الكتاب : المغني
المؤلف : أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد ، الشهير بابن قدامة المقدسي

( 1482 ) فَصْلٌ : وَهَلْ مِنْ شَرْطِ هَذِهِ الصَّلَاةِ إذْنُ الْإِمَامِ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا ، لَا يُسْتَحَبُّ إلَّا بِخُرُوجِ الْإِمَامِ ، أَوْ رَجُلٍ مِنْ قِبَلِهِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : فَإِذَا خَرَجُوا بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ دَعَوْا ، وَانْصَرَفُوا بِلَا صَلَاةٍ وَلَا خُطْبَةٍ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
وَعَنْهُ أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ لِأَنْفُسِهِمْ ، وَيَخْطُبُ بِهِمْ أَحَدُهُمْ .
فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يَكُونُ الِاسْتِسْقَاءُ مَشْرُوعًا فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ ؛ مُقِيمٍ ، وَمُسَافِرٍ ، وَأَهْلِ الْقُرَى ، وَالْأَعْرَابِ ؛ لِأَنَّهَا صَلَاةُ نَافِلَةٍ ، فَأَشْبَهَتْ صَلَاةَ الْكُسُوفِ .
وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْمُرْ بِهَا ، وَإِنَّمَا فَعَلَهَا عَلَى صِفَةٍ ، فَلَا يَتَعَدَّى تِلْكَ الصِّفَةَ ، وَهُوَ أَنَّهُ صَلَّاهَا بِأَصْحَابِهِ ، وَكَذَلِكَ خُلَفَاؤُهُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ ، فَلَا تُشْرَعُ إلَّا فِي مِثْلِ تِلْكَ الصِّفَةِ .

( 1483 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُسْتَسْقَى بِمَنْ ظَهَرَ صَلَاحُهُ ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى إجَابَةِ الدُّعَاءِ ، فَإِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اسْتَسْقَى بِالْعَبَّاسِ عَمِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قَالَ ابْنُ عُمَرَ : اسْتَسْقَى عُمَرُ عَامَ الرَّمَادَةِ بِالْعَبَّاسِ ، فَقَالَ : اللَّهُمَّ إنَّ هَذَا عَمُّ نَبِيِّك صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَتَوَجَّهُ إلَيْك بِهِ فَاسْقِنَا .
فَمَا بَرِحُوا حَتَّى سَقَاهُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ .
وَرُوِيَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ خَرَجَ يَسْتَسْقِي ، فَلَمَّا جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ ، قَالَ : أَيْنَ يَزِيدُ بْنُ الْأَسْوَدِ الْجُرَشِيُّ ؟ فَقَامَ يَزِيدُ ، فَدَعَاهُ مُعَاوِيَةُ ، فَأَجْلَسَهُ عِنْدَ رِجْلَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ : اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَشْفِعُ إلَيْك بِخَيْرِنَا وَأَفْضَلِنَا يَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ ، يَا يَزِيدُ ، ارْفَعْ يَدَيْكَ .
فَرَفَعَ يَدَيْهِ ، وَدَعَا اللَّهَ تَعَالَى ، فَثَارَتْ فِي الْغَرْبِ سَحَابَةٌ مِثْلُ التُّرْسِ ، وَهَبَّ لَهَا رِيحٌ ، فَسُقُوا حَتَّى كَادُوا لَا يَبْلُغُونَ مَنَازِلَهُمْ .
وَاسْتَسْقَى بِهِ الضَّحَّاكُ مَرَّةً أُخْرَى .

مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( فَإِنْ سُقُوا ، وَإِلَّا عَادُوا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ ) وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ إِسْحَاقُ : لَا يَخْرُجُونَ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَخْرُجْ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً ، وَلَكِنْ يَجْتَمِعُونَ فِي مَسَاجِدِهِمْ ، فَإِذَا فَرَغُوا مِنْ الصَّلَاةِ ذَكَرُوا اللَّهَ تَعَالَى ، وَدَعَوْا ، وَيَدْعُو الْإِمَامُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ ، وَيُؤَمِّنُ النَّاسُ .
وَلَنَا ، أَنَّ هَذَا أَبْلَغُ فِي الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ ، وَقَدْ جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُلِحِّينَ فِي الدُّعَاءِ } .
وَأَمَّا النَّبِيُّ فَلَمْ يَخْرُجْ ثَانِيًا ؛ لِاسْتِغْنَائِهِ عَنْ الْخُرُوجِ بِإِجَابَتِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ، وَالْخُرُوجُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى آكَدُ مِمَّا بَعْدَهَا ؛ لِوُرُودِ السُّنَّةِ بِهِ .

( 1485 ) فَصْلٌ : وَإِنْ تَأَهَّبُوا لِلْخُرُوجِ ، فَسُقُوا قَبْلَ خُرُوجِهِمْ ، لَمْ يَخْرُجُوا ، وَشَكَرُوا اللَّهَ عَلَى نِعْمَتِهِ ، وَسَأَلُوهُ الْمَزِيدَ مِنْ فَضْلِهِ ، وَإِنْ خَرَجُوا فَسُقُوا قَبْلَ أَنْ يُصَلُّوا ، صَلَّوْا شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى ، وَحَمِدُوهُ وَدَعَوْهُ .
وَيُسْتَحَبُّ الدُّعَاءُ عِنْدَ نُزُولِ الْغَيْثِ ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { اُطْلُبُوا اسْتِجَابَةَ الدُّعَاءِ عِنْدَ ثَلَاثٍ : عِنْدَ الْتِقَاءِ الْجُيُوشِ ، وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ ، وَنُزُولِ الْغَيْثِ } .
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا رَأَى الْمَطَرَ ، قَالَ : صَيِّبًا نَافِعًا } .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .

( 1486 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقِفَ فِي أَوَّلِ الْمَطَرِ ، وَيُخْرِجَ رَحْلَهُ ؛ لِيُصِيبَهُ الْمَطَرُ ؛ لِمَا رَوَى أَنَسٌ { ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَنْزِلْ عَنْ مِنْبَرِهِ حَتَّى رَأَيْنَا الْمَطَرَ يَتَحَادَرُ عَنْ لِحْيَتِهِ .
} رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّهُ كَانَ إذَا أَمْطَرَتْ السَّمَاءُ قَالَ لِغُلَامِهِ .
أَخْرِجْ رَحْلِي وَفِرَاشِي يُصِبْهُ الْمَطَرُ .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَوَضَّأَ مِنْ مَاءِ الْمَطَرِ إذَا سَالَ السَّيْلُ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ كَانَ إذَا سَالَ السَّيْلُ يَقُول : اُخْرُجُوا بِنَا إلَى هَذَا الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ طَهُورًا ، فَنَتَطَهَّرَ } .

( 1487 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتَسْقُوا عَقِيبَ صَلَوَاتِهِمْ ، وَيَوْمَ الْجُمُعَةِ يَدْعُو الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ ، وَيُؤَمِّنُ النَّاسُ .
قَالَ الْقَاضِي : الِاسْتِسْقَاءِ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ ، أَكْمَلُهَا الْخُرُوجُ وَالصَّلَاةُ عَلَى مَا وَصَفْنَا .
وَيَلِيهِ اسْتِسْقَاءُ الْإِمَامِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ ؛ لِمَا رُوِيَ ، { أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ الْمَسْجِدَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ ، فَاسْتَقْبَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمًا ، ثُمَّ قَالَ : يَا رَسُولُ اللَّهِ ، هَلَكَتْ الْأَمْوَالُ ، وَانْقَطَعَتْ السُّبُلُ فَادْعُ اللَّه يُغِثْنَا .
فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَيْهِ ، فَقَالَ : اللَّهُمَّ أَغِثْنَا ، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا ، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا .
} { قَالَ أَنَسٌ : وَلَا وَاَللَّهِ مَا يُرَى فِي السَّمَاءِ مِنْ سَحَابٍ وَلَا قَزَعَةٍ وَلَا شَيْءٍ ، وَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ سَلْعٍ مِنْ بَيْتٍ وَلَا دَارٍ ، فَطَلَعَتْ مِنْ وَرَائِهِ سَحَابَةٌ مِثْلُ التُّرْسِ ، فَلَمَّا تَوَسَّطَتْ السَّمَاءَ ، انْتَشَرَتْ ثُمَّ أَمْطَرَتْ ، فَلَا وَاَللَّهِ مَا رَأَيْنَا الشَّمْسَ سِتًّا ، ثُمَّ دَخَلَ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ رَجُلٌ فِي الْجُمُعَةِ الْمُقْبِلَةِ ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ ، فَاسْتَقْبَلَهُ قَائِمًا ، وَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، هَلَكَتْ الْمَوَاشِي ، وَانْقَطَعَتْ السُّبُلُ ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يُمْسِكَهَا عَنَّا .
قَالَ فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَيْهِ ، وَقَالَ : اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا ، اللَّهُمَّ عَلَى الظِّرَابِ وَالْآكَامِ وَبُطُونِ الْأَوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ .
قَالَ : فَانْقَطَعَتْ ، وَخَرَجْنَا نَمْشِي فِي الشَّمْسِ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَالثَّالِثُ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ تَعَالَى عَقِيبَ صَلَوَاتِهِمْ ، وَفِي خَلَوَاتِهِمْ .

( 1488 ) فَصْلٌ : وَإِذَا كَثُرَ الْمَطَرُ بِحَيْثُ يَضُرُّهُمْ أَوْ مِيَاهُ الْعُيُونِ ، دَعَوْا اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُخَفِّفَهُ ، وَيَصْرِفَ عَنْهُمْ مَضَرَّتَهُ ، وَيَجْعَلَهُ فِي أَمَاكِنَ تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ ، كَدُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا ، وَلِأَنَّ الضَّرَرَ بِزِيَادَةِ الْمَطَرِ أَحَدُ الضَّرَرَيْنِ ، فَيُسْتَحَبُّ الدُّعَاءُ لِإِزَالَتِهِ كَانْقِطَاعِهِ .

( 1489 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَإِنْ خَرَجَ مَعَهُمْ أَهْلُ الذِّمَّةِ لَمْ يُمْنَعُوا وَأُمِرُوا أَنْ يَكُونُوا مُنْفَرِدِينَ عَنْ الْمُسْلِمِينَ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ إخْرَاجُ أَهْلِ الذِّمَّةِ ؛ لِأَنَّهُمْ أَعْدَاءُ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِهِ ، وَبَدَّلُوا نِعْمَتَهُ كُفْرًا ، فَهُمْ بَعِيدُونَ مِنْ الْإِجَابَةِ ، وَإِنْ أُغِيثَ الْمُسْلِمُونَ فَرُبَّمَا قَالُوا : هَذَا حَصَلَ بِدُعَائِنَا وَإِجَابَتِنَا .
وَإِنْ خَرَجُوا لَمْ يُمْنَعُوا ؛ لِأَنَّهُمْ يَطْلُبُونَ أَرْزَاقَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ ، فَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُجِيبَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ضَمِنَ أَرْزَاقَهُمْ فِي الدُّنْيَا ، كَمَا ضَمِنَ أَرْزَاقَ الْمُؤْمِنِينَ ، وَيُؤْمَرُوا بِالِانْفِرَادِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ ، فَيَعُمَّ مَنْ حَضَرَهُمْ ، فَإِنَّ قَوْمَ عَادٍ اسْتَسْقَوْا ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا ، فَأَهْلَكَتْهُمْ .
فَإِنْ قِيلَ : فَيَنْبَغِي أَنْ يُمْنَعُوا الْخُرُوجَ يَوْمَ يَخْرُجُ الْمُسْلِمُونَ ؛ لِئَلَّا يَظُنُّوا أَنَّ مَا حَصَلَ مِنْ السُّقْيَا بِدُعَائِهِمْ .
قُلْنَا : وَلَا يُؤْمَنُ أَنْ يَتَّفِقَ نُزُولُ الْغَيْثِ يَوْمَ يَخْرُجُونَ وَحْدَهُمْ ، فَيَكُونُ أَعْظَمَ لِفِتْنَتِهِمْ ، وَرُبَّمَا افْتَتَنَ غَيْرُهُمْ بِهِمْ .

بَابُ الْحُكْمِ فِي مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ ( 1490 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَمَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ ، وَهُوَ بَالِغٌ عَاقِلٌ ، جَاحِدًا لَهَا ، أَوْ غَيْرَ جَاحِدٍ ، دُعِيَ إلَيْهَا فِي وَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ ، ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، فَإِنْ صَلَّى ، وَإِلَّا قُتِلَ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ لَا يَخْلُو ؛ إمَّا أَنْ يَكُونَ جَاحِدًا لِوُجُوبِهَا ، أَوْ غَيْرَ جَاحِدٍ ، فَإِنْ كَانَ جَاحِدًا لِوُجُوبِهَا نُظِرَ فِيهِ ، فَإِنْ كَانَ جَاهِلًا بِهِ ، وَهُوَ مِمَّنْ يَجْهَلُ ذَلِكَ ، كَالْحَدِيثِ الْإِسْلَامِ ، وَالنَّاشِئِ بِبَادِيَةٍ ، عُرِّفَ وُجُوبَهَا ، وَعُلِّمَ ذَلِكَ ، وَلَمْ يُحْكَمْ بِكُفْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَجْهَلُ ذَلِكَ ، كَالنَّاشِئِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى ، لَمْ يُعْذَرْ ، وَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ ادِّعَاءُ الْجَهْلِ ، وَحُكِمَ بِكُفْرِهِ ؛ لِأَنَّ أَدِلَّةَ الْوُجُوبِ ظَاهِرَةٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، وَالْمُسْلِمُونَ يَفْعَلُونَهَا عَلَى الدَّوَامِ ، فَلَا يَخْفَى وُجُوبُهَا عَلَى مَنْ هَذَا حَالُهُ ، فَلَا يَجْحَدُهَا إلَّا تَكْذِيبًا لِلَّهِ تَعَالَى وَلِرَسُولِهِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ ، وَهَذَا يَصِيرُ مُرْتَدًّا عَنْ الْإِسْلَامِ ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ سَائِرِ الْمُرْتَدِّينَ ، فِي الِاسْتِتَابَةِ وَالْقَتْلِ ، وَلَا أَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا .
وَإِنْ تَرَكَهَا لِمَرَضٍ ، أَوْ عَجْزٍ عَنْ أَرْكَانِهَا وَشُرُوطِهَا ، قِيلَ لَهُ : إنَّ ذَلِكَ لَا يُسْقِطُ الصَّلَاةَ ، وَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى حَسَبِ طَاقَتِهِ .
وَإِنْ تَرَكَهَا تَهَاوُنًا أَوْ كَسَلًا ، دُعِيَ إلَى فِعْلِهَا ، وَقِيلَ لَهُ : إنْ صَلَّيْت ، وَإِلَّا قَتَلْنَاكَ .
فَإِنْ صَلَّى ، وَإِلَّا وَجَبَ قَتْلُهُ .
وَلَا يُقْتَلُ حَتَّى يُحْبَسَ ثَلَاثًا ، وَيُضَيَّقَ عَلَيْهِ فِيهَا ، وَيُدْعَى فِي وَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ إلَى فِعْلِهَا ، وَيُخَوَّفَ بِالْقَتْلِ ، فَإِنْ صَلَّى ، وَإِلَّا قُتِلَ بِالسَّيْفِ .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ ، وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ ، وَوَكِيعٌ وَالشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ : يُضْرَبُ وَيُسْجَنُ .
وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، قَالَ : وَلَا يُقْتَلُ ؛ لِأَنَّ

النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ : كُفْرٍ بَعْدَ إيمَانٍ ، أَوْ زِنًا بَعْدَ إحْصَانٍ ، أَوْ قَتْلِ نَفْسٍ بِغَيْرِ حَقٍّ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَهَذَا لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ .
فَلَا يَحِلُّ دَمُهُ .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَلِأَنَّهُ فَرْعٌ مِنْ فُرُوعِ الدِّينِ .
فَلَا يُقْتَلُ بِتَرْكِهِ كَالْحَجِّ ، وَلِأَنَّ الْقَتْلَ لَوْ شُرِعَ لَشُرِعَ زَجْرًا عَنْ تَرْكِ الصَّلَاةِ ، وَلَا يَجُوزُ شَرْعُ زَاجِرٍ تَحَقَّقَ الْمَزْجُورُ عَنْهُ ، وَالْقَتْلُ يَمْنَعُ فِعْلَ الصَّلَاةِ دَائِمًا ، فَلَا يُشْرَعُ ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ تَحْرِيمُ الدَّمِ ، فَلَا تَثْبُتُ الْإِبَاحَةُ إلَّا بِنَصٍّ أَوْ مَعْنَى نَصٍّ .
وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ .
وَلَنَا ، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } إلَى قَوْله : { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ } .
فَأَبَاحَ قَتْلَهُمْ ، وَشَرَطَ فِي تَخْلِيَةِ سَبِيلِهِمْ التَّوْبَةَ ، وَهِيَ الْإِسْلَامُ ، وَإِقَامُ الصَّلَاةِ ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ ، فَمَتَى تَرَكَ الصَّلَاةَ مُتَعَمِّدًا لَمْ يَأْتِ بِشَرْطِ تَخْلِيَتِهِ ، فَيَبْقَى عَلَى وُجُوبِ الْقَتْلِ ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ } .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى إبَاحَةِ قَتْلِهِ ، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { : بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَالْكُفْرُ مُبِيحٌ لِلْقَتْلِ ، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { : نُهِيتُ عَنْ قَتْلِ الْمُصَلِّينَ } .
فَمَفْهُومُهُ أَنَّ غَيْرَ الْمُصَلِّينَ يُبَاحُ قَتْلُهُمْ .
وَلِأَنَّهَا رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ لَا تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ بِنَفْسٍ وَلَا مَالٍ ، فَوَجَبَ أَنْ يُقْتَلَ تَارِكُهُ كَالشَّهَادَةِ ، وَحَدِيثُهُمْ حُجَّةٌ لَنَا ؛

لِأَنَّ الْخَبَرَ الَّذِي رَوَيْنَاهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَرْكَهَا كُفْرٌ ، وَالْحَدِيثُ الْآخَرُ اسْتَثْنَى مِنْهُ { إلَّا بِحَقِّهَا } .
وَالصَّلَاةُ مِنْ حَقِّهَا .
وَعَنْ أَنَسٍ ، قَالَ : قَالَ أَبُو بَكْرٍ : إنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا شَهِدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ ، وَآتَوْا الزَّكَاةَ .
} رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ .
ثُمَّ إنَّ أَحَادِيثَنَا خَاصَّةٌ ، فَنَخُصُّ بِهَا عُمُومَ مَا ذَكَرُوهُ ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهَا عَلَى الْحَجِّ ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ مُخْتَلَفٌ فِي جَوَازِ تَأْخِيرِهِ ، وَلَا يَجِبُ الْقَتْلُ بِفِعْلٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّ هَذَا يُفْضِي إلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ بِالْكُلِّيَّةِ .
قُلْنَا : الظَّاهِرُ أَنَّ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُقْتَلُ إنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ لَا يَتْرُكُهَا ، سِيَّمَا بَعْدَ اسْتِتَابَتِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، فَإِنْ تَرَكَهَا بَعْدَ هَذَا كَانَ مَيْئُوسًا مِنْ صَلَاتِهِ ، فَلَا فَائِدَةَ فِي بَقَائِهِ ، وَلَا يَكُونُ الْقَتْلُ هُوَ الْمُفَوِّتُ لَهُ ، ثُمَّ لَوْ فَاتَ بِهِ احْتِمَالُ الصَّلَاةِ ، لَحَصَلَ بِهِ صَلَاةُ أَلْفِ إنْسَانٍ ، وَتَحْصِيلُ ذَلِكَ بِتَفْوِيتِ احْتِمَالِ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ لَا يُخَالِفُ الْأَصْلَ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ يَجِبُ قَتْلُهُ بِتَرْكِ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ ، وَهِيَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ ؛ لِأَنَّهُ تَارِكٌ لِلصَّلَاةِ ، فَلَزِمَ قَتْلُهُ ، كَتَارِكِ ثَلَاثٍ ، وَلِأَنَّ الْأَخْبَارَ تَتَنَاوَلُ تَارِكَ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ ، لَكِنْ لَا يَثْبُتُ الْوُجُوبُ حَتَّى يَضِيقَ وَقْتُ الَّتِي بَعْدَهَا ؛ لِأَنَّ الْأُولَى لَا يُعْلَمُ تَرْكُهَا إلَّا بِفَوَاتِ وَقْتِهَا ، فَتَصِيرُ فَائِتَةً لَا يَجِبُ الْقَتْلُ بِفَوَاتِهَا ، فَإِذَا ضَاقَ وَقْتُهَا عُلِمَ أَنَّهُ يُرِيدُ تَرْكَهَا ، فَوَجَبَ قَتْلُهُ .
وَالثَّانِيَةُ : لَا يَجِبُ قَتْلُهُ حَتَّى يَتْرُكَ ثَلَاثَ صَلَوَاتٍ ، وَيَضِيقَ وَقْتُ الرَّابِعَةِ عَنْ فِعْلِهَا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَتْرُكُ الصَّلَاةَ وَالصَّلَاتَيْنِ لِشُبْهَةٍ ، فَإِذَا تَكَرَّرَ ذَلِكَ ثَلَاثًا .
تَحَقَّقَ

