الكتاب : المغني
المؤلف : أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد ، الشهير بابن قدامة المقدسي

( 1363 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ أَتَى الْجُمُعَةَ أَنْ يَغْتَسِلَ ، وَيَلْبَسَ ثَوْبَيْنِ نَظِيفَيْنِ ، وَيَتَطَيَّبَ ) لَا خِلَافَ فِي اسْتِحْبَابِ ذَلِكَ ، وَفِيهِ آثَارٌ كَثِيرَةٌ صَحِيحَةٌ ، مِنْهَا مَا رَوَى سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَغْتَسِلُ رَجُلٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، وَيَتَطَهَّرُ مَا اسْتَطَاعَ مِنْ طُهْرٍ ، وَيَدَّهِنُ مِنْ دُهْنِهِ ، أَوْ يَمَسُّ مِنْ طِيبِ بَيْتِهِ ، ثُمَّ يَخْرُجُ ، فَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ اثْنَيْنِ ، ثُمَّ يُصَلِّي مَا كُتِبَ لَهُ ، ثُمَّ يُنْصِتُ إذَا تَكَلَّمَ الْإِمَامُ ، إلَّا غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى } .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَلَيْسَ ذَلِكَ بِوَاجِبٍ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : الْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ .
وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَمَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ ، وَقِيلَ : إنَّ هَذَا إجْمَاعٌ .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : أَجْمَعَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا عَلَى أَنَّ غُسْلَ الْجُمُعَةِ لَيْسَ بِفَرْضٍ وَاجِبٍ .
وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى ، أَنَّهُ وَاجِبٌ ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَعَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ وَقَاوَلَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ رَجُلًا ، فَقَالَ عَمَّارٌ : أَنَا إذًا أَشَرُّ مِمَّنْ لَا يَغْتَسِلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَوَجْهُهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { غُسْلُ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ } ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { : مَنْ أَتَى مِنْكُمْ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ } وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَغْتَسِلَ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا ، يَغْسِلُ رَأْسَهُ وَجَسَدَهُ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِنَّ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {

مَنْ تَوَضَّأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَبِهَا وَنِعْمَتْ ، وَمَنْ اغْتَسَلَ فَالْغُسْلُ أَفْضَلُ } رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ تَوَضَّأَ ، فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ، ثُمَّ أَتَى الْجُمُعَةَ فَاسْتَمَعَ وَأَنْصَتَ ، غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ ، وَزِيَادَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، وَمَنْ مَسَّ الْحَصَى فَقَدْ لَغَا } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ إجْمَاعٌ ، حَيْثُ قَالَ عُمَرُ لِعُثْمَانَ : أَيَّةُ سَاعَةٍ هَذِهِ ؟ فَقَالَ : إنِّي شُغِلْتُ الْيَوْمَ فَلَمْ أَنْقَلِبْ إلَى أَهْلِي حَتَّى سَمِعْتُ النِّدَاءَ ، فَلَمْ أَزِدْ عَلَى الْوُضُوءِ ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : وَالْوُضُوءُ أَيْضًا وَقَدْ عَلِمْتَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْمُرُ بِالْغُسْلِ ؟ } وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَرَدَّهُ ، وَلَمْ يَخْفَ عَلَى عُثْمَانَ وَعَلَى مَنْ حَضَرَ مِنْ الصَّحَابَةِ ، وَحَدِيثُهُمْ مَحْمُولٌ عَلَى تَأْكِيدِ النَّدْبِ ، وَلِذَلِكَ ذُكِرَ فِي سِيَاقِهِ : " وَسِوَاكٌ ، وَأَنْ يَمَسَّ طِيبًا " كَذَلِكَ رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَالسِّوَاكُ ، وَمَسُّ الطِّيبِ ، لَا يَجِبُ ، وَلِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَخْبَارِ ، وَقَالَتْ عَائِشَةُ : كَانَ النَّاسُ مَهَنَةَ أَنْفُسِهِمْ ، وَكَانُوا يَرُوحُونَ إلَى الْجُمُعَةِ بِهَيْئَتِهِمْ ، فَتَظْهَرُ لَهُمْ رَائِحَةٌ ، فَقِيلَ لَهُمْ : لَوْ اغْتَسَلْتُمْ .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِنَحْوِ هَذَا الْمَعْنَى ( 1364 ) فَصْلٌ : وَقْتُ الْغُسْلِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ ، فَمَنْ اغْتَسَلَ بَعْدَ ذَلِكَ أَجْزَأَهُ ، وَإِنْ اغْتَسَلَ قَبْلَهُ لَمْ يُجْزِئْهُ ، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ ، وَالْحَسَنِ ، وَالنَّخَعِيِّ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَإِسْحَاقَ وَحُكِيَ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ الْغُسْلُ قَبْلَ الْفَجْرِ .
وَعَنْ مَالِكٍ : أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ الْغُسْلُ إلَّا أَنْ يَتَعَقَّبَهُ الرَّوَاحُ .
وَلَنَا ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ } وَالْيَوْمُ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ ، وَإِنْ اغْتَسَلَ ، ثُمَّ

أَحْدَثَ ، أَجْزَأَهُ الْغُسْلُ ، وَكَفَاهُ الْوُضُوءُ ، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ ، وَالْحَسَنِ ، وَمَالِكٍ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ ، وَالشَّافِعِيِّ .
وَاسْتَحَبَّ طَاوُسٌ وَالزُّهْرِيُّ ، وَقَتَادَةُ ، وَيَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ ، إعَادَةَ الْغُسْلِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، فَدَخَلَ فِي عُمُومِ الْخَبَرِ ، وَأَشْبَهَ مَنْ لَمْ يُحْدِثْ ، وَالْحَدَثُ إنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي الطَّهَارَةِ الصُّغْرَى ، وَلَا يُؤَثِّرُ فِي الْمَقْصُودِ مِنْ الْغُسْلِ ، وَهُوَ التَّنْظِيفُ ، وَإِزَالَةُ الرَّائِحَةِ ، وَلِأَنَّهُ غُسْلٌ ، فَلَا يُؤَثِّرُ الْحَدَثُ فِي إبْطَالِهِ ، كَغُسْلِ الْجَنَابَةِ .
( 1365 ) فَصْلٌ : وَيَفْتَقِرُ الْغُسْلُ إلَى النِّيَّةِ ؛ لِأَنَّهُ عِبَادَةُ مَحْضَةٌ ، فَافْتَقَرَ إلَى النِّيَّةِ ، كَتَجْدِيدِ الْوُضُوءِ ، فَإِنْ اغْتَسَلَ لِلْجُمُعَةِ وَالْجَنَابَةِ غُسْلًا وَاحِدًا وَنَوَاهُمَا ، أَجْزَأَهُ ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَمَكْحُولٍ ، وَمَالِكٍ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَبِي ثَوْرٍ .
وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ غَسَّلَ وَاغْتَسَلَ } أَيْ : جَامَعَ وَاغْتَسَلَ ، وَلِأَنَّهُمَا غُسْلَانِ اجْتَمَعَا ، فَأَشْبَهَا غُسْلَ الْحَيْضِ وَالْجَنَابَةِ ، وَإِنْ اغْتَسَلَ لِلْجَنَابَةِ ، وَلَمْ يَنْوِ غُسْلَ الْجُمُعَةِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ ، أَحَدُهُمَا لَا يُجْزِئُهُ .
وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ بَنِي أَبِي قَتَادَةَ ، أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مُغْتَسِلًا ، فَقَالَ : لِلْجُمُعَةِ اغْتَسَلْتَ ؟ فَقَالَ : لَا ، وَلَكِنْ لِلْجَنَابَةِ .
قَالَ : فَأَعِدْ غُسْلَ الْجُمُعَةِ .
وَوَجْهُ ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى } .
وَالثَّانِي : يُجْزِئُهُ ، لِأَنَّهُ مُغْتَسِلٌ ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْحَدِيثِ ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ التَّنْظِيفُ ، وَهُوَ حَاصِلٌ بِهَذَا الْغُسْلِ ، وَقَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ الْحَدِيثِ : { مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ } ( 1366 ) فَصْلٌ : وَمَنْ لَا يَأْتِي

الْجُمُعَةَ فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ قَالَ أَحْمَدُ : لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ ، وَعَلَى قِيَاسِهِنَّ الصِّبْيَانُ وَالْمُسَافِرُ وَالْمَرِيضُ .
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ ، وَعَلْقَمَةُ ، لَا يَغْتَسِلَانِ فِي السَّفَرِ ، وَكَانَ طَلْحَةُ يَغْتَسِلُ وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ ، وَطَاوُسٍ ، وَلَعَلَّهُمْ أَخَذُوا بِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { غُسْلُ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ } وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَخْبَارِ الْعَامَّةِ .
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { مَنْ أَتَى الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ } وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ التَّنْظِيفُ ، وَقَطْعُ الرَّائِحَةِ حَتَّى لَا يَتَأَذَّى غَيْرُهُ بِهِ ، وَهَذَا مُخْتَصٌّ بِمَنْ أَتَى الْجُمُعَةَ ، وَالْأَخْبَارُ الْعَامَّةُ يُرَادُ بِهَا هَذَا ، وَلِهَذَا سَمَّاهُ غُسْلَ الْجُمُعَةِ ، وَمَنْ لَا يَأْتِيهَا لَا يَكُونُ غُسْلُهُ غُسْلَ الْجُمُعَةِ ، وَإِنْ أَتَاهَا أَحَدٌ مِمَّنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ اُسْتُحِبَّ لَهُ الْغُسْلُ لِعُمُومِ الْخَبَرِ ، وَوُجُودِ الْمَعْنَى فِيهِ .

( 1367 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَلْبَسَ ثَوْبَيْنِ نَظِيفَيْنِ ؛ لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ يَقُولُ : { مَا عَلَى أَحَدِكُمْ لَوْ اشْتَرَى ثَوْبَيْنِ لِيَوْمِ جُمُعَةٍ سِوَى ثَوْبَيْ مِهْنَتِهِ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، وَأَبُو دَاوُد ، وَابْنُ مَاجَهْ وَجَاءَ فِي حَدِيثٍ : { مَنْ لَبِسَ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، وَاغْتَسَلَ .
} وَذَكَرَ الْحَدِيثَ .
وَأَفْضَلُهَا الْبَيَاضُ ؛ لِقَوْلِهِ : عَلَيْهِ السَّلَامُ { خَيْرُ ثِيَابِكُمْ الْبَيَاضُ ، أَلْبِسُوهَا أَحْيَاءَكُمْ ، وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ } وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَعْتَمَّ وَيَرْتَدِيَ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ ، وَالْإِمَامُ فِي هَذَا وَنَحْوِهِ آكَدُ مِنْ غَيْرِهِ ، لِأَنَّهُ الْمَنْظُورُ إلَيْهِ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ .

( 1368 ) فَصْلٌ : وَالتَّطَيُّبُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ ، وَالسِّوَاكُ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { غُسْلُ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ ، وَسِوَاكٌ ، وَأَنْ يَمَسَّ طِيبًا } .
وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : إنَّ هَذَا يَوْمُ عِيدٍ ، جَعَلَهُ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ ، فَمَنْ جَاءَ مِنْكُمْ إلَى الْجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِلْ ، وَإِنْ كَانَ طِيبٌ فَلْيَمَسَّ مِنْهُ ، وَعَلَيْكُمْ بِالسِّوَاكِ } وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَدَّهِنَ ، وَيَتَنَظَّفَ بِأَخْذِ الشَّعْرِ ، وَقَطْعِ الرَّائِحَةِ ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { : لَا يَغْتَسِلُ رَجُلٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، وَيَتَطَهَّرُ مَا اسْتَطَاعَ مِنْ طُهْرٍ ، وَيَدَّهِنُ مِنْ دُهْنِهِ ، أَوْ يَمَسُّ مِنْ طِيبِ بَيْتِهِ ، ثُمَّ يَخْرُجُ فَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ اثْنَيْنِ ، ثُمَّ يُصَلِّي مَا كُتِبَ لَهُ ، ثُمَّ يُنْصِتُ إذَا تَكَلَّمَ الْإِمَامُ إلَّا غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى .
}

( 1369 ) فَصْلٌ : إذَا أَتَى الْمَسْجِدَ كُرِهَ لَهُ أَنْ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { فَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ اثْنَيْنِ .
} وَقَوْلِهِ : { وَلَمْ يَتَخَطَّ رَقَبَةَ مُسْلِمٍ ، وَلَمْ يُؤْذِ أَحَدًا } .
وَقَوْلِهِ فِي الَّذِي جَاءَ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ { : اجْلِسْ ، فَقَدْ آذَيْتَ وَآنَيْتَ } وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ تَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ اتَّخَذَ جِسْرًا إلَى جَهَنَّمَ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ : لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ رِشْدِينَ بْنِ سَعْدٍ ، وَقَدْ ضَعَّفَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ ، فَأَمَّا الْإِمَامُ إذَا لَمْ يَجِدْ طَرِيقًا ، فَلَا يُكْرَهُ لَهُ التَّخَطِّي ، لِأَنَّهُ مَوْضِعُ حَاجَةٍ .

( 1370 ) فَصْلٌ : فَإِنْ رَأَى فُرْجَةً لَا يَصِلُ إلَيْهَا إلَّا بِالتَّخَطِّي ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا ، لَهُ التَّخَطِّي .
قَالَ أَحْمَدُ : يَدْخُلُ الرَّجُلُ مَا اسْتَطَاعَ ، وَلَا يَدَعُ بَيْنَ يَدَيْهِ مَوْضِعًا فَارِغًا ، فَإِنْ جَهِلَ فَتَرَكَ بَيْنَ يَدَيْهِ خَالِيًا فَلْيَتَخَطَّ الَّذِي يَأْتِي بَعْدَهُ ، وَيَتَجَاوَزْهُ إلَى الْمَوْضِعِ الْخَالِي ، فَإِنَّهُ لَا حُرْمَةَ لِمَنْ تَرَكَ بَيْنَ يَدَيْهِ خَالِيًا ، وَقَعَدَ فِي غَيْرِهِ .
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : يَتَخَطَّاهُمْ إلَى السَّعَةِ .
وَقَالَ قَتَادَةُ : يَتَخَطَّاهُمْ إلَى مُصَلَّاهُ .
وَقَالَ الْحَسَنُ : تَخَطُّوا رِقَابَ الَّذِينَ يَجْلِسُونَ عَلَى أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ ، فَإِنَّهُ لَا حُرْمَةَ لَهُمْ ، وَعَنْ أَحْمَدَ ، رِوَايَةٌ أُخْرَى ، إنْ كَانَ يَتَخَطَّى الْوَاحِدَ وَالِاثْنَيْنِ فَلَا بَأْسَ ، لِأَنَّهُ يَسِيرٌ ، فَعُفِيَ عَنْهُ ، وَإِنْ كَثُرَ كَرِهْنَاهُ ، وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ ، إلَّا أَنْ لَا يَجِدَ السَّبِيلَ إلَى مُصَلَّاهُ إلَّا بِأَنْ يَتَخَطَّى ، فَيَسَعُهُ التَّخَطِّي ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَلَعَلَّ قَوْلَ أَحْمَدَ ، وَمَنْ وَافَقَهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى ، فِيمَا إذَا تَرَكُوا مَكَانًا وَاسِعًا ، مِثْلُ الَّذِينَ يَصُفُّونَ فِي آخِرِ الْمَسْجِدِ ، وَيَتْرُكُونَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ صُفُوفًا خَالِيَةً ، فَهَؤُلَاءِ لَا حُرْمَةَ لَهُمْ كَمَا قَالَ الْحَسَنُ ؛ لِأَنَّهُمْ خَالَفُوا أَمْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَغِبُوا عَنْ الْفَضِيلَةِ وَخَيْرِ الصُّفُوفِ ، وَجَلَسُوا فِي شَرِّهَا ، وَلِأَنَّ تَخَطِّيَهُمْ مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ ، وَقَوْلُهُ الثَّانِي فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يُفَرِّطُوا ، وَإِنَّمَا جَلَسُوا فِي مَكَانِهِمْ ؛ لِامْتِلَاءِ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ، لَكِنْ فِيهِ سَعَةٌ يُمْكِنُ الْجُلُوسُ فِيهِ لِازْدِحَامِهِمْ ، وَمَتَى كَانَ لَمْ يُمْكِنْ الصَّلَاةُ إلَّا بِالدُّخُولِ وَتَخَطِّيهِمْ ، جَازَ ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ حَاجَةٍ .

( 1371 ) فَصْلٌ : إذَا جَلَسَ فِي مَكَان ، ثُمَّ بَدَتْ لَهُ حَاجَةٌ ، أَوْ احْتَاجَ إلَى الْوُضُوءِ ، فَلَهُ الْخُرُوجُ .
{ قَالَ عُقْبَةُ : صَلَّيْتُ وَرَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ الْعَصْرَ ، فَسَلَّمَ ، ثُمَّ قَامَ مُسْرِعًا ، فَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ إلَى حُجَرِ بَعْضِ نِسَائِهِ فَقَالَ : ذَكَرْتُ شَيْئًا مِنْ تِبْرٍ عِنْدَنَا فَكَرِهْتُ أَنْ يَحْبِسَنِي ، فَأَمَرْتُ بِقِسْمَتِهِ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ، فَإِذَا قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ ، ثُمَّ رَجَعَ إلَيْهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ ، ثُمَّ رَجَعَ إلَيْهِ ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ } .
وَحُكْمُهُ فِي التَّخَطِّي إلَى مَوْضِعِهِ حُكْمُ مَنْ رَأَى بَيْنَ يَدَيْهِ فُرْجَةً .
( 1372 ) فَصْلٌ : وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُقِيمَ إنْسَانًا وَيَجْلِسَ فِي مَوْضِعِهِ ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَكَانُ رَاتِبًا لِشَخْصٍ يَجْلِسُ فِيهِ ، أَوْ مَوْضِعَ حَلْقَةٍ لِمَنْ يُحَدِّثُ فِيهَا ، أَوْ حَلْقَةً لِلْفُقَهَاءِ يَتَذَاكَرُونَ فِيهَا ، أَوْ لَمْ يَكُنْ ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ ، قَالَ : { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقِيمَ الرَّجُلُ - يَعْنِي أَخَاهُ - مِنْ مَقْعَدِهِ ، وَيَجْلِسَ فِيهِ .
} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَلِأَنَّ الْمَسْجِدَ بَيْتُ اللَّهِ ، وَالنَّاسُ فِيهِ سَوَاءٌ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ } فَمَنْ سَبَقَ إلَى مَكَان فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ سَبَقَ إلَى مَاءٍ لَمْ يَسْبِقْ إلَيْهِ مُسْلِمٌ ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَكَمَقَاعِدِ الْأَسْوَاقِ ، وَمَشَارِعِ الْمِيَاهِ وَالْمَعَادِنِ ، فَإِنْ قَدَّمَ صَاحِبًا لَهُ ، فَجَلَسَ فِي مَوْضِعٍ ، حَتَّى إذَا جَاءَ قَامَ النَّائِبُ وَأَجْلَسَهُ ، جَازَ ؛ لِأَنَّ النَّائِبَ يَقُومُ بِاخْتِيَارِهِ ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ سِيرِينَ كَانَ يُرْسِلُ غُلَامًا لَهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، فَيَجْلِسُ فِيهِ ، فَإِذَا جَاءَ مُحَمَّدٌ قَامَ الْغُلَامُ ، وَجَلَسَ مُحَمَّدٌ فِيهِ .
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَائِبًا فَقَامَ

لِيَجْلِسَ آخَرُ فِي مَكَانِهِ ، فَلَهُ الْجُلُوسُ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ قَامَ بِاخْتِيَارِ نَفْسِهِ ، فَأَشْبَهَ النَّائِبَ .
وَأَمَّا الْقَائِمُ فَإِنْ انْتَقَلَ إلَى مِثْلِ مَكَانِهِ الَّذِي آثَرَ بِهِ فِي الْقُرْبِ ، وَسَمَاعِ الْخُطْبَةِ ، فَلَا بَأْسَ ، وَإِنْ انْتَقَلَ إلَى مَا دُونَهُ ، كُرِهَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ يُؤْثِرُ عَلَى نَفْسِهِ فِي الدِّينِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُكْرَهَ ؛ لِأَنَّ تَقْدِيمَ أَهْلِ الْفَضْلِ إلَى مَا يَلِي الْإِمَامَ مَشْرُوعٌ ، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لِيَلِنِي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى } وَلَوْ آثَرَ شَخْصًا بِمَكَانِهِ ، لَمْ يَجُزْ لِغَيْرِهِ أَنْ يَسْبِقَهُ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لِلْجَالِسِ آثَرَ بِهِ غَيْرَهُ فَقَامَ مَقَامَهُ فِي اسْتِحْقَاقِهِ ، كَمَا لَوْ يَحْجُرُ مَوَاتًا ، أَوْ سَبَقَ إلَيْهِ ، ثُمَّ آثَرَ غَيْرَهُ بِهِ .
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ نَحْوَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْقَائِمَ أَسْقَطَ حَقَّهُ بِالْقِيَامِ ، فَبَقِيَ عَلَى الْأَصْلِ ، فَكَانَ السَّابِقُ إلَيْهِ أَحَقَّ بِهِ ، كَمَنْ وَسَّعَ لِرَجُلٍ فِي طَرِيقٍ ، فَمَرَّ غَيْرُهُ ، وَمَا قُلْنَا أَصَحُّ ، وَيُفَارِقُ التَّوْسِعَةَ فِي الطَّرِيقِ ، لِأَنَّهَا إنَّمَا جُعِلَتْ لِلْمُرُورِ فِيهَا ، فَمَنْ انْتَقَلَ مِنْ مَكَان فِيهَا لَمْ يَبْقَ لَهُ فِيهِ حَقٌّ يُؤْثِرُ بِهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمَسْجِدُ ، فَإِنَّهُ لِلْإِقَامَةِ فِيهِ ، وَلَا يَسْقُطُ حَقُّ الْمُنْتَقِلِ مِنْ مَكَانِهِ إذَا انْتَقَلَ لِحَاجَةٍ ، وَهَذَا إنَّمَا انْتَقَلَ مُؤْثِرًا لِغَيْرِهِ ، فَأَشْبَهَ النَّائِبَ الَّذِي بَعَثَهُ إنْسَانٌ لِيَجْلِسَ فِي مَوْضِعٍ يَحْفَظُهُ لَهُ .
وَلَوْ كَانَ الْجَالِسُ مَمْلُوكًا ، لَمْ يَكُنْ لِسَيِّدِهِ أَنْ يُقِيمَهُ ؛ لِعُمُومِ الْخَبَرِ ، وَلِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَالٍ ، وَهُوَ حَقٌّ دِينِيٌّ ، فَاسْتَوَى هُوَ وَسَيِّدُهُ فِيهِ ، كَالْحُقُوقِ الدِّينِيَّةِ كُلِّهَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( 1373 ) فَصْلٌ : وَإِنْ فَرَشَ مُصَلَّى لَهُ فِي مَكَان ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا ، يَجُوزُ رَفْعُهُ ، وَالْجُلُوسُ فِي مَوْضِعِهِ ، لِأَنَّهُ لَا حُرْمَةَ لَهُ ، وَلِأَنَّ السَّبْقَ بِالْأَجْسَامِ ، لَا بِالْأَوْطِئَةِ وَالْمُصَلَّيَاتِ ، وَلِأَنَّ تَرْكَهُ يُفْضِي إلَى أَنَّ صَاحِبَهُ يَتَأَخَّرُ ، ثُمَّ يَتَخَطَّى رِقَابَ الْمُصَلِّينَ ، وَرَفْعُهُ يَنْفِي ذَلِكَ وَالثَّانِي : لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ ؛ فِيهِ افْتِيَاتًا عَلَى صَاحِبِهِ ، رُبَّمَا أَفْضَى إلَى الْخُصُومَةِ ، وَلِأَنَّهُ سَبَقَ إلَيْهِ ، فَكَانَ كَمُحْتَجِرِ الْمَوَاتِ .

( 1374 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ الدُّنُوُّ مِنْ الْإِمَامِ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ غَسَّلَ وَاغْتَسَلَ ، وَبَكَّرَ ، وَابْتَكَرَ ، وَمَشَى وَلَمْ يَرْكَبْ ، وَدَنَا مِنْ الْإِمَامِ فَاسْتَمَعَ ، وَلَمْ يَلْغُ ، كَانَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ عَمَلُ سَنَةٍ ، أَجْرُ صِيَامِهَا وَقِيَامِهَا } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ ، وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَابْنُ مَاجَهْ .
وَهَذَا لَفْظُهُ .
وَعَنْ سَمُرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { اُحْضُرُوا الذِّكْرَ ، وَادْنُوا مِنْ الْإِمَامِ ، فَإِنَّ الرَّجُلَ لَا يَزَالُ يَتَبَاعَدُ حَتَّى يُؤَخَّرَ فِي الْجَنَّةِ ، وَإِنْ دَخَلَهَا } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَلِأَنَّهُ أَمْكَنُ لَهُ مِنْ السَّمَاعِ .

( 1375 ) فَصْلٌ : وَتُكْرَهُ الصَّلَاةُ فِي الْمَقْصُورَةِ الَّتِي تُحْمَى نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ ، وَهُوَ فِي الْمَقْصُورَةِ ، خَرَجَ .
وَكَرِهَهُ الْأَحْنَفُ ، وَابْنُ مُحَيْرِيزٍ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَإِسْحَاقُ وَرَخَّصَ فِيهَا أَنَسٌ ، وَالْحَسَنُ ، وَالْحُسَيْنُ ، وَالْقَاسِمُ ، وَسَالِمٌ ، وَنَافِعٌ ، لِأَنَّهُ مَكَانٌ مِنْ الْجَامِعِ ، فَلَمْ تُكْرَهْ الصَّلَاةُ فِيهِ ، كَسَائِرِ الْمَسْجِدِ .
وَوَجْهُ الْأَوَّلِ ، أَنَّهُ يُمْنَعُ النَّاسُ مِنْ الصَّلَاةِ فِيهِ ، كَالْمَغْصُوبِ ، فَكُرِهَ لِذَلِكَ فَأَمَّا إنْ كَانَتْ لَا تُحْمَى ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا تُكْرَهَ الصَّلَاةُ فِيهَا ، لِعَدَمِ شَبَهِ الْغَصْبِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ تُكْرَهَ ؛ لِأَنَّهَا تَقْطَعُ الصُّفُوفَ ، فَأَشْبَهَتْ مَا بَيْنَ السَّوَارِي .
وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ ، فَقَالَ فِي مَوْضِعٍ : هُوَ الَّذِي يَلِي الْمَقْصُورَةَ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُورَةَ تُحْمَى .
وَقَالَ : مَا أَدْرِي هَلْ الصَّفُّ الْأَوَّلُ الَّذِي يَقْطَعُهُ الْمِنْبَرُ ، أَوْ الَّذِي يَلِيهِ ؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ الَّذِي يَقْطَعُهُ الْمِنْبَرُ ، لِأَنَّهُ هُوَ الْأَوَّلُ فِي الْحَقِيقَةِ ، وَلَوْ كَانَ الْأَوَّلُ مَا دُونَهُ أَفْضَى إلَى خُلُوِّ مَا يَلِي الْإِمَامَ .
وَلِأَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَلِيهِ فُضَلَاؤُهُمْ ، وَلَوْ كَانَ الصَّفُّ الْأَوَّلُ وَرَاءَ الْمِنْبَرِ ، لَوَقَفُوا فِيهِ .

( 1376 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ نَعَسَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، أَنْ يَتَحَوَّلَ عَنْ مَوْضِعِهِ ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ ، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { إذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي مَجْلِسِهِ ، فَلْيَتَحَوَّلْ إلَى غَيْرِهِ } رَوَاهُ أَبُو مَسْعُودٍ أَحْمَدُ بْنُ الْفُرَاتِ ، فِي " سُنَنِهِ " ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ ، فِي " مُسْنَدِهِ " وَلِأَنَّ تَحَوُّلَهُ عَنْ مَجْلِسِهِ يَصْرِفُ عَنْهُ النَّوْمَ .

( 1377 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُكْثِرَ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَكْثِرُوا الصَّلَاةَ عَلَيَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ؛ فَإِنَّهُ مَشْهُودٌ تَشْهَدُهُ الْمَلَائِكَةُ } .
رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
وَعَنْ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَفْضَلُ أَيَّامِكُمْ يَوْمُ الْجُمُعَةِ ، فِيهِ خُلِقَ آدَم ، وَفِيهِ قُبِضَ ، وَفِيهِ النَّفْخَةُ ، وَفِيهِ الصَّعْقَةُ ، فَأَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنْ الصَّلَاةِ فِيهِ ، فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ .
قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ : وَكَيْفَ تُعْرَضُ صَلَاتُنَا عَلَيْكَ وَقَدْ أَرِمْتَ ، أَيْ بَلِيتَ .
قَالَ : إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَجْسَادَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .

( 1378 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ قِرَاءَةُ الْكَهْفِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ قَرَأَ الْكَهْفَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَهُوَ مَعْصُومٌ إلَى ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ فِتْنَةٍ ، فَإِنْ خَرَجَ الدَّجَّالُ عُصِمَ مِنْهُ } .
رَوَاهُ زَيْدُونُ بْنُ عَلِيٍّ فِي كِتَابِهِ بِإِسْنَادِهِ .
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، أَنَّهُ قَالَ : مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَضَاءَ لَهُ مِنْ النُّورِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ .
وَقَالَ خَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ : مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ الْإِمَامُ كَانَتْ لَهُ كَفَّارَةَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ ، وَبَلَغَ نُورُهَا الْبَيْتَ الْعَتِيقَ .

( 1379 ) فَصْلٌ : يُسْتَحَبُّ الْإِكْثَارُ مِنْ الدُّعَاءِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، لَعَلَّهُ يُوَافِقُ سَاعَةَ الْإِجَابَةِ ، { لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، فَقَالَ : فِيهِ سَاعَةٌ لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ يُصَلِّي ، يَسْأَلُ اللَّهَ شَيْئًا ، إلَّا أَعْطَاهُ إيَّاهُ } .
وَأَشَارَ بِيَدِهِ يُقَلِّلُهَا ، وَفِي لَفْظٍ : { وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي .
} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَاخْتُلِفَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ ، وَطَاوُسٌ : هِيَ آخِرُ سَاعَةٍ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ .
وَفَسَّرَ ابْنُ سَلَامٍ الصَّلَاةَ بِانْتِظَارِهَا .
وَرُوِيَ مَرْفُوعًا ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَرُوِيَ عَنْ { عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ قَالَ : قُلْتُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ : إنَّا لَنَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ سَاعَةً لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُؤْمِنٌ يُصَلِّي يَسْأَلُ اللَّهَ فِيهَا شَيْئًا إلَّا قَضَى اللَّهُ حَاجَتَهُ .
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ : فَأَشَارَ إلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ بَعْضُ سَاعَةٍ .
فَقُلْتُ : صَدَقْتَ أَوْ بَعْضُ سَاعَةٍ .
قُلْتُ : أَيُّ سَاعَةٍ هِيَ ؟ قَالَ : هِيَ آخِرُ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ النَّهَارِ .
قُلْتُ : إنَّهَا لَيْسَتْ سَاعَةَ صَلَاةٍ .
قَالَ : بَلَى ، إنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إذَا صَلَّى ، ثُمَّ جَلَسَ لَا يُجْلِسُهُ إلَّا الصَّلَاةُ ، فَهُوَ فِي صَلَاةٍ } .
رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَيَكُونُ الْقِيَامُ عَلَى هَذَا بِمَعْنَى الْمُلَازَمَةِ وَالْإِقَامَةِ ، كَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَمِنْهُمْ مَنْ إنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إلَيْكَ إلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا } .
وَعَنْ أَنَسٍ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْتَمِسُوا السَّاعَةَ الَّتِي تُرْجَى فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الْعَصْرِ إلَى غَيْبُوبَةِ الشَّمْسِ } .
أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ .
وَقِيلَ : هِيَ مَا بَيْنَ أَنْ يَجْلِسَ الْإِمَامُ إلَى أَنْ يَقْضِيَ الصَّلَاةَ ؛ لِمَا رَوَى أَبُو مُوسَى ، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : هِيَ مَا بَيْنَ أَنْ يَجْلِسَ الْإِمَامُ إلَى أَنْ يَقْضِيَ الصَّلَاةَ } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْمُزَنِيّ ، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { : فِي الْجُمُعَةِ سَاعَةٌ مِنْ النَّهَارِ ، لَا يَسْأَلُ الْعَبْدُ فِيهَا شَيْئًا إلَّا أُعْطِيَ سُؤْلَهُ .
قِيلَ : أَيُّ سَاعَةٍ هِيَ ؟ قَالَ : حِينَ تُقَامُ الصَّلَاةُ إلَى الِانْصِرَافِ مِنْهَا } .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ .
فَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ تَكُونُ السَّاعَةُ مُخْتَلِفَةً ، فَتَكُونُ فِي حَقِّ كُلِّ قَوْمٍ فِي وَقْتِ صَلَاتِهِمْ .
وَقِيلَ : هِيَ مَا بَيْنَ الْفَجْرِ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ ، وَمِنْ الْعَصْرِ إلَى غُرُوبِهَا .
وَقِيلَ : هِيَ السَّاعَةُ الثَّالِثَةُ مِنْ النَّهَارِ .
وَقَالَ كَعْبٌ : لَوْ قَسَّمَ الْإِنْسَانُ جُمَعَهُ فِي جُمَعٍ أَتَى عَلَى تِلْكَ السَّاعَةِ .
وَقِيلَ هِيَ مُتَنَقِّلَةٌ فِي الْيَوْمِ .
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : إنَّ طَلَبَ حَاجَةٍ فِي يَوْمٍ لَيَسِيرٌ .
وَقِيلَ : أَخْفَى اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ السَّاعَةَ لِيَجْتَهِدَ عِبَادُهُ فِي دُعَائِهِ فِي جَمِيعِ الْيَوْمِ طَلَبًا لَهَا ، كَمَا أَخْفَى لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ ، وَأَوْلِيَاءَهُ فِي الْخَلْقِ ، لِيُحْسَنَ الظَّنُّ بِالصَّالِحِينَ كُلِّهِمْ .

( 1380 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَإِنْ صَلَّوْا الْجُمُعَةَ قَبْلَ الزَّوَالِ فِي السَّاعَةِ السَّادِسَةِ ، أَجْزَأَتْهُمْ ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ ، فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ .
وَالصَّحِيحُ فِي السَّاعَةِ السَّادِسَةِ .
وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ صَلَاتُهَا فِيمَا قَبْلَ السَّادِسَةِ .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَجَابِرٍ ، وَسَعِيدٍ ، وَمُعَاوِيَةَ ، أَنَّهُمْ صَلَّوْهَا قَبْلَ الزَّوَالِ .
وَقَالَ الْقَاضِي ، وَأَصْحَابُهُ : يَجُوزُ فِعْلُهَا فِي وَقْتِ صَلَاةِ الْعِيدِ .
وَرَوَى ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : نَذْهَبُ إلَى أَنَّهَا كَصَلَاةِ الْعِيدِ .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ : مَا كَانَ لِلنَّاسِ عِيدٌ إلَّا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ .
وَقَالَ عَطَاءٌ : كُلُّ عِيدٍ حِينَ يَمْتَدُّ الضُّحَى ؛ الْجُمُعَةُ ، وَالْأَضْحَى ، وَالْفِطْرُ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ ، أَنَّهُ قَالَ : { مَا كَانَ عِيدٌ إلَّا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ ، وَلَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِنَا الْجُمُعَةَ فِي ظِلِّ الْحَطِيمِ } .
رَوَاهُ ابْنُ الْبَخْتَرِيِّ فِي " أَمَالِيهِ " بِإِسْنَادِهِ .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَمُعَاوِيَةَ ، أَنَّهُمَا صَلَّيَا الْجُمُعَةَ ضُحًى ، وَقَالَا : إنَّمَا عَجَّلْنَا خَشْيَةَ الْحَرِّ عَلَيْكُمْ .
وَرَوَى الْأَثْرَمُ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ .
وَلِأَنَّهَا عِيدٌ فَجَازَتْ فِي وَقْتِ الْعِيدِ ، كَالْفِطْرِ وَالْأَضْحَى وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا عِيدٌ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ هَذَا يَوْمٌ جَعَلَهُ اللَّهُ عِيدًا لِلْمُسْلِمِينَ } .
وَقَوْلُهُ : { قَدْ اجْتَمَعَ لَكُمْ فِي يَوْمِكُمْ هَذَا عِيدَانِ } .
وَقَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ : وَقْتُهَا وَقْتُ الظُّهْرِ ، إلَّا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَعْجِيلُهَا فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا ؛ لِقَوْلِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ : { كُنَّا نُجَمِّعُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ ، ثُمَّ نَرْجِعُ نَتْبَعُ الْفَيْءَ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَقَالَ أَنَسٌ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ حِينَ تَمِيلُ

الشَّمْسُ } .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَلِأَنَّهُمَا صَلَاتَا وَقْتٍ ، فَكَانَ وَقْتُهُمَا وَاحِدًا ، كَالْمَقْصُورَةِ وَالتَّامَّةِ ، وَلِأَنَّ إحْدَاهُمَا بَدَلٌ عَنْ الْأُخْرَى ، وَقَائِمَةٌ مَقَامَهَا ، فَأَشْبَهَا الْأَصْلَ الْمَذْكُورَ ، وَلِأَنَّ آخِرَ وَقْتِهِمَا وَاحِدٌ ، فَكَانَ أَوَّلُهُ وَاحِدًا ، كَصَلَاةِ الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ .
وَلَنَا ، عَلَى جَوَازِهَا فِي السَّادِسَةِ السُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ ؛ أَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي - يَعْنِي الْجُمُعَةَ - ثُمَّ نَذْهَبُ إلَى جِمَالِنَا فَنُرِيحُهَا حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ .
} أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ .
وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ ، قَالَ : { مَا كُنَّا نُقِيلُ وَلَا نَتَغَدَّى إلَّا بَعْدَ الْجُمُعَةِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ : لَا يُسَمَّى غَدَاءٌ ، وَلَا قَائِلَةٌ بَعْدَ الزَّوَالِ .
وَعَنْ سَلَمَةَ ، قَالَ : { كُنَّا نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجُمُعَةَ ، ثُمَّ نَنْصَرِفُ وَلَيْسَ لِلْحِيطَانِ فَيْءٌ .
} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ ، فَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ وَكِيعٍ ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ بُرْقَانَ ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ الْحَجَّاجِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سِيدَانَ ، قَالَ : شَهِدْتُ الْخُطْبَةَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ ، فَكَانَتْ صَلَاتُهُ وَخُطْبَتُهُ قَبْلَ نِصْفِ النَّهَارِ ، وَشَهِدْتُهَا مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، فَكَانَتْ صَلَاتُهُ وَخُطْبَتُهُ إلَى أَنْ أَقُولَ قَدْ انْتَصَفَ النَّهَارُ ، ثُمَّ صَلَّيْتُهَا مَعَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ ، فَكَانَتْ صَلَاتُهُ وَخُطْبَتُهُ إلَى أَنْ أَقُولَ قَدْ زَالَ النَّهَارُ ، فَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا عَابَ ذَلِكَ وَلَا أَنْكَرَهُ .
قَالَ : وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَجَابِرٍ ، وَسَعِيدٍ ، وَمُعَاوِيَةَ ، أَنَّهُمْ صَلَّوْا قَبْلَ الزَّوَالِ ، وَأَحَادِيثُهُمْ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهَا بَعْدَ الزَّوَالِ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَوْقَاتِهِ ، وَلَا خِلَافَ فِي

جَوَازِهِ ، وَأَنَّهُ الْأَفْضَلُ وَالْأَوْلَى ، وَأَحَادِيثُنَا تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ فِعْلِهَا قَبْلَ الزَّوَالِ ، وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا .
وَأَمَّا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهَا لَا تَجُوزُ ، لِمَا ذَكَرَهُ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَلِأَنَّ التَّوْقِيتَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِدَلِيلٍ ، مِنْ نَصٍّ ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ ، وَمَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَنْ خُلَفَائِهِ ، أَنَّهُمْ صَلَّوْهَا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ ، وَلِأَنَّ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ كَوْنُ وَقْتِهَا وَقْتَ الظُّهْرِ ، وَإِنَّمَا جَازَ تَقْدِيمُهَا عَلَيْهِ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلِيلِ ، وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِالسَّاعَةِ السَّادِسَةِ ، فَلَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُهَا عَلَيْهَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَلِأَنَّهَا لَوْ صُلِّيَتْ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ لَفَاتَتْ أَكْثَرَ الْمُصَلِّينَ ، فَإِنَّ الْعَادَةَ اجْتِمَاعُهُمْ لَهَا عِنْدَ الزَّوَالِ ، وَإِنَّمَا يَأْتِيهَا ضُحًى آحَادٌ مِنْ النَّاسِ ، وَعَدَدٌ يَسِيرٌ ، كَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ أَتَى الْجُمُعَةَ ، فَوَجَدَ أَرْبَعَةً قَدْ سَبَقُوهُ ، فَقَالَ : رَابِعُ أَرْبَعَةٍ ، وَمَا رَابِعُ أَرْبَعَةٍ بِبَعِيدٍ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَالْأَوْلَى أَنْ لَا تُصَلَّى إلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ ؛ لِيَخْرُجَ مِنْ الْخِلَافِ ، وَيَفْعَلُهَا فِي الْوَقْتِ الَّذِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهَا فِيهِ فِي أَكْثَرِ أَوْقَاتِهِ ، وَيُعَجِّلُهَا فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا فِي الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعَجِّلُهَا ، بِدَلِيلِ الْأَخْبَارِ الَّتِي رَوَيْنَاهَا ، وَلِأَنَّ النَّاسَ يَجْتَمِعُونَ لَهَا فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا ، وَيُبَكِّرُونَ إلَيْهَا قَبْلَ وَقْتِهَا ، فَلَوْ انْتَظَرَ الْإِبْرَادَ بِهَا لَشَقَّ عَلَى الْحَاضِرِينَ ، وَإِنَّمَا جُعِلَ الْإِبْرَادُ بِالظُّهْرِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ دَفْعًا لِلْمَشَقَّةِ الَّتِي يَحْصُلُ أَعْظَمُ مِنْهَا بِالْإِبْرَادِ بِالْجُمُعَةِ .

