الكتاب : المغني
المؤلف : أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد ، الشهير بابن قدامة المقدسي

قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ .
قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، إلَّا رَجُلًا خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ ، فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ } .
وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَا مِنْ أَيَّامٍ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُتَعَبَّدَ لَهُ فِيهَا ، مِنْ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ ، يَعْدِلُ صِيَامُ كُلِّ يَوْمٍ مِنْهَا بِصِيَامِ سَنَةٍ ، وَقِيَامُ كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْهَا بِقِيَامِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ } .
وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ ، أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ تِسْعَ ذِي الْحِجَّةِ ، وَيَوْمَ عَاشُورَاءَ } .

( 2137 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَلَا يُسْتَحَبُّ لِمَنْ كَانَ بِعَرَفَةَ أَنْ يَصُومَ ، لِيَتَقَوَّى عَلَى الدُّعَاءِ ) أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَسْتَحِبُّونَ الْفِطْرَ يَوْمَ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ وَكَانَتْ عَائِشَةُ ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ ، يَصُومَانِهِ .
وَقَالَ قَتَادَةُ : لَا بَأْسَ بِهِ إذَا لَمْ يَضْعُفْ عَنْ الدُّعَاءِ .
وَقَالَ عَطَاءٌ : أَصُومُ فِي الشِّتَاءِ وَلَا أَصُومُ فِي الصَّيْفِ .
لِأَنَّ كَرَاهَةَ صَوْمِهِ إنَّمَا هِيَ مُعَلَّلَةٌ بِالضَّعْفِ عَنْ الدُّعَاءِ ، فَإِذَا قَوِيَ عَلَيْهِ ، أَوْ كَانَ فِي الشِّتَاءِ ، لَمْ يَضْعُفْ ، فَتَزُولَ الْكَرَاهَةُ .
وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ بِنْتِ الْحَارِثِ ، { أَنَّ نَاسًا تَمَارَوْا بَيْنَ يَدَيْهَا يَوْمَ عَرَفَةَ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : صَائِمٌ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَيْسَ بِصَائِمٍ .
فَأَرْسَلَتْ إلَيْهِ بِقَدَحٍ مِنْ لَبَنٍ ، وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى بَعِيرِهِ بِعَرَفَاتٍ ، فَشَرِبَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : { حَجَجْت مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَلَمْ يَصُمْهُ - يَعْنِي يَوْمَ عَرَفَة - وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ فَلَمْ يَصُمْهُ ، وَمَعَ عُمَرَ فَلَمْ يَصُمْهُ ، وَمَعَ عُثْمَانَ فَلَمْ يَصُمْهُ ، وَأَنَا لَا أَصُومُهُ ، وَلَا آمُرُ بِهِ ، وَلَا أَنْهَى عَنْهُ .
} أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ صِيَامِ يَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ } .
وَلِأَنَّ الصَّوْمَ يُضْعِفُهُ ، وَيَمْنَعُهُ الدُّعَاءَ فِي هَذَا الْيَوْمِ الْمُعَظَّمِ ، الَّذِي يُسْتَجَابُ فِيهِ الدُّعَاءُ ، فِي ذَلِكَ الْمَوْقِفِ الشَّرِيفِ ، الَّذِي يُقْصَدُ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ، رَجَاءَ فَضْلِ اللَّه فِيهِ ، وَإِجَابَةِ دُعَائِهِ بِهِ ، فَكَانَ تَرْكُهُ أَفْضَلَ .

( 2138 ) فَصْلٌ : رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَان شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ ( 2139 ) فَصْلٌ : وَأَفْضَلُ الصِّيَامِ أَنْ تَصُومَ يَوْمًا وَتُفْطِرَ يَوْمًا ؛ لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَالَ لَهُ : صُمْ يَوْمًا ، وَأَفْطِرْ يَوْمًا ، فَذَلِكَ صِيَامُ دَاوُد ، وَهُوَ أَفْضَلُ الصِّيَامِ .
فَقُلْت : إنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ .
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
فَصْلٌ : وَرَوَى أَبُو دَاوُد ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أُسَامَة بْن زَيْدٍ ، أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَانَ يَصُومُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ ، فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ ، فَقَالَ : إنَّ أَعْمَالَ النَّاسِ تُعْرَضُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ } .
.

( 2141 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَأَيَّامُ الْبِيضَ الَّتِي حَضَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى صِيَامِهَا ، هِيَ الثَّالِثُ عَشَرَ وَالرَّابِعُ عَشَرَ وَالْخَامِسُ عَشَرَ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ صِيَامَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ مُسْتَحَبٌّ ، لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا .
وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ، قَالَ : { أَوْصَانِي خَلِيلِي بِثَلَاثٍ : صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ، وَرَكْعَتَيْ الضُّحَى ، وَأَنْ أُوتِرَ قَبْلَ أَنْ أَنَامَ } .
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ : { صُمْ مِنْ الشَّهْرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ؛ فَإِنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا ، وَذَلِكَ مِثْلُ صِيَامِ الدَّهْرِ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْعَلَ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ أَيَّامَ الْبِيضِ ؛ لِمَا رَوَى أَبُو ذَرٍّ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { يَا أَبَا ذَرٍّ ، إذَا صُمْت مِنْ الشَّهْرِ فَصُمْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ ، وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ ، وَخَمْسَ عَشْرَةَ } .
أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ .
وَرَوَى النَّسَائِيّ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَالَ لِأَعْرَابِيٍّ : كُلْ .
قَالَ : إنِّي صَائِمٌ .
قَالَ : صَوْمُ مَاذَا ؟ قَالَ : صَوْمُ ثَلَاثَة أَيَّامٍ مِنْ الشَّهْرِ .
قَالَ : إنْ كُنْت صَائِمًا فَعَلَيْك بِالْغُرِّ الْبِيضِ ؛ ثَلَاثَ عَشْرَةَ ، وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ ، وَخَمْسَ عَشْرَةَ } .
وَعَنْ مِلْحَانَ الْقَيْسِيِّ ، قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَأْمُرُنَا أَنْ نَصُومَ الْبِيضَ ؛ ثَلَاثَ عَشْرَةَ ، وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ ، وَخَمْسَ عَشْرَةَ .
وَقَالَ : هُوَ كَهَيْئَةِ الدَّهْرِ } .
أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد .
وَسُمِّيَتْ أَيَّامَ الْبِيضِ لِابْيِضَاضِ لَيْلِهَا كُلِّهِ بِالْقَمَرِ ، وَالتَّقْدِيرُ : أَيَّامِ اللَّيَالِي الْبِيضِ .
وَقِيلَ : إنَّ اللَّهَ تَابَ عَلَى آدَمَ فِيهَا ، وَبَيَّضَ صَحِيفَتَهُ .
ذَكَرَهُ أَبُو الْحَسَنِ التَّمِيمِيُّ .
( 2142 ) فَصْل : وَيَجِبُ عَلَى الصَّائِم أَنْ يُنَزِّهَ صَوْمَهُ عَنْ الْكَذِبِ وَالْغِيبَةِ وَالشَّتْمِ .

قَالَ أَحْمَدُ : يَنْبَغِي لِلصَّائِمِ أَنْ يَتَعَاهَدَ صَوْمَهُ مِنْ لِسَانِهِ ، وَلَا يُمَارِي ، وَيَصُونَ صَوْمَهُ ، كَانُوا إذَا صَامُوا قَعَدُوا فِي الْمَسَاجِدِ ، وَقَالُوا : نَحْفَظُ صَوْمَنَا .
وَلَا يَغْتَابُ أَحَدًا ، وَلَا يَعْمَلُ عَمَلًا يَجْرَحُ بِهِ صَوْمَهُ .
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ ، وَالْعَمَلَ بِهِ ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ } .
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ ، إلَّا الصِّيَامَ ، فَإِنَّهُ لِي ، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ ، الصِّيَامُ جُنَّةٌ ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ ، وَلَا يَصْخَبْ ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ ، فَلْيَقُلْ : إنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ .
وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ ، لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ ، لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا ، إذَا أَفْطَرَ فَرِحَ ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا .

( 2143 ) فَصْلٌ : فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ : وَهِيَ لَيْلَةٌ شَرِيفَةٌ مُبَارَكَةٌ مُعَظَّمَةٌ مُفَضَّلَةٌ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ } .
قِيلَ : مَعْنَاهُ الْعَمَلُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْعَمَلِ فِي أَلْفِ شَهْرٍ لَيْسَ فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَقِيلَ : إنَّمَا سُمِّيَتْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ ؛ لِأَنَّهُ يُقَدَّرُ فِيهَا مَا يَكُونُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ مِنْ خَيْرٍ وَمُصِيبَةٍ ، وَرِزْقٍ وَبَرَكَةٍ .
يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } .
وَسَمَّاهَا مُبَارَكَةً ، فَقَالَ تَعَالَى { إنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ } .
وَهِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ ؛ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : { إنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } .
وَقَالَ تَعَالَى : { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } .
يُرْوَى أَنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ بِهِ مِنْ بَيْتِ الْعِزَّةِ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ، ثُمَّ نَزَلَ بِهِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُجُومًا فِي ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً .
وَهِيَ بَاقِيَةٌ لَمْ تُرْفَعْ ؛ لِمَا رَوَى أَبُو ذَرٍّ قَالَ ، { قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لَيْلَةُ الْقَدْرِ رُفِعَتْ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ ، أَوْ هِيَ بَاقِيَةٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ؟ قَالَ : بَاقِيَةٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ .
قُلْت : فِي رَمَضَانَ أَوْ فِي غَيْرِهِ ؟ فَقَالَ : فِي رَمَضَانَ .
فَقُلْت : فِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ ، أَوْ الثَّانِي ، أَوْ الْآخِرِ ؟ فَقَالَ : فِي الْعَشْرِ الْآخِرِ } .
وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهَا فِي رَمَضَانَ .
وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ : مَنْ يَقُمْ الْحَوْلَ يُصِبْهَا .
يُشِيرُ إلَى أَنَّهَا فِي السَّنَةِ كُلِّهَا .
وَفِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مَا يُبَيِّنُ أَنَّهَا فِي رَمَضَانَ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ،

وَأَنَّهُ أَنْزَلَهُ فِي رَمَضَانَ ، فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ فِي رَمَضَانَ ؛ لِئَلَّا يَتَنَاقَضَ الْخَبَرَانِ ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ أَنَّهَا فِي رَمَضَانَ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ ، وَقَالَ : { الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ ، فِي كُلِّ وِتْرٍ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَقَالَ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ : وَاَللَّهِ لَقَدْ عَلِمَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهَا فِي رَمَضَانَ ، وَلَكِنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُخْبِرَكُمْ ، فَتَتَّكِلُوا .
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ طَلَبُهَا فِي جَمِيعِ لَيَالِي رَمَضَانَ ، وَفِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ آكَدُ ، وَفِي لَيَالِي الْوَتْرِ مِنْهُ آكَدُ .
وَقَالَ أَحْمَدُ : هِيَ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ ، وَفِي وَتْرٍ مِنْ اللَّيَالِي ، لَا يُخْطِئُ إنْ شَاءَ اللَّه ، كَذَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { اُطْلُبُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ ، فِي ثَلَاثٍ بَقِينَ ، أَوْ سَبْعٍ بَقِينَ ، أَوْ تِسْعٍ بَقِينَ } .
وَرَوَى سَالِمٌ عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ عَلَى أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ ، فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ ، فِي الْوَتْرِ مِنْهَا } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَقَالَتْ عَائِشَةُ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا دَخَلَ الْعَشْرُ الْأَوَاخِرُ مِنْ رَمَضَانَ ، أَحْيَا اللَّيْلَ ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ ، وَشَدَّ الْمِئْزَرَ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
قَالَتْ : { وَكَانَ يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهَا } .
وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : { إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُوقِظُ أَهْلَهُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ } .
وَقَالَتْ عَائِشَةُ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُجَاوِرُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ } .
وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ : { تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْوِتْرِ ، فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ } .
وَكُلُّ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ صَحِيحَةٌ .
( 2144 ) فَصْلٌ :

وَاخْتَلَفَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أُرْجَى هَذِهِ اللَّيَالِي ، فَقَالَ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ : هِيَ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ .
قَالَ زِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ قُلْت لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ : أَمَا عَلِمْت أَبَا الْمُنْذِرِ ، أَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ ؟ قَالَ : بَلَى { أَخْبَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا لَيْلَةٌ صَبِيحَتُهَا تَطْلُعُ الشَّمْسُ لَيْسَ لَهَا شُعَاعٌ .
فَعَدَدْنَا ، وَحَفِظْنَا } ، وَاَللَّهِ لَقَدْ عَلِمَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهَا فِي رَمَضَانَ ، وَأَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ ، وَلَكِنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُخْبِرَكُمْ ، فَتَتَّكِلُوا .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَرَوَى أَبُو ذَرٍّ فِي حَدِيثٍ فِيهِ طُولٌ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقُمْ فِي رَمَضَانَ حَتَّى بَقِيَ سَبْعٌ ، فَقَامَ بِهِمْ ، حَتَّى مَضَى نَحْوٌ مِنْ ثُلُثِ اللَّيْلِ ، ثُمَّ قَامَ بِهِمْ فِي لَيْلَةِ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ ، حَتَّى مَضَى نَحْوٌ مِنْ شَطْرِ اللَّيْلِ ، حَتَّى كَانَتْ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ ، فَجَمَعَ نِسَاءَهُ وَأَهْلَهُ ، وَاجْتَمَعَ النَّاسُ ، قَالَ : فَقَامَ بِهِمْ حَتَّى خَشِينَا أَنْ يَفُوتَنَا الْفَلَاحُ } .
يَعْنِي السُّحُورَ .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّهُ قَالَ : سُورَةُ الْقَدْرِ ثَلَاثُونَ كَلِمَةً ، السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ مِنْهَا هِيَ ) .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُعَاوِيَةَ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ، { قَالَ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ } .
وَقِيلَ : آكَدُهَا لَيْلَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُنَيْسٍ ، سَأَلَهُ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنِّي أَكُونُ بِبَادِيَةٍ يُقَالُ لَهَا الْوَطْأَةُ ، وَإِنِّي بِحَمْدِ اللَّهِ أُصَلِّي بِهِمْ ، فَمُرْنِي بِلَيْلَةٍ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ أَنْزِلُهَا فِي الْمَسْجِدِ ، فَأُصَلِّيهَا فِيهِ ، فَقَالَ : انْزِلْ لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ ، فَصَلِّهَا فِيهِ ، وَإِنْ أَحْبَبْت أَنْ تَسْتَتِمَّ

آخِرَ هَذَا الشَّهْرِ فَافْعَلْ ، وَإِنْ أَحْبَبْت فَكُفَّ .
فَكَانَ إذَا صَلَّى الْعَصْرَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ ، فَلَمْ يَخْرُجْ إلَّا فِي حَاجَةٍ ، حَتَّى يُصَلِّيَ الصُّبْحَ ، فَإِذَا صَلَّى الصُّبْحَ كَانَتْ دَابَّتُهُ بِبَابِ الْمَسْجِدِ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مُخْتَصَرًا .
وَقِيلَ : آكَدُهَا لَيْلَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَنَّهُ قَالَ : { لَيْلَةُ الْقَدْرِ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ } .
وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ ، أَنَّهُ قَالَ : لَمْ نَكُنْ نَعُدُّ عَدَدَكُمْ هَذَا ، وَإِنَّمَا كُنَّا نَعُدُّ مِنْ آخِرِ الشَّهْرِ .
يَعْنِي أَنَّ السَّابِعَةَ وَالْعِشْرِينَ هِيَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ .
وَرَوَى أَبُو ذَرٍّ ، قَالَ : { صُمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهْرَ رَمَضَانَ ، فَلَمْ يَقُمْ بِنَا حَتَّى كَانَتْ لَيْلَةُ سَبْعٍ بَقِيَتْ ، فَقَامَ بِنَا نَحْوًا مِنْ ثُلُثِ اللَّيْلِ ، ثُمَّ لَمْ يَقُمْ لَيْلَةَ سِتٍّ ، فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ خَمْسٍ قَامَ بِنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوًا مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ ، فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لَوْ نَفَّلْتَنَا قِيَامَ هَذِهِ اللَّيْلَةَ ؟ فَقَالَ : إنَّ الرَّجُلَ إذَا صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ ، كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ .
فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ ثَلَاثٍ ، قَامَ بِنَا حَتَّى خَشِينَا أَنْ يَفُوتَنَا الْفَلَاحُ .
فَقُلْت : وَمَا الْفَلَاحُ ؟ قَالَ : السُّحُورُ .
وَأَيْقَظَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ أَهْلَهُ وَنِسَاءَهُ وَبَنَاتِهِ } .
رَوَاهُ سَعِيدٌ .
وَقِيلَ : آكَدُهَا لَيْلَةُ إحْدَى وَعِشْرِينَ ؛ لِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { رَأَيْت لَيْلَةَ الْقَدْرِ ، ثُمَّ أُنْسِيتهَا ، فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ ، فِي الْوِتْرِ ، وَإِنِّي رَأَيْت أَنِّي أَسْجُدُ فِي صَبِيحَتِهَا فِي مَاءٍ وَطِينٍ .
قَالَ : فَجَاءَتْ سَحَابَةٌ ، فَمَطَرَتْ حَتَّى سَالَ سَقْفُ الْمَسْجِدِ ، وَكَانَ مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ ، فَأُقِيمَتْ الصَّلَاةُ ، فَرَأَيْت رَسُولَ

اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْجُدُ فِي الْمَاءِ وَالطِّينِ ، حَتَّى رَأَيْت أَثَرَ الْمَاءِ وَالطِّينِ فِي جَبْهَتِهِ } .
وَفِي حَدِيثٍ : ( فِي صَبِيحَةِ إحْدَى وَعِشْرِينَ ) .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : قَدْ رُوِيَ أَنَّهَا لَيْلَةُ إحْدَى وَعِشْرِينَ ، وَلَيْلَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ ، وَلَيْلَةُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ ، وَلَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ ، وَلَيْلَةُ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ ، وَآخِرُ لَيْلَةٍ .
وَقَالَ أَبُو قِلَابَةَ : إنَّهَا تَنْتَقِلُ فِي لَيَالِي الْعَشْرِ .
قَالَ الشَّافِعِيُّ : كَانَ هَذَا عِنْدِي - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُجِيبُ عَلَى نَحْوِ مَا يُسْأَلُ .
فَعَلَى هَذَا كَانَتْ فِي السَّنَةِ الَّتِي رَأَى أَبُو سَعِيدٍ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْجُدُ فِي الْمَاءِ وَالطِّينِ لَيْلَةَ إحْدَى وَعِشْرِينَ ، وَفِي السَّنَةِ الَّتِي أَمَرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُنَيْسٍ لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ ، وَفِي السَّنَةِ الَّتِي رَأَى أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ عَلَامَتَهَا لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ ، وَقَدْ تُرَى عَلَامَتُهَا فِي غَيْرِ هَذِهِ اللَّيَالِي .
قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ : أَبْهَمَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ اللَّيْلَةَ عَلَى الْأُمَّةِ لِيَجْتَهِدُوا فِي طَلَبِهَا ، وَيَجِدُّوا فِي الْعِبَادَةِ فِي الشَّهْرِ كُلِّهِ طَمَعًا فِي إدْرَاكِهَا ، كَمَا أَخْفَى سَاعَةَ الْإِجَابَةِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ ، لِيُكْثِرُوا مِنْ الدُّعَاءِ فِي الْيَوْمِ كُلِّهِ ، وَأَخْفَى اسْمَهُ الْأَعْظَمَ فِي الْأَسْمَاءِ وَرِضَاهُ فِي الطَّاعَاتِ ، لِيَجْتَهِدُوا فِي جَمْعِهَا ، وَأَخْفَى الْأَجَلَ وَقِيَامَ السَّاعَةِ ، لِيَجِدَّ النَّاسُ فِي الْعَمَلِ ، حَذَرًا مِنْهُمَا ( 2145 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا عَلَامَتُهَا ، فَالْمَشْهُورُ فِيهَا مَا ذَكَرَهُ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ ( الشَّمْسَ تَطْلُعُ مِنْ صَبِيحَتِهَا بَيْضَاءَ لَا شُعَاعَ لَهَا ) .
وَفِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ : ( بَيْضَاءَ مِثْلَ الطَّسْتِ ) .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ قَالَ : بَلْجَةٌ سَمْحَةٌ ، لَا حَارَّةٌ وَلَا

بَارِدَةٌ ، تَطْلُعُ الشَّمْسُ صَبِيحَتَهَا لَا شُعَاعَ لَهَا .
} ( 2146 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْتَهِدَ فِيهَا فِي الدُّعَاءِ ، وَيَدْعُوَ فِيهَا بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ ، أَنَّهَا قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنْ وَافَقْتَهَا بِمَ أَدْعُو ؟ قَالَ : قُولِي { : اللَّهُمَّ إنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ ، فَاعْفُ عَنِّي } .

كِتَابُ الِاعْتِكَافِ الِاعْتِكَافُ فِي اللُّغَةِ : لُزُومُ الشَّيْءِ ، وَحَبْسُ النَّفْسِ عَلَيْهِ ، بِرًّا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : { مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ } .
وَقَالَ : { يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ } .
قَالَ الْخَلِيلُ : عَكَفَ يَعْكُفُ وَيَعْكِفُ .
وَهُوَ فِي الشَّرْعِ : الْإِقَامَةُ فِي الْمَسْجِدِ ، عَلَى صِفَةٍ نَذْكُرُهَا ، وَهُوَ قُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ } .
وَقَالَ : { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } .
وَقَالَتْ عَائِشَةُ : { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ ، فِي ( سُنَنِهِ ) ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ قَالَ فِي الْمُعْتَكِفِ : هُوَ يَعْكُفُ الذُّنُوبَ ، وَيُجْرَى لَهُ مِنْ الْحَسَنَاتِ كَعَامِلِ الْحَسَنَات كُلِّهَا } .
وَهَذَا الْحَدِيثُ ضَعِيفٌ .
وَفِي إسْنَادِهِ فَرْقَد السَّبَخِيُّ قَالَ أَبُو دَاوُد : قُلْت لِأَحْمَدَ ، رَحِمَهُ اللَّهُ : تَعْرِفُ فِي فَضْلِ الِاعْتِكَافِ شَيْئًا ؟ قَالَ : لَا ، إلَّا شَيْئًا ضَعِيفًا .
وَلَا نَعْلَمُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ خِلَافًا فِي أَنَّهُ مَسْنُونٌ .

( 2147 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ أَبُو الْقَاسِم رَحِمَهُ اللَّهُ : ( وَالِاعْتِكَافُ سُنَّةٌ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ نَذْرًا ، فَيَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ ) لَا خِلَافَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِحَمْدِ اللَّهِ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الِاعْتِكَافَ سُنَّةٌ لَا يَجِبُ عَلَى النَّاسِ فَرْضًا ، إلَّا أَنْ يُوجِبَ الْمَرْءُ عَلَى نَفْسِهِ الِاعْتِكَافَ نَذْرًا ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ .
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ ، فِعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُدَاوَمَتُهُ عَلَيْهِ ، تَقَرُّبًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَطَلَبًا لِثَوَابِهِ ، وَاعْتِكَافُ أَزْوَاجِهِ مَعَهُ وَبَعْدَهُ ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ أَنَّ أَصْحَابَهُ لَمْ يَعْتَكِفُوا ، وَلَا أَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ إلَّا مَنْ أَرَادَهُ .
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { : مَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ ، فَلْيَعْتَكِفْ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ } .
وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمَا عَلَّقَهُ بِالْإِرَادَةِ .
وَأَمَّا إذَا نَذَرَهُ ، فَيَلْزَمُهُ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ } .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَعَنْ عُمَرَ ، أَنَّهُ قَالَ { : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنِّي نَذَرْت أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ .
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَوْفِ بِنَذْرِك } .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ، وَمُسْلِمٌ .

( 2148 ) فَصْلٌ : وَإِنْ نَوَى اعْتِكَافَ مُدَّةٍ لَمْ تَلْزَمْهُ ، فَإِنْ شَرَعَ فِيهَا فَلَهُ إتْمَامُهَا ، وَلَهُ الْخُرُوجُ مِنْهَا مَتَى شَاءَ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ مَالِكٌ : تَلْزَمُهُ بِالنِّيَّةِ مَعَ الدُّخُولِ فِيهِ ، فَإِنْ قَطَعَهُ لَزِمَهُ قَضَاؤُهُ .
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : لَا يَخْتَلِفُ فِي ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ ، وَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ عِنْدَ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ .
وَقَالَ : وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ فَالْقَضَاءُ مُسْتَحَبٌّ .
وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَوْجَبَهُ وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ ، فَاسْتَأْذَنَتْهُ عَائِشَةُ ، فَأَذِنَ لَهَا ، فَأَمَرَتْ بِبِنَائِهَا فَضُرِبَ ، وَسَأَلَتْ حَفْصَةُ أَنْ تَسْتَأْذِنَ لَهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفَعَلَتْ ، فَأَمَرَتْ بِبِنَائِهَا فَضُرِبَ ، فَلَمَّا رَأَتْ ذَلِكَ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ أَمَرَتْ بِبِنَائِهَا فَضُرِبَ ، قَالَتْ : وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا صَلَّى الصُّبْحَ دَخَلَ مُعْتَكَفَهُ ، فَلَمَّا صَلَّى الصُّبْحَ انْصَرَفَ ، فَبَصُرَ بِالْأَبْنِيَةِ ، فَقَالَ : مَا هَذَا ؟ ، فَقَالُوا : بِنَاءُ عَائِشَةَ ، وَحَفْصَةَ ، وَزَيْنَبَ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْبِرَّ أَرَدْتُنَّ ، مَا أَنَا بِمُعْتَكِفٍ فَرَجَعَ .
فَلَمَّا أَفْطَرَ اعْتَكَفَ عَشْرًا مِنْ شَوَّالٍ } .
مُتَّفَقٌ عَلَى مَعْنَاهُ .
وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْمَسْجِدِ ، فَلَزِمَتْ بِالدُّخُولِ فِيهَا ، كَالْحَجِّ .
وَلَمْ يَصْنَعْ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ شَيْئًا ، وَهَذَا لَيْسَ بِإِجْمَاعٍ ، وَلَا نَعْرِفُ هَذَا الْقَوْلَ عَنْ أَحَدٍ سِوَاهُ ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ : كُلُّ عَمَلٍ لَك أَنْ لَا تَدْخُلَ فِيهِ ، فَإِذَا دَخَلْت فِيهِ فَخَرَجْت مِنْهُ ، فَلَيْسَ عَلَيْك أَنْ تَقْضِيَ ، إلَّا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ .
وَلَمْ يَقَعْ الْإِجْمَاعُ عَلَى لُزُومِ نَافِلَةٍ بِالشُّرُوعِ فِيهَا سِوَى الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ .
وَإِذَا كَانَتْ

الْعِبَادَاتُ الَّتِي لَهَا أَصْلٌ فِي الْوُجُوبِ لَا تَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ ، فَمَا لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي الْوُجُوبِ أَوْلَى ، وَقَدْ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ لَوْ نَوَى الصَّدَقَةَ بِمَالٍ مُقَدَّرٍ ، وَشَرَعَ فِي الصَّدَقَةِ بِهِ ، فَأَخْرَجَ بَعْضَهُ ، لَمْ تَلْزَمْهُ الصَّدَقَةُ بِبَاقِيهِ ، وَهُوَ نَظِيرُ الِاعْتِكَافِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ بِالشَّرْعِ ، فَأَشْبَهَ الصَّدَقَةَ .
وَمَا ذَكَرَهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ اعْتِكَافَهُ ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمَا تَرَكَهُ ، وَأَزْوَاجُهُ تَرَكْنَ الِاعْتِكَافَ بَعْدَ نِيَّتِهِ وَضَرْبِ أَبْنِيَتِهِنَّ لَهُ ، وَلَمْ يُوجَدْ عُذْرٌ يَمْنَعُ فِعْلَ الْوَاجِبِ ، وَلَا أُمِرْنَ بِالْقَضَاءِ ، وَقَضَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا فَعَلَهُ تَطَوُّعًا ؛ لِأَنَّهُ كَانَ إذَا عَمِلَ عَمَلًا أَثْبَتَهُ ، وَكَانَ فِعْلُهُ لِقَضَائِهِ كَفِعْلِهِ لِأَدَائِهِ ، عَلَى سَبِيلِ التَّطَوُّعِ بِهِ ، لَا عَلَى سَبِيلِ الْإِيجَابِ ، كَمَا قَضَى السُّنَّةَ الَّتِي فَاتَتْهُ بَعْدَ الظُّهْرِ وَقَبْلَ الْفَجْرِ ، فَتَرْكُهُ لَهُ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ ، لِتَحْرِيمِ تَرْكِ الْوَاجِبِ ، وَفِعْلُهُ لِلْقَضَاءِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ السُّنَنِ مَشْرُوعٌ .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا جَازَ تَرْكُهُ ، وَلَمْ يُؤْمَرْ تَارِكُهُ مِنْ النِّسَاءِ بِقَضَائِهِ ، لِتَرْكِهِنَّ إيَّاهُ قَبْلَ الشُّرُوعِ .
قُلْنَا : فَقَدْ سَقَطَ الِاحْتِجَاجُ ؛ لِاتِّفَاقِنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ قَبْلَ شُرُوعِهِ فِيهِ ، فَلَمْ يَكُنْ الْقَضَاءُ دَلِيلًا عَلَى الْوُجُوبِ ، مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى انْتِفَائِهِ .
وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ؛ لِأَنَّ الْوُصُولَ إلَيْهِمَا لَا يَحْصُلُ فِي الْغَالِبِ إلَّا بَعْدَ كُلْفَةٍ عَظِيمَةٍ ، وَمَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ ، وَإِنْفَاقِ مَالٍ كَثِيرٍ ، فَفِي إبْطَالِهِمَا تَضْيِيعٌ لِمَالِهِ ، وَإِبْطَالٌ لِأَعْمَالِهِ الْكَثِيرَةِ ، وَقَدْ نُهِينَا عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ ، وَإِبْطَالِ الْأَعْمَالِ ، وَلَيْسَ فِي تَرْكِ

الِاعْتِكَافِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ مَالٌ يَضِيعُ ، وَلَا عَمَلٌ يَبْطُلُ ، فَإِنَّ مَا مَضَى مِنْ اعْتِكَافِهِ ، لَا يَبْطُلُ بِتَرْكِ اعْتِكَافِ الْمُسْتَقْبَلِ ، وَلِأَنَّ النُّسُكَ يَتَعَلَّقُ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَلَى الْخُصُوص ، وَالِاعْتِكَافُ بِخِلَافِهِ .

( 2149 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَيَجُوزُ بِلَا صَوْمٍ ، إلَّا أَنْ يَقُولَ فِي نَذْرِهِ بِصَوْمٍ ) الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ الِاعْتِكَافَ يَصِحُّ بِغَيْرِ صَوْمٍ .
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ ، وَابْنِ مَسْعُودٍ ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَالْحَسَنِ ، وَعَطَاءٍ ، وَطَاوُسٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَإِسْحَاقَ .
وَعَنْ أَحْمَدَ ، رِوَايَةٌ أُخْرَى ، أَنَّ الصَّوْمَ شَرْطٌ فِي الِاعْتِكَافِ .
قَالَ : إذَا اعْتَكَفَ يَجِبُ عَلَيْهِ الصَّوْمُ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَعَائِشَةَ .
وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ ، وَمَالِكٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَاللَّيْثُ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ قَالَ : لَا اعْتِكَافَ إلَّا بِصَوْمٍ } .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ .
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ ، { أَنَّ عُمَرَ جَعَلَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، فَسَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : اعْتَكِفْ ، وَصُمْ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَلِأَنَّهُ لُبْثٌ فِي مَكَان مَخْصُوصٍ .
فَلَمْ يَكُنْ بِمُجَرَّدِهِ قُرْبَةً ، كَالْوُقُوفِ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ ، عَنْ عُمَرَ ، { أَنَّهُ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنِّي نَذَرْت فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ .
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَوْفِ بِنَذْرِك } .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَلَوْ كَانَ الصَّوْمُ شَرْطًا لَمَا صَحَّ اعْتِكَافُ اللَّيْلِ ، لِأَنَّهُ لَا صِيَامَ فِيهِ ، وَلِأَنَّهُ عِبَادَةٌ تَصِحُّ فِي اللَّيْلِ ، فَلَمْ يُشْتَرَطْ لَهُ الصِّيَامُ كَالصَّلَاةِ ، وَلِأَنَّهُ عِبَادَةٌ تَصِحُّ فِي اللَّيْلِ ، فَأَشْبَهَ سَائِرَ الْعِبَادَات ، وَلِأَنَّ إيجَابَ الصَّوْمِ حُكْمٌ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالشَّرْعِ ، وَلَمْ يَصِحَّ فِيهِ نَصٌّ ، وَلَا إجْمَاعٌ .
قَالَ سَعِيدٌ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ ، عَنْ أَبِي سَهْلٍ ، قَالَ : كَانَ عَلَى امْرَأَةٍ مِنْ أَهْلِي اعْتِكَافٌ ، فَسَأَلْت عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ .
فَقَالَ : لَيْسَ

عَلَيْهَا صِيَامٌ ، إلَّا أَنْ تَجْعَلَهُ عَلَى نَفْسِهَا .
فَقَالَ الزُّهْرِيُّ : لَا اعْتِكَافَ إلَّا بِصَوْمٍ .
فَقَالَ لَهُ عُمَرُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ : لَا .
قَالَ : فَعَنْ أَبِي بَكْرٍ ؟ قَالَ : لَا .
قَالَ : فَعَنْ عُمَرَ ؟ قَالَ : لَا .
قَالَ : وَأَظُنُّهُ قَالَ : فَعَنْ عُثْمَانَ ؟ قَالَ : لَا .
فَخَرَجْت مِنْ عِنْدِهِ ، فَلَقِيت عَطَاءً وَطَاوُسًا ، فَسَأَلْتُهُمَا ، فَقَالَ طَاوُسٌ : كَانَ فُلَانٌ لَا يَرَى عَلَيْهَا صِيَامًا ، إلَّا أَنْ تَجْعَلَهُ عَلَى نَفْسِهَا ، وَأَحَادِيثُهُمْ لَا تَصِحُّ .
أَمَّا حَدِيثُهُمْ عَنْ عُمَرَ ، فَتَفَرَّدَ بِهِ ابْنُ بُدَيْلٍ ، وَهُوَ ضَعِيفٌ ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ .
وَالصَّحِيحُ مَا رَوَيْنَاهُ ، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ ، وَالنَّسَائِيُّ ، وَغَيْرُهُمَا .
وَحَدِيثُ عَائِشَةَ مَوْقُوفٌ عَلَيْهَا ، وَمَنْ رَفَعَهُ فَقَدْ وَهِمَ ، وَلَوْ صَحَّ فَالْمُرَادُ بِهِ الِاسْتِحْبَابُ ؛ فَإِنَّ الصَّوْمَ فِيهِ أَفْضَلُ ، وَقِيَاسُهُمْ يَنْقَلِبُ عَلَيْهِمْ ؛ فَإِنَّهُ لُبْثٌ فِي مَكَان مَخْصُوصٍ ، فَلَمْ يُشْتَرَطْ لَهُ الصَّوْمُ كَالْوُقُوفِ ، ثُمَّ نَقُولُ بِمُوجِبِهِ ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ قُرْبَةً بِمُجَرَّدِهِ ، بَلْ بِالنِّيَّةِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَصُومَ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْتَكِفُ وَهُوَ صَائِمٌ ، وَلِأَنَّ الْمُعْتَكِفَ يُسْتَحَبُّ لَهُ التَّشَاغُلَ بِالْعِبَادَاتِ وَالْقُرَبِ ، وَالصَّوْمُ مِنْ أَفْضَلِهَا ، وَيَتَفَرَّغُ بِهِ مِمَّا يَشْغَلُهُ عَنْ الْعِبَادَاتِ ، وَيَخْرُجُ بِهِ مِنْ الْخِلَافِ .
( 2150 ) فَصْلٌ : إذَا قُلْنَا : إنَّ الصَّوْمَ شَرْطٌ .
لَمْ يَصِحَّ اعْتِكَافُ لَيْلَةٍ مُفْرَدَةٍ ، وَلَا بَعْضِ يَوْمٍ ؛ وَلَا لَيْلَةٍ وَبَعْضِ يَوْمٍ ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ الْمُشْتَرَطَ لَا يَصِحُّ فِي أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَصِحَّ فِي بَعْضِ الْيَوْمِ ، إذَا صَامَ الْيَوْمَ كُلَّهُ ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ الْمَشْرُوطَ وُجِدَ فِي زَمَنِ الِاعْتِكَافِ ، وَلَا يُعْتَبَرُ وُجُودُ الْمَشْرُوطِ فِي زَمَنِ الشَّرْطِ كُلِّهِ .

( 2151 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَلَا يَجُوزُ الِاعْتِكَافُ إلَّا فِي مَسْجِدٍ يُجْمَعُ فِيهِ ) يَعْنِي تُقَامُ الْجَمَاعَةُ فِيهِ .
وَإِنَّمَا اُشْتُرِطَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ وَاجِبَةٌ ، وَاعْتِكَافُ الرَّجُلِ فِي مَسْجِدٍ لَا تُقَامُ فِيهِ الْجَمَاعَةُ يُفْضِي إلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إمَّا تَرْكُ الْجَمَاعَةِ الْوَاجِبَةِ ، وَإِمَّا خُرُوجُهُ إلَيْهَا ، فَيَتَكَرَّرُ ذَلِكَ مِنْهُ كَثِيرًا مَعَ إمْكَانِ التَّحَرُّزِ مِنْهُ ، وَذَلِكَ مُنَافٍ لِلِاعْتِكَافِ ، إذْ هُوَ لُزُومُ الْمُعْتَكَفِ وَالْإِقَامَةُ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ فِيهِ .
وَلَا يَصِحُّ الِاعْتِكَافُ فِي غَيْرِ مَسْجِدٍ إذَا كَانَ الْمُعْتَكِفُ رَجُلًا .
لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } .
فَخَصَّهَا بِذَلِكَ ، وَلَوْ صَحَّ الِاعْتِكَافُ فِي غَيْرِهَا ، لَمْ يَخْتَصَّ تَحْرِيمُ الْمُبَاشَرَةِ فِيهَا ؛ فَإِنَّ الْمُبَاشَرَةَ مُحَرَّمَةٌ فِي الِاعْتِكَافِ مُطْلَقًا .
وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ ، قَالَتْ { : إنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيُدْخِلَ عَلَيَّ رَأْسَهُ ، وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ ، فَأُرَجِّلُهُ ، وَكَانَ لَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إلَّا لِحَاجَةٍ إذَا كَانَ مُعْتَكِفًا .
} وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ بِإِسْنَادِهِ ، عَنْ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ عُرْوَةَ ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، عَنْ عَائِشَةَ ، فِي حَدِيثٍ : { وَأَنَّ السُّنَّةَ لِلْمُعْتَكِفِ أَنْ لَا يَخْرُجَ إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ ، وَلَا اعْتِكَافَ إلَّا فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ } .
فَذَهَبَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ إلَى أَنَّ كُلَّ مَسْجِدٍ تُقَامُ فِيهِ الْجَمَاعَةُ يَجُوزُ الِاعْتِكَافُ فِيهِ ، وَلَا يَجُوزُ فِي غَيْرِهِ .
وَرُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ ، وَعَائِشَةَ ، وَالزُّهْرِيِّ ، مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا .
وَاعْتَكَفَ أَبُو قِلَابَةَ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فِي مَسْجِدِ حَيِّهِمَا .
وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ ، وَالزُّهْرِيِّ ، أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إلَّا فِي مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ، إذَا كَانَ اعْتِكَافُهُ يَتَخَلَّلُهُ جُمُعَةٌ ، لِئَلَّا

يَلْتَزِمَ الْخُرُوجَ مِنْ مُعْتَكَفِهِ ، لِمَا يُمْكِنُهُ التَّحَرُّزُ مِنْ الْخُرُوجِ إلَيْهِ .
وَرُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ : لَا يَجُوزُ الِاعْتِكَافُ إلَّا فِي مَسْجِدِ نَبِيٍّ .
وَحُكِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ ، أَنَّ الِاعْتِكَافَ لَا يَصِحُّ إلَّا فِي أَحَدِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ .
قَالَ سَعِيدٌ : حَدَّثَنَا مُغِيرَةُ ، عَنْ إبْرَاهِيمَ ، قَالَ : دَخَلَ حُذَيْفَةُ مَسْجِدَ الْكُوفَةِ ، فَإِذَا هُوَ بِأَبْنِيَةٍ مَضْرُوبَةٍ ، فَسَأَلَ عَنْهَا .
فَقِيلَ : قَوْمٌ مُعْتَكِفُونَ .
فَانْطَلَقَ إلَى ابْنِ مَسْعُودٍ ، فَقَالَ : أَلَا تَعْجَبُ مِنْ قَوْمٍ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ مُعْتَكِفُونَ بَيْنَ دَارِك وَدَارِ الْأَشْعَرِيِّ ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ : فَلَعَلَّهمْ أَصَابُوا وَأَخْطَأْت ، وَحَفِظُوا وَنَسِيت .
فَقَالَ حُذَيْفَةُ : لَقَدْ عَلِمْت مَا الِاعْتِكَافُ إلَّا فِي ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ : الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ، وَمَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقَالَ مَالِكٌ : يَصِحُّ الِاعْتِكَافُ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ ؛ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى : { وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ إذَا لَمْ يَكُنْ اعْتِكَافُهُ يَتَخَلَّلُهُ جُمُعَةٌ .
وَلَنَا ، قَوْلُ عَائِشَةَ : مِنْ السُّنَّةِ لِلْمُعْتَكِفِ ، أَنْ لَا يَخْرُجَ إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ ، وَلَا اعْتِكَافَ إلَّا فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ .
وَقَدْ قِيلَ : إنَّ هَذَا مِنْ قَوْلِ الزُّهْرِيِّ .
وَهُوَ يَنْصَرِفُ إلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَمَا كَانَ .
وَرَوَى سَعِيدٌ : حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ ، حَدَّثَنَا جُوَيْبِرٌ ، عَنْ الضَّحَّاكِ ، عَنْ حُذَيْفَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { كُلُّ مَسْجِدٍ لَهُ إمَامٌ وَمُؤَذِّنٌ ، فَالِاعْتِكَافُ فِيهِ يَصْلُحُ } .
وَلِأَنَّ قَوْله تَعَالَى : { وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } يَقْتَضِي إبَاحَةَ الِاعْتِكَافِ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ ، إلَّا أَنَّهُ يُقَيَّدُ بِمَا تُقَامُ فِيهِ الْجَمَاعَةُ بِالْأَخْبَارِ ، وَالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ ، فَفِيمَا عَدَاهُ يَبْقَى عَلَى الْعُمُومِ .

وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي اشْتِرَاطِهِ مَوْضِعًا تُقَامُ فِيهِ الْجُمُعَةُ ، لَا يَصِحُّ ؛ لِلْأَخْبَارِ ، وَلِأَنَّ الْجُمُعَةَ لَا تَتَكَرَّرُ ، فَلَا يَضُرُّ وُجُوبُ الْخُرُوجِ إلَيْهَا ، كَمَا لَوْ اعْتَكَفَتْ الْمَرْأَةُ مُدَّةً يَتَخَلَّلُهَا أَيَّامُ حَيْضِهَا .
وَلَوْ كَانَ الْجَامِعُ تُقَامُ فِيهِ الْجُمُعَةُ وَحْدَهَا ، وَلَا يُصَلَّى فِيهِ غَيْرُهَا ، لَمْ يَجُزْ الِاعْتِكَافُ فِيهِ .
وَيَصِحُّ عِنْدَ مَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ .
وَمَبْنَى الْخِلَافِ عَلَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ وَاجِبَةٌ عِنْدَنَا ، فَيَلْتَزِمُ الْخُرُوجَ مِنْ مُعْتَكَفِهِ إلَيْهَا ، فَيَفْسُدُ اعْتِكَافُهُ ، وَعِنْدَهُمْ لَيْسَتْ وَاجِبَةً .
( 2152 ) فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ اعْتِكَافُهُ مُدَّةً غَيْرَ وَقْتِ الصَّلَاةِ ؛ كَلَيْلَةٍ أَوْ بَعْضِ يَوْمٍ ، جَازَ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ ؛ لِعَدَمِ الْمَانِعِ .
وَإِنْ كَانَتْ تُقَامُ فِيهِ فِي بَعْضِ الزَّمَانِ ، جَازَ الِاعْتِكَافُ فِيهِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ دُونَ غَيْرِهِ .
وَإِنْ كَانَ الْمُعْتَكِفُ مِمَّنْ لَا تَلْزَمُهُ الْجَمَاعَةُ ، كَالْمَرِيضِ ، وَالْمَعْذُورِ ، وَمَنْ هُوَ فِي قَرْيَةٍ لَا يُصَلِّي فِيهَا سِوَاهُ ، جَازَ اعْتِكَافُهُ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا تَلْزَمُهُ الْجَمَاعَةُ ، فَأَشْبَهَ الْمَرْأَةَ .
وَإِنْ اعْتَكَفَ اثْنَانِ فِي مَسْجِدٍ لَا تُقَامُ فِيهِ جَمَاعَةٌ ، فَأَقَامَا الْجَمَاعَةَ فِيهِ ، صَحَّ اعْتِكَافُهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا أَقَامَا الْجَمَاعَةَ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَقَامَهَا فِيهِ غَيْرُهُمَا .
( 2153 ) فَصْلٌ : وَلِلْمَرْأَةِ أَنْ تَعْتَكِفَ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ .
وَلَا يُشْتَرَطُ إقَامَةُ الْجَمَاعَةِ فِيهِ ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَلَيْهَا .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَلَيْسَ لَهَا الِاعْتِكَافُ فِي بَيْتِهَا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالثَّوْرِيُّ : لَهَا الِاعْتِكَافُ فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا ، وَهُوَ الْمَكَانُ الَّذِي جَعَلَتْهُ لِلصَّلَاةِ مِنْهُ ، وَاعْتِكَافُهَا فِيهِ أَفْضَلُ ؛ لِأَنَّ صَلَاتَهَا فِيهِ أَفْضَلُ .
وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، أَنَّهَا لَا يَصِحُّ اعْتِكَافُهَا فِي مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ ؛ { لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ الِاعْتِكَافَ فِي

الْمَسْجِدِ ، لَمَّا رَأَى أَبْنِيَةَ أَزْوَاجِهِ فِيهِ ، وَقَالَ : الْبِرَّ تُرِدْنَ ، } .
وَلِأَنَّ مَسْجِدَ بَيْتِهَا مَوْضِعُ فَضِيلَةِ صَلَاتِهَا ، فَكَانَ مَوْضِعَ اعْتِكَافِهَا ، كَالْمَسْجِدِ فِي حَقِّ الرَّجُلِ .
وَلَنَا ، قَوْله تَعَالَى : { وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } .
وَالْمُرَادُ بِهِ الْمَوَاضِعُ الَّتِي بُنِيَتْ لِلصَّلَاةِ فِيهَا ، وَمَوْضِعُ صَلَاتِهَا فِي بَيْتِهَا لَيْسَ بِمَسْجِدٍ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُبْنَ لِلصَّلَاةِ فِيهِ ، وَإِنْ سُمِّيَ مَسْجِدًا كَانَ مَجَازًا ، فَلَا يَثْبُتُ لَهُ أَحْكَامُ الْمَسَاجِدِ الْحَقِيقِيَّةِ ، كَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا } .
وَلِأَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَأْذَنَّهُ فِي الِاعْتِكَافِ فِي الْمَسْجِدِ ، فَأَذِنَ لَهُنَّ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَوْضِعًا لِاعْتِكَافِهِنَّ ، لَمَا أَذِنَ فِيهِ ، وَلَوْ كَانَ الِاعْتِكَافُ فِي غَيْرِهِ أَفْضَلَ لَدَلَّهُنَّ عَلَيْهِ ، وَنَبَّهَهُنَّ عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّ الِاعْتِكَافَ قُرْبَةٌ يُشْتَرَطُ لَهَا الْمَسْجِدُ فِي حَقِّ الرَّجُلِ ، فَيُشْتَرَطُ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ ، كَالطَّوَافِ ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ حُجَّةٌ لَنَا ؛ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَإِنَّمَا كَرِهَ اعْتِكَافَهُنَّ فِي تِلْكَ الْحَالِ ، حَيْثُ كَثُرَتْ أَبْنِيَتُهُنَّ ، لِمَا رَأَى مِنْ مُنَافَسَتِهِنَّ ، فَكَرِهَهُ مِنْهُنَّ ، خَشْيَةً عَلَيْهِنَّ مِنْ فَسَادِ نِيَّتِهِنَّ ، وَسُوءِ الْمَقْصِدِ بِهِ ، وَلِذَلِكَ قَالَ : ( الْبِرَّ تُرِدْنَ ، ) .
مُنْكِرًا لِذَلِكَ ، أَيْ لَمْ تَفْعَلْنَ ذَلِكَ تَبَرُّرًا ، وَلِذَلِكَ تَرَكَ الِاعْتِكَافَ ، لِظَنِّهِ أَنَّهُنَّ يَتَنَافَسْنَ فِي الْكَوْنِ مَعَهُ ، وَلَوْ كَانَ لِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرُوهُ ، لَأَمَرَهُنَّ بِالِاعْتِكَافِ فِي بُيُوتِهِنَّ ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُنَّ فِي الْمَسْجِدِ .
وَأَمَّا الصَّلَاةُ فَلَا يَصِحُّ اعْتِبَارُ الِاعْتِكَافِ بِهَا ، فَإِنَّ صَلَاةَ الرَّجُلِ فِي بَيْتِهِ أَفْضَلُ ، وَلَا يَصِحُّ اعْتِكَافُهُ فِيهِ .
( 2154 ) فَصْلٌ : وَمَنْ سَقَطَتْ عَنْهُ الْجَمَاعَةُ مِنْ الرِّجَالِ ، كَالْمَرِيضِ إذَا أَحَبَّ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي مَسْجِدٍ لَا

تُقَامُ فِيهِ الْجَمَاعَةُ ، يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ سَاقِطَةٌ عَنْهُ ، فَأَشْبَهَ الْمَرْأَةَ .
وَيَحْتَمِلُ أَلَّا يَجُوزَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَمَاعَةِ ، فَأَشْبَهَ مَنْ تَجِبْ عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّهُ إذَا الْتَزَمَ الِاعْتِكَافَ ، وَكَلَّفَهُ نَفْسَهُ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلَهُ فِي مَكَان تُصَلَّى فِيهِ الْجَمَاعَةُ .
وَلِأَنَّ مَنْ الْتَزَمَ مَا لَا يَلْزَمُهُ ، لَا يَصِحُّ بِدُونِ شُرُوطِهِ ، كَالْمُتَطَوِّعِ بِالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ .
( 2155 ) فَصْلٌ : وَإِذَا اعْتَكَفَتْ الْمَرْأَةُ فِي الْمَسْجِدِ ، اُسْتُحِبَّ لَهَا أَنْ تَسْتَتِرَ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَرَدْنَ الِاعْتِكَافَ أَمَرْنَ بِأَبْنِيَتِهِنَّ فَضُرِبْنَ فِي الْمَسْجِدِ ، وَلِأَنَّ الْمَسْجِدَ يَحْضُرُهُ الرِّجَالُ ، وَخَيْرٌ لَهُمْ وَلِلنِّسَاءِ أَنْ لَا يَرُونَهُنَّ وَلَا يَرَيْنَهُمْ .
وَإِذَا ضَرَبَتْ بِنَاءً جَعَلَتْهُ فِي مَكَان لَا يُصَلِّي فِيهِ الرِّجَالُ ، لِئَلَّا تَقْطَعَ صُفُوفَهُمْ ، وَيُضَيَّقَ عَلَيْهِمْ .
وَلَا بَأْسَ أَنْ يَسْتَتِرَ الرَّجُلُ أَيْضًا ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِبِنَائِهِ فَضُرِبَ ، وَلِأَنَّهُ أَسْتَرُ لَهُ ، وَأَخْفَى لِعَمَلِهِ .
وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ ، { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَكَفَ فِي قُبَّةٍ تُرْكِيَّةٍ ، عَلَى سُدَّتِهَا قِطْعَةُ حَصِيرٍ .
قَالَ : فَأَخَذَ الْحَصِيرَ بِيَدِهِ ، فَنَحَّاهَا فِي نَاحِيَةِ الْقِبْلَةِ ، ثُمَّ أَطْلَعَ رَأْسَهُ ، فَكَلَّمَ النَّاسَ } .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( 2156 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَلَا يَخْرُجُ مِنْهُ إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ ، أَوْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُعْتَكِفَ لَيْسَ لَهُ الْخُرُوجُ مِنْ مُعْتَكَفِهِ ، إلَّا لِمَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ ، قَالَتْ عَائِشَةُ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : السُّنَّةُ لِلْمُعْتَكِفِ أَنْ لَا يَخْرُجَ إلَّا لِمَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَقَالَتْ أَيْضًا : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا اعْتَكَفَ يُدْنِي إلَيَّ رَأْسَهُ فَأُرَجِّلُهُ ، وَكَانَ لَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ لَهُ الْخُرُوجَ لِمَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ لِلْمُعْتَكِفِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ مُعْتَكَفِهِ لِلْغَائِطِ وَالْبَوْلِ .
وَلِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ ، وَلَا يُمْكِنُ فِعْلُهُ فِي الْمَسْجِدِ ، فَلَوْ بَطَلَ الِاعْتِكَافُ بِخُرُوجِهِ إلَيْهِ ، لَمْ يَصِحَّ لَأَحَدٍ الِاعْتِكَافُ ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْتَكِفُ ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ كَانَ يَخْرُجُ لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ ، وَالْمُرَادُ بِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ الْبَوْلُ وَالْغَائِطُ ، كَنَّى بِذَلِكَ عَنْهُمَا ؛ لِأَنَّ كُلَّ إنْسَانٍ يَحْتَاجُ إلَى فِعْلِهِمَا ، وَفِي مَعْنَاهُ الْحَاجَةُ إلَى الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ ، إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْ يَأْتِيهِ بِهِ ، فَلَهُ الْخُرُوجُ إلَيْهِ إذَا احْتَاجَ إلَيْهِ ، وَإِنْ بَغَتْهُ الْقَيْء ، فَلَهُ أَنْ يَخْرُجَ لِيَتَقَيَّأ خَارِجَ الْمَسْجِدِ ، وَكُلُّ مَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ ، وَلَا يُمْكِنُ فِعْلُهُ فِي الْمَسْجِدِ ، فَلَهُ الْخُرُوجُ إلَيْهِ ، وَلَا يَفْسُدُ اعْتِكَافُهُ وَهُوَ عَلَيْهِ ، مَا لَمْ يُطِلْ .
وَكَذَلِكَ لَهُ الْخُرُوجُ إلَى مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ ، مِثْلُ مَنْ يَعْتَكِفُ فِي مَسْجِدِ لَا جُمُعَةَ فِيهِ ، فَيَحْتَاجُ إلَى خُرُوجِهِ لِيُصَلِّيَ الْجُمُعَةَ ، وَيَلْزَمُهُ السَّعْيُ إلَيْهَا ، فَلَهُ الْخُرُوجُ إلَيْهَا ، وَلَا يَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا

يَعْتَكِفُ فِي غَيْرِ الْجَامِعِ ، إذَا كَانَ اعْتِكَافُهُ يَتَخَلَّلُهُ جُمُعَةٌ .
فَإِنْ نَذَرَ اعْتِكَافًا مُتَتَابِعًا ، فَخَرَجَ مِنْهُ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ ، بَطَلَ اعْتِكَافُهُ ، وَعَلَيْهِ الِاسْتِئْنَافُ ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَهُ فَرْضُهُ بِحَيْثُ لَا يَخْرُجُ مِنْهُ ، فَبَطَلَ بِالْخُرُوجِ ، كَالْمُكَفِّرِ إذَا ابْتَدَأَ صَوْمَ الشَّهْرَيْنِ الْمُتَتَابِعَيْنِ فِي شَعْبَانَ أَوْ ذِي الْحِجَّةِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ خَرَجَ لِوَاجِبٍ ، فَلَمْ يَبْطُلْ اعْتِكَافُهُ ، كَالْمُعْتَدَّةِ تَخْرُجُ لِقَضَاءِ الْعِدَّة ، وَكَالْخَارِجِ لِإِنْقَاذِ غَرِيقٍ ، أَوْ إطْفَاءِ حَرِيقٍ ، أَوْ أَدَاءِ شَهَادَةٍ تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّهُ إذَا نَذَرَ أَيَّامًا فِيهَا جُمُعَةٌ ، فَكَأَنَّهُ اسْتَثْنَى الْجُمُعَةَ بِلَفْظِهِ .
ثُمَّ تَبْطُلُ بِمَا إذَا نَذَرَتْ الْمَرْأَةُ أَيَّامًا فِيهَا عَادَةُ حَيْضِهَا ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ مَعَ إمْكَانِ فَرْضِهَا فِي غَيْرِهَا ، وَالْأَصْلُ غَيْرُ مُسَلَّمٍ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّهُ إذَا خَرَجَ لِوَاجِبٍ ، فَهُوَ عَلَى اعْتِكَافِهِ ، مَا لَمْ يُطِلْ ؛ لِأَنَّهُ خُرُوجٌ لِمَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ ، أَشْبَهَ الْخُرُوجَ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ .
فَإِنْ كَانَ خُرُوجُهُ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ ، فَلَهُ أَنْ يَتَعَجَّلَ .
قَالَ أَحْمَدُ : أَرْجُو أَنَّ لَهُ ذَلِكَ ، لِأَنَّهُ خُرُوجٌ جَائِزٌ ، فَجَازَ تَعْجِيلُهُ ، كَالْخُرُوجِ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ .
فَإِذَا صَلَّى الْجُمُعَةَ ، فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي الْجَامِعِ ، فَلَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مَحَلٌّ لِلِاعْتِكَافِ ، وَالْمَكَانُ لَا يَتَعَيَّنُ لِلِاعْتِكَافِ بِنَذْرِهِ وَتَعْيِينِهِ ، فَمَعَ عَدَمِ ذَلِكَ أَوْلَى .
وَكَذَلِكَ إنْ دَخَلَ فِي طَرِيقِهِ مَسْجِدًا ، فَأَتَمَّ اعْتِكَافَهُ فِيهِ ، جَازَ لِذَلِكَ .
وَإِنْ أَحَبَّ الرُّجُوعَ إلَى مُعْتَكَفِهِ ، فَلَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ مُعْتَكَفِهِ ، فَكَانَ لَهُ الرُّجُوعُ إلَيْهِ ، كَمَا لَوْ خَرَجَ إلَى غَيْرِ جُمُعَةٍ .
قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : يُسْتَحَبُّ لَهُ الْإِسْرَاعُ إلَى مُعْتَكَفِهِ .
وَقَالَ أَبُو دَاوُد : قُلْت لِأَحْمَدَ يَرْكَعُ - أَعْنِي الْمُعْتَكِفَ - يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ فِي

الْمَسْجِدِ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، بِقَدْرِ مَا كَانَ يَرْكَعُ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْخِيرَةُ إلَيْهِ فِي تَعْجِيل الرُّكُوعِ وَتَأْخِيرِهِ ؛ لِأَنَّهُ فِي مَكَان يَصْلُحُ لِلِاعْتِكَافِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَوَى الِاعْتِكَافَ فِيهِ .
فَأَمَّا إنَّ خَرَجَ ابْتِدَاءً إلَى مَسْجِدٍ آخَر ، أَوْ إلَى الْجَامِعِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ ، أَوْ كَانَ الْمَسْجِدُ أَبْعَدَ مِنْ مَوْضِعِ حَاجَتِهِ فَمَضَى إلَيْهِ ، لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ خُرُوجٌ لِغَيْرِ حَاجَةٍ ، أَشْبَهَ مَا لَوْ خَرَجَ إلَى غَيْرِ الْمَسْجِدِ .
فَإِنْ كَانَ الْمَسْجِدَانِ مُتَلَاصِقَيْنِ ، يَخْرُجُ مِنْ أَحَدِهِمَا فَيَصِيرُ فِي الْآخَرِ ، فَلَهُ الِانْتِقَالُ مِنْ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ ؛ لِأَنَّهُمَا كَمَسْجِدٍ وَاحِدٍ ، يَنْتَقِلُ مِنْ إحْدَى زَاوِيَتَيْهِ إلَى الْأُخْرَى .
وَإِنْ كَانَ يَمْشِي بَيْنَهُمَا فِي غَيْرِهِمَا ، لَمْ يَجُزْ لَهُ الْخُرُوجُ وَإِنْ قَرُبَ ؛ لِأَنَّهُ خُرُوجٌ مِنْ الْمَسْجِدِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ وَاجِبَةٍ .
( 2157 ) فَصْلٌ : وَإِذَا خَرَجَ لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَعْجِلَ فِي مَشْيِهِ ، بَلْ يَمْشِي عَلَى عَادَتِهِ ، لِأَنَّ عَلَيْهِ مَشَقَّةً فِي إلْزَامِهِ غَيْرَ ذَلِكَ ، وَلَيْسَ لَهُ الْإِقَامَةُ بَعْدَ قَضَاءِ حَاجَتِهِ لِأَكْلٍ وَلَا لِغَيْرِهِ .
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ : يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَ الْيَسِيرَ فِي بَيْتِهِ ، كَاللُّقْمَةِ وَاللُّقْمَتَيْنِ ، فَأَمَّا جَمِيعُ أَكْلِهِ فَلَا .
وَقَالَ الْقَاضِي : يَتَوَجَّهُ أَنَّ لَهُ الْأَكْلَ فِي بَيْتِهِ ، وَالْخُرُوجَ إلَيْهِ ابْتِدَاءً ؛ لِأَنَّ الْأَكْلَ فِي الْمَسْجِدِ دَنَاءَةٌ وَتَرْكٌ لِلْمُرُوءَةِ ، وَقَدْ يُخْفِي جِنْسَ قُوتِهِ عَلَى النَّاسِ ، وَقَدْ يَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ غَيْرُهُ فَيَسْتَحِي أَنْ يَأْكُلَ دُونَهُ ، وَإِنْ أَطْعَمَهُ مَعَهُ لَمْ يَكْفِهِمَا .
وَلَنَا ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ ، وَهَذَا كِنَايَةٌ عَنْ الْحَدَثِ ، وَلِأَنَّهُ خُرُوجٌ لِمَا لَهُ مِنْهُ بُدٌّ ، أَوْ لُبْثٌ فِي غَيْرِ مُعْتَكَفِهِ لِمَا لَهُ مِنْهُ بُدٌّ ، فَأَبْطَلَ الِاعْتِكَافَ ،

كَمُحَادَثَةِ أَهْلِهِ ، وَمَا ذَكَرِهِ الْقَاضِي لَيْسَ بِعُذْرٍ يُبِيحُ الْإِقَامَةَ وَلَا الْخُرُوجَ ، وَلَوْ سَاغَ ذَلِكَ لَسَاغَ الْخُرُوجُ لِلنَّوْمِ وَأَشْبَاهِهِ .
( 2158 ) فَصْلٌ : وَإِنْ خَرَجَ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ ، وَبِقُرْبِ الْمَسْجِدِ سِقَايَةٌ أَقْرَبُ مِنْ مَنْزِلِهِ لَا يَحْتَشِمُ مِنْ دُخُولِهَا ، وَيُمْكِنُهُ التَّنَظُّفُ فِيهَا ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الْمُضِيُّ إلَى مَنْزِلِهِ ، لِأَنَّ لَهُ مِنْ ذَلِكَ بُدٌّ .
وَإِنْ كَانَ يَحْتَشِمُ مِنْ دُخُولِهَا ، أَوْ فِيهِ نَقِيصَةٌ عَلَيْهِ ، أَوْ مُخَالَفَةٌ لِعَادَتِهِ ، أَوْ لَا يُمْكِنُهُ التَّنَظُّفُ فِيهَا ، فَلَهُ أَنْ يَمْضِيَ إلَى مَنْزِلِهِ ؛ لِمَا عَلَيْهِ مِنْ الْمَشَقَّةِ فِي تَرْكِ الْمُرُوءَةِ .
وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ لَهُ مَنْزِلَانِ أَحَدُهُمَا أَقْرَبُ مِنْ الْآخَرِ ، يُمْكِنُهُ الْوُضُوءُ فِي الْأَقْرَبِ بِلَا ضَرَرٍ ، فَلَيْسَ لَهُ الْمُضِيُّ إلَى الْأَبْعَدِ .
وَإِنْ بَذَلَ لَهُ صَدِيقُهُ أَوْ غَيْرُهُ الْوُضُوءَ فِي مَنْزِلِهِ الْقَرِيبِ ، لَمْ يَلْزَمْهُ ؛ لِمَا عَلَيْهِ مِنْ الْمَشَقَّةِ بِتَرْكِ الْمُرُوءَةِ وَالِاحْتِشَامِ مِنْ صَاحِبِهِ .
قَالَ الْمَرُّوذِيُّ : سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ، عَنْ الِاعْتِكَافِ فِي الْمَسْجِدِ الْكَبِيرِ أَعْجَبُ إلَيْك أَوْ مَسْجِدِ الْحَيِّ ؟ قَالَ : الْمَسْجِدُ الْكَبِيرُ .
وَأَرْخَصَ لِي أَنْ أَعْتَكِفَ فِي غَيْرِهِ .
قُلْت : فَأَيْنَ تَرَى أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْجَانِبِ ، أَوْ فِي ذَاكَ الْجَانِبِ ؟ قَالَ : فِي ذَاكَ الْجَانِبِ هُوَ أَصْلَحُ مِنْ أَجْلِ السِّقَايَةِ .
قُلْت : فَمَنْ اعْتَكَفَ فِي هَذَا الْجَانِبِ تَرَى أَنْ يَخْرُجَ إلَى الشَّطِّ يَتَهَيَّأُ ؟ قَالَ : إذَا كَانَ لَهُ حَاجَةٌ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ ذَلِكَ .
قُلْت : يَتَوَضَّأُ الرَّجُلَ فِي الْمَسْجِدِ ؟ قَالَ : لَا يُعْجِبُنِي أَنْ يَتَوَضَّأَ فِي الْمَسْجِدِ .
( 2159 ) فَصْلٌ : إذَا خَرَجَ لِمَا لَهُ مِنْهُ بُدَّ ، بَطَلَ اعْتِكَافُهُ وَإِنْ قَلَّ .
وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : لَا يَفْسُدُ حَتَّى يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ ؛ لِأَنَّ الْيَسِيرَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ ، بِدَلِيلِ أَنَّ

{ صَفِيَّةَ أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزُورُهُ فِي مُعْتَكَفِهِ ، فَلَمَّا قَامَتْ لِتَنْقَلِبَ خَرَجَ مَعَهَا لِيَقْلِبَهَا } .
وَلِأَنَّ الْيَسِيرَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ تَأَنَّى فِي مَشْيِهِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ خُرُوجٌ مِنْ مُعْتَكَفِهِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ ، فَأَبْطَلَهُ ، كَمَا لَوْ أَقَامَ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ ، وَأَمَّا خُرُوجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ بُدٌّ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ لَيْلًا ، فَلَمْ يَأْمَنْ عَلَيْهَا ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِكَوْنِ اعْتِكَافِهِ تَطَوُّعًا ، لَهُ تَرْكُ جَمِيعِهِ ، فَكَانَ لَهُ تَرْكُ بَعْضِهِ ، وَلِذَلِكَ تَرَكَهُ لَمَّا أَرَادَ نِسَاؤُهُ الِاعْتِكَافَ مَعَهُ .
وَأَمَّا الْمَشْيُ فَتَخْتَلِف فِيهِ طِبَاعُ النَّاسِ ، وَعَلَيْهِ فِي تَغْيِيرِ مَشْيِهِ مَشَقَّةٌ ، وَلَا كَذَلِكَ هَاهُنَا ، فَإِنَّهُ لَا حَاجَةَ بِهِ إلَى الْخُرُوجِ .

( 2160 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَلَا يَعُودُ مَرِيضًا ، وَلَا يَشْهَدُ جِنَازَةً ، إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ ) الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي فَصْلَيْنِ ( 2161 ) : أَحَدُهُمَا ، فِي الْخُرُوجِ لِعِيَادَةِ الْمَرِيض وَشُهُودِ الْجِنَازَةِ ، مَعَ عَدَمِ الِاشْتِرَاطِ .
وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِي ذَلِكَ ، فَرُوِيَ عَنْهُ : لَيْسَ لَهُ فِعْلُهُ .
وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ ، وَعُرْوَةَ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَالزُّهْرِيِّ ، وَمَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ .
وَرَوَى عَنْهُ الْأَثْرَمُ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَكَمِ ، أَنَّ لَهُ أَنْ يَعُودَ الْمَرِيضَ ، وَيَشْهَدَ الْجِنَازَةَ ، وَيَعُودَ إلَى مُعْتَكَفِهِ .
وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَالْحَسَنُ ؛ لِمَا رَوَى عَاصِمُ بْنُ ضَمْرَةَ ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ : إذَا اعْتَكَفَ الرَّجُلُ فَلْيَشْهَدْ الْجُمُعَةَ ، وَلْيَعُدْ الْمَرِيضَ ، وَلْيَحْضُرْ الْجِنَازَةَ ، وَلْيَأْتِ أَهْلَهُ ، وَلْيَأْمُرْهُمْ بِالْحَاجَةِ وَهُوَ قَائِمٌ .
رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، وَالْأَثْرَمُ .
وَقَالَ أَحْمَدُ : عَاصِمُ بْنُ ضَمْرَةَ عِنْدِي حُجَّةٌ .
قَالَ أَحْمَدُ : يَشْهَدُ الْجِنَازَةَ ، وَيَعُودُ الْمَرِيضَ ، وَلَا يَجْلِسُ ، وَيَقْضِي الْحَاجَةَ ، وَيَعُودُ إلَى مُعْتَكَفِهِ .
وَجْهُ الْأَوَّلِ ، مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا اعْتَكَفَ لَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَعَنْهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : السُّنَّةُ عَلَى الْمُعْتَكِفِ أَنْ لَا يَعُودَ مَرِيضًا ، وَلَا يَشْهَدَ جِنَازَةً ، وَلَا يَمَسَّ امْرَأَةً ، وَلَا يُبَاشِرَهَا ، وَلَا يَخْرُجَ لِحَاجَةٍ إلَّا لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ .
وَعَنْهَا قَالَتْ { : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمُرُّ بِالْمَرِيضِ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ ، فَيَمُرُّ كَمَا هُوَ ، فَلَا يُعَرِّجُ يَسْأَلُ عَنْهُ } .
رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد .
وَلِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ ، فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الِاعْتِكَافِ الْوَاجِبِ مِنْ أَجْلِهِ ،

كَالْمَشْيِ مَعَ أَخِيهِ فِي حَاجَةٍ لِيَقْضِيَهَا لَهُ .
وَإِنْ تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ ، وَأَمْكَنَهُ فِعْلُهَا فِي الْمَسْجِدِ ، لَمْ يَجُزْ الْخُرُوجُ إلَيْهَا .
وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ ، فَلَهُ الْخُرُوجُ إلَيْهَا .
وَإِنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ دَفْنُ الْمَيِّتِ ، أَوْ تَغْسِيلُهُ ، جَازَ أَنْ يَخْرُجَ لَهُ ؛ لِأَنَّ هَذَا وَاجِبٌ مُتَعَيَّنٌ ، فَيُقَدَّمُ عَلَى الِاعْتِكَافِ ، كَصَلَاةِ الْجُمُعَةِ ، فَأَمَّا إنْ كَانَ الِاعْتِكَافُ تَطَوُّعًا ، وَأَحَبَّ الْخُرُوجَ مِنْهُ لِعِيَادَةِ مَرِيضٍ ، أَوْ شُهُودِ جِنَازَةٍ ، جَازَ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَطَوُّعٌ ، فَلَا يَتَحَتَّمُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا ، لَكِنَّ الْأَفْضَلَ الْمُقَامُ عَلَى اعْتِكَافِهِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يُعَرِّجُ عَلَى الْمَرِيضِ وَلَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِ .
فَأَمَّا إنْ خَرَجَ لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ ، فَسَأَلَ عَنْ الْمَرِيضِ فِي طَرِيقِهِ ، وَلَمْ يُعَرِّجْ ، جَازَ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ ذَلِكَ .
( 2162 ) الْفَصْلُ الثَّانِي ، إذَا اشْتَرَطَ فِعْلَ ذَلِكَ فِي اعْتِكَافِهِ ، فَلَهُ فِعْلُهُ ، وَاجِبًا كَانَ الِاعْتِكَافُ أَوْ غَيْرَ وَاجِبٍ .
وَكَذَلِكَ مَا كَانَ قُرْبَةً ، كَزِيَارَةِ أَهْلِهِ ، أَوْ رَجُلٍ صَالِحٍ أَوْ عَالِمٍ ، أَوْ شُهُودِ جِنَازَةٍ ، وَكَذَلِكَ مَا كَانَ مُبَاحًا مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ ، كَالْعَشَاءِ فِي مَنْزِلِهِ ، وَالْمَبِيتِ فِيهِ ، فَلَهُ فِعْلُهُ .
قَالَ الْأَثْرَمُ : سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ الْمُعْتَكِفِ يَشْتَرِطُ أَنْ يَأْكُلَ فِي أَهْلِهِ ؟ قَالَ : إذَا اشْتَرَطَ فَنَعَمْ .
قِيلَ لَهُ : وَتُجِيزُ الشَّرْطَ فِي الِاعْتِكَافِ ؟ قَالَ : نَعَمْ .
قُلْت لَهُ : فَيَبِيتُ فِي أَهْلِهِ ؟ فَقَالَ : إذَا كَانَ تَطَوُّعًا ، جَازَ .
وَمِمَّنْ أَجَازَ أَنْ يَشْتَرِطَ الْعَشَاءَ فِي أَهْلِهِ الْحَسَنُ ، وَالْعَلَاءُ بْنُ زِيَادٍ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَقَتَادَةُ .
وَمَنَعَ مِنْهُ أَبُو مِجْلَزٍ ، وَمَالِكٌ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ .
قَالَ مَالِكٌ : لَا يَكُونُ فِي الِاعْتِكَافِ شَرْطٌ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ يَجِبُ بِعَقْدِهِ ، فَكَانَ الشَّرْطُ

إلَيْهِ فِيهِ كَالْوُقُوفِ ، وَلِأَنَّ الِاعْتِكَافَ لَا يَخْتَصُّ بِقَدْرٍ ، فَإِذَا شَرَطَ الْخُرُوجَ فَكَأَنَّهُ نَذَرَ الْقَدْرَ الَّذِي أَقَامَهُ .
وَإِنْ قَالَ : مَتَى مَرِضْت أَوْ عَرَضَ لِي عَارِضٌ ، خَرَجْت .
جَازَ شَرْطُهُ .
( 2163 ) فَصْلٌ : وَإِنْ شَرَطَ الْوَطْءَ فِي اعْتِكَافِهِ ، أَوْ الْفُرْجَةَ ، أَوْ النُّزْهَةَ ، أَوْ الْبَيْعَ لِلتِّجَارَةِ ، أَوْ التَّكَسُّبَ بِالصِّنَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ ، لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِد } .
فَاشْتِرَاطُ ذَلِكَ اشْتِرَاطٌ لِمَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى .
وَالصِّنَاعَةُ فِي الْمَسْجِدِ مَنْهِيٌّ عَنْهَا فِي غَيْرِ الِاعْتِكَافِ ، فَفِي الِاعْتِكَافِ أَوْلَى ، وَسَائِرُ مَا ذَكَرْنَاهُ يُشْبِهُ ذَلِكَ ، وَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ ، فَإِنْ احْتَاجَ إلَيْهِ ، فَلَا يَعْتَكِفْ ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الِاعْتِكَافِ أَوْلَى مِنْ فِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ .
قَالَ أَبُو طَالِبٍ : سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ الْمُعْتَكِفِ يَعْمَلُ عَمَلُهُ مِنْ الْخَيَّاطِ وَغَيْرِهِ ؟ قَالَ : مَا يُعْجِبُنِي أَنْ يَعْمَلَ .
قُلْت : إنْ كَانَ يَحْتَاجُ ؟ قَالَ : إنْ كَانَ يَحْتَاجُ لَا يَعْتَكِفْ .
( 2164 ) فَصْلٌ : إذَا خَرَجَ لِمَا لَهُ مِنْهُ بُدٌّ عَامِدًا ، بَطَلَ اعْتِكَافُهُ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ اشْتَرَطَ .
وَإِنْ خَرَجَ نَاسِيًا ، فَقَالَ الْقَاضِي : لَا يَفْسُدُ اعْتِكَافُهُ ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ نَاسِيًا ، فَلَمْ تَفْسُدْ الْعِبَادَةُ ، كَالْأَكْلِ فِي الصَّوْمِ .
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : يَفْسُدُ ؛ لِأَنَّهُ تَرْكٌ لِلِاعْتِكَافِ ، وَهُوَ لُزُومُ لِلْمَسْجِدِ ، وَتَرْكُ الشَّيْءِ عَمْدُهُ وَسَهْوُهُ سَوَاءٌ ، كَتَرْكِ النِّيَّةِ فِي الصَّوْمِ .
فَإِنْ أَخْرَجَ بَعْضَ جَسَدِهِ ، لَمْ يَفْسُدْ اعْتِكَافُهُ ، عَمْدًا كَانَ أَوْ سَهْوًا لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَانَ يُخْرِجُ رَأْسَهُ مِنْ الْمَسْجِدِ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ إلَى عَائِشَةَ فَتَغْسِلُهُ وَهِيَ حَائِضٌ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
( 2165 ) فَصْلٌ : وَيَجُوزُ لِلْمُعْتَكِفِ صُعُودُ سَطْحِ الْمَسْجِدِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَتِهِ ، وَلِهَذَا يُمْنَعُ الْجُنُبُ مِنْ

اللُّبْثِ فِيهِ .
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ .
وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا .
وَيَجُوزُ أَنْ يَبِيتَ فِيهِ .
وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّ رَحْبَةَ الْمَسْجِدِ لَيْسَتْ مِنْهُ ، وَلَيْسَ لِلْمُعْتَكِفِ الْخُرُوجُ إلَيْهَا ، لِقَوْلِهِ فِي الْحَائِضِ : يُضْرَبُ لَهَا خِبَاءٌ فِي الرَّحْبَةِ .
وَالْحَائِضُ مَمْنُوعَةٌ مِنْ الْمَسْجِدِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا .
وَرَوَى عَنْهُ الْمَرُّوذِيُّ أَنَّ الْمُعْتَكِفَ يَخْرُج إلَى رَحْبَةِ الْمَسْجِدِ ، هِيَ مِنْ الْمَسْجِدِ .
قَالَ الْقَاضِي : إنْ كَانَ عَلَيْهَا حَائِطٌ وَبَابٌ فَهِيَ كَالْمَسْجِدِ ؛ لِأَنَّهَا مَعَهُ ، وَتَابِعَةٌ لَهُ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَحُوطَةً ، لَمْ يَثْبُتْ لَهَا حُكْمُ الْمَسْجِدِ .
فَكَأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ ، وَحَمَلَهُمَا عَلَى اخْتِلَافِ الْحَالَيْنِ .
فَإِنْ خَرَجَ إلَى مَنَارَةٍ خَارِجَ الْمَسْجِد لِلْأَذَانِ ، بَطَلَ اعْتِكَافُهُ .
قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَبْطُلَ ؛ لِأَنَّ مَنَارَةَ الْمَسْجِدِ كَالْمُتَّصِلَةِ بِهِ .

( 2166 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَمَنْ وَطِئَ فَقَدْ أَفْسَدَ اعْتِكَافَهُ ، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْوَطْءَ فِي الِاعْتِكَافِ مُحَرَّمٌ بِالْإِجْمَاعِ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا } .
فَإِنْ وَطِئَ فِي الْفَرْجِ مُتَعَمِّدًا أَفْسَدَ اعْتِكَافَهُ ، بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُمْ .
وَلِأَنَّ الْوَطْءَ إذَا حُرِّمَ فِي الْعِبَادَةِ أَفْسَدَهَا ، كَالْحَجِّ وَالصَّوْمِ .
وَإِنْ كَانَ نَاسِيًا ، فَكَذَلِكَ عِنْدَ إمَامِنَا وَأَبِي حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٍ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَفْسُدُ اعْتِكَافُهُ ؛ لِأَنَّهَا مُبَاشَرَةٌ لَا تُفْسِدُ الصَّوْمَ ، فَلَمْ تُفْسِدْ الِاعْتِكَافَ ، كَالْمُبَاشَرَةِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ .
وَلَنَا ، أَنَّ مَا حُرِّمَ فِي الِاعْتِكَافِ اسْتَوَى عَمْدُهُ وَسَهْوُهُ فِي إفْسَادِهِ ، كَالْخُرُوجِ مِنْ الْمَسْجِدِ ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا لَا تُفْسِدُ الصَّوْمَ .
وَلِأَنَّ الْمُبَاشَرَةَ دُونَ الْفَرْجِ لَا تُفْسِدُ الِاعْتِكَافَ ، إلَّا إذَا اقْتَرَنَ بِهَا الْإِنْزَالُ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَلَا كَفَّارَةَ بِالْوَطْءِ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ .
وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ .
وَقَوْلُ عَطَاءٍ ، وَالنَّخَعِيِّ ، وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ ، وَمَالِكٍ ، وَأَهْلِ الْعِرَاقِ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَأَهْلِ الشَّامِ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ .
وَنَقَلَ حَنْبَلٌ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَةً .
وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ ، وَالزُّهْرِيِّ ، وَاخْتِيَارُ الْقَاضِي ؛ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ يُفْسِدُهَا الْوَطْءُ لِعَيْنِهِ ، فَوَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ بِالْوَطْءِ فِيهَا ، كَالْحَجِّ وَصَوْمِ رَمَضَانَ .
وَلَنَا ، أَنَّهَا عِبَادَةٌ لَا تَجِبُ بِأَصْلِ الشَّرْعِ ، فَلَمْ تَجِبْ بِإِفْسَادِهَا كَفَّارَةٌ ، كَالنَّوَافِلِ ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ لَا يَدْخُلُ الْمَالُ فِي جُبْرَانِهَا ، فَلَمْ تَجِبْ الْكَفَّارَةُ بِإِفْسَادِهَا ، كَالصَّلَاةِ ، وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالشَّرْعِ ، وَلَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِإِيجَابِهَا

، فَتَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ .
وَمَا ذَكَرُوهُ يَنْتَقِضُ بِالصَّلَاةِ وَصَوْمِ غَيْرِ رَمَضَانَ .
وَالْقِيَاسُ عَلَى الْحَجِّ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ مُبَايِنٌ لِسَائِرِ الْعِبَادَاتِ ، وَلِهَذَا يَمْضِي فِي فَاسِدِهِ ، وَيَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ فِيهِ ، وَيَجِبُ بِالْوَطْءِ فِيهِ بَدَنَةٌ ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ .
وَلِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ هَاهُنَا بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ ، لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ بَدَنَةً ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي الْفَرْعِ يَثْبُتُ عَلَى صِفَةِ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ ، إذْ كَانَ الْقِيَاسُ إنَّمَا هُوَ تَوْسِعَةُ مَجْرَى الْحُكْمِ فَيَصِيرُ النَّصُّ الْوَارِدُ فِي الْأَصْلِ وَارِدًا فِي الْفَرْعِ ، فَيَثْبُتُ فِيهِ الْحُكْمُ الثَّابِتُ فِي الْأَصْلِ بِعَيْنِهِ .
وَأَمَّا الْقِيَاسُ عَلَى الصَّوْمِ ، فَهُوَ دَالٌّ عَلَى نَفْيِ الْكَفَّارَةِ ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ كُلَّهُ لَا يَجِبُ بِالْوَطْءِ فِيهِ كَفَّارَةٌ سِوَى رَمَضَانَ ، وَالِاعْتِكَافُ أَشْبَهُ بِغَيْرِ رَمَضَانَ ؛ لِأَنَّهُ نَافِلَةٌ لَا يَجِبُ إلَّا بِالنَّذْرِ ، ثُمَّ لَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى رَمَضَانَ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ فِيهِ إنَّمَا أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ لِحُرْمَةِ الزَّمَانِ ، وَلِذَلِكَ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مِنْ لَزِمَهُ الْإِمْسَاكُ ، وَإِنْ لَمْ يُفْسِدْ بِهِ صَوْمًا .
وَاخْتَلَفَ مُوجِبُو الْكَفَّارَةِ فِيهَا ، فَقَالَ الْقَاضِي : يَجِبُ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ .
وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ ، وَالزُّهْرِيِّ ، وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ ، فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ ؛ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ أَصَابَ فِي اعْتِكَافِهِ ، فَهُوَ كَهَيْئَةِ الْمَظَاهِرِ .
ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : إذَا كَانَ نَهَارًا وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إنَّمَا أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ فِي رَمَضَانَ ؛ لِأَنَّهُ اعْتَبَرَ ذَلِكَ فِي النَّهَارِ لِأَجْلِ الصَّوْمِ ، وَلَوْ كَانَ لِمُجَرَّدِ الِاعْتِكَافِ لَمَا اخْتَصَّ الْوُجُوبُ بِالنَّهَارِ ، كَمَا لَمْ يَخْتَصَّ الْفَسَادُ بِهِ .
وَحُكِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَةَ يَمِينٍ .
وَلَمْ أَرَ هَذَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ فِي كِتَابِ (

الشَّافِي ) ، وَلَعَلَّ أَبَا بَكْرٍ إنَّمَا أَوْجَبَ عَلَيْهِ كَفَّارَةً فِي مَوْضِعٍ تَضَمَّنَ الْإِفْسَادُ الْإِخْلَالَ بِالنَّذْرِ ، فَوَجَبَتْ لِمُخَالَفَتِهِ نَذْرَهُ ، وَهِيَ كَفَّارَةُ يَمِينٍ فَأَمَّا فِي غَيْرِ ذَلِكَ فَلَا ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا تَجِبُ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ ، وَلَيْسَ هَاهُنَا نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ وَلَا قِيَاسٌ ، فَإِنَّ نَظِيرَ الِاعْتِكَافِ الصَّوْمُ ، وَلَا يَجِبُ بِإِفْسَادِهِ كَفَّارَةٌ إذَا كَانَ تَطَوُّعًا وَلَا مَنْذُورًا ، مَا لَمْ يَتَضَمَّنْ الْإِخْلَالَ بِنَذْرِهِ ؛ فَيَجِبُ بِهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ، كَذَلِكَ هَذَا .
( 2167 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُبَاشَرَةُ دُونَ الْفَرْجِ ، فَإِنْ كَانَتْ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ ، فَلَا بَأْسَ بِهَا ، مِثْلُ أَنْ تَغْسِلَ رَأْسَهُ ، أَوْ تُفَلِّيَهُ ، أَوْ تُنَاوِلَهُ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُدْنِي رَأْسَهُ إلَى عَائِشَةَ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ فَتُرَجِّلُهُ .
وَإِنْ كَانَتْ عَنْ شَهْوَةٍ ، فَهِيَ مُحَرَّمَةٌ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } .
وَلِقَوْلِ عَائِشَةَ : السُّنَّةُ لِلْمُعْتَكِفِ أَنْ لَا يَعُودَ مَرِيضًا ، وَلَا يَشْهَدَ جِنَازَةً ، وَلَا يَمَسَّ امْرَأَةً ، وَلَا يُبَاشِرَهَا .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَلِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ إفْضَاءَهَا إلَى إفْسَادِ الِاعْتِكَافِ ، وَمَا أَفْضَى إلَى الْحَرَامِ كَانَ حَرَامًا .
فَإِنْ فَعَلَ ، فَأَنْزَلَ ، فَسَدَ اعْتِكَافُهُ ، وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ ، لَمْ يَفْسُدْ .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ ، فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ .
وَقَالَ فِي الْآخَرِ : يَفْسُدُ فِي الْحَالَيْنِ .
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ؛ لِأَنَّهَا مُبَاشَرَةٌ مُحَرَّمَةٌ ، فَأَفْسَدَتْ الِاعْتِكَافَ ، كَمَا لَوْ أَنْزَلَ .
وَلَنَا ، أَنَّهَا مُبَاشَرَةٌ لَا تُفْسِدُ صَوْمًا وَلَا حَجًّا ، فَلَمْ تُفْسِدْ الِاعْتِكَافَ ، كَالْمُبَاشَرَةِ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ .
وَفَارَقَ الَّتِي أَنْزَلَ بِهَا ؛ لِأَنَّهَا تُفْسِدُ الصَّوْمَ ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ ، إلَّا عَلَى رِوَايَةِ حَنْبَلٍ .
( 2168 ) فَصْلٌ : وَإِنْ ارْتَدَّ ، فَسَدَ اعْتِكَافُهُ ،

لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { لَئِنْ أَشْرَكْت لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُك } .
وَلِأَنَّهُ خَرَجَ بِالرِّدَّةِ عَنْ كَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ الِاعْتِكَافِ ، وَإِنْ شَرِبَ مَا أَسْكَرَهُ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ ، لِخُرُوجِهِ عَنْ كَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ الْمَسْجِدِ .
( 2169 ) فَصْلٌ : وَكُلَّ مَوْضِعٍ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ ، فَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا ، فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ التَّطَوُّعَ لَا يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ فِيهِ فِي غَيْرِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ .
وَإِنْ كَانَ نَذْرًا نَظَرْنَا ، فَإِنْ كَانَ نَذَرَ أَيَّامًا مُتَتَابِعَةً ، فَسَدَ مَا مَضَى مِنْ اعْتِكَافِهِ ، وَاسْتَأْنَفَ ؛ لِأَنَّ التَّتَابُعَ وَصْفٌ فِي الِاعْتِكَافِ ، وَقَدْ أَمْكَنَهُ الْوَفَاءُ بِهِ ، فَلَزِمَهُ ، وَإِنْ كَانَ نَذَرَ أَيَّامًا مُعَيَّنَةً ، كَالْعَشَرَةِ الْأَوَاخِرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا ، يَبْطُلُ مَا مَضَى ، وَيَسْتَأْنِفُهُ ؛ لِأَنَّهُ نَذَرَ اعْتِكَافًا مُتَتَابِعًا ، فَبَطَلَ بِالْخُرُوجِ مِنْهُ ، كَمَا لَوْ قَيَّدَهُ بِالتَّتَابُعِ بِلَفْظِهِ .
وَالثَّانِي ، لَا يَبْطُلُ ؛ لِأَنَّ مَا مَضَى مِنْهُ قَدْ أَدَّى الْعِبَادَةَ فِيهِ أَدَاءً صَحِيحًا ، فَلَمْ يَبْطُلْ بِتَرْكِهَا فِي غَيْرِهِ ، كَمَا لَوْ أَفْطَرَ فِي أَثْنَاءِ شَهْرِ رَمَضَانَ ، وَالتَّتَابُعُ هَاهُنَا حَصَلَ ضَرُورَةَ التَّعْيِينِ ، وَالتَّعْيِينُ مُصَرَّحٌ بِهِ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ الْإِخْلَالِ بِأَحَدِهِمَا فَفِيمَا حَصَلَ ضَرُورَةً أَوْلَى ، وَلِأَنَّ وُجُوبَ التَّتَابُعِ مِنْ حَيْثُ الْوَقْتُ ، لَا مِنْ حَيْثُ النَّذْرُ ، فَالْخُرُوجُ فِي بَعْضِهِ لَا يُبْطِلُ مَا مَضَى مِنْهُ ، كَصَوْمِ رَمَضَانَ إذَا أَفْطَرَ فِيهِ ، فَعَلَى هَذَا يَقْضِي مَا أَفْسَدَ فِيهِ حَسْبُ .
وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّهُ تَارِكٌ لِبَعْضِ مَا نَذَرَهُ .
وَأَصْلُ الْوَجْهَيْنِ فِي مَنْ نَذَرَ صَوْمًا مُعَيَّنًا ، فَأَفْطَرَ فِي بَعْضِهِ ، فَإِنَّ فِيهِ رِوَايَتَيْنِ ، كَالْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا .
فَصْلٌ : إذَا نَذَرَ اعْتِكَافَ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَةٍ بِصَوْمٍ ، فَأَفْطَرَ يَوْمًا ، أَفْسَدَ تَتَابُعَهُ ، وَوَجَبَ اسْتِئْنَافُ الِاعْتِكَافِ ، لِإِخْلَالِهِ

بِالْإِتْيَانِ بِمَا نَذَرَهُ عَلَى صِفَتِهِ .

