الكتاب : المغني
المؤلف : أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد ، الشهير بابن قدامة المقدسي

الْمَاءَ الَّذِي فِي الْكُوزِ .
وَلَا مَاءَ فِيهِ .
أَوْ : لَأَقْتُلَنَّ الْمَيِّتَ .
وَقَعَ الطَّلَاقُ فِي الْحَالِ ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ .
وَحَكَى أَبُو الْخَطَّابِ ، عَنْ الْقَاضِي ، أَنَّهُ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ ، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَيَصْعَدَنَّ السَّمَاءَ ، أَوْ لَيُطِيرَنَّ ، فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَحْنَثُ ؛ فَإِنَّ الْحَالِفَ عَلَى فِعْلِ الْمُمْتَنِعِ كَاذِبٌ حَانِثٌ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَأَقْسَمُوا بِاَللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ } إلَى قَوْلِهِ : { وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ } .
وَلَوْ حَلَفَ عَلَى فِعْلٍ مُتَصَوَّرٍ ، فَصَارَ مُمْتَنِعًا ، حَنِثَ بِذَلِكَ ، فَلَأَنْ يَحْنَثَ بِكَوْنِهِ مُمْتَنِعًا حَالَ يَمِينِهِ أَوْلَى .

( 5985 ) فَصْلٌ : وَإِذَا حَلَفَ : لَا شَرِبْت مِنْ هَذَا النَّهْرِ .
فَاغْتَرَفَ مِنْهُ ، وَشَرِبَ ، حَنِثَ .
وَإِنْ حَلَفَ : لَا شَرِبْت مِنْ هَذَا الْإِنَاءِ .
فَصَبَّ مِنْهُ فِي إنَاءٍ آخَرَ ، وَشَرِبَ ، وَكَانَ الْإِنَاءُ كَبِيرًا لَا يُمْكِنُ الشُّرْبُ بِهِ ، حَنِثَ أَيْضًا ، وَإِنْ كَانَ الشُّرْبُ بِهِ مُمْكِنًا ، لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّ الْإِنَاءَ الصَّغِيرَ آلَةٌ لِلشُّرْبِ ، فَتَنْصَرِفُ يَمِينُهُ إلَى الشُّرْبِ بِهِ ، بِخِلَافِ النَّهْرِ وَالْإِنَاءِ الْكَبِيرِ ، فَإِنَّهُ لَا تَنْصَرِفُ يَمِينُهُ إلَّا إلَى الشُّرْبِ مِنْ مَائِهِ .
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ بَرَدَى ، فَشَرِبَ مِنْ نَهْرٍ يَأْخُذُ مِنْهُ ، لَمْ يَحْنَثْ .
وَإِنْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ مَاءِ بَرَدَى ، فَشَرِبَ مِنْ نَهْرٍ يَأْخُذُ مِنْهُ ، حَنِثَ .
ذَكَرَ نَحْوَ ذَلِكَ الْقَاضِي ؛ لِأَنَّ بَرَدَى اسْمٌ لَمَكَانٍ خَاصٍّ ، فَإِذَا تَجَاوَزَهُ إلَى مَكَان سِوَاهُ ، فَشَرِبَ مِنْهُ ، فَمَا شَرِبَ مِنْ بَرَدَى ، وَإِذَا كَانَتْ يَمِينُهُ عَلَى مَائِهِ ، فَمَاؤُهُ مَاؤُهُ حَيْثُ كَانَ ، وَأَيْنَ نُقِلَ .
وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ تَمْرِ الْبَصْرَةِ ، فَأَكَلَهُ فِي غَيْرِهَا ، حَنِثَ .
وَإِنْ اغْتَرَفَ مِنْ بَرَدَى بِإِنَاءٍ ، وَنَقَلَهُ إلَى مَكَان آخَرَ ، فَشَرِبَهُ ، حَنِثَ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ اغْتِرَافَ الْمَاءِ مِنْ بَرَدَى .
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ مَاءِ الْفُرَاتِ ، لَمْ يَحْنَثْ إلَّا بِالشُّرْبِ مِنْ مَاءِ النَّهْرِ الْمَعْرُوفِ بِالْفُرَاتِ .
وَإِنْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ مَاءِ فُرَاتٍ ، حَنِثَ بِالشُّرْبِ مِنْ كُلِّ مَاءٍ عَذْبٍ ؛ لِأَنَّهُ إذَا عَرَّفَهُ فَاللَّامُ التَّعْرِيفِ انْصَرَفَ إلَى النَّهْرِ الْمَعْرُوفِ ، وَإِذَا أَنْكَرَهُ صَارَ لِلْعُمُومِ ، فَيَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا يُسَمَّى فُرَاتًا ، وَكُلُّ عَذْبٍ فُرَاتٌ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا } .
وَقَالَ : { وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ } .
وَمَتَى نَوَى بِيَمِينِهِ الْمُحْتَمَلَ الْآخَرَ ، انْصَرَفَ إلَيْهِ ، وَيُقْبَلُ مِنْهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ قَرِيبٌ لَا تَبْعُدُ إرَادَتُهُ .

( 5986 ) فَصْلٌ : وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْتُمُهُ ، وَلَا يُكَلِّمُهُ فِي الْمَسْجِدِ ، فَفَعَلَ ذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ ، وَالْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ فِي غَيْرِهِ ، حَنِثَ ، وَإِنْ فَعَلَهُ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ ، وَالْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ ، لَمْ يَحْنَثْ .
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَضْرِبُهُ ، وَلَا يَشُجُّهُ ، وَلَا يَقْتُلُهُ فِي الْمَسْجِدِ ، فَفَعَلَهُ ، وَالْحَالِفُ فِي الْمَسْجِدِ ، وَالْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ فِي غَيْرِهِ ، لَمْ يَحْنَثْ ، وَإِنْ كَانَ الْحَالِفُ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ ، وَالْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ ، حَنِثَ ؛ لِأَنَّ الشَّتْمَ وَالْكَلَامَ قَوْلٌ يَسْتَقِلُّ بِهِ الْقَائِلُ ، فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ حُضُورُ الْمَشْتُومِ ، فَيُوجَدُ مِنْ الشَّاتِم فِي الْمَسْجِدِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَشْتُومُ فِيهِ ، وَالْكَلَامُ قَوْلٌ ؛ فَهُوَ كَالشَّتْمِ ، وَسَائِرِ الْأَفْعَالِ الْمَذْكُورَةِ فِعْلٌ مُتَعَدٍّ مَحِلُّهُ الْمَضْرُوبُ وَالْمَقْتُولُ وَالْمَشْجُوجُ ، فَإِذَا كَانَ مَحَلُّهُ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ كَانَ الْفِعْلُ فِي غَيْرِهِ ، فَيُعْتَبَرُ مَحَلُّ الْمَفْعُولِ بِهِ .
وَلَوْ حَلَفَ لَيَقْتُلَنَّهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، فَجَرَحَهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ ، وَمَاتَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ .
فَقَالَ الْقَاضِي : لَا يَحْنَثُ .
وَإِنْ جَرَحَهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَمَاتَ يَوْمَ السَّبْتِ ، فَقَالَ : يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مَقْتُولًا حَتَّى يَمُوتَ ، فَاعْتُبِرَ يَوْمُ مَوْتِهِ لَا يَوْمُ ضَرْبِهِ .
وَيَتَوَجَّهُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ بِالْعَكْسِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ ، فَيُعْتَبَرَ يَوْمُ جَرْحِهِ لَا يَوْمُ مَوْتِهِ ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ فِعْلُ الْقَاتِلِ ، وَلِهَذَا يَصِحُّ الْأَمْرُ بِهِ وَالنَّهْيُ عَنْهُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } .
{ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ } .
وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ إنَّمَا يَتَوَجَّهُ إلَى فِعْلٍ مُمْكِنٍ فِعْلُهُ وَتَرْكُهُ ، وَذَلِكَ فِعْلُ الْآدَمِيِّ مِنْ الْجَرْحِ وَنَحْوِهِ ، أَمَّا الزَّهُوقُ فَفِعْلُ اللَّهِ تَعَالَى لَا يُؤْمَرُ بِهِ ، وَلَا يُنْهَى عَنْهُ ، وَلَا سَبِيلَ لِلْآدَمِيِّ إلَّا تَعَاطِي سَبَبِهِ ، وَهُوَ شَرْطٌ فِي الْقَتْلِ ، فَإِذَا وُجِدَ تَبَيَّنَّا

أَنَّ الْفِعْلَ الْمُفْضِيَ إلَيْهِ كَانَ قَتْلًا ، وَلِذَلِكَ جَازَ تَقْدِيمُ الْكَفَّارَةِ بَعْدَ الْجَرْحِ ، وَقَبْلَ الزَّهُوق .
وَلَوْ حَلَفَ لَأَقْتُلَنَّهُ ، فَمَاتَ مِنْ جُرْحٍ كَانَ جَرَحَهُ ، لَمْ يَبَرَّ .
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَقْتُلُهُ ، لَمْ يَحْنَثْ بِذَلِكَ أَيْضًا .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَبَرَّ حَتَّى يُوجَدَ السَّبَبُ وَالزَّهُوقُ مَعًا فِي يَوْمٍ ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِسَبَبِهِ وَشَرْطِهِ ، فَأَمَّا بِنِسْبَتِهِ إلَى الشَّرْطِ وَحْدَهُ دُونَ السَّبَبِ ، فَبَعِيدٌ .

( 5987 ) فَصْلٌ : إذَا قَالَ : مَنْ بَشَّرَتْنِي بِقُدُومِ أَخِي ، فَهِيَ طَالِقٌ ، فَبَشَّرَتْهُ إحْدَاهُنَّ ، وَهِيَ صَادِقَةٌ ، طَلُقَتْ ، وَإِنْ كَانَتْ كَاذِبَةً ، لَمْ تَطْلُقْ ؛ لِأَنَّ التَّبْشِيرَ خَبَرُ صِدْقٍ ، يَحْصُلُ بِهِ مَا يُغَيِّرُ الْبَشَرَةَ مِنْ سُرُورٍ أَوْ غَمٍّ .
وَإِنْ أَخْبَرَتْهُ بِهِ أُخْرَى ، لَمْ تَطْلُقْ ؛ لِأَنَّ السُّرُورَ إنَّمَا يَحْصُلُ بِالْخَبَرِ الْأَوَّلِ ، فَإِنْ كَانَتْ الْأُولَى كَاذِبَةً ، وَالثَّانِيَةُ صَادِقَةً ، طَلُقَتْ الثَّانِيَةُ ؛ لِأَنَّ السُّرُورَ إنَّمَا يَحْصُلُ بِخَبَرِهَا ، فَكَانَ هُوَ الْبِشَارَةَ .
وَإِنْ بَشَّرَهُ بِذَلِكَ اثْنَتَانِ ، أَوْ ثَلَاثٌ ، أَوْ الْأَرْبَعُ فِي دَفْعَةٍ وَاحِدَةٍ ، طَلُقْنَ كُلُّهُنَّ ؛ لِأَنَّ " مَنْ " تَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ فَمَا زَادَ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } .
وَقَالَ { وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ } .
وَلَوْ قَالَ : مَنْ أَخْبَرَتْنِي بِقُدُومِ أَخِي ، فَهِيَ طَالِقٌ .
فَقَالَ الْقَاضِي : هُوَ كَالْبِشَارَةِ ، لَا تَطْلُقُ إلَّا الْمُخْبِرَةُ الْأُولَى الصَّادِقَةُ دُونَ غَيْرِهَا ؛ لِأَنَّ مُرَادَهُ خَبَرٌ يَحْصُلُ لَهُ بِهِ الْعِلْمُ بِقُدُومِهِ ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِكَذِبٍ ، وَلَا بِغَيْرِ الْأَوَّلِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَطْلُقَ كُلُّ مُخْبِرَةٍ ، صَادِقَةً كَانَتْ أَوْ كَاذِبَةً ، أَوَّلًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ يَكُونُ صِدْقًا وَكَذِبًا ، وَأَوَّلًا وَمُكَرَّرًا .
وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي الْخَطَّابِ .
وَالْأَوَّلُ قَوْلُ الْقَاضِي .
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ عَلَى نَحْوِ هَذَا التَّفْصِيلِ .

( 5988 ) فَصْلٌ : وَإِنْ قَالَ : أَوَّلُ مَنْ تَقُومُ مِنْكُنَّ ، فَهِيَ طَالِقٌ .
أَوْ قَالَ لِعَبِيدِهِ : أَوَّلُ مَنْ قَامَ مِنْكُمْ ، فَهُوَ حُرٌّ .
فَقَامَ الْكُلُّ دَفْعَةً وَاحِدَةً ، لَمْ يَقَعْ طَلَاقٌ وَلَا عِتْقٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا أَوَّلَ فِيهِمْ .
وَإِنْ قَامَ وَاحِدٌ أَوْ وَاحِدَةٌ ، وَلَمْ يَقُمْ بَعْدَهُ أَحَدٌ ، احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا ، يَقَعُ الطَّلَاقُ وَالْعِتْقُ ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ مَا لَمْ يَسْبِقْهُ شَيْءٌ ، وَهَذَا كَذَلِكَ .
وَالثَّانِي ، لَا يَقَعُ طَلَاقٌ وَلَا عِتْقٌ ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ مَا كَانَ بَعْدَهُ شَيْءٌ ، وَلَمْ يُوجَدْ .
فَعَلَى هَذَا لَا يُحْكَمُ بِوُقُوعِ ذَلِكَ وَلَا انْتِفَائِهِ ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ مِنْ قِيَامِ أَحَدٍ مِنْهُمْ بَعْدَهُ ، فَتَنْحَلُّ يَمِينُهُ ، وَإِنْ قَامَ اثْنَانِ ، أَوْ ثَلَاثَةٌ ، دَفْعَةً وَاحِدَةً ، وَقَامَ بَعْدَهُمْ آخَرُ ، وَقَعَ الطَّلَاقُ وَالْعِتْقُ بِالْجَمَاعَةِ الَّذِينَ قَامُوا فِي الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ يَقَعُ عَلَى الْكَثِيرِ وَالْقَلِيلِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ } .
وَحُكِيَ عَنْ الْقَاضِي فِي مَنْ قَالَ : أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ مِنْ عَبِيدِي ، فَهُوَ حُرٌّ .
فَدَخَلَ اثْنَانِ دَفْعَةً وَاحِدَةً ، ثُمَّ دَخَلَ بَعْدَهُمَا ، ثَالِثٌ ، لَمْ يَعْتِقْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ .
وَهَذَا بَعِيدٌ ؛ فَإِنَّهُمْ قَدْ دَخَلَ بَعْضُهُمْ بَعْدَ بَعْضٍ ، وَلَا أَوَّلَ فِيهِمْ ، وَهَذَا لَا يَسْتَقِيمُ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَالَ : أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ مِنْكُمْ وَحْدَهُ .
وَلَمْ يَدْخُلْ بَعْدَ الثَّالِثِ أَحَدٌ ؛ فَإِنَّهُ لَوْ دَخَلَ بَعْدَ الثَّالِثِ أَحَدٌ ، عَتَقَ الثَّالِثُ ، لِكَوْنِهِ أَوَّلِ مَنْ دَخَلَ وَحْدَهُ ، وَإِذَا لَمْ يَقُلْ وَحْدَهُ ، فَإِنَّ لَفْظَةَ " الْأَوَّلِ " تَتَنَاوَلُ الْجَمَاعَةَ كَمَا ذَكَرْنَا وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ } .
وَلَوْ قَالَ : آخِرُ مَنْ يَدْخُلُ مِنْكُنَّ الدَّارَ ، فَهِيَ طَالِقٌ .
فَدَخَلَ بَعْضُهُنَّ ، لَمْ يُحْكَمْ بِطَلَاقِ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ مِنْ دُخُولِ غَيْرِهَا بِمَوْتِهِ ، أَوْ مَوْتِهِنَّ

، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ، فَيَتَبَيَّنُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ بِآخِرِهِنَّ دُخُولًا ، مِنْ حِينَ دَخَلَتْ ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْعِتْقِ .

( 5989 ) فَصْلٌ : وَإِذَا حَلَفَ يَمِينًا عَلَى فِعْلٍ بِلَفْظٍ عَامٍّ ، وَأَرَادَ بِهِ شَيْئًا خَاصًّا ؛ مِثْل إنْ حَلَفَ لَا يَغْتَسِلُ اللَّيْلَةَ ، وَأَرَادَ الْجَنَابَة ، أَوْ : لَا قَرُبْت لِي فِرَاشًا .
وَأَرَادَ تَرْكَ جِمَاعِهَا .
أَوْ قَالَ : إنْ تَزَوَّجْت ، فَعَبْدِي حُرٌّ .
وَأَرَادَ امْرَأَةً مُعَيَّنَةً .
أَوْ قَالَ : إنْ دَخَلَ إلَيَّ رَجُلٌ .
أَوْ قَالَ : أَحَدٌ ، فَامْرَأَتِي طَالِقٌ .
وَأَرَادَ رَجُلًا بِعَيْنِهِ .
أَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ خُبْزًا .
يُرِيدُ خُبْزَ الْبُرِّ .
أَوْ لَا يَدْخُلُ دَارًا ، يُرِيدُ دَارَ فُلَانٍ .
أَوْ قَالَ : إنْ خَرَجْت فَأَنْتِ طَالِقٌ .
يُرِيدُ الْخُرُوجَ إلَى الْحَمَّامِ .
أَوْ قَالَ : إنْ مَشَيْت .
وَأَرَادَ اسْتِطْلَاقَ الْبَطْنِ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يُسَمَّى مَشْيًا ، { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِامْرَأَةٍ : ثُمَّ تَسْتَمْشِينَ } .
وَيُقَالُ : شَرِبَتْ مَشْيًا ، وَمَشْوًا .
إذَا شَرِبَ دَوَاءً يُمْشِيهِ ، فَإِنَّ يَمِينَهُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا نَوَاهُ ، وَيَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى .
وَهَلْ يُقْبَلُ فِي الْحُكْمِ ؟ يُخَرَّجُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ .
قَالَ أَحْمَدُ فِي الظِّهَارِ ، فِي مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : إنْ قَرُبْت لِي فِرَاشًا ، فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظُهْرِ أُمِّي ، فَجَاءَتْ فَقَامَتْ عَلَى فِرَاشِهِ ، فَقَالَ : أَرَدْت الْجِمَاعَ .
لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الْحُكْمِ فِي هَذَا كُلِّهِ ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ فَسَّرَ كَلَامَهُ بِمَا يَحْتَمِلُهُ ، فَقُبِلَ ، كَمَا لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ ، أَنْتِ طَالِقٌ .
وَقَالَ : أَرَدْت بِالثَّانِيَةِ التَّوْكِيدَ .

( 5990 ) فَصْلٌ : وَإِنْ حَلَفَ يَمِينًا عَامَّةً ، لِسَبَبٍ خَاصٍّ ، وَلَهُ نِيَّةٌ ، حُمِلَ عَلَيْهَا ، وَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الْحُكْمِ ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ دَلِيلٌ عَلَى صِدْقِهِ .
وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَد مَا يَدُلُّ عَلَى أَنْ يَمِينَهُ تَخْتَصُّ بِمَا وُجِدَ فِيهِ السَّبَبُ .
وَذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ ، فَقَالَ : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ ، رُجِعَ إلَى سَبَبِ الْيَمِينِ وَمَا هَيَّجَهَا .
فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ يَمِينَهُ مَقْصُورَةٌ عَلَى مَحَلِّ السَّبَبِ .
وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ يَمِينَهُ تُحْمَلُ عَلَى الْعُمُومِ ؛ فَإِنَّهُ قَالَ ، فِي مَنْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ لَا أَصِيدَ فِي هَذَا النَّهْرِ .
لِظُلْمٍ رَآهُ ، فَتَغَيَّرَ حَالُهُ ، فَقَالَ : النَّذْرُ يُوَفَّى بِهِ .
وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّفْظَ دَلِيلُ الْحُكْمِ ، فَيَجِبُ الِاعْتِبَارُ بِهِ فِي الْخُصُوصِ وَالْعُمُومِ ، كَمَا فِي لَفْظِ الشَّارِعِ .
وَوَجْهُ الْأَوَّلِ ، أَنَّ السَّبَبَ الْخَاصَّ يَدُلُّ عَلَى قَصْدِ الْخُصُوصِ ، وَيَقُومُ مَقَامَ النِّيَّةِ عِنْدَ عَدَمِهَا ؛ لِدَلَالَتِهِ عَلَيْهَا ، فَوَجَبَ أَنْ يَخْتَصَّ بِهِ اللَّفْظُ الْعَامُّ كَالنِّيَّةِ ، وَفَارَقَ لَفْظَ الشَّارِعِ ؛ فَإِنَّهُ يُرِيدُ بَيَانَ الْأَحْكَامِ ، فَلَا يَخْتَصُّ بِمَحَلِّ السَّبَبِ ، لِكَوْنِ الْحَاجَةِ دَاعِيَةً إلَى مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ فِي غَيْرِ مَحَلِّ السَّبَبِ .
فَعَلَى هَذَا ، لَوْ قَامَتْ امْرَأَتُهُ لِتَخْرُجَ ، فَقَالَ : إنْ خَرَجْت فَأَنْتِ طَالِقٌ .
فَرَجَعَتْ ، ثُمَّ خَرَجَتْ بَعْد ذَلِكَ ، أَوْ دَعَاهُ إنْسَانٌ إلَى غَدَائِهِ ، فَقَالَ : امْرَأَتِي طَالِقٌ إنْ تَغَدَّيْت .
ثُمَّ رَجَعَ فَتَغَدَّى فِي مَنْزِلِهِ ، لَمْ يَحْنَثْ عَلَى الْأَوَّلِ ، وَيَحْنَثُ عَلَى الثَّانِي .
وَإِنْ حَلَفَ لِعَامِلٍ أَنْ لَا يَخْرُجَ إلَّا بِإِذْنِهِ ، أَوْ حَلَفَ بِذَلِكَ عَلَى امْرَأَتِهِ أَوْ مَمْلُوكِهِ ، فَعَزَلَ الْعَامِلَ ، وَطَلَّقَ الْمَرْأَةَ ، وَبَاعَ الْمَمْلُوكَ ، أَوْ حَلَفَ عَلَى وَكِيلٍ فَعَزَلَهُ ، خُرِّجَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ وَجْهَانِ .

( 5991 ) فَصْلٌ : وَإِنْ قَالَ : إنْ دَخَلَ دَارِي أَحَدٌ ، فَامْرَأَتِي طَالِقٌ .
فَدَخَلَهَا هُوَ .
أَوْ قَالَ لِإِنْسَانٍ : إنْ دَخَلَ دَارَك أَحَدٌ ، فَعَبْدِي حُرٌّ .
فَدَخَلَهَا صَاحِبُهَا ، فَقَالَ الْقَاضِي : لَا يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّ قَرِينَةَ حَالِ الْمُتَكَلِّم تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا يَحْلِفُ عَلَى غَيْرِهِ ، وَيَمْنَعُ مَنْ سِوَاهُ ، فَيَخْرُجُ هُوَ مِنْ الْعُمُومِ بِالْقَرِينَةِ ، وَيَخْرُجُ الْمُخَاطَبُ مِنْ الْيَمِينِ بِهَا أَيْضًا .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَحْنَثَ أَخْذًا بِعُمُومِ اللَّفْظِ ، وَإِعْرَاضًا عَنْ السَّبَبِ ، كَمَا فِي الَّتِي قَبْلَهَا .

( 5992 ) فَصْلٌ : وَإِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ : إنْ وَطِئْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ .
انْصَرَفَتْ يَمِينُهُ إلَى جِمَاعِهَا .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْن الْحَسَنِ يَمِينُهُ عَلَى الْوَطْءِ بِالْقَدَمِ ؛ لِأَنَّهُ الْحَقِيقَةُ .
وَحُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَوْ قَالَ : أَرَدْت بِهِ الْجِمَاعَ .
لَمْ يُقْبَلْ فِي الْحُكْمِ .
وَلَنَا ، أَنَّ الْوَطْءَ إذَا أُضِيفَ إلَى الْمَرْأَةِ ، كَانَ فِي الْعُرْفِ عِبَارَةً عَنْ الْجِمَاعِ ؛ وَلِهَذَا يُفْهَمُ مِنْهُ الْجِمَاعُ فِي لَفْظِ الشَّارِعِ ، فِي مِثْلِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ ، وَلَا حَائِلٌ حَتَّى تُسْتَبْرَأَ بِحَيْضَةٍ } .
فَيَجِبُ حَمْلُهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ عَلَيْهِ ، كَسَائِرِ الْأَسْمَاءِ الْعُرْفِيَّةِ ، مِنْ الظَّعِينَةِ ، وَالرَّاوِيَةِ ، وَأَشْبَاهِهِمَا .
وَلَا يَحْنَثُ حَتَّى تَغِيبَ الْحَشَفَةُ فِي الْفَرْجِ .
وَإِنْ حَلَفَ لَيُجَامِعَهَا ، أَوْ لَا يُجَامِعُهَا ، انْصَرَفَ إلَى الْوَطْءِ فِي الْفَرْجِ ، وَلَمْ يَحْنَثْ بِالْجِمَاعِ دُونَ الْفَرْجِ ، وَإِنْ أَنْزَلَ ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الْأَيْمَانِ عَلَى الْعُرْفِ ، وَالْعُرْفُ مَا قُلْنَاهُ .
وَإِنْ حَلَفَ لَافْتَضَضْتُك ، فَافْتَضَّهَا بِأُصْبُعٍ ، لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّ الْمَعْهُودَ مِنْ إطْلَاقِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ وَطْءُ الْبِكْرِ .
وَإِنْ حَلَفَ عَلَى امْرَأَةٍ لَا يَمْلِكُهَا ، أَنْ لَا يَنْكِحَهَا ، فَيَمِينُهُ عَلَى الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَ النِّكَاحِ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ .
وَإِنْ كَانَ مَالِكًا لَهَا بِنِكَاحٍ أَوْ مِلْكِ يَمِينٍ ، فَهُوَ عَلَى وَطْئِهَا ؛ لِأَنَّ قَرِينَةَ الْحَالِ صَارِفَةٌ عَنْ الْعَقْدِ عَلَيْهَا ؛ لِكَوْنِهَا مَعْقُودًا عَلَيْهَا .

( 5993 ) فَصْلٌ : وَإِنْ قَالَ : إنْ أَمَرْتُك فَخَالَفْتنِي ، فَأَنْتِ طَالِقٌ .
ثُمَّ نَهَاهَا ، فَخَالَفَتْهُ ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : لَا يَحْنَثُ .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهَا خَالَفَتْ نَهْيَهُ لَا أَمْرَهُ .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : يَحْنَثُ ، إذَا قَصَدَ أَنْ لَا تُخَالِفَهُ ، أَوْ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَعْرِفُ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ كَذَلِكَ ، فَإِنَّمَا يُرِيدُ نَفْيَ الْمُخَالَفَةِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَطْلُقَ بِكُلِّ حَالٍ ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ ، وَالنَّهْيَ عَنْهُ أَمْرٌ بِضِدِّهِ ، فَقَدْ خَالَفَتْ أَمْرَهُ .
وَإِنْ قَالَ لَهَا : إنْ نَهَيْتنِي عَنْ نَفْعِ أُمِّي ، فَأَنْتِ طَالِقٌ .
فَقَالَتْ لَهُ : لَا تُعْطِهَا مِنْ مَالِي شَيْئًا .
لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّ إعْطَاءَهَا مِنْ مَالِهَا لَا يَجُوزُ ، وَلَا يَجُوزُ النَّفْعُ بِهِ ، فَيَكُونُ هَذَا النَّفْعُ مُحَرَّمًا ، فَلَا يَتَنَاوَلُهُ يَمِينُهُ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَحْنَثَ ؛ لِأَنَّهُ نَفْعٌ ، وَلَفْظُهُ عَامٌّ ، فَيَدْخُلُ الْمُحَرَّمُ فِيهِ .

( 5994 ) فَصْلٌ : فَإِنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : إنْ خَرَجْت إلَى غَيْرِ الْحَمَّامِ ، فَأَنْتِ طَالِقٌ .
فَخَرَجَتْ إلَى غَيْرِ الْحَمَّامِ ، طَلُقَتْ ، سَوَاءٌ عَدَلَتْ إلَى الْحَمَّامِ ، أَوْ لَمْ تَعْدِل .
وَإِنْ خَرَجَتْ إلَى الْحَمَّامِ ، ثُمَّ عَدَلَتْ إلَى غَيْرِهِ ، فَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْيَمِينِ الْمَنْعُ مِنْ غَيْرِ الْحَمَّامِ ، فَكَيْفَمَا صَارَتْ إلَيْهِ حَنِثَ ، كَمَا لَوْ خَالَفَتْ لَفْظَهُ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَحْنَثَ .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَفْعَلْ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ وَيَتَنَاوَلُهُ لَفْظُهُ .
وَإِنْ خَرَجَتْ إلَى الْحَمَّامِ وَغَيْرِهِ ، وَجَمَعَتْهُمَا فِي الْقَصْدِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّهَا خَرَجَتْ إلَى غَيْرِ الْحَمَّامِ ، وَانْضَمَّ إلَيْهِ غَيْرُهُ ، فَحِنْث بِمَا حَلَفَ عَلَيْهِ ، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ زَيْدًا ، فَكَلَّمَ زَيْدًا وَعَمْرًا .
وَالثَّانِي ، لَا يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّهَا مَا خَرَجَتْ إلَى غَيْرِ الْحَمَّامِ ، بَلْ الْخُرُوجُ مُشْتَرَكٌ .
وَنَقَلَ الْفَضْلُ بْنُ زِيَادٍ ، عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهُ سُئِلَ : إذَا حَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ بَغْدَادَ إلَّا لِنُزْهَةٍ .
فَخَرَجَ إلَى النُّزْهَةِ ، ثُمَّ مَرَّ إلَى مَكَّةَ ، فَقَالَ : النُّزْهَةُ لَا تَكُونُ إلَى مَكَّةَ .
فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ أَحْنَثَهُ ، وَوَجْهُهُ مَا تَقَدَّمَ ، وَقَالَ ، فِي رَجُلٍ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَنْ لَا يَأْتِي أَرْمِينِيَةَ إلَّا بِإِذْنِ امْرَأَتِهِ .
فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ : اذْهَبْ حَيْثُ شِئْت .
فَقَالَ : لَا ، حَتَّى تَقُولَ : إلَى أَرْمِينِيَةَ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَتَى أَذِنَتْ لَهُ إذْنًا عَامًّا ، لَمْ يَحْنَثْ .
قَالَ الْقَاضِي : وَهَذَا مِنْ كَلَامِ أَحْمَدَ ، مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ هَذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَضَبِ وَالْكَرَاهَةِ ، وَلَوْ قَالَتْ هَذَا بِطِيبِ قَلْبِهَا ، كَانَ إذْنًا مِنْهَا ، وَلَهُ الْخُرُوجُ ، وَإِنْ كَانَ بِلَفْظٍ عَامٍّ .

( 5995 ) فَصْلٌ : فَإِنْ حَلَفَ لَيَرْحَلَنَّ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ ، أَوْ لَيَخْرُجَنَّ مِنْ هَذِهِ الْمَدِينَةِ .
فَفَعَلَ ثُمَّ عَادَ إلَيْهَا ، لَمْ يَحْنَثْ ، إلَّا أَنْ تَكُونَ نِيَّتُهُ أَوْ سَبَبُ يَمِينِهِ يَقْتَضِي عَدَمَ الرُّجُوعِ إلَيْهَا ؛ لِأَنَّ الْحَلِفَ عَلَى الْخُرُوجِ وَالرَّحِيلِ ، وَقَدْ فَعَلَهُمَا .
وَقَدْ نَقَلَ عَنْهُ إسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ ، إذَا حَلَفَ عَلَى رَجُلٍ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ بَغْدَادَ ، فَخَرَجَ ثُمَّ رَجَعَ : قَدْ مَضَتْ يَمِينُهُ ، لَا شَيْءَ عَلَيْهِ .
وَنَقَلَ عَنْهُ مُثَنَّى بْنُ جَامِعٍ ، فِي مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ ، إنْ لَمْ نَرْحَلْ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ : إنْ لَمْ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ ، وَلَمْ يَنْوِ شَيْئًا ، هِيَ إلَى أَنْ تَمُوتَ ، فَإِنْ رَحَلَ لَمْ يَرْجِعْ .
وَمَعْنَى هَذَا ، أَنَّهُ إنْ أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ قَبْلَ إمْكَانِ الرَّحِيلِ ، لَمْ يَحْنَثْ ، وَإِنْ أَمْكَنَهُ الرَّحِيلُ ، فَلَمْ يَفْعَلْ ، لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَمُوتَ أَحَدُهُمَا ، فَيَقَعَ بِهَا الطَّلَاقُ فِي آخِرِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنْ رَحَلَ لَمْ يَرْجِعْ .
فَمَحْمُولٌ عَلَى مَنْ كَانَ لِيَمِينِهِ سَبَبٌ يَقْتَضِي هِجْرَانَ الدَّارِ عَلَى الدَّوَامِ .
وَنَقَلَ مُهَنَّا ، فِي رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : إنْ وَهَبْت كَذَا فَأَنْتِ طَالِقٌ .
فَإِذَا هِيَ قَدْ وَهَبَتْ .
قَالَ : أَخَافُ أَنْ يَكُونَ قَدْ حَنِثَ .
قَالَ الْقَاضِي : هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ قَالَ : إنْ كُنْت وَهَبْته .
وَإِلَّا فَلَا يَحْنَثُ حَتَّى تَبْتَدِئَ هِبَتَهُ ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ تَقْتَضِي فِعْلًا مُسْتَقْبِلًا يَحْنَثُ بِهِ ، وَمَا فَعَلَتْ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ بَعْدَ يَمِينِهِ .
وَنُقِلَ عَنْهُ أَيْضًا ، فِي رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : إنْ رَأَيْتُك تَدْخُلِينَ الدَّارِ ، فَأَنْتِ طَالِقٌ : فَهُوَ عَلَى نِيَّتِهِ ، إنْ أَرَادَ أَنْ لَا تَدْخُلَهَا حَنِثَ ، وَإِنْ كَانَ نَوَى إذَا رَآهَا ، لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَرَاهَا تَدْخُلُ .
وَهُوَ كَمَا قَالَ ؛ فَإِنَّ مَبْنَى الْيَمِينِ عَلَى النِّيَّات ، سِيَّمَا وَالرُّؤْيَةُ تُطْلَقُ عَلَى الْعِلْمِ ، كَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ } .

وَنَحْوِهِ .
وَمَتَى لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ وَلَا هُنَاكَ سَبَبٌ يَدُلُّ عَلَى إرَادَتِهِ مَعَ الدُّخُولِ بِمُجَرَّدِهِ ، لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَرَاهَا تَدْخُلُ الدَّارَ ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي تَنَاوَلَهُ لَفْظُهُ .
وَنَقَلَ عَنْهُ الْمَرْوِيُّ ، فِي رَجُلٍ أَقْرَضَ رَجُلًا دَرَاهِمَ ، فَحَلَفَ أَنْ لَا يَقْبَلَهَا ، وَكَانَ الرَّجُلُ مَيِّتًا : تُعْطَى الْوَرَثَةُ .
يَعْنِي إذَا مَاتَ الْحَالِفُ يُوَفَّى الْوَرَثَةُ ، وَلَا يَبْرَأُ بِيَمِينِهِ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ إبْرَاءً ، فَلَا يَسْقُطُ الْحَقُّ بِهَا .

( 5996 ) فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ : امْرَأَتِي طَالِقٌ ، إنْ كُنْت أَمْلِكُ إلَّا مِائَةً .
وَكَانَ يَمِلْك أَكْثَرَ مِنْ مِائَةٍ ، أَوْ أَقَلِّ ، حَنِثَ .
فَإِنْ نَوَى أَنِّي لَا أَمْلِكُ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةٍ ، لَمْ يَحْنَثْ بِمِلْكِ مَا دُونَهَا .
وَإِنْ قَالَ : إنْ كُنْت أَمْلِكُ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةٍ ، فَامْرَأَتِي طَالِقٌ .
وَكَانَ يَمْلِكُ أَقَلَّ مِنْ الْمِائَةِ ، لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّهُ صَادِقٌ .

( 5997 ) فَصْلٌ : فَإِنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : يَا طَالِقُ ، أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ طَلُقَتْ وَاحِدَةً بِقَوْلِهِ : يَا طَالِقُ .
وَبَقِيَتْ أُخْرَى مُعَلَّقَةً بِدُخُولِ الدَّارِ .
وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا يَا طَالِقُ ، إنْ دَخَلْت الدَّارَ .
فَإِنْ كَانَتْ لَهُ نِيَّةٌ ، رَجَعَ إلَيْهَا ، وَإِلَّا وَقَعَتْ وَاحِدَةً بِالنِّدَاءِ ، وَبَقِيت الثَّلَاثُ مُعَلَّقَةً عَلَى دُخُولِ الدَّارِ .
وَكَذَا لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ يَا زَانِيَةُ ، إنْ دَخَلْت الدَّارَ .
وَعَادَ الشَّرْطُ إلَى الطَّلَاقِ ، دُونَ الْقَذْفِ .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : يَرْجِعُ الشَّرْطُ إلَيْهِمَا فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ ، فَلَا يَقَعُ بِهَا فِي الْحَالِ شَيْءٌ .
وَالْأَوْلَى أَنْ يَرْجِعَ الشَّرْطُ إلَى الْخَبَرِ الَّذِي يَصِحُّ فِيهِ التَّصْدِيقُ وَالتَّكْذِيبُ ، وَجَرَتْ الْعَادَةُ بِتَعْلِيقِهِ بِالشَّرْطِ ، بِخِلَافِ النِّدَاءِ وَالْقَذْفِ ، الَّذِي لَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِيهِ .

( 5998 ) فَصْلٌ : فَإِنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ مَرِيضَةً .
بِالنَّصْبِ ، أَوْ الرَّفْعِ ، وَنَوَى بِهِ وَصْفَهَا بِالْمَرَضِ فِي الْحَالِ ، طَلُقَتْ فِي الْحَالِ .
وَإِنْ نَوَى بِهِ أَنْتِ طَالِقٌ فِي حَالِ مَرَضِك .
لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى تُمَرَّضَ ؛ لِأَنَّ هَذَا حَالٌ ، وَالْحَالُ مَفْعُولٌ فِيهِ ، كَالظَّرْفِ ، وَيَكُونُ الرَّفْعُ لَحْنًا ؛ لِأَنَّ الْحَالَ مَنْصُوبٌ .
وَإِنْ أَطْلَقَ وَنَصَبَ ، انْصَرَفَ إلَى الْحَالِ ؛ لِأَنَّ مَرِيضَةً اسْمٌ نَكِرَةٌ ، جَاءَ بَعْدَ تَمَامِ الْكَلَامِ وَصْفًا لِمَعْرِفَةٍ ، فَيَكُونُ حَالًا ، وَإِنْ رَفَعَ ، فَالْأَوْلَى وُقُوعُ الطَّلَاقِ فِي الْحَالِ ، وَيَكُونُ ذَلِكَ وَصْفًا لِطَالِقٍ ، الَّذِي هُوَ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ ، وَإِنْ أَسْكَنَ احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا ؛ وُقُوعُ الطَّلَاقِ فِي الْحَالِ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ : أَنْتِ طَالِقٌ .
يَقْتَضِي وُقُوعَ الطَّلَاقِ فِي الْحَالِ ، فَقَدْ تَيَقَّنَّا وُجُودَ الْمُقْتَضِي ، وَشَكَكْنَا فِيمَا يَمْنَعُ حُكْمَهُ ، فَلَا نَزُولَ عَنْ الْيَقِينِ بِالشَّكِّ .
وَالثَّانِي ، لَا يَقَعُ إلَّا فِي حَالِ مَرَضِهَا ؛ لِأَنَّ ذِكْرَهُ لِلْمَرَضِ فِي سِيَاقِ الطَّلَاقِ يَدُلُّ عَلَى تَعْلِيقِهِ بِهِ ، وَتَأْثِيرِهِ فِيهِ ، وَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ إلَّا إذَا كَانَ حَالًا .

( 5999 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَإِذَا قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ إذَا قَدِمَ فُلَانٌ .
فَقَدِمَ بِهِ مَيِّتًا ، أَوْ مُكْرَهًا ، لَمْ تَطْلُقْ ) أَمَّا إذَا قَدِمَ بِهِ مَيِّتًا ، أَوْ مُكْرَهًا مَحْمُولًا ، فَلَا تَطْلُقُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْدَمْ ، إنَّمَا قَدِمَ بِهِ .
وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ .
وَنُقِلَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ ، أَنَّهُ يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ يُنْسَبُ إلَيْهِ ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ : دَخَلَ الطَّعَامُ الْبَلَدَ .
إذَا حُمِلَ إلَيْهِ .
وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ إذَا دَخَلَ الطَّعَامُ الْبَلَدَ .
طَلُقَتْ إذَا حُمِلَ إلَيْهِ .
وَلَنَا ، أَنَّ الْفِعْلَ لَيْسَ مِنْهُ ، وَالْفِعْلُ لَا يُنْسَبُ إلَى غَيْرِ فَاعِله إلَّا مَجَازًا ، وَالْكَلَامُ عِنْدَ إطْلَاقِهِ لِحَقِيقَتِهِ إذَا أَمْكَنَ ، وَأَمَّا الطَّعَامُ ، فَلَا يُمْكِنُ وُجُودُ الْفِعْلِ مِنْهُ حَقِيقَةً ، فَتَعَيَّنَ حَمْلُ الدُّخُولِ فِيهِ عَلَى مَجَازِهِ .
وَأَمَّا إنْ قَدِمَ بِنَفْسِهِ لَإِكْرَاهٍ ، فَعَلَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ : لَا يَحْنَثُ .
وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : يَحْنَثُ .
وَحَكَاهُ عَنْ أَحْمَدَ ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ مِنْهُ حَقِيقَةً ، وَيُنْسَبُ إلَيْهِ ، قَالَ اللَّه تَعَالَى : { وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إذَا جَاءُوهَا } .
وَيَصِحُّ أَمْرُ الْمُكْرَهِ بِالْفِعْلِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { اُدْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ } .
وَلَوْلَا أَنَّ الْفِعْلَ يَتَحَقَّقُ مِنْهُ ، لَمَا صَحَّ أَمْرُهُ بِهِ .
وَوَجْهُ الْأَوَّلِ ، أَنَّهُ بِالْإِكْرَاهِ زَالَ اخْتِيَارُهُ ، فَإِذَا وُجِدَتْ الصِّفَةُ مِنْهُ ، كَانَ كَوُجُودِ الطَّلَاقِ مِنْهُ مُكْرَهًا ، وَهَذَا فِيمَا إذَا أَطْلَقَ .
وَإِنْ كَانَتْ لَهُ نِيَّةٌ ، حُمِلَ عَلَيْهَا كَلَامُهُ ، وَتَقَيَّدَ بِهَا .
( 6000 ) فَصْلٌ : وَإِنْ قَدِمَ مُخْتَارًا ، حَنِثَ الْحَالِفُ ، سَوَاءٌ عَلِمَ الْقَادِمُ بِالْيَمِينِ أَوْ جَهِلَهَا .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ : يَقَعُ الطَّلَاقُ ، قَوْلًا وَاحِدًا .
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ : إنْ كَانَ الْقَادِمُ مِمَّنْ لَا يَمْتَنِعُ مِنْ الْقُدُومِ بِيَمِينِهِ ، كَالسُّلْطَانِ ، وَالْحَاجِّ ،

وَالرَّجُلِ الْأَجْنَبِيِّ ، حَنِثَ الْحَالِفُ ، وَلَا يُعْتَبَرُ عِلْمُهُ وَلَا جَهْلُهُ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَمْتَنِعُ بِالْيَمِينِ مِنْ الْقُدُومِ ، كَقَرَابَةٍ لَهُمَا ، أَوْ لِأَحَدِهِمَا ، أَوْ غُلَامٍ لِأَحَدِهِمَا ، فَجَهِلَ الْيَمِينَ ، أَوْ نَسِيَهَا ، فَالْحُكْمُ فِيهِ كَمَا لَوْ حَلَفَ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ ، فَفَعَلَهُ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا ، وَفِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ ، كَذَلِكَ هَاهُنَا ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ تَمْنَعُهُ الْيَمِينُ ، كَانَ تَعْلِيقًا لِلطَّلَاقِ عَلَى صِفَةٍ ، وَلَمْ يَكُنْ يَمِينًا ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ عَلَّقَهُ عَلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَمْتَنِعُ ، كَانَ يَمِينًا ، فَيُعْذَرُ فِيهَا بِالنِّسْيَانِ وَالْجَهْلِ ، وَيَنْبَغِي أَنْ تُعْتَبَرَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ نِيَّةُ الْحَالِفِ ، وَقَرَائِنُ أَحْوَالِهِ ، الدَّالَّةُ عَلَى قَصْدِهِ ، فَإِنْ كَانَ قَصْدُهُ بِيَمِينِهِ مَنْعَ الْقَادِمِ مِنْ الْقُدُومِ ، كَانَ يَمِينًا ، وَإِنْ كَانَ قَصْدُهُ جَعْلَهُ صِفَةً فِي مُطْلَقَةٍ ، لَمْ يَكُنْ يَمِينًا ، وَيَسْتَوِي فِيهِ عِلْمُ الْقَادِمِ وَجَهْلُهُ ، وَنِسْيَانُهُ ، وَجُنُونُهُ وَإِفَاقَتُهُ ، مِثْل أَنْ يَقْصِدَ طَلَاقَهَا إذَا حَصَلَ مَعَهَا مَحْرَمُهَا ، وَلَا يُطَلِّقُهَا وَحْدَهَا ، وَتُعْتَبَرُ قَرَائِنُ الْأَحْوَالِ ؛ فَمَتَى عَلَّقَ الْيَمِينَ عَلَى قُدُومِ غَائِبٍ بَعِيدٍ ، يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ الْيَمِينَ وَلَا يَمْتَنِعُ بِهَا ، أَوْ عَلَى فِعْلِ صَغِيرٍ ، أَوْ مَجْنُونٍ ، أَوْ مَنْ لَا يَمْتَنِعُ بِهَا ، لَمْ تَكُنْ يَمِينًا .
وَإِنْ عَلَّقَ ذَلِكَ عَلَى فِعْلِ حَاضِرٍ يَعْلَمُ بِيَمِينِهِ ، وَيَمْتَنِعُ لِأَجَلِهَا مِنْ فِعْلِ مَا عَلَّقَ الطَّلَاقَ عَلَيْهِ ، كَانَ يَمِينًا .
وَمَتَى أَشْكَلَتْ الْحَالُ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ الطَّلَاقُ ؛ لِأَنَّ لَفْظَهُ يَقْتَضِي وُقُوعَ الطَّلَاقِ عِنْدَ وُجُودِ هَذِهِ الصِّفَةِ عَلَى الْعُمُومِ ، وَإِنَّمَا يَنْصَرِفُ عَنْ ذَلِكَ بِدَلِيلٍ ، فَمَتَى شَكَكْنَا فِي الدَّلِيلِ الْمُخَصِّصِ ، وَجَبَ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَى الْعُمُومِ .

( 6001 ) فَصْلٌ : فَإِنْ قَالَ : إنْ تَرَكْت هَذَا الصَّبِيَّ يَخْرُجُ ، فَأَنْتِ طَالِقٌ .
فَانْفَلَتَ الصَّبِيُّ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهَا ، فَخَرَجَ ، فَإِنْ كَانَ نَوَى أَنْ لَا يَخْرُجَ فَقَدْ حَنِثَ ، وَإِنْ نَوَى أَنْ لَا تَدَعَهُ ، لَمْ يَحْنَثْ .
نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى مَعْنَى هَذَا ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْيَمِينَ إذَا وَقَعَتْ عَلَى فِعْلِهَا ، فَقَدْ فَعَلَ الْخُرُوجَ عَلَى غَيْرِ اخْتِيَارٍ مِنْهَا ، فَكَانَتْ كَالْمُكْرَهِ إذْ لَمْ يُمْكِنْهَا حِفْظُهُ وَمَنْعُهُ .
وَإِنْ نَوَى فِعْلَهُ ، فَقَدْ وُجِدَ ، وَحَنِثَ .
وَإِنْ لَمْ تُعْلَمْ نِيَّتُهُ ، انْصَرَفَتْ يَمِينُهُ إلَى فِعْلِهَا ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي تَنَاوَلَهُ لَفْظُهُ ، فَلَا يَحْنَثُ إلَّا إذَا خَرَجَ بِتَفْرِيطِهَا فِي حِفْظِهِ أَوْ اخْتِيَارِهَا .

