الكتاب : المغني
المؤلف : أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد ، الشهير بابن قدامة المقدسي

( 1635 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا مَنْ قُتِلَ ظُلْمًا ، أَوْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ ، أَوْ دُونَ نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا ، يُغَسَّلُ .
اخْتَارَهَا الْخَلَّالُ ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَمَالِكٍ ؛ لِأَنَّ رُتْبَتَهُ دُونَ رُتْبَةِ الشَّهِيدِ فِي الْمُعْتَرَكِ ، فَأَشْبَهَ الْمَبْطُونَ ؛ وَلِأَنَّ هَذَا لَا يَكْثُرُ الْقَتْلُ فِيهِ ، فَلَمْ يَجُزْ إلْحَاقُهُ بِشُهَدَاءِ الْمُعْتَرَكِ .
وَالثَّانِيَةُ ، لَا يُغَسَّلُ ، وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ ، وَإِسْحَاقَ فِي الْغُسْلِ ؛ لِأَنَّهُ قُتِلَ شَهِيدًا ، أَشْبَهَ شَهِيدَ الْمُعْتَرَكِ ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ .
}

( 1636 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا الشَّهِيدُ بِغَيْرِ قَتْلٍ ، كَالْمَبْطُونِ ، وَالْمَطْعُونِ ، وَالْغَرِقِ ، وَصَاحِبِ الْهَدْمِ ، وَالنُّفَسَاءِ ، فَإِنَّهُمْ يُغَسَّلُونَ ، وَيُصَلَّى عَلَيْهِمْ ؛ لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا ، إلَّا مَا يُحْكَى عَنْ الْحَسَنِ : لَا يُصَلَّى عَلَى النُّفَسَاءِ ؛ لِأَنَّهَا شَهِيدَةٌ .
وَلَنَا ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى امْرَأَةٍ مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا ، فَقَامَ وَسَطَهَا .
} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
{ وَصَلَّى عَلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ ، وَهُوَ شَهِيدٌ .
} وَصَلَّى الْمُسْلِمُونَ عَلَى عُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَهُمَا شَهِيدَانِ .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ : الْمَطْعُونُ ، وَالْمَبْطُونُ ، وَالْغَرِقُ ، وَصَاحِبُ الْهَدْمِ ، وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ .
} قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَعَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الشَّهَادَةُ سَبْعٌ سِوَى الْقَتْلِ .
} وَزَادَ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي هَذَا الْخَبَرِ : " صَاحِبُ الْحَرِيقِ ، وَصَاحِبُ ذَاتِ الْجَنْبِ ، وَالْمَرْأَةُ تَمُوتُ بِجَمْعٍ شَهِيدَةٌ " .
وَكُلُّ هَؤُلَاءِ يُغَسَّلُونَ وَيُصَلَّى عَلَيْهِمْ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ غُسْلَ الشَّهِيدِ فِي الْمَعْرَكَةِ ؛ لِمَا يَتَضَمَّنُهُ مِنْ إزَالَةِ الدَّمِ الْمُسْتَطَابِ شَرْعًا ، أَوْ لِمَشَقَّةِ غُسْلِهِمْ ، لِكَثْرَتِهِمْ ، أَوْ لِمَا فِيهِمْ مِنْ الْجِرَاحِ ، وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ هَاهُنَا .

( 1637 ) فَصْلٌ : فَإِنْ اخْتَلَطَ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ بِمَوْتَى الْمُشْرِكِينَ ، فَلَمْ يُمَيَّزُوا ، صَلَّى عَلَى جَمِيعِهِمْ يَنْوِي الْمُسْلِمِينَ .
قَالَ أَحْمَدُ : وَيَجْعَلُهُمْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ ، ثُمَّ يُصَلِّي عَلَيْهِمْ .
وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ أَكْثَرَ ، صَلَّى عَلَيْهِمْ ، وَإِلَّا فَلَا ؛ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْأَكْثَرِ ، بِدَلِيلِ أَنَّ دَارَ الْمُسْلِمِينَ الظَّاهِرُ فِيهَا الْإِسْلَامُ ؛ لِكَثْرَةِ الْمُسْلِمِينَ بِهَا ، وَعَكْسُهَا دَارُ الْحَرْبِ ، لِكَثْرَةِ مَنْ بِهَا مِنْ الْكُفَّارِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ أَمْكَنَ الصَّلَاةَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ ، فَوَجَبَ ، كَمَا لَوْ كَانُوا أَكْثَرَ ، وَلِأَنَّهُ إذَا جَازَ أَنْ يَقْصِدَ بِصَلَاتِهِ وَدُعَائِهِ الْأَكْثَرَ ، جَازَ قَصْدُ الْأَقَلِّ ، وَيَبْطُلُ مَا قَالُوهُ بِمَا إذَا اخْتَلَطَتْ أُخْتُهُ بِأَجْنَبِيَّاتٍ ، أَوْ مَيْتَةٌ بِمُذَكَّيَاتٍ ، ثَبَتَ الْحُكْمُ لِلْأَقَلِّ ، دُونَ الْأَكْثَرِ .

( 1638 ) فَصْلٌ : وَإِنْ وُجِدَ مَيِّتٌ ، فَلَمْ يُعْلَمْ أَمُسْلِمٌ هُوَ أَمْ كَافِرٌ ، نُظِرَ إلَى الْعَلَامَاتِ ، مِنْ الْخِتَانِ ، وَالثِّيَابِ ، وَالْخِضَابِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ عَلَامَةٌ ، وَكَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، غُسِّلَ ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ فِي دَارِ الْكُفْرِ ، لَمْ يُغَسَّلْ ، وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ مَنْ كَانَ فِي دَارٍ ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِهَا ، يَثْبُتُ لَهُ حُكْمُهُمْ مَا لَمْ يَقُمْ عَلَى خِلَافِهِ دَلِيلٌ .

( 1639 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَالْمُحْرِمُ يُغَسَّلُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ ، وَلَا يُقَرَّبُ طِيبًا ، وَيُكَفَّنُ فِي ثَوْبَيْهِ ، وَلَا يُغَطَّى رَأْسُهُ ، وَلَا رِجْلَاهُ ) إنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُحْرِمَ لَا يَبْطُلُ حُكْمُ إحْرَامِهِ بِمَوْتِهِ ، فَلِذَلِكَ جُنِّبَ مَا يُجَنَّبُهُ الْمُحْرِمُ مِنْ الطِّيبِ ، وَتَغْطِيَةِ الرَّأْسِ ، وَلُبْسِ الْمَخِيطِ ، وَقَطْعِ الشَّعْرِ .
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ ، وَعَلِيٍّ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ .
وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ .
وَقَالَ مَالِكٌ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ : يَبْطُلُ إحْرَامُهُ بِالْمَوْتِ ، وَيُصْنَعُ بِهِ كَمَا يُصْنَعُ بِالْحَلَالِ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ ، وَابْنِ عُمَرَ ، وَطَاوُسٍ ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ شَرْعِيَّةٌ ، فَبَطَلَتْ بِالْمَوْتِ ، كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ ، { أَنَّ رَجُلًا وَقَصَهُ بَعِيرُهُ ، وَنَحْنُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ ، وَلَا تُمِسُّوهُ طِيبًا ، وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ ، فَإِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبَّدًا .
} وَفِي رِوَايَةٍ " مُلَبِّيًا " .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا خَاصٌّ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا .
قُلْنَا : حُكْمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَاحِدٍ حُكْمُهُ فِي مِثْلِهِ ، إلَّا أَنْ يَرِدَ تَخْصِيصُهُ ، وَلِهَذَا ثَبَتَ حُكْمُهُ فِي شُهَدَاءِ أُحُدٍ فِي سَائِرِ الشُّهَدَاءِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { حُكْمِي عَلَى الْوَاحِدِ حُكْمِي عَلَى الْجَمَاعَةِ .
} قَالَ أَبُو دَاوُد : سَمِعْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ : فِي هَذَا الْحَدِيثِ خَمْسُ سُنَنٍ ؛ كَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ ، أَيْ يُكَفَّنُ فِي ثَوْبَيْنِ .
وَأَنْ يَكُونَ فِي الْغَسَلَاتِ كُلِّهَا سِدْرٌ ، وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ ، وَلَا تُقَرِّبُوهُ طِيبًا ، وَيَكُون الْكَفَنُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ .
وَقَالَ أَحْمَدُ فِي مَوْضِعٍ

: يُصَبُّ عَلَيْهِ الْمَاءُ صَبًّا ، وَلَا يُغَسَّلُ كَمَا يُغَسَّلُ الْحَلَالُ .
وَإِنَّمَا كُرِهَ عَرْكُ رَأْسِهِ ، وَمَوَاضِعِ الشَّعْرِ ، كَيْ لَا يَتَقَطَّعَ شَعْرُهُ .
وَاخْتُلِفَ عَنْهُ فِي تَغْطِيَةِ رِجْلَيْهِ ، فَرَوَى حَنْبَلٌ عَنْهُ : لَا تُغَطَّى رِجْلَاهُ .
وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ .
وَقَالَ الْخَلَّالُ : لَا أَعْرِفُ هَذَا فِي الْأَحَادِيثِ ، وَلَا رَوَاهُ أَحَدٌ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ غَيْرَ حَنْبَلٍ ، وَهُوَ عِنْدِي وَهْمٌ مِنْ حَنْبَلٍ ، وَالْعَمَلُ عَلَى أَنَّهُ يُغَطَّى جَمِيعُ الْمُحْرِمِ ، إلَّا رَأْسَهُ ، لِأَنَّ إحْرَامَ الرَّجُلِ فِي رَأْسِهِ ، وَلَا يُمْنَعُ مِنْ تَغْطِيَةِ رِجْلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ ، فَكَذَلِكَ فِي مَمَاتِهِ .
وَاخْتَلَفُوا عَنْ أَحْمَدَ فِي تَغْطِيَةِ وَجْهِهِ ، فَنَقَلَ عَنْهُ إسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ : لَا يُغَطَّى وَجْهُهُ ؛ لِأَنَّ فِي بَعْضِ الْحَدِيثِ : { وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ وَلَا وَجْهَهُ } .
وَنَقَلَ عَنْهُ سَائِرُ أَصْحَابِهِ : لَا بَأْسَ بِتَغْطِيَةِ وَجْهِهِ ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي رَوَيْنَاهُ ، وَهُوَ أَصَحُّ مَا رُوِيَ فِيهِ ، وَلَيْسَ فِيهِ إلَّا الْمَنْعُ مِنْ تَغْطِيَةِ الرَّأْسِ ، وَلِأَنَّ إحْرَامَ الرَّجُلِ فِي رَأْسِهِ ، وَلَا يُمْنَعُ مِنْ تَغْطِيَةِ وَجْهِهِ فِي الْحَيَاةِ ، فَبَعْدَ الْمَوْتِ أَوْلَى ، وَلَمْ يَرَ أَنْ يُلْبَسَ الْمُحْرِمُ الْمَخِيطَ بَعْدَ مَوْتِهِ ، كَمَا لَا يَلْبَسهُ فِي حَيَاتِهِ .
وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ امْرَأَةً مُحْرِمَةً ، أُلْبِسَتْ الْقَمِيصَ ، وَخُمِّرَتْ ، كَمَا تَفْعَلُ ذَلِكَ فِي حَيَاتِهَا ، وَلَمْ تَقْرَبْ طِيبًا ؛ لِأَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهَا فِي حَيَاتِهَا ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهَا .

( 1640 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَإِنْ سَقَطَ مِنْ الْمَيِّتِ شَيْءٌ غُسِّلَ ، وَجُعِلَ مَعَهُ فِي أَكْفَانِهِ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا بَانَ مِنْ الْمَيِّتِ شَيْءٌ ، وَهُوَ مَوْجُودٌ ، غُسِّلَ ، وَجُعِلَ مَعَهُ فِي أَكْفَانِهِ .
قَالَهُ ابْنُ سِيرِينَ ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَسْمَاءَ ، أَنَّهَا غَسَّلَتْ ابْنَهَا ، فَكَانَتْ تَنْزِعُهُ أَعْضَاءً ، كُلَّمَا غَسَّلَتْ عُضْوًا طَيَّبَتْهُ ، وَجَعَلَتْهُ فِي كَفَنِهِ .
وَلِأَنَّ فِي ذَلِكَ جَمْعَ أَجْزَاءِ الْمَيِّتِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ تَفْرِيقِهَا .

( 1641 ) فَصْلٌ : فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ إلَّا بَعْضُ الْمَيِّتِ ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يُغَسَّلُ ، وَيُصَلَّى عَلَيْهِ .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ .
وَنَقَلَ ابْنُ مَنْصُورٍ عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَى الْجَوَارِحِ .
قَالَ الْخَلَّالُ : وَلَعَلَّهُ قَوْلٌ قَدِيمٌ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ ، وَاَلَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ قَوْلُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ يُصَلَّى عَلَى الْأَعْضَاءِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٌ : إنْ وُجِدَ الْأَكْثَرُ صُلِّيَ عَلَيْهِ ، وَإِلَّا فَلَا ؛ لِأَنَّهُ بَعْضٌ لَا يَزِيدُ عَلَى النِّصْفِ ، فَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ ، كَاَلَّذِي بَانَ فِي حَيَاةِ صَاحِبِهِ ، كَالشَّعْرِ وَالظُّفْرِ .
وَلَنَا ، إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ أَحْمَدُ : صَلَّى أَبُو أَيُّوبَ عَلَى رِجْلٍ ، وَصَلَّى عُمَرُ عَلَى عِظَامٍ بِالشَّامِ ، وَصَلَّى أَبُو عُبَيْدَةَ عَلَى رُءُوسٍ بِالشَّامِ .
رَوَاهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ ، بِإِسْنَادِهِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : أَلْقَى طَائِرٌ يَدًا بِمَكَّةَ مِنْ وَقْعَةِ الْجَمَلِ ، فَعُرِفَتْ بِالْخَاتَمِ ، وَكَانَتْ يَدَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ ، فَصَلَّى عَلَيْهَا أَهْلُ مَكَّةَ .
وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ ، وَلَمْ نَعْرِفْ مِنْ الصَّحَابَةِ مُخَالِفًا فِي ذَلِكَ ، وَلِأَنَّهُ بَعْضٌ مِنْ جُمْلَةٍ تَجِبُ الصَّلَاةُ عَلَيْهَا ، فَيُصَلَّى عَلَيْهِ كَالْأَكْثَرِ ، وَفَارَقَ مَا بَانَ فِي الْحَيَاةِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةٍ لَا يُصَلَّى عَلَيْهَا ، وَالشَّعْرُ وَالظُّفْرُ لَا حَيَاةَ فِيهِ .

( 1642 ) فَصْلٌ : وَإِنْ وُجِدَ الْجُزْءُ بَعْدَ دَفْنِ الْمَيِّتِ ، غُسِّلَ ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ ، وَدُفِنَ إلَى جَانِبِ الْقَبْرِ ، أَوْ نُبِشَ بَعْضُ الْقَبْرِ وَدُفِنَ فِيهِ ، وَلَا حَاجَةَ إلَى كَشْفِ الْمَيِّتِ ، لِأَنَّ ضَرَرَ نَبْشِ الْمَيِّتِ وَكَشْفِهِ أَعْظَمُ مِنْ الضَّرَرِ بِتَفْرِقَةِ أَجْزَائِهِ .

( 1643 ) فَصْلٌ : وَالْمَجْدُورُ ، وَالْمُحْتَرِقُ ، وَالْغَرِيقُ ، إذَا أَمْكَنَ غُسْلُهُ غُسِّلَ ، وَإِنْ خِيفَ تَقَطُّعُهُ بِالْغُسْلِ صُبَّ عَلَيْهِ الْمَاءُ صَبًّا ، وَلَمْ يُمَسَّ ، فَإِنْ خِيفَ تَقَطُّعُهُ بِالْمَاءِ لَمْ يُغَسَّلْ ، وَيُيَمَّمُ إنْ أَمْكَنَ ، كَالْحَيِّ الَّذِي يُؤْذِيه الْمَاءُ ، وَإِنْ تَعَذَّرَ غُسْلُ الْمَيِّتِ لِعَدَمِ الْمَاءِ يُيَمَّمُ ، وَإِنْ تَعَذَّرَ غُسْلُ بَعْضِهِ دُونَ بَعْضٍ ، غُسِّلَ مَا أَمْكَنَ غُسْلُهُ ، وَيُيَمَّمُ الْبَاقِي ، كَالْحَيِّ سَوَاءً .

( 1644 ) فَصْلٌ : فَإِنْ مَاتَ فِي بِئْرٍ ذَاتِ نَفَسٍ ، فَأَمْكَنَ مُعَالَجَةُ الْبِئْرِ بِالْأَكْسِيَةِ الْمَبْلُولَةِ تُدَارُ فِي الْبِئْرِ حَتَّى تَجْتَذِبَ بُخَارَهُ ، ثُمَّ يَنْزِلُ مَنْ يُطْلِعُهُ ، أَوْ أَمْكَنَ إخْرَاجُهُ بِكَلَالِيبَ مِنْ غَيْرِ مُثْلَةٍ ، لَزِمَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ غُسْلُهُ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ ، فَلَزِمَ ، كَمَا لَوْ كَانَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ .
وَإِذَا شُكَّ فِي زَوَالِ بُخَارِهِ ، أُنْزِلَ إلَيْهِ سِرَاجٌ أَوْ نَحْوُهُ ، فَإِنْ انْطَفَأَ فَالْبُخَارُ بَاقٍ ، وَإِنْ لَمْ يَنْطَفِئْ فَقَدْ زَالَ ، فَإِنَّهُ يُقَالُ : لَا تَبْقَى النَّارُ إلَّا فِيمَا يَعِيشُ فِيهِ الْحَيَوَانُ .
وَإِنْ لَمْ يُمْكِنُ إخْرَاجُهُ إلَّا بِمُثْلَةٍ ، وَلَمْ يَكُنْ إلَى الْبِئْرِ حَاجَةٌ ، طُمَّتْ عَلَيْهِ ، فَكَانَتْ قَبْرَهُ .
وَإِنْ كَانَ طَمُّهَا يَضُرُّ بِالْمَارَّةِ ، أُخْرِجَ بِالْكَلَالِيبِ ، سَوَاءٌ أَفْضَى إلَى الْمُثْلَةِ أَوْ لَمْ يُفْضِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ جَمْعًا بَيْنَ حُقُوقٍ كَثِيرَةٍ ؛ نَفْعِ الْمَارَّةِ ، وَغُسْلِ الْمَيِّتِ ، وَرُبَّمَا كَانَتْ الْمُثْلَةُ فِي بَقَائِهِ أَعْظَمَ ؛ لِأَنَّهُ يَتَقَطَّعُ وَيُنْتِنُ .
فَإِنْ نَزَلَ عَلَى الْبِئْرِ قَوْمٌ ، فَاحْتَاجُوا إلَى الْمَاءِ ، وَخَافُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ، فَلَهُمْ إخْرَاجُهُ ، وَجْهًا وَاحِدًا ، وَإِنْ حَصَلَتْ مُثْلَةٌ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَسْهَلُ مِنْ تَلَفِ نُفُوسِ الْأَحْيَاءِ ، وَلِهَذَا لَوْ لَمْ يَجِدْ مِنْ السُّتْرَةِ إلَّا كَفَنَ الْمَيِّتِ ، وَاضْطُرَّ الْحَيُّ إلَيْهِ ، قُدِّمَ الْحَيُّ ، وَلِأَنَّ حُرْمَةَ الْحَيِّ ، وَحِفْظَ نَفْسِهِ ، أَوْلَى مِنْ حِفْظِ الْمَيِّت عَنْ الْمُثْلَةِ .
لِأَنَّ زَوَالَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ قَتْلِ مُسْلِمٍ ، وَلِأَنَّ الْمَيِّتَ لَوْ بَلَعَ مَالَ غَيْرِهِ شُقَّ بَطْنُهُ لِحِفْظِ مَالِ الْحَيِّ ، وَحِفْظُ النَّفْسِ أَوْلَى مِنْ حِفْظِ الْمَالِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( 1645 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَإِنْ كَانَ شَارِبُهُ طَوِيلًا أُخِذَ ، وَجُعِلَ مَعَهُ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ شَارِبَ الْمَيِّتِ إنْ كَانَ طَوِيلًا اُسْتُحِبَّ قَصُّهُ .
وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ ، وَبَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، وَإِسْحَاقَ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٌ : لَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمَيِّتِ شَيْءٌ لِأَنَّهُ قَطْعُ شَيْءٍ مِنْهُ فَلَمْ يُسْتَحَبَّ ، كَالْخِتَانِ .
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ كَالْقَوْلَيْنِ .
وَلَنَا ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { اصْنَعُوا بِمَوْتَاكُمْ كَمَا تَصْنَعُونَ بِعَرَائِسِكُمْ .
} وَالْعَرُوسُ يُحَسَّنُ ، وَيُزَالُ عَنْهُ مَا يُسْتَقْبَحُ مِنْ الشَّارِبِ وَغَيْرِهِ ، وَلِأَنَّ تَرْكَهُ يُقَبِّحُ مَنْظَرَهُ ، فَشُرِعَتْ إزَالَتُهُ ، كَفَتْحِ عَيْنَيْهِ وَفَمِهِ شُرِعَ مَا يُزِيلُهُ ، وَلِأَنَّهُ فِعْلٌ مَسْنُونٌ فِي الْحَيَاةِ لَا مَضَرَّةَ فِيهِ ، فَشُرِعَ بَعْدَ الْمَوْتِ ، كَالِاغْتِسَالِ .
وَيُخَرَّجُ عَلَى هَذَا الْخِتَانُ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَضَرَّةِ .
فَإِذَا أُخِذَ الشَّعْرُ جُعِلَ مَعَهُ فِي أَكْفَانِهِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْمَيِّتِ ، فَيُسْتَحَبُّ جَعْلُهُ فِي أَكْفَانِهِ كَأَعْضَائِهِ ؛ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا أُخِذَ مِنْ الْمَيِّتِ مِنْ شَعْرٍ أَوْ ظُفْرٍ أَوْ غَيْرِهِمَا ، فَإِنَّهُ يُغَسَّلُ وَيُجْعَلُ مَعَهُ فِي أَكْفَانِهِ كَذَلِكَ .
( 1646 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا الْأَظْفَارُ إذَا طَالَتْ فَفِيهَا رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا ، لَا تُقَلَّمُ .
قَالَ أَحْمَدُ : لَا تُقَلَّمُ أَظْفَارُهُ ، وَيُنَقَّى وَسَخُهَا .
وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ ؛ لِقَوْلِهِ : وَالْخِلَالُ يُسْتَعْمَلُ إنْ اُحْتِيجَ إلَيْهِ .
وَالْخِلَالُ يُزَالُ بِهِ مَا تَحْتَ الْأَظْفَارِ ؛ لِأَنَّ الظُّفْرَ لَا يَظْهَرُ كَظُهُورِ الشَّارِبِ ، فَلَا حَاجَةَ إلَى قَصِّهِ .
وَالثَّانِيَةُ ، يُقَصُّ إذَا كَانَ فَاحِشًا .
نَصَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ السُّنَّةِ ، وَلَا مَضَرَّةَ فِيهِ ، فَيُشْرَعُ أَخْذُهُ كَالشَّارِبِ .
وَيُمْكِنُ أَنْ تُحْمَلَ الرِّوَايَةُ الْأُولَى عَلَى مَا إذَا لَمْ تَكُنْ فَاحِشَةً .
وَأَمَّا الْعَانَةُ فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهَا لَا تُؤْخَذُ ؛

لِتَرْكِهِ ذِكْرَهَا .
وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ ، وَمَالِكٍ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَاجُ فِي أَخْذِهَا إلَى كَشْفِ الْعَوْرَةِ ، وَلَمْسِهَا ، وَهَتْكِ الْمَيِّتِ ، وَذَلِكَ مُحَرَّمٌ لَا يُفْعَلُ لِغَيْرِ وَاجِبٍ ، وَلِأَنَّ الْعَوْرَةَ مَسْتُورَةٌ يُسْتَغْنَى بِسَتْرِهَا عَنْ إزَالَتِهَا .
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ أَخْذَهَا مَسْنُونٌ .
وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ ، وَبَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، وَسَعِيدِ بْن جُبَيْرٍ ، وَإِسْحَاقَ ؛ لِأَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ جَزَّ عَانَةَ مَيِّتٍ .
وَلِأَنَّهُ شَعْرٌ إزَالَتُهُ مِنْ السُّنَّةِ ، فَأَشْبَهَ الشَّارِبَ .
وَالْأَوَّلُ أَوْلَى .
وَيُفَارِقُ الشَّارِبُ الْعَانَةَ ؛ لِأَنَّهُ ظَاهِرٌ يُتَفَاحَشُ لِرُؤْيَتِهِ ، وَلَا يُحْتَاجُ فِي أَخْذِهِ إلَى كَشْفِ الْعَوْرَةِ وَلَا مَسِّهَا .
فَإِذَا قُلْنَا بِأَخْذِهَا ، فَإِنَّ حَنْبَلًا رَوَى أَنَّ أَحْمَدَ سُئِلَ : تَرَى أَنْ تُسْتَعْمَلَ النُّورَةُ ؟ قَالَ : الْمُوسَى ، أَوْ مِقْرَاضٌ يُؤْخَذُ بِهِ الشَّعْرُ مِنْ عَانَتِهِ .
وَقَالَ الْقَاضِي : تُزَالُ بِالنُّورَةِ ؛ لِأَنَّهُ أَسْهَلُ ، وَلَا يَمَسُّهَا .
وَوَجْهُ قَوْلِ أَحْمَدَ أَنَّهُ فِعْلُ سَعْدٍ ، وَالنُّورَةُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ تُتْلِفَ جِلْدَ الْمَيِّتِ .
( 1647 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا الْخِتَانُ فَلَا يُشْرَعُ ؛ لِأَنَّهُ إبَانَةُ جُزْءٍ مِنْ أَعْضَائِهِ .
وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ النَّاسِ أَنَّهُ يُخْتَنُ .
حَكَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ .
وَالْأَوَّلُ أَوْلَى ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ .
وَلَا يُحْلَقُ رَأْسُ الْمَيِّتِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ السُّنَّةِ فِي الْحَيَاةِ ، وَإِنَّمَا يُرَادُ لِزِينَةِ أَوْ نُسُكٍ ، وَلَا يُطْلَبُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ هَاهُنَا .

( 1648 ) فَصْلٌ : وَإِنْ جُبِرَ عَظْمُهُ بِعَظْمٍ فَجَبَرَ ، ثُمَّ مَاتَ ، لَمْ يُنْزَعْ إنْ كَانَ طَاهِرًا .
وَإِنْ كَانَ نَجِسًا فَأَمْكَنَ إزَالَتُهُ مِنْ غَيْرِ مُثْلَةٍ أُزِيلَ ؛ لِأَنَّهُ نَجَاسَةٌ مَقْدُورٌ عَلَى إزَالَتِهَا مِنْ غَيْرِ مَضَرَّةٍ .
وَإِنْ أَفْضَى إلَى الْمُثْلَةِ لَمْ يُقْلَعْ ، وَصَارَ فِي حُكْمِ الْبَاطِنِ ، كَمَا لَوْ كَانَ حَيًّا .
وَإِنْ كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ جَبِيرَةٌ يُفْضِي نَزْعُهَا إلَى مُثْلَةٍ ، مُسِحَتْ كَمَسْحِ جَبِيرَةِ الْحَيِّ .
وَإِنْ لَمْ يُفْضِ إلَى مُثْلَةٍ ، نُزِعَتْ فَغُسِلَ مَا تَحْتَهَا .
قَالَ أَحْمَدُ ، فِي الْمَيِّتِ تَكُونُ أَسْنَانُهُ مَرْبُوطَةً بِذَهَبٍ : إنْ قَدَرَ عَلَى نَزْعِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْقُطَ بَعْضُ أَسْنَانِهِ نَزَعَهُ ، وَإِنْ خَافَ أَنْ يَسْقُطَ بَعْضُهَا تَرَكَهُ .
( 1649 ) فَصْلٌ : وَمَنْ كَانَ مُشَنَّجًا ، أَوْ بِهِ حُدْبٌ ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ ، فَأَمْكَنَ تَمْدِيدُهُ بِالتَّلْيِينِ وَالْمَاءِ الْحَارِّ ، فُعِلَ ذَلِكَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إلَّا بِعُنْفٍ ، تَرَكَهُ بِحَالِهِ .
فَإِنْ كَانَ عَلَى صِفَةٍ لَا يُمْكِنُ تَرْكُهُ عَلَى النَّعْشِ إلَّا عَلَى وَجْهٍ يَشْتَهِرُ بِالْمُثْلَةِ ، تُرِكَ فِي تَابُوتٍ ، أَوْ تَحْتَ مُكِبَّةٍ ، مِثْلُ مَا يُصْنَعُ بِالْمَرْأَةِ لِأَنَّهُ أَصْوَنُ لَهُ ، وَأَسْتَرُ لِحَالِهِ .
( 1650 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُتْرَكَ فَوْقَ سَرِيرِ الْمَرْأَةِ شَيْءٌ مِنْ الْخَشَبِ أَوْ الْجَرِيدِ ، مِثْلُ الْقُبَّةِ ، يُتْرَكُ فَوْقَهُ ثَوْبٌ ؛ لِيَكُونَ أَسْتَرَ لَهَا .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَوَّلُ مَنْ صُنِعَ لَهَا ذَلِكَ بِأَمْرِهَا .

( 1651 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَيُسْتَحَبُّ تَعْزِيَةُ أَهْلِ الْمَيِّتِ ) لَا نَعْلَمُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافًا ، إلَّا أَنَّ الثَّوْرِيَّ قَالَ : لَا تُسْتَحَبُّ التَّعْزِيَةُ بَعْدَ الدَّفْنِ ؛ لِأَنَّهُ خَاتِمَةُ أَمْرِهِ .
وَلَنَا ، عُمُومُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { : مَنْ عَزَّى مُصَابًا ، فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ .
} رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ .
وَقَالَ : هُوَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ .
وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ ، فِي " سُنَنِهِ " عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْن عَمْرو بْنِ حَزْمٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا مِنْ مُؤْمِنٍ يُعَزِّي أَخَاهُ بِمُصِيبَةٍ ، إلَّا كَسَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ حُلَلِ الْكَرَامَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ .
} وَقَالَ أَبُو بَرْزَةَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ عَزَّى ثَكْلَى ، كُسِيَ بُرْدًا فِي الْجَنَّةِ .
} قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا لَيْسَ إسْنَادُهُ بِالْقَوِيِّ .
وَالْمَقْصُودُ بِالتَّعْزِيَةِ تَسْلِيَةُ أَهْلِ الْمُصِيبَةِ ، وَقَضَاءُ حُقُوقِهِمْ ، وَالتَّقَرُّبُ إلَيْهِمْ ، وَالْحَاجَةُ إلَيْهَا بَعْدَ الدَّفْنِ كَالْحَاجَةِ إلَيْهَا قَبْلَهُ .

( 1652 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ تَعْزِيَةُ جَمِيعِ أَهْلِ الْمُصِيبَةِ ، كِبَارِهِمْ وَصِغَارِهِمْ ، وَيَخُصُّ خِيَارَهُمْ ، وَالْمَنْظُورَ إلَيْهِ مِنْ بَيْنِهِمْ ؛ لِيَسْتَنَّ بِهِ غَيْرُهُ ، وَذَا الضَّعْفِ مِنْهُمْ عَنْ تَحَمُّلِ الْمُصِيبَةِ ، لِحَاجَتِهِ إلَيْهَا ، وَلَا يُعَزِّي الرَّجُلُ الْأَجْنَبِيُّ شَوَابَّ النِّسَاءِ ؛ مَخَافَةَ الْفِتْنَةِ .

( 1653 ) فَصْلٌ : وَلَا نَعْلَمُ فِي التَّعْزِيَةِ شَيْئًا مَحْدُودًا ، إلَّا أَنَّهُ يُرْوَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { عَزَّى رَجُلًا ، فَقَالَ : رَحِمَكَ اللَّهُ وَآجَرَكَ .
} رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ .
وَعَزَّى أَحْمَدُ أَبَا طَالِبٍ ، فَوَقَفَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ : أَعْظَمَ اللَّهُ أَجْرَكُمْ ، وَأَحْسَنَ عَزَاءَكُمْ .
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : إذَا عَزَّى مُسْلِمًا بِمُسْلِمٍ قَالَ : أَعْظَمَ اللَّهُ أَجْرَك ، وَأَحْسَنَ عَزَاك ، وَرَحِمَ اللَّهُ مَيِّتَك .
وَاسْتَحَبَّ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ يَقُولَ مَا رَوَى جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، قَالَ : { لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَاءَتْ التَّعْزِيَةُ ، سَمِعُوا قَائِلًا يَقُولُ : إنَّ فِي اللَّهِ عَزَاءً مِنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ ، وَخَلَفًا مِنْ كُلِّ هَالِكٍ ، وَدَرَكًا مِنْ كُلِّ مَا فَاتَ ، فَبِاَللَّهِ فَثِقُوا ، وَإِيَّاهُ فَارْجُوا ، فَإِنَّ الْمُصَابَ مَنْ حُرِمَ الثَّوَابَ .
} رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ ، فِي " مُسْنَدِهِ " وَإِنْ عَزَّى مُسْلِمًا بِكَافِرٍ ، قَالَ : أَعْظَمَ اللَّهُ أَجْرَك ، وَأَحْسَنَ عَزَاءَك .

( 1654 ) فَصْلٌ : وَتَوَقَّفَ أَحْمَدُ ، رَحِمَهُ اللَّهُ ، عَنْ تَعْزِيَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ ، وَهِيَ تُخَرَّجُ عَلَى عِيَادَتِهِمْ ، وَفِيهَا رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا ، لَا نَعُودُهُمْ ، فَكَذَلِكَ لَا نُعَزِّيهِمْ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تَبْدَءُوهُمْ بِالسَّلَامِ .
} وَهَذَا فِي مَعْنَاهُ .
وَالثَّانِيَةُ ، نَعُودُهُمْ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَتَى غُلَامًا مِنْ الْيَهُودِ كَانَ مَرِضَ يَعُودُهُ ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ ، فَقَالَ لَهُ : أَسْلِمْ .
فَنَظَرَ إلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَ رَأْسِهِ ، فَقَالَ لَهُ : أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ .
فَأَسْلَمَ ، فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ بِي مِنْ النَّارِ .
} رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
فَعَلَى هَذَا نُعَزِّيهِمْ فَنَقُولُ فِي تَعْزِيَتِهِمْ بِمُسْلِمٍ : أَحْسَنَ اللَّهُ عَزَاءَك ، وَغَفَرَ لِمَيِّتِك .
وَعَنْ كَافِرٍ : أَخْلَفَ اللَّهُ عَلَيْك ، وَلَا نَقَصَ عَدَدَك .
وَيَقْصِدُ زِيَادَةَ عَدَدِهِمْ لِتَكْثُرَ جِزْيَتُهُمْ .
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ ، يَقُولُ : أَعْطَاك اللَّهُ عَلَى مُصِيبَتِك أَفْضَلَ مَا أَعْطَى أَحَدًا مِنْ أَهْلِ دِينِك .
فَأَمَّا الرَّدُّ مِنْ الْمُعَزَّى ، فَبَلَغَنَا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ الْحُسَيْنِ ، قَالَ : سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ، وَهُوَ يُعَزِّي فِي عَبْثَرٍ ابْنِ عَمِّهِ ، وَهُوَ يَقُولُ : اسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاك ، وَرَحِمَنَا وَإِيَّاكَ .

( 1655 ) فَصْلٌ : قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : يُكْرَهُ الْجُلُوسُ لِلتَّعْزِيَةِ .
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : يُكْرَهُ الِاجْتِمَاعُ بَعْدَ خُرُوجِ الرُّوحِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَهْيِيجًا لِلْحُزْنِ .
وَقَالَ أَحْمَدُ : أَكْرَهُ التَّعْزِيَةَ عِنْدَ الْقَبْرِ ، إلَّا لِمَنْ لَمْ يُعَزِّ ، فَيُعَزِّي إذَا دُفِنَ الْمَيِّتُ ، أَوْ قَبْلَ أَنْ يُدْفَنَ .
وَقَالَ : إنْ شِئْت أَخَذْت بِيَدِ الرَّجُلِ فِي التَّعْزِيَةِ ، وَإِنْ شِئْت لَمْ تَأْخُذْ .
وَإِذَا رَأَى الرَّجُلَ قَدْ شَقَّ ثَوْبَهُ عَلَى الْمُصِيبَةِ عَزَّاهُ ، وَلَمْ يَتْرُكْ حَقًّا لِبَاطِلٍ ، وَإِنْ نَهَاهُ فَحَسَنٌ .

( 1656 ) مَسْأَلَةٌ ؛ ( قَالَ : وَالْبُكَاءُ غَيْرُ مَكْرُوهٍ ، إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ نَدْبٌ وَلَا نِيَاحَةٌ ) أَمَّا الْبُكَاءُ بِمُجَرَّدِهِ فَلَا يُكْرَهُ فِي حَالٍ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُبَاحُ إلَى أَنْ تَخْرُجَ الرُّوحُ ، وَيُكْرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ ؛ لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَتِيكٍ قَالَ : { جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَابِتٍ يَعُودُهُ ، فَوَجَدَهُ قَدْ غُلِبَ فَصَاحَ بِهِ فَلَمْ يُجِبْهُ ، فَاسْتَرْجَعَ ، وَقَالَ : غُلِبْنَا عَلَيْك أَبَا الرَّبِيعِ .
فَصَاحَ النِّسْوَةُ ، وَبَكَيْنَ ، فَجَعَلَ ابْنُ عَتِيكٍ يُسْكِتُهُنَّ .
فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : دَعْهُنَّ ، فَإِذَا وَجَبَ فَلَا تَبْكِينَ بَاكِيَةٌ .
} يَعْنِي إذَا مَاتَ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى أَنَسٌ ، قَالَ : { شَهِدْنَا بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ عَلَى الْقَبْرِ ، فَرَأَيْت عَيْنَيْهِ تَدْمَعَانِ } .
{ وَقَبَّلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ وَهُوَ مَيِّتٌ ، وَرَفَعَ رَأْسَهُ ، وَعَيْنَاهُ تُهْرَاقَانِ } .
وَقَالَ أَنَسٌ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ ، ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ ، ثُمَّ أَخَذَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ وَإِنَّ عَيْنَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَتَذْرِفَانِ } وَقَالَتْ عَائِشَةُ : دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ ، فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَبَّلَهُ ، ثُمَّ بَكَى .
وَكُلُّهَا أَحَادِيثُ صِحَاحٌ .
وَرَوَى الْأُمَوِيُّ ، فِي " الْمَغَازِي " ، عَنْ عَائِشَةَ ، أَنَّ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ لَمَّا مَاتَ ، جَعَلَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ يَنْتَحِبَانِ ، حَتَّى اخْتَلَطَتْ عَلَيَّ أَصْوَاتُهُمَا .
وَرُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ ، وَهُوَ فِي غَاشِيَتِهِ ، فَبَكَى ، وَبَكَى أَصْحَابُهُ ، وَقَالَ : أَلَا تَسْمَعُونَ ؟ إنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ

، وَلَا بِحُزْنِ الْقَلْبِ ، وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا ، وَأَشَارَ إلَى لِسَانِهِ .
أَوْ يَرْحَمُ .
} وَعَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، { أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى ابْنِهِ إبْرَاهِيمَ ، وَهُوَ يَجُودُ بِنَفْسِهِ ، فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَذْرِفَانِ ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ : وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَقَالَ : يَا ابْنَ عَوْفٍ إنَّهَا رَحْمَةٌ .
ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى ، فَقَالَ : إنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ ، وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ ، وَلَا نَقُولُ إلَّا مَا يُرْضِي رَبَّنَا ، وَإِنَّا بِفِرَاقِك يَا إبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ .
} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا .
وَحَدِيثُهُمْ مَحْمُولٌ عَلَى رَفْعِ الصَّوْتِ وَالنَّدْبِ وَشِبْهِهِمَا ، بِدَلِيلِ مَا رَوَى جَابِرٌ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ ابْنَهُ ، فَوَضَعَهُ فِي حِجْرِهِ ، فَبَكَى ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ : أَتَبْكِي ؟ أَوْ لَمْ تَكُنْ نَهَيْت عَنْ الْبُكَاءِ ؟ قَالَ : لَا ، وَلَكِنْ نَهَيْت عَنْ صَوْتَيْنِ أَحْمَقَيْنِ فَاجِرَيْنِ ؛ صَوْتٍ عِنْدَ مُصِيبَةٍ ، وَخَمْشِ وُجُوهٍ ، وَشَقِّ جُيُوبٍ ، وَرَنَّةِ شَيْطَانٍ .
} قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَنْهَ عَنْ مُطْلَقِ الْبُكَاءِ ، وَإِنَّمَا نَهَى عَنْهُ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ .
وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَا عَلَى نِسَاءِ بَنِي الْمُغِيرَة أَنْ يَبْكِينَ عَلَى أَبِي سُلَيْمَانَ ، مَا لَمْ يَكُنْ نَقْعٌ أَوْ لَقْلَقَةٌ .
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : اللَّقْلَقَةُ : رَفْعُ الصَّوْتِ ، وَالنَّقْعُ : التُّرَابُ يُوضَعُ عَلَى الرَّأْسِ .

( 1657 ) فَصْلٌ : وَأَمَّا النَّدْبُ فَهُوَ تَعْدَادُ مَحَاسِنِ الْمَيِّتِ ، وَمَا يَلْقَوْنَ بِفَقْدِهِ بِلَفْظِ النِّدَاءِ ؛ إلَّا أَنَّهُ يَكُونُ بِالْوَاوِ مَكَانَ الْيَاءِ ، وَرُبَّمَا زِيدَتْ فِيهِ الْأَلْفُ وَالْهَاءُ ، مِثْلُ قَوْلِهِمْ : وَارَجُلَاه وَاجَبَلَاه ، وَانْقِطَاعُ ظَهْرَاهُ .
وَأَشْبَاهُ هَذَا .
وَالنِّيَاحَةُ ، وَخَمْشُ الْوُجُوهِ ، وَشَقُّ الْجُيُوبِ ، وَضَرْبُ الْخُدُودِ ، وَالدُّعَاءُ بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ ، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : هُوَ مَكْرُوهٌ .
وَنَقَلَ حَرْبٌ عَنْ أَحْمَدَ كَلَامًا فِيهِ احْتِمَالُ إبَاحَةِ النَّوْحِ وَالنَّدْبِ .
وَاخْتَارَهُ الْخَلَّالُ وَصَاحِبُهُ ؛ لِأَنَّ وَاثِلَةَ بْنَ الْأَسْقَعِ ، وَأَبَا وَائِلٍ ، كَانَا يَسْتَمِعَانِ النَّوْحَ وَيَبْكِيَانِ .
وَقَالَ أَحْمَدُ : إذَا ذَكَرَتْ الْمَرْأَةُ مِثْلَ مَا حُكِيَ عَنْ فَاطِمَةَ ، فِي مِثْلِ الدُّعَاءِ ، لَا يَكُونُ مِثْلَ النَّوْحِ .
يَعْنِي لَا بَأْسَ بِهِ .
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : يَا أَبَتَاهُ ، مِنْ رَبِّهِ مَا أَدْنَاهُ ، يَا أَبَتَاهُ ، إلَى جِبْرِيلَ أَنْعَاهُ ، يَا أَبَتَاهُ ، أَجَابَ رَبًّا دَعَاهُ .
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَخَذَتْ قَبْضَةً مِنْ تُرَابِ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَضَعَتْهَا عَلَى عَيْنِهَا ، ثُمَّ قَالَتْ : مَاذَا عَلَى مُشْتَمِّ تُرْبَةِ أَحْمَدَ أَنْ لَا يَشَمَّ مَدَى الزَّمَانِ غَوَالِيَا صُبَّتْ عَلَيَّ مُصِيبَةٌ لَوْ أَنَّهَا صُبَّتْ عَلَى الْأَيَّامِ عُدْنَ لَيَالِيَا وَظَاهِرُ الْأَخْبَارِ تَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ النَّوْحِ ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَة ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْهَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ } .
قَالَ أَحْمَدُ : هُوَ النَّوْحُ .
{ وَلَعَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّائِحَةَ وَالْمُسْتَمِعَةَ } .
وَقَالَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ : { أَخَذَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ الْبَيْعَةِ أَنْ لَا نَنُوحَ } .

مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَعَنْ أَبِي مُوسَى ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرِئَ مِنْ الصَّالِقَةِ ، وَالْحَالِقَةِ ، وَالشَّاقَّةِ .
وَالصَّالِقَةُ : الَّتِي تَرْفَعُ صَوْتَهَا .
وَعَنْ ابْن مَسْعُودٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ ، وَشَقَّ الْجُيُوبَ ، وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَلِأَنَّ ذَلِكَ يُشْبِهُ التَّظَلُّمَ وَالِاسْتِغَاثَةَ وَالسَّخَطَ بِقَضَاءِ اللَّهِ ، وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ : إنَّ أَهْلَ الْبَيْتِ إذَا دَعَوْا بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ ، وَقَفَ مَلَكُ الْمَوْتِ فِي عَتَبَةِ الْبَابِ ، وَقَالَ : إنْ كَانَتْ صَيْحَتُكُمْ عَلَيَّ فَإِنِّي مَأْمُورٌ ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى مَيِّتِكُمْ فَإِنَّهُ مَقْبُورٌ ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى رَبِّكُمْ فَالْوَيْلُ لَكُمْ وَالثُّبُورُ ، وَإِنَّ لِي فِيكُمْ عَوْدَاتٍ ثُمَّ عَوْدَاتٍ .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا حَضَرْتُمْ الْمَيِّتَ ، فَقُولُوا خَيْرًا ؛ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ } .

