الكتاب : المغني
المؤلف : أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد ، الشهير بابن قدامة المقدسي

بِكَسْرِ الْجِيمِ ، أَيْ الْحَقُّ لَا اللَّعِبُ ، " مُلْحِقٌ " بِكَسْرِ الْحَاءِ لَاحِقٌ .
وَهَكَذَا يُرْوَى هَذَا الْحَرْفُ ، يُقَالُ : لَحِقْتُ الْقَوْمَ وَأَلْحَقْتُهُمْ بِمَعْنًى وَاحِدٍ .
وَمَنْ فَتَحَ الْحَاءَ أَرَادَ أَنَّ اللَّهَ يُلْحِقُهُ إيَّاهُ ، وَهُوَ مَعْنًى صَحِيحٌ ، غَيْرَ أَنَّ الرِّوَايَةَ هِيَ الْأُولَى .
وَقَالَ الْخَلَّالُ : سَأَلْت ثَعْلَبًا عَنْ مُلْحِقٍ وَمُلْحَقٍ ؟ فَقَالَ : الْعَرَبُ تَقُولُهُمَا مَعًا .

( 1080 ) فَصْلٌ : إذَا أَخَذَ الْإِمَامُ فِي الْقُنُوتِ ، أَمَّنَ مَنْ خَلْفَهُ .
لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا .
وَقَالَهُ إِسْحَاقُ .
وَقَالَ الْقَاضِي : وَإِنْ دَعَوْا مَعَهُ فَلَا بَأْسَ .
وَقِيلَ لِأَحْمَدَ : إذَا لَمْ أَسْمَعْ قُنُوتَ الْإِمَامِ أَدْعُو ؟ قَالَ : نَعَمْ .
فَيَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي حَالِ الْقُنُوتِ .
قَالَ الْأَثْرَمُ : كَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي الْقُنُوتِ إلَى صَدْرِهِ .
وَاحْتَجَّ بِأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ رَفَعَ يَدَيْهِ فِي الْقُنُوتِ إلَى صَدْرِهِ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ .
وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَأَنْكَرَهُ مَالِكٌ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ وَلَنَا ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا دَعَوْت اللَّهَ فَادْعُ بِبُطُونِ كَفَّيْكَ ، وَلَا تَدْعُ بِظُهُورِهِمَا ، فَإِذَا فَرَغْتَ فَامْسَحْ بِهِمَا وَجْهَكَ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَابْنُ مَاجَهْ .
وَلِأَنَّهُ فِعْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ .
وَإِذَا فَرَغَ مِنْ الْقُنُوتِ فَهَلْ يَمْسَحُ وَجْهَهُ بِيَدِهِ ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا ، لَا يَفْعَلُ ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ : لَمْ أَسْمَعْ فِيهِ بِشَيْءٍ .
وَلِأَنَّهُ دُعَاءٌ فِي الصَّلَاةِ ، فَلَمْ يُسْتَحَبَّ مَسْحُ وَجْهِهِ فِيهِ ، كَسَائِرِ دُعَائِهَا .
الثَّانِيَةُ : يُسْتَحَبُّ ؛ لِلْخَبَرِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ .
وَرَوَى السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ ، { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا دَعَا رَفَعَ يَدَيْهِ ، وَمَسَحَ وَجْهَهُ بِيَدَيْهِ } .
وَلِأَنَّهُ دُعَاءٌ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِيهِ ، فَيَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ ، كَمَا لَوْ كَانَ خَارِجًا عَنْ الصَّلَاةِ ، وَفَارَقَ سَائِرَ الدُّعَاءِ ، فَإِنَّهُ لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِيهِ .

( 1081 ) فَصْلٌ : وَلَا يُسَنُّ الْقُنُوتُ فِي الصُّبْحِ ، وَلَا غَيْرِهَا مِنْ الصَّلَوَاتِ ، سِوَى الْوِتْرِ .
وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَابْنِ عُمَرَ ، وَابْنِ مَسْعُودٍ ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ .
وَقَالَ مَالِكٌ ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى ، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ ، وَالشَّافِعِيُّ : يُسَنُّ الْقُنُوتُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ ، فِي جَمِيعِ الزَّمَانِ ؛ لِأَنَّ أَنَسًا قَالَ : { مَا زَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْنُتُ فِي الْفَجْرِ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا } .
رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، فِي " الْمُسْنَدِ " ، وَكَانَ عُمَرُ يَقْنُتُ فِي الصُّبْحِ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ .
وَلَنَا ، مَا رُوِيَ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَنَتَ شَهْرًا ، يَدْعُو عَلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ ، ثُمَّ تَرَكَهُ } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ، وَأَبُو مَسْعُودٍ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ ذَلِكَ .
وَعَنْ { أَبِي مَالِكٍ قَالَ : قُلْت لِأَبِي : يَا أَبَتِ ، إنَّكَ قَدْ صَلَّيْتَ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ ، وَعُمَرَ ، وَعُثْمَانَ ، وَعَلِيٍّ هَاهُنَا بِالْكُوفَةِ نَحْوًا مِنْ خَمْسِ سِنِينَ ، أَكَانُوا يَقْنُتُونَ ؟ قَالَ : أَيْ بُنَيَّ مُحْدَثٌ } .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ : أَوَّلُ مَنْ قَنَتَ فِي صَلَاةِ الْغَدَاةِ عَلِيٌّ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ رَجُلًا مُحَارِبًا يَدْعُو عَلَى أَعْدَائِهِ .
وَرَوَى سَعِيدٌ فِي " سُنَنِهِ " عَنْ هُشَيْمٍ ، عَنْ عُرْوَةَ الْهَمَذَانِيِّ ، عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ : لَمَّا قَنَتَ عَلِيٌّ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ ، أَنْكَرَ ذَلِكَ النَّاسُ .
فَقَالَ عَلِيٌّ : إنَّمَا اسْتَنْصَرْنَا عَلَى عَدُوِّنَا هَذَا .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يَقْنُتُ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ ، إلَّا إذَا دَعَا لِقَوْمٍ ، أَوْ دَعَا عَلَى قَوْمٍ } .

رَوَاهُ سَعِيدٌ ، وَحَدِيثُ أَنَسٍ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ طُولَ الْقِيَامِ ، فَإِنَّهُ يُسَمَّى قُنُوتًا .
وَقُنُوتُ عُمَرَ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ فِي أَوْقَاتِ النَّوَازِلِ ؛ فَإِنَّ أَكْثَرَ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَقْنُتُ ، وَرَوَى ذَلِكَ عَنْهُ جَمَاعَةٌ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ قُنُوتَهُ كَانَ فِي وَقْتِ نَازِلَةٍ .
( 1082 ) فَصْلٌ : فَإِنْ نَزَلَ بِالْمُسْلِمِينَ نَازِلَةٌ ، فَلِلْإِمَامِ أَنْ يَقْنُتَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ قَالَ الْأَثْرَمُ : سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ سُئِلَ عَنْ الْقُنُوتِ فِي الْفَجْرِ ؟ فَقَالَ : إذَا نَزَلَ بِالْمُسْلِمِينَ نَازِلَةٌ ، قَنَتَ الْإِمَامُ وَأَمَّنَ مَنْ خَلْفَهُ .
ثُمَّ قَالَ : مِثْلُ مَا نَزَلَ بِالْمُسْلِمِينَ مِنْ هَذَا الْكَافِرِ .
يَعْنِي بَابَكَ .
قَالَ أَبُو دَاوُد : سَمِعْت أَحْمَدَ يُسْأَلُ عَنْ الْقُنُوتِ فِي الْفَجْرِ ؟ فَقَالَ : لَوْ قَنَتَ أَيَّامًا مَعْلُومَةً ، ثُمَّ يَتْرُكُ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ قَنَتَ عَلَى الْخَرْمِيَّةِ أَوْ قَنَتَ عَلَى الدَّوَامِ .
وَالْخُرَّمِيَّةُ : هُمْ أَصْحَابُ بَابَكَ وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ ؛ وَذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَنَتَ شَهْرًا يَدْعُو عَلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ ثُمَّ تَرَكَهُ وَأَنَّ عَلِيًّا قَنَتَ ، وَقَالَ : إنَّمَا اسْتَنْصَرْنَا عَلَى عَدُوِّنَا هَذَا وَلَا يَقْنُتُ آحَادُ النَّاسِ .
وَيَقُولُ فِي قُنُوتِهِ نَحْوًا مِمَّا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ .
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي الْقُنُوتِ " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ، وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِهِمْ وَانْصُرْهُمْ عَلَى عَدُوِّكَ وَعَدُوِّهِمْ ، اللَّهُمَّ الْعَنْ كَفَرَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ ، الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ رُسُلَكَ ، وَيُقَاتِلُونَ أَوْلِيَاءَكَ ، اللَّهُمَّ خَالِفْ بَيْنَ كَلِمَتِهِمْ وَزَلْزِلْ أَقْدَامَهُمْ وَأَنْزِلْ بِهِمْ بَأْسَكَ الَّذِي لَا يُرَدُّ عَنْ الْقَوْمِ

الْمُجْرِمِينَ اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَعِينُكَ ، وَلَا يَقْنُتُ فِي غَيْرِ الصُّبْحِ مِنْ الْفَرَائِضِ .
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ : كُلُّ شَيْءٍ يَثْبُتُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقُنُوتِ إنَّمَا هُوَ فِي الْفَجْرِ .
وَلَا يَقْنُتُ فِي الصَّلَاةِ إلَّا فِي الْوِتْرِ وَالْغَدَاةِ إذَا كَانَ مُسْتَنْصِرًا يَدْعُو لِلْمُسْلِمِينَ .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ يَقْنُتُ فِي الْفَجْرِ وَالْمَغْرِبِ ، لِأَنَّهُمَا صَلَاتَا جَهْرٍ فِي طَرَفَيْ النَّهَارِ .
وَقِيلَ : يَقْنُتُ ، فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ كُلِّهَا ، قِيَاسًا عَلَى الْفَجْرِ وَلَا يَصِحُّ هَذَا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ ، الْقُنُوتُ فِي غَيْرِ الْفَجْرِ وَالْوِتْرِ

( 1083 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( مَفْصُولَةً مِمَّا قَبْلَهَا ) الَّذِي يَخْتَارُهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَنْ يَفْصِلَ رَكْعَةَ الْوِتْرِ بِمَا قَبْلَهَا .
وَقَالَ : إنْ أَوْتَرَ بِثَلَاثٍ لَمْ يُسَلِّمْ فِيهِنَّ ، لَمْ يُضَيَّقْ عَلَيْهِ عِنْدِي .
وَقَالَ يُعْجِبُنِي أَنْ يُسَلِّمَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ ، وَمِمَّنْ كَانَ يُسَلِّمُ بَيْنَ الرَّكْعَتَيْنِ وَالرَّكْعَةِ ابْنُ عُمَرَ حَتَّى يَأْمُرَ بِبَعْضِ حَاجَتِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ مُعَاذٍ الْقَارِئِ ، وَمَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَإِسْحَاقَ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَفْصِلُ بِسَلَامٍ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ إنْ فَصَلَ فَحَسَنٌ وَإِنْ لَمْ يَفْصِلْ فَحَسَنٌ .
وَحُجَّةُ مَنْ لَمْ يَفْصِلْ قَوْلُ عَائِشَةَ : { إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُوتِرُ بِأَرْبَعٍ وَثَلَاثٍ ، وَسِتٍّ وَثَلَاثٍ وَثَمَانٍ وَثَلَاثٍ } وَقَوْلُهَا { كَانَ يُصَلِّي أَرْبَعًا ، فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ ، ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا ، فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ ثُمَّ يُصَلِّي ثَلَاثًا } فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي الثَّلَاثَ بِتَسْلِيمٍ وَاحِدٍ ، وَرَوَتْ أَيْضًا ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُوتِرُ بِخَمْسٍ ، لَا يَجْلِسُ إلَّا فِي آخِرِهِنَّ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَلَنَا ، مَا رَوَتْ عَائِشَةُ قَالَتْ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِيمَا بَيْنَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْ صَلَاةِ الْعِشَاءِ إلَى الْفَجْرِ إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً ، يُسَلِّمُ بَيْنَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ وَيُوتِرُ بِوَاحِدَةٍ .
} رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى فَإِذَا خِفْت الصُّبْحَ فَأَوْتِرْ بِوَاحِدَةٍ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَقِيلَ لِابْنِ عُمَرَ مَا مَثْنَى مَثْنَى ؟ قَالَ يُسَلِّمُ فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ .
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { الْوِتْرُ رَكْعَةٌ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَعَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ، ابْنِ عُمَرَ { أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْوِتْرِ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ افْصِلْ بَيْنَ الْوَاحِدَةِ وَالثِّنْتَيْنِ بِالتَّسْلِيمِ } رَوَاهُ الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ وَهَذَا نَصٌّ .
فَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ الَّذِي احْتَجُّوا بِهِ ، فَلَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّهَا بِتَسْلِيمٍ وَاحِدٍ وَقَدْ قَالَتْ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ : يُسَلِّمُ بَيْنَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ .
وَأَمَّا إذَا أَوْتَرَ بِخَمْسٍ فَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّهُ إذَا صَلَّى خَلْفَ إمَامٍ يُصَلِّي الثَّلَاثَ بِتَسْلِيمٍ وَاحِدٍ تَابَعَهُ لِئَلَّا يُخَالِفَ إمَامَهُ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد فِي مَنْ يُوتِرُ فَيُسَلِّمُ مِنْ الثِّنْتَيْنِ ، فَيَكْرَهُونَهُ .
يَعْنِي أَهْلَ الْمَسْجِدِ قَالَ : فَلَوْ صَارَ إلَى مَا يُرِيدُونَ يَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ سَهْلٌ ، لَا تَضُرُّ مُوَافَقَتُهُ إيَّاهُمْ فِيهِ ( 1084 ) فَصْلٌ : يَجُوزُ أَنْ يُوتِرَ بِإِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً وَبِتِسْعٍ وَبِسَبْعٍ وَبِخَمْسٍ وَبِثَلَاثٍ وَبِوَاحِدَةٍ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَخْبَارِ فَإِنْ أَوْتَرَ بِإِحْدَى عَشْرَةَ سَلَّمَ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ ، وَإِنْ أَوْتَرَ بِثَلَاثٍ ، سَلَّمَ مِنْ الثِّنْتَيْنِ وَأَوْتَرَ بِوَاحِدَةٍ وَإِنْ أَوْتَرَ بِخَمْسٍ ، لَمْ يَجْلِسْ إلَّا فِي آخِرِهِنَّ وَإِنْ أَوْتَرَ بِسَبْعٍ ، جَلَسَ عَقِيبَ السَّادِسَةِ ، فَتَشَهَّدَ وَلَمْ يُسَلِّمْ ثُمَّ يَجْلِسُ بَعْدَ السَّابِعَةِ ، فَيَتَشَهَّدُ وَيُسَلِّمُ وَإِنْ أَوْتَرَ بِتِسْعٍ لَمْ يَجْلِسْ إلَّا عَقِيبَ الثَّامِنَةِ فَيَتَشَهَّدُ ثُمَّ يَقُومُ فَيَأْتِي بِالتَّاسِعَةِ ، وَيُسَلِّمُ .
وَنَحْوَ هَذَا قَالَ إِسْحَاقُ وَقَالَ الْقَاضِي : فِي السَّبْعِ لَا يَجْلِسُ إلَّا فِي آخِرِهِنَّ أَيْضًا ، كَالْخَمْسِ .
فَأَمَّا الْإِحْدَى عَشْرَةَ وَالثَّلَاثُ فَقَدْ ذَكَرْنَاهُمَا وَأَمَّا الْخَمْسُ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ كَانَ يُوتِرُ بِخَمْسٍ ، لَا يَنْصَرِفُ إلَّا فِي آخِرِهَا وَرَوَى عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً ، يُوتِرُ مِنْ ذَلِكَ بِخَمْسٍ ، لَا يَجْلِسُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا ، إلَّا

فِي آخِرِهَا } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { ثُمَّ أَوْتَرَ بِخَمْسٍ لَمْ يَجْلِسْ بَيْنَهُنَّ } .
وَفِي لَفْظٍ : { فَتَوَضَّأَ ، ثُمَّ صَلَّى سَبْعًا أَوْ خَمْسًا ، أَوْتَرَ بِهِنَّ ، لَمْ يُسَلِّمْ إلَّا فِي آخِرِهِنَّ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَقَالَ صَالِحٌ مَوْلَى التَّوْأَمَةِ : أَدْرَكْت النَّاسَ قَبْلَ الْحَرَّةِ يَقُومُونَ بِإِحْدَى وَأَرْبَعِينَ رَكْعَةً وَيُوتِرُونَ بِخَمْسٍ ، يُسَلِّمُونَ بَيْنَ كُلِّ اثْنَتَيْنِ ، وَيُوتِرُونَ بِوَاحِدَةٍ ، وَيُصَلُّونَ الْخَمْسَ جَمِيعًا رَوَاهُ الْأَثْرَمُ وَأَمَّا التِّسْعُ وَالسَّبْعُ فَرَوَى زُرَارَةُ بْنُ أَوْفَى ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ هِشَامٍ ، قَالَ : { قُلْت يَعْنِي لِعَائِشَةَ : يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ ، أَنْبِئِينِي عَنْ وِتْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَالَتْ : كُنَّا نُعِدُّ لَهُ سِوَاكَهُ وَطَهُورَهُ ، فَيَبْعَثُهُ اللَّهُ مَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَهُ فَيَتَسَوَّكُ وَيَتَوَضَّأُ ، وَيُصَلِّي سَبْعَ رَكَعَاتٍ ، لَا يَجْلِسُ فِيهَا إلَّا فِي الثَّامِنَةِ فَيَذْكُرُ اللَّهَ وَيَحْمَدُهُ وَيَدْعُوهُ ، ثُمَّ يَنْهَضُ وَلَا يُسَلِّمُ ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي التَّاسِعَةَ ثُمَّ يَقْعُدُ فَيَذْكُرُ اللَّهَ وَيَحْمَدُهُ وَيَدْعُوهُ ، ثُمَّ يُسَلِّمُ تَسْلِيمًا يُسْمِعُنَا ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَمَا يُسَلِّمُ وَهُوَ قَاعِدٌ ، فَتِلْكَ إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً يَا بُنَيَّ ، فَلَمَّا أَسَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخَذَهُ اللَّحْمُ ، أَوْتَرَ بِسَبْعٍ ، وَصَنَعَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ مِثْلَ صُنْعِهِ فِي الْأَوَّلِ .
قَالَ : فَانْطَلَقْت إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَحَدَّثْته بِحَدِيثِهَا فَقَالَ : صَدَقَتْ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، وَأَبُو دَاوُد ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي دَاوُد ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : هَذَا هُوَ الْحَدِيثُ .
وَفِيهِ : أَوْتَرَ بِسَبْعٍ لَمْ يَجْلِسْ إلَّا فِي السَّادِسَةِ وَالسَّابِعَةِ ، وَلَمْ يُسَلِّمْ إلَّا فِي السَّابِعَةِ وَفِيهِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى وَيُسَلِّمُ بِتَسْلِيمَةٍ شَدِيدَةٍ يَكَادُ يُوقِظُ أَهْلَ الْبَيْتِ مِنْ شِدَّةِ تَسْلِيمِهِ .
وَهَذَا صَرِيحٌ فِي

أَنَّ السَّبْعَ يَجْلِسُ فِيهَا عَقِيبَ السَّادِسَةِ وَلَعَلَّ الْقَاضِيَ يَحْتَجُّ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ صَلَّى سَبْعًا ، أَوْ خَمْسًا أَوْتَرَ بِهِنَّ ، لَمْ يُسَلِّمْ إلَّا فِي آخِرِهِنَّ وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوتِرُ بِسَبْعٍ ، أَوْ خَمْسٍ ، لَا يَفْصِلُ بَيْنَهُنَّ بِتَسْلِيمٍ وَلَا كَلَامٍ } .
رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَكِلَا الْحَدِيثَيْنِ فِيهِ شَكٌّ فِي السَّبْعِ وَلَيْسَ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ لَا يَجْلِسُ عَقِيبَ السَّادِسَةِ ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِذَلِكَ ، وَهُوَ ثَابِتٌ فَيَتَعَيَّنُ تَقْدِيمُهُ

( 1085 ) فَصْلٌ : الْوِتْرُ غَيْرُ وَاجِبٍ وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَهُوَ وَاجِبٌ .
وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { إذَا خِفْت الصُّبْحَ ، فَأَوْتِرْ بِوَاحِدَةٍ } وَأَمَرَ بِهِ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ وَرَوَى أَبُو أَيُّوبَ قَالَ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْوِتْرُ حَقٌّ ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِخَمْسٍ فَلْيَفْعَلْ ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِثَلَاثٍ فَلْيَفْعَلْ وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِوَاحِدَةٍ فَلْيَفْعَلْ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَابْنُ مَاجَهْ .
وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { الْوِتْرُ حَقٌّ ؛ فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا ، الْوِتْرُ حَقٌّ فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا ، الْوِتْرُ حَقٌّ فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا } ، رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي " الْمُسْنَدِ " مِنْ غَيْرِ تَكْرَارٍ .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُهُ مِنْ ( الْمُسْنَدِ ) أَيْضًا وَعَنْ خَارِجَةَ بْنِ حُذَافَةَ ، قَالَ : { خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ غَدَاةٍ فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ قَدْ أَمَرَكُمْ بِصَلَاةٍ فَهِيَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ ، وَهِيَ الْوِتْرُ ، فَجَعَلَهَا لَكُمْ فِيمَا بَيْنَ الْعِشَاءِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ } رَوَاهُ أَحْمَدُ ، وَأَبُو دَاوُد .
وَعَنْ أَبِي بَصْرَةَ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { إنَّ اللَّهَ زَادَكُمْ صَلَاةً ، فَصَلُّوهَا مَا بَيْنَ الْعِشَاءِ إلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ ، الْوِتْرُ الْوِتْرُ } .
رَوَاهُ الْأَثْرَمُ ، وَاحْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَيْرِيزٍ ، أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي كِنَانَةَ يُدْعَى الْمُخْدَجِيَّ ، سَمِعَ رَجُلًا بِالشَّامِ يُدْعَى أَبَا مُحَمَّدٍ يَقُولُ : إنَّ الْوِتْرَ وَاجِبٌ .
قَالَ : فَرُحْتُ إلَى عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ فَأَخْبَرْتُهُ ، فَقَالَ عُبَادَةُ : كَذَبَ

أَبُو مُحَمَّدٍ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْعِبَادِ ، فَمَنْ جَاءَ بِهِنَّ لَمْ يُضَيِّعْ مِنْهُنَّ شَيْئًا ، اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِنَّ ، كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ ، وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِنَّ ، فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ إنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَأَحْمَدُ .
وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ الْوِتْرَ لَيْسَ بِخَتْمٍ ، وَلَا كَصَلَوَاتِكُمْ الْمَكْتُوبَةِ ، وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْتَرَ .
ثُمَّ قَالَ : يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ أَوْتِرُوا ، فَإِنَّ اللَّهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ } .
رَوَاهُ أَحْمَدُ ، فِي " الْمُسْنَدِ " وَقَدْ ثَبَتَ { أَنَّ الْأَعْرَابِيَّ لَمَّا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ ؟ قَالَ خَمْسُ صَلَوَاتٍ .
قَالَ : هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُنَّ ؟ قَالَ لَا ، إلَّا أَنْ تَتَطَوَّعَ فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ : وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا أَزِيدُ عَلَيْهِنَّ ، وَلَا أَنْقُصُ مِنْهُنَّ .
فَقَالَ : أَفْلَحَ الرَّجُلُ إنْ صَدَقَ } وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ فِعْلُهُ عَلَى الرَّاحِلَةِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ ، فَلَمْ يَكُنْ وَاجِبًا ، كَالسُّنَنِ ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ عُمَرَ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَانَ يُوتِرُ عَلَى بَعِيرِهِ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَقَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَبِّحُ عَلَى الرَّاحِلَةِ قَبْلَ أَيِّ وَجْهٍ تَوَجَّهَ ، وَيُوتِرُ عَلَيْهَا ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي عَلَيْهَا الْمَكْتُوبَةَ } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ .
وَأَحَادِيثُهُمْ قَدْ تُكُلِّمَ فِيهَا ، ثُمَّ إنَّ الْمُرَادَ بِهَا تَأْكِيدُهُ وَفَضِيلَتُهُ ، وَأَنَّهُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ ، وَذَلِكَ حَقٌّ ، وَزِيَادَةُ الصَّلَاةِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ سُنَّةً ، وَالتَّوَعُّدُ عَلَى تَرْكِهِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي تَأْكِيدِهِ ، كَقَوْلِهِ : { مَنْ أَكَلَ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ فَلَا يَقْرَبَنَّ

مَسْجِدَنَا }

( 1086 ) فَصْلٌ : وَهُوَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ ، قَالَ أَحْمَدُ : مَنْ تَرَكَ الْوِتْرَ عَمْدًا فَهُوَ رَجُلُ سَوْءٍ ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُقْبَلَ لَهُ شَهَادَةٌ .
وَأَرَادَ الْمُبَالَغَةَ فِي تَأْكِيدِهِ ؛ لِمَا قَدْ وَرَدَ فِيهِ مِنْ الْأَحَادِيثِ فِي الْأَمْرِ بِهِ ، وَالْحَثِّ عَلَيْهِ ، فَخَرَجَ كَلَامُهُ مَخْرَجَ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِلَّا فَقَدْ صَرَّحَ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ ، فَقَالَ : الْوِتْرُ لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ الْفَرْضِ ، فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا صَلَّى الْفَرِيضَةَ وَحْدَهَا ، جَازَ لَهُ وَهُمَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ ؛ الرَّكْعَتَانِ قَبْلَ الْفَجْرِ وَالْوِتْرُ ، فَإِنْ شَاءَ قَضَى الْوِتْرَ ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَقْضِهِ ، وَلَيْسَ هُمَا بِمَنْزِلَةِ الْمَكْتُوبَةِ .
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْوِتْرِ وَرَكْعَتَيْ الْفَجْرِ ، فَقَالَ الْقَاضِي : رَكْعَتَا الْفَجْرِ آكَدُ مِنْ الْوِتْرِ ؛ لِاخْتِصَاصِهِمَا بِعَدَدٍ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ ، فَأَشْبَهَا الْمَكْتُوبَةَ .
وَقَالَ غَيْرُهُ : الْوِتْرُ آكَدُ .
وَهُوَ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِي وُجُوبِهِ ، وَفِيهِ مِنْ الْأَخْبَارِ مَا لَمْ يَأْتِ مِثْلُهُ فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ ، لَكِنْ رَكْعَتَا الْفَجْرِ تَلِيهِ فِي التَّأْكِيدِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( 1087 ) فَصْلٌ : وَوَقْتُهُ مَا بَيْنَ الْعِشَاءِ وَطُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي ، فَلَوْ أَوْتَرَ قَبْلَ الْعِشَاءِ ، لَمْ يَصِحَّ .
وِتْرُهُ .
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ : إنْ صَلَّاهُ قَبْلَ الْعِشَاءِ نَاسِيًا لَمْ يُعِدْهُ ، وَخَالَفَهُ صَاحِبَاهُ .
فَقَالَا : يُعِيدُ .
وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الْوِتْرُ جَعَلَهُ اللَّهُ لَكُمْ مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ إلَى صَلَاةِ الْفَجْرِ .
} وَفِيهِ حَدِيثُ أَبِي بَصْرَةَ { إنَّ اللَّهَ زَادَكُمْ صَلَاةً ، فَصَلُّوهَا مَا بَيْنَ الْعِشَاءِ إلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ } .
وَفِي " الْمُسْنَدِ " عَنْ مُعَاذٍ ، قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { زَادَنِي رَبِّي صَلَاةً ، وَهِيَ الْوِتْرُ ، وَوَقْتُهَا مَا بَيْنَ الْعِشَاءِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ } وَلِأَنَّهُ صَلَّاهُ قَبْلَ وَقْتِهِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ صَلَّى نَهَارًا .
وَإِنْ أَخَّرَ الْوِتْرَ حَتَّى يَطْلُعَ الصُّبْحُ ، فَاتَ وَقْتُهُ وَصَلَّاهُ قَضَاءً .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ ، أَنَّهُ قَالَ : الْوِتْرُ مَا بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ .
وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَحْوُهُ ، لِحَدِيثِ أَبِي بَصْرَةَ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ وَقْتَهُ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ ؛ لِحَدِيثِ مُعَاذٍ ، وَالْحَدِيثِ الْآخَرِ ، وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمْ الصُّبْحَ صَلَّى رَكْعَةً ، فَأَوْتَرَتْ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى } .
وَقَالَ { : اجْعَلُوا آخِرَ صَلَاتِكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْرًا } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَقَالَ { أَوْتِرُوا قَبْلَ أَنْ تُصْبِحُوا } وَقَالَ { : الْوِتْرُ رَكْعَةٌ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ } وَقَالَ { مَنْ خَافَ أَنْ لَا يَقُومَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ فَلْيُوتِرْ مِنْ أَوَّلِهِ } .
أَخْرَجَهُنَّ مُسْلِمٌ .

( 1088 ) فَصْلٌ : وَالْأَفْضَلُ فِعْلُهُ فِي آخِرِ اللَّيْلِ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : مَنْ خَافَ أَنْ لَا يَقُومَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ ، فَلْيُوتِرْ مِنْ أَوَّلِهِ ، وَمَنْ طَمِعَ أَنْ يَقُومَ آخِرَهُ ، فَلْيُوتِرْ آخِرَ اللَّيْلِ ؛ فَإِنَّ صَلَاةَ آخِرِ اللَّيْلِ مَشْهُودَةٌ } وَذَلِكَ أَفْضَلُ وَهَذَا صَرِيحٌ .
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { الْوِتْرُ رَكْعَةٌ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ } وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوتِرُ آخِرَ اللَّيْلِ وَقَالَتْ عَائِشَةُ : { مِنْ كُلِّ اللَّيْلِ قَدْ أَوْتَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْتَهَى وِتْرُهُ إلَى السَّحَرِ } .
وَمَنْ كَانَ لَهُ تَهَجُّدٌ جَعَلَ الْوِتْرَ بَعْدَ تَهَجُّدِهِ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ .
وَقَالَ : { اجْعَلُوا آخِرَ صَلَاتِكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْرًا } مَعَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَخْبَارِ .
فَإِنْ خَافَ أَنْ لَا يَقُومَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ ، اُسْتُحِبَّ أَنْ يُوتِرَ أَوَّلَهُ ؛ لِأَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْصَى أَبَا هُرَيْرَةَ وَأَبَا ذَرٍّ وَأَبَا الدَّرْدَاءِ بِالْوِتْرِ قَبْلَ النَّوْمِ .
وَقَالَ مَنْ خَافَ أَنْ لَا يَقُومَ آخِرَ اللَّيْلِ فَلْيُوتِرْ مِنْ أَوَّلِهِ } وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ كُلُّهَا صِحَاحٌ ، رَوَاهَا مُسْلِمٌ ، وَغَيْرُهُ .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ : مَتَى تُوتِرُ ؟ قَالَ : أُوتِرُ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ .
وَقَالَ لِعُمَرَ : مَتَى تُوتِرُ ؟ قَالَ : آخِرَ اللَّيْلِ .
فَقَالَ لِأَبِي بَكْرٍ : أَخَذَ هَذَا بِالْحَزْمِ وَأَخَذَ هَذَا بِالْقُوَّةِ } وَأَيَّ وَقْتٍ أَوْتَرَ مِنْ اللَّيْلِ ، بَعْدَ الْعِشَاءِ أَجْزَأَهُ .
لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا ، وَقَدْ دَلَّتْ الْأَخْبَارُ عَلَيْهِ .

( 1089 ) فَصْلٌ : وَمَنْ أَوْتَرَ مِنْ اللَّيْلِ ، ثُمَّ قَامَ لِلتَّهَجُّدِ ، فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُصَلِّيَ مَثْنَى مَثْنَى ، وَلَا يَنْقُضَ وِتْرَهُ .
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ ، وَعَمَّارٍ ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَائِذِ بْنِ عَمْرٍو ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ ، وَعَائِشَةَ .
وَكَانَ عَلْقَمَةُ لَا يَرَى نَقْضَ الْوِتْرِ .
وَبِهِ قَالَ طَاوُسٌ ، وَأَبُو مِجْلَزٍ .
وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيُّ ، وَمَالِكٌ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ .
وَقِيلَ لِأَحْمَدَ : وَلَا تَرَى نَقْضَ الْوِتْرِ ؟ فَقَالَ لَا ثُمَّ قَالَ : وَإِنْ ذَهَبَ إلَيْهِ رَجُلٌ فَأَرْجُو ، لِأَنَّهُ قَدْ فَعَلَهُ جَمَاعَةٌ .
وَمَرْوِيٌّ .
عَنْ عَلِيٍّ ، وَأُسَامَةَ ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ ، وَعُمَرَ ، وَعُثْمَانَ وَسَعْدٍ ، وَابْنِ عُمَرَ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَابْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ .
وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ إذَا قَامَ لِلتَّهَجُّدِ يُصَلِّي رَكْعَةً تَشْفَعُ الْوِتْرَ الْأَوَّلَ ، ثُمَّ يُصَلِّي مَثْنَى مَثْنَى ، ثُمَّ يُوتِرُ فِي آخِرِ التَّهَجُّدِ .
وَلَعَلَّهُمْ ذَهَبُوا إلَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { اجْعَلُوا آخِرَ صَلَاتِكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْرًا } .
وَلَنَا : مَا رَوَى قَيْسُ بْنُ طَلْقٍ ، قَالَ : { زَارَنَا طَلْقُ بْنُ عَلِيٍّ فِي يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ ، فَأَمْسَى عِنْدَنَا وَأَفْطَرَ ، ثُمَّ قَامَ بِنَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ ، ثُمَّ انْحَدَرَ إلَى الْمَسْجِدِ فَصَلَّى بِأَصْحَابِهِ ، حَتَّى إذَا بَقِيَ الْوِتْرُ قَدَّمَ رَجُلًا ، فَقَالَ : أَوْتِرْ بِأَصْحَابِكَ ، فَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : لَا وِتْرَانِ فِي لَيْلَةٍ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أَنَامُ عَلَى فِرَاشِي ، فَإِنْ اسْتَيْقَظْتُ صَلَّيْتُ شَفْعًا حَتَّى الصَّبَاحِ .
رَوَاهُ الْأَثْرَمُ .
وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ يَفْعَلُهُ .

( 1090 ) فَصْلٌ : فَإِنْ صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ ، وَأَحَبَّ مُتَابَعَتَهُ فِي الْوِتْرِ ، وَأَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ آخِرَ اللَّيْلِ ، فَإِنَّهُ إذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ لَمْ يُسَلِّمْ مَعَهُ ، وَقَامَ فَصَلَّى رَكْعَةً أُخْرَى يَشْفَعُ بِهَا صَلَاتَهُ مَعَ الْإِمَامِ .
نَصَّ عَلَيْهِ .
وَقَالَ : إنْ شَاءَ أَقَامَ عَلَى وِتْرٍ وَشَفَعَ إذَا قَامَ .
وَإِنْ شَاءَ صَلَّى مَثْنَى ، قَالَ : وَيَشْفَعُ مَعَ الْإِمَامِ بِرَكْعَةٍ أَحَبُّ إلَيَّ .
وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَمَّنْ أَوْتَرَ ، يُصَلِّي بَعْدَهَا مَثْنَى مَثْنَى ؟ قَالَ : نَعَمْ ، وَلَكِنْ يَكُونُ الْوِتْرُ بَعْدَ ضِجْعَةٍ .

( 1091 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ فِي رَكَعَاتِ الْوِتْرِ الثَّلَاثِ ، فِي الْأُولَى بِ { سَبِّحْ } ، وَفِي الثَّانِيَةِ { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } ، وَفِي الثَّالِثَةِ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } .
وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَقْرَأُ فِي الثَّالِثَةِ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } ، وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ .
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي الْوِتْرِ .
وَقَالَ فِي الشَّفْعِ : لَمْ يَبْلُغْنِي فِيهِ شَيْءٌ مَعْلُومٌ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهُ سُئِلَ ، يَقْرَأُ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ فِي الْوِتْرِ ؟ قَالَ : وَلِمَ لَا يَقْرَأُ ، وَذَلِكَ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ ، { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى " بِسَبِّحْ " ، وَفِي الثَّانِيَةِ " قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ " ، وَفِي الثَّالِثَةِ " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " ، وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ } ، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
وَلَنَا : مَا رَوَى أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ ، قَالَ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوتِرُ " بِسَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى وَ " قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ " وَ " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَابْنُ مَاجَهْ .
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُهُ .
رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
وَحَدِيثُ عَائِشَةَ فِي هَذَا لَا يَثْبُتُ ؛ فَإِنَّهُ يَرْوِيهِ يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ ، وَهُوَ ضَعِيفٌ .
وَقَدْ أَنْكَرَ أَحْمَدُ وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ زِيَادَةَ الْمُعَوِّذَتَيْنِ .

( 1092 ) فَصْلٌ : قَالَ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ : الْأَحَادِيثُ الَّتِي جَاءَتْ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْتَرَ بِرَكْعَةٍ ، كَانَ قَبْلَهَا صَلَاةٌ مُتَقَدِّمَةٌ } .
قِيلَ لَهُ : أَوْتَرَ فِي السَّفَرِ بِوَاحِدَةٍ ؟ قَالَ : يُصَلِّي قَبْلَهَا رَكْعَتَيْنِ .
قِيلَ لَهُ : يَكُونُ بَيْنَ الرَّكْعَةِ وَبَيْنَ الْمَثْنَى سَاعَةٌ ؟ قَالَ يُعْجِبُنِي أَنْ يَكُونَ بَعْدَهُ وَمَعَهُ .
ثُمَّ احْتَجَّ فَقَالَ : { صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى ، فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمْ الصُّبْحَ فَلْيُوتِرْ بِرَكْعَةٍ } .
فَقِيلَ لَهُ : رَجُلٌ تَنَفَّلَ بَعْدَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ ثُمَّ تَعَشَّى ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُوتِرَ يُعْجِبُكَ أَنْ يَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ يُوتِرَ ؟ قَالَ : نَعَمْ .
وَسُئِلَ عَمَّنْ صَلَّى مِنْ اللَّيْلِ ، ثُمَّ نَامَ وَلَمْ يُوتِرْ ؟ قَالَ : يُعْجِبُنِي أَنْ يَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ يُسَلِّمَ ، ثُمَّ يُوتِرَ بِوَاحِدَةٍ .
وَسُئِلَ عَنْ رَجُلٍ أَصْبَحَ وَلَمْ يُوتِرْ ؟ قَالَ : لَا يُوتِرُ بِرَكْعَةٍ ، إلَّا أَنْ يَخَافَ طُلُوعَ الشَّمْسِ .
قِيلَ : يُوتِرُ بِثَلَاثٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ .
يُصَلِّي الرَّكْعَتَيْنِ ، إلَّا أَنْ يَخَافَ طُلُوعَ الشَّمْسِ .
قِيلَ لَهُ : فَإِذَا لَحِقَ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةَ الْوِتْرِ ؟ قَالَ : إنْ كَانَ الْإِمَامُ يَفْصِلُ بَيْنَهُنَّ بِسَلَامٍ أَجْزَأَتْهُ الرَّكْعَةُ ، وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ لَا يُسَلِّمُ فِي الثِّنْتَيْنِ تَبِعَهُ ، وَيَقْضِي مِثْلَ مَا صَلَّى ، فَإِذَا فَرَغَ قَامَ يَقْضِي وَلَا يَقْنُتُ .
وَقِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : رَجُلٌ ابْتَدَأَ يُصَلِّي تَطَوُّعًا ، ثُمَّ بَدَا لَهُ ، فَجَعَلَ تِلْكَ الرَّكْعَةَ وِتْرًا ؟ فَقَالَ : لَا ، كَيْفَ يَكُونُ هَذَا ؟ قَدْ قَلَبَ نِيَّتَهُ .
قِيلَ لَهُ : أَيَبْتَدِئُ الْوِتْرَ ؟ قَالَ : نَعَمْ .
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : إذَا قَنَتَ قَبْلَ الرُّكُوعِ كَبَّرَ ، ثُمَّ أَخَذَ فِي الْقُنُوتِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ إذَا فَرَغَ مِنْ الْقِرَاءَةِ كَبَّرَ ، ثُمَّ قَنَتَ ، ثُمَّ كَبَّرَ حِينَ يَرْكَعُ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ ، وَابْنِ مَسْعُودٍ ، وَالْبَرَاءِ ، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ

وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا .

( 1093 ) فَصْلٌ : يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ بَعْدَ وِتْرِهِ : سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ .
ثَلَاثًا ، وَيَمُدَّ صَوْتَهُ بِهَا فِي الثَّالِثَةِ ؛ لِمَا رَوَى أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ ، قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا سَلَّمَ مِنْ الْوِتْرِ قَالَ : سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ } .
هَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبْزَى قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوتِرُ بِ { سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } ، وَ { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } ، وَ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَنْصَرِفَ مِنْ الْوِتْرِ قَالَ : سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، ثُمَّ يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِهَا فِي الثَّالِثَةِ } .
أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي " الْمُسْنَدِ " .