( 2171 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَإِذَا وَقَعَتْ فِتْنَةٌ خَافَ مِنْهَا تَرَكَ اعْتِكَافَهُ ، فَإِذَا أَمِنَ بَنِي عَلَى مَا مَضَى ، إذَا كَانَ نَذَرَ أَيَّامًا مَعْلُومَةً ، وَقَضَى مَا تَرَكَ ، وَكَفَّرَ كَفَّارَةَ يَمِينٍ ، وَكَذَلِكَ فِي النَّفِيرِ إذَا اُحْتِيجَ إلَيْهِ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا وَقَعَتْ فِتْنَةٌ خَافَ مِنْهَا عَلَى نَفْسِهِ إنْ قَعَدَ فِي الْمَسْجِدِ ، أَوْ عَلَى مَالِهِ نَهْبًا أَوْ حَرِيقًا ، فَلَهُ تَرْكُ الِاعْتِكَافِ وَالْخُرُوجُ ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى لِأَجْلِهِ تَرْكَ الْوَاجِبِ بِأَصْلِ الشَّرْعِ ، وَهُوَ الْجُمُعَةُ وَالْجَمَاعَةُ ، فَأَوْلَى أَنْ يُبَاحَ لِأَجْلِهِ تَرْكُ مَا أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ ، وَكَذَلِكَ إنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْمُقَامُ فِي الْمَسْجِدِ ؛ لِمَرَضٍ لَا يُمْكِنُهُ الْمُقَامُ مَعَهُ فِيهِ ، كَالْقِيَامِ الْمُتَدَارَكِ ، أَوْ سَلَسِ الْبَوْلِ ، أَوْ الْإِغْمَاءِ ، أَوْ لَا يُمْكِنُهُ الْمُقَامُ إلَّا بِمَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ ، مِثْلُ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى خِدْمَةٍ وَفِرَاشٍ ، فَلَهُ الْخُرُوجُ .
وَإِنْ كَانَ الْمَرَضُ خَفِيفًا ، كَالصُّدَاعِ ، وَوَجَعِ الضِّرْسِ ، وَنَحْوِهِ ، فَلَيْسَ لَهُ الْخُرُوجُ .
فَإِنْ خَرَجَ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ .
وَلَهُ الْخُرُوجُ إلَى مَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ مِنْ الْوَاجِبِ ، مِثْلُ الْخُرُوجِ فِي النَّفِيرِ إذَا عَمَّ ، أَوْ حَضَرَ عَدُوٌّ يَخَافُونَ كَلْبَهُ ، وَاحْتِيجَ إلَى خُرُوجِ الْمُعْتَكِفِ ، لَزِمَهُ الْخُرُوجُ ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ مُتَعَيَّنٌ ، فَلَزِمَ الْخُرُوجُ إلَيْهِ ، كَالْخُرُوجِ إلَى الْجُمُعَةِ .
وَإِذَا خَرَجَ ثُمَّ زَالَ عُذْرُهُ ، نَظَرْنَا ، فَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا فَهُوَ مُخَيَّرٌ ، إنْ شَاءَ رَجَعَ إلَى مُعْتَكَفِهِ ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَرْجِعْ ، وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا رَجَعَ إلَى مُعْتَكَفِهِ ، فَبَنَى عَلَى مَا مَضَى مِنْ اعْتِكَافِهِ .
ثُمَّ لَا يَخْلُو النَّذْرُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا ، أَنْ يَكُونَ نَذَرَ اعْتِكَافًا فِي أَيَّامٍ غَيْرِ مُتَتَابِعَةٍ وَلَا مُعَيَّنَةٍ ، فَهَذَا لَا يَلْزَمُهُ قَضَاءٌ ، بَلْ يُتِمُّ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ ، لَكِنَّهُ يَبْتَدِئُ الْيَوْمَ الَّذِي خَرَجَ فِيهِ مِنْ أَوَّلِهِ ، لِيَكُونَ

مُتَتَابِعًا ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا نَذَرَ عَلَى وَجْهِهِ ، فَلَا يَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ كَمَا لَوْ لَمْ يَخْرُجْ .
الثَّانِي ، نَذَرَ أَيَّامًا مُعَيَّنَةً ، كَشَهْرِ رَمَضَانَ ، فَعَلَيْهِ قَضَاءُ مَا تَرَكَ ، وَكَفَّارَةُ يَمِينٍ ، بِمَنْزِلَةِ تَرْكِهِ الْمَنْذُورَ فِي وَقْتِهِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ كَفَّارَةٌ ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ .
الثَّالِثُ ، نَذَرَ أَيَّامًا مُتَتَابِعَةً ، فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْبِنَاءِ وَالْقَضَاءِ وَالتَّكْفِيرِ ، وَبَيْنَ الِابْتِدَاءِ ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ يَأْتِي بِالْمَنْذُورِ عَلَى وَجْهِهِ ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ كَفَّارَةٌ ، كَمَا لَوْ أَتَى بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْبِقَهُ الِاعْتِكَافُ الَّذِي قَطَعَهُ .
وَذَكَرَ الْخِرَقِيِّ مِثْلَ هَذَا فِي الصِّيَامِ ، فَقَالَ : وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ شَهْرًا مُتَتَابِعًا ، وَلَمْ يُسَمِّهِ ؛ فَمَرِضَ فِي بَعْضِهِ ، فَإِذَا عُوفِيَ بَنَى عَلَى مَا مَضَى مِنْ صِيَامِهِ ، وَقَضَى مَا تَرَكَ ، وَكَفَّرَ كَفَّارَةَ يَمِينٍ ، وَإِنْ أَحَبَّ أَتَى بِشَهْرٍ مُتَتَابِعٍ ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ فِي مَنْ تَرَكَ الصِّيَامَ الْمَنْذُورَ لِعُذْرٍ : فَعَنْ أَحْمَدَ فِيهِ ، رِوَايَةٌ أُخْرَى ، أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ .
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَبِي عُبَيْدٍ ؛ لِأَنَّ الْمَنْذُورَ كَالْمَشْرُوعِ ابْتِدَاءً ، وَلَوْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ لِعُذْرٍ ، لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ ، فَكَذَلِكَ الْمَنْذُورُ .
وَقَالَ الْقَاضِي : إنْ خَرَجَ لِوَاجِبِ ، كَالْجِهَادِ تَعَيَّنَ ، أَوْ أَدَاءِ شَهَادَةٍ وَاجِبَةٍ ، فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ خُرُوجٌ وَاجِبٌ لِحَقِّ اللَّه تَعَالَى ، فَلَمْ يَجِبْ بِهِ شَيْءٌ ، كَالْمَرْأَةِ تَخْرُجُ لِحَيْضِهَا أَوْ نِفَاسِهَا .
وَحَمَلَ كَلَامَ الْخِرَقِيِّ عَلَى أَنَّهُ يَبْنِي عَلَى مَا مَضَى ، دُونَ إيجَابِ الْكَفَّارَةِ .
وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ ، أَنَّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ ؛ لِأَنَّ النَّذْرَ كَالْيَمِينِ ، وَمَنْ حَلَفَ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ ، فَحِنْثَ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ ، سَوَاءٌ كَانَ لِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِهِ ،

وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْمُخَالَفَةُ وَاجِبَةً أَوْ لَمْ تَكُنْ ، وَيُفَارِقُ صَوْمَ رَمَضَانَ ، فَإِنَّ الْإِخْلَالَ بِهِ وَالْفِطْرَ فِيهِ لِغَيْرِ عُذْرٍ لَا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ ، وَيُفَارِقُ الْحَيْضَ ، فَإِنَّهُ يَتَكَرَّرُ ، وَيُظَنُّ وُجُودُهُ فِي زَمَنِ النَّذْرِ ، فَيَصِيرُ كَالْخُرُوجِ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ ، وَكَالْمُسْتَثْنَى بِلَفْظِهِ .

( 2172 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَالْمُعْتَكِفُ لَا يَتَّجِرُ ، وَلَا يَتَكَسَّبُ بِالصَّنْعَةِ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْمُعْتَكِفَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبِيعَ وَلَا يَشْتَرِيَ ، إلَّا مَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ .
قَالَ حَنْبَلٌ : سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ : الْمُعْتَكِفُ لَا يَبِيعُ وَلَا يَشْتَرِي إلَّا مَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ ، طَعَامٌ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ ، فَأَمَّا التِّجَارَةُ ، وَالْأَخْذُ وَالْعَطَاءُ ، فَلَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا بَأْسَ أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ ، وَيَخِيطَ ، وَيَتَحَدَّثَ ، مَا لَمْ يَكُنْ مَأْثَمًا .
وَلَنَا ، مَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِي الْمَسْجِدِ } .
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ .
وَرَأَى عِمْرَانُ الْقَصِيرُ رَجُلًا يَبِيعُ فِي الْمَسْجِدِ ، فَقَالَ : يَا هَذَا ، إنَّ هَذَا سُوقُ الْآخِرَةِ ، فَإِنْ أَرَدْت الْبَيْعَ فَاخْرُجْ إلَى سُوقِ الدُّنْيَا .
وَإِذَا مُنِعَ مِنْ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِي غَيْرِ حَالِ الِاعْتِكَافِ ، فَفِيهِ أَوْلَى .
فَأَمَّا الصَّنْعَةُ ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مِنْهَا مَا يَكْتَسِبُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ التِّجَارَةِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ .
وَيَجُوزُ مَا يَعْمَلُهُ لِنَفْسِهِ ، كَخِيَاطَةِ قَمِيصِهِ وَنَحْوِهِ .
وَقَدْ رَوَى الْمَرُّوذِيُّ قَالَ : سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ، عَنْ الْمُعْتَكِفِ ، تَرَى لَهُ أَنْ يَخِيطَ ؟ قَالَ : لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ إذَا كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَ .
وَقَالَ الْقَاضِي : لَا تَجُوزُ الْخَيَّاطَةُ فِي الْمَسْجِدِ ، سَوَاءٌ كَانَ مُحْتَاجًا إلَيْهَا أَوْ لَمْ يَكُنْ ، قَلَّ أَوْ كَثُرَ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعِيشَةٌ أَوْ تَشَغُّلٌ عَنْ الِاعْتِكَافِ ، فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ فِيهِ .
وَالْأَوْلَى أَنْ يُبَاحَ لَهُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ ، إذَا كَانَ يَسِيرًا ، مِثْلَ أَنْ يَنْشَقَّ قَمِيصُهُ فَيَخِيطَهُ ، أَوْ يَنْحَلَّ شَيْءٌ يَحْتَاجُ إلَى رَبْطٍ فَيَرْبِطَهُ ؛ لِأَنَّ هَذَا يَسِيرٌ تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَيْهِ ،

فَجَرَى مَجْرَى لُبْسِ قَمِيصِهِ وَعِمَامَتِهِ وَخَلْعِهِمَا .
( 2173 ) فَصْلٌ : يُسْتَحَبُّ لِلْمُعْتَكِفِ التَّشَاغُلُ بِالصَّلَاةِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ ، وَذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الطَّاعَاتِ الْمَحْضَةِ ، وَيَجْتَنِبُ مَا لَا يَعْنِيهِ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ ، وَلَا يُكْثِرُ الْكَلَامَ ؛ لِأَنَّ مِنْ كَثُرَ كَلَامُهُ كَثُرَ سَقَطَهُ .
وَفِي الْحَدِيثِ { : مِنْ حُسْنِ إسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ } .
وَيَجْتَنِبُ الْجِدَالَ وَالْمِرَاءَ ، وَالسِّبَابَ وَالْفُحْشَ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ فِي غَيْرِ الِاعْتِكَافِ ، فَفِيهِ أَوْلَى .
وَلَا يَبْطُلُ الِاعْتِكَافُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَبْطُلْ بِمُبَاحِ الْكَلَامِ لَمْ يَبْطُلْ بِمَحْظُورِهِ ، وَعَكْسُهُ الْوَطْءُ .
وَلَا بَأْسَ بِالْكَلَامِ لِحَاجَتِهِ ، وَمُحَادَثَةِ غَيْرِهِ ، فَإِنَّ صَفِيَّةَ زَوْجَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعْتَكِفًا ، فَأَتَيْتُهُ أَزُورُهُ لَيْلًا ، فَحَدَّثْته ، ثُمَّ قُمْت ، فَانْقَلَبْت ، فَقَامَ مَعِي لِيَقْلِبَنِي - وَكَانَ مَسْكَنُهَا فِي دَارِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ - فَمَرَّ رَجُلَانِ مِنْ الْأَنْصَارِ ، فَلَمَّا رَأَيَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْرَعَا ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : عَلَى رِسْلِكُمَا ، إنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيِّ .
فَقَالَا : سُبْحَانَ اللَّه يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَقَالَ : إنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ الْإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ ، وَإِنِّي خَشِيت أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَرًّا .
أَوْ قَالَ : شَيْئًا } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَيُّمَا رَجُلٍ اعْتَكَفَ ، فَلَا يُسَابَّ ، وَلَا يَرْفُثْ فِي الْحَدِيثِ ، وَيَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالْحَاجَةِ - أَيْ وَهُوَ يَمْشِي - وَلَا يَجْلِسْ عِنْدَهُمْ .
رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ .
( 2174 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا إقْرَاءُ الْقُرْآنِ ، وَتَدْرِيسُ الْعِلْمِ وَدَرْسُهُ ، وَمُنَاظَرَةُ الْفُقَهَاءِ وَمُجَالَسَتُهُمْ ، وَكِتَابَةُ الْحَدِيثِ ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَدَّى

نَفْعُهُ ، فَأَكْثَرُ أَصْحَابِنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ .
وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ .
وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْآمِدِيُّ : فِي اسْتِحْبَابِ ذَلِكَ رِوَايَتَانِ .
وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ ، إذَا قَصَدَ بِهِ طَاعَةَ اللَّهِ تَعَالَى ، لَا الْمُبَاهَاةَ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ ، وَنَفْعُهُ يَتَعَدَّى ، فَكَانَ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهِ كَالصَّلَاةِ .
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْتَكِفُ ، فَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ الِاشْتِغَالُ بِغَيْرِ الْعِبَادَاتِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِ ، وَلِأَنَّ الِاعْتِكَافَ عِبَادَةٌ مِنْ شَرْطِهَا الْمَسْجِدُ ، فَلَمْ يُسْتَحَبَّ فِيهَا ذَلِكَ ، كَالطَّوَافِ ، وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِعِيَادَةِ الْمَرْضَى ، وَشُهُودِ الْجِنَازَةِ ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فِعْلُهُ لِهَذِهِ الْأَفْعَالِ أَفْضَلُ مِنْ الِاعْتِكَافِ .
قَالَ الْمَرُّوذِيُّ : قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : إنَّ رَجُلًا يُقْرِئُ فِي الْمَسْجِدِ ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَعْتَكِفَ ، وَلَعَلَّهُ أَنْ يَخْتِمَ فِي كُلِّ يَوْمٍ ؟ فَقَالَ : إذَا فَعَلَ هَذَا كَانَ لِنَفْسِهِ ، وَإِذَا قَعَدَ فِي الْمَسْجِدِ كَانَ لَهُ وَلِغَيْرِهِ ، يُقْرِئُ أَحَبُّ إلَيَّ .
وَسُئِلَ : أَيُّمَا أَحَبُّ إلَيْك ؛ الِاعْتِكَافُ ، أَوْ الْخُرُوجُ إلَى عَبَّادَانِ ؟ قَالَ : لَيْسَ يَعْدِلُ الْجِهَادَ عِنْدِي شَيْءٌ .
يَعْنِي أَنَّ الْخُرُوجَ إلَى عَبَّادَانِ أَفْضَلُ مِنْ الِاعْتِكَافِ .
( 2175 ) فَصْلٌ : وَلَيْسَ مِنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ الصَّمْتُ عَنْ الْكَلَامِ ، وَظَاهِرُ الْأَخْبَارِ تَحْرِيمُهُ .
قَالَ قَيْسُ بْنُ مُسْلِمٍ : دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى امْرَأَةٍ مِنْ أَحْمَسَ ، يُقَالُ لَهَا زَيْنَبُ ، فَرَآهَا لَا تَتَكَلَّمُ ، فَقَالَ : مَا لَهَا لَا تَتَكَلَّمُ ؟ قَالُوا : حَجَّتْ مُصْمِتَةً .
فَقَالَ لَهَا : تَكَلَّمِي ، فَإِنَّ هَذَا لَا يَحِلُّ ، هَذَا مِنْ عَمَلِ الْجَاهِلِيَّةِ .
فَتَكَلَّمَتْ .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَلِيٍّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : حَفِظْت عَنْ رَسُولِ اللَّهِ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا صُمَاتَ يَوْمٍ إلَى اللَّيْلِ } .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { نَهَى عَنْ صَوْمِ الصَّمْتِ } .
فَإِنْ نَذَرَ ذَلِكَ فِي اعْتِكَافِهِ أَوْ غَيْرِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْوَفَاءُ بِهِ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ ، قَالَ : { بَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ ، إذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَائِمٍ ، فَسَأَلَ عَنْهُ ؟ فَقَالُوا : أَبُو إسْرَائِيلَ ، نَذَرَ أَنْ يَقُومَ فِي الشَّمْسِ وَلَا يَقْعُدَ ، وَلَا يَسْتَظِلَّ وَلَا يَتَكَلَّمَ ، وَيَصُومَ .
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مُرُوهُ فَلْيَتَكَلَّمْ ، وَلْيَسْتَظِلَّ ، وَلْيَقْعُدْ ، وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ .
} رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَلِأَنَّهُ نَذْرُ فِعْلٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ ، كَنَذْرِ الْمُبَاشَرَةِ فِي الْمَسْجِدِ .
وَإِنْ أَرَادَ فِعْلَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ ، سَوَاءٌ نَذَرَهُ أَوْ لَمْ يَنْذُرْهُ .
وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ : لَهُ فِعْلُهُ إذَا كَانَ أَسْلَمَ .
وَلَنَا ، النَّهْيُ عَنْهُ ، وَظَاهِرُهُ التَّحْرِيمُ ، وَالْأَمْرُ بِالْكَلَامِ ، وَمُقْتَضَاهُ الْوُجُوبُ ، وَقَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إنَّ هَذَا لَا يَحِلُّ ، هَذَا مِنْ عَمَلِ الْجَاهِلِيَّةِ .
وَهَذَا صَرِيحٌ ، وَلَمْ يُخَالِفْهُ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ فِيمَا عَلِمْنَاهُ ، وَاتِّبَاعُ ذَلِكَ أَوْلَى .
فَصْلٌ : وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ الْقُرْآنَ بَدَلًا مِنْ الْكَلَامِ ؛ لِأَنَّهُ اسْتِعْمَالٌ لَهُ فِي غَيْرِ مَا هُوَ لَهُ ، فَأَشْبَهَ اسْتِعْمَالَ الْمُصْحَفِ فِي التَّوَسُّدِ وَنَحْوِهِ ، وَقَدْ جَاءَ : لَا تُنَاظِرُوا بِكِتَابِ اللَّهِ .
قِيلَ : مَعْنَاهُ لَا تَتَكَلَّمْ بِهِ عِنْدَ الشَّيْءِ تَرَاهُ ، كَأَنْ تَرَى رَجُلًا قَدْ جَاءَ فِي وَقْتِهِ ، فَتَقُولُ : ثُمَّ جِئْت عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى .
أَوْ نَحْوَهُ .
ذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ نَحْوَ هَذَا الْمَعْنَى .

( 2177 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَلَا بَأْسَ أَنْ يَتَزَوَّجَ فِي الْمَسْجِدِ ، وَيَشْهَدَ النِّكَاحَ ) وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ، لِأَنَّ الِاعْتِكَافَ عِبَادَةٌ لَا تُحَرِّمُ الطَّيِّبَ ، فَلَمْ تُحَرِّمْ النِّكَاحَ كَالصَّوْمِ ، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ طَاعَةٌ ، وَحُضُورُهُ قُرْبَةٌ ، وَمُدَّتُهُ لَا تَتَطَاوَلُ ، فَيَتَشَاغَلُ بِهِ عَنْ الِاعْتِكَافِ ، فَلَمْ يُكْرَهْ فِيهِ ، كَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ ، وَرَدِّ السَّلَامِ .

( 2178 ) فَصْلٌ : وَلَا بَأْسَ أَنْ يَتَنَظَّفَ بِأَنْوَاعِ التَّنَظُّفِ ؛ { لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُرَجِّلُ رَأْسَهُ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ .
وَلَهُ أَنْ يَتَطَيَّبَ ، وَيَلْبَسَ الرَّفِيعَ مِنْ الثِّيَابِ } ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُسْتَحَبٍّ .
قَالَ أَحْمَدُ : لَا يُعْجِبُنِي أَنْ يَتَطَيَّبَ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الِاعْتِكَافَ عِبَادَةٌ تَخْتَصُّ مَكَانًا ، فَكَانَ تَرْكُ الطِّيبِ فِيهَا مَشْرُوعًا كَالْحَجِّ .
وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُحَرَّمٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُحَرِّمُ اللِّبَاسَ وَلَا النِّكَاحَ ، فَأَشْبَهَ الصَّوْمَ .

( 2179 ) فَصْلٌ : وَلَا بَأْسَ أَنْ يَأْكُلَ الْمُعْتَكِفُ فِي الْمَسْجِدِ ، وَيَضَعَ سُفْرَةً ، يَسْقُطُ عَلَيْهَا مَا يَقَعُ مِنْهُ ، كَيْ لَا يُلَوِّثَ الْمَسْجِدَ ، وَيَغْسِلَ يَدَهُ فِي الطَّسْتِ ، لِيُفَرَّغَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَخْرُجَ لِغَسْلِ يَدِهِ ؛ لِأَنَّ لَهُ مِنْ ذَلِكَ بُدًّا .
وَهَلْ يُكْرَهُ تَجْدِيدُ الطَّهَارَةِ فِي الْمَسْجِدِ ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا ، لَا يُكْرَهُ ؛ لِأَنَّ أَبَا الْعَالِيَةِ قَالَ : حَدَّثَنِي مَنْ كَانَ يَخْدُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَمَّا مَا حَفِظْت لَكُمْ مِنْهُ { ، أَنَّهُ كَانَ يَتَوَضَّأُ فِي الْمَسْجِدِ .
} وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ ، أَنَّهُ قَالَ : { كَانَ يَتَوَضَّأُ فِي الْمَسْجِد الْحَرَامِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ } .
وَعَنْ ابْنِ سِيرِينَ ، قَالَ : كَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ ، وَالْخُلَفَاءُ يَتَوَضَّئُونَ فِي الْمَسْجِدِ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَعَطَاءٍ ، وَطَاوُسٍ ، وَابْنِ جُرَيْجٍ .
وَالْأُخْرَى ، يُكْرَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْلَمُ مِنْ أَنْ يَبْصُقَ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ يَتَمَخَّطَ ، وَالْبُصَاقُ فِي الْمَسْجِدِ خَطِيئَةٌ ، وَيَبُلُّ مِنْ الْمَسْجِدِ مَكَانًا يَمْنَعُ الْمُصَلِّينَ مِنْ الصَّلَاةِ فِيهِ .
وَإِنْ خَرَجَ عَنْ الْمَسْجِدِ لِلْوُضُوءِ ، وَكَانَ تَجْدِيدًا ، بَطَلَ لِأَنَّهُ خُرُوجٌ لِمَا لَهُ مِنْهُ بُدٌّ ، وَإِنْ كَانَ وُضُوءًا مِنْ حَدَثٍ ، لَمْ يَبْطُلْ ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَيْهِ ، سَوَاءٌ كَانَ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ أَوْ قَبْلَهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْوُضُوءِ لِلْمُحْدِثِ ، وَإِنَّمَا يَتَقَدَّمُ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ لِمَصْلَحَةٍ ، وَهُوَ كَوْنُهُ عَلَى وُضُوءٍ ، وَرُبَّمَا يَحْتَاجُ إلَى صَلَاةِ النَّافِلَةِ بِهِ .

( 2180 ) فَصْلٌ : إذَا أَرَادَ أَنْ يَبُولَ فِي الْمَسْجِدِ فِي طَسْتٍ ، لَمْ يُبَحْ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا ، وَهُوَ مِمَّا يَقْبُحُ وَيَفْحُشُ وَيُسْتَخْفَى بِهِ ، فَوَجَبَ صِيَانَةُ الْمَسْجِدِ عَنْهُ ، كَمَا لَوْ أَرَادَ أَنْ يَبُولَ فِي أَرْضِهِ ثُمَّ يَغْسِلَهُ ، وَإِنْ أَرَادَ الْفَصْدَ أَوْ الْحِجَامَةَ فِيهِ ، فَكَذَلِكَ .
ذَكَرَهُ الْقَاضِي ؛ لِأَنَّهُ إرَاقَةُ نَجَاسَةٍ فِي الْمَسْجِدِ ، فَأَشْبَهَ الْبَوْلَ فِيهِ .
وَإِنْ دَعَتْ إلَيْهِ حَاجَةٌ كَبِيرَةٌ ، خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ فَفَعَلَهُ ، وَإِنْ اسْتَغْنَى عَنْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْخُرُوجُ إلَيْهِ ، كَالْمَرَضِ الَّذِي يُمْكِنُ احْتِمَالُهُ وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : يَحْتَمِلُ أَنْ يَجُوزَ الْفَصْدُ فِي الْمَسْجِدِ فِي طَسْتٍ ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُسْتَحَاضَةَ يَجُوزُ لَهَا الِاعْتِكَافُ ، وَيَكُونُ تَحْتَهَا شَيْءٌ يَقَعُ فِيهِ الدَّمُ ، قَالَتْ عَائِشَةُ : { اعْتَكَفَتْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةٌ مِنْ أَزْوَاجِهِ مُسْتَحَاضَةٌ ، فَكَانَتْ تَرَى الْحُمْرَةَ وَالصُّفْرَةَ ، وَرُبَّمَا وَضَعَتْ الطَّسْتَ تَحْتَهَا وَهِيَ تُصَلِّي } .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُسْتَحَاضَةَ لَا يُمْكِنُهَا التَّحَرُّزُ مِنْ ذَلِكَ ، إلَّا بِتَرْكِ الِاعْتِكَافِ بِخِلَافِ الْفَصْدِ .

( 2181 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَهِيَ مُعْتَكِفَةٌ تَخْرُجُ لِقَضَاءِ الْعِدَّةِ ، وَتَفْعَلُ كَمَا فَعَلَ الَّذِي خَرَجَ لِفِتْنَةٍ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْمُعْتَكِفَةَ إذَا تُوُفِّيَ زَوْجُهَا لَزِمَهَا الْخُرُوجُ لِقَضَاءِ الْعِدَّةِ ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ رَبِيعَةُ ، وَمَالِكٌ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ : تَمْضِي فِي اعْتِكَافِهَا ، حَتَّى تَفْرُغَ مِنْهُ ، ثُمَّ تَرْجِعُ إلَى بَيْتِ زَوْجِهَا فَتَعْتَدُّ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الِاعْتِكَافَ الْمَنْذُورَ وَاجِبٌ ، وَالِاعْتِدَادُ فِي الْبَيْتِ وَاجِبٌ ، فَقَدْ تَعَارَضَ وَاجِبَانِ فَيُقَدَّمُ أَسْبَقُهُمَا .
وَلَنَا ، أَنَّ الِاعْتِدَادَ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَاجِبٌ ، فَلَزِمَهَا الْخُرُوجُ إلَيْهِ ، كَالْجُمُعَةِ فِي حَقِّ الرَّجُلِ .
وَدَلِيلُهُمْ يَنْتَقِضُ بِالْخُرُوجِ إلَى الْجُمُعَةِ وَسَائِرِ الْوَاجِبَات ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهَا كَاَلَّذِي خَرَجَ لِفِتْنَةٍ ، وَأَنَّهَا تَبْنِي وَتَقْضِي وَتُكَفِّرُ .
وَقَالَ الْقَاضِي : لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّ خُرُوجَهَا وَاجِبٌ .
وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِيهِ .
( 2182 ) فَصْلٌ : وَلَيْسَ لِلزَّوْجَةِ أَنْ تَعْتَكِفَ إلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا ، وَلَا لِلْمَمْلُوكِ أَنْ يَعْتَكِفَ إلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَهُمَا مَمْلُوكَةٌ لِغَيْرِهِمَا ، وَالِاعْتِكَافُ يُفَوِّتُهَا ، وَيَمْنَعُ اسْتِيفَاءَهَا ، وَلَيْسَ بِوَاجِبِ عَلَيْهِمَا بِالشَّرْعِ ، فَكَانَ لَهُمَا الْمَنْعُ مِنْهُ .
وَأُمُّ الْوَلَد وَالْمُدَبَّرُ كَالْقِنِّ فِي هَذَا ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ بَاقٍ فِيهِمَا ، فَإِنْ أَذِنَ السَّيِّدُ وَالزَّوْجُ لَهُمَا ، ثُمَّ أَرَادَ إخْرَاجَهُمَا مِنْهُ بَعْدَ شُرُوعِهِمَا فِيهِ ، فَلَهُمَا ذَلِكَ فِي التَّطَوُّعِ .
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْعَبْدِ كَقَوْلِنَا ، وَفِي الزَّوْجَةِ : لَيْسَ لِزَوْجِهَا إخْرَاجُهَا ؛ لِأَنَّهَا تَمْلِكُ بِالتَّمْلِيكِ ، فَالْإِذْنُ أَسْقَطَ حَقَّهُ مِنْ مَنَافِعِهَا ، وَأَذِنَ لَهَا فِي اسْتِيفَائِهَا ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا ، كَمَا لَوْ أَذِنَ لَهَا فِي الْحَجِّ فَأَحْرَمَتْ بِهِ ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ ؛ فَإِنَّهُ

لَا يَمْلِكُ بِالتَّمْلِيكِ .
وَقَالَ مَالِكٌ : لَيْسَ لَهُ تَحْلِيلُهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا عَقَدَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا تَمْلِيكَ مَنَافِعَ كَانَا يَمْلِكَانِهَا لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ، فَلَمْ يَجُزْ الرُّجُوعُ فِيهَا ، كَمَا لَوْ أَحْرَمَا بِالْحَجِّ بِإِذْنِهِمَا .
وَلَنَا ، أَنَّ لَهُمَا الْمَنْعَ مِنْهُ ابْتِدَاءً ، فَكَانَ لَهُمَا الْمَنْعُ مِنْهُ دَوَامًا ، كَالْعَارِيَّةِ ، وَيُخَالِفُ الْحَجَّ ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ فِيهِ ، بِخِلَافِ الِاعْتِكَافِ عَلَى مَا مَضَى مِنْ الْخِلَافِ فِيهِ ، فَإِنْ كَانَ مَا أُذِنَا فِيهِ مَنْذُورًا ، لَمْ يَكُنْ لَهُمَا تَحْلِيلُهُمَا مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَيَّنُ بِالشُّرُوعِ فِيهِ ، وَيَجِبُ إتْمَامُهُ ، فَيَصِيرُ كَالْحَجِّ إذَا أَحْرَمَا بِهِ .
فَأَمَّا إنْ نَذَرَا الِاعْتِكَافَ ، فَأَرَادَ السَّيِّدُ وَالزَّوْجُ مَنْعَهُمَا الدُّخُولَ فِيهِ نَظَرْت ، فَإِنْ كَانَ النَّذْرُ بِإِذْنِهِمَا ، وَكَانَ مُعَيَّنًا ، لَمْ يَمْلِكَا مَنْعَهُمَا مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ بِإِذْنِهِمَا ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إذْنِهِمَا ، فَلَهُمَا مَنْعُهُمَا مِنْهُ ؛ لِأَنَّ نَذْرَهُمَا تَضَمَّنَ تَفْوِيتَ حَقِّ غَيْرِهِمَا بِغَيْرِ إذْنِهِ ، فَكَانَ لِصَاحِبِ الْحَقِّ الْمَنْعُ مِنْهُ .
وَإِنْ كَانَ النَّذْرُ الْمَأْذُونُ فِيهِ غَيْرَ مُعَيَّنٍ ، فَهَلْ لَهُمَا مَنْعُهُمَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا ، لَهُمَا مَنْعُهُمَا ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمَا ثَابِتٌ فِي كُلِّ زَمَنٍ ، فَكَانَ تَعْيِينُ زَمَنِ سُقُوطِهِ إلَيْهِمَا كَالدَّيْنِ .
وَالثَّانِي ، لَيْسَ لَهُمَا ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ الْتِزَامُهُ بِإِذْنِهِمَا ، فَأَشْبَهَ الْمُعَيَّنَ .
وَأَمَّا الْمُعْتَقُ بَعْضُهُ ، فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَيِّدِهِ مُهَايَأَةٌ ، فَلَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي يَوْمِهِ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَهُ غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ لِسَيِّدِهِ فِي هَذَا الْيَوْمِ ، وَحُكْمُهُ فِي يَوْمِ سَيِّدِهِ حُكْمُ الْقِنَّ .
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا مُهَايَأَةٌ ، فَلِسَيِّدِهِ مَنْعَهُ ؛ لِأَنَّ لَهُ مِلْكًا فِي مَنَافِعِهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ .
( 2183 ) فَصْلٌ : وَأَمَّا الْمُكَاتَبُ ، فَلَيْسَ لِسَيِّدِهِ مَنْعُهُ مِنْ وَاجِبٍ وَلَا تَطَوُّعٍ ؛

لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ مَنَافِعَهُ ، وَلَيْسَ لَهُ إجْبَارُهُ عَلَى الْكَسْبِ ، وَإِنَّمَا لَهُ دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهِ ، فَهُوَ كَالْحُرِّ الْمَدِينِ .

( 2184 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَإِذَا حَاضَتْ الْمَرْأَةُ ، خَرَجَتْ مِنْ الْمَسْجِدِ ، وَضَرَبَتْ خِبَاءً فِي الرَّحْبَةِ ) أَمَّا خُرُوجُهَا مِنْ الْمَسْجِدِ ، فَلَا خِلَافَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْحَيْضَ حَدَثٌ يَمْنَعُ اللُّبْثَ فِي الْمَسْجِدِ ، فَهُوَ كَالْجَنَابَةِ ، وَآكَدُ مِنْهُ ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا أُحِلُّ الْمَسْجِدَ لِحَائِضٍ ، وَلَا جُنُبٍ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ الْمَسْجِدَ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَحْبَةٌ ، رَجَعَتْ إلَى بَيْتِهَا ، فَإِذَا طَهُرَتْ رَجَعَتْ فَأَتَمَّتْ اعْتِكَافَهَا ، وَقَضَتْ مَا فَاتَهَا ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهَا .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ؛ لِأَنَّهُ خُرُوجٌ مُعْتَادٌ وَاجِبٌ ، أَشْبَهَ الْخُرُوجَ لِلْجُمُعَةِ ، أَوْ لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ .
وَإِنْ كَانَتْ لَهُ رَحْبَةٌ خَارِجَةٌ مِنْ الْمَسْجِدِ ، يُمْكِنُ أَنْ تَضْرِبَ فِيهَا خِبَاءَهَا ، فَقَالَ الْخِرَقِيِّ : تَضْرِبُ خِبَاءَهَا فِيهَا مُدَّةَ حَيْضِهَا .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي قِلَابَةَ .
وَقَالَ النَّخَعِيُّ : تَضْرِبُ فُسْطَاطَهَا فِي دَارِهَا ، فَإِذَا طَهُرَتْ قَضَتْ تِلْكَ الْأَيَّامَ ، وَإِنْ دَخَلَتْ بَيْتًا أَوْ سَقْفًا اسْتَأْنَفَتْ .
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ ، وَرَبِيعَةُ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ : تَرْجِعُ إلَى مَنْزِلِهَا ، فَإِذَا طَهُرَتْ فَلْتَرْجِعْ ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهَا الْخُرُوجُ مِنْ الْمَسْجِدِ ، فَلَمْ يَلْزَمْهَا الْإِقَامَةُ فِي رَحْبَتِهِ ، كَالْخَارِجَةِ لِعِدَّةٍ ، أَوْ خَوْفِ فِتْنَةٍ .
وَوَجْهُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ مَا رَوَى الْمِقْدَامُ بْنُ شُرَيْحٍ ، عَنْ عَائِشَةَ ، قَالَتْ : { كُنَّ الْمُعْتَكِفَاتُ إذَا حِضْنَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِخْرَاجِهِنَّ مِنْ الْمَسْجِدِ ، وَأَنْ يَضْرِبْنَ الْأَخْبِيَةَ فِي رَحْبَةِ الْمَسْجِدِ ، حَتَّى يَطْهُرْنَ } .
رَوَاهُ أَبُو حَفْصٍ بِإِسْنَادِهِ .
وَفَارَقَ الْمُعْتَدَّةَ ، فَإِنَّ خُرُوجَهَا لِتُقِيمَ فِي بَيْتِهَا وَتَعْتَدَّ فِيهِ ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ مَعَ الْكَوْنِ فِي الرَّحْبَةِ ، وَكَذَلِكَ الْخَائِفَةُ مِنْ الْفِتْنَةِ خُرُوجُهَا لِتَسْلَم مِنْ الْفِتْنَةِ

، فَلَا تُقِيمُ فِي مَوْضِعٍ لَا تَحْصُلُ السَّلَامَةُ بِالْإِقَامَةِ فِيهِ .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ إقَامَتَهَا فِي الرَّحْبَةِ مُسْتَحَبٌّ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ .
وَإِنْ لَمْ تُقِمْ فِي الرَّحْبَةِ ، وَرَجَعَتْ إلَى مَنْزِلِهَا أَوْ غَيْرِهِ ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّهَا خَرَجَتْ بِإِذْنِ الشَّرْعِ .
وَمَتَى طَهُرَتْ رَجَعَتْ إلَى الْمَسْجِدِ ، فَقَضَتْ وَبَنَتْ ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهَا .
لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا ؛ لِأَنَّهُ خُرُوجٌ لِعُذْرٍ مُعْتَادٍ ، أَشْبَهَ الْخُرُوجَ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ ، وَقَوْلُ إبْرَاهِيمَ تَحَكُّمٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ .
( 2185 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا الِاسْتِحَاضَةُ فَلَا تَمْنَعُ الِاعْتِكَافَ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَمْنَعُ الصَّلَاةَ وَلَا الطَّوَافَ ، وَقَدْ قَالَتْ عَائِشَةُ { : اعْتَكَفَتْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةٌ مِنْ أَزْوَاجِهِ مُسْتَحَاضَةٌ ، فَكَانَتْ تَرَى الْحُمْرَةَ وَالصُّفْرَةَ ، وَرُبَّمَا وَضَعْنَا الطَّسْتَ تَحْتَهَا وَهِيَ تُصَلِّي } .
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهَا تَتَحَفَّظُ وَتَتَلَجَّمُ ، لِئَلَّا تُلَوِّثَ الْمَسْجِدَ ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ صِيَانَتُهُ مِنْهَا خَرَجَتْ مِنْ الْمَسْجِدِ ؛ لِأَنَّهُ عُذْرٌ وَخُرُوجٌ لِحِفْظِ الْمَسْجِدِ مِنْ نَجَاسَتِهَا ، فَأَشْبَهَ الْخُرُوجَ لِقَضَاءِ حَاجَةِ الْإِنْسَانِ .
( 2186 ) فَصْلٌ : الْخُرُوجُ الْمُبَاحُ فِي الِاعْتِكَافِ الْوَاجِبِ يَنْقَسِمُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ أَحَدُهَا ، مَا لَا يُوجِبُ قَضَاءً وَلَا كَفَّارَةً ، وَهُوَ الْخُرُوجُ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ ، وَشِبْهُهُ مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ .
وَالثَّانِي : مَا يُوجِبُ قَضَاءً بِلَا كَفَّارَةٍ ، وَهُوَ الْخُرُوجُ لِلْحَيْضِ .
وَالثَّالِثُ ، مَا يُوجِبُ قَضَاءً وَكَفَّارَةً ، وَهُوَ الْخُرُوجُ لِفِتْنَةٍ ، وَشِبْهُهُ مِمَّا يَخْرُجُ لِحَاجَةِ نَفْسِهِ .
وَالرَّابِعُ ، مَا يُوجِبُ قَضَاءً وَفِي الْكَفَّارَةِ وَجْهَانِ ، وَهُوَ الْخُرُوجُ لَوَاجِبٍ ، كَالْخُرُوجِ فِي النَّفِيرِ ، أَوْ الْعِدَّةِ .
فَفِي قَوْلِ الْقَاضِي ، لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ، أَشْبَهَ الْخُرُوجَ لِلْحَيْضِ .
وَظَاهِرُ كَلَامِ

الْخِرَقِيِّ وُجُوبُهَا ؛ لِأَنَّهُ خُرُوجٌ غَيْرَ مُعْتَادٍ ، فَأَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ كَالْخُرُوجِ لِفِتْنَةٍ .