( 1658 ) فَصْلٌ : وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِمَا يُنَاحُ عَلَيْهِ } .
وَفِي لَفْظٍ : { إنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ } .
وَرَوَى ذَلِكَ عُمَرُ وَابْنُهُ ، وَالْمُغِيرَةُ ، وَهِيَ أَحَادِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا .
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي مَعْنَاهَا ، فَحَمَلَهَا قَوْمٌ عَلَى ظَوَاهِرِهَا ؛ وَقَالُوا : يَتَصَرَّفُ اللَّهُ فِي خَلْقِهِ بِمَا شَاءَ ، وَأَيَّدُوا ذَلِكَ بِمَا رَوَى أَبُو مُوسَى ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَا مِنْ مَيِّتٍ يَمُوتُ ، فَيَقُومُ بَاكِيهِمْ فَيَقُولُ : وَاجَبَلَاهْ ، وَاسَنَدَاهْ ، وَنَحْوَ ذَلِكَ ، إلَّا وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ مَلَكَيْنِ يَلْهَزَانِهِ : أَهَكَذَا كُنْت ؟ } .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ .
وَرَوَى النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ ، قَالَ : أُغْمِيَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ ، فَجَعَلَتْ أُخْتُهُ عَمْرَةُ تَبْكِي ، وَتَقُولُ : وَا جَبَلَاهْ ، وَا كَذَا وَا كَذَا .
تُعَدِّدُ عَلَيْهِ .
فَقَالَ حِينَ أَفَاقَ : مَا قُلْت لِي شَيْئًا إلَّا قِيلَ لِي : أَنْتَ كَذَلِكَ ؟ فَلَمَّا مَاتَ لَمْ تَبْكِ عَلَيْهِ .
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ .
وَأَنْكَرَتْ عَائِشَةُ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حَمْلَهَا عَلَى ظَاهِرِهَا ، وَوَافَقَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : ذَكَرْت ذَلِكَ لِعَائِشَةَ فَقَالَتْ : يَرْحَمُ اللَّهُ عُمَرَ ، وَاَللَّهِ مَا حَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ اللَّهَ لَيُعَذِّبُ الْمُؤْمِنَ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ } .
وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ لَيَزِيدُ الْكَافِرَ عَذَابًا بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ } .
وَقَالَتْ : حَسْبُكُمْ الْقُرْآنُ : { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ عِنْدَ ذَلِكَ : وَاَللَّهُ أَضْحَكَ وَأَبْكَى .
وَذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِابْنِ عُمَرَ حِينَ رَوَى حَدِيثَهُ ، فَمَا قَالَ شَيْئًا .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَحَمَلَهُ قَوْمٌ عَلَى مَنْ كَانَ النَّوْحُ سُنَّتَهُ ، وَلَمْ يَنْهَ أَهْلَهُ ؛

لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا } .
وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { كُلُّكُمْ رَاعٍ ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ } .
وَحَمَلَهُ آخَرُونَ عَلَى مَنْ أَوْصَى بِذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ ، كَقَوْلِ طَرَفَةَ : إذَا مِتُّ فَانْعِينِي بِمَا أَنَا أَهْلُهُ وَشِقِّي عَلَيَّ الْجَيْبَ يَا ابْنَةَ مَعْبَدِ وَقَالَ آخَرُ : مَنْ كَانَ مِنْ أُمَّهَاتِي بَاكِيًا أَبَدًا فَالْيَوْمَ إنِّي أَرَانِي الْيَوْمَ مَقْبُوضًا يُسْمِعْنَنِيهِ فَإِنِّي غَيْرُ سَامِعِهِ إذَا جُعِلْت عَلَى الْأَعْنَاقِ مَعْرُوضًا وَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِ الْبُكَاءِ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ عَلَى الْبُكَاءِ غَيْرِ الْمَشْرُوعِ ، وَهُوَ الَّذِي مَعَهُ نَدْبٌ وَنِيَاحَةٌ وَنَحْوُ هَذَا ، بِدَلِيلِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ فِي صَدْرِ الْمَسْأَلَةِ .

( 1659 ) فَصْلٌ : وَيَنْبَغِي لِلْمُصَابِ أَنْ يَسْتَعِينَ بِاَللَّهِ تَعَالَى ، وَيَتَعَزَّى بِعَزَائِهِ ، وَيَمْتَثِلَ أَمْرَهُ فِي الِاسْتِعَانَةِ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ، وَيَتَنَجَّزَ مَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ الصَّابِرِينَ ، حَيْثُ يَقُولُ سُبْحَانَهُ : { وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ } .
وَرَوَى مُسْلِمٌ ، فِي " صَحِيحِهِ " ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : { مَا مِنْ عَبْدٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ ، فَيَقُولُ : إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ ، اللَّهُمَّ اُؤْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي ، وَاخْلُفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا .
إلَّا أَجَرَهُ اللَّهُ فِي مُصِيبَتِهِ ، وَأَخْلَفَ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا } قَالَتْ : فَلَمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ ، قُلْت كَمَا أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْلَفَ لِي خَيْرًا مِنْهُ ، رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِشَيْءٍ يُحْبِطُ أَجْرَهُ ، وَيُسْخِطُ رَبَّهُ ، مِمَّا يُشْبِهُ التَّظَلُّمَ وَالِاسْتِغَاثَةَ ، فَإِنَّ اللَّهَ عَدْلٌ لَا يَجُورُ ، وَلَهُ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى ، وَهُوَ الْفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ ، فَلَا يَدْعُو عَلَى نَفْسِهِ ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ، لَمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ : { لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إلَّا بِخَيْرٍ ؛ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ } .
وَيَحْتَسِبُ ثَوَابَ اللَّهِ تَعَالَى وَيَحْمَدُهُ ؛ لِمَا رَوَى أَبُو مُوسَى ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا مَاتَ وَلَدُ الْعَبْدِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِمَلَائِكَتِهِ : قَبَضْتُمْ وَلَدَ عَبْدِي ؟ فَيَقُولُونَ : نَعَمْ .
فَيَقُولُ : قَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ فُؤَادِهِ ؟ فَيَقُولُونَ : نَعَمْ .
فَيَقُولُ : مَاذَا قَالَ عَبْدِي ؟ فَيَقُولُونَ : حَمِدَك ، وَاسْتَرْجَعَ .
فَيَقُولُ : ابْنُوا لِعَبْدِي بَيْتًا فِي

الْجَنَّةِ ، وَسَمُّوهُ بَيْتَ الْحَمْدِ } .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ .

( 1660 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَلَا بَأْسَ أَنْ يُصْلِحَ لِأَهْلِ الْمَيِّتِ طَعَامًا ، يَبْعَثُ بِهِ إلَيْهِمْ ، وَلَا يُصْلِحُونَ هُمْ طَعَامًا يُطْعِمُونَ النَّاسَ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ إصْلَاحُ طَعَامٍ لِأَهْلِ الْمَيِّتِ ، يَبْعَثُ بِهِ إلَيْهِمْ ، إعَانَةً لَهُمْ ، وَجَبْرًا لِقُلُوبِهِمْ ؛ فَإِنَّهُمْ رُبَّمَا اشْتَغَلُوا بِمُصِيبَتِهِمْ وَبِمَنْ يَأْتِي إلَيْهِمْ عَنْ إصْلَاحِ طَعَامٍ لَأَنْفُسِهِمْ .
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد ، فِي " سُنَنِهِ " ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ ، قَالَ : لَمَّا جَاءَ نَعْيُ جَعْفَرٍ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { اصْنَعُوا لِآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا ؛ فَإِنَّهُ قَدْ أَتَاهُمْ أَمْرٌ شَغَلَهُمْ } .
وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ ، أَنَّهُ قَالَ : فَمَازَالَتْ السُّنَّةُ فِينَا ، حَتَّى تَرَكَهَا مَنْ تَرَكَهَا .
فَأَمَّا صُنْعُ أَهْلِ الْمَيِّتِ طَعَامًا لِلنَّاسِ ، فَمَكْرُوهٌ ؛ لِأَنَّ فِيهِ زِيَادَةً عَلَى مُصِيبَتِهِمْ ، وَشُغْلًا لَهُمْ إلَى شُغْلِهِمْ ، وَتَشَبُّهًا بِصُنْعِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ .
وَرُوِيَ أَنَّ جَرِيرًا وَفَدَ عَلَى عُمَرَ ، فَقَالَ : هَلْ يُنَاحُ عَلَى مَيِّتِكُمْ ؟ قَالَ : لَا .
قَالَ : فَهَلْ يَجْتَمِعُونَ عِنْدَ أَهْلِ الْمَيِّتِ ، وَيَجْعَلُونَ الطَّعَامَ ؟ قَالَ : نَعَمْ .
قَالَ : ذَاكَ النَّوْحُ .
وَإِنْ دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ جَازَ ؛ فَإِنَّهُ رُبَّمَا جَاءَهُمْ مَنْ يَحْضُرُ مَيِّتَهُمْ مِنْ الْقُرَى وَالْأَمَاكِنِ الْبَعِيدَةِ ، وَيَبِيتُ عِنْدَهُمْ ، وَلَا يُمْكِنُهُمْ إلَّا أَنْ يُضَيِّفُوهُ .

( 1661 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَالْمَرْأَةُ إذَا مَاتَتْ ، وَفِي بَطْنِهَا وَلَدٌ يَتَحَرَّكُ ، فَلَا يُشَقُّ بَطْنُهَا ، وَيَسْطُو عَلَيْهِ الْقَوَابِلُ ، فَيُخْرِجْنَهُ ) مَعْنَى " يَسْطُو الْقَوَابِلُ " أَنْ يُدْخِلْنَ أَيْدِيَهُنَّ فِي فَرْجِهَا ، فَيُخْرِجْنَ الْوَلَدَ مِنْ مَخْرَجِهِ .
وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يُشَقُّ بَطْنُ الْمَيِّتَةِ لِإِخْرَاجِ وَلَدِهَا ، مُسْلِمَةً كَانَتْ أَوْ ذِمِّيَّةً ، وَتُخْرِجُهُ الْقَوَابِلُ إنْ عُلِمَتْ حَيَاتُهُ بِحَرَكَةٍ .
وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ نِسَاءٌ لَمْ يَسْطُ الرِّجَالُ عَلَيْهِ ، وَتُتْرَكُ أُمُّهُ حَتَّى يُتَيَقَّنُ مَوْتُهُ ، ثُمَّ تُدْفَنُ .
وَمَذْهَبُ مَالِكٍ ، وَإِسْحَاقَ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُشَقَّ بَطْنُ الْأُمِّ ، إنْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ الْجَنِينَ يَحْيَا ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ إتْلَافُ جُزْءٍ مِنْ الْمَيِّتِ لِإِبْقَاءِ حَيٍّ ، فَجَازَ ، كَمَا لَوْ خَرَجَ بَعْضُهُ حَيًّا ، وَلَمْ يُمْكِنْ خُرُوجُ بَقِيَّتِهِ إلَّا بِشَقٍّ ، وَلِأَنَّهُ يُشَقُّ لِإِخْرَاجِ الْمَالِ مِنْهُ ، فَلِإِبْقَاءِ الْحَيِّ أَوْلَى .
وَلَنَا ، أَنَّ هَذَا الْوَلَدَ لَا يَعِيشُ عَادَةً ، وَلَا يَتَحَقَّقُ أَنَّهُ يَحْيَا ، فَلَا يَجُوزُ هَتْكُ حُرْمَةٍ مُتَيَقَّنَةٍ لَأَمْرٍ مَوْهُومٍ ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { كَسْرُ عَظْمِ الْمَيِّتِ كَكَسْرِ عَظْمِ الْحَيِّ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَفِيهِ مُثْلَةٌ ، وَقَدْ { نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمُثْلَةِ } .
وَفَارَقَ الْأَصْلَ ؛ فَإِنَّ حَيَاتَهُ مُتَيَقَّنَةٌ ، وَبَقَاءَهُ مَظْنُونٌ ، فَعَلَى هَذَا إنْ خَرَجَ بَعْضُ الْوَلَدِ حَيًّا ، وَلَمْ يُمْكِنْ إخْرَاجُهُ إلَّا بِشَقٍّ ، شُقَّ الْمَحَلُّ ، وَأُخْرِجَ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا .
وَإِنْ مَاتَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ ، فَأَمْكَنَ إخْرَاجُهُ ، أُخْرِجَ وَغُسِّلَ .
وَإِنْ تَعَذَّرَ غُسْلُهُ تُرِكَ ، وَغُسِّلَتْ الْأُمُّ ، وَمَا ظَهَرَ مِنْ الْوَلَدِ ، وَمَا بَقِيَ فَفِي حُكْمِ الْبَاطِنِ لَا يَحْتَاجُ إلَى التَّيَمُّمِ مِنْ أَجْلِهِ ؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ كَانَ فِي حُكْمِ الْبَاطِنِ ، فَظَهَرَ الْبَعْضُ ، فَتَعَلَّقَ بِهِ الْحُكْمُ ، وَمَا بَقِيَ فَهُوَ عَلَى

مَا كَانَ عَلَيْهِ .
ذَكَرَ هَذَا ابْنُ عَقِيلٍ .
وَقَالَ : هِيَ حَادِثَةٌ سُئِلْت عَنْهَا ، فَأَفْتَيْت فِيهَا .

( 1662 ) فَصْلٌ : وَإِنْ بَلَعَ الْمَيِّتُ مَالًا ، لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ ، فَإِنْ كَانَ لَهُ لَمْ يُشَقَّ بَطْنُهُ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَهْلَكَهُ فِي حَيَاتِهِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ إنْ كَانَ يَسِيرًا تُرِكَ ، وَإِنْ كَثُرَتْ قِيمَتُهُ ، شُقَّ بَطْنُهُ وَأُخْرِجَ ؛ لِأَنَّ فِيهِ حِفْظَ الْمَالِ عَنْ الضَّيَاعِ ، وَنَفْعَ الْوَرَثَةِ الَّذِينَ تَعَلَّقَ حَقُّهُمْ بِمَالِهِ بِمَرَضِهِ .
وَإِنْ كَانَ الْمَالُ لِغَيْرِهِ ، وَابْتَلَعَهُ بِإِذْنِهِ ، فَهُوَ كَمَالِهِ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ أَذِنَ فِي إتْلَافِهِ .
وَإِنْ بَلَعَهُ غَصْبًا فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا ، لَا يُشَقُّ بَطْنُهُ ، وَيُغَرَّمُ مِنْ تَرِكَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُشَقَّ مِنْ أَجْلِ الْوَلَدِ الْمَرْجُوِّ حَيَاتُهُ ، فَمِنْ أَجْلِ الْمَالِ أَوْلَى .
وَالثَّانِي ، يُشَقُّ إنْ كَانَ كَثِيرًا ؛ لِأَنَّ فِيهِ دَفْعَ الضَّرَرِ عَنْ الْمَالِكِ بِرَدِّ مَالِهِ إلَيْهِ ، وَعَنْ الْمَيِّتِ بِإِبْرَاءِ ذِمَّتِهِ ، وَعَنْ الْوَرَثَةِ بِحِفْظِ التَّرِكَةِ لَهُمْ .
وَيُفَارِقُ الْجَنِينَ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا ، أَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ حَيَاتَهُ .
وَالثَّانِي ، أَنَّهُ مَا حَصَلَ بِجِنَايَتِهِ .
فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ الْأَوَّلِ إذَا بَلِيَ جَسَدُهُ ، وَغَلَبَ عَلَى الظَّنِّ ظُهُورُ الْمَالِ ، وَتَخَلُّصُهُ مِنْ أَعْضَاءِ الْمَيِّتِ ، جَازَ نَبْشُهُ وَإِخْرَاجُهُ .
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ هَذَا قَبْرُ أَبِي رِغَالٍ ، وَآيَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَعَهُ غُصْنًا مِنْ ذَهَبٍ ، إنْ أَنْتُمْ نَبَشْتُمْ عَنْهُ أَصَبْتُمُوهُ مَعَهُ } .
فَابْتَدَرَهُ النَّاسُ ، فَاسْتَخْرَجُوا الْغُصْنَ .
وَلَوْ كَانَ فِي أُذُنِ الْمَيِّتِ حَلَقٌ ، أَوْ فِي أُصْبُعِهِ خَاتَمٌ أُخِذَ .
فَإِنْ صَعُبَ أَخْذُهُ ، بُرِدَ ، وَأُخِذَ ؛ لِأَنَّ تَرْكَهُ تَضْيِيعٌ لِلْمَالِ .

( 1663 ) فَصْلٌ : وَإِنْ وَقَعَ فِي الْقَبْرِ مَا لَهُ قِيمَةٌ ، نُبِشَ وَأُخْرِجَ .
قَالَ أَحْمَدُ : إذَا نَسِيَ الْحَفَّارُ مِسْحَاتَهُ فِي الْقَبْرِ ، جَازَ أَنْ يَنْبُشَ عَنْهَا .
وَقَالَ فِي الشَّيْءِ يَسْقُطُ فِي الْقَبْرِ ، مِثْلُ الْفَأْسِ وَالدَّرَاهِمِ : يُنْبَشُ .
قَالَ : إذَا كَانَ لَهُ قِيمَةٌ .
يَعْنِي يُنْبَشُ .
قِيلَ : فَإِنْ أَعْطَاهُ أَوْلِيَاءُ الْمَيِّتِ ؟ قَالَ : إنْ أَعْطَوْهُ حَقَّهُ أَيَّ شَيْءٍ يُرِيدُ ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ طُرِحَ خَاتَمُهُ فِي قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ : خَاتَمِي .
فَفُتِحَ مَوْضِعٌ مِنْهُ ، فَأَخَذَ الْمُغِيرَةُ خَاتَمَهُ ، فَكَانَ يَقُولُ : أَنَا أَقْرَبُكُمْ عَهْدًا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

( 1664 ) فَصْلٌ : وَإِنْ دُفِنَ مِنْ غَيْرِ غُسْلٍ ، أَوْ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ ، نُبِشَ ، وَغُسِّلَ ، وَوُجِّهَ ، إلَّا أَنْ يُخَافَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَفَسَّخَ ، فَيُتْرَكَ .
وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَبِي ثَوْرٍ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُنْبَشُ ؛ لِأَنَّ النَّبْشَ مُثْلَةٌ ، وَقَدْ نُهِيَ عَنْهَا .
وَلَنَا ، أَنَّ الصَّلَاةَ تَجِبُ وَلَا تَسْقُطُ بِذَلِكَ ، كَإِخْرَاجِ مَا لَهُ قِيمَةٌ .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّ النَّبْشَ مُثْلَةٌ .
قُلْنَا : إنَّمَا هُوَ مُثْلَةٌ فِي حَقِّ مَنْ يُقْبَرُ وَلَا يُنْبَشُ .

( 1665 ) فَصْلٌ : وَإِنْ دُفِنَ قَبْلَ الصَّلَاةِ ، فَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يُنْبَشُ ، وَيُصَلَّى عَلَيْهِ .
وَعَنْهُ أَنَّهُ إنْ صُلِّيَ عَلَى الْقَبْرِ جَازَ .
وَاخْتَارَ الْقَاضِي أَنَّهُ يُصَلَّى عَلَى الْقَبْرِ وَلَا يُنْبَشُ .
وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { صَلَّى عَلَى قَبْرِ الْمِسْكِينَةِ وَلَمْ يَنْبُشْهَا } .
وَوَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّهُ دُفِنَ قَبْلَ وَاجِبٍ ، فَنُبِشَ ، كَمَا لَوْ دُفِنَ مِنْ غَيْرِ غُسْلٍ ، وَإِنَّمَا يُصَلَّى عَلَى الْقَبْرِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ .
وَأَمَّا الْمِسْكِينَةُ فَقَدْ كَانَتْ صُلِّيَ عَلَيْهَا ، وَلَمْ تَبْقَ الصَّلَاةُ عَلَيْهَا وَاجِبَةً ، فَلَمْ تُنْبَشْ لِذَلِكَ .
فَأَمَّا إنْ تَغَيَّرَ الْمَيِّتُ ، لَمْ يُنْبَشْ بِحَالٍ .

( 1666 ) فَصْلٌ : وَإِنْ دُفِنَ بِغَيْرِ كَفَنٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا ، يُتْرَكُ ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ بِالْكَفَنِ سَتْرُهُ ، وَقَدْ حَصَلَ سَتْرُهُ بِالتُّرَابِ .
وَالثَّانِي ، يُنْبَشُ وَيُكَفَّنُ ؛ لِأَنَّ التَّكْفِينَ وَاجِبٌ ، فَأَشْبَهَ الْغُسْلَ .
وَإِنْ كُفِّنَ بِثَوْبٍ مَغْصُوبٍ ، فَقَالَ الْقَاضِي : يَغْرَمُ قِيمَتَهُ مِنْ تَرِكَتِهِ ، وَلَا يُنْبَشُ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ هَتْكِ حُرْمَتِهِ مَعَ إمْكَانِ دَفْعِ الضَّرَرِ بِدُونِهَا .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُنْبَشَ ، إذَا كَانَ الْكَفَنُ بَاقِيًا بِحَالِهِ ؛ لِيُرَدَّ إلَى مَالِكِهِ عَنْ مَالِهِ ، وَإِنْ كَانَ بَالِيًا فَقِيمَتُهُ مِنْ تَرِكَتِهِ .
فَإِنْ دُفِنَ فِي أَرْضِ غَصْبٍ ، أَوْ أَرْضٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِ شَرِيكِهِ ، نُبِشَ وَأُخْرِجَ ؛ لِأَنَّ الْقَبْرَ فِي الْأَرْضِ يَدُومُ ضَرَرُهُ ، وَيَكْثُرُ ، بِخِلَافِ الْكَفَنِ .
وَإِنْ أَذِنَ الْمَالِكُ فِي الدَّفْنِ فِي أَرْضِهِ ، ثُمَّ أَرَادَ إخْرَاجَهُ ، لَمْ يَمْلِكْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ ضَرَرًا .
وَإِنْ بَلِيَ الْمَيِّتُ وَعَادَ تُرَابًا ، فَلِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَخْذُهَا ، وَكُلُّ مَوْضِعٍ أَجَزْنَا نَبْشَهُ لِحُرْمَةِ مِلْكِ الْآدَمِيِّ ، فَالْمُسْتَحَبُّ تَرْكُهُ احْتِرَامًا لِلْمَيِّتِ .

( 1667 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَإِذَا حَضَرَتْ الْجِنَازَةُ وَصَلَاةُ الْفَجْرِ ، بُدِئَ بِالْجِنَازَةِ ، وَإِذَا حَضَرَتْ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ بُدِئَ بِالْمَغْرِبِ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ مَتَى حَضَرَتْ الْجِنَازَةُ وَالْمَكْتُوبَةُ ، بُدِئَ بِالْمَكْتُوبَةِ ، إلَّا الْفَجْرَ وَالْعَصْرَ ؛ لِأَنَّ مَا بَعْدَهُمَا وَقْتٌ نُهِيَ عَنْ الصَّلَاةِ فِيهِ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ عَلَى نَحْوٍ مِنْ هَذَا ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ .
وَيُرْوَى عَنْ مُجَاهِدٍ ، وَالْحَسَنِ ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، وَقَتَادَةَ ، أَنَّهُمْ قَالُوا : يَبْدَأُ بِالْمَكْتُوبَةِ ؛ لِأَنَّهَا أَهَمُّ وَأَيْسَرُ ، وَالْجِنَازَةُ يَتَطَاوَلُ أَمْرُهَا ، وَالِاشْتِغَالُ بِهَا ، فَإِنْ قَدَّمَ جَمِيعَ أَمْرِهَا عَلَى الْمَكْتُوبَةِ أَفْضَى إلَى تَفْوِيتِهَا ، وَإِنْ صَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ انْتَظَرَ فَرَاغَ الْمَكْتُوبَةِ لَمْ يَعُدْ تَقْدِيمُهَا شَيْئًا ، إلَّا فِي الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ ، فَإِنَّ تَقْدِيمَ الصَّلَاةِ عَلَيْهَا بَعِيدٌ أَنْ يَقَعُ فِي غَيْرِ وَقْتِ النَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ ، فَيَكُونُ أَوَّلًا .

( 1668 ) فَصْلٌ : قَالَ أَحْمَدُ : تُكْرَهُ الصَّلَاةُ - يَعْنِي عَلَى الْمَيِّتِ - فِي ثَلَاثَةِ أَوْقَاتٍ : عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ، وَنِصْفِ النَّهَارِ ، وَعِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ .
وَذَكَرَ حَدِيثَ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ : { ثَلَاثُ سَاعَاتٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَانَا أَنْ نُصَلِّيَ فِيهِنَّ ، أَوْ نَقْبُرَ فِيهِنَّ مَوْتَانَا : حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ بَازِغَةً حَتَّى تَرْتَفِعَ ، وَحِينَ يَقُومُ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ حَتَّى يَمِيلَ ، وَحِينَ تَتَضَيَّفُ الشَّمْسُ لِلْغُرُوبِ حَتَّى تَغْرُبَ } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَمَعْنَى تَتَضَيَّفُ : أَيْ تَجْنَحُ وَتَمِيلُ لِلْغُرُوبِ ، مِنْ قَوْلِك : تَضَيَّفْتُ فُلَانًا : إذَا مِلْت إلَيْهِ .
قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ : مَعْنَى أَنْ نَقْبُرَ فِيهِنَّ مَوْتَانَا ، يَعْنِي الصَّلَاةَ عَلَى الْجِنَازَةِ .
قِيلَ لِأَحْمَدَ : الشَّمْسُ عَلَى الْحِيطَانِ مُصْفَرَّةٌ ؟ قَالَ : يُصَلَّى عَلَيْهَا مَا لَمْ تُدْلِ لِلْغُرُوبِ .
فَلَا .
وَتَجُوزُ الصَّلَاةُ عَلَى الْمَيِّتِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ .
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، وَعَطَاءٍ ، وَالنَّخَعِيِّ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَإِسْحَاقَ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ .
وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ .
وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ ، قِيَاسًا عَلَى مَا بَعْدَ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِحَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ ، وَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَى الْوَقْتَيْنِ الْآخَرَيْنِ ؛ لِأَنَّ مُدَّتَهُمَا تَطُولُ ، فَيُخَافُ عَلَى الْمَيِّتِ فِيهِمَا ، وَيَشُقُّ انْتِظَارُ خُرُوجِهِمَا ، بِخِلَافِ هَذِهِ .
وَكَرِهَ أَحْمَدُ أَيْضًا دَفْنَ الْمَيِّتِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ ، لِحَدِيثِ عُقْبَةَ .
فَأَمَّا الصَّلَاةُ عَلَى الْقَبْرِ وَالْغَائِبِ ، فَلَا يَجُوزُ فِي شَيْءٍ مِنْ أَوْقَاتِ النَّهْيِ ؛ لِأَنَّ عِلَّةَ تَجْوِيزِهَا عَلَى الْمَيِّتِ مُعَلَّلَةٌ بِالْخَوْفِ عَلَيْهِ ، وَقَدْ أُمِنَ ذَلِكَ هَاهُنَا ، فَيَبْقَى عَلَى أَصْلِ الْمَنْعِ ، وَالْعَمَلِ بِعُمُومِ النَّهْيِ

( 1669 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا الدَّفْنُ لَيْلًا ، فَقَالَ أَحْمَدُ : وَمَا بَأْسٌ بِذَلِكَ .
وَقَالَ : أَبُو بَكْرٍ دُفِنَ لَيْلًا ، وَعَلِيٌّ دَفَنَ فَاطِمَةَ لَيْلًا ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ : كُنَّا سَمِعْنَا صَوْتَ الْمَسَّاحِي مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ فِي دَفْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَمِمَّنْ دُفِنَ لَيْلًا : عُثْمَانُ ، وَعَائِشَةُ ، وَابْنُ مَسْعُودٍ .
وَرَخَّصَ فِيهِ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَعَطَاءٌ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ .
وَكَرِهَهُ الْحَسَنُ ؛ لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ ، فِي " صَحِيحِهِ " ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ يَوْمًا ، فَذَكَرَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ قُبِضَ ، فَكُفِّنَ فِي كَفَنٍ غَيْرِ طَائِلٍ ، وَدُفِنَ لَيْلًا ، فَزَجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقْبَرَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ إلَّا أَنْ يَضْطَرَّ الْإِنْسَانُ إلَى ذَلِكَ } .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ : إلَيْهِ أَذْهَبُ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ ، قَالَ : { وَاَللَّهِ لَكَأَنِّي أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ ، وَهُوَ فِي قَبْرِ ذِي النِّجَادَيْنِ ، وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ ، وَهُوَ يَقُول : أَدْنِيَا مِنِّي أَخَاكُمَا حَتَّى أُسْنِدَهُ فِي لَحْدِهِ .
ثُمَّ قَالَ لَمَّا فَرَغَ مِنْ دَفْنِهِ ، وَقَامَ عَلَى قَبْرِهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ : اللَّهُمَّ إنِّي أَمْسَيْت عَنْهُ رَاضِيًا ، فَارْضَ عَنْهُ .
وَكَانَ ذَلِكَ لَيْلًا ، قَالَ : فَوَاَللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَلَوَدِدْت أَنِّي مَكَانَهُ ، وَلَقَدْ أَسْلَمْت قَبْلَهُ بِخَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً ، وَأَخَذَهُ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ .
} رَوَاهُ الْخَلَّالُ ، فِي " جَامِعِهِ " .
وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ قَبْرًا لَيْلًا ، فَأُسْرِجَ لَهُ سِرَاجٌ ، فَأَخَذَ مَنْ قِبَلَ الْقِبْلَةِ ، وَقَالَ : رَحِمَك اللَّهُ ، إنْ كُنْت لَأَوَّاهًا ، تَلَّاءً لِلْقُرْآنِ .
} قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ .
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { سَأَلَ عَنْ رَجُلٍ ،

فَقَالَ : مَنْ هَذَا ؟ قَالُوا : فُلَانٌ ، دُفِنَ الْبَارِحَةَ .
فَصَلَّى عَلَيْهِ } .
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ .
فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ ، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ الْآيَتَيْنِ ، فَجَازَ الدَّفْنُ فِيهِ كَالنَّهَارِ ، وَحَدِيثُ الزَّجْرِ مَحْمُولٌ عَلَى الْكَرَاهَةِ وَالتَّأْدِيبِ ؛ فَإِنَّ الدَّفْنَ نَهَارًا أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ أَسْهَلُ عَلَى مُتَّبِعِهَا ، وَأَكْثَرُ لِلْمُصَلِّينَ عَلَيْهَا ، وَأَمْكَنُ لِإِتْبَاعِ السُّنَّةِ فِي دَفْنِهِ وَإِلْحَادِهِ .

( 1670 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَلَا يُصَلِّي الْإِمَامُ عَلَى الْغَالِّ مِنْ الْغَنِيمَةِ ، وَلَا عَلَى مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ ) الْغَالُّ : هُوَ الَّذِي يَكْتُمُ غَنِيمَتَهُ أَوْ بَعْضَهَا ، لِيَأْخُذَهُ لِنَفْسِهِ ، وَيَخْتَصَّ بِهِ .
فَهَذَا لَا يُصَلِّي عَلَيْهِ الْإِمَامُ ، وَلَا عَلَى مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ مُتَعَمِّدًا .
وَيُصَلِّي عَلَيْهِمَا سَائِرُ النَّاسِ .
نَصَّ عَلَيْهِمَا أَحْمَدُ .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ : لَا يُصَلَّى عَلَى قَاتِلِ نَفْسِهِ بِحَالٍ ؛ لِأَنَّ مَنْ لَا يُصَلِّي عَلَيْهِ الْإِمَامُ لَا يُصَلِّي عَلَيْهِ غَيْرُهُ ، كَشَهِيدِ الْمَعْرَكَةِ .
وَقَالَ عَطَاءٌ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ : يُصَلِّي الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { صَلُّوا عَلَى مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ } .
رَوَاهُ الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ .
وَلَنَا مَا رَوَى جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءُوهُ بِرَجُلٍ قَتَلَ نَفْسَهُ بِمَشَاقِصَ ، فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد { أَنَّ رَجُلًا انْطَلَقَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ عَنْ رَجُلٍ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ ، قَالَ : وَمَا يُدْرِيك ؟ قَالَ : رَأَيْته يَنْحَرُ نَفْسَهُ بِمَشَاقِصَ ، قَالَ : أَنْتَ رَأَيْته ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : إذًا لَا أُصَلِّي عَلَيْهِ } .
وَرَوَى زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ الْجُهَنِيُّ ، قَالَ : { تُوُفِّيَ رَجُلٌ مِنْ جُهَيْنَةَ يَوْمَ خَيْبَرَ ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ .
فَتَغَيَّرَتْ وُجُوهُ الْقَوْمِ ، فَلَمَّا رَأَى مَا بِهِمْ قَالَ : إنَّ صَاحِبَكُمْ غَلَّ مِنْ الْغَنِيمَةِ } .
احْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ .
وَاخْتَصَّ هَذَا الِامْتِنَاعُ بِالْإِمَامِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا امْتَنَعَ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى الْغَالِّ ، قَالَ : { صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ } .
وَرُوِيَ أَنَّهُ أَمَرَ بِالصَّلَاةِ عَلَى قَاتِلِ نَفْسِهِ ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ هُوَ الْإِمَامَ ، فَأُلْحِقَ بِهِ مَنْ سَاوَاهُ فِي ذَلِكَ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَرْكِ صَلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْكُ صَلَاةِ غَيْرِهِ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي بَدْءِ الْإِسْلَامِ لَا يُصَلِّي عَلَى مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَا وَفَاءَ لَهُ ، وَيَأْمُرُهُمْ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا خَاصٌّ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ لِأَنَّ صَلَاتَهُ سَكَنٌ .
قُلْنَا : مَا ثَبَتَ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَبَتَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ ، مَا لَمْ يَقُمْ عَلَى اخْتِصَاصِهِ دَلِيلٌ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ تَرَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ .
قُلْنَا : ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهِ بَعْدُ ، فَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُؤْتَى بِالرَّجُلِ الْمُتَوَفَّى عَلَيْهِ الدَّيْنُ ، فَيَقُولُ : هَلْ تَرَكَ لِدَيْنِهِ مِنْ وَفَاءٍ ؟ .
فَإِنْ حُدِّثَ أَنَّهُ تَرَكَ وَفَاءً صَلَّى عَلَيْهِ ، وَإِلَّا قَالَ لِلْمُسْلِمِينَ : صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ الْفُتُوحَ قَامَ فَقَالَ : أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ، فَمَنْ تُوُفِّيَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ ، وَتَرَكَ دَيْنًا ، عَلَيَّ قَضَاؤُهُ ، وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِلْوَرَثَةِ .
} قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ .
وَلَوْلَا النَّسْخُ كَانَ كَمَسْأَلَتِنَا ، وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ خَاصَّةٌ ، فَيَجِبُ تَقْدِيمُهَا عَلَى قَوْلِهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { صَلُّوا عَلَى مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ } .
عَلَى أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ الصَّلَاةَ عَلَى هَذَيْنِ ، وَأَمَرَ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِمَا ، فَلَمْ يَكُنْ أَمْرُهُ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِمَا مُنَافِيًا لِتَرْكِهِ الصَّلَاةَ عَلَيْهِمَا ، كَذَلِكَ أَمْرُهُ بِالصَّلَاةِ عَلَى مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ .

( 1671 ) فَصْلٌ : قَالَ أَحْمَدُ : لَا أَشْهَدُ الْجَهْمِيَّةَ وَلَا الرَّافِضَةَ ، وَيَشْهَدُهُ مَنْ شَاءَ ، قَدْ تَرَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ عَلَى أَقَلِّ مِنْ هَذَا ؛ الدَّيْنُ ، وَالْغُلُولُ ، وَقَاتِلُ نَفْسِهِ .
وَقَالَ : لَا يُصَلَّى عَلَى الرَّافِضِيِّ .
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ : لَا أُصَلِّي عَلَى رَافِضِيٌّ ، وَلَا حَرُورِيٍّ .
وَقَالَ الْفِرْيَابِيُّ : مَنْ شَتَمَ أَبَا بَكْرٍ فَهُوَ كَافِرٌ ، لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ .
قِيلَ لَهُ : فَكَيْفَ نَصْنَعُ بِهِ ، وَهُوَ يَقُولُ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ؟ قَالَ : لَا تَمَسُّوهُ بِأَيْدِيكُمْ ، ارْفَعُوهُ بِالْخَشَبِ حَتَّى تُوَارُوهُ فِي حُفْرَتِهِ .
وَقَالَ أَحْمَدُ : أَهْلُ الْبِدَعِ لَا يُعَادُونَ إنْ مَرِضُوا ، وَلَا تُشْهَدُ جَنَائِزُهُمْ إنْ مَاتُوا .
وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : وَسَائِرُ الْعُلَمَاءِ يُصَلُّونَ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ : عَلَيْهِ السَّلَامُ { صَلُّوا عَلَى مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ } وَلَنَا ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تَرَكَ الصَّلَاةَ بِأَدْوَنَ مِنْ هَذَا ، فَأَوْلَى أَنْ نَتْرُكَ الصَّلَاةَ بِهِ } ، وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ مَجُوسًا ، وَإِنَّ مَجُوسَ أُمَّتِي الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا قَدَرَ ، فَإِنْ مَرِضُوا فَلَا تَعُودُوهُمْ ، وَإِنْ مَاتُوا فَلَا تَشْهَدُوهُمْ } .
رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ .

( 1672 ) فَصْلٌ : وَلَا يُصَلَّى عَلَى أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ ؛ لِأَنَّ لَهُمْ حُكْمَ آبَائِهِمْ ، إلَّا مَنْ حَكَمْنَا بِإِسْلَامِهِ ، مِثْل أَنْ يُسْلِمَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ ، أَوْ يَمُوتَ ، أَوْ يُسْبَى مُنْفَرِدًا مِنْ أَبَوَيْهِ ، أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا ، فَإِنَّهُ يُصَلَّى عَلَيْهِ .
قَالَ أَبُو ثَوْرٍ مَنْ سُبِيَ مَعَ أَحَدِ أَبَوَيْهِ ، لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ ، حَتَّى يَخْتَارَ الْإِسْلَامَ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ مَحْكُومٌ لَهُ بِالْإِسْلَامِ ، أَشْبَهَ مَا لَوْ سُبِيَ مُنْفَرِدًا مِنْهُمَا .

( 1673 ) فَصْلٌ : وَيُصَلَّى عَلَى سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ ، وَالْمَرْجُومِ فِي الزِّنَا ، وَغَيْرِهِمْ .
قَالَ أَحْمَدُ : مَنْ اسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا ، وَصَلَّى بِصَلَاتِنَا ، نُصَلِّي عَلَيْهِ وَنَدْفِنُهُ .
وَيُصَلَّى عَلَى وَلَدِ الزِّنَا ، وَالزَّانِيَةِ ، وَاَلَّذِي يُقَادُ مِنْهُ بِالْقِصَاصِ ، أَوْ يُقْتَلُ فِي حَدٍّ .
وَسُئِلَ عَمَّنْ لَا يُعْطِي زَكَاةَ مَالِهِ ، فَقَالَ : يُصَلَّى عَلَيْهِ ، مَا يُعْلَمُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ الصَّلَاةَ عَلَى أَحَدٍ ، إلَّا عَلَى قَاتِلِ نَفْسِهِ وَالْغَالِّ .
وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ ، وَالنَّخَعِيِّ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ ، إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ ، قَالَ : لَا يُصَلَّى عَلَى الْبُغَاةِ ، وَلَا الْمُحَارِبِينَ ؛ لِأَنَّهُمْ بَايَنُوا أَهْلَ الْإِسْلَامِ ، وَأَشْبَهُوا أَهْلَ دَارِ الْحَرْبِ .
وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يُصَلَّى عَلَى مَنْ قُتِلَ فِي حَدٍّ ؛ لِأَنَّ أَبَا بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيَّ قَالَ : { لَمْ يُصَلِّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ ، وَلَمْ يَنْهَ عَنْ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَلَنَا ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { صَلُّوا عَلَى مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ } .
رَوَاهُ الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ ، وَرَوَى الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ ، عَنْ أَبِي شُمَيْلَةَ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إلَى قُبَاءَ ، فَاسْتَقْبَلَهُ رَهْطٌ مِنْ الْأَنْصَارِ ، يَحْمِلُونَ جِنَازَةً عَلَى بَابٍ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا هَذَا ؟ قَالُوا : مَمْلُوكٌ لِآلِ فُلَانٍ .
قَالَ : أَكَانَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ؟ قَالُوا : نَعَمْ ، وَلَكِنَّهُ كَانَ وَكَانَ .
فَقَالَ : أَكَانَ يُصَلِّي ؟ قَالُوا : قَدْ كَانَ يُصَلِّي وَيَدَعُ .
فَقَالَ لَهُمْ : ارْجِعُوا بِهِ ، فَغَسِّلُوهُ ، وَكَفِّنُوهُ ، وَصَلُّوا عَلَيْهِ ، وَادْفِنُوهُ ، وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ كَادَتْ الْمَلَائِكَةُ تَحُولُ بَيْنِي وَبَيْنَهُ .
} وَأَمَّا أَهْلُ الْحَرْبِ فَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِمْ ؛

لِأَنَّهُمْ كُفَّارٌ ، وَلَا يُقْبَلُ فِيهِمْ شَفَاعَةٌ ، وَلَا يُسْتَجَابُ فِيهِمْ دُعَاءٌ ، وَقَدْ نُهِينَا عَنْ الِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ } وَقَالَ : { إنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } .
وَأَمَّا تَرْكُ الصَّلَاةِ عَلَى مَاعِزٍ فَيَحْتَمِلُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ مَنْ يُصَلِّي عَلَيْهِ لِعُذْرٍ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { رَجَمَ الْغَامِدِيَّةَ ، وَصَلَّى عَلَيْهَا .
فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : تَرْجُمُهَا ، وَتُصَلِّي عَلَيْهَا ؟ فَقَالَ : لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ قُسِّمَتْ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ } .
كَذَلِكَ رَوَاهُ الْأَوْزَاعِيُّ .
وَرَوَى مَعْمَرٌ ، وَهِشَامٌ ، عَنْ أَبَانَ أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهَا .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : وَهُوَ الصَّحِيحُ .

