الكتاب : المغني
المؤلف : أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد ، الشهير بابن قدامة المقدسي

( 431 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَيَمْسَحُ عَلَى ظَاهِرِ الْقَدَمِ ) .
السُّنَّةُ مَسْحُ أَعْلَى الْخُفِّ دُونَ أَسْفَلِهِ وَعَقِبِهِ ، فَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى مَوْضِعِ الْأَصَابِعِ ، ثُمَّ يَجُرُّهَا إلَى سَاقِهِ خَطًّا بِأَصَابِعِهِ .
وَإِنْ مَسَحَ مِنْ سَاقِهِ إلَى أَصَابِعِهِ جَازَ ، وَالْأَوَّلُ الْمَسْنُونُ وَلَا يُسَنُّ مَسْحُ أَسْفَلِهِ ، وَلَا عَقِبِهِ .
بِذَلِكَ قَالَ عُرْوَةُ ، وَعَطَاءٌ ، وَالْحَسَنُ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَالثَّوْرِيُّ ، الْأَوْزَاعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَرُوِيَ عَنْ سَعْدٍ أَنَّهُ كَانَ يَرَى مَسْحَ ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ .
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَالزُّهْرِيِّ ، وَمَكْحُولٍ ، وَابْنِ الْمُبَارَكِ ، وَمَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ، لِمَا رَوَى الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ ، قَالَ : { وَضَّأْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَسَحَ أَعْلَى الْخُفِّ وَأَسْفَلَهُ } .
رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ ؛ وَلِأَنَّهُ يُحَاذِي مَحَلَّ الْفَرْضِ ، فَأَشْبَهَ ظَاهِرَهُ .
وَلَنَا قَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : { لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرَّأْيِ لَكَانَ أَسْفَلُ الْخُفِّ أَوْلَى بِالْمَسْحِ مِنْ ظَاهِرِهِ ، وَقَدْ رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ ظَاهِرَ خُفَّيْهِ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَعَنْ الْمُغِيرَةِ قَالَ { : رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ عَلَى ظَاهِرِهِمَا } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَعَنْ عُمَرَ ، قَالَ : { رَأَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ بِالْمَسْحِ عَلَى ظَاهِرِ الْخُفَّيْنِ إذَا لَبِسَهُمَا وَهُمَا طَاهِرَتَانِ .
} رَوَاهُ الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ .
وَلِأَنَّ بَاطِنَهُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِفَرْضِ الْمَسْحِ ، فَلَمْ يَكُنْ مَحَلًّا لِمَسْنُونِهِ ، كَسَاقِهِ ؛ وَلِأَنَّ مَسْحَهُ غَيْرُ وَاجِبٍ ، وَلَا يَكَادُ يَسْلَمُ مِنْ مُبَاشَرَةِ أَذًى فِيهِ ، تَتَنَجَّسُ يَدُهُ بِهِ ، فَكَانَ تَرْكُهُ أَوْلَى ، وَحَدِيثُهُمْ مَعْلُولٌ ، قَالَهُ التِّرْمِذِيُّ قَالَ : وَسَأَلْت

أَبَا زُرْعَةَ ، وَمُحَمَّدًا - عَنْهُ فَقَالَا : لَيْسَ بِصَحِيحٍ .
وَقَالَ أَحْمَدُ : هَذَا مِنْ وَجْهٍ ضَعِيفٍ ، رَوَاهُ رَجَاءُ بْنُ حَيْوَةَ ، عَنْ وَرَّادٍ كَاتِبِ الْمُغِيرَةِ ، وَلَمْ يَلْقَهُ .
وَأَسْفَلُ الْخُفِّ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِفَرْضِ الْمَسْحِ ، بِخِلَافِ أَعْلَاهُ .

( 432 ) فَصْلٌ : وَالْمُجْزِئُ فِي الْمَسْحِ أَنْ يَمْسَحَ أَكْثَرَ مُقَدَّمِ ظَاهِرِهِ خُطُوطًا بِالْأَصَابِعِ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُجْزِئُهُ أَقَلُّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَسْحِ ؛ لِأَنَّهُ أَطْلَقَ لَفْظَ الْمَسْحِ ، وَلَمْ يُنْقَلْ فِيهِ تَقْدِيرٌ ، فَوَجَبَ الرُّجُوعُ إلَى مَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُجْزِئُهُ قَدْرُ ثَلَاثِ أَصَابِعَ ؛ لِقَوْلِ الْحَسَنِ : سُنَّةُ الْمَسْحِ خِطَطٌ بِالْأَصَابِعِ .
فَيَنْصَرِفُ إلَى سُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقَلُّ لَفْظِ الْجَمْعِ ثَلَاثٌ ، وَلَنَا أَنَّ لَفْظَ الْمَسْحِ وَرَدَ مُطْلَقًا ، وَفَسَّرَهُ النَّبِيُّ بِفِعْلِهِ ، فَيَجِبُ الرُّجُوعُ إلَى تَفْسِيرِهِ ، وَقَدْ رَوَى الْخَلَّالُ ، بِإِسْنَادِهِ ، عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ ، فَذَكَرَ وُضُوءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ثُمَّ { تَوَضَّأَ ، وَمَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ ، فَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى خُفِّهِ الْأَيْمَنِ ، وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُسْرَى عَلَى خُفِّهِ الْأَيْسَرِ ، ثُمَّ مَسَحَ أَعْلَاهُمَا مَسْحَةً وَاحِدَةً ، حَتَّى كَأَنِّي أَنْظُرُ إلَى أَثَرِ أَصَابِعِهِ عَلَى الْخُفَّيْنِ } .
قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : سُنَّةُ الْمَسْحِ هَكَذَا ، أَنْ يَمْسَحَ خُفَّيْهِ بِيَدَيْهِ الْيُمْنَى لِلْيُمْنَى وَالْيُسْرَى لِلْيُسْرَى ، وَقَالَ أَحْمَدُ : كَيْفَمَا فَعَلَهُ فَهُوَ جَائِزٌ ، بِالْيَدِ الْوَاحِدَةِ أَوْ بِالْيَدَيْنِ ، وَقَوْلُ الْحَسَنِ ، مَعَ مَا ذَكَرْنَا ، لَا يَتَنَافَيَانِ .

( 433 ) فَصْلٌ : فَإِنْ مَسَحَ بِخِرْقَةٍ أَوْ خَشَبَةٍ ، احْتَمَلَ الْإِجْزَاءَ ؛ لِأَنَّهُ مَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ ، وَاحْتَمَلَ الْمَنْعَ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ بِيَدِهِ .
وَإِنْ مَسَحَ بِإِصْبَعٍ أَوْ إصْبَعَيْنِ ، أَجْزَأَهُ إذَا كَرَّرَ الْمَسْحَ بِهَا ، حَتَّى يَصِيرَ مِثْلَ الْمَسْحِ بِأَصَابِعِهِ .
وَقِيلَ لِأَحْمَدَ : يَمْسَحُ بِالرَّاحَتَيْنِ أَوْ بِالْأَصَابِعِ ؟ قَالَ : بِالْأَصَابِعِ .
قِيلَ لَهُ : أَيُجْزِئُهُ بِإِصْبَعَيْنِ ؟ قَالَ : لَمْ أَسْمَعْ .

( 434 ) فَصْلٌ : وَإِنْ غَسَلَ الْخُفَّ ، فَتَوَقَّفَ أَحْمَدُ ، وَأَجَازَهُ ابْنُ حَامِدٍ ؛ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ مِنْ الْمَسْحِ .
وَقَالَ الْقَاضِي : لَا يُجْزِئُهُ ؛ لِأَنَّهُ أُمِرَ بِالْمَسْحِ ، وَلَمْ يَفْعَلْهُ ، فَلَمْ يُجْزِهِ ، كَمَا لَوْ طَرَحَ التُّرَابَ عَلَى وَجْهِهِ وَيَدَيْهِ فِي التَّيَمُّمِ ، لَكِنْ إنْ أَمَرَّ يَدَيْهِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فِي حَالِ الْغَسْلِ ، أَوْ بَعْدَهُ أَجْزَأَهُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ مَسَحَ .

( 435 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَإِنْ مَسَحَ أَسْفَلَهُ دُونَ أَعْلَاهُ ، لَمْ يُجْزِهِ ) لَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ : يُجْزِئُهُ مَسْحُ أَسْفَلِ الْخُفِّ ، إلَّا أَشْهَبَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ ، وَبَعْضَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ مَسَحَ بَعْضَ مَا يُحَاذِي مَحَلَّ الْفَرْضِ ، فَأَجْزَأَهُ ، كَمَا لَوْ مَسَحَ ظَاهِرَهُ .
وَالْمَنْصُوصُ عَنْ الشَّافِعِيِّ ، أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَحَلًّا لِفَرْضِ الْمَسْحِ ، فَلَمْ يُجْزِئْ مَسْحُهُ كَالسَّاقِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا مَسَحَ ظَاهِرَ الْخُفِّ وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ يُجْزِئُ مَسْحُ ظَاهِرِهِ ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : لَا أَعْلَمُ أَحَدًا يَقُولُ بِالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ يَقُولُ : لَا يُجْزِئُ الْمَسْحُ عَلَى أَعْلَى الْخُفِّ

( 436 ) فَصْلٌ : وَالْحُكْمُ فِي الْمَسْحِ عَلَى عَقِبِ الْخُفِّ كَالْحُكْمِ فِي مَسْحِ أَسْفَلِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِفَرْضِ الْمَسْحِ ، فَهُوَ كَأَسْفَلِهِ

( 437 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَالرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ يَعْنِي فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخِفَافِ ، وَسَائِرِ أَحْكَامِهِ وَشُرُوطِهِ ؛ لِعُمُومِ الْخَبَرِ ؛ وَلِأَنَّهُ مَسْحٌ أُقِيمَ مُقَامَ الْغَسْلِ ، فَاسْتَوَى فِيهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ ، كَالتَّيَمُّمِ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُسْتَحَاضَةِ وَمَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ وَغَيْرِهِمَا .
وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ : لَيْسَ لَهُمَا أَنْ يَمْسَحَا عَلَى الْخُفِّ أَكْثَرَ مِنْ وَقْتِ صَلَاةٍ ؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ الَّتِي لَبِسَا الْخُفَّ عَلَيْهَا لَا يُسْتَبَاحُ بِهَا أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ ، وَلَنَا عُمُومُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { يَمْسَحُ الْمُقِيمُ يَوْمًا وَلَيْلَةً ، وَالْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ } .
وَلِأَنَّ الْمَسْحَ لَا يَبْطُلُ بِمُبْطِلَاتِ الطَّهَارَةِ فَلَا يَبْطُلُ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ .
لَكِنْ إنْ زَالَ عُذْرُهُمَا كَمَّلَا فِي بَابِهِمَا ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمَا الْمَسْحُ بِتِلْكَ الطَّهَارَةِ كَالتَّيَمُّمِ إذَا أَكْمَلَ بِالْقُدْرَةِ عَلَى الْمَاءِ ، لَا يَمْسَحُ بِالْخُفِّ الْمَلْبُوسِ عَلَى التَّيَمُّمِ

( 438 ) فَصْلٌ : وَيَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْعِمَامَةِ ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : وَمِمَّنْ مَسَحَ عَلَى الْعِمَامَةِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ ، وَبِهِ قَالَ عُمَرُ ، وَأَنَسٌ ، وَأَبُو أُمَامَةَ ، وَرُوِيَ عَنْ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَالْحَسَنُ ، وَقَتَادَةُ ، وَمَكْحُولٌ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَقَالَ عُرْوَةُ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَالْقَاسِمُ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ : لَا يَمْسَحُ عَلَيْهَا ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ } ؛ وَلِأَنَّهُ لَا تَلْحَقُهُ الْمَشَقَّةُ فِي نَزْعِهَا ، فَلَمْ يَجُزْ الْمَسْحُ عَلَيْهَا ، كَالْكُمَّيْنِ .
وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ ، قَالَ : { تَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَالْعِمَامَةِ .
} قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ، وَفِي " مُسْلِمٍ " { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَالْخِمَارِ } .
قَالَ أَحْمَدُ : هُوَ مِنْ خَمْسَةِ وُجُوهٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
رَوَى الْخَلَّالُ ، بِإِسْنَادِهِ ، عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ لَمْ يُطَهِّرْهُ الْمَسْحُ عَلَى الْعِمَامَةِ فَلَا طَهَّرَهُ اللَّهُ ؛ وَلِأَنَّهُ حَائِلٌ فِي مَحَلٍّ وَرَدَ الشَّرْعُ بِمَسْحِهِ ، فَجَازَ الْمَسْحُ عَلَيْهِ ، كَالْخُفَّيْنِ ؛ وَلِأَنَّ الرَّأْسَ عُضْوٌ يَسْقُطُ فَرْضُهُ فِي التَّيَمُّمِ ، فَجَازَ الْمَسْحُ عَلَى حَائِلِهِ ، كَالْقَدَمَيْنِ ، وَالْآيَةُ لَا تَنْفِي مَا ذَكَرْنَاهُ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبَيِّنٌ لِكَلَامِ اللَّهِ ، مُفَسِّرٌ لَهُ ، وَقَدْ مَسَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْعِمَامَةِ ، وَأَمَرَ بِالْمَسْحِ عَلَيْهَا ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ الْمَسْحُ عَلَى الرَّأْسِ ، أَوْ حَائِلِهِ .
وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ ، أَنَّ الْمَسْحَ فِي الْغَالِبِ لَا يُصِيبُ الرَّأْسَ .

وَإِنَّمَا يَمْسَحُ عَلَى الشَّعْرِ ، وَهُوَ حَائِلٌ بَيْنَ الْيَدِ وَبَيْنَهُ ، فَكَذَلِكَ الْعِمَامَةُ ، فَإِنَّهُ يُقَالُ لِمَنْ لَمَسَ عِمَامَتَهُ أَوْ قَبَّلَهَا : قَبْلَ رَأْسَهُ وَلَمَسَهُ .
وَكَذَلِكَ أَمَرَ بِمَسْحِ الرِّجْلَيْنِ ، وَاتَّفَقْنَا عَلَى جَوَازِ مَسْحِ حَائِلِهِمَا .

( 439 ) فَصْلٌ : وَمِنْ شُرُوطِ جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْعِمَامَةِ ، أَنْ تَكُونَ سَاتِرَةً لِجَمِيعِ الرَّأْسِ ، إلَّا مَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِكَشْفِهِ ، كَمُقَدَّمِ الرَّأْسِ وَالْأُذُنَيْنِ ، وَشِبْهِهِمَا مِنْ جَوَانِبِ الرَّأْسِ ، فَإِنَّهُ يُعْفَى عَنْهُ ، بِخِلَافِ الْخَرْقِ الْيَسِيرِ فِي الْخُفِّ ، فَإِنَّهُ لَا يُعْفَى عَنْهُ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْكَشْفَ جَرَتْ الْعَادَةُ بِهِ لِمَشَقَّةِ التَّحَرُّزِ عَنْهُ ، وَإِنْ كَانَ تَحْتَ الْعِمَامَةِ قَلَنْسُوَةٌ يَظْهَرُ بَعْضُهَا ، فَالظَّاهِرُ جَوَازُ الْمَسْحِ عَلَيْهِمَا ؛ لِأَنَّهُمَا صَارَا كَالْعِمَامَةِ الْوَاحِدَةِ .
وَمِنْ شُرُوطِ جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَيْهَا ، أَنْ تَكُونَ عَلَى صِفَةِ عَمَائِمِ الْمُسْلِمِينَ ، بِأَنْ يَكُونَ تَحْتَ الْحَنَكِ مِنْهَا شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ عَمَائِمُ الْعَرَبِ ، وَهِيَ أَكْثَرُ سَتْرًا مِنْ غَيْرِهَا ، وَيَشُقُّ نَزْعُهَا ، فَيَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهَا ، سَوَاءٌ كَانَتْ لَهَا ذُؤَابَةٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ .
قَالَهُ الْقَاضِي .
وَسَوَاءٌ كَانَتْ صَغِيرَةً أَوْ كَبِيرَةً وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَحْتَ الْحَنَكِ مِنْهَا شَيْءٌ ، وَلَا لَهَا ذُؤَابَةٌ ، لَمْ يَجُزْ الْمَسْحُ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّهَا عَلَى صِفَةِ عَمَائِمِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَلَا يَشُقُّ نَزْعُهَا .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ أَمَرَ بِالتَّلَحِّي ، وَنَهَى عَنْ الِاقْتِعَاطِ } .
رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ ، قَالَ : وَالِاقْتِعَاطُ أَنْ لَا يَكُونَ تَحْتَ الْحَنَكِ مِنْهَا شَيْءٌ .
وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَأَى رَجُلًا لَيْسَ تَحْتَ حَنَكِهِ مِنْ عِمَامَتِهِ شَيْءٌ ، فَحَنَّكَهُ بِكَوْرٍ مِنْهَا ، وَقَالَ : مَا هَذِهِ الْفَاسِقِيَّةُ ؟ فَامْتَنَعَ الْمَسْحُ عَلَيْهَا لِلنَّهْيِ عَنْهَا ، وَسُهُولَةِ نَزْعِهَا .
وَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ ذُؤَابَةٍ ، وَلَمْ تَكُنْ مُحَنَّكَةً ، فَفِي الْمَسْحِ عَلَيْهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا ، جَوَازُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا تُشْبِهُ عَمَائِمَ أَهْلِ الذِّمَّةِ ، إذْ لَيْسَ مِنْ عَادَتِهِمْ الذُّؤَابَةُ .
وَالثَّانِي ، لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي عُمُومِ النَّهْيِ ، وَلَا يَشُقُّ نَزْعُهَا .
( 440 ) فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ

بَعْضُ الرَّأْسِ مَكْشُوفًا ، مِمَّا جَرَتْ الْعَادَةُ بِكَشْفِهِ ، اُسْتُحِبَّ أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِ مَعَ الْعِمَامَةِ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ عَلَى عِمَامَتِهِ وَنَاصِيَتِهِ ، فِي حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ .
قَالَهُ التِّرْمِذِيُّ .
وَهَلْ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَاجِبٌ ؟ وَقَدْ تَوَقَّفَ أَحْمَدُ عَنْهُ ، فَيُخَرَّجُ فِيهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا ، وُجُوبُهُ ؛ لِلْخَبَرِ ؛ وَلِأَنَّ الْعِمَامَةَ نَابَتْ عَمَّا اسْتَتَرَ ، فَبَقِيَ الْبَاقِي عَلَى مُقْتَضَى الْأَصْلِ ، كَالْجَبِيرَةِ .
وَالثَّانِي ، لَا يَجِبُ ؛ لِأَنَّ الْعِمَامَةَ نَابَتْ عَنْ الرَّأْسِ ، فَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِهَا ، وَانْتَقَلَ الْفَرْضُ إلَيْهَا ، فَلَمْ يَبْقَ لِمَا ظَهَرَ حُكْمٌ ؛ وَلِأَنَّ وُجُوبَهُمَا مَعًا يُفْضِي إلَى الْجَمْعِ بَيْنَ بَدَلٍ وَمُبْدَلٍ فِي عُضْوٍ وَاحِدٍ ، فَلَمْ يَجُزْ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ كَالْخُفِّ .
وَعَلَى هَذَا تُخَرَّجُ الْجَبِيرَةُ .
وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْأُذُنَيْنِ لَا يَجِبُ مَسْحُهُمَا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ ، وَلَيْسَا مِنْ الرَّأْسِ ، إلَّا عَلَى وَجْهِ التَّبَعِ .

( 441 ) فَصْلٌ : وَإِنْ نَزَعَ الْعِمَامَةَ بَعْدَ الْمَسْحِ عَلَيْهَا ، بَطَلَتْ طَهَارَتُهُ ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
وَكَذَلِكَ إنْ انْكَشَفَ رَأْسُهُ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ يَسِيرًا ، مِثْلُ إنْ حَكَّ رَأْسَهُ ، أَوْ رَفَعَهَا لِأَجْلِ الْوُضُوءِ ، فَلَا بَأْسَ .
قَالَ أَحْمَدُ : إذَا زَالَتْ الْعِمَامَةُ عَنْ هَامَتِهِ ، لَا بَأْسَ ، مَا لَمْ يَنْقُضْهَا ، أَوْ يَفْحُشَ ذَلِكَ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا جَرَتْ الْعَادَةُ بِهِ ، فَيَشُقُّ التَّحَرُّزُ عَنْهُ .
وَإِنْ انْتَقَضَتْ الْعِمَامَةُ بَعْدَ مَسْحِهَا ، بَطَلَتْ طَهَارَتُهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ نَزْعِهَا .
وَإِنْ انْتَقَضَ بَعْضُهَا ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ ، ذَكَرَهُمَا ابْنُ عَقِيلٍ : إحْدَاهُمَا ، لَا تَبْطُلُ طَهَارَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ زَالَ بَعْضُ الْمَمْسُوحِ عَلَيْهِ ، مَعَ بَقَاءِ الْعُضْوِ مَسْتُورًا ، فَلَمْ تَبْطُلْ الطَّهَارَةُ ، كَكَشْطِ الْخُفِّ ، مَعَ بَقَاءِ الْبِطَانَةِ ، وَالثَّانِيَةُ : تَبْطُلُ .
قَالَ الْقَاضِي : لَوْ انْتَقَضَ مِنْهَا كَوْرٌ وَاحِدٌ ، بَطَلَتْ ؛ لِأَنَّهُ زَالَ الْمَمْسُوحُ عَلَيْهِ ، فَأَشْبَهَ نَزْعَ الْخُفِّ

فَصْلٌ : وَاخْتُلِفَ فِي وُجُوبِ اسْتِيعَابِ الْعِمَامَةِ بِالْمَسْحِ ؛ فَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ : يَمْسَحُ عَلَى الْعِمَامَةِ ، كَمَا يَمْسَحُ عَلَى رَأْسِهِ .
فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ التَّشْبِيهَ فِي صِفَةِ الْمَسْحِ دُونَ الِاسْتِيعَابِ ، وَأَنَّهُ يُجْزِئُ مَسْحُ بَعْضِهَا ؛ لِأَنَّهُ مَمْسُوحٌ عَلَى وَجْهِ الرُّخْصَةِ ، فَأَجْزَأَ مَسْحُ بَعْضِهِ ، كَالْخُفِّ .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ التَّشْبِيهَ فِي الِاسْتِيعَابِ ، فَيَخْرُجُ فِيهَا مِنْ الْخِلَافِ مَا فِي وُجُوبِ اسْتِيعَابِ الرَّأْسِ ، وَفِيهِ رِوَايَتَانِ ؛ أَظْهَرُهُمَا وُجُوبُ اسْتِيعَابِهِ بِالْمَسْحِ .
فَكَذَلِكَ فِي الْعِمَامَةِ ؛ لِأَنَّ مَسْحَ الْعِمَامَةِ بَدَلٌ مِنْ الْجِنْسِ ، فَيُقَدَّرُ بِقَدْرِ الْمُبْدَلِ ، كَقِرَاءَةِ غَيْرِ الْفَاتِحَةِ مِنْ الْقُرْآنِ ، بَدَلًا مِنْ الْفَاتِحَةِ ، يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِقَدْرِهَا ، وَلَوْ كَانَ الْبَدَلُ تَسْبِيحًا ، لَمْ يَتَقَدَّرْ بِقَدْرِهَا ، وَمَسْحُ الْخُفِّ بَدَلٌ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ ؛ لِأَنَّهُ بَدَلٌ عَنْ الْغَسْلِ ، فَلَمْ يَتَقَدَّرْ بِهِ ، كَالتَّسْبِيحِ بَدَلًا عَنْ الْقُرْآنِ .
وَقَالَ الْقَاضِي : يُجْزِئُ مَسْحُ بَعْضِهَا ، كَإِجْزَاءِ الْمَسْحِ فِي الْخُفِّ عَلَى بَعْضِهِ ، وَيَخْتَصُّ ذَلِكَ بِأَكْوَارِهَا ، وَهِيَ دَوَائِرُهَا دُونَ وَسَطِهَا .
فَإِنْ مَسَحَ وَسَطَهَا وَحْدَهُ فَإِنْ مَسَحَ وَسَطَهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا يُجْزِئُهُ ، كَمَا يُجْزِئُ مَسْحُ بَعْضِ دَوَائِرِهَا .
وَالثَّانِي ، لَا يُجْزِئُهُ ، كَمَا لَوْ مَسَحَ أَسْفَلَ الْخُفِّ .

( 443 ) فَصْلٌ : وَالتَّوْقِيتُ فِي مَسْحِ الْعِمَامَةِ كَالتَّوْقِيتِ فِي مَسْحِ الْخُفِّ ؛ لِمَا رَوَى أَبُو أُمَامَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { يَمْسَحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَالْعِمَامَةِ ثَلَاثًا فِي السَّفَرِ ، وَيَوْمًا وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ } .
رَوَاهُ الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ ، إلَّا أَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ ؛ وَلِأَنَّهُ مَمْسُوحٌ عَلَى وَجْهِ الرُّخْصَةِ ، فَيُوَقَّتُ بِذَلِكَ ، كَالْخُفِّ .

( 444 ) فَصْلٌ : وَالْعِمَامَةُ الْمُحَرَّمَةُ ، كَعِمَامَةِ الْحَرِيرِ وَالْمَغْصُوبَةِ لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهَا ، لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْخُفِّ الْمَغْصُوبِ وَإِنْ لَبِسَتْ الْمَرْأَةُ عِمَامَةً ، لَمْ يَجُزْ الْمَسْحُ عَلَيْهَا ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّشَبُّهِ بِالرِّجَالِ ، فَكَانَتْ مُحَرَّمَةً فِي حَقِّهَا ، وَإِنْ كَانَ لَهَا عُذْرٌ ، فَهَذَا يَنْدُرُ ، فَلَمْ يَرْتَبِطْ الْحُكْمُ بِهِ

( 445 ) فَصْلٌ : وَلَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْقَلَنْسُوَةِ ، الطَّاقِيَّةِ ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، قَالَ هَارُونُ الْحَمَّالُ : سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الْمَسْحِ عَلَى الْكَلْتَةِ ؟ فَلَمْ يَرَهُ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا لَا تَسْتُرُ جَمِيعَ الرَّأْسِ فِي الْعَادَةِ ، وَلَا يَدُومُ عَلَيْهِ ، وَأَمَّا الْقَلَانِسُ الْمُبَطَّنَاتُ ، كَدَنِيَّاتِ الْقُضَاةِ ، وَالنَّوْمِيَّاتِ ، فَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ ، قَالَ أَحْمَدُ : لَا يَمْسَحُ عَلَى الْقَلَنْسُوَةِ وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ بِالْمَسْحِ عَلَى الْقَلَنْسُوَةِ ، إلَّا أَنَّ أَنَسًا مَسَحَ عَلَى قَلَنْسُوَتِهِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا لَا مَشَقَّةَ فِي نَزْعِهَا ، فَلَمْ يَجُزْ الْمَسْحُ عَلَيْهَا كَالْكَلْتَةِ ؛ وَلِأَنَّهَا أَدْنَى مِنْ الْعِمَامَةِ غَيْرِ الْمُحَنَّكَةِ الَّتِي لَيْسَتْ لَهَا ذُؤَابَةٌ .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ : إنْ مَسَحَ إنْسَانٌ عَلَى الْقَلَنْسُوَةِ لَمْ أَرَ بِهِ بَأْسًا ؛ لِأَنَّ أَحْمَدَ قَالَ ، فِي رِوَايَةِ الْمَيْمُونِيِّ أَنَا أَتَوَقَّاهُ .
وَإِنْ ذَهَبَ إلَيْهِ ذَاهِبٌ لَمْ يُعَنِّفْهُ .
قَالَ الْخَلَّالُ : وَكَيْفَ يُعَنِّفُهُ ؟ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَسَانِيدَ صِحَاحٍ ، وَرِجَالٍ ثِقَاتٍ .
فَرَوَى الْأَثْرَمُ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عُمَرَ ، أَنَّهُ قَالَ : إنْ شَاءَ حَسِرَ عَنْ رَأْسِهِ ، وَإِنْ شَاءَ مَسَحَ عَلَى قَلَنْسُوَتِهِ وَعِمَامَتِهِ .
وَرَوَى بِإِسْنَادِهِ ، عَنْ أَبِي مُوسَى ، أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ الْخَلَاءِ ، فَمَسَحَ عَلَى الْقَلَنْسُوَةِ ؛ وَلِأَنَّهُ مَلْبُوسٌ مُعْتَادٌ يَسْتُرُ الرَّأْسَ ، فَأَشْبَهَ الْعِمَامَةَ الْمُحَنَّكَةَ ، وَفَارَقَ الْعِمَامَةَ الَّتِي لَيْسَتْ مُحَنَّكَةً وَلَا ذُؤَابَةَ لَهَا ؛ لِأَنَّهَا مَنْهِيٌّ عَنْهَا .

( 446 ) فَصْلٌ : وَفِي مَسْحِ الرَّأْسِ عَلَى مِقْنَعَتِهَا رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا ، يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ كَانَتْ تَمْسَحُ عَلَى خِمَارِهَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَقَدْ رُوِيَ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَمَرَ بِالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَالْخِمَارِ } ؛ وَلِأَنَّهُ مَلْبُوسٌ لِلرَّأْسِ مُعْتَادٌ ، يَشُقُّ نَزْعُهُ ، فَأَشْبَهَ الْعِمَامَةَ .
وَالثَّانِيَةُ ، لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ ؛ فَإِنَّ أَحْمَدَ سُئِلَ : كَيْفَ تَمْسَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى رَأْسِهَا ؟ قَالَ : مِنْ تَحْتِ الْخِمَارِ ، وَلَا تَمْسَحُ عَلَى الْخِمَارِ ، قَالَ : وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ كَانَتْ تَمْسَحُ عَلَى خِمَارِهَا .
وَمِمَّنْ قَالَ لَا تَمْسَحُ عَلَى خِمَارِهَا .
نَافِعٌ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ؛ لِأَنَّهُ مَلْبُوسٌ لِرَأْسِ الْمَرْأَةِ ، فَلَمْ يَجُزْ الْمَسْحُ عَلَيْهِ ، كَالْوِقَايَةِ ، وَلَا يُجْزِئُ الْمَسْحُ عَلَى الْوِقَايَةِ ، رِوَايَةً وَاحِدَةً .
لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا ؛ لِأَنَّهَا لَا يَشُقُّ نَزْعُهَا ، فَهِيَ كَالطَّاقِيَّةِ لِلرَّجُلِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

بَابُ الْحَيْضِ الْحَيْضُ : دَمٌ يُرْخِيهِ الرَّحِمُ إذَا بَلَغْت الْمَرْأَةُ ، ثُمَّ يَعْتَادُهَا فِي أَوْقَاتٍ مَعْلُومَةٍ ؛ لِحِكْمَةِ تَرْبِيَةِ الْوَلَدِ ، فَإِذَا حَمَلَتْ انْصَرَفَ ذَلِكَ الدَّمُ بِإِذْنِ اللَّهِ إلَى تَغْذِيَتِهِ ؛ وَلِذَلِكَ لَا تَحِيضُ الْحَامِلُ ، فَإِذَا وَضَعْت الْوَلَدَ قَلَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِحِكْمَتِهِ لَبَنًا يَتَغَذَّى بِهِ الطِّفْلُ ؛ وَلِذَلِكَ قَلَّمَا تَحِيضُ الْمُرْضِعُ ، فَإِذَا خَلَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ حَمْلٍ وَرَضَاعٍ .
بَقِيَ ذَلِكَ الدَّمُ لَا مَصْرِفَ لَهُ ، فَيَسْتَقِرُّ فِي مَكَان ، ثُمَّ يَخْرُجُ فِي الْغَالِبِ فِي كُلِّ شَهْرٍ سِتَّةَ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَةً ، وَقَدْ يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ ، وَيَقِلُّ ، وَيَطُولُ شَهْرُ الْمَرْأَةِ وَيَقْصُرُ ، عَلَى حَسَبِ مَا رَكَّبَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الطِّبَاعِ ؛ وَسُمِّيَ حَيْضًا مِنْ قَوْلِهِمْ : حَاضَ السَّيْلُ .
قَالَ عُمَارَةُ بْنُ عَقِيلٍ : أَجَالَتْ حَصَاهُنَّ الذَّوَارِي وَحَيَّضَتْ عَلَيْهِنَّ حَيْضَاتُ السُّيُولِ الطَّوَاحِمِ وَقَدْ عَلَّقَ الشَّرْعُ عَلَى الْحَيْضِ أَحْكَامًا ؛ فَمِنْهَا أَنَّهُ يَحْرُمُ وَطْءُ الْحَائِضِ فِي الْفَرْجِ ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { : وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ } .
وَمِنْهَا أَنَّهُ يَمْنَعُ فِعْلَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ ؛ بِدَلِيلِ { قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَلَيْسَتْ إحْدَاكُنَّ إذَا حَاضَتْ لَا تَصُومُ وَلَا تُصَلِّي } .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَقَالَتْ حَمْنَةُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنِّي أُسْتَحَاضُ حَيْضَةً شَدِيدَةً مُنْكَرَةً ، قَدْ مَنَعَتْنِي الصَّوْمَ وَالصَّلَاةَ .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ : { إذَا أَقْبَلَتْ الْحَيْضَةُ فَاتْرُكِي الصَّلَاةَ } ، وَمِنْهَا أَنَّهُ يُسْقِطُ وُجُوبَ الصَّلَاةِ دُونَ الصِّيَامِ ؛ لِمَا رُوِيَ { أَنَّ مُعَاذَةَ قَالَتْ : سَأَلْت عَائِشَةَ ، فَقُلْت : مَا بَالُ الْحَائِضِ تَقْضِي الصَّوْمَ وَلَا تَقْضِي الصَّلَاةَ

؟ فَقَالَتْ : أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ ؟ فَقُلْت : لَسْت بِحَرُورِيَّةٍ ، وَلَكِنِّي أَسْأَلُ .
فَقَالَتْ : كُنَّا نَحِيضُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ وَلَا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
إنَّمَا قَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْخَوَارِجَ يَرَوْنَ عَلَى الْحَائِضِ قَضَاءَ الصَّلَاةِ .
وَمِنْهَا أَنَّهُ يَمْنَعُ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { لَا تَقْرَأُ الْحَائِضُ وَلَا الْجُنُبُ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ } .
وَمِنْهَا أَنَّهُ يَمْنَعُ اللُّبْثَ فِي الْمَسْجِدِ ، وَالطَّوَافَ بِالْبَيْتِ ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْجَنَابَةِ .
وَمِنْهَا أَنَّهُ يُحَرِّمُ الطَّلَاقَ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { إذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } ، وَلَمَّا { طَلَّقَ ابْنُ عُمَرَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ أَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجْعَتِهَا وَإِمْسَاكِهَا حَتَّى تَطْهُرَ } .
وَمِنْهَا أَنَّهُ يَمْنَعُ صِحَّةَ الطَّهَارَةِ ؛ لِأَنَّ حَدَثَهَا مُقِيمٌ .
وَمِنْهَا أَنَّهُ يُوجِبُ الْغُسْلَ عِنْدَ انْقِطَاعِهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { أَمُكْثِي قَدْرَ مَا كَانَتْ تَحْبِسُك حَيْضَتُك ، ثُمَّ اغْتَسِلِي وَصَلِّي .
} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَهُوَ عَلَمٌ عَلَى الْبُلُوغِ ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ حَائِضٍ إلَّا بِخِمَارٍ .
} وَلَا تَنْقَضِي الْعِدَّةُ فِي حَقِّ الْمُطَلَّقَةِ وَأَشْبَاهِهَا إلَّا بِهِ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } .
وَأَكْثَرُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا بَيْنَ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ .
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَالْحَاجَةُ دَاعِيَةٌ إلَى مَعْرِفَةِ الْحَيْضِ ، لِيُعْلَمَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ .
قَالَ أَحْمَدُ ، رَحِمَهُ اللَّهُ : الْحَيْضُ يَدُورُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحَادِيثَ : حَدِيثِ فَاطِمَةَ ، وَأُمِّ حَبِيبَةَ ، وَحَمْنَةَ .
وَفِي رِوَايَةٍ : حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ .
مَكَانَ حَدِيثِ أُمِّ حَبِيبَةَ .
وَسَنَذْكُرُ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ وَغَيْرَهَا فِي

مَوَاضِعِهَا ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

( 447 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ ( وَأَقَلُّ الْحَيْضِ : يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ ، وَأَكْثَرُهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ) هَذَا الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ، وَقَالَ الْخَلَّالُ : مَذْهَبُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ ، أَنَّ أَقَلَّ الْحَيْضِ يَوْمٌ ، وَأَكْثَرَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا .
وَقِيلَ عَنْهُ : أَكْثَرُهُ سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ ، كَالرِّوَايَتَيْنِ فِي أَقَلِّهِ وَأَكْثَرِهِ .
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ : قَالَ عَطَاءٌ : الْحَيْضُ يَوْمٌ وَاحِدٌ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : أَكْثَرُهُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا .
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَصَاحِبَاهُ : أَقَلُّهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ ، وَأَكْثَرُهُ عَشَرَةٌ ؛ لِمَا رَوَى وَاثِلَةُ بْنُ الْأَسْقَعِ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَقَلُّ الْحَيْضِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَأَكْثَرُهُ عَشَرَةٌ .
} وَقَالَ أَنَسٌ : قُرْءُ الْمَرْأَةِ : ثَلَاثٌ ، أَرْبَعٌ ، خَمْسٌ ، سِتٌّ ، سَبْعٌ ، ثَمَانٍ ، تِسْعٌ ، عَشَرَةٌ .
وَلَا يَقُولُ أَنَسٌ ذَلِكَ إلَّا تَوْقِيفًا ، وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ : لَيْسَ لِأَقَلِّهِ حَدٌّ ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَاعَةً ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِأَقَلِّهِ حَدٌّ ، لَكَانَتْ الْمَرْأَةُ لَا تَدَعُ الصَّلَاةَ حَتَّى يَمْضِيَ ذَلِكَ الْحَدُّ .
وَلَنَا أَنَّهُ وَرَدَ فِي الشَّرْعِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ ، وَلَا حَدَّ لَهُ فِي اللُّغَةِ ، وَلَا فِي الشَّرِيعَةِ ، فَيَجِبُ الرُّجُوعُ فِيهِ إلَى الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ ، كَمَا فِي الْقَبْضِ ، وَالْإِحْرَازِ ، وَالتَّفَرُّقِ ، وَأَشْبَاهِهَا ، وَقَدْ وُجِدَ حَيْضٌ مُعْتَادٌ يَوْمًا ، قَالَ عَطَاءٌ : رَأَيْت مِنْ النِّسَاءِ مَنْ تَحِيضُ يَوْمًا ، وَتَحِيضُ خَمْسَةَ عَشَرَ .
وَقَالَ أَحْمَدُ : حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ آدَمَ ، قَالَ : سَمِعْت شَرِيكًا يَقُولُ : عِنْدَنَا امْرَأَةٌ تَحِيضُ كُلَّ شَهْرٍ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا حَيْضًا مُسْتَقِيمًا .
وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : عِنْدَنَا امْرَأَةٌ تَحِيضُ غَدْوَةً وَتَطْهُرُ عَشِيًّا .
يَرَوْنَ أَنَّهُ حَيْضٌ تَدَعُ لَهُ الصَّلَاةَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَأَيْت امْرَأَةً

أُثْبِتَ لِي عَنْهَا أَنَّهَا لَمْ تَزَلْ تَحِيضُ يَوْمًا لَا تَزِيدُ عَلَيْهِ ، وَأُثْبِتَ لِي عَنْ نِسَاءٍ أَنَّهُنَّ لَمْ يَزَلْنَ يَحِضْنَ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ .
وَذَكَرَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيّ ، أَنَّهُ قَالَ : تَحِيضُ امْرَأَتِي يَوْمَيْنِ .
قَالَ إِسْحَاقُ : وَقَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِنَا مَعْرُوفَةٌ : لَمْ أُفْطِرْ مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً فِي شَهْرِ رَمَضَانَ إلَّا يَوْمَيْنِ .
وَقَوْلُهُنَّ يَجِبُ الرُّجُوعُ إلَيْهِ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى { : وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ } فَلَوْلَا أَنَّ قَوْلَهُنَّ مَقْبُولٌ مَا حَرَّمَ عَلَيْهِنَّ الْكِتْمَانَ ، وَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى قَوْلِهِ : { وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ } .
وَلَمْ يُوجَدْ حَيْضٌ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ عَادَةً مُسْتَمِرَّةً فِي عَصْرٍ مِنْ الْأَعْصَارِ ، فَلَا يَكُونُ حَيْضًا بِحَالٍ .
وَحَدِيثُ وَاثِلَةَ يَرْوِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الشَّامِيُّ ، وَهُوَ ضَعِيفٌ ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ الْمِنْهَالِ ، وَهُوَ مَجْهُولٌ .
وَحَدِيثُ أَنَسٍ يَرْوِيهِ الْجَلْدُ بْنُ أَيُّوبَ ، وَهُوَ ضَعِيفٌ .
قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ : هُوَ حَدِيثٌ لَا أَصْلَ لَهُ .
وَقَالَ أَحْمَدُ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ : لَيْسَ هُوَ شَيْئًا هَذَا مِنْ قِبَلِ الْجَلْدِ بْنِ أَيُّوبَ ، قِيلَ : إنَّ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ رَوَاهُ ، وَقَالَ : مَا أَرَاهُ سَمِعَهُ إلَّا مِنْ الْحَسَنِ بْنِ دِينَارٍ .
وَضَعَّفَهُ جِدًّا .
قَالَ : وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ : ذَاكَ أَبُو حَنِيفَةَ لَمْ يَحْتَجَّ إلَّا بِالْجَلْدِ بْنِ أَيُّوبَ ، وَحَدِيثُ الْجَلْدِ قَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا يُعَارِضُهُ .
فَإِنَّهُ قَالَ : مَا زَادَ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ اسْتِحَاضَةٌ ، وَأَقَلُّ الْحَيْضِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ

( 448 ) فَصْلٌ : وَأَقَلُّ الطُّهْرِ بَيْنَ الْحَيْضَتَيْنِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا ؛ لِأَنَّ كَلَامَ أَحْمَدَ لَا يَخْتَلِفُ أَنَّ الْعِدَّةَ تَصِحُّ أَنْ تَنْقَضِيَ فِي شَهْرٍ وَاحِدٍ إذَا قَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ .
وَقَالَ إِسْحَاقُ : تَوْقِيتُ هَؤُلَاءِ بِالْخَمْسَةِ عَشَرَ بَاطِلٌ .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : أَقَلُّ الطُّهْرِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَكْثَرِ الْحَيْضِ ، فَإِنْ قُلْنَا أَكْثَرُهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، فَأَقَلُّ الطُّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ ، وَإِنْ قُلْنَا أَكْثَرُهُ سَبْعَةَ عَشَرَ ، فَأَقَلُّ الطُّهْرِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ .
وَهَذَا كَأَنَّهُ بَنَاهُ عَلَى أَنَّ شَهْرَ الْمَرْأَةِ لَا يَزِيدُ عَلَى ثَلَاثِينَ يَوْمًا ، يَجْتَمِعُ لَهَا فِيهِ حَيْضٌ وَطُهْرٌ ، وَأَمَّا إذَا زَادَ شَهْرُهَا عَلَى ذَلِكَ تَصَوَّرَ أَنْ يَكُونَ حَيْضُهَا سَبْعَةَ عَشَرَ ، وَطُهْرُهَا خَمْسَةَ عَشَرَ وَأَكْثَرَ .
وَقَالَ مَالِكٌ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ : أَقَلُّ الطُّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ .
وَذَكَرَ أَبُو ثَوْرٍ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ ، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْهُ ، وَقَدْ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا ، فَزَعَمَتْ أَنَّهَا حَاضَتْ فِي شَهْرٍ ثَلَاثَ حِيَضٍ ، طَهُرَتْ عِنْدَ كُلِّ قُرْءٍ وَصَلَّتْ ، فَقَالَ عَلِيٌّ لِشُرَيْحٍ : قُلْ فِيهَا .
فَقَالَ شُرَيْحٌ : إنْ جَاءَتْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ بِطَانَةِ أَهْلِهَا مِمَّنْ يُرْضَى دِينُهُ وَأَمَانَتُهُ ، فَشَهِدَتْ بِذَلِكَ ، وَإِلَّا فَهِيَ كَاذِبَةٌ .
فَقَالَ عَلِيٌّ : " قالون .
وَهَذَا بِالرُّومِيَّةِ .
وَمَعْنَاهُ : جَيِّدٌ .
وَهَذَا لَا يَقُولُهُ إلَّا تَوْقِيفًا ؛ وَلِأَنَّهُ قَوْلُ صَحَابِيٍّ ، انْتَشَرَ ، وَلَمْ نَعْلَمْ خِلَافَهُ ، رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادِهِ ، وَلَا يَجِيءُ إلَّا عَلَى قَوْلِنَا أَقَلُّهُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ ، وَأَقَلُّ الْحَيْضِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ .
وَهَذَا فِي الطُّهْرِ بَيْنَ الْحَيْضَتَيْنِ ، وَأَمَّا الطُّهْرُ فِي أَثْنَاءِ الْحَيْضَةِ فَلَا تَوْقِيتَ فِيهِ ؛ فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ : أَمَّا مَا رَأَتْ الدَّمَ الْبَحْرَانِيَّ فَإِنَّهَا لَا تُصَلِّي ، وَإِذَا رَأَتْ الطُّهْرَ سَاعَةً فَلْتَغْتَسِلْ

.
وَرُوِيَ أَنَّ الطُّهْرَ إذَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ ، لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ .
لِقَوْلِ عَائِشَةَ : لَا تَعْجَلْنَ حَتَّى تَرَيْنَ الْقَصَّةَ الْبَيْضَاءَ ؛ وَلِأَنَّ الدَّمَ يَجْرِي مَرَّةً وَيَنْقَطِعُ أُخْرَى .
فَلَا يَثْبُتُ الطُّهْرُ بِمُجَرَّدِ انْقِطَاعِهِ ، كَمَا لَوْ انْقَطَعَ أَقَلَّ مِنْ سَاعَةٍ .

