ يَعْمَلُ فِي الصَّلَاةِ عَمَلًا كَثِيرًا ، فَتَبْطُلُ بِهِ الصَّلَاةُ ، فَصَارَ كَالْعُرْيَانِ يَجِدُ السُّتْرَةَ بَعِيدَةً مِنْهُ .
( 954 ) فَصْلٌ : وَإِذَا سَقَطَتْ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ ، ثُمَّ زَالَتْ عَنْهُ ، أَوْ أَزَالَهَا فِي الْحَالِ ، لَمْ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا عَلِمَ بِالنَّجَاسَةِ فِي نَعْلَيْهِ خَلَعَهُمَا ، وَأَتَمَّ صَلَاتَهُ ، وَلِأَنَّ النَّجَاسَةَ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهَا ، فَعُفِيَ عَنْ يَسِيرِ زَمَنِهَا ، كَكَشْفِ الْعَوْرَةِ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .

( 955 ) فَصْلٌ : وَإِذَا صَلَّى عَلَى مِنْدِيلٍ ، طَرَفُهُ نَجِسٌ أَوْ كَانَ تَحْتَ قَدَمِهِ حَبْلٌ مَشْدُودٌ فِي نَجَاسَةٍ ، وَمَا يُصَلِّي عَلَيْهِ طَاهِرٌ ، فَصَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ ، سَوَاءٌ تَحَرَّكَ النَّجِسُ بِحَرَكَتِهِ ، أَوْ لَمْ يَتَحَرَّكْ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَامِلٍ لِلنَّجَاسَةِ ، وَلَا بِمُصَلٍّ عَلَيْهَا ، وَإِنَّمَا اتَّصَلَ مُصَلَّاهُ بِهَا ، أَشْبَهَ مَا لَوْ صَلَّى عَلَى أَرْضٍ طَاهِرَةٍ مُتَّصِلَةٍ بِأَرْضٍ نَجِسَةٍ .
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : إذَا كَانَ النَّجِسُ يَتَحَرَّكُ بِحَرَكَتِهِ ، لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ .
وَالْمُعَوَّلُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا .
فَأَمَّا إنْ كَانَ الْحَبْلُ أَوْ الْمَنْدِيلُ مُتَعَلِّقًا بِهِ ، بِحَيْثُ يَنْجَرُّ مَعَهُ إذَا مَشَى ، لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَتْبِعٌ لَهَا ، فَهُوَ كَحَامِلِهَا .
وَلَوْ كَانَ فِي يَدِهِ أَوْ وَسَطِهِ حَبْلٌ مَشْدُودٌ فِي نَجَاسَةٍ ، أَوْ حَيَوَانٍ نَجِسٍ ، أَوْ سَفِينَةٍ صَغِيرَةٍ فِيهَا نَجَاسَةٌ تَنْجَرُّ مَعَهُ إذَا مَشَى ، لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَتْبِعٌ لَهَا ، فَهُوَ كَحَامِلِهَا .
وَإِنْ كَانَتْ السَّفِينَةُ كَبِيرَةً لَا يُمْكِنُهُ جَرُّهَا ، أَوْ الْحَيَوَانُ كَبِيرًا لَا يَقْدِرُ عَلَى جَرِّهِ إذَا اسْتَعْصَى عَلَيْهِ ، لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُسْتَتْبِعٍ لَهَا .
قَالَ الْقَاضِي : هَذَا إذَا كَانَ الشَّدُّ فِي مَوْضِعٍ طَاهِرٍ ، فَإِنْ كَانَ مَشْدُودًا فِي مَوْضِعٍ نَجِسٍ ، فَسَدَتْ صَلَاتُهُ ؛ لِأَنَّهُ حَامِلٌ لِمَا هُوَ مُلَاقٍ لِلنَّجَاسَةِ .
وَالْأَوْلَى أَنَّ صَلَاتَهُ لَا تَفْسُدُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى اسْتِتْبَاعِ مَا هُوَ مُلَاقٍ لِلنَّجَاسَةِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَمْسَكَ سَفِينَةً عَظِيمَةً فِيهَا نَجَاسَةٌ ، أَوْ غُصْنًا مِنْ شَجَرَةٍ عَلَيْهَا نَجَاسَةٌ .

( 956 ) فَصْلٌ : وَإِذَا حَمَلَ فِي الصَّلَاةِ حَيَوَانًا طَاهِرًا أَوْ صَبِيًّا ، لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى وَهُوَ حَامِلٌ أُمَامَةَ ابْنَةَ أَبِي الْعَاصِ .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَرَكِبَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ عَلَى ظَهْرِهِ وَهُوَ سَاجِدٌ ، وَلِأَنَّ مَا فِي الْحَيَوَانِ مِنْ النَّجَاسَةِ فِي مَعِدَتِهِ ، فَهِيَ كَالنَّجَاسَةِ فِي مَعِدَةِ الْمُصَلِّي ، وَلَوْ حَمَلَ قَارُورَةً فِيهَا نَجَاسَةٌ مَسْدُودَةً ، لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ .
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ : لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ ؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ لَا تَخْرُجُ مِنْهَا ، فَهِيَ كَالْحَيَوَانِ .
وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ لِأَنَّهُ حَامِلٌ لِنَجَاسَةٍ غَيْرِ مَعْفُوٍّ عَنْهَا فِي غَيْرِ مَعْدِنِهَا ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ حَمَلَهَا فِي كُمِّهِ .

( 957 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَكَذَلِكَ إنْ صَلَّى فِي الْمَقْبَرَةِ أَوْ الْحُشِّ أَوْ الْحَمَّامِ أَوْ فِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ ؛ أَعَادَ ) اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ ، رَحِمَهُ اللَّهُ ، فِي الصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ ، فَرُوِيَ أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَصِحُّ فِيهَا بِحَالٍ .
وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَرِهَ الصَّلَاةَ فِي الْمَقْبَرَةِ عَلِيٌّ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَابْنُ عُمَرَ وَعَطَاءٌ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَمِمَّنْ رَأَى أَنْ يُصَلَّى فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ وَلَا يُصَلَّى فِي مَبَارِكِ الْإِبِلِ ابْنُ عُمَرَ وَجَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ ، وَالْحَسَنُ ، وَمَالِكٌ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ .
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى ، أَنَّ الصَّلَاةَ فِي هَذِهِ صَحِيحَةٌ مَا لَمْ تَكُنْ نَجِسَةً .
وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { : جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا } وَفِي لَفْظٍ { فَحَيْثُمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ فَصَلِّ ، فَإِنَّهُ مَسْجِدٌ } .
وَفِي لَفْظٍ { : أَيْنَمَا أَدْرَكَتْك الصَّلَاةُ فَصَلِّ ، فَإِنَّهُ مَسْجِدٌ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا ، وَلِأَنَّهُ مَوْضِعٌ طَاهِرٌ ، فَصَحَّتْ الصَّلَاةُ فِيهِ ، كَالصَّحْرَاءِ .
وَلَنَا ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إلَّا الْحَمَّامَ وَالْمَقْبَرَةَ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَهَذَا خَاصٌّ مُقَدَّمٌ عَلَى عُمُومِ مَا رَوَوْهُ .
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ { ، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنُصَلِّي فِي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ ؟ قَالَ : نَعَمْ .
قَالَ : أَنُصَلِّي فِي مَبَارِكِ الْإِبِلِ ؟ قَالَ : لَا } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَعَنْ الْبَرَاءِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : لَا تُصَلُّوا فِي مَبَارِكِ الْإِبِلِ فَإِنَّهَا مِنْ الشَّيَاطِينِ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَعَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { صَلُّوا فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ ، وَلَا تُصَلُّوا فِي مَبَارِكِ الْإِبِلِ } رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي "

مُسْنَدِهِ " .
وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ ، وَهَذَا خَاصٌّ يُقَدَّمُ عَلَى عُمُومِ مَا رَوَوْهُ ، وَرُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ ، رَوَاهُنَّ الْأَثْرَمُ .
فَأَمَّا الْحُشُّ فَإِنَّ الْحُكْمَ يَثْبُتُ فِيهِ بِالتَّنْبِيهِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا مُنِعَ مِنْ الصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لِكَوْنِهَا مَظَانَّ النَّجَاسَةِ ، فَالْحُشُّ مُعَدٌّ لِلنَّجَاسَةِ وَمَقْصُودٌ لَهَا ، فَهُوَ أَوْلَى بِالْمَنْعِ فِيهِ .
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : إنْ كَانَ الْمُصَلِّي عَالِمًا بِالنَّهْيِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ ، لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ فِيهَا ؛ لِأَنَّهُ عَاصٍ بِصَلَاتِهِ فِيهَا ، وَالْمَعْصِيَةُ لَا تَكُونُ قُرْبَةً وَلَا طَاعَةً ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا فَهَلْ تَصِحُّ صَلَاتُهُ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ .
إحْدَاهُمَا ، لَا تَصِحُّ لِأَنَّهُ صَلَّى فِيمَا لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ فِيهِ مَعَ الْعِلْمِ ، فَلَا تَصِحُّ مَعَ الْجَهْلِ ، كَالصَّلَاةِ فِي مَحَلٍّ نَجِسٍ .
وَالثَّانِيَةُ : تَصِحُّ لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ .
( 958 ) فَصْلٌ : وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا مَعَ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ الْمَزْبَلَةَ ، وَالْمَجْزَرَةَ ، وَمَحَجَّةَ الطَّرِيقِ ، وَظَهْرَ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ ، وَالْمَوْضِعَ الْمَغْصُوبَ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { سَبْعُ مَوَاطِنَ لَا تَجُوزُ فِيهَا الصَّلَاةُ ؛ ظَهْرُ بَيْتِ اللَّهِ ، وَالْمَقْبَرَةُ ، وَالْمَزْبَلَةُ ، وَالْمَجْزَرَةُ ، وَالْحَمَّامُ ، وَعَطَنُ الْإِبِلِ ، وَمَحَجَّةُ الطَّرِيقِ } رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ { : نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُصَلَّى فِي سَبْعِ مَوَاطِن .
وَذَكَرَهَا ، وَقَالَ : وَقَارِعَةُ الطَّرِيقِ ، وَمَعَاطِنُ الْإِبِلِ ، وَفَوْقَ الْكَعْبَةِ } .
وَقَالَ : الْحُكْمُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ السَّبْعَةِ كَالْحُكْمِ فِي الْأَرْبَعَةِ سَوَاءً .
وَلِأَنَّ الْمَوَاضِعَ مَظِنَّةُ النَّجَاسَاتِ ، فَعُلِّقَ الْحُكْمُ عَلَيْهَا دُونَ حَقِيقَتِهَا ، كَمَا يَثْبُتُ حُكْمُ نَقْضِ الطَّهَارَةِ بِالنَّوْمِ ، وَوُجُوبِ الْغُسْلِ

بِالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ .
( 959 ) فَصْلٌ : قَالَ الْقَاضِي : الْمَنْعُ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ تَعَبُّدٌ ، لَا لِعِلَّةٍ مَعْقُولَةٍ ، فَعَلَى هَذَا يَتَنَاوَلُ النَّهْيُ كُلَّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الِاسْمُ فَلَا فَرْقَ فِي الْمَقْبَرَةِ بَيْنَ الْقَدِيمَةِ وَالْحَدِيثَةِ ، وَمَا تَقَلَّبَتْ أَتْرِبَتُهَا أَوْ لَمْ تَتَقَلَّبْ ؛ لِتَنَاوُلِ الِاسْمِ لَهَا ، فَإِنْ كَانَ فِي الْمَوْضِعِ قَبْرٌ أَوْ قَبْرَانِ ، لَمْ يُمْنَعْ مِنْ الصَّلَاةِ فِيهَا .
لِأَنَّهَا لَا يَتَنَاوَلُهَا اسْمُ الْمَقْبَرَةِ .
وَإِنْ نُقِلَتْ الْقُبُورُ مِنْهَا ، جَازَتْ الصَّلَاةُ فِيهَا ؛ لِأَنَّ مَسْجِدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ فِيهِ قُبُورُ الْمُشْرِكِينَ ، فَنُبِشَتْ .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَلَا فَرْقَ فِي الْحَمَّامِ بَيْنَ مَكَانِ الْغَسْلِ وَصَبِّ الْمَاءِ ، وَبَيْنَ بَيْتِ الْمَسْلَخِ - الَّذِي يُنْزَعُ فِيهِ الثِّيَابُ - وَالْأَتُّونِ وَكُلِّ مَا يُغْلَقُ عَلَيْهِ بَابُ الْحَمَّامِ ؛ لِتَنَاوُلِ الِاسْمِ لَهُ .
وَأَمَّا الْمَعَاطِنُ ، فَقَالَ أَحْمَدُ : هِيَ الَّتِي تُقِيمُ فِيهَا الْإِبِلُ وَتَأْوِي إلَيْهَا .
وَقِيلَ : هِيَ الْمَوَاضِعُ الَّتِي تُنَاخُ فِيهَا إذَا وَرَدَتْ .
وَالْأَوَّلُ أَجْوَدُ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ مُقَابِلَةَ مَرَاحِ الْغَنَمِ .
وَالْحُشُّ : الْمَكَانُ الَّذِي يُتَّخَذُ لِلْغَائِطِ وَالْبَوْلِ فَيُمْنَعُ مِنْ الصَّلَاةِ فِيمَا هُوَ دَاخِلُ بَابِهِ .
وَلَا أَعْلَمُ فِي مَنْعِ الصَّلَاةِ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ قَدْ مُنِعَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ وَالْكَلَامِ ، فَمَنْعُ الصَّلَاةِ فِيهِ أَوْلَى ، وَلِأَنَّهُ إذَا مُنِعَ الصَّلَاةُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لِكَوْنِهَا مَظَانَّ لِلنَّجَاسَاتِ ، فَهَذَا أَوْلَى ؛ فَإِنَّهُ بُنِيَ لَهَا وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْمَنْعَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ مُعَلَّلٌ بِأَنَّهَا مَظَانُّ لِلنَّجَاسَاتِ ، فَإِنَّ الْمَقْبَرَةَ تُنْبَشُ وَيَظْهَرُ التُّرَابُ الَّذِي فِيهِ صَدِيدُ الْمَوْتَى وَدِمَاؤُهُمْ وَلُحُومُهُمْ ، وَمَعَاطِنُ الْإِبِلِ يُبَالُ فِيهَا ، فَإِنَّ الْبَعِيرَ الْبَارِكَ كَالْجِدَارِ يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَتِرَ بِهِ وَيَبُولَ ، كَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، أَنَّهُ أَنَاخَ

بَعِيرَهُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ ، ثُمَّ جَلَسَ يَبُولُ إلَيْهِ .
وَلَا يَتَحَقَّقُ هَذَا فِي حَيَوَانٍ سِوَاهَا ؛ لِأَنَّهُ فِي حَالِ رَبْضِهِ لَا يَسْتُرُ ، وَفِي حَالِ قِيَامِهِ لَا يَثْبُتُ وَلَا يَسْتُرُ .
وَالْحَمَّامُ مَوْضِعُ الْأَوْسَاخِ وَالْبَوْلِ ، فَنُهِيَ عَنْ الصَّلَاةِ فِيهَا لِذَلِكَ .
وَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِهَا وَإِنْ كَانَتْ طَاهِرَةً لِأَنَّ الْمَظِنَّةَ يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِهَا وَإِنْ خَفِيَتْ الْحِكْمَةُ فِيهَا ، وَمَتَى أَمْكَنَ تَعْلِيلُ الْحُكْمِ تَعَيَّنَ تَعْلِيلُهُ ، وَكَانَ أَوْلَى مِنْ قَهْرِ التَّعَبُّدِ وَمَرَارَةِ التَّحَكُّمِ ، يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا تَعْدِيَةُ الْحُكْمِ إلَى الْحُشِّ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ ، بِالتَّنْبِيهِ مِنْ وُجُودِ مَعْنَى الْمَنْطُوقِ فِيهِ ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ تَنْبِيهًا ، فَعَلَى هَذَا يُمْكِنُ قَصْرُ الْحُكْمِ عَلَى مَا هُوَ مَظِنَّةٌ مِنْهَا ، فَلَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْمَنْعِ فِي مَوْضِعِ الْمَسْلَخِ مِنْ الْحَمَّامِ ، وَلَا فِي وَسَطِهِ ، لِعَدَمِ الْمَظِنَّةِ فِيهِ ، وَكَذَلِكَ مَا أَشْبَهَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( 960 ) فَصْلٌ : وَزَادَ أَصْحَابُنَا الْمَجْزَرَةَ ، وَالْمَزْبَلَةَ ، وَمَحَجَّةَ الطَّرِيقِ ، وَظَهْرَ الْكَعْبَةِ ؛ لِأَنَّهَا فِي خَبَرِ عُمَرَ وَابْنِهِ .
وَقَالُوا : لَا يَجُوزُ فِيهَا الصَّلَاةُ .
وَلَمْ يَذْكُرْهَا الْخِرَقِيِّ فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ جَوَّزَ الصَّلَاةَ فِيهَا ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا } وَهُوَ صَحِيحٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَاسْتَثْنَى مِنْهُ الْمَقْبَرَةَ ، وَالْحَمَّامَ ، وَمَعَاطِنَ الْإِبِلِ ، بِأَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ خَاصَّةٍ ، فَفِيمَا عَدَا ذَلِكَ يَبْقَى عَلَى الْعُمُومِ .
وَحَدِيثُ عُمَرَ وَابْنِهِ يَرْوِيهِمَا الْعُمَرِيُّ ، وَزَيْدُ بْنُ جُبَيْرٍ ؛ وَقَدْ تُكُلِّمَ فِيهِمَا مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِمَا ، فَلَا يُتْرَكُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ بِحَدِيثِهِمَا .
وَهَذَا أَصَحُّ ، وَأَكْثَرُ أَصْحَابِنَا ، فِيمَا عَلِمْتُ ، عَمِلُوا بِخَبَرِ عُمَرَ وَابْنِهِ فِي الْمَنْعِ مِنْ الصَّلَاةِ فِي الْمَوَاضِعِ السَّبْعَةِ .
وَمَعْنَى مَحَجَّةِ الطَّرِيقِ :

الْجَادَّةُ الْمَسْلُوكَةُ الَّتِي تَسْلُكُهَا السَّابِلَةُ .
وَقَارِعَةُ الطَّرِيقِ : يَعْنِي الَّتِي تَقْرَعُهَا الْأَقْدَامُ ، فَاعِلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ ، مِثْلُ الْأَسْوَاقِ وَالْمَشَارِعِ وَالْجَادَّةِ لِلسَّفَرِ .
وَلَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ فِيمَا عَلَا مِنْهَا يَمْنَةً وَيَسْرَةً وَلَمْ يَكْثُرْ قَرْعُ الْأَقْدَامِ فِيهِ .
وَكَذَلِكَ لَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ فِي الطَّرِيقِ الَّتِي يَقِلُّ سَالِكُوهَا ، كَطُرُقِ الْأَبْيَاتِ الْيَسِيرَةِ .
وَالْمَجْزَرَةُ : الْمَوْضِعُ الَّذِي يَذْبَحُ الْقَصَّابُونَ فِيهِ الْبَهَائِمَ ، وَشِبْهَهُمْ مَعْرُوفًا بِذَلِكَ مُعَدًّا .
وَالْمَزْبَلَةُ : الْمَوْضِعُ الَّذِي يُجْمَعُ فِيهِ الزِّبْلُ .
وَلَا فَرْقَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ بَيْنَ مَا كَانَ مِنْهَا طَاهِرًا وَنَجِسًا ، وَلَا بَيْنَ كَوْنِ الطَّرِيقِ فِيهَا سَالِكًا أَوْ لَمْ يَكُنْ ؛ وَلَا فِي الْمَعَاطِنِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا إبِلٌ فِي الْوَقْتِ أَوْ لَمْ يَكُنْ .
وَأَمَّا الْمَوَاضِعُ الَّتِي تَبِيتُ فِيهَا الْإِبِلُ فِي مَسِيرِهَا ، أَوْ تُنَاخُ فِيهَا لِعَلْفِهَا أَوْ وِرْدِهَا ، فَلَا يُمْنَعُ الصَّلَاةُ فِيهَا .
قَالَ الْأَثْرَمُ : سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ مَوْضِعٍ فِيهِ أَبْعَارُ الْإِبِلِ يُصَلَّى فِيهِ ؟ فَرَخَّصَ فِيهِ ، ثُمَّ قَالَ : إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ مَعَاطِنِ الْإِبِلِ ، الَّتِي نُهِيَ عَنْ الصَّلَاةِ فِيهَا ، الَّتِي تَأْوِي إلَيْهَا الْإِبِلُ .
( 961 ) فَصْلٌ : وَيُكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ إلَى هَذِهِ الْمَوَاضِعِ فَإِنْ فَعَلَ صَحَّتْ صَلَاتُهُ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ وَقَدْ سُئِلَ عَنْ الصَّلَاةِ إلَى الْمَقْبَرَةِ وَالْحَمَّامِ وَالْحُشِّ ؟ قَالَ : لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي الْقِبْلَةِ قَبْرٌ ، وَلَا حُشٌّ وَلَا حَمَّامٌ ، فَإِنْ كَانَ يُجْزِئُهُ .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : يَتَوَجَّهُ فِي الْإِعَادَةِ قَوْلَانِ ؛ أَحَدُهُمَا : يُعِيدُ ؛ لِمَوْضِعِ النَّهْيِ ، وَبِهِ أَقُولُ .
وَالثَّانِي : يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا .
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ : إنْ صَلَّى إلَى الْمَقْبَرَةِ وَالْحُشِّ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُصَلِّي

فِيهِمَا إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا حَائِلٌ ؛ لِمَا رَوَى أَبُو مَرْثَدٍ الْغَنَوِيُّ ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { لَا تُصَلُّوا إلَى الْقُبُورِ ، وَلَا تَجْلِسُوا إلَيْهَا } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَقَالَ الْأَثْرَمُ : ذَكَرَ أَحْمَدُ حَدِيثَ أَبِي مَرْثَدٍ ، ثُمَّ قَالَ : إسْنَادُهُ جَيِّدٌ .
وَقَالَ أَنَسٌ : رَآنِي عُمَرُ ، وَأَنَا أُصَلِّي إلَى قَبْرٍ ، فَجَعَلَ يُشِيرُ إلَيَّ : الْقَبْرَ ، الْقَبْرَ .
قَالَ الْقَاضِي : وَفِي هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى نَظَائِرِهِ مِنْ الْمَوَاضِعِ الَّتِي نُهِيَ عَنْ الصَّلَاةِ فِيهَا .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ إلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ إلَّا الْمَقْبَرَةَ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : جُعِلَتْ الْأَرْضُ مَسْجِدًا } يَتَنَاوَلُ الْمَوْضِعَ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ مَنْ هِيَ فِي قِبْلَتِهِ ، وَقِيَاسُ ذَلِكَ عَلَى الصَّلَاةِ إلَى الْمَقْبَرَةِ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ النَّهْيَ إنْ كَانَ تَعَبُّدًا غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى امْتَنَعَ تَعْدِيَتُهُ وَدُخُولُ الْقِيَاسِ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ لِمَعْنًى مُخْتَصٍّ بِهَا ، وَهُوَ اتِّخَاذُ الْقُبُورِ مَسْجِدًا ، وَالتَّشَبُّهُ بِمَنْ يُعَظِّمُهَا وَيُصَلِّي إلَيْهَا ، فَلَا يَتَعَدَّاهَا الْحُكْمُ ؛ لِعَدَمِ وُجُودِ الْمَعْنَى فِي غَيْرِهَا ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ ، إنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ } .
وَقَالَ { : لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } .
يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا .
فَعَلَى هَذَا لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ إلَى الْقُبُورِ لِلنَّهْيِ عَنْهَا ، وَيَصِحُّ إلَى غَيْرِهَا لِبَقَائِهَا فِي عُمُومِ الْإِبَاحَةِ وَامْتِنَاعِ قِيَاسِهَا عَلَى مَا وَرَدَ النَّهْيُ فِيهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( 962 ) فَصْلٌ : وَإِنْ صَلَّى عَلَى سَطْحِ الْحُشِّ أَوْ الْحَمَّامِ أَوْ عَطَنِ الْإِبِلِ أَوْ غَيْرِهَا ، فَذَكَرَ الْقَاضِي

أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْمُصَلِّي فِيهَا ؛ لِأَنَّ الْهَوَاءَ تَابِعٌ لِلْقَرَارِ ، فَيَثْبُتُ فِيهِ حُكْمُهُ ، وَلِذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارًا ، فَدَخَلَ سَطْحَهَا ، حَنِثَ ، وَلَوْ خَرَجَ الْمُعْتَكِفُ إلَى سَطْحِ الْمَسْجِدِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْمَسْجِدِ .
وَالصَّحِيحُ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ ، قَصْرُ النَّهْيِ عَلَى مَا تَنَاوَلَهُ ، وَأَنَّهُ لَا يُعَدَّى إلَى غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ إنْ كَانَ تَعَبُّدِيًّا فَالْقِيَاسُ فِيهِ مُمْتَنِعٌ ، وَإِنْ عُلِّلَ فَإِنَّمَا تَعَلَّلَ بِكَوْنِهِ لِلنَّجَاسَةِ ، وَلَا يُتَخَيَّلُ هَذَا فِي سَطْحِهَا .
فَأَمَّا إنْ بَنَى عَلَى طَرِيقٍ سَابَاطًا أَوْ أُخْرِجَ عَلَيْهِ خُرُوجًا ، فَعَلَى قَوْلِ الْقَاضِي : حُكْمُهُ حُكْمُ الطَّرِيقِ ، لِمَا ذَكَرَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ .
وَعَلَى قَوْلِنَا ، إنْ كَانَ السَّابَاطُ مُبَاحًا لَهُ ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ فِي دَرْبٍ غَيْرِ نَافِذٍ بِإِذْنِ أَهْلِهِ ، أَوْ مُسْتَحِقًّا لَهُ ، أَوْ حَدَثَ الطَّرِيقُ بَعْدَهُ ، فَلَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى طَرِيقٍ نَافِذٍ ، فَلَيْسَ ذَلِكَ لَهُ ، فَيَكُونُ الْمُصَلِّي فِيهِ كَالْمُصَلِّي فِي الْمَوْضِعِ الْمَغْصُوبِ .
عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَإِنْ كَانَ السَّابَاطُ عَلَى نَهْرٍ تَجْرِي فِيهِ السُّفُنُ ، فَهُوَ كَالسَّابَاطِ عَلَى الطَّرِيقِ ، فِي الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا .
وَهَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ الْعِلَّةُ كَوْنَهُ تَابِعًا لِلْقَرَارِ ، لَجَازَتْ الصَّلَاةُ هَاهُنَا ، لِكَوْنِ الْقَرَارِ غَيْرَ مَمْنُوعٍ مِنْ الصَّلَاةِ فِيهِ ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ صَلَّى عَلَيْهِ فِي سَفِينَةٍ ، أَوْ لَوْ جَمَدَ مَاؤُهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ ، صَحَّ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ الْعِلَّةُ مَا ذَكَرَهُ لَصَحَّتْ الصَّلَاةُ عَلَى مَا حَاذَى مَيْمَنَةَ الطَّرِيقِ وَمَيْسَرَتَهَا ، وَمَا لَا تَقْرَعُهُ الْأَقْدَامُ مِنْهَا ، وَهَذَا فِيمَا إذَا كَانَ السَّطْحُ جَارِيًا عَلَى مَوْضِعِ النَّهْيِ ، فَإِنْ كَانَ الْمَسْجِدُ سَابِقًا ، وَجُعِلَ تَحْتَهُ طَرِيقٌ أَوْ عَطَنٌ أَوْ غَيْرُهُمَا مِنْ مَوَاضِعِ النَّهْيِ .
أَوْ كَانَ فِي غَيْرِ مَقْبَرَةٍ

فَحَدَثَتْ الْمَقْبَرَةُ حَوْلَهُ ، لَمْ تَمْتَنِعْ الصَّلَاةُ فِيهِ ، بِغَيْرِ خِلَافٍ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتْبَعْ مَا حَدَثَ بَعْدَهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( 963 ) فَصْلٌ : وَإِنْ بَنَى مَسْجِدًا فِي الْمَقْبَرَةِ بَيْنَ الْقُبُورِ ، فَحُكْمُهُ حُكْمُهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَقْبَرَةِ .
وَقَدْ رَوَى قَتَادَةُ : أَنَّ أَنَسًا مَرَّ عَلَى مَقْبَرَةٍ ، وَهُمْ يَبْنُونَ فِيهَا مَسْجِدًا ، فَقَالَ أَنَسٌ : كَانَ يُكْرَهُ أَنْ يُبْنَى مَسْجِدٌ فِي وَسَطِ الْقُبُورِ .

( 964 ) فَصْلٌ : وَلَا تَصِحُّ الْفَرِيضَةُ فِي الْكَعْبَةِ ، وَلَا عَلَى ظَهْرِهَا .
وَجَوَّزَهُ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ مَسْجِدٌ ، وَلِأَنَّهُ مَحَلٌّ لِصَلَاةِ النَّفْلِ ، فَكَانَ مَحَلًّا لِلْفَرْضِ ، كَخَارِجِهَا .
وَلَنَا : قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى { وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } .
وَالْمُصَلِّي فِيهَا أَوْ عَلَى ظَهْرِهَا غَيْرُ مُسْتَقْبِلٍ لِجِهَتِهَا ، وَالنَّافِلَةُ مَبْنَاهَا عَلَى التَّخْفِيفِ وَالْمُسَامَحَةِ ، بِدَلِيلِ صَلَاتِهَا قَاعِدًا ، وَإِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ ، فِي السَّفَرِ عَلَى الرَّاحِلَةِ .
( 965 ) فَصْلٌ : وَتَصِحُّ النَّافِلَةُ فِي الْكَعْبَةِ وَعَلَى ظَهْرِهَا .
لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِي الْبَيْتِ رَكْعَتَيْنِ .
إلَّا أَنَّهُ إنْ صَلَّى تِلْقَاءَ الْبَابِ أَوْ عَلَى ظَهْرِهَا ، وَكَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ شَيْءٌ مِنْ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ مُتَّصِلٌ بِهَا ، صَحَّتْ صَلَاتُهُ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْهِ شَيْءٌ شَاخِصٌ ، أَوْ كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ آجُرٌّ مُعَبَّأٌ غَيْرُ مَبْنِيٍّ ، أَوْ خَشْبٌ غَيْرُ مَسْمُورٍ فِيهَا ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا : لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَقْبِلٍ لِشَيْءٍ مِنْهَا .
وَإِنْ كَانَ الْخَشَبُ مَسْمُورًا وَالْآجُرُّ مَبْنِيًّا ، صَحَّتْ صَلَاتُهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَابِعٌ لَهَا .
وَالْأَوْلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ كَوْنُ شَيْءٍ مِنْهَا بَيْنَ يَدَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ اسْتِقْبَالُ مَوْضِعِهَا وَهَوَائِهَا ، دُونَ حِيطَانِهَا ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ انْهَدَمْت الْكَعْبَةُ ، صَحَّتْ الصَّلَاةُ إلَى مَوْضِعِهَا ، وَلَوْ صَلَّى عَلَى جَبَلٍ عَالٍ يَخْرُجُ عَنْ مُسَامَتَتِهَا ، صَحَّتْ صَلَاتُهُ إلَى هَوَائِهَا ، كَذَا هَاهُنَا .

( 966 ) فَصْلٌ : وَفِي الصَّلَاةِ فِي الْمَوْضِعِ الْمَغْصُوبِ رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا ، لَا تَصِحُّ .
وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ .
وَالثَّانِيَةُ ، تَصِحُّ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ لِأَنَّ النَّهْيَ لَا يَعُودُ إلَى الصَّلَاةِ ، فَلَمْ يَمْنَعْ صِحَّتَهَا ، كَمَا لَوْ صَلَّى وَهُوَ يَرَى غَرِيقًا ، يُمْكِنُهُ إنْقَاذُهُ ، فَلَمْ يُنْقِذْهُ ، أَوْ حَرِيقًا يَقْدِرُ عَلَى إطْفَائِهِ ، فَلَمْ يُطْفِئْهُ ، أَوْ مَطَلَ غَرِيمَهُ الَّذِي يُمْكِنُ إيفَاؤُهُ وَصَلَّى .
وَلَنَا أَنَّ الصَّلَاةَ عِبَادَةٌ أَتَى بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ ، فَلَمْ تَصِحَّ ، كَصَلَاةِ الْحَائِضِ وَصَوْمِهَا ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الْفِعْلِ ، وَاجْتِنَابَهُ ، وَالتَّأْثِيمَ بِفِعْلِهِ ، فَكَيْفَ يَكُونُ مُطِيعًا بِمَا هُوَ عَاصٍ بِهِ ، مُمْتَثِلًا بِمَا هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ ، مُتَقَرِّبًا بِمَا يَبْعُدُ بِهِ ، فَإِنَّ حَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ مِنْ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ أَفْعَالٌ اخْتِيَارِيَّةٌ ، هُوَ عَاصٍ بِهَا مَنْهِيٌّ عَنْهَا .
فَأَمَّا مَنْ رَأَى الْحَرِيقَ فَلَيْسَ بِمَنْهِيٍّ عَنْ الصَّلَاةِ ، إنَّمَا هُوَ مَأْمُورٌ بِإِطْفَاءِ الْحَرِيقِ ، وَإِنْقَاذِ الْغَرِيقِ ، وَبِالصَّلَاةِ ، إلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا آكَدُ مِنْ الْآخَرِ ، أَمَّا فِي مَسْأَلَتِنَا فَإِنَّ أَفْعَالَ الصَّلَاةِ فِي نَفْسِهَا مَنْهِيٌّ عَنْهَا .
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَلَا فَرْقَ بَيْنَ غَصْبِهِ لِرَقَبَةِ الْأَرْضِ بِأَخْذِهَا ، أَوْ دَعْوَاهُ مِلْكِيَّتَهَا ، وَبَيْنَ غَصْبِهِ مَنَافِعَهَا ، بِأَنْ يَدَّعِيَ إجَارَتَهَا ظَالِمًا ، أَوْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا لِيَسْكُنَهَا مُدَّةً أَوْ يُخْرِجَ رَوْشَنًا أَوْ سَابَاطًا فِي مَوْضِعٍ لَا يَحِلُّ لَهُ ، أَوْ يَغْصِبَ رَاحِلَةً وَيُصَلِّيَ عَلَيْهَا أَوْ سَفِينَةً وَيُصَلِّيَ فِيهَا ، أَوْ لَوْحًا فَيَجْعَلَهُ فِي سَفِينَةٍ وَيُصَلِّيَ عَلَيْهَا ، كُلُّ ذَلِكَ حُكْمُهُ فِي الصَّلَاةِ حُكْمُ الدَّارِ ، عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ .
( 967 ) فَصْلٌ : قَالَ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : تُصَلَّى الْجُمُعَةُ فِي الْمَوْضِعِ الْغَصْبِ .
يَعْنِي لَوْ كَانَ

الْجَامِعُ أَوْ مَوْضِعٌ مِنْهُ مَغْصُوبًا صَحَّتْ الصَّلَاةُ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْجُمُعَةَ ، تَخْتَصُّ بِبُقْعَةٍ ، فَإِذَا صَلَّاهَا الْإِمَامُ فِي الْمَوْضِعِ الْمَغْصُوبِ ، فَامْتَنَعَ النَّاسُ مِنْ الصَّلَاةِ فِيهِ ، فَاتَتْهُمْ الْجُمُعَةُ ، وَإِنْ امْتَنَعَ بَعْضُهُمْ ، فَاتَتْهُ الْجُمُعَةُ ، وَلِذَلِكَ أُبِيحَتْ خَلْفَ الْخَوَارِجِ وَالْمُبْتَدِعَةِ ، وَكَذَلِكَ تَصِحُّ فِي الطُّرُقِ وَرِحَابِ الْمَسْجِدِ ، لِدُعَاءِ الْحَاجَةِ إلَى فِعْلِهَا فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ ، وَكَذَلِكَ فِي الْأَعْيَادِ وَالْجِنَازَةِ .

( 968 ) فَصْلٌ : قَالَ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : أَكْرَهُ الصَّلَاةَ فِي أَرْضِ الْخَسْفِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا مَوْضِعٌ مَسْخُوطٌ عَلَيْهِ .
وَقَدْ { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ يَوْمَ مَرَّ بِالْحِجْرِ : لَا تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُعَذَّبِينَ إلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ ، أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ .
} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .

( 969 ) فَصْلٌ : وَلَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ فِي الْكَنِيسَةِ النَّظِيفَةِ ، رَخَّصَ فِيهَا الْحَسَنُ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالشَّعْبِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عُمَرَ وَأَبِي مُوسَى ، وَكَرِهَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمَالِكٌ الْكَنَائِسَ ؛ مِنْ أَجْلِ الصُّوَرِ .
وَلَنَا { ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِي الْكَعْبَةِ وَفِيهَا صُوَرٌ } ، ثُمَّ هِيَ دَاخِلَةٌ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { : فَأَيْنَمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ فَصَلِّ ، فَإِنَّهُ مَسْجِدٌ }

( 970 ) فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَتْ الْأَرْضُ نَجِسَةً ، فَطَيَّنَهَا بِطَاهِرٍ ، أَوْ بَسَطَ عَلَيْهَا شَيْئًا طَاهِرًا ، صَحَّتْ الصَّلَاةُ مَعَ الْكَرَاهَةِ ، فِي ظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ ، رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَهُوَ قَوْلُ طَاوُسٍ ، وَمَالِكٍ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَإِسْحَاقَ ، وَذَكَرَ أَصْحَابُنَا فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَيْنِ ؛ إحْدَاهُمَا : لَا تَصِحُّ ؛ لِأَنَّهَا مَدْفِنُ النَّجَاسَةِ ، فَأَشْبَهَتْ الْمَقْبَرَةَ .
وَلَنَا أَنَّ الطَّهَارَةَ إنَّمَا تُشْتَرَطُ فِي بَدَنِ الْمُصَلِّي وَثَوْبِهِ وَمَوْضِعِ صَلَاتِهِ ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ كُلُّهُ ، وَلَا نُسَلِّمُ الْعِلَّةَ فِي الْأَصْلِ ، فَإِنَّهُ لَوْ صَلَّى بَيْنَ الْقُبُورِ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَدْفِنًا لِلنَّجَاسَةِ ، وَقَدْ قِيلَ : إنَّ الْحُكْمَ غَيْرُ مُعَلَّلٍ ؛ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ .

( 971 ) فَصْلٌ : وَيُكْرَهُ تَطْيِينُ الْمَسْجِدِ بِطِينٍ نَجِسٍ ، أَوْ تَطْبِيقُهُ بِطَوَابِقَ نَجِسَةٍ ، أَوْ بِنَاؤُهُ بِلَبِنٍ نَجِسٍ ، أَوْ آجُرٍّ نَجِسٍ ، فَإِنْ فُعِلَ ، وَبَاشَرَ الْمُصَلِّي أَرْضَهُ النَّجِسَةَ بِبَدَنِهِ أَوْ ثِيَابِهِ ، لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ .
وَأَمَّا الْآجُرُّ الْمَعْجُونُ بِالنَّجَاسَةِ ، فَهُوَ نَجِسٌ ؛ لِأَنَّ النَّارَ لَا تُطَهِّرُهُ ، فَإِنْ غُسِلَ طَهُرَ ظَاهِرُهُ ؛ لِأَنَّ النَّارَ أَكَلَتْ أَجْزَاءَ النَّجَاسَةِ الظَّاهِرَةِ ، وَبَقِيَ أَثَرُهَا ، فَتَطْهُرُ بِالْغَسْلِ ، كَالْأَرْضِ النَّجِسَةِ وَيَبْقَى بَاطِنُهَا نَجِسًا لِأَنَّ الْمَاءَ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ ، فَإِنْ صَلَّى عَلَيْهِ بَعْدَ الْغَسْلِ فَهُوَ كَمَا لَوْ صَلَّى عَلَى بِسَاطٍ طَاهِرٍ مَفْرُوشٍ عَلَى أَرْضٍ نَجِسَةٍ ، وَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْبِسَاطِ الَّذِي بَاطِنُهُ نَجِسٌ وَظَاهِرُهُ طَاهِرٌ .
وَمَتَى انْكَسَرَ مِنْ الْآجُرِّ النَّجِسِ قِطْعَةٌ ، فَظَهَرَ بَعْضُ بَاطِنِهِ ، فَهُوَ نَجِسٌ ، لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ .

( 972 ) فَصْلٌ : وَلَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ عَلَى الْحَصِيرِ وَالْبُسُطِ مِنْ الصُّوفِ وَالشَّعَرِ وَالْوَبَرِ ، وَالثِّيَابِ مِنْ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ وَسَائِرِ الطَّاهِرَاتِ .
وَصَلَّى عُمَرُ عَلَى عَبْقَرِيٍّ وَابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى طُنْفُسَةٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَجَابِرٌ عَلَى حَصِيرٍ وَعَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَأَنَسٌ عَلَى الْمَنْسُوجِ .
وَهُوَ قَوْلُ عَوَامِّ أَهْلِ الْعِلْمِ ، إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ ، أَنَّهُ كَرِهَ الصَّلَاةَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مِنْ الْحَيَوَانِ ، وَاسْتَحَبَّ الصَّلَاةَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ .
وَنَحْوَهُ قَالَ مَالِكٌ ، إلَّا أَنَّهُ قَالَ فِي بِسَاطِ الصُّوفِ وَالشَّعَرِ : إذَا كَانَ سُجُودُهُ عَلَى الْأَرْضِ لَمْ أَرَ بِالْقِيَامِ عَلَيْهِ بَأْسًا .
وَالصَّحِيحُ : أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ، وَقَدْ صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حَصِيرٍ فِي بَيْتِ عِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ ، وَأَنَسٍ ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا .
وَرَوَى عَنْهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ { ، أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي عَلَى الْحَصِيرِ وَالْفَرْوَةِ الْمَدْبُوغَةِ } .
وَفِيمَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى مُلْتَفًّا بِكِسَاءٍ ، يَضَعُ يَدَهُ عَلَيْهِ إذَا سَجَدَ } .
وَلِأَنَّ مَا لَمْ تُكْرَهْ الصَّلَاةُ فِيهِ لَمْ تُكْرَهْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ كَالْكَتَّانِ وَالْخُوصِ .
وَتَصِحُّ الصَّلَاةُ عَلَى ظَهْرِ الْحَيَوَانِ ، إذَا أَمْكَنَهُ اسْتِيفَاءُ الْأَرْكَانِ عَلَيْهِ ، وَالنَّافِلَةُ فِي السَّفَرِ .
وَإِنْ كَانَ الْحَيَوَانُ نَجِسًا ، أَوْ عَلَيْهِ بِسَاطٌ طَاهِرٌ ، صَحَّتْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى حِمَارٍ .
وَفَعَلَهُ أَنَسٌ وَتَصِحُّ الصَّلَاةُ عَلَى الْعَجَلَةِ ، وَهِيَ خَشَبٌ عَلَى بَكَرَاتٍ ، إذَا أَمْكَنَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهَا مَحَلٌّ تَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ أَعْضَاؤُهُ ، فَهِيَ كَغَيْرِهَا .

( 973 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَإِنْ صَلَّى وَفِي ثَوْبِهِ نَجَاسَةٌ ، وَإِنْ قَلَّتْ ، أَعَادَ ) وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الطَّهَارَةَ مِنْ النَّجَاسَةِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَثِيرِهَا وَقَلِيلِهَا ، إلَّا فِيمَا نَذْكُرُهُ بَعْدُ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَمِمَّنْ قَالَ : لَا يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ الْبَوْلِ مِثْلِ رُءُوسِ الْإِبَرِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ جَمِيعِ النَّجَاسَاتِ ؛ لِأَنَّهُ يُتَحَرَّى فِيهَا بِالْمَسْحِ فِي مَحَلِّ الِاسْتِنْجَاءِ ، وَلَوْ لَمْ يُعْفَ عَنْهَا لَمْ يَكْفِ فِيهَا الْمَسْحُ كَالْكَثِيرِ ، وَلِأَنَّهُ يَشُقُّ التَّحَرُّزُ مِنْهُ ، فَعُفِيَ عَنْهُ كَالدَّمِ .
وَلَنَا : عُمُومُ قَوْله تَعَالَى { : وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } .
وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : تَنَزَّهُوا مِنْ الْبَوْلِ ، فَإِنَّ عَامَّةَ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْهُ } وَلِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ لَا تَشُقُّ إزَالَتُهَا ، فَوَجَبَتْ إزَالَتُهَا كَالْكَثِيرِ ، وَأَمَّا الدَّمُ فَإِنَّهُ يَشُقُّ التَّحَرُّزُ مِنْهُ ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَكَادُ يَخْلُو مِنْ بَثْرَةٍ أَوْ حَكَّةٍ أَوْ دُمَّلٍ ، وَيَخْرُجُ مِنْ أَنْفِهِ وَفِيهِ وَغَيْرِهِمَا ، فَيَشُقُّ التَّحَرُّزُ مِنْ يَسِيرِهِ أَكْثَرَ مِنْ كَثِيرِهِ ، وَلِهَذَا فُرِّقَ فِي الْوُضُوءِ بَيْنَ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ دَمًا أَوْ قَيْحًا يَسِيرًا مِمَّا لَا يَفْحُشُ فِي الْقَلْبِ ) أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَرَوْنَ الْعَفْوَ عَنْ يَسِيرِ الدَّمِ وَالْقَيْحِ .
وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ ، وَجَابِرٌ ، وَابْنُ أَبِي أَوْفَى ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَطَاوُسٌ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَعُرْوَةُ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كِنَانَةَ ، وَالنَّخَعِيُّ وَقَتَادَةُ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَنْصَرِفُ مِنْ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ .
وَقَالَ الْحَسَنُ : كَثِيرُهُ وَقَلِيلُهُ سَوَاءٌ .
وَنَحْوُهُ عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ ؛ لِأَنَّهُ نَجَاسَةٌ .

فَأَشْبَهَ الْبَوْلَ .
وَلَنَا ، مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ ، قَالَتْ : قَدْ كَانَ يَكُونُ لِإِحْدَانَا الدِّرْعُ ، فِيهِ تَحِيضُ وَفِيهِ تُصِيبُهَا الْجَنَابَةُ ، ثُمَّ تَرَى فِيهِ قَطْرَةً مِنْ دَمٍ ، فَتَقْصَعُهُ بِرِيقِهَا .
وَفِي لَفْظٍ : مَا كَانَ لِإِحْدَانَا إلَّا ثَوْبٌ ، فِيهِ تَحِيضُ ، فَإِنْ أَصَابَهُ شَيْءٌ مِنْ دَمِهَا بَلَّتْهُ بِرِيقِهَا ، ثُمَّ قَصَعَتْهُ بِظُفُرِهَا .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْعَفْوِ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ الرِّيقَ لَا يُطَهَّرُ بِهِ وَيَتَنَجَّسُ بِهِ ظُفُرُهَا ، وَهُوَ إخْبَارٌ عَنْ دَوَامِ الْفِعْلِ ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَخْفَى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَصْدُرُ إلَّا عَنْ أَمْرِهِ ، وَلِأَنَّهُ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ ، وَلَا مُخَالِفَ لَهُمْ فِي عَصْرِهِمْ ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا .
وَمَا حُكِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ خِلَافُهُ ، فَرَوَى الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ ، عَنْ نَافِعٍ ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَسْجُدُ ، فَيُخْرِجُ يَدَيْهِ ، فَيَضَعُهُمَا بِالْأَرْضِ ، وَهُمَا يَقْطُرَانِ دَمًا ، مِنْ شِقَاقٍ كَانَ فِي يَدَيْهِ ، وَعَصَرَ بَثْرَةً فَخَرَجَ مِنْهَا شَيْءٌ مِنْ دَمٍ وَقَيْحٍ ، فَمَسَحَهُ بِيَدِهِ وَصَلَّى ، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ .
وَانْصِرَافُهُ مِنْهُ فِي بَعْضِ الْحَالَاتِ لَا يُنَافِي مَا رَوَيْنَاهُ عَنْهُ ، فَقَدْ يَتَوَرَّعُ الْإِنْسَانُ عَنْ بَعْضِ مَا يَرَى جَوَازَهُ ، وَلِأَنَّهُ يَشُقُّ التَّحَرُّزُ مِنْهُ ، فَعُفِيَ عَنْهُ كَأَثَرِ الِاسْتِنْجَاءِ .
( 975 ) فَصْلٌ : وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ ، أَنَّ الْيَسِيرَ مَا لَا يَفْحُشُ فِي الْقَلْبِ .
وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : إلَّا إذَا كَانَ فَاحِشًا أَعَادَهُ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْكَثِيرِ ؟ فَقَالَ : شِبْرٌ فِي شِبْرٍ .
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ ، قَالَ : قَدْرُ الْكَفِّ فَاحِشٌ .
وَظَاهِرُ مَذْهَبِهِ ، أَنَّهُ مَا فَحُشَ فِي قَلْبِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّمُ .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : مَا فَحُشَ فِي قَلْبِك .
قَالَ الْخَلَّالُ : وَاَلَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي الْفَاحِشِ ، أَنَّهُ عَلَى قَدْرِ مَا

يَسْتَفْحِشُهُ كُلُّ إنْسَانٍ فِي نَفْسِهِ .
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : إنَّمَا يُعْتَبَرُ مَا يَفْحُشُ فِي نُفُوسِ أَوْسَاطِ النَّاسِ .
وَقَالَ قَتَادَةُ ، فِي مَوْضِعِ الدِّرْهَمِ : فَاحِشٌ .
وَنَحْوُهُ عَنْ النَّخَعِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَالْأَوْزَاعِيِّ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ ؛ لِأَنَّهُ يُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : تُعَادُ الصَّلَاةُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ مِنْ الدَّمِ } .
وَلَنَا أَنَّهُ لَا حَدَّ لَهُ فِي الشَّرْعِ ، فَرُجِعَ فِيهِ إلَى الْعُرْفِ ، كَالتَّفَرُّقِ وَالْإِحْرَازِ ، وَمَا رَوَوْهُ لَا يَصِحُّ ، فَإِنَّ الْحَافِظَ أَبَا الْفَضْلِ الْمَقْدِسِيَّ ، قَالَ : هُوَ مَوْضُوعٌ .
وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ ، بِدَلِيلِ خِطَابِهِ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ لَا يَرَوْنَهُ حُجَّةً .
( 976 ) فَصْلٌ : وَالْقَيْحُ ، وَالصَّدِيدُ ، وَمَا تَوَلَّدَ مِنْ الدَّمِ ، بِمَنْزِلَتِهِ ، إلَّا أَنَّ أَحْمَدَ قَالَ : هُوَ أَسْهَلُ مِنْ الدَّمِ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، وَالْحَسَنِ أَنَّهُمَا لَمْ يَرَيَاهُ كَالدَّمِ .
وَقَالَ أَبُو مِجْلَزٍ ، فِي الصَّدِيدِ : إنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ الدَّمَ الْمَسْفُوحَ .
وَقَالَ أُمَيُّ بْنُ رَبِيعَةَ ، رَأَيْت طَاوُسًا كَأَنَّ إزَارَهُ نُطِعَ مِنْ قُرُوحٍ كَانَتْ بِرِجْلَيْهِ .
وَقَالَ إسْمَاعِيلُ السَّرَّاجُ : رَأَيْت حَاشِيَةَ إزَارِ مُجَاهِدٍ قَدْ ثَبَتَتْ مِنْ الصَّدِيدِ وَالدَّمِ مِنْ قُرُوحٍ كَانَتْ بِسَاقَيْهِ .
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ ، فِي الَّذِي يَكُونُ بِهِ الْحُبُونُ : يُصَلِّي ، وَلَا يَغْسِلُهُ ، فَإِذَا بَرِئَ غَسَلَهُ .
وَقَالَ عُرْوَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ كِنَانَةَ مِثْلَ ذَلِكَ .
فَعَلَى هَذَا يُعْفَى مِنْهُ عَنْ أَكْثَرَ مِمَّا يُعْفَى عَنْ مِثْلِهِ مِنْ الدَّمِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَفْحُشُ مِنْهُ إلَّا أَكْثُرُ مِنْ الدَّمِ ، وَلِأَنَّ هَذَا لَا نَصَّ فِيهِ ، وَإِنَّمَا ثَبَتَتْ النَّجَاسَةُ فِيهِ لِأَنَّهُ مُسْتَحِيلٌ مِنْ الدَّمِ إلَى حَالٍ مُسْتَقْذَرَةٍ .
( 977 ) فَصْلٌ : وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الدَّمِ مُجْتَمِعًا أَوْ مُتَفَرِّقًا ، بِحَيْثُ إذَا جُمِعَ بَلَغَ هَذَا الْقَدْرَ ، وَلَوْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ

فِي شَيْءٍ صَفِيقٍ ، قَدْ نَفَذَتْ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ، فَاتَّصَلَ ظَاهِرُهُ بِبَاطِنِهِ ، فَهُوَ نَجَاسَةٌ وَاحِدَةٌ .
وَإِنْ لَمْ يَتَّصِلَا ، بَلْ كَانَ بَيْنَهُمَا شَيْءٌ لَمْ يُصِبْهُ الدَّمُ ، فَهُمَا نَجَاسَتَانِ ، إذَا بَلَغَا - لَوْ جُمِعَا - قَدْرًا لَا يُعْفَى عَنْهُ لَمْ يُعْفَ عَنْهُمَا ، كَمَا لَوْ كَانَا فِي جَانِبَيْ الثَّوْبِ ( 978 ) .
فَصْلٌ : وَيُعْفَى عَنْ يَسِيرِ دَمِ الْحَيْضِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، وَعَنْ سَائِرِ دِمَاءِ الْحَيَوَانَاتِ الطَّاهِرَةِ .
فَأَمَّا دَمُ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ فَلَا يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهِ ؛ لِأَنَّ رُطُوبَاتِهِ الطَّاهِرَةَ مِنْ غَيْرِهِ لَا يُعْفَى عَنْ شَيْءٍ مِنْهَا ، فَدَمُهُ أَوْلَى ، وَلِأَنَّهُ أَصَابَ جِسْمَ الْكَلْبِ فَلَمْ يُعْفَ عَنْهُ ، كَالْمَاءِ إذَا أَصَابَهُ .
وَهَكَذَا كُلُّ دَمٍ أَصَابَ نَجَاسَةً غَيْرَ مَعْفُوٍّ عَنْهَا ، لَمْ يُعْفَ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ لِذَلِكَ .
( 979 ) فَصْلٌ : وَدَمُ مَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ ، كَالْبَقِّ ، وَالْبَرَاغِيثِ ، وَالذُّبَابِ ، وَنَحْوِهِ ، فِيهِ رِوَايَتَانِ ؛ إحْدَاهُمَا ، أَنَّهُ طَاهِرٌ .
وَمِمَّنْ رَخَّصَ فِي دَمِ الْبَرَاغِيثِ عَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَالْحَسَنُ ، وَالشَّعْبِيُّ وَالْحَاكِمُ وَحَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ وَحَمَّادٌ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ نَجِسًا لَنَجُسَ الْمَاءُ الْيَسِيرُ إذَا مَاتَ فِيهِ ، فَإِنَّهُ إذَا مَكَثَ فِي الْمَاءِ لَا يَسْلَمُ مِنْ خُرُوجِ فَضْلَةٍ مِنْهُ فِيهِ ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِدَمٍ مَسْفُوحٍ ، وَإِنَّمَا حَرَّمَ اللَّهُ الدَّمَ الْمَسْفُوحَ .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ ، عَنْ أَحْمَدَ ، قَالَ فِي دَمِ الْبَرَاغِيثِ إذَا كَثُرَ : إنِّي لَأَفْزَعُ مِنْهُ .
وَقَالَ النَّخَعِيُّ : اغْسِلْ مَا اسْتَطَعْتَ .
وَقَالَ مَالِكٌ فِي دَمِ الْبَرَاغِيثِ : إذَا كَثُرَ وَانْتَشَرَ ، فَإِنِّي أَرَى أَنْ يُغْسَلَ .
وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ .
وَقَوْلُ أَحْمَدَ : إنِّي لَأَفْزَعُ مِنْهُ .
لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي نَجَاسَتِهِ ، وَإِنَّمَا هُوَ دَلِيلٌ عَلَى تَوَقُّفِهِ فِيهِ ، وَلَيْسَ الْمَنْسُوبُ إلَى الْبَرَاغِيثِ دَمًا إنَّمَا هُوَ بَوْلُهَا فِي الظَّاهِرِ ، وَبَوْلُ

هَذِهِ الْحَشَرَاتِ لَيْسَ بِنَجِسٍ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : دَمُ السَّمَكِ طَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ إبَاحَتَهُ لَا تَقِفُ عَلَى سَفْحِهِ ، وَلَوْ كَانَ نَجِسًا ، لَوَقَفَتْ الْإِبَاحَةُ عَلَى إرَاقَتِهِ بِالذَّبْحِ كَحَيَوَانِ الْبَرِّ ، وَلِأَنَّهُ إذَا تُرِكَ اسْتَحَالَ فَصَارَ مَاءً .
وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ : هُوَ نَجِسٌ ؛ لِأَنَّهُ دَمٌ مَسْفُوحٌ ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى { أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا } .
( 980 ) فَصْلٌ : وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي الْعَفْوِ عَنْ يَسِيرِ الْقَيْءِ ، فَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهُ قَالَ : هُوَ عِنْدِي بِمَنْزِلَةِ الدَّمِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ خَارِجٌ مِنْ الْإِنْسَانِ نَجِسٌ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلِ ، فَأَشْبَهَ الدَّمَ .
وَرُوِيَ عَنْهُ فِي الْمَذْيِ أَنَّهُ قَالَ : يُغْسَلُ مَا أَصَابَ الثَّوْبَ مِنْهُ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ يَسِيرًا .
وَرَوَى الْخَلَّالُ ، بِإِسْنَادِهِ قَالَ : سُئِلَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ عَنْ الْمَذْيِ يَخْرُجُ ، فَكُلُّهُمْ قَالَ : إنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْقُرْحَةِ ، فَمَا عَلِمْت مِنْهُ فَاغْسِلْهُ ، وَمَا غَلَبَك مِنْهُ فَدَعْهُ ، وَلِأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ الشَّبَابِ كَثِيرًا ، فَيَشُقُّ التَّحَرُّزُ مِنْهُ ، فَعُفِيَ عَنْ يَسِيرِهِ ، كَالدَّمِ .
وَكَذَلِكَ الْمَنِيُّ إذَا قُلْنَا بِنَجَاسَتِهِ .
وَرُوِيَ عَنْهُ فِي الْوَدْيِ مِثْلُ ذَلِكَ ، إلَّا أَنَّ الظَّاهِرَ عَنْهُ أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْبَوْلِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ مَخْرَجِهِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَيْضًا أَنَّهُ يُعْفَى عَنْ رِيقِ الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ وَعَرَقِهِمَا ، إذَا كَانَ يَسِيرًا .
وَهُوَ الظَّاهِرُ عَنْ أَحْمَدَ .
قَالَ الْخَلَّالُ : وَعَلَيْهِ مَذْهَبُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ؛ لِأَنَّهُ يَشُقُّ التَّحَرُّزُ مِنْهُ .
قَالَ أَحْمَدُ : مَنْ يَسْلَمُ مِنْ هَذَا مِمَّنْ يَرْكَبُ الْحَمِيرَ ، إلَّا إنِّي أَرْجُو أَنْ يَكُونَ مَا خَفَّ مِنْهُ أَسْهَلَ .
قَالَ الْقَاضِي : وَكَذَلِكَ مَا كَانَ فِي مَعْنَاهُمَا مِنْ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ ، سِوَى الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي أَبْوَالِهَا

وَأَرْوَاثِهَا ، وَبَوْلِ الْخُفَّاشِ .
قَالَ الشَّعْبِيُّ وَالْحَاكِمُ وَحَمَّادُ وَحَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ : لَا بَأْسَ بِبَوْلِ الْخَفَافِيشِ .
وَكَذَلِكَ الْخُفَّاشُ ؛ لِأَنَّهُ يَشُقُّ التَّحَرُّزُ مِنْهُ ، فَإِنَّهُ فِي الْمَسَاجِدِ يَكْثُرُ ، فَلَوْ لَمْ يُعْفَ عَنْ يَسِيرِهِ لَمْ يُقَرَّ فِي الْمَسَاجِدِ .
وَكَذَلِكَ بَوْلُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ ، إنْ قُلْنَا بِنَجَاسَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَشُقُّ التَّحَرُّزُ مِنْهُ لِكَثْرَتِهِ .
وَعَنْ أَحْمَدَ : لَا يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا يُعْفَى عَنْ شَيْءٍ مِنْ النَّجَاسَةِ ، خُولِفَ فِي الدَّمِ وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُ ، فَيَبْقَى فِيمَا عَدَاهُ عَلَى الْأَصْلِ .

( 981 ) فَصْلٌ : وَقَدْ عُفِيَ عَنْ النَّجَاسَاتِ الْمُغَلَّظَةِ لِأَجْلِ مَحَلِّهَا ، فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ ؛ أَحَدُهَا ، مَحَلُّ الِاسْتِنْجَاءِ ، فَعُفِيَ فِيهِ عَنْ أَثَرِ الِاسْتِجْمَارِ بَعْدَ الْإِنْقَاءِ ، وَاسْتِيفَاءِ الْعَدَدِ ، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ .
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي طَهَارَتِهِ ، فَذَهَبَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ ، وَأَبُو حَفْصِ بْنُ الْمَسْلَمَةِ ، إلَى طَهَارَتِهِ .
وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ ؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْمُسْتَجْمِرُ يَعْرَقُ فِي سَرَاوِيلِهِ : لَا بَأْسَ بِهِ .
وَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَنَجَّسَهُ ، وَوَجْهُ ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ، فِي الرَّوْثِ وَالرِّمَّةِ : إنَّهُمَا لَا يَطْهُرَانِ } .
مَفْهُومُهُ أَنَّ غَيْرَهُمَا يَطْهُرُ ، وَلِأَنَّهُ مَعْنًى يُزِيلُ حُكْمَ النَّجَاسَةِ ، فَيُزِيلُهَا كَالْمَاءِ .
وَقَالَ أَصْحَابُنَا الْمُتَأَخِّرُونَ : لَا يَطْهُرُ الْمَحَلُّ ، بَلْ هُوَ نَجِسٌ ، فَلَوْ قَعَدَ الْمُسْتَجْمِرُ فِي مَاءٍ يَسِيرٍ نَجَّسَهُ ، وَلَوْ عَرِقَ كَانَ عَرَقُهُ نَجِسًا ؛ لِأَنَّ الْمَسْحَ لَا يُزِيلُ أَجْزَاءَ النَّجَاسَةِ كُلَّهَا ، فَالْبَاقِي مِنْهَا نَجِسٌ ، لِأَنَّهُ عَيْنُ النَّجَاسَةِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ وُجِدَ فِي الْمَحَلِّ وَحْدَهُ .
الثَّانِي : أَسْفَلُ الْخُفِّ وَالْحِذَاءِ ، إذَا أَصَابَتْهُ نَجَاسَةٌ ، فَدَلَكَهَا بِالْأَرْضِ حَتَّى زَالَتْ عَيْنُ النَّجَاسَةِ فَفِيهِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ : إحْدَاهُنَّ ، يُجْزِئُ دَلْكُهُ بِالْأَرْضِ ، وَتُبَاحُ الصَّلَاةُ فِيهِ .
وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ ، وَإِسْحَاقَ ؛ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : إذَا وَطِئَ أَحَدُكُمْ الْأَذَى بِخُفَّيْهِ فَطَهُورُهُمَا التُّرَابُ } .
وَفِي لَفْظٍ { : إذَا وَطِئَ أَحَدُكُمْ بِنَعْلِهِ الْأَذَى ، فَإِنَّ التُّرَابَ لَهُ طَهُورٌ } .
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُ ذَلِكَ ، وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : إذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ إلَى

الْمَسْجِدِ فَلْيَنْظُرْ ، فَإِنْ رَأَى فِي نَعْلَيْهِ قَذَرًا أَوْ أَذًى ، فَلْيَمْسَحْهُ ، وَلْيُصَلِّ فِيهِمَا } .
وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : كُنَّا لَا نَتَوَضَّأُ مِنْ مَوْطِئٍ .
رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد .
وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ كَانُوا يُصَلُّونَ فِي نِعَالِهِمْ .
قَالَ أَبُو مَسْلَمَةَ سَعِيدُ بْنُ يَزِيدَ : سَأَلْت أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ : أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِي نَعْلَيْهِ ؟ قَالَ : نَعَمْ .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ النَّعْلَ لَا تَخْلُو مِنْ نَجَاسَةٍ تُصِيبُهَا ، فَلَوْ لَمْ يُجْزِئْ دَلْكُهَا لَمْ تَصِحَّ الصَّلَاةُ فِيهَا .
وَالثَّانِيَةُ ، يَجِبُ غَسْلُهُ كَسَائِرِ النَّجَاسَاتِ ؛ فَإِنَّ الدَّلْكَ لَا يُزِيلُ جَمِيعَ أَجْزَاءِ النَّجَاسَةِ .
وَالثَّالِثَةُ يَجِبُ غَسْلُهُ مِنْ الْبَوْلِ وَالْعَذِرَةِ دُونَ غَيْرِهِمَا ؛ لِتَغَلُّظِ نَجَاسَتِهِمَا وَفُحْشِهِمَا .
وَالْأَوَّلُ أَوْلَى ، لِأَنَّ اتِّبَاعَ الْأَثَرِ وَاجِبٌ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَعْلَيْهِ ، إنَّ فِيهِمَا قَذَرًا .
يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَجُزْ دَلْكُهُمَا ، وَلَمْ يَزُلْ الْقَذَرُ مِنْهُمَا .
قُلْنَا : لَا دَلَالَةَ فِي هَذَا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ دَلَكَهُمَا ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَدْلُكْهُمَا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِالْقَذَرِ فِيهِمَا ، حَتَّى أَخْبَرَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّ دَلْكَهُمَا يُطَهِّرُهُمَا فِي قَوْلِ ابْنِ حَامِدٍ ؛ لِظَاهِرِ الْأَخْبَارِ وَقَالَ غَيْرُهُ : يُعْفَى عَنْهُ مَعَ بَقَاءِ نَجَاسَتِهِ ، كَقَوْلِهِمْ فِي أَثَرِ الِاسْتِنْجَاءِ .
وَقَالَ الْقَاضِي : إنَّمَا يُجْزِئُ دَلْكُهُمَا بَعْدَ جَفَافِ نَجَاسَتِهِمَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى لَهَا أَثَرٌ وَإِنْ دَلَكَهُمَا قَبْلَ جَفَافِهِمَا لَمْ يَجْزِهِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ رُطُوبَةَ النَّجَاسَةِ بَاقِيَةٌ فَلَا يُعْفَى عَنْهَا .
وَظَاهِرُ الْأَخْبَارِ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ رَطْبٍ وَجَافٍّ .
وَلِأَنَّهُ مَحَلٌّ اُجْتُزِئَ فِيهِ بِالْمَسْحِ ، فَجَازَ فِي حَالِ رُطُوبَةِ الْمَمْسُوحِ كَمَحَلِّ

الِاسْتِنْجَاءِ ، وَلِأَنَّ رُطُوبَةَ الْمَحَلِّ مَعْفُوٌّ عَنْهَا إذَا جَفَّتْ قَبْلَ الدَّلْكِ ، فَيُعْفَى عَنْهَا إذَا جَفَّتْ بِهِ كَالِاسْتِجْمَارِ .
الثَّالِثُ : إذَا جَبَرَ عَظْمَهُ بِعَظْمٍ نَجِسٍ فَجُبِرَ ، لَمْ يَلْزَمْهُ قَلْعُهُ إذَا خَافَ الضَّرَرَ ، وَأَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ ، لِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ بَاطِنَةٌ يَتَضَرَّرُ بِإِزَالَتِهَا ، فَأَشْبَهَتْ دِمَاءَ الْعُرُوقِ .
وَقِيلَ : يَلْزَمُهُ قَلْعُهُ ، مَا لَمْ يَخَفْ التَّلَفَ .
وَإِنْ سَقَطَ سِنٌّ مِنْ أَسْنَانِهِ فَأَعَادَهَا بِحَرَارَتِهَا ، فَثَبَتَتْ ، فَهِيَ طَاهِرَةٌ ؛ لِأَنَّهَا بَعْضُهُ ، وَالْآدَمِيُّ بِجُمْلَتِهِ طَاهِرٌ حَيًّا وَمَيِّتًا ، فَكَذَلِكَ بَعْضُهُ .
وَقَالَ الْقَاضِي : هِيَ نَجِسَةٌ ، حُكْمُهَا حُكْمُ سَائِرِ الْعِظَامِ النَّجِسَةِ ؛ لِأَنَّ مَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ فَهُوَ مَيِّتٌ .
وَإِنَّمَا حُكِمَ بِطَهَارَةِ الْجُمْلَةِ لِحُرْمَتِهَا ، وَحُرْمَتُهَا آكَدُ مِنْ حُرْمَةِ الْبَعْضِ ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْحُكْمِ بِطَهَارَتِهَا الْحُكْمُ بِطَهَارَةِ مَا دُونَهَا .
( 982 ) فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ عَلَى الْأَجْسَامِ الصَّقِيلَةِ ، كَالسَّيْفِ وَالْمِرْآةِ نَجَاسَةٌ ، فَعُفِيَ عَنْ يَسِيرِهَا ، كَالدَّمِ وَنَحْوِهِ ، عُفِيَ عَنْ أَثَرِ كَثِيرِهَا بِالْمَسْحِ ؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ الْمَسْحِ يَسِيرٌ .
وَإِنْ كَثُرَ مَحَلُّهُ ، عُفِيَ عَنْهُ ، كَيَسِيرِ غَيْرِهِ .

( 983 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ ( : وَإِذَا خَفِيَ مَوْضِعُ النَّجَاسَةِ مِنْ الثَّوْبِ اسْتَظْهَرَ ، حَتَّى يَتَيَقَّنَ أَنَّ الْغَسْلَ قَدْ أَتَى عَلَى النَّجَاسَةِ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ النَّجَاسَةَ إذَا خَفِيَتْ فِي بَدَنٍ أَوْ ثَوْبٍ ، وَأَرَادَ الصَّلَاةَ فِيهِ ، لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ حَتَّى يَتَيَقَّنَ زَوَالَهَا ، وَلَا يَتَيَقَّنُ ذَلِكَ حَتَّى يَغْسِلَ كُلَّ مَحَلٍّ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ النَّجَاسَةُ أَصَابَتْهُ ، فَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ جِهَتَهَا مِنْ الثَّوْبِ غَسَلَهُ كُلَّهُ .
وَإِنْ عَلِمَهَا فِي إحْدَى جِهَتَيْهِ غَسَلَ تِلْكَ الْجِهَةَ كُلَّهَا .
وَإِنْ رَآهَا فِي بَدَنِهِ ، أَوْ ثَوْبٍ - هُوَ لَابِسُهُ - ، غَسَلَ كُلَّ مَا يُدْرِكُهُ بَصَرُهُ مِنْ ذَلِكَ .
وَبِهَذَا قَالَ النَّخَعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَقَالَ عَطَاءٌ وَالْحَكَمُ وَحَمَّادٌ : إذَا خَفِيَتْ النَّجَاسَةُ فِي الثَّوْبِ نَضَحَهُ كُلَّهُ .
وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ : يَتَحَرَّى مَكَانَ النَّجَاسَةِ فَيَغْسِلُهُ .
وَلَعَلَّهُمْ يَحْتَجُّونَ بِحَدِيثِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ فِي الْمَذْيِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ فَكَيْفَ بِمَا أَصَابَ ثَوْبِي مِنْهُ ؟ قَالَ : { يُجْزِئُكَ أَنْ تَأْخُذَ كَفًّا مِنْ مَاءٍ ، فَتَنْضَحَ بِهِ حَيْثُ تَرَى أَنَّهُ أَصَابَ مِنْهُ .
} فَأَمَرَهُ بِالتَّحَرِّي وَالنَّضْحِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ مُتَيَقَّنٌ لِلْمَانِعِ مِنْ الصَّلَاةِ .
فَلَمْ تُبَحْ لَهُ الصَّلَاةُ إلَّا بِتَيَقُّنِ زَوَالِهِ كَمَنْ تَيَقَّنَ الْحَدَثَ وَشَكَّ فِي الطَّهَارَةِ ، وَالنَّضْحُ لَا يُزِيلُ النَّجَاسَةَ ، وَحَدِيثُ سَهْلٍ فِي الْمَذْيِ دُونَ غَيْرِهِ ، فَلَا يُعَدَّى ، لِأَنَّ أَحْكَامَ النَّجَاسَةِ تَخْتَلِفُ .
وَقَوْلُهُ : حَيْثُ تَرَى أَنَّهُ أَصَابَ مِنْهُ " .
مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ أَصَابَ نَاحِيَةً مِنْ ثَوْبِهِ ، مِنْ غَيْرِ تَيَقُّنٍ ، فَيُجْزِئُهُ نَضْحُ الْمَكَانِ أَوْ غَسْلُهُ .

( 984 ) فَصْلٌ : وَإِنْ خَفِيَتْ النَّجَاسَةُ فِي فَضَاءٍ وَاسِعٍ ، صَلَّى حَيْثُ شَاءَ ، وَلَا يَجِبُ غَسْلُ جَمِيعِهِ ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَشُقُّ ، فَلَوْ مُنِعَ مِنْ الصَّلَاةِ أَفْضَى إلَى أَنْ لَا يَجِدَ مَوْضِعًا يُصَلِّي فِيهِ ، فَأَمَّا إنْ كَانَ مَوْضِعًا صَغِيرًا ، كَبَيْتٍ وَنَحْوِهِ ، فَإِنَّهُ يَغْسِلُهُ كُلَّهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَشُقُّ غَسْلُهُ ، فَأَشْبَهَ الثَّوْبَ .