( 1674 ) مَسْأَلَةٌ ؛ ( قَالَ : وَإِذَا حَضَرَتْ جِنَازَةُ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ وَصَبِيٍّ ، جُعِلَ الرَّجُلُ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ ، وَالْمَرْأَةُ خَلْفَهُ ، وَالصَّبِيُّ خَلْفَهُمَا ) لَا خِلَافَ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ إذَا اجْتَمَعَ مَعَ الرِّجَالِ غَيْرُهُمْ ، أَنَّهُ يُجْعَلُ الرِّجَالُ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ نِسَاءٌ وَصِبْيَانٌ ، فَنَقَلَ الْخِرَقِيِّ هَاهُنَا ، أَنَّ الْمَرْأَةَ تُقَدَّمُ مِمَّا يَلِي الرَّجُل ، ثُمَّ يُجْعَلُ الصَّبِيُّ خَلْفَهُمَا مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ شَخْصٌ مُكَلَّفٌ ، فَهِيَ أَحْوَجُ إلَى الشَّفَاعَةِ ، وَلِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ عَمَّارٍ مَوْلَى الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ ، أَنَّهُ شَهِدَ جِنَازَةَ أُمِّ كُلْثُومٍ وَابْنِهَا ، فَجُعِلَ الْغُلَامُ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ ، فَأَنْكَرْت ذَلِكَ ، وَفِي الْقَوْمِ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، وَأَبُو قَتَادَةَ ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ ، فَقَالُوا : هَذِهِ السُّنَّةُ .
وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ ، فِي رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ ، أَنَّ الرِّجَالَ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ ، وَالصِّبْيَانَ أَمَامَهُمْ ، وَالنِّسَاءَ يَلِينَ الْقِبْلَةَ .
وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُمْ يُقَدَّمُونَ عَلَيْهِنَّ فِي الصَّفِّ فِي الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ ، فَكَذَلِكَ يُقَدَّمُونَ عَلَيْهِنَّ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الْجَنَائِزِ ، كَالرِّجَالِ .
وَأَمَّا حَدِيثُ عَمَّارٍ ، فَالصَّحِيحُ فِيهِ أَنَّهُ جَعَلَهَا مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ ، وَجَعَلَ ابْنَهَا مِمَّا يَلِيهِ .
كَذَلِكَ رَوَاهُ سَعِيدٌ ، وَعَمَّارٌ مَوْلَى بَنِي سُلَيْمٍ ، عَنْ عَمَّارٍ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ .
وَأَخْرَجَهُ كَذَلِكَ أَبُو دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ ، وَغَيْرُهُمَا ، وَلَفْظُهُ قَالَ : شَهِدْت جِنَازَةَ صَبِيٍّ وَامْرَأَةٍ ، فَقُدِّمَ الصَّبِيُّ مِمَّا يَلِي الْقَوْمَ ، وَوُضِعَتْ الْمَرْأَةُ وَرَاءَهُ وَفِي الْقَوْمِ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَأَبُو قَتَادَةَ ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ ، فَقُلْنَا لَهُمْ ، فَقَالُوا : السُّنَّةُ .
وَأَمَّا الْحَدِيثُ

الْأَوَّلُ فَلَا يَصِحُّ ؛ فَإِنَّ زَيْدَ بْنَ عُمَرَ هُوَ ابْنُ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ عَلِيٍّ ، الَّذِي صُلِّيَ عَلَيْهِ مَعَهَا ، وَكَانَ رَجُلًا لَهُ أَوْلَادٌ .
كَذَلِكَ قَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارَ .
وَلَا خِلَافَ فِي تَقْدِيمِ الرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ ، وَلِأَنَّ زَيْدًا ضُرِبَ فِي حَرْبٍ كَانَتْ بَيْنَ عَدِيٍّ فِي خِلَافَةِ بَعْضِ بَنِي أُمَيَّةَ فَصُرِعَ وَحُمِلَ ، وَمَاتَ ، وَالْتَفَّتْ صَارِخَتَانِ عَلَيْهِ وَعَلَى أُمِّهِ ، وَلَا يَكُونُ إلَّا رَجُلًا .
( 1675 ) فَصْلٌ : وَلَا خِلَافَ فِي تَقْدِيمِ الْخُنْثَى عَلَى الْمَرْأَةِ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ رَجُلًا ، وَأَدْنَى أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لَهَا ، وَلَا فِي تَقْدِيمِ الْحُرِّ عَلَى الْعَبْدِ ؛ لِشَرَفِهِ وَتَقْدِيمِهِ عَلَيْهِ فِي الْإِمَامَةِ ، وَلَا فِي تَقْدِيمِ الْكَبِيرِ عَلَى الصَّغِيرِ كَذَلِكَ .
وَقَدْ رَوَى الْخَلَّالُ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي جِنَازَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ ، وَحُرٍّ وَعَبْدٍ ، وَصَغِيرٍ وَكَبِيرٍ ، يُجْعَلُ الرَّجُلُ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ ، وَالْمَرْأَةُ أَمَامَ ذَلِكَ ، وَالْكَبِيرُ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ ، وَالصَّغِيرُ أَمَامَ ذَلِكَ ، وَالْحُرُّ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ ، وَالْمَمْلُوكُ أَمَامَ ذَلِكَ .
فَإِنْ اجْتَمَعَ حُرٌّ صَغِيرٌ وَعَبْدٌ كَبِيرٌ ، قَالَ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ ، فِي غُلَامٍ حُرٍّ وَشَيْخٍ عَبْدٍ : يُقَدَّمُ الْحُرُّ إلَى الْإِمَامِ .
هَذَا اخْتِيَارُ الْخَلَّالِ ، وَغَلِطَ مَنْ رَوَى خِلَافَ ذَلِكَ ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ عَلِيٍّ : الْحُرُّ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ ، وَالْمَمْلُوكُ وَرَاءَ ذَلِكَ .
وَنَقَلَ أَبُو الْحَارِثِ : يُقَدَّمُ أَكْبَرُهُمَا إلَى الْإِمَامِ ، وَهُوَ أَصَحُّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّهُ يُقَدَّمُ فِي الصَّفِّ فِي الصَّلَاةِ .
وَقَوْلُ عَلِيٍّ أَرَادَ بِهِ إذَا تَسَاوَيَا فِي الْكِبَرِ وَالصِّغَرِ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَالَ : وَالْكَبِيرُ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ ، وَالصَّغِيرُ أَمَامَ ذَلِكَ .
( 1676 ) فَصْلٌ : فَإِنْ كَانُوا نَوْعًا وَاحِدًا ، قُدِّمَ إلَى الْإِمَامِ أَفْضَلُهُمْ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

{ كَانَ يَوْمَ أُحُدٍ يَدْفِنُ الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ فِي الْقَبْرِ الْوَاحِدِ ، وَيُقَدِّمُ أَكْثَرَهُمْ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ .
} وَلِأَنَّ الْأَفْضَلَ يُقَدَّمُ فِي صَفِّ الْمَكْتُوبَةِ ، فَيُقَدَّمُ هَاهُنَا ، كَالرِّجَالِ مَعَ الْمَرْأَةِ .
وَقَدْ دَلَّ عَلَى الْأَصْلِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { لِيَلِنِي مِنْكُمْ أُولُوا الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى .
} وَإِنْ تَسَاوَوْا فِي الْفَضْلِ ، قُدِّمَ الْأَكْبَرُ فَالْأَكْبَرُ .
فَإِنْ تَسَاوَوْا قُدِّمَ السَّابِقُ .
وَقَالَ الْقَاضِي : يُقَدَّمُ السَّابِقُ وَإِنْ كَانَ صَبِيًّا ، وَلَا تُقَدَّمُ الْمَرْأَةُ وَإِنْ كَانَتْ سَابِقَةً ؛ لِمَوْضِعِ الذُّكُورِيَّةِ ، فَإِنْ تَسَاوَوْا قَدَّمَ الْإِمَامُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ ، فَإِنْ تَشَاحَّ الْأَوْلِيَاءُ فِي ذَلِكَ أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ .

فَصْلٌ : وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي جَوَازِ الصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَائِز ، دَفْعَةً وَاحِدَةً ، وَإِنْ أَفْرَدَ كُلَّ جِنَازَةٍ بِصَلَاةٍ جَازَ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ صَلَّى عَلَى حَمْزَةَ مَعَ غَيْرِهِ } .
وَقَالَ حَنْبَلٌ : صَلَّيْت مَعَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَى جِنَازَةِ امْرَأَةٍ مَنْفُوسَةٍ ، فَصَلَّى أَبُو إِسْحَاقَ عَلَى الْأُمِّ ، وَاسْتَأْمَرَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ، وَقَالَ : صَلِّ عَلَى ابْنَتِهَا الْمَوْلُودَةِ أَيْضًا ؟ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : لَوْ أَنَّهُمَا وُضِعَا جَمِيعًا كَانَتْ صَلَاتُهُمَا وَاحِدَةً ، تَصِيرُ إذَا كَانَتْ أُنْثَى عَنْ يَمِينِ الْمَرْأَةِ ، وَإِذَا كَانَ ذَكَرًا عَنْ يَسَارِهَا .
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : إفْرَادُ كُلِّ جِنَازَةٍ بِصَلَاةٍ أَفْضَلُ ، مَا لَمْ يُرِيدُوا الْمُبَادَرَةَ .
وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا ، أَنَّهُ أَفْضَلُ فِي الْإِفْرَادِ ، وَهُوَ ظَاهِرُ حَالِ السَّلَفِ ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ ذَلِكَ .

( 1678 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَإِنْ دُفِنُوا فِي قَبْرٍ يَكُونُ الرَّجُلُ مَا يَلِي الْقِبْلَةَ ، وَالْمَرْأَةُ خَلْفَهُ ، وَالصَّبِيُّ خَلْفَهُمَا ، وَيَجْعَلُ بَيْنَ كُلِّ اثْنَيْنِ حَاجِزًا مِنْ تُرَابٍ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا دُفِنَ الْجَمَاعَةُ فِي الْقَبْرِ ، قُدِّمَ الْأَفْضَلُ مِنْهُمْ إلَى الْقِبْلَةِ ، ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ فِي الْفَضِيلَةِ ، عَلَى حَسَبِ تَقْدِيمِهِمْ إلَى الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ سَوَاءً ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلَ هَذِهِ ؛ لِمَا رَوَى هِشَامُ بْنُ عَامِرٍ ، قَالَ : { شُكِيَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجِرَاحَاتُ يَوْمَ أُحُدٍ ، فَقَالَ : احْفِرُوا وَأَوْسِعُوا ، وَأَحْسِنُوا ، وَادْفِنُوا الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ ، وَقَدِّمُوا أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا } .
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّهُ يَجْعَلُ بَيْنَ كُلِّ اثْنَيْنِ حَاجِزًا مِنْ التُّرَابِ ، فَيَجْعَلُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي مِثْلِ الْقَبْرِ الْمُنْفَرِدِ ؛ لِأَنَّ الْكَفَنَ حَائِلٌ غَيْرُ حَصِينٍ .
قَالَ أَحْمَدُ : وَلَوْ جُعِلَ لَهُمْ شِبْهُ النَّهْرِ ، وَجُعِلَ رَأْسُ أَحَدِهِمْ عِنْدَ رِجْلِ الْآخَرِ ، وَجُعِلَ بَيْنَهُمَا شَيْءٌ مِنْ التُّرَابِ ، لَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ .
أَوْ كَمَا قَالَ .
( 1679 ) فَصْلٌ : وَلَا يُدْفَنُ اثْنَانِ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ ، إلَّا لِضَرُورَةٍ .
وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ يُدْفَنُونَ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ .
قَالَ : أَمَّا فِي مِصْرٍ فَلَا ، وَأَمَّا فِي بِلَادِ الرُّومِ فَتَكْثُرُ الْقَتْلَى ، فَيَحْفِرُ شِبْهَ النَّهْرِ ، رَأْسُ هَذَا عِنْدَ رِجْلِ هَذَا ، وَيَجْعَلُ بَيْنهمَا حَاجِزًا ، لَا يَلْتَزِقُ وَاحِدٌ بِالْآخَرِ .
وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ .
وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَذَّرُ فِي الْغَالِبِ إفْرَادُ كُلِّ وَاحِدٍ بِقَبْرٍ فِي الْمِصْرِ ، وَيَتَعَذَّرُ ذَلِكَ غَالِبًا فِي دَارِ الْحَرْبِ ، وَفِي مَوْضِعِ الْمُعْتَرَكِ .
وَإِنْ وُجِدَتْ الضَّرُورَةُ جَازَ دَفْنُ الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ وَأَكْثَرَ فِي الْقَبْرِ الْوَاحِدِ ، حَيْثُمَا كَانَ مِنْ مِصْرٍ أَوْ غَيْرِهِ .
فَإِنْ

مَاتَ لَهُ أَقَارِبُ بَدَأَ بِمَنْ يَخَافُ تَغَيُّرَهُ ، وَإِنْ اسْتَوَوْا فِي ذَلِكَ بَدَأَ بِأَقْرَبِهِمْ إلَيْهِ ، عَلَى تَرْتِيبِ النَّفَقَاتِ ، فَإِنْ اسْتَوَوْا فِي الْقُرْبِ قَدَّمَ أَنْسَبَهُمْ وَأَفْضَلَهُمْ .

( 1680 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَإِنْ مَاتَتْ نَصْرَانِيَّةٌ ، وَهِيَ حَامِلَةٌ مِنْ مُسْلِمٍ ، دُفِنَتْ بَيْنَ مَقْبَرَةِ الْمُسْلِمِينَ وَمَقْبَرَةِ النَّصَارَى ) اخْتَارَ هَذَا أَحْمَدُ ؛ لِأَنَّهَا كَافِرَةٌ ، لَا تُدْفَنُ فِي مَقْبَرَةِ الْمُسْلِمِينَ ، فَيَتَأَذَّوْا بِعَذَابِهَا ، وَلَا فِي مَقْبَرَةِ الْكُفَّارِ ؛ لِأَنَّ وَلَدَهَا مُسْلِمٌ فَيَتَأَذَّى بِعَذَابِهِمْ ، وَتُدْفَنُ مُنْفَرِدَةً .
مَعَ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ مِثْلُ هَذَا الْقَوْلِ ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهَا تُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : لَا يَثْبُتُ ذَلِكَ .
قَالَ أَصْحَابُنَا : وَيُجْعَلُ ظَهْرُهَا إلَى الْقِبْلَةِ عَلَى جَانِبِهَا الْأَيْسَرِ ، لِيَكُونَ وَجْهُ الْجَنِينِ إلَى الْقِبْلَةِ عَلَى جَانِبِهِ الْأَيْمَنِ ، لِأَنَّ وَجْهَ الْجَنِينِ إلَى ظَهْرِهَا .

( 1681 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَيَخْلَعُ النِّعَالَ إذَا دَخَلَ الْمَقَابِرَ ) .
هَذَا مُسْتَحَبٌّ ؛ لِمَا رَوَى بَشِيرُ ابْنُ الْخَصَاصِيَةِ ، قَالَ : { بَيْنَا أَنَا أُمَاشِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا رَجُلٌ يَمْشِي فِي الْقُبُورِ ، عَلَيْهِ نَعْلَانِ ، فَقَالَ : يَا صَاحِبَ السِّبْتِيَّتَيْنِ ، أَلْقِ سِبْتِيَّتَيْك .
فَنَظَرَ الرَّجُلُ ، فَلَمَّا عَرَفَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلَعَهُمَا ، فَرَمَى بِهِمَا } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَقَالَ أَحْمَدُ : إسْنَادُ حَدِيثِ بَشِيرِ ابْنِ الْخَصَاصِيَةِ جَيِّدٌ ، أَذْهَبُ إلَيْهِ ، إلَّا مِنْ عِلَّةٍ .
وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا يَرَوْنَ بِذَلِكَ بَأْسًا .
قَالَ جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ : رَأَيْت الْحَسَنَ ، وَابْنَ سِيرِينَ ، يَمْشِيَانِ بَيْنَ الْقُبُورِ فِي نِعَالِهِمَا .
وَمِنْهُمْ مَنْ احْتَجَّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ الْعَبْدَ إذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ ، وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ ، إنَّهُ يَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ } .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا كَرِهَ لِلرَّجُلِ الْمَشْيَ فِي نَعْلَيْهِ لِمَا فِيهِمَا مِنْ الْخُيَلَاءِ ، فَإِنَّ نِعَالَ السِّبْتِ مِنْ لِبَاسِ أَهْلِ النَّعِيمِ ، قَالَ عَنْتَرَةُ : يُحْذَى نِعَالَ السِّبْتِ لَيْسَ بِتَوْأَمِ وَلَنَا ، أَمْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخَبَرِ الَّذِي تَقَدَّمَ ، وَأَقَلُّ أَحْوَالِهِ النَّدْبُ ، وَلِأَنَّ خَلْعَ النَّعْلَيْنِ أَقْرَبُ إلَى الْخُشُوعِ ، وَزِيُّ أَهْلِ التَّوَاضُعِ ، وَاحْتِرَامُ أَمْوَاتِ الْمُسْلِمِينَ ، وَإِخْبَارُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ الْمَيِّتَ يَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ لَا يَنْفِي الْكَرَاهَةَ ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ هَذَا مِنْهُمْ ، وَلَا نِزَاعَ فِي وُقُوعِهِ وَفِعْلِهِمْ إيَّاهُ مَعَ كَرَاهِيَتِهِ ، فَأَمَّا إنْ كَانَ لِلْمَاشِيَّ عُذْرٌ يَمْنَعُهُ مِنْ خَلْعِ نَعْلَيْهِ ، مِثْلُ الشَّوْكِ يَخَافُهُ عَلَى قَدَمَيْهِ ، أَوْ نَجَاسَةٍ تَمَسُّهُمَا ، لَمْ يُكْرَه الْمَشْيُ فِي

النَّعْلَيْنِ .
قَالَ أَحْمَدُ ، فِي الرَّجُلِ يَدْخُلُ الْمَقَابِرَ وَفِيهَا شَوْكٌ يَخْلَعُ نَعْلَيْهِ : هَذَا يُضَيِّقُ عَلَى النَّاسِ حَتَّى يَمْشِيَ الرَّجُلُ فِي الشَّوْكِ ، وَإِنْ فَعَلَهُ فَحَسَنٌ ، هُوَ أَحْوَطُ ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ رَجُلٌ .
يَعْنِي لَا بَأْسَ .
وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعُذْرَ يَمْنَعُ الْوُجُوبَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ ، وَالِاسْتِحْبَابُ أَوْلَى ، وَلَا يَدْخُلُ فِي الِاسْتِحْبَابِ نَزْعُ الْخِفَافِ ؛ لِأَنَّ نَزْعَهَا يَشُقُّ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ كَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ إلَى الْجِنَازَةِ لَبِسَ خُفَّيْهِ ، مَعَ أَمْرِهِ بِخَلْعِ النِّعَالِ .
وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ الْكَرَاهَةَ لَا تَتَعَدَّى النِّعَالَ إلَى الشِّمْشِكَاتِ وَلَا غَيْرِهَا ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ غَيْرُ مُعَلَّلٍ ، فَلَا يَتَعَدَّى مَحَلَّهُ .

( 1682 ) فَصْلٌ : وَيُكْرَهُ الْمَشْيُ عَلَى الْقُبُورِ .
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ : ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى أَنْ تُوطَأَ الْقُبُورُ } .
وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَأَنْ أَمْشِيَ عَلَى جَمْرَةٍ ، أَوْ سَيْفٍ ، أَوْ أَخْصِفَ نَعْلِي بِرِجْلِي ، أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَمْشِيَ عَلَى قَبْرِ مُسْلِمٍ ، وَمَا أُبَالِي أَوَسْطَ الْقُبُورِ - كَذَا قَالَ - قَضَيْتُ حَاجَتِي ، أَوْ وَسْطَ السُّوقِ } .
وَلِأَنَّهُ كَرِهَ الْمَشْيَ بَيْنهَا بِالنَّعْلَيْنِ ، فَالْمَشْيُ عَلَيْهَا أَوْلَى .

( 1683 ) فَصْلٌ : وَيُكْرَهُ الْجُلُوسُ عَلَيْهَا ، وَالِاتِّكَاءُ عَلَيْهَا ؛ لِمَا رَوَى أَبُو يَزِيدَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ ، وَلَا تُصَلُّوا إلَيْهَا } .
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : { لَأَنْ يَجْلِسَ أَحَدُكُمْ عَلَى جَمْرَةٍ ، تَحْرِقُ ثِيَابَهُ فَتَخْلُصَ إلَى جِلْدِهِ ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى قَبْرٍ } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ : قَالَ الْخَطَّابِيُّ : وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { رَأَى رَجُلًا قَدْ اتَّكَأَ عَلَى قَبْرٍ ، فَقَالَ : لَا تُؤْذِ صَاحِبَ الْقَبْرِ .
}

( 1684 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَلَا بَأْسَ أَنْ يَزُورَ الرَّجُلُ الْمَقَابِرَ ) لَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا فِي إبَاحَةِ زِيَارَةِ الرِّجَالِ الْقُبُورَ .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ : سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ ، تَرْكُهَا أَفْضَلُ عِنْدَك أَوْ زِيَارَتُهَا ؟ قَالَ : زِيَارَتُهَا .
وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ ، فَزُورُوهَا ؛ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمْ الْمَوْتَ } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَالتِّرْمِذِيُّ بِلَفْظِ : " فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْآخِرَةَ " .
( 1685 ) فَصْلٌ : وَإِذَا مَرَّ بِالْقُبُورِ ، أَوْ زَارَهَا ، اُسْتُحِبَّ أَنْ يَقُولَ مَا رَوَى مُسْلِمٌ ، عَنْ بُرَيْدَةَ ، قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُهُمْ إذَا خَرَجُوا إلَى الْمَقَابِرِ ، فَكَانَ قَائِلُهُمْ يَقُولُ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ ، وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَلَاحِقُونَ ، نَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمْ الْعَافِيَةَ .
} وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ : { وَيَرْحَمُ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَالْمُسْتَأْخِرِينَ .
} وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ : { اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُمْ ، وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُمْ } .
وَإِنْ أَرَادَ قَالَ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا وَلَهُمْ .
كَانَ حَسَنًا .

( 1686 ) فَصْلٌ : قَالَ : وَلَا بَأْسَ بِالْقِرَاءَةِ عِنْدَ الْقَبْرِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ : إذَا دَخَلْتُمْ الْمَقَابِرَ اقْرَءُوا آيَةَ الْكُرْسِيِّ وَثَلَاثَ مَرَّاتٍ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ، ثُمَّ قُلْ : اللَّهُمَّ إنَّ فَضْلَهُ لِأَهْلِ الْمَقَابِرِ .
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : الْقِرَاءَةُ عِنْدَ الْقَبْرِ بِدْعَةٌ ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ هُشَيْمٍ ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ : نَقَلَ ذَلِكَ عَنْ أَحْمَدَ جَمَاعَةٌ ، ثُمَّ رَجَعَ رُجُوعًا أَبَانَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ ، فَرَوَى جَمَاعَةٌ أَنَّ أَحْمَدَ نَهَى ضَرِيرًا أَنْ يَقْرَأَ عِنْدَ الْقَبْرِ ، وَقَالَ لَهُ : إنَّ الْقِرَاءَةَ عِنْدَ الْقَبْرِ بِدْعَةٌ .
فَقَالَ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ قُدَامَةَ الْجَوْهَرِيُّ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ : مَا تَقُولُ فِي مُبَشِّرٍ الْحَلَبِيِّ ؟ قَالَ : ثِقَةٌ .
قَالَ : فَأَخْبَرَنِي مُبَشِّرٌ ، عَنْ أَبِيهِ ، أَنَّهُ أَوْصَى إذَا دُفِنَ يُقْرَأُ عِنْدَهُ بِفَاتِحَةِ الْبَقَرَةِ وَخَاتِمَتِهَا ، وَقَالَ : سَمِعْت ابْنَ عُمَرَ يُوصِي بِذَلِكَ .
قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : فَارْجِعْ فَقُلْ لِلرَّجُلِ يَقْرَأُ .
وَقَالَ الْخَلَّالُ : حَدَّثَنِي أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ الْهَيْثَمِ الْبَزَّارُ ، شَيْخُنَا الثِّقَةُ الْمَأْمُونُ ، قَالَ : رَأَيْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يُصَلِّي خَلْفَ ضَرِيرٍ يَقْرَأُ عَلَى الْقُبُورِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ دَخَلَ الْمَقَابِرَ فَقَرَأَ سُورَةَ يس خُفِّفَ عَنْهُمْ يَوْمَئِذٍ ، وَكَانَ لَهُ بِعَدَدِ مَنْ فِيهَا حَسَنَاتٌ } .
وَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { مَنْ زَارَ قَبْرَ وَالِدَيْهِ أَوْ أَحَدِهِمَا ، فَقَرَأَ عِنْدَهُ أَوْ عِنْدَهُمَا يس غُفِرَ لَهُ } .

فَصْلٌ : وَأَيُّ قُرْبَةٍ فَعَلَهَا ، وَجَعَلَ ثَوَابَهَا لِلْمَيِّتِ الْمُسْلِمِ ، نَفَعَهُ ذَلِكَ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ ، أَمَّا الدُّعَاءُ ، وَالِاسْتِغْفَارُ ، وَالصَّدَقَةُ ، وَأَدَاءُ الْوَاجِبَاتِ ، فَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا ، إذَا كَانَتْ الْوَاجِبَاتُ مِمَّا يَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ } .
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } .
{ وَدَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي سَلَمَةَ حِينَ مَاتَ } ، وَلِلْمَيِّتِ الَّذِي صَلَّى عَلَيْهِ فِي حَدِيثِ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ ، وَلِكُلِّ مَيِّتٍ صَلَّى عَلَيْهِ .
وَلِذِي النِّجَادَيْنِ حَتَّى دَفَنَهُ .
وَشَرَعَ اللَّهُ ذَلِكَ لِكُلِّ مَنْ صَلَّى عَلَى مَيِّتٍ { وَسَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنَّ أُمِّي مَاتَتْ ، فَيَنْفَعُهَا إنْ تَصَدَّقْت عَنْهَا ؟ قَالَ : نَعَمْ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ .
{ وَجَاءَتْ امْرَأَةٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا ، لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ ؟ قَالَ : أَرَأَيْت لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيك دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ .
قَالَ : فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى .
} { وَقَالَ لِلَّذِي سَأَلَهُ : إنَّ أُمِّي مَاتَتْ ، وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ ، أَفَأَصُومُ عَنْهَا ؟ قَالَ : نَعَمْ .
} وَهَذِهِ أَحَادِيثُ صِحَاحٌ ، وَفِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى انْتِفَاعِ الْمَيِّتِ بِسَائِرِ الْقُرَبِ ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ وَالْحَجَّ وَالدُّعَاءَ وَالِاسْتِغْفَارَ عِبَادَاتٌ بَدَنِيَّةٌ ، وَقَدْ أَوْصَلَ اللَّه نَفْعَهَا إلَى الْمَيِّتِ ، فَكَذَلِكَ مَا سِوَاهَا ، مَعَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحَدِيثِ فِي ثَوَابِ مَنْ قَرَأَ يس ، وَتَخْفِيفِ اللَّه تَعَالَى عَنْ أَهْلِ الْمَقَابِرِ بِقِرَاءَتِهِ .

وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ : لَوْ كَانَ أَبُوك مُسْلِمًا ، فَأَعْتَقْتُمْ عَنْهُ ، أَوْ تَصَدَّقْتُمْ عَنْهُ ، أَوْ حَجَجْتُمْ عَنْهُ ، بَلَغَهُ ذَلِكَ } .
وَهَذَا عَامٌ فِي حَجِّ التَّطَوُّعِ وَغَيْرِهِ ، وَلِأَنَّهُ عَمَلُ بِرٍّ وَطَاعَةٍ ، فَوَصَلَ نَفْعُهُ وَثَوَابُهُ ، كَالصَّدَقَةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ الْوَاجِبِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : مَا عَدَا الْوَاجِبَ وَالصَّدَقَةَ وَالدُّعَاءَ وَالِاسْتِغْفَارَ ، لَا يُفْعَلُ عَنْ الْمَيِّتِ ، وَلَا يَصِلُ ثَوَابُهُ إلَيْهِ ؛ لِقَوْلِ اللَّه تَعَالَى : { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى } .
وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ : صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْ بَعْدِهِ ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ } .
وَلِأَنَّ نَفْعَهُ لَا يَتَعَدَّى فَاعِلَهُ ، فَلَا يَتَعَدَّى ثَوَابُهُ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ عِنْدَ الْمَيِّتِ ، أَوْ أُهْدِيَ إلَيْهِ ثَوَابُهُ ، كَانَ الثَّوَابُ لِقَارِئِهِ ، وَيَكُونُ الْمَيِّتُ كَأَنَّهُ حَاضِرُهَا ، فَتُرْجَى لَهُ الرَّحْمَةُ .
وَلَنَا ، مَا ذَكَرْنَاهُ ، وَأَنَّهُ إجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ ؛ فَإِنَّهُمْ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَمِصْرٍ يَجْتَمِعُونَ وَيَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ ، وَيُهْدُونَ ثَوَابَهُ إلَى مَوْتَاهُمْ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ .
وَلِأَنَّ الْحَدِيثَ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ } .
وَاَللَّهُ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يُوصِلَ عُقُوبَةَ الْمَعْصِيَةِ إلَيْهِ ، وَيَحْجُبَ عَنْهُ الْمَثُوبَةَ .
وَلِأَنَّ الْمُوصِلَ لِثَوَابِ مَا سَلَّمُوهُ ، قَادِرٌ عَلَى إيصَالِ ثَوَابِ مَا مَنَعُوهُ ، وَالْآيَةُ مَخْصُوصَةٌ بِمَا سَلَّمُوهُ ، وَمَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ فِي مَعْنَاهُ ، فَنَقِيسُهُ عَلَيْهِ .
وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي الْخَبَرِ الَّذِي احْتَجُّوا بِهِ ، فَإِنَّمَا دَلَّ عَلَى انْقِطَاعِ عَمَلِهِ ، فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَيْهِ ؛ ثُمَّ لَوْ دَلَّ عَلَيْهِ

كَانَ مَخْصُوصًا بِمَا سَلَّمُوهُ ، وَفِي مَعْنَاهُ مَا مَنَعُوهُ ، فَيَتَخَصَّصُ بِهِ أَيْضًا بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْمَعْنَى غَيْرُ صَحِيحٍ ، فَإِنْ تَعَدِّيَ الثَّوَابِ لَيْسَ بِفَرْعِ لِتَعَدِّي النَّفْعِ ، ثُمَّ هُوَ بَاطِلٌ بِالصَّوْمِ وَالدُّعَاءِ وَالْحَجِّ ، وَلَيْسَ لَهُ أَصْلٌ يُعْتَبَرُ بِهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( 1688 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَتُكْرَهُ لِلنِّسَاءِ ) اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِي زِيَارَةِ النِّسَاءِ الْقُبُورَ ، فَرُوِيَ عَنْهُ كَرَاهَتُهَا ؛ لِمَا رَوَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ ، قَالَتْ : { نُهِينَا عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا .
} رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ } .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَهَذَا خَاصٌّ فِي النِّسَاءِ ، وَالنَّهْيُ الْمَنْسُوخُ كَانَ عَامًا لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ خَاصًّا لِلرِّجَالِ .
وَيَحْتَمِلُ أَيْضًا كَوْنَ الْخَبَرِ فِي لَعْنِ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ ، بَعْدَ أَمْرِ الرِّجَالِ بِزِيَارَتِهَا ، فَقَدْ دَارَ بَيْنَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ ، فَأَقَلُّ أَحْوَالِهِ الْكَرَاهَةُ .
وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ قَلِيلَةُ الصَّبْرِ ، كَثِيرَةُ الْجَزَعِ ، وَفِي زِيَارَتِهَا لِلْقَبْرِ تَهْيِيجٌ لِحُزْنِهَا ، وَتَجْدِيدٌ لِذِكْرِ مُصَابِهَا ، فَلَا يُؤْمَنُ أَنْ يُفْضِيَ بِهَا ذَلِكَ إلَى فِعْلِ مَا لَا يَجُوزُ ، بِخِلَافِ الرَّجُلِ ، وَلِهَذَا اخْتَصَصْنَ بِالنُّوحِ وَالتَّعْدِيدِ ، وَخُصِصْنَ بِالنَّهْيِ عَنْ الْحَلْقِ وَالصَّلْقِ وَنَحْوِهِمَا .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ ، لَا يُكْرَهُ ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ ، فَزُورُوهَا } .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى سَبْقِ النَّهْيِ وَنَسْخِهِ ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ ، أَنَّهُ قَالَ لِعَائِشَةَ : يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ ، مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْت ؟ قَالَتْ : مِنْ قَبْرِ أَخِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ .
فَقُلْت لَهَا : قَدْ { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ ، قَدْ نَهَى ، ثُمَّ أَمَرَ بِزِيَارَتِهَا } ، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ أَنَّ عَائِشَةَ زَارَتْ قَبْرَ أَخِيهَا ، وَرُوِيَ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : لَوْ شَهِدْته مَا زُرْته .

( 1689 ) فَصْلٌ : وَيُكْرَهُ النَّعْيُ ، وَهُوَ أَنْ يَبْعَثَ مُنَادِيًا يُنَادِي فِي النَّاسِ : إنَّ فُلَانًا قَدْ مَاتَ .
لِيَشْهَدُوا جِنَازَتَهُ ؛ لِمَا رَوَى حُذَيْفَةُ ، قَالَ : سَمِعْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَنْهَى عَنْ النَّعْيِ } .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ .
وَاسْتَحَبَّ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ لَا يُعْلَمَ النَّاسُ بِجَنَائِزِهِمْ ؛ مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ ، وَأَصْحَابُهُ عَلْقَمَةُ ، وَالرَّبِيعُ بْنُ خَيْثَمٍ ، وَعَمْرُو بْنُ شُرَحْبِيلَ .
قَالَ عَلْقَمَةُ : لَا تُؤْذِنُوا بِي أَحَدًا .
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ شُرَحْبِيلَ : إذَا أَنَا مِتَّ فَلَا أُنْعَى إلَى أَحَدٍ .
وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ : لَا بَأْسَ أَنْ يَعْلَمَ بِالرَّجُلِ إخْوَانُهُ وَمَعَارِفُهُ وَذَوُو الْفَضْلِ ، مِنْ غَيْرِ نِدَاءٍ .
قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ : لَا بَأْسَ إذَا مَاتَ الرَّجُلُ أَنْ يُؤْذِنَ صَدِيقَهُ وَأَصْحَابَهُ ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يُطَافَ فِي الْمَجَالِسِ : أَنْعِي فُلَانًا .
كَفِعْلِ الْجَاهِلِيَّةِ .
وَمِمَّنْ رَخَّصَ فِي هَذَا ؛ أَبُو هُرَيْرَةَ ، وَابْنُ عُمَرَ ، وَابْنُ سِيرِينَ .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ نُعِيَ إلَيْهِ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ ، قَالَ : كَيْفَ تُرِيدُونَ أَنْ تَصْنَعُوا بِهِ ؟ قَالَ : نَحْبِسُهُ حَتَّى نُرْسِلَ إلَى قُبَاءَ ، وَإِلَى مِنْ قَدْ بَاتَ حَوْلَ الْمَدِينَةِ لِيَشْهَدُوا جِنَازَتَهُ .
قَالَ : نَعَمْ مَا رَأَيْتُمْ .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فِي الَّذِي دُفِنَ لَيْلًا : أَلَا آذَنْتُمُونِي } .
وَقَدْ صَحَّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَى لِلنَّاسِ النَّجَاشِيَّ ، فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ ، وَخَرَجَ بِهِمْ إلَى الْمُصَلَّى ، فَصَفَّ بِهِمْ ، وَكَبَّرَ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَفِي لَفْظٍ : { إنَّ أَخَاكُمْ النَّجَاشِيَّ قَدْ مَاتَ ، فَقُومُوا فَصَلُّوا عَلَيْهِ } .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ قَالَ : لَا يَمُوتُ فِيكُمْ أَحَدٌ إلَّا آذَنْتُمُونِي بِهِ } .
أَوْ كَمَا قَالَ .

وَلِأَنَّ فِي كَثْرَةِ الْمُصَلَّيْنَ عَلَيْهِ أَجْرًا لَهُمْ ، وَنَفْعًا لِلْمَيِّتِ ، فَإِنَّهُ يَحْصُلُ لِكُلِّ مُصَلٍّ مِنْهُمْ قِيرَاطٌ مِنْ الْأَجْرِ .
وَجَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَمُوتُ ، فَيُصَلِّي عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ صُفُوفٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، إلَّا أَوْجَبَ } ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا .
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ ، أَنَّهُ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ ، فَالْتَفَتَ فَقَالَ : اسْتَوُوا .
وَلْتَحْسُنْ شَفَاعَتُكُمْ ، أَلَا وَإِنَّهُ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلِيطٍ ، عَنْ إحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ ، وَهِيَ مَيْمُونَةُ ، وَكَانَ أَخَاهَا مِنْ الرَّضَاعَةِ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصَلِّي عَلَيْهِ أُمَّةٌ مِنْ النَّاسِ إلَّا شُفِّعُوا فِيهِ } .
فَسَأَلْت أَبَا الْمَلِيحِ عَنْ الْأُمَّةِ ؟ فَقَالَ : أَرْبَعُونَ .
.

قَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ قُتَيْبَةَ : الزَّكَاةُ مِنْ الزَّكَاءِ وَالنَّمَاءِ وَالزِّيَادَةِ ؛ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تُثْمِرُ الْمَالَ وَتُنَمِّيه .
يُقَالُ : زَكَا الزَّرْعُ ، إذَا كَثُرَ رَيْعُهُ .
وَزَكَّتْ النَّفَقَةُ ، إذَا بُورِكَ فِيهَا .
وَهِيَ فِي الشَّرِيعَةِ حَقٌّ يَجِبُ فِي الْمَالِ ، فَعِنْدَ إطْلَاقِ لَفْظِهَا فِي مَوَارِدِ الشَّرِيعَةِ يَنْصَرِفُ إلَى ذَلِكَ .
وَالزَّكَاةُ أَحَدُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ الْخَمْسَةِ ، وَهِيَ وَاجِبَةٌ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ ، وَإِجْمَاعِ أُمَّتِهِ ؛ أَمَّا الْكِتَابُ ، فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { وَآتُوا الزَّكَاةَ } .
وَأَمَّا السُّنَّةُ ، { فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ مُعَاذًا إلَى الْيَمَنِ ، فَقَالَ : أَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ ، فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
فِي آيٍ وَأَخْبَارٍ سِوَى هَذَيْنِ كَثِيرَةٍ .
وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ عَلَى وُجُوبهَا ، وَاتَّفَقَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى قِتَالِ مَانِعِيهَا ، فَرَوَى الْبُخَارِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : لَمَّا تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ ، وَكَفَرَ مِنْ كَفَرَ مِنْ الْعَرَبِ ، فَقَالَ عُمَرُ : كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، فَمَنْ قَالَهَا فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إلَّا بِحَقِّهِ ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ ؟ } فَقَالَ : وَاَللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ ؛ فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ ، وَاَللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا .
قَالَ عُمَرُ : فَوَاَللَّهِ مَا هُوَ إلَّا أَنْ رَأَيْت اللَّهَ قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ ، فَعَرَفْت أَنَّهُ الْحَقُّ .
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَقَالَ : " لَوْ

مَنَعُونِي عِقَالًا " .
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : الْعِقَالُ ، صَدَقَةُ الْعَامِ .
قَالَ الشَّاعِرُ : سَعَى عِقَالًا فَلَمْ يَتْرُكْ لَنَا سَبَدًا فَكَيْفَ لَوْ قَدْ سَعَى عَمْرو عِقَالَيْنِ وَقِيلَ : كَانُوا إذَا أَخَذُوا الْفَرِيضَةَ أَخَذُوا مَعَهَا عِقَالَهَا .
وَمِنْ رَوَاهُ " عَنَاقًا " فَفِي رِوَايَتِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَخْذِ الصَّغِيرَةِ مِنْ الصِّغَارِ .
( 1690 ) فَصْلٌ : فَمَنْ أَنْكَرَ وُجُوبَهَا جَهْلًا بِهِ ، وَكَانَ مِمَّنْ يَجْهَلُ ذَلِكَ إمَّا لِحَدَاثَةِ عَهْدِهِ بِالْإِسْلَامِ ، أَوْ لِأَنَّهُ نَشَأَ بِبَادِيَةٍ نَائِيَةٍ عَنْ الْأَمْصَارِ ، عُرِّفَ وُجُوبَهَا ، وَلَا يُحْكَمْ بِكُفْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ ، وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا نَاشِئًا بِبِلَادِ الْإِسْلَامِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فَهُوَ مُرْتَدٌّ ، تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّينَ وَيُسْتَتَابُ ثَلَاثًا ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ ؛ لِأَنَّ أَدِلَّةَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ ظَاهِرَةٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ ، فَلَا تَكَادُ تَخْفَى عَلَى أَحَدِ مِمَّنْ هَذِهِ حَالُهُ ، فَإِذَا جَحَدَهَا لَا يَكُونُ إلَّا لِتَكْذِيبِهِ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ ، وَكُفْرِهِ بِهِمَا .

( 1691 ) فَصْلٌ : وَإِنْ مَنَعَهَا مُعْتَقِدًا وُجُوبَهَا ، وَقَدَرَ الْإِمَامُ عَلَى أَخْذِهَا مِنْهُ ، أَخَذَهَا وَعَزَّرَهُ ، وَلَمْ يَأْخُذْ زِيَادَةً عَلَيْهَا ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُهُمْ .
وَكَذَلِكَ إنَّ غَلَّ مَالَهُ فَكَتَمَهُ حَتَّى لَا يَأْخُذَ الْإِمَامُ زَكَاتَهُ ، فَظَهَرَ عَلَيْهِ .
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ وَأَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ : يَأْخُذُهَا وَشَطْرَ مَالِهِ ؛ لِمَا رَوَى بَهْزُ بْنُ حَكِيمٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : { فِي كُلِّ سَائِمَةِ الْإِبِلِ ، فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ ، لَا تُفَرَّقُ عَنْ حِسَابِهَا ، مَنْ أَعْطَاهَا مُؤْتَجِرًا فَلَهُ أَجْرُهَا ، وَمَنْ أَبَاهَا فَإِنِّي آخُذْهَا وَشَطْرَ مَالِهِ ، عَزْمَةٌ مِنْ عَزَمَاتِ رَبِّنَا ، لَا يَحِلُّ لِآلِ مُحَمَّدٍ مِنْهَا شَيْءٌ } وَذُكِرَ هَذَا الْحَدِيثُ لِأَحْمَدَ فَقَالَ : مَا أَدْرِي مَا وَجْهُهُ ؟ وَسُئِلَ عَنْ إسْنَادِهِ ، فَقَالَ : هُوَ عِنْدِي صَالِحُ الْإِسْنَادِ .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ ، فِي " سُنَنِهِمَا " .
وَوَجْهُ الْأَوَّلِ ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَيْسَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ } .
وَلِأَنَّ مَنْعَ الزَّكَاةِ كَانَ فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمَوْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ تَوَفُّرِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، فَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ عَنْهُمْ زِيَادَةً ، وَلَا قَوْلًا بِذَلِكَ .
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْعُذْرِ عَنْ هَذَا الْخَبَرِ .
فَقِيلَ : كَانَ فِي بَدْءِ الْإِسْلَامِ ، حَيْثُ كَانَتْ الْعُقُوبَاتُ فِي الْمَالِ ، ثُمَّ نُسِخَ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ .
وَحَكَى الْخَطَّابِيُّ ، عَنْ إبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ السِّنُّ الْوَاجِبَةُ عَلَيْهِ مِنْ خِيَارِ مَالِهِ ، مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ فِي سِنٍّ وَلَا عَدَدٍ ، لَكِنَّ يَنْتَقِي مِنْ خَيْرِ مَالِهِ مَا تَزِيدُ بِهِ صَدَقَتُهُ فِي الْقِيمَةِ بِقَدْرِ شَطْرِ قِيمَةِ

الْوَاجِبِ عَلَيْهِ .
فَيَكُونُ الْمُرَادُ ب " مَا لَهُ " هَاهُنَا الْوَاجِبَ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ ، فَيُزَادُ عَلَيْهِ فِي الْقِيمَةِ بِقَدْرِ شَطْرِهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَأَمَّا إنْ كَانَ مَانِعُ الزَّكَاةِ خَارِجًا عَنْ قَبْضَةِ الْإِمَامِ قَاتَلَهُ ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَاتَلُوا مَانِعِيهَا ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتهمْ عَلَيْهِ .
فَإِنْ ظَفِرَ بِهِ وَبِمَالِهِ ، أَخَذَهَا مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ أَيْضًا ، وَلَمْ تُسْبَ ذُرِّيَّتُهُ ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ مِنْ غَيْرِهِمْ ، وَلِأَنَّ الْمَانِعَ لَا يُسْبَى ، فَذُرِّيَّتُهُ أَوْلَى .
وَإِنْ ظَفِرَ بِهِ دُونَ مَالِهِ ، دَعَاهُ إلَى أَدَائِهَا ، وَاسْتَتَابَهُ ثَلَاثًا ، فَإِنْ تَابَ وَأَدَّى ، وَإِلَّا قُتِلَ ، وَلَمْ يَحْكُمْ بِكُفْرِهِ .
وَعَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَكْفُرُ بِقِتَالِهِ عَلَيْهَا ، فَرَوَى الْمَيْمُونِيُّ عَنْهُ : إذَا مَنَعُوا الزَّكَاةَ كَمَا مَنَعُوا أَبَا بَكْرٍ ، وَقَاتَلُوا عَلَيْهَا ، لَمْ يُوَرَّثُوا ، وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ .
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : مَا تَارِكُ الزَّكَاةِ بِمُسْلِمٍ .
وَوَجْهُ ذَلِكَ ، مَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا قَاتَلَهُمْ ، وَعَضَّتْهُمْ الْحَرْبُ ، قَالُوا : نُؤَدِّيهَا .
قَالَ : لَا أَقْبَلُهَا حَتَّى تَشْهَدُوا أَنَّ قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلَاكُمْ فِي النَّارِ .
وَلَمْ يُنْقَلْ إنْكَارُ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ ، فَدَلَّ عَلَى كُفْرِهِمْ .
وَوَجْهُ الْأَوَّلِ ، أَنَّ عُمَرَ وَغَيْرَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ امْتَنَعُوا مِنْ الْقِتَالِ فِي بَدْءِ الْأَمْرِ ، وَلَوْ اعْتَقَدُوا كُفْرَهُمْ لَمَا تَوَقَّفُوا عَنْهُ ، ثُمَّ اتَّفَقُوا عَلَى الْقِتَالِ ، وَبَقِيَ الْكُفْرُ عَلَى أَصْلِ النَّفْيِ ، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ فَرْعٌ مِنْ فُرُوعِ الدِّينِ ، فَلَمْ يَكْفُرْ تَارِكُهُ بِمُجَرَّدِ تَرْكِهِ ؛ كَالْحَجِّ ، وَإِذَا لَمْ يَكْفُرْ بِتَرْكِهِ ، لَمْ يَكْفُرْ بِالْقِتَالِ عَلَيْهِ كَأَهْلِ الْبَغْيِ .
وَأَمَّا الَّذِينَ

قَالَ لَهُمْ أَبُو بَكْرٍ هَذَا الْقَوْلَ ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ جَحَدُوا وُجُوبَهَا ، فَإِنَّهُ نُقِلَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا : إنَّمَا كُنَّا نُؤَدِّي إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ لِأَنَّ صَلَاتَهُ سَكَنٌ لَنَا ، وَلَيْسَ صَلَاةُ أَبِي بَكْرٍ سَكَنًا لَنَا ، فَلَا نُؤَدِّي إلَيْهِ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ جَحَدُوا وُجُوبَ الْأَدَاءِ إلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلِأَنَّ هَذِهِ قَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ ، وَلَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ أَبُو بَكْرٍ هَذَا الْقَوْلَ ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ كَانُوا مُرْتَدِّينَ ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ جَحَدُوا وُجُوبَ الزَّكَاةِ ، وَيَحْتَمِلُ غَيْرَ ذَلِكَ ، فَلَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِهِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ ارْتَكَبُوا كَبَائِرَ ، وَمَاتُوا مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ ، فَحُكِمَ لَهُمْ بِالنَّارِ ظَاهِرًا ، كَمَا حُكِمَ لِقَتْلَى الْمُجَاهِدِينَ بِالْجَنَّةِ ظَاهِرًا ، وَالْأَمْرُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي الْجَمِيعِ ، وَلَمْ يَحْكُمْ عَلَيْهِمْ بِالتَّخْلِيدِ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْحُكْمِ بِالنَّارِ الْحُكْمُ بِالتَّخْلِيدِ ، بَعْدَ أَنْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ قَوْمًا مِنْ أُمَّتِهِ يَدْخُلُونَ النَّارَ ، ثُمَّ يُخْرِجُهُمْ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهَا وَيُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ .

( 1692 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : ( وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ سَائِمَةٍ صَدَقَةٌ ) .
بَدَأَ الْخِرَقِيِّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ ، بِذِكْرِ صَدَقَةِ الْإِبِلِ ؛ لِأَنَّهَا أَهَمُّ ، فَإِنَّهَا أَعْظَمُ النَّعَمِ قِيمَةً وَأَجْسَامًا ، وَأَكْثَرُ أَمْوَالِ الْعَرَبِ ، فَالِاهْتِمَامُ بِهَا أَوْلَى ، وَوُجُوبُ زَكَاتِهَا مِمَّا أَجْمَعَ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ ، وَصَحَّتْ فِيهِ السُّنَّةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَمِنْ أَحْسَنِ مَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ ، مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ " ، قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُثَنَّى الْأَنْصَارِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنِي أَبِي ، قَالَ : حَدَّثَنَا ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٌ ، أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُ ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ ، كَتَبَ لَهُ هَذَا الْكِتَابَ ، لَمَّا وَجَّهَ إلَى الْبَحْرَيْنِ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .
هَذِهِ فَرِيضَةُ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، وَاَلَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنْ سُئِلَهَا عَلَى وَجْهِهَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَلْيُعْطِهَا ، وَمِنْ سُئِلَ فَوْقَهَا فَلَا يُعْطِ : " فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ فَمَا دُونَهَا مِنْ الْإِبِلِ فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ ، فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ إلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ ، فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ أُنْثَى ، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَثَلَاثِينَ إلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ ، فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ أُنْثَى ، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَأَرْبَعِينَ إلَى سِتِّينَ ، فَفِيهَا حِقَّةٌ طَرُوقَةُ الْجَمَلِ ، فَإِذَا بَلَغَتْ وَاحِدَةً وَسِتِّينَ إلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ ، فَفِيهَا جَذَعَةٌ ، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَسَبْعِينَ إلَى تِسْعِينَ ، فَفِيهَا ابْنَتَا لَبُونٍ ، فَإِذَا بَلَغَتْ إحْدَى وَتِسْعِينَ إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ ، فَفِيهَا حِقَّتَانِ طَرُوقَتَا الْفَحْلِ ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ ، فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ ، وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ ، وَمَنْ

لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إلَّا أَرْبَعٌ مِنْ الْإِبِلِ ، فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ إلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا ، فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا مِنْ الْإِبِلِ ، فَفِيهَا شَاةٌ " .
وَذِكْرُ تَمَامِ الْحَدِيثِ نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَبْوَابِهِ ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، فِي " سُنَنِهِ " ، وَزَادَ : " وَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ ، فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ ، إلَى أَنْ تَبْلُغَ خَمْسًا وَثَلَاثِينَ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا ابْنَةُ مَخَاضٍ ، فَفِيهَا ابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ " .
وَهَذَا كُلّه مُجْمَعٌ عَلَيْهِ إلَى أَنْ يَبْلُغَ عِشْرِينَ وَمِائَةً ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ .
قَالَ : وَلَا يَصِحُّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا رُوِيَ عَنْهُ فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ .
يَعْنِي مَا حُكِيَ عَنْهُ فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ خَمْسُ شِيَاهٍ .
وَقَوْلُ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : الَّتِي فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
يَعْنِي قَدَّرَ ، وَالتَّقْدِيرُ يُسَمَّى فَرْضًا ، وَمِنْهُ فَرَضَ الْحَاكِمُ لِلْمَرْأَةِ فَرْضًا .
وَقَوْلُهُ : وَمِنْ سُئِلَ فَوْقَهَا فَلَا يُعْطِ .
يَعْنِي لَا يُعْطِي فَوْقَ الْفَرْضِ .
وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَا دُونَ خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ لَا زَكَاةَ فِيهِ .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ : { وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إلَّا أَرْبَعٌ مِنْ الْإِبِلِ ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِيهَا صَدَقَةٌ إلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا } .
وَقَالَ : { لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَالسَّائِمَةُ : الرَّاعِيَةُ ، وَقَدْ سَامَتْ تَسُومُ سَوْمًا : إذَا رَعَتْ ، وَأَسْمَتْهَا إذَا رَعَيْتهَا ، وَسَوَّمْتهَا : إذَا جَعَلْتهَا سَائِمَةً ، وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ } أَيْ تَرْعَوْنَ .
وَفِي ذِكْرِ السَّائِمَةِ احْتِرَازٌ مِنْ الْمَعْلُوفَةِ وَالْعَوَامِلِ ؛ فَإِنَّهُ لَا زَكَاةَ فِيهَا عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ فِي الْإِبِلِ النَّوَاضِحِ وَالْمَعْلُوفَةِ الزَّكَاةَ ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { فِي كُلِّ خَمْسِ شِيَاهٍ } .
قَالَ أَحْمَدُ :

لَيْسَ فِي الْعَوَامِلِ زَكَاةٌ ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ يَرَوْنَ فِيهَا الزَّكَاةَ ، وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ فِي هَذَا أَصْلٌ .
وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { فِي كُلِّ سَائِمَةٍ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ } .
فِي حَدِيثِ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ ، فَقَيَّدَهُ بِالسَّائِمَةِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِي غَيْرِهَا ، وَحَدِيثُهُمْ مُطْلَقٌ ، فَيُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ ، وَلِأَنَّ وَصْفَ النَّمَاءِ مُعْتَبَرٌ فِي الزَّكَاةِ ، وَالْمَعْلُوفَةُ يَسْتَغْرِقُ عَلْفُهَا نَمَاءَهَا ، إلَّا أَنْ يُعِدَّهَا لِلتِّجَارَةِ ، فَيَكُونَ فِيهَا زَكَاةُ التِّجَارَةِ .
( 1693 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( فَإِذَا مَلَكَ خَمْسًا مِنْ الْإِبِلِ ، فَأَسَامَهَا أَكْثَرَ السَّنَةِ ، فَفِيهَا شَاةٌ ، وَفِي الْعَشْرِ شَاتَانِ ، وَفِي الْخَمْسَ عَشْرَةَ ثَلَاثُ شِيَاهٍ ، وَفِي الْعِشْرِينَ أَرْبَعُ شِيَاهٍ ) وَهَذَا كُلُّهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ ، وَثَابِتٌ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا رَوَيْنَاهُ وَغَيْرِهِ ، إلَّا قَوْلَهُ : " فَأَسَامَهَا أَكْثَرَ السَّنَةِ " .
فَإِنَّ مَذْهَبَ إمَامِنَا وَمَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا إذَا كَانَتْ سَائِمَةً أَكْثَرَ السَّنَةِ فَفِيهَا الزَّكَاةُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إنْ لَمْ تَكُنْ سَائِمَةً فِي جَمِيعِ الْحَوْلِ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا ؛ لِأَنَّ السَّوْمَ شَرْطٌ فِي الزَّكَاةِ ، فَاعْتُبِرَ فِي جَمِيعِ الْحَوْلِ ، كَالْمِلْكِ وَكَمَالِ النِّصَابِ ، وَلِأَنَّ الْعَلْفَ يُسْقِطُ وَالسَّوْمَ يُوجِبُ ، فَإِذَا اجْتَمَعَا غَلَبَ الْإِسْقَاطُ ، كَمَا لَوْ مَلَكَ نِصَابًا بَعْضُهُ سَائِمَةٌ وَبَعْضُهُ مَعْلُوفَةٌ .
وَلَنَا عُمُومُ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي نُصُبِ الْمَاشِيَةِ ، وَاسْمُ السَّوْمِ لَا يَزُولُ بِالْعَلْفِ الْيَسِيرِ ، فَلَا يَمْنَعُ دُخُولَهَا فِي الْخَبَرِ ، وَلِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ حَقَّهُ لَلْمُؤْنَةُ ، فَأَشْبَهَتْ السَّائِمَةَ فِي جَمِيعِ الْحَوْلِ ، وَلِأَنَّ الْعَلْفَ الْيَسِيرَ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ فَاعْتِبَارُهُ فِي جَمِيعِ الْحَوْلِ يُسْقِطُ الزَّكَاةَ بِالْكُلِّيَّةِ ، سِيَّمَا عِنْدَ مَنْ يَسُوغُ لَهُ الْفِرَارُ

مِنْ الزَّكَاةِ ، فَإِنَّهُ إذَا أَرَادَ إسْقَاطَ الزَّكَاةِ عَلَفَهَا يَوْمًا فَأَسْقَطَهَا ، وَلِأَنَّ هَذَا وَصْفٌ مُعْتَبَرٌ فِي رَفْعِ الْكُلْفَةِ فَاعْتُبِرَ فِيهِ الْأَكْثَرُ ، كَالسَّقْيِ بِمَا لَا كُلْفَةَ فِي الزَّرْعِ وَالثِّمَارِ .
وَقَوْلُهُمْ " السَّوْمُ شَرْطٌ " يَحْتَمِلُ أَنْ يَمْنَعَ .
وَنَقُولُ : بَلْ الْعَلْفُ إذَا وُجِدَ فِي نِصْفِ الْحَوْلِ فَمَا زَادَ مَانِعٌ ، كَمَا أَنَّ السَّقْيَ بِكُلْفَةِ مَانِعٌ مِنْ وُجُوبِ الْعُشْرِ ، وَلَا يَكُونُ مَانِعًا حَتَّى يُوجَدَ فِي النِّصْفِ فَصَاعِدًا ، كَذَا فِي مَسْأَلَتِنَا ، وَإِنْ سَلَّمْنَا كَوْنَهُ شَرْطًا فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَرْطُ وُجُودِهِ فِي أَكْثَرِ الْحَوْلِ ، كَالسَّقْيِ بِمَا لَا كُلْفَةَ فِيهِ شَرْطٌ فِي وُجُوبِ الْعُشْرِ ، وَيُكْتَفَى بِوُجُودِهِ فِي الْأَكْثَرِ ، وَيُفَارِقُ مَا إذَا كَانَ فِي بَعْضِ النِّصَابِ مَعْلُوفٌ ؛ لِأَنَّ النِّصَابَ سَبَبٌ لِلْوُجُوبِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ الشَّرْطِ فِي جَمِيعِهِ ، وَأَمَّا الْحَوْلُ فَإِنَّهُ شَرْطُ الْوُجُوبِ ، فَجَازَ أَنْ يُعْتَبَرَ الشَّرْطُ فِي أَكْثَرِهِ .

( 1694 ) فَصْلٌ : وَلَا يُجْزِئُ فِي الْغَنَمِ الْمُخْرَجَةِ فِي الزَّكَاةِ إلَّا الْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ ، وَالثَّنِيُّ مِنْ الْمَعْزِ ، وَكَذَلِكَ شَاةُ الْجُبْرَانِ ، وَأَيَّهُمَا أَخْرَجَ أَجْزَأَهُ .
وَلَا يُعْتَبَرُ كَوْنُهَا مِنْ جِنْسِ غَنَمِهِ ، وَلَا جِنْسِ غَنَمِ الْبَلَدِ ؛ لِأَنَّ الشَّاةَ مُطْلَقَةٌ فِي الْخَبَرِ الَّذِي ثَبَتَ بِهِ وُجُوبُهَا ، وَلَيْسَ غَنَمُهُ وَلَا غَنَمُ الْبَلَدِ سَبَبًا لِوُجُوبِهَا ، فَلَمْ يَتَقَيَّدْ بِذَلِكَ ، كَالشَّاةِ الْوَاجِبَةِ فِي الْفِدْيَةِ ، وَتَكُونُ أُنْثَى ، فَإِنْ أَخْرَجَ ذَكَرًا لَمْ يُجْزِئْهُ ؛ لِأَنَّ الْغَنَمَ الْوَاجِبَةَ فِي نُصُبِهَا إنَاثٌ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُجْزِئَهُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَطْلَقَ لَفْظَ الشَّاةِ ، فَدَخْلُ فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى ، وَلِأَنَّ الشَّاةَ إذَا تَعَلَّقَتْ بِالذِّمَّةِ دُونَ الْعَيْنِ أَجْزَأَ فِيهَا الذَّكَرُ كَالْأُضْحِيَّةِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ غَنَمٌ لَزِمَهُ شِرَاءُ شَاةٍ .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : يُخْرِجُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ ، قِيَاسًا عَلَى شَاةِ الْجُبْرَانِ .
وَلَنَا ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصَّ عَلَى الشَّاةِ ، فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِنَصِّهِ ، وَلِأَنَّ هَذَا إخْرَاجُ قِيمَةٍ فَلَمْ يَجُزْ ، كَمَا لَوْ كَانَتْ الشَّاةُ وَاجِبَةً فِي نِصَابِهَا ، وَشَاةُ الْجُبْرَانِ مُخْتَصَّةٌ بِالْبَدَلِ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ ، بِدَلِيلِ أَنَّهَا لَا تَجُوزُ بَدَلًا عَنْ الشَّاةِ الْوَاجِبَةِ فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ .

( 1695 ) فَصْل : فَإِنْ أَخْرَجَ عَنْ الشَّاةِ بَعِيرًا لَمْ يُجْزِئْهُ ، سَوَاءٌ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الشَّاةِ أَوْ لَمْ يَكُنْ ، وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ وَدَاوُد .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ : يُجْزِئُهُ الْبَعِيرُ عَنْ الْعِشْرِينَ فَمَا دُونَهَا .
وَيَتَخَرَّجُ لَنَا مِثْلُ ذَلِكَ إذَا كَانَ الْمُخْرَجُ مِمَّا يُجْزِئُ عَنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ ؛ لِأَنَّهُ يُجْزِئُ عَنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ ، وَالْعِشْرُونَ دَاخِلَةٌ فِيهَا ، وَلِأَنَّ مَا أَجْزَأَ عَنْ الْكَثِيرِ أَجْزَأَ عَمَّا دُونَهُ ، كَابْنَتَيْ لَبُونٍ عَمَّا دُونَ سِتَّةٍ وَسَبْعِينَ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ أَخْرَجَ غَيْرَ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ ، فَلَمْ يُجْزِهِ ، كَمَا لَوْ أَخْرَجَ بَعِيرًا عَنْ أَرْبَعِينَ شَاةً ، وَلِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِالشَّاةِ ، فَلَمْ يُجْزِئ الْبَعِيرُ كَالْأَصْلِ ، أَوْ كَشَاةِ الْجُبْرَانِ ، وَلِأَنَّهَا فَرِيضَةٌ وَجَبَتْ فِيهَا شَاةٌ فَلَمْ يُجْزِئْ عَنْهَا الْبَعِيرُ ، كَنِصَابِ الْغَنَمِ ، وَيُفَارِقُ ابْنَتَيْ لَبُونٍ عَنْ الْجَذَعَةِ ؛ لِأَنَّهَا مِنْ الْجِنْسِ .

( 1696 ) فَصْلٌ : وَتَكُونُ الشَّاةُ الْمُخْرَجَةُ كَحَالِ الْإِبِلِ فِي الْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ ، فَيُخْرِجُ عَنْ الْإِبِلِ السِّمَانِ سَمِينَةً ، وَعَنْ الْهُزَالِ هَزِيلَةً ، وَعَنْ الْكَرَائِمِ كَرِيمَةً ، وَعَنْ اللِّئَامِ لَئِيمَةً ، فَإِنْ كَانَتْ مِرَاضًا أَخْرَجَ شَاةً صَحِيحَةً عَلَى قَدْرِ الْمَالِ ، فَيُقَالُ لَهُ : لَوْ كَانَتْ الْإِبِلُ صِحَاحًا كَمْ كَانَتْ قِيمَتُهَا وَقِيمَةُ الشَّاةِ ؟ فَيُقَالُ : قِيمَةُ الْإِبِلِ مِائَةٌ وَقِيمَةُ الشَّاةِ خَمْسَةٌ ، فَيَنْقُصُ مِنْ قِيمَتِهَا قَدْرُ مَا نَقَصَتْ الْإِبِلُ ، فَإِذَا نَقَصَتْ الْإِبِلُ خُمْسَ قِيمَتِهَا وَجَبَ شَاةٌ قِيمَتُهَا أَرْبَعَةٌ .
وَقِيلَ : تُجْزِئُهُ شَاةٌ تُجْزِئُ فِي الْأُضْحِيَّةِ ، مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى الْقِيمَةِ .
وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ لَا تُجْزِئُهُ مَرِيضَةٌ ؛ لِأَنَّ الْمُخْرَجَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا ، وَلَيْسَ كُلُّهُ مِرَاضًا ، فَيُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ اجْتِمَاعِ الصِّحَاحِ ، وَالْمِرَاضُ لَا تُجْزِئُ فِيهِ إلَّا الصَّحِيحَةُ .

( 1697 ) مَسْأَلَةٌ : ( قَالَ : فَإِذَا صَارَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ ، فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ ، إلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ ) ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ وَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ ، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَثَلَاثِينَ فَفِيهَا ابْنَةُ لَبُونٍ إلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ ، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَأَرْبَعِينَ فَفِيهَا حِقَّةٌ طَرُوقَةُ الْفَحْلِ ، إلَى سِتِّينَ ، فَإِذَا بَلَغَتْ إحْدَى وَسِتِّينَ فَفِيهَا جَذَعَةٌ إلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ ، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَسَبْعِينَ فَفِيهَا ابْنَتَا لَبُونٍ إلَى تِسْعِينَ ، فَإِذَا بَلَغَتْ إحْدَى وَتِسْعِينَ فَفِيهَا حِقَّتَانِ طَرُوقَتَا الْفَحْلِ إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ .
وَهَذَا كُلُّهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ ، وَالْخَبَرُ الَّذِي رَوَيْنَاهُ مُتَنَاوِلٌ لَهُ .
وَابْنَةُ الْمَخَاضِ : الَّتِي لَهَا سَنَةٌ وَقَدْ دَخَلَتْ فِي الثَّانِيَةِ ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ أُمَّهَا قَدْ حَمَلَتْ غَيْرَهَا ، وَالْمَاخِضُ الْحَامِلُ ، وَلَيْسَ كَوْنُ أُمِّهَا مَاخِضًا شَرْطًا فِيهَا ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ تَعْرِيفًا لَهَا بِغَالِبِ حَالِهَا ، كَتَعْرِيفِهِ الرَّبِيبَةَ بِالْحِجْرِ ، وَكَذَلِكَ بِنْتُ لَبُونٍ وَبِنْتُ الْمَخَاضِ أَدْنَى سِنٍّ يُوجَدُ فِي الزَّكَاةِ ، وَلَا تَجِبُ إلَّا فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ إلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ خَاصَّةً .
وَبِنْتُ اللَّبُونِ : الَّتِي تَمَّتْ لَهَا سَنَتَانِ وَدَخَلَتْ فِي الثَّالِثَةِ ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ أُمَّهَا قَدْ وَضَعَتْ حَمْلَهَا وَلَهَا لَبَنٌ .
وَالْحِقَّةُ : الَّتِي لَهَا ثَلَاثُ سِنِينَ وَدَخَلَتْ فِي الرَّابِعَةِ ؛ لِأَنَّهَا قَدْ اسْتَحَقَّتْ أَنْ يَطْرُقَهَا الْفَحْلُ ، وَلِهَذَا قَالَ : طَرُوقَةُ الْفَحْلِ .
وَاسْتَحَقَّتْ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهَا وَتُرْكَبَ .
وَالْجَذَعَةُ : الَّتِي لَهَا أَرْبَعُ سِنِينَ وَدَخَلَتْ فِي الْخَامِسَةِ ، وَقِيلَ لَهَا ذَلِكَ لِأَنَّهَا تَجْذَعُ إذَا سَقَطَتْ سِنُّهَا ، وَهِيَ أَعْلَى سِنٍّ تَجِبُ فِي الزَّكَاةِ ، وَلَا تَجِبُ إلَّا فِي إحْدَى وَسِتِّينَ إلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ .
وَإِنْ رَضِيَ رَبُّ الْمَالِ أَنْ يُخْرِجَ مَكَانَهَا ثَنِيَّةً جَازَ ، وَهِيَ الَّتِي لَهَا خَمْسُ سِنِينَ وَدَخَلَتْ فِي السَّادِسَةِ ، وَسُمِّيَتْ

ثَنِيَّةً ، لِأَنَّهَا قَدْ أَلْقَتْ ثَنِيَّتَيْهَا .
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الْأَسْنَانِ ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَحَكَاهُ عَنْ الْأَصْمَعِيِّ ، وَأَبِي زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ ، وَأَبِي زِيَادٍ الْكِلَابِيِّ وَغَيْرِهِمْ .
وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ : " فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ابْنَةُ مَخَاضٍ " أَرَادَ إنْ لَمْ يَكُنْ فِي إبِلِهِ ابْنَةُ مَخَاضٍ أَجْزَأَهُ ابْنُ لَبُونٍ ، وَلَا يُجْزِئُهُ مَعَ وُجُودِ ابْنَةِ مَخَاضٍ ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا ابْنَةُ مَخَاضٍ فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ } .
فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ شَرَطَ فِي إخْرَاجِهِ عَدَمَهَا .
فَإِنْ اشْتَرَاهَا وَأَخْرَجَهَا جَازَ ، وَإِنْ أَرَادَ إخْرَاجَ ابْنِ لَبُونٍ بَعْدَ شِرَائِهَا لَمْ تَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ فِي إبِلِهِ بِنْتُ مَخَاضٍ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي إبِلِهِ ابْنُ لَبُونٍ ، وَأَرَادَ الشِّرَاءَ ، لَزِمَهُ شِرَاءُ بِنْتِ مَخَاضٍ .
وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُجْزِئْهُ شِرَاءُ ابْنِ لَبُونٍ ؛ لِظَاهِرِ الْخَبَرِ وَعُمُومِهِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي الْعَدَمِ ، فَلَزِمَتْهُ ابْنَةُ مَخَاضٍ ، كَمَا لَوْ اسْتَوَيَا فِي الْوُجُودِ ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى وُجُودِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لِلرِّفْقِ بِهِ ، إغْنَاءً لَهُ عَنْ الشِّرَاءِ ، وَمَعَ عَدَمِهِ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ الشِّرَاءِ ، فَكَانَ شِرَاءُ الْأَصْلِ أَوْلَى .
عَلَى أَنَّ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ : " فَمَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ ابْنَةُ مَخَاضٍ عَلَى وَجْهِهَا ، وَعِنْدَهُ ابْنُ لَبُونٍ ، فَإِنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ ، وَلَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ " .
فَشَرَطَ فِي قَبُولِهِ وُجُودَهُ وَعَدَمَهَا ، وَهَذَا فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ ، وَفِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ : " وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ بِنْتِ مَخَاضٍ ، وَلَيْسَ عِنْدَهُ إلَّا ابْنُ لَبُونٍ " .
وَهَذَا يَفْسُدُ بِتَعَيُّنِ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ إلَّا ابْنَةَ مَخَاضٍ مُعَيَّنَةً ، فَلَهُ الِانْتِقَالُ إلَى ابْنِ لَبُونٍ ؛ لِقَوْلِهِ فِي الْخَبَرِ : " فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ بِنْتُ مَخَاضٍ ، عَلَى وَجْهِهَا " وَلِأَنَّ وُجُودَهَا كَعَدَمِهَا ، لِكَوْنِهَا لَا يَجُوزُ

إخْرَاجُهَا ، فَأَشْبَهَ الَّذِي لَا يَجِدُ إلَّا مَا لَا يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِهِ فِي انْتِقَالِهِ إلَى التَّيَمُّمِ .
وَإِنْ وَجَدَ ابْنَةَ مَخَاضٍ أَعْلَى مِنْ صِفَةِ الْوَاجِبِ ، لَمْ يُجْزِهِ ابْنُ لَبُونٍ ؛ لِوُجُودِ بِنْتِ مَخَاضٍ عَلَى وَجْهِهَا ، وَيُخَيَّرُ بَيْن إخْرَاجِهَا وَبَيْنَ شِرَاءِ بِنْتِ مَخَاضٍ عَلَى صِفَةِ الْوَاجِبِ ، وَلَا يُخَيَّرُ بَعْضُ الذُّكُورِيَّةِ بِزِيَادَةِ سِنٍّ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ، وَلَا يُجْزِئُهُ أَنْ يُخْرِجَ عَنْ ابْنِ لَبُونٍ حِقًّا ، وَلَا عَنْ الْحِقَّةِ جَذَعًا ، لِعَدَمِهِمَا وَلَا وُجُودِهِمَا .
وَقَالَ الْقَاضِي ، وَابْنُ عَقِيلٍ : يَجُوزُ ذَلِكَ مَعَ عَدَمِهِمَا ؛ لِأَنَّهُمَا أَعْلَى وَأَفْضَلُ ، فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ فِيهِمَا بِطَرِيقِ التَّنْبِيهِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ لَا نَصَّ فِيهِمَا ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُمَا عَلَى ابْنِ لَبُونٍ مَكَانَ بِنْتِ مَخَاضٍ ؛ لِأَنَّ زِيَادَةَ سِنِّ ابْنِ لَبُونٍ عَلَى بِنْتِ مَخَاضٍ يَمْتَنِعُ بِهَا مِنْ صِغَارِ السِّبَاعِ ، وَيَرْعَى الشَّجَرَ بِنَفْسِهِ ، وَيَرِدُ الْمَاءَ ، وَلَا يُوجَدُ هَذَا فِي الْحِقِّ مَعَ بِنْتِ لَبُونٍ ، لِأَنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِي هَذَا ، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا مُجَرَّدُ السِّنِّ فَلَمْ يُقَابَلْ إلَّا بِتَوْجِيهٍ .
وَقَوْلُهُمَا : إنَّهُ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِيهِمَا بِطَرِيقِ التَّنْبِيهِ .
قُلْنَا : بَلْ يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الْحُكْمِ فِيهِمَا بِدَلِيلِ خِطَابِهِ ، فَإِنَّ تَخْصِيصَهُ بِالذِّكْرِ دُونَهُمَا دَلِيلٌ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِالْحُكْمِ دُونَهُمَا .

( 1698 ) فَصْلٌ : وَإِنْ أَخْرَجَ عَنْ الْوَاجِبِ سِنًّا أَعْلَى مِنْ جِنْسِهِ ، مِثْلُ أَنْ يُخْرِجَ بِنْتَ لَبُونٍ عَنْ بِنْتِ مَخَاضٍ ، وَحِقَّةً عَنْ بِنْتِ لَبُونٍ أَوْ بِنْتِ مَخَاضٍ ، أَوْ أَخْرَجَ عَنْ الْجَذَعَةِ ابْنَتَيْ لَبُونٍ أَوْ حِقَّتَيْنِ ، جَازَ .
لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا ؛ لِأَنَّهُ زَادَ عَلَى الْوَاجِبِ مِنْ جِنْسِهِ مَا يُجْزِئُ عَنْهُ مَعَ غَيْرِهِ ، فَكَانَ مُجْزِيًا عَنْهُ عَلَى انْفِرَادِهِ ، كَمَا لَوْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ فِي الْعَدَدِ .
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي " مُسْنَدِهِ " ، وَأَبُو دَاوُد ، فِي " سُنَنِهِ " ، بِإِسْنَادِهِمَا عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ : { بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُصَدِّقًا ، فَمَرَرْت بِرَجُلٍ ، فَلَمَّا جَمَعَ لِي مَالَهُ لَمْ أَجِدْ عَلَيْهِ فِيهِ إلَّا بِنْتَ مَخَاضٍ .
فَقُلْت لَهُ : أَدِّ بِنْتَ مَخَاضٍ ، فَإِنَّهَا صَدَقَتُك .
فَقَالَ : ذَاكَ مَا لَا لَبَنَ فِيهِ وَلَا ظَهْرَ ، وَلَكِنْ هَذِهِ نَاقَةٌ فَتِيَّةٌ عَظِيمَةٌ سَمِينَةٌ ، فَخُذْهَا .
فَقُلْت : مَا أَنَا بِآخِذِ مَا لَمْ أُؤْمَرْ بِهِ ، وَهَذَا رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْك قَرِيبٌ ، فَإِنْ أَحْبَبْت أَنْ تَأْتِيَهُ فَتَعْرِضَ عَلَيْهِ مَا عَرَضْت عَلَيَّ فَافْعَلْ ، فَإِنْ قَبِلَهُ مِنْك قَبِلْته ، وَإِنْ رَدَّهُ عَلَيْك رَدَدْته .
قَالَ : فَإِنِّي فَاعِلٌ .
فَخَرَجَ مَعِي وَخَرَجَ بِالنَّاقَةِ الَّتِي عَرَضَ عَلَيَّ ، حَتَّى قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ ، أَتَانِي رَسُولُك لِيَأْخُذَ مِنِّي صَدَقَةَ مَالِي ، وَأَيْمُ اللَّهِ ، مَا قَامَ فِي مَالِي رَسُولُ اللَّهِ وَلَا رَسُولُهُ قَطُّ قَبْلَهُ ، فَجَمَعْت لَهُ مَالِي ، فَزَعَمَ أَنَّ مَا عَلَيَّ فِيهِ بِنْتُ مَخَاضٍ ، وَذَاكَ مَا لَا لَبَنَ فِيهِ وَلَا ظَهْرَ ، وَقَدْ عَرَضْت عَلَيْهِ نَاقَةً فَتِيَّةً سَمِينَةً عَظِيمَةً لِيَأْخُذَهَا فَأَبَى ، وَهَا هِيَ ذِهِ ، قَدْ جِئْتُك بِهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ، خُذْهَا .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ذَاكَ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْك ، فَإِنْ تَطَوَّعْت بِخَيْرٍ أَجْزَلَ اللَّهُ

فِيهِ ، وَقَبِلْنَاهُ مِنْك .
فَقَالَ : فَهَا هِيَ ذِهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَدْ جِئْتُك بِهَا .
قَالَ : فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَبْضِهَا ، وَدَعَا لَهُ فِي مَالِهِ بِالْبَرَكَةِ .
} وَهَكَذَا الْحُكْمُ إذَا أَخْرَجَ أَعْلَى مِنْ الْوَاجِبِ فِي الصِّفَةِ مِثْلُ أَنْ يُخْرِجَ السَّمِينَةَ مَكَانَ الْهَزِيلَةِ ، وَالصَّحِيحَةَ مَكَانَ الْمَرِيضَةِ ، وَالْكَرِيمَةَ مَكَانِ اللَّئِيمَةِ ، وَالْحَامِلَ عَنْ الْحَوَائِلِ ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ وَتُجْزِئُهُ ، وَلَهُ أَجْرُ الزِّيَادَةِ .

( 1699 ) فَصْلٌ : وَيُخْرِجُ عَنْ مَاشِيَتِهِ مِنْ جِنْسِهَا عَلَى صِفَتِهَا ، فَيُخْرِجُ عَنْ الْبَخَاتِيِّ بُخْتِيَّةً ، وَعَنْ الْعِرَابِ عَرَبِيَّةً ، وَعَنْ الْكِرَامِ كَرِيمَةً ، وَعَنْ السِّمَانِ سَمِينَةً ، وَعَنْ اللِّئَامِ وَالْهُزَالِ لَئِيمَةً هَزِيلَةً .
فَإِنْ أَخْرَجَ عَنْ الْبَخَاتِيِّ عَرَبِيَّةً بِقِيمَةِ الْبُخْتِيَّةِ ، أَوْ أَخْرَجَ عَنْ السِّمَانِ هَزِيلَةً بِقِيمَةِ السَّمِينَةِ ، جَازَ ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ مَعَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ هِيَ الْمَقْصُودُ .
أَجَازَ هَذَا أَبُو بَكْرٍ وَحُكِيَ عَنْ الْقَاضِي وَجْهٌ آخَرُ : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَفْوِيتَ صِفَةٍ مَقْصُودَةٍ ، فَلَمْ يَجُزْ ، كَمَا لَوْ أَخْرَجَ مِنْ جِنْسٍ آخَرَ .
وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَفَارَقَ خِلَافَ الْجِنْسِ .
فَإِنَّ الْجِنْسَ مَرْعِيٌّ فِي الزَّكَاةِ ، وَلِهَذَا لَوْ أَخْرَجَ الْبَعِيرَ عَنْ الشَّاةِ لَمْ يَجُزْ ، وَمَعَ الْجِنْسِ يَجُوزُ إخْرَاجُ الْجَيِّدِ عَنْ الرَّدِيءِ ، بِغَيْرِ خِلَافٍ .

( 1700 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ ، فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ ، وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ ) ظَاهِرُ هَذَا أَنَّهَا إذَا زَادَتْ عَلَى الْعِشْرِينَ وَالْمِائَةِ وَاحِدَةً فَفِيهَا ثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ ، وَمَذْهَبُ الْأَوْزَاعِيِّ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَإِسْحَاقَ .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ ، لَا يَتَعَدَّى الْفَرْضُ إلَى ثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ ، فَيَكُونُ فِيهَا حِقَّةٌ وَبِنْتَا لَبُونٍ .
وَهَذَا مَذْهَبُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ ، وَأَبِي عُبَيْدٍ .
وَلِمَالِكٍ رِوَايَتَانِ ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ لَا يَتَغَيَّرُ بِزِيَادَةِ الْوَاحِدَةِ ؛ بِدَلِيلِ سَائِرِ الْفُرُوضِ .
وَلَنَا ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ ، فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ } .
وَالْوَاحِدَةُ زِيَادَةٌ ، وَقَدْ جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي حَدِيثِ الصَّدَقَاتِ الَّذِي كَتَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ عِنْدَ الْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ : هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ .
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : هُوَ أَحْسَنُ شَيْءٍ رُوِيَ فِي أَحَادِيثِ الصَّدَقَاتِ .
وَفِيهِ : { فَإِذَا كَانَتْ إحْدَى وَعِشْرِينَ وَمِائَةً ، فَفِيهَا ثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ } .
وَفِي لَفْظٍ : { إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ ، فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةً فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ ، وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ } أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ .
وَأَخْرَجَ حَدِيثَ أَنَسٍ ، مِنْ رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ ، عَنْ النَّضْرِ بْنِ إسْمَاعِيلَ ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ ، قَالَ : أَخَذْنَا هَذَا الْكِتَابَ مِنْ ثُمَامَةَ يُحَدِّثُ بِهِ عَنْ أَنَسٍ .
وَفِيهِ : { فَإِذَا بَلَغَتْ إحْدَى وَعِشْرِينَ وَمِائَةً ، فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ ، وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ } .
وَلِأَنَّ سَائِرَ مَا جَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَايَةً لِلْفَرْضِ ، إذَا زَادَ عَلَيْهِ وَاحِدَةٌ تَغَيَّرَ الْفَرْضُ ، كَذَا هَذَا .
وَقَوْلُهُمْ :

إنَّ الْفَرْضَ لَا يَتَغَيَّرُ بِزِيَادَةِ الْوَاحِدَةِ .
قُلْنَا : وَهَذَا مَا تَغَيَّرَ بِالْوَاحِدَةِ وَحْدَهَا ، وَإِنَّمَا تَغَيَّرَ بِهَا مَعَ مَا قَبْلَهَا ، فَأَشْبَهَتْ الْوَاحِدَةَ الزَّائِدَةَ عَنْ التِّسْعِينَ وَالسِّتِّينَ وَغَيْرَهُمَا .
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ : إذَا زَادَتْ الْإِبِلُ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ ، اُسْتُؤْنِفَتْ الْفَرِيضَةُ ، فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ إلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ ، فَيَكُونُ فِيهَا حِقَّتَانِ وَبِنْتُ مَخَاضٍ ، إلَى خَمْسِينَ وَمِائَةٍ ، فَفِيهَا ثَلَاثُ حِقَاقٍ .
وَتُسْتَأْنَفُ الْفَرِيضَةُ فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ كِتَابًا ، ذَكَرَ فِيهِ الصَّدَقَاتِ وَالدِّيَاتِ ، وَذَكَرَ فِيهِ مِثْلَ هَذَا .
وَلَنَا ، أَنَّ فِي حَدِيثَيْ الصَّدَقَاتِ الَّذِي كَتَبَهُ أَبُو بَكْرٍ لِأَنَسِ ، وَاَلَّذِي كَانَ عِنْدَ آلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مِثْلَ مَذْهَبِنَا ، وَهُمَا صَحِيحَانِ ، وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ : { هَذِهِ فَرِيضَةُ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ } .
وَأَمَّا كِتَابُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ ، فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي صِفَتِهِ ، فَرَوَاهُ الْأَثْرَمُ فِي " سُنَنِهِ " مِثْلَ مَذْهَبِنَا .
وَالْأَخْذُ بِذَلِكَ أَوْلَى ، لِمُوَافَقَتِهِ الْأَحَادِيثَ الصِّحَاحَ ، وَمُوَافَقَتِهِ الْقِيَاسَ ، فَإِنَّ الْمَالَ إذَا وَجَبَ فِيهِ مِنْ جِنْسِهِ لَمْ يَجِبْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ ، كَسَائِرِ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ، وَلِأَنَّهُ مَالٌ احْتَمَلَ الْمُوَاسَاةَ مِنْ جِنْسِهِ ، فَلَمْ يَجِبْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ ، كَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ .
وَإِنَّمَا وَجَبَ فِي الِابْتِدَاءِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ ، لِأَنَّهُ مَا احْتَمَلَ الْمُوَاسَاةَ مِنْ جِنْسِهِ ، فَلَمْ يَجِبْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ ، فَعَدَلْنَا إلَى غَيْرِ الْجِنْسِ ضَرُورَةً ، وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِزِيَادَةِ الْمَالِ وَكَثْرَتِهِ ، وَلِأَنَّهُ عِنْدَهُمْ يَنْقُلُ مِنْ بِنْتِ مَخَاضٍ إلَى حِقَّةٍ ، بِزِيَادَةِ

خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ ، وَهِيَ زِيَادَةٌ يَسِيرَةٌ لَا تَقْتَضِي الِانْتِقَالَ إلَى حِقَّةٍ ، فَإِنَّا لَمْ نَنْقُلْ فِي مَحَلِّ الْوِفَاقِ مِنْ بِنْتِ مَخَاضٍ إلَى حِقَّةٍ ، إلَّا بِزِيَادَةِ إحْدَى وَعِشْرِينَ ، وَإِنَّ زَادَتْ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنْ بَعِيرٍ ، لَمْ يَتَغَيَّرْ الْفَرْضُ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ ؛ لِأَنَّ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ : " فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةً " .
وَهَذَا يُقَيِّدُ مُطْلَقَ الزِّيَادَةِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى ، وَلِأَنَّ سَائِرَ الْفُرُوضِ لَا تَتَغَيَّرُ بِزِيَادَةِ جُزْءٍ .
وَعَلَى كِلْتَا الرِّوَايَتَيْنِ مَتَى بَلَغْت الْإِبِلُ مِائَةً وَثَلَاثِينَ فَفِيهَا حِقَّةٌ وَبِنْتَا لَبُونٍ ، وَفِي مِائَةٍ وَأَرْبَعِينَ حِقَّتَانِ وَبِنْتَا لَبُونٍ ، وَفِي مِائَةٍ وَخَمْسِينَ ثَلَاثُ حِقَاقٍ ، وَفِي مِائَةٍ وَسِتِّينَ أَرْبَعُ بَنَاتِ لَبُونٍ .
ثُمَّ كُلَّمَا زَادَتْ عَشْرًا أُبْدِلَتْ مَكَانَ بِنْتِ لَبُونٍ حِقَّةٌ ، فَفِي مِائَةٍ وَسَبْعِينَ حِقَّةٌ وَثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ ، وَفِي مِائَةٍ وَثَمَانِينَ حِقَّتَانِ وَابْنَتَا لَبُونٍ ، وَفِي مِائَةٍ وَتِسْعِينَ ثَلَاثُ حِقَاقٍ وَبِنْتُ لَبُونٍ .
فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَتَيْنِ اجْتَمَعَ الْفَرْضَانِ ؛ لِأَنَّ فِيهِمَا خَمْسِينَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ ، وَأَرْبَعِينَ خَمْسَ مَرَّاتٍ ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَرْبَعُ حِقَاقٍ أَوْ خَمْسُ بَنَاتِ لَبُونٍ ، أَيَّ الْفَرْضَيْنِ شَاءَ أَخْرَجَ ، وَإِنْ كَانَ الْآخَرُ أَفْضَلِ مِنْهُ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ عَلَيْهِ أَرْبَعَ حِقَاقٍ .
وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ عَلَيْهِ أَرْبَعَ حِقَاقٍ بِصِيغَةِ التَّخْيِيرِ ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُخْرِجُ وَلِيًّا لِيَتِيمٍ أَوْ مَجْنُونٍ ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ مَالِهِ إلَّا أَدْنَى الْفَرْضَيْنِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : الْخِيَرَةُ إلَى السَّاعِي .
وَمُقْتَضَى قَوْلِهِ أَنَّ رَبَّ الْمَالِ إذَا أَخْرَجَ لَزِمَهُ إخْرَاجُ أَعْلَى الْفَرْضَيْنِ ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ } .
وَلِأَنَّهُ وُجِدَ سَبَبُ الْفَرْضَيْنِ ، فَكَانَتْ الْخِيَرَةُ إلَى مُسْتَحِقِّهِ أَوْ نَائِبِهِ ، كَقَتْلِ الْعَمْدِ

الْمُوجِبِ لِلْقِصَاصِ أَوْ الدِّيَةِ .
وَلَنَا ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كِتَابِ الصَّدَقَاتِ ، الَّذِي كَتَبَهُ ، وَكَانَ عِنْدَ الْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ : { فَإِذَا كَانَتْ مِائَتَيْنِ ، فَفِيهَا أَرْبَعُ حِقَاقٍ ، أَوْ خَمْسُ بَنَاتِ لَبُونٍ ، أَيُّ الْبِنْتَيْنِ وُجِدَتْ أُخِذَتْ } .
وَهَذَا نَصٌّ لَا يَعْرُجُ مَعَهُ عَلَى شَيْءٍ يُخَالِفُهُ ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { لِمُعَاذٍ : إيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ } .
وَلِأَنَّهَا زَكَاةٌ ثَبَتَ فِيهَا الْخِيَارُ ، فَكَانَ ذَلِكَ لِرَبِّ الْمَالِ ، كَالْخِيَرَةِ فِي الْجُبْرَانِ بَيْنَ مِائَتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا ، وَبَيْنَ النُّزُولِ وَالصُّعُودِ ، وَتَعْيِينِ الْمُخْرَجِ ، وَلَا تَتَنَاوَلُ الْآيَةُ مَا نَحْنُ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَأْخُذُ الْفَرْضَ بِصِفَةِ الْمَالِ ، فَيَأْخُذُ مِنْ الْكِرَامِ كَرَائِمَ ، وَمِنْ غَيْرِهَا مِنْ وَسَطِهَا ، فَلَا يَكُونُ خَبِيثًا ، لِأَنَّ الْأَدْنَى لَيْسَ بِخَبِيثٍ ، وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يُوجَدْ إلَّا سَبَبُ وُجُوبِهِ وَجَبَ إخْرَاجُهُ ، وَقِيَاسُهُمْ يَبْطُلُ بِشَاةِ الْجُبْرَانِ ، وَقِيَاسُنَا أَوْلَى مِنْهُ ؛ لِأَنَّ قِيَاسَ الزَّكَاةِ عَلَى الزَّكَاةِ أَوْلَى مِنْ قِيَاسِهَا عَلَى الدِّيَاتِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَكَانَ أَحَدُ الْفَرْضَيْنِ فِي مَالِهِ دُونَ الْآخَرِ ، فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ إخْرَاجِهِ أَوْ شِرَاءِ الْآخَرِ ، وَلَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ سِوَى إخْرَاجِ الْمَوْجُودِ ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ لَا تَجِبُ فِي عَيْنِ الْمَالِ .
وَقَالَ الْقَاضِي : يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ إخْرَاجُ الْمَوْجُودِ لِأَنَّ الزَّكَاةَ لَا تَجِبْ فِي عَيْنِ الْمَالِ .
وَلَعَلَّهُ أَرَادَ إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى شِرَاءِ الْآخَرِ .