أَنَّهُ تَارِكٌ لَهَا رَغْبَةً عَنْهَا ، وَيُعْتَبَرُ أَنْ يَضِيقَ وَقْتُ الرَّابِعَة عَنْ فِعْلِهَا ؛ لِمَا ذَكَرْنَا .
وَحَكَى ابْنُ حَامِدٍ ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ بْنِ شَاقِلَا ، أَنَّهُ إنْ تَرَكَ صَلَاةً لَا تُجْمَعُ إلَى مَا بَعْدَهَا ، كَصَلَاةِ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ ، وَجَبَ قَتْلُهُ ، وَإِنْ تَرَكَ الْأُولَى مِنْ صَلَاتَيْ الْجَمْعِ ، لَمْ يَجِبْ قَتْلُهُ ؛ لِأَنَّ الْوَقْتَيْنِ كَالْوَقْتِ الْوَاحِدِ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ .
وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ .
وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ ، هَلْ يُقْتَلُ لِكُفْرِهِ ، أَوْ حَدًّا ؟ فَرُوِيَ أَنَّهُ يُقْتَلُ لِكُفْرِهِ كَالْمُرْتَدِّ ، فَلَا يُغَسَّلُ ، وَلَا يُكَفَّنُ ، وَلَا يُدْفَنُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَا يَرِثُهُ أَحَدٌ ، وَلَا يَرِثُ أَحَدًا ، اخْتَارَهَا أَبُو إِسْحَاقَ بْنُ شَاقِلَا وَابْنُ حَامِدٍ ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَسَنِ ، وَالنَّخَعِيِّ ، وَالشَّعْبِيِّ ، وَأَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ ، وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ ، وَإِسْحَاقَ ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ ، لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ } .
وَفِي لَفْظٍ عَنْ جَابِرٍ ، قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { إنَّ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ تَرْكَ الصَّلَاةِ } .
وَعَنْ بُرَيْدَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ تَرْكُ الصَّلَاةِ ، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ } رَوَاهُنَّ مُسْلِمٌ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَوَّلُ مَا تَفْقِدُونَ مِنْ دِينِكُمْ الْأَمَانَةُ ، وَآخِرُ مَا تَفْقِدُونَ الصَّلَاةُ } .
قَالَ أَحْمَدُ : كُلُّ شَيْءٍ ذَهَبَ آخِرُهُ لَمْ يَبْقَ مِنْهُ شَيْءٌ .
وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَا حَظَّ فِي الْإِسْلَامِ لِمَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ .
وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَنْ لَمْ يُصَلِّ فَهُوَ كَافِرٌ .
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : مَنْ لَمْ يُصَلِّ فَلَا دِينَ لَهُ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَقِيقٍ : لَمْ يَكُنْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرَوْنَ شَيْئًا مِنْ الْأَعْمَالِ ، تَرْكُهُ كُفْرٌ ، غَيْرَ الصَّلَاةِ .
وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يَدْخُلُ بِهَا فِي الْإِسْلَامِ ، فَيَخْرُجُ بِتَرْكِهَا مِنْهُ كَالشَّهَادَةِ .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ ، يُقْتَلُ حَدًّا ، مَعَ الْحُكْمِ بِإِسْلَامِهِ ، كَالزَّانِي الْمُحْصَنِ ، وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَطَّةَ ، وَأَنْكَرَ قَوْلَ مَنْ قَالَ : إنَّهُ يَكْفُر .
وَذَكَرَ أَنَّ الْمَذْهَبَ عَلَى هَذَا ، لَمْ يَجِدْ فِي الْمَذْهَبِ خِلَافًا فِيهِ .
وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ ، وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ .
وَرُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ قَالَ : يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يَبْقَى مَعَهُمْ مِنْ الْإِسْلَامِ إلَّا قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ .
فَقِيلَ لَهُ : وَمَا يَنْفَعُهُمْ ؟ قَالَ : تُنْجِيهِمْ مِنْ النَّارِ ، لَا أَبَا لَكَ .
وَعَنْ وَالَانَ ، قَالَ : انْتَهَيْت إلَى دَارِي ، فَوَجَدْت شَاةً مَذْبُوحَةً ، فَقُلْت : مَنْ ذَبَحَهَا ؟ قَالُوا : غُلَامُك .
قُلْت : وَاَللَّهِ إنَّ غُلَامِي لَا يُصَلِّي ، فَقَالَ النِّسْوَةُ : نَحْنُ عَلَّمْنَاهُ ، يُسَمِّيَ ، فَرَجَعْتُ إلَى ابْنِ مَسْعُودٍ ، فَسَأَلْته عَنْ ذَلِكَ ، فَأَمَرَنِي بِأَكْلِهَا .
وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ } .
وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ ، قَالَ : أَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : { مَا مِنْ عَبْدٍ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ ، إلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ } .
وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ ، قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : { مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلَى مَرْيَمَ ، وَرُوحٌ مِنْهُ ، وَأَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ ، وَالنَّارَ حَقٌّ ، أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنْ عَمَلٍ } .
وَعَنْ أَنَسٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ { : يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِنْ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ بُرَّةً } .
مُتَّفَقٌ عَلَى هَذِهِ الْأَحَادِيثِ كُلِّهَا ، وَمِثْلُهَا كَثِيرٌ .
وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى الْعَبْدِ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ ، فَمَنْ جَاءَ بِهِنَّ ، لَمْ يُضَيِّعْ مِنْهُنَّ شَيْئًا اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِنَّ ، كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ ، وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِنَّ ، فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ ، إنْ شَاءَ عَذَّبَهُ ، وَإِنْ شَاءَ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ } .
وَلَوْ كَانَ كَافِرًا لَمْ يُدْخِلْهُ فِي الْمَشِيئَةِ .
وَقَالَ الْخَلَّالُ ، فِي " جَامِعِهِ " : ثنا يَحْيَى ، ثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ ، ثنا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَنْ أَبِي شَمِيلَةَ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إلَى قُبَاءَ فَاسْتَقْبَلَهُ رَهْطٌ مِنْ الْأَنْصَارِ يَحْمِلُونَ جِنَازَةً عَلَى بَابٍ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا هَذَا ؟ قَالُوا : مَمْلُوكٌ لِآلِ فُلَانٍ ، كَانَ مِنْ أَمْرِهِ .
قَالَ : أَكَانَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ؟ قَالُوا : نَعَمْ ، وَلَكِنَّهُ كَانَ وَكَانَ .
فَقَالَ لَهُمْ : أَمَا كَانَ يُصَلِّي ؟ فَقَالُوا : قَدْ كَانَ يُصَلِّي وَيَدَعُ .
فَقَالَ لَهُمْ : ارْجِعُوا بِهِ ، فَغَسِّلُوهُ ، وَكَفِّنُوهُ ، وَصَلُّوا عَلَيْهِ ، وَادْفِنُوهُ ، وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لَقَدْ كَادَتْ الْمَلَائِكَةُ تَحُولُ بَيْنِي وَبَيْنَهُ } .
وَرَوَى بِإِسْنَادِهِ ، عَنْ عَطَاءٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : صَلَّوْا عَلَى مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ } .
وَلِأَنَّ ذَلِكَ إجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ ، فَإِنَّا لَا نَعْلَمُ فِي عَصْرٍ مِنْ الْأَعْصَارِ أَحَدًا مِنْ تَارِكِي الصَّلَاةِ تُرِكَ تَغْسِيلُهُ ، وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ ، وَدَفْنُهُ فِي مَقَابِر الْمُسْلِمِينَ ، وَلَا مُنِعَ وَرَثَتُهُ

مِيرَاثَهُ ، وَلَا مُنِعَ هُوَ مِيرَاثَ مُوَرِّثِهِ ، وَلَا فُرِّقَ بَيْنَ زَوْجَيْنِ لِتَرْكِ الصَّلَاةِ مِنْ أَحَدِهِمَا ؛ مَعَ كَثْرَةِ تَارِكِي الصَّلَاةِ ، وَلَوْ كَانَ كَافِرًا لَثَبَتَتْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ كُلُّهَا ، وَلَا نَعْلَمُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ خِلَافًا فِي أَنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا ، وَلَوْ كَانَ مُرْتَدًّا لَمْ يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ صَلَاةٍ وَلَا صِيَامٍ .
وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ الْمُتَقَدِّمَةُ فَهِيَ عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيظِ ، وَالتَّشْبِيهِ لَهُ بِالْكُفَّارِ ، لَا عَلَى الْحَقِيقَةِ ، كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { : سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ } .
وَقَوْلِهِ { : كُفْرٌ بِاَللَّهِ تَبَرُّؤٌ مِنْ نَسَبٍ وَإِنْ دَقَّ } .
وَقَوْلُهُ { : مَنْ قَالَ لِأَخِيهِ يَا كَافِرُ .
فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا } .
وَقَوْلُهُ { : مَنْ أَتَى حَائِضًا أَوْ امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا ، فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ } .
قَالَ { : وَمَنْ قَالَ : مُطِرْنَا بِنَوْءِ الْكَوَاكِبِ .
فَهُوَ كَافِرٌ بِاَللَّهِ ، مُؤْمِنٌ بِالْكَوَاكِبِ } .
وَقَوْلُهُ { : مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ } .
وَقَوْلِهِ { : شَارِبُ الْخَمْرِ كَعَابِدِ وَثَنٍ } .
وَأَشْبَاهِ هَذَا مِمَّا أُرِيدَ بِهِ التَّشْدِيدُ فِي الْوَعِيدِ ، وَهُوَ أَصْوَبُ الْقَوْلَيْنِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( 1491 ) فَصْلٌ : وَمَنْ تَرَكَ شَرْطًا مُجْمَعًا عَلَى صِحَّتِهِ ، أَوْ رُكْنًا ، كَالطَّهَارَةِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ، فَهُوَ كَتَارِكِهَا ، حُكْمُهُ حُكْمُهُ ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ مَعَ ذَلِكَ وُجُودُهَا كَعَدَمِهَا .
وَإِنْ تَرَكَ مُخْتَلَفًا فِيهِ ، كَإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ ، وَقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةَ ، وَالطُّمَأْنِينَةِ ، وَالِاعْتِدَالِ بَيْنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ، أَوْ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ ، مُعْتَقِدًا جَوَازَ ذَلِكَ ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ .
وَإِنْ تَرَكَهُ مُعْتَقِدًا تَحْرِيمَهُ ، لَزِمَهُ إعَادَةُ الصَّلَاةِ .
وَلَا يُقْتَلُ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ بِحَالٍ ؛ لِأَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ ، فَأَشْبَهَ الْمُتَزَوِّجَ بِغَيْرِ وَلِيٍّ ، وَسَارِقَ مَالٍ لَهُ فِيهِ شُبْهَةٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

كِتَابُ الْجَنَائِزِ يُسْتَحَبُّ لِلْإِنْسَانِ ذِكْرُ الْمَوْتِ وَالِاسْتِعْدَادُ لَهُ ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : أَكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ ، فَمَا ذُكِرَ فِي كَثِيرٍ إلَّا قَلَّلَهُ ، وَلَا فِي قَلِيلٍ إلَّا كَثَّرَهُ } .
رَوَى الْبُخَارِيُّ أَوَّلَهُ .
وَإِذَا مَرِضَ اُسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يَصْبِرَ ، وَيُكْرَهُ الْأَنِينُ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ طَاوُسٍ أَنَّهُ كَرِهَهُ .
وَلَا يَتَمَنَّى الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : وَلَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ ، وَلْيَقُلْ : اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتْ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي ، وَتَوَفَّنِي إذَا كَانَتْ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي } .
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَيُحْسِنُ ظَنَّهُ بِرَبِّهِ تَعَالَى ، قَالَ جَابِرٌ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَقُولُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثٍ : لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاَللَّهِ تَعَالَى } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، وَأَبُو دَاوُد .
وَقَالَ مُعْتَمِرٌ عَنْ أَبِيهِ ، إنَّهُ قَالَ لَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ : حَدِّثْنِي بِالرُّخَصِ .

( 1492 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ عِيَادَةُ الْمَرِيضِ ، قَالَ الْبَرَاءُ : أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ ، وَعِيَادَةِ الْمَرِيضِ .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ، وَمُسْلِمٌ .
وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : مَا مِنْ رَجُلٍ يَعُودُ مَرِيضًا مُمْسِيًا ، إلَّا خَرَجَ مَعَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ ، يَسْتَغْفِرُونَ لَهُ حَتَّى يُصْبِحَ ، وَكَانَ لَهُ خَرِيفٌ فِي الْجَنَّةِ ، وَمَنْ أَتَاهُ مُصْبِحًا ، خَرَجَ مَعَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَسْتَغْفِرُونَ لَهُ حَتَّى يُمْسِيَ ، وَكَانَ لَهُ خَرِيفٌ فِي الْجَنَّةِ .
} قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ .
وَإِذَا دَخَلَ عَلَى الْمَرِيضِ دَعَا لَهُ ، وَرَقَاهُ .
قَالَ ثَابِتٌ لَأَنَسٍ : يَا أَبَا حَمْزَةَ ، اشْتَكَيْتُ .
قَالَ أَنَسٌ ، أَفَلَا أَرْقِيكَ بِرُقْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ : بَلَى .
قَالَ { اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاسِ ، مُذْهِبَ الْبَاسِ ، اشْفِ أَنْتَ الشَّافِي ، شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا } .
وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ ، قَالَ : { أَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ ، اشْتَكَيْتُ ؟ قَالَ : نَعَمْ .
قَالَ : بِسْمِ اللَّهِ أَرْقِيك ، مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُؤْذِيك ، مِنْ شَرِّ كُلِّ نَفْسٍ وَعَيْنٍ حَاسِدَةٍ اللَّهُ يَشْفِيك } .
وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ : كِلَا هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ صَحِيحٌ .
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : إذَا دَخَلْتُمْ عَلَى الْمَرِيضِ فَنَفِّسُوا لَهُ فِي الْأَجَلِ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَرُدُّ مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ شَيْئًا ، وَإِنَّهُ يُطَيِّبُ نَفْسَ الْمَرِيضِ } .
رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
وَيُرَغِّبُهُ فِي التَّوْبَةِ وَالْوَصِيَّةِ ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ ، وَلَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ ، إلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

( 1493 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَلِيَ الْمَرِيضَ أَرْفَقُ أَهْلِهِ بِهِ ، وَأَعْلَمُهُمْ بِسِيَاسَتِهِ ، وَأَتْقَاهُمْ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ؛ لِيُذَكِّرَهُ اللَّهَ تَعَالَى ، وَالتَّوْبَةَ مِنْ الْمَعَاصِي ، وَالْخُرُوجَ مِنْ الْمَظَالِمِ ، وَالْوَصِيَّةَ .
وَإِذَا رَآهُ مَنْزُولًا بِهِ تَعَهَّدَ بَلَّ حَلْقِهِ ، بِتَقْطِيرِ مَاءٍ أَوْ شَرَابٍ فِيهِ ، وَيُنَدِّي شَفَتَيْهِ بِقُطْنَةٍ ، وَيَسْتَقْبِلُ بِهِ الْقِبْلَةَ ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : خَيْرُ الْمَجَالِسِ مَا اُسْتُقْبِلَ بِهِ الْقِبْلَةُ } .
وَيُلَقِّنُهُ قَوْلَ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَقَالَ الْحَسَنُ : سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ { : أَنْ تَمُوتَ يَوْمَ تَمُوتُ وَلِسَانُك رَطْبٌ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ } .
رَوَاهُ سَعِيدٌ .
وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي لُطْفٍ وَمُدَارَاةٍ ، وَلَا يُكَرِّرُ عَلَيْهِ ، وَلَا يُضَجِّرَهُ ، إلَّا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِشَيْءٍ ، فَيُعِيدُ تَلْقِينَهُ ؛ لِتَكُونَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ آخِرَ كَلَامِهِ نَصَّ عَلَى هَذَا أَحْمَدُ ، وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ ، أَنَّهُ لَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ جَعَلَ رَجُلٌ يُلَقِّنُهُ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " فَأَكْثَرَ عَلَيْهِ ؛ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ : إذَا قُلْت مَرَّةً فَأَنَا عَلَى ذَلِكَ مَا لَمْ أَتَكَلَّمْ ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ : إنَّمَا أَرَادَ عَبْدُ اللَّهِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، بِإِسْنَادِهِ .
وَرَوَى سَعِيدٌ ، بِإِسْنَادِهِ ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّهُ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ ، قَالَ : أَجْلِسُونِي .
فَلَمَّا أَجْلَسُوهُ قَالَ : كَلِمَةٌ سَمِعْتهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُنْت أَخْبَؤُهَا ، وَلَوْلَا مَا حَضَرَنِي مِنْ الْمَوْتِ مَا أَخْبَرْتُكُمْ بِهَا ، سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { : مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، إلَّا هَدَمَتْ مَا كَانَ قَبْلَهَا مِنْ الْخَطَايَا وَالذُّنُوبِ ، فَلَقِّنُوهَا مَوْتَاكُمْ فَقِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَكَيْفَ هِيَ لِلْأَحْيَاءِ ؟ قَالَ هِيَ أَهْدَمُ وَأَهْدَمُ } .
قَالَ أَحْمَدُ : وَيَقْرَءُونَ عِنْدَ الْمَيِّتِ إذَا حَضَرَ ، لِيُخَفَّفَ عَنْهُ بِالْقِرَاءَةِ ، يُقْرَأُ { يس } ، وَأَمَرَ بِقِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ .
وَرَوَى سَعِيدٌ ، حَدَّثَنَا فَرْجُ بْنُ فَضَالَةَ ، عَنْ أَسَدِ بْنِ وَدَاعَةَ ، قَالَ : لَمَّا حَضَرَ غُضَيْفَ بْنَ حَارِثٍ الْمَوْتُ ، حَضَرَهُ إخْوَانُهُ ، فَقَالَ : هَلْ فِيكُمْ مَنْ يَقْرَأُ سُورَةَ ( يس ) ؟ قَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ : نَعَمْ .
قَالَ : اقْرَأْ ، وَرَتِّلْ ، وَأَنْصِتُوا .
فَقَرَأَ ، وَرَتَّلَ .
وَأَسْمَعَ الْقَوْمَ ، فَلَمَّا بَلَغَ { : فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } .
خَرَجَتْ نَفْسُهُ .
قَالَ أَسَدُ بْنُ وَدَاعَةَ : فَمَنْ حَضَرَ مِنْكُمْ الْمَيِّتَ ، فَشُدِّدَ عَلَيْهِ الْمَوْتُ ، فَلْيَقْرَأْ عِنْدَهُ سُورَةَ ( يس ) ، فَإِنَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُ الْمَوْتُ .

( 1494 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ : " ( وَإِذَا تُيُقِّنَ الْمَوْتُ ، وُجِّهَ إلَى الْقِبْلَةِ ، وَغُمِّضَتْ عَيْنَاهُ ، وَشُدَّ لَحْيَاهُ ، لِئَلَّا يَسْتَرْخِيَ فَكُّهُ ، وَجُعِلَ عَلَى بَطْنِهِ مِرْآةٌ أَوْ غَيْرُهَا ؛ لِئَلَّا يَعْلُوَ بَطْنُهُ ) قَوْله : " إذَا تُيُقِّنَ الْمَوْتُ " يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ حُضُورَ الْمَوْتِ ؛ لِأَنَّ التَّوْجِيهَ إلَى الْقِبْلَةِ يُسْتَحَبُّ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْمَوْتِ ، وَاسْتَحَبَّهُ عَطَاءٌ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَمَالِكٌ ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَأَهْلُ الشَّامِ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَنْكَرَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا أَرَادُوا أَنْ يُحَوِّلُوهُ إلَى الْقِبْلَةِ ، قَالَ : مَا لَكُمْ ؟ قَالُوا : نُحَوِّلُك إلَى الْقِبْلَةِ .
قَالَ : أَلَمْ أَكُنْ عَلَى الْقِبْلَةِ إلَى يَوْمِي هَذَا ؟ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ حُذَيْفَةَ قَالَ : وَجِّهُونِي .
وَلِأَنَّ فِعْلَهُمْ ذَلِكَ بِسَعِيدٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَشْهُورًا بَيْنَهُمْ ، يَفْعَلُهُ الْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ بِمَوْتَاهُمْ ، وَلِأَنَّ خَيْرَ الْمَجَالِسِ مَا اُسْتُقْبِلَ بِهِ الْقِبْلَةُ .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْخِرَقِيِّ أَرَادَ تَيَقُّنَ وُجُودِ الْمَوْتِ ، لِأَنَّ سَائِرَ مَا ذَكَرَهُ إنَّمَا يُفْعَلُ بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَهُوَ تَغْمِيضُ الْمَيِّتِ ، فَإِنَّهُ يُسَنُّ عَقِيبَ الْمَوْتِ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ ، قَالَتْ : دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي سَلَمَةَ وَقَدْ شَقَّ بَصَرُهُ ، فَأَغْمَضَهُ ، ثُمَّ قَالَ { : إنَّ الرُّوحَ إذَا قُبِضَ تَبِعَهُ الْبَصَرُ .
فَضَجَّ النَّاسُ مِنْ أَهْلِهِ ، فَقَالَ : لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إلَّا بِخَيْرٍ ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ .
ثُمَّ قَالَ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأَبِي سَلَمَةَ ، وَارْفَعْ دَرَجَتَهُ فِي الْمَهْدِيِّينَ الْمُقَرَّبِينَ ، وَاخْلُفْهُ فِي عَقِبِهِ فِي الْغَابِرِينَ ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ ، وَأَفْسِحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ ، وَنَوِّرْ لَهُ فِيهِ } .
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ .
وَرَوَى شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : إذَا حَضَرْتُمْ مَوْتَاكُمْ ، فَأَغْمِضُوا الْبَصَرَ ، فَإِنَّ الْبَصَرَ يَتْبَعُ الرُّوحَ ، وَقُولُوا خَيْرًا ؛ فَإِنَّهُ يُؤَمَّنُ عَلَى مَا قَالَ أَهْلُ الْمَيِّتِ } .
رَوَاهُ أَحْمَدُ ، فِي " الْمُسْنَدِ " .
وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لِابْنِهِ حِينَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ : اُدْنُ مِنِّي ، فَإِذَا رَأَيْت رُوحِي قَدْ بَلَغَتْ لَهَاتِي ، فَضَعْ كَفَّك الْيُمْنَى عَلَى جَبْهَتِي ، وَالْيُسْرَى تَحْتَ ذَقَنِي ، وَأَغْمِضْنِي .
وَيُسْتَحَبُّ شَدُّ لَحْيَيْهِ بِعِصَابَةٍ عَرِيضَةٍ ، يَرْبُطُهَا مِنْ فَوْقِ رَأْسِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ إذَا كَانَ مَفْتُوحَ الْعَيْنَيْنِ وَالْفَمِ ، فَلَمْ يُغَمَّضْ حَتَّى يَبْرُدَ ، بَقِيَ مَفْتُوحًا ، فَيَقْبُحُ مَنْظَرُهُ ، وَلَا يُؤْمَنُ دُخُولُ الْهَوَامِّ فِيهِ ، وَالْمَاءِ فِي وَقْتِ غُسْلِهِ .
وَقَالَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيّ : وَيَقُولُ الَّذِي يُغَمِّضُهُ : بِسْمِ اللَّهِ ، وَعَلَى وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَيُجْعَلُ عَلَى بَطْنِهِ شَيْءٌ مِنْ الْحَدِيدِ ، كَمِرْآةٍ أَوْ غَيْرِهَا ؛ لِئَلَّا يَنْتَفِخَ بَطْنُهُ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ الْحَدِيدِ فَطِينٌ مَبْلُولٌ .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَلِيَ ذَلِكَ مِنْهُ أَرْفَقُ النَّاسِ بِهِ ، بِأَرْفَقِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ .
قَالَ أَحْمَدُ : تُغَمِّضُ الْمَرْأَةُ عَيْنَيْهِ إذَا كَانَتْ ذَاتَ مَحْرَمٍ لَهُ .
وَقَالَ : يُكْرَهُ لِلْحَائِضِ وَالْجُنُبِ تَغْمِيضُهُ ، وَأَنْ تَقْرَبَاهُ .
وَكَرِهَ ذَلِكَ عَلْقَمَةُ .
وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ الشَّافِعِيِّ .
وَكَرِهَ الْحَسَنُ ، وَابْنُ سِيرِينَ ، وَعَطَاءٌ ، أَنْ يُغَسِّلَ الْحَائِضُ وَالْجُنُبُ الْمَيِّتَ .
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ .
وَقَالَ إِسْحَاقُ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ : يُغَسِّلُهُ الْجُنُبُ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : الْمُؤْمِنُ لَيْسَ بِنَجَسٍ } .
وَلَا نَعْلَمُ بَيْنَهُمْ اخْتِلَافًا فِي صِحَّةِ تَغْسِيلِهِمَا وَتَغْمِيضِهِمَا لَهُ ، وَلَكِنْ الْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْمُتَوَلِّي لِأُمُورِهِ ، فِي تَغْمِيضِهِ وَتَغْسِيلِهِ ، طَاهِرًا لِأَنَّهُ أَكْمَلُ وَأَحْسَنُ