( 449 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( فَمَنْ أَطْبَقَ بِهَا الدَّمُ فَكَانَتْ مِمَّنْ تُمَيِّزُ ، فَتَعْلَمُ إقْبَالَهُ بِأَنَّهُ أَسْوَدُ ثَخِينٌ مُنْتِنٌ ، وَإِدْبَارَهُ رَقِيقٌ أَحْمَرُ ، تَرَكَتْ الصَّلَاةَ فِي إقْبَالِهِ ، فَإِذَا أَدْبَرَ ، اغْتَسَلَتْ ، وَتَوَضَّأَتْ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَصَلَّتْ ) قَوْلُهُ : " طَبَّقَ بِهَا الدَّمُ " .
يَعْنِي امْتَدَّ وَتَجَاوَزَ أَكْثَرَ الْحَيْضِ ، فَهَذِهِ مُسْتَحَاضَةٌ ، قَدْ اخْتَلَطَ حَيْضُهَا بِاسْتِحَاضَتِهَا ، فَتَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ الْحَيْضِ مِنْ الِاسْتِحَاضَةِ لِتُرَتِّبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمَهُ ، وَلَا تَخْلُو مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ : مُمَيِّزَةٍ لَا عَادَةَ لَهَا ، وَمُعْتَادَةٍ لَا تَمْيِيزَ لَهَا ، وَمَنْ لَهَا عَادَةٌ وَتَمْيِيزٌ ، وَمَنْ لَا عَادَةَ لَهَا وَلَا تَمْيِيزَ .
أَمَّا الْمُمَيِّزَةُ : فَهِيَ الَّتِي ذَكَرَهَا الْخِرَقِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، وَهِيَ الَّتِي لِدَمِهَا إقْبَالٌ وَإِدْبَارٌ ، بَعْضُهُ أَسْوَدُ ثَخِينٌ مُنْتِنٌ ، وَبَعْضُهُ أَحْمَرُ مُشْرِقٌ ، أَوْ أَصْفَرُ ، أَوْ لَا رَائِحَةَ لَهُ ، وَيَكُونُ الدَّمُ الْأَسْوَدُ أَوْ الثَّخِينُ لَا يَزِيدُ عَلَى أَكْثَرِ الْحَيْضِ ، وَلَا يَنْقُصُ عَنْ أَقَلِّهِ ، فَحُكْمُ هَذِهِ أَنَّ حَيْضَهَا زَمَانُ الدَّمِ الْأَسْوَدِ أَوْ الثَّخِينِ أَوْ الْمُنْتِنِ ، فَإِنْ انْقَطَعَ فَهِيَ مُسْتَحَاضَةٌ ، تَغْتَسِلُ لِلْحَيْضِ ، وَتَتَوَضَّأُ بَعْدَ ذَلِكَ لِكُلِّ صَلَاةٍ ، وَتُصَلِّي ، وَذَكَرَ أَحْمَدُ الْمُسْتَحَاضَةَ فَقَالَ : لَهَا سُنَنٌ ، وَذَكَرَ الْمُعْتَادَةَ ، ثُمَّ قَالَ : وَسُنَّةٌ أُخْرَى ، إذَا جَاءَتْ فَزَعَمَتْ أَنَّهَا تُسْتَحَاضُ فَلَا تَطْهُرُ ، قِيلَ لَهَا : أَنْتِ الْآنَ لَيْسَ لَك أَيَّامٌ مَعْلُومَةٌ فَتَجْلِسِينَهَا ، وَلَكِنْ اُنْظُرِي إلَى إقْبَالِ الدَّمِ وَإِدْبَارِهِ ، فَإِذَا أَقْبَلَتْ الْحَيْضَةُ - وَإِقْبَالُهَا أَنْ تَرَى دَمًا أَسْوَدَ يُعْرَفُ - فَإِذَا تَغَيَّرَ دَمُهَا وَكَانَ إلَى الصُّفْرَةِ وَالرِّقَّةِ ، فَذَلِكَ دَمُ اسْتِحَاضَةٍ ، فَاغْتَسِلِي ، وَصَلِّي .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا اعْتِبَارَ بِالتَّمْيِيزِ ، إنَّمَا الِاعْتِبَارُ بِالْعَادَةِ

خَاصَّةً ؛ لِمَا رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ ، { أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تُهْرَاقُ الدِّمَاءَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : لِتَنْظُرْ عِدَّةَ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي الَّتِي كَانَتْ تَحِيضُهُنَّ قَبْلَ أَنْ يُصِيبَهَا الَّذِي أَصَابَهَا ، فَلْتَتْرُكْ الصَّلَاةَ قَدْرَ ذَلِكَ مِنْ الشَّهْرِ ، فَإِذَا خَلَّفَتْ ذَلِكَ فَلْتَغْتَسِلْ ، ثُمَّ لِتَسْتَثْفِرْ بِثَوْبٍ ثُمَّ لِتُصَلِّ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ ، وَابْنُ مَاجَهْ .
وَهُوَ أَحَدُ الْأَحَادِيثِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : إنَّ الْحَيْضَ يَدُورُ عَلَيْهَا .
وَلَنَا مَا رَوَتْ عَائِشَةُ ، قَالَتْ : { جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنِّي أُسْتَحَاضُ ، فَلَا أَطْهُرُ ، أَفَأَدَعُ الصَّلَاةَ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّمَا ذَلِكَ عِرْقٌ ، وَلَيْسَ بِالْحَيْضَةِ ، فَإِذَا أَقْبَلَتْ الْحَيْضَةُ فَاتْرُكِي الصَّلَاةَ ، فَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْك الدَّمَ ، وَصَلِّي } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَلِلنَّسَائِيِّ وَأَبِي دَاوُد : { إذَا كَانَ دَمُ الْحَيْضِ فَإِنَّهُ دَمٌ أَسْوَدُ يُعْرَفُ ، فَأَمْسِكِي عَنْ الصَّلَاةِ ، فَإِذَا كَانَ الْآخَرُ فَتَوَضَّئِي فَإِنَّمَا هُوَ عِرْقٌ } .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : أَمَّا مَا رَأَتْ الدَّمَ الْبَحْرَانِيَّ فَإِنَّهَا تَدَعُ الصَّلَاةَ .
وَقَالَ : إنَّهَا وَاَللَّهِ لَنْ تَرَى الدَّمَ الَّذِي هُوَ الدَّمُ بَعْدَ أَيَّامِ مَحِيضِهَا إلَّا كَغُسَالَةِ مَاءِ اللَّحْمِ .
وَحَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ الْعَادَةِ ، وَلَا نِزَاعَ فِيهِ .
وَحَدِيثُ فَاطِمَةَ هُوَ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ الَّتِي يَدُورُ عَلَيْهَا الْحَيْضُ .

( 450 ) فَصْلٌ : ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّ الْمُمَيِّزَةَ إذَا عَرَفَتْ التَّمْيِيزَ جَلَسَتْهُ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ تَكْرَارٍ .
وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ فِيمَا رَوَيْنَاهُ عَنْهُ .
وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى التَّمْيِيزِ أَنْ يَتَمَيَّزَ أَحَدُ الدَّمَيْنِ عَنْ الْآخَرِ فِي الصِّفَةِ ، وَهَذَا يُوجَدُ بِأَوَّلِ مَرَّةٍ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ الْقَاضِي وَأَبُو الْحَسَنِ الْآمِدِيُّ : إنَّمَا تَجْلِسُ الْمُمَيِّزَةُ مِنْ التَّمْيِيزِ مَا تَكَرَّرَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ، بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ ، فِيمَا تَثْبُتُ بِهِ الْعَادَةُ .
وَلَنَا ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا أَقْبَلَتْ الْحَيْضَةُ فَاتْرُكِي الصَّلَاةَ ، فَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْك الدَّمَ ، وَصَلِّي } .
أَمَرَهَا بِتَرْكِ الصَّلَاةِ إذَا أَقْبَلَتْ الْحَيْضَةُ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ أَمْرٍ آخَرَ ، ثُمَّ مَدَّهُ إلَى حِينِ إدْبَارِهِ ؛ وَلِأَنَّ التَّمْيِيزَ أَمَارَةٌ بِمُجَرَّدِهِ ، فَلَمْ يَحْتَجْ إلَى ضَمِّ غَيْرِهِ إلَيْهِ ، كَالْعَادَةِ ، وَعِنْدَ الْقَاضِي : إنَّمَا تَجْلِسُ مِنْ التَّمْيِيزِ مَا وَافَقَ الْعَادَةَ ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَبِرُ التَّكْرَارَ ، وَمَتَى تَكَرَّرَ صَارَ عَادَةً .

( 451 ) فَصْلٌ : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْأَسْوَدُ مُخْتَلِفًا ، مِثْلُ أَنْ تَرَى فِي كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةً أَسْوَدَ ، ثُمَّ يَصِيرُ أَحْمَرَ ، وَيَعْبُرُ أَكْثَرَ الْحَيْضِ ، فَالْأَسْوَدُ وَحْدَهُ حَيْضٌ .
وَلَوْ لَمْ يَعْبُرْ أَكْثَرَ الْحَيْضِ كَانَ جَمِيعُ الدَّمِ حَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ دَمٌ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ حَيْضًا ، فَكَانَ حَيْضًا ، كَمَا لَوْ كَانَ كُلُّهُ أَحْمَرَ .
وَإِنْ كَانَ مُخْتَلِفًا ، مِثْلُ أَنْ يَرَى فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ خَمْسَةً أَسْوَدَ ، وَفِي الثَّانِي أَرْبَعَةً ، وَفِي الثَّالِثِ ثَلَاثَةً ، أَوْ فِي الْأَوَّلِ خَمْسَةً ، وَفِي الثَّانِي سِتَّةً ، وَفِي الثَّالِثِ سَبْعَةً ، أَوْ فِي الْأَوَّلِ خَمْسَةً ، وَفِي الثَّانِي أَرْبَعَةً ، وَفِي الثَّالِثِ سِتَّةً ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الِاخْتِلَافِ ؛ فَعَلَى قَوْلِنَا الْأَسْوَدُ حَيْضٌ فِي كُلِّ حَالٍ ، وَعَلَى قَوْلِ الْقَاضِي الْأَسْوَدُ حَيْضٌ فِيمَا وَافَقَ الْعَادَةَ فَقَطْ ، وَهُوَ ثَلَاثٌ فِي الْأُولَى ، وَخَمْسٌ فِي الثَّانِيَةِ ، وَأَرْبَعٌ فِي الثَّالِثَةِ ، وَمَا زَادَ عَلَيْهِ إنْ تَكَرَّرَ فَهُوَ حَيْضٌ ، وَإِنْ لَمْ يَتَكَرَّرْ فَلَيْسَ بِحَيْضٍ .
وَعَلَى قَوْلِهِ : لَا تَجْلِسُ مِنْهُ فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي إلَّا الْيَقِينَ الَّذِي تَجْلِسُهُ مَنْ لَا تَمْيِيزَ لَهَا ، فَإِنْ كَانَتْ مُبْتَدَأَةً لَمْ تَجْلِسْ إلَّا يَوْمًا وَلَيْلَةً .
وَهَلْ تَجْلِسُ الَّذِي يَتَكَرَّرُ فِي الشَّهْرِ الثَّالِثِ أَوْ الرَّابِعِ ؟ يَنْبَنِي عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِيمَا تَثْبُتُ بِهِ الْعَادَةُ ، وَيَكُونُ حُكْمُهَا حُكْمَ الْمُبْتَدَأَةِ الَّتِي تَرَى دَمًا لَا يَعْبُرُ أَكْثَرَ الْحَيْضِ ، الْأَحْمَرُ هَاهُنَا كَالطُّهْرِ هُنَاكَ ، وَالْأَسْوَدُ كَالدَّمِ هُنَاكَ .
فَإِنْ كَانَتْ نَاسِيَةً ، وَكَانَ الْأَسْوَدُ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ ، وَقُلْنَا إنَّهَا تَجْلِسُ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ ، جَلَسَتْ هَاهُنَا مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ مَا تَجْلِسُهُ النَّاسِيَةُ وَإِنْ كَانَ أَحْمَرَ ، وَلَا تَنْتَقِلُ إلَى الْأَسْوَدِ حَتَّى يَتَكَرَّرَ ، فَإِذَا تَكَرَّرَ انْتَقَلَتْ إلَيْهِ ، وَعَلِمْنَا أَنَّهُ حَيْضٌ ، فَتَقْضِي مَا صَامَتْهُ مِنْ الْفَرْضِ فِيهِ .

( 452 ) فَصْلٌ : فَإِذَا رَأَتْ أَسْوَدَ بَيْنَ أَحْمَرَيْنِ أَوْ أَحْمَرَ بَيْنَ أَسْوَدَيْنِ ، وَانْقَطَعَ لِدُونِ أَكْثَرِ الْحَيْضِ ، فَالْجَمِيعُ حَيْضٌ إذَا تَكَرَّرَ ؛ لِأَنَّ الْأَحْمَرَ أَشْبَهُ بِالْحَيْضِ مِنْ الطُّهْرِ .
وَإِنْ عَبَرَ أَكْثَرَ الْحَيْضِ ، وَكَادَ الْأَسْوَدُ بِمُفْرَدِهِ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ حَيْضًا ، فَهُوَ حَيْضٌ ، وَالْأَحْمَرُ كُلُّهُ اسْتِحَاضَةٌ ؛ لِأَنَّ الْأَحْمَرَ الْأَوَّلَ أَشْبَهُ بِالْأَحْمَرِ الثَّانِي الَّذِي حَكَمْنَا بِأَنَّهُ اسْتِحَاضَةٌ ، وَتُلَفِّقُ الْأَسْوَدَ إلَى الْأَسْوَدِ ، فَيَكُونُ حَيْضًا .
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الْأَسْوَدِ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا إذَا كَانَ بِانْضِمَامِهِ إلَى بَقِيَّةِ الْأَسْوَدِ يَبْلُغُ أَقَلَّ الْحَيْضِ ، وَلَا يَزِيدُ عَلَى أَكْثَرِهِ ، وَلَا يَكُونُ بَيْنَ طَرَفَيْهِمَا زَمَنٌ يَزِيدُ عَلَى أَكْثَرِ الْحَيْضِ وَكَذَلِكَ لَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الْأَحْمَرِ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا إذَا كَانَ زَمَنُهُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ طُهْرًا .
فَأَمَّا إنْ كَانَ زَمَنُهُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ طُهْرًا ، مِثْلُ الشَّيْءِ الْيَسِيرِ أَوْ مَا دُونَ الْيَوْمِ ، عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ ، فَإِنَّهُ يُلْحَقُ بِالدَّمَيْنِ الَّذِي هُوَ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الدَّمُ مُنْقَطِعًا ، لَمْ يُحْكَمْ بِكَوْنِهِ طُهْرًا ، فَإِذَا كَانَ الدَّمُ جَارِيًا كَانَ أَوْلَى ، فَلَوْ رَأَتْ يَوْمًا دَمًا أَسْوَدَ ، ثُمَّ رَأَتْ الثَّانِيَ دَمًا أَحْمَرَ ، ثُمَّ رَأَتْ الثَّالِثَ أَسْوَدَ ، ثُمَّ صَارَ أَحْمَرَ وَعَبَرَ ، لَفَّقَتْ الْأَسْوَدَ إلَى الْأَسْوَدِ ، فَصَارَ حَيْضُهَا يَوْمَيْنِ وَبَاقِي الدَّمِ اسْتِحَاضَةٌ ، وَإِنْ رَأَتْ نِصْفَ يَوْمٍ أَسْوَدَ ، ثُمَّ صَارَ أَحْمَرَ ، ثُمَّ رَأَتْ الثَّانِيَ كَذَلِكَ ، ثُمَّ رَأَتْ الثَّالِثَ كُلَّهُ أَسْوَدَ ، ثُمَّ صَارَ أَحْمَرَ وَعَبَرَ ، فَإِنْ قُلْنَا إنَّ الطُّهْرَ يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ ، لَفَّقَتْ الْأَسْوَدَ إلَى الْأَسْوَدِ فَكَانَ حَيْضُهَا يَوْمَيْنِ .
وَإِنْ قُلْنَا لَا يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ ، فَحَيْضُهَا الْأَيَّامُ الثَّلَاثَةُ الْأُوَلُ ، وَالْبَاقِي اسْتِحَاضَةٌ .
وَإِنْ رَأَتْ نِصْفَ يَوْمٍ أَسْوَدَ ، ثُمَّ صَارَ

أَحْمَرَ وَعَبَرَ إلَى الْعَاشِرِ ، ثُمَّ رَأَتْهُ كُلَّهُ أَسْوَدَ ، ثُمَّ صَارَ أَحْمَرَ ، وَعَبَرَ ، فَالْأَسْوَدُ حَيْضٌ كُلُّهُ ، وَنِصْفُ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ .
وَلَوْ رَأَتْ بَيْنَ الْأَسْوَدِ وَبَيْنَ الْأَحْمَرِ نَقَاءً يَوْمًا أَوْ أَكْثَرَ ، لَمْ يَتَغَيَّرْ الْحُكْمُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ ؛ لِأَنَّ الْأَحْمَرَ مَحْكُومٌ بِأَنَّهُ اسْتِحَاضَةٌ ، مَعَ اتِّصَالِهِ بِالْأَسْوَدِ ، فَمَعَ انْفِصَالِهِ عَنْهُ أَوْلَى .

( 453 ) فَصْلٌ : إذَا رَأَتْ فِي شَهْرٍ خَمْسَةً أَسْوَدَ ، ثُمَّ صَارَ أَحْمَرَ ، وَاتَّصَلَ ، وَفِي الثَّانِي كَذَلِكَ ، ثُمَّ صَارَ الثَّالِثُ كُلُّهُ أَحْمَرَ ، ثُمَّ رَأَتْ فِي الرَّابِعِ مِثْلَ الْأَوَّلِ ، ثُمَّ رَأَتْ فِي الْخَامِسِ خَمْسَةً أَحْمَرَ ، ثُمَّ صَارَ أَسْوَدَ وَاتَّصَلَ ، فَحَيْضُهَا الْأَسْوَدُ مِنْ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي وَالرَّابِعِ .
وَأَمَّا الثَّالِثُ وَالْخَامِسُ فَلَا تَمْيِيزَ لَهَا فِيهِمَا ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْأَسْوَدِ فِي الْخَامِسِ سَقَطَ لِعُبُورِهِ .
فَإِنْ قُلْنَا الْعَادَةُ تَثْبُتُ بِمَرَّتَيْنِ جَلَسَتْ ذَلِكَ مِنْ الْأَشْهُرِ الثَّلَاثَةِ ، وَهِيَ الثَّالِثُ وَالرَّابِعُ وَالْخَامِسُ وَإِنْ قُلْنَا لَا تَثْبُتُ إلَّا بِثَلَاثَةٍ ، جَلَسَتْ ذَلِكَ مِنْ الْخَامِسِ ؛ لِأَنَّهَا قَدْ رَأَتْ ذَلِكَ فِي ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ ، وَقِيلَ : لَا تَثْبُتُ لَهَا عَادَةٌ ، وَتَجْلِسُ مَا تَجْلِسُهُ مِنْ الْخَامِسِ مِنْ الدَّمِ الْأَسْوَدِ ؛ لِأَنَّهُ أَشْبَهُ بِدَمِ الْحَيْضِ .

( 454 ) فَصْلٌ : إذَا رَأَتْ فِي كُلِّ شَهْرٍ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا دَمًا أَسْوَدَ ، وَخَمْسَةَ عَشَرَ أَحْمَرَ ، فَالْأَسْوَدُ كُلُّهُ حَيْضٌ ؛ لِأَنَّهُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ حَيْضًا ، وَقَدْ رَأَتْ فِيهِ أَمَارَةَ الْحَيْضِ ، فَيَثْبُتُ كَوْنُهُ حَيْضًا .

( 455 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ ( فَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَمُهَا مُنْفَصِلًا ، وَكَانَتْ لَهَا أَيَّامٌ مِنْ الشَّهْرِ تَعْرِفُهَا ، أَمْسَكَتْ عَنْ الصَّلَاةِ فِيهَا ، وَاغْتَسَلَتْ إذَا جَاوَزَتْهَا ) هَذَا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهِيَ مَنْ لَهَا عَادَةٌ وَلَا تَمْيِيزَ لَهَا ؛ لِكَوْنِ دَمِهَا غَيْرَ مُنْفَصِلٍ ، أَيْ عَلَى صِفَةٍ لَا تَخْتَلِفُ وَلَا يَتَمَيَّزُ بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْمُمَيِّزَةِ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مُنْفَصِلًا إلَّا أَنَّ الدَّمَ الَّذِي يَصْلُحُ لِلْحَيْضِ دُونَ أَقَلِّ الْحَيْضِ أَوْ فَوْقَ أَكْثَرِهِ ، فَهَذِهِ لَا تَمْيِيزَ لَهَا .
فَإِذَا كَانَتْ لَهَا عَادَةٌ قَبْلَ أَنْ تُسْتَحَاضَ ، جَلَسَتْ أَيَّامَ عَادَتِهَا ، وَاغْتَسَلَتْ عِنْدَ انْقِضَائِهَا ، ثُمَّ تَتَوَضَّأُ بَعْدَ ذَلِكَ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ ، وَتُصَلِّي .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَقَالَ مَالِكٌ لَا اعْتِبَارَ بِالْعَادَةِ ، إنَّمَا الِاعْتِبَارُ بِالتَّمْيِيزِ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُمَيِّزَةً اسْتَطْهَرَتْ بَعْدَ زَمَانِ عَادَتِهَا بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، إنْ لَمْ تُجَاوِزْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، وَهِيَ بَعْدَ ذَلِكَ مُسْتَحَاضَةٌ .
وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ فَاطِمَةَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ ، وَلَنَا حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ ، وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثِ فَاطِمَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا : دَعِي الصَّلَاةَ قَدْرَ الْأَيَّامِ الَّتِي كُنْت تَحِيضِينَ فِيهَا ثُمَّ اغْتَسِلِي وَصَلِّي .
} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَفِي لَفْظٍ قَالَ : { فَإِذَا أَقْبَلَتْ الْحَيْضَةُ فَاتْرُكِي الصَّلَاةَ ، فَإِذَا ذَهَبَ قَدْرُهَا فَاغْسِلِي عَنْك الدَّمَ ، وَصَلِّي } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَرَوَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ أَنَّهَا سَأَلَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الدَّمِ ؟ فَقَالَ لَهَا { اُمْكُثِي قَدْرَ مَا كَانَتْ تَحْبِسُك حَيْضَتُك ، ثُمَّ اغْتَسِلِي ، وَصَلِّي } رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَرَوَى عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي { الْمُسْتَحَاضَةِ : تَدَعُ الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا ، ثُمَّ تَغْتَسِلُ ، وَتَصُومُ وَتُصَلِّي ،

وَتَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ } أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي الْحَدِيثِ عَلَى تَرْكِ الْعَادَةِ فِي حَقِّ مَنْ لَا تَمْيِيزَ لَهَا .

( 456 ) فَصْلٌ : وَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ أَنَّ الْعَادَةَ لَا تَثْبُتُ بِمَرَّةٍ وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا تَثْبُتُ بِمَرَّةٍ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : تَثْبُتُ بِمَرَّتَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي اسْتَفْتَتْ لَهَا أَمُّ سَلَمَةَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّهَا إلَى الشَّهْرِ الَّذِي يَلِي شَهْرَ الِاسْتِحَاضَةِ ؛ وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ إلَيْهَا ، فَوَجَبَ رَدُّهَا إلَيْهِ ، وَلَنَا أَنَّ الْعَادَةَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْمُعَاوَدَةِ ، وَلَا تَحْصُلُ الْمُعَاوَدَةُ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ ، وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ لَنَا ؛ لِأَنَّهُ قَالَ { لِتَنْظُرْ عِدَّةَ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ الَّتِي كَانَتْ تَحِيضُهُنَّ مِنْ الشَّهْرِ قَبْلَ أَنْ يُصِيبَهَا الَّذِي أَصَابَهَا } .
" وَكَانَ " يُخْبَرُ بِهَا عَنْ دَوَامِ الْفِعْلِ وَتَكْرَارِهِ ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِمَرَّةٍ وَلَا يُقَالُ لِمَنْ فَعَلَ شَيْئًا مَرَّةً : كَانَ يَفْعَلُ .
وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ { : تَدَعُ الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا } .
وَالْأَقْرَاءُ جَمْعٌ ، وَأَقَلُّهُ ثَلَاثَةٌ ، وَسَائِرُ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى الْعَادَةِ تَدُلُّ عَلَى هَذَا ، وَلَا نَفْهَمُ مِنْ اسْمِ الْعَادَةِ فِعْلَ مَرَّةٍ بِحَالٍ .
وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ : هَلْ تَثْبُتُ بِمَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ ؟ فَعَنْهُ أَنَّهَا تَثْبُتُ بِمَرَّتَيْنِ ؛ لِأَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْمُعَاوَدَةِ ، وَقَدْ عَاوَدْتهَا فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ .
وَعَنْهُ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِثَلَاثٍ ؛ لِظَاهِرِ الْأَحَادِيثِ ؛ وَلِأَنَّ الْعَادَةَ لَا تُطْلَقُ إلَّا عَلَى مَا كَثُرَ ، وَأَقَلُّهُ ثَلَاثَةٌ ؛ وَلِأَنَّ أَكْثَرَ مَا يُعْتَبَرُ لَهُ التَّكْرَارُ اُعْتُبِرَ ثَلَاثًا ، كَأَيَّامِ الْخِيَارِ فِي الْمُصَرَّاةِ .

( 457 ) فَصْلٌ : وَتَثْبُتُ الْعَادَةُ بِالتَّمْيِيزِ ، فَإِذَا رَأَتْ دَمًا أَسْوَدَ خَمْسَةَ أَيَّامٍ فِي ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ أَوْ شَهْرَيْنِ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى ، ثُمَّ صَارَ ، أَحْمَرَ ، وَاتَّصَلَ ، ثُمَّ صَارَ فِي سَائِرِ الْأَشْهُرِ دَمًا مُبْهَمًا ، كَانَتْ عَادَتُهَا زَمَنَ الدَّمِ الْأَسْوَدِ .

( 458 ) فَصْلٌ : وَالْعَادَةُ عَلَى ضَرْبَيْنِ : مُتَّفِقَةٍ ، وَمُخْتَلِفَةٍ ، فَالْمُتَّفِقَةُ أَنْ تَكُونَ أَيَّامًا مُتَسَاوِيَةً ، كَأَرْبَعَةٍ فِي كُلِّ شَهْرٍ ، فَإِذَا اُسْتُحِيضَتْ جَلَسَتْ الْأَرْبَعَةَ فَقَطْ ، وَأَمَّا الْمُخْتَلِفَةُ فَإِنْ كَانَتْ عَلَى تَرْتِيبٍ ، مِثْلُ إنْ كَانَتْ تَرَى فِي شَهْرٍ ثَلَاثَةً ، وَفِي الثَّانِي أَرْبَعَةً ، وَفِي الثَّالِثِ خَمْسَةً ، ثُمَّ تَعُودُ إلَى ثَلَاثَةٍ ، ثُمَّ إلَى أَرْبَعَةٍ عَلَى مَا كَانَتْ ، فَهَذِهِ إذَا اُسْتُحِيضَتْ فِي شَهْرٍ فَعَرَفَتْ نَوْبَتَهُ عَمِلَتْ عَلَيْهِ ، ثُمَّ عَلَى الَّذِي بَعْدَهُ ، ثُمَّ عَلَى الَّذِي بَعْدَهُ عَلَى الْعَادَةِ .
وَإِنْ نَسِيَتْ نَوْبَتَهُ حَيَّضْنَاهَا الْيَقِينَ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ ، ثُمَّ تَغْتَسِلُ ، وَتُصَلِّي بَقِيَّةَ الشَّهْرِ .
وَإِنْ أَيْقَنَتْ أَنَّهُ غَيْرُ الْأَوَّلِ ، وَشَكَّتْ ؛ هَلْ هُوَ الثَّانِي أَوْ الثَّالِثُ ؟ جَلَسَتْ أَرْبَعَةً ؛ لِأَنَّهَا الْيَقِينُ ، ثُمَّ تَجْلِسُ مِنْ الشَّهْرَيْنِ الْآخَرَيْنِ ثَلَاثَةً ثَلَاثَةً ، ثُمَّ تَجْلِسُ فِي الرَّابِعِ أَرْبَعَةً ثُمَّ تَعُودُ إلَى الثَّلَاثَةِ كَذَلِكَ أَبَدًا ، وَيُجْزِئُهَا غُسْلٌ وَاحِدٌ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ الَّتِي جَلَسَتْهَا ، كَالنَّاسِيَةِ إذَا جَلَسَتْ أَقَلَّ الْحَيْضِ ؛ لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَى الْيَقِينِ مَشْكُوكٌ فِيهِ فَلَا نُوجِبُ عَلَيْهَا الْغُسْلَ بِالشَّكِّ ، وَيَحْتَمِلُ وُجُوبَ الْغُسْلِ عَلَيْهَا أَيْضًا عِنْدَ مُضِيِّ أَكْثَرِ عَادَتِهَا ؛ لِأَنَّ يَقِينَ الْحَيْضِ ثَابِتٌ ، وَحُصُولُ الطَّهَارَةِ بِالْغُسْلِ مَشْكُوكٌ فِيهِ فَلَا تَزُولُ عَنْ الْيَقِينِ بِالشَّكِّ ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ مُتَيَقِّنَةٌ وُجُوبَ الْغُسْلِ عَلَيْهَا فِي أَحَدِ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ فِي الْيَوْمِ الْخَامِسِ ، وَقَدْ اشْتَبَهَ عَلَيْهَا ، وَصِحَّةُ صَلَاتِهَا تَقِفُ عَلَى الْغُسْلِ ، فَيَجِبُ عَلَيْهَا لِتَخْرُجَ عَلَى الْعُهْدَةِ بِيَقِينٍ ، كَمَنْ نَسِيَ صَلَاةً مِنْ يَوْمٍ لَا يَعْلَمُ عَيْنَهَا .
وَهَذَا الْوَجْهُ أَصَحُّ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَتُفَارِقُ النَّاسِيَةَ ، فَإِنَّهَا لَا تَعْلَمُ لَهَا حَيْضًا زَائِدًا عَلَى مَا جَلَسَتْهُ ، وَهَذِهِ تَتَيَقَّنُ لَهَا حَيْضًا زَائِدًا

عَلَى مَا جَلَسَتْهُ تَقِفُ صِحَّةُ صَلَاتِهَا عَلَى غُسْلِهَا مِنْهُ ، فَوَجَبَ ذَلِكَ ، فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُهَا غُسْلٌ ثَانٍ ، عَقِيبَ الْيَوْمِ الْخَامِسِ فِي كُلِّ شَهْرٍ ، وَإِنْ جَلَسَتْ فِي رَمَضَانَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، قَضَتْ خَمْسَةَ أَيَّامٍ ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ كَانَ فِي ذِمَّتِهَا ، وَلَا نَعْلَمُ أَنَّ الْيَوْمَيْنِ اللَّذَيْنِ صَامَتْهُمَا أَسْقَطَا الْفَرْضَ مِنْ ذِمَّتِهَا ، فَيَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَلْزَمَهَا فِي كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةُ أَغْسَالٍ : غُسْلٌ عَقِبَ الْيَوْمِ الثَّالِثِ ، وَغُسْلٌ عَقِبَ الرَّابِعِ ، وَغُسْلٌ عَقِبَ الْخَامِسِ ؛ لِأَنَّ عَلَيْهَا عَقِيبَ الرَّابِعِ غُسْلًا فِي أَحَدِ الْأَشْهُرِ ، وَكُلُّ شَهْرٍ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الشَّهْرَ الَّذِي يَجِبُ الْغُسْلُ فِيهِ بَعْدَ الرَّابِعِ ، فَيَلْزَمُهَا ذَلِكَ كَمَا قُلْنَا فِي الْخَامِسِ .
وَإِنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ عَلَى غَيْرِ تَرْتِيبٍ ، مِثْلُ أَنْ تَحِيضَ مِنْ شَهْرٍ ثَلَاثَةً ، وَمِنْ الثَّانِي خَمْسَةً ، وَمِنْ الثَّالِثِ أَرْبَعَةً ، وَأَشْبَاهَ ذَلِكَ ، فَإِنْ كَانَ هَذَا يُمْكِنُ ضَبْطُهُ وَيَعْتَادُهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يَخْتَلِفُ ، فَالْحُكْمُ فِيهِ كَاَلَّذِي قَبْلَهُ .
وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَضْبُوطٍ ، جَلَسَتْ الْأَقَلَّ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ، وَهِيَ الثَّلَاثَةُ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَقَلُّ مِنْهَا ، وَاغْتَسَلَتْ عَقِيبَهُ .
وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي هَذَا الْفَصْلِ ، أَنَّ قِيَاسَ الْمَذْهَبِ أَنَّ فِيهِ رِوَايَةً ثَانِيَةً ، وَهِيَ إجْلَاسُهَا أَكْثَرَ عَادَتِهَا فِي كُلِّ شَهْرٍ ، كَالنَّاسِيَةِ لِلْعَدَدِ ، تَجْلِسُ أَكْثَرَ الْحَيْضِ .
وَهَذَا لَا يَصِحُّ ، إذْ فِيهِ أَمْرُهَا بِتَرْكِ الصَّلَاةِ ، وَإِسْقَاطُهَا عَنْهَا مَعَ يَقِينِ وُجُوبِهَا عَلَيْهَا ، فَإِنَّنَا مَتَى أَمَرْنَاهَا بِتَرْكِ الصَّلَاةِ خَمْسَةَ أَيَّامٍ فِي كُلِّ شَهْرٍ ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ وُجُوبَهَا عَلَيْهَا ، فِي يَوْمَيْنِ مِنْهَا فِي شَهْرٍ ، وَفِي يَوْمٍ فِي شَهْرٍ آخَرَ فَقَدْ أَمَرْنَاهَا بِتَرْكِ الصَّلَاةِ الْوَاجِبَةِ يَقِينًا ، فَلَا يَحِلُّ ذَلِكَ ، وَلَا تَسْقُطُ الصَّلَاةُ الْوَاجِبَةُ بِالِاشْتِبَاهِ ، كَمَنْ نَسِيَ صَلَاةً مِنْ يَوْمٍ لَا

يَعْلَمُ عَيْنَهَا ، وَفَارَقَ النَّاسِيَةَ ، فَإِنَّنَا لَا نَعْلَمُ عَلَيْهَا صَلَاةً وَاجِبَةً يَقِينًا ، وَالْأَصْلُ بَقَاءُ الْحَيْضِ ، وَسُقُوطُ الصَّلَاةِ ، فَتَبْقَى عَلَيْهِ .

( 459 ) فَصْل : وَلَا تَكُونُ الْمَرْأَةُ مُعْتَادَةً حَتَّى تَعْرِفَ شَهْرَهَا ، وَوَقْتَ حَيْضِهَا وَطُهْرِهَا .
وَشَهْرُ الْمَرْأَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الْمُدَّةِ الَّتِي لَهَا فِيهَا حَيْضٌ وَطُهْرٌ ، وَأَقَلُّ ذَلِكَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، تَحِيضُ يَوْمًا ، وَتَطْهُرُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ .
وَإِنْ قُلْنَا : أَقَلُّ الطُّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، فَأَقْصَرُ مَا يَكُونُ الشَّهْرُ سِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا ، وَأَكْثَرُهُ لَا حَدَّ لَهُ ؛ لِكَوْنِ أَكْثَرِ الطُّهْرِ لَا حَدَّ لَهُ ، وَالْغَالِبُ أَنَّهُ الشَّهْرُ الْمَعْرُوفُ بَيْنَ النَّاسِ ، فَإِذَا عَرَفَتْ أَنَّ شَهْرَهَا ثَلَاثُونَ يَوْمًا ، وَأَنَّ حَيْضَهَا مِنْهُ خَمْسَةُ أَيَّامٍ ، وَطُهْرَهَا خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ ، وَعَرَفَتْ أَوَّلَهُ ، فَهِيَ مُعْتَادَةٌ ، وَإِنْ عَرَفَتْ أَيَّامَ حَيْضِهَا ، وَأَيَّامَ طُهْرِهَا ، فَقَدْ عَرَفَتْ شَهْرَهَا ، وَإِنْ عَرَفَتْ أَيَّامَ حَيْضِهَا وَلَمْ تَعْرِفْ أَيَّامَ طُهْرِهَا ، أَوْ أَيَّامَ طُهْرِهَا وَلَمْ تَعْرِفْ أَيَّامَ حَيْضِهَا ، فَلَيْسَتْ مُعْتَادَةً لَكِنَّهَا مَتَى جَهِلَتْ شَهْرَهَا ، رَدَدْنَاهَا إلَى الْغَالِبِ ، فَحَيَّضْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَهْرٍ حَيْضَةً ، كَمَا رَدَدْنَاهَا فِي عَدَدِ أَيَّامِ الْحَيْضِ إلَى سِتٍّ أَوْ إلَى سَبْعٍ ، لِكَوْنِهِ الْغَالِبَ .

( 460 ) فَصْلٌ : الْقِسْمُ الثَّالِثُ مِنْ أَقْسَامِ الْمُسْتَحَاضَةِ : مَنْ لَهَا عَادَةٌ وَتَمْيِيزٌ وَهِيَ مَنْ كَانَتْ لَهَا عَادَةٌ فَاسْتُحِيضَتْ ، وَدَمُهَا مُتَمَيِّزٌ بَعْضُهُ أَسْوَدُ وَبَعْضُهُ أَحْمَرُ ، فَإِنْ كَانَ الْأَسْوَدُ فِي زَمَنِ الْعَادَةِ فَقَدْ اتَّفَقَتْ الْعَادَةُ وَالتَّمْيِيزُ فِي الدَّلَالَةِ ، فَيُعْمَلُ بِهِمَا .
وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ الْعَادَةِ أَوْ أَقَلَّ وَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ حَيْضًا ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا ، يُقَدَّمُ التَّمْيِيزُ ، فَيُعْمَلُ بِهِ ، وَتَدَعُ الْعَادَةَ ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ ؛ لِقَوْلِهِ " فَكَانَتْ مِمَّنْ تُمَيِّزُ تَرَكَتْ الصَّلَاةَ فِي إقْبَالِهِ " .
وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مُعْتَادَةٍ وَغَيْرِهَا .
وَاشْتَرَطَ فِي رَدِّهَا إلَى الْعَادَةِ أَنْ لَا يَكُونَ دَمُهَا مُتَّصِلًا ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ صِفَةَ الدَّمِ أَمَارَةٌ قَائِمَةٌ بِهِ ، وَالْعَادَةُ زَمَانٌ مُنْقَضٍ ؛ وَلِأَنَّهُ خَارِجٌ يُوجِبُ الْغُسْلَ ، فَرَجَعَ إلَى صِفَتِهِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ كَالْمَنِيِّ .
وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ اعْتِبَارُ الْعَادَةِ .
وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْأَصْحَابِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّ أُمَّ حَبِيبَةَ ، وَالْمَرْأَةَ الَّتِي اسْتَفْتَتْ لَهَا أُمُّ سَلَمَةَ إلَى الْعَادَةِ ، وَلَمْ يُفَرِّقْ وَلَمْ يَسْتَفْصِلْ بَيْنَ كَوْنِهَا مُمَيِّزَةً أَوْ غَيْرَهَا ، وَحَدِيثُ فَاطِمَةَ قَدْ رُوِيَ فِيهِ رَدُّهَا إلَى الْعَادَةِ ، وَفِي لَفْظٍ آخَرَ رَدُّهَا إلَى التَّمْيِيزِ ، فَتَعَارَضَتْ رِوَايَتَانِ وَبَقِيَتْ الْأَحَادِيثُ الْبَاقِيَةُ خَالِيَةً عَنْ مُعَارِضٍ ، فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهَا .
عَلَى أَنَّ حَدِيثَ فَاطِمَةَ قَضِيَّةُ عَيْنٍ ، وَحِكَايَةُ حَالٍ ، يَحْتَمِلُ أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا لَا عَادَةَ لَهَا ، أَوْ عَلِمَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهَا ، أَوْ قَرِينَةِ حَالِهَا ، وَحَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَامٌّ فِي كُلِّ مُسْتَحَاضَةٍ ، فَيَكُونُ أَوْلَى ؛ وَلِأَنَّ الْعَادَةَ أَقْوَى ؛ لِكَوْنِهَا لَا تَبْطُلُ دَلَالَتُهَا ، وَاللَّوْنُ إذَا زَادَ عَلَى أَكْثَرِ الْحَيْضِ ، بَطَلَتْ دَلَالَتُهُ ، فَمَا لَا تَبْطُلُ

دَلَالَتُهُ أَقْوَى وَأَوْلَى .

( 461 ) فَصْلٌ : وَمَنْ كَانَ حَيْضُهَا خَمْسَةَ أَيَّامٍ مِنْ أَوَّلِ كُلِّ شَهْرٍ ، فَاسْتُحِيضَتْ ، وَصَارَتْ تَرَى ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ فِي أَوَّلِ كُلِّ شَهْرٍ ، فَمَنْ قَدَّمَ الْعَادَةَ قَالَ : تَجْلِسُ خَمْسَةً فِي كُلِّ شَهْرٍ ، كَمَا كَانَتْ تَجْلِسُ قَبْلَ الِاسْتِحَاضَةِ .
وَمَنْ قَدَّمَ التَّمْيِيزَ جَعَلَ حَيْضَهَا الثَّلَاثَةَ الَّتِي تَرَى الدَّمَ الْأَسْوَدَ فِيهَا ، إلَّا أَنَّهَا لَا تَتْرُكُ الصَّلَاةَ فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ فِيمَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثَةِ ؛ لِأَنَّا لَا نَعْلَمُ أَنَّهَا مُسْتَحَاضَةٌ إلَّا بِتَجَاوُزِ الدَّمِ أَكْثَرَ الْحَيْضِ وَلَا نَعْلَمُ ذَلِكَ فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ ، فَإِذَا عَبَرَ الدَّمُ أَكْثَرَ الْحَيْضِ فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ عَلِمْنَا أَنَّهُ اسْتِحَاضَةٌ .
فَلَا تَجْلِسُ فِي الثَّانِي مَا زَادَ عَلَى الدَّمِ الْأَسْوَدِ .
فَإِنْ رَأَتْ فِي كُلِّ شَهْرٍ عَشَرَةً دَمًا أَسْوَدَ ، ثُمَّ صَارَ أَحْمَرَ وَاتَّصَلَ ، فَمَنْ قَالَ : إنَّهَا لَا تَلْتَفِتُ إلَى مَا زَادَ عَلَى الْعَادَةِ حَتَّى تَتَكَرَّرَ .
لَمْ يُحَيِّضْهَا فِي الشَّهْرَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ أَوْ الثَّلَاثَةِ إلَّا خَمْسَةً ، قَدْرَ عَادَتِهَا .
وَمَنْ قَالَ : إنَّهَا إذَا زَادَتْ عَلَى الْعَادَةِ جَلَسَتْهُ بِأَوَّلِ مَرَّةٍ .
أَجْلَسَهَا فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، ثُمَّ تَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي ، وَفِي الثَّانِي تَجْلِسُ أَيَّامَ الْعَادَةِ ، وَهِيَ الْخَمْسَةُ الْأُولَى مِنْ الشَّهْرِ عِنْدَ مَنْ يُقَدِّمُ الْعَادَةَ عَلَى التَّمْيِيزِ ، وَمَنْ قَدَّمَ التَّمْيِيزَ لَمْ يَعْتَبِرْ فِيهِ التَّكْرَارَ ، أَجْلَسَهَا الْعَشَرَةَ كُلَّهَا .
فَإِذَا تَكَرَّرَ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ عَلَى هَذَا الْوَصْفِ ، فَقَالَ الْقَاضِي : تَجْلِسُ الْعَشَرَةَ فِي الشَّهْرِ الرَّابِعِ ، عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْعَادَةِ تَثْبُتُ بِتَكَرُّرِ الْأَسْوَدِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَجْلِسَ زِيَادَةً عَلَى عَادَتِهَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يُقَدِّمُ الْعَادَةَ عَلَى التَّمْيِيزِ ؛ لِأَنَّا لَوْ جَعَلْنَا الزَّائِدَ عَلَى الْعَادَةِ مِنْ التَّمْيِيزِ حَيْضًا بِتَكَرُّرِهِ ، لَجَعَلْنَا النَّاقِصَ عَنْهَا

اسْتِحَاضَةً بِتَكَرُّرِهِ ، فَكَانَتْ لَا تَجْلِسُ فِيمَا إذَا رَأَتْ ثَلَاثَةً أَسْوَدَ ثُمَّ صَارَ أَحْمَرَ ، أَكْثَرَ مِنْ الثَّلَاثَةِ .
وَالْأَمْرُ بِخِلَافِ ذَلِكَ ( 462 ) فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَ حَيْضُهَا خَمْسًا مِنْ أَوَّلِ شَهْرٍ فَاسْتُحِيضَتْ ، فَصَارَتْ تَرَى خَمْسَةً أَسْوَدَ ثُمَّ يَصِيرُ أَحْمَرَ ، وَيَتَّصِلُ ، فَالْأَسْوَدُ حَيْضٌ بِلَا خِلَافٍ ؛ لِمُوَافَقَتِهِ زَمَنَ الْعَادَةِ وَالتَّمْيِيزِ ، وَإِنْ رَأَتْ مَكَانَ الْأَسْوَدِ أَحْمَرَ ، ثُمَّ صَارَ أَسْوَدَ ، وَعَبَرَ ، سَقَطَ حُكْمُ الْأَسْوَدِ ؛ لِعُبُورِهِ أَكْثَرَ الْحَيْضِ ، وَكَانَ حَيْضُهَا الْأَحْمَرُ ، لِمُوَافَقَتِهِ زَمَنَ الْعَادَةِ .
وَإِنْ رَأَتْ مَكَانَ الْعَادَةِ أَحْمَرَ ، ثُمَّ خَمْسَةً أَسْوَدَ ، ثُمَّ صَارَ أَحْمَرَ وَاتَّصَلَ ، فَمَنْ قَدَّمَ الْعَادَةَ حَيَّضَهَا أَيَّامَ الْعَادَةِ .
وَإِذَا تَكَرَّرَ الْأَسْوَدُ ، فَقَالَ الْقَاضِي : يَصِيرُ حَيْضًا ، وَأَمَّا مَنْ يُقَدِّمُ التَّمْيِيزَ ، فَإِنَّهُ يَجْعَلُ الْأَسْوَدَ وَحْدَهُ حَيْضًا .