( 2187 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ شَهْرًا بِعَيْنِهِ ، دَخَلَ الْمَسْجِدَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ ) وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ .
وَحَكَى ابْنُ أَبِي مُوسَى عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةً أُخْرَى ، أَنَّهُ يَدْخُلُ مُعْتَكَفَهُ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ أَوَّلِهِ .
وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ ، وَزُفَرَ { لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ صَلَّى الصُّبْحَ ، ثُمَّ دَخَلَ مُعْتَكَفَهُ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } .
وَلَا يَلْزَمُ الصَّوْمُ إلَّا مِنْ قَبْلِ طُلُوعِ الْفَجْرِ .
وَلِأَنَّ الصَّوْمَ شَرْطٌ فِي الِاعْتِكَافِ ، فَلَمْ يَجُزْ ابْتِدَاؤُهُ قَبْلَ شَرْطِهِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ نَذَرَ الشَّهْرَ ، وَأَوَّلُهُ غُرُوبُ الشَّمْسِ ، وَلِهَذَا تَحِلُّ الدُّيُونُ الْمُعَلَّقَةُ بِهِ ، وَيَقَعُ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ الْمُعَلَّقَانِ بِهِ ، وَوَجَبَ أَنْ يَدْخُلَ قَبْلَ الْغُرُوبِ لِيَسْتَوْفِيَ جَمِيعَ الشَّهْرِ ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِذَلِكَ ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ ، كَإِمْسَاكِ جُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ مَعَ النَّهَارِ فِي الصَّوْمِ ، وَأَمَّا الصَّوْمُ فَإِنَّ مَحَلَّهُ النَّهَارُ ، فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ اللَّيْلِ فِي أَثْنَائِهِ وَلَا ابْتِدَائِهِ ، إلَّا مَا حَصَلَ ضَرُورَةً ، بِخِلَافِ الِاعْتِكَافِ .
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : لَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ الْفُقَهَاءِ قَالَ بِهِ .
عَلَى أَنَّ الْخَبَرَ إنَّمَا هُوَ فِي التَّطَوُّعِ ، فَمَتَى شَاءَ دَخَلَ ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا نَذَرَ شَهْرًا ، فَيَلْزَمُهُ اعْتِكَافُ شَهْرٍ كَامِلٍ ، وَلَا يَحْصُلُ إلَّا أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ أَوَّلِهِ ، وَيَخْرُجَ بَعْدَ غُرُوبِهَا مِنْ آخِرِهِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَذَرَ اعْتِكَافَ يَوْمٍ ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الدُّخُولُ فِيهِ قَبْلَ طُلُوعِ فَجْرِهِ ، وَيَخْرُجُ بَعْدَ غُرُوبِ شَمْسِهِ .
( 2188 ) فَصْلٌ : وَإِنْ أَحَبَّ اعْتِكَافَ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ تَطَوُّعًا ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ :

إحْدَاهُمَا ، يَدْخُلُ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ لَيْلَةِ إحْدَى وَعِشْرِينَ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ { ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ مِنْ رَمَضَانَ ، حَتَّى إذَا كَانَ لَيْلَةَ إحْدَى وَعِشْرِينَ ، وَهِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي يَخْرُجُ فِي صَبِيحَتِهَا مِنْ اعْتِكَافِهِ ، قَالَ : مَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعِي ، فَلْيَعْتَكِفْ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَلِأَنَّ الْعَشْرَ بِغَيْرِ هَاءٍ عَدَدُ اللَّيَالِي ، فَإِنَّهَا عَدَدُ الْمُؤَنَّثِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَيَالٍ عَشْرٍ } .
وَأَوَّلُ اللَّيَالِي الْعَشْرِ لَيْلَةُ إحْدَى وَعِشْرِينَ .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ ، يَدْخُلُ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ .
قَالَ حَنْبَلٌ ، قَالَ أَحْمَدُ : أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَدْخُلَ قَبْلَ اللَّيْلِ ، وَلَكِنْ حَدِيثُ عَائِشَةَ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي الْفَجْرَ ، ثُمَّ يَدْخُلُ مُعْتَكَفَهُ } .
وَبِهَذَا قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ .
وَوَجْهُهُ مَا رَوَتْ عَمْرَةُ ، عَنْ عَائِشَةَ { ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا صَلَّى الصُّبْحَ دَخَلَ مُعْتَكَفَهُ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَإِنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ الْعَشْرِ ، فَفِي وَقْتِ دُخُولِهِ الرِّوَايَتَانِ جَمِيعًا .
( 2189 ) فَصْلٌ : وَمَنْ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ ، اُسْتُحِبَّ أَنْ يَبِيتَ لَيْلَةَ الْعِيدِ فِي مُعْتَكَفِهِ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
وَرُوِيَ عَنْ النَّخَعِيِّ ، وَأَبِي مِجْلَزٍ ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، وَالْمُطَّلِبِ بْنِ حَنْطَبٍ ، وَأَبِي قِلَابَةَ ، أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ ذَلِكَ .
وَرَوَى الْأَثْرَمُ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَيُّوبَ ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ ، أَنَّهُ كَانَ يَبِيتُ فِي الْمَسْجِدِ لَيْلَةَ الْفِطْرِ ، ثُمَّ يَغْدُو كَمَا هُوَ إلَى الْعِيدِ ، وَكَانَ - يَعْنِي فِي اعْتِكَافِهِ - لَا يُلْقَى لَهُ حَصِيرٌ وَلَا مُصَلًّى يَجْلِسُ عَلَيْهِ ، كَانَ يَجْلِسُ كَأَنَّهُ بَعْضُ الْقَوْمِ .
قَالَ : فَأَتَيْته فِي يَوْمِ الْفِطْرِ ، فَإِذَا فِي حِجْرِهِ جُوَيْرِيَةٌ

مُزَيَّنَةٌ مَا ظَنَنْتهَا إلَّا بَعْضَ بَنَاتِهِ ، فَإِذَا هِيَ أَمَةٌ لَهُ ، فَأَعْتَقَهَا ، وَغَدَا كَمَا هُوَ إلَى الْعِيدِ .
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ : كَانُوا يُحِبُّونَ لِمَنْ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ ، أَنْ يَبِيتَ لَيْلَةَ الْفِطْرِ فِي الْمَسْجِدِ ، ثُمَّ يَغْدُوَ إلَى الْمُصَلَّى مِنْ الْمَسْجِدِ .
( 2190 ) فَصْلٌ : وَإِذَا نَذَرَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ ، لَزِمَهُ شَهْرٌ بِالْأَهِلَّةِ ، أَوْ ثَلَاثُونَ يَوْمًا .
وَهَلْ يَلْزَمُهُ .
التَّتَابُعُ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ؛ بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي نَذْرِ الصَّوْمِ .
أَحَدُهُمَا ، لَا يَلْزَمُهُ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ مَعْنًى يَصِحُّ فِيهِ التَّفْرِيقُ ، فَلَا يَجِبُ فِيهِ التَّتَابُعُ بِمُطْلَقِ النَّذْرِ ، كَالصِّيَامِ .
وَالثَّانِي ، يَلْزَمُهُ التَّتَابُعُ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ .
وَقَالَ الْقَاضِي : يَلْزَمُهُ التَّتَابُعُ قَوْلًا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّهُ مَعْنًى يَحْصُلُ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ، فَإِذَا أَطْلَقَهُ اقْتَضَى التَّتَابُعَ ، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ زَيْدًا شَهْرًا ، وَكَمُدَّةِ الْإِيلَاءِ وَالْعُنَّةِ وَالْعِدَّةِ .
وَبِهَذَا فَارَقَ الصِّيَامَ ، فَإِنْ أَتَى بِشَهْرٍ بَيْنَ هِلَالَيْنِ ، أَجْزَأْهُ ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ نَاقِصًا .
وَإِنْ اعْتَكَفَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا مِنْ شَهْرَيْنِ ، جَازَ ، وَتَدْخُلُ فِيهِ اللَّيَالِي ؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ عِبَارَةٌ عَنْهُمَا ، وَلَا يُجْزِئُهُ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ .
وَإِنْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ أَيَّامَ هَذَا الشَّهْرِ ، أَوْ لَيَالِيَ هَذَا الشَّهْرِ .
لَزِمَهُ مَا نَذَرَ ، وَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِ غَيْرُهُ .
وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ : شَهْرًا فِي النَّهَارِ ، أَوْ فِي اللَّيْلِ .
( 2191 ) فَصْلٌ : وَإِنْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا .
فَعَلَى قَوْلِ الْقَاضِي ، يَلْزَمُهُ التَّتَابُعُ .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : لَا يَلْزَمُهُ ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَقْتَضِي مَا تَنَاوَلَهُ ، وَالْأَيَّامُ الْمُطْلَقَةُ تُوجَدُ بِدُونِ التَّتَابُعِ ، فَلَا يَلْزَمُهُ ، كَمَا لَوْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا .
فَعَلَى قَوْلِ الْقَاضِي

: يَدْخُلُ فِيهِ اللَّيَالِي الدَّاخِلَةُ فِي الْأَيَّامِ الْمَنْذُورَةِ ، كَمَا لَوْ نَذَرَ شَهْرًا .
وَمَنْ لَمْ يُوجِبْ التَّتَابُعَ لَا يَقْتَضِي أَنْ تَدْخُلَ اللَّيَالِي فِيهِ ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ .
فَإِنْ نَوَى التَّتَابُعَ ، أَوْ شَرَطَهُ ، لَزِمَهُ ، وَدَخَلَ اللَّيْلُ فِيهِ ، وَيَلْزَمُهُ مَا بَيْنَ الْأَيَّامِ مِنْ اللَّيَالِي .
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَلْزَمُهُ مِنْ اللَّيَالِي بِعَدَدِ الْأَيَّامِ ، إذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الْجَمْعِ وَالتَّثْنِيَةِ ، يَدْخُلُ فِيهِ مِثْلُهُ مِنْ اللَّيَالِي ، وَاللَّيَالِي تَدْخُلُ مَعَهَا الْأَيَّامُ ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى : { آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا } .
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : { ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إلَّا رَمْزًا } .
وَلَنَا ، أَنَّ الْيَوْمَ اسْمٌ لِبَيَاضِ النَّهَارِ ، وَالتَّثْنِيَةُ وَالْجَمْعُ تَكْرَارٌ لِلْوَاحِدِ ، وَإِنَّمَا تَدْخُلَ اللَّيَالِي تَبَعًا لِوُجُوبِ التَّتَابُعِ ضِمْنًا ، وَهَذَا يَحْصُلُ بِمَا بَيْنَ الْأَيَّامِ خَاصَّةً ، فَاكْتُفِيَ بِهِ .
وَأَمَّا الْآيَةُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَّ عَلَى اللَّيْلِ فِي مَوْضِعٍ وَالنَّهَارِ فِي مَوْضِعٍ ، فَصَارَ مَنْصُوصًا عَلَيْهِمَا .
فَإِنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ يَوْمَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ، لَزِمَهُ يَوْمَانِ وَلَيْلَةٌ بَيْنَهُمَا .
وَإِنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ يَوْمَيْنِ مُطْلَقًا ، فَعَلَى قَوْلِ الْقَاضِي ، هُوَ كَمَا لَوْ نَذَرَهُمَا مُتَتَابِعَيْنِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ نَذَرَ لَيْلَتَيْنِ ، لَزِمَهُ الْيَوْمُ الَّذِي بَيْنَهُمَا ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْخَطَّابِ لَا يَلْزَمُهُ التَّتَابُعُ ، وَلَا مَا بَيْنَهُمَا ، إلَّا بِلَفْظِهِ أَوْ نِيَّتِهِ .
( 2192 ) فَصْلٌ : وَإِنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ يَوْمٍ ، لَمْ يَجُزْ تَفْرِيقُهُ ، وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَدْخُلُ مُعْتَكَفَهُ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ ، وَيَخْرُجَ مِنْهُ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ .
وَقَالَ مَالِكٌ : يَدْخُلُ مُعْتَكَفَهُ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ لَيْلَةِ ذَلِكَ الْيَوْمِ ، كَقَوْلِنَا فِي الشَّهْرِ ؛ لِأَنَّ اللَّيْلَ يَتْبَعُ النَّهَارَ ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ كَانَ مُتَتَابِعًا .
وَلَنَا ، أَنَّ اللَّيْلَةَ

لَيْسَتْ مِنْ الْيَوْمِ ، وَهِيَ مِنْ الشَّهْرِ .
قَالَ الْخَلِيلُ : الْيَوْمُ اسْمٌ لِمَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَغُرُوبِ الشَّمْسِ .
وَإِنَّمَا دَخَلَ اللَّيْلُ فِي الْمُتَتَابِعِ ضِمْنًا ، وَلِهَذَا خَصَّصْنَاهُ بِمَا بَيْنَ الْأَيَّامِ .
وَإِنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ لَيْلَةٍ ، لَزِمَهُ دُخُولُ مُعْتَكَفِهِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ ، وَيَخْرُجُ مِنْهُ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ ، وَلَيْسَ لَهُ تَفْرِيقُ الِاعْتِكَافِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَهُ تَفْرِيقُهُ .
هَذَا ظَاهِرُ كَلَامِهِ ، قِيَاسًا عَلَى تَفْرِيقِ الشَّهْرِ .
وَلَنَا ، أَنَّ إطْلَاقَ الْيَوْمِ يُفْهَمُ مِنْهُ التَّتَابُعُ ، فَيَلْزَمُهُ ، كَمَا لَوْ قَالَ : مُتَتَابِعًا .
وَفَارَقَ الشَّهْرَ ، فَإِنَّهُ اسْمٌ لِمَا بَيْنَ الْهِلَالَيْنِ ، وَاسْمٌ لِثَلَاثِينَ يَوْمًا ، وَاسْمٌ لِغَيْرِ ذَلِكَ ، وَالْيَوْمُ لَا يَقَعُ فِي الظَّاهِرِ إلَّا عَلَى مَا ذَكَرْنَا .
وَإِنْ قَالَ فِي وَسَطِ النَّهَارِ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ يَوْمًا مِنْ وَقْتِي هَذَا .
لَزِمَهُ الِاعْتِكَافُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ إلَى مِثْلِهِ ، وَيَدْخُلُ فِيهِ اللَّيْلُ ؛ لِأَنَّهُ فِي خِلَالِ نَذْرِهِ ، فَصَارَ كَمَا لَوْ نَذَرَ يَوْمَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ، وَإِنَّمَا لَزِمَهُ بَعْضُ يَوْمَيْنِ لِتَعْيِينِهِ ذَلِكَ بِنَذْرِهِ ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ أَرَادَ ذَلِكَ ، وَلَمْ يُرِدْ يَوْمًا صَحِيحًا .
( 2193 ) فَصْلٌ : وَإِنْ نَذَرَ اعْتِكَافًا مُطْلَقًا ، لَزِمَهُ مَا يُسَمَّى بِهِ مُعْتَكِفًا ، وَلَوْ سَاعَةً مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ ، إلَّا عَلَى قَوْلِنَا بِوُجُوبِ الصَّوْمِ فِي الِاعْتِكَافِ ، فَيَلْزَمُهُ يَوْمٌ كَامِلٌ ، فَأَمَّا اللَّحْظَةُ ، وَمَا لَا يُسَمَّى بِهِ مُعْتَكِفًا ، فَلَا يُجْزِئُهُ ، عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ جَمِيعًا .
( 2194 ) فَصْلٌ : وَلَا يَتَعَيَّنُ شَيْءٌ مِنْ الْمَسَاجِدِ بِنَذْرِهِ الِاعْتِكَافَ فِيهِ ، إلَّا الْمَسَاجِدَ الثَّلَاثَةَ ، وَهِيَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ ، وَمَسْجِدُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالْمَسْجِدُ الْأَقْصَى ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ : الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، ،

وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ، وَمَسْجِدِي هَذَا } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَلَوْ تَعَيَّنَ غَيْرُهَا بِتَعْيِينِهِ ، لَزِمَهُ الْمُضِيُّ إلَيْهِ ، وَاحْتَاجَ إلَى شَدِّ الرِّحَال لِقَضَاءِ نَذْرِهِ فِيهِ ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُعَيِّنْ لِعِبَادَتِهِ مَكَانًا ، فَلَمْ يَتَعَيَّنْ بِتَعْيِينِ غَيْرِهِ .
وَإِنَّمَا تَعَيَّنَتْ هَذِهِ الْمَسَاجِدُ الثَّلَاثَةُ لِلْخَبَرِ الْوَارِدِ فِيهَا ، وَلِأَنَّ الْعِبَادَةَ فِيهَا أَفْضَلُ ، فَإِذَا عَيَّنَ مَا فِيهِ فَضِيلَةٌ ، لَزِمَتْهُ ، كَأَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي صَحِيحِ قَوْلَيْهِ .
وَقَالَ فِي الْآخَرِ : لَا يَتَعَيَّنُ الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ ، إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى التَّسْوِيَةِ ، فِيمَا عَدَا هَذَيْنِ الْمَسْجِدَيْنِ .
لِأَنَّ الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى لَوْ فُضِّلَتْ الصَّلَاةُ فِيهِ عَلَى غَيْرِهِ لَلَزِمَ أَحَدُ أَمْرَيْنِ ؛ إمَّا خُرُوجُهُ مِنْ عُمُومِ هَذَا الْحَدِيثِ ، وَإِمَّا كَوْنُ فَضِيلَتِهِ بِأَلْفٍ مُخْتَصًّا بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى .
وَلَنَا ، أَنَّهُ مِنْ الْمَسَاجِدِ الَّتِي تُشَدُّ الرِّحَال إلَيْهَا ، فَتَعَيَّنَ بِالتَّعْيِينِ فِي النَّذْرِ ، كَمَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا ذَكَرُوهُ لَا يَلْزَمُ ، فَإِنَّهُ إذَا فُضِّلَ الْفَاضِلُ بِأَلْفٍ ، فَقَدْ فُضِّلَ الْمَفْضُولُ بِهَا أَيْضًا .
( 2195 ) فَصْلٌ : وَإِنْ نَذَرَ الِاعْتِكَافَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الِاعْتِكَافُ فِيمَا سِوَاهُ ؛ لِأَنَّهُ أَفْضَلُهَا ، وَلِأَنَّ عُمَرَ { نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، فَسَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَالَ : أَوْفِ بِنَذْرِك } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَإِنْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، جَازَ لَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ؛ لِأَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْهُ ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي

الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ؛ لِأَنَّ مَسْجِدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ مِنْهُ .
وَقَالَ قَوْمٌ : مَسْجِدُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا دُفِنَ فِي خَيْرِ الْبِقَاعِ ، وَقَدْ نَقَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِينَةِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا أَفْضَلُ .
وَلَنَا ، قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ ، إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامِ } .
وَرُوِيَ فِي خَبَرٍ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : صَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ } .
رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِهِ مَسْجِدُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَكُونُ الصَّلَاةُ فِيهِ أَفْضَلَ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَى مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَأَمَّا إنْ نَذَرَ الِاعْتِكَافَ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ، جَازَ لَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي الْمَسْجِدَيْنِ الْآخَرَيْنِ ؛ لِأَنَّهُمَا أَفْضَلُ مِنْهُ .
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، فِي ( مُسْنَدِهِ ) ، عَنْ رِجَالٍ مِنْ الْأَنْصَارِ ، مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ، أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَجْلِسٍ قَرِيبًا مِنْ الْمَقَامِ ، فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ ، إنِّي نَذَرْت لَئِنْ فَتَحَ اللَّهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ مَكَّةَ ، لَأُصَلِّيَنَّ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، وَإِنِّي وَجَدْت رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الشَّامِ هَاهُنَا فِي قُرَيْشٍ ، مُقْبِلًا مَعِي وَمُدْبِرًا .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هَاهُنَا فَصَلِّ .
فَقَالَ الرَّجُلُ قَوْلَهُ هَذَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى

اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هَاهُنَا فَصَلِّ .
ثُمَّ قَالَ الرَّابِعَةَ مَقَالَتَهُ هَذِهِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اذْهَبْ ، فَصَلِّ فِيهِ ، فَوَاَلَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ لَوْ صَلَّيْت هَاهُنَا لَقَضَى عَنْك ذَلِكَ كُلَّ صَلَاةٍ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ } .
وَمَتَى نَذَرَ الِاعْتِكَافَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ ، فَانْهَدَمَ مُعْتَكَفُهُ ، وَلَمْ يُمْكِنْ الْمُقَامُ فِيهِ ، لَزِمَهُ إتْمَامُ الِاعْتِكَافِ فِي غَيْرِهِ ، وَلَمْ يَبْطُلْ اعْتِكَافُهُ .
( 2196 ) فَصْلٌ : إذَا نَذَرَ اعْتِكَافَ يَوْمَ يَقْدَمُ فُلَانٌ .
صَحَّ نَذْرُهُ ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُمْكِنٌ ، فَإِنْ قَدِمَ فِي بَعْضِ النَّهَارِ ، لَزِمَهُ اعْتِكَافُ الْبَاقِي مِنْهُ ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ قَضَاءُ مَا فَاتَ ؛ لِأَنَّهُ فَاتَ قَبْلَ شَرْطِ الْوُجُوبِ ، فَلَمْ يَجِبْ ، كَمَا لَوْ نَذَرَ اعْتِكَافَ زَمَنٍ مَاضٍ .
لَكِنْ إذَا قُلْنَا : شَرْطُ صِحَّةِ الِاعْتِكَافِ الصَّوْمُ .
لَزِمَهُ قَضَاءُ يَوْمٍ كَامِلٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالِاعْتِكَافِ فِي الصَّوْمِ فِيمَا بَقِيَ مِنْ النَّهَارِ ، وَلَا قَضَاؤُهُ مُتَمَيِّزًا مِمَّا قَبْلَهُ ، فَلَزِمَهُ يَوْمٌ كَامِلٌ ضَرُورَةً ، كَمَا لَوْ نَذَرَ صَوْمَ يَوْمَ يَقْدَمُ فُلَانٌ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُجْزِئَهُ اعْتِكَافُ مَا بَقِيَ مِنْهُ إذَا كَانَ صَائِمًا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وُجِدَ اعْتِكَافٌ مَعَ الصَّوْمِ .
وَإِنْ قَدِمَ لَيْلًا ، لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ مَا الْتَزَمَهُ بِالنَّذْرِ لَمْ يُوجَدْ .
فَإِنْ كَانَ لِلنَّاذِرِ عُذْرٌ يَمْنَعُهُ الِاعْتِكَافَ عِنْدَ قُدُومِ فُلَانٍ مِنْ حَبْسٍ ، أَوْ مَرَضٍ ، قَضَى وَكَفَّرَ ؛ لِفَوَاتِ النَّذْرِ فِي وَقْتِهِ ، وَيَقْضِي بَقِيَّةَ الْيَوْمِ فَقَطْ ، عَلَى حَسَبِ مَا كَانَ يَلْزَمُ فِي الْأَدَاءِ ، فِي الرِّوَايَةِ الْمَنْصُورَةِ ، وَفِي الْأُخْرَى ، يَقْضِي يَوْمًا كَامِلًا ، بِنَاءً عَلَى اشْتِرَاطِ الصَّوْمِ فِي الِاعْتِكَافِ .

كِتَابُ الْحَجِّ الْحَجُّ فِي اللُّغَةِ : الْقَصْدُ .
وَعَنْ الْخَلِيلِ ، قَالَ : الْحَجُّ كَثْرَةُ الْقَصْدِ إلَى مَنْ تُعَظِّمُهُ .
قَالَ الشَّاعِرُ : وَأَشْهَدَ مِنْ عَوْفٍ حُؤُولًا كَثِيرَةً يَحُجُّونَ سَبَّ الزِّبْرِقَانِ الْمُزَعْفَرَا أَيْ يَقْصِدُونَ .
وَالسَّبُّ : الْعِمَامَةُ .
وَفِي الْحَجِّ لُغَتَانِ : الْحَجُّ وَالْحِجُّ ، بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِهَا .
وَالْحَجُّ فِي الشَّرْعِ : اسْمٌ لَأَفْعَالٍ مَخْصُوصَةٍ يَأْتِي ذِكْرُهَا ، إنْ شَاءَ اللَّهُ .
وَهُوَ أَحَدُ الْأَرْكَانِ الْخَمْسَةِ الَّتِي بُنِيَ عَلَيْهَا الْإِسْلَامُ ، وَالْأَصْلُ فِي وُجُوبِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ ؛ أَمَّا الْكِتَابُ ، فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ } .
رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : وَمِنْ كَفَرَ بِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ .
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } .
وَأَمَّا السُّنَّةُ ، فَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ } .
وَذَكَرَ فِيهَا الْحَجَّ ، وَرَوَى مُسْلِمٌ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ { : خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ الْحَجَّ ، فَحُجُّوا .
فَقَالَ رَجُلٌ أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَوْ قُلْت نَعَمْ لَوَجَبَتْ ، وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ .
ثُمَّ قَالَ : ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ ، وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ } .
فِي أَخْبَارٍ كَثِيرَةٍ سِوَى هَذَيْنِ ، وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى وُجُوبِ الْحَجِّ عَلَى الْمُسْتَطِيعِ فِي الْعُمْرِ مَرَّةً وَاحِدَةً .

( 2197 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : أَبُو الْقَاسِمِ : ( وَمَنْ مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً ، وَهُوَ بَالِغٌ عَاقِلٌ ، لَزِمَهُ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْحَجَّ إنَّمَا يَجِبُ بِخَمْسِ شَرَائِطَ : الْإِسْلَامُ ، وَالْعَقْلُ ، وَالْبُلُوغُ ، وَالْحُرِّيَّةُ ، وَالِاسْتِطَاعَةُ .
لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا كُلِّهِ اخْتِلَافًا .
فَأَمَّا الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ فَلَيْسَا بِمُكَلَّفَيْنِ ، وَقَدْ رَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ ؛ عَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ ، وَعَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَشِبَّ ، وَعَنْ الْمَعْتُوهِ حَتَّى يَعْقِلَ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَابْنُ مَاجَهْ ، وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ .
وَأَمَّا الْعَبْدُ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ تَطُولُ مُدَّتُهَا ، وَتَتَعَلَّقُ بِقَطْعِ مَسَافَةٍ ، وَتُشْتَرَطُ لَهَا الِاسْتِطَاعَةُ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ ، وَيُضَيِّعُ حُقُوقَ سَيِّدِهِ الْمُتَعَلِّقَةَ بِهِ ، فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ كَالْجِهَادِ .
وَأَمَّا الْكَافِرُ فَغَيْرُ مُخَاطَبٍ بِفُرُوعِ الدِّينِ خِطَابًا يُلْزِمُهُ أَدَاءً ، وَلَا يُوجِبُ قَضَاءً .
وَغَيْرُ الْمُسْتَطِيعِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّ الْمُسْتَطِيعَ بِالْإِيجَابِ عَلَيْهِ ، فَيَخْتَصُّ بِالْوُجُوبِ ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا } .
( 2198 ) فَصْلٌ : وَهَذِهِ الشُّرُوطُ الْخَمْسَةُ تَنْقَسِمُ أَقْسَامًا ثَلَاثَةً ؛ مِنْهَا مَا هُوَ شَرْطٌ لِلْوُجُوبِ وَالصِّحَّةِ ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ وَالْعَقْلُ ، فَلَا تَجِبُ عَلَى كَافِرٍ وَلَا مَجْنُونٍ ، وَلَا تَصِحُّ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَات .
وَمِنْهَا مَا هُوَ شَرْطٌ لِلْوُجُوبِ وَالْإِجْزَاءِ ، وَهُوَ الْبُلُوغُ وَالْحُرِّيَّةُ ، وَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِلصِّحَّةِ ، فَلَوْ حَجَّ الصَّبِيُّ وَالْعَبْدُ صَحَّ حَجُّهُمَا ، وَلَمْ يُجْزِئْهُمَا عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ .
وَمِنْهَا مَا هُوَ شَرْطٌ لِلْوُجُوبِ فَقَطْ ، وَهُوَ الِاسْتِطَاعَةُ ، فَلَوْ تَجَشَّمَ غَيْرُ الْمُسْتَطِيعِ الْمَشَقَّةَ ،

وَسَارَ بِغَيْرِ زَادٍ وَرَاحِلَةٍ فَحَجَّ ، كَانَ حَجُّهُ صَحِيحًا مُجْزِئًا ، كَمَا لَوْ تَكَلَّفَ الْقِيَامَ فِي الصَّلَاةِ وَالصِّيَامَ مَنْ يَسْقُطُ عَنْهُ ، أَجْزَأَهُ .
( 2199 ) فَصْلٌ : وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي شَرْطَيْنِ ، وَهُمَا ؛ تَخْلِيَةُ الطَّرِيق ، وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ فِي الطَّرِيقِ مَانِعٌ مِنْ عَدُوٍّ وَنَحْوِهِ .
وَإِمْكَانُ الْمَسِيرِ ، وَهُوَ أَنْ تَكْمُلَ فِيهِ هَذِهِ الشَّرَائِطُ وَالْوَقْتُ مُتَّسِعٌ يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ إلَيْهِ .
فَرُوِيَ أَنَّهُمَا مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ ، فَلَا يَجِبُ الْحَجُّ بِدُونِهِمَا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا فَرَضَ الْحَجَّ عَلَى الْمُسْتَطِيعِ ، وَهَذَا غَيْرُ مُسْتَطِيعٍ ، وَلِأَنَّ هَذَا يَتَعَذَّرُ مَعَهُ فِعْلُ الْحَجِّ ، فَكَانَ شَرْطًا ، كَالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ .
وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيِّ .
وَرُوِيَ أَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ ، وَإِنَّمَا يُشْتَرَطَانِ لِلُزُومِ السَّعْيِ ، فَلَوْ كَمُلَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ الْخَمْسَةُ ، ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ وُجُودِ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ ، حُجَّ عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ ، وَإِنْ أَعْسَرَ قَبْلَ وُجُودِهِمَا بَقِيَ فِي ذِمَّتِهِ .
وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ ، فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُمَا ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سُئِلَ : مَا يُوجِبُ الْحَجَّ ؟ .
قَالَ : ( الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ ) .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ .
وَهَذَا لَهُ زَادٌ وَرَاحِلَةٌ ، وَلِأَنَّ هَذَا عُذْرٌ يَمْنَعُ نَفْسَ الْأَدَاءِ ، فَلَمْ يَمْنَعْ الْوُجُوبَ كَالْعَضْبِ ، وَلِأَنَّ إمْكَانَ الْأَدَاءِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي وُجُوبِ الْعِبَادَاتِ ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ طَهُرَتْ الْحَائِضُ ، أَوْ بَلَغَ الصَّبِيُّ ، أَوْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ مَا يُمْكِنُ أَدَاؤُهَا فِيهِ ، وَالِاسْتِطَاعَةُ مُفَسَّرَةٌ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ ، فَيَجِبُ الْمَصِيرُ إلَى تَفْسِيرِهِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ ، أَنَّهُ يَتَعَذَّرُ مَعَ فَقْدِهِمَا الْأَدَاءُ دُونَ الْقَضَاءِ ، وَفَقْدُ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ يَتَعَذَّرُ مَعَهُ

الْجَمِيعُ ، فَافْتَرَقَا .
( 2200 ) فَصْلٌ : وَإِمْكَانُ الْمَسِيرِ مُعْتَبَرٌ بِمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ ، فَلَوْ أَمْكَنَهُ الْمَسِيرُ بِأَنْ يَحْمِلَ عَلَى نَفْسِهِ وَيَسِيرَ سَيْرًا يُجَاوِزُ الْعَادَةَ ، أَوْ يَعْجِزَ عَنْ تَحْصِيلِ آلَةِ السَّفَرِ ، لَمْ يَلْزَمْهُ السَّعْيُ .
وَتَخْلِيَةُ الطَّرِيقِ هُوَ أَنْ تَكُونَ مَسْلُوكَةً ، لَا مَانِعَ فِيهَا ، بَعِيدَةً كَانَتْ أَوْ قَرِيبَةً ، بَرًّا كَانَ أَوْ بَحْرًا ، إذَا كَانَ الْغَالِبُ السَّلَامَةَ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْغَالِبُ السَّلَامَةَ ، لَمْ يَلْزَمْهُ سُلُوكُهُ ، فَإِنْ كَانَ فِي الطَّرِيقِ عَدُوٌّ يَطْلُبُ خَفَارَةً ، فَقَالَ الْقَاضِي : لَا يَلْزَمُهُ السَّعْيُ ، وَإِنْ كَانَتْ يَسِيرَةً ؛ لِأَنَّهَا رِشْوَةٌ ، فَلَا يَلْزَمُ بَذْلُهَا فِي الْعِبَادَةِ ، كَالْكَبِيرَةِ .
وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ : إنْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُجْحِفُ بِمَالِهِ ، لَزِمَهُ الْحَجُّ ؛ لِأَنَّهَا غَرَامَةٌ يَقِفُ إمْكَانُ الْحَجِّ عَلَى بَذْلِهَا ، فَلَمْ يَمْنَعْ الْوُجُوبَ مَعَ إمْكَانِ بَذْلِهَا ، كَثَمَنِ الْمَاءِ وَعَلَفِ الْبَهَائِمِ .
( 2201 ) فَصْلٌ : وَالِاسْتِطَاعَةُ الْمُشْتَرَطَةُ مِلْكُ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ .
وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَقَالَ عِكْرِمَةُ : هِيَ الصِّحَّةُ .
وَقَالَ الضَّحَّاكُ : إنْ كَانَ شَابًّا فَلْيُؤَاجِرْ نَفْسَهُ بِأَكْلِهِ وَعَقِبِهِ ، حَتَّى يَقْضِيَ نُسُكَهُ .
وَعَنْ مَالِكٍ : إنْ كَانَ يُمْكِنُهُ الْمَشْيُ ، وَعَادَتُهُ سُؤَالُ النَّاسِ ، لَزِمَهُ الْحَجُّ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الِاسْتِطَاعَةُ فِي حَقِّهِ ، فَهُوَ كَوَاجِدِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ .
وَلَنَا ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَّرَ الِاسْتِطَاعَةَ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ ، فَوَجَبَ الرُّجُوعُ إلَى تَفْسِيرِهِ ، فَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ جَابِرٍ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ، وَأَنَسٍ ، وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { سُئِلَ مَا

السَّبِيلُ ؟ قَالَ : الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ .
} وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ قَالَ : { جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا يُوجِبُ الْحَجَّ ؟ قَالَ : الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ .
} رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ .
وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ ، وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ ، عَنْ يُونُسَ ، عَنْ الْحَسَنِ ، قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا } { قَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا السَّبِيلُ ؟ قَالَ : الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ } .
وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَتَعَلَّقُ بِقَطْعِ مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ ، فَاشْتُرِطَ لِوُجُوبِهَا الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ ، كَالْجِهَادِ ، وَمَا ذَكَرُوهُ لَيْسَ بِاسْتِطَاعَةٍ ، فَإِنَّهُ شَاقٌّ ، وَإِنْ كَانَ عَادَةً ، وَالِاعْتِبَارُ بِعُمُومِ الْأَحْوَالِ دُونَ خُصُوصِهَا ، كَمَا أَنَّ رُخَصَ السَّفَرِ تَعُمُّ مَنْ يَشُقُّ عَلَيْهِ ، وَمَنْ لَا يَشُقُّ عَلَيْهِ .

( 2202 ) فَصْلٌ : وَلَا يَلْزَمُهُ الْحَجُّ بِبَذْلِ غَيْرِهِ لَهُ ، وَلَا يَصِيرُ مُسْتَطِيعًا بِذَلِكَ ، سَوَاءٌ كَانَ الْبَاذِلُ قَرِيبًا أَوْ أَجْنَبِيًّا ، وَسَوَاءٌ بَذَلَ لَهُ الرُّكُوبَ وَالزَّادَ ، أَوْ بَذَلَ لَهُ مَالًا .
وَعَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ إذَا بَذَلَ لَهُ وَلَدَهُ مَا يَتَمَكَّنُ بِهِ مِنْ الْحَجِّ ، لَزِمَهُ ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَهُ الْحَجُّ مِنْ غَيْرِ مِنَّةٍ تَلْزَمُهُ ، وَلَا ضَرَرٍ يَلْحَقُهُ ، فَلَزِمَهُ الْحَجُّ ، كَمَا لَوْ مَلَكَ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ .
وَلَنَا ، أَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوجِبُ الْحَجَّ ( الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ ) ، يَتَعَيَّنُ فِيهِ تَقْدِيرُ مِلْكِ ذَلِكَ ، أَوْ مِلْكِ مَا يَحْصُلُ بِهِ ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ كَانَ الْبَاذِلُ أَجْنَبِيًّا ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالِكٍ لِلزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ ، وَلَا ثَمَنِهِمَا ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ الْحَجُّ ، كَمَا لَوْ بَذَلَ لَهُ وَالِدُهُ ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ مِنَّةٌ ، وَلَوْ سَلَّمْنَاهُ فَيَبْطُلُ بِبَذْلِ الْوَالِدَةِ ، وَبَذْلِ مَنْ لِلْمَبْذُولِ عَلَيْهِ أَيَادٍ كَثِيرَةٌ وَنِعَمٌ .

( 2203 ) فَصْلٌ : وَمَنْ تَكَلَّفَ الْحَجَّ مِمَّنْ لَا يَلْزَمُهُ ، فَإِنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ يَلْحَقُ بِغَيْرِهِ ، مِثْلُ أَنْ يَمْشِيَ وَيَكْتَسِبَ بِصِنَاعَةٍ كَالْخَرَزِ ، أَوْ مُعَاوَنَةِ مَنْ يُنْفِقُ عَلَيْهِ ، أَوْ يَكْتَرِي لِزَادِهِ ، وَلَا يَسْأَلُ النَّاسَ ، اُسْتُحِبَّ لَهُ الْحَجُّ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { يَأْتُوك رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ } فَقَدَّمَ ذِكْرَ الرِّجَالِ .
وَلِأَنَّ فِي ذَلِكَ مُبَالَغَةً فِي طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَخُرُوجًا مِنْ الْخِلَافِ .
وَإِنْ كَانَ يَسْأَلُ النَّاسَ ، كُرِهَ لَهُ الْحَجُّ ؛ لِأَنَّهُ يُضَيِّقُ عَلَى النَّاسِ ، وَيَحْصُلُ كَلًّا عَلَيْهِمْ فِي الْتِزَامِ مَا لَا يَلْزَمُهُ .
وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَمَّنْ يَدْخُلُ الْبَادِيَةَ بِلَا زَادٍ وَلَا رَاحِلَةٍ ؟ فَقَالَ : لَا أُحِبُّ لَهُ ذَلِكَ ، هَذَا يَتَوَكَّلُ عَلَى أَزْوَادِ النَّاسِ .

( 2204 ) فَصْلٌ : وَيَخْتَصُّ اشْتِرَاطُ الرَّاحِلَةِ بِالْبَعِيدِ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ مَسَافَةُ الْقَصْرِ ، فَأَمَّا الْقَرِيبُ الَّذِي يُمْكِنُهُ الْمَشْيُ ، فَلَا يُعْتَبَرُ وُجُودُ الرَّاحِلَةِ فِي حَقِّهِ ؛ لِأَنَّهَا مَسَافَةٌ قَرِيبَةٌ ، يُمْكِنُهُ الْمَشْيُ إلَيْهَا ، فَلَزِمَهُ ، كَالسَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ .
وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يُمْكِنُهُ الْمَشْيُ ، اُعْتُبِرَ وُجُودُ الْحُمُولَةِ فِي حَقِّهِ ؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ الْمَشْيِ ، فَهُوَ كَالْبَعِيدِ .
وَأَمَّا الزَّادُ فَلَا بُدَّ مِنْهُ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ زَادًا ، وَلَا قَدَرَ عَلَى كَسْبِهِ ، لَمْ يَلْزَمْهُ الْحَجُّ .

فَصْلٌ : وَالزَّادُ الَّذِي تُشْتَرَطُ الْقُدْرَةُ عَلَيْهِ ، هُوَ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي ذَهَابِهِ وَرُجُوعِهِ ؛ مِنْ مَأْكُولٍ وَمَشْرُوبٍ وَكُسْوَةٍ ، فَإِنْ كَانَ يَمْلِكُهُ ، أَوْ وَجَدَهُ يُبَاعُ بِثَمَنِ الْمِثْلِ فِي الْغَلَاءِ وَالرُّخْصِ ، أَوْ بِزِيَادَةٍ يَسِيرَةٍ لَا تُجْحِفُ بِمَالِهِ ، لَزِمَهُ شِرَاؤُهُ ، وَإِنْ كَانَتْ تُجْحِفُ بِمَالِهِ ، لَمْ يَلْزَمْهُ ، كَمَا قُلْنَا فِي شِرَاءِ الْمَاءِ لِلْوُضُوءِ .
وَإِذَا كَانَ يَجِدُ الزَّادَ فِي كُلِّ مَنْزِلَةٍ ، لَمْ يَلْزَمْهُ حَمْلُهُ ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ كَذَلِكَ ، لَزِمَهُ حَمْلُهُ .
وَأَمَّا الْمَاءُ وَعَلَفُ الْبَهَائِمِ ، فَإِنْ كَانَ يُوجَدُ فِي الْمَنَازِلِ الَّتِي يَنْزِلُهَا عَلَى حَسَبِ الْعَادَةِ ، وَإِلَّا لَمْ يَلْزَمْهُ حَمْلُهُ مِنْ بَلَدِهِ ، وَلَا مِنْ أَقْرَبِ الْبُلْدَانِ إلَى مَكَّةَ ، كَأَطْرَافِ الشَّامِ وَنَحْوِهَا ؛ لِأَنَّ هَذَا يَشُقُّ ، وَلَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِهِ ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ حَمْلِ الْمَاءِ لِبَهَائِمِهِ فِي جَمِيعِ الطَّرِيقِ ، وَالطَّعَامُ بِخِلَافِ ذَلِكَ ، وَيُعْتَبَرُ أَيْضًا قُدْرَتُهُ عَلَى الْآلَاتِ الَّتِي يَحْتَاجُ إلَيْهَا ، كَالْغَرَائِرِ وَنَحْوِهَا ، وَأَوْعِيَةِ الْمَاءِ وَمَا أَشْبَهَهَا ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ ، فَهُوَ كَأَعْلَافِ الْبَهَائِمِ .

( 2206 ) فَصْلٌ : وَأَمَّا الرَّاحِلَةُ ، فَيُشْتَرَطُ أَنْ يَجِدَ رَاحِلَةً تَصْلُحُ لِمِثْلِهِ ، إمَّا شِرَاءً أَوْ كِرَاءٍ ، لِذَهَابِهِ وَرُجُوعِهِ ، وَيَجِدُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ آلَتِهَا الَّتِي تَصْلُحُ لِمِثْلِهِ ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَكْفِيهِ الرَّحْلُ وَالْقَتَبُ ، وَلَا يَخْشَى السُّقُوطَ ، أَجْزَأَ وُجُودُ ذَلِكَ .
وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَمْ تَجْرِ عَادَتُهُ بِذَلِكَ ، وَيَخْشَى السُّقُوطَ عَنْهُمَا ، اُعْتُبِرَ وُجُودُ مَحْمِلٍ وَمَا أَشْبَهِهِ ، مِمَّا لَا مَشَقَّةَ فِي رُكُوبِهِ ، وَلَا يَخْشَى السُّقُوطَ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الرَّاحِلَةِ فِي حَقِّ الْقَادِرِ عَلَى الْمَشْيِ ، إنَّمَا كَانَ لِدَفْعِ الْمَشَقَّةِ ، فَيَجِبُ أَنْ يُعْتَبَرَ هَاهُنَا مَا تَنْدَفِعُ بِهِ الْمَشَقَّةُ .
وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى خِدْمَةِ نَفْسِهِ ، وَالْقِيَامِ بِأَمْرِهِ اُعْتُبِرْت الْقُدْرَةُ عَلَى مَنْ يَخْدِمُهُ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ سَبِيلِهِ .