( 1094 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ ( وَقِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ عِشْرُونَ رَكْعَةً ) .
( يَعْنِي ) ( صَلَاةَ التَّرَاوِيحِ ) وَهِيَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ ، وَأَوَّلُ مَنْ سَنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْغَبُ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ فِيهِ بِعَزِيمَةٍ ، فَيَقُولُ : مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ } وَقَالَتْ عَائِشَةُ : { صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ ذَاتَ لَيْلَةٍ ، فَصَلَّى بِصَلَاتِهِ نَاسٌ ، ثُمَّ صَلَّى مِنْ الْقَابِلَةِ ، وَكَثُرَ النَّاسُ ، ثُمَّ اجْتَمَعُوا مِنْ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ ، فَلَمْ يَخْرُجْ إلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا أَصْبَحَ ، قَالَ : قَدْ رَأَيْت الَّذِي صَنَعْتُمْ ، فَلَمْ يَمْنَعْنِي مِنْ الْخُرُوجِ إلَيْكُمْ إلَّا أَنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ قَالَ : وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ } .
رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ ، قَالَ : { صُمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَضَانَ فَلَمْ يَقُمْ بِنَا شَيْئًا مِنْ الشَّهْرِ ، حَتَّى بَقِيَ سَبْعٌ .
فَقَامَ بِنَا حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ ، فَلَمَّا كَانَتْ السَّادِسَةُ لَمْ يَقُمْ بِنَا ، فَلَمَّا كَانَتْ الْخَامِسَةُ قَامَ بِنَا حَتَّى ذَهَبَ شَطْرُ اللَّيْلِ .
فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لَوْ نَفَّلْتَنَا قِيَامَ هَذِهِ اللَّيْلَةِ ؟ قَالَ : فَقَالَ : إنَّ الرَّجُلَ إذَا صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ ، حُسِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ .
قَالَ : فَلَمَّا كَانَتْ الرَّابِعَةُ لَمْ يَقُمْ ، فَلَمَّا كَانَتْ الثَّالِثَةُ جَمَعَ أَهْلَهُ وَنِسَاءَهُ وَالنَّاسَ ، فَقَامَ بِنَا حَتَّى خَشِينَا أَنْ يَفُوتَنَا الْفَلَاحُ ؟ قَالَ : قُلْت : وَمَا الْفَلَاحُ ؟ قَالَ : السُّحُورُ .
ثُمَّ لَمْ يَقُمْ بِنَا بَقِيَّةَ الشَّهْرِ .
} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالْأَثْرَمُ ، وَابْنُ مَاجَهْ .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ { : خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

فَإِذَا النَّاسُ فِي رَمَضَانَ يُصَلُّونَ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ .
فَقَالَ : مَا هَؤُلَاءِ ؟ فَقِيلَ : هَؤُلَاءِ نَاسٌ لَيْسَ مَعَهُمْ قُرْآنٌ ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ يُصَلِّي بِهِمْ ، وَهُمْ يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ .
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَصَابُوا ، وَنِعْمَ مَا صَنَعُوا } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَقَالَ رَوَاهُ مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ ، وَهُوَ ضَعِيفٌ .
وَنُسِبَتْ التَّرَاوِيحُ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَنَّهُ جَمَعَ النَّاسَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ، فَكَانَ يُصَلِّيهَا بِهِمْ ، فَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدٍ الْقَارِي ، قَالَ : خَرَجْت مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لَيْلَةً فِي رَمَضَانَ ، فَإِذَا النَّاسُ أَوْزَاعٌ مُتَفَرِّقُونَ ، يُصَلِّي الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ ، وَيُصَلِّي الرَّجُلُ فَيُصَلِّي بِصَلَاتِهِ الرَّهْطُ ، فَقَالَ عُمَرُ : إنِّي أَرَى لَوْ جَمَعْتُ هَؤُلَاءِ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ ، لَكَانَ أَمْثَلَ ثُمَّ عَزَمَ فَجَمَعَهُمْ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ، قَالَ : ثُمَّ خَرَجْت مَعَهُ لَيْلَةً أُخْرَى وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاةِ قَارِئِهِمْ .
فَقَالَ : نِعْمَتْ الْبِدْعَةُ هَذِهِ ، وَاَلَّتِي يَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ مِنْ الَّتِي يَقُومُونَ .
يُرِيدُ آخِرَ اللَّيْلِ ، وَكَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ أَوَّلَهُ .
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ .
( 1095 ) فَصْلٌ : وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ، رَحِمَهُ اللَّهُ ، فِيهَا عِشْرُونَ رَكْعَةً .
وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ مَالِكٌ : سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ .
وَزَعَمَ أَنَّهُ الْأَمْرُ الْقَدِيمُ ، وَتَعَلَّقَ بِفِعْلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، فَإِنَّ صَالِحًا مَوْلَى التَّوْأَمَةِ ، قَالَ : أَدْرَكْتُ النَّاسَ يَقُومُونَ بِإِحْدَى وَأَرْبَعِينَ رَكْعَةً ، يُوتِرُونَ مِنْهَا بِخَمْسٍ .
وَلَنَا ، أَنَّ عُمَرَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا جَمَعَ النَّاسَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ، وَكَانَ يُصَلِّي لَهُمْ عِشْرِينَ رَكْعَةً ، وَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ أَنَّ عُمَرَ جَمَعَ النَّاسَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ، فَكَانَ يُصَلِّي لَهُمْ عِشْرِينَ لَيْلَةً ، وَلَا يَقْنُتُ بِهِمْ إلَّا فِي

النِّصْفِ الثَّانِي .
فَإِذَا كَانَتْ الْعَشْرُ الْأَوَاخِرُ تَخَلَّفَ أُبَيٌّ ، فَصَلَّى فِي بَيْتِهِ ، فَكَانُوا يَقُولُونَ : أَبَقَ أُبَيٌّ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَرَوَاهُ السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ ، وَرُوِيَ عَنْهُ مِنْ طُرُقٍ .
وَرَوَى مَالِكٌ ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ ، قَالَ : كَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ فِي زَمَنِ عُمَرَ فِي رَمَضَانَ بِثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ رَكْعَةً .
وَعَنْ عَلِيٍّ ، أَنَّهُ أَمَرَ رَجُلًا يُصَلِّي بِهِمْ فِي رَمَضَانَ عِشْرِينَ رَكْعَةً .
وَهَذَا كَالْإِجْمَاعِ ، فَأَمَّا مَا رَوَاهُ صَالِحٌ ، فَإِنَّ صَالِحًا ضَعِيفٌ ، ثُمَّ لَا نَدْرِي مَنْ النَّاسُ الَّذِينَ أَخْبَرَ عَنْهُمْ ؟ فَلَعَلَّهُ قَدْ أَدْرَكَ جَمَاعَةً مِنْ النَّاسِ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِحُجَّةٍ ، ثُمَّ لَوْ ثَبَتَ أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ كُلَّهُمْ فَعَلُوهُ لَكَانَ مَا فَعَلَهُ عُمَرُ ، وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ فِي عَصْرِهِ ، أَوْلَى بِالِاتِّبَاعِ ، قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ : إنَّمَا فَعَلَ هَذَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا مُسَاوَاةَ أَهْلِ مَكَّةَ ، فَإِنَّ أَهْلَ مَكَّةَ يَطُوفُونَ سَبْعًا بَيْنَ كُلِّ تَرْوِيحَتَيْنِ ، فَجَعَلَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مَكَانَ كُلِّ سَبْعٍ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى وَأَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ .

( 1096 ) فَصْلٌ : وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ، فِعْلُهَا فِي الْجَمَاعَةِ ، قَالَ ، فِي رِوَايَةِ يُوسُفَ بْنِ مُوسَى : الْجَمَاعَةُ فِي التَّرَاوِيحِ أَفْضَلُ ، وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُقْتَدَى بِهِ ، فَصَلَّاهَا فِي بَيْتِهِ ، خِفْت أَنْ يَقْتَدِيَ النَّاسُ بِهِ .
وَقَدْ جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { اقْتَدُوا بِالْخُلَفَاءِ } وَقَدْ جَاءَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي فِي الْجَمَاعَةِ .
وَبِهَذَا قَالَ الْمُزَنِيّ ، وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ ، قَالَ أَحْمَدُ : كَانَ جَابِرٌ ، وَعَلِيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ يُصَلُّونَهَا فِي جَمَاعَةٍ .
قَالَ الطَّحَاوِيُّ : كُلُّ مَنْ اخْتَارَ التَّفَرُّدَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى أَنْ لَا يَقْطَعَ مَعَهُ الْقِيَامَ فِي الْمَسَاجِدِ ، فَأَمَّا التَّفَرُّدُ الَّذِي يَقْطَعُ مَعَهُ الْقِيَامَ فِي الْمَسَاجِدِ فَلَا .
وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ .
وَقَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ : قِيَامُ رَمَضَانَ لِمَنْ قَوِيَ فِي الْبَيْتِ أَحَبُّ إلَيْنَا ؛ لِمَا رَوَى زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ قَالَ : { احْتَجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُجَيْرَةً بِخَصَفَةٍ أَوْ حَصِيرٍ ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا .
فَتَتَبَّعَ إلَيْهِ رِجَالٌ ، وَجَاءُوا يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ قَالَ ثُمَّ : جَاءُوا لَيْلَةً فَحَضَرُوا ، وَأَبْطَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمْ ، فَلَمْ يَخْرُجْ إلَيْهِمْ ، فَرَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ ، وَحَصَبُوا الْبَابَ ، فَخَرَجَ إلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُغْضَبًا ، فَقَالَ : مَا زَالَ بِكُمْ صَنِيعُكُمْ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُكْتَبُ عَلَيْكُمْ ، فَعَلَيْكُمْ بِالصَّلَاةِ فِي بُيُوتِكُمْ ، فَإِنَّ خَيْرَ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ ، إلَّا الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَلَنَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ ، وَجَمْعُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ وَأَهْلَهُ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ ، وَقَوْلُهُ لَهُ : { إنَّ الْقَوْمَ إذَا صَلَّوْا مَعَ

الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ ، كُتِبَ لَهُمْ قِيَامُ تِلْكَ اللَّيْلَةِ } .
وَهَذَا خَاصٌّ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ ، فَيُقَدَّمُ عَلَى عُمُومِ مَا احْتَجُّوا بِهِ ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ لَهُمْ مُعَلَّلٌ بِخَشْيَةِ فَرْضِهِ عَلَيْهِمْ ، وَلِهَذَا تَرَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِيَامَ بِهِمْ مُعَلَّلًا بِذَلِكَ أَيْضًا ، أَوْ خَشْيَةَ أَنْ يَتَّخِذَهُ النَّاسُ فَرْضًا ، وَقَدْ أُمِنَ هَذَا أَنْ يُفْعَلَ بَعْدَهُ .
فَإِنْ قِيلَ : فَعَلِيٌّ لَمْ يَقُمْ مَعَ الصَّحَابَةِ ؟ قُلْنَا : قَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَامَ بِهِمْ فِي رَمَضَانَ .
وَعَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ زِيَادٍ ، قَالَ : مَرَّ عَلِيٌّ عَلَى الْمَسَاجِدِ وَفِيهَا الْقَنَادِيلُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ .
فَقَالَ نَوَّرَ اللَّهُ عَلَى عُمَرَ قَبْرَهُ ، كَمَا نَوَّرَ عَلَيْنَا مَسَاجِدَنَا .
رَوَاهُمَا الْأَثْرَمُ .

( 1097 ) فَصْلٌ : قَالَ أَحْمَدُ ، رَحِمَهُ اللَّهُ : يَقْرَأُ بِالْقَوْمِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مَا يَخِفُّ عَلَى النَّاسِ ، وَلَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ ، وَلَا سِيَّمَا فِي اللَّيَالِي الْقِصَارِ ، وَالْأَمْرُ عَلَى مَا يَحْتَمِلُهُ النَّاسُ .
وَقَالَ الْقَاضِي : لَا يُسْتَحَبُّ النُّقْصَانُ عَنْ خَتْمِهِ فِي الشَّهْرِ ؛ لِيَسْمَعَ النَّاسُ جَمِيعَ الْقُرْآنِ ، وَلَا يَزِيدُ عَلَى خَتْمِهِ كَرَاهِيَةَ الْمَشَقَّةِ عَلَى مَنْ خَلْفَهُ .
وَالتَّقْدِيرُ بِحَالِ النَّاسِ أَوْلَى ؛ فَإِنَّهُ لَوْ اتَّفَقَ جَمَاعَةٌ يَرْضَوْنَ بِالتَّطْوِيلِ وَيَخْتَارُونَهُ ، كَانَ أَفْضَلَ .
كَمَا رَوَى أَبُو ذَرٍّ ، قَالَ : { قُمْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى خَشِينَا أَنْ يَفُوتَنَا الْفَلَاحُ .
يَعْنِي السُّحُورَ .
} وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ يُطِيلُونَ الصَّلَاةَ ، حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ : كَانُوا إذَا انْصَرَفُوا يَسْتَعْجِلُونَ خَدَمَهُمْ بِالطَّعَامِ ، مَخَافَةَ طُلُوعِ الْفَجْرِ ، وَكَانَ الْقَارِئُ يَقْرَأُ بِالْمِائَتَيْنِ .

( 1098 ) فَصْلٌ : قَالَ أَبُو دَاوُد : سَمِعْت أَحْمَدَ يَقُولُ : يُعْجِبُنِي أَنْ يُصَلِّيَ مَعَ الْإِمَامِ ، وَيُوتِرَ مَعَهُ .
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ الرَّجُلَ إذَا قَامَ مَعَ الْإِمَامِ ، حَتَّى يَنْصَرِفَ ، كُتِبَ لَهُ بَقِيَّةُ لَيْلَتِهِ } .
قَالَ : وَكَانَ أَحْمَدُ يَقُومُ مَعَ النَّاسِ ، وَيُوتِرُ مَعَهُمْ .
قَالَ الْأَثْرَمُ : وَأَخْبَرَنِي الَّذِي كَانَ يَؤُمُّهُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ، أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي مَعَهُمْ التَّرَاوِيحَ كُلَّهَا وَالْوِتْرَ .
قَالَ : وَيَنْتَظِرُنِي بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى أَقُومَ ثُمَّ يَقُومَ ، كَأَنَّهُ يَذْهَبُ إلَى حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ { إذَا قَامَ مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ بَقِيَّةُ لَيْلَتِهِ } قَالَ أَبُو دَاوُد : وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ قَوْمٍ صَلَّوْا فِي رَمَضَانَ خَمْسَ تَرَاوِيحَ ، لَمْ يَتَرَوَّحُوا بَيْنَهَا ؟ قَالَ : لَا بَأْسَ .
قَالَ : وَسُئِلَ عَمَّنْ أَدْرَكَ مِنْ تَرْوِيحِهِ رَكْعَتَيْنِ ، يُصَلِّي إلَيْهَا رَكْعَتَيْنِ ؟ فَلَمْ يَرَ ذَلِكَ .
وَقَالَ هِيَ تَطَوُّعٌ .
وَقِيلَ لِأَحْمَدَ : تُؤَخِّرُ الْقِيَامَ يَعْنِي فِي التَّرَاوِيحِ إلَى آخِرِ اللَّيْلِ ؟ قَالَ : لَا ، سُنَّةُ الْمُسْلِمِينَ أَحَبُّ إلَيَّ .

( 1099 ) فَصْلٌ : وَكَرِهَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ التَّطَوُّعَ بَيْنَ التَّرَاوِيحِ ، وَقَالَ : فِيهِ عَنْ ثَلَاثَةٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ عُبَادَةُ ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ ، وَعُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ .
فَذُكِرَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ فِيهِ رُخْصَةٌ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ ، فَقَالَ : هَذَا بَاطِلٌ ، إنَّمَا فِيهِ عَنْ الْحَسَنِ ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ .
وَقَالَ أَحْمَدُ : يَتَطَوَّعُ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ ، وَلَا يَتَطَوَّعُ بَيْنَ التَّرَاوِيحِ .
وَرَوَى الْأَثْرَمُ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ ، أَنَّهُ أَبْصَرَ قَوْمًا يُصَلُّونَ بَيْنَ التَّرَاوِيحِ ، فَقَالَ : مَا هَذِهِ الصَّلَاةُ ؟ أَتُصَلِّي وَإِمَامُكَ بَيْنَ يَدَيْكَ ؟ لَيْسَ مِنَّا مَنْ رَغِبَ عَنَّا .
وَقَالَ : مِنْ قِلَّةِ فِقْهِ الرَّجُلِ أَنْ يُرَى أَنَّهُ فِي الْمَسْجِدِ وَلَيْسَ فِي صَلَاةٍ .

( 1100 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا التَّعْقِيبُ ، وَهُوَ أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَ التَّرَاوِيحِ نَافِلَةً أُخْرَى جَمَاعَةً ، أَوْ يُصَلِّيَ التَّرَاوِيحَ فِي جَمَاعَةٍ أُخْرَى .
فَعَنْ أَحْمَدَ : أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ ؛ لِأَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ : مَا يَرْجِعُونَ إلَّا لِخَيْرٍ يَرْجُونَهُ ، أَوْ لِشَرٍّ يَحْذَرُونَهُ .
وَكَانَ لَا يَرَى بِهِ بَأْسًا .
وَنَقَلَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَكَمِ عَنْهُ الْكَرَاهَةَ ، إلَّا أَنَّهُ قَوْلٌ قَدِيمٌ ، وَالْعَمَلُ عَلَى مَا رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : الصَّلَاةُ إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ ، أَوْ إلَى آخِرِهِ ، لَمْ تُكْرَهْ رِوَايَةً وَاحِدَةً ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا رَجَعُوا قَبْلَ النَّوْمِ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ ؛ لِأَنَّهُ خَيْرٌ وَطَاعَةٌ ، فَلَمْ يُكْرَهْ ، كَمَا لَوْ أَخَّرَهُ إلَى آخِرِ اللَّيْلِ .

( 1101 ) فَصْلٌ : فِي خَتْمِ الْقُرْآنِ : قَالَ الْفَضْلُ بْنُ زِيَادٍ : سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ فَقُلْت : أَخْتِمُ الْقُرْآنَ ، أَجْعَلُهُ فِي الْوِتْرِ أَوْ فِي التَّرَاوِيحِ ؟ قَالَ : اجْعَلْهُ فِي التَّرَاوِيحِ ، حَتَّى يَكُونَ لَنَا دُعَاءً بَيْنَ اثْنَيْنِ .
قُلْت كَيْفَ أَصْنَعُ .
؟ قَالَ إذَا فَرَغْتَ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ فَارْفَعْ يَدَيْكَ قَبْلَ أَنْ تَرْكَعَ ، وَادْعُ بِنَا وَنَحْنُ فِي الصَّلَاةِ ، وَأَطِلْ الْقِيَامَ .
قُلْت : بِمَ أَدْعُو ؟ قَالَ : بِمَا شِئْت .
قَالَ : فَفَعَلْت بِمَا أَمَرَنِي ، وَهُوَ خَلْفِي يَدْعُو قَائِمًا ، وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ ، وَقَالَ حَنْبَلٌ : سَمِعْت أَحْمَدَ يَقُولُ فِي خَتْمِ الْقُرْآنِ : إذَا فَرَغْت مِنْ قِرَاءَةِ { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ } فَارْفَعْ يَدَيْكَ فِي الدُّعَاءِ قَبْلَ الرُّكُوعِ .
قُلْت : إلَى أَيِّ شَيْءٍ تَذْهَبُ فِي هَذَا ؟ قَالَ : رَأَيْت أَهْلَ مَكَّةَ يَفْعَلُونَهُ ، وَكَانَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ يَفْعَلُهُ مَعَهُمْ بِمَكَّةَ .
قَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْعَظِيمِ : وَكَذَلِكَ أَدْرَكْنَا النَّاسَ بِالْبَصْرَةِ وَبِمَكَّةَ .
وَيَرْوِي أَهْلُ الْمَدِينَةِ فِي هَذَا شَيْئًا ، وَذُكِرَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ .

( 1102 ) فَصْلٌ : وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي قِيَامِ لَيْلَةِ الشَّكِّ ؛ فَحُكِيَ عَنْ الْقَاضِي أَنَّهُ قَالَ : جَرَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي وَقْتِ شَيْخِنَا أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَصَلَّى ، وَصَلَّاهَا الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى أَيْضًا ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ ، وَسَنَنْتُ لَكُمْ قِيَامَهُ } فَجَعَلَ الْقِيَامَ مَعَ الصِّيَامِ .
وَذَهَبَ أَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ إلَى تَرْكِ الْقِيَامِ ، وَقَالَ : الْمُعَوَّلُ فِي الصِّيَامِ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ ، وَفِعْلِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ قِيَامُ تِلْكَ اللَّيْلَةِ .
وَاخْتَارَهُ التَّمِيمِيُّونَ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ شَعْبَانَ ، وَإِنَّمَا صِرْنَا إلَى الصَّوْمِ احْتِيَاطًا لِلْوَاجِبِ ، وَالصَّلَاةُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ ، فَتَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ .

( 1103 ) فَصْلٌ : قَالَ أَبُو طَالِبٍ : سَأَلْت أَحْمَدَ إذَا قَرَأَ { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ } يَقْرَأُ مِنْ الْبَقَرَةِ شَيْئًا ؟ قَالَ : لَا فَلَمْ يَسْتَحِبَّ أَنْ يَصِلَ خَتْمَتَهُ بِقِرَاءَةِ شَيْءٍ ، وَلَعَلَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ عِنْدَهُ أَثَرٌ صَحِيحٌ يَصِيرُ إلَيْهِ .
قَالَ أَبُو دَاوُد : وَذَكَرْت لِأَحْمَدَ قَوْلَ ابْنِ الْمُبَارَكِ : إذَا كَانَ الشِّتَاءُ فَاخْتِمْ الْقُرْآنَ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ ، وَإِذَا كَانَ الصَّيْفُ فَاخْتِمْهُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ .
فَكَأَنَّهُ أَعْجَبَهُ .
وَذَلِكَ ، لِمَا رُوِيَ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ ، قَالَ : أَدْرَكْتُ أَهْلَ الْخَيْرِ مِنْ صَدْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَسْتَحِبُّونَ الْخَتْمَ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ ، وَفِي أَوَّلِ النَّهَارِ ، يَقُولُونَ : إذَا خَتَمَ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ صَلَّتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ حَتَّى يُصْبِحَ ، وَإِذَا خَتَمَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ صَلَّتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ حَتَّى يُمْسِيَ .
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ : يُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْعَلَ خَتْمَةَ النَّهَارِ فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ أَوْ بَعْدَهُمَا ، وَخَتْمَةَ اللَّيْلِ فِي رَكْعَتَيْ الْمَغْرِبِ أَوْ بَعْدَهُمَا ، يَسْتَقْبِلُ بِخَتْمِهِ أَوَّلَ اللَّيْلِ وَأَوَّلَ النَّهَارِ .

( 1104 ) فَصْلٌ : : وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْمَعَ أَهْلَهُ عِنْدَ خَتْمِ الْقُرْآنِ وَغَيْرَهُمْ ؛ لِحُضُورِ الدُّعَاءِ .
قَالَ أَحْمَدُ : كَانَ أَنَسٌ إذَا خَتَمَ الْقُرْآنَ جَمَعَ أَهْلَهُ وَوَلَدَهُ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ .
وَرَوَاهُ ابْنُ شَاهِينَ مَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَاسْتَحْسَنَ أَبُو بَكْرٍ التَّكْبِيرَ عِنْدَ آخِرِ كُلِّ سُورَةٍ مِنْ الضُّحَى إلَى آخِرِ الْقُرْآنِ ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ { أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهُ بِذَلِكَ } ، رَوَاهُ الْقَاضِي ، فِي " الْجَامِعِ " بِإِسْنَادِهِ .

( 1105 ) فَصْلٌ : وَسُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ، عَنْ الْإِمَامِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ، يَدَعُ الْآيَاتِ مِنْ السُّورَةِ ، تَرَى لِمَنْ خَلْفَهُ أَنْ يَقْرَأَهَا ؟ قَالَ : نَعَمْ يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَ ، قَدْ كَانَ بِمَكَّةَ يُوكِلُونَ رَجُلًا يَكْتُبُ مَا تَرَكَ الْإِمَامُ مِنْ الْحُرُوفِ وَغَيْرِهَا ، فَإِذَا كَانَ لَيْلَةُ الْخَتْمَةِ أَعَادَهُ وَإِنَّمَا اُسْتُحِبَّ ذَلِكَ لِتَتِمَّ الْخَتْمَةُ ، وَيَكْمُلَ الثَّوَابُ .

( 1106 ) فَصْلٌ : وَلَا بَأْسَ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الطَّرِيقِ ، وَالْإِنْسَانُ مُضْطَجِعٌ ، قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ : خَرَجْتُ مَعَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ إلَى الْجَامِعِ فَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ سُورَةَ الْكَهْفِ .
وَعَنْ إبْرَاهِيمَ التَّمِيمِيِّ قَالَ : كُنْت أَقْرَأُ عَلَى أَبِي مُوسَى وَهُوَ يَمْشِي فِي الطَّرِيقِ ، فَإِذَا قَرَأْت السَّجْدَةَ قُلْت لَهُ : أَتَسْجُدُ فِي الطَّرِيقِ ؟ قَالَ نَعَمْ .
وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : إنِّي لَأَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَأَنَا مُضْطَجِعَةٌ عَلَى سَرِيرِي .
رَوَاهُ الْفِرْيَابِيُّ ، فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ عَنْ عَائِشَةَ .

( 1107 ) فَصْلٌ : يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ ، لِيَكُونَ لَهُ خَتْمَةٌ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ .
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ : كَانَ أَبِي يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي النَّهَارِ فِي كُلِّ سَبْعَةٍ يَقْرَأُ فِي كُلِّ يَوْمٍ سُبُعًا ، لَا يَتْرُكُهُ نَظَرًا .
وَقَالَ حَنْبَلٌ : كَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَخْتِمُ مِنْ الْجُمُعَةِ إلَى الْجُمُعَةِ .
وَذَلِكَ لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو : اقْرَأْ الْقُرْآنَ فِي سَبْعٍ ، وَلَا تَزِيدَنَّ عَلَى ذَلِكَ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَعَنْ أَوْسِ بْنِ حُذَيْفَةَ ، قَالَ : { قُلْنَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَقَدْ أَبْطَأْتَ عَنَّا اللَّيْلَةَ .
قَالَ إنَّهُ طَرَأَ عَلَيَّ حِزْبِي مِنْ الْقُرْآنِ ، فَكَرِهْتُ أَنْ أَخْرُجَ حَتَّى أُتِمَّهُ } قَالَ أَوْسٌ سَأَلْتُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كَيْفَ تُحَزِّبُونَ الْقُرْآنَ ؛ قَالُوا : ثَلَاثٌ وَخَمْسٌ ، وَسَبْعٌ ، وَتِسْعٌ وَإِحْدَى عَشْرَةَ ، وَثَلَاثَ عَشْرَةَ ، وَحِزْبُ الْمُفَصَّلِ وَحْدَهُ .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَيُكْرَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ خَتْمَةَ الْقُرْآنِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا { ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو : فِي كَمْ يُخْتَمُ الْقُرْآنُ ؟ قَالَ : فِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ قَالَ : فِي شَهْرٍ .
ثُمَّ قَالَ : فِي عِشْرِينَ ثُمَّ قَالَ : فِي خَمْسَ عَشْرَةَ .
ثُمَّ قَالَ : فِي عَشْرٍ .
ثُمَّ قَالَ : فِي سَبْعٍ } .
لَمْ يَنْزِلْ مِنْ سَبْعٍ .
أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد .
وَقَالَ أَحْمَدُ : أَكْثَرُ مَا سَمِعْتُ أَنْ يُخْتَمَ الْقُرْآنُ فِي أَرْبَعِينَ .
وَلِأَنَّ تَأْخِيرَهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى نِسْيَانِ الْقُرْآنِ وَالتَّهَاوُنِ بِهِ ، فَكَانَ مَا ذَكَرْنَا أَوْلَى ، وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ ، فَأَمَّا مَعَ الْعُذْرِ فَوَاسِعٌ لَهُ .
( 1108 ) فَصْلٌ : وَإِنْ قَرَأَهُ فِي ثَلَاثٍ فَحَسَنٌ ؛ لِمَا رُوِيَ { عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ، قَالَ : قُلْت لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ إنَّ بِي قُوَّةً قَالَ : اقْرَأْهُ فِي ثَلَاثٍ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فَإِنْ قَرَأَهُ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ : أَكْرَهُ أَنْ يَقْرَأَهُ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ .
وَذَلِكَ لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : لَا يَفْقَهُ مَنْ قَرَأَهُ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ } ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُقَدَّرٍ وَهُوَ عَلَى حَسَبِ مَا يَجِدُ مِنْ النَّشَاطِ وَالْقُوَّةِ ؛ لِأَنَّ عُثْمَانَ كَانَ يَخْتِمُهُ فِي لَيْلَةٍ ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ .
وَالتَّرْتِيلُ أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَةِ الْكَثِيرِ مَعَ الْعَجَلَةِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا } .
وَعَنْ عَائِشَةَ { أَنَّهَا قَالَتْ : وَلَا أَعْلَمُ نَبِيَّ اللَّهِ قَرَأَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ فِي لَيْلَةٍ } ، وَعَنْهَا قَالَتْ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ } .
رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ ، فِي " فَضَائِلِ الْقُرْآنِ " وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ ، فَهَذُّهُ كَهَذِّ الشِّعْرِ ، وَنَثْرٌ كَنَثْرِ الدَّقَلِ .

( 1109 ) فَصْلٌ : كَرِهَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقِرَاءَةَ بِالْأَلْحَانِ ، وَقَالَ : هِيَ بِدْعَةٌ ؛ وَذَلِكَ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ ذَكَرَ فِي أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُتَّخَذَ الْقُرْآنُ مَزَامِيرَ ، يُقَدِّمُونَ أَحَدَهُمْ لَيْسَ بِأَقْرَئِهِمْ وَلَا أَفْضَلِهِمْ إلَّا لِيُغَنِّيَهُمْ غِنَاءً } وَلِأَنَّ الْقُرْآنَ مُعْجِزٌ فِي لَفْظِهِ وَنَظْمِهِ ، وَالْأَلْحَانُ تُغَيِّرُهُ .
وَكَلَامُ أَحْمَدَ فِي هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الْإِفْرَاطِ فِي ذَلِكَ ، بِحَيْثُ يَجْعَلُ الْحَرَكَاتِ حُرُوفًا ، وَيَمُدُّ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ ، فَأَمَّا تَحْسِينُ الْقِرَاءَةِ وَالتَّرْجِيعُ فَغَيْرُ مَكْرُوهٍ ؛ فَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُغَفَّلِ قَالَ : { سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفَتْحِ .
قَالَ : فَقَرَأَ ابْنُ الْمُغَفَّلِ ، فَرَجَّعَ فِي قِرَاءَتِهِ .
وَفِي لَفْظٍ قَالَ : قَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفَتْحِ فِي مَسِيرٍ لَهُ سُورَةَ الْفَتْحِ عَلَى رَاحِلَتِهِ ، فَرَجَّعَ فِي قِرَاءَتِهِ } قَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ : لَوْلَا أَنِّي أَخَافُ أَنْ تَجْتَمِعَ عَلَيَّ النَّاسُ لَحَكَيْتُ لَكُمْ قِرَاءَتَهُ .
.
رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ .
وَفِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ فَقَالَ : " أ أ أ " .
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ كَإِذْنِهِ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ } ، يَجْهَرُ بِهِ .
يَعْنِي لِيُسْتَمَعَ .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ } وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ : " يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ " فَقَالَ : ابْنُ عُيَيْنَةَ ، وَأَبُو عُبَيْدٍ ، وَجَمَاعَةٌ ، وَغَيْرُهُمَا : مَعْنَاهُ يَسْتَغْنِي بِالْقُرْآنِ .
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يُغَنِّ بِالْقُرْآنِ لَيْسَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ : مَعْنَاهُ يُحْسِنُ قِرَاءَتَهُ ، وَيَتَرَنَّمُ بِهِ ، وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِهِ .
كَمَا قَالَ أَبُو مُوسَى لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكَ تَسْمَعُ قِرَاءَتِي لَحَبَّرْتُهُ لَكَ تَحْبِيرًا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِهِ .
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : حُزْنُهُ فَيَقْرَؤُهُ بِحُزْنٍ مِثْلُ صَوْتِ أَبِي مُوسَى .
وَعَلَى كُلِّ حَالٍ ، فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ تَحْسِينَ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ ، وَتَطْرِيبَهُ ، مُسْتَحَبٌّ غَيْرُ مَكْرُوهٍ ، مَا لَمْ يَخْرُجْ ذَلِكَ إلَى تَغْيِيرِ لَفْظِهِ ، وَزِيَادَةِ حُرُوفِهِ ، فَقَدْ رُوِيَ { عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَسْتَمِعُ قِرَاءَةَ رَجُلٍ فِي الْمَسْجِدِ لَمْ أَسْمَعْ قِرَاءَةً أَحْسَنَ مِنْ قِرَاءَتِهِ .
فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَمَعَ قِرَاءَتَهُ ، ثُمَّ قَالَ هَذَا سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي أُمَّتِي مِثْلَ هَذَا } .
{ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي مُوسَى : إنِّي مَرَرْتُ بِكَ الْبَارِحَةَ وَأَنْتَ تَقْرَأُ ، فَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُد فَقَالَ أَبُو مُوسَى : لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَسْتَمِعُ لَحَبَّرْتُهُ لَكَ تَحْبِيرًا } .
مَعَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَخْبَارِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ الْإِمَامَةِ وَصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ الْجَمَاعَةُ وَاجِبَةٌ لِلصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ ، رُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَأَبِي مُوسَى .
وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ .
وَلَمْ يُوجِبْهَا مَالِكٌ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { تَفْضُلُ صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ عَلَى صَلَاةِ الْفَذِّ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُنْكِرْ عَلَى اللَّذَيْنِ قَالَا : صَلَّيْنَا فِي رِحَالِنَا .
وَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَأَنْكَرَ عَلَيْهِمَا ، وَلِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً فِي الصَّلَاةِ لَكَانَتْ شَرْطًا لَهَا كَالْجُمُعَةِ .
وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلَاةَ } .
الْآيَةَ ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً لَرَخَّصَ فِيهَا حَالَةَ الْخَوْفِ ، وَلَمْ يُجِزْ الْإِخْلَالَ بِوَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ مِنْ أَجْلِهَا ، وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِحَطَبِ لِيُحْتَطَبَ ، ثُمَّ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَيُؤَذَّنَ لَهَا ؛ ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا فَيَؤُمَّ النَّاسَ ، ثُمَّ أُخَالِفَ إلَى رِجَالٍ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَفِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ الْجَمَاعَةَ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ الْجُمُعَةَ لَمَا هَمَّ بِالتَّخَلُّفِ عَنْهَا .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ { : أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ أَعْمَى ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لَيْسَ لِي قَائِدٌ يَقُودُنِي إلَى الْمَسْجِدِ فَسَأَلَهُ أَنْ يُرَخِّصَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي بَيْتِهِ ، فَرَخَّصَ لَهُ ، فَلَمَّا وَلَّى دَعَاهُ ، فَقَالَ : تَسْمَعُ النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ ؟ قَالَ : نَعَمْ .
قَالَ : فَأَجِبْ } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَإِذَا لَمْ يُرَخَّصْ لِلْأَعْمَى الَّذِي لَمْ يَجِدْ قَائِدًا لَهُ ، فَغَيْرُهُ أَوْلَى .
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى

عَنْهُمَا قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { : مَنْ سَمِعَ الْمُنَادِيَ فَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ اتِّبَاعِهِ عُذْرٌ قَالُوا : وَمَا الْعُذْرُ ؟ قَالَ : خَوْفٌ ، أَوْ مَرَضٌ ، لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ الصَّلَاةُ الَّتِي صَلَّى } .
أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد .
وَرَوَى أَبُو الدَّرْدَاءِ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَا مِنْ ثَلَاثَةٍ فِي قَرْيَةٍ ، أَوْ بَلَدٍ ، لَا تُقَامُ فِيهِمْ الصَّلَاةُ إلَّا اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ ، فَعَلَيْكَ بِالْجَمَاعَةِ ، فَإِنَّ الذِّئْبَ يَأْكُلُ الْقَاصِيَةَ } .
أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد .
وَحَدِيثُهُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ غَيْرُ مُشْتَرَطَةٍ ، وَلَا نِزَاعَ بَيْنَنَا فِيهِ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْوُجُوبِ الِاشْتِرَاطُ ، كَوَاجِبَاتِ الْحَجِّ ، وَالْإِحْدَادِ فِي الْعِدَّةِ .
( 1110 ) فَصْلٌ : وَلَيْسَتْ الْجَمَاعَةُ شَرْطًا لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
وَخَرَّجَ ابْنُ عَقِيلٍ وَجْهًا فِي اشْتِرَاطِهَا ، قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ .
وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ بِدَلِيلِ الْحَدِيثَيْنِ اللَّذَيْنِ احْتَجُّوا بِهِمَا وَالْإِجْمَاعِ ، فَإِنَّنَا لَا نَعْلَمُ قَائِلًا بِوُجُوبِ الْإِعَادَةِ عَلَى مَنْ صَلَّى وَحْدَهُ ، إلَّا أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ ، مِنْهُمْ ابْنُ مَسْعُودٍ ، وَأَبُو مُوسَى ، أَنَّهُمْ قَالُوا : مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ وَتَخَلَّفَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ ، فَلَا صَلَاةَ لَهُ .

( 1111 ) فَصْلٌ : وَتَنْعَقِدُ الْجَمَاعَةُ بِاثْنَيْنِ فَصَاعِدًا .
لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا .
وَقَدْ رَوَى أَبُو مُوسَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الِاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ } .
رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
{ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ وَصَاحِبِهِ : إذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ أَحَدُكُمَا ، وَلْيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا } .
وَأَمَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُذَيْفَةَ مَرَّةً ، وَابْنَ مَسْعُودٍ مَرَّةً ، وَابْنَ عَبَّاسٍ مَرَّةً .
وَلَوْ أَمَّ الرَّجُلُ عَبْدَهُ أَوْ زَوْجَتَهُ أَدْرَكَ فَضِيلَةَ الْجَمَاعَةِ ، وَإِنْ أَمَّ صَبِيًّا جَازَ فِي التَّطَوُّعِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّ فِيهِ ابْنَ عَبَّاسٍ وَهُوَ صَبِيٌّ .
وَإِنْ أَمَّهُ فِي الْفَرْضِ ، فَقَالَ أَحْمَدُ : لَا تَنْعَقِدُ بِهِ الْجَمَاعَةُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ إمَامًا ؛ لِنَقْصِ حَالِهِ ، فَأَشْبَهَ مَنْ لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ .
وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْآمِدِيُّ : فِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى ، أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ إمَامًا ؛ لِأَنَّهُ مُتَنَفِّلٌ ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَأْمُومًا بِالْمُفْتَرِضِ ، كَالْبَالِغِ ، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرَّجُلِ الَّذِي فَاتَتْهُ الْجَمَاعَةُ : { مَنْ يَتَصَدَّقُ عَلَى هَذَا ، فَيُصَلِّيَ مَعَهُ } .

( 1112 ) فَصْلٌ : وَيَجُوزُ فِعْلُهَا فِي الْبَيْتِ وَالصَّحْرَاءِ ، وَقِيلَ : فِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى : أَنَّ حُضُورَ الْمَسْجِدِ وَاجِبٌ إذَا كَانَ قَرِيبًا مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ يُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ } .
وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { : أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي : جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ طَيِّبَةً وَطَهُورًا وَمَسْجِدًا ، فَأَيُّمَا رَجُلٍ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ صَلَّى حَيْثُ كَانَ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَقَالَتْ عَائِشَةُ : { صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِهِ ، وَهُوَ شَاكٍ فَصَلَّى جَالِسًا ، وَصَلَّى وَرَاءَهُ قَوْمٌ قِيَامًا ، فَأَشَارَ إلَيْهِمْ أَنْ اجْلِسُوا } .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَجُلَيْنِ { : إذَا صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمَا ، ثُمَّ أَدْرَكْتُمَا الْجَمَاعَةَ فَصَلِّيَا مَعَهُمْ ، تَكُنْ لَكُمَا نَافِلَةً } .
وَقَوْلُهُ : " لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ " لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ قَوْلِ عَلِيٍّ نَفْسِهِ ، كَذَلِكَ رَوَاهُ سَعِيدٌ فِي " سُنَنِهِ " ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ الْجَمَاعَةَ ؛ وَعَبَّرَ بِالْمَسْجِدِ عَنْ الْجَمَاعَةِ لِأَنَّهُ مَحَلُّهَا ، وَمَعْنَاهُ لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا مَعَ الْجَمَاعَةِ .
وَقِيلَ : أَرَادَ بِهِ الْكَمَالَ وَالْفَضِيلَةَ ، فَإِنَّ الْأَخْبَارَ الصَّحِيحَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ صَحِيحَةٌ جَائِزَةٌ

( 1113 ) فَصْلٌ : وَفِعْلُ الصَّلَاةِ فِيمَا كَثُرَ فِيهِ الْجَمْعُ مِنْ الْمَسَاجِدِ أَفْضَلُ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : صَلَاةُ الرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلِ أَزْكَى مِنْ صَلَاتِهِ وَحْدَهُ ، وَصَلَاتُهُ مَعَ الرَّجُلَيْنِ أَزْكَى مِنْ صَلَاتِهِ مَعَ الرَّجُلِ ؛ وَمَا كَانَ أَكْثَرَ ، فَهُوَ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ تَعَالَى } .
رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي " الْمُسْنَدِ " ، فَإِنْ تَسَاوَيَا فِي الْجَمَاعَةِ فَفِعْلُهَا فِي الْمَسْجِدِ الْعَتِيقِ أَفْضَلُ ؛ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ فِيهِ أَكْثَرُ .
وَإِنْ كَانَ فِي جِوَارِهِ أَوْ غَيْرِ جِوَارِهِ مَسْجِدٌ لَا تَنْعَقِدُ الْجَمَاعَةُ فِيهِ إلَّا بِحُضُورِهِ فَفِعْلُهَا فِيهِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ يَعْمُرُهُ بِإِقَامَةِ الْجَمَاعَةِ فِيهِ ، وَيُحَصِّلُهَا لِمَنْ يُصَلِّي فِيهِ .
وَإِنْ كَانَتْ تُقَامُ فِيهِ ، وَكَانَ فِي قَصْدِهِ غَيْرَهُ كَسْرُ قَلْبِ إمَامِهِ أَوْ جَمَاعَتِهِ ، فَجَبْرُ قُلُوبِهِمْ أَوْلَى .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَهَلْ الْأَفْضَلُ قَصْدُ الْأَبْعَدِ أَوْ الْأَقْرَبِ ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا قَصْدُ الْأَبْعَدِ ؛ لِتَكْثُرَ خُطَاهُ فِي طَلَبِ الثَّوَابِ فَتَكْثُرَ حَسَنَاتُهُ .
وَالثَّانِيَةُ الْأَقْرَبُ لِأَنَّ لَهُ جِوَارًا ، فَكَانَ أَحَقَّ بِصَلَاتِهِ كَمَا أَنَّ الْجَارَ أَحَقُّ بِهَدِيَّةِ جَارِهِ وَمَعْرُوفِهِ مِنْ الْبَعِيدِ .
وَإِنْ كَانَ الْبَلَدُ ثَغْرًا ، فَالْأَفْضَلُ اجْتِمَاعُ النَّاسِ فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ لِيَكُونَ أَعْلَى لِلْكَلِمَةِ ، وَأَوْقَعَ لِلْهَيْبَةِ ، وَإِذَا جَاءَهُمْ خَبَرٌ عَنْ عَدُوِّهِمْ سَمِعَهُ جَمِيعُهُمْ ، وَإِنْ أَرَادُوا التَّشَاوُرَ فِي أَمْرٍ حَضَرَ جَمِيعُهُمْ ، وَإِنْ جَاءَ عَيْنُ الْكُفَّارِ رَآهُمْ فَأَخْبَرَ بِكَثْرَتِهِمْ .
قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : لَوْ كَانَ الْأَمْرُ إلَيَّ لَسَمَّرْت أَبْوَابَ الْمَسَاجِدِ الَّتِي فِي الثُّغُورِ أَوْ نَحْوِ هَذَا لِيَجْتَمِعَ النَّاسُ فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ .

( 1114 ) فَصْلٌ : وَلَا يُكْرَهُ إعَادَةُ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ إذَا صَلَّى إمَامُ الْحَيِّ ، وَحَضَرَ جَمَاعَةٌ أُخْرَى ، اُسْتُحِبَّ لَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا جَمَاعَةً ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَعَطَاءٍ ، وَالْحَسَنِ ، وَالنَّخَعِيِّ ، وَقَتَادَةَ ، وَإِسْحَاقَ .
وَقَالَ سَالِمٌ ، وَأَبُو قِلَابَةَ ، وَأَيُّوبُ ، وَابْنُ عَوْنٍ ، وَاللَّيْثُ ، وَالْبَتِّيُّ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَمَالِكٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ : لَا تُعَادُ الْجَمَاعَةُ فِي مَسْجِدٍ لَهُ إمَامٌ رَاتِبٌ ، فِي غَيْرِ مَمَرِّ النَّاسِ .
فَمَنْ فَاتَتْهُ الْجَمَاعَةُ ، صَلَّى مُنْفَرِدًا ؛ لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى اخْتِلَافِ الْقُلُوبِ وَالْعَدَاوَةِ وَالتَّهَاوُنِ فِي الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ ، وَلِأَنَّهُ مَسْجِدٌ لَهُ إمَامٌ رَاتِبٌ ، فَكُرِهَ فِيهِ إعَادَةُ الْجَمَاعَةِ ، كَمَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَلَنَا عُمُومُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { : صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ عَلَى صَلَاةِ الْفَذِّ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً .
وَفِي رِوَايَةٍ : بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً } .
وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ قَالَ : { جَاءَ رَجُلٌ ، وَقَدْ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَيُّكُمْ يَتَّجِرُ عَلَى هَذَا ؟ فَقَامَ رَجُلٌ ، فَصَلَّى مَعَهُ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ .
وَرَوَاهُ الْأَثْرَمُ ، وَأَبُو دَاوُد ، فَقَالَ : " أَلَا رَجُلٌ يَتَصَدَّقُ عَلَى هَذَا فَيُصَلِّيَ مَعَهُ " .
وَرَوَى الْأَثْرَمُ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ ، وَزَادَ : قَالَ فَلَمَّا صَلَّيَا ، قَالَ : " وَهَذَانِ جَمَاعَةٌ " .
وَلِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْجَمَاعَةِ ، فَاسْتُحِبَّ لَهُ فِعْلُهَا ، كَمَا لَوْ كَانَ الْمَسْجِدُ فِي مَمَرِّ النَّاسِ .
( 1115 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا إعَادَةُ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَمَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ كَرَاهَةُ إعَادَةِ الْجَمَاعَةِ فِيهَا .
وَذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا ،

لِئَلَّا يَتَوَانَى النَّاسُ فِي حُضُورِ الْجَمَاعَةِ مَعَ الْإِمَامِ الرَّاتِبِ فِيهَا إذَا أَمْكَنَتْهُمْ الصَّلَاةُ فِي الْجَمَاعَةِ مَعَ غَيْرِهِ .
وَظَاهِرُ خَبَرِ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي أُمَامَةَ ، أَنَّ ذَلِكَ لَا يُكْرَهُ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ هَذَا كَانَ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَعْنَى يَقْتَضِيهِ أَيْضًا ، فَإِنَّ فَضِيلَةَ الْجَمَاعَةِ تَحْصُلُ فِيهَا ، كَحُصُولِهَا فِي غَيْرِهَا .

( 1116 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( وَيَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ) لَا خِلَافَ فِي التَّقْدِيمِ بِالْقِرَاءَةِ وَالْفِقْهِ عَلَى غَيْرِهِمَا .
وَاخْتُلِفَ فِي أَيِّهِمَا يُقَدَّمُ عَلَى صَاحِبِهِ ؟ فَمَذْهَبُ أَحْمَدَ ، رَحِمَهُ اللَّهُ ، تَقْدِيمُ الْقَارِئِ .
وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ سِيرِينَ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَقَالَ عَطَاءٌ ، وَمَالِكٌ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ : يَؤُمُّهُمْ أَفْقَهُهُمْ إذَا كَانَ يَقْرَأُ مَا يَكْفِي فِي الصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَنُوبُهُ فِي الصَّلَاةِ مَا لَا يَدْرِي مَا يَفْعَلُ فِيهِ إلَّا بِالْفِقْهِ ، فَيَكُونُ أَوْلَى ، كَالْإِمَامَةِ الْكُبْرَى وَالْحُكْمِ .
وَلَنَا مَا رَوَى أَوْسُ بْنُ ضَمْرَةَ ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ ، فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ ، فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً ، فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِنًّا .
} أَوْ قَالَ : " سِلْمًا " .
وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا اجْتَمَعَ ثَلَاثَةٌ فَلْيَؤُمَّهُمْ أَحَدُهُمْ ، وَأَحَقُّهُمْ بِالْإِمَامَةِ أَقْرَؤُهُمْ .
} رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ .
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ ، قَالَ : لَمَّا قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ الْأَوَّلُونَ الْعُصْبَةَ ، مَوْضِعٌ بِقُبَاءَ ، كَانَ يَؤُمُّهُمْ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ ، وَكَانَ أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ، وَأَبُو دَاوُد .
وَكَانَ فِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ .
وَفِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : لِيَؤُمَّكُمْ أَكْثَرُكُمْ قُرْآنًا } .
وَلِأَنَّ الْقِرَاءَةَ رُكْنٌ فِي الصَّلَاةِ فَكَانَ الْقَادِرُ عَلَيْهَا أَوْلَى ، كَالْقَادِرِ عَلَى الْقِيَامِ مَعَ الْعَاجِزِ عَنْهُ .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَقْدِيمِ الْقَارِئِ لِأَنَّ

أَصْحَابَهُ كَانَ أَقْرَؤُهُمْ أَفْقَهَهُمْ ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا إذَا تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ تَعَلَّمُوا مَعَهُ أَحْكَامَهُ ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ كُنَّا لَا نُجَاوِزُ عَشْرَ آيَاتٍ حَتَّى نَعْرِفَ أَمْرَهَا ، وَنَهْيَهَا ، وَأَحْكَامَهَا .
قُلْنَا : اللَّفْظُ عَامُّ فَيَجِبُ الْأَخْذُ بِعُمُومِهِ دُونَ خُصُوصِ السَّبَبِ ، وَلَا يُخَصُّ مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى تَخْصِيصِهِ ، عَلَى أَنَّ فِي الْحَدِيثِ مَا يُبْطِلُ هَذَا التَّأْوِيلَ ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { فَإِنْ اسْتَوَوْا فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ } .
فَفَاضَلَ بَيْنَهُمْ فِي الْعِلْمِ بِالسُّنَّةِ مَعَ تَسَاوِيهِمْ فِي الْقِرَاءَةِ ، وَلَوْ قَدَّمَ الْقَارِئَ لِزِيَادَةِ عِلْمٍ لَمَا نَقَلَهُمْ عِنْدَ التَّسَاوِي فِيهِ إلَى الْأَعْلَمِ بِالسُّنَّةِ ، وَلَوْ كَانَ الْعِلْمُ بِالْفِقْهِ عَلَى قَدْرِ الْقِرَاءَةِ لَلَزِمَ مِنْ التَّسَاوِي فِي الْقِرَاءَةِ التَّسَاوِي فِيهِ ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَقْرَؤُكُمْ أُبَيٌّ ، وَأَقْضَاكُمْ عَلِيٌّ ، وَأَعْلَمُكُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ ، وَأَفْرَضُكُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ } .
فَقَدْ فَضَّلَ بِالْفِقْهِ مَنْ هُوَ مَفْضُولٌ بِالْقِرَاءَةِ ، وَفَضَّلَ بِالْقِرَاءَةِ مَنْ هُوَ مَفْضُولٌ بِالْقَضَاءِ وَالْفَرَائِضِ وَعِلْمِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ .
قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : حَدِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مُرُوا أَبَا بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ " أَهُوَ خِلَافُ حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ ؟ قَالَ : لَا ، إنَّمَا قَوْلُهُ لِأَبِي بَكْرٍ - عِنْدِي - " يُصَلِّي بِالنَّاسِ " لِلْخِلَافَةِ ، يَعْنِي أَنَّ الْخَلِيفَةَ أَحَقُّ بِالْإِمَامَةِ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَقْرَأَ مِنْهُ ، فَأَمْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ بِالصَّلَاةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ اسْتِخْلَافَهُ .
( 1117 ) فَصْلٌ : وَيُرَجَّحُ أَحَدُ الْقَارِئَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِكَثْرَةِ الْقُرْآنِ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { : لِيَؤُمَّكُمْ أَكْثَرُكُمْ قُرْآنًا .
} وَإِنْ تَسَاوَيَا فِي قَدْرِ مَا يَحْفَظُ كُلُّ

وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَكَانَ أَحَدُهُمَا أَجْوَدَ قِرَاءَةً وَإِعْرَابًا فَهُوَ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَأُ ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ : { يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ } .
وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ حِفْظًا ، وَالْآخَرُ أَقَلَّ لَحْنًا وَأَجْوَدَ قِرَاءَةً ، فَهُوَ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ أَجْرًا فِي قِرَاءَتِهِ ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَأَعْرَبَهُ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ ، وَمَنْ قَرَأَهُ وَلَحَنَ فِيهِ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ حَسَنَةٌ .
} رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
( 1118 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( فَإِنْ اسْتَوَوْا فَأَفْقَهُهُمْ ) وَذَلِكَ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءٌ فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ ، } وَلِأَنَّ الْفِقْهَ يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ لِلْإِتْيَانِ بِوَاجِبَاتِهَا وَسُنَنِهَا ، وَجَبْرِهَا إنْ عَرَضَ مَا يُحْوِجُ إلَيْهِ فِيهَا ، فَإِنْ اجْتَمَعَ فَقِيهَانِ قَارِئَانِ ، وَأَحَدُهُمَا أَقْرَأُ ، وَالْآخَرُ أَفْقَهُ ، قُدِّمَ الْأَقْرَأُ .
نَصَّ عَلَيْهِ لِلْخَبَرِ .
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : الْأَفْقَهُ أَوْلَى ؛ لِتَمَيُّزِهِ بِمَا لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ فِي الصَّلَاةِ .
وَهَذَا يُخَالِفُ عُمُومَ الْخَبَرِ ، فَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ .
وَإِنْ اجْتَمَعَ فَقِيهَانِ ، أَحَدُهُمَا أَعْلَمُ بِأَحْكَامِ الصَّلَاةِ ، وَالْآخَرُ أَعْرَفُ بِمَا سِوَاهَا ، فَالْأَعْلَمُ بِأَحْكَامِ الصَّلَاةِ أَوْلَى ، لِأَنَّ عِلْمَهُ يُؤَثِّرُ فِي تَكْمِيلِ الصَّلَاةِ بِخِلَافِ الْآخَرِ .
( 1119 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( فَإِنْ اسْتَوَوْا فَأَسَنُّهُمْ ) .
يَعْنِي : أَكْبَرُهُمْ سِنًّا ، يُقَدَّمُ عِنْدَ اسْتِوَائِهِمْ فِي الْقِرَاءَةِ وَالْفِقْهِ .
وَظَاهِرُ قَوْلِ أَحْمَدَ ، أَنَّهُ يُقَدَّمُ أَقْدَمُهُمَا هِجْرَةً ، ثُمَّ أَسَنُّهُمَا ؛ لِأَنَّهُ ذَهَبَ إلَى حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ ، وَهُوَ مُرَتَّبٌ هَكَذَا .
قَالَ الْخَطَّابِيُّ : وَعَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ تُوجَدُ أَكْثَرُ أَقَاوِيلِ الْعُلَمَاءِ .
وَمَعْنَى تُقَدَّمُ الْهِجْرَةُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَسْبَقَ هِجْرَةً مِنْ

دَارِ الْحَرْبِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ، لِأَنَّ الْهِجْرَةَ قُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ فَيُقَدَّمُ السَّابِقُ إلَيْهَا لِسَبْقِهِ إلَى الطَّاعَةِ .
فَإِذَا اسْتَوَيَا فِيهَا ، إمَّا لِهِجْرَتِهِمَا مَعًا ، أَوْ عَدَمِهَا مِنْهُمَا ، فَأَسَنُّهُمْ ؛ { لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ وَصَاحِبِهِ : لِيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَلِأَنَّ الْأَسَنَّ أَحَقُّ بِالتَّوْقِيرِ وَالتَّقْدِيمِ .
وَكَذَلِكَ { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَهْلٍ ، لَمَّا تَكَلَّمَ فِي أَخِيهِ : كَبِّرْ كَبِّرْ } .
أَيْ دَعْ الْأَكْبَرَ يَتَكَلَّمُ .
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ أَحَقُّهُمْ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ وَالْفِقْهِ أَشْرَفُهُمْ ، ثُمَّ أَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً ، ثُمَّ أَسَنُّهُمْ .
وَالصَّحِيحُ ، الْأَخْذُ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَقْدِيمِ السَّابِقِ بِالْهِجْرَةِ ، ثُمَّ الْأَسَنِّ ؛ لِتَصْرِيحِهِ بِالدَّلَالَةِ ، وَلَا دَلَالَةَ فِي حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ عَلَى تَقْدِيمِ الْأَسَنِّ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِي حَقِّهِمَا هِجْرَةٌ وَلَا تَفَاضُلُهُمَا فِي شَرَفٍ ، وَيُرَجَّحُ بِتَقْدِيمِ الْإِسْلَامِ كَالتَّرْجِيحِ بِتَقْدِيمِ الْهِجْرَةِ ، فَإِنَّ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ : { فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِلْمًا } وَلِأَنَّ الْإِسْلَامَ أَشْرَفُ مِنْ الْهِجْرَةِ ، فَإِذَا قُدِّمَ بِتَقَدُّمِهَا فَتَقَدُّمُهُ أَوْلَى .
فَإِذَا اسْتَوَوْا فِي هَذَا كُلِّهِ قُدِّمَ أَشْرَفُهُمْ ، أَيْ أَعْلَاهُمْ نَسَبًا ، وَأَفْضَلُهُمْ فِي نَفْسِهِ ، وَأَعْلَاهُمْ قَدْرًا ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { قَدِّمُوا قُرَيْشًا وَلَا تَقَدَّمُوهَا } .
( 1120 ) فَصْلٌ : فَإِنْ اسْتَوَوْا فِي هَذِهِ الْخِصَالِ ، قُدِّمَ أَتْقَاهُمْ وَأَوْرَعُهُمْ ؛ لِأَنَّهُ أَشْرَفُ فِي الدِّينِ ، وَأَفْضَلُ وَأَقْرَبُ إلَى الْإِجَابَةِ ، وَقَدْ جَاءَ : " إذَا أَمَّ الرَّجُلُ الْقَوْمَ وَفِيهِمْ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ لَمْ يَزَالُوا فِي سَفَالٍ " .
ذَكَرَهُ

الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي " رِسَالَتِهِ " ، وَيُحْمَلُ تَقْدِيمُ هَذَا عَلَى الْأَشْرَفِ ، لِأَنَّ شَرَفَ الدِّينِ خَيْرٌ مِنْ شَرَفِ الدُّنْيَا ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } .
فَإِذَا اسْتَوَوْا فِي هَذَا كُلِّهِ أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَذَلِكَ لِأَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ فِي الْأَذَانِ ، فَالْإِمَامَةُ أَوْلَى ، وَلِأَنَّهُمْ تَسَاوَوْا فِي الِاسْتِحْقَاقِ ، وَتَعَذَّرَ الْجَمْعُ ، فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ .
وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا يَقُومُ بِعِمَارَةِ الْمَسْجِدِ وَتَعَاهُدِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ ، وَكَذَلِكَ إنْ رَضِيَ الْجِيرَانُ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ ، قُدِّمَ بِذَلِكَ .
وَلَا يُقَدَّمُ بِحُسْنِ الْوَجْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْإِمَامَةِ ، وَلَا أَثَرَ لَهُ فِيهَا ، وَهَذَا كُلُّهُ تَقْدِيمُ اسْتِحْبَابٍ ، لَا تَقْدِيمُ اشْتِرَاطٍ ، وَلَا إيجَابٍ ، لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا ، فَلَوْ قُدِّمَ الْمَفْضُولُ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِهَذَا أَمْرُ أَدَبٍ وَاسْتِحْبَابٍ .

( 1121 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَمَنْ صَلَّى خَلْفَ مَنْ يُعْلِنُ بِبِدْعَةٍ ، أَوْ يَسْكَرُ ، أَعَادَ ) .
الْإِعْلَانُ الْإِظْهَارُ ، وَهُوَ ضِدُّ الْإِسْرَارِ .
فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ مَنْ ائْتَمَّ بِمَنْ يُظْهِرُ بِدْعَتَهُ ، وَيَتَكَلَّمُ بِهَا ، وَيَدْعُو إلَيْهَا ، أَوْ يُنَاظِرُ عَلَيْهَا ، فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ .
وَمَنْ لَمْ يُظْهِرْ بِدْعَتَهُ ، فَلَا إعَادَةَ عَلَى الْمُؤْتَمِّ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ مُعْتَقِدًا لَهَا .
قَالَ الْأَثْرَمُ : قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : الرَّافِضَةُ الَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ بِمَا تَعْرِفُ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ ، آمُرُهُ أَنْ يُعِيدَ .
قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : وَهَكَذَا أَهْلُ الْبِدَعِ كُلُّهُمْ ؟ قَالَ : لَا ، إنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَسْكُتُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقِفُ وَلَا يَتَكَلَّمُ .
وَقَالَ : لَا تُصَلِّ خَلْفَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ ، إذَا كَانَ دَاعِيَةً إلَى هَوَاهُ .
وَقَالَ : لَا تُصَلِّ خَلْفَ الْمُرْجِئِ إذَا كَانَ دَاعِيَةً .
وَتَخْصِيصُهُ الدَّاعِيَةَ ، وَمَنْ يَتَكَلَّمُ بِالْإِعَادَةِ ، دُونَ مَنْ يَقِفُ وَلَا يَتَكَلَّمُ ، يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ .
وَقَالَ الْقَاضِي : الْمُعْلِنُ بِالْبِدْعَةِ مَنْ يَعْتَقِدُهَا بِدَلِيلٍ ، وَغَيْرُ الْمُعْلِنِ مَنْ يَعْتَقِدُهَا تَقْلِيدًا .
وَلَنَا ، أَنَّ حَقِيقَةَ الْإِعْلَانِ هُوَ الْإِظْهَارُ ، وَهُوَ ضِدُّ الْإِخْفَاءِ وَالْإِسْرَارِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } وَقَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ إبْرَاهِيمَ : { رَبَّنَا إنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُحْفِي وَمَا نُعْلِنُ } وَلِأَنَّ الْمُظْهِرَ لِبِدْعَتِهِ لَا عُذْرَ لِلْمُصَلِّي خَلْفَهُ - لِظُهُورِ حَالِهِ - ، وَالْمُخْفِيَ لَهَا مَنْ يُصَلِّي خَلْفَهُ مَعْذُورٌ ، وَهَذَا لَهُ أَثَرٌ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ ، وَلِهَذَا لَمْ تَجِبْ الْإِعَادَةُ خَلْفَ الْمُحْدِثِ وَالنَّجِسِ إذَا لَمْ يُعْلَمْ حَالُهُمَا ؛ لِخَفَاءِ ذَلِكَ وَمِنْهُمَا وَوَجَبَتْ عَلَى الْمُصَلِّي خَلْفَ الْكَافِرِ وَالْأُمِّيِّ ، لِظُهُورِ حَالِهِمَا غَالِبًا .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهُ لَا يُصَلَّى خَلْفَ مُبْتَدِعٍ بِحَالٍ .
قَالَ ، فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ : لَا يُصَلِّي خَلْفَ

مُرْجِئٍ وَلَا رَافِضِيٍّ ، وَلَا فَاسِقٍ ، إلَّا أَنْ يَخَافَهُمْ فَيُصَلِّيَ ، ثُمَّ يُعِيدَ .
وَقَالَ أَبُو دَاوُد ، قَالَ أَحْمَدُ : مَتَى مَا صَلَّيْت خَلْفَ مَنْ يَقُولُ : الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ فَأَعِدْ .
قُلْت : وَتَعْرِفُهُ .
قَالَ : نَعَمْ .
وَعَنْ مَالِكٍ ، أَنَّهُ لَا يُصَلَّى خَلْفَ أَهْلِ الْبِدَعِ .
فَحَصَلَ مِنْ هَذَا أَنَّ مَنْ صَلَّى خَلْفَ مُبْتَدِعٍ مُعْلِنٍ بِبِدْعَتِهِ ، فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ .
وَمَنْ لَمْ يُعْلِنْهَا فَفِي الْإِعَادَةِ خَلْفَهُ رِوَايَتَانِ .
وَأَبَاحَ الْحَسَنُ ، وَأَبُو جَعْفَرٍ ، وَالشَّافِعِيُّ الصَّلَاةَ خَلْفَ أَهْلِ الْبِدَعِ ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { صَلُّوا خَلْفَ مَنْ قَالَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ .
} رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ .
وَلِأَنَّهُ رَجُلٌ صَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ ، فَصَحَّ الِائْتِمَامُ بِهِ كَغَيْرِهِ .
وَقَالَ نَافِعٌ : كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُصَلِّي مَعَ الْخَشَبِيَّةِ وَالْخَوَارِجِ زَمَنَ ابْنِ الزُّبَيْرِ ، وَهُمْ يَقْتَتِلُونَ .
فَقِيلَ لَهُ : أَتُصَلِّي مَعَ هَؤُلَاءِ ، وَمَعَ هَؤُلَاءِ ، وَبَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا ؟ فَقَالَ : مَنْ قَالَ : حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ .
أَجَبْتُهُ ، وَمَنْ قَالَ : حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ .
أَجَبْتُهُ ، وَمَنْ قَالَ : حَيَّ عَلَى قَتْلِ أَخِيك الْمُسْلِمِ ، وَأَخْذِ مَالِهِ .
قُلْت : لَا .
رَوَاهُ سَعِيدٌ .
وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ ، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ : مَنْ نُكَفِّرُهُ بِبِدْعَتِهِ كَاَلَّذِي يُكَذِّبُ اللَّهَ أَوْ رَسُولَهُ بِبِدْعَتِهِ ، لَا يُصَلَّى خَلْفَهُ ، وَمَنْ لَا نُكَفِّرُهُ تَصِحُّ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ .
وَلَنَا : مَا رَوَى جَابِرٌ ، قَالَ : " سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مِنْبَرِهِ يَقُولُ : { لَا تَؤُمَّنَّ امْرَأَةٌ رَجُلًا ، وَلَا فَاجِرٌ مُؤْمِنًا ، إلَّا أَنْ يَقْهَرَهُ بِسُلْطَانٍ ، أَوْ يَخَافَ سَوْطَهُ أَوْ سَيْفَهُ } .
رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ ، وَهَذَا أَخَصُّ مِنْ حَدِيثِهِمْ ، فَتَعَيَّنَ تَقْدِيمُهُ ، وَحَدِيثُهُمْ نَقُولُ بِهِ فِي الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ ، وَتُعَادُ ، وَهُوَ مُطْلَقٌ ، فَالْعَمَلُ بِهِ فِي مَوْضِعٍ يُحَصِّلُ الْوَفَاءَ بِدَلَالَتِهِمْ ، وَقِيَاسِهِمْ

مَنْقُوضٌ بِالْخُنْثَى وَالْأُمِّيِّ .
وَيُرْوَى عَنْ حَبِيبِ بْنِ عُمَرَ الْأَنْصَارِيِّ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : سَأَلْت وَاثِلَةَ بْنَ الْأَسْقَعِ ، قُلْت : أُصَلِّي خَلْفَ الْقَدَرِيِّ ؟ قَالَ : لَا تُصَلِّ خَلْفَهُ .
ثُمَّ قَالَ : أَمَّا أَنَا لَوْ صَلَّيْت خَلْفَهُ لَأَعَدْت صَلَاتِي .
رَوَاهُ الْأَثْرَمُ .
وَأَمَّا قَوْلُ الْخِرَقِيِّ : " أَوْ يَسْكَرُ " .
فَإِنَّهُ يَعْنِي مَنْ يَشْرَبُ مَا يُسْكِرُهُ مِنْ أَيِّ شَرَابٍ كَانَ ، فَإِنَّهُ لَا يُصَلَّى خَلْفَهُ لِفِسْقِهِ .
وَإِنَّمَا خَصَّهُ بِالذِّكْرِ ، فِيمَا يُرَى مِنْ سَائِرِ الْفُسَّاقِ ، لِنَصِّ أَحْمَدَ عَلَيْهِ .
قَالَ أَبُو دَاوُد : سَأَلْت أَحْمَدَ وَقِيلَ لَهُ : إذَا كَانَ الْإِمَامُ يَسْكَرُ ؟ قَالَ : لَا تُصَلِّ خَلْفَهُ أَلْبَتَّةَ .
وَسَأَلَهُ رَجُلٌ ، قَالَ : صَلَّيْت خَلْفَ رَجُلٍ ، ثُمَّ عَلِمْت أَنَّهُ يَسْكَرُ ، أُعِيدُ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، أَعِدْ .
قَالَ : أَيَّتُهُمَا صَلَاتِي ؟ قَالَ : الَّتِي صَلَّيْتَ وَحْدَك .
وَسَأَلَهُ رَجُلٌ .
قَالَ : رَأَيْت رَجُلًا سَكْرَانَ ، أُصَلِّي خَلْفَهُ ؟ قَالَ : لَا .
قَالَ : فَأُصَلِّي وَحْدِي ؟ قَالَ أَيْنَ أَنْتَ ؟ فِي الْبَادِيَةِ ؟ الْمَسَاجِدُ كَثِيرَةٌ .
قَالَ : أَنَا فِي حَانُوتِي .
قَالَ : تَخَطَّاهُ إلَى غَيْرِهِ مِنْ الْمَسَاجِدِ .
فَأَمَّا مَنْ يَشْرَبُ مِنْ النَّبِيذِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ مَا لَا يُسْكِرُهُ ، مُعْتَقِدًا حِلَّهُ ، فَلَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ خَلْفَهُ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
فَقَالَ : يُصَلَّى خَلْفَ مَنْ يَشْرَبُ الْمُسْكِرَ عَلَى التَّأْوِيلِ ، نَحْنُ نَرْوِي عَنْهُمْ الْحَدِيثَ ، وَلَا نُصَلِّي خَلْفَ مَنْ يَسْكَرُ .
وَكَلَامُ الْخِرَقِيِّ بِمَفْهُومِهِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ، لِتَخْصِيصِهِ مَنْ سَكِرَ بِالْإِعَادَةِ خَلْفَهُ .
وَفِي مَعْنَى شَارِبِ مَا يُسْكِرُ كُلُّ فَاسِقٍ ، فَلَا يُصَلَّى خَلْفَهُ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
فَقَالَ : لَا تُصَلِّ خَلْفَ فَاجِرٍ وَلَا فَاسِقٍ .
وَقَالَ أَبُو دَاوُد سَمِعْت أَحْمَدَ ، رَحِمَهُ اللَّهُ ، سُئِلَ عَنْ إمَامٍ ، قَالَ : أُصَلِّي بِكُمْ رَمَضَانَ بِكَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا .
قَالَ : أَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ ، مَنْ يُصَلِّي خَلْفَ هَذَا ؟ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ :

لَا تُصَلُّوا خَلْفَ مَنْ لَا يُؤَدِّي الزَّكَاةَ ، وَقَالَ لَا تُصَلِّ خَلْفَ مَنْ يُشَارِطُ ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَدْفَعُوا إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ .
وَهَذِهِ النُّصُوصُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُصَلَّى خَلْفَ فَاسِقٍ .
وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى ، أَنَّ الصَّلَاةَ جَائِزَةٌ ، ذَكَرَهَا أَصْحَابُنَا .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { صَلُّوا خَلْفَ مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ } .
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُصَلِّي خَلْفَ الْحَجَّاجِ ، وَالْحُسَيْنُ وَالْحَسَنُ ، وَغَيْرُهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ كَانُوا يُصَلُّونَ مَعَ مَرْوَانَ .
وَاَلَّذِينَ كَانُوا فِي وِلَايَةِ زِيَادٍ وَابْنِهِ كَانُوا يُصَلُّونَ مَعَهُمَا .
وَصَلَّوْا وَرَاءَ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ ، وَقَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ وَصَلَّى الصُّبْحَ أَرْبَعًا ، وَقَالَ : أَزِيدُكُمْ .
فَصَارَ هَذَا إجْمَاعًا ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { كَيْفَ أَنْتَ إذَا كَانَتْ عَلَيْك أُمَرَاءُ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا ؟ قَالَ : قُلْت .
فَمَا تَأْمُرُنِي ؟ قَالَ : صَلِّ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا ، فَإِنْ أَدْرَكْتَهَا مَعَهُمْ فَصَلِّ ، فَإِنَّهَا لَك نَافِلَةٌ } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَفِي لَفْظٍ : { فَإِنْ صَلَّيْتَ لِوَقْتِهَا كَانَتْ نَافِلَةً ، وَإِلَّا كُنْتَ قَدْ أَحْرَزْتَ صَلَاتَكَ } .
وَفِي لَفْظٍ : { فَإِنْ أَدْرَكْتَ الصَّلَاةَ مَعَهُمْ فَصَلِّ ، وَلَا تَقُلْ : إنِّي قَدْ صَلَّيْت ، فَلَا أُصَلِّي } .
وَفِي لَفْظٍ : " فَإِنَّهَا زِيَادَةُ خَيْرٍ " .
وَهَذَا فِعْلٌ يَقْتَضِي فِسْقَهُمْ ، وَقَدْ أَمَرَهُ بِالصَّلَاةِ مَعَهُمْ ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلَاةَ الْفَذِّ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً } عَامٌّ ، فَيَتَنَاوَلُ مَحَلَّ النِّزَاعِ ، وَلِأَنَّهُ رَجُلٌ تَصِحُّ صَلَاتُهُ لِنَفْسِهِ ، فَصَحَّ الِائْتِمَامُ بِهِ كَالْعَدْلِ .
وَوَجْهُ الْأُولَى قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { لَا يُؤَمَّنَّ فَاجِرٌ مُؤْمِنًا ، إلَّا أَنْ يَقْهَرَهُ بِسُلْطَانِهِ أَوْ سَيْفِهِ } .
وَلِأَنَّ الْإِمَامَةَ تَتَضَمَّنُ حَمْلَ

الْقِرَاءَةِ ، وَلَا يُؤْمَنُ تَرْكُهُ لَهَا ، وَلَا يُؤْمَنُ تَرْكُ بَعْضِ شَرَائِطِهَا كَالطَّهَارَةِ ، وَلَيْسَ ثَمَّ أَمَارَةٌ وَلَا غَلَبَةُ ظَنٍّ يُؤَمِّنَانِ ذَلِكَ .
وَالْحَدِيثُ أَجَبْنَا عَنْهُ ، وَفِعْلُ الصَّحَابَةِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُمْ خَافُوا الضَّرَرَ بِتَرْكِ الصَّلَاةِ مَعَهُمْ ، فَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ عَطَاءٍ ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، أَنَّهُمَا كَانَا فِي الْمَسْجِدِ ، وَالْحَجَّاجُ يَخْطُبُ ، فَصَلَّيَا بِالْإِيمَاءِ ، وَإِنَّمَا فَعَلَا ذَلِكَ لِخَوْفِهِمَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا إنْ صَلَّيَا عَلَى وَجْهٍ يَعْلَمُ بِهِمَا .
وَرَوَيْنَاهُ عَنْ قَسَامَةَ بْنِ زُهَيْرٍ .
قَالَ : لَمَّا كَانَ مِنْ شَأْنِ فُلَانٍ مَا كَانَ ، قَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ : تَنَحَّ عَنْ مُصَلَّانَا ، فَإِنَّا لَا نُصَلِّي خَلْفَك .
وَحَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ : يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهَا نَافِلَةً ، وَالنِّزَاعُ فِي الْفَرْضِ .
( 1122 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا الْجُمَعُ وَالْأَعْيَادُ فَإِنَّهَا تُصَلَّى خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ .
وَقَدْ كَانَ أَحْمَدُ يَشْهَدُهَا مَعَ الْمُعْتَزِلَةِ ، وَكَذَلِكَ الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ فِي عَصْرِهِ .
وَقَدْ رَوَيْنَا أَنَّ رَجُلًا جَاءَ مُحَمَّدَ بْنَ النَّضْرِ ، فَقَالَ لَهُ : إنَّ لِي جِيرَانًا مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ ، لَا يَشْهَدُونَ الْجُمُعَةَ .
قَالَ حَسْبُكَ ، مَا تَقُولُ فِي مَنْ رَدَّ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ؟ قَالَ : رَجُلُ سَوْءٍ .
قَالَ : فَإِنْ رَدَّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ : يُكَفَّرُ .
قَالَ : فَإِنْ رَدَّ عَلَى الْعَلِيِّ الْأَعْلَى ؟ ثَمَّ غُشِيَ عَلَيْهِ ، ثُمَّ أَفَاقَ ، فَقَالَ : رَدُّوا عَلَيْهِ وَاَلَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ فَإِنَّهُ قَالَ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ } وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ بَنِي الْعَبَّاسِ سَيَلُونَهَا .
وَلِأَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ ؛ وَتَلِيهَا الْأَئِمَّةُ دُونَ غَيْرِهِمْ ، فَتَرْكُهَا خَلْفَهُمْ يُفْضِي إلَى تَرْكِهَا بِالْكُلِّيَّةِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهَا تُعَادُ خَلْفَ مَنْ يُعَادُ خَلْفَهُ غَيْرُهَا .
قَالَ أَحْمَدُ :

أَمَّا الْجُمُعَةُ فَيَنْبَغِي شُهُودُهَا ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي يُصَلِّي مِنْهُمْ أَعَادَ .
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ أَعَادَهَا فَهُوَ مُبْتَدِعٌ .
وَهَذَا يَدُلُّ بِعُمُومِهِ عَلَى أَنَّهَا لَا تُعَادُ خَلْفَ فَاسِقٍ وَلَا مُبْتَدِعٍ ؛ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ أُمِرَ بِهَا ، فَلَمْ تَجِبْ إعَادَتُهَا كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ .
( 1123 ) فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَ الْمُبَاشِرُ لَهَا عَدْلًا ، وَالْمُوَلِّي لَهُ غَيْرَ مَرْضِيِّ الْحَالِ لِبِدْعَتِهِ أَوْ فِسْقِهِ ، لَمْ يُعِدْهَا .
نَصَّ عَلَيْهِ .
وَقِيلَ لَهُ : إنَّهُمْ يَقُولُونَ إذَا كَانَ الَّذِي وَضَعَهُ يَقُولُ بِقَوْلِهِمْ فَسَدَتْ الصَّلَاةُ .
قَالَ : لَسْت أَقُولُ بِهَذَا .
وَلِأَنَّ صَلَاتَهُ إنَّمَا تَرْتَبِطُ بِصَلَاةِ إمَامِهِ ، فَلَا يَضُرُّ وُجُودُ مَعْنًى فِي غَيْرِهِ ، كَالْحَدَثِ أَوْ كَوْنِهِ أُمِّيًّا .
وَعَنْهُ : تُعَادُ .
وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ .
( 1124 ) فَصْلٌ : وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فِسْقَ إمَامِهِ ، وَلَا بِدْعَتَهُ ، حَتَّى صَلَّى مَعَهُ ، فَإِنَّهُ يُعِيدُ .
نَصَّ عَلَيْهِ .
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَخْفَى ، فَأَشْبَهَ الْمُحْدِثَ وَالنَّجِسَ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا يُنْظَرُ فِيهِ ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُخْفِي بِدْعَتَهُ وَفُسُوقَهُ ، صَحَّتْ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ ، لِمَا ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُظْهِرُ ذَلِكَ ، وَجَبَتْ الْإِعَادَةُ خَلْفَهُ ، عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تَقُولُ بِوُجُوبِ إعَادَتِهَا خَلْفَ الْمُبْتَدِعِ ؛ وَلِأَنَّهُ مَعْنًى يَمْنَعُ الِائْتِمَامَ ، فَاسْتَوَى فِيهِ الْعِلْمُ وَعَدَمُهُ ، كَمَا لَوْ كَانَ أُمِّيًّا ، وَالْحَدَثُ وَالنَّجَاسَةُ يُشْتَرَطُ خَفَاؤُهُمَا عَلَى الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ مَعًا ، وَلَا يَخْفَى عَلَى الْفَاسِقِ فِسْقُ نَفْسِهِ ، وَلِأَنَّ الْإِعَادَةَ إنَّمَا تَجِبُ خَلْفَ مَنْ يُعْلِنُ بِبِدْعَتِهِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي مَظِنَّةِ الْخَفَاءِ ، بِخِلَافِ الْحَدَثِ وَالنَّجَاسَةِ .
( 1125 ) فَصْلٌ : وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ حَالُهُ وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ مَا يَمْنَعُ الِائْتِمَامَ بِهِ ، فَصَلَاةُ الْمَأْمُومِ صَحِيحَةٌ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ

فِي الْمُسْلِمِينَ السَّلَامَةُ .
وَلَوْ صَلَّى خَلْفَ مَنْ يَشُكُّ فِي إسْلَامِهِ ، فَصَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يَتَقَدَّمُ لِلْإِمَامَةِ إلَّا مُسْلِمٌ .

( 1126 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُخَالِفُونَ فِي الْفُرُوعِ كَأَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ، فَالصَّلَاةُ خَلْفَهُمْ صَحِيحَةٌ غَيْرُ مَكْرُوهَةٍ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ لَمْ يَزَلْ بَعْضُهُمْ يَأْتَمُّ بِبَعْضٍ ، مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْفُرُوعِ ، فَكَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا ، وَلِأَنَّ الْمُخَالِفَ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُصِيبًا فِي اجْتِهَادِهِ ، فَلَهُ أَجْرَانِ أَجْرٌ لِاجْتِهَادِهِ وَأَجْرٌ لِإِصَابَتِهِ ، أَوْ مُخْطِئًا فَلَهُ أَجْرٌ عَلَى اجْتِهَادِهِ ، وَلَا إثْمَ عَلَيْهِ فِي الْخَطَأِ ، لِأَنَّهُ مَحْطُوطٌ عَنْهُ .
فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَتْرُكُ رُكْنًا أَوْ شَرْطًا يَعْتَقِدُهُ الْمَأْمُومُ دُونَ الْإِمَامِ ، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ صِحَّةُ الِائْتِمَامِ بِهِ .
قَالَ الْأَثْرَمُ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ رَجُلٍ صَلَّى بِقَوْمٍ ، وَعَلَيْهِ جُلُودُ الثَّعَالِبِ ، فَقَالَ : إنْ كَانَ يَلْبَسُهُ وَهُوَ يَتَأَوَّلُ : { أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ } .
يُصَلَّى خَلْفَهُ .
قِيلَ لَهُ ، أَفَتَرَاهُ أَنْتَ جَائِزًا ؟ قَالَ : لَا ، نَحْنُ لَا نَرَاهُ جَائِزًا وَلَكِنْ إذَا كَانَ هُوَ يَتَأَوَّلُ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُصَلَّى خَلْفَهُ .
ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : لَوْ أَنَّ رَجُلًا لَمْ يَرَ الْوُضُوءَ مِنْ الدَّمِ لَمْ يُصَلَّ خَلْفَهُ ؟ ثُمَّ قَالَ : نَحْنُ نَرَى الْوُضُوءَ مِنْ الدَّمِ ، فَلَا نُصَلِّي خَلْفَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، وَمَالِكٍ وَمَنْ سَهَّلَ فِي الدَّمِ ؟ أَيْ : بَلَى .
وَرَأَيْت لِبَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مَسْأَلَةً مُفْرَدَةً فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ هَذَا ، وَاسْتَدَلَّ بِأَنَّ الصَّحَابَةَ كَانَ يُصَلِّي بَعْضُهُمْ خَلْفَ بَعْضٍ مَعَ الِاخْتِلَافِ .
وَلِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ ، أَوْ كَالْمُصِيبِ فِي حَطِّ الْمَأْثَمِ عَنْهُ ، وَحُصُولِ الثَّوَابِ ، وَصِحَّةِ الصَّلَاةِ لِنَفْسِهِ ، فَجَائِزٌ الِائْتِمَامُ بِهِ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا .
وَذَكَرَ الْقَاضِي فِيهِ رِوَايَةً أُخْرَى ، أَنَّهُ لَا يَصِحُّ ائْتِمَامُهُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَرْتَكِبُ مَا يَعْتَقِدُهُ الْمَأْمُومُ مُفْسِدًا

لِلصَّلَاةِ ، فَلَمْ يَصِحَّ ائْتِمَامُهُ بِهِ ، كَمَا لَوْ خَالَفَهُ فِي الْقِبْلَةِ حَالَ الِاجْتِهَادِ فِيهَا .
( 1127 ) فَصْلٌ : وَإِنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ ، يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهُ ، فَإِنْ كَانَ يَتْرُكُ مَا يَعْتَقِدُهُ شَرْطًا لِلصَّلَاةِ أَوْ وَاجِبًا فِيهَا ، فَصَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ ، وَصَلَاةُ مَنْ يَأْتَمُّ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْمَأْمُومُ يُخَالِفُهُ فِي اعْتِقَادِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ وَاجِبًا فِي الصَّلَاةِ ، فَفَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ مَنْ ائْتَمَّ بِهِ ، كَالْمُجْمَعِ عَلَيْهِ .
وَإِنْ كَانَ يَفْعَلُ مَا يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ ، كَالْمُتَزَوِّجِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ مِمَّنْ يَرَى فَسَادَهُ ، وَشَارِبِ يَسِيرِ النَّبِيذِ مِمَّنْ يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهُ ، فَهَذَا إنْ دَامَ عَلَى ذَلِكَ ، فَهُوَ فَاسِقٌ ، حُكْمُهُ حُكْمُ سَائِرِ الْفُسَّاقِ ، فَإِنْ لَمْ يَدُمْ عَلَيْهِ ، فَلَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ خَلْفَهُ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الصَّغَائِرِ .
وَمَتَى كَانَ الْفَاعِلُ كَذَلِكَ عَامِّيًّا قَلَّدَ مَنْ يَعْتَقِدُ جَوَازَهُ ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ فَرْضَ الْعَامِّيِّ سُؤَالُ الْعُلَمَاءِ وَتَقْلِيدُهُمْ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { : فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ }

( 1128 ) فَصْلٌ : وَلَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ خَلْفَ مَجْنُونٍ ؛ لِأَنَّ صَلَاتَهُ لِنَفْسِهِ بَاطِلَةٌ .
وَإِنْ كَانَ يُجَنُّ تَارَةً ، وَيُفِيقُ أُخْرَى ، فَصَلَّى وَرَاءَهُ حَالَ إفَاقَتِهِ ، صَحَّتْ صَلَاتُهُ ، وَيُكْرَهُ الِائْتِمَامُ بِهِ ؛ لِئَلَّا يَكُونَ قَدْ احْتَلَمَ حَالَ جُنُونِهِ وَلَمْ يَعْلَمْ ، وَلِئَلَّا يُعَرِّضَ الصَّلَاةَ لِلْإِبْطَالِ فِي أَثْنَائِهَا ، لِوُجُودِ الْجُنُونِ فِيهَا ، وَالصَّلَاةُ صَحِيحَةٌ ، لِأَنَّ الْأَصْلَ السَّلَامَةُ ، فَلَا تَفْسُدُ بِالِاحْتِمَالِ .