( 463 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( فَإِنْ كَانَتْ لَهَا أَيَّامٌ أُنْسِيَتْهَا ، فَإِنَّهَا تَقْعُدُ سِتًّا أَوْ سَبْعًا فِي كُلِّ شَهْرٍ ) هَذِهِ مِنْ الْقِسْمِ الرَّابِعِ مِنْ أَقْسَامِ الْمُسْتَحَاضَةِ ، وَهِيَ مَنْ لَا عَادَةَ لَهَا وَلَا تَمْيِيزَ وَهَذَا الْقِسْمُ نَوْعَانِ : أَحَدَهُمَا النَّاسِيَةُ ، وَلَهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا ، أَنْ تَكُونَ نَاسِيَةً لِوَقْتِهَا وَعَدَدِهَا وَهَذِهِ يُسَمِّيهَا الْفُقَهَاءُ الْمُتَحَيِّرَةَ .
وَالثَّانِيَةُ ، أَنْ تَنْسَى عَدَدَهَا ، وَتَذْكُرَ وَقْتَهَا .
وَالثَّالِثَةُ ، أَنْ تَذْكُرَ عَدَدَهَا ، وَتَنْسَى وَقْتَهَا .
فَالنَّاسِيَةُ لَهُمَا ، هِيَ الَّتِي ذَكَرَ الْخِرَقِيِّ حُكْمَهَا ، وَأَنَّهَا تَجْلِسُ فِي كُلِّ شَهْرٍ سِتَّةَ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَةً ، يَكُونُ ذَلِكَ حَيْضَهَا ، ثُمَّ تَغْتَسِلُ ، وَهِيَ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ مُسْتَحَاضَةٌ ، تَصُومُ وَتُصَلِّي وَتَطُوفُ .
وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهَا تَجْلِسُ أَقَلَّ الْحَيْضِ ، ثُمَّ إنْ كَانَتْ تَعْرِفُ شَهْرَهَا ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلشَّهْرِ الْمَعْرُوفِ ، جَلَسَتْ ذَلِكَ مِنْ شَهْرِهَا ، وَإِنْ لَمْ تَعْرِفْ شَهْرَهَا ، جَلَسَتْ مِنْ الشَّهْرِ الْمَعْرُوفِ ؛ لِأَنَّهُ الْغَالِبُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي النَّاسِيَةِ لَهُمَا : لَا حَيْضَ لَهَا بِيَقِينٍ ، وَجَمِيعُ زَمَنِهَا مَشْكُوكٌ فِيهِ ، تَغْتَسِلُ لِكُلِّ صَلَاةٍ ، وَتُصَلِّي وَتَصُومُ ، وَلَا يَأْتِيهَا زَوْجُهَا .
وَلَهُ قَوْلٌ آخَرُ ، أَنَّهَا تَجْلِسُ الْيَقِينَ .
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ : الْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ لَهَا أَيَّامٌ مَعْرُوفَةٌ ، وَلَا يُمْكِنُ رَدُّهَا إلَى غَيْرِهَا ، فَجَمِيعُ زَمَانِهَا مَشْكُوكٌ فِيهِ ، وَقَدْ رَوَتْ عَائِشَةُ { أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ اُسْتُحِيضَتْ سَبْعَ سِنِينَ ، فَسَأَلَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهَا أَنْ تَغْتَسِلَ ، لِكُلِّ صَلَاةٍ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَلَنَا مَا رَوَتْ حَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ ، قَالَتْ : كُنْت أُسْتَحَاضُ حَيْضَةً كَبِيرَةً شَدِيدَةً ، فَأَتَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْتَفْتِيهِ ، فَوَجَدْته فِي بَيْتِ أُخْتِي زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ .
فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنِّي

أُسْتَحَاضُ حَيْضَةً كَبِيرَةً شَدِيدَةً .
فَمَا تَأْمُرُنِي فِيهَا ؟ قَدْ مَنَعَتْنِي الصِّيَامَ وَالصَّلَاةَ ، قَالَ : { أَنْعَتُ لَك الْكُرْسُفَ ، فَإِنَّهُ يُذْهِبُ الدَّمَ .
قُلْت : هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ .
إنَّمَا أَثُجُّ ثَجًّا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَآمُرُك أَمْرَيْنِ ، أَيَّهُمَا صَنَعْت أَجْزَأَ عَنْك ، فَإِنْ قَوِيت عَلَيْهِمَا فَأَنْتِ أَعْلَمُ ، فَقَالَ إنَّمَا هِيَ رَكْضَةٌ مِنْ الشَّيْطَانِ فَتَحِيضِي سِتَّةَ أَيَّامٍ ، أَوْ سَبْعَةَ أَيَّامٍ ، فِي عِلْمِ اللَّهِ ، ثُمَّ اغْتَسِلِي فَإِذَا رَأَيْت أَنَّك قَدْ طَهُرْت وَاسْتَنْقَأْتِ فَصَلِّي أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً ، أَوْ ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً وَأَيَّامَهَا ، وَصُومِي ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُجْزِئُك وَكَذَلِكَ فَافْعَلِي ، كَمَا تَحِيضُ النِّسَاءُ ، وَكَمَا يَطْهُرْنَ لِمِيقَاتِ حَيْضِهِنَّ وَطُهْرِهِنَّ ، فَإِنْ قَوِيت أَنْ تُؤَخِّرِي الظُّهْرَ وَتُعَجِّلِي الْعَصْرَ ثُمَّ تَغْتَسِلِينَ حَتَّى تَطْهُرِينَ وَتُصَلِّينَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا ، ثُمَّ تُؤَخِّرِينَ الْمَغْرِبَ وَتُعَجِّلِينَ الْعِشَاءَ ، ثُمَّ تَغْتَسِلِينَ وَتَجْمَعِينَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ ، وَتَغْتَسِلِينَ لِلصُّبْحِ ، فَافْعَلِي ، وَصُومِي إنْ قَوِيت عَلَى ذَلِكَ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ أَعْجَبُ الْأَمْرَيْنِ إلَيَّ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
قَالَ : وَسَأَلْت مُحَمَّدًا عَنْهُ ، فَقَالَ : هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ .
وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ أَحْمَدَ أَيْضًا .
وَهُوَ بِظَاهِرِهِ يُثْبِتُ الْحُكْمَ فِي حَقِّ النَّاسِيَةِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسْتَفْصِلْهَا ، هَلْ هِيَ مُبْتَدَأَةٌ أَوْ نَاسِيَةٌ ؟ وَلَوْ افْتَرَقَ الْحَالُ لَاسْتَفْصَلَ وَسَأَلَ .
وَاحْتِمَالُ أَنْ تَكُونَ نَاسِيَةً أَكْثَرُ ، فَإِنَّ حَمْنَةَ امْرَأَةٌ كَبِيرَةٌ ، كَذَلِكَ قَالَ أَحْمَدُ .
وَلَمْ يَسْأَلْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تَمْيِيزِهَا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ جَرَى مِنْ كَلَامِهَا ، مِنْ تَكْثِيرِ الدَّمِ وَصِفَتِهِ مَا أَغْنَى عَنْ السُّؤَالِ عَنْهُ ، وَلَمْ

يَسْأَلْهَا هَلْ لَهَا عَادَةٌ فَيَرُدُّهَا إلَيْهَا ؟ لِاسْتِغْنَائِهِ عَنْ ذَلِكَ ، لِعِلْمِهِ إيَّاهُ ، إذْ كَانَ مُشْتَهِرًا ، وَقَدْ أَمَرَ بِهِ أُخْتَهَا أُمَّ حَبِيبَةَ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنْ تَكُونَ نَاسِيَةً ؛ وَلِأَنَّ لَهَا حَيْضًا لَا تَعْلَمُ قَدْرَهُ ، فَيُرَدُّ إلَى غَالِبِ عَادَاتِ النِّسَاءِ ، كَالْمُبْتَدَأَةِ ؛ وَلِأَنَّهَا لَا عَادَةَ لَهَا وَلَا تَمْيِيزَ ، فَأَشْبَهَتْ الْمُبْتَدَأَةَ .
وَقَوْلُهُمْ : لَهَا أَيَّامٌ مَعْرُوفَةٌ .
قُلْنَا : قَدْ زَالَتْ الْمَعْرِفَةُ ، فَصَارَ وُجُودُهَا كَالْعَدَمِ .
وَأَمَّا أَمْرُهُ أُمَّ حَبِيبَةَ بِالْغُسْلِ لِكُلِّ صَلَاةٍ ، فَإِنَّمَا هُوَ نَدْبٌ ، كَأَمْرِهِ لِحَمْنَةَ فِي هَذَا الْخَبَرِ ، فَإِنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ كَانَتْ مُعْتَادَةً رَدَّهَا إلَى عَادَتِهَا ، وَهِيَ لَهَا أُمُّ سَلَمَةَ ، عَلَى أَنَّ حَدِيثَ أُمِّ حَبِيبَةَ إنَّمَا رُوِيَ عَنْ الزُّهْرِيِّ ، وَأَنْكَرَهُ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ ، فَقَالَ : لَمْ يَذْكُرْ ابْنُ شِهَابٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أُمَّ حَبِيبَةَ أَنْ تَغْتَسِلَ لِكُلِّ صَلَاةٍ ، وَلَكِنَّهُ شَيْءٌ فَعَلَتْهُ هِيَ .
( 464 ) فَصْلٌ : قَوْلُهُ : " سِتًّا أَوْ سَبْعًا " الظَّاهِرُ أَنَّهُ رَدَّهَا إلَى اجْتِهَادِهَا وَرَأْيِهَا ، فِيمَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهَا أَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى عَادَتِهَا أَوْ عَادَةِ نِسَائِهَا ، أَوْ مَا يَكُونُ أَشْبَهَ بِكَوْنِهِ حَيْضًا .
ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ ، وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُ خَيَّرَهَا بَيْنَ سِتٍّ وَسَبْعٍ ، لَا عَلَى طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ ، كَمَا خُيِّرَ وَاطِئُ الْحَائِضِ بَيْنَ التَّكْفِيرِ بِدِينَارٍ أَوْ نِصْفِ دِينَارٍ ، بِدَلِيلِ أَنَّ حَرْفَ " أَوْ " لِلتَّخْيِيرِ .
وَالْأَوَّلُ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّا لَوْ جَعَلْنَاهَا مُخَيَّرَةً أَفْضَى إلَى تَخْيِيرِهَا فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الصَّلَاةُ عَلَيْهَا وَاجِبَةً وَبَيْنَ كَوْنِهَا مُحَرَّمَةً ، وَلَيْسَ لَهَا فِي ذَلِكَ خِيرَةٌ بِحَالٍ .
أَمَّا التَّكْفِيرُ فَفِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ ، يُمْكِنُ التَّخْيِيرُ فِيهِ بَيْنَ إخْرَاجِ دِينَارٍ أَوْ نِصْفِ دِينَارٍ ، وَالْوَاجِبُ نِصْفُ

دِينَارٍ فِي الْحَالَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ لَا يَتَخَيَّرُ بَيْنَ فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّ " أَوْ " لِلتَّخْيِيرِ .
قُلْنَا : وَقَدْ يَكُونُ لِلِاجْتِهَادِ ، كَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً } .
وَ " إمَّا " " كَأَوْ " فِي وَضْعِهَا ، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ فِي الْأَسْرَى إلَّا فِعْلُ مَا يُؤَدِّيهِ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ أَنَّهُ الْأَصْلَحُ .

( 465 ) فَصْلٌ : وَلَا تَخْلُو النَّاسِيَةُ مِنْ أَنْ تَكُونَ جَاهِلَةً بِشَهْرِهَا ، أَوْ عَالِمَةً بِهِ ، فَإِنْ كَانَتْ جَاهِلَةً بِشَهْرِهَا ، رَدَدْنَاهَا إلَى الشَّهْرِ الْهِلَالِيِّ ، فَحَيَّضْنَاهَا فِي كُلِّ شَهْرٍ حَيْضَةً ؛ لِحَدِيثِ حَمْنَةَ ؛ وَلِأَنَّهُ الْغَالِبُ ، فَتُرَدُّ إلَيْهِ ، كَرَدِّهَا إلَى السِّتِّ وَالسَّبْعِ .
وَإِنْ كَانَتْ عَالِمَةً بِشَهْرِهَا ، حَيَّضْنَاهَا فِي كُلِّ شَهْرٍ مِنْ شُهُورِهَا حَيْضَةً ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عَادَتُهَا ، فَتُرَدُّ إلَيْهَا ، كَمَا تُرَدُّ الْمُعْتَادَةُ إلَى عَادَتِهَا فِي عَدَدِ الْأَيَّامِ ، إلَّا أَنَّهَا مَتَى كَانَ شَهْرُهَا أَقَلَّ مِنْ عِشْرِينَ يَوْمًا ، لَمْ نُحَيِّضْهَا مِنْهُ أَكْثَرَ مِنْ الْفَاضِلِ عَنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، أَوْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ؛ لِأَنَّهَا لَوْ حَاضَتْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ، لَنَقَصَ طُهْرُهَا عَنْ أَقَلِّ الطُّهْرِ ، وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ .
وَهَلْ تَجْلِسُ أَيَّامَ حَيْضِهَا مِنْ أَوَّلِ كُلِّ شَهْرٍ ، أَوْ بِالتَّحَرِّي وَالِاجْتِهَادِ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا ، تَجْلِسُهُ مِنْ أَوَّلِ كُلِّ شَهْرٍ إذَا كَانَ يَحْتَمِلُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِحَمْنَةَ { تَحِيضِي سِتَّةَ أَيَّامٍ ، أَوْ سَبْعَةَ أَيَّامٍ ، فِي عِلْمِ اللَّهِ ، ثُمَّ اغْتَسِلِي وَصَلِّي أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً ، أَوْ ثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ لَيْلَةً وَأَيَّامَهَا } .
فَقَدَّمَ حَيْضَهَا عَلَى الطُّهْرِ ، ثُمَّ أَمَرَهَا بِالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ فِي بَقِيَّتِهِ ؛ وَلِأَنَّ الْمُبْتَدَأَةَ تَجْلِسُ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ ، مَعَ أَنَّهُ لَا عَادَةَ لَهَا ، فَكَذَلِكَ النَّاسِيَةُ ؛ وَلِأَنَّ دَمَ الْحَيْضِ دَمُ جِبِلَّةٍ ، وَالِاسْتِحَاضَةُ عَارِضَةٌ ، فَإِذَا رَأَتْ الدَّمَ ، وَجَبَ تَغْلِيبُ دَمِ الْحَيْضِ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي ، أَنَّهَا تَجْلِسُ أَيَّامَهَا مِنْ الشَّهْرِ بِالتَّحَرِّي وَالِاجْتِهَادِ .
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ ، وَابْنِ أَبِي مُوسَى ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّهَا إلَى اجْتِهَادِهَا فِي الْقَدْرِ بِقَوْلِهِ : " سِتًّا أَوْ سَبْعًا " .
فَكَذَلِكَ فِي الزَّمَانِ ؛ وَلِأَنَّ لِلتَّحَرِّي

مَدْخَلًا فِي الْحَيْضِ ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُمَيِّزَةَ تَرْجِعُ إلَى صِفَةِ الدَّمِ .
فَكَذَلِكَ فِي زَمَنِهِ ، فَإِنْ تَسَاوَى عِنْدَهَا الزَّمَانُ كُلُّهُ ، وَلَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّهَا شَيْءٌ ، تَعَيَّنَ إجْلَاسُهَا مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ ؛ لِعَدَمِ الدَّلِيلِ فِيمَا سِوَاهُ .

الْقِسْمُ الثَّانِي ، النَّاسِيَةُ لِعَدَدِهَا دُونَ وَقْتِهَا ، كَاَلَّتِي تَعْلَمُ أَنَّ حَيْضَهَا فِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ الشَّهْرِ ، وَلَا تَعْلَمُ عَدَدَهُ ، فَهِيَ فِي قَدْرِ مَا تَجْلِسُهُ كَالْمُتَحَيِّرَةِ ، تَجْلِسُ سِتًّا أَوْ سَبْعًا ، فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ ، إلَّا أَنَّهَا تَجْلِسُهَا مِنْ الْعَشْرِ دُونَ غَيْرِهَا ، وَهَلْ تَجْلِسُهَا مِنْ أَوَّلِ الْعَشْرِ ، أَوْ بِالتَّحَرِّي ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ .
وَإِنْ قَالَتْ : أَعْلَمُ أَنَّنِي كُنْت أَوَّلَ الشَّهْرِ حَائِضًا ، وَلَا أَعْلَمُ آخِرَهُ .
أَوْ إنَّنِي كُنْت آخِرَ الشَّهْرِ حَائِضًا وَلَا أَعْلَمُ أَوَّلَهُ .
أَوْ لَا أَعْلَمُ هَلْ كَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ حَيْضِي أَوْ آخِرَهُ ؟ حَيَّضْنَاهَا الْيَوْمَ الَّذِي عَلِمَتْهُ ، وَأَتَمَّتْ بَقِيَّةَ حَيْضِهَا مِمَّا بَعْدَهُ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى ، وَمِمَّا قَبْلَهُ فِي الثَّانِيَةِ ، وَبِالتَّحَرِّي فِي الثَّالِثَةِ ، أَوْ مِمَّا يَلِي أَوَّلَ الشَّهْرِ ، عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ .

الْقِسْمُ الثَّالِثُ ، النَّاسِيَةُ لِوَقْتِهَا دُونَ عَدَدِهَا ، وَهَذِهِ تَتَنَوَّعُ نَوْعَيْنِ : أَحَدُهُمَا ، أَنْ لَا تَعْلَمَ لَهَا وَقْتًا أَصْلًا ، مِثْلُ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ حَيْضَهَا خَمْسَةُ أَيَّامٍ ، فَإِنَّهَا تَجْلِسُ خَمْسَةً مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ؛ إمَّا مِنْ أَوَّلِهِ ، أَوْ بِالتَّحَرِّي ، عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ .
وَالثَّانِي ، أَنْ تَعْلَمَ لَهَا وَقْتًا ، مِثْلُ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّهَا كَانَتْ تَحِيضُ أَيَّامًا مَعْلُومَةً مِنْ الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ، فَإِنَّهَا تَجْلِسُ عَدَدَ أَيَّامِهَا مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ دُونَ غَيْرِهِ ، ثُمَّ لَا يَخْلُو عَدَدُ أَيَّامِهَا ؛ إمَّا أَنْ يَكُونَ زَائِدًا عَلَى نِصْفِ ذَلِكَ الْوَقْتِ ، أَوْ لَا يَزِيدُ ، فَإِنْ كَانَ زَائِدًا عَلَى نِصْفِهِ ، مِثْلُ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ حَيْضَهَا سِتَّةُ أَيَّامٍ مِنْ الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ، أَضْعَفْنَا الزَّائِدَ ، فَجَعَلْنَاهُ حَيْضًا بِيَقِينٍ ، وَتَجْلِسُ بَقِيَّةَ أَيَّامِهَا بِالتَّحَرِّي فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ .
وَفِي الْآخَرِ ، مِنْ أَوَّلِ الْعَشْرِ ، فَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الزَّائِدُ يَوْمٌ وَهُوَ السَّادِسُ ، فَنُضَعِّفُهُ وَيَكُونُ الْخَامِسُ وَالسَّادِسُ حَيْضًا بِيَقِينٍ ؛ لِأَنَّنَا مَتَى عَدَدْنَا لَهَا سِتَّةَ أَيَّامٍ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ مِنْ الْعَشْرِ ، دَخَلَ فِيهِ الْخَامِسُ وَالسَّادِسُ ، يَبْقَى لَهَا أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ ، فَإِنْ أَجْلَسْنَاهَا مِنْ الْأَوَّلِ ، كَانَ حَيْضُهَا مِنْ أَوَّلِ الْعَشْرِ إلَى آخِرِ السَّادِسِ ، مِنْهَا يَوْمَانِ حَيْضٌ بِيَقِينٍ ، وَالْأَرْبَعَةُ حَيْضٌ مَشْكُوكٌ فِيهِ ، وَالْأَرْبَعَةُ الْبَاقِيَةُ طُهْرٌ مَشْكُوكٌ فِيهِ ، وَإِنْ أَجْلَسْنَاهَا بِالتَّحَرِّي ، فَأَدَّاهَا اجْتِهَادُهَا إلَى أَنَّهَا مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ ، فَهِيَ كَالَّتِي ذَكَرْنَا .
وَإِنْ جَلَسَتْ الْأَرْبَعَةَ مِنْ آخِرِ الشَّهْرِ ، كَانَتْ حَيْضًا مَشْكُوكًا فِيهِ ، وَالْأَرْبَعَةُ الْأُولَى طُهْرٌ مَشْكُوكٌ فِيهِ .
وَإِنْ قَالَتْ : حَيْضِي سَبْعَةُ أَيَّامٍ مِنْ الْعَشْرِ الْأُوَلِ .
فَقَدْ زَادَتْ يَوْمَيْنِ عَلَى نِصْفِ الْوَقْتِ ، فَنُضَعِّفُهُمَا ، فَيَصِيرُ لَهَا أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ حَيْضًا

بِيَقِينٍ ، وَهِيَ مِنْ أَوَّلِ الرَّابِعِ إلَى آخِرِ السَّابِعِ ، وَيَبْقَى لَهَا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ تَجْلِسُهَا مِنْ أَوَّلِ الْعَشْرِ ، أَوْ بِالتَّحَرِّي ، فَيَكُونُ ذَلِكَ حَيْضًا مَشْكُوكًا فِيهِ ، وَيَبْقَى لَهَا ثَلَاثَةٌ ، طُهْرًا مَشْكُوكًا فِيهِ ، وَسَائِرُ الشَّهْرِ طُهْرٌ ، وَحُكْمُ الْحَيْضِ الْمَشْكُوكِ فِيهِ حُكْمُ الْحَيْضِ الْمُتَيَقَّنِ ، فِي تَرْكِ الْعِبَادَاتِ .
وَإِنْ كَانَ حَيْضُهَا نِصْفَ الْوَقْتِ فَمَا دُونَ ، فَلَيْسَ لَهَا حَيْضٌ بِيَقِينٍ ؛ لِأَنَّهَا مَتَى كَانَتْ تَحِيضُ خَمْسَةَ أَيَّامٍ ، احْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ الْخَمْسَةَ الْأُولَى ، وَأَنْ تَكُونَ الثَّانِيَةَ ، وَأَنْ تَكُونَ بَعْضُهَا مِنْ الْأُولَى وَبَاقِيهَا مِنْ الثَّانِيَةِ ، فَتَجْلِسُ خَمْسَةً بِالتَّحَرِّي ، أَوْ مِنْ أَوَّلِ الْعَشْرِ ، عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ .

( 466 ) فَصْلٌ : وَلَا يُعْتَبَرُ التَّكْرَارُ فِي النَّاسِيَةِ ؛ لِأَنَّهَا عَرَفَتْ اسْتِحَاضَتَهَا فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ ، فَلَا مَعْنَى لِلتَّكْرَارِ .
( 467 ) فَصْلٌ : وَإِذَا ذَكَرَتْ النَّاسِيَةُ عَادَتَهَا بَعْدَ جُلُوسِهَا فِي غَيْرِهِ ، رَجَعَتْ إلَى عَادَتِهَا ؛ لِأَنَّ تَرْكَهَا لِعَارِضِ النِّسْيَانِ ، فَإِذَا زَالَ الْعَارِضُ عَادَتْ إلَى الْأَصْلِ .
وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهَا كَانَتْ تَرَكَتْ الصَّلَاةَ فِي غَيْرِ عَادَتِهَا ، لَزِمَهَا إعَادَتُهَا ، وَيَلْزَمُهَا قَضَاءُ مَا صَامَتْهُ مِنْ الْفَرْضِ فِي عَادَتِهَا ، فَلَوْ كَانَتْ عَادَتُهَا ثَلَاثَةً مِنْ آخِرِ الْعَشْرِ الْأُوَلِ ، فَجَلَسَتْ السَّبْعَةَ الَّتِي قَبْلَهَا مُدَّةً ، ثُمَّ ذَكَرَتْ ، لَزِمَهَا قَضَاءُ مَا تَرَكَتْ مِنْ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ الْمَفْرُوضِ فِي السَّبْعَةِ ، وَقَضَاءُ مَا صَامَتْ مِنْ الْفَرْضِ فِي الثَّلَاثَة ؛ لِأَنَّهَا صَامَتْهُ فِي زَمَنِ حَيْضِهَا .

( 468 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَالْمُبْتَدَأُ بِهَا الدَّمُ تَحْتَاطُ ، فَتَجْلِسُ يَوْمًا وَلَيْلَةً ، وَتَغْتَسِلُ وَتَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَتُصَلِّي .
فَإِنْ انْقَطَعَ دَمُهَا فِي خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، اغْتَسَلَتْ عِنْدَ انْقِطَاعِهِ ، وَتَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ ثَانِيَةً وَثَالِثَةً .
فَإِنْ كَانَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ ، عَمِلَتْ عَلَيْهِ وَأَعَادَتْ الصَّوْمَ ، إنْ كَانَتْ صَامَتْ فِي هَذِهِ الثَّلَاثِ مِرَارٍ لِفَرْضٍ ) هَذَا النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ الْقِسْمِ الرَّابِعِ ؛ وَهِيَ مَنْ لَا عَادَةَ لَهَا وَلَا تَمْيِيزَ ، وَهِيَ الَّتِي بَدَأَ بِهَا الْحَيْضُ وَلَمْ تَكُنْ حَاضَتْ قَبْلَهُ ؛ وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ فِيهَا أَنَّهَا تَجْلِسُ إذَا رَأَتْ الدَّمَ ، وَهِيَ مِمَّنْ يُمْكِنُ أَنْ تَحِيضَ وَهِيَ الَّتِي لَهَا تِسْعُ سِنِينَ فَصَاعِدًا ، فَتَتْرُكُ الصَّوْمَ وَالصَّلَاةَ ؛ فَإِنْ زَادَ الدَّمُ عَلَى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ، اغْتَسَلَتْ عَقِيبَ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ ، وَتَتَوَضَّأُ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ ، وَتُصَلِّي ، وَتَصُومُ .
فَإِنْ انْقَطَعَ الدَّمُ لِأَكْثَرِ الْحَيْضِ فَمَا دُونَ ، اغْتَسَلَتْ غُسْلًا ثَانِيًا عِنْدَ انْقِطَاعِهِ ، وَصَنَعَتْ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ ، فَإِنْ كَانَتْ أَيَّامُ الدَّمِ فِي الْأَشْهُرِ الثَّلَاثَةِ مُتَسَاوِيَةً ، صَارَ ذَلِكَ عَادَةً ؛ وَعَلِمْنَا أَنَّهَا كَانَتْ حَيْضًا فَيَجِبُ عَلَيْهَا قَضَاءُ مَا صَامَتْ مِنْ الْفَرْضِ ؛ لِأَنَّا تَبَيَّنَّا أَنَّهَا صَامَتْهُ فِي زَمَنِ الْحَيْضِ .
قَالَ الْقَاضِي : الْمَذْهَبُ عِنْدِي فِي هَذَا رِوَايَةٌ وَاحِدَةٌ .
قَالَ : وَأَصْحَابُنَا يَجْعَلُونَ فِي قَدْرِ مَا تَجْلِسُهُ الْمُبْتَدَأَةُ فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ أَرْبَعَ رِوَايَاتٍ : إحْدَاهُنَّ ، أَنَّهَا تَجْلِسُ أَقَلَّ الْحَيْضِ ، وَالثَّانِيَةُ غَالِبَهُ ، وَالثَّالِثَةُ أَكْثَرَهُ ، وَالرَّابِعَةُ عَادَةَ نِسَائِهَا .
قَالَ : وَلَيْسَ هَاهُنَا مَوْضِعُ الرِّوَايَاتِ ، وَإِنَّمَا مَوْضِعُ ذَلِكَ إذَا اتَّصَلَ الدَّمُ ، وَحَصَلَتْ مُسْتَحَاضَةً فِي الشَّهْرِ الرَّابِعِ .
وَقَدْ نُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ الْأَصْحَابِ ؛ فَرَوَى صَالِحٌ ، قَالَ : قَالَ أَبِي

: أَوَّلُ مَا يَبْدَأُ الدَّمُ بِالْمَرْأَةِ تَقْعُدُ سِتَّةَ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَةَ أَيَّامٍ ، وَهُوَ أَكْثَرُ مَا تَجْلِسُهُ النِّسَاءُ عَلَى حَدِيثِ حَمْنَةَ .
فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهَا تَجْلِسُ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ حَيْضِهَا .
وَقَوْلُهُ : أَكْثَرُ مَا تَجْلِسُهُ النِّسَاءُ .
يَعْنِي أَنَّ الْغَالِبَ مِنْ النِّسَاءِ هَكَذَا يَحِضْنَ .
وَرَوَى حَرْبٌ عَنْهُ قَالَ : سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قُلْت : امْرَأَةٌ أَوَّلَ مَا حَاضَتْ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ ، كَمْ يَوْمًا تَجْلِسُ ؟ قَالَ : إنْ كَانَ مِثْلُهَا مِنْ النِّسَاءِ مَنْ يَحِضْنَ ، فَإِنْ شَاءَتْ جَلَسَتْ سِتًّا أَوْ سَبْعًا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهَا حَيْضٌ وَوَقْتٌ ، وَإِنْ أَرَادَتْ الِاحْتِيَاطَ ، جَلَسَتْ يَوْمًا وَاحِدًا ، أَوَّلَ مَرَّةٍ حَتَّى يَتَبَيَّنَ وَقْتُهَا .
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : قَالُوا هَذَا ، وَقَالُوا هَذَا ، فَأَيُّهَا أَخَذَتْ فَهُوَ جَائِزٌ .
وَرَوَى الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَطَاءٍ ، فِي الْبِكْرِ تُسْتَحَاضُ ، وَلَا تَعْلَمُ لَهَا قُرْءًا ، قَالَ : لِتَنْظُرْ قُرْءَ أُمِّهَا أَوْ أُخْتِهَا أَوْ عَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا ، فَلْتَتْرُكْ الصَّلَاةَ عِدَّةَ تِلْكَ الْأَيَّامِ ، وَتَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي .
قَالَ حَنْبَلٌ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : هَا حَسَنٌ .
وَاسْتَحْسَنَهُ جِدًّا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَخَذَ بِهِ ، وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ .
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ : أَنَّهَا تَجْلِسُ أَكْثَرَ الْحَيْضِ .
إلَّا أَنَّ الْمَشْهُورَ فِي الرِّوَايَةِ عَنْهُ مِثْلُ مَا ذَكَرَ الْخِرَقِيِّ ؛ وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ : تَجْلِسُ جَمِيعَ الْأَيَّامِ الَّتِي تَرَى الدَّمَ فِيهَا إلَى أَكْثَرِ الْحَيْضِ ، فَإِنْ انْقَطَعَ لِأَكْثَرِهِ فَمَا دُونَ ، فَالْجَمِيعُ حَيْضٌ ؛ لِأَنَّا حَكَمْنَا بِأَنَّ ابْتِدَاءَ الدَّمِ حَيْضٌ مَعَ جَوَازِ أَنْ يَكُونَ اسْتِحَاضَةً ، فَكَذَلِكَ أَثْنَاؤُهُ ؛ وَلِأَنَّنَا حَكَمْنَا بِكَوْنِهِ حَيْضًا ، فَلَا نَنْقُضُ مَا حَكَمْنَا بِهِ بِالتَّجْوِيزِ ، كَمَا فِي الْمُعْتَادَةِ ؛ وَلِأَنَّ دَمَ الْحَيْضِ دَمُ جِبِلَّةٍ ، وَالِاسْتِحَاضَةُ دَمٌ عَارِضٌ لِمَرَضٍ عَرَضَ ؛ وَعِرْقٍ انْقَطَعَ

، وَالْأَصْلُ فِيهَا الصِّحَّةُ وَالسَّلَامَةُ ، وَأَنَّ دَمَهَا دَمُ الْجِبِلَّةِ دُونَ الْعِلَّةِ .
وَلَنَا ، أَنَّ فِي إجْلَاسِهَا أَكْثَرَ مِنْ أَقَلِّ الْحَيْضِ حُكْمًا بِبَرَاءَةِ ذِمَّتِهَا مِنْ عِبَادَةٍ وَاجِبَةٍ عَلَيْهَا ؛ فَلَمْ يُحْكَمْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ، كَالْمُعْتَدَّةِ لَا يُحْكَمُ بِبَرَاءَةِ ذِمَّتِهَا مِنْ الْعِدَّةِ بِأَوَّلِ حَيْضَةٍ ، وَلَا يَلْزَمُ الْيَوْمُ وَاللَّيْلَةُ ؛ لِأَنَّهَا الْيَقِينُ ، فَلَوْ لَمْ نُجْلِسْهَا ذَلِكَ أَدَّى إلَى أَنْ لَا نُجْلِسَهَا أَصْلًا ؛ وَلِأَنَّهَا مِمَّنْ لَا عَادَةَ لَهَا وَلَا تَمْيِيزَ ، فَلَمْ تَجْلِسْ أَكْثَرَ الْحَيْضِ ، كَالنَّاسِيَةِ .
( 469 ) فَصْلٌ : وَالْمَنْصُوصُ فِي الْمُبْتَدَأَةِ اعْتِبَارُ التَّكْرَارِ ثَلَاثًا ، فَعَلَى هَذَا لَا تَنْتَقِلُ عَنْ الْيَقِينِ فِي الشَّهْرِ الثَّالِثِ ، وَقَدْ نَصَّ فِي الْمُعْتَادَةِ تَرَى الدَّمَ زِيَادَةً عَلَى عَادَتِهَا عَلَى جُلُوسِهَا الزَّائِدِ بِمَرَّتَيْنِ ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ ، فَكَذَا هَاهُنَا ، وَقَدْ مَضَى تَوْجِيهُهُمَا .
وَعَلَى الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا ، إذَا انْقَطَعَ الدَّمُ لِأَكْثَرِ الْحَيْضِ فَمَا دُونَ ، وَكَانَ فِي الْأَشْهُرِ الثَّلَاثَةِ عَلَى قَدْرٍ وَاحِدٍ ، انْتَقَلَتْ إلَيْهِ ، وَعَمِلَتْ عَلَيْهِ ، وَصَارَ ذَلِكَ عَادَةً لَهَا ، وَأَعَادَتْ مَا صَامَتْهُ مِنْ الْفَرْضِ فِيهِ ؛ لِأَنَّنَا تَبَيَّنَّا أَنَّهَا صَامَتْهُ فِي حَيْضِهَا .

( 470 ) فَصْلٌ : وَإِنْ انْقَطَعَ فِي الْأَشْهُرِ الثَّلَاثَةِ مُخْتَلِفًا ، فَفِي شَهْرٍ انْقَطَعَ عَلَى سَبْعٍ ، وَفِي شَهْرٍ عَلَى سِتٍّ ، وَفِي شَهْرٍ عَلَى خَمْسٍ ، نَظَرَتْ إلَى أَقَلِّ ذَلِكَ ، وَهُوَ الْخَمْسُ ، فَجَعَلَتْهُ حَيْضًا ، وَمَا زَادَ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ حَيْضًا ، حَتَّى يَأْتِيَ عَلَيْهِ التَّكْرَارُ ، نَصَّ عَلَيْهِ .
وَإِنْ جَاءَ فِي الشَّهْرِ الرَّابِعِ سِتًّا أَوْ أَكْثَرَ ، صَارَتْ السِّتَّةُ حَيْضًا ؛ لِتَكَرُّرِهَا ثَلَاثًا ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي السَّابِعِ إذَا تَكَرَّرَ ثَلَاثًا .
وَمَنْ قَالَ بِإِجْلَاسِهَا سِتًّا أَوْ سَبْعًا ، فَإِنَّهَا تَجْلِسُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَكْرَارٍ ، وَلَا تَجْلِسُ مَا زَادَ عَلَيْهِ حَتَّى يَتَكَرَّرَ ، وَلِذَلِكَ مَنْ أَجْلَسَهَا عَادَةَ نِسَائِهَا ، فَإِنَّهُ يُجْلِسُهَا مَا وَافَقَ عَادَتَهُنَّ ، مِنْ غَيْرِ تَكْرَارٍ .
( 471 ) فَصْلٌ : وَمَتَى أَجْلَسْنَاهَا يَوْمًا وَلَيْلَةً ، أَوْ سِتًّا أَوْ سَبْعًا ، أَوْ عَادَةَ نِسَائِهَا ، فَرَأَتْ الدَّمَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ، لَمْ يَحِلَّ لِزَوْجِهَا وَطْؤُهَا فِيهِ حَتَّى يَنْقَطِعَ ، أَوْ يَتَجَاوَزَ أَكْثَرَ الْحَيْضِ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حَيْضًا احْتِمَالًا ظَاهِرًا ، وَإِنَّمَا أَمَرْنَاهَا بِالصَّوْمِ فِيهِ وَالصَّلَاةِ احْتِيَاطًا لِبَرَاءَةِ ذِمَّتِهَا ، فَيَجِبُ تَرْكُ وَطْئِهَا احْتِيَاطًا أَيْضًا .
وَإِنْ انْقَطَعَ الدَّمُ ، وَاغْتَسَلَتْ ، حَلَّ وَطْؤُهَا .
وَهَلْ يُكْرَهُ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا ، لَا يُكْرَهُ ؛ لِأَنَّهَا رَأَتْ النَّقَاءَ الْخَالِصَ ، أَشْبَهَ غَيْرَ الْمُبْتَدَأَةِ .
وَالثَّانِيَةُ ، يُكْرَهُ ؛ لِأَنَّنَا لَا نَأْمَنُ مُعَاوَدَةَ الدَّمِ ، فَكُرِهَ وَطْؤُهَا ، كَالنُّفَسَاءِ إذَا انْقَطَعَ دَمُهَا لِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا .
فَإِنْ عَاوَدَهَا الدَّمُ فِي زَمَنِ الْعَادَةِ ، لَمْ يَطَأْهَا ، نَصَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ زَمَنٌ صَادَفَ زَمَنَ الْحَيْضِ ، فَلَمْ يَجُزْ الْوَطْءُ فِيهِ كَمَا لَوْ لَمْ يَنْقَطِعْ .
وَعَنْهُ : لَا بَأْسَ بِوَطْئِهَا .
قَالَ الْخَلَّالُ الْأَحْوَطُ فِي قَوْلِهِ ، عَلَى مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ دُونَ الْأَنْفُسِ الثَّلَاثَةِ ، أَنَّهُ لَا يَطَؤُهَا .

( 472 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( فَإِنْ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ وَلَمْ يَتَمَيَّزْ ، قَعَدَتْ فِي كُلِّ شَهْرٍ سِتًّا أَوْ سَبْعًا ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ مِنْ النِّسَاءِ هَكَذَا يَحِضْنَ ) قَوْلُهُ : " اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ " .
يَعْنِي زَادَ عَلَى أَكْثَرِ الْحَيْضِ .
وَقَوْلُهُ : " لَمْ يَتَمَيَّزْ " .
يَعْنِي لَمْ يَكُنْ دَمُهَا مُنْفَصِلًا ، عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ .
فَهَذِهِ حُكْمُهَا أَنْ تَجْلِسَ فِي كُلِّ شَهْرٍ سِتَّةَ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَةً .
وَقَدْ ذَكَرَ الْخِرَقِيِّ عِلَّتَهُ ، وَهِيَ أَنَّ الْغَالِبَ مِنْ النِّسَاءِ هَكَذَا يَحِضْنَ .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ حَيْضَ هَذِهِ كَحَيْضِ غَالِبِ النِّسَاءِ ، فَيَجِبُ رَدُّهَا إلَيْهِ ، كَرَدِّهَا فِي الْوَقْتِ إلَى حَيْضَةٍ فِي كُلِّ شَهْرٍ .
وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ ، وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهَا تَجْلِسُ يَوْمًا وَلَيْلَةً مِنْ كُلِّ شَهْرٍ .
وَهَذَا الْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْيَقِينُ ، وَمَا زَادَ عَلَيْهِ مَشْكُوكٌ فِيهِ .
فَلَا تَزُولُ عَنْ الْيَقِينِ بِالشَّكِّ .
وَعَنْهُ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ : أَنَّهَا تَجْلِسُ أَكْثَرَ الْحَيْضِ .
وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ زَمَانُ الْحَيْضِ ، فَإِذَا رَأَتْ الدَّمَ فِيهِ جَلَسَتْهُ ، كَالْمُعْتَادَةِ .
وَعَنْهُ أَنَّهَا تَجْلِسُ عَادَةَ نِسَائِهَا ، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّهَا تُشْبِهُهُنَّ فِي عَادَتِهِنَّ .
وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِحَدِيثِ حَمْنَةَ ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّهَا إلَى سِتٍّ أَوْ سَبْعٍ ، وَلَمْ يَرُدَّهَا إلَى الْيَقِينِ ، وَلَا إلَى عَادَةِ نِسَائِهَا ، وَلَا إلَى أَكْثَرِ الْحَيْضِ ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ تُرَدُّ إلَى غَالِبِ عَادَاتِ النِّسَاءِ فِي وَقْتِهَا ؛ لِكَوْنِهَا تَجْلِسُ فِي كُلِّ شَهْرٍ مَرَّةً ؛ فَكَذَلِكَ فِي عَدَدِ أَيَّامِهَا ؛ وَبِهَذَا يَبْطُلُ مَا ذَكَرْنَاهُ لِلْيَقِينِ ، وَلِعَادَةِ نِسَائِهَا .
( 473 ) فَصْلٌ : وَهَلْ تُرَدُّ إلَى ذَلِكَ إذَا اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ فِي الشَّهْرِ الرَّابِعِ أَوْ الثَّانِي ؟ الْمَنْصُوصُ أَنَّهَا لَا تُرَدُّ إلَى سِتٍّ أَوْ سَبْعٍ إلَّا فِي

الشَّهْرِ الرَّابِعِ ؛ لِأَنَّا لَمْ نُحَيِّضْهَا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إذَا لَمْ تَكُنْ مُسْتَحَاضَةً .
فَأَوْلَى أَنْ نَفْعَلَ ذَلِكَ إذَا كَانَتْ مُسْتَحَاضَةً .
قَالَ الْقَاضِي : وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَنْتَقِلَ إلَيْهَا فِي الشَّهْرِ الثَّانِي بِغَيْرِ تَكْرَارٍ ؛ لِأَنَّنَا قَدْ عَلِمْنَا اسْتِحَاضَتَهَا ، فَلَا مَعْنَى لِلتَّكْرَارِ فِي حَقِّهَا .

( 474 ) فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَتْ الَّتِي اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ مُمَيِّزَةً ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا مَضَى جَلَسَتْ بِالتَّمْيِيزِ فِيمَا بَعْدَ الْأَشْهُرِ الثَّلَاثَةِ ، وَتَجْلِسُ فِي الثَّلَاثَةِ الْيَقِينَ يَوْمًا وَلَيْلَةً ، إلَّا أَنْ نَقُولَ : الْعَادَةُ تَثْبُتُ بِمَرَّتَيْنِ ، فَإِنَّهَا تَعُودُ إلَى التَّمْيِيزِ فِي الشَّهْرِ الثَّالِثِ ، وَيُعْمَلُ بِهِ .
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهَا تُرَدُّ إلَى التَّمْيِيزِ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي ، وَلَا يُعْتَبَرُ التَّكْرَارُ ، فَإِنَّهُ قَالَ : إذَا بَدَأَ بِهَا الْحَيْضُ ، وَلَمْ يَنْقَطِعْ عَنْهَا الدَّمُ ، وَلَمْ تَعْرِفْ أَيَّامَهَا قَعَدَتْ إقْبَالَ الدَّمِ إذَا أَقْبَلَ سَوَادُهُ وَغِلَظُهُ وَرِيحُهُ ، فَإِذَا أَدْبَرَ وَصَفَا وَذَهَبَ رِيحُهُ صَلَّتْ وَصَامَتْ ، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا مُسْتَحَاضَةٌ مُمَيِّزَةٌ ، فَتُرَدُّ إلَى تَمْيِيزِهَا ، كَمَا فِي الشَّهْرِ الرَّابِعِ ، وَلَا يُعْتَبَرُ التَّكْرَارُ فِي التَّمْيِيزِ بَعْدَ أَنْ تَعْلَمَ كَوْنَهَا مُسْتَحَاضَةً ، عَلَى مَا نَصَرْنَاهُ .
وَقَالَ الْقَاضِي : لَا تَجْلِسُ مِنْهُ إلَّا مَا تَكَرَّرَ .
فَعَلَى هَذَا إذَا رَأَتْ فِي كُلِّ شَهْرٍ خَمْسَةً أَحْمَرَ ثُمَّ خَمْسَةً أَسْوَدَ ، ثُمَّ أَحْمَرَ وَاتَّصَلَ ، جَلَسَتْ زَمَانَ الْأَسْوَدِ ، فَكَانَ حَيْضَهَا ، وَالْبَاقِي اسْتِحَاضَةٌ .
وَهَلْ تَجْلِسُ زَمَانَ الْأَسْوَدِ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي أَوْ الثَّالِثِ أَوْ الرَّابِعِ ؟ يُخَرَّجُ ذَلِكَ عَلَى الرِّوَايَاتِ الثَّلَاثِ .
وَلَوْ رَأَتْ عَشَرَةً أَحْمَرَ ، ثُمَّ خَمْسَةً أَسْوَدَ ، ثُمَّ أَحْمَرَ وَاتَّصَلَ ، فَالْحُكْمُ فِيهَا كَاَلَّتِي قَبْلَهَا ، فَإِنْ اتَّصَلَ الْأَسْوَدُ ، وَعَبَرَ أَكْثَرَ الْحَيْضِ ، فَلَيْسَ لَهَا تَمْيِيزٌ ، وَنُحَيِّضُهَا مِنْ الْأَسْوَدِ ؛ لِأَنَّهُ أَشْبَهُ بِدَمِ الْحَيْضِ .
وَلَوْ رَأَتْ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ دَمًا أَسْوَدَ ، فَلَا تَمْيِيزَ لَهَا ؛ لِأَنَّ الْأَسْوَدَ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ حَيْضًا ، لِقِلَّتِهِ عَنْ أَقَلِّ الْحَيْضِ .
وَإِنْ رَأَتْ فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ أَحْمَرَ كُلَّهُ ، وَفِي الثَّانِي وَالثَّالِثِ وَالرَّابِعِ خَمْسَةً أَسْوَدَ ، ثُمَّ أَحْمَرَ وَاتَّصَلَ ، وَفِي

الْخَامِسِ كُلِّهِ أَحْمَرَ ، فَإِنَّهَا تَجْلِسُ فِي الْأَشْهُرِ الثَّلَاثَةِ الْيَقِينَ ، وَفِي الرَّابِعِ أَيَّامَ الدَّمِ الْأَسْوَدِ ، وَفِي الْخَامِسِ تَجْلِسُ خَمْسَةً أَيْضًا ؛ لِأَنَّهَا قَدْ صَارَتْ مُعْتَادَةً .
وَقَالَ الْقَاضِي : لَا تَجْلِسُ مِنْ الرَّابِعِ إلَّا الْيَقِينَ ، إلَّا أَنْ نَقُولَ بِثُبُوتِ الْعَادَةِ بِمَرَّتَيْنِ .
وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ ؛ فَإِنَّ أَكْثَرَ مَا يُقَدَّرُ فِيهَا أَنَّهَا لَا عَادَةَ لَهَا وَلَا تَمْيِيزَ ، وَلَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ ، لَجَلَسَتْ سِتًّا أَوْ سَبْعًا ، فِي أَصَحِّ الرِّوَايَاتِ ، فَكَذَا هَاهُنَا وَمَنْ لَمْ يَعْتَبِرْ التَّكْرَارَ فِي التَّمْيِيزِ فَهَذِهِ مُمَيِّزَةٌ ، وَمَنْ قَالَ إنَّ الْمُمَيِّزَةَ تَجْلِسُ بِالتَّمْيِيزِ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي ، قَالَ إنَّهَا تَجْلِسُ الدَّمَ الْأَسْوَدَ فِي الشَّهْرِ الثَّالِثِ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَعْلَمُ أَنَّهَا مُمَيِّزَةٌ قَبْلَهُ ، وَلَوْ رَأَتْ فِي شَهْرٍ خَمْسَةً أَسْوَدَ ، ثُمَّ صَارَ أَحْمَرَ وَاتَّصَلَ ، وَفِي الثَّانِي كَذَلِكَ ، وَفِي الثَّالِثِ كُلِّهِ أَحْمَرَ ، وَالرَّابِعِ رَأَتْ خَمْسَةً أَحْمَرَ ، ثُمَّ صَارَ أَسْوَدَ وَاتَّصَلَ ، جَلَسَتْ الْيَقِينَ مِنْ الْأَشْهُرِ الثَّلَاثَةِ ، وَالرَّابِعُ لَا تَمْيِيزَ لَهَا فِيهِ ، فَتَصِيرُ فِيهِ إلَى سِتَّةِ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَةٍ ، فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَاتِ ، إلَّا أَنْ نَقُولَ الْعَادَةُ تَثْبُتُ بِمَرَّتَيْنِ ، فَتَجْلِسُ مِنْ الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ خَمْسَةً خَمْسَةً .
وَقَالَ الْقَاضِي : لَا تَجْلِسُ فِي الْأَشْهُرِ الْأَرْبَعَةِ إلَّا الْيَقِينَ ، وَهَذَا بَعِيدٌ ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ .
وَلَوْ كَانَتْ رَأَتْ فِي الرَّابِعِ خَمْسَةً أَسْوَدَ ، وَالْبَاقِيَ كُلَّهُ أَحْمَرَ ، صَارَ عَادَةً بِذَلِكَ .