( 6002 ) فَصْلٌ : فَإِنْ حَلَفَ لَا تَأْخُذُ حَقَّك مِنِّي ، فَأُكْرِهَ عَلَى دَفْعِهِ إلَيْهِ ، وَأَخَذَهُ مِنْهُ قَهْرًا ، حَنِثَ ؛ لِأَنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ فِعْلُ الْأَخْذِ ، وَقَدْ أَخَذَهُ مُخْتَارًا .
وَإِنْ أُكْرِهَ صَاحِبُ الْحَقِّ عَلَى أَخْذِهِ ، خُرِّجَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ ، فِي مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْقُدُومِ .
وَإِنْ وَضَعَهُ الْحَالِفُ فِي حِجْرِهِ ، أَوْ بَيْنَ يَدَيْهِ ، أَوْ إلَى جَنْبِهِ ، فَلَمْ يَأْخُذْهُ ، لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ مَا وُجِدَ .
وَإِنْ أَخَذَهُ الْحَاكِمُ أَوْ السُّلْطَانُ مِنْ الْغَرِيمِ ، فَدَفَعَهُ إلَى الْمُسْتَحِقِّ فَأَخَذَهُ ، فَقَالَ الْقَاضِي : لَا يَحْنَثُ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ مَا أَخَذَهُ مِنْهُ .
وَإِنْ قَالَ : لَا تَأْخُذْ حَقَّك عَلَيَّ .
حَنِثَ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَخَذَ حَقَّهُ الَّذِي عَلَيْهِ .
وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهُ يَحْنَثُ فِي الصُّورَتَيْنِ .
قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيه مَذْهَبُهُ ؛ لِأَنَّ الْأَيْمَانَ عِنْدَهُ عَلَى الْأَسْبَابِ ، لَا عَلَى الْأَسْمَاءِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ وَكَّلَ وَكِيلًا ، فَأَخَذَهُ مِنْهُ ، كَانَ آخِذًا لِحَقِّهِ مِنْهُ عُرْفًا ، وَيُسَمَّى آخِذًا ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا } .
وَقَالَ : { وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمْ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا } .
وَإِنْ كَانَتْ الْيَمِينُ مِنْ صَاحِبِ الْحَقِّ ، فَحَلَفَ : لَا أَخَذْت حَقِّي مِنْك .
فَالتَّفْرِيعُ فِيهَا كَاَلَّتِي قَبْلَهَا .
فَإِنْ تَرَكَهَا الْغَرِيمُ فِي أَثْنَاءِ مَتَاعٍ فِي خُرْجٍ ، ثُمَّ دَفَعَ الْخُرْجَ إلَى الْحَالِفِ ، فَأَخَذَهُ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا فِيهِ ، لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَعْدُودٍ أَخْذًا ، وَلَا يَبْرَأُ بِهِ الْغَرِيمُ مِنْهَا .
فَإِنْ كَانَتْ الْيَمِينُ : لَا أُعْطِيتُك حَقَّك ، فَأَخَذَهُ الْحَاكِمُ مِنْهُ كُرْهًا ، فَدَفَعَهُ إلَى الْغَرِيم ، لَمْ يَحْنَثْ .
وَإِنْ أَكْرَهَهُ عَلَى دَفْعِهِ إلَيْهِ ، فَدَفَعَهُ ، خُرِّجَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي الْمُكْرَهِ .
وَإِنْ أَعْطَاهُ بِاخْتِيَارِهِ ، حَنِثَ .
وَإِنْ وَضَعَهُ فِي حِجْرِهِ ، أَوْ

جَيْبِهِ ، أَوْ صُنْدُوقِهِ ، وَهُوَ يَعْلَمُ ، حَنِثَ ؛ لِأَنَّهُ أَعْطَاهُ .
وَإِنْ دَفَعَهُ إلَى الْحَاكِمِ اخْتِيَارًا ، لِيَدْفَعَهُ إلَى الْغَرِيمِ ، فَدَفَعَهُ ، أَوْ أَخَذَهُ مِنْ مَالِهِ بِاخْتِيَارِهِ ، فَدَفَعَهُ إلَى الْغَرِيمِ ، حَنِثَ .
وَقَالَ الْقَاضِي : لَا يَحْنَثُ .
وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّهُ أَوْصَلَهُ إلَيْهِ مُخْتَارًا ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ دَفَعَهُ إلَى وَكِيله ، فَأَعْطَاهُ إيَّاهُ ، وَلِأَنَّ الْأَيْمَانَ عَلَى الْأَسْبَابِ ، لَا عَلَى الْأَسْمَاءِ ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا مَضَى .

( 6003 ) فَصْلٌ : فَإِنْ قَالَ : إنْ رَأَيْت أَبَاكِ ، فَأَنْتِ طَالِقٌ .
فَرَأَتْهُ مَيِّتًا ، أَوْ نَائِمًا ، أَوْ مُغْمًى عَلَيْهِ ، أَوْ رَأَتْهُ مِنْ خَلْفِ زُجَاجٍ ، أَوْ جِسْمٍ شَفَّافٍ ، طَلُقَتْ ؛ لِأَنَّهَا رَأَتْهُ ، وَإِنْ رَأَتْ خَيَالَهُ فِي مَاءٍ ، أَوْ مِرْآةٍ ، أَوْ صُورَتَهُ عَلَى حَائِطٍ ، أَوْ غَيْرِهِ ، لَمْ تَطْلُقْ ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَرَهُ ، وَإِنْ أُكْرِهَتْ عَلَى رُؤْيَتِهِ ، خُرِّجَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ .

( 6004 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَإِذَا قَالَ لِمَدْخُولٍ بِهَا : أَنْتِ طَالِقٌ ، أَنْتِ طَالِقٌ .
لَزِمَهُ تَطْلِيقَتَانِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِالثَّانِيَةِ إفْهَامَهَا أَنْ قَدْ وَقَعَتْ بِهَا الْأُولَى ، فَتَلْزَمُهُ وَاحِدَةٌ .
وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا ، بَانَتْ بِالْأُولَى ، وَلَمْ يَلْزَمْهَا مَا بَعْدَهَا ؛ لِأَنَّهُ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ الْمَدْخُولِ بِهَا : أَنْتِ طَالِقٌ .
مَرَّتَيْنِ .
وَنَوَى بِالثَّانِيَةِ إيقَاعَ طَلْقَةٍ ثَانِيَةٍ ، وَقَعَتْ بِهَا طَلْقَتَانِ بِلَا خِلَافٍ ، وَإِنْ نَوَى بِهَا إفْهَامَهَا أَنَّ الْأُولَى قَدْ وَقَعَتْ بِهَا ، أَوْ التَّأْكِيدَ ، لَمْ تَطْلُقْ إلَّا وَاحِدَةً .
وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ ، وَقَعَ طَلْقَتَانِ .
وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٌ .
وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ ، وَقَالَ فِي الْآخَرِ : تَطْلُقُ وَاحِدَةً ؛ لِأَنَّ التَّكْرَارَ يَكُونُ لِلتَّأْكِيدِ وَالْإِفْهَامِ ، وَيَحْتَمِلُ الْإِيقَاعَ ، فَلَا تُوقَعُ طَلْقَةٌ بِالشَّكِّ .
وَلَنَا ، أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لِلْإِيقَاعِ ، وَيَقْتَضِي الْوُقُوعَ ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ مِثْلُهُ ، وَإِنَّمَا يَنْصَرِفُ عَنْ ذَلِكَ بِنِيَّةِ التَّأْكِيدِ وَالْإِفْهَامِ ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ وَقَعَ مُقْتَضَاهُ ، كَمَا يَجِب الْعَمَلُ بِالْعُمُومِ .
فِي الْعَامِّ إذَا لَمْ يُوجَدْ الْمُخَصِّصُ ، وَبِالْإِطْلَاقِ فِي الْمُطْلَقِ إذَا لَمْ يُوجَدْ الْمُقَيِّدُ .
فَأَمَّا غَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا ، فَلَا تَطْلُقُ إلَّا طَلْقَةً وَاحِدَةً ، سَوَاءٌ نَوَى الْإِيقَاعَ أَوْ غَيْرَهُ ، وَسَوَاءٌ قَالَ ذَلِكَ مُنْفَصِلًا ، أَوْ مُتَّصِلًا .
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ ، وَعِكْرِمَةَ ، وَالنَّخَعِيِّ ، وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ ، وَالْحَكَمِ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ وَأَبِي عُبَيْدٍ ، وَابْن الْمُنْذِرِ .
وَذَكَرُهُ الْحَكَمُ عَنْ عَلِيٍّ ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، وَابْنِ مَسْعُودٍ .
وَقَالَ مَالِكٌ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَاللَّيْثُ يَقَعُ بِهَا تَطْلِيقَتَانِ ، وَإِنْ قَالَ

ذَلِكَ ثَلَاثًا ، طَلُقَتْ ثَلَاثًا ، إذَا كَانَ مُتَّصِلًا ؛ لِأَنَّهُ طَلَّقَ ثَلَاثًا بِكَلَامٍ مُتَّصِلٍ ، أَشْبَهَ قَوْلَهُ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا .
وَلَنَا ، أَنَّهُ طَلَاقٌ مُفَرَّقٌ ، فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا ، فَلَمْ تَقَعْ الْأُولَى ، كَمَا لَوْ فَرَّقَ كَلَامَهُ ، وَلِأَنَّ غَيْرَ الْمَدْخُولِ بِهَا تَبِينُ بِطَلْقَةٍ ، لِأَنَّهُ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا ، فَتُصَادِفُهَا الطَّلْقَةُ الثَّانِيَةُ بَائِنًا ، فَلَمْ يُمْكِنْ وُقُوعُ الطَّلَاقِ بِهَا ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ زَوْجَةٍ ، وَإِنَّمَا تَطْلُق الزَّوْجَةُ ، وَلِأَنَّهُ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَة ، وَلَا نَعْلَمُ لَهُمْ مُخَالِفًا فِي عَصْرِهِمْ ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا .

( 6005 ) فَصْلٌ : فَإِنْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ .
ثُمَّ مَضَى زَمَنٌ طَوِيلٌ ، ثُمَّ أَعَادَ ذَلِكَ لِلْمَدْخُولِ بِهَا ، طَلُقَتْ ثَانِيَةً ، وَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ : نَوَيْت التَّوْكِيدَ ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيدَ تَابِعٌ لِلْكَلَامِ ، فَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِهِ ، كَسَائِرِ التَّوَابِعِ ؛ مِنْ الْعِطْفِ ، وَالصِّفَةِ ، وَالْبَدَلِ .

فَصْلٌ : وَكُلُّ طَلَاقٍ يَتَرَتَّبُ فِي الْوُقُوعِ ، وَيَأْتِي بَعْضُهُ بَعْدَ بَعْضٍ ، لَا يَقَعُ بِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا مِنْهُ أَكْثَرُ مِنْ طَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ .
وَيَقَعُ بِالْمَدْخُولِ بِهَا ثَلَاثٌ إذَا أَوْقَعَهَا ، مِثْل قَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ ، فَطَالِقٌ ، فَطَالِقٌ .
أَوْ : أَنْتِ طَالِقٌ ، ثُمَّ طَالِقٌ ، ثُمَّ طَالِقٌ .
أَوْ : أَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ وَطَالِقٌ .
أَوْ : فَطَالِقٌ .
وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ حُرُوفٌ تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ ، فَتَقَعُ بِهَا الْأُولَى فَتُبِينُهَا ، فَتَأْتِي الثَّانِيَةُ فَتُصَادِفُهَا بَائِنًا غَيْرَ زَوْجَةٍ ، فَلَا تَقَعُ بِهَا .
وَأَمَّا الْمَدْخُولُ بِهَا ، فَتَأْتِي الثَّانِيَةُ فَتُصَادِفُ مَحَلَّ النِّكَاحِ ، فَتَقَعُ ، وَكَذَلِكَ الثَّالِثَةُ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ ، بَلْ ، طَالِقٌ ، وَطَالِقٌ .
ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ .
وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً قَبْلَ طَلْقَةٍ .
أَوْ : بَعْدَ طَلْقَةٍ .
أَوْ بَعْدَهَا طَلْقَةٌ .
أَوْ : طَلْقَةً فَطَلْقَةً .
أَوْ : طَلْقَةً ثُمَّ طَلْقَةً .
وَقَعَ بِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا طَلْقَةٌ ، وَبِالْمَدْخُولِ بِهَا طَلْقَتَانِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي طَلْقَةً بَعْدَ طَلْقَةٍ .

( 6007 ) فَصْلٌ : وَإِنْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً قَبْلَهَا طَلْقَةٌ .
فَكَذَلِكَ ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي .
وَهَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا يَقَعُ بِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا شَيْءٌ ، بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِمْ فِي الْمَسْأَلَةِ السُّرَيْجِيَّةِ .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : يَقَعُ طَلْقَتَانِ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَحَالَ وُقُوعُ الطَّلْقَةِ الْأُخْرَى قَبْلَ الطَّلْقَةِ الْمُوَقَّعَةِ ، فَوَقَعَتْ مَعَهَا ، لِأَنَّهَا لَمَّا تَأَخَّرَتْ عَنْ الزَّمَنِ الَّذِي قَصْدَ إيقَاعَهَا فِيهِ لِكَوْنِهِ زَمَنًا مَاضِيًا ، وَجَبَ إيقَاعُهَا فِي أَقْرَبِ الْأَزْمِنَةِ إلَيْهِ ، وَهُوَ مَعَهَا ، وَلَا يَلْزَمُ تَأَخُّرُهَا إلَى مَا بَعْدَهَا ؛ لِأَنَّ قَبْلَهُ زَمَنٌ يُمْكِنُ الْوُقُوعُ فِيهِ ، وَهُوَ زَمَنٌ قَرِيبٌ ، فَلَا يُؤَخَّرُ إلَى الْبَعِيدِ مَعَ إمْكَانِ الْقَرِيبِ .
وَلَنَا ، أَنَّ هَذَا طَلَاقٌ بَعْضُهُ قَبْلَ بَعْضٍ ، فَلَمْ يَقَعْ بِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا جَمِيعُهُ ، كَمَا لَوْ قَالَ : طَلْقَةً بَعْدَ طَلْقَةٍ .
وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَقَعَ الْمُتَأَخِّرُ فِي لَفْظِهِ مُتَقَدِّمًا ، كَمَا لَوْ قَالَ : طَلْقَةً بَعْدَ طَلْقَةٍ .
أَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً غَدًا ، وَطَلْقَةً الْيَوْمَ .
وَلَوْ قَالَ : جَاءَ زَيْدٌ بَعْد عَمْرٍو .
أَوْ : جَاءَ زَيْدٌ وَقَبْلَهُ عَمْرٌو .
أَوْ : أُعْطِ زَيْدًا بَعْدَ عَمْرٍو .
وَكَانَ كَلَامًا صَحِيحًا ، يُفِيدُ تَأْخِيرَ الْمُتَقَدِّمِ لَفْظًا ، عَنْ الْمَذْكُورِ بَعْدَهُ ، وَلَيْسَ هَذَا طَلَاقًا فِي زَمَنٍ مَاضٍ ، وَإِنَّمَا يَقَعُ إيقَاعُهُ فِي الْمُسْتَقْبِلِ مُرَتَّبًا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي رَتَّبَهُ ، وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ إحْدَاهُمَا مُوَقَّعَةٌ فِي زَمَنٍ مَاضٍ ، لَامْتَنَعَ وُقُوعُهَا وَحْدَهَا ، وَوَقَعْت الْأُخْرَى وَحْدَهَا ، وَهَذَا تَعْلِيلُ الْقَاضِي ، لِكَوْنِهِ لَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةٌ ، وَالْأَوَّلُ مِنْ التَّعْلِيلِ أَصَحُّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

( 6008 ) فَصْلٌ : فَإِنْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً مَعَهَا طَلْقَةٌ .
وَقَعَ بِهَا طَلْقَتَانِ .
وَإِنْ قَالَ : مَعَهَا اثْنَتَانِ .
وَقَعَ بِهَا ثَلَاثٌ ، فِي قِيَاسِ الْمَذْهَبِ .
وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يَقَعُ طَلْقَةٌ ؛ لِأَنَّ الطَّلْقَةَ إذَا وَقَعَتْ مُفْرَدَةً ، لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَكُونَ مَعَهَا شَيْءٌ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ أَوْقَعَ ثَلَاثَ طَلْقَاتٍ ، بِلَفْظِ يَقْتَضِي وُقُوعَهُنَّ مَعًا ، فَوَقَعْنَ كُلُّهُنَّ ، كَمَا لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا .
وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الطَّلْقَةَ تَقَعُ مُفْرَدَةً ، فَإِنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ بِمُجَرَّدِ التَّلَفُّظِ بِهِ ، إذْ لَوْ وَقَعَ بِذَلِكَ ، لَمَا صَحَّ تَعْلِيقُهُ بِشَرْطٍ ، وَلَا صَحَّ وَصْفُهُ بِالثَّلَاثِ ، وَلَا بِغَيْرِهَا ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ لَوْ قَالَ : إذَا طَلَّقْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ مَعَهَا طَلْقَةٌ .
ثُمَّ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ .
فَإِنَّهَا تَطْلُقُ طَلْقَتَيْنِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا .

فَصْلٌ : فَإِنْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً بَعْدَهَا طَلْقَةٌ .
ثُمَّ قَالَ : أَرَدْت أَنِّي أُوقِعُ بَعْدَهَا طَلْقَةً .
دِينَ ، وَهَلْ يُقْبَلُ فِي الْحُكْمِ ؟ يُخَرَّجُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ .
وَإِنْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً قَبْلَهَا طَلْقَةٌ .
وَقَالَ : أَرَدْت أَنِّي طَلَّقْتهَا قَبْلَ هَذَا فِي نِكَاحٍ آخَرِ ، أَوْ أَنَّ زَوْجًا قَبْلِي طَلَّقَهَا .
دُيِّنَ ، وَهَلْ يُقْبَلُ فِي الْحُكْمِ ؟ عَلَى ثَلَاثَة أَوْجُهٍ ؛ أَحَدُهَا ، يُقْبَلُ .
وَالْآخَرُ ، لَا يُقْبَلُ .
وَالثَّالِثُ ، يُقْبَلُ إنْ كَانَ وُجِدَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وُجِدَ لَمْ يُقْبَلْ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ وُجِدَ لَا يُقْبَلْ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ مَا قَالَهُ .

( 6010 ) فَصْلٌ : فَإِنْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ طَالِقٌ طَالِقٌ .
وَقَالَ : أَرَدْت التَّوْكِيدَ .
قُبِلَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ يُكَرَّرُ لِلتَّوْكِيدِ ، كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : " فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ بَاطِلٌ بَاطِلٌ " .
وَإِنْ قَصَدَ الْإِيقَاعَ ، وَكَرَّرَ الطَّلْقَاتِ ، طَلُقَتْ ثَلَاثًا .
وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا ، لَمْ يَقَعْ إلَّا وَاحِدَةٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بَيْنَهُمَا بِحَرْفٍ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ ، فَلَا يَكُنَّ مُتَغَايِرَاتٍ .
وَإِنْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ .
وَقَالَ : أَرَدْت بِالثَّانِيَةِ التَّأْكِيدَ .
لَمْ يُقْبَلْ ؛ لِأَنَّهُ غَايَرَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأُولَى بِحَرْفٍ يَقْتَضِي الْعِطْفَ وَالْمُغَايِرَةَ ، وَهَذَا يَمْنَعُ التَّأْكِيدَ ، وَأَمَّا الثَّالِثَةُ فَهِيَ كَالثَّانِيَةِ فِي لَفْظِهَا .
فَإِنْ قَالَ : أَرَدْت بِهَا التَّوْكِيدَ .
دُيِّنَ ، وَهَلْ يُقْبَلُ فِي الْحُكْمِ ؟ يُخَرَّجُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ ؛ إحْدَاهُمَا ، يُقْبَلُ .
وَهِيَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ كَرَّرَ لَفْظَ الطَّلَاقِ مِثْلَ الْأَوَّلِ ، فَقُبِلَ تَفْسِيرُهُ بِالتَّأْكِيدِ .
كَمَا لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ ، أَنْتِ طَالِقٌ .
وَالثَّانِيَةُ ، لَا يُقْبَلُ ؛ لِأَنَّ حَرْفَ الْعِطْفِ لِلْمُغَايَرَةِ ، فَلَا يُقْبَلُ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ ، كَمَا لَا يُقْبَلُ فِي الثَّانِيَةِ .
وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ فَطَالِقٌ فَطَالِقٌ .
أَوْ : أَنْتِ طَالِقٌ ، ثُمَّ طَالِقٌ ، ثُمَّ طَالِقٌ .
فَالْحُكْمُ فِيهَا كَاَلَّتِي عَطَفَهَا بِالْوَاوِ .
وَإِنْ غَايَرَ بَيْنَ الْحُرُوفِ ، فَقَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ ، ثُمَّ طَالِقٌ .
أَوْ : طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ وَطَالِقٌ .
أَوْ : طَالِقٌ وَطَالِقٌ فَطَالِقٌ .
وَنَحْوُ ذَلِكَ ، لَمْ يُقْبَلْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا إرَادَةَ التَّوْكِيدِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ مُغَايِرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا ، مُخَالِفَةٌ لَهَا فِي لَفْظِهَا ، وَالتَّوْكِيدُ إنَّمَا يَكُونُ بِتَكْرِيرِ الْأَوَّلِ بِصُورَتِهِ .

( 6011 ) فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ مُطَلَّقَةٌ ، أَنْتِ مُسَرَّحَةٌ ، أَنْتِ مُفَارَقَةٌ .
وَقَالَ : أَرَدْت التَّوْكِيدَ بِالثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ .
قُبِلَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُغَايِرْ بَيْنَهُمَا بِالْحُرُوفِ الْمَوْضُوعَةِ لِلْمُغَايَرَةِ بَيْنَ الْأَلْفَاظِ ، بَلْ أَعَادَ اللَّفْظَةَ بِمَعْنَاهَا ، وَمِثْلُ هَذَا يُعَادُ تَوْكِيدًا .
وَإِنْ قَالَ : أَنْتِ مُطَلَّقَةٌ ، وَمُسَرَّحَةٌ ، وَمُفَارَقَةٌ .
وَقَالَ : أَرَدْت التَّوْكِيدَ .
احْتَمَلَ أَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ الْمُخْتَلِفَ يُعْطَفُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ تَوْكِيدًا ، كَقَوْلِهِ : فَأَلْفَى قَوْلَهَا كَذِبًا وَمَيْنَا وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُقْبَلَ ؛ لِأَنَّ الْوَاوَ تَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ .

( 6012 ) مَسْأَلَة ؛ قَالَ : ( وَإِذَا قَالَ لِغَيْرِ مَدْخُولٍ بِهَا : أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ .
لَزِمَهُ الثَّلَاثُ ؛ لِأَنَّهُ نَسَقٌ ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا ) وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَاللَّيْثُ ، وَرَبِيعَةُ ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى .
وَحُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيم مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ .
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ : لَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةٌ ؛ لِأَنَّهُ أَوْقَعَ الْأُولَى قَبْلَ الثَّانِيَةِ ، فَلَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا شَيْءٌ آخَرُ ، كَمَا لَوْ فَرَّقَهَا .
وَلَنَا ، أَنَّ الْوَاوَ تَقْتَضِي الْجَمْعَ ، وَلَا تَرْتِيبَ فِيهَا ، فَيَكُونُ مُوقِعًا لِلثَّلَاثِ جَمِيعًا ، فَيَقَعْنَ عَلَيْهَا ، كَقَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا .
أَوْ : طَلْقَةً مَعَهَا طَلْقَتَانِ .
وَيُفَارِق مَا إذَا فَرَّقَهَا ، فَإِنَّهَا لَا تَقَعُ جَمِيعًا ، وَكَذَلِكَ إذَا عَطَفَ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ بِحَرْفِ يَقْتَضِي التَّرْتِيبَ ، فَإِنَّ الْأُولَى تَقَعُ قَبْلَ الثَّانِيَةِ بِمُقْتَضَى إيقَاعِهِ ، وَهَاهُنَا لَا تَقَعُ الْأُولَى حِينَ نُطْقِهِ بِهَا حَتَّى يَتِمَّ كَلَامُهُ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ أَلْحَقَهُ اسْتِثْنَاءً ، أَوْ شَرْطًا ، أَوْ صِفَةً ، لَحِقَ بِهِ ، وَلَمْ يَقَعْ الْأَوَّلُ مُطْلَقًا ، وَلَوْ كَانَ يَقَعُ حِينَ تَلَفَّظَهُ ، لَمْ يَلْحَقْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يَقِفُ وُقُوعُهُ عَلَى تَمَامِ الْكَلَامِ ، فَإِنَّهُ يَقَعُ عِنْدَ تَمَامِ كَلَامِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي اقْتَضَاهُ لَفْظُهُ ، وَلَفْظُهُ يَقْتَضِي وُقُوعَ الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثِ مُجْتَمِعَاتٍ ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ : لِأَنَّهُ نَسَقٌ .
أَيْ غَيْرُ مُفْتَرِقٍ .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا وَقَفَ أَوَّلُ الْكَلَامِ عَلَى آخِرِهِ ، مَعَ الشَّرْطِ وَالِاسْتِثْنَاءِ ؛ لِأَنَّهُ مُغَيِّرٌ لَهُ ، وَالْعَطْفُ لَا يُغَيِّرُ فَلَا يَقِفُ عَلَيْهِ ، وَنَتَبَيَّنُ أَنَّهُ وَقَعَ أَوَّلَ مَا لَفِظَ بِهِ ، وَلِذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ ، أَنْتِ طَالِقٌ .
لَمْ يَقَعْ إلَّا وَاحِدَةٌ .
قُلْنَا : مَا لَمْ يَتِمَّ الْكَلَامُ ، فَهُوَ عُرْضَةٌ

لِلتَّغْيِيرِ ، إمَّا بِمَا يَخُصُّهُ بِزَمَنِ ، أَوْ يُقَيِّدُهُ بِقَيْدٍ كَالشَّرْطِ ، وَإِمَّا بِمَا يَمْنَعُ بَعْضَهُ كَالِاسْتِثْنَاءِ ، وَإِمَّا بِمَا يُبَيِّنُ عَدَدَ الْوَاقِعِ ، كَالصِّفَةِ بِالْعَدَدِ ، وَأَشْبَاهِ هَذَا ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ وَاقِعًا ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا وَقَعَ بِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا ثَلَاثٌ بِحَالِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا .
فَوَقَعَتْ بِهَا طَلْقَةٌ قَبْلَ قَوْلِهِ ثَلَاثًا .
لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَقَعَ بِهَا شَيْءٌ آخَرُ .
وَأَمَّا إذَا قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ ، أَنْتِ طَالِقٌ .
فَهَاتَانِ جُمْلَتَانِ لَا تَتَعَلَّقُ إحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى ، وَلَوْ تَعَقَّبَ إحْدَاهُمَا شَرْطٌ أَوْ اسْتِثْنَاءٌ أَوْ صِفَةٌ ، لَمْ يَتَنَاوَلْ الْأُخْرَى ، وَلَا وَجْهَ لِوُقُوفِ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى ، وَالْمَعْطُوفُ مَعَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَاحِدٌ ، لَوْ تَعَقَّبَهُ شَرْطٌ لَعَادَ إلَى الْجَمِيعِ ، وَلِأَنَّ الْمَعْطُوفَ لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ ، وَلَا يُفِيدُ بِمُفْرَدِهِ ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ .
فَإِنَّهَا جُمْلَةٌ مُفِيدَةٌ ، لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالْأُخْرَى ، فَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهَا عَلَيْهَا .

( 6013 ) فَصْلٌ : فَإِنْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَتَيْنِ وَنِصْفًا .
فَهِيَ عِنْدَنَا كَاَلَّتِي قَبْلَهَا ، يَقَعُ الثَّلَاثُ .
وَقَالَ مُخَالِفُونَا : يَقَعُ طَلْقَتَانِ .
وَإِنْ قَالَ : إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ .
وَكَرَّرَ ذَلِكَ ثَلَاثًا ، فَدَخَلَتْ ، طَلُقَتْ ، فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ ؛ لِأَنَّ الصِّفَةَ وُجِدَتْ ، فَاقْتَضَى وُقُوعَ دَفْعَةً وَاحِدَةً .
وَإِنْ قَالَ : إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ ، فَدَخَلْت الدَّارَ ، طَلُقَتْ ثَلَاثًا .
وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٌ ، وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَقَعُ وَاحِدَةً ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ الْمُعَلَّقَ إذَا وُجِدْت الصِّفَةُ ، يَكُونُ كَأَنَّهُ أَوْقَعَهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ عَلَى صِفَتِهِ ، وَلَوْ أَوْقَعَهُ كَذَلِكَ ، لَمْ يَقَعْ إلَّا وَاحِدَةٌ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ وُجِدَ شَرْطُ وُقُوعِ ثَلَاثِ طَلَقَاتٍ ، غَيْرِ مُرَتَّبَاتٍ ، فَوَقَعَ الثَّلَاثُ ، كَاَلَّتِي قَبْلَهَا .
وَإِنْ قَالَ : إذَا دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً مَعَهَا طَلْقَتَانِ .
فَدَخَلَتْ ، طَلُقَتْ ثَلَاثًا .
وَذَكَرَ مِثْلَ هَذَا بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ، وَلَمْ يَحْكِ عَنْهُمْ فِيهِ خِلَافًا .

( 6014 ) فَصْلٌ : وَإِنْ قَالَ لِغَيْرِ مَدْخُولٍ بِهَا : أَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ ، إنْ دَخَلْت الدَّارَ .
أَوْ : إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ .
أَوْ : إنْ دَخَلْت فَأَنْتِ طَالِقٌ فَطَالِقٌ فَطَالِقٌ .
فَدَخَلَتْ ، طَلُقَتْ وَاحِدَةً ، فَبَانَتْ بِهَا ، وَلَمْ يَقَعْ غَيْرُهَا .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَذَهَبَ الْقَاضِي إلَى أَنَّهَا تَطْلُقُ فِي الْحَالِ وَاحِدَةً ، تَبِينُ بِهَا .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى ؛ لِأَنَّ " ثُمَّ " تَقْطَعُ الْأُولَى عَمَّا بَعْدَهَا ، لِأَنَّهَا لِلْمُهْلَةِ ، فَتَكُونُ الْأُولَى مُوَقَّعَةً ، وَالثَّانِيَةُ مُعَلَّقَةً بِالشَّرْطِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : لَا يَقَعُ حَتَّى تَدْخُلَ الدَّارَ ، فَيَقَعَ بِهَا ثَلَاثٌ ؛ لِأَنَّ دُخُولَ الدَّارِ شَرْطٌ لِثَلَاثٍ ، فَوَقَعَتْ ، كَمَا لَوْ قَالَ : إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ .
وَلَنَا ، أَنَّ " ثُمَّ " لِلْعَطْفِ ، وَفِيهَا تَرْتِيبٌ ، فَتَعَلَّقْت التَّطْلِيقَاتُ كُلُّهَا بِالدُّخُولِ ؛ لِأَنَّ الْعِطْفَ لَا يَمْنَعُ تَعْلِيقَ الشَّرْطِ بِالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ ، وَيَجِبُ التَّرْتِيبُ فِيهَا ، كَمَا يَجِبُ لَوْ لَمْ يُعَلِّقْهُ بِالشَّرْطِ ، وَفِي هَذَا انْفِصَالٌ عَمَّا ذَكَرُوهُ ، وَلِأَنَّ الْأُولَى تَلِي الشَّرْطَ ، فَلَمْ يَجُزْ وُقُوعُهَا بِدُونِهِ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَعْطِفْ عَلَيْهَا ، وَلِأَنَّهُ جَعَلَ الْأُولَى جَزَاءً لِلشَّرْطِ ، وَعَقَّبَهُ إيَّاهَا بِفَاءِ التَّعْقِيبِ ، الْمَوْضُوعَةِ لِلْجَزَاءِ ، فَلَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُهَا عَلَيْهِ كَسَائِرِ نَظَائِرِهِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ قَالَ : إنْ دَخَلَ زَيْدٌ دَارِي ، فَأَعْطِهِ دِرْهَمًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطِيَهُ قَبْلَ دُخُولِهِ ، فَكَذَا هَاهُنَا .
وَمَا ذَكَرُوهُ تَحَكُّمٌ ، لَيْسَ لَهُ شَاهِدٌ فِي اللُّغَةِ ، وَلَا أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ .

( 6015 ) فَصْلٌ : وَإِنْ قَالَ لِمَدْخُولٍ بِهَا : إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ .
لَمْ يَقَعْ بِهَا شَيْءٌ حَتَّى تَدْخُلَ الدَّارَ ، فَتَقَعَ بِهَا الثَّلَاثُ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٌ .
وَذَهَبَ الْقَاضِي إلَى وُقُوعِ طَلْقَتَيْنِ فِي الْحَالِ ، وَتَبْقَى الثَّالِثَةُ مُعَلَّقَةً بِالدُّخُولِ .
وَهُوَ ظَاهِرُ الْفَسَادِ ، فَإِنَّهُ يَجْعَلُ الشَّرْطَ الْمُتَقَدِّمَ لِلْمَعْطُوفِ ، دُونَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ ، وَيُعَلِّقُ بِهِ مَا يَبْعُدُ عَنْهُ ، دُونَ مَا يَلِيهِ ، وَيَجْعَلُ جَزَاءَهُ مَا لَمْ تُوجَدْ فِيهِ الْفَاءُ الَّتِي يُجَازَى بِهَا ، دُونَ مَا وُجِدَتْ فِيهِ ، تَحَكُّمًا لَا يَعْرِفُ عَلَيْهِ دَلِيلًا ، وَلَا نَعْلَمُ لَهُ نَظِيرًا .
وَإِنْ قَالَ لَهَا : إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَطَالِقٌ فَطَالِقٌ .
فَدَخَلَتْ ، طَلُقَتْ ثَلَاثًا .
فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا .

( 6016 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَإِذَا طَلَّقَ ثَلَاثًا ، وَهُوَ يَنْوِي وَاحِدَةً ، فَهِيَ ثَلَاثٌ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا .
فَهِيَ ثَلَاثٌ ، وَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً ، لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ صَرِيحٌ فِي الثَّلَاثِ ، وَالنِّيَّةُ لَا تُعَارِضُ الصَّرِيحَ ؛ لِأَنَّهَا أَضْعَفُ مِنْ اللَّفْظِ ، وَلِذَلِكَ لَا نَعْمَلُ بِمُجَرَّدِهَا ، وَالصَّرِيحُ قَوِيٌّ يُعْمَلُ بِمُجَرَّدِهِ ، مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ ، فَلَا يُعَارَضُ الْقَوِيُّ بِالضَّعِيفِ ، كَمَا لَا يُعَارَضُ النَّصُّ بِالْقِيَاسِ ، وَلِأَنَّ النِّيَّةَ إنَّمَا تَعْمَلُ فِي صَرْفِ اللَّفْظِ إلَى بَعْضِ مُحْتَمِلَاتِهِ ، وَالثَّلَاثُ نَصٌّ فِيهَا ، لَا يَحْتَمِلُ الْوَاحِدَةَ بِحَالٍ ، فَإِذَا نَوَى وَاحِدَةً ، فَقَدْ نَوَى مَا لَا يَحْتَمِلُهُ ، فَلَا يَصِحُّ ، كَمَا لَوْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ .
وَقَالَ : أَرَدْت وَاحِدًا .

( 6017 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَإِنْ طَلَّقَ وَاحِدَةً ، وَهُوَ يَنْوِي ثَلَاثًا ، فَهِيَ وَاحِدَةٌ ) أَمَّا إذَا قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً .
وَنَوَى ثَلَاثًا ، لَمْ يَقَعْ إلَّا وَاحِدَةٌ ؛ لِأَنَّ لَفْظَهُ لَا يَحْتَمِلُ أَكْثَرَ مِنْهَا ، فَإِذَا نَوَى ثَلَاثًا ، فَقَدْ نَوَى مَا لَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ ، فَلَوْ وَقَعَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ ، لَوَقَعَ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ ، وَمُجَرَّدُ النِّيَّةِ لَا يَقَعُ بِهَا طَلَاقٌ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ : يَقَعُ ثَلَاثٌ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ وَاحِدَةً مَعَهَا اثْنَتَانِ .
وَهَذَا فَاسِدٌ ، فَإِنَّ قَوْلَهُ : مَعَهَا اثْنَتَانِ .
لَا يُؤَدِّيهِ مَعْنَى الْوَاحِدَةِ ، وَلَا يَحْتَمِلُهُ ، فَنِيَّتُهُ فِيهِ نِيَّةٌ مُجَرَّدَةٌ ، فَلَا تَعْمَلُ ، كَمَا لَوْ نَوَى الطَّلَاقَ مِنْ غَيْرِ لَفْظٍ .
وَأَمَّا إذَا قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ .
وَنَوَى ثَلَاثًا ، فَهَذَا فِيهِ رِوَايَتَانِ ؛ إحْدَاهُمَا ، لَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةٌ ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَا يَتَضَمَّنُ عَدَدًا ، وَلَا بَيْنُونَةً ، فَلَمْ تَقَعْ بِهِ الثَّلَاثُ ، كَمَا لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً .
بَيَانُهُ أَنَّ قَوْلَهُ : أَنْتِ طَالِقٌ .
إخْبَارٌ عَنْ صِفَةٍ هِيَ عَلَيْهَا ، فَلَمْ يَتَضَمَّنْ الْعَدَدَ ، كَقَوْلِهِ : قَائِمَةٌ ، وَحَائِضٌ ، وَطَاهِرٌ .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ ، إذَا نَوَى ثَلَاثًا ، وَقَعَ الثَّلَاثُ .
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَبِي عُبَيْدٍ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ ؛ لِأَنَّهُ لَفْظٌ لَوْ قَرَنَ بِهِ لَفْظَ الثَّلَاثِ ، كَانَ ثَلَاثًا ، فَإِذَا نَوَى بِهِ الثَّلَاثَ ، كَانَ ثَلَاثًا ، كَالْكِنَايَاتِ ، وَلِأَنَّهُ نَوَى بِلَفْظِهِ مَا يَحْتَمِلُهُ ، فَوَقَعَ ذَلِكَ بِهِ ، كَالْكِنَايَةِ .
وَبَيَانُ احْتِمَالِ اللَّفْظِ لِلْعَدَدِ ، أَنَّهُ يَصِحُّ تَفْسِيرُهُ بِهِ ؛ فَيَقُولُ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا .
وَلِأَنَّ قَوْلَهُ : طَالِقٌ .
اسْمُ فَاعِلٍ ، وَاسْمُ الْفَاعِلِ يَقْتَضِي الْمَصْدَرَ ، كَمَا يَقْتَضِيه الْفِعْلُ ، وَالْمَصْدَرُ يَقَعُ عَلَى

الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ ، وَفَارَقَ قَوْلَهُ : أَنْتِ حَائِضٌ وَطَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ الْحَيْضَ وَالطُّهْرَ لَا يُمْكِنُ تَعَدُّدُهُ فِي حَقِّهَا ، وَالطَّلَاقُ يُمْكِنُ تَعَدُّدُهُ .

( 6018 ) فَصْلٌ : فَإِنْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقًا .
وَنَوَى ثَلَاثًا ، وَقَعَ ؛ لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِالْمَصْدَرِ ، وَالْمَصْدَرُ يَقَعُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ ، فَقَدْ نَوَى بِلَفْظِهِ مَا يَحْتَمِلُهُ ، وَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً ، فَهِيَ وَاحِدَةٌ ، وَإِنْ أَطْلَقَ فَهِيَ وَاحِدَةٌ ؛ لِأَنَّهُ الْيَقِينُ .
وَإِنْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ الطَّلَاقَ .
وَقَعَ مَا نَوَاهُ ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا ، فَحَكَى فِيهَا الْقَاضِي رِوَايَتَيْنِ ؛ إحْدَاهُمَا : يَقَعُ الثَّلَاثَ .
نَصَّ عَلَيْهَا أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا ؛ لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ لِلِاسْتِغْرَاقِ ، فَيَقْتَضِي اسْتِغْرَاقَ الْكُلِّ ، وَهُوَ ثَلَاثٌ .
وَالثَّانِيَةُ ، إنَّهَا وَاحِدَةٌ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ تَعُودَ الْأَلِفُ وَاللَّامُ إلَى مَعْهُودٍ ، يُرِيدُ الطَّلَاقَ الَّذِي أَوْقَعَتْهُ .
وَلِأَنَّ اللَّامَ فِي أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ تُسْتَعْمَلُ لِغَيْرِ الِاسْتِغْرَاقِ كَثِيرًا ، كَقَوْلِهِ : وَمِنْ أُكْرِهَ عَلَى الطَّلَاقِ .
وَإِذَا عَقَلَ الصَّبِيُّ الطَّلَاقَ .
وَاغْتَسَلْت بِالْمَاءِ .
وَتَيَمَّمْت بِالتُّرَابِ .
وَقَرَأَتْ الْعِلْمَ وَالْحَدِيثَ وَالْفِقْهَ .
هَذَا مِمَّا يُرَادُ بِهِ ذَلِكَ الْجِنْسُ ، وَلَا يُفْهَمُ مِنْهُ الِاسْتِغْرَاقُ ، فَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يُحْمَلُ عَلَى التَّعْمِيمِ ، إلَّا بِنِيَّةٍ صَارِفَةٍ إلَيْهِ .
وَهَكَذَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ الطَّلَاقُ .
فَإِنَّ أَحْمَدَ قَالَ : إنْ أَرَادَ ثَلَاثًا ، فَهِيَ ثَلَاثٌ ، وَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً ، فَهِيَ وَاحِدَةٌ ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا ، فَكَلَامُ أَحْمَدَ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ ثَلَاثًا ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَالَ : أَنْتِ الطَّلَاقُ .
فَهَذَا قَدْ بَيَّنَ .
أَيَّ شَيْءٍ بَقِيَ .
هِيَ ثَلَاثٌ .
وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ .
وَيُخَرَّجُ فِيهَا أَنَّهَا وَاحِدَةٌ ، بِنَاءً عَلَى الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا .
وَوَجْهُ الْقَوْلَيْنِ مَا تَقَدَّمَ ، وَمِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّهُ يُرَادُ بِهَا الْوَاحِدُ قَوْلُ الشَّاعِرِ : فَأَنْتِ الطَّلَاقُ وَأَنْتِ الطَّلَاقُ وَأَنْتِ الطَّلَاقُ ثَلَاثًا تَمَامًا فَجَعَلَ الْمُكَرَّرَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا ، وَلَوْ كَانَ لِلِاسْتِغْرَاقِ لَكَانَ ذَلِكَ تِسْعًا .

( 6019 ) فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ : الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي .
أَوْ : الطَّلَاقُ لِي لَازِمٌ .
فَهُوَ صَرِيحٌ ؛ فَإِنَّهُ يُقَالُ لِمَنْ وَقَعَ طَلَاقُهُ : لَزِمَهُ الطَّلَاقُ .
وَقَالُوا : إذَا عَقَلَ الصَّبِيُّ الطَّلَاقَ ، فَطَلَّقَ ، لَزِمَهُ .
وَلَعَلَّهُمْ أَرَادُوا : لَزِمَهُ حُكْمُهُ .
فَحَذَفُوا الْمُضَافَ ، وَأَقَامُوا الْمُضَافَ إلَيْهِ مُقَامَهُ ، ثُمَّ اشْتَهَرَ ذَلِكَ ، حَتَّى صَارَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْعُرْفِيَّةِ ، وَانْغَمَرَتْ الْحَقِيقَةُ فِيهِ .
وَيَقَعُ بِهِ مَا نَوَاهُ مِنْ وَاحِدَةٍ ، أَوْ اثْنَتَيْنِ ، أَوْ ثَلَاثٍ .
وَإِنْ أَطْلَقَ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ ، وَجْهُهُمَا مَا تَقَدَّمَ .
وَإِنْ قَالَ : عَلَيَّ الطَّلَاقُ .
فَهُوَ بِمَثَابَةِ قَوْلِهِ : الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي ، لِأَنَّ مَنْ لَزِمَهُ شَيْءٌ فَهُوَ عَلَيْهِ كَالدَّيْنِ ، وَقَدْ اشْتَهَرَ اسْتِعْمَالُ هَذَا فِي إيقَاعِ الطَّلَاقِ .
وَيُخَرَّجُ فِيهِ فِي حَالَةِ الْإِطْلَاقِ الرِّوَايَتَانِ ؛ هَلْ هُوَ ثَلَاثٌ أَوْ وَاحِدَةٌ ؟ وَالْأَشْبَهُ فِي هَذَا جَمِيعِهِ أَنْ يَكُونَ وَاحِدَةً ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْعُرْفِ لَا يَعْتَقِدُونَهُ ثَلَاثًا ، وَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ لِلِاسْتِغْرَاقِ ، وَلِهَذَا يُنْكِرُ أَحَدُهُمْ أَنْ يَكُونَ طَلَّقَ ثَلَاثًا ، وَلَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ طَلَّقَ إلَّا وَاحِدَةً ، فَمُقْتَضَى اللَّفْظِ فِي ظَنِّهِمْ وَاحِدَةً ، فَلَا يُرِيدُونَ إلَّا مَا يَعْتَقِدُونَهُ مُقْتَضَى لِلَفْظِهِمْ ، فَيَصِيرُ كَأَنَّهُمْ نَوَوْا الْوَاحِدَةَ .

( 6020 ) فَصْلٌ : وَإِنْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ .
طَلُقَتْ وَاحِدَةً فِي وَقْتِ السُّنَّةِ .
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى أَنَّهَا تَطْلُقُ ثَلَاثًا ، فِي ثَلَاثَةِ قُرُوءٍ ، بِنَاءً مِنْهُ عَلَى أَنَّ هَذَا هُوَ السُّنَّةُ .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ طَلَاقَ السُّنَّةِ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ ، فِي طُهْرٍ لَمْ يُصِبْهَا فِيهِ .
وَإِنْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقَ السُّنَّةِ .
وَقَعَتْ بِهَا وَاحِدَةً فِي طُهْرٍ لَمْ يُصِبْهَا فِيهِ أَيْضًا ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الثَّلَاثَ ، فَتَكُونَ ثَلَاثًا ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْمَصْدَرَ ، وَالْمَصْدَرُ يَقَعُ عَلَى الْكَثِيرِ وَالْقَلِيلِ ، بِخِلَافِ الَّتِي قَبْلَهَا .

( 6021 ) فَصْلٌ : وَإِنْ قَالَ الْعَجَمِيُّ : بهشتم لبسيار .
طَلُقَتْ امْرَأَتُهُ ثَلَاثًا .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ : أَنْتِ طَالِقٌ كَثِيرًا .
وَإِنْ قَالَ : بهشتم .
فَحَسْبُ ، طَلُقَتْ وَاحِدَةً ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَ ثَلَاثًا ، فَتَكُونَ ثَلَاثًا .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ .
وَقَالَ الْقَاضِي : يَتَخَرَّجُ فِيهِ رِوَايَتَانِ ؛ بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا صَرِيحٌ ، وَذَاكَ صَرِيحٌ ، فَهُمَا سَوَاءٌ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَقَعُ مَا نَوَاهُ ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهَا خَلَّيْتُك ، وَخَلَّيْتُك يَقَعُ بِهَا مَا نَوَاهُ ، وَكَذَا هَاهُنَا ، وَإِنَّمَا صَارَتْ صَرِيحَةً لِشُهْرَةِ اسْتِعْمَالِهَا فِي الطَّلَاقِ ، وَتَعَيُّنِهَا لَهُ ، وَذَلِكَ لَا يَنْفِي مَعْنَاهَا ، وَلَا يَمْنَعُ الْعَمَلَ بِهِ إذَا أَرَادَهُ .
وَإِنْ قَالَ : فَارَقَتْك .
أَوْ : سَرَّحْتُكِ .
وَنَوَى وَاحِدَةً ، أَوْ أَطْلَقَ ، فَهِيَ وَاحِدَةٌ .
وَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا ، فَهِيَ ثَلَاثٌ ؛ لِأَنَّهُ فِعْلٌ يُمْكِنُ أَنْ يُعَبَّرَ بِهِ عَنْ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : طَلَّقْتُكِ .