( 2207 ) فَصْلٌ : وَيُعْتَبَرُ أَنْ يَكُونَ هَذَا فَاضِلًا عَمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِنَفَقَةِ عِيَالِهِ الَّذِينَ تَلْزَمُهُ مَئُونَتُهُمْ ، فِي مُضِيِّهِ وَرُجُوعِهِ ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ ، وَهُمْ أَحْوَجُ ، وَحَقُّهُمْ آكَدُ ، وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { كَفَى بِالْمَرْءِ إثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ .
} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَأَنْ يَكُونَ فَاضِلًا عَمَّا يَحْتَاجُ هُوَ وَأَهْلُهُ إلَيْهِ ، مِنْ مَسْكَنٍ وَخَادِمٍ وَمَا لَا بُدَّ مِنْهُ ، وَأَنْ يَكُونَ فَاضِلًا عَنْ قَضَاءِ دَيْنِهِ ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ مِنْ حَوَائِجِهِ الْأَصْلِيَّةِ ، وَيَتَعَلَّقُ بِهِ حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ ، فَهُوَ آكَدُ ، وَلِذَلِكَ مَنَعَ الزَّكَاةَ ، مَعَ تَعَلُّقِ حُقُوقِ الْفُقَرَاءِ بِهَا ، وَحَاجَتِهِمْ إلَيْهَا ، فَالْحَجُّ الَّذِي هُوَ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى أَوْلَى ، وَسَوَاءٌ كَانَ الدَّيْنُ لِآدَمِيٍّ مُعَيَّنٍ ، أَوْ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى ، كَزَكَاةٍ فِي ذِمَّتِهِ ، أَوْ كَفَّارَاتٍ وَنَحْوِهَا .
وَإِنْ احْتَاجَ إلَى النِّكَاحِ ، وَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ الْعَنَتَ ، قَدَّمَ التَّزْوِيجَ ، لِأَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ ، وَلَا غِنَى بِهِ عَنْهُ ، فَهُوَ كَنَفَقَتِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَخَفْ ، قَدَّمَ الْحَجَّ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ تَطَوُّعٌ ، فَلَا يُقَدَّمُ عَلَى الْحَجَّ الْوَاجِبِ .
وَإِنْ حَجَّ مَنْ تَلْزَمُهُ هَذِهِ الْحُقُوقُ وَضَيَّعَهَا ، صَحَّ حَجُّهُ ؛ لِأَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِذِمَّتِهِ ، فَلَا تَمْنَعُ صِحَّةَ فِعْلِهِ .

( 2208 ) فَصْلٌ : وَمَنْ لَهُ عَقَارٌ يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِسُكْنَاهُ ، أَوْ سُكْنَى عِيَالِهِ ، أَوْ يَحْتَاجُهُ إلَى أُجْرَتِهِ لِنَفَقَةِ نَفْسِهِ أَوْ عِيَالِهِ ، أَوْ بِضَاعَةٌ مَتَى نَقَصَهَا اخْتَلَّ رِبْحُهَا فَلَمْ يَكْفِهِمْ ، أَوْ سَائِمَةٌ يَحْتَاجُونَ إلَيْهَا ، لَمْ يَلْزَمْهُ الْحَجُّ ، وَإِنْ كَانَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ فَاضِلٌ عَنْ حَاجَتِهِ ، لَزِمَهُ بَيْعُهُ فِي الْحَجِّ .
فَإِنْ كَانَ لَهُ مَسْكَنٌ وَاسِعٌ يَفْضُلُ عَنْ حَاجَتِهِ ، وَأَمْكَنَهُ بَيْعُهُ وَشِرَاءُ مَا يَكْفِيهِ ، وَيَفْضُلُ قَدْرُ مَا يَحُجُّ بِهِ ، لَزِمَهُ .
وَإِنْ كَانَتْ لَهُ كُتُبٌ يَحْتَاجُ إلَيْهَا ، لَمْ يَلْزَمْهُ بَيْعُهَا فِي الْحَجِّ .
وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا ، أَوْ كَانَ لَهُ بِكِتَابٍ نُسْخَتَانِ ، يَسْتَغْنِي بِأَحَدِهِمَا ، بَاعَ مَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ ، فَإِنْ كَانَ لَهُ دَيْنٌ عَلَى مَلِيءٍ بَاذِلٍ لَهُ يَكْفِيهِ لِلْحَجِّ ، لَزِمَهُ ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى مُعْسِرٍ ، أَوْ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهُ عَلَيْهِ ، لَمْ يَلْزَمْهُ .

( 2209 ) فَصْلٌ : وَتَجِبُ الْعُمْرَةُ عَلَى مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ ، وَابْنِ عَبَّاسِ ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، وَابْنِ عُمَرَ ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، وَعَطَاءٍ ، وَطَاوُسٍ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَالْحَسَنِ ، وَابْنِ سِيرِينَ ، وَالشَّعْبِيِّ .
وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ ، لَيْسَتْ وَاجِبَةً ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ؛ لِمَا رَوَى جَابِرٌ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { سُئِلَ عَنْ الْعُمْرَةِ ، أَوَاجِبَةٌ هِيَ ؟ قَالَ : لَا ، وَأَنْ تَعْتَمِرُوا فَهُوَ أَفْضَلُ } أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَعَنْ طَلْحَةَ ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { الْحَجُّ جِهَادٌ ، وَالْعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ } .
رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
وَلِأَنَّهُ نُسُكٌ غَيْرُ مُوَقَّتٍ ، فَلَمْ يَكُنْ وَاجِبًا ، كَالطَّوَافِ الْمُجَرَّدِ .
وَلَنَا ، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } .
وَمُقْتَضَى الْأَمْرِ الْوُجُوبُ ، ثُمَّ عَطَفَهَا عَلَى الْحَجِّ ، وَالْأَصْلُ التَّسَاوِي بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : إنَّهَا لَقَرِينَةُ الْحَجِّ فِي كِتَابِ اللَّهِ .
وَعَنْ الصُّبَيّ بْنِ مَعْبَدٍ قَالَ : { أَتَيْت عُمَرَ فَقُلْت : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، إنِّي أَسْلَمْت ، وَإِنِّي وَجَدْت الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ مَكْتُوبَيْنِ عَلَيَّ فَأَهْلَلْت بِهِمَا ، فَقَالَ عُمَرُ : هُدِيت لِسُنَّةِ نَبِيِّك صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ .
وَعَنْ أَبِي رَزِينٍ ، أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ : { إنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ ، لَا يَسْتَطِيعُ الْحَجَّ ، وَلَا الْعُمْرَةَ ، وَلَا الظَّعْنَ .
قَالَ : حُجَّ عَنْ أَبِيك ، وَاعْتَمِرْ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ ، وَالتِّرْمِذِيُّ ،

وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَذَكَرَهُ أَحْمَدُ ، ثُمَّ قَالَ : وَحَدِيثٌ يَرْوِيهِ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجُمَحِيُّ ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : { أَوْصِنِي .
قَالَ : تُقِيمُ الصَّلَاةَ ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ ، وَتَحُجُّ ، وَتَعْتَمِرُ } .
وَرَوَى الْأَثْرَمُ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَتَبَ إلَى أَهْلِ الْيَمَنِ ، وَكَانَ فِي الْكِتَابِ : إنَّ الْعُمْرَةَ هِيَ الْحَجُّ الْأَصْغَرُ } .
وَلِأَنَّهُ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ ، وَلَا مُخَالِفَ لَهُمْ نَعْلَمُهُ ، إلَّا ابْنُ مَسْعُودٍ ، عَلَى اخْتِلَافٍ عَنْهُ .
وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ فَقَالَ التِّرْمِذِيُّ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : هُوَ ضَعِيفٌ ، لَا تَقُومُ بِمِثْلِهِ الْحُجَّةُ ، وَلَيْسَ فِي الْعُمْرَةِ شَيْءٌ ثَابِتٌ بِأَنَّهَا تَطَوُّعٌ .
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : رُوِيَ ذَلِكَ بِأَسَانِيدَ لَا تَصِحُّ ، وَلَا تَقُومُ بِمِثْلِهَا الْحُجَّةُ .
ثُمَّ نَحْمِلُهُ عَلَى الْمَعْهُودِ ، وَهِيَ الْعُمْرَةُ الَّتِي قَضَوْهَا حِينَ أُحْصِرُوا فِي الْحُدَيْبِيَةِ ، أَوْ عَلَى الْعُمْرَةِ الَّتِي اعْتَمَرُوهَا مَعَ حَجَّتِهِمْ ، مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهَا لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً عَلَى مَنْ اعْتَمَرَ ، أَوْ نَحْمِلُهُ عَلَى مَا زَادَ عَلَى الْعُمْرَةِ الْوَاحِدَةِ ، وَتُفَارِقُ الْعُمْرَةُ الطَّوَافَ ؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِهَا الْإِحْرَامَ ، وَالطَّوَافُ بِخِلَافِهِ .

( 2210 ) فَصْلٌ : وَلَيْسَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ عُمْرَةٌ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
وَقَالَ : كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَرَى الْعُمْرَةَ وَاجِبَةً ، وَيَقُولُ : يَا أَهْلَ مَكَّةَ : لَيْسَ عَلَيْكُمْ عُمْرَةٌ ، إنَّمَا عُمْرَتُكُمْ طَوَافُكُمْ بِالْبَيْتِ .
وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ ، وَطَاوُسٌ .
قَالَ عَطَاءٌ : لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ إلَّا عَلَيْهِ حَجٌّ وَعُمْرَةٌ وَاجِبَتَانِ ، لَا بُدَّ مِنْهُمَا لِمَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِمَا سَبِيلًا ، إلَّا أَهْلَ مَكَّةَ ، فَإِنَّ عَلَيْهِمْ حَجَّةً ، وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ عُمْرَةٌ ، مِنْ أَجْلِ طَوَافِهِمْ بِالْبَيْتِ .
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ رُكْنَ الْعُمْرَةِ وَمُعْظَمُهَا الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ ، وَهُمْ يَفْعَلُونَهُ فَأَجْزَأَ عَنْهُمْ .
وَحَمَلَ الْقَاضِي كَلَامَ أَحْمَدَ عَلَى أَنَّهُ لَا عُمْرَةَ عَلَيْهِمْ مَعَ الْحَجَّةِ ؛ لِأَنَّهُ يَتَقَدَّمُ مِنْهُمْ فِعْلُهَا فِي غَيْرِ وَقْتِ الْحَجِّ .
وَالْأَمْرُ عَلَى مَا قُلْنَاهُ .

( 2211 ) فَصْلٌ : وَتُجْزِئُ عُمْرَةُ الْمُتَمَتِّعَ ، وَعُمْرَةُ الْقَارِنِ ، وَالْعُمْرَةُ مِنْ أَدْنَى الْحِلِّ عَنْ الْعُمْرَةِ الْوَاجِبَةِ ، وَلَا نَعْلَمُ فِي إجْزَاءِ عُمْرَةِ التَّمَتُّعِ خِلَافًا .
كَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عُمَرَ ، وَعَطَاءٌ ، وَطَاوُسٌ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَلَا نَعْلَمُ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافَهُمْ .
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ عُمْرَةَ الْقَارِنِ لَا تُجْزِئُ .
وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ .
وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْعُمْرَةَ مِنْ أَدْنَى الْحِلِّ لَا تُجْزِئُ عَنْ الْعُمْرَةِ الْوَاجِبَةِ .
وَقَالَ : إنَّمَا هِيَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ .
وَاحْتَجَّ عَلَى أَنَّ عُمْرَةَ الْقَارِنِ لَا تُجْزِئُ أَنَّ عَائِشَةَ حِينَ حَاضَتْ أَعْمَرَهَا مِنْ التَّنْعِيمِ ، فَلَوْ كَانَتْ عُمْرَتُهَا فِي قِرَانِهَا أَجْزَأَتْهَا لَمَا أَعْمَرَهَا بَعْدَهَا .
وَلَنَا ، قَوْلُ الصُّبَيّ بْنِ مَعْبَدٍ : إنِّي وَجَدْت الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ مَكْتُوبَيْنِ عَلَيَّ ، فَأَهْلَلْت بِهِمَا .
فَقَالَ عُمَرُ : { هُدِيت لِسُنَّةِ نَبِيِّك } .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَحْرَمَ بِهِمَا يَعْتَقِدُ أَدَاءَ مَا كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْهُمَا ، وَالْخُرُوجَ عَنْ عُهْدَتِهِمَا ، فَصَوَّبَهُ عُمَرُ ، وَقَالَ : هُدِيت لِسُنَّةِ نَبِيِّك .
وَحَدِيثُ عَائِشَةَ حِينَ قَرَنَتْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ حَلَّتْ مِنْهُمَا : { قَدْ حَلَلْت مِنْ حَجِّك وَعُمْرَتِك } .
وَإِنَّمَا أَعْمَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ التَّنْعِيمِ قَصْدًا لِتَطْيِيبِ قَلْبِهَا ، وَإِجَابَةِ مَسْأَلَتِهَا ، لَا لِأَنَّهَا كَانَتْ وَاجِبَةً عَلَيْهَا .
ثُمَّ إنْ لَمْ تَكُنْ أَجْزَأَتْهَا عُمْرَةُ الْقِرَانِ ، فَقَدْ أَجْزَأَتْهَا الْعُمْرَةُ مِنْ أَدْنَى الْحِلِّ ، وَهُوَ أَحَدُ مَا قَصَدْنَا الدَّلَالَةَ عَلَيْهِ .
وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ عُمْرَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَقَدْ أَتَى بِهَا صَحِيحَةً ، فَتُجْزِئُهُ ، كَعُمْرَةِ الْمُتَمَتِّعِ .
وَلِأَنَّ عُمْرَةَ الْقَارِنِ أَحَدُ نُسُكَيْ الْقِرَانِ ، فَأَجْزَأَتْ ، كَالْحَجِّ ، وَالْحَجُّ مِنْ مَكَّةَ يُجْزِئُ فِي حَقِّ الْمُتَمَتِّعِ ، فَالْعُمْرَةُ مِنْ أَدْنَى الْحِلِّ فِي

حَقِّ الْمُفْرِدِ أَوْلَى .
وَإِذَا كَانَ الطَّوَافُ الْمُجَرَّدُ يُجْزِئُ عَنْ الْعُمْرَةِ فِي حَقِّ الْمَكِّيِّ ، فَلَأَنْ تُجْزِئَ الْعُمْرَةُ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى الطَّوَافِ وَغَيْرِهِ أَوْلَى .

( 2212 ) فَصْلٌ : وَلَا بَأْسَ أَنْ يَعْتَمِرَ فِي السَّنَةِ مِرَارًا .
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ ، وَابْنِ عُمَرَ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَأَنَسٍ ، وَعَائِشَةَ ، وَعَطَاءٍ ، وَطَاوُسٍ ، وَعِكْرِمَةَ ، وَالشَّافِعِيِّ .
وَكَرِهَ الْعُمْرَةَ فِي السَّنَةِ مَرَّتَيْنِ الْحَسَنُ ، وَابْنُ سِيرِينَ ، وَمَالِكٌ .
وَقَالَ النَّخَعِيُّ : مَا كَانُوا يَعْتَمِرُونَ فِي السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً .
وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَفْعَلْهُ .
وَلَنَا ، أَنَّ عَائِشَةَ اعْتَمَرَتْ فِي شَهْرٍ مَرَّتَيْنِ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمْرَةً مَعَ قِرَانِهَا ، وَعُمْرَةً بَعْدَ حَجِّهَا ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الْعُمْرَةُ إلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي كُلٍّ شَهْرٍ مَرَّةً .
وَكَانَ أَنَسٌ إذَا حَمَّمَ رَأْسَهُ خَرَجَ فَاعْتَمَرَ .
رَوَاهُمَا الشَّافِعِيُّ ، فِي ( مُسْنَدِهِ ) .
وَقَالَ عِكْرِمَةُ : يَعْتَمِرُ إذَا أَمْكَنَ الْمُوسَى مِنْ شَعْرِهِ .
وَقَالَ عَطَاءٌ : إنْ شَاءَ اعْتَمَرَ فِي كُلِّ شَهْرٍ مَرَّتَيْنِ .
فَأَمَّا الْإِكْثَارُ مِنْ الِاعْتِمَارِ ، وَالْمُوَالَاةُ بَيْنَهُمَا ، فَلَا يُسْتَحَبُّ فِي ظَاهِرِ قَوْلِ السَّلَفِ الَّذِي حَكَيْنَاهُ .
وَكَذَلِكَ قَالَ أَحْمَدُ : إذَا اعْتَمَرَ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَحْلِقَ أَوْ يُقَصِّرَ ، وَفِي عَشَرَةِ أَيَّامٍ يُمْكِنُ حَلْقُ الرَّأْسِ .
فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَعْتَمِرَ فِي أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ أَيَّامٍ .
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ : إنْ شَاءَ اعْتَمَرَ فِي كُلِّ شَهْرٍ .
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : يُسْتَحَبُّ الْإِكْثَارُ مِنْ الِاعْتِمَارِ .
وَأَقْوَالُ السَّلَفِ وَأَحْوَالُهُمْ تَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ الْمُوَالَاةُ بَيْنَهُمَا ، وَإِنَّمَا نُقِلَ عَنْهُمْ إنْكَارُ ذَلِكَ ، وَالْحَقُّ فِي اتِّبَاعِهِمْ .
قَالَ طَاوُسٌ : الَّذِينَ يَعْتَمِرُونَ مِنْ التَّنْعِيمِ ، مَا أَدْرِي يُؤْجَرُونَ عَلَيْهَا أَوْ يُعَذَّبُونَ ؟

قِيلَ لَهُ : فَلِمَ يُعَذَّبُونَ ؟ قَالَ : لِأَنَّهُ يَدَعُ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ ، وَيَخْرُجُ إلَى أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ وَيَجِيءُ ، وَإِلَى أَنْ يَجِيءَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ قَدْ طَافَ مِائَتَيْ طَوَافٍ ، وَكَلَّمَا طَافَ بِالْبَيْتِ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ أَنْ يَمْشِيَ فِي غَيْرِ شَيْءٍ .
وَقَدْ اعْتَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَ عُمَرَ فِي أَرْبَعِ سُفُرَاتٍ ، لَمْ يَزِدْ فِي كُلِّ سُفْرَةٍ عَلَى عُمْرَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَلَا أَحَدٌ مِمَّنْ مَعَهُ ، وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ جَمَعَ بَيْنَ عُمْرَتَيْنِ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ مَعَهُ ، إلَّا عَائِشَةَ حِينَ حَاضَتْ فَأَعْمَرَهَا مِنْ التَّنْعِيمِ ؛ لِأَنَّهَا اعْتَقَدَتْ أَنَّ عُمْرَةَ قِرَانِهَا بَطَلَتْ ، وَلِهَذَا قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، يَرْجِعُ النَّاسُ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ ، وَأَرْجِعُ أَنَا بِحَجَّةٍ .
فَأَعْمَرَهَا لِذَلِكَ .
وَلَوْ كَانَ فِي هَذَا فَضْلٌ لَمَا اتَّفَقُوا عَلَى تَرْكِهِ .

( 2213 ) فَصْلٌ : وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
قَالَ أَحْمَدُ : مَنْ أَدْرَكَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ ، فَقَدْ أَدْرَكَ عُمْرَةَ رَمَضَانَ .
وَقَالَ إِسْحَاقُ : يَعْنِي هَذَا الْحَدِيثُ مِثْلُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ قَرَأَ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ، فَقَدْ قَرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ } .
وَقَالَ أَنَسٌ : { حَجَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّةً وَاحِدَةً ، وَاعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرَ ؛ وَاحِدَةً فِي ذِي الْقَعْدَةِ ، وَعُمْرَةَ الْحُدَيْبِيَةِ ، وَعُمْرَةً مَعَ حَجَّتِهِ ، وَعُمْرَةَ الْجِعْرَانَةِ إذْ قَسَمَ غَنِيمَةَ حُنَيْنٍ } .
وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَقَالَ أَحْمَدُ : حَجَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّةَ الْوَدَاعِ .
قَالَ : وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ ، أَنَّهُ قَالَ : حَجَّ قَبْلَ ذَلِكَ حَجَّةً أُخْرَى .
وَمَا هُوَ يَثْبُتُ عِنْدِي .
وَرُوِيَ عَنْ جَابِرٍ ، قَالَ : { حَجَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ حِجَجٍ ؛ حَجَّتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ ، وَحَجَّةً بَعْدَمَا هَاجَرَ } .
وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ .
( 2214 ) فَصْلٌ : وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْن مَسْعُودٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ، فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ ، كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ، وَلَيْسَ لِلْحَجَّةِ الْمَبْرُورَةِ ثَوَابٌ إلَّا الْجَنَّةُ } .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ أَتَى هَذَا الْبَيْتَ ، فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ ، رَجَعَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي ( الْمُوَطَّأِ ) .

( 2215 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ ( فَإِنْ كَانَ مَرِيضًا لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ ، أَوْ شَيْخًا لَا يَسْتَمْسِكُ عَلَى الرَّاحِلَةِ ، أَقَامَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ وَيَعْتَمِرُ ، وَقَدْ أَجْزَأَ عَنْهُ وَإِنْ عُوفِيَ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ وُجِدَتْ فِيهِ شَرَائِطُ وُجُوبِ الْحَجِّ ، وَكَانَ عَاجِزًا عَنْهُ لِمَانِعٍ مَأْيُوسٍ مِنْ زَوَالِهِ ، كَزَمَانَةٍ ، أَوْ مَرَضٍ لَا يُرْجَى زَوَالُهُ ، أَوْ كَانَ نِضْوَ الْخَلْقِ ، لَا يَقْدِرُ عَلَى الثُّبُوتِ عَلَى الرَّاحِلَةِ إلَّا بِمَشَقَّةٍ غَيْرِ مُحْتَمَلَةٍ ، وَالشَّيْخُ الْفَانِي ، وَمَنْ كَانَ مِثْلَهُ مَتَى وَجَدَ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ فِي الْحَجِّ ، وَمَالًا يَسْتَنِيبُهُ بِهِ ، لَزِمَهُ ذَلِكَ .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ مَالِكٌ : لَا حَجَّ عَلَيْهِ ، إلَّا أَنْ يَسْتَطِيعَ بِنَفْسِهِ ، وَلَا أَرَى لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا } .
وَهَذَا غَيْرُ مُسْتَطِيعٍ ، وَلِأَنَّ هَذِهِ عِبَادَةٌ لَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ مَعَ الْقُدْرَةِ ، فَلَا تَدْخُلُهَا مَعَ الْعَجْزِ ، كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ .
وَلَنَا ، حَدِيثُ أَبِي رَزِينٍ ، وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ ، أَنَّ امْرَأَةً مِنْ خَثْعَمَ قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، { إنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا ، لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ ؟ قَالَ : نَعَمْ .
وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمِ ، قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، { إنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ ، عَلَيْهِ فَرِيضَةُ اللَّهِ فِي الْحَجِّ ، وَهُوَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَوِيَ عَلَى ظَهْرِ بَعِيرِهِ .
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَحُجِّي عَنْهُ } .
وَسُئِلَ عَلِيٌّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، عَنْ شَيْخٍ لَا يَجِدُ الِاسْتِطَاعَةَ ، قَالَ .
يُجَهَّزُ عَنْهُ .
وَلِأَنَّ هَذِهِ عِبَادَةٌ تَجِبُ بِإِفْسَادِهَا الْكَفَّارَةُ ، فَجَازَ أَنْ يَقُومَ غَيْرُ فِعْلِهِ فِيهَا مَقَامَ فِعْلِهِ ، كَالصَّوْمِ إذَا عَجَزَ عَنْهُ افْتَدَى ، بِخِلَافِ الصَّلَاةِ .

( 2216 ) فَصْلٌ : فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَالًا يَسْتَنِيبُ بِهِ ، فَلَا حَجَّ عَلَيْهِ .
بِغَيْرِ خِلَافٍ ؛ لِأَنَّ الصَّحِيحَ لَوْ لَمْ يَجِدْ مَا يَحُجُّ بِهِ ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ ، فَالْمَرِيضُ أَوْلَى .
وَإِنْ وَجَدَ مَالًا ، وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ ، فَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَنْبَنِي عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي إمْكَانِ الْمَسِيرِ ، هَلْ هُوَ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ ، أَوْ مِنْ شَرَائِطِ لُزُومِ السَّعْيِ ؟ فَإِنْ قُلْنَا : مِنْ شَرَائِطِ لُزُومِ السَّعْيِ .
ثَبَتَ الْحَجُّ فِي ذِمَّتِهِ ، هَذَا يُحَجُّ عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ .
وَإِنْ قُلْنَا : مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ .

( 2217 ) فَصْلٌ : وَمَتَى أَحَجَّ هَذَا عَنْ نَفْسِهِ ، ثُمَّ عُوفِيَ ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ حَجٌّ آخَرُ .
وَهَذَا قَوْلُ إِسْحَاقَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ : يَلْزَمُهُ ؛ لِأَنَّ هَذَا بَدَلُ إيَاسٍ ، فَإِذَا بَرَأَ ، تَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَأْيُوسًا مِنْهُ ، فَلَزِمَهُ الْأَصْلُ ، كَالْآيِسَةِ إذَا اعْتَدَّتْ بِالشُّهُورِ ، ثُمَّ حَاضَتْ ، لَا تُجْزِئُهَا تِلْكَ الْعِدَّةُ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ ، فَخَرَجَ مِنْ الْعُهْدَةِ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَبْرَأْ ، أَوْ نَقُولُ : أَدَّى حَجَّةَ الْإِسْلَامِ بِأَمْرِ الشَّارِعِ ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ حَجٌّ ثَانٍ ، كَمَا لَوْ حَجَّ بِنَفْسِهِ ، وَلِأَنَّ هَذَا يُفْضِي إلَى إيجَابِ حَجَّتَيْنِ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يُوجِبْ اللَّهُ عَلَيْهِ إلَّا حَجَّةً وَاحِدَةً .
وَقَوْلُهُمْ : لَمْ يَكُنْ مَأْيُوسًا مِنْ بُرْئِهِ .
قُلْنَا : لَوْ لَمْ يَكُنْ مَأْيُوسًا مِنْهُ ، لَمَا أُبِيحَ لَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ ، فَإِنَّهُ شَرْطٌ لِجَوَازِ الِاسْتِنَابَةِ .
أَمَّا الْآيِسَةُ إذَا اعْتَدَّتْ بِالشُّهُورِ ، فَلَا يُتَصَوَّرُ عَوْدُ حَيْضِهَا ، فَإِنْ رَأَتْ دَمًا ، فَلَيْسَ بِحَيْضٍ ، وَلَا يَبْطُلُ بِهِ اعْتِدَادُهَا ، وَلَكِنْ مَنْ ارْتَفَعَ حَيْضُهَا لَا تَدْرِي مَا رَفَعَهُ ، إذَا اعْتَدَّتْ سَنَةً ، ثُمَّ عَادَ حَيْضُهَا ، لَمْ يَبْطُلْ اعْتِدَادُهَا .
فَأَمَّا إنْ عُوفِيَ قَبْلَ فَرَاغِ النَّائِبِ مِنْ الْحَجِّ ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُجْزِئَهُ الْحَجُّ ؛ لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ تَمَامِ الْبَدَلِ ، فَلَزِمَهُ ، كَالصَّغِيرَةِ وَمَنْ ارْتَفَعَ حَيْضُهَا ، إذَا حَاضَتَا قَبْلَ إتْمَامِ عِدَّتِهِمَا بِالشُّهُورِ ، وَكَالْمُتَيَمِّمِ إذَا رَأَى الْمَاءَ فِي صَلَاتِهِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُجْزِئَهُ ، كَالْمُتَمَتِّعِ إذَا شَرَعَ فِي الصِّيَامِ ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الْهَدْيِ ، وَالْمُكَفِّرِ إذَا قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْبَدَلِ .
وَإِنْ بَرَأَ قَبْلَ إحْرَامِ النَّائِبِ ، لَمْ يُجْزِئْهُ بِحَالٍ .

فَصْلٌ : وَمَنْ يُرْجَى زَوَالُ مَرَضِهِ ، وَالْمَحْبُوسُ وَنَحْوُهُ ، لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ .
فَإِنْ فَعَلَ ، لَمْ يُجْزِئْهُ ، وَإِنْ لَمْ يَبْرَأْ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَهُ ذَلِكَ .
وَيَكُونُ ذَلِكَ مُرَاعًى ، فَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْحَجِّ بِنَفْسِهِ لَزِمَهُ ، وَإِلَّا أَجْزَأَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ ، أَشْبَهَ الْمَيْئُوسَ مِنْ بُرْئِهِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ يَرْجُو الْقُدْرَةَ عَلَى الْحَجِّ بِنَفْسِهِ ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ الِاسْتِنَابَةُ ، وَلَا تُجْزِئُهُ إنْ فَعَلَ ، كَالْفَقِيرِ ، وَفَارَقَ الْمَأْيُوسَ مِنْ بُرْئِهِ ؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ ، آيِسٌ مِنْ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَصْلِ ، فَأَشْبَهَ الْمَيِّتَ .
وَلِأَنَّ النَّصَّ إنَّمَا وَرَدَ فِي الْحَجِّ عَنْ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ ، وَهُوَ مِمَّنْ لَا يُرْجَى مِنْهُ الْحَجُّ بِنَفْسِهِ ، فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ إلَّا مَنْ كَانَ مِثْلَهُ .
فَعَلَى هَذَا إذَا اسْتَنَابَ مَنْ يَرْجُو الْقُدْرَةَ عَلَى الْحَجِّ بِنَفْسِهِ ، ثُمَّ صَارَ مَأْيُوسًا مِنْ بُرْئِهِ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ عَنْ نَفْسِهِ مَرَّةً أُخْرَى ؛ لِأَنَّهُ اسْتَنَابَ فِي حَالٍ لَا تَجُوزُ لَهُ الِاسْتِنَابَةُ فِيهَا ، فَأَشْبَهَ الصَّحِيحَ .

( 2219 ) فَصْلٌ : وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَنِيبَ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى الْحَجِّ بِنَفْسِهِ فِي الْحَجِّ الْوَاجِبِ إجْمَاعًا .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَحُجَّ ، لَا يُجْزِئُ عَنْهُ أَنْ يَحُجَّ غَيْرُهُ عَنْهُ ، وَالْحَجُّ الْمَنْذُورُ كَحَجَّةِ الْإِسْلَامِ ، فِي إبَاحَةِ الِاسْتِنَابَةِ عِنْد الْعَجْزِ ، وَالْمَنْعِ مِنْهَا مَعَ الْقُدْرَةِ ؛ لِأَنَّهَا حَجَّةٌ وَاجِبَةٌ ، فَأَمَّا حَجُّ التَّطَوُّعِ ، فَيَنْقَسِمُ أَقْسَامًا ثَلَاثَةً : أَحَدُهَا ، أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لَمْ يُؤَدِّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِي حَجَّةِ التَّطَوُّعِ ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَفْعَلَهُ بِنَفْسِهِ ، فَبِنَائِبِهِ أَوْلَى .
الثَّانِي ، أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ قَدْ أَدَّى حَجَّةَ الْإِسْلَامِ ، وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ ، فَيَصِحُّ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِي التَّطَوُّعِ ، فَإِنَّ مَا جَازَتْ الِاسْتِنَابَةُ فِي فَرْضِهِ ، جَازَتْ فِي نَفْلِهِ ، كَالصَّدَقَةِ .
الثَّالِث ، أَنْ يَكُونَ قَدْ أَدَّى حَجَّةَ الْإِسْلَامِ ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْحَجِّ بِنَفْسِهِ ، فَهَلْ لَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِي حَجِّ التَّطَوُّعِ ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ ؛ إحْدَاهُمَا ، يَجُوزُ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهَا حَجَّةٌ لَا تَلْزَمُهُ بِنَفْسِهِ ، فَجَازَ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِيهَا ، كَالْمَعْضُوبِ .
وَالثَّانِيَةُ ، لَا يَجُوزُ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْحَجِّ بِنَفْسِهِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِيهِ ، كَالْفَرْضِ .

( 2220 ) فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْهُ عَجْزًا مَرْجُوَّ الزَّوَالِ ، كَالْمَرِيضِ مَرَضًا يُرْجَى بُرْؤُهُ ، وَالْمَحْبُوسِ ، جَازَ لَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ حَجٌّ لَا يَلْزَمَهُ ، عَجَزَ عَنْ فِعْلِهِ بِنَفْسِهِ ، فَجَازَ لَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِيهِ ، كَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفَرْضِ ، أَنَّ الْفَرْضَ عِبَادَةُ الْعُمْرِ ، فَلَا يَفُوتُ بِتَأْخِيرِهِ عَنْ هَذَا الْعَامِ ، وَالتَّطَوُّعُ مَشْرُوعٌ فِي كُلِّ عَامٍ ، فَيَفُوتُ حَجُّ هَذَا الْعَامِ بِتَأْخِيرِهِ ، وَلِأَنَّ حَجَّ الْفَرْضِ إذَا مَاتَ قَبْلَ فِعْلِهِ ، فُعِلَ بَعْدَ مَوْتِهِ ، وَحَجَّ التَّطَوُّعِ لَا يُفْعَلُ ، فَيَفُوتُ .

( 2221 ) فَصْلٌ : وَفِي الِاسْتِئْجَارِ عَلَى الْحَجِّ ، وَالْأَذَانِ وَتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْفِقْهِ ، وَنَحْوِهِ ، مِمَّا يَتَعَدَّى نَفْعُهُ ، وَيَخْتَصُّ فَاعِلُهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْقُرْبَةِ ، رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا ، لَا يَجُوزُ .
وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَإِسْحَاقَ .
وَالْأُخْرَى ، يَجُوزُ .
وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَحَقُّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللَّهِ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَأَخَذَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجُعْلَ عَلَى الرُّقْيَةِ بِكِتَابِ اللَّهِ ، وَأَخْبَرُوا بِذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَوَّبَهُمْ فِيهِ .
وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ أَخْذُ النَّفَقَةِ عَلَيْهِ ، فَجَازَ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ ، كَبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَالْقَنَاطِرِ .
وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ كَانَ يُعَلِّمُ رَجُلًا الْقُرْآنَ ، فَأَهْدَى لَهُ قَوْسًا ، فَسَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ ، فَقَالَ لَهُ : { إنْ سَرَّك أَنْ تَتَقَلَّدَ قَوْسًا مِنْ نَارٍ ، فَتَقَلَّدْهَا } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ : { وَاِتَّخِذْ مُؤَذِّنًا ، لَا يَأْخُذُ عَلَى أَذَانِهِ أَجْرًا } .
وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يَخْتَصُّ فَاعِلُهَا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْقُرْبَةِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهَا ، كَالصَّلَاةِ ، وَالصَّوْمِ .
وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ الَّتِي فِي أَخْذِ الْجُعْلِ وَالْأُجْرَةِ ، فَإِنَّمَا كَانَتْ فِي الرُّقْيَةِ ، وَهِيَ قَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ ، فَتَخْتَصُّ بِهَا .
وَأَمَّا بِنَاءُ الْمَسَاجِدِ ، فَلَا يَخْتَصُّ فَاعِلُهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْقُرْبَةِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَقَعَ قُرْبَةً وَغَيْرَ قُرْبَةٍ ، فَإِذَا وَقَعَ بِأُجْرَةٍ لَمْ يَكُنْ قُرْبَةً ، وَلَا عِبَادَةً ، وَلَا يَصِحُّ هَاهُنَا أَنْ يَكُونَ غَيْرَ عِبَادَةٍ ، وَلَا يَجُوزُ الِاشْتِرَاكُ فِي الْعِبَادَةِ ، فَمَتَى فَعَلَهُ مِنْ أَجْلِ الْأُجْرَةِ خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ عِبَادَةً ،

فَلَمْ يَصِحَّ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ أَخْذِ النَّفَقَةِ جَوَازُ أَخْذِ الْأُجْرَةِ ، بِدَلِيلِ الْقَضَاءِ وَالشَّهَادَةِ وَالْإِمَامَةِ ، يُؤْخَذُ عَلَيْهَا الرِّزْقُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ، وَهُوَ نَفَقَةٌ فِي الْمَعْنَى ، وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهَا .
وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ ، أَنَّهُ مَتَى لَمْ يَجُزْ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهَا ، فَلَا يَكُونُ إلَّا نَائِبًا مَحْضًا ، وَمَا يُدْفَعُ إلَيْهِ مِنْ الْمَالِ يَكُونُ نَفَقَةً لِطَرِيقِهِ ، فَلَوْ مَاتَ ، أَوْ أُحْصِرَ ، أَوْ مَرِضَ ، أَوْ ضَلَّ الطَّرِيقَ ، لَمْ يَلْزَمْهُ الضَّمَانُ لِمَا أَنْفَقَ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ؛ لِأَنَّهُ إنْفَاقٌ بِإِذْنِ صَاحِبِ الْمَالِ ، فَأَشْبَهُ مَا لَوْ أَذِنَ لَهُ فِي سَدِّ بَثْقٍ فَانْبَثَقَ وَلَمْ يَنْسَدَّ .
وَإِذَا نَابَ عَنْهُ آخَرُ ، فَإِنَّهُ يَحُجُّ مِنْ حَيْثُ بَلَغَ النَّائِبُ الْأَوَّلُ مِنْ الطَّرِيقِ ، لِأَنَّهُ حَصَلَ قَطْعُ هَذِهِ الْمَسَافَةِ بِمَالِ الْمَنُوبِ عَنْهُ ، فَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ الْإِنْفَاقُ دَفْعَةً أُخْرَى ، كَمَا لَوْ خَرَجَ بِنَفْسِهِ فَمَاتَ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ ، فَإِنَّهُ يُحَجُّ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ انْتَهَى .
وَمَا فَضَلَ مَعَهُ مِنْ الْمَالِ رَدَّهُ ، إلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ فِي أَخْذِهِ ، وَيُنْفِقُ عَلَى نَفْسِهِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ مِنْ غَيْرِ إسْرَافٍ وَلَا تَقْتِيرٍ ، وَلَيْسَ لَهُ التَّبَرُّعُ بِشَيْءٍ مِنْهُ ، إلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ فِي ذَلِكَ .
قَالَ أَحْمَدُ ، فِي الَّذِي يَأْخُذُ دَرَاهِمَ لِلْحَجِّ : لَا يَمْشِي ، وَلَا يُقَتِّرُ فِي النَّفَقَةِ ، وَلَا يُسْرِفُ .
وَقَالَ فِي رَجُلٍ أَخَذَ حَجَّةً عَنْ مَيِّتٍ ، فَفَضَلَتْ مَعَهُ فَضْلَةٌ : يَرُدُّهَا ، وَلَا يُنَاهِدُ أَحَدًا إلَّا بِقَدْرِ مَا لَا يَكُونُ سَرَفًا ، وَلَا يَدْعُو إلَى طَعَامِهِ ، وَلَا يَتَفَضَّلُ .
ثُمَّ قَالَ : أَمَّا إذَا أُعْطِيَ أَلْفَ دِرْهَمٍ ، أَوْ كَذَا وَكَذَا ، فَقِيلَ لَهُ : حُجَّ بِهَذِهِ .
فَلَهُ أَنْ يَتَوَسَّعَ فِيهَا ، وَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ فَهُوَ لَهُ .
وَإِذَا قَالَ الْمَيِّتُ : حُجُّوا عَنِّي حَجَّةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ .
فَدَفَعُوهَا إلَى رَجُلٍ ، فَلَهُ أَنْ يَتَوَسَّعَ فِيهَا ، وَمَا فَضَلَ فَهُوَ لَهُ .
وَإِنْ

قُلْنَا : يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْحَجِّ .
جَازَ أَنْ يَقَعَ الدَّفْعُ إلَى النَّائِبِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْجَارٍ ، فَيَكُونُ الْحُكْمُ فِيهِ عَلَى مَا مَضَى .
وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَحُجَّ عَنْهُ أَوْ عَنْ مَيِّتٍ ، اعْتَبَرَ فِيهِ شُرُوطَ الْإِجَارَةِ ؛ مِنْ مَعْرِفَةِ الْأُجْرَةِ ، وَعَقْدِ الْإِجَارَةِ ، وَمَا يَأْخُذُهُ أُجْرَةً لَهُ يَمْلِكُهُ ، وَيُبَاحُ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ ، وَالتَّوَسُّعُ بِهِ فِي النَّفَقَةِ وَغَيْرِهَا ، وَمَا فَضَلَ فَهُوَ لَهُ ، وَإِنْ أُحْصِرَ ، أَوْ ضَلَّ الطَّرِيقَ ، أَوْ ضَاعَتْ النَّفَقَةُ مِنْهُ ، فَهُوَ فِي ضَمَانِهِ ، وَالْحَجُّ عَلَيْهِ ، وَإِنْ مَاتَ ، انْفَسَخَتْ الْإِجَارَةُ ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ تَلِفَ ، فَانْفَسَخَ الْعَقْدُ ، كَمَا لَوْ مَاتَتْ الْبَهِيمَةُ الْمُسْتَأْجَرَةُ ، وَيَكُونُ الْحَجُّ أَيْضًا مِنْ مَوْضِعٍ بَلَغَ إلَيْهِ النَّائِبُ ، وَمَا لَزِمَهُ مِنْ الدِّمَاءِ فَعَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ عَلَيْهِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا النَّائِبُ غَيْرُ الْمُسْتَأْجَرِ ، فَمَا لَزِمَهُ مِنْ الدِّمَاءِ بِفِعْلِ مَحْظُورٍ ، فَعَلَيْهِ فِي مَالِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي الْجِنَايَةِ ، فَكَانَ مُوجَبًا عَلَيْهِ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ نَائِبًا ، وَدَمُ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ ، إنْ أُذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ ، عَلَى الْمُسْتَنِيبِ ؛ لِأَنَّهُ أُذِنَ فِي سَبَبِهِمَا ، وَإِنْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ ، فَعَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ كَجِنَايَتِهِ ، وَدَمُ الْإِحْصَارِ عَلَى الْمُسْتَنِيبِ ؛ لِأَنَّهُ لِلتَّخَلُّصِ مِنْ مَشَقَّةِ السَّفَرِ ، فَهُوَ كَنَفَقَةِ الرُّجُوعِ .
وَإِنْ أَفْسَدَ حَجَّهُ ، فَالْقَضَاءُ عَلَيْهِ ، وَيَرُدُّ مَا أَخَذَ ؛ لِأَنَّ الْحَجَّةَ لَمْ تُجْزِئْ عَنْ الْمُسْتَنِيبِ ؛ لِتَفْرِيطِهِ وَجِنَايَتِهِ .
وَكَذَلِكَ إنْ فَاتَهُ الْحَجُّ بِتَفْرِيطِهِ .
وَإِنْ فَاتَ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ ، احْتَسَبَ لَهُ بِالنَّفَقَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَفُتْ ، بِفِعْلِهِ ، فَلَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا ، كَمَا لَوْ مَاتَ .
وَإِنْ قُلْنَا بِوُجُوبِ الْقَضَاءِ ، فَهُوَ عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ ، كَمَا لَوْ دَخَلَ فِي حَجٍّ ظَنَّ أَنَّهُ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يَكُنْ ، فَفَاتَهُ .

( 2223 ) فَصْلٌ : وَإِذَا سَلَكَ النَّائِبُ طَرِيقًا يُمْكِنُهُ سُلُوكُ أَقْرَبَ مِنْهُ ، فَفَاضِلُ النَّفَقَةِ فِي مَالِهِ .
وَإِنْ تَعَجَّلَ عَجَلَةً يُمْكِنُهُ تَرْكُهَا ، فَكَذَلِكَ .
وَإِنْ .
أَقَامَ بِمَكَّةَ أَكْثَرَ مِنْ مُدَّةِ الْقَصْرِ ، بَعْدَ إمْكَانِ السَّفَرِ لِلرُّجُوعِ ، أَنْفَقَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْذُونٍ لَهُ فِيهِ .
فَأَمَّا مَنْ لَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ قَبْلَ ذَلِكَ ، فَلَهُ النَّفَقَةُ ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ لَهُ فِيهِ ، وَلَهُ نَفَقَةُ الرُّجُوعِ ، وَإِنْ أَقَامَ بِمَكَّةَ سِنِينَ مَا لَمْ يَتَّخِذْهَا دَارًا ، فَإِنْ اتَّخَذَهَا دَارًا ، وَلَوْ سَاعَةً ، لَمْ يَكُنْ لَهُ نَفَقَةُ رُجُوعِهِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ مَكِّيًّا ، فَسَقَطَتْ نَفَقَتُهُ ، فَلَمْ تُعَدَّ .
وَإِنْ مَرِضَ فِي الطَّرِيقِ ، فَعَادَ ، فَلَهُ نَفَقَةُ رُجُوعِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ ، حَصَلَ بِغَيْرِ تَفْرِيطِهِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قُطِعَ عَلَيْهِ الطَّرِيقُ أَوْ أُحْصِرَ .
وَإِنْ قَالَ : خِفْت أَنْ أَمْرَضَ فَرَجَعْت .
فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ ؛ لِأَنَّهُ مُتَوَهِّمٌ .
وَعَنْ أَحْمَدَ ، فِي مَنْ مَرِضَ فِي الْكُوفَةِ ، فَرَجَعَ ، يَرُدُّ مَا أَخَذَ .
وَفِي جَمِيعِ ذَلِكَ إذَا أَذِنَ لَهُ فِي النَّفَقَةِ ، فَلَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمَالَ لِلْمُسْتَنِيبِ ، فَجَازَ مَا أَذِنَ فِيهِ .
وَإِنْ شَرَطَ أَحَدُهُمَا أَنَّ الدِّمَاءَ الْوَاجِبَة عَلَيْهِ عَلَى غَيْرِهِ ، لَمْ يَصِحَّ الشَّرْطُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ مُوجِبَاتِ فِعْلِهِ ، أَوْ الْحَجِّ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ ، فَلَمْ يَجُزْ شَرْطُهُ عَلَى غَيْرِهِ ، كَمَا لَوْ شَرَطَهُ عَلَى أَجْنَبِيٍّ .