( 985 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَمَا خَرَجَ مِنْ الْإِنْسَانِ ، أَوْ الْبَهِيمَةِ الَّتِي لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهَا مِنْ بَوْلٍ أَوْ غَيْرِهِ ، فَهُوَ نَجِسٌ ) يَعْنِي مَا خَرَجَ مِنْ السَّبِيلَيْنِ ، كَالْبَوْلِ ، وَالْغَائِطِ ، وَالْمَذْيِ ، وَالْوَدْيِ ، وَالدَّمِ ، وَغَيْرِهِ .
فَهَذَا لَا نَعْلَمُ فِي نَجَاسَتِهِ خِلَافًا ، إلَّا أَشْيَاءَ يَسِيرَةً ، نَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
أَمَّا بَوْلُ الْآدَمِيِّ ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فِي الَّذِي مَرَّ بِهِ وَهُوَ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ إنَّهُ كَانَ لَا يَسْتَبْرِئُ مِنْ بَوْلِهِ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَرُوِيَ فِي خَبَرٍ { أَنَّ عَامَّةَ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْ الْبَوْلِ .
} وَأَمَّا الْوَدْيُ ، فَهُوَ مَاءٌ أَبْيَضُ يَخْرُجُ عَقِيبَ الْبَوْلِ خَاثِرٌ ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْبَوْلِ سَوَاءً ؛ لِأَنَّهُ خَارِجٌ مِنْ مَخْرَجِ الْبَوْلِ ، وَجَارٍ مَجْرَاهُ .
وَأَمَّا الْمَذْيُ ، فَهُوَ مَاءٌ لَزِجٌ رَقِيقٌ يَخْرُجُ عَقِيبَ الشَّهْوَةِ ، عَلَى طَرَفِ الذَّكَرِ ، فَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ نَجِسٌ .
قَالَ هَارُونُ الْحَمَّالُ : سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَذْهَبُ فِي الْمَذْيِ إلَى أَنَّهُ يَغْسِلَ مَا أَصَابَ الثَّوْبَ مِنْهُ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ يَسِيرًا .
وَقَدْ ذَكَرْنَا الِاخْتِلَافَ فِي الْعَفْوِ عَنْ يَسِيرِهِ فِيمَا مَضَى وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَنِيِّ .
قَالَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ : إنَّهُ سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الْمَذْيِ أَشَدُّ أَوْ الْمَنِيُّ ، قَالَ : هُمَا سَوَاءٌ ، لَيْسَا مِنْ مَخْرَجِ الْبَوْلِ ، إنَّمَا هُمَا مِنْ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : هُوَ عِنْدِي بِمَنْزِلَةِ الْبُصَاقِ وَالْمُخَاطِ .
وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ نَحْوَ هَذَا ، وَعَلَّلَ بِأَنَّ الْمَذْيَ جُزْءٌ مِنْ الْمَنِيِّ ؛ لِأَنَّ سَبَبَهُمَا جَمِيعًا الشَّهْوَةُ ، وَلِأَنَّهُ خَارِجٌ تُحَلِّلُهُ الشَّهْوَةُ ، أَشْبَهَ الْمَنِيَّ فَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ نَجِسٌ لِأَنَّهُ خَارِجٌ مِنْ السَّبِيلِ ، لَيْسَ بَدْءًا لِخَلْقِ آدَمِيٍّ ، فَأَشْبَهَ الْبَوْلَ ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى

اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِغَسْلِ الذَّكَرِ مِنْهُ ، وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ .
ثُمَّ اُخْتُلِفَ عَنْ أَحْمَدَ : هَلْ يُجْزِئُ فِيهِ النَّضْحُ ، أَوْ يَجِبُ غَسْلُهُ ؟ قَالَ ، فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ : الْمَذْيُ يُرَشُّ عَلَيْهِ الْمَاءُ ، أَذْهَبُ إلَى حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ لَيْسَ يَدْفَعُهُ شَيْءٌ ، وَإِنْ كَانَ حَدِيثًا وَاحِدًا .
وَقَالَ الْأَثْرَمُ : قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ حَدِيثُ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ فِي الْمَذْيِ ، مَا تَقُولُ فِيهِ ؟ قَالَ : الَّذِي يَرْوِيهِ ابْنُ إِسْحَاقَ ؟ قُلْت : نَعَمْ .
قَالَ : لَا أَعْلَمُ شَيْئًا يُخَالِفُهُ .
وَهُوَ مَا رَوَى سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ ، قَالَ { : كُنْت أَلْقَى مِنْ الْمَذْيِ شِدَّةً وَعَنَاءً ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يُجْزِئُكَ مِنْهُ الْوُضُوءُ .
قُلْت : فَكَيْفَ بِمَا أَصَابَ ثَوْبِي مِنْهُ ؟ قَالَ : يَكْفِيك أَنْ تَأْخُذَ كَفًّا مِنْ مَاءٍ فَتَنْضَحَ بِهِ حَيْثُ تَرَى أَنَّهُ أَصَابَ مِنْهُ } .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ .
وَرُوِيَ عَنْهُ وُجُوبُ غَسْلِهِ ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُد سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الْمَذْيِ يُصِيبُ الثَّوْبَ ، كَيْفَ الْعَمَلُ فِيهِ ؟ قَالَ : الْغَسْلُ لَيْسَ فِي الْقَلْبِ مِنْهُ شَيْءٌ .
وَقَالَ : حَدِيثُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ رُبَّمَا تَهَيَّبْتُهُ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : وَمِمَّنْ أَمَرَ بِغَسْلِ الْمَذْيِ عُمَرُ وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ ، وَكَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِغَسْلِ الذَّكَرِ مِنْهُ فِي حَدِيثِ الْمِقْدَادِ ، وَلِأَنَّهُ نَجَاسَةٌ ، فَوَجَبَ غَسْلُهَا كَسَائِرِ النَّجَاسَاتِ ، وَلِحَدِيثِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ .
قَالَ أَحْمَدُ : حَدِيثُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ لَا أَعْرِفُهُ عَنْ غَيْرِهِ ، وَلَا أَحْكُمُ لِمُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ ، وَرُبَّمَا تَهَيَّبْتُهُ .
وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ ، وَاخْتِيَارُ الْخَلَّالِ .

فَصْلٌ : وَفِي رُطُوبَةِ فَرْجِ الْمَرْأَةِ احْتِمَالَانِ : أَحَدُهُمَا ، أَنَّهُ نَجِسٌ ؛ لِأَنَّهُ فِي الْفَرْجِ لَا يُخْلَقُ مِنْهُ الْوَلَدُ ، أَشْبَهَ الْمَذْيَ .
وَالثَّانِي : طَهَارَتُهُ ؛ لِأَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تَفْرُكُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مِنْ جِمَاعٍ ، فَإِنَّهُ مَا احْتَلَمَ نَبِيٌّ قَطُّ ، وَهُوَ يُلَاقِي رُطُوبَةَ الْفَرْجِ ، وَلِأَنَّنَا لَوْ حَكَمْنَا بِنَجَاسَةِ فَرْجِ الْمَرْأَةِ ، لَحَكَمْنَا بِنَجَاسَةِ مَنِيِّهَا ؛ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ فَرْجِهَا ، فَيَتَنَجَّسُ بِرُطُوبَتِهِ .
وَقَالَ الْقَاضِي : مَا أَصَابَ مِنْهُ فِي حَالِ الْجِمَاعِ فَهُوَ نَجِسٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْلَمُ مِنْ الْمَذْيِ ، وَهُوَ نَجِسٌ .
وَلَا يَصِحُّ التَّعْلِيلُ ، فَإِنَّ الشَّهْوَةَ إذَا اشْتَدَّتْ خَرَجَ الْمَنِيُّ دُونَ الْمَذْيِ ، كَحَالِ الِاحْتِلَامِ .

( 987 ) فَصْلٌ : وَبَوْلُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَرَوْثُهُ طَاهِرٌ .
وَهَذَا مَفْهُومُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ .
وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَالنَّخَعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَمَالِكٍ : قَالَ مَالِكٌ : لَا يَرَى أَهْلُ الْعِلْمِ أَبْوَالَ مَا أُكِلَ لَحْمُهُ وَشُرِبَ لَبَنُهُ نَجِسًا .
وَرَخَّصَ فِي أَبْوَالِ الْغَنَمِ الزُّهْرِيُّ وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيُّ وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى إبَاحَةِ الصَّلَاةِ فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ ، إلَّا الشَّافِعِيَّ ، فَإِنَّهُ اشْتَرَطَ أَنْ تَكُونَ سَلِيمَةً مِنْ أَبْعَارِهَا وَأَبْوَالِهَا .
وَرَخَّصَ فِي ذَرْقِ الطَّائِرِ أَبُو جَعْفَرٍ وَالْحَكَمُ وَحَمَّادٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَعَنْ أَحْمَدَ : أَنَّ ذَلِكَ نَجِسٌ .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ ، وَنَحْوُهُ عَنْ الْحَسَنِ ؛ لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تَنَزَّهُوا مِنْ الْبَوْلِ } .
وَلِأَنَّهُ رَجِيعٌ ، فَكَانَ نَجِسًا كَرَجِيعِ الْآدَمِيِّ .
وَلَنَا ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ الْعُرَنِيِّينَ أَنْ يَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِ الْإِبِلِ } ، وَالنَّجِسُ لَا يُبَاحُ شُرْبُهُ ، وَلَوْ أُبِيحَ لِلضَّرُورَةِ لَأَمَرَهُمْ بِغَسْلِ أَثَرِهِ إذَا أَرَادُوا الصَّلَاةَ { ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَقَالَ { : صَلُّوا فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَهُوَ إجْمَاعٌ كَمَا ذَكَرَ ابْنُ الْمُنْذِرِ ، وَصَلَّى أَبُو مُوسَى فِي مَوْضِعٍ فِيهِ أَبْعَارُ الْغَنَمِ .
فَقِيلَ لَهُ : لَوْ تَقَدَّمْت إلَى هَاهُنَا ؟ فَقَالَ : هَذَا وَذَاكَ وَاحِدٌ .
وَلَمْ يَكُنْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ مَا يُصَلُّونَ عَلَيْهِ مِنْ الْأَوْطِئَةِ وَالْمُصَلَّيَاتِ ، وَإِنَّمَا كَانُوا يُصَلُّونَ عَلَى الْأَرْضِ ، وَمَرَابِضُ الْغَنَمِ لَا تَخْلُو مِنْ أَبْعَارِهَا وَأَبْوَالِهَا ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يُبَاشِرُونَهَا فِي صَلَاتِهِمْ ، وَلِأَنَّهُ مُتَحَلِّلٌ مُعْتَادٌ مِنْ حَيَوَانٍ يُؤْكَلُ لَحْمُهُ ، فَكَانَ طَاهِرًا

كَاللَّبَنِ ، وَذَرْقِ الطَّائِرِ عِنْدَ مَنْ سَلَّمَهُ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ نَجِسًا لَتَنَجَّسَتْ الْحُبُوبُ الَّتِي تَدُوسُهَا الْبَقَرُ ، فَإِنَّهَا لَا تَسْلَمُ مِنْ أَبْوَالِهَا ، فَيَتَنَجَّسُ بَعْضُهَا ، وَيَخْتَلِطُ النَّجِسُ بِالطَّاهِرِ ، فَيَصِيرُ حُكْمُ الْجَمِيعِ حُكْمَ النَّجِسِ .

( 988 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا الْخَارِجُ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ ، فَالْحَيَوَانَاتُ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : الْآدَمِيُّ ، فَالْخَارِجُ مِنْهُ نَوْعَانِ ، طَاهِرٌ وَهُوَ رِيقُهُ وَدَمْعُهُ وَعَرَقُهُ وَمُخَاطُهُ ، وَنُخَامَتُهُ ، فَإِنَّهُ جَاءَ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَوْمِ الْحُدَيْبِيَةِ ، أَنَّهُ مَا تَنَخَّمَ نُخَامَةً إلَّا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ ، فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ } .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَلَوْلَا طَهَارَتُهَا لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ { ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى نُخَامَةً فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ ، فَأَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ ، فَقَالَ : مَا بَالُ أَحَدِكُمْ يَقُومُ يَسْتَقْبِلُ رَبَّهُ ، فَيَتَنَخَّعُ أَمَامَهُ ، أَيُحِبُّ أَنْ يُسْتَقْبَلَ فَيُتَنَخَّعَ فِي وَجْهِهِ ؟ فَإِذَا تَنَخَّعَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَنَخَّعْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيَقُلْ هَكَذَا } .
وَوَصَفَ الْقَاسِمُ : فَتَفَلَ فِي ثَوْبِهِ ، ثُمَّ مَسَحَ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَلَوْ كَانَتْ نَجِسَةً لَمَا أَمَرَ بِمَسْحِهَا فِي ثَوْبِهِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ ، وَلَا تَحْتَ قَدَمِهِ .
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا يَخْرُجُ مِنْ الرَّأْسِ وَالْبَلْغَمِ الْخَارِجِ مِنْ الصَّدْرِ .
ذَكَرَهُ الْقَاضِي .
وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : الْبَلْغَمُ نَجِسٌ ؛ لِأَنَّهُ طَعَامٌ اسْتَحَالَ فِي الْمَعِدَةِ ، أَشْبَهَ الْقَيْءَ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ الْخَبَرَيْنِ ، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيْ النُّخَامَةِ ، أَشْبَهَ الْآخَرَ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ نَجِسًا نَجُسَ بِهِ الْفَمُ ، وَنَقَضَ الْوُضُوءَ ، وَلَمْ يَبْلُغْنَا عَنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مَعَ عُمُومِ الْبَلْوَى بِهِ - شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ .
وَقَوْلُهُمْ " إنَّهُ طَعَامٌ مُسْتَحِيلٌ فِي الْمَعِدَةِ " غَيْرُ مُسَلَّمٍ ، إنَّمَا هُوَ مُنْعَقِدٌ مِنْ الْأَبْخِرَةِ ، فَهُوَ كَالنَّازِلِ مِنْ الرَّأْسِ ، وَكَالْمُخَاطِ ؛ وَلِأَنَّهُ يَشُقُّ التَّحَرُّزُ مِنْهُ ، أَشْبَهَ الْمُخَاطَ .
النَّوْعُ الثَّانِي : نَجِسٌ ،

وَهُوَ الدَّمُ وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُ مِنْ الْقَيْحِ وَالصَّدِيدِ ، وَمَا يَخْرُجُ مِنْ الْمَعِدَةِ مِنْ الْقَيْءِ وَالْقَلْسِ ، فَهَذَا نَجِسٌ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ حُكْمِهِ .
الْقِسْمُ الثَّانِي : مَا أُكِلَ لَحْمُهُ ، فَالْخَارِجُ مِنْهُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ : أَحَدُهَا ، نَجِسٌ ، وَهُوَ الدَّمُ ، وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُ .
الثَّانِي ، طَاهِرٌ ، وَهُوَ الرِّيقُ وَالدَّمْعُ وَالْعَرَقُ وَاللَّبَنُ .
فَهَذَا لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا .
الثَّالِثُ : الْقَيْءُ ، وَنَحْوُهُ ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ بَوْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ طَعَامٌ مُسْتَحِيلٌ ، فَأَشْبَهَ الرَّوْثَ ، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى طَهَارَةِ بَوْلِهِ ، فَهَذَا أَوْلَى ، وَكَذَلِكَ مَنِيُّهُ .
الْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ ، وَيُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ ، وَهُوَ نَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا : الْكَلْبُ وَالْخِنْزِيرُ ، فَهُمَا نَجِسَانِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِمَا وَفَضَلَاتِهِمَا ، وَمَا يَنْفَصِلُ عَنْهُمَا .
الثَّانِي ، مَا عَدَاهُمَا مِنْ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ وَجَوَارِحِ الطَّيْرِ وَالْبَغْلِ وَالْحِمَارِ ، فَعَنْ أَحْمَدَ ، رَحِمَهُ اللَّهُ ، أَنَّهَا نَجِسَةٌ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا وَفَضَلَاتِهَا ، إلَّا أَنَّهُ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ نَجَاسَتِهَا .
وَعَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى طَهَارَتِهَا .
فَحُكْمُهَا حُكْمُ الْآدَمِيِّ ، عَلَى مَا فُصِّلَ .
الْقِسْمُ الرَّابِعُ : مَا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ ، وَهُوَ نَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا ، مَا يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ ، وَهُوَ السِّنَّوْرُ وَمَا دُونَهُ فِي الْخِلْقَةِ ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْآدَمِيِّ ؛ مَا حَكَمْنَا بِنَجَاسَتِهِ مِنْ الْآدَمِيِّ ، فَهُوَ مِنْهُ نَجِسٌ .
وَمَا حَكَمْنَا بِطَهَارَتِهِ مِنْ الْآدَمِيِّ ، فَهُوَ مِنْهُ طَاهِرٌ ، إلَّا مَنِيَّهُ ، فَإِنَّهُ نَجِسٌ ؛ لِأَنَّ مَنِيَّ الْآدَمِيِّ بَدْءُ خَلْقِ آدَمِيٍّ فَشَرُفَ بِتَطْهِيرِهِ ، وَهَذَا مَعْدُومٌ هَاهُنَا .
النَّوْعُ الثَّانِي ، مَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ ، فَهُوَ طَاهِرٌ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ وَفَضَلَاتِهِ .

( 989 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( إلَّا بَوْلَ الْغُلَامِ الَّذِي لَمْ يَأْكُلْ الطَّعَامَ ، فَإِنَّهُ يُرَشُّ الْمَاءُ عَلَيْهِ ) هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ ، إذْ لَيْسَ مَعْنَى الْكَلَامِ طَهَارَةَ بَوْلِ الْغُلَامِ ، إنَّمَا أَرَادَ أَنَّ بَوْلَ الْغُلَامِ الَّذِي لَمْ يَطْعَمْ الطَّعَامَ يُجْزِئُ فِيهِ الرَّشُّ ، وَهُوَ أَنْ يَنْضَحَ عَلَيْهِ الْمَاءَ حَتَّى يَغْمُرَهُ ، وَلَا يَحْتَاجَ إلَى رَشٍّ وَعَصْرٍ ، ، وَبَوْلَ الْجَارِيَةِ يُغْسَلُ وَإِنْ لَمْ تَطْعَمْ .
وَهَذَا قَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ ، وَالْحَسَنُ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ .
وَقَالَ الْقَاضِي : رَأَيْت لِأَبِي إِسْحَاقَ بْنِ شَاقِلَا كَلَامًا يَدُلُّ عَلَى طَهَارَةِ بَوْلِ الْغُلَامِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ نَجِسًا لَوَجَبَ غَسْلُهُ .
( 1 ) وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ : يُغْسَلُ بَوْلُ الْغُلَامِ كَمَا يُغْسَلُ بَوْلُ الْجَارِيَةِ ؛ لِأَنَّهُ بَوْلٌ نَجِسٌ ، فَوَجَبَ غَسْلُهُ كَسَائِرِ الْأَبْوَالِ النَّجِسَةِ ، وَلِأَنَّهُ حُكْمٌ يَتَعَلَّقُ بِالنَّجَاسَةِ ، فَاسْتَوَى فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى ، كَسَائِرِ أَحْكَامِهِمَا .
وَلَنَا مَا رَوَتْ أُمُّ قَيْسٍ بِنْتُ مُحْصِنٍ { ، أَنَّهَا أَتَتْ بِابْنٍ ، لَهَا صَغِيرٍ ، لَمْ يَأْكُلْ الطَّعَامَ ، إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَجْلَسَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حِجْرِهِ ، فَبَالَ عَلَى ثَوْبِهِ ، فَدَعَا بِمَاءٍ ، فَنَضَحَهُ ، وَلَمْ يَغْسِلْهُ .
} وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ { ، أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَبِيٍّ ، فَبَالَ عَلَى ثَوْبِهِ فَدَعَا بِمَاءٍ فَأَتْبَعَهُ بَوْلَهُ ، وَلَمْ يَغْسِلْهُ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا .
وَعَنْ لُبَابَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ قَالَتْ { : كَانَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ فِي حِجْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَالَ عَلَيْهِ ، فَقُلْت : الْبَسْ ثَوْبًا آخَرَ ، وَأَعْطِنِي إزَارَك حَتَّى أَغْسِلَهُ .
فَقَالَ : إنَّمَا يُغْسَلُ مِنْ بَوْلِ الْأُنْثَى ، وَيَنْضَحُ مِنْ بَوْلِ الْغُلَامِ الذَّكَرِ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ

اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { بَوْلُ الْغُلَامِ يُنْضَحُ ، وَبَوْلُ الْجَارِيَةِ يُغْسَلُ } .
قَالَ قَتَادَةُ : هَذَا مَا لَمْ يَطْعَمَا الطَّعَامَ ، فَإِذَا طَعِمَا غُسِلَ بَوْلُهُمَا .
رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ .
وَهَذِهِ نُصُوصٌ صَحِيحَةٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَاتِّبَاعُهَا أَوْلَى ، وَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَحُّ مِنْ قَوْلِ مَنْ خَالَفَهُ .
( 990 ) فَصْلٌ : قَالَ أَحْمَدُ : الصَّبِيُّ إذَا طَعِمَ الطَّعَامَ ، وَأَرَادَهُ ، وَاشْتَهَاهُ ، غُسِلَ بَوْلُهُ ، وَلَيْسَ إذَا أُطْعِمَ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَلْعَقُ الْعَسَلَ سَاعَةَ يُولَدُ ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَنَّكَ بِالتَّمْرِ .
وَلَكِنْ إذَا كَانَ يَأْكُلُ وَيُرِيدُ الْأَكْلَ ، فَعَلَى هَذَا مَا يُسْقَاهُ الصَّبِيُّ أَوْ يَلْعَقُهُ لِلتَّدَاوِي لَا يُعَدُّ طَعَامًا يُوجِبُ الْغَسْلَ ، وَمَا يَطْعَمُهُ لِغِذَائِهِ وَهُوَ يُرِيدُهُ وَيَشْتَهِيهِ ، هُوَ الْمُوجِبُ لِغَسْلِ بَوْلِهِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( 991 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَالْمَنِيُّ طَاهِرٌ .
وَعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ، رَحِمَهُ اللَّهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى ، أَنَّهُ كَالدَّمِ ) اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِي الْمَنِيِّ ، فَالْمَشْهُورُ : أَنَّهُ طَاهِرٌ .
وَعَنْهُ أَنَّهُ كَالدَّمِ ، أَيْ أَنَّهُ نَجِسٌ .
وَيُعْفَى عَنْ يَسِيرِهِ .
وَعَنْهُ : أَنَّهُ لَا يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهِ .
وَيُجْزِئُ فَرْكُ يَابِسِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ .
وَالرِّوَايَةُ الْأُولَى هِيَ الْمَشْهُورَةُ فِي الْمَذْهَبِ ، وَهُوَ قَوْلُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ ، وَابْنِ عُمَرَ .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : امْسَحْهُ عَنْكَ بِإِذْخِرَةٍ أَوْ خِرْقَةٍ ، وَلَا تَغْسِلْهُ إنْ شِئْت .
وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ : إذَا صَلَّى فِيهِ لَمْ يُعِدْ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَأَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ .
وَقَالَ مَالِكٌ : غَسْلُ الِاحْتِلَامِ أَمْرٌ وَاجِبٌ .
وَعَلَى هَذَا مَذْهَبُ الْأَوْزَاعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ : هُوَ نَجِسٌ ، وَيُجْزِئُ فَرْكُ يَابِسِهِ ؛ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ أَنَّهَا كَانَتْ تَغْسِلُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ : ثُمَّ أَرَى فِيهِ بُقْعَةً أَوْ بُقَعًا .
وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ .
قَالَ صَالِحٌ : قَالَ أَبِي : غَسْلُ الْمَنِيِّ مِنْ الثَّوْبِ أَحْوَطُ وَأَثْبَتُ فِي الرِّوَايَةِ .
وَقَدْ جَاءَ الْفَرْكُ أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الْمَنِيِّ يُصِيبُ الثَّوْبَ : إنْ كَانَ رَطْبًا فَاغْسِلِيهِ .
وَإِنْ كَانَ يَابِسًا فَافْرُكِيهِ } .
وَهَذَا أَمْرٌ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ .
وَلِأَنَّهُ خَارِجٌ مُعْتَادٌ مِنْ السَّبِيلِ ، أَشْبَهَ الْبَوْلَ .
وَلَنَا ، مَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ { : كُنْت أَفْرُكُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَيُصَلِّي فِيهِ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : امْسَحْهُ عَنْكَ بِإِذْخِرَةٍ أَوْ بِخِرْقَةٍ ، وَلَا تَغْسِلْهُ ، إنَّمَا هُوَ كَالْبُزَاقِ وَالْمُخَاطِ .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ .
وَلِأَنَّهُ لَا يَجِبُ غَسْلُهُ إذَا جَفَّ ، فَلَمْ يَكُنْ نَجِسًا كَالْمُخَاطِ ، وَلِأَنَّهُ بَدْءُ خَلْقِ آدَمِيٍّ ، فَكَانَ طَاهِرًا كَالطِّينِ ، وَيُفَارِقُ الْبَوْلَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ بَدْءُ خَلْقِ آدَمِيٍّ .
( 992 ) فَصْلٌ : فَإِنْ خَفِيَ مَوْضِعُ الْمَنِيِّ فَرَكَ الثَّوْبُ كُلُّهُ ، إنْ قُلْنَا بِنَجَاسَتِهِ ، وَإِنْ قُلْنَا بِطَهَارَتِهِ اُسْتُحِبَّ فَرْكُهُ .
وَإِنْ صَلَّى فِيهِ مِنْ غَيْرِ فَرْكٍ ، أَجْزَأَهُ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ قَالَ بِالطَّهَارَةِ .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : يَنْضَحُ الثَّوْبَ كُلَّهُ .
وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيُّ وَحَمَّادٌ .
وَنَحْوُهُ عَنْ عَائِشَةَ وَعَطَاءٍ .
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَالْحَسَنُ : يُغْسَلُ الثَّوْبُ كُلُّهُ .
وَلَنَا ، أَنَّ فَرْكَهُ يُجْزِئُ إذَا عُلِمَ مَكَانُهُ ، فَكَذَلِكَ إذَا خَفِيَ ، وَأَمَّا النَّضْحُ فَلَا يُفِيدُ ، فَإِنَّهُ لَا يُطَهِّرُهُ إذَا عُلِمَ مَكَانُهُ ، فَكَذَلِكَ إذَا خَفِيَ .
وَأَمَّا إذَا قُلْنَا بِالطَّهَارَةِ فَلَا يَجِبُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ ، كَحَالِ الْعِلْمِ بِهِ .
فَصْلٌ : قَالَ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ : إنَّمَا يُفْرَكُ مَنِيُّ الرَّجُلِ ، أَمَّا مَنِيُّ الْمَرْأَةِ فَلَا يُفْرَكُ ؛ لِأَنَّ الَّذِي لِلرَّجُلِ ثَخِينٌ ، وَاَلَّذِي لِلْمَرْأَةِ رَقِيقٌ .
وَالْمَعْنَى فِي هَذَا أَنَّ الْفَرْكَ يُرَادُ لِلتَّخْفِيفِ وَالرَّقِيقُ لَا يَبْقَى لَهُ جِسْمٌ بَعْدَ جَفَافِهِ يَزُولُ بِالْفَرْكِ ، فَلَا يُفِيدُ فِيهِ شَيْئًا ، فَعَلَى هَذَا إنْ قُلْنَا بِنَجَاسَتِهِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ غَسْلِهِ رَطْبًا كَانَ أَوْ يَابِسًا ، كَالْبَوْلِ .
وَإِنْ قُلْنَا بِطَهَارَتِهِ ، اُسْتُحِبَّ غَسْلُهُ ، كَمَا يُسْتَحَبُّ فَرْكُ مَنِيِّ الرَّجُلِ .
وَأَمَّا الطَّهَارَةُ وَالنَّجَاسَةُ فَلَا يَفْتَرِقَانِ فِيهِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنِيٌّ ، وَهُوَ بَدْءٌ لِخَلْقِ آدَمِيٍّ ، خَارِجٌ مِنْ السَّبِيلِ .
( 994 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا الْعَلَقَةُ ، فَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : فِيهَا رِوَايَتَانِ ، كَالْمَنِيِّ ؛ لِأَنَّهَا بَدْءُ خَلْقِ آدَمِيٍّ .
وَالصَّحِيحُ نَجَاسَتُهَا ؛ لِأَنَّهَا دَمٌ ، وَلَمْ يَرِدْ مِنْ الشَّرْعِ فِيهَا

طَهَارَةٌ ، وَقِيَاسُهَا عَلَى الْمَنِيِّ مُمْتَنِعٌ ، لِكَوْنِهَا دَمًا خَارِجًا مِنْ الْفَرْجِ ، فَأَشْبَهَتْ دَمَ الْحَيْضِ ( 995 ) .
فَصْلٌ : وَمَنْ أَمْنَى وَعَلَى فَرْجِهِ نَجَاسَةٌ نَجُسَ مَنِيُّهُ ؛ لِإِصَابَتِهِ النَّجَاسَةَ ، وَلَمْ يُعْفَ عَنْ يَسِيرِهِ لِذَلِكَ .
وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي الْمَنِيِّ مِنْ الْجِمَاعِ أَنَّهُ نَجِسٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْلَمُ مِنْ الْمَذْيِ .
وَقَدْ ذَكَرْنَا فَسَادَ هَذَا .
فَإِنَّ مَنِيَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا كَانَ مِنْ جِمَاعٍ ، وَهُوَ الَّذِي وَرَدَتْ الْأَخْبَارُ بِفَرْكِهِ ، وَالطَّهَارَةُ لِغَيْرِهِ إنَّمَا أُخِذَتْ مِنْ طَهَارَتِهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( 996 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَالْبَوْلَةُ عَلَى الْأَرْضِ يُطَهِّرُهَا دَلْوٌ مِنْ مَاءٍ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَرْضَ إذَا تَنَجَّسَتْ بِنَجَاسَةٍ مَائِعَةٍ ، كَالْبَوْلِ وَالْخَمْرِ وَغَيْرِهِمَا .
فَطَهُورُهَا أَنْ يَغْمُرَهَا بِالْمَاءِ ، بِحَيْثُ يَذْهَبُ لَوْنُ النَّجَاسَةِ وَرِيحُهَا .
فَمَا انْفَصَلَ عَنْهَا غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ بِهَا فَهُوَ طَاهِرٌ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا تَطْهُرُ الْأَرْضُ حَتَّى يَنْفَصِلَ الْمَاءُ ، فَيَكُونَ الْمُنْفَصِلُ نَجِسًا ؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ انْتَقَلَتْ إلَيْهِ ، فَكَانَ نَجِسًا ، كَمَا لَوْ وَرَدَتْ عَلَيْهِ .
وَلَنَا .
مَا رَوَى أَنَسٌ ، قَالَ { : جَاءَ أَعْرَابِيٌّ ، فَبَالَ فِي طَائِفَةِ الْمَسْجِدِ ، فَزَجَرَهُ النَّاسُ ، فَنَهَاهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا قَضَى بَوْلَهُ أَمَرَ بِذَنُوبٍ مِنْ مَاءٍ فَأُهْرِيقَ عَلَيْهِ } .
وَفِي لَفْظٍ : فَدَعَاهُ ، فَقَالَ : " إنَّ الْمَسَاجِدَ لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَالْقَذَرِ ، وَإِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَالصَّلَاةِ ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ " .
أَوْ كَمَا { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَرَ رَجُلًا فَجَاءَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَشَنَّهُ عَلَيْهِ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَلَوْلَا أَنَّ الْمُنْفَصِلَ طَاهِرٌ لَكَانَ قَدْ أَمَرَ بِزِيَادَةِ تَنْجِيسِهِ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي مَوْضِعٍ فَصَارَ فِي مَوَاضِعَ ، وَإِنَّمَا أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَطْهِيرَ الْمَسْجِدِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَعْقِلٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { خُذُوا مَا بَالَ عَلَيْهِ مِنْ التُّرَابِ ، وَأَهْرِيقُوا عَلَى مَكَانِهِ مَاءً } .
وَرَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ ، عَنْ سَمْعَانَ ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : فَأَمَرَ بِهِ فَحُفِرَ .
قُلْنَا : لَيْسَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ فِي خَبَرٍ مُتَّصِلٍ ، قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ .
وَحَدِيثُ ابْنِ مَعْقِلٍ مُرْسَلٌ .
قَالَ أَبُو دَاوُد : ابْنُ مَعْقِلٍ لَمْ يُدْرِكْ النَّبِيَّ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَحَدِيثُ سَمْعَانَ مُنْكَرٌ .
قَالَهُ الْإِمَامُ .
وَقَالَ : مَا أَعْرِفُ سَمْعَانَ .
وَلِأَنَّ الْبَلَّةَ الْبَاقِيَةَ فِي الْمَحَلِّ بَعْدَ غَسْلِهِ طَاهِرَةٌ ، وَهِيَ بَعْضُ الْمُنْفَصِلِ ، فَكَذَلِكَ الْمُنْفَصِلُ .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّ النَّجَاسَةَ انْتَقَلَتْ إلَيْهِ .
قُلْنَا : بَعْدَ طَهَارَتِهَا ، لِأَنَّ الْمَاءَ لَوْ لَمْ يُطَهِّرْهَا لَنَجُسَ بِهَا حَالَ مُلَاقَاتِهِ لَهَا ، وَلَوْ نَجُسَ بِهَا لَمَا طَهُرَ الْمَحَلُّ ، وَلَكَانَ الْبَاقِي مِنْهُ فِي الْمَحَلِّ نَجِسًا .
قَالَ الْقَاضِي : إنَّمَا يُحْكَمُ بِطَهَارَةِ الْمُنْفَصِلِ إذَا نَشَفَتْ النَّجَاسَةُ ، وَذَهَبَتْ أَجْزَاؤُهَا ، وَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَثَرُهَا ، فَإِنْ كَانَتْ أَجْزَاؤُهَا بَاقِيَةً ، طَهُرَ الْمَحَلُّ ، وَنَجُسَ الْمُنْفَصِلُ .
وَهَذَا الشَّرْطُ الَّذِي ذَكَرَهُ لَمْ أَرَهُ عَنْ أَحْمَدَ ، وَلَا يَقْتَضِيهِ كَلَامُ الْخِرَقِيِّ ، وَلَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِبَقَاءِ أَجْزَائِهَا بَقَاءَ رُطُوبَتِهَا ، فَهُوَ خِلَافُ الْخَبَرِ ، فَإِنَّ قَوْلَهُ : فَلَمَّا قَضَى بَوْلَهُ أَمَرَ بِذَنُوبٍ مِنْ مَاءٍ فَأُهْرِيقَ عَلَيْهِ ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صُبَّ عَلَيْهِ عَقِيبَ فَرَاغِهِ مِنْهُ .
وَإِنْ أَرَادَ بَقَاءَ الْبَوْلِ مُتَنَقِّعًا ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرُّطُوبَةِ ، فَإِنَّ قَلِيلَ الْبَوْلِ وَكَثِيرَهُ فِي التَّنْجِيسِ سَوَاءٌ .
وَالرُّطُوبَةُ أَجْزَاءٌ تَنْجُسُ كَمَا تَنْجُسُ الْمُتَنَقِّعُ ، فَلَا فَرْقَ إذًا .