( 6022 ) فَصْلٌ : وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِغَيْرِ لَفْظِ الطَّلَاقِ ، إلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا ، مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْكَلَامِ ، كَالْأَخْرَسِ إذَا طَلَّقَ بِالْإِشَارَةِ ، طَلُقَتْ زَوْجَتُهُ .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَلَا نَعْلَمُ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافَهُمْ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ لَهُ إلَى الطَّلَاقِ إلَّا بِالْإِشَارَةِ ، فَقَامَتْ إشَارَتُهُ مَقَامَ الْكَلَامِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ ، كَالنِّكَاحِ ، فَأَمَّا الْقَادِرُ ، فَلَا يَصِحُّ طَلَاقُهُ بِالْإِشَارَةِ ، كَمَا لَا يَصِحُّ نِكَاحُهُ بِهَا ، فَإِنْ أَشَارَ الْأَخْرَسُ بِأَصَابِعِهِ الثَّلَاثِ إلَى الطَّلَاقِ ، طَلُقَتْ ثَلَاثًا ؛ لِأَنَّ إشَارَتَهُ جَرَتْ مَجْرَى نُطْقِ غَيْرِهِ .
وَلَوْ قَالَ النَّاطِقُ : أَنْتِ طَالِقٌ .
وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ الثَّلَاثِ .
لَمْ يَقَعْ إلَّا وَاحِدَةٌ ؛ لِأَنَّ إشَارَتَهُ لَا تَكْفِي .
وَإِنْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ هَكَذَا .
وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ الثَّلَاثِ ، طَلُقَتْ ثَلَاثًا ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ هَكَذَا تَصْرِيحٌ بِالتَّشْبِيهِ بِالْأَصَابِعِ فِي الْعَدَدِ ، وَذَلِكَ يَصْلُحُ بَيَانًا ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا } .
وَأَشَارَ بِيَدَيْهِ مَرَّةً ثَلَاثِينَ ، وَمَرَّةً تِسْعًا وَعِشْرِينَ .
وَإِنْ قَالَ : أَرَدْت الْإِشَارَةَ بِالْأُصْبُعَيْنِ الْمَقْبُوضَتَيْنِ قُبِلَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ مَا يَدَّعِيهِ الْمَوْضِعُ الثَّانِي ، إذَا كَتَبَ الطَّلَاقَ ، فَإِنْ نَوَاهُ طَلُقَتْ زَوْجَتُهُ وَبِهَذَا قَالَ الشَّعْبِيُّ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَالْحَكَمُ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٌ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ ، أَنَّ لَهُ قَوْلًا آخَرَ ، أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ ، وَإِنْ نَوَاهُ ؛ لِأَنَّهُ فِعْلٌ مِنْ قَادِرٍ عَلَى النُّطْقِ ، فَلَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ ، كَالْإِشَارَةِ وَلَنَا أَنَّ الْكِتَابَةَ حُرُوفٌ ، يُفْهَمُ مِنْهَا الطَّلَاقُ ، فَإِذَا أَتَى فِيهَا بِالطَّلَاقِ ، وَفُهِمَ مِنْهَا ، وَنَوَاهُ ، وَقَعَ كَاللَّفْظِ ، وَلِأَنَّ الْكِتَابَةَ تَقُومُ مَقَامَ

قَوْلِ الْكَاتِبِ ؛ بِدَلَالَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَأْمُورًا بِتَبْلِيغِ رِسَالَتِهِ ، فَحَصَلَ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْبَعْضِ بِالْقَوْلِ ، وَفِي حَقِّ آخَرِينَ بِالْكِتَابَةِ إلَى مُلُوكِ الْأَطْرَافِ ، وَلِأَنَّ كِتَابَ الْقَاضِي يَقُومُ مَقَامَ لَفْظِهِ فِي إثْبَاتِ الدُّيُونِ وَالْحُقُوقِ ؛ فَأَمَّا إنْ كَانَ كَتَبَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ ، فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : قَدْ خَرَّجَهَا الْقَاضِي الشَّرِيفُ فِي " الْإِرْشَادِ " عَلَى رِوَايَتَيْنِ ؛ إحْدَاهُمَا ، يَقَعُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ ، وَالنَّخَعِيِّ ، وَالزُّهْرِيِّ ، وَالْحَكَمِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا وَالثَّانِيَةُ : لَا يَقَعُ إلَّا بِنِيَّةٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٍ ، وَمَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ مُحْتَمِلَةٌ ، فَإِنَّهُ يُقْصَدُ بِهَا تَجْرِبَةُ الْقَلَمِ ، وَتَجْوِيدُ الْخَطِّ ، وَغَمُّ الْأَهْلِ ، مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ ، كَكِنَايَاتِ الطَّلَاقِ فَإِنْ نَوَى بِذَلِكَ تَجْوِيدَ خَطِّهِ ، أَوْ تَجْرِبَةَ قَلَمِهِ ، لَمْ يَقَعْ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نَوَى بِاللَّفْظِ غَيْرَ الْإِيقَاعِ ، لَمْ يَقَعْ ، فَالْكِتَابَةُ أُولَى وَإِذَا ادَّعَى ذَلِكَ دُيِّنَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَيُقْبَلُ أَيْضًا فِي الْحُكْمِ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ يُقْبَلُ ذَلِكَ فِي اللَّفْظ الصَّرِيحِ ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ؛ فَهَاهُنَا مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِلَفْظِ أُولَى وَإِنْ قَالَ : نَوَيْت غُمَّ أَهْلِي فَقَدْ قَالَ ، فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ ، فِي مَنْ كَتَبَ طَلَاقَ زَوْجَتِهِ ، وَنَوَى الطَّلَاقَ : وَقَعَ ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَغُمَّ أَهْلَهُ ، فَقَدْ عَمِلَ فِي ذَلِكَ أَيْضًا يَعْنِي أَنَّهُ يُؤَاخَذُ بِهِ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ اللَّهَ عَفَا لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَكَلَّمْ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ } فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ ؛ لِأَنَّ غَمَّ أَهْلِهِ يَحْصُلُ بِالطَّلَاقِ ، فَيَجْتَمِعُ غَمُّ أَهْلِهِ وَوُقُوعُ طَلَاقِهِ ، كَمَا لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ يُرِيدُ بِهِ غَمَّهَا وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَقَعَ ؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ

غَمَّ أَهْلِهِ بِتَوَهُّمِ الطَّلَاقِ ، دُونَ حَقِيقَتِهِ ، فَلَا يَكُونُ نَاوِيًا لِلطَّلَاقِ ، وَالْخَبَرُ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى مُؤَاخَذَتِهِ بِمَا نَوَاهُ عِنْدَ الْعَمَلِ بِهِ ، أَوْ الْكَلَامِ ، وَهَذَا لَمْ يَنْوِ طَلَاقًا ، فَلَا يُؤَاخَذُ بِهِ

( 6023 ) فَصْلٌ : وَإِنْ كَتَبَهُ بِشَيْءٍ لَا يَبِينُ مِثْلُ أَنْ كَتَبَ بِأُصْبُعِهِ عَلَى وِسَادَةٍ ، أَوْ فِي الْهَوَاءِ ، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ ، أَنَّهُ لَا يَقَعُ وَقَالَ أَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ : يَقَعُ وَرَوَاهُ الْأَثْرَمُ عَنْ الشَّعْبِيِّ ؛ لِأَنَّهُ كَتَبَ حُرُوفَ الطَّلَاقِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَتَبَهُ بِشَيْءٍ يَبِينُ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ الَّتِي لَا تَبِينُ ، كَالْهَمْسِ بِالْفَمِ ، بِمَا لَا يَتَبَيَّنُ ، وَثَمَّ لَا يَقَعُ ، فَهَاهُنَا أَوْلَى .

( 6024 ) فَصْلٌ : إذَا كَتَبَ لِزَوْجَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ اسْتَمَدَّ ، فَكَتَبَ : إذَا أَتَاك كِتَابِي أَوْ عَلَّقَهُ بِشَرْطٍ ، أَوْ اسْتِثْنَاءٍ ، وَكَانَ فِي حَالِ كِتَابَتِهِ لِلطَّلَاقِ مُرِيدًا لِلشَّرْطِ ، لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ فِي الْحَالِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِ الطَّلَاقَ فِي الْحَالِ ، بَلْ نَوَاهُ فِي وَقْتٍ آخَرَ ، وَإِنْ كَانَ نَوَى الطَّلَاقَ فِي الْحَالِ ، غَيْرَ مُعَلَّقٍ بِشَرْطِ ، طَلُقَتْ لِلْحَالِ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا ، وَقُلْنَا : إنَّ الْمُطْلَقَ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ نَظَرْنَا ، فَإِنْ كَانَ اسْتِمْدَادًا لِحَاجَةٍ ، أَوْ عَادَةٍ ، لَمْ يَقَعْ طَلَاقٌ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ أَدْرَكَهُ النَّفَسُ ، أَوْ شَيْءٌ يُسْكِتُهُ ، فَسَكَتَ لِذَلِكَ ، ثُمَّ أَتَى بِشَرْطِ تَعَلَّقَ بِهِ ، فَالْكِتَابَةُ أَوْلَى وَإِنْ اسْتَمَدَّ لِغَيْرِ حَاجَةٍ وَلَا عَادَةٍ ، وَقَعَ الطَّلَاقُ ، كَمَا لَوْ سَكَتَ بَعْدَ قَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ لِغَيْرِ حَاجَةٍ ، ثُمَّ ذَكَرَ شَرْطًا وَإِنْ قَالَ : إنَّنِي كَتَبْتُهُ مُرِيدًا لِلشَّرْطِ فَقِيَاسُ قَوْلِ أَصْحَابِنَا ، أَنَّهَا لَا تَطْلُقُ قَبْلَ الشَّرْط إلَّا أَنَّهُ يَدِينُ وَهَلْ يُقْبَلُ فِي الْحُكْمِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِمْ فِي مَنْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ قَالَ : أَرَدْت تَعْلِيقَهُ عَلَى شَرْطٍ وَإِنْ كَتَبَ إلَى امْرَأَتِهِ : أَمَّا بَعْدُ ، فَأَنْتِ طَالِقٌ طَلُقَتْ فِي الْحَالِ ، سَوَاءٌ وَصَلَ إلَيْهَا الْكِتَابُ ، أَوْ لَمْ يَصِلْ وَعِدَّتُهَا مِنْ حِينَ كَتَبَهُ وَإِنْ كَتَبَ إلَيْهَا : إذَا وَصَلَكِ كِتَابِي فَأَنْتِ طَالِقٌ فَأَتَاهَا الْكِتَابُ ، طَلُقَتْ عِنْدَ وُصُولِهِ إلَيْهَا ، وَإِنْ ضَاعَ وَلَمْ يَصِلْهَا ، لَمْ تَطْلُقْ ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ وُصُولُهُ وَإِنْ ذَهَبَتْ كِتَابَتُهُ بِمَحْوٍ ، أَوْ غَيْرِهِ ، وَوَصَلَ الْكَاغَدُ ، لَمْ تَطْلُقْ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِكِتَابٍ وَكَذَلِكَ إنْ انْطَمَسَ مَا فِيهِ لِعَرَقٍ ، أَوْ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ عِبَارَةٌ عَمَّا فِيهِ الْكِتَابَةُ وَإِنْ ذَهَبَتْ حَوَاشِيهِ ، أَوْ تَخَرَّقَ مِنْهُ شَيْءٌ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ كِتَابًا ، وَوَصَلَ بَاقِيهِ طَلُقَتْ

؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ كِتَابٌ وَإِنْ تَخَرَّقَ بَعْضُ مَا فِيهِ الْكِتَابَةُ سِوَى مَا فِيهِ ذِكْرُ الطَّلَاقِ فَوَصَلَ طَلُقَتْ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بَاقٍ ، فَيَنْصَرِفُ الِاسْمُ إلَيْهِ وَإِنْ تَخَرَّقَ مَا فِيهِ ذِكْرُ الطَّلَاقِ فَذَهَبَ ، وَوَصَلَ بَاقِيهِ ، لَمْ تَطْلُقْ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ ذَاهِبٌ فَإِنْ قَالَ لَهَا : إذَا أَتَاكِ طَلَاقِي فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ كَتَبَ إلَيْهَا : إذَا أَتَاك كِتَابِي فَأَنْتِ طَالِقٌ فَأَتَاهَا الْكِتَابُ ، طَلُقَتْ طَلْقَتَيْنِ ؛ لِوُجُودِ الصِّفَتَيْنِ فِي مَجِيءِ الْكِتَابِ فَإِنْ قَالَ : أَرَدْت إذَا أَتَاك كِتَابِي ، فَأَنْتِ طَالِقٌ بِذَلِكَ الطَّلَاقِ الَّذِي عَلَّقْته دُيِّنَ وَهَلْ يُقْبَلُ فِي الْحُكْمِ ؟ يُخَرَّجُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ .

( 6025 ) فَصْلٌ : وَلَا يَثْبُتُ الْكِتَابُ بِالطَّلَاقِ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ ، أَنَّ هَذَا كِتَابُهُ قَالَ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ فِي امْرَأَةٍ أَتَاهَا كِتَابُ زَوْجِهَا بِخَطِّهِ وَخَاتَمِهِ بِالطَّلَاقِ : لَا تَتَزَوَّجُ حَتَّى يَشْهَدَ عِنْدَهَا شُهُودٌ عُدُولٌ قِيلَ لَهُ : فَإِنْ شَهِدَ حَامِلُ الْكِتَابِ ؟ قَالَ : لَا ، إلَّا شَاهِدَانِ فَلَمْ يَقْبَلْ قَوْلَ حَامِلِ الْكِتَابِ وَحْدَهُ حَتَّى يَشْهَدَ مَعَهُ غَيْرُهُ ؛ لِأَنَّ الْكُتُبَ الْمُثْبِتَةَ لِلْحُقُوقِ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ ، كَكِتَابِ الْقَاضِي وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ ، أَنَّ الْكِتَابَ يَثْبُتُ عِنْدَهَا بِشَهَادَتِهِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدَا بِهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ ؛ لِأَنَّ أَثَرَهُ فِي حَقِّهَا فِي الْعِدَّةِ ، وَجَوَازِ التَّزْوِيجِ بَعْدَ انْقِضَائِهَا ، وَهَذَا مَعْنًى يَخْتَصُّ بِهِ لَا يَثْبُتُ بِهِ حَقٌّ عَلَى الْغَيْرِ ، فَاكْتُفِيَ فِيهِ بِسَمَاعِهَا لِلشَّهَادَةِ وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ ، أَنَّ هَذَا خَطُّ فُلَانٍ ، لَمْ يُقْبَلْ ؛ لِأَنَّ الْخَطَّ يُشَبَّهُ بِهِ وَيُزَوَّرُ ، وَلِهَذَا لَمْ يَقْبَلْهُ الْحَاكِمُ ، وَلَوْ اُكْتُفِيَ بِمَعْرِفَةِ الْخَطِّ ، لَاكْتُفِيَ بِمَعْرِفَتِهَا لَهُ مِنْ غَيْرِ شَهَادَةٍ وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ لَا يَصِحُّ شَهَادَةُ الشَّاهِدَيْنِ ، حَتَّى يُشَاهِدَاهُ يَكْتُبُهُ ، ثُمَّ لَا يَغِيبُ عَنْهُمَا حَتَّى يُؤَدِّيَا الشَّهَادَةَ وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطِ فَإِنَّ كِتَابَ الْقَاضِي لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ ذَلِكَ فَهَذَا أَوْلَى ، وَقَدْ يَكُونُ صَاحِبُ الْكِتَابِ لَا يَعْرِفُ الْكِتَابَةَ وَإِنَّمَا يَسْتَنِيبُ فِيهَا وَقَدْ يَسْتَنِيبُ فِيهَا مِنْ يَعْرِفُهَا بَلْ مَتَى أَتَاهَا بِكِتَابٍ وَقَرَأَهُ عَلَيْهِمَا وَقَالَ : هَذَا كِتَابِي كَانَ لَهُمَا أَنْ يَشْهَدَا بِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَإِذَا قَالَ لَهَا : نِصْفُك طَالِقٌ أَوْ يَدُك أَوْ عُضْوٌ مِنْ أَعْضَائِك طَالِقٌ أَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ تَطْلِيقَةٍ أَوْ رُبْعَ تَطْلِيقَةٍ وَقَعَتْ بِهَا وَاحِدَةٌ ) الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة فِي فَصْلَيْنِ : ( 6027 ) الْفَصْلُ الْأَوَّلُ أَنَّهُ إذَا طَلَّقَ جُزْءًا مِنْهَا وَالثَّانِي إذَا طَلَّقَ جُزْءًا مِنْ طَلْقَةٍ فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَإِنَّهُ مَتَى طَلَّقَ مِنْ الْمَرْأَةِ جُزْءًا مِنْ أَجْزَائِهَا الثَّابِتَةِ طَلُقَتْ كُلُّهَا سَوَاءٌ كَانَ جُزْءًا شَائِعًا كَنِصْفِهَا أَوْ سُدْسِهَا أَوْ جُزْءًا مِنْ أَلْفِ جُزْءٍ مِنْهَا أَوْ جُزْءًا مُعَيَّنًا كَيَدِهَا أَوْ رَأْسِهَا أَوْ أُصْبُعِهَا وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ صَاحِبِ مَالِك وَذَهَبَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ إلَى أَنَّهُ إنْ أَضَافَهُ إلَى جُزْءٍ شَائِعٍ أَوْ وَاحِدٍ مِنْ أَعْضَاءٍ خَمْسَةٍ ؛ الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ وَالرَّقَبَةِ وَالظَّهْرِ وَالْفَرْجِ طَلُقَتْ وَإِنْ أَضَافَهُ إلَى جُزْءٍ مُعَيَّنٍ غَيْرِ هَذِهِ الْخَمْسَةِ لَمْ تَطْلُقْ ؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ تَبْقَى الْجُمْلَةُ مِنْهُ بِدُونِهِ أَوْ جُزْءٌ لَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْجُمْلَةِ فَلَمْ تَطْلُقُ الْمَرْأَةُ بِإِضَافَةِ الطَّلَاقِ إلَيْهِ كَالسِّنِّ وَالظُّفْرِ وَلَنَا أَنَّهُ أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى جُزْءٍ ثَابِتٍ اسْتَبَاحَهُ بِعَقْدِ النِّكَاحِ فَأَشْبَهَ الْجُزْءَ الشَّائِعَ وَالْأَعْضَاءَ الْخَمْسَةَ وَلِأَنَّهَا جُمْلَةٌ لَا تَتَبَعَّضُ فِي الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ وُجِدَ فِيهَا مَا يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ وَالْإِبَاحَةَ فَغَلَبَ فِيهَا حُكْمُ التَّحْرِيمِ كَمَا لَوْ اشْتَرَكَ مُسْلِمٌ وَمَجُوسِيٌّ فِي قَتْلِ صَيْدٍ وَفَارَقَ مَا قَاسُوا عَلَيْهِ ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِثَابِتِ وَالشَّعْرُ وَالظُّفْرُ لَيْسَ بِثَابِتِ فَإِنَّهُمَا يَزُولَانِ وَيَخْرُجُ غَيْرُهُمَا وَلَا يَنْقُضُ مَسُّهُمَا الطَّهَارَةَ .

( 6028 ) الْفَصْلُ الثَّانِي : إذَا طَلَّقَهَا نِصْفَ تَطْلِيقَةٍ أَوْ جُزْءًا مِنْهَا وَإِنْ قَلَّ فَإِنَّهُ يَقَعُ بِهَا طَلْقَةٌ كَامِلَةٌ فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ إلَّا دَاوُد قَالَ : لَا تَطْلُقْ بِذَلِكَ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ أَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهَا تَطْلُقُ بِذَلِكَ ؛ مِنْهُمْ الشَّعْبِيُّ وَالْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَقَتَادَةُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَأَبُو عُبَيْدٍ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَهْلِ الْحِجَازِ وَالثَّوْرِيِّ وَأَهْلِ الْعِرَاقِ وَذَلِكَ لِأَنَّ ذِكْرَ بَعْضِ مَا لَا يَتَبَعَّضُ فِي الطَّلَاقِ ذِكْرٌ لِجَمِيعِهِ كَمَا لَوْ قَالَ : نِصْفُك طَالِقٌ .

( 6029 ) فَصْلٌ : فَإِنْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَيْ طَلْقَةٍ وَقَعَتْ طَلْقَةٌ ؛ لِأَنَّ نِصْفَيْ الشَّيْءِ كُلُّهُ وَإِنْ قَالَ : ثَلَاثَةَ أَنْصَافِ طَلْقَةٍ طَلُقَتْ طَلْقَتَيْنِ ؛ لِأَنَّ ثَلَاثَةَ أَنْصَافٍ طَلْقَةٌ وَنِصْفٌ فَكُمِّلَ النِّصْفُ فَصَارَا طَلْقَتَيْنِ وَهَذَا وَجْهٌ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَلَهُمْ وَجْهٌ آخَرُ أَنَّهَا لَا تَطْلُقُ إلَّا وَاحِدَةً ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْأَنْصَافَ مِنْ طَلْقَةٍ وَاحِدَةً فَيَسْقُطُ مَا لَيْسَ مِنْهَا وَتَقَعُ طَلْقَةٌ وَلَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ إسْقَاطَ الطَّلَاقِ الْمُوقَعِ مِنْ الْأَهْلِ فِي الْمَحِلِّ لَا سَبِيلَ إلَيْهِ وَإِنَّمَا الْإِضَافَةُ إلَى الطَّلْقَة الْوَاحِدَةِ غَيْرُ صَحِيحَةٍ فَلَغَتْ الْإِضَافَةُ وَإِنْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ طَلْقَتَيْنِ طَلُقَتْ وَاحِدَةً ؛ لِأَنَّ نِصْفَ الطَّلْقَتَيْنِ طَلْقَةٌ وَذَكَرَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَجْهًا آخَرَ أَنَّهُ يَقَعُ طَلْقَتَانِ ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَقْتَضِي النِّصْفَ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ثُمَّ يُكَمَّلُ وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ التَّنْصِيفَ يَتَحَقَّقُ بِهِ وَفِيهِ عَمَلٌ بِالْيَقِينِ وَإِلْغَاءُ الشَّكِّ وَإِيقَاعُ مَا أَوْقَعَهُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ فَكَانَ أَوْلَى وَإِنْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَيْ طَلْقَتَيْنِ وَقَعَتْ طَلْقَتَانِ ؛ لِأَنَّ نِصْفَيْ الشَّيْءِ جَمِيعُهُ فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَتَيْنِ وَإِنْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ ثَلَاثِ طَلَقَاتٍ طَلُقَتْ طَلْقَتَيْنِ ؛ لِأَنَّ نِصْفَهَا طَلْقَةٌ وَنِصْفٌ ثُمَّ يُكَمَّلُ النِّصْفُ فَتَصِيرُ طَلْقَتَيْنِ .

( 6030 ) فَصْلٌ : وَإِنْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ وَثُلُثَ وَسُدْسَ طَلْقَةٍ وَقَعَتْ طَلْقَةٌ ؛ لِأَنَّهَا أَجْزَاءُ الطَّلْقَةِ وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ طَلْقَةٍ وَثُلُثَ طَلْقَةٍ وَسُدْسَ طَلْقَةٍ فَقَالَ أَصْحَابُنَا : يَقَعُ ثَلَاثٌ ؛ لِأَنَّهُ عَطَفَ جُزْءًا مِنْ طَلْقَةٍ عَلَى جُزْءٍ مِنْ طَلْقَةٍ فَظَاهِرُهُ أَنَّهَا طَلَقَاتٌ مُتَغَايِرَةٌ وَلِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ الثَّانِيَةُ هِيَ الْأُولَى لَجَاءَ بِهَا فَاللَّامُ التَّعْرِيفِ فَقَالَ : ثُلُثَ الطَّلْقَةِ وَسُدْسَ الطَّلْقَةِ فَإِنَّ أَهْلَ الْعَرَبِيَّةِ قَالُوا : إذَا ذُكِرَ لَفْظٌ ثُمَّ أُعِيدَ مُنَكَّرًا فَالثَّانِي غَيْرُ الْأَوَّلِ وَإِنْ أُعِيدَ مُعَرَّفًا بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ فَالثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا } فَالْعُسْرُ الثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ ؛ لِإِعَادَتِهِ مُعَرَّفًا وَالْيُسْرُ الثَّانِي غَيْرُ الْأَوَّلِ ؛ لِإِعَادَتِهِ مُنْكَرًا وَلِهَذَا قِيلَ : لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنَ وَقِيلَ : لَوْ أَرَادَ بِالثَّانِيَةِ الْأُولَى لَذَكَرَهَا بِالضَّمِيرِ ؛ لِأَنَّهُ الْأَوْلَى وَإِنْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ طَلْقَةٍ ثُلُثَ طَلْقَةٍ سُدْسَ طَلْقَةٍ طَلُقَتْ طَلْقَةً ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْطِفْ بِوَاوِ الْعَطْفِ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَجْزَاءَ مِنْ طَلْقَةٍ غَيْرِ مُتَغَايِرَةٍ وَلِأَنَّهُ يَكُونُ الثَّانِي هَاهُنَا بَدَلًا مِنْ الْأَوَّلِ وَالثَّالِثُ مِنْ الثَّانِي وَالْبَدَلُ هُوَ الْمُبْدَلُ أَوْ بَعْضُهُ فَلَمْ يَقْتَضِ الْمُغَايَرَةَ وَعَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً نِصْفَ طَلْقَةٍ أَوْ طَلْقَةً طَلْقَةً لَمْ تَطْلُقْ إلَّا طَلْقَةً فَإِنْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفًا وَثُلُثًا وَسُدْسًا لَمْ يَقَعْ إلَّا طَلْقَةٌ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ أَجْزَاءُ الطَّلْقَةِ إلَّا أَنْ يُرِيدَ مِنْ كُلِّ طَلْقَةٍ جُزْءًا فَتَطْلُقُ ثَلَاثًا وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفًا وَثُلُثًا وَرُبْعًا طَلُقَتْ طَلْقَتَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ يَزِيدُ عَلَى الطَّلْقَةِ نِصْفَ سُدْسٍ ثُمَّ يُكَمَّلُ وَإِنْ أَرَادَ مِنْ كُلِّ طَلْقَةٍ جُزْءًا طَلُقَتْ ثَلَاثًا وَإِنْ قَالَ : أَنْتِ

طَلْقَةٌ أَوْ : أَنْتِ نِصْفُ طَلْقَةٍ أَوْ أَنْتِ نِصْفُ طَلْقَةٍ ثُلُثُ طَلْقَةٍ سُدُسُ طَلْقَةٍ أَوْ أَنْتِ نِصْفُ طَالِقٍ وَقَعَ بِهَا طَلْقَةٌ ؛ بِنَاءً عَلَى قَوْلِنَا فِي : أَنْتِ الطَّلَاقُ أَنَّهُ صَرِيحٌ فِي الطَّلَاقِ وَهَاهُنَا مِثْلُهُ .

( 6031 ) فَصْلٌ : فَإِنْ قَالَ لِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ لَهُ : أَوْقَعْت بَيْنَكُنَّ طَلْقَةً طَلُقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ طَلْقَةً كَذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ وَالشَّافِعِيُّ وَابْنُ الْقَاسِمِ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ اقْتَضَى قَسَمَهَا بَيْنِهِنَّ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ رُبْعُهَا ثُمَّ تَكَمَّلَتْ وَإِنْ قَالَ : بَيْنَكُنَّ طَلْقَةٌ فَكَذَلِكَ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَوْقَعْت بَيْنَكُنَّ طَلْقَةً وَإِنْ قَالَ : أَوْقَعْت بَيْنَكُنَّ طَلْقَتَيْنِ وَقَعَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ طَلْقَةٌ ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَالْقَاضِي : تَطْلُقُ كُلُّ وَاحِدَةٍ طَلْقَتَيْنِ وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ فِي رَجُلٍ قَالَ : أَوْقَعْت بَيْنَكُنَّ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ : مَا أَرَى إلَّا قَدْ بِنَّ مِنْهُ ؛ لِأَنَّنَا إذَا قَسَمْنَا كُلَّ طَلْقَةٍ بَيْنِهِنَّ حَصَلَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ جُزْءَانِ مِنْ طَلْقَتَيْنِ ثُمَّ تُكَمَّلُ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ طَلْقَتَيْنِ طَلُقَتْ وَاحِدَةً وَيُكَمَّلُ نَصِيبُهَا مِنْ الطَّلَاقِ فِي وَاحِدَةٍ فَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ نِصْفٌ ثُمَّ يُكَمَّلُ طَلْقَةً وَاحِدَةً وَإِنَّمَا يُقْسَمُ بِالْأَجْزَاءِ مَعَ الِاخْتِلَافِ كَالدُّورِ وَنَحْوِهَا مِنْ الْمُخْتَلِفَاتِ أَمَّا الْجُمَلُ الْمُتَسَاوِيَةُ مِنْ جِنْسٍ كَالنُّقُودِ فَإِنَّمَا تُقْسَمُ بِرُءُوسِهَا وَيُكَمَّلُ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ وَاحِدٍ كَأَرْبَعَةِ لَهُمْ دِرْهَمَانِ صَحِيحَانِ فَإِنَّهُ يُجْعَلُ لِكُلِّ وَاحِدٍ نِصْفٌ مِنْ دِرْهَمٍ وَاحِدٍ وَالطَّلَقَاتُ لَا اخْتِلَافَ فِيهَا ؛ وَلِأَنَّ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ أَخْذًا بِالْيَقِينِ فَكَانَ أَوْلَى مِنْ إيقَاعِ طَلْقَةٍ زَائِدَةٍ بِالشَّكِّ فَإِنْ أَرَادَ قِسْمَةَ كُلِّ طَلْقَةٍ بَيْنِهِنَّ فَهُوَ عَلَى مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَإِنْ قَالَ : أَوْقَعْت بَيْنَكُنَّ ثَلَاثَ طَلَقَاتٍ أَوْ أَرْبَعَ طَلَقَاتٍ فَعَلَى قَوْلِنَا : تَطْلُقُ كُلُّ وَاحِدَةٍ طَلْقَةً وَعَلَى قَوْلِهِمَا يَطْلُقْنَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا ، وَإِنْ قَالَ : أَوْقَعْت بَيْنَكُنَّ

خَمْسَ طَلَقَاتٍ وَقَعَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ طَلْقَتَانِ كَذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدَةٍ طَلْقَةٌ وَرُبْعٌ ثُمَّ تُكَمَّلُ وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ : سِتًّا أَوْ سَبْعًا أَوْ ثَمَانِيًا وَإِنْ قَالَ : أَوْقَعْت بَيْنكُنَّ تِسْعًا طَلُقْنَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا .

( 6032 ) فَصْلٌ : فَإِنْ قَالَ : أَوْقَعْت بَيْنَكُنَّ طَلْقَةً وَطَلْقَةً وَطَلْقَةً وَقَعَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ثَلَاثٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا عَطَفَ وَجَبَ قَسَمُ كُلِّ طَلْقَةٍ عَلَى حِدَتِهَا وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْمَدْخُولُ بِهَا وَغَيْرُهَا فِي قِيَاسِ الْمَذْهَبِ ؛ لِأَنَّ الْوَاوَ لَا تَقْتَضِي تَرْتِيبًا وَإِنْ قَالَ : أَوْقَعْت بَيْنَكُنَّ نِصْفَ طَلْقَةٍ وَثُلُثَ طَلْقَةٍ وَسُدْسَ طَلْقَةٍ فَكَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ هَذَا يَقْتَضِي وُقُوعَ ثَلَاثٍ عَلَى مَا قَدَّمْنَا وَإِنْ قَالَ : أَوْقَعْت بَيْنَكُنَّ طَلْقَةً فَطَلْقَةً فَطَلْقَةً أَوْ طَلْقَةً ثُمَّ طَلْقَةً ثُمَّ طَلْقَةً أَوْ أَوْقَعْت بَيْنَكُنَّ طَلْقَةً وَأَوْقَعْت بَيْنَكُنَّ طَلْقَةً وَأَوْقَعْت بَيْنكُنَّ طَلْقَةً طَلُقْنَ ثَلَاثًا إلَّا الَّتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَطْلُقُ إلَّا وَاحِدَةً ؛ لِأَنَّهَا بَانَتْ بِالْأُولَى فَلَمْ يَلْحَقْهَا مَا بَعْدَهَا .

( 6033 ) فَصْلٌ : فَإِنْ قَالَ لِنِسَائِهِ : أَنْتُنَّ طَوَالِقُ ثَلَاثًا أَوْ : طَلَّقْتُكُنَّ ثَلَاثًا طَلُقْنَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ طَلَّقْتُكُنَّ يَقْتَضِي تَطْلِيقَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ وَتَعْمِيمَهُنَّ بِهِ ثُمَّ وَصَفَ مَا عَمّهنَّ بِهِ مِنْ الطَّلَاقِ بِأَنَّهُ ثَلَاثٌ فَصَارَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ ثَلَاثٌ بِخِلَافِ قَوْلِهِ : أَوْقَعْت بَيْنَكُنَّ ثَلَاثًا فَإِنَّهُ يَقْتَضِي قِسْمَةَ الثَّلَاثِ عَلَيْهِنَّ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ جُزْءٌ مِنْهَا وَجُزْءُ الْوَاحِدَةِ مِنْ الثَّلَاثِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ تَطْلِيقَةٍ .

( 6034 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَإِنْ قَالَ لَهَا : شَعْرُك أَوْ ظُفْرُك طَالِقٌ لَمْ تَطْلُقْ ) لِأَنَّ الشَّعْرَ وَالظُّفْرَ يَزُولَانِ وَيَخْرُجُ غَيْرُهُمَا فَلَيْسَ هُمَا كَالْأَعْضَاءِ الثَّابِتَةِ وَبِهَذَا قَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ : تَطْلُقُ بِذَلِكَ ، وَنَحْوُهُ عَنْ الْحَسَنِ ؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ يُسْتَبَاحُ بِنِكَاحِهَا فَتَطْلُقُ بِطَلَاقِهِ كَالْأُصْبُعِ وَلَنَا أَنَّهُ جُزْءٌ يَنْفَصِلُ عَنْهَا فِي حَالِ السَّلَامَةِ فَلَمْ تَطْلُقْ بِطَلَاقِهِ كَالْحَمْلِ وَالرِّيقِ فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ فِيهِمَا وَفَارَقَ الْأُصْبُعَ فَإِنَّهَا لَا تَنْفَصِلُ فِي حَالِ السَّلَامَةِ وَلِأَنَّ الشَّعْرَ لَا رُوحَ فِيهِ وَلَا يُنَجَّسُ بِمَوْتِ الْحَيَوَانِ وَلَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ مَسُّهُ فَأَشْبَهَ الْعَرَقَ وَالرِّيقَ وَاللَّبَنَ وَلِأَنَّ الْحَمْلَ مُتَّصِلٌ بِهَا وَإِنَّمَا لَمْ تَطْلُقْ بِطَلَاقِهِ ؛ لِأَنَّ مَآلَهُ إلَى الِانْفِصَالِ وَهَذِهِ كَذَلِكَ وَالسِّنُّ فِي مَعْنَاهُمَا ؛ لِأَنَّهَا تَزُولُ مِنْ الصَّغِيرِ وَيَخْلُفُ غَيْرُهَا وَتَنْقَلِعُ مِنْ الْكَبِيرِ .

فَصْلٌ : وَإِنْ أَضَافَهُ إلَى الرِّيقِ وَالدَّمْعِ وَالْعَرَقِ وَالْحَمْلِ لَمْ تَطْلُقْ لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا ؛ لِأَنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ مِنْ جِسْمِهَا وَإِنَّمَا الرِّيقُ وَالدَّمْعُ وَالْعَرَقُ فَضَلَاتٌ تَخْرُجُ مِنْ جِسْمِهَا فَهُوَ كَلَبَنِهَا وَالْحَمْلُ مُودَعٌ فِيهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ } قِيلَ : مُسْتَوْدَعٌ فِي بَطْنِ الْأُمِّ وَإِنْ أَضَافَهُ إلَى الزَّوْجِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : لَا يَخْتَلِفُ قَوْلُ أَحْمَدَ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالظِّهَارِ وَالْحَرَامِ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَا تَقَعُ إذَا ذَكَرَ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ ؛ الشَّعْرَ وَالسِّنَّ وَالظُّفْرَ وَالرُّوحَ جَرَّدَ الْقَوْلَ عَنْهُ مُهَنَّا بْنُ يَحْيَى وَالْفَضْلُ بْنُ زِيَادٍ الْقَطَّانُ فَبِذَلِكَ أَقُولُ وَوَجْهُهُ أَنَّ الرُّوحَ لَيْسَتْ عُضْوًا وَلَا شَيْئًا يُسْتَمْتَعُ بِهِ .

( 6036 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَإِذَا لَمْ يَدْرِ أَطَلَّقَ أَمْ لَا فَلَا يَزُولُ يَقِينُ النِّكَاحِ بِشَكِّ الطَّلَاقِ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ شَكَّ فِي طَلَاقِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ حُكْمُهُ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ ثَابِتٌ بِيَقِينٍ فَلَا يَزُولُ بِشَكٍّ وَالْأَصْلُ فِي هَذَا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ { النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يُخَيَّلُ إلَيْهِ أَنَّهُ يَجِدُ الشَّيْءَ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ : لَا يَنْصَرِفُ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فَأَمَرَهُ بِالْبِنَاءِ عَلَى الْيَقِينِ وَاطِّرَاحِ الشَّكِّ وَلِأَنَّهُ شَكٌّ طَرَأَ عَلَى يَقِينٍ فَوَجَبَ اطِّرَاحُهُ كَمَا لَوْ شَكَّ الْمُتَطَهِّرُ فِي الْحَدَثِ أَوْ الْمُحْدِثُ فِي الطَّهَارَةِ ، وَالْوَرَعُ الْتِزَامُ الطَّلَاقِ ، فَإِنْ كَانَ الْمَشْكُوكُ فِيهِ طَلَاقًا رَجْعِيًّا رَاجَعَ امْرَأَتَهُ إنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا أَوْ جَدَّدَ نِكَاحَهَا إنْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا أَوْ قَدْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَإِنْ شَكَّ فِي طَلَاقِ ثَلَاثٍ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً وَتَرَكَهَا ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُطَلِّقْهَا فَيَقِينُ نِكَاحِهِ بَاقٍ فَلَا تَحِلُّ لِغَيْرِهِ ، وَحُكِيَ عَنْ شَرِيكٍ أَنَّهُ إذَا شَكَّ فِي طَلَاقِهِ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً ثُمَّ رَاجَعَهَا ؛ لِتَكُونَ الرَّجْعَةُ عَنْ طَلْقَةٍ فَتَكُونَ صَحِيحَةً فِي الْحُكْمِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ التَّلَفُّظَ بِالرَّجْعَةِ مُمْكِنٌ مَعَ الشَّكِّ فِي الطَّلَاقِ وَلَا يَفْتَقِرُ إلَى مَا تَفْتَقِرُ إلَيْهِ الْعِبَادَاتُ مِنْ النِّيَّةِ وَلِأَنَّهُ لَوْ شَكَّ فِي طَلْقَتَيْنِ فَطَلَّقَ وَاحِدَةً لَصَارَ شَاكًّا فِي تَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ فَلَا تُفِيدُهُ الرَّجْعَةُ .

( 6037 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَإِذَا طَلَّقَ فَلَمْ يَدْرِ أَوَاحِدَةً طَلَّقَ أَمْ ثَلَاثًا اعْتَزَلَهَا وَعَلَيْهِ نَفَقَتُهَا مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ ، فَإِنْ رَاجَعَهَا فِي الْعِدَّةِ لَزِمَتْهُ النَّفَقَةُ وَلَمْ يَطَأْهَا حَتَّى يَتَيَقَّنَ كَمْ الطَّلَاقُ ؛ لِأَنَّهُ مُتَيَقِّنٌ لِلتَّحْرِيمِ شَاكٌّ فِي التَّحْلِيلِ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا طَلَّقَ وَشَكَّ فِي عَدَدِ الطَّلَاقِ فَإِنَّهُ يَبْنِي عَلَى الْيَقِينِ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ فِي رَجُلٍ لَفَظَ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ لَا يَدْرِي وَاحِدَةً أَمْ ثَلَاثًا ؟ قَالَ : أَمَّا الْوَاحِدَةُ فَقَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ وَهِيَ عِنْدَهُ حَتَّى يَسْتَيْقِنَ وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ ؛ لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَى الْقَدْرِ الَّذِي تَيَقَّنَهُ طَلَاقٌ مَشْكُوكٌ فِيهِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ كَمَا لَوْ شَكَّ فِي أَصْلِ الطَّلَاقِ ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ تَبْقَى أَحْكَامُ الْمُطَلِّقِ دُونَ الثَّلَاثِ مِنْ إبَاحَةِ الرَّجْعَةِ .
وَإِذَا رَاجَعَ وَجَبَتْ النَّفَقَةُ وَحُقُوقُ الزَّوْجِيَّةِ قَالَ الْخِرَقِيِّ : وَيَحْرُمُ وَطْؤُهَا وَنَحْوُهُ قَوْلُ مَالِكٍ إلَّا أَنَّهُ حُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْأَكْثَرُ مِنْ الطَّلَاقِ الْمَشْكُوكِ فِيهِ وَقَوْلُهُمَا : تَيَقَّنَ فِي التَّحْرِيمِ ؛ لِأَنَّهُ تَيَقَّنَ وُجُودَهُ بِالطَّلَاقِ وَشَكَّ فِي رَفْعِهِ بِالرَّجْعَةِ فَلَا يَرْتَفِعُ بِالشَّكِّ كَمَا لَوْ أَصَابَ ثَوْبَهُ نَجَاسَةٌ وَشَكَّ فِي مَوْضِعِهَا فَإِنَّهُ لَا يَزُولُ حُكْمُ النَّجَاسَةِ بِغَسْلِ مَوْضِعٍ مِنْ الثَّوْبِ وَلَا يَزُولُ إلَّا بِغَسْلِ جَمِيعِهِ وَفَارَقَ لُزُومَ النَّفَقَةِ فَإِنَّهَا لَا تَزُولُ بِالطَّلْقَةِ الْوَاحِدَةِ فَهِيَ بَاقِيَةٌ ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ بَاقِيَةً وَلَمْ يَتَيَقَّنْ زَوَالَهَا وَظَاهِرُ قَوْلِ غَيْرِ الْخِرَقِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ إذَا رَاجَعَهَا حَلَّتْ لَهُ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ الْمُتَعَلِّقَ بِمَا يَنْفِيهِ يَزُولُ بِالرَّجْعَةِ يَقِينًا فَإِنَّ التَّحْرِيمَ أَنْوَاعٌ ؛ تَحْرِيمٌ

تُزِيلُهُ الرَّجْعَةُ وَتَحْرِيمٌ يُزِيلُهُ نِكَاحٌ جَدِيدٌ وَتَحْرِيمٌ يُزِيلُهُ نِكَاحٌ بَعْدَ زَوْجٍ وَإِصَابَةٍ وَمَنْ تَيَقَّنَ الْأَدْنَى لَا يَثْبُتُ فِيهِ حُكْمُ الْأَعْلَى كَمَنْ تَيَقَّنَ الْحَدَثَ الْأَصْغَرَ لَا يَثْبُت فِيهِ حُكْمُ الْأَكْبَرِ وَيَزُولُ تَحْرِيمُ الصَّلَاةِ بِالطَّهَارَةِ الصُّغْرَى ، وَيُخَالِفُ الثَّوْبَ فَإِنَّ غَسْلَ بَعْضِهِ لَا يَرْفَعُ مَا تَيَقَّنَهُ مِنْ النَّجَاسَةِ فَنَظِيرُ مَسْأَلَتِنَا أَنْ يَتَيَقَّنَ نَجَاسَةَ كُمِّ الثَّوْبِ وَيَشُكَّ فِي نَجَاسَةِ سَائِرِهِ فَإِنَّ حُكْمَ النَّجَاسَةِ فِيهِ يَزُولُ بِغَسْلِ الْكُمِّ وَحْدَهَا كَذَا هَاهُنَا وَيُمْكِنُ مَنْعُ حُصُولِ التَّحْرِيمِ هَاهُنَا وَمَنْعُ يَقِينِهِ فَإِنَّ الرَّجْعَةَ مُبَاحَةٌ لِزَوْجِهَا فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ فَمَا هُوَ إذًا مُتَيَقِّنٌ لِلتَّحْرِيمِ بَلْ شَاكٌّ فِيهِ مُتَيَقِّنٌ لِلْإِبَاحَةِ .

( 6038 ) فَصْلٌ : إذَا رَأَى رَجُلَانِ طَائِرًا فَحَلَفَ أَحَدُهُمَا بِالطَّلَاقِ أَنَّهُ غُرَابٌ وَحَلَفَ الْآخَرُ بِالطَّلَاقِ أَنَّهُ حَمَامٌ فَطَارَ وَلَمْ يَعْلَمَا لَمْ يُحْكَمْ بِحِنْثِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّ يَقِينَ النِّكَاحِ ثَابِتٌ وَوُقُوعَ الطَّلَاقِ مَشْكُوكٌ فِيهِ ، فَإِنْ ادَّعَتْ امْرَأَةُ أَحَدِهِمَا حِنْثَهُ فِيهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ مَعَهُ وَالْيَقِينَ فِي جَانِبِهِ وَلَوْ كَانَ الْحَالِفُ وَاحِدًا فَقَالَ : إنْ كَانَ غُرَابًا فَنِسَاؤُهُ طَوَالِقُ وَإِنْ كَانَ حَمَامًا فَعَبِيدُهُ أَحْرَارٌ أَوْ قَالَ : إنْ كَانَ غُرَابًا فَزَيْنَبُ طَالِقٌ وَإِنْ كَانَ حَمَامًا فَهِنْدُ طَالِقٌ وَلَمْ يَعْلَمْ مَا هُوَ لَمْ يُحْكَمْ بِحِنْثِهِ فِي شَيْءٍ ؛ لِأَنَّهُ مُتَيَقِّنٌ لِلنِّكَاحِ شَاكٌّ فِي الْحِنْثِ فَلَا يَزُولُ عَنْ يَقِينِ النِّكَاحِ وَالْمِلْكِ بِالشَّكِّ فَأَمَّا إنْ قَالَ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ : إنْ كَانَ غُرَابًا فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَقَالَ الْآخَرُ : إنْ لَمْ يَكُنْ غُرَابًا فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَطَارَ وَلَمْ يَعْلَمَا فَقَدْ حَنِثَ أَحَدُهُمَا لَا بِعَيْنِهِ وَلَا يُحْكَمُ بِهِ فِي حَقِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَيْنِهِ بَلْ تَبْقَى فِي حَقِّهِ أَحْكَامُ النِّكَاحِ مِنْ النَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ وَالسُّكْنَى ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقِينُ نِكَاحِهِ بَاقٍ وَوُقُوعُ طَلَاقِهِ مَشْكُوكٌ فِيهِ فَأَمَّا الْوَطْءُ فَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِمَا ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا حَانِثٌ بِيَقِينٍ ، وَامْرَأَتُهُ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ وَقَدْ أَشْكَلَ فَحَرُمَ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا كَمَا لَوْ حَنِثَ فِي إحْدَى امْرَأَتَيْهِ لَا بِعَيْنِهَا وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ وَالشَّافِعِيُّ : لَا يَحْرُمُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَطْءُ امْرَأَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَحْكُومٌ بِبَقَاءِ نِكَاحِهِ وَلَمْ يُحْكَمْ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهِ وَفَارَقَ الْحَانِثَ فِي إحْدَى امْرَأَتَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ زَوَالُ نِكَاحِهِ عَنْ إحْدَى زَوْجَتَيْهِ قُلْنَا : إنَّمَا تَحَقَّقَ حِنْثُهُ فِي وَاحِدَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ وَبِالنَّظَرِ إلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مُفْرَدَةٍ فَيَقِينُ نِكَاحِهَا بَاقٍ وَطَلَاقُهَا

مَشْكُوكٌ فِيهِ لَكِنْ لَمَّا تَحَقَّقْنَا أَنَّ إحْدَاهُمَا حَرَامٌ وَلَمْ يُمْكِنْ تَمْيِيزُهَا حَرُمَتَا عَلَيْهِ جَمِيعًا وَكَذَلِكَ هَاهُنَا قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ أَحَدَ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ قَدْ طَلُقَتْ امْرَأَتُهُ وَحَرُمَتْ عَلَيْهِ وَتَعَذَّرَ التَّمْيِيزُ فَيَحْرُمُ الْوَطْءُ عَلَيْهِمَا وَيَصِيرُ كَمَا لَوْ تَنَجَّسَ أَحَدُ الْإِنَاءَيْنِ لَا بِعَيْنِهِ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَوَاءٌ كَانَا لِرَجُلَيْنِ أَوْ لَرَجُلٍ وَاحِدٍ وَقَالَ مَكْحُولٌ : يُحْمَلُ الطَّلَاقُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا ، وَمَالَ إلَيْهِ أَبُو عُبَيْدٍ فَإِنْ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ عَلِمَ الْحَالَ وَأَنَّهُ لَمْ يَحْنَثْ دُيِّنَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَنَحْوَ هَذَا قَالَ عَطَاءٌ وَالشَّعْبِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَالْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُمْكِنُ صِدْقُهُ فِيمَا ادَّعَاهُ وَإِنْ أَقَرَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ الْحَانِثُ طَلُقَتْ زَوْجَتَاهُمَا بِإِقْرَارِهِمَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا وَإِنْ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا حَنِثَ وَحْدَهُ ، وَإِنْ ادَّعَتْ امْرَأَةُ أَحَدِهِمَا عَلَيْهِ الْحِنْثَ فَأَنْكَرَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَهَلْ يَحْلِفُ ؟ يُخَرَّجُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ .

( 6039 ) فَصْلٌ : فَإِنْ قَالَ أَحَدُهُمَا : إنْ كَانَ هَذَا غُرَابًا فَعَبْدِي حُرٌّ ، وَقَالَ الْآخَرُ : إنْ لَمْ يَكُنْ غُرَابًا فَعَبْدِي حُرٌّ ، فَطَارَ وَلَمْ يَعْلَمَا لَمْ نَحْكُمْ بِعِتْقِ وَاحِدٍ مِنْ الْعَبْدَيْنِ ، فَإِنْ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا عَبْدَ صَاحِبِهِ بَعْدَ أَنْ أَنْكَرَ حِنْثَ نَفْسِهِ عَتَقَ الَّذِي اشْتَرَاهُ ؛ لِأَنَّ إنْكَارَهُ حِنْثَ نَفْسِهِ اعْتِرَافٌ مِنْهُ بِحِنْثِ صَاحِبِهِ وَإِقْرَارٌ بِعِتْقِ الَّذِي اشْتَرَاهُ .
وَإِذَا اشْتَرَى مَنْ أَقَرَّ بِحُرِّيَّتِهِ عَتَقَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ إنْكَارٌ وَلَا اعْتِرَافٌ فَقَدْ صَارَ الْعَبْدَانِ فِي يَدِهِ وَأَحَدُهُمَا حُرٌّ وَلَمْ يُعْلَمْ بِعَيْنِهِ ، وَيُرْجَعُ فِي تَعْيِينِهِ إلَى الْقُرْعَةِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي الْخَطَّابِ ، وَذَهَبَ الْقَاضِي إلَى أَنَّهُ يَعْتِقُ الَّذِي اشْتَرَاهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ ؛ لِأَنَّ تَمَسُّكَهُ بِعَبْدِهِ اعْتِرَافٌ مِنْهُ بِرِقِّهِ وَحُرِّيَّةِ صَاحِبِهِ ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَلَنَا أَنَّهُ لَمْ يَعْتَرِفْ لَفْظًا وَلَا فَعَلَ مَا يَلْزَمُ مِنْهُ الِاعْتِرَافُ فَإِنَّ الشَّرْعَ يُسَوِّغُ لَهُ إمْسَاكَ عَبْدِهِ مَعَ الْجَهْلِ اسْتِنَادًا إلَى الْأَصْلِ فَكَيْفَ يَكُونُ مُعْتَرِفًا مَعَ تَصْرِيحِهِ بِأَنَّنِي لَا أَعْلَمُ الْحُرَّ مِنْهُمَا ؟ وَإِنَّمَا اكْتَفَيْنَا فِي إبْقَاءِ رِقِّ عَبْدِهِ بِاحْتِمَالِ الْحِنْثِ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ فَإِذَا صَارَ الْعَبْدَانِ لَهُ وَأَحَدُهُمَا حُرٌّ لَا بِعَيْنِهِ صَارَ كَأَنَّهُمَا كَانَا لَهُ فَحَلَفَ بِعِتْقِ أَحَدِهِمَا وَحْدَهُ فَيُقْرِعُ بَيْنَهُمَا حِينَئِذٍ وَلَوْ كَانَ الْحَالِفُ وَاحِدًا فَقَالَ : إنْ كَانَ غُرَابًا فَعَبْدِي حُرٌّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ غُرَابًا فَأَمَتِي حُرَّةٌ ، وَلَمْ يَعْلَمْ ، فَإِنَّهُ يُقْرِعُ بَيْنَهُمَا فَيُعْتِقُ أَحَدَهُمَا فَإِنْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا أَنَّهُ الَّذِي عَتَقَ أَوْ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ السَّيِّدِ مَعَ يَمِينِهِ .

( 6040 ) فَصْلٌ : وَإِنْ قَالَ : إنْ كَانَ غُرَابًا فَهَذِهِ طَالِقٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ غُرَابًا فَهَذِهِ الْأُخْرَى طَالِقٌ فَطَارَ وَلَمْ يَعْلَمْ فَقَدْ طَلُقَتْ إحْدَاهُمَا فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ قُرْبَانُهُمَا وَيُؤْخَذُ بِنَفَقَتِهِمَا حَتَّى تَبِينَ الْمُطَلَّقَةُ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا مَحْبُوسَتَانِ عَلَيْهِ لِحَقِّهِ وَذَهَبَ أَصْحَابُنَا إلَى أَنَّهُ يُقْرِعُ بَيْنَهُمَا فَتَخْرُجُ بِالْقُرْعَةِ الْمُطَلَّقَةُ مِنْهُمَا كَقَوْلِنَا فِي الْعَبِيدِ وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْقُرْعَةَ لَا مَدْخَلَ لَهَا هَاهُنَا ؛ لِمَا سَنَذْكُرُهُ فِيمَا إذَا طَلَّقَ وَاحِدَةً وَأُنْسِيَهَا وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ فَعَلَى هَذَا يَبْقَى التَّحْرِيمُ فِيهِمَا إلَى أَنْ يَعْلَمَ الْمُطَلَّقَةَ مِنْهُمَا وَيُؤْخَذُ بِنَفَقَتِهِمَا ، فَإِنْ قَالَ : هَذِهِ الَّتِي حَنِثْت فِيهَا حَرُمَتْ عَلَيْهِ وَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي حِلِّ الْأُخْرَى فَإِنْ ادَّعَتْ الَّتِي لَمْ يَعْتَرِفْ بِطَلَاقِهَا أَنَّهَا الْمُطَلَّقَةُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ ، وَهَلْ يَحْلِفُ ؟ يُخَرَّجُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ .

( 6041 ) فَصْلٌ : فَإِنْ قَالَ : إنْ كَانَ غُرَابًا فَنِسَاؤُهُ طَوَالِقُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ غُرَابًا فَعَبِيدُهُ أَحْرَارٌ وَطَارَ وَلَمْ يَعْلَمْ مُنِعَ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمِلْكَيْنِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ وَعَلَيْهِ نَفَقَةُ الْجَمِيعِ ، فَإِنْ قَالَ : كَانَ غُرَابًا طَلُقَ نِسَاؤُهُ وَرُقَّ عَبِيدُهُ ، فَإِنْ ادَّعَى الْعَبِيدُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ غُرَابًا لَيَعْتِقُوا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَهَلْ يَحْلِفُ ؟ يُخَرَّجُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ وَإِنْ قَالَ : لَمْ يَكُنْ غُرَابًا عَتَقَ عَبِيدُهُ وَلَمْ تَطْلُقْ النِّسَاءُ ، فَإِنْ ادَّعَيْنَ أَنَّهُ كَانَ غُرَابًا لِيَطْلُقْنَ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ، وَفِي تَحْلِيفِهِ وَجْهَانِ وَكُلُّ مَوْضِعٍ قُلْنَا : يَسْتَحْلِفُ ، فَنَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ قُضِيَ عَلَيْهِ بِنُكُولِهِ .
وَإِنْ قَالَ : لَا أَعْلَمُ مَا الطَّائِرُ ؟ فَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنْ يُقْرِعَ بَيْنَهُمَا ، فَإِنْ وَقَعْت الْقُرْعَةُ عَلَى الْغُرَابِ طَلُقَ النِّسَاءُ ، وَرُقَّ الْعَبِيدُ ، وَإِنْ وَقَعَتْ عَلَى الْعَبِيدِ عَتَقُوا وَلَمْ تَطْلُقْ النِّسَاءُ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : إنْ وَقَعْت الْقُرْعَةُ عَلَى الْعَبِيدِ عَتَقُوا وَإِنْ وَقَعَتْ عَلَى النِّسَاءِ لَمْ يَطْلُقْنَ ، وَلَمْ يَعْتِقْ الْعَبِيدُ ؛ لِأَنَّ الْقُرْعَةَ لَهَا مَدْخَلٌ فِي الْعِتْقِ لِكَوْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْرَعَ بَيْنَ الْعَبِيدِ السِّتَّةِ وَلَا مَدْخَلَ لَهَا فِي الطَّلَاقِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ مِثْلُ ذَلِكَ فِيهِ وَلَا يُمْكِنُ قِيَاسُهُ عَلَى الْعِتْقِ ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ حَلُّ قَيْدِ النِّكَاحِ ، وَالْقُرْعَةُ لَا تَدْخُلُ فِي النِّكَاحِ ، وَالْعِتْقَ حَلُّ الْمِلْكِ وَالْقُرْعَةُ تَدْخُلُ فِي تَمْيِيزِ الْأَمْلَاكِ قَالُوا : وَلَا يُقْرَعُ بَيْنَهُمْ إلَّا بَعْدَ مَوْتِهِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ عَلَى هَذَا : إنَّ مَا لَا يَصْلُحُ لِلتَّعْيِينِ فِي حَقِّ الْمَوْرُوثِ لَا يَصْلُحُ فِي حَقِّ الْوَارِثِ كَمَا لَوْ كَانَتْ الْيَمِينُ فِي زَوْجَتَيْنِ وَلِأَنَّ الْإِمَاءَ مُحَرَّمَاتٌ عَلَى الْمَوْرُوثِ تَحْرِيمًا لَا تُزِيلُهُ الْقُرْعَةُ فَلَمْ يُنَجَّزْ لِلْوَارِثِ بِهَا كَمَا لَوْ تَعَيَّنَ

الْعِتْقُ فِيهِنَّ .

( 6042 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَإِذَا قَالَ لِزَوْجَاتِهِ : إحْدَاكُنَّ طَالِقٌ وَلَمْ يَنْوِ وَاحِدَةً بِعَيْنِهَا أَقْرَعَ بَيْنَهُنَّ فَأُخْرِجَتْ بِالْقُرْعَةِ الْمُطَلَّقَةُ مِنْهُنَّ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا طَلَّقَ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِ لَا بِعَيْنِهَا فَإِنَّهَا تَخْرُجُ بِالْقُرْعَةِ نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَقَالَ قَتَادَةُ وَمَالِكٌ : يَطْلُقْنَ جَمِيعًا وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ : لَهُ أَنْ يَخْتَارَ أَيَّتَهُنَّ شَاءَ فَيُوقِعَ عَلَيْهَا الطَّلَاقَ ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ إيقَاعَهُ ابْتِدَاءً وَتَعْيِينَهُ ، فَإِذَا أَوْقَعَهُ وَلَمْ يُعَيِّنْهُ مَلَكَ تَعْيِينَهُ ؛ لِأَنَّهُ اسْتِيفَاءُ مَا مَلَكَهُ وَلَنَا أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَلَا مُخَالِفَ لَهُمَا فِي الصَّحَابَةِ ؛ وَلِأَنَّهُ إزَالَةُ مِلْكٍ بُنِيَ عَلَى التَّغْلِيبِ وَالسِّرَايَةِ فَتَدْخُلُهُ الْقُرْعَةُ كَالْعِتْقِ وَقَدْ ثَبَتَ الْأَصْلُ ؛ بِكَوْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْرَعَ بَيْنَ الْعَبِيدِ السِّتَّةِ وَلِأَنَّ الْحَقَّ لِوَاحِدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ فَوَجَبَ تَعْيِينُهُ بِالْقُرْعَةِ كَالْحُرِّيَّةِ فِي الْعَبِيدِ إذَا أَعْتَقَهُمْ فِي مَرَضِهِ وَلَمْ يَخْرُجَ جَمِيعُهُمْ مِنْ الثُّلْثِ وَكَالسَّفَرِ بِإِحْدَى نِسَائِهِ وَالْبِدَايَةِ بِإِحْدَاهُنَّ فِي الْقَسَمِ وَكَالشَّرِيكَيْنِ إذَا اقْتَسَمَا وَلِأَنَّهُ طَلَّقَ وَاحِدَةً مِنْ نِسَائِهِ لَا يَعْلَمُ عَيْنَهَا فَلَمْ يَمْلِكْ تَعْيِينَهَا بِاخْتِيَارِهِ كَالْمَنْسِيَّةِ ، وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُنَّ لَا يَطْلُقْنَ جَمِيعًا ؛ أَنَّهُ أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى وَاحِدَةٍ فَلَمْ يُطَلِّقْ الْجَمِيعَ كَمَا لَوْ عَيَّنَهَا قَوْلُهُمْ : إنَّهُ كَانَ يَمْلِكُ الْإِيقَاعَ وَالتَّعْيِينَ قُلْنَا : مِلْكُهُ لِلتَّعْيِينِ بِالْإِيقَاعِ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَمْلِكَهُ بَعْدَهُ كَمَا لَوْ طَلَّقَ وَاحِدَةً بِعَيْنِهَا وَأُنْسِيَهَا ، وَأَمَّا إنْ نَوَى وَاحِدَةً بِعَيْنِهَا طَلُقَتْ وَحْدَهَا ؛ لِأَنَّهُ عَيَّنَهَا بِنِيَّتِهِ فَأَشْبَهَ

مَا لَوْ عَيَّنَهَا بِلَفْظِهِ وَإِنْ قَالَ : إنَّمَا أَرَدْت فُلَانَةَ قُبِلَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ مَا قَالَهُ ، وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ الْقُرْعَةِ وَالتَّعْيِينِ أَقْرَعَ الْوَرَثَةُ بَيْنَهُنَّ فَمَنْ وَقَعَتْ عَلَيْهَا قُرْعَةُ الطَّلَاقِ فَحُكْمُهَا فِي الْمِيرَاثِ حُكْمُ مَا لَوْ عَيَّنَهَا بِالتَّطْلِيقِ .

( 6043 ) فَصْلٌ : وَإِذَا قَالَ لِنِسَائِهِ : إحْدَاكُنَّ طَالِقٌ غَدًا فَجَاءَ غَدٌ طَلُقَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ ، وَأُخْرِجَتْ بِالْقُرْعَةِ ، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ الْغَدِ وَرِثْنَهُ كُلُّهُنَّ ، وَإِنْ مَاتَتْ إحْدَاهُنَّ وَرِثَهَا ؛ لِأَنَّهَا مَاتَتْ قَبْلَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ ، فَإِذَا جَاءَ غَدٌ أَقْرَعَ بَيْنَ الْمَيِّتَةِ وَالْأَحْيَاءِ ، فَإِنْ وَقَعَتْ الْقُرْعَةُ عَلَى الْمَيِّتَةِ لَمْ يَطْلُقْ شَيْءٌ مِنْ الْأَحْيَاءِ وَصَارَتْ كَالْمُعَيَّنَةِ بِقَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا وَقَالَ الْقَاضِي : قِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنْ يَتَعَيَّنَ الطَّلَاقُ فِي الْأَحْيَاءِ فَلَوْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَمَاتَتْ إحْدَاهُمَا طَلُقَتْ الْأُخْرَى كَمَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ وَأَجْنَبِيَّةٍ : إحْدَاكُمَا طَالِقٌ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْفَرْقُ بَيْنهمَا ظَاهِرٌ فَإِنَّ الْأَجْنَبِيَّةَ لَيْسَتْ مَحَلًّا لِلطَّلَاقِ وَقْتَ قَوْلِهِ فَلَا يَنْصَرِفْ قَوْلُهُ إلَيْهَا وَهَذِهِ قَدْ كَانَتْ مَحَلًّا لِلطَّلَاقِ ، وَإِرَادَتُهَا بِالطَّلَاقِ مُمْكِنَةٌ وَإِرَادَتُهَا بِالطَّلَاقِ كَإِرَادَةِ الْأُخْرَى ، وَحُدُوثُ الْمَوْتِ بِهَا لَا يَقْتَضِي فِي حَقِّ الْأُخْرَى طَلَاقًا فَتَبْقَى عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ وَالْقَوْلُ فِي تَعْلِيقِ الْعِتْقِ كَالْقَوْلِ فِي تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ ، وَإِذَا جَاءَ غَدٌ وَقَدْ بَاعَ بَعْضَ الْعَبِيدِ أَقْرَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَبِيدِ الْأُخَرِ ، فَإِنْ وَقَعَتْ عَلَى الْمَبِيعِ لَمْ يَعْتِقْ مِنْهُمْ شَيْءٌ .
وَعَلَى قَوْلِ الْقَاضِي يَنْبَغِي أَنْ يَتَعَيَّنَ الْعِتْقُ فِي الْبَاقِينَ وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ لَهُ تَعْيِينَ الْعِتْقِ عِنْدَهُمْ بِقَوْلِهِ : فَبَيْعُ أَحَدِهِمْ صَرْفٌ لِلْعِتْقِ عَنْهُ فَيَتَعَيَّنُ فِي الْبَاقِينَ ، وَإِنْ بَاعَ نِصْفَ الْعَبْدِ أَقْرَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَاقِينَ ، فَإِنْ وَقَعَتْ قُرْعَةُ الْعِتْقِ عَلَيْهِ عَتَقَ نِصْفُهُ وَسَرَى إلَى بَاقِيهِ إنْ كَانَ الْمُعْتَقُ مُوسِرًا ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا لَمْ يَعْتِقْ إلَّا نِصْفُهُ .

( 6044 ) فَصْلٌ : وَإِذَا قَالَ : امْرَأَتِي طَالِقٌ وَأَمَتِي حُرَّةٌ ، وَلَهُ نِسَاء وَإِمَاءٌ وَنَوَى بِذَلِكَ مُعَيَّنَةً انْصَرَفَ إلَيْهَا ، وَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً مُبْهَمَةً فَهِيَ مُبْهَمَةٌ فِيهِنَّ ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا ؛ فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : يَطْلُقُ نِسَاؤُهُ كُلُّهُنَّ ، وَيَعْتِقُ إمَاؤُهُ ؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَ الْمُضَافَ يُرَادُ بِهِ الْكُلُّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا } و { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ } وَلِأَنَّ ذَلِكَ يُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَ الْجَمَاعَةُ : يَقَعُ عَلَى وَاحِدَةٍ مُبْهَمَةٍ وَحُكْمُهُ حُكْمُ مَا لَوْ قَالَ : إحْدَاكُنَّ طَالِقٌ وَإِحْدَاكُنَّ حُرَّةٌ ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْوَاحِدِ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْجَمْعِ إلَّا مَجَازًا وَالْكَلَامُ لِحَقِيقَتِهِ مَا لَمْ يَصْرِفْهُ عَنْهَا دَلِيلٌ وَلَوْ تَسَاوَى الِاحْتِمَالَانِ لَوَجَبَ قَصْرُهُ عَلَى الْوَاحِدَةِ ؛ لِأَنَّهَا الْيَقِينُ فَلَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ فِيمَا زَادَ عَلَيْهَا بِأَمْرٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ ، وَهَذَا أَصَحُّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( 6045 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَإِذَا طَلَّقَ وَاحِدَةً مِنْ نِسَائِهِ وَأُنْسِيَهَا أُخْرِجَتْ بِالْقُرْعَةِ ) أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا عَلَى أَنَّهُ إذَا طَلَّقَ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِ وَأُنْسِيَهَا أَنَّهَا تَخْرُجُ بِالْقُرْعَةِ فَيَثْبُتُ حُكْمُ الطَّلَاقِ فِيهَا وَيَحِلُّ لَهُ الْبَاقِيَاتُ وَقَدْ رَوَى إسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقُرْعَةَ لَا تُسْتَعْمَلُ هَاهُنَا لِمَعْرِفَةِ الْحِلِّ وَإِنَّمَا تُسْتَعْمَلُ لِمَعْرِفَةِ الْمِيرَاثِ ، فَإِنَّهُ قَالَ : سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ الرَّجُلِ يُطَلِّقُ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِ وَلَا يَعْلَمُ أَيَّتَهُنَّ طَلَّقَ ؟ قَالَ : أَكْرَهُ أَنْ أَقُولَ فِي الطَّلَاقِ بِالْقُرْعَةِ قُلْت : أَرَأَيْت إنْ مَاتَ هَذَا ؟ قَالَ : أَقُولُ بِالْقُرْعَةِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَصِيرُ الْقُرْعَةُ عَلَى الْمَالِ وَجَمَاعَةُ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ الْقُرْعَةُ فِي الْمُطَلَّقَةِ الْمَنْسِيَّةِ إنَّمَا هُوَ فِي التَّوْرِيثِ فَأَمَّا فِي الْحِلِّ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَثْبُتَ بِالْقُرْعَةِ وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ فَالْكَلَامُ إذَنْ فِي الْمَسْأَلَةِ فِي شَيْئَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا فِي اسْتِعْمَالِ الْقُرْعَةِ فِي الْمَنْسِيَّةِ لِلتَّوْرِيثِ ، وَالثَّانِي فِي اسْتِعْمَالِهَا فِيهَا لِلْحِلِّ أَمَّا الْأَوَّلُ فَوَجْهُهُ مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُمَيْدٍ قَالَ : سَأَلْت أَبَا جَعْفَرٍ عَنْ رَجُلٍ قَدِمَ مِنْ خُرَاسَانَ وَلَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ قَدِمَ الْبَصْرَةَ فَطَلَّقَ إحْدَاهُنَّ ، وَنَكَحَ ثُمَّ مَاتَ لَا يَدْرِي الشُّهُودُ أَيَّتَهُنَّ طَلَّقَ ؟ فَقَالَ : قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أُقْرِعَ بَيْنَ الْأَرْبَعِ وَأُنْذِرَ مِنْهُنَّ وَاحِدَةٌ وَأُقْسِمَ بَيْنَهُنَّ الْمِيرَاثُ وَلِأَنَّ الْحُقُوقَ إذَا تَسَاوَتْ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ التَّمْيِيزُ إلَّا بِالْقُرْعَةِ صَحَّ اسْتِعْمَالُهَا كَالشُّرَكَاءِ فِي الْقِسْمَةِ وَالْعَبِيدِ فِي الْحُرِّيَّةِ وَأَمَّا الْقُرْعَةُ فِي الْحِلِّ فِي الْمَنْسِيَّةِ فَلَا يَصِحُّ اسْتِعْمَالُهَا ؛ لِأَنَّهُ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ زَوْجَتُهُ فَلَمْ تَحِلَّ لَهُ إحْدَاهُمَا بِالْقُرْعَةِ كَمَا لَوْ اشْتَبَهَتْ بِأَجْنَبِيَّةٍ لَمْ يَكُنْ

لَهُ عَلَيْهَا عَقْدٌ وَلِأَنَّ الْقُرْعَةَ لَا تُزِيلُ التَّحْرِيمَ مِنْ الْمُطَلَّقَةِ وَلَا تَرْفَعُ الطَّلَاقَ عَمَّنْ وَقَعَ عَلَيْهِ وَلَا احْتِمَالَ كَوْنِ الْمُطَلَّقَةِ غَيْرَ مَنْ خَرَجَتْ عَلَيْهَا الْقُرْعَةُ وَلِهَذَا لَوْ ذَكَرَ أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ غَيْرُهَا حَرُمَتْ عَلَيْهِ وَلَوْ ارْتَفَعَ التَّحْرِيمُ أَوْ زَالَ الطَّلَاقُ لَمَا عَادَ بِالذِّكْرِ فَيَجِبُ بَقَاءُ التَّحْرِيمِ بَعْدَ الْقُرْعَةِ كَمَا كَانَ قَبْلَهَا وَقَدْ قَالَ الْخِرَقِيِّ فِي مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَلَمْ يَدْرِ أَوَاحِدَةً طَلَّقَ أَمْ ثَلَاثًا ؟ وَمَنْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَنْ لَا يَأْكُلَ تَمْرَةً فَوَقَعَتْ فِي تَمْرٍ فَأَكَلَ مِنْهُ وَاحِدَةً : لَا تَحِلُّ لَهُ امْرَأَتُهُ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهَا لَيْسَتْ الَّتِي وَقَعَتْ عَلَيْهَا الْيَمِينُ فَحَرَّمَهَا مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ النِّكَاحِ وَلَمْ يُعَارِضْهُ يَقِينُ التَّحْرِيمِ فَهَاهُنَا أَوْلَى وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَى امْرَأَةٍ بِعَيْنِهَا ثُمَّ اشْتَبَهَتْ بِغَيْرِهَا ؛ مِثْلُ أَنْ يَرَى امْرَأَةً فِي رَوْزَنَةٍ أَوْ مُوَلِّيَةً فَيَقُولَ : أَنْتِ طَالِقٌ وَلَا يَعْلَمُ عَيْنَهَا مِنْ نِسَائِهِ ، وَكَذَلِكَ إذَا أَوْقَعَ الطَّلَاقَ عَلَى إحْدَى نِسَائِهِ فِي مَسْأَلَةِ الطَّائِرِ وَشِبْهِهَا ، فَإِنَّهُ يَحْرُمُ جَمِيعُ نِسَائِهِ عَلَيْهِ حَتَّى تَتَبَيَّنَ الْمُطَلَّقَةُ وَيُؤْخَذُ بِنَفَقَةِ الْجَمِيعِ ؛ لِأَنَّهُنَّ مَحْبُوسَاتٌ عَلَيْهِ ، وَإِنْ أَقْرَعَ بَيْنَهُنَّ لَمْ تَفِدْ الْقُرْعَةُ شَيْئًا وَلَا يَحِلُّ لِمَنْ وَقَعَتْ عَلَيْهَا الْقُرْعَةُ التَّزَوُّجُ ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ غَيْرَ الْمُطَلَّقَةِ وَلَا يَحِلُّ لِلزَّوْجِ غَيْرُهَا ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ الْمُطَلَّقَةَ ، وَقَالَ أَصْحَابُنَا : إذَا أَقْرَعَ بَيْنَهُنَّ ، فَخَرَجَتْ الْقُرْعَةُ عَلَى إحْدَاهُنَّ ثَبَتَ حُكْمُ الطَّلَاقِ فِيهَا فَحَلَّ لَهَا النِّكَاحُ بَعْدَ قَضَاءِ عِدَّتِهَا وَحَلَّ لِلزَّوْجِ مَنْ سِوَاهَا كَمَا لَوْ كَانَ الطَّلَاقُ فِي وَاحِدَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ وَاحْتَجُّوا بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ وَلِأَنَّهَا مُطَلَّقَةٌ لَمْ تُعْلَمْ بِعَيْنِهَا فَأَشْبَهَ

مَا لَوْ قَالَ : إحْدَاكُنَّ طَالِقٌ وَلِأَنَّهُ إزَالَةُ أَحَدِ الْمِلْكَيْنِ الْمَبْنِيَّيْنِ عَلَى التَّغْلِيبِ وَالسِّرَايَةِ أَشْبَهَ الْعِتْقَ وَالصَّحِيحُ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَنَّ الْقُرْعَةَ لَا تَدْخُلُ هَاهُنَا لِمَا قَدَّمْنَا وَفَارَقَ مَا قَاسُوا عَلَيْهِ ، فَإِنَّ الْحَقَّ لَمْ يَثْبُتْ لِوَاحِدٍ بِعَيْنِهِ فَجَعَلَ الشَّرْعُ الْقُرْعَةَ مُعِينَةً ، فَإِنَّهَا تَصْلُحُ لِلتَّعْيِينِ وَفِي مَسْأَلَتِنَا ؛ الطَّلَاقُ وَاقِعٌ فِي مُعَيَّنَةٍ لَا مَحَالَةَ ، وَالْقُرْعَةُ لَا تَرْفَعُهُ عَنْهَا ، وَلَا تُوقِعُهُ عَلَى غَيْرِهَا وَلَا يُؤْمَنُ وُقُوعُ الْقُرْعَةِ عَلَى غَيْرِهَا وَاحْتِمَالُ وُقُوعِ الْقُرْعَةِ عَلَى غَيْرِهَا كَاحْتِمَالِ وُقُوعِهَا عَلَيْهَا بَلْ هُوَ أَظْهَرُ فِي غَيْرِهَا ؛ فَإِنَّهُنَّ إذَا كُنَّ أَرْبَعًا فَاحْتِمَالُ وُقُوعِهِ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِعَيْنِهَا أَنْدَرُ مِنْ احْتِمَالِ وُقُوعِهِ فِي وَاحِدَةٍ مِنْ ثَلَاثٍ وَلِذَلِكَ لَوْ اشْتَبَهَتْ أُخْتُهُ بِأَجْنَبِيَّةِ أَوْ مَيْتَةٌ بِمُذَكَّاةٍ أَوْ زَوْجَتُهُ بِأَجْنَبِيَّةٍ أَوْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ لَا يَأْكُلُ تَمْرَةً فَوَقَعَتْ فِي تَمْرٍ وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ ذِكْرُهُ لَا تَدْخُلُهُ قُرْعَةٌ فَكَذَا هَاهُنَا وَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ فَهُوَ فِي الْمِيرَاثِ لَا فِي الْحِلِّ وَمَا نَعْلَمُ بِالْقَوْلِ بِهَا فِي الْحِلِّ مِنْ الصَّحَابَةِ قَائِلًا ( 6046 ) فَصْلٌ : فَعَلَى قَوْلِ أَصْحَابِنَا إذَا ذَكَرَ أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ غَيْرُ الَّتِي وَقَعَتْ عَلَيْهَا الْقُرْعَةُ فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهَا كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ وَيَكُونُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ مِنْ حِينِ طَلَّقَ لَا مِنْ حِينِ ذَكَرَ ، وَقَوْلُهُ فِي هَذَا مَقْبُولٌ ؛ لِأَنَّهُ يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ وَتُرَدُّ إلَيْهِ الَّتِي خَرَجَتْ عَلَيْهَا الْقُرْعَةُ ؛ لِأَنَّنَا تَبَيَّنَّا أَنَّهَا غَيْرُ مُطَلَّقَةٍ ، وَالْقُرْعَةُ لَيْسَتْ بِطَلَاقٍ لَا صَرِيحٍ وَلَا كِنَايَةٍ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَزَوَّجَتْ رُدَّتْ إلَيْهِ وَقُبِلَ قَوْلُهُ فِي هَذَا ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ مِنْ جِهَتِهِ لَا يُعْرَفُ إلَّا مِنْ قِبَلِهِ إلَّا أَنْ تَكُونَ قَدْ تَزَوَّجَتْ أَوْ يَكُونَ بِحُكْمِ حَاكِمٍ ؛ لِأَنَّهَا إذَا

تَزَوَّجَتْ تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ الزَّوْجِ الثَّانِي فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي فَسْخِ نِكَاحِهِ ، وَالْقُرْعَةُ مِنْ جِهَةِ الْحَاكِمِ بِالْفُرْقَةِ لَا يُمْكِنُ الزَّوْجَ رَفْعُهَا فَتَقَعَ الْفُرْقَةُ بِالزَّوْجَيْنِ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْمَيْمُونِيِّ : إذَا كَانَ لَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ فَطَلَّقَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ وَلَمْ يَدْرِ أَيَّتَهنَّ طَلَّقَ يُقْرِعُ بَيْنَهُنَّ ، فَإِنْ أَقْرَعَ بَيْنَهُنَّ فَوَقَعَتْ الْقُرْعَةُ عَلَى وَاحِدَةٍ ثُمَّ ذَكَرَ الَّتِي طَلَّقَ ، فَقَالَ : هَذِهِ تَرْجِعُ إلَيْهِ وَاَلَّتِي ذَكَرَ أَنَّهُ طَلَّقَ يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا ، فَإِنْ تَزَوَّجَتْ فَهَذَا شَيْءٌ قَدْ مَرَّ ، فَإِنْ كَانَ الْحَاكِمُ أَقْرَعَ بَيْنَهُنَّ فَلَا أُحِبُّ أَنْ تَرْجِعَ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ فِي ذَلِكَ أَكْبَرُ مِنْهُ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَابْنُ حَامِدٍ : مَتَى أَقْرَعَ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ : إنَّ الْمُطَلَّقَةَ غَيْرُهَا وَقَعَ الطَّلَاقُ بِهِمَا جَمِيعًا وَلَا تَرْجِعُ إلَيْهِ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا ؛ إلَّا أَنَّ الَّتِي عَيَّنَهَا بِالطَّلَاقِ تَحْرُمُ بِقَوْلِهِ : وَتَرِثُهُ إنْ مَاتَ وَلَا يَرِثُهَا وَيَجِيءُ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِمَا أَنْ تَلْزَمَهُ نَفَقَتُهَا وَلَا يَحِلُّ وَطْؤُهَا ( 6047 ) فَصْلٌ : فَإِنْ قَالَ : هَذِهِ الْمُطَلَّقَةُ قُبِلَ مِنْهُ ، وَإِنْ قَالَ : هَذِهِ الْمُطَلَّقَةُ بَلْ هَذِهِ طَلُقَتَا ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِطَلَاقِ الْأُولَى فَقُبِلَ إقْرَارُهُ ثُمَّ قُبِلَ إقْرَارُهُ بِطَلَاقِ الثَّانِيَةِ وَلَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُ عَمَّا أَقَرَّ بِهِ مِنْ طَلَاقِ الْأُولَى وَكَذَلِكَ لَوْ كُنَّ ثَلَاثًا فَقَالَ : هَذِهِ بَلْ هَذِهِ بَلْ هَذِهِ طَلُقْنَ كُلُّهُنَّ ، وَإِنْ قَالَ : هَذِهِ أَوْ هَذِهِ بَلْ هَذِهِ طَلُقَتْ الثَّالِثَةُ وَإِحْدَى الْأُولَيَيْنِ وَإِنْ قَالَ : طَلُقْت هَذِهِ بَلْ هَذِهِ أَوْ هَذِهِ طَلُقَتْ الْأُولَى وَإِحْدَى الْآخِرَتَيْنِ ، وَإِنْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ وَهَذِهِ أَوْ هَذِهِ فَقَالَ الْقَاضِي : هِيَ كَذَلِكَ ، وَذَكَرَ أَنَّهُ قَوْلُ الْكِسَائِيّ ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : تَطْلُقُ الثَّانِيَةُ وَيَبْقَى الشَّكُّ فِي الْأُولَى وَالثَّالِثَةِ ، وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّهُ

عَطَفَ الثَّانِيَةَ عَلَى الْأُولَى بِغَيْرِ شَكٍّ ثُمَّ فَصَلَ بَيْنَ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ بِحَرْفِ الشَّكِّ فَيَكُونُ الشَّكُّ فِيهِمَا وَلَوْ قَالَ : طَلُقْت هَذِهِ أَوْ هَذِهِ وَهَذِهِ طَلُقَتْ الثَّالِثَةُ ، وَكَانَ الشَّكُّ فِي الْأُولَيَيْنِ وَيَحْتَمِلُ فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ أَنْ يَكُونَ الشَّكُّ فِي الْجَمِيعِ ؛ لِأَنَّهُ فِي الْأُولَى أَتَى بِحَرْفِ الشَّكِّ بَعْدَهُمَا فَيَعُودُ إلَيْهِمَا وَفِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ عَطَفَ الثَّالِثَةَ عَلَى الشَّكِّ فَعَلَى هَذَا إذَا قَالَ : طَلُقْت هَذِهِ وَهَذِهِ أَوْ هَذِهِ طُولِبَ بِالْبَيَانِ ، فَإِنْ قَالَ : هِيَ الثَّالِثَةُ طَلُقَتْ وَحْدَهَا ، وَإِنْ قَالَ : لَمْ أُطَلِّقْهَا طَلُقَتْ الْأُولَيَانِ ، وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ أُقْرِعَ بَيْنَ الْأُولَيَيْنِ وَالثَّالِثَةِ قَالَ الْقَاضِي فِي " الْمُجَرَّدِ " : وَهَذَا أَصَحُّ ، وَإِنْ قَالَ : طَلُقْت هَذِهِ أَوْ هَذِهِ وَهَذِهِ أُخِذَ بِالْبَيَانِ فَإِنْ قَالَ : هِيَ الْأُولَى طَلُقَتْ وَحْدَهَا وَإِنْ قَالَ : لَيْسَتْ الْأُولَى طَلُقَتْ الْأُخْرَيَانِ كَمَا لَوْ قَالَ : طَلُقْت هَذِهِ أَوْ هَاتَيْنِ وَلَيْسَ لَهُ الْوَطْءُ قَبْلَ التَّعْيِينِ ، فَإِنْ وَطِئَ لَمْ يَكُنْ تَعْيِينًا وَإِنْ مَاتَتْ إحْدَاهُمَا لَمْ يَتَعَيَّنْ الطَّلَاقُ فِي الْأُخْرَى وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَتَعَيَّنُ الطَّلَاقُ فِي الْأُخْرَى ؛ لِأَنَّهَا مَاتَتْ قَبْلَ ثُبُوتِ طَلَاقِهَا وَلَنَا أَنَّ مَوْتَ إحْدَاهُمَا أَوْ وَطْأَهَا لَا يَنْفِي احْتِمَالَ كَوْنِهَا مُطَلَّقَةً فَلَمْ يَكُنْ تَعْيِينًا لِغَيْرِهَا كَمَرَضِهَا وَإِنْ قَالَ : طَلُقْت هَذِهِ وَهَذِهِ أَوْ هَذِهِ وَهَذِهِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ طَلَّقَ اثْنَتَيْنِ لَا يَدْرِي أَهُمَا الْأُولَيَانِ أَمْ الْآخِرَتَانِ كَمَا لَوْ قَالَ : طَلَّقْت هَاتَيْنِ أَوْ هَاتَيْنِ ، فَإِنْ قَالَ : هُمَا الْأُولَيَانِ تَعَيَّنَ الطَّلَاقُ فِيهِمَا ، وَإِنْ قَالَ : لَمْ أُطَلِّقْ الْأُولَيَيْنِ تَعَيَّنَ الْآخِرَتَانِ وَإِنْ قَالَ : إنَّمَا أَشُكُّ فِي طَلَاقِ الثَّانِيَةِ وَالْآخِرَتَيْنِ طَلُقَتْ الْأُولَى وَبَقِيَ الشَّكُّ فِي الثَّلَاثِ ، وَمَتَى فَسَّرَ كَلَامَهُ بِشَيْءٍ مُحْتَمَلٍ قُبِلَ مِنْهُ .

( 6048 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ أَقْرَعَ الْوَرَثَةُ ، وَكَانَ الْمِيرَاثُ لِلْبَوَاقِي مِنْهُنَّ ) نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى هَذَا وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُقْسَمُ الْمِيرَاثُ بَيْنَهُنَّ كُلِّهِنَّ ؛ لِأَنَّهُنَّ تَسَاوَيْنَ فِي احْتِمَالِ اسْتِحْقَاقِهِ وَلَا يَخْرُجُ الْحَقُّ عَنْهُنَّ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُوقَفُ الْمِيرَاتُ الْمُخْتَصُّ بِهِنَّ حَتَّى يَصْطَلِحْنَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ الْمُسْتَحِقُّ مِنْهُنَّ وَوَجْهُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ قَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلِأَنَّهُنَّ قَدْ تَسَاوَيْنَ وَلَا سَبِيلَ إلَى التَّعْيِينِ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى الْقُرْعَةِ كَمَنْ أَعْتَقَ عَبِيدًا فِي مَرَضِهِ لَا مَالَ لَهُ سِوَاهُمْ وَقَدْ ثَبَتَ الْحُكْمُ فِيهِمْ بِالنَّصِّ وَلِأَنَّ تَوْرِيثَ الْجَمِيعِ تَوْرِيثٌ لِمَنْ لَا يَسْتَحِقُّ يَقِينًا وَالْوَقْفُ لَا إلَى غَايَةٍ حِرْمَانٌ لِمَنْ يَسْتَحِقُّ يَقِينًا وَالْقُرْعَةُ يُسْلَمُ بِهَا مِنْ هَذَيْنِ الْمَحْذُورَيْنِ وَلَهَا نَظِيرٌ فِي الشَّرْعِ ( 6049 ) فَصْلٌ : فَإِنْ مَاتَ بَعْضُهُنَّ أَوْ جَمِيعُهُنَّ قَرَعْنَا بَيْنَ الْجَمِيعِ فَمَنْ خَرَجَتْ الْقُرْعَةُ لَهَا حَرَمْنَاهُ مِيرَاثَهَا وَإِنْ مَاتَ بَعْضُهُنَّ قَبْلَهُ وَبَعْضُهُنَّ بَعْدَهُ وَخَرَجَتْ الْقُرْعَةُ لِمَيِّتَةٍ قَبْلَهُ حَرَمْنَاهُ مِيرَاثَهَا ، وَإِنْ خَرَجَتْ لِمَيِّتَةٍ بَعْدَهُ حَرَمْنَاهَا مِيرَاثَهُ ، وَالْبَاقِيَاتُ يَرِثُهُنَّ وَيَرِثْنَهُ ، فَإِنْ قَالَ الزَّوْجُ بَعْدَ مَوْتِهَا : هَذِهِ الَّتِي طَلَّقْتهَا أَوْ قَالَ فِي غَيْرِ الْمُعَيَّنَةِ : هَذِهِ الَّتِي أَرَدْتهَا حُرِمَ مِيرَاثَهَا ؛ لِأَنَّهُ يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ وَيَرِثُ الْبَاقِيَاتِ سَوَاءٌ صَدَّقَهُ وَرَثَتُهُنَّ أَوْ كَذَّبُوهُ ؛ لِأَنَّ عِلْمَ ذَلِكَ إنَّمَا يُعْرَفُ مِنْ جِهَتِهِ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا وَهُمْ يَدَّعُونَ طَلَاقَهُ لَهَا وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ وَهَلْ يُسْتَحْلَفُ عَلَى ذَلِكَ ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ ؛ فَإِنْ قُلْنَا : يُسْتَحْلَفُ فَنَكَلَ حَرَمْنَاهُ مِيرَاثَهَا ؛ لِنُكُولِهِ وَلَمْ يَرِثْ الْأُخْرَى لِإِقْرَارِهِ بِطَلَاقِهَا ، فَإِنْ مَاتَ فَقَالَ وَرَثَتُهُ لِإِحْدَاهُنَّ :

هَذِهِ الْمُطَلَّقَةُ فَأَقَرَّتْ أَوْ أَقَرَّ وَرَثَتُهَا بَعْدَ مَوْتِهَا حَرَمْنَاهَا مِيرَاثَهُ وَإِنْ أَنْكَرَتْ أَوْ أَنْكَرَ وَرَثَتُهَا فَقِيَاسُ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهَا ؛ لِأَنَّهَا تَدَّعِي بَقَاءَ نِكَاحِهَا وَهُمْ يَدَّعُونَ زَوَالَهُ وَالْأَصْلُ مَعَهَا فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُمْ عَلَيْهَا إلَّا بِبَيِّنَةٍ ، وَإِنْ شَهِدَ اثْنَانِ مِنْ وَرَثَتِهِ أَنَّهُ طَلَّقَهَا قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا إذَا لَمْ يَكُونَا مِمَّنْ يَتَوَفَّرُ عَلَيْهِمَا مِيرَاثُهَا وَلَا عَلَى مَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا لَهُ كَأُمِّهِمَا وَجَدَّتِهِمَا ؛ لِأَنَّ مِيرَاثَ إحْدَى الزَّوْجَاتِ لَا يَرْجِعُ إلَى وَرَثَةِ الزَّوْجِ وَإِنَّمَا يَتَوَفَّرُ عَلَى ضَرَائِرِهَا وَإِنْ ادَّعَتْ إحْدَى الزَّوْجَاتِ أَنَّهُ طَلَّقَهَا طَلَاقًا تَبِينُ بِهِ فَأَنْكَرَهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ، وَإِنْ مَاتَ لَمْ تَرِثْهُ لِإِقْرَارِهِمَا بِأَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ مِيرَاثَهُ فَقَبِلْنَا قَوْلَهَا فِيمَا عَلَيْهَا دُونَ مَا لَهَا وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ ؛ لِأَنَّنَا لَمْ نَقْبَلْ قَوْلَهَا فِيمَا عَلَيْهَا ، وَهَذَا التَّفْرِيعُ فِيمَا إذَا كَانَ الطَّلَاقُ يُبِينُهَا ، فَأَمَّا إنْ كَانَ رَجْعِيًّا وَمَاتَ فِي عِدَّتِهَا أَوْ مَاتَتْ وَرَّتْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ .

( 6050 ) فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ لَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ فَطَلَّقَ إحْدَاهُنَّ ثُمَّ نَكَحَ أُخْرَى بَعْدَ قَضَاءِ عِدَّتِهَا ثُمَّ مَاتَ وَلَمْ يُعْلَمْ أَيَّتَهنَّ طَلَّقَ فَلِلَّتِي تَزَوَّجَهَا رُبْعُ مِيرَاثِ النِّسْوَةِ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَلَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ ثُمَّ يُقْرَعُ بَيْنَ الْأَرْبَعِ فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَتْ قُرْعَتُهَا خَرَجَتْ وَوَرِثَ الْبَاقِيَاتُ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ أَيْضًا وَذَهَبَ الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ إلَى أَنَّ الْبَاقِيَ بَيْنَ الْأَرْبَعِ وَزَعَمَ أَبُو عُبَيْدٍ أَنَّهُ قَوْلُ أَهْلِ الْحِجَازِ وَأَهْلِ الْعِرَاقِ جَمِيعًا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُوقَفُ الْبَاقِي بَيْنَهُنَّ حَتَّى يَصْطَلِحْنَ وَوَجْهُ الْأَقْوَالِ مَا تَقَدَّمَ وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ فِي رَجُلٍ لَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ طَلَّقَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ ثَلَاثًا وَوَاحِدَةً اثْنَتَيْنِ وَوَاحِدَةً وَاحِدَةً وَمَاتَ عَلَى أَثَرِ ذَلِكَ وَلَا يَدْرِي أَيَّتُهُنَّ طَلَّقَ ثَلَاثًا وَأَيَّتُهُنَّ طَلَّقَ اثْنَتَيْنِ وَأَيَّتُهُنَّ وَاحِدَةً : يُقْرَعُ بَيْنَهُنَّ فَاَلَّتِي أَبَانَهَا تَخْرُجُ وَلَا مِيرَاثَ لَهَا هَذَا فِيمَا إذَا مَاتَ فِي عِدَّتِهِنَّ ، وَكَانَ طَلَاقُهُ فِي صِحَّتِهِ ، فَإِنَّهُ لَا يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ إلَّا الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا وَالْبَاقِيَتَانِ رَجْعِيَّتَانِ يَرِثْنَهُ فِي الْعِدَّةِ وَيَرِثُهُنَّ وَمَنْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا مِنْهُنَّ لَمْ تَرِثْهُ وَلَمْ يَرِثْهَا وَلَوْ كَانَ طَلَاقُهُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ لَوَرِثَهُ الْجَمِيعُ فِي الْعِدَّةِ وَفِيمَا بَعْدَهَا قَبْلَ التَّزْوِيجِ رِوَايَتَانِ .

( 6051 ) فَصْلٌ : إذَا طَلَّقَ وَاحِدَةً مِنْ نِسَائِهِ لَا يُعَيِّنُهَا أَوْ يُعَيِّنُهَا فَأُنْسِيَهَا فَانْقَضَتْ عِدَّةُ الْجَمِيعِ فَلَهُ نِكَاحُ خَامِسَةٍ قَبْلَ الْقُرْعَةِ وَخَرَّجَ ابْنُ حَامِدٍ وَجْهًا فِي أَنَّهُ لَا يَصِحُّ نِكَاحُ الْخَامِسَةِ ؛ لِأَنَّ الْمُطَلَّقَةَ فِي حُكْمِ نِسَائِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى وُجُوبِ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا وَحُرْمَةِ النِّكَاحِ فِي حَقِّهَا وَلَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّنَا عَلِمْنَا أَنَّ مِنْهُنَّ وَاحِدَةً بَائِنًا مِنْهُ لَيْسَتْ فِي نِكَاحِهِ وَلَا فِي عِدَّةٍ مِنْ نِكَاحِهِ فَكَيْفَ تَكُونُ زَوْجَتَهُ ؟ وَإِنَّمَا الْإِنْفَاقُ عَلَيْهَا لِأَجْلِ حَبْسِهَا وَمَنْعِهَا مِنْ التَّزَوُّجِ بِغَيْرِهِ ؛ لِأَجْلِ اشْتِبَاهِهَا وَمَتَى عَلِمْنَاهَا بِعَيْنِهَا إمَّا بِتَعْيِينِهِ أَوْ قُرْعَةٍ فَعِدَّتُهَا مِنْ حِينِ طَلَّقَهَا لَا مِنْ حِينِ عَيَّنَهَا وَذَكَرَ أَبُو حَنِيفَةَ وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ عِدَّتَهَا مِنْ حِينِ التَّعْيِينِ وَهَذَا فَاسِدٌ ؛ فَإِنَّ الطَّلَاقَ وَقَعَ حِينَ إيقَاعِهِ وَثَبَتَ حُكْمُهُ فِي تَحْرِيمِ الْوَطْءِ وَحِرْمَانِ الْمِيرَاثِ مِنْ الزَّوْجِ وَحِرْمَانِهِ مِنْهَا قَبْلَ التَّعْيِينِ فَكَذَلِكَ الْعِدَّةُ وَإِنَّمَا التَّعْيِينُ تَبَيُّنٌ لِمَا كَانَ وَاقِعًا وَإِنْ مَاتَ الزَّوْجُ قَبْلَ الْبَيَانِ فَعَلَى الْجَمِيعِ عِدَّةُ الْوَفَاةِ فِي قَوْلِ الشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ يَحْتَمِلُ أَنَّهَا بَاقِيَةٌ عَلَى النِّكَاحِ وَالْأَصْلُ بَقَاؤُهُ فَتَلْزَمُهَا عِدَّتُهُ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدَةٍ أَطُولُ الْأَجَلَيْنِ مِنْ عِدَّةِ الْوَفَاةِ وَعِدَّةِ الطَّلَاقِ لَكِنَّ عِدَّةَ الطَّلَاقِ مِنْ حِينِ طَلَّقَ وَعِدَّةَ الْوَفَاةِ مِنْ حِينِ مَوْتِهِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا الْمُطَلَّقَةُ فَعَلَيْهَا عِدَّةُ الطَّلَاقِ فَلَا تَبْرَأُ يَقِينًا إلَّا بِأَطْوَلِهِمَا وَهَذَا فِي الطَّلَاقِ الْبَائِنِ فَأَمَّا الرَّجْعِيُّ ؛ فَعَلَيْهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ

بِكُلِّ حَالٍ ؛ لِأَنَّ الرَّجْعِيَّةَ زَوْجَةٌ .