( 1495 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ الْمُسَارَعَةُ إلَى تَجْهِيزِهِ إذَا تُيُقِّنَ مَوْتُهُ ؛ لِأَنَّهُ أَصْوَبُ لَهُ ، وَأَحْفَظُ مِنْ أَنْ يَتَغَيَّرَ ، وَتَصْعُبَ مُعَافَاتُهُ .
قَالَ أَحْمَدُ : كَرَامَةُ الْمَيِّتِ تَعْجِيلُهُ .
وَفِيمَا رَوَى أَبُو دَاوُد ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : إنِّي لَأُرَى طَلْحَةَ قَدْ حَدَثَ فِيهِ الْمَوْتُ ، فَآذِنُونِي بِهِ ، وَعَجِّلُوا فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِجِيفَةِ مُسْلِمٍ أَنْ تُحْبَسَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ أَهْلِهِ } .
وَلَا بَأْسَ أَنْ يُنْتَظَرَ بِهَا مِقْدَارُ مَا يَجْتَمِعُ لَهَا جَمَاعَةٌ ؛ لِمَا يُؤَمَّلُ مِنْ الدُّعَاءِ لَهُ إذَا صُلِّيَ عَلَيْهِ ، مَا لَمْ يُخَفْ عَلَيْهِ ، أَوْ يَشُقَّ عَلَى النَّاسِ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
وَإِنْ اشْتَبَهَ أَمْرُ الْمَيِّتِ ، اُعْتُبِرَ بِظُهُورِ أَمَارَاتِ الْمَوْتِ ، مِنْ اسْتِرْخَاءِ رِجْلَيْهِ ، وَانْفِصَالِ كَفَّيْهِ ، وَمَيْلِ أَنْفِهِ ، وَامْتِدَادِ جِلْدَةِ وَجْهِهِ ، وَانْخِسَافِ صُدْغَيْهِ .
وَإِنْ مَاتَ فَجْأَةً كَالْمَصْعُوقِ ، أَوْ خَائِفًا مِنْ حَرْبٍ أَوْ سَبُعٍ ، أَوْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ ، اُنْتُظِرَ بِهِ هَذِهِ الْعَلَامَاتُ ، حَتَّى يُتَيَقَّنَ مَوْتُهُ .
قَالَ الْحَسَنُ فِي الْمَصْعُوقِ : يُنْتَظَرُ بِهِ ثَلَاثًا .
قَالَ أَحْمَدُ ، رَحِمَهُ اللَّهُ : إنَّهُ رُبَّمَا تَغَيَّرَ فِي الصَّيْفِ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ .
قِيلَ : فَكَيْفَ تَقُولُ ؟ قَالَ : يُتْرَكُ بِقَدْرِ مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ مَيِّتٌ .
قِيلَ لَهُ : مِنْ غَدْوَةٍ إلَى اللَّيْلِ .
قَالَ : نَعَمْ .

( 1496 ) فَصْلٌ : وَيُسَارَعُ فِي قَضَاءِ دَيْنِهِ ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ } .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ .
وَإِنْ تَعَذَّرَ إيفَاءُ دَيْنِهِ فِي الْحَالِ ، اُسْتُحِبَّ لِوَارِثِهِ أَوْ غَيْرِهِ أَنْ يَتَكَفَّلَ بِهِ عَنْهُ ، كَمَا فَعَلَ أَبُو قَتَادَةَ لَمَّا أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجِنَازَةٍ ، فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهَا ، قَالَ أَبُو قَتَادَةَ : صَلِّ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَعَلَيَّ دَيْنُهُ .
فَصَلَّى عَلَيْهِ .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَيُسْتَحَبُّ الْمُسَارَعَةُ إلَى تَفْرِيقِ وَصِيَّتِهِ ؛ لِيُعَجَّلَ لَهُ ثَوَابُهَا بِجَرَيَانِهَا عَلَى الْمُوصَى لَهُ .

( 1497 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ خَلْعُ ثِيَابِ الْمَيِّتِ ؛ لِئَلَّا يَخْرُجَ مِنْهُ شَيْءٌ يَفْسُدُ بِهِ ، وَيَتَلَوَّثُ بِهَا ، إذَا نُزِعَتْ عَنْهُ ، وَيُسَجَّى بِثَوْبٍ يَسْتُرُ جَمِيعَهُ .
قَالَتْ عَائِشَةُ : سُجِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثَوْبٍ حِبَرَةٍ .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَلَا يُتْرَكُ الْمَيِّتُ عَلَى الْأَرْضِ ؛ لِأَنَّهُ أَسْرَعُ لِفَسَادِهِ ، وَلَكِنْ عَلَى سَرِيرٍ أَوْ لَوْحٍ ، لِيَكُونَ أَحْفَظَ لَهُ .

( 1498 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( فَإِذَا أَخَذَ فِي غُسْلِهِ سَتَرَ مِنْ سُرَّتِهِ إلَى رُكْبَتَيْهِ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ تَجْرِيدُ الْمَيِّتِ عِنْدَ غُسْلِهِ ، وَيَسْتُرُ عَوْرَتَهُ بِمِئْزَرٍ .
هَذَا ظَاهِرُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ ، فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ عَنْ أَحْمَدَ فَقَالَ : يُغَطِّي مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ وَرُكْبَتَيْهِ .
وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي الْخَطَّابِ وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ سِيرِينَ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَرَوَى الْمَرُّوذِيُّ ، عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهُ قَالَ : يُعْجِبُنِي أَنْ يُغَسِّلَ الْمَيِّتَ وَعَلَيْهِ ثَوْبٌ يُدْخِلُ يَدَهُ مِنْ تَحْتِ الثَّوْبِ .
قَالَ : وَكَانَ أَبُو قِلَابَةَ إذَا غَسَّلَ مَيِّتًا جَلَّلَهُ بِثَوْبٍ .
قَالَ الْقَاضِي : السُّنَّةُ أَنْ يُغَسَّلَ فِي قَمِيصٍ رَقِيقٍ يَنْزِلُ الْمَاءُ فِيهِ ، وَلَا يَمْنَعُ أَنْ يَصِلَ إلَى بَدَنِهِ ، وَيُدْخِلُ يَدَهُ فِي كُمِّ الْقَمِيصِ ، فَيُمِرُّهَا عَلَى بَدَنِهِ وَالْمَاءُ يُصَبُّ ، فَإِنْ كَانَ الْقَمِيصُ ضَيِّقًا فَتَقَ رَأْسَ الدَّخَارِيصِ ، وَأَدْخَلَ يَدَهُ مِنْهُ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُسِّلَ فِي قَمِيصِهِ .
وَقَالَ سَعْدٌ اصْنَعُوا بِي كَمَا صُنِعَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قَالَ أَحْمَدُ غُسِّلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَمِيصِهِ ، وَقَدْ أَرَادُوا خَلْعَهُ ، فَنُودُوا ، أَنْ لَا تَخْلَعُوهُ ، وَاسْتُرُوا نَبِيَّكُمْ .
وَلَنَا ، أَنَّ تَجْرِيدَهُ أَمْكَنُ لِتَغْسِيلِهِ ، وَأَبْلَغُ فِي تَطْهِيرِهِ ، وَالْحَيُّ يَتَجَرَّدُ إذَا اغْتَسَلَ ، فَكَذَا الْمَيِّتُ ، وَلِأَنَّهُ إذَا غُسِّلَ فِي ثَوْبِهِ تَنَجَّسَ الثَّوْبُ بِمَا يَخْرُجُ ، وَقَدْ لَا يَطْهُرُ بِصَبِّ الْمَاءِ عَلَيْهِ ، فَيَتَنَجَّسَ الْمَيِّتُ بِهِ .
فَأَمَّا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَاكَ خَاصٌّ لَهُ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ قَالُوا : نُجَرِّدُهُ كَمَا نُجَرِّدُ مَوْتَانَا .
كَذَلِكَ رَوَتْ عَائِشَةُ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرّ : رُوِيَ ذَلِكَ عَنْهَا مِنْ وَجْهٍ صَحِيحٍ .
فَالظَّاهِرُ أَنَّ تَجْرِيدَ الْمَيِّتِ فِيمَا عَدَا الْعَوْرَةَ كَانَ مَشْهُورًا عِنْدَهُمْ ،

وَلَمْ يَكُنْ هَذَا لِيَخْفَى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ بِأَمْرِهِ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَنْتَهُونَ إلَى رَأْيِهِ ، وَيَصْدُرُونَ عَنْ أَمْرِهِ فِي الشَّرْعِيَّاتِ ، وَاتِّبَاعُ أَمْرِهِ وَفِعْلِهِ أَوْلَى مِنْ اتِّبَاعِ غَيْرِهِ .
وَلِأَنَّ مَا يُخْشَى مِنْ تَنْجِيسِ قَمِيصِهِ بِمَا يَخْرُجُ مِنْهُ كَانَ مَأْمُونًا فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ لِأَنَّهُ طَيِّبٌ حَيًّا وَمَيِّتًا ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ ، وَإِنَّمَا قَالَ سَعْدٌ الْحَدُوا لِي لَحْدًا ، وَانْصُبُوا عَلَيَّ اللَّبِنَ نَصْبًا ، كَمَا صُنِعَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَلَوْ ثَبَتَ أَنَّهُ أَرَادَ الْغُسْلَ فَأَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى بِالِاتِّبَاعِ .
وَأَمَّا سَتْرُ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ فَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا ، فَإِنَّ ذَلِكَ عَوْرَةٌ ، وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ مَأْمُورٌ بِهِ ، وَقَدْ { قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ : لَا تَنْظُرْ إلَى فَخِذِ حَيٍّ ، وَلَا مَيِّتٍ } .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : وَرُوِيَ : " النَّاظِرُ مِنْ الرِّجَالِ إلَى فُرُوجِ الرِّجَالِ ، كَالنَّاظِرِ مِنْهُمْ إلَى فُرُوجِ النِّسَاءِ ، وَالْمُتَكَشِّفُ مَلْعُونٌ " .
( 1499 ) فَصْلٌ : قَالَ أَبُو دَاوُد : قُلْت لِأَحْمَدَ الصَّبِيُّ يُسْتَرُ كَمَا يُسْتَرُ الْكَبِيرُ ، أَعْنِي الصَّبِيَّ الْمَيِّتَ فِي الْغُسْلِ .
قَالَ : أَيُّ شَيْءٍ يُسْتَرُ مِنْهُ ، وَلَيْسَتْ عَوْرَتُهُ بِعَوْرَةٍ وَيُغَسِّلُهُ النِّسَاءُ ؟

( 1500 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَالِاسْتِحْبَابُ أَنْ لَا يُغَسَّلَ تَحْتَ السَّمَاءِ ، وَلَا يَحْضُرُهُ إلَّا مَنْ يُعِينُ فِي أَمْرِهِ ، مَا دَامَ يُغَسَّلُ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ أَنْ يُغَسَّلَ فِي بَيْتٍ .
وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ يَسْتَحِبُّ أَنْ يَكُونَ الْبَيْتُ الَّذِي يُغَسَّلُ فِيهِ مُظْلِمًا .
وَذَكَرَهُ أَحْمَدُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ جُعِلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ سِتْرًا .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ كَانَ النَّخَعِيُّ يُحِبُّ أَنْ يُغَسَّلَ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ سُتْرَةٌ .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادِهِ ؛ قَالَ : أَوْصَى الضَّحَّاكُ أَخَاهُ سَالِمًا ، قَالَ : إذَا غَسَّلْتنِي فَاجْعَلْ حَوْلِي سِتْرًا ، وَاجْعَلْ بَيْنِي وَبَيْنَ السَّمَاءِ سِتْرًا .
وَذَكَرَ الْقَاضِي ، أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ : { أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ نُغَسِّلُ ابْنَتَهُ ، فَجَعَلْنَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ السَّقْفِ سِتْرًا } .
قَالَ : وَإِنَّمَا اُسْتُحِبَّ ذَلِكَ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ السَّمَاءَ بِعَوْرَتِهِ ، وَإِنَّمَا كُرِهَ أَنْ يَحْضُرَهُ مَنْ لَا يُعِينُ فِي أَمْرِهِ ، لِأَنَّهُ يُكْرَهُ النَّظَرُ إلَى الْمَيِّتِ إلَّا لِحَاجَةٍ .
وَيُسْتَحَبُّ لِلْحَاضِرِينَ غَضُّ أَبْصَارِهِمْ عَنْهُ ، إلَّا مِنْ حَاجَةٍ ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ بِالْمَيِّتِ عَيْبٌ يَكْتُمُهُ ، وَيَكْرَهُ أَنْ يُطَّلَعَ عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ ، وَرُبَّمَا حَدَثَ مِنْهُ أَمْرٌ يَكْرَهُ الْحَيُّ أَنْ يُطَّلَعَ مِنْهُ عَلَى مِثْلِهِ ، وَرُبَّمَا ظَهَرَ فِيهِ شَيْءٌ هُوَ فِي الظَّاهِرِ مُنْكَرٌ فَيُحَدَّثُ بِهِ ، فَيَكُونُ فَضِيحَةً لَهُ ، وَرُبَّمَا بَدَتْ عَوْرَتُهُ فَشَاهَدَهَا ، وَلِهَذَا أَحْبَبْنَا أَنْ يَكُونَ الْغَاسِلُ ثِقَةً أَمِينًا صَالِحًا ؛ لِيَسْتُرَ مَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ ، وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لِيُغَسِّلْ مَوْتَاكُمْ الْمَأْمُونُونَ .
} رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
وَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا ، ثُمَّ لَمْ يُفْشِ عَلَيْهِ ، خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ .
} رَوَاهُ ابْنُ

مَاجَهْ أَيْضًا .
وَفِي " الْمُسْنَدِ " عَنْ عَائِشَةَ ، قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا ، فَأَدَّى فِيهِ الْأَمَانَةَ ، وَلَمْ يُفْشِ عَلَيْهِ مَا يَكُونُ مِنْهُ عِنْدَ ذَلِكَ ، خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ } .
وَقَالَ : { لِيَلِهِ أَقْرَبُكُمْ مِنْهُ إنْ كَانَ يَعْلَمُ ، فَإِنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ فَمَنْ تَرَوْنَ أَنَّ عِنْدَهُ حَظًّا مِنْ وَرَعٍ وَأَمَانَةٍ } .
وَقَالَ الْقَاضِي : لِوَلِيِّهِ أَنْ يَدْخُلَ كَيْفَ شَاءَ .
وَكَلَامُ الْخِرَقِيِّ عَامٌّ فِي الْمَنْعِ ، وَلَعَلَّهُ يَقْتَضِي التَّعْمِيمَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( 1501 ) فَصْلٌ : وَيَنْبَغِي لِلْغَاسِلِ ، وَلِمَنْ حَضَرَ ، إذَا رَأَى مِنْ الْمَيِّتِ شَيْئًا مِمَّا ذَكَرْنَاهُ وَمِمَّا يُحِبُّ الْمَيِّتُ سَتْرَهُ ، أَنْ يَسْتُرَهُ ، وَلَا يُحَدِّثَ بِهِ ؛ لِمَا رَوَيْنَاهُ ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ سَتَرَ عَوْرَةَ مُسْلِمٍ ، سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } .
وَإِنْ رَأَى حَسَنًا مِثْلَ أَمَارَاتِ الْخَيْرِ ، مِنْ وَضَاءَةِ الْوَجْهِ ، وَالتَّبَسُّمِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ ، اُسْتُحِبَّ إظْهَارُهُ ، لِيَكْثُرَ التَّرَحُّمُ عَلَيْهِ ، وَيَحْصُلَ الْحَثُّ عَلَى مِثْلِ طَرِيقَتِهِ ، وَالتَّشَبُّهُ بِجَمِيلِ سِيرَتِهِ .
قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ مَغْمُوصًا عَلَيْهِ فِي الدِّينِ وَالسُّنَّةِ ، مَشْهُورًا بِبِدْعَتِهِ ، فَلَا بَأْسَ بِإِظْهَارِ الشَّرِّ عَلَيْهِ ، لِتُحْذَرَ طَرِيقَتُهُ .
وَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكْتُمَ مَا يَرَى عَلَيْهِ مِنْ أَمَارَاتِ الْخَيْرِ ؛ لِئَلَّا يَغْتَرَّ مُغْتَرٌّ بِذَلِكَ ، فَيَقْتَدِيَ بِهِ فِي بِدْعَتِهِ .
( 1502 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَتُلَيَّنُ مَفَاصِلُهُ إنْ سَهُلَتْ عَلَيْهِ ، وَإِلَّا تَرَكَهَا ) مَعْنَى تَلْيِينِ الْمَفَاصِل هُوَ أَنْ يَرُدَّ ذِرَاعَيْهِ إلَى عَضُدَيْهِ ، وَعَضُدَيْهِ إلَى جَنْبَيْهِ ، ثُمَّ يَرُدَّهُمَا ، وَيَرُدّ سَاقَيْهِ إلَى فَخِذَيْهِ ، وَفَخِذَيْهِ ، إلَى بَطْنِهِ ، ثُمَّ يَرُدُّهَا ، لِيَكُونَ ذَلِكَ أَبْقَى لِلِينِهِ ، فَيَكُون ذَلِكَ أَمْكَنَ لِلْغَاسِلِ ، مِنْ تَكْفِينِهِ ، وَتَمْدِيدِهِ ، وَخَلْعِ ثِيَابِهِ ، وَتَغْسِيلِهِ .
قَالَ أَصْحَابُنَا : وَيُسْتَحَبُّ ذَلِكَ فِي مَوْضِعَيْنِ ، عَقِيبَ مَوْتِهِ قَبْلَ قَسْوَتِهَا بِبُرُودَتِهِ ، وَإِذَا أَخَذَ فِي غُسْلِهِ .
وَإِنْ شَقَّ ذَلِكَ لِقَسْوَةِ الْمَيِّتِ أَوْ غَيْرِهَا ، تَرَكَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ تَنْكَسِرَ أَعْضَاؤُهُ ، وَيَصِيرَ بِهِ ذَلِكَ إلَى الْمُثْلَةِ .

( 1503 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ ( وَيَلُفُّ عَلَى يَدِهِ خِرْقَةً ، فَيُنَقِّي مَا بِهِ مِنْ نَجَاسَةٍ ، وَيَعْصِرُ بَطْنَهُ عَصْرًا رَفِيقًا ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُغَسَّلَ الْمَيِّتُ عَلَى سَرِيرٍ ، يُتْرَكُ عَلَيْهِ مُتَوَجِّهًا إلَى الْقِبْلَةِ مُنْحَدِرًا نَحْوَ رِجْلَيْهِ ، لِيَنْحَدِرَ الْمَاءُ بِمَا يَخْرُجُ مِنْهُ ، وَلَا يَرْجِعَ إلَى جِهَةِ رَأْسِهِ ، وَيَبْدَأُ الْغَاسِلُ ، فَيَحْنِي الْمَيِّتَ حَنْيًا رَفِيقًا ، لَا يَبْلُغُ بِهِ قَرِيبًا مِنْ الْجُلُوسِ ، لِأَنَّ فِي الْجُلُوسِ أَذِيَّةً لَهُ ، ثُمَّ يُمِرُّ يَدَهُ عَلَى بَطْنِهِ ، يَعْصِرُهُ عَصْرًا رَفِيقًا ؛ لِيُخْرِج مَا مَعَهُ مِنْ نَجَاسَةٍ ، لِئَلَّا يَخْرُجَ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَيَصُبُّ عَلَيْهِ الْمَاءُ حِينَ يُمِرُّ يَدَهُ صَبًّا كَثِيرًا ، لِيُخْفِيَ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ ، وَيَذْهَبُ بِهِ الْمَاءُ ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ بِقُرْبِهِ مِجْمَرٌ فِيهِ بَخُورٌ حَتَّى لَا يَظْهَرَ مِنْهُ رِيحٌ .
وَقَالَ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَعْصِرُ بَطْنَ الْمَيِّتِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى ، وَلَكِنْ فِي الثَّانِيَةِ .
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : يَعْصِرُ بَطْنَهُ فِي الثَّالِثَةِ ، يَمْسَحُ مَسْحًا رَفِيقًا مَرَّةً وَاحِدَةً .
وَقَالَ أَيْضًا : عَصْرُ بَطْنِ الْمَيِّتِ فِي الثَّانِيَةِ أَمْكَنُ ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَلِينُ حَتَّى يُصِيبَهُ الْمَاءُ .
وَيَلُفُّ الْغَاسِلُ عَلَى يَدِهِ خِرْقَةً خَشِنَةً ، فَيُنْجِيهِ بِهَا ؛ لِئَلَّا يَمَسَّ عَوْرَتَهُ ، لِأَنَّ النَّظَرَ إلَى الْعَوْرَةِ حَرَامٌ ، فَاللَّمْسُ أَوْلَى ، وَيُزِيلُ مَا عَلَى بَدَنِهِ مِنْ نَجَاسَةٍ ؛ لِأَنَّ الْحَيَّ يَبْدَأُ بِذَلِكَ فِي اغْتِسَالِهِ مِنْ الْجَنَابَةِ .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَمَسَّ بَقِيَّةَ بَدَنِهِ إلَّا بِخِرْقَةٍ .
قَالَ الْقَاضِي : يُعِدُّ الْغَاسِلُ خِرْقَتَيْنِ ، يَغْسِلُ بِإِحْدَاهُمَا السَّبِيلَيْنِ ، وَبِالْأُخْرَى سَائِرَ بَدَنِهِ ، فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ امْرَأَةً حَامِلًا لَمْ يَعْصِرْ بَطْنَهَا ، لِئَلَّا يُؤْذِيَ الْوَلَدَ ، وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ الْخَلَّالُ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أُمِّ سُلَيْمٍ قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا

تُوُفِّيَتْ الْمَرْأَةُ ، فَأَرَادُوا غَسْلَهَا ، فَلْيَبْدَأْ بِبَطْنِهَا ، فَلْيَمْسَحْ مَسْحًا رَفِيقًا إنْ لَمْ تَكُنْ حُبْلَى ، فَإِنْ كَانَتْ حُبْلَى فَلَا يُحَرِّكْهَا .
}

( 1504 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَيُوَضِّئُهُ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ ، وَلَا يُدْخِلُ الْمَاءَ فِي فِيهِ ، وَلَا فِي أَنْفِهِ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمَا أَذَى أَزَالَهُ بِخِرْقَةِ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا أَنْجَاهُ ، وَأَزَالَ عَنْهُ النَّجَاسَةَ ، بَدَأَ بَعْدَ ذَلِكَ فَوَضَّأَهُ وُضُوءَ الصَّلَاةِ ، فَيَغْسِلُ كَفَّيْهِ ، ثُمَّ يَأْخُذُ خِرْقَةً خَشِنَةً فَيَبُلُّهَا وَيَجْعَلُهَا عَلَى أُصْبُعِهِ ، فَيَمْسَحُ أَسْنَانَهُ وَأَنْفَهُ ، حَتَّى يُنَظِّفَهُمَا ، وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي رِفْقٍ ، ثُمَّ يَغْسِلُ وَجْهَهُ ، وَيُتِمُّ وُضُوءَهُ ، لِأَنَّ الْوُضُوءَ يُبْدَأُ بِهِ فِي غُسْلِ الْحَيِّ ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلنِّسَاءِ اللَّاتِي غَسَّلْنَ ابْنَتَهُ { : ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا ، وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَفِي حَدِيثِ أُمِّ سُلَيْمٍ : { فَإِذَا فَرَغْتِ مِنْ غَسْلِ سُفْلَتِهَا غَسْلًا نَقِيًّا بِمَاءٍ وَسِدْرٍ ، فَوَضِّئِيهَا وُضُوءَ الصَّلَاةِ ، ثُمَّ اغْسِلِيهَا } وَلَا يُدْخِلُ الْمَاءَ فَاهُ ، وَلَا مَنْخَرَيْهِ ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
كَذَلِكَ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَالنَّخَعِيِّ ، وَالثَّوْرِيِّ وَأَبُو حَنِيفَةَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يُمَضْمِضُهُ وَيُنَشِّقُهُ كَمَا يَفْعَلُ الْحَيُّ .
وَلَنَا ، أَنَّ إدْخَالَ الْمَاءِ فَاهُ وَأَنْفَهُ لَا يُؤْمَنُ مَعَهُ وُصُولُهُ إلَى جَوْفِهِ ، فَيُفْضِي إلَى الْمُثْلَةِ بِهِ ، وَلَا يُؤْمَنُ خُرُوجُهُ فِي أَكْفَانِهِ .