( 997 ) فَصْلٌ : وَإِنْ أَصَابَ الْأَرْضَ مَاءُ الْمَطَرِ أَوْ السُّيُولِ ، فَغَمَرَهَا ، وَجَرَى عَلَيْهَا ، فَهُوَ كَمَا لَوْ صُبَّ عَلَيْهَا ؛ لَأَنْ تَطْهِيرَ النَّجَاسَةِ لَا تُعْتَبَرُ فِيهِ نِيَّةٌ وَلَا فِعْلٌ ، فَاسْتَوَى مَا صَبَّهُ الْآدَمِيُّ وَمَا جَرَى بِغَيْرِ صَبِّهِ .
قَالَ أَحْمَدُ ، رَحِمَهُ اللَّهُ ، فِي الْبَوْلِ يَكُونُ فِي الْأَرْضِ فَتُمْطِرُ عَلَيْهِ السَّمَاءُ : إذَا أَصَابَهُ مِنْ الْمَطَرِ بِقَدْرِ مَا يَكُونُ ذَنُوبًا ، كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُصَبَّ عَلَى الْبَوْلِ ، فَقَدْ طَهُرَ .
وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ : سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَنْ مَاءِ الْمَطَرِ يَخْتَلِطُ بِالْبَوْلِ ، فَقَالَ : مَاءُ الْمَطَرِ عِنْدِي لَا يُخَالِطُ شَيْئًا إلَّا طَهَّرَهُ ، إلَّا الْعَذِرَةَ .
فَإِنَّهَا تُقْطَعُ .
وَسُئِلَ عَنْ مَاءِ الْمَطَرِ يُصِيبُ الثَّوْبَ ، فَلَمْ يَرَ بِهِ بَأْسًا إلَّا أَنْ يَكُونَ بِيلَ فِيهِ بَعْدَ الْمَطَرِ .
وَقَالَ : كُلّ مَا يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ فَهُوَ نَظِيفٌ ، دَاسَتْهُ الدَّوَابُّ أَوْ لَمْ تَدُسْهُ .
وَقَالَ فِي الْمِيزَابِ : إذَا كَانَ فِي الْمَوْضِعِ النَّظِيفِ فَلَا بَأْسَ بِمَا قَطَرَ عَلَيْك مِنْ الْمَطَرِ .
إذَا لَمْ تَعْلَمْ أَنَّهُ قَذَرٌ .
قِيلَ لَهُ : فَأَسْأَلُ عَنْهُ ؟ قَالَ : لَا تَسْأَلْ ، وَمَا دَعَاك إلَى أَنْ تَسْأَلَ وَهُوَ مَاءُ الْمَطَرِ ، إذَا لَمْ يَكُنْ مَوْضِعَ مَخْرَجٍ ، أَوْ مَوْضِعَ قَذَرٍ .
فَلَا تَغْسِلْهُ .
وَاحْتُجَّ فِي طَهَارَةِ طِينِ الْمَطَرِ بِحَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي بَالَ فِي الْمَسْجِدِ .
قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ ، وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ ، كَمَا قَالَ أَحْمَدُ .
وَاحْتُجَّ بِأَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّابِعِينَ كَانُوا يَخُوضُونَ الْمَطَرَ فِي الطُّرُقَاتِ ، فَلَا يَغْسِلُونَ أَرْجُلَهُمْ ، لَمَّا غَلَبَ الْمَاءُ الْقَذِرُ .
وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ خَاضَ طِينَ الْمَطَرِ ، وَصَلَّى ، وَلَمْ يَغْسِلْ رِجْلَيْهِ عُمَرُ ، وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : كُنَّا لَا نَتَوَضَّأُ مِنْ مَوْطِئٍ .
وَنَحْوُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ .

وَقَالَ بِذَلِكَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَعَلْقَمَةُ وَالْأَسْوَدُ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَعْقِلِ بْنِ مُقَرِّنٍ وَالْحَسَنُ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ، وَعَوَامُّ أَهْلِ الْعِلْمِ .
لِأَنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ ، فَلَا تَزُولُ بِالشَّكِّ .
( 998 ) فَصْلٌ : وَلَا تُطَهَّرُ الْأَرْضُ حَتَّى يَذْهَبَ لَوْنُ النَّجَاسَةِ وَرَائِحَتُهَا ؛ لِأَنَّ بَقَاءَهُمَا دَلِيلٌ عَلَى بَقَاءِ النَّجَاسَةِ .
فَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لَا يَزُولُ لَوْنُهَا إلَّا بِمَشَقَّةٍ سَقَطَ عَنْهُ إزَالَتُهَا ، كَالثَّوْبِ ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الرَّائِحَةِ .
" ( 999 ) فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَتْ النَّجَاسَةُ ذَاتَ أَجْزَاءٍ مُتَفَرِّقَةٍ ، كَالرَّمِيمِ ، وَالرَّوْثِ ، وَالدَّمِ إذَا جَفَّ ، فَاخْتَلَطَتْ بِأَجْزَاءِ الْأَرْضِ ، لَمْ تَطْهُرْ بِالْغَسْلِ ؛ لِأَنَّ عَيْنَهَا لَا تَنْقَلِبُ ، وَلَا تَطْهُرُ إلَّا بِإِزَالَةِ أَجْزَاءِ الْمَكَانِ ، بِحَيْثُ يُتَيَقَّنُ زَوَالُ أَجْزَاءِ النَّجَاسَةِ .
وَلَوْ بَادَرَ الْبَوْلَ وَهُوَ رَطْبٌ ، فَقَلَعَ التُّرَابَ الَّذِي عَلَيْهِ أَثَرُهُ ، فَالْبَاقِي طَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ النَّجِسَ كَانَ رَطْبًا وَقَدْ زَالَ .
وَإِنْ جَفَّ فَأَزَالَ مَا وَجَدَ عَلَيْهِ الْأَثَرَ ، لَمْ يَطْهُرْ ؛ لِأَنَّ الْأَثَرَ إنَّمَا يَبِينُ عَلَى ظَاهِرِ الْأَرْضِ ، لَكِنْ إنْ قَلَعَ مَا تَيَقَّنَ بِهِ زَوَالَ مَا أَصَابَهُ الْبَوْلُ ، فَالْبَاقِي طَاهِرٌ .
فَصْلٌ : وَلَا تَطْهُرُ الْأَرْضُ النَّجِسَةُ بِشَمْسٍ وَلَا رِيحٍ وَلَا جَفَافٍ .
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : تَطْهُرُ إذَا ذَهَبَ أَثَرُ النَّجَاسَةِ .
وَقَالَ أَبُو قِلَابَةَ : جُفُوفُ الْأَرْضِ طَهُورُهَا ؛ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَوَى أَنَّ الْكِلَابَ كَانَتْ تَبُولُ ، وَتُقْبِلُ وَتُدْبِرُ فِي الْمَسْجِدِ ، فَلَمْ يَكُونُوا يَرُشُّونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ .
أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد .
وَلَنَا ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : أَهْرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ } .
وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ ، وَلِأَنَّهُ مَحَلٌّ نَجِسٌ ، فَلَمْ يَطْهُرْ بِغَيْرِ الْغَسْلِ ،

كَالثِّيَابِ ، وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ ، فَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ، وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْبَوْلِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهَا كَانَتْ تَبُولُ ، ثُمَّ تُقْبِلُ وَتُدْبِرُ فِي الْمَسْجِدِ ، فَيَكُونُ إقْبَالُهَا وَإِدْبَارُهَا فِيهِ بَعْدَ بَوْلِهَا .
( 1001 ) فَصْلٌ : وَلَا تَطْهُرُ النَّجَاسَةُ بِالِاسْتِحَالَةِ ، فَلَوْ أُحْرِقَ السِّرْجِينُ النَّجِسُ فَصَارَ رَمَادًا ، أَوْ وَقَعَ كَلْبٌ فِي مَلَّاحَةٍ فَصَارَ مِلْحًا ، لَمْ تَطْهُرْ .
لِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ لَمْ تَحْصُلْ بِالِاسْتِحَالَةِ .
فَلَمْ تَطْهُرْ بِهَا ، كَالدَّمِ إذَا صَارَ قَيْحًا أَوْ صَدِيدًا ، وَخُرِّجَ عَلَيْهِ الْخَمْرُ ، فَإِنَّهُ نَجِسٌ بِالِاسْتِحَالَةِ ، فَجَازَ أَنْ يَطْهُرَ بِهَا .

( 1002 ) فَصْلٌ : وَالْمُنْفَصِلُ مِنْ غُسَالَةِ النَّجَاسَةِ ، يَنْقَسِمُ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَنْفَصِلَ مُتَغَيِّرًا بِهَا ، فَهُوَ نَجِسٌ إجْمَاعًا ؛ لِأَنَّهُ مُتَغَيِّرٌ بِالنَّجَاسَةِ ، فَكَانَ نَجِسًا ، كَمَا لَوْ وَرَدَتْ عَلَيْهِ .
الثَّانِي : أَنْ يَنْفَصِلَ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ قَبْلَ طَهَارَةِ الْمَحَلِّ ، فَهُوَ نَجِسٌ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ مَاءٌ يَسِيرٌ لَاقَى نَجَاسَةً لَمْ يُطَهِّرْهَا ، فَكَانَ نَجِسًا ، كَالْمُتَغَيِّرِ ، وَكَالْبَاقِي فِي الْمَحَلِّ ، فَإِنَّ الْبَاقِيَ فِي الْمَحَلِّ نَجِسٌ ، وَهُوَ جُزْءٌ مِنْ الْمَاءِ الَّذِي غُسِلَتْ بِهِ النَّجَاسَةُ ، وَلِأَنَّهُ كَانَ فِي الْمَحَلِّ نَجِسًا ، وَعَصْرُهُ لَا يَجْعَلُهُ طَاهِرًا .
الثَّالِثُ : أَنْ يَنْفَصِلَ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ مِنْ الْغَسْلَةِ الَّتِي طَهَّرَتْ الْمَحَلَّ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ ، أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ طَاهِرٌ .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ الْمُتَّصِلِ ، وَالْمُتَّصِلُ طَاهِرٌ ، فَكَذَلِكَ الْمُنْفَصِلُ ، وَلِأَنَّهُ مَاءٌ أَزَالَ حُكْمَ النَّجَاسَةِ ، وَلَمْ يَتَغَيَّرْ بِهَا ، فَكَانَ طَاهِرًا ، كَالْمُنْفَصِلِ مِنْ الْأَرْضِ .
وَالثَّانِي ، هُوَ نَجِسٌ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ مَاءٌ يَسِيرٌ لَاقَى نَجَاسَةً ، فَنَجُسَ بِهَا ، كَمَا لَوْ وَرَدَتْ عَلَيْهِ ، وَإِذَا حَكَمْنَا بِطَهَارَتِهِ ، فَهَلْ يَكُونُ طَهُورًا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا ، يَكُونُ طَهُورًا ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ طَهُورِيَّتُهُ ، وَلِأَنَّ الْحَادِثَ فِيهِ لَمْ يُنَجِّسْهُ ، وَلَمْ يُغَيِّرْهُ ، فَلَمْ تَزُلْ طَهُورِيَّتُهُ ، كَمَا لَوْ غَسَلَ بِهِ ثَوْبًا طَاهِرًا .
وَالثَّانِي ، أَنَّهُ غَيْرُ مُطَهِّرٍ ، لِأَنَّهُ أَزَالَ مَانِعًا مِنْ الصَّلَاةِ ، أَشْبَهَ مَا رُفِعَ بِهِ الْحَدَثُ .
( 1003 ) فَصْلٌ : إذَا جُمِعَ الْمَاءُ الَّذِي أُزِيلَتْ بِهِ النَّجَاسَةُ قَبْلَ طَهَارَةِ الْمَحَلِّ وَبَعْدَهُ فِي إنَاءٍ وَاحِدٍ ، وَكَانَ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ ، فَالْجَمِيعُ نَجِسٌ ، تَغَيَّرَ أَوْ لَمْ يَتَغَيَّرْ .
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ : هُوَ طَاهِرٌ ؛ لِأَنَّهُ مَاءٌ أُزِيلَتْ بِهِ النَّجَاسَةُ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ بِهَا ، فَأَشْبَهَ

مَاءَ الْغَسْلَةِ الَّتِي طَهَّرَتْ الْمَحَلَّ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ اجْتَمَعَ الْمَاءُ النَّجِسُ وَالطَّاهِرُ وَهُوَ يَسِيرٌ ، فَكَانَ نَجِسًا ، كَمَا لَوْ اجْتَمَعَ مَعَ مَاءٍ غَيْرِ الَّذِي غَسَلَ الْمَحَلَّ .

( 1004 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَإِذَا نَسِيَ فَصَلَّى بِهِمْ جُنُبًا ، أَعَادَ وَحْدَهُ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْإِمَامَ إذَا صَلَّى بِالْجَمَاعَةِ مُحْدِثًا ، أَوْ جُنُبًا ، غَيْرَ عَالِمٍ بِحَدَثِهِ ، فَلَمْ يَعْلَمْ هُوَ وَلَا الْمَأْمُومُونَ ، حَتَّى فَرَغُوا مِنْ الصَّلَاةِ ، فَصَلَاتُهُمْ صَحِيحَةٌ ، وَصَلَاةُ الْإِمَامِ بَاطِلَةٌ .
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ ، وَعُثْمَانَ ، وَعَلِيٍّ ، وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَمَالِكٌ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ ، وَأَبُو ثَوْرٍ .
وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ يُعِيدُ وَيُعِيدُونَ .
وَبِهِ قَالَ ابْنُ سِيرِينَ وَالشَّعْبِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَأَصْحَابُهُ ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى بِهِمْ مُحْدِثًا ، أَشْبَهَ مَا لَوْ عَلِمَ .
وَلَنَا ، إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَلَّى بِالنَّاسِ الصُّبْحَ ، ثُمَّ خَرَجَ إلَى الْجُرُفِ ، فَأَهْرَقَ الْمَاءَ ، فَوَجَدَ فِي ثَوْبِهِ احْتِلَامًا ، فَأَعَادَ وَلَمْ يُعِيدُوا وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْمُصْطَلِقِ الْخُزَاعِيِّ ، أَنَّ عُثْمَانَ صَلَّى بِالنَّاسِ صَلَاةَ الْفَجْرِ ، فَلَمَّا أَصْبَحَ وَارْتَفَعَ النَّهَارُ فَإِذَا هُوَ بِأَثَرِ الْجَنَابَةِ .
فَقَالَ : كَبِرْتُ وَاَللَّهِ ، كَبِرْتُ وَاَللَّهِ ، فَأَعَادَ الصَّلَاةَ ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ أَنْ يُعِيدُوا .
وَعَنْ عَلِيٍّ ، أَنَّهُ قَالَ : إذَا صَلَّى الْجُنُبُ بِالْقَوْمِ فَأَتَمَّ بِهِمْ الصَّلَاةَ آمُرُهُ أَنْ يَغْتَسِلَ وَيُعِيدَ ، وَلَا آمُرُهُمْ أَنْ يُعِيدُوا .
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ ، أَنَّهُ صَلَّى بِهِمْ الْغَدَاةَ ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ صَلَّى بِغَيْرِ وُضُوءٍ ، فَأَعَادَ وَلَمْ يُعِيدُوا .
رَوَاهُ كُلَّهُ الْأَثْرَمُ .
وَهَذَا فِي مَحَلِّ الشُّهْرَةِ ، وَلَمْ يُنْقَلْ خِلَافُهُ ، فَكَانَ إجْمَاعًا ، وَلَمْ يَثْبُتْ مَا نُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ فِي خِلَافِهِ ، وَعَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا صَلَّى الْجُنُبُ بِالْقَوْمِ ، أَعَادَ صَلَاتَهُ ، وَتَمَّتْ لِلْقَوْمِ صَلَاتُهُمْ } .
أَخْرَجَهُ أَبُو

سُلَيْمَانَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحَرَّانِيُّ ، فِي " جُزْءٍ " .
وَلِأَنَّ الْحَدَثَ مِمَّا يَخْفَى ، وَلَا سَبِيلَ لِلْمَأْمُومِ إلَى مَعْرِفَتِهِ مِنْ الْإِمَامِ ، فَكَانَ مَعْذُورًا فِي الِاقْتِدَاءِ بِهِ ، وَيُفَارِقُ مَا إذَا كَانَ عَلَى الْإِمَامِ حَدَثُ نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُسْتَهْزِئًا بِالصَّلَاةِ فَاعِلًا لِمَا لَا يَحِلُّ .
وَكَذَلِكَ إنْ عَلِمَ الْمَأْمُومُ ، فَإِنَّهُ لَا عُذْرَ لَهُ فِي الِاقْتِدَاءِ بِهِ .
وَقِيَاسُ الْمَعْذُورِ عَلَى غَيْرِهِ لَا يَصِحُّ ، وَالْحُكْمُ فِي النَّجَاسَةِ كَالْحُكْمِ فِي الْحَدَثِ سَوَاءً ؛ لِأَنَّهَا إحْدَى الطَّهَارَتَيْنِ ، فَأَشْبَهَتْ الْأُخْرَى ، وَلِأَنَّهَا فِي مَعْنَاهَا فِي خَفَائِهَا عَلَى الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ ، بَلْ حُكْمُ النَّجَاسَةِ أَخَفُّ ، وَخَفَاؤُهَا أَكْثَرُ ، إلَّا أَنَّ فِي النَّجَاسَةِ رِوَايَةً أُخْرَى ، أَنَّ صَلَاةَ الْإِمَامِ تَصِحُّ أَيْضًا ، إذَا نَسِيَهَا .

( 1005 ) فَصْلٌ : إذَا عَلِمَ بِحَدَثِ نَفْسِهِ فِي الصَّلَاةِ ، أَوْ عَلِمَ الْمَأْمُومُونَ ، لَزِمَهُمْ اسْتِئْنَافُ الصَّلَاةِ .
نَصَّ عَلَيْهِ .
قَالَ الْأَثْرَمُ : سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ، عَنْ رَجُلٍ صَلَّى بِقَوْمٍ وَهُوَ غَيْرُ طَاهِرٍ ، بَعْضَ الصَّلَاةِ ، فَذَكَرَ ؟ قَالَ : يُعْجِبُنِي أَنْ يَبْتَدِئُوا الصَّلَاةَ .
قُلْت لَهُ : يَقُولُ لَهُمْ اسْتَأْنِفُوا الصَّلَاةَ ؟ قَالَ : لَا ، وَلَكِنْ يَنْصَرِفُ وَيَتَكَلَّمُ ، وَيَبْتَدِئُونَ هُمْ الصَّلَاةَ .
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : فِيهِ عَنْ أَحْمَدَ ، رَحِمَهُ اللَّهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى ، إذَا عَلِمَ الْمَأْمُومُونَ أَنَّهُمْ يَبْنُونَ عَلَى صَلَاتِهِمْ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَبْنُونَ عَلَى صَلَاتِهِمْ ، سَوَاءٌ عَلِمَ بِذَلِكَ ، أَوْ عَلِمَ الْمَأْمُومُونَ ؛ لِأَنَّ مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِمْ صَحِيحٌ ، فَكَانَ لَهُمْ الْبِنَاءُ عَلَيْهِ ، كَمَا لَوْ قَامَ إلَى خَامِسَةٍ فَسَبَّحُوا بِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ ائْتَمَّ بِمَنْ صَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ مَعَ الْعِلْمِ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا أَشْبَهَ مَا لَوْ ائْتَمَّ بِامْرَأَةٍ .
وَإِنَّمَا خُولِفَ هَذَا فِيمَا إذَا اسْتَمَرَّ الْجَهْلُ مِنْهُمَا لِلْإِجْمَاعِ ، وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْإِعَادَةِ عَلَى الْمَأْمُومِينَ حَالَ اسْتِمْرَارِ الْجَهْلِ يَشُقُّ ، لِتَفَرُّقِهِمْ ، بِخِلَافِ مَا إذَا عَلِمُوا فِي الصَّلَاةِ .
وَإِنْ عَلِمَ بَعْضُ الْمَأْمُومِينَ دُونَ بَعْضٍ ، فَالْمَنْصُوصُ أَنَّ صَلَاةَ الْجَمِيعِ تَفْسُدُ ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَخْتَصَّ الْبُطْلَانُ بِمَنْ عَلِمَ دُونَ مَنْ جَهِلَ ؛ لِأَنَّهُ مَعْنًى مُبْطِلٌ اخْتَصَّ بِهِ ، فَاخْتَصَّ بِالْبُطْلَانِ ، كَحَدَثِ نَفْسِهِ .
( 1006 ) فَصْلٌ : إذَا اخْتَلَّ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الشُّرُوطِ فِي حَقِّ الْإِمَامِ ، كَالسِّتَارَةِ وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ ، لَمْ يُعْفَ عَنْهُ فِي حَقِّ الْمَأْمُومِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْفَى غَالِبًا ، بِخِلَافِ الْحَدَثِ وَالنَّجَاسَةِ .
وَكَذَا إنْ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ لِتَرْكِ رُكْنٍ ، فَسَدَتْ صَلَاتُهُمْ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، فِي مَنْ تَرَكَ الْقِرَاءَةَ ، يُعِيدُ وَيُعِيدُونَ ، وَكَذَلِكَ فِي مَنْ تَرَكَ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ .
( 1007 )

فَصْلٌ : وَإِنْ فَسَدَتْ لِفِعْلٍ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ ، فَإِنْ كَانَ عَنْ عَمْدٍ ، أَفْسَدَ صَلَاةَ الْجَمِيعِ ، وَإِنْ كَانَ عَنْ غَيْرِ عَمْدٍ ، لَمْ تَفْسُدْ صَلَاةُ الْمَأْمُومِينَ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي الضَّحِكِ أَنَّهُ يُبْطِلُ صَلَاةَ الْإِمَامِ ، وَلَا تَفْسُدُ صَلَاةُ الْمَأْمُومِينَ ، وَعَنْ أَحْمَدَ فِي مَنْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا ، أَنَّ صَلَاةَ الْمَأْمُومِينَ تَفْسُدُ لِأَنَّهُ أَمْرٌ أَفْسَدَ صَلَاةَ الْإِمَامِ ، فَأَفْسَدَ صَلَاةَ الْمَأْمُومِينَ كَتَرْكِ الشَّرْطِ ، وَقَدْ ثَبَتَ هَذَا الْحُكْمُ فِي الشَّرْطِ بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَنَّهُ صَلَّى بِالنَّاسِ الْمَغْرِبَ ، فَلَمْ يَسْمَعُوا لَهُ قِرَاءَةً ، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ قَالُوا : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كَأَنَّك خَفَضْتَ مِنْ صَوْتِك : قَالَ : وَمَا سَمِعْتُمْ ؟ قَالُوا : مَا سَمِعْنَا لَك قِرَاءَةً .
قَالَ : فَمَا قَرَأْتُ فِي نَفْسِي ، شَغَلَتْنِي عِيرٌ جَهَّزْتُهَا إلَى الشَّامِ .
ثُمَّ قَالَ : لَا صَلَاةَ إلَّا بِقِرَاءَةٍ .
ثُمَّ أَقَامَ ، فَأَعَادَ وَأَعَادَ النَّاسُ .
وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ ؛ لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا طُعِنَ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ ، أَخَذَ بِيَدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فَقَدَّمَهُ ، فَأَتَمَّ بِهِمْ الصَّلَاةَ ، وَلَوْ فَسَدَتْ صَلَاتُهُمْ لَلَزِمَهُمْ اسْتِئْنَافُهَا ، وَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَى تَرْكِ الشَّرْطِ ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ آكَدُ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُعْفَى عَنْهُ بِالنِّسْيَانِ بِخِلَافِ الْمُبْطِلِ .

( 1008 ) فَصْلٌ : إذَا سَبَقَ الْإِمَامَ الْحَدَثُ فَلَهُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ مَنْ يُتِمُّ بِهِمْ الصَّلَاةَ ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ ، وَعَلْقَمَةَ ، وَعَطَاءٍ ، وَالْحَسَنِ ، وَالنَّخَعِيِّ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ .
وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى ، أَنَّ صَلَاةَ الْمَأْمُومِينَ تَبْطُلُ ؛ لِأَنَّ أَحْمَدَ قَالَ : كُنْت أَذْهَبُ إلَى جَوَازِ الِاسْتِخْلَافِ ، وَجَبُنْتُ عَنْهُ .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : تَبْطُلُ صَلَاتُهُمْ ، رِوَايَةً وَاحِدَةً ؛ لِأَنَّهُ فُقِدَ شَرْطُ صِحَّةِ الصَّلَاةِ فِي حَقِّ الْإِمَامِ ، فَبَطَلَتْ صَلَاةُ الْمَأْمُومِ ، كَمَا لَوْ تَعَمَّدَ الْحَدَثَ .
وَلَنَا ، أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، لَمَّا طُعِنَ أَخَذَ بِيَدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فَقَدَّمَهُ ، فَأَتَمَّ بِهِمْ الصَّلَاةَ ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ وَلَمْ يُنْكِرْهُ مُنْكِرٌ ، فَكَانَ إجْمَاعًا .
وَقَدْ احْتَجَّ أَحْمَدُ بِقَوْلِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ ، وَقَوْلُهُمَا عِنْدَهُ حُجَّةٌ ، فَلَا مَعْدِلَ عَنْهُ .
وَقَوْلُ أَحْمَدَ : جَبُنْتُ عَنْهُ .
إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى التَّوَقُّفِ ، وَتَوَقُّفُهُ مَرَّةً لَا يُبْطِلُ مَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ .
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَخْلِفَ مَنْ يُتِمُّ بِهِمْ الصَّلَاةَ ، كَمَا فَعَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يَسْتَخْلِفْ فَقَدَّمَ الْمَأْمُومُونَ مِنْهُمْ رَجُلًا فَأَتَمَّ بِهِمْ ، جَازَ .
وَإِنْ صَلَّوْا وُحْدَانًا جَازَ .
قَالَ الزُّهْرِيُّ ، فِي إمَامٍ يَنُوبُهُ الدَّمُ أَوْ رَعَفَ أَوْ يَجِدُ مَذْيًا يَنْصَرِفُ ، وَلْيَقُلْ : أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ، فِي آخِرِ قَوْلَيْهِ : الِاخْتِيَارُ أَنْ يُصَلِّيَ الْقَوْمُ فُرَادَى إذَا كَانَ ذَلِكَ .
وَلَعَلَّ تَوَقُّفَ أَحْمَدَ إنَّمَا كَانَ فِي الِاسْتِخْلَافِ ، لَا فِي صِحَّةِ صَلَاةِ الْمَأْمُومِينَ ، فَإِنَّهُ قَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الْمَأْمُومِينَ لَا تَفْسُدُ بِضَحِكِ الْإِمَامِ ، فَهَذَا أَوْلَى .
وَإِنْ قَدَّمَتْ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنْ الْمَأْمُومِينَ لَهُمْ إمَامًا فَصَلَّى بِهِمْ ، فَقِيَاسُ

الْمَذْهَبِ جَوَازُهُ ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ : تَفْسُدُ صَلَاتُهُمْ كُلِّهِمْ .
وَلَنَا ، أَنَّ لَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا وُحْدَانًا .
فَكَانَ لَهُمْ أَنْ يُقَدِّمُوا رَجُلًا ، كَحَالَةِ ابْتِدَاءِ الصَّلَاةِ وَإِنْ قَدَّمَ بَعْضُهُمْ رَجُلًا ، وَصَلَّى الْبَاقُونَ وُحْدَانًا ، جَازَ .
( 1009 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا الَّذِي سَبَقَهُ الْحَدَثُ ، فَتَبْطُلُ صَلَاتُهُ ، وَيَلْزَمُهُ اسْتِئْنَافُهَا .
قَالَ أَحْمَدُ : يُعْجِبُنِي أَنْ يَتَوَضَّأَ وَيَسْتَقْبِلَ .
هَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ وَالنَّخَعِيِّ وَمَكْحُولٍ .
وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَتَوَضَّأُ ، وَيَبْنِي .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ قَاءَ أَوْ رَعَفَ فِي صَلَاتِهِ ، فَلْيَنْصَرِفْ ، فَلْيَتَوَضَّأْ ، وَلْيَبْنِ عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِ } .
وَعَنْهُ ، رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ ، إنْ كَانَ الْحَدَثُ مِنْ السَّبِيلَيْنِ ابْتَدَأَ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِهِمَا بَنَى لِأَنَّ حُكْمَ نَجَاسَةِ السَّبِيلِ أَغْلَظُ ، وَالْأَثَرُ إنَّمَا وَرَدَ بِالْبِنَاءِ فِي الْخَارِجِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلِ ، فَلَا يَلْحَقُ بِهِ مَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ .
وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ ؛ لِمَا رَوَى عَلِيُّ بْنُ طَلْقٍ ، قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا فَسَا أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ ، فَلْيَنْصَرِفْ ، فَلْيَتَوَضَّأْ ، وَلْيُعِدْ صَلَاتَهُ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالْأَثْرَمُ .
وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَائِمًا يُصَلِّي بِهِمْ ، فَانْصَرَفَ ، ثُمَّ جَاءَ وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ ، فَقَالَ : إنِّي قُمْتُ بِكُمْ ، ثُمَّ ذَكَرْتُ أَنِّي كُنْتُ جُنُبًا وَلَمْ أَغْتَسِلْ ، فَانْصَرَفْتُ فَاغْتَسَلْتُ ، فَمَنْ أَصَابَهُ مِنْكُمْ مِثْلُ الَّذِي أَصَابَنِي ، أَوْ أَصَابَهُ فِي بَطْنِهِ رِزٌّ ، فَلْيَنْصَرِفْ فَلْيَغْتَسِلْ ، أَوْ لِيَتَوَضَّأْ ، وَلْيَسْتَقْبِلْ صَلَاتَهُ } رَوَاهُ الْأَثْرَمُ .
وَلِأَنَّهُ فَقَدَ شَرْطَ الصَّلَاةِ فِي أَثْنَائِهَا

عَلَى وَجْهٍ لَا يَعُودُ إلَّا بَعْدَ زَمَنٍ طَوِيلٍ وَعَمَلٍ كَثِيرٍ ، فَفَسَدَتْ صَلَاتُهُ ، كَمَا لَوْ تَنَجَّسَ نَجَاسَةً يَحْتَاجُ فِي إزَالَتِهَا إلَى مِثْلِ ذَلِكَ ، أَوْ انْكَشَفَتْ عَوْرَتُهُ وَلَمْ يَجِدْ السُّتْرَةَ إلَّا بَعِيدَةً مِنْهُ ، أَوْ تَعَمَّدَ الْحَدَثَ ، أَوْ انْقَضَتْ مُدَّةُ الْمَسْحِ ، وَحَدِيثُهُمْ ضَعِيفٌ .
( 1010 ) فَصْلٌ : قَالَ أَصْحَابُنَا : يَجُوزُ أَنْ يُسْتَخْلَفَ مَنْ سُبِقَ بِبَعْضِ الصَّلَاةِ ، وَلِمَنْ جَاءَ بَعْدَ حَدَثِ الْإِمَامِ ، فَيَبْنِي عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلَاةِ الْإِمَامِ مِنْ قِرَاءَةٍ أَوْ رَكْعَةٍ أَوْ سَجْدَةٍ ، وَيَقْضِي بَعْدَ فَرَاغِ صَلَاةِ الْمَأْمُومِينَ .
وَحُكِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ ، وَأَكْثَرِ مَنْ وَافَقَهُمَا فِي الِاسْتِخْلَافِ .
وَفِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى ، أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَبْنِيَ أَوْ يَبْتَدِئَ قَالَ مَالِكٌ : وَيُصَلِّي لِنَفْسِهِ صَلَاةً تَامَّةً ، فَإِذَا فَرَغُوا مِنْ صَلَاتِهِمْ قَعَدُوا وَانْتَظَرُوهُ حَتَّى يُتِمَّ وَيُسَلِّمَ مَعَهُمْ ؛ لِأَنَّ اتِّبَاعَ الْمَأْمُومِينَ لِلْإِمَامِ أَوْلَى مِنْ اتِّبَاعِهِ لَهُمْ ، فَإِنَّ الْإِمَامَ إنَّمَا جُعِلَ لِيُؤْتَمَّ بِهِ .
وَعَلَى كِلْتَا الرِّوَايَتَيْنِ إذَا فَرَغَ الْمَأْمُومُونَ قَبْلَ فَرَاغِ إمَامِهِمْ ، وَقَامَ لِقَضَاءِ مَا فَاتَهُ ، فَإِنَّهُمْ يَجْلِسُونَ وَيَنْتَظِرُونَهُ حَتَّى يُتِمَّ وَيُسَلِّمَ بِهِمْ ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ يَنْتَظِرُ الْمَأْمُومِينَ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ ، فَانْتِظَارُهُمْ لَهُ أَوْلَى .
وَإِنْ سَلَّمُوا وَلَمْ يَنْتَظِرُوهُ جَازَ .
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : يَسْتَخْلِفُ مَنْ يُسَلِّمُ بِهِمْ ، وَالْأَوْلَى انْتِظَارُهُ .
وَإِنْ سَلَّمُوا لَمْ يَحْتَاجُوا إلَى خَلِيفَةٍ ، فَإِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ الصَّلَاةِ إلَّا السَّلَامُ ، فَلَا حَاجَةَ إلَى الِاسْتِخْلَافِ فِيهِ .
وَيَقْوَى عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الِاسْتِخْلَافُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ ؛ لِأَنَّهُ إنْ بَنَى جَلَسَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ جُلُوسِهِ ، وَصَارَ تَابِعًا لِلْمَأْمُومِينَ ، وَإِنْ ابْتَدَأَ جَلَسَ الْمَأْمُومُونَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ جُلُوسِهِمْ ، وَلَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِهَذَا ، وَإِنَّمَا ثَبَتَ الِاسْتِخْلَافُ

فِي مَوْضِعِ الْإِجْمَاعِ حَيْثُ لَمْ يُحْتَجْ إلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَا ، فَلَا يُلْحَقُ بِهِ مَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( 1011 ) فَصْلٌ : وَإِذَا اسْتَخْلَفَ مَنْ لَا يَدْرِي كَمْ صَلَّى ؟ احْتَمَلَ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى الْيَقِينِ ، فَإِنْ وَافَقَ الْحَقَّ ، وَإِلَّا سَبَّحُوا بِهِ ، فَرَجَعَ إلَيْهِمْ ، وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ .
وَقَالَ النَّخَعِيُّ : يَنْظُرُ مَا يَصْنَعُ مَنْ خَلْفَهُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ .
يَتَصَنَّعُ ، فَإِنْ سَبَّحُوا بِهِ جَلَسَ ، وَعَلِمَ أَنَّهَا الرَّابِعَةُ .
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : يُصَلِّي بِهِمْ رَكْعَةً ؛ لِأَنَّهُ تَيَقَّنَ بَقَاءَ رَكْعَةٍ ، ثُمَّ يَتَأَخَّرُ وَيُقَدِّمُ رَجُلًا يُصَلِّي بِهِمْ مَا بَقِيَ مِنْ صَلَاتِهِمْ ، فَإِذَا سَلَّمَ قَامَ الرَّجُلُ فَأَتَمَّ صَلَاتَهُ .
وَقَالَ مَالِكٌ : يُصَلِّي لِنَفْسِهِ صَلَاةً تَامَّةً فَإِنْ فَرَغُوا مِنْ صَلَاتِهِمْ قَعَدُوا وَانْتَظَرُوهُ .
وَالْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ الْأُولَى مُتَقَارِبَةٌ .
وَلَنَا ، عَلَى أَنَّهُ لَا يُسْتَخْلَفُ ، أَنَّهُ إنْ شَكَّ فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ الِاسْتِخْلَافُ لِذَلِكَ ، كَغَيْرِ الْمُسْتَخْلَفِ .
وَلَنَا ، عَلَى أَنَّهُ يَبْنِي عَلَى الْيَقِينِ أَنَّهُ شَكٌّ مِمَّنْ لَا ظَنَّ لَهُ ، فَوَجَبَ الْبِنَاءُ عَلَى الْيَقِينِ ، كَسَائِرِ الْمُصَلَّيْنَ .

( 1012 ) فَصْلٌ : وَمَنْ أَجَازَ الِاسْتِخْلَافَ ، فَقَدْ أَجَازَ نَقْلَ الْجَمَاعَةِ إلَى جَمَاعَةٍ أُخْرَى ، لِلْعُذْرِ ، وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ وَأَبُو بَكْرٍ فِي الصَّلَاةِ ، فَتَأَخَّرَ أَبُو بَكْرٍ .
وَتَقَدَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَمَّ بِهِمْ الصَّلَاةَ .
وَفَعَلَ هَذَا مَرَّةً أُخْرَى ، جَاءَ حَتَّى جَلَسَ إلَى جَانِبِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ يَسَارٍ ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ يَمِينِهِ قَائِمٌ ، يَأْتَمُّ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَأْتَمُّ النَّاسُ بِأَبِي بَكْرٍ .
} وَكِلَا الْحَدِيثَيْنِ صَحِيحٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا .
وَهَذَا يُقَوِّي جَوَازَ الِاسْتِخْلَافِ وَالِانْتِقَالِ مِنْ جَمَاعَةٍ إلَى جَمَاعَةٍ أُخْرَى حَالَ الْعُذْرِ .
فَيُخَرَّجُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَوْ أَدْرَكَ اثْنَانِ بَعْضَ الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ ، فَلَمَّا سَلَّمَ الْإِمَامُ ائْتَمَّ أَحَدُهُمَا بِصَاحِبِهِ ، وَنَوَى الْآخَرُ إمَامَتَهُ ، أَنَّ ذَلِكَ يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الِاسْتِخْلَافِ ، وَمَنْ لَمْ يُجِزْ الِاسْتِخْلَافَ لَمْ يُجِزْ ذَلِكَ .
وَلَوْ تَخَلَّفَ إمَامُ الْحَيِّ مِنْ الصَّلَاةِ لِغَيْبَةٍ ، أَوْ مَرَضٍ ، أَوْ عُذْرٍ ، وَصَلَّى غَيْرُهُ ، وَحَضَرَ إمَامُ الْحَيِّ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ ، فَتَأَخَّرَ الْإِمَامُ ، وَتَقَدَّمَ إمَامُ الْحَيِّ ، فَبَنَى عَلَى صَلَاةِ خَلِيفَتِهِ ، كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ ، فَفِي ذَلِكَ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا ، يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهُ ، فَيَجُوزُ لِغَيْرِهِ أَنْ يَفْعَلَ مِثْلَ فِعْلِهِ .
وَالثَّانِي ، لَا يَجُوزُ ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خَاصًّا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَدَمِ مُسَاوَاةِ غَيْرِهِ لَهُ فِي الْفَضْلِ .