( 2224 ) فَصْلٌ : يَجُوزُ أَنْ يَنُوبَ الرَّجُلُ عَنْ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ ، وَالْمَرْأَةُ عَنْ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ ، فِي الْحَجِّ ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
لَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا ، إلَّا الْحَسَنَ بْنَ صَالِحٍ ، فَإِنَّهُ كَرِهَ حَجَّ الْمَرْأَةِ عَنْ الرَّجُلِ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : هَذِهِ غَفْلَةٌ عَنْ ظَاهِرِ السُّنَّةِ ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ الْمَرْأَةَ أَنْ تَحُجَّ عَنْ أَبِيهَا ، وَعَلَيْهِ ؛ يَعْتَمِدُ مَنْ أَجَازَ حَجَّ الْمَرْءِ عَنْ غَيْرِهِ وَفِي الْبَابِ حَدِيثُ أَبِي رَزِينٍ ، وَأَحَادِيثُ سِوَاهُ .

( 2225 ) فَصْلٌ : وَلَا يَجُوزُ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ عَنْ حَيٍّ إلَّا بِإِذْنِهِ ، فَرْضًا كَانَ أَوْ تَطَوُّعًا ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ ، فَلَمْ تَجُزْ عَنْ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ إلَّا بِإِذْنِهِ ، كَالزَّكَاةِ ، فَأَمَّا الْمَيِّتُ فَتَجُوزُ عَنْهُ بِغَيْرِ إذْنٍ ، وَاجِبًا كَانَ أَوْ تَطَوُّعًا ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِالْحَجِّ عَنْ الْمَيِّتِ ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا إذْنَ لَهُ ، وَمَا جَازَ فَرْضُهُ جَازَ نَفْلُهُ ، كَالصَّدَقَةِ .
فَعَلَى هَذَا كُلُّ مَا يَفْعَلُهُ النَّائِبُ عَنْ الْمُسْتَنِيبِ ، مِمَّا لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ ، مِثْلُ أَنْ يُؤْمَرَ بِحَجٍّ فَيَعْتَمِرَ ، أَوْ بِعُمْرَةٍ فَيَحُجَّ ، يَقَعُ عَنْ الْمَيِّتِ ؛ لِأَنَّهُ يَصِحُّ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ إذْنِهِ ، وَلَا يَقَعُ عَنْ الْحَيِّ ؛ لِعَدَمِ إذْنِهِ فِيهِ ، وَيَقَعُ عَمَّنْ فَعَلَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ وُقُوعُهُ عَنْ الْمَنْوِيِّ عَنْهُ ، وَقَعَ عَنْ نَفْسِهِ ، كَمَا لَوْ اسْتَنَابَهُ رَجُلَانِ ، فَأَحْرَمَ عَنْهُمَا جَمِيعًا ، وَعَلَيْهِ رَدُّ النَّفَقَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ مَا أُمِرَ بِهِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا .

فُصُولٌ فِي مُخَالَفَةِ النَّائِبِ : إذَا أَمَرَهُ بِحَجٍّ فَتَمَتَّعَ أَوْ اعْتَمَرَ لِنَفْسِهِ مِنْ الْمِيقَاتِ ، ثُمَّ حَجَّ ؛ نَظَرْت ؛ فَإِنْ خَرَجَ إلَى الْمِيقَاتِ فَأَحْرَمَ مِنْهُ بِالْحَجِّ ، جَازَ ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَإِنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ ، فَعَلَيْهِ دَمٌ ؛ لِتَرْكِ مِيقَاتِهِ ، وَيَرُدُّ مِنْ النَّفَقَةِ بِقَدْرِ مَا تَرَكَ مِنْ إحْرَامِ الْحَجِّ فِيمَا بَيْنَ الْمِيقَاتِ وَمَكَّةَ .
وَقَالَ الْقَاضِي : لَا يَقَعُ فِعْلُهُ عَنْ الْآمِرِ ، وَيَرُدُّ جَمِيعَ النَّفَقَةِ ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِغَيْرِ مَا أُمِرَ بِهِ .
وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ إذَا أَحْرَمَ مِنْ الْمِيقَاتِ فَقَدْ أَتَى بِالْحَجِّ صَحِيحًا مِنْ مِيقَاتِهِ ، وَإِنْ أَحْرَمَ بِهِ مِنْ مَكَّةَ ، فَمَا أَخَلَّ إلَّا بِمَا يَجْبُرُهُ الدَّمُ ، فَلَمْ تَسْقُطْ نَفَقَتُهُ ، كَمَا لَوْ تَجَاوَزَ الْمِيقَاتَ غَيْرَ مُحْرِمٍ ، فَأَحْرَمَ دُونَهُ .
وَإِنْ أَمَرَهُ بِالْإِفْرَادِ فَقَرَنَ ، لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَضْمَنُ ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ وَزِيَادَةً ، فَصَحَّ وَلَمْ يَضْمَنْ ، كَمَا لَوْ أَمَرَهُ بِشِرَاءِ شَاةٍ بِدِينَارٍ ، فَاشْتَرَى بِهِ شَاتَيْنِ تُسَاوِي إحْدَاهُمَا دِينَارًا .
ثُمَّ إنْ كَانَ أَمَرَهُ بِالْعُمْرَةِ بَعْدَ الْحَجِّ فَفَعَلَهَا ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ، رَدَّ مِنْ النَّفَقَةِ بِقَدْرِهَا .

( 2227 ) فَصْلٌ : وَإِنْ أَمَرَهُ بِالتَّمَتُّعِ فَقَرَنَ ، وَقَعَ عَنْ الْآمِرِ ، لِأَنَّهُ أَمَرَ بِهِمَا ، وَإِنَّمَا خَالَفَ فِي أَنَّهُ أَمَرَهُ بِالْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ ، فَأَحْرَمَ بِهِ مِنْ الْمِيقَاتِ .
وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يَرُدُّ شَيْئًا مِنْ النَّفَقَةِ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ الْقَاضِي : يَرُدُّ نِصْفَ النَّفَقَةِ ؛ لِأَنَّ غَرَضَهُ فِي عُمْرَةٍ مُفْرَدَةٍ وَتَحْصِيلِ فَضِيلَةِ التَّمَتُّع ، وَقَدْ خَالَفَهُ فِي ذَلِكَ ، وَفَوَّتَهُ عَلَيْهِ .
وَإِنْ أَفْرَدَ وَقَعَ عَنْ الْمُسْتَنِيبِ أَيْضًا ، وَيَرُدُّ نِصْفَ النَّفَقَةِ ؛ لِأَنَّهُ أَخَلَّ بِالْإِحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ مِنْ الْمِيقَاتِ ، وَقَدْ أَمَرَهُ بِهِ ، وَإِحْرَامُهُ بِالْحَجِّ مِنْ الْمِيقَاتِ زِيَادَةٌ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ شَيْئًا .

( 2228 ) فَصْلٌ : فَإِنْ أَمَرَهُ بِالْقِرَانِ فَأَفْرَدَ أَوْ تَمَتَّعَ ، صَحَّ ، وَوَقَعَ النُّسُكَانِ عَنْ الْآمِرِ ، وَيَرُدُّ مِنْ النَّفَقَةِ بِقَدْرِ مَا تَرَكَ مِنْ إحْرَامِ النُّسُكِ الَّذِي تَرَكَهُ مِنْ الْمِيقَاتِ .
وَفِي جَمِيعِ ذَلِكَ ، إذَا أَمَرَهُ بِالنُّسُكَيْنِ ، فَفَعَلَ أَحَدَهُمَا دُونَ الْآخَرِ ، رَدَّ مِنْ النَّفَقَةِ بِقَدْرِ مَا تَرَكَ ، وَوَقَعَ الْمَفْعُولُ عَنْ الْآمِرِ ، وَلِلنَّائِبِ مِنْ النَّفَقَةِ بِقَدْرِهِ .

( 2229 ) فَصْلٌ : وَإِنْ اسْتَنَابَهُ رَجُلٌ فِي الْحَجِّ ، وَآخَرُ فِي الْعُمْرَةِ ، وَأَذِنَا لَهُ فِي الْقِرَانِ ، فَفَعَلَ ، جَازَ ؛ لِأَنَّهُ نُسُكٌ مَشْرُوعٌ .
وَإِنْ قَرَنَ مِنْ غَيْرِ إذْنِهِمَا ، صَحَّ وَوَقَعَ عَنْهُمَا ، وَيَرُدُّ مِنْ نَفَقَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَهَا ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ السَّفَرَ عَنْهُمَا بِغَيْرِ إذْنِهِمَا .
وَإِنْ أَذِنَ أَحَدُهُمَا دُونِ الْآخَرِ ، رَدَّ عَلَى غَيْرِ الْآمِرِ نِصْفَ نَفَقَتِهِ وَحْدَهُ .
وَقَالَ الْقَاضِي : إذَا لَمْ يَأْذَنَا لَهُ ضَمِنَ الْجَمِيعَ ؛ لِأَنَّهُ أُمِرَ بِنُسُكٍ مُفْرَدٍ ، وَلَمْ يَأْتِ بِهِ ، فَكَانَ مُخَالِفًا ، كَمَا لَوْ أُمِرَ بِحَجٍّ فَاعْتَمَرَ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ ، وَإِنَّمَا خَالَفَ فِي صِفَتِهِ ، لَا فِي أَصْلِهِ ، فَأَشْبَهَ مَنْ أُمِرَ بِالتَّمَتُّعِ فَقَرَنَ .
وَلَوْ أُمِرَ بِأَحَدِ النُّسُكَيْنِ ، فَقَرَنَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النُّسُكِ الْآخَرِ لِنَفْسِهِ ، فَالْحُكْمُ فِيهِ كَذَلِكَ ، وَدَمُ الْقِرَانِ عَلَى النَّائِبِ إذَا لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِيهِ ؛ لِعَدَمِ الْإِذْنِ فِي سَبَبِهِ ، وَعَلَيْهِمَا ، إنْ أَذِنَا ؛ لِوُجُودِ الْإِذْنِ فِي سَبَبِهِ .
وَلَوْ أَذِنَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ ، فَعَلَى الْآذِنِ نِصْفُ الدَّمِ ، وَنِصْفُهُ عَلَى النَّائِبِ .

( 2230 ) فَصْلٌ : وَإِنْ أُمِرَ بِالْحَجِّ ، فَحَجَّ ، ثُمَّ اعْتَمَرَ لِنَفْسِهِ ، أَوْ أَمَرَهُ بِعُمْرَةٍ ، فَاعْتَمَرَ ، ثُمَّ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ .
صَحَّ ، وَلَمْ يَرُدَّ شَيْئًا مِنْ النَّفَقَةِ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ عَلَى وَجْهِهِ وَإِنْ أَمَرَهُ بِالْإِحْرَامِ مِنْ مِيقَاتٍ ، فَأَحْرَمَ مِنْ غَيْرِهِ ، جَازَ ؛ لِأَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي الْإِجْزَاءِ .
وَإِنْ أَمَرَهُ بِالْإِحْرَامِ مِنْ بَلَدِهِ ، فَأَحْرَمَ مِنْ الْمِيقَاتِ ، جَازَ ؛ لِأَنَّهُ الْأَفْضَلُ .
وَإِنْ أَمَرَهُ بِالْإِحْرَامِ مِنْ الْمِيقَاتِ ، فَأَحْرَمَ مَنْ بَلَدِهِ ، جَازَ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ لَا تَضُرُّ .
وَإِنْ أَمَرَهُ بِالْحَجِّ فِي سَنَةٍ ، أَوْ بِالِاعْتِمَارِ فِي شَهْرٍ ، فَفَعَلَهُ فِي غَيْرِهِ ، جَازَ ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِيهِ فِي الْجُمْلَةِ .

( 2231 ) فَصْلٌ : فَإِنْ اسْتَنَابَهُ اثْنَانِ فِي نُسُكٍ ، فَأَحْرَمَ بِهِ عَنْهُمَا ، وَقَعَ عَنْ نَفْسِهِ دُونَهُمَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ وُقُوعُهُ عَنْهُمَا ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ صَاحِبِهِ .
وَإِنْ أَحْرَمَ عَنْ نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ ، وَقَعَ عَنْ نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا وَقَعَ عَنْ نَفْسِهِ وَلَمْ يَنْوِهَا ، فَمَعَ نِيَّتِهِ أَوْلَى .
وَإِنْ أَحْرَمَ عَنْ أَحَدِهِمَا غَيْرَ مُعَيِّنٍ ، احْتَمَلَ أَنْ يَقَعَ عَنْ نَفْسِهِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَيْسَ أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَحْرَمَ عَنْهُمَا .
وَاحْتَمَلَ أَنْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ يَصِحُّ بِالْمَجْهُولِ ، فَصَحَّ عَنْ الْمَجْهُولِ ، وَإِلَّا صَرَفَهُ إلَى مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا .
اخْتَارَهُ أَبُو الْخَطَّابِ .
فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ حَتَّى طَافَ شَوْطًا ، وَقَعَ عَنْ نَفْسِهِ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ صَرْفُهُ إلَى أَحَدِهِمَا ؛ لِأَنَّ الطَّوَافَ لَا يَقَعُ عَنْ غَيْرِ مُعَيَّنٍ .

( 2232 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ ( وَحُكْمُ الْمَرْأَةِ إذَا كَانَ لَهَا مَحْرَمٌ كَحُكْمِ الرَّجُلِ ) ظَاهِرُ هَذَا أَنَّ الْحَجَّ لَا يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ الَّتِي لَا مَحْرَمَ لَهَا ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهَا بِالْمَحْرَمِ كَالرَّجُلِ فِي وُجُوبِ الْحَجِّ ، فَمَنْ لَا مَحْرَمَ لَهَا لَا تَكُونُ كَالرَّجُلِ ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهَا الْحَجُّ .
وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، فَقَالَ أَبُو دَاوُد : قُلْت : لِأَحْمَدَ : امْرَأَةٌ مُوسِرَةٌ ، لَمْ يَكُنْ لَهَا مَحْرَمٌ ، هَلْ يَجِبُ عَلَيْهَا الْحَجُّ ؟ قَالَ : لَا .
وَقَالَ أَيْضًا : الْمَحْرَمُ مِنْ السَّبِيلِ .
وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ ، وَالنَّخَعِيِّ ، وَإِسْحَاقَ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ .
وَعَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّ الْمَحْرَمَ مِنْ شَرَائِطِ لُزُومِ السَّعْي دُونَ الْوُجُوبِ ، فَمَتَى فَاتَهَا الْحَجُّ بَعْدَ كَمَالِ الشَّرَائِطِ الْخَمْسِ ، بِمَوْتٍ ، أَوْ مَرَضٍ لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ ، أَخْرَجَ عَنْهَا حَجَّةً ؛ لِأَنَّ شُرُوطَ الْحَجِّ الْمُخْتَصَّةَ بِهِ قَدْ كَمُلَتْ ، وَإِنَّمَا الْمَحْرَمُ لِحِفْظِهَا ، فَهُوَ كَتَخْلِيَةِ الطَّرِيقِ ، وَإِمْكَانِ الْمَسِيرِ .
وَعَنْهُ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ ، أَنَّ الْمَحْرَمَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْحَجِّ الْوَاجِبِ .
قَالَ الْأَثْرَمُ : سَمِعْت أَحْمَدَ يُسْأَلُ : هَلْ يَكُونُ الرَّجُلُ مَحْرَمًا لِأُمِّ امْرَأَتِهِ ، يُخْرِجُهَا إلَى الْحَجِّ ؟ فَقَالَ : أَمَّا فِي حَجَّةِ الْفَرِيضَةِ فَأَرْجُو ؛ لِأَنَّهَا تَخْرُجُ إلَيْهَا مَعَ النِّسَاءِ ، وَمَعَ كُلِّ مَنْ أَمِنَتْهُ ، وَأَمَّا فِي غَيْرِهَا فَلَا وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ ، وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ .
وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ ، وَمَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ .
لَيْسَ الْمَحْرَمُ شَرْطًا فِي حَجِّهَا بِحَالٍ .
قَالَ ابْنُ سِيرِينَ : تَخْرُجُ مَعَ رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، لَا بَأْسَ بِهِ .
وَقَالَ مَالِكٌ : تَخْرُجُ مَعَ جَمَاعَةِ النِّسَاءِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : تَخْرُجُ مَعَ حُرَّةٍ مُسْلِمَةٍ ثِقَةٍ .
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : تَخْرُجُ مَعَ قَوْمٍ عُدُولٍ ، تَتَّخِذُ سُلَّمًا تَصْعَدُ عَلَيْهِ وَتَنْزِلُ ، وَلَا يَقْرَبُهَا رَجُلٌ ، إلَّا أَنَّهُ يَأْخُذُ رَأْسَ الْبَعِيرِ ، وَتَضَعُ

رِجْلَهَا عَلَى ذِرَاعِهِ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : تَرَكُوا الْقَوْلَ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ ، وَاشْتَرَطَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ شَرْطًا لَا حُجَّةَ مَعَهُ عَلَيْهِ ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَّرَ الِاسْتِطَاعَةَ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ ، وَقَالَ لِعَدِيِّ بْن حَاتِمٍ : { يُوشِكُ أَنْ تَخْرُجَ الظَّعِينَةُ مِنْ الْحِيرَةِ تَؤُمُّ الْبَيْتَ ، لَا جِوَارَ مَعَهَا ، لَا تَخَافُ إلَّا اللَّهَ } .
وَلِأَنَّهُ سَفَرٌ وَاجِبٌ ، فَلَمْ يُشْتَرَطْ لَهُ الْمَحْرَمُ ، كَالْمُسْلِمَةِ إذَا تَخَلَّصَتْ مِنْ أَيْدِي الْكُفَّارِ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ، تُسَافِرُ مَسِيرَةَ يَوْمٍ ، إلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ } .
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسِ ، قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ ، إلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ ، وَلَا تُسَافِرُ امْرَأَةٌ إلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ .
فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنِّي كُنْت فِي غَزْوَةِ كَذَا ، وَانْطَلَقَتْ امْرَأَتِي حَاجَّةً .
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : انْطَلِقْ فَاحْجُجْ مَعَ امْرَأَتِك } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا .
وَرَوَى ابْن عُمَرَ ، وَأَبُو سَعِيدٍ ، نَحْوًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ .
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : أَمَّا أَبُو هُرَيْرَةَ : فَيَقُولُ : ( يَوْمًا وَلَيْلَةً ) .
وَيُرْوَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : ( لَا تُسَافِرُ سَفَرًا ) أَيْضًا .
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ يَقُولُ : ( ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ) .
قُلْت : مَا تَقُولُ أَنْتَ ؟ قَالَ : لَا تُسَافِرُ سَفَرًا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا ، إلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ .
وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا تَحُجَّنَّ امْرَأَةٌ إلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ } .
وَهَذَا صَرِيحٌ فِي الْحُكْمِ .
وَلِأَنَّهَا أَنْشَأَتْ سَفَرًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ؛ فَلَمْ يَجُزْ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ ، كَحَجِّ

التَّطَوُّعِ .
وَحَدِيثُهُمْ مَحْمُولٌ عَلَى الرَّجُلِ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُمْ اشْتَرَطُوا خُرُوجَ غَيْرِهَا مَعَهَا ، فَجَعْلَ ذَلِكَ الْغَيْرَ الْمَحْرَمَ الَّذِي بَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَحَادِيثِنَا أَوْلَى مِمَّا اشْتَرَطُوهُ بِالتَّحَكُّمِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ يُوجِبُ الْحَجَّ ، مَعَ كَمَالِ بَقِيَّةِ الشُّرُوطِ ، وَلِذَلِكَ اشْتَرَطُوا تَخْلِيَةَ الطَّرِيقِ ، وَإِمْكَانَ الْمَسِيرِ ، وَقَضَاءَ الدَّيْنِ ، وَنَفَقَةَ الْعِيَالِ ، وَاشْتَرَطَ مَالِكٌ إمْكَانَ الثُّبُوتِ عَلَى الرَّاحِلَةِ ، وَهِيَ غَيْرُ مَذْكُورَةٍ فِي الْحَدِيثِ .
وَاشْتَرَطَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ شَرْطًا مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ ، لَا مِنْ كِتَابٍ وَلَا مِنْ سُنَّةٍ ، فَمَا ذَكَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى بِالِاشْتِرَاطِ ، وَلَوْ قُدِّرَ التَّعَارُضُ ، فَحَدِيثُنَا أَخُصُّ وَأَصَحُّ وَأَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ ، وَحَدِيثُ عَدِيٍّ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ السَّفَرِ ، لَا عَلَى جَوَازِهِ ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ فِي غَيْرِ الْحَجِّ الْمَفْرُوضِ ، وَلَمْ يُذْكَرْ فِيهِ خُرُوجُ غَيْرِهَا مَعَهَا ، وَقَدْ اشْتَرَطُوا هَاهُنَا خُرُوجَ غَيْرِهَا مَعَهَا .
وَأَمَّا الْأَسِيرَةُ إذَا تَخَلَّصَتْ مِنْ أَيْدِي الْكُفَّارِ ، فَإِنَّ سَفَرَهَا سَفَرُ ضَرُورَةٍ ، لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ حَالَةُ الِاخْتِيَارِ ، وَلِذَلِكَ تَخْرُجُ فِيهِ وَحْدَهَا ؛ وَلِأَنَّهَا تَدْفَعُ ضَرَرًا مُتَيَقَّنًا بِتَحَمُّلِ الضَّرَرِ الْمُتَوَهَّمِ ، فَلَا يَلْزَمُ تَحَمُّلُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ أَصْلًا .

( 2233 ) فَصْلٌ : وَالْمَحْرَمُ زَوْجُهَا ، أَوْ مَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ عَلَى التَّأْبِيدِ ، بِنَسَبٍ أَوْ سَبَبٍ مُبَاحٍ ، كَأَبِيهَا وَابْنِهَا وَأَخِيهَا مِنْ نَسَبٍ أَوْ رِضَاعٍ ؛ لِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ، أَنْ تُسَافِرَ سَفَرًا يَكُونُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا ، إلَّا وَمَعَهَا أَبُوهَا أَوْ ابْنُهَا أَوْ زَوْجُهَا أَوْ ذُو مَحْرَمٍ مِنْهَا } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
قَالَ أَحْمَدُ : وَيَكُونُ زَوْجُ أُمِّ الْمَرْأَةِ مَحْرَمًا لَهَا يَحُجُّ بِهَا ، وَيُسَافِرُ الرَّجُلُ مَعَ أُمِّ وَلَدِ جَدِّهِ ، فَإِذَا كَانَ أَخُوهَا مِنْ الرِّضَاعَةِ خَرَجَتْ مَعَهُ .
وَقَالَ فِي أُمِّ امْرَأَتِهِ : وَيَكُونُ مَحْرَمًا لَهَا فِي حَجِّ الْفَرْضِ ، دُونَ غَيْرِهِ .
قَالَ الْأَثْرَمُ : كَأَنَّهُ ذَهَبَ إلَى أَنَّهَا لَمْ تُذْكَرْ فِي قَوْلِهِ : { وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ } .
الْآيَةَ .
فَأَمَّا مَنْ تَحِلُّ لَهُ فِي حَالٍ ، كَعَبْدِهَا ، وَزَوْجِ أُخْتِهَا ، فَلَيْسَا بِمَحْرَمٍ لَهَا .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
لِأَنَّهُمَا غَيْرُ مَأْمُونَيْنِ عَلَيْهَا ، وَلَا تَحْرُمُ عَلَيْهِمَا عَلَى التَّأْبِيدِ ، فَهُمَا كَالْأَجْنَبِيِّ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ نَافِعٍ ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { سَفَرُ الْمَرْأَةِ مَعَ عَبْدِهَا ضَيْعَةٌ } .
أَخْرَجَهُ سَعِيدٌ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : عَبْدُهَا مَحْرَمٌ لَهَا ؛ لِأَنَّهُ يُبَاحُ لَهُ النَّظَرُ إلَيْهَا ، فَكَانَ مَحْرَمًا لَهَا ، كَذِي رَحِمِهَا .
وَالْأَوَّلُ أَوْلَى .
وَيُفَارِقُ ذَا الرَّحِمِ ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُونٌ عَلَيْهَا ، وَتَحْرُمُ عَلَيْهِ عَلَى التَّأْبِيدِ ، وَيَنْتَقِضُ مَا ذَكَرُوهُ بِالْقَوَاعِدِ مِنْ النِّسَاءِ ، وَغَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنْ الرِّجَالِ .
وَأَمَّا أُمُّ الْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ ، أَوْ الْمَزْنِيُّ بِهَا ، أَوْ ابْنَتُهُمَا ، فَلَيْسَ بِمَحْرَمٍ لَهُمَا ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَهُمَا بِسَبَبٍ غَيْرِ مُبَاحٍ ، فَلَمْ يَثْبُتْ بِهِ حُكْمُ الْمَحْرَمِيَّةِ كَالتَّحْرِيمِ الثَّابِتِ بِاللِّعَانِ ، وَلَيْسَ لَهُ

الْخَلْوَةُ بِهِمَا ، وَلَا النَّظَرُ إلَيْهِمَا لِذَلِكَ .
وَالْكَافِرُ لَيْسَ بِمَحْرَمٍ لِلْمُسْلِمَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ ابْنَتَهُ .
قَالَ أَحْمَدُ فِي يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ أَسْلَمَتْ ابْنَته : لَا يُزَوِّجُهَا ، وَلَا يُسَافِرُ مَعَهَا ، لَيْسَ هُوَ لَهَا بِمَحْرَمٍ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ : هُوَ مَحْرَمٌ لَهَا ؛ لِأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ عَلَى التَّأْبِيدِ .
وَلَنَا ، أَنَّ إثْبَاتَ الْمَحْرَمِيَّةِ يَقْتَضِي الْخَلْوَةَ بِهَا ، فَيَجِبُ أَنْ لَا تَثْبُتَ لِكَافِرٍ عَلَى مُسْلِمَةٍ ، كَالْحَضَانَةِ لِلطِّفْلِ ، وَلِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهَا أَنْ يَفْتِنَهَا عَنْ دِينِهَا كَالطِّفْلِ ، وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِأُمِّ الْمَزْنِيِّ بِهَا ، وَابْنَتِهَا ، وَالْمُحَرَّمَةِ بِاللِّعَانِ ، وَبِالْمَجُوسِيِّ مَعَ ابْنَتِهِ ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي الْمَجُوسِيِّ خِلَافٌ ؛ فَإِنَّهُ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهَا ، وَيَعْتَقِدُ حِلَّهَا .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي مَوَاضِعَ .
وَيُشْتَرَطُ فِي الْمَحْرَمِ أَنْ يَكُونَ بَالِغًا عَاقِلًا .
قِيلَ لِأَحْمَدَ : فَيَكُونُ الصَّبِيُّ مَحْرَمًا ؟ قَالَ : لَا ، حَتَّى يَحْتَلِمَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ ، فَكَيْفَ يَخْرُجُ مَعَ امْرَأَةٍ .
وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْمَحْرَمِ حِفْظُ الْمَرْأَةِ ، وَلَا يَحْصُلُ إلَّا مِنْ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ ، فَاعْتُبِرَ ذَلِكَ .

( 2234 ) فَصْلٌ : وَنَفَقَةُ الْمَحْرَمِ فِي الْحَجِّ عَلَيْهَا .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ سَبِيلِهَا ، فَكَانَ عَلَيْهَا نَفَقَتُهُ ، كَالرَّاحِلَةِ .
فَعَلَى هَذَا يُعْتَبَرُ فِي اسْتِطَاعَتِهَا أَنْ تَمْلِكَ زَادًا وَرَاحِلَةً لَهَا وَلِمَحْرَمِهَا ؛ فَإِنْ امْتَنَعَ مَحْرَمُهَا مِنْ الْحَجِّ مَعَهَا ، مَعَ بَذْلِهَا لَهُ نَفَقَتَهُ ، فَهِيَ كَمَنْ لَا مَحْرَمَ لَهَا ؛ لِأَنَّهَا لَا يُمْكِنُهَا الْحَجُّ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ .
وَهَلْ يَلْزَمُهُ إجَابَتُهَا إلَى ذَلِكَ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ .
نَصَّ عَلَيْهِمَا .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْحَجُّ مَعَهَا ؛ لِأَنَّ فِي الْحَجِّ مَشَقَّةً شَدِيدَةً ، وَكُلْفَةً عَظِيمَةً ، فَلَا تَلْزَمُ أَحَدًا لِأَجْلِ غَيْرِهِ ، كَمَا لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَحُجَّ عَنْهَا إذَا كَانَتْ مَرِيضَةً .

( 2235 ) فَصْلٌ : وَإِذَا مَاتَ مَحْرَمُ الْمَرْأَةِ فِي الطَّرِيقِ ، فَقَالَ أَحْمَدُ : إذَا تَبَاعَدَتْ مَضَتْ ، فَقَضَتْ الْحَجَّ .
قِيلَ لَهُ : قَدِمَتْ مِنْ خُرَاسَان ، فَمَاتَ وَلِيُّهَا بِبَغْدَادَ ؟ فَقَالَ : تَمْضِي إلَى الْحَجِّ ، وَإِذَا كَانَ الْفَرْضُ خَاصَّةً فَهُوَ آكَدُ .
ثُمَّ قَالَ : لَا بُدَّ لَهَا مِنْ أَنْ تَرْجِعَ .
وَهَذَا لِأَنَّهَا لَا بُدَّ لَهَا مِنْ السَّفَرِ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ ، فَمُضِيُّهَا إلَى قَضَاءِ حَجِّهَا أَوْلَى .
لَكِنْ إنْ كَانَ حَجُّهَا تَطَوُّعًا ، وَأَمْكَنَهَا الْإِقَامَةُ فِي بَلَدٍ ، فَهُوَ أَوْلَى مِنْ سَفَرِهَا بِغَيْرِ مَحْرَمٍ .

( 2236 ) فَصْلٌ : وَلَيْسَ لِلرَّجُلِ مَنْعُ امْرَأَتِهِ مِنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ .
وَبِهَذَا قَالَ النَّخَعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ .
وَلَهُ قَوْلٌ آخَرُ ، لَهُ مَنْعُهَا مِنْهُ .
بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحَجَّ عَلَى التَّرَاخِي .
وَلَنَا ، أَنَّهُ فَرْضٌ ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْعُهَا مِنْهُ ، كَصَوْمِ رَمَضَانَ ، وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ تَسْتَأْذِنَهُ فِي ذَلِكَ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
فَإِنْ ، أَذِنَ ، وَإِلَّا خَرَجَتْ بِغَيْرِ إذْنِهِ .
فَأَمَّا حَجُّ التَّطَوُّعِ ، فَلَهُ مَنْعُهَا مِنْهُ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ أَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ لَهُ مَنْعَهَا مِنْ الْخُرُوجِ إلَى الْحَجِّ التَّطَوُّعِ .
وَذَلِكَ لِأَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ وَاجِبٌ ، فَلَيْسَ لَهَا تَفْوِيتُهُ بِمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ ، كَالسَّيِّدِ مَعَ عَبْدِهِ .
وَلَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا مِنْ الْحَجِّ الْمَنْذُورِ ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهَا ، أَشْبَهَ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ .

( 2237 ) فَصْلٌ : وَلَا تَخْرُجُ إلَى الْحَجِّ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
قَالَ : وَلَهَا أَنْ تَخْرُجَ إلَيْهِ فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ الْمَبْتُوتِ .
وَذَلِكَ لِأَنَّ لُزُومَ الْمَنْزِلِ ، وَالْمَبِيتَ فِيهِ وَاجِبٌ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ ، وَقُدِّمَ عَلَى الْحَجِّ ، لِأَنَّهُ يَفُوتُ ، وَالطَّلَاقُ الْمَبْتُوتُ لَا يَجِبُ فِيهِ ذَلِكَ .
وَأَمَّا عِدَّةُ الرَّجْعِيَّةِ ، فَالْمَرْأَةُ فِيهِ بِمَنْزِلَتِهَا فِي طَلَبِ النِّكَاحِ ، لِأَنَّهَا زَوْجَةٌ .
وَإِذَا خَرَجَتْ لِلْحَجِّ ، فَتُوُفِّيَ زَوْجُهَا ، وَهِيَ قَرِيبَةٌ ، رَجَعَتْ لِتَعْتَدَّ فِي مَنْزِلِهَا وَإِنْ تَبَاعَدَتْ ، مَضَتْ فِي سَفَرِهَا .
ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ .

( 2238 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( فَمَنْ فَرَّطَ فِيهِ حَتَّى تُوُفِّيَ ، أُخْرِجَ عَنْهُ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ ، وَأَمْكَنَهُ فِعْلُهُ ، وَجَبَ عَلَيْهِ عَلَى الْفَوْرِ ، وَلَمْ يَجُزْ لَهُ تَأْخِيرُهُ .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَة ، وَمَالِكٌ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَجِبُ الْحَجُّ وُجُوبًا مُوَسَّعًا ، وَلَهُ تَأْخِيرُهُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّرَ أَبَا بَكْرٍ عَلَى الْحَجِّ ، وَتَخَلَّفَ بِالْمَدِينَةِ ، لَا مُحَارِبًا ، وَلَا مَشْغُولًا بِشَيْءٍ ، وَتَخَلَّفَ أَكْثَرُ النَّاسِ قَادِرِينَ عَلَى الْحَجِّ ، وَلِأَنَّهُ إذَا أَخَّرَهُ ثُمَّ فَعَلَهُ فِي السَّنَةِ الْأُخْرَى لَمْ يَكُنْ قَاضِيًا لَهُ ، دَلَّ عَلَى أَنَّ وُجُوبَهُ عَلَى التَّرَاخِي .
وَلَنَا ، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا } .
وَقَوْلُهُ : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } .
وَالْأَمْرُ عَلَى الْفَوْرِ .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ فَلْيَتَعَجَّلْ } .
رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، وَأَبُو دَاوُد ، وَابْنُ مَاجَهْ .
وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ ، وَابْنِ مَاجَهْ : { فَإِنَّهُ قَدْ يَمْرَضُ الْمَرِيضُ ، وَتَضِلُّ الضَّالَّةُ ، وَتَعْرِضُ الْحَاجَةُ } .
قَالَ أَحْمَدُ : وَرَوَاهُ الثَّوْرِيُّ ، وَوَكِيعٌ ، عَنْ أَبِي إسْرَائِيلَ ، عَنْ فُضَيْلٍ بْنِ عَمْرٍو ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسِ ، عَنْ أَخِيهِ الْفَضْلِ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً تُبْلِغُهُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ ، وَلَمْ يَحُجَّ ، فَلَا عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا } .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ، وَفِي إسْنَادِهِ مَقَالٌ .
وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَن بْن سَابِطٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى

اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ مَاتَ ، وَلَمْ يَحُجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ ، لَمْ يَمْنَعْهُ مَرَضٌ حَابِسٌ ، أَوْ سُلْطَانٌ جَائِرٌ ، أَوْ حَاجَةٌ ظَاهِرَةٌ ، فَلْيَمُتْ عَلَى أَيِّ حَالٍ شَاءَ ، يَهُودِيًّا ، أَوْ نَصْرَانِيًّا } .
وَعَنْ عُمَرَ نَحْوُهُ مِنْ قَوْلِهِ .
وَكَذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
وَلِأَنَّهُ أَحَدُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ ، فَكَانَ وَاجِبًا عَلَى الْفَوْرِ ، كَالصِّيَامِ .
وَلِأَنَّ وُجُوبَهُ بِصِفَةِ التَّوَسُّعِ يُخْرِجُهُ عَنْ رُتْبَةِ الْوَاجِبَاتِ ، لِأَنَّهُ يُؤَخَّرُ إلَى غَيْرِ غَايَةٍ وَلَا يَأْثَمُ بِالْمَوْتِ قَبْلَ فِعْلِهِ ، لِكَوْنِهِ فَعَلَ مَا يَجُوزُ لَهُ فِعْلُهُ ، وَلَيْسَ عَلَى الْمَوْتِ أَمَارَةٌ يَقْدِرُ بَعْدَهَا عَلَى فِعْلِهِ .
فَأَمَّا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّمَا فَتَحَ مَكَّةَ سَنَةَ ثَمَانٍ ، وَإِنَّمَا أَخَّرَهُ سَنَةَ تِسْعٍ ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ لَهُ عُذْرٌ ، مِنْ عَدَمِ الِاسْتِطَاعَةِ ، أَوْ كَرِهَ رُؤْيَةَ الْمُشْرِكِينَ عُرَاةً حَوْلَ الْبَيْتِ ، فَأَخَّرَ الْحَجَّ حَتَّى بَعَثَ أَبَا بَكْرٍ يُنَادِي : أَنْ { لَا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ ، وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانُ } .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَخَّرَهُ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى لِتَكُونَ حَجَّتُهُ حَجَّةَ الْوَدَاعِ فِي السَّنَةِ الَّتِي اسْتَدَارَ فِيهَا الزَّمَانُ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَيُصَادِفَ وَقْفَةَ الْجُمُعَةِ ، وَيُكْمِلَ اللَّهُ دِينَهُ .
وَيُقَالُ : إنَّهُ اجْتَمَعَ يَوْمَئِذٍ أَعْيَادُ أَهْلِ كُلِّ دِينٍ ، وَلَمْ يَجْتَمِعْ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ .
فَأَمَّا تَسْمِيَةُ فِعْلِ الْحَجِّ قَضَاءً ، فَإِنَّهُ يُسَمَّى بِذَلِكَ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ } ، وَعَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ الْوُجُوبِ عَلَى الْفَوْرِ تَسْمِيَةُ الْقَضَاءِ ؛ فَإِنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ عَلَى الْفَوْرِ ، وَلَوْ أَخَّرَهَا لَا تُسَمَّى قَضَاءً ، وَالْقَضَاءُ الْوَاجِبُ عَلَى الْفَوْرِ إذَا أَخَّرَهُ لَا يُسَمَّى قَضَاءَ الْقَضَاءِ ، وَلَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ فِي الْحَجِّ أَنَّهُ لَا يَعِيشُ إلَى سَنَةٍ

أُخْرَى ، لَمْ يَجُزْ لَهُ تَأْخِيرُهُ ، فَلَوْ أَخَّرَهُ لَا يُسَمَّى قَضَاءً .
إذَا ثَبَتَ هَذَا عُدْنَا إلَى شَرْحِ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ ، فَنَقُولُ : مَتَى تُوُفِّيَ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ وَلَمْ يَحُجَّ ، وَجَبَ أَنْ يُخْرَجَ عَنْهُ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ مَا يُحَجُّ بِهِ عَنْهُ وَيُعْتَمَرُ ، سَوَاءٌ فَاتَهُ بِتَفْرِيطٍ أَوْ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ .
وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ ، وَطَاوُسٌ ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٌ : يَسْقُطُ ؛ بِالْمَوْتِ ؛ فَإِنْ وَصَّى بِهَا فَهِيَ مِنْ الثُّلُثِ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّعْبِيُّ ، وَالنَّخَعِيُّ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ فَتَسْقُطُ بِالْمَوْتِ ، كَالصَّلَاةِ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاس ، { أَنَّ امْرَأَةً سَأَلْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَبِيهَا ، مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ ؟ قَالَ : حُجِّي عَنْ أَبِيك } وَعَنْهُ ، { أَنَّ امْرَأَةً نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ ، فَمَاتَتْ ، فَأَتَى أَخُوهَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ ؟ فَقَالَ : أَرَأَيْت لَوْ كَانَ عَلَى أُخْتِك دَيْنٌ ، أَمَا كُنْت قَاضِيَهُ ؟ قَالَ : نَعَمْ .
قَالَ : فَاقْضُوا دَيْنَ اللَّهِ ، فَهُوَ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ } .
رَوَاهُمَا النَّسَائِيّ .
وَرَوَى هَذَا أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ ، عَنْ شُعْبَةَ ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرِ ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَلِأَنَّهُ حَقٌّ اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِالْمَوْتِ كَالدَّيْنِ .
وَيُخَرَّجُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ ، فَإِنَّهَا لَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ ، وَالْعُمْرَةُ كَالْحَجِّ فِي الْقَضَاءِ ، فَإِنَّهَا وَاجِبَةٌ ، وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا رَزِينٍ أَنْ يَحُجَّ عَنْ أَبِيهِ وَيَعْتَمِرَ ، وَيَكُونُ مَا يَحُجُّ بِهِ وَيَعْتَمِرُ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ مُسْتَقِرٌّ ، فَكَانَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ ، كَدَيْنِ الْآدَمِيِّ .

( 2239 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَنَابُ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ وَجَبَ عَلَيْهِ ، إمَّا مِنْ بَلَدِهِ أَوْ مِنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي أَيْسَرِ فِيهِ .
وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ ، وَإِسْحَاقُ ، وَمَالِكٌ فِي النَّذْرِ .
وَقَالَ عَطَاءٌ فِي النَّاذِرِ : إنْ لَمْ يَكُنْ نَوَى مَكَانًا ، فَمِنْ مِيقَاتِهِ .
وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِيمَنْ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ : يَسْتَأْجِرُ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ مِنْ الْمِيقَاتِ ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ لَا يَجِبُ مِنْ دُونِهِ .
وَلَنَا ، أَنَّ الْحَجَّ وَاجِبٌ عَلَى الْمَيِّتِ مِنْ بَلَدِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَنُوبَ عَنْهُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَكُونُ عَلَى وَفْقِ الْأَدَاءِ ، كَقَضَاءِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي حَجِّ النَّذْرِ وَالْقَضَاءِ ، فَإِنْ كَانَ لَهُ وَطَنَانِ اُسْتُنِيبَ مِنْ أَقْرَبِهِمَا .
فَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ بِخُرَاسَانَ وَمَاتَ بِبَغْدَادَ ، أَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ بِبَغْدَادَ فَمَاتَ بِخُرَاسَانَ ، فَقَالَ أَحْمَدُ : يُحَجُّ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ وَجَبَ عَلَيْهِ ، لَا مِنْ حَيْثُ مَوْتِهِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ مِنْ أَقْرَبِ الْمَكَانَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَيًّا فِي أَقْرَبِ الْمَكَانَيْنِ ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ أَبْعَدَ مِنْهُ ، فَكَذَلِكَ نَائِبُهُ .
فَإِنْ أُحِجَّ عَنْهُ مِنْ دُون ذَلِكَ ، فَقَالَ الْقَاضِي : إنْ كَانَ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ أَجْزَأَهُ ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْقَرِيبِ ، وَإِنْ كَانَ أَبْعَدَ لَمْ يُجْزِئْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤَدِّ الْوَاجِبَ بِكَمَالِهِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُجْزِئَهُ وَيَكُونَ مُسِيئًا ، كَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِحْرَامُ مِنْ الْمِيقَاتِ ، فَأَحْرَمَ مِنْ دُونِهِ .