( 6052 ) فَصْلٌ : إذَا ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ أَنَّ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا فَأَنْكَرَهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ النِّكَاحِ وَعَدَمُ الطَّلَاقِ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهَا بِمَا ادَّعَتْهُ بَيِّنَةٌ وَلَا يُقْبَلُ فِيهِ إلَّا عَدْلَانِ وَنَقَلَ ابْنُ مَنْصُورٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ سُئِلَ : أَتَجُوزُ شَهَادَةُ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ فِي الطَّلَاقِ ؟ قَالَ : لَا وَاَللَّهِ إنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَيْسَ بِمَالٍ ، وَلَا الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْمَالُ وَيَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ فَلَمْ يُقْبَلْ فِيهِ إلَّا عَدْلَانِ كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ فَهَلْ يُسْتَحْلَفُ ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ ؛ نَقَلَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّهُ يُسْتَحْلَفُ وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ } وَقَوْلُهُ : { الْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ } وَلِأَنَّهُ يَصِحُّ مِنْ الزَّوْجِ بَذْلُهُ فَيُسْتَحْلَفُ فِيهِ كَالْمَهْرِ وَنَقَلَ أَبُو طَالِبٍ عَنْهُ : لَا يُسْتَحْلَفُ فِي الطَّلَاقِ وَالنِّكَاحِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْضَى فِيهِ بِالنُّكُولِ فَلَا يُسْتَحْلَفُ فِيهِ كَالنِّكَاحِ إذَا ادَّعَى زَوْجِيَّتَهَا فَأَنْكَرَتْهُ ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي عَدَدِ الطَّلَاقِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فَإِذَا طَلَّقَ ثَلَاثًا وَسَمِعَتْ ذَلِكَ وَأَنْكَرَ أَوْ ثَبَتَ ذَلِكَ عِنْدَهَا بِقَوْلِ عَدْلَيْنِ لَمْ يَحِلَّ لَهَا تَمْكِينُهُ مِنْ نَفْسِهَا وَعَلَيْهَا أَنْ تَفِرَّ مِنْهُ مَا اسْتَطَاعَتْ وَتَمْتَنِعَ مِنْهُ إذَا أَرَادَهَا وَتَفْتَدِيَ مِنْهُ إنْ قَدَرَتْ قَالَ أَحْمَدُ : لَا يَسَعُهَا أَنْ تُقِيمَ مَعَهُ وَقَالَ أَيْضًا : تَفْتَدِي مِنْهُ بِمَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ ، فَإِنْ أُجْبِرَتْ عَلَى ذَلِكَ فَلَا تَزَّيَّنُ لَهُ وَلَا تُقِرُّ بِهِ وَتَهْرُبُ إنْ قَدَرَتْ وَإِنْ شَهِدَ عِنْدَهَا عَدْلَانِ غَيْرُ مُتَّهَمَيْنِ فَلَا تُقِيمُ مَعَهُ وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَابْنُ سِيرِينَ : تَفِرُّ مِنْهُ مَا اسْتَطَاعَتْ وَتَفْتَدِي مِنْهُ بِكُلِّ مَا

يُمْكِنُ وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَأَبُو عُبَيْدٍ : تَفِرُّ مِنْهُ وَقَالَ مَالِكٌ : لَا تَتَزَيَّنُ لَهُ وَلَا تُبْدِي لَهُ شَيْئًا مِنْ شَعْرِهَا وَلَا عَرِيَّتِهَا وَلَا يُصِيبُهَا إلَّا وَهِيَ مُكْرَهَةٌ ، وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَالزُّهْرِيِّ وَالنَّخَعِيِّ يُسْتَحْلَفُ ثُمَّ يَكُونُ الْإِثْمُ عَلَيْهِ وَالصَّحِيحُ مَا قَالَهُ الْأَوَّلُونَ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ تَعْلَمُ أَنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ مِنْهُ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ فَوَجَبَ عَلَيْهَا الِامْتِنَاعُ وَالْفِرَارُ مِنْهُ كَسَائِرِ الْأَجْنَبِيَّاتِ وَهَكَذَا لَوْ ادَّعَى نِكَاحَ امْرَأَةٍ كَذِبًا وَأَقَامَ بِذَلِكَ شَاهِدَيْ زُورٍ فَحَكَمَ لَهُ الْحَاكِمُ بِالزَّوْجِيَّةِ أَوْ لَوْ تَزَوَّجَهَا تَزْوِيجًا بَاطِلًا وَسُلِّمَتْ إلَيْهِ بِذَلِكَ فَالْحُكْمُ فِي هَذَا كُلِّهِ كَالْحُكْمِ فِي الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا .

( 6053 ) فَصْلٌ : وَلَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ جَحَدَ طَلَاقَهَا لَمْ تَرِثْهُ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَبِهِ قَالَ قَتَادَةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَقَالَ الْحَسَنُ : تَرِثُهُ ؛ لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ الزَّوْجَاتِ ظَاهِرًا وَلَنَا أَنَّهَا تَعْلَمُ أَنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ فَلَمْ تَرِثْهُ كَسَائِرِ الْأَجْنَبِيَّاتِ ، وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ : تَهْرُبُ مِنْهُ وَلَا تَتَزَوَّجُ حَتَّى يُظْهِرَ طَلَاقَهَا وَتَعْلَمَ ذَلِكَ يَجِيءُ فَيَدَّعِيهَا فَتُرَدُّ عَلَيْهِ وَتُعَاقَبُ وَإِنْ مَاتَ وَلَمْ يُقِرَّ بِطَلَاقِهَا لَا تَرِثُهُ لَا تَأْخُذُ مَا لَيْسَ لَهَا تَفِرُّ مِنْهُ وَلَا تَخْرُجُ مِنْ الْبَلَدِ وَلَكِنْ تَخْتَفِي فِي بَلَدِهَا قِيلَ لَهُ : فَإِنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَالَ : تَقْتُلُهُ هِيَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ فَلَمْ يُعْجِبْهُ ذَلِكَ فَمَنَعَهَا مِنْ التَّزْوِيجِ قَبْلَ ثُبُوتِ طَلَاقِهَا لِأَنَّهَا فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ زَوْجَةُ هَذَا الْمُطَلِّقِ فَإِذَا تَزَوَّجَتْ غَيْرَهُ وَجَبَ عَلَيْهَا فِي ظَاهِرِ الشَّرْعِ الْعُقُوبَةُ وَالرَّدُّ إلَى الْأَوَّلِ وَيَجْتَمِعُ عَلَيْهَا زَوْجَانِ هَذَا بِظَاهِرِ الْأَمْرِ وَذَاكَ بِبَاطِنِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَهَا فِي الْخُرُوجِ مِنْ الْبَلَدِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُقَوِّي التُّهْمَةَ فِي نُشُوزِهَا وَلِأَنَّ فِي قَتْلِهِ قَصْدًا ؛ لِأَنَّ الدَّافِعَ عَنْ نَفْسِهِ لَا يَقْتُلُ قَصْدًا فَأَمَّا إنْ قَصَدَتْ الدَّفْعَ عَنْ نَفْسِهَا فَآلَ إلَى نَفْسِهِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهَا وَلَا ضَمَانَ فِي الْبَاطِنِ فَأَمَّا فِي الظَّاهِرِ ، فَإِنَّهَا تُؤْخَذُ بِحُكْمِ الْقَتْلِ مَا لَمْ يَثْبُتْ صِدْقُهَا .

( 6054 ) فَصْلٌ : قَالَ أَحْمَدُ : إذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَشَهِدَ عَلَيْهِ أَرْبَعَةٌ أَنَّهُ وَطِئَهَا أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ إنَّمَا أَوْجَبَهُ لِأَنَّهَا صَارَتْ بِالطَّلَاقِ أَجْنَبِيَّةً فَهِيَ كَسَائِرِ الْأَجْنَبِيَّاتِ بَلْ هِيَ أَشَدُّ تَحْرِيمًا ؛ لِأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ وَطْئًا وَنِكَاحًا ، فَإِنْ جَحَدَ طَلَاقَهَا وَوَطِئَهَا ثُمَّ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ بِطَلَاقِهِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَبِهَذَا قَالَ الشَّعْبِيُّ وَمَالِكٌ وَأَهْلُ الْحِجَازِ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَرَبِيعَةُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ ؛ لِأَنَّ جَحَدَهُ لِطَلَاقِهِ يُوهِمُنَا أَنَّهُ نَسِيَهُ وَذَلِكَ شُبْهَةٌ فِي دَرْءِ الْحَدِّ عَنْهُ وَلَا سَبِيلَ لَنَا إلَى عِلْمِ مَعْرِفَتِهِ بِالطَّلَاقِ حَالَةَ وَطْئِهِ إلَّا بِإِقْرَارِهِ بِذَلِكَ ، فَإِنْ قَالَ : وَطِئْتهَا عَالِمًا بِأَنَّنِي كُنْت طَلَّقْتهَا ثَلَاثًا كَانَ إقْرَارًا مِنْهُ بِالزِّنَى فَيُعْتَبَرُ فِيهِ مَا يُعْتَبَرُ فِي الْإِقْرَارِ بِالزِّنَى .

( 6055 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَإِذَا طَلَّقَ زَوْجَتَهُ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ فَقَضَتْ الْعِدَّةَ ثُمَّ تَزَوَّجَتْ غَيْرَهُ ثُمَّ أَصَابَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا وَقَضَتْ الْعِدَّةَ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا الْأَوَّلُ فَهِيَ عِنْدَهُ عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ الثَّلَاثِ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُطَلِّقَ إذَا بَانَتْ زَوْجَتُهُ مِنْهُ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا لَمْ يَخْلُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ ؛ أَحَدُهَا أَنْ تَنْكِحَ غَيْرَهُ وَيُصِيبَهَا ثُمَّ يَتَزَوَّجَهَا الْأَوَّلُ فَهَذِهِ تَرْجِعُ إلَيْهِ عَلَى طَلَاقِ ثَلَاثٍ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَالثَّانِي أَنْ يُطَلِّقَهَا دُونَ الثَّلَاثِ ثُمَّ تَعُودَ إلَيْهِ بِرَجْعَةٍ ، أَوْ نِكَاحٍ جَدِيدٍ قَبْلَ زَوْجٍ ثَانٍ فَهَذِهِ تَرْجِعُ إلَيْهِ عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ طَلَاقِهَا بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ ، وَالثَّالِثُ طَلَّقَهَا دُونَ الثَّلَاثِ فَقَضَتْ عِدَّتَهَا ثُمَّ نَكَحَتْ غَيْرَهُ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا الْأَوَّلُ فَعَنْ أَحْمَدَ فِيهَا رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا تَرْجِعُ إلَيْهِ عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ طَلَاقِهَا وَهَذَا قَوْلُ الْأَكَابِرِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَأُبَيٍّ وَمُعَاذٍ وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ زَيْدٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَعُبَيْدَةُ وَالْحَسَنُ وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَأَبُو ثَوْرٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهَا تَرْجِعُ إلَيْهِ عَلَى طَلَاقِ ثَلَاثٍ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ وَالنَّخَعِيِّ وَشُرَيْحٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ؛ لِأَنَّ وَطْءَ الزَّوْجِ الثَّانِي مُثْبِتٌ لِلْحِلِّ فَيُثْبِتُ حِلًّا يَتَّسِعُ لِثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ كَمَا بَعْدَ الثَّلَاثِ لِأَنَّ وَطْءَ الثَّانِي يَهْدِمُ الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثَ فَأَوْلَى أَنْ يَهْدِمَ مَا دُونَهَا وَلَنَا أَنَّ وَطْءَ الثَّانِي لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْإِحْلَالِ لِلزَّوْجِ

الْأَوَّلِ فَلَا يُغَيِّرُ حُكْمَ الطَّلَاقِ كَوَطْءِ السَّيِّدِ وَلِأَنَّهُ تَزْوِيجٌ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الثَّلَاثِ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ رَجَعَتْ إلَيْهِ قَبْلَ وَطْءِ الثَّانِي وَقَوْلُهُمْ : إنَّ وَطْءَ الثَّانِي يُثْبِتُ الْحِلَّ لَا يَصِحُّ ؛ لِوَجْهَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا : مَنْعُ كَوْنِهِ مُثْبِتًا لِلْحِلِّ أَصْلًا وَإِنَّمَا هُوَ فِي الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ غَايَةُ التَّحْرِيمِ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى : { فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } وَحَتَّى لِلْغَايَةِ ، وَإِنَّمَا سَمَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزَّوْجَ الَّذِي قَصَدَ الْحِيلَةَ مُحَلِّلًا تَجَوُّزًا بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَعَنَهُ وَمَنْ أَثْبَتَ حَلَالًا يَسْتَحِقُّ لَعْنًا ، وَالثَّانِي أَنَّ الْحِلَّ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي مَحَلٍّ فِيهِ تَحْرِيمٌ وَهِيَ الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا وَهَاهُنَا هِيَ حَلَالٌ لَهُ فَلَا يَثْبُتُ فِيهَا حِلٌّ ، وَقَوْلُهُمْ : إنَّهُ يَهْدِمُ الطَّلَاقَ قُلْنَا : بَلْ هُوَ غَايَةٌ لِتَحْرِيمِهِ وَمَا دُونَ الثَّلَاثِ لَا تَحْرِيمَ فِيهَا فَلَا يَكُونُ غَايَةً لَهُ .

( 6056 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَإِذَا كَانَ الْمُطَلِّقُ عَبْدًا وَكَانَ طَلَاقُهُ اثْنَتَيْنِ لَمْ تَحِلَّ لَهُ زَوْجَتُهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ حُرَّةً كَانَتْ الزَّوْجَةُ أَوْ مَمْلُوكَةً ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ بِالرِّجَالِ وَالْعِدَّةَ بِالنِّسَاءِ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الطَّلَاقَ مُعْتَبَرٌ بِالرِّجَالِ ، فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ حُرًّا ؛ فَطَلَاقُهُ ثَلَاثٌ حُرَّةً كَانَتْ الزَّوْجَةُ أَوْ أَمَةً وَإِنْ كَانَ عَبْدًا ؛ فَطَلَاقُهُ اثْنَتَانِ حُرَّةً كَانَتْ زَوْجَتُهُ أَوْ أَمَةً فَإِذَا طَلَّقَ اثْنَتَيْنِ حَرُمَتْ عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَزَيْدٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : أَيُّهُمَا رَقَّ نَقَصَ الطَّلَاقُ بِرِقِّهِ فَطَلَاقُ الْعَبْدِ اثْنَتَانِ وَإِنْ كَانَ تَحْتَهُ حُرَّةٌ وَطَلَاقُ الْأَمَةِ اثْنَتَانِ وَإِنْ كَانَ زَوْجُهَا حُرًّا .
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ الطَّلَاقَ مُعْتَبَرٌ بِالنِّسَاءِ فَطَلَاقُ الْأَمَةِ اثْنَتَانِ حُرًّا كَانَ الزَّوْجُ أَوْ عَبْدًا وَطَلَاقُ الْحُرَّةِ ثَلَاثٌ حُرًّا كَانَ زَوْجُهَا أَوْ عَبْدًا وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَعِكْرِمَةُ وَعُبَيْدَةُ وَمَسْرُوقٌ وَالزُّهْرِيُّ وَالْحَكَمُ وَحَمَّادٌ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ ؛ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { طَلَاقُ الْأَمَةِ تَطْلِيقَتَانِ وَقُرْؤُهَا حَيْضَتَانِ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ مَحَلٌّ لِلطَّلَاقِ فَيُعْتَبَرُ بِهَا كَالْعِدَّةِ وَلَنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَاطَبَ الرِّجَالَ بِالطَّلَاقِ فَكَانَ حُكْمُهُ مُعْتَبَرًا بِهِمْ وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ خَالِصُ حَقِّ الزَّوْجِ وَهُوَ مِمَّا يَخْتَلِفُ بِالرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ فَكَانَ اخْتِلَافُهُ بِهِ كَعَدَدِ الْمَنْكُوحَاتِ ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ قَالَ أَبُو دَاوُد : رَاوِيهِ مُظَاهِرُ بْنُ أَسْلَمَ وَهُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ وَقَدْ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي " سُنَنِهِ " عَنْ

عَائِشَةَ قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { طَلَاقُ الْعَبْدِ اثْنَتَانِ فَلَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ وَقُرْءُ الْأَمَةِ حَيْضَتَانِ وَتَتَزَوَّجُ الْحُرَّةُ عَلَى الْأَمَةِ وَلَا تَتَزَوَّجُ الْأَمَةُ عَلَى الْحُرَّةِ } وَهَذَا نَصٌّ وَلِأَنَّ الْحُرَّ يَمْلِكُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَرْبَعًا فَمَلَكَ طَلَقَاتٍ ثَلَاثًا كَمَا لَوْ كَانَ تَحْتَهُ حُرَّةٌ وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْحُرَّ الَّذِي زَوْجَتُهُ حُرَّةٌ طَلَاقُهُ ثَلَاثٌ وَأَنَّ الْعَبْدَ الَّذِي تَحْتَهُ أَمَةٌ طَلَاقُهُ اثْنَتَانِ ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا كَانَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ حُرًّا وَالْآخَرُ رَقِيقًا .

( 6057 ) فَصْلٌ : قَالَ أَحْمَدُ : الْمَكَاتِبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ وَطَلَاقُهُ وَأَحْكَامُهُ كُلُّهَا أَحْكَامُ الْعَبِيدِ ، وَهَذَا صَحِيحٌ ؛ فَإِنَّهُ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ : { الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ } وَلِأَنَّهُ يَصِحُّ عِتْقُهُ وَلَا يَنْكِحُ إلَّا اثْنَتَيْنِ وَلَا يَتَزَوَّجُ وَلَا يَتَسَرَّى إلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ ، وَهَذِهِ أَحْكَامُ الْعَبِيدِ فَيَكُونُ طَلَاقُهُ كَطَلَاقِ سَائِرِ الْعَبِيدِ ، وَقَدْ رَوَى الْأَثْرَمُ فِي " سُنَنِهِ " عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ نُفَيْعًا مُكَاتَبَ أُمِّ سَلَمَةَ طَلَّقَ امْرَأَةً حُرَّةً تَطْلِيقَتَيْنِ فَسَأَلَ عُثْمَانَ وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَا : حَرُمَتْ عَلَيْكَ وَالْمُدَبَّرُ كَالْعَبْدِ الْقِنِّ فِي نِكَاحِهِ وَطَلَاقِهِ ، وَكَذَلِكَ الْمُعَلَّقُ عِتْقُهُ بِصِفَةٍ ؛ لِأَنَّهُ عَبْدٌ فَتَثْبُتُ فِيهِ أَحْكَامُ الْعَبِيدِ .

( 6058 ) فَصْلٌ : قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ : الْعَبْدُ إذَا كَانَ نِصْفُهُ حُرًّا وَنِصْفُهُ عَبْدًا يَتَزَوَّجُ ثَلَاثًا وَيُطَلِّقُ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا تَجَزَّأَ بِالْحِسَابِ إنَّمَا جَعَلَ لَهُ نِكَاحَ ثَلَاثٍ لِأَنَّ عَدَدَ الْمَنْكُوحَاتِ يَتَبَعَّضُ فَوَجَبَ أَنْ يَتَبَعَّضَ فِي حَقِّهِ كَالْحَدِّ فَلِذَلِكَ كَانَ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ نِصْفَ مَا يَنْكِحُ الْحُرُّ وَنِصْفَ مَا يَنْكِحُ الْعَبْدُ وَذَلِكَ ثَلَاثٌ ، وَأَمَّا الطَّلَاقُ فَلَا يُمْكِنُ قِسْمَتُهُ فِي حَقِّهِ ؛ لِأَنَّ مُقْتَضَى حَالِهِ أَنْ يَكُونَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الطَّلَاقِ وَلَيْسَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعٍ فَكَمُلَ فِي حَقِّهِ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ إثْبَاتُ الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثِ فِي حَقِّ كُلِّ مُطَلِّقٍ ، وَإِنَّمَا خُولِفَ فِي مَنْ كَمُلَ الرِّقُّ فِي حَقِّهِ فَفِي مَنْ عَدَاهُ يَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ .

( 6059 ) فَصْلٌ : إذَا طَلَّقَ الْعَبْدُ زَوْجَتَهُ اثْنَتَيْنِ ثُمَّ عَتَقَ لَمْ تَحِلَّ لَهُ زَوْجَتُهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ؛ لِأَنَّهَا حُرِّمَتْ عَلَيْهِ بِالطَّلَاقِ تَحْرِيمًا لَا يَنْحَلُّ إلَّا بِزَوْجٍ وَإِصَابَةٍ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فَلَا يَزُولُ التَّحْرِيمُ وَهَذَا ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَتَبْقَى عِنْدَهُ عَلَى وَاحِدَةٍ ، وَذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَمْلُوكَيْنِ : { إذَا طَلَّقَهَا تَطْلِيقَتَيْنِ ثُمَّ عَتَقَا فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا } وَقَالَ : لَا أَرَى شَيْئًا يَدْفَعُهُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ يَقُولُ بِهِ ؛ أَبُو سَلَمَةَ وَجَابِرٌ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي " الْمُسْنَدِ " وَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَدَ الْأَوَّلُ ، وَقَالَ : حَدِيثُ عُثْمَانَ وَزَيْدٍ فِي تَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ جَيِّدٌ وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ يَرْوِيهِ عَمْرُو بْنُ مُغِيثٍ وَلَا أَعْرِفُهُ وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ : مَنْ أَبُو حَسَنٍ هَذَا ؟ لَقَدْ حَمَلَ صَخْرَةً عَظِيمَةً مُنْكِرًا لِهَذَا الْحَدِيثِ ، قَالَ أَحْمَدُ : أَمَّا أَبُو حَسَنٍ فَهُوَ عِنْدِي مَعْرُوفٌ وَلَكِنْ لَا أَعْرِفُ عَمْرَو بْنَ مُغِيثٍ قَالَ أَبُو بَكْرٍ : إنْ صَحَّ الْحَدِيثُ فَالْعَمَلُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فَالْعَمَلُ عَلَى حَدِيثِ عُثْمَانَ وَزَيْدٍ وَبِهِ أَقُولُ قَالَ أَحْمَدُ : وَلَوْ طَلَّقَ عَبْدٌ زَوْجَتَهُ الْأَمَةَ تَطْلِيقَتَيْنِ ثُمَّ عَتَقَ وَاشْتَرَاهَا لَمْ تَحِلَّ لَهُ وَلَوْ تَزَوَّجَ وَهُوَ عَبْدٌ فَلَمْ يُطَلِّقْهَا أَوْ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً ثُمَّ عَتَقَ فَلَهُ عَلَيْهَا ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ أَوْ طَلْقَتَانِ إنْ كَانَ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً ؛ لِأَنَّهُ فِي حَالِ الطَّلَاقِ حُرٌّ فَاعْتُبِرَ حَالُهُ حِينَئِذٍ كَمَا يُعْتَبَرُ حَالُ الْمَرْأَةِ فِي الْعِدَّةِ حِينَ وُجُودِهَا ، وَلَوْ تَزَوَّجَهَا وَهُوَ حُرٌّ كَافِرٌ فَسُبِيَ وَاسْتُرِقَّ ثُمَّ أَسْلَمَا جَمِيعًا لَمْ يَمْلِكْ إلَّا طَلَاقَ الْعَبِيدِ اعْتِبَارًا بِحَالِهِ حِينَ الطَّلَاقِ وَلَوْ طَلَّقَهَا فِي كُفْرِهِ وَاحِدَةً

وَرَاجَعَهَا ثُمَّ سُبِيَ وَاسْتُرِقَّ لَمْ يَمْلِكْ إلَّا طَلْقَةً وَاحِدَةً وَلَوْ طَلَّقَهَا فِي كُفْرِهِ طَلْقَتَيْنِ ثُمَّ اُسْتُرِقَّ وَأَرَادَ التَّزَوُّجَ بِهَا جَازَ وَلَهُ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ ؛ لِأَنَّ الطَّلْقَتَيْنِ وَقَعَتَا غَيْرَ مُحَرِّمَتَيْنِ فَلَا يُعْتَبَرُ حُكْمُهُمَا بِمَا يَطْرَأُ بَعْدَهُمَا كَمَا أَنَّ الطَّلْقَتَيْنِ مِنْ الْعَبْدِ لَمَّا أَنَّ وَقَعَتَا مُحَرِّمَتَيْنِ لَمْ يُعْتَبَرْ ذَلِكَ بِالْعِتْقِ بَعْدَهُمَا .

( 6060 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَإِذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثَةَ أَنْصَافِ تَطْلِيقَتَيْنِ طَلُقَتْ بِثَلَاثٍ ) نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى هَذَا فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ : تَقَعُ طَلْقَتَانِ ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ ثَلَاثَةُ أَنْصَافٍ مِنْ طَلْقَتَيْنِ وَذَلِكَ طَلْقَةٌ وَنِصْفٌ ثُمَّ تَكْمُلُ فَتَصِيرُ طَلْقَتَيْنِ وَقِيلَ : بَلْ ثَلَاثٌ ؛ لِأَنَّ النِّصْفَ الثَّالِثَ مِنْ طَلْقَتَيْنِ مُحَالٌ وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ كَهَذَيْنِ وَلَنَا أَنَّ نِصْفَ الطَّلْقَتَيْنِ طَلْقَةٌ وَقَدْ أَوْقَعَهُ ثَلَاثًا فَيَقَعُ ثَلَاثًا كَمَا لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثَ طَلَقَاتٍ ، وَقَوْلُهُمْ : مَعْنَاهُ ثَلَاثَةُ أَنْصَافٍ مِنْ طَلْقَتَيْنِ تَأْوِيلٌ يُخَالِفُهُ ظَاهِرُ اللَّفْظِ ، فَإِنَّهُ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ يَكُونُ ثَلَاثَةَ أَنْصَافِ طَلْقَةٍ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ثَلَاثَةَ أَنْصَافِ طَلْقَتَيْنِ مُخَالِفَةً لِثَلَاثَةِ أَنْصَافِ طَلْقَةٍ وَقَوْلُهُمْ : إنَّهُ مُحَالٌ قُلْنَا : وُقُوعُ نِصْفِ الطَّلْقَتَيْنِ عَلَيْهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لَيْسَ بِمُحَالِ فَيَجِبُ أَنْ يَقَعَ .

( 6061 ) فَصْلٌ : ، فَإِنْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ مِلْءَ الدُّنْيَا وَنَوَى الثَّلَاثَ وَقَعَ الثَّلَاثُ ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا أَوْ نَوَى وَاحِدَةً فَهِيَ وَاحِدَةٌ قَالَ أَحْمَدُ فِي مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ مِلْءَ الْبَيْتِ : فَإِنْ أَرَادَ الْغِلْظَةَ عَلَيْهَا - يَعْنِي يُرِيدُ أَنْ تَبِينَ مِنْهُ - فَهِيَ ثَلَاثٌ فَاعْتَبَرَ نِيَّتَهُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إذَا لَمْ يَنْوِ يَقَعُ وَاحِدَةٌ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَصْفَ لَا يَقْتَضِي عَدَدًا وَهَذَا لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا إلَّا أَنَّ الْوَاحِدَةَ إذَا وَقَعَتْ كَانَتْ رَجْعِيَّةً ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ : تَكُونُ بَائِنًا ؛ لِأَنَّهُ وَصَفَ الطَّلَاقَ بِصِفَةٍ زَائِدَةٍ تَقْتَضِي الزِّيَادَةَ عَلَيْهَا ، وَذَلِكَ هُوَ الْبَيْنُونَةُ .
وَلَنَا أَنَّهُ طَلَاقٌ صَادَفَ مَدْخُولًا بِهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِيفَاءِ عَدَدٍ وَلَا عِوَضٍ فَكَانَ رَجْعِيًّا كَقَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ وَمَا ذَكَرُوهُ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ حُكْمٌ فَإِذَا ثَبَتَ ثَبَتَ فِي الدُّنْيَا كُلِّهَا فَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ زِيَادَةً ، وَإِنْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ أَشَدَّ الطَّلَاقِ أَوْ أَغْلَظَهُ أَوْ أَطْوَلَ الطَّلَاقِ أَوْ أَعْرَضَهُ أَوْ أَقْصَرَهُ أَوْ مِثْلَ الْجَبَلِ أَوْ مِثْلَ عِظَمِ الْجَبَلِ وَلَا نِيَّةَ لَهُ وَقَعَتْ طَلْقَةٌ رَجْعِيَّةٌ ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي جَمِيعِهَا : يَقَعُ بَائِنًا وَقَالَ صَاحِبَاهُ : إنْ قَالَ : مِثْلَ الْجَبَلِ كَانَتْ رَجْعِيَّةً وَإِنْ قَالَ : مِثْلَ عِظَمِ الْجَبَلِ كَانَتْ بَائِنًا وَوَجْهُ الْقَوْلَيْنِ مَا تَقَدَّمَ وَلِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إيقَاعَ الْبَيْنُونَةِ ، فَإِنَّهَا حُكْمٌ وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَيْهِ وَإِنَّمَا تَثْبُتُ الْبَيْنُونَةُ بِأَسْبَابٍ مُعَيَّنَةٍ كَالْخَلْعِ وَالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ وَالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ فَيَمْلِكُ مُبَاشَرَةَ سَبَبِهَا فَيَثْبُتُ وَإِنْ أَرَادَ إثْبَاتَهَا بِدُونِ ذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَشَدَّ الطَّلَاقِ عَلَيْهِ أَوْ عَلَيْهَا وَأَغْلَظَ ؛ لِتَعَجُّلِهِمَا أَوْ لِحُبِّ أَحَدِهِمَا صَاحِبَهُ وَمَشَقَّةِ فِرَاقِهِ

عَلَيْهِ فَلَمْ يَقَعْ أَمْرٌ زَائِدٌ بِالشَّكِّ ، وَإِنْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ أَقْصَى الطَّلَاقِ أَوْ أَكْبَرَهُ فَكَذَلِكَ فِي قِيَاسِ الْمَذْهَبِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَقْصَى الطَّلَاقِ ثَلَاثًا ؛ لِأَنَّ أَقْصَاهُ آخِرُهُ وَآخِرُ الطَّلَاقِ الثَّالِثَةُ ، وَمِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِهَا ثَالِثَةً وُقُوعُ اثْنَتَيْنِ وَإِنْ قَالَ : أَتَمَّ الطَّلَاقِ أَوْ أَكْمَلَهُ فَوَاحِدَةٌ إلَّا أَنَّهَا تَكُونُ سُنِّيَّةً ؛ لِأَنَّهَا أَكْمَلُ الطَّلَاقِ وَأَتَمُّهُ .

( 6062 ) فَصْلٌ : وَإِنْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ أَكْثَرَ الطَّلَاقِ أَوْ كُلَّهُ ، أَوْ جَمِيعَهُ أَوْ مُنْتَهَاهُ ، أَوْ مِثْلَ عَدَدِ الْحَصَى أَوْ الرَّمْلِ أَوْ الْقَطْرِ طَلُقَتْ ثَلَاثًا ؛ لِأَنَّ هَذَا يَقْتَضِي عَدَدًا وَلِأَنَّ لِلطَّلَاقِ أَقَلَّ وَأَكْثَرَ فَأَقَلُّهُ وَاحِدَةٌ وَأَكْثَرُهُ ثَلَاثٌ وَإِنْ قَالَ : كَعَدَدِ التُّرَابِ أَوْ الْمَاءِ وَقَعَ ثَلَاثًا وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَقَعُ وَاحِدَةٌ بَائِنٌ ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ وَالتُّرَابَ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ لَا عَدَدَ لَهُ .
وَلَنَا أَنَّ الْمَاءَ تَتَعَدَّدُ أَنْوَاعُهُ وَقَطَرَاتُهُ وَالتُّرَابُ تَتَعَدَّدُ أَنْوَاعُهُ وَأَجْزَاؤُهُ فَأَشْبَهَ الْحَصَا ، وَإِنْ قَالَ : يَا مِائَةَ طَالِقٍ أَوْ : أَنْتِ مِائَةُ طَالِقٍ طَلُقَتْ ثَلَاثًا وَإِنْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ كَمِائَةٍ أَوْ أَلْفٍ فَهِيَ ثَلَاثٌ قَالَ أَحْمَدُ فِي مَنْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ كَأَلْفِ تَطْلِيقَةٍ : فَهِيَ ثَلَاثٌ ، وَبِهِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ : إنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِالْعَدَدِ وَإِنَّمَا شَبَّهَهَا بِالْأَلْفِ وَلَيْسَ الْمَوْقِعُ الشَّبَهَ بِهِ وَلَنَا أَنَّ قَوْلَهُ : كَأَلْفٍ تَشْبِيهٌ بِالْعَدَدِ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ إلَّا ذَلِكَ فَوَقَعَ الْعَدَدُ كَقَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ كَعَدَدِ أَلْفٍ وَفِي هَذَا انْفِصَالٌ عَمَّا قَالَ وَإِنْ قَالَ : أَرَدْت أَنَّهَا طَلْقَةٌ كَأَلْفٍ فِي صُعُوبَتِهَا دُيِّنَ ، وَهَلْ يُقْبَلُ فِي الْحُكْمِ ؟ يُخَرَّجُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ .

( 6063 ) فَصْلٌ : وَإِنْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ مِنْ وَاحِدَةٍ إلَى ثَلَاثٍ وَقَعَ طَلْقَتَانِ وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ مَا بَعْدَ الْغَايَةِ لَا يَدْخُلُ فِيهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ } وَإِنَّمَا يَدْخُلُ إذَا كَانَتْ بِمَعْنَى مَعَ وَذَلِكَ خِلَافُ مَوْضُوعِهَا وَقَالَ زَفَرُ : يَقَعُ طَلْقَةٌ ؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْغَايَةِ لَيْسَ مِنْهَا كَقَوْلِهِ : بِعْتُك مِنْ هَذَا الْحَائِطِ إلَى هَذَا الْحَائِطِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : يَقَعُ الثَّلَاثُ ؛ لِأَنَّهُ نَطَقَ بِهَا فَلَمْ يَجُزْ إلْغَاؤُهَا وَلَنَا أَنَّ ابْتِدَاءَ الْغَايَةِ يَدْخُلُ كَمَا لَوْ قَالَ : خَرَجْت مِنْ الْبَصْرَةِ ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِيهَا وَأَمَّا انْتِهَاءُ الْغَايَةِ فَلَا يَدْخُلُ بِمُقْتَضَى اللَّفْظِ وَلَوْ احْتَمَلَ دُخُولَهُ وَعَدَمَ دُخُولِهِ لَمْ نُجِزْ الطَّلَاقَ بِالشَّكِّ وَإِنْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ مَا بَيْنَ وَاحِدَةٍ وَثَلَاثٍ وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ ؛ لِأَنَّهَا الَّتِي بَيْنَهُمَا .

( 6064 ) فَصْلٌ : فَإِنْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً فِي اثْنَتَيْنِ أَوْ وَاحِدَةً فِي اثْنَتَيْنِ وَنَوَى بِهِ ثَلَاثًا فَهِيَ ثَلَاثٌ ؛ لِأَنَّهُ يُعَبَّرُ ؛ بِفِي عَنْ " مَعَ " كَقَوْلِهِ : { فَادْخُلِي فِي عِبَادِي } فَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً مَعَ طَلْقَتَيْنِ فَإِذَا أَقَرَّ بِذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ قُبِلَ مِنْهُ وَإِنْ قَالَ : أَرَدْت وَاحِدَةً قُبِلَ أَيْضًا حَاسِبًا كَانَ أَوْ غَيْرَ حَاسِبٍ وَقَالَ الْقَاضِي : إذَا كَانَ عَارِفًا بِالْحِسَابِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ وَوَقَعَ طَلْقَتَانِ ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ مَا اقْتَضَاهُ اللَّفْظُ وَلَنَا أَنَّهُ فَسَّرَ كَلَامَهُ بِمَا يَحْتَمِلُهُ فَإِنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يُرِيدَ بِكَلَامِهِ مَا يُرِيدُهُ الْعَامِّيُّ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ وَكَانَ عَارِفًا بِالْحِسَابِ وَقَعَ طَلْقَتَانِ وَقَالَ الْقَاضِي : إنْ أَطْلَقَ لَمْ يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةٌ ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْإِيقَاعِ إنَّمَا هُوَ بِلَفْظِ الْوَاحِدَةِ وَمَا زَادَ عَلَيْهَا لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ لَفْظُ الْإِيقَاعِ وَإِنَّمَا يَقَعُ الزَّائِدُ بِالْقَصْدِ فَإِذَا خَلَا عَنْ الْقَصْدِ لَمْ يَقَعْ إلَّا مَا أَوْقَعَهُ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ كَقَوْلِنَا وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةٌ سَوَاءٌ قَصَدَ بِهِ الْحِسَابَ أَوْ لَمْ يَقْصِدْ إذَا لَمْ يَقْصِدْ بِهِ وَاحِدَةً مَعَ اثْنَتَيْنِ ؛ لِأَنَّ الضَّرْبَ إنَّمَا يَصِحُّ فِيمَا لَهُ مِسَاحَةٌ فَأَمَّا مَا لَا مِسَاحَةَ لَهُ فَلَا حَقِيقَةَ فِيهِ لِلْحِسَابِ وَإِنَّمَا حَصَلَ مِنْهُ الْإِيقَاعُ فِي وَاحِدَةٍ فَوَقَعَتْ دُونَ غَيْرِهَا ، وَلَنَا أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ مَوْضُوعٌ فِي اصْطِلَاحِهِمْ لِاثْنَتَيْنِ فَإِذَا لَفَظَ بِهِ وَأَطْلَقَ وَقَعَ كَمَا لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ وَبِهَذَا يَحْصُلُ الِانْفِصَالُ عَمَّا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ ، فَإِنَّ اللَّفْظَ الْمَوْضُوعَ لَا يُحْتَاجُ مَعَهُ إلَى نِيَّةٍ ، فَأَمَّا مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي وَضْعِ الْحِسَابِ فِي الْأَصْلِ ثُمَّ صَارَ مُسْتَعْمَلًا فِي كُلِّ مَا لَهُ عَدَدٌ فَصَارَ حَقِيقَةً فِيهِ فَأَمَّا الْجَاهِلُ بِمُقْتَضَى ذَلِكَ فِي الْحِسَابِ إذَا أَطْلَقَ وَقَعَتْ

طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْإِيقَاعِ إنَّمَا هُوَ لَفْظَةٌ وَاحِدَةٌ وَإِنَّمَا صَارَ مَصْرُوفًا إلَى الِاثْنَتَيْنِ بِوَضْعِ أَهْلِ الْحِسَابِ وَاصْطِلَاحِهِمْ فَمَنْ لَا يَعْرِفُ اصْطِلَاحَهُمْ لَا يَلْزَمُهُ مُقْتَضَاهُ كَالْعَرَبِيِّ يَنْطِقُ بِالطَّلَاقِ بِالْعَجَمِيَّةِ وَهُوَ لَا يَعْرِفُ مَعْنَاهَا .
وَلَمْ يُفَرِّقْ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُتَكَلِّمُ بِذَلِكَ مِمَّنْ لَهُمْ عُرْفٌ فِي هَذَا اللَّفْظِ أَوَّلًا وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إنْ كَانَ الْمُتَكَلِّمُ بِذَلِكَ مِمَّنْ عُرْفُهُمْ أَنَّ " فِي " هَاهُنَا بِمَعْنَى " مَعَ " وَقَعَ بِهِ ثَلَاثٌ ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ يُحْمَلُ عَلَى عُرْفِهِمْ وَالظَّاهِرُ مِنْهُ إرَادَتُهُ وَهُوَ الْمُتَبَادِرُ إلَى الْفَهْمِ مِنْ كَلَامِهِ فَإِنْ نَوَى مُوجَبَهُ عِنْدَ أَهْلِ الْحِسَابِ فَقَالَ الْقَاضِي : لَا يَلْزَمُهُ مُقْتَضَاهُ كَالْعَرَبِيِّ يَنْطِقُ بِالطَّلَاقِ بِالْعَجَمِيَّةِ وَلَا يَعْرِفُ مَعْنَاهَا ، وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ مُوجَبَهُ فَلَمْ يَقْصِدْ إيقَاعَهُ وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ قَصْدُ مَا لَا يَعْرِفُهُ .

( 6065 ) فَصْلٌ : فَإِنْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً بَلْ طَلْقَتَيْنِ وَقَعَ طَلْقَتَانِ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : يَقَعُ ثَلَاثًا فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ : أَنْتِ طَالِقٌ إيقَاعٌ فَلَا يَجُوزُ إيقَاعُ الْوَاحِدَةِ مَرَّتَيْنِ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَوْقَعَهَا ثُمَّ أَرَادَ رَفْعَهَا وَأَوْقَعَ اثْنَتَيْنِ آخِرَتَيْنِ فَتَقَعُ الثَّلَاثُ وَلَنَا أَنَّ مَا لَفَظَ بِهِ قَبْلَ الْإِضْرَابِ بَعْضُ مَا لَفَظَ بِهِ بَعْدَهُ فَلَمْ يَلْزَمْهُ أَكْثَرُ مِمَّا بَعْدَهُ كَقَوْلِهِ : لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ بَلْ دِرْهَمَانِ وَقَوْلُهُمْ : لَا يَجُوزُ إيقَاعُ مَا أَوْقَعَهُ قُلْنَا : يَجُوزُ أَنْ يُخْبِرَ بِوُقُوعِهِ مَعَ وُقُوعِ غَيْرِهِ فَلَا يَقَعُ الزَّائِدُ بِالشَّكِّ قَالَ أَحْمَدُ : فَإِنْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ لَا بَلْ أَنْتِ طَالِقٌ : هِيَ وَاحِدَةٌ وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ وَاخْتَارَ الْقَاضِي أَنَّهُ يَقَعُ طَلْقَتَانِ ؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ رَفْعَ الْأُولَى وَإِيقَاعَ الثَّانِيَةِ فَلَمْ تَرْتَفِعْ الْأُولَى وَوَقَعَتْ الثَّانِيَةُ وَوَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ بَلْ دِرْهَمٌ لَزِمَهُ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ كَذَا هَاهُنَا فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ إنْ نَوَى بِقَوْلِهِ : بَلْ أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً أُخْرَى وَقَعَ اثْنَتَانِ ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ إيقَاعَ طَلْقَتَيْنِ بِلَفْظَيْنِ فَوَقَعَ كَمَا لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ وَذَكَرَ الْقَاضِي احْتِمَالًا آخَرَ ؛ أَنَّهُ لَا يَقَعُ إلَّا طَلْقَةٌ ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ مَوْضُوعٌ لِوَاحِدَةٍ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَنْوِيَ بِهِ اثْنَتَيْنِ قَالَ أَحْمَدُ : وَلَوْ كَانَ لَهُ امْرَأَتَانِ فَقَالَ لِإِحْدَاهُمَا : أَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ قَالَ لِلْأُخْرَى : لَا بَلْ أَنْتِ طَالِقٌ طَلُقَتَا جَمِيعًا وَوَجْهُهُ أَنَّهُ أَوْقَعَ طَلَاقَ الْأُولَى ثُمَّ أَضْرَبَ عَنْهُ وَأَوْقَعَ طَلَاقَ الْأُخْرَى فَوَقَعَ بِهَا وَلَمْ يَرْتَفِعْ عَنْ الْأُولَى وَفَارَقَ مَا إذَا قَالَ ذَلِكَ لِوَاحِدَةٍ ؛ لِأَنَّ الطَّلْقَةَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هِيَ الثَّانِيَةَ كَرَّرَ الْإِخْبَارَ بِهَا وَلَا يَجُوزُ فِي الْمَرْأَتَيْنِ أَنْ يَكُونَ طَلَاقُ

إحْدَاهُمَا هُوَ طَلَاقَ الْأُخْرَى وَنَظِيرُهُ فِي الْإِقْرَارِ مَا لَوْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ بَلْ دِرْهَمٌ لَزِمَهُ دِرْهَمٌ وَلَوْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ بَلْ دِينَارٌ لَزِمَاهُ جَمِيعًا ، وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً بَلْ هَذِهِ ثَلَاثًا طَلُقَتْ الْأُولَى وَاحِدَةٌ وَالثَّانِيَةُ ثَلَاثًا وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ غَيْرِ مَدْخُولٍ بِهَا : أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً بَلْ ثَلَاثًا طَلُقَتْ وَاحِدَةً ؛ لِأَنَّهَا بَانَتْ الْأُولَى فَلَمْ يَقَعْ بِهَا مَا بَعْدَهَا وَإِنْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً بَلْ ثَلَاثًا إنْ دَخَلْت الدَّارَ ، وَنَوَى تَعْلِيقَ الْجَمِيعِ بِدُخُولِ الدَّارِ تَعَلَّقَ ، وَإِنْ نَوَى تَعْلِيقَ الثَّلَاثِ حَسْبُ ، وَقَعَتْ الْوَاحِدَةُ فِي الْحَالِ وَإِنْ أَطْلَقَ فَفِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا يَتَعَلَّقُ الْجَمِيعُ بِالشَّرْطِ ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَهُمَا فَيَعُودُ إلَيْهِمَا وَالثَّانِي تَقَعُ الْوَاحِدَةُ فِي الْحَالِ وَتَبْقَى الثَّلَاثُ مُعَلَّقَةً بِدُخُولِ الدَّارِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا ذَكَرَ الشَّرْطَ عَقِيبَهَا فَتَخْتَصُّ بِهِ ، وَإِنْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ ؛ بَلْ هَذِهِ فَدَخَلَتْ الْأُولَى طَلُقَتَا وَإِنْ دَخَلَتْ الثَّانِيَةُ لَمْ تَطْلُقْ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا ، فَإِنْ قَالَ : أَرَدْت أَنَّ الثَّانِيَةَ تَطْلُقُ إنْ دَخَلَتْ الدَّارَ قُبِلَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَمِلٌ لِمَا قَالَهُ ، وَإِنْ قَالَ : أَرَدْت أَنَّك تَطْلُقِينَ إذَا دَخَلَتْ الثَّانِيَةُ الدَّارَ قُبِلَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَمِلٌ لِمَا قَالَهُ ، وَكَانَ طَلَاقُ الْأُولَى وَحْدَهَا مُعَلَّقًا عَلَى دُخُولِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا .

( 6066 ) فَصْلٌ : إذَا قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً لَا تَقَعُ عَلَيْك أَوْ : طَالِقٌ لَا أَوْ : طَالِقٌ طَلْقَةً لَا يَنْقُصُ بِهَا عَدَدُ طَلَاقِك أَوْ : طَالِقٌ لَا شَيْءَ أَوْ : لَيْسَ بِشَيْءٍ طَلُقَتْ وَاحِدَةً ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ رَفْعٌ لِجَمِيعِ مَا أَوْقَعَهُ فَلَمْ يَصِحَّ كَاسْتِثْنَاءِ الْجَمِيعِ وَإِنْ قَالَ ذَلِكَ خَبَرًا فَهُوَ كَذِبٌ ؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَةَ إذَا أَوْقَعَهَا وَقَعَتْ وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا وَإِنْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ لَا ؟ لَمْ يَقَعْ ؛ لِأَنَّ هَذَا اسْتِفْهَامٌ فَإِذَا اتَّصَلَ بِهِ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَفْظًا لَإِيقَاعٍ وَيُخَالِفُ مَا قَبْلَ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّهُ إيقَاعٌ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَقَعَ ؛ لِأَنَّ لَفْظَهُ لَفْظُ الْإِيقَاعِ لَا لَفْظُ الِاسْتِفْهَامِ ؛ لِكَوْنِ الِاسْتِفْهَامِ يَكُونُ بِالْهَمْزَةِ أَوْ نَحْوِهَا فَيَقَعُ مَا أَوْقَعَهُ وَلَا يَرْتَفِعُ بِمَا ذَكَرَهُ بَعْدَهُ كَالَّتِي قَبْلَهَا وَإِنْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً أَوْ لَا ؟ فَكَذَلِكَ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ مُحَمَّدٌ : يَقَعُ وَاحِدَةٌ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ : أَوْ لَا يَرْجِعُ إلَى مَا يَلِيهِ مِنْ اللَّفْظِ وَهُوَ وَاحِدَةٌ دُونَ لَفْظِ الْإِيقَاعِ ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَةَ صِفَةٌ لِلطَّلْقَةِ الْوَاقِعَةِ فَمَا اتَّصَلَ بِهَا يَرْجِعْ إلَيْهَا فَصَارَ كَقَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ لَا شَيْءَ .