( 1505 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَيَصُبُّ عَلَيْهِ الْمَاءَ ، فَيَبْدَأُ بِمَيَامِنِهِ ، وَيَقْلِبُهُ عَلَى جَنْبَيْهِ ، لِيَعُمَّ الْمَاءُ سَائِرَ جِسْمِهِ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا وَضَّأَهُ بَدَأَ بِغَسْلِ رَأْسِهِ ، ثُمَّ لِحْيَتِهِ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
فَيَضْرِبُ السِّدْرَ فَيَغْسِلُهُمَا بِرَغْوَتِهِ ، وَيَغْسِلُ وَجْهَهُ ، وَيَغْسِلُ الْيَدَ الْيُمْنَى مِنْ الْمَنْكِبِ إلَى الْكَفَّيْنِ وَصَفْحَةَ عُنُقِهِ الْيُمْنَى ، وَشِقَّ صَدْرِهِ وَجَنْبَيْهِ وَفَخِذَهُ وَسَاقَهُ ، يَغْسِلُ الظَّاهِرَ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ مُسْتَلْقٍ ، ثُمَّ يَصْنَعُ ذَلِكَ بِالْجَانِبِ الْأَيْسَرِ ، ثُمَّ يَرْفَعُهُ مِنْ جَانِبِهِ الْأَيْمَنِ ، وَلَا يَكُبُّهُ لِوَجْهِهِ ، فَيَغْسِلُ الظَّهْرَ وَمَا هُنَاكَ مِنْ وَرِكِهِ وَفَخِذِهِ وَسَاقِهِ ، ثُمَّ يَعُودُ فَيُحَرِّفهُ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ ، وَيَغْسِلُ شِقَّهُ الْأَيْسَرَ كَذَلِكَ .
هَكَذَا ذَكَرَهُ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ ، وَالْقَاضِي .
وَهُوَ أَقْرَبُ إلَى مُوَافَقَةِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا } .
وَهُوَ أَشْبَهُ بِغُسْلِ الْحَيِّ .

( 1506 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَيَكُونُ فِي كُلِّ الْمِيَاهِ شَيْءٌ مِنْ السِّدْرِ ، وَيَضْرِبُ السِّدْرَ فَيَغْسِلُ بِرَغْوَتِهِ رَأْسَهُ وَلِحْيَتَهُ ) .
هَذَا الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ قَالَ صَالِحٌ : قَالَ أَبِي : الْمَيِّتُ يُغَسَّلُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ ، ثَلَاثَ غَسَلَاتٍ ، قُلْت : فَيَبْقَى عَلَيْهِ ؟ قَالَ : أَيُّ شَيْءٍ يَكُونُ هُوَ أَنْقَى لَهُ .
وَذُكِرَ عَنْ عَطَاءٍ ، أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ قَالَ لَهُ : إنَّهُ يَبْقَى عَلَيْهِ السِّدْرُ إذَا غُسِّلَ بِهِ كُلَّ مَرَّةٍ .
فَقَالَ عَطَاءٌ : هُوَ طَهُورٌ .
وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد عَنْ أَحْمَدَ ، قَالَ : قُلْت ، يَعْنِي لِأَحْمَدَ : أَفَلَا تَصُبُّونَ مَاءً قَرَاحًا يُنَظِّفُهُ ؟ قَالَ : إنْ صَبُّوا فَلَا بَأْسَ .
وَاحْتَجَّ أَحْمَدُ بِحَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ { ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ تُوُفِّيَتْ ابْنَتُهُ قَالَ : اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا ، أَوْ خَمْسًا ، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ، إنْ رَأَيْتُنَّ ، بِمَاءٍ وَسِدْرٍ ، وَاجْعَلْنَ فِي الْآخِرَةِ كَافُورًا } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَفِي حَدِيثِ أُمِّ سُلَيْمٍ { : ثُمَّ اغْسِلِيهَا بَعْدَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ .
} وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا الْمُتَأَخِّرِينَ ، إلَى أَنَّهُ لَا يَتْرُكُ مَعَ الْمَاءِ سِدْرًا يُغَيِّرُهُ ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا ، فَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ : يُطْرَحُ فِي كُلِّ الْمِيَاهِ شَيْءٌ يَسِيرٌ مِنْ السِّدْرِ لَا يُغَيِّرُهُ لِيَجْمَعَ بَيْنَ الْعَمَلِ بِالْحَدِيثِ ، وَيَكُونَ الْمَاءُ بَاقِيًا عَلَى طَهُورِيَّته .
وَقَالَ الْقَاضِي وَأَبُو الْخَطَّابِ : يُغَسَّلُ أَوَّلَ مَرَّةٍ بِالسِّدْرِ ، ثُمَّ يُغَسَّلُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْمَاءِ الْقَرَاحِ ، فَيَكُونُ الْجَمِيعُ غَسْلَةً وَاحِدَةً ، وَيَكُونُ الِاعْتِدَادُ بِالْآخِرِ دُونَ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ أَحْمَدَ ، رَحِمَهُ اللَّهُ ، شَبَّهَ غُسْلَهُ بِغُسْلِ الْجَنَابَةِ ، وَلِأَنَّ السِّدْرَ إنْ غَيَّرَ الْمَاءَ سَلَبَهُ وَصْفَ الطَّهُورِيَّة ، وَإِنْ لَمْ يُغَيِّرْهُ فَلَا فَائِدَةَ فِي تَرْكِ

يَسِيرٍ لَا يُؤَثِّرُ .
وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ الْأَوَّلُ .
وَيَكُونُ هَذَا مِنْ قَوْلِهِ دَالًّا عَلَى أَنَّ تَغَيُّرَ الْمَاءِ بِالسِّدْرِ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ طَهُورِيَّته .
قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : يَتَّخِذُ الْغَاسِلُ ثَلَاثَةَ أَوَانٍ ؛ آنِيَةً كَبِيرَةً يَجْمَعُ فِيهَا الْمَاءَ الَّذِي يُغَسِّلُ بِهِ الْمَيِّتَ يَكُونُ بِالْبُعْدِ مِنْهُ ، وَإِنَاءَيْنِ صَغِيرَيْنِ يَطْرَحُ مِنْ أَحَدِهِمَا عَلَى الْمَيِّتِ ، وَالثَّالِثَ يَغْرِفُ بِهِ مِنْ الْكَبِيرِ فِي الصَّغِيرِ الَّذِي يُغَسِّلُ بِهِ الْمَيِّتَ ، لِيَكُونَ الْكَبِيرُ مَصُونًا ، فَإِذَا فَسَدَ الْمَاءُ الَّذِي فِي الصَّغِيرِ ، وَطَارَ فِيهِ مِنْ رَشَّاش الْمَاءِ ، كَانَ مَا بَقِيَ فِي الْكَبِيرِ كَافِيًا ، وَيَضْرِبُ السِّدْرَ ، فَيَغْسِلُ بِرَغْوَتِهِ رَأْسَهُ وَلِحْيَتَهُ ، وَيُبْلِغُهُ سَائِرَ بَدَنِهِ ، كَمَا يَفْعَلُ الْحَيُّ إذَا اغْتَسَلَ .
( 1507 ) فَصْلٌ : فَإِنْ لَمْ يَجِدْ السِّدْرَ غَسَّلَهُ بِمَا يَقُومُ مَقَامَهُ ، وَيَقْرُبُ مِنْهُ ، كَالْخَطْمِيِّ وَنَحْوِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ مِنْهُ ، وَإِنْ غَسَّلَهُ بِذَلِكَ مَعَ وُجُودِ السِّدْرِ جَازَ ، لِأَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِهَذَا لِمَعْنًى مَعْقُولٍ ، وَهُوَ التَّنْظِيفُ ، فَيَتَعَدَّى إلَى كُلِّ مَا وُجِدَ فِيهِ الْمَعْنَى .

( 1508 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَيَسْتَعْمِلُ فِي كُلِّ أُمُورِهِ الرِّفْقَ بِهِ ) وَيُسْتَحَبُّ الرِّفْقُ بِالْمَيِّتِ فِي تَقْلِيبِهِ ، وَعَرْكِ أَعْضَائِهِ ، وَعَصْرِ بَطْنِهِ ، وَتَلْيِينِ مَفَاصِلِهِ ، وَسَائِرِ أُمُورِهِ ، احْتِرَامًا لَهُ ؛ فَإِنَّهُ مُشَبَّهٌ بِالْحَيِّ فِي حُرْمَتِهِ ، وَلَا يَأْمَنُ إنْ عَنُفَ بِهِ أَنْ يَنْفَصِلَ مِنْهُ عُضْوٌ ، فَيَكُونَ مُثْلَةً بِهِ ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : كَسْرُ عَظْمِ الْمَيِّتِ كَكَسْرِ عَظْمِ الْحَيِّ } .
وَقَالَ { إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ } .

( 1509 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ ( وَالْمَاءُ الْحَارُّ وَالْأُشْنَانُ ، وَالْخِلَالُ ، يُسْتَعْمَلُ إنْ اُحْتِيجَ إلَيْهِ ) هَذِهِ الثَّلَاثَةُ تُسْتَعْمَلُ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهَا ، مِثْلُ أَنْ يُحْتَاجَ إلَى الْمَاءِ الْحَارِّ لِشِدَّةِ الْبَرْدِ ، أَوْ لَوَسَخٍ لَا يَزُولُ إلَّا بِهِ ، وَكَذَا الْأُشْنَانُ يُسْتَعْمَلُ إذَا كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ وَسَخٌ .
قَالَ أَحْمَدُ : إذَا طَالَ ضَنَى الْمَرِيضِ غُسِّلَ بِالْأُشْنَانِ .
يَعْنِي أَنَّهُ يَكْثُرُ وَسَخُهُ ، فَيَحْتَاجُ إلَى الْأُشْنَانِ لِيُزِيلَهُ .
وَالْخِلَالُ : يُحْتَاجُ إلَيْهِ لِإِخْرَاجِ شَيْءٍ ، وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ مِنْ شَجَرَةٍ لَيِّنَةٍ كَالصَّفْصَافِ وَنَحْوِهِ ، مِمَّا يُنَقِّي وَلَا يَجْرَحُ ، وَإِنْ لَفَّ عَلَى رَأْسِهِ قُطْنًا ، فَحَسَنٌ .
وَيَتَتَبَّعُ مَا تَحْتَ أَظْفَارِهِ حَتَّى يُنَقِّيَهُ ، فَإِنْ لَمْ يَحْتَجْ إلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يُسْتَحَبَّ اسْتِعْمَالُهُ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ الْمُسَخَّنُ أَوْلَى بِكُلِّ حَالٍ ؛ لِأَنَّهُ يُنَقِّي مَا لَا يُنَقِّي الْبَارِدُ .
وَلَنَا ، أَنَّ الْبَارِدَ يُمْسِكُهُ وَالْمُسَخَّنَ يُرْخِيهِ ، وَلِهَذَا يُطْرَحُ الْكَافُورُ فِي الْمَاءِ لِيَشُدَّهُ وَيُبَرِّدَهُ ، وَالْإِنْقَاءُ يَحْصُلُ بِالسِّدْرِ إذَا لَمْ يَكْثُرْ وَسَخُهُ ، فَإِنْ كَثُرَ وَلَمْ يَزُلْ إلَّا بِالْحَارِّ صَارَ مُسْتَحَبًّا .

( 1510 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَيُغَسَّلُ الثَّالِثَةَ بِمَاءٍ فِيهِ كَافُورٌ وَسِدْرٌ ، وَلَا يَكُونُ فِيهِ سِدْرٌ صِحَاحٌ ) الْوَاجِبُ فِي غُسْلِ الْمَيِّتِ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ ؛ لِأَنَّهُ غُسْلٌ وَاجِبٌ مِنْ غَيْرِ نَجَاسَةٍ أَصَابَتْهُ ، فَكَانَ مَرَّةً وَاحِدَةً ، كَغُسْلِ الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُغَسَّلَ ثَلَاثًا ، كُلُّ غَسْلَةٍ بِالْمَاءِ وَالسِّدْرِ ، عَلَى مَا وَصَفْنَا ، وَيُجْعَلَ فِي الْمَاءِ كَافُورٌ فِي الْغَسْلَةِ الثَّالِثَةِ ؛ لِيَشُدَّهُ وَيُبَرِّدَهُ وَيُطَيِّبَهُ ، لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلنِّسَاءِ اللَّاتِي غَسَّلْنَ ابْنَتَهُ : { اغْسِلْنَهَا بِالسِّدْرِ وِتْرًا ثَلَاثًا ، أَوْ خَمْسًا ، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إنْ رَأَيْتُنَّ ، وَاجْعَلْنَ فِي الْغَسْلَةِ الْأَخِيرَةِ كَافُورًا } .
وَفِي حَدِيثِ أُمِّ سُلَيْمٍ : { فَإِذَا كَانَ فِي آخِرِ غَسْلَةٍ مِنْ الثَّالِثَةِ أَوْ غَيْرِهَا ، فَاجْعَلِي مَاءً فِيهِ شَيْءٌ مِنْ كَافُورٍ ، وَشَيْءٌ مِنْ سِدْرٍ ، ثُمَّ اجْعَلِي ذَلِكَ فِي جَرَّةٍ جَدِيدَةٍ ، ثُمَّ أَفْرِغِيهِ عَلَيْهَا ، وَابْدَئِي بِرَأْسِهَا حَتَّى يَبْلُغَ رِجْلَيْهَا } .
وَلَا يُجْعَلُ فِي الْمَاءِ سِدْرٌ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ ، لِأَنَّ السِّدْرَ إنَّمَا أُمِرَ بِهِ لِلتَّنْظِيفِ ، وَالْمُعَدُّ لِلتَّنْظِيفِ إنَّمَا هُوَ الْمَطْحُونُ ، وَلِهَذَا لَا يَسْتَعْمِلُهُ الْمُغْتَسِلُ بِهِ مِنْ الْأَحْيَاءِ إلَّا كَذَلِكَ .
قَالَ أَبُو دَاوُد : قُلْت لِأَحْمَدَ إنَّهُمْ يَأْتُونَ بِسَبْعِ وَرَقَاتٍ مِنْ سِدْرٍ ، فَيُلْقُونَهَا فِي الْمَاءِ فِي الْغَسْلَةِ الْأَخِيرَةِ .
فَأَنْكَرَ ذَلِكَ ، وَلَمْ يُعْجِبْهُ ، وَإِذَا فَرَغَ مِنْ الْغَسْلَةِ الثَّالِثَةِ لَمْ يُمِرَّ يَدَهُ عَلَى بَطْنِ الْمَيِّتِ ، لِئَلَّا يَخْرُجَ مِنْهُ شَيْءٌ ، وَيَقَعَ فِي أَكْفَانِهِ .
قَالَ أَحْمَدُ : وَيُوَضَّأُ الْمَيِّتُ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي الْغَسْلَةِ الْأُولَى .
وَمَا سَمِعْنَا إلَّا أَنَّهُ يُوَضَّأُ أَوَّلَ مَرَّةٍ ، وَهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ، مَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ شَيْءٌ ، وَمَتَى خَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ ، أَعَادَ وُضُوءَهُ لِأَنَّ ذَلِكَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ مِنْ الْحَيِّ

وَيُوجِبُهُ ، وَإِنْ رَأَى الْغَاسِلُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى ثَلَاثٍ ، لِكَوْنِهِ لَمْ يُنَقَّ بِهَا ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ ، غَسَلَهُ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا ، وَلَمْ يَقْطَعْ إلَّا عَلَى وِتْرٍ .
قَالَ أَحْمَدُ وَلَا يُزَادُ عَلَى سَبْعٍ وَالْأَصْلُ فِي هَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا ، أَوْ خَمْسًا ، أَوْ سَبْعًا } لَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ وَجَعَلَ جَمِيعَ مَا أَمَرَ بِهِ وَتْرًا وَقَالَ أَيْضًا : " اغْسِلْنَهَا وِتْرًا " وَإِنْ لَمْ يُنَقَّ بِسَبْعٍ فَالْأَوْلَى غَسْلُهُ حَتَّى يُنَقَّى ، وَلَا يُقْطَعُ إلَّا عَلَى وَتْرٍ ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : " اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا ، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إنْ رَأَيْتُنَّ " .
وَلِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الثَّلَاثِ إنَّمَا كَانَتْ لِلْإِنْقَاءِ ، وَلِلْحَاجَةِ إلَيْهَا ، فَكَذَلِكَ فِيمَا بَعْدَ السَّبْعِ .
وَلَمْ يَذْكُرْ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ يَزِيدُ عَلَى سَبْعٍ .

( 1511 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : " فَإِنْ خَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ غَسَلَهُ إلَى خَمْسٍ ، فَإِنْ زَادَ فَإِلَى سَبْعٍ " يَعْنِي إنْ خَرَجَتْ نَجَاسَةٌ مِنْ قُبُلِهِ أَوْ دُبُرِهِ ، وَهُوَ عَلَى مُغْتَسَلِهِ بَعْدَ الثَّلَاثِ ، غَسَلَهُ إلَى خَمْسٍ ، فَإِنْ خَرَجَ بَعْدَ الْخَامِسَةِ ، غَسَلَهُ إلَى سَبْعٍ وَيُوَضِّئُهُ فِي الْغَسْلَةِ الَّتِي تَلِي خُرُوجَ النَّجَاسَةِ .
قَالَ صَالِحٌ : قَالَ أَبِي : يُوَضَّأُ الْمَيِّتُ مَرَّةً وَاحِدَةً ، إلَّا أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ شَيْءٌ ، فَيُعَادُ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ ، وَيَغْسِلُهُ إلَى سَبْعٍ .
وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ ، وَإِسْحَاقَ .
وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّهُ يَغْسِلُ مَوْضِعَ النَّجَاسَةِ ، وَيُوَضَّأُ ، وَلَا يَجِبُ إعَادَةُ غُسْلِهِ .
وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ ، وَمَالِكٍ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ خُرُوجَ النَّجَاسَةِ مِنْ الْحَيِّ بَعْدَ غُسْلِهِ لَا يُبْطِلُهُ ، فَكَذَلِكَ الْمَيِّتُ .
وَعَنْ الشَّافِعِيَّ كَالْمَذْهَبَيْنِ .
وَلَنَا ، أَنَّ الْقَصْدَ مِنْ غُسْلِ الْمَيِّتِ أَنْ يَكُونَ خَاتِمَةُ أَمْرِهِ الطَّهَارَةَ الْكَامِلَةَ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَوْتَ جَرَى مَجْرَى زَوَالِ الْعَقْلِ فِي حَقِّ الْحَيِّ ، وَقَدْ أُوجِبَ الْغُسْلُ فِي حَقِّ الْحَيِّ ، فَكَذَلِكَ هَذَا ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا ، إنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ ، بِمَاءٍ وَسِدْرٍ } .
( 1512 ) فَصْلٌ : وَإِنْ خَرَجَتْ مِنْهُ نَجَاسَةٌ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ .
فَقَالَ أَحْمَدُ فِيمَا رَوَى أَبُو دَاوُد : الدَّمُ أَسْهَلُ مِنْ الْحَدَثِ .
وَمَعْنَاهُ أَنَّ الدَّمَ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ أَنْفِهِ أَسْهَلُ مِنْ الْحَدَثِ فِي أَنْ لَا يُعَادَ لَهُ الْغُسْلُ ؛ لِأَنَّ الْحَدَثَ يَنْقُضُ الطَّهَارَةَ بِالِاتِّفَاقِ ، وَيُسَوَّى بَيْنَ كَثِيرِهِ وَقَلِيلِهِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ الْغُسْلَ لَا يُعَادُ مِنْ يَسِيرِهِ ، كَمَا لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ ، بِخِلَافِ الْخَارِجِ مِنْ السَّبِيلَيْنِ .