( 1701 ) فَصْلٌ : فَإِنْ أَرَادَ إخْرَاجَ الْفَرْضِ مِنْ النَّوْعَيْنِ ، نَظَرْنَا ؛ فَإِنْ لَمْ يَحْتَجْ إلَى تَشْقِيصٍ ، كَرَجُلٍ عِنْدَهُ أَرْبَعُمِائَةٍ يُخْرِجُ مِنْهَا أَرْبَعَ حِقَاقٍ وَخَمْسَ بَنَاتِ لَبُونٍ ، جَازَ ، وَإِنْ احْتَاجَ إلَى تَشْقِيصٍ ، كَزَكَاةِ الْمِائَتَيْنِ ، لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ إلَّا بِالتَّشْقِيصِ .
وَقِيلَ : يَحْتَمِلُ أَنْ يَجُوزَ ، عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَصْحَابِنَا : وَيَجُوزُ أَنْ يُعْتِقَ نِصْفَيْ عَبْدَيْنِ فِي الْكَفَّارَةِ .
وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ ؛ فَإِنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِالتَّشْقِيصِ فِي زَكَاةِ السَّائِمَةِ إلَّا مِنْ حَاجَةٍ ، وَلِذَلِكَ جَعَلَ لَهَا أَوْقَاصًا ، دَفْعًا لِلتَّشْقِيصِ عَنْ الْوَاجِبِ فِيهَا ، وَعَدَلَ فِيهَا دُونَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ مِنْ الْإِبِلِ عَنْ إيجَابِ الْإِبِلِ إلَى إيجَابِ الْغَنَمِ ، فَلَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِتَجْوِيزِهِ مَعَ إمْكَانِ الْعُدُولِ عَنْهُ إلَى إيجَابِ فَرِيضَةٍ كَامِلَةٍ .
وَإِنْ وَجَدَ أَحَدَ الْفَرْضَيْنِ كَامِلًا وَالْآخَرَ نَاقِصًا ، لَا يُمْكِنُهُ إخْرَاجُهُ إلَّا بِجُبْرَانٍ مَعَهُ ، مِثْلُ أَنْ يَجِدَ فِي الْمِائَتَيْنِ خَمْسَ بَنَاتِ لَبُونٍ وَثَلَاثَ حِقَاقٍ ، تَعَيَّنَ أَخْذُ الْفَرِيضَةِ الْكَامِلَةِ ؛ لِأَنَّ الْجُبْرَانَ بَدَلٌ يُشْتَرَطُ لَهُ عَدَمُ الْمُبْدَلِ .
وَإِنْ كَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ تَحْتَاجُ إلَى جُبْرَانٍ ، مِثْلُ أَنْ يَجِدَ أَرْبَعَ بَنَاتِ لَبُونٍ وَثَلَاثَ حِقَاقٍ ، فَهُوَ مُخَيَّرٌ أَيَّهُمَا شَاءَ أَخْرَجَ مَعَ الْجُبْرَانِ ، إنْ شَاءَ أَخْرَجَ بَنَاتِ اللَّبُونِ وَحِقَّةً وَأَخَذَ بِالْجُبْرَانِ ، وَإِنْ شَاءَ أَخْرَجَ الْحِقَاقَ وَبِنْتَ اللَّبُونِ مَعَ جُبْرَانِهَا .
فَإِنْ قَالَ : خُذُوا مِنِّي حِقَّةً وَثَلَاثَ بَنَاتِ لَبُونٍ مَعَ الْجُبْرَانِ .
لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ يَعْدِلُ عَنْ الْفَرْضِ مَعَ وُجُودِهِ إلَى الْجُبْرَانِ .
وَيَحْتَمِلُ الْجَوَازَ ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْجُبْرَانِ .
وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ إلَّا حِقَّةٌ وَأَرْبَعُ بَنَاتِ لَبُونٍ ، أَدَّاهَا وَأَخَذَ الْجُبْرَانَ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ دَفْعُ ثَلَاثِ بَنَاتِ لَبُونٍ مَعَ الْجُبْرَانِ ، فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ .
وَإِنْ كَانَ الْفَرْضَانِ

مَعْدُومَيْنِ ، أَوْ مَعِيبَيْنِ ، فَلَهُ الْعُدُولُ عَنْهُمَا مَعَ الْجُبْرَانِ ، فَإِنْ شَاءَ أَخْرَجَ أَرْبَعَ جَذَعَاتٍ وَأَخَذَ ثَمَانِيَ شِيَاهٍ أَوْ ثَمَانِينَ دِرْهَمًا ، وَإِنْ شَاءَ دَفَعَ خَمْسَ بَنَاتِ مَخَاضٍ وَمَعَهَا عَشْرُ شِيَاهٍ أَوْ مِائَةُ دِرْهَمٍ .
وَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْقُلَ عَنْ الْحِقَاقِ إلَى بَنَاتِ الْمَخَاضِ ، أَوْ عَنْ بَنَاتِ اللَّبُونِ إلَى الْجِذَاعِ ، لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ الْحِقَاقَ وَبَنَاتِ اللَّبُونِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِنَّ فِي هَذَا الْمَالِ ، فَلَا يَصْعَدُ إلَى الْحِقَاقِ بِجُبْرَانٍ ، وَلَا يَنْزِلُ إلَى بَنَاتِ اللَّبُونِ بِجُبْرَانٍ .

( 1702 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ حِقَّةٌ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَهُ ابْنَةُ لَبُونٍ ، أُخِذَتْ مِنْهُ وَمَعَهَا شَاتَانِ أَوْ عِشْرُونَ دِرْهَمًا ، وَمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ ابْنَةُ لَبُونٍ ، وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَهُ حِقَّةٌ ، أُخِذَتْ مِنْهُ وَأُعْطِيَ الْجُبْرَانَ شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا ) الْمَذْهَبُ فِي هَذَا أَنَّهُ مَتَى وَجَبَتْ عَلَيْهِ سِنٌّ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ ، فَلَهُ أَنْ يُخْرِجَ سِنًّا أَعْلَى مِنْهَا ، وَيَأْخُذَ شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا ، أَوْ سِنًّا أَنْزَلَ مِنْهَا وَمَعَهَا شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا ، إلَّا ابْنَةَ مَخَاضٍ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُخْرِجَ أَنْزَلَ مِنْهَا ؛ لِأَنَّهَا أَدْنَى سِنٍّ تَجِبُ فِي الزَّكَاةِ ، أَوْ جَذَعَةً .
فَلَا يُخْرِجُ أَعْلَى مِنْهَا ، إلَّا أَنْ يَرْضَى رَبُّ الْمَالِ بِإِخْرَاجِهَا لَا جُبْرَانَ مَعَهَا ، فَتُقْبَلَ مِنْهُ .
وَالِاخْتِيَارُ فِي الصُّعُودِ وَالنُّزُولِ ، وَالشِّيَاهِ وَالدَّرَاهِمِ ، إلَى رَبِّ الْمَالِ .
وَبِهَذَا قَالَ النَّخَعِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَاخْتَلَفَ فِيهِ عَنْ إِسْحَاقَ .
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ : يُخْرِجُ شَاتَيْنِ أَوْ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ ؛ لِأَنَّ الشَّاةَ فِي الشَّرْعِ مُتَقَوِّمَةٌ بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ ، بِدَلِيلِ أَنَّ نِصَابَهَا أَرْبَعُونَ ، وَنِصَابَ الدَّرَاهِمِ مِائَتَانِ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ : يَدْفَعُ قِيمَةَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ ، أَوْ دُونَ السِّنِّ الْوَاجِبَةِ وَفَضْلَ مَا بَيْنَهُمَا دَرَاهِمَ .
وَلَنَا ، قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ : { وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ مِنْ الْإِبِلِ صَدَقَةُ الْجَذَعَةِ ، وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ جَذَعَةٌ ، وَعِنْدَهُ حِقَّةٌ ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ الْحِقَّةُ ، وَيَجْعَلُ مَعَهَا شَاتَيْنِ ، إنْ اسْتَيْسَرَتَا لَهُ ، أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا ، وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ الْحِقَّةِ ، وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَهُ الْجَذَعَةُ ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ الْجَذَعَةُ ، وَيُعْطِيهِ الْمُصَدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ .
وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ الْحِقَّةِ

وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ إلَّا بِنْتُ لَبُونٍ ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ بِنْتُ لَبُونٍ ، وَيُعْطِي شَاتَيْنِ ، أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا ، وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ بِنْتَ لَبُونٍ ، وَعِنْدَهُ حِقَّةٌ ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ الْحِقَّةُ ، وَيُعْطِيهِ الْمُصَدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ ، وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ بِنْتَ لَبُونٍ ، وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَهُ ابْنَةُ مَخَاضٍ ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ ابْنَةُ مَخَاضٍ وَيُعْطِي مَعَهَا عِشْرِينَ دِرْهَمًا ، أَوْ شَاتَيْنِ } وَهَذَا نَصٌّ ثَابِتٌ صَحِيحٌ لَمْ يُلْتَفَتُ إلَى مَا سِوَاهُ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ إلَى هَذَا الْجُبْرَانِ مَعَ وُجُودِ الْأَصْلِ ؛ لِأَنَّهُ مَشْرُوطٌ فِي الْخَبَرِ بِعَدَمِ الْأَصْلِ ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ فِي الْجُبْرَانِ شَاةً ، وَعَشَرَةَ دَرَاهِمَ .
فَقَالَ الْقَاضِي : لَا يُمْنَعُ هَذَا ، كَمَا قُلْنَا فِي الْكَفَّارَةِ ، فَلَهُ إخْرَاجُهَا مِنْ جِنْسَيْنِ ؛ لِأَنَّ الشَّاةَ مَقَامُ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ ، فَإِذَا اخْتَارَ إخْرَاجَهَا وَعَشَرَةً جَازَ .
وَيَحْتَمِلُ الْمَنْعَ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيَّرَ بَيْنَ شَاتَيْنِ وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا ، وَهَذَا قِسْمٌ ثَالِثٌ ، فَتَجْوِيزُهُ يُخَالِفُ الْخَبَرَ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

( 1703 ) فَصْلٌ : فَإِنْ عَدِمَ السِّنَّ الْوَاجِبَةَ وَاَلَّتِي تَلِيهَا ، كَمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ جَذَعَةٌ فَعَدِمَهَا وَعَدِمَ الْحِقَّةَ ، أَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ حِقَّةٌ فَعَدِمَهَا وَعَدِمَ الْجَذَعَةَ وَابْنَةَ اللَّبُونِ ، فَقَالَ الْقَاضِي : يَجُوزُ أَنْ يَنْتَقِلَ إلَى السِّنِّ الثَّالِثِ مَعَ الْجُبْرَانِ ، فَيُخْرِجَ ابْنَةَ اللَّبُونِ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى ، وَيُخْرِجَ مَعَهَا أَرْبَعَ شِيَاهٍ وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا ، وَيُخْرِجَ ابْنَةَ مَخَاضٍ فِي الثَّانِيَةِ ، وَيُخْرِجَ مَعَهَا مِثْلَ ذَلِكَ .
وَذَكَرَ أَنَّ أَحْمَدَ أَوْمَأَ إلَيْهِ وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : لَا يَنْتَقِلُ إلَى سِنٍّ تَلِي الْوَاجِبَ ، فَأَمَّا إنَّ انْتَقَلَ مِنْ حِقَّةٍ إلَى بِنْتِ مَخَاضٍ ، أَوْ مِنْ جَذَعَةٍ إلَى بِنْتِ لَبُونٍ ، لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِالْعُدُولِ إلَى سِنٍّ وَاحِدَةٍ ، فَيَجِبُ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهَا ، كَمَا اقْتَصَرْنَا فِي أَخْذِ الشِّيَاهِ عَنْ الْإِبِلِ عَلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي وَرَدَ بِهِ النَّصُّ .
هَذَا قَوْلُ ابْنِ الْمُنْذِرِ .
وَوَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّهُ قَدْ جَوَّزَ الِانْتِقَالَ إلَى السِّنِّ الَّذِي تَلِيه مَعَ الْجُبْرَانِ ، وَجَوَّزَ الْعُدُولَ عَنْ ذَلِكَ أَيْضًا إذَا عَدِمَ مَعَ الْجُبْرَانِ إذَا كَانَ هُوَ الْفَرْضَ ، وَهَاهُنَا لَوْ كَانَ مَوْجُودًا أَجْزَأَ ، فَإِنْ عَدِمَ جَازَ الْعُدُولُ إلَى مَا يَلِيهِ مَعَ الْجُبْرَانِ ، وَالنَّصُّ إذَا عَقَلَهُ عَدَّى وَعَمِلَ بِمَعْنَاهُ ، وَعَلَى مُقْتَضَى هَذَا الْقَوْلِ يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْ الْجَذَعَةِ إلَى بِنْتِ الْمَخَاضِ مَعَ سِتِّ شِيَاهٍ ، أَوْ سِتِّينَ دِرْهَمًا ، وَيَعْدِلُ عَنْ ابْنَةِ الْمَخَاضِ إلَى الْجَذَعَةِ ، وَيَأْخُذُ سِتَّ شِيَاهٍ ، أَوْ سِتِّينَ دِرْهَمًا .
وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ عَنْ الْأَرْبَعِ شِيَاهٍ شَاتَيْنِ وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا ، جَازَ .
لِأَنَّهُمَا جُبْرَانَانِ ، فَهُمَا كَالْكَفَّارَتَيْنِ .
وَكَذَلِكَ فِي الْجُبْرَانِ الَّذِي يُخْرِجُهُ عَنْ فَرْضِ الْمِائَتَيْنِ مِنْ الْإِبِلِ ، إذَا أَخْرَجَ عَنْ خَمْسِ بَنَاتِ لَبُونٍ خَمْسَ بَنَاتِ مَخَاضٍ ، أَوْ مَكَانَ أَرْبَعِ حِقَاقٍ أَرْبَعَ جَذَعَاتٍ ، جَازَ

أَنْ يُخْرِجَ بَعْضَ الْجُبْرَانِ دَرَاهِمَ ، وَبَعْضَهُ شِيَاهًا .
وَمَتَى وَجَدَ سِنًّا تَلِي الْوَاجِبَ لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ إلَى سِنٍّ لَا تَلِيه ؛ لِأَنَّ الِانْتِقَالَ عَنْ السِّنِّ الَّتِي تَلِيه إلَى السِّنِّ الْأُخْرَى بَدَلٌ ، فَلَا يَجُوزُ مَعَ إمْكَانِ الْأَصْلِ .
فَإِنْ عَدِمَ الْحِقَّةَ وَابْنَةَ اللَّبُونِ ، وَوَجَدَ الْجَذَعَةَ وَابْنَةَ الْمَخَاضِ ، وَكَانَ الْوَاجِبُ الْحِقَّةَ ، لَمْ يَجُزْ الْعُدُولُ إلَى بِنْتِ الْمَخَاضِ ، وَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ ابْنَةَ لَبُونٍ ، لَمْ يَجُزْ إخْرَاجُ الْجَذَعَةِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَ النِّصَابُ كُلُّهُ مِرَاضًا ، وَفَرِيضَتُهُ مَعْدُومَةً ، فَلَهُ أَنْ يَعْدِلَ إلَى السِّنِّ السُّفْلَى مَعَ دَفْعِ الْجُبْرَانِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَصْعَدَ مَعَ أَخْذِ الْجُبْرَانِ ، لِأَنَّ الْجُبْرَانَ أَكْثَرُ مِنْ الْفَضْلِ الَّذِي بَيْنَ الْفَرْضَيْنِ ، وَقَدْ يَكُونُ الْجُبْرَانُ جَبْرًا مِنْ الْأَصْلِ ، فَإِنَّ قِيمَةَ الصَّحِيحَتَيْنِ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَةِ الْمَرِيضَتَيْنِ ، فَكَذَلِكَ قِيمَةُ مَا بَيْنَهُمَا ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ فِي الصُّعُودِ ، وَجَازَ فِي النُّزُولِ ؛ لِأَنَّهُ مُتَطَوِّعٌ بِشَيْءِ مِنْ مَالِهِ ، وَرَبُّ الْمَالِ يُقْبَلُ مِنْهُ الْفَضْلُ ، وَلَا يَجُوزُ لِلسَّاعِي أَنْ يُعْطِيَ الْفَضْلَ مِنْ الْمَسَاكِينِ .
فَإِنْ كَانَ الْمُخْرِجُ وَلِيَّ الْيَتِيمِ ، لَمْ يَجُزْ لَهُ أَيْضًا النُّزُولُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ الْفَضْلَ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ ، فَيَتَعَيَّنُ شِرَاءُ الْفَرْضِ مِنْ غَيْرِ الْمَالِ .

( 1705 ) فَصْلٌ : وَلَا يَدْخُلُ الْجُبْرَانِ فِي غَيْرِ الْإِبِلِ ؛ لِأَنَّ النَّصَّ فِيهَا وَرَدَ ، وَلَيْسَ غَيْرُهَا فِي مَعْنَاهَا ، لِأَنَّهَا أَكْثَرُ قِيمَةً ، وَلِأَنَّ الْغَنَمَ لَا تَخْتَلِفُ فَرِيضَتُهَا بِاخْتِلَافِ سِنِّهَا ، وَمَا بَيْنَ الْفَرِيضَتَيْنِ فِي الْبَقَرِ يُخَالِفُ مَا بَيْنَ الْفَرِيضَتَيْنِ فِي الْإِبِلِ فَامْتَنَعَ الْقِيَاسُ .
فَمِنْ عَدِمَ فَرِيضَةَ الْبَقَرِ أَوْ الْغَنَمِ ، وَوَجَدَ دُونَهَا ، لَمْ يَجُزْ لَهُ إخْرَاجُهَا ، فَإِنْ وَجَدَ أَعْلَى مِنْهَا ، فَأَحَبَّ أَنْ يَدْفَعَهَا مُتَطَوِّعًا بِغَيْرِ جُبْرَانٍ ، قُبِلَتْ مِنْهُ ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ كُلِّفَ شِرَاءَهَا مِنْ غَيْرِ مَالِهِ .

( 1706 ) فَصْلٌ : قَالَ الْأَثْرَمُ : قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ رَحِمَهُ اللَّهُ : تَفْسِيرُ الْأَوْقَاصِ .
قَالَ : الْأَوْقَاصُ مَا بَيْنَ الْفَرِيضَتَيْنِ .
قُلْت لَهُ : كَأَنَّهُ مَا بَيْنَ الثَّلَاثِينَ إلَى الْأَرْبَعِينَ فِي الْبَقَرِ وَمَا أَشْبَهِ هَذَا ؟ قَالَ : نَعَمْ ، وَالسَّبَقُ مَا دُونَ الْفَرِيضَةِ .
قُلْت لَهُ : كَأَنَّهُ مَا دُونَ الثَّلَاثِينَ مِنْ الْبَقَرِ ، وَمَا دُونَ الْفَرِيضَةِ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ .
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ : السَّبَقُ مَا بَيْنَ الْفَرِيضَتَيْنِ أَيْضًا .
قَالَ أَصْحَابُنَا : الزَّكَاةُ تَتَعَلَّقُ بِالنِّصَابِ دُونَ الْوَقْصِ .
وَمَعْنَاهُ : أَنَّهُ إذَا كَانَ عِنْدَهُ أَكْثَرُ مِنْ الْفَرِيضَةِ ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ عِنْده ثَلَاثُونَ مِنْ الْإِبِلِ ، فَالزَّكَاةُ تَتَعَلَّقُ بِخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ ، دُونَ الْخَمْسَةِ الزَّائِدَةِ عَلَيْهَا .
فَعَلَى هَذَا لَوْ وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِيهَا ، وَتَلِفَتْ الْخَمْسُ الزَّائِدَةُ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ أَدَائِهَا ، وَقُلْنَا : إنَّ تَلَفَ النِّصَابِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ يُسْقِطُ الزَّكَاةَ ، لَمْ يَسْقُطْ هَاهُنَا مِنْهَا شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ التَّالِفَ لَمْ تَتَعَلَّقْ الزَّكَاةُ بِهِ ، وَإِنْ تَلِفَ مِنْهَا عَشْرٌ سَقَطَ مِنْ الزَّكَاةِ خُمْسُهَا ؛ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِتَلَفِ جُزْءٍ مِنْ النِّصَابِ ، وَإِنَّمَا تَلِفَ مِنْهَا مِنْ النِّصَابِ خَمْسَةٌ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : لَا تَأْثِيرَ لِتَلَفِ النِّصَابِ فِي إسْقَاطِ الزَّكَاةِ فَلَا فَائِدَةَ فِي الْخِلَافِ عِنْدَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا أَعْلَمُ .
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

بَابُ صَدَقَةِ الْبَقَرِ وَهِيَ وَاجِبَةٌ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ ؛ أَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رَوَى أَبُو ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا مِنْ صَاحِبِ إبِلٍ وَلَا بَقَرٍ وَلَا غَنَمٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاتَهَا ، إلَّا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْظَمَ مَا كَانَتْ وَأَسْمَنَ ، تَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا ، وَتَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا ، كُلَّمَا نَفِدَتْ أُخْرَاهَا عَادَتْ عَلَيْهِ أُولَاهَا ، حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَرَوَى النَّسَائِيّ ، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ مَسْرُوقٍ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ مُعَاذًا إلَى الْيَمَنِ ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا ، وَمِنْ الْبَقَرِ مِنْ كُلِّ ثَلَاثِينَ تَبِيعًا أَوْ تَبِيعَةً ، وَمِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةً } .
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ يَحْيَى بْنِ الْحَكَمِ ، أَنَّ مُعَاذًا قَالَ : { بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُصَدِّقُ أَهْلَ الْيَمَنِ ، وَأَمَرَنِي أَنْ آخُذَ مِنْ الْبَقَرِ مِنْ كُلِّ ثَلَاثِينَ تَبِيعًا ، وَمِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةً .
قَالَ : فَعَرَضُوا عَلَيَّ أَنْ آخُذَ مَا بَيْن الْأَرْبَعِينَ وَالْخَمْسِينَ ، وَمَا بَيْنَ السِّتِّينَ وَالسَّبْعِينَ ، وَمَا بَيْنَ الثَّمَانِينَ وَالتِّسْعِينَ ، فَأَبَيْت ذَلِكَ .
وَقُلْت لَهُمْ : حَتَّى أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَدِمْت ، فَأَخْبَرْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَنِي أَنْ آخُذَ مِنْ كُلِّ ثَلَاثِينَ تَبِيعًا ، وَمِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةً وَمِنْ السِّتِّينَ تَبِيعَيْنِ ، وَمِنْ السَّبْعِينَ مُسِنَّةً وَتَبِيعًا ، وَمِنْ الثَّمَانِينَ مُسِنَّتَيْنِ ، وَمِنْ التِّسْعِينَ ثَلَاثَةَ أَتْبَاعٍ ، وَمِنْ الْمِائَةِ مُسِنَّةً وَتَبِيعَيْنِ ، وَمِنْ الْعَشَرَةِ وَمِائَةٍ مُسِنَّتَيْنِ وَتَبِيعًا ، وَمِنْ الْعِشْرِينَ وَمِائَةٍ ثَلَاثَ مُسِنَّاتٍ أَوْ أَرْبَعَةَ أَتْبَاعٍ ، وَأَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا آخُذَ فِيهَا بَيْنَ ذَلِكَ شَيْئًا إلَّا

إنْ بَلَغَ مُسِنَّةً أَوْ جَذَعًا .
يَعْنِي تَبِيعًا .
وَزَعَمَ أَنَّ الْأَوْقَاصَ لَا فَرِيضَةَ فِيهَا } .
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَلَا أَعْلَمْ اخْتِلَافًا فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْبَقَرِ .
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : لَا أَعْلَمُ النَّاسَ يَخْتَلِفُونَ فِيهِ الْيَوْمَ .
وَلِأَنَّهَا أَحَدُ أَصْنَافِ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ، فَوَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِي سَائِمَتِهَا ، كَالْإِبِلِ وَالْغَنَمِ .

( 1707 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ ثَلَاثِينَ مِنْ الْبَقَرِ سَائِمَةٍ صَدَقَةٌ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِيمَا دُونَ الثَّلَاثِينَ مِنْ الْبَقَرِ فِي قَوْلِ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ .
وَحُكِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، وَالزُّهْرِيِّ أَنَّهُمَا قَالَا : فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ .
وَلِأَنَّهَا عَدَلَتْ بِالْإِبِلِ فِي الْهَدْيِ وَالْأُضْحِيَّةِ ، فَكَذَلِكَ فِي الزَّكَاةِ .
وَلَنَا ، مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْخَبَرِ ، وَلِأَنَّ نُصُبَ الزَّكَاةِ إنَّمَا ثَبَتَتْ بِالنَّصِّ وَالتَّوْقِيفِ ، وَلَيْسَ فِيمَا ذَكَرَاهُ نَصٌّ وَلَا تَوْقِيفٌ ، فَلَا يَثْبُتُ ، وَقِيَاسُهُمْ فَاسِدٌ ، فَإِنَّ خَمْسًا وَثَلَاثِينَ مِنْ الْغَنَمِ تَعْدِلُ خَمْسًا مِنْ الْإِبِلِ فِي الْهَدْيِ ، وَلَا زَكَاةَ فِيهَا .
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ لَا زَكَاةَ فِي غَيْرِ السَّائِمَةِ مِنْ الْبَقَرِ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ .
وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ فِي الْعَوَامِلِ وَالْمَعْلُوفَةِ صَدَقَةٌ ، كَقَوْلِهِ فِي الْإِبِلِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ .
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ الرَّاوِي : أَحْسَبُهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَدَقَةِ الْبَقَرِ ، قَالَ : " وَلَيْسَ فِي الْعَوَامِلِ شَيْءٌ " .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَرُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَيْسَ فِي الْبَقَرِ الْعَوَامِلِ صَدَقَةٌ } .
وَهَذَا مُقَيَّدٌ يُحْمَلُ عَلَيْهِ الْمُطْلَقُ .
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ ، وَمُعَاذٍ ، وَجَابِرٍ ، أَنَّهُمْ قَالُوا : لَا صَدَقَةَ فِي الْبَقَرِ الْعَوَامِلِ .
وَلِأَنَّ صِفَةَ النَّمَاءِ مُعْتَبَرَةٌ فِي الزَّكَاةِ ، وَلَا يُوجَدُ إلَّا فِي السَّائِمَةِ .

( 1708 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَإِذَا مَلَكَ الثَّلَاثِينَ مِنْ الْبَقَرِ ، فَأَسَامَهَا أَكْثَرَ السَّنَةِ ، فَفِيهَا تَبِيعٌ أَوْ تَبِيعَةٌ ، إلَى تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ ، فَإِذَا بَلَغَتْ أَرْبَعِينَ ، فَفِيهَا مُسِنَّةٌ ، إلَى تِسْعٍ وَخَمْسِينَ ، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتِّينَ ، فَفِيهَا تَبِيعَانِ ، إلَى تِسْعٍ وَسِتِّينَ ، فَإِذَا بَلَغَتْ سَبْعِينَ ، فَفِيهَا تَبِيعٌ وَمُسِنَّةٌ ، فَإِذَا زَادَتْ ، فَفِي كُلِّ ثَلَاثِينَ تَبِيعٌ ، وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةٌ ) التَّبِيعُ : الَّذِي لَهُ سَنَةٌ ، وَدَخَلَ فِي الثَّانِيَةِ ، وَقِيلَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يَتْبَعُ أُمَّهُ .
وَالْمُسِنَّةُ : الَّتِي لَهَا سَنَتَانِ ، وَهِيَ الثَّنِيَّةُ .
وَلَا فَرْضَ فِي الْبَقَرِ غَيْرُهُمَا ، وَبِمَا ذَكَرَ الْخِرَقِيِّ هَاهُنَا قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ ؛ مِنْهُمْ الشَّعْبِيُّ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَالْحَسَنُ ، وَمَالِكٍ ، وَاللَّيْثُ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَابْنُ الْمَاجِشُونِ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو عُبَيْدٍ ، وَأَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ ، فِيمَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِينَ بِحِسَابِهِ ، فِي كُلِّ بَقَرَةٍ رُبْعُ عُشْرِ مُسِنَّةٍ .
فِرَارًا مِنْ جَعْلِ الْوَقْصِ تِسْعَةَ عَشَرَ .
وَهُوَ مُخَالِفٌ لِجَمِيعِ أَوْقَاصِهَا ، فَإِنَّ جَمِيعَ أَوْقَاصِهَا عَشَرَةٌ عَشَرَةٌ .
وَلَنَا ، حَدِيثُ يَحْيَى بْنِ الْحَكَمِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ : { فِي كُلِّ ثَلَاثِينَ تَبِيعٌ ؛ وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةٌ } .
يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِهَذَيْنِ الْعَدَدَيْنِ ، وَلِأَنَّ الْبَقَرَ أَحَدُ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ، وَلَا يَجُوزُ فِي زَكَاتِهَا كَسْرٌ كَسَائِرِ الْأَنْوَاعِ ، وَلَا يُنْقَلُ مِنْ فَرْضٍ فِيهَا إلَى فَرْضٍ بِغَيْرِ وَقْصٍ ، كَسَائِرِ الْفُرُوضِ ، وَلِأَنَّ هَذِهِ زِيَادَةٌ لَا يَتِمُّ بِهَا أَحَدُ الْعَدَدَيْنِ ، فَلَا يَجِبُ فِيهَا شَيْءٌ ، كَمَا بَيْنَ الثَّلَاثِينَ وَالْأَرْبَعِينَ ، وَمَا بَيْنَ السِّتِّينَ وَالسَّبْعِينَ ،

وَمُخَالَفَةُ قَوْلِهِمْ لِلْأُصُولِ أَشَدُّ مِنْ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا ، وَعَلَى أَنَّ أَوْقَاصَ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ مُخْتَلِفَةٌ ، فَجَازَ الِاخْتِلَافُ هَاهُنَا .

( 1709 ) فَصْلٌ : وَإِذَا رَضِيَ رَبُّ الْمَالِ بِإِعْطَاءِ الْمُسِنَّةِ عَنْ التَّبِيعِ ، وَالتَّبِيعَيْنِ عَنْ الْمُسِنَّةِ ، أَوْ أَخْرَجَ أَكْثَرَ مِنْهَا سِنًّا عَنْهَا ، جَازَ ، وَلَا مَدْخَلَ لِلْجُبْرَانِ فِيهَا ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي زَكَاةِ الْإِبِلِ .

( 1710 ) فَصْلٌ : وَلَا يُخْرَجُ الذَّكَرُ فِي الزَّكَاةِ أَصْلًا إلَّا فِي الْبَقَرِ ، فَإِنَّ ابْنَ اللَّبُونِ لَيْسَ بِأَصْلٍ ، إنَّمَا هُوَ بَدَلٌ عَنْ ابْنَةِ مَخَاضٍ ، وَلِهَذَا لَا يُجْزِئُ مَعَ وُجُودِهَا ، وَإِنَّمَا يُجْزِئُ الذَّكَرُ فِي الْبَقَرِ عَنْ الثَّلَاثِينَ ، وَمَا تَكَرَّرَ مِنْهَا ، كَالسِّتِّينَ وَالسَّبْعِينَ ، وَمَا تَرَكَّبَ مِنْ الثَّلَاثِينَ وَغَيْرِهَا ، كَالسَّبْعِينَ ، فِيهَا تَبِيعٌ وَمُسِنَّةٌ ، وَالْمِائَةُ فِيهَا مُسِنَّةٌ وَتَبِيعَانِ .
وَإِنْ شَاءَ أَخْرَجَ مَكَانَ الذُّكُورِ إنَاثًا ؛ لِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِهِمَا جَمِيعًا ، فَأَمَّا الْأَرْبَعُونَ وَمَا تَكَرَّرَ مِنْهَا كَالثَّمَانِينَ ، فَلَا يُجْزِئُ فِي فَرْضِهَا إلَّا الْإِنَاثُ ، إلَّا أَنْ يُخْرِجَ عَنْ الْمُسِنَّةِ تَبِيعِينَ ، فَيَجُوزُ .
وَإِذَا بَلَغْت الْبَقَرُ مِائَةً وَعِشْرِينَ ، اتَّفَقَ الْفَرْضَانِ جَمِيعًا ، فَيُخَيَّرُ رَبُّ الْمَالِ بَيْنَ إخْرَاجِ ثَلَاثِ مُسِنَّاتٍ ، أَوْ أَرْبَعَةِ أَتْبِعَةٍ ، وَالْوَاجِبُ أَحَدُهُمَا ، أَيَّهُمَا شَاءَ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ الْخَبَرُ الْمَذْكُورُ ، وَالْخِيَرَةُ فِي الْإِخْرَاجِ إلَى رَبِّ الْمَالِ ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي زَكَاةِ الْإِبِلِ .
وَهَذَا التَّفْصِيلُ فِيمَا إذَا كَانَ فِيهَا إنَاثٌ ، فَإِنْ كَانَتْ كُلُّهَا ذُكُورًا ، أَجْزَأَ الذَّكَرُ فِيهَا بِكُلِّ حَالٍ ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ مُوَاسَاةٌ ، فَلَا يُكَلَّفُ الْمُوَاسَاةَ مِنْ غَيْرِ مَالِهِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ إلَّا إنَاثٌ فِي الْأَرْبَعِينِيَّات ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصَّ عَلَى الْمُسِنَّاتِ ، فَيَجِبُ اتِّبَاعُ مَوْرِدِهِ ، فَيُكَلَّفُ شِرَاءَهَا ، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ فِي مَاشِيَتِهِ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَجِدْ إلَّا دُونَهَا فِي السِّنِّ ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّنَا أَخَّرْنَا الذَّكَرَ فِي الْغَنَمِ ، مَعَ أَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي زَكَاتِهَا مَعَ وُجُودِ الْإِنَاثِ ، فَالْبَقَرُ الَّتِي لِلذَّكَرِ فِيهَا مَدْخَلٌ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ لِلذَّكَرِ فِيهَا مَدْخَلًا .

( 1711 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَالْجَوَامِيسُ كَغَيْرِهَا مِنْ الْبَقَرِ ) لَا خِلَافَ فِي هَذَا نَعْلَمُهُ .
وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ يُحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى هَذَا ، وَلِأَنَّ الْجَوَامِيسَ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَقَرِ ، كَمَا أَنَّ الْبَخَاتِيَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِبِلِ ، فَإِذَا اتَّفَقَ فِي الْمَالِ جَوَامِيسُ وَصِنْفٌ آخَرُ مِنْ الْبَقَرِ ، أَوْ بَخَاتِيٌّ وَعِرَابٌ ، أَوْ مَعْزٌ وَضَأْنٌ ، كَمَّلَ نِصَابَ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ ، وَأَخَذَ الْفَرْضَ مِنْ أَحَدِهِمَا عَلَى قَدْرِ الْمَالَيْنِ .
عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

فَصْلٌ : وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي بَقَرِ الْوَحْشِ ، فَرُوِيَ أَنَّ فِيهَا الزَّكَاةَ .
اخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْبَقَرِ يَشْمَلُهَا ، فَيَدْخُلُ فِي مُطْلَقِ الْخَبَرِ .
وَعَنْهُ لَا زَكَاةَ فِيهَا .
وَهِيَ أَصَحُّ ، وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْبَقَرِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ لَا يَنْصَرِفُ إلَيْهَا ، وَلَا يُفْهَمُ مِنْهُ ، إذَا كَانَتْ لَا تُسَمَّى بَقَرًا بِدُونِ الْإِضَافَةِ ، فَيُقَالُ : بَقَرُ الْوَحْشِ .
وَلِأَنَّ وُجُودَ نِصَابٍ مِنْهَا مَوْصُوفًا بِصِفَةِ السَّوْمِ حَوْلًا لَا وُجُودَ لَهُ ، وَلِأَنَّهَا حَيَوَانٌ لَا يُجْزِئُ نَوْعُهُ فِي الْأُضْحِيَّةِ وَالْهَدْيِ ، فَلَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ ، كَالظِّبَاءِ ، وَلِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ، فَلَا تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ ، كَسَائِرِ الْوُحُوشِ ، وَسِرُّ ذَلِكَ أَنَّ الزَّكَاةَ إنَّمَا وَجَبَتْ فِي بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ دُونَ غَيْرِهَا ، لِكَثْرَةِ النَّمَاءِ فِيهَا مِنْ دَرِّهَا وَنَسْلِهَا ، وَكَثْرَةِ الِانْتِفَاعِ بِهَا ، لِكَثْرَتِهَا وَخِفَّةِ مَئُونَتِهَا ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَخْتَصُّ بِهَا ، فَاخْتَصَّتْ الزَّكَاةُ بِهَا دُونَ غَيْرِهَا ، وَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الظِّبَاءِ ، رِوَايَةً وَاحِدَةً ؛ لِعَدَمِ تَنَاوُلِ اسْمِ الْغَنَمِ لَهَا .

( 1713 ) فَصْلٌ : قَالَ أَصْحَابُنَا : تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الْمُتَوَلِّدِ بَيْنَ الْوَحْشِيِّ وَالْأَهْلِيِّ ، سَوَاءٌ كَانَتْ الْوَحْشِيَّةُ الْفُحُولَ أَوْ الْأُمَّهَاتِ .
وَقَالَ مَالِكٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ : إنْ كَانَتْ الْأُمَّهَاتُ أَهْلِيَّةً وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِيهَا ، وَإِلَّا فَلَا ؛ لِأَنَّ وَلَدَ الْبَهِيمَةِ يَتْبَعُ أُمَّهُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا زَكَاةَ فِيهَا ؛ لِأَنَّهَا مُتَوَلِّدَةٌ مِنْ وَحْشِيٍّ ، أَشْبَهَ الْمُتَوَلِّدَ مِنْ وَحْشِيَّيْنِ .
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِأَنَّهَا مُتَوَلِّدَةٌ بَيْنَ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ ، وَمَا لَا تَجِبُ فِيهِ ، فَوَجَبَتْ فِيهَا الزَّكَاةُ ، كَالْمُتَوَلِّدَةِ بَيْنِ سَائِمَةٍ وَمَعْلُوفَةٍ .
وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ غَنَمَ مَكَّةَ مُتَوَلِّدَةٌ مِنْ الظِّبَاءِ وَالْغَنَمِ ، وَفِيهَا الزَّكَاةُ بِالِاتِّفَاقِ ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تُضَمُّ إلَى جِنْسِهَا مِنْ الْأَهْلِيِّ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ ، وَتُكْمَلُ بِهَا نِصَابُهُ ، وَتَكُونُ كَأَحَدِ أَنْوَاعِهِ ، وَالْقَوْلُ بِانْتِفَاءِ الزَّكَاةِ فِيهَا أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ انْتِفَاءُ الْوُجُوبِ ، وَإِنَّمَا ثَبَتَ بِنَصِّ أَوْ إجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ ، وَلَا نَصَّ فِي هَذِهِ وَلَا إجْمَاعَ ، إنَّمَا هُوَ فِي بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ مِنْ الْأَزْوَاجِ الثَّمَانِيَةِ ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ دَاخِلَةً فِي أَجْنَاسِهَا ، وَلَا حُكْمِهَا ، وَلَا حَقِيقَتِهَا ، وَلَا مَعْنَاهَا .
فَإِنَّ الْمُتَوَلِّدَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ يَنْفَرِدُ بِاسْمِهِ وَجِنْسِهِ وَحُكْمِهِ عَنْهُمَا ، كَالْبَغْلِ الْمُتَوَلِّدِ بَيْنَ الْفَرَسِ وَالْحِمَارِ ، وَالسَّبْعِ الْمُتَوَلِّدِ بَيْنَ الذِّئْبِ وَالضَّبُعِ ، وَالْعِسْبَارِ الْمُتَوَلِّدِ بَيْنَ الضَّبُعَانِ وَالذِّئْبَةِ ، فَكَذَلِكَ الْمُتَوَلِّدُ بَيْنَ الظِّبَاءِ وَالْمَعْزِ لَيْسَ بِمَعْزٍ وَلَا ظَبْيٍ ، وَلَا يَتَنَاوَلُهُ نُصُوصُ الشَّارِعِ ، وَلَا يُمْكِنُ قِيَاسُهُ عَلَيْهَا ، لِتَبَاعُدِ مَا بَيْنَهُمَا ، وَاخْتِلَافِ حُكْمِهِمَا ، فِي كَوْنِهِ لَا يُجْزِئُ فِي هَدْيٍ وَلَا أُضْحِيَّةٍ وَلَا دِيَةٍ ، وَلَوْ أَسْلَمَ فِي الْغَنَمِ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْعَقْدُ ، وَلَوْ وَكَّلَ وَكِيلًا فِي شِرَاءِ شَاةٍ ، لَمْ

يَدْخُلْ فِي الْوَكَالَةِ ، وَلَا يَحْصُلُ مِنْهُ مَا يَحْصُلُ مِنْ الشِّيَاهِ ؛ مِنْ الدَّرِّ ، وَكَثْرَةِ النَّسْلِ ، بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَنْسَلُّ لَهُ أَصْلًا ، فَإِنَّ الْمُتَوَلِّدَ بَيْنَ ثِنْتَيْنِ لَا نَسْلَ لَهُ كَالْبِغَالِ ، وَمَا لَا نَسْلَ لَهُ لَا دَرَّ فِيهِ ، فَامْتَنَعَ الْقِيَاسُ ، وَلَمْ يَدْخُلْ فِي نَصٍّ وَلَا إجْمَاعٍ ، فَإِيجَابُ الزَّكَاةِ فِيهَا تَحَكُّمٌ بِالرَّأْيِ .
وَإِذَا قِيلَ : تَجِبُ الزَّكَاةُ احْتِيَاطًا وَتَغْلِيبًا لِلْإِيجَابِ ، كَمَا أَثْبَتِنَا التَّحْرِيمَ فِيهَا فِي الْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ احْتِيَاطًا .
لَمْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَاتِ لَا تَثْبُتُ احْتِيَاطًا بِالشَّكِّ ، وَلِهَذَا لَا تَجِبُ الطَّهَارَةُ عَلَى مَنْ تَيَقَّنَهَا ، وَشَكَّ فِي الْحَدَثِ ، وَلَا غَيْرِهَا مِنْ الْوَاجِبَاتِ .
وَأَمَّا السَّوْمُ وَالْعَلَفُ فَالِاعْتِبَارُ فِيهِ بِمَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ ، لَا بِأَصْلِهِ الَّذِي تَوَلَّدَ مِنْهُ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ عَلَفَ الْمُتَوَلِّدَ مِنْ السَّائِمَةِ لَمْ تَجِبْ زَكَاتُهُ ، وَلَوْ أَسَامَ أَوْلَادَ الْمَعْلُوفَةِ ، لَوَجَبَتْ زَكَاتُهَا .
وَقَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ غَنَمَ مَكَّةَ مُتَوَلِّدَةٌ مِنْ الْغَنَمِ وَالظِّبَاءِ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَحُرِّمَتْ فِي الْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ ، وَوَجَبَ فِيهَا الْجَزَاءُ ، كَسَائِرِ الْمُتَوَلِّدِ بَيْنَ الْوَحْشِيِّ وَالْأَهْلِيِّ ، وَلِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ مُتَوَلِّدَةً مِنْ جِنْسَيْنِ لَمَا كَانَ لَهَا نَسْلٌ كَالسَّبُعِ وَالْبِغَالِ .

بَابُ صَدَقَةِ الْغَنَمِ وَهِيَ وَاجِبَةٌ بِالسُّنَّةِ ، وَالْإِجْمَاعِ ؛ أَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رَوَى أَنَسٌ ، فِي كِتَابِ أَبِي بَكْرٍ ، الَّذِي ذَكَرْنَا أَوَّلَهُ ، قَالَ : { وَفِي صَدَقَةِ الْغَنَمِ فِي سَائِمَتِهَا ، إذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ ، شَاةٌ ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ إلَى مِائَتَيْنِ ، فَفِيهَا شَاتَانِ ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى مِائَتَيْنِ إلَى ثَلَاثِمِائَةٍ ، فَفِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى ثَلَاثِمِائَةٍ ، فَفِي كُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ ، وَإِذَا كَانَتْ سَائِمَةُ الرَّجُلِ نَاقِصَةً مِنْ أَرْبَعِينَ شَاةً وَاحِدَةً ، فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ إلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا ، وَلَا يُخْرِجُ فِي الصَّدَقَةِ هَرِمَةً ، وَلَا ذَاتَ عَوَارٍ ، وَلَا تَيْسًا ، إلَّا مَا شَاءَ الْمُصَدِّقُ } .
وَاخْتَارَ سِوَى هَذَا كَثِيرٌ ، وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهَا .
( 1714 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ : ( وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ أَرْبَعِينَ مِنْ الْغَنَمِ سَائِمَةٍ صَدَقَةٌ ، فَإِذَا مَلَكَ أَرْبَعِينَ مِنْ الْغَنَمِ ، فَأَسَامَهَا أَكْثَرَ السَّنَةِ ، فَفِيهَا شَاةٌ ، إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ ، فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةً ، فَفِيهَا شَاتَانِ إلَى مِائَتَيْنِ ، فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةً ، فَفِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ ) وَهَذَا كُلُّهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ .
قَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ : إلَّا الْمَعْلُوفَةَ فِي أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ الْحَوْلِ ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْخِلَافِ فِيهِ .
وَحُكِيَ عَنْ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْفَرْضَ لَا يَتَغَيَّرُ بَعْدَ الْمِائَةِ وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ ، حَتَّى تَبْلُغَ مِائَتَيْنِ وَاثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ ، لِيَكُونَ مِثْلَيْ مِائَةٍ وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ .
وَلَا يَثْبُتُ عَنْهُ .
وَرَوَى سَعِيدٌ ، عَنْ خَالِدِ ، بْنِ مُغِيرَةَ ، عَنْ الشَّعْبِيِّ ، عَنْ مُعَاذٍ ، قَالَ : كَانَ إذَا بَلَغَتْ الشِّيَاهُ مِائَتَيْنِ لَمْ يُغَيِّرْهَا ، حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ ، فَيَأْخُذَ مِنْهَا ثَلَاثَ شِيَاهٍ ، فَإِذَا بَلَغَتْ ثَلَاثَمِائَةٍ ، لَمْ يُغَيِّرْهَا ، حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ وَثَلَاثَمِائَةٍ ، فَيَأْخُذَ مِنْهَا أَرْبَعًا .