( 1013 ) فَصْلٌ : إذَا وُجِدَ الْمُبْطِلُ فِي الْمَأْمُومِ دُونَ الْإِمَامِ ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُومُ مُحْدِثًا أَوْ نَجِسًا وَلَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ إلَّا بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الصَّلَاةِ ، أَوْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ ، أَوْ ضَحِكَ أَوْ تَكَلَّمَ أَوْ تَرَكَ رُكْنًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْمُبْطِلَاتِ ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَ الْإِمَامِ مَنْ تَنْعَقِدُ بِهِ الصَّلَاةُ سِوَاهُ ، فَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّ حُكْمَهُ كَحُكْمِ الْإِمَامِ مَعَهُ عَلَى مَا فَصَّلْنَاهُ ؛ لِأَنَّ ارْتِبَاطَ صَلَاةِ الْإِمَامِ بِالْمَأْمُومِ كَارْتِبَاطِ صَلَاةِ الْمَأْمُومِ بِالْإِمَامِ ، فَمَا فَسَدَ ثَمَّ فَسَدَ هَاهُنَا ، وَمَا صَحَّ ثَمَّ صَحَّ هَاهُنَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( 1014 ) فَصْلٌ : قَالَ أَحْمَدُ ، رَحِمَهُ اللَّهُ ، فِي رَجُلَيْنِ أَمَّ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ ، فَشَمَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رِيحًا ، أَوْ سَمِعَ صَوْتًا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مِنْ صَاحِبِهِ ؛ وَكُلٌّ يَقُولُ لَيْسَ مِنِّي : يَتَوَضَّآنِ جَمِيعًا ، وَيُصَلِّيَانِ ؛ إنَّمَا فَسَدَتْ صَلَاتُهُمَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَعْتَقِدُ فَسَادَ صَلَاةِ صَاحِبِهِ ، وَأَنَّهُ صَارَ فَذًّا ، وَهَذَا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تَقُولُ بِفَسَادِ صَلَاةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ بِفَسَادِ صَلَاةِ صَاحِبِهِ لِكَوْنِهِ صَارَ فَذًّا .
وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْمَنْصُورَةِ ، يَنْوِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الِانْفِرَادَ ، وَيُتِمُّ صَلَاتَهُ .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ إنَّمَا قَضَى بِفَسَادِ صَلَاتِهِمَا إذَا أَتَمَّا الصَّلَاةَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ فَسْخِ النِّيَّةِ ، فَإِنَّ الْمَأْمُومَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مُؤْتَمٌّ بِمُحْدِثِ ، وَالْإِمَامَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يَؤُمُّ مُحْدِثًا .
وَأَمَّا الْوُضُوءُ فَلَعَلَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ ، رَحِمَهُ اللَّهُ ، إنَّمَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ : يَتَوَضَّآنِ لِتَصِحَّ صَلَاتُهُمَا جَمَاعَةً .
إذْ لَيْسَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَأْتَمَّ بِصَاحِبِهِ أَوْ يَؤُمَّهُ مَعَ اعْتِقَادِ حَدَثِهِ ، وَلَعَلَّهُ أَمَرَ بِذَلِكَ احْتِيَاطًا ، أَمَّا إذَا صَلَّيَا مُنْفَرِدَيْنِ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ الْوُضُوءُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّ يَقِينَ الطَّهَارَةِ مَوْجُودٌ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَالْحَدَثَ مَشْكُوكٌ فِيهِ ، فَلَا يَزُولُ الْيَقِينُ بِالشَّكِّ .
( 1015 ) فَصْلٌ : وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ ، رَحِمَهُ اللَّهُ ، فِي إمَامٍ صَلَّى بِقَوْمٍ ، فَشَهِدَ اثْنَانِ عَنْ يَمِينِهِ أَنَّهُ أَحْدَثَ ، وَأَنْكَرَ الْإِمَامُ وَبَقِيَّةُ الْمَأْمُومِينَ : يُعِيدُ ، وَيُعِيدُونَ .
وَهَذَا لِأَنَّ شَهَادَتَهُمَا إثْبَاتٌ يُقَدَّمُ عَلَى النَّفْيِ ، لِاحْتِمَالِ عِلْمِهِمَا بِهِ ، مَعَ خَفَائِهِ عَنْهُ وَعَنْ بَقِيَّةِ الْمَأْمُومِينَ .
وَقَوْلُهُ : " يُعِيدُونَ " .
لِأَنَّ الْمَأْمُومِينَ مَتَى عَلِمَ بَعْضُهُمْ بِحَدَثِ إمَامِهِمْ ، لَزِمَتْ الْجَمِيعَ الْإِعَادَةُ عَلَى الْمَنْصُوصِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ تَخْتَصُّ

الْإِعَادَةُ مَنْ عَلِمَ دُونَ غَيْرِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ السَّاعَاتِ الَّتِي نُهِيَ عَنْ الصَّلَاةِ فِيهَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ : { شَهِدَ عِنْدِي رِجَالٌ مَرْضِيُّونَ ، وَأَرْضَاهُمْ عِنْدِي عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ ، حَتَّى تُشْرِقَ الشَّمْسُ ، وَبَعْدَ الْعَصْرِ ، حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ } .
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا صَلَاةَ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ ، وَلَا صَلَاةَ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا .
وَفِي لَفْظٍ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَبَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلُ حَدِيثِ عُمَرَ إلَّا أَنَّهُ قَالَ : وَعَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ .
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا بَدَا حَاجِبُ الشَّمْسِ فَأَخِّرُوا الصَّلَاةَ حَتَّى تَبْرُزَ ، وَإِذَا غَابَ حَاجِبُ الشَّمْسِ فَأَخِّرُوا الصَّلَاةَ حَتَّى تَغِيبَ } رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ .
وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ ، قَالَ : { ثَلَاثُ سَاعَاتٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَانَا أَنْ نُصَلِّيَ فِيهِنَّ أَوْ أَنْ نَقْبُرَ فِيهَا مَوْتَانَا ؛ حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ بَازِغَةً حَتَّى تَرْتَفِعَ ، وَحِينَ يَقُومُ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ حَتَّى تَمِيلَ ، وَحِينَ تَضَيَّفُ الشَّمْسُ لِلْغُرُوبِ حَتَّى تَغْرُبَ } .
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ ، قَالَ : { قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَخْبِرْنِي عَنْ الصَّلَاةِ .
قَالَ : صَلِّ صَلَاةَ الصُّبْحِ ، ثُمَّ أَقْصِرْ عَنْ الصَّلَاةِ حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ ، حَتَّى تَرْتَفِعَ ؛ فَإِنَّهَا تَطْلُعُ حِينَ تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ ، وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ ، ثُمَّ صَلِّ ؛ فَإِنَّ الصَّلَاةَ مَحْضُورَةٌ مَشْهُودَةٌ ، حَتَّى يَسْتَقِلَّ الظِّلُّ بِالرُّمْحِ ، ثُمَّ أَقْصِرْ عَنْ الصَّلَاةِ ، فَإِنَّ حِينَئِذٍ تُسَجَّرُ جَهَنَّمُ فَإِذَا أَقْبَلَ الْفَيْءُ فَصَلِّ ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ مَشْهُودَةٌ مَحْضُورَةٌ

حَتَّى تُصَلِّيَ الْعَصْرَ ، ثُمَّ أَقْصِرْ عَنْ الصَّلَاةِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ ؛ فَإِنَّهَا تَغْرُبُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ ، وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ } .
رَوَاهُنَّ مُسْلِمٌ .

( 1016 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ : ( وَيَقْضِي الْفَوَائِتَ مِنْ الصَّلَوَاتِ الْفَرْضِ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ يَجُوزُ قَضَاءُ الْفَرَائِضِ الْفَائِتَةِ فِي جَمِيعِ أَوْقَاتِ النَّهْيِ وَغَيْرِهَا .
رُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ .
وَبِهِ قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَالْحَكَمُ ، وَحَمَّادٌ ، وَمَالِكٌ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ ، وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ : لَا تُقْضَى الْفَوَائِتُ فِي الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي فِي حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ ، إلَّا عَصْرَ يَوْمِهِ يُصَلِّيهَا قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ ؛ لِعُمُومِ النَّهْيِ ، وَهُوَ مُتَنَاوِلٌ لِلْفَرَائِضِ وَغَيْرِهَا ، وَلِأَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَامَ عَنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ حَتَّى طَلَعَتْ الشَّمْسُ ، أَخَّرَهَا حَتَّى ابْيَضَّتْ الشَّمْسُ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ ، فَلَمْ تَجُزْ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ كَالنَّوَافِلِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ نَامَ فِي دَالِيَةٍ ، فَاسْتَيْقَظَ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ ، فَانْتَظَرَ حَتَّى غَابَتْ الشَّمْسُ ثُمَّ صَلَّى .
وَعَنْ كَعْبٍ - أَحْسِبُهُ ابْنَ عُجْرَةَ - أَنَّهُ نَامَ حَتَّى طَلَعَ قَرْنُ الشَّمْسِ فَأَجْلَسَهُ ، فَلَمَّا أَنْ تَعَالَتْ الشَّمْسُ قَالَ لَهُ : صَلِّ الْآنَ .
وَلَنَا ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا ، فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَفِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ : { إنَّمَا التَّفْرِيطُ فِي الْيَقَظَةِ عَلَى مَنْ لَمْ يُصَلِّ الصَّلَاةَ حَتَّى يَجِيءَ وَقْتُ الْأُخْرَى ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَلْيُصَلِّهَا حِينَ يَنْتَبِهُ لَهَا } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَخَبَرُ النَّهْيِ مَخْصُوصٌ بِالْقَضَاءِ فِي الْوَقْتَيْنِ الْآخَرَيْنِ ، وَبِعَصْرِ يَوْمِهِ ، فَنَقِيسُ مَحَلَّ النِّزَاعِ عَلَى الْمَخْصُوصِ ، وَقِيَاسُهُمْ مَنْقُوضٌ بِذَلِكَ أَيْضًا ، وَحَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ

التَّأْخِيرِ ، لَا عَلَى تَحْرِيمِ الْفِعْلِ .

( 1017 ) فَصْلٌ : وَلَوْ طَلَعْت الشَّمْسُ وَهُوَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ ، أَتَمَّهَا .
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ : تَفْسُدُ ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ فِي وَقْتِ النَّهْيِ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا أَدْرَكَ أَحَدُكُمْ سَجْدَةً مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ ، قَبْلَ أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ ، فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ ، وَإِذَا أَدْرَكَ سَجْدَةً مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ ، فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَهَذَا نَصٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ ، يُقَدَّمُ عَلَى عُمُومِ غَيْرِهِ .

( 1018 ) فَصْلٌ : وَيَجُوزُ فِعْلُ الصَّلَاةِ الْمَنْذُورَةِ فِي وَقْتِ النَّهْيِ ، سَوَاءٌ كَانَ النَّذْرُ مُطْلَقًا أَوْ مُؤَقَّتًا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَجُوزُ ، وَيَتَخَرَّجُ لَنَا مِثْلُهُ بِنَاءً عَلَى صَوْمِ الْوَاجِبِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ .
وَلَنَا أَنَّهَا صَلَاةٌ وَاجِبَةٌ ، فَأَشْبَهَتْ الْفَوَائِتَ مِنْ الْفَرَائِضِ وَصَلَاةَ الْجِنَازَةِ ، وَقَدْ وَافَقَنَا فِيهِ فِيمَا بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ وَصَلَاةِ الصُّبْحِ .

( 1019 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَيَرْكَعُ لِلطَّوَافِ ) يَعْنِي فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ ، وَمِمَّنْ طَافَ بَعْدَ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ابْنُ عُمَرَ ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ ، وَعَطَاءٌ ، وَطَاوُسٌ ، وَفَعَلَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَالْحَسَنُ ، وَالْحُسَيْنُ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، وَفَعَلَهُ عُرْوَةُ بَعْدَ الصُّبْحِ ، وَهَذَا مَذْهَبُ عَطَاءٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَبِي ثَوْرٍ .
وَأَنْكَرَتْ طَائِفَةٌ ذَلِكَ ، مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٌ .
وَاحْتَجُّوا بِعُمُومِ أَحَادِيثِ النَّهْيِ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ ، { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ ، لَا تَمْنَعُوا أَحَدًا طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ ، وَصَلَّى فِي أَيِّ سَاعَةٍ شَاءَ ، مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ } .
رَوَاهُ الْأَثْرَمُ ، وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ : حَدِيثٌ صَحِيحٌ .
وَلِأَنَّهُ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ ، وَلِأَنَّ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ تَابِعَةٌ لَهُ ، فَإِذَا أُبِيحَ الْمَتْبُوعُ يَنْبَغِي أَنْ يُبَاحَ التَّبَعُ ، وَحَدِيثُهُمْ مَخْصُوصٌ بِالْفَوَائِتِ ، وَحَدِيثُنَا لَا تَخْصِيصَ فِيهِ ، فَيَكُونُ أَوْلَى .

( 1020 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَيُصَلِّي عَلَى الْجِنَازَةِ ) أَمَّا الصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ ، وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَمِيلَ لِلْغُرُوبِ ، فَلَا خِلَافَ فِيهِ ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : إجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ بَعْدَ الْعَصْرِ وَالصُّبْحِ ، وَأَمَّا الصَّلَاةُ عَلَيْهَا فِي الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي فِي حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ فَلَا يَجُوزُ .
ذَكَرَهَا الْقَاضِي ، وَغَيْرُهُ .
قَالَ الْأَثْرَمُ : سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ إذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ ؟ قَالَ : أَمَّا حِينَ تَطْلُعُ فَمَا يُعْجِبُنِي .
ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ ، وَابْنِ عُمَرَ نَحْوُ هَذَا الْقَوْلِ ، وَذَكَرَهُ مَالِكٌ فِي " الْمُوَطَّأِ " عَنْ ابْنِ عُمَرَ .
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ : هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ ، عَنْ أَحْمَدَ ، رِوَايَةٌ أُخْرَى : إنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْجِنَازَةِ تَجُوزُ فِي جَمِيعِ أَوْقَاتِ النَّهْي .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ تُبَاحُ بَعْدَ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ ، فَأُبِيحَتْ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ ، كَالْفَرَائِضِ .
وَلَنَا ، قَوْلُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ : { ثَلَاثُ سَاعَاتٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَانَا أَنْ نُصَلِّيَ فِيهِنَّ ، وَأَنْ نَقْبُرَ فِيهِنَّ مَوْتَانَا } .
وَذِكْرُهُ لِلصَّلَاةِ مَقْرُونًا بِالدَّفْنِ دَلِيلٌ عَلَى إرَادَةِ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ .
وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ مِنْ غَيْرِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ ، فَلَمْ يَجُزْ فِعْلُهَا فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ ، كَالنَّوَافِلِ الْمُطْلَقَةِ ، وَإِنَّمَا أُبِيحَتْ بَعْدَ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ لِأَنَّ مُدَّتَهُمَا تَطُولُ ، فَالِانْتِظَارُ يُخَافُ مِنْهُ عَلَيْهَا ، وَهَذِهِ مُدَّتُهَا تَقْصُرُ ، وَأَمَّا الْفَرَائِضُ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّهَا آكَدُ ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ عَلَى الْوَقْتَيْنِ الْآخَرَيْنِ ، لِأَنَّ النَّهْيَ فِيهَا آكَدُ ، وَزَمَنُهَا أَقْصَرُ ، فَلَا يُخَافُ عَلَى

الْمَيِّتِ فِيهَا ، وَلِأَنَّهُ نُهِيَ عَنْ الدَّفْنِ فِيهَا ، وَالصَّلَاةُ الْمَقْرُونَةُ بِالدَّفْنِ تَتَنَاوَلُ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ ، وَتَمْنَعُهَا الْقَرِينَةُ مِنْ الْخُرُوجِ بِالتَّخْصِيصِ ، بِخِلَافِ الْوَقْتَيْنِ الْآخَرَيْنِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( 1021 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَيُصَلِّي إذَا كَانَ فِي الْمَسْجِدِ وَأُقِيمَتْ الصَّلَاةُ وَقَدْ كَانَ صَلَّاهَا ) .
وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَنْ صَلَّى فَرْضَهُ ثُمَّ أَدْرَكَ تِلْكَ الصَّلَاةَ فِي جَمَاعَةٍ ، اُسْتُحِبَّ لَهُ إعَادَتُهَا ، أَيَّ صَلَاةٍ كَانَتْ ، بِشَرْطِ أَنْ تُقَامَ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ ، أَوْ يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ وَهُمْ يُصَلُّونَ .
وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَبِي ثَوْرٍ .
فَإِنْ أُقِيمَتْ صَلَاةُ الْفَجْرِ أَوْ الْعَصْرِ وَهُوَ خَارِجُ الْمَسْجِدِ ، لَمْ يُسْتَحَبَّ لَهُ الدُّخُولُ .
وَاشْتَرَطَ الْقَاضِي لِجَوَازِ الْإِعَادَةِ فِي وَقْتِ النَّهْيِ ، أَنْ يَكُونَ مَعَ إمَامِ الْحَيِّ .
وَلَمْ يُفَرِّقْ الْخِرَقِيِّ بَيْنَ إمَامِ الْحَيِّ وَغَيْرِهِ ، وَلَا بَيْنَ الْمُصَلِّي جَمَاعَةً وَفُرَادَى .
وَكَلَامُ أَحْمَدَ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا .
قَالَ الْأَثْرَمُ : سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ مَنْ صَلَّى فِي جَمَاعَةٍ ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَهُمْ يُصَلُّونَ ، أَيُصَلِّي مَعَهُمْ ؟ قَالَ : نَعَمْ .
وَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَمَّا هَذَا فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ .
إنَّمَا هِيَ نَافِلَةٌ فَلَا يَدْخُلُ ، فَإِنْ دَخَلَ صَلَّى ، وَإِنْ كَانَ قَدْ صَلَّى فِي جَمَاعَةٍ ، قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : وَالْمَغْرِبُ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، إلَّا أَنَّهُ فِي الْمَغْرِبِ يَشْفَعُ .
وَقَالَ مَالِكٌ : إنْ كَانَ صَلَّى وَحْدَهُ أَعَادَ الْمَغْرِبَ ، وَإِنْ كَانَ صَلَّى فِي جَمَاعَةٍ لَمْ يُعِدْهَا ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ الدَّالَّ عَلَى الْإِعَادَةِ قَالَ فِيهِ : صَلَّيْنَا فِي رِحَالِنَا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا تُعَادُ الْفَجْرُ وَلَا الْعَصْرُ وَلَا الْمَغْرِبُ ؛ لِأَنَّهَا نَافِلَةٌ فَلَا يَجُوزُ فِعْلُهَا فِي وَقْتِ النَّهْيِ ؛ لِعُمُومِ الْحَدِيثِ فِيهِ ، وَلَا تُعَادُ الْمَغْرِبُ لِأَنَّ التَّطَوُّعَ لَا يَكُونُ بِوِتْرٍ .
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ ، وَالنَّخَعِيِّ : تُعَادُ الصَّلَوَاتُ كُلُّهَا إلَّا الصُّبْحَ وَالْمَغْرِبَ .
وَقَالَ أَبُو مُوسَى ، وَأَبُو مِجْلَزٍ ، وَمَالِكٌ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ : تُعَادُ كُلُّهَا إلَّا الْمَغْرِبَ ، لِئَلَّا يَتَطَوَّعَ بِوِتْرٍ .
وَقَالَ الْحَاكِمُ :

إلَّا الصُّبْحَ وَحْدَهَا .
وَلَنَا ، مَا رَوَى جَابِرُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : { شَهِدْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّتَهُ فَصَلَّيْت مَعَهُ صَلَاةَ الْفَجْرِ فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ ، وَأَنَا غُلَامٌ شَابٌّ ، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ إذَا هُوَ بِرَجُلَيْنِ فِي آخِرِ الْقَوْمِ لَمْ يُصَلِّيَا مَعَهُ .
فَقَالَ : عَلَيَّ بِهِمَا فَأُتِيَ بِهِمَا تَرْعَدُ فَرَائِصُهُمَا ، فَقَالَ : مَا مَنَعَكُمَا أَنْ تُصَلِّيَا مَعَنَا ؟ ، فَقَالَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَدْ صَلَّيْنَا فِي رِحَالِنَا .
قَالَ : لَا تَفْعَلَا ، إذَا صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمَا ، ثُمَّ أَتَيْتُمَا مَسْجِدَ جَمَاعَةٍ فَصَلِّيَا مَعَهُمْ ؛ فَإِنَّهَا لَكُمْ نَافِلَةٌ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَالْأَثْرَمُ .
وَرَوَى مَالِكٌ ، فِي " الْمُوَطَّأِ " عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ بُسْرِ بْنِ مِحْجَنٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، { أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُذِّنَ لِلصَّلَاةِ ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى ، ثُمَّ رَجَعَ وَمِحْجَنٌ فِي مَجْلِسِهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا مَنَعَكَ أَنْ تُصَلِّيَ مَعَ النَّاسِ ، أَلَسْتَ بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ ؟ .
فَقَالَ : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَلَكِنِّي قَدْ صَلَّيْت فِي أَهْلِي .
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إذَا جِئْت فَصَلِّ مَعَ النَّاسِ ، وَإِنْ كُنْت قَدْ صَلَّيْت } .
وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ : { إنَّ خَلِيلِي - يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْصَانِي أَنْ أُصَلِّيَ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا ، فَإِذَا أَدْرَكْتهَا مَعَهُمْ فَصَلِّ ، فَإِنَّهَا لَكَ نَافِلَةٌ } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَفِي رِوَايَةٍ : { فَإِنْ أَدْرَكْتهَا مَعَهُمْ فَصَلِّ ، وَلَا تَقُلْ : إنِّي قَدْ صَلَّيْت ، فَلَا أُصَلِّي } .
رَوَاهُ النَّسَائِيّ .
وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ بِعُمُومِهَا تَدُلُّ عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ ، وَحَدِيثُ يَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ صَرِيحٌ فِي إعَادَةِ الْفَجْرِ ، وَالْعَصْرُ مِثْلُهَا

، وَالْأَحَادِيثُ بِإِطْلَاقِهَا تَدُلُّ عَلَى الْإِعَادَةِ ، سَوَاءٌ كَانَ مَعَ إمَامِ الْحَيِّ أَوْ غَيْرِهِ ، وَسَوَاءٌ صَلَّى وَحْدَهُ أَوْ فِي جَمَاعَةٍ .
وَقَدْ رَوَى أَنَسٌ ، قَالَ : صَلَّى بِنَا أَبُو مُوسَى الْغَدَاةَ فِي الْمِرْبَدِ ، فَانْتَهَيْنَا إلَى الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ ، فَأُقِيمَتْ الصَّلَاةُ ، فَصَلَّيْنَا مَعَ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ .
وَعَنْ صِلَةَ ، عَنْ حُذَيْفَةَ : أَنَّهُ أَعَادَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ ، وَكَانَ قَدْ صَلَّاهُنَّ فِي جَمَاعَةٍ .
رَوَاهُمَا الْأَثْرَمُ .

( 1022 ) فَصْلٌ : إذَا أَعَادَ الْمَغْرِبَ شَفَعَهَا بِرَابِعَةٍ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
وَبِهِ قَالَ الْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَرَوَاهُ قَتَادَةُ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ .
وَرَوَى صِلَةُ ، عَنْ حُذَيْفَةَ ، أَنَّهُ لَمَّا أَعَادَ الْمَغْرِبَ ، قَالَ : ذَهَبْت أَقُومُ فِي الثَّالِثَةِ ، فَأَجْلَسَنِي ، وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ ؛ لِتَكُونَ شَفْعًا ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِالصَّلَاةِ مِثْلَ صَلَاةِ الْإِمَامِ .
وَلَنَا أَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ نَافِلَةٌ ، وَلَا يُشْرَعُ التَّنَفُّلُ بِوِتْرٍ غَيْرِ الْوِتْرِ ، فَكَانَ زِيَادَةُ رَكْعَةٍ أَوْلَى مِنْ نُقْصَانِهَا ؛ لِئَلَّا يُفَارِقَ إمَامَهُ قَبْلَ إتْمَامِ صَلَاتِهِ .

( 1023 ) فَصْلٌ : إنْ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ وَهُوَ خَارِجٌ مِنْ الْمَسْجِدِ ، فَإِنْ كَانَ فِي وَقْتِ نَهْيٍ لَمْ يُسْتَحَبَّ لَهُ الدُّخُولُ ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ وَقْتِ نَهْيٍ اُسْتُحِبَّ لَهُ الدُّخُولُ فِي الصَّلَاةِ مَعَهُمْ ، وَإِنْ دَخَلَ وَصَلَّى مَعَهُمْ فَلَا بَأْسَ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ خَبَرِ أَبِي مُوسَى .
وَلَا يُسْتَحَبُّ ؛ لِمَا رَوَى مُجَاهِدٌ ، قَالَ : خَرَجْت مَعَ ابْنِ عُمَرَ مِنْ دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدِ بْنِ أَسِيدٍ حَتَّى إذَا نَظَرَ إلَى بَابِ الْمَسْجِدِ إذَا النَّاسُ فِي الصَّلَاةِ ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى صَلَّى النَّاسُ ، وَقَالَ : إنِّي صَلَّيْت فِي الْبَيْتِ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ .

( 1024 ) فَصْلٌ : إذَا أَعَادَ الصَّلَاةَ فَالْأُولَى فَرْضُهُ .
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَإِسْحَاقُ ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ .
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، وَعَطَاءٍ ، وَالشَّعْبِيِّ ، الَّتِي صَلَّى مَعَهُمْ الْمَكْتُوبَةَ ؛ لِمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا جِئْت إلَى الصَّلَاةِ فَوَجَدْت النَّاسَ فَصَلِّ مَعَهُمْ ، وَإِنْ كُنْتَ قَدْ صَلَّيْتَ تَكُنْ لَكَ نَافِلَةً ، وَهَذِهِ مَكْتُوبَةً } .
وَلَنَا قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { تَكُنْ لَكُمَا نَافِلَةً } .
وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ : { فَإِنَّهَا لَكَ نَافِلَةٌ } .
وَلِأَنَّ الْأُولَى قَدْ وَقَعَتْ فَرِيضَةً ، وَأَسْقَطَتْ الْفَرْضَ ، بِدَلِيلِ أَنَّهَا لَا تَجِبُ ثَانِيًا ؛ وَإِذَا بَرِئَتْ الذِّمَّةُ بِالْأُولَى اسْتَحَالَ كَوْنُ الثَّانِيَةِ فَرِيضَةً ، وَجَعْلُ الْأُولَى نَافِلَةً .
قَالَ حَمَّادٌ ، قَالَ إبْرَاهِيمُ : إذَا نَوَى الرَّجُلُ صَلَاةً وَكَتَبَتْهَا الْمَلَائِكَةُ فَمَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُحَوِّلَهَا ، فَمَا صَلَّى بَعْدَهَا فَهُوَ تَطَوُّعٌ .
وَحَدِيثُهُمْ لَا تَصْرِيحَ فِيهِ ، فَيَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ مَعْنَاهُ عَلَى مَا فِي الْأَحَادِيثِ الْبَاقِيَةِ سَوَاءً .
فَعَلَى هَذَا لَا يَنْوِي الثَّانِيَةَ فَرْضًا ، لَكِنْ يَنْوِيهَا ظُهْرًا مُعَادَةً ، وَإِنْ نَوَاهَا نَافِلَةً صَحَّ .
( 1025 ) فَصْلٌ : وَلَا تَجِبُ الْإِعَادَةُ .
قَالَ الْقَاضِي : لَا تَجِبُ ، رِوَايَةً وَاحِدَةً .
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فِيهَا رِوَايَةً أُخْرَى : إنَّهَا تَجِبُ مَعَ إمَامِ الْحَيِّ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِهَا .
وَلَنَا ، أَنَّهَا نَافِلَةٌ ، وَالنَّافِلَةُ لَا تَجِبُ ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تُصَلِّ صَلَاةً فِي يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَمَعْنَاهُ وَاجِبَتَانِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ، وَالْأَمْرُ لِلِاسْتِحْبَابِ .
فَعَلَى هَذَا إنْ قَصَدَ الْإِعَادَةَ فَلَمْ يُدْرِكْ إلَّا رَكْعَتَيْنِ ، فَقَالَ الْآمِدِيُّ : يَجُوزُ أَنْ

يُسَلِّمَ مَعَهُمْ ؛ لِأَنَّهَا نَافِلَةٌ ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُتِمَّهَا ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَهَا أَرْبَعًا .
وَنَصَّ أَحْمَدُ ، رَحِمَهُ اللَّهُ ، عَلَى أَنَّهُ يُتِمُّهَا أَرْبَعًا ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا } .

( 1026 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( فِي كُلِّ وَقْتٍ نُهِيَ عَنْ الصَّلَاةِ فِيهِ ، وَهُوَ بَعْدَ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ ، وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ ) اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْ الصَّلَاةِ فِيهَا ؛ فَذَهَبَ أَحْمَدُ ، رَحِمَهُ اللَّهُ ، إلَى أَنَّهَا مِنْ بَعْدِ الْفَجْرِ حَتَّى تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ قَدْرَ رُمْحٍ ، وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ ، وَحَالَ قِيَامِ الشَّمْسِ حَتَّى تَزُولَ ، وَعَدَّهَا أَصْحَابُهُ خَمْسَةَ أَوْقَاتٍ ؛ مِنْ الْفَجْرِ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقْتٌ ، وَمِنْ طُلُوعِهَا إلَى ارْتِفَاعِهَا وَقْتٌ ، وَحَالَ قِيَامِهَا وَقْتٌ ، وَمِنْ الْعَصْرِ إلَى شُرُوعِ الشَّمْسِ فِي الْغُرُوبِ وَقْتٌ ، وَإِلَى تَكَامُلِ الْغُرُوبِ وَقْتٌ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْوَقْتَ الْخَامِسَ مِنْ حِينِ تَتَضَيَّفُ الشَّمْسُ لِلْغُرُوبِ إلَى أَنْ تَغْرُبَ ؛ لِأَنَّ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ قَالَ : ثَلَاثُ سَاعَاتٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَانَا أَنْ نُصَلِّيَ فِيهِنَّ ، وَأَنْ نَقْبُرَ فِيهِنَّ مَوْتَانَا ؛ حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ بَازِغَةً حَتَّى تَرْتَفِعَ ، وَحِينَ يَقُومُ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ حَتَّى تَمِيلَ ، وَحِينَ تَتَضَيَّفُ الشَّمْسُ لِلْغُرُوبِ حَتَّى تَغْرُبَ .
فَجَعَلَ هَذِهِ ثَلَاثَةَ أَوْقَاتٍ ، وَقَدْ ثَبَتَ لَنَا وَقْتَانِ آخَرَانِ بِحَدِيثِ عُمَرَ وَأَبِي سَعِيدٍ ، فَيَكُونُ الْجَمِيعُ خَمْسَةً .
وَمَنْ جَعَلَ الْخَامِسَ وَقْتَ الْغُرُوبِ ، فَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَصَّهُ بِالنَّهْيِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا بَدَا حَاجِبُ الشَّمْسِ فَأَخِّرُوا الصَّلَاةَ حَتَّى تَبْرُزَ ، وَإِذَا غَابَ حَاجِبُ الشَّمْسِ فَأَخِّرُوا الصَّلَاةَ حَتَّى تَغِيبَ } .
وَفِي حَدِيثٍ : { وَلَا تَتَحَرَّوْا بِصَلَاتِكُمْ طُلُوعَ الشَّمْسِ وَلَا غُرُوبَهَا } .
وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَهَذِهِ الْأَوْقَاتُ الْمَذْكُورَةُ مَنْهِيٌّ عَنْ الصَّلَاةِ فِيهَا ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ .
وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : إنَّمَا الْمَنْهِيُّ عَنْهُ

الْأَوْقَاتُ الثَّلَاثَةُ الَّتِي فِي حَدِيثِ عُقْبَةَ ؛ بِدَلِيلِ تَخْصِيصِهَا بِالنَّهْيِ فِي حَدِيثِهِ وَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ .
وَقَوْلُهُ : { لَا تُصَلُّوا بَعْدَ الْعَصْرِ إلَّا أَنْ تُصَلُّوا وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَقَالَتْ عَائِشَةُ : وَهِمَ عُمَرُ إنَّمَا نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُتَحَرَّى طُلُوعُ الشَّمْسِ أَوْ غُرُوبُهَا .
وَلَنَا مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَحَادِيثِ فِي أَوَّلِ الْبَابِ ، وَهِيَ صَحِيحَةٌ صَرِيحَةٌ ، وَالتَّخْصِيصُ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ لَا يُعَارِضُ الْعُمُومَ الْمُوَافِقَ لَهُ ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى تَأَكُّدِ الْحُكْمِ فِيمَا خَصَّهُ ، وَقَوْلُ عَائِشَةَ فِي رَدِّ خَبَرِ عُمَرَ غَيْرُ مَقْبُولٍ ، فَإِنَّهُ مُثْبِتٌ لِرِوَايَتِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ تَقُولُ بِرَأْيِهَا ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَحُّ مِنْ قَوْلِهَا ، ثُمَّ هِيَ قَدْ رَوَتْ ذَلِكَ أَيْضًا ، فَرَوَى ذَكْوَانُ مَوْلَى عَائِشَةَ ، أَنَّهَا حَدَّثَتْهُ ، { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الْعَصْرِ ، وَيَنْهَى عَنْهُ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، فَكَيْفَ يُقْبَلُ رَدُّهَا لِمَا قَدْ أَقَرَّتْ بِصِحَّتِهِ ، وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ ، وَعَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ ، وَابْنُ عُمَرَ ، وَالصُّنَابِحِيُّ ، وَأُمُّ سَلَمَةَ ، كَنَحْوِ رِوَايَةِ عُمَرَ ، فَلَا يُتْرَكُ هَذَا بِمُجَرَّدِ رَأْيٍ مُخْتَلِفٍ مُتَنَاقِضٍ .
( 1027 ) فَصْلٌ : وَالنَّهْيُ عَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ الصَّلَاةِ ، فَمَنْ لَمْ يُصَلِّ أُبِيحَ لَهُ التَّنَفُّلُ ، وَإِنْ صَلَّى غَيْرُهُ .
وَمَنْ صَلَّى الْعَصْرَ فَلَيْسَ لَهُ التَّنَفُّلُ وَإِنْ لَمْ يُصَلِّ أَحَدٌ سِوَاهُ .
لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا عِنْدَ مَنْ يَمْنَعُ الصَّلَاةَ بَعْدَ الْعَصْرِ .
فَأَمَّا النَّهْيُ بَعْدَ الْفَجْرِ فَيَتَعَلَّقُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ ، وَبِهَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَالْعَلَاءُ بْنُ زِيَادٍ ، وَحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَقَالَ النَّخَعِيُّ : كَانُوا

يَكْرَهُونَ ذَلِكَ .
يَعْنِي التَّطَوُّعَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ .
وَرُوِيَتْ كَرَاهَتُهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو .
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى ، أَنَّ النَّهْيَ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ الصَّلَاةِ أَيْضًا كَالْعَصْرِ .
وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ ، وَالشَّافِعِيِّ ؛ لِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا صَلَاةِ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ ، وَلَا صَلَاةَ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، وَرَوَى أَبُو دَاوُد حَدِيثَ عُمَرَ بِهَذَا اللَّفْظِ .
وَفِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ قَالَ : { صَلِّ صَلَاةَ الصُّبْحِ ثُمَّ أَقْصِرْ عَنْ الصَّلَاةِ ، كَذَا } رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد قَالَ : { قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَيُّ اللَّيْلِ أَسْمَعُ ؟ قَالَ : جَوْفُ اللَّيْلِ الْآخِرُ ، فَصَلِّ مَا شِئْت ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ مَكْتُوبَةٌ مَشْهُودَةٌ حَتَّى تُصَلِّيَ الصُّبْحَ ، ثُمَّ أَقْصِرْ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ ، فَتَرْتَفِعَ قَدْرَ رُمْحٍ أَوْ رُمْحَيْنِ } .
وَلِأَنَّ لَفْظَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَصْرِ عُلِّقَ عَلَى الصَّلَاةِ دُونَ وَقْتِهَا ، فَكَذَلِكَ الْفَجْرُ ، وَلِأَنَّهُ وَقْتُ نَهْيٍ بَعْدَ صَلَاةٍ ، فَيَتَعَلَّقُ بِفِعْلِهَا ، كَبَعْدِ الْعَصْرِ .
وَالْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ الْأَوَّلُ ؛ لِمَا رَوَى { يَسَارٌ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ ، قَالَ : رَآنِي ابْنُ عُمَرَ وَأَنَا أُصَلِّي بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَقَالَ : يَا يَسَارُ ، إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ عَلَيْنَا وَنَحْنُ نُصَلِّي هَذِهِ الصَّلَاةَ ، فَقَالَ : لِيُبَلِّغْ شَاهِدُكُمْ غَائِبَكُمْ ، لَا تُصَلُّوا بَعْدَ الْفَجْرِ إلَّا سَجْدَتَيْنِ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَفِي لَفْظٍ : { لَا صَلَاةَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَّا سَجْدَتَانِ } .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ .
وَفِي لَفْظٍ : { إلَّا رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ } ، وَقَالَ : هُوَ غَرِيبٌ ، رَوَاهُ قُدَامَةُ بْنُ مُوسَى .
وَقَدْ رَوَى عَنْهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَقَالَ : هَذَا

مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ فَلَا صَلَاةَ إلَّا رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ } .
وَهَذَا يُبَيِّنُ مُرَادَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ اللَّفْظِ الْمُجْمَلِ ، وَلَا يُعَارِضُهُ تَخْصِيصُ مَا بَعْدَ الصَّلَاةِ بِالنَّهْيِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ دَلِيلُ خِطَابٍ ، وَهَذَا مَنْطُوقٌ ، فَيَكُونُ أَوْلَى .
وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ قَدْ اخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُ الرُّوَاةِ فِيهِ ، وَهُوَ فِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ : { حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ } .

( 1028 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَلَا يَبْتَدِئُ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ صَلَاةً يَتَطَوَّعُ بِهَا ) .
لَا أَعْلَمُ خِلَافًا فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَبْتَدِئَ صَلَاةَ تَطَوُّعٍ غَيْرَ ذَاتِ سَبَبٍ .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ .
وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : رَخَّصَتْ طَائِفَةٌ فِي الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ ، رَوَيْنَا ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ ، وَالزُّبَيْرِ ، وَابْنِهِ ، وَتَمِيمٍ الدَّارِيِّ ، وَالنُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ ، وَأَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ ، وَعَائِشَةَ ، وَفَعَلَهُ الْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ ، وَعُمَرُ ، وَابْنُ مَيْمُونٍ ، وَمَسْرُوقٌ ، وَشُرَيْحٌ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْهُذَيْلِ ، وَأَبُو بُرْدَةَ ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْأَسْوَدِ ، وَابْنُ الْبَيْلَمَانِيِّ ، وَالْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ .
وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ : لَا نَفْعَلُهُ وَلَا نَعِيبُ فَاعِلَهُ .
وَذَلِكَ لِقَوْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : { مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ عِنْدِي قَطُّ } .
وَقَوْلُهَا : وَهِمَ عُمَرُ ، إنَّمَا { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُتَحَرَّى طُلُوعُ الشَّمْسِ أَوْ غُرُوبُهَا } .
رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ .
وَقَوْلُ عَلِيٍّ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا صَلَاةَ بَعْدَ الْعَصْرِ إلَّا وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ } .
وَلَنَا ، الْأَحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ فِي أَوَّلِ الْبَابِ ، وَهِيَ صَحِيحَةٌ صَرِيحَةٌ ، وَرَوَى أَبُو بَصْرَةَ ، قَالَ : { صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْعَصْرِ بِالْمُخَمَّصِ ، فَقَالَ : إنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ عُرِضَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَضَيَّعُوهَا ، فَمَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا كَانَ لَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ ، وَلَا صَلَاةَ بَعْدَهَا حَتَّى يَطْلُعَ الشَّاهِدُ } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَهَذَا خَاصٌّ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ .
وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ ؛ فَقَدْ رَوَى عَنْهَا ذَكْوَانُ مَوْلَاهَا ، أَنَّهَا حَدَّثَتْهُ ، { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الْعَصْرِ

وَيَنْهَى عَنْهَا } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَرَوَى أَبُو سَلَمَةَ ، أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ عَنْ السَّجْدَتَيْنِ اللَّتَيْنِ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّيهِمَا بَعْدَ الْعَصْرِ ، فَقَالَتْ : كَانَ يُصَلِّيهِمَا قَبْلَ الْعَصْرِ ، ثُمَّ إنَّهُ شُغِلَ عَنْهُمَا ، أَوْ نَسِيَهُمَا ، فَصَلَّاهُمَا بَعْدَ الْعَصْرِ ، ثُمَّ أَثْبَتَهُمَا وَكَانَ إذَا صَلَّى صَلَاةً أَثْبَتَهَا .
وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ : { سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى عَنْهُمَا ، ثُمَّ رَأَيْته يُصَلِّيهِمَا ، وَقَالَ : يَا بِنْتَ أَبِي أُمَيَّةَ ، إنَّهُ أَتَانِي نَاسٌ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ بِالْإِسْلَامِ مِنْ قَوْمِهِمْ ، فَشَغَلُونِي عَنْ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ ، فَهُمَا هَاتَانِ } .
رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا فَعَلَهُ لِسَبَبٍ ، وَهُوَ قَضَاءُ مَا فَاتَهُ مِنْ السُّنَّةِ ، وَأَنَّهُ نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ ، كَمَا رَوَاهُ غَيْرُهُمَا ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ يَدُلُّ عَلَى اخْتِصَاصِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ ، وَنَهْيِهِ غَيْرَهُ ، وَهَذَا حُجَّةٌ عَلَى مَنْ خَالَفَ ذَلِكَ ، فَإِنَّ النِّزَاعَ إنَّمَا هُوَ فِي غَيْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ لَهُ .
( 1029 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا التَّطَوُّعُ لِسَبَبٍ غَيْرِ مَا ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ ، فَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ ، رَحِمَهُ اللَّهُ ، فِي الْوِتْرِ أَنَّهُ يَفْعَلُهُ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ .
قَالَ الْأَثْرَمُ : سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ : أَيُوتِرُ الرَّجُلُ بَعْدَمَا يَطْلُعُ الْفَجْرُ ؟ قَالَ : نَعَمْ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَابْنِ عُمَرَ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَحُذَيْفَةَ ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ ، وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ ، وَفُضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ ، وَعَائِشَةَ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ ، وَعَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ ، وَقَالَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ وَحُمَيْدٌ الطَّوِيلُ : إنَّ أَكْثَرَ وِتْرِنَا لَبَعْدَ طُلُوعِ

الْفَجْرِ .
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ خَرَجَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ ، فَقَالَ : لَنِعْمَ سَاعَةُ الْوِتْرِ هَذِهِ .
وَرُوِيَ عَنْ عَاصِمٍ ، قَالَ : جَاءَ نَاسٌ إلَى أَبِي مُوسَى ، فَسَأَلُوهُ عَنْ رَجُلٍ لَمْ يُوتِرْ حَتَّى أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ ؟ قَالَ : لَا وِتْرَ لَهُ ، فَأَتَوْا عَلِيًّا فَسَأَلُوهُ فَقَالَ : أَغْرَقَ فِي النَّزْعِ ، الْوِتْرُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ .
وَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَطَاءٌ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُوسَى عَلَى مَا حَكَيْنَا ، وَاحْتَجُّوا بِعُمُومِ النَّهْيِ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى أَبُو بَصْرَةَ الْغِفَارِيُّ ، قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { إنَّ اللَّهَ زَادَكُمْ صَلَاةً فَصَلُّوهَا مَا بَيْنَ الْعِشَاءِ إلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ ، الْوِتْرُ الْوِتْرُ } .
رَوَاهُ الْأَثْرَمُ ، وَاحْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ ، وَلِأَنَّهُ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ ، وَأَحَادِيثُ النَّهْيِ الصَّحِيحَةُ لَيْسَتْ صَرِيحَةً فِي النَّهْيِ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ ، عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ ، إنَّمَا فِيهِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ وَهُوَ غَرِيبٌ ، وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ نَامَ عَنْ الْوِتْرِ أَوْ نَسِيَهُ ، فَلْيُصَلِّهِ إذَا أَصْبَحَ أَوْ ذَكَرَ } .
رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
وَهَذَا صَرِيحٌ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَتَعَمَّدَ تَرْكَ الْوِتْرِ حَتَّى يُصْبِحَ ؛ لِهَذَا الْخَبَرِ ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمْ الصُّبْحَ فَلْيُصَلِّ رَكْعَةً تُوتِرُ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَهَكَذَا قَالَ مَالِكٌ .
وَقَالَ : مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ اللَّيْلِ فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ الصُّبْحَ ، وَحَكَاهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى ، فِي " الْإِرْشَادِ " مَذْهَبًا لِأَحْمَدَ ، قِيَاسًا عَلَى الْوِتْرِ ، وَلِأَنَّ هَذَا الْوَقْتَ لَمْ يَثْبُتْ

النَّهْيُ فِيهِ صَرِيحًا ، فَكَانَ حُكْمُهُ خَفِيفًا .

( 1030 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا قَضَاءُ سُنَّةِ الْفَجْرِ بَعْدَهَا فَجَائِزٌ ، إلَّا أَنَّ أَحْمَدَ اخْتَارَ أَنْ يَقْضِيَهُمَا مِنْ الضُّحَى ، وَقَالَ : إنْ صَلَّاهُمَا بَعْدَ الْفَجْرِ أَجْزَأَ ، وَأَمَّا أَنَا فَأَخْتَارُ ذَلِكَ .
وَقَالَ عَطَاءٌ ، وَابْنُ جُرَيْجٍ ، وَالشَّافِعِيُّ : يَقْضِيهِمَا بَعْدَهَا ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ قَيْسِ بْنِ فَهْدٍ ، قَالَ : { رَآنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أُصَلِّي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ ، فَقَالَ : مَا هَاتَانِ الرَّكْعَتَانِ يَا قَيْسُ ؟ .
قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ أَكُنْ صَلَّيْت رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ ، فَهُمَا هَاتَانِ } .
رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، وَأَبُو دَاوُد ، وَالتِّرْمِذِيُّ .
وَسُكُوتُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى سُنَّةَ الظُّهْرِ بَعْدَ الْعَصْرِ ، وَهَذِهِ فِي مَعْنَاهَا ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ ذَاتُ سَبَبٍ ، فَأَشْبَهَتْ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ : لَا يَجُوزُ ؛ لِعُمُومِ النَّهْيِ ، وَلِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ لَمْ يُصَلِّ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ فَلْيُصَلِّهِمَا بَعْدَمَا تَطْلُعُ الشَّمْسُ } .
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ : لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عَاصِمٍ .
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ : وَهُوَ ثِقَةٌ ، أَخْرَجَ عَنْهُ الْبُخَارِيُّ .
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقْضِيهِمَا مِنْ الضُّحَى ، وَحَدِيثُ قَيْسٍ مُرْسَلٌ ، قَالَهُ أَحْمَدُ ، وَالتِّرْمِذِيُّ ، لِأَنَّهُ يَرْوِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ عَنْ قَيْسٍ ، وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ ، وَرُوِيَ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ جَدِّهِ ، وَهُوَ مُرْسَلٌ أَيْضًا ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ ، قَالَ : { قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ : إنِّي لَمْ أَكُنْ رَكَعْت رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ .
قَالَ : فَلَا إذًا } .
وَهَذَا يَحْتَمِلُ النَّهْيَ .
وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ هَكَذَا كَانَ تَأْخِيرُهَا إلَى وَقْتِ الضُّحَى أَحْسَنَ ؛ لِنَخْرُجَ مِنْ الْخِلَافِ ، وَلَا نُخَالِفُ

عُمُومَ الْحَدِيثِ ، وَإِنْ فَعَلَهَا فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْخَبَرَ لَا يَقْصُرُ عَنْ الدَّلَالَةِ عَلَى الْجَوَازِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( 1031 ) فَصْلٌ : وَأَمَّا قَضَاءُ السُّنَنِ الرَّاتِبَةِ بَعْدَ الْعَصْرِ ، فَالصَّحِيحُ جَوَازُهُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهُ ، فَإِنَّهُ قَضَى الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ بَعْدَ الْعَصْرِ فِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ ، وَقَضَى الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَ الْعَصْرِ بَعْدَهَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ ، وَالِاقْتِدَاءُ بِمَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَعَيَّنٌ .
وَلِأَنَّ النَّهْيِ بَعْدَ الْعَصْرِ خَفِيفٌ ؛ لِمَا رُوِيَ فِي خِلَافِهِ مِنْ الرُّخْصَةِ ، وَمَا وَقَعَ مِنْ الْخِلَافِ فِيهِ ، وَقَوْلُ عَائِشَةَ : إنَّهُ كَانَ يَنْهَى عَنْهَا مَعْنَاهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّهُ نَهَى عَنْهَا لِغَيْرِ هَذَا السَّبَبِ ، أَوْ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُهَا عَلَى الدَّوَامِ ، وَيَنْهَى عَنْ ذَلِكَ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَمَنَعَهُ أَصْحَابُ الرَّأْيِ لِعُمُومِ النَّهْيِ .
وَمَا ذَكَرْنَاهُ خَاصٌّ ، فَالْأَخْذُ بِهِ أَوْلَى ، إلَّا أَنَّ الصَّحِيحَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْعَصْرِ أَنَّهَا لَا تُقْضَى ؛ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّاهُمَا .
فَقُلْت لَهُ : أَنَقْضِيهِمَا إذَا فَاتَتَا ؟ قَالَ : لَا } .
رَوَاهُ ابْنُ النَّجَّارِ ، فِي الْجُزْءِ الْخَامِسِ مِنْ حَدِيثِهِ .

( 1032 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا قَضَاءُ السُّنَنِ فِي سَائِرِ أَوْقَاتِ النَّهْيِ ، وَفِعْلُ غَيْرِهَا مِنْ الصَّلَوَاتِ الَّتِي لَهَا سَبَبٌ ، كَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ ، وَصَلَاةِ الْكُسُوفِ ، وَسُجُودِ التِّلَاوَةِ ، فَالْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ .
ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ فِي سُجُودِ التِّلَاوَةِ وَصَلَاةِ الْكُسُوفِ .
وَقَالَ الْقَاضِي : فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ ؛ أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ .
وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ ؛ لِعُمُومِ النَّهْيِ .
وَالثَّانِيَةُ : يَجُوزُ .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَقَالَ فِي الْكُسُوفِ : { فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَصَلُّوا } .
وَهَذَا خَاصٌّ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ ، فَيُقَدَّمُ عَلَى النَّهْيِ الْعَامِّ فِي الصَّلَاةِ كُلِّهَا ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ ذَاتُ سَبَبٍ ، فَأَشْبَهَتْ مَا ثَبَتَ جَوَازُهُ .
وَلَنَا ، أَنَّ النَّهْيَ لِلتَّحْرِيمِ ، وَالْأَمْرَ لِلنَّدْبِ ، وَتَرْكَ الْمُحَرَّمِ أَوْلَى مِنْ فِعْلِ الْمَنْدُوبِ .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّ الْأَمْرَ خَاصٌّ فِي الصَّلَاةِ .
قُلْنَا : وَلَكِنَّهُ عَامٌّ فِي الْوَقْتِ ، وَالنَّهْيُ خَاصٌّ فِيهِ ، فَيُقَدَّمُ ، وَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَى الْقَضَاءِ بَعْدَ الْعَصْرِ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ النَّهْيِ فِيهِ أَخَفُّ ، لِمَا ذَكَرْنَا ، وَلَا عَلَى قَضَاءِ الْوِتْرِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ لِذَلِكَ ، وَلِأَنَّهُ وَقْتٌ لَهُ ، بِدَلِيلِ حَدِيثِ أَبِي بَصْرَةَ ، وَلَا عَلَى صَلَاةِ الْجِنَازَةِ لِأَنَّهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ ، وَيُخَافُ عَلَى الْمَيِّتِ ، وَلَا عَلَى رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ ، لِأَنَّهُمَا تَابِعَتَانِ لِمَا لَا يَمْنَعُ مِنْهُ النَّهْيُ ، مَعَ أَنَّنَا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَى الْجِنَازَةِ فِي الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي فِي حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ .
وَكَذَلِكَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَرْكَعَ لِلطَّوَافِ فِيهَا ، وَلَا يُعِيدَ فِيهَا جَمَاعَةً .
وَإِذَا مُنِعَتْ هَذِهِ الصَّلَوَاتُ الْمُتَأَكِّدَةُ فِيهَا فَغَيْرُهَا أَوْلَى بِالْمَنْعِ ،

وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( 1033 ) فَصْلٌ : وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَكَّةَ وَغَيْرِهَا فِي الْمَنْعِ مِنْ التَّطَوُّعِ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يُمْنَعُ فِيهَا ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تَمْنَعُوا أَحَدًا طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ وَصَلَّى فِي أَيِّ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ } .
وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ ، قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ بَعْدَ الصُّبْحِ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ ، وَلَا بَعْدَ الْعَصْرِ إلَى أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ ، إلَّا بِمَكَّةَ يَقُولُ : قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثًا } .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ .
وَلَنَا عُمُومُ النَّهْيِ ، وَأَنَّهُ مَعْنًى يَمْنَعُ الصَّلَاةَ ، فَاسْتَوَتْ فِيهِ مَكَّةُ وَغَيْرُهَا ، كَالْحَيْضِ ، وَحَدِيثُهُمْ أَرَادَ بِهِ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ ، فَيَخْتَصُّ بِهِمَا ، وَحَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ ضَعِيفٌ ، يَرْوِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُؤَمَّلِ ، وَهُوَ ضَعِيفٌ ، قَالَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ .
( 1034 ) فَصْلٌ : وَلَا فَرْقَ فِي وَقْتِ الزَّوَالِ بَيْنَ الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهَا ، وَلَا بَيْنَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ ، كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَنْهَى عَنْهُ ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : { كُنَّا نُنْهَى عَنْ ذَلِكَ .
يَعْنِي يَوْمَ الْجُمُعَةِ } .
وَقَالَ سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ : أَدْرَكْت النَّاسَ وَهُمْ يَتَّقُونَ ذَلِكَ .
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ : كُنْت أَلْقَى أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَإِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ قَامُوا فَصَلَّوْا أَرْبَعًا .
وَرَخَّصَ فِيهِ الْحَسَنُ ، وَطَاوُسٌ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ ؛ لِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ نِصْفَ النَّهَارِ إلَّا يَوْمَ الْجُمُعَةِ } .
وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ مِثْلُهُ ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَلِأَنَّ النَّاسَ يَنْتَظِرُونَ الْجُمُعَةِ فِي هَذَا الْوَقْتِ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ قَطْعُ النَّوَافِلِ .
وَقَالَ مَالِكٌ :

أَكْرَهْهُ إذَا عَلِمْت انْتِصَافَ النَّهَارِ ، وَإِذَا كُنْت فِي مَوْضِعٍ لَا أَعْلَمُهُ ، وَلَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَنْظُرَ ، فَإِنِّي أَرَاهُ وَاسِعًا .
وَأَبَاحَهُ فِيهَا عَطَاءٌ فِي الشِّتَاءِ دُونَ الصَّيْفِ ؛ لِأَنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ ، وَذَلِكَ الْوَقْتُ حِينَ تُسَجَّرُ جَهَنَّمُ .
وَلَنَا ، عُمُومُ الْأَحَادِيثِ فِي النَّهْيِ .
وَذُكِرَ لِأَحْمَدَ الرُّخْصَةُ فِي الصَّلَاةِ نِصْفَ النَّهَارِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، قَالَ : فِيهِ حَدِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ثَلَاثَةِ وُجُوهٍ : حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ ، وَحَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ ، وَحَدِيثُ الصُّنَابِحِيِّ ، رَوَاهُ الْأَثْرَمُ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الصُّنَابِحِيِّ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ وَمَعَهَا قَرْنُ الشَّيْطَانِ ، فَإِذَا ارْتَفَعَتْ فَارَقَهَا ، ثُمَّ إذَا اسْتَوَتْ قَارَنَهَا ، فَإِذَا زَالَتْ فَارَقَهَا ، فَإِذَا دَنَتْ لِلْغُرُوبِ قَارَنَهَا ، فَإِذَا غَرَبَتْ فَارَقَهَا } .
وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الصَّلَاةِ فِي تِلْكَ السَّاعَاتِ .
وَلِأَنَّهُ وَقْتُ نَهْيٍ ، فَاسْتَوَى فِيهِ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَغَيْرُهُ ، كَسَائِرِ الْأَوْقَاتِ ، وَحَدِيثُهُمْ ضَعِيفٌ ، فِي إسْنَادِهِ لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ ، وَهُوَ ضَعِيفٌ ، وَهُوَ مُرْسَلٌ ؛ لِأَنَّ أَبَا الْخَلِيلِ يَرْوِيهِ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ ، وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّهُمْ يَنْتَظِرُونَ الْجُمُعَةَ .
قُلْنَا : إذَا عَلِمَ وَقْتَ النَّهْيِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ ، فَإِنْ شَكَّ فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ حَتَّى يَعْلَمَ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الْإِبَاحَةُ ، فَلَا تَزُولُ بِالشَّكِّ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

( 1035 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَصَلَاةُ التَّطَوُّعِ مَثْنَى مَثْنَى ) يَعْنِي يُسَلِّمُ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ ، وَالتَّطَوُّعُ قِسْمَانِ ؛ تَطَوُّعُ لَيْلٍ ، وَتَطَوُّعُ نَهَارٍ ، فَأَمَّا تَطَوُّعُ اللَّيْلِ فَلَا يَجُوزُ إلَّا مَثْنَى مَثْنَى .
هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٌ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنْ شِئْت رَكْعَتَيْنِ ، وَإِنْ شِئْت أَرْبَعًا ، وَإِنْ شِئْت سِتًّا ، وَإِنْ شِئْت ثَمَانِيًا .
وَلَنَا ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطُّهُورُ ، وَبَيْنَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ تَسْلِيمَةٌ } .
رَوَاهُ الْأَثْرَمُ .

( 1036 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَإِنْ تَطَوَّعَ بِأَرْبَعٍ فِي النَّهَارِ فَلَا بَأْسَ ) الْأَفْضَلُ فِي تَطَوُّعِ النَّهَارِ : أَنْ يَكُونَ مَثْنَى مَثْنَى .
لِمَا رَوَى عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَارِقِيُّ ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { صَلَاةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَثْنَى مَثْنَى } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالْأَثْرَمُ .
وَلِأَنَّهُ أَبْعَدُ عَنْ السَّهْوِ ، وَأَشْبَهُ بِصَلَاةِ اللَّيْلِ ، وَتَطَوُّعَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ الصَّحِيحَ فِي تَطَوُّعَاتِهِ رَكْعَتَانِ .
وَذَهَبَ الْحَسَنُ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ إلَى أَنَّ تَطَوُّعَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَثْنَى مَثْنَى لِذَلِكَ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إنْ تَطَوَّعَ فِي النَّهَارِ بِأَرْبَعٍ فَلَا بَأْسَ ، فَعَلَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ ، وَكَانَ إِسْحَاقُ يَقُولُ : صَلَاةُ النَّهَارِ أَخْتَارُ أَرْبَعًا ، وَإِنْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ جَازَ .
وَيُشْبِهُهُ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَرْبَعٌ قَبْلَ الظُّهْرِ لَا تَسْلِيمَ فِيهِنَّ تُفْتَحُ لَهُنَّ أَبْوَابُ السَّمَاءِ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَلِأَنَّ مَفْهُومَ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى } أَنَّ صَلَاةَ النَّهَارِ رُبَاعِيَّةٌ .
وَلَنَا عَلَى أَنَّ الْأَفْضَلَ مَثْنَى ، مَا تَقَدَّمَ ، وَحَدِيثُ أَبِي أَيُّوبَ يَرْوِيهِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَتَّبٍ ، وَهُوَ ضَعِيفٌ ، وَمَفْهُومُ الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْأَرْبَعِ لَا عَلَى تَفْضِيلِهَا ، وَأَمَّا حَدِيثُ الْبَارِقِيِّ فَإِنَّهُ تَفَرَّدَ بِزِيَادَةِ لَفْظَةِ " النَّهَارِ " مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الرُّوَاةِ ، وَقَدْ رَوَاهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ نَحْوٌ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ نَفْسًا ، لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ أَحَدٌ سِوَاهُ ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُصَلِّي أَرْبَعًا ، فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى ضَعْفِ رِوَايَتِهِ ، أَوْ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ

الْفَضِيلَةُ ، مَعَ جَوَازِ غَيْرِهِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( 1037 ) فَصْلٌ : قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : وَلَا يُزَادُ فِي اللَّيْلِ عَلَى اثْنَتَيْنِ ، وَلَا فِي النَّهَارِ عَلَى أَرْبَعٍ ، وَلَا يَصِحُّ التَّطَوُّعُ بِرَكْعَةٍ وَلَا بِثَلَاثٍ .
وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ .
وَقَالَ الْقَاضِي : لَوْ صَلَّى سِتًّا فِي لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ ، كُرِهَ وَصَحَّ .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : فِي صِحَّةِ التَّطَوُّعِ بِرَكْعَةٍ رِوَايَتَانِ ؛ إحْدَاهُمَا ، يَجُوزُ ؛ لِمَا رَوَى سَعِيدٌ ، قَالَ : حَدَّثَنَا جَرِيرٌ ، عَنْ قَابُوسَ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : دَخَلَ عُمَرُ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى رَكْعَةً ، ثُمَّ خَرَجَ فَتَبِعَهُ رَجُلٌ ، فَقَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، إنَّمَا صَلَّيْت رَكْعَةً .
قَالَ : هُوَ تَطَوُّعٌ ، فَمَنْ شَاءَ زَادَ ، وَمَنْ شَاءَ نَقَصَ .
وَلَنَا ، أَنَّ هَذَا خِلَافُ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى } .
وَلِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِمِثْلِهِ ، وَالْأَحْكَامُ إنَّمَا تُتَلَقَّى مِنْ الشَّارِعِ ، إمَّا مِنْ نَصِّهِ ، أَوْ مَعْنَى نَصِّهِ ، وَلَيْسَ هَاهُنَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ .

فَصْلٌ : وَالتَّطَوُّعَاتُ قِسْمَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، مَا تُسَنُّ لَهُ الْجَمَاعَةُ ، وَهُوَ صَلَاةُ الْكُسُوفِ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَالتَّرَاوِيحِ ، وَنَذْكُرُهَا ، إنْ شَاءَ اللَّهُ ، فِي مَوَاضِعِهَا .
وَالثَّانِي ، مَا يُفْعَلُ عَلَى الِانْفِرَادِ ، وَهِيَ قِسْمَانِ ؛ سُنَّةٌ مُعَيَّنَةٌ ، وَنَافِلَةٌ مُطْلَقَةٌ ، فَأَمَّا الْمُعَيَّنَةُ فَتَتَنَوَّعُ أَنْوَاعًا ؛ مِنْهَا السُّنَنُ الرَّوَاتِبُ مَعَ الْفَرَائِضِ ، وَهِيَ عَشْرُ رَكَعَاتٍ : رَكْعَتَانِ قَبْلَ الظُّهْرِ ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَهَا ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الْعِشَاءِ ، وَرَكْعَتَانِ قَبْلَ الْفَجْرِ .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : وَأَرْبَعٌ قَبْلَ الْعَصْرِ ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً صَلَّى قَبْلَ الْعَصْرِ أَرْبَعًا } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : قَبْلَ الظُّهْرِ أَرْبَعٌ ؛ لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَقِيقٍ ، قَالَ : { سَأَلْت عَائِشَةَ عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَالَتْ : كَانَ يُصَلِّي فِي بَيْتِهِ قَبْلَ الظُّهْرِ أَرْبَعًا ، ثُمَّ يَخْرُجُ فَيُصَلِّي بِالنَّاسِ ، ثُمَّ يَدْخُلُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ ، وَكَانَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ الْمَغْرِبَ ، ثُمَّ يَدْخُلُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ يُصَلِّي بِالنَّاسِ الْعِشَاءَ وَيَدْخُلُ بَيْتِي ، فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ ، قَالَ : { حَفِظْت عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ رَكَعَاتٍ ؛ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ فِي بَيْتِهِ ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ فِي بَيْتِهِ ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الصُّبْحِ ، كَانَتْ سَاعَةً لَا يُدْخَلُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا ، حَدَّثَتْنِي حَفْصَةُ ، أَنَّهُ كَانَ إذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ وَطَلَعَ الْفَجْرُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَلِمُسْلِمٍ : وَبَعْدَ الْجُمُعَةِ سَجْدَتَيْنِ .
وَلَمْ يَذْكُرْ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الصُّبْحِ .

وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَائِشَةَ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ ذَلِكَ .
وَقَالَ : هُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ .
وَقَوْلُهُ : { رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً صَلَّى قَبْلَ الْعَصْرِ أَرْبَعًا } .
تَرْغِيبٌ فِيهَا ، وَلَمْ يَجْعَلْهَا مِنْ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ ، بِدَلِيلِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَاوِيهِ ، وَلَمْ يَحْفَظْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَدِيثُ عَائِشَةَ قَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ ، فَرُوِيَ عَنْهَا مِثْلُ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ .

( 1039 ) فَصْلٌ : وَآكَدُ هَذِهِ الرَّكَعَاتِ رَكْعَتَا الْفَجْرِ ، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : { إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ النَّوَافِلِ أَشَدَّ مُعَاهَدَةً مِنْهُ عَلَى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَفِي لَفْظٍ : { مَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَيْءٍ مِنْ النَّوَافِلِ أَسْرَعَ مِنْهُ إلَى الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ } .
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ .
وَقَالَ : { رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا .
وَفِي لَفْظٍ : أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { صَلُّوهُمَا وَلَوْ طَرَدَتْكُمْ الْخَيْلُ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَيُسْتَحَبُّ تَخْفِيفُهُمَا ، فَإِنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ فَيُخَفِّفُ ، حَتَّى إنِّي لَأَقُولُ : هَلْ قَرَأَ فِيهِمَا بِأُمِّ الْكِتَابِ ؟ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ فِيهِمَا { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } ، وَ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ، { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } وَ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : { رَمَقْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهْرًا ، فَكَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } وَ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } } .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ .
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ { قُولُوا آمَنَّا بِاَللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا } الْآيَةَ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ ، وَفِي الْآخِرَةِ مِنْهُمَا { آمَنَّا بِاَللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .

( 1040 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَضْطَجِعَ بَعْدَ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ ، وَكَانَ أَبُو مُوسَى وَرَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ يَفْعَلُونَهُ ، وَأَنْكَرَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ ، وَكَانَ الْقَاسِمُ ، وَسَالِمٌ ، وَنَافِعٌ لَا يَفْعَلُونَهُ .
وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ .
وَرَوِيَ عَنْ أَحْمَدَ : أَنَّهُ لَيْسَ بِسُنَّةٍ ؛ لِأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ أَنْكَرَهُ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ ، فَلْيَضْطَجِعْ } .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ .
رَوَاهُ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ وَقَالَ : { عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ } وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا صَلَّى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَهَذَا لَفْظُ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ ، وَاتِّبَاعُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ أَوْلَى مِنْ اتِّبَاعِ مَنْ خَالَفَهُ كَائِنًا مَنْ كَانَ .

( 1041 ) فَصْلٌ : وَيَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } وَ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } ؛ لِمَا رَوَى { ابْنُ مَسْعُودٍ ، قَالَ : مَا أُحْصِي مَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ ، وَفِي الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ وَ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } } .
أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ ، وَابْنُ مَاجَهْ .

وَيُسْتَحَبُّ فِعْلُ السُّنَنِ فِي الْبَيْتِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ : { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ فِي بَيْتِهِ } ، وَقَالَ أَبُو دَاوُد : مَا رَأَيْت أَحْمَدَ رَكَعَهُمَا ، يَعْنِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ ، فِي الْمَسْجِدِ قَطُّ ، إنَّمَا كَانَ يَخْرُجُ فَيَقْعُدُ فِي الْمَسْجِدِ حَتَّى تُقَامَ الصَّلَاةُ .
وَقَالَ الْأَثْرَمُ : سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ سُئِلَ عَنْ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ أَيْنَ يُصَلَّيَانِ ؟ قَالَ : فِي الْمَسْجِدِ ، ثُمَّ قَالَ : أَمَّا الرَّكْعَتَانِ قَبْلَ الْفَجْرِ فَفِي بَيْتِهِ ، وَبَعْدَ الْمَغْرِبِ فِي بَيْتِهِ .
ثُمَّ قَالَ : لَيْسَ هَاهُنَا شَيْءٌ آكَدُ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ .
وَذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ إِسْحَاقَ : { صَلُّوا هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ فِي بُيُوتِكُمْ } .
قِيلَ لِأَحْمَدَ : فَإِنْ كَانَ مَنْزِلُ الرَّجُلِ بَعِيدًا ؟ قَالَ : لَا أَدْرِي .
وَذَلِكَ لِمَا رَوَى سَعْدُ بْنُ إِسْحَاقَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَاهُمْ فِي مَسْجِدِ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ ، فَصَلَّى الْمَغْرِبَ ، فَرَآهُمْ يَتَطَوَّعُونَ بَعْدَهَا .
فَقَالَ : هَذِهِ صَلَاةُ الْبُيُوتِ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ ، قَالَ : { أَتَانَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ ، فَصَلَّى بِنَا الْمَغْرِبَ فِي مَسْجِدِنَا ، ثُمَّ قَالَ : ارْكَعُوا هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ فِي بُيُوتِكُمْ } .
رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ ، وَالْأَثْرَمُ ، وَلَفْظُهُ ، قَالَ : { صَلُّوا هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ فِي بُيُوتِكُمْ } .

( 1042 ) فَصْلٌ : كُلُّ سُنَّةٍ قَبْلَ الصَّلَاةِ ، فَوَقْتُهَا مِنْ دُخُولِ وَقْتِهَا إلَى فِعْلِ الصَّلَاةِ ، وَكُلُّ سُنَّةٍ بَعْدَهَا ، فَوَقْتُهَا مِنْ فِعْلِ الصَّلَاةِ إلَى خُرُوجِ وَقْتِهَا ، فَإِنْ فَاتَ شَيْءٌ مِنْ وَقْتِ هَذِهِ السُّنَنِ ، فَقَالَ أَحْمَدُ : لَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى شَيْئًا مِنْ التَّطَوُّعِ ، إلَّا رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ ، وَالرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ .
وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ : تُقْضَى جَمِيعُ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ إلَّا أَوْقَاتَ النَّهْيِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بَعْضَهَا ، وَقِسْنَا الْبَاقِيَ عَلَيْهِ .
وَقَالَ الْقَاضِي وَبَعْضُ أَصْحَابِنَا : لَا يُقْضَى إلَّا رَكْعَتَا الْفَجْرِ تُقْضَى ، إلَى وَقْتِ الضُّحَى ، وَرَكْعَتَا الظُّهْرِ .
فَإِنَّ أَحْمَدَ قَالَ : مَا أَعْرِفُ وِتْرًا بَعْدَ الْفَجْرِ .
وَرَكْعَتَا الْفَجْرِ تُقْضَى إلَى وَقْتِ الضُّحَى .
قَالَ مَالِكٌ : تُقْضَى رَكْعَتَا الْفَجْرِ إلَى وَقْتِ الزَّوَالِ ، وَلَا تُقْضَى بَعْدَ ذَلِكَ وَقَالَ النَّخَعِيُّ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَالْحَسَنُ : إذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ فَلَا وِتْرَ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : مَنْ صَلَّى الْغَدَاةَ فَلَا وِتْرَ عَلَيْهِ .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ ، رَحِمَهُ اللَّهُ : أُحِبُّ أَنْ يَكُونَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ النَّوَافِلِ يُحَافِظُ عَلَيْهِ ، إذَا فَاتَ قَضَى .

النَّوْعُ الثَّانِي : تَطَوُّعَاتٌ مَعَ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ ، يُسْتَحَبُّ أَنْ يُصَلِّيَ قَبْلَ الظُّهْرِ أَرْبَعًا وَأَرْبَعًا بَعْدَهَا ؛ لِمَا رَوَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ ، قَالَتْ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { مَنْ حَافَظَ عَلَى أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ قَبْلَ الظُّهْرِ ، وَأَرْبَعٍ بَعْدَهَا ، حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ .
وَرَوَى أَبُو أَيُّوبَ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَرْبَعٌ قَبْلَ الظُّهْرِ لَيْسَ فِيهِنَّ تَسْلِيمٌ تُفْتَحُ لَهُنَّ أَبْوَابُ السَّمَاءِ } .
وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ وَعَلَى أَرْبَعٍ قَبْلَ الْعَصْرِ ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً صَلَّى قَبْلَ الْعَصْرِ أَرْبَعًا } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي صِفَةِ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَأَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا ، وَأَرْبَعًا قَبْلَ الْعَصْرِ ، يَفْصِلُ بَيْنَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ بِالسَّلَامِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ وَالنَّبِيِّينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ .
رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
وَعَلَى أَرْبَعٍ بَعْدَ سُنَّةِ الْمَغْرِبِ ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ صَلَّى بَعْدَ الْمَغْرِبِ سِتَّ رَكَعَاتٍ ، لَمْ يَتَكَلَّمْ بَيْنَهُنَّ بِسُوءٍ ، عُدِلْنَ لَهُ بِعِبَادَةِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ : لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ أَبِي خَثْعَمٌ .
وَضَعَّفَهُ الْبُخَارِيُّ جِدًّا .
وَعَلَى أَرْبَعٍ بَعْدَ الْعِشَاءِ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ { شُرَيْحِ بْنِ هَانِئٍ ، عَنْ عَائِشَةَ ، قَالَ : سَأَلْتهَا عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَالَتْ : مَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِشَاءَ قَطُّ إلَّا صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ ، أَوْ سِتَّ رَكَعَاتٍ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .

( 1043 ) فَصْلٌ : وَاخْتُلِفَ فِي أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ ، مِنْهَا رَكْعَتَانِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ بَعْدَ الْأَذَانِ ؛ فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ ، أَنَّهُمَا جَائِزَتَانِ وَلَيْسَتَا سُنَّةً .
قَالَ الْأَثْرَمُ : قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ ، الرَّكْعَتَانِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ ؟ قَالَ : مَا فَعَلْته قَطُّ إلَّا مَرَّةً ، حِينَ سَمِعْت الْحَدِيثَ ، وَقَالَ : فِيهِمَا أَحَادِيثُ جِيَادٌ ، أَوْ قَالَ : صِحَاحٌ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ .
إلَّا أَنَّهُ قَالَ : " لِمَنْ شَاءَ " .
فَمَنْ شَاءَ صَلَّى .
وَقَالَ : هَذَا شَيْءٌ يُنْكِرُهُ النَّاسُ .
وَضَحِكَ كَالْمُتَعَجِّبِ ، وَقَالَ : هَذَا عِنْدَهُمْ عَظِيمٌ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهِمَا مَا رَوَى أَنَسٌ ، قَالَ : { كُنَّا نُصَلِّي عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ قَبْلَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ .
قَالَ الْمُخْتَارُ بْنُ فُلْفُلٍ : فَقُلْت لَهُ ، أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّاهُمَا ؟ قَالَ : كَانَ يَرَانَا نُصَلِّيهِمَا ، فَلَمْ يَأْمُرْنَا وَلَمْ يَنْهَنَا } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَقَالَ أَنَسٌ : كُنَّا بِالْمَدِينَةِ إذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ لِصَلَاةِ الْمَغْرِبِ ابْتَدَرُوا السَّوَارِيَ ، فَرَكَعُوا رَكْعَتَيْنِ ، حَتَّى إنَّ الرَّجُلَ الْغَرِيبَ لَيَدْخُلُ الْمَسْجِدَ فَيَحْسِبُ أَنَّ الصَّلَاةَ قَدْ صُلِّيَتْ ، مِنْ كَثْرَةِ مَنْ يُصَلِّيهِمَا .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغَفَّلِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ .
قَالَهَا ثَلَاثًا ، ثُمَّ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ : لِمَنْ شَاءَ } .
أَخْرَجَهُمَا مُسْلِمٌ .
وَقَالَ عُقْبَةُ : كُنَّا نَفْعَلُهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُزَنِيّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { صَلُّوا قَبْلَ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ .
قَالَ : ثُمَّ قَالَ : صَلُّوا قَبْلَ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ .
قَالَ : ثُمَّ قَالَ : صَلُّوا قَبْلَ الْمَغْرِبِ

رَكْعَتَيْنِ لِمَنْ شَاءَ .
خَشْيَةَ أَنْ يَتَّخِذَهَا النَّاسُ سُنَّةً } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .

وَمِنْهَا ، الرَّكْعَتَانِ بَعْدَ الْوِتْرِ ، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ فِعْلُهُمَا ، وَإِنْ فَعَلَهُمَا إنْسَانٌ جَازَ .
قَالَ الْأَثْرَمُ : سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْوِتْرِ ، قِيلَ لَهُ : قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ ، فَمَا تَرَى فِيهِمَا ؟ فَقَالَ : أَرْجُو إنْ فَعَلَهُ إنْسَانٌ أَنْ لَا يُضَيَّقَ عَلَيْهِ ، وَلَكِنْ يَكُونُ وَهُوَ جَالِسٌ ، كَمَا جَاءَ الْحَدِيثُ .
قُلْت : تَفْعَلُهُ أَنْتَ ؟ قَالَ : لَا ، مَا أَفْعَلُهُ .
وَعَدَّهُمَا أَبُو الْحَسَنِ الْآمِدِيُّ مِنْ السُّنَنِ الرَّاتِبَةِ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا لَيْسَتَا بِسُنَّةٍ ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَنْ وَصَفَ تَهَجُّدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَذْكُرْهُمَا ؛ مِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ ، وَعَائِشَةَ ، فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُمَا عُرْوَةُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَقِيقٍ ، وَالْقَاسِمُ ، وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ ، وَأَكْثَرُ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى تَرْكِهِمَا .
وَوَجْهُ الْجَوَازِ ، مَا رَوَى سَعْدُ بْنُ هِشَامٍ ، عَنْ عَائِشَةَ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ تِسْعَ رَكَعَاتٍ ، ثُمَّ يُسَلِّمُ تَسْلِيمًا يُسْمِعُنَا ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَمَا يُسَلِّمُ ، وَهُوَ قَاعِدٌ ، فَتِلْكَ إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً } .
وَقَالَ { أَبُو سَلَمَةَ : سَأَلْت عَائِشَةَ عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : كَانَ يُصَلِّي ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً ، يُصَلِّي ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ ، ثُمَّ يُوتِرُ ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ قَامَ فَرَكَعَ ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَيْنَ النِّدَاءِ وَالْإِقَامَةِ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ } .
رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ .
وَرَوَى ذَلِكَ أَبُو أُمَامَةَ أَيْضًا ، وَأَوْصَى بِهِمَا خَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ ، وَكَثِيرُ بْنُ مُرَّةَ الْحَضْرَمِيُّ ، وَفَعَلَهُمَا الْحَسَنُ ، فَهَذَا وَجْهُ جَوَازِهِمَا .

النَّوْعُ الثَّالِثُ : صَلَوَاتٌ مُعَيَّنَةٌ سِوَى ذَلِكَ ، مِنْهَا صَلَاةُ الضُّحَى ، وَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ : { أَوْصَانِي خَلِيلِي بِثَلَاثٍ : صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ، وَرَكْعَتَيْ الضُّحَى ، وَأَنْ أُوتِرَ قَبْلَ أَنْ أَرْقُدَ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { أَوْصَانِي حَبِيبِي بِثَلَاثٍ لَنْ أَدَعَهُنَّ مَا عِشْت : بِصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلّ شَهْرٍ ، وَصَلَاةِ الضُّحَى ، وَأَنْ لَا أَنَامَ حَتَّى أُوتِرَ } .
وَرَوَى أَبُو ذَرٍّ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلَامَى مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ ، فَكُلُّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةٌ ، وَكُلُّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ ، وَكُلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ ، وَكُلُّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ ، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ ، وَنَهْيٌ عَنْ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ ، وَيُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُمَا مِنْ الضُّحَى } .
رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ .
فَأَقَلُّهَا رَكْعَتَانِ لِهَذَا الْخَبَرِ ، وَأَكْثَرُهَا ثَمَانٍ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا ؛ لِمَا رَوَتْ أُمُّ هَانِئٍ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ بَيْتَهَا يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ ، وَصَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ ، فَلَمْ أَرَ صَلَاةً قَطُّ أَخَفَّ مِنْهَا ، غَيْرَ أَنَّهُ يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَوَقْتُهَا إذَا عَلَتْ الشَّمْسُ وَاشْتَدَّ حَرُّهَا ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { صَلَاةُ الْأَوَّابِينَ حِينَ تَرْمَضُ الْفِصَالُ } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : لَا تُسْتَحَبُّ الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُدَاوِمْ عَلَيْهَا ، { قَالَتْ عَائِشَةُ : مَا رَأَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الضُّحَى قَطُّ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ ، قَالَ : { قُلْت لِعَائِشَةَ : أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الضُّحَى ؟ قَالَتْ : لَا ، إلَّا أَنْ يَجِيءَ مِنْ مَغِيبِهِ } .

رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى : { مَا حَدَّثَنِي أَحَدٌ أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الضُّحَى إلَّا أُمُّ هَانِئٍ ، فَإِنَّهَا حَدَّثَتْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ بَيْتَهَا يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ ، فَصَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ ، مَا رَأَيْته قَطُّ صَلَّى صَلَاةً أَخَفَّ مِنْهَا ، غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَلِأَنَّ فِي الْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهَا تَشْبِيهًا بِالْفَرَائِضِ .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : تُسْتَحَبُّ الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْصَى بِهَا أَصْحَابَهُ .
وَقَالَ : { مَنْ حَافَظَ عَلَى شُفْعَةِ الضُّحَى غُفِرَتْ ذُنُوبُهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ } .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ النَّهَّاسِ بْنِ قَهْمٍ .
وَلِأَنَّ أَحَبَّ الْعَمَلِ إلَى اللَّهِ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ .

( 1044 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا صَلَاةُ التَّسْبِيحِ ، فَإِنَّ أَحْمَدَ قَالَ : مَا يُعْجِبُنِي .
قِيلَ لَهُ : لِمَ ؟ قَالَ : لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ يَصِحُّ .
وَنَفَضَ يَدَهُ كَالْمُنْكِرِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ : يَا عَمَّاهُ ، أَلَا أُعْطِيكَ ، أَلَا أَمْنَحُكَ ، أَلَا أَحْبُوكَ ، أَلَا أَفْعَلُ بِكَ عَشْرَ خِصَالٍ إذَا أَنْتَ فَعَلْتَ ذَلِكَ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ ذَنْبَك ، أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ ، وَقَدِيمَهُ وَحَدِيثَهُ ، وَخَطَأَهُ وَعَمْدَهُ ، وَصَغِيرَهُ وَكَبِيرَهُ ، وَسِرَّهُ وَعَلَانِيَتَهُ عَشْرَ خِصَالٍ ؛ أَنْ تُصَلِّيَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ ، تَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ وَسُورَةً ، فَإِذَا فَرَغْتَ مِنْ الْقُرْآنِ ، قُلْتَ سُبْحَانَ اللَّهِ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ ، وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ ، خَمْسَ عَشْرَةَ مَرَّةً ، ثُمَّ تَرْكَعُ ، فَتَقُولُهَا وَأَنْتَ رَاكِعٌ عَشْرًا ، ثُمَّ تَرْفَعُ رَأْسَكَ مِنْ الرُّكُوعِ ، فَتَقُولُهَا عَشْرًا ، ثُمَّ تَهْوِي سَاجِدًا ، فَتَقُولُهَا وَأَنْتَ سَاجِدٌ عَشْرًا ، ثُمَّ تَرْفَعُ رَأْسَكَ مِنْ السُّجُودِ فَتَقُولُهَا عَشْرًا ، ثُمَّ تَسْجُدُ ، فَتَقُولُهَا عَشْرًا .
ثُمَّ تَرْفَعُ رَأْسَكَ ، فَتَقُولُهَا عَشْرًا ، فَذَلِكَ خَمْسٌ وَسَبْعُونَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ ، تَفْعَلُ ذَلِكَ فِي الْأَرْبَعِ رَكَعَاتٍ ، إنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تُصَلِّيَهَا فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّةً فَافْعَلْ ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَفِي كُلِّ جُمُعَةٍ مَرَّةً ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَفِي كُلِّ شَهْرٍ مَرَّةً ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَفِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَفِي عُمُرِكَ مَرَّةً } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالتِّرْمِذِيُّ .
وَلَمْ يُثْبِتْ أَحْمَدُ الْحَدِيثَ الْمَرْوِيَّ فِيهَا ، وَلَمْ يَرَهَا مُسْتَحَبَّةً ، وَإِنْ فَعَلَهَا إنْسَانٌ فَلَا بَأْسَ ؛ فَإِنَّ النَّوَافِلَ وَالْفَضَائِلَ لَا يُشْتَرَطُ صِحَّةُ الْحَدِيثِ فِيهَا .

( 1045 ) فَصْلٌ : فِي صَلَاةِ الِاسْتِخَارَةِ : عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ ، قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا الِاسْتِخَارَةَ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا ، كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ ، يَقُولُ : إذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالْأَمْرِ ، فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ ، ثُمَّ لِيَقُلْ : اللَّهُمَّ إنِّي أَسْتَخِيرُك بِعِلْمِكَ ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِك الْعَظِيمِ ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ ، وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ ، وَأَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ، اللَّهُمَّ إنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي - أَوْ قَالَ : فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ - ، فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ لِي ، ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ ، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعِيشَتِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي أَوْ قَالَ : فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ ، فَاصْرِفْهُ عَنِّي ، وَاصْرِفْنِي عَنْهُ ، وَاقْدُرْ لِي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ، ثُمَّ أَرْضِنِي بِهِ وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ } .
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ .

( 1046 ) فَصْلٌ : فِي صَلَاةِ الْحَاجَةِ : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ كَانَتْ لَهُ إلَى اللَّهِ حَاجَةٌ ، أَوْ إلَى أَحَدٍ مِنْ بَنِي آدَمَ ، فَلْيَتَوَضَّأْ ، وَلْيُحْسِنْ الْوُضُوءَ ، ثُمَّ لِيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ ، وَلْيُثْنِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَلْيُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ لِيَقُلْ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ الْحَلِيمُ الْكَرِيمُ ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ، سُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، أَسْأَلُكَ مُوجِبَاتِ رَحْمَتِكَ ، وَعَزَائِمَ مَغْفِرَتِكَ ، وَالْغَنِيمَةَ مِنْ كُلِّ بِرٍّ ، وَالسَّلَامَةَ مِنْ كُلِّ إثْمٍ ، لَا تَدَعْ لِي ذَنْبًا إلَّا غَفَرْتَهُ ، وَلَا هَمًّا إلَّا فَرَّجْتَهُ ، وَلَا حَاجَةً هِيَ لَكَ رِضًا إلَّا قَضَيْتَهَا ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ } .
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ : حَدِيثٌ غَرِيبٌ .

( 1047 ) فَصْلٌ : فِي صَلَاةِ التَّوْبَةِ : عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ ، وَصَدَقَ أَبُو بَكْرٍ ، قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { مَا مِنْ رَجُلٍ يُذْنِبُ ذَنْبًا ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَتَطَهَّرُ ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعَالَى إلَّا غَفَرَ لَهُ .
ثُمَّ قَرَأَ { وَاَلَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ } إلَى آخِرِهَا } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ .

( 1048 ) فَصْلٌ : وَيُسَنُّ لِمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ أَنْ لَا يَجْلِسَ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ جُلُوسِهِ ؛ لِمَا رَوَى أَبُو قَتَادَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ ، فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
فَإِذَا جَلَسَ قَبْلَ الصَّلَاةِ سُنَّ لَهُ أَنْ يَقُومَ فَيُصَلِّيَ ؛ لِمَا رَوَى جَابِرٌ ، قَالَ : { جَاءَ سُلَيْكٌ الْغَطَفَانِيُّ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ ، فَجَلَسَ فَقَالَ : يَا سُلَيْكُ ، قُمْ فَارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ ، وَتَجَوَّزْ فِيهِمَا } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَطَوَّعَ بِمِثْلِ تَطَوُّعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ فَإِنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا صَلَّى الْفَجْرَ يُمْهِلُ حَتَّى إذَا كَانَتْ الشَّمْسُ مِنْ هَاهُنَا - يَعْنِي مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ - مِقْدَارَهَا مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ مِنْ الْعَصْرِ مِنْ هَاهُنَا - يَعْنِي مِنْ قِبَلِ الْمَغْرِبِ - قَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ يُمْهِلُ حَتَّى إذَا كَانَتْ الشَّمْسُ مِنْ هَاهُنَا - يَعْنِي مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ - مِقْدَارَهَا مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ مِنْ هَاهُنَا قَامَ فَصَلَّى أَرْبَعًا ، وَأَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا ، وَأَرْبَعًا قَبْلَ الْعَصْرِ ، يَفْصِلُ بَيْنَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ بِالسَّلَامِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ وَالنَّبِيِّينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ .
فَتِلْكَ سِتَّ عَشْرَةَ رَكْعَةً ، تَطَوُّعُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّهَارِ ، وَقَلَّ مَنْ يُدَاوِمُ عَلَيْهَا .
}

( 1049 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا النَّوَافِلُ الْمُطْلَقَةُ فَتُشْرَعُ فِي اللَّيْلِ كُلِّهِ ، وَفِي النَّهَارِ فِيمَا سِوَى أَوْقَاتِ النَّهْيِ ، وَتَطَوُّعُ اللَّيْلِ أَفْضَلُ مِنْ تَطَوُّعِ النَّهَارِ .
قَالَ أَحْمَدُ : لَيْسَ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ عِنْدِي أَفْضَلُ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ .
وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُمِرَ بِذَلِكَ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ } .
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلَاةُ اللَّيْلِ } .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ .
وَكَانَ قِيَامُ اللَّيْلِ مَفْرُوضًا ؛ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمْ اللَّيْلَ إلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ } ثُمَّ نُسِخَ بِقَوْلِهِ : { إنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيْ اللَّيْلِ } الْآيَةَ .

( 1050 ) فَصْلٌ : وَأَفْضَلُ التَّهَجُّدِ جَوْفُ اللَّيْلِ الْآخِرُ ؛ لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ ، قَالَ { : قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَيُّ اللَّيْلِ أَسْمَعُ ؟ قَالَ : جَوْفُ اللَّيْلِ الْآخِرُ ، فَصَلِّ مَا شِئْتَ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَفْضَلُ الصَّلَاةِ صَلَاةُ دَاوُد ، كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ ، وَيَقُومُ ثُلُثَهُ ، وَيَنَامُ سُدُسَهُ } .
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي { صِفَةِ تَهَجُّدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَامَ حَتَّى انْتَصَفَ اللَّيْلُ ، أَوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ ، أَوْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ - فَوَصَفَ تَهَجُّدَهُ حَتَّى قَالَ : ثُمَّ أَوْتَرَ ، ثُمَّ اضْطَجَعَ حَتَّى جَاءَ الْمُؤَذِّنُ } .
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنَامُ أَوَّلَ اللَّيْلِ ، وَيُحْيِي آخِرَهُ ، ثُمَّ إنْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ إلَى أَهْلِهِ قَضَى حَاجَتَهُ ، ثُمَّ نَامَ ، فَإِذَا كَانَ عِنْدَ النِّدَاءِ الْأَوَّلِ وَثَبَ ، فَأَفَاضَ عَلَيْهِ الْمَاءَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَاجَةٌ تَوَضَّأَ .
وَقَالَتْ : مَا أَلْفَى عِنْدِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّحَرُ الْأَعْلَى فِي بَيْتِي إلَّا نَائِمًا } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِنَّ .
وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد : { فَمَا يَجِيءُ السَّحَرُ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ وِتْرِهِ } ، وَلِأَنَّ آخِرَ اللَّيْلِ يَنْزِلُ فِيهِ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ ، فَيَقُولُ : مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ ؟ وَمَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ ؟ وَمَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ ؟ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : إذَا أَغْفَى - يَعْنِي بَعْدَ التَّهَجُّدِ - فَإِنَّهُ لَا يَبِينُ عَلَيْهِ أَثَرُ السَّهَرِ ، وَإِذَا لَمْ يُغْفِ يَبِينُ عَلَيْهِ .
وَقَالَ مَسْرُوقٌ : { سَأَلْت

عَائِشَةَ : أَيَّ حِينٍ كَانَ يُصَلِّي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَتْ : كَانَ إذَا سَمِعَ الصَّارِخَ قَامَ ، فَصَلَّى .
} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
( 1051 ) فَصْلٌ : وَيَقُولُ عِنْدَ انْتِبَاهِهِ مَا رَوَاهُ عُبَادَةُ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ تَعَارَّ مِنْ اللَّيْلِ ، فَقَالَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، الْحَمْدُ لِلَّهِ ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ ، وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ ، ثُمَّ قَالَ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ، أَوْ دَعَا اُسْتُجِيبَ لَهُ ، فَإِنْ تَوَضَّأَ وَصَلَّى ، قُبِلَتْ صَلَاتُهُ } .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ ، قَالَ : اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ ، أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ ، وَلَكَ الْحَمْدُ ، أَنْتَ قَيُّومُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ ، وَلَكَ الْحَمْدُ ، أَنْتَ مَلِكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ الْحَقُّ ؛ وَوَعْدُكَ الْحَقُّ ، وَقَوْلُكَ الْحَقُّ ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ ، وَالنَّارُ حَقٌّ ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ ، وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ ، وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقٌّ ، اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ ، وَبِكَ آمَنْتُ ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ ، وَبِكَ خَاصَمْتُ ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ ، فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ ، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ ، لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِكَ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَفِي مُسْلِمٍ : { أَنْتَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ .
وَفِيهِ : أَنْتَ إلَهِي لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ } .
وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ افْتَتَحَ صَلَاتَهُ : اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ

وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ ، فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ، اهْدِنِي لِمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ ، إنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } .
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَعَنْهَا .
قَالَتْ : { كَانَ - تَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا قَامَ كَبَّرَ عَشْرًا ، وَحَمَدَ عَشْرًا ، وَسَبَّحَ عَشْرًا ، وَهَلَّلَ عَشْرًا ، وَاسْتَغْفَرَ عَشْرًا ، وَقَالَ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ، وَاهْدِنِي ، وَارْزُقْنِي ، وَعَافِنِي وَيَتَعَوَّذُ مِنْ ضِيقِ الْمُقَامِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
( 1052 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَسَوَّكَ ؛ لِمَا رَوَى حُذَيْفَةُ ، قَالَ : { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ يَشُوصُ فَاهُ بِالسِّوَاكِ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، { أَنَّهُ رَقَدَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَيْقَظَ ، فَسَوَّكَ وَتَوَضَّأَ } .
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : كُنَّا نُعِدُّ لَهُ - تَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سِوَاكَهُ وَطَهُورَهُ ، فَيَبْعَثُهُ اللَّهُ مَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَهُ ، فَيَتَسَوَّكُ ، وَيَتَوَضَّأُ ، وَيُصَلِّي تِسْعَ رَكَعَاتٍ .
أَخْرَجَهُمَا مُسْلِمٌ .

( 1053 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَفْتَتِحَ تَهَجُّدَهُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنْ اللَّيْلِ فَلْيَفْتَتِحْ صَلَاتَهُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ } وَعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ أَنَّهُ قَالَ { : لَأَرْمُقَنَّ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّيْلَةَ ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ، وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا ، ثُمَّ أَوْتَرَ ، وَذَلِكَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً } .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً } .
أَخْرَجَهُمَا مُسْلِمٌ .
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي عَدَدِ رَكَعَاتِ تَهَجُّدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ فَفِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ أَنَّهُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً ، وَقَالَتْ عَائِشَةُ ، مَا كَانَ يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلَا غَيْرِهِ عَلَى إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً ، يُصَلِّي أَرْبَعًا ، فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ ، ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا ، فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ ، ثُمَّ يُصَلِّي ثَلَاثًا .
وَفِي لَفْظٍ قَالَتْ : كَانَتْ صَلَاتُهُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ بِاللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً ، مِنْهَا رَكْعَتَا الْفَجْرِ .
وَفِي لَفْظٍ : مِنْهَا الْوِتْرُ وَرَكْعَتَا الْفَجْرِ .
وَفِي لَفْظٍ : كَانَ يُصَلِّي ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً ، بِرَكْعَتَيْ الْفَجْرِ .
وَفِي لَفْظٍ : كَانَ يُصَلِّي فِيمَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ إلَى الْفَجْرِ إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً ، يُسَلِّمُ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ ، وَيُوتِرُ بِوَاحِدَةٍ .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِنَّ .
وَلَعَلَّهَا لَمْ تَعُدَّ الرَّكْعَتَيْنِ الْخَفِيفَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرَهُمَا

غَيْرُهَا ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ صَلَّى فِي لَيْلَةٍ ثَلَاثَ عَشْرَةَ ، وَفِي لَيْلَةٍ إحْدَى عَشْرَةَ .

( 1054 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ الْمُتَهَجِّدُ جُزْءًا مِنْ الْقُرْآنِ فِي تَهَجُّدِهِ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَفْعَلُهُ ، وَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ وَالْإِسْرَارِ بِهَا ، إلَّا أَنَّهُ إنْ كَانَ الْجَهْرُ أَنْشَطَ لَهُ فِي الْقِرَاءَةِ ، أَوْ كَانَ بِحَضْرَتِهِ مَنْ يَسْتَمِعُ قِرَاءَتَهُ ، أَوْ يَنْتَفِعُ بِهَا ، فَالْجَهْرُ أَفْضَلُ ، وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْهُ مَنْ يَتَهَجَّدُ ، أَوْ مَنْ يُسْتَضَرُّ بِرَفْعِ صَوْتِهِ فَالْإِسْرَارُ أَوْلَى ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَا هَذَا وَلَا هَذَا ، فَلْيَفْعَلْ مَا شَاءَ .
{ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي قَيْسٍ : سَأَلْت عَائِشَةَ : كَيْفَ كَانَتْ قِرَاءَةُ رَسُولِ اللَّهِ ؟ فَقَالَتْ : كُلَّ ذَلِكَ كَانَ يَفْعَلُ ، رُبَّمَا أَسَرَّ وَرُبَّمَا جَهَرَ } .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : { كَانَتْ قِرَاءَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْفَعُ طَوْرًا ، وَيَخْفِضُ طَوْرًا } .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : { كَانَتْ قِرَاءَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَدْرِ مَا يَسْمَعُهُ مَنْ فِي الْحُجْرَةِ وَهُوَ فِي الْبَيْتِ } .
رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد .
وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ ، فَإِذَا هُوَ بِأَبِي بَكْرٍ يُصَلِّي ، يَخْفِضُ مِنْ صَوْتِهِ ، وَمَرَّ بِعُمَرَ وَهُوَ يُصَلِّي رَافِعًا صَوْتَهُ ، قَالَ : فَلَمَّا اجْتَمَعْنَا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : يَا أَبَا بَكْرٍ ، مَرَرْتُ بِكَ وَأَنْتَ تُصَلِّي تَخْفِضُ صَوْتَكَ قَالَ : إنِّي أَسْمَعْتُ مَنْ نَاجَيْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ .
قَالَ : ارْفَعْ قَلِيلًا .
وَقَالَ لِعُمَرَ : مَرَرْتُ بِكَ وَأَنْتَ تُصَلِّي رَافِعًا صَوْتَك .
قَالَ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أُوقِظُ الْوَسْنَانَ ، وَأَطْرُدُ الشَّيْطَانَ .
قَالَ : اخْفِضْ مِنْ صَوْتِكَ شَيْئًا } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ : { اعْتَكَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ ، فَسَمِعَهُمْ يَجْهَرُونَ بِالْقِرَاءَةِ ،

فَكَشَفَ السِّتْرَ ، وَقَالَ : أَلَا إنَّ كُلَّكُمْ مُنَاجٍ رَبَّهُ ، فَلَا يُؤْذِيَنَّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ، وَلَا يَرْفَعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْقِرَاءَةِ أَوْ قَالَ : فِي الصَّلَاةِ } .
أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد .

( 1055 ) فَصْلٌ : وَمَنْ كَانَ لَهُ تَهَجُّدٌ فَفَاتَهُ ، اُسْتُحِبَّ لَهُ قَضَاؤُهُ بَيْنَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَالظُّهْرِ ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ نَامَ عَنْ حِزْبِهِ أَوْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ ، فَقَرَأَهُ فِيمَا بَيْنَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الظُّهْرِ ، كُتِبَ لَهُ كَأَنَّمَا قَرَأَهُ مِنْ اللَّيْلِ } .
وَعَنْ عَائِشَةَ ، قَالَتْ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا عَمِلَ عَمَلًا أَثْبَتَهُ ، وَكَانَ إذَا نَامَ مِنْ اللَّيْلِ ، أَوْ مَرِضَ ، صَلَّى مِنْ النَّهَارِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً .
قَالَتْ : وَمَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ لَيْلَةً حَتَّى الصَّبَاحِ ، وَمَا صَامَ شَهْرًا مُتَتَابِعًا إلَّا رَمَضَانَ } .
أَخْرَجَهُمَا مُسْلِمٌ .

( 1056 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ التَّنَفُّلُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ : { تَتَجَافَى جَنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ } الْآيَةَ ، قَالَ : كَانُوا يَتَنَفَّلُونَ مَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ ، يُصَلُّونَ .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ صَلَّى بَعْدَ الْمَغْرِبِ عِشْرِينَ رَكْعَةً بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ } .
قَالَ أَبُو عِيسَى : هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ .

فَصْلٌ : وَمَا وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَخْفِيفُهُ أَوْ تَطْوِيلُهُ ، فَالْأَفْضَلُ اتِّبَاعُهُ فِيهِ ، فَإِنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَا يَفْعَلُ إلَّا الْأَفْضَلَ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا بَعْضَ مَا { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَفِّفُهُ وَيُطَوِّلُهُ } ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِيهِ ؛ فَرُوِيَ أَنَّ الْأَفْضَلَ كَثْرَةُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ، { لِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ : إنِّي لَأَعْلَمُ النَّظَائِرَ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرُنُ بَيْنَهُنَّ سُورَتَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ ، عِشْرُونَ سُورَةً مِنْ الْمُفَصَّلِ } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَا مِنْ عَبْدٍ سَجَدَ سَجْدَةً إلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِهَا حَسَنَةً ، وَمَحَا عَنْهُ بِهَا سَيِّئَةً ، وَرَفَعَ لَهُ بِهَا دَرَجَةً } .
وَالثَّانِيَةُ ، التَّطْوِيلُ أَفْضَلُ ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَفْضَلُ الصَّلَاةِ طُولُ الْقُنُوتِ } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
{ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَكْثَرُ صَلَاتِهِ التَّهَجُّدَ وَكَانَ يُطِيلُهُ ، عَلَى مَا قَدْ مَرَّ ذِكْرُهُ ، وَلَا يُدَاوِمُ إلَّا عَلَى الْأَفْضَلِ } .
وَالثَّالِثَةُ ، هُمَا سَوَاءٌ ؛ لِتَعَارُضِ الْأَخْبَارِ فِي ذَلِكَ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( 1058 ) فَصْلٌ : وَالتَّطَوُّعُ فِي الْبَيْتِ أَفْضَلُ ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { عَلَيْكُمْ بِالصَّلَاةِ فِي بُيُوتِكُمْ ، فَإِنَّ خَيْرَ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إلَّا الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { صَلَاةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهِ فِي مَسْجِدِي هَذَا ، إلَّا الْمَكْتُوبَةَ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَقَالَ : { إذَا قَضَى أَحَدُكُمْ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِهِ فَلْيَجْعَلْ لِبَيْتِهِ نَصِيبًا مِنْ صَلَاتِهِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ فِي بَيْتِهِ مِنْ صَلَاتِهِ خَيْرًا } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْبَيْتِ أَقْرَبُ إلَى الْإِخْلَاصِ .
وَأَبْعَدُ مِنْ الرِّيَاءِ ، وَهُوَ مِنْ عَمَلِ السِّرِّ ، وَفِعْلُهُ فِي الْمَسْجِدِ عَلَانِيَةٌ وَالسِّرُّ أَفْضَلُ .

( 1059 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ لِلْإِنْسَانِ تَطَوُّعَاتٌ يُدَاوِمُ عَلَيْهَا ، وَإِذَا فَاتَتْ يَقْضِيهَا .
قَالَ أَبُو دَاوُد : سَمِعْت أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : يُعْجِبُنِي أَنْ يَكُونَ لِلرَّجُلِ رَكَعَاتٌ مِنْ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَعْلُومَةٌ ، فَإِذَا نَشِطَ ، طَوَّلَهَا ، وَإِذَا لَمْ يَنْشَطْ خَفَّفَهَا .
وَقَالَتْ عَائِشَةُ : { سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : أَدْوَمُهُ وَإِنْ قَلَّ .
وَفِي لَفْظٍ قَالَ : أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إلَى اللَّهِ الَّذِي يُدَاوِمُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ ، وَإِنْ قَلَّ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَقَالَتْ : { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا صَلَّى صَلَاةً أَحَبَّ أَنْ يُدَاوِمَ عَلَيْهَا } .
وَقَالَتْ : { كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً ، وَكَانَ إذَا عَمِلَ عَمَلًا أَثْبَتَهُ } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تَكُنْ مِثْلَ فُلَانٍ ، كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ ، فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .

( 1060 ) فَصْلٌ : يَجُوزُ التَّطَوُّعُ جَمَاعَةً وَفُرَادَى ؛ { لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ الْأَمْرَيْنِ كِلَيْهِمَا ، وَكَانَ أَكْثَرُ تَطَوُّعِهِ مُنْفَرِدًا ، وَصَلَّى بِحُذَيْفَةَ مَرَّةً ، وَبِابْنِ عَبَّاسٍ مَرَّةً ، وَبِأَنَسٍ وَأُمِّهِ وَالْيَتِيمِ مَرَّةً ، وَأَمَّ أَصْحَابَهُ فِي بَيْتِ عِتْبَانَ مَرَّةً ، وَأَمَّهُمْ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ ثَلَاثًا } ، وَسَنَذْكُرُ أَكْثَرَ هَذِهِ الْأَخْبَارِ فِي مَوَاضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَهِيَ كُلُّهَا صِحَاحٌ جِيَادٌ .

( 1061 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَيُبَاحُ أَنْ يَتَطَوَّعَ جَالِسًا ) لَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي إبَاحَةِ التَّطَوُّعِ جَالِسًا ، وَأَنَّهُ فِي الْقِيَامِ أَفْضَلُ ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ صَلَّى قَائِمًا فَهُوَ أَفْضَلُ ، وَمَنْ صَلَّى قَاعِدًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَائِمِ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَفِي لَفْظِ مُسْلِمٍ : { صَلَاةُ الرَّجُلِ قَاعِدًا نِصْفُ الصَّلَاةِ } .
وَقَالَتْ عَائِشَةُ : { إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَمُتْ حَتَّى كَانَ كَثِيرٌ مِنْ صَلَاتِهِ وَهُوَ جَالِسٌ } .
وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ حَفْصَةَ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ، وَجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ ، أَخْرَجَهُنَّ مُسْلِمٌ .
وَلِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَشُقُّ عَلَيْهِ طُولُ الْقِيَامِ ، فَلَوْ وَجَبَ فِي التَّطَوُّعِ لَتُرِكَ أَكْثَرُهُ ، فَسَامَحَ الشَّارِعُ فِي تَرْكِ الْقِيَامِ فِيهِ تَرْغِيبًا فِي تَكْثِيرِهِ ، كَمَا سَامَحَ فِي فِعْلِهِ عَلَى الرَّاحِلَةِ فِي السَّفَرِ ، وَسَامَحَ فِي نِيَّةِ صَوْمِ التَّطَوُّعِ مِنْ النَّهَارِ .