( 1381 ) فَصْلٌ : وَإِنْ اتَّفَقَ عِيدٌ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ ، سَقَطَ حُضُورُ الْجُمُعَةِ عَمَّنْ صَلَّى الْعِيدَ ، إلَّا الْإِمَامَ ، فَإِنَّهَا لَا تَسْقُطُ عَنْهُ إلَّا أَنْ لَا يَجْتَمِعَ لَهُ مَنْ يُصَلِّي بِهِ الْجُمُعَةَ .
وَقِيلَ : فِي وُجُوبِهَا عَلَى الْإِمَامِ رِوَايَتَانِ وَمِمَّنْ قَالَ بِسُقُوطِهَا الشَّعْبِيُّ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ .
وَقِيلَ : هَذَا مَذْهَبُ عُمَرَ ، وَعُثْمَانَ ، وَعَلِيٍّ ، وَسَعِيدٍ ، وَابْنِ عُمَرَ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ ، وَقَالَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ تَجِبُ الْجُمُعَةُ ؛ لِعُمُومِ الْآيَةِ ، وَالْأَخْبَارِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِهَا وَلِأَنَّهُمَا صَلَاتَانِ وَاجِبَتَانِ ، فَلَمْ تَسْقُطْ إحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى ، كَالظُّهْرِ مَعَ الْعِيدِ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى إيَاسُ بْنُ أَبِي رَمْلَةَ الشَّامِيُّ ، قَالَ : { شَهِدْتُ مُعَاوِيَةَ يَسْأَلُ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ : هَلْ شَهِدْتَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِيدَيْنِ اجْتَمَعَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ .
قَالَ : فَكَيْفَ صَنَعَ ؟ قَالَ : صَلَّى الْعِيدَ ، ثُمَّ رَخَّصَ فِي الْجُمُعَةِ ، فَقَالَ : مَنْ شَاءَ أَنْ يُصَلِّيَ فَلْيُصَلِّ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ ، وَلَفْظُهُ { مَنْ شَاءَ أَنْ يُجَمِّعَ فَلْيُجَمِّعْ } .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : اجْتَمَعَ فِي يَوْمِكُمْ هَذَا عِيدَانِ ، فَمَنْ شَاءَ أَجْزَأَهُ مِنْ الْجُمُعَةِ ، وَإِنَّا مُجَمِّعُونَ } .
رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوُ ذَلِكَ .
وَلِأَنَّ الْجُمُعَةَ إنَّمَا زَادَتْ عَنْ الظُّهْرِ بِالْخُطْبَةِ ، وَقَدْ حَصَلَ سَمَاعُهَا فِي الْعِيدِ ، فَأَجْزَأَ عَنْ سَمَاعِهَا ثَانِيًا ، وَلِأَنَّ وَقْتَهُمَا وَاحِدٌ بِمَا بَيَّنَّاهُ ، فَسَقَطَتْ إحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى ، كَالْجُمُعَةِ مَعَ الظُّهْرِ ، وَمَا احْتَجُّوا بِهِ مَخْصُوصٌ بِمَا رَوَيْنَاهُ ، وَقِيَاسُهُمْ مَنْقُوضٌ بِالظُّهْرِ مَعَ الْجُمُعَةِ ، فَأَمَّا الْإِمَامُ فَلَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى

اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَإِنَّا مُجَمِّعُونَ } وَلِأَنَّهُ لَوْ تَرَكَهَا لَامْتَنَعَ فِعْلُ الْجُمُعَةِ فِي حَقِّ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ ، وَمَنْ يُرِيدُهَا مِمَّنْ سَقَطَتْ عَنْهُ ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ النَّاسِ .
( 1382 ) فَصْلٌ : وَإِنْ قَدَّمَ الْجُمُعَةَ فَصَلَّاهَا فِي وَقْتِ الْعِيدِ ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ ، قَالَ : تُجْزِئُ الْأُولَى مِنْهُمَا ، فَعَلَى هَذَا تُجْزِئُهُ عَنْ الْعِيدِ وَالظُّهْرِ ، وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ إلَى الْعَصْرِ عِنْدَ مَنْ جَوَّزَ الْجُمُعَةَ فِي وَقْتِ الْعِيدِ .
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَطَاءٍ ، قَالَ : اجْتَمَعَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَيَوْمُ فِطْرٍ عَلَى عَهْدِ ابْنِ الزُّبَيْرِ ، فَقَالَ : عِيدَانِ قَدْ اجْتَمَعَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ ، فَجَمَّعَهُمَا وَصَلَّاهُمَا رَكْعَتَيْنِ بُكْرَةً ، فَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِمَا حَتَّى صَلَّى الْعَصْرَ .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ فِعْلُ ابْنِ الزُّبَيْرِ ، فَقَالَ : أَصَابَ السُّنَّةَ .
قَالَ الْخَطَّابِيُّ : وَهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ إلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَذْهَبُ إلَى تَقْدِيمِ الْجُمُعَةِ قَبْلَ الزَّوَالِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ ابْنُ الزُّبَيْرِ قَدْ صَلَّى الْجُمُعَةَ فَسَقَطَ الْعِيدُ ، وَالظُّهْرُ ، وَلِأَنَّ الْجُمُعَةَ إذَا سَقَطَتْ مَعَ تَأَكُّدِهَا ، فَالْعِيدُ أَوْلَى أَنْ يَسْقُطَ بِهَا ، أَمَّا إذَا قَدَّمَ الْعِيدَ فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ فِي وَقْتِهَا إذَا لَمْ يُصَلِّ الْجُمُعَةَ .

( 1383 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَتَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَامِعِ فَرْسَخٌ ) هَذَا فِي حَقِّ غَيْرِ أَهْلِ الْمِصْرِ ، أَمَّا أَهْلُ الْمِصْرِ فَيَلْزَمُهُمْ كُلَّهُمْ الْجُمُعَةُ ، بَعُدُوا أَوْ قَرُبُوا .
قَالَ أَحْمَدُ : أَمَّا أَهْلُ الْمِصْرِ فَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ شُهُودِهَا ، سَمِعُوا النِّدَاءَ أَوْ لَمْ يَسْمَعُوا ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْبَلَدَ الْوَاحِدَ بُنِيَ لِلْجُمُعَةِ ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ ، وَلِأَنَّ الْمِصْرَ لَا يَكَادُ يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ فَرْسَخٍ ، فَهُوَ فِي مَظِنَّةِ الْقُرْبِ ، فَاعْتُبِرَ ذَلِكَ .
وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ .
فَأَمَّا غَيْرُ أَهْلِ الْمِصْرِ ، فَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَامِعِ فَرْسَخٌ فَمَا دُونَ ، فَعَلَيْهِ الْجُمُعَةُ ، وَإِنْ كَانَ أَبْعَدَ فَلَا جُمُعَةَ عَلَيْهِ .
وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، وَاللَّيْثِ .
وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ، قَالَ : الْجُمُعَةُ عَلَى مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ .
وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ، وَإِسْحَاقَ ؛ لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الْجُمُعَةُ عَلَى مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَالَ لِلْأَعْمَى الَّذِي قَالَ : لَيْسَ لِي قَائِدٌ يَقُودُنِي : أَتَسْمَعُ النِّدَاءَ ؟ قَالَ : نَعَمْ .
قَالَ : فَأَجِبْ } .
وَلِأَنَّ مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ } .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ ، وَأَنَسٍ ، وَالْحَسَنِ ، وَنَافِعٍ ، وَعِكْرِمَةَ ، وَالْحَكَمِ وَعَطَاءٍ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ ، أَنَّهُمْ قَالُوا : الْجُمُعَةُ عَلَى مَنْ آوَاهُ اللَّيْلُ إلَى أَهْلِهِ ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الْجُمُعَةُ عَلَى

مَنْ آوَاهُ اللَّيْلُ إلَى أَهْلِهِ } .
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ : لَا جُمُعَةَ عَلَى مَنْ كَانَ خَارِجَ الْمِصْرِ ؛ لِأَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَلَّى الْعِيدَ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ ، ثُمَّ قَالَ لِأَهْلِ الْعَوَالِي : مَنْ أَرَادَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْصَرِفَ فَلْيَنْصَرِفْ ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُقِيمَ حَتَّى يُصَلِّيَ الْجُمُعَةَ فَلْيُقِمْ .
وَلِأَنَّهُمْ خَارِجُ الْمِصْرِ ، فَأَشْبَهَ أَهْلَ الْحِلَلِ .
وَلَنَا ، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ } .
وَهَذَا يَتَنَاوَلُ غَيْرَ أَهْلِ الْمِصْرِ إذَا سَمِعُوا النِّدَاءَ ، وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ، وَلِأَنَّ غَيْرَ أَهْلِ الْمِصْرِ يَسْمَعُونَ النِّدَاءَ ، وَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْجُمُعَةِ ، فَلَزِمَهُمْ السَّعْيُ إلَيْهَا ، كَأَهْلِ الْمِصْرِ .
وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ غَيْرُ صَحِيحٍ ، يَرْوِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيُّ ، وَهُوَ ضَعِيفٌ ، قَالَ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ : ذَكَرْتُ هَذَا الْحَدِيثَ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ، فَغَضِبَ ، وَقَالَ : اسْتَغْفِرْ رَبَّكَ ، اسْتَغْفِرْ رَبَّكَ .
وَإِنَّمَا فَعَلَ أَحْمَدُ هَذَا ، لِأَنَّهُ لَمْ يَرَ الْحَدِيثَ شَيْئًا لِحَالِ إسْنَادِهِ .
قَالَ ذَلِكَ التِّرْمِذِيُّ .
وَأَمَّا تَرْخِيصُ عُثْمَانَ لِأَهْلِ الْعَوَالِي فَلِأَنَّهُ إذَا اجْتَمَعَ عِيدَانِ اُجْتُزِئَ بِالْعِيدِ ، وَسَقَطَتْ الْجُمُعَةُ عَمَّنْ حَضَرَهُ ، عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فِيمَا مَضَى .
وَأَمَّا اعْتِبَارُ أَهْلِ الْقُرَى بِأَهْلِ الْحِلَلِ فَلَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْحِلَلِ غَيْرُ مُسْتَوْطِنِينَ ، وَلَا هُمْ سَاكِنُونَ بِقَرْيَةٍ ، وَلَا فِي مَوْضِعٍ جُعِلَ لِلِاسْتِيطَانِ .
وَأَمَّا اعْتِبَارُ حَقِيقَةِ النِّدَاءِ فَلَا يُمْكِنُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مِنْ النَّاسِ الْأَصَمُّ وَثَقِيلُ السَّمْعِ ، وَقَدْ يَكُونُ النِّدَاءُ بَيْنَ يَدَيْ الْمِنْبَرِ ، فَلَا يَسْمَعُهُ إلَّا مَنْ فِي الْجَامِعِ ، وَقَدْ يَكُونُ الْمُؤَذِّنُ خَفِيَّ الصَّوْتِ ، أَوْ فِي يَوْمٍ ذِي رِيحٍ ، وَيَكُونُ الْمُسْتَمِعُ نَائِمًا أَوْ مَشْغُولًا بِمَا يَمْنَعُ السَّمَاعَ ، فَلَا يَسْمَعُ ، وَيَسْمَعُ مَنْ

هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُ ، فَيُفْضِي إلَى وُجُوبِهَا عَلَى الْبَعِيدِ دُونَ الْقَرِيبِ ، وَمَا هَذَا سَبِيلُهُ يَنْبَغِي أَنْ يُقَدَّرَ بِمِقْدَارٍ لَا يَخْتَلِفُ ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي يُسْمَعُ مِنْهُ النِّدَاءُ فِي الْغَالِبِ - إذَا كَانَ الْمُنَادِي صَيِّتًا ، فِي مَوْضِعٍ عَالٍ ، وَالرِّيحُ سَاكِنَةٌ ، وَالْأَصْوَاتُ هَادِئَةٌ ، وَالْمُسْتَمِعُ سَمِيعٌ غَيْرُ سَاهٍ وَلَا لَاهٍ - فَرْسَخٌ ، أَوْ مَا قَارَبَهُ ، فَحُدَّ بِهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( 1384 ) فَصْلٌ : وَأَهْلُ الْقَرْيَةِ لَا يَخْلُونَ مِنْ حَالَيْنِ : إمَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمِصْرِ أَكْثَرُ مِنْ فَرْسَخٍ ، أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمْ أَكْثَرُ مِنْ فَرْسَخٍ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمْ السَّعْيُ إلَيْهِ ، وَحَالُهُمْ مُعْتَبَرٌ بِأَنْفُسِهِمْ ، فَإِنْ كَانُوا أَرْبَعِينَ وَاجْتَمَعَتْ فِيهِمْ شَرَائِطُ الْجُمُعَةِ ، فَعَلَيْهِمْ إقَامَتُهَا ، وَهُمْ مُخَيَّرُونَ بَيْنَ السَّعْيِ إلَى الْمِصْرِ ، وَبَيْنَ إقَامَتِهَا فِي قَرْيَتِهِمْ ، وَالْأَفْضَلُ إقَامَتُهَا ؛ لِأَنَّهُ مَتَى سَعَى بَعْضُهُمْ أَخَلَّ عَلَى الْبَاقِينَ الْجُمُعَةَ ، وَإِذَا أَقَامُوا حَضَرَهَا جَمِيعُهُمْ ، وَفِي إقَامَتِهَا بِمَوْضِعِهِمْ تَكْثِيرُ جَمَاعَاتِ الْمُسْلِمِينَ .
وَإِنْ كَانُوا مِمَّنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِمْ الْجُمُعَةُ بِأَنْفُسِهِمْ فَهُمْ مُخَيَّرُونَ بَيْنَ السَّعْيِ إلَيْهَا ، وَبَيْنَ أَنْ يُصَلُّوا ظُهْرًا ، وَالْأَفْضَلُ السَّعْيُ إلَيْهَا ، لِيَنَالَ فَضْلَ السَّاعِي إلَى الْجُمُعَةِ وَيَخْرُجَ مِنْ الْخِلَافِ .
وَالْحَالُ الثَّانِي ، أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمِصْرِ فَرْسَخٌ فَمَا دُونَ ، فَيُنْظَرُ فِيهِمْ ، فَإِنْ كَانُوا أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ فَعَلَيْهِمْ السَّعْيُ إلَى الْجُمُعَةِ ، لِمَا قَدَّمْنَا .
وَإِنْ كَانُوا مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِمْ الْجُمُعَةُ بِأَنْفُسِهِمْ ، وَكَانَ مَوْضِعُ الْجُمُعَةِ الْقَرِيبُ مِنْهُمْ قَرْيَةً أُخْرَى ، لَمْ يَلْزَمْهُمْ السَّعْيُ إلَيْهَا ، وَصَلَّوْا فِي مَكَانِهِمْ ، إذْ لَيْسَتْ إحْدَى الْقَرْيَتَيْنِ بِأَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى .
وَإِنْ أَحَبُّوا السَّعْيَ إلَيْهَا ، جَازَ ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُصَلُّوا فِي مَكَانِهِمْ ، كَمَا ذَكَرْنَا

مِنْ قَبْلُ .
فَإِنْ سَعَى بَعْضُهُمْ فَنَقَصَ عَدَدُ الْبَاقِينَ ، لَزِمَهُمْ السَّعْيُ ؛ لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى تَرْكِ الْجُمُعَةِ مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِ .
وَإِنْ كَانَ مَوْضِعُ الْجُمُعَةِ الْقَرِيبُ مِصْرًا ، فَهُمْ مُخَيَّرُونَ أَيْضًا بَيْنَ السَّعْيِ إلَى الْمِصْرِ ، وَبَيْنَ إقَامَةِ الْجُمُعَةِ فِي مَكَانِهِمْ ، كَاَلَّتِي قَبْلَهَا .
ذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ .
وَعَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّ السَّعْيَ يَلْزَمُهُمْ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ عُذْرٌ فَيُصَلُّونَ جُمُعَةً .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْقَرْيَةِ لَا تَنْعَقِدُ بِهِمْ جُمُعَةُ أَهْلِ الْمِصْرِ ، فَكَانَ لَهُمْ إقَامَةُ الْجُمُعَةِ فِي مَكَانِهِمْ ، كَمَا لَوْ سَمِعُوا النِّدَاءَ مِنْ قَرْيَةٍ أُخْرَى ، وَلِأَنَّ أَهْلَ الْقُرَى يُقِيمُونَ الْجُمَعَ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ ، وَإِنْ كَانُوا قَرِيبًا مِنْ الْمِصْرِ ، مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ .

( 1385 ) فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ أَهْلُ الْمِصْرِ دُونَ الْأَرْبَعِينَ ، فَجَاءَهُمْ أَهْلُ الْقَرْيَةِ ، فَأَقَامُوا الْجُمُعَةَ فِي الْمِصْرِ ، لَمْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْقَرْيَةِ غَيْرُ مُسْتَوْطِنِينَ فِي الْمِصْرِ ، وَأَهْلُ الْمِصْرِ لَا تَنْعَقِدُ بِهِمْ الْجُمُعَةُ لِقِلَّتِهِمْ .
وَإِنْ كَانَ أَهْلُ الْقَرْيَةِ مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِمْ الْجُمُعَةُ بِأَنْفُسِهِمْ لَزِمَ أَهْلَ الْمِصْرِ السَّعْيُ إلَيْهِمْ ، لِأَنَّهُمْ مِمَّنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَوْضِعِ الْجُمُعَةِ أَقَلُّ مِنْ فَرْسَخٍ ، فَلَزِمَهُمْ السَّعْيُ إلَيْهَا ، كَمَا يَلْزَمُ أَهْلَ الْقَرْيَةِ السَّعْيُ إلَى الْمِصْرِ إذَا أُقِيمَتْ بِهِ وَكَانَ أَهْلُ الْقَرْيَةِ دُونَ الْأَرْبَعِينَ .
وَإِنْ كَانَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دُونَ الْأَرْبَعِينَ ، لَمْ يَجُزْ إقَامَةُ الْجُمُعَةِ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا .

( 1386 ) فَصْلٌ : وَمَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ لَا يَجُوزُ لَهُ السَّفَرُ بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِهَا .
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَجُوزُ .
وَسُئِلَ الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ مُسَافِرٍ يَسْمَعُ أَذَانَ الْجُمُعَةِ ، وَقَدْ أَسْرَجَ دَابَّتَهُ ، فَقَالَ : لِيَمْضِ فِي سَفَرِهِ ؛ لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : الْجُمُعَةُ لَا تَحْبِسُ عَنْ سَفَرٍ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ سَافَرَ مِنْ دَارِ إقَامَةٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ دَعَتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ ، لَا يُصْحَبُ فِي سَفَرِهِ ، وَلَا يُعَانُ عَلَى حَاجَتِهِ } رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي الْأَفْرَادِ .
وَهَذَا وَعِيدٌ لَا يَلْحَقُ بِالْمُبَاحِ .
وَلِأَنَّ الْجُمُعَةَ قَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ الِاشْتِغَالُ بِمَا يَمْنَعُ مِنْهَا ، كَاللَّهْوِ ، وَالتِّجَارَةِ ، وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِهِ وَعَائِشَةَ ، أَخْبَارٌ تَدُلُّ عَلَى كَرَاهِيَةِ السَّفَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، فَتُعَارِضُ قَوْلَهُ ، ثُمَّ نَحْمِلُهُ عَلَى السَّفَرِ قَبْلَ الْوَقْتِ .
( 1387 ) فَصْلٌ : وَإِنْ سَافَرَ قَبْلَ الْوَقْتِ ، فَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ فِيهِ ثَلَاثَ رِوَايَاتٍ : إحْدَاهَا ، الْمَنْعُ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ .
وَالثَّانِيَةَ ، الْجَوَازُ : وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ ، وَابْنِ سِيرِينَ ، وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، لِقَوْلِ عُمَرَ ، وَلِأَنَّ الْجُمُعَةَ لَمْ تَجِبْ ، فَلَمْ يَحْرُمْ السَّفَرُ كَاللَّيْلِ .
وَالثَّالِثَةَ ، يُبَاحُ لِلْجِهَادِ دُونَ غَيْرِهِ .
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَّهَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ ، وَجَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ فِي جَيْشِ مُؤْتَةَ ، فَتَخَلَّفَ عَبْدُ اللَّهِ ، فَرَآهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : مَا خَلَّفَكَ ؟ قَالَ : الْجُمُعَةُ .
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَرَوْحَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ قَالَ : غَدْوَةٌ ، خَيْرٌ مِنْ

الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا .
قَالَ : فَرَاحَ مُنْطَلِقًا .
} رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، فِي " الْمُسْنَدِ " .
وَالْأَوْلَى الْجَوَازُ مُطْلَقًا ؛ لِأَنَّ ذِمَّتَهُ بَرِيئَةٌ مِنْ الْجُمُعَةِ فَلَمْ يَمْنَعْهُ إمْكَانُ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ كَمَا قَبْلَ يَوْمِهَا .
وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّ الْوَقْتَ الَّذِي يَمْنَعُ السَّفَرَ ، وَيُخْتَلَفُ فِيمَا قَبْلَهُ ، زَوَالُ الشَّمْسِ .
وَلَمْ يُفَرِّقْ الْقَاضِي بَيْنَ مَا قَبْلَ الزَّوَالِ وَمَا بَعْدَهُ .
وَلَعَلَّهُ بَنَى عَلَى أَنَّ وَقْتَهَا وَقْتُ الْعِيدِ ، وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي الْخَطَّابِ عَلَى أَنَّ تَقْدِيمَهَا رُخْصَةٌ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ ، فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حُكْمُ الْمَنْعِ ، كَتَقْدِيمِ الْآخِرَةِ مِنْ الْمَجْمُوعَتَيْنِ إلَى وَقْتِ الْأُولَى .
( 1388 ) فَصْلٌ : وَإِنْ خَافَ الْمُسَافِرُ فَوَاتِ رُفْقَتِهِ ، جَازَ لَهُ تَرْكُ الْجُمُعَةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْأَعْذَارِ الْمُسْقِطَةِ لِلْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ فِي بَلَدِهِ فَأَرَادَ إنْشَاءَ السَّفَرِ ، أَوْ فِي غَيْرِهِ .

( 1389 ) فَصْلٌ : قَالَ أَحْمَدُ : إنْ شَاءَ صَلَّى بَعْدَ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَيْنِ ، وَإِنْ شَاءَ صَلَّى أَرْبَعًا ، وَفِي رِوَايَةٍ : وَإِنْ شَاءَ سِتًّا ، وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ يَرَوْنَ أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَهَا أَرْبَعًا ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُصَلِّيًا بَعْدَ الْجُمُعَةِ فَلْيُصَلِّ بَعْدَهَا أَرْبَعًا } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَعَنْ عَلِيٍّ ، وَأَبِي مُوسَى ، وَعَطَاءٍ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَحُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، وَالثَّوْرِيِّ ، أَنَّهُ يُصَلِّي سِتًّا ، لِمَا رُوِيَ { عَنْ ابْنِ عُمَرَ : أَنَّهُ كَانَ إذَا كَانَ بِمَكَّةَ ، فَصَلَّى الْجُمُعَةَ ، تَقَدَّمَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ تَقَدَّمَ فَصَلَّى أَرْبَعًا ، وَإِذَا كَانَ فِي الْمَدِينَةِ صَلَّى الْجُمُعَةَ ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى بَيْتِهِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ، وَلَمْ يُصَلِّ فِي الْمَسْجِدِ ، فَقِيلَ لَهُ ، فَقَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ ذَلِكَ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَلَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ ، بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ مِنْ الْأَخْبَارِ ، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَيْنِ .
} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ : وَكَانَ لَا يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ حَتَّى يَنْصَرِفَ ، فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ فِي بَيْتِهِ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَهْمَا فَعَلَ مِنْ ذَلِكَ كَانَ حَسَنًا : قَالَ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ : وَلَوْ صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ ثُمَّ لَمْ يُصَلِّ شَيْئًا حَتَّى صَلَّى الْعَصْرَ ، كَانَ جَائِزًا .
قَدْ فَعَلَهُ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ .
وَقَالَ ، فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد : يُعْجِبُنِي أَنْ يُصَلِّيَ .
يَعْنِي بَعْدَ الْجُمُعَةِ .

( 1390 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا الصَّلَاةُ قَبْلَ الْجُمُعَةِ ، فَلَا أَعْلَمُ فِيهِ إلَّا مَا رُوِيَ { ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرْكَعُ مِنْ قَبْلِ الْجُمُعَةِ أَرْبَعًا } .
أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ .
وَرَوَى عَمْرُو بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : كُنْتُ أَلْقَى أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ قَامُوا فَصَلَّوْا أَرْبَعًا .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : كُنَّا نَكُونُ مَعَ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ فِي الْجُمُعَةِ ، فَيَقُولُ : أَزَالَتْ الشَّمْسُ بَعْدُ ؟ وَيَلْتَفِتُ وَيَنْظُرُ فَإِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ ، صَلَّى الْأَرْبَعَ الَّتِي قَبْلَ الْجُمُعَةِ .
وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الْجُمُعَةِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ ، وَبَعْدَهَا أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ .
رَوَاهُ سَعِيدٌ .
( 1391 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ أَرَادَ الرُّكُوعَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ بِكَلَامٍ ، أَوْ انْتِقَالٍ مِنْ مَكَانِهِ ، أَوْ خُرُوجٍ إلَى مَنْزِلِهِ ؛ لِمَا رَوَى السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ ابْنُ أُخْتِ النَّمِرِ ، قَالَ : { صَلَّيْتُ مَعَ مُعَاوِيَةَ الْجُمُعَةَ فِي الْمَقْصُورَةِ ، فَلَمَّا سَلَّمَ الْإِمَامُ قُمْتُ فِي مَقَامِي فَصَلَّيْتُ ، فَلَمَّا دَخَلَ أَرْسَلَ إلَيَّ ، فَقَالَ : لَا تَعُدْ لِمَا فَعَلْتَ ، إذَا صَلَّيْتَ الْجُمُعَةَ فَلَا تَصِلْهَا بِصَلَاةٍ ، حَتَّى تَتَكَلَّمَ أَوْ تَخْرُجَ ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَنَا بِذَلِكَ ، أَنْ لَا نُوصِلَ صَلَاةً حَتَّى نَتَكَلَّمَ أَوْ نَخْرُجَ } .
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ .
وَعَنْ نَافِعٍ ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي يَوْمَ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَيْنِ ، فَدَفَعَهُ ، وَقَالَ : أَتُصَلِّي الْجُمُعَةَ أَرْبَعًا ؟ { وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُصَلِّي يَوْمَ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَيْنِ فِي بَيْتِهِ ، وَيَقُولُ : هَكَذَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ .
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ }

( 1392 ) فَصْلٌ : قَالَ أَحْمَدُ : إذَا كَانُوا يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى النَّاسِ بَعْدَ الصَّلَاةِ ، أَعْجَبُ إلَيَّ أَنْ يَسْمَعَ إذَا كَانَ فَتْحًا مِنْ فُتُوحِ الْمُسْلِمِينَ ، أَوْ كَانَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ فَلْيَسْتَمِعْ ، وَإِنْ كَانَ شَيْئًا إنَّمَا فِيهِ ذِكْرُهُمْ فَلَا يَسْتَمِعْ .
وَقَالَ فِي الَّذِينَ يُصَلُّونَ فِي الطُّرُقَاتِ : إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ بَابٌ مُغْلَقٌ فَلَا بَأْسَ .
وَسُئِلَ عَنْ رَجُلٍ يُصَلِّي خَارِجًا مِنْ الْمَسْجِدِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، وَأَبْوَابُ الْمَسْجِدِ مُغْلَقَةٌ ، قَالَ : أَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ .
وَسُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يُصَلِّي يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِمَامِ سُتْرَةٌ .
قَالَ : إذَا لَمْ يَكُنْ يَقْدِرُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ .
وَقَالَ : إذَا دَخَلُوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي دَارٍ فِي الرَّحْبَةِ ، فَأَغْلَقُوا عَلَيْهِمْ الْبَابَ ، فَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَخْرُجُوا ، وَكَانُوا يَسْمَعُونَ التَّكْبِيرَ ، فَإِنْ كَانَ الْبَابُ مَفْتُوحًا وَيَرَوْنَ النَّاسَ ، كَانَ جَائِزًا ، وَيُعِيدُونَ الصَّلَاةَ إذَا كَانَ مُغْلَقًا ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ يَكُونُوا مَعَ صَلَاةِ الْإِمَامِ .
وَهَذَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ، لِأَنَّهُمْ إذَا كَانُوا فِي دَارٍ وَلَمْ يَرَوْا الْإِمَامَ ، كَانُوا مُتَحَيِّزِينَ عَنْ الْجَمَاعَةِ ، فَإِذَا اتَّفَقَ مَعَ ذَلِكَ عَدَمُ الرُّؤْيَةِ ، لَمْ يَصِحَّ .
وَأَمَّا إنْ كَانُوا فِي الرَّحْبَةِ أَوْ الطَّرِيقِ ، فَلَيْسَ بَيْنَهُمْ إلَّا بَابُ الْمَسْجِدِ ، وَيَسْمَعُونَ حِسَّ الْجَمَاعَةِ ، وَلَمْ يَفُتْ إلَّا الرُّؤْيَةُ ، فَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ الِاقْتِدَاءِ .

( 1393 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ " الم " وَ " هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ " نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَلَمْ تَنْزِيلُ وَ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنْ الدَّهْرِ } رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ .
قَالَ أَحْمَدُ ، رَحِمَهُ اللَّهُ : وَلَا أُحِبُّ أَنْ يُدَاوِمَ عَلَيْهَا ، لِئَلَّا يَظُنَّ النَّاسُ أَنَّهَا مُفَضَّلَةٌ بِسَجْدَةٍ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُسْتَحَبَّ الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْخَبَرِ يَدُلُّ عَلَيْهَا ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا عَمِلَ عَمَلًا أَثْبَتَهُ ، وَدَامَ عَلَيْهِ ، وَكَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً .

بَابُ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ .
الْأَصْلُ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ ؛ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } .
الْمَشْهُورُ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ صَلَاةُ الْعِيدِ .
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي صَلَاةَ الْعِيدَيْنِ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : { شَهِدْتُ صَلَاةَ الْفِطْرِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ ، وَعُمَرَ ، فَكُلُّهُمْ يُصَلِّيهَا قَبْلَ الْخُطْبَةِ .
} وَعَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الْعِيدَ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا .
وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ .
وَصَلَاةُ الْعِيدِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ ، فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ ، إذَا قَامَ بِهَا مَنْ يَكْفِي سَقَطَتْ عَنْ الْبَاقِينَ ، وَإِنْ اتَّفَقَ أَهْلُ بَلَدٍ عَلَى تَرْكِهَا قَاتَلَهُمْ الْإِمَامُ .
وَبِهِ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : هِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْأَعْيَانِ ، وَلَيْسَتْ فَرْضًا ، لِأَنَّهَا صَلَاةٌ شُرِعَتْ لَهَا الْخُطْبَةُ ، فَكَانَتْ وَاجِبَةً عَلَى الْأَعْيَانِ ، وَلَيْسَتْ فَرْضًا .
كَالْجُمُعَةِ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى : قِيلَ إنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ غَيْرُ وَاجِبَةٍ .
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَأَكْثَرُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ؛ { لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَعْرَابِيِّ حِينَ ذَكَرَ خَمْسَ صَلَوَاتٍ قَالَ : هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُنَّ ؟ قَالَ : لَا إلَّا أَنْ تَطَوَّعَ .
} وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى الْعَبْدِ .
} الْحَدِيثَ .
وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ ذَاتُ رُكُوعٍ وَسُجُودٍ لَمْ يُشْرَعْ لَهَا أَذَانٌ ، فَلَمْ تَجِبْ ابْتِدَاءً بِالشَّرْعِ ، كَصَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ وَالْكُسُوفِ .
ثُمَّ اخْتَلَفُوا ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : إذَا امْتَنَعَ جَمِيعُ النَّاسِ مِنْ فِعْلِهَا قَاتَلَهُمْ الْإِمَامُ عَلَيْهَا .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا يُقَاتِلُهُمْ .
وَلَنَا ، عَلَى أَنَّهَا

لَا تَجِبُ عَلَى الْأَعْيَانِ أَنَّهَا لَا يُشْرَعُ لَهَا الْأَذَانُ ، فَلَمْ تَجِبْ عَلَى الْأَعْيَانِ ، كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ ، وَلِأَنَّ الْخَبَرَ الَّذِي ذَكَرَهُ مَالِكٌ وَمَنْ وَافَقَهُ يَقْتَضِي نَفْيَ وُجُوبِ صَلَاةٍ سِوَى الْخَمْسِ ، وَإِنَّمَا خُولِفَ بِفِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ صَلَّى مَعَهُ ، فَيَخْتَصُّ بِمَنْ كَانَ مِثْلَهُمْ ، وَلِأَنَّهَا لَوْ وَجَبَتْ عَلَى الْأَعْيَانِ لَوَجَبَتْ خُطْبَتُهَا ، وَوَجَبَ اسْتِمَاعُهَا كَالْجُمُعَةِ .
وَلَنَا ، عَلَى وُجُوبِهَا فِي الْجُمْلَةِ ، أَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى بِهَا ، بِقَوْلِهِ { : فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ ، وَمُدَاوَمَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى فِعْلِهَا ، وَهَذَا دَلِيلُ الْوُجُوبِ .
وَلِأَنَّهَا مِنْ أَعْلَامِ الدِّينِ الظَّاهِرَةِ ، فَكَانَتْ وَاجِبَةً كَالْجُمُعَةِ ، وَلِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تَجِبْ لَمْ يَجِبْ قِتَالُ تَارِكِيهَا ، كَسَائِرِ السُّنَنِ ، يُحَقِّقُهُ أَنَّ الْقِتَالَ عُقُوبَةٌ لَا تَتَوَجَّهُ إلَى تَارِكِ مَنْدُوبٍ كَالْقَتْلِ وَالضَّرْبِ .
فَأَمَّا حَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ فَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْأَعْرَابَ لَا تَلْزَمُهُمْ الْجُمُعَةُ ، لِعَدَمِ الِاسْتِيطَانِ ، فَالْعِيدُ أَوْلَى .
وَالْحَدِيثُ الْآخَرُ مَخْصُوصٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ ، عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا صَرَّحَ بِوُجُوبِ الْخَمْسِ ، وَخَصَّهَا بِالذِّكْرِ ، لِتَأْكِيدِهَا وَوُجُوبِهَا عَلَى الْأَعْيَانِ ، وَوُجُوبِهَا عَلَى الدَّوَامِ ، وَتَكَرُّرِهَا فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ، وَغَيْرُهَا يَجِبُ نَادِرًا وَلِعَارِضٍ ، كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَالْمَنْذُورَةِ وَالصَّلَاةِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا ، فَلَمْ يَذْكُرْهَا ، وَقِيَاسُهُمْ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ كَوْنَهَا ذَاتَ رُكُوعٍ وَسُجُودٍ لَا أَثَرَ لَهُ ، بِدَلِيلِ أَنَّ النَّوَافِلَ كُلَّهَا فِيهَا رُكُوعٌ وَسُجُودٌ ، وَهِيَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ ، فَيَجِبُ حَذْفُ هَذَا الْوَصْفِ ، لِعَدَمِ أَثَرِهِ ، ثُمَّ يُنْقَضُ قِيَاسُهُمْ بِصَلَاةِ الْجِنَازَةِ ، وَيَنْتَقِضُ عَلَى كُلِّ حَالٍ بِالْمَنْذُورَةِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ ( وَيُظْهِرُونَ التَّكْبِيرَ فِي لَيَالِي الْعِيدَيْنِ ، وَهُوَ فِي الْفِطْرِ آكَدُ ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلنَّاسِ إظْهَارُ التَّكْبِيرِ فِي لَيْلَتَيْ الْعِيدَيْنِ فِي مَسَاجِدِهِمْ وَمَنَازِلِهِمْ وَطُرُقِهِمْ ، مُسَافِرِينَ كَانُوا أَوْ مُقِيمِينَ ، لِظَاهِرِ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ .
قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي تَفْسِيرِهَا : لِتُكْمِلُوا عِدَّةَ رَمَضَانَ ، وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عِنْدَ إكْمَالِهِ عَلَى مَا هَدَاكُمْ .
وَمَعْنَى إظْهَارِ التَّكْبِيرِ رَفْعُ الصَّوْتِ بِهِ ، وَاسْتُحِبَّ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ إظْهَارِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ ، وَتَذْكِيرِ الْغَيْرِ ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُكَبِّرُ فِي قُبَّتِهِ بِمِنًى ، يَسْمَعُهُ أَهْلُ الْمَسْجِدِ فَيُكَبِّرُونَ ، وَيُكَبِّرُ أَهْلُ الْأَسْوَاقِ ، حَتَّى تَرْتَجَّ مِنًى تَكْبِيرًا .
قَالَ أَحْمَدُ : كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُكَبِّرُ فِي الْعِيدَيْنِ جَمِيعًا ، وَيُعْجِبُنَا ذَلِكَ .
وَاخْتُصَّ الْفِطْرُ بِمَزِيدِ تَأْكِيدٍ ؛ لِوُرُودِ النَّصِّ فِيهِ ، وَلَيْسَ التَّكْبِيرُ وَاجِبًا .
وَقَالَ دَاوُد : هُوَ وَاجِبٌ فِي الْفِطْرِ ؛ لِظَاهِرِ الْآيَةِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ تَكْبِيرٌ فِي عِيدٍ ، فَأَشْبَهَ تَكْبِيرَ الْأَضْحَى ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْوُجُوبِ ، وَلَمْ يَرِدْ مِنْ الشَّرْعِ إيجَابُهُ ، فَيَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ ، وَالْآيَةُ لَيْسَ فِيهَا أَمْرٌ ، إنَّمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ إرَادَتِهِ ، فَقَالَ : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } ( 1395 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُكَبِّرَ فِي طَرِيقِ الْعِيدِ ، وَيَجْهَرَ بِالتَّكْبِيرِ .
قَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى : يُكَبِّرُ النَّاسُ فِي خُرُوجِهِمْ مِنْ مَنَازِلِهِمْ لِصَلَاتَيْ الْعِيدَيْنِ جَهْرًا ، حَتَّى يَأْتِيَ الْإِمَامُ الْمُصَلَّى ، وَيُكَبِّرُ النَّاسُ بِتَكْبِيرِ الْإِمَامِ فِي خُطْبَتِهِ ، وَيُنْصِتُونَ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ .
قَالَ سَعِيدٌ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ

بْنُ مُحَمَّدٍ ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ إلَى الْعِيدِ كَبَّرَ حَتَّى يَأْتِيَ الْمُصَلَّى .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى ، وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَنْ إبْرَاهِيمَ ( 1396 ) فَصْلٌ : قَالَ الْقَاضِي : التَّكْبِيرُ فِي الْأَضْحَى مُطْلَقٌ وَمُقَيَّدٌ ؛ فَالْمُقَيَّدُ عَقِيبَ الصَّلَوَاتِ .
وَالْمُطْلَقُ فِي كُلِّ حَالٍ فِي الْأَسْوَاقِ ، وَفِي كُلِّ زَمَانٍ .
وَأَمَّا الْفِطْرُ فَمَسْنُونُهُ مُطْلَقٌ غَيْرُ مُقَيَّدٍ ، عَلَى ظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ .
وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : يُكَبِّرُ مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ لَيْلَةِ الْفِطْرِ إلَى خُرُوجِ الْإِمَامِ إلَى الصَّلَاةِ ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ .
وَفِي الْأُخْرَى إلَى فَرَاغِ الْإِمَامِ مِنْ الصَّلَاةِ .

