الكتاب : المغني
المؤلف : أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد ، الشهير بابن قدامة المقدسي

( 4308 ) فَصْلٌ : وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ غَنَمٍ لِتَدْرُسَ لَهُ طِينًا أَوْ زَرْعًا .
وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِيهِ وَجْهَانِ ؛ لِأَنَّهَا مَنْفَعَةٌ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ مِنْ هَذَا الْحَيَوَانِ ، فَأَشْبَهَتْ النَّخِيلَ .
وَلَنَا أَنَّهَا مَنْفَعَةٌ ، مُبَاحَةٌ ، يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهَا مِنْ الْعَيْنِ مَعَ بَقَائِهَا ، فَأَشْبَهَتْ اسْتِئْجَارَ الْبَقَرِ لِدِيَاسِ الزَّرْعِ .

فَصْلٌ : وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ مَا يَبْقَى مِنْ الطِّيبِ وَالصَّنْدَلِ وَأَقْطَاعِ الْكَافُورِ وَالنِّدّ ، لِتَشُمَّهُ الْمَرْضَى وَغَيْرُهُمْ مُدَّةً ، ثُمَّ يَرُدُّهُ ؛ لِأَنَّهَا مَنْفَعَةٌ مُبَاحَةٌ ، فَأَشْبَهْت الْوَزْنَ وَالتَّحَلِّيَ ، مَعَ أَنَّهُ لَا يَنْفَكُّ مِنْ إخْلَاقٍ وَبِلًى .

( 4310 ) فَصْلٌ : وَتَجُوزُ إجَارَةُ الْحَائِطِ ، لِيَضَعَ عَلَيْهَا خَشَبًا مَعْلُومًا ، مُدَّةً مَعْلُومَةً .
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَجُوزُ .
وَلَنَا أَنَّ هَذِهِ مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ ، مَقْدُورٌ عَلَى تَسْلِيمِهَا وَاسْتِيفَائِهَا ، فَجَازَ عَقْدُ الْإِجَارَةِ عَلَيْهَا ، كَاسْتِئْجَارِ السَّطْحِ لِلنَّوْمِ عَلَيْهِ .

( 4311 ) فَصْلٌ : وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ دَارٍ يَتَّخِذُهَا مَسْجِدًا يُصَلِّي فِيهِ .
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الصَّلَاةِ لَا يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهُ بِعَقْدِ إجَارَةٍ بِحَالٍ ، فَلَا تَجُوزُ الْإِجَارَةُ لِذَلِكَ .
وَلَنَا أَنَّ هَذِهِ مَنْفَعَةٌ مُبَاحَةٌ ، يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهَا مِنْ الْعَيْنِ مَعَ بَقَائِهَا ، فَجَازَ اسْتِئْجَارُ الْعَيْنِ لَهَا ، كَالسُّكْنَى ، وَيُفَارِقُ الصَّلَاةَ ، فَإِنَّهَا لَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ ، بِخِلَافِ بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ .

( 4312 ) فَصْلٌ : وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ ، أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الْبِئْرِ ، لِيَسْتَقِيَ مِنْهَا أَيَّامًا مَعْلُومَةً ؛ لِأَنَّ هَوَاءَ الْبِئْرِ وَعُمْقَهَا فِيهِ نَوْعُ انْتِفَاعٍ بِمُرُورِ الدَّلْوِ فِيهِ ، وَأَمَّا نَفْسُ الْمَاءِ ، فَيُؤْخَذُ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ .

( 4313 ) فَصْلٌ : وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الْفَهْدِ وَالْبَازِي وَالصَّقْرِ لِلصَّيْدِ ، فِي مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ ؛ لِأَنَّ فِيهِ نَفْعًا مُبَاحًا تَجُوزُ إعَارَتُهُ لَهُ ، فَجَازَتْ إجَارَتُهُ لَهُ ، كَالدَّابَّةِ .
وَتَجُوزُ إجَارَةُ كُتُبِ الْعِلْمِ ، الَّتِي يَجُوزُ بَيْعُهَا لِلِانْتِفَاعِ بِهَا فِي الْقِرَاءَةِ فِيهَا ، وَالنَّسْخِ مِنْهَا ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ .
وَتَجُوزُ إجَارَةُ دَرَجٍ فِيهِ خَطٌّ حَسَنٌ ، يُكْتَبُ عَلَيْهِ ، وَيُتَمَثَّلُ مِنْهُ لِذَلِكَ .

( 4314 ) فَصْلٌ : وَمَا لَا تَجُوزُ إجَارَتُهُ أَقْسَامٌ : أَحَدُهَا مَا لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ ، كَالْمَطْعُومِ وَالْمَشْرُوبِ ، وَالشَّمْعِ لِيُشْعِلَهُ ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ عَقْدٌ عَلَى الْمَنَافِعِ ، وَهَذِهِ لَا يُنْتَفَعُ بِهَا إلَّا بِإِتْلَافِ عَيْنِهَا ، فَإِنْ اسْتَأْجَرَ شَمْعَةً يُسْرِجُهَا ، وَيَرُدُّ بَقِيَّتَهَا ، وَثَمَنَ مَا ذَهَبَ ، وَأَجَّرَ الْبَاقِي ، كَانَ فَاسِدًا ؛ لِأَنَّهُ يَشْمَلُ بَيْعًا وَإِجَارَةً ، وَمَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْبَيْعُ مَجْهُولٌ ، وَإِذَا جُهِلَ الْمَبِيعُ جُهِلَ الْمُسْتَأْجِرُ أَيْضًا ، فَيَفْسُدُ الْعَقْدَانِ ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ شَمْعًا لِيَتَجَمَّلَ بِهِ ، وَيَرُدَّهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُشْعِلَ مِنْهُ شَيْئًا ، لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَنْفَعَةٍ مَرْعِيَّةٍ فِي الشَّرْعِ ، فَبَذْلُ الْمَالِ فِيهِ سَفَهٌ ، وَأَخْذُهُ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ ، فَلَمْ يَجُزْ ، كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ خُبْزًا لِيَنْظُرَ إلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَ طَعَامًا لِيَتَجَمَّلَ بِهِ عَلَى مَائِدَتِهِ ، ثُمَّ يَرُدَّهُ ، لَمْ يَجُزْ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا وَهَكَذَا سَائِرُ الْأَشْيَاءِ ، وَلَا يَصِحُّ اسْتِئْجَارُ مَا لَا يَبْقَى مِنْ الرَّيَاحِينِ ، كَالْوَرْدِ وَالْبَنَفْسَجِ وَالرِّيحَانِ الْفَارِسِيِّ ، وَأَشْبَاهِهِ ، لِشَمِّهَا ؛ لِأَنَّهَا تَتْلَفُ عَنْ قُرْبٍ ، فَأَشْبَهَتْ الْمَطْعُومَاتِ .
وَلَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الْغَنَمِ ، وَلَا الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ ، لِيَأْخُذَ لَبَنَهَا ، وَلَا لِيَسْتَرْضِعَهَا لِسُخَالَةٍ وَنَحْوِهَا ، وَلَا اسْتِئْجَارُهَا لِيَأْخُذَ صُوفَهَا ، وَلَا شَعْرَهَا ، وَلَا وَبَرَهَا ، وَلَا اسْتِئْجَارُ شَجَرَةٍ ، لِيَأْخُذَ ثَمَرَتَهَا ، أَوْ شَيْئًا مِنْ عَيْنِهَا .

( 4315 ) فَصْلٌ : وَلَا تَجُوزُ إجَارَةُ الْفَحْلِ لِلضِّرَابِ .
وَهَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْي ، وَأَبِي ثَوْرٍ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ .
وَخَرَّجَ أَبُو الْخَطَّابِ وَجْهًا فِي جَوَازِهِ ؛ لِأَنَّهُ انْتِفَاعٌ مُبَاحٌ ، وَالْحَاجَةُ تَدْعُو إلَيْهِ ، فَجَازَ ، كَإِجَارَةِ الظِّئْرِ لِلرَّضَاعِ ، وَالْبِئْرِ لِيَسْتَقِيَ مِنْهَا الْمَاءَ ؛ وَلِأَنَّهَا مَنْفَعَةٌ تُسْتَبَاحُ بِالْإِعَارَةِ ، فَتُسْتَبَاحُ بِالْإِجَارَةِ ، كَسَائِرِ الْمَنَافِعِ وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَسَنِ ، وَابْنِ سِيرِينَ .
وَلَنَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ عَسْبِ الْفَحْلِ } : مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَفِي لَفْظٍ { : نَهَى عَنْ ضِرَابِ الْجَمَلِ } .
وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْمَاءُ الَّذِي يُخْلَقُ مِنْهُ الْوَلَدُ ، فَيَكُونُ عَقْدُ الْإِجَارَةِ لِاسْتِيفَاءِ عَيْنٍ غَائِبَةٍ ، فَلَمْ يَجُزْ ، كَإِجَارَةِ الْغَنَمِ لِأَخْذِ لَبَنِهَا ، وَهَذَا أَوْلَى ؛ فَإِنَّ هَذَا الْمَاءَ مُحَرَّمٌ لَا قِيمَةَ لَهُ ، فَلَمْ يَجُزْ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ ، كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ ، وَهُوَ مَجْهُولٌ ، فَأَشْبَهَ اللَّبَنَ فِي الضَّرْعِ .
فَأَمَّا مَنْ أَجَازَهُ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُوقِعَ الْعَقْدَ عَلَى الْعَمَلِ ، وَيُقَدِّرَهُ بِمَرَّةٍ أَوْ مَرَّتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ وَقِيلَ : يَقَعُ الْعَقْدُ عَلَى مُدَّةٍ .
وَهَذَا بَعِيدٌ ؛ لِأَنَّ مِنْ أَرَادَ إطْرَاقَ فَرَسِهِ مَرَّةً ، فَقَدَّرَهُ بِمُدَّةٍ تَزِيدُ عَلَى قَدْرِ الْفِعْلِ ، لَمْ يُمْكِنْ اسْتِيعَابُهَا بِهِ ، وَإِنْ اقْتَصَرَ عَلَى مِقْدَارِهِ ، فَرُبَّمَا لَا يَحْصُلُ الْفِعْلُ فِيهِ ، وَيَتَعَذَّرُ أَيْضًا ضَبْطُ مِقْدَارِ الْفِعْلِ ، فَيَتَعَيَّنُ التَّقْدِيرُ بِالْفِعْلِ ، إلَّا أَنْ يَكْتَرِيَ فَحْلًا لِإِطْرَاقِ مَاشِيَةٍ كَثِيرَةٍ ، كَفَحْلٍ يَتْرُكُهُ فِي إبِلِهِ ، أَوْ تَيْسٍ فِي غَنَمِهِ ، فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا يَكْتَرِي مُدَّةً مَعْلُومَةً .
وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إجَارَتُهُ ، فَإِنْ احْتَاجَ إنْسَانٌ إلَى ذَلِكَ ، وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يُطْرِقُ لَهُ ، جَازَ لَهُ أَنْ يَبْذُلَ الْكِرَاءَ ، وَلَيْسَ لِلْمُطْرِقِ أَخْذُهُ قَالَ عَطَاءٌ : لَا يَأْخُذُ عَلَيْهِ شَيْئًا ،

وَلَا بَأْسَ أَنْ يُعْطِيَهُ إذَا لَمْ يَجِدْ مَنْ يُطْرِقُ لَهُ .
وَلِأَنَّ ذَلِكَ بَذْلُ مَالٍ لِتَحْصِيلِ مَنْفَعَةٍ مُبَاحَةٍ تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَيْهَا ، فَجَازَ ، كَشِرَاءِ الْأَسِيرِ ، وَرِشْوَةِ الظَّالِمِ لِيَدْفَعَ ظُلْمَهُ .
وَإِنْ أَطْرَقَ إنْسَانٌ فَحْلَهُ بِغَيْرِ إجَارَةٍ وَلَا شَرْطٍ ، فَأُهْدِيَتْ لَهُ هَدِيَّةٌ ، أَوْ أُكْرِمَ بِكَرَامَةٍ لِذَلِكَ ، فَلَا بَأْسَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ مَعْرُوفًا ، فَجَازَتْ مُجَازَاتُهُ عَلَيْهِ ، كَمَا لَوْ أُهْدِيَ هَدِيَّةً .

( 4316 ) فَصْلٌ : الْقِسْمُ الثَّانِي ، مَا مَنْفَعَتُهُ مُحَرَّمَةٌ ، كَالزِّنَى وَالزَّمْرِ وَالنَّوْحِ وَالْغِنَاءِ ، فَلَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ لِفِعْلِهِ .
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَصَاحِبَاهُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ .
وَكَرِهَ ذَلِكَ الشَّعْبِيُّ ، وَالنَّخَعِيُّ ؛ لِأَنَّهُ مُحَرَّمٌ ، فَلَمْ يَجُزْ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ ، كَإِجَارَةِ أَمَتِهِ لِلزِّنَى .
وَلَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ كَاتِبٍ لِيَكْتُبَ لَهُ غِنَاءً وَنَوْحًا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجُوزُ وَلَنَا أَنَّهُ انْتِفَاعٌ بِمُحَرَّمٍ ، فَأَشْبَهَ مَا ذَكَرْنَا .
وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى كِتَابَةِ شِعْرٍ مُحَرَّمٍ ، وَلَا بِدْعَةٍ ، وَلَا شَيْءٍ مُحَرَّمٍ لِذَلِكَ .
وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى حَمْلِ الْخَمْرِ لِمَنْ يَشْرَبُهَا ، وَلَا عَلَى حَمْلِ خِنْزِيرٍ وَلَا مَيْتَةٍ ؛ لِذَلِكَ .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٌ ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ لَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ حَمَلَهُ مِثْلُهُ جَازَ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ قَصَدَ إرَاقَتَهُ أَوْ طَرْحَ الْمَيْتَةِ ، جَازَ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ ، فِي مَنْ حَمَلَ خِنْزِيرًا أَوْ مَيْتَةً أَوْ خَمْرًا لِنَصْرَانِيٍّ : أَكْرَهُ أَكْلَ كِرَائِهِ ، وَلَكِنْ يُقْضَى لِلْحَمَّالِ بِالْكِرَاءِ ، فَإِذَا كَانَ لِمُسْلِمٍ فَهُوَ أَشَدُّ .
قَالَ الْقَاضِي : هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِيُرِيقَهَا ، فَأَمَّا لِلشُّرْبِ فَمَحْظُورٌ ، وَلَا يَحِلُّ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ .
وَهَذَا التَّأْوِيلُ بَعِيدٌ ؛ لِقَوْلِهِ : أَكْرَهُ أَكْلَ كِرَائِهِ ، وَإِذَا كَانَ لِمُسْلِمٍ فَهُوَ أَشَدُّ .
وَلَكِنَّ الْمَذْهَبَ خِلَافُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ ؛ لِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ لِفِعْلٍ مُحَرَّمٍ ، فَلَمْ يَصِحَّ ، كَالزِّنَى وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ حَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إلَيْهِ .
وَقَوْلُهُ : لَا يَتَعَيَّنُ يَبْطُلُ بِاسْتِئْجَارِ أَرْضٍ لِيَتَّخِذَهَا مَسْجِدًا .
وَأَمَّا حَمْلُ هَذِهِ لِإِرَاقَتِهَا ، وَالْمَيْتَةِ لِطَرْحِهَا ، وَالِاسْتِئْجَارُ لِلْكَنَفِ ، فَجَائِزٌ ؛ لِأَنَّ

ذَلِكَ كُلَّهُ مُبَاحٌ ، وَقَدْ اسْتَأْجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا طَيْبَةَ فَحَجَمَهُ .
وَقَالَ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ ، فِي الرَّجُلِ يُؤَجِّرُ نَفْسَهُ لِنِظَارَةِ كَرْمِ النَّصْرَانِيِّ : يُكْرَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي ذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى الْخَمْرِ .

( 4317 ) فَصْلٌ : وَيُكْرَهُ أَنْ يُؤْجِرَ الرَّجُلُ نَفْسَهُ لِكَسْحِ الْكَنَفِ ، وَيُكْرَهُ لَهُ أَكْلُ أَجْرِهِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { كَسْبُ الْحَجَّامِ خَبِيثٌ } .
وَنَهَى الْحُرَّ عَنْ أَكْلِهِ ، فَهَذَا أَوْلَى .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّ رَجُلًا حَجَّ ، ثُمَّ أَتَاهُ ، فَقَالَ لَهُ : إنِّي رَجُلٌ أَكْنُسُ ، فَمَا تَرَى فِي مَكْسَبِي ؟ قَالَ : أَيَّ شَيْءٍ تَكْنُسُ ؟ قَالَ : الْعَذِرَةَ ، قَالَ : وَمِنْهُ حَجَجْت ، وَمِنْهُ تَزَوَّجْت ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : أَنْتَ خَبِيثٌ ، وَحَجُّك خَبِيثٌ ، وَمَا تَزَوَّجْت خَبِيثٌ .
أَوْ نَحْوَ هَذَا ، ذَكَرَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ ، فِي " سُنَنِهِ " بِمَعْنَاهُ ، وَلِأَنَّ فِيهِ دَنَاءَةً ، فَكُرِهَ ، كَالْحِجَامَةِ ، فَأَمَّا الْإِجَارَةُ فِي الْجُمْلَةِ ، فَجَائِزَةٌ ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَيْهَا ، فَلَا تَنْدَفِعُ بِدُونِ إبَاحَةِ الْإِجَارَةِ ، فَوَجَبَ إبَاحَتُهَا ، كَالْحِجَامَةِ .

( 4318 ) فَصْلٌ : وَلَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ إجَارَةُ دَارِهِ لِمَنْ يَتَّخِذُهَا كَنِيسَةً ، أَوْ بِيعَةً أَوْ يَتَّخِذُهَا لِبَيْعِ الْخَمْرِ ، أَوْ الْقِمَارِ .
وَبِهِ قَالَ الْجَمَاعَةُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنْ كَانَ بَيْتُك فِي السَّوَادِ ، فَلَا بَأْسَ أَنْ تُؤْجِرَهُ لِذَلِكَ .
وَخَالَفَهُ صَاحِبَاهُ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ .
وَلَنَا أَنَّهُ فِعْلٌ مُحَرَّمٌ ، فَلَمْ تَجُزْ الْإِجَارَةُ عَلَيْهِ ، كَإِجَارَةِ عَبْدِهِ لِلْفُجُورِ .
وَلَوْ اكْتَرَى ذِمِّيٌّ مِنْ مُسْلِمٍ دَارِهِ ، فَأَرَادَ بَيْعَ الْخَمْرِ فِيهَا ، فَلِصَاحِبِ الدَّارِ مَنْعُهُ .
وَبِذَلِكَ قَالَ الثَّوْرِيُّ وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْي : إنْ كَانَ بَيْتُهُ فِي السَّوَادِ وَالْجَبَلِ ، فَلَهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا شَاءَ .
وَلَنَا أَنَّهُ فِعْلٌ مُحَرَّمٌ ، جَازَ الْمَنْعُ مِنْهُ فِي الْمِصْرِ ، فَجَازَ فِي السَّوَادِ ، كَقَتْلِ النَّفْسِ الْمُحَرَّمَةِ .

( 4319 ) فَصْلٌ : الْقِسْمُ الثَّالِثُ ، مَا يَحْرُمُ بَيْعُهُ ، إلَّا الْحُرَّ وَالْوَقْفَ وَأُمَّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرَ ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ إجَارَتُهَا ، وَإِنْ حَرُمَ بَيْعُهَا ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَلَا تَجُوزُ إجَارَتُهُ ، سَوَاءٌ كَانَ مِمَّنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ ، كَالْعَبْدِ الْآبِقِ ، وَالْجَمَلِ النَّادِّ ، وَالْبَهِيمَةِ الشَّارِدَةِ ، وَالْمَغْصُوبِ مِنْ غَيْرِ غَاصِبِهِ مِمَّنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى انْتِزَاعِهِ مِنْهُ ، فَإِنَّهُ لَا تَجُوزُ إجَارَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنْ تَسْلِيمُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ .
وَإِنْ كَانَ مِمَّا تُجْهَلُ صِفَتُهُ ، فَإِنَّهُ لَا تَجُوزُ إجَارَتُهُ ، فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ .
أَوْ كَانَ مِمَّنْ لَا نَفْعَ فِيهِ ، كَسِبَاعِ الْبَهَائِمِ ، أَوْ الطَّيْرِ الَّتِي لَا تَصْلُحُ لِلِاصْطِيَادِ وَلَا تَجُوزُ إجَارَةُ الْكَلْبِ ، وَلَا الْخِنْزِيرِ ، بِحَالٍ .
وَيَتَخَرَّجُ جَوَازُ إجَارَةِ الْكَلْبِ الَّذِي يُبَاحُ اقْتِنَاؤُهُ ؛ لِأَنَّ فِيهِ نَفْعًا مُبَاحًا تَجُوزُ لَهُ إعَارَتُهُ ، فَجَازَتْ إجَارَتُهُ لَهُ كَغَيْرِهِ .
وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ ، كَهَذَيْنِ .
وَلَا تَجُوزُ إجَارَةُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِ مَنْفَعَتِهِ ، سَوَاءٌ جَازَ بَيْعُهُ أَوْ لَمْ يَجُزْ ، مِثْلَ أَنْ يَغْصِبَ مَنْفَعَتَهُ ، بِأَنْ يَدَّعِيَ إنْسَانٌ أَنَّ هَذِهِ الدَّارَ فِي إجَارَتِهِ عَامًا ، وَيَغْلِبَ صَاحِبَهَا عَلَيْهَا ، فَإِنَّهُ لَا تَجُوزُ إجَارَتُهَا فِي هَذَا الْعَامِ إلَّا مِنْ غَاصِبِهَا ، أَوْ مِمَّنْ يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِهَا مِنْهُ قَالَ أَصْحَابُنَا : وَلَا تَجُوزُ إجَارَةُ الْمُشَاعِ لِغَيْرِ الشَّرِيكِ ، إلَّا أَنْ يُؤْجِرَ الشَّرِيكَانِ مَعًا .
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَزُفَرَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ ، فَلَمْ تَصِحَّ إجَارَتُهُ كَالْمَغْصُوبِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ إلَّا بِتَسْلِيمِ نَصِيبِ شَرِيكِهِ ، وَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى مَالِ شَرِيكِهِ .
وَاخْتَارَ أَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ جَوَازَ ذَلِكَ .
وَقَدْ أَوْمَأَ إلَيْهِ أَحْمَدُ ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَبِي يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٍ ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ يَجُوزُ

بَيْعُهُ ، فَجَازَتْ إجَارَتُهُ كَالْمُفْرَدِ ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ فِي مِلْكِهِ ، يَجُوزُ مَعَ شَرِيكِهِ ، فَجَازَ مَعَ غَيْرِهِ كَالْبَيْعِ ، وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ إذَا فَعَلَهُ الشَّرِيكَانِ مَعًا ، فَجَازَ لِأَحَدِهِمَا فِعْلُهُ فِي نَصِيبِهِ مُفْرَدًا ، كَالْبَيْعِ وَمَنْ نَصَرَ الْأَوَّلَ فَرَّقَ بَيْنَ مَحَلِّ النِّزَاعِ وَبَيْنَ مَا إذَا آجَرَهُ الشَّرِيكَانِ ، أَوْ آجَرَهُ لِشَرِيكِهِ ، بِأَنَّهُ يُمْكِنُ التَّسْلِيمُ إلَى الْمُسْتَأْجِرِ ، فَأَشْبَهَ إجَارَةَ الْمَغْصُوبِ مِنْ غَاصِبِهِ دُونَ غَيْرِهِ .
وَإِنْ كَانَتْ الدَّارُ لِوَاحِدٍ ، فَآجَرَ نِصْفَهَا ، صَحَّ ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ تَسْلِيمُهُ ، ثُمَّ إنْ آجَرَ نِصْفَهَا الْآخَرَ لِلْمُسْتَأْجِرِ الْأَوَّلِ صَحَّ فَإِنَّهُ يُمْكِنُهُ تَسْلِيمُهُ إلَيْهِ ، وَإِنْ آجَرَهُ لِغَيْرِهِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ ، بِنَاءً عَلَى الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ تَسْلِيمُ مَا آجَرَهُ إلَيْهِ وَإِنْ آجَرَ الدَّارَ لِاثْنَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهَا ، فَكَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ تَسْلِيمُ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَيْهِ .

( 4320 ) فَصْلٌ : وَفِي إجَارَةِ الْمُصْحَفِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا لَا تَصِحُّ إجَارَتُهُ ، مَبْنِيًّا عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ ، وَعِلَّةُ ذَلِكَ إجْلَالُ كَلَامِ اللَّهِ وَكِتَابِهِ عَنْ الْمُعَاوَضَةِ بِهِ ، وَابْتِذَالِهِ بِالثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ ، وَالْأَجْرِ فِي الْإِجَارَةِ .
وَالثَّانِي ، تَجُوزُ إجَارَتُهُ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ انْتِفَاعٌ مُبَاحٌ ، تَجُوزُ الْإِعَارَةُ مِنْ أَجْلِهِ ، فَجَازَتْ فِيهِ الْإِجَارَةُ ، كَسَائِرِ الْكُتُبِ ، فَأَمَّا سَائِرُ الْكُتُبِ الْجَائِزِ بَيْعُهَا ، فَتَجُوزُ إجَارَتُهَا وَمُقْتَضَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا لَا تَجُوزُ إجَارَتُهَا ؛ لِأَنَّهُ عَلَّلَ مَنْعَ إجَارَةِ الْمُصْحَفِ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ النَّظَرِ إلَيْهِ ، وَلَا تَجُوزُ الْإِجَارَةُ لِمِثْلِ ذَلِكَ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ سَقْفًا لِيَنْظُرَ إلَى عَمَلِهِ وَتَصَاوِيرِهِ ، أَوْ شَمْعًا لِيَتَجَمَّلَ بِهِ .
وَلَنَا أَنَّهُ انْتِفَاعٌ مُبَاحٌ يُحْتَاجُ إلَيْهِ ، وَتَجُوزُ الْإِعَارَةُ لَهُ ، فَجَازَتْ إجَارَتُهُ كَسَائِرِ الْمَنَافِعِ .
وَفَارَقَ النَّظَرَ إلَى السَّقْفِ ؛ فَإِنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ ، وَلَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِالْإِعَارَةِ مِنْ أَجْلِهِ .
وَفِي مَسْأَلَتِنَا يُحْتَاجُ إلَى الْقِرَاءَةِ فِي الْكُتُبِ ، وَالتَّحَفُّظِ مِنْهَا ، وَالنَّسْخِ وَالسَّمَاعِ مِنْهَا وَالرِّوَايَةِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الِانْتِفَاعِ الْمَقْصُودِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ .

( 4321 ) فَصْلٌ : وَلَا تَجُوزُ إجَارَةُ الْمُسْلِمِ لِلذِّمِّيِّ لِخِدْمَتِهِ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ ، فَقَالَ : إنْ آجَرَ نَفْسَهُ مِنْ الذِّمِّيِّ فِي خِدْمَتِهِ ، لَمْ يَجُزْ ، وَإِنْ كَانَ فِي عَمَلِ شَيْءٍ ، جَازَ .
وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ ، وَقَالَ فِي الْآخَرِ : تَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ تَجُوزُ لَهُ إجَارَةُ نَفْسِهِ فِي غَيْرِ الْخِدْمَةِ ، فَجَازَ فِيهَا ، كَإِجَارَتِهِ مِنْ الْمُسْلِمِ .
وَلَنَا أَنَّهُ عَقْدٌ يَتَضَمَّنُ حَبْسَ الْمُسْلِمِ عِنْدَ الْكَافِرِ ، وَإِذْلَالَهُ لَهُ ، وَاسْتِخْدَامَهُ ، أَشْبَهَ الْبَيْعَ ، يُحَقِّقُهُ أَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ لِلْخِدْمَةِ يَتَعَيَّنُ فِيهِ حَبْسُهُ مُدَّةَ الْإِجَارَةِ وَاسْتِخْدَامُهُ ، وَالْبَيْعُ لَا يَتَعَيَّنُ فِيهِ ذَلِكَ ، فَإِذَا مُنِعَ مِنْهُ ، فَلَأَنْ يُمْنَعَ مِنْ الْإِجَارَةِ أَوْلَى فَأَمَّا إنْ آجَرَ نَفْسَهُ مِنْهُ فِي عَمَلٍ مُعَيَّنٍ فِي الذِّمَّةِ ، كَخِيَاطَةِ ثَوْبٍ ، وَقِصَارَتِهِ ، جَازَ بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ ؛ لِأَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ آجَرَ نَفْسَهُ مِنْ يَهُودِيٍّ ، يَسْتَقِي لَهُ كُلَّ دَلْوٍ بِتَمْرَةٍ ، وَأَخْبَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ ، فَلَمْ يُنْكِرْهُ .
وَكَذَلِكَ الْأَنْصَارِيُّ .
وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ لَا يَتَضَمَّنُ إذْلَالَ الْمُسْلِمِ ، وَلَا اسْتِخْدَامَهُ ، أَشْبَهَ مُبَايَعَتَهُ .
وَإِنْ آجَرَ نَفْسَهُ مِنْهُ لِعَمَلِ غَيْرِ الْخِدْمَةِ ، مُدَّةً مَعْلُومَةً ، جَازَ أَيْضًا ، فِي ظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ ؛ لِقَوْلِهِ ، فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ : وَإِنْ كَانَ فِي عَمَلِ شَيْءٍ ، جَازَ وَنَقَلَ عَنْهُ أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ : لَا بَأْسَ أَنْ يُؤْجِرَ نَفْسَهُ مِنْ الذِّمِّيِّ .
وَهَذَا مُطْلَقٌ فِي نَوْعَيْ الْإِجَارَةِ .
وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا ، أَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ أَحْمَدَ مَنْعُ ذَلِكَ ، وَأَشَارَ إلَى مَا رَوَاهُ الْأَثْرَمُ ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّهُ عَقْدٌ يَتَضَمَّنُ حَبْسَ الْمُسْلِمِ ، أَشْبَهَ الْبَيْعَ .
وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرْنَا ، وَكَلَامُ أَحْمَدَ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ مَا قَالَهُ ، فَإِنَّهُ خَصَّ الْمَنْعَ بِالْإِجَارَةِ لِلْخِدْمَةِ ،

وَأَجَازَ إجَارَتَهُ لِلْعَمَلِ .
وَهَذَا إجَارَةٌ لِلْعَمَلِ .
وَيُفَارِقُ الْبَيْعَ ، فَإِنَّ فِيهِ إثْبَاتَ الْمِلْكِ عَلَى الْمُسْلِمِ ، وَيُفَارِقُ إجَارَتَهُ لِلْخِدْمَةِ ، لِتَضَمُّنِهَا الْإِذْلَالَ .

فَصْلٌ ( 4322 ) : نَقَلَ إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ ، عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يَكْتَرِي الدِّيكَ يُوقِظُهُ لِوَقْتِ الصَّلَاةِ : لَا يَجُوزُ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ يَقِفُ عَلَى فِعْلِ الدِّيكِ ، وَلَا يُمْكِنُ اسْتِخْرَاجُ ذَلِكَ مِنْهُ بِضَرْبٍ وَلَا غَيْرِهِ ، وَقَدْ يَصِيحُ ، وَقَدْ لَا يَصِيحُ ، وَرُبَّمَا صَاحَ بَعْد الْوَقْتِ .

( 4323 ) فَصْلٌ : الْقِسْمُ الرَّابِعُ ، الْقُرَبُ الَّتِي يَخْتَصُّ فَاعِلُهَا بِكَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرْبَةِ ، يَعْنِي أَنَّهُ يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ مُسْلِمًا ، كَالْإِمَامَةِ ، وَالْأَذَانِ ، وَالْحَجِّ ، وَتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ ، وَالضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَالزُّهْرِيُّ .
وَكَرِهَ الزُّهْرِيُّ ، وَإِسْحَاقُ تَعْلِيمَ الْقُرْآنِ بِأَجْرٍ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَقِيقٍ : هَذِهِ الرُّغُفُ الَّتِي يَأْخُذُهَا الْمُعَلِّمُونَ مِنْ السُّحْتِ .
وَمِمَّنْ كَرِهَ أُجْرَةَ التَّعْلِيمِ مَعَ الشَّرْطِ : الْحَسَنُ ، وَابْنُ سِيرِينَ ، وَطَاوُسٌ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَالنَّخَعِيُّ وَعَنْ أَحْمَدَ ، رِوَايَةٌ أُخْرَى ، يَجُوزُ ذَلِكَ .
حَكَاهَا أَبُو الْخَطَّابِ .
وَنَقَلَ أَبُو طَالِبٍ ، عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهُ قَالَ : التَّعْلِيمُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ يَتَوَكَّلَ لِهَؤُلَاءِ السَّلَاطِينِ ، وَمِنْ أَنْ يَتَوَكَّلَ لِرَجُلٍ مِنْ عَامَّةِ النَّاسِ فِي ضَيْعَةٍ ، وَمِنْ أَنْ يَسْتَدِينَ وَيَتَّجِرَ ، لَعَلَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْوَفَاءِ ، فَيَلْقَى اللَّهَ تَعَالَى بِأَمَانَاتِ النَّاسِ ، التَّعْلِيمُ أَحَبُّ إلَيَّ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْعَهُ مِنْهُ فِي مَوْضِعِ مَنْعِهِ لِلْكَرَاهَةِ ، لَا لِلتَّحْرِيمِ .
وَمِمَّنْ أَجَازَ ذَلِكَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَرَخَّصَ فِي أُجُورِ الْمُعَلِّمِينَ أَبُو قِلَابَةَ وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَوَّجَ رَجُلًا بِمَا مَعَهُ مِنْ الْقُرْآنِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَإِذَا جَازَ تَعْلِيمُ الْقُرْآنِ عِوَضًا فِي بَابِ النِّكَاحِ ، وَقَامَ مَقَامَ الْمَهْرِ ، جَازَ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ فِي الْإِجَارَةِ ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَحَقُّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللَّهِ } .
حَدِيثٌ صَحِيحٌ .
وَثَبَتَ { أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ رَقَى رَجُلًا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ عَلَى جُعْلٍ فَبَرَأَ ، وَأَخَذَ أَصْحَابُهُ الْجُعْلَ ، فَأَتَوْا بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرُوهُ ، وَسَأَلُوهُ ، فَقَالَ :

لَعَمْرِي لَمَنْ أَكَلَ بِرُقْيَةِ بَاطِلٍ ، لَقَدْ أَكَلْتَ بِرُقْيَةِ حَقٍّ ، كُلُوا وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ بِسَهْمٍ } وَلِذَا جَازَ أَخْذُ الْأَجْرِ ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ ، وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ أَخْذُ الرِّزْقِ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ، فَجَازَ أَخْذُ الْأَجْرِ عَلَيْهِ ، كَبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَالْقَنَاطِرِ ، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى ذَلِكَ ، فَإِنَّهُ يُحْتَاجُ إلَى الِاسْتِنَابَةِ فِي الْحَجِّ عَمَّنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ وَعَجَزَ عَنْ فِعْلِهِ ، وَلَا يَكَادُ يُوجَدُ مُتَبَرِّعٌ بِذَلِكَ ، فَيُحْتَاجُ إلَى بَذْلِ الْأَجْرِ فِيهِ .
وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى ، مَا رَوَى عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ ، قَالَ : { إنَّ آخِرَ مَا عَهِدَ إلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَتَّخِذَ مُؤَذِّنًا لَا يَأْخُذُ عَلَى أَذَانِهِ أَجْرًا } قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ .
وَرَوَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ ، قَالَ : عَلَّمْتُ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ الْقُرْآنَ وَالْكِتَابَةَ ، فَأَهْدَى إلَيَّ رَجُلٌ مِنْهُمْ قَوْسًا ، قَالَ : قُلْت : قَوْسٌ وَلَيْسَتْ بِمَالٍ .
قَالَ : قُلْت أَتَقَلَّدُهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ .
فَذَكَرْت ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ ، قَالَ : { إنْ سَرَّك أَنْ يُقَلِّدَك اللَّهُ قَوْسًا مِنْ نَارٍ ، فَاقْبَلْهَا } .
وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ، أَنَّهُ { عَلَّمَ رَجُلًا سُورَةً مِنْ الْقُرْآنِ ، فَأَهْدَى إلَيْهِ خَمِيصَةً أَوْ ثَوْبًا ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : لَوْ أَنَّك لَبِسْتهَا ، أَوْ أَخَذَتْهَا ، أَلْبَسَك اللَّهُ مَكَانَهَا ثَوْبًا مِنْ نَارٍ } وَعَنْ أُبَيٍّ ، قَالَ : { كُنْت أَخْتَلِفُ إلَى رَجُلٍ مُسِنٍّ ، قَدْ أَصَابَتْهُ عِلَّةٌ ، قَدْ احْتَبَسَ فِي بَيْتِهِ أُقْرِئُهُ الْقُرْآنَ ، فَكَانَ عِنْدَ فَرَاغِهِ مِمَّا أُقْرِئُهُ يَقُولُ لِجَارِيَةٍ لَهُ : هَلُمِّي بِطَعَامِ أَخِي .
فَيُؤْتَى بِطَعَامٍ لَا آكُلُ مِثْلَهُ بِالْمَدِينَةِ ، فَحَاكَ فِي نَفْسِي مِنْهُ شَيْءٌ ، فَذَكَرْتُهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنْ كَانَ ذَلِكَ الطَّعَامُ طَعَامَهُ

وَطَعَامَ أَهْلِهِ ، فَكُلْ مِنْهُ ، وَإِنْ كَانَ يُتْحِفُك بِهِ ، فَلَا تَأْكُلْهُ } .
وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَن بْن شِبْلٍ الْأَنْصَارِيِّ ، قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { اقْرَءُوا الْقُرْآنَ ، وَلَا تَغْلُوا فِيهِ ، وَلَا تَجْفُوا عَنْهُ ، وَلَا تَأْكُلُوا بِهِ ، وَلَا تَسْتَكْثِرُوا بِهِ } رَوَى هَذِهِ الْأَحَادِيثَ كُلَّهَا الْأَثْرَمُ ، فِي " سُنَنِهِ " .
وَلِأَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ ، كَوْنَهَا قُرْبَةً إلَى اللَّهِ تَعَالَى ، فَلَمْ يَجُزْ أَخْذُ الْأَجْرِ عَلَيْهَا ، كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ قَوْمًا يُصَلُّونَ خَلْفَهُ الْجُمُعَةَ أَوْ التَّرَاوِيحَ .
فَأَمَّا الْأَخْذُ عَلَى الرُّقْيَةِ ، فَإِنَّ أَحْمَدَ اخْتَارَ جَوَازَهُ ، وَقَالَ : لَا بَأْسَ .
وَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ .
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا اُخْتُلِفَ فِيهِ ، أَنَّ الرُّقْيَةَ نَوْعُ مُدَاوَاةٍ ، وَالْمَأْخُوذُ عَلَيْهَا جُعْلٌ ، وَالْمُدَاوَاةُ يُبَاحُ أَخْذُ الْأَجْرِ عَلَيْهَا ، وَالْجَعَالَةُ أَوْسَعُ مِنْ الْإِجَارَةِ ، وَلِهَذَا تَجُوزُ مَعَ جَهَالَةِ الْعَمَلِ وَالْمُدَّةِ وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { أَحَقُّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللَّهِ } .
يَعْنِي بِهِ الْجُعْلَ أَيْضًا فِي الرُّقْيَةِ ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي سِيَاقِ خَبَرِ الرُّقْيَةِ .
وَأَمَّا جَعْلُ التَّعْلِيمِ صَدَاقًا فَعَنْهُ فِيهِ اخْتِلَافٌ ، وَلَيْسَ فِي الْخَبَرِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ التَّعْلِيمَ صَدَاقٌ ، إنَّمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { زَوَّجْتُكَهَا عَلَى مَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ } .
فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ زَوَّجَهُ إيَّاهَا بِغَيْرِ صَدَاقٍ ، إكْرَامًا لَهُ ، كَمَا زَوَّجَ أَبَا طَلْحَةَ أُمَّ سُلَيْمٍ عَلَى إسْلَامِهِ ، وَنُقِلَ عَنْهُ جَوَازُهُ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَهْرِ وَالْأَجْرِ ، أَنَّ الْمَهْرَ لَيْسَ بِعِوَضٍ مَحْضٍ ، وَإِنَّمَا وَجَبَ نِحْلَةً وَوَصْلَةً ، وَلِهَذَا جَازَ خُلُوُّ الْعَقْدِ عَنْ تَسْمِيَتِهِ ، وَصَحَّ مَعَ فَسَادِهِ ، بِخِلَافِ الْأَجْرِ فِي غَيْرِهِ ، فَأَمَّا الرِّزْقُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ، فَيَجُوزُ عَلَى مَا يَتَعَدَّى نَفْعُهُ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ ؛ لِأَنَّ

بَيْتَ الْمَالِ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ ، فَإِذَا كَانَ بَذْلُهُ لِمَنْ يَتَعَدَّى نَفْعُهُ إلَى الْمُسْلِمِينَ مُحْتَاجًا إلَيْهِ ، كَانَ مِنْ الْمَصَالِحِ ، وَكَانَ لِلْآخِذِ لَهُ أَخْذُهُ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِهِ ، وَجَرَى مَجْرَى الْوَقْفِ عَلَى مَنْ يَقُومُ بِهَذِهِ الْمَصَالِحِ ، بِخِلَافِ الْأَجْرِ .

( 4324 ) فَصْلٌ : فَإِنْ أُعْطِيَ الْمُعَلِّمُ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ ، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ جَوَازُهُ .
وَقَالَ ، فِيمَا نَقَلَ عَنْهُ أَيُّوبُ بْنُ سَافِرِي : لَا يَطْلُبُ ، وَلَا يُشَارِطُ ، فَإِنْ أُعْطِيَ شَيْئًا أَخَذَهُ .
وَقَالَ ، فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ سَعِيدٍ : أَكْرَهُ أَجْرَ الْمُعَلِّمِ إذَا شَرَطَ .
وَقَالَ : إذَا كَانَ الْمُعَلِّمُ لَا يُشَارِطُ ، وَلَا يَطْلُبُ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا ، إنْ أَتَاهُ شَيْءٌ قَبِلَهُ .
كَأَنَّهُ يَرَاهُ أَهْوَنَ .
وَكَرِهَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ الْقَوْسِ وَالْخَمِيصَةِ اللَّتَيْنِ أُعْطِيَهُمَا أُبَيٌّ وَعُبَادَةُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ .
وَلِأَنَّ ذَلِكَ قُرْبَةٌ ، فَلَمْ يَجُزْ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهَا ، لَا بِشَرْطٍ وَلَا بِغَيْرِهِ ، كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ .
وَوَجْهُ الْأَوَّلِ ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَا أَتَاك مِنْ هَذَا الْمَالِ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ وَلَا إشْرَافِ نَفْسٍ ، فَخُذْهُ ، وَتَمَوَّلْهُ ؛ فَإِنَّهُ رِزْقٌ سَاقَهُ اللَّهُ إلَيْك } .
وَقَدْ أَرْخَصَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُبَيٍّ فِي أَكْلِ طَعَامِ الَّذِي كَانَ يُعَلِّمُهُ ، إذَا كَانَ طَعَامَهُ وَطَعَامَ أَهْلِهِ .
وَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ بِغَيْرِ شَرْطٍ ، كَانَ هِبَةً مُجَرَّدَةً ، فَجَازَ ، كَمَا لَوْ لَمْ يُعَلِّمْهُ شَيْئًا .
فَأَمَّا حَدِيثُ الْقَوْسِ وَالْخَمِيصَةِ ، فَقَضِيَّتَانِ فِي عَيْنٍ ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِمَ أَنَّهُمَا فَعَلَا ذَلِكَ لِلَّهِ خَالِصًا ، فَكَرِهَ أَخَذَ الْعِوَضِ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ اللَّه تَعَالَى .
وَيُحْتَمَلُ غَيْرُ ذَلِكَ وَإِنْ أُعْطِيَ الْمُعَلِّمُ أَجْرًا عَلَى تَعْلِيمِ الصَّبِيِّ الْخَطَّ وَحِفْظِهِ ، جَازَ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، فَقَالَ : إنْ كَانَ الْمُعْطِي يَنْوِي أَنْ يُعْطِيَهُ لِحِفْظِ الصَّبِيِّ وَتَعْلِيمِهِ ، فَأَرْجُو إذَا كَانَ كَذَا .
وَلِأَنَّ هَذَا مِمَّا يَجُوزُ أَخْذُ الْأَجْرِ عَلَيْهِ مُفْرَدًا ، فَجَازَ مَعَ غَيْرِهِ ، كَسَائِرِ مَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ .
وَهَكَذَا لَوْ كَانَ إمَامُ الْمَسْجِدِ قَيِّمًا لَهُ ، يُسْرِجُ

قَنَادِيلَهُ ، وَيَكْنُسُهُ ، وَيُغْلِقُ بَابَهُ وَيَفْتَحُهُ ، فَأَخَذَ أَجْرًا عَلَى خِدْمَتِهِ ، أَوْ كَانَ النَّائِبُ فِي الْحَجِّ يَخْدِمُ الْمُسْتَنِيبَ لَهُ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ ، وَيَشُدُّ لَهُ ، وَيَرْفَعُ حِمْلَهُ ، وَيَحُجُّ عَنْ أَبِيهِ ، فَدَفَعَ لَهُ أَجْرًا لِخِدْمَتِهِ ، لَمْ يَمْتَنِعْ ذَلِكَ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

( 4325 ) فَصْلٌ : وَمَا لَا يَخْتَصُّ فَاعِلُهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْقُرْبَةِ ، كَتَعْلِيمِ الْخَطِّ وَالْحِسَابِ وَالشِّعْرِ الْمُبَاحِ ، وَأَشْبَاهِهِ ، وَبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَالْقَنَاطِرِ ، جَازَ أَخْذُ الْأَجْرِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ يَقَعُ تَارَةً قُرْبَةً ، وَتَارَةً غَيْرَ قُرْبَةٍ ، فَلَمْ يُمْنَعْ مِنْ الِاسْتِئْجَارِ لِفِعْلِهِ ، كَغَرْسِ الْأَشْجَارِ ، وَبِنَاءِ الْبُيُوتِ .
وَكَذَلِكَ فِي تَعْلِيمِ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ .
وَأَمَّا مَا لَا يَتَعَدَّى نَفْعُهُ فَاعِلَهُ مِنْ الْعِبَادَات الْمَحْضَةِ ، كَالصِّيَامِ ، وَصَلَاةِ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ ، وَحَجِّهِ عَنْ نَفْسِهِ ، وَأَدَاءِ زَكَاةِ نَفْسِهِ ، فَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الْأَجْرِ عَلَيْهَا ، بِغَيْرِ خِلَافٍ ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ عِوَضُ الِانْتِفَاعِ ، وَلَمْ يَحْصُلْ لِغَيْرِهِ هَاهُنَا انْتِفَاعٌ ، فَأَشْبَهَ إجَارَةَ الْأَعْيَانِ الَّتِي لَا نَفْعَ فِيهَا .

( 4326 ) فَصْلٌ : إذَا اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الْأَجْرِ ، فَقَالَ : آجَرْتَنِيهَا سَنَةً بِدِينَارٍ .
قَالَ : بَلْ بِدِينَارَيْنِ .
تَحَالَفَا ، وَيُبْدَأُ بِيَمِينِ الْآجِرِ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ نَوْعٌ مِنْ الْبَيْعِ ، فَإِذَا تَحَالَفَا قَبْلَ مُضِيِّ شَيْءٍ مِنْ الْمُدَّةِ فَسَخَا الْعَقْدَ ، وَرَجَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَالِهِ .
وَإِنْ رَضِيَ أَحَدُهُمَا بِمَا حَلَفَ عَلَيْهِ الْآخَرُ ، قَرَّ الْعَقْدُ .
وَإِنْ فَسَخَا الْعَقْدَ بَعْدَ الْمُدَّةِ أَوْ شَيْءٍ مِنْهَا ، سَقَطَ الْمُسَمَّى وَوَجَبَ أَجْرُ الْمِثْلِ ، كَمَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي الْمَبِيعِ بَعْدَ تَلَفِهِ .
وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إنْ لَمْ يَكُنْ عَمِلَ الْعَمَلَ ، وَإِنْ كَانَ عَمِلَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَجْرِ مِثْلِهِ .
وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ : الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِلزِّيَادَةِ فِي الْأَجْرِ ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ .
وَلَنَا أَنَّ الْإِجَارَةَ نَوْعٌ مِنْ الْبَيْعِ ، فَيَتَحَالَفَانِ عِنْدَ اخْتِلَافِهِمَا فِي عِوَضِهَا ، كَالْبَيْعِ ، وَكَمَا قَبِلَ أَنْ يَعْمَلَ الْعَمَلَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى : الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ } .
وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ إذَا اخْتَلَفَا فِي الْمُدَّةِ ، وَأَمَّا إذَا اخْتَلَفَا فِي الْعِوَضِ ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ .

( 4327 ) فَصْلٌ : وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْمُدَّةِ ، فَقَالَ : أَجَرْتُكهَا سَنَةً بِدِينَارٍ .
قَالَ : بَلْ سَنَتَيْنِ بِدِينَارَيْنِ .
فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِلزِّيَادَةِ ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِيمَا أَنْكَرَهُ ، كَمَا لَوْ قَالَ : بِعْتُك هَذَا الْعَبْدَ بِمِائَةٍ .
قَالَ : بَلْ هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ .

وَإِنْ قَالَ : أَجَرْتُكهَا سَنَةً بِدِينَارٍ .
قَالَ : بَلْ سَنَتَيْنِ بِدِينَارٍ .
فَهَاهُنَا قَدْ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الْعِوَضِ وَالْمُدَّةِ جَمِيعًا ، فَيَتَحَالَفَانِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ الِاتِّفَاقُ مِنْهُمَا عَلَى مُدَّةٍ بِعِوَضٍ ، فَصَارَ كَمَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي الْعِوَضِ مَعَ اتِّفَاقِ الْمُدَّةِ .

وَإِنْ قَالَ الْمَالِكُ : أَجَرْتُكَهَا سَنَةً بِدِينَارٍ .
فَقَالَ السَّاكِنُ : بَلْ اسْتَأْجَرْتَنِي عَلَى حِفْظِهَا بِدِينَارٍ .
فَقَالَ أَحْمَدُ : الْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الدَّارِ ، إلَّا أَنْ تَكُونَ لِلسَّاكِنِ بَيِّنَةٌ .
وَذَلِكَ لِأَنَّ سُكْنَى الدَّارِ قَدْ وُجِدَ مِنْ السَّاكِنِ ، وَاسْتِيفَاءُ مَنْفَعَتِهَا وَهِيَ مِلْكُ صَاحِبِهَا ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي مِلْكِهِ ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ اسْتِئْجَارِ السَّاكِنِ فِي الْحِفْظِ ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ يَنْفِيه .

( 4328 ) فَصْلٌ : وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي التَّعَدِّي فِي الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ ؛ لِأَنَّهُ مُؤْتَمَنٌ عَلَيْهَا ، فَأَشْبَهَ الْمُودَعَ ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْعُدْوَانِ ، وَالْبَرَاءَةُ مِنْ الضَّمَانِ .

وَإِنْ ادَّعَى أَنَّ الْعَبْدَ أَبَقَ مِنْ يَدِهِ ، وَأَنَّ الدَّابَّةَ شَرَدَتْ أَوْ نَفَقَتْ ، وَأَنْكَرَ الْمُؤْجِرُ ، فَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ إذَا حَلَفَ أَنَّهُ مَا انْتَفَعَ بِهَا ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الِانْتِفَاعِ .
وَالثَّانِيَةُ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُؤْجِرِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ السَّلَامَةُ .
فَأَمَّا إنْ ادَّعَى أَنَّ الْعَبْدَ مَرِضَ فِي يَدِهِ ، نَظَرْنَا ؛ فَإِنْ جَاءَ بِهِ صَحِيحًا ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ ، سَوَاءٌ وَافَقَهُ الْعَبْدُ أَوْ خَالَفَهُ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
وَإِنْ جَاءَ بِهِ مَرِيضًا ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ .
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَاءَ بِهِ صَحِيحًا فَقَدْ ادَّعَى مَا يُخَالِفُ الْأَصْلَ ، وَلَيْسَ مَعَهُ دَلِيلٌ عَلَيْهِ ، وَإِنْ جَاءَ بِهِ مَرِيضًا ، فَقَدْ وُجِدَ مَا يُخَالِفُ الْأَصْلَ يَقِينًا ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي مُدَّةِ الْمَرَضِ ؛ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ ، لِكَوْنِهِ فِي يَدِهِ .
وَكَذَلِكَ إنْ ادَّعَى إبَاقَهُ فِي حَالِ إبَاقِهِ ، أَوْ جَاءَ بِهِ غَيْرَ آبِقٍ .
وَنَقَلَ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ ، عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي إبَاقِ الْعَبْدِ ، دُونَ مَرَضِهِ .
وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَإِسْحَاقُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَبِالْأَوَّلِ أَقُولُ ؛ لِأَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي تَفْوِيتِ مَنْفَعَتِهِ ، فَكَانَا سَوَاءً فِي دَعْوَى ذَلِكَ .
وَإِنْ هَلَكَتْ الْعَيْنُ ، فَاخْتَلَفَا فِي وَقْتِ هَلَاكِهَا ، أَوْ أَبَقَ الْعَبْدُ ، أَوْ مَرِضَ فَاخْتَلَفَا فِي وَقْتِ ذَلِكَ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْعَمَلِ وَلِأَنَّ ذَلِكَ حَصَلَ فِي يَدِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِ .

( 4329 ) فَصْلٌ : إذَا دَفَعَ ثَوْبَهُ إلَى خَيَّاطٍ أَوْ قَصَّارٍ ، لِيَخِيطَهُ أَوْ يَقْصُرَهُ ، مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ وَلَا شَرْطٍ ، وَلَا تَعْوِيضٍ بِأَجْرٍ ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ : خُذْ هَذَا فَاعْمَلْهُ ، وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّك إنَّمَا تَعْمَلُ بِأَجْرٍ .
وَكَانَ الْخَيَّاطُ وَالْقَصَّارُ مُنْتَصِبَيْنِ لِذَلِكَ ، فَفَعَلَا ذَلِكَ ، فَلَهُمَا الْأَجْرُ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : لَا أَجْرَ لَهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا فَعَلَا ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ جُعِلَ لَهُمَا ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ تَبَرَّعَا بِعَمَلِهِ .
وَلَنَا أَنَّ الْعُرْفَ الْجَارِيَ بِذَلِكَ يَقُومُ مَقَامَ الْقَوْلِ ، فَصَارَ كَنَقْدِ الْبَلَدِ ، وَكَمَا لَوْ دَخَلَ حَمَّامًا ، أَوْ جَلَسَ فِي سَفِينَةٍ مَعَ مَلَّاحٍ ، وَلِأَنَّ شَاهِدَ الْحَالِ يَقْتَضِيه ، فَصَارَ كَالتَّعْوِيضِ فَأَمَّا إنْ لَمْ يَكُونَا مُنْتَصِبَيْنِ لِذَلِكَ ، لَمْ يَسْتَحِقَّا أَجْرًا إلَّا بِعَقْدٍ أَوْ شَرْطِ الْعِوَضِ ، أَوْ تَعْوِيضٍ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْرِ عُرْفٌ يَقُومُ مَقَامَ الْعَقْدِ ، فَصَارَ كَمَا لَوْ تَبَرَّعَ بِهِ ، أَوْ عَمِلَهُ بِغَيْرِ إذْنِ مَالِكِهِ .
وَلَوْ دَفَعَ ثَوْبًا إلَى رَجُلٍ لِيَبِيعَهُ ، فَالْحُكْمُ فِيهِ كَالْحُكْمِ فِي الْقَصَّارِ وَالْخَيَّاطِ ، إنْ كَانَ مُنْتَصِبًا يَبِيعُ لِلنَّاسِ بِأَجْرٍ ، فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ ، فَلَا شَيْءَ ؛ لِمَا تَقَدَّمَ .
وَمَتَى دَفَعَ ثَوْبَهُ إلَى أَحَدِ هَؤُلَاءِ ، وَلَمْ يُقَاطِعْهُ عَلَى أَجْرٍ ، فَلَهُ أَجْرُ الْمِثْلِ ؛ لِأَنَّ الثِّيَابَ تَخْتَلِفُ أُجْرَتُهَا ، وَلَمْ يُعَيِّنْ شَيْئًا ، فَجَرَى مَجْرَى الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ فَإِنْ تَلِفَ الثَّوْبُ مِنْ حِرْزِهِ ، أَوْ بِغَيْرِ فِعْلِهِ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ مَا لَا يُضْمَنُ فِي الْعَقْدِ الصَّحِيحِ ، لَا يُضْمَنُ فِي فَاسِدِهِ .
وَإِنْ تَلِفَ مِنْ فِعْلِهِ ، بِتَخْرِيقِهِ أَوْ دَقِّهِ ، ضَمِنَهُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا ضَمِنَهُ بِذَلِكَ فِي الْعَقْدِ الصَّحِيحِ ، فَفِي الْفَاسِدِ أَوْلَى .
وَقَالَ أَحْمَدُ ، فِي مَنْ دَفَعَ ثَوْبًا إلَيَّ قَصَّارٍ لِيَقْصُرَهُ ، وَلَمْ يَقْطَعْ لَهُ أَجْرًا ، بَلْ قَالَ : أَنَا أُعْطِيك كَمَا

تُعْطَى .
وَهَلَكَ الثَّوْبُ ، فَإِنْ كَانَ بِخَرَقٍ أَوْ نَحْوِهِ مِمَّا لَا تَجْنِيه يَدُهُ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، بَيَّنَ الْكِرَاءَ أَوْ لَمْ يُبَيِّنْ ، وَالْعِلَّةُ فِي ذَلِكَ مَا ذَكَرْنَاهُ .

( 4330 ) فَصْلٌ : إذَا اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَحْمِلَ لَهُ كِتَابًا إلَى مَكَّةَ أَوْ غَيْرِهَا ، إلَى صَاحِبٍ لَهُ ، فَحَمَلَهُ ، فَوَجَدَ صَاحِبَهُ غَائِبًا ، فَرَدَّهُ ، اسْتَحَقَّ الْأَجْرَ بِحَمْلِهِ فِي الذَّهَابِ وَالرَّدِّ ؛ لِأَنَّهُ حَمَلَهُ فِي الذَّهَابِ بِإِذْنِ صَاحِبِهِ صَرِيحًا ، وَفِي الرَّدِّ تَضْمِينًا ؛ لِأَنَّ تَقْدِيرَ كَلَامِهِ : وَإِنْ لَمْ تَجِدْ صَاحِبَهُ فَرُدَّهُ .
إذْ لَيْسَ سِوَى رَدِّهِ إلَّا تَضْيِيعَهُ .
فَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَرْضَى تَضْيِيعَهُ ، فَتَعَيَّنَ رَدُّهُ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

كِتَابُ إحْيَاءِ الْمَوَاتِ الْمَوَاتُ : هُوَ الْأَرْضُ الْخَرَابُ الدَّارِسَةُ ، تُسَمَّى مَيْتَةً وَمَوَاتًا وَمَوَتَانًا ، بِفَتْحِ الْمِيم وَالْوَاوِ ، وَالْمَوْتَانُ ، بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْوَاوِ : الْمَوْتُ الذَّرِيعُ .
وَرَجُلٌ مَوْتَانُ الْقَلْبِ ، بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْوَاوِ ، يَعْنِي : أَعْمَى الْقَلْبِ ، لَا يَفْهَمُ .
وَالْأَصْلُ فِي إحْيَاءِ الْأَرْضِ ، مَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ } .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ ، وَلَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ } .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ ، وَرَوَى مَالِكٌ ، فِي " مُوَطَّئِهِ " ، وَأَبُو دَاوُد ، فِي " سُنَنِهِ " عَنْ عَائِشَةَ مِثْلَهُ .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ ، وَهُوَ مُسْنَدٌ صَحِيحٌ ، مُتَلَقَّى بِالْقَبُولِ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ وَغَيْرِهِمْ .
وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ ، فِي " الْأَمْوَالِ " عَنْ عَائِشَةَ ، قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ أَحْيَا أَرْضًا لَيْسَتْ لِأَحَدٍ ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا } .
قَالَ عُرْوَةُ : وَقَضَى بِذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي خِلَافَتِهِ وَعَامَّةُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّ الْمَوَاتَ يُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ ، وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي شُرُوطِهِ .

( 4331 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ : ( وَمَنْ أَحْيَا أَرْضًا لَمْ تُمْلَكْ ، فَهِيَ لَهُ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْمَوَاتَ قِسْمَانِ أَحَدُهُمَا مَا لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ مِلْكٌ لِأَحَدٍ ، وَلَمْ يُوجَدْ فِيهِ أَثَرُ عِمَارَةٍ ، فَهَذَا يُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ ، بِغَيْرِ خِلَافٍ بَيْنَ الْقَائِلِينَ بِالْإِحْيَاءِ .
وَالْأَخْبَارُ الَّتِي رَوَيْنَاهَا مُتَنَاوِلَةٌ لَهُ .
الْقِسْمُ الثَّانِي ، مَا جَرَى عَلَيْهِ مِلْكُ مَالِكٍ ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ : أَحَدُهَا مَا لَهُ مَالِكٌ مُعَيَّنٌ ، وَهُوَ ضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا ، مَا مُلِكَ بِشِرَاءٍ أَوْ عَطِيَّةٍ ، فَهَذَا لَا يُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ ، بِغَيْرِ خِلَافٍ .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَا عُرِفَ بِمِلْكِ مَالِكٍ غَيْرِ مُنْقَطِعٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إحْيَاؤُهُ لِأَحَدٍ غَيْرِ أَرْبَابِهِ .
الثَّانِي مَا مُلِكَ بِالْإِحْيَاءِ ، ثُمَّ تُرِكَ حَتَّى دَثَرَ وَعَادَ مَوَاتًا ، فَهُوَ كَاَلَّذِي قَبْلَهُ سَوَاءً .
وَقَالَ مَالِكٌ : يُمْلَكُ هَذَا لِعُمُومِ قَوْلِهِ : { مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ } .
وَلِأَنَّ أَصْلَ هَذِهِ الْأَرْضِ مُبَاحٌ ، فَإِذَا تُرِكَتْ حَتَّى تَصِيرَ مَوَاتًا عَادَتْ إلَى الْإِبَاحَةِ ، كَمَنْ أَخَذَ مَاءً مِنْ نَهْرٍ ثُمَّ رَدَّهُ فِيهِ .
وَلَنَا أَنَّ هَذِهِ أَرْضٌ يُعْرَفُ مَالِكُهَا ، فَلَمْ تُمْلَكْ بِالْإِحْيَاءِ ، كَاَلَّتِي مُلِكَتْ بِشِرَاءٍ أَوْ عَطِيَّةٍ ، وَالْخَبَرُ مُقَيَّدٌ بِغَيْرِ الْمَمْلُوكِ ، بِقَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى : " مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً لَيْسَتْ لِأَحَدٍ " .
وَقَوْلِهِ : " فِي غَيْرِ حَقِّ مُسْلِمٍ " وَهَذَا يُوجِبُ تَقْيِيدَ مُطْلَقِ حَدِيثِهِ .
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ ، فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { وَلَيْسَ لِعِرْقِ ظَالِمٍ حَقٌّ } : الْعِرْقُ الظَّالِمُ أَنْ يَأْتِيَ الرَّجُلُ الْأَرْضَ الْمَيْتَةَ لِغَيْرِهِ ، فَيَغْرِسَ فِيهَا .
ذَكَرَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ ، فِي " سُنَنِهِ " .
ثُمَّ الْحَدِيثُ مَخْصُوصٌ بِمَا مُلِكَ بِشِرَاءٍ أَوْ عَطِيَّةٍ ، فَنَقِيسُ عَلَيْهِ مَحَلَّ النِّزَاعِ .
وَلِأَنَّ سَائِرَ الْأَمْوَالِ لَا يَزُولُ الْمِلْكُ عَنْهَا

بِالتَّرْكِ ، بِدَلِيلِ سَائِرِ الْأَمْلَاكِ إذَا تُرِكَتْ حَتَّى تَشَعَّثَتْ .
وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِالْمَوَاتِ إذَا أَحْيَاهُ إنْسَانٌ ثُمَّ بَاعَهُ ، فَتَرَكَهُ الْمُشْتَرِي حَتَّى عَادَ مَوَاتًا ، وَبِاللُّقَطَةِ إذَا مَلَكَهَا ثُمَّ ضَاعَتْ مِنْهُ ، وَيُخَالِفُ مَاءَ النَّهْرِ ، فَإِنَّهُ اُسْتُهْلِكَ .
النَّوْعُ الثَّانِي مَا يُوجَدُ فِيهِ آثَارُ مِلْكٍ قَدِيمٍ جَاهِلِيٍّ ، كَآثَارِ الرُّومِ ، وَمَسَاكِنِ ثَمُودَ ، وَنَحْوِهَا ، فَهَذَا يُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمِلْكَ لَا حُرْمَةَ لَهُ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ طَاوُسٍ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { عَادِيُّ الْأَرْضِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ ، ثُمَّ هُوَ بَعْدُ لَكُمْ } .
رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ ، فِي " سُنَنِهِ " ، وَأَبُو عُبَيْدٍ ، فِي " الْأَمْوَالِ " .
وَقَالَ : عَادِيُّ الْأَرْضِ : الَّتِي كَانَ بِهَا سَاكِنٌ فِي آبَادِ الدَّهْرِ ، فَانْقَرَضُوا ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَنِيسٌ ، وَإِنَّمَا نَسَبَهَا إلَى عَادٍ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَعَ تَقَدُّمِهِمْ ذَوِي قُوَّةٍ وَبَطْشٍ وَآثَارٍ كَثِيرَةٍ ، فَنُسِبَ كُلُّ أَثَرٍ قَدِيمٍ إلَيْهِمْ .
وَيُحْتَمَلُ أَنَّ كُلَّ مَا فِيهِ أَثَرُ الْمِلْكِ ، وَلَمْ يُعْلَمْ زَوَالُهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ ، أَنَّهُ لَا يُمْلَكْ ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَخَذُوهُ عَامِرًا ، فَاسْتَحَقُّوهُ ، فَصَارَ مَوْقُوفًا بِوَقْفِ عُمَرَ لَهُ ، فَلَمْ يُمْلَكْ ، كَمَا لَوْ عُلِمَ مَالِكُهُ .
النَّوْعُ الثَّالِثُ ، مَا جَرَى عَلَيْهِ الْمِلْكُ فِي الْإِسْلَامِ لِمُسْلِمٍ ، أَوْ ذِمِّيٍّ غَيْرِ مُعَيَّنٍ ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهَا لَا تُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ .
وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ ، نَقَلَهَا عَنْهُ أَبُو دَاوُد ، وَأَبُو الْحَارِثِ ، وَيُوسُفُ بْنُ مُوسَى ؛ لِمَا رَوَى كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْفٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { : مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا ، فِي غَيْرِ حَقِّ مُسْلِمٍ ، فَهِيَ لَهُ } .
فَقَيَّدَهُ بِكَوْنِهِ فِي غَيْرِ حَقِّ مُسْلِمٍ .
وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَرْضَ لَهَا

مَالِكٌ ، فَلَمْ يَجُزْ إحْيَاؤُهَا ، كَمَا لَوْ كَانَ مُعَيَّنًا ، فَإِنَّ مَالِكَهَا إنْ كَانَ لَهُ وَرَثَةٌ فَهِيَ لَهُمْ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَرَثَةٌ ، وَرِثَهَا الْمُسْلِمُونَ .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ ، أَنَّهَا تُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ .
نَقَلَهَا صَالِحٌ وَغَيْرُهُ .
وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٍ ؛ لِعُمُومِ الْأَخْبَارِ ، وَلِأَنَّهَا أَرْضٌ مَوَاتٌ ، لَا حَقَّ فِيهَا لِقَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ ، أَشْبَهَتْ مَا لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ مِلْكُ مَالِكٍ ، وَلِأَنَّهَا إنْ كَانَتْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، فَهِيَ كَلُقَطَةِ دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَإِنْ كَانَتْ فِي دَارِ الْكُفْرِ ، فَهِيَ كَالرِّكَازِ .
( 4332 ) فَصْلٌ : وَلَا فَرْقَ فِيمَا ذَكَرْنَا بَيْنَ دَارِ الْحَرْبِ وَدَارِ الْإِسْلَامِ ؛ لِعُمُومِ الْأَخْبَارِ ، وَلِأَنَّ عَامِرَ دَارِ الْحَرْبِ إنَّمَا يُمْلَكُ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ ، كَسَائِرِ أَمْوَالِهِمْ ، فَأَمَّا مَا عُرِفَ أَنَّهُ كَانَ مَمْلُوكًا ، وَلَمْ يُعْلَمْ لَهُ مَالِكٌ مُعَيَّنٌ ، فَهُوَ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَهَذَا مِلْكُ كَافِرٍ غَيْرُ مُحْتَرَمٍ ، فَأَشْبَهَ دِيَارَ عَادٍ ، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { عَادِيُّ الْأَرْضِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ } وَلِأَنَّ الرِّكَازَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ، وَيَمْلِكُهُ وَاجِدُهُ ، فَهَذَا أَوْلَى .
قُلْنَا : قَوْلُهُ : " عَادِيُّ الْأَرْضِ " .
يَعْنِي مَا تَقَدَّمَ مِلْكُهُ ، وَمَضَتْ عَلَيْهِ الْأَزْمَانُ ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا حُكْمَ لِمَالِكِهِ .
فَأَمَّا مَا قَرُبَ مِلْكُهُ ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّ لَهُ مَالِكًا بَاقِيًا ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ ، فَلِهَذَا قُلْنَا : لَا يُمْلَكُ .
عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ .
وَأَمَّا الرِّكَازُ ، فَإِنَّهُ يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَرْضِ ، بِدَلِيلِ أَنَّ لُقَطَةَ دَارِ الْإِسْلَامِ تُمْلَكُ بَعْدَ التَّعْرِيفِ ، بِخِلَافِ الْأَرْضِ .

( 4333 ) فَصْلٌ : وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ فِي الْإِحْيَاءِ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ .
وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَمْلِكُ الذِّمِّيُّ بِالْإِحْيَاءِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ .
قَالَ الْقَاضِي : وَهُوَ مَذْهَبُ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَوَتَانُ الْأَرْضِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ ، ثُمَّ هِيَ لَكُمْ مِنِّي } .
فَجَمَعَ الْمَوَتَانَ ، وَجَعَلَهُ لِلْمُسْلِمِينَ .
وَلِأَنَّ مَوَتَانَ الدَّارِ مِنْ حُقُوقِهَا ، وَالدَّارُ لِلْمُسْلِمِينَ ، فَكَانَ مَوَاتُهَا لَهُمْ ، كَمَرَافِقِ الْمَمْلُوكِ وَلَنَا عُمُومُ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ } .
وَلِأَنَّ هَذِهِ جِهَةً مِنْ جِهَاتِ التَّمْلِيكِ ، فَاشْتَرَكَ فِيهَا الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ ، كَسَائِرِ جِهَاتِهِ .
وَحَدِيثُهُمْ لَا نَعْرِفُهُ ، إنَّمَا نَعْرِفُ قَوْلَهُ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { عَادِيُّ الْأَرْضِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ ، ثُمَّ هُوَ لَكُمْ بَعْدُ ، وَمَنْ أَحْيَا مَوَاتًا مِنْ الْأَرْضِ ، فَلَهُ دَفِينُهَا } .
هَكَذَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ ، وَهُوَ مُرْسَلٌ ، رَوَاهُ طَاوُسٌ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
ثُمَّ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ : " هِيَ لَكُمْ " .
أَيْ لِأَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَالذِّمِّيُّ مِنْ أَهْلِ الدَّارِ ، تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُهَا وَقَوْلُهُمْ : إنَّهَا مِنْ حُقُوقِ دَارِ الْإِسْلَامِ .
قُلْنَا : وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الدَّارِ ، فَيَمْلِكُهَا ، كَمَا يَمْلِكُهَا بِالشِّرَاءِ ، وَيَمْلِكُ مُبَاحَاتِهَا ، مِنْ الْحَشِيشِ وَالْحَطَبِ وَالصُّيُودِ وَالرِّكَازِ وَالْمَعْدِنِ وَاللُّقَطَةِ ، وَهِيَ مِنْ مَرَافِقِ دَارِ الْإِسْلَامِ .

( 4334 ) فَصْلٌ : وَمَا قَرُبَ مِنْ الْعَامِرِ ، وَتَعَلَّقَ بِمَصَالِحِهِ ، مِنْ طُرُقِهِ ، وَمَسِيلِ مَائِهِ ، وَمَطْرَحِ قُمَامَتِهِ ، وَمُلْقَى تُرَابِهِ وَآلَاتِهِ ، فَلَا يَجُوزُ إحْيَاؤُهُ ، بِغَيْرِ خِلَافٍ فِي الْمَذْهَبِ .
وَكَذَلِكَ مَا تَعَلَّقَ بِمَصَالِحِ الْقَرْيَةِ ، كَفِنَائِهَا ، وَمَرْعَى مَاشِيَتِهَا ، وَمُحْتَطَبِهَا ، وَطُرُقِهَا ، وَمَسِيلِ مَائِهَا ، لَا يُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ .
وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ أَيْضًا خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَكَذَلِكَ حَرِيمُ الْبِئْرِ وَالنَّهْرِ وَالْعَيْنِ ، وَكُلُّ مَمْلُوكٍ لَا يَجُوزُ إحْيَاءُ مَا تَعَلَّقَ بِمَصَالِحِهِ ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فِي غَيْرِ حَقِّ مُسْلِمٍ ، فَهِيَ لَهُ } .
مَفْهُومُهُ أَنَّ مَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ مُسْلِمٍ لَا يُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ ، وَلِأَنَّهُ تَابِعٌ لِلْمَمْلُوكِ ، وَلَوْ جَوَّزْنَا إحْيَاءَهُ ، لَبَطَلَ الْمِلْكُ فِي الْعَامِرِ عَلَى أَهْلِهِ وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ هَذِهِ الْمَرَافِقَ لَا يَمْلِكُهَا الْمُحْيِي بِالْإِحْيَاءِ ، لَكِنْ هُوَ أَحَقُّ بِهَا مِنْ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ الْإِحْيَاءَ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْمِلْكِ لَمْ يُوجَدْ فِيهَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَمْلِكُ بِذَلِكَ .
وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ فِي حَرِيمِ الْبِئْرِ ؛ لِأَنَّهُ مَكَانٌ اسْتَحَقَّهُ بِالْإِحْيَاءِ ، فَمَلَكَهُ ، كَالْمُحْيِي ، وَلِأَنَّ مَعْنَى الْمِلْكِ مَوْجُودٌ فِيهِ ، لِأَنَّهُ يَدْخُلُ مَعَ الدَّارِ فِي الْبَيْعِ ، وَيَخْتَصُّ بِهِ صَاحِبُهَا .
فَأَمَّا مَا قَرُبَ مِنْ الْعَامِرِ ، وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِمَصَالِحِهِ ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا يَجُوزُ إحْيَاؤُهُ .
قَالَ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ أَبِي الصَّقْرِ ، فِي رَجُلَيْنِ أَحْيِيَا قِطْعَتَيْنِ مِنْ مَوَاتٍ ، وَبَقِيَتْ بَيْنَهُمَا رُقْعَةٌ ، فَجَاءَ رَجُلٌ لِيُحْيِيَهَا ، فَلَيْسَ لَهُمَا مَنْعُهُ وَقَالَ فِي جَبَّانَةٍ بَيْنَ قَرْيَتَيْنِ : مَنْ أَحْيَاهَا ، فَهِيَ لَهُ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ } { .
وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْطَعَ

بِلَالَ بْنَ الْحَارِثِ الْمُزَنِيَّ الْعَقِيقَ ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ بَيْنَ عِمَارَةِ الْمَدِينَةِ } .
وَلِأَنَّهُ مَوَاتٌ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ مَصْلَحَةُ الْعَامِرِ ، فَجَازَ إحْيَاؤُهُ ، كَالْبَعِيدِ .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ ، لَا يَجُوزُ إحْيَاؤُهُ .
وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَاللَّيْثُ ؛ لِأَنَّهُ فِي مَظِنَّةِ تَعَلُّقِ الْمَصْلَحَةِ بِهِ ، فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى فَتْحِ بَابٍ فِي حَائِطِهِ إلَى فِنَائِهِ ، وَيَجْعَلَهُ طَرِيقًا ، أَوْ يَخْرُبَ حَائِطُهُ ، فَيَضَعَ آلَاتِ الْبِنَاءِ فِي فِنَائِهِ ، وَغَيْرُ ذَلِكَ ، وَلَمْ يَجُزْ تَفْوِيتُ ذَلِكَ عَلَيْهِ ، بِخِلَافِ الْبَعِيدِ إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّهُ لَا حَدَّ يَفْصِلُ بَيْنَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ سِوَى الْعُرْفِ .
وَقَالَ اللَّيْثُ : حَدُّهُ غَلْوَةٌ ، وَهِيَ خُمْسُ الْفَرْسَخِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : حَدُّ الْبَعِيدِ هُوَ الَّذِي إذَا وَقَفَ الرَّجُلُ فِي أَدْنَاهُ ، فَصَاحَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ ، لَمْ يَسْمَعْ أَدْنَى أَهْلِ الْمِصْرِ إلَيْهِ .
وَلَنَا ، أَنَّ التَّحْدِيدَ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالتَّوْقِيفِ ، وَلَا يُعْرَفُ بِالرَّأْيِ وَالتَّحَكُّمِ ، وَلَمْ يَرِدْ مِنْ الشَّرْعِ فِي ذَلِكَ تَحْدِيدٌ ، فَوَجَبَ أَنْ يُرْجَعَ فِي ذَلِكَ إلَى الْعُرْفِ ، كَالْقَبْضِ وَالْإِحْرَازِ .
وَقَوْلُ مَنْ حَدَّدَ هَذَا تَحَكُّمٌ بِغَيْرِ دَلِيلٍ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ تَحْدِيدِهِ بِشَيْءٍ آخَرَ ، كَمِيلٍ وَنِصْفِ مِيلٍ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ .
وَهَذَا التَّحْدِيدُ الَّذِي ذَكَرَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مُخْتَصٌّ بِمَا قَرُبَ مِنْ الْمِصْرِ أَوْ الْقَرْيَةِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَدًّا لِكُلِّ مَا قَرُبَ مِنْ عَامِرٍ ، لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى أَنَّ مَنْ أَحْيَا أَرْضًا فِي مَوَاتٍ ، حَرُمَ إحْيَاءُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ الْمَوَاتِ عَلَى غَيْرِهِ ، مَا لَمْ يَخْرُجْ عَنْ ذَلِكَ الْحَدِّ .
( 4335 ) فَصْلٌ : وَجَمِيعُ الْبِلَادِ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ سَوَاءٌ ، الْمَفْتُوحُ عَنْوَةً كَأَرْضِ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ ، وَمَا أَسْلَمَ أَهْلُهُ عَلَيْهِ كَالْمَدِينَةِ ، وَمَا صُولِحَ أَهْلُهُ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ لِلْمُسْلِمِينَ كَأَرْضِ خَيْبَرَ ، إلَّا الَّذِي صُولِحَ أَهْلُهُ

عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ لَهُمْ وَلَنَا الْخَرَاجُ عَنْهَا ، فَإِنَّ أَصْحَابَنَا قَالُوا : لَوْ دَخَلَ فِيهَا مُسْلِمٌ ، فَأَحْيَا فِيهَا مَوَاتًا ، لَمْ يَمْلِكْهُ ؛ لِأَنَّهُمْ صُولِحُوا فِي بِلَادِهِمْ ، فَلَا يَجُوزُ التَّعَرُّضُ لَشَيْءٍ مِنْهَا ، عَامِرًا كَانَ أَوْ مَوَاتًا ، لِأَنَّ الْمَوَاتَ تَابِعٌ لِلْبَلَدِ ، فَإِذَا لَمْ يَمْلِكْ عَلَيْهِمْ الْبَلَدَ لَمْ يَمْلِكْ مَوَاتَهُ .
وَيُفَارِقُ دَارَ الْحَرْبِ ، حَيْثُ يَمْلِكُ مَوَاتَهَا ؛ لِأَنَّ دَارَ الْحَرْبِ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ ، وَهَذِهِ صَالَحْنَاهُمْ عَلَى تَرْكِهَا لَهُمْ ، فَحُرِّمَتْ عَلَيْنَا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَمْلِكَهَا مَنْ أَحْيَاهَا ؛ لِعُمُومِ الْخَبَرِ ، وَلِأَنَّهَا مِنْ مُبَاحَاتِ دَارِهِمْ ، فَجَازَ أَنْ يَمْلِكَهَا مَنْ وُجِدَ مِنْهُ سَبَبُ تَمَلُّكِهَا ، كَالْحَشِيشِ وَالْحَطَبِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهُ لَيْسَ فِي السَّوَادِ مَوَاتٌ .
يَعْنِي سَوَادَ الْعِرَاقِ .
قَالَ الْقَاضِي : هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الْعَامِرِ .
وَيُحْتَمَلُ أَنَّ أَحْمَدَ قَالَ ذَلِكَ لِكَوْنِ السَّوَادِ كَانَ مَعْمُورًا كُلُّهُ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، وَحِينَ أَخَذَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ الْكُفَّارِ ، حَتَّى بَلَغَنَا أَنَّ رَجُلًا مِنْهُمْ سَأَلَ أَنْ يُعْطَى خَرِبَةً ، فَلَمْ يَجِدُوا لَهُ خَرِبَةً .
فَقَالَ : إنَّمَا أَرَدْت أَنْ أُعْلِمَكُمْ كَيْف أَخَذْتُمُوهَا مِنَّا .
وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَوَاتٌ حِينَ مَلَكَهَا الْمُسْلِمُونَ ، لَمْ يَصِرْ فِيهَا مَوَاتٌ بَعْدَهُ ، لِأَنَّ مَا دَثَرَ مِنْ أَمْلَاكِ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَصِرْ مَوَاتًا ، عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ .

( 4336 ) فَصْلٌ : وَإِنْ تَحَجَّرَ مَوَاتًا ، وَهُوَ أَنْ يَشْرَعَ فِي إحْيَائِهِ ، مِثْلُ إنْ أَدَارَ حَوْلَ الْأَرْضِ تُرَابًا أَوْ أَحْجَارًا ، أَوْ حَاطَهَا بِحَائِطٍ صَغِيرٍ ، لَمْ يَمْلِكْهَا بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ بِالْإِحْيَاءِ ، وَلَيْسَ هَذَا بِإِحْيَاءٍ ، لَكِنْ يَصِيرُ أَحَقَّ النَّاسِ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ سَبَقَ إلَى مَا لَمْ يَسْبِقْ إلَيْهِ مُسْلِمٌ ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
فَإِنْ نَقَلَهُ إلَى غَيْرِهِ ، صَارَ الثَّانِي بِمَنْزِلَتِهِ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ أَقَامَهُ مَقَامَهُ .
وَإِنْ مَاتَ فَوَارِثُهُ أَحَقُّ بِهِ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ تَرَكَ حَقًّا أَوْ مَالًا ، فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ } .
فَإِنْ بَاعَهُ ، لَمْ يَصِحَّ بَيْعُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ ، فَلَمْ يَمْلِكْ بَيْعَهُ كَحَقِّ الشُّفْعَةِ قَبْلَ الْأَخْذِ بِهِ ، وَكَمَنْ سَبَقَ إلَى مَعْدِنٍ أَوْ مُبَاحٍ قَبْلَ أَخْذِهِ قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : وَيُحْتَمَلُ جَوَازُ بَيْعِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَهُ ، فَإِنْ سَبَقَ غَيْرَهُ فَأَحْيَاهُ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَمْلِكُهُ ؛ لِأَنَّ الْإِحْيَاءَ يُمْلَكُ بِهِ ، وَالتَّحَجُّرَ لَا يُمْلَكُ بِهِ ، فَثَبَتَ الْمِلْكُ بِمَا يُمْلَكُ بِهِ دُونَ مَا لَمْ يُمْلَكْ بِهِ ، كَمَنْ سَبَقَ إلَى مَعْدِنٍ أَوْ مَشْرَعَةِ مَاءٍ ، فَجَاءَ غَيْرُهُ ، فَأَزَالَهُ وَأَخَذَهُ .
وَالثَّانِي لَا يَمْلِكُهُ لِأَنَّ مَفْهُومَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : " مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً لَيْسَتْ لِأَحَدٍ " وَقَوْلِهِ : " فِي حَقِّ غَيْرِ مُسْلِمٍ ، فَهِيَ لَهُ " .
أَنَّهَا لَا تَكُونُ لَهُ إذَا كَانَ لِمُسْلِمٍ فِيهَا حَقٌّ .
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { مَنْ سَبَقَ إلَى مَا لَمْ يَسْبِقْ إلَيْهِ مُسْلِمٌ ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ } وَرَوَى سَعِيدٌ ، فِي " سُنَنِهِ " أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ يَعْنِي مَنْ تَحَجَّرَ أَرْضًا فَعَطَّلَهَا ثَلَاثَ سِنِينَ ، فَجَاءَ قَوْمٌ فَعَمَرُوهَا ، فَهُمْ أَحَقُّ بِهَا .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ عَمَرَهَا قَبْلَ ثَلَاثِ سِنِينَ لَا

يَمْلِكُهَا ؛ وَلِأَنَّ الثَّانِيَ أَحْيَا فِي حَقِّ غَيْرِهِ ، فَلَمْ يَمْلِكْهُ ، كَمَا لَوْ أَحْيَا مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مَصَالِحُ مِلْكِ غَيْره ، وَلِأَنَّ حَقَّ الْمُتَحَجِّرِ أَسْبَقُ ، فَكَانَ أَوْلَى ، كَحَقِّ الشَّفِيعِ يُقَدَّمُ عَلَى شِرَاءِ الْمُشْتَرِي .
فَإِنْ طَالَتْ الْمُدَّةُ عَلَيْهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ لَهُ السُّلْطَانُ : إمَّا أَنْ تُحْيِيَهُ ، أَوْ تَتْرُكَهُ لِيُحْيِيَهُ غَيْرُك لِأَنَّهُ ضَيَّقَ عَلَى النَّاسِ فِي حَقٍّ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمْ ، فَلَمْ يُمَكَّنْ مِنْ ذَلِكَ ، كَمَا لَوْ وَقَفَ فِي طَرِيقٍ ضَيِّقٍ ، أَوْ مَشْرَعَةِ مَاءٍ ، أَوْ مَعْدِنٍ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ ، وَلَا يَدَعُ غَيْرَهُ يَنْتَفِعُ فَإِنْ سَأَلَ الْإِمْهَالَ لِعُذْرِ لَهُ ، أُمْهِلَ الشَّهْرَ وَالشَّهْرَيْنِ ، وَنَحْوَ ذَلِكَ .
فَإِنْ أَحْيَاهُ غَيْرُهُ فِي مُدَّةِ الْمُهْلَةِ ؛ فَفِيهِ الْوَجْهَانِ اللَّذَانِ ذَكَرْنَاهُمَا .
وَإِنْ تَقَضَّتْ الْمُدَّةُ وَلَمْ يَعْمُرْ ، فَلِغَيْرِهِ أَنْ يَعْمُرَهُ وَيَمْلِكَهُ ؛ لِأَنَّ الْمُدَّةَ ضُرِبَتْ لَهُ لِيَنْقَطِعَ حَقُّهُ بِمُضِيِّهَا ، وَسَوَاءٌ أَذِنَ لَهُ السُّلْطَانُ فِي عِمَارَتِهَا ، أَوْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُتَحَجِّرِ عُذْرٌ فِي تَرْكِ الْعِمَارَةِ ، قِيلَ لَهُ : إمَّا أَنْ تَعْمُرَ ، وَإِمَّا أَنْ تَرْفَعَ يَدَك ، فَإِنْ لَمْ يَعْمُرْهَا ، كَانَ لِغَيْرِهِ عِمَارَتُهَا ، فَإِنْ لَمْ يُقَلْ لَهُ شَيْءٌ ، وَاسْتَمَرَّ تَعْطِيلُهَا فَقَدْ ذَكَرْنَا عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ مَنْ تَحَجَّرَ أَرْضًا فَعَطَّلَهَا ثَلَاثَ سِنِينَ ، فَجَاءَ قَوْمٌ فَعَمَرُوهَا ، فَهُمْ أَحَقُّ بِهَا .
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا كُلِّهِ نَحْوُ مَا ذَكَرْنَا .

( 4337 ) فَصْلٌ : وَلِلْإِمَامِ إقْطَاعُ الْمَوَاتِ لِمَنْ يُحْيِيه ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَحَجِّرِ الشَّارِعِ فِي الْإِحْيَاءِ ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَقْطَعَ بِلَالَ بْنَ الْحَارِثِ الْعَقِيقَ أَجْمَعَ } ، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ قَالَ لِبِلَالٍ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُقْطِعْكَ لِتَحِيزَهُ عَنْ النَّاسِ ، إنَّمَا أَقْطَعَكَ لِتَعْمُرَ ، فَخُذْ مِنْهَا مَا قَدَرْتَ عَلَى عِمَارَتِهِ ، وَرُدَّ الْبَاقِيَ .
رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ ، فِي " الْأَمْوَالِ " .
وَذَكَرَ سَعِيدٌ ، فِي " سُنَنِهِ " : حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ ، عَنْ رَبِيعَةَ ، قَالَ : سَمِعْت الْحَارِثَ بْنَ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ ، يَقُولُ : { إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْطَعَ بِلَالَ بْنَ الْحَارِثِ الْعَقِيقَ ، فَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ، قَالَ : مَا أَقْطَعَك لِتَحْتَجِنَهُ ، فَأَقْطَعَهُ النَّاسَ } وَرَوَى عَلْقَمَةُ بْنُ وَائِلٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْطَعَهُ أَرْضًا بِحَضْرَمَوْتَ .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَقَالَ سَعِيدٌ : حَدَّثَنَا سُفْيَانُ ، عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْطَعَ نَاسًا مِنْ جُهَيْنَةَ أَوْ مُزَيْنَةَ أَرْضًا ، فَعَطَّلُوهَا ، فَجَاءَ قَوْمٌ فَأَحْيَوْهَا ، فَخَاصَمَهُمْ الَّذِينَ أَقْطَعَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، فَقَالَ عُمَرُ : لَوْ كَانَتْ قَطِيعَةً مِنِّي أَوْ مِنْ أَبِي بَكْرٍ ، لَمْ أَرُدَّهَا ، وَلَكِنَّهَا قَطِيعَةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنَا أَرُدُّهَا } ، ثُمَّ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ يَعْنِي مَنْ تَحَجَّرَ أَرْضًا فَعَطَّلَهَا ثَلَاثَ سِنِينَ ، فَجَاءَ قَوْمٌ فَعَمَرُوهَا ، فَهُمْ أَحَقُّ بِهَا .

( 4338 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( إلَّا أَنْ تَكُونَ أَرْضَ مِلْحٍ أَوْ مَاءٍ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ الْمَنْفَعَةُ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِهَا الْإِنْسَانُ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ ، أَنَّ الْمَعَادِنَ الظَّاهِرَةَ وَهِيَ الَّتِي يُوصَلُ إلَى مَا فِيهَا مِنْ غَيْرِ مُؤْنَةٍ ، يَنْتَابُهَا النَّاسُ ، وَيَنْتَفِعُونَ بِهَا ، كَالْمِلْحِ ، وَالْمَاءِ ، وَالْكِبْرِيتِ ، وَالْقِيرِ ، وَالْمُومْيَاءِ ، وَالنِّفْطِ ، وَالْكُحْلِ ، وَالْبِرَامِ ، وَالْيَاقُوتِ ، وَمَقَاطِعِ الطِّينِ ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ ، لَا تُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ ، وَلَا يَجُوزُ إقْطَاعُهَا لِأَحَدٍ مِنْ النَّاسِ ، وَلَا احْتِجَازُهَا دُونَ الْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّ فِيهِ ضَرَرًا بِالْمُسْلِمِينَ ، وَتَضْيِيقًا عَلَيْهِمْ ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَقْطَعَ أَبْيَضَ بْنَ حَمَّالٍ مَعْدِنَ الْمِلْحِ ، فَلَمَّا قِيلَ لَهُ : إنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَاءِ الْعِدِّ رَدَّهُ } .
كَذَا قَالَ أَحْمَدُ .
وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ ، وَأَبُو دَاوُد ، وَالتِّرْمِذِيُّ ، بِإِسْنَادِهِمْ ، عَنْ أَبْيَضَ بْنِ حَمَّالٍ ، { أَنَّهُ اسْتَقْطَعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِلْحَ الَّذِي بِمَأْرِبَ ، فَلَمَّا وَلَّى ، قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ : أَتَدْرِي مَا أَقْطَعْت لَهُ ؟ إنَّمَا أَقْطَعْت الْمَاءَ الْعِدَّ .
فَرَجَعَهُ مِنْهُ .
قَالَ : قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا يُحْمَى مِنْ الْأَرَاكِ ؟ قَالَ : مَا لَمْ تَنَلْهُ أَخْفَافُ الْإِبِلِ } .
وَهُوَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ .
وَرُوِيَ فِي لَفْظٍ عَنْهُ ، أَنَّهُ قَالَ : { لَا حِمَى فِي الْأَرَاكِ } وَرَوَاهُ سَعِيدٌ ، فَقَالَ : حَدَّثَنِي إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ الْمَأْرِبِيِّ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ أَبْيَضَ بْنِ حَمَّالٍ الْمَأْرِبِيِّ قَالَ : { اسْتَقْطَعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْدِنَ الْمِلْحِ بِمَأْرِبَ ، فَأَقْطَعَنِيهِ ، فَقِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَاءِ الْعِدِّ .
يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَلَا إذَنْ } .
وَلِأَنَّ هَذَا تَتَعَلَّقُ بِهِ مَصَالِحُ الْمُسْلِمِينَ

الْعَامَّةُ ، فَلَمْ يَجُزْ إحْيَاؤُهُ ، وَلَا إقْطَاعُهُ ، كَمَشَارِعِ الْمَاءِ ، وَطُرُقَاتِ الْمُسْلِمِينَ .
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : هَذَا مِنْ مَوَادِّ اللَّهِ الْكَرِيمِ ، وَفَيْضِ جُودِهِ الَّذِي لَا غَنَاءَ عَنْهُ ، فَلَوْ مَلَكَهُ أَحَدٌ بِالِاحْتِجَازِ ، مَلَكَ مَنْعَهُ ، فَضَاقَ عَلَى النَّاسِ ، فَإِنْ أَخَذَ الْعِوَضَ عَنْهُ أَغْلَاهُ ، فَخَرَجَ عَنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي وَضَعَهُ اللَّهُ مِنْ تَعْمِيمِ ذَوِي الْحَوَائِجِ مِنْ غَيْرِ كُلْفَةٍ وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا .

( 4339 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمَعَادِنُ الْبَاطِنَةُ ، وَهِيَ الَّتِي لَا يُوصَلُ إلَيْهَا إلَّا بِالْعَمَلِ وَالْمُؤْنَةِ ، كَمَعَادِنِ الذَّهَبِ ، وَالْفِضَّةِ ، وَالْحَدِيدِ ، وَالنُّحَاسِ ، وَالرَّصَاصِ ، وَالْبِلَّوْرِ ، وَالْفَيْرُوزَجِ ، فَإِذَا كَانَتْ ظَاهِرَةً ، لَمْ تُمْلَكْ أَيْضًا بِالْإِحْيَاءِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الَّتِي قَبْلَهَا .
وَإِنْ لَمْ تَكُنْ ظَاهِرَةً ، فَحَفَرَهَا إنْسَانٌ وَأَظْهَرَهَا ، لَمْ يَمْلِكْهَا بِذَلِكَ ، فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ ، وَظَاهِرِ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَمْلِكَهَا بِذَلِكَ .
وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ مَوَاتٌ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ إلَّا بِالْعَمَلِ وَالْمُؤْنَةِ ، فَمُلِكَ بِالْإِحْيَاءِ ، كَالْأَرْضِ ، وَلِأَنَّهُ بِإِظْهَارِهِ تَهَيَّأَ لِلِانْتِفَاعِ بِهِ ، مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى تَكْرَارِ ذَلِكَ الْعَمَلِ فَأَشْبَهَ الْأَرْضَ إذَا جَاءَهَا بِمَاءٍ أَوْ حَاطَهَا .
وَوَجْهُ الْأَوَّلِ ، أَنَّ الْإِحْيَاءَ الَّذِي يُمْلَكُ بِهِ هُوَ الْعِمَارَةُ الَّتِي تَهَيَّأَ بِهَا الْمُحْيِي لِلِانْتِفَاعِ مِنْ غَيْرِ تَكْرَارِ عَمَلٍ ، وَهَذَا حَفْرٌ وَتَخْرِيبٌ ، يَحْتَاجُ إلَى تَكْرَارٍ عِنْدَ كُلّ انْتِفَاعٍ .
فَإِنْ قِيلَ : فَلَوْ احْتَفَرَ بِئْرًا مَلَكَهَا ، وَمَلَكَ حَرِيمَهَا .
قُلْنَا : الْبِئْرُ تَهَيَّأَتْ لِلِانْتِفَاعِ بِهَا مِنْ غَيْرِ تَجْدِيدِ حَفْرٍ وَلَا عِمَارَةٍ ، وَهَذِهِ الْمَعَادِنُ تَحْتَاجُ عِنْدَ كُلِّ انْتِفَاعٍ إلَى عَمَلٍ وَعِمَارَةٍ ، فَافْتَرَقَا .
قَالَ أَصْحَابُنَا : وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ إقْطَاعُهَا ؛ لِأَنَّهَا لَا تُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ .
وَالصَّحِيحُ جَوَازُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَقْطَعَ لِبَلَالِ بْنِ الْحَارِثِ مَعَادِنَ الْقَبَلِيَّةِ ، جَلْسِيَّهَا وَغَوْرِيَّهَا } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَغَيْرُهُ .

( 4340 ) فَصْلٌ : وَمَنْ أَحْيَا أَرْضًا ، فَمَلَكَهَا بِذَلِكَ ، فَظَهَرَ فِيهَا مَعْدِنٌ ، مَلَكَهُ ظَاهِرًا كَانَ أَوْ بَاطِنًا ، إذَا كَانَ مِنْ الْمَعَادِنِ الْجَامِدَةِ ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ الْأَرْضَ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا وَطَبَقَاتِهَا ، وَهَذَا مِنْهَا .
وَيُفَارِقُ الْكَنْزَ ؛ فَإِنَّهُ مُودَعٌ فِيهَا ، وَلَيْسَ مِنْ أَجْزَائِهَا .
وَيُفَارِقُ مَا إذَا كَانَ ظَاهِرًا قَبْلَ إحْيَائِهَا ؛ لِأَنَّهُ قَطَعَ عَنْ الْمُسْلِمِينَ نَفْعًا كَانَ وَاصِلًا إلَيْهِمْ ، وَمَنَعَهُمْ انْتِفَاعًا كَانَ لَهُمْ ، وَهَاهُنَا لَمْ يَقْطَعْ عَنْهُمْ شَيْئًا ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا ظَهَرَ بِإِظْهَارِهِ لَهُ .

وَلَوْ تَحَجَّرَ الْأَرْضَ ، أَوْ أَقْطَعَهَا ، فَظَهَرَ فِيهَا الْمَعْدِنُ قَبْلَ إحْيَائِهَا ، لَكَانَ لَهُ إحْيَاؤُهَا ، وَيَمْلِكُهَا بِمَا فِيهَا ؛ لِأَنَّهُ صَارَ أَحَقَّ بِهِ بِتَحَجُّرِهِ وَإِقْطَاعِهِ ، فَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ إتْمَامِ حَقِّهِ .

وَأَمَّا الْمَعَادِنُ الْجَارِيَةُ ، كَالْقَارِ ، وَالنِّفْطِ ، وَالْمَاءِ ، فَهَلْ يَمْلِكُهَا مَنْ ظَهَرَتْ فِي مِلْكِهِ ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ أَظْهَرُهُمَا ، لَا يَمْلِكُهَا ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ : فِي الْمَاءِ ، وَالْكَلَأِ ، وَالنَّارِ } رَوَاهُ الْخَلَّالُ .
وَلِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ ، فَلَمْ يَمْلِكْهَا بِمِلْكِ الْأَرْضِ ، كَالْكَنْزِ .
وَالثَّانِيَةُ يَمْلِكُهَا ؛ لِأَنَّهَا خَارِجَةٌ مِنْ أَرْضِهِ الْمَمْلُوكَةِ لَهُ ، فَأَشْبَهَتْ الزَّرْعَ وَالْمَعَادِنَ الْجَامِدَةَ .

( 4341 ) فَصْلٌ : وَلَوْ شَرَعَ إنْسَانٌ فِي حَفْرِ مَعْدِنٍ ، وَلَمْ يَصِلْ إلَى النِّيلِ ، صَارَ أَحَقَّ بِهِ ، كَالْمُتَحَجِّرِ الشَّارِعِ فِي الْإِحْيَاءِ ، فَإِذَا وَصَلَ إلَى النَّيْلِ صَارَ أَحَقَّ بِالْأَخْذِ مِنْهُ ، مَا دَامَ مُقِيمًا عَلَى الْأَخْذِ مِنْهُ ، وَهَلْ يَمْلِكُهُ بِذَلِكَ ؟ فِيهِ مَا قَدْ ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ .
وَإِنْ حَفَرَ آخَرُ مِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى ، لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْعُهُ .
وَإِذَا وَصَلَ إلَى ذَلِكَ الْعِرْقِ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْعُهُ سَوَاءٌ قُلْنَا : إنَّ الْمَعْدِنَ يُمْلَكُ بِحَفْرِهِ .
أَوْ لَمْ نَقُلْ ؛ لِأَنَّهُ إنْ مَلَكَهُ ، فَإِنَّمَا يَمْلِكُ الْمَكَانَ الَّذِي حَفَرَهُ ، وَأَمَّا الْعِرْقُ الَّذِي فِي الْأَرْضِ فَلَا يَمْلِكُهُ بِذَلِكَ .
وَمَنْ وَصَلَ إلَيْهِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى ، فَلَهُ أَخْذُهُ .

وَلَوْ ظَهَرَ فِي مِلْكِهِ مَعْدِنٌ ، بِحَيْثُ يَخْرُجُ النِّيلُ عَنْ أَرْضِهِ ، فَحَفَرَ إنْسَانٌ مِنْ خَارِجِ أَرْضِهِ ، كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا خَرَجَ عَنْ أَرْضِهِ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ ، إنَّمَا مَلَكَ مَا هُوَ مِنْ أَجْزَاءِ أَرْضِهِ ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَ مَا كَانَ دَاخِلًا فِي أَرْضِهِ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ الْبَاطِنَةِ ، كَمَا لَا يَمْلِكُ أَخْذَ أَجْزَائِهَا الظَّاهِرَةِ .

وَلَوْ حَفَرَ كَافِرٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ مَعْدِنًا ، فَوَصَلَ إلَى النِّيلِ ، ثُمَّ فَتَحَهَا الْمُسْلِمُونَ عَنْوَةً ، لَمْ تَصِرْ غَنِيمَةً ، وَكَانَ وُجُودُ عَمَلِهِ وَعَدَمُهُ وَاحِدًا ؛ لِأَنَّ عَامِرَهُ لَمْ يَمْلِكْهُ بِذَلِكَ ، وَلَوْ مَلَكَهُ فَإِنَّ الْأَرْضَ كُلّهَا تَصِيرُ وَقْفًا لِلْمُسْلِمِينَ ، وَهَذَا يَنْصَرِفُ إلَى مَصْلَحَةٍ مِنْ مَصَالِحِهِمْ ، فَتُعَيَّنُ لَهَا ، كَمَا لَوْ ظَهَرَ بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى .

( 4342 ) فَصْلٌ : وَلَوْ كَانَ فِي الْمَوَاتِ مَوْضِعٌ يُمْكِنُ أَنْ يَحْدُثَ فِيهِ مَعْدِنٌ ظَاهِرٌ ، كَمَوْضِعٍ عَلَى شَاطِئِ الْبَحْرِ ، إذَا صَارَ فِيهِ مَاءُ الْبَحْرِ صَارَ مِلْحَا ، مُلِكَ بِالْإِحْيَاءِ ، وَجَازَ لِلْإِمَامِ إقْطَاعُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُضَيِّقُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِإِحْدَاثِهِ ، بَلْ يَحْدُثُ نَفْعُهُ بِفِعْلِهِ ، فَلَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ ، كَبَقِيَّةِ الْمَوَاتِ ، وَإِحْيَاءُ هَذَا بِتَهْيِئَتِهِ لِمَا يَصْلُحُ لَهُ مِنْ حَفْرِ تُرَابِهِ ، وَتَمْهِيدِهِ ، وَفَتْحِ قَنَاةٍ إلَيْهِ تَصُبُّ الْمَاءَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ يَتَهَيَّأُ بِهَذَا الِانْتِفَاعُ بِهِ .

( 4343 ) فَصْلٌ : وَمَنْ مَلَكَ مَعْدِنًا ، فَعَمِلَ فِيهِ غَيْرُهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، فَمَا حَصَلَ مِنْهُ فَهُوَ لِمَالِكِهِ ، وَلَا أَجْرَ لِلْغَاصِبِ عَلَى عَمَلِهِ ؛ لِأَنَّهُ عَمِلَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، أَشْبَهَ مَا لَوْ حَصَدَ زَرْعَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ .
وَإِنْ قَالَ مَالِكُهُ : اعْمَلْ فِيهِ ، وَلَك مَا يَخْرُجُ مِنْهُ .
فَلَهُ ذَلِكَ ، وَلَا شَيْءَ لِصَاحِبِ الْمَعْدِنِ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ إبَاحَةٌ مِنْ مَالِكِهِ ، فَمَلَكَ مَا أَخَذَهُ ، كَمَا لَوْ أَبَاحَهُ الْأَخْذَ مِنْ دَارِهِ أَوْ بُسْتَانِهِ .
وَإِنْ قَالَ : اعْمَلْ فِيهِ ، عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ مِنْ نَيْلٍ كَانَ بَيْنَنَا نِصْفَيْنِ .
فَعَمِلَ ، فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا يَجُوزُ ، وَمَا يَأْخُذُهُ يَكُونُ بَيْنَهُمَا كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ : اُحْصُدْ هَذَا الزَّرْعَ بِنِصْفِهِ أَوْ ثُلُثِهِ .
وَلِأَنَّهَا عَيْنٌ تُنَمَّى بِالْعَمَلِ عَلَيْهَا ، فَصَحَّ الْعَمَلُ فِيهَا بِبَعْضِهِ ، كَالْمُضَارَبَةِ فِي الْأَثْمَانِ .
وَالثَّانِي لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ مَا يَحْصُلُ مِنْهُ مَجْهُولٌ ، وَلِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ إجَارَةً ؛ لِأَنَّ الْعِوَضَ مَجْهُولٌ ، وَالْعَمَلَ مَجْهُولٌ ، وَلَا جَعَالَةً ؛ لِأَنَّ الْعِوَضَ مَجْهُولٌ ، وَلَا مُضَارَبَةً ؛ لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ إنَّمَا تَصِحُّ بِالْأَثْمَانِ ، عَلَى أَنْ يَرُدّ رَأْسَ الْمَالِ ، وَتَكُونَ لَهُ حِصَّةٌ مِنْ الرِّبْحِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ هَاهُنَا .
وَفَارَقَ حَصَادَ الزَّرْعِ بِنِصْفِهِ أَوْ جُزْءٍ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الزَّرْعَ مَعْلُومٌ بِالْمُشَاهَدَةِ ، وَمَا عُلِمَ جَمِيعُهُ عُلِمَ جُزْؤُهُ ، بِخِلَافِ هَذَا .
وَإِنْ قَالَ : اعْمَلْ فِيهِ كَذَا ، وَلَك مَا يَحْصُلُ مِنْهُ ، بِشَرْطِ أَنْ تُعْطِيَنِي أَلْفًا .
أَوْ شَيْئًا مَعْلُومًا لَمْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّهُ بَيْعٌ لِمَجْهُولِ ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُعَامَلَةً كَالْمُضَارَبَةِ ، لِمَا ذَكَرْنَا ، وَلِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ تَكُونُ بِجُزْءٍ مِنْ النَّمَاءِ ، لَا دَرَاهِمَ مَعْلُومَةٍ .
قَالَ أَحْمَدُ : إذَا أَخَذَ مَعْدِنًا مِنْ قَوْمٍ ، عَلَى أَنْ يَعْمُرَهُ ، وَيَعْمَلَ فِيهِ ، وَيُعْطِيَهُمْ أَلْفَيْ مَنٍّ أَوْ أَلْفَ مَنٍّ صُفْرًا .
فَذَلِكَ مَكْرُوهٌ

وَلَمْ يُرَخَّصْ فِيهِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .

( 4344 ) فَصْلٌ : إذَا اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَحْفِر لَهُ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ ، فِي دُورِ كَذَا ، بِدِينَارٍ صَحَّ ؛ لِأَنَّهَا إجَارَةٌ مَعْلُومَةٌ .
وَإِنْ ظَهَرَ عِرْقُ ذَهَبٍ ، فَقَالَ : اسْتَأْجَرْتُك لِتُخْرِجَهُ بِدِينَارٍ .
لَمْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ مَجْهُولٌ .
وَإِنْ قَالَ : إنْ اسْتَخْرَجْته فَلَكَ دِينَارٌ .
صَحَّ ، وَيَكُونُ جَعَالَةً ؛ لِأَنَّ الْجَعَالَةَ تَصِحُّ عَلَى عَمَلٍ مَجْهُولٍ ، إذَا كَانَ الْعِوَضُ مَعْلُومًا .

( 4345 ) فَصْلٌ : وَمَنْ سَبَقَ فِي الْمَوَاتِ إلَى مَعْدِنٍ ظَاهِرٍ أَوْ بَاطِنٍ ، فَهُوَ أَحَقُّ بِمَا يَنَالُ مِنْهُ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ سَبَقَ إلَى مَا لَمْ يَسْبِقْ إلَيْهِ مُسْلِمٌ ، فَهُوَ لَهُ } .
فَإِنْ أَخَذَ قَدْرَ حَاجَتِهِ ، وَأَرَادَ الْإِقَامَةَ فِيهِ بِحَيْثُ يَمْنَعُ غَيْرَهُ ، مُنِعَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ يُضَيِّقُ عَلَى النَّاسِ مَا لَا نَفْعَ فِيهِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ وَقَفَ فِي مَشْرَعَةِ الْمَاءِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ .
وَإِنْ أَطَالَ الْمُقَامَ وَالْأَخْذَ ، احْتَمَلَ أَنْ يُمْنَعَ ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَالْمُتَمَلِّكِ لَهُ .
وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا يُمْنَعَ ؛ لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ .
وَإِنْ اسْتَبَقَ إلَيْهِ اثْنَانِ ، وَضَاقَ الْمَكَانُ عَنْهُمَا ، أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّهُ لَا مَزِيَّةَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى صَاحِبِهِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقْسَمَ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ قِسْمَتُهُ ، وَقَدْ تَسَاوَيَا فِيهِ ، فَيُقْسَمُ بَيْنَهُمَا ، كَمَا لَوْ تَدَاعَيَا عَيْنًا فِي أَيْدِيهِمَا وَلَا بَيِّنَةَ لِأَحَدِهِمَا بِهَا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَدِّمَ الْإِمَامُ مَنْ يَرَى مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّ لَهُ نَظَرًا .
وَذَكَرَ الْقَاضِي وَجْهًا رَابِعًا ، وَهُوَ أَنَّ الْإِمَامَ يَنْصِبُ مَنْ يَأْخُذُ لَهُمَا ، وَيَقْسِمُ بَيْنَهُمَا .
وَهَذَا التَّفْصِيلُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .

( 4346 ) فَصْلٌ : وَمَا نَضَبَ عَنْهُ الْمَاءُ مِنْ الْجَزَائِرِ ، لَمْ يُمْلَكْ بِالْإِحْيَاءِ .
قَالَ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ الْعَبَّاسِ بْنِ مُوسَى : إذَا نَضَبَ الْمَاءُ عَنْ جَزِيرَةٍ إلَى فِنَاءِ رَجُلٍ لَمْ يَبْنِ فِيهَا ؛ لِأَنَّ فِيهِ ضَرَرًا ، وَهُوَ أَنَّ الْمَاءَ يَرْجِعُ .
يَعْنِي أَنَّهُ يَرْجِعُ إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ ، فَإِذَا وَجَدَهُ مَبْنِيًّا ، رَجَعَ إلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ ، فَأَضَرَّ بِأَهْلِهِ .
وَلِأَنَّ الْجَزَائِرَ مَنْبِتُ الْكَلَأِ وَالْحَطَبِ ، فَجَرَتْ مَجْرَى الْمَعَادِنِ الظَّاهِرَةِ ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا حِمَى فِي الْأَرَاكِ } .
وَقَالَ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ : يُرْوَى عَنْ عُمَرَ ، أَنَّهُ أَبَاحَ الْجَزَائِرَ يَعْنِي أَبَاحَ مَا يَنْبُتُ فِي الْجَزَائِرِ مِنْ النَّبَاتِ ، وَقَالَ : إذَا نَضَبَ الْفُرَاتُ عَنْ شَيْءٍ ، ثُمَّ نَبَتَ فِيهِ نَبَاتٌ ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَمَنَعَ النَّاسَ مِنْهُ ، فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ .
فَأَمَّا إنْ غَلَبَ الْمَاءُ عَلَى مِلْكِ إنْسَانٍ ، ثُمَّ عَادَ فَنَضَبَ عَنْهُ ، فَلَهُ أَخْذُهُ ، فَلَا يَزُولُ مِلْكُهُ بِغَلَبَةِ الْمَاءِ عَلَيْهِ .
وَإِنْ كَانَ مَا نَضَبَ عَنْهُ الْمَاءُ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ أَحَدٌ ، فَعَمَرَهُ رَجُلٌ عِمَارَةً لَا تَرُدُّ الْمَاءَ ، مِثْلَ أَنْ يَجْعَلَهُ مَزْرَعَةً ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ مُتَحَجِّرٌ لِمَا لَيْسَ لِمُسْلِمِ فِيهِ حَقٌّ ، فَأَشْبَهَ التَّحَجُّرَ فِي الْمَوَاتِ .

( 4347 ) فَصْلٌ : وَمَا كَانَ مِنْ الشَّوَارِعِ وَالطُّرُقَاتِ وَالرِّحَابِ بَيْنَ الْعُمْرَانِ ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ إحْيَاؤُهُ ، سَوَاءٌ كَانَ وَاسِعًا أَوْ ضَيِّقًا ، وَسَوَاءٌ ضَيَّقَ عَلَى النَّاسِ بِذَلِكَ أَوْ لَمْ يُضَيِّقْ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَشْتَرِكُ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ ، وَتَتَعَلَّقُ بِهِ مَصْلَحَتُهُمْ ، فَأَشْبَهَ مَسَاجِدَهُمْ .
وَيَجُوزُ الِارْتِفَاقُ بِالْقُعُودِ فِي الْوَاسِعِ مِنْ ذَلِكَ لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ ، عَلَى وَجْهٍ لَا يُضَيِّقُ عَلَى أَحَدٍ ، وَلَا يَضُرُّ بِالْمَارَّةِ ؛ لِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ عَلَى إقْرَارِ النَّاسِ عَلَى ذَلِكَ ، مِنْ غَيْرِ إنْكَارٍ ، وَلِأَنَّهُ ارْتِفَاقٌ مُبَاحٌ مِنْ غَيْرِ إضْرَارٍ ، فَلَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ ، كَالِاجْتِيَازِ ، قَالَ أَحْمَدُ ، فِي السَّابِقِ إلَى دَكَاكِينِ السُّوقِ غَدْوَةً : فَهُوَ لَهُ إلَى اللَّيْلِ .
وَكَانَ هَذَا فِي سُوقِ الْمَدِينَةِ فِيمَا مَضَى .
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مِنًى مَنَاخُ مَنْ سَبَقَ } .
وَلَهُ أَنْ يُظَلِّلَ عَلَى نَفْسِهِ ، بِمَا لَا ضَرَرَ فِيهِ ، مِنْ بَارِيَّةٍ ، وَتَابُوتٍ ، وَكِسَاءٍ ، وَنَحْوِهِ ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ مَضَرَّةٍ فِيهِ .
وَلَيْسَ لَهُ الْبِنَاءُ لَا دَكَّةً وَلَا غَيْرَهَا ؛ لِأَنَّهُ يُضَيِّقُ عَلَى النَّاسِ ، وَيَعْثُرُ بِهِ الْمَارَّةُ بِاللَّيْلِ ، وَالضَّرِيرُ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ، وَيَبْقَى عَلَى الدَّوَامِ ، فَرُبَّمَا ادَّعَى مِلْكَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ .
وَالسَّابِقُ أَحَقُّ بِهِ مَا دَامَ فِيهِ ، فَإِنْ قَامَ وَتَرَكَ مَتَاعَهُ فِيهِ ، لَمْ يَجُزْ لِغَيْرِهِ إزَالَتُهُ ؛ لِأَنَّ يَدَ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ نَقَلَ مَتَاعَهُ ، كَانَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَقْعُدَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ يَدَهُ قَدْ زَالَتْ وَإِنْ قَعَدَ وَأَطَالَ ، مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَالْمُتَمَلِّكِ ، وَيَخْتَصُّ بِنَفْعٍ يُسَاوِيه غَيْرُهُ فِي اسْتِحْقَاقِهِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُزَالَ ؛ لِأَنَّهُ سَبَقَ إلَى مَا لَمْ يَسْبِقْ إلَيْهِ مُسْلِمٌ .
وَإِنْ اسْتَبَقَ اثْنَانِ إلَيْهِ ، احْتَمَلَ أَنْ يُقْرَعَ بَيْنَهُمَا ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يُقَدِّمَ الْإِمَامُ مَنْ

يَرَى مِنْهُمَا .
وَإِنْ كَانَ الْجَالِسُ يُضَيِّقُ عَلَى الْمَارَّةِ ، لَمْ يَحِلّ لَهُ الْجُلُوسُ فِيهِ ، وَلَا يَحِلُّ لِلْإِمَامِ تَمْكِينُهُ بِعِوَضٍ ، وَلَا غَيْرِهِ .
قَالَ أَحْمَدُ : مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَشْتَرِيَ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَبِيعُونَ عَلَى الطَّرِيقِ .
قَالَ الْقَاضِي : هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الطَّرِيقَ ضَيِّقٌ ، أَوْ يَكُونُ يُؤْذِي الْمَارَّةَ ؛ لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُنَا لَهُ وَقَالَ : لَا يُعْجِبُنِي الطَّحْنُ فِي الْعُرُوبِ إذَا كَانَتْ فِي طَرِيقِ النَّاسِ .
وَهُوَ السُّفُنُ الَّتِي يُطْحَنُ فِيهَا فِي الْمَاءِ الْجَارِي .
إنَّمَا كَرِهَ ذَلِكَ ، لِتَضْيِيقِهَا طَرِيقَ السُّفُنِ الْمَارَّةِ فِي الْمَاءِ .
قَالَ أَحْمَدُ : رُبَّمَا غَرِقَتْ السُّفُنُ ، فَأَرَى لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَوَقَّى الشِّرَاءَ مِمَّا يُطْحَنُ بِهَا .

( 4348 ) فَصْلٌ : فِي الْقَطَائِعِ ، وَهِيَ ضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا إقْطَاعُ إرْفَاقٍ ، وَذَلِكَ إقْطَاعُ مَقَاعِدِ السُّوقِ ، وَالطُّرُقِ الْوَاسِعَةِ ، وَرِحَابِ الْمَسَاجِدِ ، الَّتِي ذَكَرْنَا أَنَّ لِلسَّابِقِ إلَيْهَا الْجُلُوسَ فِيهَا ، فَلِلْإِمَامِ إقْطَاعُهَا لِمَنْ يَجْلِسُ فِيهَا ؛ لِأَنَّ لَهُ فِي ذَلِكَ اجْتِهَادًا ، مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يَجُوزُ الْجُلُوسُ إلَّا فِيمَا لَا يَضُرُّ بِالْمَارَّةِ ، فَكَانَ لِلْإِمَامِ أَنْ يُجْلِسَ فِيهَا مَنْ لَا يَرَى أَنَّهُ يَتَضَرَّرُ بِجُلُوسِهِ .
وَلَا يَمْلِكُهَا الْمُقْطَعُ بِذَلِكَ ، بَلْ يَكُونُ أَحَقَّ بِالْجُلُوسِ فِيهَا مِنْ غَيْرِهِ ، بِمَنْزِلَةِ السَّابِقِ إلَيْهَا مِنْ غَيْرِ إقْطَاعٍ سَوَاءً ، إلَّا فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ ، وَهُوَ أَنَّ السَّابِقَ إذَا نَقَلَ مَتَاعَهُ عَنْهَا ، فَلِغَيْرِهِ الْجُلُوسُ فِيهَا ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ لَهَا بِسَبْقِهِ إلَيْهَا ، وَمُقَامِهِ فِيهَا ، فَإِذَا انْتَقَلَ عَنْهَا ، زَالَ اسْتِحْقَاقُهُ ، لِزَوَالِ الْمَعْنَى الَّذِي اسْتَحَقَّ بِهِ ، وَهَذَا اسْتَحَقَّ بِإِقْطَاعِ الْإِمَامِ ، فَلَا يَزُولُ حَقُّهُ بِنَقْلِ مَتَاعِهِ ، وَلَا لِغَيْرِهِ الْجُلُوسُ فِيهِ ، وَحُكْمُهُ فِي التَّظْلِيلِ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا لَيْسَ بِنَاءً ، وَمَنْعِهِ مِنْ الْبِنَاءِ ، وَمَنْعِهِ إذَا طَالَ مُقَامُهُ ، حُكْمُ السَّابِقِ ، عَلَى مَا أَسْلَفْنَاهُ .
الثَّانِي إقْطَاعُ مَوَاتٍ مِنْ الْأَرْضِ لِمَنْ يُحْيِيهَا ، فَيَجُوزُ ذَلِكَ ؛ لِمَا رَوَى وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ ، { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْطَعَهُ أَرْضًا ، فَأَرْسَلَ مُعَاوِيَةَ أَنْ أَعْطِهِ إيَّاهُ ، أَوْ أَعْلِمْهُ إيَّاهُ .
} حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَأَقْطَعَ بِلَالَ بْنَ الْحَارِثِ الْمُزَنِيّ ، وَأَبْيَضَ بْنَ حَمَّالٍ الْمَأْرِبِيَّ ، وَأَقْطَعَ الزُّبَيْرَ حُضْرَ فَرَسِهِ ، فَأَجْرَى فَرَسَهُ حَتَّى قَامَ وَرَمَى بِسَوْطِهِ ، فَقَالَ : " أَعْطُوهُ مِنْ حَيْثُ وَقَعَ السَّوْطُ " .
رَوَاهُ سَعِيدٌ ، وَأَبُو دَاوُد .
وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ : { دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَنْصَارَ لِيَقْطَعَ لَهُمْ بِالْبَحْرَيْنِ .
فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ : إنْ

فَعَلْت ، فَاكْتُبْ لِإِخْوَانِنَا مِنْ قُرَيْشٍ بِمِثْلِهَا } .
وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَقْطَعَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ أَرْضًا ، وَأَنَّ عُثْمَانَ أَقْطَعَ خَمْسَةً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ الزُّبَيْرَ ، وَسَعْدًا ، وَابْنَ مَسْعُودٍ ، وَأُسَامَةَ بْن زَيْدٍ ، وَخَبَّابَ بْنَ الْأَرَتِّ .
وَيُرْوَى عَنْ نَافِعٍ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ، أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ : إنَّ قِبَلَنَا أَرْضًا بِالْبَصْرَةِ ، لَيْسَتْ مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ ، وَلَا تَضُرُّ بِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، فَإِنْ رَأَيْت أَنْ تُقْطِعَنِيهَا أَتَّخِذُ فِيهَا قَصِيلًا لِخَيْلِي ، فَافْعَلْ .
قَالَ : فَكَتَبَ عُمَرُ إلَى أَبِي مُوسَى : إنْ كَانَتْ كَمَا يَقُولُ ، فَأَقْطِعْهَا إيَّاهُ رَوَى هَذِهِ الْآثَارَ كُلَّهَا أَبُو عُبَيْدٍ ، فِي " الْأَمْوَالِ " .
وَرَوَى سَعِيدٌ ، عَنْ سُفْيَانَ ، عَنْ أَبِي نَجِيحٍ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْطَعَ نَاسًا مِنْ جُهَيْنَةَ أَوْ مُزَيْنَةَ أَرْضًا } .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّ مَنْ أَقْطَعَهُ الْإِمَامُ شَيْئًا مِنْ الْمَوَاتِ ، لَمْ يَمْلِكْهُ بِذَلِكَ ، لَكِنْ يَصِيرُ أَحَقَّ بِهِ ، كَالْمُتَحَجِّرِ لِلشَّارِعِ فِي الْإِحْيَاءِ ، بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ ، حَيْثُ اسْتَرْجَعَ عُمَرُ مِنْهُ مَا عَجَزَ عَنْ إحْيَائِهِ مِنْ الْعَقِيقِ ، الَّذِي أَقْطَعَهُ إيَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ مَلَكَهُ لَمْ يَجُزْ اسْتِرْجَاعُهُ .
وَرَدَّ عُمَرُ أَيْضًا قَطِيعَةَ أَبِي بَكْرٍ لِعُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ ، فَسَأَلَ عُيَيْنَةُ أَبَا بَكْرٍ أَنْ يُجَدِّدَ لَهُ كِتَابًا فَقَالَ : وَاَللَّهِ لَا أُجَدِّدُ شَيْئًا رَدَّهُ عُمَرُ رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ .
لَكِنَّ الْمُقْطَعَ يَصِيرُ أَحَقَّ بِهِ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ ، وَأَوْلَى بِإِحْيَائِهِ ، فَإِنْ أَحْيَاهُ ، وَإِلَّا قَالَ لَهُ السُّلْطَانُ : إنْ أَحْيَيْته ، وَإِلَّا فَارْفَعْ يَدَك عَنْهُ .
كَمَا قَالَ عُمَرُ لِبِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ الْمُزَنِيّ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُقْطِعْك لِتَحْجُبَهُ دُونَ النَّاسِ

، وَإِنَّمَا أَقْطَعَك لِتَعْمُرَ ، فَخُذْ مِنْهَا مَا قَدَرْت عَلَى عِمَارَتِهِ ، وَرُدَّ الْبَاقِيَ .
وَإِنْ طَلَبَ الْمُهْلَةَ لِعُذْرٍ ، أُمْهِلَ بِقَدْرِ ذَلِكَ .
وَإِنْ طَلَبَهَا لِغَيْرِ عُذْرٍ ، لَمْ يُمْهَلْ ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْمُتَحَجِّرِ وَإِنْ سَبَقَ غَيْرُهُ فَأَحْيَاهُ قَبْلَ أَنْ يُقَالَ لَهُ شَيْءٌ ، أَوْ فِي مُدَّةِ الْمُهْلَةِ ، فَهَلْ يَمْلِكُهُ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْطَعَ نَاسًا مِنْ جُهَيْنَةَ أَوْ مُزَيْنَةَ أَرْضًا ، فَعَطَّلُوهَا ، فَجَاءَ قَوْمٌ فَأَحْيَوْهَا ، فَخَاصَمَهُمْ الَّذِينَ أَقْطَعَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ عُمَرُ : لَوْ كَانَتْ قَطِيعَةً مِنِّي ، أَوْ مِنْ أَبِي بَكْرٍ ، لَمْ أَرُدَّهَا ، وَلَكِنَّهَا قَطِيعَةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنَا أَرُدُّهَا } ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهَا إذَا كَانَتْ قَطِيعَةً مِنْ غَيْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهِيَ لِمَنْ أَحْيَاهَا .
وَالثَّانِي ، لَا يَمْلِكُهُ ؛ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْمُقْطَعِ ، وَمَفْهُومُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فِي غَيْرِ حَقِّ مُسْلِمٍ ، فَهِيَ لَهُ } أَنَّهُ إذَا تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ مُسْلِمٍ ، لَمْ يَجُزْ إحْيَاؤُهَا .
وَقَدْ ذَكَرْنَا الْوَجْهَيْنِ فِي الْمُتَحَجِّرِ ، وَهَذَا مِثْلُهُ .
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْفَصْلِ كَنَحْوِ مَا ذَكَرْنَا .

( 4349 ) فَصْلٌ : وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ إقْطَاعُ مَا لَا يَجُوزُ إحْيَاؤُهُ مِنْ الْمَعَادِنِ الظَّاهِرَةِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَمَّا اسْتَقْطَعَهُ أَبْيَضُ بْنُ حَمَّالٍ الْمِلْحَ الَّذِي بِمَأْرِبَ ، فَقِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ : إنَّمَا أَقْطَعْتَهُ الْمَاءَ الْعِدَّ .
رَجَعَهُ مِنْهُ } .
وَلِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَضْيِيقًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ .
وَفِي إقْطَاعِ الْمَعَادِنِ الْبَاطِنَةِ وَجْهَانِ ، ذَكَرْنَاهُمَا فِيمَا مَضَى .

( 4350 ) فَصْلٌ : وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْطَع الْإِمَامُ أَحَدًا مِنْ الْمَوَاتِ ، إلَّا مَا يُمْكِنُهُ إحْيَاؤُهُ ؛ لِأَنَّ فِي إقْطَاعِهِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ تَضْيِيقًا عَلَى النَّاسِ فِي حَقٍّ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمْ ، بِمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ .
فَإِنْ فَعَلَ ، ثُمَّ تَبَيَّنَ عَجْزُهُ عَنْ إحْيَائِهِ ، اسْتَرْجَعَهُ مِنْهُ ، كَمَا اسْتَرْجَعَ عُمَرُ مِنْ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ مَا عَجَزَ عَنْهُ مِنْ عِمَارَتِهِ مِنْ الْعَقِيقِ ، الَّذِي أَقْطَعَهُ إيَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

( 4351 ) فَصْلٌ : فِي الْحِمَى ، وَمَعْنَاهُ أَنْ يَحْمِيَ أَرْضًا مِنْ الْمَوَاتِ ، يَمْنَعُ النَّاسَ رَعْيَ مَا فِيهَا مِنْ الْكَلَأِ ، لِيَخْتَصّ بِهَا دُونَهُمْ .
وَكَانَتْ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَعْرِفُ ذَلِكَ ، فَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ إذَا انْتَجَعَ بَلَدًا أَوْفَى بِكَلْبٍ عَلَى نَشَزَ ، ثُمَّ اسْتَعْوَاهُ .
وَوَقَفَ لَهُ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ مَنْ يَسْمَعُ صَوْتَهُ بِالْعُوَاءِ ، فَحَيْثُمَا انْتَهَى صَوْتُهُ حَمَاهُ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ لِنَفْسِهِ ، وَيَرْعَى مَعَ الْعَامَّةِ فِيمَا سِوَاهُ .
فَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّضْيِيقِ عَلَى النَّاسِ ، وَمَنْعِهِمْ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِشَيْءٍ لَهُمْ فِيهِ حَقٌّ .
وَرَوَى الصَّعْبُ بْن جَثَّامَةَ ، قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { لَا حِمَى إلَّا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَقَالَ : { النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ : الْمَاءِ ، وَالنَّارِ ، وَالْكَلَأِ } رَوَاهُ الْخَلَّالُ .
وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ النَّاسِ سِوَى الْأَئِمَّةِ أَنْ يَحْمِيَ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْخَبَرِ وَالْمَعْنَى .
فَأَمَّا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَحْمِيَ لِنَفْسِهِ وَلِلْمُسْلِمِينَ ؛ لِقَوْلِهِ فِي الْخَبَرِ : { لَا حِمَى إلَّا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ } .
لَكِنَّهُ لَمْ يَحْمِ لِنَفْسِهِ شَيْئًا ، وَإِنَّمَا حَمَى لِلْمُسْلِمِينَ ، فَقَدْ رَوَى ابْنُ عُمَرَ ، قَالَ : { حَمَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّقِيعَ لِخَيْلِ الْمُسْلِمِينَ } .
رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ .
وَالنَّقِيعُ ، بِالنُّونِ : مَوْضِعٌ يُنْتَقَعُ فِيهِ الْمَاءُ ، فَيَكْثُرُ فِيهِ الْخِصْبُ ، لِمَكَانِ مَا يَصِيرُ فِيهِ مِنْ الْمَاءِ وَأَمَّا سَائِرُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ ، فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَحْمُوا لِأَنْفُسِهِمْ شَيْئًا ، وَلَكِنْ لَهُمْ أَنْ يَحْمُوا مَوَاضِعَ لِتَرْعَى فِيهَا خَيْلُ الْمُجَاهِدِينَ ، وَنَعَمُ الْجِزْيَةِ ، وَإِبِلُ الصَّدَقَةِ وَضَوَالُّ النَّاسِ الَّتِي يَقُومُ الْإِمَامُ بِحِفْظِهَا ، وَمَاشِيَةُ الضَّعِيفِ مِنْ النَّاسِ ، عَلَى وَجْهٍ لَا يَسْتَضِرُّ بِهِ مَنْ

سِوَاهُ مِنْ النَّاسِ .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ فِي صَحِيحِ قَوْلَيْهِ ، وَقَالَ فِي الْآخَرِ : لَيْسَ لِغَيْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَحْمِيَ ؛ لِقَوْلِهِ : { لَا حِمَى إلَّا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ } .
وَلَنَا أَنَّ عُمَرَ وَعُثْمَانَ حَمَيَا ، وَاشْتَهَرَ ذَلِكَ فِي الصَّحَابَةِ ، فَلَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِمَا ، فَكَانَ إجْمَاعًا وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ ، أَحْسِبُهُ عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : أَتَى أَعْرَابِيٌّ عُمَرَ ، فَقَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، بِلَادُنَا قَاتَلْنَا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، وَأَسْلَمْنَا عَلَيْهَا فِي الْإِسْلَامِ ، عَلَامَ تَحْمِيهَا ؟ فَأَطْرَقَ عُمَرُ ، وَجَعَلَ يَنْفُخُ ، وَيَفْتِلُ شَارِبَهُ ، وَكَانَ إذَا كَرَبَهُ أَمْرٌ فَتَلَ شَارِبَهُ ، وَنَفَخَ فَلَمَّا رَأَى الْأَعْرَابِيُّ مَا بِهِ جَعَلَ يُرَدِّدُ ذَلِكَ ، فَقَالَ عُمَرُ : الْمَالُ مَالُ اللَّهِ ، وَالْعِبَادُ عِبَادُ اللَّهِ ، وَاَللَّهِ لَوْلَا مَا أَحْمِلُ عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا حَمَيْت شِبْرًا مِنْ الْأَرْضِ فِي شِبْرٍ .
وَقَالَ مَالِكٌ : بَلَغَنِي أَنَّهُ كَانَ يَحْمِلُ فِي كُلِّ عَامٍ عَلَى أَرْبَعِينَ أَلْفًا مِنْ الظَّهْرِ .
وَعَنْ أَسْلَمَ ، قَالَ : سَمِعْت عُمَرَ يَقُولُ لِهُنَيٍّ حِينَ اسْتَعْمَلَهُ عَلَى حِمَى الرَّبَذَةِ : يَا هُنَيُّ ، اُضْمُمْ جَنَاحَك عَنْ النَّاسِ ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهَا مُجَابَةٌ .
وَأَدْخِلْ رَبَّ الصَّرِيمَةِ وَالْغَنِيمَةِ ، وَدَعْنِي مِنْ نَعَمِ ابْن عَوْفٍ وَنَعَمِ ابْن عَفَّانَ ، فَإِنَّهُمَا إنْ هَلَكَتْ مَاشِيَتُهُمَا رَجَعَا إلَى نَخْلٍ وَزَرْعٍ ، وَإِنَّ هَذَا الْمِسْكِينَ إنْ هَلَكَتْ مَاشِيَتُهُ ، جَاءَ يَصْرُخُ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ .
فَالْكَلَأُ أَهْوَنُ عَلَيَّ أَمْ غُرْمُ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ ، إنَّهَا أَرْضُهُمْ قَاتَلُوا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، وَأَسْلَمُوا عَلَيْهَا فِي الْإِسْلَامِ ، وَإِنَّهُمْ لَيَرَوْنَ أَنَّا نَظْلِمُهُمْ ، وَلَوْلَا النَّعَمُ الَّتِي يُحْمَلُ عَلَيْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، مَا حَمَيْت عَلَى النَّاسِ مِنْ بِلَادِهِمْ

شَيْئًا أَبَدًا .
وَهَذَا إجْمَاعٌ مِنْهُمْ .
وَلِأَنَّ مَا كَانَ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ ، قَامَتْ الْأَئِمَّةُ فِيهِ مَقَامَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا أَطْعَمَ اللَّهُ لِنَبِيٍّ طُعْمَةً إلَّا جَعَلَهَا طُعْمَةً لِمَنْ بَعْدَهُ } وَأَمَّا الْخَبَرُ فَمَخْصُوصٌ ، وَأَمَّا حِمَاهُ لِنَفْسِهِ ، فَيُفَارِقُ حِمَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ ، لِأَنَّ صَلَاحَهُ يَعُودُ إلَى صَلَاحِ الْمُسْلِمِينَ ، وَمَا لَهُ كَانَ يَرُدُّهُ فِي الْمُسْلِمِينَ ، فَفَارَقَ الْأَئِمَّةَ فِي ذَلِكَ ، وَسَاوَوْهُ فِيمَا كَانَ صَلَاحًا لِلْمُسْلِمِينَ ، وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَحْمُوا إلَّا قَدْرًا لَا يُضَيَّقُ بِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَيَضُرُّ بِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا جَازَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ لِمَا يَحْمَى ، وَلَيْسَ مِنْ الْمَصْلَحَةِ إدْخَالُ الضَّرَرِ عَلَى أَكْثَرِ النَّاسِ .

( 4352 ) فَصْلٌ : وَمَا حَمَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ نَقْضُهُ ، وَلَا تَغْيِيرُهُ ، مَعَ بَقَاءِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ .
وَمَنْ أَحْيَا مِنْهُ شَيْئًا لَمْ يَمْلِكْهُ .
وَإِنْ زَالَتْ الْحَاجَةُ إلَيْهِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ .
وَمَا حَمَاهُ غَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ ، فَغَيَّرَهُ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ ، جَازَ .
وَإِنْ أَحْيَاهُ إنْسَانٌ ، مَلَكَهُ ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ؛ لِأَنَّ حِمَى الْأَئِمَّةِ اجْتِهَادٌ ، وَمِلْكُ الْأَرْضِ بِالْإِحْيَاءِ نَصٌّ ، وَالنَّصُّ يُقَدَّمُ عَلَى الِاجْتِهَادِ .
وَالْوَجْهُ الْآخَرُ لَا يَمْلِكُهُ ؛ لِأَنَّ اجْتِهَادَ الْإِمَامِ لَا يَجُوزُ نَقْضُهُ ، كَمَا لَا يَجُوزُ نَقْضُ حُكْمِهِ .
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا عَلَى نَحْوِ مَا قُلْنَا .

( 4353 ) فَصْلٌ : فِي أَحْكَامِ الْمِيَاهِ ، قَدْ ذَكَرْنَا فِي الْبَيْعِ حُكْمَ مِلْكِهَا وَبَيْعِهَا ، وَنَذْكُرُ هَاهُنَا حُكْمَ السَّقْيِ بِهَا .
فَنَقُولُ : لَا يَخْلُو الْمَاءُ مِنْ حَالَيْنِ ؛ إمَّا أَنْ يَكُونَ جَارِيًا ، أَوْ وَاقِفًا ، فَإِنْ كَانَ جَارِيًا فَهُوَ ضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ فِي نَهْرٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ ، وَهُوَ قِسْمَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ نَهْرًا عَظِيمًا ، كَالنِّيلِ وَالْفُرَاتِ وَدِجْلَةَ ، وَمَا أَشْبَهَهَا مِنْ الْأَنْهَارِ الْعَظِيمَةِ ، الَّتِي لَا يَسْتَضِرُّ أَحَدٌ بِسَقْيِهِ مِنْهَا ، فَهَذَا لَا تَزَاحُمَ فِيهِ ، وَلِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَسْقِيَ مِنْهَا مَا شَاءَ ، مَتَى شَاءَ ، وَكَيْف شَاءَ .
الْقِسْمُ الثَّانِي ، أَنْ يَكُونَ نَهْرًا صَغِيرًا يَزْدَحِمُ النَّاسُ فِيهِ ، وَيَتَشَاحُّونَ فِي مَائِهِ ، أَوْ سَيْلًا يَتَشَاحُّ فِيهِ أَهْلُ الْأَرْضِ الشَّارِبَةِ مِنْهُ ، فَإِنَّهُ يَبْدَأُ مَنْ فِي أَوَّلِ النَّهْرِ ، فَيَسْقِي وَيَحْبِسُ الْمَاءَ حَتَّى يَبْلُغَ إلَى الْكَعْبِ ، ثُمَّ يُرْسِلُ إلَى الَّذِي يَلِيهِ فَيَصْنَعُ كَذَلِكَ ، وَعَلَى هَذَا إلَى أَنْ تَنْتَهِيَ الْأَرَاضِي كُلُّهَا فَإِنْ لَمْ يَفْضُلْ عَنْ الْأَوَّلِ شَيْءٌ ، أَوْ عَنْ الثَّانِي ، أَوْ عَمَّنْ يَلِيهِمْ فَلَا شَيْءَ لِلْبَاقِينَ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ إلَّا مَا فَضَلَ ، فَهُمْ كَالْعُصْبَةِ فِي الْمِيرَاثِ .
وَهَذَا قَوْلُ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ ، وَمَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا .
وَالْأَصْلُ فِي هَذَا مَا رَوَى عَبْدُ اللَّه بْن الزُّبَيْرِ ، { أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ خَاصَمَ الزُّبَيْرَ فِي شِرَاجِ الْحُرَّةِ ، الَّتِي يَسْقُونَ بِهَا ، إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اسْقِ يَا زُبَيْرُ ، ثُمَّ أَرْسِلْ الْمَاءَ إلَى جَارِك .
فَغَضِبَ الْأَنْصَارِيُّ ، وَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِك ؟ فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ : يَا زُبَيْرُ اسْقِ ، ثُمَّ احْبِسْ الْمَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إلَى الْجَدْرِ .
قَالَ الزُّبَيْرُ : فَوَاَللَّهِ إنِّي لَأَحْسِبُ هَذِهِ الْآيَةَ

نَزَلَتْ فِيهِ : { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَرَوَاهُ مَالِكٌ ، فِي " مُوَطَّئِهِ " عَنْ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ عُرْوَةَ ، عَنْ عَبْدِ اللَّه بْن الزُّبَيْرِ .
وَذَكَرَ عَنْهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ ، عَنْ مَعْمَرٍ ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ : نَظَرْنَا فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { ثُمَّ احْبِسْ الْمَاءَ حَتَّى يَبْلُغَ إلَى الْجَدْرِ } .
فَكَانَ ذَلِكَ إلَى الْكَعْبَيْنِ .
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : الشِّرَاجُ : جَمْعُ شَرْجٍ ، وَالشَّرْجُ : نَهْرٌ صَغِيرٌ ، وَالْحَرَّةُ : أَرْضٌ مُلْتَبِسَةٌ بِحِجَارَةٍ سُودٍ ، وَالْجَدْرُ : الْجِدَارُ ، وَإِنَّمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزُّبَيْرَ أَنْ يَسْقِيَ ثُمَّ يُرْسِلَ الْمَاءَ ، تَسْهِيلًا عَلَى غَيْرِهِ ، فَلَمَّا قَالَ الْأَنْصَارِيُّ مَا قَالَ ، اسْتَوْعَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزُّبَيْرَ حَقَّهُ .
وَرَوَى مَالِكٌ ، فِي " الْمُوَطَّأِ " أَيْضًا ، عَنْ عَبْدِ اللَّه بْن أَبِي بَكْرِ بْن حَزْمٍ ، أَنَّهُ بَلَغَهُ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي سَيْلِ مَهْزُورٍ وَمُذَيْنِيبٍ : يُمْسِكُ حَتَّى الْكَعْبَيْنِ ، ثُمَّ يُرْسِلُ الْأَعْلَى عَلَى الْأَسْفَلِ } قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : هَذَا حَدِيثٌ مَدَنِيٌّ ، مَشْهُورٌ عِنْدَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، مَعْمُولٌ بِهِ عِنْدَهُمْ .
قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ : مَهْزُورٌ وَمُذَيْنِيبٌ : وَادِيَانِ مِنْ أَوْدِيَةِ الْمَدِينَةِ ، يَسِيلَانِ بِالْمَطَرِ ، وَتَتَنَافَسُ أَهْلُ الْحَوَائِطِ فِي سَيْلِهِمَا .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ أَبِي مَالِكٍ ، أَنَّهُ { سَمِعَ كُبَرَاءَهُمْ يَذْكُرُونَ ، أَنَّ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ كَانَ لَهُ سَهْمٌ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ ، فَخَاصَمَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَيْلِ مَهْزُورٍ وَالسَّيْلِ الَّذِي يَقْتَسِمُونَ مَاءَهُ ، فَقَضَى بَيْنَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْمَاءَ إلَى الْكَعْبَيْنِ ، لَا يَحْبِسُ الْأَعْلَى عَلَى الْأَسْفَلِ } وَلِأَنَّ مَنْ أَرْضُهُ

قَرِيبَةٌ مِنْ فُوَّهَةِ النَّهْرِ أَسْبَقُ إلَى الْمَاءِ ، فَكَانَ أَوْلَى بِهِ ، كَمَنْ سَبَقَ إلَى الْمُشَرَّعَةِ ، فَإِنْ كَانَتْ أَرْضُ صَاحِبِ الْأَعْلَى مُخْتَلِفَةً ، مِنْهَا مُسْتَعْلِيَةٌ وَمِنْهَا مُسْتَفِلَةٌ ، سَقَى كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى حِدَتِهَا ، وَإِنْ اسْتَوَى اثْنَانِ فِي الْقُرْبِ مِنْ أَوَّلِ النَّهْرِ ، اقْتَسَمَا الْمَاءَ بَيْنَهُمَا ، إنْ أَمْكَنَ ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا ، فَقُدِّمَ مَنْ تَقَعُ لَهُ الْقُرْعَةُ ، فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ لَا يَفْضُلُ عَنْ أَحَدِهِمَا ، سَقَى مَنْ تَقَعُ لَهُ الْقُرْعَةُ بِقَدْرِ حَقِّهِ مِنْ الْمَاءِ ، ثُمَّ تَرَكَهُ لِلْآخَرِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْقِيَ بِجَمِيعِ الْمَاءِ ؛ لِأَنَّ الْآخَرَ يُسَاوِيه فِي اسْتِحْقَاقِ الْمَاءِ ، وَإِنَّمَا الْقُرْعَةُ لِلتَّقْدِيمِ فِي اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ ، لَا فِي أَصْلِ الْحَقِّ ، بِخِلَافِ الْأَعْلَى مَعَ الْأَسْفَلِ ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلْأَسْفَلِ حَقٌّ إلَّا فِيمَا فَضَلَ عَنْ الْأَعْلَى فَإِنْ كَانَتْ أَرْضُ أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ مِنْ أَرْضِ الْآخَرِ ، قُسِمَ الْمَاءُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ الْأَرْضِ ؛ لِأَنَّ الزَّائِدَ مِنْ أَرْضِ أَحَدِهِمَا مُسَاوٍ فِي الْقُرْبِ ، فَاسْتَحَقَّ جُزْءًا مِنْ الْمَاءِ ، كَمَا لَوْ كَانَ لِشَخْصٍ ثَالِثٍ .
وَإِنْ كَانَ لِجَمَاعَةٍ رَسْمُ شُرْبٍ ، مِنْ نَهْرٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ ، أَوْ سَيْلٍ ، وَجَاءَ إنْسَانٌ لِيُحْيِيَ مَوَاتًا أَقْرَبَ إلَى رَأْسِ النَّهْرِ مِنْ أَرْضِهِمْ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَسْقِيَ قَبْلَهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ أَسْبَقُ إلَى النَّهْرِ مِنْهُ ، وَلِأَنَّ مَنْ مَلَكَ أَرْضًا مَلَكَهَا بِحُقُوقِهَا وَمَرَافِقِهَا ، وَلَا يَمْلِكُ غَيْرُهُ إبْطَالَ حُقُوقِهَا ، وَهَذَا مِنْ حُقُوقِهَا .
وَهَلْ لَهُمْ مَنْعُهُ مِنْ إحْيَاءِ ذَلِكَ الْمَوَاتِ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا لَيْسَ لَهُمْ مَنْعُهُ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ فِي النَّهْرِ لَا فِي الْمَوَاتِ .
وَالثَّانِي لَهُمْ مَنْعُهُ ، لِئَلَّا يَصِيرَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى مَنْعِهِمْ حَقَّهُمْ مِنْ السَّقْيِ ، لِتَقْدِيمِهِ عَلَيْهِمْ بِالْقُرْبِ إذَا طَالَ الزَّمَانُ وَجُهِلَ الْحَالُ فَإِذَا قُلْنَا : لَيْسَ لَهُمْ مَنْعُهُ .
فَسَبَقَ إنْسَانٌ

إلَى مَسِيلِ مَاءٍ أَوْ نَهْرٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ ، فَأَحْيَا فِي أَسْفَلِهِ مَوَاتًا ، ثُمَّ أَحْيَا آخَرُ فَوْقَهُ ، ثُمَّ أَحْيَا ثَالِثٌ فَوْقَ الثَّانِي ، كَانَ لِلْأَسْفَلِ السَّقْيُ أَوَّلًا ، ثُمَّ الثَّانِي ، ثُمَّ الثَّالِثِ ، وَيُقَدَّمُ السَّبْقُ إلَى الْإِحْيَاءِ عَلَى السَّبْقِ إلَى أَوَّلِ النَّهْرِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا .

( 4354 ) فَصْلٌ : الضَّرْبُ الثَّانِي الْمَاءُ الْجَارِي فِي نَهْرٍ مَمْلُوكٍ ، وَهُوَ أَيْضًا قِسْمَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ مُبَاحَ الْأَصْلِ ، مِثْلَ أَنْ يَحْفِرَ إنْسَانٌ نَهْرًا صَغِيرًا ، يَتَّصِلُ بِنَهْرٍ كَبِيرٍ مُبَاحٍ ، فَمَا لَمْ يَتَّصِلْ الْحَفْرُ لَا يَمْلِكُهُ ، وَإِنَّمَا هُوَ تَحَجُّرٌ وَشُرُوعٌ فِي الْإِحْيَاءِ ، فَإِذَا اتَّصَلَ الْحَفْرُ ، كَمُلَ الْإِحْيَاءُ وَمَلَكَهُ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ بِالْإِحْيَاءِ أَنْ تَنْتَهِيَ الْعِمَارَةُ إلَى قَصْدِهَا ، بِحَيْثُ يَتَكَرَّرُ الِانْتِفَاعُ بِهَا عَلَى صُورَتِهَا ، وَهَذَا كَذَلِكَ .
وَسَوَاءٌ أَجْرَى فِيهِ الْمَاءَ أَوْ لَمْ يُجْرِ ؛ لِأَنَّ الْإِحْيَاءَ يَحْصُلُ بِأَنْ يُهَيِّئَهُ لِلِانْتِفَاعِ بِهِ دُونَ حُصُولِ الْمَنْفَعَةِ ، فَيَصِيرُ مَالِكًا لِقَرَارِ النَّهْرِ وَحَافَّتَيْهِ ، وَهَوَاؤُهُ حَقٌّ لَهُ ، وَكَذَلِكَ حَرِيمُهُ ، وَهُوَ مُلْقَى الطِّينِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَعِنْدَ الْقَاضِي أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِصَاحِبِ النَّهْرِ ، وَإِنَّمَا هُوَ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ ، وَكَذَلِكَ حَرِيمُ الْبِئْرِ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَظَاهِرُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ ، أَنَّهُ مَمْلُوكٌ لِصَاحِبِهِ ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ أَحْيَا أَرْضًا لَمْ تُمْلَكْ ، فَهِيَ لَهُ } .
وَإِحْيَاؤُهَا أَنْ يُحَوِّطَ عَلَيْهَا حَائِطًا ، أَوْ يَحْفِرَ فِيهَا بِئْرًا ، فَيَكُونَ لَهُ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ ذِرَاعًا حَوَالَيْهَا ، وَحَرِيمُ النَّهْرِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَكَانَ النَّهْرُ لِجَمَاعَةِ فَهُوَ بَيْنَهُمْ عَلَى حَسَبِ الْعَمَلِ وَالنَّفَقَةِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا مُلِكَ بِالْعِمَارَةِ ، وَالْعِمَارَةُ بِالنَّفَقَةِ ، فَإِنْ كَفَى جَمِيعَهُمْ ، فَلَا كَلَامَ ، وَإِنْ لَمْ يَكْفِهِمْ ، وَتَرَاضَوْا عَلَى قِسْمَتِهِ بِالْمُهَايَأَةِ أَوْ غَيْرِهَا جَازَ ؛ لِأَنَّهُ حَقُّهُمْ ، لَا يَخْرُجُ عَنْهُمْ .
وَإِنْ تَشَاحُّوا فِي قِسْمَتِهِ ، قَسَمَهُ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ أَمْلَاكِهِمْ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَمْلِكُ مِنْ النَّهْرِ بِقَدْرِ ذَلِكَ ، فَتُؤْخَذُ خَشَبَةٌ صُلْبَةٌ ، أَوْ حَجَرٌ

مُسْتَوِي الطَّرَفَيْنِ وَالْوَسَطِ ، فَيُوضَعُ عَلَى مَوْضِعٍ مُسْتَوٍ مِنْ الْأَرْضِ ، فِي مُقَدَّمِ الْمَاءِ ، فِيهِ حُزُوزٌ ، أَوْ ثُقُوبٌ مُتَسَاوِيَةٌ فِي السَّعَةِ عَلَى قَدْرِ حُقُوقِهِمْ ، يَخْرُجُ مِنْ كُلِّ جُزْءٍ أَوْ ثُقْبٍ إلَى سَاقِيَةٍ مُفْرَدَةٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ، فَإِذَا حَصَلَ الْمَاءُ فِي سَاقِيَتِهِ انْفَرَدَ بِهِ فَإِنْ كَانَتْ أَمْلَاكُهُمْ مُخْتَلِفَةً قُسِّمَ عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ ، فَإِذَا كَانَ لِأَحَدِهِمْ نِصْفُهُ ، وَلِلْآخَرِ ثُلُثُهُ ، وَلِلْآخَرِ سُدُسُهُ ، جُعِلَ فِيهِ سِتَّةُ ثُقُوبٍ ، لِصَاحِبِ النِّصْفِ ثَلَاثَةُ نُصُبٍ فِي سَاقِيَتِهِ ، وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ اثْنَانِ ، وَلِصَاحِبِ السُّدُسِ وَاحِدٌ .
وَإِنْ كَانَ لَوَاحِدٍ الْخُمْسَانِ ، وَالْبَاقِي لِاثْنَيْنِ يَتَسَاوَيَانِ فِيهِ ، جُعِلَ عَشَرَةُ ثُقُوبٍ لِصَاحِبِ الْخُمْسَيْنِ أَرْبَعَةُ نُصُبٍ فِي سَاقِيَتِهِ ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْآخَرَيْنِ ثَلَاثَةُ نُصُبٍ فِي سَاقِيَةٍ لَهُ فَإِنْ كَانَ النَّهْرُ لِعَشَرَةٍ ، لِخَمْسَةٍ مِنْهُمْ أَرَاضٍ قَرِيبَةٌ مِنْ أَوَّلِ النَّهْرِ ، وَلِخَمْسَةٍ أَرَاضٍ بَعِيدَةٌ ، جُعِلَ لِأَصْحَابِ الْقَرِيبَةِ خَمْسَةُ ثُقُوبٍ ، لِكُلِّ وَاحِدٍ ثُقْبٌ ، وَجُعِلَ لِلْبَاقِينَ خَمْسَةٌ ، تَجْرِي فِي النَّهْرِ حَتَّى تَصِلَ إلَى أَرْضِهِمْ ، ثُمَّ تُقَسَّمُ بَيْنَهُمْ قِسْمَةً أُخْرَى .
وَإِنْ أَرَادَ أَحَدُهُمْ أَنْ يُجْرِيَ مَاءَهُ فِي سَاقِيَةِ غَيْرِهِ ، لِيُقَاسِمَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ، لَمْ يَجُزْ إلَّا بِرِضَاهُ ؛ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي سَاقِيَتِهِ ، وَيُخَرِّبُ حَافَّتَهَا بِغَيْرِ إذْنِهِ ، وَيَخْلِطُ حَقَّهُ بِحَقِّ غَيْرِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَمَيَّزُ ، فَلَمْ يَجُزْ ذَلِكَ .
وَيَجِيءُ عَلَى قَوْلِنَا " إنَّ الْمَاءَ لَا يُمْلَكُ " أَنَّ حُكْمَ الْمَاءِ فِي هَذَا النَّهْرِ حُكْمُهُ فِي نَهْرٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ ، وَأَنَّ الْأَسْبَقَ أَحَقُّ بِالسَّقْيِ مِنْهُ ، ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ ، فَكَانَ الْأَسْبَقُ إلَيْهِ أَحَقَّ بِهِ ، كَمَا لَوْ كَانَ فِي نَهْرٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْفَصْلِ كُلِّهِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا .

( 4355 ) فَصْلٌ : وَإِذَا حَصَلَ نَصِيبُ إنْسَانٍ فِي سَاقِيَةٍ ، فَلَهُ أَنْ يَسْقِيَ بِهِ مَا شَاءَ مِنْ الْأَرْضِ ، سَوَاءٌ كَانَ لَهَا رَسْمُ شُرْبٍ مِنْ هَذَا النَّهْرِ ، أَوْ لَمْ يَكُنْ .
وَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ مَنْ يَسْقِي بِهِ .
وَقَالَ الْقَاضِي ، وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : لَيْسَ لَهُ سَقْيُ أَرْضٍ لَيْسَ لَهَا رَسْمُ شُرْبٍ فِي هَذَا الْمَاءِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ دَالٌ عَلَى أَنَّ لَهَا قِسْمًا مِنْ هَذَا الْمَاءِ ، فَرُبَّمَا جُعِلَ سَقْيُهَا مِنْهُ دَلِيلًا عَلَى اسْتِحْقَاقِهَا لِذَلِكَ ، فَيَسْتَضِرُّ الشُّرَكَاءُ ، وَيَصِيرُ هَذَا كَمَا لَوْ كَانَ لَهُ دَارٌ بَابُهَا فِي دَرْبٍ لَا يَنْفُذُ ، وَدَارٌ بَابُهَا فِي دَرْبٍ آخَرَ ، ظَهْرُهَا مُلَاصِقٌ لِظَهْرِ دَارِهِ الْأُولَى ، فَأَرَادَ تَنْفِيذَ إحْدَاهُمَا إلَى الْأُخْرَى لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ لِنَفْسِهِ اسْتِطْرَاقًا مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الدَّارَيْنِ .
وَلَنَا أَنَّ هَذَا مَاءٌ انْفَرَدَ بِاسْتِحْقَاقِهِ ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَسْقِيَ مِنْهُ مَا شَاءَ ، كَمَا لَوْ انْفَرَدَ بِهِ مِنْ أَصْلِهِ .
وَلَا نُسَلِّمُ مَا ذَكَرُوهُ فِي الدَّارَيْنِ ، وَإِنْ سَلَّمْنَا فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ كُلَّ دَارٍ يَخْرُجُ مِنْهَا إلَى دَرْبٍ آخَرَ مُشْتَرَكٍ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ لِكُلِّ دَارٍ سُكَّانًا ، فَيَجْعَلُ لِسُكَّانِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا اسْتِطْرَاقًا إلَى دَرْبٍ غَيْرِ نَافِذٍ ، لَمْ يَكُنْ لَهُمْ حَقٌّ فِي اسْتِطْرَاقِهِ ، وَهَاهُنَا إنَّمَا يَسْقِي مِنْ سَاقِيَتِهِ الْمُفْرَدَةِ الَّتِي لَا يُشَارِكُهُ غَيْرُهُ فِيهَا ، فَلَوْ صَارَ لِتِلْكَ الْأَرْضِ رَسْمٌ مِنْ الشُّرْبِ مِنْ سَاقِيَتِهِ ، لَمْ يَتَضَرَّرْ بِذَلِكَ أَحَدٌ وَلَوْ كَانَ يَسْقِي مِنْ هَذَا النَّهْرِ بِدُولَابِ ، فَأَحَبَّ أَنْ يَسْقِيَ بِذَلِكَ الْمَاءِ أَرْضًا لَا رَسْمَ لَهَا فِي الشُّرْبِ مِنْ ذَلِكَ النَّهْرِ ، فَالْحُكْمُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْخِلَافِ فِي الَّتِي قَبْلَهَا .
وَإِنْ كَانَ الدُّولَابُ يَغْرِفُ مِنْ نَهْرٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ ، جَازَ أَنْ يَسْقِيَ بِنَصِيبِهِ مِنْ الْمَاءِ أَرْضًا لَا رَسْمَ لَهَا فِي الشُّرْبِ مِنْهُ ، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ فَإِنْ ضَاقَ الْمَاءُ ،

قُدِّمَ الْأَسْبَقُ فَالْأَسْبَقُ ، عَلَى مَا مَضَى .
( 4356 ) فَصْلٌ : وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي سَاقِيَتِهِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِ بِمَا أَحَبَّ ، مِنْ إجْرَاءِ غَيْرِ هَذَا الْمَاءِ فِيهَا ، أَوْ عَمَلِ رَحًى عَلَيْهَا ، أَوْ دُولَابٍ ، أَوْ عَبَّارَةٍ ، وَهِيَ خَشَبَةٌ تُمَدُّ عَلَى طَرَفَيْ النَّهْرِ ، أَوْ قَنْطَرَةٍ يَعْبُرُ الْمَاءُ فِيهَا ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ ؛ لِأَنَّهَا مِلْكُهُ ، لَا حَقَّ لِغَيْرِهِ فِيهَا .
فَأَمَّا النَّهْرُ الْمُشْتَرَكُ ، فَلَيْسَ لَوَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ بِشَيْءِ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي النَّهْرِ الْمُشْتَرَكِ وَفِي حَرِيمِهِ بِغَيْرِ إذْنِ شُرَكَائِهِ .
وَقَالَ الْقَاضِي فِي الْعَبَّارَةِ : هَذَا يَنْبَنِي عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ ، فِي مَنْ أَرَادَ أَنْ يُجْرِيَ مَاءَهُ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ هَاهُنَا ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ هَذَا عَلَى إجْرَاءِ الْمَاءِ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ إجْرَاءَ الْمَاءِ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ يَنْفَعُ صَاحِبَهَا ، لِأَنَّهُ يَسْقِي عُرُوقَ شَجَرِهِ ، وَيَشْرَبُهُ أَوَّلًا وَآخِرًا .
وَهَذَا لَا يَنْفَعُ النَّهْرَ ، بَلْ رُبَّمَا أَفْسَدَ حَافَّتَيْهِ ، وَلَمْ يَسْقِ لَهُ شَيْئًا .
وَلَوْ أَرَادَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَاءِ النَّهْرِ قَبْلَ قَسْمِهِ شَيْئًا يَسْقِي بِهِ أَرْضًا فِي أَوَّلِ النَّهْرِ أَوْ غَيْرِهِ ، أَوْ أَرَادَ إنْسَانٌ غَيْرُهُمْ ذَلِكَ ، لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُمْ صَارُوا أَحَقَّ بِالْمَاءِ الْجَارِي فِي نَهْرِهِمْ مِنْ غَيْرِهِمْ ، وَلِأَنَّ الْأَخْذَ مِنْ الْمَاءِ رُبَّمَا احْتَاجَ إلَى تَصَرُّفٍ فِي حَافَّةِ النَّهْرِ الْمَمْلُوكِ لِغَيْرِهِ ، أَوْ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ وَلَوْ فَاضَ مَاءُ هَذَا النَّهْرِ إلَى مِلْكِ إنْسَانٍ ، فَهُوَ مُبَاحٌ ، كَالطَّائِرِ يُعَشِّشُ فِي مِلْكِ إنْسَانٍ .
وَهَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِيهِ نَحْوٌ مِمَّا ذَكَرْنَا .

( 4357 ) فَصْلٌ : وَإِنْ قَسَّمُوا مَاءَ النَّهْرِ الْمُشْتَرَكِ بِالْمُهَايَأَةِ ، جَازَ ، إذَا تَرَاضَوْا بِهِ ، وَكَانَ حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَعْلُومًا ، مِثْلُ أَنْ يَجْعَلُوا لِكُلِّ حِصَّةٍ يَوْمًا وَلَيْلَةً ، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَقَلَّ .
وَإِنْ قَسَّمُوا النَّهَارَ ، فَجَعَلُوا لِوَاحِدٍ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إلَى وَقْتِ الزَّوَالِ ، وَلِلْآخَرِ مِنْ الزَّوَالِ إلَى الْغُرُوبِ ، وَنَحْوَ ذَلِكَ ، جَازَ .
وَإِنْ قَسَّمُوهُ سَاعَاتٍ ، وَأَمْكَنَ ضَبْطُ ذَلِكَ بِشَيْءِ مَعْلُومٍ ، كَطَاسَةِ مَثْقُوبَةٍ تُتْرَكُ فِي الْمَاءِ ، وَفِيهَا عَلَامَاتٌ إذَا انْتَهَى الْمَاءُ إلَى عَلَامَةٍ كَانَتْ سَاعَةً ، وَإِذَا انْتَهَى إلَى الْأُخْرَى كَانَتْ سَاعَتَيْنِ ، أَوْ زُجَاجَةٍ فِيهَا رَمْلٌ ، يَنْزِلُ مِنْ أَعْلَاهَا إلَى أَسْفَلِهَا فِي سَاعَةٍ أَوْ سَاعَتَيْنِ ، ثُمَّ يَقْلِبُهَا فَيَعُودُ الرَّمْلُ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ فِيهِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْمِقْدَارِ ، أَوْ بِمِيزَانِ الشَّمْسِ الَّذِي تُعْرَفُ بِهِ سَاعَاتُ النَّهَارِ ، أَوْ بِمَنَازِلِ الْقَمَرِ فِي اللَّيْلِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ ، جَازَ .
فَإِذَا حَصَلَ الْمَاءُ لِأَحَدِهِمْ فِي نَوْبَتِهِ ، فَأَرَادَ أَنْ يَسْقِيَ بِهِ أَرْضًا لَيْسَ لَهَا رَسْمُ شُرْبٍ مِنْ هَذَا ، أَوْ يُؤْثِرَ بِهِ إنْسَانًا ، أَوْ يُقْرِضَهُ إيَّاهُ ، عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَصَرَّفُ فِي حَافَّةِ النَّهْرِ ، جَازَ .
وَعَلَى قَوْلِ الْقَاضِي ، وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ، يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ ؛ لِمَا تَقَدَّمَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ .
وَإِنْ أَرَادَ صَاحِبُ النَّوْبَةِ أَنْ يُجْرِيَ مَعَ مَائِهِ مَاءً لَهُ آخَرَ ، يَسْقِي بِهِ أَرْضَهُ الَّتِي لَهَا رَسْمُ شُرْبٍ مِنْ هَذَا النَّهْرِ ، أَوْ أَرْضًا لَهُ أُخْرَى .
أَوْ سَأَلَهُ إنْسَانٌ أَنْ يُجْرِيَ مَاءً لَهُ مَعَ مَائِهِ فِي هَذَا النَّهْرِ ، لِيُقَاسِمهُ إيَّاهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ، عَلَى وَجْهٍ لَا يَضُرُّ بِالنَّهْرِ ، وَلَا بِأَحَدٍ ، جَازَ ذَلِكَ ، فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَصْحَابِنَا ؛ فَإِنَّهُمْ قَالُوا فِي مَنْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا : جَازَ أَنْ يُجْرِيَ فِيهَا مَاءً فِي نَهْرٍ مَحْفُورٍ ، إذَا كَانَ فِيهَا .
وَلِأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِنَفْعِ النَّهْرِ فِي

نَوْبَتِهِ بِإِجْرَاءِ الْمَاءِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اسْتَأْجَرَهَا لِذَلِكَ .

( 4358 ) فَصْلٌ : الْقِسْمُ الثَّانِي ، أَنْ يَكُونَ مَنْبَعُ الْمَاءِ مَمْلُوكًا ، مِثْلَ أَنْ يَشْتَرِكَ جَمَاعَةٌ فِي اسْتِنْبَاطِ عَيْنٍ وَإِجْرَائِهَا ، فَإِنَّهُمْ يَمْلِكُونَهَا أَيْضًا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إحْيَاءٌ لَهَا ، وَيَشْتَرِكُونَ فِيهَا ، وَفِي سَاقِيَتِهَا ، عَلَى حَسَبِ مَا أَنْفَقُوا عَلَيْهَا ، وَعَمِلُوا فِيهَا ، كَمَا ذَكَرْنَا ، فِي الْقِسْمِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا ، إلَّا أَنَّ الْمَاءَ غَيْرُ مَمْلُوكٍ ثَمَّ ، لِأَنَّهُ مُبَاحٌ دَخَلَ مِلْكَهُ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ دَخَلَ صَيْدٌ بُسْتَانَه ، وَهَاهُنَا يُخَرَّجُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ أَيْضًا .
وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ وَعَلَى كُلِّ حَالٍ ، فَلِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَسْتَقِيَ مِنْ الْمَاءِ الْجَارِي لِشُرْبِهِ وَوُضُوئِهِ وَغُسْلِهِ وَغَسْلِ ثِيَابِهِ ، وَيَنْتَفِعَ بِهِ فِي أَشْبَاهِ ذَلِكَ ، مِمَّا لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ ، مِنْ غَيْرِ إذْنِهِ ، إذَا لَمْ يَدْخُلْ إلَيْهِ فِي مَكَان مُحَوَّطٍ عَلَيْهِ .
وَلَا يَحِلُّ لِصَاحِبِهِ الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { ثَلَاثَةٌ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إلَيْهِمْ ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ رَجُلٌ كَانَ بِفَضْلِ مَاءٍ بِالطَّرِيقِ ، فَمَنَعَهُ ابْنَ السَّبِيلِ } .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ، وَعَنْ بُهَيْسَة ، عَنْ أَبِيهَا ، أَنَّهُ قَالَ : { يَا نَبِيَّ اللَّهِ ، مَا الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَحِلُّ مَنْعُهُ ؟ قَالَ : الْمَاءُ .
قَالَ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ ، مَا الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَحِلُّ مَنْعُهُ ؟ قَالَ : الْمِلْحُ .
قَالَ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ ، مَا الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَحِلُّ مَنْعُهُ ؟ قَالَ : أَنْ تَفْعَلَ الْخَيْرَ خَيْرٌ لَك .
} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَلِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ فِي الْعَادَةِ ، وَهُوَ فَاضِلٌ عَنْ حَاجَةِ صَاحِبِ النَّهْرِ .
فَأَمَّا مَا يُؤَثِّرُ فِيهِ كَسَقْيِ الْمَاشِيَةِ الْكَثِيرَةِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ ، فَإِنْ فَضَلَ الْمَاءُ عَنْ حَاجَةِ صَاحِبِهِ ، لَزِمَهُ بَذْلُهُ لِذَلِكَ ، وَإِنْ لَمْ يَفْضُلْ ، لَمْ يَلْزَمْهُ وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .

( 4359 ) فَصْلٌ : إذَا كَانَ النَّهْرُ أَوْ السَّاقِيَةُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ جَمَاعَةٍ ، فَإِنْ أَرَادُوا إكْرَاءَهُ أَوْ سَدَّ بَثْقٍ فِيهِ ، أَوْ إصْلَاحَ حَائِطِهِ ، أَوْ شَيْءٍ مِنْهُ ، كَانَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ عَلَى حَسَبِ مِلْكِهِمْ فِيهِ ، فَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ أَدْنَى إلَى أَوَّلِهِ مِنْ بَعْضٍ ، اشْتَرَكَ الْكُلُّ فِي إكْرَائِهِ وَإِصْلَاحِهِ ، إلَى أَنْ يَصِلُوا إلَى الْأَوَّلِ ، ثُمَّ لَا شَيْءَ عَلَى الْأَوَّلِ ، وَيَشْتَرِكُ الْبَاقُونَ حَتَّى يَصِلُوا إلَى الثَّانِي ، ثُمَّ يَشْتَرِكُ مَنْ بَعْدَهُ كَذَلِكَ ، كُلَّمَا انْتَهَى الْعَمَلُ إلَى مَوْضِعِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِيمَا بَعْدَهُ شَيْءٌ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٌ : يَشْتَرِكُ جَمِيعُهُمْ فِي إكْرَائِهِ كُلِّهِ ، لِأَنَّهُمْ يَنْتَفِعُونَ بِجَمِيعِهِ ، فَإِنَّ مَا جَاوَزَ الْأَوَّلَ مَصَبٌّ لِمَائِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَسْقِ أَرْضَهُ .
وَلَنَا أَنَّ الْأَوَّلَ إنَّمَا يَنْتَفِعُ بِالْمَاءِ الَّذِي فِي مَوْضِعِ شُرْبِهِ ، وَمَا بَعْدَهُ إنَّمَا يَخْتَصُّ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ مَنْ دُونَهُ ، فَلَا يُشَارِكُهُمْ فِي مُؤْنَتِهِ ، كَمَا لَا يُشَارِكُهُمْ فِي نَفْعِهِ ، فَإِنْ كَانَ يَفْضُلُ عَنْ جَمِيعِهِمْ مِنْهُ مَا يَحْتَاجُ إلَى مَصْرِفٍ ، فَمُؤْنَةُ ذَلِكَ الْمَصْرِفِ عَلَى جَمِيعِهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ يَشْتَرِكُونَ فِي الْحَاجَةِ إلَيْهِ ، وَالِانْتِفَاعِ بِهِ ، فَكَانَتْ مُؤْنَتُهُ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ ، كَأَوَّلِهِ .

( 4360 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( وَإِحْيَاءُ الْأَرْضِ أَنْ يُحَوِّطَ عَلَيْهَا حَائِطًا ) ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ ، أَنَّ تَحْوِيطَ الْأَرْضِ إحْيَاءٌ لَهَا ، سَوَاءٌ أَرَادَهَا لِلْبِنَاءِ ، أَوْ لِلزَّرْعِ ، أَوْ حَظِيرَةً لِلْغَنَمِ ، أَوْ الْخَشَبِ ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ .
وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ سَعِيدٍ ، فَقَالَ : الْإِحْيَاءُ أَنْ يُحَوِّطَ عَلَيْهَا حَائِطًا ، أَوْ يَحْفِرَ فِيهَا بِئْرًا أَوْ نَهْرًا .
وَلَا يُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ تَسْقِيفٌ ؛ وَذَلِكَ لِمَا رَوَى الْحَسَنُ ، عَنْ سَمُرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ أَحَاطَ حَائِطًا عَلَى أَرْضٍ ، فَهِيَ لَهُ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ ، فِي " مُسْنَدِهِ " .
وَيُرْوَى عَنْ جَابِرٍ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُهُ .
وَلِأَنَّ الْحَائِطَ حَاجِزٌ مَنِيعٌ ، فَكَانَ إحْيَاءً ، أَشْبَهَ مَا لَوْ جَعَلَهَا حَظِيرَةً لِلْغَنَمِ .
وَيُبَيِّنُ هَذَا أَنَّ الْقَصْدَ لَا اعْتِبَارَ بِهِ ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ أَرَادَهَا حَظِيرَةً لِلْغَنَمِ ، فَبَنَاهَا بِجِصٍّ وَآجُرٍّ ، وَقَسَمَهَا بُيُوتًا ، فَإِنَّهُ يَمْلِكُهَا ، وَهَذَا لَا يُصْنَعُ لِلْغَنَمِ مِثْلُهُ .
وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْحَائِطُ مَنِيعًا يَمْنَعُ مَا وَرَاءَهُ ، وَيَكُونَ مِمَّا جَرَتْ الْعَادَةُ بِمِثْلِهِ وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ ، فَلَوْ كَانَ مِمَّا جَرَتْ عَادَتُهُمْ بِالْحِجَارَةِ وَحْدَهَا ، كَأَهْلِ حَوْرَانَ وَفِلَسْطِينَ ، أَوْ بِالطِّينِ ، كَالْفَطَائِرِ لِأَهْلِ غُوطَةِ دِمَشْقَ ، أَوْ بِالْخَشَبِ أَوْ بِالْقَصَبِ ، كَأَهْلِ الْغَوْرِ ، كَانَ ذَلِكَ إحْيَاءً .
وَإِنْ بَنَاهُ بِأَرْفَعَ مِمَّا جَرَتْ بِهِ عَادَتُهُ ، كَانَ أَوْلَى .
وَقَالَ الْقَاضِي : فِي صِفَةِ الْإِحْيَاءِ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا مَا ذَكَرْنَا .
وَالثَّانِيَةُ الْإِحْيَاءُ مَا تَعَارَفَهُ النَّاسُ إحْيَاءً ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِتَعْلِيقِ الْمِلْكِ عَلَى الْإِحْيَاءِ ، وَلَمْ يُبَيِّنْهُ ، وَلَا ذَكَرَ كَيْفِيَّتَهُ ، فَيَجِبُ الرُّجُوعُ فِيهِ إلَى مَا كَانَ إحْيَاءً فِي الْعُرْفِ .
كَمَا أَنَّهُ لَمَّا وَرَدَ بِاعْتِبَارِ

الْقَبْضِ وَالْحِرْزِ ، وَلَمْ يُبَيِّنْ كَيْفِيَّتَهُ ، كَانَ الْمَرْجِعُ فِيهِ إلَى الْعُرْفِ ، وَلِأَنَّ الشَّارِعَ لَوْ عَلَّقَ الْحُكْمَ عَلَى مُسَمًّى بِاسْمِ ، لَتَعَلَّقَ بِمُسَمَّاهُ عِنْدَ أَهْلِ اللِّسَانِ ، فَكَذَلِكَ يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِالْمُسَمَّى إحْيَاءً عِنْدَ أَهْلِ الْعُرْفِ ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُعَلِّقُ حُكْمًا عَلَى مَا لَيْسَ إلَى مَعْرِفَتِهِ طَرِيقٌ ، فَلَمَّا لَمْ يُبَيِّنْهُ ، تَعَيَّنَ الْعُرْفُ طَرِيقًا لِمَعْرِفَتِهِ ، إذْ لَيْسَ لَهُ طَرِيقٌ سِوَاهُ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّ الْأَرْضَ تُحْيِي دَارًا لِلسُّكْنَى ، وَحَظِيرَةً ، وَمَزْرَعَةً ، فَإِحْيَاءُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ ذَلِكَ بِتَهْيِئَتِهَا لِلِانْتِفَاعِ الَّذِي أُرِيدَتْ لَهُ ، فَأَمَّا الدَّارُ ، فَبِأَنْ يَبْنِيَ حِيطَانَهَا بِمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ وَيَسْقُفَهَا ، لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ لِلسُّكْنَى إلَّا بِذَلِكَ وَأَمَّا الْحَظِيرَةُ فَإِحْيَاؤُهَا بِحَائِطٍ جَرَتْ بِهِ عَادَةُ مِثْلِهَا ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِهَا التَّسْقِيفُ ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَسْقِيفٍ ؛ وَسَوَاءٌ أَرَادَهَا حَظِيرَةً لِلْمَاشِيَةِ ، أَوْ لِلْخَشَبِ ، أَوْ لِلْحَطَبِ ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ .
وَلَوْ خَنْدَقَ عَلَيْهَا خَنْدَقًا ، لَمْ يَكُنْ إحْيَاءً ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَائِطٍ وَلَا عِمَارَةٍ ، إنَّمَا هُوَ حَفْرٌ وَتَخْرِيبٌ .
وَإِنْ خَاطَهَا بِشَوْكٍ وَشِبْهِهِ ، لَمْ يَكُنْ إحْيَاءً ، وَكَانَ تَحَجُّرًا ؛ لِأَنَّ الْمُسَافِرَ قَدْ يَنْزِلُ مَنْزِلًا ، وَيُحَوِّطُ عَلَى رَحْلِهِ بِنَحْوٍ مِنْ ذَلِكَ وَلَوْ نَزَلَ مَنْزِلًا ، فَنَصَبَ بِهِ بَيْتَ شَعْرٍ أَوْ خَيْمَةً ، لَمْ يَكُنْ إحْيَاءً .
وَإِنْ أَرَادَهَا لِلزِّرَاعَةِ ، فَبِأَنْ يُهَيِّئَهَا لِإِمْكَانِ الزَّرْعِ فِيهَا ، فَإِنْ كَانَتْ لَا تُزْرَعُ إلَّا بِالْمَاءِ ، فَبِأَنْ يَسُوقَ إلَيْهَا مَاءً مِنْ نَهْرٍ أَوْ بِئْرٍ ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لَا يُمْكِنُ زَرْعُهَا لِكَثْرَةِ أَحْجَارِهَا ، كَأَرْضِ الْحِجَازِ ، فَبِأَنْ يَقْلَعَ أَحْجَارَهَا وَيُنَقِّيَهَا حَتَّى تَصْلُحَ لِلزَّرْعِ ، وَإِنْ كَانَتْ غِيَاضًا وَأَشْجَارًا ، كَأَرْضِ الشِّعْرَى ، فَبِأَنْ يَقْلَعَ

أَشْجَارَهَا ، وَيُزِيلَ عُرُوقَهَا الَّتِي تَمْنَعُ الزَّرْعَ وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لَا يُمْكِنُ زَرْعُهُ إلَّا بِحَبْسِ الْمَاءِ عَنْهَا ، كَأَرْضِ الْبَطَائِحِ الَّتِي يُفْسِدُهَا غَرَقُهَا بِالْمَاءِ لِكَثْرَتِهِ ، فَإِحْيَاؤُهَا بِسَدِّ الْمَاءِ عَنْهَا ، وَجَعْلِهَا بِحَالٍ يُمْكِنُ زَرْعُهَا ؛ لِأَنَّ بِذَلِكَ يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهَا فِيمَا أَرَادَهَا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى تَكْرَارِ ذَلِكَ فِي كُلِّ عَامٍ ، فَكَانَ إحْيَاءً ، كَسَوْقِ الْمَاءِ إلَى الْأَرْضِ الَّتِي لَا مَاءَ لَهَا وَلَا يُعْتَبَرُ فِي إحْيَاءِ الْأَرْضِ حَرْثُهَا وَلَا زَرْعُهَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَتَكَرَّرُ كُلَّمَا أَرَادَ الِانْتِفَاعَ بِهَا ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِي الْإِحْيَاءِ ، كَسَقْيِهَا ، وَكَالسُّكْنَى فِي الْبُيُوتِ ، وَلَا يَحْصُلُ بِذَلِكَ إذَا فَعَلَهُ لِمُجَرَّدِهِ ، لِمَا ذَكَرْنَا وَلَا يُعْتَبَرُ فِي إحْيَاءِ الْأَرْضِ لِلسُّكْنَى نَصْبُ الْأَبْوَابِ عَلَى الْبُيُوتِ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، فِيمَا ذَكَرْنَا فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ ، إلَّا أَنَّ لَهُ وَجْهًا فِي أَنَّ حَرْثَهَا وَزَرْعَهَا إحْيَاءٌ لَهَا ، وَأَنَّ ذَلِكَ مُعْتَبَرٌ فِي إحْيَائِهَا ، وَلَا يَتِمُّ بِدُونِهِ ، وَكَذَلِكَ نَصْبُ الْأَبْوَابِ عَلَى الْبُيُوتِ ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا جَرَتْ الْعَادَةُ بِهِ ، فَأَشْبَهَ التَّسْقِيفَ .
وَلَا يَصِحُّ هَذَا ؛ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَلِأَنَّ السُّكْنَى مُمْكِنَةٌ بِدُونِ نَصْبِ الْأَبْوَابِ ، فَأَشْبَهَ تَطْيِينَ سُطُوحِهَا وَتَبْيِيضَهَا .

( 4361 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( أَوْ يَحْفِرَ فِيهَا بِئْرًا ، فَيَكُونَ لَهُ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ ذِرَاعًا حَوَالَيْهَا ، وَإِنْ سَبَقَ إلَى بِئْرٍ عَادِيَّةٍ ، فَحَرِيمُهَا خَمْسُونَ ذِرَاعًا ) الْبِئْرُ الْعَادِيَّةُ ، بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ : الْقَدِيمَةُ ، مَنْسُوبَةٌ إلَى عَادٍ ، وَلَمْ يُرِدْ عَادًا بِعَيْنِهَا ، لَكِنْ لَمَّا كَانَتْ عَادٌ فِي الزَّمَنِ الْأَوَّلِ ، وَكَانَتْ لَهَا آثَارٌ فِي الْأَرْضِ ، نُسِبَ إلَيْهَا كُلُّ قَدِيمٍ ، فَكُلُّ مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي مَوَاتٍ لِلتَّمْلِيكِ ، فَلَهُ حَرِيمُهَا خَمْسٌ وَعِشْرُونَ ذِرَاعًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَمَنْ سَبَقَ إلَى بِئْرٍ عَادِيَّةٍ ، كَانَ أَحَقَّ بِهَا ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ سَبَقَ إلَى مَا لَمْ يَسْبِقْ إلَيْهِ مُسْلِمٌ ، فَهُوَ لَهُ .
وَلَهُ حَرِيمُهَا خَمْسُونَ ذِرَاعًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ .
} نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى هَذَا فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ ، وَعَبْدِ اللَّهِ .
وَاخْتَارَهُ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا .
وَقَالَ الْقَاضِي وَأَبُو الْخَطَّابِ : لَيْسَ هَذَا عَلَى طَرِيقِ التَّحْدِيدِ ، بَلْ حَرِيمُهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ مَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي تَرْقِيَةِ مَائِهَا مِنْهَا ، فَإِنْ كَانَ بِدُولَابٍ فَقَدْرُ مَدَارِ الثَّوْرِ أَوْ غَيْرِهِ .
وَإِنْ كَانَ بِسَاقِيَةٍ فَبِقَدْرِ طُولِ الْبِئْرِ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { حَرِيمُ الْبِئْرِ مَدُّ رِشَائِهَا } .
أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ وَلِأَنَّهُ الْمَكَانُ الَّذِي تَمْشِي إلَيْهِ الْبَهِيمَةُ .
وَإِنْ كَانَ يَسْتَقِي مِنْهَا بِيَدِهِ ، فَبِقَدْرِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْوَاقِفُ عِنْدَهَا .
وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَخْرَجُ عَيْنًا ، فَحَرِيمُهَا الْقَدْرُ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَيْهِ صَاحِبُهَا لِلِانْتِفَاعِ بِهَا ، وَلَا يَسْتَضِرُّ بِأَخْذِهِ مِنْهَا وَلَوْ عَلَى أَلْفِ ذِرَاعٍ .
وَحَرِيمُ النَّهْرِ مِنْ جَانِبَيْهِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِطَرْحِ كِرَايَتِهِ بِحُكْمِ الْعُرْفِ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ هَذَا إنَّمَا ثَبَتَ لِلْحَاجَةِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ تُرَاعَيْ فِيهِ الْحَاجَةُ دُونَ غَيْرِهَا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : حَرِيمُ الْبِئْرِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا ، وَحَرِيمُ

الْعَيْنِ خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ ؛ لِأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَوَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { حَرِيمُ الْبِئْرِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا لِأَعْطَانِ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ } وَعَنْ الشَّعْبِيِّ مِثْلُهُ ، رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ .
وَلَنَا مَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ وَالْخَلَّالُ ، بِإِسْنَادِهِمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { حَرِيمُ الْبِئْرِ الْبَدِيِّ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ ذِرَاعًا ، وَحَرِيمُ الْبِئْرِ الْعَادِيِّ خَمْسُونَ ذِرَاعًا } وَهَذَا نَصٌّ .
وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ ، أَنَّهُ قَالَ : السُّنَّةُ فِي حَرِيمِ الْقَلِيبِ الْعَادِيِّ خَمْسُونَ ذِرَاعًا ، وَالْبَدِيِّ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ ذِرَاعًا وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، قَالَ : حَرِيمُ الْبِئْرِ الْبَدِيِّ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ ذِرَاعًا مِنْ نَوَاحِيهَا كُلِّهَا ، وَحَرِيمُ بِئْرِ الزَّرْعِ ثَلَاثُمِائَةِ ذِرَاعٍ مِنْ نَوَاحِيهَا كُلِّهَا ، وَحَرِيمُ الْبِئْرِ الْعَادِيَّةِ خَمْسُونَ ذِرَاعًا مِنْ نَوَاحِيهَا كُلِّهَا .
وَلِأَنَّهُ مَعْنًى يُمْلَكُ بِهِ الْمَوَاتُ ، فَلَا يَقِفُ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ ، كَالْحَائِطِ .
وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْبِئْرِ لَا تَنْحَصِرُ فِي تَرْقِيَةِ الْمَاءِ ، فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى مَا حَوْلَهَا عَطَنًا لَإِبِلِهِ ، وَمَوْقِفًا لِدَوَابِّهِ وَغَنَمِهِ ، وَمَوْضِعًا يَجْعَلُ فِيهِ أَحْوَاضًا يَسْقِي مِنْهَا مَاشِيَتَهُ ، وَمَوْقِفًا لِدَابَّتِهِ الَّتِي يَسْتَقِي عَلَيْهَا وَأَشْبَاهَ ذَلِكَ ، فَلَا يَخْتَصُّ الْحَرِيمُ بِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِتَرْقِيَةِ الْمَاءِ ، وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي حَنِيفَةَ ، فَحَدِيثُنَا أَصَحُّ مِنْهُ ، وَرَوَاهُمَا أَبُو هُرَيْرَة ، فَيَدُلُّ عَلَى ضَعْفِهِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّ هَذَا الْحَرِيمَ مَمْلُوكٌ لِصَاحِبِ الْبِئْرِ .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ ، وَالْقَاضِي ، لَيْسَ بِمَمْلُوكِ .
وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ هَذَا .
( 4362 ) فَصْلٌ : وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْبِئْرُ فِيهَا مَاءٌ ، وَإِنْ لَمْ يَصِلْ إلَى الْمَاءِ ، فَهُوَ كَالْمُتَحَجِّرِ الشَّارِعِ فِي

الْإِحْيَاءِ ، عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ وَيَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ فِي الْبِئْرِ الْعَادِيَّةِ عَلَى الْبِئْرِ الَّتِي انطمت وَذَهَبَ مَاؤُهَا ، فَجَدَّدَ حَفْرَهَا وَعِمَارَتَهَا ، أَوْ انْقَطَعَ مَاؤُهَا ، فَاسْتَخْرَجَهُ ، لِيَكُونَ ذَلِكَ إحْيَاءً لَهَا .
وَأَمَّا الْبِئْرُ الَّتِي لَهَا مَاءٌ يَنْتَفِعُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ احْتِجَارُهُ وَمَنْعُهُ ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْمَعَادِنِ الظَّاهِرَةِ ، الَّتِي يَرْتَفِقُ بِهَا النَّاسُ ، وَهَكَذَا الْعُيُونُ النَّابِعَةُ ، لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْتَصَّ بِهَا .
وَلَوْ حَفَرَ رَجُلٌ بِئْرًا لِلْمُسْلِمِينَ يَنْتَفِعُونَ بِهَا ، أَوْ لِيَنْتَفِعَ هُوَ بِهَا مُدَّةَ إقَامَتِهِ عِنْدَهَا ثُمَّ يَتْرُكَهَا ، لَمْ يَمْلِكْهَا ، وَكَانَ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهَا .
فَإِذَا تَرَكَهَا صَارَتْ لِلْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ ، كَالْمَعَادِنِ الظَّاهِرَةِ ، وَمَا دَامَ مُقِيمًا عِنْدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا ؛ لِأَنَّهُ سَابِقٌ إلَيْهَا ، فَهُوَ كَالْمُتَحَجِّرِ الشَّارِعِ فِي الْإِحْيَاءِ .

( 4363 ) فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ لَإِنْسَانٍ شَجَرَةٌ فِي مَوَاتٍ ، فَلَهُ حَرِيمُهَا قَدْرَ مَا تَمُدُّ إلَيْهِ أَغْصَانُهَا حَوَالَيْهَا ، وَفِي النَّخْلَةِ مَدُّ جَرِيدِهَا ؛ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ ، قَالَ : { اُخْتُصِمَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَرِيمِ نَخْلَةٍ ، فَأَمَرَ بِجَرِيدَةٍ مِنْ جَرَائِدِهَا فَذُرِعَتْ ، فَكَانَتْ سَبْعَةَ أَذْرُعٍ أَوْ خَمْسَةَ أَذْرُعٍ ، فَقَضَى بِذَلِكَ } .
وَإِنْ غَرَسَ شَجَرَةً فِي مَوَاتٍ ، فَهِيَ لَهُ وَحَرِيمُهَا .
وَإِنْ سَبَقَ إلَى شَجَرٍ مُبَاحٍ ، كَالزَّيْتُونِ وَالْخَرُّوبِ ، فَسَقَاهُ وَأَصْلَحَهُ ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ ، كَالْمُتَحَجِّرِ الشَّارِعِ فِي الْإِحْيَاءِ ، فَإِنْ طَعِمَهُ مَلَكَهُ بِذَلِكَ وَحَرِيمَهُ ؛ لِأَنَّهُ تَهَيَّأَ لِلِانْتِفَاعِ بِهِ لِمَا يُرَادُ مِنْهُ ، فَهُوَ كَسَوْقِ الْمَاءِ إلَى الْأَرْضِ الْمَوَاتِ .
وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ سَبَقَ إلَى مَا لَمْ يَسْبِقْ إلَيْهِ مُسْلِمٌ ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ } .

( 4364 ) فَصْلٌ : وَمَنْ كَانَتْ لَهُ بِئْرٌ فِيهَا مَاءٌ ، فَحَفَرَ آخَرُ قَرِيبًا مِنْهَا بِئْرًا يَنْسَرِقُ إلَيْهَا مَاءُ الْبِئْرِ الْأُولَى ، فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ، سَوَاءٌ كَانَ مُحْتَفِرُ الثَّانِيَةِ فِي مِلْكِهِ ، مِثْلُ رَجُلَيْنِ مُتَجَاوِرَيْنِ فِي دَارَيْنِ ، حَفَرَ أَحَدُهُمَا فِي دَارِهِ بِئْرًا ، ثُمَّ حَفَرَ الْآخَرُ بِئْرًا أَعْمَقَ مِنْهَا ، فَسَرَى إلَيْهَا مَاءُ الْأُولَى ، أَوْ كَانَتَا فِي مَوَاتٍ ، فَسَبَقَ أَحَدُهُمَا ، فَحَفَرَ بِئْرًا ، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَحَفَرَ قَرِيبًا مِنْهَا بِئْرًا تَجْتَذِبُ مَاءَ الْأُولَى .
وَوَافَقَ الشَّافِعِيُّ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَبْتَدِئَ مِلْكَهُ عَلَى وَجْهٍ يَضُرُّ بِالْمَالِكِ قَبْلَهُ .
وَقَالَ فِي الْأُولَى : لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ مُبَاحٌ فِي مِلْكِهِ ، فَجَازَ لَهُ فِعْلُهُ ، كَتَعْلِيَةِ دَارِهِ وَهَكَذَا الْخِلَافُ فِي كُلِّ مَا يُحْدِثُهُ الْجَارُ مِمَّا يَضُرُّ بِجَارِهِ ، مِثْلُ أَنْ يَجْعَلَ دَارِهِ مَدْبَغَةً ، أَوْ حَمَّامًا يَضُرُّ بِعَقَارِ جَارِهِ بِحَمْيِ نَارِهِ وَرَمَادِهِ وَدُخَانِهِ ، أَوْ يَحْفِرَ فِي أَصْلِ حَائِطِهِ حَشًّا يَتَأَذَّى جَارُهُ بِرَائِحَتِهِ وَغَيْرِهَا ، أَوْ يَجْعَلَ دَارِهِ مَخْبِزًا فِي وَسَطِ الْعَطَّارِينَ وَنَحْوِهِ ، مِمَّا يُؤْذِي جِيرَانَهُ ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَهُ ذَلِكَ كُلُّهُ ، لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ مُبَاحٌ فِي مِلْكِهِ ، أَشْبَهَ بِنَاءَهُ وَنَقْضَهُ .
وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ } .
وَلِأَنَّهُ إحْدَاثُ ضَرَرٍ بِجَارِهِ ، فَلَمْ يَجُزْ ، كَالدَّقِّ الَّذِي يَهُزُّ الْحِيطَانَ وَيُخَرِّبُهَا ، وَكَإِلْقَاءِ السَّمَادِ وَالتُّرَابِ وَنَحْوِهِ فِي أَصْلِ حَائِطِهِ عَلَى وَجْهٍ يَضُرُّ بِهِ وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ مَصْنَعُ مَاءٍ ، فَأَرَادَ جَارُهُ غَرْسَ شَجَرَةِ تِينٍ قَرِيبًا مِنْهُ أَوْ نَحْوِهَا مِمَّا تَسْرِي عُرُوقُهُ فَتَشُقُّ حَائِطَ مَصْنَعِ جَارِهِ ، وَيُتْلِفُهُ ، لَمْ يَمْلِكْ ذَلِكَ ، وَكَانَ لِجَارِهِ مَنْعُهُ وَقَلْعُهَا إنْ غَرَسَهَا .
وَلَوْ كَانَ هَذَا الَّذِي يَحْصُلُ مِنْهُ الضَّرَرُ

سَابِقًا ، مِثْلُ مَنْ لَهُ فِي مِلْكِهِ مَدْبَغَةٌ أَوْ مُقَصِّرَة ، فَأَحْيَا إنْسَانٌ إلَى جَانِبِهِ مَوَاتًا ، وَبَنَاهُ دَارًا ، يَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ ، لَمْ يَلْزَمْ إزَالَةُ الضَّرَرِ ، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُحْدِثْ ضَرَرًا .
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

( 4365 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مَا أَحْيَاهُ ، أَوْ سَبَقَ إلَيْهِ بِإِذْنِ الْإِمَامِ ، أَوْ غَيْرِ إذْنِهِ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ ، أَنَّ إحْيَاءَ الْمَوَاتِ لَا يَفْتَقِرُ إلَى إذْنِ الْإِمَامِ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٌ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَفْتَقِرُ إلَى إذْنِهِ ؛ لِأَنَّ لِلْإِمَامِ مَدْخَلًا فِي النَّظَرِ فِي ذَلِكَ ، بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ تَحَجَّرَ مَوَاتًا فَلَمْ يُحْيِهِ ، فَإِنَّهُ يُطَالِبُهُ بِالْإِحْيَاءِ أَوْ التَّرْكِ ، فَافْتَقَرَ إلَى إذْنِهِ ، كَمَالِ بَيْتِ الْمَالِ وَلَنَا عُمُومُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً ، فَهِيَ لَهُ } .
وَلِأَنَّ هَذَا عَيْنٌ مُبَاحَةٌ ، فَلَا يَفْتَقِرُ تَمَلُّكُهَا إلَى إذْنِ الْإِمَامِ ، كَأَخْذِ الْحَشِيشِ وَالْحَطَبِ ، وَنَظَرُ الْإِمَامِ فِي ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ إذْنِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ وَقَفَ فِي مُشَرَّعَةٍ ، طَالَبَهُ الْإِمَامُ أَنْ يَأْخُذَ حَاجَتَهُ وَيَنْصَرِفَ ، وَلَا يَفْتَقِرُ ذَلِكَ إلَيَّ إذْنِهِ .
وَأَمَّا مَالُ بَيْتِ الْمَالِ ، فَإِنَّمَا هُوَ مَمْلُوكٌ لِلْمُسْلِمِينَ ، وَلِلْإِمَامِ تَرْتِيبُ مَصَارِفِهِ فَافْتَقَرَ إلَى إذْنِهِ ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا ، فَإِنَّ هَذَا مُبَاحٌ ، فَمَنْ سَبَقَ إلَيْهِ كَانَ أَحَقَّ النَّاسِ بِهِ ، كَالْحَشِيشِ وَالْحَطَبِ وَالصُّيُودِ وَالثِّمَارِ الْمُبَاحَةِ فِي الْجِبَالِ .

( 4366 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا مَا سَبَقَ إلَيْهِ ، فَهُوَ الْمَوَاتُ إذَا سَبَقَ إلَيْهِ فَتَحَجَّرَهُ كَانَ أَحَقَّ ، وَإِنْ سَبَقَ إلَى بِئْرٍ عَادِيَّةٍ ، فَشَرَعَ فِيهَا يُعَمِّرُهَا ، كَانَ أَحَقَّ بِهَا .
وَمَنْ سَبَقَ إلَى مَقَاعِدِ الْأَسْوَاقِ وَالطُّرُقَاتِ ، أَوْ مَشَارِعِ الْمِيَاهِ وَالْمَعَادِنِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ ، وَكُلِّ مُبَاحٍ مِثْلِ الْحَشِيشِ وَالْحَطَبِ وَالثِّمَارِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ الْجِبَالِ ، وَمَا يَنْبِذُهُ النَّاسُ رَغْبَةً عَنْهُ ، أَوْ يَضِيعُ مِنْهُمْ مِمَّا لَا تَتْبَعُهُ النَّفْسُ ، وَاللُّقَطَةِ وَاللَّقِيطِ ، وَمَا يَسْقُطُ مِنْ الثَّلْجِ وَسَائِرِ الْمُبَاحَاتِ ، مَنْ سَبَقَ إلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَا ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى إذْنِ الْإِمَامِ ، وَلَا إذْنِ غَيْرِهِ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ سَبَقَ إلَى مَا لَمْ يَسْبِقْ إلَيْهِ مُسْلِمٌ ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ } .

كِتَابُ الْوُقُوفِ وَالْعَطَايَا الْوُقُوفُ : جَمْعُ وَقْفٍ ، يُقَالُ مِنْهُ : وَقَفْت وَقْفًا .
وَلَا يُقَالُ : أَوْقَفْت .
إلَّا فِي شَاذِّ اللُّغَةِ ، وَيُقَالُ : حَبَسْت وَأَحْبَسْت .
وَبِهِ جَاءَ الْحَدِيثُ : { إنْ شِئْت حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْت بِهَا } .
وَالْعَطَايَا : جَمْعُ عَطِيَّةٍ ، مِثْلُ خَلِيَّةٍ وَخَلَايَا ، وَبَلِيَّةٍ وَبَلَايَا .
وَالْوَقْفُ مُسْتَحَبٌّ .
وَمَعْنَاهُ : تَحْبِيسُ الْأَصْلِ ، وَتَسْبِيلُ الثَّمَرَةِ وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ ، قَالَ : { أَصَابَ عُمَرُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَأْمِرُهُ فِيهَا فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنِّي أَصَبْت أَرْضًا بِخَيْبَرَ ، لَمْ أُصِبْ قَطُّ مَالًا أَنْفَسَ عِنْدِي مِنْهُ ، فَمَا تَأْمُرُنِي فِيهَا ؟ فَقَالَ : إنْ شِئْت حَبَسْتَ أَصْلَهَا ، وَتَصَدَّقْت بِهَا ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُبَاعُ أَصْلُهَا ، وَلَا يُبْتَاعُ ، وَلَا يُوهَبُ ، وَلَا يُورَثُ .
قَالَ : فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ فِي الْفُقَرَاءِ ، وَذَوِي الْقُرْبَى ، وَالرِّقَابِ ، وَابْنِ السَّبِيلِ ، وَالضَّيْفِ ، لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا ، أَوْ يُطْعِمَ صَدِيقًا بِالْمَعْرُوفِ ، غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ فِيهِ ، أَوْ غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ ، انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ : صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْ بَعْدِهِ ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ } .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ السَّلَفِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ عَلَى الْقَوْلِ بِصِحَّةِ الْوَقْفِ قَالَ جَابِرٌ : لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذُو مَقْدِرَةٍ إلَّا وَقَفَ .
وَلَمْ يَرَ شُرَيْحٌ الْوَقْفَ ، وَقَالَ : لَا حَبْسَ عَنْ فَرَائِضِ اللَّهِ .
قَالَ أَحْمَدُ : وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ الْكُوفَةِ .
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى أَنَّ الْوَقْفَ لَا يَلْزَمُ بِمُجَرَّدِهِ ، وَلِلْوَاقِفِ الرُّجُوعُ فِيهِ ، إلَّا أَنْ يُوصِيَ

بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ ، فَيَلْزَمُ ، أَوْ يَحْكُمَ بِلُزُومِهِ حَاكِمٌ وَحَكَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ عَلِيٍّ ، وَابْنِ مَسْعُودٍ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ .
وَخَالَفَهُ صَاحِبَاه ، فَقَالَا كَقَوْلِ سَائِرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِمَا رُوِيَ { أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ ، صَاحِبَ الْأَذَانِ ، جَعَلَ حَائِطَهُ صَدَقَةً ، وَجَعَلَهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ أَبَوَاهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لَمْ يَكُنْ لَنَا عَيْشٌ إلَّا هَذَا الْحَائِطَ .
فَرَدَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ مَاتَا ، فَوَرِثَهُمَا } .
رَوَاهُ الْمَحَامِلِيُّ فِي " أَمَالِيهِ " ، وَلِأَنَّهُ أَخْرَجَ مَالَهُ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ مِنْ مِلْكِهِ ، فَلَمْ يَلْزَمْ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ ، كَالصَّدَقَةِ وَهَذَا الْقَوْلُ يُخَالِفُ السُّنَّةَ الثَّابِتَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، { فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعُمَرَ فِي وَقْفِهِ : لَا يُبَاعُ أَصْلُهَا ، وَلَا يُبْتَاعُ ، وَلَا يُوهَبُ ، وَلَا يُورَثُ } .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : الْعَمَلُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ عَنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِمْ ، لَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا .
قَالَ الْحُمَيْدِيُّ : تَصَدَّقَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِدَارِهِ عَلَى وَلَدِهِ ، وَعُمَرُ بِرَبْعِهِ عِنْدَ الْمَرْوَةِ عَلَى وَلَدِهِ وَعُثْمَانُ بِرُومَةَ ، وَتَصَدَّقَ عَلِيٌّ بِأَرْضِهِ بِيَنْبُعَ ، وَتَصَدَّقَ الزُّبَيْرُ بِدَارِهِ بِمَكَّةَ وَدَارِهِ بِمِصْرَ وَأَمْوَالِهِ بِالْمَدِينَةِ عَلَى وَلَدِهِ ، وَتَصَدَّقَ سَعْدٌ بِدَارِهِ بِالْمَدِينَةِ وَدَارِهِ بِمِصْرَ عَلَى وَلَدِهِ ، وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ بِالْوَهْطِ وَدَارِهِ بِمَكَّةَ عَلَى وَلَدِهِ ، وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ بِدَارِهِ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ عَلَى وَلَدِهِ ، فَذَلِكَ كُلُّهُ إلَى الْيَوْمِ .
وَقَالَ جَابِرٌ : لَمْ يَكُنْ

أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذُو مَقْدِرَةٍ إلَّا وَقَفَ .
وَهَذَا إجْمَاعٌ مِنْهُمْ ، فَإِنَّ الَّذِي قَدَرَ مِنْهُمْ عَلَى الْوَقْفِ وَقَفَ ، وَاشْتَهَرَ ذَلِكَ ، فَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ ، فَكَانَ إجْمَاعًا ، وَلِأَنَّهُ إزَالَةُ مِلْكٍ يَلْزَمُ بِالْوَصِيَّةِ ، فَإِذَا نَجَزَهُ حَالَ الْحَيَاةِ لَزِمَ مِنْ غَيْرِ حُكْمٍ ، كَالْعِتْقِ .
وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ إنْ ثَبَتَ ، فَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْوَقْفِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ جَعَلَهُ صَدَقَةً غَيْرَ مَوْقُوفٍ ، اسْتَنَابَ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَأَى وَالِدَيْهِ أَحَقَّ النَّاسِ بِصَرْفِهَا إلَيْهِمَا ، وَلِهَذَا لَمْ يَرُدَّهَا عَلَيْهِ ، إنَّمَا دَفَعَهَا إلَيْهِمَا .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْحَائِطَ كَانَ لَهُمَا ، وَكَانَ هُوَ يَتَصَرَّفُ فِيهِ بِحُكْمِ النِّيَابَةِ عَنْهُمَا ، فَتَصَرَّفَ بِهَذَا التَّصَرُّفِ بِغَيْرِ إذْنِهِمَا ، فَلَمْ يُنَفِّذَاهُ ، وَأَتَيَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَدَّهُ إلَيْهِمَا .
وَالْقِيَاسُ عَلَى الصَّدَقَةِ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهَا تَلْزَمُ فِي الْحَيَاةِ بِغَيْرِ حُكْمِ حَاكِمٍ ، وَإِنَّمَا تَفْتَقِرُ إلَى الْقَبْضِ ، وَالْوَقْفُ لَا يَفْتَقِرُ إلَيْهِ ، فَافْتَرَقَا .

( 4367 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ ، رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ : ( وَمَنْ وَقَفَ فِي صِحَّةٍ مِنْ عَقْلِهِ وَبَدَنِهِ ، عَلَى قَوْمٍ وَأَوْلَادِهِمْ وَعَقِبِهِمْ ثُمَّ آخِرُهُ لِلْمَسَاكِينِ ، فَقَدْ زَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ ) .
( 4368 ) فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة فُصُولٌ ثَلَاثَةٌ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْوَقْفَ إذَا صَحَّ ، زَالَ بِهِ مِلْكُ الْوَاقِفِ عَنْهُ ، فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ .
وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ، وَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَعَنْ أَحْمَدَ : لَا يَزُولُ مِلْكُهُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، وَحُكِيَ قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { احْبِسْ الْأَصْلَ ، وَسَبِّلْ الثَّمَرَةَ } .
وَلَنَا أَنَّهُ سَبَبٌ يُزِيلُ التَّصَرُّفَ فِي الرَّقَبَةِ وَالْمَنْفَعَةِ ، فَأَزَالَ الْمِلْكَ ، كَالْعِتْقِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِلْكَهُ لَرَجَعَتْ إلَيْهِ قِيمَتُهُ ، كَالْمِلْكِ الْمُطْلَقِ ، وَأَمَّا الْخَبَرُ ، فَالْمُرَادُ بِهِ أَنْ يَكُونَ مَحْبُوسًا ، لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ .
وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ أَنَّا إذَا حَكَمْنَا بِبَقَاءِ مِلْكِهِ ، لَزِمَتْهُ مُرَاعَاتُهُ ، وَالْخُصُومَةُ فِيهِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَلْزَمَهُ أَرْشُ جِنَايَتِهِ ، كَمَا يَفْدِي أُمَّ الْوَلَدِ سَيِّدُهَا لَمَّا تَعَذَّرَ تَسْلِيمُهُ ، بِخِلَافِ غَيْرِ الْمَالِكِ .

( 4369 ) الْفَصْلُ الثَّانِي : أَنَّ ظَاهِرَ هَذَا الْكَلَامِ ، أَنَّهُ يَزُولُ الْمِلْكُ ، وَيَلْزَمُ الْوَقْفُ بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ يَحْصُلُ بِهِ .
وَعَنْ أَحْمَدَ ، رَحِمَهُ اللَّهُ ، رِوَايَةٌ أُخْرَى ، لَا يَلْزَمُ إلَّا بِالْقَبْضِ ، وَإِخْرَاجِ الْوَاقِفِ لَهُ عَنْ يَدِهِ .
وَقَالَ : الْوَقْفُ الْمَعْرُوفُ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ يَدِهِ إلَى غَيْرِهِ ، وَيُوَكِّلَ فِيهِ مَنْ يَقُومُ بِهِ .
اخْتَارَهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ بِمَالٍ لَمْ يُخْرِجْهُ عَنْ الْمَالِيَّةِ ، فَلَمْ يَلْزَمْ بِمُجَرَّدِهِ ، كَالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَلَنَا مَا رَوَيْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ ، وَلِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ يَمْنَعُ الْبَيْعَ وَالْهِبَةَ وَالْمِيرَاثَ ، فَلَزِمَ بِمُجَرَّدِهِ ، كَالْعِتْقِ ، وَيُفَارِقُ الْهِبَةَ ؛ فَإِنَّهَا تَمْلِيكٌ مُطْلَقٌ ، وَالْوَقْفُ تَحْبِيسُ الْأَصْلِ وَتَسْبِيلُ الْمَنْفَعَةِ ، فَهُوَ بِالْعِتْقِ أَشْبَهُ ، فَإِلْحَاقُهُ بِهِ أَوْلَى .

( 4370 ) الْفَصْلُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى الْقَبُولِ مِنْ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ .
ذَكَرَهُ الْقَاضِي .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : إنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ ، كَالْمَسَاكِينِ ، أَوْ مَنْ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْقَبُولُ كَالْمَسَاجِدِ وَالْقَنَاطِرِ ، لَمْ يَفْتَقِرْ إلَى قَبُولٍ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى آدَمِيٍّ مُعَيَّنٍ ، فَفِي اشْتِرَاطِ الْقَبُولِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا اشْتِرَاطُهُ ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ لِآدَمِي مُعَيَّنٍ ، فَكَانَ مِنْ شَرْطِهِ الْقَبُولُ ، كَالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ ، يُحَقِّقُهُ أَنَّ الْوَصِيَّةَ إنْ كَانَتْ لِآدَمِيٍّ مُعَيَّنٍ ، وُقِفَتْ عَلَى قَبُولِهِ ، وَإِذَا كَانَتْ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ أَوْ لِمَسْجِدٍ أَوْ نَحْوِهِ ، لَمْ تَفْتَقِرْ إلَى قَبُولٍ ، كَذَا هَاهُنَا وَالْوَجْهُ الثَّانِي لَا يُشْتَرَطُ الْقَبُولُ ؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيْ الْوَقْفِ ، فَلَمْ يُشْتَرَطْ لَهُ الْقَبُولُ ، كَالنَّوْعِ الْآخَرِ ، وَلِأَنَّهُ إزَالَةُ مِلْكٍ يَمْنَعُ الْبَيْعَ وَالْهِبَةَ وَالْمِيرَاثَ ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ الْقَبُولُ ، كَالْعِتْقِ ، وَبِهَذَا فَارَقَ الْهِبَةَ وَالْوَصِيَّةَ .
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ ، أَنَّ الْوَقْفَ لَا يَخْتَصُّ الْمُعَيَّنَ ، بَلْ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ مِنْ يَأْتِي مِنْ الْبُطُونِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، فَيَكُونُ الْوَقْفُ عَلَى جَمِيعِهِمْ ، إلَّا أَنَّهُ مُرَتَّبٌ ، فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْوَقْفِ عَلَى الْفُقَرَاءِ الَّذِي لَا يَبْطُلُ بِرَدِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ، وَلَا يَقِفُ عَلَى قَبُولِهِ ، وَالْوَصِيَّةُ لِلْمُعَيَّنِ بِخِلَافِهِ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فَإِذَا قُلْنَا : لَا يَفْتَقِرُ إلَى الْقَبُولِ .
لَمْ يَبْطُلْ بِرَدِّهِ ، وَكَانَ رَدُّهُ وَقَبُولُهُ وَعَدَمُهُمَا وَاحِدًا ، كَالْعِتْقِ .
وَإِنْ قُلْنَا : يَفْتَقِرُ إلَى الْقَبُولِ .
فَرَدَّهُ مَنْ وُقِفَ عَلَيْهِ ، بَطَلَ فِي حَقِّهِ ، وَصَارَ كَالْوَقْفِ الْمُنْقَطِعِ الِابْتِدَاءِ .
يُخَرَّجُ فِي صِحَّتِهِ فِي حَقِّ مَنْ سِوَاهُ وَبُطْلَانِهِ وَجْهَانِ ، بِنَاءً عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ .
فَإِنْ قُلْنَا بِصِحَّتِهِ ، فَهَلْ يَنْتَقِلُ فِي الْحَالِ إلَى مَنْ بَعْدَهُ ، أَوْ

يُصْرَفُ فِي الْحَالِ إلَى مَصْرِفٍ فِي الْوَقْفِ الْمُنْقَطِعِ إلَى أَنْ يَمُوتَ الَّذِي رَدَّهُ ، ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلَى مَنْ بَعْدَهُ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ .
وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ فِي الْوَقْفِ الْمُنْقَطِعِ الِابْتِدَاءِ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

( 4371 ) فَصْلٌ : وَيَنْتَقِلُ الْمِلْكُ فِي الْمَوْقُوفِ إلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ ، فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ .
قَالَ أَحْمَدُ : إذَا وَقَفَ دَارِهِ عَلَى وَلَدِ أَخِيهِ ، صَارَتْ لَهُمْ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ مَلَكُوهُ ، وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهُ لَا يُمْلَكُ ، فَإِنَّ جَمَاعَةً نَقَلُوا عَنْهُ ، فِي مَنْ وَقَفَ عَلَى وَرَثَتِهِ فِي مَرَضِهِ : يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُبَاعُ وَلَا يُورَثُ ، وَلَا يَصِيرُ مِلْكًا لِلْوَرَثَةِ ، وَإِنَّمَا يَنْتَفِعُونَ بِغَلَّتِهَا .
وَهَذَا يَدُلُّ بِظَاهِرِهِ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ لَا يَمْلِكُونَ ، أَنْ لَا يَمْلِكُونَ التَّصَرُّفَ فِي الرَّقَبَةِ ، فَإِنَّ فَائِدَةَ الْمِلْكِ وَآثَارَهُ ثَابِتَةٌ فِي الْوَقْفِ .
وَعَنْ الشَّافِعِيِّ مِنْ الِاخْتِلَافِ نَحْوُ مَا حَكَيْنَاهُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَنْتَقِلُ الْمِلْكُ فِي الْوَقْفِ اللَّازِمِ ، بَلْ يَكُونُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى ؛ لِأَنَّهُ إزَالَةُ مِلْكٍ عَنْ الْعَيْنِ وَالْمَنْفَعَةِ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ ، بِتَمْلِيكِ الْمَنْفَعَةِ ، فَانْتَقَلَ الْمِلْكُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى ، كَالْعِتْقِ .
وَلَنَا أَنَّهُ سَبَبٌ يُزِيلُ مِلْكَ الْوَاقِفِ ، وُجِدَ إلَى مَنْ يَصِحُّ تَمْلِيكُهُ عَلَى وَجْهٍ لَمْ يُخْرِجْ الْمَالَ عَنْ مَالِيَّتِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يُنْقَلَ الْمِلْكُ إلَيْهِ ، كَالْهِبَةِ ، وَالْبَيْعِ .
وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ تَمْلِيكَ الْمَنْفَعَةِ الْمُجَرَّدَةِ لَمْ يَلْزَمْ كَالْعَارِيَّةِ وَالسُّكْنَى ، وَلَمْ يَزُلْ مِلْكُ الْوَاقِفِ عَنْهُ كَالْعَارِيَّةِ ، وَيُفَارِقُ الْعِتْقَ ، فَإِنَّهُ أَخْرَجَهُ عَنْ الْمَالِيَّةِ ، وَامْتِنَاعُ التَّصَرُّفِ فِي الرَّقَبَةِ لَا يَمْنَعُ الْمِلْكَ ، كَأُمِّ الْوَلَدِ .

( 4372 ) فَصْلٌ : وَأَلْفَاظُ الْوَقْفِ سِتَّةٌ ، ثَلَاثَةٌ صَرِيحَةٌ ، وَثَلَاثَةٌ كِنَايَةٌ ، فَالصَّرِيحَةُ : وَقَفْت ، وَحَبَسْت ، وَسَبَّلْت .
مَتَى أَتَى بِوَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثِ ، صَارَ وَقْفًا مِنْ غَيْرِ انْضِمَامِ أَمْرٍ زَائِدٍ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ ثَبَتَ لَهَا عُرْفُ الِاسْتِعْمَالِ بَيْنَ النَّاسِ ، وَانْضَمَّ إلَى ذَلِكَ عُرْفُ الشَّرْعِ ، بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ : { إنْ شِئْت حَبَسْت أَصْلَهَا ، وَسَبَّلْت ثَمَرَتَهَا } .
فَصَارَتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ فِي الْوَقْفِ كَلَفْظِ التَّطْلِيقِ فِي الطَّلَاقِ وَأَمَّا الْكِنَايَةُ فَهِيَ : تَصَدَّقْت ، وَحَرَّمْت ، وَأَبَّدْت .
فَلَيْسَتْ صَرِيحَةً ؛ لِأَنَّ لَفْظَةَ الصَّدَقَةِ وَالتَّحْرِيمِ مُشْتَرَكَةٌ ، فَإِنَّ الصَّدَقَةَ تُسْتَعْمَلُ فِي الزَّكَاةِ وَالْهِبَاتِ ، وَالتَّحْرِيمَ يُسْتَعْمَلُ فِي الظِّهَارِ وَالْأَيْمَانِ ، وَيَكُونُ تَحْرِيمًا عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى غَيْرِهِ ، وَالتَّأْبِيدُ يَحْتَمِلُ تَأْبِيدَ التَّحْرِيمِ ، وَتَأْبِيدَ الْوَقْفِ ، وَلَمْ يَثْبُتْ لِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ عُرْفُ الِاسْتِعْمَالِ ، فَلَا يَحْصُلُ الْوَقْفُ بِمُجَرَّدِهَا ، كَكِنَايَاتِ الطَّلَاقِ فِيهِ .
فَإِنْ انْضَمَّ إلَيْهَا أَحَدُ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ ، حَصَلَ الْوَقْفُ بِهَا أَحَدُهَا أَنْ يَنْضَمَّ إلَيْهَا لَفْظَةٌ أُخْرَى تُخَلِّصُهَا مِنْ الْأَلْفَاظِ الْخَمْسَةِ ، فَيَقُولُ : صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ ، أَوْ مُحَبَّسَةٌ ، أَوْ مُسَبَّلَةٌ ، أَوْ مُحَرَّمَةٌ ، أَوْ مُؤَبَّدَةٌ أَوْ يَقُولُ : هَذِهِ مُحَرَّمَةٌ مَوْقُوفَةٌ ، أَوْ مُحَبَّسَةٌ ، أَوْ مُسَبَّلَةٌ ، أَوْ مُؤَبَّدَةٌ .
الثَّانِي أَنْ يَصِفَهَا بِصِفَاتِ الْوَقْفِ ، فَيَقُولَ : صَدَقَةٌ لَا تُبَاعُ ، وَلَا تُوهَبُ ، وَلَا تُورَثُ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْقَرِينَةَ تُزِيلُ الِاشْتِرَاكَ .
الثَّالِثُ ، أَنْ يَنْوِيَ الْوَقْفَ ، فَيَكُونَ عَلَى مَا نَوَى ، إلَّا أَنَّ النِّيَّةَ تَجْعَلُهُ وَقْفًا فِي الْبَاطِنِ دُونَ الظَّاهِرِ ، لِعَدَمِ الِاطِّلَاعِ عَلَى مَا فِي الضَّمَائِرِ ، فَإِنْ اعْتَرَفَ بِمَا نَوَاهُ ، لَزِمَ فِي الْحُكْمِ ؛ لِظُهُورِهِ ، وَإِنْ قَالَ : مَا أَرَدْت الْوَقْفَ .
فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ

، لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِمَا نَوَى .

( 4373 ) فَصْلٌ : وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ أَنَّ الْوَقْفَ يَحْصُلُ بِالْفِعْلِ مَعَ الْقَرَائِنِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ ، مِثْلُ أَنْ يَبْنِيَ مَسْجِدًا ، وَيَأْذَنَ لِلنَّاسِ فِي الصَّلَاةِ فِيهِ ، أَوْ مَقْبَرَةً ، وَيَأْذَنَ فِي الدَّفْنِ فِيهَا ، أَوْ سِقَايَةً ، وَيَأْذَنَ فِي دُخُولِهَا ، فَإِنَّهُ قَالَ : فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد ، وَأَبِي طَالِبٍ ، فِي مَنْ أَدْخَلَ بَيْتًا فِي الْمَسْجِدِ وَأَذِنَ فِيهِ ، لَمْ يَرْجِعْ فِيهِ .
وَكَذَلِكَ إذَا اتَّخَذَ الْمَقَابِرَ وَأَذِنَ لِلنَّاسِ ، وَالسِّقَايَةَ ، فَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَذَكَرَ الْقَاضِي فِيهِ رِوَايَةً أُخْرَى ، أَنَّهُ لَا يَصِيرُ وَقْفًا إلَّا بِالْقَوْلِ وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَأَخَذَهُ الْقَاضِي مِنْ قَوْلِ أَحْمَدَ ، إذْ سَأَلَهُ الْأَثْرَمُ عَنْ رَجُلٍ أَحَاطَ حَائِطًا عَلَى أَرْضٍ ، لِيَجْعَلَهَا مَقْبَرَةً ، وَنَوَى بِقَلْبِهِ ، ثُمَّ بَدَا لَهُ الْعَوْدُ ؟ فَقَالَ : إنْ كَانَ جَعَلَهَا لِلَّهِ ، فَلَا يَرْجِعْ .
وَهَذَا لَا يُنَافِي الرِّوَايَةَ الْأُولَى ، فَإِنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ : إنْ كَانَ جَعَلَهَا لِلَّهِ أَيْ نَوَى بِتَحْوِيطِهَا جَعْلَهَا لِلَّهِ .
فَهَذَا تَأْكِيدٌ لِلرِّوَايَةِ الْأُولَى ، وَزِيَادَةٌ عَلَيْهَا ، إذْ مَنَعَهُ مِنْ الرُّجُوعِ بِمُجَرَّدِ التَّحْوِيطِ مَعَ النِّيَّةِ .
وَإِنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ : جَعَلَهَا لِلَّهِ أَيْ : اقْتَرَنَتْ بِفِعْلِهِ قَرَائِنُ دَالَّةٌ عَلَى إرَادَةِ ذَلِكَ ، مِنْ إذْنِهِ لِلنَّاسِ فِي الدَّفْنِ فِيهَا ، فَهِيَ الرِّوَايَةُ الْأُولَى بِعَيْنِهَا ، وَإِنْ أَرَادَ وَقْفًا بِلِسَانِهِ ، فَيَدُلُّ بِمَفْهُومِهِ عَلَى أَنَّ الْوَقْفَ لَا يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ التَّحْوِيطِ وَالنِّيَّةِ ، وَهَذَا لَا يُنَافِي الرِّوَايَةَ الْأُولَى ؛ لِأَنَّهُ فِي الْأُولَى انْضَمَّ إلَى فِعْلِهِ إذْنُهُ لِلنَّاسِ فِي الدَّفْنِ ، وَلَمْ يُوجَدْ هَاهُنَا ، فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا ، ثُمَّ لَمْ يُعْلَمْ مُرَادُهُ مِنْ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ ، فَانْتَفَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ ، وَصَارَ الْمَذْهَبُ رِوَايَةً وَاحِدَةً .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ هَذَا تَحْبِيسُ أَصْلٍ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ ،

فَوَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ بِدُونِ اللَّفْظِ ، كَالْوَقْفِ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَلَنَا أَنَّ الْعُرْفَ جَارٍ بِذَلِكَ ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى الْوَقْفِ ، فَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ بِهِ ، كَالْقَوْلِ ، وَجَرَى مَجْرَى مَنْ قَدَّمَ إلَى ضَيْفِهِ طَعَامًا ، كَانَ إذْنًا فِي أَكْلِهِ ، وَمَنْ مَلَأَ خَابِيَةَ مَاءٍ عَلَى الطَّرِيقِ ، كَانَ تَسْبِيلًا لَهُ ، وَمَنْ نَثَرَ عَلَى النَّاسِ نِثَارًا ، كَانَ إذْنًا فِي الْتِقَاطِهِ ، وَأُبِيحَ أَخْذُهُ .
وَكَذَلِكَ دُخُولُ الْحَمَّامِ ، وَاسْتِعْمَالُ مَائِهِ مِنْ غَيْرِ إذْنٍ مُبَاحٌ بِدَلَالَةِ الْحَالِ .
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي الْبَيْعِ أَنَّهُ يَصِحُّ بِالْمُعَاطَاةِ مِنْ غَيْرِ لَفْظٍ ، وَكَذَلِكَ الْهِبَةُ وَالْهَدِيَّةُ ، لِدَلَالَةِ الْحَالِ ، فَكَذَلِكَ هَاهُنَا .
وَأَمَّا الْوَقْفُ عَلَى الْمَسَاكِينِ ، فَلَمْ تَجْرِ بِهِ عَادَةٌ بِغَيْرِ لَفْظٍ ، وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ ، أَوْ دَلَّتْ الْحَالُ عَلَيْهِ ، كَانَ كَمَسْأَلَتِنَا .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( 4374 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ إلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ مَنَافِعِهِ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ وَقَفَ شَيْئًا وَقْفًا صَحِيحًا ، فَقَدْ صَارَتْ مَنَافِعُهُ جَمِيعُهَا لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ ، وَزَالَ عَنْ الْوَاقِفِ مِلْكُهُ ، وَمِلْكُ مَنَافِعِهِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْتَفِعَ بِشَيْءٍ مِنْهَا ، إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ وَقَفَ شَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ ، فَيَدْخُلُ فِي جُمْلَتِهِمْ ، مِثْلُ أَنْ يَقِفَ مَسْجِدًا ، فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ ، أَوْ مَقْبَرَةً فَلَهُ الدَّفْنُ فِيهَا ، أَوْ بِئْرًا لِلْمُسْلِمِينَ ، فَلَهُ أَنْ يَسْتَقِيَ مِنْهَا ، أَوْ سِقَايَةً ، أَوْ شَيْئًا يَعُمُّ الْمُسْلِمِينَ ، فَيَكُونُ كَأَحَدِهِمْ .
لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا كُلِّهِ خِلَافًا .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَبَّلَ بِئْرَ رُومَةَ ، وَكَانَ دَلْوُهُ فِيهَا كَدِلَاءِ الْمُسْلِمِينَ .

( 4375 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ ، فَيَكُونَ لَهُ مِقْدَارُ مَا يَشْتَرِطُ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْوَاقِفَ إذَا اشْتَرَطَ فِي الْوَقْفِ أَنْ يُنْفِقَ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ ، صَحَّ الْوَقْفُ وَالشَّرْطُ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
قَالَ الْأَثْرَمُ : قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : يَشْتَرِطُ فِي الْوَقْفِ أَنِّي أُنْفِقُ عَلَى نَفْسِي وَأَهْلِي مِنْهُ ؟ قَالَ : نَعَمْ .
وَاحْتَجَّ ، قَالَ : سَمِعْت ابْنَ عُيَيْنَةَ ، عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ حُجْرٌ الْمَدَرِيِّ ، أَنَّ { فِي صَدَقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا أَهْلُهُ بِالْمَعْرُوفِ غَيْرِ الْمُنْكَرِ } وَقَالَ الْقَاضِي : يَصِحُّ الْوَقْفُ ، رِوَايَةً وَاحِدَةً ؛ لِأَنَّ أَحْمَدَ نَصَّ عَلَيْهَا فِي رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ .
وَبِذَلِكَ قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ ، وَأَبُو يُوسُفَ ، وَالزُّبَيْرُ ، وَابْنُ سُرَيْجٍ .
وَقَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : لَا يَصِحُّ الْوَقْفُ ؛ لِأَنَّهُ إزَالَةُ الْمِلْكِ ، فَلَمْ يَجُزْ اشْتِرَاطُ نَفْعِهِ لِنَفْسِهِ ، كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ ، وَكَمَا لَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا بِشَرْطِ أَنْ يَخْدِمَهُ ، وَلِأَنَّ مَا يُنْفِقُهُ عَلَى نَفْسِهِ مَجْهُولٌ ، فَلَمْ يَصِحَّ اشْتِرَاطُهُ ، كَمَا لَوْ بَاعَ شَيْئًا وَاشْتَرَطَ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ وَلَنَا الْخَبَرُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، وَلِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا وَقَفَ قَالَ : وَلَا بَأْسَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا ، أَوْ يُطْعِمَ صَدِيقًا ، غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ .
وَكَانَ الْوَقْفُ فِي يَدِهِ إلَى أَنْ مَاتَ .
وَلِأَنَّهُ إذَا وَقَفَ وَقْفًا عَامًّا ، كَالْمَسَاجِدِ ، وَالسِّقَايَاتِ ، وَالرِّبَاطَاتِ ، وَالْمَقَابِرِ ، كَانَ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ ، فَكَذَلِكَ هَاهُنَا .
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَشْتَرِطَ لِنَفْسِهِ الِانْتِفَاعَ بِهِ مُدَّةَ حَيَاتِهِ ، أَوْ مُدَّةً مَعْلُومَةً مُعَيَّنَةً ، وَسَوَاءٌ قَدَّرَ مَا يَأْكُلُ مِنْهُ ، أَوْ أَطْلَقَهُ ؛ فَإِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يُقَدِّرْ مَا يَأْكُلُ الْوَالِي وَيُطْعِمُ

إلَّا بِقَوْلِهِ : بِالْمَعْرُوفِ .
وَفِي حَدِيثِ صَدَقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ شَرَطَ أَنْ يَأْكُلَ أَهْلُهُ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ غَيْرِ الْمُنْكَرِ إلَّا أَنَّهُ إذَا شَرَطَ أَنَّ يَنْتَفِعَ بِهِ مُدَّةً مُعَيَّنَةً .
فَمَاتَ فِيهَا ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِوَرَثَتِهِ ، كَمَا لَوْ بَاعَ دَارًا وَاشْتَرَطَ أَنْ يَسْكُنَهَا سَنَةً ، فَمَاتَ فِي أَثْنَائِهَا .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( 4376 ) فَصْلٌ : وَإِنْ شَرَطَ أَنْ يَأْكُلَ أَهْلُهُ مِنْهُ ، صَحَّ الْوَقْفُ وَالشَّرْطُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرَطَ ذَلِكَ فِي صَدَقَتِهِ .
وَإِنْ اشْتَرَطَ أَنْ يَأْكُلَ مَنْ وَلِيَهُ مِنْهُ ، وَيُطْعِمَ صَدِيقًا جَازَ ؛ لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شَرَطَ ذَلِكَ فِي صَدَقَتِهِ ، الَّتِي اسْتَشَارَ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ وَلِيَهَا الْوَاقِفُ ، كَانَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ وَيُطْعِمَ صَدِيقًا ؛ لِأَنَّ عُمَرَ وَلِي صَدَقَتَهُ وَإِنْ وَلِيَهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ ، كَانَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ حَفْصَةَ بِنْتَ عُمَرَ كَانَتْ تَلِي صَدَقَتَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ ، ثُمَّ وَلِيَهَا بَعْدَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ .

( 4377 ) فَصْلٌ : وَإِنْ شَرَطَ أَنْ يَبِيعَهُ مَتَى شَاءَ ، أَوْ يَهَبَهُ ، أَوْ يَرْجِعَ فِيهِ ، لَمْ يَصِحَّ الشَّرْطُ ، وَلَا الْوَقْفُ .
لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا ؛ لِأَنَّهُ يُنَافِي مُقْتَضَى الْوَقْفِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَفْسُدَ الشَّرْطُ ، وَيَصِحَّ الْوَقْفُ ، بِنَاءً عَلَى الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فِي الْبَيْعِ .
وَإِنْ شَرَطَ الْخِيَارَ فِي الْوَقْفِ ، فَسَدَ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ ، فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ : يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ ، فَجَازَ شَرْطُ الْخِيَارِ فِيهِ ، كَالْإِجَارَةِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ شَرْطٌ يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ فَلَمْ يَصِحَّ ، كَمَا لَوْ شَرَطَ أَنَّ لَهُ بَيْعَهُ مَتَى شَاءَ ، وَلِأَنَّهُ إزَالَةُ مِلْكٍ لِلَّهِ تَعَالَى ، فَلَمْ يَصِحَّ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِيهِ كَالْعِتْقِ ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِعَقْدِ مُعَاوَضَةٍ ، فَلَمْ يَصِحَّ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِيهِ ، كَالْهِبَةِ .
وَيُفَارِقُ الْإِجَارَةَ ، فَإِنَّهَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ ، وَهِيَ نَوْعٌ مِنْ الْبَيْعِ ، وَلِأَنَّ الْخِيَارَ إذَا دَخَلَ فِي الْعَقْدِ ، مَنَعَ ثُبُوتَ حُكْمِهِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْخِيَارِ أَوْ التَّصَرُّفِ ، وَهَاهُنَا لَوْ ثَبَتَ الْخِيَارُ ، لَثَبَتَ مَعَ ثُبُوتِ حُكْمِ الْوَقْفِ ، وَلَمْ يَمْنَعْ التَّصَرُّفَ ، فَافْتَرَقَا .

( 4378 ) فَصْلٌ : وَإِنْ شَرَطَ فِي الْوَقْفِ أَنْ يُخْرِجَ مَنْ شَاءَ مِنْ أَهْلِ الْوَقْفِ ، وَيُدْخِلَ مَنْ شَاءَ مِنْ غَيْرِهِمْ ، لَمْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ يُنَافِي مُقْتَضَى الْوَقْفِ ، فَأَفْسَدَهُ .
كَمَا لَوْ شَرَطَ أَنْ لَا يَنْتَفِعَ بِهِ .
وَإِنْ شَرَطَ لِلنَّاظِرِ أَنْ يُعْطِيَ مَنْ يَشَاءُ مِنْ أَهْلِ الْوَقْفِ ، وَيَحْرِمَ مَنْ يَشَاءُ ، جَازَ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِإِخْرَاجٍ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ مِنْ الْوَقْفِ ، وَإِنَّمَا عَلَّقَ اسْتِحْقَاقَ الْوَقْفِ بِصِفَةٍ ، فَكَأَنَّهُ جَعَلَ لَهُ حَقًّا فِي الْوَقْفِ ، إذَا اتَّصَفَ بِإِرَادَةِ الْوَالِي لِعَطِيَّتِهِ ، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ حَقًّا إذَا انْتَفَتْ تِلْكَ الصِّفَةُ فِيهِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ وَقَفَ عَلَى الْمُشْتَغِلِينَ بِالْعِلْمِ مِنْ وَلَدِهِ ، فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ مِنْهُمْ مَنْ اشْتَغَلَ بِهِ دُونَ مَنْ لَمْ يَشْتَغِلْ ، فَلَوْ تَرَكَ الْمُشْتَغِلُ الِاشْتِغَالَ زَالَ اسْتِحْقَاقُهُ ، وَإِذَا عَادَ إلَيْهِ عَادَ اسْتِحْقَاقُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( 4379 ) فَصْلٌ : إذَا جَعَلَ عُلْوَ دَارِهِ مَسْجِدًا دُونَ سُفْلِهَا ، أَوْ سُفْلَهَا دُونَ عُلْوِهَا ، صَحَّ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ يَتْبَعُهُ هَوَاؤُهُ .
وَلَنَا أَنَّهُ يَصِحُّ بَيْعُهَا ، كَذَلِكَ يَصِحُّ وَقْفُهُ ، كَالدَّارِ جَمِيعِهَا ، وَلِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ يُزِيلُ الْمِلْكَ إلَى مَنْ يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الِاسْتِقْرَارِ وَالتَّصَرُّفِ ، فَجَازَ فِيمَا ذَكَرْنَا كَالْبَيْعِ .

( 4380 ) فَصْلٌ : وَإِنْ جَعَلَ وَسَطَ دَارِهِ مَسْجِدًا ، وَلَمْ يَذْكُرْ الِاسْتِطْرَاقَ ، صَحَّ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَصِحُّ حَتَّى يَذْكُرَ الِاسْتِطْرَاقَ .
وَلَنَا أَنَّهُ عَقْدٌ يُبِيحُ الِانْتِفَاعَ ، مِنْ ضَرُورَتِهِ الِاسْتِطْرَاقُ ، فَصَحَّ ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ الِاسْتِطْرَاقَ ، كَمَا لَوْ أَجَرَ بَيْتًا مِنْ دَارِهِ .

( 4381 ) فَصْلٌ : إذَا وَقَفَ عَلَى نَفْسِهِ ، ثُمَّ عَلَى الْمَسَاكِينِ ، أَوْ عَلَى وَلَدِهِ ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا ، لَا يَصِحُّ ؛ فَإِنَّهُ قَالَ ، فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ ، وَقَدْ سُئِلَ عَنْ هَذَا ، فَقَالَ : لَا أَعْرِفُ الْوَقْفَ إلَّا مَا أَخْرَجَهُ لِلَّهِ ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ ، فَإِذَا وَقَفَهُ عَلَيْهِ حَتَّى يَمُوتَ ، فَلَا أَعْرِفُهُ .
فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يَكُونُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ بَاطِلًا .
وَهَلْ يَبْطُلُ الْوَقْفُ عَلَى مَنْ بَعْدَهُ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ، بِنَاءً عَلَى الْوَقْفِ الْمُنْقَطِعِ الِابْتِدَاءِ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ تَمْلِيكٌ لِلرَّقَبَةِ وَالْمَنْفَعَةِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُمَلِّكَ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ مِنْ نَفْسِهِ ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ نَفْسَهُ مَالَ نَفْسِهِ ، وَلِأَنَّ الْوَقْفَ عَلَى نَفْسِهِ إنَّمَا حَاصِلُهُ مَنْعُ نَفْسِهِ التَّصَرُّفَ فِي رَقَبَةِ الْمِلْكِ ، فَلَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ ، كَمَا لَوْ أَفْرَدَهُ بِأَنْ يَقُولَ : لَا أَبِيعُ هَذَا وَلَا أَهَبُهُ وَلَا أُوَرِّثُهُ وَنَقَلَ جَمَاعَةٌ أَنَّ الْوَقْفَ صَحِيحٌ ، اخْتَارَهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى .
قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : وَهِيَ أَصَحُّ .
وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى ، وَابْنِ شُبْرُمَةَ ، وَأَبِي يُوسُفَ ، وَابْنِ سُرَيْجٍ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا إذَا اشْتَرَطَ أَنْ يَرْجِعَ إلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ مَنَافِعِهِ ، وَلِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَقِفَ وَقْفًا عَامًّا فَيَنْتَفِعَ بِهِ ، كَذَلِكَ إذَا خَصَّ نَفْسَهُ بِانْتِفَاعِهِ ، وَالْأَوَّلُ أَقْيَسُ .

( 4382 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَالْبَاقِي عَلَى مَنْ وَقَفَ عَلَيْهِ وَأَوْلَادُهُ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ مِنْ أَوْلَادِ الْبَنِينَ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْوَاقِفُ فَضَّلَ بَعْضَهُمْ ) فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة فُصُولٌ أَرْبَعَةٌ : ( 4383 ) الْأَوَّلُ : أَنَّهُ إذَا وَقَفَ عَلَى قَوْمٍ وَأَوْلَادِهِمْ وَعَقِبِهِمْ وَنَسْلِهِمْ ، كَانَ الْوَقْفُ بَيْنَ الْقَوْمِ وَأَوْلَادِهِمْ ، وَمَنْ حَدَثَ مِنْ نَسْلِهِمْ ، عَلَى سَبِيلِ الِاشْتِرَاكِ ، إنْ لَمْ تَقْتَرِنْ بِهِ قَرِينَةٌ تَقْتَضِي تَرْتِيبًا ؛ لِأَنَّ الْوَاوَ تَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ ، فَإِذَا اجْتَمَعُوا اشْتَرَكُوا ، وَلَمْ يُقَدَّمْ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ، وَيُشَارِكُ الْآخَرُ الْأَوَّلَ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْبَطْنِ الْعَاشِرِ ، وَإِذَا حَدَثَ حَمْلٌ لَمْ يُشَارِكْ حَتَّى يَنْفَصِلَ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَكُونَ حَمْلًا ، فَلَا يَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ الْوَلَدِ قَبْلَ انْفِصَالِهِ .