( 475 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَالصُّفْرَةُ وَالْكُدْرَةُ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ مِنْ الْحَيْضِ ) يَعْنِي إذَا رَأَتْ فِي أَيَّامِ عَادَتِهَا صُفْرَةً أَوْ كُدْرَةً ، فَهُوَ حَيْضٌ ، وَإِنْ رَأَتْهُ بَعْدَ أَيَّامِ حَيْضِهَا ، لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
وَبِهِ قَالَ يَحْيَى الْأَنْصَارِيُّ ، وَرَبِيعَةُ ، وَمَالِكٌ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ ، وَأَبُو ثَوْرٍ : لَا يَكُونُ حَيْضًا ، إلَّا أَنْ يَتَقَدَّمَهُ دَمٌ أَسْوَدُ ؛ لِأَنَّ أُمَّ عَطِيَّةَ ، وَكَانَتْ بَايَعَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ : كُنَّا لَا نَعْتَدُّ بِالصُّفْرَةِ وَالْكُدْرَةِ بَعْدَ الْغُسْلِ شَيْئًا .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَقَالَ : بَعْدَ الطُّهْرِ .
وَلَنَا ، قَوْله تَعَالَى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى } ، وَهَذَا يَتَنَاوَلُ الصُّفْرَةَ وَالْكُدْرَةَ ، وَرَوَى الْأَثْرَمُ ، بِإِسْنَادِهِ ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ تَبْعَثُ إلَيْهَا النِّسَاءُ بِالدُّرْجَةِ فِيهَا الْكُرْسُفُ ، فِيهَا الصُّفْرَةُ وَالْكُدْرَةُ ، فَتَقُولُ : لَا تَعْجَلْنَ حَتَّى تَرَيْنَ الْقَصَّةَ الْبَيْضَاءَ تُرِيدُ بِذَلِكَ الطُّهْرَ مِنْ الْحَيْضَةِ .
وَحَدِيثُ أُمِّ عَطِيَّةَ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ مَا بَعْدَ الطُّهْرِ وَالِاغْتِسَالِ ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ ، وَقَدْ قَالَتْ عَائِشَةُ : مَا كُنَّا نَعُدُّ الْكُدْرَةَ وَالصُّفْرَةَ حَيْضًا .
مَعَ قَوْلِهَا الْمُتَقَدِّمِ ، الَّذِي ذَكَرْنَاهُ .
( 476 ) فَصْلٌ : وَحُكْمُ الصُّفْرَةِ وَالْكُدْرَةِ حُكْمُ الدَّمِ الْعَبِيطِ فِي أَنَّهَا فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ حَيْضٌ ، وَتَجْلِسُ مِنْهَا الْمُبْتَدَأَةُ كَمَا تَجْلِسُ مِنْ غَيْرِهَا .
وَإِنْ رَأَتْهَا فِيمَا بَعْدَ الْعَادَةِ فَهُوَ كَمَا لَوْ رَأَتْ غَيْرَهَا عَلَى مَا سَيَأْتِي ذِكْرُهُ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ .
وَإِنْ طَهُرَتْ ثُمَّ رَأَتْ كُدْرَةً أَوْ صُفْرَةً ، لَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهَا ؛ لِخَبَرِ أُمِّ عَطِيَّةَ وَعَائِشَةَ ، وَقَدْ رَوَى النَّجَّادُ ، بِإِسْنَادِهِ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ ، عَنْ فَاطِمَةَ ، عَنْ

أَسْمَاءَ قَالَتْ : كُنَّا فِي حِجْرِهَا مَعَ بَنَاتِ بِنْتِهَا ، فَكَانَتْ إحْدَانَا تَطْهُرُ ثُمَّ تُصَلِّي ، ثُمَّ تُنَكِّسُ بِالصُّفْرَةِ الْيَسِيرَةِ ، فَنَسْأَلُهَا ، فَتَقُولُ : اعْتَزِلْنَ الصَّلَاةَ حَتَّى لَا تَرَيْنَ إلَّا الْبَيَاضَ خَالِصًا ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى ؛ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَقَوْلُ عَائِشَةَ وَأُمِّ عَطِيَّةَ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ أَسْمَاءَ .
وَقَالَ الْقَاضِي : مَعْنَى هَذَا أَنَّهَا لَا تَلْتَفِتُ إلَيْهِ قَبْلَ التَّكْرَارِ ، وَقَوْلُ أَسْمَاءَ فِيمَا إذَا تَكَرَّرَ ، فَجَمَعَ بَيْنَ الْأَخْبَارِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَيَسْتَمْتِعُ مِنْ الْحَائِضِ بِمَا دُونَ الْفَرْجِ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ مِنْ الْحَائِضِ فِيمَا فَوْقَ السُّرَّةِ وَدُونَ الرُّكْبَةِ جَائِزٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ ، وَالْوَطْءُ فِي الْفَرْجِ مُحَرَّمٌ بِهِمَا .
وَاخْتُلِفَ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِمَا بَيْنَهُمَا ؛ فَذَهَبَ أَحْمَدُ ، رَحِمَهُ اللَّهُ إلَى إبَاحَتِهِ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عِكْرِمَةَ ، وَعَطَاءٍ ، وَالشَّعْبِيِّ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَإِسْحَاقَ ، وَنَحْوَهُ قَالَ الْحَكَمُ ، فَإِنَّهُ قَالَ : لَا بَأْسَ أَنْ تَضَعَ عَلَى فَرْجِهَا ثَوْبًا مَا لَمْ يَدْخُلْهُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ : لَا يُبَاحُ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ ، قَالَتْ { : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُنِي فَأَتَّزِرُ ، فَيُبَاشِرُنِي وَأَنَا حَائِضٌ } .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَعَنْ عُمَرَ قَالَ : { سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ مِنْ امْرَأَتِهِ وَهِيَ حَائِضٌ فَقَالَ : فَوْقَ الْإِزَارِ } وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ } ، وَالْمَحِيضُ : اسْمٌ لِمَكَانِ الْحَيْضِ ، كَالْمَقِيلِ وَالْمَبِيتِ ، فَتَخْصِيصُهُ مَوْضِعَ الدَّمِ بِالِاعْتِزَالِ دَلِيلٌ عَلَى إبَاحَتِهِ فِيمَا عَدَاهُ .
فَإِنْ قِيلَ : بَلْ الْمَحِيضُ الْحَيْضُ ، مَصْدَرُ حَاضَتْ الْمَرْأَةُ حَيْضًا وَمَحِيضًا ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى فِي أَوَّلِ الْآيَةِ : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى } .
وَالْأَذَى : هُوَ الْحَيْضُ الْمَسْئُولُ عَنْهُ ، وَقَالَ تَعَالَى : { وَاَللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ } .
قُلْنَا : اللَّفْظُ يَحْتَمِلُ الْمَعْنَيَيْنِ ، وَإِرَادَةُ مَكَانِ الدَّمِ أَرْجَحُ ، بِدَلِيلِ أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ الْحَيْضَ لَكَانَ أَمْرًا بِاعْتِزَالِ النِّسَاءِ فِي مُدَّةِ الْحَيْضِ بِالْكُلِّيَّةِ ، وَالْإِجْمَاعُ بِخِلَافِهِ .
وَالثَّانِي ، أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ ، أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا إذَا حَاضَتْ الْمَرْأَةُ اعْتَزَلُوهَا ، فَلَمْ يُؤَاكِلُوهَا ، وَلَمْ يُشَارِبُوهَا ، وَلَمْ يُجَامِعُوهَا فِي

الْبَيْتِ ، فَسَأَلَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ غَيْرَ النِّكَاحِ .
} رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " وَهَذَا تَفْسِيرٌ لِمُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَلَا تَتَحَقَّقُ مُخَالَفَةُ الْيَهُودِ بِحَمْلِهَا عَلَى إرَادَةِ الْحَيْضِ ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُوَافِقًا لَهُمْ ، وَمِنْ السُّنَّةِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { : اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ غَيْرَ النِّكَاحِ } ، وَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : { اجْتَنِبْ مِنْهَا شِعَارَ الدَّمِ } .
وَلِأَنَّهُ مَنَعَ الْوَطْءَ لِأَجْلِ الْأَذَى ، فَاخْتَصَّ مَكَانُهُ كَالدُّبُرِ ، وَمَا رَوَوْهُ عَنْ عَائِشَةَ دَلِيلٌ عَلَى حِلِّ مَا فَوْقَ الْإِزَارِ ، لَا عَلَى تَحْرِيمِ غَيْرِهِ ، وَقَدْ يَتْرُكُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضَ الْمُبَاحِ تَقَذُّرًا ، كَتَرْكِهِ أَكْلَ الضَّبِّ وَالْأَرْنَبِ ، وَقَدْ رَوَى عِكْرِمَةُ عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا أَرَادَ مِنْ الْحَائِضِ شَيْئًا أَلْقَى عَلَى فَرْجِهَا ثَوْبًا ثُمَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مَنْطُوقٌ وَهُوَ أَوْلَى مِنْ الْمَفْهُومِ .

( 478 ) فَصْلٌ : فَإِنْ وَطِئَ الْحَائِضَ فِي الْفَرْجِ أَثِمَ ، وَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعَالَى ، وَفِي الْكَفَّارَةِ رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا ، يَجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ ؛ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ ، بِإِسْنَادِهِمَا ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ، فِي الَّذِي يَأْتِي امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ : يَتَصَدَّقُ بِدِينَارٍ أَوْ بِنِصْفِ دِينَارٍ } .
وَالثَّانِيَةُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا قَالَ ، أَوْ أَتَى امْرَأَتَهُ فِي دُبُرِهَا ، أَوْ أَتَى حَائِضًا ، فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ ، وَلَمْ يَذْكُرْ كَفَّارَةً ؛ وَلِأَنَّهُ وَطْءٌ نُهِيَ عَنْهُ لِأَجْلِ الْأَذَى ، فَأَشْبَهَ الْوَطْءَ فِي الدُّبُرِ .
وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ كَالرِّوَايَتَيْنِ .
وَحَدِيثُ الْكَفَّارَةِ مَدَارُهُ عَلَى عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ ، وَقَدْ قِيلَ لِأَحْمَدَ : فِي نَفْسِك مِنْهُ شَيْءٌ ؟ قَالَ : نَعَمْ لِأَنَّهُ مِنْ حَدِيثِ فُلَانٍ .
أَظُنُّهُ قَالَ : عَبْدُ الْحَمِيدِ وَقَالَ : لَوْ صَحَّ ذَلِكَ الْحَدِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُنَّا نَرَى عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ .
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ : لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ ، وَقَدْ رَوَى النَّاسُ عَنْهُ .
فَاخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ فِي الْكَفَّارَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلِ أَحْمَدَ فِي الْحَدِيثِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ : إنْ كَانَتْ لَهُ مَقْدِرَةٌ تَصَدَّقَ بِمَا جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَامِدٍ ؛ كَفَّارَةُ وَطْءِ الْحَائِضِ تَسْقُطُ بِالْعَجْزِ عَنْهَا ، أَوْ عَنْ بَعْضِهَا ، كَكَفَّارَةِ الْوَطْءِ فِي رَمَضَانَ .

( 479 ) فَصْلٌ : وَفِي قَدْرِ الْكَفَّارَةِ رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا ، أَنَّهَا دِينَارٌ ، أَوْ نِصْفُ دِينَارٍ ، عَلَى سَبِيلِ التَّخْيِيرِ ، أَيَّهُمَا أَخْرَجَ أَجْزَأَهُ ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَالثَّانِيَةُ ، أَنَّ الدَّمَ إنْ كَانَ أَحْمَرَ فَهِيَ دِينَارٌ ، وَإِنْ كَانَ أَصْفَرَ ، فَنِصْفُ دِينَارٍ .
وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ ، وَقَالَ النَّخَعِيُّ : إنْ كَانَ فِي فَوْرِ الدَّمِ فَدِينَارٌ ، وَإِنْ كَانَ فِي آخِرِهِ فَنِصْفُ دِينَارٍ ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنْ كَانَ دَمًا أَحْمَرَ فَدِينَارٌ ، وَإِنْ كَانَ دَمًا أَصْفَرَ فَنِصْفُ دِينَارٍ } .
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ .
قَالَ أَبُو دَاوُد الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ : " يَتَصَدَّقُ بِدِينَارٍ أَوْ بِنِصْفِ دِينَارٍ " .
وَلِأَنَّهُ حُكْمٌ تَعَلَّقَ بِالْحَيْضِ ، فَلَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَ أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ ، كَسَائِرِ أَحْكَامِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَكَيْفَ تُخَيَّرُ بَيْنَ شَيْءٍ وَنِصْفِهِ ؟ قُلْنَا : كَمَا يُخَيَّرُ الْمُسَافِرُ بَيْنَ قَصْرِ الصَّلَاةِ وَإِتْمَامِهَا ، فَأَيُّهُمَا فَعَلَ كَانَ وَاجِبًا ، كَذَا هَاهُنَا .

( 480 ) فَصْلٌ : وَإِنْ وَطِئَ بَعْدَ طُهْرِهَا ، وَقَبْلَ غُسْلِهَا فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ .
وَقَالَ قَتَادَةُ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ : عَلَيْهِ نِصْفُ دِينَارٍ .
وَلَوْ وَطِئَ فِي حَالِ جَرَيَانِ الدَّمِ ، لَزِمَهُ دِينَارٌ ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ تَعَلَّقَ بِالْوَطْءِ فِي الْحَيْضِ ، فَثَبَتَ قَبْلَ الْغُسْلِ ، كَالتَّحْرِيمِ .
وَلَنَا أَنَّ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ بِالشَّرْعِ ، وَإِنَّمَا وَرَدَ بِهَا الْخَبَرُ فِي الْحَائِضِ ، وَغَيْرُهَا لَا يُسَاوِيهَا ؛ لِأَنَّ الْأَذَى الْمَانِعَ مِنْ وَطْئِهَا قَدْ زَالَ بِانْقِطَاعِ الدَّمِ ، وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَطَأُ حَائِضًا ، فَإِنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ بِالْوَطْءِ فِي الْحَيْضِ ، وَلَا تَجِبُ فِي غَيْرِهِ .

( 481 ) فَصْلٌ : وَهَلْ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْجَاهِلِ وَالنَّاسِي ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا ، تَجِبُ لِعُمُومِ الْخَبَرِ ؛ وَلِأَنَّهَا كَفَّارَةٌ تَجِبُ بِالْوَطْءِ ، أَشْبَهَتْ كَفَّارَةَ الْوَطْءِ فِي الصَّوْمِ وَالْإِحْرَامِ .
وَالثَّانِي ، لَا تَجِبُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { : عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنْ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ } .
وَلِأَنَّهَا تَجِبُ لِمَحْوِ الْمَأْثَمِ ، فَلَا تَجِبُ مَعَ النِّسْيَانِ ، كَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ وَطِئَ طَاهِرًا ، فَحَاضَتْ فِي أَثْنَاءِ وَطْئِهِ ، لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ .
وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى ، عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ .
وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ حَامِدٍ ، قَالَ : وَلَوْ وَطِئَ الصَّبِيُّ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ ؛ لِعُمُومِ الْخَبَرِ ، وَقِيَاسًا عَلَى كَفَّارَةِ الْإِحْرَامِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ كَفَّارَةٌ ؛ لِأَنَّ أَحْكَامَ التَّكْلِيفِ لَا تَثْبُتُ فِي حَقِّهِ ، وَهَذَا مِنْ فُرُوعِهَا ، فَلَا تَثْبُتُ .

( 482 ) فَصْلٌ : وَهَلْ تَلْزَمُ الْمَرْأَةَ كَفَّارَةٌ ؟ الْمَنْصُوصُ أَنَّ عَلَيْهَا الْكَفَّارَةُ .
قَالَ أَحْمَدُ فِي امْرَأَةٍ غَرَّتْ زَوْجَهَا : إنَّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ وَعَلَيْهَا ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ وَطْءٌ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ ، فَأَوْجَبَهَا عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُطَاوِعَةِ ، كَكَفَّارَةِ الْوَطْءِ فِي الْإِحْرَامِ .
وَقَالَ الْقَاضِي : فِي وُجُوبِهَا عَلَى الْمَرْأَةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا لَا يَجِبُ ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِإِيجَابِهَا عَلَيْهَا ، وَإِنَّمَا يَتَلَقَّى الْوُجُوبَ مِنْ الشَّرْعِ .
وَإِنْ كَانَتْ مُكْرَهَةً أَوْ غَيْرَ عَالِمَةٍ ، فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهَا ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { : عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنْ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ ، وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ .
} ( 483 ) فَصْلٌ : وَالنُّفَسَاءُ كَالْحَائِضِ فِي هَذَا ؛ لِأَنَّهَا تُسَاوِيهَا فِي سَائِرِ أَحْكَامِهَا ، وَيُجْزِئُ نِصْفُ دِينَارٍ مِنْ أَيِّ ذَهَبٍ كَانَ إذَا كَانَ صَافِيًا مِنْ الْغِشِّ ، وَيَسْتَوِي تِبْرُهُ وَمَضْرُوبُهُ ، لِوُقُوعِ الِاسْمِ عَلَيْهِ .
وَهَلْ يَجُوزُ إخْرَاجُ قِيمَتِهِ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا ، يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ بِإِخْرَاجِ هَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْمَالِ ، عَلَى أَيِّ صِفَةٍ كَانَ مِنْ الْمَالِ ، فَجَازَ بِأَيِّ مَالٍ كَانَ ، كَالْخَرَاجِ وَالْجِزْيَةِ .
وَالثَّانِي ، لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ كَفَّارَةٌ ، فَاخْتُصَّ بِبَعْضِ أَنْوَاعِ الْمَالِ ، كَسَائِرِ الْكَفَّارَاتِ ، فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ هَلْ يَجُوزُ إخْرَاجُ الدَّرَاهِمِ مَكَانَ الدِّينَارِ فِيهِ وَجْهَانِ ، بِنَاءً عَلَى إخْرَاجِهَا عَنْهُ فِي الزَّكَاةِ ، وَالصَّحِيحُ جَوَازُهُ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا ؛ وَلِأَنَّهُ حَقٌّ يُجْزِئُ فِيهِ أَحَدُ الثَّمَنَيْنِ ، فَأَجْزَأَ فِيهِ الْآخَرُ ، كَسَائِرِ الْحُقُوقِ .
وَمَصْرِفُ هَذِهِ الْكَفَّارَةِ إلَى مَصْرِفِ سَائِرِ الْكَفَّارَاتِ ؛ لِكَوْنِهَا كَفَّارَةً ؛ وَلِأَنَّ الْمَسَاكِينَ مَصْرِفُ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَهَذَا مِنْهَا .

( 484 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( فَإِنْ انْقَطَعَ دَمُهَا ، فَلَا تُوطَأُ حَتَّى تَغْتَسِلَ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ وَطْءَ الْحَائِضِ قَبْلَ الْغُسْلِ حَرَامٌ ، وَإِنْ انْقَطَعَ دَمُهَا فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : هَذَا كَالْإِجْمَاعِ مِنْهُمْ .
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَرُّوذِيُّ : لَا أَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنْ انْقَطَعَ الدَّمُ لِأَكْثَرِ الْحَيْضِ ، حَلَّ وَطْؤُهَا ، وَإِنْ انْقَطَعَ لِدُونِ ذَلِكَ ، لَمْ يُبَحْ حَتَّى تَغْتَسِلَ ، أَوْ تَتَيَمَّمَ ، أَوْ يَمْضِيَ عَلَيْهَا وَقْتُ صَلَاةٍ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْغُسْلِ لَا يَمْنَعُ مِنْ الْوَطْءِ بِالْجَنَابَةِ .
وَلَنَا ، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ } .
يَعْنِي إذَا اغْتَسَلْنَ .
هَكَذَا فَسَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي الْآيَةِ : { وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } .
فَأَثْنَى عَلَيْهِمْ ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ مِنْهُمْ أَثْنَى عَلَيْهِمْ بِهِ ، وَفِعْلُهُمْ هُوَ الِاغْتِسَالُ دُونَ انْقِطَاعِ الدَّمِ ، فَشَرَطَ لِإِبَاحَةِ الْوَطْءِ شَرْطَيْنِ : انْقِطَاعَ الدَّمِ ، وَالِاغْتِسَالَ ، فَلَا يُبَاحُ إلَّا بِهِمَا ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } .
لَمَّا اشْتَرَطَ لِدَفْعِ الْمَالِ إلَيْهِمْ بُلُوغَ النِّكَاحِ وَالرُّشْدَ لَمْ يُبَحْ إلَّا بِهِمَا .
كَذَا هَاهُنَا ؛ وَلِأَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ مِنْ الصَّلَاةِ لِحَدَثِ الْحَيْضِ ، فَلَمْ يُبَحْ وَطْؤُهَا كَمَا لَوْ انْقَطَعَ لِأَقَلِّ الْحَيْضِ .
وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْمَعْنَى مَنْقُوضٌ بِمَا إذَا انْقَطَعَ لِأَقَلِّ الْحَيْضِ ؛ وَلِأَنَّ حَدَثَ الْحَيْضِ آكَدُ مِنْ حَدَثِ الْجَنَابَةِ ، فَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَيْهِ .

( 485 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَلَا تُوطَأُ مُسْتَحَاضَةٌ إلَّا أَنْ يَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ ) اُخْتُلِفَ عَنْ أَحْمَدَ ، رَحِمَهُ اللَّهُ ، فِي وَطْءِ الْمُسْتَحَاضَةِ ، فَرُوِيَ لَيْسَ لَهُ وَطْؤُهَا إلَّا أَنْ يَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ الْوُقُوعَ فِي مَحْظُورٍ .
وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ سِيرِينَ ، وَالشَّعْبِيِّ ، وَالنَّخَعِيِّ ، وَالْحَاكِمِ ؛ لِمَا رَوَى الْخَلَّالُ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَائِشَةَ ، أَنَّهَا قَالَتْ : الْمُسْتَحَاضَةُ لَا يَغْشَاهَا زَوْجُهَا .
وَلِأَنَّ بِهَا أَذًى ، فَيَحْرُمُ وَطْؤُهَا كَالْحَائِضِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَنَعَ وَطْءَ الْحَائِضِ مُعَلِّلًا بِالْأَذَى بِقَوْلِهِ : { قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ } .
أَمَرَ بِاعْتِزَالِهِنَّ عَقِيبَ الْأَذَى مَذْكُورًا بِفَاءِ التَّعْقِيبِ ؛ وَلِأَنَّ الْحُكْمَ إذَا ذُكِرَ مَعَ وَصْفٍ يَقْتَضِيهِ وَيَصْلُحُ لَهُ ، عُلِّلَ بِهِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } وَالْأَذَى يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً .
فَيُعَلَّلُ بِهِ ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ ، فَيَثْبُتُ التَّحْرِيمُ فِي حَقِّهَا وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ إبَاحَةُ وَطْئِهَا مُطْلَقًا ، مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ .
وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ ؛ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنْ حَمْنَةَ بِنْتِ جَحْشٍ ، أَنَّهَا كَانَتْ مُسْتَحَاضَةً ، وَكَانَ زَوْجُهَا يُجَامِعُهَا .
وَقَالَ : كَانَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ تُسْتَحَاضُ ، وَكَانَ زَوْجُهَا يَغْشَاهَا ؛ وَلِأَنَّ حَمْنَةَ كَانَتْ تَحْتَ طَلْحَةَ ، وَأُمُّ حَبِيبَةَ تَحْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَقَدْ سَأَلَتَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَحْكَامِ الْمُسْتَحَاضَةِ ، فَلَوْ كَانَ حَرَامًا لَبَيَّنَهُ لَهُمَا .
وَإِنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ الْوُقُوعَ فِي مَحْظُورٍ إنْ تَرَكَ الْوَطْءَ ، أُبِيحَ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ ؛ لِأَنَّ حُكْمَهَا أَخَفُّ مِنْ حُكْمِ الْحَائِضِ ، وَلَوْ وَطِئَهَا مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ ، فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ مِنْ الشَّرْعِ ، وَلَمْ يَرِدْ بِإِيجَابِهَا فِي حَقِّهَا ، وَلَا هِيَ فِي مَعْنَى الْحَائِضِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ

الِاخْتِلَافِ .
وَإِذَا انْقَطَعَ دَمُهَا ، أُبِيحَ وَطْؤُهَا مِنْ غَيْرِ غُسْلٍ ؛ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهَا ، أَشْبَهَ سَلَسَ الْبَوْلِ .

( 486 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَالْمُبْتَلَى بِسَلَسِ الْبَوْلِ ، وَكَثْرَةِ الْمَذْيِ ، فَلَا يَنْقَطِعُ ، كَالْمُسْتَحَاضَةِ ، يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ ، بَعْدَ أَنْ يَغْسِلَ فَرْجَهُ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْمُسْتَحَاضَةَ ، وَمَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ أَوْ الْمَذْيُ ، أَوْ الْجَرِيحَ الَّذِي لَا يَرْقَأُ دَمُهُ ، وَأَشْبَاهَهُمْ مِمَّنْ يَسْتَمِرُّ مِنْهُ الْحَدَثُ وَلَا يُمْكِنُهُ حِفْظُ طَهَارَتِهِ ، عَلَيْهِ الْوُضُوءُ لِكُلِّ صَلَاةٍ بَعْدَ غَسْلِ مَحَلِّ الْحَدَثِ ، وَشَدِّهِ وَالتَّحَرُّزِ مِنْ خُرُوجِ الْحَدَثِ بِمَا يُمْكِنُهُ .
فَالْمُسْتَحَاضَةُ تَغْسِلُ الْمَحَلَّ ، ثُمَّ تَحْشُوهُ بِقُطْنٍ أَوْ مَا أَشْبَهَهُ ، لِيَرُدَّ الدَّمَ ؛ { لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَمْنَةَ ، حِينَ شَكَتْ إلَيْهِ كَثْرَةَ الدَّمِ : أَنْعَتُ لَك الْكُرْسُفَ ، فَإِنَّهُ يُذْهِبُ الدَّمَ .
فَإِنْ لَمْ يَرْتَدَّ الدَّمُ بِالْقُطْنِ ، اسْتَثْفَرَتْ بِخِرْقَةٍ مَشْقُوقَةِ الطَّرَفَيْنِ ، تَشُدُّهَا عَلَى جَنْبَيْهَا وَوَسَطُهَا عَلَى الْفَرْجِ } ، وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ " لِتَسْتَثْفِرْ بِثَوْبٍ .
وَقَالَ لِحَمْنَةَ " تَلَجَّمِي " .
لَمَّا قَالَتْ : إنَّهُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ .
فَإِذَا فَعَلْت ذَلِكَ ، ثُمَّ خَرَجَ الدَّمُ ، فَإِنْ كَانَ لِرَخَاوَةِ الشَّدِّ ، فَعَلَيْهَا إعَادَةُ الشَّدِّ وَالطَّهَارَةُ ، وَإِنْ كَانَ لِغَلَبَةِ الْخَارِجِ وَقُوَّتِهِ وَكَوْنِهِ لَا يُمْكِنُ شَدُّهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ، لَمْ تَبْطُلْ الطَّهَارَةُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ ، فَتُصَلِّي وَلَوْ قَطَرَ الدَّمُ ، قَالَتْ عَائِشَةُ : { اعْتَكَفَتْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةٌ مِنْ أَزْوَاجِهِ ، فَكَانَتْ تَرَى الدَّمَ وَالصُّفْرَةَ وَالطَّسْتُ تَحْتَهَا وَهِيَ تُصَلِّي } .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ، وَفِي حَدِيثٍ { : صَلِّي وَإِنْ قَطَرَ الدَّمُ عَلَى الْحَصِيرِ } .
وَكَذَلِكَ مَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ ، أَوْ كَثْرَةُ الْمَذْيِ ، يَعْصِبُ رَأْسَ ذَكَرِهِ بِخِرْقَةٍ ، وَيَحْتَرِسُ حَسَبَ مَا يُمْكِنُهُ ، وَيَفْعَلُ مَا ذُكِرَ .
وَكَذَلِكَ مَنْ بِهِ جُرْحٌ يَفُورُ مِنْهُ الدَّمُ ، أَوْ بِهِ

رِيحٌ ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْدَاثِ مِمَّنْ لَا يُمْكِنُهُ قَطْعُهُ عَنْ نَفْسِهِ ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ عَصْبُهُ ، مِثْلُ مَنْ بِهِ جُرْحٌ لَا يُمْكِنُ شَدُّهُ ، أَوْ بِهِ بَاسُورٌ أَوْ نَاصُورٌ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ عَصْبِهِ ، صَلَّى عَلَى حَسَبِ حَالِهِ ، كَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ حِينَ طُعِنَ صَلَّى وَجُرْحُهُ يَثْعَبُ دَمًا .
( 487 ) فَصْلٌ : وَيَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْوُضُوءُ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ ، إلَّا أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ شَيْءٌ ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَقَالَ مَالِكٌ لَا يَجِبُ الْوُضُوءُ عَلَى الْمُسْتَحَاضَةِ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عِكْرِمَةَ وَرَبِيعَةَ .
وَاسْتَحَبَّ مَالِكٌ لِمَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ أَنْ يَتَوَضَّأَ لِكُلِّ صَلَاةٍ ، إلَّا أَنْ يُؤْذِيَهُ الْبَرْدُ ، فَإِنْ آذَاهُ قَالَ : فَأَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ عَلَيْهِ ضِيقٌ فِي تَرْكِ الْوُضُوءِ .
وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ فِي حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ : { فَاغْتَسِلِي وَصَلِّي } .
وَلَمْ يَأْمُرْهَا بِالْوُضُوءِ ؛ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ عَلَى الْوُضُوءِ مِنْهُ ، وَلَا فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ ؛ لِأَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ الْخَارِجُ الْمُعْتَادُ ، وَلَيْسَ هَذَا بِمُعْتَادٍ ، وَلَنَا مَا رَوَى عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي { الْمُسْتَحَاضَةِ : تَدَعُ الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا ثُمَّ تَغْتَسِلُ ، وَتَصُومُ وَتُصَلِّي ، وَتَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَعَنْ عَائِشَةَ ، قَالَتْ : { جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَتْ خَبَرَهَا ، ثُمَّ قَالَ : اغْتَسِلِي ، ثُمَّ تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ وَصَلِّي } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَلِأَنَّهُ خَارِجٌ مِنْ السَّبِيلِ ، فَنَقَضَ الْوُضُوءَ ، كَالْمَذْيِ .
إذَا

ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّ طَهَارَةَ هَؤُلَاءِ مُقَيَّدَةٌ بِالْوَقْتِ ؛ لِقَوْلِهِ : " تَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ " .
وَقَوْلِهِ : " ثُمَّ تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ " .
وَلِأَنَّهَا طَهَارَةُ عُذْرٍ وَضَرُورَةٍ ، فَتَقَيَّدَتْ بِالْوَقْتِ ، كَالتَّيَمُّمِ .
( 488 ) فَصْلٌ : فَإِنْ تَوَضَّأَ أَحَدُ هَؤُلَاءِ قَبْلَ الْوَقْتِ ، وَخَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ ، بَطَلَتْ طَهَارَتُهُ ؛ لِأَنَّ دُخُولَهُ يَخْرُجُ بِهِ الْوَقْتُ الَّذِي تَوَضَّأَ فِيهِ ، وَخُرُوجُ الْوَقْتِ مُبْطِلٌ لِهَذِهِ الطَّهَارَةِ ، كَمَا قَرَّرْنَاهُ ؛ وَلِأَنَّ الْحَدَثَ مُبْطِلٌ لِلطَّهَارَةِ ، وَإِنَّمَا عُفِيَ عَنْهُ لِعَدَمِ إمْكَانِ التَّحَرُّزِ عَنْهُ مَعَ الْحَاجَةِ إلَى الطَّهَارَةِ .
وَإِنْ تَوَضَّأَ بَعْدَ الْوَقْتِ صَحَّ ، وَارْتَفَعَ حَدَثُهُ ، وَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ مَا يَتَجَدَّدُ مِنْ الْحَدَثِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ .
فَإِنْ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ عَقِيبَ طَهَارَتِهِ ، أَوْ أَخَّرَهَا لِأَمْرٍ يَتَعَلَّقُ بِمَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ ، كَلُبْسِ الثِّيَابِ ، وَانْتِظَارِ الْجَمَاعَةِ ، أَوْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ ، جَازَ .
وَإِنْ أَخَّرَهَا لِغَيْرِ ذَلِكَ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا ، الْجَوَازُ ؛ لِأَنَّهَا طَهَارَةٌ أُرِيدَتْ لِلصَّلَاةِ بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِهَا ، فَأَشْبَهَتْ التَّيَمُّمَ ؛ وَلِأَنَّهَا طَهَارَةُ ضَرُورَةٍ ، فَتَقَيَّدَتْ بِالْوَقْتِ ، كَالتَّيَمُّمِ .
وَالثَّانِي ، لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أُبِيحَ لَهُ الصَّلَاةُ بِهَذِهِ الطَّهَارَةِ مَعَ قِيَامِ الْحَدَثِ لِلْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ ، وَلَا ضَرُورَةَ هَاهُنَا .
وَإِنْ خَرَجَ الْوَقْتُ بَعْدَ أَنْ خَرَجَ مِنْهَا شَيْءٌ ، أَوْ أَحْدَثَتْ حَدَثًا سِوَى هَذَا الْخَارِجِ ، بَطَلَتْ الطَّهَارَةُ .
قَالَ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ الْقَاسِمِ : إنَّمَا أَمَرَهَا أَنْ تَتَوَضَّأَ لِكُلِّ صَلَاةٍ ، فَتُصَلِّي بِذَلِكَ الْوُضُوءِ النَّافِلَةَ وَالصَّلَاةَ الْفَائِتَةَ ، حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُ الصَّلَاةِ الْأُخْرَى ، فَتَتَوَضَّأُ أَيْضًا .
وَهَذَا يَقْتَضِي إلْحَاقَهَا بِالتَّيَمُّمِ ، فِي أَنَّهَا بَاقِيَةٌ بِبَقَاءِ الْوَقْتِ ، يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَتَطَوَّعَ بِهَا

، وَتَقْضِيَ بِهَا الْفَوَائِتَ ، وَتَجْمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ ، مَا لَمْ تُحْدِثْ حَدَثًا آخَرَ ، أَوْ يَخْرُجْ الْوَقْتُ .

( 489 ) فَصْلٌ : وَيَجُوزُ لِلْمُسْتَحَاضَةِ الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ ؛ لِأَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ حَمْنَةَ بِنْتَ جَحْشٍ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِغُسْلٍ وَاحِدٍ ، وَأَمَرَ بِهِ سَهْلَةَ بِنْتَ سُهَيْلٍ ، } وَغَيْرُ الْمُسْتَحَاضَةِ مِنْ أَهْلِ الْأَعْذَارِ مَقِيسٌ عَلَيْهَا ، وَمُلْحَقٌ بِهَا .

( 490 ) فَصْلٌ : إذَا تَوَضَّأْت الْمُسْتَحَاضَةُ ، ثُمَّ انْقَطَعَ دَمُهَا ، فَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ انْقَطَعَ لِبُرْئِهَا بِاتِّصَالِ الِانْقِطَاعِ ، تَبَيَّنَّا أَنَّ وُضُوءَهَا بَطَلَ بِانْقِطَاعِهِ ؛ لِأَنَّ الْحَدَثَ الْخَارِجَ مُبْطِلٌ لِلطَّهَارَةِ عُفِيَ عَنْهُ لِلْعُذْرِ ، فَإِذَا زَالَ الْعُذْرُ زَالَتْ الضَّرُورَةُ ، فَظَهَرَ حُكْمُ الْحَدَثِ .
وَإِنْ عَادَ الدَّمُ فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِهَذَا الِانْقِطَاعِ .
قَالَ أَحْمَدُ بْنُ الْقَاسِمِ : سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ، فَقُلْت : إنَّ هَؤُلَاءِ يَتَكَلَّمُونَ بِكَلَامٍ كَثِيرٍ ، وَيُوَقِّتُونَ بِوَقْتٍ ، يَقُولُونَ : إذَا تَوَضَّأَتْ لِلصَّلَاةِ ، وَقَدْ انْقَطَعَ الدَّمُ ثُمَّ سَالَ بَعْدَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تَدْخُلَ فِي الصَّلَاةِ ، تُعِيدُ الْوُضُوءَ .
وَيَقُولُونَ : إذَا كَانَ الدَّمُ سَائِلًا ، فَتَوَضَّأَتْ ، ثُمَّ انْقَطَعَ الدَّمُ ، قَوْلًا آخَرَ .
قَالَ : لَسْت أَنْظُرُ فِي انْقِطَاعِهِ حِينَ تَوَضَّأَتْ سَالَ أَمْ لَمْ يَسِلْ ، إنَّمَا آمُرُهَا أَنْ تَتَوَضَّأَ لِكُلِّ صَلَاةٍ ، فَتُصَلِّي بِذَلِكَ الْوُضُوءِ النَّافِلَةَ وَالْفَائِتَةَ ، حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُ الصَّلَاةِ الْأُخْرَى ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهَا بِالْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلَاةٍ ، مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ ، فَالتَّفْصِيلُ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْخَبَرِ ؛ وَلِأَنَّ اعْتِبَارَ هَذَا يَشُقُّ ، وَالْعَادَةُ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ وَأَصْحَابِ هَذِهِ الْأَعْذَارِ أَنَّ الْخَارِجَ يَجْرِي وَيَنْقَطِعُ ، وَاعْتِبَارُ مِقْدَارِ الِانْقِطَاعِ فِيمَا يُمْكِنُ فِعْلُ الْعِبَادَةِ فِيهِ يَشُقُّ ، وَإِيجَابُ الْوُضُوءِ بِهِ حَرَجٌ لَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِهِ ، وَلَا سَأَلَ عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْتَحَاضَةَ الَّتِي اسْتَفْتَتْهُ ، فَيَدُلُّ ذَلِكَ ظَاهِرًا عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِهِ مَعَ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ هَذَا التَّفْصِيلُ .
وَقَالَ الْقَاضِي ، وَابْنُ عَقِيلٍ : إنْ تَطَهَّرَتْ

الْمُسْتَحَاضَةُ حَالَ جَرَيَانِ دَمِهَا ثُمَّ انْقَطَعَ قَبْلَ دُخُولِهَا فِي الصَّلَاةِ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا عَادَةٌ بِانْقِطَاعِهِ ، لَمْ يَكُنْ لَهَا الدُّخُولُ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى تَتَوَضَّأَ ؛ لِأَنَّهَا طَهَارَةٌ عُفِيَ عَنْ الْحَدَثِ فِيهَا لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ ، فَإِذَا انْقَطَعَ الدَّمُ زَالَتْ الضَّرُورَةُ ، فَظَهَرَ حُكْمُ الْحَدَثِ كَالْمُتَيَمِّمِ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ ، وَإِنْ دَخَلَتْ فِي الصَّلَاةِ فَاتَّصَلَ الِانْقِطَاعُ زَمَنًا يُمْكِنُ الْوُضُوءُ وَالصَّلَاةُ فِيهِ ، فَهِيَ بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّنَا تَبَيَّنَّا بُطْلَانَ طَهَارَتِهَا بِانْقِطَاعِهِ .
وَإِنْ عَادَ قَبْلَ ذَلِكَ ، فَطَهَارَتُهَا صَحِيحَةٌ ؛ لِأَنَّنَا تَبَيَّنَّا عَدَمَ الطُّهْرِ الْمُبْطِلِ لِلطَّهَارَةِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ ظَنَّ أَنَّهُ أَحْدَثَ ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يُحْدِثْ .
وَفِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا ، يَصِحُّ ؛ لِأَنَّنَا تَبَيَّنَّا صِحَّةَ طَهَارَتِهَا ؛ لِبَقَاءِ اسْتِحَاضَتِهَا وَالثَّانِي ، لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهَا صَلَّتْ بِطَهَارَةٍ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تُصَلِّيَ بِهَا فَلَمْ تَصِحَّ ، كَمَا لَوْ تَيَقَّنَ الْحَدَثَ وَشَكَّ فِي الطَّهَارَةِ ، فَصَلَّى ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ مُتَطَهِّرًا .
وَإِنْ عَاوَدَهَا الدَّمُ قَبْلَ دُخُولِهَا فِي الصَّلَاةِ لِمُدَّةٍ تَتَّسِعُ لِلطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ ، بَطَلَتْ الطَّهَارَةُ ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَتَّسِعُ ، لَمْ تَبْطُلْ ؛ لِأَنَّنَا تَبَيَّنَّا عَدَمَ الطُّهْرِ الْمُبْطِلِ لِلطَّهَارَةِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ ظَنَّ أَنَّهُ أَحْدَثَ ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يُحْدِثْ ، وَإِنْ كَانَ انْقِطَاعُهُ فِي الصَّلَاةِ ، فَفِي بُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِهِ وَجْهَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى الْمُتَيَمِّمِ يَرَى الْمَاءَ فِي الصَّلَاةِ .
ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ حَامِدٍ .
وَإِنْ عَاوَدَ الدَّمُ ، فَالْحُكْمُ فِيهِ عَلَى مَا مَضَى فِي انْقِطَاعِهِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ .
وَإِنْ تَوَضَّأَتْ فِي زَمَنِ انْقِطَاعِهِ ، ثُمَّ عَاوَدَهَا الدَّمُ قَبْلَ الصَّلَاةِ أَوْ فِيهَا ، أَوْ كَانَتْ مُدَّةُ انْقِطَاعِهِ تَتَّسِعُ لِلطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ ، بَطَلَتْ طَهَارَتُهَا بِعَوْدِ الدَّمِ ؛ لِأَنَّهَا بِهَذَا

الِانْقِطَاعِ صَارَتْ فِي حُكْمِ الطَّاهِرَاتِ ، فَصَارَ عَوْدُ الدَّمِ كَسَبْقِ الْحَدَثِ .
وَإِنْ كَانَ انْقِطَاعًا لَا يَتَّسِعُ لِذَلِكَ ، لَمْ يُؤَثِّرْ عَوْدُهُ ؛ لِأَنَّهَا مُسْتَحَاضَةٌ ، وَلَا حُكْمَ لِهَذَا الِانْقِطَاعِ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ كَلَامِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِهَذَا الِانْقِطَاعِ ، بَلْ مَتَى كَانَتْ مُسْتَحَاضَةً أَوْ بِهَا عُذْرٌ مِنْ هَذِهِ الْأَعْذَارِ ، فَتَحَرَّزَتْ وَتَطَهَّرَتْ ، فَطَهَارَتُهَا صَحِيحَةٌ ، وَصَلَاتُهَا بِهَا مَاضِيَةٌ ، مَا لَمْ يَزُلْ عُذْرُهَا ، وَتَبْرَأْ مِنْ مَرَضِهَا ، أَوْ يَخْرُجْ وَقْتُ الصَّلَاةِ ، أَوْ تُحْدِثْ حَدَثًا سِوَى حَدَثِهَا .