( 1129 ) فَصْلٌ : وَإِذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ وَالْإِنْسَانُ فِي الْمَسْجِدِ ، وَالْإِمَامُ مِمَّنْ لَا يَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ ، فَإِنْ شَاءَ صَلَّى خَلْفَهُ ، وَأَعَادَ وَإِنْ نَوَى الصَّلَاةَ وَحْدَهُ ، وَوَافَقَ الْإِمَامَ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْقِيَامِ وَالْقُعُودِ ، فَصَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِأَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَشُرُوطِهَا عَلَى الْكَمَالِ ، فَلَا تَفْسُدُ بِمُوَافَقَتِهِ غَيْرَهُ فِي الْأَفْعَالِ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَقْصِدْ الْمُوَافَقَةَ .
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يُعِيدُ .
قَالَ الْأَثْرَمُ : قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : الرَّجُلُ يَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ ، فَتُقَامُ الصَّلَاةُ ، وَيَكُونُ الرَّجُلُ الَّذِي يُصَلِّي بِهِمْ لَا يَرَى الصَّلَاةَ خَلْفَهُ ، وَيُكْرَهُ الْخُرُوجُ مِنْ الْمَسْجِدِ بَعْدَ النِّدَاءِ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ يَصْنَعُ ؟ قَالَ : إنْ خَرَجَ كَانَ فِي ذَلِكَ شُنْعَةٌ ، وَلَكِنْ يُصَلِّي مَعَهُ ، وَيُعِيدُ ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يُصَلِّيَ بِصَلَاتِهِ ، وَيَكُونَ يُصَلِّي لِنَفْسِهِ ، ثُمَّ يُكَبِّرُ لِنَفْسِهِ وَيَرْكَعُ لِنَفْسِهِ ، وَيَسْجُدُ لِنَفْسِهِ ، وَلَا يُبَالِي أَنْ يَكُونَ سُجُودُهُ مَعَ سُجُودِهِ ، وَتَكْبِيرُهُ مَعَ تَكْبِيرِهِ .
قُلْت : فَإِنْ فَعَلَ هَذَا لِنَفْسِهِ أَيُعِيدُ ؟ قَالَ : نَعَمْ .
قُلْت : فَكَيْفَ يُعِيدُ ، وَقَدْ جَاءَ أَنَّ الصَّلَاةَ هِيَ الْأَوْلَى ، وَحَدِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { اجْعَلُوا صَلَاتَكُمْ مَعَهُمْ سُبْحَةً } .
قَالَ : إنَّمَا ذَاكَ إذَا صَلَّى وَحْدَهُ فَنَوَى الْفَرْضَ ، أَمَّا إذَا صَلَّى مَعَهُ وَهُوَ يَنْوِي أَنْ لَا يَعْتَدَّ بِهَا فَلَيْسَ هَذَا مِثْلَ هَذَا .
فَقَدْ نَصَّ عَلَى الْإِعَادَةِ ، وَلَكِنَّ تَعْلِيلَهُ إفْسَادَهَا بِكَوْنِهِ نَوَى أَنْ لَا يَعْتَدَّ بِهَا ، يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهَا وَإِجْزَائِهَا إذَا نَوَى الِاعْتِدَادَ بِهَا ، وَهُوَ الصَّحِيحُ لِمَا ذَكَرْنَا أَوَّلًا ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الَّذِينَ لَا يَرْضَوْنَ الصَّلَاةَ خَلْفَهُ جَمَاعَةً ، فَأَمَّهُمْ أَحَدُهُمْ وَوَافَقُوا الْإِمَامَ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ، كَانَ جَائِزًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( 1130 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَإِمَامَةُ الْعَبْدِ وَالْأَعْمَى جَائِزَةٌ ) .
هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ غُلَامًا لَهَا كَانَ يَؤُمُّهَا .
وَصَلَّى ابْنُ مَسْعُودٍ ، وَحُذَيْفَةُ ، وَأَبُو ذَرٍّ وَرَاءَ أَبِي سَعِيدٍ مَوْلَى أَبِي أُسَيْدَ ، وَهُوَ عَبْدٌ .
وَمِمَّنْ أَجَازَ ذَلِكَ : الْحَسَنُ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَالْحَكَمُ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَكَرِهَ أَبُو مِجْلَزٍ إمَامَةَ الْعَبْدِ ، وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَؤُمُّهُمْ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَارِئًا وَهُمْ أُمِّيُّونَ .
وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى } ، وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ : { إنَّ خَلِيلِي أَوْصَانِي أَنْ أَسْمَعَ وَأُطِيعَ ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا مُجَدَّعَ الْأَطْرَافِ ، وَأَنْ أُصَلِّيَ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا ، فَإِنْ أَدْرَكْتَ الْقَوْمَ وَقَدْ صَلَّوْا ، كُنْتَ أَحْرَزْتَ صَلَاتَك ، وَإِلَّا كَانَتْ لَك نَافِلَةً } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَلِأَنَّهُ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ ، فَعَلَتْ عَائِشَةُ ذَلِكَ وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ مَوْلَى أَبِي أُسَيْدَ ، قَالَ : تَزَوَّجْت وَأَنَا عَبْدٌ ، فَدَعَوْتُ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَجَابُونِي ، فَكَانَ فِيهِمْ أَبُو ذَرٍّ ، وَابْنُ مَسْعُودٍ ، وَحُذَيْفَةُ ، فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ وَهُمْ فِي بَيْتِي ، فَتَقَدَّمَ أَبُو ذَرٍّ لِيُصَلِّيَ بِهِمْ ، فَقَالُوا لَهُ .
وَرَاءَك ؟ فَالْتَفَتَ إلَى ابْنِ مَسْعُودٍ ، فَقَالَ : أَكَذَلِكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ ؟ قَالَ : نَعَمْ .
فَقَدَّمُونِي ، وَأَنَا عَبْدٌ ، فَصَلَّيْت بِهِمْ .
رَوَاهُ صَالِحٌ فِي " مَسَائِلِهِ " بِإِسْنَادِهِ ، وَهَذِهِ قِصَّةٌ مِثْلُهَا يَنْتَشِرُ ، وَلَمْ يُنْكَرْ وَلَا عُرِفَ مُخَالِفٌ لَهَا ، فَكَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا ، وَلِأَنَّ الرِّقَّ حَقٌّ ثَبَتَ عَلَيْهِ ، فَلَمْ يَمْنَعْ صِحَّةَ إمَامَتِهِ كَالدَّيْنِ ، وَلِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْأَذَانِ لِلرِّجَالِ يَأْتِي بِالصَّلَاةِ عَلَى الْكَمَالِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَؤُمَّهُمْ

كَالْحُرِّ .
وَأَمَّا الْأَعْمَى فَلَا نَعْلَمُ فِي صِحَّةِ إمَامَتِهِ خِلَافًا ، إلَّا مَا حُكِيَ عَنْ أَنَسٍ ، أَنَّهُ قَالَ : مَا حَاجَتُهُمْ إلَيْهِ .
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّهُ قَالَ : كَيْفَ أَؤُمُّهُمْ وَهُمْ يَعْدِلُونَنِي إلَى الْقِبْلَةِ .
وَالصَّحِيحُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَؤُمُّ وَهُوَ أَعْمَى ، وَعِتْبَانُ بْنُ مَالِكٍ ، وَقَتَادَةُ وَجَابِرٌ .
وَقَالَ أَنَسٌ : { إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَخْلَفَ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ يَؤُمُّ النَّاسَ وَهُوَ أَعْمَى } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
.
وَعَنْ الشَّعْبِيِّ ، أَنَّهُ قَالَ { : غَزَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ غَزْوَةً ، كُلَّ ذَلِكَ يُقَدِّمُ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ } .
رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ .
وَلِأَنَّ الْعَمَى فَقْدُ حَاسَّةٍ لَا يُخِلُّ بِشَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَلَا بِشُرُوطِهَا ، فَأَشْبَهَ فَقْدَ الشَّمِّ .
فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَالْحُرُّ أَوْلَى مِنْ الْعَبْدِ ، لِأَنَّهُ أَكْمَلُ مِنْهُ وَأَشْرَفُ ، وَيُصَلِّي الْجُمُعَةَ وَالْعِيدَ إمَامًا بِخِلَافِ الْعَبْدِ .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : وَالْبَصِيرُ أَوْلَى مِنْ الْأَعْمَى ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ بِعِلْمِهِ ، وَيَتَوَقَّى النَّجَاسَاتِ بِبَصَرِهِ .
وَقَالَ الْقَاضِي : هُمَا سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّ الْأَعْمَى أَخْشَعُ ، لِأَنَّهُ لَا يَشْتَغِلُ فِي الصَّلَاةِ بِالنَّظَرِ إلَى مَا يُلْهِيهِ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ فِي مُقَابَلَةِ فَضِيلَةِ الْبَصِيرِ عَلَيْهِ ، فَيَتَسَاوَيَانِ .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ الْبَصِيرَ لَوْ أَغْمَضَ عَيْنَيْهِ كَانَ مَكْرُوهًا ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ فَضِيلَةً لَكَانَ مُسْتَحَبًّا ، لِأَنَّهُ يُحَصِّلُ بِتَغْمِيضِهِ مَا يُحَصِّلُهُ الْأَعْمَى ، وَلِأَنَّ الْبَصِيرَ إذَا غَضَّ بَصَرَهُ مَعَ إمْكَانِ النَّظَرِ كَانَ لَهُ الْأَجْرُ فِيهِ ، لِأَنَّهُ يَتْرُكُ الْمَكْرُوهَ مَعَ إمْكَانِهِ اخْتِيَارًا ، وَالْأَعْمَى يَتْرُكُهُ اضْطِرَارًا فَكَانَ أَدْنَى حَالًا ، وَأَقَلَّ فَضِيلَةً .

( 1131 ) فَصْلٌ : وَلَا تَصِحُّ إمَامَةُ الْأَخْرَسِ بِمِثْلِهِ ، وَلَا غَيْرِهِ ، لِأَنَّهُ يَتْرُكُ رُكْنًا ، وَهُوَ الْقِرَاءَةُ ، تَرْكًا مَأْيُوسًا مِنْ زَوَالِهِ ، فَلَمْ تَصِحَّ إمَامَتُهُ ، كَالْعَاجِزِ عَنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ .

( 1132 ) فَصْلٌ : وَتَصِحُّ إمَامَةُ الْأَصَمِّ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُخِلُّ بِشَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ ، وَلَا شُرُوطِهَا ، فَأَشْبَهَ الْأَعْمَى ؛ فَإِنْ كَانَ أَصَمَّ أَعْمَى صَحَّتْ إمَامَتُهُ لِذَلِكَ .
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : لَا تَصِحُّ إمَامَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا سَهَا لَا يُمْكِنُ تَنْبِيهُهُ بِتَسْبِيحٍ وَلَا إشَارَةٍ ، وَالْأَوْلَى صِحَّتُهَا ؛ فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الصَّلَاةِ احْتِمَالُ عَارِضٍ لَا يُتَيَقَّنُ وُجُودُهُ ، كَالْمَجْنُونِ حَالَ إفَاقَتِهِ .

( 1133 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا أَقْطَعُ الْيَدَيْنِ ، فَقَالَ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : لَمْ أَسْمَعْ فِيهِ شَيْئًا .
وَذَكَرَ الْآمِدِيُّ فِيهِ رِوَايَتَيْنِ ؛ إحْدَاهُمَا : تَصِحُّ إمَامَتُهُ .
اخْتَارَهَا الْقَاضِي ؛ لِأَنَّهُ عَجْزٌ لَا يُخِلُّ بِرُكْنٍ فِي الصَّلَاةِ .
فَلَمْ يَمْنَعْ صِحَّةَ إمَامَتِهِ ، كَأَقْطَعِ أَحَدِ الرِّجْلَيْنِ وَالْأَنْفِ .
وَالثَّانِيَةُ : لَا تَصِحُّ .
اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ ؛ لِأَنَّهُ يُخِلُّ بِالسُّجُودِ عَلَى بَعْضِ أَعْضَاءِ السُّجُودِ ، أَشْبَهَ الْعَاجِزَ عَنْ السُّجُودِ عَلَى جَبْهَتِهِ .
وَحُكْمُ أَقْطَعِ الْيَدِ الْوَاحِدَةِ كَالْحُكْمِ فِي قَطْعِهِمَا جَمِيعًا ، وَأَمَّا أَقْطَعُ الرِّجْلَيْنِ فَلَا يَصِحُّ الِائْتِمَامُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَأْيُوسٌ مِنْ قِيَامِهِ ، فَلَمْ تَصِحَّ إمَامَتُهُ كَالزَّمِنِ .
وَإِنْ كَانَ مَقْطُوعَ إحْدَى الرِّجْلَيْنِ ، وَيُمْكِنُهُ الْقِيَامُ ، صَحَّتْ إمَامَتُهُ .
وَيَتَخَرَّجُ عَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ أَنْ لَا تَصِحَّ إمَامَتُهُ ؛ لِإِخْلَالِهِ بِالسُّجُودِ عَلَى عُضْوٍ .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّهُ يَسْجُدُ عَلَى الْبَاقِي مِنْ رِجْلِهِ أَوْ حَائِلِهَا .

( 1134 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَإِنْ ) ( أَمَّ أُمِّيٌّ أُمِّيًّا وَقَارِئًا ) ( أَعَادَ الْقَارِئُ وَحْدَهُ ) .
الْأُمِّيُّ مَنْ لَا يُحْسِنُ الْفَاتِحَةَ أَوْ بَعْضَهَا ، أَوْ يُخِلُّ بِحَرْفٍ مِنْهَا ، وَإِنْ كَانَ يُحْسِنُ غَيْرَهَا ، فَلَا يَجُوزُ لِمَنْ يُحْسِنُهَا أَنْ يَأْتَمَّ بِهِ ، وَيَصِحُّ لِمِثْلِهِ أَنْ يَأْتَمَّ بِهِ ، وَلِذَلِكَ خَصَّ الْخِرَقِيِّ الْقَارِئَ بِالْإِعَادَةِ فِيمَا إذَا أَمَّ أُمِّيًّا وَقَارِئًا .
وَقَالَ الْقَاضِي : هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى أَنَّ الْقَارِئَ مَعَ جَمَاعَةٍ أُمِّيِّينَ حَتَّى إذَا فَسَدَتْ صَلَاةُ الْقَارِئِ بَقِيَ خَلْفَ الْإِمَامِ اثْنَانِ فَصَاعِدًا .
فَإِنْ كَانَ مَعَهُ أُمِّيٌّ وَاحِدٌ ، وَكَانَا خَلْفَ الْإِمَامِ أَعَادَا جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ الْأُمِّيَّ صَارَ فَذًّا .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخِرَقِيِّ إنَّمَا قَصَدَ بَيَانَ مَنْ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ بِالِائْتِمَامِ بِالْأُمِّيِّ ، وَهَذَا يَخُصُّ الْقَارِئَ دُونَ الْأُمِّيِّ ، وَيَجُوزُ أَنْ تَصِحَّ صَلَاةُ الْأُمِّيِّ ؛ لِكَوْنِهِ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ ، أَوْ كَوْنِهِمَا جَمِيعًا عَنْ يَمِينِهِ ، أَوْ مَعَهُمْ أُمِّيٌّ آخَرُ ، وَإِنْ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ لِكَوْنِهِ فَذًّا ، فَمَا فَسَدَتْ لِائْتِمَامِهِ بِمِثْلِهِ ، إنَّمَا فَسَدَتْ لِمَعْنًى آخَرَ .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ .
وَقِيلَ عَنْهُ : يَصِحُّ أَنْ يَأْتَمَّ الْقَارِئُ بِالْأُمِّيِّ فِي صَلَاةِ الْإِسْرَارِ دُونَ صَلَاةِ الْجَهْرِ .
وَقِيلَ عَنْهُ : يَجُوزُ أَنْ يَأْتَمَّ بِهِ فِي الْحَالَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ رُكْنٍ ، فَجَازَ لِلْقَادِرِ عَلَيْهِ الِائْتِمَامُ بِهِ ، كَالْقَاعِدِ بِالْقَائِمِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تَفْسُدُ صَلَاةُ الْإِمَامِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَحْرَمَ مَعَهُ الْقَارِئُ لَزِمَتْهُ الْقِرَاءَةُ عَنْهُ ، لِكَوْنِ الْإِمَامِ يَتَحَمَّلُ الْقِرَاءَةَ عَنْ الْمَأْمُومِ ، فَعَجَزَ عَنْهَا ، فَفَسَدَتْ صَلَاتُهُ .
وَلَنَا عَلَى الْأَوَّلِ ، أَنَّهُ ائْتَمَّ بِعَاجِزٍ عَنْ رُكْنٍ سِوَى الْقِيَامِ يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْمَأْمُومُ ، فَلَمْ تَصِحَّ ، كَالْمُؤْتَمِّ بِالْعَاجِزِ عَنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ، وَلِأَنَّ الْإِمَامَ

يَتَحَمَّلُ الْقِرَاءَةَ عَنْ الْمَأْمُومِ ، وَهَذَا عَاجِزٌ عَنْ التَّحَمُّلِ لِلْقِرَاءَةِ الْوَاجِبَةِ عَلَى الْمَأْمُومِ ، فَلَمْ يَصِحَّ لَهُ الِائْتِمَامُ بِهِ ، لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى أَنْ يُصَلِّيَ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ ، وَقِيَاسُهُمْ يَبْطُلُ بِالْأَخْرَسِ وَالْعَاجِزِ عَنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْقِيَامِ ، وَلَا مَدْخَلَ لِلتَّحَمُّلِ فِيهِ ، بِخِلَافِ الْقِرَاءَةِ .
وَلَنَا عَلَى صِحَّةِ صَلَاةِ الْإِمَامِ ، أَنَّهُ أَمَّ مَنْ لَا يَصِحُّ لَهُ الِائْتِمَامُ بِهِ ، فَلَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ ، كَمَا لَوْ أَمَّتْ امْرَأَةٌ رَجُلًا وَنِسَاءً .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّهُ يَلْزَمُ الْقِرَاءَةُ عَنْ الْقَارِئِ .
لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا } وَمَنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ عَنْ نَفْسِهِ ، فَعَنْ غَيْرِهِ أَوْلَى .
وَإِنْ أَمَّ الْأُمِّيُّ قَارِئًا وَاحِدًا ، لَمْ تَصِحَّ صَلَاةُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّ الْأُمِّيَّ نَوَى الْإِمَامَةَ وَقَدْ صَارَ فَذًّا .
( 1135 ) فَصْلٌ : وَإِنْ صَلَّى الْقَارِئُ خَلْفَ مَنْ لَا يُعْلَمُ حَالُهُ فِي صَلَاةِ الْإِسْرَارِ صَحَّتْ صَلَاتُهُ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يَتَقَدَّمُ إلَّا مَنْ يُحْسِنُ الْقِرَاءَةَ ، وَلَمْ يَتَخَرَّمْ الظَّاهِرُ ، فَإِنَّهُ أَسَرَّ فِي مَوْضِعِ الْإِسْرَارِ ، وَإِنْ كَانَ يُسِرُّ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا ، لَا تَصِحُّ صَلَاةُ الْقَارِئِ .
ذَكَرَهُ الْقَاضِي ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَوْ أَحْسَنَ الْقِرَاءَةَ لَجَهَرَ .
وَالثَّانِي : تَصِحُّ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يَؤُمُّ النَّاسَ إلَّا مَنْ يُحْسِنُ الْقِرَاءَةَ ، وَإِسْرَارُهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نِسْيَانًا ، أَوْ لِجَهْلِهِ ، أَوْ لِأَنَّهُ لَا يُحْسِنُ أَكْثَرَ مِنْ الْفَاتِحَةِ ، فَلَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِالِاحْتِمَالِ .
فَإِنْ قَالَ : قَدْ قَرَأْتُ فِي الْإِسْرَارِ .
صَحَّتْ الصَّلَاةُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ صِدْقُهُ .
وَيُسْتَحَبُّ الْإِعَادَةُ احْتِرَازًا مِنْ أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا ، وَلَوْ أَسَرَّ فِي صَلَاةِ الْإِسْرَارِ ، ثُمَّ قَالَ : مَا كُنْت قَرَأْت الْفَاتِحَةَ .
لَزِمَهُ وَمَنْ

وَرَاءَهُ الْإِعَادَةُ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْهُ ، أَنَّهُ صَلَّى بِهِمْ الْمَغْرِبَ ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ : أَمَّا سَمِعْتُمُونِي قَرَأْتُ ؟ قَالُوا : لَا .
قَالَ : فَمَا قَرَأْتُ فِي نَفْسِي .
فَأَعَادَ بِهِمْ الصَّلَاةَ .
( 1136 ) فَصْلٌ : وَمَنْ تَرَكَ حَرْفًا مِنْ حُرُوفِ الْفَاتِحَةِ ؛ لِعَجْزِهِ عَنْهُ ، أَوْ أَبْدَلَهُ بِغَيْرِهِ ، كَالْأَلْثَغِ الَّذِي يَجْعَلُ الرَّاءَ غَيْنًا ، وَالْأَرَتِّ الَّذِي يُدْغِمُ حَرْفًا فِي حَرْفٍ ، أَوْ يَلْحَنُ لَحْنًا يُحِيلُ الْمَعْنَى ، كَاَلَّذِي يَكْسِرُ الْكَافَ مِنْ إيَّاكَ ، أَوْ يَضُمُّ التَّاءَ مِنْ أَنْعَمْتَ ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى إصْلَاحِهِ ، فَهُوَ كَالْأُمِّيِّ ، لَا يَصِحُّ أَنْ يَأْتَمَّ بِهِ قَارِئٌ .
وَيَجُوزُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَؤُمَّ مِثْلَهُ ؛ لِأَنَّهُمَا أُمِّيَّانِ ، فَجَازَ لِأَحَدِهِمَا الِائْتِمَامُ بِالْآخَرِ ، كَاَللَّذَيْنِ لَا يُحْسِنَانِ شَيْئًا .
وَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى إصْلَاحِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَلَمْ يَفْعَلْ ، لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ ، وَلَا صَلَاةُ مَنْ يَأْتَمُّ بِهِ .
( 1137 ) فَصْلٌ : إذَا كَانَ رَجُلَانِ لَا يُحْسِنُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا الْفَاتِحَةَ ، وَأَحَدُهُمَا يُحْسِنُ سَبْعَ آيَاتٍ مِنْ غَيْرِهَا ، وَالْآخَرُ لَا يُحْسِنُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ، فَهُمَا أُمِّيَّانِ ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الِائْتِمَامُ بِالْآخَرِ ، وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَؤُمَّ الَّذِي يُحْسِنُ الْآيَاتِ ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَأُ ، وَعَلَى هَذَا كُلُّ مَنْ لَا يُحْسِنُ الْفَاتِحَةَ ، يَجُوزُ أَنْ يَؤُمَّ مَنْ لَا يُحْسِنُهَا ، سَوَاءٌ اسْتَوَيَا فِي الْجَهْلِ أَوْ كَانَا مُتَفَاوِتَيْنِ فِيهِ .
( 1138 ) فَصْلٌ : تُكْرَهُ إمَامَةُ اللَّحَّان ، الَّذِي لَا يُحِيلُ الْمَعْنَى ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
وَتَصِحُّ صَلَاتُهُ بِمَنْ لَا يَلْحَنُ ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِفَرْضِ الْقِرَاءَةِ ، فَإِنْ أَحَالَ الْمَعْنَى فِي غَيْرِ الْفَاتِحَةِ ، لَمْ يُمْنَعْ صِحَّةُ الصَّلَاةِ ، وَلَا الِائْتِمَامِ بِهِ ، إلَّا أَنْ يَتَعَمَّدَهُ ، فَتَبْطُلَ صَلَاتُهُمَا .
( 1139 ) فَصْلٌ : وَمَنْ لَا يُفْصِحُ بِبَعْضِ الْحُرُوفِ ، كَالضَّادِ وَالْقَافِ ، فَقَالَ الْقَاضِي : تُكْرَهُ

إمَامَتُهُ ، وَتَصِحُّ ، أَعْجَمِيًّا كَانَ أَوْ عَرَبِيًّا ، وَقِيلَ فِي مَنْ قَرَأَ { وَلَا الضَّالِّينَ } بِالظَّاءِ : لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ ؛ لِأَنَّهُ يُحِيلُ الْمَعْنَى يُقَالُ : ظَلَّ يَفْعَلُ كَذَا : إذَا فَعَلَهُ نَهَارًا ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْأَلْثَغِ .
وَتُكْرَهُ إمَامَةُ التَّمْتَامِ - وَهُوَ مَنْ يُكَرِّرُ التَّاءَ - ، وَالْفَأْفَاءِ ، وَهُوَ مَنْ يُكَرِّرُ الْفَاءَ .
وَتَصِحُّ الصَّلَاةُ خَلْفَهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا يَأْتِيَانِ بِالْحُرُوفِ عَلَى الْكَمَالِ ، وَيَزِيدَانِ زِيَادَةً هُمَا مَغْلُوبَانِ عَلَيْهَا ، فَعُفِيَ عَنْهَا ، وَيُكْرَهُ تَقْدِيمُهُمَا لِهَذِهِ الزِّيَادَةِ .

( 1140 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَإِنْ صَلَّى خَلْفَ مُشْرِكٍ أَوْ امْرَأَةٍ أَوْ خُنْثَى مُشْكِلٍ ، أَعَادَ الصَّلَاةَ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْكَافِرَ لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ بِحَالٍ سَوَاءٌ عَلِمَ بِكُفْرِهِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الصَّلَاةِ ، أَوْ قَبْلَ ذَلِكَ ، وَعَلَى مَنْ صَلَّى وَرَاءَهُ الْإِعَادَةُ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ، وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ ، وَالْمُزَنِيُّ : لَا إعَادَةَ عَلَى مَنْ صَلَّى خَلْفَهُ ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ ؛ لِأَنَّهُ ائْتَمَّ بِمَنْ لَا يُعْلَمُ حَالُهُ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ ائْتَمَّ بِمُحْدِثٍ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ ائْتَمَّ بِمَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ ، فَلَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ ، كَمَا لَوْ ائْتَمَّ بِمَجْنُونٍ ، وَأَمَّا الْمُحْدِثُ فَيُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَعْلَمَ حَدَثَ نَفْسِهِ ، وَالْكَافِرُ يَعْلَمُ حَالَ نَفْسِهِ .
وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَأْتَمَّ بِهَا الرَّجُلُ بِحَالٍ ، فِي فَرْضٍ وَلَا نَافِلَةٍ ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ ، وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ : لَا إعَادَةَ عَلَى مَنْ صَلَّى خَلْفَهَا .
وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ الْمُزَنِيّ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : يَجُوزُ أَنْ تَؤُمَّ الرِّجَالَ فِي التَّرَاوِيحِ ، وَتَكُونَ وَرَاءَهُمْ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ أُمِّ وَرَقَةَ بِنْتِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ ، { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ لَهَا مُؤَذِّنًا يُؤَذِّنُ لَهَا ، وَأَمَرَهَا أَنْ تَؤُمَّ أَهْلَ دَارِهَا .
} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَهَذَا عَامٌّ فِي الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ .
وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تَؤُمَّنَّ امْرَأَةٌ رَجُلًا } ، وَلِأَنَّهَا لَا تُؤَذِّنُ لِلرِّجَالِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَؤُمَّهُمْ ، كَالْمَجْنُونِ .
وَحَدِيثُ أُمِّ وَرَقَةَ إنَّمَا أَذِنَ لَهَا أَنْ تَؤُمَّ نِسَاءَ أَهْلِ دَارِهَا ، كَذَلِكَ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ .
وَهَذِهِ زِيَادَةٌ يَجِبُ قَبُولُهَا ، وَلَوْ لَمْ يُذْكَرْ ذَلِكَ لَتَعَيَّنَ حَمْلُ الْخَبَرِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ أَذِنَ لَهَا أَنْ تَؤُمَّ فِي الْفَرَائِضِ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ جَعَلَ لَهَا مُؤَذِّنًا ، وَالْأَذَانُ إنَّمَا يُشْرَعُ فِي

الْفَرَائِضِ ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهَا لَا تَؤُمُّهُمْ فِي الْفَرَائِضِ ، وَلِأَنَّ تَخْصِيصَ ذَلِكَ بِالتَّرَاوِيحِ وَاشْتِرَاطَ تَأَخُّرِهَا تَحَكُّمٌ يُخَالِفُ الْأُصُولَ بِغَيْرِ دَلِيلٍ ، فَلَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ ، وَلَوْ قُدِّرَ ثُبُوتُ ذَلِكَ لِأُمِّ وَرَقَةَ ، لَكَانَ خَاصًّا بِهَا ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُشْرَعُ لِغَيْرِهَا مِنْ النِّسَاءِ أَذَانٌ وَلَا إقَامَةٌ ، فَتَخْتَصُّ بِالْإِمَامَةِ لِاخْتِصَاصِهَا بِالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ .
وَأَمَّا الْخُنْثَى فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَؤُمَّ رَجُلًا ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ امْرَأَةً ، وَلَا يَؤُمُّ خُنْثَى مِثْلَهُ ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ امْرَأَةً وَالْمَأْمُومُ رَجُلًا .
وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَؤُمَّهُ امْرَأَةٌ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ رَجُلًا .
قَالَ الْقَاضِي : رَأَيْت لِأَبِي حَفْصٍ الْبَرْمَكِيِّ أَنَّ الْخُنْثَى لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ فِي جَمَاعَةٍ ؛ لِأَنَّهُ إنْ قَامَ مَعَ الرِّجَالِ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ امْرَأَةً ، وَإِنْ قَامَ مَعَ النِّسَاءِ أَوْ وَحْدَهُ أَوْ ائْتَمَّ بِامْرَأَةٍ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ رَجُلًا ، وَإِنْ أَمَّ الرِّجَالَ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ امْرَأَةً .
وَإِنْ أَمَّ النِّسَاءَ فَقَامَ وَسَطَهُنَّ احْتَمَلَ أَنَّهُ رَجُلٌ ، وَإِنْ قَامَ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ احْتَمَلَ أَنَّهُ امْرَأَةٌ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ ، وَفِي صُورَةٍ أُخْرَى ، وَهُوَ أَنْ يَقُومَ فِي صَفِّ الرِّجَالِ مَأْمُومًا ؛ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ إذَا قَامَتْ فِي صَفِّ الرِّجَالِ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهَا وَلَا صَلَاةُ مَنْ يَلِيهَا .
( 1141 ) فَصْلٌ : يُكْرَهُ أَنْ يَؤُمَّ الرَّجُلُ نِسَاءً أَجَانِبَ ، لَا رَجُلَ مَعَهُنَّ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يَخْلُوَ الرَّجُلُ بِالْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ .
وَلَا بَأْسَ أَنْ يَؤُمَّ ذَوَاتَ مَحَارِمِهِ ، وَأَنْ يَؤُمَّ النِّسَاءَ مَعَ الرِّجَالِ ، فَإِنَّ النِّسَاءَ كُنَّ يُصَلِّينَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ ، وَقَدْ أَمَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءً ، وَقَدْ أَمَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ أَنَسًا وَأُمَّهُ فِي بَيْتِهِمْ .
( 1142 ) فَصْلٌ : إذَا صَلَّى خَلْفَ مَنْ شَكَّ فِي إسْلَامِهِ ، أَوْ كَوْنِهِ خُنْثَى ، فَصَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ ، مَا لَمْ يَبِنْ كُفْرُهُ ، وَكَوْنُهُ خُنْثَى مُشْكِلًا ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ الْمُصَلِّينَ الْإِسْلَامُ ، سِيَّمَا إذَا كَانَ إمَامًا ، وَالظَّاهِرُ السَّلَامَةُ مِنْ كَوْنِهِ خُنْثَى ، سِيَّمَا مَنْ يَؤُمُّ الرِّجَالَ ، فَإِنْ تَبَيَّنَ بَعْدَ الصَّلَاةِ أَنَّهُ كَانَ كَافِرًا أَوْ خُنْثَى مُشْكِلًا ، فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ عَلَى مَا بَيَّنَّا .
وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ مِمَّنْ يُسْلِمُ تَارَةً وَيَرْتَدُّ أُخْرَى ، لَمْ يُصَلِّ خَلْفَهُ ، حَتَّى يَعْلَمَ عَلَى أَيِّ دِينٍ هُوَ ، فَإِنْ صَلَّى خَلْفَهُ ، وَهُوَ لَمْ يَعْلَمْ مَا هُوَ عَلَيْهِ نَظَرْنَا ؛ فَإِنْ كَانَ قَدْ عَلِمَ قَبْلَ الصَّلَاةِ إسْلَامَهُ ، وَشَكَّ فِي رِدَّتِهِ ، فَهُوَ مُسْلِمٌ .
وَإِنْ عَلِمَ رِدَّتَهُ ، وَشَكَّ فِي إسْلَامِهِ ، لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ .
فَإِنْ كَانَ عَلِمَ إسْلَامَهُ ، فَصَلَّى خَلْفَهُ ، فَقَالَ بَعْدَ الصَّلَاةِ : مَا كُنْت أَسْلَمْت أَوْ ارْتَدَدْت .
لَمْ تَبْطُلْ الصَّلَاةُ ؛ لِأَنَّ صَلَاتَهُ كَانَتْ صَحِيحَةً حُكْمًا ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ هَذَا فِي إبْطَالِهَا ؛ لِأَنَّهُ مِمَّنْ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ .
وَإِذَا صَلَّى خَلْفَ مَنْ عَلِمَ رِدَّتَهُ ، فَقَالَ بَعْدَ الصَّلَاةِ : قَدْ كُنْتُ أَسْلَمْتُ .
قُبِلَ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّهُ مِمَّنْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ .
فَصْلٌ : قَالَ أَصْحَابُنَا : يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ بِالصَّلَاةِ ، سَوَاءٌ كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَسَوَاءٌ صَلَّى جَمَاعَةً أَوْ فُرَادَى ، فَإِنْ أَقَامَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الْإِسْلَامِ فَلَا كَلَامَ ، وَإِنْ لَمْ يُقِمْ عَلَيْهِ فَهُوَ مُرْتَدٌّ ، يَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّينَ .
وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ ظُهُورِ مَا يُنَافِي الْإِسْلَامَ فَهُوَ مُسْلِمٌ يَرِثُهُ وَرَثَتُهُ الْمُسْلِمُونَ دُونَ الْكَافِرِينَ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنْ صَلَّى جَمَاعَةً أَوْ مُنْفَرِدًا فِي الْمَسْجِدِ ، كَقَوْلِنَا ، وَإِنْ صَلَّى فُرَادَى فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ ، لَمْ يُحْكَمْ بِإِسْلَامِهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ :

لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ بِحَالٍ ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ مِنْ فُرُوعِ الْإِسْلَامِ ، فَلَمْ يَصِرْ مُسْلِمًا بِفِعْلِهَا ، كَالْحَجِّ وَالصِّيَامِ ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ ، إلَّا بِحَقِّهَا .
} وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إنْ صَلَّى فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَيْسَ بِمُسْلِمٍ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَقْصِدُ الِاسْتِتَارَ بِالصَّلَاةِ ، وَإِخْفَاءَ دِينِهِ ، وَإِنْ صَلَّى فِي دَارِ الْحَرْبِ فَهُوَ مُسْلِمٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِي حَقِّهِ .
وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { نُهِيتُ عَنْ قَتْلِ الْمُصَلِّينَ } .
وَقَالَ : { بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ الصَّلَاةُ .
} فَجَعَلَ الصَّلَاةَ حَدًّا بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ ، فَمَنْ صَلَّى فَقَدْ دَخَلَ فِي حَدِّ الْإِسْلَامِ ، وَقَالَ فِي الْمَمْلُوكِ : { فَإِذَا صَلَّى فَهُوَ أَخُوكَ } .
وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَخْتَصُّ بِالْمُسْلِمِينَ ، فَالْإِتْيَانُ بِهَا إسْلَامٌ كَالشَّهَادَتَيْنِ ، وَأَمَّا الْحَجُّ فَإِنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَفْعَلُونَهُ ، وَالصِّيَامُ إمْسَاكٌ عَنْ الْمُفْطِرَاتِ ، وَقَدْ يَفْعَلُهُ مَنْ لَيْسَ بِصَائِمٍ .
( 1144 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا صَلَاتُهُ فِي نَفْسِهِ ، فَأَمْرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ أَسْلَمَ ، ثُمَّ تَوَضَّأَ وَصَلَّى بِنِيَّةٍ صَحِيحَةٍ ، فَصَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ ، فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ ، لِأَنَّ الْوُضُوءَ لَا يَصِحُّ مِنْ كَافِرٍ ، وَإِذَا لَمْ يُسْلِمْ قَبْلَ الصَّلَاةِ ، كَانَ حَالَ شُرُوعِهِ فِيهَا غَيْرَ مُسْلِمٍ ، وَلَا مُتَطَهِّرٍ ، فَلَمْ يَصِحَّ مِنْهُ .

( 1145 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَإِنْ صَلَّتْ امْرَأَةٌ بِالنِّسَاءِ قَامَتْ مَعَهُنَّ فِي الصَّفِّ وَسَطًا ) .
اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ ، هَلْ يُسْتَحَبُّ أَنْ تُصَلِّي الْمَرْأَةُ بِالنِّسَاءِ جَمَاعَةً ؟ فَرُوِيَ أَنَّ ذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ ، وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَؤُمُّ النِّسَاءَ عَائِشَةُ ، وَأُمُّ سَلَمَةَ ، وَعَطَاءٌ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ .
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ ، رَحِمَهُ اللَّهُ ، أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَحَبٍّ وَكَرِهَهُ أَصْحَابُ الرَّأْيِ ، وَإِنْ فَعَلَتْ أَجْزَأَهُنَّ .
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَقَتَادَةُ : لَهُنَّ ذَلِكَ فِي التَّطَوُّعِ دُونَ الْمَكْتُوبَةِ .
وَقَالَ الْحَسَنُ ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ : لَا تَؤُمُّ فِي فَرِيضَةٍ وَلَا نَافِلَةٍ .
وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَنْبَغِي لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَؤُمَّ أَحَدًا ، لِأَنَّهُ يُكْرَهُ لَهَا الْأَذَانُ ، وَهُوَ دُعَاءٌ إلَى الْجَمَاعَةِ ، فَكُرِهَ لَهَا مَا يُرَادُ الْأَذَانُ لَهُ .
وَلَنَا حَدِيثُ أُمِّ وَرَقَةَ وَلِأَنَّهُنَّ مِنْ أَهْلِ الْفَرْضِ ، فَأَشْبَهْنَ الرِّجَالَ ، وَإِنَّمَا كُرِهَ لَهُنَّ الْأَذَانُ لِمَا فِيهِ مِنْ رَفْعِ الصَّوْتِ ، وَلَسْنَ مِنْ أَهْلِهِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّهَا إذَا صَلَّتْ بِهِنَّ قَامَتْ فِي وَسَطِهِنَّ ، لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا بَيْنَ مَنْ رَأَى لَهَا أَنْ تَؤُمَّهُنَّ ، وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ يُسْتَحَبُّ لَهَا التَّسَتُّرُ ، وَلِذَلِكَ لَا يُسْتَحَبُّ لَهَا التَّجَافِي ، وَكَوْنُهَا فِي وَسَطِ الصَّفِّ أَسْتَرُ لَهَا ؛ لِأَنَّهَا تَسْتَتِرُ بِهِنَّ مِنْ جَانِبَيْهَا ، فَاسْتُحِبَّ لَهَا ذَلِكَ كَالْعُرْيَانِ ، فَإِنْ صَلَّتْ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ احْتَمَلَ أَنْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّهُ مَوْقِفٌ فِي الْجُمْلَةِ ، وَلِهَذَا كَانَ مَوْقِفًا لِلرَّجُلِ ، وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا يَصِحَّ ؛ لِأَنَّهَا خَالَفَتْ مَوْقِفَهَا ، أَشْبَهَ مَا لَوْ خَالَفَ الرَّجُلُ مَوْقِفَهُ .
( 1146 ) فَصْلٌ : وَتَجْهَرُ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ ، وَإِنْ كَانَ ثُمَّ رِجَالٌ لَا تَجْهَرُ ، إلَّا أَنْ يَكُونُوا مِنْ مَحَارِمِهَا ، فَلَا بَأْسَ .
فَصْلٌ : وَيُبَاحُ لَهُنًّ حُضُورُ

الْجَمَاعَةِ مَعَ الرِّجَالِ ؛ لِأَنَّ النِّسَاءَ كُنَّ يُصَلِّينَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ عَائِشَةُ : { كَانَ النِّسَاءُ يُصَلِّينَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَنْصَرِفْنَ مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ ، مَا يُعْرَفْنَ مِنْ الْغَلَسِ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تَمْنَعُوا إمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ ، وَلْيَخْرُجْنَ تَفِلَاتٍ .
يَعْنِي غَيْرَ مُتَطَيِّبَاتٍ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَصَلَاتُهَا فِي بَيْتِهَا خَيْرٌ لَهَا وَأَفْضَلُ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تَمْنَعُوا نِسَاءَكُمْ الْمَسَاجِدَ ، وَبُيُوتُهُنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { صَلَاةُ الْمَرْأَةِ فِي بَيْتِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي حُجْرَتِهَا ، وَصَلَاتُهَا فِي مَخْدَعِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي بَيْتِهَا } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .

( 1148 ) فَصْلٌ : إذَا أَمَّتْ الْمَرْأَةُ امْرَأَةً وَاحِدَةً ، قَامَتْ الْمَرْأَةُ عَنْ يَمِينِهَا ، كَالْمَأْمُومِ مَعَ الرِّجَالِ ، وَإِنْ صَلَّتْ خَلْفَ رَجُلٍ قَامَتْ خَلْفَهُ ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَخِّرُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَخَّرَهُنَّ اللَّهُ } .
وَإِنْ كَانَ مَعَهُمَا رَجُلٌ قَامَ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ وَالْمَرْأَةُ خَلْفَهُمَا ، كَمَا رَوَى { أَنَسٌ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِهِ وَبِأُمِّهِ أَوْ خَالَتِهِ ، فَأَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ ، وَأَقَامَ الْمَرْأَةَ خَلْفَنَا } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَإِنْ كَانَ مَعَ الْإِمَامِ رَجُلٌ وَصَبِيٌّ وَامْرَأَةٌ ، وَكَانُوا فِي تَطَوُّعٍ ، قَامَا خَلْفَ الْإِمَامِ وَالْمَرْأَةُ خَلْفَهُمَا .
كَمَا رَوَى أَنَسٌ { ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِهِمْ ، قَالَ : فَصَفَفْت أَنَا وَالْيَتِيمُ وَرَاءَهُ ، وَالْمَرْأَةُ خَلْفَنَا ، فَصَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ انْصَرَفَ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَإِنْ كَانَتْ فَرْضًا جَعَلَ الرَّجُلَ عَنْ يَمِينِهِ ، وَالْغُلَامَ عَنْ يَسَارِهِ ، كَمَا فَعَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ بِعَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدِ وَرَوَاهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَإِنْ وَقَفَا جَمِيعًا عَنْ يَمِينِهِ فَلَا بَأْسَ ، وَإِنْ وَقَفَا وَرَاءَهُ فَرَوَى الْأَثْرَمُ أَنَّ أَحْمَدَ تَوَقَّفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، وَقَالَ : مَا أَدْرِي .
فَذُكِرَ لَهُ حَدِيثُ أَنَسٍ .
فَقَالَ : ذَاكَ فِي التَّطَوُّعِ .
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ لَا يَصْلُحُ إمَامًا لِلرِّجَالِ فِي الْفَرَائِضِ فَلَمْ يُصَافَّهُمْ كَالْمَرْأَةِ .
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُصَافَّ الرَّجُلَ فِي النَّفْلِ فَصَحَّ فِي الْفَرْضِ ، كَالْمُتَنَفِّلِ يَقِفُ مَعَ الْمُفْتَرِضِ ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ مُصَافَّتِهِ صِحَّةُ إمَامَتِهِ ، بِدَلِيلِ الْفَاسِقِ وَالْعَبْدِ وَالْمُسَافِرِ فِي الْجُمُعَةِ ، وَالْمُفْتَرِضِ مَعَ

الْمُتَنَفِّلِ ، وَيُفَارِقُ الْمَرْأَةَ ؛ لِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُصَافَّ الرِّجَالَ فِي التَّطَوُّعِ وَيَؤُمَّهُمْ فِيهِ فِي رِوَايَةٍ ، بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ .
وَقَالَ الْحَسَنُ فِي ثَلَاثَةٍ أَحَدُهُمْ امْرَأَةٌ : يَقُومُونَ مُتَوَاتِرِينَ ، بَعْضُهُمْ خَلْفَ بَعْضٍ .
وَلَنَا ، حَدِيثُ أَنَسٍ ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، لَا نَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَ فِيهِ ، إلَّا الْحَسَنَ ، وَاتِّبَاعُ السُّنَّةِ أَوْلَى ، وَقَوْلُ الْحَسَنِ يُفْضِي إلَى وُقُوفِ الرَّجُلِ وَحْدَهُ فَذًّا ، وَيَرُدُّهُ حَدِيثُ وَابِصَةَ وَعَلِيِّ بْنِ شَيْبَانَ .
وَإِنْ اجْتَمَعَ رِجَالٌ وَصِبْيَانٌ وَخَنَاثَى وَنِسَاءٌ تَقَدَّمَ الرِّجَالُ ، ثُمَّ الصِّبْيَانُ ، ثُمَّ الْخَنَاثَى ، ثُمَّ النِّسَاءُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { صَلَّى فَصَفَّ الرِّجَالَ ، ثُمَّ صَفَّ خَلْفَهُمْ الْغِلْمَانَ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
( 1149 ) فَصْلٌ : وَإِنْ وَقَفَتْ الْمَرْأَةُ فِي صَفِّ الرِّجَالِ كُرِهَ ، وَلَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهَا ، وَلَا صَلَاةُ مَنْ يَلِيهَا .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : تَبْطُلُ صَلَاةُ مَنْ يَلِيهَا وَمَنْ خَلْفَهَا دُونَهَا .
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ الْوُقُوفِ إلَى جَانِبِهَا ، أَشْبَهَ مَا لَوْ وَقَفَ بَيْنَ يَدَيْ الْإِمَامِ .
وَلَنَا ، أَنَّهَا لَوْ وَقَفَتْ فِي غَيْرِ صَلَاةٍ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ ، فَكَذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تَعْتَرِضُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَائِمَةً وَهُوَ يُصَلِّي .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّهُ مَنْهِيٌّ قُلْنَا : هِيَ الْمَنْهِيَّةُ عَنْ الْوُقُوفِ مَعَ الرِّجَالِ ، وَلَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهَا ، فَصَلَاةُ مَنْ يَلِيهَا أَوْلَى .

( 1150 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَصَاحِبُ الْبَيْتِ أَحَقُّ بِالْإِمَامَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ ذَا سُلْطَانٍ ) .
وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْجَمَاعَةَ إذَا أُقِيمَتْ فِي بَيْتٍ ، فَصَاحِبُهُ أَوْلَى بِالْإِمَامَةِ مِنْ غَيْرِهِ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَنْ هُوَ أَقْرَأُ مِنْهُ وَأَفْقَهُ ، إذَا كَانَ مِمَّنْ يُمْكِنُهُ إمَامَتُهُمْ ، وَتَصِحُّ صَلَاتُهُمْ وَرَاءَهُ ، فَعَلَ ذَلِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ ، وَأَبُو ذَرٍّ ، وَحُذَيْفَةُ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا حَدِيثَهُمْ ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { : وَلَا يُؤَمَّنَّ الرَّجُلُ فِي بَيْتِهِ ، وَلَا فِي سُلْطَانِهِ ، وَلَا يُجْلَسُ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ .
وَرَوَى مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : مَنْ زَارَ قَوْمًا فَلَا يَؤُمَّهُمْ وَلْيَؤُمَّهُمْ رَجُلٌ مِنْهُمْ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَإِنْ كَانَ فِي الْبَيْتِ ذُو سُلْطَانٍ فَهُوَ أَحَقُّ مِنْ صَاحِبِ الْبَيْتِ ؛ لِأَنَّ وِلَايَتَهُ عَلَى الْبَيْتِ وَعَلَى صَاحِبِهِ وَغَيْرِهِ ، وَقَدْ أَمَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ وَأَنَسًا فِي بُيُوتِهِمَا .
( 1151 ) فَصْلٌ : وَإِمَامُ الْمَسْجِدِ الرَّاتِبُ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى صَاحِبِ الْبَيْتِ وَالسُّلْطَانِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ أَتَى أَرْضًا لَهُ ، وَعِنْدَهَا مَسْجِدٌ يُصَلِّي فِيهِ مَوْلًى لِابْنِ عُمَرَ ، فَصَلَّى مَعَهُمْ ، فَسَأَلُوهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ ، فَأَبَى ، وَقَالَ : صَاحِبُ الْمَسْجِدِ أَحَقُّ .
وَلِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ : { مَنْ زَارَ قَوْمًا فَلَا يَؤُمَّهُمْ .
} ( 1152 ) فَصْلٌ : وَإِذَا أَذِنَ الْمُسْتَحِقُّ مِنْ هَؤُلَاءِ لِرَجُلٍ فِي الْإِمَامَةِ ، جَازَ وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَذِنَ فِي اسْتِحْقَاقِ التَّقَدُّمِ ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إلَّا بِإِذْنِهِ " .
وَلِأَنَّ الْإِمَامَةَ حَقٌّ لَهُ فَلَهُ نَقْلُهَا إلَى مَنْ شَاءَ ، قَالَ أَحْمَدُ : قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى

اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا يُؤَمُّ الرَّجُلُ فِي سُلْطَانِهِ ، وَلَا يُجْلَسُ عَلَى تَكْرِمَتِهِ فِي بَيْتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ } .
أَرْجُو أَنْ يَكُونَ الْإِذْنُ فِي الْكُلِّ ، وَلَمْ يَرَ بَأْسًا إذَا أَذِنَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ .
( 1153 ) فَصْلٌ : وَإِنْ دَخَلَ السُّلْطَانُ بَلَدًا لَهُ فِيهِ خَلِيفَةٌ فَهُوَ أَحَقُّ مِنْ خَلِيفَتِهِ ، لِأَنَّ وِلَايَتَهُ عَلَى خَلِيفَتِهِ وَغَيْرِهِ وَلَوْ اجْتَمَعَ الْعَبْدُ وَسَيِّدُهُ فِي بَيْتِ الْعَبْدِ فَالسَّيِّدُ أَوْلَى ، لِأَنَّهُ الْمَالِكُ عَلَى الْحَقِيقَةِ ، وَوِلَايَتُهُ عَلَى الْعَبْدِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَيِّدُهُ مَعَهُمْ فَالْعَبْدُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ صَاحِبُ الْبَيْتِ ، وَلِذَلِكَ لَمَّا اجْتَمَعَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَحُذَيْفَةُ وَأَبُو ذَرٍّ فِي بَيْتِ أَبِي سَعِيدٍ مَوْلَى أَبِي أُسَيْدَ وَهُوَ عَبْدٌ ، تَقَدَّمَ أَبُو ذَرٍّ لِيُصَلِّيَ بِهِمْ ، فَقَالُوا لَهُ : وَرَاءَك .
فَالْتَفَتَ إلَى أَصْحَابِهِ ، فَقَالَ : أَكَذَلِكَ ؟ قَالُوا : نَعَمْ .
فَتَأَخَّرَ ، وَقَدَّمُوا أَبَا سَعِيدٍ ، فَصَلَّى بِهِمْ وَإِنْ اجْتَمَعَ الْمُؤَجِّرُ وَالْمُسْتَأْجِرُ فِي الدَّارِ الْمُؤَجَّرَةِ ، فَالْمُسْتَأْجِرُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِالسُّكْنَى وَالْمَنْفَعَةِ .
( 1154 ) فَصْلٌ : وَالْمُقِيمُ أَوْلَى مِنْ الْمُسَافِرِ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ إمَامًا حَصَلَتْ لَهُ الصَّلَاةُ كُلُّهَا فِي جَمَاعَةٍ ، وَإِنْ أَمَّهُ الْمُسَافِرُ احْتَاجَ إلَى إتْمَامِ الصَّلَاةِ مُنْفَرِدًا .
وَإِنْ ائْتَمَّ بِالْمُسَافِرِ جَازَ ، وَيُتِمُّ الصَّلَاةَ بَعْدَ سَلَامِ إمَامِهِ .
فَإِنْ أَتَمَّ الْمُسَافِرُ الصَّلَاةَ جَازَتْ صَلَاتُهُمْ .
وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي صَلَاةِ الْمُقِيمِينَ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهَا لَا تَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ نَفْلٌ أَمَّ بِهَا مُفْتَرِضِينَ .
وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ ؛ لِأَنَّ الْمُسَافِرَ إذَا نَوَى إتْمَامَ الصَّلَاةِ أَوْ لَمْ يَنْوِ الْقَصْرَ ، لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ ، فَيَصِيرُ الْجَمِيعُ فَرْضًا .

( 1155 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَيَأْتَمُّ بِالْإِمَامِ مَنْ فِي أَعْلَى الْمَسْجِدِ وَغَيْرِ الْمَسْجِدِ ، إذَا اتَّصَلَتْ الصُّفُوفُ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُومُ مُسَاوِيًا لِلْإِمَامِ أَوْ أَعْلَى مِنْهُ ، كَاَلَّذِي عَلَى سَطْحِ الْمَسْجِدِ أَوْ عَلَى دِكَّةٍ عَالِيَةٍ ، أَوْ رَفٍّ فِيهِ ، رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ صَلَّى بِصَلَاةِ الْإِمَامِ عَلَى سَطْحِ الْمَسْجِدِ وَفَعَلَهُ سَالِمٌ .
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَقَالَ مَالِكٌ يُعِيدُ الْجُمُعَةَ إذَا صَلَّى فَوْقَ سَطْحِ الْمَسْجِدِ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ .
وَلَنَا أَنَّهُمَا فِي الْمَسْجِدِ ، وَلَمْ يَعْلُ الْإِمَامُ ، فَصَحَّ أَنْ يَأْتَمَّ بِهِ كَالْمُتَسَاوِيَيْنِ ، وَلَا يُعْتَبَرُ اتِّصَالُ الصُّفُوفِ إذَا كَانَا جَمِيعًا فِي الْمَسْجِدِ .
قَالَ الْآمِدِيُّ : لَا خِلَافَ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ إذَا كَانَ فِي أَقْصَى الْمَسْجِدِ ، وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِمَامِ مَا يَمْنَعُ الِاسْتِطْرَاقَ وَالْمُشَاهَدَةَ ، أَنَّهُ يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ ، وَإِنْ لَمْ تَتَّصِلْ الصُّفُوفُ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ بُنِيَ لِلْجَمَاعَةِ ، فَكُلُّ مَنْ حَصَلَ فِيهِ فَقَدْ حَصَلَ فِي مَحَلِّ الْجَمَاعَةِ .
وَإِنْ كَانَ الْمَأْمُومُ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ أَوْ كَانَا جَمِيعًا فِي غَيْرِ مَسْجِدٍ ، صَحَّ أَنْ يَأْتَمَّ بِهِ ، سَوَاءٌ كَانَ مُسَاوِيًا لِلْإِمَامِ أَوْ أَعْلَى مِنْهُ ، كَثِيرًا كَانَ الْعُلُوُّ أَوْ قَلِيلًا ، بِشَرْطِ كَوْنِ الصُّفُوفِ مُتَّصِلَةً وَيُشَاهِدُ مَنْ وَرَاءَ الْإِمَامِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَأْمُومُ فِي رَحْبَةِ الْجَامِعِ ، أَوْ دَارٍ ، أَوْ عَلَى سَطْحٍ وَالْإِمَامُ عَلَى سَطْحٍ آخَرَ ، أَوْ كَانَا فِي صَحْرَاءَ ، أَوْ فِي سَفِينَتَيْنِ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، إلَّا أَنَّهُ يَشْتَرِطُ أَنْ لَا يَكُونَ بَيْنَهُمَا مَا يَمْنَعُ الِاسْتِطْرَاقَ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ .
وَلَنَا ، أَنَّ هَذَا لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الْمَنْعِ مِنْ الِاقْتِدَاءِ بِالْإِمَامِ ، وَلَمْ يَرِدْ فِيهِ نَهْيٌ ، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ ، فَلَمْ يَمْنَعْ صِحَّةَ الِائْتِمَامِ بِهِ ، كَالْفَصْلِ

الْيَسِيرِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّ مَعْنَى اتِّصَالِ الصُّفُوفِ أَنْ لَا يَكُونَ بَيْنَهُمَا بُعْدٌ لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِهِ ، وَلَا يَمْنَعُ إمْكَانَ الِاقْتِدَاءِ .
وَحُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ حَدَّ الِاتِّصَالَ بِمَا دُونَ ثَلَاثِ مِائَةِ ذِرَاعٍ .
وَالتَّحْدِيدَاتُ بَابُهَا التَّوْقِيفُ ، وَالْمَرْجِعُ فِيهَا إلَى النُّصُوصِ وَالْإِجْمَاعِ ، وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا نَصًّا نَرْجِعُ إلَيْهِ وَلَا إجْمَاعًا نَعْتَمِدُ عَلَيْهِ ، فَوَجَبَ الرُّجُوعُ فِيهِ إلَى الْعُرْفِ ، كَالتَّفَرُّقِ وَالْإِحْرَازِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( 1156 ) فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ حَائِلٌ يَمْنَعُ رُؤْيَةَ الْإِمَامِ ، أَوْ مَنْ وَرَاءَهُ ، فَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ : فِيهِ رِوَايَتَانِ ؛ إحْدَاهُمَا ، لَا يَصِحُّ الِائْتِمَامُ بِهِ .
اخْتَارَهُ الْقَاضِي ؛ لِأَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ لِنِسَاءٍ كُنَّ يُصَلِّينَ فِي حُجْرَتِهَا : لَا تُصَلِّينَ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ ، فَإِنَّكُنَّ دُونَهُ فِي حِجَابٍ .
وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الِاقْتِدَاءُ بِهِ فِي الْغَالِبِ .
وَالثَّانِيَةُ : يَصِحُّ .
قَالَ أَحْمَدُ فِي رَجُلٍ يُصَلِّي خَارِجَ الْمَسْجِدِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَأَبْوَابُ الْمَسْجِدِ مُغْلَقَةٌ : أَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ .
وَسُئِلَ عَنْ رَجُلٍ يُصَلِّي يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِمَامِ سُتْرَةٌ قَالَ : إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ .
وَقَالَ فِي الْمِنْبَرِ إذَا قَطَعَ الصَّفَّ : لَا يَضُرُّ .
وَلِأَنَّهُ أَمْكَنَهُ الِاقْتِدَاءُ بِالْإِمَامِ ، فَيَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ مِنْ غَيْرِ مُشَاهَدَةٍ ، كَالْأَعْمَى ، وَلِأَنَّ الْمُشَاهَدَةَ تُرَادُ لِلْعِلْمِ بِحَالِ الْإِمَامِ ، وَالْعِلْمُ يَحْصُلُ بِسَمَاعِ التَّكْبِيرِ ، فَجَرَى مَجْرَى الرُّؤْيَةِ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُومُ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ فِي غَيْرِهِ ، وَاخْتَارَ الْقَاضِي أَنَّهُ يَصِحُّ إذَا كَانَا فِي الْمَسْجِدِ ، وَلَا يَصِحُّ فِي غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مَحَلُّ الْجَمَاعَةِ ، وَفِي مَظِنَّةِ الْقُرْبِ ، وَلَا يَصِحُّ فِي غَيْرِهِ لِعَدَمِ هَذَا الْمَعْنَى ، وَلِخَبَرِ عَائِشَةَ .
وَلَنَا ، أَنَّ الْمَعْنَى الْمُجَوِّزَ

أَوْ الْمَانِعَ قَدْ اسْتَوَيَا فِيهِ ، فَوَجَبَ اسْتِوَاؤُهُمَا فِي الْحُكْمِ ، وَلَا بُدَّ لِمَنْ لَا يُشَاهِدُ أَنْ يَسْمَعَ التَّكْبِيرَ ، لِيُمْكِنَهُ الِاقْتِدَاءُ ، فَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ ، لَمْ يَصِحَّ ائْتِمَامُهُ بِهِ بِحَالٍ ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الِاقْتِدَاءُ بِهِ .
فَصْلٌ : وَكُلُّ مَوْضِعٍ اعْتَبَرْنَا الْمُشَاهَدَةَ ، فَإِنَّهُ يَكْفِيهِ مُشَاهَدَةُ مَنْ وَرَاءُ الْإِمَامِ ، سَوَاءٌ شَاهَدَهُ مِنْ بَابٍ أَمَامَهُ أَوْ عَنْ يَمِينِهِ أَوْ عَنْ يَسَارِهِ ، أَوْ شَاهَدَهُ طَرَفَ الصَّفِّ الَّذِي وَرَاءَهُ ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُمْكِنُهُ الِاقْتِدَاءُ بِهِ .
وَإِنْ كَانَتْ الْمُشَاهَدَةُ تَحْصُلُ فِي بَعْضِ أَحْوَالِ الصَّلَاةِ ، فَالظَّاهِرُ صِحَّةُ الصَّلَاةِ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ ، قَالَتْ { : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ ، وَجِدَارُ الْحُجْرَةِ قَصِيرٌ ، فَرَأَى النَّاسُ شَخْصَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَامَ أُنَاسٌ يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ ، وَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ بِذَلِكَ ، فَقَامَ اللَّيْلَةَ الثَّانِيَةَ ، فَقَامَ مَعَهُ أُنَاسٌ يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ } .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَهُ فِي حَالِ قِيَامِهِ .
( 1158 ) فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ بَيْنَهُمَا طَرِيقٌ أَوْ نَهْرٌ تَجْرِي فِيهِ السُّفُنُ ، أَوْ كَانَا فِي سَفِينَتَيْنِ مُفْتَرِقَتَيْنِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا ، لَا يَصِحُّ أَنْ يَأْتَمَّ بِهِ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَصْحَابِنَا ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الطَّرِيقَ لَيْسَتْ مَحَلًّا لِلصَّلَاةِ ، فَأَشْبَهَ مَا يَمْنَعُ الِاتِّصَالَ .
وَالثَّانِي : يَصِحُّ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدِي ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ لَا نَصَّ فِي مَنْعِ ذَلِكَ ، وَلَا إجْمَاعَ وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ ، لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ الِاقْتِدَاءَ ، فَإِنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي ذَلِكَ مَا يَمْنَعُ الرُّؤْيَةَ أَوْ سَمَاعَ الصَّوْتِ ، وَلَيْسَ هَذَا بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَقَوْلُهُمْ : إنَّ بَيْنَهُمَا مَا لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلصَّلَاةِ ، فَأَشْبَهَ مَا يَمْنَعُ .
وَإِنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ فِي الطَّرِيقِ فَلَا

يَصِحُّ فِي النَّهْرِ ، فَإِنَّهُ تَصِحُّ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ فِي السَّفِينَةِ ، وَإِذَا كَانَ جَامِدًا ، ثُمَّ كَوْنُهُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلصَّلَاةِ إنَّمَا يَمْنَعُ الصَّلَاةَ فِيهِ ، أَمَّا الْمَنْعُ مِنْ الِاقْتِدَاءِ بِالْإِمَامِ فَتَحَكُّمٌ مَحْضٌ ، لَا يَلْزَمُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ ، وَلَا الْعَمَلُ بِهِ ، وَلَوْ كَانَتْ صَلَاةَ جِنَازَةٍ أَوْ جُمُعَةٍ أَوْ عِيدٍ ، لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِيهَا ؛ لِأَنَّهَا تَصِحُّ فِي الطَّرِيقِ ، وَقَدْ صَلَّى أَنَسٌ فِي مَوْتِ حُمَيْدٍ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ ، وَبَيْنَهُمَا طَرِيقٌ .

( 1159 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَلَا يَكُونُ الْإِمَامُ أَعْلَى مِنْ الْمَأْمُومِ ) .
الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ أَعْلَى مِنْ الْمَأْمُومِينَ ، سَوَاءٌ أَرَادَ تَعْلِيمَهُمْ الصَّلَاةَ أَوْ لَمْ يُرِدْ ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ ؛ فَإِنَّ عَلِيَّ بْنَ الْمَدِينِيِّ قَالَ : سَأَلَنِي أَحْمَدُ عَنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ ، وَقَالَ : إنَّمَا أَرَدْتُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَعْلَى مِنْ النَّاسِ .
فَلَا بَأْسَ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ أَعْلَى مِنْ النَّاسِ بِهَذَا الْحَدِيثِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : أَخْتَارُ لِلْإِمَامِ الَّذِي يُعَلِّمُ مَنْ خَلْفَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى الشَّيْءِ الْمُرْتَفِعِ ، فَيَرَاهُ مَنْ خَلْفَهُ ، فَيَقْتَدُونَ بِهِ ؛ لِمَا رَوَى سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ ، قَالَ { : لَقَدْ رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ عَلَيْهِ - يَعْنِي الْمِنْبَرَ - فَكَبَّرَ ، وَكَبَّرَ النَّاسُ وَرَاءَهُ ، ثُمَّ رَكَعَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ ، ثُمَّ رَفَعَ فَنَزَلَ الْقَهْقَرَى حَتَّى سَجَدَ فِي أَصْلِ الْمِنْبَرِ ، ثُمَّ عَادَ حَتَّى فَرَغَ مِنْ آخِرِ صَلَاتِهِ ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ ، إنَّمَا فَعَلْتُ هَذَا لِتَأْتَمُّوا بِي ، وَلِتَعْلَمُوا صَلَاتِي } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَلَنَا ، مَا رُوِيَ أَنَّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ كَانَ بِالْمَدَائِنِ ، فَأُقِيمَتْ الصَّلَاةُ ، فَتَقَدَّمَ عَمَّارٌ فَقَامَ عَلَى دُكَّانٍ ، وَالنَّاسُ أَسْفَلَ مِنْهُ ، فَتَقَدَّمَ حُذَيْفَةُ فَأَخَذَ بِيَدِهِ فَاتَّبَعَهُ عَمَّارٌ حَتَّى أَنْزَلَهُ حُذَيْفَةُ ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ ، قَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ : أَلَمْ تَسْمَعْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { : إذَا أَمَّ الرَّجُلُ الْقَوْمَ ، فَلَا يَقُومَنَّ فِي مَكَان أَرْفَعَ مِنْ مَقَامِهِمْ } ؟ قَالَ عَمَّارٌ : فَلِذَلِكَ اتَّبَعْتُك حِينَ أَخَذْتَ عَلَى يَدَيَّ .
وَعَنْ هَمَّامٍ ، أَنَّ حُذَيْفَةَ أَمَّ النَّاسَ بِالْمَدَائِنِ عَلَى دُكَّانٍ ، فَأَخَذَ

أَبُو مَسْعُودٍ بِقَمِيصِهِ ، فَجَبَذَهُ ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ ، قَالَ : أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُنْهَوْنَ عَنْ ذَلِكَ ؟ قَالَ : بَلَى ، فَذَكَرْتُ حِينَ مَدَدْتَنِي .
رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد .
وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ ، أَنَّ رَجُلًا تَقَدَّمَ يَؤُمُّ بِقَوْمٍ عَلَى مَكَان ، فَقَامَ عَلَى دُكَّانٍ ، فَنَهَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ ، وَقَالَ لِلْإِمَامِ : اسْتَوِ مَعَ أَصْحَابِك .
وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ أَنْ يَقْتَدِيَ بِإِمَامِهِ ، فَيَنْظُرَ رُكُوعَهُ وَسُجُودَهُ ، فَإِذَا كَانَ أَعْلَى مِنْهُ احْتَاجَ أَنْ يَرْفَعَ بَصَرَهُ إلَيْهِ لِيُشَاهِدَهُ ، وَذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي الصَّلَاةِ .
فَأَمَّا حَدِيثُ سَهْلٍ ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَلَى الدَّرَجَةِ السُّفْلَى ، لِئَلَّا يَحْتَاجَ إلَى عَمَلٍ كَبِيرٍ فِي الصُّعُودِ وَالنُّزُولِ ، فَيَكُونَ ارْتِفَاعًا يَسِيرًا ، فَلَا بَأْسَ بِهِ ، جَمْعًا بَيْنَ الْأَخْبَارِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَخْتَصَّ ذَلِكَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ شَيْئًا وَنَهَى عَنْهُ ، فَيَكُونُ فِعْلُهُ لَهُ وَنَهْيُهُ لِغَيْرِهِ ، وَلِذَلِكَ لَا يُسْتَحَبُّ مِثْلُهُ لِغَيْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَلِأَنَّ النَّبِيَّ لَمْ يُتِمَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْمِنْبَرِ ، فَإِنَّ سُجُودَهُ وَجُلُوسَهُ إنَّمَا كَانَ عَلَى الْأَرْضِ ، بِخِلَافِ مَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ .
( 1160 ) فَصْلٌ : وَلَا بَأْسَ بِالْعُلُوِّ الْيَسِيرِ ؛ لِحَدِيثِ سَهْلٍ ، وَلِأَنَّ النَّهْيَ مُعَلَّلٌ بِمَا يُفْضِي إلَيْهِ مِنْ رَفْعِ الْبَصَرِ فِي الصَّلَاةِ ، وَهَذَا يَخُصُّ الْكَثِيرَ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْيَسِيرُ مِثْلَ دَرَجَةِ الْمِنْبَرِ وَنَحْوِهَا ، لِمَا ذَكَرْنَا فِي حَدِيثِ سَهْلٍ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( 1161 ) فَصْلٌ : فَإِنْ صَلَّى الْإِمَامُ فِي مَكَان أَعْلَى مِنْ الْمَأْمُومِينَ ، فَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ : لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُمْ .
وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ .
وَقَالَ الْقَاضِي : لَا تَبْطُلُ وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ ؛ لِأَنَّ عَمَّارًا أَتَمَّ صَلَاتَهُ ؛ وَلَوْ كَانَتْ

فَاسِدَةً ، لَاسْتَأْنَفَهَا ، وَلِأَنَّ النَّهْيَ مُعَلَّلٌ بِمَا يُفْضِي إلَيْهِ مِنْ رَفْعِ الْبَصَرِ فِي الصَّلَاةِ ، وَذَلِكَ لَا يُفْسِدُهَا ، فَسَبَبُهُ أَوْلَى .
( 1162 ) فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ مَعَ الْإِمَامِ مَنْ هُوَ مُسَاوٍ لَهُ أَوْ أَعْلَى مِنْهُ ، وَمَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ اخْتَصَّتْ الْكَرَاهَةُ بِمَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ ، لِأَنَّ الْمَعْنَى وُجِدَ فِيهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَتَنَاوَلَ النَّهْيُ الْإِمَامَ ؛ لِكَوْنِهِ مَنْهِيًّا عَنْ الْقِيَامِ فِي مَكَان أَعْلَى مِنْ مَقَامِهِمْ ، فَعَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ تَبْطُلُ صَلَاةُ الْجَمِيعِ عِنْدَ مَنْ أَبْطَلَ الصَّلَاةَ بِارْتِكَابِ النَّهْيِ .

( 1163 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَمَنْ صَلَّى خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ ، أَوْ قَامَ بِجَنْبِ الْإِمَامِ عَنْ يَسَارِهِ ، أَعَادَ الصَّلَاةَ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَنْ صَلَّى وَحْدَهُ رَكْعَةً كَامِلَةً ، لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ .
وَهَذَا قَوْلُ النَّخَعِيِّ ، وَالْحَكَمِ ، وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ ، وَإِسْحَاقَ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ .
وَأَجَازَهُ الْحَسَنُ ، وَمَالِكٌ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ؛ لِأَنَّ أَبَا بَكْرَةَ رَكَعَ دُونَ الصَّفِّ ، فَلَمْ يَأْمُرْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِعَادَةِ ، وَلِأَنَّهُ مَوْقِفٌ لِلْمَرْأَةِ فَكَانَ مَوْقِفًا لِلرَّجُلِ ، كَمَا لَوْ كَانَ مَعَ جَمَاعَةٍ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى وَابِصَةُ بْنُ مَعْبَدٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُعِيدَ .
} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَغَيْرُهُ .
وَقَالَ أَحْمَدُ : حَدِيثُ وَابِصَةَ حَسَنٌ .
وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : ثَبَّتَ الْحَدِيثَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ .
وَفِي لَفْظٍ : { سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رَجُلٍ صَلَّى وَرَاءُ الصُّفُوفِ وَحْدَهُ .
قَالَ : يُعِيدُ } .
رَوَاهُ تَمَّامٌ فِي " الْفَوَائِدِ " .
وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ شَيْبَانَ ، أَنَّهُ { صَلَّى بِهِمْ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْصَرَفَ وَرَجُلٌ فَرْدٌ خَلْفَ الصَّفِّ ، فَوَقَفَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى انْصَرَفَ الرَّجُلُ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اسْتَقْبِلْ صَلَاتَك ، وَلَا صَلَاةَ لِفَرْدٍ خَلْفَ الصَّفِّ .
} .
رَوَاهُ الْأَثْرَمُ .
وَقَالَ : قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : حَدِيثُ مُلَازِمِ بْنِ عَمْرٍو - يَعْنِي هَذَا الْحَدِيثَ فِي هَذَا أَيْضًا - حَسَنٌ ؟ قَالَ : نَعَمْ وَلِأَنَّهُ خَالَفَ الْمَوْقِفَ ، فَلَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ ، كَمَا لَوْ وَقَفَ أَمَامَ الْإِمَامِ ، فَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي بَكْرَةَ ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ نَهَاهُ فَقَالَ : " لَا تُعِدْ " .
وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ ، وَعُذْرُهُ فِيمَا فَعَلَهُ لِجَهْلِهِ

بِتَحْرِيمِهِ ، وَلِلْجَهْلِ تَأْثِيرٌ فِي الْعَفْوِ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ مَوْقِفًا لِلْمَرْأَةِ كَوْنُهُ مَوْقِفًا لِلرَّجُلِ ، بِدَلِيلِ اخْتِلَافِهِمَا فِي كَرَاهِيَةِ الْوُقُوفِ وَاسْتِحْبَابِهِ .
وَأَمَّا إذَا وَقَفَ عَنْ يَسَارِ الْإِمَامِ ، فَإِنْ كَانَ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ أَحَدٌ ، صَحَّتْ صَلَاتُهُ ؛ لِأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ صَلَّى بَيْنَ عَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدِ ، فَلَمَّا فَرَغُوا قَالَ : هَكَذَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَلِأَنَّ وَسَطَ الصَّفِّ مَوْقِفٌ لِلْإِمَامِ فِي حَقِّ النِّسَاءِ وَالْعُرَاةِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَنْ يَمِينِهِ أَحَدٌ فَصَلَاةُ مَنْ وَقَفَ عَنْ يَسَارِهِ فَاسِدَةٌ ، سَوَاءٌ كَانَ وَاحِدًا أَوْ جَمَاعَةً ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَرَوْنَ لِلْمَأْمُومِ الْوَاحِدِ أَنْ يَقِفَ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ ، وَأَنَّهُ إنْ وَقَفَ عَنْ يَسَارِهِ ، خَالَفَ السُّنَّةَ .
وَحُكِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، أَنَّهُ كَانَ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إلَّا مَأْمُومٌ وَاحِدٌ جَعَلَهُ عَنْ يَسَارِهِ .
وَقَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ : إنْ وَقَفَ عَنْ يَسَارِ الْإِمَامِ صَحَّتْ صَلَاتُهُ ؛ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَمَّا أَحْرَمَ عَنْ يَسَارِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَدَارَهُ عَنْ يَمِينِهِ ، وَلَمْ تَبْطُلْ تَحْرِيمَتُهُ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَوْقِفًا ، لَاسْتَأْنَفَ التَّحْرِيمَةَ ، كَأَمَامِ الْإِمَامِ ، وَلِأَنَّهُ مَوْقِفٌ فِيمَا إذَا كَانَ عَنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ آخَرُ ، فَكَانَ مَوْقِفًا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ آخَرُ كَالْيَمِينِ ، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ جَانِبَيْ الْإِمَامِ ، فَأَشْبَهَ الْيَمِينَ .
وَلَنَا ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ ، قَالَ : { قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ ، فَجِئْت ، فَقُمْت فَوَقَفْت عَنْ يَسَارِهِ ، فَأَخَذَ بِذُؤَابَتِي ، فَأَدَارَنِي عَنْ يَمِينِهِ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَرَوَى جَابِرٌ ، قَالَ : { قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي ، فَجِئْت ، فَوَقَفْت عَنْ يَسَارِهِ ، فَأَدَارَنِي عَنْ يَمِينِهِ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .

وَقَوْلُهُمْ : إنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِابْتِدَاءِ التَّحْرِيمَةِ .
قُلْنَا : لِأَنَّ مَا فَعَلَهُ قَبْلَ الرُّكُوعِ لَا يُؤَثِّرُ ، فَإِنَّ الْإِمَامَ يُحْرِمُ قَبْلَ الْمَأْمُومِينَ ، وَلَا يَضُرُّ انْفِرَادُهُ بِمَا قَبْلَ إحْرَامِهِمْ ، وَكَذَلِكَ الْمَأْمُومُونَ يُحْرِمُ أَحَدُهُمْ قَبْلَ الْبَاقِينَ فَلَا يَضُرُّ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْعَفْوِ عَنْ ذَلِكَ الْعَفْوُ عَنْ رَكْعَةٍ كَامِلَةٍ .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّهُ مَوْقِفٌ إذَا كَانَ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ آخَرُ .
قُلْنَا : كَوْنُهُ مَوْقِفًا فِي صُورَةٍ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ كَوْنُهُ مَوْقِفًا فِي أُخْرَى ، كَمَا خَلْفَ الصَّفِّ ، فَإِنَّهُ مَوْقِفٌ لِاثْنَيْنِ ، وَلَا يَكُونُ مَوْقِفًا لِوَاحِدٍ ، فَإِنْ مَنَعُوا هَذَا أَثْبَتْنَاهُ بِالنَّصِّ .
( 1164 ) فَصْلٌ : فَإِنْ وَقَفَ عَنْ يَسَارِ إمَامِهِ وَخَلْفَ الْإِمَامِ صَفٌّ ، احْتَمَلَ أَنْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَلَسَ عَنْ يَسَارِ أَبِي بَكْرٍ ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ الْإِمَامَ وَلِأَنَّ مَعَ الْإِمَامِ مَنْ تَنْعَقِدُ صَلَاتُهُ بِهِ ، فَصَحَّ الْوُقُوفُ عَنْ يَسَارِهِ ، كَمَا لَوْ كَانَ مَعَهُ عَنْ يَمِينِهِ آخَرُ ، وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا تَصِحَّ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَوْقِفٍ إذَا لَمْ يَكُنْ صَفٌّ ، فَلَمْ يَكُنْ مَوْقِفًا مَعَ الصَّفِّ كَأَمَامِ الْإِمَامِ ، وَفَارَقَ مَا إذَا كَانَ عَنْ يَمِينِهِ آخَرُ ، لِأَنَّهُ مَعَهُ فِي الصَّفِّ ، فَكَانَ صَفًّا وَاحِدًا ، كَمَا لَوْ كَانَ وَقَفَ مَعَهُ خَلْفَ الصَّفِّ .
( 1165 ) فَصْلٌ : السُّنَّةُ أَنْ يَقِفَ الْمَأْمُومُونَ خَلْفَ الْإِمَامِ ، فَإِنْ وَقَفُوا قُدَّامَهُ ، لَمْ تَصِحَّ ، وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ مَالِكٌ ، وَإِسْحَاقُ : تَصِحُّ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الِاقْتِدَاءَ بِهِ ، فَأَشْبَهَ مَنْ خَلْفَهُ .
وَلَنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ " .
وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ فِي الِاقْتِدَاءِ إلَى الِالْتِفَاتِ إلَى وَرَائِهِ ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمَنْقُولِ .
فَلَمْ

يَصِحَّ ، كَمَا لَوْ صَلَّى فِي بَيْتِهِ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ وَيُفَارِقُ مَنْ خَلْفَ الْإِمَامِ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَاجُ فِي الِاقْتِدَاءِ إلَى الِالْتِفَاتِ إلَى وَرَائِهِ .
( 1166 ) فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ الْمَأْمُومُ وَاحِدًا ذَكَرًا ، فَالسُّنَّةُ أَنْ يَقِفَ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ رَجُلًا كَانَ ، أَوْ غُلَامًا ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ ، وَرَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، قَالَ : { سِرْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةٍ ، فَقَامَ يُصَلِّي ، فَتَوَضَّأْتُ ، ثُمَّ جِئْتُ حَتَّى قُمْتُ عَنْ يَسَارِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذَ بِيَدِي فَأَدَارَنِي حَتَّى أَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ ، فَجَاءَ جَبَّارُ بْنُ صَخْرٍ حَتَّى قَامَ عَنْ يَسَارِهِ ، فَأَخَذَنَا بِيَدَيْهِ جَمِيعًا حَتَّى أَقَامَنَا خَلْفَهُ .
} رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، وَأَبُو دَاوُد .
فَإِنْ كَانُوا ثَلَاثَةً تَقَدَّمَ الْإِمَامُ ، وَوَقَفَ الْمَأْمُومَانِ خَلْفَهُ .
وَهَذَا قَوْلُ عُمَرَ ، وَعَلِيٍّ ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ ، وَالْحَسَنِ ، وَعَطَاءٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ .
وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَرَى أَنْ يَقِفُوا جَمِيعًا صَفًّا .
وَلَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْرَجَ جَبَّارًا وَجَابِرًا ، فَجَعَلَهُمَا خَلْفَهُ ، وَلَمَّا صَلَّى بِأَنَسٍ وَالْيَتِيمِ جَعَلَهُمَا خَلْفَهُ ، وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ ، وَحَدِيثُ جَابِرٍ وَجَبَّارٍ يَدُلُّ عَلَى الْفَضْلِ ؛ لِأَنَّهُ أَخَّرَهُمَا إلَى خَلْفِهِ ، وَلَا يَنْقُلُهُمَا إلَّا إلَى الْأَكْمَلِ .
فَإِنْ كَانَ أَحَدُ الْمَأْمُومَيْنِ صَبِيًّا ، وَكَانَتْ الصَّلَاةُ تَطَوُّعًا ، جَعَلَهُمَا خَلْفَهُ ، لِخَبَرِ أَنَسٍ .
وَإِنْ كَانَتْ فَرْضًا ، جَعَلَ الرَّجُلَ عَنْ يَمِينِهِ ، وَالْغُلَامَ عَنْ يَسَارِهِ ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ .
وَإِنْ جَعَلَهُمَا جَمِيعًا عَنْ يَمِينِهِ جَازَ ، وَإِنْ وَقَفَهُمَا خَلْفَهُ ، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : لَا تَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَؤُمُّهُ ، فَلَمْ يُصَافَّهُ كَالْمَرْأَةِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَصِحَّ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَنَفِّلِ ، وَالْمُتَنَفِّلُ

يَصِحُّ أَنْ يُصَافَّ الْمُفْتَرِضَ ، كَذَا هَاهُنَا .
( 1167 ) فَصْلٌ : وَإِنْ أَمَّ امْرَأَةً وَقَفَتْ خَلْفَهُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَخِّرُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَخَّرَهُنَّ اللَّهُ } .
وَلِأَنَّ أُمَّ أَنَسٍ وَقَفَتْ خَلْفَهُمَا وَحْدَهَا .
فَإِنْ كَانَ مَعَهُمَا رَجُلٌ وَقَفَ عَنْ يَمِينِهِ ، وَوَقَفَتْ الْمَرْأَةُ خَلْفَهُمَا .
وَإِنْ كَانَ مَعَهُمَا رَجُلَانِ وَقَفَا خَلْفَهُ ، وَوَقَفَتْ الْمَرْأَةُ خَلْفَهُمَا .
وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا غُلَامًا فِي تَطَوُّعٍ ، وَقَفَ الرَّجُلُ وَالْغُلَامُ وَرَاءَهُ ، وَالْمَرْأَةُ خَلْفَهُمَا ؛ لِحَدِيثِ أَنَسٍ .
وَإِنْ كَانَتْ فَرِيضَةً ، فَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ .
وَتَقِفُ الْمَرْأَةُ خَلْفَهُمَا .
وَإِنْ وَقَفَتْ مَعَهُمْ فِي الصَّفِّ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ ، صَحَّ وَلَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهَا وَلَا صَلَاتُهُمْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ .
وَإِنْ وَقَفَ الرَّجُلُ الْوَاحِدُ وَالْمَرْأَةُ خَلْفَ الْإِمَامِ .
فَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ : لَا تَصِحُّ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَؤُمُّهُ ، فَلَا تَكُونُ مَعَهُ صَفًّا .
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : تَصِحُّ عَلَى أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ وَقَفَ مَعَهُ مُفْتَرِضٌ صَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ وَقَفَ مَعَهُ رَجُلٌ ، وَلَيْسَ مِنْ الشَّرْطِ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ تَصِحُّ إمَامَتُهُ ، بِدَلِيلِ الْقَارِئِ .
مَعَ الْأُمِّيِّ ، وَالْفَاسِقِ وَالْمُتَنَفِّلِ مَعَ الْمُفْتَرِضِ ( 1168 ) فَصْلٌ : إذَا كَانَ الْمَأْمُومُ وَاحِدًا ، فَكَبَّرَ عَنْ يَسَارِ الْإِمَامِ ، أَدَارَهُ الْإِمَامُ عَنْ يَمِينِهِ ، وَلَمْ تَبْطُلْ تَحْرِيمَتُهُ ، كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ .
وَإِنْ كَبَّرَ فَذًّا خَلْفَ الْإِمَامِ ، ثُمَّ تَقَدَّمَ عَنْ يَمِينِهِ ، أَوْ جَاءَ آخَرُ فَوَقَفَ مَعَهُ ، أَوْ تَقَدَّمَ إلَى صَفٍّ بَيْنَ يَدَيْهِ ، أَوْ كَانَا اثْنَيْنِ فَكَبَّرَ أَحَدُهُمَا وَتَوَسْوَسَ الْآخَرُ ، ثُمَّ كَبَّرَ قَبْلَ رَفْعِ الْإِمَامِ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ ، أَوْ كَبَّرَ وَاحِدٌ عَنْ يَمِينِهِ فَأَحَسَّ بِآخَرَ ، فَتَأَخَّرَ مَعَهُ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ الثَّانِي ، ثُمَّ أَحْرَمَ مَعَهُ أَوْ

أَحْرَمَ عَنْ يَسَارِهِ ، فَجَاءَ آخَرُ ، فَوَقَفَ عَنْ يَمِينِهِ قَبْلَ رَفْعِ الْإِمَامِ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ ، صَحَّتْ صَلَاتُهُمْ .
وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ ، فِي الرَّجُلَيْنِ يَقُومَانِ خَلْفَ الْإِمَامِ ، لَيْسَ خَلْفَهُ غَيْرُهُمَا ، فَإِنْ كَبَّرَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ صَاحِبِهِ خَافَ أَنْ يَدْخُلَ فِي الصَّلَاةِ خَلْفَ الصَّفِّ ، فَقَالَ : لَيْسَ هَذَا مِنْ ذَاكَ ، ذَاكَ فِي الصَّلَاةِ بِكَمَالِهَا ، أَوْ صَلَّى رَكْعَةً كَامِلَةً ، وَمَا أَشْبَهَ هَذَا ، فَأَمَّا هَذَا فَأَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ .
وَلَوْ أَحْرَمَ رَجُلٌ خَلْفَ الصَّفِّ ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ الصَّفِّ رَجُلٌ فَوَقَفَ مَعَهُ ، صَحَّ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا .
( 1169 ) فَصْلٌ : وَإِنْ كَبَّرَ الْمَأْمُومُ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ ، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَكَبَّرَ عَنْ يَسَارِهِ ، أَخْرَجَهُمَا الْإِمَامُ إلَى وَرَائِهِ ، كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجَابِرٍ وَجَبَّارٍ ، وَلَا يَتَقَدَّمُ الْإِمَامُ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ وَرَاءَهُ ضَيِّقٌ .
وَإِنْ تَقَدَّمَ ، جَازَ ، وَإِنْ كَبَّرَ الثَّانِي مَعَ الْأَوَّلِ عَنْ الْيَمِينِ وَخَرَجَا ، جَازَ .
وَإِنْ دَخَلَ الثَّالِثُ ، وَهُمَا فِي التَّشَهُّدِ ، كَبَّرَ وَجَلَسَ عَنْ يَمِينِ صَاحِبِهِ ، أَوْ عَنْ يَسَارِهِ ، وَلَا يَتَأَخَّرَانِ فِي التَّشَهُّدِ ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ مَشَقَّةً .
( 1170 ) فَصْلٌ : وَإِنْ أَحْرَمَ اثْنَانِ وَرَاءُ الْإِمَامِ ، فَخَرَجَ أَحَدُهُمَا لِعُذْرٍ ، أَوْ لِغَيْرِ عُذْرٍ ، دَخَلَ الْآخَرُ فِي الصَّفِّ ، أَوْ نَبَّهَ رَجُلًا فَخَرَجَ مَعَهُ ، أَوْ دَخَلَ فَوَقَفَ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ نَوَى الِانْفِرَادَ ، وَأَتَمَّ مُنْفَرِدًا ؛ لِأَنَّهُ عُذْرٌ حَدَثَ لَهُ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ سَبَقَ إمَامَهُ الْحَدَثُ .