وَلَفْظُ الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ دَلِيلٌ عَلَيْهِ ، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى خِلَافِ هَذَا الْقَوْلِ دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِهِ ، وَالشَّعْبِيُّ لَمْ يَلْقَ مُعَاذًا .
( 1715 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( فَإِذَا زَادَتْ فَفِي كُلِّ مِائَةِ شَاةٍ شَاةٌ ) ظَاهِرُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الْفَرْضَ لَا يَتَغَيَّرُ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ وَوَاحِدَةٍ ، حَتَّى يَبْلُغَ أَرْبَعَمِائَةٍ ، فَيَجِبُ فِي كُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ ، وَيَكُونُ الْوَقْصُ مَا بَيْنَ الْمِائَتَيْنِ وَوَاحِدَةٍ إلَى أَرْبَعِمِائَةٍ ، وَذَلِكَ مِائَةٌ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ .
وَهَذَا إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ ، وَقَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ .
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى ، أَنَّهَا إذَا زَادَتْ عَلَى ثَلَاثِمِائَةٍ وَوَاحِدَةٍ ، فَفِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ ، ثُمَّ لَا يَتَغَيَّرُ الْفَرْضُ حَتَّى تَبْلُغَ خَمْسَمِائَةٍ ، فَيَكُونُ فِي كُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ ، وَيَكُونُ الْوَقْصُ الْكَبِيرُ بَيْنَ ثَلَاثِمِائَةٍ وَوَاحِدَةٍ إلَى خَمْسِمِائَةٍ ، وَهُوَ أَيْضًا مِائَةٌ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ ، وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ .
وَحُكِيَ عَنْ النَّخَعِيِّ ، وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ الثَّلَاثَمِائَةِ حَدًّا لِلْوَقْصِ ، وَغَايَةً لَهُ ، فَيَجِبُ أَنْ يَتَعَقَّبَهُ تَغَيُّرُ النِّصَابِ ، كَالْمِائَتَيْنِ .
وَلَنَا ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { فَإِذَا زَادَتْ ، فَفِي كُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ } .
وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَجِبَ فِي دُونِ الْمِائَةِ شَيْءٌ ، وَفِي كِتَابِ الصَّدَقَاتِ الَّذِي كَانَ عِنْدَ الْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ : " فَإِذَا زَادَتْ عَلَى ثَلَاثِمِائَةِ وَوَاحِدَةٍ ، فَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ ، حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعَمِائَةِ شَاةٍ ، فَفِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ " .
وَهَذَا نَصٌّ لَا يَجُوزُ خِلَافُهُ إلَّا بِمِثْلِهِ أَوْ أَقْوَى مِنْهُ ، وَتَحْدِيدُ النِّصَابِ لِاسْتِقْرَارِ الْفَرِيضَةِ ، لَا لِلْغَايَةِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( 1716 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَلَا يُؤْخَذُ فِي الصَّدَقَةِ تَيْسٌ ، وَلَا هَرِمَةٌ ، وَلَا ذَاتُ عَوَارٍ ) ذَاتُ الْعَوَارِ : الْمَعِيبَةُ .
وَهَذِهِ الثَّلَاثُ لَا تُؤْخَذُ لِدَنَاءَتِهَا ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ } .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : وَلَا يُخْرَجُ فِي الصَّدَقَةِ هَرِمَةٌ ، وَلَا ذَاتُ عَوَارٍ ، وَلَا تَيْسٌ ، إلَّا مَا شَاءَ الْمُصَدِّقُ } .
وَقَدْ قِيلَ : لَا يُؤْخَذُ تَيْسُ الْغَنَمِ ، وَهُوَ فَحْلُهَا لِفَضِيلَتِهِ .
وَكَانَ أَبُو عُبَيْدٍ يَرْوِي الْحَدِيثَ : " إلَّا مَا شَاءَ الْمُصَدَّقُ " .
بِفَتْحِ الدَّالِ .
يَعْنِي صَاحِبَ الْمَالِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْحَدِيثِ رَاجِعًا إلَى التَّيْسِ وَحْدَهُ .
وَذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ أَنَّ جَمِيعَ الرُّوَاةِ يُخَالِفُونَهُ فِي هَذَا ، فَيَرْوُونَهُ : " الْمُصَدِّقُ " بِكَسْرِ الدَّالِ ، أَيْ الْعَامِلُ .
وَقَالَ : التَّيْسُ لَا يُؤْخَذُ ؛ لِنَقْصِهِ ، وَفَسَادِ لَحْمِهِ ، وَكَوْنِهِ ذَكَرًا ، وَعَلَى هَذَا لَا يَأْخُذُ الْمُصَدِّقُ ، وَهُوَ السَّاعِي ، أَحَدَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ ، إلَّا أَنْ يَرَى ذَلِكَ ، بِأَنْ يَكُونَ جَمِيعُ النِّصَابِ مِنْ جِنْسِهِ فَيَكُونَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ جِنْسِ الْمَالِ فَيَأْخُذَ هَرِمَةً ، وَهِيَ الْكَبِيرَةُ مِنْ الْهَرِمَاتِ ، وَذَاتَ عَوَارٍ مِنْ أَمْثَالِهَا ، وَتَيْسًا مِنْ التُّيُوسِ .
وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ إنَّ رَأَى الْمُصَدِّقُ أَنَّ أَخْذَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ خَيْرٌ لَهُ ، وَأَنْفَعُ لِلْفُقَرَاءِ ، فَلَهُ أَخْذُهُ ؛ لِظَاهِرِ الِاسْتِثْنَاءِ .
وَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَخْذُ الذَّكَرِ فِي شَيْءٍ مِنْ الزَّكَاةِ ، إذَا كَانَ فِي النِّصَابِ إنَاثٌ ، فِي غَيْرِ أَتْبِعَةِ الْبَقَرِ وَابْنِ اللَّبُونِ ، بَدَلًا عَنْ بِنْتِ مَخَاضٍ إذَا عَدِمَهَا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجُوزُ إخْرَاجُ الذَّكَرِ مِنْ الْغَنَمِ الْإِنَاثِ ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ } .
وَلَفْظُ الشَّاةِ يَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى ، وَلِأَنَّ الشَّاةَ إذَا أُمِرَ بِهَا مُطْلَقًا ،

أَجْزَأَ فِيهَا الذَّكَرُ ، كَالْأُضْحِيَّةِ وَالْهَدْيِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ حَيَوَانٌ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهِ ، فَكَانَتْ الْأُنُوثَةُ مُعْتَبَرَةً فِي فَرْضِهِ ، كَالْإِبِلِ ، وَالْمُطْلَقُ يَتَقَيَّدُ بِالْقِيَاسِ عَلَى سَائِرِ النُّصُبِ ، وَالْأُضْحِيَّةُ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ بِالْمَالِ ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا .
فَإِنْ قِيلَ : فَمَا فَائِدَةُ تَخْصِيصِ التَّيْسِ بِالنَّهْيِ إذَا ؟ قُلْنَا : لِأَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ عَنْ الذُّكُورِ أَيْضًا ، فَلَوْ مَلَكَ أَرْبَعِينَ ذَكَرًا وَفِيهَا تَيْسٌ مُعَدٌّ لِلضِّرَابِ ، لَمْ يَجُزْ أَخْذُهُ ؛ إمَّا لِفَضِيلَتِهِ ، فَإِنَّهُ لَا يُعَدُّ لِلضِّرَابِ إلَّا أَفْضَلُ الْغَنَمِ وَأَعْظَمُهَا ، وَإِمَّا لِدَنَاءَتِهِ وَفَسَادِ لَحْمِهِ .
وَيَجُوزُ أَنْ يُمْنَعَ مِنْ أَخْذِهِ لِلْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا .
وَإِنْ كَانَ النِّصَابُ كُلُّهُ ذُكُورًا ، جَازَ إخْرَاجُ الذَّكَرِ فِي الْغَنَمِ وَجْهًا وَاحِدًا ، وَفِي الْبَقَرِ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ ، وَفِي الْإِبِلِ وَجْهَانِ .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ النُّصُبِ الثَّلَاثَةِ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصَّ عَلَى الْأُنْثَى فِي فَرَائِضِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ ، وَأَطْلَقَ الشَّاةَ الْوَاجِبَةَ ، وَقَالَ فِي الْإِبِلِ { مَنْ لَمْ يَجِدْ بِنْتَ مَخَاضٍ ، أَخْرَجَ ابْنَ لَبُونٍ ذَكَرًا } .
وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَنَّ الْإِبِلَ يَتَغَيَّرُ فَرْضُهَا بِزِيَادَةِ السِّنِّ ، فَإِذَا جَوَّزْنَا إخْرَاجَ الذَّكَرِ أَفْضَى إلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْفَرِيضَتَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ يُخْرِجُ ابْنَ لَبُونٍ عَنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ ، وَيُخْرِجُهُ عَنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَخْتَصُّ الْإِبِلَ .
فَإِنْ قِيلَ : فَالْبَقَرُ أَيْضًا يَأْخُذُ مِنْهَا تَبِيعًا عَنْ ثَلَاثِينَ ، وَتَبِيعًا عَنْ أَرْبَعِينَ إذَا كَانَتْ أَتْبِعَةً كُلُّهَا ، وَقُلْنَا : تُؤْخَذُ الصَّغِيرَةُ عَنْ الصِّغَارِ .
قُلْنَا : هَذَا يَلْزَمُ مِثْلُهُ فِي إخْرَاجِ الْأُنْثَى ، فَلَا فَرْقَ ، وَمِنْ جَوَّزَ إخْرَاجَ الذَّكَرِ فِي الْكُلِّ ، قَالَ : يَأْخُذُ ابْنَ لَبُونٍ مِنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ ، قِيمَتُهُ دُونَ قِيمَةِ ابْنِ لَبُونٍ يَأْخُذُهُ مِنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ ، وَيَكُونُ

بَيْنَهُمَا فِي الْقِيمَةِ كَمَا بَيْنَهُمَا فِي الْعَدَدِ ، وَيَكُونُ الْفَرْضُ بِصِفَةِ الْمَالِ ، وَإِذَا اعْتَبَرْنَا الْقِيمَةَ لَمْ يُؤَدِّ إلَى التَّسْوِيَةِ ، كَمَا قُلْنَا فِي الْغَنَمِ .

( 1717 ) فَصْلٌ : وَلَا يَجُوزُ إخْرَاجُ الْمَعِيبَةِ عَنْ الصِّحَاحِ ، وَإِنْ كَثُرَتْ قِيمَتُهَا ؛ لِلنَّهْيِ عَنْ أَخْذِهَا ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِالْفُقَرَاءِ ، وَلِهَذَا يَسْتَحِقُّ رَدَّهَا فِي الْبَيْعِ وَإِنْ كَثُرَتْ قِيمَتُهَا وَإِنْ كَانَ فِي النِّصَابِ صِحَاحٌ وَمِرَاضٌ ، أَخْرَجَ صَحِيحَةً ، قِيمَتُهَا عَلَى قَدْرِ قِيمَةِ الْمَالَيْنِ ، فَإِنْ كَانَ النِّصَابُ كُلُّهُ مِرَاضًا إلَّا مِقْدَارَ الْفَرْضِ ، فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ إخْرَاجِهِ ، وَبَيْنَ شِرَاءِ مَرِيضَةٍ قَلِيلَةِ الْقِيمَةِ فَيُخْرِجُهَا ، وَلَوْ كَانَتْ الصَّحِيحَةُ غَيْرَ الْفَرِيضَةِ بِعَدَدِ الْفَرِيضَةِ ، مِثْلُ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ ابْنَتَا لَبُونٍ ، وَعِنْدَهُ حِوَارَانِ صَحِيحَانِ ، كَانَ عَلَيْهِ شِرَاءُ صَحِيحَتَيْنِ ، فَيُخْرِجُهُمَا .
وَإِنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ حِقَّتَانِ وَعِنْدَهُ ابْنَتَا لَبُونٍ صَحِيحَتَانِ ، خُيِّرَ بَيْنَ إخْرَاجِهِمَا مَعَ الْجُبْرَانِ ، وَبَيْنَ شِرَاءِ حِقَّتَيْنِ صَحِيحَتَيْنِ عَلَى قَدْرِ قِيمَةِ الْمَالِ .
وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ جَذَعَتَانِ صَحِيحَتَانِ ، فَلَهُ إخْرَاجُهُمَا مَعَ أَخْذِ الْجُبْرَانِ .
وَإِنْ كَانَتْ عَلَيْهِ حِقَّتَانِ وَنِصْفُ مَالِهِ صَحِيحٌ وَنِصْفُهُ مَرِيضٌ فَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ لَهُ إخْرَاجُ حِقَّةٍ صَحِيحَةٍ ، وَحِقَّةٍ مَرِيضَةٍ ؛ لِأَنَّ النِّصْفَ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ إحْدَى الْحِقَّتَيْنِ مَرِيضٌ كُلُّهُ .
وَالصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ خِلَافُ هَذَا ؛ لِأَنَّ فِي مَالِهِ صَحِيحًا وَمَرِيضًا ، فَلَمْ يَمْلِكْ إخْرَاجَ مَرِيضَةٍ ، كَمَا لَوْ كَانَ نِصَابًا وَاحِدًا ، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ النِّصْفُ الَّذِي وَجَبَتْ فِيهِ الْحِقَّةُ فِي الْمِرَاضِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ لِشَرِيكَيْنِ ، لَمْ يَتَعَيَّنْ حَقُّ أَحَدِهِمَا فِي الْمِرَاضِ دُونَ الْآخَرِ .
وَإِنْ كَانَ النِّصَابُ مِرَاضًا كُلُّهُ ، فَالصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ جَوَازُ إخْرَاجِ الْفَرْضِ مِنْهُ ، وَيَكُونُ وَسَطًا فِي الْقِيمَةِ ، وَلَا اعْتِبَارَ بِقِلَّةِ الْعَيْبِ وَكَثْرَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ تَأْتِي عَلَى ذَلِكَ .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَقَالَ مَالِكٌ إنْ كَانَتْ كُلُّهَا جَرْبَاءَ أَخْرَجَ جَرْبَاءَ ، وَإِنْ

كَانَتْ كُلُّهَا هَتْمَاءَ كُلِّفَ شِرَاءَ صَحِيحَةٍ .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لَا تُجْزِئُ إلَّا صَحِيحَةٌ لِأَنَّ أَحْمَدَ قَالَ : لَا يُؤْخَذُ إلَّا مَا يَجُوزُ فِي الْأَضَاحِيِّ ، وَلِلنَّهْيِ عَنْ أَخْذِ ذَاتِ الْعَوَارِ ، فَعَلَى هَذَا يُكَلَّفُ شِرَاءَ صَحِيحَةٍ بِقَدْرِ قِيمَةِ الْمَرِيضَةِ .
وَلَنَا ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : إيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ } وَقَالَ { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَسْأَلْكُمْ خَيْرَهُ ، وَلَمْ يَأْمُرْكُمْ بِشَرِّهِ .
} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَلِأَنَّ مَبْنَى الزَّكَاةِ عَلَى الْمُوَاسَاةِ ، وَتَكْلِيفُ الصَّحِيحَةِ عَنْ الْمِرَاضِ إخْلَالٌ بِالْمُوَاسَاةِ ، وَلِهَذَا يَأْخُذُ مِنْ الرَّدِيءِ مِنْ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ مِنْ جِنْسِهِ ، وَيَأْخُذُ مِنْ اللِّئَامِ وَالْهُزَالِ مِنْ الْمَوَاشِي مِنْ جِنْسِهِ ، كَذَا هَاهُنَا .
وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ إخْرَاجِ الْمَعِيبَةِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ ، أَوْ نَحْمِلُهُ عَلَى مَا إذَا كَانَ فِيهِ صَحِيحٌ ، فَإِنَّ الْغَالِبَ الصِّحَّةُ ، وَإِنْ كَانَ جَمِيعُ النِّصَابِ مَرِيضًا إلَّا بَعْضَ الْفَرِيضَةِ ، أَخْرَجَ الصَّحِيحَةَ ، وَتَمَّمَ الْفَرِيضَةَ مِنْ الْمِرَاضِ عَلَى قَدْرِ الْمَالِ ، وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ ، وَالْحُكْمُ فِي الْهَرِمَةِ كَالْحُكْمِ فِي الْمَعِيبَةِ سَوَاءٌ .

( 1718 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَلَا الرُّبَى ، وَلَا الْمَاخِضُ ، وَلَا الْأَكُولَةُ ) قَالَ أَحْمَدُ : الرُّبَى الَّتِي قَدْ وَضَعَتْ وَهِيَ تُرَبِّي وَلَدَهَا .
يَعْنِي قَرِيبَةَ الْعَهْدِ بِالْوِلَادَةِ .
تَقُولُ الْعَرَبُ : فِي رُبَابِهَا .
كَمَا تَقُولُ : فِي نِفَاسِهَا .
قَالَ الشَّاعِرُ : حُنَيْنَ أُمِّ الْبَوِّ فِي رُبَابِهَا قَالَ أَحْمَدُ : وَالْمَاخِضُ الَّتِي قَدْ حَانَ وِلَادُهَا ، فَإِنْ كَانَ فِي بَطْنِهَا وَلَدٌ لَمْ يَحِنْ وِلَادُهَا ، فَهِيَ خِلْفَةٌ وَهَذِهِ الثَّلَاثُ لَا تُؤْخَذُ لِحَقِّ رَبِّ الْمَالِ .
قَالَ عُمَرُ لِسَاعِيهِ : لَا تَأْخُذْ الرُّبَى وَلَا الْمَاخِضَ ، وَلَا الْأَكُولَةَ ، وَلَا فَحْلَ الْغَنَمِ .
وَإِنْ تَطَوَّعَ رَبُّ الْمَالِ بِإِخْرَاجِهَا جَازَ أَخْذُهَا ، وَلَهُ ثَوَابُ الْفَضْلِ ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ .
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ، وَأَنَّهُ مُنِعَ مِنْ أَخْذِ الرَّدِيءِ مِنْ أَجْلِ الْفُقَرَاءِ ، وَمِنْ أَخْذِ كَرَائِمِ الْأَمْوَالِ مِنْ أَجْلِ أَرْبَابِهِ ، ثَبَتَ أَنَّ الْحَقَّ فِي الْوَسَطِ مِنْ الْمَالِ .
قَالَ الزُّهْرِيُّ إذَا جَاءَ الْمُصَدِّقُ قَسَّمَ الشِّيَاهَ أَثْلَاثًا : ثُلُثٌ خِيَارٌ ، وَثُلُثٌ أَوْسَاطٌ وَثُلُثٌ شِرَارٌ ، وَأَخَذَ الْمُصَدِّقُ مِنْ الْوَسَطِ .
وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَقَالَهُ إمَامُنَا ، وَذَهَبَ إلَيْهِ .
وَالْأَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى هَذَا ، فَرَوَى أَبُو دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ ، بِإِسْنَادِهِمَا عَنْ سَعْدِ بْنِ دُلَيْمٍ ، { قَالَ : كُنْت فِي غَنَمٍ لِي ، فَجَاءَنِي رَجُلَانِ عَلَى بَعِيرٍ ، فَقَالَا : إنَّا رَسُولَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْكَ ؛ لِتُؤَدِّيَ إلَيْنَا صَدَقَةَ غَنَمِك ، قُلْت : وَمَا عَلَيَّ فِيهَا ؟ قَالَا : شَاةٌ .
فَعَمَدَ إلَى شَاةٍ قَدْ عَرَفَ مَكَانَهَا مُمْتَلِئَةً مَخْضًا وَشَحْمًا ، فَأَخْرَجَهَا إلَيْهِمَا .
فَقَالَا : هَذِهِ شَافِعٌ ، وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَأْخُذَ شَاةً شَافِعًا .
} وَالشَّافِعُ : الْحَامِلُ ؛ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ وَلَدَهَا قَدْ شَفَعَهَا ، وَالْمَخْضُ : اللَّبَنُ .
{ وَقَالَ سُوَيْد بْنُ غَفَلَةَ

: سِرْت ، أَوْ أَخْبَرَنِي مَنْ سَارَ ، مَعَ مُصَدِّقِ رَسُولِ اللَّهِ فَإِذَا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا نَأْخُذَ مِنْ رَاضِعِ لَبَنٍ .
قَالَ : فَكَانَ يَأْتِي الْمِيَاهَ حِينَ تَرِدُ الْغَنَمُ فَيَقُولُ : أَدُّوا صَدَقَاتِ أَمْوَالِكُمْ .
قَالَ : فَعَمَدَ رَجُلٌ مِنْهُمْ إلَى نَاقَةٍ كَوْمَاءَ ، وَهِيَ الْعَظِيمَةُ السَّنَامِ ، فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { ثَلَاثٌ مَنْ فَعَلَهُنَّ فَقَدْ طَعِمَ طَعْمَ الْإِيمَانِ : مَنْ عَبَدَ اللَّهَ وَحْدَهُ ، وَأَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ ، وَأَعْطَى زَكَاةَ مَالِهِ طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُهُ ، رَافِدَةً عَلَيْهِ كُلَّ عَامٍ ، وَلَمْ يُعْطِ الْهَرِمَةَ ، وَلَا الدَّرِنَةَ ، وَلَا الْمَرِيضَةَ ، وَلَا الشَّرَطَ اللَّئِيمَةَ ، وَلَكِنْ مِنْ وَسَطِ أَمْوَالِكُمْ ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَسْأَلْكُمْ خَيْرَهُ ، وَلَمْ يَأْمُرْكُمْ بِشَرِّهِ .
} رَافِدَةً : يَعْنِي مَعِيبَةً ، وَالدَّرِنَةُ : الْجَرْبَاءُ ، وَالشَّرَطُ : رَذَالَةُ الْمَالِ .

( 1719 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَتُعَدُّ عَلَيْهِمْ السَّخْلَةُ ، وَلَا تُؤْخَذُ مِنْهُمْ ) السَّخْلَةُ ، بِفَتْحِ السِّينِ وَكَسْرِهَا : الصَّغِيرَةُ مِنْ أَوْلَادِ الْمَعْزِ .
وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ مَتَى كَانَ عِنْدَهُ نِصَابٌ كَامِلٌ فَنُتِجَتْ مِنْهُ سِخَالٌ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ ، وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِي الْجَمِيعِ عِنْدَ تَمَامِ حَوْلِ الْأُمَّهَاتِ ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَحُكِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ لَا زَكَاةَ فِي السِّخَالِ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ .
وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ .
} وَلَنَا ، مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِسَاعِيهِ : اعْتَدَّ عَلَيْهِمْ بِالسَّخْلَةِ ، يَرُوحُ بِهَا الرَّاعِي عَلَى يَدَيْهِ ، وَلَا تَأْخُذْهَا مِنْهُمْ .
وَهُوَ مَذْهَبُ عَلِيٍّ ، وَلَا نَعْرِفُ لَهُمَا فِي عَصْرِهِمَا مُخَالِفًا ، فَكَانَ إجْمَاعًا ، وَلِأَنَّهُ نَمَاءُ نِصَابٍ ، فَيَجِبُ أَنْ يُضَمَّ إلَيْهِ فِي الْحَوْلِ ، كَأَمْوَالِ التِّجَارَةِ ، وَالْخَبَرُ مَخْصُوصٌ بِمَالِ التِّجَارَةِ ، فَنَقِيسُ عَلَيْهِ .
فَأَمَّا إنْ لَمْ يَكْمُلْ النِّصَابُ إلَّا بِالسِّخَالِ ، اُحْتُسِبَ الْحَوْلُ مِنْ حِينِ كَمَلَ النِّصَابُ ، فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ .
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى ، أَنَّهُ يُعْتَبَرُ حَوْلُ الْجَمِيعِ مِنْ حِينِ مَلَكَ الْأُمَّهَاتِ .
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِحَوْلِ الْأُمَّهَاتِ دُونَ السِّخَالِ فِيمَا إذَا كَانَتْ نِصَابًا ، وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ تَكُنْ نِصَابًا .
وَلَنَا ، أَنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْحَوْلُ عَلَى نِصَابٍ ، فَلَمْ تَجِبْ الزَّكَاةُ فِيهَا ، كَمَا لَوْ كَمَلَتْ بِغَيْرِ سِخَالِهَا ، أَوْ كَمَالِ التِّجَارَةِ ، فَإِنَّهُ لَا تَخْتَلِفُ الرِّوَايَةُ فِيهِ .
وَإِنْ نُتِجَتْ السِّخَالُ بَعْدَ الْحَوْلِ ، ضُمَّتْ إلَى أُمَّهَاتِهَا فِي الْحَوْلِ الثَّانِي وَحْدَهُ .
وَالْحُكْمُ فِي فِصْلَانِ الْإِبِلِ ، وَعُجُولِ الْبَقَرِ ، كَالْحُكْمِ فِي السِّخَالِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ السَّخْلَةَ لَا تُؤْخَذُ فِي

الزَّكَاةِ ، لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ قَوْلِ عُمَرَ ، وَلِمَا سَنَذْكُرُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي تَلِي هَذِهِ ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا ، إلَّا أَنْ يَكُونَ النِّصَابُ كُلُّهُ صِغَارًا ، فَيَجُوزُ أَخْذُ الصَّغِيرَةِ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ ، وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ ، بِأَنْ يُبَدِّلَ كِبَارًا بِصِغَارِ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ ، أَوْ يَكُونَ عِنْدَهُ نِصَابٌ مِنْ الْكِبَارِ ، فَتَوَالَدَ نِصَابٌ مِنْ الصِّغَارِ ، ثُمَّ تَمُوتُ الْأُمَّهَاتُ ، وَيَحُولُ الْحَوْلُ عَلَى الصِّغَارِ .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لَا يُؤْخَذُ أَيْضًا إلَّا كَبِيرَةٌ تُجْزِئُ فِي الْأُضْحِيَّةِ .
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّمَا حَقُّنَا فِي الْجَذَعَةِ } أَوْ الثَّنِيَّةِ .
وَلِأَنَّ زِيَادَةَ السِّنِّ فِي الْمَالِ لَا يَزِيدُ بِهِ الْوَاجِبُ ، كَذَلِكَ نُقْصَانُهُ لَا يَنْقُصُ بِهِ .
وَلَنَا ، قَوْلُ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَاَللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهَا .
فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يُؤَدُّونَ الْعَنَاقَ ، وَلِأَنَّهُ مَالٌ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ قِيمَتِهِ ، فَيَجِبُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ عَيْنِهِ ، كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا فِيهِ كِبَارٌ .
وَأَمَّا زِيَادَةُ السِّنِّ فَلَيْسَ تَمْنَعُ الرِّفْقَ بِالْمَالِكِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ ، كَمَا أَنَّ مَا دُونَ النِّصَابِ عَفْوٌ ، وَمَا فَوْقَهُ عَفْوٌ ، وَظَاهِرُ قَوْلِ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْفِصْلَانِ وَالْعُجُولِ ، كَالْحُكْمِ فِي السِّخَالِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْغَنَمِ ، وَيَكُونُ التَّعْدِيلُ بِالْقِيمَةِ مَكَانَ زِيَادَةِ السِّنِّ ، كَمَا قُلْنَا فِي إخْرَاجِ الذَّكَرِ مِنْ الذُّكُورِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَجُوزَ إخْرَاجُ الْفِصْلَانِ وَالْعُجُولِ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ كَيْ لَا يُفْضِيَ إلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْفُرُوضِ ، فَإِنَّهُ يُفْضِي إلَى إخْرَاجِ ابْنَةِ الْمَخَاضِ عَنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ ، وَسِتٍّ وَثَلَاثِينَ ، وَسِتٍّ وَأَرْبَعِينَ ، وَإِحْدَى وَسِتِّينَ ،

وَيُخْرِجُ ابْنَتَيْ اللَّبُونِ عَنْ سِتٍّ وَسَبْعِينَ ، وَإِحْدَى وَتِسْعِينَ ، وَمِائَةٍ وَعِشْرِينَ ، وَيُفْضِي إلَى الِانْتِقَالِ مِنْ ابْنَةِ اللَّبُونِ الْوَاحِدَةِ مِنْ إحْدَى وَسِتِّينَ ، إلَى اثْنَتَيْنِ فِي سِتٍّ وَسَبْعِينَ ، مَعَ تَقَارُبِ الْوَقْصِ بَيْنَهُمَا ، وَبَيْنَهُمَا فِي الْأَصْلِ أَرْبَعُونَ ، وَالْخَبَرُ وَرَدَ فِي السِّخَالِ ، فَيَمْتَنِعُ قِيَاسُ الْفِصْلَانِ وَالْعُجُولِ عَلَيْهِمَا ؛ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْفَرْقِ .

( 1720 ) فَصْلٌ : وَإِنْ مَلَكَ نِصَابًا مِنْ الصِّغَارِ ، انْعَقَدَ عَلَيْهِ حَوْلُ الزَّكَاةِ مِنْ حِينِ مَلَكَهُ .
وَعَنْ أَحْمَدَ لَا يَنْعَقِدُ عَلَيْهِ الْحَوْلُ حَتَّى يَبْلُغَ سِنًّا يُجْزِئُ مِثْلُهُ فِي الزَّكَاةِ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ الشَّعْبِيِّ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : لَيْسَ فِي السِّخَالِ زَكَاةٌ .
} وَقَالَ : { لَا تَأْخُذْ مِنْ رَاضِعِ لَبَنٍ .
} وَلِأَنَّ السِّنَّ مَعْنًى يَتَغَيَّرُ بِهِ الْفَرْضُ ، فَكَانَ لِنُقْصَانِهِ تَأْثِيرٌ فِي الزَّكَاةِ ، كَالْعَدَدِ .
وَلَنَا ، أَنَّ السِّخَالَ تُعَدُّ مَعَ غَيْرِهَا ، فَتُعَدُّ مُنْفَرِدَةً ، كَالْأُمَّهَاتِ ، وَالْخَبَرُ يَرْوِيهِ جَابِرٌ الْجُعْفِيُّ ، وَهُوَ ضَعِيفٌ ، عَنْ الشَّعْبِيِّ مُرْسَلًا ، ثُمَّ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ لَا تَجِبُ فِيهَا قَبْلَ حَوْلِ الْحَوْلِ ، وَالْعَدَدُ تَزِيدُ الزَّكَاةُ بِزِيَادَتِهِ ، بِخِلَافِ السِّنِّ ، فَإِذَا قُلْنَا بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ ، فَإِذَا مَاتَتْ الْأُمَّهَاتُ إلَّا وَاحِدَةً ، لَمْ يَنْقَطِعْ الْحَوْلُ ، وَإِنْ مَاتَتْ كُلُّهَا ، انْقَطَعَ الْحَوْلُ .

( 1721 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَيُؤْخَذُ مِنْ الْمَعْزِ الثَّنِيُّ ، وَمِنْ الضَّأْنِ الْجَذَعُ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ فِي صَدَقَةِ الْغَنَمِ إلَّا الْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ ، وَهُوَ مَا لَهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ ، وَالثَّنِيُّ مِنْ الْمَعْزِ ، وَهُوَ مَا لَهُ سَنَةٌ .
فَإِنْ تَطَوَّعَ الْمَالِكُ بِأَفْضَلَ مِنْهُمَا فِي السِّنِّ جَازَ ، فَإِنْ كَانَ الْفَرْضُ فِي النِّصَابِ أَخَذَهُ ، وَإِنْ كَانَ كُلُّهُ فَوْقَ الْفَرْضِ خُيِّرَ الْمَالِكُ بَيْنَ دَفْعِ وَاحِدَةٍ مِنْهُ ، وَبَيْنَ شِرَاءِ الْفَرْضِ فَيُخْرِجُهُ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ : لَا يُجْزِئُ إلَّا الثَّنِيَّةُ مِنْهُمَا جَمِيعًا ؛ لِأَنَّهُمَا نَوْعَا جِنْسٍ ، فَكَانَ الْفَرْضُ مِنْهُمَا وَاحِدًا ، كَأَنْوَاعِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ .
وَقَالَ مَالِكٌ تُجْزِئُ الْجَذَعَةُ مِنْهُمَا ، لِذَلِكَ ، وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : إنَّمَا حَقُّنَا فِي الْجَذَعَةِ وَالثَّنِيَّةِ } .
وَلَنَا ، عَلَى جَوَازِ إخْرَاجِ الْجَذَعَةِ مِنْ الضَّأْنِ مَعَ هَذَا الْخَبَرِ ، { قَوْلُ سَعْدِ بْنِ دُلَيْمٍ : أَتَانِي رَجُلَانِ عَلَى بَعِيرٍ ، فَقَالَا : إنَّا رَسُولَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْكَ ؛ لِتُؤَدِّيَ صَدَقَةَ غَنَمِك .
قُلْت : فَأَيَّ شَيْءٍ تَأْخُذَانِ ؟ قَالَا : عَنَاقَ جَذَعَةٍ أَوْ ثَنِيَّةً .
} أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد .
وَلَنَا مَا رَوَى مَالِكٌ عَنْ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ ، قَالَ : { أَتَانَا مُصَدِّقُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : أُمِرْنَا أَنْ نَأْخُذَ الْجَذَعَةَ مِنْ الضَّأْنِ ، وَالثَّنِيَّةَ مِنْ الْمَعْزِ } .
وَهَذَا صَرِيحٌ ، وَفِيهِ بَيَانُ الْمُطْلَقِ فِي الْحَدِيثَيْنِ قَبْلَهُ ، وَلِأَنَّ جَذَعَةَ الضَّأْنِ تُجْزِئُ فِي الْأُضْحِيَّةِ ، بِخِلَافِ جَذَعَةِ الْمَعْزِ ، بِدَلِيلِ { قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بُرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ ، فِي جَذَعَةِ الْمَعْزِ : تُجْزِئُكَ ، وَلَا تُجْزِئُ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ .
} قَالَ إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ إنَّمَا أَجْزَأَ الْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ ، لِأَنَّهُ يُلَقِّحُ ،

وَالْمَعْزُ لَا يُلَقِّحُ إلَّا إذَا كَانَ ثَنِيًّا .

( 1722 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ ( فَإِنْ كَانَتْ عِشْرِينَ ضَأْنًا ، وَعِشْرِينَ مَعْزًا ، أَخَذَ مِنْ أَحَدِهِمَا مَا يَكُونُ قِيمَتُهُ نِصْفَ شَاةِ ضَأْنٍ وَنِصْفَ مَعْزٍ ) لَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي ضَمِّ أَنْوَاعِ الْأَجْنَاسِ بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ ، فِي إيجَابِ الزَّكَاةِ ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَجْمَعَ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، عَلَى ضَمَّ الضَّأْنِ إلَى الْمَعْزِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ يُخْرِجُ الزَّكَاةَ مِنْ أَيِّ الْأَنْوَاعِ أَحَبَّ ، سَوَاءٌ دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ ، بِأَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ وَاحِدًا ، أَوْ لَا يَكُونَ أَحَدُ النَّوْعَيْنِ مُوجِبًا لِوَاحِدٍ ، أَوْ لَمْ يَدَّعِ ، بِأَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ النَّوْعَيْنِ يَجِبُ فِيهِ فَرِيضَةٌ كَامِلَةٌ .
وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَمَالِكٌ وَإِسْحَاقُ يُخْرِجُ مِنْ أَكْثَرِ الْعَدَدَيْنِ ، فَإِنْ اسْتَوَيَا أَخْرَجَ مِنْ أَيِّهِمَا شَاءَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ الْقِيَاسُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مَا يَخُصُّهُ .
اخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ لِأَنَّهَا أَنْوَاعٌ تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ ، فَتَجِبُ زَكَاةُ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهُ ، كَأَنْوَاعِ الثَّمَرَةِ وَالْحُبُوبِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُمَا نَوْعَا جِنْسٍ مِنْ الْمَاشِيَةِ ، فَجَازَ الْإِخْرَاجُ مِنْ أَيِّهِمَا شَاءَ ، كَمَا لَوْ اسْتَوَى الْعَدَدَانِ ، وَكَالسِّمَانِ وَالْمَهَازِيلِ ، وَمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ يُفْضِي إلَى تَشْقِيصِ الْفَرْضِ ، وَقَدْ عَدَلَ إلَى غَيْرِ الْجِنْسِ فِيمَا دُونَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ مِنْ أَجْلِهِ ، فَالْعُدُولُ إلَى النَّوْعِ أَوْلَى .
فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ يُخْرِجُ مِنْ أَحَدِ النَّوْعَيْنِ مَا قِيمَتُهُ كَقِيمَةِ الْمُخْرَجِ مِنْ النَّوْعَيْنِ ، فَإِذَا كَانَ النَّوْعَانِ سَوَاءً ، وَقِيمَةُ الْمُخْرَجِ مِنْ أَحَدِهِمَا اثْنَا عَشَرَ ، وَقِيمَةُ الْمُخْرَجِ مِنْ الْآخَرِ خَمْسَةَ عَشَرَ ، أَخْرَجَ مِنْ أَحَدِهِمَا مَا قِيمَتُهُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَنِصْفٌ ، وَإِنْ كَانَ الثُّلُثُ مَعْزًا ، وَالثُّلُثَانِ ضَأْنًا ، أَخْرَجَ مَا قِيمَتُهُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ ، وَإِنْ كَانَ الثُّلُثُ ضَأْنًا ، وَالثُّلُثَانِ مَعْزًا ، أَخْرَجَ مَا قِيمَتُهُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ .

وَهَكَذَا لَوْ كَانَ فِي إبِلِهِ عَشْرٌ بَخَاتِيٌّ ، وَعَشْرٌ مُهْرِيَّةٌ ، وَعَشْرٌ عَرَابِيَّةٌ ، وَقِيمَةُ ابْنَةِ الْمَخَاضِ الْبُخْتِيَّةُ ثَلَاثُونَ ، وَقِيمَةُ الْمُهْرِيَّةُ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ ، وَقِيمَةُ الْعَرَابِيَّةِ اثْنَا عَشَرَ ، أَخْرَجَ ابْنَةَ مَخَاضٍ قِيمَتُهَا ثُلُثُ قِيمَةِ ابْنَةِ مَخَاضٍ بُخْتِيَّةٍ ، وَهُوَ عَشَرَةٌ ، وَثُلُثَ قِيمَةِ مُهْرِيَّةٍ ثَمَانِيَةٌ ، وَثُلُثَ قِيمَةِ عَرَابِيَّةٍ أَرْبَعَةٌ ، فَصَارَ الْجَمِيعُ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ .
وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي أَنْوَاعِ الْبَقَرِ ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي السِّمَانِ مَعَ الْمَهَازِيلِ ، وَالْكِرَامِ مَعَ اللِّئَامِ .
فَأَمَّا الصِّحَاحُ مَعَ الْمِرَاضِ ، وَالذُّكُورُ مَعَ الْإِنَاثِ ، وَالْكِبَارُ مَعَ الصِّغَارِ ، فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ صَحِيحَةٌ كَبِيرَةٌ أُنْثَى ، عَلَى قَدْرِ قِيمَةِ الْمَالَيْنِ ، إلَّا أَنْ يَتَطَوَّعَ رَبُّ الْمَالِ بِالْفَضْلِ ، وَقَدْ ذُكِرَ هَذَا .

( 1723 ) فَصْلٌ : فَإِنْ أَخْرَجَ عَنْ النِّصَابِ مِنْ غَيْرِ نَوْعِهِ مِمَّا لَيْسَ فِي مَالِهِ مِنْهُ شَيْءٌ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا ، يُجْزِئُ ؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَ عَنْهُ مِنْ جِنْسِهِ ، فَجَازَ ، كَمَا لَوْ كَانَ الْمَالُ نَوْعَيْنِ ، فَأَخْرَجَ مِنْ أَحَدِهِمَا عَنْهُمَا .
وَالثَّانِي ، لَا يُجْزِئُ ؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَ ، مِنْ غَيْرِ نَوْعِ مَالِهِ ، أَشْبَهَ مَا لَوْ أَخْرَجَ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ ، وَفَارَقَ مَا إذَا أَخْرَجَ مِنْ أَحَدِ نَوْعَيْ مَالِهِ ؛ لِأَنَّهُ جَازَ فِرَارًا مِنْ تَشْقِيصِ الْفَرْضِ ، وَقَدْ جَوَّزَ الشَّارِعُ الْإِخْرَاجَ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ فِي قَلِيلِ الْإِبِلِ وَشَاةِ الْجُبْرَانِ لِذَلِكَ ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ ( وَإِنَّ اخْتَلَطَ جَمَاعَةٌ فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ ، أَوْ ثَلَاثِينَ مِنْ الْبَقَرِ ، أَوْ أَرْبَعِينَ مِنْ الْغَنَمِ ، وَكَانَ مَرْعَاهُمْ وَمَسْرَحُهُمْ وَمَبِيتُهُمْ وَمُحْلَبُهُمْ وَفَحْلُهُمْ وَاحِدًا ، أُخِذَتْ مِنْهُمْ الصَّدَقَةُ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْخَلْطَةَ فِي السَّائِمَةِ تَجْعَلُ مَالَ الرَّجُلَيْنِ كَمَالِ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ فِي الزَّكَاةِ ، سَوَاءٌ كَانَتْ خُلْطَةَ أَعْيَانٍ ، وَهِيَ أَنْ تَكُونَ الْمَاشِيَةُ مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُمَا ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَصِيبٌ مَشَاعٌ ، مِثْلُ أَنْ يَرِثَا نِصَابًا أَوْ يَشْتَرِيَاهُ ، أَوْ يُوهَبَ لَهُمَا ، فَيُبْقِيَاهُ بِحَالِهِ ، أَوْ خُلْطَةَ أَوْصَافٍ ، وَهِيَ أَنْ يَكُونَ مَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُمَيَّزًا ، فَخَلَطَاهُ ، وَاشْتَرَكَا فِي الْأَوْصَافِ الَّتِي نَذْكُرُهَا ، وَسَوَاءٌ تَسَاوَيَا فِي الشَّرِكَةِ ، أَوْ اخْتَلَفَا ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ لِرَجِلٍ شَاةٌ ، وَلِآخَرَ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ ، أَوْ يَكُونَ لِأَرْبَعِينَ رَجُلًا أَرْبَعُونَ شَاةً ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ شَاةٌ ، نَصَّ عَلَيْهِمَا أَحْمَدُ وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَاللَّيْثِ وَإِسْحَاقَ وَقَالَ مَالِكٌ إنَّمَا تُؤَثِّرُ الْخُلْطَةُ إذَا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشُّرَكَاءِ نِصَابٌ .
وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ الثَّوْرِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا أَثَرَ لَهَا بِحَالٍ ؛ لِأَنَّ مِلْكَ كُلِّ وَاحِدٍ دُونَ النِّصَابِ ، فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ زَكَاةٌ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَخْتَلِطْ بِغَيْرِهِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا إذَا اخْتَلَطَا فِي نِصَابَيْنِ ، أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمْلِكُ أَرْبَعِينَ مِنْ الْغَنَمِ ، فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ شَاةٌ ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { : فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ } .
وَلَنَا مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ ، فِي حَدِيثِ أَنَسٍ الَّذِي ذَكَرْنَا أَوَّلَهُ { : لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ ، وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ ، خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ ، } وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ ، فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ " .
وَلَا يَجِيءُ التَّرَاجُعُ إلَّا عَلَى

قَوْلِنَا فِي خُلْطَةِ الْأَوْصَافِ .
وَقَوْلُهُ : لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ .
إنَّمَا يَكُونُ هَذَا إذَا كَانَ لِجَمَاعَةٍ ، فَإِنَّ الْوَاحِدَ يَضُمُّ مَالَهُ بَعْضَهُ إلَى بَعْضٍ ، وَإِنْ كَانَ فِي أَمَاكِنَ ، وَهَكَذَا لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ .
وَلِأَنَّ لِلْخُلْطَةِ تَأْثِيرًا فِي تَخْفِيفِ الْمُؤْنَةِ ، فَجَازَ أَنْ تُؤَثِّرَ فِي الزَّكَاةِ كَالسَّوْمِ وَالسَّقْيِ ، وَقِيَاسُهُمْ مَعَ مُخَالَفَةِ النَّصِّ غَيْرُ مَسْمُوعٍ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ خُلْطَةَ الْأَوْصَافِ يُعْتَبَرُ فِيهَا اشْتِرَاكُهُمْ فِي خَمْسَةِ أَوْصَافٍ : الْمَسْرَحُ ، وَالْمَبِيتُ ، وَالْمَحْلَبُ ، وَالْمَشْرَبُ ، وَالْفَحْلُ .
قَالَ أَحْمَدُ : الْخَلِيطَانِ أَنْ يَكُونَ رَاعِيهُمَا وَاحِدًا ، وَمُرَاحُهُمَا وَاحِدًا ، وَشِرْبُهُمَا وَاحِدًا .
وَقَدْ ذَكَرَ أَحْمَدُ فِي كَلَامِهِ شَرْطًا سَادِسًا ، وَهُوَ الرَّاعِي .
قَالَ الْخِرَقِيِّ : " وَكَانَ مَرْعَاهُمْ وَمَسْرَحُهُمْ وَاحِدًا " .
فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْمَرْعَى الرَّاعِيَ ، لِيَكُونَ مُوَافِقًا لِقَوْلِ أَحْمَدَ ، وَلِكَوْنِ الْمَرْعَى هُوَ الْمَسْرَحُ .
قَالَ ابْنُ حَامِدٍ : الْمَرْعَى وَالْمَسْرَحُ شَرْطٌ وَاحِدٌ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ أَحْمَدُ الْمَسْرَحَ لِيَكُونَ فِيهِ رَاعٍ وَاحِدٌ ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا مَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ ، فِي " سُنَنِهِ " ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ ، قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { : لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ ، وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ ، خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ ، } وَالْخَلِيطَانِ مَا اجْتَمَعَا فِي الْحَوْضِ وَالْفَحْلِ وَالرَّاعِي " وَرُوِيَ " الْمَرْعَى " .
وَبِنَحْوٍ مِنْ هَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ : لَا يُعْتَبَرُ فِي الْخُلْطَةِ إلَّا شَرْطَانِ : الرَّاعِي ، وَالْمَرْعَى ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : " لَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ " .
وَالِاجْتِمَاعُ يَحْصُلُ بِذَلِكَ ، وَيُسَمَّى خُلْطَةً ، فَاكْتُفِيَ بِهِ .
وَلَنَا ، قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : وَالْخَلِيطَانِ : مَا اجْتَمَعَا فِي الْحَوْضِ

وَالرَّاعِي وَالْفَحْلِ .
} فَإِنَّ قِيلَ : فَلِمَ اعْتَبَرْتُمْ زِيَادَةً عَلَى هَذَا ؟ قُلْنَا : هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى بَقِيَّةِ الشَّرَائِطِ ، وَإِلْغَاءٌ لِمَا ذَكَرُوهُ ، وَلِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَوْصَافِ تَأْثِيرًا .
فَاعْتُبِرَ كَالْمَرْعَى .
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَالْمَبِيتُ مَعْرُوفٌ ، وَهُوَ الْمُرَاحُ الَّذِي تَرُوحُ إلَيْهِ الْمَاشِيَةُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ } .
وَالْمَسْرَحُ وَالْمَرْعَى وَاحِدٌ ، وَهُوَ الَّذِي تَرْعَى فِيهِ الْمَاشِيَةُ ، يُقَالُ : سَرَحَتْ الْغَنَمُ ، إذَا مَضَتْ إلَى الْمَرْعَى ، وَسَرَحْتهَا ، أَيْ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّثْقِيلِ ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : { وَحِينَ تَسْرَحُونَ } .
وَالْمَحْلَبُ : الْمَوْضِعُ الَّذِي تُحْلَبُ فِيهِ الْمَاشِيَةُ ، يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا ، وَلَا يُفْرِدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِحَلْبِ مَاشِيَتِهِ مَوْضِعًا ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ خَلْطَ اللَّبَنِ فِي إنَاءٍ وَاحِدٍ ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمُرْفِقٍ ، بَلْ مَشَقَّةٌ ، لِمَا فِيهِ مِنْ الْحَاجَةِ إلَى قَسْمِ اللَّبَنِ .
وَمَعْنَى كَوْنِ الْفَحْلِ وَاحِدًا ، أَنْ لَا تَكُونَ فُحُولَةُ أَحَدِ الْمَالَيْنِ لَا تَطْرُقُ غَيْرَهُ .
وَكَذَلِكَ الرَّاعِي ، هُوَ أَنْ لَا يَكُونَ لِكُلِّ مَالٍ رَاعٍ ، يَنْفَرِدُ بِرِعَايَتِهِ دُونَ الْآخَرِ .
وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمُخْتَلِطَانِ مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا ذِمِّيًّا أَوْ مُكَاتَبًا لَمْ يُعْتَدَّ بِخَلْطَتِهِ ، وَلَا تُشْتَرَطُ نِيَّةُ الْخُلْطَةِ وَحُكِيَ عَنْ الْقَاضِي ، أَنَّهُ اشْتَرَطَهَا .
وَلَنَا ، قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { : وَالْخَلِيطَانِ مَا اجْتَمَعَا فِي الْحَوْضِ وَالرَّاعِي وَالْفَحْلِ } .
وَلِأَنَّ النِّيَّةَ لَا تُؤَثِّرُ فِي الْخُلْطَةِ ، فَلَا تُؤَثِّرُ فِي حُكْمِهَا ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْخُلْطَةِ مِنْ الِارْتِفَاقِ يَحْصُلُ بِدُونِهَا ، فَلَمْ يَتَغَيَّرْ وُجُودُهَا مَعَهُ ، كَمَا لَا تَتَغَيَّرُ نِيَّةُ السَّوْمِ فِي الْإِسَامَةِ ، وَلَا نِيَّةُ السَّقْيِ فِي الزَّرْعِ وَالثِّمَارِ ، وَلَا نِيَّةُ مُضِيِّ الْحَوْلِ فِيمَا يُشْتَرَطُ الْحَوْلُ فِيهِ .