( 6067 ) فَصْلٌ : فَإِنْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ بَعْدَ مَوْتِي أَوْ مَوْتِك أَوْ مَعَ مَوْتِي أَوْ مَوْتِك لَمْ تَطْلُقْ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا ؛ لِأَنَّهَا تَبِينُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا فَلَا يُصَادِفُ الطَّلَاقُ نِكَاحًا يُزِيلُهُ ، وَإِنْ تَزَوَّجَ أَمَةَ أَبِيهِ ثُمَّ قَالَ : إذَا مَاتَ أَبِي فَأَنْتِ طَالِقٌ فَمَاتَ أَبُوهُ لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ اخْتَارَهُ الْقَاضِي ؛ لِأَنَّهُ بِالْمَوْتِ يَمْلِكُهَا فَيَنْفَسِخُ نِكَاحُهَا بِالْمِلْكِ وَهُوَ زَمَنُ الطَّلَاقِ فَلَمْ يَقَعْ كَمَا لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ مَعَ مَوْتِي وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّهُ يَقَعُ ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ سَبَبُ مِلْكِهَا وَطَلَاقِهَا وَفَسْخُ النِّكَاحِ يَتَرَتَّبُ عَلَى الْمِلْكِ فَيُوجَدُ الطَّلَاقُ فِي زَمَنِ الْمِلْكِ السَّابِقِ عَلَى الْفَسْخِ فَيَثْبُتُ حُكْمُهُ .
وَإِنْ قَالَ : إنْ اشْتَرَيْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ اشْتَرَاهَا خُرِّجَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ ، وَإِنْ قَالَ الْأَبُ : إذَا مِتُّ فَأَنْتِ حُرَّةٌ وَقَالَ الِابْنُ : إذَا مَاتَ أَبِي فَأَنْتِ طَالِقٌ وَكَانَتْ تَخْرُجْ مِنْ الثُّلُثِ ثُمَّ مَاتَ الْأَبُ وَقَعَ الْعِتْقُ وَالطَّلَاقُ مَعًا وَإِنْ لَمْ تَخْرُجْ مِنْ الثُّلُثِ ، فَإِنَّ بَعْضَهَا يَنْتَقِلُ إلَى الْوَرَثَةِ فَيَمْلِكُ الِابْنُ جُزْءًا مِنْهَا يَنْفَسِخُ بِهِ النِّكَاحُ فَيَكُونُ كَمِلْكِ جَمِيعِهَا فِي فَسْخِ النِّكَاحِ وَمَنْعِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ ، فَإِنْ أَجَازَ الْوَرَثَةُ عِتْقَهَا فَذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ هَذَا يَنْبَنِي عَلَى الْإِجَازَةِ هَلْ هِيَ تَنْفِيذٌ أَوْ عَطِيَّةٌ مُبْتَدَأَةٌ ؟ فَإِنْ قُلْنَا : هِيَ عَطِيَّةٌ مُبْتَدَأَةٌ ، فَقَدْ انْفَسَخَ النِّكَاحُ قَبْلَهَا فَلَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ ، وَإِنْ قُلْنَا : هِيَ تَنْفِيذٌ لِمَا فَعَلَ السَّيِّدُ وَقَعَ الطَّلَاقُ وَهَكَذَا إنْ أَجَازَ الزَّوْجُ وَحْدَهُ عِتْقَ أَبِيهِ ، فَإِنْ كَانَ عَلَى الْأَبِ دَيْنٌ يَسْتَغْرِقُ تَرِكَتَهُ لَمْ يَعْتِقْ وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ نَقْلَ التَّرِكَةِ إلَى الْوَرَثَةِ فَهُوَ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فِي فَسْخِ النِّكَاحِ وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ لَا

يَسْتَغْرِقُ التَّرِكَةَ وَكَانَتْ تَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ بَعْدَ أَدَاءِ الدَّيْنِ عَتَقَتْ وَطَلُقَتْ ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الثُّلُثِ لَمْ تَعْتِقْ كُلُّهَا فَيَكُونُ حُكْمُهَا فِي فَسْخِ النِّكَاحِ وَمَنْعِ الطَّلَاقِ كَمَا لَوْ اسْتَغْرَقَ الدَّيْنُ التَّرِكَةَ ، وَإِنْ أَسْقَطَ الْغَرِيمُ الدَّيْنَ بَعْدَ الْمَوْتِ لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ انْفَسَخَ قَبْلَ إسْقَاطِهِ .

( 6068 ) فَصْلٌ : فِي مَسَائِلَ تَنْبَنِي عَلَى نِيَّةِ الْحَالِفِ وَتَأْوِيلِهِ ؛ إذَا قَالَ : إنْ لَمْ تُخْبِرِينِي بِعَدَدِ حَبِّ هَذِهِ الرُّمَّانَةِ فَأَنْتِ طَالِقٌ أَوْ أَكَلَ تَمْرًا فَقَالَ : إنْ لَمْ تُخْبِرِينِي بِعَدَدِ مَا أَكَلَتْ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَلَمْ تَعْلَمْ ذَلِكَ ، فَإِنَّهَا تَعُدُّ لَهُ عَدَدًا يَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ أَتَى عَلَى عَدَدِ ذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ عَدَدَ ذَلِكَ مَا بَيْنَ مِائَةٍ إلَى أَلْفٍ فَتَعُدُّ ذَلِكَ كُلَّهُ وَلَا يَحْنَثُ إذَا كَانَتْ نِيَّتُهُ ذَلِكَ وَإِنْ نَوَى الْإِخْبَارَ بِكَمِّيَّتِهِ مِنْ غَيْرِ نَقْصٍ وَلَا زِيَادَةٍ لَمْ يَبْرَأْ إلَّا بِذَلِكَ وَإِنْ أَطْلَقَ فَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا يَبْرَأُ إلَّا بِذَلِكَ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ حَالِ الْحَالِفِ إرَادَتُهُ فَتَنْصَرِفُ يَمِينُهُ إلَيْهِ كَالْأَسْمَاءِ الْعُرْفِيَّةِ الَّتِي تَنْصَرِفُ الْيَمِينُ إلَى مُسَمَّاهَا عُرْفًا دُونَ مُسَمَّاهَا حَقِيقَةً وَلَوْ أَكَلَا تَمْرًا فَقَالَ : إنْ لَمْ تُمَيِّزِي نَوَى مَا أَكَلْتُ مِنْ نَوَى مَا أَكَلْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَأَفْرَدَتْ كُلَّ نَوَاةٍ وَحْدَهَا فَالْقَوْلُ فِيهَا كَاَلَّتِي قَبْلَهَا وَإِنْ وَقَعَتْ فِي مَاءٍ جَارٍ فَحَلَفَ عَلَيْهَا : إنْ خَرَجْت مِنْهُ أَوْ أَقَمْت فِيهِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَقَالَ الْقَاضِي : قِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَحْنَثُ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ عَيْنَ الْمَاءِ الَّذِي هِيَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَ يَمِينِهِ يَقْتَضِي خُرُوجَهَا مِنْ النَّهْرِ أَوْ إقَامَتَهَا فِيهِ وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : لَا يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ جَرَى عَنْهَا وَصَارَتْ فِي غَيْرِهِ فَلَمْ يَحْنَثْ سَوَاءٌ أَقَامَتْ أَوْ خَرَجَتْ ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَقِفُ فِي غَيْرِهِ أَوْ تَخْرُجُ مِنْهُ وَكَذَلِكَ قَالَ الْقَاضِي فِي " الْمُجَرَّدِ " وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ الْأَيْمَانَ عِنْدَهُمْ تَنْبَنِي عَلَى اللَّفْظِ لَا عَلَى الْقَصْدِ وَكَذَلِكَ قَالُوا : لَا يَحْنَثُ فِي هَذِهِ الْأَيْمَانِ السَّابِقَةِ كُلِّهَا وَلَوْ قَالَ : إنْ كَانَتْ امْرَأَتِي فِي السُّوقِ فَعَبْدِي حُرٌّ ، وَإِنْ كَانَ عَبْدِي فِي السُّوقِ فَامْرَأَتِي طَالِقٌ فَكَانَا جَمِيعًا فِي

السُّوقِ فَقِيلَ : يَعْتِقُ الْعَبْدُ وَلَا تَطْلُقُ الْمَرْأَةُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا حَنِثَ فِي الْيَمِينِ الْأُولَى عَتَقَ الْعَبْدُ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ فِي السُّوقِ عَبْدٌ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَحْنَثَ ؛ بِنَاءً عَلَى قَوْلِنَا فِي مَنْ حَلَفَ عَلَى مُعَيَّنٍ تَعَلَّقَتْ الْيَمِينُ بِعَيْنِهِ دُونَ صِفَتِهِ كَمَنْ قَالَ : إنْ كَلَّمْت عَبْدِي سَعْدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ أَعْتَقَهُ وَكَلَّمَتْهُ طَلُقَتْ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا ؛ لِأَنَّ يَمِينَهُ تَعَلَّقَتْ بِعَبْدٍ مُعَيَّنٍ وَإِنْ لَمْ يُرِدْ عَبْدًا بِعَيْنِهِ لَمْ تَطْلُقْ الْمَرْأَةُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ عَبْدٌ فِي السُّوقِ وَلَوْ كَانَ فِي فِيهَا تَمْرَةٌ فَقَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ إنْ أَكَلْتهَا أَوْ أَلْقَيْتهَا أَوْ أَمْسَكْتهَا فَأَكَلَتْ بَعْضَهَا وَأَلْقَتْ بَعْضَهَا لَمْ يَحْنَثْ إلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ : إنَّهُ يَحْنَثُ بِفِعْلِ بَعْضِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ نَوَى الْجَمِيعَ لَمْ يَحْنَثْ بِحَالٍ ، وَلَوْ كَانَتْ عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ لَإِنْسَانٍ فَأَحْلَفَهُ ظَالِمٌ أَنْ لَيْسَ لِفُلَانِ عِنْدَك وَدِيعَةٌ فَإِنَّهُ يَحْلِفُ : مَا لِفُلَانِ عِنْدِي وَدِيعَةٌ وَيَنْوِي بِمَا " الَّذِي " وَيَبَرُّ فِي يَمِينِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ سَرَقَتْ امْرَأَتُهُ مِنْهُ شَيْئًا فَحَلَفَ عَلَيْهَا بِالطَّلَاقِ : لَتَصْدُقنِي أَسَرَقْت مِنِّي أَمْ لَا ؟ وَخَافَتْ أَنْ تَصْدُقَهُ ، فَإِنَّهَا تَقُولُ : سَرَقْت مِنْك مَا سَرَقْت مِنْك ، وَتَعْنِي الَّذِي سَرَقْت مِنْك : وَلَوْ اسْتَحْلَفَهُ ظَالِمٌ : هَلْ رَأَيْت فُلَانًا أَوْ لَا ؟ ، فَإِنَّهُ يَعْنِي بِرَأَيْتُ أَيْ ضَرَبْت رِئَتَهُ وَذَكَرْتُهُ أَيْ قَطَعْت ذَكَرَهُ ، وَمَا طَلَبْت مِنْهُ حَاجَةً أَيْ الشَّجَرَةَ الَّتِي حَبَسَهَا الْحَاجُّ وَلَا أَخَذْت مِنْهُ فَرُّوجًا يَعْنِي الْقَبَاءَ ، وَلَا حَصِيرًا وَهُوَ الْحَبْسُ وَأَشْبَاهُ هَذَا فَمَتَى لَمْ يَكُنْ ظَالِمًا فَحَلَفَ وَعَنَى بِهِ هَذَا تَعَلَّقَتْ يَمِينُهُ بِمَا عَنَاهُ وَلَوْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ عَلَى دَرَجَةٍ فَحَلَفَ عَلَيْهَا أَنْ لَا تَنْزِلَ عَنْهَا وَلَا تَصْعَدَ مِنْهَا وَلَا تَقِفَ عَلَيْهَا ، فَإِنَّهَا تَنْتَقِلُ عَنْهَا إلَى سُلَّمٍ آخَرَ ، وَتَنْزِلُ إنْ شَاءَتْ أَوْ تَصْعَدُ

أَوْ تَقِفُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ نُزُولَهَا إنَّمَا حَصَلَ مِنْ غَيْرِهَا إنْ كَانَ فِي يَمِينِهِ وَلَا انْتَقَلَتْ عَنْهَا فَإِنَّهَا تُحْمَلُ مُكْرَهَةً وَلَوْ كَانَ فِي سُلَّمٍ وَلَهُ امْرَأَتَانِ إحْدَاهُمَا فِي الْغُرْفَةِ وَالْأُخْرَى فِي الْبَيْتِ السُّفْلَانِيِّ فَحَلَفَ : لَا صَعِدْت إلَى هَذِهِ وَلَا نَزَلْت إلَى الْأُخْرَى ، فَإِنَّ السُّفْلَى تَصْعَدُ وَتَنْزِلُ الْعُلْيَا ثُمَّ يَنْزِلُ إنْ شَاءَ أَوْ يَصْعَدُ .

( 6069 ) فَصْلٌ : قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ : سَأَلْت أَبِي عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ إنْ لَمْ أُجَامِعْك الْيَوْمَ وَأَنْت طَالِقٌ إنْ اغْتَسَلْت مِنْك الْيَوْمَ قَالَ : يُصَلِّي الْعَصْرَ ثُمَّ يُجَامِعُهَا فَإِذَا غَابَتْ الشَّمْسُ اغْتَسَلَ إنْ لَمْ يَكُنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ : اغْتَسَلْت الْمُجَامَعَةَ وَقَالَ فِي رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ إنْ لَمْ أَطَأْك فِي رَمَضَانَ فَسَافَرَ مَسِيرَةَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ أَوْ ثَلَاثَةٍ ثُمَّ وَطِئَهَا قَالَ : لَا يُعْجِبُنِي ؛ لِأَنَّهَا حِيلَةٌ وَلَا تُعْجِبُنِي الْحِيلَةُ فِي هَذَا وَلَا فِي غَيْرِهِ قَالَ الْقَاضِي : إنَّمَا كَرِهَ أَحْمَدُ هَذَا ؛ لِأَنَّ السَّفَرَ الَّذِي يُبِيحُ الْفِطْرَ أَنْ يَكُونَ سَفَرًا مَقْصُودًا مُبَاحًا وَهَذَا لَا يَقْصِدُ بِهِ غَيْرَ حِلِّ الْيَمِينِ وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا تَنْحَلُّ بِهِ الْيَمِينُ وَيُبَاحُ لَهُ الْفِطْرُ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ سَفَرٌ بَعِيدٌ مُبَاحٌ لِقَصْدٍ صَحِيحٍ ، وَإِرَادَةُ حِلِّ يَمِينِهِ مِنْ الْمَقَاصِدِ الصَّحِيحَةِ وَقَدْ أَبَحْنَا لَمَنْ لَهُ طَرِيقَانِ قَصِيرَةٌ لَا تُقْصَرُ فِيهَا الصَّلَاةُ ، وَبَعِيدَةٌ أَنْ يَسْلُكَ الْبَعِيدَةَ لِيَقْصُرَ فِيهَا الصَّلَاةَ وَيُفْطِرَ مَعَ أَنَّهُ لَا قَصْدَ لَهُ سِوَى التَّرَخُّصِ فَهَاهُنَا أَوْلَى .

كِتَابُ الرَّجْعَةِ وَهِيَ ثَابِتَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ ؛ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } إلَى قَوْلِهِ : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إنْ أَرَادُوا إصْلَاحًا } وَالْمُرَادُ بِهِ الرَّجْعَةُ عِنْدَ جَمَاعَةِ الْعُلَمَاءِ وَأَهْلِ التَّفْسِيرِ وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } أَيْ بِالرَّجْعَةِ وَمَعْنَاهُ إذَا قَارَبْنَ بُلُوغَ أَجَلِهِنَّ أَيْ انْقِضَاءَ عِدَّتِهِنَّ وَأَمَّا السُّنَّةُ ، فَمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ قَالَ { طَلُقْت امْرَأَتِي وَهِيَ حَائِضٌ فَسَأَلَ عُمَرُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ عُمَرَ قَالَ : { إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلَّقَ حَفْصَةَ ثُمَّ رَاجَعَهَا } وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّ الْحُرَّ إذَا طَلَّقَ الْحُرَّةَ دُونَ الثَّلَاثِ أَوْ الْعَبْدَ إذَا طَلَّقَ دُونَ الِاثْنَتَيْنِ أَنَّ لَهُمَا الرَّجْعَةَ فِي الْعِدَّةِ ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ ( 6070 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَالزَّوْجَةُ إذَا لَمْ يُدْخَلْ بِهَا تُبِينُهَا تَطْلِيقَةٌ وَتُحَرِّمُهَا الثَّلَاثُ مِنْ الْحُرِّ وَالِاثْنَتَانِ مِنْ الْعَبْدِ ) أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْمَدْخُولِ بِهَا تَبِينُ بِطَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَا يَسْتَحِقُّ مُطَلِّقُهَا رَجْعَتَهَا ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ إنَّمَا تَكُونُ فِي الْعِدَّةِ وَلَا عِدَّةَ قَبْلَ الدُّخُولِ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا } فَبَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا فَتَبِينُ بِمُجَرَّدِ طَلَاقِهَا وَتَصِيرُ كَالْمَدْخُولِ بِهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا لَا رَجْعَةَ عَلَيْهَا وَلَا نَفَقَةَ لَهَا وَإِنْ رَغِبَ

مُطَلِّقُهَا فِيهَا فَهُوَ خَاطِبٌ مِنْ الْخُطَّابِ يَتَزَوَّجُهَا بِرِضَاهَا بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ وَتَرْجِعُ إلَيْهِ بِطَلْقَتَيْنِ وَإِنْ طَلَّقَهَا اثْنَتَيْنِ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا رَجَعَتْ إلَيْهِ بِطَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ بِغَيْرِ خِلَافٍ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِيمَا مَضَى وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا بَعْدَ الدُّخُولِ لَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ لِقَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ : { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } وَرَوَتْ عَائِشَةُ : { أَنَّ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيَّ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَبَتَّ طَلَاقَهَا فَتَزَوَّجَتْ بَعْدَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزُّبَيْرِ فَجَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : إنَّهَا كَانَتْ عِنْدَ رِفَاعَةَ فَطَلَّقَهَا آخِرَ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ فَتَزَوَّجَتْ بَعْدَهُ بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَإِنَّهُ وَاَللَّهِ مَا مَعَهُ إلَّا مِثْلُ هَذِهِ الْهُدْبَةِ ، وَأَخَذَتْ بِهُدْبَةٍ مِنْ جِلْبَابِهَا قَالَتْ : فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَاحِكًا وَقَالَ : لَعَلَّك تُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إلَى رِفَاعَةَ ؟ لَا حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَك وَتَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَفِي إجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى هَذَا غَنِيَّةٌ عَنْ الْإِطَالَةِ فِيهِ ، وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهَا لَا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ حَتَّى يَطَأَهَا الزَّوْجُ الثَّانِي وَطْئًا يُوجَدُ فِيهِ الْتِقَاءُ الْخِتَانَيْنِ إلَّا أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ مِنْ بَيْنِهِمْ قَالَ : إذَا تَزَوَّجَهَا تَزْوِيجًا صَحِيحًا لَا يُرِيدُ بِهِ إحْلَالًا فَلَا بَأْسَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا الْأَوَّلُ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : لَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالَ بِقَوْلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ هَذَا إلَّا الْخَوَارِجَ أَخَذُوا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : { حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } وَمَعَ تَصْرِيحِ النَّبِيِّ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَيَانِ الْمُرَادِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهَا لَا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ حَتَّى يَذُوقَ الثَّانِي عُسَيْلَتَهَا وَتَذُوقَ عُسَيْلَتَهُ لَا يَعْرُجُ عَلَى شَيْءٍ سِوَاهُ ، وَلَا يَسُوغُ لِأَحَدٍ الْمَصِيرُ إلَى غَيْرِهِ مَعَ مَا عَلَيْهِ جُمْلَةُ أَهْلِ الْعِلْمِ ؛ مِنْهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرٌ وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَمِمَّنْ بَعْدَهُمْ مَسْرُوقٌ وَالزُّهْرِيُّ وَمَالِكٌ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالثَّوْرِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَهْلُ الشَّامِ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُمْ .

( 6071 ) فَصْلٌ : وَيُشْتَرَطُ لِحِلِّهَا لِلْأَوَّلِ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ ؛ أَحَدُهَا أَنْ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَلَوْ كَانَتْ أَمَةً فَوَطِئَهَا سَيِّدُهَا لَمْ يُحِلَّهَا ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } وَهَذَا لَيْسَ بِزَوْجٍ ، وَلَوْ وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ لَمْ تُبَحْ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَلَوْ كَانَتْ أَمَةً فَاسْتَبْرَأَهَا مُطَلِّقُهَا لَمْ يَحِلَّ لَهُ وَطْؤُهَا فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ : تَحِلُّ لَهُ ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَخْتَصُّ الزَّوْجِيَّةَ فَأَثَّرَ فِي التَّحْرِيمِ بِهَا وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } صَرِيحٌ فِي تَحْرِيمِهَا فَلَا يُعَوَّلُ عَلَى مَا خَالَفَهُ وَلِأَنَّ الْفَرْجَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُحَرَّمًا مُبَاحًا فَسَقَطَ هَذَا الشَّرْطُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ النِّكَاحُ صَحِيحًا ، فَإِنْ كَانَ فَاسِدًا لَمْ يُحِلَّهَا الْوَطْءُ فِيهِ وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ وَحَمَّادٌ وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ : يُحِلُّهَا ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ الْحَكَمِ وَخَرَّجَهُ أَبُو الْخَطَّابِ وَجْهًا فِي الْمَذْهَبِ ؛ لِأَنَّهُ زَوْجٌ فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ النَّصِّ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ فَسَمَّاهُ مُحَلِّلًا مَعَ فَسَادِ نِكَاحِهِ وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } ، وَإِطْلَاقُ النِّكَاحِ يَقْتَضِي الصَّحِيحَ وَلِذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ فَتَزَوَّجَ تَزْوِيجًا فَاسِدًا لَمْ يَحْنَثْ وَلَوْ حَلَفَ لَيَتَزَوَّجَنَّ لَمْ يَبَرَّ بِالتَّزَوُّجِ الْفَاسِدِ وَلِأَنَّ أَكْثَرَ أَحْكَامِ الزَّوْجِ غَيْرُ ثَابِتَةٍ فِيهِ مِنْ الْإِحْصَانِ وَاللِّعَانِ ، وَالظِّهَارِ ، وَالْإِيلَاءِ وَالنَّفَقَةِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ ، وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ مُحَلِّلًا فَلِقَصْدِهِ التَّحْلِيلَ فِيمَا لَا يَحِلُّ وَلَوْ أَحَلَّ حَقِيقَةً لَمَا لُعِنَ وَلَا لُعِنَ الْمُحَلَّلُ لَهُ

وَإِنَّمَا هَذَا كَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَا آمَنَ بِالْقُرْآنِ مَنْ اسْتَحَلَّ مَحَارِمَهُ } وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا } وَلِأَنَّهُ وَطْءٌ فِي غَيْرِ نِكَاحٍ صَحِيحٍ أَشْبَهَ وَطْءَ الشُّبْهَةِ الشَّرْطُ الثَّالِثُ ؛ أَنْ يَطَأَهَا فِي الْفَرْجِ فَلَوْ وَطِئَهَا دُونَهُ أَوْ فِي الدُّبُرِ لَمْ يُحِلّهَا ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّقَ الْحِلَّ عَلَى ذَوْقِ الْعُسَيْلَةِ مِنْهُمَا وَلَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْوَطْءِ فِي الْفَرْجِ وَأَدْنَاهُ تَغْيِيبُ الْحَشَفَةِ فِي الْفَرْجِ ؛ لِأَنَّ أَحْكَامَ الْوَطْءِ تَتَعَلَّقُ بِهِ وَلَوْ أَوْلَجَ الْحَشَفَةَ مِنْ غَيْرِ انْتِشَارٍ لَمْ تَحِلَّ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَتَعَلَّقُ بِذَوَّاقِ الْعُسَيْلَةِ وَلَا تَحْصُلُ مِنْ غَيْرِ انْتِشَارٍ وَإِنْ كَانَ الذَّكَرُ مَقْطُوعًا ، فَإِنْ بَقِيَ مِنْهُ قَدْرُ الْحَشَفَةِ فَأَوْلَجَهُ أَحَلَّهَا وَإِلَّا فَلَا ، فَإِنْ كَانَ خَصِيًّا أَوْ مَسْلُولًا أَوْ مَوْجُوءًا حَلَّتْ بِوَطْئِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَطَأُ كَالْفَحْلِ وَلَمْ يَفْقِدْ إلَّا الْإِنْزَالَ وَهُوَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي الْإِحْلَالِ وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي الْخَصِيِّ أَنَّهُ لَا يُحِلُّهَا ؛ فَإِنَّ أَبَا طَالِبٍ سَأَلَهُ فِي الْمَرْأَةِ تَتَزَوَّجُ الْخَصِيَّ تُسْتَحَلُّ بِهِ ؟ قَالَ : لَا خَصِيَّ يَذُوقُ الْعُسَيْلَةَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَالْعَمَلُ عَلَى مَا رَوَاهُ مُهَنَّا أَنَّهَا تَحِلُّ وَوَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ الْخَصِيَّ لَا يَحْصُلُ مِنْهُ الْإِنْزَالُ فَلَا يَنَالُ لَذَّةَ الْوَطْءِ فَلَا يَذُوقُ الْعُسَيْلَةَ وَيَحْتَمِلُ أَنَّ أَحْمَدَ قَالَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْخَصِيَّ فِي الْغَالِبِ لَا يَحْصُلُ مِنْهُ الْوَطْءُ أَوْ لَيْسَ بِمَظِنَّةِ الْإِنْزَالِ فَلَا يَحْصُلُ الْإِحْلَالُ بِوَطْئِهِ كَالْوَطْءِ مِنْ غَيْرِ انْتِشَارٍ .

( 6072 ) فَصْلٌ : وَاشْتَرَطَ أَصْحَابُنَا أَنْ يَكُونَ الْوَطْءُ حَلَالًا ، فَإِنْ وَطِئَهَا فِي حَيْضٍ ، أَوْ نِفَاسٍ ، أَوْ إحْرَامٍ مِنْ أَحَدِهِمَا ، أَوْ مِنْهُمَا ، أَوْ وَأَحَدُهُمَا صَائِمٌ فَرْضًا ، لَمْ تَحِلَّ .
وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ ؛ لِأَنَّهُ وَطْءٌ حَرَامٌ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَلَمْ يَحْصُلْ بِهِ الْإِحْلَالُ ، كَوَطْءِ الْمُرْتَدَّةِ .
وَظَاهِرُ النَّصِّ حِلُّهَا وَهُوَ قَوْله تَعَالَى : { حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } .
وَهَذِهِ قَدْ نَكَحَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ ، وَأَيْضًا قَوْلُهُ { حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ ، وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ } .
وَهَذَا قَدْ وُجِدَ ، وَلِأَنَّهُ وَطْءٌ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ فِي مَحَلِّ الْوَطْءِ عَلَى سَبِيلِ التَّمَامِ ، فَأَحَلَّهَا ، كَالْوَطْءِ الْحَلَالِ ، وَكَمَا لَوْ وَطِئَهَا وَقَدْ ضَاقَ وَقْتُ الصَّلَاةِ ، أَوْ وَطِئَهَا مَرِيضَةً يَضُرُّهَا الْوَطْءُ .
وَهَذَا أَصَحُّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيِّ .
وَأَمَّا وَطْءُ الْمُرْتَدَّةِ ، فَلَا يُحِلُّهَا ، سَوَاءٌ وَطِئَهَا فِي حَالِ رِدَّتِهِمَا ، أَوْ رِدَّتِهَا ، أَوْ وَطِئَ الْمُرْتَدُّ الْمُسْلِمَةَ ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَعُدْ الْمُرْتَدُّ مِنْهُمَا إلَى الْإِسْلَامِ ، تَبَيَّنَ أَنَّ الْوَطْءَ فِي غَيْرِ نِكَاحٍ ، وَإِنْ عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ فِي الْعِدَّةِ ، فَقَدْ كَانَ الْوَطْءُ فِي نِكَاحٍ غَيْرِ تَامٍّ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْبَيْنُونَةِ حَاصِلٌ فِيهِ .
وَهَكَذَا لَوْ أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ ، فَوَطِئَهَا الزَّوْجُ قَبْلَ إسْلَامِ الْآخَرِ ، لَمْ يُحِلَّهَا لِذَلِكَ .

( 6073 ) فَصْلٌ : فَإِنْ تَزَوَّجَهَا مَمْلُوكٌ ، وَوَطِئَهَا ، أَحَلَّهَا .
وَبِذَلِكَ قَالَ عَطَاءٌ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَلَا نَعْلَمُ لَهُمْ مُخَالِفًا ، وَلِأَنَّهُ دَخَلَ فِي عُمُومِ النَّصِّ ، وَوَطْؤُهُ كَوَطْءِ الْحُرِّ .
وَإِنْ تَزَوَّجَهَا مُرَاهِقٌ ، فَوَطِئَهَا ، أَحَلَّهَا فِي قَوْلِهِمْ ، إلَّا مَالِكًا وَأَبَا عُبَيْدٍ ، فَإِنَّهُمَا قَالَا : لَا يُحِلُّهَا .
وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ ؛ لِأَنَّهُ وَطْءٌ مِنْ غَيْرِ بَالِغٍ ، فَأَشْبَهَ وَطْءَ الصَّغِيرِ .
وَلَنَا ، ظَاهِرُ النَّصِّ ، وَأَنَّهُ وَطْءٌ مِنْ زَوْجٍ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ ، فَأَشْبَهَ الْبَالِغَ ، وَيُخَالِفُ الصَّغِيرَ ؛ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْوَطْءُ مِنْهُ ، وَلَا تُذَاقُ عُسَيْلَتُهُ .
قَالَ الْقَاضِي : وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ لَهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً ؛ لِأَنَّ مَنْ دُونَ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُهُ الْمُجَامَعَةُ .
وَلَا مَعْنَى لِهَذَا ؛ فَإِنَّ الْخِلَافَ فِي الْمُجَامِعِ ، وَمَتَى أَمْكَنَهُ الْجِمَاعُ ، فَقَدْ وُجِدَ مِنْهُ الْمَقْصُودُ فَلَا مَعْنَى لِاعْتِبَارِ سِنٍّ مَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِاعْتِبَارِهَا ، وَتَقْدِيرُهُ بِمُجَرَّدِ الرَّأْيِ وَالتَّحَكُّمِ .
وَإِنْ كَانَتْ ذِمِّيَّةً ، فَوَطِئَهَا زَوْجُهَا الذِّمِّيُّ ، أَحَلَّهَا لِمُطَلِّقِهَا الْمُسْلِمِ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
وَقَالَ : هُوَ زَوْجٌ ، وَبِهِ تَجِبُ الْمُلَاعَنَةُ وَالْقَسَمُ .
وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو عُبَيْدٍ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَقَالَ رَبِيعَةُ ، وَمَالِكٌ : لَا يُحِلُّهَا .
وَلَنَا ، ظَاهِرُ الْآيَةِ ، وَلِأَنَّهُ وَطْءٌ مِنْ زَوْجٍ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ تَامٍّ ، أَشْبَهَ وَطْءَ الْمُسْلِمِ .
وَإِنْ كَانَا مَجْنُونَيْنِ ، أَوْ أَحَدُهُمَا ، فَوَطِئَهَا ، أَحَلَّهَا وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَامِدٍ : لَا يُحِلُّهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَذُوقُ الْعُسَيْلَةَ .
وَلَنَا ، ظَاهِرُ الْآيَةِ ، وَلِأَنَّهُ وَطْءٌ مُبَاحٌ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ ، أَشْبَهَ الْعَاقِلَ .
وَقَوْلُهُ : لَا يَذُوقُ الْعُسَيْلَةَ .
لَا يَصِحُّ ، فَإِنَّ الْجُنُونَ إنَّمَا هُوَ تَغْطِيَةُ الْعَقْلِ .

وَلَيْسَ الْعَقْلُ شَرْطًا فِي الشَّهْوَةِ وَحُصُولِ اللَّذَّةِ ، بِدَلِيلِ الْبَهَائِمِ ، لَكِنْ إنْ كَانَ الْمَجْنُونُ ذَاهِبَ الْحِسِّ ، كَالْمَصْرُوعِ ، وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ ، لَمْ يَحْصُلْ الْحِلُّ بِوَطْئِهِ ، وَلَا بِوَطْءِ مَجْنُونَةٍ فِي هَذِهِ الْحَالِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَذُوقُ الْعُسَيْلَةَ وَلَا تَحْصُلُ لَهُ لَذَّةٌ .
وَلَعَلَّ ابْنَ حَامِدٍ إنَّمَا أَرَادَ الْمَجْنُونَ الَّذِي هَذِهِ حَالُهُ ، فَلَا يَكُونُ هَاهُنَا اخْتِلَافٌ وَلَوْ وَطِئَ مُغْمًى عَلَيْهَا ، أَوْ نَائِمَةً لَا تُحِسُّ بِوَطْئِهِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تَحِلَّ بِهَذَا ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ .
وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَيُحْتَمَلُ حُصُولُ الْحِلِّ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ ، أَخْذًا مِنْ عُمُومِ النَّصِّ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( 6074 ) فَصْلٌ : وَلَوْ وَجَدَ عَلَى فِرَاشِهِ امْرَأَةً ، فَظَنَّهَا أَجْنَبِيَّةً ، أَوْ ظَنَّهَا جَارِيَتَهُ فَوَطِئَهَا ، فَإِذَا هِيَ امْرَأَتُهُ ، أَحَلَّهَا ، لِأَنَّهُ صَادَفَ نِكَاحًا صَحِيحًا .
وَلَوْ وَطِئَهَا فَأَفْضَاهَا ، أَوْ وَطِئَهَا - وَهِيَ مَرِيضَةٌ - تَتَضَرَّرُ بِوَطْئِهِ ، أَحَلَّهَا ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ هَاهُنَا لِحَقِّهَا .
وَإِنْ اسْتَدْخَلَتْ ذَكَرَهُ وَهُوَ نَائِمٌ ، أَوْ مُغْمًى عَلَيْهِ ، لَمْ تَحِلَّ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَذُوقُ عُسَيْلَتَهَا .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَحِلَّ ؛ لِعُمُومِ الْآيَةِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( 6075 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( وَإِذَا طَلَّقَ الْحُرُّ زَوْجَتَهُ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ ، فَلَهُ عَلَيْهَا الرَّجْعَةُ مَا كَانَتْ فِي الْعِدَّةِ ) أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْحُرَّ إذَا طَلَّقَ الْحُرَّةَ بَعْدَ دُخُولِهِ بِهَا أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ ، بِغَيْرِ عِوَضٍ ، وَلَا أَمْرٍ يَقْتَضِي بَيْنُونَتَهَا ، فَلَهُ عَلَيْهَا الرَّجْعَةُ مَا كَانَتْ فِي عِدَّتِهَا ، وَعَلَى أَنَّهُ لَا رَجْعَةَ لَهُ عَلَيْهَا بَعْدَ قَضَاءِ عِدَّتِهَا ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ الْبَابِ .
وَإِنْ طَلَّقَ الْحُرُّ امْرَأَتَهُ الْأَمَةَ ، فَهُوَ كَطَلَاقِ الْحُرَّةِ ، إلَّا أَنَّ فِيهِ خِلَافًا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا مَضَى ، وَذَكَرْنَا أَنَّ الطَّلَاقَ مُعْتَبَرٌ بِالرِّجَالِ ، فَيَكُونُ لَهُ رَجْعَتُهَا مَا لَمْ يُطَلِّقْهَا ثَلَاثًا كَالْحُرَّةِ .

( 6076 ) فَصْلٌ : وَلَا يُعْتَبَرُ فِي الرَّجْعَةِ رِضَى الْمَرْأَةِ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { : وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إنْ أَرَادُوا إصْلَاحًا } .
فَجَعَلَ الْحَقَّ لَهُمْ .
وَقَالَ سُبْحَانَهُ : { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } .
فَخَاطَبَ الْأَزْوَاجَ بِالْأَمْرِ ، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُنَّ اخْتِيَارًا .
وَلِأَنَّ الرَّجْعَةَ إمْسَاكٌ لِلْمَرْأَةِ بِحُكْمِ الزَّوْجِيَّةِ ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ رِضَاهَا فِي ذَلِكَ ، كَاَلَّتِي فِي صُلْبِ نِكَاحِهِ .
وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى هَذَا .

( 6077 ) فَصْلٌ : وَالرَّجْعِيَّةُ زَوْجَةٌ يَلْحَقُهَا طَلَاقُهُ ، وَظِهَارُهُ ، وَإِيلَاؤُهُ ، وَلِعَانُهُ ، وَيَرِثُ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ ، بِالْإِجْمَاعِ .
وَإِنْ خَالَعَهَا صَحَّ خُلْعُهُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ، فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ : لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ يُرَادُ لِلتَّحْرِيمِ ، وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ .
وَلَنَا ، أَنَّهَا زَوْجَةٌ صَحَّ طَلَاقُهَا ، فَصَحَّ خُلْعُهَا ، كَمَا قَبْلَ الطَّلَاقِ ، وَلَيْسَ مَقْصُودُ الْخُلْعِ التَّحْرِيمَ ، بَلْ الْخَلَاصَ مِنْ مَضَرَّةِ الزَّوْجِ وَنِكَاحِهِ الَّذِي هُوَ سَبَبُهَا ، وَالنِّكَاحُ بَاقٍ ، وَلَا نَأْمَنُ رَجْعَتَهُ ، وَعَلَى أَنَّنَا نَمْنَعُ كَوْنَهَا مُحَرَّمَةً ( 6078 ) فَصْلٌ : وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ ، أَنَّ الرَّجْعِيَّةَ مُحَرَّمَةٌ ؛ لِقَوْلِهِ : " وَإِذَا لَمْ يَدْرِ أَوَاحِدَةً طَلَّقَ أَمْ ثَلَاثًا ؟ فَهُوَ مُتَيَقِّنٌ لِلتَّحْرِيمِ ، شَاكٌّ فِي التَّحْلِيلِ " .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ ، وَمَالِكٍ .
وَقَالَ الْقَاضِي : ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهَا مُبَاحَةٌ .
قَالَ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ : لَا تَحْتَجِبُ عَنْهُ .
وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ : تَتَشَرَّفُ لَهُ مَا كَانَتْ فِي الْعِدَّةِ .
فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهَا مُبَاحَةٌ ، وَلَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهَا ، وَيَخْلُوَ بِهَا ، وَيَطَأَهَا .
وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ الزَّوْجَاتِ ، فَأُبِيحَتْ لَهُ كَمَا قَبْلَ الطَّلَاقِ .
وَوَجْهُ الْأُولَى ، أَنَّهَا طَلْقَةٌ وَاقِعَةٌ ، فَأَثْبَتَتْ التَّحْرِيمَ ، كَاَلَّتِي بِعِوَضِ .
وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ بِالْوَطْءِ .
وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَلْزَمَهُ مَهْرٌ ، سَوَاءٌ رَاجَعَ أَوْ لَمْ يُرَاجِعْ ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَ زَوْجَتَهُ الَّتِي يَلْحَقُهَا طَلَاقُهُ ، فَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ مَهْرٌ ، كَسَائِرِ الزَّوْجَاتِ .
وَيُفَارِقُ مَا لَوْ وَطِئَ الزَّوْجُ بَعْدَ إسْلَامِ أَحَدِهِمَا فِي الْعِدَّةِ ؛ حَيْثُ يَجِبُ الْمَهْرُ إذَا لَمْ يُسْلِمْ الْآخَرُ فِي الْعِدَّةِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُسْلِمْ ، تَبَيَّنَّا أَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ مِنْ حِينِ إسْلَامِ

الْمُسْلِمِ الْأَوَّلِ مِنْهُمَا ، وَهِيَ فُرْقَةُ فَسْخٍ تَبِينُ بِهِ مِنْ نِكَاحِهِ ، فَأَشْبَهَتْ الَّتِي أَرْضَعَتْ مَنْ يَنْفَسِخُ نِكَاحُهَا بِرَضَاعِهِ ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا لَا تَبِينُ إلَّا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ، فَافْتَرَقَا .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : إذَا أَكْرَهَهَا عَلَى الْوَطْءِ ، وَجَبَ عَلَيْهِ الْمَهْرُ عِنْدَ مَنْ حَرَّمَهَا .
وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ وَطْءٌ حَرَّمَهُ الطَّلَاقُ ، فَوَجَبَ بِهِ الْمَهْرُ ، كَوَطْءِ الْبَائِنِ .
وَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ ؛ فَإِنَّ الْبَائِنَ لَيْسَتْ زَوْجَةً لَهُ وَهَذِهِ زَوْجَتُهُ ، وَقِيَاسُ الزَّوْجَةِ عَلَى الْأَجْنَبِيَّةِ فِي الْوَطْءِ وَأَحْكَامِهِ بَعِيدٌ .

( 6079 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( وَلِلْعَبْدِ بَعْدَ الْوَاحِدَةِ ، مَا لِلْحُرِّ قَبْلَ الثَّلَاثِ ) أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ لِلْعَبْدِ رَجْعَةَ امْرَأَتِهِ بَعْدَ الطَّلْقَةِ الْوَاحِدَةِ ، إذَا وُجِدَتْ شُرُوطُهَا .
فَإِنْ طَلَّقَهَا ثَانِيَةً ، فَلَا رَجْعَةَ لَهُ ، سَوَاءٌ كَانَتْ امْرَأَتُهُ حُرَّةً ، أَوْ أَمَةً ؛ لِأَنَّ طَلَاقَ الْعَبْدِ اثْنَتَانِ ، وَفِي هَذَا خِلَافٌ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا مَضَى .

( 6080 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( وَلَوْ كَانَتْ حَامِلًا بِاثْنَيْنِ ، فَوَضَعَتْ أَحَدَهُمَا ، فَلَهُ مُرَاجَعَتُهَا ، مَا لَمْ تَضَعْ الثَّانِيَ ) هَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ ، إلَّا أَنَّهُ حُكِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ ، أَنَّ الْعِدَّةَ تَنْقَضِي بِوَضْعِ الْأَوَّلِ .
وَمَا عَلَيْهِ سَائِرُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَصَحُّ ؛ فَإِنَّ الْعِدَّةَ لَا تَنْقَضِي إلَّا بِوَضْعِ الْحَمْلِ كُلِّهِ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } وَاسْمُ الْحَمْلِ مُتَنَاوِلٌ لِكُلِّ مَا فِي الْبَطْنِ ، فَتَبْقَى الْعِدَّةُ مُسْتَمِرَّةً إلَى حِينِ وَضْعِ بَاقِي الْحَمْلِ ، فَتَبْقَى الرَّجْعَةُ بِبَقَائِهَا .
وَلَوْ انْقَضَتْ الْعِدَّةُ بِوَضْعِ بَعْضِ الْحَمْلِ ، لَحَلَّ لَهَا التَّزْوِيجُ وَهِيَ حَامِلٌ مِنْ زَوْجٍ آخَرَ ، وَلَا قَائِلَ بِهِ .
وَأَظُنُّ أَنَّ قَتَادَةَ نَاظَرَ عِكْرِمَةَ فِي هَذَا فَقَالَ عِكْرِمَةُ : تَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِوَضْعِ أَحَدِ الْوَلَدَيْنِ .
فَقَالَ لَهُ قَتَادَةُ : أَيَحِلُّ لَهَا بِأَنْ تَتَزَوَّجَ ؟ .
قَالَ : لَا قَالَ : خُصِمَ الْعَبْدُ .
وَلَوْ خَرَجَ بَعْضُ الْوَلَدِ ، فَارْتَجَعَهَا قَبْلَ أَنْ تَضَعَ بَاقِيَهُ صَحَّ ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَضَعْ جَمِيعَ حَمْلِهَا ، فَصَارَتْ كَمَنْ وَلَدَتْ أَحَدَ الْوَلَدَيْنِ .

( 6081 ) فَصْلٌ : إذَا انْقَطَعَ حَيْضُ الْمَرْأَةِ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ ، وَلَمَّا تَغْتَسِلْ ، فَهَلْ تَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِطُهْرِهَا ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ ، ذَكَرَهُمَا ابْنُ حَامِدٍ ؛ إحْدَاهُمَا ، لَا تَنْقَضِي عِدَّتُهَا حَتَّى تَغْتَسِلَ ، وَلِزَوْجِهَا رَجْعَتُهَا فِي ذَلِكَ .
وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْعِدَّةِ : فَإِذَا اغْتَسَلَتْ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ ، أُبِيحَتْ لِلْأَزْوَاجِ .
وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ ، وَابْنِ مَسْعُودٍ ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَأَبِي عُبَيْدٍ وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ ، وَأَبِي مُوسَى ، وَعُبَادَةَ ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَرُوِيَ عَنْ شَرِيكٍ : لَهُ الرَّجْعَةُ وَإِنْ فَرَّطَتْ فِي الْغُسْلِ عِشْرِينَ سَنَةً .
وَوَجْهُ هَذَا قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ ، وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُمْ مُخَالِفٌ فِي عَصْرِهِمْ ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا ، وَلِأَنَّ أَكْثَرِ أَحْكَامِ الْحَيْضِ لَا تَزُولُ إلَّا بِالْغُسْلِ ، وَكَذَلِكَ هَذَا .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ ، أَنَّ الْعِدَّةَ تَنْقَضِي بِمُجَرَّدِ الطُّهْرِ قَبْلَ الْغُسْلِ .
وَهُوَ قَوْلُ طَاوُسٍ ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ .
وَاخْتَارَهُ أَبُو الْخَطَّابِ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } .
وَالْقُرْءُ : الْحَيْضُ .
وَقَدْ زَالَتْ ، فَيَزُولُ التَّرَبُّصُ .
وَفِيمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : وَقُرْءُ الْأَمَةِ حَيْضَتَانِ .
وَقَالَ : دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِكَ } .
يَعْنِي أَيَّامَ حَيْضِكِ .
وَلِأَنَّ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ تَتَعَلَّقُ بِهِ بَيْنُونَتهَا مِنْ الزَّوْجِ ، وَحِلُّهَا لِغَيْرِهِ ، فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِفِعْلٍ اخْتِيَارِيٍّ مِنْ جِهَةِ الْمَرْأَةِ بِغَيْرِ تَعْلِيقِ الزَّوْجِ ، كَالطَّلَاقِ وَسَائِرِ الْعَدَدِ ، وَلِأَنَّهَا لَوْ تَرَكَتْ الْغُسْلَ اخْتِيَارًا أَوْ لِجُنُونٍ أَوْ نَحْوِهِ ، لَمْ تَحِلَّ ؛ أَمَّا أَنْ يُقَالَ بِقَوْلِ شَرِيكٍ ، أَنَّهَا تَبْقَى مُعْتَدَّةً وَلَوْ بَقِيَتْ

عِشْرِينَ سَنَةً .
وَذَلِكَ خِلَافُ قَوْلِ اللَّهِ : { ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } .
فَإِنَّهَا تَصِيرُ عِدَّتُهَا أَكْثَرَ مِنْ مِائَتَيْ قُرْءٍ .
أَوْ يُقَالُ : تَنْقَضِي الْعِدَّةُ قَبْلَ الْغُسْلِ ، فَيَكُونُ رُجُوعًا عَنْ قَوْلِهِمْ وَيُحْمَلُ قَوْلُ الصَّحَابَةِ فِي قَوْلِهِمْ : حَتَّى تَغْتَسِلَ .
أَيْ : يَلْزَمُهَا الْغُسْلُ .