( 1513 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( فَإِنْ زَادَ حَشَاهُ بِالْقُطْنِ ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَمْسِكْ فَبِالطِّينِ الْحُرِّ ) .
وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا خَرَجَتْ مِنْهُ نَجَاسَةٌ بَعْدَ السَّبْعِ لَمْ يَعْدُ إلَى الْغُسْلِ .
قَالَ أَحْمَدُ مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا لَمْ يُغَسِّلْهُ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعٍ ، لَا يُجَاوِزُهُ ، خَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ أَوْ لَمْ يَخْرُجْ .
قِيلَ لَهُ : فَنُوَضِّئُهُ إذَا خَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ بَعْدَ السَّبْعِ ؟ قَالَ : لَا ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَا أَمَرَ ، ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا ، فِي حَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ ، وَلِأَنَّ زِيَادَةَ الْغُسْلِ وَتَكْرِيرَهُ عِنْدَ كُلِّ خَارِجٍ يُرْخِيهِ ، وَيُفْضِي إلَى الْحَرَجِ ، لَكِنَّهُ يَغْسِلُ النَّجَاسَةَ ، وَيَحْشُو مَخْرَجَهَا بِالْقُطْنِ .
وَقِيلَ : يُلَجِّمُ بِالْقُطْنِ كَمَا تَفْعَلُ الْمُسْتَحَاضَةُ ، وَمَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ ، فَإِنْ لَمْ يُمْسِكْهُ ذَلِكَ حُشِيَ بِالطِّينِ الْحُرِّ ، وَهُوَ الْخَالِصُ الصُّلْبِ الَّذِي لَهُ قُوَّةٌ تُمْسِكُ الْمَحَلَّ .
وَقَدْ ذَكَرَ أَحْمَدُ أَنَّهُ لَا يُوَضَّأُ .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ يُوَضَّأُ وُضُوءَ الصَّلَاةِ ، كَالْجُنُبِ إذَا أَحْدَثَ بَعْدَ غُسْلِهِ ، وَهَذَا أَحْسَنُ .

( 1514 ) فَصْلٌ : وَالْحَائِضُ وَالْجُنُبُ إذَا مَاتَا كَغَيْرِهِمَا فِي الْغُسْلِ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : هَذَا قَوْلُ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ .
وَقَالَ الْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ : مَا مَاتَ مَيِّتٌ إلَّا جُنُبٌ .
وَقِيلَ عَنْ الْحَسَنِ : إنَّهُ يُغَسَّلُ الْجُنُبُ لِلْجَنَابَةِ ، وَالْحَائِضُ لِلْحَيْضِ ، ثُمَّ يُغَسَّلَانِ لِلْمَوْتِ .
وَالْأَوَّلُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُمَا خَرَجَا مِنْ أَحْكَامِ التَّكْلِيفِ ، وَلَمْ يَبْقَ عَلَيْهِمَا عِبَادَةٌ وَاجِبَةٌ ، وَإِنَّمَا الْغُسْلُ لِلْمَيِّتِ تَعَبُّدٌ ، وَلِيَكُونَ فِي حَالِ خُرُوجِهِ مِنْ الدُّنْيَا عَلَى أَكْمَلِ حَالٍ مِنْ النَّظَافَةِ وَالنَّضَارَةِ ، وَهَذَا يَحْصُلُ بِغُسْلٍ وَاحِدٍ ، وَلِأَنَّ الْغُسْلَ الْوَاحِدَ يُجْزِئُ مَنْ وُجِدَ فِي حَقِّهِ مُوجِبَانِ لَهُ ، كَمَا لَوْ اجْتَمَعَ الْحَيْضُ وَالْجَنَابَةُ .

( 1515 ) فَصْلٌ : وَالْوَاجِبُ فِي غُسْلِ الْمَيِّتِ النِّيَّةُ ، وَالتَّسْمِيَةُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ ، وَغَسْلُهُ مَرَّةً وَاحِدَةً ، لِأَنَّهُ غُسْلُ تَعَبُّدٍ عَنْ غَيْرِ نَجَاسَةٍ أَصَابَتْهُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ ، فَوَجَبَ ذَلِكَ فِيهِ كَغُسْلِ الْجَنَابَةِ ، وَقَدْ شَبَّهَ أَحْمَدُ غُسْلَهُ بِغُسْلِ الْجَنَابَةِ ، وَلَمَّا تَعَذَّرَتْ النِّيَّةُ وَالتَّسْمِيَةُ مِنْ الْمَيِّتِ اُعْتُبِرَتْ فِي الْغَاسِلِ ، لِأَنَّهُ الْمُخَاطَبُ بِالْغُسْلِ .
قَالَ عَطَاءٌ يُجْزِئُهُ غَسْلَةٌ وَاحِدَةٌ إنْ أَنْقَوْهُ .
وَقَالَ أَحْمَدُ : لَا يُعْجِبُنِي أَنْ يُغَسَّلَ وَاحِدَةً ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا ، أَوْ خَمْسًا } .
وَهَذَا عَلَى سَبِيلِ الْكَرَاهَةِ دُونَ الْإِجْزَاءِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الْمُحْرِمِ الَّذِي وَقَصَتْهُ نَاقَتُهُ : { اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ } .
وَلَمْ يَذْكُرْ عَدَدًا .
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : يَحْتَمِلُ أَنْ لَا تُعْتَبَرَ النِّيَّةُ ، لِأَنَّ الْقَصْدَ التَّنْظِيفُ ، فَأَشْبَهَ غَسْلَ النَّجَاسَةِ ، وَلَا يَصِحُّ هَذَا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا وَجَبَ غَسْلُ مُتَنَظِّفٍ ، وَلَجَازَ غَسْلُهُ بِمَاءِ الْوَرْدِ وَسَائِرِ مَا يَحْصُلُ بِهِ التَّنْظِيفُ ، وَإِنَّمَا هُوَ غُسْلُ تَعَبُّدٍ ، أَشْبَهَ غُسْلَ الْجَنَابَةِ .

( 1516 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَيُنَشِّفُهُ بِثَوْبٍ ، وَيُجَمِّرُ أَكْفَانَهُ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا فَرَغَ الْغَاسِلُ مِنْ غَسْلِ الْمَيِّتِ ، نَشَّفَهُ بِثَوْبِ لِئَلَّا يَبُلَّ أَكْفَانَهُ ، وَفِي حَدِيثِ أُمِّ سُلَيْمٍ : " فَإِذَا فَرَغْتِ مِنْهَا ، فَأَلْقِي عَلَيْهَا ثَوْبًا نَظِيفًا " .
وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، فِي غُسْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : فَجَفَّفُوهُ بِثَوْبٍ .
وَمَعْنَى تَجْمِيرِ أَكْفَانِهِ تَبْخِيرُهَا بِالْعُودِ ، وَهُوَ أَنْ يُتْرَكَ الْعُودُ عَلَى النَّارِ فِي مِجْمَرٍ ، ثُمَّ يُبَخَّرُ بِهِ الْكَفَنُ حَتَّى تَعْبَقَ رَائِحَتُهُ ، وَيَطِيبَ ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ يُرَشَّ عَلَيْهِ مَاءُ الْوَرْدِ ، لِتَعْلَقَ الرَّائِحَةُ بِهِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا جَمَّرْتُمْ الْمَيِّتَ فَجَمِّرُوهُ ثَلَاثًا } وَأَوْصَى أَبُو سَعِيدٍ ، وَابْنُ عُمَرَ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ أَنْ تُجَمَّرَ أَكْفَانُهُمْ بِالْعُودِ .
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : يُجَمَّرُ الْمَيِّتُ .
وَلِأَنَّ هَذَا عَادَةُ الْحَيِّ عِنْدَ غُسْلِهِ ، وَتَجْمِيرِ ثِيَابِهِ ، أَنْ يُجَمِّرَ بِالطِّيبِ وَالْعُودِ ، فَكَذَلِكَ الْمَيِّتُ .

( 1517 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَيُكَفَّنُ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ ، يُدْرَجُ فِيهَا إدْرَاجًا ، وَيُجْعَلُ الْحَنُوطُ فِيمَا بَيْنَهَا ) الْأَفْضَلُ عِنْدَ إمَامِنَا ، رَحِمَهُ اللَّهُ ، أَنْ يُكَفَّنَ الرَّجُلُ فِي ثَلَاثِ لَفَائِفَ بِيضٍ ، لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ ، وَلَا يَزِيدُ عَلَيْهَا وَلَا يَنْقُصُ مِنْهَا .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : وَالْعَمَلُ عَلَيْهَا عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِمْ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَيُسْتَحَبُّ كَوْنُ الْكَفَنِ أَبْيَضَ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُفِّنَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ .
وَلِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْبَسُوا مِنْ ثِيَابِكُمْ الْبِيضَ ، فَإِنَّهُ أَطْهَرُ وَأَطْيَبُ ، وَكَفِّنُوا فِيهِ مَوْتَاكُمْ } .
رَوَاهُ النَّسَائِيّ .
وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ أَنْ يُكَفَّنَ فِي إزَارٍ وَرِدَاءٍ وَقَمِيصٍ ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ الْمُغَفَّلِ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كُفِّنَ فِي قَمِيصِهِ .
وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلْبَسَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ قَمِيصَهُ ، وَكَفَّنَهُ بِهِ .
رَوَاهُ النَّسَائِيّ .
وَلَنَا ، قَوْلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { : كُفِّنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ سَحُولِيَّةٍ ، لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَهُوَ أَصَحُّ حَدِيثٍ رُوِيَ فِي كَفَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَائِشَةُ أَقْرَبُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَعْرَفُ بِأَحْوَالِهِ وَلِهَذَا لَمَّا ذُكِرَ لَهَا قَوْلُ النَّاسِ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُفِّنَ فِي بُرْدٍ ، قَالَتْ : قَدْ أُتِيَ بِالْبُرْدِ ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يُكَفِّنُوهُ فِيهِ ، فَحَفِظَتْ مَا أَغْفَلَهُ غَيْرُهَا .
وَقَالَتْ أَيْضًا : { أُدْرِجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حُلَّةٍ يَمَنِيَّةٍ كَانَتْ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ ، ثُمَّ

نُزِعَتْ عَنْهُ ، فَرَفَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْحُلَّةَ ، وَقَالَ : أُكَفَّنُ فِيهَا .
ثُمَّ قَالَ : لَمْ يُكَفَّنْ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُكَفَّنُ فِيهَا فَتَصَدَّقَ بِهَا } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَلِأَنَّ حَالَ الْإِحْرَامِ أَكْمَلُ أَحْوَالِ الْحَيِّ وَهُوَ لَا يَلْبَسُ الْمَخِيطَ ، وَكَذَلِكَ حَالَةُ الْمَوْتِ أَشْبَهُ بِهَا .
وَأَمَّا إلْبَاسُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ قَمِيصَهُ ، فَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ تَكْرِمَةً لِابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ، وَإِجَابَةً لِسُؤَالِهِ حِين سَأَلَهُ ذَلِكَ ؛ لِيَتَبَرَّكَ بِهِ أَبُوهُ ، وَيَنْدَفِعَ عَنْهُ الْعَذَابُ بِبَرَكَةِ قَمِيصِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقِيلَ : إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ جَزَاءً لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ عَنْ كُسْوَتِهِ الْعَبَّاسَ قَمِيصَهُ يَوْمَ بَدْرٍ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤْخَذَ أَحْسَنُ اللَّفَائِفِ وَأَوْسَعُهَا ، فَيُبْسَطَ أَوَّلًا ؛ لِيَكُونَ الظَّاهِرُ لِلنَّاسِ أَحْسَنَهَا ، فَإِنَّ هَذَا عَادَةُ الْحَيِّ ، يَجْعَلُ الظَّاهِرَ أَفْخَرَ ثِيَابِهِ ، وَيَجْعَلُ عَلَيْهَا حَنُوطًا ، ثُمَّ يَبْسُطُ الثَّانِيَةَ الَّتِي تَلِيهَا فِي الْحُسْنِ وَالسَّعَةِ عَلَيْهَا ، وَيَجْعَلُ فَوْقَهَا حَنُوطًا وَكَافُورًا ، ثُمَّ يَبْسُطُ فَوْقَهُمَا الثَّالِثَةَ ، وَيَجْعَلُ فَوْقَهَا حَنُوطًا وَكَافُورًا ، وَلَا يُجْعَلُ عَلَى وَجْهِ الْعُلْيَا ، وَلَا عَلَى النَّعْشِ شَيْءٌ مِنْ الْحَنُوطِ ؛ لِأَنَّ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : لَا تَجْعَلُوا عَلَى أَكْفَانِي حَنُوطًا .
ثُمَّ يُحْمَلُ الْمَيِّتُ مَسْتُورًا بِثَوْبٍ فَيُوضَعُ فِيهَا مُسْتَلْقِيًا ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنُ لِإِدْرَاجِهِ فِيهَا ، وَيُجْعَلُ مَا عِنْدَ رَأْسِهِ أَكْثَرَ مِمَّا عِنْدَ رِجْلَيْهِ ، وَيُجْعَلُ مِنْ الطِّيبِ عَلَى وَجْهِهِ وَمَوَاضِعِ سُجُودِهِ وَمَغَابِنِهِ ؛ لِأَنَّ الْحَيَّ يَتَطَيَّبُ هَكَذَا ، وَيُجْعَلُ بَقِيَّةُ الْحَنُوطِ وَالْكَافُورِ فِي قُطْنٍ ، وَيُجْعَلُ مِنْهُ بَيْنَ أَلْيَتَيْهِ بِرِفْقٍ ، وَيُكْثِرُ ذَلِكَ لِيَرُدَّ شَيْئًا إنْ خَرَجَ مِنْهُ حِينَ تَحْرِيكِهِ ، وَيَشُدُّ فَوْقَهُ خِرْقَةً مَشْقُوقَةَ الطَّرَفِ كَالتُّبَّانِ ، وَهُوَ السَّرَاوِيلُ بِلَا أَكْمَامٍ ، وَيَجْعَلُ الْبَاقِيَ عَلَى مَنَافِذِ وَجْهِهِ ، فِي فِيهِ ، وَمَنْخِرَيْهِ ، وَعَيْنَيْهِ ؛ لِئَلَّا يَحْدُثَ مِنْهُنَّ حَادِثٌ .
وَكَذَلِكَ فِي الْجِرَاحِ النَّافِذَةِ ، وَيَتْرُكُ عَلَى مَوَاضِعِ السُّجُودِ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهَا أَعْضَاءٌ شَرِيفَةٌ ، ثُمَّ يَثْنِي طَرَفَ اللِّفَافَةِ الْعُلْيَا عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ ، ثُمَّ يَرُدُّ طَرَفَهَا الْآخَرَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْسَرِ ، وَإِنَّمَا اُسْتُحِبَّ ذَلِكَ لِئَلَّا يَسْقُطَ عَنْهُ الطَّرَفُ الْأَيْمَنُ إذَا وُضِعَ عَلَى يَمِينه فِي الْقَبْرِ ، ثُمَّ يَفْعَلُ بِالثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ كَذَلِكَ ، ثُمَّ يَجْمَعُ مَا فَضَلَ عِنْدَ رَأْسِهِ وَرِجْلَيْهِ ، فَيُرَدَّ عَلَى وَجْهِهِ وَرِجْلَيْهِ ، وَإِنْ خَافَ انْتِشَارَهَا عَقَدَهَا ، وَإِذَا وُضِعَ فِي الْقَبْرِ حَلَّهَا ، وَلَمْ يَخْرِقْ الْكَفَنَ

.
( 1519 ) فَصْل : وَتُكْرَهُ الزِّيَادَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ فِي الْكَفَنِ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ إضَاعَةِ الْمَالِ ، وَقَدْ نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَحْرُمُ تَرْكُ شَيْءٍ مَعَ الْمَيِّتِ مِنْ مَالِهِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا ، إلَّا مِثْلَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ تُرِكَ تَحْتَهُ قَطِيفَةٌ فِي قَبْرِهِ ، فَإِنْ تُرِكَ نَحْوُ ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ .

( 1520 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ ( وَإِنْ كُفِّنَ فِي قَمِيصٍ وَمِئْزَرٍ وَلِفَافَةٍ جُعِلَ الْمِئْزَرُ مِمَّا يَلِي جِلْدَهُ ، وَلَمْ يُزَرَّ عَلَيْهِ الْقَمِيصُ ) .
التَّكْفِينُ فِي الْقَمِيصِ وَالْمِئْزَرِ وَاللِّفَافَةِ غَيْرُ مَكْرُوهٍ ، وَإِنَّمَا الْأَفْضَلُ الْأَوَّلُ ، وَهَذَا جَائِزٌ لَا كَرَاهَةَ فِيهِ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلْبَسَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ قَمِيصَهُ لَمَّا مَاتَ .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
فَيُؤْزَرُ بِالْمِئْزَرِ ، وَيُلْبَسُ الْقَمِيصَ ، ثُمَّ يُلَفُّ بِاللِّفَافَةِ بَعْدَ ذَلِكَ .
وَقَالَ أَحْمَدُ : إنْ جَعَلُوهُ قَمِيصًا فَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ قَمِيصِ الْحَيِّ ، لَهُ كُمَّانِ وَدَخَارِيصُ وَأَزْرَارٌ ، وَلَا يُزَرُّ عَلَيْهِ الْقَمِيصُ .

( 1521 ) فَصْلٌ : قَالَ أَبُو دَاوُد : قُلْت لِأَحْمَدَ : يَتَّخِذُ الرَّجُلُ كَفَنَهُ يُصَلِّي فِيهِ أَيَّامًا ، أَوْ قُلْت : يُحْرِمُ فِيهِ ، ثُمَّ يَغْسِلُهُ وَيَضَعُهُ لِكَفَنِهِ ؟ فَرَآهُ حَسَنًا .
قَالَ : يُعْجِبُنِي أَنْ يَكُونَ جَدِيدًا أَوْ غَسِيلًا وَكَرِهَ أَنْ يَلْبَسَهُ حَتَّى لَا يُدَنِّسَهُ .

( 1522 ) فَصْلٌ : وَيَجُوزُ التَّكْفِينُ فِي ثَوْبَيْنِ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُحْرِمِ الَّذِي وَقَصَتْهُ دَابَّتُهُ : { اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ } .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَكَانَ سُوَيْد بْنُ غَفَلَةَ يَقُولُ : يُكَفَّنُ فِي ثَوْبَيْنِ .
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : يُجْزِئُ ثَوْبَانِ ، وَأَقَلُّ مَا يُجْزِئُ ثَوْبٌ وَاحِدٌ يَسْتُرُ جَمِيعَهُ .
{ قَالَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ : لَمَّا فَرَغْنَا .
يَعْنِي مِنْ غُسْلِ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلْقَى إلَيْنَا حَقْوَهُ ، فَقَالَ : أَشْعِرْنَهَا إيَّاهُ .
وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ } .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَقَالَ : مَعْنَى أَشْعِرْنَهَا إيَّاهُ اُلْفُفْنَهَا فِيهِ .
قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : الْعَوْرَةُ الْمُغَلَّظَةُ يَسْتُرُهَا ثَوْبٌ وَاحِدٌ ، فَجَسَدُ الْمَيِّتِ أُولَى .
وَقَالَ الْقَاضِي : لَا يُجْزِئُ أَقَلُّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ لِمَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهَا .
وَيُرْوَى مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَقَلُّ مِنْهَا لَمْ يَجُزْ التَّكْفِينُ بِهَا فِي حَقِّ مَنْ لَهُ أَيْتَامٌ ، احْتِيَاطًا لَهُمْ .
وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ ، وَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي لَا يَصِحُّ ؛ فَإِنَّهُ يَجُوزُ التَّكْفِينُ بِالْحَسَنِ مَعَ حُصُولِ الْإِجْزَاءِ بِمَا دُونَهُ .

( 1523 ) فَصْلٌ : قَالَ أَحْمَدُ : يُكَفَّنُ الصَّبِيُّ فِي خِرْقَةٍ ، وَإِنْ كُفِّنَ فِي ثَلَاثَةٍ فَلَا بَأْسَ .
وَكَذَلِكَ قَالَ إِسْحَاقُ وَنَحْوُهُ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ، وَغَيْرُهُمْ .
لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي أَنَّ ثَوْبًا يُجْزِئُهُ ، وَإِنْ كُفِّنَ فِي ثَلَاثَةٍ فَلَا بَأْسَ ، لِأَنَّهُ ذَكَرٌ فَأَشْبَهَ الرَّجُلَ .

( 1524 ) فَصْلٌ : فَإِنْ لَمْ يَجِدْ الرَّجُلُ ثَوْبًا يَسْتُرُ جَمِيعَهُ ، سَتَرَ رَأْسَهُ ، وَجَعَلَ عَلَى رِجْلَيْهِ حَشِيشًا أَوْ وَرَقًا ، كَمَا رُوِيَ عَنْ خَبَّابٍ ، { أَنَّ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ ، فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ شَيْءٌ يُكَفَّنُ فِيهِ ، إلَّا نَمِرَةً .
فَكُنَّا إذَا وَضَعْنَاهَا عَلَى رَأْسِهِ خَرَجَتْ رِجْلَاهُ ، وَإِذَا وَضَعْنَاهَا عَلَى رِجْلَيْهِ خَرَجَ رَأْسُهُ ، فَأَمَرَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نُغَطِّيَ رَأْسَهُ ، وَنَجْعَلَ عَلَى رِجْلَيْهِ مِنْ الْإِذْخِرِ } .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ إلَّا مَا يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ سَتَرَهَا ؛ لِأَنَّهَا أَهَمُّ فِي السَّتْرِ ، بِدَلِيلِ حَالَةِ الْحَيَاةِ .
فَإِنْ كَثُرَ الْقَتْلَى ، وَقَلَّتْ الْأَكْفَانُ ، كُفِّنَ الرَّجُلَانِ وَالثَّلَاثَةُ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ ، كَمَا صُنِعَ بِقَتْلَى أُحُدٍ .
قَالَ أَنَسٌ : كَثُرَتْ قَتْلَى أُحُدٍ ، وَقَلَّتْ الثِّيَابُ .
قَالَ : فَكُفِّنَ الرَّجُلُ وَالرَّجُلَانِ وَالثَّلَاثَةُ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ ، ثُمَّ يُدْفَنُونَ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثُ أَنَسٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ .

( 1525 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَيَجْعَلُ الذَّرِيرَةَ فِي مَفَاصِلِهِ ، وَيَجْعَلُ الطِّيبَ فِي مَوَاضِعِ السُّجُودِ وَالْمَغَابِنِ ، وَيُفْعَلُ بِهِ كَمَا يُفْعَلُ بِالْعَرُوسِ ) الذَّرِيرَةُ هِيَ الطِّيبُ الْمَسْحُوقُ ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُجْعَلَ فِي مَفَاصِلِ الْمَيِّتِ وَمَغَابِنِهِ ، وَهِيَ الْمَوَاضِعُ الَّتِي تَنْثَنِي مِنْ الْإِنْسَانِ ، كَطَيِّ الرُّكْبَتَيْنِ ، وَتَحْتَ الْإِبْطَيْنِ ، وَأُصُولِ الْفَخِذَيْنِ ؛ لِأَنَّهَا مَوَاضِعُ الْوَسَخِ ، وَيَتْبَعُ بِإِزَالَةِ الْوَسَخِ وَالدَّرَنِ مِنْهَا مِنْ الْحَيِّ ، وَيَتْبَعُ بِالطِّيبِ مِنْ الْمِسْكِ وَالْكَافُورِ مَوَاضِعَ السُّجُودِ ؛ لِأَنَّهَا أَعْضَاءٌ شَرِيفَةٌ ، وَيُفْعَلُ بِهِ كَمَا يُفْعَلُ بِالْعَرُوسِ ؛ لِأَنَّهُ يُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { اصْنَعُوا بِمَوْتَاكُمْ كَمَا تَصْنَعُونَ بِعَرَائِسِكُمْ } .
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَتْبَع مَغَابِنَ الْمَيِّتِ وَمَرَافِقَهُ بِالْمِسْكِ .
قَالَ أَحْمَدُ يُخْلَطُ الْكَافُورُ بِالذَّرِيرَةِ .
وَقِيلَ لَهُ : يُذَرُّ الْمِسْكُ عَلَى الْمَيِّتِ أَوْ يُطْلَى بِهِ ؟ قَالَ : لَا يُبَالِي ، قَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ ذَرَّ عَلَيْهِ ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ مَسَحَهُ بِالْمِسْكِ مَسْحًا ، وَابْنُ سِيرِينَ طَلَى إنْسَانًا بِالْمِسْكِ مِنْ قَرْنِهِ إلَى قَدَمِهِ .
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ : يُوضَعُ الْحَنُوطُ عَلَى أَعْظُمِ السُّجُودِ ، الْجَبْهَةِ ، وَالرَّاحَتَيْنِ ، وَالرُّكْبَتَيْنِ ، وَصُدُورِ الْقَدَمَيْنِ .
( 1526 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَلَا يَجْعَلُ فِي عَيْنَيْهِ كَافُورًا ) إنَّمَا كُرِهَ هَذَا لِأَنَّهُ يُفْسِدُ الْعُضْوَ وَيُتْلِفُهُ ، وَلَا يُصْنَعُ مِثْلُهُ بِالْحَيِّ .
قَالَ أَحْمَدُ : مَا سَمِعْنَا إلَّا فِي الْمَسَاجِدِ .
وَحُكِيَ لَهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ ، فَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ ابْنُ عُمَرَ فَعَلَهُ ، وَكَرِهَ ذَلِكَ .

( 1527 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَإِنْ خَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ يَسِيرٌ بَعْدَ وَضْعِهِ فِي أَكْفَانِهِ ، لَمْ يُعَدْ إلَى الْغُسْلِ ، وَحُمِلَ ) لَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي هَذَا خِلَافًا .
وَالْوَجْهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ إعَادَةَ الْغُسْلِ فِيهَا مَشَقَّةٌ شَدِيدَةٌ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى إخْرَاجِهِ ، وَإِعَادَةِ غُسْلِهِ وَغَسْلِ أَكْفَانِهِ ، وَتَجْفِيفِهَا أَوْ إبْدَالِهَا ، ثُمَّ لَا يُؤْمَنُ مِثْلُ هَذَا فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ ، فَسَقَطَ لِذَلِكَ ، وَلَا يَحْتَاجُ أَيْضًا إلَى إعَادَةِ وُضُوئِهِ ، وَلَا غَسْلِ مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ ، دَفْعًا لِهَذِهِ الْمَشَقَّةِ ، وَيُحْمَلُ بِحَالِهِ .
وَيُرْوَى عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّ ابْنَةً لَهُ لَمَّا لُفَّتْ فِي أَكْفَانِهَا .
بَدَا مِنْهَا شَيْءٌ ، فَقَالَ الشَّعْبِيُّ : ارْفَعُوا .
فَأَمَّا إنْ كَانَ الْخَارِجُ كَثِيرًا فَاحِشًا فَمَفْهُومُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ هَاهُنَا أَنَّهُ يُعَادُ غُسْلُهُ إنْ كَانَ قَبْلَ تَمَامِ السَّبْعَةِ ؛ لِأَنَّ الْكَثِيرَ يَتَفَاحَشُ ، وَيُؤْمَنُ مِثْلُهُ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ ، لِتَحَفُّظِهِمْ ، بِالشَّدِّ وَالتَّلَجُّمِ وَنَحْوِهِ .
وَرَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ أَحْمَدَ .
قَالَ الْخَلَّالُ : وَخَالَفَهُ أَصْحَابُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ، كُلُّهُمْ رَوَوْا عَنْهُ : لَا يُعَادُ إلَى الْغُسْلِ بِحَالٍ .
قَالَ : وَالْعَمَلُ عَلَى مَا اُتُّفِقَ عَلَيْهِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَشَقَّةِ فِيهِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ تُحْمَلَ الرِّوَايَتَانِ عَلَى حَالَتَيْنِ ، فَالْمَوْضِعُ الَّذِي قَالَ لَا يُعَادُ غُسْلُهُ إذَا كَانَ يَسِيرًا وَيَخْفَى عَلَى الْمُشَيِّعِينَ ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي أَمَرَ بِإِعَادَتِهِ إذَا كَانَ يَظْهَرُ لَهُمْ وَيَفْحُشُ .

( 1528 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَإِنْ أَحَبَّ أَهْلُهُ أَنْ يَرَوْهُ لَمْ يُمْنَعُوا ) وَذَلِكَ لِمَا رُوِيَ عَنْ { جَابِرٍ قَالَ : لَمَّا قُتِلَ أَبِي جَعَلْت أَكْشِفُ الثَّوْبَ عَنْ وَجْهِهِ وَأَبْكِي ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَنْهَانِي .
} وَقَالَتْ عَائِشَةُ : { رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ وَهُوَ مَيِّتٌ ، حَتَّى رَأَيْت الدُّمُوعَ تَسِيلُ } .
وَقَالَتْ : أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ فَتَيَمَّمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُسَجَّى بِبُرْدٍ حِبَرَةٍ فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ ، ثُمَّ أَكَبَّ عَلَيْهِ فَقَبَّلَهُ ، ثُمَّ بَكَى .
فَقَالَ : بِأَبِي أَنْتَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ ، لَا يَجْمَعُ اللَّهُ عَلَيْك مَوْتَتَيْنِ .
وَهَذِهِ أَحَادِيثُ صِحَاحٌ .

( 1529 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَالْمَرْأَةُ تُكَفَّنُ فِي خَمْسَةِ أَثْوَابٍ : قَمِيصٍ ، وَمِئْزَرٍ ، وَلِفَافَةٍ ، وَمُقَنَّعَةٍ ، وَخَامِسَةٍ تُشَدُّ بِهَا فَخِذَاهَا ) قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَكْثَرُ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَرَى أَنْ تُكَفَّنَ الْمَرْأَةُ فِي خَمْسَةِ أَثْوَابٍ ، وَإِنَّمَا اُسْتُحِبَّ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَزِيدُ فِي حَالِ حَيَاتِهَا عَلَى الرَّجُلِ فِي السَّتْرِ لِزِيَادَةِ عَوْرَتِهَا عَلَى عَوْرَتِهِ ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَلَمَّا كَانَتْ تَلْبَسُ الْمَخِيطَ فِي إحْرَامِهَا ، وَهُوَ أَكْمَلُ أَحْوَالِ الْحَيَاةِ ، اُسْتُحِبَّ إلْبَاسُهَا إيَّاهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ، وَالرَّجُلُ بِخِلَافِ ذَلِكَ ، فَافْتَرَقَا فِي اللُّبْسِ بَعْدَ الْمَوْتِ ، لِافْتِرَاقِهِمَا فِيهِ فِي الْحَيَاةِ ، وَاسْتَوَيَا فِي الْغُسْلِ بَعْدَ الْمَوْتِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِيهِ فِي الْحَيَاةِ .
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ لَيْلَى بِنْتِ قَانِفٍ الثَّقَفِيَّة ، قَالَتْ : كُنْت فِي مَنْ غَسَّلَ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ وَفَاتِهَا ، فَكَانَ أَوَّلُ مَا أَعْطَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَقْوَ ، ثُمَّ الدِّرْعَ ، ثُمَّ الْخِمَارَ ، ثُمَّ الْمِلْحَفَةَ ، ثُمَّ أُدْرِجَتْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الثَّوْبِ الْآخِرِ .
قَالَتْ : وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ الْبَابِ مَعَهُ كَفَنُهَا ، يُنَاوِلُنَاهَا ثَوْبًا ثَوْبًا .
إلَّا أَنَّ الْخِرَقِيِّ إنَّمَا ذَكَرَ لِفَافَةً وَاحِدَةً ، فَعَلَى هَذَا تُشَدُّ الْخِرْقَةُ عَلَى فَخِذَيْهَا أَوَّلًا ، ثُمَّ تُؤْزَرُ بِالْمِئْزَرِ ، ثُمَّ يُلْبَسُ الْقَمِيصُ ، ثُمَّ تُخَمَّرُ بِالْمُقَنَّعَةِ ، ثُمَّ تُلَفُّ بِلِفَافَةٍ وَاحِدَةٍ .
وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ أَحْمَدُ ، فَقَالَ : تُخَمَّرُ ، وَيُتْرَكُ قَدْرُ ذِرَاعٍ ، يُسْدَلُ عَلَى وَجْهِهَا ، وَيُسْدَلُ عَلَى فَخِذَيْهَا الْحَقْوُ .
وَسُئِلَ عَنْ الْحَقْوِ ؟ فَقَالَ : هُوَ الْإِزَارُ .
قِيلَ : الْخَامِسَةُ .
قَالَ : خِرْقَةٌ تُشَدُّ عَلَى فَخِذَيْهَا .
قِيلَ لَهُ : قَمِيصُ الْمَرْأَةِ ؟ قَالَ : يُخَيَّطُ .
قِيلَ : يُكَفُّ

وَيُزَرُّ ؟ قَالَ : يُكَفُّ وَلَا يُزَرُّ عَلَيْهَا .
وَاَلَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا وَغَيْرُهُمْ ، أَنَّ الْأَثْوَابَ الْخَمْسَةَ إزَارٌ ، وَدِرْعٌ ، وَخِمَارٌ ، وَلِفَافَتَانِ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ ، لِحَدِيثِ لَيْلَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ ، وَلِمَا رَوَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاوَلَهَا إزَارًا ، وَدِرْعًا ، وَخِمَارًا ، وَثَوْبَيْنِ .

فَصْلٌ : قَالَ الْمَرُّوذِيُّ : سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ : فِي كَمْ تُكَفَّنُ الْجَارِيَةُ إذَا لَمْ تَبْلُغْ ؟ قَالَ : فِي لِفَافَتَيْنِ ، وَقَمِيصٍ ، لَا خِمَارَ فِيهِ .
وَكَفَّنَ ابْنُ سِيرِينَ بِنْتًا لَهُ قَدْ أَعْصَرَتْ فِي قَمِيصٍ وَلِفَافَتَيْنِ .
وَرُوِيَ فِي بَقِيرٍ وَلِفَافَتَيْنِ .
قَالَ أَحْمَدُ : الْبَقِيرُ الْقَمِيصُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ كُمَّانِ .
وَلِأَنَّ غَيْرَ الْبَالِغِ لَا يَلْزَمُهَا سَتْرُ رَأْسِهَا فِي الصَّلَاةِ .
وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَة عَنْ أَحْمَدَ فِي الْحَدِّ الَّذِي تَصِيرُ بِهِ فِي حُكْمِ الْمَرْأَةِ فِي الْكَفَنِ ، فَرُوِيَ عَنْهُ : إذَا بَلَغَتْ .
وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِهِ ، فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ حَائِضٍ إلَّا بِخِمَارٍ } مَفْهُومُهُ أَنَّ غَيْرَهَا لَا تَحْتَاجُ إلَى خِمَارٍ فِي صَلَاتِهَا ، فَكَذَلِكَ فِي كَفَنِهَا .
وَلِأَنَّ ابْنَ سِيرِينَ كَفَّنَ ابْنَتَهُ ، وَقَدْ أَعْصَرَتْ أَيْ قَارَبَتْ الْمَحِيضَ بِغَيْرِ خِمَارٍ .
وَرَوَى عَنْ أَحْمَدَ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ : إذَا كَانَتْ بِنْتَ تِسْعٍ يُصْنَعُ بِهَا مَا يُصْنَعُ بِالْمَرْأَةِ .
وَاحْتُجَّ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ بِهَا وَهِيَ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ } .
وَرُوِيَ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : إذَا بَلَغْت الْجَارِيَةُ تِسْعًا فَهِيَ امْرَأَةٌ .

( 1531 ) فَصْلٌ : قَالَ أَحْمَدُ لَا يُعْجِبُنِي أَنْ تُكَفَّنَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْحَرِيرِ .
وَكَرِهَ ذَلِكَ الْحَسَنُ ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ ، وَإِسْحَاقُ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : وَلَا أَحْفَظُ مِنْ غَيْرِهِمْ خِلَافَهُمْ .
وَفِي جَوَازِ تَكْفِينِ الْمَرْأَةِ بِالْحَرِيرِ احْتِمَالَانِ ؛ لِأَنَّ أَقْيَسَهُمَا الْجَوَازُ ، لِأَنَّهُ مِنْ لِبَاسِهَا فِي حَيَاتِهَا ، لَكِنْ كَرِهْنَاهُ لَهَا ، لِأَنَّهَا خَرَجَتْ عَنْ كَوْنِهَا مَحَلًّا لِلزِّينَةِ وَالشَّهْوَةِ ، وَكَذَلِكَ يُكْرَهُ تَكْفِينُهَا بِالْمُعَصْفَرِ ، وَنَحْوِهِ ؛ لِذَلِكَ .
قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : لَا يُكَفَّنُ الْمَيِّتُ فِي الثِّيَابِ الْمُصْبَغَةِ ، إلَّا مَا كَانَ مِنْ الْعَصْبِ ، يَعْنِي مَا صُنِعَ بِالْعَصْبِ ، وَهُوَ نَبْتٌ يَنْبُتُ بِالْيَمَنِ .

( 1532 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَيُضَفَّرُ شَعْرُهَا ثَلَاثَةَ قُرُونٍ ، وَيُسْدَلُ مِنْ خَلْفِهَا ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ شَعْرَ الْمَيِّتَةِ يُغْسَلُ ، وَإِنْ كَانَ مَعْقُوصًا نُقِضَ ، ثُمَّ غُسِلَ ، ثُمَّ ضُفِّرَ ثَلَاثَةَ قُرُونٍ ، قَرْنَيْهَا ، وَنَاصِيَتَهَا ، وَيُلْقَى مِنْ خَلْفِهَا .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ : لَا يُضَفَّرُ ، وَلَكِنْ يُرْسَلُ مَعَ خَدَّيْهَا ، مِنْ بَيْنَ يَدَيْهَا مِنْ الْجَانِبَيْنِ ، ثُمَّ يُرْسَلُ عَلَيْهِ الْخِمَارُ ؛ لِأَنَّ ضُفْرَهُ يَحْتَاجُ إلَى تَسْرِيحِهَا ، فَيَنْقَطِعُ ، شَعْرُهَا وَيُنْتَفُ .
وَلَنَا ، مَا رَوَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ ، قَالَتْ : { ضَفَّرْنَا شَعْرَهَا ثَلَاثَةَ قُرُونٍ ، وَأَلْقَيْنَاهُ خَلْفهَا .
يَعْنِي بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَلِمُسْلِمٍ : فَضَفَّرْنَا شَعْرَهَا ثَلَاثَةَ قُرُونٍ ؛ قَرْنَيْهَا ، وَنَاصِيَتَهَا .
وَلِلْبُخَارِيِّ : جَعَلْنَ رَأْسَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةَ قُرُونٍ ، نَقَضْنَهُ ، ثُمَّ غَسَلْنَهُ ، ثُمَّ جَعَلْنَهُ ثَلَاثَةَ قُرُونٍ .
وَإِنَّمَا غَسَلْنَهُ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعْلِيمِهِ .
وَفِي حَدِيثِ أُمِّ سُلَيْمٍ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَاضْفِرْنَ شَعْرَهَا ثَلَاثَةَ قُرُونٍ ؛ قُصَّةٍ ، وَقَرْنَيْنِ ، وَلَا تُشَبِّهْنَهَا بِالرِّجَالِ } .
فَأَمَّا التَّسْرِيحُ فَكَرِهَهُ أَحْمَدُ ، وَقَالَ : قَالَتْ عَائِشَةُ : عَلَامَ تَنُصُّونَ مَيِّتَكُمْ ؟ قَالَ : يَعْنِي لَا تُسَرِّحُوا رَأْسَهُ بِالْمُشْطِ .
وَلِأَنَّ ذَلِكَ يَقْطَعُ شَعْرَهُ وَيَنْتِفُهُ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ ، قَالَتْ : مَشَطْنَاهَا ثَلَاثَةَ قُرُونٍ .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
قَالَ أَحْمَدُ : إنَّمَا ضَفَّرْنَ .
وَأَنْكَرَ الْمُشْطَ .
فَكَأَنَّهُ تَأَوَّلَ قَوْلَهَا : مَشَطْنَاهَا .
عَلَى أَنَّهَا أَرَادَتْ ضَفَّرْنَاهَا ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( 1533 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : " وَالْمَشْيُ بِالْجِنَازَةِ الْإِسْرَاعُ " لَا خِلَافَ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ ، فِي اسْتِحْبَابِ الْإِسْرَاعِ بِالْجِنَازَةِ ، وَبِهِ وَرَدَ النَّصُّ ، وَهُوَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَسْرِعُوا بِالْجِنَازَةِ ، فَإِنْ تَكُنْ صَالِحَةً فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا إلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ ذَلِكَ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا تَبِعَ الْجِنَازَةَ قَالَ : انْبَسِطُوا بِهَا ، وَلَا تَدِبُّوا دَبِيبَ الْيَهُودِ بِجَنَائِزِهَا } .
رَوَاهُ أَحْمَدُ ، فِي " الْمُسْنَدِ " .
وَاخْتَلَفُوا فِي الْإِسْرَاعِ الْمُسْتَحَبِّ ، فَقَالَ الْقَاضِي : الْمُسْتَحَبُّ إسْرَاعٌ لَا يَخْرُجُ عَنْ الْمَشْيِ الْمُعْتَادِ .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ : يَخُبُّ ، وَيَرْمُلُ ؛ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ عُيَيْنَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَنْ أَبِيهِ .
قَالَ { : كُنَّا فِي جِنَازَةِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ فَكُنَّا نَمْشِي مَشْيًا خَفِيفًا ، فَلَحِقَنَا أَبُو بَكْرٍ ؛ فَرَفَعَ سَوْطَهُ ، فَقَالَ : لَقَدْ رَأَيْتُنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَرْمُلُ رَمْلًا } .
وَلَنَا ، مَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَنَّهُ مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ تَمْخُضُ مَخْضًا ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : عَلَيْكُمْ بِالْقَصْدِ فِي جَنَائِزِكُمْ } .
مِنْ " الْمُسْنَدِ " .
وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : { سَأَلْنَا نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمَشْيِ بِالْجِنَازَةِ .
فَقَالَ : مَا دُونَ الْخَبَبِ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالتِّرْمِذِيُّ .
وَقَالَ : يَرْوِيهِ أَبُو مَاجِدٍ ، وَهُوَ مَجْهُولٌ .
وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { انْبَسِطُوا بِهَا ، وَلَا تَدِبُّوا دَبِيبَ الْيَهُودِ } .
يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ إسْرَاعٌ يَخْرُجُ بِهِ عَنْ شِبْهِ مَشْيِ الْيَهُودِ بِجَنَائِزِهِمْ ، وَلِأَنَّ الْإِسْرَافَ فِي الْإِسْرَاعِ يَمْخُضُهَا ، وَيُؤْذِي

حَامِلِيهَا وَمُتَّبِعِيهَا ، وَلَا يُؤْمَنُ عَلَى الْمَيِّتِ .
وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ، فِي جِنَازَةِ مَيْمُونَةَ : لَا تُزَلْزِلُوا ، وَارْفُقُوا ، فَإِنَّهَا أُمُّكُمْ .

( 1534 ) فَصْلٌ : وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ سُنَّةٌ .
قَالَ الْبَرَاءُ : { أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ } .
وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا ، أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهَا ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ .
قَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ : إذَا صَلَّيْت فَقَدْ قَضَيْت الَّذِي عَلَيْك .
وَقَالَ أَبُو دَاوُد : رَأَيْت أَحْمَدَ مَا لَا أُحْصِي صَلَّى عَلَى جَنَائِزَ ، وَلَمْ يَتْبَعْهَا إلَى الْقَبْرِ ، وَلَمْ يَسْتَأْذِنْ .
الثَّانِي ، أَنْ يَتْبَعَهَا إلَى الْقَبْرِ ، ثُمَّ يَقِفَ حَتَّى تُدْفَنَ ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ شَهِدَ الْجِنَازَةَ حَتَّى يُصَلِّيَ فَلَهُ قِيرَاطٌ ، وَمَنْ شَهِدَهَا حَتَّى تُدْفَنَ كَانَ لَهُ قِيرَاطَانِ .
قِيلَ : وَمَا الْقِيرَاطَانِ ؟ قَالَ : مِثْلُ الْجَبَلَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
الثَّالِثُ ، أَنْ يَقِفَ بَعْدَ الدَّفْنِ ، فَيَسْتَغْفِرَ لَهُ ، وَيَسْأَلَ اللَّهَ لَهُ التَّثْبِيتَ ، وَيَدْعُوَ لَهُ بِالرَّحْمَةِ ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ إذَا دَفَنَ مَيِّتًا وَقَفَ ، وَقَالَ : { اسْتَغْفِرُوا لَهُ ، وَاسْأَلُوا اللَّهَ لَهُ التَّثْبِيتَ ؛ فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ عِنْدَهُ بَعْدَ الدَّفْنِ أَوَّلَ الْبَقَرَةِ وَخَاتِمَتَهَا .
( 1535 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ لِمُتَّبِعِ الْجِنَازَةِ أَنْ يَكُونَ مُتَخَشِّعًا ، مُتَفَكِّرًا فِي مَآلِهِ ، مُتَّعِظًا بِالْمَوْتِ ، وَبِمَا يَصِيرُ إلَيْهِ الْمَيِّتُ ، وَلَا يَتَحَدَّثُ بِأَحَادِيثِ الدُّنْيَا ، وَلَا يَضْحَكُ ، قَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ : مَا تَبِعْت جِنَازَةً فَحَدَّثْت نَفْسِي بِغَيْرِ مَا هُوَ مَفْعُولٌ بِهَا .
وَرَأَى بَعْضُ السَّلَفِ رَجُلًا يَضْحَكُ فِي جِنَازَةٍ ، فَقَالَ : أَتَضْحَكُ وَأَنْتَ تَتْبَعُ الْجِنَازَةَ ؟ لَا كَلَّمْتُك أَبَدًا .