( 2240 ) فَصْلٌ : فَإِنْ خَرَجَ لِلْحَجِّ ، فَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ ، حُجَّ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ مَاتَ ؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ بَعْضَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ ، فَلَمْ يَجِبْ ثَانِيًا .
وَكَذَلِكَ إنْ مَاتَ نَائِبُهُ ، اُسْتُنِيبَ مِنْ حَيْثُ مَاتَ لِذَلِكَ .
وَلَوْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ، ثُمَّ مَاتَ ، صَحَّتْ النِّيَابَةُ عَنْهُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ النُّسُكِ ، سَوَاءٌ كَانَ إحْرَامُهُ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ .
نَصَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ ، فَإِذَا مَاتَ بَعْدَ فِعْلِ بَعْضِهَا قَضَى عَنْهُ بَاقِيَهَا ، كَالزَّكَاةِ .

( 2241 ) فَصْلٌ : فَإِنْ لَمْ يُخَلِّفْ تَرِكَةً تَفِي بِالْحَجِّ مِنْ بَلَدِهِ ، حُجَّ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ تَبْلُغُ .
وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لِآدَمِيٍّ تَحَاصَّا ، وَيُؤْخَذُ لِلْحَجِّ حِصَّتُهُ ، فَيُحَجُّ بِهَا مِنْ حَيْثُ تَبْلُغُ .
وَقَالَ أَحْمَدُ ، فِي رَجُلٍ أَوْصَى أَنْ يُحَجُّ عَنْهُ ، وَلَا تَبْلُغُ النَّفَقَةُ ؟ قَالَ : يُحَجُّ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ تَبْلُغُ النَّفَقَةُ لِلرَّاكِبِ مِنْ غَيْرِ مَدِينَتِهِ .
وَهَذَا لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ } .
وَلِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى أَدَاءِ بَعْضِ الْوَاجِبِ ، فَلَزِمَهُ ، كَالزَّكَاةِ .
وَعَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَجَّ يَسْقُطُ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِي رَجُلٍ أَوْصَى بِحَجَّةٍ وَاجِبَةٍ ، وَلَمْ يُخَلِّفْ مَا يَتِمُّ بِهِ حَجُّهُ ، هَلْ يُحَجُّ عَنْهُ مِنْ الْمَدِينَةِ ، أَوْ مِنْ حَيْثُ تَتِمُّ الْحَجَّةُ ؟ فَقَالَ : مَا يَكُونُ الْحَجُّ عِنْدِي إلَّا مِنْ حَيْثُ وَجَبَ عَلَيْهِ .
وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى سُقُوطِهِ عَمَّنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَا تَفِي تَرِكَتُهُ بِهِ وَبِالْحَجِّ ، فَإِنَّهُ إذَا أَسْقَطَهُ مَعَ عَدَمِ الْمُعَارِضِ ، فَمَعَ الْمُعَارِضِ بِحَقِّ الْآدَمِيِّ الْمُؤَكَّدِ أَوْلَى وَأَحْرَى .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَسْقُطَ عَمَّنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَجْهًا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْآدَمِيِّ الْمُعَيَّنِ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ لِتَأَكُّدِهِ ، وَحَقَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى ، مَعَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَدَاؤُهُ عَلَى الْوَجْهِ الْوَاجِبِ .

( 2242 ) فَصْلٌ : وَإِنْ أَوْصَى بِحَجِّ تَطَوُّعٍ فَلَمْ يَفِ ثُلُثُهُ بِالْحَجِّ مِنْ بَلَدِهِ ، حُجَّ بِهِ مِنْ حَيْثُ بَلَغَ ، أَوْ يُعَنْ بِهِ فِي الْحَجِّ .
نَصَّ عَلَيْهِ .
وَقَالَ : التَّطَوُّعُ مَا يُبَالِي مِنْ أَيْنَ كَانَ ، وَيُسْتَنَابُ عَنْ الْمَيِّتِ ثِقَةٌ بِأَقَلِّ مَا يُوجَدُ ، إلَّا أَنْ يَرْضَى الْوَرَثَةُ بِزِيَادَةٍ ، أَوْ يَكُونَ قَدْ أَوْصَى بِشَيْءٍ ، فَيَجُوزُ مَا أَوْصَى بِهِ مَا لَمْ يَزِدْ عَلَى الثُّلُثِ .

( 2243 ) فَصْلٌ : يُسْتَحَبُّ أَنْ يَحُجُّ الْإِنْسَانُ عَنْ أَبَوَيْهِ ، إذَا كَانَا مَيِّتَيْنِ أَوْ عَاجِزَيْنِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَبَا رَزِينٍ ، فَقَالَ : { حُجَّ عَنْ أَبِيك ، وَاعْتَمِرْ } .
وَسَأَلَتْ امْرَأَةٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَبِيهَا ، مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ ؟ فَقَالَ : { حُجِّي عَنْ أَبِيك } .
وَيُسْتَحَبُّ الْبِدَايَةُ بِالْحَجِّ عَنْ الْأُمِّ ، إنْ كَانَ تَطَوُّعًا أَوْ وَاجِبًا عَلَيْهِمَا .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي التَّطَوُّعِ ؛ لِأَنَّ الْأُمَّ مُقَدَّمَةٌ فِي الْبِرِّ ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : { مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي ؟ قَالَ : أُمُّك .
قَالَ : ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ : أُمُّك .
قَالَ : ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ : أُمُّك .
قَالَ : ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ : أَبُوك } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، وَالْبُخَارِيُّ .
وَإِنْ كَانَ الْحَجُّ وَاجِبًا عَلَى الْأَبِ دُونَهَا ، بَدَأَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ ، فَكَانَ أَوْلَى مِنْ التَّطَوُّعِ .
وَرَوَى زَيْدُ بْن أَرْقَمَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا حَجَّ الرَّجُلُ عَنْ وَالِدَيْهِ يُقْبَلُ مِنْهُ وَمِنْهُمَا ، وَاسْتَبْشَرَتْ أَرْوَاحُهُمَا فِي السَّمَاءِ ، وَكُتِبَ عِنْدَ اللَّهِ بَرًّا } .
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ حَجَّ عَنْ أَبَوَيْهِ ، أَوْ قَضَى عَنْهُمَا مَغْرَمًا ، بُعِثَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ الْأَبْرَارِ } .
وَعَنْ جَابِرٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ حَجَّ عَنْ أَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ ، فَقَدْ قَضَى عَنْهُ حَجَّتَهُ ، وَكَانَ لَهُ فَضْلُ عَشْرِ حِجَجٍ } .
رَوَى ذَلِكَ كُلَّهُ الدَّارَقُطْنِيّ .

( 2244 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَمَنْ حَجَّ عَنْ غَيْرِهِ ، وَلَمْ يَكُنْ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ ، رَدَّ مَا أَخَذَ ، وَكَانَتْ الْحَجَّةُ عَنْ نَفْسِهِ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ لِمَنْ لَمْ يَحُجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ أَنْ يَحُجَّ عَنْ غَيْرِهِ ، فَإِنْ فَعَلَ وَقَعَ إحْرَامُهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ .
وَبِهَذَا قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ : يَقَعُ الْحَجُّ بَاطِلًا ، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ عَنْهُ وَلَا عَنْ غَيْرِهِ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مِنْ شَرْطِ طَوَافِ الزِّيَارَةِ تَعْيِينُ النِّيَّةِ ، فَمَتَى نَوَاهُ لِغَيْرِهِ وَلَمْ يَنْوِ لِنَفْسِهِ ، لَمْ يَقَعْ لِنَفْسِهِ ، كَذَا الطَّوَافُ حَامِلًا لِغَيْرِهِ لَمْ يَقَعْ عَنْ نَفْسِهِ .
وَقَالَ الْحَسَنُ ، وَإِبْرَاهِيمُ ، وَأَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ ، وَجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، وَمَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ : يَجُوزُ أَنْ يَحُجَّ عَنْ غَيْرِهِ مَنْ لَمْ يَحُجَّ عَنْ نَفْسِهِ .
وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ مِثْلُ ذَلِكَ .
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ : إنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الْحَجِّ عَنْ نَفْسِهِ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْحَجِّ عَنْ نَفْسِهِ حَجَّ عَنْ غَيْرِهِ .
وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الْحَجَّ مِمَّا تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ ، فَجَازَ أَنْ يُؤَدِّيَهُ عَنْ غَيْرِهِ مَنْ لَمْ يُسْقِطْ فَرْضَهُ عَنْ نَفْسِهِ ، كَالزَّكَاةِ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ : { لَبَّيْكَ عَنْ شُبْرُمَةَ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ شُبْرُمَةُ ؟ قَالَ : قَرِيبٌ لِي .
قَالَ : هَلْ حَجَجْت قَطُّ ؟ قَالَ : لَا .
قَالَ : فَاجْعَلْ هَذِهِ عَنْ نَفْسِك ، ثُمَّ اُحْجُجْ عَنْ شُبْرُمَةَ } .
رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، وَأَبُو دَاوُد ، وَابْنُ مَاجَهْ ، وَهَذَا لَفْظُهُ .
وَلِأَنَّهُ حَجَّ عَنْ غَيْرِهِ قَبْلَ الْحَجِّ عَنْ نَفْسِهِ ، فَلَمْ يَقَعْ عَنْ الْغَيْرِ ، كَمَا لَوْ كَانَ صَبِيًّا .
وَيُفَارِقُ الزَّكَاةَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَنُوبَ عَنْ الْغَيْرِ ، وَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ بَعْضُهَا ،

وَهَاهُنَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَحُجَّ عَنْ الْغَيْرِ مَنْ شَرَعَ فِي الْحَجِّ قَبْلَ إتْمَامِهِ ، وَلَا يَطُوفَ عَنْ غَيْرِهِ مَنْ لَمْ يَطُفْ عَنْ نَفْسِهِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّ عَلَيْهِ رَدَّ مَا أَخَذَ مِنْ النَّفَقَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ الْحَجُّ عَنْهُ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَحُجُّ .

( 2245 ) فَصْلٌ : وَإِنْ أَحْرَمَ بِتَطَوُّعٍ أَوْ نَذْرٍ مَنْ لَمْ يَحُجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ ، وَقَعَ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ .
وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ ، وَأَنَسٌ ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ مَالِكٌ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَإِسْحَاقُ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ : يَقَعُ مَا نَوَاهُ .
وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ ، وَقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ ، لِمَا تَقَدَّمَ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَعَلَيْهِ فَرْضُهُ ، فَوَقَعَ عَنْ فَرْضِهِ كَالْمُطْلَقِ .
وَلَوْ أَحْرَمَ بِتَطَوُّعٍ ، وَعَلَيْهِ مَنْذُورَةٌ ، وَقَعَتْ عَنْ الْمَنْذُورَةِ ؛ لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ ، فَهِيَ كَحَجَّةِ الْإِسْلَامِ ، وَالْعُمْرَةُ كَالْحَجِّ فِيمَا ذَكَرْنَا ؛ لِأَنَّهَا أَحَدُ النُّسُكَيْنِ ، فَأَشْبَهَتْ الْآخَرَ ، وَالنَّائِبُ كَالْمَنُوبِ عَنْهُ فِي هَذَا ، فَمَتَى أَحْرَمَ النَّائِبُ بِتَطَوُّعٍ ، أَوْ نَذْرٍ عَمَّنْ لَمْ يَحُجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ ، وَقَعَتْ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّ النَّائِبَ يَجْرِي مَجْرَى الْمَنُوبِ عَنْهُ .
وَإِنْ اسْتَنَابَ رَجُلَيْنِ فِي حَجَّةِ الْإِسْلَامِ ، وَمَنْذُورٍ أَوْ تَطَوُّعٍ ، فَأَيُّهُمَا سَبَقَ بِالْإِحْرَامِ ، وَقَعَتْ حَجَّتُهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ ، وَتَقَعُ الْأُخْرَى تَطَوُّعًا ، أَوْ عَنْ النَّذْرِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ الْإِحْرَامُ عَنْ غَيْرِ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ ، مِمَّنْ هِيَ عَلَيْهِ ، فَكَذَلِكَ مِنْ نَائِبِهِ .

( 2246 ) فَصْلٌ : إذَا كَانَ الرَّجُلُ قَدْ أَسْقَطَ فَرْضَ أَحَدِ النُّسُكَيْنِ عَنْهُ ، دُونَ الْآخَرِ ، جَازَ أَنْ يَنُوبَ عَنْ غَيْرِهِ ، فِيمَا أَدَّى فَرْضَهُ دُونَ الْآخَر .
وَلَيْسَ لِلصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ أَنْ يَنُوبَا فِي الْحَجِّ عَنْ غَيْرِهِمَا ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يُسْقِطَا فَرْضَ الْحَجِّ عَنْ أَنْفُسِهِمَا ، فَهُمَا كَالْحُرِّ الْبَالِغِ فِي ذَلِكَ ، وَأَوْلَى مِنْهُ .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّ لَهُمَا النِّيَابَةَ فِي حَجِّ التَّطَوُّعِ دُون الْفَرْضِ ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ التَّطَوُّعِ دُونَ الْفَرْضِ ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَقَعَ الْحَجَّةُ الَّتِي نَابَا فِيهَا عَنْ فَرْضِهِمَا ؛ لِكَوْنِهِمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِهِ ، فَبَقِيَتْ لِمَنْ فُعِلَتْ عَنْهُ .
وَعَلَى هَذَا لَا يَلْزَمُهُمَا رَدُّ مَا أَخَذَا لِذَلِكَ ، كَالْبَالِغِ الْحُرِّ الَّذِي قَدْ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ .

( 2247 ) فَصْلٌ : إذَا أَحْرَمَ بِالْمَنْذُورَةِ مَنْ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ ، فَوَقَعَتْ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ ، فَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْمَنْذُورَةَ لَا تَسْقُطُ عَنْهُ .
وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَأَنَسٍ ، وَعَطَاءٍ ؛ لِأَنَّهَا حَجَّةٌ وَاحِدَةٌ ، فَلَا تُجْزِئُ عَنْ حَجَّتَيْنِ ، كَمَا لَوْ نَذَرَ حَجَّتَيْنِ ، فَحَجَّ وَاحِدَةً .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُجْزِئَ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِالْحَجَّةِ نَاوِيًا بِهَا نَذَرَهُ ، فَأَجْزَأَتْهُ ، كَمَا لَوْ كَانَ مِمَّنْ أَسْقَطَ فَرْضَ الْحَجِّ عَنْ نَفْسِهِ .
وَقَدْ نَقَلَ أَبُو طَالِبٍ ، عَنْ أَحْمَدَ ، فِي مَنْ نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ مَفْرُوضَةٌ ، فَأَحْرَمَ عَنْ النَّذْرِ ، وَقَعَتْ عَنْ الْمَفْرُوضِ ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ آخَرُ ، وَهَذَا مِثْلُ مَا لَوْ نَذَرَ صَوْمَ يَوْمَ يَقْدَمُ فُلَانٌ فَقَدِمَ فِي يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ ، فَنَوَاهُ عَنْ فَرْضِهِ وَنَذْرِهِ ، عَلَى رِوَايَةٍ .
وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَعِكْرِمَةَ .
وَرَوَى سَعِيدٌ بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ أَنَّهُمَا قَالَا ، فِي رَجُلٍ نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ ، وَلَمْ يَكُنْ حَجَّ الْفَرِيضَةَ ، قَالَ : يُجْزِئُ لَهُمَا جَمِيعًا .
وَسُئِلَ عِكْرِمَةُ عَنْ ذَلِكَ ؟ فَقَالَ : يَقْضِي حَجَّةً عَنْ نَذْرِهِ ، وَعَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ ، أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ رَجُلًا نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ ، فَصَلَّى الْعَصْرَ ، أَلَيْسَ ذَلِكَ يُجْزِئُهُ مِنْ الْعَصْرِ وَمِنْ النَّذْرِ ؟ قَالَ : وَذَكَرْت قَوْلِي لِابْنِ عَبَّاسٍ ، فَقَالَ : أَصَبْت أَوْ أَحْسَنْت .

( 2248 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَمَنْ حَجَّ وَهُوَ غَيْرُ بَالِغٍ ، فَبَلَغَ ، أَوْ عَبْدٌ فَعَتَقَ ، فَعَلَيْهِ الْحَجُّ ) قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ ، إلَّا مَنْ شَذَّ عَنْهُمْ مِمَّنْ لَا يُعْتَدُّ بِقَوْلِهِ خِلَافًا عَلَى أَنَّ الصَّبِيَّ إذَا حَجَّ فِي حَالِ صِغَرِهِ ، وَالْعَبْدَ إذَا حَجَّ فِي حَالَ رِقِّهِ ، ثُمَّ بَلَغَ الصَّبِيُّ وَعَتَقَ الْعَبْدُ ، أَنَّ عَلَيْهِمَا حَجَّةَ الْإِسْلَامِ ، إذَا وَجَدَا إلَيْهِمَا سَبِيلًا .
كَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَعَطَاءٌ ، وَالْحَسَنُ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَيْهِ .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ .
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُجَدِّدَ فِي صُدُورِ الْمُؤْمِنِينَ عَهْدًا ، أَيُّمَا صَبِيٍّ حَجَّ بِهِ أَهْلُهُ فَمَاتَ أَجْزَأَتْ عَنْهُ ، فَإِنْ أَدْرَكَ فَعَلَيْهِ الْحَجُّ ، وَأَيُّمَا مَمْلُوكٍ حَجَّ بِهِ أَهْلُهُ ، فَمَاتَ ، أَجْزَأَتْ عَنْهُ ، فَإِنْ أُعْتِقَ ، فَعَلَيْهِ الْحَجُّ } .
رَوَاهُ سَعِيدٌ ، فِي ( سُنَنِهِ ) ، وَالشَّافِعِيُّ ، فِي ( مُسْنَدِهِ ) ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ قَوْلِهِ .
وَلِأَنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ ، فَعَلَهَا قَبْلَ وَقْتِ وُجُوبِهَا ، فَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ وُجُوبَهَا عَلَيْهِ فِي وَقْتِهَا ، كَمَا لَوْ صَلَّى قَبْلَ الْوَقْتِ ، وَكَمَا لَوْ صَلَّى ، ثُمَّ بَلَغَ فِي الْوَقْتِ .

( 2249 ) فَصْلٌ : فَإِنْ بَلَغَ الصَّبِيُّ ، أَوْ عَتَقَ الْعَبْدُ بِعَرَفَةَ ، أَوْ قَبْلَهَا ، غَيْرَ مُحْرِمَيْنِ ، فَأَحْرَمَا وَوَقَفَا بِعَرَفَةَ ، وَأَتَمَّا الْمَنَاسِكَ ، أَجْزَأْهُمَا عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ .
لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَفُتْهُمَا شَيْءٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ ، وَلَا فَعَلَا شَيْئًا مِنْهَا قَبْلَ وُجُوبِهِ .
وَإِنْ كَانَ الْبُلُوغُ وَالْعِتْقُ وَهُمَا مُحْرِمَانِ ، أَجْزَأْهُمَا أَيْضًا عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ .
كَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَإِسْحَاقَ .
وَقَالَهُ الْحَسَنُ فِي الْعَبْدِ .
وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يُجْزِئُهُمَا .
وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ : لَا يُجْزِئُ الْعَبْدَ ، فَأَمَّا الصَّبِيُّ ، فَإِنْ جَدَّدَ إحْرَامًا بَعْدَ أَنْ احْتَلَمَ قَبْلَ الْوُقُوفِ ، أَجْزَأَهُ ، وَإِلَّا فَلَا ؛ لِأَنَّ إحْرَامَهُمَا لَمْ يَنْعَقِدْ وَاجِبًا ، فَلَا يُجْزِئُ عَنْ الْوَاجِبِ ، كَمَا لَوْ بَقِيَا عَلَى حَالِهِمَا .
وَلَنَا ، أَنَّهُ أَدْرَكَ الْوُقُوفَ حُرًّا بَالِغًا فَأَجْزَأَهُ ، كَمَا لَوْ أَحْرَمَ تِلْكَ السَّاعَةَ .
قَالَ أَحْمَدُ : قَالَ طَاوُسٌ ، عَنْ ابْنِ عَبَّاس : إذَا أُعْتِقَ الْعَبْدُ بِعَرَفَةَ ، أَجْزَأَتْ عَنْهُ حَجَّتُهُ ؛ فَإِنْ أُعْتِقَ بِجَمْعٍ ، لَمْ تُجْزِئْ عَنْهُ .
وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : لَا تُجْزِئْ .
وَمَالِكٌ يَقُولُهُ أَيْضًا ، وَكَيْفَ لَا يُجْزِئُهُ ، وَهُوَ لَوْ أَحْرَمَ تِلْكَ السَّاعَةَ كَانَ حَجُّهُ تَامًّا ، وَمَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ لَا يُجْزِئُهُ إلَّا هَؤُلَاءِ .
وَالْحُكْمُ فِيمَا إذَا أُعْتِقَ الْعَبْدُ وَبَلَغَ الصَّبِيُّ بَعْدَ خُرُوجِهِمَا مِنْ عَرَفَةَ ، فَعَادَا إلَيْهَا قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ لَيْلَةَ النَّحْرِ ، كَالْحُكْمِ فِيمَا إذَا كَانَ ذَلِكَ فِيهَا ؛ لِأَنَّهُمَا قَدْ أَدْرَكَا مِنْ الْوَقْتِ مَا يُجْزِئُ وَلَوْ كَانَ لَحْظَةً .
وَإِنْ لَمْ يَعُودَا ، أَوْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ ، لَمْ يُجْزِئْهُمَا عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ ، وَيُتِمَّانِ حَجَّهُمَا تَطَوُّعًا ؛ لِفَوَاتِ الْوُقُوفِ الْمَفْرُوضِ ، وَلَا دَمَ عَلَيْهِمَا ؛ لِأَنَّهُمَا حَجَّا

تَطَوُّعًا بِإِحْرَامٍ صَحِيحٍ مِنْ الْمِيقَاتِ ، فَأَشْبَهَا الْبَالِغَ الَّذِي يَحُجُّ تَطَوُّعًا .
فَإِنْ قِيلَ : فَلِمَ لَا قُلْتُمْ إنَّ الْوُقُوفَ الَّذِي فَعَلَاهُ يَصِيرُ فَرْضًا ، كَمَا قُلْتُمْ فِي الْإِحْرَامِ الَّذِي أَحْرَمَ بِهِ قَبْلَ الْبُلُوغِ يَصِيرُ بَعْدَ بُلُوغِهِ فَرْضًا ؟ قُلْنَا : إنَّمَا اعْتَدَدْنَا لَهُ بِإِحْرَامِهِ الْمَوْجُودِ بَعْدَ بُلُوغه ، وَمَا قَبْلَ بُلُوغِهِ تَطَوُّعٌ لَمْ يَنْقَلِبْ فَرْضًا ، وَلَا اُعْتُدَّ لَهُ بِهِ ، فَالْوُقُوفُ مِثْلُهُ ، فَنَظِيرُهُ أَنْ يَبْلُغَ وَهُوَ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ ، فَإِنَّهُ يُعْتَدُّ لَهُ بِمَا أَدْرَكَ مِنْ الْوُقُوفِ ، وَيَصِيرُ فَرْضًا دُونَ مَا مَضَى .

( 2250 ) فَصْلٌ : وَإِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ أَوْ عَتَقَ الْعَبْدُ قَبْلَ الْوُقُوفِ ، أَوْ فِي وَقْتِهِ ، وَأَمْكَنَهُمَا الْإِتْيَانُ بِالْحَجِّ ، لَزِمَهُمَا ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ وَاجِبٌ عَلَى الْفَوْرِ ، فَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ مَعَ إمْكَانِهِ ، كَالْبَالِغِ الْحُرِّ .
وَإِنْ فَاتَهُمَا الْحَجُّ ، لَزِمَتْهُمَا الْعُمْرَةُ ؛ لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ أَمْكَنَ فِعْلُهَا ، فَأَشْبَهَتْ الْحَجَّ ، وَمَتَى أَمْكَنَهُمَا ذَلِكَ فَلَمْ يَفْعَلَا ، اسْتَقَرَّ الْوُجُوبُ عَلَيْهِمَا ، سَوَاءٌ كَانَا مُوسِرَيْنِ أَوْ مُعْسِرَيْنِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وَجَبَ عَلَيْهِمَا بِإِمْكَانِهِ فِي مَوْضِعِهِ ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِفَوَاتِ الْقُدْرَةِ بَعْدَهُ .

( 2251 ) فَصْلٌ : وَالْحُكْمُ فِي الْكَافِرِ يُسْلِمُ ، وَالْمَجْنُونِ يُفِيقُ ، حُكْمُ الصَّبِيِّ يَبْلُغُ فِي جَمِيعِ مَا فَصَّلْنَاهُ ، إلَّا أَنَّ هَذَيْنِ لَا يَصِحُّ مِنْهُمَا إحْرَامٌ ، وَلَوْ أَحْرَمَا لَمْ يَنْعَقِدْ إحْرَامُهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْعِبَادَات ، وَيَكُونُ حُكْمُهُمَا حُكْمَ مَنْ لَمْ يُحْرِمْ .

( 2252 ) فَصْلٌ : وَقَدْ بَقِيَ مِنْ أَحْكَامِ حَجِّ الْعَبْدِ أَرْبَعَةُ فُصُولٍ : أَحَدُهَا ، فِي حُكْمِ إحْرَامِهِ .
الثَّانِي ، فِي حُكْمِ نَذْرِهِ لِلْحَجِّ .
الثَّالِثُ ، فِي حُكْمِ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْجِنَايَاتِ عَلَى إحْرَامِهِ .
الرَّابِعُ ، حُكْمُ إفْسَادِهِ وَفَوَاتِهِ .
( 2253 ) الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي إحْرَامِهِ : وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يُحْرِمَ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ ؛ لِأَنَّهُ يُفَوِّتُ بِهِ حُقُوقَ سَيِّدِهِ الْوَاجِبَةَ عَلَيْهِ ، بِالْتِزَامِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ ، فَإِنْ فَعَلَ ، انْعَقَدَ إحْرَامُهُ صَحِيحًا ، لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ فَصَحَّ مِنْ الْعَبْدِ الدُّخُولُ فِيهَا بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ ، كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ ، وَلِسَيِّدِهِ تَحْلِيلُهُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ ؛ لِأَنَّ فِي بَقَائِهِ عَلَيْهِ تَفْوِيتًا لِحَقِّهِ مِنْ مَنَافِعِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، فَلَمْ يَلْزَمْ ذَلِكَ سَيِّدَهُ ، كَالصَّوْمِ الْمُضِرِّ بِبَدَنِهِ .
وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ حَامِدٍ .
وَإِذَا حَلَّلَهُ مِنْهُ كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمَحْصَرِ .
وَالثَّانِيَةُ ، لَيْسَ لَهُ تَحْلِيلُهُ .
وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ التَّحَلُّلُ مِنْ تَطَوُّعِهِ ، فَلَمْ يَمْلِكْ تَحْلِيلَ عَبْدِهِ .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ التَّطَوُّعَ بِاخْتِيَارِ نَفْسِهِ ، فَنَظِيرُهُ أَنْ يُحْرِمَ عَبْدُهُ بِإِذْنِهِ ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا يُفَوِّتُ حَقَّهُ الْوَاجِبَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ .
فَأَمَّا إنْ أَحْرَمَ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ ، فَلَيْسَ لَهُ تَحْلِيلُهُ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مَلَّكَهُ مَنَافِعَ نَفْسِهِ ، فَكَانَ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا ، كَالْمُعِيرِ يَرْجِعُ فِي الْعَارِيَّةِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ عَقْدٌ لَازِمٌ ، عَقَدَهُ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ ، فَلَمْ يَكُنْ لِسَيِّدِهِ مَنْعُهُ مِنْهُ ، كَالنِّكَاحِ ، وَلَا يُشْبِهُ الْعَارِيَّةَ ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ لَازِمَةً .
وَلَوْ أَعَارَهُ شَيْئًا لِيَرْهَنَهُ ، فَرَهَنَهُ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهِ .
وَلَوْ بَاعَهُ سَيِّدُهُ بَعْدَمَا أَحْرَمَ فَحُكْمُ مُشْتَرِيهِ فِي تَحْلِيلِهِ حُكْمُ بَائِعِهِ سَوَاءً ؛

لِأَنَّهُ اشْتَرَاهُ مَسْلُوبَ الْمَنْفَعَةِ ، فَأَشْبَهَ الْأَمَةَ الْمُزَوِّجَةَ وَالْمُسْتَأْجَرَةَ .
فَإِنْ عَلِمَ الْمُشْتَرِي بِذَلِكَ ، فَلَا خِيَارَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ عَلَى بَصِيرَةٍ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اشْتَرَى مَعِيبًا يَعْلَمُ عَيْبَهُ .
وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ ، فَلَهُ الْفَسْخُ ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَرَّرُ بِمُضِيِّ الْعَبْدِ فِي حَجِّهِ ، لِفَوَاتِ مَنَافِعِهِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ إحْرَامُهُ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ ، وَنَقُولُ : لَهُ تَحْلِيلُهُ .
فَلَا يَمْلِكُ الْفَسْخَ ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْهُ .
وَلَوْ أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ فِي الْإِحْرَامِ ، ثُمَّ رَجَعَ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ ، وَعَلِمَ الْعَبْدُ بِرُجُوعِهِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ ، فَهُوَ كَمَنْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ .
وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ حَتَّى أَحْرَمَ ، فَهَلْ يَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ مَنْ أَحْرَمَ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ، بِنَاءً عَلَى الْوَكِيلِ ، هَلْ يَنْعَزِلُ بِالْعَزْلِ قَبْلَ الْعِلْمِ ، عَلَى رِوَايَتَيْنِ .

( 2254 ) الْفَصْل الثَّانِي : إذَا نَذَرَ الْعَبْدُ الْحَجَّ ، صَحَّ نَذْرُهُ ؛ لِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ ، فَانْعَقَدَ نَذْرُهُ كَالْحُرِّ وَلِسَيِّدِهِ مَنْعُهُ مِنْ الْمُضِيِّ فِيهِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَفْوِيتَ حَقِّ سَيِّدِهِ الْوَاجِبِ ، فَمُنِعَ مِنْهُ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَنْذُرْ .
ذَكَرَهُ الْقَاضِي ، وَابْنُ حَامِدٍ .
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ : لَا يُعْجِبُنِي مَنْعُهُ مِنْ الْوَفَاءِ بِهِ .
وَذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ أَدَاءِ الْوَاجِبِ ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّ ذَلِكَ عَلَى الْكَرَاهَةِ ، لَا عَلَى التَّحْرِيمِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَيَحْتَمِلُ التَّحْرِيمَ ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ ، فَلَمْ يَمْلِكْ مَنْعَهُ مِنْهُ كَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ .
وَالْأَوَّلُ أَوْلَى .
فَإِنْ أُعْتِقَ ، لَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِهِ بَعْدَ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ .
فَإِنْ أَحْرَمَ بِهِ أَوَّلًا انْصَرَفَ إلَى حَجَّةِ الْإِسْلَامِ ، كَالْحُرِّ إذَا نَذَرَ حَجًّا .

( 2255 ) الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي جِنَايَاتِهِ : وَمَا جَنَى عَلَى إحْرَامِهِ لَزِمَهُ حُكْمَهُ .
وَحُكْمُهُ فِيمَا يَلْزَمُهُ حُكْمُ الْحُرِّ الْمُعْسِرِ فَرْضُهُ الصِّيَامُ .
وَإِنْ تَحَلَّلَ بِحَصْرِ عَدُوٍّ ، أَوْ حَلَّلَهُ سَيِّدُهُ ، فَعَلَيْهِ الصِّيَامُ ، لَا يَتَحَلَّلُ قَبْلَ فِعْلِهِ كَالْحُرِّ ، وَلَيْسَ لِسَيِّدِهِ أَنْ يَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّوْمِ .
نَصَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ صَوْمٌ وَاجِبٌ ، أَشْبَهَ صَوْمَ رَمَضَانَ .
فَإِنْ مَلَّكَهُ السَّيِّدُ هَدْيًا ، وَأَذِنَ لَهُ فِي إهْدَائِهِ ، وَقُلْنَا : إنَّهُ يَمْلِكُهُ .
فَهُوَ كَالْهَدْيِ الْوَاجِبِ ، لَا يَتَحَلَّلُ إلَّا بِهِ .
وَإِنْ قُلْنَا : لَا يَمْلِكُهُ .
فَفَرْضُهُ الصِّيَامُ .
وَإِنْ أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ فِي تَمَتُّعٍ أَوْ قِرَانٍ ، فَعَلَيْهِ الصِّيَامُ بَدَلًا عَنْ الْهَدْيِ الْوَاجِبِ بِهِمَا .
وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ عَلَى سَيِّدِهِ تَحَمُّلَ ذَلِكَ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ بِإِذْنِهِ ، فَكَانَ عَلَى مَنْ أَذِنَ فِيهِ ، كَمَا لَوْ فَعَلَهُ النَّائِبُ بِإِذْنِ الْمُسْتَنِيبِ .
وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ لِلْعَبْدِ ، وَهَذَا مِنْ مُوجِبَاتِهِ ، فَيَكُونُ عَلَيْهِ ، كَالْمَرْأَةِ إذَا حَجَّتْ بِإِذْنِ زَوْجِهَا .
وَيُفَارِقُ مَنْ حَجَّ عَنْ غَيْرِهِ ؛ فَإِنَّ الْحَجَّ لِلْمُسْتَنِيبِ فَمُوجِبُهُ عَلَيْهِ .
وَإِنْ تَمَتَّعَ أَوْ قَارَنَ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ ، فَالصِّيَامُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ خِلَافٍ .
وَإِنْ أَفْسَدَ حَجَّهُ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ لِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا مَالَ لَهُ ، فَهُوَ كَالْمُعْسِرِ مِنْ الْأَحْرَارَ .

( 2256 ) الْفَصْلُ الرَّابِعُ : إذَا وَطِئَ الْعَبْدُ فِي إحْرَامِهِ قَبْلَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ ، فَسَدَ ، وَيَلْزَمُهُ الْمُضِيُّ فِي فَاسِدِهِ ، كَالْحُرِّ ، لَكِنْ إنْ كَانَ الْإِحْرَامُ مَأْذُونًا فِيهِ ، فَلَيْسَ لِسَيِّدِهِ إخْرَاجُهُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مَنْعُهُ مِنْ صَحِيحِهِ ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْعُهُ مِنْ فَاسِدِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْإِحْرَامُ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، فَلَهُ تَحْلِيلُهُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ تَحْلِيلَهُ مِنْ صَحِيحِهِ ، فَالْفَاسِدُ أَوْلَى ، وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ ، سَوَاءٌ كَانَ الْإِحْرَامُ مَأْذُونًا فِيهِ ، أَوْ غَيْرَ مَأْذُونٍ ، وَيَصِحُّ الْقَضَاءُ فِي حَالِ رِقِّهِ ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ فِيهِ ، فَصَحَّ مِنْهُ ، كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ .
ثُمَّ إنْ كَانَ الْإِحْرَامُ الَّذِي أَفْسَدَهُ مَأْذُونًا فِيهِ ، فَلَيْسَ لَهُ مَنْعُهُ مِنْ قَضَائِهِ ؛ لِأَنَّ إذْنَهُ فِي الْحَجِّ الْأَوَّلِ إذْنٌ فِي مُوجِبِهِ وَمُقْتَضَاهُ ، وَمِنْ مُوجِبِهِ الْقَضَاءُ لِمَا أَفْسَدَهُ .
فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ غَيْرَ مَأْذُونٍ فِيهِ ، احْتَمَلَ أَنْ لَا يَمْلِكَ مَنْعَهُ مِنْ قَضَائِهِ ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ ، وَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ مَنْعُهُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ .
وَاحْتَمَلَ أَنَّ لَهُ مَنْعَهُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ مَنْعَهُ مِنْ الْحَجِّ الَّذِي شَرَعَ فِيهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، فَكَذَلِكَ هَذَا .
فَإِنْ أُعْتِقَ قَبْلَ الْقَضَاءِ ، فَلَيْسَ لَهُ فِعْلُهُ قَبْلَ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّهَا آكَدُ .
فَإِنْ أَحْرَمَ بِالْقَضَاءِ ، انْصَرَفَ إلَى حَجَّةِ الْإِسْلَامِ ، وَبَقِيَ الْقَضَاءُ فِي ذِمَّتِهِ .
وَإِنْ عَتَقَ فِي أَثْنَاءِ الْحَجَّةِ الْفَاسِدَةِ ، وَأَدْرَكَ مِنْ الْوُقُوفِ مَا يُجْزِئُهُ ، أَجْزَأْهُ الْقَضَاءُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْضِيَّ لَوْ كَانَ صَحِيحًا أَجْزَأَهُ ، فَكَذَلِكَ قَضَاؤُهُ .
وَإِنْ أُعْتِقَ بَعْدَ ذَلِكَ ، لَمْ يُجْزِئْهُ الْقَضَاءُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْضِيَّ لَا يُجْزِئُهُ ، فَكَذَلِكَ قَضَاؤُهُ .
وَالْمُدَبَّرُ ، وَالْمُعَلَّقُ عِتْقُهُ بِصِفَةٍ ، وَأُمُّ الْوَلَدِ ، وَالْمُعْتَقُ بَعْضُهُ ، حُكْمُهُ حُكْمُ الْقِنِّ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ .

( 2257 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَإِذَا حَجَّ بِالصَّغِيرِ ، جُنِّبَ مَا يَتَجَنَّبُهُ الْكَبِيرُ ، وَمَا عَجَزَ عَنْهُ مِنْ عَمَلِ الْحَجِّ عُمِلَ عَنْهُ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الصَّبِيَّ يَصِحُّ حَجُّهُ ، فَإِنْ كَانَ مُمَيِّزًا أَحْرَمَ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُمَيِّزٍ أَحْرَمَ عَنْهُ وَلِيُّهُ ؛ فَيَصِيرُ مُحْرِمًا بِذَلِكَ .
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَرَوِيَ عَنْ عَطَاءٍ ، وَالنَّخَعِيِّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَنْعَقِدُ إحْرَامُ الصَّبِيِّ ، وَلَا يَصِيرُ مُحْرِمًا بِإِحْرَامِ وَلِيِّهِ ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ سَبَبٌ يَلْزَمَ بِهِ حُكْمٌ ، فَلَمْ يَصِحَّ مِنْ الصَّبِيِّ ، كَالنَّذْرِ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ ، قَالَ : { رَفَعَتْ امْرَأَةٌ صَبِيًّا ، فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَلِهَذَا حَجٌّ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، وَلَك أَجْرٌ } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ .
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ ، عَنْ السَّائِبِ بْن يَزِيدَ ، قَالَ : { حَجَّ بِي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ .
} وَلِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ : يَجْتَنِبُ مَا يَجْتَنِبُهُ الْمُحْرِمُ .
وَمَنْ اجْتَنَبَ مَا يَجْتَنِبُهُ الْمُحْرِمُ كَانَ إحْرَامُهُ صَحِيحًا .
وَالنَّذْرُ لَا يَجِبُ بِهِ شَيْءٌ ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا .
وَالْكَلَامُ فِي حَجِّ الصَّبِيِّ فِي فُصُولٍ أَرْبَعَةٍ : فِي الْإِحْرَامِ عَنْهُ ، أَوْ مِنْهُ ، وَفِيمَا يَفْعَلُهُ بِنَفْسِهِ ، أَوْ بِغَيْرِهِ ، وَفِي حُكْمِ جِنَايَاتِهِ عَلَى إحْرَامِهِ ، وَفِيمَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَةِ ( 2258 ) الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي الْإِحْرَامِ : إنْ كَانَ مُمَيِّزًا أَحْرَمَ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ .
وَإِنْ أَحْرَمَ بِدُونِ إذْنِهِ ، لَمْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّ هَذَا عَقْدٌ يُؤَدِّي إلَى لُزُومِ مَالٍ ، فَلَمْ يَنْعَقِدْ مِنْ الصَّبِيِّ بِنَفْسِهِ ، كَالْبَيْعِ .
وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُمَيِّزٍ ، فَأَحْرَمَ عَنْهُ مَنْ لَهُ وِلَايَةٌ عَلَى مَالِهِ ، كَالْأَبِ وَالْوَصِيِّ وَأَمِينِ الْحَاكِمِ ، صَحَّ .
وَمَعْنَى إحْرَامِهِ عَنْهُ أَنَّهُ يَعْقِدُ لَهُ الْإِحْرَامَ ، فَيَصِحُّ لِلصَّبِيِّ دُونَ الْوَلِيِّ كَمَا يَعْقِدُ

النِّكَاحَ لَهُ .
فَعَلَى هَذَا يَصِحُّ أَنْ يَعْقِدَ الْإِحْرَامَ عَنْهُ ، سَوَاءٌ كَانَ مُحْرِمًا أَوْ حَلَالًا مِمَّنْ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ ، أَوْ كَانَ قَدْ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ .
فَإِنْ أَحْرَمَتْ أُمُّهُ عَنْهُ ، صَحَّ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَلَك أَجْرٌ ) .
وَلَا يُضَافُ الْأَجْرُ إلَيْهَا إلَّا لِكَوْنِهِ تَبَعًا لَهَا فِي الْإِحْرَامِ .
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ : يُحْرِمُ عَنْهُ أَبُوهُ أَوْ وَلِيُّهُ .
وَاخْتَارَهُ ابْنُ عَقِيلٍ ، وَقَالَ : الْمَالُ الَّذِي يَلْزَمُ بِالْإِحْرَامِ لَا يَلْزَمُ الصَّبِيَّ ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ مَنْ أَدْخَلَهُ فِي الْإِحْرَامِ .
فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ .
وَقَالَ الْقَاضِي : ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يُحْرِمُ عَنْهُ إلَّا وَلِيُّهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِلْأُمِّ عَلَى مَالِهِ ، وَالْإِحْرَامُ يَتَعَلَّقُ بِهِ إلْزَامُ مَالٍ ، فَلَا يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ ذِي وِلَايَةٍ ، كَشِرَاءِ شَيْءٍ لَهُ ، فَأَمَّا غَيْرُ الْأُمُّ وَالْوَلِيِّ مِنْ الْأَقَارِبِ ، كَالْأَخِ وَالْعَمِّ وَابْنِهِ ، فَيُخَرَّجُ فِيهِمْ وَجْهَانِ ، بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ فِي الْأُمُّ .
أَمَّا الْأَجَانِبُ ، فَلَا يَصِحُّ إحْرَامُهُمْ عَنْهُ ، وَجْهًا وَاحِدًا .