( 1171 ) فَصْلٌ : إذَا دَخَلَ الْمَأْمُومُ ، فَوَجَدَ فِي الصَّفِّ فُرْجَةً ، دَخَلَ فِيهَا ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ ، وَقَفَ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ ، وَلَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْذِبَ رَجُلًا ، فَيَقُومَ مَعَهُ ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ نَبَّهَ رَجُلًا فَخَرَجَ فَوَقَفَ مَعَهُ .
وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ ، وَالنَّخَعِيُّ ، قَالَا : يَجْذِبُ رَجُلًا فَيَقُومُ مَعَهُ .
وَكَرِهَ ذَلِكَ مَالِكٌ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَاسْتَقْبَحَهُ أَحْمَدُ ، وَإِسْحَاقُ .
قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : جَوَّزَ أَصْحَابُنَا جَذْبَ رَجُلٍ يَقُومُ مَعَهُ صَفًّا ، وَاخْتَارَ هُوَ أَنْ لَا يَفْعَلَ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ .
وَالصَّحِيحُ جَوَازُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْحَالَةَ دَاعِيَةٌ إلَيْهِ ، فَجَازَ ، كَالسُّجُودِ عَلَى ظَهْرِهِ أَوْ قَدَمِهِ حَالَ الزِّحَامِ وَلَيْسَ هَذَا تَصَرُّفًا فِيهِ ، إنَّمَا هُوَ تَنْبِيهٌ لَهُ لِيَخْرُجَ مَعَهُ ، فَجَرَى مَجْرَى مَسْأَلَتِهِ أَنْ يُصَلِّيَ مَعَهُ ؛ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لِينُوا فِي أَيْدِي إخْوَانِكُمْ } .
يُرِيدُ ذَلِكَ .
فَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ الْخُرُوجِ مَعَهُ لَمْ يُكْرِهْهُ وَصَلَّى وَحْدَهُ .

( 1172 ) فَصْلٌ : قَالَ أَحْمَدُ : يُصَلِّي الْإِمَامُ بِرَجُلٍ قَائِمٍ وَقَاعِدٍ وَيَتَقَدَّمُهُمَا .
وَقَالَ : إذَا أَمَّ بِرَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا غَيْرُ طَاهِرٍ ، ائْتَمَّ الطَّاهِرُ مَعَهُ .
وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ إذَا عَلِمَ الْمُحْدِثُ بِحَدَثِهِ ، فَخَرَجَ ، ائْتَمَّ الْآخَرُ إنْ كَانَ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَنْ يَمِينِهِ صَارَ عَنْ يَمِينِهِ ، كَمَا ذَكَرْنَا ، فَأَمَّا إنْ كَانَ خَلْفَهُ ، وَعَلِمَ الْمُحْدِثُ ، فَإِنَّمَا الصَّلَاةُ لَمْ تَصِحَّ .
وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْمُحْدِثُ بِحَدَثِهِ حَتَّى تَمَّتْ الصَّلَاةُ ، صَحَّتْ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ إمَامًا صَحَّ الِائْتِمَامُ بِهِ ، فَلَأَنْ تَصِحَّ مُصَافَّتُهُ أَوْلَى .

فَصْلٌ : ( 1173 ) وَمَنْ وَقَفَ مَعَهُ كَافِرٌ ، أَوْ مَنْ لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا ، لَمْ تَصِحَّ مُصَافَّتُهُ ؛ لِأَنَّ وُجُودَهُ وَعَدَمَهُ وَاحِدٌ .
وَإِنْ وَقَفَ مَعَهُ فَاسِقٌ ، أَوْ مُتَنَفِّلٌ ، صَارَ صَفًّا ؛ لِأَنَّهُمَا رَجُلَانِ صَلَاتُهُمَا صَحِيحَةٌ ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَقَفَ قَارِئٌ مَعَ أُمِّيٍّ ، أَوْ مَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ مَعَ صَحِيحٍ ، أَوْ مُتَيَمِّمٌ مَعَ مُتَوَضِّئٍ ، كَانَا صَفًّا ؛ لِمَا ذَكَرْنَا .
فَإِنْ وَقَفَ مَعَهُ خُنْثَى مُشْكِلٌ ، لَمْ يَكُنْ صَفًّا مَعَهُ ، إلَّا مَنْ أَجَازَ وُقُوفَ الْمَرْأَةِ مَعَ الرَّجُلِ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ امْرَأَةً .
( 1174 ) فَصْلٌ : وَلَوْ كَانَ مَعَ الْإِمَامِ خُنْثَى مُشْكِلٌ وَحْدَهُ ، فَالصَّحِيحُ أَنْ يَقِفَهُ عَنْ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ رَجُلًا فَقَدْ وَقَفَ فِي مَوْقِفِهِ ، وَإِنْ كَانَ امْرَأَةً لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهَا بِوُقُوفِهَا مَعَ الْإِمَامِ ، كَمَا لَا تَبْطُلُ بِوُقُوفِهَا مَعَ الرِّجَالِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقِفَ وَحْدَهُ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ رَجُلًا .
فَإِنْ كَانَ مَعَهُمَا رَجُلٌ ، وَقَفَ الرَّجُلُ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ ، وَالْخُنْثَى عَنْ يَسَارِهِ ، أَوْ عَنْ يَمِينِ الرَّجُلِ ، وَلَا يَقِفَا خَلْفَهُ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ امْرَأَةً ، إلَّا عِنْدَ مَنْ أَجَازَ مُصَافَّةَ الْمَرْأَةِ .
فَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ رَجُلٌ آخَرُ ، وَقَفَ الثَّلَاثَةُ خَلْفَهُ صَفًّا ؛ لِمَا ذَكَرْنَا .
وَإِنْ كَانَ مَعَ الْخُنْثَى خُنْثَى آخَرُ ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا : يَقِفُ الْخُنْثَيَانِ صَفًّا خَلْفَ الرَّجُلَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَا امْرَأَتَيْنِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَقِفَا مَعَ الرَّجُلَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا وَحْدَهُ رَجُلًا ، فَلَا تَصِحَّ صَلَاتُهُ .
وَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ نِسَاءٌ ، وَقَفْنَ خَلْفَ الْخَنَاثَى .
قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : إذَا اجْتَمَعَ رِجَالٌ وَصِبْيَانٌ وَخَنَاثَى وَنِسَاءٌ ، تَقَدَّمَ الرِّجَالُ ، ثُمَّ الصِّبْيَانُ ، ثُمَّ الْخَنَاثَى ، ثُمَّ النِّسَاءُ .
وَرَوَى أَبُو مَالِكٍ الْأَشْعَرِيُّ ، عَنْ أَبِيهِ ، أَنَّهُ قَالَ : { أَلَا أُحَدِّثُكُمْ بِصَلَاةِ

النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ : أَقَامَ الصَّلَاةَ ، فَصَفَّ الرِّجَالَ ، وَصَفَّ خَلْفَهُمْ الْغِلْمَانَ ، ثُمَّ صَلَّى بِهِمْ .
ثُمَّ قَالَ : هَكَذَا صَلَاتُهُ } .
قَالَ عَبْدُ الْأَعْلَى : لَا أَحْسِبُهُ إلَّا قَالَ : " صَلَاةُ أُمَّتِي " .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .

فَصْلٌ ( 1175 ) : السُّنَّةُ أَنْ يَتَقَدَّمَ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ أُولُو الْفَضْلِ وَالسِّنِّ ، وَيَلِي الْإِمَامَ أَكْمَلُهُمْ وَأَفْضَلُهُمْ .
قَالَ أَحْمَدُ : يَلِي الْإِمَامَ الشُّيُوخُ وَأَهْلُ الْقُرْآنِ ، وَتُؤَخَّرُ الصِّبْيَانُ وَالْغِلْمَانُ ، وَلَا يَلُونَ الْإِمَامَ ؛ لِمَا رَوَى أَبُو مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيُّ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { لِيَلِنِي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَعَنْ أَنَسٍ ، قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ أَنْ يَلِيَهُ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ ؛ لِيَأْخُذُوا عَنْهُ .
وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى فِي أَصْحَابِهِ تَأَخُّرًا ، فَقَالَ : { تَقَدَّمُوا فَأَتَمُّوا بِي ، وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ ، وَلَا يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، وَأَبُو دَاوُد .
وَرَوَى أَحْمَدُ ، فِي " مُسْنَدِهِ " ، عَنْ قَيْسِ بْنِ عَبَّادٍ ، قَالَ : أَتَيْت الْمَدِينَةَ لِلِقَاءِ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُقِيمَتْ الصَّلَاةُ ، وَخَرَجَ عُمَرُ مَعَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُمْت فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَنَظَرَ فِي وُجُوهِ الْقَوْمِ ، فَعَرَفَهُمْ غَيْرِي ، فَنَحَّانِي ، وَقَامَ فِي مَكَانِي ، فَمَا عَقَلْت صَلَاتِي ، فَلَمَّا صَلَّى قَالَ : أَيْ بُنَيَّ ، لَا يَسُؤْكَ اللَّهُ ، فَإِنِّي لَمْ آتِكَ الَّذِي أَتَيْتُ بِجَهَالَةٍ ، وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَنَا : { كُونُوا فِي الصَّفِّ الَّذِي يَلِيَنِي } .
وَإِنِّي نَظَرْتُ فِي وُجُوهِ الْقَوْمِ فَعَرَفْتُهُمْ غَيْرَك .
وَكَانَ الرَّجُلُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ .

فَصْلٌ : ( 1176 ) وَخَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا ، وَشَرُّهَا آخِرُهَا ، وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا ، وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا ، وَشَرُّهَا آخِرُهَا ، وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا ، وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، وَأَبُو دَاوُد .
وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الصَّفُّ الْأَوَّلُ عَلَى مِثْلِ صَفِّ الْمَلَائِكَةِ ، وَلَوْ تَعْلَمُونَ فَضِيلَتَهُ لَابْتَدَرْتُمُوهُ } .
رَوَاهُ أَحْمَدُ ، فِي " الْمُسْنَدِ " .
وَعَنْ أَنَسٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَتِمُّوا الصَّفَّ الْمُقَدَّمَ ، فَمَا كَانَ مِنْ نَقْصٍ فَلْيَكُنْ فِي الصَّفِّ الْمُؤَخَّرِ } .
وَعَنْ عَائِشَةَ ، قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى مَيَامِنِ الصُّفُوفِ } .
رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد .

( 1177 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقِفَ الْإِمَامُ فِي مُقَابَلَةِ وَسَطِ الصَّفِّ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَسِّطُوا الْإِمَامَ ، وَسُدُّوا الْخَلَلَ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَيُكْرَهُ أَنْ يَدْخُلَ فِي طَاقِ الْقِبْلَةِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَسْجِدُ ضَيِّقًا ، وَكَرِهَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ ، وَعَلْقَمَةُ ، وَالْحَسَنُ ، وَإِبْرَاهِيمُ .
وَفَعَلَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ ، وَقَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ .
وَلَنَا : أَنَّهُ يَسْتَتِرُ بِهِ عَنْ بَعْضِ الْمَأْمُومِينَ فَكُرِهَ ، كَمَا لَوْ جَعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ حِجَابًا .
( 1178 ) فَصْلٌ : وَلَا يُكْرَهُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقِفَ بَيْنَ السَّوَارِي ، وَيُكْرَهُ لِلْمَأْمُومِينَ لِأَنَّهَا تَقْطَعُ صُفُوفَهُمْ .
وَكَرِهَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَرُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ .
وَرَخَّصَ فِيهِ ابْنُ سِيرِينَ ، وَمَالِكٌ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ ؛ لِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى الْمَنْعِ مِنْهُ .
وَلَنَا ، مَا رُوِيَ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : كُنَّا نُنْهَى أَنْ نَصُفَّ بَيْنَ السَّوَارِي عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُطْرَدُ عَنْهَا طَرْدًا .
رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
وَلِأَنَّهَا تَقْطَعُ الصَّفَّ ، فَإِنْ كَانَ الصَّفُّ صَغِيرًا قَدْرَ مَا بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ لَمْ يُكْرَهْ ، لِأَنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ بِهَا .

( 1179 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَإِذَا صَلَّى إمَامُ الْحَيِّ جَالِسًا صَلَّى مَنْ وَرَاءَهُ جُلُوسًا ) .
الْمُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ إذَا مَرِضَ ، وَعَجَزَ عَنْ الْقِيَامِ ، أَنْ يَسْتَخْلِفَ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي صِحَّةِ إمَامَتِهِ ، فَيَخْرُجُ مِنْ الْخِلَافِ ، وَلِأَنَّ صَلَاةَ الْقَائِمِ أَكْمَلُ ، فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ كَامِلَ الصَّلَاةِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاعِدًا بِأَصْحَابِهِ ، وَلَمْ يَسْتَخْلِفْ .
قُلْنَا : صَلَّى قَاعِدًا لِيُبَيِّنَ الْجَوَازَ ، وَاسْتَخْلَفَ مَرَّةً أُخْرَى ، وَلِأَنَّ صَلَاةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاعِدًا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ غَيْرِهِ قَائِمًا .
فَإِنْ صَلَّى بِهِمْ قَاعِدًا جَازَ ، وَيُصَلُّونَ مِنْ وَرَائِهِ جُلُوسًا ، فَعَلَ ذَلِكَ أَرْبَعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ ، أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ ، وَجَابِرٌ ، وَقَيْسُ بْنُ قَهْدٍ ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ .
وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ ، وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ ، وَإِسْحَاقُ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَقَالَ مَالِكٌ فِي إحْدَى رِوَايَتَيْهِ : لَا تَصِحُّ صَلَاةُ الْقَادِرِ عَلَى الْقِيَامِ خَلْفَ الْقَاعِدِ .
وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ ؛ لِأَنَّ الشَّعْبِيَّ رَوَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يَؤُمَّنَّ أَحَدٌ بَعْدِي جَالِسًا } أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ .
وَلِأَنَّ الْقِيَامَ رُكْنٌ ، فَلَا يَصِحُّ ائْتِمَامُ الْقَادِرِ عَلَيْهِ بِالْعَاجِزِ عَنْهُ كَسَائِرِ الْأَرْكَانِ .
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ : يُصَلُّونَ خَلْفَهُ قِيَامًا ؛ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَخْلَفَ أَبَا بَكْرٍ ، ثُمَّ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ خِفَّةً ، فَخَرَجَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ ، فَأَجْلَسَاهُ إلَى جَنْبِ أَبِي بَكْرٍ ، فَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي وَهُوَ قَائِمٌ بِصَلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاةِ أَبِي بَكْرٍ ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاعِدٌ } .

مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَهَذَا آخِرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَنَّهُ رُكْنٌ قَدَرَ عَلَيْهِ ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ تَرْكُهُ ، كَسَائِرِ الْأَرْكَانِ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ ، فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ ، وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا ، فَصَلُّوا جُلُوسًا أَجْمَعُونَ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
.
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : { صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِهِ ، وَهُوَ شَاكٍ ، فَصَلَّى جَالِسًا ، وَصَلَّى وَرَاءَهُ قَوْمٌ قِيَامًا ، فَأَشَارَ إلَيْهِمْ ، أَنْ اجْلِسُوا ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ : إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ ، فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا ، وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا ، وَإِذَا قَالَ : سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ، فَقُولُوا : رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ .
وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا ، فَصَلُّوا جُلُوسًا أَجْمَعُونَ } وَرَوَى أَنَسٌ نَحْوَهُ ، أَخْرَجَهُمَا الْبُخَارِيُّ ، وَمُسْلِمٌ .
وَرَوَى جَابِرٌ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ .
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ .
وَرَوَاهُ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ ، وَعَمِلَ بِهِ .
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طُرُقٍ مُتَوَاتِرَةٍ ، مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ ، وَجَابِرٍ ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ ، وَابْنِ عُمَرَ ، وَعَائِشَةَ ، كُلُّهَا بِأَسَانِيدَ صِحَاحٍ .
وَلِأَنَّهَا حَالَةُ قُعُودِ الْإِمَامِ ، فَكَانَ عَلَى الْمَأْمُومِينَ مُتَابَعَتُهُ ، كَحَالِ التَّشَهُّدِ .
فَأَمَّا حَدِيثُ الشَّعْبِيِّ فَمُرْسَلٌ ، يَرْوِيهِ جَابِرٌ الْجُعْفِيُّ ، وَهُوَ مَتْرُوكٌ .
وَقَدْ فَعَلَهُ أَرْبَعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَهُ .
وَأَمَّا حَدِيثُ الْآخَرِينَ ، فَقَالَ أَحْمَدُ : لَيْسَ فِي هَذَا حُجَّةٌ ؛ لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ ابْتَدَأَ الصَّلَاةَ ، فَإِذَا ابْتَدَأَ الصَّلَاةَ قَائِمًا صَلَّوْا قِيَامًا .
فَأَشَارَ أَحْمَدُ إلَى أَنَّهُ

يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ ، بِحَمْلِ الْأَوَّلِ عَلَى مَنْ ابْتَدَأَ الصَّلَاةَ جَالِسًا ، وَالثَّانِي عَلَى مَا إذَا ابْتَدَأَ الصَّلَاةَ قَائِمًا ، ثُمَّ اعْتَلَّ فَجَلَسَ ، وَمَتَى أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ وَجَبَ ، وَلَمْ يُحْمَلْ عَلَى النَّسْخِ ، ثُمَّ يَحْتَمِلُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ الْإِمَامَ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِالنَّاسِ ، وَفِي بَعْضِهَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ الْإِمَامَ .
وَقَالَتْ عَائِشَةُ : صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ قَاعِدًا .
وَقَالَ أَنَسٌ : صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ قَاعِدًا فِي ثَوْبٍ مُتَوَشِّحًا بِهِ .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : كِلَا الْحَدِيثَيْنِ حَسَنٌ صَحِيحٌ ، وَلَا يُعْرَفُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ صَلَاةٌ إلَّا فِي هَذَا الْحَدِيثِ .
وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ رَبِيعَةَ الْحَدِيثَ ، قَالَ : وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الْإِمَامَ ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِصَلَاةِ أَبِي بَكْرٍ .
وَقَالَ { : مَا مَاتَ نَبِيٌّ حَتَّى يَؤُمَّهُ رَجُلٌ مِنْ أُمَّتِهِ } .
قَالَ مَالِكٌ : الْعَمَلُ عِنْدَنَا عَلَى حَدِيثِ رَبِيعَةَ هَذَا ، وَهُوَ أَحَبُّ إلَيَّ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ الْإِمَامَ لَكَانَ عَنْ يَسَارِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْنَا : يَحْتَمِلُ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ وَرَاءَهُ صَفًّا .
( 1180 ) فَصْلٌ : فَإِنْ صَلَّوْا وَرَاءَهُ قِيَامًا ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا ، لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُمْ .
أَوْمَأَ إلَيْهِ أَحْمَدُ ، فَإِنَّهُ قَالَ : إنْ صَلَّى الْإِمَامُ جَالِسًا ، وَاَلَّذِينَ خَلْفَهُ قِيَامًا .
لَمْ يَقْتَدُوا بِالْإِمَامِ ، إنَّمَا اتِّبَاعُهُمْ لَهُ إذَا صَلَّى جَالِسًا صَلَّوْا جُلُوسًا ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُمْ بِالْجُلُوسِ ، وَنَهَاهُمْ عَنْ الْقِيَامِ ، فَقَالَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ : { إذَا صَلَّى

الْإِمَامُ قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا ، وَإِذَا صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا ، وَلَا تَقُومُوا وَالْإِمَامُ جَالِسٌ ، كَمَا يَفْعَلُ أَهْلُ فَارِسَ بِعُظَمَائِهَا .
فَقَعَدْنَا } وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ .
وَلِأَنَّهُ تَرَكَ اتِّبَاعَ إمَامِهِ ، مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ ، أَشْبَهَ تَارِكَ الْقِيَامِ فِي حَالِ قِيَامِ إمَامِهِ .
وَالثَّانِي : تَصِحُّ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا صَلَّى وَرَاءَهُ قَوْمٌ قِيَامًا ، لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْإِعَادَةِ ، فَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ الْأَمْرُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ ، وَلِأَنَّهُ يَتَكَلَّفُ لِلْقِيَامِ فِي مَوْضِعٍ يَجُوزُ لَهُ الْقُعُودُ أَشْبَهَ الْمَرِيضَ إذَا تَكَلَّفَ الْقِيَامَ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَصِحَّ صَلَاةُ الْجَاهِلِ بِوُجُوبِ الْقُعُودِ ، دُونَ الْعَالِمِ بِذَلِكَ ، كَقَوْلِنَا فِي الَّذِي رَكَعَ دُونَ الصَّفِّ .
فَأَمَّا مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِيَامُ فَقَعَدَ ، فَإِنَّ صَلَاتَهُ لَا تَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ رُكْنًا يَقْدِرُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِهِ .
فَصْلٌ : وَلَا يَؤُمُّ الْقَاعِدُ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى الْقِيَامِ إلَّا بِشَرْطَيْنِ : أَحَدُهُمَا ، أَنْ يَكُونَ إمَامَ الْحَيِّ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فَقَالَ : ذَلِكَ لِإِمَامِ الْحَيِّ ؛ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ بِهِمْ إلَى تَقْدِيمِ عَاجِزٍ عَنْ الْقِيَامِ إذَا لَمْ يَكُنْ الْإِمَامَ الرَّاتِبَ .
فَلَا يَتَحَمَّلُ إسْقَاطَ رُكْنٍ فِي الصَّلَاةِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ هُوَ الْإِمَامَ الرَّاتِبَ .
الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مَرَضُهُ يُرْجَى زَوَالُهُ ؛ لِأَنَّ اتِّخَاذَ الزَّمِنِ ، وَمَنْ لَا يُرْجَى قُدْرَتُهُ عَلَى الْقِيَامِ إمَامًا رَاتِبًا ، يُفْضِي إلَى تَرْكِهِمْ الْقِيَامَ عَلَى الدَّوَامِ ، وَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي هَذَا فِعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُرْجَى بُرْؤُهُ .

( 1182 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( فَإِنْ ابْتَدَأَ الصَّلَاةَ قَائِمًا ، ثُمَّ اعْتَلَّ فَجَلَسَ ، ائْتَمُّوا خَلْفَهُ قِيَامًا .
) إنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ حَيْثُ ابْتَدَأَ بِهِمْ الصَّلَاةَ قَائِمًا ، ثُمَّ جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَمَّ الصَّلَاةَ بِهِمْ جَالِسًا ، أَتَمُّوا قِيَامًا ، وَلَمْ يَجْلِسُوا .
وَلِأَنَّ الْقِيَامَ هُوَ الْأَصْلُ ، فَمَنْ بَدَأَ بِهِ فِي الصَّلَاةِ لَزِمَهُ فِي جَمِيعِهَا إذَا قَدَرَ عَلَيْهِ ، كَالتَّنَازُعِ فِي صَلَاةِ الْمُقِيمِ يَلْزَمُهُ إتْمَامُهَا ، وَإِنْ حَدَثَ مُبِيحُ الْقَصْرِ فِي أَثْنَائِهَا .
( 1183 ) فَصْلٌ : فَإِنْ اسْتَخْلَفَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ فِي زَمَانِنَا ، ثُمَّ زَالَ عُذْرُهُ فَحَضَرَ ، فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَ كَفِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا ، لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ .
قَالَ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد : ذَلِكَ خَاصٌّ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ يُخَالِفُ الْقِيَاسَ ، فَإِنَّ انْتِقَالَ الْإِمَامِ مَأْمُومًا ، وَانْتِقَالَ الْمَأْمُومِينَ مِنْ إمَامٍ إلَى آخَرَ ، لَا يَجُوزُ إلَّا لِعُذْرٍ يُحْوِجُ إلَيْهِ ، وَلَيْسَ فِي تَقْدِيمِ الْإِمَامِ الرَّاتِبِ مَا يُحْوِجُ إلَى هَذَا ، أَمَّا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَتْ لَهُ مِنْ الْفَضِيلَةِ عَلَى غَيْرِهِ ، وَعِظَمِ التَّقَدُّمِ عَلَيْهِ ، مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ ، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ : مَا كَانَ لِابْنِ أَبِي قُحَافَةَ أَنْ يَتَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالثَّانِيَةُ : يَجُوزُ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ .
قَالَ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ : مَنْ فَعَلَ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكَبِّرُ ، وَيَقْعُدُ إلَى جَنْبِ الْإِمَامِ ، يَبْتَدِئُ الْقِرَاءَةَ مِنْ حَيْثُ بَلَغَ الْإِمَامُ ، وَيُصَلِّي لِلنَّاسِ قِيَامًا ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ جَائِزًا لِأُمَّتِهِ ، مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى

اخْتِصَاصِهِ بِهِ .
وَفِيهِ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ ، أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ إلَّا لِلْخَلِيفَةِ دُونَ بَقِيَّةِ الْأَئِمَّةِ .
قَالَ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ : لَيْسَ هَذَا لَأَحَدٍ إلَّا لِلْخَلِيفَةِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ رُتْبَةَ الْخِلَافَةِ تَفْضُلُ رُتْبَةَ سَائِرِ الْأَئِمَّةِ ، فَلَا يُلْحَقُ بِهَا غَيْرُهَا ، وَكَانَ ذَلِكَ لِلْخَلِيفَةِ ؛ لِأَنَّ خَلِيفَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُومُ مَقَامَهُ

( 1184 ) فَصْلٌ : وَيَجُوزُ لِلْعَاجِزِ عَنْ الْقِيَامِ أَنْ يَؤُمَّ مِثْلَهُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَمَّ الْقَادِرِينَ عَلَى الْقِيَامِ فَمِثْلُهُ أَوْلَى ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي اقْتِدَائِهِمْ بِهِ أَنْ يَكُونَ إمَامًا رَاتِبًا ، وَلَا مَرْجُوًّا زَوَالُ مَرَضِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي إمَامَتِهِ لَهُمْ تَرْكُ رُكْنٍ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ ، بِخِلَافِ إمَامَتِهِ لِلْقَادِرِينَ عَلَى الْقِيَامِ .

( 1185 ) فَصْلٌ : وَلَا يَجُوزُ لِتَارِكِ رُكْنٍ مِنْ الْأَفْعَالِ إمَامَةُ أَحَدٍ ، كَالْمُضْطَجِعِ ، وَالْعَاجِزِ عَنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٌ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ فِعْلٌ أَجَازَهُ الْمَرَضُ ، فَلَمْ يُغَيِّرْ حُكْمَ الِائْتِمَامِ ، كَالْقَاعِدِ بِالْقِيَامِ .
وَلَنَا أَنَّهُ أَخَلَّ بِرُكْنٍ لَا يَسْقُطُ فِي النَّافِلَةِ ، فَلَمْ يَجُزْ لِلْقَادِرِ عَلَيْهِ الِائْتِمَامُ بِهِ ، كَالْقَارِئِ بِالْأُمِّيِّ ، وَحُكْمُ الْقِيَامِ حَقٌّ بِدَلِيلِ سُقُوطِهِ فِي النَّافِلَةِ ، وَعَنْ الْمُقْتَدِينَ بِالْعَاجِزِ ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ الْمُصَلِّينَ خَلْفَ الْجَالِسِ بِالْجُلُوسِ ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْمُصَلِّي خَلْفَ الْمُضْطَجِعِ لَا يَضْطَجِعُ .
فَأَمَّا إنْ أَمَّ مِثْلَهُ ، فَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ صِحَّتُهُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِأَصْحَابِهِ فِي الْمَطَرِ بِالْإِيمَاءِ ، وَالْعُرَاةُ يُصَلُّونَ جَمَاعَةً بِالْإِيمَاءِ ، وَكَذَلِكَ حَالَ الْمُسَايَفَةِ .

( 1186 ) فَصْلٌ : وَيَصِحُّ ائْتِمَامُ الْمُتَوَضِّئِ ، بِالْمُتَيَمِّمِ لَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا ؛ لِأَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ صَلَّى بِأَصْحَابِهِ مُتَيَمِّمًا ، وَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُنْكِرْهُ .
وَأَمَّ ابْنُ عَبَّاسٍ أَصْحَابَهُ مُتَيَمِّمًا ، وَفِيهِمْ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ ، فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُنْكِرُوهُ .
وَلِأَنَّهُ مُتَطَهِّرٌ طَهَارَةً صَحِيحَةً ، فَأَشْبَهَ الْمُتَوَضِّئَ .
وَلَا يَصِحُّ ائْتِمَامُ الصَّحِيحِ بِمَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ ، وَلَا غَيْرِ الْمُسْتَحَاضَةِ بِهَا : لِأَنَّهُمَا يُصَلِّيَانِ مَعَ خُرُوجِ الْحَدَثِ مِنْ غَيْرِ طَهَارَةٍ لَهُ ، بِخِلَافِ الْمُتَيَمِّمِ .
فَأَمَّا مَنْ كَانَتْ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ ، فَإِنْ كَانَتْ عَلَى بَدَنِهِ فَتَيَمَّمَ لَهَا ، جَازَ لِلطَّاهِرِ الِائْتِمَامُ بِهِ عِنْدَ الْقَاضِي ؛ لِأَنَّهُ كَالْمُتَيَمِّمِ لِلْحَدَثِ .
وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي الْخَطَّابِ لَا يَجُوزُ الِائْتِمَامُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْإِعَادَةَ .
وَإِنْ كَانَتْ عَلَى ثَوْبِهِ ، لَمْ يَصِحَّ الِائْتِمَامُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ تَارِكٌ لِشَرْطٍ .
وَلَا يَجُوزُ ائْتِمَامُ الْمُتَوَضِّئِ وَلَا الْمُتَيَمِّمِ بِعَادِمِ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ ، وَاللَّابِسِ بِالْعَارِي ، وَلَا الْقَادِرِ عَلَى الِاسْتِقْبَالِ بِالْعَاجِزِ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ تَارِكٌ لِشَرْطٍ يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْمَأْمُومُ ، فَأَشْبَهَ الْمُعَافَى بِمَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ .
وَيَصِحُّ ائْتِمَامُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ بِمِثْلِهِ ؛ لِأَنَّ الْعُرَاةَ يُصَلُّونَ جَمَاعَةً ، وَقَدْ سَبَقَ هَذَا .

( 1187 ) فَصْلٌ : وَفِي صَلَاةِ الْمُفْتَرِضِ خَلْفَ الْمُتَنَفِّلِ رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا : لَا تَصِحُّ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ ، وَحَنْبَلٍ .
وَاخْتَارَهَا أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا .
وَهَذَا قَوْلُ الزُّهْرِيِّ ، وَمَالِكٍ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ ، فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَلِأَنَّ صَلَاةَ الْمَأْمُومِ لَا تَتَأَدَّى بِنِيَّةِ الْإِمَامِ ، أَشْبَهَ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ خَلْفَ مَنْ يُصَلِّي الظُّهْرَ .
وَالثَّانِيَةُ : يَجُوزُ .
نَقَلَهَا إسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ .
وَنَقَلَ أَبُو دَاوُد ، قَالَ : سَمِعْتُ أَحْمَدَ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ صَلَّى الْعَصْرَ ، ثُمَّ جَاءَ فَنَسِيَ ، فَتَقَدَّمَ يُصَلِّي بِقَوْمٍ تِلْكَ الصَّلَاةَ ، ثُمَّ ذَكَرَ لَمَّا أَنْ صَلَّى رَكْعَةً ، فَمَضَى فِي صَلَاتِهِ ؟ قَالَ : لَا بَأْسَ .
وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ ، وَطَاوُسٍ ، وَأَبِي رَجَاءٍ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ ، وَأَبِي ثَوْرٍ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ ، وَأَبِي إِسْحَاقَ الْجُوزَجَانِيِّ ، وَهِيَ أَصَحُّ ؛ لِمَا رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، { أَنَّ مُعَاذًا كَانَ يُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَرْجِعُ فَيُصَلِّي بِقَوْمِهِ تِلْكَ الصَّلَاةَ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { صَلَّى بِطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فِي الْخَوْفِ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ سَلَّمَ ، ثُمَّ صَلَّى بِالطَّائِفَةِ الْأُخْرَى رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ سَلَّمَ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالْأَثْرَمُ .
وَالثَّانِيَةُ مِنْهُمَا تَقَعُ نَافِلَةً ، وَقَدْ أَمَّ بِهَا مُفْتَرِضِينَ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي خَلْدَةَ ، قَالَ : أَتَيْنَا أَبَا رَجَاءٍ لِنُصَلِّيَ مَعَهُ الْأُولَى ، فَوَجَدْنَاهُ قَدْ صَلَّى ، فَقُلْنَا : جِئْنَاك لِنُصَلِّيَ مَعَك .
فَقَالَ : قَدْ صَلَّيْنَا وَلَكِنْ لَا أُخَيِّبُكُمْ ، فَأَقَامَ فَصَلَّى وَصَلَّيْنَا مَعَهُ .
رَوَاهُ الْأَثْرَمُ .
وَلِأَنَّهُمَا صَلَاتَانِ اتَّفَقَتَا فِي الْأَفْعَالِ ، فَجَازَ

ائْتِمَامُ الْمُصَلِّي فِي إحْدَاهُمَا بِالْمُصَلِّي فِي الْأُخْرَى ، كَالْمُتَنَفِّلِ خَلْفَ الْمُفْتَرِضِ .
فَأَمَّا حَدِيثُهُمْ فَالْمُرَادُ بِهِ ، لَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ فِي الْأَفْعَالِ ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ : { فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا ، وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا ، وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا ، وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا أَجْمَعُونَ } .
وَلِهَذَا يَصِحُّ ائْتِمَامُ الْمُتَنَفِّلِ بِالْمُفْتَرِضِ مَعَ اخْتِلَافِ نِيَّتِهِمَا ، ، وَقِيَاسُهُمْ يَنْتَقِضُ بِالْمَسْبُوقِ فِي الْجُمُعَةِ يُدْرِكُ أَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ ، يَنْوِي الظُّهْرَ خَلْفَ مَنْ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ .
فَصْلٌ : وَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ فِي صِحَّةِ صَلَاةِ الْمُتَنَفِّلِ وَرَاءَ الْمُفْتَرِضِ .
وَلَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيهِ اخْتِلَافًا ، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { : أَلَا رَجُلٌ يَتَصَدَّقُ عَلَى هَذَا ، فَيُصَلِّيَ مَعَهُ } .
وَالْأَحَادِيثُ الَّتِي فِي إعَادَةِ الْجَمَاعَةِ ، وَلِأَنَّ صَلَاةَ الْمَأْمُومِ تَتَأَدَّى بِنِيَّةِ الْإِمَامِ ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ نَوَى مَكْتُوبَةً ، فَبَانَ قَبْلَ وَقْتِهَا .
( 1189 ) فَصْلٌ : فَإِنْ صَلَّى الظُّهْرَ خَلْفَ مَنْ يُصَلِّي الْعَصْرَ ، فَفِيهِ أَيْضًا رِوَايَتَانِ : نَقَلَ إسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ جَوَازَهُ .
وَنَقَلَ غَيْرُهُ الْمَنْعَ مِنْهُ .
وَنَقَلَ إسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ ، قَالَ : قُلْتُ لِأَحْمَدَ : فَمَا تَرَى إنْ صَلَّى فِي رَمَضَانَ خَلْفَ إمَامٍ يُصَلِّي بِهِمْ التَّرَاوِيحَ ؟ قَالَ : يَجُوزُ ذَلِكَ مِنْ الْمَكْتُوبَةِ .
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ : لَا يُعْجِبُنَا أَنْ يُصَلِّيَ مَعَ قَوْمٍ التَّرَاوِيحَ ، وَيَأْتَمَّ بِهَا لِلْعَتَمَةِ .
وَهَذِهِ فَرْعٌ عَلَى ائْتِمَامِ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهَا .
( 1190 ) فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَتْ إحْدَى الصَّلَاتَيْنِ تُخَالِفُ الْأُخْرَى فِي الْأَفْعَالِ ، كَصَلَاةِ الْكُسُوفِ ، أَوْ الْجُمُعَةِ ، خَلْفَ مَنْ يُصَلِّي غَيْرَهُمَا ، وَصَلَاةِ غَيْرِهِمَا وَرَاءَ مَنْ يُصَلِّيهِمَا ، لَمْ تَصِحَّ ، رِوَايَةً وَاحِدَةً ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى مُخَالَفَةِ إمَامِهِ فِي

الْأَفْعَالِ ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ .
( 1191 ) فَصْلٌ : وَمَنْ صَلَّى الْفَجْرَ ، ثُمَّ شَكَّ ، هَلْ طَلَعَ الْفَجْرُ أَوْ لَا ؟ أَوْ شَكَّ فِي صَلَاةٍ صَلَّاهَا ، هَلْ فَعَلَهَا فِي وَقْتِهَا أَوْ قَبْلَهُ ؟ لَزِمَتْهُ إعَادَتُهَا ، وَلَهُ أَنْ يَؤُمَّ فِي الْإِعَادَةِ مَنْ لَمْ يُصَلِّ .
وَقَالَ أَصْحَابُنَا : يُخَرَّجُ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي إمَامَةِ الْمُتَنَفِّلِ مُفْتَرِضًا .
وَلَنَا أَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الصَّلَاةِ فِي ذِمَّتِهِ ، وَوُجُوبُ فِعْلِهَا ، فَيَصِحُّ أَنْ يَؤُمَّ فِيهَا مُفْتَرِضًا ، كَمَا لَوْ شَكَّ ، هَلْ صَلَّى أَمْ لَا ؟ وَلَوْ فَاتَتْ الْمَأْمُومَ رَكْعَةٌ فَصَلَّى الْإِمَامُ خَمْسًا سَاهِيًا ، فَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : لَا يُعْتَدُّ لِلْمَأْمُومِ بِالْخَامِسَةِ ؛ لِأَنَّهَا سَهْوٌ وَغَلَطٌ .
وَقَالَ الْقَاضِي : هَذِهِ الرَّكْعَةُ نَافِلَةٌ لَهُ ، وَفَرْضٌ لِلْمَأْمُومِ .
فَيُخَرَّجُ فِيهَا الرِّوَايَتَانِ .
وَقَدْ سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ ، فَتَوَقَّفَ فِيهَا .
وَالْأَوْلَى ، أَنْ يُحْتَسَبَ لَهُ بِهَا ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُحْتَسَبْ لَهُ بِهَا لَلَزِمَهُ أَنْ يُصَلِّيَ خَمْسًا مَعَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ ، وَلِأَنَّ الْخَامِسَةَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْإِمَامِ عِنْدَ مَنْ يُوجِبُ عَلَيْهِ الْبِنَاءَ عَلَى الْيَقِينِ ، وَعِنْدَ اسْتِوَاءِ الْأَمْرَيْنِ عِنْدَهُ ، ثُمَّ إنْ كَانَتْ نَفْلًا ، فَالصَّحِيحُ صِحَّةُ الِائْتِمَامِ بِهِ .
وَقَوْلُهُ : إنَّهُ غَلَطٌ .
قُلْنَا : لَا يُخْرِجُهُ الْغَلَطُ عَنْ أَنْ يَكُونَ نَفْلًا مُثَابًا فِيهِ ، فَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { كَانَتْ الرَّكْعَةُ وَالسَّجْدَتَانِ نَافِلَةً لَهُ } .
وَإِنْ صَلَّى بِقَوْمٍ الظُّهْرَ يَظُنُّهَا الْعَصْرَ .
فَقَالَ أَحْمَدُ : يُعِيدُ ، وَيُعِيدُونَ .
وَهَذَا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي مَنَعَ فِيهَا ائْتِمَامَ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ .
فَإِنْ ذَكَرَ الْإِمَامُ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ ، فَأَتَمَّهَا عَصْرًا ، كَانَتْ لَهُ نَافِلَةً ، وَإِنْ قَلَبَ نِيَّتَهُ إلَى الظُّهْرِ ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مُتَقَدِّمًا .
وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ : يُتِمُّهَا وَالْفَرْضُ بَاقٍ فِي ذِمَّتِهِ .