( 491 ) فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَتْ لَهَا عَادَةٌ بِانْقِطَاعِ الدَّمِ زَمَنًا لَا يَتَّسِعُ لِلطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ فَتَوَضَّأَتْ ، ثُمَّ انْقَطَعَ دَمُهَا ، لَمْ يُحْكَمْ بِبُطْلَانِ طَهَارَتِهَا ، وَلَا صَلَاتِهَا ، إنْ كَانَتْ فِيهَا ؛ لِأَنَّ هَذَا الِانْقِطَاعَ لَا يُفِيدُ الْمَقْصُودَ .
وَإِنْ اتَّصَلَ الِانْقِطَاعُ وَبَرَأَتْ ، وَكَانَ قَدْ جَرَى مِنْهَا دَمٌ بَعْدَ الْوُضُوءِ ، بَطَلَتْ طَهَارَتُهَا وَالصَّلَاةُ ؛ لِأَنَّا تَبَيَّنَّا أَنَّهَا صَارَتْ فِي حُكْمِ الطَّاهِرَاتِ بِذَلِكَ الِانْقِطَاعِ .
وَإِنْ اتَّصَلَ زَمَنًا يَتَّسِعُ لِلطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ ، فَالْحُكْمُ فِيهَا كَالْحُكْمِ فِي الَّتِي لَمْ يَجْرِ لَهَا عَادَةٌ بِانْقِطَاعِهِ عَلَى مَا ذَكَرَ فِيهِ .
وَإِنْ كَانَتْ لَهَا عَادَةٌ بِانْقِطَاعِهِ زَمَنًا يَتَّسِعُ لِلطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ ، لَمْ تُصَلِّ حَالَ جَرَيَانِ الدَّمِ ، وَتَنْتَظِرُ إمْسَاكَهُ ، إلَّا أَنْ تَخْشَى خُرُوجَ الْوَقْتِ ، فَتَتَوَضَّأَ وَتُصَلِّيَ .
فَإِنْ شَرَعَتْ فِي الصَّلَاةِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ بِهَذِهِ الطَّهَارَةِ ، فَأَمْسَكَ الدَّمُ عَنْهَا ، بَطَلَتْ طَهَارَتُهَا ؛ لِأَنَّهَا أَمْكَنَتْهَا الصَّلَاةُ بِطَهَارَةٍ غَيْرِ ضَرُورِيَّةٍ ، فَلَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهَا بِغَيْرِهَا ، كَغَيْرِ الْمُسْتَحَاضَةِ .
وَإِنْ كَانَ زَمَنُ إمْسَاكِهِ يَخْتَلِفُ ، فَتَارَةً يَتَّسِعُ .
وَتَارَةً لَا يَتَّسِعُ ، فَهِيَ كَاَلَّتِي قَبْلَهَا ، إلَّا أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ انْقِطَاعَهُ فِي هَذَا الْوَقْتِ لَا يَتَّسِعُ .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا إذَا شَرَعَتْ فِي الصَّلَاةِ ، ثُمَّ انْقَطَعَ الدَّمُ ، لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهَا ؛ لِأَنَّهَا شَرَعَتْ فِيهَا بِطَهَارَةٍ يَقِينِيَّةٍ ، وَانْقِطَاعُ الدَّمِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُتَّسِعًا ، فَتَبْطُلُ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ضَيِّقًا ، فَلَا تَبْطُلُ ، وَلَا يَزُولُ الْيَقِينُ بِالشَّكِّ .
فَإِنْ اتَّصَلَ الِانْقِطَاعُ ، تَبَيَّنَّا أَنَّهُ كَانَ مُبْطِلًا ، فَبَطَلَتْ الطَّهَارَةُ وَالصَّلَاةُ بِهِ .

( 492 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَأَكْثَرُ النِّفَاسَ أَرْبَعُونَ يَوْمًا ) هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
قَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ : أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ عَلَى أَنَّ النُّفَسَاءَ تَدَعُ الصَّلَاةَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا إلَّا أَنْ تَرَى الطُّهْرَ قَبْلَ ذَلِكَ ، فَتَغْتَسِلَ وَتُصَلِّيَ .
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : وَعَلَى هَذَا جَمَاعَةُ النَّاسِ ، وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَرَ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَعُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ ، وَعَائِذِ بْنِ عَمْرٍو وَأَنَسٍ ، وَأُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَقَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ : أَكْثَرُهُ سِتُّونَ يَوْمًا .
وَحَكَى ابْنُ عَقِيلٍ ، عَنْ أَحْمَدَ ، رِوَايَةً مِثْلَ قَوْلِهِمَا لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ قَالَ : عِنْدَنَا امْرَأَةٌ تَرَى النِّفَاسَ شَهْرَيْنِ .
وَرُوِيَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ وَجَدَهُ .
وَالْمَرْجِعُ فِي ذَلِكَ إلَى الْوُجُودِ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ غَالِبُهُ أَرْبَعُونَ يَوْمًا .
وَلَنَا مَا رَوَى أَبُو سَهْلٍ كَثِيرُ بْنُ زِيَادٍ ، عَنْ مُسَّةَ الْأَزْدِيَّةِ ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ ، قَالَتْ : { كَانَتْ النُّفَسَاءُ تَجْلِسُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً .
} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ : هَذَا الْحَدِيثُ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَهْلٍ ، وَهُوَ ثِقَةٌ .
قَالَ الْخَطَّابِيُّ : أَثْنَى مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ .
وَرَوَى الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ ، عَنْ مُسَّةَ ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ { ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا سَأَلَتْهُ : كَمْ تَجْلِسُ الْمَرْأَةُ إذَا وَلَدَتْ قَالَ : أَرْبَعِينَ يَوْمًا ، إلَّا أَنْ تَرَى الطُّهْرَ قَبْلَ ذَلِكَ } .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ .
وَلِأَنَّهُ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ ، وَلَمْ نَعْرِفْ لَهُمْ مُخَالِفًا فِي عَصْرِهِمْ ، فَكَانَ إجْمَاعًا ، وَقَدْ حَكَاهُ التِّرْمِذِيُّ إجْمَاعًا ، وَنَحْوَهُ

حَكَى أَبُو عُبَيْدٍ ، وَمَا حَكَوْهُ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ ، يَحْتَمِلُ أَنَّ الزِّيَادَةَ كَانَتْ حَيْضًا أَوْ اسْتِحَاضَةً ، كَمَا لَوْ زَادَ دَمُهَا عَنْ السِّتِّينَ ، أَوْ كَمَا لَوْ زَادَ دَمُ الْحَائِضِ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا .

( 493 ) فَصْلٌ : فَإِنْ زَادَ دَمُ النُّفَسَاءِ عَلَى أَرْبَعِينَ يَوْمًا ، فَصَادَفَ عَادَةَ الْحَيْضِ ، فَهُوَ حَيْضٌ ، وَإِنْ لَمْ يُصَادِفْ عَادَةً ، فَهُوَ اسْتِحَاضَةٌ .
قَالَ أَحْمَدُ : إذَا اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ ، فَإِنْ كَانَ فِي أَيَّامِ حَيْضِهَا الَّذِي تَقْعُدُهُ أَمْسَكَتْ عَنْ الصَّلَاةِ ، وَلَمْ يَأْتِهَا زَوْجُهَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَيَّامٌ كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ ، يَأْتِيهَا زَوْجُهَا ، وَتَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ ، وَتَصُومُ وَتُصَلِّي إنْ أَدْرَكَهَا رَمَضَانُ ، وَلَا تَقْضِي .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مِثْلِ مَا قُلْنَا .

( 494 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَلَيْسَ لِأَقَلِّهِ حَدٌّ ، أَيَّ وَقْتٍ رَأَتْ الطُّهْرَ اغْتَسَلَتْ ، وَهِيَ طَاهِرٌ ، وَلَا يَقْرَبُهَا زَوْجُهَا فِي الْفَرْجِ حَتَّى تُتِمَّ الْأَرْبَعِينَ اسْتِحْبَابًا ) وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ مَالِكٌ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَأَبُو عُبَيْدٍ : إذَا لَمْ تَرَ دَمًا تَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ ، وَأَبُو ثَوْرٍ : أَقَلُّهُ سَاعَةٌ .
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : أَقَلُّهُ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا ، وَلَنَا أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي الشَّرْعِ تَحْدِيدُهُ ، فَيُرْجَعُ فِيهِ إلَى الْوُجُودِ ، وَقَدْ وُجِدَ قَلِيلًا وَكَثِيرًا ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً وَلَدَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ تَرَ دَمًا ، فَسُمِّيَتْ ذَاتَ الْجُفُوفِ .
قَالَ أَبُو دَاوُد : ذَاكَرْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ حَدِيثَ جَرِيرٍ : كَانَتْ امْرَأَةٌ تُسَمَّى الطَّاهِرَ ، تَضَعُ أَوَّلَ النَّهَارِ وَتَطْهُرُ آخِرَهُ فَجَعَلَ يَعْجَبُ مِنْهُ .
وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَحِلُّ لِلنُّفَسَاءِ إذَا رَأَتْ الطُّهْرَ إلَّا أَنْ تُصَلِّيَ .
وَلِأَنَّ الْيَسِيرَ دَمٌ وُجِدَ عَقِيبَ سَبَبِهِ وَهُوَ الْوِلَادَةُ ، فَيَكُونُ نِفَاسًا كَالْكَثِيرِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهَا إذَا رَأَتْ النَّقَاءَ لِدُونِ الْيَوْمِ لَا تَثْبُتُ لَهَا أَحْكَامُ الطَّاهِرَاتِ .
قَالَ يَعْقُوبُ : سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الْمَرْأَةِ إذَا ضَرَبَهَا الْمَخَاضُ ، فَتَكُونُ أَيَّامُهَا عَشْرًا ، فَتَرَى النَّقَاءَ قَبْلَ ذَلِكَ ، فَتَغْتَسِلُ ، ثُمَّ تَرَى الدَّمَ مِنْ يَوْمِهَا ؟ قَالَ : هَذَا أَقَلُّ مِنْ يَوْمٍ ، لَيْسَ عَلَيْهَا شَيْءٌ .
فَعَلَى هَذَا لَا تَثْبُتُ لَهَا أَحْكَامُ الطَّاهِرَاتِ حَتَّى تَرَى الطُّهْرَ يَوْمًا كَامِلًا ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الدَّمَ يَجْرِي تَارَةً وَيَنْقَطِعُ أُخْرَى ، فَلَا يَخْرُجُ عَنْ حُكْمِ النِّفَاسِ بِمُجَرَّدِ انْقِطَاعِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى أَنْ لَا تَسْقُطَ الصَّلَاةُ عَنْهَا فِي نِفَاسِهَا ، إذْ مَا مِنْ وَقْتِ صَلَاةٍ إلَّا يُوجَدُ فِيهِ طُهْرٌ يَجِبُ عَلَيْهَا الصَّلَاةُ بِهِ وَهَذَا يُخَالِفُ

النَّصَّ وَالْإِجْمَاعَ ، وَإِذَا لَمْ يُعْتَبَرْ مُجَرَّدُ انْقِطَاعِ الدَّمِ فَلَا بُدَّ مِنْ ضَابِطٍ لِلِانْقِطَاعِ الْمَعْدُودِ طُهْرًا ، وَالْيَوْمُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ ضَابِطًا لِذَلِكَ ، فَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِهِ .

( 495 ) فَصْلٌ : وَإِنْ وَلَدَتْ وَلَمْ تَرَ دَمًا ، فَهِيَ طَاهِرٌ لَا نِفَاسَ لَهَا لِأَنَّ النِّفَاسَ هُوَ الدَّمُ ، وَلَمْ يُوجَدْ ، وَفِي وُجُوبِ الْغُسْلِ عَلَيْهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا ، لَا يَجِبُ ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ مِنْ الشَّرْعِ ، وَإِنَّمَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِإِيجَابِهِ عَلَى النُّفَسَاءِ ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ نُفَسَاءَ ، وَلَا فِي مَعْنَاهَا ؛ لِأَنَّ النُّفَسَاءَ قَدْ خَرَجَ مِنْهَا دَمٌ يَقْتَضِي خُرُوجُهُ وُجُوبَ الْغُسْلِ ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِيمَنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا .
وَالثَّانِي ، يَجِبُ ؛ لِأَنَّ الْوِلَادَةَ مَظِنَّةٌ لِلنِّفَاسِ ، فَتَعَلَّقَ الْإِيجَابُ بِهَا ، كَتَعَلُّقِهِ بِالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ الْإِنْزَالُ .

( 496 ) فَصْلٌ : وَإِذَا طَهُرَتْ لِدُونِ الْأَرْبَعِينَ اغْتَسَلَتْ وَصَلَّتْ ، وَصَامَتْ ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَقْرَبَهَا زَوْجُهَا قَبْلَ الْأَرْبَعِينَ .
قَالَ أَحْمَدُ : مَا يُعْجِبُنِي أَنْ يَأْتِيَهَا زَوْجُهَا ، عَلَى حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ ، أَنَّهَا أَتَتْهُ قَبْلَ الْأَرْبَعِينَ ، فَقَالَ لَا تَقْرَبِينِي ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ عَوْدَ الدَّمِ فِي زَمَنِ الْوَطْءِ ، فَيَكُونُ وَاطِئًا فِي نِفَاسٍ ، وَهَذَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْبَابِ ، فَإِنَّا حَكَمْنَا لَهَا بِأَحْكَامِ الطَّاهِرَاتِ وَلِهَذَا يَلْزَمُهَا أَنْ تَغْتَسِلَ وَتُصَلِّيَ ، وَتَصُومَ .
وَإِنْ عَادَ دَمُهَا فِي مُدَّةِ الْأَرْبَعِينَ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ .
إحْدَاهُمَا ، أَنَّهُ مِنْ نِفَاسِهَا ، تَدَعُ لَهُ الصَّوْمَ وَالصَّلَاةَ .
نَقَلَ عَنْهُ أَحْمَدُ بْنُ الْقَاسِمِ أَنَّهُ قَالَ : فَإِنْ عَاوَدَهَا الدَّمُ قَبْلَ الْأَرْبَعِينَ ، أَمْسَكَتْ عَنْ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ ، فَإِنْ طَهُرَتْ أَيْضًا اغْتَسَلَتْ وَصَلَّتْ وَصَامَتْ .
وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ ، وَالشَّعْبِيِّ ؛ لِأَنَّهُ دَمٌ فِي زَمَنِ النِّفَاسِ ، فَكَانَ نِفَاسًا كَالْأَوَّلِ ، وَكَمَا لَوْ اتَّصَلَ .
وَالثَّانِيَةُ ، أَنَّهُ مَشْكُوكٌ فِيهِ ، تَصُومُ وَتُصَلِّي ، ثُمَّ تَقْضِي الصَّوْمَ احْتِيَاطًا .
وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ عَنْهُ ، نَقَلَهَا الْأَثْرَمُ ، وَغَيْرُهُ .
وَلَا يَأْتِيهَا زَوْجُهَا ، وَإِنَّمَا أَلْزَمَهَا فِعْلَ الْعِبَادَاتِ فِي هَذَا الدَّمِ ؛ لِأَنَّ سَبَبَهَا مُتَيَقَّنٌ ، وَسُقُوطَهَا بِهَذَا الدَّمِ مَشْكُوكٌ فِيهِ ، فَلَا يَزُولُ الْيَقِينُ بِالشَّكِّ ، وَأَمَرَهَا بِالْقَضَاءِ احْتِيَاطًا ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ مُتَيَقَّنٌ ، وَسُقُوطَ الصَّوْمِ بِفِعْلِهِ فِي هَذَا الدَّمِ مَشْكُوكٌ فِيهِ ، فَلَا يَزُولُ بِالشَّكِّ .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الدَّمِ وَبَيْنَ الزَّائِدِ عَلَى السِّتِّ وَالسَّبْعِ فِي حَقِّ النَّاسِيَةِ ، حَيْثُ لَا يَجِبُ قَضَاءُ مَا صَامَتْهُ فِيهِ مَعَ الشَّكِّ ، أَنَّ الْغَالِبَ مَعَ عَادَاتِ النِّسَاءِ سِتٌّ أَوْ سَبْعٌ ، وَمَا زَادَ عَلَيْهِ نَادِرٌ بِخِلَافِ النِّفَاسِ ؛ وَلِأَنَّ الْحَيْضَ يَتَكَرَّرُ ، فَيَشُقُّ إيجَابُ

الْقَضَاءِ فِيهِ ، وَالنِّفَاسُ بِخِلَافِهِ ، وَكَذَلِكَ الدَّمُ الزَّائِدُ عَنْ الْعَادَةِ فِي الْحَيْضِ .
وَقَالَ مَالِكٌ : إنْ رَأَتْ الدَّمَ بَعْدَ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ ، فَهُوَ نِفَاسٌ ، وَإِنْ تَبَاعَدَ مَا بَيْنَهُمَا ، فَهُوَ حَيْضٌ .
وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ فِيمَا إذَا رَأَتْ الدَّمَ يَوْمًا وَلَيْلَةً بَعْدَ طُهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا : أَحَدُهُمَا ، يَكُونُ حَيْضًا ، وَالثَّانِي ، يَكُونُ نِفَاسًا .
وَقَالَ الْقَاضِي إنْ رَأَتْ الدَّمَ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ بَعْدَ طُهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، فَهُوَ دَمُ فَسَادٍ تُصَلِّي وَتَصُومُ وَلَا تَقْضِي .
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ .
وَإِنْ كَانَ الدَّمُ الثَّانِي يَوْمًا وَلَيْلَةً ، فَالْحُكْمُ فِيهِ كَمَا قُلْنَاهُ ، مِنْ أَنَّهَا تَصُومُ وَتُصَلِّي وَتَقْضِي الصَّوْمَ ، وَلَنَا أَنَّهُ دَمٌ صَادَفَ زَمَنَ النِّفَاسِ ، فَكَانَ نِفَاسًا ، كَمَا لَوْ اسْتَمَرَّ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ جَعْلِهِ حَيْضًا ، فَإِنَّمَا خَالَفَ فِي الْعِبَارَةِ ، فَإِنَّ حُكْمَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَاحِدٌ ، وَأَمَّا مَا صَامَتْهُ فِي زَمَنِ الطُّهْرِ ، فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهَا فِيهِ .

( 497 ) فَصْلٌ : إذَا رَأَتْ الْمَرْأَةُ الدَّمَ بَعْدَ وَضْعِ شَيْءٍ يَتَبَيَّنُ فِيهِ خَلْقُ الْإِنْسَانِ ، فَهُوَ نِفَاسٌ .
نَصَّ عَلَيْهِ وَإِنْ رَأَتْهُ بَعْدَ إلْقَاءِ نُطْفَةٍ أَوْ عَلَقَةٍ ، فَلَيْسَ بِنِفَاسٍ .
وَإِنْ كَانَ الْمُلْقَى بُضْعَةً لَمْ يَتَبَيَّنْ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ خَلْقِ الْإِنْسَانِ ، فَفِيهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا ، هُوَ نِفَاسٌ ؛ لِأَنَّهُ بَدْءُ خَلْقِ آدَمِيٍّ ، فَكَانَ نِفَاسًا ، كَمَا لَوْ تَبَيَّنَ فِيهَا خَلْقُ آدَمِيٍّ .
وَالثَّانِي ، لَيْسَ بِنِفَاسٍ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَبَيَّنْ فِيهَا خَلْقُ آدَمِيٍّ ، فَأَشْبَهَتْ النُّطْفَةَ .

( 498 ) فَصْلٌ : إذَا وَلَدَتْ الْمَرْأَةُ تَوْأَمَيْنِ ، فَذَكَرَ أَصْحَابُنَا عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَيْنِ فِيهَا : إحْدَاهُمَا ، أَنَّ النِّفَاسَ مِنْ الْأَوَّلِ كُلِّهِ ، أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ ، قَالُوا : وَهِيَ الصَّحِيحَةُ .
وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ .
فَعَلَى هَذَا مَتَى انْقَضَتْ مُدَّةُ النِّفَاسِ مِنْ حِينِ وَضَعَتْ الْأَوَّلَ ، لَمْ يَكُنْ مَا بَعْدَهُ نِفَاسًا ؛ لِأَنَّ مَا بَعْدَ وِلَادَةِ الْأَوَّلِ دَمٌ بَعْدَ الْوِلَادَةِ ، فَكَانَ نِفَاسًا ، كَالْمُنْفَرِدِ ، وَآخِرُهُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ أَوَّلَهُ مِنْهُ ، فَكَانَ آخِرُهُ مِنْهُ ، كَالْمُنْفَرِدِ .
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ ، فَقَالَ الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ ، وَأَبُو الْخَطَّابِ فِي " رُءُوسِ الْمَسَائِلِ " هِيَ أَنَّ أَوَّلَهُ مِنْ الْأَوَّلِ وَآخِرَهُ مِنْ الثَّانِي .
وَهَذَا قَوْلُ الْقَاضِي ، فِي كِتَابِ " الرِّوَايَتَيْنِ " لِأَنَّ الثَّانِيَ وُلِدَ فَلَا تَنْتَهِي مُدَّةُ النِّفَاسِ قَبْلَ انْتِهَائِهَا مِنْهُ كَالْمُنْفَرِدِ ، فَعَلَى هَذَا تَزِيدُ مُدَّةُ النِّفَاسِ عَلَى الْأَرْبَعِينَ فِي حَقِّ مَنْ وَلَدَتْ تَوْأَمَيْنِ .
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الْحُسَيْنِ فِي " مَسَائِلِهِ " ، وَأَبُو الْخَطَّابِ .
فِي " الْهِدَايَةِ " : الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ أَنَّهُ مِنْ الثَّانِي فَقَطْ .
وَهَذَا قَوْلُ زُفَرَ ؛ لِأَنَّ مُدَّةَ النِّفَاسِ مُدَّةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْوِلَادَةِ ، فَكَانَ ابْتِدَاؤُهَا وَانْتِهَاؤُهَا مِنْ الثَّانِي ، كَمُدَّةِ الْعِدَّةِ .
فَعَلَى هَذَا مَا تَرَاهُ مِنْ الدَّمِ قَبْلَ وِلَادَةِ الثَّانِي لَا يَكُونُ نِفَاسًا .
وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ ، كَالْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ .
وَذَكَرَ الْقَاضِي ، أَنَّهُ مِنْهُمَا ، رِوَايَةً وَاحِدَةً وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الدَّمِ الَّذِي بَيْنَ الْوِلَادَتَيْنِ ، هَلْ هُوَ نِفَاسٌ ، أَمْ لَا ؟ وَهَذَا ظَاهِرُهُ إنْكَارٌ لِرِوَايَةِ مَنْ رَوَى أَنَّ آخِرَ النِّفَاسِ مِنْ الْأَوَّلِ .

( 499 ) فَصْلٌ : وَحُكْمُ النُّفَسَاءِ حُكْمُ الْحَائِضِ فِي جَمِيعِ مَا يَحْرُمُ عَلَيْهَا ، وَيَسْقُطُ عَنْهَا ، لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا ، وَكَذَلِكَ تَحْرِيمُ وَطْئِهَا وَحِلُّ مُبَاشَرَتِهَا ، وَالِاسْتِمْتَاعُ بِمَا دُونَ الْفَرْجِ مِنْهَا ، وَالْخِلَافُ فِي الْكَفَّارَةِ بِوَطْئِهَا ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ دَمَ النِّفَاسِ هُوَ دَمُ الْحَيْضِ ، إنَّمَا امْتَنَعَ خُرُوجُهُ مُدَّةَ الْحَمْلِ لِكَوْنِهِ يَنْصَرِفُ إلَى غِذَاءِ الْحَمْلِ ، فَإِذَا وُضِعَ الْحَمْلُ ، وَانْقَطَعَ الْعِرْقُ الَّذِي كَانَ مَجْرَى الدَّمِ ، خَرَجَ مِنْ الْفَرْجِ ، فَيَثْبُتُ حُكْمُهُ ، كَمَا لَوْ خَرَجَ مِنْ الْحَائِضِ .
وَيُفَارِقُ النِّفَاسُ الْحَيْضَ فِي أَنَّ الْعِدَّةَ لَا تَحْصُلُ بِهِ ؛ لِأَنَّهَا تَنْقَضِي بِوَضْعِ الْحَمْلِ قَبْلَهُ ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى الْبُلُوغِ ؛ لِحُصُولِهِ بِالْحَمْلِ قَبْلَهُ .

( 500 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَمَنْ كَانَتْ لَهَا أَيَّامٌ فَزَادَتْ عَلَى مَا كَانَتْ تَعْرِفُ ، لَمْ تَلْتَفِتْ إلَى الزِّيَادَةِ ، إلَّا أَنْ تَرَاهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، فَتَعْلَمَ حِينَئِذٍ أَنَّ حَيْضَهَا قَدْ انْتَقَلَ ، فَتَصِيرَ إلَيْهِ فَتَتْرُكَ الْأَوَّلَ .
وَإِنْ كَانَتْ صَامَتْ فِي هَذِهِ الثَّلَاثِ مِرَارًا أَعَادَتْهُ ، إذَا كَانَ صَوْمًا وَاجِبًا ، وَإِذَا رَأَتْ الدَّمَ قَبْلَ أَيَّامِهَا الَّتِي كَانَتْ تَعْرِفُ ، فَلَا تَلْتَفِتُ إلَيْهِ ، حَتَّى يُعَاوِدَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا كَانَتْ لَهَا عَادَةٌ مُسْتَقِرَّةٌ فِي الْحَيْضِ ، فَرَأَتْ الدَّمَ فِي غَيْرِ عَادَتِهَا ، لَمْ تَعْتَدَّ بِمَا خَرَجَ مِنْ الْعَادَةِ حَيْضًا ، حَتَّى يَتَكَرَّرَ ثَلَاثًا ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ ، أَوْ مَرَّتَيْنِ فِي الْأُخْرَى .
نَقَلَ حَنْبَلٌ عَنْ أَحْمَدَ فِي امْرَأَةٍ لَهَا أَيَّامٌ مَعْلُومَةٌ ، فَتَقَدَّمَتْ الْحَيْضَةُ قَبْلَ أَيَّامِهَا ، لَمْ تَلْتَفِتْ إلَيْهَا ، تَصُومُ وَتُصَلِّي ، فَإِنْ عَاوَدَهَا فِي الثَّانِيَةِ ، مِثْلُ ذَلِكَ ، فَإِنَّهُ دَمُ حَيْضٍ مُنْتَقِلٌ .
وَنَقَلَ الْفَضْلُ بْنُ زِيَادٍ : لَا تَنْتَقِلُ إلَيْهِ إلَّا فِي الثَّالِثَةِ ، فَلْتُمْسِكْ عَنْ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ .
وَفِي لَفْظٍ لَهُ قَالَ : سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الْمَرْأَةِ أَيَّامُ أَقْرَائِهَا مَعْلُومَةٌ ، فَرُبَّمَا زَادَ فِي الْأَشْهُرِ الْكَثِيرَةِ عَلَى أَيَّامِ أَقْرَائِهَا ، أَتُمْسِكُ عَنْ الصَّلَاةِ أَوْ تُصَلِّي ؟ قَالَ : بَلْ تُصَلِّي ، وَلَا تَلْتَفِتُ إلَى مَا زَادَ عَلَى أَقْرَائِهَا ، إلَّا أَنْ يَكُونَ دَمَ حَيْضٍ تَنْتَقِلُ إلَيْهِ أَوْ نَحْوَ هَذَا .
قُلْت : أَفَتُصَلِّي إلَى أَنْ يُصِيبَهَا ثَلَاثَ مِرَارًا ، ثُمَّ تَدَعُ الصَّلَاةَ بَعْدَ ثَلَاثٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، بَعْدَ ثَلَاثٍ .
فَفِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّهَا لَا تَعُدُّ الزِّيَادَةَ مِنْ حَيْضِهَا إلَّا فِي الْمَرَّةِ الرَّابِعَةِ ، وَأَنَّهَا تُصَلِّي وَتَصُومُ فِي الْمَرَّاتِ الثَّلَاثِ .
وَفِي رِوَايَتِهِ الْأُولَى يَحْتَمِلُ أَنَّهَا تَحْتَسِبُهُ مِنْ حَيْضِهَا فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ ؛ لِقَوْلِهِ : لَا تَنْتَقِلُ إلَيْهِ

إلَّا فِي الثَّالِثَةِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بَعْدَ الثَّالِثَةِ ، وَفِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ احْتِمَالَانِ أَحَدُهُمَا ، أَنَّهَا تَنْتَقِلُ إلَيْهِ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ ، وَتَحْتَسِبُهُ مِنْ حَيْضِهَا .
وَالثَّانِي ، أَنَّهَا لَا تَنْتَقِلُ إلَيْهِ إلَّا فِي الثَّالِثَةِ .
وَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ اعْتِبَارُ التَّكْرَارِ ثَلَاثًا فِيمَا خَرَجَ عَنْ الْعَادَةِ سَوَاءٌ رَأَتْ الدَّمَ قَبْلَ عَادَتِهَا ، أَوْ بَعْدَهَا مَعَ بَقَاءِ الْعَادَةِ ، أَوْ انْقِطَاعِ الدَّمِ فِيهَا ، أَوْ فِي بَعْضِهَا ، فَإِنَّهَا لَا تَجْلِسُ فِي غَيْرِ أَيَّامِهَا حَتَّى تَتَكَرَّرَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ، فَإِذَا تَكَرَّرَ عَلِمْنَا أَنَّهُ حَيْضٌ مُنْتَقِلٌ ، فَتَصِيرُ إلَيْهِ ، أَيْ تَتْرُكُ الصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ فِيهِ ، وَتَصِيرُ عَادَةً لَهَا ، وَتَتْرُكُ الْأَوَّلَ ، أَيْ الْعَادَةَ الْأُولَى ؛ لِأَنَّهَا قَدْ انْتَقَلَتْ عَنْهَا ، وَصَارَتْ الْعَادَةُ أَكْثَرَ مِنْهَا أَوْ غَيْرِهَا .
ثُمَّ يَجِبُ عَلَيْهَا قَضَاءُ مَا صَامَتْهُ مِنْ الْفَرْضِ فِي هَذِهِ الْمَرَّاتِ الثَّلَاثِ الَّتِي أَمَرْنَاهَا بِالصِّيَامِ فِيهَا ؛ لِأَنَّنَا تَبَيَّنَّا أَنَّهَا صَامَتْهُ فِي حَيْضٍ ، وَالصَّوْمُ فِي الْحَيْضِ غَيْرُ صَحِيحٍ ، وَأَمَّا الصَّلَاةُ فَلَيْسَ عَلَيْهَا قَضَاؤُهَا ؛ لِأَنَّ الْحَائِضَ لَا تَقْضِي الصَّلَاةَ .
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : وَلَا يُعْجِبُنِي أَنْ يَأْتِيَهَا زَوْجُهَا فِي الْأَيَّامِ الَّتِي تُصَلِّي فِيهَا ؛ لِأَنَّنَا لَا نَأْمَنُ كَوْنَهَا حَيْضًا ، وَإِنَّمَا تُصَلِّي وَتَصُومُ احْتِيَاطًا لِلْعِبَادَةِ ، وَتَرْكُ الْوَطْءِ احْتِيَاطًا أَيْضًا ، فَيَجِبُ كَمَا تَجِبُ الصَّلَاةُ .
وَإِنْ تَجَاوَزَتْ الزِّيَادَةُ أَكْثَرَ الْحَيْضِ ، فَهِيَ اسْتِحَاضَةٌ ، وَلَا تَجْلِسُ غَيْرَ أَيَّامِ الْعَادَةِ بِكُلِّ حَالٍ .
وَمِثَالُ ذَلِكَ امْرَأَةٌ عَادَتُهَا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ فِي أَوَّلِ كُلِّ شَهْرٍ ، فَرَأَتْ خَمْسَةً فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ ، أَوْ رَأَتْ يَوْمَيْنِ مِنْ آخِرِ الشَّهْرِ الَّذِي قَبْلَهُ ، وَالثَّلَاثَةَ الْمُعْتَادَةَ ، أَوْ طَهُرَتْ الثَّلَاثَةَ ، وَرَأَتْ ثَلَاثَةً بَعْدَهُ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهَا ، أَوْ أَقَلَّ ، قَبْلَهَا أَوْ

بَعْدَهَا ، أَوْ طَهُرَتْ الْيَوْمَ الْأَوَّلَ وَرَأَتْ ثَلَاثَةً بَعْدَهُ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهَا ، أَوْ طَهُرَتْ يَوْمَيْنِ وَرَأَتْ يَوْمَيْنِ بَعْدَهُمَا أَوْ أَكْثَرَ مِنْهَا أَوْ رَأَتْ الدَّمَ يَوْمَيْنِ فِي آخِرِ الشَّهْرِ وَيَوْمًا فِي أَوَّلِهِ ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ، فَإِنَّهَا لَا تَجْلِسُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الصُّوَرِ ، مَا عَدَا الْأَوَّلَ مِنْ الشَّهْرِ حَتَّى تَتَكَرَّرَ ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : اجْلِسِي قَدْرَ مَا كَانَتْ تَحْبِسُك حَيْضَتُك } .
وَلِأَنَّ لَهَا عَادَةً ، فَرُدَّتْ إلَيْهَا ، كَالْمُسْتَحَاضَةِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : مَا رَأَتْهُ قَبْلَ الْعَادَةِ لَيْسَ بِحَيْضٍ ، حَتَّى يَتَكَرَّرَ مَرَّتَيْنِ ، وَمَا تَرَاهُ بَعْدَهَا فَهُوَ حَيْضٌ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : جَمِيعُهُ حَيْضٌ ، مَا لَمْ تَتَجَاوَزْ أَكْثَرَ الْحَيْضِ .
وَهَذَا أَقْوَى عِنْدِي ؛ لِأَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَتْ تَبْعَثُ إلَيْهَا النِّسَاءُ بِالدُّرْجَةِ فِيهَا الصُّفْرَةُ وَالْكُدْرَةُ ، فَتَقُولُ : لَا تَعْجَلْنَ حَتَّى تَرَيْنَ الْقُصَّةَ الْبَيْضَاءَ .
وَمَعْنَاهُ لَا تَعْجَلْنَ بِالْغُسْلِ حَتَّى يَنْقَطِعَ الدَّمُ ، وَتَذْهَبَ الصُّفْرَةُ وَالْكُدْرَةُ ، وَلَا يَبْقَى شَيْءٌ يَخْرُجُ مِنْ الْمَحَلِّ ، بِحَيْثُ إذَا دَخَلَتْ فِيهِ قُطْنَةٌ خَرَجَتْ بَيْضَاءَ .
وَلَوْ لَمْ تَعُدَّ الزِّيَادَةَ حَيْضًا لَلَزِمَهَا الْغُسْلُ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْعَادَةِ ، وَإِنْ كَانَ الدَّمُ جَارِيًا ؛ وَلِأَنَّ الشَّارِعَ عَلَّقَ عَلَى الْحَيْضِ أَحْكَامًا ، وَلَمْ يَحُدُّهُ ، فَعُلِمَ أَنَّهُ رَدَّ النَّاسَ فِيهِ إلَى عُرْفِهِمْ ، وَالْعُرْفُ بَيْنَ النِّسَاءِ أَنَّ الْمَرْأَةَ مَتَى رَأَتْ دَمًا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ حَيْضًا ، اعْتَقَدَتْهُ حَيْضًا ، وَلَوْ كَانَ عُرْفُهُنَّ اعْتِبَارَ الْعَادَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ لَنُقِلَ ، وَلَمْ يَجُزْ التَّوَاطُؤُ عَلَى كِتْمَانِهِ ، مَعَ دُعَاءِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ ، وَلِذَلِكَ لَمَّا كَانَ بَعْضُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُ فِي الْخَمِيلَةِ ، فَجَاءَهَا الدَّمُ ، فَانْسَلَّتْ مِنْ الْخَمِيلَةِ ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَا لَك ؟ أَنَفِسْت ؟ " قَالَتْ : نَعَمْ .
فَأَمَرَهَا أَنْ تَأْتَزِرَ .
وَلَمْ يَسْأَلْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هَلْ وَافَقَ الْعَادَةَ أَوْ جَاءَ قَبْلَهَا ؟ وَلَا هِيَ ذَكَرَتْ ذَلِكَ ، وَلَا سَأَلَتْ عَنْهُ ، وَإِنَّمَا اسْتَدَلَّتْ عَلَى الْحَيْضَةِ بِخُرُوجِ الدَّمِ ، فَأَقَرَّهَا عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَلِكَ حِينَ حَاضَتْ عَائِشَةُ فِي عُمْرَتِهَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ ، إنَّمَا عَلِمَتْ الْحَيْضَةَ بِرُؤْيَةِ الدَّمِ لَا غَيْرُ ، وَلَمْ تَذْكُرْ عَادَةً ، وَلَا ذَكَرَهَا لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ فِي الْعَادَةِ ؛ لِأَنَّ عَائِشَةَ اسْتَكْرَهَتْهُ ، وَاشْتَدَّ عَلَيْهَا ، وَبَكَتْ حِينَ رَأَتْهُ ، وَقَالَتْ : وَدِدْت أَنِّي لَمْ أَكُنْ حَجَجْت الْعَامَ .
وَلَوْ كَانَتْ تَعْلَمُ لَهَا عَادَةً تَعْلَمُ مَجِيئَهُ فِيهَا وَقَدْ جَاءَ فِيهَا ، مَا أَنْكَرَتْهُ ، وَلَا صَعُبَ عَلَيْهَا ، وَلَوْ كَانَتْ الْعَادَةُ مُعْتَبَرَةً ، عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ فِي الْمَذْهَبِ ، لَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمَّتِهِ ، وَلَمَا وَسِعَهُ تَأْخِيرُ بَيَانِهِ ، إذْ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِهِ ، وَأَزْوَاجُهُ وَغَيْرُهُنَّ مِنْ النِّسَاءِ يَحْتَجْنَ إلَى بَيَانِ ذَلِكَ فِي كُلِّ وَقْتٍ ، فَلَمْ يَكُنْ لِيُغْفِلَ بَيَانَهُ ، وَمَا جَاءَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذِكْرُ الْعَادَةِ ، وَلَا بَيَانُهَا ، إلَّا فِي حَقِّ الْمُسْتَحَاضَةِ لَا غَيْرُ ، وَأَمَّا امْرَأَةٌ طَاهِرٌ تَرَى الدَّمَ فِي وَقْتٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ حَيْضًا ثُمَّ يَنْقَطِعُ عَنْهَا ، فَلَمْ يَذْكُرْ فِي حَقِّهَا عَادَةً أَصْلًا ، وَلِأَنَّنَا لَوْ اعْتَبَرْنَا التَّكْرَارَ فِيمَا خَرَجَ عَنْ الْعَادَةِ أَدَّى إلَى خُلُوِّ نِسَاءٍ عَنْ الْحَيْضِ بِالْكُلِّيَّةِ ، مَعَ رُؤْيَتِهِنَّ الدَّمَ فِي زَمَنِ الْحَيْضِ ، وَصَلَاحِيَةِ أَنْ يَكُونَ حَيْضًا ؛ بَيَانُهُ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا رَأَتْ الدَّمَ فِي غَيْرِ أَيَّامِ عَادَتِهَا ، وَطَهُرَتْ أَيَّامَ عَادَتِهَا ، لَمْ تُمْسِكْ عَنْ الصَّلَاةِ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ ،

فَإِذَا انْتَقَلَتْ فِي الشَّهْرِ الرَّابِعِ إلَى أَيَّامٍ أُخَرَ لَمْ نُحَيِّضْهَا أَيْضًا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ ، وَكَذَلِكَ أَبَدًا ، فَيُفْضِي إلَى إخْلَائِهَا مِنْ الْحَيْضِ بِالْكُلِّيَّةِ .
وَلَا سَبِيلَ إلَى هَذَا ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَجْلِسُ مَا تَرَاهُ مِنْ الدَّمِ قَبْلَ عَادَتِهَا وَبَعْدَهَا ، مَا لَمْ يَزِدْ عَلَى أَكْثَرِ الْحَيْضِ ، فَإِنْ زَادَ عَلَى أَكْثَرِهِ عَلِمْنَا أَنَّهُ اسْتِحَاضَةٌ ، فَرَدَدْنَاهَا إلَى عَادَتِهَا ، وَيَلْزَمُهَا قَضَاءُ مَا تَرَكَتْهُ مِنْ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ فِيمَا زَادَ عَلَى عَادَتِهَا ، لِأَنَّنَا تَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِحَيْضٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِحَاضَةٌ .

( 501 ) فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَتْ لَهَا عَادَةٌ ، فَرَأَتْ الدَّمَ أَكْثَرَ مِنْهَا ، وَجَاوَزَ أَكْثَرَ الْحَيْضِ ، فَهِيَ مُسْتَحَاضَةٌ ، وَحَيْضُهَا مِنْهُ قَدْرُ الْعَادَةِ لَا غَيْرُ ، وَلَا تَجْلِسُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الشُّهُورِ الْمُسْتَقْبَلَةِ إلَّا قَدْرَ الْعَادَةِ ، وَلَا أَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا عِنْدَ مَنْ اعْتَبَرَ الْعَادَةَ .
فَأَمَّا إنْ كَانَتْ عَادَتُهَا ثَلَاثَةً مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ، فَرَأَتْ فِي شَهْرٍ خَمْسَةَ أَيَّامٍ ، ثُمَّ اُسْتُحِيضَتْ فِي الشَّهْرِ الْآخَرِ ، فَإِنَّهَا لَا تَجْلِسُ مِمَّا بَعْدَهُ مِنْ الشُّهُورِ إلَّا ثَلَاثَةً ثَلَاثَةً .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : تَجْلِسُ خَمْسَةً مِنْ كُلِّ شَهْرٍ .
وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْعَادَةَ لَا تَثْبُتُ بِمَرَّةٍ ، وَإِنْ رَأَتْ خَمْسَةً فِي شَهْرَيْنِ ، فَهَلْ تَنْتَقِلُ عَادَتُهَا إلَى خَمْسَةٍ ؟ يُخَرَّجُ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِيمَا تَثْبُتُ بِهِ الْعَادَةُ ، وَإِنْ رَأَتْ الْخَمْسَةَ فِي ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ ، ثُمَّ اُسْتُحِيضَتْ ، انْتَقَلَتْ إلَيْهَا ، وَجَلَسَتْ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ خَمْسَةً ، بِغَيْرِ خِلَافٍ بَيْنَهُمْ .