( 1536 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : " وَالْمَشْيُ أَمَامَهَا أَفْضَلُ " أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَرَوْنَ الْفَضِيلَةَ لِلْمَاشِي أَنْ يَكُونَ أَمَامَ الْجِنَازَةِ ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ ، وَعُمَرَ ، وَعُثْمَانَ ، وَابْنِ عُمَرَ ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ ، وَأَبِي قَتَادَةَ ، وَأَبِي أُسَيْدَ ، وَعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ ، وَشُرَيْحٍ ، وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ ، وَسَالِمٍ ، وَالزُّهْرِيِّ ، وَمَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ : الْمَشْيُ خَلْفَهَا أَفْضَلُ ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْجِنَازَةُ مَتْبُوعَةٌ ، وَلَا تُتْبَعُ ، لَيْسَ مِنْهَا مَنْ تَقَدَّمَهَا } .
وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : { فَضْلُ الْمَاشِي خَلْفَ الْجِنَازَةِ عَلَى الْمَاشِي قُدَّامَهَا ، كَفَضْلِ الْمَكْتُوبَةِ عَلَى التَّطَوُّعِ ، سَمِعْته مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .
وَلِأَنَّهَا مَتْبُوعَةٌ فَيَجِبُ أَنْ تُقَدَّمَ كَالْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ ، وَلِهَذَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : " مَنْ تَبِعَ جِنَازَةً " .
وَلَنَا ، مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ ، قَالَ : رَأَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ ، وَعُمَرَ يَمْشُونَ أَمَامَ الْجِنَازَةِ .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالتِّرْمِذِيُّ .
وَعَنْ أَنَسٍ نَحْوُهُ ، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ ، وَعُمَرَ ، كَانُوا يَمْشُونَ أَمَامَ الْجِنَازَةِ .
وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ : كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشُونَ أَمَامَ الْجِنَازَةِ ، وَلِأَنَّهُمْ شُفَعَاءُ لَهُ ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { مَا مِنْ مَيِّتٍ تُصَلِّي عَلَيْهِ أُمَّةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، يَبْلُغُونَ مِائَةً ، كُلُّهُمْ يَشْفَعُونَ لَهُ ، إلَّا شُفِّعُوا فِيهِ } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَالشَّفِيعُ يَتَقَدَّمُ الْمَشْفُوعَ لَهُ ، وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ يَرْوِيه أَبُو مَاجِدٍ ، وَهُوَ مَجْهُولٌ ، قِيلَ لِيَحْيَى :

مَنْ أَبُو مَاجِدٍ هَذَا ؟ قَالَ : طَائِرٌ طَارَ .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : سَمِعْت مُحَمَّدَ بْنَ إسْمَاعِيلَ يُضَعِّفُ هَذَا الْحَدِيثَ .
وَالْحَدِيثُ الْآخَرُ لَمْ يَذْكُرْهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ .
وَقَالُوا : هُوَ ضَعِيفٌ .
ثُمَّ نَحْمِلُهُ عَلَى مَنْ تَقَدَّمَهَا إلَى مَوْضِعِ الصَّلَاةِ أَوْ الدَّفْنِ ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهَا .
وَقِيَاسُهُمْ يَبْطُلُ بِسُنَّةِ الصُّبْحِ وَالظُّهْرِ ، فَإِنَّهَا تَابِعَةٌ لَهُمَا ، وَتَتَقَدَّمُهُمَا فِي الْوُجُودِ .

( 1537 ) فَصْلٌ : وَيُكْرَهُ الرُّكُوبُ فِي اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ .
قَالَ ثَوْبَانُ : { خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جِنَازَةٍ ، فَرَأَى نَاسًا رُكْبَانًا ، فَقَالَ : أَلَا تَسْتَحْيُونَ ؟ إنَّ مَلَائِكَةَ اللَّهِ عَلَى أَقْدَامِهِمْ ، وَأَنْتُمْ عَلَى ظُهُورِ الدَّوَابِّ } .
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ .
فَإِنْ رَكِبَ فِي جِنَازَةٍ فَالسُّنَّةُ أَنْ يَكُونَ خَلْفَهَا ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي الرَّاكِبِ : لَا أَعْلَمُهُمْ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ يَكُونُ خَلْفَهَا ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الرَّاكِبُ يَسِيرُ خَلْفَ الْجِنَازَةِ ، وَالْمَاشِي يَمْشِي خَلْفَهَا وَأَمَامَهَا ، وَعَنْ يَمِينهَا وَعَنْ يَسَارِهَا ، قَرِيبًا مِنْهَا } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ نَحْوَهُ ، وَلَفْظُهُ : { الرَّاكِبُ خَلْفَ الْجِنَازَةِ ، وَالْمَاشِي حَيْثُ شَاءَ مِنْهَا ، وَالطِّفْلُ يُصَلَّى عَلَيْهِ } .
وَقَالَ : هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ .
وَلِأَنَّ سَيْرَ الرَّاكِبِ أَمَامَهَا يُؤْذِي الْمُشَاةَ ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ مَشْيِهِمْ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ ، فَأَمَّا الرُّكُوب فِي الرُّجُوعِ مِنْهَا فَلَا بَأْسَ بِهِ .
قَالَ جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ : { إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّبَعَ جِنَازَةَ ابْنِ الدَّحْدَاحِ مَاشِيًا ، وَرَجَعَ عَلَى فَرَسٍ } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ .

( 1538 ) فَصْلٌ : وَيُكْرَهُ رَفْعُ الصَّوْتِ عِنْدَ الْجِنَازَةِ ؛ لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُتْبَعَ الْجِنَازَةُ بِصَوْتٍ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : رَوَيْنَا عَنْ قَيْسِ بْنِ عَبَّادٍ أَنَّهُ قَالَ : كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْرَهُونَ رَفْعَ الصَّوْتِ ؛ عِنْدَ ثَلَاثٍ ؛ عِنْدَ الْجَنَائِزِ ، وَعِنْدَ الذِّكْرِ ، وَعِنْدَ الْقِتَالِ وَذَكَرَ الْحَسَنُ ، عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ خَفْضَ الصَّوْتِ عِنْدَ ثَلَاثٍ .
فَذَكَرَ نَحْوَهُ .
وَكَرِهَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَالْحَسَنُ ، وَالنَّخَعِيّ ، وَإِمَامُنَا وَإِسْحَاقُ ، قَوْلَ الْقَائِلِ خَلْفَ الْجِنَازَةِ : اسْتَغْفِرُوا لَهُ .
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ بِدْعَةٌ .
وَقَالَ عَطَاءٌ : مُحْدَثَةٌ .
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّب فِي مَرَضِهِ : إيَّايَ وَحَادِيهمْ ، هَذَا الَّذِي يَحْدُو لَهُمْ ، يَقُولُ : اسْتَغْفِرُوا لَهُ ، غَفَرَ اللَّهُ لَكْم .
وَقَالَ فُضَيْلٍ بْنُ عَمْرٍو : بَيْنَا ابْنُ عُمَرَ فِي جِنَازَةٍ ، إذْ سَمِعَ قَائِلًا يَقُولُ : اسْتَغْفِرُوا لَهُ ، غَفَرَ اللَّهُ لَكُمْ .
فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : لَا غَفَرَ اللَّهُ لَكَ .
رَوَاهُمَا سَعِيدٌ .
قَالَ أَحْمَدُ وَلَا يَقُولُ خَلْفَ الْجِنَازَةِ : سَلِّمْ رَحِمَك اللَّهُ .
فَإِنَّهُ بِدْعَةٌ .
وَلَكِنْ يَقُول : بِسْمِ اللَّهِ ، وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَيَذْكُرُ اللَّهَ إذَا تَنَاوَلَ السَّرِيرَ .

فَصْلٌ : وَمَسُّ الْجِنَازَةِ بِالْأَيْدِي وَالْأَكْمَامِ وَالْمَنَادِيلِ مُحْدَثٌ مَكْرُوهٌ ، وَلَا يُؤْمَنُ مَعَهُ فَسَادُ الْمَيِّتِ ، وَقَدْ مَنَعَ الْعُلَمَاءُ مَسَّ الْقَبْرِ ، فَمَسُّ الْجَسَدِ مَعَ خَوْفِ الْأَذَى أَوْلَى بِالْمَنْعِ .

( 1540 ) فَصْلٌ : وَيُكْرَهُ اتِّبَاعُ الْمَيِّتِ بِنَارٍ ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : يَكْرَهُ ذَلِكَ كُلُّ مَنْ يُحْفَظُ عَنْهُ .
رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ ، وَمَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ ، وَأَبِي سَعِيدٍ ، وَعَائِشَةَ ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، أَنَّهُمْ وَصَّوْا أَنْ لَا يُتْبَعُوا بِنَارٍ .
وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ ، أَنَّ أَبَا مُوسَى حِينَ حَضَرَهُ الْمَوْتُ قَالَ : { لَا تَتْبَعُونِي بِمِجْمَرٍ .
قَالُوا لَهُ : أَوَسَمِعْت فِيهِ شَيْئًا ؟ قَالَ : نَعَمْ ، مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد ، بِإِسْنَادِهِ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تُتْبَعُ الْجِنَازَةُ بِصَوْتٍ وَلَا نَارٍ } .
فَإِنْ دُفِنَ لَيْلًا فَاحْتَاجُوا إلَى ضَوْءٍ ، فَلَا بَأْسَ بِهِ ، إنَّمَا كُرِهَ الْمَجَامِرُ فِيهَا الْبَخُورُ .
وَفِي حَدِيثٍ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ قَبْرًا لَيْلًا ، فَأُسْرِجَ لَهُ سِرَاجٌ } .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ .

( 1541 ) فَصْلٌ : وَيُكْرَهُ اتِّبَاعُ النِّسَاءِ الْجَنَائِزَ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ : { نُهِينَا عَنْ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ ، وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَكَرِهَ ذَلِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ ، وَابْنُ عُمَرَ ، وَأَبُو أُمَامَةَ ، وَعَائِشَةُ ، وَمَسْرُوقٌ ، وَالْحَسَنُ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ .
وَرُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ ، فَإِذَا نِسْوَةٌ جُلُوسٌ ، قَالَ مَا يُجْلِسُكُنَّ ؟ قُلْنَ : نَنْتَظِرُ الْجِنَازَةَ .
قَالَ : هَلْ تُغَسِّلْنَ ؟ قُلْنَ : لَا .
قَالَ : هَلْ تَحْمِلْنَ ؟ قُلْنَ : لَا .
قَالَ : هَلْ تُدْلِينَ فِي مَنْ يُدْلِي ؟ قُلْنَ : لَا .
قَالَ فَارْجِعْنَ مَأْزُورَاتٍ غَيْرَ مَأْجُورَاتٍ } .
رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
وَرُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقِيَ فَاطِمَةَ ، فَقَالَ : مَا أَخْرَجَك يَا فَاطِمَةُ مِنْ بَيْتِك ؟ .
قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَتَيْت أَهْلَ هَذَا الْبَيْتِ ، فَرَحِمْت إلَيْهِمْ مَيِّتَهُمْ ، أَوْ عَزَّيْتُهُمْ بِهِ .
قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَلَعَلَّك بَلَغْت مَعَهُمْ الْكُدَى ؟ .
قَالَتْ : مَعَاذَ اللَّهِ ، وَقَدْ سَمِعْتُك تَذْكُرُ فِيهَا مَا تَذْكُرُ .
قَالَ : لَوْ بَلَغْت مَعَهُمْ الْكُدَى .
فَذَكَرَ تَشْدِيدًا .
} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .

( 1542 ) فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَ مَعَ الْجِنَازَةِ مُنْكَرٌ يَرَاهُ أَوْ يَسْمَعُهُ ، فَإِنْ قَدَرَ عَلَى إنْكَارِهِ وَإِزَالَتِهِ ، أَزَالَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى إزَالَتِهِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا ، يُنْكِرُهُ وَيَتْبَعُهَا ، فَيَسْقُطُ فَرْضُهُ بِالْإِنْكَارِ ، وَلَا يَتْرُكُ حَقًّا لِبَاطِلٍ .
وَالثَّانِي ، يَرْجِعُ ، لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى اسْتِمَاعِ مَحْظُورٍ وَرُؤْيَتِهِ ، مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى تَرْكِ ذَلِكَ .
وَأَصْلُ هَذَا فِي الْغُسْلِ ، فَإِنَّ فِيهِ رِوَايَتَيْنِ ، فَيُخَرَّجُ فِي اتِّبَاعِهَا وَجْهَانِ .

( 1543 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَالتَّرْبِيعُ أَنْ يُوضَعَ عَلَى الْكَتِفِ الْيُمْنَى إلَى الرِّجْلِ ، ثُمَّ الْكَتِفِ الْيُسْرَى إلَى الرِّجْلِ ) التَّرْبِيعُ هُوَ الْأَخْذُ بِجَوَانِبِ السَّرِيرِ الْأَرْبَعِ ، وَهُوَ سُنَّةٌ فِي حَمْلِ الْجِنَازَةِ لِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ : { إذَا تَبِعَ أَحَدُكُمْ جِنَازَةً ، فَلْيَأْخُذْ بِجَوَانِبِ السَّرِيرِ الْأَرْبَعِ ، ثُمَّ لْيَتَطَوَّعْ بَعْدُ أَوْ لِيَذَرْ ، فَإِنَّهُ مِنْ السُّنَّةِ } .
رَوَاهُ سَعِيدٌ ، فِي " سُنَنِهِ " .
وَهَذَا يَقْتَضِي سُنَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَصِفَةُ التَّرْبِيعِ الْمَسْنُونِ أَنْ يَبْدَأَ فَيَضَعَ قَائِمَةَ السَّرِيرِ الْيُسْرَى عَلَى كَتِفِهِ الْيُمْنَى ، مِنْ عِنْدِ رَأْسِ الْمَيِّتِ ، ثُمَّ يَضَعَ الْقَائِمَةَ الْيُسْرَى مِنْ عِنْدِ الرِّجْلِ عَلَى الْكَتِفِ الْيُمْنَى ، ثُمَّ يَعُود أَيْضًا إلَى الْقَائِمَةِ الْيُمْنَى مِنْ عِنْدِ رَأْسِ الْمَيِّتِ فَيَضَعَهَا عَلَى كَتِفِهِ الْيُسْرَى ، ثُمَّ يَنْتَقِلَ إلَى الْيُمْنَى مِنْ عِنْدِ رِجْلَيْهِ .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَعَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، أَنَّهُ يَدُورُ عَلَيْهَا فَيَأْخُذُ بَعْدَ يَاسِرَةِ الْمُؤَخِّرَةِ يَامِنَةَ الْمُؤَخِّرَةِ ثُمَّ الْمُقَدِّمَةَ وَهُوَ مَذْهَبُ إِسْحَاقُ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَابْنِ عُمَرَ ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، وَأَيُّوبَ وَلِأَنَّهُ أَخَفُّ وَوَجْهُ الْأَوَّلِ ، أَنَّهُ أَحَدُ الْجَانِبَيْنِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَبْدَأَ فِيهِ بِمُقَدَّمِهِ كَالْأَوَّلِ .
فَأَمَّا الْحَمْلُ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ ، فَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ رَوَيْنَا عَنْ عُثْمَانَ وَسَعْدِ بْنِ مَالِكٍ وَابْنِ عُمَرَ ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُمْ حَمَلُوا بَيْنَ عَمُودَيْ السَّرِيرِ .
وَقَالَ بِهِ الشَّافِعِيُّ ، وَأَحْمَدُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَكَرِهَهُ النَّخَعِيُّ ، وَالْحَسَنُ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَإِسْحَاقُ .
وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ ، رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ، قَدْ فَعَلُوهُ ، وَفِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ .
وَقَالَ مَالِكٌ لَيْسَ فِي حَمْلِ الْمَيِّتِ تَوْقِيتٌ يَحْمِلُ مِنْ حَيْثُ شَاءَ .

وَنَحْوُهُ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَاتِّبَاعُ الصَّحَابَةِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، فِيمَا فَعَلُوهُ وَقَالُوهُ ، أَحْسَنُ وَأَوْلَى

( 1544 ) فَصْلٌ : إذَا مَرَّتْ بِهِ جِنَازَةٌ لَمْ يُسْتَحَبَّ لَهُ الْقِيَامُ لَهَا ؛ لِقَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { : قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَعَدَ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَقَالَ إِسْحَاقُ مَعْنَى قَوْل عَلِيٍّ يَقُولُ : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا رَأَى جِنَازَةً قَامَ ، ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ بَعْدُ .
قَالَ أَحْمَدُ : إنْ قَامَ لَمْ أَعِبْهُ ، وَإِنْ قَعَدَ فَلَا بَأْسَ وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي مُوسَى ، وَالْقَاضِي ، أَنَّ الْقِيَامَ مُسْتَحَبٌّ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : إذَا رَأَى أَحَدُكُمْ الْجِنَازَةَ فَلْيَقُمْ حِينَ يَرَاهَا ، حَتَّى تَخْلُفَهُ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَقَدْ ذَكَرْنَا : أَنَّ آخِرَ الْأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْكُ الْقِيَامِ لَهَا ، وَالْأَخْذُ بِالْآخِرِ مِنْ أَمْرِهِ أَوْلَى ، فَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثٍ { أَنَّ يَهُودِيًّا رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ لِلْجِنَازَةِ ، فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ : هَكَذَا نَصْنَعُ .
فَتَرَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِيَامَ لَهَا }

( 1545 ) فَصْلٌ : وَمَنْ يَتَّبِعُ الْجِنَازَةَ اُسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ لَا يَجْلِسَ حَتَّى تُوضَعَ ، مِمَّنْ رَأَى أَنْ لَا يَجْلِسَ حَتَّى تُوضَعَ عَنْ أَعْنَاقِ الرِّجَالِ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ وَابْنُ عُمَرَ ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ .
وَوَجْهُ ذَلِكَ مَا رَوَى مُسْلِمٌ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي سَعِيد قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : إذَا اتَّبَعْتُمْ الْجِنَازَةَ فَلَا تَجْلِسُوا حَتَّى تُوضَعَ } وَرَأَى الشَّافِعِيُّ أَنَّ هَذَا مَنْسُوخٌ بِحَدِيثِ عَلِيٍّ وَلَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ قَوْلَ عَلِيٍّ يَحْتَمِلُ مَا ذَكَرَهُ إِسْحَاقُ وَالسَّبَبَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِيهِ ، وَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ عُمُومٌ ، فَيَعُمُّ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا ، فَلَمْ يَجُزْ النَّسْخُ بِأَمْرِ مُحْتَمَلٍ ، وَلِأَنَّ قَوْلَ عَلِيٍّ : قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَعَدَ .
يَدُلُّ عَلَى ابْتِدَاءِ فِعْلِ الْقِيَامِ ، وَهَا هُنَا إنَّمَا وُجِدَتْ مِنْهُ الِاسْتِدَامَةُ ، إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَأَظْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ أُرِيدَ بِالْوَضْعِ وَضْعُهَا عَنْ أَعْنَاقِ الرِّجَالِ ، وَهُوَ قَوْلُ مَنْ ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ .
وَقَدْ رَوَى الثَّوْرِيُّ الْحَدِيثَ { : إذَا اتَّبَعْتُمْ الْجِنَازَةَ فَلَا تَجْلِسُوا حَتَّى تُوضَعَ بِالْأَرْضِ } وَرَوَاهُ أَبُو مُعَاوِيَةَ { حَتَّى تُوضَعَ فِي اللَّحْدِ } وَحَدِيثُ سُفْيَانَ أَصَحُّ .
فَأَمَّا مَنْ تَقَدَّمَ الْجِنَازَةَ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَجْلِسَ قَبْلَ أَنْ تَنْتَهِيَ إلَيْهِ .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَقَدَّمُونَ الْجِنَازَةَ ، فَيَجْلِسُونَ قَبْلَ أَنْ تَنْتَهِيَ إلَيْهِمْ ، فَإِذَا جَاءَتْ الْجِنَازَةُ لَمْ يَقُومُوا لَهَا .
لِمَا تَقَدَّمَ .