( 1192 ) فَصْلٌ : وَلَا يَصِحُّ ائْتِمَامُ الْبَالِغِ بِالصَّبِيِّ فِي الْفَرْضِ ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ .
وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَمَالِكٌ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ .
وَأَجَازَهُ الْحَسَنُ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَيَتَخَرَّجُ لَنَا مِثْلُ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى إمَامَةِ الْمُتَنَفِّلِ لِلْمُفْتَرِضِ ؛ وَوَجْهُ ذَلِكَ عُمُومُ قَوْلِهِ { : يَؤُمُّكُمْ أَقْرَؤُكُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى } .
وَهَذَا دَاخِلٌ فِي عُمُومِهِ .
وَرَوَى عَمْرُو بْنُ سَلَمَةَ الْجَرْمِيُّ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِقَوْمِهِ { : يَؤُمُّكُمْ أَقْرَؤُكُمْ .
قَالَ : فَكُنْت أَؤُمُّهُمْ وَأَنَا ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ أَوْ ثَمَانِ سِنِينَ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَغَيْرُهُ .
وَلِأَنَّهُ يُؤَذِّنُ لِلرِّجَالِ ، فَجَازَ أَنْ يَؤُمَّهُمْ كَالْبَالِغِ .
وَلَنَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَلِأَنَّ الْإِمَامَةَ حَالُ كَمَالٍ ، وَالصَّبِيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْكَمَالِ ، فَلَا يَؤُمُّ الرِّجَالَ كَالْمَرْأَةِ ، وَلِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ مِنْ الصَّبِيِّ الْإِخْلَالُ بِشَرْطٍ مِنْ شَرَائِطِ الصَّلَاةِ أَوْ الْقِرَاءَةِ حَالَ الْإِسْرَارِ .
فَأَمَّا حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ الْجَرْمِيِّ ، فَقَالَ الْخَطَّابِيُّ : كَانَ أَحْمَدُ يُضَعِّفُ أَمْرَ عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ .
وَقَالَ مَرَّةً : دَعْهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ بَيِّنٍ .
وَقَالَ أَبُو دَاوُد : قِيلَ لِأَحْمَدَ : حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ ؟ قَالَ : لَا أَدْرِي أَيُّ شَيْءٍ هَذَا ، وَلَعَلَّهُ إنَّمَا تَوَقَّفَ عَنْهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ بُلُوغَ الْأَمْرِ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ كَانَ بِالْبَادِيَةِ فِي حَيٍّ مِنْ الْعَرَبِ بَعِيدٍ مِنْ الْمَدِينَةِ ، وَقَوَّى هَذَا الِاحْتِمَالَ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ : وَكُنْت إذَا سَجَدْت خَرَجَتْ اسْتِي .
وَهَذَا غَيْرُ سَائِغٍ .
( 1193 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا إمَامَتُهُ فِي النَّفْلِ فَفِيهَا رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا ، لَا تَصِحُّ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْفَرْضِ .

وَالثَّانِيَةُ ، تَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ مُتَنَفِّلٌ يَؤُمُّ مُتَنَفِّلِينَ ، وَلِأَنَّ النَّافِلَةَ يَدْخُلُهَا التَّخْفِيفُ ، وَلِذَلِكَ تَنْعَقِدُ الْجَمَاعَةُ بِهِ فِيهَا إذَا كَانَ مَأْمُومًا .

( 1194 ) فَصْلٌ : يُكْرَهُ أَنْ يَؤُمَّ قَوْمًا أَكْثَرُهُمْ لَهُ كَارِهُونَ ؛ لِمَا رَوَى أَبُو أُمَامَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { ثَلَاثَةٌ لَا تُجَاوِزُ صَلَاتُهُمْ آذَانَهُمْ : الْعَبْدُ الْآبِقُ حَتَّى يَرْجِعَ ، وَامْرَأَةٌ بَاتَتْ وَزَوْجُهَا عَلَيْهَا سَاخِطٌ ، وَإِمَامُ قَوْمٍ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ } .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ .
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { ثَلَاثَةٌ لَا تُقْبَلُ مِنْهُمْ صَلَاةٌ : مَنْ تَقَدَّمَ قَوْمًا هُمْ لَهُ كَارِهُونَ ، وَرَجُلٌ يَأْتِي الصَّلَاةَ دِبَارًا - وَالدِّبَارُ : أَنْ يَأْتِيَ بَعْدَ أَنْ يَفُوتَهُ الْوَقْتُ - وَرَجُلٌ اعْتَبَدَ مُحَرَّرًا } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَقَالَ عَلِيٌّ لِرَجُلٍ أَمَّ قَوْمًا وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ : إنَّكَ لَخَرُوطٌ .
قَالَ أَحْمَدُ ، رَحِمَهُ اللَّهُ : إذَا كَرِهَهُ وَاحِدٌ أَوْ اثْنَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ فَلَا بَأْسَ ، حَتَّى يَكْرَهَهُ أَكْثَرُ الْقَوْمِ ، وَإِنْ كَانَ ذَا دِينٍ وَسُنَّةٍ فَكَرِهَهُ الْقَوْمُ لِذَلِكَ ، لَمْ تُكْرَهْ إمَامَتُهُ .
قَالَ مَنْصُورٌ : أَمَا إنَّا سَأَلْنَا أَمْرَ الْإِمَامَةِ ، فَقِيلَ لَنَا : إنَّمَا عَنَى بِهَذَا الظَّلَمَةَ فَأَمَّا مَنْ أَقَامَ السُّنَّةَ فَإِنَّمَا الْإِثْمُ عَلَى مَنْ كَرِهَهُ .

( 1195 ) فَصْلٌ : وَلَا تُكْرَهُ إمَامَةُ الْأَعْرَابِيِّ إذَا كَانَ يَصْلُحُ لَهَا .
نَصَّ عَلَيْهِ .
وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَإِسْحَاقَ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ ، وَكَرِهَ أَبُو مِجْلَزٍ إمَامَتَهُ ، وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَؤُمُّهُمْ ، وَإِنْ كَانَ أَقْرَأَهُمْ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { : الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ } .
وَلَنَا ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى } .
وَلِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ مِنْ أَهْلِ الْإِمَامَةِ ، أَشْبَهَ الْمُهَاجِرَ ، وَالْمُهَاجِرُ أَوْلَى مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَى الْمَسْبُوقِ بِالْهِجْرَةِ ، فَمَنْ لَا هِجْرَةَ لَهُ أَوْلَى .
قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : وَالْحَضَرِيُّ أَوْلَى مِنْ الْبَدَوِيِّ ؛ لِأَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِي إمَامَتِهِ ، وَلِأَنَّ الْغَالِبَ جَفَاؤُهُمْ ، وَقِلَّةُ مَعْرِفَتِهِمْ بِحُدُودِ اللَّهِ .

فَصْلٌ : وَلَا تُكْرَهُ إمَامَةُ وَلَدِ الزِّنَا إذَا سَلِمَ دِينُهُ .
قَالَ عَطَاءٌ : لَهُ أَنْ يَؤُمَّ إذَا كَانَ مَرْضِيًّا ، وَبِهِ قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى ، وَالْحَسَنُ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ ، وَإِسْحَاقُ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ : لَا تُجْزِئُ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ .
وَكَرِهَ مَالِكٌ أَنْ يُتَّخَذَ إمَامًا رَاتِبًا .
وَكَرِهَ الشَّافِعِيُّ إمَامَتَهُ ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَةَ مَوْضِعُ فَضِيلَةٍ ، فَكُرِهَ تَقْدِيمُهُ فِيهَا كَالْعَبْدِ .
وَلَنَا ، قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ } .
وَقَالَتْ عَائِشَةُ : لَيْسَ عَلَيْهِ مِنْ وِزْرِ أَبَوَيْهِ شَيْءٌ .
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى { : وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } وَقَالَ { : إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } وَالْعَبْدُ لَا تُكْرَهُ إمَامَتُهُ ، وَإِنَّمَا الْحُرُّ أَوْلَى مِنْهُ ، ثُمَّ إنَّ الْعَبْدَ نَاقِصٌ فِي أَحْكَامِهِ ، لَا يَلِي النِّكَاحَ وَلَا الْمَالَ ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ ، بِخِلَافِ هَذَا .
( 1197 ) فَصْلٌ : وَلَا تُكْرَهُ إمَامَةُ الْجُنْدِيِّ وَالْخَصِيِّ إذَا سَلِمَ دِينُهُمَا ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْعَبْدِ ، وَلِأَنَّهُ عَدْلٌ مِنْ أَهْلِ الْإِمَامَةِ ، أَشْبَهَ غَيْرَهُ .

( 1198 ) فَصْلٌ : مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الْجَمَاعَةِ أَنْ يَنْوِيَ الْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُ حَالَهُمَا ، فَيَنْوِي الْإِمَامُ أَنَّهُ إمَامٌ ، وَالْمَأْمُومُ أَنَّهُ مَأْمُومٌ ، فَإِنْ صَلَّى رَجُلَانِ يَنْوِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ إمَامُ صَاحِبِهِ ، أَوْ مَأْمُومٌ لَهُ ، فَصَلَاتُهُمَا فَاسِدَةٌ .
نُصَّ عَلَيْهِمَا ؛ لِأَنَّهُ ائْتَمَّ بِمَنْ لَيْسَ بِإِمَامٍ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى ، وَأَمَّ مَنْ لَمْ يَأْتَمَّ بِهِ فِي الثَّانِيَةِ .
وَلَوْ رَأَى رَجُلَيْنِ يُصَلِّيَانِ ، فَنَوَى الِائْتِمَامَ بِالْمَأْمُومِ ، لَمْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّهُ ائْتَمَّ بِمَنْ لَمْ يَنْوِ إمَامَتَهُ .
وَإِنْ نَوَى الِائْتِمَامَ بِأَحَدِهِمَا لَا بِعَيْنِهِ ، لَمْ يَصِحَّ ، حَتَّى يُعَيِّنَ الْإِمَامَ ؛ لِأَنَّ تَعْيِينَهُ شَرْطٌ .
وَإِنْ نَوَى الِائْتِمَامَ بِهِمَا مَعًا ، لَمْ يَصِحَّ ، لِأَنَّهُ نَوَى الِائْتِمَامَ بِمَنْ لَيْسَ بِإِمَامٍ ، وَلِأَنَّهُ نَوَى الِائْتِمَامَ بِاثْنَيْنِ ، وَلَا يَجُوزُ الِائْتِمَامُ بِأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ .
وَلَوْ نَوَى الِائْتِمَامَ بِإِمَامَيْنِ ، لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اتِّبَاعُهُمَا مَعًا .

( 1199 ) فَصْلٌ : وَلَوْ أَحْرَمَ مُنْفَرِدًا ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَصَلَّى مَعَهُ ، فَنَوَى إمَامَتَهُ ، صَحَّ فِي النَّفْلِ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَهُوَ { أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ ، قَالَ : بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ ، فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَطَوِّعًا مِنْ اللَّيْلِ ، فَقَامَ إلَى الْقِرْبَةِ فَتَوَضَّأَ ، فَقَامَ فَصَلَّى ، فَقُمْت لَمَّا رَأَيْتُهُ صَنَعَ ذَلِكَ فَتَوَضَّأْتُ مِنْ الْقِرْبَةِ ، ثُمَّ قُمْتُ إلَى شِقِّهِ الْأَيْسَرِ ، فَأَخَذَ بِيَدَيْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ يَعْدِلُنِي كَذَلِكَ إلَى الشِّقِّ الْأَيْمَنِ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَهَذَا لَفْظُ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ .
فَأَمَّا فِي الْفَرِيضَةِ ، فَإِنْ كَانَ يَنْتَظِرُ أَحَدًا كَإِمَامِ الْمَسْجِدِ يُحْرِمُ وَحْدَهُ وَيَنْتَظِرُ مَنْ يَأْتِي فَيُصَلِّي مَعَهُ ، فَيَجُوزُ ذَلِكَ أَيْضًا .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْرَمَ وَحْدَهُ ، ثُمَّ جَاءَ جَابِرٌ وَجُبَارَةُ فَأَحْرَمَا مَعَهُ ، فَصَلَّى بِهِمَا ، وَلَمْ يُنْكِرْ فِعْلَهُمَا .
وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا كَانَتْ صَلَاةً مَفْرُوضَةً ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُسَافِرِينَ .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ ، هَذَا قَوْلُ الثَّوْرِيِّ ، وَإِسْحَاقَ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ ، فِي الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِ الْإِمَامَةَ فِي ابْتِدَاءِ الصَّلَاةِ ، فَلَمْ يَصِحَّ ، كَمَا لَوْ ائْتَمَّ بِمَأْمُومٍ .
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ : فِي النَّفْسِ مِنْهَا شَيْءٌ .
مَعَ أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ يُقَوِّيهِ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي النَّفْلِ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَحَدِيثِ عَائِشَةَ { : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ وَجِدَارُ الْحُجْرَةِ قَصِيرٌ ، فَرَأَى النَّاسُ شَخْصَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَامَ أُنَاسٌ يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ } .
وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ .
وَالْأَصْلُ مُسَاوَاةُ الْفَرْضِ

لِلنَّفْلِ فِي النِّيَّةِ ، وَقَوَّى ذَلِكَ حَدِيثُ جَابِرٍ وَجُبَارَةَ فِي الْفَرْضِ ، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى نَقْلِ النِّيَّةِ إلَى الْإِمَامَةِ فَصَحَّ كَحَالَةِ الِاسْتِخْلَافِ ، وَبَيَانُ الْحَاجَةِ أَنَّ الْمُنْفَرِدَ إذَا جَاءَ قَوْمٌ فَأَحْرَمُوا وَرَاءَهُ ، فَإِنْ قَطَعَ الصَّلَاةَ وَأَخْبَرَ بِحَالِهِ قَبُحَ ، وَكَانَ مُرْتَكِبًا لِلنَّهْيِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { : وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } وَإِنْ أَتَمَّ الصَّلَاةَ بِهِمْ ، ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ بِفَسَادِ صَلَاتِهِمْ كَانَ أَقْبَحَ وَأَشَقَّ .
وَلِأَنَّ الِانْفِرَادَ أَحَدُ حَالَتَيْ عَدَمِ الْإِمَامَةِ فِي الصَّلَاةِ ، فَجَازَ الِانْتِقَالُ مِنْهَا إلَى الْإِمَامَةِ ، كَمَا لَوْ كَانَ مَأْمُومًا ، وَقِيَاسُهُمْ يَنْتَقِضُ بِحَالَةِ الِاسْتِخْلَافِ .

( 1200 ) فَصْلٌ : وَإِنْ أَحْرَمَ مُنْفَرِدًا ، ثُمَّ نَوَى جَعْلَ نَفْسِهِ مَأْمُومًا ، بِأَنْ يَحْضُرَ جَمَاعَةً ، فَيَنْوِيَ الدُّخُولَ مَعَهُمْ فِي صَلَاتِهِمْ ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا ، هُوَ جَائِزٌ ، سَوَاءٌ كَانَ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ ، أَوْ قَدْ صَلَّى رَكْعَةً فَأَكْثَرَ ؛ لِأَنَّهُ نَقَلَ نَفْسَهُ إلَى الْجَمَاعَةِ ، فَجَازَ ، كَمَا لَوْ نَوَى الْإِمَامَةَ .
وَالثَّانِيَةُ ، لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ نَقَلَ نَفْسَهُ إلَى جَعْلِهِ مَأْمُومًا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ ، فَلَمْ يَجُزْ كَالْإِمَامِ ، وَفَارَقَ نَقْلَهُ إلَى الْإِمَامَةِ ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَيْهِ ، فَعَلَى هَذَا يَقْطَعُ صَلَاتَهُ ، وَيَسْتَأْنِفُ الصَّلَاةَ مَعَهُمْ .
قَالَ أَحْمَدُ ، فِي رَجُلٍ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ، أَوْ ثَلَاثًا ، يَنْوِي الظُّهْرَ ، ثُمَّ جَاءَ الْمُؤَذِّنُ فَأَقَامَ الصَّلَاةَ : سَلَّمَ مِنْ هَذِهِ ، وَتَصِيرُ لَهُ تَطَوُّعًا ، وَيَدْخُلُ مَعَهُمْ .
قِيلَ لَهُ : فَإِنْ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ مَعَ الْقَوْمِ ، وَاحْتَسَبَ بِهِ .
قَالَ : لَا يُجْزِئُهُ حَتَّى يَنْوِيَ بِهَا الصَّلَاةَ مَعَ الْإِمَامِ فِي ابْتِدَاءِ الْفَرْضِ .

( 1201 ) فَصْلٌ : وَإِنْ أَحْرَمَ مَأْمُومًا ، ثُمَّ نَوَى مُفَارَقَةَ الْإِمَامِ ، وَإِتْمَامَهَا مُنْفَرِدًا لِعُذْرٍ ، جَازَ ؛ لِمَا رَوَى جَابِرٌ ، قَالَ { : كَانَ مُعَاذٌ يُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْعِشَاءِ ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى قَوْمِهِ فَيَؤُمُّهُمْ ، فَأَخَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْعِشَاءِ ، فَصَلَّى مَعَهُ ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى قَوْمِهِ فَقَرَأَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ ، فَتَأَخَّرَ رَجُلٌ فَصَلَّى وَحْدَهُ ، فَقِيلَ لَهُ : نَافَقْت يَا فُلَانُ .
قَالَ : مَا نَافَقْت ، وَلَكِنْ لَآتِيَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُخْبِرُهُ ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ ، فَقَالَ : أَفَتَّانٌ أَنْتَ يَا مُعَاذُ ؟ أَفَتَّانٌ أَنْتَ يَا مُعَاذُ ؟ مَرَّتَيْنِ اقْرَأْ سُورَةَ كَذَا وَسُورَةَ كَذَا ، قَالَ : وَسُورَةَ ذَاتِ الْبُرُوجِ ، وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَى ، وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ ، وَ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَلَمْ يَأْمُرْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّجُلَ بِالْإِعَادَةِ ، وَلَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ فِعْلَهُ ، وَالْأَعْذَارُ الَّتِي يَخْرُجُ لِأَجْلِهَا ، مِثْلُ الْمَشَقَّةِ بِتَطْوِيلِ الْإِمَامِ ، أَوْ الْمَرَضِ ، أَوْ خَشْيَةِ غَلَبَةِ النُّعَاسِ ، أَوْ شَيْءٍ يُفْسِدُ صَلَاتَهُ ، أَوْ خَوْفِ فَوَاتِ مَالٍ أَوْ تَلَفِهِ ، أَوْ فَوْتِ رُفْقَتِهِ ، أَوْ مَنْ يَخْرُجُ مِنْ الصَّفِّ لَا يَجِدُ مَنْ يَقِفُ مَعَهُ ، وَأَشْبَاهُ هَذَا .
وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ لِغَيْرِ عُذْرٍ ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا ، تَفْسُدُ صَلَاتُهُ ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ مُتَابَعَةَ إمَامِهِ لِغَيْرِ عُذْرٍ ، أَشْبَهَ مَا لَوْ تَرَكَهَا مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ الْمُفَارَقَةِ .
وَالثَّانِيَةُ : تَصِحُّ لِأَنَّهُ لَوْ نَوَى الْمُنْفَرِدُ كَوْنَهُ مَأْمُومًا لَصَحَّ فِي رِوَايَةٍ ، فَنِيَّةُ الِانْفِرَادِ أَوْلَى ، فَإِنَّ الْمَأْمُومَ قَدْ يَصِيرُ مُنْفَرِدًا بِغَيْرِ نِيَّةٍ ، وَهُوَ الْمَسْبُوقُ إذَا سَلَّمَ إمَامُهُ ، وَغَيْرُهُ لَا يَصِيرُ مَأْمُومًا بِغَيْرِ نِيَّةٍ بِحَالِ .

( 1202 ) فَصْلٌ : وَإِنْ أَحْرَمَ مَأْمُومًا ، ثُمَّ صَارَ إمَامًا ، أَوْ نَقَلَ نَفْسَهُ إلَى الِائْتِمَامِ بِإِمَامٍ آخَرَ ، جَازَ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ ، وَهُوَ إذَا سَبَقَ الْإِمَامَ الْحَدَثُ ، فَاسْتَخْلَفَ مَنْ يُتِمُّ بِهِمْ الصَّلَاةَ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا .
وَلَا يَصِحُّ فِي غَيْرِهِ ، إلَّا أَنْ يُدْرِكَ اثْنَانِ بَعْضَ الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ ، فَلَمَّا سَلَّمَ ائْتَمَّ أَحَدُهُمَا بِصَاحِبِهِ فِي بَقِيَّةِ الصَّلَاةِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ .
وَإِنْ نَوَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ إمَامُ صَاحِبِهِ ، أَوْ مَأْمُومٌ لَهُ ، فَسَدَتْ صَلَاتُهُمَا ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ .
وَإِنْ نَوَى الْإِمَامُ الِائْتِمَامَ بِغَيْرِهِ لَمْ يَصِحَّ إلَّا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ ، وَهُوَ إذَا اسْتَخْلَفَ الْإِمَامُ مَنْ يُصَلِّي ، ثُمَّ جَاءَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ ، فَتَقَدَّمَ فَصَارَ إمَامًا ، وَبَنَى عَلَى صَلَاةِ خَلِيفَتِهِ ، وَفِي ذَلِكَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ ، قَدْ ذَكَرْنَاهَا .

( 1203 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَمَنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ رَاكِعًا فَرَكَعَ دُونَ الصَّفِّ ، ثُمَّ مَشَى حَتَّى دَخَلَ فِي الصَّفِّ ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرَةَ : { زَادَك اللَّهُ حِرْصًا وَلَا تَعُدْ } قِيلَ لَهُ : لَا تَعُدْ .
وَقَدْ أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ ، فَإِنْ عَادَ بَعْدَ النَّهْيِ لَمْ تُجْزِئْهُ صَلَاتُهُ ، وَنَصَّ أَحْمَدُ ، رَحِمَهُ اللَّهُ ، عَلَى هَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ ، أَنَّ مَنْ رَكَعَ دُونَ الصَّفِّ ، ثُمَّ دَخَلَ فِيهِ ، لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : إمَّا أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَةً كَامِلَةً ، فَلَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا صَلَاةَ لِفَرْدٍ خَلْفَ الصَّفِّ } .
وَالثَّانِي ، أَنْ يَدِبَّ رَاكِعًا حَتَّى يَدْخُلَ فِي الصَّفِّ قَبْلَ رَفْعِ الْإِمَامِ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ ، أَوْ أَنْ يَأْتِيَ آخَرُ فَيَقِفَ مَعَهُ قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَ الْإِمَامُ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ فَإِنَّ صَلَاتَهُ تَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ فِي الصَّفِّ مَا يُدْرِكُ بِهِ الرَّكْعَةَ .
وَمِمَّنْ رَخَّصَ فِي رُكُوعِ الرَّجُلِ دُونَ الصَّفِّ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ ، وَفَعَلَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ ، وَزَيْدُ بْنُ وَهْبٍ ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، وَعُرْوَةُ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَابْنُ جُرَيْجٍ .
وَجَوَّزَهُ الزُّهْرِيُّ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، إذَا كَانَ قَرِيبًا مِنْ الصَّفِّ .
الْحَالُ الثَّالِثُ ، إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ ، ثُمَّ دَخَلَ فِي الصَّفِّ ، أَوْ جَاءَ آخَرُ فَوَقَفَ مَعَهُ قَبْلَ إتْمَامِ الرَّكْعَةِ ، فَهَذِهِ الْحَالُ الَّتِي يُحْمَلُ عَلَيْهَا قَوْلُ الْخِرَقِيِّ : " وَنَصُّ أَحْمَدَ " .
فَمَتَى كَانَ جَاهِلًا بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ ، صَحَّتْ صَلَاتُهُ ، وَإِنْ عَلِمَ ، لَمْ تَصِحَّ .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد ، عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهُ يَصِحُّ ، وَلَمْ يُفَرِّقْ .
وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ ؛ لِأَنَّ أَبَا بَكْرَةَ فَعَلَ ذَلِكَ ، وَفَعَلَهُ مَنْ ذَكَرْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَنَا ، مَا رُوِيَ

أَنَّ أَبَا بَكْرَةَ انْتَهَى إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ رَاكِعٌ ، فَرَكَعَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَى الصَّفِّ ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ { : زَادَك اللَّهُ حِرْصًا وَلَا تَعُدْ } .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَلَفْظُهُ : أَنَّ أَبَا بَكْرَةَ جَاءَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاكِعٌ ، فَرَكَعَ دُونَ الصَّفِّ ، ثُمَّ مَشَى إلَى الصَّفِّ ، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ ، قَالَ { : أَيُّكُمْ الَّذِي رَكَعَ دُونَ الصَّفِّ ، ثُمَّ مَشَى إلَى الصَّفِّ ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرَةَ : أَنَا .
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : زَادَك اللَّهُ حِرْصًا ، وَلَا تَعُدْ } .
فَلَمْ يَأْمُرْهُ بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ ، وَنَهَاهُ عَنْ الْعَوْدِ ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا نَهَاهُ عَنْ التَّهَاوُنِ وَالتَّخَلُّفِ عَنْ الصَّلَاةِ .
قُلْنَا : إنَّمَا يَعُودُ النَّهْيُ إلَى الْمَذْكُورِ ، وَالْمَذْكُورُ الرُّكُوعُ دُونَ الصَّفِّ ، وَلَمْ يَنْسُبهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى التَّهَاوُنِ ، وَإِنَّمَا نَسَبَهُ إلَى الْحِرْصِ ، وَدَعَا لَهُ بِالزِّيَادَةِ فِيهِ ، فَكَيْفَ يَنْهَاهُ عَنْ التَّهَاوُنِ ، وَهُوَ مَنْسُوبٌ إلَى ضِدِّهِ ؟ وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ ، رَحِمَهُ اللَّهُ ، رِوَايَةٌ أُخْرَى ، أَنَّهَا لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ ، عَالِمًا كَانَ أَوْ جَاهِلًا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ فِي الصَّفِّ مَا يُدْرِكُ بِهِ الرَّكْعَةَ ، أَشْبَهَ مَا لَوْ صَلَّى رَكْعَةً كَامِلَةً ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ حَدِيثُ أَبِي بَكْرَةَ ، عَلَى أَنَّهُ دَخَلَ فِي الصَّفِّ قَبْلَ رَفْعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسَهُ ، وَقَدْ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : لَا يَرْكَعْ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَأْخُذَ مَقَامَهُ مِنْ الصَّفِّ .
وَلَمْ يُفَرِّقْ الْقَاضِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ مِنْ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ ثُمَّ دَخَلَ ، وَبَيْنَ مِنْ دَخَلَ فِيهِ رَاكِعًا ، وَكَذَلِكَ كَلَامُ أَحْمَدَ وَالْخِرَقِيِّ ، وَلَا تَفْرِيقَ فِيهِ ، وَالدَّلِيلُ يَقْتَضِي

التَّفْرِيقَ ، فَيُحْمَلُ كَلَامُهُمْ عَلَيْهِ ، وَقَدْ ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ نَحْوًا مِمَّا ذَكَرْنَا .
( 1204 ) فَصْلٌ : وَإِنْ فَعَلَ هَذَا لِغَيْرِ عُذْرٍ ، وَلَا خَشِيَ الْفَوَاتَ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا ، يُجْزِئُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُجْزِ مُطْلَقًا لَمْ يُجْزِ حَالَ الْعُذْرِ ، كَالرَّكْعَةِ كُلِّهَا .
وَالثَّانِي ، لَا يُجْزِئُهُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا يَجُوزَ ؛ لِكَوْنِهِ يَفُوتُهُ فِي الصَّفِّ مَا تَفُوتُهُ الرَّكْعَةُ بِفَوَاتِهِ ، وَإِنَّمَا أُبِيحَ فِي الْمَعْذُورِ لِحَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ ، فَفِي غَيْرِهِ يَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ .

( 1205 ) فَصْلٌ : إذَا أَحَسَّ بِدَاخِلٍ ، وَهُوَ فِي الرُّكُوعِ ، يُرِيدُ الصَّلَاةَ مَعَهُ ، وَكَانَتْ الْجَمَاعَةُ كَثِيرَةً ، كُرِهَ انْتِظَارُهُ ؛ لِأَنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ مَنْ لَا يَشُقُّ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَتْ الْجَمَاعَةُ يَسِيرَةً ، وَكَانَ انْتِظَارُهُ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ ، كُرِهَ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الَّذِينَ مَعَهُ أَعْظَمُ حُرْمَةً مِنْ الدَّاخِلِ ، فَلَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ لِنَفْعِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَشُقَّ لِكَوْنِهِ يَسِيرًا ، فَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ : يَنْتَظِرُهُ مَا لَمْ يَشُقَّ عَلَى مَنْ خَلْفَهُ .
وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي مِجْلَزٍ ، وَالشَّعْبِيِّ ، وَالنَّخَعِيِّ ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى ، وَإِسْحَاقَ ، وَأَبِي ثَوْرٍ .
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَنْتَظِرُهُ ؛ لِأَنَّ انْتِظَارَهُ تَشْرِيكٌ فِي الْعِبَادَةِ ، فَلَا يُشْرَعُ ، كَالرِّيَاءِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ انْتِظَارٌ يَنْفَعُ وَلَا يَشُقُّ ، فَشُرِعَ ، كَتَطْوِيلِ الرَّكْعَةِ وَتَخْفِيفِ الصَّلَاةِ ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُطِيلُ الرَّكْعَةَ الْأُولَى حَتَّى لَا يَسْمَعَ وَقْعَ قَدَمٍ .
وَأَطَالَ السُّجُودَ حِينَ رَكِبَ الْحَسَنُ عَلَى ظَهْرِهِ ، وَقَالَ { : إنَّ ابْنِي هَذَا ارْتَحَلَنِي فَكَرِهْتُ أَنْ أُعَجِّلَهُ } .
وَقَالَ { : إنِّي لَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ وَأَنَا فِي الصَّلَاةِ فَأُخَفِّفُهَا كَرَاهَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ } .
وَقَالَ { : مَنْ أَمَّ النَّاسَ فَلْيُخَفِّفْ فَإِنَّ فِيهِمْ الْكَبِيرَ وَالضَّعِيفَ وَذَا الْحَاجَةِ } .
وَشُرِعَ الِانْتِظَارُ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ لِتُدْرِكَهُ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ ، وَلِأَنَّ مُنْتَظِرَ الصَّلَاةِ فِي صَلَاةٍ ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْتَظِرُ الْجَمَاعَةَ ، فَقَالَ جَابِرٌ { : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الْعِشَاءَ أَحْيَانًا ، وَأَحْيَانًا إذَا رَآهُمْ قَدْ اجْتَمَعُوا عَجَّلَ ، وَإِذَا رَآهُمْ قَدْ أَبْطَئُوا أَخَّرَ } وَبِهَذَا كُلِّهِ يَبْطُلُ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ التَّشْرِيكِ .
قَالَ الْقَاضِي : وَالِانْتِظَارُ جَائِزٌ ، غَيْرُ

مُسْتَحَبٍّ ، وَإِنَّمَا يَنْتَظِرُ مَنْ كَانَ ذَا حُرْمَةٍ ، كَأَهْلِ الْعِلْمِ وَنُظَرَائِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ

( 1206 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَسُتْرَةُ الْإِمَامِ سُتْرَةٌ لِمَنْ خَلْفَهُ ) .
وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْمُصَلِّي أَنْ يُصَلِّيَ إلَى سُتْرَةٍ ، فَإِنْ كَانَ فِي مَسْجِدٍ أَوْ بَيْتٍ صَلَّى إلَى الْحَائِطِ أَوْ سَارِيَةٍ ، وَإِنْ كَانَ فِي فَضَاءٍ صَلَّى إلَى شَيْءٍ شَاخِصٍ بَيْنَ يَدَيْهِ ، أَوْ نَصَبَ بَيْنَ يَدَيْهِ حَرْبَةً أَوْ عَصًا ، أَوْ عَرَضَ الْبَعِيرَ فَصَلَّى إلَيْهِ ، أَوْ جَعَلَ رَحْلَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ .
وَسُئِلَ أَحْمَدُ : يُصَلِّي الرَّاحِلُ إلَى سُتْرَةٍ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، مِثْلُ آخِرَةِ الرَّحْلِ .
وَلَا نَعْلَمُ فِي اسْتِحْبَابِ ذَلِكَ خِلَافًا ، وَالْأَصْلُ فِيهِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ تُرْكَزُ لَهُ الْحَرْبَةُ فَيُصَلِّي إلَيْهَا ، وَيُعْرَضُ الْبَعِيرُ فَيُصَلِّي إلَيْهِ } ، وَرَوَى أَبُو جُحَيْفَةَ { ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُكِّزَتْ لَهُ الْعَنَزَةُ ، فَتَقَدَّمَ وَصَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ ، يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ الْحِمَارُ وَالْكَلْبُ ، لَا يُمْنَعُ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَعَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : إذَا وَضَعَ أَحَدُكُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ مِثْلَ مُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ ، فَلْيُصَلِّ ، وَلَا يُبَالِ مَنْ مَرَّ وَرَاءَ ذَلِكَ } .
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّ سُتْرَةَ الْإِمَامِ سُتْرَةٌ لِمَنْ خَلْفَهُ نَصَّ عَلَى هَذَا أَحْمَدُ ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
كَذَلِكَ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ ، قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ : سُتْرَةُ الْإِمَامِ سُتْرَةٌ لِمَنْ خَلْفَهُ .
قَالَ أَبُو الزِّنَادِ : كُلُّ مَنْ أَدْرَكْت مِنْ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ الَّذِينَ يُنْتَهَى إلَى قَوْلِهِمْ ؛ سَعِيدُ بْن الْمُسَيِّبِ ، وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، وَخَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ ، وَغَيْرُهُمْ ، يَقُولُونَ : سُتْرَةُ الْإِمَامِ سُتْرَةٌ لِمَنْ خَلْفَهُ .
وَرُوِيَ

ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ .
وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيُّ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَغَيْرُهُمْ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى إلَى سُتْرَةٍ ، وَلَمْ يَأْمُرْ أَصْحَابَهُ بِنَصْبِ سُتْرَةٍ أُخْرَى .
وَفِي حَدِيثٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ { : أَقْبَلْت رَاكِبًا عَلَى حِمَارٍ أَتَانٍ ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ بِمِنًى إلَى غَيْرِ جِدَارٍ ، فَمَرَرْت بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ أَهْلِ الصَّفِّ ، فَنَزَلْت ، فَأَرْسَلْت الْأَتَانَ تَرْتَعُ ، فَدَخَلْت فِي الصَّفِّ ، فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيَّ أَحَدٌ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ : سُتْرَةُ الْإِمَامِ سُتْرَةٌ لِمَنْ خَلْفَهُ .
أَنَّهُ مَتَى لَمْ يَحُلْ بَيْنَ الْإِمَامِ وَسُتْرَتِهِ شَيْءٌ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ ، فَصَلَاةُ الْمَأْمُومِينَ صَحِيحَةٌ ، لَا يَضُرُّهَا مُرُورُ شَيْءٍ بَيْنَ أَيْدِيهمْ فِي بَعْضِ الصَّفِّ ، وَلَا فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِمَامِ ، وَإِنْ مَرَّ مَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ بَيْنَ الْإِمَامِ وَسُتْرَتِهِ قَطَعَ صَلَاتَهُ وَصَلَاتَهُمْ ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا مَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، قَالَ { : هَبَطْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ثَنِيَّةِ أَذَاخِرَ فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ - يَعْنِي فَصَلَّى إلَى جُدُرٍ - فَاِتَّخَذَهَا قِبْلَةً ، وَنَحْنُ خَلْفَهُ ، فَجَاءَتْ بَهْمَةٌ تَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ ، فَمَا زَالَ يَدْرَؤُهَا حَتَّى لَصِقَ بَطْنُهُ بِالْجُدُرِ ، فَمَرَّتْ مِنْ وَرَائِهِ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
فَلَوْلَا أَنَّ سُتْرَتَهُ سُتْرَةٌ لَهُمْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ مُرُورِهَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَخَلْفَهُ فَرْقٌ .

( 1207 ) فَصْلٌ : وَقَدْرُ السُّتْرَةِ فِي طُولِهَا ذِرَاعٌ أَوْ نَحْوُهُ .
قَالَ الْأَثْرَمُ : سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَنْ آخِرَةِ الرَّحْلِ كَمْ مِقْدَارُهَا ؟ قَالَ : ذِرَاعٌ .
كَذَا قَالَ عَطَاءٌ : ذِرَاعٌ .
وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهَا قَدْرُ عَظْمِ الذِّرَاعِ .
وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيبِ لَا التَّحْدِيدِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدَّرَهَا بِآخِرَةِ الرَّحْلِ ، وَآخِرَةُ الرَّحْلِ تَخْتَلِفُ فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ ، فَتَارَةً تَكُونُ ذِرَاعًا ، وَتَارَةً تَكُونُ أَقَلَّ مِنْهُ ، فَمَا قَارَبَ الذِّرَاعَ أَجْزَأَ الِاسْتِتَارُ بِهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَأَمَّا قَدْرُهَا فِي الْغِلَظِ وَالدِّقَّةِ فَلَا حَدَّ لَهُ نَعْلَمُهُ ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ دَقِيقَةً كَالسَّهْمِ وَالْحَرْبَةِ ، وَغَلِيظَةً كَالْحَائِطِ ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْتَتِرُ بِالْعَنَزَةِ .
وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ : كُنَّا نَسْتَتِرُ بِالسَّهْمِ وَالْحَجَرِ فِي الصَّلَاةِ .
وَرُوِيَ عَنْ سَبْرَةَ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : اسْتَتِرُوا فِي الصَّلَاةِ وَلَوْ بِسَهْمٍ } .
رَوَاهُ الْأَثْرَمُ .
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : يُجْزِئْهُ السَّهْمُ وَالسَّوْطُ .
قَالَ أَحْمَدُ : وَمَا كَانَ أَعْرَضَ فَهُوَ أَعْجَبُ إلَيَّ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ " وَلَوْ بِسَهْمٍ " يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَهُ أَوْلَى مِنْهُ

( 1208 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَدْنُوَ مِنْ سُتْرَتِهِ ؛ لِمَا رَوَى سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ ، يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إلَى سُتْرَةٍ ، فَلْيَدْنُ مِنْهَا ، لَا يَقْطَعُ الشَّيْطَانُ عَلَيْهِ صَلَاتَهُ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيُصَلِّ إلَى سُتْرَةٍ ، وَلْيَدْنُ مِنْهَا } .
رَوَاهُ الْأَثْرَمُ .
وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ ، قَالَ { : كَانَ بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ مَمَرُّ الشَّاةِ } .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { ارْهَقُوا الْقِبْلَةَ } .
رَوَاهُ الْأَثْرَمُ .
وَذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ فِي " مَعَالِمِ السُّنَنِ " أَنَّ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ كَانَ يُصَلِّي يَوْمًا مُتَنَائِيًا عَنْ السُّتْرَةِ ، فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ لَا يَعْرِفُهُ ، فَقَالَ : يَا أَيُّهَا الْمُصَلِّي ، اُدْنُ مِنْ سُتْرَتِكَ .
فَجَعَلَ مَالِكٌ يَتَقَدَّمُ وَهُوَ يَقْرَأُ { : وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا } .
وَلِأَنَّ قُرْبَهُ مِنْ السُّتْرَةِ أَصُونُ لِصَلَاتِهِ وَأَبْعَدُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا شَيْءٌ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّهُ يَجْعَلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سُتْرَتِهِ ثَلَاثَةَ أَذْرُعٍ فَمَا دُونَ .
قَالَ مُهَنَّا : سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الرَّجُلِ يُصَلِّي ، كَمْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ ؟ قَالَ يَدْنُو مِنْ الْقِبْلَةِ مَا اسْتَطَاعَ .
ثُمَّ قَالَ بَعْدُ : إنَّ ابْنَ عُمَرَ ، قَالَ { : صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْكَعْبَةِ ، فَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَائِطِ ثَلَاثَةُ أَذْرُعٍ } .
قَالَ الْمَيْمُونِي : فَقَدْ رَأَيْتُك عَلَى نَحْوٍ مِنْ أَرْبَعَةٍ .
قَالَ : بِالسَّهْوِ .
وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ يَجْعَلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سُتْرَتِهِ سِتَّةَ أَذْرُعٍ .