( 502 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَمَنْ كَانَتْ لَهَا أَيَّامٌ فَرَأَتْ الطُّهْرَ قَبْلَ ذَلِكَ ، فَهِيَ طَاهِرٌ ، تَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي ، فَإِنْ عَاوَدَهَا الدَّمُ ، لَمْ تَلْتَفِتْ إلَيْهِ حَتَّى تَجِيءَ أَيَّامُهَا ) الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا ، فِي الطُّهْرِ بَيْنَ الدَّمَيْنِ .
وَالثَّانِي ، فِي حُكْمِ الدَّمِ الْعَائِدِ بَعْدَهُ .
فَصْلٌ : أَمَّا الْأَوَّلُ ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ مَتَى رَأَتْ الطُّهْرَ فَهِيَ طَاهِرٌ تَغْتَسِلُ ، وَتَلْزَمُهَا الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ ، سَوَاءٌ رَأَتْهُ فِي الْعَادَةِ ، أَوْ بَعْدَ انْقِضَائِهَا ، وَلَمْ يُفَرِّقْ أَصْحَابُنَا بَيْنَ قَلِيلِ الطُّهْرِ وَكَثِيرِهِ ؛ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَمَّا مَا رَأَتْ الطُّهْرَ سَاعَةً فَلْتَغْتَسِلْ .
وَيَتَوَجَّهُ أَنَّ انْقِطَاعَ الدَّمِ مَتَى نَقَصَ عَنْ الْيَوْمِ ، فَلَيْسَ بِطُهْرٍ بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي حَكَيْنَاهَا فِي النِّفَاسِ ، أَنَّهَا لَا تَلْتَفِتُ إلَى مَا دُونَ الْيَوْمِ .
وَهُوَ الصَّحِيحُ إنْ شَاءَ اللَّهُ ؛ لِأَنَّ الدَّمَ يَجْرِي مَرَّةً ، وَيَنْقَطِعُ أُخْرَى ، وَفِي إيجَابِ الْغُسْلِ عَلَى مَنْ تَطْهُرُ سَاعَةً بَعْدَ سَاعَةٍ حَرَجٌ يَنْتَفِي بِقَوْلِهِ : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } .
وَلِأَنَّنَا لَوْ جَعَلْنَا انْقِطَاعَ الدَّمِ سَاعَةً طُهْرًا ، وَلَا تَلْتَفِتُ إلَى مَا بَعْدَهُ مِنْ الدَّمِ ، أَفْضَى إلَى أَنْ لَا يَسْتَقِرَّ لَهَا حَيْضٌ ، فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ انْقِطَاعُ الدَّمِ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ طُهْرًا ، إلَّا أَنْ تَرَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ انْقِطَاعُهُ فِي آخِرِ عَادَتِهَا ، أَوْ تَرَى الْقُصَّةَ الْبَيْضَاءَ ، وَهُوَ شَيْءٌ يَتْبَعُ الْحَيْضَ أَبْيَضُ ، يُسَمَّى التَّرِيَّةَ .
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ إمَامِنَا ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ الْقُصَّةَ الْبَيْضَاءَ هِيَ الْقُطْنَةُ الَّتِي تَحْشُوهَا الْمَرْأَةُ ، إذَا خَرَجَتْ بَيْضَاءَ كَمَا دَخَلَتْ لَا تَغَيُّرَ عَلَيْهَا فَهِيَ الْقُصَّةُ الْبَيْضَاءُ بِضَمِّ الْقَافِ .
حُكِيَ ذَلِكَ عَنْ الزُّهْرِيِّ .
وَرُوِيَ عَنْ إمَامِنَا أَيْضًا ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَيْسَ النَّقَاءُ بَيْنَ الدَّمَيْنِ طُهْرًا ،

بَلْ لَوْ صَامَتْ فِيهِ فَرْضًا لَمْ يَصِحَّ ، وَلَزِمَهَا قَضَاؤُهُ ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهَا فِيهِ صَلَاةٌ ، وَلَا يَأْتِيهَا زَوْجُهَا ، فَيَكُونُ الدَّمَانِ وَمَا بَيْنَهُمَا حَيْضًا .
وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ الدَّمَ يَسِيلُ تَارَةً وَيَنْقَطِعُ أُخْرَى ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْحَيْضِ لَمْ يُحْتَسَبْ مِنْ مُدَّتِهِ ، وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى } .
وَصَفَ الْحَيْضَ بِكَوْنِهِ أَذًى ، فَإِذَا ذَهَبَ الْأَذَى وَجَبَ أَنْ يَزُولَ الْحَيْضُ .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : أَمَّا مَا رَأَتْ الدَّمَ الْبَحْرَانِيَّ فَإِنَّهَا لَا تُصَلِّي ، وَإِذَا رَأَتْ الطُّهْرَ سَاعَةً فَلْتَغْتَسِلْ .
وَقَالَتْ عَائِشَةُ : لَا تَعْجَلْنَ حَتَّى تَرَيْنَ الْقُصَّةَ الْبَيْضَاءَ ؛ وَلِأَنَّهَا صَامَتْ وَهِيَ طَاهِرٌ ، فَلَمْ يَلْزَمْهَا الْقَضَاءُ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَعُدْ الدَّمُ .
فَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّ الدَّمَ يَجْرِي تَارَةً وَيَنْقَطِعُ أُخْرَى .
قُلْنَا ؛ لَا عِبْرَةَ بِالِانْقِطَاعِ الْيَسِيرِ ، وَإِنَّمَا إذَا وُجِدَ انْقِطَاعٌ كَبِيرٌ يُمْكِنُ فِيهِ الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ ، وَتَتَأَدَّى الْعِبَادَةُ فِيهِ ، وَجَبَتْ عَلَيْهَا ؛ لِعَدَمِ الْمَانِعِ مِنْ وَجُوبِهَا .
( 504 ) فَصْلٌ : الْفَصْلُ الثَّانِي ، إذَا عَاوَدَهَا الدَّمُ ، فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُعَاوِدَهَا فِي الْعَادَةِ ، أَوْ بَعْدَهَا ، فَإِنْ عَاوَدَهَا فِي الْعَادَةِ ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا ، أَنَّهُ مِنْ حَيْضِهَا ؛ لِأَنَّهُ صَادَفَ زَمَنَ الْعَادَةِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَنْقَطِعْ ، وَهَذَا مَذْهَبُ الثَّوْرِيِّ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ ، وَالشَّافِعِيِّ .
وَالثَّانِيَةُ ، لَيْسَ بِحَيْضٍ ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ ، وَاخْتِيَارُ ابْنِ أَبِي مُوسَى ، وَمَذْهَبُ عَطَاءٍ ؛ لِأَنَّهُ عَادَ بَعْدَ طُهْرٍ صَحِيحٍ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ عَادَ بَعْدَ الْعَادَةِ .
وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ مَا لَوْ عَادَ بَعْدَ الْعَادَةِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِيمَا بَعْدُ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ ، رَحِمَهُ اللَّهُ : إذَا كَانَتْ أَيَّامُهَا عَشْرًا

، فَقَعَدَتْ خَمْسًا ، ثُمَّ رَأَتْ الطُّهْرَ ، فَإِنَّهَا تُصَلِّي ، فَإِذَا كَانَ الْيَوْمُ التَّاسِعُ أَوْ الثَّامِنُ ، فَرَأَتْ الدَّمَ ، صَلَّتْ وَصَامَتْ ، وَتَقْضِي الصَّوْمَ .
وَهَذَا عَلَى سَبِيلِ الِاحْتِيَاطِ ؛ لِوُجُودِ التَّرَدُّدِ فِي هَذَا الدَّمِ ، فَأَشْبَهَ دَمَ النُّفَسَاءِ الْعَائِدَ فِي مُدَّةِ النِّفَاسِ .
فَإِنْ رَأَتْهُ فِي الْعَادَةِ ، وَتَجَاوَزَ الْعَادَةَ ، لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَعْبُرَ أَكْثَرَ الْحَيْضِ أَوْ لَا يَعْبُرَ ، فَإِنْ عَبَرَ أَكْثَرَ الْحَيْضِ ، فَلَيْسَ بِحَيْضٍ ؛ لِأَنَّ بَعْضَهُ لَيْسَ بِحَيْضٍ ، فَيَكُونُ كُلُّهُ اسْتِحَاضَةً ؛ لِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِهِ ، فَكَانَ أَقْرَبَ إلَيْهِ ، فَإِلْحَاقُهُ بِالِاسْتِحَاضَةِ أَقْرَبُ مِنْ إلْحَاقِهِ بِالْحَيْضِ ؛ لِانْفِصَالِهِ عَنْهُ ، وَإِنْ انْقَطَعَ لِأَكْثَرِهِ فَمَا دُونَ ، فَمَنْ قَالَ : إنَّ مَا لَمْ يَعْبُرْ الْعَادَةَ لَيْسَ بِحَيْضٍ .
فَهَذَا أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ حَيْضًا ، وَمَنْ قَالَ : هُوَ حَيْضٌ .
فَفِي هَذَا عَلَى قَوْلِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا ، أَنَّ جَمِيعَهُ حَيْضٌ ، بِنَاءً عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي أَنَّ الزَّائِدَ عَلَى الْعَادَةِ حَيْضٌ ، مَا لَمْ يَعْبُرْ أَكْثَرَ الْحَيْضِ .
وَالثَّانِي ، أَنَّ مَا وَافَقَ الْعَادَةَ حَيْضٌ ؛ لِمُوَافَقَتِهِ الْعَادَةَ ، وَمَا زَادَ عَلَيْهَا لَيْسَ بِحَيْضٍ ؛ لِخُرُوجِهِ عَنْهَا .
وَالثَّالِثُ ، أَنَّ الْجَمِيعَ لَيْسَ بِحَيْضٍ ؛ لِاخْتِلَاطِهِ بِمَا لَيْسَ بِحَيْضٍ .
فَإِنْ تَكَرَّرَ فَهُوَ حَيْضٌ ، عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ جَمِيعًا .
فَأَمَّا إنْ عَادَ بَعْدَ الْعَادَةِ لَمْ يَخْلُ مِنْ حَالَيْنِ : أَحَدُهُمَا ، أَنْ لَا يُمْكِنَ كَوْنُهُ حَيْضًا .
وَالثَّانِي ، أَنْ يُمْكِنَ ذَلِكَ ؛ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ كَوْنُهُ حَيْضًا لِعُبُورِهِ أَكْثَرَ الْحَيْضِ ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدَّمِ أَقَلُّ الطُّهْرِ ، فَهَذَا اسْتِحَاضَةٌ كُلُّهُ ، سَوَاءٌ تَكَرَّرَ أَوْ لَمْ يَتَكَرَّرْ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ جَعْلُ جَمِيعِهِ حَيْضًا ، فَكَانَ جَمِيعُهُ اسْتِحَاضَةً ؛ لِأَنَّ إلْحَاقَ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ أَوْلَى مِنْ إلْحَاقِهِ بِغَيْرِهِ .
وَالثَّانِي ، أَنْ يُمْكِنَ جَعْلُهُ حَيْضًا ، وَذَلِكَ

يُتَصَوَّرُ فِي حَالَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا ، أَنْ يَكُونَ بِضَمِّهِ إلَى الدَّمِ الْأَوَّلِ لَا يَكُونُ بَيْنَ طَرَفَيْهِمَا أَكْثَرَ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، فَإِذَا تَكَرَّرَ جَعَلْنَاهُمَا حَيْضَةً وَاحِدَةً ، وَيُلَفَّقُ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ ، وَيَكُونُ الطُّهْرُ الَّذِي بَيْنَهُمَا طُهْرًا فِي خِلَالِ الْحَيْضِ .
وَالصُّورَةُ الثَّانِيَةُ ، أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا أَقَلُّ الطُّهْرِ ، إمَّا ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، أَوْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، وَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الدَّمَيْنِ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ حَيْضًا بِمُفْرَدِهِ بِأَنْ يَكُونَ يَوْمًا وَلَيْلَةً فَصَاعِدًا ، فَهَذَا إذَا تَكَرَّرَ كَانَ الدَّمَانِ حَيْضَتَيْنِ ، وَإِنْ نَقَصَ أَحَدُهُمَا عَنْ أَقَلِّ الْحَيْضِ ، فَهُوَ دَمُ فَسَادٍ ، إذَا لَمْ يُمْكِنْ ضَمُّهُ إلَى مَا بَعْدَهُ .
وَمِثَالُ ذَلِكَ مَا لَوْ كَانَتْ عَادَتُهَا عَشَرَةً مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ ، فَرَأَتْ خَمْسَةً مِنْهَا دَمًا ، وَطَهُرَتْ خَمْسَةً ، ثُمَّ رَأَتْ خَمْسَةً دَمًا ، وَتَكَرَّرَ ذَلِكَ .
فَالْخَمْسَةُ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ حَيْضَةٌ وَاحِدَةٌ تُلَفِّقُ الدَّمَ الثَّانِيَ إلَى الْأَوَّلِ .
وَإِنْ رَأَتْ الثَّانِيَ سِتَّةً أَوْ سَبْعَةً ، لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَكُونَ حَيْضًا ؛ لِأَنَّ بَيْنَ طَرَفَيْهَا أَكْثَرَ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا أَقَلُّ الطُّهْرِ .
وَإِنْ رَأَتْ يَوْمًا دَمًا وَثَلَاثَةَ عَشَرَ طُهْرًا ، ثُمَّ رَأَتْ يَوْمًا دَمًا وَتَكَرَّرَ هَذَا ، كَانَا حَيْضَتَيْنِ ، وَصَارَ شَهْرُهَا أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا .
وَكَذَلِكَ إنْ رَأَتْ يَوْمَيْنِ دَمًا وَثَلَاثَةَ عَشَرَ طُهْرًا ، ثُمَّ رَأَتْ يَوْمَيْنِ دَمًا وَثَلَاثَةَ عَشَرَ طُهْرًا ، ثُمَّ رَأَتْ يَوْمَيْنِ دَمًا ، وَتَكَرَّرَ شَهْرُهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا .
وَإِنْ كَانَ الطُّهْرُ بَيْنَهُمَا أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا فَمَا دُونَ وَتَكَرَّرَ ، فَهُمَا حَيْضَةٌ وَاحِدَةٌ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ طَرَفَيْهِمَا أَكْثَرُ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، وَلَا بَيْنَهُمَا أَقَلُّ الطُّهْرِ .
وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا اثْنَا عَشَرَ يَوْمًا طُهْرًا ، لَمْ يُمْكِنْ كَوْنُهُمَا جَمِيعًا حَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ

كَوْنُهُمَا حَيْضَةً وَاحِدَةً ؛ لِزِيَادَتِهِمَا بِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الطُّهْرِ عَلَى أَكْثَرِ الْحَيْضِ ، وَلَا يُمْكِنُ جَعْلُهُمَا حَيْضَتَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا أَقَلُّ الطُّهْرِ ، فَيَكُونُ حَيْضُهَا مِنْهُمَا مَا وَافَقَ الْعَادَةَ ، وَالْآخَرُ اسْتِحَاضَةٌ .
وَعَلَى هَذَا كُلُّ مَا يَتَفَرَّعُ مِنْ الْمَسَائِلِ ، إلَّا أَنَّهَا لَا تَلْتَفِتُ إلَى مَا رَأَتْهُ بَعْدَ الطُّهْرِ فِيمَا خَرَجَ عَنْ الْعَادَةِ حَتَّى يَتَكَرَّرَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ، فَإِنْ تَكَرَّرَ ، وَأَمْكَنَ جَعْلُهُ حَيْضًا ، فَهُوَ حَيْضٌ ، وَإِلَّا فَلَا .
وَكُلُّ مَوْضِعٍ رَأَتْ الدَّمَ وَلَمْ تَتْرُكْ الْعِبَادَةَ فِيهِ ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ حَيْضًا ، فَعَلَيْهَا قَضَاءُ الصَّوْمِ الْمَفْرُوضِ فِيهِ .
وَكُلُّ مَوْضِعٍ عَدَّتْهُ حَيْضًا وَتَرَكَتْ فِيهِ الْعِبَادَةَ ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ طُهْرٌ ، فَعَلَيْهَا قَضَاءُ مَا تَرَكَتْهُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ فِيهِ .
( 505 ) فَصْلٌ : وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مُرَادِ الْخِرَقِيِّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ ، بِقَوْلِهِ : " فَإِنْ عَاوَدَهَا الدَّمُ فَلَا تَلْتَفِتُ إلَيْهِ .
فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ التَّمِيمِيُّ ، وَالْقَاضِي ، وَابْنُ عَقِيلٍ : أَرَادَ إذَا عَاوَدَهَا بَعْدَ الْعَادَةِ ، وَعَبَرَ أَكْثَرَ الْحَيْضِ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ مَنَعَهَا أَنْ تَلْتَفِتَ إلَيْهِ مُطْلَقًا ، وَلَوْ أَرَادَ غَيْرَ ذَلِكَ لَقَالَ : حَتَّى يَتَكَرَّرَ .
قَالَ الْقَاضِي : وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ إذَا عَاوَدَهَا بَعْدَ الْعَادَةِ وَلَمْ يَعْبُرْ .
فَإِنَّهَا لَا تَلْتَفِتُ إلَيْهِ قَبْلَ التَّكْرَارِ .
وَقَالَ أَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ : أَرَادَ مُعَاوَدَةَ الدَّمِ فِي كُلِّ حَالٍ ، سَوَاءٌ كَانَ فِي الْعَادَةِ أَوْ بَعْدَهَا ؛ لِأَنَّ لَفْظَهُ مُطْلَقٌ فَيَتَنَاوَلُ بِإِطْلَاقِهِ الزَّمَانَ كُلَّهُ .
وَهَذَا أَظْهَرُ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ .
وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ التَّرْجِيحِ مُعَارَضٌ بِمِثْلِهِ ، وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُمْ يَحْتَاجُ إلَى إضْمَارِ عُبُورِ أَكْثَرِ الْحَيْضِ ، وَلَيْسَ هَذَا أَوْلَى مِنْ إضْمَارِ التَّكْرَارِ ، فَيَتَسَاوَيَانِ ، وَيَسْلَمُ التَّرْجِيحُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ .

فَصْلٌ : فِي التَّلْفِيقِ وَمَعْنَاهُ ضَمُّ الدَّمِ إلَى الدَّمِ الَّذِينَ بَيْنَهُمَا طُهْرٌ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الطُّهْرَ فِي أَثْنَاءِ الْحَيْضَةِ طُهْرٌ صَحِيحٌ ، فَإِذَا رَأَتْ يَوْمًا طُهْرًا وَيَوْمًا دَمًا ، وَلَمْ يُجَاوِزْ أَكْثَرَ الْحَيْضِ ، فَإِنَّهَا تَضُمُّ الدَّمَ إلَى الدَّمِ ، فَيَكُونُ حَيْضًا ، وَمَا بَيْنَهُمَا مِنْ النَّقَاءِ طُهْرٌ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ .
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ زَمَنُ الدَّمِ أَكْثَرَ مِنْ زَمَنِ الطُّهْرِ أَوْ مِثْلَهُ أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ مِثْلُ أَنْ تَرَى يَوْمَيْنِ دَمًا وَيَوْمًا طُهْرًا ، أَوْ يَوْمَيْنِ طُهْرًا وَيَوْمًا دَمًا ، أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ فَإِنَّ جَمِيعَ الدَّمِ حَيْضٌ إذَا تَكَرَّرَ وَلَمْ يُجَاوِزْ لِمُدَّةِ أَكْثَرِ الْحَيْضِ ، فَإِنْ كَانَ الدَّمُ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ مِثْلُ أَنْ تَرَى نِصْفَ يَوْمٍ دَمًا وَنِصْفَهُ طُهْرًا ، أَوْ سَاعَةً وَسَاعَةً فَقَالَ أَصْحَابُنَا : هُوَ كَالْأَيَّامِ يُضَمُّ الدَّمُ إلَى الدَّمِ ، فَيَكُونُ حَيْضًا ، وَمَا بَيْنَهُمَا طُهْرٌ ، إذَا بَلَغَ الْمُجْتَمِعُ مِنْهُ أَقَلَّ الْحَيْضِ ، فَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ فَهُوَ دَمُ فَسَادٍ .
وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ ، لَا يَكُونُ الدَّمُ حَيْضًا ، إلَّا أَنْ يَتَقَدَّمَهُ حَيْضٌ صَحِيحٌ مُتَّصِلٌ .
وَهَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَلَهُ قَوْلٌ فِي النَّقَاءِ بَيْنَ الدَّمَيْنِ أَنَّهُ حَيْضٌ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ ، وَذَكَرْنَا أَيْضًا وَجْهًا لَنَا فِي أَنَّ النَّقَاءَ مَتَى كَانَ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ لَمْ يَكُنْ طُهْرًا .
فَعَلَى هَذَا مَتَى نَقَصَ النَّقَاءُ عَنْ يَوْمٍ كَانَ الدَّمُ وَمَا بَيْنَهُ حَيْضًا كُلَّهُ ، فَإِنْ جَاوَزَ الدَّمُ أَكْثَرَ الْحَيْضِ ، بِأَنْ يَكُونَ بَيْنَ طَرَفَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، مِثْلُ أَنْ تَرَى يَوْمًا دَمًا وَيَوْمًا طُهْرًا إلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، فَهِيَ مُسْتَحَاضَةٌ لَا تَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ مُعْتَادَةً ، أَوْ مُمَيِّزَةً ، أَوْ لَا عَادَةَ لَهَا وَلَا تَمْيِيزَ ، أَوْ يُوجَدُ فِي حَقِّهَا الْأَمْرَانِ .
فَإِنْ كَانَتْ مُعْتَادَةً ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ حَيْضُهَا خَمْسَةَ أَيَّامٍ فِي أَوَّلِ كُلِّ شَهْرٍ ، فَهَذِهِ تَجْلِسُ أَوَّلَ

يَوْمٍ تَرَى الدَّمَ فِيهِ فِي الْعَادَةِ ، وَتَغْتَسِلُ عِنْدَ انْقِطَاعِهِ ، وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي الطُّهْرِ فِي أَثْنَاءِ الْحَيْضَةِ ؛ هَلْ يَمْنَعُ مَا بَعْدَهُ أَنْ يَكُونَ حَيْضًا ، أَوْ لَا ؟ فَإِنْ قُلْنَا يَمْنَعُ ، فَحَيْضُهَا الْيَوْمُ الْأَوَّلُ خَاصَّةً وَمَا بَعْدَهُ اسْتِحَاضَةٌ ، وَإِنْ قُلْنَا لَا يَمْنَعُ ، فَحَيْضُهَا الْيَوْمُ الْأَوَّلُ ، وَالثَّالِثُ وَالْخَامِسُ ، فَيَحْصُلُ لَهَا مِنْ عَادَتِهَا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَالْبَاقِي اسْتِحَاضَةٌ ، وَفِي وَجْهٍ آخَرَ أَنَّهُ يُلَفَّقُ لَهَا الْخَمْسَةُ مِنْ أَيَّامِ الدَّمِ جَمِيعِهَا ، فَتَجْلِسُ السَّابِعَ وَالتَّاسِعَ .
وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ ؛ لِأَنَّ هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ لَيْسَا مِنْ عَادَتِهَا فَلَا .
تَجْلِسُهُمَا كَغَيْرِ الْمُلَفِّقَةِ .
وَإِنْ كَانَتْ مُمَيِّزَةً جَلَسَتْ زَمَانَ الدَّمِ الْأُسُودِ مِنْ الْأَيَّامِ ، فَكَانَ حَيْضَهَا وَبَاقِيهِ اسْتِحَاضَةٌ ، وَإِنْ كَانَتْ مُبْتَدَأَةً جَلَسَتْ الْيَقِينَ فِي ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ ، مِنْ أَوَّلِ دَمٍ تَرَاهُ ، أَوْ فِي شَهْرَيْنِ ، ثُمَّ تَنْتَقِلُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى سِتَّةِ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَةٍ .
وَهَلْ يُلَفَّقُ لَهَا السَّبْعَةُ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، أَوْ تَجْلِسُ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ مِنْ سَبْعَةِ أَيَّامٍ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ، كَمَا قُلْنَا فِيمَنْ عَادَتُهَا سَبْعَةُ أَيَّامٍ ، فَإِذَا قُلْنَا تَجْلِسُ زَمَانَ الدَّمِ مِنْ سَبْعَةٍ ، جَلَسَتْ الْأَوَّلَ وَالثَّالِثَ وَالْخَامِسَ وَالسَّابِعَ .
وَإِنْ أَجْلَسْنَاهَا سِتَّةَ أَيَّامٍ سَقَطَ السَّابِعُ .
وَإِنْ قُلْنَا تُلَفِّقُ لَهَا ، زَادَتْ التَّاسِعَ وَالْحَادِي عَشَرَ إنْ قُلْنَا تَجْلِسُ سِتَّةً ، وَإِنْ جَلَسَتْ سَبْعَةً زَادَتْ الثَّالِثَ عَشَرَ وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي النَّاسِيَةِ .
وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ إلَّا أَنَّهُ لَا يُلَفِّقُ لَهَا عَدَدَ أَيَّامِهَا فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ .
وَقَالَ الْقَاضِي ، فِي الْمُعْتَادَةِ كَمَا ذَكَرْنَا .
وَفِي غَيْرِهَا : مَا عَبَرَ الْخَمْسَةَ عَشَرَ اسْتِحَاضَةٌ وَأَيَّامُ الدَّمِ مِنْ الْخَمْسَةَ عَشَرَ حَيْضٌ كُلُّهَا إذَا تَكَرَّرَ فَإِنْ كَانَ يَوْمًا وَيَوْمًا ، فَلَهَا

ثَمَانِيَةُ أَيَّامٍ حَيْضٌ ، وَسَبْعَةٌ طُهْرٌ وَإِنْ كَانَتْ أَنْصَافًا فَلَهَا سَبْعَةُ أَيَّامٍ وَنِصْفٌ حَيْضٌ وَمِثْلُهَا طُهْرٌ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ بِنْتِ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ الطُّهْرَ فِي الْيَوْمِ السَّادِسَ عَشَرَ يَفْصِلُ بَيْنَ الْحَيْضِ وَمَا بَعْدَهُ ، فَإِنَّهَا فِيمَا بَعْدَهُ فِي حُكْمِ الطَّاهِرَاتِ ، نَأْمُرُهَا بِالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ .
وَلَنَا : أَنَّ الطُّهْرَ لَوْ مُيِّزَ بَعْدَ الْخَامِسَ عَشَرَ لَمُيِّزَ قَبْلَهُ ، كَتَمَيُّزِ اللَّوْنِ ، وَالْحُكْمُ فِيمَا إذَا كَانَ أَنْصَافًا أَوْ مُخْتَلِفًا ، يَوْمًا دَمًا وَأَيَّامًا طُهْرًا أَوْ أَيَّامًا طُهْرًا وَأَيَّامًا دَمًا ، كَالْحُكْمِ فِي الْأَيَّامِ الصِّحَاحِ الْمُتَسَاوِيَةِ ، إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ الْجُزْءُ الَّذِي تَرَى الدَّمَ فِيهِ أَوَّلًا أَقَلَّ مِنْ أَقَلِّ الْحَيْضِ فَفِيهِ وَجْهُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ حَيْضًا حَتَّى يَسْبِقَهُ دَمٌ مُتَّصِلٌ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ حَيْضًا .
وَإِنْ قُلْنَا الطُّهْرُ يَمْنَعُ مَا بَعْدَهُ مِنْ كَوْنِهِ حَيْضًا قَبْلَ التَّكْرَارِ ، وَجَاءَ فِي الْعَادَةِ ، فَإِنَّهَا تَضُمُّ إلَى الْأَوَّلِ مَا تُكْمِلُ بِهِ أَقَلَّ الْحَيْضِ ؛ فَإِذَا كَانَتْ تَرَى الدَّمَ يَوْمًا وَيَوْمًا ، ضَمَّتْ الثَّالِثَ إلَى الْأَوَّلِ .
فَكَانَ حَيْضًا فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ ، ثُمَّ تَنْتَقِلُ إلَى مَا تَكَرَّرَ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ ، عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ ، وَإِذَا رَأَتْ أَقَلَّ مِنْ أَقَلِّ الْحَيْضِ ، ثُمَّ طَهُرَتْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، ثُمَّ رَأَتْ دَمًا مِثْلَ ذَلِكَ ، وَقُلْنَا أَقَلُّ الطُّهْرِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، فَهُوَ دَمُ فَسَادٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ حَيْضَةً وَاحِدَةً لِفَصْلِ أَقَلِّ الطُّهْرِ بَيْنَهُمَا ، وَلَا حَيْضَتَيْنِ ؛ لِنُقْصَانِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ أَقَلِّ الْحَيْضِ ، وَإِنْ قُلْنَا أَقَلُّ الطُّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ ، ضَمَمْنَا الْأَوَّلَ إلَى الثَّانِي ، فَكَانَا حَيْضَةً وَاحِدَةً ، إذَا بَلَغَا بِمَجْمُوعِهِمَا أَقَلَّ الْحَيْضِ ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الدَّمَيْنِ يَبْلُغُ أَقَلَّ الْحَيْضِ ، فَهُمَا حَيْضَتَانِ ، إنْ قُلْنَا : أَقَلُّ

الطُّهْرِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَإِنْ قُلْنَا أَقَلُّهُ خَمْسَةَ عَشَرَ ، ضَمَمْنَا الثَّانِيَ إلَى الْأَوَّلِ فَكَانَا حَيْضًا وَاحِدًا ، إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ طَرَفَيْهِمَا أَكْثَرُ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، فَإِنْ كَانَ بَيْنَ طَرَفَيْهِمَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا لَمْ يَكُنْ جَعْلُهُمَا جَمِيعًا حَيْضًا فَيَجْعَلُ أَحَدَهُمَا حَيْضًا وَالْآخَرَ اسْتِحَاضَةً وَعَلَى هَذَا فَقِسْ

( 507 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ وَالْحَامِلُ لَا تَحِيضُ ، إلَّا أَنْ تَرَاهُ قَبْلَ وِلَادَتِهَا بِيَوْمَيْنِ ، أَوْ ثَلَاثَةٍ فَيَكُونُ دَمَ نِفَاسٍ مَذْهَبُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْحَامِلَ لَا تَحِيضُ ، وَمَا تَرَاهُ مِنْ الدَّمِ فَهُوَ دَمُ فَسَادٍ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ التَّابِعِينَ ؛ مِنْهُمْ : سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَعَطَاءٌ ، وَالْحَسَنُ ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَعِكْرِمَةُ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَمَكْحُولٌ وَحَمَّادٌ وَالثَّوْرِيُّ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو ثَوْرٍ وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَالصَّحِيحُ عَنْهَا أَنَّهَا إذَا رَأَتْ الدَّمَ لَا تُصَلِّي .
وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ ، وَاللَّيْثُ : مَا تَرَاهُ مِنْ الدَّمِ حَيْضٌ إذَا أَمْكَنَ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الزُّهْرِيِّ ، وَقَتَادَةَ ، وَإِسْحَاقَ لِأَنَّهُ دَمٌ صَادَفَ عَادَةً ، فَكَانَ حَيْضًا كَغَيْرِ الْحَامِلِ ، وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلَا حَائِلٌ حَتَّى تُسْتَبْرَأَ بِحَيْضَةٍ } فَجَعَلَ وُجُودَ الْحَيْضِ عَلَمًا عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجْتَمِعُ مَعَهُ .
وَاحْتَجَّ إمَامُنَا بِحَدِيثِ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ { أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ ، فَسَأَلَ عُمَرُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ، ثُمَّ لِيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا أَوْ حَامِلًا } فَجَعَلَ الْحَمْلَ عَلَمًا عَلَى عَدَمِ الْحَيْضِ ، كَمَا جَعَلَ الطُّهْرَ عَلَمًا عَلَيْهِ ؛ وَلِأَنَّهُ زَمَنٌ لَا يَعْتَادُهَا الْحَيْضُ فِيهِ غَالِبًا ، فَلَمْ يَكُنْ مَا تَرَاهُ فِيهِ حَيْضًا كَالْآيِسَةِ قَالَ أَحْمَدُ إنَّمَا يَعْرِفُ النِّسَاءُ الْحَمْلَ بِانْقِطَاعِ الدَّمِ ، وَقَوْلُ عَائِشَةَ يُحْمَلُ عَلَى الْحُبْلَى الَّتِي قَارَبَتْ الْوَضْعَ ، جَمْعًا بَيْنَ قَوْلَيْهَا ، فَإِنَّ الْحَامِلَ إذَا رَأَتْ الدَّمَ قَرِيبًا مِنْ وِلَادَتِهَا فَهُوَ نِفَاسٌ ، تَدَعُ لَهُ الصَّلَاةَ كَذَلِكَ قَالَ إِسْحَاقُ : وَقَالَ الْحَسَنُ : إذَا رَأَتْ الدَّمَ

عَلَى الْوَلَدِ أَمْسَكَتْ عَنْ الصَّلَاةِ .
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ بُخْتَانَ سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ الْمَرْأَةِ إذَا ضَرَبَهَا الْمَخَاضُ قَبْلَ الْوِلَادَةِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ تُعِيدُ الصَّلَاةَ ؟ قَالَ : لَا وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ : إذَا ضَرَبَهَا الْمَخَاضُ فَرَأَتْ الدَّمَ قَالَ : هُوَ حَيْضٌ .
وَهَذَا قَوْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، وَالشَّافِعِيِّ وَقَالَ عَطَاءٌ : تُصَلِّي وَلَا تَعُدُّهُ حَيْضًا وَلَا نِفَاسًا .
وَلَنَا : أَنَّهُ دَمٌ خَرَجَ بِسَبَبِ الْوِلَادَةِ فَكَانَ نِفَاسًا ، كَالْخَارِجِ بَعْدَهُ وَإِنَّمَا يُعْلَمُ خُرُوجُهُ بِسَبَبِ الْوِلَادَةِ إذَا كَانَ قَرِيبًا مِنْهَا وَيُعْلَمُ ذَلِكَ بِرُؤْيَةِ أَمَارَاتِهَا ؛ مِنْ الْمَخَاضِ وَنَحْوِهِ فِي وَقْتِهِ : وَأَمَّا إنْ رَأَتْ الدَّمَ مِنْ غَيْرِ عَلَامَةٍ عَلَى قُرْبِ الْوَضْعِ ، لَمْ تَتْرُكْ لَهُ الْعِبَادَةَ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ دَمُ فَسَادٍ فَإِنْ تَبَيَّنَ كَوْنُهُ قَرِيبًا مِنْ الْوَضْعِ ، كَوَضْعِهِ بَعْدَهُ بِيَوْمٍ أَوْ بِيَوْمَيْنِ أَعَادَتْ الصَّوْمَ الْمَفْرُوضَ إنْ صَامَتْهُ فِيهِ .
وَإِنْ رَأَتْهُ عِنْدَ عَلَامَةٍ عَلَى الْوَضْعِ تَرَكَتْ الْعِبَادَةَ .
فَإِنْ تَبَيَّنَ بُعْدُهُ عَنْهَا أَعَادَتْ مَا تَرَكَتْهُ مِنْ الْعِبَادَاتِ الْوَاجِبَةِ ؛ لِأَنَّهَا تَرَكَتْهَا مِنْ غَيْرِ حَيْضٍ وَلَا نِفَاسٍ .

( 508 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَإِذَا رَأَتْ الدَّمَ وَلَهَا خَمْسُونَ سَنَةً ، فَلَا تَدَعُ الصَّوْمَ ، وَلَا الصَّلَاةَ ، وَتَقْضِي الصَّوْمَ احْتِيَاطًا ، فَإِنْ رَأَتْهُ بَعْدَ السِّتِّينَ ، فَقَدْ زَالَ الْإِشْكَالُ ؛ وَتُيُقِّنَ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَيْضٍ ، فَتَصُومُ وَتُصَلِّي وَلَا تَقْضِي .
اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَاَلَّذِي نَقَلَ الْخِرَقِيِّ هَاهُنَا ، أَنَّهَا لَا تَيْأَسُ مِنْ الْحَيْضِ يَقِينًا إلَى سِتِّينَ سَنَةً ، وَمَا تَرَاهُ فِيمَا بَيْنَ الْخَمْسِينَ وَالسِّتِّينَ مَشْكُوكٌ فِيهِ ، لَا تَتْرُكُ لَهُ الصَّلَاةَ ، وَلَا الصَّوْمَ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهُمَا مُتَيَقَّنٌ فَلَا يَسْقُطُ بِالشَّكِّ ، وَتَقْضِي الصَّوْمَ الْمَفْرُوضَ احْتِيَاطًا ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهُ كَانَ مُتَيَقَّنًا ، وَمَا صَامَتْهُ فِي زَمَنِ الدَّمِ مَشْكُوكٌ فِي صِحَّتِهِ ، فَلَا يَسْقُطُ بِهِ مَا تَيَقَّنَ وُجُوبُهُ .
وَرُوِيَ عَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا بَعْدَ الْخَمْسِينَ لَا تَحِيضُ .
وَكَذَلِكَ قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ لَا يَكُونُ حَيْضًا بَعْدَ الْخَمْسِينَ ، وَيَكُونُ حُكْمُهَا فِيمَا تَرَاهُ مِنْ الدَّمِ حُكْمَ الْمُسْتَحَاضَةِ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : إذَا بَلَغَتْ خَمْسِينَ سَنَةً خَرَجَتْ مِنْ حَدِّ الْحَيْضِ .
وَرُوِيَ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : لَنْ تَرَى الْمَرْأَةُ فِي بَطْنِهَا وَلَدًا بَعْدَ الْخَمْسِينَ .
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ نِسَاءَ الْأَعَاجِمِ يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ فِي خَمْسِينَ ، وَنِسَاءَ بَنِي هَاشِمٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْعَرَبِ إلَى سِتِّينَ سَنَةً وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لِمَا رَوَى الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارَ فِي كِتَابِ النَّسَبِ عَنْ بَعْضِهِمْ ، أَنَّهُ قَالَ : لَا تَلِدُ لِخَمْسِينَ سَنَةً إلَّا الْعَرَبِيَّةُ ، وَلَا تَلِدُ لِسِتَّيْنِ إلَّا قُرَشِيَّةٌ .
وَقَالَ : إنَّ هِنْدَ بِنْتَ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ وَلَدَتْ مُوسَى بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَلَهَا سِتُّونَ سَنَةً .
وَقَالَ أَحْمَدُ فِي امْرَأَةٍ مِنْ الْعَرَبِ رَأَتْ الدَّمَ بَعْدَ

الْخَمْسِينَ إنْ عَاوَدَهَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً فَهُوَ حَيْضٌ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَرْجِعَ فِي هَذَا إلَى الْوُجُودِ ، وَقَدْ وُجِدَ حَيْضٌ مِنْ نِسَاءٍ ثِقَاتٍ أَخْبَرْنَ بِهِ عَنْ أَنْفُسِهِنَّ بَعْدَ الْخَمْسِينَ ، فَوَجَبَ اعْتِقَادُ كَوْنِهِ حَيْضًا كَمَا قَبْلَ الْخَمْسِينَ ؛ وَلِأَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا إذَا وُجِدَ مِنْ الْمَرْأَةِ دَمٌ فِي زَمَنِ عَادَتِهَا عَلَى وَجْهٍ كَانَتْ تَرَاهُ قَبْلَ ذَلِكَ ، فَالْوُجُودُ هَاهُنَا دَلِيلُ الْحَيْضِ ، كَمَا كَانَ قَبْلَ الْخَمْسِينَ دَلِيلًا ، فَوَجَبَ جَعْلُهُ حَيْضًا ، وَأَمَّا إيجَابُ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ فِيهِ فَلِلِاحْتِيَاطِ ، لِوُقُوعِ الْخِلَافِ فِيهِ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ نِسَاءِ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِنَّ لِأَنَّهُنَّ لَا يَخْتَلِفْنَ فِي سَائِرِ أَحْكَامِ الْحَيْضِ ، فَكَذَلِكَ فِي هَذَا ، وَمَا ذُكِرَ عَنْ عَائِشَةَ لَا حُجَّةَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ وُجُودَ الْحَيْضِ أَمْرٌ حَقِيقِيٌّ ، الْمَرْجِعُ فِيهِ إلَى الْوُجُودِ ، وَالْوُجُودُ لَا عِلْمَ لَهَا بِهِ .
ثُمَّ قَدْ وُجِدَ بِخِلَافِ مَا قَالَتْهُ ؛ فَإِنَّ مُوسَى بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ قَدْ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ بَعْدَ الْخَمْسِينَ ، وَوُجِدَ الْحَيْضُ فِيمَا بَعْدَ الْخَمْسِينَ عَلَى وَجْهِهِ ، فَلَا يُمْكِنُ إنْكَارُهُ ، فَإِنْ قِيلَ : هَذَا الدَّمُ لَيْسَ بِحَيْضٍ ، مَعَ كَوْنِهِ عَلَى صِفَتِهِ ، وَفِي وَقْتِهِ وَعَادَتِهِ ، بِغَيْرِ نَصٍّ فَهَذَا تَحَكُّمٌ لَا يُقْبَلُ فَأَمَّا بَعْدَ السِّتِّينَ فَقَدْ زَالَ الْإِشْكَالُ وَتُيُقِّنَ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَيْضٍ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ لِلْمَرْأَةِ حَالًا تَنْتَهِي فِيهِ إلَى الْإِيَاسِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { وَاَللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ } قَالَ أَحْمَدُ فِي الْمَرْأَةِ الْكَبِيرَةِ تَرَى الدَّمَ لَا يَكُونُ حَيْضًا ، هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْجُرْحِ وَإِنْ اغْتَسَلَتْ فَحَسَنٌ .
وَقَالَ عَطَاءٌ : هِيَ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ .
وَمَعْنَى الْقَوْلَيْنِ وَاحِدٌ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا الدَّمَ إذَا لَمْ يَكُنْ حَيْضًا فَهُوَ دَمُ فَسَادٍ ، وَحُكْمُهَا حُكْمُ الْمُسْتَحَاضَةِ وَمَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ ، عَلَى مَا مَرَّ

حُكْمُهُمَا

( 509 ) فَصْلٌ : وَأَقَلُّ سِنٍّ تَحِيضُ لَهُ الْمَرْأَةُ تِسْعُ سِنِينَ ؛ لِأَنَّ الصَّغِيرَةَ لَا تَحِيضُ ، بِدَلِيلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { وَاَللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ } ؛ وَلِأَنَّ الْمَرْجِعَ فِيهِ إلَى الْوُجُودِ ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ النِّسَاءِ مَنْ يَحِضْنَ عَادَةً فِيمَا دُونَ هَذَا السِّنِّ وَلِأَنَّ دَمَ الْحَيْضِ إنَّمَا خَلَقَهُ اللَّهُ لِحِكْمَةِ تَرْبِيَةِ الْحَمْلِ بِهِ فَمَنْ لَا تَصْلُحُ لِلْحَمْلِ لَا تُوجَدُ فِيهَا حِكْمَتُهُ ، فَيَنْتَفِي لِانْتِفَاءِ حِكْمَتِهِ كَالْمَنِيِّ ، فَإِنَّهُمَا مُتَقَارِبَانِ فِي الْمَعْنَى ، فَإِنَّ أَحَدَهُمَا يُخْلَقُ مِنْهُ الْوَلَدُ ، وَالْآخَرُ يُرَبِّيهِ وَيُغَذِّيهِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يُوجَدُ مِنْ صَغِيرٍ ، وَوُجُودُهُ عَلَمٌ عَلَى الْبُلُوغِ ، وَأَقَلُّ سِنٍّ تَبْلُغُ لَهُ الْجَارِيَةُ تِسْعُ سِنِينَ ، فَكَانَ ذَلِكَ أَقَلَّ سِنٍّ تَحِيضُ لَهُ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ { إذَا بَلَغَتْ الْجَارِيَةُ تِسْعَ سِنِينَ فَهِيَ امْرَأَةُ } وَرُوِيَ ذَلِكَ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ بِهِ حُكْمُهَا حُكْمُ الْمَرْأَةِ وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَقَدْ حُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : رَأَيْت جَدَّةً بِنْتَ إحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا حَمَلَتْ لِدُونِ عَشْرِ سِنِينَ ، وَحَمَلَتْ ابْنَتُهَا لِمِثْلِ ذَلِكَ .
فَعَلَى هَذَا إذَا رَأَتْ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ دَمًا تَرَكَتْ الصَّلَاةَ ؛ لِأَنَّهَا رَأَتْهُ فِي زَمَنٍ يَصْلُحُ لِلْحَيْضِ ، فَإِنْ اتَّصَلَ يَوْمًا وَلَيْلَةً فَهُوَ حَيْضٌ ، يَثْبُتُ بِهِ بُلُوغُهَا ، وَنُثْبِتُ فِيهِ أَحْكَامَ الْحَيْضِ كُلِّهَا وَإِنْ انْقَطَعَ لِدُونِ ذَلِكَ ، فَهُوَ دَمُ فَسَادٍ ، لَا يَثْبُتُ بِهِ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْنَا .
وَإِنْ رَأَتْ الدَّمَ لِدُونِ تِسْعِ سِنِينَ ، فَهُوَ دَمُ فَسَادٍ ، عَلَى كُلِّ حَالٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَيْضًا .
وَقَدْ رَوَى الْمَيْمُونِيُّ ، عَنْ أَحْمَدَ ، فِي بِنْتِ عَشْرٍ رَأَتْ الدَّمَ ، قَالَ : لَيْسَ بِحَيْضٍ فَعَلَى هَذَا لَيْسَ التِّسْعُ وَلَا الْعَشْرُ زَمَنًا لِلْحَيْضِ .
قَالَ الْقَاضِي : فَيَجِبُ عَلَى هَذَا أَنْ يُقَالَ :

أَوَّلُ زَمَنٍ يَصِحُّ فِيهِ وُجُودُ الْحَيْضِ ثِنْتَا عَشْرَةَ سَنَةً ؛ لِأَنَّهُ الزَّمَانُ الَّذِي يَصِحُّ فِيهِ بُلُوغُ الْغُلَامِ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ

( 510 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَالْمُسْتَحَاضَةُ ، إنْ اغْتَسَلَتْ لِكُلِّ صَلَاةٍ فَهُوَ أَشَدُّ مَا قِيلَ فِيهَا ؛ وَإِنْ تَوَضَّأَتْ لِكُلِّ صَلَاةٍ أَجْزَأَهَا اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَجِبُ عَلَيْهَا الْغُسْلُ لِكُلِّ صَلَاةٍ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ ، وَابْنِ عُمَرَ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ فِي الْمُتَحَيِّرَةِ ؛ لِأَنَّ عَائِشَةَ رَوَتْ ، { أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ اُسْتُحِيضَتْ ، فَسَأَلَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهَا أَنْ تَغْتَسِلَ ، لِكُلِّ صَلَاةٍ } ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَرَوَى أَبُو دَاوُد ، { أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تُهْرَاقُ الدَّمَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهَا بِالْغُسْلِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ } وَقَالَ بَعْضُهُمْ تَغْتَسِلُ كُلَّ يَوْمٍ غُسْلًا وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ ، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ ، وَأَنَسٍ ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا : تَغْتَسِلُ مِنْ ظُهْرٍ إلَى ظُهْرٍ .
قَالَ مَالِكٌ : إنِّي أَحْسِبُ حَدِيثَ ابْنِ الْمُسَيِّبِ إنَّمَا هُوَ : مِنْ طُهْرٍ إلَى طُهْرٍ .
وَلَكِنَّ الْوَهْمَ دَخَلَ فِيهِ .
يَعْنِي أَنَّ الطَّاءَ غَيْرَ الْمُعْجَمَةِ أُبْدِلَتْ بِالظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : تَجْمَعُ بَيْنَ كُلِّ صَلَاتَيْ جَمْعٍ بِغُسْلٍ وَاحِدٍ ، وَتَغْتَسِلُ لِلصُّبْحِ عَلَى مَا فِي حَدِيثِ حَمْنَةَ .
وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ ، وَكَذَلِكَ أَمَرَ بِهِ سَهْلَةَ بِنْتَ سُهَيْلٍ وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ ، وَالنَّخَعِيُّ وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ ، عَلَى أَنَّ الْغُسْلَ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْحَيْضِ ، ثُمَّ عَلَيْهَا الْوُضُوءُ لِكُلِّ صَلَاةٍ ، وَيُجْزِئُهَا ذَلِكَ وَيُرْوَى هَذَا عَنْ عُرْوَةَ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَقَالَ عِكْرِمَةُ ، وَرَبِيعَةُ ، وَمَالِكٌ إنَّمَا عَلَيْهَا الْغُسْلُ عِنْدَ انْقِضَاءِ حَيْضِهَا وَلَيْسَ عَلَيْهَا لِلِاسْتِحَاضَةِ وُضُوءٌ ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ ، فِي حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي

حُبَيْشٍ الْغُسْلُ فَقَطْ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا : " فَاغْتَسِلِي وَصَلِّي " .
وَلَمْ يَذْكُرْ الْوُضُوءَ لِكُلِّ صَلَاةٍ .
وَلَنَا : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِفَاطِمَةَ إنَّمَا ذَلِكَ عِرْقٌ ، وَلَيْسَتْ بِالْحَيْضَةِ ، فَإِذَا أَقْبَلَتْ فَدَعِي الصَّلَاةَ فَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْك الدَّمَ وَصَلِّي ، وَتَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَهَذِهِ زِيَادَةٌ يَجِبُ قَبُولُهَا .
وَفِي حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ { تَدَعُ الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا ، ثُمَّ تَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي ، وَتَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ ، } .
وَلِأَنَّهُ دَمٌ خَارِجٌ مِنْ الْفَرْجِ ، فَأَوْجَبَ الْوُضُوءَ كَدَمِ الْحَيْضِ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْغُسْلَ الْمَأْمُورَ بِهِ فِي سَائِرِ الْأَحَادِيثِ مُسْتَحَبُّ غَيْرُ وَاجِبٍ ، وَالْغُسْلُ لِكُلِّ صَلَاةٍ أَفْضَلُ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْخُرُوجِ مِنْ الْخِلَافِ ، وَالْأَخْذِ بِالثِّقَةِ وَالِاحْتِيَاطِ ، وَهُوَ أَشَدُّ مَا قِيلَ ، ثُمَّ يَلِيهِ فِي الْفَضْلِ وَالْمَشَقَّةِ الْجَمْعُ بَيْنَ كُلِّ صَلَاتَيْنِ بِغُسْلٍ وَاحِدٍ ، وَالِاغْتِسَالُ لِلصُّبْحِ ، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ : { وَهُوَ أَعْجَبُ الْأَمْرَيْنِ إلَيَّ } .
ثُمَّ يَلِيهِ الْغُسْلُ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّةً بَعْدَ الْغُسْلُ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْحَيْضِ ، ثُمَّ تَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ ، وَهُوَ أَقَلُّ الْأُمُورِ وَيُجْزِئُهَا .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( 511 ) فَصْلٌ : وَحُكْمُ طَهَارَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ حُكْمُ التَّيَمُّمِ فِي أَنَّهَا إذَا تَوَضَّأَتْ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ ، صَلَّتْ بِهَا الْفَرِيضَةَ ، ثُمَّ قَضَتْ الْفَوَائِتَ ، وَتَطَوَّعَتْ حَتَّى يَخْرُجَ الْوَقْتُ نَصَّ عَلَى هَذَا أَحْمَدُ وَعَلَى قِيَاسِ ذَلِكَ لَهَا الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا تَجْمَعُ بَيْنَ فَرْضَيْنِ بِطَهَارَةٍ وَاحِدَةٍ .
وَلَا تَقْضِي بِهِ فَوَائِتَ ، وَلَا تَجْمَعُ بَيْنَ صَلَاتَيْنِ .
كَقَوْلِهِ فِي التَّيَمُّمِ .
وَيَحْتَمِلُهُ قَوْلُ الْخِرَقِيِّ لِقَوْلِهِ : { لِكُلِّ صَلَاةٍ } .
وَحُجَّتُهُمْ قَوْلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ .
} وَلَنَا أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ حَدِيثِ فَاطِمَةَ : { تَوَضَّئِي لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ .
} وَلِأَنَّهُ وُضُوءٌ يُبِيحُ النَّفَلَ ، فَيُبِيحُ الْفَرْضَ ، كَوُضُوءِ غَيْرِ الْمُسْتَحَاضَةِ ، وَحَدِيثُهُمْ مَحْمُولٌ عَلَى الْوَقْتِ ، كَقَوْلِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَيْنَمَا أَدْرَكَتْك الصَّلَاةُ فَصَلِّ } أَيْ وَقْتُهَا ، وَحَدِيثُ حَمْنَةَ ظَاهِرٌ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهَا بِالْوُضُوءِ بَيْنَهُمَا ، وَهُوَ مِمَّا يَخْفَى وَيُحْتَاجُ إلَى بَيَانِهِ ، وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ .

( 512 ) فَصْلٌ : رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، أَنَّهُ قَالَ : لَا بَأْسَ أَنْ تَشْرَبَ الْمَرْأَةُ دَوَاءً يَقْطَعُ عَنْهَا الْحَيْضَ ، إذَا كَانَ دَوَاءً مَعْرُوفًا .

الصَّلَاةُ فِي اللُّغَةِ الدُّعَاءُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ } أَيْ اُدْعُ لَهُمْ ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ فَلْيُجِبْ ، فَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَلْيُطْعِمْ ، وَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيُصَلِّ } .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : تَقُولُ بِنْتِي وَقَدْ قَرَّبْت مُرْتَحِلًا يَا رَبِّ جَنِّبْ أَبِي الْأَوْصَابَ وَالْوَجَعَا عَلَيْك مِثْلُ الَّذِي صَلَّيْتِ فَاغْتَمِضِي نَوْمًا فَإِنَّ لِجَنْبِ الْمَرْءِ مُضْطَجَعَا وَهِيَ فِي الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنْ الْأَفْعَالِ الْمَعْلُومَةِ ، فَإِذَا وَرَدَ فِي الشَّرْعِ أَمْرٌ بِصَلَاةٍ أَوْ حُكْمٌ مُعَلَّقٌ عَلَيْهَا ، انْصَرَفَ بِظَاهِرِهِ إلَى الصَّلَاةِ الشَّرْعِيَّةِ .
وَهِيَ وَاجِبَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ ؛ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى { : وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ ؛ شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ، وَصِيَامِ رَمَضَانَ ، وَحَجِّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مَعَ آيٍ وَأَخْبَارٍ كَثِيرَةٍ ، نَذْكُرُ بَعْضَهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَقَدْ أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى وُجُوبِ خَمْسِ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ .
( 513 ) فَصْلٌ : وَالصَّلَوَاتُ الْمَكْتُوبَاتُ خَمْسٌ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي وُجُوبِهَا ، وَلَا يَجِبُ غَيْرُهَا إلَّا لِعَارِضٍ مِنْ نَذْرٍ أَوْ غَيْرِهِ هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْوِتْرُ وَاجِبٌ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : إنَّ اللَّهَ قَدْ زَادَكُمْ صَلَاةً وَهِيَ الْوِتْرُ } وَهَذَا

يَقْتَضِي وُجُوبَهُ .
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { الْوِتْرُ حَقٌّ } رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ ، وَلَنَا مَا رَوَى ابْنُ شِهَابٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَرَضَ اللَّهُ عَلَى أُمَّتِي خَمْسِينَ صَلَاةً } فَذَكَرَ الْحَدِيثَ ، إلَى أَنْ قَالَ { فَرَجَعْت إلَى رَبِّي ، فَقَالَ : هِيَ خَمْسٌ وَهِيَ خَمْسُونَ ، مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { خَمْسُ صَلَوَاتٍ افْتَرَضَهُنَّ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ ، فَمَنْ جَاءَ بِهِنَّ لَمْ يُنْقِصْ مِنْهُنَّ شَيْئًا اسْتِخْفَافًا بِهِنَّ ، فَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَهْدًا أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ ، وَمَنْ جَاءَ بِهِنَّ وَقَدْ نَقَصَ مِنْهُنَّ شَيْئًا ، لَمْ يَكُنْ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ ، إنْ شَاءَ عَذَّبَهُ ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ } وَرُوِيَ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ ، { أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ : مَاذَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ الصَّلَاةِ قَالَ : خَمْسُ صَلَوَاتٍ قَالَ : فَهَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا ؟ قَالَ : لَا إلَّا أَنْ تَطَوَّعَ شَيْئًا فَقَالَ الرَّجُلُ : وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ لَا أَزِيدُ عَلَيْهَا ، وَلَا أَنْقُصُ مِنْهَا .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْلَحَ الرَّجُلُ إنْ صَدَقَ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَزِيَادَةُ الصَّلَاةِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي السُّنَنِ ، فَلَا يَتَعَيَّنُ كَوْنُهَا فَرْضًا ؛ وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ تُصَلَّى عَلَى الرَّاحِلَةِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ ، فَكَانَتْ نَافِلَةً كَالسُّنَنِ الرَّوَاتِبِ .

أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ مُؤَقَّتَةٌ بِمَوَاقِيتَ مَعْلُومَةٍ مَحْدُودَةٍ ، وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ صِحَاحٌ جِيَادٌ نَذْكُرُ أَكْثَرَهَا فِي مَوَاضِعِهَا ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
( 514 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ رَحِمَهُ اللَّهُ : ( وَإِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ وَجَبَتْ صَلَاةُ الظُّهْرِ ) بَدَأَ الْخِرَقِيِّ بِذِكْرِ صَلَاةِ الظُّهْرِ ؛ لِأَنَّ جِبْرِيلَ بَدَأَ بِهَا حِينَ أَمَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَجَابِرٍ وَبَدَأَ بِهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ عَلَّمَ الصَّحَابَةَ مَوَاقِيتَ الصَّلَاةِ ، فِي حَدِيثِ بُرَيْدَةَ وَغَيْرِهِ ، وَبَدَأَ بِهَا الصَّحَابَةُ حِينَ سُئِلُوا عَنْ الْأَوْقَاتِ فِي حَدِيثِ أَبِي بَرْزَةَ وَجَابِرٍ وَغَيْرِهِمَا تُسَمَّى الْأُولَى وَالْهَجِيرَ وَالظُّهْرَ .
وَقَالَ أَبُو بَرْزَةَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الْهَجِيرَةَ الَّتِي يَدْعُونَهَا الْأُولَى حِينَ تُدْحَضُ الشَّمْسُ .
} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، يَعْنِي حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ .
وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الظُّهْرِ : إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ .
قَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَقَدْ تَظَاهَرَتْ الْأَخْبَارُ بِذَلِكَ ، فَمِنْهَا مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { أَمَّنِي جِبْرِيلُ عِنْدَ الْبَيْتِ مَرَّتَيْنِ ، فَصَلَّى بِي الظُّهْرَ فِي الْأُولَى مِنْهُمَا ، حِينَ كَانَ الْفَيْءُ مِثْلَ الشِّرَاكِ ، ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ ، ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ حِينَ وَجَبَتْ الشَّمْسُ ، وَأَفْطَرَ الصَّائِمُ ، ثُمَّ صَلَّى الْعِشَاءَ حِينَ غَابَ الشَّفَقُ ، ثُمَّ صَلَّى الْفَجْرَ حِينَ بَرَقَ الْفَجْرُ وَحَرُمَ الطَّعَامُ عَلَى الصَّائِمِ ، وَصَلَّى فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ الظُّهْرَ حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ لِوَقْتِ الْعَصْرِ بِالْأَمْسِ ، ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ ، ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ لِوَقْتِ الْأُولَى ، ثُمَّ صَلَّى الْعِشَاءَ

الْأَخِيرَةَ حِينَ ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ ، ثُمَّ صَلَّى الصُّبْحَ حِينَ أَسْفَرَتْ الْأَرْضُ ، ثُمَّ الْتَفَتَ إلَيَّ جِبْرِيلُ وَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ ، هَذَا وَقْتُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِك ، وَالْوَقْتُ فِيمَا بَيْنَ هَذَيْنِ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ .
وَرَوَى جَابِرٌ نَحْوَهُ ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ { لِوَقْتِ الْعَصْرِ بِالْأَمْسِ } ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ : أَصَحُّ حَدِيثٍ فِي الْمَوَاقِيتِ حَدِيثُ جَابِرٍ .
وَرَوَى بُرَيْدَةَ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ عَنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ ، فَقَالَ : صَلِّ مَعَنَا هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ فَلَمَّا زَالَتْ الشَّمْسُ أَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الظُّهْرَ ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ بَيْضَاءُ نَقِيَّةٌ لَمْ يُخَالِطْهَا صُفْرَةٌ ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْمَغْرِبَ حِينَ غَابَتْ الشَّمْسُ ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْعِشَاءَ حِينَ غَابَ الشَّفَقُ ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْفَجْرَ حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّانِي أَمَرَهُ فَأَبْرَدَ فِي الظُّهْرِ ، فَأَنْعَمَ أَنْ يُبْرَدَ بِهَا ، وَصَلَّى الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ بَيْضَاءُ مُرْتَفِعَةٌ ، آخِرُهَا فَوْقَ الَّذِي كَانَ ، وَصَلَّى الْمَغْرِبَ حِينَ غَابَ الشَّفَقُ ، وَصَلَّى الْعِشَاءَ حِينَ غَابَ ثُلُثُ اللَّيْلِ ، وَصَلَّى الْفَجْرَ فَأَسْفَرَ بِهَا ، ثُمَّ قَالَ : أَيْنَ السَّائِلُ عَنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ ؟ فَقَالَ الرَّجُلُ : أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ .
فَقَالَ : وَقْتُ صَلَاتِكُمْ بَيْنَ مَا رَأَيْتُمْ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد ، عَنْ أَبِي مُوسَى نَحْوَهُ ، إلَّا أَنَّهُ قَالَ : { بَدَأَ فَأَقَامَ الْفَجْرَ حِينَ انْشَقَّ الْفَجْرُ ، فَصَلَّى حِينَ كَانَ الرَّجُلُ لَا يَعْرِفُ وَجْهَ صَاحِبِهِ ، أَوْ أَنَّ الرَّجُلَ لَا يَعْرِفُ مَنْ إلَى جَنْبِهِ ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ صَلَّى الْفَجْرَ وَانْصَرَفَ ، فَقُلْنَا : طَلَعَتْ الشَّمْسُ .
} وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ .
( 515 ) فَصْلٌ : وَمَعْنَى زَوَالِ الشَّمْسِ مَيْلُهَا عَنْ كَبِدِ

السَّمَاءِ ، وَيُعْرَفُ ذَلِكَ بِطُولِ ظِلِّ الشَّخْصِ بَعْدَ تَنَاهِي قِصَرِهِ ، فَمَنْ أَرَادَ مَعْرِفَةَ ذَلِكَ فَلْيُقَدِّرْ ظِلَّ الشَّمْسِ ، ثُمَّ يَصْبِرْ قَلِيلًا ، ثُمَّ يُقَدِّرْهُ ثَانِيًا ، فَإِنْ كَانَ دُونَ الْأَوَّلِ فَلَمْ تَزُلْ ، وَإِنْ زَادَ وَلَمْ يَنْقُصْ فَقَدْ زَالَتْ ، وَأَمَّا مَعْرِفَةُ ذَلِكَ بِالْأَقْدَامِ ، فَتَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الشُّهُورِ وَالْبُلْدَانِ ، فَكُلَّمَا طَالَ النَّهَارُ قَصُرَ الظِّلُّ ، وَإِذَا قَصُرَ طَالَ الظِّلُّ ، فَكُلُّ يَوْمٍ يَزِيدُ أَوْ يَنْقُصُ ، فَنَذْكُرُ ذَلِكَ فِي وَسَطِ كُلِّ شَهْرٍ ، عَلَى مَا حَكَى أَبُو الْعَبَّاسِ السِّنْجِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ ، تَقْرِيبًا ، قَالَ : إنَّ الشَّمْسَ تَزُولُ فِي نِصْفِ حُزَيْرَانَ عَلَى قَدَمٍ وَثُلُثٍ ، وَهُوَ أَقَلُّ مَا تَزُولُ عَلَيْهِ الشَّمْسُ ، وَفِي نِصْفِ تَمُّوز وَنِصْفِ أَيَّارَ عَلَى قَدَمٍ وَنِصْفٍ وَثُلُثٍ ، وَفِي نِصْفِ آبَ وَنَيْسَان عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْدَامٍ ، وَفِي نِصْفِ آذَار وَأَيْلُول عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْدَامٍ وَنِصْفٍ .
وَهُوَ وَقْتُ اسْتِوَاءِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ، وَفِي نِصْفِ تَشْرِينَ الْأَوَّلِ وَشُبَاطِ عَلَى سِتَّةِ أَقْدَامٍ وَنِصْفٍ ، وَفِي نِصْفِ تَشْرِينَ الثَّانِي وَكَانُونَ الثَّانِي عَلَى تِسْعَةِ أَقْدَامٍ ، وَفِي نِصْفِ كَانُونَ الْأَوَّل عَلَى عَشَرَةِ أَقْدَامٍ وَسُدْسٍ ، وَهَذَا أَنْهَى مَا تَزُولَ عَلَيْهِ الشَّمْسُ فَهَذَا مَا تَزُولُ عَلَيْهِ الشَّمْسُ فِي أَقَالِيمِ الْعِرَاقِ وَالشَّامِ وَمَا سَامَتَهُمَا مِنْ الْبُلْدَانِ ، فَإِذَا أَرَدْت مَعْرِفَةَ ذَلِكَ فَقِفْ عَلَى مُسْتَوٍ مِنْ الْأَرْضِ ، وَعَلِّمْ الْمَوْضِعَ الَّذِي انْتَهَى إلَيْهِ ظِلُّك ، ثُمَّ ضَعْ قَدَمَك الْيُمْنَى بَيْنَ يَدَيْ قَدَمِك الْيُسْرَى ، وَأَلْصِقْ عَقِبَك بِإِبْهَامِك ، فَمَا بَلَغَتْ مِسَاحَةُ هَذَا الْقَدْرِ بَعْدَ انْتِهَاءِ النَّقْصِ فَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي زَالَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ ، وَوَجَبَتْ بِهِ صَلَاةُ الظُّهْرِ .

( 516 ) فَصْلٌ : وَتَجِبُ صَلَاةُ الظُّهْرِ بِزَوَالِ الشَّمْسِ ، وَكَذَلِكَ جَمِيعُ الصَّلَوَاتِ تَجِبُ بِدُخُولِ وَقْتِهَا فِي حَقِّ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْوُجُوبِ ، فَأَمَّا أَهْلُ الْأَعْذَارِ ؛ كَالْحَائِضِ وَالْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ وَالْكَافِرِ ، فَتَجِبُ فِي حَقِّهِ بِأَوَّلِ جُزْءٍ أَدْرَكَهُ مِنْ وَقْتِهَا بَعْدَ زَوَالِ عُذْرِهِ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، رَحِمَهُ اللَّهُ : يَجِبُ تَأْخِيرُ وَقْتِهَا إذَا بَقِيَ مِنْهُ مَا لَا يَتَّسِعُ لِأَكْثَرَ مِنْهَا ؛ لِأَنَّهُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ فِعْلِهَا وَتَرْكِهَا ، فَلَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً كَالنَّافِلَةِ .
وَلَنَا أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهَا فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { أَقِمْ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ } وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ عَلَى الْفَوْرِ ؛ وَلِأَنَّ دُخُولَ الْوَقْتِ سَبَبٌ لِلْوُجُوبِ ، فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمُهُ حِينَ وُجُودِهِ ؛ وَلِأَنَّهَا يُشْتَرَطُ لَهَا نِيَّةُ الْفَرِيضَةِ ، وَلَوْ لَمْ تَجِبْ لَصَحَّتْ بِدُونِ نِيَّةِ الْوَاجِبِ كَالنَّافِلَةِ ، وَتُفَارِقُ النَّافِلَةَ ؛ فَإِنَّهَا لَا يُشْتَرَطُ لَهَا ذَلِكَ ، وَيَجُوزُ تَرْكُهَا غَيْرَ عَازِمٍ عَلَى فِعْلِهَا ، وَهَذِهِ إنَّمَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا مَعَ الْعَزْمِ عَلَى فِعْلِهَا ، كَمَا تُؤَخَّرُ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ لَيْلَةَ مُزْدَلِفَةَ عَنْ وَقْتِهَا ، وَكَمَا تُؤَخَّرُ سَائِرُ الصَّلَوَاتِ عَنْ وَقْتِهَا إذَا كَانَ مُشْتَغِلًا بِتَحْصِيلِ شَرْطِهَا .

( 517 ) فَصْلٌ : وَيَسْتَقِرُّ وُجُوبُهَا بِمَا وَجَبَتْ بِهِ .
فَلَوْ أَدْرَكَ جُزْءًا مِنْ أَوَّلِ وَقْتِهَا ثُمَّ جُنَّ ، أَوْ حَاضَتْ الْمَرْأَةُ ، لَزِمَهُمَا الْقَضَاءُ إذَا أَمْكَنَهُمَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ : لَا يَسْتَقِرُّ إلَّا بِمُضِيِّ زَمَنٍ يُمْكِنُ فِعْلُهَا فِيهِ ، وَلَا يَجِبُ الْقَضَاءُ بِمَا دُونَ ذَلِكَ .
وَاخْتَارَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَطَّةَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ مِنْ الْوَقْتِ مَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ ، فَلَمْ يَجِبْ الْقَضَاءُ ، كَمَا لَوْ طَرَأَ الْعُذْرُ قَبْلَ ذَلِكَ الْوَقْتِ .
وَلَنَا أَنَّهَا صَلَاةٌ وَجَبَتْ عَلَيْهِ ، فَوَجَبَ قَضَاؤُهَا إذَا فَاتَتْهُ ، كَالَّتِي أَمْكَنَ أَدَاؤُهَا ، وَفَارَقَتْ الَّتِي طَرَأَ الْعُذْرُ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِهَا ؛ فَإِنَّهَا لَمْ تَجِبْ ، وَقِيَاسُ الْوَاجِبِ عَلَى غَيْرِهِ غَيْرُ صَحِيحٍ .

( 518 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( فَإِذَا صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ فَهُوَ آخِرُ وَقْتِهَا ) يَعْنِي أَنَّ الْفَيْءَ إذَا زَادَ عَلَى مَا زَالَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ قَدْرَ ظِلِّ طُولِ الشَّخْصِ ، فَذَلِكَ آخِرُ وَقْتِ الظُّهْرِ .
قَالَ الْأَثْرَمُ : قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : وَأَيُّ شَيْءٍ آخِرُ وَقْتِ الظُّهْرِ ؟ قَالَ : أَنْ يَصِيرَ الظِّلُّ مِثْلَهُ .
قِيلَ لَهُ : فَمَتَى يَكُونُ الظِّلُّ مِثْلَهُ ؟ قَالَ : إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ ، فَكَانَ الظِّلُّ بَعْدَ الزَّوَالِ مِثْلَهُ ، فَهُوَ ذَاكَ .
وَمَعْرِفَةُ ذَلِكَ أَنْ يَضْبِطَ مَا زَالَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ ، ثُمَّ يَنْظُرَ الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ ، فَإِنْ كَانَتْ قَدْ بَلَغَتْ قَدْرَ الشَّخْصِ ، فَقَدْ انْتَهَى وَقْتُ الظُّهْرِ ؛ وَمِثْلُ شَخْصِ الْإِنْسَانِ سِتَّةُ أَقْدَامٍ وَنِصْفٍ بِقَدَمِهِ ، أَوْ يَزِيدُ قَلِيلًا ، فَإِذَا أَرَدْت اعْتِبَارَ الزِّيَادَةِ بِقَدَمِك مَسَحْتَهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الزَّوَالِ ، ثُمَّ أَسْقَطْت مِنْهُ الْقَدْرَ الَّذِي زَالَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ ، فَإِذَا بَلَغَ الْبَاقِي سِتَّةَ أَقْدَامٍ وَنِصْفٍ فَقَدْ بَلَغَ الْمِثْلَ ، فَهُوَ آخِرُ وَقْتِ الظُّهْرِ ، وَأُوَلُ وَقْتِ الْعَصْرِ .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ وَنَحْوَهُ قَالَ أَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٌ ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُد وَقَالَ عَطَاءٌ : لَا تَفْرِيطَ لِلظُّهْرِ حَتَّى تَدْخُلَ الشَّمْسَ صُفْرَةٌ .
وَقَالَ طَاوُسٌ : وَقْتُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ إلَى اللَّيْلِ .
وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ : وَقْتُ الِاخْتِيَارِ إلَى أَنْ يَصِيرَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ ، وَوَقْتُ الْأَدَاءِ إلَى أَنْ يَبْقَى مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ قَدْرُ مَا يُؤَدَّى فِيهِ الْعَصْرُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي الْحَضَرِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : وَقْتُ الظُّهْرِ إلَى أَنْ يَصِيرَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { إنَّمَا مَثَلُكُمْ وَمَثَلُ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا ، فَقَالَ : مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ غَدْوَةٍ إلَى نِصْفِ النَّهَارِ

عَلَى قِيرَاطٍ ؟ فَعَمِلَتْ الْيَهُودُ ، ثُمَّ قَالَ مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ عَلَى قِيرَاطٍ ؟ فَعَمِلَتْ النَّصَارَى ، ثُمَّ قَالَ : مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ الْعَصْرِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ عَلَى قِيرَاطَيْنِ ؟ فَأَنْتُمْ هُمْ .
فَغَضِبَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى ، وَقَالُوا : مَا لَنَا أَكْثَرُ عَمَلًا وَأَقَلُّ عَطَاءً ؟ قَالَ : هَلْ نَقَصْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ ؟ قَالُوا : لَا ؟ قَالَ فَذَلِكَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ } أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْ الظُّهْرِ إلَى الْعَصْرِ أَكْثَرُ مِنْ الْعَصْرِ إلَى الْمَغْرِبِ .
وَلَنَا { أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ صَلَّى بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ حِينَ كَانَ الْفَيْءُ مِثْلَ الشِّرَاكِ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّانِي حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ ، ثُمَّ قَالَ : الْوَقْتُ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ } وَحَدِيثُ مَالِكٍ مَحْمُولٌ عَلَى الْعُذْرِ بِمَطَرٍ أَوْ مَرَضٍ ، وَمَا احْتَجَّ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ لَا حُجَّةَ لَهُ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ : إلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ .
وَفِعْلُهَا يَكُونُ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ وَتَكَامُلِ الشُّرُوطِ ، عَلَى أَنَّ أَحَادِيثَنَا قُصِدَ بِهَا بَيَانُ الْوَقْتِ ، وَخَبَرُهُمْ قُصِدَ بِهِ ضَرْبُ الْمَثَلِ ، فَالْأَخْذُ بِأَحَادِيثِنَا أَوْلَى .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ خَالَفَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِ هَذَا الْآثَارَ وَالنَّاسَ ، وَخَالَفَهُ أَصْحَابُهُ .

( 519 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَإِذَا زَادَ شَيْئًا وَجَبَتْ الْعَصْرُ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ وَقْتَ الْعَصْرِ مِنْ حِينِ الزِّيَادَةِ عَلَى الْمِثْلِ أَدْنَى زِيَادَةٍ مُتَّصِلٌ بِوَقْتِ الظُّهْرِ ، لَا فَصْلَ بَيْنَهُمَا ، وَغَيْرُ الْخِرَقِيِّ قَالَ : إذَا صَارَ ظِلُّ الشَّيْءِ مِثْلَهُ فَهُوَ آخِرُ وَقْتِ الظُّهْرِ وَأَوَّلُ وَقْتِ الْعَصْرِ .
وَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّا قَالَ الْخِرَقِيِّ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إذَا زَادَ عَلَى الْمِثْلَيْنِ ؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْحَدِيثِ ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَأَقِمْ الصَّلَاةَ طَرَفَيْ النَّهَارِ } وَلَوْ كَانَ عَلَى مَا ذَكَرْتُمُوهُ لَكَانَ وَسَطَ النَّهَارِ .
وَحُكِيَ عَنْ رَبِيعَةَ : أَنَّ وَقْتَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ .
وَقَالَ إِسْحَاقُ آخِرُ وَقْتِ الظُّهْرِ وَأَوَّلُ وَقْتِ الْعَصْرِ يَشْتَرِكَانِ فِي قَدْرِ الصَّلَاةِ ، فَلَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ يُصَلِّيَانِ مَعًا ، أَحَدُهُمَا يُصَلِّي الظُّهْرَ وَالْآخَرُ الْعَصْرَ ، حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ ، كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُصَلِّيًا لَهَا فِي وَقْتِهَا .
وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ : { صَلَّى بِي الظُّهْرَ لِوَقْتِ الْعَصْرِ بِالْأَمْسِ .
} وَلَنَا مَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وقَوْله تَعَالَى : { أَقِمْ الصَّلَاةَ طَرَفَيْ النَّهَارِ } .
لَا يَنْفِي مَا قُلْنَا ؛ فَإِنَّ الطَّرَفَ مَا تَرَاخَى عَنْ الْوَسَطِ ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي مَسْأَلَتِنَا ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لِوَقْتِ الْعَصْرِ بِالْأَمْسِ } أَرَادَ مُقَارَنَةَ الْوَقْتِ ، يَعْنِي أَنَّ ابْتِدَاءَ صَلَاتِهِ الْيَوْمَ الْعَصْرَ مُتَّصِلٌ بِوَقْتِ انْتِهَاءِ صَلَاةِ الظُّهْرِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي ، أَوْ مُقَارِبٌ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ بِهِ بَيَانَ الْمَوَاقِيتِ ، وَإِنَّمَا تَبَيَّنَ أَوَّلُ الْوَقْتِ بِابْتِدَاءِ فِعْلِ الصَّلَاةِ ، وَتَبَيَّنَ آخِرُهُ بِالْفَرَاغِ مِنْهَا ، وَقَدْ بَيَّنَهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ

عَمْرٍو { وَقْتُ الظُّهْرِ مَا لَمْ يَحْضُرْ وَقْتُ الْعَصْرِ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَفِي حَدِيثٍ رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ لِلصَّلَاةِ أَوَّلًا وَآخِرًا ، وَإِنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الظُّهْرِ حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ ، وَآخِرَ وَقْتِهَا حِينَ يَدْخُلُ وَقْتُ الْعَصْرِ } أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ

( 520 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَإِذَا صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ خَرَجَ وَقْتُ الِاخْتِيَارِ .
اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي آخِرِ وَقْتِ الِاخْتِيَارِ ؛ فَرُوِيَ : حِينَ يَصِيرُ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ .
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَالشَّافِعِيِّ لِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَجَابِرٍ : { الْوَقْتُ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ .
} وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ ، رَحِمَهُ اللَّهُ ، أَنَّ آخِرَهُ مَا لَمْ تَصْفَرَّ الشَّمْسُ .
وَهِيَ أَصَحُّ عَنْهُ حَكَاهُ عَنْهُ جَمَاعَةٌ ، مِنْهُمْ الْأَثْرَمُ ، قَالَ : سَمِعَتْهُ يُسْأَلُ عَنْ آخِرِ وَقْتِ الْعَصْرِ ؟ فَقَالَ : هُوَ تَغَيُّرُ الشَّمْسِ .
قِيلَ : وَلَا تَقُولُ بِالْمِثْلِ وَالْمِثْلَيْنِ ؟ قَالَ : لَا ، هَذَا عِنْدِي أَكْثَرُ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ ، وَأَبِي يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٍ ، وَنَحْوُهُ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { وَقْتُ الْعَصْرِ مَا لَمْ تَصْفَرَّ الشَّمْسُ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَإِنَّ آخِرَ وَقْتِهَا حِينَ تَصْفَرُّ الشَّمْسُ } وَفِي حَدِيثِ بُرَيْدَةَ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الْعَصْرَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَالشَّمْسُ بَيْضَاءُ نَقِيَّةٌ لَمْ تُخَالِطْهَا صُفْرَةٌ } .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ صَلَّى الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ بَيْضَاءُ نَقِيَّةٌ ، فَقَدْ صَلَّاهَا فِي وَقْتهَا .
وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مُرَاعَاةَ الْمِثْلَيْنِ عِنْدَهُمْ اسْتِحْبَابٌ ، وَلَعَلَّهُمَا مُتَقَارِبَانِ يُوجَدُ أَحَدُهُمَا قَرِيبًا مِنْ الْآخَرِ .
( 521 ) فَصْلٌ : وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْعَصْرِ عَنْ وَقْتِ الِاخْتِيَارِ لِغَيْرِ عُذْرٍ ؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَخْبَارِ ، وَرَوَى مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد بِإِسْنَادِهِمَا ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِينَ ، تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِينَ ، تِلْكَ

صَلَاةُ الْمُنَافِقِينَ ، يَجْلِسُ أَحَدُهُمْ ، حَتَّى إذَا اصْفَرَّتْ الشَّمْسُ ، فَكَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ ، أَوْ عَلَى قَرْنَيْ شَيْطَانٍ ، قَامَ ، فَنَقَرَ أَرْبَعًا ، لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إلَّا قَلِيلًا } وَلَوْ أُبِيحَ تَأْخِيرُهَا لَمَا ذَمَّهُ عَلَيْهِ ، وَجَعَلَهُ عَلَامَةَ النِّفَاقِ .

( 522 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَمَنْ أَدْرَكَ مِنْهَا رَكْعَةً قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ ، فَقَدْ أَدْرَكَهَا مَعَ الضَّرُورَةِ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ أَخَّرَ الصَّلَاةَ ثُمَّ أَدْرَكَ مِنْهَا رَكْعَةً قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ ، فَهُوَ مُدْرِكٌ لَهَا ، وَمُؤَدٍّ لَهَا فِي وَقْتِهَا ، سَوَاءٌ أَخَّرَهَا لِعُذْرٍ أَوْ لِغَيْرِ عُذْرٍ ، إلَّا أَنَّهُ إنَّمَا يُبَاحُ تَأْخِيرُهَا لِعُذْرٍ وَضَرُورَةٍ ، كَحَائِضٍ تَطْهُرُ ، أَوْ كَافِرٍ يُسْلِمُ ، أَوْ صَبِيٍّ يَبْلُغُ ، أَوْ مَجْنُونٍ يُفِيقُ ، أَوْ نَائِمٍ يَسْتَيْقِظُ ، أَوْ مَرِيضٍ يَبْرَأُ ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ : " مَعَ الضَّرُورَةِ " .
فَأَمَّا إدْرَاكُهَا بِإِدْرَاكِ رَكْعَةٍ مِنْهَا ، فَيَسْتَوِي فِيهِ الْمَعْذُورُ وَغَيْرُهُ ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الصَّلَوَاتِ يُدْرِكُهَا بِإِدْرَاكِ رَكْعَةٍ مِنْهَا فِي وَقْتِهَا ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الصَّلَاةِ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَفِي رِوَايَةٍ { مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَلَا أَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا

( 523 ) فَصْلٌ : وَهَلْ يُدْرِكُ الصَّلَاةَ بِإِدْرَاكِ مَا دُونَ رَكْعَةٍ ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا لَا يُدْرِكُهَا بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ وَمَذْهَبُ مَالِكٍ ؛ لِظَاهِرِ الْخَبَرِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ ، فَإِنَّ تَخْصِيصَهُ الْإِدْرَاكَ بِرَكْعَةٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِدْرَاكَ لَا يَحْصُلُ بِأَقَلَّ مِنْهَا ؛ وَلِأَنَّهُ إدْرَاكٌ لِلصَّلَاةِ ، فَلَا يَحْصُلُ بِأَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ كَإِدْرَاكِ الْجُمُعَةِ .
وَالثَّانِيَةُ ، يُدْرِكُهَا بِإِدْرَاكِ جُزْءٍ مِنْهَا ، أَيِّ جُزْءٍ كَانَ .
قَالَ الْقَاضِي : ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَكُونُ مُدْرِكًا لَهَا بِإِدْرَاكِهِ .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : مَنْ أَدْرَكَ مِنْ الصَّلَاةِ مِقْدَارَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ الْوَقْتُ فَقَدْ أَدْرَكَهَا .
وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَلِلشَّافِعِي قَوْلَانِ كَالْمَذْهَبَيْنِ .
وَلِأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَوَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ أَدْرَكَ سَجْدَةً مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ ، وَإِذَا أَدْرَكَ سَجْدَةً مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ ، } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَلِلنَّسَائِيِّ { فَقَدْ أَدْرَكَهَا } ؛ وَلِأَنَّ الْإِدْرَاكَ إذَا تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمٌ فِي الصَّلَاةِ اسْتَوَى فِيهِ الرَّكْعَةُ وَمَا دُونَهَا ، كَإِدْرَاكِ الْجَمَاعَةِ ، وَإِدْرَاكِ الْمُسَافِرِ صَلَاةَ الْمُقِيمِ ، وَلَفْظُ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ يَدُلُّ بِمَفْهُومِهِ ، وَالْمَنْطُوقُ أَوْلَى مِنْهُ ، وَالْقِيَاسُ يَبْطُلُ بِإِدْرَاكِ رَكْعَةٍ دُونَ تَشَهُّدِهَا .

( 524 ) فَصْلٌ : وَصَلَاةُ الْعَصْرِ هِيَ الصَّلَاةُ الْوُسْطَى ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِمْ ، مِنْهُمْ : عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ ، وَأَبُو أَيُّوبَ ، وَأَبُو سَعِيدٍ وَعَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ ، وَالْحَسَنُ ، وَالضَّحَّاكُ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَأَصْحَابُهُ .
وَرُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَعَائِشَةَ أَنَّهَا صَلَاةُ الظُّهْرِ .
وَبِهِ .
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الظُّهْرَ بِالْهَاجِرَةِ ، وَلَمْ يَكُنْ يُصَلِّي صَلَاةً أَشَدَّ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا ، فَنَزَلَتْ : { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى } } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَرَوَتْ عَائِشَةُ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَرَأَ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى صَلَاةِ الْعَصْرِ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ .
وَقَالَ طَاوُسٌ ، وَعَطَاءٌ ، وَعِكْرِمَةُ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَالشَّافِعِيُّ : هِيَ الصُّبْحُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ } وَالْقُنُوتُ طُولُ الْقِيَامِ ، وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِالصُّبْحِ ؛ وَلِأَنَّهَا مِنْ أَثْقَلِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ ، وَلِهَذَا اُخْتُصَّتْ بِالْوَصِيَّةِ وَبِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ } يَعْنِي صَلَاةَ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ ، وَرَوَى جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : { كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ نَظَرَ إلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ ، فَقَالَ : أَمَّا إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ ، لَا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ ، فَإِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تَغْلِبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَلِلْبُخَارِيِّ {

فَافْعَلُوا } ثُمَّ قَرَأَ جَرِيرٌ { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ ، فَيَسْأَلُهُمْ ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ : كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي ؟ فَيَقُولُونَ : تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ ، وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ صَلَّى الْبَرْدَيْنِ دَخَلَ الْجَنَّةَ } يُرِيدُ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ .
وَقَالَ : { لَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي صَلَاةِ الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا } مُتَّفَقٌ عَلَى هَذِهِ الْأَحَادِيثِ .
وَقِيلَ : هِيَ الْمَغْرِبُ ؛ لِأَنَّ الْأُولَى هِيَ الظُّهْرُ ، فَتَكُونُ الْمَغْرِبُ الثَّالِثَةَ ، وَالثَّالِثَةُ مِنْ كُلِّ خَمْسٍ هِيَ الْوُسْطَى ؛ وَلِأَنَّهَا وُسْطَى فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ ، وَوُسْطَى فِي الْأَوْقَاتِ ؛ لِأَنَّ عَدَدَ رَكَعَاتِهَا ثَلَاثٌ ، فَهِيَ وُسْطَى بَيْنَ الْأَرْبَعِ وَالِاثْنَيْنِ ، وَوَقْتُهَا فِي آخِرِ النَّهَارِ وَأَوَّلِ اللَّيْلِ ، وَخُصَّتْ مِنْ بَيْنِ الصَّلَاةِ بِأَنَّهَا وِتْرٌ ، وَاَللَّهُ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ ، وَبِأَنَّهَا تُصَلَّى فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا فِي جَمِيعِ الْأَمْصَارِ وَالْأَعْصَارِ .
وَيُكْرَهُ تَأْخِيرُهَا عَنْهُ ، وَكَذَلِكَ صَلَّاهَا جِبْرِيلُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَوْمَيْنِ لِوَقْتٍ وَاحِدٍ ، وَلِذَلِكَ ذَهَبَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ إلَى أَنَّهَا لَيْسَ لَهَا إلَّا وَقْتٌ وَاحِدٌ لِذَلِكَ ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَزَالُ أُمَّتِي ، أَوْ قَالَ : هَذِهِ الْأُمَّةُ بِخَيْرٍ أَوْ قَالَ عَلَى الْفِطْرَةِ ، مَا لَمْ يُؤَخِّرُوا الْمَغْرِبَ إلَى أَنْ تَشْتَبِكَ النُّجُومُ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَقِيلَ : هِيَ الْعِشَاءُ ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ ، قَالَ : { مَكَثْنَا لَيْلَةً نَنْتَظِرُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِصَلَاةِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ ، فَخَرَجَ

إلَيْنَا حِينَ ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ أَوْ بَعْدَهُ ، فَقَالَ : إنَّكُمْ لَتَنْتَظِرُونَ صَلَاةً مَا يَنْتَظِرُهَا أَهْلُ دِينٍ غَيْرُكُمْ ، وَلَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَصَلَّيْت بِهِمْ هَذِهِ السَّاعَةَ .
وَقَالَ : إنَّ أَثْقَلَ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ صَلَاةُ الْغَدَاةِ وَالْعِشَاءِ الْآخِرَةِ ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا .
وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ : شَغَلُونَا عَنْ صَلَاةِ الْوُسْطَى صَلَاةِ الْعَصْرِ مَلَأَ اللَّهُ بُيُوتَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { صَلَاةُ الْوُسْطَى صَلَاةُ الْعَصْرِ .
} وَعَنْ سَمُرَةَ مِثْلُهُ ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَهَذَا نَصٌّ لَا يَجُوزُ التَّعْرِيجُ مَعَهُ عَلَى شَيْءٍ يُخَالِفُهُ ؛ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الَّذِي تَفُوتُهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَقَالَ : { مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ حَبِطَ عَمَلُهُ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ، وَابْنُ مَاجَهْ وَقَالَ : { إنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ عُرِضَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَضَيَّعُوهَا ، فَمَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا كَانَ لَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ ، وَلَا صَلَاةَ بَعْدَهَا حَتَّى يَطْلُعَ الشَّاهِدُ } يَعْنِي النَّجْمَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمَا ذُكِرَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ فَقَدْ شَارَكَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ فِي أَكْثَرِهِ ، وَرِوَايَةُ عَائِشَةَ " وَصَلَاةُ الْعَصْرِ " فَالْوَاوُ زَائِدَةٌ كَالْوَاوِ فِي قَوْله تَعَالَى { وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ } وَفِي قَوْلِهِ { وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ } وَقَوْلِهِ : { وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ } فَالْقُنُوتُ قِيلَ : هُوَ الطَّاعَةُ .
أَيْ قُومُوا لِلَّهِ مُطِيعِينَ .
وَقِيلَ : الْقُنُوتُ السُّكُوتُ .
قَالَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ : كُنَّا نَتَكَلَّمُ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى نَزَلَتْ {

وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ } فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ ، وَنُهِينَا عَنْ الْكَلَامِ .
ثُمَّ مَا رَوَيْنَا نَصٌّ صَرِيحٌ .
فَكَيْفَ يُتْرَكُ بِمِثْلِ هَذَا الْوَهْمِ ، أَوْ يُعَارَضُ بِهِ ؟

( 525 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَإِذَا غَابَتْ الشَّمْسُ وَجَبَتْ الْمَغْرِبُ ، وَلَا يُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُهَا إلَى أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ أَمَّا دُخُولُ وَقْتِ الْمَغْرِبِ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ فَإِجْمَاعُ أَهْلِ الْعِلْمِ .
لَا نَعْلَمُ بَيْنَهُمْ خِلَافًا فِيهِ ، وَالْأَحَادِيثُ دَالَّةٌ عَلَيْهِ .
وَآخِرُهُ : مَغِيبُ الشَّفَقِ .
وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ، وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ مَالِكٌ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ لَيْسَ لَهَا إلَّا وَقْتٌ وَاحِدٌ ، عِنْدَ مَغِيبِ الشَّمْسِ ؛ لِأَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ صَلَّاهَا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَوْمَيْنِ لِوَقْتٍ وَاحِدٍ ، فِي بَيَانِ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَزَالُ أُمَّتِي بِخَيْرٍ مَا لَمْ يُؤَخِّرُوا الْمَغْرِبَ إلَى أَنْ يَشْتَبِكَ النَّجْمُ } ؛ وَلِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ مُجْمِعُونَ عَلَى فِعْلِهَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ .
وَعَنْ طَاوُسٍ : لَا تَفُوتُ الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ حَتَّى الْفَجْرِ .
وَنَحْوُهُ عَنْ عَطَاءٍ ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ .
وَلَنَا حَدِيثُ بُرَيْدَةَ { ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الْمَغْرِبَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي حِينَ غَابَ الشَّفَقُ } وَفِي لَفْظٍ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ : { فَأَخَّرَ الْمَغْرِبَ إلَى أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ .
} وَرَوَى أَبُو مُوسَى { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَّرَ الْمَغْرِبَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي حَتَّى كَانَ عِنْدَ سُقُوطِ الشَّفَقِ .
} رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { وَقْتُ الْمَغْرِبِ مَا لَمْ يَغِبْ الشَّفَقُ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ لِلصَّلَاةِ أَوَّلًا وَآخِرًا ، وَإِنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الْمَغْرِبِ حِينَ تَغْرُبُ الشَّمْسُ ، وَإِنَّ آخِرَ وَقْتِهَا حِينَ يَغِيبُ الْأُفُقُ } .
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ

وَهَذِهِ نُصُوصٌ صَحِيحَةٌ ، لَا يَجُوزُ مُخَالَفَتُهَا بِشَيْءٍ مُحْتَمَلٍ ؛ وَلِأَنَّهَا إحْدَى الصَّلَوَاتِ ، فَكَانَ لَهَا وَقْتٌ مُتَّسِعٌ كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ ؛ وَلِأَنَّهَا إحْدَى صَلَاتَيْ جَمْعٍ ، فَكَانَ وَقْتُهَا مُتَّصِلًا بِوَقْتِ الَّتِي تُجْمَعُ إلَيْهَا كَالظُّهْرِ وَالْعَصْرِ ؛ وَلِأَنَّ مَا قَبْلَ مَغِيبِ الشَّفَقِ وَقْتٌ لِاسْتِدَامَتِهَا ، فَكَانَ وَقْتًا لِابْتِدَائِهَا كَأَوَّلِ وَقْتِهَا .
وَأَحَادِيثُهُمْ مَحْمُولَةٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَالِاخْتِيَارِ ، وَكَرَاهَةِ التَّأْخِيرِ ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْخِرَقِيِّ " وَلَا يُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُهَا " .
فَإِنَّ الْأَحَادِيثَ فِيهَا تَأْكِيدٌ لِفِعْلِهَا فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا ، وَأَقَلُّ أَحْوَالِهَا تَأْكِيدُ الِاسْتِحْبَابِ .
وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّ الْأَحَادِيثَ مُتَعَارِضَةٌ وَجَبَ حَمْلُ أَحَادِيثِهِمْ عَلَى أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ ؛ لِأَنَّهَا فِي أَوَّلِ فَرْضِ الصَّلَاةِ بِمَكَّةَ ، وَأَحَادِيثُنَا بِالْمَدِينَةِ مُتَأَخِّرَةٌ ، فَتَكُنْ نَاسِخَةً لِمَا قَبْلَهَا مِمَّا يُخَالِفُهَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( 526 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( فَإِذَا غَابَ الشَّفَقُ ، وَهُوَ الْحُمْرَةُ فِي السَّفَرِ ، وَفِي الْحَضَرِ الْبَيَاضُ ؛ لِأَنَّ فِي الْحَضَرِ قَدْ تَنْزِلُ الْحُمْرَةُ فَتُوَارِيهَا الْجُدْرَانُ ، فَيُظَنُّ أَنَّهَا قَدْ غَابَتْ ، فَإِذَا غَابَ الْبَيَاضُ فَقَدْ تُيُقِّنَ ، وَوَجَبَتْ عِشَاءُ الْآخِرَةِ إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ ) لَا خِلَافَ فِي دُخُولِ وَقْتِ الْعِشَاءِ بِغَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الشَّفَقِ مَا هُوَ ؟ فَمَذْهَبُ إمَامِنَا ، رَحِمَهُ اللَّهُ ، أَنَّ الشَّفَقَ الَّذِي يَخْرُجُ بِهِ وَقْتُ الْمَغْرِبِ ، وَيَدْخُلُ بِهِ وَقْتُ الْعِشَاءِ ، هُوَ الْحُمْرَةُ .
وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَعَطَاءٍ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، وَالزُّهْرِيِّ ، وَمَالِكٍ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَإِسْحَاقَ ، وَصَاحِبَيْ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَعَنْ أَنَسٍ ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ : الشَّفَقُ الْبَيَاضُ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ ؛ لِأَنَّ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ قَالَ : أَنَا أَعْلَمُ النَّاسِ بِوَقْتِ هَذِهِ الصَّلَاةِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ، كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّيهَا لِسُقُوطِ الْقَمَرِ لِثَالِثَةٍ .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ ، قَالَ : { رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي هَذِهِ الصَّلَاةَ حِينَ يَسْوَدُّ الْأُفُقُ .
} وَلَنَا ، مَا رَوَتْ عَائِشَةُ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : { أَعْتَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعِشَاءِ حَتَّى نَادَاهُ عُمَرُ بِالصَّلَاةِ : نَامَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ .
فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : مَا يَنْتَظِرُهَا أَحَدٌ غَيْرُكُمْ قَالَ : وَلَا يُصَلِّي يَوْمَئِذٍ إلَّا بِالْمَدِينَةِ وَكَانَ يُصَلُّونَ فِيمَا بَيْنَ أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ الْأَوَّلُ إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ .
} رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالشَّفَقُ الْأَوَّلُ هُوَ الْحُمْرَةُ .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

{ وَقْتُ الْمَغْرِبِ مَا لَمْ يَسْقُطْ فَوْرُ الشَّفَقِ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَرُوِيَ " ثَوْرُ الشَّفَقِ " وَفَوْرُ الشَّفَقِ : فَوَرَانُهُ وَسُطُوعُهُ .
وَثَوْرُهُ : ثَوَرَانُ حُمْرَتِهِ ، وَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُ هَذَا الْحُمْرَةَ ، وَآخِرُ وَقْتِ الْمَغْرِبِ أَوَّلُ وَقْتِ الْعِشَاءِ .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الشَّفَقُ الْحُمْرَةُ ، فَإِذَا غَابَ الشَّفَقُ وَجَبَتْ الْعِشَاءُ } رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَمَا رَوَوْهُ لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ ، فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ عَنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ قَلِيلًا ، وَهُوَ الْأَفْضَلُ وَالْأَوْلَى ، وَلِهَذَا رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { قَالَ لِبِلَالٍ : اجْعَلْ بَيْنَ أَذَانِك وَإِقَامَتِك قَدْرَ مَا يَفْرُغُ الْآكِلُ مِنْ أَكْلِهِ ، وَالْمُتَوَضِّئُ مِنْ وُضُوئِهِ ، وَالْمُعْتَصِرُ إذَا دَخَلَ لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ } إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّهُ إنْ كَانَ فِي مَكَان يَظْهَرُ لَهُ الْأُفُقُ ، وَيَبِينُ لَهُ مَغِيبُ الشَّفَقِ ، فَمَتَى ذَهَبَتْ الْحُمْرَةُ وَغَابَتْ ، دَخَلَ وَقْتُ الْعِشَاءِ ، وَإِنْ كَانَ فِي مَكَان يَسْتَتِرُ عَنْهُ الْأُفُقُ بِالْجُدْرَانِ وَالْجِبَالِ ، اسْتَظْهَرَ حَتَّى يَغِيبَ الْبَيَاضُ ، لِيَسْتَدِلَّ بِغَيْبَتِهِ عَلَى مَغِيبِ الْحُمْرَةِ ، فَيَعْتَبِرُ غَيْبَةَ الْبَيَاضِ ، لِدَلَالَتِهِ عَلَى مَغِيبِ الْحُمْرَةِ لَا لِنَفْسِهِ .