( 2259 ) الْفَصْلُ الثَّانِي : إنَّ كُلَّ مَا أَمْكَنَهُ فِعْلُهُ بِنَفْسِهِ ، لَزِمَهُ فِعْلُهُ ، وَلَا يَنُوبُ غَيْرُهُ عَنْهُ فِيهِ ، كَالْوُقُوفِ وَالْمَبِيتِ بِمُزْدَلِفَةَ ، وَنَحْوِهِمَا ، وَمَا عَجَزَ عَنْهُ عَمِلَهُ الْوَلِيُّ عَنْهُ .
قَالَ جَابِرٌ : { خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُجَّاجًا ، وَمَعَنَا النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ ، فَأَحْرَمْنَا عَنْ الصِّبْيَانِ .
} رَوَاهُ سَعِيدٌ ، فِي ( سُنَنِهِ ) .
وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ ، فِي ( سُنَنِهِ ) فَقَالَ : فَلَبَّيْنَا عَنْ الصِّبْيَانِ ، وَرَمَيْنَا عَنْهُمْ .
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ ، قَالَ : فَكُنَّا نُلَبِّي عَنْ النِّسَاءِ ، وَنَرْمِي عَنْ الصِّبْيَانِ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : كُلُّ مَنْ حَفِظْت عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَرَى الرَّمْيَ عَنْ الصَّبِيَّ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى الرَّمْيِ ، كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُ ذَلِكَ .
وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ .
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ : أَنَّهُ كَانَ يَحُجُّ صِبْيَانُهُ وَهُمْ صِغَارٌ ، فَمَنْ اسْتَطَاعَ مِنْهُمْ أَنْ يَرْمِيَ رَمَى ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَرْمِيَ رَمَى عَنْهُ .
وَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ طَافَ بِابْنِ الزُّبَيْرِ فِي خِرْقَةٍ .
رَوَاهُمَا الْأَثْرَمُ .
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : يَرْمِي عَنْ الصَّبِيِّ أَبَوَاهُ أَوْ وَلِيُّهُ .
قَالَ الْقَاضِي : إنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يُنَاوِلَ النَّائِبَ الْحَصَى نَاوَلَهُ ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ اُسْتُحِبَّ أَنْ يُوضَعَ الْحَصَى فِي يَدِهِ فَيَرْمِيَ عَنْهُ .
وَإِنْ وَضَعَهَا فِي يَدَ الصَّغِيرِ ، وَرَمَى بِهَا ، فَجَعَلَ يَدَهُ كَالْآلَةِ ، فَحَسَنٌ .
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرْمِيَ عَنْهُ إلَّا مَنْ قَدْ رَمَى عَنْ نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنُوبَ عَنْ الْغَيْرِ وَعَلَيْهِ فَرْضُ نَفْسِهِ .
وَأَمَّا الطَّوَافُ ، فَإِنَّهُ إنْ أَمْكَنَهُ الْمَشْيُ مَشَى ، وَإِلَّا طِيفَ بِهِ مَحْمُولًا أَوْ رَاكِبًا ، فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ طَافَ بِابْنِ الزُّبَيْرِ فِي خِرْقَةٍ .
وَلِأَنَّ الطَّوَافَ بِالْكَبِيرِ مَحْمُولًا لِعُذْرٍ يَجُوزُ ، فَالصَّغِيرُ أَوْلَى .
وَلَا

فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْحَامِلُ لَهُ حَلَالًا ، أَوْ حَرَامًا مِمَّنْ أَسْقَطَ الْفَرْضَ عَنْ نَفْسِهِ ، أَوْ لَمْ يُسْقِطَهُ ، لِأَنَّ الطَّوَافَ لِلْمَحْمُولِ لَا لِلْحَامِلِ ، وَلِذَلِكَ صَحَّ أَنْ يَطُوفَ رَاكِبًا عَلَى بَعِيرٍ ، وَتُعْتَبَرُ النِّيَّةُ فِي الطَّائِفِ بِهِ .
فَإِنْ لَمْ يَنْوِ الطَّوَافَ عَنْ الصَّبِيِّ لَمْ يُجْزِئْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ تُعْتَبَرْ النِّيَّةُ مِنْ الصَّبِيِّ اُعْتُبِرَتْ مِنْ غَيْرِهِ ، كَمَا فِي الْإِحْرَامِ .
فَإِنْ نَوَى الطَّوَافَ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ الصَّبِيِّ احْتَمَلَ وُقُوعُهُ عَنْ نَفْسِهِ ، كَالْحَجِّ إذَا نَوَى بِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَقَعَ عَنْ الصَّبِيِّ ، كَمَا لَوْ طَافَ بِكَبِيرٍ وَنَوَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ نَفْسِهِ ، لِكَوْنِ الْمَحْمُولِ أَوْلَى ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَلْغُوَ لِعَدَمِ التَّعْيِينِ ، لِكَوْنِ الطَّوَافِ لَا يَقَعُ عَنْ غَيْرِ مُعَيَّنٍ .
وَأَمَّا الْإِحْرَامُ فَإِنَّ الصَّبِيَّ يُجَرَّدُ كَمَا يُجَرَّدُ الْكَبِيرُ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ تُجَرِّدُ الصِّبْيَانَ إذَا دَنَوْا مِنْ الْحَرَمِ .
قَالَ عَطَاءٌ : يُفْعَلُ بِالصَّغِيرِ كَمَا يُفْعَلُ بِالْكَبِيرِ ، وَيُشْهَدُ بِهِ الْمَنَاسِكُ كُلُّهَا إلَّا أَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَنْهُ .

( 2260 ) الْفَصْلُ الثَّالِثُ ، فِي مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ : وَهِيَ قِسْمَانِ ؛ مَا يَخْتَلِفُ عَمْدُهُ وَسَهْوُهُ ، كَاللِّبَاسِ وَالطِّيبِ ، وَمَا لَا يَخْتَلِفُ ، كَالصَّيْدِ ، وَحَلْقِ الشَّعْرِ ، وَتَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ .
فَالْأَوَّلُ ، لَا فِدْيَةَ عَلَى الصَّبِيِّ فِيهِ ؛ لِأَنَّ عَمْدَهُ خَطَأٌ .
وَالثَّانِي ، عَلَيْهِ فِيهِ الْفِدْيَةُ .
وَإِنْ وَطِئَ أَفْسَدَ حَجَّهُ ، وَيَمْضِي فِي فَاسِدِهِ .
وَفِي الْقَضَاءِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ ، أَحَدُهُمَا ، لَا يَجِبُ ؛ لِئَلَّا تَجِبَ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ عَلَى مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ .
وَالثَّانِي ، يَجِبُ ؛ لِأَنَّهُ إفْسَادٌ مُوجِبٌ لِلْفِدْيَةِ ، فَأَوْجَبَ الْقَضَاءَ ، كَوَطْءِ الْبَالِغِ ، فَإِنْ قَضَى بَعْدَ الْبُلُوغِ بَدَأَ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ .
فَإِنْ أَحْرَمَ بِالْقَضَاءِ قَبْلَهَا ، انْصَرَفَ إلَى حَجَّةِ الْإِسْلَامِ .
وَهَلْ تُجْزِئُهُ عَنْ الْقَضَاءِ ؟ يُنْظَرُ ، فَإِنْ كَانَتْ الْفَاسِدَةُ قَدْ أَدْرَكَ فِيهَا شَيْئًا مِنْ الْوُقُوفِ بَعْدَ بُلُوغِهِ ، أَجْزَأَ عَنْهُمَا جَمِيعًا ، وَإِلَّا لَمْ يُجْزِئْهُ ، كَمَا قُلْنَا فِي الْعَبْدِ عَلَى مَا مَضَى .

( 2261 ) الْفَصْلُ الرَّابِعُ ، فِيمَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْفِدْيَةِ : قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ جِنَايَاتِ الصِّبْيَانِ لَازِمَةٌ لَهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ .
وَذَكَرَ أَصْحَابُنَا فِي الْفِدْيَةِ الَّتِي تَجِبُ بِفِعْلِ الصَّبِيِّ وَجْهَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا فِي مَالِهِ ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِجِنَايَتِهِ ، أَشْبَهَتْ الْجِنَايَةَ عَلَى الْآدَمِيِّ .
وَالثَّانِي عَلَى الْوَلِيِّ ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ بِعَقْدِهِ أَوْ إذْنِهِ ، فَكَانَ عَلَيْهِ ، كَنَفَقَةِ حَجِّهِ .
فَأَمَّا النَّفَقَةُ ، فَقَالَ الْقَاضِي : مَا زَادَ عَلَى نَفَقَة الْحَضَرِ ، فَفِي مَالِ الْوَلِيِّ ؛ لِأَنَّهُ كَلَّفَهُ ذَلِكَ ، وَلَا حَاجَةَ بِهِ إلَيْهِ .
وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي الْخَطَّابِ .
وَحُكِيَ عَنْ الْقَاضِي أَنَّهُ ذَكَرَ فِي الْخِلَافِ أَنَّ النَّفَقَةَ كُلَّهَا عَلَى الصَّبِيِّ ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ لَهُ ، فَنَفَقَتُهُ عَلَيْهِ ، كَالْبَالِغِ ، وَلِأَنَّ فِيهِ مَصْلَحَةً لَهُ بِتَحْصِيلِ الثَّوَابِ لَهُ ، وَيَتَمَرَّنُ عَلَيْهِ ، فَصَارَ كَأَجْرِ الْمُعَلِّمِ وَالطَّبِيبِ .
وَالْأَوَّلُ أَوْلَى ؛ فَإِنَّ الْحَجَّ لَا يَجِبُ فِي الْعُمْرِ إلَّا مَرَّةً .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَجِبَ ، فَلَا يَجُوزُ تَكْلِيفُهُ بَذْلَ مَالِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَيْهِ لِلتَّمَرُّنِ عَلَيْهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( 2262 ) فَصْلٌ : إذَا أُغْمِيَ عَلَى بَالِغٍ ، لَمْ يَصِحَّ أَنْ يُحْرِمَ عَنْهُ رَقِيقُهُ .
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٌ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَصِحُّ ، وَيَصِيرُ مُحْرِمًا بِإِحْرَامِ رَفِيقِهِ عَنْهُ اسْتِحْسَانًا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ مِنْ ، قَصْدِهِ ، وَيَلْحَقُهُ مَشَقَّةٌ فِي تَرْكِهِ ، فَأَجْزَأَ عَنْهُ إحْرَامُ غَيْرِهِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ بَالِغٌ ، فَلَمْ يَصِرْ مُحْرِمًا بِإِحْرَامِ غَيْرِهِ ، كَالنَّائِمِ ، وَلَوْ أَنَّهُ أَذِنَ فِي ذَلِكَ وَأَجَازَهُ ، لَمْ يَصِحَّ ، فَمَعَ عَدَمِ هَذَا أَوْلَى أَنْ لَا يَصِحَّ .

( 2263 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَمَنْ طِيفَ بِهِ مَحْمُولًا ، كَانَ الطَّوَافُ لَهُ دُونَ حَامِلِهِ ) أَمَّا إذَا طِيفَ بِهِ مَحْمُولًا لِعُذْرٍ ، فَلَا يَخْلُو ؛ إمَّا أَنْ يَقْصِدَا جَمِيعًا عَنْ الْمَحْمُولِ ، فَيَصِحَّ عَنْهُ دُونَ الْحَامِلِ ، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ ، أَوْ يَقْصِدَا جَمِيعًا عَنْ الْحَامِلِ فَيَقَعَ عَنْهُ أَيْضًا ، وَلَا شَيْءَ لِلْمَحْمُولِ ، أَوْ يَقْصِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الطَّوَافَ عَنْ نَفْسِهِ ، فَإِنَّهُ يَقَعُ لِلْمَحْمُولِ دُونَ الْحَامِلِ .
وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ ، وَالْقَوْلُ الْآخَرُ ، يَقَعُ لِلْحَامِلِ ؛ لِأَنَّهُ الْفَاعِلُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَقَعُ لَهُمَا ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا طَائِفٌ بِنِيَّةٍ صَحِيحَةٍ ، فَأَجْزَأَ الطَّوَافُ عَنْهُ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَنْوِ صَاحِبُهُ شَيْئًا ، وَلِأَنَّهُ لَوْ حَمَلَهُ بِعَرَفَاتٍ ، لَكَانَ الْوُقُوفُ عَنْهُمَا ، كَذَا هَاهُنَا .
وَهَذَا الْقَوْلُ حَسَنٌ .
وَوَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّهُ طَوَافٌ أَجْزَأْهُ عَنْ الْمَحْمُولِ ، فَلَمْ يَقَعْ عَنْ الْحَامِلِ ، كَمَا لَوْ نَوَيَا جَمِيعًا الْمَحْمُولَ ، وَلِأَنَّهُ طَوَافٌ وَاحِدٌ ، فَلَا يَقَعُ عَنْ شَخْصَيْنِ ، وَالرَّاكِبُ لَا يَقَعُ طَوَافُهُ إلَّا عَنْ وَاحِدٍ .
وَأَمَّا إذَا حَمَلَهُ فِي عَرَفَةَ ، فَمَا حَصَلَ الْوُقُوفُ بِالْحَمْلِ ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ الْكَوْنُ فِي عَرَفَاتٍ ، وَهُمَا كَائِنَانِ بِهَا ، وَالْمَقْصُودُ هَاهُنَا الْفِعْلُ ، وَهُوَ وَاحِدٌ ، فَلَا يَقَعُ عَنْ شَخْصَيْنِ ، وَوُقُوعُهُ عَنْ الْمَحْمُولِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِ بِطَوَافِهِ إلَّا لِنَفْسِهِ ، وَالْحَامِلُ لَمْ يُخْلِصْ قَصْدَهُ بِالطَّوَافِ لِنَفْسِهِ ، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَقْصِدْ الطَّوَافَ بِالْمَحْمُولِ لَمَا حَمَلَهُ ، فَإِنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْ الطَّوَافِ لَا يَقِفُ عَلَى حَمْلِهِ ، فَصَارَ الْمَحْمُولُ مَقْصُودًا لَهُمَا ، وَلَمْ يَخْلُصْ قَصْدُ الْحَامِلِ لِنَفْسِهِ ، فَلَمْ يَقَعْ عَنْهُ ، لِعَدَمِ التَّعْيِينِ .
وَقَالَ أَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ ، فِي ( شَرْحِهِ ) : لَا يُجْزِئُ الطَّوَافُ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّ فِعْلًا وَاحِدًا لَا يَقَعُ عَنْ اثْنَيْنِ ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى

بِهِ مِنْ الْآخَرِ .
وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَحْمُولَ بِهِ أَوْلَى ، لِخُلُوصِ نِيَّتِهِ لِنَفْسِهِ ، وَقَصْدِ الْحَامِلِ لَهُ ، وَلَا يَقَعُ عَنْ الْحَامِلِ لِعَدَمِ التَّعْيِينِ .
فَإِنْ نَوَى أَحَدُهُمَا نَفْسَهُ دُونَ الْآخَرَ ، صَحَّ الطَّوَافُ لَهُ .
وَإِنْ عَدِمَتْ النِّيَّةُ مِنْهُمَا ، أَوْ نَوَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْآخَرَ ، لَمْ يَصِحَّ لِوَاحِدِ مِنْهُمَا .

بَابُ ذِكْرِ الْمَوَاقِيتِ ( 2264 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ رَحِمَهُ اللَّهُ : ( وَمِيقَاتُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ ، وَأَهْلِ الشَّامِ وَمِصْرَ وَالْمَغْرِبِ مِنْ الْجُحْفَةِ ، وَأَهْلِ الْيَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمَ ، وَأَهْلِ الطَّائِفِ وَنَجْدٍ مِنْ قَرْنٍ ، وَأَهْلِ الْمَشْرِقِ مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَوَاقِيتَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهَا الْخَمْسَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْخِرَقِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَرْبَعَةٍ مِنْهَا ، وَهِيَ : ذُو الْحُلَيْفَةِ ، وَالْجُحْفَةُ ، وَقَرْنٌ ، وَيَلَمْلَمُ .
وَاتَّفَقَ أَئِمَّةُ النَّقْلِ عَلَى صِحَّةِ الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ ، قَالَ { : وَقَّتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ ، وَلِأَهْلِ الشَّامِ الْجُحْفَةَ ، وَلِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنًا ، وَلِأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمُ ، قَالَ : فَهُنَّ لَهُنَّ ، وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ ، مِمَّنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ ، فَمَنْ كَانَ دُونَهُنَّ مُهَلُّهُ مِنْ أَهْلِهِ ، وَكَذَلِكَ أَهْلُ مَكَّةَ يُهِلُّونَ مِنْهَا } .
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( يُهِلُّ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ ، وَأَهْلُ الشَّامِ مِنْ الْجُحْفَةِ ، وَأَهْلُ نَجْدٍ مِنْ قَرْنٍ ) .
قَالَ ابْنُ عُمَرَ : وَذُكِرَ لِي وَلَمْ أَسْمَعْهُ أَنَّهُ قَالَ : ( وَأَهْلُ الْيَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمُ ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا .
فَأَمَّا ذَاتُ عِرْقٍ فَمِيقَاتُ أَهْلِ الْمَشْرِقِ ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ ، وَأَبِي ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ .
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ إحْرَامَ الْعِرَاقِيِّ مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ إحْرَامٌ مِنْ الْمِيقَاتِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ كَانَ يُحْرِمُ مِنْ الْعَقِيقِ .
وَاسْتَحْسَنَهُ الشَّافِعِيُّ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ .
وَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ يُحْرِمُ مِنْ

الرَّبَذَةِ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ خُصَيْفٍ وَالْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَقَّتَ لِأَهْلِ الْمَشْرِقِ الْعَقِيقَ .
} قَالَ التِّرْمِذِيُّ : وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : الْعَقِيقُ أَوْلَى وَأَحْوَطُ مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ ، وَذَاتُ عِرْقٍ مِيقَاتُهُمْ بِإِجْمَاعٍ .
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي مَنْ وَقَّتَ ذَاتَ عِرْقٍ ، فَرَوَى أَبُو دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ ، وَغَيْرُهُمَا ، بِإِسْنَادِهِمْ ، عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ ، { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَّتَ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ ذَاتَ عِرْقٍ } .
وَعَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا سُئِلَ عَنْ الْمُهَلِّ ؟ قَالَ : سَمِعْته - وَأَحْسَبُهُ رَفَعَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : { مُهَلُّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ ، وَالطَّرِيقُ الْآخَرُ مِنْ الْجُحْفَةِ ، وَمُهَلُّ أَهْلِ الْعِرَاقِ مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ ، وَمُهَلُّ أَهْلِ نَجْدٍ مِنْ قَرْنٍ .
} رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، فِي ( صَحِيحِهِ ) .
وَقَالَ قَوْمٌ آخَرُونَ : إنَّمَا وَقَّتَهَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَرَوَى الْبُخَارِيُّ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، قَالَ : لَمَّا فُتِحَ هَذَانِ الْمِصْرَانِ ، أَتَوْا عُمَرَ ، فَقَالُوا : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّ لِأَهْلِ نَجْدٍ ، قَرْنًا ، وَهُوَ جَوْرٌ عَنْ طَرِيقِنَا ، وَإِنَّا إنْ أَرَدْنَا قَرْنًا شَقَّ عَلَيْنَا .
قَالَ : فَانْظُرُوا حَذْوَهَا مِنْ طَرِيقِكُمْ .
فَحَدَّ لَهُمْ ذَاتَ عِرْقٍ .
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عُمَرُ وَمَنْ سَأَلَهُ لَمْ يَعْلَمُوا تَوْقِيتَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ عِرْقٍ ، فَقَالَ ذَلِكَ بِرَأْيِهِ فَأَصَابَ ، وَوَافَقَ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ كَانَ كَثِيرَ الْإِصَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَإِذَا ثَبَتَ تَوْقِيتُهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ عُمَرَ ، فَالْإِحْرَامُ مِنْهُ أَوْلَى ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

( 2265 ) فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ الْمِيقَاتُ قَرْيَةً فَانْتَقَلَتْ إلَى مَكَان آخَرَ ، فَمَوْضِعُ الْإِحْرَامِ مِنْ الْأُولَى ، وَإِنْ انْتَقَلَ الِاسْمُ إلَى الثَّانِيَةِ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ تَعَلَّقَ بِذَلِكَ الْمَوْضِع ، فَلَا يَزُولُ بِخَرَابِهِ .
وَقَدْ رَأَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ رَجُلًا يُرِيدُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ ، فَأَخَذَ بِيَدِهِ حَتَّى خَرَجَ بِهِ مِنْ الْبُيُوتِ ، وَقَطَعَ الْوَادِيَ ، فَأَتَى بِهِ الْمَقَابِرَ ، فَقَالَ : هَذِهِ ذَاتُ عِرْقٍ الْأُولَى .

( 2266 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَأَهْلُ مَكَّةَ إذَا أَرَادُوا الْعُمْرَةَ ، فَمِنْ الْحِلِّ ، وَإِذَا أَرَادُوا الْحَجَّ ، فَمِنْ مَكَّةَ ) أَهْلُ مَكَّةَ ، مَنْ كَانَ بِهَا ، سَوَاءٌ كَانَ مُقِيمًا بِهَا أَوْ غَيْرَ مُقِيمٍ ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ أَتَى عَلَى مِيقَاتٍ كَانَ مِيقَاتًا لَهُ ، فَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ كَانَ بِمَكَّةَ فَهِيَ مِيقَاتُهُ لِلْحَجِّ ؛ وَإِنْ أَرَادَ الْعُمْرَةَ فَمِنْ الْحِلِّ .
لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا .
وَلِذَلِكَ { أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ أَنْ يُعْمِرَ عَائِشَةَ مِنْ التَّنْعِيمِ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَكَانَتْ بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ يُهِلُّونَ مِنْهَا } يَعْنِي لِلْحَجِّ .
وَقَالَ أَيْضًا : ( وَمَنْ كَانَ أَهْلُهُ دُونَ الْمِيقَاتِ فَمِنْ حَيْثُ يُنْشِئُ ، حَتَّى يَأْتِيَ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ ) .
وَهَذَا فِي الْحَجِّ .
فَأَمَّا فِي الْعُمْرَةِ فَمِيقَاتُهَا فِي حَقِّهِمْ الْحِلُّ ، مِنْ أَيِّ جَوَانِبِ الْحَرَمِ شَاءَ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِإِعْمَارِ عَائِشَةَ مِنْ التَّنْعِيمِ ، وَهُوَ أَدْنَى الْحِلِّ إلَى مَكَّةَ .
وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ : بَلَغَنِي { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَّتَ لِأَهْلِ مَكَّةَ التَّنْعِيمَ } .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : يَا أَهْلَ مَكَّةَ ، مَنْ أَتَى مِنْكُمْ الْعُمْرَةَ ، فَلْيَجْعَلْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا بَطْنَ مُحَسِّرٍ .
يَعْنِي إذَا أَحْرَمَ بِهَا مِنْ نَاحِيَةِ الْمُزْدَلِفَةِ .
وَإِنَّمَا لَزِمَ الْإِحْرَامُ مِنْ الْحِلِّ ، لِيَجْمَع فِي النُّسُكِ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ ، فَإِنَّهُ لَوْ أَحْرَمَ مِنْ الْحَرَمِ ، لَمَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِيهِ ، لِأَنَّ أَفْعَالَ الْعُمْرَةِ كُلَّهَا فِي الْحَرَمِ ، بِخِلَافِ الْحَجِّ ، فَإِنَّهُ يَفْتَقِرُ إلَى الْخُرُوجِ إلَى عَرَفَةَ ، فَيَجْتَمِعُ لَهُ الْحِلُّ وَالْحَرَمُ ، وَالْعُمْرَةُ بِخِلَافِ ذَلِكَ .
وَمِنْ أَيِّ الْحِلِّ أَحْرَمَ جَازَ .
وَإِنَّمَا أَعْمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَائِشَةَ

مِنْ التَّنْعِيمِ ؛ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ الْحِلِّ إلَى مَكَّةَ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ ، فِي الْمَكِّيِّ ، كُلَّمَا تَبَاعَدَ فِي الْعُمْرَةِ فَهُوَ أَعْظَمُ لِلْأَجْرِ ، هِيَ عَلَى قَدْرِ تَعَبِهَا .
وَأَمَّا إنْ أَرَادَ الْمَكِّيُّ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ ، فَمِنْ مَكَّةَ ؛ لِلْخَبَرِ الَّذِي ذَكَرْنَا ، وَلِأَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا فَسَخُوا الْحَجَّ ، أَمَرَهُمْ فَأَحْرَمُوا مِنْ مَكَّةَ .
قَالَ جَابِرٌ : { أَمَرَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا حَلَلْنَا ، أَنْ نُحْرِمَ إذَا تَوَجَّهْنَا مِنْ الْأَبْطَحِ } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ قَاطِنِي مَكَّةَ وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ هُوَ بِهَا ، كَالْمُتَمَتِّعِ إذَا حَلَّ ، وَمَنْ فَسَخَ حَجَّهُ بِهَا .
وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ فِيمَنْ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ ، أَنَّهُ يُهِلُّ بِالْحَجِّ مِنْ الْمِيقَاتِ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ، فَعَلَيْهِ دَمٌ .
وَالصَّحِيحُ خِلَافُ هَذَا ؛ لِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّ أَحْمَدَ إنَّمَا أَرَادَ أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ إذَا خَرَجَ إلَى الْمِيقَاتِ ، وَلَا يَسْقُطُ إذَا أَحْرَمَ مِنْ مَكَّةَ .
وَهَذَا فِي غَيْرِ الْمَكِّيِّ ، أَمَّا الْمَكِّيُّ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ دَمُ مُتْعَةٍ بِحَالٍ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } .
وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي مَنْ دَخَلَ مَكَّةَ يَحُجُّ عَنْ غَيْرِهِ ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَعْتَمِرَ بَعْدَهُ لِنَفْسِهِ ، أَوْ دَخَلَ يَحُجُّ لِنَفْسِهِ ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَعْتَمِرَ لِغَيْرِهِ ، أَوْ دَخَلَ بِعُمْرَةٍ لِنَفْسِهِ ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَحُجَّ أَوْ يَعْتَمِرَ لِغَيْرِهِ ، أَوْ دَخَلَ بِعُمْرَةٍ لَغَيْرِهِ ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَحُجَّ أَوْ يَعْتَمِرَ لِنَفْسِهِ ، أَنَّهُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ يَخْرُجُ إلَى الْمِيقَاتِ ، فَيُحْرِمُ مِنْهُ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ، فَعَلَيْهِ دَمٌ .
قَالَ : وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ : فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ : إذَا اعْتَمَرَ عَنْ غَيْرِهِ ، ثُمَّ أَرَادَ

الْحَجَّ لِنَفْسِهِ ، يَخْرُجُ إلَى الْمِيقَاتِ ، أَوْ اعْتَمَرَ عَنْ نَفْسِهِ ، يَخْرُجُ إلَى الْمِيقَاتِ ، وَإِنْ دَخَلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ ، ثُمَّ أَرَادَ الْحَجَّ ، يَخْرُجُ إلَى الْمِيقَاتِ .
وَاحْتَجَّ لَهُ الْقَاضِي ، بِأَنَّهُ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ مُرِيدًا لِلنُّسُكِ ، غَيْرَ مُحْرِمٍ لِنَفْسِهِ ، فَلَزِمَهُ دَمٌ إذَا أَحْرَمَ دُونَهُ ، كَمَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ غَيْرَ مُحْرِمٍ .
وَعَلَى هَذَا لَوْ حَجَّ عَنْ شَخْصٍ وَاعْتَمَرَ عَنْ آخَرَ ، أَوْ اعْتَمَرَ عَنْ إنْسَانٍ ثُمَّ حَجَّ أَوْ اعْتَمَرَ عَنْ آخَرَ ، فَكَذَلِكَ .
وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْخُرُوجُ إلَى الْمِيقَاتِ فِي هَذَا كُلِّهِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ بِمَكَّةَ كَالْقَاطِنِ بِهَا ، وَهَذَا حَاصِلٌ بِمَكَّةَ عَلَى وَجْهٍ مُبَاحٍ ، فَأَشْبَهَ الْمَكِّيَّ .
وَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي تَحَكُّمٌ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ خَبَرٌ ، وَلَا يَشْهَدُ لَهُ أَثَرٌ ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْمَعْنَى فَاسِدٌ لِوُجُوهٍ : أَحَدُهَا ، أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَرِيدًا لِلنُّسُكِ عَنْ نَفْسِهِ حَالَ مُجَاوَزَةِ الْمِيقَاتِ ، فَإِنَّهُ قَدْ يَبْدُو لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ .
الثَّانِي ، أَنَّ هَذَا لَا يَتَنَاوَلُ مَنْ أَحْرَمَ عَنْ غَيْرِهِ .
الثَّالِثُ ، أَنَّهُ لَوْ وَجَبَ بِهَذَا الْخُرُوجُ إلَى الْمِيقَاتِ ، لَلَزِمَ الْمُتَمَتِّعَ وَالْمُفْرِدَ ؛ لِأَنَّهُمَا تَجَاوَزَا الْمِيقَاتَ ، مُرِيدَيْنِ لِغَيْرِ النُّسُكِ الَّذِي أَحْرَمَا بِهِ .
الرَّابِعُ ، أَنَّ الْمَعْنَى فِي الَّذِي يُجَاوِزُ الْمِيقَاتَ غَيْرَ مُحْرِمٍ ، أَنَّهُ فَعَلَ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ فِعْلُهُ ، وَتَرَكَ الْإِحْرَامَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ فِي مَوْضِعِهِ ، فَأَحْرَمَ مِنْ دُونِهِ .

( 2267 ) فَصْلٌ : وَمِنْ أَيِّ الْحَرَمِ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ جَازَ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْإِحْرَامِ بِهِ الْجَمْعُ فِي النُّسُكِ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ ، وَهَذَا يَحْصُلُ بِالْإِحْرَامِ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ ، فَجَازَ ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ مِنْ الْحِلِّ ، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ : { إذَا أَرَدْتُمْ أَنْ تَنْطَلِقُوا إلَى مِنًى ، فَأَهِلُّوا مِنْ الْبَطْحَاءِ } .
وَلِأَنَّ مَا اُعْتُبِرَ فِيهِ الْحَرَمُ اسْتَوَتْ فِيهِ الْبَلْدَةُ وَغَيْرُهَا ، كَالنَّحْرِ .

( 2268 ) فَصْلٌ : فَإِنْ أَحْرَمَ مِنْ الْحِلِّ ؛ نَظَرْت ، فَإِنْ أَحْرَمَ مِنْ الْحِلِّ الَّذِي يَلِي الْمَوْقِفَ فَعَلَيْهِ دَمٌ ؛ لِأَنَّهُ أَحْرَمَ مِنْ دُونِ الْمِيقَاتِ .
وَإِنْ أَحْرَمَ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ ، ثُمَّ سَلَكَ الْحَرَمَ ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، فِي رَجُلٍ أَحْرَمَ لِلْحَجِّ مِنْ التَّنْعِيمِ ، فَقَالَ : لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ .
وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَحْرَمَ قَبْلَ مِيقَاتِهِ ، فَكَانَ كَالْمُحْرِمِ قَبْلَ بَقِيَّةِ الْمَوَاقِيتِ .
وَلَوْ أَحْرَمَ مِنْ الْحِلِّ ، وَلَمْ يَسْلُكْ الْحَرَمَ ، فَعَلَيْهِ دَمٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ .

( 2269 ) فَصْلٌ : وَإِنْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ مِنْ الْحَرَمِ ، انْعَقَدَ إحْرَامُهُ بِهَا ، وَعَلَيْهِ دَمٌ ؛ لِتَرْكِهِ الْإِحْرَامَ مِنْ الْمِيقَاتِ .
ثُمَّ إنْ خَرَجَ إلَى الْحِلِّ قَبْلَ الطَّوَافِ ، ثُمَّ عَادَ ، أَجْزَأَهُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ جَمَعَ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ .
وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ حَتَّى قَضَى عُمْرَتَهُ ، صَحَّ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِأَرْكَانِهَا ، وَإِنَّمَا أَخَلَّ بِالْإِحْرَامِ مِنْ مِيقَاتِهَا ، وَقَدْ جَبَرَهُ ، فَأَشْبَهَ مَنْ أَحْرَمَ مِنْ دُونِ الْمِيقَاتِ بِالْحَجِّ .
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ .
وَالْقَوْلُ الثَّانِي ، لَا تَصِحُّ عُمْرَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ نُسُكٌ ، فَكَانَ مِنْ شَرْطِهِ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ ، كَالْحَجِّ .
فَعَلَى هَذَا وُجُودُ هَذَا الطَّوَافِ كَعَدَمِهِ ، وَهُوَ بَاقٍ عَلَى إحْرَامِهِ حَتَّى يَخْرُجَ إلَى الْحِلِّ ، ثُمَّ يَطُوفَ بَعْدَ ذَلِكَ وَيَسْعَى .
وَإِنْ حَلَقَ قَبْلَ ذَلِكَ ، فَعَلَيْهِ دَمٌ .
وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا فَعَلَهُ مِنْ مَحْظُورَاتِ إحْرَامِهِ ، فَعَلَيْهِ فِدْيَتُهُ .
وَإِنْ وَطِئَ ، أَفْسَدَ عُمْرَتَهُ ، وَيَمْضِي فِي فَاسِدِهَا ، وَعَلَيْهِ دَمٌ لِإِفْسَادِهَا ، وَيَقْضِيهَا بِعُمْرَةٍ مِنْ الْحِلِّ .
ثُمَّ إنْ كَانَتْ الْعُمْرَةُ الَّتِي أَفْسَدَهَا عُمْرَةَ الْإِسْلَامِ ، أَجْزَأَهُ قَضَاؤُهَا عَنْ عُمْرَةِ الْإِسْلَامِ ، وَإِلَّا فَلَا .

( 2270 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَمَنْ كَانَ مَنْزِلُهُ دُونَ الْمِيقَاتِ ، فَمِيقَاتُهُ مِنْ مَوْضِعِهِ ) يَعْنِي إذَا كَانَ مَسْكَنُهُ أَقْرَبَ إلَى مَكَّةَ مِنْ الْمِيقَاتِ ، كَانَ مِيقَاتُهُ مَسْكَنَهُ .
هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَبِهِ يَقُولُ مَالِكٌ ، وَطَاوُسٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَعَنْ مُجَاهِدٍ ، قَالَ : يُهِلُّ مِنْ مَكَّةَ .
وَلَا يَصِحُّ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ : { فَمَنْ كَانَ دُونَهُنَّ ، مُهَلُّهُ مِنْ أَهْلِهِ } .
وَهَذَا صَرِيحٌ ، وَالْعَمَلُ بِهِ أَوْلَى .
( 2271 ) فَصْلٌ : إذَا كَانَ مَسْكَنُهُ قَرْيَةً ، فَالْأَفْضَلُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ أَبْعَدِ جَانِبَيْهَا .
وَإِنْ أَحْرَمَ مِنْ أَقْرَبِ جَانِبَيْهَا جَازَ .
وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْمَوَاقِيتِ الَّتِي وَقَّتَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا كَانَتْ قَرْيَةً ، وَالْحِلَّةُ كَالْقَرْيَةِ ، فِيمَا ذَكَرْنَا .
وَإِنْ كَانَ مَسْكَنُهُ مُنْفَرِدًا ، فَمِيقَاتُهُ مَسْكَنُهُ ، أَوْ حَذْوُهُ ، وَكُلُّ مِيقَاتٍ فَحَذْوُهُ بِمَنْزِلَتِهِ .
ثُمَّ إنْ كَانَ مَسْكَنُهُ فِي الْحِلِّ ، فَإِحْرَامُهُ مِنْهُ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مَعًا ، وَإِنْ كَانَ فِي الْحَرَمِ ، فَإِحْرَامُهُ لِلْعُمْرَةِ مِنْ الْحِلِّ ، لِيَجْمَعَ فِي النُّسُكِ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ ، كَالْمَكِّيِّ ، وَأَمَّا الْحَجُّ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ لَهُ الْإِحْرَامُ مِنْ أَيِّ الْحَرَمِ شَاءَ ، كَالْمَكِّيِّ .

( 2272 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَمَنْ لَمْ يَكُنْ طَرِيقُهُ عَلَى مِيقَاتٍ ، فَإِذَا حَاذَى أَقْرَبَ الْمَوَاقِيتِ إلَيْهِ أَحْرَمَ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا بَيْنَ مِيقَاتَيْنِ ، فَإِنَّهُ يَجْتَهِدُ حَتَّى يَكُونَ إحْرَامُهُ بِحَذْوِ الْمِيقَاتِ ، الَّذِي هُوَ إلَى طَرِيقِهِ أَقْرَبُ ؛ لِمَا رَوَيْنَا أَنَّ أَهْلَ الْعِرَاقِ قَالُوا لِعُمَرَ : إنَّ قَرْنًا جَوْرٌ عَنْ طَرِيقِنَا .
فَقَالَ : اُنْظُرُوا حَذْوَهَا مِنْ طَرِيقِكُمْ فَوَقَّتَ لَهُمْ ذَاتَ عِرْقٍ .
وَلِأَنَّ هَذَا مِمَّا يُعْرَفُ بِالِاجْتِهَادِ وَالتَّقْدِيرِ ، فَإِذَا اشْتَبَهَ دَخَلَهُ الِاجْتِهَادُ ، كَالْقِبْلَةِ .
( 2273 ) فَصْلٌ : فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ حَذْوَ الْمِيقَاتِ الْمُقَارِبِ لِطَرِيقِهِ ، احْتَاطَ ، فَأَحْرَمَ مِنْ بُعْدٍ ، بِحَيْثُ يَتَيَقَّنُ أَنَّهُ لَمْ يُجَاوِزْ الْمِيقَاتَ إلَّا مُحْرِمًا ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ قَبْلَ الْمِيقَاتِ جَائِزٌ ، وَتَأْخِيرُهُ عَنْهُ لَا يَجُوزُ ، فَالِاحْتِيَاطُ فِعْلُ مَا لَا شَكَّ فِيهِ .
وَلَا يَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ قَدْ حَاذَاهُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ وُجُوبِهِ ، فَلَا يَجِبُ بِالشَّكِّ .
فَإِنْ أَحْرَمَ ، ثُمَّ عَلِمَ بَعْدُ أَنَّهُ قَدْ جَاوَزَ مَا يُحَاذِيهِ مِنْ الْمَوَاقِيتِ غَيْرَ مُحْرِمٍ ، فَعَلَيْهِ دَمٌ .
وَإِنْ شَكَّ فِي أَقْرَبِ الْمِيقَاتَيْنِ إلَيْهِ ، فَالْحُكْمُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا .
وَإِنْ كَانَتَا مُتَسَاوِيَتَيْنِ فِي الْقُرْبِ إلَيْهِ ، أَحْرَمَ مِنْ حَذْوِ أَبْعَدِهِمَا .

( 2274 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَهَذِهِ الْمَوَاقِيتُ لِأَهْلِهَا ، وَلِمَنْ مَرَّ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا مِمَّنْ أَرَادَ حَجًّا أَوْ عُمْرَةً ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا فِيهَا مِيقَاتٌ فَهُوَ مِيقَاتُهُ ، فَإِذَا حَجَّ الشَّامِيُّ مِنْ الْمَدِينَةِ فَمَرَّ بِذِي الْحُلَيْفَةِ فَهِيَ مِيقَاتُهُ ، وَإِنْ حَجَّ مِنْ الْيَمَنِ فَمِيقَاتُهُ يَلَمْلَمُ ، وَإِنْ حَجَّ مِنْ الْعِرَاقِ فَمِيقَاتُهُ ذَاتُ عِرْقٍ .
وَهَكَذَا كُلُّ مَنْ مَرَّ عَلَى مِيقَاتٍ غَيْرِ مِيقَاتِ بَلَدِهِ صَارَ مِيقَاتًا لَهُ .
سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ الشَّامِيِّ يَمُرُّ بِالْمَدِينَةِ يُرِيدُ الْحَجَّ ، مِنْ أَيْنَ يُهِلُّ ؟ قَالَ : مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ .
قِيلَ : فَإِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَقُولُ يُهِلُّ مِنْ مِيقَاتِهِ مِنْ الْجُحْفَةِ .
فَقَالَ : سُبْحَانَ اللَّهِ ، أَلَيْسَ يَرْوِي ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( هُنَّ لَهُنَّ ، وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ ) .
وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ، وَإِسْحَاقَ .
وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ فِي الشَّامِيِّ يَمُرُّ بِالْمَدِينَةِ : لَهُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ الْجُحْفَةِ .
وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ .
وَكَانَتْ عَائِشَةُ ، إذَا أَرَادَتْ الْحَجَّ أَحْرَمَتْ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ ، وَإِذَا أَرَادَتْ الْعُمْرَةَ أَحْرَمَتْ مِنْ الْجُحْفَةِ .
وَلَعَلَّهمْ يَحْتَجُّونَ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَّتَ لِأَهْلِ الشَّامِ الْجُحْفَةَ .
وَلَنَا ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { فَهُنَّ لَهُنَّ ، وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ } .
وَلِأَنَّهُ مِيقَاتٌ ، فَلَمْ يَجُزْ تَجَاوُزُهُ بِغَيْرِ إحْرَامٍ لِمَنْ يُرِيدُ النُّسُكَ ، كَسَائِرِ الْمَوَاقِيتِ .
وَخَبَرُهُمْ أُرِيدَ بِهِ مَنْ لَمْ يَمُرَّ عَلَى مِيقَاتٍ آخَرَ ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ مَرَّ بِمِيقَاتٍ غَيْرِ ذِي الْحُلَيْفَةِ ، لَمْ يَجُزْ لَهُ تَجَاوُزُهُ بِغَيْرِ إحْرَامٍ ، بِغَيْرِ خِلَافٍ .
وَقَدْ رَوَى سَعِيدٌ ، عَنْ سُفْيَانَ ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَقَّتَ لِمَنْ سَاحَلَ مِنْ

أَهْلِ الشَّامِ الْجُحْفَةَ ، } وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فِي هَذَا ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَهُنَّ لَهُنَّ ، وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ ، مِمَّنْ كَانَ يُرِيدُ حَجًّا أَوْ عُمْرَةً } .

( 2275 ) فَصْلٌ : فَإِنْ مَرَّ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ ذِي الْحُلَيْفَةِ ، فَمِيقَاتُهُ الْجُحْفَةُ ، سَوَاءٌ كَانَ شَامِيًّا أَوْ مَدَنِيًّا ؛ لِمَا رَوَى أَبُو الزُّبَيْرِ ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا يُسْأَلُ عَنْ الْمُهَلِّ ، فَقَالَ : سَمِعْته - أَحْسَبُهُ رَفَعَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : { مُهَلُّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ ، وَالطَّرِيقُ الْآخَرُ مِنْ الْجُحْفَةِ } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَلِأَنَّهُ مَرَّ عَلَى أَحَدِ الْمَوَاقِيتِ دُونَ غَيْرِهِ ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ الْإِحْرَامُ قَبْلَهُ ، كَسَائِرِ الْمَوَاقِيتِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ حِينَ أَحْرَمَ أَصْحَابُهُ دُونَهُ فِي قِصَّةِ صَيْدِهِ لِلْحِمَارِ الْوَحْشِيِّ ، إنَّمَا تَرَكَ الْإِحْرَامَ لِكَوْنِهِ لَمْ يَمُرَّ عَلَى ذِي الْحُلَيْفَةِ ، فَأَخَّرَ إحْرَامَهُ إلَى الْجُحْفَةِ .
إذْ لَوْ مَرَّ عَلَيْهَا لَمْ يَجُزْ لَهُ تَجَاوُزُهَا مِنْ غَيْرِ إحْرَامٍ .
وَيُمْكِنُ حَمْلُ حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي تَأْخِيرِهَا إحْرَامَ الْعُمْرَةِ إلَى الْجُحْفَةِ عَلَى هَذَا ، وَأَنَّهَا لَا تَمُرُّ فِي طَرِيقهَا عَلَى ذِي الْحُلَيْفَةِ ؛ لِئَلَّا يَكُونَ فِعْلُهَا مُخَالِفًا لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِسَائِرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .

( 2276 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَالِاخْتِيَارُ أَنْ لَا يُحْرِمَ قَبْلَ مِيقَاتِهِ ، فَإِنْ فَعَلَ فَهُوَ مُحْرِمٌ ) لَا خِلَافَ فِي أَنَّ مَنْ أَحْرَمَ قَبْلَ الْمِيقَاتِ يَصِيرُ مُحْرِمًا ، تَثْبُتُ فِي حَقِّهِ أَحْكَامُ الْإِحْرَامِ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ أَحْرَمَ قَبْلَ الْمِيقَاتِ أَنَّهُ مُحْرِمٌ .
وَلَكِنَّ الْأَفْضَلَ الْإِحْرَامُ مِنْ الْمِيقَاتِ ، وَيُكْرَهُ قَبْلَهُ .
رُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ ، وَعُثْمَانَ .
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ ، وَعَطَاءٌ ، وَمَالِكٌ ، وَإِسْحَاقُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْأَفْضَلُ الْإِحْرَامُ مِنْ بَلَدِهِ .
وَعَنْ الشَّافِعِيِّ كَالْمَذْهَبَيْنِ .
وَكَانَ عَلْقَمَةُ ، وَالْأَسْوَدُ ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ ، وَأَبُو إِسْحَاقَ ، يُحْرِمُونَ مِنْ بُيُوتِهِمْ .
وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ زَوْجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { مَنْ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ أَوْ عُمْرَةٍ مِنْ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ ، أَوْ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ .
شَكَّ عَبْدُ اللَّهِ أَيَّتَهُمَا قَالَ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَفِي لَفْظٍ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ : { مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، غُفِرَ لَهُ } .
وَأَحْرَمَ ابْنُ عُمَرَ مِنْ إِيلْيَا .
وَرَوَى النَّسَائِيُّ ، وَأَبُو دَاوُد ، بِإِسْنَادِهِمَا عَنْ الصُّبَيّ بْنِ مَعْبَدٍ ، قَالَ : أَهْلَلْت بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ، فَلَمَّا أَتَيْت الْعُذَيْبَ لَقِيَنِي سَلْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ ، وَزَيْدُ بْنُ صُوحَانَ ، وَأَنَا أُهِلُّ بِهِمَا ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا : مَا هَذَا بِأَفْقَهَ مِنْ بَعِيرِهِ .
فَأَتَيْت عُمَرَ ، فَذَكَرْت لَهُ ذَلِكَ .
فَقَالَ : { هُدِيت لِسُنَّةِ نَبِيِّك صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .
وَهَذَا إحْرَامٌ بِهِ قَبْلَ الْمِيقَاتِ .
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَوْله تَعَالَى : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } .
إتْمَامُهُمَا أَنْ تُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71