( 1725 ) فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَ بَعْضُ مَالِ الرَّجُلِ مُخْتَلِطًا ، وَبَعْضُهُ مُنْفَرِدًا ، أَوْ مُخْتَلِطًا مَعَ مَالٍ لِرَجِلٍ آخَرَ ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا : يَصِيرُ مَالُهُ كُلُّهُ كَالْمُخْتَلِطِ ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مَالُ الْخُلْطَةِ نِصَابًا ، فَإِنْ كَانَ دُونَ النِّصَابِ لَمْ يَثْبُتْ حُكْمُهَا ، فَلَوْ كَانَ لِرَجِلٍ سِتُّونَ شَاةً ، مِنْهَا عِشْرُونَ مُخْتَلِطَةٌ مَعَ عِشْرِينَ لِرَجِلٍ آخَرَ ، وَجَبَ عَلَيْهِمَا شَاةٌ وَاحِدَةٌ ، رُبْعُهَا عَلَى صَاحِبِ الْعِشْرِينَ ، وَبَاقِيهَا عَلَى صَاحِبِ السِّتِّينَ ؛ لِأَنَّنَا لَمَّا ضَمَمْنَا مِلْكَ صَاحِبِ السِّتِّينَ صَارَ صَاحِبُ الْعِشْرِينَ كَالْمُخَالِطِ لِسِتِّينَ ، فَيَكُونُ الْجَمِيعُ ثَمَانِينَ ، عَلَيْهَا شَاةٌ بِالْحِصَصِ .
وَلَوْ كَانَ لِصَاحِبِ السِّتِّينَ ثَلَاثَةُ خُلَطَاءَ ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعِشْرِينَ ، وَجَبَ عَلَى الْجَمِيعِ شَاةٌ ، نِصْفُهَا عَلَى صَاحِبِ السِّتِّينَ ، وَنِصْفُهَا عَلَى الْخُلَطَاءِ ، عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سُدْسُ شَاةٍ .
وَلَوْ كَانَ رَجُلَانِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سِتُّونَ ، فَخَالَطَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ بِعِشْرِينَ فَقَطْ ، وَجَبَ عَلَيْهِمَا شَاةٌ وَاحِدَةٌ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ .
فَإِنْ اخْتَلَطَا فِي أَقَلِّ مِنْ ذَلِكَ ، لَمْ يَثْبُتْ لَهُمَا حُكْمُ الْخُلْطَةِ ، وَوَجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاةٌ كَامِلَةٌ .
وَإِنْ اخْتَلَطَا فِي أَرْبَعِينَ ، لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَشَرَةٌ ، وَلِلْآخَرِ ثَلَاثُونَ ، ثَبَتَ لَهُمَا حُكْمُ الْخُلْطَةِ لِوُجُودِهَا فِي نِصَابٍ كَامِلٍ .

( 1726 ) فَصْلٌ : وَيُعْتَبَرُ اخْتِلَاطُهُمْ فِي جَمِيعِ الْحَوْلِ ، فَإِنْ ثَبَتَ لَهُمْ حُكْمُ الِانْفِرَادِ فِي بَعْضِهِ زَكَّوْا زَكَاةَ الْمُنْفَرِدِينَ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ .
وَقَالَ مَالِكٌ لَا يُعْتَبَرُ اخْتِلَاطُهُمْ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ ، وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ } .
يَعْنِي فِي وَقْتِ أَخْذِ الزَّكَاةِ .
وَلَنَا ، أَنَّ هَذَا مَالٌ ثَبَتَ لَهُ حُكْمُ الِانْفِرَادِ ، فَكَانَتْ زَكَاتُهُ زَكَاةَ الْمُنْفَرِدِ ، كَمَا لَوْ انْفَرَدَ فِي آخِرِ الْحَوْلِ ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُجْتَمِعِ فِي جَمِيعِ الْحَوْلِ .
إذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَمَتَى كَانَ لِرَجُلَيْنِ ثَمَانُونَ شَاةً بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، وَكَانَا مُنْفَرِدَيْنِ ، فَاخْتَلَطَا فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ ، فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِنْدَ تَمَامِ حَوْلِهِ شَاةٌ ، وَفِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ السِّنِينَ يُزَكِّيَانِ زَكَاةَ الْخُلْطَةِ ، فَإِنْ اتَّفَقَ حَوْلَاهُمَا أَخْرَجَا شَاةً عِنْدَ تَمَامِ كُلِّ حَوْلٍ ، عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهَا وَإِنْ اخْتَلَفَ حَوْلَاهُمَا فَعَلَى الْأَوَّلِ مِنْهُمَا عِنْدَ تَمَامِ حَوْلِهِ نِصْفُ شَاةٍ ، فَإِذَا تَمَّ حَوْلُ الثَّانِي ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَخْرَجَهَا مِنْ غَيْرِ الْمَالِ ، فَعَلَى الثَّانِي نِصْفُ شَاةٍ أَيْضًا ، وَإِنْ أَخْرَجَهَا مِنْ النِّصَابِ نَظَرْت ، فَإِنْ أَخْرَجَ الشَّاةَ جَمِيعَهَا عَنْ مِلْكِهِ ، فَعَلَى الثَّانِي أَرْبَعُونَ جُزْءًا ، مِنْ تِسْعَةٍ وَسَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ شَاةٍ ، وَإِنْ أَخْرَجَ نِصْفَ شَاةٍ فَعَلَى الثَّانِي أَرْبَعُونَ جُزْءًا ، مِنْ تِسْعَةٍ وَسَبْعِينَ وَنِصْفُ جُزْءٍ مِنْ شَاةٍ .

( 1727 ) فَصْلٌ : وَإِنْ ثَبَتَ لَأَحَدِهِمَا حُكْمُ الِانْفِرَادِ دُونَ صَاحِبِهِ ، وَيُتَصَوَّرُ ذَلِكَ بِأَنْ يَمْلِكَ رَجُلَانِ نِصَابَيْنِ فَيَخْلِطَاهُمَا ، ثُمَّ يَبِيعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ أَجْنَبِيًّا ، أَوْ يَكُونُ لِأَحَدِهِمَا نِصَابٌ مُنْفَرِدٌ ، فَيَشْتَرِي آخَرُ نِصَابًا ، وَيَخْلِطُهُ بِهِ فِي الْحَالِ ، إذَا قُلْنَا : الْيَسِيرُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ .
فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ عَقِيبَ مِلْكِهَا مُنْفَرِدَةً فِي جُزْءٍ ، وَإِنْ قَلَّ ، أَوْ يَكُونَ لَأَحَدِهِمَا نِصَابٌ وَلِلْآخَرِ دُونَ النِّصَابِ ، فَاخْتَلَطَا فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ ، فَإِذَا تَمَّ حَوْلُ الْأَوَّلِ فَعَلَيْهِ شَاةٌ ، فَإِذَا تَمَّ حَوْلُ الثَّانِي فَعَلَيْهِ زَكَاةُ الْخُلْطَةِ ، عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ .
وَيُزَكِّيَانِ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ زَكَاةَ الْخُلْطَةِ ، كُلَّمَا تَمَّ حَوْلُ أَحَدِهِمَا فَعَلَيْهِ مِنْ زَكَاةِ الْجَمِيعِ بِقَدْرِ مَالِهِ مِنْهُ ، فَإِذَا كَانَ الْمَالَانِ جَمِيعًا ثَمَانِينَ شَاةً ، فَأَخْرَجَ الْأَوَّلُ مِنْهَا شَاةً ، زَكَاةَ الْأَرْبَعِينَ الَّتِي يَمْلِكُهَا ، فَعَلَى الثَّانِي أَرْبَعُونَ جُزْءًا ، مِنْ تِسْعَةٍ وَسَبْعِينَ جُزْءًا .
فَإِنْ أَخْرَجَ الشَّاةَ كُلَّهَا مِنْ مِلْكِهِ ، وَحَالَ الْحَوْلُ الثَّانِي ، فَعَلَى الْأَوَّلِ نِصْفُ شَاةٍ ، زَكَاةَ خُلْطَةِ .
فَإِنْ أَخْرَجَهُ وَحْدَهُ ، فَعَلَى الثَّانِي تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ جُزْءًا ، مِنْ سَبْعَةٍ وَسَبْعِينَ جُزْءًا وَنِصْفُ جُزْءٍ مِنْ شَاةٍ ، وَإِنْ تَوَالَدَتْ شَيْئًا حُسِبَ مَعَهَا .

( 1728 ) فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا ثَمَانُونَ شَاةً مُخْتَلِطَةً ، مَضَى عَلَيْهَا بَعْضُ الْحَوْلِ ، فَتَبَايَعَاهَا ، بَاعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَنَمَهُ صَاحِبَهُ مُخْتَلِطَةً ، وَبَعَثَاهَا عَلَى الْخُلْطَةِ ، لَمْ يُقْطَعْ حَوْلُهُمَا ، وَلَمْ تَزُلْ خُلْطَتُهُمَا .
وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ بَعْضَ غَنَمِهِ مِنْ غَيْرِ إفْرَادٍ ، قَلَّ الْمَبِيعُ أَوْ كَثُرَ .
فَأَمَّا إنْ أَفْرَدَاهَا ثُمَّ تَبَايَعَاهَا ثُمَّ خَلَطَاهَا ، وَتَطَاوَلَ زَمَنُ الْإِفْرَادِ ، بَطَلَ حُكْمُ الْخُلْطَةِ .
وَإِنْ خَلَطَاهَا عَقِيبَ الْبَيْعِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا ، لَا يَنْقَطِعُ ؛ لِأَنَّ هَذَا زَمَنٌ يَسِيرٌ يُعْفَى وَالثَّانِي ، يَنْقَطِعُ ؛ لِأَنَّ الِانْفِرَادَ قَدْ وُجِدَ فِي بَعْضِ الْحَوْلِ ، فَيُزَكِّيَانِ زَكَاةَ الْمُنْفَرِدَيْنِ .
وَإِنْ أَفْرَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ نِصَابٍ وَتَبَايَعَاهُ ، لَمْ يَنْقَطِعْ حُكْمُ الْخُلْطَةِ ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْإِنْسَانِ يُضَمُّ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ ، فَكَأَنَّ الثَّمَانِينَ مُخْتَلِطَةٌ بِحَالِهَا .
وَكَذَلِكَ إنْ تَبَايَعَا أَقَلِّ مِنْ النِّصْفِ .
وَإِنْ تَبَايَعَا أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ مُنْفَرِدًا ، بَطَلَ حُكْمُ الْخُلْطَةِ ؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِهَا كَوْنَهَا فِي نِصَابٍ ، فَمَتَى بَقِيَتْ فِيمَا دُونَ النِّصَابِ صَارَا مُنْفَرِدَيْنِ .
وَقَالَ الْقَاضِي : تَبْطُلُ الْخُلْطَةُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي الْمَبِيعِ ، وَيَصِيرُ مُنْفَرِدًا .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ الْمَبِيعَ بِجِنْسِهِ يَنْقَطِعُ حُكْمُ الْحَوْلِ فِيهِ .
فَتَنْقَطِعُ الْخُلْطَةُ ضَرُورَةَ انْقِطَاعِ الْحَوْلِ .
وَسَنُبَيِّنُ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ ، أَنَّ حُكْمَ الْحَوْلِ لَا يَنْقَطِعُ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ ، فَلَا تَنْقَطِعُ الْخُلْطَةُ ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ إنَّمَا تَجِبُ فِي الْمُشْتَرَى بِبِنَائِهِ عَلَى حَوْلِ الْمَبِيعِ ، فَيَجِبُ أَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ فِي الصِّفَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا .
فَأَمَّا إنْ كَانَ مَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْفَرِدًا ، فَخَلَطَاهُ ، ثُمَّ تَبَايَعَاهُ ، فَعَلَيْهِمَا فِي الْحَوْلِ زَكَاةُ الِانْفِرَادِ ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِيهِ بِبِنَائِهِ عَلَى

حَوْلِ الْأَوَّلِ ، وَهُوَ مُنْفَرِدٌ فِيهِ .
وَلَوْ كَانَ لِرَجِلٍ نِصَابٌ مُنْفَرِدٌ ، فَبَاعَهُ بِنِصَابٍ مُخْتَلِطٍ ، زَكَّى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا زَكَاةَ الِانْفِرَادِ ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ فِي الثَّانِي تَجِبُ بِبِنَائِهِ عَلَى الْأَوَّلِ ، فَهُمَا كَالْمَالِ الْوَاحِدِ الَّذِي حَصَلَ الِانْفِرَادُ فِي أَحَدِ طَرَفَيْهِ فَإِنْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَرْبَعُونَ مُخْتَلِطَةٌ مَعَ مَالٍ آخَرَ ، فَتَبَايَعَاهَا ، وَبَعَثَاهَا مُخْتَلِطَةً ، لَمْ يَبْطُلْ حُكْمُ الْخُلْطَةِ .
وَإِنْ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا بِالْأَرْبَعِينَ الْمُخْتَلِطَةِ أَرْبَعِينَ مُنْفَرِدَةً ، وَخَلَطَهَا فِي الْحَالِ ، احْتَمَلَ أَنْ يُزَكِّيَ زَكَاةَ الْخُلْطَةِ ؛ لِأَنَّهُ يَبْنِي حَوْلَهَا عَلَى حَوْلِ مُخْتَلِطَةٍ ، وَزَمَنُ الِانْفِرَادِ يَسِيرٌ ، فَعُفِيَ عَنْهُ ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يُزَكِّيَ زَكَاةَ الْمُنْفَرِدِ ، لِوُجُودِ الِانْفِرَادِ فِي بَعْضِ الْحَوْلِ .

( 1729 ) فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ لِرَجِلٍ أَرْبَعُونَ شَاةً ، وَمَضَى عَلَيْهَا بَعْضُ الْحَوْلِ ، فَبَاعَ بَعْضَهَا مَشَاعًا فِي بَعْضِ الْحَوْلِ .
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ يَنْقَطِعُ الْحَوْلُ ، وَيَسْتَأْنِفَانِ حَوْلًا مِنْ حِينِ الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّ النِّصْفَ الْمُشْتَرَى قَدْ انْقَطَعَ الْحَوْلُ فِيهِ ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَجُزْ فِي حَوْلِ الزَّكَاةِ أَصْلًا ، فَلَزِمَ انْقِطَاعُ الْحَوْلِ فِي الْآخَرِ .
وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ لَا يَنْقَطِعُ الْحَوْلُ فِيمَا بَقِيَ لِلْبَائِعِ ؛ لِأَنَّ حُدُوثَ الْخُلْطَةِ لَا يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْحَوْلِ ، فَلَا يَمْنَعُ اسْتَدَامَتْهُ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ خَالَطَ غَيْرَهُ فِي جَمِيعِ الْحَوْلِ ، وَجَبَتْ الزَّكَاةُ ، فَإِذَا خَالَطَ فِي بَعْضِهِ نَفْسَهُ ، وَفِي بَعْضِهِ غَيْرَهُ ، كَانَ أَوْلَى بِالْإِيجَابِ ، وَإِنَّمَا بَطَلَ حَوْلُ الْمَبِيعَةِ لِانْتِقَالِ الْمِلْكِ فِيهَا ، وَإِلَّا فَهَذِهِ الْعِشْرُونَ لَمْ تَزَلْ مُخَالِطَةً لِمَالٍ جَارٍ فِي الزَّكَاةِ ، وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِيمَا إذَا عَلَّمَ عَلَى بَعْضِهَا وَبَاعَهُ مُخْتَلِطًا .
فَأَمَّا إنْ أَفْرَدَ بَعْضَهَا وَبَاعَهُ ، فَخَلَطَهُ الْمُشْتَرِي فِي الْحَالِ بِغَنَمِ الْأَوَّلِ ، فَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ يَنْقَطِعُ الْحَوْلُ ؛ لِثُبُوتِ حُكْمِ الِانْفِرَادِ فِي الْبَعْضِ .
وَقَالَ الْقَاضِي : يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ كَمَا لَوْ بَاعَهَا مُخْتَلِطَةً ؛ لِأَنَّ هَذَا زَمَنٌ يَسِيرٌ .
وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِيمَا إذَا كَانَتْ الْأَرْبَعُونَ لِرَجُلَيْنِ ، فَبَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ أَجْنَبِيًّا ، فَعَلَى هَذَا إذَا تَمَّ حَوْلُ الْأَوَّلِ فَعَلَيْهِ نِصْفُ شَاةٍ ، ثُمَّ إذَا تَمَّ حَوْلُ الثَّانِي نَظَرْنَا فِي الْبَائِعِ ، فَإِنْ كَانَ أَخْرَجَ الزَّكَاةَ مِنْ غَيْرِ الْمَالِ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ النِّصَابَ نَقَصَ فِي بَعْضِ الْحَوْلِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْفَقِيرُ مُخَالِطًا لَهُمَا بِالنِّصْفِ الَّذِي صَارَ لَهُ ، فَلَا يَنْقُصُ النِّصَابُ إذًا ، وَيُخْرِجُ الثَّانِي نِصْفَ شَاةٍ .
وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَخْرَجَ الزَّكَاةَ مِنْ غَيْرِ الْمَالِ ، وَقُلْنَا : الزَّكَاةُ تَتَعَلَّقُ بِالذِّمَّةِ .
وَجَبَ عَلَى الْمُشْتَرِي نِصْفُ شَاةٍ .
وَإِنْ قُلْنَا

تَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ .
فَقَالَ الْقَاضِي : يَجِبُ نِصْفُ شَاةٍ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ تَعَلُّقَ الزَّكَاةِ بِالْعَيْنِ ، لَا بِمَعْنَى أَنَّ الْفُقَرَاءَ مَلَكُوا جُزْءًا مِنْ النِّصَابِ ، بَلْ بِمَعْنَى أَنَّهُ تَعَلَّقَ حَقُّهُمْ بِهِ ، كَتَعَلُّقِ أَرْشِ الْجِنَايَةِ بِالْجَانِي ، فَلَمْ يَمْنَعْ وُجُوبَ الزَّكَاةِ .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ لَا شَيْءَ عَلَى الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ تَعَلُّقَ الزَّكَاةِ بِالْعَيْنِ نَقَصَ النِّصَابَ .
وَهَذَا الصَّحِيحُ ؛ فَإِنَّ فَائِدَةَ قَوْلِنَا : الزَّكَاةُ تَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ إنَّمَا تَظْهَرُ فِي مَنْعِ الزَّكَاةِ ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
وَعَلَى قِيَاسِ هَذَا ، لَوْ كَانَ لِرَجُلَيْنِ نِصَابٌ خُلْطَةٌ ، فَبَاعَ أَحَدُهُمَا خَلِيطَهُ فِي بَعْضِ الْحَوْلِ ، فَهِيَ عَكْسُ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى فِي الصُّورَةِ ، وَمِثْلُهَا فِي الْمَعْنَى ؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي الْأَوَّلِ خَلِيطَ نَفْسِهِ ، ثُمَّ صَارَ خَلِيطَ أَجْنَبِيٍّ ، وَهَا هُنَا كَانَ خَلِيطَ أَجْنَبِيٍّ ، ثُمَّ صَارَ خَلِيطَ نَفْسِهِ .
وَمِثْلُهُ لَوْ كَانَ رَجُلَانِ مُتَوَارِثَانِ ، لَهُمَا نِصَابُ خُلْطَةٍ ، فَمَاتَ أَحَدُهُمَا فِي بَعْضِ الْحَوْلِ ، فَوَرِثَهُ صَاحِبُهُ ، عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ حَتَّى يَتِمَّ الْحَوْلُ عَلَى الْمَالَيْنِ ، مِنْ حِينِ مِلْكِهِ لَهُمَا ، إلَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا بِمُفْرَدِهِ يَبْلُغُ نِصَابًا .
وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ ابْنِ حَامِدٍ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي النِّصْفِ الَّذِي كَانَ لَهُ خَاصَّةً .

( 1730 ) فَصْلٌ : إذَا اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا يَرْعَى لَهُ بِشَاةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْ النِّصَابِ ، فَحَالَ الْحَوْلُ ، وَلَمْ يُفْرِدْهَا ، فَهُمَا خَلِيطَانِ تَجِبُ عَلَيْهِمَا زَكَاةُ الْخُلْطَةِ .
وَإِنْ أَفْرَدَهَا قَبْلَ الْحَوْلِ ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمَا ، لِنُقْصَانِ النِّصَابِ .
وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ بِشَاةٍ مَوْصُوفَةٍ فِي الذِّمَّةِ ، صَحَّ أَيْضًا ، فَإِذَا حَالَ الْحَوْلُ ، وَلَيْسَ لَهُ مَا يَقْتَضِيه غَيْرُ النِّصَابِ ، انْبَنَى عَلَى الدَّيْنِ ، هَلْ يَمْنَعُ الزَّكَاةَ فِي الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ ؟ وَسَنَذْكُرُهُ فِيمَا بَعْدُ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

( 1731 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَتَرَاجَعُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ ) قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْخُلَطَاءَ تُؤْخَذُ الصَّدَقَةُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ، كَمَا تُؤْخَذُ مِنْ مَالِ الْوَاحِدِ .
وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّ السَّاعِيَ يَأْخُذُ الْفَرْضَ مِنْ مَالِ أَيِّ الْخَلِيطَيْنِ شَاءَ ، سَوَاءٌ دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ ، بِأَنْ تَكُونَ الْفَرِيضَةُ عَيْنًا وَاحِدَةً لَا يُمْكِنُ أَخْذُهَا مِنْ الْمَالَيْنِ جَمِيعًا ، أَوْ لَا يَجِدَ فَرْضَهُمَا جَمِيعًا إلَّا فِي أَحَدِ الْمَالَيْنِ ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ مَالُ أَحَدِهِمَا صِحَاحًا كِبَارًا ، وَمَالُ خَلِيطِهِ صِغَارًا أَوْ مِرَاضًا ، فَإِنَّهُ تَجِبُ صَحِيحَةٌ كَبِيرَةٌ ، أَوْ لَمْ تَدْعُ الْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ ، بِأَنْ يَجِدَ فَرْضَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَالَيْنِ فِيهِ .
قَالَ أَحْمَدُ إنَّمَا يَجِيءُ الْمُصَدِّقُ فَيَجِدُ الْمَاشِيَةَ ، فَيُصَدِّقُهَا ، لَيْسَ يَجِيءُ فَيَقُولُ : أَيُّ شَيْءٍ لَك ؟ وَإِنَّمَا يُصَدِّقُ مَا يَجِدُهُ ، وَالْخَلِيطُ قَدْ يَنْفَعُ وَقَدْ يَضُرُّ .
قَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ خَارِجَةَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَنَا رَأَيْت مِسْكِينًا كَانَ لَهُ فِي غَنَمٍ شَاتَانِ ، فَجَاءَ الْمُصَدِّقُ فَأَخَذَ إحْدَاهُمَا .
وَالْوَجْهُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ ، فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بِالسَّوِيَّةِ .
} وَقَوْلُهُ { : لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ ، وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ ، خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ .
} وَهُمَا خَشْيَتَانِ : خَشْيَةُ رَبِّ الْمَالِ مِنْ زِيَادَةِ الصَّدَقَةِ ، وَخَشْيَةُ السَّاعِي مِنْ نُقْصَانِهَا .
فَلَيْسَ لِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ أَنْ يَجْمَعُوا أَمْوَالَهُمْ الْمُتَفَرِّقَةَ ، الَّتِي كَانَ الْوَاجِبُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا شَاةً ، لِيَقِلَّ الْوَاجِبُ فِيهَا ، وَلَا أَنْ يُفَرِّقُوا أَمْوَالَهُمْ الْمُجْتَمِعَةَ ، الَّتِي كَانَ فِيهَا بِاجْتِمَاعِهَا فَرْضٌ ، لِيَسْقُطَ عَنْهَا بِتَفْرِقَتِهَا ، وَلَيْسَ لِلسَّاعِي أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الْخُلَطَاءِ ، لِتَكْثُرَ الزَّكَاةُ ، وَلَا أَنْ يَجْمَعَهَا إذَا كَانَتْ مُتَفَرِّقَةً لِتَجِبَ الزَّكَاةُ ، وَلِأَنَّ الْمَالَيْنِ قَدْ صَارَا

كَالْمَالِ الْوَاحِدِ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ ، فَكَذَلِكَ فِي إخْرَاجِهَا .
وَمَتَى أَخَذَ السَّاعِي الْفَرْضَ مِنْ مَالِ أَحَدِهِمَا ، رَجَعَ عَلَى خَلِيطِهِ بِقَدْرِ قِيمَةِ حِصَّتِهِ مِنْ الْفَرْضِ ، فَإِذَا كَانَ لَأَحَدِهِمَا ثُلُثُ الْمَالِ ، وَلِلْآخَرِ ثُلُثَاهُ ، فَأَخَذَ الْفَرْضَ مِنْ مَالِ صَاحِبِ الثُّلُثِ ، رَجَعَ بِثُلُثَيْ قِيمَةِ الْمُخْرَجِ عَلَى صَاحِبِهِ .
وَإِنْ أَخَذَهُ مِنْ الْآخَرِ ، رَجَعَ عَلَى صَاحِبِ الثُّلُثِ بِثُلُثِ قِيمَةِ الْمُخْرَجِ ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَرْجُوعِ عَلَيْهِ مَعَ يَمِينِهِ إذَا اخْتَلَفَا ، وَعَدِمَتْ الْبَيِّنَةُ ؛ لِأَنَّهُ غَارِمٌ ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ ، كَالْغَاصِبِ إذَا اخْتَلَفَا فِي قِيمَةِ الْمَغْصُوبِ بَعْدَ تَلَفِهِ .

( 1732 ) فَصْلٌ : إذَا أَخَذَ السَّاعِي أَكْثَرَ مِنْ الْفَرْضِ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ ، مِثْلُ أَنْ يَأْخُذَ شَاتَيْنِ مَكَانَ شَاةٍ ، أَوْ يَأْخُذَ جَذَعَةً مَكَانَ حِقَّةٍ ، لَمْ يَكُنْ لِلْمَأْخُوذِ مِنْهُ الرُّجُوعُ إلَّا بِقَدْرِ الْوَاجِبِ .
وَإِنْ كَانَ بِتَأْوِيلٍ سَائِغٍ ، مِثْلُ أَنْ يَأْخُذَ الصَّحِيحَةَ عَنْ الْمِرَاضِ ، وَالْكَبِيرَةَ عَنْ الصِّغَارِ ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِالْحِصَّةِ مِنْهَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ ، فَإِذَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى أَخْذِهِ ، وَجَبَ عَلَيْهِ دَفْعُهُ إلَيْهِ ، وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْفَرْضِ الْوَاجِبِ .
وَكَذَلِكَ إذَا أَخَذَ الْقِيمَةَ ، رَجَعَ بِمَا يَخُصُّ شَرِيكَهُ مِنْهَا ؛ لِأَنَّهُ بِتَأْوِيلٍ .

( 1733 ) فَصْلٌ : إذَا مَلَكَ رَجُلٌ أَرْبَعِينَ شَاةً فِي الْمُحَرَّمِ ، وَأَرْبَعِينَ فِي صَفَرٍ ، وَأَرْبَعِينَ فِي رَبِيعٍ ، فَعَلَيْهِ فِي الْأَوَّلِ عِنْدَ تَمَامِ حَوْلِهِ شَاةٌ ، فَإِذَا تَمَّ حَوْلُ الثَّانِي ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا ، لَا زَكَاةَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ مِلْكُ وَاحِدٍ ، فَلَمْ يَزِدْ فَرْضُهُ عَلَى شَاةٍ وَاحِدَةٍ ، كَمَا لَوْ اتَّفَقَتْ أَحْوَالُهُ .
وَالثَّانِي ، فِيهِ الزَّكَاةُ ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ اسْتَقَلَّ بِشَاةٍ ، فَيَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الثَّانِي ، وَهِيَ نِصْفُ شَاةٍ ؛ لِاخْتِلَاطِهَا بِالْأَرْبَعِينَ الْأُولَى مِنْ حِينِ مَلَكَهَا .
وَإِذَا تَمَّ حَوْلُ الثَّالِثِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا لَا زَكَاةَ فِيهِ .
وَالثَّانِي ، فِيهِ الزَّكَاةُ ، وَهُوَ ثُلُثُ شَاةٍ ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ مُخْتَلِطًا بِالثَّمَانِينَ الْمُتَقَدِّمَةِ .
وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ فِيهِ وَجْهًا ثَالِثًا ، وَهُوَ أَنَّهُ يَجِبُ فِي الثَّانِي شَاةٌ كَامِلَةٌ ، وَفِي الثَّالِثِ شَاةٌ كَامِلَةٌ لِأَنَّهُ نِصَابٌ كَامِلٌ وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِيهِ بِنَفْسِهِ ، فَوَجَبَتْ فِيهِ شَاةٌ كَامِلَةٌ ، كَمَا لَوْ انْفَرَدَ .
وَهَذَا ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَالِكُ لِلثَّانِي وَالثَّالِثِ أَجْنَبِيَّيْنِ ، مَلَكَاهُمَا مُخْتَلِطَيْنِ ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمَا إلَّا زَكَاةُ خُلْطَةٍ ، فَإِذَا كَانَ لِمَالِكِ الْأَوَّلِ كَانَ أَوْلَى ، فَإِنْ ضَمَّ بَعْضَ مَالِهِ إلَى بَعْضٍ أَوْلَى مِنْ ضَمِّ مِلْكِ الْخَلِيطِ إلَى خَلِيطِهِ .
وَإِنْ مَلَكَ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي مَا يُغَيِّرُ الْفَرْضَ ، مِثْلُ أَنْ مَلَكَ مِائَةَ شَاةٍ ، فَعَلَيْهِ فِيهِ عِنْدَ تَمَامِ حَوْلِهِ شَاةٌ ثَانِيَةٌ ، عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ .
وَكَذَلِكَ الثَّالِثُ ؛ لِأَنَّنَا نَجْعَلُ مِلْكَهُ فِي الْإِيجَابِ ، كَمِلْكِهِ لِلْكُلِّ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ ، فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ مَلَكَ مِائَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ ثَلَاثُ شِيَاهٍ ، عِنْدَ تَمَامِ حَوْلِ كُلِّ مَالٍ شَاةٌ .
وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي ، يَجِبُ عَلَيْهِ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي حِصَّتُهُ مِنْ فَرْضِ الْمَالَيْنِ مَعًا ، وَهُوَ شَاةٌ وَثَلَاثَةُ أَسْبَاعِ شَاةٍ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ مَلَكَ الْمَالَيْنِ

دُفْعَةً وَاحِدَةً ، كَانَ عَلَيْهِ فِيهِمَا شَاتَانِ ، حِصَّةُ الْمِائَةِ مِنْهَا خَمْسَةُ أَسْبَاعِهِمَا ، وَهُوَ شَاةٌ وَثَلَاثَةُ أَسْبَاعِ شَاةٍ ، وَعَلَيْهِ فِي الثَّالِثِ شَاةٌ وَرُبْعٌ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ مَلَكَ الْجَمِيعَ دُفْعَةً وَاحِدَةً ، وَهُوَ مِائَتَانِ وَأَرْبَعُونَ شَاةً ، لَكَانَ عَلَيْهِ ثَلَاثُ شِيَاهٍ ، حِصَّةُ الثَّالِثِ مِنْهُنَّ رُبْعُهُنَّ وَسُدْسُهُنَّ ، وَهُوَ شَاةٌ وَرُبْعٌ .
وَلَوْ كَانَ الْمَالِكُ لِلْأَمْوَالِ الثَّلَاثَةِ ثَلَاثَةَ أَشْخَاصٍ ، وَمَلَكَ الثَّانِي سَائِمَتَهُ مُخْتَلِطَةً بِسَائِمَةِ الْأَوَّلِ ، ثُمَّ مَلَكَ الثَّالِثُ سَائِمَتَهُ مُخْتَلِطَةً بِغَنَمِهِمَا ، لَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَى الثَّانِي وَالثَّالِثِ كَالْوَاجِبِ عَلَى الْمَالِكِ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي ، لَا غَيْرُ .

( 1734 ) فَصْلٌ : فَإِنْ مَلَكَ عِشْرِينَ مِنْ الْإِبِلِ فِي الْمُحَرَّمِ ، وَخَمْسًا فِي صَفَرٍ ، فَعَلَيْهِ فِي الْعِشْرِينَ عِنْدَ تَمَامِ حَوْلِهَا ، أَرْبَعُ شِيَاهٍ ، وَفِي الْخَمْسِ عِنْدَ تَمَامِ حَوْلِهَا خُمْسُ بِنْتِ مَخَاضٍ .
عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ .
وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّالِثِ ، عَلَيْهِ شَاةٌ .
وَإِنْ مَلَكَ فِي الْمُحَرَّمِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ ، وَفِي صَفَرٍ خَمْسًا ، فَعَلَيْهِ فِي الْأَوَّلِ عِنْدَ تَمَامِ حَوْلِهِ بِنْتُ مَخَاضٍ ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الْخَمْسِ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ .
وَعَلَى الثَّانِي : عَلَيْهِ سُدْسُ بِنْتِ مَخَاضٍ .
وَعَلَى الثَّالِثِ عَلَيْهِ فِيهَا شَاةٌ .
فَإِنْ مَلَكَ مَعَ ذَلِكَ فِي رَبِيعٍ شَيْئًا ، فَفِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ، عَلَيْهِ فِي الْأَوَّلِ عِنْدَ تَمَامِ حَوْلِهِ بِنْتُ مَخَاضٍ ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الْخَمْسِ حَتَّى يَتِمَّ حَوْلُ السِّتِّ ، فَيَجِبُ فِيهِمَا رُبْعُ بِنْتِ لَبُونٍ وَنِصْفُ تُسْعِهَا .
وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي ، عَلَيْهِ فِي الْخَمْسِ سُدْسُ بِنْتِ مَخَاضٍ إذَا تَمَّ حَوْلُهَا ، وَفِي السِّتِّ سُدْسُ بِنْتِ لَبُونٍ عِنْدَ تَمَامِ حَوْلِهَا .
وَفِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ ، عَلَيْهِ فِي الْخَمْسِ الثَّانِيَةِ شَاةٌ عِنْدَ تَمَامِ حَوْلِهَا ، وَفِي السِّتِّ شَاةٌ عِنْدَ تَمَامِ حَوْلِهَا .

( 1735 ) فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَتْ سَائِمَةُ الرَّجُلِ فِي بُلْدَانٍ شَتَّى ، وَبَيْنَهُمَا مَسَافَةٌ لَا تُقْصَرُ فِيهَا الصَّلَاةُ ، أَوْ كَانَتْ مُجْتَمِعَةً ، ضُمَّ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ ، وَكَانَتْ زَكَاتُهَا كَزَكَاةِ الْمُخْتَلِطَةِ ، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ .
وَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْبُلْدَانِ مَسَافَةُ الْقَصْرِ ، فَعَنْ أَحْمَدَ فِيهِ رِوَايَتَانِ ؛ إحْدَاهُمَا ، أَنَّ لِكُلِّ مَالٍ حُكْمَ نَفْسِهِ ، يُعْتَبَرُ عَلَى حِدَتِهِ ، إنْ كَانَ نِصَابًا فَفِيهِ الزَّكَاةُ ، وَإِلَّا فَلَا ، وَلَا يُضَمُّ إلَى الْمَالِ الَّذِي فِي الْبَلَدِ الْآخَرِ .
نَصَّ عَلَيْهِ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ لَا أَعْلَمُ هَذَا الْقَوْلَ عَنْ غَيْرِ أَحْمَدَ وَاحْتَجَّ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { : لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ ، وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ ، خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ .
} وَهَذَا مُفَرَّقٌ فَلَا يُجْمَعُ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا أَثَّرَ اجْتِمَاعُ مَالَيْنِ لِرَجُلَيْنِ ، فِي كَوْنِهِمَا كَالْمَالِ الْوَاحِدِ ، يَجِبُ أَنْ يُؤَثِّرَ افْتِرَاقُ مَالِ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ ، حَتَّى يَجْعَلَهُ كَالْمَالَيْنِ .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ ، قَالَ فِي مَنْ لَهُ مِائَةُ شَاةٍ فِي بُلْدَانٍ مُتَفَرِّقَةٍ : لَا يَأْخُذُ الْمُصَدِّقُ مِنْهَا شَيْئًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ ، وَصَاحِبُهَا إذَا ضَبَطَ ذَلِكَ وَعَرَفَهُ أَخْرَجَ هُوَ بِنَفْسِهِ ، يَضَعُهَا فِي الْفُقَرَاءِ .
رُوِيَ هَذَا عَنْ الْمَيْمُونِيِّ وَحَنْبَلٍ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ زَكَاتَهَا تَجِبُ مَعَ اخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ ، إلَّا أَنَّ السَّاعِيَ لَا يَأْخُذُهَا ؛ لِكَوْنِهِ لَا يَجِدُ نِصَابًا كَامِلًا مُجْتَمِعًا ، وَلَا يَعْلَمُ حَقِيقَةَ الْحَالِ فِيهَا ، فَأَمَّا الْمَالِكُ الْعَالِمُ بِمِلْكِهِ نِصَابًا كَامِلًا ، فَعَلَيْهِ أَدَاءُ الزَّكَاةِ وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي الْخَطَّابِ وَمَذْهَبُ سَائِرِ الْفُقَهَاءِ .
قَالَ مَالِكٌ أَحْسَنُ مَا سَمِعْت فِي مَنْ كَانَ لَهُ غَنَمٌ عَلَى رَاعِيَيْنِ مُتَفَرِّقَيْنِ بِبُلْدَانٍ شَتَّى ، أَنَّ ذَلِكَ يُجْمَعُ عَلَى صَاحِبِهِ ، فَيُؤَدِّي صَدَقَتَهُ .
وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ

السَّلَامُ : " فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ " .
وَلِأَنَّهُ مِلْكٌ وَاحِدٌ أَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ فِي بُلْدَانٍ مُتَقَارِبَةٍ ، أَوْ غَيْرَ السَّائِمَةِ .
وَنَحْمِلُ كَلَامَ أَحْمَدَ ، فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى ، عَلَى أَنَّ الْمُصَدِّقَ لَا يَأْخُذُهَا ، وَأَمَّا رَبُّ الْمَالِ فَيُخْرِجُ .
فَعَلَى هَذَا يُخْرِجُ الْفَرْضَ فِي أَحَدِ الْبَلَدَيْنِ شَاءَ ، لِأَنَّهُ مَوْضِعُ حَاجَةٍ .

( 1736 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَإِنْ اخْتَلَطُوا فِي غَيْرِ هَذَا ، أَخَذَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى انْفِرَادِهِ ، إذَا كَانَ مَا يَخُصُّهُ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ ) وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ إذَا اخْتَلَطُوا فِي غَيْرِ السَّائِمَةِ ، كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَعُرُوضِ التِّجَارَةِ وَالزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ ، لَمْ تُؤَثِّرْ خَلَطَتْهُمْ شَيْئًا ، وَكَانَ حُكْمُهُمْ حُكْمَ الْمُنْفَرِدِينَ .
وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى ، أَنَّ شَرِكَةَ الْأَعْيَانِ تُؤَثِّرُ فِي غَيْرِ الْمَاشِيَةِ ، فَإِذَا كَانَ بَيْنَهُمْ نِصَابٌ يَشْتَرِكُونَ فِيهِ ، فَعَلَيْهِمْ الزَّكَاةُ .
وَهَذَا قَوْلُ إِسْحَاقَ وَالْأَوْزَاعِيِّ فِي الْحَبِّ وَالثَّمَرِ .
وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ .
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : الْأَوْزَاعِيُّ يَقُولُ فِي الزَّرْعِ ، إذَا كَانُوا شُرَكَاءَ فَخَرَجَ لَهُمْ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ ، يَقُولُ : فِيهِ الزَّكَاةُ .
قَاسَهُ عَلَى الْغَنَمِ ، وَلَا يُعْجِبُنِي قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَأَمَّا خُلْطَةُ الْأَوْصَافِ ، فَلَا مَدْخَلَ لَهَا فِي غَيْرِ الْمَاشِيَةِ بِحَالٍ ، لِأَنَّ الِاخْتِلَاطَ لَا يَحْصُلُ .
وَخَرَّجَ الْقَاضِي وَجْهًا آخَرَ ، أَنَّهَا تُؤَثِّرُ ؛ لِأَنَّ الْمَئُونَةَ تَخِفُّ إذَا كَانَ الْمُلَقِّحُ وَاحِدًا ، وَالصِّعَادُ ، وَالنَّاطُورُ ، وَالْجَرِينُ ، وَكَذَلِكَ أَمْوَالُ التِّجَارَةِ ؛ الدُّكَّانُ وَاحِدٌ ، وَالْمَخْزَنُ وَالْمِيزَانُ وَالْبَائِعُ ، فَأَشْبَهَ الْمَاشِيَةَ .
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ عَلَى نَحْوٍ مِمَّا حَكَيْنَا فِي مَذْهَبِنَا .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْخُلْطَةَ لَا تُؤَثِّرُ فِي غَيْرِ الْمَاشِيَةِ ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَالْخَلِيطَانِ مَا اشْتَرَكَا فِي الْحَوْضِ وَالْفَحْلِ وَالرَّاعِي .
} فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا لَمْ يُوجَدْ فِيهِ ذَلِكَ لَا يَكُونُ خُلْطَةً مُؤَثِّرَةً ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ ، خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ } .
إنَّمَا يَكُونُ فِي الْمَاشِيَةِ ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ تَقِلُّ بِجَمْعِهَا تَارَةً ، وَتَكْثُرُ أُخْرَى ، وَسَائِرُ الْأَمْوَالِ تَجِبُ فِيهَا فِيمَا زَادَ

عَلَى النِّصَابِ بِحِسَابِهِ ، فَلَا أَثَرَ لِجَمْعِهَا ، وَلِأَنَّ الْخُلْطَةَ فِي الْمَاشِيَةِ تُؤَثِّرُ فِي النَّفْعِ تَارَةً ، وَفِي الضَّرَرِ أُخْرَى ، وَلَوْ اعْتَبَرْنَاهَا فِي غَيْرِ الْمَاشِيَةِ أَثَّرَتْ ضَرَرًا مَحْضًا بِرَبِّ الْمَالِ ، فَلَا يَجُوزُ اعْتِبَارُهَا إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنْ كَانَ لِجَمَاعَةٍ وَقْفٌ أَوْ حَائِطٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمْ ، فِيهِ ثَمَرَةٌ أَوْ زَرْعٌ ، فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِمْ ، إلَّا أَنْ يَحْصُلَ فِي يَدِ بَعْضِهِمْ نِصَابٌ كَامِلٌ ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ ، وَقَدْ ذَكَرَ الْخِرَقِيِّ هَذَا فِي بَابِ الْوَقْفِ .
وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى ، إذَا كَانَ الْخَارِجُ نِصَابًا ، فَفِيهِ الزَّكَاةُ ، وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ نِصَابًا مِنْ السَّائِمَةِ ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّ عَلَيْهِمْ الزَّكَاةَ ؛ لِاشْتِرَاكِهِمْ فِي مِلْكِ نِصَابٍ تُؤَثِّرُ الْخُلْطَةُ فِيهِ ، وَيَنْبَغِي أَنْ تُخْرَجَ الزَّكَاةُ مِنْ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ لَا يَجُوزُ نَقْلُ الْمِلْكِ فِيهِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَجِبَ الزَّكَاةُ فِيهِ ؛ لِنَقْصِ الْمِلْكِ فِيهِ ، وَكَمَالُهُ مُعْتَبَرٌ فِي إيجَابِ الزَّكَاةِ ، بِدَلِيلِ مَالِ الْمُكَاتَبِ .