( 6082 ) فَصْلٌ : إذَا تَزَوَّجَتْ الرَّجْعِيَّةُ فِي عِدَّتِهَا ، وَحَمَلَتْ مِنْ الزَّوْجِ الثَّانِي ، انْقَطَعَتْ عِدَّتُهَا مِنْ الْأَوَّلِ بِوَطْءِ الثَّانِي .
وَهَلْ يَمْلِكُ الزَّوْجُ رَجْعَتَهَا فِي عِدَّةِ الْحَمْلِ ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ : أَوَّلُهُمَا ، أَنَّهُ لَهُ رَجْعَتُهَا ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَقْضِ عِدَّتَهُ ، فَحُكْمُ نِكَاحِهِ بَاقٍ ، يَلْحَقُهَا طَلَاقُهُ وَظِهَارُهُ ، وَإِنَّمَا انْقَطَعَتْ عِدَّتُهُ لِعَارِضٍ ، فَهُوَ كَمَا لَوْ وُطِئَتْ فِي صُلْبِ نِكَاحِهِ ، فَإِنَّهَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ وَتَبْقَى سَائِرُ أَحْكَامِ الزَّوْجِيَّةِ ، وَلِأَنَّهُ يَمْلِكُ ارْتِجَاعَهَا إذَا عَادَتْ إلَى عِدَّتِهِ ، فَمَلَكَهُ قَبْلَ ذَلِكَ ، كَمَا لَوْ ارْتَفَعَ حَيْضُهَا فِي أَثْنَاءِ عِدَّتِهَا .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي ، لَيْسَ لَهُ رَجْعَتُهَا ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ فِي عِدَّتِهِ ، فَإِذَا وَضَعَتْ الْحَمْلَ ، انْقَضَتْ عِدَّةُ الثَّانِي ، وَبَنَتْ عَلَى مَا مَضَى مِنْ عِدَّةِ الْأَوَّلِ ، وَلَهُ ارْتِجَاعُهَا حِينَئِذٍ وَجْهًا وَاحِدًا ، وَلَوْ كَانَتْ فِي نِفَاسِهَا ؛ لِأَنَّهَا بَعْدَ الْوَضْعِ تَعُودُ إلَى عِدَّةِ الْأَوَّلِ ، وَإِنْ لَمْ تَحْتَسِبْ بِهِ ، فَكَانَ لَهُ الرَّجْعَةُ فِيهِ ، كَمَا لَوْ طَلَّقَ حَائِضًا ، فَإِنَّ لَهُ رَجْعَتَهَا فِي حَيْضِهَا ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَعْتَدُّ بِهَا وَإِنْ حَمَلَتْ حَمْلًا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمَا ، فَعَلَى الْوَجْهِ الَّذِي لَا يَمْلِكُ رَجْعَتَهَا فِي حَمْلِهَا مِنْ الثَّانِي ، إذَا رَاجَعَهَا فِي هَذَا الْحَمْلِ ، ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ مِنْ الثَّانِي ، لَمْ يَصِحَّ ؛ وَإِنْ بَانَ مِنْ الْأَوَّلِ ، اُحْتُمِلَ أَنْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّهُ رَاجَعَهَا فِي عِدَّتِهَا مِنْهُ ، وَاحْتُمِلَ أَنْ لَا يَصِحَّ ؛ لِأَنَّهُ رَاجَعَهَا مَعَ الشَّكِّ فِي إبَاحَةِ الرَّجْعَةِ .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ فَإِنَّ الرَّجْعَةَ لَيْسَتْ بِعِبَادَةٍ يُبْطِلُهَا الشَّكُّ فِي صِحَّتِهَا ، وَعَلَى أَنَّ الْعِبَادَةَ تَصِحُّ مَعَ الشَّكِّ فِيمَا إذَا نَسِيَ صَلَاةً مِنْ يَوْمٍ لَا يَعْلَمُ عَيْنَهَا ، فَصَلَّى خَمْسَ صَلَوَاتٍ ، فَإِنَّ كُلَّ صَلَاةٍ يَشُكُّ فِي أَنَّهَا هَلْ هِيَ الْمَنْسِيَّةُ أَوْ غَيْرُهَا ؟ وَلَوْ شَكَّ فِي الْحَدَثِ

، فَتَطَهَّرَ يَنْوِي رَفْعَ الْحَدَثِ ، صَحَّتْ طَهَارَتُهُ ، وَارْتَفَعَ حَدَثُهُ ، فَهُنَا أَوْلَى .
فَإِنْ رَاجَعَهَا بَعْدَ الْوَضْعِ ، وَبَانَ أَنَّ الْحَمْلَ مِنْ الثَّانِي صَحَّتْ رَجْعَتُهُ ، وَإِنْ بَانَ مِنْ الْأَوَّلِ ، لَمْ تَصِحَّ الرَّجْعَةُ ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ انْقَضَتْ بِوَضْعِهِ .

( 6083 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( وَالْمُرَاجَعَةُ أَنْ يَقُولَ لِرَجُلَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ : اشْهَدَا أَنِّي قَدْ رَاجَعْت امْرَأَتِي .
بِلَا وَلَيٍّ يَحْضُرُهُ ، وَلَا صَدَاقٍ يَزِيدُهُ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - رِوَايَةٌ أُخْرَى ، أَنَّهُ تَجُوزُ الرَّجْعَةُ بِلَا شَهَادَةٍ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الرَّجْعَةَ لَا تَفْتَقِرُ إلَى وَلِيٍّ ، وَلَا صَدَاقٍ ، وَلَا رِضَى الْمَرْأَةِ ، وَلَا عِلْمِهَا .
بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الرَّجْعِيَّةَ فِي أَحْكَامِ الزَّوْجَاتِ ، وَالرَّجْعَةُ إمْسَاكٌ لَهَا ، وَاسْتِبْقَاءٌ لِنِكَاحِهَا ، وَلِهَذَا سَمَّى اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - الرَّجْعَةَ إمْسَاكًا ، وَتَرْكَهَا فِرَاقًا وَسَرَاحًا ، فَقَالَ : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } .
وَفِي آيَةٍ أُخْرَى : { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } .
وَإِنَّمَا تَشَعَّثَ النِّكَاحُ بِالطَّلْقَةِ وَانْعَقَدَ بِهَا سَبَبُ زَوَالِهِ ، فَالرَّجْعَةُ تُزِيلُ شُعْثَهُ ، وَتَقْطَعُ مُضِيَّهُ ، إلَى الْبَيْنُونَةِ ، فَلَمْ يَحْتَجْ لِذَلِكَ إلَى مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ ابْتِدَاءُ النِّكَاحِ .
فَأَمَّا الشَّهَادَةُ فَفِيهَا رِوَايَتَانِ ؛ إحْدَاهُمَا ، تَجِبُ .
وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ } .
وَظَاهِرُ الْأَمْرِ الْوُجُوبُ ، وَلِأَنَّهُ اسْتِبَاحَةُ بُضْعٍ مَقْصُودٍ ، فَوَجَبَتْ الشَّهَادَةُ فِيهِ ، كَالنِّكَاحِ ، وَعَكْسُهُ الْبَيْعُ .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ ، لَا تَجِبُ الشَّهَادَةُ .
وَهِيَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ ، وَقَوْلُ مَالِكٍ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَفْتَقِرُ إلَى قَبُولٍ ، فَلَمْ تَفْتَقِرْ إلَى شَهَادَةٍ ، كَسَائِرِ حُقُوقِ الزَّوْجِ ، وَلِأَنَّ مَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْوَلِيُّ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْإِشْهَادُ ، كَالْبَيْعِ .
وَعِنْدَ ذَلِكَ يُحْمَلُ الْأَمْرُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ .
وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ ، فِي أَنَّ السُّنَّةَ الْإِشْهَادُ .
فَإِنْ

قُلْنَا : هِيَ شَرْطٌ .
فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ وُجُودُهَا حَالَ الرَّجْعَةِ ، فَإِنْ ارْتَجَعَ بِغَيْرِ شَهَادَةٍ ، لَمْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ وُجُودُهَا فِي الرَّجْعَةِ ، دُونَ الْإِقْرَارِ بِهَا ، إلَّا أَنْ يُقْصَدَ بِذَلِكَ الْإِقْرَارِ الِارْتِجَاعَ ، فَيَصِحُّ .

( 6084 ) فَصْلٌ : وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ ، أَنَّ الرَّجْعَةَ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِالْقَوْلِ ؛ لِقَوْلِهِ : الْمُرَاجَعَةُ أَنْ يَقُولَ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهَا اسْتِبَاحَةُ بُضْعٌ مَقْصُودٍ ، أُمِرَ بِالْإِشْهَادِ فِيهِ ، فَلَمْ تَحْصُلْ مِنْ الْقَادِرِ بِغَيْرِ قَوْلٍ ، كَالنِّكَاحِ ، وَلِأَنَّ غَيْرَ الْقَوْلِ فِعْلٌ مِنْ قَادِرٍ عَلَى الْقَوْلِ ، فَلَمْ تَحْصُلْ بِهِ الرَّجْعَةُ ، كَالْإِشَارَةِ مِنْ النَّاطِقِ ، وَهَذِهِ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ ، تَحْصُلُ الرَّجْعَةُ بِالْوَطْءِ ، سَوَاءٌ نَوَى بِهِ الرَّجْعَةَ ، أَوْ لَمْ يَنْوِ .
اخْتَارَهَا ابْنُ حَامِدٍ ، وَالْقَاضِي وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، وَالْحَسَنِ ، وَابْنِ سِيرِينَ ، وَعَطَاءٍ ، وَطَاوُسٍ ، وَالزُّهْرِيِّ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ .
قَالَ بَعْضُهُمْ .
وَيُشْهِدُ .
وَقَالَ مَالِكٌ ، وَإِسْحَاقُ : تَكُونُ رَجْعَةً إذَا أَرَادَ بِهِ الرَّجْعَةَ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ مُدَّةٌ تُفْضِي إلَى بَيْنُونَةٍ ، فَتَرْتَفِعُ بِالْوَطْءِ ، كَمُدَّةِ الْإِيلَاءِ ، وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ سَبَبٌ لِزَوَالِ الْمِلْكِ وَمَعَهُ خِيَارٌ ، فَتَصَرُّفُ الْمَالِكِ بِالْوَطْءِ يَمْنَعُ عَمَلَهُ ، كَوَطْءِ الْبَائِعِ الْأَمَةَ الْمَبِيعَةَ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ .
وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّنَا إذَا قُلْنَا : الْوَطْءُ مُبَاحٌ .
حَصَلَتْ الرَّجْعَةُ بِهِ ، كَمَا يَنْقَطِعُ بِهِ التَّوْكِيلُ فِي طَلَاقِهَا .
وَإِنْ قُلْنَا : هُوَ مُحَرَّمٌ .
لَمْ تَحْصُلْ الرَّجْعَةُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ فِعْلٌ مُحَرَّمٌ ، فَلَا يَكُونُ سَبَبًا لِلْحِلِّ ، كَوَطْءِ الْمُحَلِّلِ .

( 6085 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا إنْ قَبَّلَهَا ، أَوْ لَمَسَهَا لِشَهْوَةٍ ، أَوْ كَشَفَ فَرْجَهَا وَنَظَرَ إلَيْهِ ، فَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَيْسَ بِرَجْعَةٍ .
وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ : فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا ، هُوَ رَجْعَةٌ .
وَهَذَا قَوْلُ الثَّوْرِيِّ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ ؛ لِأَنَّهُ اسْتِمْتَاعٌ يُسْتَبَاحُ بِالزَّوْجِيَّةِ ، فَحَصَلَتْ الرَّجْعَةُ بِهِ كَالْوَطْءِ .
وَالثَّانِي ، أَنَّهُ لَيْسَ بِرَجْعَةٍ ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ إيجَابُ عِدَّةٍ وَلَا مَهْرٍ ، فَلَا تَحْصُلُ بِهِ الرَّجْعَةُ ، كَالنَّظَرِ .
فَأَمَّا الْخَلْوَةُ بِهَا ، فَلَيْسَ بِرَجْعَةٍ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِاسْتِمْتَاعٍ .
وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي الْخَطَّابِ .
وَحُكِيَ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِنَا ، أَنَّ الرَّجْعَةَ تَحْصُلُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَعْنًى يَحْرُمُ مِنْ الْأَجْنَبِيَّةِ ، وَيَحِلُّ مِنْ الزَّوْجَةِ ، فَحَصَلَتْ بِهِ الرَّجْعَةُ ، كَالِاسْتِمْتَاعِ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا تَحْصُلُ الرَّجْعَةُ بِهَا ؛ لِأَنَّهَا لَا تُبْطِلُ اخْتِيَارَ الْمُشْتَرِي لِلْأَمَةِ ، فَلَمْ تَكُنْ رَجْعَةً ، كَاللَّمْسِ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ ، فَأَمَّا اللَّمْسُ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ ، وَالنَّظَرُ لِذَلِكَ وَنَحْوِهِ ، فَلَيْسَ بِرَجْعَةٍ لِأَنَّهُ يَجُوزُ فِي غَيْرِ الزَّوْجَةِ عِنْدَ الْحَاجَةِ ، فَأَشْبَهَ الْحَدِيثَ مَعَهَا .

( 6086 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا الْقَوْلُ فَتَحْصُلُ بِهِ الرَّجْعَةُ .
بِغَيْرِ خِلَافٍ .
وَأَلْفَاظُهُ : رَاجَعْتُك ، وَارْتَجَعْتُك ، وَرَدَدْتُك ، وَأَمْسَكْتُك .
لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ وَرَدَ بِهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ ، فَالرَّدُّ وَالْإِمْسَاكُ وَرَدَ بِهِمَا الْكِتَابُ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ } .
وَقَالَ : { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } يَعْنِي : الرَّجْعَةَ .
وَالرَّجْعَةُ وَرَدَتْ بِهَا السُّنَّةُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا } .
وَقَدْ اُشْتُهِرَ هَذَا الِاسْمُ فِيهَا بَيْنَ أَهْلِ الْعُرْفِ ، كَاشْتِهَارِ اسْمِ الطَّلَاقِ فِيهِ ، فَإِنَّهُمْ يُسَمُّونَهَا رَجْعَةً ، وَالْمَرْأَةَ رَجْعِيَّةً .
وَيَتَخَرَّجُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُهَا هُوَ الصَّرِيحُ وَحْدَهُ ، لِاشْتِهَارِهِ دُونَ غَيْرِهِ ، كَقَوْلِنَا فِي صَرِيحِ الطَّلَاقِ ، وَالِاحْتِيَاطُ أَنْ يَقُولَ : رَاجَعْت امْرَأَتِي إلَى نِكَاحِي أَوْ زَوْجَتِي .
أَوْ رَاجَعْتهَا لِمَا وَقَعَ عَلَيْهَا مِنْ طَلَاقِي .
فَإِنْ قَالَ : نَكَحْتُهَا .
أَوْ : تَزَوَّجْتُهَا .
فَهَذَا لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِيهَا ؛ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ لَيْسَتْ بِنِكَاحٍ .
وَهَلْ تَحْصُلُ بِهِ الرَّجْعَةُ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، لَا تَحْصُلُ بِهِ الرَّجْعَةُ ؛ لِأَنَّ هَذَا كِنَايَةٌ ، وَالرَّجْعَةُ اسْتِبَاحَةُ بُضْعٍ مَقْصُودٍ ، وَلَا تَحْصُلُ بِالْكِنَايَةِ ، كَالنِّكَاحِ .
وَالثَّانِي ، تَحْصُلُ بِهِ الرَّجْعَةُ .
أَوْمَأَ إلَيْهِ أَحْمَدُ .
وَاخْتَارَهُ ابْنُ حَامِدٍ ؛ لِأَنَّهُ تُبَاحُ بِهِ الْأَجْنَبِيَّةُ ، فَالرَّجْعِيَّةُ أَوْلَى .
وَعَلَى هَذَا ، يَحْتَاجُ أَنْ يَنْوِيَ بِهِ الرَّجْعَةَ ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ كِنَايَةً تُعْتَبَرُ لَهُ النِّيَّةُ ، كَكِنَايَاتِ الطَّلَاقِ .

( 6087 ) فَصْلٌ : فَإِنْ قَالَ : رَاجَعْتُك لِلْمَحَبَّةِ .
أَوْ قَالَ : لِلْإِهَانَةِ .
وَقَالَ : أَرَدْت أَنَّنِي رَاجَعْتُك لِمَحَبَّتِي إيَّاكِ ، أَوْ إهَانَةً لَك .
صَحَّتْ الرَّجْعَةُ ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِالرَّجْعَةِ ، وَبَيَّنَ سَبَبَهَا .
وَإِنْ قَالَ : أَرَدْت أَنَّنِي كُنْت أَهَنْتُك ، أَوْ أُحِبُّك ، وَقَدْ رَدَدْتُك بِفِرَاقِي إلَى ذَلِكَ .
فَلَيْسَ بِرَجْعَةٍ .
وَإِنْ أَطْلَقَ وَلَمْ يَنْوِ شَيْئًا ، صَحَّتْ الرَّجْعَةُ .
ذَكَرَهُ الْقَاضِي ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِصَرِيحِ الرَّجْعَةِ ، وَضَمَّ إلَيْهِ مَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِسَبَبِهَا ، وَيَحْتَمِلُ غَيْرَهُ ، فَلَا يَزُولُ اللَّفْظُ عَنْ مُقْتَضَاهُ بِالشَّكِّ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .

( 6088 ) فَصْلٌ : وَلَا يَصِحُّ تَعْلِيقُ الرَّجْعَةِ عَلَى شَرْطٍ ؛ لِأَنَّهُ اسْتِبَاحَةُ فَرْجٍ مَقْصُودٍ ، فَأَشْبَهَ النِّكَاحَ ، وَلَوْ قَالَ : رَاجَعْتُك إنْ شِئْت .
لَمْ يَصِحَّ كَذَلِكَ .
وَلَوْ قَالَ : كُلَّمَا طَلَّقْتُك فَقَدْ رَاجَعْتُك .
لَمْ يَصِحَّ كَذَلِكَ .
وَلِأَنَّهُ رَاجَعَهَا قَبْلَ أَنْ يَمْلِكَ الرَّجْعَةَ ، فَأَشْبَهَ الطَّلَاقَ قَبْلَ النِّكَاحِ .
وَإِنْ قَالَ : إنْ قَدِمَ أَبُوك ، فَقَدْ رَاجَعْتُك .
لَمْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيقٌ عَلَى شَرْطٍ .
( 6089 ) فَصْلٌ : فَإِنْ رَاجَعَهَا فِي الرِّدَّةِ مِنْ أَحَدِهِمَا ، فَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ .
وَهُوَ صَحِيحُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ اسْتِبَاحَةُ بُضْعٍ مَقْصُودٍ ، فَلَمْ يَصِحَّ مَعَ الرِّدَّةِ ، كَالنِّكَاحِ ، وَلِأَنَّ الرَّجْعَةَ تَقْرِيرُ النِّكَاحِ ، وَالرِّدَّةَ تُنَافِي ذَلِكَ ، فَلَمْ يَصِحَّ اجْتِمَاعُهُمَا .
وَقَالَ الْقَاضِي : إنْ قُلْنَا : تَتَعَجَّلُ الْفُرْقَةُ بِالرِّدَّةِ .
لَمْ تَصِحَّ الرَّجْعَةُ ؛ لِأَنَّهَا قَدْ بَانَتْ بِهَا .
وَإِنْ قُلْنَا : لَا تَتَعَجَّلُ الْفُرْقَةُ .
فَالرَّجْعَةُ مَوْقُوفَةٌ ، إنْ أَسْلَمَ الْمُرْتَدُّ مِنْهُمَا فِي الْعِدَّةِ صَحَّتْ الرَّجْعَةُ ؛ لِأَنَّنَا تَبَيَّنَّا أَنَّهُ ارْتَجَعَهَا فِي نِكَاحِهِ ، وَلِأَنَّهُ نَوْعُ إمْسَاكٍ ، فَلَمْ تَمْنَعْ مِنْهُ الرِّدَّةُ ، كَمَا لَوْ لَمْ يُطَلِّقْ ، وَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ فِي الْعِدَّةِ تَبَيَّنَّا أَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ قَبْلَ الرَّجْعَةِ .
وَهَذَا قَوْلُ الْمُزَنِيّ .
وَاخْتِيَارُ أَبِي حَامِدٍ وَهَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِيمَا إذَا رَاجَعَهَا بَعْدَ إسْلَامِ أَحَدِهِمَا .

( 6090 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( وَإِذَا قَالَ : قَدْ ارْتَجَعْتُك .
فَقَالَتْ : قَدْ انْقَضَتْ عِدَّتِي قَبْلَ رَجْعَتِك .
فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَا ادَّعَتْ مِنْ ذَلِكَ مُمْكِنًا ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا ادَّعَتْ انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا ، فِي مُدَّةٍ يُمْكِنُ انْقِضَاؤُهَا فِيهَا ، قُبِلَ قَوْلُهَا ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ } .
قِيلَ فِي التَّفْسِيرِ : هُوَ الْحَيْضُ وَالْحَمْلُ .
فَلَوْلَا أَنَّ قَوْلَهُنَّ مَقْبُولٌ ، لَمْ يُحْرِجْنَ بِكِتْمَانِهِ ، وَلِأَنَّهُ أَمْرٌ تَخْتَصُّ بِمَعْرِفَتِهِ ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلُهَا فِيهِ ، كَالنِّيَّةِ مِنْ الْإِنْسَانِ فِيمَا تُعْتَبَرُ فِيهِ النِّيَّةُ ، أَوْ أَمْرٍ لَا يُعْرَفُ إلَّا مِنْ جِهَتِهَا ، فَقُبِلَ قَوْلُهَا فِيهِ ، كَمَا يَجِبُ عَلَى التَّابِعِيِّ قَبُولُ خَبَرِ الصَّحَابِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَأَمَّا مَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ ، فَلَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ ؛ : الْقِسْمُ الْأَوَّلُ أَنْ تَدَّعِيَ انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا بِالْقُرُوءِ ، وَأَقَلُّ ذَلِكَ يَنْبَنِي عَلَى الْخِلَافِ فِي أَقَلِّ الطُّهْرِ بَيْنَ الْحَيْضَتَيْنِ ، وَعَلَى الْخِلَافِ فِي الْقُرُوءِ ، هَلْ هِيَ الْحَيْضُ أَوْ الْأَطْهَارُ ؟ فَإِنْ قُلْنَا : هِيَ الْحَيْضُ ، وَأَقَلُّ الطُّهْرِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، فَأَقَلُّ مَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا وَلَحْظَةٌ ، وَذَلِكَ أَنْ يُطَلِّقَهَا مَعَ آخِرِ الطُّهْرِ ، ثُمَّ تَحِيضَ بَعْدَهُ يَوْمًا وَلَيْلَةً ، ثُمَّ تَطْهُرَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، ثُمَّ تَحِيضَ يَوْمًا وَلَيْلَةً ، ثُمَّ تَطْهُرَ ثَلَاثَةَ عَشْرَ يَوْمًا ، ثُمَّ تَحِيضَ يَوْمًا وَلَيْلَةً ، ثُمَّ تَطْهُرَ لَحْظَةً ، لِيُعْرَفَ بِهَا انْقِطَاعُ الْحَيْضِ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ اللَّحْظَةُ مِنْ عِدَّتِهَا فَلَا بُدَّ مِنْهَا ، لِمَعْرِفَةِ انْقِطَاعِ حَيْضِهَا ، وَلَوْ صَادَفَتْهَا رَجْعَتُهُ لَمْ تَصِحَّ .
وَمَنْ اعْتَبَرَ الْغُسْلَ فِي قَضَاء الْعِدَّةِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ وَقْتٍ يُمْكِنُ الْغُسْلُ فِيهِ بَعْدَ انْقِطَاعِ الْحَيْضِ .
وَإِنْ

قُلْنَا : الْقُرْءُ الْحَيْضُ ، وَالطُّهْرُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا .
فَأَقَلُّ مَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ يَوْمًا وَلَحْظَةٌ تَزِيدُ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ فِي الطُّهْرَيْنِ .
وَإِنْ قُلْنَا : الْقُرُوءُ الْأَطْهَارُ .
وَأَقَلُّ الطُّهْرِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، فَإِنَّ عِدَّتَهَا تَنْقَضِي بِثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا وَلَحْظَتَيْنِ ، وَهُوَ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي آخِرِ لَحْظَةٍ مِنْ طُهْرِهَا ، فَتَحْتَسِبُ بِهَا قُرْءًا ، ثُمَّ تَحْتَسِبُ طُهْرَيْنِ آخَرَيْنِ سِتَّةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا ، وَبَيْنَهُمَا حَيْضَتَانِ يَوْمَيْنِ ، فَإِذَا طَعَنَتْ فِي الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ لَحْظَةً ، انْقَضَتْ عِدَّتُهَا .
وَإِنْ قُلْنَا : الطُّهْرُ خَمْسَةَ عَشْرَ يَوْمًا .
زِدْنَا عَلَى هَذَا أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ فِي الطُّهْرَيْنِ ، فَيَكُونُ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا وَلَحْظَتَيْنِ .
وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فَإِنْ كَانَتْ أَمَةً ، انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَلَحْظَةٍ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ، وَتِسْعَةَ عَشَرِ يَوْمًا وَلَحْظَةٍ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي ، وَبِأَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَلَحْظَتَيْنِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّالِثِ ، وَبِسِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا وَلَحْظَتَيْنِ عَلَى الْوَجْهِ الرَّابِعِ .
فَمَتَى ادَّعَتْ انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا بِالْقُرُوءِ فِي أَقَلَّ مِنْ هَذَا ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهَا عِنْدَ أَحَدٍ فِيمَا أَعْلَمُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُحْتَمَلُ صِدْقُهَا .
وَإِنْ ادَّعَتْ انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا فِي أَقَلَّ مِنْ شَهْرٍ ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهَا إلَّا بِبَيِّنَةٍ ؛ لِأَنَّ شُرَيْحًا قَالَ : إذَا ادَّعَتْ أَنَّهَا حَاضَتْ ثَلَاثَ حِيَضٍ فِي شَهْرٍ ، وَجَاءَتْ بِبَيِّنَةِ مِنْ النِّسَاءِ الْعُدُولِ مِنْ بِطَانَةِ أَهْلِهَا ، مِمَّنْ يُرْضَى صِدْقُهُ وَعَدْلُهُ ، أَنَّهَا رَأَتْ مَا يُحَرِّمُ عَلَيْهَا الصَّلَاةَ مِنْ الطَّمْثِ ، وَتَغْتَسِلُ عِنْدَ كُلِّ قُرْءٍ وَتُصَلِّي ، فَقَدْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا ، وَإِلَّا فَهِيَ كَاذِبَةٌ .
فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : قالون .
وَمَعْنَاهُ بِالرُّومِيَّةِ : أَصَبْت أَوْ أَحْسَنْت .
فَأَخَذَ أَحْمَدُ بِقَوْلِ عَلِيٍّ فِي الشَّهْرِ .

فَإِنْ ادَّعَتْ ذَلِكَ فِي أَكْثَرَ مِنْ شَهْرٍ ، صَدَّقَهَا ، عَلَى حَدِيثِ : { إنَّ الْمَرْأَةَ اُؤْتُمِنَتْ عَلَى فَرْجِهَا } .
وَلِأَنَّ حَيْضَهَا فِي الشَّهْرِ ثَلَاثُ حِيَضٍ يَنْدُرُ جِدًّا ، فَرُجِّحَ بِبَيِّنَةٍ وَلَا يَنْدُرُ فِيمَا زَادَ عَلَى الشَّهْرِ كَنُدْرَتِهِ فِيهِ ، فَقُبِلَ قَوْلُهَا مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ .
وَقَالَ : الشَّافِعِيِّ : لَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا فِي أَقَلَّ مِنْ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا وَلَحْظَتَيْنِ ، وَلَا يُقْبَلُ فِي أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ بِحَالٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ عِدَّةٌ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ .
وَقَالَ النُّعْمَانُ : لَا تُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ سِتِّينَ يَوْمًا .
وَقَالَ صَاحِبَاهُ : لَا تُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا ؛ لِأَنَّ أَقَلَّ الْحَيْضِ عِنْدَهُمْ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ ، فَثَلَاثُ حِيَضٍ تِسْعَةُ أَيَّامٍ ، وَطُهْرَانِ ثَلَاثُونَ يَوْمًا .
وَالْخِلَافُ فِي هَذَا يَنْبَنِي عَلَى الْخِلَافِ فِي أَقَلِّ الْحَيْضِ ، وَأَقَلُّ الطُّهْرِ ، وَفِي الْقُرُوءِ مَا هِيَ ، وَقَدْ سَبَقَ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ قَبُولُ عَلِيٍّ وَشُرَيْحٍ بَيِّنَتَهَا عَلَى انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا فِي شَهْرٍ .
وَلَوْلَا تَصَوُّرُهُ لَمَا قُبِلَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ ، وَلَا سُمِعَتْ فِيهِ دَعْوًى ، وَلَا يُتَصَوَّرُ إلَّا بِمَا قُلْنَاهُ .
فَأَمَّا إنْ ادَّعَتْ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ فِي أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ ، لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهَا ، وَلَا يُصْغَى إلَى بَيِّنَتِهَا ؛ لِأَنَّنَا نَعْلَمُ كَذِبَهَا .
فَإِنْ بَقِيَتْ عَلَى دَعْوَاهَا حَتَّى أَتَى عَلَيْهَا مَا يُمْكِنُ صِدْقُهَا فِيهِ نَظَرْنَا ؛ فَإِنْ بَقِيَتْ عَلَى دَعْوَاهَا الْمَرْدُودَةِ ، لَمْ يُسْمَعْ قَوْلُهَا ؛ لِأَنَّهَا تَدَّعِي مُحَالًا ، وَإِنْ ادَّعَتْ أَنَّهَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ كُلِّهَا ، أَوْ فِيمَا يُمْكِنُ مِنْهَا ، قُبِلَ قَوْلُهَا ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ صِدْقُهَا .
وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْفَاسِقَةِ وَالْمَرْضِيَّةِ ، وَالْمُسْلِمَةِ وَالْكَافِرَةِ ؛ لِأَنَّ مَا يُقْبَلُ فِيهِ قَوْلُ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ ، لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِهِ ، كَإِخْبَارِهِ عَنْ بَيِّنَةٍ فِيمَا تُعْتَبَرُ

فِيهِ بَيِّنَةٌ .

الْقِسْمُ الثَّانِي ، أَنْ تَدَّعِيَ انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ ، فَلَا يَخْلُو ؛ إمَّا أَنْ تَدَّعِيَ وَضْعَ الْوَلَدِ لِتَمَامٍ ، أَوْ أَنَّهَا أَسْقَطَتْهُ قَبْلَ كَمَالِهِ ، فَإِنْ ادَّعَتْ وَضْعَهُ لِتَمَامٍ ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا فِي أَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ إمْكَانِ الْوَطْءِ بَعْدَ الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكْمُلُ فِي أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ ، وَإِنْ ادَّعَتْ أَنَّهَا أَسْقَطَتْهُ ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهَا فِي أَقَلَّ مِنْ ثَمَانِينَ يَوْمًا مِنْ حِينِ إمْكَانِ الْوَطْءِ بَعْدَ عَقْدِ النِّكَاحِ ؛ لِأَنَّ أَقَلَّ سَقْطٍ تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ مَا أَتَى عَلَيْهِ ثَمَانُونَ يَوْمًا ، لِأَنَّهُ يَكُونُ نُطْفَةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا ، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا ، ثُمَّ يَصِيرُ مُضْغَةً بَعْدَ الثَّمَانِينَ ، وَلَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ مُضْغَةً بِحَالٍ .
وَهَذَا ظَاهِرُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ .
الْقِسْمُ الثَّالِثُ ، أَنْ تَدَّعِيَ انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا بِالشُّهُورِ ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ يَنْبَنِي عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي وَقْتِ الطَّلَاقِ ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ فِيهِ ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِيمَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ ، إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ الزَّوْجُ انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا ؛ لِيُسْقِطَ عَنْ نَفْسِهِ نَفَقَتَهَا ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ : طَلَّقْتُكِ فِي شَوَّالٍ .
فَتَقُولَ هِيَ : بَلْ فِي ذِي الْحِجَّةِ .
فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي مَا يُسْقِطُ النَّفَقَةَ ، وَالْأَصْلُ وُجُوبُهَا ، فَلَا يُقْبَلُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ .
وَلَوْ ادَّعَتْ ذَلِكَ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا نَفَقَةٌ ، قُبِلَ قَوْلُهَا ؛ لِأَنَّهَا تُقِرُّ عَلَى نَفْسِهَا بِمَا هُوَ أَغْلَظُ .
وَلَوْ انْعَكَسَتْ الدَّعْوَى ، فَقَالَ : طَلَّقْتُك فِي ذِي الْحِجَّةِ ، فَلِي رَجْعَتُك .
فَقَالَتْ : بَلْ طَلَّقْتَنِي فِي شَوَّالٍ ، فَلَا رَجْعَةَ لَك .
فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ نِكَاحِهِ ، وَلِأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ ، فِي إثْبَاتِ الطَّلَاقِ وَنَفْيِهِ فَكَذَلِكَ فِي وَقْتِهِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَكُلُّ مَوْضِعٍ قُلْنَا : الْقَوْلُ قَوْلُهَا .

فَأَنْكَرَهَا الزَّوْجُ ، فَقَالَ الْخِرَقِيِّ : عَلَيْهَا الْيَمِينُ .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ، وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ .
وَقَدْ أَوْمَأَ إلَيْهِ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ .
وَقَالَ الْقَاضِي : قِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنْ لَا يَجِبَ عَلَيْهَا يَمِينٌ .
وَقَدْ أَوْمَأَ إلَيْهِ أَحْمَدُ ، فَقَالَ : لَا يَمِينَ فِي نِكَاحٍ وَلَا طَلَاقٍ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ لَا يَصِحُّ بَذْلُهَا ، فَلَا يُسْتَحْلَفُ فِيهَا ، كَالْحُدُودِ .
وَالْأَوَّلُ ؛ أَوْلَى ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ } .
وَلِأَنَّهُ حَقُّ آدَمِيٍّ يُمْكِنُ صِدْقُ مُدَّعِيهِ ، فَيَجِبُ الْيَمِينُ فِيهِ ، كَالْأَمْوَالِ .
فَإِنْ نَكَلَتْ عَنْ الْيَمِينِ ، فَقَالَ الْقَاضِي : لَا يُقْضَى بِالنُّكُولِ ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يَصِحُّ بَذْلُهُ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُسْتَحْلَفُ الزَّوْجُ ، وَلَهُ رَجْعَتُهَا ، بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِرَدِّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي ؛ وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا وُجِدَ النُّكُولُ مِنْهَا ، ظَهَرَ صِدْقُ الزَّوْجِ ، وَقَوِيَ جَانِبُهُ ، وَالْيَمِينُ تُشْرَعُ فِي حَقِّ مَنْ قَوِيَ جَانِبُهُ ، وَلِذَلِكَ شُرِعَتْ فِي حَقِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِقُوَّةِ جَانِبِهِ بِالْيَدِ فِي الْعَيْنِ ، وَبِالْأَصْلِ فِي بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ فِي الدَّيْنِ .
هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .

( 6091 ) فَصْلٌ : وَإِذَا ادَّعَى الزَّوْجُ فِي عِدَّتِهَا أَنَّهُ كَانَ رَاجَعَهَا أَمْسِ ، أَوْ مُنْذُ شَهْرٍ قُبِلَ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا مَلَكَ الرَّجْعَةَ ، مَلَكَ الْإِقْرَارَ بِهَا ، كَالطَّلَاقِ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ، وَغَيْرُهُمْ .
وَإِنْ قَالَ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا : كُنْت رَاجَعْتُك فِي عِدَّتِك .
فَأَنْكَرَتْهُ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا بِإِجْمَاعِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَاهَا فِي زَمَنٍ لَا يَمْلِكُهَا ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهَا وَحُصُولُ الْبَيْنُونَةِ .
فَإِنْ كَانَ اخْتِلَافُهُمَا فِي زَمَنٍ يُمْكِنُ فِيهِ انْقِضَاءُ عِدَّتِهَا ، وَبَقَاؤُهَا ، فَبَدَأَتْ فَقَالَتْ : انْقَضَتْ عِدَّتِي .
فَقَالَ : قَدْ كُنْت رَاجَعْتُك .
فَأَنْكَرَتْهُ ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّ خَبَرَهَا بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا مَقْبُولٌ ؛ لِإِمْكَانِهِ ، فَصَارَتْ دَعْوَاهُ لِلرَّجْعَةِ بَعْدَ الْحُكْمِ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا ، فَلَمْ تُقْبَلْ .
فَإِنْ سَبَقَهَا بِالدَّعْوَى ، فَقَالَ : قَدْ كُنْت رَاجَعْتُك أَمْسِ .
فَقَالَتْ : قَدْ انْقَضَتْ عِدَّتِي قَبْلَ دَعْوَاك .
فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّ دَعْوَاهُ لِلرَّجْعَةِ قَبْلَ الْحُكْمِ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا فِي زَمَنٍ الظَّاهِرُ قَبُولُ قَوْلِهِ فِيهِ ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا بَعْدَ ذَلِكَ فِي إبْطَالِهِ .
وَلَوْ سَبَقَ فَقَالَ : قَدْ رَاجَعْتُكِ .
فَقَالَتْ : قَدْ انْقَضَتْ عِدَّتِي قَبْلَ رَجْعَتِكَ .
فَأَنْكَرَهَا ، فَقَالَ الْقَاضِي : الْقَوْلُ قَوْلُهُ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا .
وَهَذَا أَحَدُ الْوُجُوهِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ .
وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ ، أَنَّ قَوْلَهَا مَقْبُولٌ ، سَوَاءٌ سَبَقَهَا بِالدَّعْوَى ، أَوْ سَبَقَتْهُ .
وَهُوَ وَجْهٌ ثَانٍ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ الْبَيْنُونَةُ ، وَالْأَصْلَ عَدَمُ الرَّجْعَةِ ، فَكَانَ الظَّاهِرُ مَعَهَا ، وَلِأَنَّ مَنْ قُبِلَ قَوْلُهُ سَابِقًا ، قُبِلَ قَوْلُهُ مَسْبُوقًا ، كَسَائِرِ مَنْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ .
وَلَهُمْ وَجْهٌ ثَالِثٌ ، أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجِ بِكُلِّ حَالٍ ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَدَّعِي مَا يَرْفَعُ النِّكَاحَ وَهُوَ يُنْكِرُهُ ، فَكَانَ الْقَوْلَ قَوْلَهُ ، كَمَا لَوْ

ادَّعَى الْمُولِي وَالْعِنِّينُ إصَابَةَ امْرَأَتِهِ ، فَأَنْكَرَتْهُ .
وَهَذَا لَا يَصِحُّ ، فَإِنَّهُ قَدْ انْعَقَدَ سَبَبُ الْبَيْنُونَةِ ، وَهُوَ مُفْضٍ إلَيْهَا ، مَا لَمْ يُوجَدْ مَا يَرْفَعُهُ وَيُزِيلُ حُكْمَهُ ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ ، فَكَانَ الْقَوْلُ [ قَوْلَ ] مَنْ يُنْكِرُهُ ، بِخِلَافِ مَا قَاسُوا عَلَيْهِ .
وَإِنْ وَقَعَ الْقَوْلُ مِنْهُمَا جَمِيعًا ، فَلَا رَجْعَةَ ؛ لِأَنَّ خَبَرَهَا بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا يَكُونُ بَعْدَهَا ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ بَعْدَ الْعِدَّةِ ، فَلَا يُقْبَلُ .
قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقْرَعَ بَيْنَهُمَا فَيَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ تَقَعُ لَهُ الْقُرْعَةُ .
وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ .

( 6092 ) فَصْلٌ : وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْإِصَابَةِ فَقَالَ : قَدْ أَصَبْتُك ، فَلِي رَجْعَتُك .
فَأَنْكَرَتْهُ ، أَوْ قَالَتْ : قَدْ أَصَابَنِي ، فَلِي الْمَهْرُ كَامِلًا .
فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ مَعَهُ ، فَلَا يَزُولُ إلَّا بِيَقِينٍ ، وَلَيْسَ لَهُ رَجْعَتُهَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ أَنْكَرَ الْإِصَابَةَ ، فَهُوَ يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ بِبَيْنُونَتِهَا ، وَأَنَّهُ لَا رَجْعَةَ لَهُ عَلَيْهَا .
وَإِنْ أَنْكَرَتْهَا هِيَ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا ، وَلَا تَسْتَحِقُّ إلَّا نِصْفَ الْمَهْرِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ ؛ لِأَنَّهَا إنْ أَنْكَرَتْهَا ، فَهِيَ مُقِرَّةٌ أَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ إلَّا نِصْفَ الْمَهْرِ ، وَإِنْ أَنْكَرَهَا ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ .
هَذَا إنْ كَانَ غَيْرَ مَقْبُوضٍ ، فَإِنْ كَانَ اخْتِلَافُهُمَا بَعْدَ قَبْضِهَا لَهُ وَادَّعَى إصَابَتَهَا فَأَنْكَرَتْهُ ، لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّهُ يُقِرُّ لَهَا بِهِ وَلَا يَدَّعِيهِ .
وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُنْكِرَ ، رَجَعَ عَلَيْهَا بِنِصْفِهِ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَلِمَ قَبِلْتُمْ قَوْلَ الْمُولِي وَالْعِنِّينِ فِي الْإِصَابَةِ ، وَلَمْ تَقْبَلُوهُ هَاهُنَا ؟ قُلْنَا : لِأَنَّ الْمُولِيَ وَالْعِنِّينَ يَدَّعِيَانِ مَا يُبْقِي النِّكَاحَ عَلَى الصِّحَّةِ ، وَيَمْنَعُ فَسْخَهُ ، وَالْأَصْلُ صِحَّةُ الْعَقْدِ وَسَلَامَتُهُ ، فَكَانَ قَوْلُهُمَا مُوَافِقًا لِلْأَصْلِ ، فَقُبِلَ ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا قَدْ وَقَعَ مَا يَرْفَعُ النِّكَاحَ وَيُزِيلُهُ ، وَهُوَ مَا وَالَى بَيْنُونَةً ، وَقَدْ اخْتَلَفَا فِيمَا يَرْفَعُ حُكْمَ الطَّلَاقِ وَيُثْبِتُ لَهُ الرَّجْعَةَ ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ ذَلِكَ ، فَكَانَ قَوْلُهُ مُخَالِفًا لِلْأَصْلِ ، فَلَمْ يُقْبَلْ ، وَلِأَنَّ الْمُولِيَ وَالْعِنِّينَ يَدَّعِيَانِ الْإِصَابَةَ فِي مَوْضِعٍ تَحَقَّقَتْ فِيهِ الْخَلْوَةُ وَالتَّمْكِينُ مِنْ الْوَطْءِ ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ لَمَا اسْتَحَقَّتَا الْفَسْخَ بِعَدَمِ الْوَطْءِ ، فَكَانَ الِاخْتِلَافُ فِيمَا يَخْتَصُّ بِهِ ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا لَمْ تَتَحَقَّقْ خَلْوَةٌ وَلَا تَمْكِينٌ ، لِأَنَّهُ لَوْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ

لَوَجَبَ الْمَهْرُ كَامِلًا ، فَكَانَ الِاخْتِلَافُ فِي أَمْرٍ ظَاهِرٍ لَا يَخْتَصُّ بِهِ ، فَلَمْ يُقْبَلُ فِيهِ قَوْلُ مُدَّعِيهِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ .
وَهَلْ يُشْرَعُ الْيَمِينُ فِي حَقِّ مَنْ الْقَوْلُ قَوْلُهُ هَاهُنَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ .

( 6093 ) فَصْلٌ : وَالْخَلْوَةُ كَالْإِصَابَةِ ، فِي إثْبَاتِ الرَّجْعَةِ لِلزَّوْجِ عَلَى الْمَرْأَةِ الَّتِي خَلَا بِهَا ، فِي ظَاهِرِ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ ؛ لِقَوْلِهِ : حُكْمُهَا حُكْمُ الدُّخُولِ فِي جَمِيعِ أُمُورِهَا .
وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ، فِي الْقَدِيمِ .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : لَا رَجْعَةَ لَهُ عَلَيْهَا إلَّا أَنْ يُصِيبَهَا .
وَبِهِ قَالَ النُّعْمَانُ ، وَصَاحِبَاهُ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُصَابَةٍ ، فَلَا تَسْتَحِقُّ رَجْعَتَهَا ، كَغَيْرِ الَّتِي خَلَا بِهَا .
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إلَى قَوْلِهِ : وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ } .
وَلِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ مِنْ طَلَاقٍ لَا عِوَضَ فِيهِ ، وَلَمْ تَسْتَوْفِ عَدَدَهُ ، فَثَبَتَ عَلَيْهَا الرَّجْعَةُ كَالْمُصَابَةِ ، وَلِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ يَلْحَقُهَا طَلَاقُهُ ، فَمَلَكَ رَجْعَتَهَا ، كَالَّتِي أَصَابَهَا .
وَفَارَقَ الَّتِي لَمْ يَخْلُ بِهَا ، فَإِنَّهَا بَائِنٌ مِنْهُ لَا عِدَّةَ لَهَا ، وَلَا يَلْحَقُهَا طَلَاقُهُ ، وَإِنَّمَا تَكُونُ الرَّجْعَةُ لِلْمُعْتَدَّةِ الَّتِي يَلْحَقُهَا طَلَاقُهُ .

( 6094 ) فَصْلٌ : وَإِنْ ادَّعَى زَوْجُ الْأَمَةِ بَعْدَ عِدَّتِهَا أَنَّهُ كَانَ رَاجَعَهَا فِي عِدَّتِهَا ، فَكَذَّبَتْهُ وَصَدَّقَهُ مَوْلَاهَا ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، وَبِذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٌ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : الْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ ، وَهُوَ أَحَقُّ بِهَا ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ مَوْلَاهَا مَقْبُولٌ فِي نِكَاحِهَا ، فَقُبِلَ قَوْلُهُ فِي رَجْعَتِهَا ، كَالْحُرَّةِ إذَا أَقَرَّتْ .
وَلَنَا أَنَّ قَوْلَهَا فِي انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا مَقْبُولٌ ، فَقُبِلَ فِي إنْكَارِهَا لِلرَّجْعَةِ كَالْحُرَّةِ ، وَلِأَنَّهُ اخْتِلَافٌ مِنْهُمَا فِيمَا يَثْبُتُ بِهِ النِّكَاحُ ، فَيَكُونُ الْمُنَازِعُ هِيَ دُونَ سَيِّدِهَا ، كَمَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي الْإِصَابَةِ ، وَإِنَّمَا قُبِلَ قَوْلُ السَّيِّدِ فِي النِّكَاحِ ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ ، فَمَلَكَ الْإِقْرَارَ بِهِ ، بِخِلَافِ الرَّجْعَةِ .
وَإِنْ صَدَّقَتْهُ هِيَ وَكَذَّبَهُ مَوْلَاهَا ، لَمْ يُقْبَلْ إقْرَارُهَا ؛ لِأَنَّ حَقَّ السَّيِّدِ يَتَعَلَّقَ بِهَا ، وَحَلَّتْ لَهُ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا ، فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهَا فِي إبْطَالِ حَقِّهِ ، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَتْ ثُمَّ أَقَرَّتْ أَنَّ مُطَلِّقَهَا كَانَ رَاجَعَهَا ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ قَبُولِ إنْكَارِهَا قَبُولُ تَصْدِيقِهَا ، كَالَّتِي تَزَوَّجَتْ ، فَإِنَّهُ يُقْبَلُ إنْكَارُهَا ، وَلَا يُقْبَلُ تَصْدِيقُهَا .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّ مَوْلَاهَا إذَا عَلِمَ صِدْقَ الزَّوْجِ فِي رَجْعَتِهَا ، لَمْ يَحِلَّ لَهُ وَطْؤُهَا ، وَلَا تَزْوِيجُهَا .
وَإِنْ عَلِمَتْ هِيَ صِدْقَ الزَّوْجِ فِي رَجْعَتِهَا ، فَهِيَ حَرَامٌ عَلَى سَيِّدِهَا ، وَلَا يَحِلُّ لَهَا تَمْكِينُهُ مِنْ وَطْئِهَا إلَّا مُكْرَهَةً ، كَمَا قَبْلَ طَلَاقِهَا .

( 6095 ) فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَتْ : انْقَضَتْ عِدَّتِي .
ثُمَّ قَالَتْ : مَا انْقَضَتْ بَعْدُ .
فَلَهُ رَجْعَتُهَا ؛ لِأَنَّهَا أَقَرَّتْ بِكَذِبِهَا فِيمَا يَثْبُتُ بِهِ حَقٌّ عَلَيْهَا ، فَقُبِلَ إقْرَارُهَا .
وَلَوْ قَالَ : أَخْبَرَتْنِي بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا ، ثُمَّ رَاجَعْتهَا .
ثُمَّ أَقَرَّتْ بِكَذِبِهَا فِي انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا ، وَأَنْكَرَتْ مَا ذَكَرَ عَنْهَا ، وَأَقَرَّتْ أَنَّ عِدَّتَهَا ، لَمْ تَنْقَضِ ، فَالرَّجْعَةُ صَحِيحَةٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُقِرَّ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ بِخَبَرِهَا عَنْ ذَلِكَ ، وَقَدْ رَجَعَتْ عَنْ خَبَرِهَا ، فَقُبِلَ رُجُوعُهَا ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ .

( 6096 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( وَإِذَا طَلَّقَهَا وَاحِدَةً ، فَلَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا حَتَّى طَلَّقَهَا ثَانِيَةً ، بَنَتْ عَلَى مَا مَضَى مِنْ الْعِدَّةِ ) وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَلَهُ قَوْلٌ ثَانٍ ، أَنَّهَا تَسْتَأْنِفُ الْعِدَّةَ ؛ لِأَنَّهَا طَلْقَةٌ وَاقِعَةٌ فِي حَقِّ مَدْخُولٍ بِهَا ، فَاقْتَضَتْ عِدَّةً كَامِلَةً ، كَالْأُولَى .
وَلَنَا ، أَنَّهُمَا طَلَاقَانِ لَمْ يَتَخَلَّلْهُمَا إصَابَةٌ ، وَلَا خَلْوَةٌ ، فَلَمْ يَجِبْ بِهِمَا أَكْثَرُ مِنْ عِدَّةٍ ، كَمَا لَوْ وَالَى بَيْنَهُمَا ، أَوْ كَمَا لَوْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا ثُمَّ نَكَحَهَا وَطَلَّقَهَا قَبْلَ دُخُولِهِ بِهَا .
وَهَكَذَا الْحُكْمُ لَوْ طَلَّقَهَا ، ثُمَّ فُسِخَ نِكَاحُهَا لِعَيْبٍ فِي أَحَدِهِمَا ، أَوْ لِعِتْقِهَا تَحْتَ عَبْدٍ أَوْ غَيْرِهِ ، أَوْ انْفَسَخَ نِكَاحُهَا لِرَضَاعٍ أَوْ اخْتِلَافِ دِينٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ فِي مَعْنَى الطَّلَاقِ .

( 6097 ) فَصْلٌ : وَإِنْ طَلَّقَهَا ، ثُمَّ رَاجَعَهَا ، ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ دُخُولِهِ بِهَا ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ ؛ إحْدَاهُمَا ، تَبْنِي عَلَى مَا مَضَى مِنْ الْعِدَّةِ .
نَقَلَهَا الْمَيْمُونِي .
وَهِيَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ ، وَقَوْلُ عَطَاءٍ ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُمَا طَلَاقَانِ لَمْ يَتَخَلَّلْهُمَا دُخُولٌ بِهَا ، فَكَانَتْ الْعِدَّةُ مِنْ الْأَوَّلِ مِنْهُمَا ، كَمَا لَوْ لَمْ يَرْتَجِعْهَا ، وَلِأَنَّ الرَّجْعَةَ لَمْ يَتَّصِلْ بِهَا دُخُولٌ ، فَلَمْ يَجِبْ بِالطَّلَاقِ مِنْهَا عِدَّةٌ ، كَمَا لَوْ نَكَحَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ .
وَالثَّانِيَةُ ، تَسْتَأْنِفُ الْعِدَّةَ .
نَقَلَهَا ابْنُ مَنْصُورٍ .
وَهِيَ أَصَحُّ .
وَهَذَا قَوْلُ طَاوُسٍ ، وَأَبِي قِلَابَةَ ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ ، وَجَابِرٍ ، وَسَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَإِسْحَاقَ ، وَأَبِي ثَوْرٍ ، وَأَبِي عُبَيْدٍ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ .
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ : أَجْمَع الْفُقَهَاءُ عَلَى هَذَا .
وَحَكَى أَبُو الْخَطَّابِ ، عَنْ مَالِكٍ ، إنْ قَصَدَ الْإِضْرَارَ بِهَا بَنَتْ ، وَإِلَّا اسْتَأْنَفَتْ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا جَعَلَ الرَّجْعَةَ لِمَنْ أَرَادَ الْإِصْلَاحَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إنْ أَرَادُوا إصْلَاحًا } .
وَاَلَّذِي قَصَدَ الْإِضْرَارَ لَمْ يَقْصِدْ الْإِصْلَاحَ .
وَلَنَا أَنَّهُ طَلَاقٌ فِي نِكَاحِ مَدْخُولٍ بِهَا فِيهِ ، فَأَوْجَبَ عِدَّةً كَامِلَةً ، كَمَا لَوْ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ طَلَاقٌ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الطَّلْقَةَ الْأُولَى شَعَّثَتْ النِّكَاحَ ، وَالرَّجْعَةَ لَمَّتْ شُعْثَهُ ، وَقَطَعَتْ عَمَلَ الطَّلَاقِ ، فَصَارَ الطَّلَاقُ الثَّانِي فِي نِكَاحٍ غَيْرِ مُشَعَّثٍ مَدْخُولٍ بِهَا فِيهِ ، فَأَوْجَبَ عِدَّةً كَالْأَوَّلِ ، وَكَمَا لَوْ ارْتَدَّتْ ثُمَّ أَسْلَمَتْ ثُمَّ طَلَّقَهَا ، فَإِنَّهَا تَسْتَأْنِفُ عِدَّةً ، كَذَا هَاهُنَا .
وَيُفَارِقُ الطَّلَاقَ قَبْلَ الرَّجْعَةِ .
فَإِنَّهُ جَاءَ بَعْدَ طَلَاقٍ مُفْضٍ إلَى بَيْنُونَةٍ .
فَإِنْ رَاجَعَهَا ثُمَّ دَخَلَ بِهَا ، ثُمَّ طَلَّقَهَا ، فَإِنَّهَا تَسْتَأْنِفُ عِدَّةً بِغَيْرِ اخْتِلَافٍ بَيْنَ

أَهْلِ الْعِلْمِ ؛ لِأَنَّهُ بِالْوَطْءِ بَعْدَ الرَّجْعَةِ صَارَ كَالنَّاكِحِ ابْتِدَاءً إذَا وَطِئَ .

( 6098 ) فَصْلٌ : وَإِنْ خَالَعَ زَوْجَتَهُ ، أَوْ فُسِخَ النِّكَاحُ ثُمَّ نَكَحَهَا فِي عِدَّتِهَا ، ثُمَّ طَلَّقَهَا ؛ فَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا ، فَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ ، بِلَا خِلَافٍ ؛ لِأَنَّهُ طَلَاقٌ فِي نِكَاحِ مَدْخُولٍ بِهَا فِيهِ ، لَمْ يَتَقَدَّمْهُ طَلَاقٌ سِوَاهُ .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا ، بَنَتْ عَلَى الْعِدَّةِ الْأُولَى ، فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ .
وَعَنْهُ ، أَنَّهَا تَسْتَأْنِفُ الْعِدَّةَ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ أَقْوَى مِنْ الرَّجْعَةِ ، وَلَوْ طَلَّقَهَا بَعْدَ الرَّجْعَةِ ، اسْتَأْنَفَتْ الْعِدَّةَ ، فَهَاهُنَا أَوْلَى .
وَلَنَا ، أَنَّهُ طَلَاقٌ مِنْ نِكَاحٍ لَمْ يُصِبْهَا فِيهِ ، فَلَمْ تَجِبْ بِهِ عِدَّةٌ ، كَمَا لَوْ نَكَحَهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا .
وَفَارَقَ الرَّجْعَةَ ؛ لِأَنَّهَا رَدَّتْ الْمَرْأَةَ إلَى النِّكَاحِ الْأَوَّلِ ، فَكَانَ الطَّلَاقُ الثَّانِي فِي نِكَاحٍ اتَّصَلَ بِهِ الدُّخُولُ ، وَهَذَا النِّكَاحُ جَدِيدٌ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ مِنْ الْأَوَّلِ ، وَلَمْ يُوجَدْ فِيهِ دُخُولٌ ، فَأَشْبَهَ التَّزْوِيجَ بَعْدَ قَضَاءِ الْعِدَّةِ .
وَأَمَّا بِنَاؤُهَا عَلَى الْعِدَّةِ الْأُولَى ، فَلِأَنَّهَا إنَّمَا قُطِعَ فِي حُكْمِهَا النِّكَاحُ ، وَقَدْ زَالَ ، فَيَعُودُ إلَيْهَا .
وَلَوْ أَسْلَمَتْ زَوْجَتُهُ ثُمَّ أَسْلَمَ فِي عِدَّتِهَا ، أَوْ أَسْلَمَ هُوَ ثُمَّ أَسْلَمَتْ هِيَ فِي عِدَّتِهَا ، وَطَلَّقَهَا قَبْلَ وَطْئِهِ أَوْ بَعْدَهُ ، أَوْ ارْتَدَّتْ ثُمَّ أَسْلَمَتْ ثُمَّ طَلَّقَهَا ، فَعَلَيْهَا عِدَّةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ ، بِلَا خِلَافٍ ؛ لِأَنَّهُ طَلَاقٌ فِي نِكَاحٍ وَطِئَ فِيهِ ، أَشْبَهَ الطَّلَاقَ فِي النِّكَاحِ الْأَوَّلِ .

( 6099 ) فَصْلٌ : وَمَتَى وَطِئَ الرَّجْعِيَّةَ ، وَقُلْنَا : إنَّ الْوَطْءَ لَا تَحْصُلُ بِهِ الرَّجْعَةُ ، فَعَلَيْهَا أَنْ تَسْتَأْنِفَ الْعِدَّةَ مِنْ الْوَطْءِ ، وَيَدْخُلَ فِيهَا بَقِيَّةُ عِدَّةِ الطَّلَاقِ ؛ لِأَنَّهُمَا عِدَّتَانِ مِنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ ، فَتَدَاخَلَتَا ، كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً فَلَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا حَتَّى طَلَّقَهَا ، وَلَهُ ارْتِجَاعُهَا فِي بَقِيَّةِ الْعِدَّةِ الْأُولَى ؛ لِأَنَّهَا عِدَّةٌ مِنْ الطَّلَاقِ ، فَإِذَا مَضَتْ الْبَقِيَّةُ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ ارْتِجَاعُهَا فِي بَقِيَّةِ عِدَّةِ الْوَطْءِ ؛ لِأَنَّهَا عِدَّةٌ مِنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ ، فَإِنْ حَبِلَتْ مِنْ الْوَطْءِ ، صَارَتْ فِي عِدَّةِ الْوَطْءِ ، وَتَدْخُلُ فِيهَا الْبَقِيَّةُ الْأُولَى ؛ لِأَنَّهُمَا عِدَّتَانِ لِوَاحِدٍ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَا بِالْأَقْرَاءِ ، وَتَنْقَضِي الْعِدَّتَانِ جَمِيعًا بِوَضْعِ الْحَمْلِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَبَعَّضُ ، وَلَهُ مُرَاجَعَتُهَا قَبْلَ وَضْعِهِ ؛ لِأَنَّهَا فِي عِدَّةٍ مِنْ الطَّلَاقِ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَتَدَاخَلَا ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ جِنْسَيْنِ .
فَعَلَى هَذَا تَصِيرُ مُعْتَدَّةً مِنْ الْوَطْءِ خَاصَّةً .
وَهَلْ لَهُ رَجْعَتُهَا فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ، مَضَى تَوْجِيهُهُمَا فِيمَا إذَا حَمَلَتْ مِنْ وَطْءِ زَوْجٍ ثَانٍ ، فَإِذَا وَضَعَتْ أَتَمَّتْ عِدَّةَ الطَّلَاقِ ، وَلَهُ ارْتِجَاعُهَا فِي هَذِهِ الْبَقِيَّةِ ؛ لِأَنَّهَا مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ .
وَلَوْ طَلَّقَهَا حَامِلًا ، ثُمَّ وَطِئَهَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ مِنْهُمَا جَمِيعًا .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَسْتَأْنِفَ عِدَّةً لِلْوَطْءِ بَعْدَ وَضَعَ الْحَمْلِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا .
وَلَا رَجْعَةَ لَهُ بَعْدَ وَضْعِ الْحَمْلِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِكُلِّ حَالٍ .
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْفَصْلِ كُلِّهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا سَوَاءً .

( 6100 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : وَإِذَا طَلَّقَهَا ، ثُمَّ أَشْهَدْ عَلَى الْمُرَاجَعَةِ مِنْ حَيْثُ لَا تَعْلَمُ ، فَاعْتَدَّتْ ، ثُمَّ نَكَحَتْ مَنْ أَصَابَهَا ، رُدَّتْ إلَيْهِ ، وَلَا يُصِيبُهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ ، وَالْأُخْرَى هِيَ زَوْجَةُ الثَّانِي وَجُمْلَةُ ذَلِكَ ، أَنَّ زَوْجَ الرَّجْعِيَّةِ إذَا رَاجَعَهَا ، وَهِيَ لَا تَعْلَمُ ، صَحَّتْ الْمُرَاجَعَةُ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَفْتَقِرُ إلَى رِضَاهَا ، فَلَمْ تَفْتَقِرْ إلَى عِلْمِهَا كَطَلَاقِهَا .
فَإِذَا رَاجَعَهَا وَلَمْ تَعْلَمْ ، فَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا ، وَتَزَوَّجَتْ ، ثُمَّ جَاءَ وَادَّعَى أَنَّهُ كَانَ رَاجَعَهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ ، ثَبَتَ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ ، وَأَنَّ نِكَاحَ الثَّانِي فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّهُ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ غَيْرِهِ ، وَتُرَدُّ إلَى الْأَوَّلِ ، سَوَاءٌ دَخَلَ بِهَا الثَّانِي أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا .
هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ ؛ مِنْهُمْ الثَّوْرِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو عُبَيْدٍ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ، - رَحِمَهُ اللَّهُ - ، رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ ، إنْ دَخَلَ بِهَا الثَّانِي فَهِيَ امْرَأَتُهُ ، وَيَبْطُلُ نِكَاحُ الْأَوَّلِ .
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ .
وَرُوِيَ مَعْنَاهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ ، وَنَافِعٍ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَقَدَ عَلَيْهَا ، وَهِيَ مِمَّنْ يَجُوزُ لَهُ الْعَقْدُ فِي الظَّاهِرِ ، وَمَعَ الثَّانِي مَزِيَّةُ الدُّخُولِ ، فَقُدِّمَ بِهَا .
وَلَنَا أَنَّ الرَّجْعَةَ قَدْ صَحَّتْ ، وَتَزَوَّجَتْ وَهِيَ زَوْجَةُ الْأَوَّلِ ، فَلَمْ يَصِحَّ نِكَاحُهَا ، كَمَا لَوْ لَمْ يُطَلِّقْهَا .
فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي مَا دَخَلَ بِهَا ، فُرِّقَ بَيْنَهُمَا ، وَرُدَّتْ إلَى الْأَوَّلِ ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الثَّانِي .
وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا ، فَلَهَا عَلَيْهِ مَهْرُ الْمِثْلِ ؛ لِأَنَّ هَذَا وَطْءُ شُبْهَةٍ ، وَتَعْتَدُّ ،

وَلَا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا مِنْهُ .
وَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ قَبْلَ دُخُولِ الثَّانِي بِهَا ، رُدَّتْ إلَى الْأَوَّلِ ، بِغَيْرِ خِلَافٍ فِي الْمَذْهَبِ .
وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ .
وَأَمَّا إنْ تَزَوَّجَهَا مَعَ عِلْمِهَا بِالرَّجْعَةِ ، أَوْ عِلْمِ أَحَدِهِمَا ، فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ بِغَيْرِ خِلَافٍ ، وَالْوَطْءُ مُحَرَّمٌ عَلَى مَنْ عَلِمَ مِنْهُمَا ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ الزَّانِي فِي الْحَدِّ وَغَيْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَ امْرَأَةَ غَيْرِهِ مَعَ عِلْمِهِ .
فَأَمَّا إنْ لَمْ يَكُنْ لِمُدَّعِي الرَّجْعَةِ بَيِّنَةٌ ، فَأَنْكَرَهُ أَحَدُهُمَا ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ ، وَلَكِنْ إنْ أَنْكَرَاهُ جَمِيعًا ، فَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ فِي حَقِّهِمَا ، وَإِنْ اعْتَرَفَا لَهُ بِالرَّجْعَةِ ، ثَبَتَتْ ، وَالْحُكْمُ فِيهِ كَمَا لَوْ قَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ سَوَاءً .
وَإِنْ أَقَرَّ لَهُ الزَّوْجُ وَحْدَهُ ، فَقَدْ اعْتَرَفَ بِفَسَادِ نِكَاحِهِ ، فَتَبِينُ مِنْهُ ، وَعَلَيْهِ مَهْرُهَا إنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ ، أَوْ نِصْفُهُ إنْ كَانَ قَبْلَهُ ، لِأَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ عَلَى الْمَرْأَةِ فِي إسْقَاطِ حَقِّهَا عَنْهُ ، وَلَا تُسَلَّمُ الْمَرْأَةُ إلَى الْمُدَّعِي ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُ الزَّوْجِ الثَّانِي عَلَيْهَا ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ فِي حَقِّهِ ، وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهَا .
وَهَلْ هُوَ مَعَ يَمِينِهَا أَوْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا لَا تَسْتَحْلِفُ ؛ لِأَنَّهَا لَوْ أَقَرَّتْ ، لَمْ يُقْبَلْ إقْرَارُهَا ، فَإِذَا أَنْكَرَتْ لَمْ تَجِبْ الْيَمِينُ بِإِنْكَارِهَا .
وَإِنْ اعْتَرَفَتْ الْمَرْأَةُ وَأَنْكَرَ الزَّوْجُ ، لَمْ يُقْبَلْ اعْتِرَافُهَا عَلَى الزَّوْجِ فِي فَسْخِ النِّكَاحِ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهَا إنَّمَا يُقْبَلُ عَلَى نَفْسِهَا فِي حَقِّهَا .
وَهَلْ يُسْتَحْلَفُ ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُسْتَحْلَفُ .
اخْتَارَهُ الْقَاضِي ؛ لِأَنَّهُ دَعْوَى فِي النِّكَاحِ ، فَلَمْ يُسْتَحْلَفْ ، كَمَا لَوْ ادَّعَى زَوْجِيَّةَ امْرَأَةٍ فَأَنْكَرَتْهُ .
وَالثَّانِي ، يُسْتَحْلَفُ .
قَالَ الْقَاضِي : وَهُوَ قَوْلُ الْخِرَقِيِّ ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { : وَلَكِنَّ

الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ } .
وَلِأَنَّهُ دَعْوَى فِي حَقِّ آدَمِيٍّ ، فَيُسْتَحْلَفُ فِيهِ كَالْمَالِ .
فَإِنْ حَلَفَ فَيَمِينُهُ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ ؛ لِأَنَّهُ عَلَى نَفْيِ فِعْلِ الْغَيْرِ .
فَإِنْ زَالَ نِكَاحُهُ بِطَلَاقٍ ، أَوْ فَسْخٍ ، أَوْ مَوْتٍ ، رُدَّتْ إلَى الْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ رَدِّهَا إنَّمَا كَانَ لِحَقِّ الثَّانِي ، فَإِذَا زَالَ ، زَالَ الْمَانِعُ ، وَحُكِمَ بِأَنَّهَا زَوْجَةُ الْأَوَّلِ ، كَمَا لَوْ شَهِدَ بِحُرِّيَّةِ عَبْدٍ ثُمَّ اشْتَرَاهُ ، عَتَقَ عَلَيْهِ .
وَلَا يَلْزَمُهَا لِلْأَوَّلِ مَهْرٌ بِحَالٍ .
وَذَكَرَ الْقَاضِي ، أَنَّ عَلَيْهَا لَهُ مَهْرًا .
وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهَا أَقَرَّتْ أَنَّهَا حَالَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بُضْعِهَا بِغَيْرِ حَقٍّ ، فَأَشْبَهَ شُهُودَ الطَّلَاقِ إذَا رَجَعُوا .
وَلَنَا أَنَّ مِلْكَهَا اسْتَقَرَّ عَلَى الْمَهْرِ ، فَلَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَيْهَا ، كَمَا لَوْ ارْتَدَّتْ ، أَوْ أَسْلَمَتْ ، أَوْ قَتَلَتْ نَفْسَهَا ، فَإِنْ مَاتَ الْأَوَّلُ وَهِيَ فِي نِكَاحِ الثَّانِي ، فَيَنْبَغِي أَنْ تَرِثَهُ ؛ لِإِقْرَارِهِ بِزَوْجِيَّتِهَا ، أَوْ إقْرَارِهَا بِذَلِكَ .
وَإِنْ مَاتَتْ ، لَمْ يَرِثْهَا ، لِأَنَّهَا لَا تُصَدَّقُ فِي إبْطَالِ مِيرَاثِ الزَّوْجِ الثَّانِي ، كَمَا لَمْ تُصَدَّقْ فِي إبْطَالِ نِكَاحِهِ ، وَيَرِثُهَا الزَّوْجُ الثَّانِي ؛ لِذَلِكَ .
وَإِنْ مَاتَ الزَّوْجُ الثَّانِي ، لَمْ تَرِثْهُ ؛ لِأَنَّهَا تُنْكِرُ صِحَّةَ نِكَاحِهِ فَتُنْكِرُ مِيرَاثَهُ .

( 6101 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : وَإِذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ، وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا مِنْهُ ، ثُمَّ أَتَتْهُ فَذَكَرَتْ أَنَّهَا نَكَحَتْ مَنْ أَصَابَهَا ، ثُمَّ طَلَّقَهَا ، أَوْ مَاتَ عَنْهَا ، وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا مِنْهُ ، وَكَانَ ذَلِكَ مُمْكِنًا ، فَلَهُ أَنْ يَنْكِحهَا إذَا كَانَ يَعْرِفُ مِنْهَا الصِّدْقَ وَالصَّلَاحَ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ عِنْدَهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ ، لَمْ يَنْكِحْهَا حَتَّى يَصِحَّ عِنْدَهُ قَوْلُهَا وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ الْمَبْتُوتَةَ ، إذَا مَضَى زَمَنٌ بَعْدَ طَلَاقِهَا ، يُمْكِنُ فِيهِ انْقِضَاءُ عِدَّتَيْنِ بَيْنَهُمَا نِكَاحٌ وَوَطْءٌ ، فَأَخْبَرَتْهُ بِذَلِكَ ، وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ صِدْقُهَا ؛ إمَّا لِمَعْرِفَتِهِ بِأَمَانَتِهَا ، أَوْ بِخَبَرِ غَيْرِهَا مِمَّنْ يَعْرِفُ حَالَهَا ، فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ ؛ مِنْهُمْ الْحَسَنُ ، وَقَتَادَةُ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو عُبَيْدٍ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ مُؤْتَمَنَةٌ عَلَى نَفْسِهَا ، وَعَلَى مَا أَخْبَرَتْ بِهِ عَنْهَا ، وَلَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَةِ هَذِهِ الْحَالِ عَلَى الْحَقِيقَةِ إلَّا مِنْ جِهَتِهَا ، فَيَجِبُ الرُّجُوعُ إلَى قَوْلِهَا ، كَمَا لَوْ أَخْبَرَتْ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا .
فَأَمَّا إنْ لَمْ يَعْرِفْ مَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ صِدْقُهَا ، لَمْ يَحِلَّ لَهُ نِكَاحُهَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَهُ نِكَاحُهَا ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَوَّلًا ، وَالْوَرَعُ أَنْ لَا يَنْكِحَهَا .
وَلَنَا أَنَّ الْأَصْلَ التَّحْرِيمُ ، وَلَمْ يُوجَدْ غَلَبَةُ ظَنٍّ تَنْقُلُ عَنْهُ ، فَوَجَبَ الْبَقَاءُ عَلَيْهِ ، كَمَا لَوْ أَخْبَرَهُ فَاسِقٌ عَنْهَا .

فَصْلٌ : وَإِذَا أَخْبَرَتْ أَنَّ الزَّوْجَ أَصَابَهَا ، فَأَنْكَرَ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا فِي حِلِّهَا لِلْأَوَّلِ ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ فِي الْمَهْرِ ، وَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا نِصْفُهُ إذَا لَمْ يُقِرَّ بِالْخَلْوَةِ بِهَا .
فَإِنْ قَالَ الزَّوْجُ الْأَوَّلُ : أَنَا أَعْلَمُ أَنَّهُ مَا أَصَابَهَا .
لَمْ يَحِلَّ لَهُ نِكَاحُهَا ؛ لِأَنَّهُ يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ بِتَحْرِيمِهَا .
فَإِنْ عَادَ فَأَكْذَبَ نَفْسَهُ وَقَالَ : قَدْ عَلِمْت صِدْقَهَا .
دُيِّنَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْن اللَّه تَعَالَى ؛ لِأَنَّ الْحِلَّ وَالْحُرْمَةَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى .
فَإِذَا عَلِمَ حِلَّهَا لَهُ ، لَمْ تَحْرُمْ بِكَذِبِهِ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَلِأَنَّهُ قَدْ يَعْلَمُ مَا لَمْ يَكُنْ عَلِمَهُ .
وَلَوْ قَالَ : مَا أَعْلَمُ أَنَّهُ أَصَابَهَا .
لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ بِهَذَا ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي حِلِّهَا لَهُ خَبَرٌ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ صِدْقُهُ ، لَا حَقِيقَةُ الْعِلْمِ .

( 6103 ) فَصْلٌ : وَإِذَا طَلَّقَهَا طَلَاقًا رَجْعِيًّا ، وَغَابَ ، وَقَضَتْ عِدَّتَهَا ، وَأَرَادَتْ التَّزَوُّجَ ، فَقَالَ وَكِيلُهُ : تَوَقَّفِي كَيْ لَا يَكُونَ رَاجَعَك .
لَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا التَّوَقُّفُ ، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الرَّجْعَةِ ، وَحِلُّ النِّكَاحِ ، فَلَا يَجِبُ الزَّوَالُ عَنْهُ بِأَمْرِ مَشْكُوكٍ فِيهِ ، وَلِأَنَّهُ أَمْرٌ لَوْ وَجَبَ عَلَيْهَا التَّوَقُّفُ فِي هَذِهِ الْحَالِ ، لَوَجَبَ عَلَيْهَا التَّوَقُّفُ قَبْلَ قَوْلِهِ ؛ لِأَنَّ احْتِمَالَ الرَّجْعَةِ مَوْجُودٌ ، سَوَاءٌ قَالَ أَوْ لَمْ يَقُلْ ، فَيُفْضِي إلَى تَحْرِيمِ النِّكَاحِ عَلَى كُلِّ رَجْعِيَّةٍ غَابَ عَنْهَا زَوْجُهَا أَبَدًا .

( 6104 ) فَصْلٌ : فَإِذَا قَالَتْ : قَدْ تَزَوَّجْت مَنْ أَصَابَنِي .
ثُمَّ رَجَعَتْ عَنْ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَعْقِدَ عَلَيْهَا ، لَمْ يَجُزْ الْعَقْدُ ، لِأَنَّ الْخَبَرَ الْمُبِيحَ لِلْعَقْدِ قَدْ زَالَ ، فَزَالَتْ الْإِبَاحَةُ .
وَإِنْ كَانَ بَعْدَ مَا عَقَدَ عَلَيْهَا ، لَمْ يُقْبَلْ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إبْطَالٌ لِلْعَقْدِ الَّذِي لَزِمَهَا بِقَوْلِهَا ، فَلَمْ يُقْبَلْ ، كَمَا لَوْ ادَّعَى زَوْجِيَّةَ امْرَأَةٍ ، فَأَقَرَّتْ لَهُ بِذَلِكَ ، ثُمَّ رَجَعَتْ عَنْ الْإِقْرَارِ .

كِتَابُ الْإِيلَاءِ الْإِيلَاءُ فِي اللُّغَةِ : الْحَلِفُ .
يُقَالُ : آلَى يُولِي إيلَاءً وَأَلِيَّةً .
وَجَمْعُ الْأَلِيَّةِ أَلَايَا ، قَالَ الشَّاعِرُ : قَلِيلُ الْأَلَايَا حَافِظٌ لِيَمِينِهِ إذَا صَدَرَتْ مِنْهُ الْأَلِيَّةُ بَرَّتْ وَيُقَالُ : تَأَلَّى يَتَأَلَّى .
وَفِي الْخَبَرِ : { مَنْ يَتَأَلَّ عَلَى اللَّهِ يُكْذِبُهُ } .
فَأَمَّا الْإِيلَاءُ فِي الشَّرْعِ ، فَهُوَ الْحَلِفُ عَلَى تَرْكِ وَطْءِ الْمَرْأَةِ .
وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى { : لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ } .
وَكَانَ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَآنِ : " يُقْسِمُونَ " .
( 6105 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : وَالْمُولِي الَّذِي يَحْلِفُ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ لَا يَطَأَ زَوْجَتَهُ أَكْثَرِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَجُمْلَتُهُ أَنَّ شُرُوطَ الْإِيلَاءِ أَرْبَعَةٌ أَحَدُهَا ، أَنْ يَحْلِفَ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ .
وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أَنَّ الْحَلِفَ بِذَلِكَ إيلَاءٌ .
فَأَمَّا إنْ حَلَفَ عَلَى تَرْكِ الْوَطْءِ بِغَيْرِ هَذَا ، مِثْلُ أَنْ حَلَفَ بِطَلَاقِ ، أَوْ عَتَاقٍ ، أَوْ صَدَقَةِ الْمَالِ ، أَوْ الْحَجِّ ، أَوْ الظِّهَارِ ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ ؛ إحْدَاهُمَا ، لَا يَكُونُ مُولِيًا وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ الْقَدِيمِ .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ ، هُوَ مُولٍ .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّهُ قَالَ : كُلُّ يَمِينٍ مَنَعَتْ جِمَاعَهَا ، فَهِيَ إيلَاءٌ .
وَبِذَلِكَ قَالَ الشَّعْبِيُّ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَمَالِكٌ ، وَأَهْلُ الْحِجَازِ وَالثَّوْرِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَأَهْلُ الْعِرَاقِ وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَأَبُو عُبَيْدٍ ، وَغَيْرُهُمْ ؛ لِأَنَّهَا يَمِينٌ مَنَعَتْ جِمَاعَهَا فَكَانَتْ إيلَاءً ، كَالْحَلِفِ بِاَللَّهِ تَعَالَى ، وَلِأَنَّ تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ عَلَى وَطْئِهَا حَلِفٌ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ : مَتَى حَلَفْت بِطَلَاقِك ، فَأَنْتِ طَالِقٌ .
ثُمَّ قَالَ : إنْ وَطِئْتُك ، فَأَنْتِ طَالِقٌ .
طَلُقَتْ فِي الْحَالِ .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : كُلُّ يَمِينٍ مِنْ حَرَامٍ أَوْ غَيْرِهَا ، يَجِبُ بِهَا كَفَّارَةٌ ، يَكُونُ

الْحَالِفُ بِهَا مُولِيًا .
وَأَمَّا الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ ، فَلَيْسَ الْحَلِفُ بِهِ إيلَاءً ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ آدَمِيٍّ ، وَمَا أَوْجَبَ كَفَّارَةً تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى .
وَالرِّوَايَةُ الْأُولَى هِيَ الْمَشْهُورَةُ ؛ لِأَنَّ الْإِيلَاءَ الْمُطْلَقَ إنَّمَا هُوَ الْقَسَمُ ، وَلِهَذَا قَرَأَ أُبَيٍّ وَابْنُ عَبَّاسٍ " يُقْسِمُونَ " .
مَكَانَ : يُؤْلُونَ .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ يُؤْلُونَ .
قَالَ : يَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ .
هَكَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتَّعْلِيقُ بِشَرْطٍ لَيْسَ بِقَسَمٍ وَلِهَذَا لَا يُؤْتَى فِيهِ بِحَرْفِ الْقَسَمِ ، وَلَا يُجَابُ بِجَوَابِهِ ، وَلَا يَذْكُرُهُ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي بَابِ الْقَسَمِ ، فَلَا يَكُونُ إيلَاءً ، وَإِنَّمَا يُسَمَّى حَلِفًا تَجَوُّزًا ، لِمُشَارَكَتِهِ الْقَسَمَ فِي الْمَعْنَى الْمَشْهُورِ فِي الْقَسَمِ ، وَهُوَ الْحَثُّ عَلَى الْفِعْلِ أَوْ الْمَنْعِ مِنْهُ ، أَوْ تَوْكِيدُ الْخَبَرِ ، وَالْكَلَامُ عِنْدَ إطْلَاقِهِ لِحَقِيقَتِهِ ؛ وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى { : فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
وَإِنَّمَا يَدْخُلُ الْغُفْرَانُ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ .
وَأَيْضًا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ } .
وَقَوْلُهُ : { إِن اللَّه يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ غَيْرَ الْقَسَمِ حَلِفٌ ، لَكِنَّ الْحَلِفُ بِإِطْلَاقِهِ إنَّمَا يَنْصَرِفُ إلَى الْقَسَمِ ، وَإِنَّمَا يُصْرَفُ إلَى غَيْرِ الْقَسَمِ بِدَلِيلٍ ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْقَسَمَ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ لَا يَكُونُ إيلَاءً ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ كَفَّارَةً وَلَا شَيْئًا يَمْنَعُ مِنْ الْوَطْءِ ، فَلَا يَكُونُ إيلَاءً ، كَالْخَبَرِ بِغَيْرِ الْقَسَمِ .
وَإِذَا قُلْنَا بِالرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ فَلَا يَكُونُ مُولِيًا إلَّا أَنْ يَحْلِفَ بِمَا يَلْزَمُهُ بِالْحِنْثِ فِيهِ حَقٌّ كَقَوْلِهِ : إنْ وَطِئْتُك فَعَبْدِي حُرٌّ .
أَوْ : فَأَنْتِ طَالِقٌ .
أَوْ : فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي .
أَوْ : فَأَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ

.
أَوْ : فَلِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ سَنَةٍ أَوْ الْحَجُّ أَوْ صَدَقَةٌ .
فَهَذَا يَكُونُ إيلَاءً ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ بِوَطْئِهَا حَقٌّ يَمْنَعُهُ مِنْ وَطْئِهَا خَوْفُهُ مِنْ وُجُوبِهِ .
وَإِنْ قَالَ : إنْ وَطِئْتُك فَأَنْتِ زَانِيَةٌ .
لَمْ يَكُنْ مُولِيًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ بِالْوَطْءِ حَقٌّ ، وَلَا يَصِيرُ قَاذِفًا بِالْوَطْءِ ؛ لِأَنَّ الْقَذْفَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالشَّرْطِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَصِيرَ زَانِيَةً بِوَطْئِهِ لَهَا ، كَمَا لَا تَصِيرُ زَانِيَةً بِطُلُوعِ الشَّمْسِ .
وَإِنْ قَالَ : إنْ وَطِئْتُك ، فَلِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ هَذَا الشَّهْرِ .
لَمْ يَكُنْ مُولِيًا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَطِئَهَا بَعْدَ مُضِيِّهِ ، لَمْ يَلْزَمْهُ حَقٌّ ، فَإِنَّ صَوْمُ هَذَا الشَّهْرِ لَا يُتَصَوَّرُ بَعْدَ مُضِيِّهِ ، فَلَا يُلْزَمُ بِالنَّذْرِ ، كَمَا لَوْ قَالَ : إنْ وَطِئْتُك ، فَلِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ أَمْسِ .
وَإِنْ قَالَ : إنْ وَطِئْتُك ، فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُصَلِّيَ عِشْرِينَ رَكْعَةً .
كَانَ مُولِيًا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَكُونُ مُولِيًا ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مَالٌ ، وَلَا تَتَعَلَّقُ بِمَالٍ ، فَلَا يَكُونُ الْحَالِفُ بِهَا مُولِيًا ، كَمَا لَوْ قَالَ : إنْ وَطِئْتُك ، فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَمْشِيَ فِي السُّوقِ .
وَلَنَا ، أَنَّ الصَّلَاةَ تَجِبُ بِالنَّذْرِ ، فَكَانَ الْحَالِفُ بِهَا مُولِيًا ، كَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ ، وَمَا ذَكَرَهُ لَا يَصِحُّ ؛ فَإِنَّ الصَّلَاةَ تَحْتَاجُ إلَى الْمَاءِ وَالسُّتْرَةِ .
وَأَمَّا الْمَشْيُ فِي السُّوقِ ، فَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ ، أَنَّهُ يَكُونُ مُولِيًا ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ بِالْحِنْثِ فِي هَذَا النَّذْرِ أَحَدُ شَيْئَيْنِ ؛ : إمَّا الْكَفَّارَةُ ، وَإِمَّا الْمَشْيُ ، فَقَدْ صَارَ الْحِنْثُ مُوجِبًا لِحَقٍّ عَلَيْهِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مُولِيًا بِنَذْرِ فِعْلِ الْمُبَاحَاتِ وَالْمَعَاصِي أَيْضًا ، فَإِنَّ نَذْرَ الْمَعْصِيَةِ مُوجِبٌ لِلْكَفَّارَةِ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ ، وَإِنْ سَلَّمْنَا ، فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَشْيَ لَا يَجِبُ بِالنَّذْرِ ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا .
وَإِذَا اسْتَثْنَى فِي يَمِينِهِ ، لَمْ يَكُنْ مُولِيًا فِي قَوْلِ

الْجَمِيعِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ بِالْحِنْثِ ، فَلَمْ يَكُنْ الْحِنْثُ مُوجِبًا لِحَقٍّ عَلَيْهِ .
وَهَذَا إذَا كَانَتْ الْيَمِينُ بِاَللَّهِ تَعَالَى ، أَوْ كَانَتْ يَمِينًا مُكَفِّرَةً ، فَأَمَّا الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ ، فَمَنْ جَعَلَ الِاسْتِثْنَاءَ فِيهِمَا غَيْرَ مُؤَثِّرٍ ، فَوُجُودُهُ كَعَدَمِهِ ، وَيَكُونُ مُولِيًا بِهِمَا ، سَوَاءٌ اسْتَثْنَى أَوْ لَمْ يَسْتَثْنِ .

( 6106 ) فَصْلٌ : الشَّرْطُ الثَّانِي ، أَنْ يَحْلِفَ عَلَى تَرْكِ الْوَطْءِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ .
وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَطَاوُسٍ ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، وَمَالِكٍ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَبِي ثَوْرٍ ، وَأَبِي عُبَيْدٍ .
وَقَالَ عَطَاءٌ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ : إذَا حَلَفَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَمَا زَادَ ، كَانَ مُولِيًا .
وَحَكَى ذَلِكَ الْقَاضِي وَأَبُو الْحُسَيْنِ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ ؛ لِأَنَّهُ مُمْتَنِعٌ مِنْ الْوَطْءِ بِالْيَمِينِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ، فَكَانَ مُولِيًا ، كَمَا لَوْ حَلَفَ عَلَى مَا زَادَ .
وَقَالَ النَّخَعِيُّ ، وَقَتَادَةُ ، وَحَمَّادٌ ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى ، وَإِسْحَاقُ : مَنْ حَلَفَ عَلَى تَرْكِ الْوَطْءِ فِي قَلِيلٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ أَوْ كَثِيرٍ ، وَتَرَكَهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ، فَهُوَ مُولٍ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { : لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ } .
وَهَذَا مُولٍ ؛ فَإِنَّ الْإِيلَاءَ الْحَلِفُ ، وَهَذَا حَالِفٌ وَلَنَا أَنَّهُ لَمْ يَمْنَعْ نَفْسَهُ مِنْ الْوَطْءِ بِالْيَمِينِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ، فَلَمْ يَكُنْ مُولِيًا ، كَمَا لَوْ حَلَفَ عَلَى تَرْكِ قُبْلَتِهَا .
وَالْآيَةُ حُجَّةٌ لَنَا ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ لَهُ تَرَبُّصَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ، فَإِذَا حَلَفَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ أَوْ مَا دُونَهَا ، فَلَا مَعْنَى لِلتَّرَبُّصِ ؛ لِأَنَّ مُدَّةَ الْإِيلَاءِ تَنْقَضِي قَبْلَ ذَلِكَ وَمَعَ انْقِضَائِهِ .
وَتَقْدِيرُ التَّرَبُّصِ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ يَقْتَضِي كَوْنَهُ فِي مُدَّةٍ تَنَاوَلَهَا الْإِيلَاءُ ، وَلِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ إنَّمَا تَكَوُّنُ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ، فَإِذَا انْقَضَتْ الْمُدَّةُ بِأَرْبَعَةِ فَمَا دُونَ ، لَمْ تَصِحَّ الْمُطَالَبَةُ مِنْ غَيْرِ إيلَاءٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَنْ وَافَقَهُ بَنَوْا ذَلِكَ عَلَى قَوْلِهِمْ فِي الْفَيْئَةِ إنَّهَا تَكُونُ فِي مُدَّةِ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ خِلَافُهُ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ { : لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ، فَإِنْ فَاءُوا } .
فَعَقَّبَ الْفَيْءَ عَقِيبَ

التَّرَبُّصِ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ ، فَيَدُلُّ عَلَى تَأَخُّرِهَا عَنْهُ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَحُكِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّ الْمُولِيَ مَنْ يَحْلِفُ عَلَى تَرْكِ الْوَطْءِ أَبَدًا أَوْ مُطْلَقًا ؛ لِأَنَّهُ إذَا حَلَفَ عَلَى مَا دُونَ ذَلِكَ ، أَمْكَنَهُ التَّخَلُّصُ بِغَيْرِ حِنْثٍ ، فَلَمْ يَكُنْ مُولِيًا ، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا وَطِئَهَا فِي مَدِينَةٍ بِعَيْنِهَا .
وَلَنَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ التَّخَلُّصُ بَعْدَ التَّرَبُّصِ مِنْ يَمِينِهِ بِغَيْرِ حِنْثٍ ، فَأَشْبَهَ الْمُطَلَّقَةَ ، بِخِلَافِ الْيَمِينِ عَلَى مَدِينَةٍ مُعَيَّنَةٍ ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُ التَّخَلُّصُ بِغَيْرِ الْحِنْثِ ، وَلِأَنَّ الْأَرْبَعَةَ الْأَشْهُرَ مُدَّةٌ تَتَضَرَّرُ الْمَرْأَةُ بِتَأْخِيرِ الْوَطْءِ عَنْهَا ، فَإِذَا حَلَفَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْهَا كَانَ مُولِيًا كَالْأَبَدِ .
وَدَلِيلُ الْوَصْفِ مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَطُوفُ لَيْلَةً فِي الْمَدِينَةِ ، فَسَمِعَ امْرَأَةً تَقُولُ : تَطَاوَلَ هَذَا اللَّيْلُ وَازْوَرَّ جَانِبُهْ وَلَيْسَ إلَى جَنْبِي خَلِيلٌ أُلَاعِبُهْ فَوَاَللَّهِ لَوْلَا اللَّهُ لَا شَيْءَ غَيْرُهُ لَزُعْزِعَ مِنْ هَذَا السَّرِيرِ جَوَانِبُهْ مَخَافَةُ رَبِّي وَالْحَيَاءُ يَكُفُّنِي وَأُكْرِمُ بَعْلِي أَنْ تُنَالَ مَرَاكِبُهْ فَسَأَلَ عُمَرُ نِسَاءً : كَمْ تَصْبِرُ الْمَرْأَةُ عَنْ الزَّوْجِ ؟ فَقُلْنَ : شَهْرَيْنِ ، وَفِي الثَّالِثِ يَقِلُّ الصَّبْرُ ، وَفِي الرَّابِعِ يَنْفَدُ الصَّبْرُ .
فَكَتَبَ إلَى أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ ، أَنْ لَا تَحْبِسُوا رَجُلًا عَنْ امْرَأَتِهِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ .

( 6107 ) فَصْلٌ : وَإِذَا عَلَّقَ الْإِيلَاء بِشَرْطِ مُسْتَحِيلٍ ، كَقَوْلِهِ : وَاَللَّهِ لَا وَطِئْتُك حَتَّى تَصْعَدِي السَّمَاءَ ، أَوْ تَقْلِبِي الْحَجَرَ ذَهَبًا ، أَوْ يَشِيبَ الْغُرَابُ .
فَهُوَ مُولٍ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ تَرْكُ وَطْئِهَا ؛ فَإِنَّ مَا يُرَادُ إحَالَةُ وُجُودِهِ يُعَلَّقُ عَلَى الْمُسْتَحِيلَاتِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْكُفَّارِ { : وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ } .
وَمَعْنَاهُ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ أَبَدًا .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إذَا شَابَ الْغُرَابُ أَتَيْت أَهْلِي وَصَارَ الْقَارُ كَاللَّبَنِ الْحَلِيبِ وَإِنْ قَالَ : وَاَللَّهِ لَا وَطِئْتُك حَتَّى تَحْبَلِي .
فَهُوَ مُولٍ ؛ لِأَنَّ حَبَلَهَا بِغَيْرِ وَطْءٍ مُسْتَحِيلٌ عَادَةً ، فَهُوَ كَصُعُودِ السَّمَاءِ .
وَقَالَ الْقَاضِي وَأَبُو الْخَطَّابِ ، وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : لَيْسَ بِمُولٍ إلَّا أَنْ تَكُونَ صَغِيرَةً يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهَا لَا تَحْمِلُ فِي أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ، أَوْ آيِسَةً ، فَأَمَّا إنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ ، فَلَا يَكُونُ مُولِيًا ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ حَمْلُهَا .
قَالَ الْقَاضِي وَإِذَا كَانَتْ الصَّغِيرَةُ بِنْتَ تِسْعِ سِنِينَ ، لَمْ يَكُنْ مُولِيًا ؛ لِأَنَّ حَمْلَهَا مُمْكِنٌ .
وَلَنَا ، أَنَّ الْحَمْلَ بِدُونِ الْوَطْءِ مُسْتَحِيلٌ عَادَةً ، فَكَانَ تَعْلِيقُ الْيَمِينِ عَلَيْهِ إيلَاءً ، كَصُعُودِ السَّمَاءِ .
وَدَلِيلُ اسْتِحَالَتِهِ قَوْلُ مَرْيَمَ { : أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا } .
وَقَوْلُهُمْ { : يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا } وَلَوْلَا اسْتِحَالَتُهُ لَمَا نَسَبُوهَا إلَى الْبِغَاءِ بِوُجُودِ الْوَلَدِ ، وَأَيْضًا قَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : الرَّجْمُ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى وَقَدْ أَحْصَنَ ، إذَا قَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ ، أَوْ كَانَ الْحَبَلُ ، أَوْ الِاعْتِرَافُ .
وَلِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ الْحَبَلَ لَا يُوجَدُ مِنْ غَيْرِ وَطْءٍ .
فَإِنْ قَالُوا : يُمْكِنُ حَبَلُهَا مِنْ وَطْءِ غَيْرِهِ ، أَوْ بِاسْتِدْخَالِ مَنِيِّهِ .
قُلْنَا : أَمَّا الْأَوَّلُ فَلَا

يَصِحُّ ؛ فَإِنَّهُ لَوْ صَرَّحَ بِهِ فَقَالَ : لَا وَطِئْتُك حَتَّى تَحْبَلِي مِنْ غَيْرِي ، أَوْ : مَا دُمْت فِي نِكَاحِي .
أَوْ : حَتَّى تَزْنِي .
كَانَ مُولِيًا ، وَلَوْ صَحَّ مَا ذَكَرُوهُ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا .
وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ مِنْ الْمُسْتَحِيلَاتِ عَادَةً ، إنْ وُجِدَ كَانَ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ ، بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَاهُ .
وَقَدْ قَالَ أَهْلُ الطِّبِّ : إنَّ الْمَنِيَّ إذَا بَرَدَ لَمْ يُخْلَقْ مِنْهُ وَلَدٌ .
وَصَحَّحَ قَوْلَهُمْ قِيَامُ الْأَدِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَا بَعْضَهَا ، وَجَرَيَانُ الْعَادَةِ عَلَى وَفْقِ مَا قَالُوهُ .
وَإِذَا كَانَ تَعْلِيقُهُ عَلَى مَوْتِهِ أَوْ مَوْتِهَا أَوْ مَوْتِ زَيْدٍ إيلَاءً ، فَتَعْلِيقُهُ عَلَى حَبَلِهَا بِغَيْرِ وَطْءٍ أَوْلَى .
وَإِنْ قَالَ : أَرَدْتُ بِقَوْلِي : حَتَّى تَحْبَلِي .
السَّبَبِيَّةَ ، وَلَمْ أُرِدْ الْغَايَةَ .
وَمَعْنَاهُ لَا أَطَؤُكِ لِتَحْبَلِي .
قُبِلَ مِنْهُ ، وَلَمْ يَكُنْ مُولِيًا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَالِفٍ عَلَى تَرْكِ الْوَطْءِ ، وَإِنَّمَا هُوَ حَالِفٌ عَلَى قَصْدِ تَرْكِ الْحَبَلِ بِهِ ، فَإِنَّ حَتَّى تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى السَّبَبِيَّةِ .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71