( 1062 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَيَكُونُ فِي حَالِ الْقِيَامِ مُتَرَبِّعًا ، وَيَثْنِي رِجْلَيْهِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْمُتَطَوِّعِ جَالِسًا أَنْ يَكُونَ فِي حَالِ الْقِيَامِ مُتَرَبِّعًا ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، وَأَنَسٍ ، وَابْنِ سِيرِينَ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، وَمَالِكٍ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَإِسْحَاقَ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ كَقَوْلِنَا .
وَعَنْهُ يَجْلِسُ كَيْفَ شَاءَ .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ ، وَعُرْوَةَ ، وَابْنِ عُمَرَ : يَجْلِسُ كَيْفَ شَاءَ ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ سَقَطَ ، فَسَقَطَتْ هَيْئَتُهُ .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ ، وَعُرْوَةَ ، وَابْنِ سِيرِينَ ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ ، أَنَّهُمْ كَانُوا يَحْتَبُونَ فِي التَّطَوُّعِ .
وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَنْ عَطَاءٍ ، وَالنَّخَعِيِّ .
وَلَنَا ، أَنَّ الْقِيَامَ يُخَالِفُ الْقُعُودَ فَيَنْبَغِي أَنْ تُخَالِفَ هَيْئَتُهُ فِي بَدَلِهِ هَيْئَةَ غَيْرِهِ ، كَمُخَالَفَةِ الْقِيَامِ غَيْرَهُ ، وَهُوَ مَعَ هَذَا أَبْعَدُ مِنْ السَّهْوِ وَالِاشْتِبَاهِ ، وَلَيْسَ إذَا سَقَطَ الْقِيَامُ لِمَشَقَّتِهِ يَلْزَمُ سُقُوطُ مَا لَا مَشَقَّةَ فِيهِ ، كَمَنْ سَقَطَ عَنْهُ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ ، لَا يَلْزَمُ سُقُوطُ الْإِيمَاءِ بِهِمَا .
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ صِفَةِ الْجُلُوسِ مُسْتَحَبٌّ غَيْرُ وَاجِبٍ ، إذْ لَمْ يَرِدْ بِإِيجَابِهِ دَلِيلٌ .
فَأَمَّا قَوْلُهُ : { وَيَثْنِي رِجْلَيْهِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ } .
فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ .
قَالَ أَحْمَدُ : يُرْوَى عَنْ أَنَسٍ ، أَنَّهُ صَلَّى مُتَرَبِّعًا ، فَلَمَّا رَكَعَ ثَنَى رِجْلَهُ .
وَهَذَا قَوْلُ الثَّوْرِيِّ .
وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ ، عَنْ أَحْمَدَ ، وَإِسْحَاقَ ، أَنَّهُ لَا يَثْنِي رِجْلَيْهِ إلَّا فِي السُّجُودِ خَاصَّةً ، وَيَكُونُ فِي الرُّكُوعِ عَلَى هَيْئَةِ الْقِيَامِ .
وَذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ ، وَهُوَ أَقْيَسُ ؛ لِأَنَّ هَيْئَةَ الرَّاكِعِ فِي رِجْلَيْهِ هَيْئَةُ الْقَائِمِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى هَيْئَتِهِ ، وَهَذَا أَصَحُّ فِي النَّظَرِ إلَّا

أَنَّ أَحْمَدَ ذَهَبَ إلَى فِعْلِ أَنَسٍ ، وَأَخَذَ بِهِ .
( 1063 ) فَصْلٌ : وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ، إنْ شَاءَ مِنْ قِيَامٍ ، وَإِنْ شَاءَ مِنْ قُعُودٍ ؛ { لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ الْأَمْرَيْنِ } .
{ قَالَتْ عَائِشَةُ : لَمْ أَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي صَلَاةَ اللَّيْلِ قَاعِدًا قَطُّ ، حَتَّى أَسَنَّ ، فَكَانَ يَقْرَأُ قَاعِدًا ، حَتَّى إذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ ، قَامَ فَقَرَأَ نَحْوًا مِنْ ثَلَاثِينَ آيَةً ، أَوْ أَرْبَعِينَ آيَةً ، ثُمَّ رَكَعَ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَعَنْهَا ، { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي لَيْلًا طَوِيلًا قَائِمًا ، وَلَيْلًا طَوِيلًا قَاعِدًا ، وَكَانَ إذَا قَرَأَ وَهُوَ قَائِمٌ رَكَعَ وَسَجَدَ وَهُوَ قَائِمٌ ، وَإِذَا قَرَأَ وَهُوَ قَاعِدٌ رَكَعَ وَسَجَدَ وَهُوَ قَاعِدٌ } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : كِلَا الْحَدِيثَيْنِ صَحِيحٌ ، قَالَ : وَقَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ : وَالْعَمَلُ عَلَى كِلَا الْحَدِيثَيْنِ .

( 1064 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَالْمَرِيضُ إذَا كَانَ الْقِيَامُ يَزِيدُ فِي مَرَضِهِ صَلَّى قَاعِدًا ) أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ لَا يُطِيقُ الْقِيَامَ ، لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ جَالِسًا .
وَقَدْ { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ : صَلِّ قَائِمًا ، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا ، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ } .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ، وَأَبُو دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ ، وَزَادَ : { فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَمُسْتَلْقِيًا ، { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا } } .
وَرَوَى أَنَسٌ قَالَ : { سَقَطَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ فَرَسٍ ، فَخُدِشَ أَوْ جُحِشَ شِقُّهُ الْأَيْمَنُ ، فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ نَعُودُهُ .
فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ ، فَصَلَّى قَاعِدًا ، وَصَلَّيْنَا خَلْفَهُ قُعُودًا } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَإِنْ أَمْكَنَهُ الْقِيَامُ ، إلَّا أَنَّهُ يَخْشَى زِيَادَةَ مَرَضِهِ بِهِ ، أَوْ تَبَاطُؤَ بُرْئِهِ ، أَوْ يَشُقُّ عَلَيْهِ مَشَقَّةً شَدِيدَةً ، فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ قَاعِدًا .
وَنَحْوَ هَذَا قَالَ مَالِكٌ وَإِسْحَاقُ .
وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ : إذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَقُومَ لِدُنْيَاهُ ، فَلْيُصَلِّ جَالِسًا .
وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ نَحْوُ ذَلِكَ .
وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } .
وَتَكْلِيفُ الْقِيَامِ فِي هَذِهِ الْحَالِ حَرَجٌ ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى جَالِسًا لَمَّا جُحِشَ شِقُّهُ الْأَيْمَنُ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْجِزُ عَنْ الْقِيَامِ بِالْكُلِّيَّةِ ؛ لَكِنْ لَمَّا شَقَّ عَلَيْهِ الْقِيَامُ سَقَطَ عَنْهُ ، فَكَذَلِكَ تَسْقُطُ عَنْ غَيْرِهِ .
وَإِذَا صَلَّى قَاعِدًا فَإِنَّهُ يَكُونُ جُلُوسُهُ عَلَى صِفَةِ جُلُوسِ الْمُتَطَوِّعِ ، جَالِسًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا .

( 1065 ) فَصْلٌ : وَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ ، بِأَنْ يَتَّكِئَ عَلَى عَصًى ، أَوْ يَسْتَنِدَ إلَى حَائِطٍ ، أَوْ يَعْتَمِدَ عَلَى أَحَدِ جَانِبَيْهِ ، لَزِمَهُ ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْقِيَامِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ ، فَلَزِمَهُ ، كَمَا لَوْ قَدَرَ بِغَيْرِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ .

( 1066 ) فَصْلٌ : وَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ ، إلَّا أَنَّهُ يَكُونُ عَلَى هَيْئَةِ الرَّاكِعِ كَالْأَحْدَبِ ، أَوْ مَنْ هُوَ فِي بَيْتٍ قَصِيرِ السَّقْفِ ، لَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ مِنْهُ ، أَوْ فِي سَفِينَةٍ ، أَوْ خَائِفٍ لَا يَأْمَنُ أَنْ يُعْلَمَ بِهِ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ ، فَإِنَّهُ إنْ كَانَ ذَلِكَ لِحَدَبٍ أَوْ كِبَرٍ ، لَزِمَهُ قِيَامُ مِثْلِهِ ، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ ذَلِكَ ، احْتَمَلَ أَنْ يَلْزَمَهُ الْقِيَامُ ، قِيَاسًا عَلَى الْأَحْدَبِ ، وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ ، فَإِنَّ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ، قَالَ فِي الَّذِي فِي السَّفِينَةِ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَسْتَتِمَّ قَائِمًا ، لِقِصَرِ سَمَاءِ السَّفِينَةِ : يُصَلِّي قَاعِدًا ، إلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْئًا يَسِيرًا .
فَيُقَاسُ عَلَيْهِ سَائِرُ مَا فِي مَعْنَاهُ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { صَلِّ قَائِمًا ، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا } وَهَذَا لَمْ يَسْتَطِعْ الْقِيَامَ .

( 1067 ) فَصْلٌ : وَمَنْ قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ ، وَعَجَزَ عَنْ الرُّكُوعِ أَوْ السُّجُودِ ، لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْقِيَامُ ، وَيُصَلِّي قَائِمًا ، فَيُومِئُ بِالرُّكُوعِ ، ثُمَّ يَجْلِسُ فَيُومِئُ بِالسُّجُودِ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَسْقُطُ الْقِيَامُ .
وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ لَا رُكُوعَ فِيهَا وَلَا سُجُودَ ، فَسَقَطَ فِيهَا الْقِيَامُ كَصَلَاةِ النَّافِلَةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ .
وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ } .
وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { صَلِّ قَائِمًا } .
وَلِأَنَّ الْقِيَامَ رُكْنٌ قَدَرَ عَلَيْهِ ، فَلَزِمَهُ الْإِتْيَانُ بِهِ ، كَالْقِرَاءَةِ ، وَالْعَجْزُ عَنْ غَيْرِهِ لَا يَقْتَضِي سُقُوطَهُ ، كَمَا لَوْ عَجَزَ عَنْ الْقِرَاءَةِ ، وَقِيَاسُهُمْ فَاسِدٌ لِوُجُوهٍ : أَحَدُهَا ، أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الرَّاحِلَةِ لَا يَسْقُطُ فِيهَا الرُّكُوعُ .
وَالثَّانِي ، أَنَّ النَّافِلَةَ لَا يَجِبُ فِيهَا الْقِيَامُ ، فَمَا سَقَطَ عَلَى الرَّاحِلَةِ لِسُقُوطِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ .
وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ مَنْقُوضٌ بِصَلَاةِ الْجِنَازَةِ .

( 1068 ) فَصْلٌ : وَإِنْ قَدَرَ الْمَرِيضُ عَلَى الصَّلَاةِ وَحْدَهُ قَائِمًا ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ مَعَ الْإِمَامِ لِتَطْوِيلِهِ ، يَحْتَمِلُ أَنْ يَلْزَمَهُ الْقِيَامُ وَيُصَلِّيَ وَحْدَهُ ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ آكَدُ لِكَوْنِهِ رُكْنًا فِي الصَّلَاةِ لَا تَتِمُّ إلَّا بِهِ ، وَالْجَمَاعَةُ تَصِحُّ الصَّلَاةُ بِدُونِهَا ، وَاحْتَمَلَ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ ، لِأَنَّنَا أَبَحْنَا لَهُ تَرْكَ الْقِيَامِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ ، مَعَ إمَامِ الْحَيِّ الْعَاجِزِ عَنْ الْقِيَامِ ، مُرَاعَاةً لِلْجَمَاعَةِ ، فَهَاهُنَا أَوْلَى ، وَلِأَنَّ الْعَجْزَ يَتَضَاعَفُ بِالْجَمَاعَةِ أَكْثَرَ مِنْ تَضَاعُفِهِ بِالْقِيَامِ ، بِدَلِيلِ أَنَّ { صَلَاةَ الْقَاعِدِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ صَلَاةِ الْقَائِمِ } .
وَ { صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ عَلَى صَلَاةِ الرَّجُلِ وَحْدَهُ سَبْعًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً } .
وَهَذَا أَحْسَنُ ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .

( 1069 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( فَإِنْ لَمْ يُطِقْ جَالِسًا فَنَائِمًا ) يَعْنِي مُضْطَجِعًا ، سَمَّاهُ نَائِمًا لِأَنَّهُ فِي هَيْئَةِ النَّائِمِ ، وَقَدْ جَاءَ مِثْلُ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { صَلَاةُ الْقَاعِدِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ صَلَاةِ الْقَائِمِ ، وَصَلَاةُ النَّائِمِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ صَلَاةِ الْقَاعِدِ } .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ هَكَذَا .
فَمَنْ عَجَزَ عَنْ الصَّلَاةِ قَاعِدًا فَإِنَّهُ يُصَلِّي عَلَى جَنْبِهِ ، مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ بِوَجْهِهِ ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ .
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَالْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ : يُصَلِّي مُسْتَلْقِيًا ، وَوَجْهُهُ وَرِجْلَاهُ إلَى الْقِبْلَةِ ؛ لِيَكُونَ إيمَاؤُهُ إلَيْهَا ، فَإِنَّهُ إذَا صَلَّى عَلَى جَنْبِهِ كَانَ وَجْهُهُ فِي الْإِيمَاءِ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ .
وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ } .
وَلَمْ يَقُلْ : فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَمُسْتَلْقِيًا .
وَلِأَنَّهُ يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ إذَا كَانَ عَلَى جَنْبِهِ ، وَلَا يَسْتَقْبِلُهَا إذَا كَانَ عَلَى ظَهْرِهِ ، وَإِنَّمَا يَسْتَقْبِلُ السَّمَاءَ ، وَلِذَلِكَ يُوضَعُ الْمَيِّتُ فِي قَبْرِهِ عَلَى جَنْبِهِ قَصْدَ التَّوْجِيهِ إلَى الْقِبْلَةِ .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّ وَجْهَهُ فِي الْإِيمَاءِ يَكُونُ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ .
قُلْنَا : اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ مِنْ الصَّحِيحِ لَا يَكُونَ فِي حَالِ الرُّكُوعِ بِوَجْهِهِ ، وَلَا فِي حَالِ السُّجُودِ ، إنَّمَا يَكُونُ إلَى الْأَرْضِ ، فَلَا يُعْتَبَرُ فِي الْمَرِيضِ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ فِيهِمَا أَيْضًا .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ ، فَإِنْ صَلَّى عَلَى الْأَيْسَرِ ، جَازَ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُعَيِّنْ جَنْبًا بِعَيْنِهِ ، وَلِأَنَّهُ يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ عَلَى أَيِّ الْجَنْبَيْنِ كَانَ .
وَإِنْ صَلَّى عَلَى ظَهْرِهِ ، مَعَ إمْكَانِ الصَّلَاةِ عَلَى جَنْبِهِ ، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ

أَنَّهُ يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ اسْتِقْبَالٍ ، وَلِهَذَا يُوَجَّهُ الْمَيِّتُ عِنْدَ الْمَوْتِ كَذَلِكَ .
وَالدَّلِيلُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَصِحَّ ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ أَمْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ : { فَعَلَى جَنْبٍ } .
وَلِأَنَّهُ نَقَلَهُ إلَى الِاسْتِلْقَاءِ عِنْدَ عَجْزِهِ عَنْ الصَّلَاةِ عَلَى جَنْبِهِ ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ مَعَ إمْكَانِ الصَّلَاةِ عَلَى جَنْبِهِ ، وَلِأَنَّهُ تَرَكَ الِاسْتِقْبَالَ مَعَ إمْكَانِهِ ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ الصَّلَاةِ عَلَى جَنْبِهِ ، صَلَّى مُسْتَلْقِيًا ؛ لِلْخَبَرِ ، وَلِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ الصَّلَاة عَلَى جَنْبِهِ ، فَسَقَطَ ، كَالْقِيَامِ وَالْقُعُودِ .

( 1070 ) فَصْلٌ : إذَا كَانَ بِعَيْنِهِ مَرَضٌ .
فَقَالَ ثِقَاتٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ بِالطِّبِّ : إنْ صَلَّيْت مُسْتَلْقِيًا أَمْكَنَ مُدَاوَاتُكَ .
فَقَالَ الْقَاضِي : قِيَاسُ الْمَذْهَبِ جَوَازُ ذَلِكَ .
وَهُوَ قَوْلُ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ .
وَكَرِهَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ ، وَأَبُو وَائِلٍ .
وَقَالَ مَالِكٌ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ : لَا يَجُوزُ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّهُ لَمَّا كُفَّ بَصَرُهُ أَتَاهُ رَجُلٌ ، فَقَالَ : لَوْ صَبَرْت عَلَيَّ سَبْعَةَ أَيَّامٍ لَمْ تُصَلِّ إلَّا مُسْتَلْقِيًا دَاوَيْتُ عَيْنَكَ ، وَرَجَوْتُ أَنْ تَبْرَأَ .
فَأَرْسَلَ فِي ذَلِكَ إلَى عَائِشَةَ ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ ، وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكُلٌّ قَالَ لَهُ : إنْ مِتَّ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ فَمَا الَّذِي تَصْنَعُ بِالصَّلَاةِ ؟ فَتَرَكَ مُعَالَجَةَ عَيْنِهِ .
وَلَنَا : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى جَالِسًا لَمَّا جُحِشَ شِقُّهُ الْأَيْمَنُ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْجِزُ عَنْ الْقِيَامِ ، لَكِنْ كَانَتْ عَلَيْهِ مَشَقَّةٌ فِيهِ ، أَوْ خَوْفُ ضَرَرٍ ، وَأَيُّهُمَا قُدِّرَ فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الْجَوَازِ هَاهُنَا ، وَلِأَنَّا أَبَحْنَا لَهُ تَرْكَ الْوُضُوءِ إذَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ إلَّا بِزِيَادَةٍ عَلَى ثَمَنِ الْمِثْلِ - حِفْظًا لِجُزْءٍ مِنْ مَالِهِ - ، وَتَرْكَ الصَّوْمِ لِأَجْلِ الْمَرَضِ وَالرَّمَدِ ، وَدَلَّتْ الْأَخْبَارُ عَلَى جَوَازِ تَرْكِ الْقِيَامِ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ ، خَوْفًا مِنْ ضَرَرِ الطِّينِ فِي ثِيَابِهِ وَبَدَنِهِ ، وَجَازَ تَرْكُ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ صِيَانَةً لِنَفْسِهِ وَثِيَابِهِ مِنْ الْبَلَلِ وَالتَّلَوُّثِ بِالطِّينِ ، وَجَازَ تَرْكُ الْقِيَامِ اتِّبَاعًا لِإِمَامِ الْحَيِّ إذَا صَلَّى جَالِسًا ، وَالصَّلَاةُ عَلَى جَنْبِهِ وَمُسْتَلْقِيًا فِي حَالِ الْخَوْفِ مِنْ الْعَدُوِّ ، وَلَا يَنْقُصُ الضَّرَرُ بِفَوَاتِ الْبَصَرِ عَنْ الضَّرَرِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ ، فَأَمَّا خَبَرُ ابْنِ عَبَّاسٍ - إنْ صَحَّ - فَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُخْبِرَ لَمْ يُخْبِرْ عَنْ

يَقِينٍ ، وَإِنَّمَا قَالَ : أَرْجُو .
أَوْ أَنَّهُ لَمْ يُقْبَلْ خَبَرُهُ لِكَوْنِهِ وَاحِدًا ، أَوْ مَجْهُولَ الْحَالِ ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا .

( 1071 ) فَصْلٌ : وَإِنْ عَجَزَ عَنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ أَوْمَأَ بِهِمَا ، كَمَا يُومِئُ بِهِمَا فِي حَالَةِ الْخَوْفِ ، وَيَجْعَلُ السُّجُودَ أَخْفَضَ مِنْ الرُّكُوعِ ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ السُّجُودِ وَحْدَهُ رَكَعَ ، وَأَوْمَأَ بِالسُّجُودِ ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَحْنِيَ ظَهْرَهُ حَنَى رَقَبَتَهُ ، وَإِنْ تَقَوَّسَ ظَهْرُهُ فَصَارَ كَأَنَّهُ وَاقِعٌ ، فَمَتَى أَرَادَ الرُّكُوعَ زَادَ فِي انْحِنَائِهِ قَلِيلًا ، وَيُقَرِّبُ وَجْهَهُ إلَى الْأَرْضِ فِي السُّجُودِ أَكْثَرَ مَا يُمْكِنُهُ .
وَإِنْ قَدَرَ عَلَى السُّجُودِ عَلَى صُدْغِهِ لَمْ يَفْعَلْ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَعْضَاءِ السُّجُودِ .
وَإِنْ وَضَعَ بَيْنَ يَدَيْهِ وِسَادَةً ، أَوْ شَيْئًا عَالِيًا ، أَوْ سَجَدَ عَلَى رَبْوَةٍ أَوْ حَجَرٍ ، جَازَ ، إذَا لَمْ يُمْكِنْهُ تَنْكِيسُ وَجْهِهِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ .
وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ ، عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهُ قَالَ : أَخْتَارُ السُّجُودَ عَلَى الْمِرْفَقَةِ .
وَقَالَ : هُوَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ الْإِيمَاءِ .
وَكَذَلِكَ قَالَ إِسْحَاقُ .
وَجَوَّزَهُ الشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَرَخَّصَ فِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ .
وَسَجَدَتْ أُمُّ سَلَمَةَ عَلَى الْمِرْفَقَةِ .
وَكَرِهَ ابْنُ مَسْعُودٍ السُّجُودَ عَلَى عُودٍ ، وَقَالَ : يُومِئُ إيمَاءً .
وَوَجْهُ الْجَوَازِ ؛ أَنَّهُ أَتَى بِمَا يُمْكِنُهُ مِنْ الِانْحِطَاطِ ، فَأَجْزَأَهُ ، كَمَا لَوْ أَوْمَأَ ، فَأَمَّا إنْ رَفَعَ إلَى وَجْهِهِ شَيْئًا فَسَجَدَ عَلَيْهِ ، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : لَا يُجْزِئُهُ .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَابْنِ عُمَرَ ، وَجَابِرٍ ، وَأَنَسٍ ، أَنَّهُمْ قَالُوا : يُومِئُ ، وَلَا يَرْفَعُ إلَى وَجْهِهِ شَيْئًا .
وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ ، وَمَالِكٍ ، وَالثَّوْرِيِّ .
وَرَوَى الْأَثْرَمُ عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهُ قَالَ : أَيَّ ذَلِكَ فَعَلَ ، فَلَا بَأْسَ ، يُومِئُ ، أَوْ يَرْفَعُ الْمِرْفَقَةَ فَيَسْجُدُ عَلَيْهَا .
قِيلَ لَهُ : الْمِرْوَحَةُ ؟ قَالَ : لَا .
أَمَّا الْمِرْوَحَةُ فَلَا .
وَعَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهُ قَالَ : الْإِيمَاءُ أَحَبُّ إلَيَّ .
وَإِنْ رَفَعَ إلَى وَجْهِهِ شَيْئًا فَسَجَدَ عَلَيْهِ ، أَجْزَأَهُ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ .
وَلَا بُدَّ مِنْ

أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ الِانْحِطَاطُ أَكْثَرَ مِنْهُ ، وَوَجْهُ ذَلِكَ ، أَنَّهُ أَتَى بِمَا أَمْكَنَهُ مِنْ وَضْعِ رَأْسِهِ ، فَأَجْزَأَهُ ، كَمَا لَوْ أَوْمَأَ .
وَوَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّهُ سَجَدَ عَلَى مَا هُوَ حَامِلٌ لَهُ ، فَلَمْ يَجْزِهِ ، كَمَا لَوْ سَجَدَ عَلَى يَدَيْهِ .

( 1072 ) فَصْلٌ : وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْإِيمَاءِ بِرَأْسِهِ ، أَوْمَأَ بِطَرَفِهِ ، وَنَوَى بِقَلْبِهِ ، وَلَا تَسْقُطُ الصَّلَاةُ عَنْهُ مَا دَامَ عَقْلُهُ ثَابِتًا .
وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الصَّلَاةِ تَسْقُطُ عَنْهُ .
وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ هَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ فِي مَرَضِهِ : الصَّلَاةَ .
فَقَالَ : قَدْ كَفَانِي ، إنَّمَا الْعَمَلُ فِي الصِّحَّةِ وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ أَفْعَالٌ عَجَزَ عَنْهَا بِالْكُلِّيَّةِ ، فَسَقَطَتْ عَنْهُ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا } .
وَلَنَا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ ، وَأَنَّهُ مُسْلِمٌ بَالِغٌ عَاقِلٌ ، فَلَزِمَتْهُ الصَّلَاةُ ، كَالْقَادِرِ عَلَى الْإِيمَاءِ بِرَأْسِهِ ، وَلِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْإِيمَاءِ ، أَشْبَهَ الْأَصْلَ .

( 1073 ) فَصْلٌ : إذَا صَلَّى جَالِسًا ، فَسَجَدَ سَجْدَةً ، وَأَوْمَأَ بِالثَّانِيَةِ ، مَعَ إمْكَانِ السُّجُودِ ، جَاهِلًا بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ ، وَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الثَّانِيَةِ ، ثُمَّ عَلِمَ قَبْلَ سَلَامِهِ ، سَجَدَ سَجْدَةً تُتِمُّ لَهُ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ ، وَأَتَى بِرَكْعَةٍ ، كَمَا لَوْ تَرَكَ السُّجُودَ نِسْيَانًا .
وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ تَتِمُّ لَهُ الرَّكْعَةُ الْأُولَى بِسَجْدَةِ الثَّانِيَةِ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَلَيْسَ هَذَا مُقْتَضَى مَذْهَبِنَا ؛ فَإِنَّهُ مَتَى شَرَعَ فِي قِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ قَبْلَ إتْمَامِ الْأُولَى ، بَطَلَتْ الْأُولَى ، وَصَارَتْ الثَّانِيَةُ أُولَاهُ ، وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي سُجُودِ السَّهْوِ .

( 1074 ) فَصْلٌ : وَمَتَى قَدَرَ الْمَرِيضُ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ ، عَلَى مَا كَانَ عَاجِزًا عَنْهُ ، مِنْ قِيَامٍ ، أَوْ قُعُودٍ ، أَوْ رُكُوعٍ ، أَوْ سُجُودٍ ، أَوْ إيمَاءٍ ، انْتَقَلَ إلَيْهِ ، وَبَنَى عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِ .
وَهَكَذَا لَوْ كَانَ قَادِرًا ، فَعَجَزَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ ، أَتَمَّ صَلَاتَهُ عَلَى حَسَبِ حَالِهِ ؛ لِأَنَّ مَا مَضَى مِنْ الصَّلَاةِ كَانَ صَحِيحًا ، فَيَبْنِي عَلَيْهِ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَتَغَيَّرْ حَالُهُ .

( 1075 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَالْوِتْرُ رَكْعَةٌ ) نَصَّ عَلَى هَذَا أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ .
فَقَالَ : إنَّا نَذْهَبُ فِي الْوِتْرِ إلَى رَكْعَةٍ ، وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ ذَلِكَ : عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَابْنُ عُمَرَ ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ ، وَأَبُو مُوسَى ، وَمُعَاوِيَةُ ، وَعَائِشَةُ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَفَعَلَ ذَلِكَ مُعَاذٌ الْقَارِئُ ، وَمَعَهُ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُنْكِرُ ذَلِكَ مِنْهُمْ أَحَدٌ ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : الْوِتْرُ رَكْعَةٌ ، كَانَ ذَلِكَ وِتْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ ، وَعُمَرَ .
وَبِهَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَعَطَاءٌ ، وَمَالِكٌ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ .
وَقَالَ هَؤُلَاءِ : يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ يُسَلِّمُ ، ثُمَّ يُوتِرُ بِرَكْعَةٍ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الْوِتْرُ رَكْعَةٌ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ } .
وَقَالَتْ : عَائِشَةُ : { كَانَتْ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ اللَّيْلِ عَشْرَ رَكَعَاتٍ ، وَيُوتِرُ بِسَجْدَةٍ } .
وَفِي لَفْظٍ : { كَانَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً ، يُوتِرُ مِنْهَا بِوَاحِدَةٍ } .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى ، فَإِذَا خَشِيتَ الصُّبْحَ فَأَوْتِرْ بِوَاحِدَةٍ } .
أَخْرَجَهُنَّ مُسْلِمٌ .
( 1076 ) فَصْلٌ : قَوْلُهُ : { الْوِتْرُ رَكْعَةٌ } يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ : جَمِيعُ الْوِتْرِ رَكْعَةٌ ، وَمَا يُصَلَّى قَبْلَهُ لَيْسَ مِنْ الْوِتْرِ ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : إنَّمَا نَذْهَبُ فِي الْوِتْرِ إلَى رَكْعَةٍ ، وَلَكِنْ يَكُونُ قَبْلَهَا صَلَاةُ عَشْرِ رَكَعَاتٍ ، ثُمَّ يُوتِرُ وَيُسَلِّمُ .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ أَقَلُّ الْوِتْرِ رَكْعَةٌ .
فَإِنَّ أَحْمَدَ قَالَ : إنَّا نَذْهَبُ فِي الْوِتْرِ إلَى رَكْعَةٍ ، وَإِنْ أَوْتَرَ بِثَلَاثٍ أَوْ أَكْثَرَ

فَلَا بَأْسَ ، وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ أَوْتَرَ بِثَلَاثٍ ؛ عُمَرُ ، وَعَلِيٌّ ، وَأُبَيُّ ، وَابْنُ مَسْعُودٍ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَأَبُو أُمَامَةَ ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ .
وَبِهِ قَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ .
قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : أَقَلُّ الْوِتْرِ رَكْعَةٌ ، وَأَكْثَرُهُ إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً ، وَأَدْنَى الْكَمَالِ ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ .
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَإِسْحَاقُ : الْوِتْرُ ثَلَاثٌ ، وَخَمْسٌ ، وَسَبْعٌ ، وَتِسْعٌ ، وَإِحْدَى عَشْرَةَ .
وَقَالَ أَبُو مُوسَى : ثَلَاثٌ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ وَاحِدَةٍ ، وَخَمْسٌ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ ثَلَاثٍ ، وَسَبْعٌ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ خَمْسٍ ، وَتِسْعٌ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ سَبْعٍ .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : إنَّمَا هِيَ وَاحِدَةٌ ، أَوْ خَمْسٌ ، أَوْ سَبْعٌ ، أَوْ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ ، يُوتِرُ بِمَا شَاءَ .
وَقَدْ رَوَى أَبُو أَيُّوبَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْوِتْرُ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِخَمْسٍ فَلْيَفْعَلْ ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِثَلَاثٍ فَلْيَفْعَلْ ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِوَاحِدَةٍ فَلْيَفْعَلْ } .
أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد .
وَرَوَتْ عَائِشَةُ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُوتِرُ بِتِسْعٍ ، وَرَوَتْ ، أَنَّهُ كَانَ يُوتِرُ بِسَبْعٍ ، وَرَوَتْ ، أَنَّهُ كَانَ يُوتِرُ بِخَمْسٍ } .
رَوَاهُنَّ مُسْلِمٌ .
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ ، قَالَ : { قُلْت لِعَائِشَةَ : بِكَمْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوتِرُ ؟ قَالَتْ : كَانَ يُوتِرُ بِأَرْبَعٍ وَثَلَاثٍ وَسِتٍّ وَثَلَاثٍ ، وَثَمَانٍ وَثَلَاثٍ ، وَعَشْرٍ وَثَلَاثٍ ، وَلَمْ يَكُنْ يُوتِرُ بِأَقَلَّ مِنْ سَبْعٍ ، وَلَا بِأَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .

( 1077 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( يَقْنُتُ فِيهَا ) يَعْنِي أَنَّ الْقُنُوتَ مَسْنُونٌ فِي الْوِتْرِ ، فِي الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ ، فِي جَمِيعِ السَّنَةِ .
هَذَا الْمَنْصُوصُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَإِبْرَاهِيمَ ، وَإِسْحَاقَ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ .
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى ، أَنَّهُ لَا يَقْنُتُ إلَّا فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَأُبَيُّ .
وَبِهِ قَالَ ابْنُ سِيرِينَ ، وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ ، وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَاخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ ، أَنَّ عُمَرَ جَمَعَ النَّاسَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ، فَكَانَ يُصَلِّي لَهُمْ عِشْرِينَ لَيْلَةً ، وَلَا يَقْنُتُ إلَّا فِي النِّصْفِ الثَّانِي .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَهَذَا كَالْإِجْمَاعِ .
وَقَالَ قَتَادَةُ : يَقْنُتُ فِي السَّنَةِ كُلِّهَا إلَّا فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ مِنْ رَمَضَانَ ؛ لِهَذَا الْخَبَرِ ، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ لَا يَقْنُتُ إلَّا فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ .
وَعَنْهُ لَا يَقْنُتُ فِي صَلَاةٍ بِحَالٍ .
وَالرِّوَايَةُ الْأُولَى هِيَ الْمُخْتَارَةُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْأَصْحَابِ .
وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ : كُنْت أَذْهَبُ إلَى أَنَّهُ فِي النِّصْفِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ ، ثُمَّ إنِّي قَنَتُّ ، هُوَ دُعَاءٌ وَخَيْرٌ .
وَوَجْهُهُ مَا رُوِيَ عَنْ أُبَيٍّ ، { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُوتِرُ ، فَيَقْنُتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ } .
وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي آخِرِ وِتْرِهِ : { اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ ، وَأَعُوذُ بِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ ، لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ } .
وَكَانَ لِلدَّوَامِ ، وَفِعْلُ أُبَيٍّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ رَآهُ .
وَلَا يُنْكَرُ اخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ فِي هَذَا ، وَلِأَنَّهُ وِتْرٌ ، فَيُشْرَعُ فِيهِ الْقُنُوتُ ،

كَالنِّصْفِ الْآخِرِ ، وَلِأَنَّهُ ذِكْرٌ يُشْرَعُ فِي الْوِتْرِ ، فَيُشْرَعُ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ ، كَسَائِرِ الْأَذْكَارِ .

( 1078 ) فَصْلٌ : وَيَقْنُتُ بَعْدَ الرُّكُوعِ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ ، وَعُمَرَ ، وَعُثْمَانَ ، وَعَلِيٍّ ، وَأَبِي قِلَابَةَ ، وَأَبِي الْمُتَوَكِّلِ ، وَأَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ .
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ : أَنَا أَذْهَبُ إلَى أَنَّهُ بَعْدَ الرُّكُوعِ ، فَإِنْ قَنَتَ قَبْلَهُ ، فَلَا بَأْسَ .
وَنَحْوَ هَذَا قَالَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ ؛ لِمَا رَوَى حُمَيْدٍ ، قَالَ : سُئِلَ أَنَسٌ عَنْ الْقُنُوتِ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ ، فَقَالَ : كُنَّا نَقْنُتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ وَبَعْدَهُ ، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
وَقَالَ مَالِكٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ : يَقْنُتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أُبَيٍّ ، وَابْنِ مَسْعُودٍ ، وَأَبِي مُوسَى ، وَالْبَرَاءِ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَأَنَسٍ ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَعُبَيْدَةَ ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى ، وَحُمَيْدٍ الطَّوِيلِ ؛ لِأَنَّ فِي حَدِيثِ أُبَيٍّ : وَيَقْنُتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ .
وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَنَتَ قَبْلَ الرُّكُوعِ } .
وَلَنَا ، مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ، وَأَنَسٌ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَنَتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
قَالَ الْأَثْرَمُ : سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ؟ فَقَالَ : أَقْنُتُ بَعْدَ الرُّكُوعِ .
وَذَكَرَ حَدِيثَ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ سَعِيدٍ ، وَأَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرُ وَاحِدٍ قَنَتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ .
وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ يَرْوِيهِ أَبَانُ بْنُ أَبِي عَيَّاشٍ ، وَهُوَ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ .
وَحَدِيثُ أُبَيٍّ قَدْ تُكُلِّمَ فِيهِ أَيْضًا ، وَقِيلَ ذِكْرُ الْقُنُوتِ فِيهِ غَيْرُ صَحِيحٍ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( 1079 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ فِي قُنُوتِ الْوِتْرِ مَا رَوَى { الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا ، قَالَ : عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلِمَاتٍ أَقُولُهُنَّ فِي الْوِتْرِ : اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِي مَنْ هَدَيْتَ ، وَعَافِنِي فِي مَنْ عَافَيْتَ وَتَوَلَّنِي فِي مَنْ تَوَلَّيْتَ ، وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ ، وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ ، إنَّكَ تَقْضِي وَلَا يُقْضَى عَلَيْكَ ، وَإِنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ ، وَلَا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ ، تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ } .
أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد ، وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ ، وَلَا نَعْرِفُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقُنُوتِ شَيْئًا أَحْسَنَ مِنْ هَذَا .
وَيَقُولُ مَا رَوَى عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُهُ فِي وِتْرِهِ } وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّهُ قَنَتَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ ، فَقَالَ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَعِينُكَ ، وَنَسْتَهْدِيكَ ، وَنَسْتَغْفِرُكَ ، وَنُؤْمِنُ بِكَ ، وَنَتَوَكَّلُ عَلَيْكَ ، وَنُثْنِي عَلَيْكَ الْخَيْرَ كُلَّهُ ، وَنَشْكُرُكَ ، وَلَا نَكْفُرُكَ ، اللَّهُمَّ إيَّاكَ نَعْبُدُ ، وَلَكَ نُصَلِّي وَنَسْجُدُ ، وَإِلَيْكَ نَسْعَى وَنَحْفِدُ ، وَنَرْجُو رَحْمَتَكَ ، وَنَخْشَى عَذَابَكَ ، إنَّ عَذَابَكَ الْجِدَّ بِالْكُفَّارِ مُلْحِقٌ ، اللَّهُمَّ عَذِّبْ كَفَرَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِكَ } .
وَهَاتَانِ سُورَتَانِ فِي مُصْحَفِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ .
وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ ، بِإِسْنَادِهِ ، عَنْ عُرْوَةَ ، أَنَّهُ قَالَ : قَرَأْت فِي مُصْحَفِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ : " اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَعِينُكَ .
اللَّهُمَّ إيَّاكَ نَعْبُدُ " .
وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ : كَتَبَهُمَا أُبَيٌّ فِي مُصْحَفِهِ .
يَعْنِي إلَى قَوْلِهِ : " بِالْكُفَّارِ مُلْحِقٌ " .
قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ : " نَحْفِدُ " نُبَادِرُ .
وَأَصْلُ الْحَفْدِ : مُدَارَكَةُ الْخَطْوِ وَالْإِسْرَاعُ .
" وَالْجِدُّ "

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71