( 4384 ) فَصْلٌ : فَإِنْ قَالَ : وَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي ، ثُمَّ عَلَى الْمَسَاكِينِ .
أَوْ قَالَ : عَلَى وَلَدِي ، ثُمَّ عَلَى الْمَسَاكِينِ .
أَوْ عَلَى وَلَدِ فُلَانٍ ، ثُمَّ عَلَى الْمَسَاكِينِ .
فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَكُونُ وَقْفًا عَلَى أَوْلَادِهِ ، وَأَوْلَادِ أَوْلَادِهِ ، مِنْ الْأَوْلَادِ الْبَنِينَ ، مَا لَمْ تَكُنْ قَرِينَةٌ تَصْرِفُ عَنْ ذَلِكَ .
قَالَ الْمَرُّوذِيُّ : قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ وَقَفَ ضَيْعَةً عَلَى وَلَدِهِ ، فَمَاتَ الْأَوْلَادُ ، وَتَرَكُوا النُّسْوَةَ حَوَامِلَ ؟ فَقَالَ : كُلُّ مَا كَانَ مِنْ أَوْلَادِ الذُّكُورِ ، بَنَاتٍ كُنَّ أَوْ بَنِينَ ، فَالضَّيْعَةُ مَوْقُوفَةٌ عَلَيْهِمْ ، وَمَا كَانَ مِنْ أَوْلَادِ الْبَنَاتِ ، فَلَيْسَ لَهُمْ فِيهِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ رَجُلٍ آخَرَ وَقَالَ أَيْضًا فِي مَنْ وَقَفَ عَلَى وَلَدِ عَلِيِّ بْنِ إسْمَاعِيلَ ، وَلَمْ يَقُلْ : إنْ مَاتَ وَلَدُ عَلِيِّ بْنِ إسْمَاعِيلَ دُفِعَ إلَى وَلَدِ وَلَدِهِ ، فَمَاتَ وَلَدُ عَلِيِّ بْنِ إسْمَاعِيلَ : دُفِعَ إلَى وَلَدِهِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ وَلَدِ عَلِيِّ بْن إسْمَاعِيلَ .
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ : { يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ } .
فَدَخَلَ فِيهِ وَلَدُ الْبَنِينَ وَإِنْ سَفَلُوا .
وَلَمَّا قَالَ : { وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ } فَتَنَاوَلَ وَلَدَ الْبَنِينَ ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَوْضِعٍ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْوَلَدَ دَخَلَ فِيهِ وَلَدُ الْبَنِينَ ، فَالْمُطْلَقُ مِنْ كَلَامِ الْآدَمِيِّ إذَا خَلَا عَنْ قَرِينَةٍ ، يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْمُطْلَقِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَيُفَسَّرُ بِمَا يُفَسَّرُ بِهِ .
وَلِأَنَّ وَلَدَ وَلَدِهِ وَلَدٌ لَهُ ، بِدَلِيلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : يَا بَنِي آدَمَ وَيَا بَنِي إسْرَائِيلَ .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { ارْمُوا بَنِي إسْمَاعِيلَ ، فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا } .
وَقَالَ : { نَحْنُ بَنُو النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ } .
وَالْقَبَائِلُ كُلّهَا تُنْسَبُ إلَى

جُدُودِهَا .
وَلِأَنَّهُ لَوْ وَقَفَ عَلَى وَلَدِ فُلَانٍ ، وَهُمْ قَبِيلَةٌ ، دَخَلَ فِيهِ وَلَدُ الْبَنِينَ ، فَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُونُوا قَبِيلَةً وَقَالَ الْقَاضِي ، وَأَصْحَابُهُ : لَا يَدْخُل فِيهِ وَلَدُ الْوَلَدِ بِحَالٍ ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ وَلَدُ الْبَنِينَ وَوَلَدُ الْبَنَاتِ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ حَقِيقَةً وَعُرْفًا إنَّمَا هُوَ وَلَدُهُ لِصُلْبِهِ ، وَإِنَّمَا يُسَمَّى وَلَدُ الْوَلَدِ وَلَدًا مَجَازًا ، وَلِهَذَا يَصِحُّ نَفْيُهُ ، فَيُقَالُ : مَا هَذَا وَلَدِي ، إنَّمَا هُوَ وَلَدُ وَلَدِي .
وَإِنْ قَالَ : عَلَى وَلَدِي لِصُلْبِي .
فَهُوَ آكَدُ .
وَإِنْ قَالَ : عَلَى وَلَدِي ، وَوَلَدِ وَلَدِي ، ثُمَّ عَلَى الْمَسَاكِينِ .
دَخَلَ فِيهِ الْبَطْنُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي ، وَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِ الْبَطْنُ الثَّالِثُ .
وَإِنْ قَالَ : عَلَى وَلَدِي ، وَوَلَدِ وَلَدِي ، وَوَلَدِ وَلَدِ وَلَدِي .
دَخَلَ فِيهِ ثَلَاثَةُ بُطُونٍ دُونَ مَنْ بَعْدَهُمْ وَمَوْضِعُ الْخِلَافِ الْمُطْلَقِ ، فَأَمَّا مَعَ وُجُودِ دَلَالَةٍ تَصْرِفُ إلَى أَحَدِ الْمَحْمَلَيْنِ ، فَإِنَّهُ يُصْرَفُ إلَيْهِ بِغَيْرِ خِلَافٍ ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ : عَلَى وَلَدِ فُلَانٍ .
وَهُمْ قَبِيلَةٌ لَيْسَ فِيهِمْ وَلَدٌ مِنْ صُلْبِهِ ، فَإِنَّهُ يُصْرَفُ إلَى أَوْلَادِ الْأَوْلَادِ بِغَيْرِ خِلَافٍ .
وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ : عَلَى أَوْلَادِي ، أَوْ وَلَدِي .
وَلَيْسَ لَهُ وَلَدٌ مِنْ صُلْبِهِ .
أَوْ قَالَ : وَيُفَضَّلُ وَلَدُ الْأَكْبَرِ أَوْ الْأَعْلَمِ عَلَى غَيْرِهِمْ .
أَوْ قَالَ : فَإِذَا خَلَتْ الْأَرْضُ مِنْ عَقِبِي عَادَ إلَى الْمَسَاكِينِ .
أَوْ قَالَ : عَلَى وَلَدِي غَيْرِ وَلَدِ الْبَنَاتِ .
أَوْ غَيْرِ وَلَدِ فُلَانٍ .
أَوْ قَالَ : يُفَضَّلُ الْبَطْنُ الْأَعْلَى عَلَى الثَّانِي أَوْ قَالَ : الْأَعْلَى فَالْأَعْلَى .
وَأَشْبَاهَ ذَلِكَ ، فَهَذَا يُصْرَفُ لَفْظُهُ إلَى جَمِيعِ نَسْلِهِ وَعَاقِبَته .
وَإِنْ اقْتَرَنَتْ بِهِ قَرِينَةٌ تَقْضِي تَخْصِيصَ أَوْلَادِهِ لِصُلْبِهِ بِالْوَقْفِ ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ : عَلَى وَلَدِي لِصُلْبِي .
أَوْ الَّذِينَ يَلُونَنِي .
وَنَحْوَ هَذَا ، فَإِنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْبَطْنِ الْأَوَّلِ دُونَ غَيْرِهِمْ .
وَإِذَا قُلْنَا بِالتَّعْمِيمِ فِيهِمْ ، إمَّا

لِلْقَرِينَةِ ، وَإِمَّا لِقَوْلِنَا بِأَنَّ الْمُطْلَقَ يَقْتَضِي التَّعْمِيمَ وَلَمْ يَكُنْ فِي لَفْظِهِ مَا يَقْتَضِي تَشْرِيكًا وَلَا تَرْتِيبًا ، احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمْ كُلِّهِمْ عَلَى التَّشْرِيكِ ، لِأَنَّهُمْ دَخَلُوا فِي اللَّفْظِ دُخُولًا وَاحِدًا ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمْ مُشْتَرَكًا ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ لَهُمْ بِدَيْنٍ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى التَّرْتِيبِ ، عَلَى حَسَبِ التَّرْتِيبِ فِي الْمِيرَاثِ وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ ؛ لِقَوْلِهِ فِي مَنْ وَقَفَ عَلَى وَلَدِ عَلِيِّ بْنِ إسْمَاعِيلَ ، وَلَمْ يَقُلْ : إنْ مَاتَ وَلَدُ عَلِيِّ بْنِ إسْمَاعِيلَ دُفِعَ إلَى وَلَدِ وَلَدِهِ .
فَمَاتَ وَلَدُ عَلِيِّ بْنِ إسْمَاعِيلَ ، وَتَرَكَ وَلَدًا ، فَقَالَ : إنْ مَاتَ بَعْضُ وَلَدِ عَلِيِّ بْنِ إسْمَاعِيلَ دُفِعَ إلَى وَلَدِهِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ وَلَدِ عَلِيِّ بْنِ إسْمَاعِيلَ .
فَجَعَلَهُ لِوَلَدِ مَنْ مَاتَ مِنْ وَلَدِ عَلِيِّ بْنِ إسْمَاعِيلَ عِنْدَ مَوْتِ أَبِيهِ ، وَذَلِكَ أَنَّ وَلَدَ الْبَنِينَ لَمَّا دَخَلُوا فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ } وَلَمْ يَسْتَحِقَّ وَلَدُ الْبَنِينَ شَيْئًا مَعَ وُجُودِ آبَائِهِمْ ، وَاسْتَحَقُّوا عِنْدَ فَقْدِهِمْ ، كَذَا هَاهُنَا .
فَأَمَّا إنْ وَصَّى لِوَلَدِ فُلَانٍ ، وَهُمْ قَبِيلَةٌ ، فَلَا تَرْتِيبَ فِيهِ ، وَيَسْتَحِقُّ الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلُ عَلَى كُلِّ حَالٍ .

( 4385 ) فَصْلٌ : وَإِنْ رَتَّبَ فَقَالَ : وَقَفْت هَذَا عَلَى وَلَدِي ، وَوَلَدِ وَلَدِي ، مَا تَنَاسَلُوا وَتَعَاقَبُوا ، الْأَعْلَى فَالْأَعْلَى ، أَوْ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ ، أَوْ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ ، أَوْ الْبَطْنَ الْأَوَّلَ ثُمَّ الْبَطْنَ الثَّانِيَ ، أَوْ عَلَى أَوْلَادِي ، ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِي ، أَوْ عَلَى أَوْلَادِي ، فَإِنْ انْقَرَضُوا فَعَلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِي فَكُلُّ هَذَا عَلَى التَّرْتِيبِ ، فَيَكُونُ عَلَى مَا شَرَطَ ، وَلَا يَسْتَحِقُّ الْبَطْنُ الثَّانِي شَيْئًا حَتَّى يَنْقَرِضَ الْبَطْنُ كُلُّهُ .
وَلَوْ بَقِيَ وَاحِدٌ مِنْ الْبَطْنِ الْأَوَّلِ ، كَانَ الْجَمِيعُ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ ثَبَتَ بِقَوْلِهِ ، فَيَتْبَعُ فِيهِ مُقْتَضَى كَلَامِهِ .
وَإِنْ قَالَ : عَلَى أَوْلَادِي ، وَأَوْلَادِهِمْ مَا تَعَاقَبُوا وَتَنَاسَلُوا ، عَلَى أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَلَى وَلَدٍ كَانَ مَا كَانَ جَارِيًا عَلَيْهِ جَارِيًا عَلَى وَلَدِهِ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى التَّرْتِيبِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اقْتَضَى التَّشْرِيكَ لَاقْتَضَى التَّسْوِيَةَ ، وَلَوْ جَعَلْنَا لِوَلَدِ الْوَلَدِ سَهْمًا مِثْلَ سَهْمِ أَبِيهِ ، ثُمَّ دَفَعْنَا إلَيْهِ سَهْمَ أَبِيهِ ، صَارَ لَهُ سَهْمَانِ ، وَلِغَيْرِهِ سَهْمٌ ، وَهَذَا يُنَافِي التَّسْوِيَةَ ، وَلِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى تَفْضِيلِ وَلَدِ الِابْنِ عَلَى الِابْنِ ، وَالظَّاهِرُ مِنْ إرَادَةِ الْوَاقِفِ خِلَافُ هَذَا فَإِذَا ثَبَتَ التَّرْتِيبُ فَإِنَّهُ يَتَرَتَّبُ بَيْنَ كُلِّ وَالِدٍ وَوَلَدِهِ ، فَإِذَا مَاتَ عَنْ وَلَدٍ انْتَقَلَ إلَى وَلَدِهِ سَهْمُهُ ، سَوَاءٌ بَقِيَ مِنْ الْبَطْنِ الْأَوَّلِ أَحَدٌ أَوْ لَمْ يَبْقَ .
( 4386 ) فَصْلٌ : وَإِنْ رَتَّبَ بَعْضَهُمْ دُونِ بَعْضٍ ، فَقَالَ : وَقَفْت عَلَى وَلَدِي ، وَوَلَدِ وَلَدِي ، ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِمْ .
أَوْ عَلَى أَوْلَادِي ، ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِي وَأَوْلَادِهِمْ ، مَا تَنَاسَلُوا وَتَعَاقَبُوا .
أَوْ قَالَ : عَلَى أَوْلَادِي وَأَوْلَادِ أَوْلَادِي ، ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِمْ وَأَوْلَادِ أَوْلَادِهِمْ ، مَا تَنَاسَلُوا .
فَهُوَ عَلَى مَا قَالَ ، يَشْتَرِكُ مَنْ شَرَّكَ بَيْنَهُمْ بِالْوَاوِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْجَمْعِ وَالتَّشْرِيكِ

وَتَرْتِيبِ مَنْ رَتَّبَهُ بِحَرْفِ التَّرْتِيبِ .
فَفِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى يَشْتَرِكُ الْوَلَدُ وَوَلَدُ الْوَلَدِ ، ثُمَّ إذَا انْقَرَضُوا صَارَ لِمَنْ بَعْدَهُمْ .
وَفِي الثَّانِيَةِ يَخْتَصُّ بِهِ الْوَلَدُ ، فَإِذَا انْقَرَضُوا صَارَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ مَنْ بَعْدَهُمْ .
وَفِي الثَّالِثَةِ يَشْتَرِكُ فِيهِ الْبَطْنَانِ الْأَوَّلَانِ دُونَ غَيْرِهِمْ ، فَإِذَا انْقَرَضُوا اشْتَرَكَ فِيهِ مَنْ بَعْدَهُمْ .

( 4387 ) فَصْلٌ : وَإِنْ قَالَ : وَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي ، ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِي ، عَلَى أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أَوْلَادِي عَنْ وَلَدٍ ، فَنَصِيبُهُ لِوَلَدِهِ ، أَوْ فَنَصِيبُهُ لِإِخْوَتِهِ ، أَوْ لِوَلَدِ وَلَدِهِ ، أَوْ لِوَلَدِ أَخِيهِ ، أَوْ لِأَخَوَاتِهِ ، أَوْ لِوَلَدِ أَخَوَاتِهِ .
فَهُوَ عَلَى مَا شَرَطَهُ .
وَإِنْ قَالَ : مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَنْ وَلَدٍ ، فَنَصِيبُهُ لِوَلَدِهِ ، وَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ ، فَنَصِيبُهُ لِأَهْلِ الْوَقْفِ .
وَكَانَ لَهُ ثَلَاثَةُ بَنِينَ ، فَمَاتَ أَحَدُهُمْ عَنْ ابْنَيْنِ ، انْتَقَلَ نَصِيبُهُ إلَيْهِمَا ، ثُمَّ مَاتَ الثَّانِي عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ ، فَنَصِيبُهُ لِأَخِيهِ وَابْنَيْ أَخِيهِ بِالسَّوِيَّةِ ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْوَقْفِ ثُمَّ إنْ مَاتَ أَحَدُ ابْنَيْ الِابْنِ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ ، انْتَقَلَ نَصِيبُهُ إلَى أَخِيهِ وَعَمِّهِ ؛ لِأَنَّهُمَا أَهْلُ الْوَقْفِ .
وَلَوْ مَاتَ أَحَدُ الْبَنِينَ الثَّلَاثَةِ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ ، وَخَلَّفَ أَخَوَيْهِ وَابْنَيْ أَخٍ لَهُ ، فَنَصِيبُهُ لِأَخَوَيْهِ دُونَ ابْنَيْ أَخِيهِ ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الْوَقْفِ مَا دَامَ أَبُوهُمَا حَيًّا ، فَإِذَا مَاتَ أَبُوهُمَا ، صَارَ نَصِيبُهُ لَهُمَا .
فَإِذَا مَاتَ الثَّالِثُ ، كَانَ نَصِيبُهُ لِابْنَيْ أَخِيهِ بِالسَّوِيَّةِ ، إنْ لَمْ يُخَلِّفْ وَلَدًا ، وَإِنْ خَلَّفَ ابْنًا وَاحِدًا ، فَلَهُ نَصِيبُ أَبِيهِ ، وَهُوَ النِّصْفُ ، وَلِابْنَيْ عَمِّهِ النِّصْفُ لِكُلِّ وَاحِدٍ الرُّبْعُ وَإِنْ قَالَ : مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ ، كَانَ مَا كَانَ جَارِيًا عَلَيْهِ جَارِيًا عَلَى مَنْ هُوَ فِي دَرَجَتِهِ ، فَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ مُرَتَّبًا بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ ، كَانَ نَصِيبُ الْمَيِّتِ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ لِأَهْلِ الْبَطْنِ الَّذِي هُوَ مِنْهُ ، وَإِنْ كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْبُطُونِ كُلِّهَا ، احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ نَصِيبُهُ بَيْنَ أَهْلِ الْوَقْفِ كُلِّهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ فِي اسْتِحْقَاقِ الْوَقْفِ سَوَاءٌ ، فَكَانُوا فِي دَرَجَتِهِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ ، وَلِأَنَّنَا لَوْ صَرَفْنَا نَصِيبَهُ إلَى بَعْضِهِمْ ، أَفْضَى إلَى تَفْضِيلِ بَعْضِهِمْ ، وَالتَّشْرِيكُ يَقْتَضِي

التَّسْوِيَةَ .
فَعَلَى هَذَا يَكُونُ وُجُودُ هَذَا الشَّرْطِ كَعَدَمِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ سَكَتَ عَنْهُ ، كَانَ الْحُكْمُ فِيهِ كَذَلِكَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَعُودَ نَصِيبُهُ إلَى سَائِرِ أَهْلِ الْبَطْنِ الَّذِي هُوَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُمْ فِي دَرَجَتِهِ فِي الْقُرْبِ إلَى الْجَدِّ الَّذِي يَجْمَعُهُمْ ، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ إخْوَتُهُ وَبَنُو عَمِّهِ وَبَنُو بَنِي عَمِّ أَبِيهِ ؛ لِأَنَّهُمْ سَوَاءٌ فِي الْقُرْبِ ، وَلِأَنَّنَا لَوْ شَرَّكْنَا بَيْنَ أَهْلِ الْوَقْفِ كُلِّهِمْ فِي نَصِيبِهِ ، لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا الشَّرْطِ فَائِدَةٌ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قَصَدَ شَيْئًا يُفِيدُ .
فَعَلَى هَذَا إنْ لَمْ يَكُنْ فِي دَرَجَتِهِ أَحَدٌ ، بَطَلَ هَذَا الشَّرْطُ ، وَكَانَ الْحُكْمُ فِيهِ كَمَا لَوْ لَمْ يَذْكُرْهُ .
وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى الْبَطْنِ الْأَوَّلِ ، عَلَى أَنَّهُ مِنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَنْ وَلَدٍ انْتَقَلَ نَصِيبُهُ إلَى وَلَدِهِ ، وَمَنْ مَاتَ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ انْتَقَلَ نَصِيبُهُ إلَى مَنْ فِي دَرَجَتِهِ .
فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ نَصِيبُهُ بَيْنَ أَهْلِ الْوَقْفِ كُلِّهِمْ ، يَتَسَاوُونَ فِيهِ ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ بَطْنٍ وَاحِدٍ أَوْ مِنْ بُطُونٍ ، وَسَوَاءٌ تَسَاوَتْ أَنْصِبَاؤُهُمْ فِي الْوَقْفِ ، أَوْ اخْتَلَفَتْ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ .
وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ لِأَهْلِ بَطْنٍ ، سَوَاءٌ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْوَقْفِ أَوْ لَمْ يَكُونُوا ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ الْبَطْنُ الْأُوَلُ ثَلَاثَةً ، فَمَاتَ أَحَدُهُمْ عَنْ ابْنٍ ، ثُمَّ مَاتَ الثَّانِي عَنْ ابْنَيْنِ ، فَمَاتَ أَحَدُ الِابْنَيْنِ ، وَتَرَكَ أَخَاهُ وَعَمَّهُ وَابْنَ عَمِّهِ وَابْنًا لِعَمِّهِ الْحَيِّ ، فَيَكُونَ نَصِيبُهُ بَيْنَ أَخِيهِ وَابْنَيْ عَمِّهِ .
وَالثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ لِأَهْلِ بَطْنِهِ مِنْ أَهْلِ الْوَقْفِ ، فَيَكُونَ نَصِيبُهُ عَلَى هَذَا لِأَخِيهِ وَابْنِ عَمِّهِ الَّذِي مَاتَ أَبُوهُ .
فَإِنْ كَانَ فِي دَرَجَتِهِ فِي النَّسَبِ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِحْقَاقِ بِحَالٍ ، كَرَجُلِ لَهُ أَرْبَعَةُ بَنِينَ ، وَقَفَ عَلَى ثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ ، وَتَرَكَ الرَّابِعَ ، فَمَاتَ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ عَنْ غَيْرِ

وَلَدٍ ، لَمْ يَكُنْ لِلرَّابِعِ فِيهِ شَيْءٌ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِحْقَاقِ ، فَأَشْبَهَ ابْنَ عَمِّهِمْ .

( 4388 ) فَصْلٌ : وَإِنْ وَقَفَ عَلَى بَنِيهِ وَهُمْ ثَلَاثَةٌ ، عَلَى أَنَّ مَنْ مَاتَ مِنْ فُلَانٍ وَفُلَانٍ وَأَوْلَادِهِمْ عَنْ وَلَدٍ فَنَصِيبُهُ لِوَلَدِهِ ، وَإِنْ مَاتَ فُلَانٌ فَنَصِيبُهُ لِأَهْلِ الْوَقْفِ .
فَهُوَ عَلَى مَا شَرَطَ .
وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ لَهُ بَنُونَ وَبَنَاتٌ ، فَقَالَ : مَنْ مَاتَ مِنْ الذُّكُورِ فَنَصِيبُهُ لِوَلَدِهِ ، وَمَنْ مَاتَ مِنْ الْبَنَاتِ فَنَصِيبُهَا لِأَهْلِ الْوَقْفِ .
فَهُوَ عَلَى مَا قَالَ .
وَإِنْ قَالَ : عَلَى أَوْلَادِي ، عَلَى أَنْ يُصْرَفَ إلَى الْبَنَاتِ مِنْهُ أَلْفٌ ، وَالْبَاقِي لِلْبَنِينَ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْبَنُونَ شَيْئًا حَتَّى تَسْتَوْفِيَ الْبَنَاتُ الْأَلْفَ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ لِلْبَنَاتِ مُسَمًّى ، وَجَعَلَ لِلْبَنِينَ الْفَاضِلَ عَنْهُ ، فَكَانَ الْحُكْمُ فِيهِ عَلَى مَا قَالَ ، فَجَعَلَ الْبَنَاتِ كَذَوِي الْفُرُوضِ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ لَهُمْ فَرْضًا ، وَجَعَلَ الْبَنِينَ كَالْعَصَبَاتِ الَّذِينَ لَا يَسْتَحِقُّونَ إلَّا مَا فَضَلَ عَنْ ذَوِي الْفُرُوضِ .

( 4389 ) فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَ لَهُ ثَلَاثَةُ بَنِينَ فَقَالَ : وَقَفْت عَلَى وَلَدِي فُلَانٍ وَفُلَانٍ ، وَعَلَى وَلَدِ وَلَدِي .
كَانَ الْوَقْفُ عَلَى الِابْنَيْنِ الْمُسَمَّيَيْنِ ، وَعَلَى أَوْلَادِهِمَا ، وَأَوْلَادِ الثَّالِثِ ، وَلَيْسَ لِلثَّالِثِ شَيْءٌ .
وَقَالَ الْقَاضِي : يَدْخُلُ الثَّالِثُ فِي الْوَقْفِ .
وَذَكَرَ أَنَّ أَحْمَدَ قَالَ فِي رَجُلٍ قَالَ : وَقَفْت هَذِهِ الضَّيْعَةَ ، عَلَى وَلَدِي فُلَانٍ وَفُلَانٍ ، وَعَلَى وَلَدِ وَلَدِي .
وَلَهُ وَلَدٌ غَيْرُ هَؤُلَاءِ ، قَالَ : يَشْتَرِكُونَ فِي الْوَقْفِ .
وَاحْتَجَّ الْقَاضِي بِأَنَّ قَوْلَهُ : وَلَدِي .
يَسْتَغْرِقُ الْجِنْسَ ، فَيَعُمُّ الْجَمِيعَ ، وَقَوْلَهُ : فُلَانٍ وَفُلَانٍ .
تَأْكِيدٌ لِبَعْضِهِمْ ، فَلَا يُوجِبُ إخْرَاجَ بَقِيَّتِهِمْ ، كَالْعَطْفِ فِي قَوْله تَعَالَى : { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } .
وَلَنَا أَنَّهُ أَبْدَلَ بَعْضَ الْوَلَدِ مِنْ اللَّفْظِ الْمُتَنَاوِلِ لِلْجَمِيعِ ، فَاخْتَصَّ بِالْبَعْضِ الْمُبْدَلِ ، كَمَا لَوْ قَالَ : عَلَى وَلَدِي فُلَانٍ .
وَذَلِكَ لِأَنَّ بَدَلَ الْبَعْضِ يُوجِبُ اخْتِصَاصَ الْحُكْمِ بِهِ ، كَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا } لَمَّا خَصَّ الْمُسْتَطِيعَ بِالذِّكْرِ ، اخْتَصَّ الْوُجُوبُ بِهِ .
وَلَوْ قَالَ : ضَرَبْت زَيْدًا رَأْسَهُ .
وَرَأَيْت زَيْدًا وَجْهَهُ .
اخْتَصَّ الضَّرْبُ بِالرَّأْسِ ، وَالرُّؤْيَةُ بِالْوَجْهِ .
وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ } .
وَقَوْلُ الْقَائِلِ : طَرَحْت الثِّيَابَ بَعْضَهَا فَوْقَ بَعْضٍ .
فَإِنَّ الْفَوْقِيَّةَ تَخْتَصُّ بِالْبَعْضِ مَعَ عُمُومِ اللَّفْظِ الْأَوَّلِ كَذَا هَاهُنَا .
وَفَارَقَ الْعَطْفَ ، فَإِنَّ عَطْفَ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِ يَقْتَضِي تَأْكِيدَهُ ، لَا تَخْصِيصَهُ .
وَقَوْلُ أَحْمَدَ : هُمْ شُرَكَاءُ .
يَحْتَمِلُ أَنْ يَعُودَ إلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِهِ ، أَيْ يَشْتَرِكُ أَوْلَادُ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمَا وَأَوْلَادُ غَيْرِهِمْ ؛ لِعُمُومِ لَفْظِ الْوَاقِفِ فِيهِمْ ، وَيَتَعَيَّنُ حَمْلُ كَلَامِهِ عَلَيْهِ ، لِقِيَامِ

الدَّلِيلِ عَلَيْهِ .
وَلَوْ قَالَ : عَلَى وَلَدِي فُلَانٍ وَفُلَانٍ ، ثُمَّ عَلَى الْمَسَاكِينِ .
خَرَجَ فِيهِ مِنْ الْخِلَافِ مِثْلُ مَا ذَكَرْنَا .
وَيَحْتَمِلُ عَلَى قَوْلِ الْقَاضِي أَنْ يَدْخُلَ فِي الْوَقْفِ وَلَدُ وَلَدِهِ ؛ لِأَنَّنَا قَدْ ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ أَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّ قَوْلَهُ : وَقَفْت عَلَى وَلَدِي .
يَتَنَاوَلُ نَسْلَهُ وَعَاقِبَتَهُ كُلَّهَا .

( 4390 ) فَصْلٌ : وَمَنْ وَقَفَ عَلَى أَوْلَادِهِ أَوْ أَوْلَادِ غَيْرِهِ ، وَفِيهِمْ حَمْلٌ ، لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا قَبْلَ انْفِصَالِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تَثْبُتْ لَهُ أَحْكَامُ الدُّنْيَا قَبْلَ انْفِصَالِهِ .
قَالَ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ ، فِي مَنْ وَقَفَ نَخْلًا عَلَى قَوْمٍ ، وَمَا تَوَالَدُوا ، ثُمَّ وُلِدَ مَوْلُودٌ : فَإِنْ كَانَتْ النَّخْلُ قَدْ أُبِّرَتْ ، فَلَيْسَ لَهُ فِيهِ شَيْءٌ ، وَهُوَ لِلْأَوَّلِ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ قَدْ أُبِّرَتْ ، فَهُوَ مَعَهُمْ .
وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهَا قَبْلَ التَّأْبِيرِ تَتْبَعُ الْأَصْلَ فِي الْبَيْعِ ، وَهَذَا الْمَوْلُودُ يَسْتَحِقُّ نَصِيبَهُ مِنْ الْأَصْلِ فَيَتْبَعُهُ حِصَّتُهُ مِنْ الثَّمَرَةِ ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى ذَلِكَ النَّصِيبَ مِنْ الْأَصْلِ .
وَبَعْدَ التَّأْبِيرِ لَا تَتْبَعُ الْأَصْلَ ، وَيَسْتَحِقُّهَا مَنْ كَانَ لَهُ الْأَصْلُ ، فَكَانَتْ لِلْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ كَانَ كُلُّهُ لَهُ ، فَاسْتَحَقَّ ثَمَرَتَهُ ، كَمَا لَوْ بَاعَ هَذَا النَّصِيبَ مِنْهَا ، وَلَمْ يَسْتَحِقَّ الْمَوْلُودُ مِنْهَا شَيْئًا كَالْمُشْتَرِي .
وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي سَائِرِ ثَمَرِ الشَّجَرِ الظَّاهِرِ ، فَإِنَّ الْمَوْلُودَ لَا يَسْتَحِقُّ مِنْهُ شَيْئًا ، وَيَسْتَحِقُّ مِمَّا ظَهَرَ بَعْدَ وِلَادَتِهِ .
وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ أَرْضًا فِيهَا زَرْعٌ يَسْتَحِقُّهُ الْبَائِعُ ، فَهُوَ لِلْأَوَّلِ وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَسْتَحِقُّهُ الْمُشْتَرِي ، فَلِلْمَوْلُودِ حِصَّتُهُ مِنْهُ ، لِأَنَّ الْمَوْلُودَ يَتَجَدَّدُ اسْتِحْقَاقُهُ لِلْأَصْلِ ، كَتَجَدُّدِ مِلْكِ الْمُشْتَرِي فِيهِ .

( 4391 ) الْفَصْلُ الثَّانِي : إذَا وَقَفَ عَلَى قَوْمٍ ، وَأَوْلَادِهِمْ ، وَعَاقِبَتِهِمْ ، وَنَسْلِهِمْ .
دَخَلَ فِي الْوَقْفِ وَلَدُ الْبَنِينَ ، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ فَأَمَّا وَلَدُ الْبَنَاتِ ، فَقَالَ الْخِرَقِيِّ : لَا يَدْخُلُونَ فِيهِ .
وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ ، فِي مَنْ وَقَفَ عَلَى وَلَدِهِ : مَا كَانَ مِنْ وَلَدِ الْبَنَاتِ فَلَيْسَ لَهُمْ فِيهِ شَيْءٌ فَهَذَا النَّصُّ يَحْتَمِلُ أَنْ يُعَدَّى إلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُورًا عَلَى مَنْ وَقَفَ عَلَى وَلَدِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ وَلَدَ وَلَدِهِ .
وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ .
وَمِمَّنْ قَالَ إنَّهُ لَا يَدْخُلُ وَلَدُ الْبَنَاتِ فِي الْوَقْفِ الَّذِي عَلَى أَوْلَادِهِ وَأَوْلَادِ أَوْلَادِهِ مَالِكٌ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ .
وَهَكَذَا إذَا قَالَ : عَلَى ذُرِّيَّتِهِمْ وَنَسْلِهِمْ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ : يَدْخُلُ فِيهِ وَلَدُ الْبَنَاتِ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَأَبِي يُوسُفَ ؛ لِأَنَّ الْبَنَاتِ أَوْلَادُهُ ، فَأَوْلَادُهُنَّ أَوْلَادُ الْأَوْلَادِ حَقِيقَةً ، فَيَجِبُ أَنْ يَدْخُلُوا فِي الْوَقْفِ ، لِتَنَاوُلِ اللَّفْظِ لَهُمْ ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ } إلَى قَوْلِهِ : { وَعِيسَى } .
وَهُوَ مِنْ وَلَدِ بِنْتِهِ ، فَجَعَلَهُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى قِصَّةَ عِيسَى وَإِبْرَاهِيم وَمُوسَى وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ ، ثُمَّ قَالَ : { أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ } وَعِيسَى مَعَهُمْ .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لِلْحَسَنِ : إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ } .
وَهُوَ وَلَدُ بِنْتِهِ .
وَلَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمْ } .
دَخَلَ فِي التَّحْرِيمِ حَلَائِلُ أَبْنَاءِ الْبَنَاتِ ، وَلَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى الْبَنَاتِ ، دَخَلَ فِي التَّحْرِيمِ بَنَاتُهُنَّ .
وَوَجْهُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ ،

أَنَّ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ : { يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ } .
فَدَخَلَ فِيهِ وَلَدُ الْبَنِينَ دُونَ وَلَدِ الْبَنَاتِ ، وَهَكَذَا كُلُّ مَوْضِعٍ ذُكِرَ فِيهِ الْوَلَدُ فِي الْإِرْثِ وَالْحَجْبِ ، دَخَلَ فِيهِ وَلَدُ الْبَنِينَ دُونَ وَلَدِ الْبَنَاتِ وَلِأَنَّهُ لَوْ وَقَفَ عَلَى وَلَدِ رَجُلٍ ، وَقَدْ صَارُوا قَبِيلَةً ، دَخَلَ فِيهِ وَلَدُ الْبَنِينَ دُونَ وَلَدِ الْبَنَاتِ بِالِاتِّفَاقِ ، وَكَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَصِيرُوا قَبِيلَةً .
وَلِأَنَّهُ لَوْ وَقَفَ عَلَى وَلَدِ الْعَبَّاسِ فِي عَصْرِنَا ، لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ وَلَدُ بَنَاتِهِ ، فَكَذَلِكَ إذَا وَقَفَ عَلَيْهِمْ فِي حَيَاتِهِ ، وَلِأَنَّ وَلَدَ الْبَنَاتِ مَنْسُوبُونَ إلَى آبَائِهِمْ دُونَ أُمَّهَاتِهِمْ ، قَالَ الشَّاعِرُ : بَنُونَا بَنُو أَبْنَائِنَا وَبَنَاتُنَا بَنُوهُنَّ أَبْنَاءُ الرِّجَالِ الْأَبَاعِدِ وَقَوْلُهُمْ : إنَّهُمْ أَوْلَادُ أَوْلَادٍ حَقِيقَةً .
قُلْنَا : إلَّا أَنَّهُمْ لَا يُنْسَبُونَ إلَى الْوَاقِفِ عُرْفًا ، وَلِذَلِكَ لَوْ قَالَ : أَوْلَادُ أَوْلَادِي الْمُنْتَسِبِينَ إلَيَّ .
لَمْ يَدْخُلْ هَؤُلَاءِ فِي الْوَقْفِ وَلِأَنَّ وَلَدَ الْهَاشِمِيَّةِ مِنْ غَيْرِ الْهَاشِمِيِّ لَيْسَ بِهَاشِمِيٍّ ، وَلَا يُنْسَبُ إلَى أَبِيهَا .
وَأَمَّا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَبٌ يُنْسَبُ إلَيْهِ ، فَنُسِبَ إلَى أُمِّهِ لِعَدَمِ أَبِيهِ ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ، وَغَيْرُهُ إنَّمَا يُنْسَبُ إلَى أَبِيهِ ، كَيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا .
وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ } .
تَجَوُّزٌ بِغَيْرِ خِلَافٍ ، بِدَلِيلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ } .
وَهَذَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا لَمْ يُوجَدْ مَا يَدُلُّ عَلَى تَعْيِينِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ ، فَأَمَّا إنْ وُجِدَ مَا يَصْرِفُ اللَّفْظَ إلَى أَحَدِهِمَا ، انْصَرَفَ إلَيْهِ وَلَوْ قَالَ : عَلَى أَوْلَادِي ، وَأَوْلَادِ أَوْلَادِي ، عَلَى أَنَّ لِوَلَدِ الْبَنَاتِ سَهْمًا ، وَلِوَلَدِ الْبَنِينَ سَهْمَيْنِ .
أَوْ : فَإِذَا خَلَتْ الْأَرْضُ مِمَّنْ يَرْجِعُ نَسَبُهُ إلَيَّ

مِنْ قِبَلِ أَبٍ أَوْ أُمٍّ ، كَانَ لِلْمَسَاكِينِ .
أَوْ كَانَ الْبَطْنُ الْأَوَّلُ مِنْ أَوْلَادِهِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ بَنَاتٍ ، وَأَشْبَاهُ هَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى إرَادَةِ وَلَدِ الْبَنَاتِ بِالْوَقْفِ ، دَخَلُوا فِي الْوَقْفِ .
وَإِنْ قَالَ : عَلَى أَوْلَادِي ، وَأَوْلَادِ أَوْلَادِي الْمُنْتَسِبِينَ إلَيَّ ، أَوْ غَيْرِ ذَوِي الْأَرْحَامِ ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ .
لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ وَلَدُ الْبَنَاتِ .
وَإِنْ قَالَ : عَلَى وَلَدِي فُلَانٍ وَفُلَانَةَ وَفُلَانَةَ ، وَأَوْلَادِهِمْ ، دَخَلَ فِيهِ وَلَدُ الْبَنَاتِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : عَلَى أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَنْ وَلَدِهِ فَنَصِيبُهُ لِوَلَدِهِ .
وَإِنْ قَالَ الْهَاشِمِيُّ : وَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي ، وَأَوْلَادِ أَوْلَادِي الْهَاشِمِيِّينَ .
لَمْ يَدْخُلْ فِي الْوَقْفِ مِنْ أَوْلَادِ بَنَاتِهِ مَنْ كَانَ غَيْرَ هَاشِمِيٍّ .
فَأَمَّا مَنْ كَانَ هَاشِمِيًّا مِنْ غَيْرِ أَوْلَادِ بَنِيهِ ، فَهَلْ يَدْخُلُونَ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ؛ أُولَاهُمَا ، أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ ؛ لِأَنَّهُمْ اجْتَمَعَ فِيهِمْ الصِّفَتَانِ جَمِيعًا ، كَوْنُهُمْ مِنْ أَوْلَادِ أَوْلَادِهِ ، وَكَوْنُهُمْ هَاشِمِيِّينَ .
وَالثَّانِي ، لَا يَدْخُلُونَ ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَدْخُلُوا فِي مُطْلَقِ أَوْلَادِ أَوْلَادِهِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَقُلْ الْهَاشِمِيِّينَ .
وَإِنْ قَالَ : عَلَى أَوْلَادِي ، وَأَوْلَادِ أَوْلَادِي ، مِمَّا يُنْسَبُ إلَى قَبِيلَتِي .
فَكَذَلِكَ .

( 4392 ) الْفَصْل الثَّالِثُ : أَنَّهُ إذَا وَقَفَ عَلَى أَوْلَادِ رَجُلٍ ، وَأَوْلَادِ أَوْلَادِهِ ، اسْتَوَى فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى ؛ لِأَنَّهُ تَشْرِيكٌ بَيْنَهُمْ ، وَإِطْلَاقُ التَّشْرِيكِ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ لَهُمْ بِشَيْءٍ ، وَكَوَلَدِ الْأُمِّ فِي الْمِيرَاثِ حِينَ شَرَّكَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَهُمْ فِيهِ ، فَقَالَ : { فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ } .
تَسَاوَوْا فِيهِ ، وَلَمْ يُفَضِّلْ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ .
وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي مِيرَاثِ وَلَدِ الْأَبَوَيْنِ وَوَلَدِ الْأَبِ ، فَإِنَّ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ : { وَإِنْ كَانُوا إخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ } .
وَلَا أَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا .

( 4393 ) الْفَصْلُ الرَّابِعُ : أَنَّهُ إذَا فَضَّلَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ، فَهُوَ عَلَى مَا قَالَ ، فَلَوْ قَالَ : وَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي ، وَأَوْلَادِ أَوْلَادِي ، عَلَى أَنَّ لِلذَّكَرِ سَهْمَيْنِ ، وَلِلْأُنْثَى سَهْمًا ، أَوْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ، أَوْ عَلَى حَسَبِ مِيرَاثِهِمْ ، أَوْ عَلَى حَسَبِ فَرَائِضِهِمْ ، أَوْ بِالْعَكْسِ مِنْ هَذَا ، أَوْ عَلَى أَنَّ لِلْكَبِيرِ ضِعْفَ مَا لِلصَّغِيرِ ، أَوْ لِلْعَالِمِ ضِعْفَ مَا لِلْجَاهِلِ ، أَوْ لِلْعَائِلِ ضِعْفَ مَا لِلْغَنِيِّ ، أَوْ عَكْسَ ذَلِكَ ، أَوْ عَيَّنَ بِالتَّفْضِيلِ وَاحِدًا مُعَيَّنًا ، أَوْ وَلَدَهُ ، أَوْ مَا أَشْبَهَ هَذَا ، فَهُوَ عَلَى مَا قَالَ ؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْوَقْفِ مُفَوَّضٌ إلَيْهِ ، فَكَذَلِكَ تَفْضِيلُهُ وَتَرْتِيبُهُ وَكَذَلِكَ إنْ شَرَطَ إخْرَاجَ بَعْضِهِمْ بِصِفَةٍ وَرَدَّهُ بِصِفَةٍ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ : مَنْ تَزَوَّجَ مِنْهُمْ فَلَهُ ، وَمَنْ فَارَقَ فَلَا شَيْءَ لَهُ ، أَوْ عَكْسَ ذَلِكَ ، أَوْ مَنْ حَفِظَ الْقُرْآنَ فَلَهُ ، وَمَنْ نَسِيَهُ فَلَا شَيْءَ لَهُ ، وَمَنْ اشْتَغَلَ بِالْعِلْمِ فَلَهُ ، وَمَنْ تَرَكَ فَلَا شَيْءَ لَهُ ، أَوْ مَنْ كَانَ عَلَى مَذْهَبِ كَذَا فَلَهُ ، وَمَنْ خَرَجَ مِنْهُ فَلَا شَيْءَ لَهُ .
فَكُلُّ هَذَا صَحِيحٌ عَلَى مَا شَرَطَ .
وَقَدْ رَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ ، أَنَّ الزُّبَيْرَ جَعَلَ دُورَهُ صَدَقَةً عَلَى بَنِيهِ لَا تُبَاعُ وَلَا تُوهَبُ ، وَأَنَّ لِلْمَرْدُودَةِ مِنْ بَنَاتِهِ أَنْ تَسْكُنَ غَيْرَ مُضِرَّةٍ وَلَا مُضَرٍّ بِهَا ، فَإِنْ اسْتَغْنَتْ بِزَوْجٍ فَلَا حَقَّ لَهَا فِي الْوَقْفِ .
وَلَيْسَ هَذَا تَعْلِيقًا لِلْوَقْفِ بِصِفَةٍ ، بَلْ الْوَقْفُ مُطْلَقٌ وَالِاسْتِحْقَاقُ لَهُ بِصِفَةٍ .
وَكُلُّ هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا .

( 4394 ) فَصْلٌ : وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُقَسِّمَ الْوَقْفَ عَلَى أَوْلَادِهِ ، عَلَى حَسَبِ قِسْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى الْمِيرَاثَ بَيْنَهُمْ ، لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ .
وَقَالَ الْقَاضِي : الْمُسْتَحَبُّ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ الْقُرْبَةُ عَلَى وَجْهِ الدَّوَامِ ، وَقَدْ اسْتَوَوْا فِي الْقَرَابَةِ .
وَلَنَا أَنَّهُ إيصَالٌ لِلْمَالِ إلَيْهِمْ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمْ عَلَى حَسَبِ الْمِيرَاثِ ، كَالْعَطِيَّةِ ، وَلِأَنَّ الذَّكَرَ فِي مَظِنَّةِ الْحَاجَةِ أَكْثَرُ مِنْ الْأُنْثَى ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْعَادَةِ يَتَزَوَّجُ ، وَيَكُونُ لَهُ الْوَلَدُ ، فَالذَّكَرُ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَةُ امْرَأَتِهِ وَأَوْلَادِهِ ، وَالْمَرْأَةُ يُنْفِقُ عَلَيْهَا زَوْجُهَا وَلَا يَلْزَمُهَا نَفَقَةُ أَوْلَادِهَا ، وَقَدْ فَضَّلَ اللَّهُ الذَّكَرَ عَلَى الْأُنْثَى فِي الْمِيرَاثِ عَلَى وَفْقِ هَذَا الْمَعْنَى ، فَيَصِحُّ تَعْلِيلُهُ بِهِ وَيَتَعَدَّى إلَى الْوَقْفِ وَإِلَى غَيْرِهِ مِنْ الْعَطَايَا وَالصِّلَاتِ .
وَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي لَا أَصْلَ لَهُ ، وَهُوَ مُلْغًى بِالْمِيرَاثِ وَالْعَطِيَّةِ .
فَإِنْ خَالَفَ فَسَوَّى بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى ، أَوْ فَضَّلَهَا عَلَيْهِ ، أَوْ فَضَّلَ بَعْضَ الْبَنِينَ أَوْ بَعْضَ الْبَنَاتِ عَلَى بَعْضٍ ، أَوْ خَصَّ بَعْضَهُمْ بِالْوَقْفِ دُونَ بَعْضٍ ، فَقَالَ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ : إِنْ كَانَ عَلَى طَرِيقِ الْأَثَرَةِ ، فَأَكْرَهُهُ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ لَهُ عِيَالٌ وَبِهِ حَاجَةٌ .
يَعْنِي فَلَا بَأْسَ بِهِ .
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الزُّبَيْرَ خَصَّ الْمَرْدُودَةَ مِنْ بَنَاتِهِ دُونَ الْمُسْتَغْنِيَةِ مِنْهُنَّ بِصَدَقَتِهِ .
وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَحْمَدَ ، لَوْ خَصَّ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْعِلْمِ مِنْ أَوْلَادِهِ بِوَقْفِهِ ، تَحْرِيضًا لَهُمْ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ ، أَوْ ذَا الدِّينِ دُونَ الْفُسَّاقِ ، أَوْ الْمَرِيضَ أَوْ مَنْ لَهُ فَضْلٌ مِنْ أَجْلِ فَضِيلَتِهِ ، فَلَا بَأْسَ وَقَدْ دَلَّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَحَلَ عَائِشَةَ جُذَاذَ عِشْرِينَ

وَسْقًا دُونَ سَائِرِ وَلَدِهِ ، وَحَدِيثُ عُمَرَ ، أَنَّهُ كَتَبَ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، هَذَا مَا أَوْصَى بِهِ عَبْدُ اللَّهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ، إنْ حَدَثَ بِهِ حَدَثٌ ، أَنَّ ثَمْغًا وَصِرْمَةَ بْنَ الْأَكْوَعِ ، وَالْعَبْدَ الَّذِي فِيهِ ، وَالْمِائَةَ سَهْمٍ الَّتِي بِخَيْبَرَ ، وَرَقِيقَهُ الَّذِي فِيهِ ، الَّذِي أَطْعَمَهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْوَادِي ، تَلِيه حَفْصَةُ مَا عَاشَتْ ، ثُمَّ يَلِيهِ ذُو الرَّأْيِ مِنْ أَهْلِهَا ، أَنْ لَا يُبَاعَ وَلَا يُشْتَرَى ، يُنْفِقُهُ حَيْثُ رَأَى مِنْ السَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ وَذَوِي الْقُرْبَى ، لَا حَرَجَ عَلَى مَنْ وَلِيَهُ إنْ أَكَلَ أَوْ آكَلَ أَوْ اشْتَرَى رَقِيقًا مِنْهُ .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَخْصِيصِ حَفْصَةَ دُونَ إخْوَتِهَا وَأَخَوَاتهَا .