( 1397 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( فَإِذَا أَصْبَحُوا تَطَهَّرُوا ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَطَهَّرَ بِالْغُسْلِ لِلْعِيدِ ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَغْتَسِلُ يَوْمَ الْفِطْرِ ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَبِهِ قَالَ عَلْقَمَةُ ، وَعُرْوَةُ ، وَعَطَاءٌ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَقَتَادَةُ ، وَأَبُو الزِّنَادِ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَالْفَاكِهُ بْنُ سَعْدٍ { ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَغْتَسِلُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى .
} وَرُوِيَ أَيْضًا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي جُمُعَةٍ مِنْ الْجُمَعِ : إنَّ هَذَا يَوْمٌ جَعَلَهُ اللَّهُ عِيدًا لِلْمُسْلِمِينَ ، فَاغْتَسِلُوا ، وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ طِيبٌ فَلَا يَضُرُّهُ أَنْ يَمَسَّ مِنْهُ ، وَعَلَيْكُمْ بِالسِّوَاكِ .
} رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
فَعَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ تَكُونُ الْجُمُعَةُ عِيدًا .
وَلِأَنَّهُ يَوْمٌ يَجْتَمِعُ النَّاسُ فِيهِ لِلصَّلَاةِ ، فَاسْتُحِبَّ الْغُسْلُ فِيهِ ، كَيَوْمِ الْجُمُعَةِ ، وَإِنْ اقْتَصَرَ عَلَى الْوُضُوءِ أَجْزَأَهُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَجِبْ الْغُسْلُ لِلْجُمُعَةِ مَعَ الْأَمْرِ بِهِ فِيهَا ، فَغَيْرُهَا أَوْلَى ( 1398 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَنَظَّفَ ، وَيَلْبَسَ أَحْسَنَ مَا يَجِدُ ، وَيَتَطَيَّبَ ، وَيَتَسَوَّكَ ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْجُمُعَةِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحَدِيثِ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ : { وَجَدَ عُمَرُ حُلَّةً مِنْ إسْتَبْرَقٍ فِي السُّوقِ ، فَأَخَذَهَا ، فَأَتَى بِهَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، ابْتَعْ هَذِهِ تَتَجَمَّلْ بِهَا فِي الْعِيدَيْنِ وَالْوَفْدِ .
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا هَذِهِ لِبَاسُ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُمْ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّجَمُّلَ عِنْدَهُمْ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ كَانَ مَشْهُورًا .
وَرَوَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ جَابِرٍ ، { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُقِيمُ وَيَلْبَسُ

بُرْدَهُ الْأَحْمَرَ فِي الْعِيدَيْنِ وَالْجُمُعَةِ } بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْبَسُ فِي الْعِيدَيْنِ بُرْدَ حِبَرَةٍ .
} وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ عَائِشَةَ ، قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَا عَلَى أَحَدِكُمْ أَنْ يَكُونَ لَهُ ثَوْبَانِ سِوَى ثَوْبَيْ مِهْنَتِهِ لِجُمُعَتِه وَعِيدِهِ .
} وَقَالَ مَالِكٌ : سَمِعْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ يَسْتَحِبُّونَ الطِّيبَ وَالزِّينَةَ فِي كُلِّ عِيدٍ ، وَالْإِمَامُ بِذَلِكَ أَحَقُّ ، لِأَنَّهُ الْمَنْظُورُ إلَيْهِ مِنْ بَيْنِهِمْ إلَّا أَنَّ الْمُعْتَكِفَ يُسْتَحَبُّ لَهُ الْخُرُوجُ فِي ثِيَابِ اعْتِكَافِهِ ، لِيَبْقَى عَلَيْهِ أَثَرُ الْعِبَادَةِ وَالنُّسُكِ .
وَقَالَ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ : طَاوُسٌ كَانَ يَأْمُرُ بِزِينَةِ الثِّيَابِ وَعَطَاءٌ قَالَ : هُوَ يَوْمُ التَّخَشُّعِ .
وَأَسْتَحْسِنُهُمَا جَمِيعًا .
وَذَكَرَ اسْتِحْبَابَ خُرُوجِهِ فِي ثِيَابِ اعْتِكَافِهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
( 1399 ) فَصْلٌ : وَوَقْتُ الْغُسْلِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فِي ظَاهِرِ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ ، لِقَوْلِهِ : " فَإِذَا أَصْبَحُوا تَطَهَّرُوا " .
قَالَ الْقَاضِي ، وَالْآمِدِيُّ : إنْ اغْتَسَلَ قَبْلَ الْفَجْرِ لَمْ يُصِبْ سُنَّةَ الِاغْتِسَالِ ؛ لِأَنَّهُ غُسْلُ الصَّلَاةِ فِي الْيَوْمِ فَلَمْ يَجُزْ قَبْلَ الْفَجْرِ كَغُسْلِ الْجُمُعَةِ .
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَبْلَ الْفَجْرِ وَبَعْدَهُ ؛ لِأَنَّ زَمَنَ الْعِيدِ أَضْيَقُ مِنْ وَقْتِ الْجُمُعَةِ ، فَلَوْ وُقِفَ عَلَى الْفَجْرِ رُبَّمَا فَاتَ ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ التَّنْظِيفُ ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْغُسْلِ فِي اللَّيْلِ لِقُرْبِهِ مِنْ الصَّلَاةِ ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْفَجْرِ ، لِيَخْرُجَ مِنْ الْخِلَافِ ، وَيَكُونَ أَبْلَغَ فِي النَّظَافَةِ ، لِقُرْبِهِ مِنْ الصَّلَاةِ .
وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ : " تَطَهَّرُوا " لَمْ يَخُصَّ بِهِ الْغُسْلَ ، بَلْ هُوَ ظَاهِرٌ فِي الْوُضُوءِ ، وَهُوَ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِمَا بَعْدَ الْفَجْرِ .

( 1400 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَأَكَلُوا إنْ كَانَ فِطْرًا ) السُّنَّةُ أَنْ يَأْكُلَ فِي الْفِطْرِ قَبْلَ الصَّلَاةِ ، وَلَا يَأْكُلَ فِي الْأَضْحَى حَتَّى يُصَلِّيَ .
وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ؛ مِنْهُمْ عَلِيٌّ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمْ ، لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا قَالَ : أَنَسٌ : { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَغْدُو يَوْمَ الْفِطْرِ حَتَّى يَأْكُلَ تَمَرَاتٍ } .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَفِي رِوَايَةٍ اسْتَشْهَدَ بِهَا : " وَيَأْكُلُهُنَّ وِتْرًا " .
وَرُوِيَ عَنْ بُرَيْدَةَ ، قَالَ { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَخْرُجُ يَوْمَ الْفِطْرِ حَتَّى يُفْطِرَ ، وَلَا يَطْعَمُ يَوْمَ الْأَضْحَى حَتَّى يُصَلِّيَ } .
رَوَاهُ الْأَثْرَمُ ، وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَلَفْظُ رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ : " حَتَّى يُضَحِّيَ " .
وَلِأَنَّ يَوْمَ الْفِطْرِ يَوْمٌ حَرُمَ فِيهِ الصِّيَامُ عَقِيبَ وُجُوبِهِ ، فَاسْتُحِبَّ تَعْجِيلُ الْفِطْرِ لِإِظْهَارِ الْمُبَادَرَةِ إلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَامْتِثَالِ أَمْرِهِ فِي الْفِطْرِ عَلَى خِلَافِ الْعَادَةِ ، وَالْأَضْحَى بِخِلَافِهِ .
وَلِأَنَّ فِي الْأَضْحَى شُرِعَ الْأُضْحِيَّةُ وَالْأَكْلُ مِنْهَا ، فَاسْتُحِبَّ أَنْ يَكُونَ فِطْرُهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا .
قَالَ أَحْمَدُ : وَالْأَضْحَى لَا يَأْكُلُ فِيهِ حَتَّى يَرْجِعَ إذَا كَانَ لَهُ ذِبْحٌ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكَلَ مِنْ ذَبِيحَتِهِ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذِبْحٌ لَمْ يُبَالِ أَنْ يَأْكُلَ .
( 1401 ) فَصْلٌ : وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُفْطِرَ عَلَى التَّمْرِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُفْطِرُ عَلَيْهِ ، وَيَأْكُلُهُنَّ وِتْرًا ، لِقَوْلِ أَنَسٍ : يَأْكُلُهُنَّ وِتْرًا ؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ ، وَلِأَنَّ الصَّائِمَ يُسْتَحَبُّ لَهُ الْفِطْرُ كَذَلِكَ .

( 1402 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( ثُمَّ غَدَوْا إلَى الْمُصَلَّى ، مُظْهِرِينَ لِلتَّكْبِيرِ ) السُّنَّةُ أَنْ يُصَلِّيَ الْعِيدَ فِي الْمُصَلَّى ، أَمَرَ بِذَلِكَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَاسْتَحْسَنَهُ الْأَوْزَاعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْمُنْذِرِ .
وَحُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ : إنْ كَانَ مَسْجِدُ الْبَلَدِ وَاسِعًا ، فَالصَّلَاةُ فِيهِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ خَيْرُ الْبِقَاعِ وَأَطْهَرُهَا ، وَلِذَلِكَ يُصَلِّي أَهْلُ مَكَّةَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ .
وَلَنَا { ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَخْرُجُ إلَى الْمُصَلَّى وَيَدَعُ مَسْجِدَهُ } ، وَكَذَلِكَ الْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ ، وَلَا يَتْرُكُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَفْضَلَ مَعَ قُرْبِهِ ، وَيَتَكَلَّفُ فِعْلَ النَّاقِصِ مَعَ بُعْدِهِ ، وَلَا يَشْرَعُ لِأُمَّتِهِ تَرْكَ الْفَضَائِلِ ، وَلِأَنَّنَا قَدْ أُمِرْنَا بِاتِّبَاعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالِاقْتِدَاءِ بِهِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُورُ بِهِ هُوَ النَّاقِصَ ، وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ هُوَ الْكَامِلَ ، وَلَمْ يُنْقَلُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ صَلَّى الْعِيدَ بِمَسْجِدِهِ إلَّا مِنْ عُذْرٍ ، وَلِأَنَّ هَذَا إجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ .
فَإِنَّ النَّاسَ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَمِصْرٍ يَخْرُجُونَ إلَى الْمُصَلَّى ، فَيُصَلُّونَ الْعِيدَ فِي الْمُصَلَّى ، مَعَ سَعَةِ الْمَسْجِدِ وَضِيقِهِ ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِي الْمُصَلَّى مَعَ شَرَفِ مَسْجِدِهِ ، وَصَلَاةُ النَّفْلِ فِي الْبَيْتِ أَفْضَلُ مِنْهَا فِي الْمَسْجِدِ مَعَ شَرَفِهِ ، وَرَوَيْنَا عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ : قَدْ اجْتَمَعَ فِي الْمَسْجِدِ ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَعُمْيَانُهُمْ فَلَوْ صَلَّيْتَ بِهِمْ فِي الْمَسْجِدِ ؟ فَقَالَ : أُخَالِفُ السُّنَّةَ إذًا ، وَلَكِنْ نَخْرُجُ إلَى الْمُصَلَّى ، وَأَسْتَخْلِفُ مَنْ يُصَلِّي بِهِمْ فِي الْمَسْجِدِ أَرْبَعًا .

( 1403 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ إذَا خَرَجَ أَنْ يُخْلِفَ مَنْ يُصَلِّي بِضَعَفَةِ النَّاسِ فِي الْمَسْجِدِ كَمَا فَعَلَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَرَوَى هُزَيْلُ بْنُ شُرَحْبِيلَ ، قَالَ : قِيلَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَوْ أَمَرْتَ رَجُلًا يُصَلِّي بِضَعَفَةِ النَّاسِ هَوْنًا فِي الْمَسْجِدِ الْأَكْبَرِ ؟ قَالَ : إنْ أَمَرْتُ رَجُلًا يُصَلِّي أَمَرْتُهُ أَنْ يُصَلِّيَ لَهُمْ أَرْبَعًا .
رَوَاهُ سَعِيدٌ .
وَرُوِيَ أَنَّهُ اسْتَخْلَفَ أَبَا مَسْعُودٍ ، فَصَلَّى بِهِمْ فِي الْمَسْجِدِ .
( 1404 ) فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ عُذْرٌ يَمْنَعُ الْخُرُوجَ ، مِنْ مَطَرٍ ، أَوْ خَوْفٍ ، أَوْ غَيْرِهِ ، صَلَّوْا فِي الْجَامِعِ ، كَمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ، أَنَّهُ { أَصَابَهُمْ مَطَرٌ فِي يَوْمِ عِيدٍ ، فَصَلَّى بِهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْعِيدِ فِي الْمَسْجِدِ .
} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَابْنُ مَاجَهْ .

( 1405 ) فَصْلٌ : يُسْتَحَبُّ التَّبْكِيرُ إلَى الْعِيدِ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ إلَّا الْإِمَامَ فَإِنَّهُ يَتَأَخَّرُ إلَى وَقْتِ الصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَفْعَلُ كَذَلِكَ .
قَالَ أَبُو سَعِيدٍ : { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرُجُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى إلَى الْمُصَلَّى ، فَأَوَّلُ شَيْءٍ يَبْدَأُ بِهِ الصَّلَاةُ } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَلِأَنَّ الْإِمَامَ يُنْتَظَرُ وَلَا يَنْتَظِرُ ، وَلَوْ جَاءَ إلَى الْمُصَلَّى وَقَعَدَ فِي مَكَان مُسْتَتِرٍ عَنْ النَّاسِ ، فَلَا بَأْسَ .
قَالَ مَالِكٌ : مَضَتْ السُّنَّةُ أَنْ يَخْرُجَ الْإِمَامُ مِنْ مَنْزِلِهِ قَدْرَ مَا يَبْلُغُ مُصَلَّاهُ ، وَقَدْ حَلَّتْ الصَّلَاةُ ، فَأَمَّا غَيْرُهُ فَيُسْتَحَبُّ لَهُ التَّبْكِيرُ ، وَالدُّنُوُّ مِنْ الْإِمَامِ .
لِيَحْصُلَ لَهُ أَجْرُ التَّبْكِيرِ ، وَانْتِظَارِ الصَّلَاةِ وَالدُّنُوِّ مِنْ الْإِمَامِ مِنْ غَيْرِ تَخَطِّي رِقَابِ النَّاسِ ، وَلَا أَذَى أَحَدٍ .
قَالَ عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ : كَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَعْقِلٍ يُصَلِّيَانِ الْفَجْرَ يَوْمَ الْعِيدِ ، وَعَلَيْهِمَا ثِيَابُهُمَا ، ثُمَّ يَتَدَافَعَانِ إلَى الْجَبَّانَةِ ، أَحَدُهُمَا يُكَبِّرُ ، وَالْآخَرُ يُهَلِّلُ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ : أَنَّهُ كَانَ لَا يَخْرُجُ حَتَّى تَخْرُجَ الشَّمْسُ .

( 1406 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَخْرُجَ إلَى الْعِيدِ مَاشِيًا ، وَعَلَيْهِ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْجُمُعَةِ .
وَمِمَّنْ اسْتَحَبَّ الْمَشْيَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ ، وَغَيْرُهُمْ ؛ لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَرْكَبْ فِي عِيدٍ وَلَا جِنَازَةٍ } .
وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَخْرُجُ إلَى الْعِيدِ مَاشِيًا ، وَيَرْجِعُ مَاشِيًا } .
رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مِنْ السُّنَّةِ أَنْ يَأْتِيَ الْعِيدَ مَاشِيًا .
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ وَإِنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ ، وَكَانَ مَكَانُهُ بَعِيدًا فَرَكِبَ ، فَلَا بَأْسَ .
قَالَ أَحْمَدُ : رَحِمَهُ اللَّهُ نَحْنُ نَمْشِي وَمَكَانُنَا قَرِيبٌ ، وَإِنْ بَعُدَ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَرْكَبَ .
قَالَ : حَدَّثَنَا سَعِيدٌ ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَلَاءِ بْنِ زُبَيْرٍ ، أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ يَقُولُ : إنَّ الْفِطْرَ غَدًا ، فَامْشُوا إلَى مُصَلَّاكُمْ ، فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ يُفْعَلُ ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلْيَرْكَبْ ، فَإِذَا جَاءَ الْمَدِينَةَ فَلْيَمْشِ إلَى الْمُصَلَّى .
( 1407 ) فَصْلٌ : وَيُكَبِّرُ فِي طَرِيقِ الْعِيدِ ، وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالتَّكْبِيرِ ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ : " مُظْهِرِينَ لِلتَّكْبِيرِ " .
قَالَ أَحْمَدُ : يُكَبِّرُ جَهْرًا إذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ حَتَّى يَأْتِيَ الْمُصَلَّى .
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ ، وَأَبِي أُمَامَةَ ، وَأَبِي رُهْمٍ ، وَنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَأَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ .
وَفَعَلَهُ النَّخَعِيُّ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى .
وَبِهِ قَالَ الْحَكَمُ ، وَحَمَّادٌ ، وَمَالِكٌ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَابْنُ

الْمُنْذِرِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُكَبِّرُ يَوْمَ الْأَضْحَى ، وَلَا يُكَبِّرُ يَوْمَ الْفِطْرِ ؛ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سَمِعَ التَّكْبِيرَ يَوْمَ الْفِطْرِ ، فَقَالَ : مَا شَأْنُ النَّاسِ ؟ فَقِيلَ : يُكَبِّرُونَ .
فَقَالَ : أَمَجَانِينُ النَّاسُ ؟ وَقَالَ إبْرَاهِيمُ : إنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الْحَوَّاكُونَ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ فِعْلُ مَنْ ذَكَرْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَقَوْلُهُمْ .
قَالَ نَافِعٌ : كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُكَبِّرُ يَوْمَ الْعِيدِ فِي الْأَضْحَى وَالْفِطْرِ ، وَيُكَبِّرُ وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ .
وَقَالَ أَبُو جَمِيلَةَ : رَأَيْتُ عَلِيًّا ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَرَجَ يَوْمَ الْعِيدِ ، فَلَمْ يَزَلْ يُكَبِّرُ حَتَّى انْتَهَى إلَى الْجَبَّانَةِ .
فَأَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ فَكَانَ يَقُولُ : يُكَبِّرُونَ مَعَ الْإِمَامِ ، وَلَا يُكَبِّرُونَ وَحْدَهُمْ .
وَهَذَا خِلَافُ مَذْهَبِهِمْ .
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ يُكَبِّرُ حَتَّى يَأْتِيَ الْمُصَلَّى ؛ لِمَا ذَكَرْنَا عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرِهِ .
قَالَ الْأَثْرَمُ : قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ فِي الْجَهْرِ بِالتَّكْبِيرِ حَتَّى يَأْتِيَ الْمُصَلَّى ، أَوْ حَتَّى يَخْرُجَ الْإِمَامُ ؟ قَالَ : حَتَّى يَأْتِيَ الْمُصَلَّى .
وَقَالَ الْقَاضِي : فِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى : حَتَّى يَخْرُجَ الْإِمَامُ .

( 1408 ) فَصْلٌ : وَلَا بَأْسَ بِخُرُوجِ النِّسَاءِ يَوْمَ الْعِيدِ إلَى الْمُصَلَّى .
وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ : يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ ، وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، أَنَّهُمَا قَالَا : حَقٌّ عَلَى كُلِّ ذَاتِ نِطَاقٍ أَنْ تَخْرُجَ إلَى الْعِيدَيْنِ .
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُخْرِجُ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْ أَهْلِهِ فِي الْعِيدَيْنِ .
وَرَوَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ ، قَالَتْ { : أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نُخْرِجَهُنَّ فِي الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى : الْعَوَاتِقَ ، وَذَوَاتِ الْخُدُورِ ، فَأَمَّا الْحُيَّضُ فَيَعْتَزِلْنَ الصَّلَاةَ ، وَيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ ، وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ ، قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ : إحْدَانَا لَا يَكُونُ لَهَا جِلْبَابٌ ؟ قَالَ : لِتُلْبِسْهَا أُخْتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَهَذَا لَفْظُ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَلَفْظُ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ ، قَالَتْ : { كُنَّا نُؤْمَرُ أَنْ نَخْرُجَ يَوْمَ الْعِيدِ ، حَتَّى تَخْرُجَ الْبِكْرُ مِنْ خِدْرِهَا ، وَحَتَّى يَخْرُجَ الْحُيَّضُ فِيكُنَّ خَلْفَ النَّاسِ ، فَيُكَبِّرْنَ بِتَكْبِيرِهِمْ ، وَيَدْعُونَ بِدُعَائِهِمْ ، يَرْجُونَ بَرَكَةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَطُهْرَتَهُ } .
وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ ، { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ نِسَاءَ الْأَنْصَارِ فِي بَيْتٍ ، فَأَرْسَلَ إلَيْنَا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ، فَقَامَ عَلَى الْبَابِ ، فَسَلَّمَ ، فَرَدَدْنَا عَلَيْهِ ، فَقَالَ : أَنَا رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْكُنَّ ، وَأَمَرَنَا بِالْعِيدَيْنِ أَنْ نُخْرِجَ فِيهِمَا الْحُيَّضَ وَالْعُتَّقَ ، وَلَا جُمُعَةَ عَلَيْنَا ، وَنَهَانَا عَنْ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ } .
رَوَاهُ .
أَبُو دَاوُد .
وَقَالَ الْقَاضِي ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ غَيْرُ مُسْتَحَبٍّ .
وَكَرِهَهُ النَّخَعِيُّ ، وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيُّ ، وَقَالَا : لَا نَعْرِفُ خُرُوجَ الْمَرْأَةِ فِي الْعِيدَيْنِ عِنْدَنَا .
وَكَرِهَهُ سُفْيَانُ ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَرَخَّصَ أَهْلُ الرَّأْيِ لِلْمَرْأَةِ الْكَبِيرَةِ ، وَكَرِهُوهُ لِلشَّابَّةِ ؛ لِمَا فِي خُرُوجِهِنَّ مِنْ

الْفِتْنَةِ ، وَقَوْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَوْ رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَحْدَثَ النِّسَاءُ لَمَنَعَهُنَّ الْمَسَاجِدَ ، كَمَا مُنِعَتْ نِسَاءُ بَنِي إسْرَائِيلَ .
وَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَقُّ أَنْ تُتَّبَعَ .
وَقَوْلُ عَائِشَةَ مُخْتَصٌّ بِمَنْ أَحْدَثَتْ دُونَ غَيْرِهَا ، وَلَا شَكَّ بِأَنَّ تِلْكَ يُكْرَهُ لَهَا الْخُرُوجُ وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ لَهُنَّ الْخُرُوجُ غَيْرَ مُتَطَيِّبَاتٍ وَلَا يَلْبَسْنَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ وَلَا زِينَةٍ ، وَلَا يَخْرُجْنَ فِي ثِيَابِ الْبِذْلَةِ ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَلْيَخْرُجْنَ تَفِلَاتٍ } .
وَلَا يُخَالِطْنَ الرِّجَالَ ، بَلْ يَكُنَّ نَاحِيَةً مِنْهُمْ .

( 1409 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( فَإِذَا حَلَّتْ الصَّلَاةُ ، تَقَدَّمَ الْإِمَامُ فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ ) لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أَنَّ صَلَاةَ الْعِيدِ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَتَانِ ، وَفِيمَا تَوَاتَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ صَلَّى الْعِيدَ رَكْعَتَيْنِ ، وَفَعَلَهُ الْأَئِمَّةُ بَعْدَهُ إلَى عَصْرِنَا ، لَمْ نَعْلَمْ أَحَدًا فَعَلَ غَيْرَ ذَلِكَ ، وَلَا خَالَفَ فِيهِ .
وَقَدْ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : صَلَاةُ الْعِيدِ رَكْعَتَانِ ، تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ خَابَ مَنْ افْتَرَى وَقَوْلُهُ : " حَلَّتْ الصَّلَاةُ " يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ : أَحَدَهُمَا ، أَنَّ مَعْنَاهُ إذَا دَخَلَ وَقْتُهَا ، وَالصَّلَاةُ هَاهُنَا صَلَاةُ الْعِيدِ ، وَحَلَّتْ مِنْ الْحُلُولِ كَقَوْلِهِمْ : حَلَّ الدَّيْنُ .
إذَا جَاءَ أَجَلُهُ .
وَالثَّانِي ، مَعْنَاهُ إذَا أُبِيحَتْ الصَّلَاةُ .
يَعْنِي النَّافِلَةَ ، وَمَعْنَاهُ إذَا خَرَجَ وَقْتُ النَّهْيِ ، وَهُوَ إذَا ارْتَفَعَتْ الشَّمْسُ قِيدَ رُمْحٍ ، وَحَلَّتْ مِنْ الْحِلِّ وَهُوَ الْإِبَاحَةُ ، كَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ } .
وَهَذَا الْمَعْنَى أَحْسَنُ ، لِأَنَّ فِيهِ تَفْسِيرًا لِوَقْتِهَا ، وَتَعْرِيفًا لَهُ بِالْوَقْتِ الَّذِي عُرِفَ فِي مَكَان آخَرَ .
وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لَيْسَ فِيهِ بَيَانٌ ، لِوَقْتِهَا ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ وَقْتُهَا مِنْ حِينِ تَرْتَفِعُ الشَّمْسُ قِيدَ رُمْحٍ ، إلَى أَنْ يَقُومَ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ ، وَذَلِكَ مَا بَيْنَ وَقْتَيْ النَّهْيِ عَنْ صَلَاةِ النَّافِلَةِ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : أَوَّلُ وَقْتِهَا إذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ ؛ لِمَا رَوَى يَزِيدُ بْنُ خُمَيْرٍ ، قَالَ : خَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُسْرٍ ، صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَوْمِ عِيدِ فِطْرٍ أَوْ أَضْحًى ، فَأَنْكَرَ إبْطَاءَ الْإِمَامِ ، وَقَالَ : إنَّا كُنَّا قَدْ فَرَغْنَا سَاعَتَنَا هَذِهِ ، وَذَلِكَ حِينَ صَلَاةِ التَّسْبِيحِ .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَابْنُ مَاجَهْ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ قَالَ : {

ثَلَاثُ سَاعَاتٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَانَا أَنْ نُصَلِّيَ فِيهِنَّ ، وَأَنْ نَقْبُرَ فِيهِنَّ مَوْتَانَا ؛ حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ بَازِغَةً حَتَّى تَرْتَفِعَ } .
وَلِأَنَّهُ وَقْتٌ نُهِيَ عَنْ الصَّلَاةِ فِيهِ ، فَلَمْ يَكُنْ وَقْتًا لِلْعِيدِ ، كَقَبْلِ طُلُوعِ الشَّمْسِ ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ بَعْدَهُ لَمْ يُصَلُّوا حَتَّى ارْتَفَعَتْ الشَّمْسُ ، بِدَلِيلِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الْأَفْضَلَ فِعْلُهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ، وَلَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ إلَّا الْأَفْضَلَ وَالْأَوْلَى ، وَلَوْ كَانَ لَهَا وَقْتٌ قَبْلَ ذَلِكَ ، لَكَانَ تَقْيِيدُهُ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ تَحَكُّمًا بِغَيْرِ نَصٍّ وَلَا مَعْنَى نَصٍّ ، وَلَا يَجُوزُ التَّوْقِيتُ بِالتَّحَكُّمِ .
وَأَمَّا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ ، فَإِنَّهُ أَنْكَرَ إبْطَاءَ الْإِمَامِ عَنْ وَقْتِهَا الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ ، فَإِنَّهُ لَوْ حُمِلَ عَلَى غَيْرِ هَذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إبْطَاءً ، وَلَا جَازَ إنْكَارُهُ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي وَقْتِ النَّهْيِ ؛ لِأَنَّهُ مَكْرُوهٌ بِالِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ الْأَفْضَلَ خِلَافُهُ ، وَلَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُدَاوِمَ عَلَى الْمَكْرُوهِ وَلَا الْمَفْضُولِ ، وَلَوْ كَانَ يُدَاوِمُ عَلَى الصَّلَاةِ فِيهِ ، لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْأَفْضَلَ وَالْأَوْلَى ، فَتَعَيَّنَ حَمْلُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا .
( 1410 ) فَصْلٌ : وَيُسَنُّ تَقْدِيمُ الْأَضْحَى ؛ لِيَتَّسِعَ وَقْتُ التَّضْحِيَةِ ، وَتَأْخِيرُ الْفِطْرِ ؛ لِيَتَّسِعَ وَقْتُ إخْرَاجِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا .
وَقَدْ رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إلَى عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ : أَنْ أَخِّرْ صَلَاةَ الْفِطْرِ ، وَعَجِّلْ صَلَاةَ الْأَضْحَى } .
وَلِأَنَّ لِكُلِّ عِيدٍ وَظِيفَةً ، فَوَظِيفَةُ الْفِطْرِ إخْرَاجُ الْفِطْرَةِ ، وَوَقْتُهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ ، وَوَظِيفَةُ

الْأَضْحَى التَّضْحِيَةُ ، وَوَقْتُهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ وَفِي تَأْخِيرِ الْفِطْرِ وَتَقْدِيمِ الْأَضْحَى تَوْسِيعٌ لِوَظِيفَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا .

( 1411 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( بِلَا أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ ) وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا مِمَّنْ يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ ، إلَّا أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ أَذَّنَ وَأَقَامَ .
وَقِيلَ : أَوَّلُ مَنْ أَذَّنَ فِي الْعِيدِ ابْنُ زِيَادٍ .
وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ قَبْلَهُ ، عَلَى أَنَّهُ لَا يُسَنُّ لَهَا أَذَانٌ وَلَا إقَامَةٌ .
وَبِهِ يَقُولُ مَالِكٌ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي الْعِيدَ بِلَا أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ ، فَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الْعِيدَيْنِ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ } .
وَعَنْ جَابِرٍ مِثْلُهُ .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا .
وَقَالَ جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ : { صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِيدَ غَيْرَ مَرَّةٍ وَلَا مَرَّتَيْنِ ، بِلَا أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَعَنْ عَطَاءٍ ، قَالَ : أَخْبَرَنِي جَابِرٌ أَنْ لَا أَذَانَ يَوْمَ الْفِطْرِ حِينَ يَخْرُجُ الْإِمَامُ ، وَلَا بَعْدَ مَا يَخْرُجُ الْإِمَامُ ، وَلَا إقَامَةَ ، وَلَا نِدَاءَ وَلَا شَيْءَ ، لَا نِدَاءَ يَوْمَئِذٍ وَلَا إقَامَةَ .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : يُنَادَى لَهَا : الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ .
وَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَقُّ أَنْ تُتَّبَعَ .
( 1412 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَيَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مِنْهَا بِ " الْحَمْدُ لِلَّهِ " وَسُورَةٍ ، وَيَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ ) لَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أَنَّهُ يُشْرَعُ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ وَسُورَةٍ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مِنْ صَلَاةِ الْعِيدِ ، وَأَنَّهُ يُسَنُّ الْجَهْرُ ، إلَّا أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ إذَا قَرَأَ فِي الْعِيدَيْنِ أَسْمَعَ مَنْ يَلِيهِ ، وَلَمْ يَجْهَرْ ذَلِكَ الْجَهْرَ .
وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَرَوْنَ الْجَهْرَ بِالْقِرَاءَةِ ، وَفِي إخْبَارِ مَنْ أَخْبَرَ بِقِرَاءَةِ

النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَجْهَرُ ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةُ عِيدٍ ، فَأَشْبَهَتْ الْجُمُعَةَ .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ فِي الْأَوْلَى بِ ( سَبِّحْ ) ، وَفِي الثَّانِيَةِ بِالْغَاشِيَةِ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ؛ لِأَنَّ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ ، قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْعِيدَيْنِ وَفِي الْجُمُعَةِ بِ سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى وَ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ .
وَرُبَّمَا اجْتَمَعَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ ، فَقَرَأَ بِهِمَا } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَقْرَأُ بِ ( ق ) وَ ( اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ ) .
لِمَا رُوِيَ { أَنَّ عُمَرَ سَأَلَ أَبَا وَاقِدٍ اللَّيْثِيَّ : مَاذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ بِهِ فِي الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى ؟ فَقَالَ : كَانَ يَقْرَأُ بِ ق وَالْقُرْءَانِ الْمَجِيدِ ، وَ اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ يُوَقَّتُ وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقْرَأُ بِالْفَاتِحَةِ وَسُورَةٍ مِنْ الْمُفَصَّلِ .
وَمَهْمَا قَرَأَ بِهِ أَجْزَأَهُ ، وَكَانَ حَسَنًا ، إلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ أَحْسَنُ ؛ لِأَنَّ عُمَرَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَمِلَ بِهِ ، وَكَانَ ذَلِكَ مَذْهَبَهُ ، وَلِأَنَّ فِي ( سَبِّحْ ) الْحَثَّ عَلَى الصَّلَاةِ ، وَزَكَاةِ الْفِطْرِ .
عَلَى مَا قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } فَاخْتُصَّتْ الْفَضِيلَةُ بِهَا ، كَاخْتِصَاصِ الْجُمُعَةِ بِسُورَتِهَا .
( 1413 ) فَصْلٌ : وَتَكُونُ الْقِرَاءَةُ بَعْدَ التَّكْبِيرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَفُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ السَّبْعَةِ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَالزُّهْرِيِّ ، وَمَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَاللَّيْثِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يُوَالِي بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ .
وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يُكَبِّرُ فِي الْأَوْلَى قَبْلَ الْقِرَاءَةِ ، وَفِي

الثَّانِيَةِ بَعْدَهَا .
اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَحُذَيْفَةَ ، وَأَبِي مُوسَى ، وَأَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ وَالْحَسَنِ ، وَابْنِ سِيرِينَ ، وَالثَّوْرِيِّ وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى ، قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكَبِّرُ تَكْبِيرَهُ عَلَى الْجِنَازَةِ .
وَيُوَالِي بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَرَوَى أَبُو عَائِشَةَ ، جَلِيسٌ لِأَبِي هُرَيْرَةَ { ، أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ سَأَلَ أَبَا مُوسَى وَحُذَيْفَةَ : كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكَبِّرُ فِي الْأَضْحَى وَالْفِطْرِ ؟ فَقَالَ أَبُو مُوسَى : كَانَ يُكَبِّرُ أَرْبَعًا تَكْبِيرَهُ عَلَى الْجِنَازَةِ .
فَقَالَ حُذَيْفَةُ : صَدَقَ .
} وَلَنَا ، مَا رَوَى كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَبَّرَ فِي الْعِيدَيْنِ ، فِي الْأُولَى سَبْعًا قَبْلَ الْقِرَاءَةِ ، وَفِي الثَّانِيَةِ خَمْسًا قَبْلَ الْقِرَاءَةِ } .
رَوَاهُ الْأَثْرَمُ ، وَابْنُ مَاجَهْ ، وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ : هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ ، وَهُوَ أَحْسَنُ حَدِيثٍ فِي الْبَابِ .
وَعَنْ عَائِشَةَ ، { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُكَبِّرُ فِي الْعِيدَيْنِ سَبْعًا وَخَمْسًا قَبْلَ الْقِرَاءَةِ } .
رَوَاهُ أَحْمَدُ ، فِي " الْمُسْنَدِ " .
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { التَّكْبِيرُ فِي الْفِطْرِ سَبْعٌ فِي الْأُولَى ، وَخَمْسٌ فِي الْأَخِيرَةِ ، وَالْقِرَاءَةُ بَعْدَهُمَا كِلَيْهِمَا } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالْأَثْرَمُ ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ سَعْدٍ مُؤَذِّنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ ذَلِكَ .
وَحَدِيثُ أَبِي مُوسَى ضَعِيفٌ .
قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ وَلَيْسَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد أَنَّهُ وَالَى بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ ، ثُمَّ نَحْمِلُهُ عَلَى أَنَّهُ وَالَى بَيْنَ الْفَاتِحَةِ وَالسُّورَةِ ، لِأَنَّ قِرَاءَةَ الرَّكْعَتَيْنِ لَا يُمْكِنُ الْمُوَالَاةُ

بَيْنَهُمَا ؛ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَيُكَبِّرُ فِي الْأُولَى سَبْعَ تَكْبِيرَاتٍ ، مِنْهَا تَكْبِيرَةُ الِافْتِتَاحِ ) قَالَ : أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : يُكَبِّرُ فِي الْأُولَى سَبْعًا مَعَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ ، وَلَا يَعْتَدُّ بِتَكْبِيرَةِ الرُّكُوعِ ؛ لِأَنَّ بَيْنَهُمَا قِرَاءَةً ، وَيُكَبِّرُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ خَمْسَ تَكْبِيرَاتٍ ، وَلَا يَعْتَدُّ بِتَكْبِيرَةِ النُّهُوضِ ، ثُمَّ يَقْرَأُ فِي الثَّانِيَةِ ، ثُمَّ يُكَبِّرُ وَيَرْكَعُ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ السَّبْعَةِ ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَالزُّهْرِيِّ ، وَمَالِكٍ ، وَالْمُزَنِيِّ ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَابْنِ عُمَرَ ، وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيِّ ، قَالُوا : يُكَبِّرُ فِي الْأُولَى سَبْعًا وَفِي الثَّانِيَةِ خَمْسًا .
وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، إلَّا أَنَّهُمْ قَالُوا : يُكَبِّرُ سَبْعًا فِي الْأُولَى سِوَى تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ ؛ لِقَوْلِ عَائِشَةَ { : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكَبِّرُ فِي الْعِيدَيْنِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً سِوَى تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ } .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَأَنَسٍ ، وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، وَالنَّخَعِيِّ : يُكَبِّرُ سَبْعًا سَبْعًا : وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ : فِي الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا .
وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثَيْ أَبِي مُوسَى اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا .
وَلَنَا ، أَحَادِيثُ كَثِيرٍ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ، وَعَائِشَةَ ، الَّتِي قَدَّمْنَاهَا .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ حِسَانٍ { ، أَنَّهُ كَبَّرَ فِي الْعِيدِ سَبْعًا فِي الْأُولَى ، وَخَمْسًا فِي الثَّانِيَةِ .
} مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ، وَابْنِ عُمَرَ ، وَجَابِرٍ ، وَعَائِشَةَ ، وَأَبِي وَاقِدٍ ، وَعَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْمُزَنِيّ ، وَلَمْ يُرْوَ عَنْهُ مِنْ وَجْهٍ قَوِيٍّ وَلَا ضَعِيفٍ خِلَافُ هَذَا ، وَهُوَ أَوْلَى مَا عُمِلَ بِهِ .
وَحَدِيثُ عَائِشَةَ

الْمَعْرُوفُ عَنْهَا { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَبَّرَ فِي الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى سَبْعًا وَخَمْسًا سِوَى تَكْبِيرَتَيْ الرُّكُوعِ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَابْنُ مَاجَهْ .
وَحَدِيثُ أَبِي مُوسَى ضَعِيفٌ ، يَرْوِيهِ ، أَبُو عَائِشَةَ جَلِيسٌ لِأَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ غَيْرُ مَعْرُوفٍ .
( 1415 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ مَعَ كُلِّ تَكْبِيرَةٍ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَرْفَعَ يَدَيْهِ فِي حَالِ تَكْبِيرِهِ حَسَبَ رَفْعِهِمَا مَعَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ .
وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ مَالِكٌ ، وَالثَّوْرِيُّ : لَا يَرْفَعُهُمَا فِيمَا عَدَا تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ ؛ لِأَنَّهَا تَكْبِيرَاتٌ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ ؛ فَأَشْبَهَتْ تَكْبِيرَاتِ السُّجُودِ .
وَلَنَا ، مَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ مَعَ التَّكْبِيرِ .
} قَالَ أَحْمَدُ : أَمَّا أَنَا فَأَرَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يَدْخُلُ فِيهِ هَذَا كُلُّهُ .
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ ، أَنَّهُ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي كُلِّ تَكْبِيرَةٍ فِي الْجِنَازَةِ وَفِي الْعِيدِ .
رَوَاهُ الْأَثْرَمُ .
وَلَا يُعْرَفُ لَهُ مُخَالِفٌ فِي الصَّحَابَةِ ، وَلَا يُشْبِهُ هَذَا تَكْبِيرَ السُّجُودِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ يَقَعُ طَرَفَاهَا فِي حَالِ الْقِيَامِ ، فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ .

( 1416 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَيَسْتَفْتِحُ فِي أَوَّلِهَا ، وَيَحْمَدُ اللَّهَ وَيُثْنِي عَلَيْهِ ، وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ كُلِّ تَكْبِيرَتَيْنِ ، وَإِنْ أَحَبَّ قَالَ : اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهُ وَسَلَّمَ وَإِنْ أَحَبَّ قَالَ غَيْرَ ذَلِكَ .
وَيُكَبِّرُ فِي الثَّانِيَةِ خَمْسَ تَكْبِيرَاتٍ سِوَى التَّكْبِيرَةِ الَّتِي يَقُومُ بِهَا مِنْ السُّجُودِ ، وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ مَعَ كُلِّ تَكْبِيرَةٍ ) قَوْلُهُ : " يَسْتَفْتِحُ " .
يَعْنِي يَدْعُو بِدُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ عَقِيبَ التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى ، ثُمَّ يُكَبِّرُ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ ، ثُمَّ يَتَعَوَّذُ ثُمَّ يَقْرَأُ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى ، أَنَّ الِاسْتِفْتَاحَ بَعْدَ التَّكْبِيرَاتِ .
اخْتَارَهَا الْخَلَّالُ وَصَاحِبُهُ .
وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِفْتَاحَ تَلِيهِ الِاسْتِعَاذَةُ ، وَهِيَ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يَتَعَوَّذُ قَبْلَ التَّكْبِيرِ ؛ لِئَلَّا يَفْصِلَ بَيْنَ الِاسْتِفْتَاحِ وَالِاسْتِعَاذَةِ .
وَلَنَا ، أَنَّ الِاسْتِفْتَاحَ شُرِعَ لِيَسْتَفْتِحَ بِهِ الصَّلَاةَ ، فَكَانَ فِي أَوَّلِهَا كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ ، وَالِاسْتِعَاذَةُ شُرِعَتْ لِلْقِرَاءَةِ ، فَهِيَ تَابِعَةٌ لَهَا ، فَتَكُونُ عِنْدَ الِابْتِدَاءِ بِهَا ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } .
وَقَدْ رَوَى أَبُو سَعِيدٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَعَوَّذُ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ .
} وَإِنَّمَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ ؛ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ تَلِي الِاسْتِفْتَاحَ مِنْ غَيْرِ فَاصِلٍ ، فَلَزِمَ أَنْ يَلِيَهُ مَا يَكُونُ فِي أَوَّلِهَا ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا ، وَأَيًّا مَا فَعَلَ كَانَ جَائِزًا .
وَإِذَا فَرَغَ مِنْ الِاسْتِفْتَاحِ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ، وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ ثُمَّ فَعَلَ هَذَا بَيْنَ كُلِّ تَكْبِيرَتَيْنِ ، فَإِنْ قَالَ مَا ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ فَحَسَنٌ ؛ لِأَنَّهُ يَجْمَعُ مَا ذَكَرْنَاهُ ، وَإِنْ قَالَ غَيْرَهُ نَحْوَ أَنْ يَقُولَ : سُبْحَانَ اللَّهِ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ ، وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ .
أَوْ مَا شَاءَ مِنْ الذِّكْرِ ، فَجَائِزٌ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٌ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ : يُكَبِّرُ مُتَوَالِيًا ، لَا ذِكْرَ بَيْنَهُ ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ بَيْنَهُ ذِكْرٌ مَشْرُوعٌ لَنُقِلَ ، كَمَا نُقِلَ التَّكْبِيرُ ، وَلِأَنَّهُ ذِكْرٌ مِنْ جِنْسٍ مَسْنُونٍ ، فَكَانَ مُتَوَالِيًا ، كَالتَّسْبِيحِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى عَلْقَمَةُ ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ ، وَأَبَا مُوسَى ، وَحُذَيْفَةَ ، خَرَجَ عَلَيْهِمْ الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ قَبْلَ الْعِيدِ يَوْمًا ، فَقَالَ لَهُمْ : إنَّ هَذَا الْعِيدَ قَدْ دَنَا ، فَكَيْفَ التَّكْبِيرُ فِيهِ ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ تَبْدَأُ فَتُكَبِّرُ تَكْبِيرَةً تَفْتَتِحُ بِهَا الصَّلَاةَ ، وَتَحْمَدُ رَبَّكَ ، وَتُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ تَدْعُو وَتُكَبِّرُ ، وَتَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ ، ثُمَّ تَدْعُو وَتُكَبِّرُ ، وَتَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ ، ثُمَّ تَدْعُو وَتُكَبِّرُ ، وَتَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ ، ثُمَّ تَدْعُو وَتُكَبِّرُ ، وَتَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ ، ثُمَّ تَدْعُو وَتُكَبِّرُ ، وَتَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ ، ثُمَّ تَقْرَأُ ثُمَّ تُكَبِّرُ وَتَرْكَعُ ، ثُمَّ تَقُومُ فَتَقْرَأُ وَتَحْمَدُ رَبَّكَ ، وَتُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ تَدْعُو وَتُكَبِّرُ وَتَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ ، ثُمَّ تُكَبِّرُ وَتَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ ، ثُمَّ تُكَبِّرُ وَتَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ ، ثُمَّ تَرْكَعُ .
فَقَالَ حُذَيْفَةُ وَأَبُو مُوسَى : صَدَقَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ .
رَوَاهُ الْأَثْرَمُ ، فِي " سُنَنِهِ " وَلِأَنَّهَا تَكْبِيرَاتٌ حَالَ الْقِيَامِ فَاسْتُحِبَّ أَنْ يَتَخَلَّلَهَا ذِكْرٌ ، كَتَكْبِيرَاتِ الْجِنَازَةِ ، وَتُفَارِقُ التَّسْبِيحَ ، لِأَنَّهُ ذِكْرٌ يَخْفَى وَلَا يَظْهَرُ بِخِلَافِ التَّكْبِيرِ .
وَقِيَاسُهُمْ

مُنْتَقِضٌ بِتَكْبِيرَاتِ الْجِنَازَةِ .
قَالَ الْقَاضِي : يَقِفُ بَيْنَ كُلِّ تَكْبِيرَتَيْنِ بِقَدْرِ آيَةٍ ، لَا طَوِيلَةٍ وَلَا قَصِيرَةٍ .
وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ .
( 1417 ) فَصْلٌ : وَالتَّكْبِيرَاتُ وَالذِّكْرُ بَيْنهَا سُنَّةٌ ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ ، وَلَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِتَرْكِهِ عَمْدًا وَلَا سَهْوًا ، وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا ، فَإِنْ نَسِيَ التَّكْبِيرَ ، وَشَرَعَ فِي الْقِرَاءَةِ ، لَمْ يَعُدْ إلَيْهِ .
قَالَهُ ابْنُ عَقِيلٍ ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ ، لِأَنَّهُ سُنَّةٌ فَلَمْ يَعُدْ إلَيْهِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْقِرَاءَةِ ، كَالِاسْتِفْتَاحِ .
وَقَالَ الْقَاضِي : فِيهَا وَجْهٌ آخَرُ ، أَنَّهُ يَعُودُ إلَى التَّكْبِيرِ .
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، وَأَبِي ثَوْرٍ ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَهُ فِي مَحَلِّهِ ، فَيَأْتِي بِهِ كَمَا قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْقِرَاءَةِ ، وَهَذَا لِأَنَّ مَحَلَّهُ الْقِيَامُ ، وَقَدْ ذَكَرَهُ فِيهِ ، فَعَلَى هَذَا يَقْطَعُ الْقِرَاءَةَ وَيُكَبِّرُ ، ثُمَّ يَسْتَأْنِفُ الْقِرَاءَةَ ، لِأَنَّهُ قَطَعَهَا مُتَعَمِّدًا بِذِكْرٍ طَوِيلٍ .
وَإِنْ كَانَ الْمَنْسِيُّ شَيْئًا يَسِيرًا احْتَمَلَ أَنْ يَبْنِيَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَطُلْ الْفَصْلُ ، أَشْبَهَ مَا لَوْ قَطَعَهَا بِقَوْلِ " آمِينَ " .
وَاحْتَمَلَ أَنْ يَبْتَدِئَ ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ التَّكْبِيرِ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ ، وَمَحَلَّ الْقِرَاءَةِ بَعْدَهُ ، فَيَسْتَأْنِفُهَا ، لِيَأْتِيَ بِهَا بَعْدَهُ وَإِنْ ذَكَرَ التَّكْبِيرَ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ ، فَأَتَى بِهِ ، لَمْ يُعِدْ الْقِرَاءَةَ وَجْهًا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ مَوْقِعَهَا .
وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ حَتَّى رَكَعَ ، سَقَطَ وَجْهًا وَاحِدًا ، لِأَنَّهُ فَاتَ الْمَحَلَّ .
وَكَذَلِكَ الْمَسْبُوقُ إذَا أَدْرَكَ الرُّكُوعَ ، لَمْ يُكَبِّرْ فِيهِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُكَبِّرُ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْقِيَامِ ، بِدَلِيلِ إدْرَاكِ الرَّكْعَةِ بِهِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ ذِكْرٌ مَسْنُونٌ حَالَ الْقِيَامِ ، فَلَمْ يَأْتِ بِهِ فِي الرُّكُوعِ ، كَالِاسْتِفْتَاحِ ، وَقِرَاءَةِ السُّورَةِ ، وَالْقُنُوتِ عِنْدَهُ ، وَإِنَّمَا أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ بِإِدْرَاكِهِ ،

لِأَنَّهُ أَدْرَكَ مُعْظَمَهَا ، وَلَمْ يَفُتْهُ إلَّا الْقِيَامُ ، وَقَدْ حَصَلَ مِنْهُ مَا يُجْزِئُ فِي تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ .
فَأَمَّا الْمَسْبُوقُ إذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ بَعْدَ تَكْبِيرِهِ ، فَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : يُكَبِّرُ ؛ لِأَنَّهُ أَدْرَكَ مَحَلَّهُ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُكَبِّرَ ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْإِنْصَاتِ إلَى قِرَاءَةِ الْإِمَامِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ إنْ كَانَ يَسْمَعُ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ أَنْصَتَ ، وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا كَبَّرَ .
( 1418 ) فَصْلٌ : وَإِذَا شَكَّ فِي عَدَدِ التَّكْبِيرَاتِ بَنَى عَلَى الْيَقِينِ ، فَإِنْ كَبَّرَ ثُمَّ شَكَّ هَلْ نَوَى الْإِحْرَامَ أَوْ لَا ، ابْتَدَأَ الصَّلَاةَ هُوَ وَمَنْ خَلْفَهُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ النِّيَّةِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ وَسْوَاسًا ، فَلَا يَلْتَفِتْ إلَيْهِ .
وَسَائِرُ الْمَسْأَلَةِ قَدْ سَبَقَ شَرْحُهَا .

( 1419 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( فَإِذَا سَلَّمَ خَطَبَ بِهِمْ خُطْبَتَيْنِ ، يَجْلِسُ بَيْنَهُمَا ، فَإِنْ كَانَ فِطْرًا حَضَّهُمْ عَلَى الصَّدَقَةِ ، وَبَيَّنَ لَهُمْ مَا يُخْرِجُونَ ، وَإِنْ كَانَ أَضْحَى يُرَغِّبُهُمْ فِي الْأُضْحِيَّةِ ، وَيُبَيِّنُ لَهُمْ مَا يُضَحَّى بِهِ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ خُطْبَتَيْ الْعِيدَيْنِ بَعْدَ الصَّلَاةِ ، لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ، إلَّا عَنْ بَنِي أُمَيَّةَ .
وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُمَا فَعَلَاهُ ، وَلَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ عَنْهُمَا ، وَلَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِ بَنِي أُمَيَّةَ ؛ لِأَنَّهُ مَسْبُوقٌ بِالْإِجْمَاعِ الَّذِي كَانَ قَبْلَهُمْ ، وَمُخَالِفٌ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّحِيحَةِ ، وَقَدْ أُنْكِرَ عَلَيْهِمْ فِعْلُهُمْ ، وَعُدَّ بِدْعَةً وَمُخَالِفًا لِلسُّنَّةِ ، فَإِنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ : { إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ ، وَعُمَرَ ، وَعُثْمَانَ ، كَانُوا يُصَلُّونَ الْعِيدَيْنِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَرَوَاهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَاعَةٌ ، وَرَوَى طَارِقُ بْنُ شِهَابٍ قَالَ : قَدَّمَ مَرْوَانُ الْخُطْبَةَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَقَامَ رَجُلٌ ، فَقَالَ : خَالَفْتَ السُّنَّةَ ، كَانَتْ الْخُطْبَةُ بَعْدَ الصَّلَاةِ .
فَقَالَ : تُرِكَ ذَاكَ يَا أَبَا فُلَانٍ .
فَقَامَ أَبُو سَعِيدٍ ، فَقَالَ : أَمَّا هَذَا الْمُتَكَلِّمُ فَقَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ ، قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُنْكِرْهُ بِيَدِهِ ، فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيُنْكِرْهُ بِلِسَانِهِ ، فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيُنْكِرْهُ بِقَلْبِهِ ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ .
} .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ ، عَنْ شُعْبَةَ ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ ، عَنْ طَارِقٍ .
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ ، وَلَفْظُهُ : " فَلْيُغَيِّرْهُ " .
فَعَلَى هَذَا مَنْ خَطَبَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَهُوَ كَمَنْ لَمْ يَخْطُبْ ؛ لِأَنَّهُ خَطَبَ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْخُطْبَةِ ، أَشْبَهَ

مَا لَوْ خَطَبَ فِي الْجُمُعَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ صِفَةَ الْخُطْبَتَيْنِ كَصِفَةِ خُطْبَتَيْ الْجُمُعَةِ ، إلَّا أَنَّهُ يَسْتَفْتِحُ الْأُولَى بِتِسْعِ تَكْبِيرَاتٍ مُتَوَالِيَاتٍ ، وَالثَّانِيَةَ بِسَبْعٍ مُتَوَالِيَاتٍ .
قَالَ الْقَاضِي : وَإِنْ أَدْخَلَ بَيْنَهُمَا تَهْلِيلًا أَوْ ذِكْرًا فَحَسَنٌ .
وَقَالَ سَعِيدٌ : حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ ، قَالَ : يُكَبِّرُ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْعِيدِ قَبْلَ أَنْ يَخْطُبَ تِسْعَ تَكْبِيرَاتٍ ، ثُمَّ يَخْطُبُ ، وَفِي الثَّانِيَةِ سَبْعَ تَكْبِيرَاتٍ ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُكْثِرَ التَّكْبِيرَ فِي أَضْعَافِ خُطْبَتِهِ .
وَرَوَى سَعْدٌ مُؤَذِّنُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُكَبِّرُ بَيْنَ أَضْعَافِ الْخُطْبَةِ ، يُكْثِرُ التَّكْبِيرَ فِي خُطْبَتَيْ الْعِيدَيْنِ } .
رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ ، فَإِذَا كَبَّرَ فِي أَثْنَاءِ الْخُطْبَةِ كَبَّرَ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ يَوْمَ الْعِيدِ عَلَى الْمِنْبَرِ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ تَكْبِيرَةً ، وَيَجْلِسُ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ مَاجَهْ ، بِإِسْنَادِهِ ، عَنْ جَابِرٍ ، قَالَ : { خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فِطْرٍ أَوْ أَضْحًى ، فَخَطَبَ قَائِمًا ، ثُمَّ قَعَدَ قَعْدَةً ، ثُمَّ قَامَ .
} وَيَجْلِسُ عَقِيبَ صُعُودِهِ الْمِنْبَرَ .
وَقِيلَ : لَا يَجْلِسُ عَقِيبَ صُعُودِهِ ؛ لِأَنَّ الْجُلُوسَ فِي الْجُمُعَةِ لِلْأَذَانِ ، وَلَا أَذَانَ هَاهُنَا .
فَإِنْ كَانَ فِي الْفِطْرِ أَمَرَهُمْ بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ ، وَبَيَّنَ لَهُمْ وُجُوبَهَا ، وَثَوَابَهَا ، وَقَدْرَ الْمُخْرَجِ ، وَجِنْسَهُ ، وَعَلَى مَنْ تَجِبُ ، وَالْوَقْتَ الَّذِي يُخْرَجُ فِيهِ .
وَفِي الْأَضْحَى يَذْكُرُ الْأُضْحِيَّةَ ، وَفَضْلَهَا ، وَأَنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ ، وَمَا يُجْزِئُ فِيهَا ، وَوَقْتَ ذَبْحِهَا ، وَالْعُيُوبَ الَّتِي تَمْنَعُ مِنْهَا ، وَكَيْفِيَّةَ تَفْرِقَتِهَا ، وَمَا يَقُولُهُ عِنْدَ

ذَبْحِهَا ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرُجُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى إلَى الْمُصَلَّى ، فَأَوَّلُ مَا يَبْدَأُ بِهِ الصَّلَاةُ ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ فَيَقُومُ مُقَابِلَ النَّاسِ ، وَالنَّاسُ جُلُوسٌ عَلَى صُفُوفِهِمْ ، فَيَعِظُهُمْ وَيُوصِيهِمْ وَيَأْمُرُهُمْ ، وَإِنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَقْطَعَ بَعْثًا قَطَعَهُ ، أَوْ يَأْمُرَ بِشَيْءٍ أَمَرَ بِهِ ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ } .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ، وَرَوَى مُسْلِمٌ نَحْوَهُ .
وَعَنْ جَابِرٍ ، قَالَ : { شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ يَوْمَ الْعِيدِ ، فَبَدَأَ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ بِلَا أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ ، ثُمَّ قَامَ مُتَوَكِّئًا عَلَى بِلَالٍ ، فَأَمَرَ بِتَقْوَى اللَّهِ ، وَحَثَّ عَلَى طَاعَتِهِ ، وَوَعَظَ النَّاسَ فَذَكَّرَهُمْ ، ثُمَّ مَضَى حَتَّى أَتَى النِّسَاءَ فَوَعَظَهُنَّ وَذَكَّرَهُنَّ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَعَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ فَإِنَّمَا هُوَ شَاةُ لَحْمٍ عَجَّلَهُ لِأَهْلِهِ ، لَيْسَ مِنْ النُّسُكِ فِي شَيْءٍ ، وَمَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلْيَذْبَحْ مَكَانَهَا أُخْرَى ، وَمَنْ ذَبَحَ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَقَدْ تَمَّ نُسُكُهُ وَقَدْ أَصَابَ سُنَّةَ الْمُسْلِمِينَ } .
( 1420 ) فَصْلٌ : وَالْخُطْبَتَانِ سُنَّةٌ ، لَا يَجِبُ حُضُورُهَا وَلَا اسْتِمَاعُهَا ؛ لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ السَّائِبِ قَالَ : { شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِيدَ ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ ، قَالَ : إنَّا نَخْطُبُ فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَجْلِسَ لِلْخُطْبَةِ فَلْيَجْلِسْ ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَذْهَبَ فَلْيَذْهَبْ } .
رَوَاهُ النَّسَائِيّ ، وَابْنُ مَاجَهْ ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَقَالَ : هُوَ مُرْسَلٌ .
وَإِنَّمَا أُخِّرَتْ عَنْ الصَّلَاةِ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - لِأَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ غَيْرَ وَاجِبَةٍ جُعِلَتْ فِي وَقْتٍ يَتَمَكَّنُ مَنْ أَرَادَ تَرْكَهَا ، مِنْ تَرْكِهَا ، بِخِلَافِ خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ .
وَالِاسْتِمَاعُ لَهَا أَفْضَلُ .
وَقَدْ رُوِيَ

عَنْ الْحَسَنِ ، وَابْنِ سِيرِينَ ، أَنَّهُمَا كَرِهَا الْكَلَامَ يَوْمَ الْعِيدِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ .
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ : يَخْطُبُ الْإِمَامُ يَوْمَ الْعِيدِ قَدْرَ مَا يَرْجِعُ النِّسَاءُ إلَى بُيُوتِهِنَّ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ لَهُنَّ الْجُلُوسُ لِاسْتِمَاعِ الْخُطْبَةِ ، لِئَلَّا يَخْتَلِطْنَ بِالرِّجَالِ .
وَحَدِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوْعِظَتِهِ النِّسَاءَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ خُطْبَتِهِ ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُنَّ لَمْ يَنْصَرِفْنَ قَبْلَ فَرَاغِهِ ، وَسُنَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَقُّ بِالِاتِّبَاعِ .
( 1421 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَخْطُبَ قَائِمًا ؛ لِمَا رَوَى جَابِرٌ ، قَالَ : { خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فِطْرٍ أَوْ أَضْحًى ، فَخَطَبَ قَائِمًا ، ثُمَّ قَعَدَ ثُمَّ قَامَ } ، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
وَلِأَنَّهَا خُطْبَةُ عِيدٍ ، فَأَشْبَهَتْ خُطْبَةَ الْجُمُعَةِ .
وَإِنْ خَطَبَ قَاعِدًا فَلَا بَأْسَ ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ ، فَأَشْبَهَتْ صَلَاةَ النَّافِلَةِ .
وَإِنْ خَطَبَ عَلَى رَاحِلَتِهِ فَحَسَنٌ .
قَالَ سَعِيدٌ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ ، حَدَّثَنَا حُصَيْنٌ ، حَدَّثَنَا أَبُو جَمِيلَةَ ، قَالَ : رَأَيْتُ عَلِيًّا صَلَّى يَوْمَ عِيدٍ فَبَدَأَ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ ، ثُمَّ خَطَبَ عَلَى دَابَّتِهِ ، وَرَأَيْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ يَخْطُبُ عَلَى رَاحِلَتِهِ ، وَرَأَيْتُ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ يَخْطُبُ عَلَى رَاحِلَتِهِ .

( 1422 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَلَا يَتَنَفَّلُ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ ، وَلَا بَعْدَهَا ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ يُكْرَهُ التَّنَفُّلُ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ وَبَعْدَهَا لِلْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ فِي مَوْضِعِ الصَّلَاةِ ، سَوَاءٌ كَانَ فِي الْمُصَلَّى أَوْ الْمَسْجِدِ .
وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَابْنِ عُمَرَ ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ ، وَابْنِ مَسْعُودٍ ، وَحُذَيْفَةَ ، وَبُرَيْدَةَ ، وَسَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ ، وَجَابِرٍ ، وَابْنِ أَبِي أَوْفَى ، وَقَالَ بِهِ شُرَيْحٌ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَمَالِكٌ ، وَالضَّحَّاكُ ، وَالْقَاسِمُ ، وَسَالِمٌ ، وَمَعْمَرٌ ، وَابْنُ جُرَيْجٍ ، وَمَسْرُوقٌ .
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ : لَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْ عُلَمَائِنَا يَذْكُرُ أَنَّ أَحَدًا مِنْ سَلَفِ هَذِهِ الْأُمَّةِ كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ تِلْكَ الصَّلَاةِ وَلَا بَعْدَهَا .
يَعْنِي صَلَاةَ الْعِيدِ .
وَقَالَ : مَا صَلَّى قَبْلَ الْعِيدِ بَدْرِيٌّ .
وَنَهَى عَنْهُ أَبُو مَسْعُودٍ الْبَدْرِيُّ .
وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَأَى قَوْمًا يُصَلُّونَ قَبْلَ الْعِيدِ ، فَقَالَ : مَا كَانَ هَذَا يُفْعَلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقَالَ أَحْمَدُ : أَهْلُ الْمَدِينَةِ لَا يَتَطَوَّعُونَ قَبْلَهَا ، وَلَا بَعْدَهَا ، وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ يَتَطَوَّعُونَ قَبْلَهَا ، وَبَعْدَهَا ، وَأَهْلُ الْكُوفَةِ لَا يَتَطَوَّعُونَ قَبْلَهَا ، وَيَتَطَوَّعُونَ بَعْدَهَا .
وَهَذَا قَوْلُ عَلْقَمَةَ ، وَالْأَسْوَدِ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى ، وَالنَّخَعِيِّ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ .
وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَتَطَوَّعُ فِي الْمُصَلَّى قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا .
وَلَهُ فِي الْمَسْجِدِ رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا ، يَتَطَوَّعُ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ } .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُكْرَهُ التَّطَوُّعُ لِلْإِمَامِ دُونَ الْمَأْمُومِ ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ لَا يُسْتَحَبُّ لَهُ التَّشَاغُلُ عَنْ الصَّلَاةِ ، وَلَمْ يُكْرَهْ لِلْمَأْمُومِ ، لِأَنَّهُ

وَقْتٌ لَمْ يُنْهَ عَنْ الصَّلَاةِ فِيهِ ، أَشْبَهَ مَا بَعْدَ الزَّوَالِ .
وَلَنَا مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ يَوْمَ الْفِطْرِ ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ، لَمْ يُصَلِّ قَبْلَهُمَا وَلَا بَعْدَهُمَا } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ نَحْوَهُ .
وَلِأَنَّهُ إجْمَاعٌ كَمَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَغَيْرِهِ ، وَنَهَى أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ ، وَرَوَوْا الْحَدِيثَ وَعَمِلُوا بِهِ ، وَلِأَنَّهُ وَقْتٌ نُهِيَ الْإِمَامُ عَنْ التَّنَفُّلِ فِيهِ ، فَكُرِهَ لِلْمَأْمُومِ ، كَسَائِرِ أَوْقَاتِ النَّهْيِ ، وَكَمَا قَبْلَ الصَّلَاةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَكَمَا لَوْ كَانَ فِي الْمُصَلَّى عِنْد مَالِكٍ .
قَالَ الْأَثْرَمُ : قُلْت لِأَحْمَدَ : قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ : إنَّمَا تَرَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّطَوُّعَ لِأَنَّهُ كَانَ إمَامًا .
قَالَ أَحْمَدُ : فَاَلَّذِينَ رَوَوْا هَذَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَتَطَوَّعُوا .
ثُمَّ قَالَ ابْنُ عُمَرَ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، هُمَا رَاوِيَاهُ ، وَأَخَذَا بِهِ .
يُشِيرُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ إلَى أَنَّ عَمَلَ رَاوِي الْحَدِيثِ بِهِ تَفْسِيرٌ لَهُ ، وَتَفْسِيرُهُ يُقَدَّمُ عَلَى تَفْسِيرِ غَيْرِهِ .
وَلَوْ كَانَتْ الْكَرَاهَةُ لِلْإِمَامِ كَيْ لَا يَشْتَغِلَ عَنْ الصَّلَاةِ ، لَاخْتَصَّتْ بِمَا قَبْلَ الصَّلَاةِ ، إذْ لَمْ يَبْقَ بَعْدَهَا مَا يَشْتَغِلُ بِهِ ، وَلِأَنَّهُ تَنَفُّلٌ فِي الْمُصَلَّى وَقْتَ صَلَاةِ الْعِيدِ فَكُرِهَ ، كَاَلَّذِي سَلَّمُوهُ ، وَقِيَاسُهُمْ مُنْتَقِضٌ بِالْإِمَامِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَانَ يُكَبِّرُ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ سَبْعًا وَخَمْسًا ، وَيَقُولُ : لَا صَلَاةَ قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا } .
حَكَى ابْنُ عَقِيلٍ أَنَّ الْإِمَامَ ابْنَ بَطَّةَ رَوَاهُ بِإِسْنَادِهِ .

( 1423 ) فَصْلٌ : قِيلَ لِأَحْمَدَ : فَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُصَلِّي صَلَاةً فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ؟ قَالَ : أَخَافُ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ بَعْضُ مَنْ يَرَاهُ .
يَعْنِي لَا يُصَلِّي .
قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : وَكَرِهَ أَحْمَدُ أَنْ يَتَعَمَّدَ لِقَضَاءِ ، صَلَاةٍ ، وَقَالَ : أَخَافُ أَنْ يَقْتَدُوا بِهِ ( 1424 ) .
فَصْلٌ : وَإِنَّمَا يُكْرَهُ التَّنَفُّلُ فِي مَوْضِعِ الصَّلَاةِ ، فَأَمَّا فِي غَيْرِهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ خَرَجَ مِنْهُ ، ثُمَّ عَادَ إلَيْهِ بَعْدَ الصَّلَاةِ ، فَلَا بَأْسَ بِالتَّطَوُّعِ فِيهِ .
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ : سَمِعْت أَبِي يَقُولُ : رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُصَلِّ قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا } .
وَرَأَيْتُهُ يُصَلِّي بَعْدَهَا رَكَعَاتٍ فِي الْبَيْتِ ، وَرُبَّمَا صَلَّاهَا فِي الطَّرِيقِ ، يَدْخُلُ بَعْضَ الْمَسَاجِدِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ ، قَالَ { : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُصَلِّي قَبْلَ الْعِيدِ شَيْئًا فَإِذَا رَجَعَ إلَى مَنْزِلِهِ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ } .
رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
وَلِأَنَّهُ إنَّمَا تَرَكَ الصَّلَاةَ فِي مَوْضِعِ الصَّلَاةِ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ ، وَلِاشْتِغَالِهِ بِالصَّلَاةِ وَانْتِظَارِهَا ، وَهَذَا مَعْدُومٌ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الصَّلَاةِ .

( 1425 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَإِذَا غَدَا مِنْ طَرِيقٍ رَجَعَ مِنْ غَيْرِهِ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الرُّجُوعَ فِي غَيْرِ الطَّرِيقِ الَّتِي غَدَا مِنْهَا سُنَّةٌ .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَفْعَلُهُ ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا خَرَجَ يَوْمَ الْعِيدِ فِي طَرِيقٍ رَجَعَ فِي غَيْرِهِ } .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ .
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ : إنَّمَا فَعَلَ هَذَا قَصْدًا لِسُلُوكِ الْأَبْعَدِ فِي الذَّهَابِ لِيَكْثُرَ ثَوَابُهُ وَخُطُوَاتُهُ إلَى الصَّلَاةِ .
وَيَعُودُ فِي الْأَقْرَبِ لِأَنَّهُ أَسْهَلُ وَهُوَ رَاجِعٌ إلَى مَنْزِلِهِ .
وَقِيلَ : كَانَ يُحِبُّ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ الطَّرِيقَانِ .
وَقِيلَ : كَانَ يُحِبُّ الْمُسَاوَاةَ بَيْن أَهْلِ الطَّرِيقَيْنِ فِي التَّبَرُّكِ بِمُرُورِهِ بِهِمْ ، وَسُرُورِهِمْ بِرُؤْيَتِهِ ، وَيَنْتَفِعُونَ بِمَسْأَلَتِهِ .
وَقِيلَ : لِتَحْصُلَ الصَّدَقَةُ مِمَّنْ صَحِبَهُ عَلَى أَهْلَ الطَّرِيقَيْنِ مِنْ الْفُقَرَاءِ .
وَقِيلَ : لِتَبَرُّكِ الطَّرِيقَيْنِ بِوَطْئِهِ عَلَيْهِمَا .
وَفِي الْجُمْلَةِ الِاقْتِدَاءُ بِهِ سُنَّةٌ ؛ لِاحْتِمَالِ بَقَاءِ الْمَعْنَى الَّذِي فَعَلَهُ مِنْ أَجْلِهِ ، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَفْعَلُ الشَّيْءَ لِمَعْنَى وَيَبْقَى فِي حَقِّ غَيْرِهِ سُنَّةً ، مَعَ زَوَالِ الْمَعْنَى ، كَالرَّمَلِ وَالِاضْطِبَاعِ فِي طَوَافِ الْقُدُومِ ، فَعَلَهُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ لِإِظْهَارِ الْجَلَدِ لِلْكُفَّارِ ، وَبَقِيَ سُنَّةً بَعْدَ زَوَالِهِمْ .
وَلِهَذَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : فِيمَ الرَّمَلَانُ الْآنَ ، وَلِمَنْ نُبْدِي مَنَاكِبَنَا وَقَدْ نَفَى اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ ؟ ثُمَّ قَالَ مَعَ ذَلِكَ : لَا نَدَعُ شَيْئًا فَعَلْنَاهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

( 1426 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَمَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعِيدِ صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ ، كَصَلَاةِ التَّطَوُّعِ ، وَإِنْ أَحَبَّ فَصَلَّ بِسَلَامٍ بَيْنَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ ) .
وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعِيدِ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ ، قَامَ بِهَا مَنْ حَصَلَتْ الْكِفَايَةُ بِهِ ، فَإِنْ أَحَبَّ قَضَاءَهَا فَهُوَ مُخَيَّرٌ ، إنْ شَاءَ صَلَّاهَا أَرْبَعًا ، إمَّا بِسَلَامٍ وَاحِدٍ وَإِمَّا بِسَلَامَيْنِ .
وَرُوِيَ هَذَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ ؛ وَذَلِكَ لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ ، أَنَّهُ قَالَ : مَنْ فَاتَهُ الْعِيدُ فَلْيُصَلِّ أَرْبَعًا ، وَمَنْ فَاتَتْهُ الْجُمُعَةُ فَلْيُصَلِّ أَرْبَعًا .
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : إنْ أَمَرْت رَجُلًا أَنْ يُصَلِّيَ بِضَعَفَةِ النَّاسِ ، أَمَرْته أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا .
رَوَاهُمَا سَعِيدٌ .
قَالَ أَحْمَدُ ، رَحِمَهُ اللَّهُ : يُقَوِّي ذَلِكَ حَدِيثُ عَلِيٍّ ، أَنَّهُ أَمَرَ رَجُلًا يُصَلِّي بِضَعَفَةِ النَّاسِ أَرْبَعًا ، وَلَا يَخْطُبُ .
وَلِأَنَّهُ قَضَاءُ صَلَاةِ عِيدٍ ، فَكَانَ أَرْبَعًا كَصَلَاةِ الْجُمُعَةِ ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ كَصَلَاةِ التَّطَوُّعِ .
وَهَذَا قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ لِأَنَّ ذَلِكَ تَطَوُّعٌ .
وَإِنْ شَاءَ صَلَّاهَا عَلَى صِفَةِ صَلَاةِ الْعِيدِ بِتَكْبِيرٍ .
نَقَلَ ذَلِكَ عَنْ أَحْمَدَ إسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ ، وَاخْتَارَهُ الْجُوزَجَانِيُّ .
وَهَذَا قَوْلُ النَّخَعِيِّ ، وَمَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ ، أَنَّهُ كَانَ إذَا لَمْ يَشْهَدْ الْعِيدَ مَعَ الْإِمَامِ بِالْبَصْرَةِ جَمَعَ أَهْلَهُ وَمَوَالِيهِ ، ثُمَّ قَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي عُتْبَةَ مَوْلَاهُ فَيُصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ ، يُكَبِّرُ فِيهِمَا .
وَلِأَنَّهُ قَضَاءُ صَلَاةٍ ، فَكَانَ عَلَى صِفَتِهَا ، كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ ، وَهُوَ مُخَيَّرٌ ، إنْ شَاءَ صَلَّاهَا وَحْدَهُ ، وَإِنْ شَاءَ فِي جَمَاعَةٍ .
قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : أَيْنَ يُصَلِّي ؟ قَالَ : إنْ شَاءَ مَضَى إلَى الْمُصَلَّى ، وَإِنْ شَاءَ حَيْثُ شَاءَ .
(

1427 ) فَصْلٌ : وَإِنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي التَّشَهُّدِ جَلَسَ مَعَهُ ، فَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ قَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ، يَأْتِي فِيهِمَا بِالتَّكْبِيرِ ؛ لِأَنَّهُ أَدْرَكَ بَعْضَ الصَّلَاةِ الَّتِي لَيْسَتْ مُبْدَلَةً مِنْ أَرْبَعٍ ، فَقَضَاهَا عَلَى صِفَتِهَا كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ .
وَإِنْ أَدْرَكَهُ فِي الْخُطْبَةِ ، فَإِنْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ صَلَّى تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ ؛ لِأَنَّهَا إذَا صُلِّيَتْ فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ الَّتِي يَجِبُ الْإِنْصَاتُ لَهَا ، فَفِي خُطْبَةِ الْعِيدِ أَوْلَى ، وَلَا يَكُونُ حُكْمُهُ فِي تَرْكِ التَّحِيَّةِ حُكْمَ مَنْ أَدْرَكَ الْعِيدَ .
وَقَالَ الْقَاضِي : يَجْلِسُ فَيَسْتَمِعُ الْخُطْبَةَ ، وَلَا يُصَلِّي ؛ لِئَلَّا يَشْتَغِلَ بِالصَّلَاةِ عَنْ اسْتِمَاعِ الْخُطْبَةِ .
وَهَذَا التَّعْلِيلُ يَبْطُلُ بِالدَّاخِلِ فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ الدَّاخِلَ بِالرُّكُوعِ ، مَعَ أَنَّ خُطْبَةَ الْجُمُعَةِ آكَدُ .
فَأَمَّا إنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْجِدِ ، فَإِنَّهُ يَجْلِسُ فَيَسْتَمِعُ ، ثُمَّ إنْ أَحَبَّ قَضَى صَلَاةَ الْعِيدِ ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ .

( 1428 ) فَصْلٌ : إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِيَوْمِ الْعِيدِ إلَّا بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ ، خَرَجَ مِنْ الْغَدِ ، فَصَلَّى بِهِمْ الْعِيدَ .
وَهَذَا قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَإِسْحَاقَ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ .
وَصَوَّبَهُ الْخَطَّابِيُّ .
وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا لَا تُقْضَى .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إنْ عَلِمَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ كَقَوْلِنَا ، وَإِنْ عَلِمَ بَعْدَ الزَّوَالِ لَمْ يُصَلِّ ، لِأَنَّهَا صَلَاةٌ شُرِعَ لَهَا الِاجْتِمَاعُ وَالْخُطْبَةُ ، فَلَا تُقْضَى بَعْدَ فَوَاتِ وَقْتِهَا ، كَصَلَاةِ الْجُمُعَةِ .
وَإِنَّمَا يُصَلِّيهَا إذَا عَلِمَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ ؛ لِأَنَّ الْعِيدَ هُوَ الْغَدُ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { فِطْرُكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ ، وَأَضْحَاكُمْ يَوْمَ تُضَحُّونَ ، وَعَرَفَتُكُمْ يَوْمَ تُعَرِّفُونَ } .
وَلَنَا ، مَا رَوَى أَبُو عُمَيْرِ بْنُ أَنَسٍ ، عَنْ عُمُومَةٍ لَهُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّ رَكْبًا جَاءُوا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَهِدُوا أَنَّهُمْ رَأَوْا الْهِلَالَ بِالْأَمْسِ ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يُفْطِرُوا .
فَإِذَا أَصْبَحُوا أَنْ يَغْدُوا إلَى مُصَلَّاهُمْ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
قَالَ الْخَطَّابِيُّ : سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى ، وَحَدِيثُ أَبِي عُمَيْرٍ صَحِيحٌ ، فَالْمَصِيرُ إلَيْهِ وَاجِبٌ .
وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ مُؤَقَّتَةٌ ، فَلَا تَسْقُطُ بِفَوَاتِ الْوَقْتِ ، كَسَائِرِ الْفَرَائِضِ ، وَقِيَاسُهُمْ عَلَى الْجُمُعَةِ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهَا مَعْدُولٌ بِهَا عَنْ الظُّهْرِ بِشَرَائِطَ مِنْهَا الْوَقْتُ ، فَإِذَا فَاتَ وَاحِدٌ مِنْهَا رَجَعَ إلَى الْأَصْلِ .

( 1429 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا الْوَاحِد إذَا فَاتَتْهُ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ ، وَأَحَبَّ قَضَاءَهَا ، قَضَاهَا مَتَى أَحَبَّ .
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : لَا يَقْضِيهَا إلَّا مِنْ الْغَدِ ، قِيَاسًا عَلَى الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا .
وَهَذَا لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ مَا يَفْعَلُهُ تَطَوُّعٌ ، فَمَتَى أَحَبَّ أَتَى بِهِ ، وَفَارَقَ مَا إذَا لَمْ يَعْلَمْ الْإِمَامُ وَالنَّاسُ ، لِأَنَّ النَّاسَ تَفَرَّقُوا يَوْمئِذٍ عَلَى أَنَّ الْعِيدَ فِي الْغَدِ ، فَلَا يَجْتَمِعُونَ إلَّا مِنْ الْغَدِ ، وَلَا كَذَلِكَ هَاهُنَا ، فَإِنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى اجْتِمَاعِ الْجَمَاعَةِ .
وَلِأَنَّ صَلَاةَ الْإِمَامِ هِيَ الصَّلَاةُ الْوَاجِبَةُ ، الَّتِي يُعْتَبَرُ لَهَا شُرُوطُ الْعِيدِ وَمَكَانُهُ وَصِفَةُ صَلَاتِهِ ، فَاعْتُبِرَ لَهَا الْوَقْتُ ، وَهَذَا بِخِلَافِهِ .

( 1430 ) فَصْلٌ : وَيُشْتَرَطُ الِاسْتِيطَانُ لِوُجُوبِهَا ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُصَلِّهَا فِي سَفَرِهِ .
وَلَا خُلَفَاؤُهُ وَكَذَلِكَ الْعَدَدُ الْمُشْتَرَطُ لِلْجُمُعَةِ ؛ لِأَنَّهَا صَلَاةُ عِيدٍ ، فَأَشْبَهَتْ الْجُمُعَةَ .
وَفِي إذْنِ الْإِمَامِ رِوَايَتَانِ : أَصَحُّهُمَا ، لَيْسَ بِشَرْطٍ .
وَلَا يُشْتَرَطُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لِصِحَّتِهَا ، لِأَنَّهَا تَصِحُّ مِنْ الْوَاحِدِ فِي الْقَضَاءِ ، وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ رِوَايَتَانِ .
وَقَالَ الْقَاضِي : كَلَامُ أَحْمَدَ يَقْتَضِي رِوَايَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا ، لَا يُقَامُ الْعِيدُ إلَّا حَيْثُ تُقَامُ الْجُمُعَةُ وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنَّهُ لَا يَرَى ذَلِكَ إلَّا فِي مِصْرٍ ، لِقَوْلِهِ : لَا جُمُعَة وَلَا تَشْرِيقَ إلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ .
وَالثَّانِيَةُ ، يُصَلِّيهَا الْمُنْفَرِدُ وَالْمُسَافِرُ ، وَالْعَبْدُ وَالنِّسَاءُ ، عَلَى كُلِّ حَالٍ .
وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَالشَّافِعِيِّ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهَا الِاسْتِيطَانُ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ شَرْطِهَا الْجَمَاعَةُ ، كَالنَّوَافِلِ ، إلَّا أَنَّ الْإِمَامَ إذَا خَطَبَ مَرَّةً ، ثُمَّ أَرَادُوا أَنْ يُصَلُّوا ، لَمْ يَخْطُبُوا وَصَلَّوْا بِغَيْرِ خُطْبَةٍ ، كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى تَفْرِيق الْكَلِمَةِ ، وَالتَّفْصِيلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى مَا قِيلَ بِهِ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

( 1431 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَيَبْتَدِئُ التَّكْبِيرَ يَوْمَ عَرَفَةَ مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ ) لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ ، فِي أَنَّ التَّكْبِيرَ مَشْرُوعٌ فِي عِيدِ النَّحْرِ ، وَاخْتَلَفُوا فِي مُدَّتِهِ ، فَذَهَبَ إمَامُنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى أَنَّهُ مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ إلَى الْعَصْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ .
وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ ، وَعَلِيٍّ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الثَّوْرِيُّ ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ وَأَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٌ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَالشَّافِعِيُّ فِي بَعْضِ أَقْوَالِهِ .
وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ مِنْ غَدَاةِ عَرَفَةَ إلَى الْعَصْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ .
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عَلْقَمَةُ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ؛ لِقَوْلِهِ : { وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ } وَهِيَ الْعَشْرُ ، وَأَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يُكَبِّرُ قَبْلَ يَوْمِ عَرَفَةَ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُكَبِّرَ يَوْمَ عَرَفَةَ وَيَوْمَ النَّحْرِ .
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، أَنَّ التَّكْبِيرَ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ يَوْمَ النَّحْرِ إلَى الصُّبْحِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ .
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ تَبَعٌ لِلْحَاجِّ ، وَالْحُجَّاجُ يَقْطَعُونَ التَّلْبِيَةَ مَعَ أَوَّلِ حَصَاةٍ ، وَيُكَبِّرُونَ مَعَ الرَّمْيِ ، وَإِنَّمَا يَرْمُونَ يَوْمَ النَّحْرِ ، فَأَوَّلُ صَلَاةٍ بَعْدَ ذَلِكَ الظُّهْرُ ، وَآخِرُ صَلَاةٍ يُصَلُّونَ بِمِنًى الْفَجْرَ مِنْ الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى جَابِرٌ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الصُّبْحَ يَوْمَ عَرَفَةَ ، وَأَقْبَلَ عَلَيْنَا ، فَقَالَ : اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ .
وَمَدَّ التَّكْبِيرَ إلَى الْعَصْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ } .
أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ مِنْ طُرُقٍ ، وَفِي بَعْضِهَا : " اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ " .

وَلِأَنَّهُ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ ، وَعَلِيٍّ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَوَاهُ سَعِيدٌ عَنْ عُمَرَ ، وَعَلِيٍّ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَرَوَى بِإِسْنَادِهِ عَنْ عُمَيْرِ بْنِ سَعِيدٍ ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ كَانَ يُكَبِّرُ مِنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ يَوْمَ عَرَفَةَ إلَى الْعَصْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ ، فَأَتَانَا عَلِيٌّ بَعْدَهُ فَكَبَّرَ مِنْ غَدَاةِ عَرَفَةَ إلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ : اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ .
قِيلَ لِأَحْمَدْ ، رَحِمَهُ اللَّهُ : بِأَيِّ حَدِيثٍ تَذْهَبُ ، إلَى أَنَّ التَّكْبِيرَ مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ إلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ؟ قَالَ : بِالْإِجْمَاعِ عُمَرُ ، وَعَلِيٌّ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ } .
وَهِيَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ ، فَتَعَيَّنَ الذِّكْرُ فِي جَمِيعِهَا .
وَلِأَنَّهَا أَيَّامٌ يُرْمَى فِيهَا ، فَكَانَ التَّكْبِيرُ فِيهَا كَيَوْمِ النَّحْرِ .
وقَوْله تَعَالَى : { وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ } .
فَالْمُرَادُ بِهِ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْهَدَايَا وَالْأَضَاحِيّ .
وَيُسْتَحَبُّ التَّكْبِيرُ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْأَنْعَامِ فِي جَمِيعِ الْعَشْرِ ، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ قَوْلِهِمْ وَتَفْسِيرِهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْمَلُوا بِهِ فِي كُلِّ الْعَشْرِ وَلَا فِي أَكْثَرِهِ ، وَإِنْ صَحَّ قَوْلُهُمْ فَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالذِّكْرِ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ ، وَهِيَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ ، فَيُعْمَلُ بِهِ أَيْضًا .
وَأَمَّا الْمُحْرِمُونَ فَإِنَّهُمْ يُكَبِّرُونَ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ يَوْمَ النَّحْرِ ؛ لِمَا ذَكَرُوهُ ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَشْغُولِينَ قَبْلَ ذَلِكَ بِالتَّلْبِيَةِ ، وَغَيْرُهُمْ يَبْتَدِئُ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ ؛ لِعَدَمِ الْمَانِعِ فِي حَقِّهِمْ مَعَ وُجُودِ الْمُقْتَضِي .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّ النَّاسَ تَبَعٌ لَهُمْ فِي هَذَا .
دَعْوَى مُجَرَّدَةٌ ، لَا

دَلِيلَ عَلَيْهَا ، فَلَا تُسْمَعُ .

( 1432 ) فَصْلٌ : وَصِفَةُ التَّكْبِيرِ : اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ .
وَهَذَا قَوْلُ عُمَرَ ، وَعَلِيٍّ ، وَابْنِ مَسْعُودٍ .
وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَإِسْحَاقُ ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ ، إلَّا أَنَّهُ زَادَ : عَلَى مَا هَدَانَا .
لِقَوْلِهِ : { لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } .
وَقَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، يَقُول : اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ ثَلَاثًا ؛ لِأَنَّ جَابِرًا صَلَّى فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ ، قَالَ : اللَّهُ أَكْبَرُ ، اللَّهُ أَكْبَرُ ، اللَّهُ أَكْبَرُ .
وَهَذَا لَا يَقُولُهُ إلَّا تَوْقِيفًا ، وَلِأَنَّ التَّكْبِيرَ شِعَارُ الْعِيدِ ، فَكَانَ وِتْرًا ، كَتَكْبِيرِ الصَّلَاةِ وَالْخُطْبَةِ .
وَلَنَا ، خَبَرُ جَابِرٍ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ نَصٌّ فِي كَيْفِيَّةِ التَّكْبِيرِ ، وَأَنَّهُ قَوْلُ الْخَلِيفَتَيْنِ الرَّاشِدَيْنِ ، وَقَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَقَوْلُ جَابِرٍ لَا يُسْمَعُ مَعَ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يُقَدَّمُ عَلَى قَوْلِ أَحَدٍ مِمَّنْ ذَكَرْنَا ، فَكَيْفَ قَدَّمُوهُ عَلَى قَوْلِ جَمِيعِهِمْ ؟ وَلِأَنَّهُ تَكْبِيرٌ خَارِجَ الصَّلَاةِ ، فَكَانَ شَفْعًا ، كَتَكْبِيرِ الْأَذَانِ .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّ جَابِرًا لَا يَفْعَلُهُ إلَّا تَوْقِيفًا .
فَاسِدٌ ؛ لَوُجُوهٍ : أَحَدُهَا ، أَنَّهُ قَدْ رَوَى خِلَافَ قَوْلِهِ ، فَكَيْفَ يَتْرُكُ مَا صَرَّحَ بِهِ لِاحْتِمَالِ وُجُودِ ضِدِّهِ ؟ الثَّانِي ، أَنَّهُ إنْ كَانَ قَوْلُهُ تَوْقِيفًا ، كَانَ قَوْلُ مَنْ خَالَفَهُ تَوْقِيفًا ، فَكَيْفَ قَدَّمُوا الضَّعِيفَ عَلَى مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ ، مَعَ إمَامَةِ مَنْ خَالَفَهُ وَفَضْلِهِمْ فِي الْعِلْمِ عَلَيْهِ ، وَكَثْرَتِهِمْ ؟ الثَّالِثُ ، أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَذْهَبٍ لَهُمْ ، فَإِنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ لَا يُحْمَلُ عَلَى التَّوْقِيفِ عِنْدَهُمْ .
الرَّابِعُ ، أَنَّهُ إنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى التَّوْقِيفِ مَا خَالَفَ الْأُصُولَ ، وَذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى لَا يُخَالِفُ الْأَصْلَ ، وَلَا سِيَّمَا إذَا كَانَ وِتْرًا .

( 1433 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( ثُمَّ لَا يَزَالُ يُكَبِّرُ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ صَلَّاهَا فِي جَمَاعَةٍ ، وَعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ، رَحِمَهُ اللَّهُ ، أَنَّهُ يُكَبِّرُ لِصَلَاةِ الْفَرْضِ ، وَإِنْ كَانَ وَحْدَهُ ، حَتَّى يُكَبِّرَ لِصَلَاةِ الْعَصْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ، ثُمَّ يَقْطَعُ ) الْمَشْرُوعُ عِنْدَ إمَامِنَا ، رَحِمَهُ اللَّهُ ، التَّكْبِيرُ عَقِيبَ الْفَرَائِضِ فِي الْجَمَاعَاتِ ، فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ .
قَالَ الْأَثْرَمُ : قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : أَذْهَبُ إلَى فِعْلِ ابْنِ عُمَرَ ، أَنَّهُ كَانَ لَا يُكَبِّرُ إذَا صَلَّى وَحْدَهُ ؟ قَالَ أَحْمَدُ : نَعَمْ .
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : إنَّمَا التَّكْبِيرُ عَلَى مَنْ صَلَّى فِي جَمَاعَةٍ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الثَّوْرِيِّ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يُكَبِّرُ عَقِيبَ النَّوَافِلِ ، وَيُكَبِّرُ عَقِيبَ الْفَرَائِضِ كُلِّهَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُكَبِّرُ عَقِيبَ كُلِّ صَلَاةٍ ، فَرِيضَةً كَانَتْ ، أَوْ نَافِلَةً ، مُنْفَرِدًا صَلَّاهَا ، أَوْ فِي جَمَاعَةٍ ؛ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ مَفْعُولَةٌ ، فَيُكَبِّرُ عَقِيبَهَا ، كَالْفَرْضِ فِي جَمَاعَةٍ .
وَلَنَا ، قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَفِعْلُ ابْنِ عُمَرَ ، وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُمَا مُخَالِفٌ فِي الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، فَكَانَ إجْمَاعًا .
وَلِأَنَّهُ ذِكْرٌ مُخْتَصٌّ بِوَقْتِ الْعِيدِ .
فَاخْتُصَّ بِالْجَمَاعَةِ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ مَشْرُوعِيَّتِهِ لِلْفَرَائِضِ مَشْرُوعِيَّتُهُ لِلنَّوَافِلِ ، كَالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ .
وَعَنْ أَحْمَدَ ، رَحِمَهُ اللَّهُ ، رِوَايَةٌ أُخْرَى ، أَنَّهُ يُكَبِّرُ لِلْفَرْضِ ، وَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا .
وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ ؛ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ مُسْتَحَبٌّ لِلْمَسْبُوقِ ، فَاسْتُحِبَّ لِلْمُنْفَرِدِ ، كَالسَّلَامِ .

( 1434 ) فَصْلٌ : وَالْمُسَافِرُونَ كَالْمُقِيمِينَ ، فِيمَا ذَكَرْنَا ، وَكَذَلِكَ النِّسَاءُ يُكَبِّرْنَ فِي الْجَمَاعَةِ ، وَفِي تَكْبِيرِهِنَّ فِي الِانْفِرَادِ رِوَايَتَانِ كَالرِّجَالِ .
قَالَ ابْنُ مَنْصُورٍ : قُلْت لِأَحْمَدَ ، قَالَ سُفْيَانُ : لَا يُكَبِّرُ النِّسَاءُ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ إلَّا فِي جَمَاعَةٍ .
قَالَ : أَحْسَنُ .
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ : كَانَ النِّسَاءُ يُكَبِّرْنَ خَلْفَ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَيَالِيَ التَّشْرِيقِ مَعَ الرِّجَالِ فِي الْمَسْجِدِ .
وَيَنْبَغِي لَهُنَّ أَنْ يَخْفِضْنَ أَصْوَاتَهُنَّ ، حَتَّى لَا يَسْمَعَهُنَّ الرِّجَالُ .
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى ، أَنَّهُنَّ لَا يُكَبِّرْنَ ؛ لِأَنَّ التَّكْبِيرَ ذِكْرٌ يُشْرَعُ فِيهِ رَفْعُ الصَّوْتِ ، فَلَمْ يُشْرَعْ فِي حَقِّهِنَّ ، كَالْأَذَانِ

( 1435 ) فَصْلٌ : وَالْمَسْبُوقُ بِبَعْضِ الصَّلَاةِ يُكَبِّرُ إذَا فَرَغَ مِنْ قَضَاءِ مَا فَاتَهُ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَقَالَ الْحَسَنُ : يُكَبِّرُ ، ثُمَّ يَقْضِي ، لِأَنَّهُ ذِكْرٌ مَشْرُوعٌ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ ، فَيَأْتِي بِهِ الْمَسْبُوقُ قَبْلَ الْقَضَاءِ ، كَالتَّشَهُّدِ .
وَعَنْ مُجَاهِدٍ ، وَمَكْحُولٍ : يُكَبِّرُ ، ثَمَّ يَقْضِي ، ثُمَّ يُكَبِّرُ لِذَلِكَ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ ذِكْرٌ شُرِعَ بَعْدَ السَّلَامِ ، فَلَمْ يَأْتِ بِهِ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ ، كَالتَّسْلِيمَةِ الثَّانِيَةِ ، وَالدُّعَاءِ بَعْدَهَا .
وَإِنْ كَانَ عَلَى الْمُصَلِّي سُجُودُ سَهْوٍ بَعْدَ السَّلَامِ سَجَدَهُ ، ثُمَّ يُكَبِّرُ .
وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ سُجُودٌ مَشْرُوعٌ لِلصَّلَاةِ ، فَكَانَ التَّكْبِيرُ بَعْدَهُ ، وَبَعْدَ تَشَهُّدِهِ كَسُجُودِ صُلْبِ الصَّلَاةِ ، وَآخِرُ مُدَّةِ التَّكْبِيرِ الْعَصْرُ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا .

( 1436 ) فَصْلٌ : وَإِذَا فَاتَتْهُ صَلَاةٌ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَقَضَاهَا فِيهَا ، فَحُكْمُهَا حُكْمُ الْمُؤَدَّاةِ فِي التَّكْبِيرِ ؛ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ .
وَكَذَلِكَ إنْ فَاتَتْهُ مِنْ غَيْرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَقَضَاهَا فِيهَا كَذَلِكَ .
وَإِنْ فَاتَتْهُ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ، فَقَضَاهَا فِي غَيْرِهَا ، لَمْ يُكَبِّرْ ؛ لِأَنَّ التَّكْبِيرَ مُقَيَّدٌ بِالْوَقْتِ ، فَلَمْ يُفْعَلْ فِي غَيْرِهِ ، كَالتَّلْبِيَةِ .

( 1437 ) فَصْلٌ : وَيُكَبِّرُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ .
حَكَاهُ أَحْمَدُ عَنْ إبْرَاهِيمَ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ .
وَذَلِكَ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ مُخْتَصٌّ بِالصَّلَاةِ ، أَشْبَهَ الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُكَبِّرَ كَيْفَمَا شَاءَ ؛ لِمَا رَوَى جَابِرٌ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ ، فَقَالَ : اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ } .
وَإِنْ نَسِيَ التَّكْبِيرَ حَتَّى خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ لَمْ يُكَبِّرْ .
وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ ؛ لِأَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالصَّلَاةِ مِنْ بَعْدِهَا ، فَأَشْبَهَ سُجُودَ السَّهْوِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُكَبِّرَ ؛ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ ، فَاسْتُحِبَّ وَإِنْ خَرَجَ وَبَعُدَ ، كَالدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ الْمَشْرُوعِ بَعْدَهَا .
وَإِنْ ذَكَرَهُ فِي الْمَسْجِدِ عَادَ إلَى مَكَانِهِ ، فَجَلَسَ ، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ ، فَكَبَّرَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُكَبِّرُ مَاشِيًا .
وَهَذَا أَقْيَسُ ؛ لِأَنَّ التَّكْبِيرَ ذِكْرٌ مَشْرُوعٌ بَعْدَ الصَّلَاةِ ، فَأَشْبَهَ سَائِرَ الذِّكْرِ .
قَالَ أَصْحَابُنَا : وَإِذَا أَحْدَثَ قَبْلَ التَّكْبِيرِ لَمْ يُكَبِّرْ ، عَامِدًا كَانَ أَوْ سَاهِيًا ، لِأَنَّ الْحَدَثَ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ عَمْدُهُ وَسَهْوُهُ .
وَبَالَغَ ابْنُ عَقِيلٍ ، فَقَالَ : إنْ تَرَكَهُ حَتَّى تَكَلَّمَ ، لَمْ يُكَبِّرْ .
وَالْأَوْلَى إنْ شَاءَ اللَّهُ أَنَّهُ يُكَبِّرُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ ذِكْرٌ مُنْفَرِدٌ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ ، فَلَا تُشْتَرَطُ لَهُ الطَّهَارَةُ ، كَسَائِرِ الذِّكْرِ ، وَلِأَنَّ اشْتِرَاطَ الطَّهَارَةِ إمَّا بِنَصٍّ أَوْ مَعْنَاهُ ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ .
وَإِذَا نَسِيَ الْإِمَامُ التَّكْبِيرَ كَبَّرَ الْمَأْمُومُ .
وَهَذَا قَوْلُ الثَّوْرِيِّ ؛ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ يَتْبَعُ الصَّلَاةَ ، أَشْبَهَ سَائِرَ الذِّكْرِ .
( 1438 ) فَصْلٌ : قَالَ الْقَاضِي : ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ يُكَبِّرُ عَقِيبَ صَلَاةِ الْعِيدِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ ؛ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ مَفْرُوضَةٌ فِي جَمَاعَةٍ ، فَأَشْبَهَتْ الْفَجْرَ .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : لَا يُسَنُّ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ ، أَشْبَهَتْ النَّوَافِلَ .

وَالْأَوَّلُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ أَخَصُّ بِالْعِيدِ ، فَكَانَتْ أَحَقَّ بِتَكْبِيرِهِ .

( 1439 ) فَصْلٌ : وَيُشْرَعُ التَّكْبِيرُ فِي غَيْرِ أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُكَبِّرُ بِمِنًى فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ خَلْفَ الصَّلَوَاتِ ، وَعَلَى فِرَاشِهِ ، وَفِي فُسْطَاطِهِ ، وَمَجْلِسِهِ ، وَمَمْشَاهُ ، تِلْكَ الْأَيَّامِ جَمِيعًا ، وَكَانَ يُكَبِّرُ فِي قُبَّتِهِ بِمَا يَسْمَعُهُ أَهْلُ الْمَسْجِدِ ، فَيُكَبِّرُونَ ، وَيُكَبِّرُ أَهْلُ الْأَسْوَاقِ ، حَتَّى تَرْتَجَّ مِنًى تَكْبِيرًا .
وَكَذَلِكَ يُسْتَحَبُّ التَّكْبِيرُ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ كُلِّهَا ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ } .
كَمَا قَالَ : { وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ } .
وَالْأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ أَيَّامُ الْعَشْرِ ، وَالْمَعْدُودَاتُ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ .
قَالَ الْبُخَارِيُّ : وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ ، يَخْرُجَانِ إلَى السُّوقِ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ ، يُكَبِّرَانِ ، وَيُكَبِّرُ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِمَا .
وَيُسْتَحَبُّ الِاجْتِهَادُ فِي عَمَلِ الْخَيْرِ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ ، مِنْ الذِّكْرِ ، وَالصَّلَاةِ ، وَالصِّيَامِ ، وَالصَّدَقَةِ ، وَسَائِرِ أَعْمَالِ الْبِرِّ .
لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَا الْعَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ قَالُوا : وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؟ قَالَ : وَلَا الْجِهَادُ ، إلَّا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ } .
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ .

( 1440 ) فَصْلٌ : قَالَ أَحْمَدُ ، رَحِمَهُ اللَّهُ : وَلَا بَأْسَ أَنْ يَقُولَ الرَّجُل لِلرَّجُلِ يَوْمَ الْعِيدِ : تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنَّا وَمِنْك .
وَقَالَ حَرْبٌ : سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ قَوْلِ النَّاسِ فِي الْعِيدَيْنِ تَقَبَّلَ اللَّهُ وَمِنْكُمْ .
قَالَ : لَا بَأْسَ بِهِ ، يَرْوِيه أَهْلُ الشَّامِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ .
قِيلَ : وَوَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ ؟ قَالَ : نَعَمْ .
قِيلَ : فَلَا تُكْرَهُ أَنْ يُقَالَ هَذَا يَوْمَ الْعِيدِ .
قَالَ : لَا .
وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي تَهْنِئَةِ الْعِيدِ أَحَادِيثَ ، مِنْهَا ، أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ زِيَادٍ ، قَالَ : كُنْت مَعَ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانُوا إذَا رَجَعُوا مِنْ الْعِيدِ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لَبَعْضٍ : تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنَّا وَمِنْك .
وَقَالَ أَحْمَدُ : إسْنَادُ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ إسْنَادٌ جَيِّدٌ .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ ثَابِتٍ : سَأَلْت مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ مُنْذُ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً ، وَقَالَ : لَمْ يَزُلْ يُعْرَفُ هَذَا بِالْمَدِينَةِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ : لَا أَبْتَدِي بِهِ أَحَدًا ، وَإِنْ قَالَهُ أَحَدٌ رَدَدْتُهُ عَلَيْهِ .

( 1441 ) فَصْلٌ : قَالَ الْقَاضِي : وَلَا بَأْسَ بِالتَّعْرِيفِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ بِالْأَمْصَارِ .
وَقَالَ الْأَثْرَمُ : سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ التَّعْرِيفِ فِي الْأَمْصَارِ ، يَجْتَمِعُونَ فِي الْمَسَاجِدِ يَوْمَ عَرَفَةَ ، قَالَ : أَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ ، قَدْ فَعَلَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ .
وَرَوَى الْأَثْرَمُ ، عَنْ الْحَسَنِ ، قَالَ : أَوَّلُ مَنْ عَرَّفَ بِالْبَصْرَةِ ابْنُ عَبَّاسٍ ، رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَقَالَ أَحْمَدُ : أَوَّلُ مَنْ فَعَلَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ .
وَقَالَ الْحَسَنُ ، وَبَكْرٌ ، وَثَابِتٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ وَاسِعٍ : كَانُوا يَشْهَدُونَ الْمَسْجِدَ يَوْمَ عَرَفَةَ .
قَالَ أَحْمَدُ : لَا بَأْسَ بِهِ ، إنَّمَا هُوَ دُعَاءٌ وَذِكْرٌ لِلَّهِ .
فَقِيلَ لَهُ : تَفْعَلُهُ أَنْتَ ؟ قَالَ : أَمَّا أَنَا فَلَا .
وَرُوِيَ عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ أَنَّهُ حَضَرَ مَعَ النَّاسِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ .

كِتَابُ صَلَاةِ الْخَوْفِ صَلَاةُ الْخَوْفِ ثَابِتَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ؛ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلَاةَ } الْآيَةُ .
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَانَ يُصَلِّي صَلَاةَ الْخَوْفِ } ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ حُكْمَهَا بَاقٍ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : إنَّمَا كَانَتْ تَخْتَصُّ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ } .
وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ فَإِنَّ مَا ثَبَتَ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَبَتَ فِي حَقِّنَا ، مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِهِ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِاتِّبَاعِهِ بِقَوْلِهِ : { فَاتَّبِعُوهُ } { .
وَسُئِلَ عَنْ الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ ، فَأَجَابَ : بِأَنَّنِي أَفْعَلُ ذَلِكَ ، فَقَالَ السَّائِلُ : لَسْتَ مِثْلَنَا ، فَغَضِبَ وَقَالَ : إنِّي لَأَرْجُوَ أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ تَعَالَى ، وَأَعْلَمَكُمْ بِمَا أَتَّقِي } .
وَلَوْ اخْتَصَّ بِفِعْلِهِ لَمَا كَانَ الْإِخْبَارُ بِفِعْلِهِ جَوَابًا ، وَلَا غَضِبَ مِنْ قَوْلِ السَّائِلِ : لَسْت مِثْلَنَا ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ - إذًا - يَكُونُ صَوَابًا .
وَكَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْتَجُّونَ بِأَفْعَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَيَرَوْنَهَا مُعَارِضَةً لِقَوْلِهِ وَنَاسِخَةً لَهُ ؛ وَلِذَلِكَ لَمَّا أَخْبَرَتْ عَائِشَةُ وَأُمُّ سَلَمَةَ { بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ غَيْرِ احْتِلَامٍ ، ثُمَّ يَغْتَسِلُ ، وَيَصُومُ ذَلِكَ الْيَوْمَ } .
تَرَكُوا بِهِ خَبَرَ أَبِي هُرَيْرَةَ { : مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا فَلَا صَوْمَ لَهُ } .
وَلَمَّا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : هُنَّ أَعْلَمُ ، إنَّمَا حَدَّثَنِي بِهِ الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ .
وَرَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ .
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ حُجَّةً لِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ مُعَارِضًا لِقَوْلِهِ ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ

اللَّهُ عَنْهُمْ ، أَجْمَعُوا عَلَى صَلَاةِ الْخَوْفِ ، فَرُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَلَّى صَلَاةَ الْخَوْفِ لَيْلَةَ الْهَدِيرِ ، وَصَلَّى أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ صَلَاةَ الْخَوْفِ بِأَصْحَابِهِ .
وَرُوِيَ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ كَانَ أَمِيرًا عَلَى الْجَيْشِ بِطَبَرِسْتَانَ ، فَقَالَ : أَيُّكُمْ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْخَوْفِ ؟ فَقَالَ حُذَيْفَةُ : أَنَا .
فَقَدَّمَهُ ، فَصَلَّى بِهِمْ .
فَأَمَّا تَخْصِيصُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْخِطَابِ ، فَلَا يُوجِبُ تَخْصِيصَهُ بِالْحُكْمِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ ، وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، أَنْكَرُوا عَلَى مَانِعِي الزَّكَاةِ قَوْلَهُمْ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّ نَبِيَّهُ بِأَخْذِ الزَّكَاةِ ، بِقَوْلِهِ : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } وَهَذَا لَا يَخْتَصُّ بِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَّرَ الصَّلَاةَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ ، وَلَمْ يُصَلِّ .
قُلْنَا : هَذَا كَانَ قَبْلَ نُزُولِ صَلَاةِ الْخَوْفِ ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ بِالْآخِرِ فَالْآخِرِ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَكُونُ نَاسِخًا لِمَا قَبْلَهُ ، ثُمَّ إنَّ هَذَا الِاعْتِرَاضَ بَاطِلٌ فِي نَفْسِهِ ؛ إذْ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةَ الْخَوْفِ ، وَقَدْ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ فِي كِتَابِهِ ، فَلَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِمَا يُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالْإِجْمَاعَ .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَّرَ الصَّلَاةَ نِسْيَانًا ، فَإِنَّهُ رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهُمْ عَنْ صَلَاتِهَا ، فَقَالُوا : مَا صَلَّيْنَا } .
وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ { قَالَ : مَا صَلَّيْت الْعَصْرَ .
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَاَللَّهِ مَا صَلَّيْتُهَا } .
أَوْ كَمَا جَاءَ ، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا أَنَّهُ لَمْ

يَكُنْ ثَمَّ قِتَالٌ يَمْنَعُهُ مِنْ الصَّلَاةِ ، فَدَلَّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ .

( 1442 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَصَلَاةُ الْخَوْفِ إذَا كَانَ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ وَهُوَ فِي سَفَرٍ ، صَلَّى بِطَائِفَةٍ رَكْعَةً ، وَأَتَمَّتْ لِأَنْفُسِهَا أُخْرَى بِالْحَمْدُ لِلَّهِ وَسُورَةٍ ، ثُمَّ ذَهَبَتْ تَحْرُسُ ، وَجَاءَتْ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى الَّتِي بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ ، فَصَلَّتْ مَعَهُ رَكْعَةً وَأَتَمَّتْ لِأَنْفُسِهَا أُخْرَى بِالْحَمْدُ لِلَّهِ وَسُورَةٍ ، وَيُطِيلُ التَّشَهُّدَ حَتَّى يُتِمُّوا التَّشَهُّدَ ، وَيُسَلِّمُ بِهِمْ ) .
وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْخَوْفَ لَا يُؤَثِّرُ فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ فِي حَقِّ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ جَمِيعًا ، فَإِذَا كَانَ فِي سَفَرٍ يُبِيحُ الْقَصْرَ ، صَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ ، بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَةً ، وَتُتِمُّ لِأَنْفُسِهَا أُخْرَى عَلَى الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ ذَلِكَ بِشَرَائِطَ : مِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْعَدُوُّ مُبَاحَ الْقِتَالِ ، وَأَنْ لَا يُؤْمَنَ هُجُومُهُ .
قَالَ الْقَاضِي : وَمِنْ شَرْطِهَا كَوْنُ الْعَدُوِّ فِي غَيْرِ جِهَةِ الْقِبْلَةِ .
وَنَصَّ أَحْمَدُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ ، فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ ، فَإِنَّهُ قَالَ : قُلْت لَهُ ، حَدِيثُ سَهْلٍ ، نَسْتَعْمِلُهُ مُسْتَقْبِلِينَ الْقِبْلَةَ كَانُوا أَوْ مُسْتَدْبِرِينَ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، هُوَ أَنْكَى .
وَلِأَنَّ الْعَدُوَّ قَدْ يَكُونُ فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ صَلَاةَ عُسْفَانَ لِانْتِشَارِهِمْ ، أَوْ اسْتِتَارِهِمْ ، أَوْ الْخَوْفِ مِنْ كَمِينٍ ، فَالْمَنْعُ مِنْ هَذِهِ الصَّلَاةِ يُفْضِي إلَى تَفْوِيتهَا .
قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : وَمِنْ شَرْطِهَا أَنْ يَكُونَ فِي الْمُصَلِّينَ كَثْرَةٌ يُمْكِنْ تَفْرِيقُهُمْ طَائِفَتَيْنِ ، كُلُّ طَائِفَةٍ ثَلَاثَةٌ فَأَكْثَرُ .
وَقَالَ الْقَاضِي : إنْ كَانَتْ كُلُّ فِرْقَةٍ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ كَرِهْنَاهُ ، لِأَنَّ أَحْمَدْ ذَهَبَ إلَى ظَاهِرِ فِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَوَجْهُ .
قَوْلِهِمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الطَّائِفَةَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ } .
وَأَقَلُّ لَفْظِ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ ، وَالْأَوْلَى أَنْ لَا

يُشْتَرَطَ هَذَا ؛ لِأَنَّ مَا دُونَ الثَّلَاثَةِ عَدَدٌ تَصِحُّ بِهِ الْجَمَاعَةُ ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ طَائِفَةً كَالثَّلَاثَةِ ، وَأَمَّا فِعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ أَنْ يَكُونَ الْمُصَلُّونَ مِثْلَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَدَدِ وَجْهًا وَاحِدًا ؛ وَلِذَلِكَ اكْتَفَيْنَا بِثَلَاثَةٍ ، وَلَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُخَفِّفَ بِهِمْ الصَّلَاةَ ؛ لِأَنَّ مَوْضُوعَ صَلَاةِ الْخَوْفِ عَلَى التَّخْفِيفِ ، وَكَذَلِكَ الطَّائِفَةُ الَّتِي تُفَارِقُهُ تُصَلِّي لِنَفْسِهَا ، تَقْرَأُ بِسُورَةٍ خَفِيفَةٍ ، وَلَا تُفَارِقُهُ حَتَّى يَسْتَقِلَّ قَائِمًا ؛ لِأَنَّ النُّهُوضَ يَشْتَرِكُونَ فِيهِ جَمِيعًا ، فَلَا حَاجَةَ إلَى مُفَارَقَتِهِمْ إيَّاهُ قَبْلَهُ ، وَالْمُفَارَقَةُ إنَّمَا جَازَتْ لِلْعُذْرِ .
وَيَقْرَأُ ، وَيَتَشَهَّدُ ، وَيُطِيلُ فِي حَالِ الِانْتِظَارِ حَتَّى يُدْرِكُوهُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ، فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ : لَا يَقْرَأُ حَالَ الِانْتِظَارِ ، بَلْ يُؤَخِّرُ الْقِرَاءَةَ لِيَقْرَأَ بِالطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ ، لِيَكُونَ قَدْ سَوَّى بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ .
وَلَنَا ، أَنَّ الصَّلَاةَ لَيْسَ فِيهَا حَالُ سُكُوتٍ ، وَالْقِيَامُ مَحَلٌّ لِلْقِرَاءَةِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ بِهَا فِيهِ ، كَمَا فِي التَّشَهُّدِ إذَا انْتَظَرَهُمْ فَإِنَّهُ يَتَشَهَّدُ وَلَا يَسْكُتُ ، كَذَلِكَ هَاهُنَا ، وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمْ تَحْصُلُ بِانْتِظَارِهِ إيَّاهُمْ فِي مَوْضِعَيْنِ ، وَالْأَوْلَى فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَقَالَ الْقَاضِي : إنْ قَرَأَ فِي انْتِظَارِهِمْ قَرَأَ بَعْدَ مَا جَاءُوا بِقَدْرِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ خَفِيفَةٍ ، وَإِنْ لَمْ يَقْرَأْ فِي انْتِظَارِهِمْ قَرَأَ إذَا جَاءُوا بِالْفَاتِحَةِ وَسُورَةٍ خَفِيفَةٍ ، وَهَذَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْبَابِ ، وَلَوْ قَرَأَ قَبْلَ مَجِيئِهِمْ ثُمَّ رَكَعَ عِنْدَ مَجِيئِهِمْ أَوْ قَبْلَهُ فَأَدْرَكُوهُ رَاكِعًا رَكَعُوا مَعَهُ ، وَصَحَّتْ لَهُمْ الرَّكْعَةُ مَعَ تَرْكِهِ السُّنَّةَ ، وَإِذَا جَلَسَ

لِلتَّشَهُّدِ قَامُوا فَصَلَّوْا رَكْعَةً أُخْرَى ، وَأَطَالَ التَّشَهُّدَ بِالدُّعَاءِ وَالتَّوَسُّلِ حَتَّى يُدْرِكُوهُ وَيَتَشَهَّدُوا ، ثُمَّ يُسَلِّمُ بِهِمْ .
وَقَالَ مَالِكٌ : يَتَشَهَّدُونَ مَعَهُ ، فَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ قَامُوا فَقَضَوْا مَا فَاتَهُمْ كَالْمَسْبُوقِ .
وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى .
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ } .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَلَاتَهُمْ كُلَّهَا مَعَهُ .
وَفِي حَدِيثِ سَهْلٍ { ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَعَدَ حَتَّى صَلَّى الَّذِينَ خَلْفَهُ رَكْعَةً ، ثُمَّ سَلَّمَ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَرُوِيَ أَنَّهُ سَلَّمَ بِالطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ .
وَلِأَنَّ الْأُولَى أَدْرَكَتْ مَعَهُ فَضِيلَةَ الْإِحْرَامِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُسَلِّمَ بِالثَّانِيَةِ ، لِيُسَوِّيَ بَيْنَهُمْ .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، إلَّا فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ الِاخْتِلَافِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُصَلِّي كَمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ ، قَالَ { : صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْخَوْفِ بِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ ، وَالطَّائِفَةُ الْأُخْرَى مُوَاجِهَةٌ لِلْعَدُوِّ ، ثُمَّ انْصَرَفُوا ، وَقَامُوا فِي مَقَامِ أَصْحَابِهِمْ مُقْبِلِينَ عَلَى الْعَدُوِّ ، وَجَاءَ أُولَئِكَ ، ثُمَّ صَلَّى لَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَةً ، ثُمَّ سَلَّمَ ، ثُمَّ قَضَى هَؤُلَاءِ رَكْعَةً وَهَؤُلَاءِ رَكْعَةً .
} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُصَلِّي بِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ رَكْعَةً ، وَالْأُخْرَى مُوَاجِهَةٌ لِلْعَدُوِّ ، ثُمَّ تَنْصَرِفُ الَّتِي صَلَّتْ مَعَهُ إلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ ، وَهِيَ فِي صَلَاتِهَا ، ثُمَّ تَجِيءُ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى ، فَتُصَلِّي مَعَ الْإِمَامِ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ ، ثُمَّ يُسَلِّمُ الْإِمَامُ ، وَتَرْجِعُ الطَّائِفَةُ إلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ ، وَهِيَ فِي الصَّلَاةِ ، ثُمَّ تَأَتَّى الطَّائِفَةُ الْأُولَى إلَى مَوْضِعِ صَلَاتِهَا ، فَتُصَلِّي رَكْعَةً مُنْفَرِدَةً وَلَا تَقْرَأُ فِيهَا ؛ لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ الِائْتِمَامِ ، ثُمَّ

تَنْصَرِفُ إلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ ، ثُمَّ تَأْتِي الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى إلَى مَوْضِعِ الصَّلَاةِ ، فَتُصَلِّي الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ مُنْفَرِدَةً ، وَتَقْرَأُ فِيهَا ؛ لِأَنَّهَا قَدْ فَارَقَتْ الْإِمَامَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الصَّلَاةِ ، فَحُكْمُهَا حُكْمُ الْمَسْبُوقِ إذَا فَارَقَ إمَامَهُ .
قَالَ : وَهَذَا أَوْلَى ؛ لِأَنَّكُمْ جَوَّزْتُمْ لِلْمَأْمُومِ فِرَاقَ إمَامِهِ قَبْلَ فَرَاغِهِ مِنْ الصَّلَاةِ ، وَهِيَ الطَّائِفَةُ الْأُولَى ، وَلِلثَّانِيَةِ فِرَاقُهُ فِي الْأَفْعَالِ ، فَيَكُونُ جَالِسًا وَهُمْ قِيَامٌ يَأْتُونَ بِرَكْعَةٍ وَهُمْ فِي إمَامَتِهِ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى { صَالِحُ بْنُ خَوَّاتٍ ، عَمَّنْ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ ذَاتِ الرِّقَاعِ صَلَاةَ الْخَوْفِ ، أَنَّ طَائِفَةً صَفَّتْ مَعَهُ ، وَطَائِفَةً وِجَاهَ الْعَدُوِّ ، فَصَلَّى بِاَلَّتِي مَعَهُ رَكْعَةً ، ثُمَّ ثَبَتَ قَائِمًا ، وَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ ، ثُمَّ انْصَرَفُوا وَصَفُّوا وِجَاهَ الْعَدُوِّ ، وَجَاءَتْ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى ، فَصَلَّى بِهِمْ الرَّكْعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ مِنْ صَلَاتِهِ ، ثُمَّ ثَبَتَ جَالِسًا ، وَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ ، ثُمَّ سَلَّمَ بِهِمْ .
} رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَرَوَى سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ مِثْلَ ذَلِكَ ، وَالْعَمَلُ بِهَذَا أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ أَشْبَهُ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَأَحْوَطُ لِلصَّلَاةِ وَالْحَرْبِ .
أَمَّا مُوَافَقَةُ الْكِتَابِ ، فَإِنَّ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى : { وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ } .
يَقْتَضِي أَنَّ جَمِيعَ صَلَاتِهَا مَعَهُ ، وَعِنْدَهُ تُصَلِّي مَعَهُ رَكْعَةً فَقَطْ ، وَعِنْدَنَا جَمِيعُ صَلَاتِهَا مَعَهُ ، إحْدَى الرَّكْعَتَيْنِ تُوَافِقُهُ فِي أَفْعَالِهِ وَقِيَامِهِ ، وَالثَّانِيَةُ تَأْتِي بِهَا قَبْلَ سَلَامِهِ ، ثُمَّ تُسَلِّمُ مَعَهُ ، وَمِنْ مَفْهُومِ قَوْلِهِ : لَمْ يُصَلُّوا أَنَّ الطَّائِفَةَ الْأُولَى قَدْ صَلَّتْ جَمِيعَ صَلَاتِهَا ، وَعَلَى قَوْلِهِمْ : لَمْ تُصَلِّ إلَّا بَعْضَهَا .
وَأَمَّا الِاحْتِيَاطُ لِلصَّلَاةِ ، فَإِنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ تَأْتِي بِصَلَاتِهَا مُتَوَالِيَةً ، بَعْضُهَا تُوَافِقُ الْإِمَامَ فِيهَا فِعْلًا

، وَبَعْضُهَا تُفَارِقُهُ ، وَتَأْتِي بِهِ وَحْدَهَا كَالْمَسْبُوقِ .
وَعِنْدَهُ تَنْصَرِفُ فِي الصَّلَاةِ ، فَإِمَّا أَنْ تَمْشِيَ ، وَإِمَّا أَنْ تَرْكَبَ ، وَهَذَا عَمَلٌ كَثِيرٌ ، وَتَسْتَدْبِرُ الْقِبْلَةَ ، وَهَذَا يُنَافِي الصَّلَاةَ ، وَتَفَرَّقُ بَيْنَ الرَّكْعَتَيْنِ تَفْرِيقًا كَثِيرًا بِمَا يُنَافِيهَا .
ثُمَّ جَعَلُوا الطَّائِفَةَ الْأُولَى مُؤْتَمَّةً بِالْإِمَامِ بَعْدَ سَلَامِهِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُومُ مَأْمُومًا فِي رَكْعَةٍ يَأْتِي بِهَا بَعْدَ سَلَامِ إمَامِهِ .
وَأَمَّا الِاحْتِيَاطُ لِلْحَرْبِ ، فَإِنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ الضَّرْبِ وَالطَّعْنِ وَالتَّحْرِيضِ ، وَإِعْلَامِ غَيْرِهِ بِمَا يَرَاهُ مِمَّا خَفِيَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الْعَدُوِّ وَتَحْذِيرِهِ ، وَإِعْلَامِ الَّذِينَ مَعَ الْإِمَامِ بِمَا يَحْدُثُ ، وَلَا يُمْكِنُ هَذَا عَلَى قَوْلِهِمْ ، وَلِأَنَّ مَبْنَى صَلَاةِ الْخَوْفِ عَلَى التَّخْفِيفِ ؛ لِأَنَّهُمْ فِي مَوْضِعِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ .
وَعَلَى قَوْلِهِمْ تَطُولُ الصَّلَاةُ أَضْعَافَ مَا كَانَتْ حَالَ الْأَمْنِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ تَحْتَاجُ إلَى مُضِيٍّ إلَى مَكَانِ الصَّلَاةِ ، وَرُجُوعٍ إلَى وِجَاهِ الْعَدُوِّ ، وَانْتِظَارٍ لِمُضِيِّ الطَّائِفَةِ الْأُخْرَى وَرُجُوعِهَا ، فَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْمَكَانَيْنِ نِصْفُ مِيلٍ ، تَحْتَاجُ كُلُّ طَائِفَةٍ إلَى مَشْيِ مِيلٍ ، وَانْتِظَارٍ لِلْأُخْرَى قَدْرَ مَشْيِ مِيلٍ وَهِيَ فِي الصَّلَاةِ ، ثُمَّ تَحْتَاجُ إلَى تَكْلِيفِ الرُّجُوعِ إلَى مَوْضِعِ الصَّلَاةِ لِإِتْمَامِ الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَيْهِ .
وَلَا مَصْلَحَةٍ تَتَعَلَّقُ بِهِ ، فَلَوْ احْتَاجَ الْآمِنُ إلَى مِثْلِ هَذِهِ الْكُلْفَةِ فِي الْجَمَاعَةِ لَسَقَطَتْ عَنْهُ ، فَكَيْفَ يُكَلَّفُ الْخَائِفُ هَذَا وَهُوَ فِي مَظِنَّةِ التَّخْفِيفِ ، وَالْحَاجَةِ إلَى الرِّفْقِ بِهِ .
وَأَمَّا مُفَارَقَةُ الْإِمَامِ فَجَائِزَةٌ لِلْعُذْرِ ، وَلَا بُدَّ مِنْهَا عَلَى الْقَوْلَيْنِ ، فَإِنَّهُمْ جَوَّزُوا لِلطَّائِفَةِ الْأُولَى مُفَارَقَةَ الْإِمَامِ وَالذَّهَابَ إلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ ، وَهَذَا أَعْظَمُ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ ، فَإِنَّهُ لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الشَّرْعِ ، وَلَا يُوجَدُ مِثْلُهُ

فِي مَوْضِعٍ آخَرَ .
( 1443 ) فَصْلٌ : وَإِنْ صَلَّى بِهِمْ كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ ، جَازَ ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
وَلَكِنْ يَكُونُ تَارِكًا لِلْأَوْلَى وَالْأَحْسَنِ .
وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ ، وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ .
( 1444 ) فَصْلٌ : وَلَا تَجِبُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِذَلك نَصٌّ وَلَا قِيَاسٌ .
وَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ الطَّائِفَةُ الَّتِي بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ مِمَّنْ تَحْصُلُ الثِّقَةُ بِكِفَايَتِهَا وَحِرَاسَتِهَا ، وَمَتَى خُشِيَ اخْتِلَالُ حَالِهِمْ وَاحْتِيجَ إلَى مَعُونَتِهِمْ بِالطَّائِفَةِ الْأُخْرَى ، فَلِلْإِمَامِ أَنْ يَنْهَدَ إلَيْهِمْ بِمَنْ مَعَهُ ، وَيَبْنُوا عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِمْ .

( 1445 ) فَصْلٌ : فَإِنْ صَلَّوْا الْجُمُعَةَ صَلَاةَ الْخَوْفِ جَازَ ، إذَا كَانَتْ كُلُّ طَائِفَةٍ أَرْبَعِينَ .
فَإِنْ قِيلَ : فَالْعَدَدُ شَرْطٌ فِي الْجُمُعَةِ كُلِّهَا ، وَمَتَى ذَهَبَتْ الطَّائِفَةُ الْأُولَى بَقِيَ الْإِمَامُ مُنْفَرِدًا ، فَتَبْطُلُ كَمَا لَوْ نَقَصَ الْعَدَدُ .
فَالْجَوَابُ : أَنَّ هَذَا جَازَ لِأَجْلِ الْعُذْرِ ، وَلِأَنَّهُ يَتَرَقَّبُ مَجِيءَ الطَّائِفَةِ الْأُخْرَى ، بِخِلَافِ الِانْفِضَاضِ .
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَخْطُبَ بِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ ، وَيُصَلِّيَ بِالْأُخْرَى ، حَتَّى يُصَلِّيَ مَعَهُ مَنْ حَضَرَ الْخُطْبَةَ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .

( 1446 ) فَصْلٌ : وَالطَّائِفَةُ الْأُولَى فِي حُكْمِ الِائْتِمَامِ قَبْلَ مُفَارَقَةِ الْإِمَامِ ، فَإِنْ سَهَا لَحِقَهُمْ حُكْمُ سَهْوِهِ فِيمَا قَبْلَ مُفَارَقَتِهِ ، وَإِنْ سَهَوْا لَمْ يَلْزَمْهُمْ حُكْمُ سَهْوِهِمْ ، لِأَنَّهُمْ مَأْمُومُونَ .
وَأَمَّا بَعْدَ مُفَارَقَتِهِ : فَإِنْ سَهَا لَمْ يَلْزَمْهُمْ حُكْمُ سَهْوِهِ ، فَإِنْ سَهَوْا لَحِقَهُمْ حُكْمُ سَهْوِهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ مُنْفَرِدُونَ .
وَأَمَّا الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ ، فَيَلْحَقُهَا حُكْمُ سَهْوِ إمَامِهَا فِي جَمِيعِ صَلَاتِهِ ، مَا أَدْرَكَتْ مِنْهَا وَمَا فَاتَهَا ، كَالْمَسْبُوقِ يَلْحَقُهُ حُكْمُ سَهْوِ إمَامِهِ فِيمَا لَمْ يُدْرِكْهُ .
وَلَا يَلْحَقُهَا حُكْمُ سَهْوِهَا فِي شَيْءٍ مِنْ صَلَاتِهَا ؛ لِأَنَّهَا إنْ فَارَقَتْهُ فِعْلًا لِقَضَاءِ مَا فَاتَهَا ، فَهِيَ فِي حُكْمِ الْمُؤْتَمِّ بِهِ ، لِأَنَّهُمْ يُسَلِّمُونَ بِسَلَامِهِ ، فَإِذَا فَرَغَتْ مِنْ قَضَاءِ مَا فَاتَهَا ، سَجَدَ وَسَجَدَتْ مَعَهُ ، فَإِنْ سَجَدَ الْإِمَامُ قَبْلَ إتْمَامِهَا سَجَدَتْ ؛ لِأَنَّهَا مُؤْتَمَّةٌ بِهِ ، فَيَلْزَمُهَا مُتَابَعَتُهُ ، وَلَا تُعِيدُ السُّجُودَ بَعْدَ فَرَاغِهَا مِنْ التَّشَهُّدِ ، لِأَنَّهَا لَمْ تَنْفَرِدْ عَنْ الْإِمَامِ ، فَلَا يَلْزَمُهَا مِنْ السُّجُودِ أَكْثَرُ مِمَّا يَلْزَمهُ ، بِخِلَافِ الْمَسْبُوقِ .
وَقَالَ الْقَاضِي : يَنْبَنِي هَذَا عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْمَسْبُوقِ إذَا سَجَدَ مَعَ إمَامِهِ ثُمَّ قَضَى مَا عَلَيْهِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا .

( 1447 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَإِنْ خَافَ وَهُوَ مُقِيمٌ ، صَلَّى بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ ، وَأَتَمَّتْ الطَّائِفَةُ الْأُولَى بِالْحَمْدُ لِلَّهِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ ، وَالطَّائِفَةُ الْأُخْرَى تُتِمُّ بِالْحَمْدُ لِلَّهِ وَسُورَةٍ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ جَائِزَةٌ فِي الْحَضَرِ ، إذَا اُحْتِيجَ إلَى ذَلِكَ بِنُزُولِ الْعَدُوِّ قَرِيبًا مِنْ الْبَلَدِ .
وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهَا لَا تَجُوزُ فِي الْحَضَرِ ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ إنَّمَا دَلَّتْ عَلَى صَلَاةِ رَكْعَتَيْنِ ، وَصَلَاةُ الْحَضَرِ أَرْبَعًا ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَفْعَلْهَا فِي الْحَضَرِ .
وَخَالَفَهُ أَصْحَابُهُ ، فَقَالُوا كَقَوْلِنَا .
وَلَنَا ، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلَاةَ } الْآيَةُ ، وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ حَالٍ ، وَتَرْكُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِعْلَهَا فِي الْحَضَرِ إنَّمَا كَانَ لِغِنَاهُ عَنْ فِعْلِهَا فِي الْحَضَرِ .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّمَا دَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى رَكْعَتَيْنِ .
قُلْنَا : وَقَدْ يَكُونُ فِي الْحَضَرِ رَكْعَتَانِ ، الصُّبْحُ وَالْجُمُعَةُ ، وَالْمَغْرِبُ ثَلَاثٌ ، وَيَجُوزُ فِعْلُهَا فِي الْخَوْفِ فِي السَّفَرِ ، وَلِأَنَّهَا حَالَةُ خَوْفٍ ، فَجَازَتْ فِيهَا صَلَاةُ الْخَوْفِ كَالسَّفَرِ ، فَإِذَا صَلَّى بِهِمْ الرُّبَاعِيَّةَ صَلَاةَ الْخَوْفِ ، فَرَّقَهُمْ فِرْقَتَيْنِ ، فَصَلَّى بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ ، وَهَلْ تُفَارِقُهُ الطَّائِفَةُ الْأُولَى فِي التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ ، أَوْ حِينَ يَقُومُ إلَى الثَّالِثَةِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا ، حِينَ قِيَامِهِ إلَى الثَّالِثَةِ .
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى التَّطْوِيلِ مِنْ أَجْلِ الِانْتِظَارِ ، وَالتَّشَهُّدُ يُسْتَحَبُّ تَخْفِيفُهُ ، وَلِذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا جَلَسَ لِلتَّشَهُّدِ كَأَنَّهُ عَلَى الرَّضْفِ حَتَّى يَقُومَ .
وَلِأَنَّ ثَوَابَ الْقَائِمِ أَكْثَرُ ، وَلِأَنَّهُ إذَا انْتَظَرَهُمْ جَالِسًا ، فَجَاءَتْ الطَّائِفَةُ ، فَإِنَّهُ

يَقُومُ قَبْل إحْرَامِهِمْ ، فَلَا يَحْصُلُ اتِّبَاعُهُمْ لَهُ فِي الْقِيَامِ .
وَالثَّانِي ، فِي التَّشَهُّدِ ؛ لِتُدْرِكْ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ جَمِيعَ الرَّكْعَةِ الثَّالِثَة ، وَلِأَنَّ الِانْتِظَارَ فِي الْجُلُوسِ أَخَفُّ عَلَى الْإِمَامِ ، وَلِأَنَّهُ مَتَى انْتَظَرَهُمْ قَائِمًا احْتَاجَ إلَى قِرَاءَةِ السُّورَةِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ ، وَهُوَ خِلَافُ السُّنَّةِ .
وَأَيًّا مَا فَعَلَ كَانَ جَائِزًا .
وَإِذَا جَلَسَ الْإِمَامُ لِلتَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ ، جَلَسَتْ الطَّائِفَةُ مَعَهُ ، فَتَشَهَّدَتْ التَّشَهُّدَ الْأَوَّلَ ، وَقَامَتْ وَهُوَ جَالِسٌ فَأَتَمَّتْ صَلَاتَهَا ، وَتَقْرَأُ فِي كُلّ رَكْعَةٍ بِالْحَمْدُ لِلَّهِ وَسُورَةٍ ؛ لِأَنَّ مَا تَقْضِيهِ أَوَّلُ صَلَاتِهَا ، وَلِأَنَّهَا لَمْ يَحْصُلْ لَهَا مَعَ الْإِمَامِ قِرَاءَةُ السُّورَةِ .
وَيُطَوِّلُ الْإِمَامُ التَّشَهُّدَ وَالدُّعَاءَ حَتَّى تُصَلِّيَ الرَّكْعَتَيْنِ ثُمَّ يَتَشَهَّدُ وَيُسَلِّمُ بِهِمْ .
فَأَمَّا الطَّائِفَةُ الْأُولَى ، فَإِنَّمَا تَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ مُفَارَقَةِ إمَامِهَا الْفَاتِحَةَ وَحْدَهَا ، لِأَنَّهَا آخِرُ صَلَاتِهَا .
وَقَدْ قَرَأَ إمَامُهَا بِهَا السُّورَةَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ ، وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّ مَا تَقْضِيهِ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ أَوَّلُ صَلَاتِهَا ، فَعَلَى هَذَا تَسْتَفْتِحُ إذَا فَارَقَتْ إمَامَهَا ، وَتَسْتَعِيذُ ، وَتَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ وَسُورَةً .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ آخِرُ صَلَاتِهَا ، وَمُقْتَضَاهُ أَلَّا تَسْتَفْتِحَ وَلَا تَسْتَعِيذَ وَلَا تَقْرَأَ السُّورَةَ .
وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَيَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُخَفِّفَ ، وَإِنْ قَرَأَتْ سُورَةً فَلْتَكُنْ مِنْ أَخَفِّ السُّوَرِ ، أَوْ تَقْرَأَ آيَةً أَوْ اثْنَتَيْنِ مِنْ سُورَةٍ .
وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ لَا يُعَجِّلَ بِالسَّلَامِ حَتَّى يَفْرَغَ أَكْثَرُهُمْ مِنْ التَّشَهُّدِ ، فَإِنْ سَلَّمَ قَبْلَ فَرَاغِ بَعْضِهِمْ ، أَتَمَّ تَشَهُّدَهُ وَسَلَّمَ .

( 1448 ) فَصْلٌ : وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِيمَا يَقْضِيهِ الْمَسْبُوقُ ، فَرُوِيَ أَنَّهُ أَوَّلُ صَلَاتِهِ ، وَمَا يُدْرِكُهُ مَعَ الْإِمَامِ آخِرَهَا .
وَهَذَا ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ .
وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عُمَرَ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَابْنُ سِيرِينَ ، وَمَالِكٌ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَحُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَبِي يُوسُفَ ، وَالْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ .
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنْ مَا يَقْضِيه آخِرُ صَلَاتِهِ .
وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَالْحَسَنُ ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَمَكْحُولٌ ، وَعَطَاءٌ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَالْمُزَنِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ، وَرِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ { : وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَلِأَنَّهُ آخِرُ صَلَاتِهِ حَقِيقَةً ، فَكَانَ آخِرَهَا حُكْمًا ، كَغَيْرِ الْمَسْبُوقِ ، وَلِأَنَّهُ يَتَشَهَّدُ فِي آخِرِ مَا يَقْضِيه وَيُسَلِّمُ ، وَلَوْ كَانَ أَوَّلَ صَلَاتِهِ لَمَا تَشَهَّدَ وَكَانَ يَكْفِيهِ تَشَهُّدُهُ مَعَ الْإِمَامِ .
وَلِلرِّوَايَةِ الْأُولَى قَوْلُهُ : { وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا } .
وَهُوَ صَحِيحٌ ، وَلِأَنَّهُ يُسَمَّى قَضَاءً ، وَالْقَضَاءُ لِلْفَائِتِ ، وَالْفَائِتُ أَوَّلُ الصَّلَاةِ ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ : " فَأَتِمُّوا " أَيْ اقْضُوا ، لِأَنَّ الْقَضَاءَ إتْمَامٌ ؛ وَلِذَلِكَ سَمَّاهُ فَائِتًا ، وَالْفَائِتُ أَوَّلُ الصَّلَاةِ ، وَلِأَنَّهُ يَقْرَأُ فِيمَا يَقْضِيهِ الْفَاتِحَةَ وَسُورَةً ، فَكَانَ أَوَّلَ الصَّلَاةِ ، كَغَيْرِ الْمَسْبُوقِ .
وَلَا أَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ فِي قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ وَسُورَةٍ .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : كُلُّ هَؤُلَاءِ الْقَائِلِينَ بِالْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا يَقُولُونَ : يَقْضِي مَا فَاتَهُ بِالْحَمْدُ لِلَّهِ وَسُورَةٍ ، عَلَى حَسَبِ مَا قَرَأَ إمَامُهُ ، إلَّا إِسْحَاقَ وَالْمُزَنِيِّ وَدَاوُد ، قَالُوا : يَقْرَأُ بِالْحَمْدُ وَحْدَهَا .
وَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ : إنَّهُ يَقْرَأُ فِي الْقَضَاءِ بِالْفَاتِحَةِ وَسُورَةٍ ، لَا تَظْهَرُ فَائِدَةُ الْخِلَافِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي الِاسْتِفْتَاحِ

وَالِاسْتِعَاذَةِ حَالَ مُفَارَقَةِ الْإِمَامِ ، وَفِي مَوْضِعِ الْجَلْسَةِ لِلتَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ ، فِي حَقِّ مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْمَغْرِبِ وَالرُّبَاعِيَّةِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

( 1449 ) فَصْلٌ : وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي مَوْضِعِ الْجَلْسَةِ وَالتَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ فِي حَقِّ مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْمَغْرِبِ أَوْ الرُّبَاعِيَّةِ ، إذَا قَضَى ، فَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ إذَا قَامَ اسْتَفْتَحَ ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ مُتَوَالِيَتَيْنِ ، يَقْرَأُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ بِالْحَمْدُ لِلَّهِ وَسُورَةٍ .
نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ ، وَفَعَلَ ذَلِكَ جُنْدُبٌ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمَا أَوَّلُ صَلَاتِهِ ، فَلَمْ يَتَشَهَّدْ بَيْنَهُمَا كَغَيْرِ الْمَسْبُوقِ ، وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى صِفَةِ الْأَدَاءِ ، وَالْأَدَاءُ لَا جُلُوسَ فِيهِ ، وَلِأَنَّهُمَا رَكْعَتَانِ يَقْرَأُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِالْحَمْدُ لِلَّهِ وَسُورَةٍ ، فَلَمْ يَجْلِسْ بَيْنَهُمَا كالمؤداتين .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ أَنَّهُ يَقُومُ فَيَأْتِي بِرَكْعَةٍ ، يَقْرَأُ فِيهَا بِالْحَمْدُ لِلَّهِ وَسُورَةٍ ، ثُمَّ يَجْلِسُ ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَأْتِيَ بِأُخْرَى بِالْحَمْدُ لِلَّهِ وَسُورَةٍ ، فِي الْمَغْرِبِ ، أَوْ بِرَكْعَتَيْنِ مُتَوَالِيَتَيْنِ فِي الرُّبَاعِيَّةِ ، يَقْرَأُ فِي أُولَاهَا بِالْحَمْدُ لِلَّهِ وَسُورَةٍ ، وَفِي الثَّانِيَةِ بِالْحَمْدُ وَحْدَهَا .
نَقَلَهَا صَالِحٌ ، وَأَبُو دَاوُد ، وَالْأَثْرَمُ .
وَفَعَلَ ذَلِكَ مَسْرُوقٌ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : كَمَا فَعَلَ مَسْرُوقٌ يَفْعَلُ .
وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِلزُّهْرِيِّ : مَا صَلَاةٌ يَجْلِسُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مِنْهَا ؟ قَالَ سَعِيدٌ : هِيَ الْمَغْرِبُ إذَا أَدْرَكْت مِنْهَا رَكْعَةً ، وَلِأَنَّ الثَّالِثَةَ آخِرُ صَلَاتِهِ فِعْلًا ، فَيَجِبُ أَنْ يَجْلِسَ قَبْلَهَا كَغَيْرِ الْمَسْبُوقِ وَقَدْ رَوَى الْأَثْرَمُ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ إبْرَاهِيمَ .
قَالَ : جَاءَ جُنْدُبٌ وَمَسْرُوقٌ إلَى الْمَسْجِدِ وَقَدْ صَلَّوْا رَكْعَتَيْنِ مِنْ الْمَغْرِبِ ، فَدَخَلَا فِي الصَّفِّ ، فَقَرَأَ جُنْدُبٌ فِي الرَّكْعَةِ الَّتِي أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ ، وَلَمْ يَقْرَأْ مَسْرُوقٌ ، فَلَمَّا سَلَّمَ الْإِمَامُ قَامَا فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ ، فَقَرَأَ جُنْدُبٌ وَقَرَأَ مَسْرُوقٌ ، وَجَلَسَ مَسْرُوقٌ فِي الرَّكْعَةِ

الثَّانِيَةِ وَقَامَ جُنْدُبٌ ، وَقَرَأَ مَسْرُوقٌ فِي الرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ وَلَمْ يَقْرَأْ جُنْدُبٌ ، فَلَمَّا قَضَيَا الصَّلَاةَ أَتَيَا عَبْدَ اللَّهِ فَسَأَلَاهُ عَنْ ذَلِكَ وَقَصَّا عَلَيْهِ الْقِصَّةَ ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ : كَمَا فَعَلَ مَسْرُوقٌ يُفْعَلُ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ : إذَا أَدْرَكْت رَكْعَةً مِنْ الْمَغْرِبِ فَاجْلِسْ فِيهِنَّ كُلِّهِنَّ .
وَأَيًّا مَا فَعَلَ مِنْ ذَلِكَ جَازَ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَلِذَلِكَ لَمْ يُنْكِرْ عَبْدُ اللَّهِ عَلَى جُنْدُبٍ فِعْلَهُ ، وَلَا أَمَرَهُ بِإِعَادَةِ صَلَاتِهِ .

( 1450 ) فَصْلٌ : إذَا فَرَّقَهُمْ فِي الرُّبَاعِيَّةِ فِرْقَتَيْنِ ، فَصَلَّى بِالْأُولَى ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ ، وَبِالثَّانِيَةِ رَكْعَةً ، أَوْ بِالْأُولًى رَكْعَةً وَبِالثَّانِيَةِ ثَلَاثًا ، صَحَّتْ الصَّلَاةُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَزِدْ عَلَى انْتِظَارَيْنِ وَرَدَ الشَّرْعُ بِمِثْلِهِمَا .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، إلَّا أَنَّهُ قَالَ : يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ .
وَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ السُّجُودَ لِلسَّهْوِ ، وَلَا سَهْوَ هَاهُنَا ، وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ فَعَلَهُ سَاهِيًا لَمْ يَحْتَجْ إلَى سُجُودٍ ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يُبْطِلُ عَمْدُهُ الصَّلَاةَ ، فَلَا يَسْجُدُ لِسَهْوِهِ ، كَمَا لَوْ رَفَعَ يَدَيْهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الرَّفْعِ وَتَرَكَ رَفْعَهُمَا فِي مَوْضِعِهِ .
فَأَمَّا إِن فَرَّقَهُمْ أَرْبَعَ فِرَقٍ ، فَصَلَّى فِي كُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَةً ، أَوْ ثَلَاثَ فِرَقٍ فَصَلَّى بِإِحْدَاهُنَّ رَكْعَتَيْنِ ، وَبِالْبَاقِينَ رَكْعَةً رَكْعَةً .
صَحَّتْ صَلَاةُ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ ، لِأَنَّهُمَا ائْتَمَّا بِمَنْ صَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُمَا مَا يُبْطِلُ صَلَاتَهُمَا ، وَتَبْطُلُ صَلَاةُ الْإِمَامِ بِالِانْتِظَارِ الثَّالِثِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَزَادَ انْتِظَارًا لَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِهِ ، فَتَبْطُلُ صَلَاتُهُ بِهِ ، كَمَا لَوْ فَعَلَهُ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ .
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ بِهِ حَاجَةٌ إلَى ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَكُنْ ؛ لِأَنَّ الرُّخَصَ إنَّمَا يُصَارُ فِيهَا إلَى مَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ ، وَلَا تَصِحُّ صَلَاةُ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ ؛ لِائْتِمَامِهَا بِمَنْ صَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَتْ صَلَاتُهُ بَاطِلَةً مِنْ أَوَّلِهَا .
فَإِنْ لَمْ يَعْلَمَا بِبُطْلَانِ صَلَاةِ الْإِمَامِ ، فَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ : لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُمَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَخْفَى ، فَلَمْ تَبْطُلْ صَلَاةُ الْمَأْمُومِ ، كَمَا لَوْ ائْتَمَّ بِمُحَدِّثٍ ، وَيَنْبَغِي عَلَى هَذَا أَنْ يَخْفَى عَلَى الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ ، كَمَا اعْتَبَرْنَا فِي صِحَّةِ صَلَاةِ مَنْ ائْتَمَّ بِمُحَدِّثٍ - خَفَاءَهُ عَلَى الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا

تَصِحَّ صَلَاتُهُمَا ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ وَالْمَأْمُومَ يَعْلَمَانِ وُجُودَ الْمُبْطِلِ .
وَإِنَّمَا خَفِيَ عَلَيْهِمْ حُكْمُهُ ، فَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ الْبُطْلَانَ ، كَمَا لَوْ عَلِمَ الْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُ حَدَثَ الْإِمَامِ ، وَلَمْ يَعْلَمَا كَوْنَهُ مُبْطِلًا .
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ كَقَوْلِ ابْنِ حَامِدٍ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : تَصِحُّ صَلَاةُ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِينَ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى ذَلِكَ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ فَرَّقَهُمْ فِرْقَتَيْنِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : الْمَنْصُوصُ أَنَّ صَلَاتَهُمْ تَبْطُلُ بِالِانْتِظَارِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ زَادَ عَلَى انْتِظَارِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زِيَادَةً لَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِهَا .
وَلَنَا عَلَى الْأَوَّلِ ، أَنَّ الرُّخَصَ إنَّمَا تُتَلَقَّى مِنْ الشَّرْعِ ، وَلَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِهَذَا .
وَعَلَى الثَّانِي ، أَنَّ طُولَ الِانْتِظَارِ لَا عِبْرَةَ بِهِ ، كَمَا لَوْ أَبْطَأَتْ الثَّانِيَةُ فِيمَا إذَا فَرَّقَهُمْ فِرْقَتَيْنِ .

( 1451 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَإِنْ كَانَتْ الصَّلَاةُ مَغْرِبًا صَلَّى بِالطَّائِفَةِ الْأُولَى رَكْعَتَيْنِ ، وَأَتَمَّتْ لِأَنْفُسِهَا رَكْعَةً تَقْرَأُ فِيهَا بِالْحَمْدُ لِلَّهِ ، وَيُصَلَّى بِالطَّائِفَةِ الْأُخْرَى رَكْعَةً ، وَأَتَمَّتْ لِأَنْفُسِهَا رَكْعَتَيْنِ ، تَقْرَأُ فِيهِمَا بِالْحَمْدُ لِلَّهِ وَسُورَةٍ ) وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَسُفْيَانُ ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ .
وَقَالَ فِي آخَرَ : يُصَلِّي بِالْأُولَى رَكْعَةً ، وَالثَّانِيَةِ رَكْعَتَيْنِ ، لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى لَيْلَةَ الْهَدِيرِ هَكَذَا ، وَلِأَنَّ الْأُولَى أَدْرَكَتْ مَعَهُ فَضِيلَةَ الْإِحْرَامِ وَالتَّقَدُّمِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ تَزِيدَ الثَّانِيَةُ فِي الرَّكَعَاتِ ؛ لِيُجْبَرَ نَقْصُهُمْ ، وَتُسَاوِيَ الْأُولَى .
وَلَنَا ، أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ التَّفْضِيلِ ، فَالْأُولَى أَحَقُّ بِهِ ، وَلِأَنَّهُ يُجْبَرُ مَا فَاتَ الثَّانِيَةَ بِإِدْرَاكِهَا السَّلَامَ مَعَ الْإِمَامِ ، وَلِأَنَّهَا تُصَلِّي جَمِيعَ صَلَاتِهَا فِي حُكْمِ الِائْتِمَامِ ، وَالْأُولَى تَفْعَلُ بَعْضَ صَلَاتِهَا فِي حُكْمِ الِانْفِرَادِ ، وَأَيًّا مَا فَعَلَ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى مَا قَدَّمْنَا .
وَهَلْ تُفَارِقُهُ الطَّائِفَةُ الْأُولَى فِي التَّشَهُّدِ ، أَوْ حِينَ يَقُومُ إلَى الثَّالِثَةِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ .
وَإِذَا صَلَّى بِالثَّانِيَةِ الرَّكْعَةَ الثَّالِثَةَ ، وَجَلَسَ لِلتَّشَهُّدِ ، فَإِنَّ الطَّائِفَةَ تَقُومُ وَلَا تَتَشَهَّدُ مَعَهُ .
ذَكَرَهُ الْقَاضِي ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَوْضِعٍ لِتَشَهُّدِهَا ، بِخِلَافِ الرُّبَاعِيَّةِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَتَشَهَّدَ مَعَهُ ، لِأَنَّهَا تَقْضِي رَكْعَتَيْنِ مُتَوَالِيَتَيْنِ ، عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ ، فَيُفْضِي إلَى أَنْ تُصَلِّيَ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ بِتَشَهُّدٍ وَاحِدٍ ، وَلَا نَظِيرَ لِهَذَا فِي الصَّلَوَاتِ ، فَعَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ تَتَشَهَّدُ مَعَهُ التَّشَهُّدَ الْأَوَّلَ ، ثُمَّ تَقُومُ ، كَالصَّلَاةِ الرُّبَاعِيَّةِ سَوَاءً .

فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَحْمِلَ السِّلَاحَ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ } .
وَلِأَنَّهُمْ لَا يَأْمَنُونَ أَنْ يَفْجَأَهُمْ عَدُوُّهُمْ ، فَيَمِيلُونَ عَلَيْهِمْ ، كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى : { وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً } .
وَالْمُسْتَحَبُّ مِنْ ذَلِكَ مَا يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ .
كَالسَّيْفِ ، وَالسِّكِّينِ ، وَلَا يُثْقِلُهُ ، كَالْجَوْشَنِ ، وَلَا يَمْنَعُ مِنْ إكْمَالِ السُّجُودِ ، كَالْمِغْفَرِ ، وَلَا مَا يُؤْذِي غَيْرَهُ ، كَالرُّمْحِ إذَا كَانَ مُتَوَسِّطًا ، فَإِنْ كَانَ فِي الْحَاشِيَةِ لَمْ يُكْرَهْ ، وَلَا يَجُوزُ حَمْلُ نَجَسٍ ، وَلَا مَا يُخِلُّ بِرُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ ، مِثْلُ أَنْ يَخَافَ وُقُوعَ الْحِجَارَةِ أَوْ السِّهَامِ بِهِ ، فَيَجُوزُ لَهُ حَمْلُهُ لِلضَّرُورَةِ .
قَالَ أَصْحَابُنَا : وَلَا يَجِبُ حَمْلُ السِّلَاحِ .
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ لَكَانَ شَرْطًا فِي الصَّلَاةِ كَالسُّتْرَةِ ، وَلِأَنَّ الْأَمْرَ بِهِ لِلرِّفْقِ بِهِمْ وَالصِّيَانَةِ لَهُمْ ، فَلَمْ يَكُنْ لِلْإِيجَابِ ، كَمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَهَى عَنْ الْوِصَالِ رِفْقًا بِهِمْ لَمْ يَكُنْ لِلتَّحْرِيمِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا ، وَبِهِ قَالَ دَاوُد ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ ، وَالْحُجَّةُ مَعَهُمْ ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْأَمْرِ الْوُجُوبُ ، وَقَدْ اقْتَرَنَ بِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى إرَادَةِ الْإِيجَابِ بِهِ ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ } .
وَنَفْيُ الْحَرَجِ مَشْرُوطًا بِالْأَذَى دَلِيلٌ عَلَى لُزُومِهِ عِنْدَ عَدَمِهِ ، فَأَمَّا إنْ كَانَ بِهِمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ مَرَضٍ ، فَلَا يَجِبُ بِغَيْرِ خِلَافٍ ، بِتَصْرِيحِ النَّصِّ بِنَفْيِ الْحَرَجِ فِيهِ .

( 1453 ) فَصْلٌ : وَيَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةَ الْخَوْفِ عَلَى كُلِّ صِفَةٍ صَلَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قَالَ أَحْمَدُ : كُلُّ حَدِيثٍ يُرْوَى فِي أَبْوَابِ صَلَاةِ الْخَوْفِ فَالْعَمَلُ بِهِ جَائِزٌ .
وَقَالَ : سِتَّةُ أَوْجُهٍ أَوْ سَبْعَةٌ يُرْوَى فِيهَا ، كُلُّهَا جَائِزٌ .
وَقَالَ الْأَثْرَمُ : قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : تَقُولُ بِالْأَحَادِيثِ كُلِّهَا كُلُّ حَدِيثٍ فِي مَوْضِعِهِ ، أَوْ تَخْتَارُ وَاحِدًا مِنْهَا .
قَالَ : أَنَا أَقُولُ مَنْ ذَهَبَ إلَيْهَا كُلَّهَا فَحَسَنٌ ، وَأَمَّا حَدِيث سَهْلٍ فَأَنَا أَخْتَارُهُ .
إذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَنَذْكُرُ الْوُجُوهَ الَّتِي بَلَغَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَيْهَا ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْهَا وَجْهَيْنِ أَحَدَهُمَا ، مَا ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ ، وَهُوَ حَدِيثُ سَهْلٍ .
وَالثَّانِي حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ ، وَهُوَ الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَالثَّالِثُ ، صَلَاةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعُسْفَانَ ، وَهُوَ مَا رَوَى أَبُو عَيَّاشٍ الزُّرَقِيُّ قَالَ { كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعُسْفَانَ وَعَلَى الْمُشْرِكِينَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ .
فَصَلَّيْنَا الظُّهْرَ .
فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ : لَقَدْ أَصَبْنَا غِرَّةً لَوْ حَمَلْنَا عَلَيْهِمْ فِي الصَّلَاةِ .
فَنَزَلَتْ آيَةُ الْقَصْرِ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ .
فَلَمَّا حَضَرَتْ الْعَصْرُ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ ، وَالْمُشْرِكُونَ أَمَامَهُ ، فَصَفَّ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَفٌّ ، وَصَفَّ خَلْفَ ذَلِكَ الصَّفِّ صَفٌّ آخَرُ ، فَرَكَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَكَعُوا جَمِيعًا ، ثُمَّ سَجَدَ وَسَجَدَ الصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ ، وَقَامَ الْآخَرُونَ يَحْرُسُونَهُمْ ، فَلَمَّا صَلَّى بِهَؤُلَاءِ السَّجْدَتَيْنِ وَقَامُوا ، سَجَدَ الْآخَرُونَ الَّذِينَ كَانُوا خَلْفَهُمْ ، ثُمَّ تَأَخَّرَ الصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ إلَى مَقَامِ الْآخَرِينَ ، وَتَقَدَّمَ الصَّفُّ الْآخَرُ إلَى مَقَامِ الصَّفِّ الْأَوَّلِ ، ثُمَّ رَكَعَ

رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَكَعُوا جَمِيعًا ، ثُمَّ سَجَدَ وَسَجَدَ الصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ ، وَقَامَ الْآخَرُونَ يَحْرُسُونَهُمْ ، فَلَمَّا جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ سَجَدَ الْآخَرُونَ ، ثُمَّ جَلَسُوا جَمِيعًا ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ ، فَصَلَّاهَا بِعُسْفَانَ ، وَصَلَّاهَا يَوْمَ بَنِي سُلَيْمٍ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَرَوَى جَابِرٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَ هَذَا الْمَعْنَى .
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ .
وَرُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ ، أَنَّهُ أَمَرَ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ بِطَبَرِسْتَانَ حِينَ سَأَلَهُمْ : أَيُّكُمْ شَهِدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْخَوْفِ ؟ فَقَالَ حُذَيْفَةُ : أَنَا .
وَأَمَرَهُ بِنَحْوِ هَذِهِ الصَّلَاةِ ، وَقَالَ : وَتَأْمُرُ أَصْحَابَكَ إنْ هَاجَهُمْ هَيْجٌ فَقَدْ حَلَّ لَهُمْ الْقِتَالُ وَالْكَلَامُ .
رَوَاهُ الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ .
وَإِنْ حَرَسَ الصَّفُّ الْأَوَّلُ فِي الْأُولَى ، وَالثَّانِي فِي الثَّانِيَةِ ، أَوْ لَمْ يَتَقَدَّمْ الثَّانِي إلَى مَقَامِ الْأَوَّلِ ، أَوْ حَرَسَ بَعْضُ الصَّفِّ وَسَجَدَ الْبَاقُونَ ، جَازَ ذَلِكَ كُلُّهُ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ ، لَكِنَّ الْأُولَى فِعْلُ مِثْلَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَمِنْ شَرْطِ هَذِهِ الصَّلَاةِ أَنْ يَكُونَ الْعَدُوُّ فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حِرَاسَتُهُمْ فِي الصَّلَاةِ إلَّا كَذَلِكَ ، وَأَنْ يَكُونُوا بِحَيْثُ لَا يَخْفَى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ، وَلَا يُخَافُ كَمِينٌ لَهُمْ .
( 1454 ) فَصْلٌ : الْوَجْهُ الرَّابِعُ ، أَنْ يُصَلِّيَ بِكُلِّ طَائِفَةٍ صَلَاةً مُنْفَرِدَةً ، وَيُسَلِّمَ بِهَا ، كَمَا رَوَى أَبُو بَكْرَةَ : قَالَ { صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خَوْفٍ الظُّهْرَ ، فَصَفَّ بَعْضُهُمْ خَلْفَهُ ، وَبَعْضُهُمْ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ سَلَّمَ ، فَانْطَلَقَ الَّذِينَ صَلَّوْا فَوَقَفُوا مَوْقِفَ أَصْحَابِهِمْ ، ثُمَّ جَاءَ أُولَئِكَ فَصَلَّوْا خَلْفَهُ فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ سَلَّمَ ،

فَكَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعٌ ، وَلِأَصْحَابِهِ رَكْعَتَانِ } .
أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد ، وَالْأَثْرَمُ .
وَهَذِهِ صِفَةٌ حَسَنَةٌ ، قَلِيلَةُ الْكُلْفَةِ ، لَا يَحْتَاجُ فِيهَا إلَى مُفَارَقَةِ الْإِمَامِ ، وَلَا إلَى تَعْرِيفِ كَيْفِيَّةِ الصَّلَاةِ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَسَنِ ، وَلَيْسَ فِيهَا أَكْثَرُ مِنْ أَنَّ الْإِمَامَ فِي الثَّانِيَةِ مُتَنَفِّلٌ يَؤُمُّ مُفْتَرِضِينَ .
( 1455 ) فَصْلٌ : الْوَجْهُ الْخَامِسُ أَنْ يُصَلِّيَ بِالطَّائِفَةِ الْأُولَى رَكْعَتَيْنِ ، وَلَا يُسَلِّمَ ، ثُمَّ تُسَلِّمُ الطَّائِفَةُ ، وَتَنْصَرِفُ وَلَا تَقْضِي شَيْئًا .
وَتَأْتِي الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى ، فَيُصَلِّي بِهَا رَكْعَتَيْنِ ، وَيُسَلِّمُ بِهَا ، وَلَا تَقْضِي شَيْئًا .
وَهَذَا مِثْلُ الْوَجْهِ الَّذِي قَبْلَهُ ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُسَلِّمُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ ؛ لِمَا رَوَى جَابِرٌ ، قَالَ { : أَقْبَلْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إذَا كُنَّا بِذَاتِ الرِّقَاعِ .
فَذَكَرَ الْحَدِيثَ .
قَالَ : فَنُودِيَ بِالصَّلَاةِ ، فَصَلَّى بِطَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ تَأَخَّرُوا ، وَصَلَّى بِالطَّائِفَةِ الْأُخْرَى رَكْعَتَيْنِ .
قَالَ : وَكَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ ، وَلِلْقَوْمِ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَتَأَوَّلَ الْقَاضِي هَذَا عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِهِمْ كَصَلَاةِ الْحَضَرِ ، وَأَنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ قَضَتْ رَكْعَتَيْنِ .
وَهَذَا ظَاهِرُ الْفَسَادِ جِدًّا ؛ لِأَنَّهُ يُخَالِفُ صِفَةَ الرِّوَايَةِ ، وَقَوْلَ أَحْمَدَ ، وَيَحْمِلُهُ عَلَى مَحْمَلٍ فَاسِدٍ .
أَمَّا الرِّوَايَةُ فَإِنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ صَلَّى بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ قَضَاءً ، ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهَا : وَلِلْقَوْمِ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ .
وَأَمَّا قَوْلُ أَحْمَدَ ، فَإِنَّهُ قَالَ : سِتَّةُ أَوْجُهٍ أَوْ سَبْعَةٌ ، يُرْوَى فِيهَا ، كُلُّهَا جَائِزٌ .
وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ لَا تَكُونُ سِتَّةً وَلَا خَمْسَةً .
وَلِأَنَّهُ قَالَ : كُلُّ حَدِيثٍ يُرْوَى فِي أَبْوَابِ صَلَاةِ

الْخَوْفِ فَهُوَ جَائِزٌ .
وَهَذَا مُخَالِفٌ لِهَذَا التَّأْوِيلِ .
وَأَمَّا فَسَادُ الْمَحْمَلِ ، فَإِنَّ الْخَوْفَ يَقْتَضِي تَخْفِيفَ الصَّلَاةِ وَقَصْرَهَا ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلَاةِ إنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا } .
وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَجْعَلُ مَكَانَ الرَّكْعَتَيْنِ أَرْبَعًا .
وَيُتِمُّ الصَّلَاةَ الْمَقْصُورَةَ ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَتَمَّ صَلَاةَ السَّفَرِ ، فَكَيْفَ يُحْمَلُ هَاهُنَا عَلَى أَنَّهُ أَتَمَّهَا ، فِي مَوْضِعٍ وُجِدَ فِيهِ مَا يَقْتَضِي التَّخْفِيفَ .
( 1456 ) فَصْلٌ : الْوَجْهُ السَّادِسُ ، أَنْ يُصَلِّيَ بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَةً ، وَلَا تَقْضِي شَيْئًا ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ ، قَالَ : { صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذِي قَرَدٍ صَلَاةَ الْخَوْفِ ، وَالْمُشْرِكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ ، فَصَفَّ صَفًّا خَلْفَهُ ، وَصَفًّا مُوَازِيَ الْعَدُوِّ ، فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً ، ثُمَّ ذَهَبَ هَؤُلَاءِ إلَى مَصَافِّ هَؤُلَاءِ ، وَرَجَعَ هَؤُلَاءِ إلَى مَصَافِّ هَؤُلَاءِ ، فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً ، ثُمَّ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ ، فَكَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَانِ ، وَكَانَتْ لَهُمْ رَكْعَةٌ رَكْعَةٌ .
} رَوَاهُ .
الْأَثْرَمُ وَعَنْ حُذَيْفَةَ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى صَلَاةَ الْخَوْفِ بِهَؤُلَاءِ رَكْعَةً ، وَبِهَؤُلَاءِ رَكْعَةً ، وَلَمْ يَقْضُوا شَيْئًا } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ .
رَوَاهُنَّ الْأَثْرَمُ .
وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو دَاوُد ، فِي " السُّنَنِ " ، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَجَابِرٍ .
قَالَ : إنَّمَا الْقَصْرُ رَكْعَةٌ عِنْدَ الْقِتَالِ .
وَقَالَ طَاوُسٌ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ ، وَالْحَكَمُ كَذَا يَقُولُونَ : رَكْعَةً فِي شِدَّةِ الْخَوْفِ ، يُومِئُ إيمَاءً .
وَقَالَ إِسْحَاقُ : يُجْزِئُكَ عِنْدَ الشِّدَّةِ رَكْعَةٌ ، تُومِئُ إيمَاءً ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَسَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ ، فَإِنْ لَمْ

يَقْدِرْ فَتَكْبِيرَةٌ ، لِأَنَّهَا ذِكْرٌ لِلَّهِ تَعَالَى .
وَعَنْ الضَّحَّاكِ ، أَنَّهُ قَالَ : رَكْعَةٌ ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ كَبَّرَ تَكْبِيرَةً حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ .
فَهَذِهِ الصَّلَاةُ يَقْتَضِي عُمُومُ كَلَامِ أَحْمَدَ جَوَازَهَا ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ سِتَّةَ أَوْجُهٍ ، وَلَا أَعْلَمُ وَجْهًا سَادِسًا سِوَاهَا ، وَأَصْحَابُنَا يُنْكِرُونَ ذَلِكَ .
قَالَ الْقَاضِي : لَا تَأْثِيرَ لِلْخَوْفِ فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ .
وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْل الْعِلْمِ ؛ مِنْهُمْ ابْنُ عُمَرَ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَأَصْحَابُهُ وَسَائِرُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ ، لَا يُجِيزُونَ رَكْعَةً ، وَاَلَّذِي قَالَ مِنْهُمْ رَكْعَةً ، إنَّمَا جَعَلَهَا عِنْدَ شِدَّةِ الْقِتَالِ وَاَلَّذِينَ رَوَيْنَا عَنْهُمْ صَلَاةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرُهُمْ لَمْ يَنْقُصُوا عَنْ رَكْعَتَيْنِ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَحْضُرُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزَوَاتِهِ ، وَلَا يَعْلَمُ ذَلِكَ إلَّا بِالرِّوَايَةِ عَنْ غَيْرِهِ ، فَالْأَخْذُ بِرِوَايَةِ مَنْ حَضَرَ الصَّلَاةَ وَصَلَّاهَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى .

( 1457 ) فَصْلٌ : وَمَتَى صَلَّى بِهِمْ صَلَاةَ الْخَوْفِ ، مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ ، فَصَلَاتُهُ وَصَلَاتُهُمْ فَاسِدَةٌ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَخْلُو مِنْ مُفَارِقِ إمَامِهِ لِغَيْرِ عُذْرٍ ، وَتَارِكِ مُتَابَعَةِ إمَامِهِ فِي ثَلَاثَةِ أَرْكَانٍ ، أَوْ قَاصِرٍ لِلصَّلَاةِ مَعَ إتْمَامِ إمَامِهِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ يُفْسِدُ الصَّلَاةَ ، إلَّا مُفَارَقَةَ الْإِمَامِ لِغَيْرِ عُذْرٍ ، عَلَى اخْتِلَافٍ فِيهِ .
وَإِذَا فَسَدَتْ صَلَاتُهُمْ ، فَسَدَتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى إمَامًا بِمَنْ صَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ ، إلَّا أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ صَلَاتَيْنِ كَامِلَتَيْنِ ؛ فَإِنَّهُ تَصِحُّ صَلَاتُهُ ، وَصَلَاةُ الطَّائِفَةِ الْأُولَى ، وَصَلَاةُ الثَّانِيَةِ تُبْنَى عَلَى ائْتِمَامِ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ ، وَقَدْ نَصَرْنَا جَوَازَهُ .

( 1458 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَإِذَا كَانَ الْخَوْفُ شَدِيدًا ، وَهُمْ فِي حَالِ الْمُسَايَفَةِ ، صَلَّوْا رِجَالًا وَرُكْبَانًا ، إلَى الْقِبْلَةِ وَإِلَى غَيْرِهَا ، يُومِئُونَ إيمَاءً ، يَبْتَدِئُونَ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ إلَى الْقِبْلَةِ إنْ قَدَرُوا ، أَوْ إلَى غَيْرِهَا ) .
أَمَّا إذَا اشْتَدَّ الْخَوْفُ ، وَالْتَحَمَ الْقِتَالُ ، فَلَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا كَيْفَمَا أَمْكَنَهُمْ ؛ رِجَالًا وَرُكْبَانًا ، إلَى الْقِبْلَةِ إنْ أَمْكَنَهُمْ ، وَإِلَى غَيْرِهَا إنْ لَمْ يُمْكِنْهُمْ ، يُومِئُونَ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ عَلَى قَدْرِ الطَّاقَةِ ، وَيَجْعَلُونَ السُّجُودَ أَخْفَضَ مِنْ الرُّكُوعِ ، وَيَتَقَدَّمُونَ وَيَتَأَخَّرُونَ ، وَيَضْرِبُونَ وَيَطْعَنُونَ ، وَيَكُرُّونَ وَيَفِرُّونَ ، وَلَا يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا .
وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى : لَا يُصَلِّي مَعَ الْمُسَايَفَةِ ، وَلَا مَعَ الْمَشْيِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُصَلِّ يَوْمَ الْخَنْدَقِ ، وَأَخَّرَ الصَّلَاةَ ، وَلِأَنَّ مَا مَنَعَ الصَّلَاةَ فِي غَيْرِ شِدَّةِ الْخَوْفِ مَنَعَهَا مَعَهُ ، كَالْحَدَثِ وَالصِّيَاحِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُصَلِّي ، وَلَكِنْ إنْ تَابَعَ الطَّعْنَ ، أَوْ الضَّرْبَ ، أَوْ الْمَشْيَ ، أَوْ فَعَلَ مَا يَطُولُ ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ مُبْطِلَاتِ الصَّلَاةِ ، أَشْبَهَ الْحَدَثَ .
وَلَنَا ، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا } ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ : فَإِنْ كَانَ خَوْفٌ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ ، صَلُّوا رِجَالًا قِيَامًا عَلَى أَقْدَامِهِمْ ، وَرُكْبَانًا مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ وَغَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِأَصْحَابِهِ فِي غَيْرِ شِدَّةِ الْخَوْفِ ، فَأَمَرَهُمْ بِالْمَشْيِ إلَى وِجَاهِ الْعَدُوِّ ، ثُمَّ يَعُودُونَ لِقَضَاءِ مَا بَقِيَ مِنْ صَلَاتِهِمْ ، وَهَذَا مَشْيٌ كَثِيرٌ ، وَعَمَلٌ طَوِيلٌ ، وَاسْتِدْبَارٌ لِلْقِبْلَةِ ، وَأَجَازَ ذَلِكَ مِنْ

أَجْلِ الْخَوْفِ الَّذِي لَيْسَ بِشَدِيدٍ ، فَمَعَ الْخَوْفِ الشَّدِيدِ أَوْلَى .
وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ اخْتَارَ هَذَا الْوَجْهَ دُونَ سَائِرِ الْوُجُوهِ الَّتِي لَا تَشْتَمِلُ عَلَى الْعَمَلِ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ ، وَسَوَّغَهُ مَعَ الْغِنَى عَنْهُ ، وَإِمْكَانِ الصَّلَاةِ بِدُونِهِ ، ثُمَّ مَنَعَهُ فِي حَالٍ لَا يَقْدِرُ إلَّا عَلَيْهِ ، وَكَانَ الْعَكْسُ أَوْلَى ، سِيَّمَا مَعَ نَصِّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الرُّخْصَةِ فِي هَذِهِ الْحَالِ ، وَلِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ تَصِحُّ طَهَارَتُهُ ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ إخْلَاءُ وَقْتِ الصَّلَاةِ عَنْ فِعْلِهَا ، كَالْمَرِيضِ ، وَيَخُصُّ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّهُ عَمَلٌ أُبِيحَ مِنْ أَجْلِ الْخَوْفِ ، فَلَمْ تَبْطُلْ الصَّلَاةُ بِهِ ، كَاسْتِدْبَارِ الْقِبْلَةِ ، وَالرُّكُوبِ ، وَالْإِيمَاءِ .
وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى الْعَمَلِ الْكَثِيرِ مِنْ أَجْلِ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ : إمَّا تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَنَا فِي تَحْرِيمِهِ ، أَوْ تَرْكُ الْقِتَالِ وَفِيهِ هَلَاكُهُ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ } .
وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ هَذَا ، أَوْ مُتَابَعَةُ الْعَمَلِ لِلْمُتَنَازَعِ فِيهِ ، وَهُوَ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ ، فَتَعَيَّنَ فِعْلُهُ وَصِحَّةُ الصَّلَاةِ مَعَهُ .
ثُمَّ مَا ذَكَرَهُ يَبْطُلُ بِالْمَشْيِ الْكَثِيرِ ، وَالْعَدْوِ فِي الْهَرَبِ وَغَيْرِهِ .
وَأَمَّا تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ ، فَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ ، أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ صَلَاةِ الْخَوْفِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ شَغَلَهُ الْمُشْرِكُونَ فَنَسِيَ الصَّلَاةَ ، فَقَدْ نُقِلَ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا مَضَى ، وَأَكَّدَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ لَمْ يَكُونُوا فِي مُسَايَفَةٍ تُوجِبُ قَطْعَ الصَّلَاةِ .
وَأَمَّا الصِّيَاحُ ، وَالْحَدَثُ ، فَلَا حَاجَةَ بِهِمْ إلَيْهِ ، وَيُمْكِنُهُمْ التَّيَمُّمُ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الشَّيْءِ مُبْطِلًا مَعَ عَدَمِ الْعُذْرِ أَنْ يُبْطِلَ مَعَهُ ، كَخُرُوجِ النَّجَاسَةِ مِنْ الْمُسْتَحَاضَةِ ،

وَمَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ .
وَإِنْ هَرَبَ مِنْ الْعَدُوِّ هَرَبًا مُبَاحًا ، أَوْ مِنْ سَيْلٍ ، أَوْ سَبُعٍ ، أَوْ حَرِيقٍ لَا يُمْكِنُهُ التَّخَلُّصُ مِنْهُ بِدُونِ الْهَرَبِ .
فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةَ شِدَّةِ الْخَوْفِ ، سَوَاءٌ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ ، أَوْ مَالِهِ ، أَوْ أَهْلِهِ .
وَالْأَسِيرُ إذَا خَافَهُمْ عَلَى نَفْسِهِ إنْ صَلَّى ، وَالْمُخْتَفِي فِي مَوْضِعٍ ، يُصَلِّيَانِ كَيْفَمَا أَمْكَنَهُمَا .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي الْأَسِيرِ .
وَلَوْ كَانَ الْمُخْتَفِي قَاعِدًا لَا يُمْكِنُهُ الْقِيَامُ ، أَوْ مَضْجَعًا لَا يُمْكِنُهُ الْقُعُودُ ، وَلَا الْحَرَكَةُ ، صَلَّى عَلَى حَسَبِ حَالِهِ .
وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُصَلِّي وَيُعِيدُ .
وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ لِأَنَّهُ خَائِفٌ صَلَّى عَلَى حَسَبِ مَا يُمْكِنُهُ ، فَلَمْ تَلْزَمْهُ الْإِعَادَةُ كَالْهَارِبِ .
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ فِي هَذَا ؛ لِأَنَّ الْمُبِيحَ خَوْفُ الْهَلَاكِ ، وَقَدْ تَسَاوَيَا فِيهِ ، وَمَتَى أَمْكَنَ التَّخَلُّصُ بِدُونِ ذَلِكَ ، كَالْهَارِبِ مِنْ السَّيْلِ يَصْعَدُ إلَى رَبْوَةٍ ، وَالْخَائِفِ مِنْ الْعَدُوِّ يُمْكِنُهُ دُخُولُ حِصْنٍ يَأْمَنُ فِيهِ صَوْلَةَ الْعَدُوِّ ، وَلُحُوقَ الضَّرَرِ ، فَيُصَلِّي فِيهِ ، ثُمَّ يَخْرُجُ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةَ شِدَّةِ الْخَوْفِ ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا أُبِيحَتْ لِلضَّرُورَةِ ، فَاخْتَصَّتْ بِوُجُودِ الضَّرُورَةِ .
( 1459 ) فَصْلٌ : وَالْعَاصِي بِهَرَبِهِ كَاَلَّذِي يَهْرُبُ مِنْ حَقٍّ تَوَجَّهَ عَلَيْهِ ، وَقَاطِعُ الطَّرِيقِ ، وَاللِّصُّ ، وَالسَّارِقُ ، لَيس لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةَ الْخَوْفِ ؛ لِأَنَّهَا رُخْصَةٌ ثَبَتَتْ لِلدَّفْعِ عَنْ نَفْسِهِ فِي مَحَلٍّ مُبَاحٍ ، فَلَا تَثْبُتُ بِالْمَعْصِيَةِ ، كَرُخَصِ السَّفَرِ .
( 1460 ) فَصْلٌ : قَالَ أَصْحَابُنَا : يَجُوزُ أَنْ يُصَلُّوا فِي حَالِ شِدَّةِ الْخَوْفِ جَمَاعَةً ، رِجَالًا ، وَرُكْبَانًا .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَجُوزَ ذَلِكَ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُمْ يَحْتَاجُونَ إلَى التَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ ، وَرُبَّمَا تَقَدَّمُوا الْإِمَامَ ، وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِمْ الِائْتِمَامُ .

وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِأَنَّهَا حَالَةٌ يَجُوزُ فِيهَا الصَّلَاةُ عَلَى الِانْفِرَادِ ، فَجَازَ فِيهَا صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ ، كَرُكُوبِ السَّفِينَةِ ، وَيُعْفَى عَنْ تَقَدُّمِ الْإِمَامِ لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ ، كَالْعَفْوِ عَنْ الْعَمَلِ الْكَثِيرِ .
وَلِمَنْ نَصَرَ الْأَوَّلَ أَنْ يَقُولَ : الْعَفْوُ عَنْ ذَلِكَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِنَصٍّ أَوْ مَعْنَى نَصٍّ ، وَلَمْ يُوجَدْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا ، وَلَيْسَ هَذَا فِي مَعْنَى الْعَمَلِ الْكَثِيرِ ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ الْكَثِيرَ لَا يَخْتَصُّ الْإِمَامَةَ ، بَلْ هُوَ فِي حَالِ الِانْفِرَادِ ، كَحَالِ الِائْتِمَامِ ، فَلَا يُؤَثِّرُ الِانْفِرَادُ فِي نَفْسِهِ بِخِلَافِ تَقَدُّمِ الْإِمَامِ .

( 1461 ) فَصْلٌ : وَإِذَا صَلَّوْا صَلَاةَ الْخَوْفِ ، ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ ثُمَّ عَدُوًّا ، فَبَانَ أَنَّهُ لَا عَدُوَّ ، أَوْ بَانَ عَدُوٌّ لَكِنْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ مَا يَمْنَعُ عُبُورَهُ إلَيْهِمْ ، فَعَلَيْهِمْ الْإِعَادَةُ ، سَوَاءٌ صَلَّوْا صَلَاةَ شِدَّةِ الْخَوْفِ أَوْ غَيْرَهَا ، وَسَوَاءٌ كَانَ ظَنُّهُمْ مُسْتَنِدًا إلَى خَبَرِ ثِقَةٍ أَوْ غَيْرِهِ ، أَوْ رُؤْيَةِ سَوَادٍ ، أَوْ نَحْوِهِ ؛ لِأَنَّهُمْ تَرَكُوا بَعْضَ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ ظَنًّا مِنْهُمْ سُقُوطَهَا ، فَلَزِمَتْهُمْ الْإِعَادَةُ ، كَمَا لَوْ تَرَكَ الْمُتَوَضِّئُ غَسْلَ رِجْلَيْهِ ، وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ ، ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ ذَلِكَ يُجْزِئُ عَنْهُ وَصَلَّى ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّ خُفَّهُ كَانَ مُخَرَّقًا ، وَكَمَا لَوْ ظَنَّ الْمُحْدِثُ أَنَّهُ مُتَطَهِّرٌ فَصَلَّى .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَلْزَمَ الْإِعَادَةُ إذَا كَانَ عَدُوًّا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ مَا يَمْنَعُ الْعُبُورَ ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ لِلْخَوْفِ مُتَحَقِّقٌ ، وَإِنَّمَا خَفِيَ الْمَانِعُ

( 1462 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَمَنْ أَمِنَ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ ، أَتَمَّهَا صَلَاةَ آمِنٍ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ آمِنًا ، فَاشْتَدَّ خَوْفُهُ ، أَتَمَّهَا صَلَاةَ خَائِفٍ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا صَلَّى بَعْضَ الصَّلَاةِ حَالَ شِدَّةِ الْخَوْفِ ، مَعَ الْإِخْلَالِ بِشَيْءٍ مِنْ وَاجِبَاتِهَا ، كَالِاسْتِقْبَالِ وَغَيْرِهِ ، فَأَمِنَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ ، أَتَمَّهَا آتِيًا بِوَاجِبَاتِهَا ، فَإِذَا كَانَ رَاكِبًا إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ ، نَزَلَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ ، وَإِنْ كَانَ مَاشِيًا ، وَقَفَ وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ ، وَبَنَى عَلَى مَا مَضَى ؛ لِأَنَّ مَا مَضَى كَانَ صَحِيحًا قَبْلَ الْأَمْنِ ، فَجَازَ الْبِنَاءُ عَلَيْهِ ، كَمَا لَوْ لَمْ يُخِلَّ بِشَيْءٍ مِنْ الْوَاجِبَاتِ .
وَإِنْ تَرَكَ الِاسْتِقْبَالَ حَالَ نُزُولِهِ ، أَوْ أَخَلَّ بِشَيْءٍ مِنْ وَاجِبَاتِهَا بَعْدَ أَمْنِهِ ، فَسَدَتْ صَلَاتُهُ .
وَإِنْ ابْتَدَأَ الصَّلَاةَ آمِنًا بِشُرُوطِهَا وَوَاجِبَاتِهَا ، ثُمَّ حَدَثَ شِدَّةُ خَوْفٍ ، أَتَمَّهَا ، عَلَى حَسَبِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ قَائِمًا عَلَى الْأَرْضِ مُسْتَقْبِلًا ، فَيَحْتَاجُ أَنْ يَرْكَبَ وَيَسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةَ ، أَتَمَّهَا عَلَى حَسَبِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ ، وَيَطْعَنُ وَيَضْرِبُ وَنَحْوُ ذَلِكَ ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ إلَيْهِ ، وَيَبْنِي عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِ .
وَحُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ إذَا أَمِنَ نَزَلَ فَبَنَى ، وَإِذَا خَافَ فَرَكِبَ ابْتَدَأَ ؛ لِأَنَّ الرُّكُوبَ عَمَلٌ كَثِيرٌ .
وَلَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ الرُّكُوبَ قَدْ يَكُونُ يَسِيرًا ، فَمِثْلُهُ فِي حَقِّ الْآمِنِ لَا يُبْطِلُ ، فَفِي حَقِّ الْخَائِفِ أَوْلَى كَالنُّزُولِ ، وَلِأَنَّهُ عَمَلٌ أُبِيحَ لِلْحَاجَةِ ، فَلَمْ يَمْنَعْ صِحَّةَ الصَّلَاةِ كَالْهَرَبِ .

كِتَابُ صَلَاةِ الْكُسُوفِ الْكُسُوفُ وَالْخُسُوفُ شَيْءٌ وَاحِدٌ ، وَكِلَاهُمَا قَدْ وَرَدَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ ، وَجَاءَ الْقُرْآنُ بِلَفْظِ الْخُسُوفِ .
( 1463 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ : ( وَإِذَا خَسَفَتْ الشَّمْسُ أَوْ الْقَمَرُ ، فَزِعَ النَّاسُ إلَى الصَّلَاةِ ، إنْ أَحَبُّوا جَمَاعَةً ، وَإِنْ أَحَبُّوا فُرَادَى ) صَلَاةُ الْكُسُوفِ ثَابِتَةٌ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ ، وَلَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي مَشْرُوعِيَّتِهَا لِكُسُوفِ الشَّمْسِ خِلَافًا ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهَا مَشْرُوعَةٌ لِخُسُوفِ الْقَمَرِ ، فَعَلَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .
وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ ، وَالْحَسَنُ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ .
وَقَالَ مَالِكٌ : لَيس لِكُسُوفِ الْقَمَرِ سُنَّةٌ .
وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْهُ ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُمَا قَالَا : يُصَلِّي النَّاسُ لِخُسُوفِ الْقَمَرِ وُحْدَانًا رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ ، وَلَا يُصَلُّونَ جَمَاعَةً ؛ لِأَنَّ فِي خُرُوجِهِمْ إلَيْهَا مَشَقَّةً .
وَلَنَا ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ ، لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَصَلُّوا } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
فَأَمَرَ بِالصَّلَاةِ لَهُمَا أَمْرًا وَاحِدًا .
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّهُ صَلَّى بِأَهْلِ الْبَصْرَةِ فِي خُسُوفِ الْقَمَرِ رَكْعَتَيْنِ ، وَقَالَ : إنَّمَا صَلَّيْت لِأَنِّي رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي .
وَلِأَنَّهُ أَحَدُ الْكُسُوفَيْنِ ، فَأَشْبَهَ كُسُوفَ الشَّمْسِ .
وَيُسَنُّ فِعْلُهَا جَمَاعَةً وَفُرَادَى .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَحُكِيَ عَنْ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ : إنْ صَلَّاهَا الْإِمَامُ صَلُّوهَا مَعَهُ ، وَإِلَّا فَلَا تُصَلُّوا .
وَلَنَا ، قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : فَإِذَا رَأَيْتُمُوهَا فَصَلُّوا } .
وَلِأَنَّهَا نَافِلَةٌ ، فَجَازَتْ فِي الِانْفِرَادِ ، كَسَائِرِ النَّوَافِلِ .
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ فِعْلَهَا فِي

الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّاهَا فِي جَمَاعَةٍ ، وَالسُّنَّةُ أَنْ يُصَلِّيَهَا فِي الْمَسْجِدِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهَا فِيهِ .
قَالَتْ عَائِشَةُ : خَسَفَتْ الشَّمْسُ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَجَ إلَى الْمَسْجِدِ ، فَصَفَّ النَّاسَ وَرَاءَهُ .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَلِأَنَّ وَقْتَ الْكُسُوفِ يَضِيقُ ، فَلَوْ خَرَجَ إلَى الْمُصَلَّى احْتَمَلَ التَّجَلِّي قَبْلَ فِعْلِهَا .
وَتُشْرَعُ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ ، بِإِذْنِ الْإِمَامِ وَغَيْرِ إذْنِهِ .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : هِيَ كَصَلَاةِ الْعِيدِ ، فِيهَا رِوَايَتَانِ .
وَلَنَا ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { فَإِذَا رَأَيْتُمُوهَا فَصَلُّوا } .
وَلِأَنَّهَا نَافِلَةٌ أَشْبَهَتْ سَائِرَ النَّوَافِلِ .
وَتُشْرَعُ فِي حَقِّ النِّسَاءِ ؛ لِأَنَّ عَائِشَةَ وَأَسْمَاءَ صَلَّتَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَيُسَنُّ أَنْ يُنَادَى لَهَا : الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ، قَالَ : لَمَّا كَسَفَتْ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُودِيَ بِالصَّلَاةُ جَامِعَةٌ .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَلَا يُسَنُّ لَهَا أَذَانٌ وَلَا إقَامَةٌ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّاهَا بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ ، وَلِأَنَّهَا مِنْ غَيْرِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ ، فَأَشْبَهَتْ سَائِرَ النَّوَافِلِ

( 1464 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( يَقْرَأُ فِي الْأُولَى بِأُمِّ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ طَوِيلَةٍ ، يَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ ، ثُمَّ يَرْكَعُ فَيُطِيلُ الرُّكُوعَ ، ثُمَّ يَرْفَعُ فَيَقْرَأُ وَيُطِيلُ الْقِيَامَ ، وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ ، ثُمَّ يَرْكَعُ فَيُطِيلُ الرُّكُوعَ ، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ ، ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ ، فَإِذَا قَامَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ ، فَيَكُونُ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ ، ثُمَّ يَتَشَهَّدُ وَيُسَلِّمُ ) .
وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ ، يُحْرِمُ بِالْأُولَى ، وَيَسْتَفْتِحُ ، وَيَسْتَعِيذُ ، وَيَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ وَسُورَةَ الْبَقَرَةِ ، أَوْ قَدْرَهَا فِي الطُّولِ ، ثُمَّ يَرْكَعُ فَيُسَبِّحُ اللَّهَ تَعَالَى قَدْرَ مِائَةِ آيَةٍ ، ثُمَّ يَرْفَعُ فَيَقُولُ : سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ، رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ .
ثُمَّ يَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ وَآلَ عِمْرَانَ ، أَوْ قَدْرَهَا ، ثُمَّ يَرْكَعُ بِقَدْرِ ثُلُثَيْ رُكُوعِهِ الْأَوَّلِ ، ثُمَّ يَرْفَعُ فَيُسَمِّعُ وَيَحْمَدُ ، ثُمَّ يَسْجُدُ فَيُطِيلُ السُّجُودَ فِيهِمَا ، ثُمَّ يَقُومُ إلَى الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ ، فَيَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ وَسُورَةَ النِّسَاءِ ، ثُمَّ يَرْكَعُ فَيُسَبِّحُ بِقَدْرِ ثُلُثَيْ تَسْبِيحِهِ فِي الثَّانِيَةِ ، ثُمَّ يَرْفَعُ فَيَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ وَالْمَائِدَةَ ، ثُمَّ يَرْكَعُ فَيُطِيلُ دُونَ الَّذِي قَبْلَهُ ، ثُمَّ يَرْفَعُ فَيُسَمِّعُ وَيَحْمَد ، ثُمَّ يَسْجُدُ فَيُطِيلُ ، فَيَكُونُ الْجَمِيعُ رَكْعَتَيْنِ ، فِي كُلِّ رَكْعَةٍ قِيَامَانِ وَقِرَاءَتَانِ وَرُكُوعَانِ وَسُجُودَانِ .
وَيَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ لَيْلًا كَانَ أَوْ نَهَارًا .
وَلَيْسَ هَذَا التَّقْدِيرُ فِي الْقِرَاءَةِ مَنْقُولًا عَنْ أَحْمَدَ ، لَكِنْ قَدْ نُقِلَ عَنْهُ أَنَّ الْأُولَى أَطْوَلُ مِنْ الثَّانِيَةِ ، وَجَاءَ التَّقْدِيرُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ قِيَامًا طَوِيلًا ، نَحْوًا مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَفِي حَدِيثٍ لِعَائِشَةَ : { حَزَرْت قِرَاءَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ فَرَأَيْت أَنَّهُ قَرَأَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى سُورَةَ الْبَقَرَةِ ، وَفِي الثَّانِيَةِ سُورَةَ آلِ عِمْرَانَ .
} وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، إلَّا أَنَّهُمَا قَالَا : لَا يُطِيلُ السُّجُودَ .
حَكَاهُ عَنْهُمَا ابْنُ الْمُنْذِرِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يُنْقَلْ .
وَقَالَا : لَا يُجْهَرُ فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ ، وَيُجْهَرُ فِي خُسُوفِ الْقَمَرِ .
وَوَافَقَهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ ، لِقَوْلِ عَائِشَةَ : حَزَرْت قِرَاءَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَلَوْ جَهَرَ بِالْقِرَاءَةِ لَمْ تَحْتَجْ إلَى الظَّنِّ وَالتَّخْمِينِ .
وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : قَامَ قِيَامًا طَوِيلًا ، نَحْوًا مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ .
وَرَوَى سَمُرَةُ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِي خُسُوفِ الشَّمْسِ ، فَلَمْ أَسْمَعْ لَهُ صَوْتًا .
} قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَلِأَنَّهَا صَلَاةُ نَهَارٍ ، فَلَمْ يَجْهَرْ فِيهَا كَالظُّهْرِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ كَصَلَاةِ التَّطَوُّعِ ؛ لِمَا رَوَى النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ ، قَالَ : انْكَسَفَتْ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَجَ فَكَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَيُسَلِّمُ ، وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَيُسَلِّمُ ، حَتَّى انْجَلَتْ الشَّمْسُ .
رَوَاهُ أَحْمَدُ ، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيِّ ، عَنْ أَيُّوبَ ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ ، عَنْ النُّعْمَانِ وَرَوَى قَبِيصَةُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { فَإِذَا رَأَيْتُمُوهَا فَصَلُّوا كَأَحْدَثِ صَلَاةٍ صَلَّيْتُمُوهَا مِنْ الْمَكْتُوبَةِ } .
وَلَنَا ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو قَالَ فِي صِفَةِ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْكُسُوفِ : ثُمَّ سَجَدَ ، فَلَمْ يَكَدْ يَرْفَعُ .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ : { ثُمَّ رَفَعَ ، ثُمَّ سَجَدَ سُجُودًا طَوِيلًا ، ثُمَّ قَامَ قِيَامًا طَوِيلًا ، وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا ، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ ، ثُمَّ سَجَدَ سُجُودًا طَوِيلًا ، وَهُوَ دُونَ

السُّجُودِ الْأَوَّلِ } .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَتَرْكُ ذِكْرِهِ فِي حَدِيثٍ لَا يَمْنَعُ مَشْرُوعِيَّتَهُ إذَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَأَمَّا الْجَهْرُ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَفَعَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ وَبِحَضْرَتِهِ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ وَزَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ ، وَإِسْحَاقُ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَرَوَتْ عَائِشَةُ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَهَرَ فِي صَلَاةِ الْخُسُوفِ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَعَنْ عُرْوَةَ ، عَنْ عَائِشَةَ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى صَلَاةَ الْكُسُوفِ ، وَجَهَرَ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ } .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَلِأَنَّهَا نَافِلَةٌ شُرِعَتْ لَهَا الْجَمَاعَةُ ، فَكَانَ مِنْ سُنَنِهَا الْجَهْرُ كَصَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ وَالْعِيدِ وَالتَّرَاوِيحِ .
فَأَمَّا قَوْلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : حَزَرْت قِرَاءَتَهُ .
فَفِي إسْنَادِهِ مَقَالٌ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ سَمِعَتْ صَوْتَهُ وَلَمْ تَفْهَمْ لِلْبُعْدِ ، أَوْ قَرَأَ مِنْ غَيْرِ أَوَّلِ الْقُرْآنِ بِقَدْرِ الْبَقَرَةِ .
ثُمَّ حَدِيثُنَا صَحِيحٌ صَرِيحٌ ، فَكَيْفَ يُعَارَضُ بِمِثْلِ هَذَا ، وَحَدِيثُ سَمُرَةَ يَجُوزُ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ لِبُعْدِهِ ؛ فَإِنَّ فِي حَدِيثِهِ : دَفَعْت إلَى الْمَسْجِدِ ، وَهُوَ بَازِرٌ .
يَعْنِي مُغْتَصًّا بِالزِّحَامِ .
قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ .
وَمَنْ هَذَا حَالُهُ لَا يَصِلُ مَكَانًا يَسْمَعُ مِنْهُ .
ثُمَّ هَذَا نَفْيٌ مُحْتَمِلٌ لِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ ، فَكَيْفَ يُتْرَكُ مِنْ أَجْلِهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ الصَّرِيحُ ، وَقِيَاسُهُمْ مُنْتَقِضٌ بِالْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَالِاسْتِسْقَاءِ ، وَقِيَاسُ هَذِهِ الصَّلَاةِ عَلَى هَذِهِ الصَّلَوَاتِ أَوْلَى مِنْ قِيَاسِهَا عَلَى الظُّهْرِ ؛ لِبُعْدِهَا مِنْهَا ، وَشَبَهِهَا بِهَذِهِ .
وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى صِفَةِ الصَّلَاةِ ، فَرَوَتْ عَائِشَةُ ، قَالَتْ : { خَسَفَتْ الشَّمْسُ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَجَ رَسُولُ

اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَسْجِدِ ، فَقَامَ ، وَكَبَّرَ ، وَصَفَّ النَّاسَ وَرَاءَهُ ، فَاقْتَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِرَاءَةً طَوِيلَةً ، ثُمَّ كَبَّرَ فَرَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ ، فَقَالَ : سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ، رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ .
ثُمَّ قَامَ فَاقْتَرَأَ قِرَاءَةً طَوِيلَةً ، هِيَ أَدْنَى مِنْ الْقِرَاءَةِ الْأُولَى ، ثُمَّ كَبَّرَ فَرَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا ، هُوَ أَدْنَى مِنْ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ ، ثُمَّ قَالَ : سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ، رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ ، ثُمَّ سَجَدَ ، ثُمَّ فَعَلَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِثْلَ ذَلِكَ ، حَتَّى اسْتَكْمَلَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ ، وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ ، وَانْجَلَتْ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يَنْصَرِفَ .
} وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُ ذَلِكَ ، وَفِيهِ { أَنَّهُ قَامَ فِي الْأُولَى قِيَامًا طَوِيلًا نَحْوًا مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا .
وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ يُشْرَعُ لَهَا الِاجْتِمَاعُ ، فَخَالَفَتْ سَائِرَ النَّوَافِلِ ، كَصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ وَالِاسْتِسْقَاءِ ، فَأَمَّا أَحَادِيثُهُمْ فَمَتْرُوكَةٌ غَيْرُ مَعْمُولٍ بِهَا بِاتِّفَاقِنَا ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا : يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ .
وَحَدِيثُ النُّعْمَانِ فِيهِ أَنَّهُ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ حَتَّى انْجَلَتْ الشَّمْسُ ، وَحَدِيثُ قَبِيصَةَ فِيهِ أَنَّهُ يُصَلِّي كَأَحْدَثِ صَلَاةٍ صَلَّيْتُمُوهَا .
وَأَحَدُ الْحَدِيثَيْنِ يُخَالِفُ الْآخَرَ .
ثُمَّ حَدِيثُ قَبِيصَةَ مُرْسَلٌ .
ثُمَّ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ رُكُوعَيْنِ ، وَلَوْ قُدِّرَ التَّعَارُضُ لَكَانَ الْأَخْذُ بِأَحَادِيثِنَا أَوْلَى ؛ لِصِحَّتِهَا وَشُهْرَتِهَا ، وَاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ عَلَى صِحَّتِهَا ، وَالْأَخْذِ بِهَا ، وَاشْتِمَالِهَا عَلَى الزِّيَادَةِ ، وَالزِّيَادَةُ مِنْ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ ، ثُمَّ هِيَ نَافِلَةٌ عَنْ الْعَادَةِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ : إنَّ أَخَاك صَلَّى رَكْعَتَيْنِ .
فَقَالَ : إنَّهُ أَخْطَأَ السُّنَّةَ .
( 1465 ) فَصْلٌ : وَمَهْمَا قَرَأَ بِهِ جَازَ سَوَاءٌ كَانَتْ

الْقِرَاءَةُ طَوِيلَةً أَوْ قَصِيرَةً .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ ، وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ ، وَقَرَأَ فِي الْأُولَى بِالْعَنْكَبُوتِ وَالرُّومِ ، وَفِي الثَّانِيَةِ بِيس .
أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ .
( 1466 ) فَصْلٌ : وَلَمْ يَبْلُغْنَا عَنْ أَحْمَدَ ، رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ لَهَا خُطْبَةً ، وَأَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّهَا لَا خُطْبَةَ لَهَا .
وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُخْطَبُ كَخُطْبَتَيْ الْجُمُعَةِ ؛ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْصَرَفَ وَقَدْ انْجَلَتْ الشَّمْسُ ، فَخَطَبَ النَّاسَ ، وَحَمِدَ اللَّهَ ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ : إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ ، لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَادْعُوا اللَّهَ ، وَكَبِّرُوا ، وَصَلُّوا ، وَتَصَدَّقُوا ثُمَّ قَالَ : يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ ، وَاَللَّهِ مَا أَحَدٌ أَغْيَرُ مِنْ اللَّهِ أَنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ أَوْ تَزْنِيَ أَمَتُهُ ، يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَلَنَا ، هَذَا الْخَبَرُ ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُمْ بِالصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ وَالتَّكْبِيرِ وَالصَّدَقَةِ ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِخُطْبَةٍ ، وَلَوْ كَانَتْ سُنَّةً لَأَمَرَهُمْ بِهَا ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ يَفْعَلُهَا الْمُنْفَرِدُ فِي بَيْتِهِ ، فَلَمْ يُشْرَعْ لَهَا خُطْبَةٌ ، وَإِنَّمَا خَطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الصَّلَاةِ لِيُعَلِّمَهُمْ حُكْمَهَا ، وَهَذَا مُخْتَصٌّ بِهِ ، وَلَيْسَ فِي الْخَبَرِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ خَطَبَ كَخُطْبَتَيْ الْجُمُعَةِ .
( 1467 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى ، وَالدُّعَاءُ ، وَالتَّكْبِيرُ ، وَالِاسْتِغْفَارُ ، وَالصَّدَقَةُ ، وَالْعِتْقُ ، وَالتَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَا اسْتَطَاعَ ؛ لِخَبَرِ

عَائِشَةَ هَذَا .
وَفِي خَبَرِ أَبِي مُوسَى : " فَافْزَعُوا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَدُعَائِهِ ، وَاسْتِغْفَارِهِ " .
وَرُوِيَ عَنْ أَسْمَاءَ ، { أَنَّهَا قَالَتْ : إنْ كُنَّا لَنُؤْمَرُ بِالْعِتْقِ فِي الْكُسُوفِ } .
وَلِأَنَّهُ تَخْوِيفٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُبَادِرَ إلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى ، لِيَكْشِفَهُ عَنْ عِبَادِهِ ( 1468 ) فَصْلٌ : وَمُقْتَضَى مَذْهَبِ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةَ الْكُسُوفِ عَلَى كُلِّ صِفَةٍ رُوِيَتْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَقَوْلِهِ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ ، إلَّا أَنَّ اخْتِيَارَهُ مِنْ ذَلِكَ الصَّلَاةُ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا .
قَالَ أَحْمَدُ ، رَحِمَهُ اللَّهُ : رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَعَائِشَةُ ، فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ ، وَأَمَّا عَلِيٌّ فَيَقُولُ : سِتُّ رَكَعَاتٍ وَأَرْبَعُ سَجَدَاتٍ .
فَذَهَبَ إلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّهُ صَلَّى سِتَّ رَكَعَاتٍ وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ .
وَكَذَلِكَ حُذَيْفَةُ .
وَهَذَا قَوْلُ إِسْحَاقَ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ .
وَبَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالُوا : تَجُوزُ صَلَاةَ الْكُسُوفِ عَلَى كُلِّ صِفَةٍ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهَا ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى سِتَّ رَكَعَاتٍ ، وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ .
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ .
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ ، وَسَجْدَتَيْنِ ، فِي كُلّ رَكْعَةٍ .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، وَالدَّارَقُطْنِيّ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ طَاوُسٍ ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : وَرَوَيْنَا عَنْ عَلِيٍّ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّهُمَا صَلَّيَا هَذِهِ الصَّلَاةَ .
وَحُكِيَ عَنْ إِسْحَاقَ أَنَّهُ قَالَ : وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا كَانَ يَزِيدُ فِي الرُّكُوعِ إذَا لَمْ يَرَ الشَّمْسَ قَدْ انْجَلَتْ ، فَإِذَا انْجَلَتْ سَجَدَ ، فَمِنْ هَاهُنَا

صَارَتْ زِيَادَةُ الرَّكَعَاتِ ، وَلَا يُجَاوِزُ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِنَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ .

( 1469 ) فَصْلٌ : وَصَلَاةُ الْكُسُوفِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهَا ، وَأَمَرَ بِهَا ، وَوَقْتُهَا مِنْ حِينِ الْكُسُوفِ إلَى حِينِ التَّجَلِّي ، فَإِنْ فَاتَتْ لَمْ تُقْضَ ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ قَالَ : إذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَافْزَعُوا إلَى الصَّلَاةِ حَتَّى تَنْجَلِيَ } .
فَجَعَلَ الِانْجِلَاءَ غَايَةً لِلصَّلَاةِ .
وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ إنَّمَا سُنَّتْ رَغْبَةً إلَى اللَّهِ فِي رَدِّهَا ، فَإِذَا حَصَلَ ذَلِكَ حَصَلَ مَقْصُودُ الصَّلَاةِ .
وَإِنْ انْجَلَتْ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ أَتَمَّهَا ، وَخَفَّفَهَا .
وَإِنْ اسْتَتَرَتْ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِالسَّحَابِ ، وَهُمَا مُنْكَسِفَانِ ، صَلَّى ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الْكُسُوفِ .
وَإِنْ غَابَتْ الشَّمْسُ كَاسِفَةً ، أَوْ طَلَعَتْ عَلَى الْقَمَرِ وَهُوَ خَاسِفٌ ، لَمْ يُصَلِّ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ذَهَبَ وَقْتُ الِانْتِفَاعِ بِنُورِهِمَا .
وَإِنْ غَابَ الْقَمَرُ لَيْلًا ، فَقَالَ الْقَاضِي : يُصَلِّي ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ وَقْتُ الِانْتِفَاعِ بِنُورِهِ وَضَوْئِهِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُصَلِّيَ ؛ لِأَنَّ مَا يُصَلِّي لَهُ قَدْ غَابَ ، أَشْبَهَ مَا لَوْ غَابَتْ الشَّمْسُ .
وَإِنْ فَرَغَ مِنْ الصَّلَاةِ وَالْكُسُوفُ قَائِمٌ لَمْ يَزِدْ ، وَاشْتَغَلَ بِالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا اجْتَمَعَ صَلَاتَانِ ، كَالْكُسُوفِ مَعَ غَيْرِهِ مِنْ الْجُمُعَةِ ، أَوْ الْعِيدِ ، أَوْ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ ، أَوْ الْوِتْرِ ، بَدَأَ بِأَخْوَفِهِمَا فَوْتًا ، فَإِنْ خِيفَ فَوْتُهُمَا بَدَأَ بِالصَّلَاةِ الْوَاجِبَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمَا وَاجِبَةٌ كَالْكُسُوفِ وَالْوِتْرِ أَوْ التَّرَاوِيحِ ، بَدَأَ بِآكَدِهِمَا ، كَالْكُسُوفِ وَالْوِتْرِ ، بَدَأَ بِالْكُسُوفِ ؛ لِأَنَّهُ آكَدُ ، وَلِهَذَا تُسَنُّ لَهُ الْجَمَاعَةُ ، وَلِأَنَّ الْوِتْرَ يُقْضَى ، وَصَلَاةُ الْكُسُوفِ لَا تُقْضَى .
فَإِنْ اجْتَمَعَتْ التَّرَاوِيحُ وَالْكُسُوفُ ، فَبِأَيِّهِمَا يُبْدَأُ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ .
هَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا .
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّ الصَّلَوَاتِ الْوَاجِبَةَ الَّتِي تُصَلَّى فِي الْجَمَاعَةِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْكُسُوفِ بِكُلِّ حَالٍ ؛ لِأَنَّ تَقْدِيمَ الْكُسُوفِ عَلَيْهَا يُفْضِي إلَى الْمَشَقَّةِ ، لِإِلْزَامِ الْحَاضِرِينَ بِفِعْلِهَا مَعَ كَوْنِهَا لَيْسَتْ وَاجِبَةً عَلَيْهِمْ ، وَانْتِظَارِهِمْ لِلصَّلَاةِ الْوَاجِبَةِ ، مَعَ أَنَّ فِيهِمْ الضَّعِيفَ وَالْكَبِيرَ وَذَا الْحَاجَةِ .
وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَخْفِيفِ الصَّلَاةِ الْوَاجِبَةِ ، كِير لَا يَشُقَّ عَلَى الْمَأْمُومِينَ ، فَإِلْحَاقُ الْمَشَقَّةِ بِهَذِهِ الصَّلَاةِ الطَّوِيلَةِ الشَّاقَّةِ ، مَعَ أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ ، أَوْلَى .
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إذَا اجْتَمَعَتْ مَعَ التَّرَاوِيحِ ، قُدِّمَتْ التَّرَاوِيحُ لِذَلِكَ ، وَإِنْ اجْتَمَعَتْ مَعَ الْوِتْرِ فِي أَوَّلِ وَقْتِ الْوِتْرِ ، قُدِّمَتْ لِأَنَّ الْوِتْرَ لَا يَفُوتُ ، وَإِنْ خِيفَ فَوَاتُ الْوِتْرِ قُدِّمَ ؛ لِأَنَّهُ يَسِيرٌ يُمْكِنُ فِعْلُهُ وَإِدْرَاكُ وَقْتِ الْكُسُوفِ ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ إلَّا قَدْرُ الْوِتْرِ ، فَلَا حَاجَةَ بِالتَّلَبُّسِ بِصَلَاةِ الْكُسُوفِ ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَقَعُ فِي وَقْتِ النَّهْيِ .
وَإِنْ اجْتَمَعَ الْكُسُوفُ وَصَلَاةُ الْجِنَازَةِ ، قُدِّمَتْ الْجِنَازَةُ وَجْهًا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ يُخَافُ عَلَيْهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( 1471 ) فَصْلٌ : إذَا أَدْرَكَ الْمَأْمُومُ الْإِمَامَ فِي الرُّكُوعِ الثَّانِي ، احْتَمَلَ أَنْ تَفُوتَهُ الرَّكْعَةُ .
قَالَ الْقَاضِي : لِأَنَّهُ قَدْ فَاتَهُ مِنْ الرَّكْعَةِ رُكُوعٌ ، أَشْبَهَ مَا لَوْ فَاتَهُ الرُّكُوعُ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الصَّلَاةِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّ صَلَاتَهُ تَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ هَذِهِ الصَّلَاةَ بِرُكُوعٍ وَاحِدٍ ، فَاجْتُزِئَ بِهِ فِي حَقِّ الْمَسْبُوقِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( 1472 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَإِذَا كَانَ الْكُسُوفُ فِي غَيْرِ وَقْتِ الصَّلَاةِ ، جَعَلَ مَكَانَ الصَّلَاةِ تَسْبِيحًا ، هَذَا ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ ، لِأَنَّ النَّافِلَةَ لَا تُفْعَلُ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ ، سَوَاءٌ كَانَ لَهَا سَبَبٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ ) رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ ، وَعَطَاءٍ ، وَعِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ ، وَابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ ، وَعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ ، وَمَالِكٍ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ .
وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي هَذَا .
وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
قَالَ الْأَثْرَمُ : سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ الْكُسُوفِ يَكُونُ فِي غَيْرِ وَقْتِ الصَّلَاةِ ، كَيْفَ يَصْنَعُونَ ؟ قَالَ : يَذْكُرُونَ اللَّهَ ، وَلَا يُصَلُّونَ إلَّا فِي وَقْتِ صَلَاةٍ .
قِيلَ لَهُ : وَكَذَلِكَ بَعْدَ الْفَجْرِ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، لَا يُصَلُّونَ .
وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ ، قَالَ : انْكَسَفَتْ الشَّمْسُ بَعْدَ الْعَصْرِ ، وَنَحْنُ بِمَكَّةَ ، فَقَامُوا قِيَامًا يَدْعُونَ ، فَسَأَلْت عَنْ ذَلِكَ عَطَاءً ، قَالَ : هَكَذَا يَصْنَعُونَ ، فَسَأَلْت عَنْ ذَلِكَ الزُّهْرِيَّ ، قَالَ : هَكَذَا يَصْنَعُونَ .
وَرَوَى إسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ ، عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ الْكُسُوفَ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ : وَبِالْأَوَّلِ أَقُولُ .
وَهُوَ أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ فِي بَابِهِ .

( 1473 ) فَصْلٌ : قَالَ أَصْحَابُنَا : يُصَلِّي لِلزَّلْزَلَةِ كَصَلَاةِ الْكُسُوفِ .
نَصَّ عَلَيْهِ .
وَهُوَ مَذْهَبُ إِسْحَاقَ ، وَأَبِي ثَوْرٍ .
قَالَ الْقَاضِي : وَلَا يُصَلِّي لِلرَّجْفَةِ ، وَالرِّيحِ الشَّدِيدَةِ ، وَالظُّلْمَةِ ، وَنَحْوِهَا .
وَقَالَ الْآمِدِيُّ : يُصَلِّي لِذَلِكَ ، وَلِرَمْيِ الْكَوَاكِبِ وَالصَّوَاعِقِ وَكَثْرَةِ الْمَطَرِ .
وَحَكَاهُ عَنْ ابْنِ أَبِي مُوسَى .
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ : الصَّلَاةُ لِسَائِرِ الْآيَاتِ حَسَنَةٌ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّلَ الْكُسُوفَ بِأَنَّهُ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى يُخَوِّفُ بِهَا عِبَادَهُ ، وَصَلَّى ابْنُ عَبَّاسٍ لِلزَّلْزَلَةِ بِالْبَصْرَةِ .
رَوَاهُ سَعِيدٌ .
وَقَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ : لَا يُصَلِّي لِشَيْءِ مِنْ الْآيَاتِ سِوَى الْكُسُوفِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُصَلِّ لِغَيْرِهِ ، وَقَدْ كَانَ فِي عَصْرِهِ بَعْضُ هَذِهِ الْآيَاتِ ، وَكَذَلِكَ خُلَفَاؤُهُ .
وَوَجْهُ الصَّلَاةِ لِلزَّلْزَلَةِ فِعْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَغَيْرُهَا لَا يُصَلِّي لَهُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُصَلِّ لَهَا ، وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

بَابُ صَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ صَلَاةُ الِاسْتِسْقَاءِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ ، ثَابِتَةٌ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
( 1474 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ أَبُو الْقَاسِم ، رَحِمَهُ اللَّهُ : ( وَإِذَا أَجْدَبَتْ الْأَرْضُ ، وَاحْتَبَسَ الْقَطْرُ ، خَرَجُوا مَعَ الْإِمَامِ ، فَكَانُوا فِي خُرُوجِهِمْ ، كَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ، أَنَّهُ كَانَ إذَا خَرَجَ إلَى الِاسْتِسْقَاءِ ، خَرَجَ مُتَوَاضِعًا ، مُتَبَذِّلًا ، مُتَخَشِّعًا ، مُتَذَلِّلًا ، مُتَضَرِّعًا } ) .
وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ السُّنَّةَ الْخُرُوجُ لِصَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ ، مُتَوَاضِعًا لِلَّهِ تَعَالَى ، مُتَبَذِّلًا ، أَيْ فِي ثِيَابِ الْبِذْلَةِ ، أَيْ لَا يَلْبَسُ ثِيَابَ الزِّينَةِ ، وَلَا يَتَطَيَّبُ ، لِأَنَّهُ مِنْ كَمَالِ الزِّينَةِ ، وَهَذَا يَوْمُ تَوَاضُعٍ وَاسْتِكَانَةٍ ، وَيَكُونُ مُتَخَشَّعًا فِي مَشْيِهِ وَجُلُوسِهِ ، فِي خُضُوعٍ ، مُتَضَرِّعًا لِلَّهِ تَعَالَى ، مُتَذَلِّلًا لَهُ ، رَاغِبًا إلَيْهِ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ { : خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلِاسْتِسْقَاءِ مُتَبَذِّلًا ، مُتَوَاضِعًا ، مُتَخَشِّعًا ، مُتَضَرِّعًا ، حَتَّى أَتَى الْمُصَلَّى ، فَلَمْ يَخْطُبْ كَخُطْبَتِكُمْ هَذِهِ ، وَلَكِنْ لَمْ يَزَلْ فِي الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ وَالتَّكْبِيرِ ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَمَا كَانَ يُصَلِّي فِي الْعِيدِ } .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَيُسْتَحَبُّ التَّنْظِيفُ بِالْمَاءِ ، وَاسْتِعْمَالُ السِّوَاكِ وَمَا يَقْطَعُ الرَّائِحَةَ ، وَيُسْتَحَبُّ الْخُرُوجُ لِكَافَّةِ النَّاسِ ، وَخُرُوجُ مَنْ كَانَ ذَا دِينٍ وَسِتْرٍ وَصَلَاحٍ ، وَالشُّيُوخُ أَشَدُّ اسْتِحْبَابًا ، لِأَنَّهُ أَسْرَعُ لِلْإِجَابَةِ .
فَأَمَّا النِّسَاءُ فَلَا بَأْسَ بِخُرُوجِ الْعَجَائِزِ ، وَمَنْ لَا هَيْئَةَ لَهَا ، فَأَمَّا الشَّوَابُّ وَذَوَاتُ الْهَيْئَةِ ، فَلَا يُسْتَحَبُّ لَهُنَّ الْخُرُوجُ ، لِأَنَّ الضَّرَرَ فِي خُرُوجِهِنَّ أَكْثَرُ مِنْ النَّفْعِ .
وَلَا يُسْتَحَبُّ إخْرَاجُ الْبَهَائِمِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَفْعَلْهُ .
وَإِذَا عَزَمَ الْإِمَامُ عَلَى الْخُرُوجِ ، اُسْتُحِبَّ أَنْ يَعِدَ النَّاسَ يَوْمًا يَخْرُجُونَ فِيهِ ، وَيَأْمُرَهُمْ بِالتَّوْبَةِ مِنْ الْمَعَاصِي ، وَالْخُرُوجِ مِنْ الْمَظَالِمِ ، وَالصِّيَامِ ، وَالصَّدَقَةِ ، وَتَرْكِ التَّشَاحُنِ ؛ لِيَكُونَ أَقْرَبَ لَإِجَابَتِهِمْ ، فَإِنَّ الْمَعَاصِيَ سَبَبُ الْجَدْبِ ، وَالطَّاعَةُ تَكُونُ سَبَبًا لِلْبَرَكَاتِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } .

( 1475 ) مَسْأَلَةٌ ؛ ( قَالَ : فَيُصَلِّي بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ ) لَا نَعْلَمُ بَيْنَ الْقَائِلِينَ بِصَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ خِلَافًا فِي أَنَّهَا رَكْعَتَانِ ، وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي صِفَتِهَا ، فَرُوِيَ أَنَّهُ يُكَبِّرُ فِيهِمَا كَتَكْبِيرِ الْعِيدِ سَبْعًا فِي الْأُولَى ، وَخَمْسًا فِي الثَّانِيَةِ .
وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ ، وَدَاوُد ، وَالشَّافِعِيِّ .
وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ؛ وَذَلِكَ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي حَدِيثِهِ : وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ، كَمَا كَانَ يُصَلِّي فِي الْعِيدِ .
وَرَوَى جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، عَنْ أَبِيهِ { ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ ، وَعُمَرَ ، كَانُوا يُصَلُّونَ صَلَاةَ الِاسْتِسْقَاءِ ، يُكَبِّرُونَ فِيهَا سَبْعًا وَخَمْسًا } .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ ، أَنَّهُ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ كَصَلَاةِ التَّطَوُّعِ .
وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ ، وَأَبِي ثَوْرٍ ، وَإِسْحَاقَ ؛ لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ قَالَ : اسْتَسْقَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ، وَقَلَبَ رِدَاءَهُ .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ نَحْوَهُ .
وَلَمْ يَذْكُرْ التَّكْبِيرَ ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَمْ يُكَبِّرْ ، وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ ، وَكَيْفَمَا فَعَلَ كَانَ جَائِزًا حَسَنًا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا تُسَنُّ الصَّلَاةُ لِلِاسْتِسْقَاءِ ، وَلَا الْخُرُوجُ لَهَا ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اسْتَسْقَى عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، وَلَمْ يُصَلِّ لَهَا } ، وَاسْتَسْقَى عُمَرُ بِالْعَبَّاسِ وَلَمْ يُصَلِّ .
وَلَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ ، فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِمَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّهُ خَرَجَ وَصَلَّى ، وَمَا ذَكَرُوهُ لَا يُعَارِضُ مَا رَوَوْهُ ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ الدُّعَاءُ بِغَيْرِ صَلَاةٍ ، وَفِعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا ذَكَرُوهُ لَا يَمْنَعُ فِعْلَ مَا ذَكَرْنَاهُ ، بَلْ قَدْ فَعَلَ

النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَمْرَيْنِ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى صَلَاةَ الِاسْتِسْقَاءِ ، وَخَطَبَ .
وَبِهِ قَالَ عَوَامُّ أَهْلِ الْعِلْمِ إلَّا أَبَا حَنِيفَةَ ، وَخَالَفَهُ أَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ ، فَوَافَقَا سَائِرَ الْعُلَمَاءِ ، وَالسُّنَّةُ يُسْتَغْنَى بِهَا عَنْ كُلِّ قَوْلٍ .
وَيُسَنُّ أَنْ يَجْهَرَ بِالْقِرَاءَةِ ؛ لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ ، قَالَ { : خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَسْقِي ، فَتَوَجَّهَ إلَى الْقِبْلَةِ يَدْعُو ، وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ، جَهَرَ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَإِنْ قَرَأَ فِيهِمَا ب { سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } ، و { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ } فَحَسَنٌ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ : صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ، كَمَا كَانَ يُصَلِّي فِي الْعِيدِ .
وَرَوَى ابْنُ قُتَيْبَةَ ، فِي " غَرِيبِ الْحَدِيثِ " ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَنَسٍ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ لِلِاسْتِسْقَاءِ ، فَتَقَدَّمَ فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ ، يَجْهَرُ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ ، وَكَانَ يَقْرَأُ فِي الْعِيدَيْنِ وَالِاسْتِسْقَاءِ ، فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ ، و " سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى " وَفِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ ، و " هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ " } .

( 1476 ) فَصْلٌ : وَلَا يُسَنُّ لَهَا أَذَانٌ وَلَا إقَامَةٌ .
وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا .
وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ، قَالَ { خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا يَسْتَسْقِي ، فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ ، بِلَا أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ ، ثُمَّ خَطَبَنَا ، وَدَعَا اللَّهَ تَعَالَى ، وَحَوَّلَ وَجْهَهُ نَحْوَ الْقِبْلَةِ ، رَافِعًا يَدَيْهِ ، وَقَلَبَ رِدَاءَهُ ، فَجَعَلَ الْأَيْمَنَ عَلَى الْأَيْسَرِ ، وَالْأَيْسَرَ عَلَى الْأَيْمَنِ .
} رَوَاهُ الْأَثْرَمُ .
وَلِأَنَّهَا صَلَاةُ نَافِلَةٍ ، فَلَمْ يُؤَذَّنْ لَهَا كَسَائِرِ النَّوَافِلِ .
قَالَ أَصْحَابُنَا : وَيُنَادَى لَهَا : الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ .
كَقَوْلِهِمْ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ وَالْكُسُوفِ .
.

( 1477 ) فَصْلٌ : وَلَيْسَ لِصَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ ، إلَّا أَنَّهَا لَا تُفْعَلُ فِي وَقْتِ النَّهْيِ بِغَيْرِ خِلَافٍ ؛ لِأَنَّ وَقْتَهَا مُتَّسِعٌ ، فَلَا حَاجَةَ إلَى فِعْلِهَا فِي وَقْتِ النَّهْيِ ، وَالْأَوْلَى فِعْلُهَا فِي وَقْتِ الْعِيدِ ؛ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ حِينَ بَدَا حَاجِبُ الشَّمْسِ .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَلِأَنَّهَا تُشْبِهُهَا فِي الْمَوْضِعِ وَالصِّفَةِ ، فَكَذَلِكَ فِي الْوَقْتِ ، لِأَنَّ وَقْتَهَا لَا يَفُوتُ بِزَوَالِ الشَّمْسِ ، لِأَنَّهَا لَيْسَ لَهَا يَوْمٌ مُعَيَّنٌ ، فَلَا يَكُونُ لَهَا وَقْتٌ مُعَيَّنٌ .
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : الْخُرُوجُ إلَيْهَا عِنْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ ، عِنْدَ جَمَاعَةِ الْعُلَمَاءِ ، إلَّا أَبَا بَكْرِ بْنَ حَزْمٍ .
وَهَذَا عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِيَارِ ، لَا أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ فِعْلُهَا فِيهِ .

( 1478 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( ثُمَّ يَخْطُبُ ، وَيَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ ) اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي الْخُطْبَةِ لِلِاسْتِسْقَاءِ ، وَفِي وَقْتِهَا ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ فِيهَا خُطْبَةً بَعْدَ الصَّلَاةِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : اتَّفَقُوا عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ فِي صَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ خُطْبَةً ، وَصُعُودًا عَلَى الْمِنْبَرِ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : وَعَلَيْهِ جَمَاعَةُ الْفُقَهَاءِ ؛ لِقَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ : صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ خَطَبَنَا .
وَلِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ : صَنَعَ فِي الِاسْتِسْقَاءِ ، كَمَا صَنَعَ فِي الْعِيدَيْنِ .
وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ ذَاتُ تَكْبِيرٍ ، فَأَشْبَهَتْ صَلَاةَ الْعِيدِ .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ ، أَنَّهُ يُخْطَبُ قَبْلَ الصَّلَاةِ .
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ ، وَأَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ ، وَهِشَامُ بْنُ إسْمَاعِيلَ ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ .
وَذَهَبَ إلَيْهِ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ ؛ لِمَا رَوَى أَنَسٌ وَعَائِشَةُ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ وَصَلَّى } .
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ ، قَالَ { : رَأَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ يَسْتَسْقِي ، فَحَوَّلَ ظَهْرَهُ إلَى النَّاسِ ، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ يَدْعُو ، ثُمَّ حَوَّلَ رِدَاءَهُ ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ، جَهَرَ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ .
} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَرَوَى الْأَثْرَمُ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ ، قَالَ : أَدْرَكْت أَبَانَ بْنَ عُثْمَانَ ، وَهِشَامَ بْنَ إسْمَاعِيلَ ، وَعُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَبَا بَكْرِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ ، كَانُوا إذَا أَرَادُوا أَنْ يَسْتَسْقُوا ، خَرَجُوا لِلْبَرَازِ ، فَكَانُوا يَخْطُبُونَ ، ثُمَّ يَدْعُونَ اللَّهَ ، وَيُحَوِّلُونَ وُجُوهَهُمْ إلَى الْقِبْلَةِ حِينَ يَدْعُونَ ، ثُمَّ يُحَوِّلُ أَحَدُهُمْ رِدَاءَهُ مِنْ الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ عَلَى الْأَيْسَرِ ، وَمَا عَلَى الْأَيْسَرِ عَلَى الْأَيْمَنِ ، وَيَنْزِلُ

أَحَدُهُمْ فَيَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ ، يَجْهَرُ بِهِمْ .
الرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ ، هُوَ مُخَيَّرٌ فِي الْخُطْبَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ وَبَعْدَهَا ؛ لِوُرُودِ الْأَخْبَارِ بِكِلَا الْأَمْرَيْنِ ، وَدَلَالَتِهَا عَلَى كِلْتَا الصِّفَتَيْنِ ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ الْأَمْرَيْنِ .
وَالرَّابِعَةُ ، أَنَّهُ لَا يَخْطُبُ ، وَإِنَّمَا يَدْعُو وَيَتَضَرَّعُ ؛ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ : لَمْ يَخْطُبْ كَخُطْبَتِكُمْ هَذِهِ ، لَكِنْ لَمْ يَزَلْ فِي الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ .
وَأَيًّا مَا فَعَلَ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الْخُطْبَةَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ ، عَلَى الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا ، فَإِنْ شَاءَ فَعَلَهَا ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهَا .
وَالْأَوْلَى أَنْ يَخْطُبَ بَعْدَ الصَّلَاةِ خُطْبَةً وَاحِدَةً ؛ لِتَكُونَ كَالْعِيدِ ، وَلِيَكُونُوا قَدْ فَرَغُوا مِنْ الصَّلَاةِ إنْ أُجِيبَ دُعَاؤُهُمْ فَأُغِيثُوا ، فَلَا يَحْتَاجُونَ إلَى الصَّلَاةِ فِي الْمَطَرِ .
وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ : لَمْ يَخْطُبْ كَخُطْبَتِكُمْ هَذِهِ .
نَفْيٌ لِلصِّفَةِ لَا لِأَصْلِ الْخُطْبَةِ ، أَيْ لَمْ يَخْطُبْ كَخُطْبَتِكُمْ هَذِهِ ، إنَّمَا كَانَ جُلُّ خُطْبَتِهِ الدُّعَاءَ وَالتَّضَرُّعَ وَالتَّكْبِيرَ

( 1479 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَيَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ ، وَيُحَوِّلُ رِدَاءَهُ ، فَيَجْعَلُ الْيَمِينَ يَسَارًا ، وَالْيَسَارَ يَمِينًا ، وَيَفْعَلُ النَّاسُ كَذَلِكَ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْخَطِيبِ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فِي أَثْنَاءِ الْخُطْبَةِ ؛ لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ يَسْتَسْقِي ، فَتَوَجَّهَ إلَى الْقِبْلَةِ يَدْعُو .
} رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَفِي لَفْظٍ : { فَحَوَّلَ إلَى النَّاسِ ظَهْرَهُ ، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ يَدْعُو } .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْعُوَ سِرًّا حَالَ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ ، فَيَقُولُ : اللَّهُمَّ إنَّك أَمَرْتَنَا بِدُعَائِك ، وَوَعَدْتَنَا إجَابَتَك ، فَقَدْ دَعَوْنَاك كَمَا أَمَرْتنَا ، فَاسْتَجِبْ لَنَا كَمَا وَعَدْتنَا ، اللَّهُمَّ فَامْنُنْ عَلَيْنَا بِمَغْفِرَةِ ذُنُوبِنَا ، وَإِجَابَتِنَا فِي سُقْيَانَا ، وَسَعَةِ أَرْزَاقِنَا .
ثُمَّ يَدْعُو بِمَا شَاءَ مِنْ أَمْرِ دِينٍ وَدُنْيَا .
وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ الْإِسْرَارُ ؛ لِيَكُونَ أَقْرَبَ مِنْ الْإِخْلَاصِ ، وَأَبْلَغَ فِي الْخُشُوعِ وَالْخُضُوعِ وَالتَّضَرُّعِ ، وَأَسْرَعَ فِي الْإِجَابَةِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { اُدْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } .
وَاسْتُحِبَّ الْجَهْرُ بِبَعْضِهِ ؛ لِيَسْمَعَ النَّاسُ ، فَيُؤَمِّنُونَ عَلَى دُعَائِهِ .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُحَوِّلَ رِدَاءَهُ فِي حَالِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ ؛ لِأَنَّ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَوْمَ خَرَجَ يَسْتَسْقِي ، فَحَوَّلَ إلَى النَّاسِ ظَهْرَهُ ، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ ، ثُمَّ حَوَّلَ رِدَاءَهُ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَهَذَا لَفْظٌ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَفِي لَفْظٍ رَوَاهُ مُسْلِمٌ : { فَحَوَّلَ رِدَاءَهُ حِينَ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ } .
وَفِي لَفْظٍ : { وَقَلَبَ رِدَاءَهُ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَيُسْتَحَبُّ تَحْوِيلُ الرِّدَاءِ لِلْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُسَنُّ ؛ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ ، فَلَا يُسْتَحَبُّ تَحْوِيلُ الرِّدَاءِ فِيهِ ، كَسَائِرِ الْأَدْعِيَةِ .

وَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَقُّ أَنْ تُتَّبَعَ .
وَحُكِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، وَعُرْوَةَ ، وَالثَّوْرِيِّ ، أَنَّ تَحْوِيلَ الرِّدَاءِ مُخْتَصٌّ بِالْإِمَامِ دُونَ الْمَأْمُومِ .
وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ ، وَأَبِي يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ ، لِأَنَّهُ نُقِلَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ أَصْحَابِهِ .
وَلَنَا ، أَنَّ مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَبَتَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ ، مَا لَمْ يَقُمْ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِهِ دَلِيلٌ ، كَيْفَ وَقَدْ عُقِلَ الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ ، وَهُوَ التَّفَاؤُلُ بِقَلْبِ الرِّدَاءِ ، لِيَقْلِبَ اللَّهُ مَا بِهِمْ مِنْ الْجَدْبِ إلَى الْخِصْبِ ، وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْحَدِيثِ .
وَصِفَةُ تَقْلِيبِ الرِّدَاءِ أَنْ يَجْعَلَ مَا عَلَى الْيَمِينِ عَلَى الْيَسَارِ ، وَمَا عَلَى الْيَسَارِ عَلَى الْيَمِينِ .
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَهِشَامِ بْنِ إسْمَاعِيلَ ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ ، وَمَالِكٍ .
وَكَانَ الشَّافِعِيُّ يَقُول بِهِ ، ثُمَّ رَجَعَ ، فَقَالَ : يَجْعَلُ أَعْلَاهُ أَسْفَلَهُ ؛ { لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَسْقَى وَعَلَيْهِ خَمِيصَةٌ سَوْدَاءُ ، فَأَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ أَسْفَلَهَا أَعْلَاهَا ، فَلَمَّا ثَقُلَتْ عَلَيْهِ جَعَلَ الْعِطَافَ الَّذِي عَلَى الْأَيْسَرِ عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْمَنِ ، وَاَلَّذِي عَلَى الْأَيْمَنِ عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْسَرِ .
} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَدَلِيلُنَا مَا رَوَى أَبُو دَاوُد ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَوَّلَ رِدَاءَهُ ، وَجَعَلَ عِطَافَهُ الْأَيْمَنَ عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْسَرِ ، وَجَعَلَ عِطَافَهُ الْأَيْسَرَ عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْمَنِ } .
وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوُ ذَلِكَ .
وَالزِّيَادَةُ الَّتِي نَقَلُوهَا ، إنْ ثَبَتَتْ ، فَهِيَ ظَنُّ الرَّاوِي ، لَا يُتْرَكُ لَهَا فِعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ نَقَلَ تَحْوِيلَ الرِّدَاءِ جَمَاعَةٌ ، لَمْ يَنْقُلْ

أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنَّهُ جَعَلَ أَعْلَاهُ أَسْفَلَهُ ، وَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ لِثِقَلِ الرِّدَاءِ .

( 1480 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ رَفْعُ الْأَيْدِي فِي دُعَاءِ الِاسْتِسْقَاءِ ؛ لِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ ، عَنْ أَنَسٍ ، قَالَ : { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ دُعَائِهِ ، إلَّا الِاسْتِسْقَاءَ ، وَأَنَّهُ يَرْفَعُ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ إبْطَيْهِ .
} وَفِي حَدِيثٍ أَيْضًا لَأَنَسٍ { : فَرَفَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَفَعَ النَّاسُ أَيْدِيَهُمْ } .

( 1481 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَيَدْعُو ، وَيَدْعُونَ ، وَيُكْثِرُونَ فِي دُعَائِهِمْ الِاسْتِغْفَارَ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْإِمَامَ إذَا صَعِدَ الْمِنْبَرَ جَلَسَ ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَجْلِسْ ؛ لِأَنَّ الْجُلُوسَ لَمْ يُنْقَلْ ، وَلَا هَاهُنَا أَذَانٌ لِيَجْلِسَ فِي وَقْتِهِ ، ثُمَّ يَخْطُبُ خُطْبَةً وَاحِدَةً ، يَفْتَتِحُهَا بِالتَّكْبِيرِ ، وَبِهَذَا قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ .
وَقَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ : يَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ كَخُطْبَتَيْ الْعِيدَيْنِ ؛ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ : صَنَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا صَنَعَ فِي الْعِيدِ .
وَلِأَنَّهَا أَشْبَهَتْهَا فِي التَّكْبِيرِ ، وَفِي صِفَةِ الصَّلَاةِ ، فَتُشْبِهُهَا فِي الْخُطْبَتَيْنِ .
وَلَنَا ، قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ : لَمْ يَخْطُبْ كَخُطْبَتِكُمْ هَذِهِ ، وَلَكِنْ لَمْ يَزَلْ فِي الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ وَالتَّكْبِيرِ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَا فَصَلَ بَيْنَ ذَلِكَ بِسُكُوتٍ وَلَا جُلُوسٍ .
وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ نَقَلَ الْخُطْبَةَ لَمْ يَنْقُلْ خُطْبَتَيْنِ ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ إنَّمَا هُوَ دُعَاءُ اللَّهِ تَعَالَى لِيُغِيثَهُمْ ، وَلَا أَثَرَ لِكَوْنِهَا خُطْبَتَيْنِ فِي ذَلِكَ ، وَالصَّحِيحُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ، كَمَا كَانَ يُصَلِّي فِي الْعِيدِ .
وَلَوْ كَانَ النَّقْلُ كَمَا ذَكَرُوهُ ، فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الصَّلَاةِ ، بِدَلِيلِ أَوَّلِ الْحَدِيثِ .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتَفْتِحَ الْخُطْبَةَ بِالتَّكْبِيرِ ، كَخُطْبَةِ الْعِيدِ ، وَيُكْثِرَ مِنْ الِاسْتِغْفَارِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَقْرَأَ كَثِيرًا : { اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا } وَسَائِرَ الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا الْأَمْرُ بِهِ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَهُمْ بِإِرْسَالِ الْغَيْثِ إذَا اسْتَغْفَرُوهُ .
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ خَرَجَ يَسْتَسْقِي ، فَلَمْ يَزِدْ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ ، وَقَالَ : لَقَدْ اسْتَسْقَيْت بِمَجَادِيحِ السَّمَاءِ .
وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، أَنَّهُ كَتَبَ إلَى

مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ يَقُولُ : قَدْ كَتَبْت إلَى الْبُلْدَانِ أَنْ يَخْرُجُوا إلَى الِاسْتِسْقَاءِ إلَى مَوْضِعِ كَذَا وَكَذَا ، وَأَمَرْتُهُمْ بِالصَّدَقَةِ وَالصَّلَاةِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { قَدْ أَفْلَح مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } .
وَأَمَرْتهمْ أَنْ يَقُولُوا كَمَا قَالَ أَبُوهُمْ آدَم : { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ } .
وَيَقُولُوا كَمَا قَالَ نُوحٌ : { وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنْ الْخَاسِرِينَ } .
وَيَقُولُوا كَمَا قَالَ يُونُسُ : { فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إنِّي كُنْتُ مِنْ الظَّالِمِينَ } .
وَيَقُولُوا كَمَا قَالَ مُوسَى : { رَبِّ إنِّي ظَلَمْت نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } .
وَلِأَنَّ الْمَعَاصِيَ سَبَبُ انْقِطَاعِ الْغَيْثِ ، وَالِاسْتِغْفَارُ وَالتَّوْبَةُ تَمْحُو الْمَعَاصِيَ الْمَانِعَةَ مِنْ الْغَيْثِ ، فَيَأْتِي اللَّهُ بِهِ .
وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَدْعُو بِدُعَائِهِ ، فَرَوَى جَابِرٌ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثًا مُغِيثًا مَرِيئًا مَرِيعًا نَافِعًا غَيْرَ ضَارٍّ عَاجِلًا غَيْرَ آجِلٍ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
قَالَ الْخَطَّابِيُّ : مَرِيعًا يُرْوَى عَلَى وَجْهَيْنِ بِالْيَاءِ وَالْبَاءِ ، فَمَنْ رَوَاهُ بِالْيَاءِ جَعَلَهُ مِنْ الْمُرَاعَةِ ، يُقَال : أَمْرَعَ الْمَكَانُ : إذَا أَخْصَبَ ، وَمَنْ رَوَاهُ مُرْبِعًا ، كَانَ مَعْنَاهُ مُنْبِتًا لِلرَّبِيعِ .
وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : { شَكَا النَّاسُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُحُوطَ الْمَطَرِ ، فَأَمَرَ بِمِنْبَرٍ فَوُضِعَ لَهُ فِي الْمُصَلَّى ، وَوَعَدَ النَّاسَ يَوْمًا يَخْرُجُونَ فِيهِ ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ بَدَا حَاجِبُ الشَّمْسِ ، فَقَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ ، فَكَبَّرَ ، وَحَمِدَ اللَّهَ ، ثُمَّ قَالَ : إنَّكُمْ شَكَوْتُمْ جَدْبَ دِيَارِكُمْ ، وَاسْتِئْخَارَ الْمَطَرِ عَنْ إبَّانِ زَمَانِهِ عَنْكُمْ ، وَقَدْ

أَمَرَكُمْ اللَّهُ أَنْ تَدْعُوهُ ، وَوَعَدَكُمْ أَنْ يَسْتَجِيبَ لَكُمْ .
ثُمَّ قَالَ : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } لَا إلَهَ إلَّا هُوَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ، اللَّهُمَّ أَنْتَ اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ الْغَنِيُّ وَنَحْنُ الْفُقَرَاءُ ، أَنْزِلْ عَلَيْنَا الْغَيْثَ وَاجْعَلْ مَا أَنْزَلْت لَنَا قُوَّةً وَبَلَاغًا إلَى حِينٍ .
ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ ، فَلَمْ يَزَلْ فِي الرَّفْعِ حَتَّى بَدَا بَيَاضُ إبِطَيْهِ ، ثُمَّ حَوَّلَ إلَى النَّاسِ ظَهْرَهُ وَقَلَبَ أَوْ حَوَّلَ رِدَاءَهُ ، وَهُوَ رَافِعٌ يَدَيْهِ ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ ، فَنَزَلَ ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ } .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرو { : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا اسْتَسْقَى ، قَالَ : اللَّهُمَّ اسْقِ عِبَادَك وَبَهَائِمَك ، وَانْشُرْ رَحْمَتَك ، وَأَحْيِ بَلَدَك الْمَيِّتَ } .
رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد .
رَوَى ابْنُ قُتَيْبَةَ ، بِإِسْنَادِهِ فِي " غَرِيبِ الْحَدِيثِ " ، عَنْ أَنَسٍ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { خَرَجَ لِلِاسْتِسْقَاءِ ، فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ ، يَجْهَرُ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ ، وَكَانَ يَقْرَأُ فِي الْعِيدَيْنِ وَالِاسْتِسْقَاءِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ ، و " سَبِّحْ اسْمَ رَبِّك الْأَعْلَى " ، وَفِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ ، و " هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ " ، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ اسْتَقْبَلَ الْقَوْمَ بِوَجْهِهِ ، وَقَلَبَ رِدَاءَهُ ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ ، وَكَبَّرَ تَكْبِيرَةً قَبْلَ أَنْ يَسْتَسْقِيَ ، ثُمَّ قَالَ : اللَّهُمَّ اسْقِنَا وَأَغِثْنَا ، اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثًا مُغِيثًا ، وَحَيًّا رَبِيعًا ، وَجَدًّا طَبَقًا غَدَقًا مُغْدِقًا مُونِقًا ، هَنِيئًا مَرِيئًا مَرِيعًا مَرْبَعًا مَرْتَعًا ، سَائِلًا مُسْبِلًا مُجَلِّلًا ، دِيَمًا دَرُورًا ، نَافِعًا غَيْرَ ضَارٍّ ، عَاجِلًا غَيْرَ رَائِثٍ ؛ اللَّهُمَّ تُحْيِي بِهِ الْبِلَادَ ، وَتُغِيثُ بِهِ الْعِبَادَ ، وَتَجْعَلُهُ بَلَاغًا لِلْحَاضِرِ مِنَّا وَالْبَادِ ، اللَّهُمَّ أَنْزِلْ فِي أَرْضِنَا زِينَتَهَا ، وَأَنْزِلْ عَلَيْنَا

فِي أَرْضِنَا سَكَنَهَا ، اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا ، فَأَحْيِي بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا ، وَأَسْقِهِ مِمَّا خَلَقْت أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا .
} قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ : الْمُغِيثُ : الْمُحْيِي بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى .
وَالْحَيَا : الَّذِي تَحْيَا بِهِ الْأَرْضُ وَالْمَالُ .
وَالْجَدَّا : الْمَطَرُ الْعَامُّ ، وَمِنْهُ أُخِذَ جَدَّا الْعَطِيَّةِ ، وَالْجَدْوَى مَقْصُورٌ .
وَالطَّبَقُ : الَّذِي يُطْبِقُ الْأَرْضَ .
وَالْغَدَقُ وَالْمُغْدِقُ : الْكَثِيرُ الْقَطْرِ .
وَالْمُونِقُ : الْمُعْجِبُ .
وَالْمَرِيعُ : ذُو الْمَرَاعَةِ وَالْخِصْبِ .
وَالْمَرْبَعُ مِنْ قَوْلِك : رَبَعْت مَكَانَ كَذَا : إذَا أَقَمْت بِهِ .
وَارْبَعْ عَلَى نَفْسِك : اُرْفُقْ .
وَالْمَرْتَعُ : مِنْ رَتَعَتْ الْإِبِلُ ، إذَا أَرْعَتْ .
وَالسَّابِلُ : مِنْ السَّبْلِ ، وَهُوَ الْمَطَرُ .
يُقَال سَبَلٌ سَابِلٌ ، كَمَا يُقَال : مَطَرٌ مَاطِرٌ .
وَالرَّائِثُ : الْبَطِيءُ .
وَالسَّكَنُ : الْقُوَّة ، لِأَنَّ الْأَرْضَ تَسْكُنُ بِهِ .
وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا اسْتَسْقَى ، قَالَ : { اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثًا مُغِيثًا ، هَنِيئًا مَرِيعًا ، غَدَقًا مُجَلِّلًا ، طَبَقًا سَحًّا دَائِمًا ، اللَّهُمَّ اسْقِنَا الْغَيْثَ ، وَلَا تَجْعَلْنَا مِنْ الْقَانِطِينَ ، اللَّهُمَّ إنَّ بِالْعِبَادِ وَالْبِلَادِ مِنْ اللَّأْوَاءِ وَالضَّنْكِ وَالْجَهْدِ مَا لَا نَشْكُوهُ إلَّا إلَيْك ، اللَّهُمَّ أَنْبِتْ لَنَا الزَّرْعَ ، وَأَدِرَّ لَنَا الضَّرْعَ ، وَاسْقِنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاءِ ، وَأَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِكَ ، اللَّهُمَّ ارْفَعْ عَنَّا الْجَهْدَ وَالْجُوعَ وَالْعُرْيَ ، وَاكْشِفْ عَنَّا مِنْ الْبَلَاءِ مَا لَا يَكْشِفُهُ غَيْرُك ، اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَغْفِرُك إنَّك كُنْت غَفَّارًا ، فَأَرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْنَا مِدْرَارًا }

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71