( 1737 ) فَصْلٌ : وَلَا زَكَاةَ فِي غَيْرِ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ مِنْ الْمَاشِيَةِ ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْخَيْلِ الزَّكَاةُ ، إذَا كَانَتْ ذُكُورًا وَإِنَاثًا ، وَإِنْ كَانَتْ ذُكُورًا مُفْرَدَةً ، أَوْ إنَاثًا مُفْرَدَةً ، فَفِيهَا رِوَايَتَانِ ، وَزَكَاتُهَا دِينَارٌ عَنْ كُلِّ فَرَسٍ ، أَوْ رُبْعُ عُشْرِ قِيمَتِهَا ، وَالْخِيَرَةُ فِي ذَلِكَ إلَى صَاحِبِهَا ، أَيَّهُمَا شَاءَ أَخْرَجَ ؛ لِمَا رَوَى جَابِرٌ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { فِي الْخَيْلِ السَّائِمَةِ ، فِي كُلِّ فَرَسٍ دِينَارٌ .
} وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ مِنْ الرَّأْسِ عَشَرَةً ، وَمِنْ الْفَرَسِ عَشَرَةً ، وَمِنْ الْبِرْذَوْنِ خَمْسَةً .
وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ يُطْلَبُ نَمَاؤُهُ مِنْ جِهَةِ السَّوْمِ ، أَشْبَهَ النَّعَمَ .
وَلَنَا ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَالَ : لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي فَرَسِهِ وَغُلَامِهِ صَدَقَةٌ .
} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَفِي لَفْظٍ { : لَيْسَ عَلَى الرَّجُلِ فِي فَرَسِهِ وَلَا فِي عَبْدِهِ صَدَقَةٌ .
} وَعَنْ عَلِيٍّ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : عَفَوْت لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ .
} رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ .
وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ .
وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ ، فِي " الْغَرِيبِ " ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : لَيْسَ فِي الْجَبْهَةِ ، وَلَا فِي النُّخَّةِ ، وَلَا فِي الْكُسْعَةِ صَدَقَةٌ .
} وَفَسَّرَ الْجَبْهَةَ بِالْخَيْلِ ، وَالنُّخَّةَ بِالرَّقِيقِ ، وَالْكُسْعَةَ بِالْحَمِيرِ .
وَقَالَ الْكِسَائِيُّ : النُّخَّةُ : بِضَمِّ النُّونِ : الْبَقَرُ الْعَوَامِلُ .
وَلِأَنَّ مَا لَا زَكَاةَ فِي ذُكُورِهِ الْمُفْرَدَةِ ، وَإِنَاثِهِ الْمُفْرَدَةِ ، لَا زَكَاةَ فِيهِمَا إذَا اجْتَمَعَا ، كَالْحَمِيرِ .
وَلِأَنَّ مَا لَا يُخْرَجُ زَكَاتُهُ مِنْ جِنْسِهِ مِنْ السَّائِمَةِ لَا تَجِبُ فِيهِ ، كَسَائِرِ الدَّوَابِّ ، وَلِأَنَّ الْخَيْلَ دَوَابُّ ، فَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهَا ، كَسَائِرِ الدَّوَابِّ ، وَلِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ، فَلَمْ تَجِبْ زَكَاتُهَا ،

كَالْوُحُوشِ .
وَحَدِيثُهُمْ يَرْوِيهِ غَوْرَكُ السَّعْدِيُّ ، وَهُوَ ضَعِيفٌ .
وَأَمَّا عُمَرُ فَإِنَّمَا أَخَذَ مِنْهُمْ شَيْئًا تَبَرَّعُوا بِهِ ، وَسَأَلُوهُ أَخْذَهُ ، وَعَوَّضَهُمْ عَنْهُ بِرِزْقِ عَبِيدِهِمْ ، فَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ حَارِثَةَ ، قَالَ : جَاءَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ إلَى عُمَرَ فَقَالُوا : إنَّا قَدْ أَصَبْنَا مَالًا وَخَيْلًا وَرَقِيقًا ، نُحِبُّ أَنْ يَكُونَ لَنَا فِيهَا زَكَاةٌ وَطَهُورٌ .
قَالَ : مَا فَعَلَهُ صَاحِبَايَ قَبْلِي ، فَأَفْعَلُهُ فَاسْتَشَارَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهِمْ عَلِيٌّ فَقَالَ : هُوَ حَسَنٌ إنْ لَمْ يَكُنْ جِزْيَةً يُؤْخَذُونَ بِهَا مِنْ بَعْدِكَ .
قَالَ أَحْمَدُ : فَكَانَ عُمَرُ يَأْخُذُ مِنْهُمْ ، ثُمَّ يَرْزُقُ عَبِيدَهُمْ ، .
فَصَارَ حَدِيثُ عُمَرَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ مِنْ وُجُوهٍ ؛ أَحَدُهَا ، قَوْلُهُ : مَا فَعَلَهُ صَاحِبَايَ .
يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمَا تَرَكَا فِعْلَهُ .
الثَّانِي ، أَنَّ عُمَرَ امْتَنَعَ مِنْ أَخْذِهَا ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الْوَاجِبِ .
الثَّالِثُ ، قَوْلُ عَلِيٍّ : هُوَ حَسَنٌ إنْ لَمْ يَكُنْ جِزْيَةٌ يُؤْخَذُونَ بِهَا مِنْ بَعْدِكَ .
فَسَمَّى جِزْيَةً إنْ أُخِذُوا بِهَا ، وَجَعَلَ حُسْنَهُ مَشْرُوطًا بِعَدَمِ أَخْذِهِمْ بِهِ ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَخْذَهُمْ بِذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ .
الرَّابِعُ ، اسْتِشَارَةُ عُمَرَ أَصْحَابَهُ فِي أَخْذِهِ ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمَا احْتَاجَ إلَى الِاسْتِشَارَةِ .
الْخَامِسُ ، أَنَّهُ لَمْ يُشِرْ عَلَيْهِ بِأَخْذِهِ أَحَدٌ سِوَى عَلِيٍّ بِهَذَا الشَّرْطِ الَّذِي ذَكَرَهُ ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَأَشَارُوا بِهِ .
السَّادِسُ ، أَنَّ عُمَرَ عَوَّضَهُمْ عَنْهُ رِزْقَ عَبِيدِهِمْ ، وَالزَّكَاةُ لَا يُؤْخَذُ عَنْهَا عِوَضٌ وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهَا عَلَى النَّعَمِ ؛ لِأَنَّهَا يَكْمُلُ نَمَاؤُهَا ، وَيُنْتَفَعُ بِدَرِّهَا وَلَحْمِهَا ، وَيُضَحَّى بِجِنْسِهَا ، وَتَكُونُ هَدْيًا ، وَفِدْيَةً عَنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ ، وَتَجِبُ الزَّكَاةُ مِنْ عَيْنِهَا ، وَيُعْتَبَرُ كَمَالُ نِصَابِهَا ،

وَلَا يُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا ، وَالْخَيْلُ بِخِلَافِ ذَلِكَ .

( 1738 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَالصَّدَقَةُ لَا تَجِبُ إلَّا عَلَى أَحْرَارِ الْمُسْلِمِينَ ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ : " إلَّا عَلَى الْأَحْرَارِ الْمُسْلِمِينَ " .
وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ ، وَهُوَ أَنَّ الزَّكَاةَ لَا تَجِبُ إلَّا عَلَى حُرٍّ مُسْلِمٍ تَامِّ الْمِلْكِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا إلَّا عَنْ عَطَاءٍ وَأَبِي ثَوْرٍ فَإِنَّهُمَا قَالَا : عَلَى الْعَبْدِ زَكَاةُ مَالِهِ .
وَلَنَا ، أَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ بِتَامِّ الْمِلْكِ ، فَلَمْ تَلْزَمْهُ زَكَاةٌ ، كَالْمُكَاتَبِ .
فَأَمَّا الْكَافِرُ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ ، وَمَتَى صَارَ أَحَدُ هَؤُلَاءِ مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ ، وَهُوَ مَالِكٌ لِلنِّصَابِ ، اسْتَقْبَلَ بِهِ حَوْلًا ثُمَّ زَكَّاهُ ، فَأَمَّا الْحُرُّ الْمُسْلِمُ إذَا مَلَكَ نِصَابًا خَالِيًا عَنْ دَيْنٍ ، فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ عِنْدَ تَمَامِ حَوْلِهِ ، سَوَاءٌ كَانَ كَبِيرًا أَوْ صَغِيرًا ، أَوْ عَاقِلًا أَوْ مَجْنُونًا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ يُخْرِجُ عَنْهُمَا وَلِيُّهُمَا ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي مَالِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ ؛ لِوُجُودِ الشَّرَائِطِ الثَّلَاثِ فِيهِمَا ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ وَجَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
وَبِهِ قَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَابْنُ سِيرِينَ وَعَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَرَبِيعَةُ وَمَالِكٌ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالشَّافِعِيُّ وَالْعَنْبَرِيُّ وَابْنُ عُيَيْنَةَ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو ثَوْرٍ وَيُحْكَى عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُمْ قَالُوا : تَجِبُ الزَّكَاةُ ، وَلَا تُخْرَجُ حَتَّى يَبْلُغَ الصَّبِيُّ ، وَيُفِيقَ الْمَعْتُوهُ .
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ أُحْصِي مَا يَجِبُ فِي مَالِ الْيَتِيمِ مِنْ الزَّكَاةِ ، فَإِذَا بَلَغَ أُعْلِمُهُ ، فَإِنْ شَاءَ زَكَّى ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يُزَكِّ .
وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ إبْرَاهِيمَ وَقَالَ الْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَأَبُو وَائِلٍ وَالنَّخَعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي أَمْوَالِهِمَا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَجِبُ الْعُشْرُ فِي زُرُوعِهِمَا وَثَمَرَتِهِمَا ، وَتَجِبُ صَدَقَةُ الْفِطْرِ عَلَيْهِمَا .
وَاحْتَجَّ فِي نَفْيِ الزَّكَاةِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { : رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ : عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ ، وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ .
} وَبِأَنَّهَا عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ ؛ فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِمَا ، كَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ .
وَلَنَا ، مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : مَنْ وَلِيَ يَتِيمًا لَهُ مَالٌ فَلْيَتَّجِرْ لَهُ ، وَلَا يَتْرُكُهُ حَتَّى تَأْكُلَهُ الصَّدَقَةُ .
} أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ .
وَفِي رُوَاتِهِ الْمُثَنَّى بْنُ الصَّبَّاحِ ، وَفِيهِ مَقَالٌ ، وَرُوِيَ مَوْقُوفًا عَلَى عُمَرَ : " وَإِنَّمَا تَأْكُلُهُ الصَّدَقَةُ بِإِخْرَاجِهَا " .
وَإِنَّمَا يَجُوزُ إخْرَاجُهَا إذَا كَانَتْ وَاجِبَةً ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَبَرَّعَ بِمَالِ الْيَتِيمِ ، وَلِأَنَّ مِنْ وَجَبَ

الْعُشْرُ فِي زَرْعِهِ وَجَبَ رُبْعُ الْعُشْرِ فِي وَرِقِهِ ، كَالْبَالِغِ الْعَاقِلِ ، وَيُخَالِفُ الصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ ، فَإِنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِالْبَدَنِ ، وَبِنْيَةُ الصَّبِيِّ ضَعِيفَةٌ عَنْهَا ، وَالْمَجْنُونُ لَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُ نِيَّتُهَا ، وَالزَّكَاةُ حَقٌّ يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ ، فَأَشْبَهَ نَفَقَةَ الْأَقَارِبِ وَالزَّوْجَاتِ ، وَأُرُوشَ الْجِنَايَات ، وَقِيَمَ الْمُتْلَفَاتِ ، وَالْحَدِيثُ أُرِيدَ بِهِ رَفْعُ الْإِثْمِ وَالْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ ، بِدَلِيلِ وُجُوبِ الْعُشْرِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ ، ثُمَّ هُوَ مَخْصُوصٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ ، وَالزَّكَاةُ فِي الْمَالِ فِي مَعْنَاهُ ، فَنَقِيسُهَا عَلَيْهِ .
إذَا تَقَرَّرَ هَذَا ، فَإِنَّ الْوَلِيَّ يُخْرِجُهَا عَنْهُمَا مِنْ مَالِهِمَا ؛ لِأَنَّهَا زَكَاةٌ وَاجِبَةٌ ، فَوَجَبَ إخْرَاجُهَا ، كَزَكَاةِ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ ، وَالْوَلِيُّ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي أَدَاءِ مَا عَلَيْهِ ؛ وَلِأَنَّهَا حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ ، فَكَانَ عَلَى الْوَلِيِّ أَدَاؤُهُ عَنْهُمَا ، كَنَفَقَةِ أَقَارِبِهِ ، وَتُعْتَبَرُ نِيَّةُ الْوَلِيِّ فِي الْإِخْرَاجِ ، كَمَا تُعْتَبَرُ النِّيَّةُ مِنْ رَبِّ الْمَالِ .

( 1740 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَالسَّيِّدُ يُزَكِّي عَمَّا فِي يَدِ عَبْدِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَالِكُهُ ) يَعْنِي أَنَّ السَّيِّدَ مَالِكٌ لِمَا فِي يَدِ عَبْدِهِ ، وَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، فِي زَكَاةِ مَالِ الْعَبْدِ الَّذِي مَلَّكَهُ إيَّاهُ ، فَرُوِيَ عَنْهُ : زَكَاتُهُ عَلَى سَيِّدِهِ .
هَذَا مَذْهَبُ سُفْيَانَ وَإِسْحَاقَ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ .
وَرُوِيَ عَنْهُ : لَا زَكَاةَ فِي مَالِهِ ؛ لَا عَلَى الْعَبْدِ وَلَا عَلَى سَيِّدِهِ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ وَالزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ وَمَالِكٍ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ كَالْمَذْهَبَيْنِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي مِلْكِ الْعَبْدِ ، إذَا مَلَّكَهُ سَيِّدُهُ ؛ إحْدَاهُمَا ، لَا يَمْلِكُ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَهُوَ اخْتِيَارِيٌّ .
وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ هَاهُنَا ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ السَّيِّدَ مَالِكًا لِمَالِ عَبْدِهِ ، وَلَوْ كَانَ مَمْلُوكًا لِلْعَبْدِ لَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا لِسَيِّدِهِ ، لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ اجْتِمَاعُ مِلْكَيْنِ كَامِلَيْنِ فِي مَالٍ وَاحِدٍ ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْعَبْدَ مَالٌ ، فَلَا يَمْلِكُ الْمَالَ كَالْبَهَائِمِ ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ زَكَاتُهُ عَلَى سَيِّدِ الْعَبْدِ ، لِأَنَّهُ مِلْكٌ لَهُ فِي يَدِ عَبْدِهِ ، فَكَانَتْ زَكَاتُهُ عَلَيْهِ ، كَالْمَالِ الَّذِي فِي يَدِ الْمُضَارِبِ وَالْوَكِيلِ .
وَالثَّانِيَةُ ، يَمْلِكُ ؛ لِأَنَّهُ آدَمِيٌّ يَمْلِكُ النِّكَاحَ ، فَمَلَكَ الْمَالَ ، كَالْحُرِّ ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ بِالْآدَمِيَّةِ يَتَمَهَّدُ لِلْمِلْكِ ، مِنْ قِبَلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْمَالَ لِبَنِي آدَمَ لِيَسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى الْقِيَامِ بِوَظَائِفِ الْعِبَادَاتِ ، وَأَعْبَاءِ التَّكَالِيفِ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى : خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا .
فَبِالْآدَمِيَّةِ يَتَمَهَّدُ لِلْمِلْكِ وَيَصْلُحُ لَهُ ، كَمَا يَتَمَهَّدُ لِلتَّكْلِيفِ وَالْعِبَادَةِ ، فَعَلَى هَذَا لَا زَكَاةَ عَلَى السَّيِّدِ فِي مَالِ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ ، وَلَا عَلَى الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ نَاقِصٌ ،

وَالزَّكَاةُ إنَّمَا تَجِبُ عَلَى تَامِّ الْمِلْكِ .
( 1741 ) فَصْلٌ : وَمِنْ بَعْضُهُ حُرٌّ عَلَيْهِ زَكَاةُ مَالِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُهُ بِجُزْئِهِ الْحُرِّ ، وَيُورَثُ عَنْهُ ، وَمِلْكُهُ كَامِلٌ فِيهِ ، فَكَانَتْ زَكَاتُهُ عَلَيْهِ ، كَالْحُرِّ الْكَامِلِ .
وَالْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ كَالْقِنِّ ؛ لِأَنَّهُ لَا حُرِّيَّةَ فِيهِمَا .

( 1742 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَلَا زَكَاةَ عَلَى مُكَاتَبٍ ) فَإِنْ عَجَزَ اسْتَقْبَلَ سَيِّدُهُ بِمَا فِي يَدِهِ مِنْ الْمَالِ حَوْلًا وَزَكَاةً ، إنْ كَانَ نِصَابًا ، وَإِنْ أَدَّى ، وَبَقِيَ فِي يَدِهِ نِصَابٌ لِلزَّكَاةِ ، اسْتَقْبَلَ بِهِ حَوْلًا .
لَا أَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أَنَّهُ لَا زَكَاةَ عَلَى الْمُكَاتَبِ ؛ وَلَا عَلَى سَيِّدِهِ فِي مَالِهِ ؛ إلَّا قَوْلَ أَبِي ثَوْرٍ ذَكَرَ ابْنُ الْمُنْذِرِ نَحْوَ هَذَا .
وَاحْتَجَّ أَبُو ثَوْرٍ بِأَنَّ الْحَجْرَ مِنْ السَّيِّدِ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ ، كَالْحَجْرِ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالْمَرْهُونِ .
وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ أَوْجَبَ الْعُشْرَ فِي الْخَارِجِ مِنْ أَرْضِهِ ، بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ الْعُشْرَ مُؤْنَةُ الْأَرْضِ ، وَلَيْسَ بِزَكَاةٍ .
وَلَنَا ، مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا زَكَاةَ فِي مَالِ الْمُكَاتَبِ .
} رَوَاهُ الْفُقَهَاءُ فِي كُتُبِهِمْ ، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ عَلَى طَرِيقِ الْمُوَاسَاةِ ، فَلَمْ تَجِبْ فِي مَالِ الْمُكَاتَبِ ، كَنَفَقَةِ الْأَقَارِبِ ، وَفَارَقَ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ ، فَإِنَّهُ مُنِعَ التَّصَرُّفَ لِنَقْصِ تَصَرُّفِهِ ، لَا لِنَقْصِ مِلْكِهِ ، وَالْمَرْهُونُ مُنِعَ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ بِعَقْدِهِ ، فَلَمْ يَسْقُطْ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى ، وَمَتَى كَانَ مَنْعُ التَّصَرُّفِ فِيهِ لِدَيْنٍ لَا يُمْكِنُ وَفَاؤُهُ مِنْ غَيْرِهِ ، فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَمَتَى عَجَزَ وَرُدَّ فِي الرِّقِّ ، صَارَ مَا كَانَ فِي يَدِهِ مِلْكًا لِسَيِّدِهِ ، فَإِنْ كَانَا نِصَابًا ، أَوْ يَبْلُغُ بِضَمِّهِ إلَى مَا فِي يَدِهِ نِصَابًا ، اسْتَأْنَفَ لَهُ حَوْلًا مِنْ حِينِ مَلَكَهُ ، وَزَكَّاهُ ، كَالْمُسْتَفَادِ سَوَاءً .
وَلَا أَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا فَإِنْ أَدَّى الْمُكَاتَبُ نُجُومَ كِتَابَتِهِ ، وَبَقِيَ فِي يَدِهِ نِصَابٌ ، فَقَدْ صَارَ حُرًّا كَامِلَ الْمِلْكِ ، فَيَسْتَأْنِفُ الْحَوْلَ مِنْ حِينِ عِتْقِهِ ، وَيُزَكِّيه إذَا تَمَّ الْحَوْلُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( 1743 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَلَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ ) وَرَوَى أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مَاجَهْ ، فِي " السُّنَنِ " بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ ، قَالَتْ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { : لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ } .
وَهَذَا اللَّفْظُ غَيْرُ مُبْقًى عَلَى عُمُومِهِ ، فَإِنَّ الْأَمْوَالَ الزَّكَاتِيَّةَ خَمْسَةٌ : السَّائِمَةُ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ، وَالْأَثْمَانُ ؛ وَهِيَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ ، وَقِيَمُ عُرُوضِ التِّجَارَةِ ، وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ الْحَوْلُ شَرْطٌ فِي وُجُوبِ زَكَاتِهَا .
لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا ، سِوَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِي الْمُسْتَفَادِ .
وَالرَّابِعُ : مَا يُكَالُ وَيُدَّخَرُ مِنْ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ ، وَالْخَامِسُ : الْمَعْدِنُ .
وَهَذَانِ لَا يُعْتَبَرُ لَهُمَا حَوْلٌ .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ مَا اُعْتُبِرَ لَهُ الْحَوْلُ وَمَا لَمْ يُعْتَبَرْ لَهُ ، أَنَّ مَا اُعْتُبِرَ لَهُ الْحَوْلُ مَرْصَدٌ لِلنَّمَاءِ ، فَالْمَاشِيَةُ مُرْصَدَةٌ لِلدَّرِّ وَالنَّسْلِ ، وَعُرُوضُ التِّجَارَةِ مُرْصَدَةٌ لِلرِّبْحِ ، وَكَذَا الْأَثْمَانُ ، فَاعْتُبِرَ لَهُ الْحَوْلُ ؛ فَإِنَّهُ مَظِنَّةُ النَّمَاءِ ، لِيَكُونَ إخْرَاجُ الزَّكَاةِ مِنْ الرِّبْحِ ، فَإِنَّهُ أَسْهَلُ وَأَيْسَرُ ، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ إنَّمَا وَجَبَتْ مُوَاسَاةً ، وَلَمْ نَعْتَبِرْ حَقِيقَةَ النَّمَاءِ لِكَثْرَةِ اخْتِلَافِهِ ، وَعَدَمِ ضَبْطِهِ ، وَلِأَنَّ مَا اُعْتُبِرَتْ مَظِنَّتُهُ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى حَقِيقَتِهِ ، كَالْحُكْمِ مَعَ الْأَسْبَابِ ، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ تَتَكَرَّرُ فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ ، فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ ضَابِطٍ ، كَيْ لَا يُفْضِيَ إلَى تَعَاقُبِ الْوُجُوبِ فِي الزَّمَنِ الْوَاحِدِ مَرَّاتٍ ، فَيَنْفَدَ مَالُ الْمَالِكِ .
أَمَّا الزُّرُوعُ وَالثِّمَارُ ، فَهِيَ نَمَاءٌ فِي نَفْسِهَا ، تَتَكَامَلُ عِنْدَ إخْرَاجِ الزَّكَاةِ مِنْهَا ، فَتُؤْخَذُ الزَّكَاةُ مِنْهَا حِينَئِذٍ ، ثُمَّ تَعُودُ فِي النَّقْصِ لَا فِي النَّمَاءِ ؛ فَلَا تَجِبُ فِيهَا زَكَاةٌ ثَانِيَةٌ ، لِعَدَمِ إرْصَادِهَا لِلنَّمَاءِ ، وَالْخَارِجُ مِنْ الْمَعْدِنِ

مُسْتَفَادٌ خَارِجٌ مِنْ الْأَرْضِ ، بِمَنْزِلَةِ الزَّرْعِ وَالثَّمَرِ ، إلَّا أَنَّهُ إنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ ، فَفِيهِ الزَّكَاةُ عِنْدَ كُلِّ حَوْلٍ ، لِأَنَّهُ مَظِنَّةٌ لِلنَّمَاءِ ، مِنْ حَيْثُ إنَّ الْأَثْمَانَ قِيَمُ الْأَمْوَالِ ، وَرَأْسُ مَالِ التِّجَارَاتِ ، وَبِهَذَا تَحْصُلُ الْمُضَارَبَةُ وَالشَّرِكَةُ ، وَهِيَ مَخْلُوقَةٌ لِذَلِكَ ، فَكَانَتْ بِأَصْلِهَا وَخِلْقَتِهَا ، كَمَالِ التِّجَارَةِ الْمُعَدِّ لَهَا .
( 1744 ) فَصْلٌ : فَإِنْ اسْتَفَادَ مَالًا مِمَّا يُعْتَبَرُ لَهُ الْحَوْلُ ، وَلَا مَالَ لَهُ سِوَاهُ ، وَكَانَ نِصَابًا ، أَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ مِنْ جِنْسِهِ لَا يَبْلُغُ نِصَابًا ، فَبَلَغَ بِالْمُسْتَفَادِ نِصَابًا ، انْعَقَدَ عَلَيْهِ حَوْلُ الزَّكَاةِ مِنْ حِينَئِذٍ ، فَإِذَا تَمَّ حَوْلٌ وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ نِصَابٌ ، لَمْ يَخْلُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا ، أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَفَادُ مِنْ نَمَائِهِ كَرِبْحِ مَالِ التِّجَارَةِ وَنَتَاجِ السَّائِمَةِ ، فَهَذَا يَجِبُ ضَمُّهُ إلَى مَا عِنْدَهُ مِنْ أَصْلِهِ ، فَيُعْتَبَرُ حَوْلُهُ بِحَوْلِهِ .
لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا ؛ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لَهُ مِنْ جِنْسِهِ ، فَأَشْبَهَ النَّمَاءَ الْمُتَّصِلَ ، وَهُوَ زِيَادَةُ قِيمَةِ عُرُوضِ التِّجَارَةِ ، وَيَشْمَلُ الْعَبْدَ وَالْجَارِيَةَ .
الثَّانِي ، أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَفَادُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ مَا عِنْدَهُ ، فَهَذَا لَهُ حُكْمُ نَفْسِهِ ، لَا يُضَمُّ إلَى مَا عِنْدَهُ فِي حَوْلٍ وَلَا نِصَابٍ ، بَلْ إنْ كَانَ نِصَابًا اسْتَقْبَلَ بِهِ حَوْلًا وَزَكَّاهُ ، وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ فِيهِ .
وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُعَاوِيَةَ أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِيهِ حِينَ اسْتَفَادَهُ .
قَالَ أَحْمَدُ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ : يُزَكِّيهِ حِينَ يَسْتَفِيدُهُ .
وَرَوَى بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ ، قَالَ : كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُعْطِينَا وَيُزَكِّيه .
وَعَنْ الْأَوْزَاعِيِّ فِي مَنْ بَاعَ عَبْدَهُ أَوْ دَارِهِ ، أَنَّهُ يُزَكِّي الثَّمَنَ حِينَ يَقَعُ فِي يَدِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ شَهْرٌ يُعْلَمُ ، فَيُؤَخِّرَهُ حَتَّى

يُزَكِّيَهُ مَعَ مَالِهِ .
وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى خِلَافِ هَذَا الْقَوْلِ ؛ مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَلَى هَذَا جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ ، وَالْخِلَافُ فِي ذَلِكَ شُذُوذٌ ، وَلَمْ يُعَرِّجْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ ، وَلَا قَالَ بِهِ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْفَتْوَى .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي مَنْ بَاعَ دَارِهِ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ إلَى سَنَةٍ ، إذَا قَبَضَ الْمَالَ يُزَكِّيهِ .
وَإِنَّمَا نَرَى أَنَّ أَحْمَدَ قَالَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ الدَّرَاهِمَ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ ، وَصَارَتْ دَيْنًا لَهُ عَلَى الْمُشْتَرِي ، فَإِذَا قَبَضَهُ زَكَّاهُ لِلْحَوْلِ الَّذِي مَرَّ عَلَيْهِ فِي مِلْكِهِ ، كَسَائِرِ الدُّيُونِ .
وَقَدْ صَرَّحَ بِهَذَا الْمَعْنَى فِي رِوَايَةِ بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، فَقَالَ : إذَا كَرَى دَارًا أَوْ عَبْدًا فِي سَنَةٍ بِأَلْفٍ ، فَحَصَلَتْ لَهُ الدَّرَاهِمُ وَقَبَضَهَا ، زَكَّاهَا إذَا حَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ ، مِنْ حِينِ قَبَضَهَا ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى الْمُكْتَرِي فَمِنْ يَوْمِ وَجَبَتْ لَهُ فِيهَا الزَّكَاةُ .
بِمَنْزِلَةِ الدَّيْنِ إذَا وَجَبَ لَهُ عَلَى صَاحِبِهِ ، زَكَاةٌ مِنْ يَوْمِ وَجَبَ لَهُ .
الْقِسْمُ الثَّالِثُ ، أَنْ يَسْتَفِيدَ مَالًا مِنْ جِنْسِ نِصَابٍ عِنْدَهُ ، قَدْ انْعَقَدَ عَلَيْهِ حَوْلُ الزَّكَاةِ بِسَبَبٍ مُسْتَقِلٍّ ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ أَرْبَعُونَ مِنْ الْغَنَمِ ، مَضَى عَلَيْهَا بَعْضُ الْحَوْلِ ، فَيَشْتَرِي أَوْ يَتَّهِبُ مِائَةً ، فَهَذَا لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ حَتَّى يَمْضِيَ عَلَيْهِ حَوْلٌ أَيْضًا .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَضُمُّهُ إلَى مَا عِنْدَهُ فِي الْحَوْلِ ، فَيُزَكِّيهِمَا جَمِيعًا عِنْدَ تَمَامِ حَوْلِ الْمَالِ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ عِوَضًا عَنْ مَالٍ مُزَكًّى ؛ لِأَنَّهُ يُضَمُّ إلَى جِنْسِهِ فِي النِّصَابِ ، فَوَجَبَ ضَمُّهُ إلَيْهِ فِي الْحَوْلِ كَالنِّتَاجِ ، وَلِأَنَّهُ إذَا ضُمَّ فِي النِّصَابِ وَهُوَ سَبَبٌ ، فَضَمُّهُ إلَيْهِ فِي الْحَوْلِ الَّذِي هُوَ شَرْطٌ أَوْلَى .
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ

كَانَ عِنْدَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ ، مَضَى عَلَيْهَا نِصْفُ الْحَوْلِ ، فَوَهَبَ لَهُ مِائَةٌ أُخْرَى ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِيهَا إذَا تَمَّ حَوْلُهَا ، بِغَيْرِ خِلَافٍ ، وَلَوْلَا الْمِائَتَانِ مَا وَجَبَ فِيهَا شَيْءٌ ، فَإِذَا ضُمَّتْ إلَى الْمِائَتَيْنِ فِي أَصْلِ الْوُجُوبِ فَكَذَلِكَ فِي وَقْتِهِ ، وَلِأَنَّ إفْرَادَهُ بِالْحَوْلِ يُفْضِي إلَى تَشْقِيصِ الْوَاجِبِ فِي السَّائِمَةِ ، وَاخْتِلَافِ أَوْقَاتِ الْوَاجِبِ ، وَالْحَاجَةِ إلَى ضَبْطِ مَوَاقِيتِ التَّمَلُّكِ ، وَمَعْرِفَةِ قَدْرِ الْوَاجِبِ فِي كُلِّ جُزْءٍ مَلَكَهُ ، وَوُجُوبِ الْقَدْرِ الْيَسِيرِ الَّذِي لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إخْرَاجِهِ ، ثُمَّ يَتَكَرَّرُ ذَلِكَ فِي كُلِّ حَوْلٍ وَوَقْتٍ ، وَهَذَا حَرَجٌ مَدْفُوعٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } .
وَقَدْ اعْتَبَرَ الشَّرْعُ ذَلِكَ بِإِيجَابِ غَيْرِ الْجِنْسِ فِيمَا دُونَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ مِنْ الْإِبِلِ ، وَجَعَلَ الْأَوْقَاصَ فِي السَّائِمَةِ ، وَضَمَّ الْأَرْبَاحَ وَالنِّتَاجَ إلَى حَوْلِ أَصْلِهَا مَقْرُونًا بِدَفْعِ هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عِلَّةٌ لِذَلِكَ ، فَيَجِبُ تَعْدِيَةُ الْحُكْمِ إلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ .
وَقَالَ مَالِكٌ كَقَوْلِهِ فِي السَّائِمَةِ ؛ دَفْعًا لِلتَّشْقِيصِ فِي الْوَاجِبِ ، وَكَقَوْلِنَا فِي الْأَثْمَانِ ؛ لِعَدَمِ ذَلِكَ فِيهَا .
وَلَنَا ، حَدِيثُ عَائِشَةَ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ .
} وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، أَنَّهُ قَالَ : مَنْ اسْتَفَادَ مَالًا ، فَلَا زَكَاةَ فِيهِ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ .
وَرُوِيَ مَرْفُوعًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا أَنَّ التِّرْمِذِيَّ قَالَ : الْمَوْقُوفُ أَصَحُّ ، وَإِنَّمَا رَفَعَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ أَسْلَمَ ، وَهُوَ ضَعِيفٌ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَعَطَاءٍ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَسَالِمٍ وَالنَّخَعِيِّ أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِي الْمُسْتَفَادِ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ .
وَلِأَنَّهُ

مَمْلُوكٌ أَصْلًا ، فَيُعْتَبَرُ فِيهِ الْحَوْلُ شَرْطًا ، كَالْمُسْتَفَادِ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ ، وَلَا تُشْبِهُ هَذِهِ الْأَمْوَالُ الزُّرُوعَ وَالثِّمَارَ ، لِأَنَّهَا تَتَكَامَلُ ثِمَارُهَا دُفْعَةً وَاحِدَةً ، وَلِهَذَا لَا تَتَكَرَّرُ الزَّكَاةُ فِيهَا ، وَهَذِهِ نَمَاؤُهَا بِنَقْلِهَا ، فَاحْتَاجَتْ إلَى الْحَوْلِ .
وَأَمَّا الْأَرْبَاحُ وَالنِّتَاجُ ، فَإِنَّمَا ضُمَّتْ إلَى أَصْلِهَا ؛ لِأَنَّهَا تَبَعٌ لَهُ ، وَمُتَوَلِّدَةٌ مِنْهُ ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا ، وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ عِلَّةَ ضَمِّهَا ، مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْحَرَجِ ، فَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا ؛ لِأَنَّ الْأَرْبَاحَ تَكْثُرُ وَتَتَكَرَّرُ فِي الْأَيَّامِ وَالسَّاعَاتِ ، وَيَعْسَرُ ضَبْطُهَا ، وَكَذَلِكَ النِّتَاجُ ، وَقَدْ يُوجَدُ وَلَا يُشْعَرُ بِهِ ، فَالْمَشَقَّةُ فِيهِ أَتَمُّ ، لِكَثْرَةِ تَكَرُّرِهِ ، بِخِلَافِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ الْمُسْتَقِلَّةِ ، فَإِنَّ الْمِيرَاثَ وَالِاغْتِنَامَ وَالِاتِّهَابَ وَنَحْوَ ذَلِكَ يَنْدُرُ وَلَا يَتَكَرَّرُ ، فَلَا يَشُقُّ ذَلِكَ فِيهِ ، وَإِنْ شَقَّ فَهُوَ دُونَ الْمَشَقَّةِ فِي الْأَرْبَاحِ وَالنِّتَاجِ ، فَيَمْتَنِعُ قِيَاسُهُ عَلَيْهِ .
وَالْيُسْرُ فِيمَا ذَكَرْنَا أَكْثَرُ ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ التَّأْخِيرِ وَالتَّعْجِيلِ ، وَمَا ذَكَرُوهُ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ التَّعْجِيلُ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ التَّخْيِيرَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ أَيْسَرُ مِنْ تَعْيِينِ أَحَدِهِمَا ، لِأَنَّهُ مَعَ التَّخْيِيرِ ، فَيَخْتَارُ أَيْسَرَهُمَا عَلَيْهِ ، وَأَحَبَّهُمَا إلَيْهِ ، وَمَعَ التَّعْيِينِ يَفُوتُهُ ذَلِكَ .
وَأَمَّا ضَمُّهُ إلَيْهِ فِي النِّصَابِ ، فَلِأَنَّ النِّصَابَ مُعْتَبَرٌ لِحُصُولِ الْغِنَى ، وَقَدْ حَصَلَ الْغِنَى بِالنِّصَابِ الْأَوَّلِ ، وَالْحَوْلُ مُعْتَبَرٌ ، لِاسْتِنْمَاءِ الْمَالِ ؛ لِيَحْصُلَ أَدَاءُ الزَّكَاةِ مِنْ الرِّبْحِ ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِمُرُورِ الْحَوْلِ عَلَى أَصْلِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ الْحَوْلُ لَهُ .
( 1745 ) فَصْلٌ : وَيُعْتَبَرُ وُجُودُ النِّصَابِ فِي جَمِيعِ الْحَوْلِ ، فَإِنْ نَقَصَ الْحَوْلُ نَقْصًا يَسِيرًا ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ ثَبَتَ ، أَنَّ نَقْصَ الْحَوْلِ

سَاعَةً أَوْ سَاعَتَيْنِ مَعْفُوٌّ عَنْهُ .
وَظَاهِرُ كَلَامِ الْقَاضِي ، أَنَّ النَّقْصَ الْيَسِيرَ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ يَمْنَعُ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِي مَنْ لَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً فَمَاتَتْ مِنْهَا شَاةٌ وَنُتِجَتْ أُخْرَى : إذَا كَانَ النِّتَاجُ وَالْمَوْتُ حَصَلَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ لَمْ تَسْقُطْ الزَّكَاةُ ؛ لِأَنَّ النِّصَابَ لَمْ يَنْقُصْ ، وَكَذَلِكَ إنْ تَقَدَّمَ النِّتَاجُ الْمَوْتَ ، وَإِنْ تَقَدَّمَ الْمَوْتُ النِّتَاجَ سَقَطَتْ الزَّكَاةُ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْحَوْلِ سَقَطَ بِنُقْصَانِ النِّصَابِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّ كَلَامَ أَبِي بَكْرٍ أَرَادَ بِهِ النَّقْصَ فِي طَرَفِ الْحَوْلِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْقَاضِيَ أَرَادَ بِالْوَقْتِ الْوَاحِدِ الزَّمَنَ الْمُتَقَارِبَ ، فَلَا يَكُونُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ اخْتِلَافٌ .
وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ النِّصَابَ إذَا كَمَلَ فِي طَرَفَيْ الْحَوْلِ ، لَمْ يَضُرَّ نَقْصُهُ فِي وَسَطِهِ .
وَلَنَا ، أَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ .
} يَقْتَضِي مُرُورَ الْحَوْلِ عَلَى جَمِيعِهِ ، وَلِأَنَّ مَا اُعْتُبِرَ فِي طَرَفَيْ الْحَوْلِ اُعْتُبِرَ فِي وَسَطِهِ ، كَالْمِلِكِ وَالْإِسْلَامِ .
( 1746 ) فَصْلٌ : وَإِذَا ادَّعَى رَبُّ الْمَالِ أَنَّهُ مَا حَالُ الْحَوْلُ عَلَى الْمَالِ ، أَوْ لَمْ يَتِمَّ النِّصَابُ إلَّا مُنْذُ شَهْرٍ ، أَوْ أَنَّهُ كَانَ فِي يَدِي وَدِيعَةً ، وَإِنَّمَا اشْتَرَيْته مِنْ قَرِيبٍ ، أَوْ قَالَ : بِعْته فِي الْحَوْلِ ، ثُمَّ اشْتَرَيْته .
أَوْ رُدَّ عَلَيَّ وَنَحْوَ هَذَا ، مِمَّا يَنْفِي وُجُوبَ الزَّكَاةِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ .
قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ : لَا يُسْتَحْلَفُ النَّاسُ عَلَى صَدَقَاتِهِمْ .
فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَا يَسْتَحْلِفُ وُجُوبًا وَلَا اسْتِحْبَابًا ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ مِنْ تَجِبُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ يَمِينٍ ، كَالصَّلَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ .

( 1747 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَيَجُوزُ تَقْدِمَةُ الزَّكَاةِ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ مَتَى وُجِدَ سَبَبُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ ، وَهُوَ النِّصَابُ الْكَامِلُ ، جَازَ تَقْدِيمُ الزَّكَاةِ .
وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالزُّهْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَحُكِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ .
وَبِهِ قَالَ رَبِيعَةُ ، وَمَالِكٌ وَدَاوُد لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ، أَنَّهُ قَالَ : لَا تُؤَدَّى زَكَاةٌ قَبْلَ حُلُولِ الْحَوْلِ } .
وَلِأَنَّ الْحَوْلَ أَحَدُ شَرْطَيْ الزَّكَاةِ ، فَلَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ كَالنِّصَابِ ، وَلِأَنَّ لِلزَّكَاةِ وَقْتًا ، فَلَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُهَا عَلَيْهِ ، كَالصَّلَاةِ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى عَلِيٌّ ، { أَنَّ الْعَبَّاسَ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَعْجِيلِ صَدَقَتِهِ قَبْلَ أَنْ تَحِلَّ ، فَرَخَّصَ لَهُ فِي ذَلِكَ .
وَفِي لَفْظٍ : فِي تَعْجِيلِ الزَّكَاةِ ، فَرَخَّصَ لَهُ فِي ذَلِكَ .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ شَيْبَةَ : هُوَ أَثْبَتُهَا إسْنَادًا .
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ ، عَنْ عَلِيٍّ ، { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ : إنَّا قَدْ أَخَذْنَا زَكَاةَ الْعَبَّاسِ عَامَ الْأَوَّلِ لِلْعَامِ .
وَفِي لَفْظٍ قَالَ : إنَّا كُنَّا تَعَجَّلْنَا صَدَقَةَ الْعَبَّاسِ لِعَامِنَا هَذَا عَامَ أَوَّلَ } .
رَوَاهُ سَعِيدٌ عَنْ عَطَاءٍ ، وَابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ ، وَالْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا ، وَلِأَنَّهُ تَعْجِيلٌ لِمَالٍ وُجِدَ سَبَبُ وُجُوبِهِ قَبْلَ وُجُوبِهِ ، فَجَازَ ، كَتَعْجِيلِ قَضَاءِ الدَّيْنِ قَبْلَ حُلُولِ أَجَلِهِ ، وَأَدَاءِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بَعْدَ الْحَلِفِ وَقَبْلَ الْحِنْثِ ، وَكَفَّارَةِ الْقَتْلِ بَعْدَ الْجَرْحِ قَبْلَ الزَّهُوقِ ، وَقَدْ سَلَّمَ مَالِكٌ تَعْجِيلَ الْكَفَّارَةِ ، وَفَارَقَ تَقْدِيمَهَا عَلَى النِّصَابِ ، لِأَنَّهُ تَقْدِيمٌ لَهَا عَلَى سَبَبِهَا ، فَأَشْبَهَ تَقْدِيمَ الْكَفَّارَةِ

عَلَى الْيَمِينِ ، وَكَفَّارَةَ الْقَتْلِ عَلَى الْجَرْحِ ، وَلِأَنَّهُ قَدْ قَدَّمَهَا عَلَى الشَّرْطَيْنِ ، وَهَاهُنَا قَدَّمَهَا عَلَى أَحَدِهِمَا .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّ لِلزَّكَاةِ وَقْتًا .
قُلْنَا : الْوَقْتُ إذَا دَخَلَ فِي الشَّيْءِ رِفْقًا بِالْإِنْسَانِ ، كَانَ لَهُ أَنْ يُعَجِّلَهُ وَيَتْرُكَ الْإِرْفَاقَ بِنَفْسِهِ ، كَالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ ، وَكَمَنْ أَدَّى زَكَاةَ مَالِ غَائِبٍ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى يَقِينٍ مِنْ وُجُوبِهَا ، وَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ تَالِفًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ، وَأَمَّا الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ فَتَعَبُّدٌ مَحْضٌ ، وَالتَّوْقِيتُ فِيهِمَا غَيْرُ مَعْقُولٍ ، فَيُجِبْ أَنْ يُقْتَصَرَ عَلَيْهِ .

( 1748 ) فَصْلٌ : وَلَا يَجُوزُ تَعْجِيلُ الزَّكَاةِ قَبْلَ مِلْكِ النِّصَابِ ، بِغَيْرِ خِلَافٍ عَلِمْنَاهُ .
وَلَوْ مَلَكَ بَعْضَ نِصَابٍ ، فَعَجَّلَ زَكَاتَهُ ، أَوْ زَكَاةَ نِصَابٍ ، لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ تَعَجَّلَ الْحُكْمَ قَبْلَ سَبَبِهِ .
وَإِنْ مَلَكَ نِصَابًا فَعَجَّلَ زَكَاتَهُ وَزَكَاةَ مَا يَسْتَفِيدُهُ ، وَمَا يُنْتَجُ مِنْهُ ، أَوْ يَرْبَحُهُ فِيهِ ، أَجْزَأَهُ عَنْ النِّصَابِ دُونَ الزِّيَادَةِ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يُجْزِئُهُ ؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِمَا هُوَ مَالِكُهُ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ عَجَّلَ زَكَاةَ مَالٍ لَيْسَ فِي مِلْكِهِ ، فَلَمْ يَجُزْ كَالنِّصَابِ الْأَوَّلِ ، وَلِأَنَّ الزَّائِدَ مِنْ الزَّكَاةِ عَلَى زَكَاةِ النِّصَابِ إنَّمَا سَبَبُهَا الزَّائِدُ فِي الْمِلْكِ ، فَقَدْ عَجَّلَ الزَّكَاةَ قَبْلَ وُجُودِ سَبَبِهَا ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ عَجَّلَ الزَّكَاةَ قَبْلَ مِلْكِ النِّصَابِ .
وَقَوْلُهُ : إنَّهُ تَابِعٌ ، قُلْنَا : إنَّمَا يَتْبَعُ فِي الْحَوْلِ ، فَأَمَّا فِي الْإِيجَابِ فَإِنَّ الْوُجُوبَ ثَبَتَ بِالزِّيَادَةِ ، لَا بِالْأَصْلِ ، وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ لَهُ حُكْمٌ بَعْدَ الْوُجُودِ ، فَأَمَّا قَبْلَ ظُهُورِهِ فَلَا حُكْمَ لَهُ فِي الزَّكَاةِ .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71