( 4395 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( فَإِذَا لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ ، رَجَعَ إلَى الْمَسَاكِينِ ) يَعْنِي إذَا وَقَفَ عَلَى قَوْمٍ وَنَسْلِهِمْ ، ثُمَّ عَلَى الْمَسَاكِينِ ، فَانْقَرَضَ الْقَوْمُ وَنَسْلُهُمْ ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ ، رَجَعَ إلَى الْمَسَاكِينِ ، وَلَمْ يَنْتَقِلُ إلَيْهِمْ مَا دَامَ أَحَدٌ مِنْ الْقَوْمِ أَوْ مِنْ نَسْلِهِمْ بَاقِيًا ؛ لِأَنَّهُ رَتَّبَهُ لِلْمَسَاكِينِ بَعْدَهُمْ .
وَالْمَسَاكِينُ الَّذِينَ يَسْتَحِقُّونَ السَّهْمَ مِنْ الزَّكَاةِ ، وَالْفُقَرَاءُ يَدْخُلُونَ فِيهِمْ ، وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْفُقَرَاءِ يَدْخُلُ فِيهِ الْمَسَاكِينُ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ اللَّفْظَيْنِ يُطْلَقُ عَلَيْهِمَا .
وَالْمَعْنَى الَّذِي يُسَمَّيَانِ بِهِ شَامِلٌ لَهُمَا ، وَهُوَ الْحَاجَةُ وَالْفَاقَةُ ، وَلِهَذَا لَمَّا سَمَّى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمَسَاكِينَ ، فِي مَصْرِفِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ ، وَكَفَّارَةِ الظِّهَارِ ، وَفِدْيَةِ الْأَذَى ، تَنَاوَلَهُمَا جَمِيعًا ، وَجَازَ الصَّرْفُ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَلَمَّا ذَكَرَ الْفُقَرَاءَ فِي قَوْلِهِ : { لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أَحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } .
وَفِي قَوْلِهِ : { وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } .
تَنَاوَلَ الْقِسْمَيْنِ ، وَكُلُّ مَوْضِعٍ ذُكِرَ فِيهِ أَحَدُ اللَّفْظَيْنِ تَنَاوَلَ الْقِسْمَيْنِ ، إلَّا فِي الصَّدَقَاتِ ، لِأَنَّ اللَّهِ تَعَالَى جَمَعَ بَيْنَ الِاسْمَيْنِ ، وَمَيَّزَ بَيْنَ الْمُسَمَّيَيْنِ ، فَاحْتَجْنَا إلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَهُمَا ، وَفِي غَيْرِ الصَّدَقَاتِ يُسَمَّى الْكُلُّ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الِاسْمَيْنِ ، فَإِنْ جَمَعَ بَيْنَ الِاسْمَيْنِ بِالْوَقْفِ أَيْضًا ، فَقَالَ : وَقَفْت هَذَا عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ، نِصْفَيْنِ ، أَوْ ثَلَاثًا وَجَبَ التَّمْيِيزُ بَيْنَهُمَا أَيْضًا ، فَنَزَّلْنَاهُمَا مَنْزِلَتَهُمَا مِنْ سِهَامِ الصَّدَقَاتِ .
وَإِنْ قَالَ : عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ فَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ جَوَازُ الِاقْتِصَارِ عَلَى أَحَدِ الصِّنْفَيْنِ ، وَإِبَاحَةُ الدَّفْعِ إلَى وَاحِدٍ ، كَمَا قُلْنَا فِي الزَّكَاةِ .
وَيَتَخَرَّجُ أَنْ لَا يَجُوزَ الدَّفْعُ إلَى أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ ،

بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ فِي الزَّكَاةِ أَيْضًا .
وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ تَعْمِيمُهُمْ بِالْعَطِيَّةِ ، كَمَا لَا يَجِبُ اسْتِيعَابُهُمْ بِالزَّكَاةِ ، وَلَا فِي أَنَّهُ يَجُوزُ التَّفْضِيلُ بَيْنَ مِنْ يُعْطِيه مِنْهُمْ ، سَوَاءٌ كَانُوا ذُكُورًا أَوْ إنَاثًا ، أَوْ كَانَ الْوَقْفُ ابْتِدَاءً ، أَوْ انْتَقَلَ إلَيْهِمْ عَنْ غَيْرِهِمْ وَضَابِطُ هَذَا أَنَّهُ مَتَى كَانَ الْوَقْفُ عَلَى مَنْ يُمْكِنُ حَصْرُهُمْ وَاسْتِيعَابُهُمْ ، وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمْ ، وَجَبَ اسْتِيعَابُهُمْ وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمْ ، إذَا لَمْ يُفَضِّلْ الْوَاقِفُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ، فَإِنْ وَقَفَ عَلَى مَنْ لَا يُمْكِنُ حَصْرُهُمْ ، كَالْمَسَاكِينِ ، أَوْ قَبِيلَةٍ كَبِيرَةٍ كَبَنِي تَمِيمٍ وَبَنِي هَاشِمٍ ، جَازَ الدَّفْعُ إلَى وَاحِدٍ وَإِلَى أَكْثَرَ مِنْهُ ، وَجَازَ التَّفْضِيلُ وَالتَّسْوِيَةُ ؛ لِأَنَّ وَقْفَهُ عَلَيْهِمْ ، مَعَ عِلْمِهِ بِتَعَذُّرِ اسْتِيعَابِهِمْ ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْهُ ، وَمَنْ جَازَ حِرْمَانُهُ ، جَازَ تَفْضِيلُ غَيْرِهِ عَلَيْهِ .
فَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ فِي ابْتِدَائِهِ عَلَى مَنْ يُمْكِنُ اسْتِيعَابُهُ ، فَصَارَ مِمَّنْ لَا يُمْكِنُ اسْتِيعَابُهُ ، كَرَجُلٍ وَقَفَ عَلَى وَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ ، فَصَارُوا قَبِيلَةً كَبِيرَةً تَخْرُجُ عَنْ الْحَصْرِ ، مِثْلُ أَنْ يَقِفَ عَلِيٌّ عَلَى وَلَدِهِ وَنَسْلِهِ ، فَإِنَّهُ يَجِبُ تَعْمِيمُ مَنْ أَمْكَنَ مِنْهُمْ ، وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمْ .
لِأَنَّ التَّعْمِيمَ كَانَ وَاجِبًا ، وَكَذَلِكَ التَّسْوِيَةُ ، فَإِذَا تَعَذَّرَ ، وَجَبَ مِنْهُ مَا أَمْكَنَ ، كَالْوَاجِبِ الَّذِي يَعْجِزُ عَنْ بَعْضِهِ ؛ وَلِأَنَّ الْوَاقِفَ أَرَادَ التَّعْمِيمَ وَالتَّسْوِيَةَ ، لِإِمْكَانِهِ وَصَلَاحِ لَفْظِهِ لِذَلِكَ ، فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِمَا أَمْكَنَ مِنْهُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانُوا حَالَ الْوَقْفِ مِمَّا لَا يُمْكِنُ ذَلِكَ فِيهِمْ .

( 4396 ) فَصْلٌ : وَإِنْ وَقَفَ عَلَى سَبِيلِ اللَّهِ ، أَوْ ابْنِ السَّبِيلِ ، أَوْ الرِّقَابِ أَوْ الْغَارِمِينَ ، فَهُمْ الَّذِينَ يَسْتَحِقُّونَ السَّهْمَ مِنْ الصَّدَقَاتِ ، لَا يَعْدُوهُمْ إلَى غَيْرِهِمْ ؛ لِأَنَّ الْمُطْلَقَ مِنْ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْهُودِ فِي الشَّرْعِ ، فَيُنْظَرُ ؛ مَنْ كَانَ يَسْتَحِقُّ السَّهْمَ مِنْ الصَّدَقَاتِ ، فَالْوَقْفُ مَصْرُوفٌ إلَيْهِ ، وَشَرْحُهُمْ يَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَإِنْ وَقَفَ عَلَى الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ الصَّدَقَاتِ ، صُرِفَ إلَيْهِمْ ، وَيُعْطَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ الْوَقْفِ مِثْلَ الْقَدْرِ الَّذِي يُعْطَى مِنْ الزَّكَاةِ ، لَا يُزَادُ عَلَى ذَلِكَ ، فَيُعْطَى الْفَقِيرُ وَالْمِسْكِينُ مَا يَتِمُّ بِهِ غَنَاؤُهُ ، وَالْغَارِمُ قَدْرَ مَا يَقْضِي غُرْمَهُ ، وَالْمُكَاتَبُ قَدْرَ مَا يُؤَدِّي بِهِ كِتَابَتَهُ وَابْنُ السَّبِيلِ مَا يُبَلِّغُهُ ، وَالْغَازِي مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِغَزْوِهِ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا .
وَاخْتُلِفَ فِي قَدْرِ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْغِنَى ، فَقَالَ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ سَعِيدٍ ، فِي الرَّجُلِ يُعْطَى مِنْ الْوَقْفِ خَمْسِينَ دِرْهَمًا ، فَقَالَ : إنْ كَانَ الْوَاقِفُ ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ الْمَسَاكِينَ ، فَهُوَ مِثْلُ الزَّكَاةِ .
وَإِنْ كَانَ مُتَطَوِّعًا أَعْطَى مَا شَاءَ وَكَيْفَ شَاءَ .
فَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى إلْحَاقِهِ بِالزَّكَاةِ ، فَيَكُونُ الْخِلَافُ فِيهِ كَالْخِلَافِ فِي الزَّكَاةِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَإِنْ وَقَفَ عَلَى جَمِيعِ الْأَصْنَافِ ، أَوْ عَلَى صِنْفَيْنِ ، أَوْ أَكْثَرَ ، فَهَلْ يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ ، أَوْ يَجِبُ إعْطَاءُ بَعْضِ كُلِّ صِنْفٍ مِنْ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ، بِنَاءً عَلَى الزَّكَاةِ .

( 4397 ) فَصْلٌ : وَإِذَا وَقَفَ عَلَى سَبِيلِ اللَّهِ ، وَسَبِيلِ الثَّوَابِ ، وَسَبِيلِ الْخَيْرِ ، فَسَبِيلُ اللَّهِ هُوَ الْغَزْوُ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، فَيُصْرَفُ ثُلُثُ الْوَقْفِ إلَى مِنْ يُصْرَفُ إلَيْهِمْ السَّهْمُ مِنْ الزَّكَاةِ ، وَهُمْ الْغُزَاةُ الَّذِينَ لَا حَقَّ لَهُمْ فِي الدِّيوَانِ ، وَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ ، وَسَائِرُ الْوَقْفِ يُصْرَفُ إلَى كُلِّ مَا فِيهِ أَجْرٌ وَمَثُوبَةٌ وَخَيْرٌ ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ عَامٌ فِي ذَلِكَ .
وَقَالَ أَصْحَابُنَا : يُجَزَّأُ الْوَقْفُ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ ، فَجُزْءٌ يُصْرَفُ إلَى الْغُزَاةِ ، وَجُزْءٌ يُصْرَفُ إلَى أَقْرَبِ النَّاسِ إلَيْهِ مِنْ الْفُقَرَاءِ ، لِأَنَّهُمْ أَكْثَرُ الْجِهَاتِ ثَوَابًا ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { صَدَقَتُك عَلَى ذِي الْقَرَابَةِ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ } .
وَالثَّالِثُ يُصْرَفُ إلَى مَنْ يَأْخُذُ الزَّكَاةَ لِحَاجَتِهِ ، وَهُمْ خَمْسَةُ أَصْنَافٍ ؛ الْفُقَرَاءُ ، وَالْمَسَاكِينُ ، وَالرِّقَابُ وَالْغَارِمُونَ لِمَصْلَحَتِهِمْ ، وَابْنُ السَّبِيلِ ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ أَهْلُ حَاجَةٍ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِمْ فِي الْقُرْآنِ ، فَكَانَ مَنْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ ، وَإِنْ سَاوَاهُ فِي الْحَاجَةِ ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَلَنَا أَنَّ لَفْظَهُ عَامٌ ، فَلَا يَجِبُ التَّخْصِيصُ بِالْبَعْضِ لِكَوْنِهِ أَوْلَى ، كَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ فِي الزَّكَاةِ ، لَا يَجِبُ تَخْصِيصُ أَقَارِبِهِ مِنْهُمْ بِهَا ، وَإِنْ كَانُوا أَوْلَى ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَلْفَاظِ الْعَامَّةِ .
وَإِنْ أَوْصَى فِي أَبْوَابِ الْبِرِّ ، صُرِفَ فِي كُلِّ مَا فِيهِ بِرٌّ وَقُرْبَةٌ .
وَقَالَ أَصْحَابُنَا : يُصْرَفُ فِي أَرْبَعِ جِهَاتٍ ؛ أَقَارِبِهِ غَيْرِ الْوَارِثِينَ ، وَالْمَسَاكِينِ ، وَالْجِهَادِ ، وَالْحَجِّ .
قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : وَعَنْهُ فِدَاءُ الْأَسْرَى مَكَانَ الْحَجِّ .
وَوَجْهُ الْقَوْلَيْنِ مَا تَقَدَّمَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا .
( 4398 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( فَإِنْ لَمْ يَجْعَلْ آخِرَهُ لِلْمَسَاكِينِ ، وَلَمْ يَبْقَ مِمَّنْ وَقَفَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ، رَجَعَ إلَى وَرَثَةِ الْوَاقِفِ .
فِي إحْدَى

الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ، رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى يَكُونُ وَقْفًا عَلَى أَقْرَبِ عَصَبَةٍ الْوَاقِفِ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْوَقْفَ الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِي صِحَّتِهِ ، مَا كَانَ مَعْلُومَ الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ ، غَيْرَ مُنْقَطِعٍ ، مِثْلَ أَنْ يُجْعَلَ عَلَى الْمَسَاكِينِ ، أَوْ طَائِفَةٍ لَا يَجُوزُ بِحُكْمِ الْعَادَةِ انْقِرَاضُهُمْ .
وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَعْلُومِ الِانْتِهَاءِ ، مِثْلَ أَنْ يَقِفَ عَلَى قَوْمٍ يَجُوزُ انْقِرَاضُهُمْ بِحُكْمِ الْعَادَةِ ، وَلَمْ يَجْعَلْ آخِرَهُ لِلْمَسَاكِينِ ، وَلَا لِجِهَةٍ غَيْرِ مُنْقَطِعَةٍ ، فَإِنَّ الْوَقْفَ يَصِحُّ .
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَأَبُو يُوسُفَ ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : لَا يَصِحُّ .
وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ مُقْتَضَاهُ التَّأْبِيدُ .
فَإِذَا كَانَ مُنْقَطِعًا صَارَ وَقْفًا عَلَى مَجْهُولٍ ، فَلَمْ يَصِحَّ ، كَمَا لَوْ وَقَفَ عَلَى مَجْهُولٍ فِي الِابْتِدَاءِ .
وَلَنَا أَنَّهُ تَصَرُّفٌ مَعْلُومُ الْمَصْرِفِ ، فَصَحَّ ، كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِمَصْرِفِهِ الْمُتَّصِلِ ، وَلِأَنَّ الْإِطْلَاقَ إذَا كَانَ لَهُ عُرْفٌ ، حُمِلَ عَلَيْهِ ، كَنَقْدِ الْبَلَدِ وَعُرْفِ الْمَصْرِفِ ، وَهَاهُنَا هُمْ أَوْلَى الْجِهَاتِ بِهِ ، فَكَأَنَّهُ عَيَّنَهُمْ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ يَنْصَرِفُ عِنْدَ انْقِرَاضِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ إلَى أَقَارِبِ الْوَاقِفِ .
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى ، أَنَّهُ يَنْصَرِفُ إلَى الْمَسَاكِينِ وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي ، وَالشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ ؛ لِأَنَّهُ مَصْرِفُ الصَّدَقَاتِ وَحُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الْكَفَّارَاتِ وَنَحْوِهَا ، فَإِذَا وُجِدَتْ صَدَقَةٌ غَيْرُ مُعَيَّنَةِ الْمَصْرِفِ ، انْصَرَفَتْ إلَيْهِمْ ، كَمَا لَوْ نَذَرَ صَدَقَةً مُطْلَقَةً .
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ ، أَنَّهُ يُجْعَلُ فِي بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ لَا مُسْتَحِقَّ لَهُ ، فَأَشْبَهَ مَالَ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يَرْجِعُ إلَى الْوَاقِفِ وَإِلَى وَرَثَتِهِ ، إلَّا أَنْ يَقُولَ :

صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ ، يُنْفَقُ مِنْهَا عَلَى فُلَانٍ وَعَلَى فُلَانٍ .
فَإِذَا انْقَرَضَ الْمُسَمَّى كَانَتْ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ .
لِأَنَّهُ جَعَلَهَا صَدَقَةً عَلَى مُسَمًّى ، فَلَا تَكُونُ عَلَى غَيْرِهِ ، وَيُفَارِقُ مَا إذَا قَالَ : يُنْفَقُ مِنْهَا عَلَى فُلَانٍ وَفُلَانٍ .
فَإِنَّهُ جَعَلَ الصَّدَقَةَ مُطْلَقَةً .
وَلَنَا أَنَّهُ أَزَالَ مِلْكَهُ لِلَّهِ تَعَالَى ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْجِعَ إلَيْهِ ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صَرْفِهِ إلَى أَقَارِبِ الْوَاقِفِ ، أَنَّهُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِصَدَقَتِهِ ، بِدَلِيلِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { صَدَقَتُك عَلَى غَيْرِ رَحِمِك صَدَقَةٌ ، وَصَدَقَتُك عَلَى رَحِمِك صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّك أَنْ تَدَعَ وَرَثَتَك أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ } .
وَلِأَنَّ فِيهِ إغْنَاءَهُمْ وَصِلَةَ أَرْحَامِهِمْ ، لِأَنَّهُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِصَدَقَاتِهِ النَّوَافِلِ وَالْمَفْرُوضَاتِ ، كَذَلِكَ صَدَقَتُهُ الْمَنْقُولَةُ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّهُ فِي ظَاهِرِ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ ، وَظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ ، يَكُونُ لِلْفُقَرَاءِ مِنْهُمْ وَالْأَغْنِيَاءِ ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ لَا يَخْتَصُّ الْفُقَرَاءَ ، وَلَوْ وَقَفَ عَلَى أَوْلَادِهِ ، تَنَاوَلَ الْفُقَرَاءَ وَالْأَغْنِيَاءَ ، كَذَا هَاهُنَا .
وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرِ ، أَنَّهُ يَخْتَصُّ الْفُقَرَاءَ مِنْهُمْ ، لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الصَّدَقَاتِ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ ، وَلِأَنَّا خَصَصْنَاهُمْ بِالْوَقْفِ لِكَوْنِهِمْ أَوْلَى النَّاسِ بِالصَّدَقَةِ ، وَأَوْلَى النَّاسِ بِالصَّدَقَةِ الْفُقَرَاءُ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي مَنْ يَسْتَحِقُّ الْوَقْفَ مِنْ أَقْرِبَاءِ الْوَاقِفِ ، فَفِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ ، يَرْجِعُ إلَى الْوَرَثَةِ مِنْهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ الَّذِينَ صَرَفَ اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِمْ مَالَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَاسْتِغْنَائِهِ عَنْهُ ، فَكَذَلِكَ يُصْرَفُ إلَيْهِمْ مِنْ صَدَقَتِهِ مَا لَمْ يَذْكُرْ لَهُ مَصْرِفًا ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّك أَنْ

تَتْرُكَ وَرَثَتَك أَغْنِيَاءَ ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ } .
فَعَلَى هَذَا يَكُونُ بَيْنَهُمْ عَلَى حَسَبِ مِيرَاثِهِمْ ، وَيَكُونُ وَقْفًا عَلَيْهِمْ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، وَذَكَرَهُ الْقَاضِي ، لِأَنَّ الْوَقْفَ يَقْتَضِي التَّأْبِيدَ ، وَإِنَّمَا صَرَفْنَاهُ إلَى هَؤُلَاءِ لِأَنَّهُمْ أَحَقُّ النَّاسِ بِصَدَقَتِهِ ، فَصُرِفَ إلَيْهِمْ مَعَ بَقَائِهِ صَدَقَةً .
وَيَحْتَمِلُ كَلَامُ الْخِرَقِيِّ أَنْ يُصْرَفَ إلَيْهِمْ عَلَى سَبِيلِ الْإِرْثِ ، وَيَبْطُلَ الْوَقْفُ فِيهِ .
فَعَلَى هَذَا يَكُونُ كَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَة يَكُونُ وَقْفًا عَلَى أَقْرَبِ عَصَبَةِ الْوَاقِفِ ، دُونَ بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ مِنْ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ ، وَدُونَ الْبَعِيدِ مِنْ الْعَصَبَاتِ ، فَيُقَدَّمُ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ ، عَلَى حَسَبِ اسْتِحْقَاقِهِمْ لِوَلَاءِ الْمَوَالِي ، لِأَنَّهُمْ خُصُّوا بِالْعَقْلِ عَنْهُ ، وَبِمِيرَاثِ مَوَالِيه ، فَخُصُّوا بِهَذَا أَيْضًا .
وَهَذَا لَا يَقْوَى عِنْدِي ، فَإِنَّ اسْتِحْقَاقَهُمْ لِهَذَا دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ النَّاسِ لَا يَكُونُ إلَّا بِدَلِيلٍ مِنْ نَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ نَصًّا ، وَلَا إجْمَاعًا ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى مِيرَاثِ وَلَاءِ الْمَوَالِي ؛ لِأَنَّ عِلَّتَهُ لَا تَتَحَقَّقُ هَاهُنَا وَأَقْرَبُ الْأَقْوَالِ فِيهِ صَرْفُهُ إلَى الْمَسَاكِينِ ؛ لِأَنَّهُمْ مَصَارِفُ مَالِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقُهُ ، فَإِنْ كَانَ فِي أَقَارِبِ الْوَاقِفِ مَسَاكِينُ ، كَانُوا أُولَى بِهِ ، لَا عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ ، كَمَا أَنَّهُمْ أَوْلَى بِزَكَاتِهِ وَصَلَاتِهِ مَعَ جَوَازِ الصَّرْفِ إلَى غَيْرِهِمْ ، وَلِأَنَّنَا إذَا صَرَفْنَاهُ إلَى أَقَارِبِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّعْيِينِ ، فَهِيَ أَيْضًا جِهَةٌ مُنْقَطِعَةٌ ، فَلَا يَتَحَقَّقُ اتِّصَالُهُ إلَّا بِصَرْفِهِ إلَى الْمَسَاكِينِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَكُونُ وَقْفًا عَلَى أَقْرَبِ النَّاسِ إلَى الْوَاقِفِ ، الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى فِيهِ سَوَاءٌ .
( 4399 ) فَصْلٌ : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْوَاقِفِ أَقَارِبُ ، أَوْ كَانَ لَهُ أَقَارِبُ فَانْقَرَضُوا ، صُرِفَ إلَى الْفُقَرَاءِ

وَالْمَسَاكِينِ وَقْفًا عَلَيْهِمْ لِأَنَّ الْقَصْدَ بِهِ الثَّوَابُ الْجَارِي عَلَيْهِ عَلَى وَجْهِ الدَّوَامِ ، وَإِنَّمَا قَدَّمْنَا الْأَقَارِبَ عَلَى الْمَسَاكِينِ ، لِكَوْنِهِمْ أُولَى ، فَإِذَا لَمْ يَكُونُوا ، فَالْمَسَاكِينُ أَهْلٌ لِذَلِكَ ، فَصُرِفَ إلَيْهِمْ ، إلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ : إنَّهُ يُصْرَفُ إلَى وَرَثَةِ الْوَاقِفِ مِلْكًا لَهُمْ .
فَإِنَّهُ يُصْرَفُ عِنْدَ عَدَمِهِمْ إلَى بَيْتِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ بَطَلَ الْوَقْفُ فِيهِ بِانْقِطَاعِهِ ، وَصَارَ مِيرَاثًا لَا وَارِثَ لَهُ ، فَكَانَ بَيْتُ الْمَالِ بِهِ أَوْلَى .

( 4400 ) فَصْلٌ : فَإِنْ قَالَ : وَقَفْت هَذَا .
وَسَكَتَ ، أَوْ قَالَ : صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ .
وَلَمْ يَذْكُرْ سَبِيلَهُ .
فَلَا نَصَّ فِيهِ .
وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ : يَصِحُّ الْوَقْفُ .
قَالَ الْقَاضِي : هُوَ قِيَاسُ قَوْلِ أَحْمَدَ ؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِي النَّذْرِ الْمُطْلَقِ : يَنْعَقِدُ مُوجِبًا لِكَفَّارَةِ يَمِينٍ .
وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ إزَالَةُ مِلْكٍ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَصِحَّ مُطْلَقُهُ ، كَالْأُضْحِيَّةِ وَالْوَصِيَّةِ .
وَلَوْ قَالَ : وَصَّيْت بِثُلُثِ مَالِي .
صَحَّ ، وَإِذَا صَحَّ صُرِفَ إلَى مَصَارِفِ الْوَقْفِ الْمُنْقَطِعِ بَعْدَ انْقِرَاضِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ .

( 4401 ) فَصْلٌ : وَإِنْ وَقَفَ عَلَى مَنْ يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ ، ثُمَّ عَلَى مَنْ لَا يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ ، مِثْلُ أَنْ يَقِفَ عَلَى أَوْلَادِهِ ، ثُمَّ عَلَى الْبِيَعِ .
صَحَّ الْوَقْفُ أَيْضًا ، وَيُصْرَفُ بَعْدَ انْقِرَاضِ مَنْ يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَيْهِ إلَى مَنْ يُصْرَفُ إلَيْهِ الْوَقْفُ الْمُنْقَطِعُ ؛ لِأَنَّ ذِكْرَهُ لِمَنْ لَا يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ وَعَدَمَهُ وَاحِدٌ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَصِحَّ الْوَقْفُ ؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ مَا يَجُوزُ وَمَا لَا يَجُوزُ ، فَأَشْبَهَ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ .

فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ مُنْقَطِعَ الِابْتِدَاءِ ، مِثْلَ أَنْ يَقِفَهُ عَلَى مَنْ لَا يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ ، كَنَفْسِهِ ، أَوْ أُمِّ وَلَدِهِ ، أَوْ عَبْدِهِ ، أَوْ كَنِيسَةٍ ، أَوْ مَجْهُولٍ ، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ لَهُ مَالًا يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ ، فَالْوَقْفُ بَاطِلٌ .
وَكَذَلِكَ إنْ جَعَلَ مَالَهُ مِمَّا لَا يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ أَخَلَّ بِأَحَدِ شَرْطَيْ الْوَقْفِ فَبَطَلَ ، كَمَا لَوْ وَقَفَ مَا لَا يَجُوزُ وَقْفُهُ .
وَإِنْ جَعَلَ لَهُ مَالًا يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ ، مِثْلُ أَنْ يَقِفَهُ عَلَى عَبْدِهِ ، ثُمَّ عَلَى الْمَسَاكِينِ ، فَفِي صِحَّتِهِ وَجْهَانِ ، بِنَاءً عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ ، كَالْوَجْهَيْنِ ، فَإِذَا قُلْنَا : يَصِحُّ .
وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي ، وَكَانَ مَنْ لَا يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ مِمَّنْ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ انْقِرَاضِهِ ، كَالْمَيِّتِ وَالْمَجْهُولِ وَالْكَنَائِسِ ، صُرِفَ فِي الْحَالِ إلَى مَنْ يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّنَا لَمَّا صَحَّحْنَا الْوَقْفَ مَعَ ذِكْرِ مَا لَا يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ ، فَقَدْ أَلْغَيْنَاهُ ؛ فَإِنَّهُ يَتَعَذَّرُ التَّصْحِيحُ مَعَ اعْتِبَارِهِ ، وَإِنْ كَانَ مَنْ لَا يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ يُمْكِنُ اعْتِبَارُ انْقِرَاضِهِ ، كَأُمِّ وَلَدِهِ ، وَعَبْدٍ مُعَيَّنٍ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا ، أَنَّهُ يُصْرَفُ فِي الْحَالِ إلَى مَنْ يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ ، كَالَّتِي قَبْلَهَا .
ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ وَالثَّانِي أَنَّهُ يُصْرَفُ فِي الْحَالِ إلَى مَصْرِفِ الْوَقْفِ الْمُنْقَطِعِ ، إلَى أَنْ يَنْقَرِضَ مَنْ لَا يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ ، فَإِذَا انْقَرَضَ صُرِفَ إلَى مَنْ يَجُوزُ .
وَهَذَا الْوَجْهُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي ، وَابْنُ عَقِيلٍ ؛ لِأَنَّ الْوَاقِفَ إنَّمَا جَعَلَهُ وَقْفًا عَلَى مَنْ يَجُوزُ بِشَرْطِ انْقِرَاضِ هَذَا ، فَلَا يَثْبُتُ بِدُونِهِ .
وَفَارَقَ مَا لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ انْقِرَاضِهِ ، فَإِنَّهُ تَعَذَّرَ اعْتِبَارُهُ .
وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ ، كَهَذَيْنِ .

( 4403 ) فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ صَحِيحَ الطَّرَفَيْنِ ، مُنْقَطِعَ الْوَسَطِ ، مِثْلَ أَنْ يَقِفَ عَلَى وَلَدِهِ ، ثُمَّ عَلَى عَبِيدِهِ ، ثُمَّ عَلَى الْمَسَاكِينِ .
خُرِّجَ فِي صِحَّةِ الْوَقْفِ وَجْهَانِ ، كَمُنْقَطِعِ الِانْتِهَاءِ ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِيمَا لَا يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ اعْتِبَارُ انْقِرَاضِهِ أَلْغَيْنَاهُ إذَا قُلْنَا بِالصِّحَّةِ ، وَإِنْ أَمْكَنَ اعْتِبَارُ انْقِرَاضِهِ فَهَلْ يُعْتَبَرُ أَوْ يُلْغَى ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ، كَمَا تَقَدَّمَ ، وَإِنْ كَانَ مُنْقَطِعَ الطَّرَفَيْنِ ، صَحِيحَ الْوَسَطِ كَرَجُلٍ وَقَفَ عَلَى عَبِيدِهِ ، ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِ ، ثُمَّ عَلَى الْكَنِيسَةِ ، خُرِّجَ فِي صِحَّتِهِ أَيْضًا وَجْهَانِ ، وَمَصْرِفُهُ بَعْدَ مَنْ يَجُوزُ إلَى مَصْرِفِ الْوَقْفِ الْمُنْقَطِعِ .

( 4404 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( وَمَنْ وَقَفَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ ، أَوْ قَالَ : هُوَ وَقْفٌ بَعْدَ مَوْتِي .
وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ الثُّلُثِ ، وُقِفَ مِنْهُ بِقَدْرِ الثُّلُثِ ، إلَّا أَنْ تُجِيزَ الْوَرَثَةُ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْوَقْفَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ ، بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ ، فِي اعْتِبَارِهِ مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ ، فَاعْتُبِرَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ مِنْ الثُّلُثِ ، كَالْعِتْقِ وَالْهِبَةِ وَإِذَا خَرَجَ مِنْ الثُّلُثِ ، جَازَ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْوَرَثَةِ وَلَزِمَ ، وَمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ ، لَزِمَ الْوَقْفُ مِنْهُ فِي قَدْرِ الثُّلُثِ ، وَوَقَفَ الزَّائِدُ عَلَى إجَازَةِ الْوَرَثَةِ .
لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِلُزُومِ الْوَقْفِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ حَقَّ الْوَرَثَةِ تَعَلَّقَ بِالْمَالِ بِوُجُودِ الْمَرَضِ ، فَمَنَعَ التَّبَرُّعَ بِزِيَادَةٍ عَلَى الثُّلُثِ ، كَالْعَطَايَا وَالْعِتْقِ .
فَأَمَّا إذَا قَالَ : هُوَ وَقْفٌ بَعْدَ مَوْتِي .
فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ يَصِحُّ ، وَيُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ كَسَائِرِ الْوَصَايَا وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ .
وَقَالَ الْقَاضِي : لَا يَصِحُّ هَذَا ؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيقٌ لِلْوَقْفِ عَلَى شَرْطٍ ، وَتَعْلِيقُ الْوَقْفِ عَلَى شَرْطٍ غَيْرُ جَائِزٍ ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ عَلَّقَهُ عَلَى شَرْطٍ فِي حَيَاتِهِ ، وَحُمِلَ كَلَامُ الْخِرَقِيِّ عَلَى أَنَّهُ قَالَ : قِفُوا بَعْدَ مَوْتِي .
فَيَكُونُ وَصِيَّةً بِالْوَقْفِ لَا إيقَافًا .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : قَوْلُ الْخِرَقِيِّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ تَعْلِيقِ الْوَقْفِ عَلَى شَرْطٍ .
وَلَنَا عَلَى صِحَّةِ الْوَقْفِ بِالْمُعَلَّقِ بِالْمَوْتِ ، مَا احْتَجَّ بِهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ عُمَرَ وَصَّى ، فَكَانَ فِي وَصِيَّتِهِ : هَذَا مَا أَوْصَى بِهِ عَبْدُ اللَّهِ عُمَرُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ إنْ حَدَثَ بِهِ حَدَثٌ ، أَنَّ ثَمْغًا صَدَقَةٌ .
وَذَكَرَ بَقِيَّةَ الْخَبَرِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِنَحْوٍ مِنْ هَذَا ، وَهَذَا نَصٌّ فِي مَسْأَلَتِنَا ، وَوَقْفُهُ هَذَا كَانَ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى

اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَنَّهُ اشْتَهَرَ فِي الصَّحَابَةِ ، فَلَمْ يُنْكَرْ ، فَكَانَ إجْمَاعًا ، وَلِأَنَّ هَذَا تَبَرُّعٌ مُعَلَّقٌ بِالْمَوْتِ ، فَصَحَّ كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ الْمُطْلَقَةِ ، أَوْ نَقُولُ : صَدَقَةٌ مُعَلَّقَةٌ بِالْمَوْتِ ، فَأَشْبَهَتْ غَيْرَ الْوَقْفِ .
وَيُفَارِقُ هَذَا التَّعْلِيقَ عَلَى شَرْطٍ فِي الْحَيَاةِ ، بِدَلِيلِ الْهِبَةِ الْمُطْلَقَةِ ، وَالصَّدَقَةِ ، وَغَيْرِهِمَا ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا وَصِيَّةٌ ، وَالْوَصِيَّةُ أَوْسَعُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْحَيَاةِ ، بِدَلِيلِ جَوَازِهَا بِالْمَجْهُولِ وَالْمَعْدُومِ ، وَلِلْمَجْهُولِ ، وَلِلْحَمْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ فَسَادُ قِيَاسِ مَنْ قَاسَ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ بَقِيَّةَ الشُّرُوطِ .

( 4405 ) فَصْلٌ : وَلَا يَجُوزُ تَعْلِيقُ ابْتِدَاءِ الْوَقْفِ عَلَى شَرْطٍ فِي الْحَيَاةِ ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ : إذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ فَدَارِي وَقْفٌ ، أَوْ فَرَسِي حَبِيسٌ ، أَوْ إذَا وُلِدَ لِي وَلَدٌ ، أَوْ إذَا قَدِمَ لِي غَائِبِي .
وَنَحْوَ ذَلِكَ .
وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا ؛ لِأَنَّهُ نَقْلٌ لِلْمِلْكِ فِيمَا لَمْ يُبْنَ عَلَى التَّغْلِيبِ وَالسِّرَايَةِ ، فَلَمْ يَجُزْ تَعْلِيقُهُ عَلَى شَرْطٍ كَالْهِبَةِ وَسَوَّى الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا بَيْنَ تَعْلِيقِهِ بِالْمَوْتِ ، وَتَعْلِيقِهِ بِشَرْطٍ فِي الْحَيَاةِ .
وَلَا يَصِحُّ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فِيمَا قَبْلَ هَذَا .
( 4406 ) فَصْلٌ : وَإِنْ عَلَّقَ انْتِهَاءَهُ عَلَى شَرْطٍ ، نَحْوَ قَوْلِهِ : دَارِي وَقْفٌ إلَى سَنَةٍ ، أَوْ إلَى أَنْ يَقْدَمَ الْحَاجُّ .
لَمْ يَصِحَّ ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ يُنَافِي مُقْتَضَى الْوَقْفِ ، فَإِنَّ مُقْتَضَاهُ التَّأْبِيدُ .
وَفِي الْآخَرِ يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ مُنْقَطِعُ الِانْتِهَاءِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ وَقَفَهُ عَلَى مُنْقَطِعِ الِانْتِهَاءِ ، فَإِنْ حَكَمْنَا بِصِحَّتِهِ هَاهُنَا ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ مُنْقَطِعِ الِانْتِهَاءِ .
( 4407 ) فَصْلٌ : وَإِنْ قَالَ : هَذَا وَقْفٌ عَلَى وَلَدِي سَنَةً ، ثُمَّ عَلَى الْمَسَاكِينِ .
صَحَّ .
وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ : هَذَا وَقْفٌ عَلَى وَلَدِي مُدَّةَ حَيَاتِي ، ثُمَّ هُوَ بَعْدَ مَوْتِي لِلْمَسَاكِينِ .
صَحَّ ؛ لِأَنَّهُ وَقْفٌ مُتَّصِلُ الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ .
وَإِنْ قَالَ : وَقْفٌ عَلَى الْمَسَاكِينِ ، ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِي صَحَّ ، وَيَكُونُ وَقْفًا عَلَى الْمَسَاكِينِ ، وَيُلْغَى قَوْلُهُ : عَلَى أَوْلَادِي .
لِأَنَّ الْمَسَاكِينَ لَا انْقِرَاضَ لَهُمْ .

( 4408 ) فَصْلٌ : وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِي الْوَقْفِ فِي مَرَضِهِ عَلَى بَعْضِ وَرَثَتِهِ ، فَعَنْهُ : لَا يَجُوزُ ذَلِكَ ، فَإِنْ فَعَلَ وَقَفَ عَلَى إجَازَةِ سَائِرِ الْوَرَثَةِ ، قَالَ أَحْمَدَ ، فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ ، فِي مَنْ أَوْصَى ، لِأَوْلَادِ بَنِيهِ بِأَرْضٍ تُوقَفُ عَلَيْهِمْ ، فَقَالَ : إنْ لَمْ يَرِثُوهُ فَجَائِزٌ .
فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَيْهِمْ فِي الْمَرَضِ .
اخْتَارَهُ أَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ ، وَابْنُ عَقِيلٍ ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ ، يَجُوزُ أَنْ يَقِفَ عَلَيْهِمْ ثُلُثَهُ ، كَالْأَجَانِبِ ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ الْمَيْمُونِيُّ : يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَقِفَ فِي مَرَضِهِ عَلَى وَرَثَتِهِ .
فَقِيلَ لَهُ : أَلَيْسَ تَذْهَبُ أَنَّهُ لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ ، وَالْوَقْفُ غَيْرُ الْوَصِيَّةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُبَاعُ وَلَا يُورَثُ ، وَلَا يَصِيرُ مِلْكًا لِلْوَرَثَةِ يَنْتَفِعُونَ بِغَلَّتِهِ .
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ ، فَإِنَّهُ صَرَّحَ فِي مَسْأَلَتِهِ بِوَقْفِ ثُلُثِهِ عَلَى بَعْضِ وَرَثَتِهِ دُونَ بَعْضٍ ، فَقَالَ : جَائِزٌ قَالَ الْخَبَرِيُّ : وَأَجَازَ هَذَا الْأَكْثَرُونَ .
وَاحْتَجَّ أَحْمَدُ ، بِحَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : هَذَا مَا أَوْصَى بِهِ عَبْدُ اللَّهِ عُمَرُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ، إنْ حَدَثَ بِهِ حَدَثٌ أَنَّ ثَمْغًا صَدَقَةٌ ، وَالْعَبْدَ الَّذِي فِيهِ ، وَالسَّهْمَ الَّذِي بِخَيْبَرَ ، وَرَقِيقَهُ الَّذِي فِيهِ ، وَالْمِائَةَ وَسْقٍ الَّذِي أَطْعَمَنِي مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلِيه حَفْصَةُ مَا عَاشَتْ ، ثُمَّ يَلِيهِ ذَوُو الرَّأْيِ مِنْ أَهْلِهِ ، لَا يُبَاعُ وَلَا يُشْتَرَى ، يُنْفِقُهُ حَيْثُ يَرَى مِنْ السَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ وَذَوِي الْقُرْبَى ، وَلَا حَرَجَ عَلَى مَنْ وَلِيَهُ إنْ أَكَلَ أَوْ اشْتَرَى رَقِيقًا .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِنَحْوٍ مِنْ هَذَا فَالْحُجَّةُ أَنَّهُ جَعَلَ لِحَفْصَةَ أَنْ تَلِيَ وَقْفَهُ ، وَتَأْكُلَ مِنْهُ ، وَتَشْتَرِيَ رَقِيقًا .
قَالَ الْمَيْمُونِيُّ : قُلْت لِأَحْمَدْ :

إنَّمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَرَ بِالْإِيقَافِ ، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ الْوَارِثُ .
قَالَ : فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ وَهُوَ ذَا قَدْ وَقَفَهَا عَلَى وَرَثَتِهِ ، وَحَبَسَ الْأَصْلَ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا ، وَلِأَنَّ الْوَقْفَ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْمِلْكِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ ، فَهُوَ كَعِتْقِ الْوَارِثِ .
وَلَنَا أَنَّهُ تَخْصِيصٌ لِبَعْضِ الْوَرَثَةِ بِمَالِهِ فِي مَرَضِهِ ، فَمُنِعَ مِنْهُ ، كَالْهِبَاتِ وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَا تَجُوزُ لَهُ الْوَصِيَّةُ بِالْعَيْنِ ، لَا تَجُوزُ بِالْمَنْفَعَةِ ، كَالْأَجْنَبِيِّ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ وَأَمَّا خَبَرُ عُمَرَ ، فَإِنَّهُ لَمْ يَخُصَّ بَعْضَ الْوَرَثَةِ بِوَقْفِهِ ، وَالنِّزَاعُ إنَّمَا هُوَ فِي تَخْصِيصِ بَعْضِهِمْ .
وَأَمَّا جَعْلُ الْوِلَايَةِ لِحَفْصَةَ ، فَلَيْسَ ذَلِكَ وَقْفًا عَلَيْهَا ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ وَارِدًا فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ ، وَكَوْنُهُ انْتِفَاعًا بِالْغَلَّةِ لَا يَقْتَضِي جَوَازَ التَّخْصِيصِ ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ أَوْصَى لِوَرَثَتِهِ بِمَنْفَعَةِ عَبْدٍ ، لَمْ يَجُزْ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ ، عَلَى أَنَّهُ وَقَفَ عَلَى جَمِيعِ الْوَرَثَةِ ، لِيَكُونَ عَلَى وَفْقِ حَدِيثِ عُمَرَ ، وَعَلَى وَفْقِ الدَّلِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا .

( 4409 ) فَصْلٌ : فَإِنْ وَقَفَ دَارِهِ ، وَهِيَ تَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ ، بَيْنَ ابْنِهِ وَبِنْتِهِ نِصْفَيْنِ ، فِي مَرَضِ مَوْتِهِ ، فَعَلَى رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ يَصِحُّ الْوَقْفُ ، وَيَلْزَمُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ يَجُوزُ لَهُ تَخْصِيصُ الْبِنْتِ بِوَقْفِ الدَّارِ كُلِّهَا ، فَبِنِصْفِهَا أَوْلَى .
وَعَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي نَصَرْنَاهَا ، إنْ أَجَازَ الِابْنُ ذَلِكَ جَازَ ، وَإِنْ لَمْ يُجِزْهُ بَطَلَ الْوَقْفُ فِيمَا زَادَ عَلَى نَصِيبِ الْبِنْتِ ، وَهُوَ السُّدُسُ ، وَيَرْجِعُ إلَى الِابْنِ مِلْكًا ، فَيَكُونُ لَهُ النِّصْفُ وَقْفًا ، وَالسُّدُسُ مِلْكًا مُطْلَقًا ، وَالثُّلُثُ لِلْبِنْتِ جَمِيعُهُ وَقْفًا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَبْطُلَ الْوَقْفُ فِي نِصْفِ مَا وَقَفَ عَلَى الْبِنْتِ ، وَهُوَ الرُّبْعُ ، وَيَبْقَى ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الدَّارِ وَقْفًا ، نِصْفُهَا لِلِابْنِ ، وَرُبْعُهَا لِلْبِنْتِ ، وَالرُّبْعُ الَّذِي بَطَلَ الْوَقْفُ فِيهِ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا ، لِلِابْنِ ثُلُثَاهُ ، وَلِلْبِنْتِ ثُلُثُهُ ، وَتَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ ؛ لِلِابْنِ سِتَّةُ أَسْهُمٍ وَقْفًا وَسَهْمَانِ مِلْكًا ، وَلِلْبِنْتِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ وَقْفًا وَسَهْمٌ مِلْكًا .
وَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى ابْنِهِ وَزَوْجَتِهِ نِصْفَيْنِ ، وَهِيَ تَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ ، فَرَدَّ الِابْنُ ، صَحَّ الْوَقْفُ عَلَى الِابْنِ فِي نِصْفِهَا ، وَعَلَى الْمَرْأَةِ فِي ثُمْنِهَا ، وَلِلِابْنِ إبْطَالُ الْوَقْفِ فِي ثَلَاثَةِ أَثْمَانِهَا ، فَتَرْجِعُ إلَيْهِ مِلْكًا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ .
وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي ، يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى الِابْنِ فِي نِصْفِهَا ، وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ نَصِيبِهِ ، وَيَرْجِعُ إلَيْهِ بَاقِي نَصِيبِهِ مِلْكًا ، وَيَصِحُّ الْوَقْفُ فِي أَرْبَعَةِ أَسْبَاعِ الثُّمْنِ الَّذِي لِلْمَرْأَةِ ، وَبَاقِيه يَكُونُ لَهَا مِلْكًا ، فَاضْرِبْ سَبْعَةً فِي ثَمَانِيَةٍ ، تَكُونُ سِتَّةً وَخَمْسِينَ ، لِلِابْنِ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ وَقْفًا ، وَأَحَدٌ وَعِشْرُونَ مِلْكًا ، وَلِلْمَرْأَةِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ وَقْفًا ، وَثَلَاثَةٌ مِلْكًا .
وَهَكَذَا ذَكَرَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ .
فَأَمَّا إنْ كَانَتْ الدَّارُ جَمِيعَ مِلْكِهِ ، فَوَقَفَهَا

كُلَّهَا ، فَعَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ .
الْحُكْمُ فِيهَا كَمَا لَوْ كَانَتْ تَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ ، فَإِنَّ الْوَارِثَ فِي جَمِيعِ الْمَالِ كَالْأَجْنَبِيِّ فِي الزَّائِدِ عَنْ الثُّلُثِ ، وَأَمَّا عَلَى مَا رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ ، فَإِنَّ الْوَقْفَ يَلْزَمُ فِي الثُّلُثِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِ الْوَرَثَةِ ، وَفِيمَا زَادَ فَلَهُمَا إبْطَالُ الْوَقْفِ فِيهِ ، وَلِلِابْنِ إبْطَالُ التَّسْوِيَةِ ، فَإِنْ اخْتَارَ إبْطَالَ التَّسْوِيَةِ دُونَ إبْطَالِ الْوَقْفِ ، خُرِّجَ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا ، أَنَّهُ يَبْطُلُ الْوَقْفُ فِي التُّسْعِ ، وَيَرْجِعُ إلَيْهِ مِلْكًا ، فَيَصِيرُ لَهُ النِّصْفُ وَقْفًا ، وَالتُّسْعُ مِلْكًا ، وَيَكُونُ لِلْبِنْتِ السُّدُسُ وَالتُّسْعَانِ وَقْفًا ؛ لِأَنَّ الِابْنَ إنَّمَا يَمْلِكُ إبْطَالَ الْوَقْفِ فِي مَا لَهُ دُونَ مَا لِغَيْرِهِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ لَهُ إبْطَالَ الْوَقْفِ فِي السُّدُسِ ، وَيَصِيرُ لَهُ النِّصْفُ وَقْفًا ، وَالتُّسْعُ مِلْكًا ، وَلِلْبِنْتِ الثُّلُثُ وَقْفًا ، وَنِصْفُ التُّسْعِ مِلْكًا ؛ لِئَلَّا تَزْدَادَ الْبِنْتُ عَلَى الِابْنِ فِي الْوَقْفِ .
وَتَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ فِي هَذَا الْوَجْه مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ ، لِلِابْنِ تِسْعَةٌ وَقْفًا وَسَهْمَانِ مِلْكًا ، وَلِلْبِنْتِ سِتَّةُ أَسْهُمٍ وَقْفًا وَسَهْمٌ مِلْكًا .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : لَهُ إبْطَالُ الْوَقْفِ فِي الرُّبْعِ كُلِّهِ ، وَيَصِيرُ لَهُ النِّصْفُ وَقْفًا وَالسُّدُسُ مِلْكًا ، وَيَكُونُ لِلْبِنْتِ الرُّبْعُ وَقْفًا وَنِصْفُ السُّدُسِ مِلْكًا ، كَمَا لَوْ كَانَتْ الدَّارُ تَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ ، وَتَصِحُّ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ .

( 4410 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( وَإِذَا خَرِبَ الْوَقْفُ ، وَلَمْ يَرُدَّ شَيْئًا ، بِيعَ ، وَاشْتُرِيَ بِثَمَنِهِ مَا يُرَدُّ عَلَى أَهْلِ الْوَقْفِ ، وَجُعِلَ وَقْفًا كَالْأَوَّلِ ، وَكَذَلِكَ الْفَرَسُ الْحَبِيسُ إذَا لَمْ يَصْلُحْ لِلْغَزْوِ ، بِيعَ ، وَاشْتُرِيَ بِثَمَنِهِ مَا يَصْلُحُ لِلْجِهَادِ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْوَقْفَ إذَا خَرِبَ ، وَتَعَطَّلَتْ مَنَافِعُهُ ، كَدَارٍ انْهَدَمَتْ ، أَوْ أَرْضٍ خَرِبَتْ ، وَعَادَتْ مَوَاتًا ، وَلَمْ تُمْكِنْ عِمَارَتُهَا ، أَوْ مَسْجِدٍ انْتَقَلَ أَهْلُ الْقَرْيَةِ عَنْهُ ، وَصَارَ فِي مَوْضِعٍ لَا يُصَلَّى فِيهِ ، أَوْ ضَاقَ بِأَهْلِهِ وَلَمْ يُمْكِنْ تَوْسِيعُهُ فِي مَوْضِعِهِ .
أَوْ تَشَعَّبَ جَمِيعُهُ فَلَمْ تُمْكِنْ عِمَارَتُهُ وَلَا عِمَارَةُ بَعْضِهِ إلَّا بِبَيْعِ بَعْضِهِ ، جَازَ بَيْعُ بَعْضِهِ لِتُعَمَّرَ بِهِ بَقِيَّتُهُ .
وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ الِانْتِفَاعُ بِشَيْءٍ مِنْهُ ، بِيعَ جَمِيعُهُ .
قَالَ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد : إذَا كَانَ فِي الْمَسْجِدِ خَشَبَتَانِ ، لَهُمَا قِيمَةٌ ، جَازَ بَيْعُهُمَا وَصَرْفُ ثَمَنِهِمَا عَلَيْهِ .
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ : يُحَوَّلُ الْمَسْجِدُ خَوْفًا مِنْ اللُّصُوصِ ، وَإِذَا كَانَ مَوْضِعُهُ قَذِرًا .
قَالَ الْقَاضِي : يَعْنِي إذَا كَانَ ذَلِكَ يَمْنَعُ مِنْ الصَّلَاةِ فِيهِ .
وَنَصَّ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ عَرْصَتِهِ ، فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ ، وَتَكُونُ الشَّهَادَةُ فِي ذَلِكَ عَلَى الْإِمَامِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَقَدْ رَوَى عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ ، أَنَّ الْمَسَاجِدَ لَا تُبَاعُ ، وَإِنَّمَا تُنْقَلُ آلَتُهَا .
قَالَ : وَبِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَقُولُ ؛ لِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الْفَرَسِ الْحَبِيسِ يَعْنِي الْمَوْقُوفَةَ عَلَى الْغَزْوِ إذَا كَبِرَتْ ، فَلَمْ تَصْلُحْ لِلْغَزْوِ ، وَأَمْكَنَ الِانْتِفَاعُ بِهَا فِي شَيْءٍ آخَرَ ، مِثْلُ أَنْ تَدُورَ فِي الرَّحَى ، أَوْ يُحْمَلَ عَلَيْهَا تُرَابٌ ، أَوْ تَكُونَ الرَّغْبَةُ فِي نِتَاجِهَا ، أَوْ حِصَانًا يُتَّخَذُ لِلطِّرَاقِ ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهَا ، وَيُشْتَرَى بِثَمَنِهَا مَا يَصْلُحُ لِلْغَزْوِ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : إذَا خَرِبَ

الْمَسْجِدُ أَوْ الْوَقْفُ ، عَادَ إلَى مِلْكِ وَاقِفِهِ ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ إنَّمَا هُوَ تَسْبِيلُ الْمَنْفَعَةِ ، فَإِذَا زَالَتْ مَنْفَعَتُهُ ، زَالَ حَقُّ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ مِنْهُ ، فَزَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ .
وَقَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ : لَا يَجُوزُ بَيْعُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا يُبَاعُ أَصْلُهَا ، وَلَا تُبْتَاعُ ، وَلَا تُوهَبُ ، وَلَا تُورَثُ " .
وَلِأَنَّ مَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مَعَ بَقَاءِ مَنَافِعِهِ ، لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مَعَ تَعَطُّلِهَا ، كَالْمُعْتَقِ ، وَالْمَسْجِدُ أَشْبَهُ الْأَشْيَاءِ بِالْمُعْتَقِ وَلَنَا مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ إلَى سَعْدٍ ، لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّهُ قَدْ نَقَّبَ بَيْتَ الْمَالِ الَّذِي بِالْكُوفَةِ ، أَنْ اُنْقُلْ الْمَسْجِدَ الَّذِي بِالتَّمَارِينِ ، وَاجْعَلْ بَيْتَ الْمَالِ فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ ، فَإِنَّهُ لَنْ يَزَالَ فِي الْمَسْجِدِ مُصَلٍّ .
وَكَانَ هَذَا بِمَشْهَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ ، وَلَمْ يَظْهَرْ خِلَافُهُ ، فَكَانَ إجْمَاعًا .
وَلِأَنَّ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ اسْتِبْقَاءَ الْوَقْفِ بِمَعْنَاهُ عِنْدَ تَعَذُّرِ إبْقَائِهِ ، بِصُورَتِهِ ، فَوَجَبَ ذَلِكَ ، كَمَا لَوْ اسْتَوْلَدَ الْجَارِيَةَ الْمَوْقُوفَةَ ، أَوْ قَبَّلَهَا غَيْرُهُ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : الْوَقْفُ مُؤَبَّدٌ ، فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ تَأْبِيدُهُ عَلَى وَجْهٍ ، يُخَصِّصُهُ اسْتِبْقَاءُ الْغَرَضِ ، وَهُوَ الِانْتِفَاعُ عَلَى الدَّوَامِ فِي عَيْنٍ أُخْرَى ، وَإِيصَالُ الْأَبْدَالِ جَرَى مَجْرَى الْأَعْيَانِ ، وَجُمُودُنَا عَلَى الْعَيْنِ مَعَ تَعَطُّلِهَا تَضْيِيعٌ لِلْغَرَضِ .
وَيَقْرُبُ هَذَا مِنْ الْهَدْيِ إذَا عَطِبَ فِي السَّفَرِ ، فَإِنَّهُ يُذْبَحُ فِي الْحَالِ ، وَإِنْ كَانَ يَخْتَصُّ بِمَوْضِعٍ ، فَلَمَّا تَعَذَّرَ تَحْصِيلُ الْغَرَضِ بِالْكُلِّيَّةِ ، اُسْتُوْفِيَ مِنْهُ مَا أَمْكَنَ ، وَتُرِكَ مُرَاعَاةُ الْمَحَلِّ الْخَاصِّ عِنْدَ تَعَذُّرِهِ ؛ لِأَنَّ مُرَاعَاتَهُ مَعَ تَعَذُّرِهِ تُفْضِي إلَى فَوَاتِ الِانْتِفَاعِ بِالْكُلِّيَّةِ ، وَهَكَذَا الْوَقْفُ الْمُعَطَّلُ الْمَنَافِعِ وَلَنَا عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ ، أَنَّهُ إزَالَةُ

مِلْكٍ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ ، فَلَا يَعُودُ إلَى مَالِكِهِ بِاخْتِلَالِهِ ، وَذَهَابِ مَنَافِعِهِ كَالْعِتْقِ .

( 4411 ) فَصْلٌ : وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ ، أَنَّ الْوَقْفَ إذَا بِيعَ ، فَأَيُّ شَيْءٍ اُشْتُرِيَ بِثَمَنِهِ مِمَّا يُرَدُّ عَلَى أَهْلِ الْوَقْفِ جَازَ ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ جِنْسِهِ ؛ أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْمَنْفَعَةُ ، لَا الْجِنْسُ ، لَكِنْ تَكُونُ الْمَنْفَعَةُ مَصْرُوفَةً إلَى الْمَصْلَحَةِ الَّتِي كَانَتْ الْأُولَى تُصْرَفُ فِيهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَغْيِيرُ الْمَصْرِفِ مَعَ إمْكَانِ الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِ ، كَمَا لَا يَجُوزُ تَغْيِيرُ الْوَقْفِ بِالْبَيْعِ مَعَ إمْكَانِ الِانْتِفَاعِ بِهِ .
( 4412 ) فَصْلٌ : وَإِذَا لَمْ يَفِ ثَمَنُ الْفَرَسِ الْحَبِيسِ لِشِرَاءِ فَرَسٍ أُخْرَى ، أُعِينَ بِهِ فِي شِرَاءِ فَرَسٍ حَبِيسٍ يَكُونُ بَعْضَ الثَّمَنِ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
لِأَنَّ الْمَقْصُودَ اسْتِبْقَاءُ مَنْفَعَةِ الْوَقْفِ الْمُمْكِنِ اسْتِبْقَاؤُهَا ، وَصِيَانَتُهَا عَنْ الضَّيَاعِ ، وَلَا سَبِيلَ إلَى ذَلِكَ إلَّا بِهَذِهِ الطَّرِيقِ .
( 4413 ) فَصْلٌ : وَإِنْ لَمْ تَتَعَطَّلْ مَنْفَعَةُ الْوَقْفِ بِالْكُلِّيَّةِ ، لَكِنْ قَلَّتْ ، وَكَانَ غَيْرُهُ أَنْفَعَ مِنْهُ وَأَكْثَرَ رُدَّ عَلَى أَهْلِ الْوَقْفِ ، وَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ تَحْرِيمُ ، الْبَيْعِ ، وَإِنَّمَا أُبِيحَ لِلضَّرُورَةِ صِيَانَةً لِمَقْصُودِ الْوَقْفِ عَنْ الضَّيَاعِ ، مَعَ إمْكَانِ تَحْصِيلِهِ ، وَمَعَ الِانْتِفَاعِ ، وَإِنْ قَلَّ مَا يَضِيعُ الْمَقْصُودُ ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَبْلُغَ فِي قِلَّةِ النَّفْعِ إلَى حَدٍّ لَا يُعَدُّ نَفْعًا ، فَيَكُونُ وُجُودُ ذَلِكَ كَالْعَدَمِ .

( 4414 ) فَصْلٌ : قَالَ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد ، فِي مَسْجِدٍ أَرَادَ أَهْلُهُ رَفْعَهُ مِنْ الْأَرْضِ ، وَيُجْعَلُ تَحْتَهُ سِقَايَةٌ وَحَوَانِيتُ ، فَامْتَنَعَ بَعْضُهُمْ مِنْ ذَلِكَ : فَيُنْظَرُ إلَى قَوْلِ أَكْثَرِهِمْ .
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَأْوِيلِ كَلَامِ أَحْمَدَ ، فَذَهَبَ ابْنُ حَامِدٍ إلَى أَنَّ هَذَا فِي مَسْجِدٍ أَرَادَ أَهْلُهُ إنْشَاءَهُ ابْتِدَاءً ، وَاخْتَلَفُوا كَيْفَ يُعْمَلُ ؟ وَسَمَّاهُ مَسْجِدًا قَبْلَ بِنَائِهِ تَجَوُّزًا ؛ لِأَنَّ مَآلَهُ إلَيْهِ ، أَمَّا بَعْدَ كَوْنِهِ مَسْجِدًا لَا يَجُوزُ جَعْلُهُ سِقَايَةً وَلَا حَوَانِيتَ وَذَهَبَ الْقَاضِي إلَى ظَاهِر اللَّفْظِ ، وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ مَسْجِدًا ، فَأَرَادَ أَهْلُهُ رَفْعَهُ ، وَجَعْلَ مَا تَحْتَهُ سِقَايَةً لِحَاجَتِهِمْ إلَى ذَلِكَ .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَأَوْلَى ، وَإِنْ خَالَفَ الظَّاهِرَ ؛ فَإِنَّ الْمَسْجِدَ لَا يَجُوزُ نَقْلُهُ ، وَإِبْدَالُهُ ، وَبَيْعُ سَاحَتِهِ ، وَجَعْلُهَا سِقَايَةً وَحَوَانِيتَ ، إلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِ الِانْتِفَاعِ بِهِ وَالْحَاجَةُ إلَى سِقَايَةٍ وَحَوَانِيتَ لَا تُعَطِّلُ نَفْعَ الْمَسْجِدِ ، فَلَا يَجُوزُ صَرْفُهُ فِي ذَلِكَ ، وَلَوْ جَازَ جَعْلُ أَسْفَلِ الْمَسْجِدِ سِقَايَةً وَحَوَانِيتَ لِهَذِهِ الْحَاجَةِ ، لَجَازَ تَخْرِيبُ الْمَسْجِدِ وَجَعْلُهُ سِقَايَةً وَحَوَانِيتَ وَيُجْعَلُ بَدَلَهُ مَسْجِدًا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ قَالَ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، فِي مَسْجِدٍ لَيْسَ بِحَصِينٍ مِنْ الْكِلَابِ ، وَلَهُ مَنَارَةٌ ، فَرَخَّصَ فِي نَقْضِهَا ، وَبِنَاءِ حَائِطِ الْمَسْجِدِ بِهَا لِلْمَصْلَحَةِ .

( 4415 ) فَصْلٌ : وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُغْرَسَ فِي الْمَسْجِدِ شَجَرَةٌ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، وَقَالَ : إنْ كَانَتْ غُرِسَتْ النَّخْلَةُ بَعْدَ أَنْ صَارَ مَسْجِدًا ، فَهَذِهِ غُرِسَتْ بِغَيْرِ حَقٍّ ، فَلَا أُحِبُّ الْأَكْلَ مِنْهَا ، وَلَوْ قَلَعَهَا الْإِمَامُ لَجَازَ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ لَمْ يُبْنَ لِهَذَا ، وَإِنَّمَا بُنِيَ لِذَكَرِ اللَّهِ وَالصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقِرَانِ ، وَلِأَنَّ الشَّجَرَةَ تُؤْذِي الْمَسْجِدَ وَتَمْنَعُ الْمُصَلَّيْنَ مِنْ الصَّلَاةِ فِي مَوْضِعِهَا ، وَيَسْقُطُ وَرَقُهَا فِي الْمَسْجِدِ وَثَمَرُهَا ، وَتَسْقُطُ عَلَيْهَا الْعَصَافِيرُ وَالطَّيْرُ فَتَبُولُ فِي الْمَسْجِدِ ، وَرُبَّمَا اجْتَمَعَ الصِّبْيَانُ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ أَجْلِهَا ، وَرَمَوْهَا بِالْحِجَارَةِ لِيَسْقُطَ ثَمَرُهَا فَأَمَّا إنْ كَانَتْ النَّخْلَةُ فِي أَرْضٍ ، فَجَعَلَهَا صَاحِبُهَا مَسْجِدًا وَالنَّخْلَةُ فِيهَا فَلَا بَأْسَ .
قَالَ أَحْمَدُ فِي مَوْضِعٍ : لَا بَأْسَ .
يَعْنِي أَنْ يَبِيعَهَا مِنْ الْجِيرَانِ .
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ ، فِي النَّبْقَةِ : لَا تُبَاعُ ، وَتُجْعَلُ لِلْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الدَّرْبِ يَأْكُلُونَهَا .
وَذَلِكَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - ، لِأَنَّ صَاحِبَ الْأَرْضِ لَمَّا جَعَلَهَا مَسْجِدًا وَالنَّخْلَةُ فِيهَا ، فَقَدْ وَقَفَ الْأَرْضَ وَالنَّخْلَةَ مَعَهَا ، وَلَمْ يُعَيِّنْ مَصْرِفَهَا ، فَصَارَتْ كَالْوَقْفِ الْمُطْلَقِ الَّذِي لَمْ يُعَيَّنْ لَهُ مَصْرِفٌ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيهِ فِي إحْدَى الرِّوَايَاتِ ، أَنَّهُ لِلْمَسَاكِينِ .
فَأَمَّا إنْ قَالَ صَاحِبُهَا : هَذِهِ وَقْفٌ عَلَى الْمَسْجِدِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُبَاعَ ثَمَرُهَا ، وَيُصْرَفَ إلَيْهِ ، كَمَا لَوْ وَقَفَهَا عَلَى الْمَسْجِدِ وَهِيَ فِي غَيْرِهِ .
قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : عِنْدِي أَنَّ الْمَسْجِدَ إذَا احْتَاجَ إلَى ثَمَنِ ثَمَرَةِ الشَّجَرَةِ ، بِيعَتْ ، وَصُرِفَ ثَمَنُهَا فِي عِمَارَتِهِ .
قَالَ : وَقَوْلُ أَحْمَدَ يَأْكُلُهَا الْجِيرَانُ .
مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُمْ يُعَمِّرُونَهُ .

( 4416 ) فَصْلٌ : وَمَا فَضَلَ مِنْ حُصِرَ الْمَسْجِدِ وَزَيْتِهِ ، وَلَمْ يُحْتَجْ إلَيْهِ ، جَازَ أَنْ يُجْعَلَ فِي مَسْجِدٍ آخَرَ ، أَوْ يُتَصَدَّقَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى فُقَرَاءِ جِيرَانِهِ وَغَيْرِهِمْ ، وَكَذَلِكَ إنْ فَضَلَ مِنْ قَصَبِهِ أَوْ شَيْءٍ مِنْ نَقْضِهِ .
قَالَ أَحْمَدُ ، فِي مَسْجِدٍ بُنِيَ ، فَبَقِيَ مِنْ خَشَبِهِ أَوْ قَصَبِهِ أَوْ شَيْءٍ مِنْ نَقْضِهِ ، فَقَالَ : يُعَانُ فِي مَسْجِدٍ آخَرَ .
أَوْ كَمَا قَالَ .
وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ : سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ بَوَارِي الْمَسْجِدِ ، إذَا فَضَلَ مِنْهُ الشَّيْءُ ، أَوْ الْخَشَبَةُ .
قَالَ : يُتَصَدَّقُ بِهِ وَأَرَى أَنَّهُ قَدْ احْتَجَّ بِكُسْوَةِ الْبَيْتِ إذَا تَحَرَّقَتْ تُصُدِّقَ بِهَا .
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : قَدْ كَانَ شَيْبَةُ يَتَصَدَّقُ بِخُلْقَانِ الْكَعْبَةِ .
وَرَوَى الْخَلَّالُ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَلْقَمَةَ ، عَنْ أُمِّهِ .
أَنَّ شَيْبَةَ بْنَ عُثْمَانَ الْحَجَبِيَّ ، جَاءَ إلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، فَقَالَ : يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ ، إنَّ ثِيَابَ الْكَعْبَةِ تَكْثُرُ عَلَيْهَا ، فَنَنْزِعُهَا ، فَنَحْفِرُ لَهَا آبَارًا فَنَدْفِنُهَا فِيهَا ، حَتَّى لَا تَلْبَسَهَا الْحَائِضُ وَالْجُنُبُ .
قَالَتْ عَائِشَةُ : بِئْسَ مَا صَنَعْت ، وَلَمْ تُصِبْ ، إنَّ ثِيَابَ الْكَعْبَةِ إذَا نُزِعَتْ لَمْ يَضُرَّهَا مَنْ لَبِسَهَا مِنْ حَائِضٍ أَوْ جُنُبٍ ، وَلَكِنْ لَوْ بِعْتَهَا ، وَجَعَلْت ثَمَنَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسَاكِينِ .
فَكَانَ شَيْبَةُ يَبْعَثُ بِهَا إلَى الْيَمَنِ ، فَتُبَاعُ ، فَيَضَعُ ثَمَنَهَا حَيْثُ أَمَرَتْهُ عَائِشَةُ وَهَذِهِ قِصَّةٌ مِثْلُهَا يَنْتَشِرُ ، وَلَمْ يُنْكَرْ ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا ، وَلِأَنَّهُ مَالُ اللَّهِ تَعَالَى ، لَمْ يَبْقَ لَهُ مَصْرِفٌ ، فَصُرِفَ إلَى الْمَسَاكِينِ ، كَالْوَقْفِ الْمُنْقَطِعِ .

( 4417 ) فَصْلٌ : إذَا جَنَى الْوَقْفُ جِنَايَةً تُوجِبُ الْقِصَاصَ ، وَجَبَ سَوَاءٌ كَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ أَوْ عَلَى غَيْرِهِ .
فَإِنْ قُتِلَ بَطَلَ الْوَقْفُ فِيهِ ، وَإِنْ قُطِعَ كَانَ بَاقِيه وَقْفًا ، كَمَا لَوْ تَلِفَ بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى .
وَإِنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ مُوجِبَةً لِلْمَالِ ، لَمْ يُمْكِنْ تَعَلُّقُهَا بِرَقَبَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ بَيْعُهَا ، وَيَجِبُ أَرْشُهَا عَلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ تَعَلَّقَ أَرْشُهُ بِرَقَبَتِهِ ، فَكَانَ عَلَى مَالِكِهِ ، كَأُمِّ الْوَلَدِ وَلَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَتِهِ كَأُمِّ الْوَلَدِ .
وَإِنْ قُلْنَا : الْوَقْفُ لَا يُمْلَكُ .
فَالْأَرْشُ فِي كَسْبِهِ ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ تَعَلُّقُهُ بِرَقَبَتِهِ لِكَوْنِهَا لَا تُبَاعُ ، وَبِالْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ ، فَكَانَ فِي كَسْبِهِ ، كَالْحُرِّ يَكُونُ فِي مَالِهِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِي بَيْتِ الْمَالِ كَأَرْشِ جِنَايَةِ الْحُرِّ الْمُعْسِرِ .
وَهَذَا احْتِمَالٌ ضَعِيفٌ جِدًّا ؛ فَإِنَّ الْجِنَايَةَ إنَّمَا تَكُونُ فِي بَيْتِ الْمَالِ ، فِي صُورَةٍ تَحْمِلُهَا الْعَاقِلَةُ عِنْدَ عَدَمِهَا ، وَجِنَايَةُ الْعَبْدِ لَا تَحْمِلُهَا الْعَاقِلَةُ وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى الْمَسَاكِينِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْأَرْشُ فِي كَسْبِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مُسْتَحِقٌّ مُعَيَّنٌ يُمْكِنُ إيجَابُ الْأَرْشِ عَلَيْهِ ، وَلَا يُمْكِنُ تَعَلُّقُهُ بِرَقَبَتِهِ ، لِتَعَذُّرِ بَيْعِهَا فَتَعَيَّنَ فِي كَسْبِهِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَجِبَ فِي بَيْتِ الْمَالِ .
( 4418 ) فَصْلٌ : وَإِنْ جُنِيَ عَلَى الْوَقْفِ جِنَايَةٌ مُوجِبَةٌ لِلْمَالِ ، وَجَبَ ؛ لِأَنَّ مَالِيَّتَهُ لَمْ تَبْطُلْ ، وَلَوْ بَطَلَتْ مَالِيَّتُهُ لَمْ يَبْطُلْ أَرْشُ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْحُرَّ يَجِبُ أَرْشُ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ ، فَإِنْ قُتِلَ وَجَبَتْ قِيمَتُهُ ، وَلَيْسَ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ الْعَفْوُ عَنْهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِهَا وَيُشْتَرَى بِهَا مِثْلُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ يَكُونُ وَقْفًا وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ : يَخْتَصُّ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ إنْ قُلْنَا :

إنَّهُ يَمْلِكُ الْمَوْقُوفَ ، لِأَنَّهُ بَدَلُ مِلْكِهِ .
وَلَنَا أَنَّهُ مِلْكُ لَا يَخْتَصُّ بِهِ ، فَلَمْ يَخْتَصَّ بِبَدَلِهِ ، كَالْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ وَالْمَرْهُونِ ، وَبَيَانُ عَدَمِ الِاخْتِصَاصِ ظَاهِرٌ ، فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْبَطْنِ الثَّانِي ، فَلَمْ يَجُزْ إبْطَالُهُ .
وَلَا نَعْلَمُ قَدْرَ مَا يَسْتَحِقُّ هَذَا مِنْهُ فَنَعْفُوَ عَنْهُ فَلَمْ يَصِحَّ الْعَفْوُ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَ رَجُلُ رَهْنًا ، أُخِذَتْ مِنْهُ قِيمَتُهُ فَجُعِلَتْ رَهْنًا ، وَلَمْ يَصِحَّ عَفْوُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْهُ وَإِنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ عَمْدًا مَحْضًا مِنْ مُكَافِئٍ لَهُ ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ ؛ لِأَنَّهُ مَحَلٌّ لَا يَخْتَصُّ بِهِ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ قَاتِلِهِ ، كَالْعَبْدِ الْمُشْتَرَك .
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ : يَكُونُ ذَلِكَ إلَى الْإِمَامِ ، فَإِنْ قُطِعَتْ يَدُ الْعَبْدِ أَوْ طَرَفٌ مِنْ أَطْرَافِهِ ، فَالْقِصَاصُ لَهُ ، وَلَهُ اسْتِيفَاؤُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ ، وَإِنْ كَانَ الْقَطْعُ لَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ ، أَوْ يُوجِبُهُ فَعُفِيَ عَنْهُ ، وَجَبَ نِصْفُ قِيمَتِهِ ، فَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُشْتَرَى بِهَا عَبْدٌ كَامِلٌ ، وَإِلَّا اُشْتُرِيَ بِهَا شِقْصٌ مِنْ عَبْدٍ .

( 4419 ) فَصْلٌ : وَيَجُوزُ تَزْوِيجُ الْأَمَةِ الْمَوْقُوفَةِ ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى مَنْفَعَتِهَا ، أَشْبَهَ الْإِجَارَةَ ، وَلِأَنَّ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ لَا يَمْلِكُ اسْتِيفَاءَ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ ، فَلَا يَتَضَرَّرُ بِتَمْلِيكِ غَيْرِهِ إيَّاهَا ، وَوَلِيُّهَا الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهَا مِلْكُهُ ، وَالْمَهْرُ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ نَفْعِهَا ، أَشْبَهَ الْأَجْرَ فِي الْإِجَارَةِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَجُوزَ تَزْوِيجُهَا ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى نَفْعِهَا فِي الْعُمُرِ ، فَيُفْضِي إلَى تَفْوِيتِ نَفْعِهَا فِي حَقِّ الْبَطْنِ الثَّانِي .
وَلِأَنَّ النِّكَاحَ يَتَعَلَّقُ بِهِ حُقُوقٌ ؛ مِنْ وُجُوبِ تَمْكِينِ الزَّوْجِ مِنْ اسْتِمْتَاعِهَا ، وَمَبِيتِهَا عِنْدَهُ ، فَتَفُوتُ خِدْمَتُهَا فِي اللَّيْلِ عَلَى الْبَطْنِ الثَّانِي ، إلَّا أَنْ تَطْلُبَ التَّزْوِيجَ ، فَيَتَعَيَّنَ تَزْوِيجُهَا ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهَا طَلَبَتْهُ ، فَتَتَعَيَّنُ الْإِجَابَةُ إلَيْهِ ، وَمَا فَاتَ مِنْ الْحَقِّ بِهِ ، فَاتَ تَبَعًا لِإِيفَائِهَا حَقَّهَا ، فَوَجَبَ ذَلِكَ ، كَمَا يَجِبُ تَزْوِيجُ الْأَمَةِ غَيْرِ الْمَوْقُوفَةِ وَإِذَا طَلَبَتْ ذَلِكَ .
وَإِذَا زَوَّجَهَا فَوَلَدَتْ مِنْ الزَّوْجِ ، فَوَلَدُهَا وَقْفٌ مَعَهَا ؛ لِأَنَّ وَلَدَ كُلِّ ذَاتِ رَحِمٍ تَثْبُتُ لَهَا حُرْمَةٌ حُكْمُهُ حُكْمُهَا ، كَأُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُكَاتَبَةِ وَإِنْ أَكْرَهَهَا أَجْنَبِيُّ ، فَوَطِئَهَا ، أَوْ طَاوَعَتْهُ ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ إذَا انْتَفَتْ الشُّبْهَةُ ، وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ لِأَهْلِ الْوَقْفِ ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَ جَارِيَةَ غَيْرِهِ ، أَشْبَهَ الْأَمَةَ الْمُطَلَّقَةَ ، وَوَلَدُهَا يَكُونُ وَقْفًا مَعَهَا .
وَإِنْ وَطِئَهَا بِشُبْهَةِ يَعْتَقِدُهَا حُرَّةً ، فَالْوَلَدُ حُرٌّ ، وَلَوْ كَانَ الْوَاطِئُ عَبْدًا ، وَتَجِبُ قِيمَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ سَبِيلِهِ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا ، فَمَنَعَهُ اعْتِقَادُ الْحُرِّيَّةِ مِنْ الرِّقِّ ، فَوَجَبَتْ قِيمَتُهُ يُشْتَرَى بِهَا عَبْدٌ يَكُونُ وَقْفًا ، وَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ تَضَعُهُ حَيًّا ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنْ تَقْوِيمُهُ قَبْلَ ذَلِكَ .

( 4420 ) فَصْلٌ : وَلَيْسَ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ وَطْءُ الْأَمَةِ الْمَوْقُوفَةِ ؛ لِأَنَّا لَا نَأْمَنُ حَبَلَهَا ، فَتَنْقُصُ أَوْ تَتْلَفُ أَوْ تَخْرُجُ مِنْ الْوَقْفِ بِكَوْنِهَا أُمَّ وَلَدٍ ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ نَاقِصٌ ، فَإِنْ وَطِئَ ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ؛ لِلشُّبْهَةِ ، وَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ لَوَجَبَ لَهُ ، وَلَا يَجِبُ لِلْإِنْسَانِ شَيْءٌ عَلَى نَفْسِهِ ، وَالْوَلَدُ حُرٌّ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ .
وَعَلَيْهِ قِيمَةُ الْوَلَدِ ، يُشْتَرَى بِهَا عَبْدٌ مَكَانَهُ وَتَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ ؛ لِأَنَّهُ أَحْبَلَهَا بِحُرٍّ فِي مِلْكِهِ .
فَإِذَا مَاتَ عَتَقَتْ ، وَوَجَبَتْ قِيمَتُهَا فِي تَرِكَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَهَا عَلَى مَنْ بَعْدَهُ مِنْ الْبُطُونِ ، فَيُشْتَرَى بِهَا جَارِيَةٌ تَكُونُ وَقْفًا مَكَانَهَا وَإِنْ قُلْنَا : إنَّ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ لَا يَمْلِكُهَا .
لَمْ تَصِرْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ لَهُ .

( 4421 ) فَصْلٌ : وَإِنْ أُعْتِقَ الْعَبْدُ الْمَوْقُوفُ ، لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُ ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ غَيْرِهِ ، وَلِأَنَّ الْوَقْفَ لَازِمٌ ، فَلَا يُمْكِنُ إبْطَالُهُ .
وَإِنْ كَانَ نِصْفُ الْعَبْدِ وَقْفًا ، وَنِصْفُهُ طَلْقًا ، فَأَعْتَقَ صَاحِبُ الطَّلْقِ ، لَمْ يَسْرِ عِتْقُهُ إلَى الْوَقْفِ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَعْتِقْ بِالْمُبَاشَرَةِ فَبِالسَّرَايَةِ أَوْلَى .

( 4422 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( وَإِذَا حَصَلَ فِي يَدِ بَعْضِ أَهْلِ الْوَقْفِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ ، فَفِيهِ الزَّكَاةُ .
وَإِذَا صَارَ الْوَقْفُ لِلْمَسَاكِينِ ، فَلَا زَكَاةَ فِيهِ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْوَقْفَ إذَا كَانَ شَجَرًا فَأَثْمَرَ ، أَوْ أَرْضًا فَزُرِعَتْ ، وَكَانَ الْوَقْفُ عَلَى قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ ، فَحَصَلَ لِبَعْضِهِمْ مِنْ الثَّمَرَةِ أَوْ الْحَبِّ نِصَابٌ فَفِيهِ الزَّكَاةُ .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ وَرُوِيَ عَنْ طَاوُسٍ وَمَكْحُولٍ لَا زَكَاةَ فِيهِ ، لِأَنَّ الْأَرْضَ لَيْسَتْ مَمْلُوكَةً لَهُمْ ، فَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِمْ زَكَاةٌ فِي الْخَارِجِ مِنْهَا كَالْمَسَاكِينِ .
وَلَنَا أَنَّهُ اسْتَغَلَّ مِنْ أَرْضِهِ أَوْ شَجَرِهِ نِصَابًا ، فَلَزِمَتْهُ زَكَاتُهُ ، كَغَيْرِ الْوَقْفِ .
يُحَقِّقُهُ أَنَّ الْوَقْفَ الْأَصْلُ ، وَالثَّمَرَةَ طَلْقٌ ، وَالْمِلْكُ فِيهَا تَامٌّ ، لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهَا بِجَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ ، وَتُورَثُ عَنْهُ فَتَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ ، كَالْحَاصِلَةِ مِنْ أَرْضٍ مُسْتَأْجَرَةٍ لَهُ وَقَوْلُهُمْ : إنَّ الْأَرْضَ غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ لَهُ .
مَمْنُوعٌ .
وَإِنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ ، فَهُوَ مَالِكٌ لِمَنْفَعَتِهَا ؛ وَيَكْفِي ذَلِكَ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ ، بِدَلِيلِ الْأَرْضِ الْمُسْتَأْجَرَةِ .
أَمَّا الْمَسَاكِينُ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِمْ فِيمَا يَحْصُلُ فِي أَيْدِيهِمْ ، سَوَاءٌ حَصَلَ فِي يَدِ بَعْضِهِمْ نِصَابٌ مِنْ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ ، أَوْ لَمْ يَحْصُلْ ، وَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ تَفْرِيقِهَا ، وَإِنْ بَلَغَتْ نُصُبًا ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ عَلَى الْمَسَاكِينِ لَا يَتَعَيَّنُ لَوَاحِدٍ مِنْهُمْ ، بِدَلِيلِ ، أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَجُوزُ حِرْمَانُهُ وَالدَّفْعُ إلَى غَيْرِهِ ، وَإِنَّمَا ثَبَتَ الْمِلْكُ فِيهِ بِالدَّفْعِ وَالْقَبْضِ ، لِمَا أُعْطِيَهُ مِنْ غَلَّتِهِ مِلْكًا مُسْتَأْنَفًا ، فَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ فِيهِ زَكَاةٌ ، كَاَلَّذِي يُدْفَعُ إلَيْهِ مِنْ الزَّكَاةِ ، وَكَمَا لَوْ وَهَبَهُ أَوْ اشْتَرَاهُ وَفَارَقَ الْوَقْفَ عَلَى قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ .
فَإِنَّهُ يُعَيَّنُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَقٌّ فِي نَفْعِ الْأَرْضِ وَغَلَّتِهَا ، وَلِهَذَا يَجِبُ إعْطَاؤُهُ

، وَلَا يَجُوزُ حِرْمَانُهُ .

( 4423 ) فَصْلٌ : وَيَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى الْقَبِيلَةِ الْعَظِيمَةِ ، كَقُرَيْشٍ ، وَبَنَى هَاشِمٍ ، وَبَنِي تَمِيمٍ ، وَبَنِي وَائِلٍ .
وَنَحْوِهِمْ .
وَيَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ ، وَعَلَى أَهْلِ إقْلِيمٍ وَمَدِينَةٍ ، كَالشَّامِ وَدِمَشْقَ وَنَحْوِهِمْ .
وَيَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَقِفَ عَلَى عَشِيرَتِهِ ، وَأَهْلِ مَدِينَتِهِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ، فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ : لَا يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى مَنْ لَا يُمْكِنُ اسْتِيعَابُهُمْ وَحَصْرُهُمْ ، فِي غَيْرِ الْمَسَاكِينِ وَأَشْبَاهِهِمْ ؛ لِأَنَّ هَذَا تَصَرُّفٌ فِي حَقِّ الْآدَمِيِّ ، فَلَمْ يَصِحَّ مَعَ الْجَهَالَةِ ، كَمَا لَوْ قَالَ : وَقَفْت عَلَى قَوْمٍ وَلَنَا أَنَّ مَنْ صَحَّ الْوَقْفُ عَلَيْهِ ، إذَا كَانَ عَدَدُهُ مَحْصِيًّا صَحَّ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَحْصِيًّا ، كَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ، وَمَا ذَكَرَهُ يَبْطُلُ بِالْوَقْفِ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ .
وَمَتَى كَانَ الْوَقْفُ عَلَى مَنْ لَا يُمْكِنُ حَصْرُهُمْ ، فَلَا زَكَاةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِيمَا يَصِحُّ لَهُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْمَسَاكِينِ ، وَلَا فِي جُمْلَةِ الْوَقْفِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ .

( 4424 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( وَمَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ إلَّا بِالْإِتْلَافِ ، مِثْلُ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ وَالْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ ، فَوَقْفُهُ غَيْرُ جَائِزٍ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَا لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ ، كَالدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ ، وَالْمَطْعُومِ وَالْمَشْرُوبِ ، وَالشَّمْعِ ، وَأَشْبَاهِهِ ، لَا يَصِحُّ وَقْفُهُ ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ ، إلَّا شَيْئًا يُحْكَى عَنْ مَالِكٍ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ ، فِي وَقْفِ الطَّعَامِ ، أَنَّهُ يَجُوزُ .
وَلَمْ يَحْكِهِ أَصْحَابُ مَالِكٍ وَلَيْسَ بِصَحِيحِ ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ تَحْبِيسُ الْأَصْلِ وَتَسْبِيلُ الثَّمَرَةِ ، وَمَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ إلَّا بِالْإِتْلَافِ لَا يَصِحُّ فِيهِ ذَلِكَ .
وَقِيلَ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ : يَصِحُّ وَقْفُهَا ، عَلَى قَوْلِ مَنْ أَجَازَ إجَارَتَهُمَا .
وَلَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْمَنْفَعَةِ لَيْسَتْ الْمَقْصُودَ الَّذِي خُلِقَتْ لَهُ الْأَثْمَانُ ، وَلِهَذَا لَا تُضْمَنُ فِي الْغَصْبِ ، فَلَمْ يَجُزْ الْوَقْفُ لَهُ ، كَوَقْفِ الشَّجَرِ عَلَى نَشْرِ الثِّيَابِ وَالْغَنَمِ عَلَى دَوْسِ الطِّينِ ، وَالشَّمْعِ لِيَتَجَمَّلَ بِهِ .
( 4425 ) فَصْلٌ : وَالْمُرَادُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ هَاهُنَا الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ ، وَمَا لَيْسَ بِحُلِيٍّ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَتْلَفُ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ أَمَّا الْحُلِيُّ ، فَيَصِحُّ وَقْفُهُ لِلُّبْسِ وَالْعَارِيَّةُ ؛ لِمَا رَوَى نَافِعٌ ، قَالَ : ابْتَاعَتْ حَفْصَةُ حُلِيًّا بِعِشْرِينَ أَلْفًا ، فَحَبَسَتْهُ عَلَى نِسَاءِ آلِ الْخَطَّابِ ، فَكَانَتْ لَا تُخْرِجُ زَكَاتَهُ .
رَوَاهُ الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ .
وَلِأَنَّهُ عَيْنٌ يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهَا ، مَعَ بَقَائِهَا دَائِمًا ، فَصَحَّ وَقْفُهَا ، كَالْعَقَارِ ، وَلِأَنَّهُ يَصِحُّ تَحْبِيسُ أَصْلِهَا وَتَسْبِيلُ الثَّمَرَةِ ، فَصَحَّ وَقْفُهَا ، كَالْعَقَارِ وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهُ لَا يَصِحُّ وَقْفُهَا .
وَأَنْكَرَ الْحَدِيثَ عَنْ حَفْصَةَ فِي وَقْفِهِ .
وَذَكَرِهِ ابْنُ أَبِي مُوسَى ، إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ تَأَوَّلَهُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ

الْحَدِيثُ فِيهِ .
وَوَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ التَّحَلِّيَ لَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودَ الْأَصْلِيَّ مِنْ الْأَثْمَانِ ، فَلَمْ يَصِحَّ وَقْفُهَا عَلَيْهِ ، كَمَا لَوْ وَقَفَ الدَّنَانِيرَ وَالدَّرَاهِمَ .
وَالْأُوَلُ هُوَ الْمَذْهَبُ ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ وَالتَّحَلِّي مِنْ الْمَقَاصِدِ الْمُهِمَّةِ ، وَالْعَادَةُ جَارِيَةٌ بِهِ ، وَقَدْ اعْتَبَرَهُ الشَّرْعُ فِي إسْقَاطِ الزَّكَاةِ عَنْ مُتَّخِذِهِ ، وَجَوَّزَ إجَارَتَهُ لِذَلِكَ وَيُفَارِقُ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ ، فَإِنْ الْعَادَةَ لَمْ تَجْرِ بِالتَّحَلِّي بِهِ ، وَلَا اعْتَبَرَهُ الشَّرْعُ فِي إسْقَاطِ زَكَاتِهِ ، وَلَا ضَمَانِ مَنْفَعَتِهِ فِي الْغَصْبِ ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا .

( 4426 ) فَصْلٌ : وَلَا يَصِحُّ وَقْفُ الشَّمْعِ ؛ لِأَنَّهُ يَتْلَفُ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ ، فَهُوَ كَالْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ ، وَلَا مَا يُسْرِعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ ، مِنْ الْمَشْمُومَاتِ وَالرَّيَاحِينِ وَأَشْبَاهِهَا ؛ لِأَنَّهَا تَتْلَفُ عَلَى قُرْبٍ مِنْ الزَّمَانِ ، فَأَشْبَهَتْ الْمَطْعُومَ ، وَلَا وَقْفُ مَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ ، كَأُمِّ الْوَلَدِ ، وَالْمَرْهُونِ ، وَالْكَلْبِ ، وَالْخِنْزِيرِ ، وَسَائِرِ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ الَّتِي لَا تَصْلُحُ لِلصَّيْدِ ، وَجَوَارِحِ الطَّيْرِ الَّتِي لَا يُصَادُ بِهَا ؛ لِأَنَّهُ نَقْلٌ لِلْمِلْكِ فِيهَا فِي الْحَيَاةِ ، فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ ، وَلِأَنَّ الْوَقْفَ تَحْبِيسُ الْأَصْلِ وَتَسْبِيلُ الْمَنْفَعَةِ ، وَمَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ لَا يَحْصُلُ فِيهِ تَسْبِيلُ الْمَنْفَعَةِ ، وَالْكَلْبُ أُبِيحَ الِانْتِفَاعُ بِهِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ لِلضَّرُورَةِ .
فَلَمْ يَجُزْ التَّوَسُّعُ فِيهَا ، وَالْمَرْهُونُ فِي وَقْفِهِ إبْطَالُ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ مِنْهُ فَلَمْ يَجُزْ إبْطَالُهُ .
وَلَا يَصِحُّ الْوَقْفُ فِيمَا لَيْسَ بِمُعَيَّنٍ ، كَعَبْدٍ فِي الذِّمَّةِ ، وَدَارٍ ، وَسِلَاحٍ ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ إبْطَالٌ لِمَعْنَى الْمِلْكِ فِيهِ ، فَلَمْ يَصِحَّ فِي عَبْدٍ مُطْلَقٍ ، كَالْعِتْقِ .

( 4427 ) فَصْلٌ : قَالَ أَحْمَدُ ، فِي مَنْ وَصَّى بِفَرَسٍ وَسَرْجٍ وَلِجَامٍ مُفَضَّضٍ ، يُوقَفُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ : فَهُوَ عَلَى مَا وَقَفَ وَوَصَّى ، وَإِنْ بِيعَ الْفِضَّةُ مِنْ السَّرْجِ ، وَاللِّجَامِ ، وَجُعِلَ فِي وَقْفِ مِثْلِهِ ، فَهُوَ أَحَبُّ ؛ لِأَنَّ الْفِضَّةَ لَا يُنْتَفَعُ بِهَا ، وَلَعَلَّهُ يَشْتَرِي بِتِلْكَ الْفِضَّةِ سَرْجًا وَلِجَامًا ، فَيَكُونُ أَنْفَعَ لِلْمُسْلِمِينَ فَقِيلَ لَهُ : تُبَاعُ الْفِضَّةُ ، وَتُجْعَلُ فِي نَفَقَتِهِ ؟ قَالَ : لَا .
فَأَبَاحَ أَنْ يَشْتَرِيَ بِفِضَّةِ السَّرْجِ وَاللِّجَامِ سَرْجًا وَلِجَامًا ؛ لِأَنَّهُ صَرْفٌ لَهُمَا فِي جِنْسِ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ ، حِينَ لَمْ يُنْتَفَعْ بِهِمَا فِيهِ .
فَأَشْبَهَ الْفَرَسَ الْحَبِيسَ إذَا عَطِبَ فَلَمْ يُنْتَفَعْ بِهِ فِي الْجِهَادِ ، جَازَ بَيْعُهُ ، وَصَرْفُ ثَمَنِهِ فِي مِثْلِهِ ، وَلَمْ يَجُزْ إيقَافُهَا عَلَى الْفَرَسِ ؛ لِأَنَّهُ صَرْفٌ لَهَا إلَى غَيْرِ جِهَتِهَا .

( 4428 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَيَصِحُّ الْوَقْفُ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الَّذِي يَجُوزُ وَقْفُهُ ، مَا جَازَ بَيْعُهُ ، وَجَازَ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ ، وَكَانَ أَصْلًا يَبْقَى بَقَاءً مُتَّصِلًا ، كَالْعَقَارِ ، وَالْحَيَوَانَاتِ ، وَالسِّلَاحِ ، وَالْأَثَاثِ ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ .
قَالَ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ : إنَّمَا الْوَقْفُ فِي الدُّورِ وَالْأَرْضِينَ ، عَلَى مَا وَقَفَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقَالَ فِي مَنْ وَقَفَ خَمْسَ نَخَلَاتٍ عَلَى مَسْجِدٍ : لَا بَأْسَ بِهِ .
وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا يَجُوزُ وَقْفُ الْحَيَوَانِ ، وَلَا الرَّقِيقِ ، وَلَا الْكُرَاعِ ، وَلَا الْعُرُوضِ ، وَلَا السِّلَاحِ ، وَالْغِلْمَانِ ، وَالْبَقَرِ ، وَالْآلَةِ فِي الْأَرْضِ الْمَوْقُوفَةِ تَبَعًا لَهَا ؛ لِأَنَّ الْحَيَوَانَ لَا يُقَاتَلُ عَلَيْهِ ، فَلَمْ يَجُزْ وَقْفُهُ ، كَمَا لَوْ كَانَ الْوَقْفُ إلَى مُدَّةٍ .
وَعَنْ مَالِكٍ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ رِوَايَتَانِ .
وَلَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَمَّا خَالِدٌ فَقَدْ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتَادَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ .
} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَفِي رِوَايَةٍ : وَأَعْتُدَهُ .
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ .
قَالَ الْخَطَّابِيُّ : الْأَعْتَادُ مَا يُعِدُّهُ الرَّجُلُ مِنْ الْمَرْكُوبِ وَالسِّلَاحِ وَأْلَةِ الْجِهَادِ .
وَرُوِيَ أَنَّ أُمَّ مَعْقِلٍ ، { جَاءَتْ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنَّ أَبَا مَعْقِلٍ جَعَلَ نَاضِحَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَإِنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ ، أَفَأَرْكَبُهُ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارْكَبِيهِ ، فَإِنَّ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ } وَلِأَنَّهُ يَحْصُلُ فِيهِ تَحْبِيسُ الْأَصْلِ وَتَسْبِيلُ الْمَنْفَعَةِ ، فَصَحَّ وَقْفُهُ ، كَالْعَقَارِ وَالْفَرَسِ الْحَبِيسِ ، وَلِأَنَّهُ يَصِحُّ وَقْفُهُ مَعَ غَيْرِهِ ، فَصَحَّ وَقْفُهُ وَحْدَهُ ، كَالْعَقَارِ .
( 4429 ) فَصْلٌ : قَالَ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ ، فِي رَجُلٍ لَهُ دَارٌ فِي

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71