قَالَ عَطَاءٌ : أَقَلُّ مَا يَكْفِيك ثَلَاثَةُ أَذْرُعٍ .
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ ؛ لِخَبَرِ ابْنِ عُمَرَ ، عَنْ بِلَالٍ { ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِي مُقَدَّمِ الْبَيْتِ ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِدَارِ ثَلَاثَةُ أَذْرُعٍ } .
وَكَلَّمَا دَنَا فَهُوَ أَفْضَلُ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَخْبَارِ وَالْمَعْنَى .

( 1209 ) فَصْلٌ : وَلَا بَأْسَ أَنْ يَسْتَتِرَ بِبَعِيرٍ أَوْ حَيَوَانٍ ، وَفَعَلَهُ ابْنُ عُمَرَ ، وَأَنَسٌ .
وَحُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ ، أَنَّهُ لَا يَسْتَتِرُ بِدَابَّةِ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى إلَى بَعِيرٍ .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ، وَمُسْلِمٌ .
وَفِي لَفْظٍ { : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِضُ رَاحِلَتَهُ ، وَيُصَلِّي إلَيْهَا .
قَالَ : قُلْت : فَإِذَا ذَهَبَ الرِّكَابُ ؟ قَالَ : يَعْرِضُ الرَّحْلَ ، وَيُصَلِّي إلَى آخِرَتِهِ ، فَإِنْ اسْتَتَرَ بِإِنْسَانٍ فَلَا بَأْسَ ، فَإِنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ غَيْرِهِ مِنْ السُّتْرَةِ } وَقَدْ رُوِيَ عَنْ حُمَيْدٍ بْنِ هِلَالٍ ، قَالَ : رَأَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَجُلًا يُصَلِّي ، وَالنَّاسُ يَمُرُّونَ بَيْنَ يَدَيْهِ ، فَوَلَّاهُ ظَهْرَهُ ، وَقَالَ بِثَوْبِهِ هَكَذَا ، وَبَسَطَ يَدَيْهِ هَكَذَا .
وَقَالَ : صَلِّ ، وَلَا تُعَجِّلْ .
وَعَنْ نَافِعٍ ، قَالَ : كَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا لَمْ يَجِدْ سَبِيلًا إلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ ، قَالَ : وَلِّنِي ظَهْرَكَ .
رَوَاهُمَا النَّجَّادُ بِإِسْنَادِهِ .

( 1210 ) فَصْلٌ : فَإِنْ لَمْ يَجِدْ سُتْرَةً خَطَّ خَطًّا ، وَصَلَّى إلَيْهِ ، وَقَامَ ذَلِكَ مَقَامَ السُّتْرَةِ ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَأَنْكَرَ مَالِكٌ الْخَطَّ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ بِالْخَطِّ بِالْعِرَاقِ ، وَقَالَ بِمِصْرَ : لَا يَخُطُّ الْمُصَلِّي خَطًّا ، إلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ سُنَّةٌ تُتَّبَعُ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ شَيْئًا ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيَنْصِبْ عَصًا ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَعَهُ عَصًا فَلْيَخُطَّ خَطًّا ، ثُمَّ لَا يَضُرُّهُ مَنْ مَرَّ أَمَامَهُ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَسُنَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى أَنْ تُتَّبَعَ .
( 1211 ) فَصْلٌ : وَصِفَةُ الْخَطِّ مِثْلُ الْهِلَالِ .
قَالَ أَبُو دَاوُد : سَمِعْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ غَيْرَ مَرَّةٍ ، وَسُئِلَ عَنْ الْخَطِّ فَقَالَ : هَكَذَا عَرْضًا مِثْلَ الْهِلَالِ .
قَالَ : وَسَمِعْت مُسَدِّدًا ، قَالَ : قَالَ ابْنُ دَاوُد : الْخَطُّ بِالطُّولِ .
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ : قَالُوا : طُولًا ، وَقَالُوا : عَرْضًا .
وَقَالَ : أَمَّا أَنَا فَأَخْتَارُ هَذَا .
وَدَوَّرَ بِإِصْبَعِهِ مِثْلَ الْقَنْطَرَةِ .
وَكَيْفَ مَا خَطَّهُ أَجْزَأَهُ ، فَقَدْ نَقَلَ حَنْبَلٌ ، أَنَّهُ قَالَ : إنْ شَاءَ مُعْتَرِضًا ، وَإِنْ شَاءَ طُولًا ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَدِيثَ مُطْلَقٌ فِي الْخَطِّ ، فَكَيْفَ مَا أَتَى بِهِ فَقَدْ أَتَى بِالْخَطِّ ، فَيُجْزِئُهُ ذَلِكَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( 1212 ) فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ مَعَهُ عَصَا فَلَمْ يُمْكِنْهُ نَصْبُهَا .
فَقَالَ الْأَثْرَمُ : قُلْت لِأَحْمَدَ : الرَّجُلُ يَكُونُ مَعَهُ عَصًا ، لَمْ يَقْدِرْ عَلَى غَرْزِهَا ، فَأَلْقَاهَا بَيْنَ يَدَيْهِ ، أَيُلْقِيهَا طُولًا أَمْ عَرْضًا ؟ قَالَ : لَا ، بَلْ عَرْضًا .
وَكَذَلِكَ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ .
وَكَرِهَهُ النَّخَعِيُّ .
وَلَنَا ، أَنَّ هَذَا فِي مَعْنَى الْخَطِّ ، فَيَقُومُ مَقَامَهُ ، وَقَدْ ثَبَتَ

اسْتِحْبَابُ الْخَطِّ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ .

( 1213 ) فَصْلٌ : وَإِذَا صَلَّى إلَى عُودٍ أَوْ عَمُودٍ أَوْ شَيْءٍ فِي مَعْنَاهُمَا ، اُسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يَنْحَرِفَ عَنْهُ ، وَلَا يَصْمُدُ لَهُ صَمَدًا ؛ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد ، عَنْ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ قَالَ { : مَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى إلَى عُودٍ أَوْ إلَى عَمُودٍ وَلَا شَجَرَةٍ ، إلَّا جَعَلَهُ عَلَى حَاجِبِهِ الْأَيْمَنِ أَوْ الْأَيْسَرِ ، وَلَا يَصْمُدُ لَهُ صَمَدًا .
أَيْ لَا يَسْتَقْبِلُهُ فَيَجْعَلُهُ وَسَطًا } .
وَمَعْنَى الصَّمَدِ : الْقَصْدُ .

( 1214 ) فَصْلٌ : تُكْرَهُ الصَّلَاةُ إلَى الْمُتَحَدِّثِينَ ، لِئَلَّا يَشْتَغِلَ بِحَدِيثِهِمْ .
وَاخْتُلِفَ فِي الصَّلَاةِ إلَى النَّائِمِ ، فَرُوِيَ أَنَّهُ يُكْرَهُ ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ .
وَعَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ فِي الْفَرِيضَةِ خَاصَّةً ، وَلَا يُكْرَهُ فِي التَّطَوُّعِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ وَعَائِشَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ يَدَيْهِ كَاعْتِرَاضِ الْجِنَازَةِ .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
قَالَ أَحْمَدُ : هَذَا فِي التَّطَوُّعِ ، وَالْفَرِيضَةُ أَشَدُّ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ إلَى النَّائِمِ وَالْمُتَحَدِّثِ .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
فَخَرَجَ التَّطَوُّعُ مِنْ عُمُومِهِ ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ ، بَقِيَ الْفَرْضُ عَلَى مُقْتَضَى الْعُمُومِ .
وَقِيلَ : لَا يُكْرَهُ فِيهِمَا ؛ لِأَنَّ حَدِيثَ عَائِشَةَ صَحِيحٌ ، وَحَدِيثُ النَّهْيِ ضَعِيفٌ .
قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ .
وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ : لَا فَرْقَ بَيْنَ الْفَرِيضَةِ وَالنَّافِلَةِ إلَّا فِي صَلَاةِ الرَّاكِبِ .
وَتَقْدِيمُ قِيَاسِ الْخَبَرِ الصَّحِيحِ أَوْلَى مِنْ الْخَبَرِ الضَّعِيفِ .

( 1215 ) فَصْلٌ : وَيُكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ مُسْتَقْبِلًا وَجْهَ إنْسَانٍ ؛ لِأَنَّ عُمَرَ أَدَّبَ عَلَى ذَلِكَ .
وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ { ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي حِذَاءَ وَسَطِ السَّرِيرِ ، وَأَنَا مُضْطَجِعَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ ، تَكُونُ لِي الْحَاجَةُ فَأَكْرَهُ أَنْ أَقُومَ فَأَسْتَقْبِلَهُ ، فَأَنْسَلَّ انْسِلَالًا } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَلِأَنَّهُ شِبْهُ السُّجُودِ لِذَلِكَ الشَّخْصِ .
وَيُكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ إلَى نَارٍ .
قَالَ أَحْمَدُ : إذَا كَانَ التَّنُّورُ فِي قِبْلَتِهِ لَا يُصَلِّي إلَيْهِ .
وَكَرِهَ ابْنُ سِيرِينَ ذَلِكَ .
وَقَالَ أَحْمَدُ ، فِي السِّرَاجِ وَالْقِنْدِيلِ يَكُونُ فِي الْقِبْلَةِ : أَكْرَهُهُ .
وَأَكْرَهُ كُلَّ شَيْءٍ .
حَتَّى كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يَجْعَلُوا شَيْئًا فِي الْقِبْلَةِ حَتَّى الْمُصْحَفَ ، وَإِنَّمَا كَرِهَ ذَلِكَ لِأَنَّ النَّارَ تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ، فَالصَّلَاةُ إلَيْهَا تُشْبِهُ الصَّلَاةَ لَهَا .
وَقَالَ أَحْمَدُ : لَا تُصَلِّ إلَى صُورَةٍ مَنْصُوبَةٍ فِي وَجْهِكَ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الصُّورَةَ تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ ، قَالَتْ : كَانَ لَنَا ثَوْبٌ فِيهِ تَصَاوِيرُ ، فَجَعَلْتُهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي ، فَنَهَانِي .
أَوْ قَالَتْ : كَرِهَ ذَلِكَ .
رَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ ، بِإِسْنَادِهِ .
وَلِأَنَّ التَّصَاوِيرَ تَشْغَلُ الْمُصَلِّيَ بِالنَّظَرِ إلَيْهَا ، وَتُذْهِلُهُ عَنْ صَلَاتِهِ .
وَقَالَ أَحْمَدُ : يُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ فِي الْقِبْلَةِ شَيْءٌ مُعَلَّقٌ ، مُصْحَفٌ أَوْ غَيْرُهُ ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعًا بِالْأَرْضِ .
وَقَدْ رَوَى مُجَاهِدٌ ، قَالَ : لَمْ يَكُنْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَدَعُ شَيْئًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ إلَّا نَزَعَهُ ، لَا سَيْفًا وَلَا مُصْحَفًا .
رَوَاهُ الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ .
قَالَ أَحْمَدُ : وَلَا يُكْتَبُ فِي الْقِبْلَةِ شَيْءٌ ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَشْغَلُ قَلْبَ الْمُصَلِّي ، وَرُبَّمَا اشْتَغَلَ بِقِرَاءَتِهِ عَنْ صَلَاتِهِ ، وَكَذَلِكَ يُكْرَهُ تَزْوِيقُهَا ، وَكُلُّ مَا

يَشْغَلُ الْمُصَلِّيَ عَنْ صَلَاتِهِ ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِي خَمِيصَةٍ لَهَا أَعْلَامٌ ، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ ، قَالَ { : اذْهَبُوا بِهَذِهِ إلَى أَبِي جَهْمِ بْنِ حُذَيْفَةَ ، فَإِنَّهَا أَلْهَتْنِي آنِفًا عَنْ صَلَاتِي .
وَأْتُونِي بِأَنْبِجَانِيَّتِهِ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَائِشَةَ { : أَمِيطِي عَنَّا قِرَامَك ، فَإِنَّهُ لَا يَزَالُ تَصَاوِيرُهُ تَعْرِضُ لِي فِي صَلَاتِي } .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ مَا أَيَّدَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ الْعِصْمَةِ وَالْخُشُوعِ ، يَشْغَلُهُ ذَلِكَ ، فَغَيْرُهُ مِنْ النَّاسِ أَوْلَى .

( 1216 ) فَصْلٌ : وَيُكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ وَأَمَامَهُ امْرَأَةٌ ؛ تُصَلِّي ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : أَخِّرُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَخَّرَهُنَّ اللَّهُ } .
فَأَمَّا فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ فَلَا يُكْرَهُ ؛ لِخَبَرِ عَائِشَةَ .
وَرَوَى أَبُو حَفْصٍ ، بِإِسْنَادِهِ ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ ، قَالَتْ : كَانَ فِرَاشِي حِيَالَ مُصَلَّى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَإِنْ كَانَتْ عَنْ يَمِينِهِ أَوْ يَسَارِهِ ، لَمْ يُكْرَهْ ، وَإِنْ كَانَتْ فِي صَلَاةٍ .
وَكَرِهَ أَحْمَدُ أَنْ يُصَلِّيَ وَبَيْنَ يَدَيْهِ كَافِرٌ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ إِسْحَاقَ ؛ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ نَجَسٌ .

( 1217 ) فَصْلٌ : وَلَا بَأْسَ أَنْ يُصَلِّيَ بِمَكَّةَ إلَى غَيْرِ سُتْرَةٍ ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ ، وَعَطَاءٍ ، وَمُجَاهِدٍ .
قَالَ الْأَثْرَمُ ، قِيلَ لِأَحْمَدَ : الرَّجُلُ يُصَلِّي بِمَكَّةَ ، وَلَا يَسْتَتِرُ بِشَيْءٍ ؟ فَقَالَ : قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ صَلَّى ثَمَّ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطَّوَافِ سُتْرَةٌ .
قَالَ أَحْمَدُ : لِأَنَّ مَكَّةَ لَيْسَتْ كَغَيْرِهَا ، كَأَنَّ مَكَّةَ مَخْصُوصَةٌ .
وَذَلِكَ لِمَا رَوَى كَثِيرُ بْنُ كَثِيرِ بْنِ الْمُطَّلِبِ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ الْمُطَّلَبِ ، قَالَ : رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي حِيَالَ الْحِجْرِ ، وَالنَّاسُ يَمُرُّونَ بَيْنَ يَدَيْهِ .
رَوَاهُ الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ .
وَرَوَى الْأَثْرَمُ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ الْمُطَّلَبِ ، قَالَ : رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا فَرَغَ مِنْ سَعْيِهِ ، جَاءَ حَتَّى يُحَاذِيَ الرُّكْنَ بَيْنَهُ وَبَيْنِ السَّقِيفَةِ ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْهِ فِي حَاشِيَةِ الْمَطَافِ ، وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطَّوَافِ أَحَدٌ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي عَمَّارٍ : رَأَيْت ابْنَ الزُّبَيْرِ جَاءَ يُصَلِّي ، وَالطَّوَافُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ ، تَمُرُّ الْمَرْأَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ ، فَيَنْتَظِرهَا حَتَّى تَمُرَّ ، ثُمَّ يَضَعُ جَبْهَتَهُ فِي مَوْضِعِ قَدَمِهَا .
رَوَاهُ حَنْبَلٌ ، فِي كِتَابِ " الْمَنَاسِكِ " .
وَقَالَ الْمُعْتَمِرُ ، قُلْت لِطَاوُسٍ : الرَّجُلُ يُصَلِّي - يَعْنِي بِمَكَّةَ - فَيَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ ؟ فَقَالَ : أُوَلًا يَرَى النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا .
وَإِذَا هُوَ يَرَى أَنَّ لِهَذَا الْبَلَدِ حَالًا لَيْسَ لِغَيْرِهِ مِنْ الْبُلْدَانِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّاسَ يَكْثُرُونَ بِمَكَّةَ لِأَجْلِ قَضَاءِ نُسُكِهِمْ ، وَيَزْدَحِمُونَ فِيهَا ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ بَكَّةَ ، لِأَنَّ النَّاسَ يَتَبَاكَوْنَ فِيهَا ، أَيْ : يَزْدَحِمُونَ وَيَدْفَعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، فَلَوْ مَنَعَ الْمُصَلِّي مَنْ يَجْتَازُ بَيْنَ يَدَيْهِ لَضَاقَ عَلَى النَّاسِ ، وَحُكْمُ الْحَرَمِ كُلِّهِ حُكْمُ مَكَّةَ فِي هَذَا ، بِدَلِيلِ مَا

رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ ، قَالَ : أَقْبَلْت رَاكِبًا عَلَى حِمَارٍ أَتَانٍ ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ بِمِنَى إلَى غَيْرِ جِدَارٍ .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَلِأَنَّ الْحَرَمَ كُلَّهُ مَحِلُّ الْمَشَاعِرِ وَالْمَنَاسِكِ ، فَجَرَى مَجْرَى مَكَّةَ فِي مَا ذَكَرْنَاهُ .
فَصْلٌ : وَلَوْ صَلَّى فِي غَيْرِ مَكَّةَ إلَى غَيْرِ سُتْرَةٍ ، لَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ ، لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ ، قَالَ : صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فَضَاءٍ لَيْسَ بَيْن يَدَيْهِ شَيْءٌ .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَرُوِيَ عَنْ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَاهُمْ فِي بَادِيَتِهِمْ فَصَلَّى إلَى غَيْرِ سُتْرَةٍ .
وَلِأَنَّ السُّتْرَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي الصَّلَاةِ ، وَإِنَّمَا هِيَ مُسْتَحَبَّةٌ .
قَالَ أَحْمَدُ ، فِي الرَّجُلِ يُصَلِّي فِي فَضَاءٍ لَيْسَ بَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةٌ وَلَا خَطٌّ : صَلَاتُهُ جَائِزَةٌ .
وَقَالَ : أَحَبُّ أَنْ يَفْعَلَ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ يُجَزِّئهُ .

( 1219 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَمَنْ مَرَّ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي فَلْيَرْدُدْهُ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ لَيْسَ لَأَحَدٍ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةٌ ، فَإِنْ كَانَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةٌ لَمْ يَمُرّ أَحَدٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا ؛ لِمَا رَوَى أَبُو جَهْمٍ الْأَنْصَارِيُّ ، قَالَ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَوْ يَعْلَمُ الْمَارُّ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ مِنْ الْإِثْمِ ، لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ خَيْرًا لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرّ بَيْنَ يَدَيْهِ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَلِمُسْلِمِ : { لَأَنْ يَقِفَ أَحَدُكُمْ مِائَةَ عَامٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْ أَخِيهِ وَهُوَ يُصَلِّي } .
وَقَدْ سَمَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي شَيْطَانًا ، وَأَمَرَ بِرَدِّهِ وَمُقَاتَلَتِهِ .
وَرُوِيَ عَنْ يَزِيدَ بْن نِمْرَانِ أَنَّهُ قَالَ : رَأَيْت رَجُلًا بِتَبُوك مُقْعَدًا ، فَقَالَ { : مَرَرْت بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا عَلَى حِمَارٍ وَهُوَ يُصَلِّي ، فَقَالَ : اللَّهُمَّ اقْطَعْ أَثَرَهُ فَمَا مَشَيْت عَلَيْهَا بَعْدُ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَفِي لَفْظٍ قَالَ { : قَطَعَ صَلَاتَنَا ، قَطَعَ اللَّهُ أَثَرَهُ } .
وَإِنْ أَرَادَ أَحَدٌ الْمُرُورَ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي ، فَلَهُ مَنَعَهُ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ؛ مِنْهُمْ ابْنُ مَسْعُودٍ ، وَابْنُ عُمَرَ ، وَسَالِم .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ، وَأَبِي ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ .
وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ ، قَالَ : سَمِعْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { : إذَا كَانَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي إلَى شَيْءٍ يَسْتُرُهُ مِنْ النَّاسِ ، فَأَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ ، فَلْيَدْفَعْهُ ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ ، فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَلَفْظُ رِوَايَتِهِ { : إذَا كَانَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي فَلَا يَدَعْ أَحَدًا يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَلِيَدْرَأْهُ

مَا اسْتَطَاعَ ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ ، فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ } .
وَمَعْنَاهُ : أَيْ لِيَدْفَعْهُ .
وَهَذَا فِي أُولِي الْأَمْرِ لَا يَزِيدُ عَلَى دَفْعِهِ ، فَإِنْ أَبَى ، وَلَجَّ ، فَلِيُقَاتِلْهُ ، أَيْ يُعَنِّفْهُ فِي دَفْعِهِ مِنْ الْمُرُورِ ، فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ ، أَيْ فِعْلُهُ فِعْلُ الشَّيْطَانِ ، أَوْ الشَّيْطَانُ يَحْمِلُهُ عَلَى ذَلِكَ .
وَقِيلَ مَعْنَاهُ : أَنَّ مَعَهُ شَيْطَانًا .
وَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ، أَنَّ الْمَارَّ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي إذَا لَجَّ فِي الْمُرُورِ ، وَأَبَى الرُّجُوعَ ، أَنَّ الْمُصَلِّيَ يَشْتَدُّ عَلَيْهِ فِي الدَّفْعِ ، وَيَجْتَهِدُ فِي رَدِّهِ ، مَا لَمْ يُخْرِجْهُ ذَلِكَ إلَى إفْسَادِ صَلَاتِهِ بِكَثْرَةِ الْعَمَلِ فِيهَا .
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : يَدْرَأُ مَا اسْتَطَاعَ ، وَأَكْرَهُ الْقِتَالَ فِي الصَّلَاةِ .
وَذَلِكَ لِمَا يُفْضِي إلَيْهِ مِنْ الْفِتْنَةِ وَفَسَادِ الصَّلَاةِ ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا أَمَرَ بِرَدِّهِ وَدَفْعِهِ حِفْظًا لِلصَّلَاةِ عَمَّا يَنْقُصُهَا ، فَيُعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ مَا يُفْسِدُهَا وَيَقْطَعُهَا بِالْكُلِّيَّةِ ، فَيُحْمَلُ لَفْظُ الْمُقَاتَلَةِ عَلَى دَفْعٍ أَبْلَغَ مِنْ الدَّفْعِ الْأَوَّلِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَدْ رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ ؛ قَالَتْ { : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِي حُجْرَةِ أُمِّ سَلَمَةَ ، فَمَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ ، أَوْ عُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ .
فَقَالَ بِيَدِهِ ، فَرَجَعَ ، فَمَرَّتْ زَيْنَبُ بِنْتُ أُمِّ سَلَمَةَ ، فَقَالَ بِيَدِهِ هَكَذَا ، فَمَضَتْ ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : هُنَّ أَغْلَبُ } .
رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَجْتَهِدْ فِي الدَّفْعِ .
فَصْلٌ : يُسْتَحَبُّ أَنْ يَرُدَّ مَا مَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ كَبِيرٍ وَصَغِيرٍ ، وَإِنْسَانٍ وَبَهِيمَةٍ ؛ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ رَدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَرَ وَزَيْنَبَ وَهُمَا صَغِيرَانِ ، وَفِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ،

عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى إلَى جُدُرٍ ، فَاِتَّخَذَهُ قِبْلَةً وَنَحْنُ خَلْفَهُ ، فَجَاءَتْ بَهِيمَةٌ تَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ ، فَمَا زَالَ يَدْرَأُ بِهَا حَتَّى لَصِقَ بَطْنُهُ بِالْجِلْدِ ، فَمَرَّتْ مِنْ وَرَائِهِ .
( 1221 ) فَصْلٌ : فَإِنْ مَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ إنْسَانٌ فَعَبَرَ ، لَمْ يُسْتَحَبَّ رَدُّهُ مِنْ حَيْثُ جَاءَ .
وَهَذَا قَوْلُ الشَّعْبِيِّ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَإِسْحَاقَ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ ، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ ؛ أَنَّهُ يَرُدُّهُ مِنْ حَيْثُ جَاءَ ، وَفَعَلَهُ سَالِمٌ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِرَدِّهِ ، فَتَنَاوَلَ الْعَابِرَ .
وَلَنَا ، أَنَّ هَذَا مُرُورٌ ثَانٍ ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُنْسَبَ إلَيْهِ كَالْأَوَّلِ ، وَلِأَنَّ الْمَارَّ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَعُودَ مِنْ حَيْثُ جَاءَ لَكَانَ مَأْمُورًا بِمَنْعِهِ ، وَلَمْ يَحِلَّ لِلْعَابِرِ الْعَوْدُ ، وَالْحَدِيثُ لَمْ يَتَنَاوَلْ الْعَابِرَ ، إنَّمَا فِي الْخَبَرِ { : فَأَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلْيَدْفَعْهُ } .
وَبَعْدَ الْعُبُورِ فَلَيْسَ هَذَا مُرِيدًا لِلِاجْتِيَازِ .
( 1222 ) فَصْلٌ : وَالْمُرُورُ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي يَنْقُصُ الصَّلَاةَ وَلَا يَقْطَعُهَا .
قَالَ أَحْمَدُ : يَضَعُ مِنْ صَلَاتِهِ ، وَلَكِنْ لَا يَقْطَعُهَا .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ ، أَنَّ مَمَرَّ الرَّجُلِ يَضَعُ نِصْفَ الصَّلَاةِ .
وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ إذَا مَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ رَجُلٌ الْتَزَمَهُ حَتَّى يَرُدَّهُ .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ بِإِسْنَادِهِ .
قَالَ الْقَاضِي : يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ نَقْصُ الصَّلَاةِ عَلَى مَنْ أَمْكَنَهُ الرَّدُّ فَلَمْ يَفْعَلْهُ ، أَمَّا إذَا رَدَّ فَلَمْ يُمْكِنْهُ الرَّدُّ فَصَلَاتُهُ تَامَّةٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ مَا يَنْقُصُ الصَّلَاةَ ، فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهَا ذَنْبُ غَيْرِهِ .

( 1223 ) فَصْلٌ : وَلَا بَأْسَ بِالْعَمَلِ الْيَسِيرِ فِي الصَّلَاةِ لِلْحَاجَةِ .
قَالَ أَحْمَدُ : لَا بَأْسَ أَنْ يَحْمِلَ الرَّجُلُ وَلَدَهُ فِي الصَّلَاةِ الْفَرِيضَةِ ؛ لِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ ، وَحَدِيثِ عَائِشَةَ ، أَنَّهَا اسْتَفْتَحَتْ الْبَابَ ، فَمَشَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى فَتَحَ لَهَا .
وَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِ الْأَسْوَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ .
فَإِذَا رَأَى الْعَقْرَبَ خَطَا إلَيْهَا ، وَأَخَذَ النَّعْلَ ، وَقَتَلَهَا ، وَرَدَّ النَّعْلَ إلَى مَوْضِعِهَا ؛ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ نَظَرَ إلَى رِيشَةٍ فَحَسِبَهَا عَقْرَبًا ، فَضَرَبَهَا بِنَعْلِهِ ، وَحَدِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ الْتَحَفَ بِإِزَارِهِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ .
فَلَا بَأْسَ إنْ سَقَطَ رِدَاءُ الرَّجُلِ أَنْ يَرْفَعَهُ ، وَإِنْ انْحَلَّ إزَارُهُ أَنْ يَشُدَّهُ .
وَإِذَا عَتَقَتْ الْأَمَةُ وَهِيَ تُصَلِّي اخْتَمَرَتْ ، وَبَنَتْ عَلَى صَلَاتِهَا .
وَقَالَ : مِنْ فَعَلَ كَفِعْلِ أَبِي بَرْزَةَ ، حِينَ مَشَى إلَى الدَّابَّةِ وَقَدْ أَفْلَتَتْ مِنْهُ ، فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ .
وَهَذَا لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْمُشَرِّعُ ، فَمَا فَعَلَهُ أَوْ أَمَرَ بِهِ ، فَلَا بَأْسَ بِهِ .
وَمِثْلُ هَذَا مَا رَوَى سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى مِنْبَرِهِ ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ نَزَلَ عَنْ الْمِنْبَرِ فَسَجَدَ بِالْأَرْضِ ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى الْمِنْبَرِ كَذَلِكَ ، حَتَّى قَضَى صَلَاتَهُ .
وَحَدِيثُ جَابِرٍ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ ، قَالَ : ثُمَّ تَأَخَّرَ ، وَتَأَخَّرَتْ الصُّفُوفُ خَلْفَهُ ، حَتَّى انْتَهَيْنَا إلَى النِّسَاءِ ، ثُمَّ تَقَدَّمَ ، وَتَقَدَّمَ النَّاسُ مَعَهُ ، حَتَّى قَامَ فِي مَقَامِهِ .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ ، قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِنَا ، فَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ يَجِيءُ وَهُوَ صَغِيرٌ ، فَكَانَ كُلَّمَا سَجَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَثَبَ عَلَى ظَهْرِهِ ، وَيَرْفَعُ النَّبِيُّ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسَهُ رَفْعًا رَفِيقًا حَتَّى يَضَعَهُ بِالْأَرْضِ .
رَوَاهُ الْأَثْرَمُ .
وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَزُلْ يُدَارِئُ الْبَهْمَةَ حَتَّى لَصِقَ بِالْجُدُرِ وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ بِالْأَمْرِ بِدَفْعِ الْمَارِّ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي ، وَمُقَاتَلَتِهِ إذَا أَبَى الرُّجُوعَ .
فَكُلُّ هَذَا وَأَشْبَاهُهُ لَا بَأْسَ بِهِ فِي الصَّلَاةِ ، وَلَا يُبْطِلُهَا ، وَلَوْ فَعَلَ هَذَا لِغَيْرِ حَاجَةٍ ، كُرِهَ ، وَلَا يُبْطِلُهَا أَيْضًا .
وَلَا يَتَقَدَّرُ الْجَائِزُ مِنْ هَذَا بِثَلَاثٍ وَلَا بِغَيْرِهَا مِنْ الْعَدَدِ ؛ لِأَنَّ فِعْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظَّاهِرُ مِنْهُ زِيَادَتُهُ عَلَى ثَلَاثٍ ، كَتَأَخُّرِهِ حَتَّى تَأَخَّرَ الرِّجَالُ فَانْتَهَوْا إلَى النِّسَاءِ ، وَفِي حَمْلِهِ أُمَامَةَ وَوَضْعِهَا فِي كُلِّ رَكْعَةٍ ، وَهَذَا فِي الْغَالِبِ يَزِيدُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَفْعَالٍ ، وَكَذَلِكَ مَشْيُ أَبِي بَرْزَةَ مَعَ دَابَّتِهِ .
وَلِأَنَّ التَّقْدِيرَ بَابُهُ التَّوْقِيفُ ، وَهَذَا لَا تَوْقِيفَ فِيهِ ، وَلَكِنْ يُرْجَعُ فِي الْكَثِيرِ وَالْيَسِيرِ إلَى الْعُرْفِ ، فِيمَا يُعَدُّ كَثِيرًا أَوْ يَسِيرًا ، وَكُلُّ مَا شَابَهُ فِعْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ مَعْدُودٌ يَسِيرًا .
وَإِنْ فَعَلَ أَفْعَالًا مُتَفَرِّقَةً لَوْ جُمِعَتْ كَانَتْ كَثِيرَةً ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِمُفْرَدِهِ يَسِيرٌ ، فَهِيَ فِي حَدِّ الْيَسِيرِ ؛ بِدَلِيلِ حَمْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمَامَةَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ وَوَضْعِهَا .
وَمَا كَثُرَ وَزَادَ عَلَى فِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبْطَلَ الصَّلَاةَ سَوَاءٌ كَانَ لِحَاجَةٍ أَوْ غَيْرِهَا ، إلَّا أَنْ يَكُونَ لِضَرُورَةِ ، فَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ الْخَائِفِ ، فَلَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ بِهِ ، وَإِنْ احْتَاجَ إلَى الْفِعْلِ الْكَثِيرِ فِي الصَّلَاةِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ ، قَطَعَ الصَّلَاةَ ، وَفَعَلَهُ .
قَالَ أَحْمَدُ : إذَا رَأَى صَبِيَّيْنِ يَقْتَتِلَانِ ، يَتَخَوَّفُ أَنْ يُلْقِيَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فِي الْبِئْرِ ، فَإِنَّهُ يَذْهَبُ

إلَيْهِمَا فَيُخَلِّصُهُمَا ، وَيَعُودُ فِي صَلَاتِهِ .
وَقَالَ : إذَا لَزِمَ رَجُلٌ رَجُلًا ، فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ ، وَقَدْ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ ، فَلَمَّا سَجَدَ الْإِمَامُ خَرَجَ الْمَلْزُومُ ، فَإِنَّ الَّذِي كَانَ يَلْزَمُهُ يَخْرُجُ فِي طَلَبِهِ .
يَعْنِي : وَيَبْتَدِئُ الصَّلَاةَ .
وَهَكَذَا لَوْ رَأَى حَرِيقًا يُرِيدُ إطْفَاءَهُ ، أَوْ غَرِيقًا يُرِيدُ إنْقَاذَهُ ، خَرَجَ إلَيْهِ ، وَابْتَدَأَ الصَّلَاةَ .
وَلَوْ انْتَهَى الْحَرِيقُ إلَيْهِ ، أَوْ السَّيْلُ ، وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ ، فَفَرَّ مِنْهُ ، بَنَى عَلَى صَلَاتِهِ ، وَأَتَمَّهَا صَلَاةَ خَائِفٍ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( 1224 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَلَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ إلَّا الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ الْبَهِيمُ ) .
يَعْنِي إذَا مَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ .
هَذَا الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، نَقَلَهُ الْجَمَاعَةُ عَنْهُ .
قَالَ الْأَثْرَمُ : سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ ؟ قَالَ لَا يَقْطَعُهَا عِنْدِي شَيْءٌ إلَّا الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ الْبَهِيمُ .
وَهَذَا قَوْلُ عَائِشَةَ وَحُكِيَ عَنْ طَاوُسٍ وَرَوَى عَنْ مُعَاذٍ وَمُجَاهِدٍ أَنَّهُمَا قَالَا : الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ الْبَهِيمُ شَيْطَانٌ ، وَهُوَ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ .
وَمَعْنَى الْبَهِيمِ الَّذِي لَيْسَ فِي لَوْنِهِ شَيْءٌ سِوَى السَّوَادِ .
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى ، أَنَّهُ يَقْطَعُهَا الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ ، وَالْمَرْأَةُ إذَا مَرَّتْ ، وَالْحِمَارُ .
قَالَ : وَحَدِيثُ عَائِشَةَ مِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ : لَيْسَ بِحَجَّةِ عَلَى هَذَا ؛ لِأَنَّ الْمَارَّ غَيْرُ اللَّابِثِ ، وَهُوَ فِي التَّطَوُّعِ ، وَهُوَ أَسْهَلُ ، وَالْفَرْضُ آكَدُ .
وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ : مَرَرْت بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ .
لَيْسَ بِحَجَّةِ ؛ لِأَنَّ سُتْرَةَ الْإِمَامِ سُتْرَةٌ لِمَنْ خَلْفَهُ وَرُوِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ أَنَسٍ وَعِكْرِمَةَ ، وَالْحَسَنِ ، وَأَبِي الْأَحْوَصِ .
وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { يَقْطَعُ الصَّلَاةَ الْمَرْأَةُ ، وَالْحِمَارُ ، وَالْكَلْبُ ، وَيَقِي ذَلِكَ مِثْلُ مُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ .
} وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي ، فَإِنَّهُ يَسْتُرُهُ مِثْلُ آخِرَةِ الرَّحْلِ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْهِ مِثْلُ آخِرَةِ الرَّحْلِ فَإِنَّهُ يَقْطَعُ صَلَاتَهُ الْحِمَارُ ، وَالْمَرْأَةُ ، وَالْكَلْبُ الْأَسْوَدُ } قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الصَّامِتِ : يَا أَبَا ذَرٍّ ، مَا بَالُ الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْكَلْبِ الْأَحْمَرِ مِنْ الْكَلْبِ الْأَصْفَرِ ؟ قَالَ : يَا ابْنَ أَخِي ، سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا سَأَلْتنِي فَقَالَ { الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ شَيْطَانٌ } .

رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ ، وَأَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُمَا .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي مَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ عَلَى حِمَارٍ : " قَطَعَ صَلَاتَنَا " .
وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا الْحَدِيثَ وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ يَقُولَانِ : يَقْطَعُ الصَّلَاةَ الْكَلْبُ ، وَالْمَرْأَةُ الْحَائِضُ وَرَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد ، وَابْنُ مَاجَهْ .
قَالَ أَبُو دَاوُد : رَفَعَهُ شُعْبَةُ ، وَوَقَفَهُ ، سَعِيدٌ ، وَهِشَامٌ ، وَهَمَّامٌ ، عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ .
وَقَالَ عُرْوَةُ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ : لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ شَيْءٌ ؛ لِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ شَيْءٌ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَعَنْ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : { أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ فِي بَادِيَةٍ ، فَصَلَّى فِي صَحْرَاءَ لَيْسَ بَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةٌ ، وَحِمَارَةٌ لَنَا وَكَلْبَةٌ يَعْبَثَانِ بَيْنَ يَدَيْهِ ، فَمَا بَالَى ذَلِكَ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَقَالَتْ عَائِشَةُ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي صَلَاتَهُ مِنْ اللَّيْلِ ، وَأَنَا مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ } .
وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ : { أَقْبَلْت رَاكِبًا عَلَى حِمَارٍ أَتَانٍ ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي ، فَمَرَرْت عَلَى بَعْضِ الصَّفِّ ، وَنَزَلْت ، فَأَرْسَلْت الْأَتَانَ تَرْتَعُ .
فَدَخَلْت فِي الصَّفِّ ، فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيَّ أَحَدٌ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا .
وَحَدِيثُ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ ، حِينَ مَرَّتْ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَقْطَعْ صَلَاتَهُ .
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي ، فَجَاءَتْ جَارِيَتَانِ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، حَتَّى أَخَذَتَا بِرُكْبَتَيْهِ ، فَقَرَعَ بَيْنَهُمَا فَمَا بَالَى ذَلِكَ .
وَلَنَا ، حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي

ذَرٍّ ، وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ : { لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ شَيْءٌ } .
يَرْوِيهِ مُجَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ ، وَهُوَ ضَعِيفٌ ، فَلَا يُعَارَضُ بِهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ ، ثُمَّ حَدِيثُنَا أَخَصُّ ، فَيَجِبُ تَقْدِيمُهُ لِصِحَّتِهِ وَخُصُوصِهِ ، وَحَدِيثُ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ فِي إسْنَادِهِ مُقَاتِلٌ ، ثُمَّ يَحْتَمِلُ أَنَّ الْكَلْبَ لَمْ يَكُنْ أَسْوَدَ وَلَا بَهِيمًا ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا بَعِيدَيْنِ ، ثُمَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ كُلُّهَا فِي الْمَرْأَةِ ، وَالْحِمَارِ ، يُعَارِضُ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي ذَرٍّ فِيهِمَا ، فَيَبْقَى الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ خَالِيًا عَنْ مُعَارِضٍ ، فَيَجِبُ الْقَوْلُ بِهِ لِثُبُوتِهِ ، وَخُلُوِّهِ عَنْ مُعَارِضٍ ( 1225 ) فَصْلٌ : وَلَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ شَيْءٌ سِوَى مَا ذَكَرْنَا ، لَا مِنْ الْكِلَابِ وَلَا مِنْ غَيْرِهَا ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَصَّهَا بِالذِّكْرِ .
وَقِيلَ لَهُ : مَا بَالُ الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْكَلْبِ الْأَحْمَرِ مِنْ الْكَلْبِ الْأَصْفَرِ ؟ قَالَ : " الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ شَيْطَانٌ " وَكَذَلِكَ الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ إذَا لَمْ يَكُنْ بَهِيمًا لَمْ يَقْطَعْ الصَّلَاةَ ؛ لِتَخْصِيصِهِ الْبَهِيمَ بِالذِّكْرِ ، وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { لَوْلَا أَنَّ الْكِلَابَ أُمَّةٌ مِنْ الْأُمَمِ لَأَمَرْت بِقَتْلِهَا ، فَاقْتُلُوا مِنْهَا كُلَّ أَسْوَدَ بَهِيمٍ ، فَإِنَّهُ شَيْطَانٌ } .
فَبَيَّنَ أَنَّ الشَّيْطَانَ هُوَ الْأَسْوَدُ الْبَهِيمُ ، قَالَ ثَعْلَبٌ : الْبَهِيمُ كُلُّ لَوْنٍ لَمْ يُخَالِطْهُ لَوْنٌ آخَرُ فَهُوَ بَهِيمٌ .
فَمَتَى كَانَ فِيهِ لَوْنٌ آخَرُ فَلَيْسَ بِبَهِيمِ .
وَإِنْ كَانَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ نُكْتَتَانِ يُخَالِفَانِ لَوْنَهُ لَمْ يَخْرُجْ بِهَذَا عَنْ كَوْنِهِ بَهِيمًا ، يَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامُ الْأَسْوَدِ الْبَهِيمِ ؛ مِنْ قَطْعِ الصَّلَاةِ ، وَتَحْرِيمِ صَيْدِهِ ، وَإِبَاحَةِ قَتْلِهِ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثٍ : { عَلَيْكُمْ بِالْأَسْوَدِ الْبَهِيمِ ذِي الْغُرَّتَيْنِ ، فَإِنَّهُ شَيْطَانٌ } .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71