( 527 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( فَإِذَا ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ ذَهَبَ وَقْتُ الِاخْتِيَارِ ، وَوَقْتُ الضَّرُورَةِ مُبْقًى إلَى أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ الثَّانِي ، وَهُوَ الْبَيَاضُ الَّذِي يُرَى مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ ، فَيَنْتَشِرُ ، وَلَا ظُلْمَةَ بَعْدَهُ ) اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي آخِرِ وَقْتِ الِاخْتِيَارِ ، فَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ ثُلُثُ اللَّيْلِ ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَبِي هُرَيْرَةَ ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَمَالِكٍ ؛ لِأَنَّ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ ، أَنَّهُ صَلَّى بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ ثُلُثَ اللَّيْلِ ، وَقَالَ : { الْوَقْتُ فِيمَا بَيْنَ هَذَيْنِ } وَفِي حَدِيثِ بُرَيْدَةَ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّاهَا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي ثُلُثَ اللَّيْلِ } وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { صَلُّوا فِيمَا بَيْنَ أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ } وَفِي حَدِيثِهَا الْآخَرِ : وَكَانُوا يُصَلُّونَ فِيمَا بَيْنَ أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ الْأَوَّلُ إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ .
وَلِأَنَّ ثُلُثَ اللَّيْلِ يَجْمَعُ الرِّوَايَاتِ ، وَالزِّيَادَةُ تَعَارَضْت الْأَخْبَارُ فِيهَا ، فَكَانَ ثُلُثُ اللَّيْلِ أَوْلَى ، وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ أَنَّ آخِرَهُ نِصْفُ اللَّيْلِ .
وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ ، وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ ، لِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : { أَخَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْعِشَاءِ إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ .
} رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَوْلَا ضَعْفُ الضَّعِيفِ ، وَسَقَمُ السَّقِيمِ ، لَأَمَرْت بِهَذِهِ الصَّلَاةِ أَنْ تُؤَخَّرَ إلَى شَطْرِ اللَّيْلِ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ ، وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ

{ وَقْتُ الْعِشَاءِ إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْأَوْلَى إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ لَا يُؤَخِّرَهَا عَنْ ثُلُثِ اللَّيْلِ ، وَإِنْ أَخَّرَهَا إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ جَازَ ، وَمَا بَعْدَ النِّصْفِ وَقْتُ ضَرُورَةٍ ، الْحُكْمُ فِيهِ حُكْمُ وَقْتِ الضَّرُورَةِ فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ ، عَلَى مَا مَضَى شَرْحُهُ وَبَيَانُهُ ، ثُمَّ لَا يَزَالُ الْوَقْتُ مُمْتَدًّا حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ الثَّانِي .
( 528 ) فَصْلٌ : وَتُسَمَّى هَذِهِ الصَّلَاةُ الْعِشَاءَ ، وَلَا يُسْتَحَبُّ تَسْمِيَتُهَا الْعَتَمَةَ ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ : الْعَتَمَةُ .
صَاحَ وَغَضِبَ ، وَقَالَ : إنَّمَا هُوَ الْعِشَاءُ وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تَغْلِبَنَّكُمْ الْأَعْرَابُ عَلَى اسْمِ صَلَاتِكُمْ ، فَإِنَّهَا الْعِشَاءُ ، وَإِنَّهُمْ يُعْتِمُونَ بِالْإِبِلِ } وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلُهُ .
رَوَاهُمَا ابْنُ مَاجَهْ وَإِنْ سَمَّاهَا الْعَتَمَةَ جَازَ ؛ فَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُعَاذٍ ، أَنَّهُ قَالَ : أَبْقَيْنَا - يَعْنِي - انْتَظَرْنَا - رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلَاةِ الْعَتَمَةِ ؛ وَلِأَنَّ هَذَا نِسْبَةٌ لَهَا إلَى الْوَقْتِ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ ، فَأَشْبَهَتْ صَلَاةَ الصُّبْحِ وَالظُّهْرِ وَسَائِرَ الصَّلَوَاتِ

( 529 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَإِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ الثَّانِي وَجَبَتْ صَلَاةُ الصُّبْحِ وَالْوَقْتُ مُبْقًى إلَى مَا قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ ، وَمَنْ أَدْرَكَ مِنْهَا رَكْعَةً قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ فَقَدْ أَدْرَكَهَا ، وَهَذَا مَعَ الضَّرُورَةِ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ وَقْتَ الصُّبْحِ يَدْخُلُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي إجْمَاعًا ، وَقَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ أَخْبَارُ الْمَوَاقِيتِ ، وَهُوَ الْبَيَاضُ الْمُسْتَطِيرُ الْمُنْتَشِرُ فِي الْأُفُقِ ، وَيُسَمَّى الْفَجْرَ الصَّادِقَ ؛ لِأَنَّهُ صَدَقَك عَنْ الصُّبْحِ وَبَيَّنَهُ لَك ، وَالصُّبْحُ مَا جَمَعَ بَيَاضًا وَحُمْرَةً ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الرَّجُلُ الَّذِي فِي لَوْنِهِ بَيَاضٌ وَحُمْرَةٌ أَصْبَحَ ، وَأَمَّا الْفَجْرُ الْأَوَّلُ ، فَهُوَ الْبَيَاضُ الْمُسْتَدَقُّ صَعِدًا مِنْ غَيْرِ اعْتِرَاضٍ ، فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ ، وَيُسَمَّى الْفَجْرَ الْكَاذِبَ .
ثُمَّ لَا يَزَالُ وَقْتُ الِاخْتِيَارِ إلَى أَنْ يُسْفِرَ النَّهَارُ ؛ لِمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ وَبُرَيْدَةَ وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ وَقْتُ عُذْرٍ وَضَرُورَةٍ ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو : { وَوَقْتُ الْفَجْرِ مَا لَمْ تَطْلُعْ الشَّمْسُ .
وَمَنْ أَدْرَكَ مِنْهَا رَكْعَةً قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ كَانَ مُدْرِكًا لَهَا } وَفِي إدْرَاكِهَا بِمَا دُونَ ذَلِكَ اخْتِلَافٌ قَدْ ذَكَرْنَاهُ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ ، فِيمَنْ طَلَعْت الشَّمْسُ وَقَدْ صَلَّى رَكْعَةً : تَفْسُدُ صَلَاتُهُ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ فِي وَقْتٍ نُهِيَ عَنْ الصَّلَاةِ فِيهِ .
وَهَذَا لَا يَصِحُّ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَفِي رِوَايَةٍ { مَنْ أَدْرَكَ سَجْدَةً مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ؛ وَلِأَنَّهُ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا ، فَكَانَ مُدْرِكًا لَهَا فِي وَقْتِهَا ، كَبَقِيَّةِ الصَّلَوَاتِ ، وَإِنَّمَا نُهِيَ عَنْ النَّافِلَةِ ،

فَأَمَّا الْفَرَائِضُ فَتُصَلَّى فِي كُلِّ وَقْتٍ ، بِدَلِيلِ أَنَّ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقْتُ نَهْيٍ أَيْضًا ، وَلَا يُمْنَعُ مِنْ فِعْلِ الْفَجْرِ فِيهِ

( 530 ) فَصْلٌ : إذَا شَكَّ فِي دُخُولِ الْوَقْتِ ، لَمْ يُصَلِّ حَتَّى يَتَيَقَّنَ دُخُولَهُ ، أَوْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ ذَلِكَ ، مِثْلُ مَنْ هُوَ ذُو صَنْعَةٍ جَرَتْ عَادَتُهُ بِعَمَلِ شَيْءٍ مُقَدَّرٍ إلَى وَقْتِ الصَّلَاةِ ، أَوْ قَارِئٍ جَرَتْ عَادَتُهُ بِقِرَاءَةِ جُزْءٍ فَقَرَأَهُ ، وَأَشْبَاهِ هَذَا ، فَمَتَى فَعَلَ ذَلِكَ ، وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ دُخُولُ الْوَقْتِ ، أُبِيحَتْ لَهُ الصَّلَاةُ ، وَيُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُهَا قَلِيلًا احْتِيَاطًا ، لِتَزْدَادَ غَلَبَةُ ظَنِّهِ ، إلَّا أَنْ يَخْشَى خُرُوجَ الْوَقْتِ ، أَوْ تَكُونَ صَلَاةُ الْعَصْرِ فِي وَقْتِ الْغَيْمِ ، فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ التَّبْكِيرُ بِهَا ؛ لِمَا رَوَى بُرَيْدَةَ ، قَالَ : { كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزَاةٍ ، فَقَالَ : بَكِّرُوا بِصَلَاةِ الْعَصْرِ فِي الْغَيْمِ ، فَإِنَّهُ مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ حَبِطَ عَمَلُهُ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ، وَابْنُ مَاجَهْ وَمَعْنَاهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - التَّبْكِيرُ بِهَا إذَا دَخَلَ وَقْتُ فِعْلِهَا ، لِيَقِينٍ ، أَوْ غَلَبَةِ ظَنٍّ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ وَقْتَهَا الْمُخْتَارَ فِي زَمَنِ الشِّتَاءِ يَضِيقُ ، فَيُخْشَى خُرُوجُهُ .
( 531 ) فَصْلٌ : وَمَنْ أَخْبَرَهُ ثِقَةٌ عَنْ عِلْمٍ عَمِلَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ دِينِيٌّ ، فَقُبِلَ فِيهِ قَوْلُ الْوَاحِدِ كَالرِّوَايَةِ ، وَإِنْ أَخْبَرَهُ عَنْ اجْتِهَادِهِ لَمْ يُقَلِّدْهُ ، وَاجْتَهَدَ لِنَفْسِهِ ، حَتَّى يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ ؛ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى الصَّلَاةِ بِاجْتِهَادِ نَفْسِهِ ، فَلَمْ يُصَلِّ بِاجْتِهَادِ غَيْرِهِ ، كَحَالَةِ اشْتِبَاهِ الْقِبْلَةِ .
وَالْبَصِيرُ وَالْأَعْمَى وَالْمَطْمُورُ الْقَادِرُ عَلَى التَّوَصُّلِ إلَى الِاسْتِدْلَالِ سَوَاءٌ ؛ لِاسْتِوَائِهِمْ فِي إمْكَانِ التَّقْدِيرِ بِمُرُورِ الزَّمَانِ ، كَمَا بَيَّنَّا ، فَمَتَى صَلَّى فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ ، فَبَانَ أَنَّهُ وَافَقَ الْوَقْتَ أَوْ بَعْدَهُ أَجْزَأَهُ ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى مَا فُرِضَ عَلَيْهِ ، وَخُوطِبَ بِأَدَائِهِ ، وَإِنْ بَانَ أَنَّهُ صَلَّى قَبْلَ الْوَقْتِ لَمْ يُجْزِهِ ؛ لِأَنَّ الْمُخَاطَبَةَ بِالصَّلَاةِ وَسَبَبَ الْوُجُوبِ وُجِدَ بَعْدَ فِعْلِهِ ، فَلَمْ

يَسْقُطْ حُكْمُهُ بِمَا وُجِدَ قَبْلَهُ .
وَإِنْ صَلَّى مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ مَعَ الشَّكِّ ، لَمْ تُجْزِهِ صَلَاتُهُ ، سَوَاءٌ أَصَابَ أَوْ أَخْطَأَ لِأَنَّهُ صَلَّى مَعَ الشَّكِّ فِي شَرْطِ الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ ، فَلَمْ يَصِحَّ ، كَمَا لَوْ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ فَصَلَّى مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ .

( 532 ) فَصْلٌ : وَإِذَا سَمِعَ الْأَذَانَ مِنْ ثِقَةٍ عَالِمٍ بِالْوَقْتِ ، فَلَهُ تَقْلِيدُهُ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يُؤَذِّنُ إلَّا بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ ، فَجَرَى مَجْرَى خَبَرِهِ ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمُؤَذِّنُ مُؤْتَمَنٌ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَلَوْلَا أَنَّهُ يُقَلِّدُ وَيُرْجَعُ إلَيْهِ مَا كَانَ مُؤْتَمَنًا ، وَجَاءَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : { خَصْلَتَانِ مُعَلَّقَتَانِ فِي أَعْنَاقِ الْمُؤَذِّنِينَ لِلْمُسْلِمِينَ صَلَاتُهُمْ وَصِيَامُهُمْ } رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
وَلِأَنَّ الْآذَانَ مَشْرُوعٌ لِلْإِعْلَامِ بِالْوَقْتِ فَلَوْ لَمْ يَجُزْ تَقْلِيدُ الْمُؤَذِّنِ لَمْ تَحْصُلْ الْحِكْمَةُ الَّتِي شُرِعَ الْآذَانُ مِنْ أَجْلِهَا ، وَلَمْ يَزَلْ النَّاسُ يَجْتَمِعُونَ فِي مَسَاجِدِهِمْ وَجَوَامِعِهِمْ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ ، فَإِذَا سَمِعُوا الْآذَانَ قَامُوا إلَى الصَّلَاةِ ، وَبَنَوْا عَلَى أَذَانِ الْمُؤَذِّنِ مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ فِي الْوَقْتِ ، وَلَا مُشَاهَدَةِ مَا يَعْرِفُونَهُ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ ، فَكَانَ إجْمَاعًا .

( 533 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَالصَّلَاةُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ أَفْضَلُ ، إلَّا عِشَاءَ الْآخِرَةِ ، وَفِي شِدَّةِ الْحَرِّ الظُّهْرَ ) .
وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْأَوْقَاتَ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ : وَقْتُ فَضِيلَةٍ ، وَجَوَازٍ ، وَضَرُورَةٍ .
فَأَمَّا وَقْتُ الْجَوَازِ وَالضَّرُورَةِ ، فَقَدْ ذَكَرْنَاهُمَا ، وَأَمَّا وَقْتُ الْفَضِيلَةِ فَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ قَالَ أَحْمَدُ : أَوَّلُ الْوَقْتِ أَعْجَبُ إلَيَّ ، إلَّا فِي صَلَاتَيْنِ : صَلَاةُ الْعِشَاءِ ، وَصَلَاةُ الظُّهْرِ يُبْرَدُ بِهَا فِي الْحَرِّ ، رَوَاهُ الْأَثْرَمُ .
وَهَكَذَا كَانَ يُصَلِّي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ سَيَّارُ بْنُ سَلَامَةَ : دَخَلْت أَنَا وَأَبِي عَلَى أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ فَسَأَلَهُ أَبِي { : كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ ؟ قَالَ : كَانَ يُصَلِّي الْهَجِيرَ ، الَّتِي يَدْعُونَهَا الْأُولَى ، حِينَ تُدْحَضُ الشَّمْسُ ، وَيُصَلِّي الْعَصْرَ ، ثُمَّ يَرْجِعُ أَحَدُنَا إلَى رَحْلِهِ فِي أَقْصَى الْمَدِينَةِ وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ وَنَسِيت مَا قَالَ فِي الْمَغْرِبِ .
قَالَ : وَكَانَ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَخِّرَ مِنْ الْعِشَاءِ الَّتِي تَدْعُونَهَا الْعَتَمَةَ ، وَكَانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَهَا وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا ، وَكَانَ يَنْفَتِلُ مِنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ حِينَ يَعْرِفُ الرَّجُلُ جَلِيسَهُ ، وَيَقْرَأُ بِالسِّتِّينَ إلَى الْمِائَةِ .
} ، وَقَالَ جَابِرٌ { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الظُّهْرَ بِالْهَاجِرَةِ ، وَالْعَصْرَ وَالشَّمْسُ نَقِيَّةٌ ، وَالْمَغْرِبَ إذَا وَجَبَتْ ، وَالْعِشَاءَ أَحْيَانًا ، وَأَحْيَانًا إذَا رَآهُمْ اجْتَمَعُوا عَجَّلَ ، وَإِذَا رَآهُمْ قَدْ أَبْطَئُوا أَخَّرَ ، وَالصُّبْحُ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّيهَا بِغَلَسٍ ، } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا وَقَدْ رَوَى الْأُمَوِيُّ ، فِي " الْمَغَازِي " حَدِيثًا أَسْنَدَهُ إلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ ، قَالَ { : لَمَّا بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْيَمَنِ ، قَالَ : أَظْهِرْ كَبِيرَ

الْإِسْلَامِ وَصَغِيرَهُ ، وَلْيَكُنْ مِنْ أَكْبَرِهَا الصَّلَاةُ ، فَإِنَّهَا رَأْسُ الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِالدِّينِ ، إذَا كَانَ الشِّتَاءُ فَصَلِّ صَلَاةَ الْفَجْرِ فِي أَوَّلِ الْفَجْرِ ، ثُمَّ أَطِلْ الْقِرَاءَةَ عَلَى قَدْرِ مَا تُطِيقُ ، وَلَا تُمِلَّهُمْ ، وَتُكَرِّهْ إلَيْهِمْ أَمْرَ اللَّهِ ، ثُمَّ عَجِّلْ الصَّلَاةَ الْأُولَى بَعْدَ أَنْ تَمِيلَ الشَّمْسُ ، وَصَلِّ الْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ فِي الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ عَلَى مِيقَاتٍ وَاحِدٍ ؛ الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ بَيْضَاءُ مُرْتَفِعَةٌ ، وَالْمَغْرِبَ حِينَ تَغِيبُ الشَّمْسُ ، وَتَوَارَى بِالْحِجَابِ ، وَصَلِّ الْعِشَاءَ فَأَعْتِمْ بِهَا ، فَإِنَّ اللَّيْلَ طَوِيلٌ ، فَإِذَا كَانَ الصَّيْفُ فَأَسْفِرْ بِالصُّبْحِ ، فَإِنَّ اللَّيْلَ قَصِيرٌ .
وَإِنَّ النَّاسَ يَنَامُونَ ، فَأَمْهِلْهُمْ حَتَّى يُدْرِكُوهَا ، وَصَلِّ الظُّهْرَ بَعْدَ أَنْ يَنْقُصَ الظِّلُّ وَتَتَحَرَّكَ الرِّيحُ ، فَإِنَّ النَّاسَ يَقِيلُونَ ، فَأَمْهِلْهُمْ حَتَّى يُدْرِكُوهَا ، وَصَلِّ الْعَتَمَةَ فَلَا تُعْتِمْ بِهَا ، وَلَا تُصَلِّهَا حَتَّى يَغِيبَ الشَّفَقُ } وَرَوَى أَيْضًا فِي كِتَابِهِ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : وَالصَّلَاةُ لَهَا وَقْتٌ شَرَطَهُ اللَّهُ ، لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ إلَّا بِهِ ؛ وَقْتُ صَلَاةِ الْفَجْرِ حِينَ يُزَايِلُ الرَّجُلُ أَهْلَهُ وَيَحْرُمُ عَلَى الصَّائِمِ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ ، فَأَعْطُوهَا نَصِيبَهَا مِنْ الْقِرَاءَةِ ، وَوَقْتُ صَلَاةِ الظُّهْرِ إذَا كَانَ الْقَيْظُ وَاشْتَدَّ الْحَرُّ ، حِينَ يَكُونُ ظِلُّك مِثْلَك ، وَذَلِكَ حِينَ يُهَجِّرُ الْمُهَجِّرُ وَذَلِكَ لِئَلَّا يَرْقُدَ عَنْ الصَّلَاةِ ، فَإِذَا كَانَ فِي الشِّتَاءِ فَحِينَ تَزِيغُ عَنْ الْفَلَكِ حَتَّى تَكُونَ عَلَى حَاجِبِك الْأَيْمَنِ ، وَالْعَصْرُ وَالشَّمْسُ بَيْضَاءُ نَقِيَّةٌ قَبْلَ أَنْ تَصْفَرَّ ، وَالْمَغْرِبُ حِينَ يُفْطِرُ الصَّائِمُ ، وَالْعِشَاءُ حِينَ يَغْسِقُ اللَّيْلُ ، وَتَذْهَبُ حُمْرَةُ الْأُفُقِ إلَى أَنْ يَذْهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَوَّلِ ، مَنْ نَامَ عَنْهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا أَرْقَدَ اللَّهُ عَيْنَهُ .
هَذِهِ مَوَاقِيتُ الصَّلَاةِ { إنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا }

( 534 ) فَصْلٌ : وَلَا نَعْلَمُ فِي اسْتِحْبَابِ تَعْجِيلِ الظُّهْرِ ، فِي غَيْرِ الْحَرِّ وَالْغَيْمِ ، خِلَافًا .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ وَذَلِكَ لِمَا ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَرْزَةَ وَجَابِرٍ ، وَغَيْرِهِمَا ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَا رَأَيْت أَحَدًا كَانَ أَشَدَّ تَعْجِيلًا لِلظُّهْرِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَلَا مِنْ عُمَرَ قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْوَقْتُ الْأَوَّلُ مِنْ الصَّلَاةِ رِضْوَانُ اللَّهِ ، وَالْوَقْتُ الْأَخِيرُ عَفْوُ اللَّهِ تَعَالَى } قَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ .
وَأَمَّا فِي شِدَّةِ الْحَرِّ فَكَلَامُ الْخِرَقِيِّ يَقْتَضِي اسْتِحْبَابَ الْإِبْرَادِ بِهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ .
قَالَ الْأَثْرَمُ : وَعَلَى هَذَا مَذْهَبُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ سَوَاءٌ ، يُسْتَحَبُّ تَعْجِيلُهَا فِي الشِّتَاءِ وَالْإِبْرَادُ بِهَا فِي الْحَرِّ .
وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ ؛ لِظَاهِرِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ ، فَإِنَّ شِدَّةَ الْحُرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ } رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهَذَا عَامٌّ .
وَقَالَ الْقَاضِي : إنَّمَا يُسْتَحَبُّ الْإِبْرَادُ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ : شِدَّةُ الْحَرِّ ، وَأَنْ يَكُونَ فِي الْبُلْدَانِ الْحَارَّةِ وَمَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ ، فَأَمَّا مَنْ صَلَّاهَا فِي بَيْتِهِ ، أَوْ فِي مَسْجِدٍ بِفِنَاءِ بَيْتِهِ ، فَالْأَفْضَلُ تَعْجِيلُهَا .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ التَّأْخِيرَ إنَّمَا يُسْتَحَبُّ لِيَنْكَسِرَ الْحَرُّ ، وَيَتَّسِعَ فِي الْحِيطَانِ ، وَيَكْثُرَ السَّعْيُ إلَى الْجَمَاعَاتِ ، وَمَنْ لَا يُصَلِّي فِي جَمَاعَةٍ لَا حَاجَةَ بِهِ إلَى التَّأْخِيرِ .
وَقَالَ الْقَاضِي فِي

الْجَامِعِ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْبُلْدَانِ الْحَارَّةِ وَغَيْرِهَا وَلَا بَيْنَ كَوْنِ الْمَسْجِدِ يَنْتَابُهُ النَّاسُ أَوْ لَا ، فَإِنَّ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، كَانَ يُؤَخِّرُهَا فِي مَسْجِدِهِ وَلَمْ يَكُنْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ .
وَالْأَخْذُ بِظَاهِرِ الْخَبَرِ أَوْلَى .
وَمَعْنَى الْإِبْرَادِ بِهَا ، تَأْخِيرُهَا حَتَّى يَنْكَسِرَ الْحَرُّ ، وَيَتَّسِعَ فِي الْحِيطَانِ ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَبْرِدْ ، حَتَّى رَأَيْنَا فَيْءَ التُّلُولِ } وَهَذَا إنَّمَا يَكُنْ مَعَ كَثْرَةِ تَأْخِيرِهَا ، وَلَا يُؤَخِّرُهَا إلَى آخِرِ وَقْتِهَا ، بَلْ يُصَلِّيهَا فِي وَقْتٍ إذَا فَرَغَ يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخِرِ الْوَقْتِ فَضْلٌ ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ ، قَالَ : { كَانَ قَدْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّيْفِ ثَلَاثَةَ أَقْدَامٍ ، وَفِي الشِّتَاءِ خَمْسَةَ أَقْدَامٍ إلَى تِسْعَةِ أَقْدَامٍ .
} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ فَأَمَّا الْجُمُعَةُ فَيُسَنُّ تَعْجِيلُهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ بَعْدَ الزَّوَالِ مِنْ غَيْرِ إبْرَادٍ ؛ لِأَنَّ سَلَمَةَ بْنَ الْأَكْوَعِ ، قَالَ : { كُنَّا نُجَمِّعُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ .
} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّهُ أَخَّرَهَا ، بَلْ كَانَ يُعَجِّلُهَا ، حَتَّى قَالَ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ : مَا كُنَّا نَقِيلُ وَلَا نَتَغَدَّى إلَّا بَعْدَ الْجُمُعَةِ .
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ ؛ وَلِأَنَّ السُّنَّةَ التَّبْكِيرُ بِالسَّعْيِ إلَيْهَا ، وَيَجْتَمِعُ النَّاسُ لَهَا ، فَلَوْ أَخَّرَهَا لَتَأَذَّى النَّاسُ بِتَأْخِيرِ الْجُمُعَةِ .

( 535 ) فَصْلٌ : ذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُ الظُّهْرِ وَالْمَغْرِبِ فِي الْغَيْمِ ، وَتَعْجِيلُ الْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ فِيهِ .
قَالَ : وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ ؛ مِنْهُمْ الْمَرُّوذِيُّ فَقَالَ : يُؤَخِّرُ الظُّهْرَ فِي يَوْمِ الْغَيْمِ ، وَيُعَجِّلُ الْعَصْرَ ، وَيُؤَخِّرُ الْمَغْرِبَ ، وَيُعَجِّلُ الْعِشَاءَ وَعَلَّلَ الْقَاضِي ذَلِكَ بِأَنَّهُ وَقْتٌ يُخَافُ مِنْهُ الْعَوَارِضُ وَالْمَوَانِعُ ؛ مِنْ الْمَطَرِ ، وَالرِّيحِ ، وَالْبَرْدِ ، فَتَلْحَقُ الْمَشَقَّةُ فِي الْخُرُوجِ لِكُلِّ صَلَاةٍ ، وَفِي تَأْخِيرِ الصَّلَاةِ الْأُولَى مِنْ صَلَاتَيْ الْجَمْعِ ، وَتَعْجِيلِ الثَّانِيَةِ ، دَفْعٌ لِهَذِهِ الْمَشَقَّةِ ؛ لِكَوْنِهِ يَخْرُجُ إلَيْهِمَا خُرُوجًا وَاحِدًا ، فَيَحْصُلُ بِهِ الرِّفْقُ ، كَمَا يَحْصُلُ بِجَمْعِ الصَّلَاتَيْنِ فِي وَقْتِ إحْدَاهُمَا ، وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ ، وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ : يُعَجِّلُ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ ، وَيُؤَخِّرُ الْمَغْرِبَ .
وَقَالَ الْحَسَنُ : يُؤَخِّرُ الظُّهْرَ .
وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَعْجِيلُ الظُّهْرِ فِي غَيْرِ الْحَرِّ ، وَالْمَغْرِبِ فِي كُلِّ حَالٍ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ قَالَ : مَتَى غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ دُخُولُ الْوَقْتِ بِاجْتِهَادِهِ اُسْتُحِبَّ لَهُ التَّعْجِيلُ .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، إنَّمَا أَرَادَ بِتَأْخِيرِ الظُّهْرِ وَالْمَغْرِبِ لِيَتَيَقَّنَ دُخُولَ وَقْتِهِمَا ، وَلَا يُصَلِّي مَعَ الشَّكِّ ، وَقَدْ نَقَلَ أَبُو طَالِبٍ كَلَامًا يَدُلُّ عَلَى هَذَا قَالَ : يَوْمُ الْغَيْمِ يُؤَخِّرُ الظُّهْرَ حَتَّى لَا يَشُكَّ أَنَّهَا قَدْ حَانَتْ ، وَيُعَجِّلُ الْعَصْرَ ، وَالْمَغْرِبُ يُؤَخِّرُهَا حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ سَوَادُ اللَّيْلِ ، وَيُعَجِّلُ الْعِشَاءَ .

( 536 ) فَصْلٌ : وَأَمَّا الْعَصْرُ فَتَعْجِيلُهَا مُسْتَحَبٌّ بِكُلِّ حَالٍ ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ ، وَابْنِ مَسْعُودٍ ، وَعَائِشَةَ ، وَأَنَسٍ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالشَّافِعِيِّ ، وَإِسْحَاقَ ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ وَابْنِ شُبْرُمَةَ أَنَّهُمَا قَالَا : إنَّمَا سُمِّيت الْعَصْرُ لِتُعْصَرَ .
يَعْنِيَانِ أَنَّ تَأْخِيرَهَا أَفْضَلُ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ : الْأَفْضَلُ فِعْلُهَا فِي آخِرِ وَقْتِهَا الْمُخْتَارِ ؛ لِمَا رَوَى رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْمُرُ بِتَأْخِيرِ الْعَصْرِ .
وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ شَيْبَانَ ، قَالَ : { قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ يُؤَخِّرُ الْعَصْرَ مَا دَامَتْ بَيْضَاءَ نَقِيَّةً .
} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ؛ وَلِأَنَّهَا آخِرُ صَلَاتَيْ جَمْعٍ ، فَاسْتُحِبَّ تَأْخِيرُهَا كَصَلَاةِ الْعِشَاءِ .
وَلَنَا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَرْزَةَ ، وَقَالَ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ { كُنَّا نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْعَصْرِ ، ثُمَّ يُنْحَرُ الْجَزُورُ ، فَيُقْسَمُ عَشَرَةَ أَجْزَاءٍ ، ثُمَّ يُطْبَخُ فَيُؤْكَلُ لَحْمًا نَضِيجًا قَبْلَ مَغِيبِ الشَّمْسِ .
} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ : " صَلَّيْنَا مَعَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الظُّهْرَ ثُمَّ خَرَجْنَا حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فَوَجَدْنَاهُ يُصَلِّي الْعَصْرَ ، فَقُلْنَا يَا أَبَا عُمَارَةَ مَا هَذِهِ الصَّلَاةُ الَّتِي صَلَّيْت ؟ قَالَ : الْعَصْرُ وَهَذِهِ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي كُنَّا نُصَلِّيهَا مَعَهُ .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَعَنْ أَبِي الْمَلِيحِ ، قَالَ : كُنَّا مَعَ أَبِي بُرَيْدَةَ فِي غَزْوَةٍ فِي يَوْمٍ ذِي غَيْمٍ ، فَقَالَ : بَكِّرُوا الصَّلَاةَ لِلْعَصْرِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ حَبِطَ عَمَلُهُ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْوَقْتُ

الْأَوَّلُ مِنْ الصَّلَاةِ رِضْوَانُ اللَّهِ ، وَالْوَقْتُ الْآخِرُ عَفْوُ اللَّهِ } يَرْوِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْعُمَرِيُّ قَالَ أَبُو عِيسَى : هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ .
وَأَمَّا حَدِيثُ رَافِعٍ الَّذِي احْتَجُّوا بِهِ فَلَا يَصِحُّ .
قَالَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ : يَرْوِيهِ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ نَافِعٍ وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ ، وَلَا يَصِحُّ عَنْ رَافِعٍ وَلَا عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ ، وَالصَّحِيحُ عَنْهُمْ تَعْجِيلُ صَلَاةِ الْعَصْرِ ، وَالتَّبْكِيرُ بِهَا .

( 537 ) فَصْلٌ : وَأَمَّا الْمَغْرِبُ فَلَا خِلَافَ فِي اسْتِحْبَابِ تَقْدِيمِهَا فِي غَيْرِ حَالِ الْعُذْرِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ .
قَالَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّيهَا إذَا وَجَبَتْ ، وَقَالَ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ { كُنَّا نُصَلِّي الْمَغْرِبَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَنْصَرِفُ أَحَدُنَا وَإِنَّهُ لَيُبْصِرُ مَوَاقِعَ نَبْلِهِ ، } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَعَنْ أَنَسٍ مِثْلُهُ ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ ، قَالَ : { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الْمَغْرِبَ سَاعَةَ تَغْرُبُ الشَّمْسُ ، إذَا غَابَ حَاجِبُهَا ، } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَهَذَا لَفْظُ أَبِي دَاوُد وَفِعْلُ جِبْرِيلَ لَهَا فِي الْيَوْمَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ دَلِيلٌ عَلَى تَأْكِيدِ اسْتِحْبَابِ تَقْدِيمِهَا .

( 538 ) فَصْلٌ : وَأَمَّا صَلَاةُ الْعِشَاءِ فَيُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُهَا إلَى آخِرِ وَقْتِهَا إنْ لَمْ يَشُقَّ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّابِعِينَ .
قَالَهُ التِّرْمِذِيُّ وَحُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْأَفْضَلَ تَقْدِيمُهَا ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْوَقْتُ الْأَوَّلُ رِضْوَانُ اللَّهِ ، وَالْوَقْتُ الْآخِرُ عَفْوُ اللَّهِ } وَرَوَى الْقَاسِمُ بْنُ غَنَّامٍ ، عَنْ بَعْضِ أُمَّهَاتِهِ ، عَنْ أُمِّ فَرْوَةَ ، قَالَتْ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { إنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الصَّلَاةُ لِأَوَّلِ وَقْتِهَا } .
وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يُؤَخِّرُهَا ، وَإِنَّمَا أَخَّرَهَا لَيْلَةً وَاحِدَةً ، وَلَا يَفْعَلُ إلَّا الْأَفْضَلَ .
وَلَنَا قَوْلُ أَبِي بَرْزَةَ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْتَحِبُّ أَنْ يُؤَخِّرَ مِنْ الْعِشَاءِ الَّتِي يَدْعُونَهَا الْعَتَمَةَ وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتهمْ أَنْ يُؤَخِّرُوا الْعِشَاءَ إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ أَوْ نِصْفِهِ } وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ، وَأَحَادِيثُهُمْ ضَعِيفَةٌ .
أَمَّا خَبَرُ " الْوَقْتُ الْأَوَّلُ رِضْوَانُ اللَّهِ " فَيَرْوِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْعُمَرِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ وَحَدِيثُ أُمِّ فَرْوَةَ رُوَاتُهُ مَجَاهِيلُ ، قَالَ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا أَعْلَمْ شَيْئًا ثَبَتَ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ : أَوَّلُهَا كَذَا ، وَأَوْسَطُهَا كَذَا ، وَآخِرُهَا كَذَا يَعْنِي مَغْفِرَةً وَرِضْوَانًا ، وَقَالَ : لَيْسَ ذَا ثَابِتًا .
وَلَوْ ثَبَتَ فَالْأَخْذُ بِأَحَادِيثِنَا الْخَاصَّةِ أَوْلَى مِنْ الْأَخْذِ بِالْعُمُومِ ، مَعَ صِحَّةِ أَخْبَارِنَا ، وَضَعْفِ أَخْبَارِهِمْ .
( 539 ) فَصْلٌ : وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُهَا لِلْمُنْفَرِدِ وَالْجَمَاعَةُ رَاضِينَ بِالتَّأْخِيرِ ؛ فَأَمَّا مَعَ الْمَشَقَّةِ عَلَى الْمَأْمُومِينَ أَوْ بَعْضِهِمْ فَلَا يُسْتَحَبُّ ، بَلْ

يُكْرَهُ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ ، قَالَ الْأَثْرَمُ : قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : كَمْ قَدْرُ تَأْخِيرِ الْعِشَاءِ ؟ فَقَالَ مَا قَدْ بَعُدَ أَنْ لَا يَشُقَّ عَلَى الْمَأْمُومِينَ .
وَقَدْ تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَأْخِيرَ الْعِشَاءِ ، وَالْأَمْرَ بِتَأْخِيرِهَا ، كَرَاهِيَةَ الْمَشَقَّةِ عَلَى أُمَّتِهِ ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ شَقَّ عَلَى أُمَّتِي شَقَّ اللَّهُ عَلَيْهِ } وَإِنَّمَا نُقِلَ التَّأْخِيرُ عَنْهُ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ، وَلَعَلَّهُ كَانَ لِشُغْلٍ ، أَوْ إتْيَانِ آخِرِ الْوَقْتِ ، وَأَمَّا فِي سَائِرِ أَوْقَاتِهِ فَإِنَّهُ كَانَ يُصَلِّيهَا ، عَلَى مَا رَوَاهُ جَابِرٌ أَحْيَانًا ، وَأَحْيَانًا إذَا رَآهُمْ قَدْ اجْتَمَعُوا عَجَّلَ ، وَإِذَا رَآهُمْ قَدْ أَبْطَئُوا أَخَّرَ .
وَعَلَى مَا رَوَاهُ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ ، أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي الْعِشَاءَ لِسُقُوطِ الْقَمَرِ لِثَالِثَةٍ .
فَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ الِاقْتِدَاءُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إحْدَى هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ ، وَلَا يُؤَخِّرُهَا تَأْخِيرًا يَشُقُّ عَلَى الْمَأْمُومِينَ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْمُرُ بِالتَّخْفِيفِ ، رِفْقًا بِالْمَأْمُومِينَ ، وَقَالَ : { إنِّي لَأَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ ، وَأَنَا أُرِيدُ إطَالَتَهَا ، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ ، فَأُخَفِّفُهَا كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ .
} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

( 540 ) فَصْلٌ : وَأَمَّا صَلَاةُ الصُّبْحِ فَالتَّغْلِيسُ بِهَا أَفْضَلُ ، وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ ، وَعُمَرَ ، وَابْنِ مَسْعُودٍ ، وَأَبِي مُوسَى وَابْنِ الزُّبَيْرِ ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ ، أَنَّهُمْ كَانُوا يُغَلِّسُونَ ، وَمُحَالٌ أَنْ يَتْرُكُوا الْأَفْضَلَ ، وَيَأْتُوا الدُّونَ ، وَهُمْ النِّهَايَةُ فِي إتْيَانِ الْفَضَائِلِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ ، رَحِمَهُ اللَّهُ ، أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِحَالِ الْمَأْمُومِينَ ، فَإِنْ أَسْفَرُوا فَالْأَفْضَلُ الْإِسْفَارُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي الْعِشَاءِ ، كَمَا ذَكَرَ جَابِرٌ ، فَكَذَلِكَ فِي الْفَجْرِ .
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ : الْأَفْضَلُ الْإِسْفَارُ ؛ لِمَا رَوَى رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ ، قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { أَسْفِرُوا بِالْفَجْرِ ، فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْأَجْرِ } .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَلَنَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَأَبِي بَرْزَةَ ، وَقَوْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الصُّبْحَ ، فَتَنْصَرِفُ النِّسَاءُ مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ ، مَا يُعْرَفْنَ مِنْ الْغَلَسِ .
} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ ، { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَلَّسَ بِالصُّبْحِ ، ثُمَّ أَسْفَرَ مَرَّةً ، ثُمَّ لَمْ يَعُدْ إلَى الْإِسْفَارِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
قَالَ الْخَطَّابِيُّ : وَهُوَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ .
وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : { مَا صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةً لِوَقْتِهَا الْآخِرِ مَرَّتَيْنِ ، حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ } .
وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ ، وَلَيْسَ إسْنَادُهُ بِمُتَّصِلٍ .
فَأَمَّا الْإِسْفَارُ الْمَذْكُورُ

فِي حَدِيثِهِمْ ، فَالْمُرَادُ بِهِ تَأْخِيرُهَا حَتَّى يَتَبَيَّنَ طُلُوعُ الْفَجْرِ ، وَيَنْكَشِفَ يَقِينًا مِنْ قَوْلِهِمْ : أَسْفَرَتْ الْمَرْأَةُ ، إذَا كَشَفَتْ وَجْهَهَا .

( 541 ) فَصْلٌ : وَلَا يَأْثَمُ بِتَعْجِيلِ الصَّلَاةِ الَّتِي يُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُهَا ، وَلَا بِتَأْخِيرِ مَا يُسْتَحَبُّ تَعْجِيلُهُ ، إذَا أَخَّرَهُ عَازِمًا عَلَى فِعْلِهِ ، مَا لَمْ يَخْرُجْ الْوَقْتُ ، أَوْ يَضِيقُ عَنْ فِعْلِ الْعِبَادَةِ جَمِيعِهَا ؛ لِأَنَّ جِبْرِيلَ صَلَّاهَا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَآخِرِهِ ، وَصَلَّاهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَآخِرِهِ { وَقَالَا : الْوَقْتُ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ } وَلِأَنَّ الْوُجُوبَ مُوَسَّعٌ فَهُوَ كَالتَّكْفِيرِ ، يَجِبُ مُوَسَّعًا بَيْنَ الْأَعْيَانِ ، فَإِنْ أَخَّرَ غَيْرَ عَازِمٍ عَلَى الْفِعْلِ أَثِمَ بِذَلِكَ التَّأْخِيرِ الْمُقْتَرِنِ بِالْعَزْمِ ، وَإِنْ أَخَّرَهَا بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ مِنْ الْوَقْتِ مَا يَتَّسِعُ لِجَمِيعِ الصَّلَاةِ أَثِمَ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الرَّكْعَةَ الْأَخِيرَةَ مِنْ جُمْلَةِ الصَّلَاةِ ، فَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا عَنْ الْوَقْتِ ، كَالْأُولَى .
( 542 ) فَصْلٌ : وَإِنْ أَخَّرَ الصَّلَاةَ عَنْ أَوَّلِ وَقْتِهَا بِنِيَّةِ فِعْلِهَا ، فَمَاتَ قَبْلَ فِعْلِهَا ، لَمْ يَكُنْ عَاصِيًا ، لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا يَجُوزُ لَهُ فِعْلُهُ ، وَالْمَوْتُ لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِ ، فَلَا يَأْثَمُ بِهِ .

( 543 ) فَصْلٌ : وَمَنْ صَلَّى قَبْلَ الْوَقْتِ ، لَمْ يَجُزْ صَلَاتُهُ ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، سَوَاءٌ فَعَلَهُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً ، كُلَّ الصَّلَاةِ أَوْ بَعْضَهَا .
وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، وَأَبِي مُوسَى أَنَّهُمَا أَعَادَا الْفَجْرَ ، لِأَنَّهُمَا صَلَّيَاهَا قَبْلَ الْوَقْتِ .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي مُسَافِرٍ صَلَّى الظُّهْرَ قَبْلَ الزَّوَالِ ، يُجْزِئُهُ .
وَنَحْوَهُ قَالَ الْحَسَنُ ، وَالشَّعْبِيُّ .
وَعَنْ مَالِكٍ كَقَوْلِنَا .
وَعَنْهُ فِيمَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ قَبْلَ مَغِيبِ الشَّفَقِ جَاهِلًا أَوْ نَاسِيًا ، يُعِيدُ مَا كَانَ فِي الْوَقْتِ ، فَإِنْ ذَهَبَ الْوَقْتُ قَبْلَ عِلْمِهِ ، أَوْ ذَكَرَ ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ .
وَلَنَا أَنَّ الْخِطَابَ بِالصَّلَاةِ يَتَوَجَّهُ إلَى الْمُكَلَّفِ عِنْدَ دُخُولِ وَقْتِهَا ، وَمَا وُجِدَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يُزِيلُهُ وَيُبْرِئُ الذِّمَّةَ مِنْهُ ، فَيَبْقَى بِحَالِهِ .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71