( 1546 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَأَحَقُّ النَّاسِ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ مَنْ أَوْصَى لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ ) هَذَا مَذْهَبُ أَنَسٍ ، وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَأَبِي بَرْزَةَ ، وَسَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ ، وَأُمِّ سَلَمَةَ ، وَابْنِ سِيرِينَ وَقَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ : الْوَلِيُّ أَحَقُّ ، لِأَنَّهَا وِلَايَةٌ تَتَرَتَّبُ بِتَرَتُّبِ الْعَصَبَاتِ ، فَالْوَلِيُّ فِيهَا أَوْلَى ، كَوِلَايَةِ النِّكَاحِ .
وَلَنَا ، إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَوْصَى أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ عُمَرُ قَالَهُ أَحْمَدُ قَالَ : وَعُمَرُ أَوْصَى أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ صُهَيْبٌ وَأُمُّ سَلَمَةَ أَوْصَتْ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهَا سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ وَأَبُو بَكْرَةَ أَوْصَى أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ أَبُو بَرْزَةَ .
وَقَالَ غَيْرُهُ : عَائِشَةُ أَوْصَتْ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهَا أَبُو هُرَيْرَةَ وَابْنُ مَسْعُودٍ أَوْصَى أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ الزُّبَيْرُ ، وَيُونُسُ بْنُ جُبَيْرٍ أَوْصَى أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَأَبُو سَرِيحَةَ أَوْصَى أَنْ يُصَلِّي عَلَيْهِ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ فَجَاءَ عَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ وَهُوَ أَمِيرُ الْكُوفَةَ لِيَتَقَدَّمَ فَيُصَلِّيَ عَلَيْهِ .
فَقَالَ ابْنُهُ : أَيُّهَا الْأَمِيرُ إنَّ أَبِي أَوْصَى أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ فَقَدَّمَ زَيْدًا وَهَذِهِ قَضَايَا انْتَشَرَتْ ، فَلَمْ يَظْهَرْ مُخَالِفٌ ، فَكَانَ إجْمَاعًا ، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ لِلْمَيِّتِ ، فَإِنَّهَا شَفَاعَةٌ لَهُ ، فَتُقَدَّمُ وَصِيَّتُهُ فِيهَا كَتَفْرِيقِ ثُلُثِهِ ، وَوِلَايَةُ النِّكَاحِ يُقَدَّمُ فِيهَا الْوَصِيُّ أَيْضًا ، فَهِيَ كَمَسْأَلَتِنَا ، وَإِنْ سُلِّمَتْ فَلَيْسَتْ حَقًّا لَهُ ، إنَّمَا هِيَ حَقٌّ لِلْمُوَلَّى عَلَيْهِ ، ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْأَمِيرَ يُقَدَّمُ فِي الصَّلَاةِ ، بِخِلَافِ وِلَايَةِ النِّكَاحِ ، وَلِأَنَّ الْغَرَضَ فِي الصَّلَاةِ الدُّعَاءُ ، وَالشَّفَاعَةُ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، فَالْمَيِّتُ يَخْتَارُ لِذَلِكَ مَنْ هُوَ أَظْهَرُ صَلَاحًا ، وَأَقْرَبُ إجَابَةً فِي الظَّاهِرِ ، بِخِلَافِ وِلَايَةِ النِّكَاحِ ( 1547 ) فَصْلٌ

: فَإِنْ كَانَ الْوَصِيُّ فَاسِقًا ، أَوْ مُبْتَدِعًا ، لَمْ تُقْبَلْ الْوَصِيَّةُ ؛ لِأَنَّ الْمُوصِيَ جَهِلَ الشَّرْعَ فَرَدَدْنَا وَصِيَّتَهُ ، كَمَا لَوْ كَانَ الْوَصِيُّ ذِمِّيًّا ، فَإِنْ كَانَ الْأَقْرَبُ إلَيْهِ كَذَلِكَ لَمْ يُقَدَّمْ ، وَصَلَّى غَيْرُهُ ، كَمَا يُمْنَعُ مِنْ التَّقْدِيمِ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ

( 1548 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : " ثُمَّ الْأَمِيرُ " أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَرَوْنَ تَقْدِيمَ الْأَمِيرِ عَلَى الْأَقَارِبِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ : يُقَدَّمُ الْوَلِيُّ ، قِيَاسًا عَلَى تَقْدِيمِهِ فِي النِّكَاحِ ، بِجَامِعِ اعْتِبَارِ تَرْتِيبِ الْعَصَبَاتِ ، وَهُوَ خِلَافُ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : لَا يُؤَمُّ الرَّجُلُ فِي سُلْطَانِهِ } .
وَحَكَى أَبُو حَازِمٍ قَالَ : شَهِدْت حُسَيْنًا حِينَ مَاتَ الْحَسَنُ ، وَهُوَ يَدْفَعُ فِي قَفَا سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ ، وَيَقُول : تَقَدَّمْ ، لَوْلَا السُّنَّةُ مَا قَدَّمْتُك وَسَعِيدٌ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ وَهَذَا يَقْتَضِي سُنَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَمَّارٍ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ قَالَ : شَهِدْت جِنَازَةَ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ عَلِيٍّ ، وَزَيْدِ بْنِ عُمَرَ فَصَلَّى عَلَيْهَا سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ وَكَانَ أَمِيرَ الْمَدِينَةِ وَخَلْفَهُ يَوْمئِذٍ ثَمَانُونَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ ابْنُ عُمَرَ ، وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ وَسَمَّى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ ، وَأَبَا هُرَيْرَةَ .
وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْإِمَامُ أَحَقُّ مَنْ صَلَّى عَلَى الْجِنَازَةِ وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوُ ذَلِكَ .
وَهَذَا اشْتَهَرَ فَلَمْ يُنْكَرْ ، فَكَانَ إجْمَاعًا ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ شُرِعَتْ فِيهَا الْجَمَاعَةُ ، فَكَانَ الْإِمَامُ أَحَقَّ بِالْإِمَامَةِ فِيهَا كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عَلَى الْجَنَائِزِ ، مَعَ حُضُورِ أَقَارِبِهَا ، وَالْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ وَلَمْ يُنْقَلْ إلَيْنَا أَنَّهُمْ اسْتَأْذَنُوا أَوْلِيَاءَ الْمَيِّتِ فِي التَّقَدُّمِ عَلَيْهَا .
( 1549 ) فَصْلٌ : وَالْأَمِيرُ هَاهُنَا الْإِمَامُ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَالْأَمِيرُ مِنْ قِبَلِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَالنَّائِبُ مِنْ قِبَلِهِ فِي الْإِمَامَةِ ، فَإِنَّ الْحُسَيْنَ قَدَّمَ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ ، وَإِنَّمَا كَانَ أَمِيرًا مِنْ قِبَلِ مُعَاوِيَةَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَالْحَاكِمُ

مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( ثُمَّ الْأَبُ وَإِنْ عَلَا ، ثُمَّ الِابْنُ وَإِنْ سَفَلَ ، ثُمَّ أَقْرَبُ الْعَصَبَةِ ) الصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ مَا ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ فِي أَنَّ أَوْلَى النَّاسِ بَعْدَ الْأَمِيرِ الْأَبُ ، ثُمَّ الْجَدُّ أَبُو الْأَبِ وَإِنْ عَلَا ، ثُمَّ الِابْنُ ، ثُمَّ ابْنُهُ وَإِنْ نَزَلَ ، ثُمَّ الْأَخُ الَّذِي هُوَ عَصَبَةٌ ، ثُمَّ ابْنُهُ ، ثُمَّ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ مِنْ الْعَصَبَاتِ ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : إذَا اجْتَمَعَ جَدٌّ وَأَخٌ ، فَفِيهِ قَوْلَانِ وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الِابْنَ أَحَقُّ مِنْ الْأَبِ ؛ لِأَنَّهُ أَقْوَى تَعْصِيبًا مِنْهُ ، بِدَلِيلِ الْإِرْثِ ، وَالْأَخَ أَوْلَى مِنْ الْجَدِّ ؛ لِأَنَّهُ يُدْلِي بِالْبُنُوَّةِ وَالْجَدَّ يُدْلِي بِالْأُبُوَّةِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي الْإِدْلَاءِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُدْلِي بِنَفْسِهِ ، وَالْأَبُ أَرْأَفُ وَأَشْفَقُ ، وَدُعَاؤُهُ لِأَبْنِهِ أَقْرَبُ إلَى الْإِجَابَةِ ، فَكَانَ أَوْلَى ، كَالْقَرِيبِ مَعَ الْبَعِيدِ ، إذْ كَانَ الْمَقْصُودُ الدُّعَاءَ لِلْمَيِّتِ وَالشَّفَاعَةَ لَهُ ، بِخِلَافِ الْمِيرَاثِ

( 1551 ) فَصْلٌ : وَإِنْ اجْتَمَعَ زَوْجُ الْمَرْأَةِ وَعَصَبَتُهَا فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ تَقْدِيمُ الْعَصَبَاتِ ، وَهُوَ أَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَدَ ، وَقَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، وَالزُّهْرِيِّ ، وَبُكَيْرِ بْنِ الْأَشَجِّ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يُقَدِّمُ زَوْجَ الْمَرْأَةِ عَلَى ابْنِهَا مِنْهُ .
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ تَقْدِيمُ الزَّوْجِ عَلَى الْعَصَبَاتِ ؛ لِأَنَّ أَبَا بَكْرَةَ صَلَّى عَلَى امْرَأَتِهِ ، وَلَمْ يَسْتَأْذِنْ إخْوَتَهَا وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَالشَّعْبِيِّ ، وَعَطَاءٍ ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَإِسْحَاقَ ، وَلِأَنَّهُ أَحَقُّ بِالْغُسْلِ ، فَكَانَ أَحَقَّ بِالصَّلَاةِ ، كَمَحَلِّ الْوِفَاقِ وَلَنَا ، أَنَّهُ يُرْوَى عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِأَهْلِ امْرَأَتِهِ : أَنْتُمْ أَحَقُّ بِهَا وَلِأَنَّ الزَّوْجَ قَدْ زَالَتْ زَوْجِيَّتُهُ بِالْمَوْتِ فَصَارَ أَجْنَبِيًّا ، وَالْقَرَابَةُ لَمْ تَزُلْ ، فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ ، إنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا عَصَبَاتٌ ، فَالزَّوْجُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ لَهُ سَبَبًا وَشَفَقَةً ، فَكَانَ أَوْلَى مِنْ الْأَجْنَبِيِّ

( 1552 ) فَصْلٌ : فَإِنْ اجْتَمَعَ أَخٌ مِنْ الْأَبَوَيْنِ ، وَأَخٌ مِنْ أَبٍ فَفِي تَقْدِيمِ الْأَخِ مِنْ الْأَبَوَيْنِ ، أَوْ التَّسْوِيَةِ ، وَجْهَانِ ، أَخْذًا مِنْ الرِّوَايَتَيْنِ فِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ ، وَالْحُكْمُ فِي أَوْلَادِهِمَا ، وَفِي الْأَعْمَامِ وَأَوْلَادِهِمْ ، كَالْحُكْمِ فِيهِمَا سَوَاءٌ .
فَإِنْ انْقَرَضَ الْعَصَبَةُ مِنْ النَّسَبِ فَالْمَوْلَى الْمُنْعِمُ ، ثُمَّ أَقْرَبُ عَصَبَاتِهِ ، ثُمَّ الرَّجُلُ مِنْ ذَوِي أَرْحَامِهِ ، الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ ، ثُمَّ الْأَجَانِبُ

( 1553 ) فَصْلٌ : فَإِنْ اسْتَوَى وَلِيَّانِ فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ فَأَوْلَاهُمَا أَحَقُّهُمَا بِالْإِمَامَةِ فِي الْمَكْتُوبَاتِ لِعُمُومِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ } قَالَ الْقَاضِي : وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَدَّمَ لَهُ الْأَسَنُّ ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى إجَابَةِ الدُّعَاءِ ، وَأَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ قَدْرًا .
وَهَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ .
وَالْأَوَّلُ أَوْلَى ، وَفَضِيلَةُ السِّنِّ مُعَارَضَةٌ بِفَضِيلَةِ الْعِلْمِ ، وَقَدْ رَجَّحَهَا الشَّارِعُ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ ، مَعَ أَنَّهُ يُقْصَدُ فِيهَا إجَابَةُ الدُّعَاءِ وَالْحَظُّ لِلْمَأْمُومِينَ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : { أَئِمَّتُكُمْ شُفَعَاؤُكُمْ } وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْأَسَنَّ الْجَاهِلَ أَعْظَمُ قَدْرًا مِنْ الْعَالِمِ ، وَلَا أَقْرَبُ إجَابَةً فَإِنْ اسْتَوَوْا وَتَشَاحُّوا ، أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ ، كَمَا فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ

( 1554 ) فَصْلٌ : وَمَنْ قَدَّمَهُ الْوَلِيُّ فَهُوَ بِمَنْزِلَتِهِ ؛ لِأَنَّهَا وِلَايَةٌ تَثْبُتُ لَهُ ، فَكَانَتْ لَهُ الِاسْتِنَابَةُ فِيهَا ، وَيُقَدَّمُ نَائِبُهُ فِيهَا عَلَى غَيْرِهِ ، كَوِلَايَةِ النِّكَاحِ .

( 1555 ) فَصْلٌ : وَالْحُرُّ الْبَعِيدُ أَوْلَى مِنْ الْعَبْدِ الْقَرِيبِ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا وِلَايَة لَهُ ، وَلِهَذَا لَا يَلِي فِي النِّكَاحِ وَلَا الْمَالِ فَإِنْ اجْتَمَعَ صَبِيٌّ وَمَمْلُوكٌ وَنِسَاءٌ فَالْمَمْلُوكُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ تَصِحُّ إمَامَتُهُ بِهِمَا .
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ إلَّا نِسَاءٌ وَصِبْيَانٌ ، فَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَؤُمَّ أَحَدُ الْجِنْسَيْنِ الْآخَرَ ، وَيُصَلِّي كُلُّ نَوْعٍ لَأَنْفُسِهِمْ وَإِمَامُهُمْ مِنْهُمْ ، وَيُصَلِّي النِّسَاءُ جَمَاعَةً إمَامَتُهُنَّ فِي وَسَطِهِنَّ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُصَلِّينَ مُفْرَدَاتٍ ، لَا يَسْبِقُ بَعْضُهُنَّ بَعْضًا ، وَإِنْ صَلَّيْنَ جَمَاعَةً جَازَ .
وَلَنَا ، أَنَّهُنَّ مِنْ أَهْلِ الْجَمَاعَةِ ، فَيُصَلِّينَ جَمَاعَةً كَالرِّجَالِ ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ كَوْنِهِنَّ مُنْفَرِدَاتٍ ، لَا يَسْبِقُ بَعْضُهُنَّ بَعْضًا ، تَحَكُّمٌ لَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ ، وَقَدْ صَلَّى أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَوَاهُ مُسْلِمٌ .

( 1556 ) فَصْلٌ : فَإِنْ اجْتَمَعَ جَنَائِزُ ، فَتَشَاحَّ أَوْلِيَاؤُهُمْ فِي مَنْ يَتَقَدَّمُ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ ، قُدِّمَ أَوْلَاهُمْ بِالْإِمَامَةِ فِي الْفَرَائِضِ .
وَقَالَ الْقَاضِي : يُقَدَّمُ السَّابِقُ ، يَعْنِي مَنْ سَبَقَ مَيِّتُهُ .
وَلَنَا ، أَنَّهُمْ تَسَاوَوْا فَأَشْبَهُوا الْأَوْلِيَاءَ إذَا تَسَاوَوْا فِي الدَّرَجَةِ ، مَعَ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ } وَإِنْ أَرَادَ وَلِيُّ كُلِّ مَيِّتٍ إفْرَادَ مَيِّتِهِ بِصَلَاةٍ جَازَ .

( 1557 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ ، يُكَبِّرُ ، وَيَقْرَأُ الْحَمْدَ وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ سُنَّةَ التَّكْبِيرِ عَلَى الْجِنَازَةِ أَرْبَعٌ ، وَلَا تُسَنُّ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا ، وَلَا يَجُوزُ النَّقْصُ مِنْهَا ، فَيُكَبِّرُ الْأُولَى ، ثُمَّ يَسْتَعِيذُ ، وَيَقْرَأُ الْحَمْدَ ، وَيَبْدَؤُهَا بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، وَلَا يُسَنُّ الِاسْتِفْتَاحُ .
قَالَ أَبُو دَاوُد سَمِعْت أَحْمَدَ يُسْأَلُ عَنْ الرَّجُلِ يَسْتَفْتِحُ الصَّلَاةَ عَلَى الْجِنَازَةِ بِسُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك ؟ قَالَ : مَا سَمِعْت قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ كَانَ الثَّوْرِيُّ يَسْتَحِبُّ أَنْ يُسْتَفْتَحَ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ ، وَلَمْ نَجِدْهُ فِي كُتُبِ سَائِرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مِثْلُ قَوْلِ الثَّوْرِيِّ لِأَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ فِيهَا مَشْرُوعَةٌ فَسُنَّ فِيهَا الِاسْتِفْتَاحُ ، كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ .
وَلَنَا ، أَنَّ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ شُرِعَ فِيهَا التَّخْفِيفُ ، وَلِهَذَا لَا يُقْرَأُ فِيهَا بَعْدَ الْفَاتِحَةِ بِشَيْءٍ ، وَلَيْسَ فِيهَا رُكُوعٌ وَلَا سُجُودٌ ، وَالتَّعَوُّذُ سُنَّةٌ لِلْقِرَاءَةِ مُطْلَقًا فِي الصَّلَاةِ ، وَغَيْرِهَا ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ وَاجِبَةٌ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَمَالِكٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَقْرَأُ فِيهَا بِشَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ ؛ لِأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَالَ : إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُوَقِّتْ فِيهَا قَوْلًا وَلَا قِرَاءَةً .
وَلِأَنَّ مَا لَا رُكُوعَ فِيهِ لَا قِرَاءَةَ فِيهِ ، كَسُجُودِ التِّلَاوَةِ وَلَنَا ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فَقَرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَقَالَ : إنَّهُ مِنْ السُّنَّةِ .
أَوْ : مِنْ تَمَامِ السُّنَّةِ قَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أُمِّ شَرِيكٍ قَالَتْ { أَمَرَنَا رَسُولُ

اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَقْرَأَ عَلَى الْجِنَازَةِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ } .
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ ، فِي " مُسْنَدِهِ " بِإِسْنَادِهِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَبَّرَ عَلَى الْجِنَازَةِ أَرْبَعًا ، وَقَرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى ثُمَّ هُوَ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ } وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ يَجِبُ فِيهَا الْقِيَامُ ، فَوَجَبَتْ فِيهَا الْقِرَاءَةُ ، كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ وَإِنْ صَحَّ مَا رَوَوْهُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ فَإِنَّمَا قَالَ : لَمْ يُوَقِّتْ .
أَيْ لَمْ يُقَدِّرْ .
وَلَا يَدُلُّ هَذَا عَلَى نَفْيِ أَصْلِ الْقِرَاءَةِ وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ ، أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى جِنَازَةٍ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ ثُمَّ لَا يُعَارِضُ مَا رَوَيْنَاهُ ؛ لِأَنَّهُ نَفْيٌ يُقَدَّمُ ، عَلَيْهِ الْإِثْبَاتُ ، وَيُفَارِقُ سُجُودَ التِّلَاوَةِ فَإِنَّهُ لَا قِيَامَ فِيهِ ، وَالْقِرَاءَةُ إنَّمَا مَحَلُّهَا الْقِيَامُ

( 1558 ) فَصْلٌ : وَيُسِرُّ الْقِرَاءَةَ وَالدُّعَاءَ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ لَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيهِ خِلَافًا ، وَلَا يَقْرَأُ بَعْدَ أُمِّ الْقُرْآنِ شَيْئًا .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ جَهَرَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ قَالَ أَحْمَدُ : إنَّمَا جَهَرَ لِيُعَلِّمَهُمْ

( 1559 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَيُكَبِّرُ الثَّانِيَةَ ، وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ كَمَا يُصَلِّي عَلَيْهِ فِي التَّشَهُّدِ ) هَكَذَا وَصَفَ أَحْمَدُ الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ ، كَمَا ذَكَرَ الْخِرَقِيِّ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ بِمَكَّةَ فَكَبَّرَ ، ثُمَّ قَرَأَ وَجَهَرَ وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ دَعَا لِصَاحِبِهَا فَأَحْسَنَ ، ثُمَّ انْصَرَفَ وَقَالَ : هَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ وَرَوَى الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ السُّنَّةَ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ ، أَنْ يُكَبِّرَ الْإِمَامُ ، ثُمَّ يَقْرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى ، يَقْرَأُ فِي نَفْسِهِ ، ثُمَّ يُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُخْلِصَ الدُّعَاءَ لِلْجِنَازَةِ فِي التَّكْبِيرَاتِ ، لَا يَقْرَأُ فِي شَيْءٍ مِنْهُنَّ ثُمَّ يُسَلِّمَ سِرًّا فِي نَفْسِهِ .
وَصِفَةُ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَصِفَةِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ فِي التَّشَهُّدِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سَأَلُوهُ : كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْك ؟ عَلَّمَهُمْ ذَلِكَ .
وَإِنْ أَتَى بِهَا عَلَى غَيْرِ مَا ذُكِرَ فِي التَّشَهُّدِ ، فَلَا بَأْسَ ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ مُطْلَقُ الصَّلَاةِ .
قَالَ الْقَاضِي ، يَقُولُ : اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مَلَائِكَتِك الْمُقَرَّبِينَ ، وَأَنْبِيَائِك الْمُرْسَلِينَ وَأَهْلِ طَاعَتِك أَجْمَعِينَ ، مِنْ أَهْلِ السَّمَوَاتِ وَأَهْلِ الْأَرَضِينِ ، إنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .
لِأَنَّ أَحْمَدَ قَالَ ، فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُصَلِّي عَلَى الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ

( 1560 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَيُكَبِّرُ الثَّالِثَةَ ، وَيَدْعُو لِنَفْسِهِ وَلِوَالِدَيْهِ وَلِلْمُسْلِمِينَ وَيَدْعُو لِلْمَيِّتِ ) .
وَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَقُولَ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا ، وَشَاهِدِنَا وَغَائِبِنَا ، وَصَغِيرِنَا وَكَبِيرِنَا ، وَذَكَرِنَا وَأُنْثَانَا ، إنَّك تَعْلَمُ مُنْقَلَبَنَا وَمَثْوَانَا ، إنَّك عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْته مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ ، وَمَنْ تَوَفَّيْته مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى الْإِيمَانِ ، اللَّهُمَّ إنَّهُ عَبْدُك وَابْنُ أَمَتِك ، نَزَلَ بِك وَأَنْتَ خَيْرُ مَنْزُولٍ بِهِ ، وَلَا نَعْلَمُ إلَّا خَيْرًا ، اللَّهُمَّ إنْ كَانَ مُحْسِنًا فَجَازِهِ بِإِحْسَانِهِ ، وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا فَتَجَاوَزْ عَنْهُ ، اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ ، وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُ .
وَالْوَاجِبُ أَدْنَى دُعَاءٍ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا صَلَّيْتُمْ عَلَى الْمَيِّتِ فَأَخْلِصُوا لَهُ الدُّعَاءَ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَهَذَا يَحْصُلُ بِأَدْنَى دُعَاءٍ ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ الشَّفَاعَةُ لِلْمَيِّتِ ، وَالدُّعَاءُ فَيَجِبُ أَقَلُّ ذَلِكَ .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْعُوَ لِنَفْسِهِ وَلِوَالِدَيْهِ وَلِلْمُسْلِمِينَ قَالَ أَحْمَدُ وَلَيْسَ عَلَى الْمَيِّتِ دُعَاءٌ مُؤَقَّتٌ .
وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ حَسَنٌ ، يَجْمَعُ ذَلِكَ ، وَقَدْ رُوِيَ أَكْثَرُهُ فِي الْحَدِيثِ ، فَمِنْ ذَلِكَ ، مَا رَوَى أَبُو إبْرَاهِيمَ الْأَشْهَلِيُّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ { : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا صَلَّى عَلَى الْجِنَازَةِ ، قَالَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا ، وَشَاهِدِنَا وَغَائِبِنَا ، وَصَغِيرِنَا وَكَبِيرِنَا ، وَذَكَرِنَا وَأُنْثَانَا } قَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ حَدِيثِ أَبِي إبْرَاهِيمَ وَزَادَ : " اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْته مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الْإِيمَانِ ، وَمَنْ تَوَفَّيْته مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى الْإِسْلَامِ ، اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ ، وَلَا

تُضِلَّنَا بَعْدَهُ وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبُّهَا ، وَأَنْتَ خَلَقْتهَا ، وَأَنْتَ هَدَيْتهَا لِلْإِسْلَامِ ، وَأَنْتَ قَبَضْتهَا ، وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِسِرِّهَا وَعَلَانِيَتِهَا ، جِئْنَا شُفَعَاءَ ، فَاغْفِرْ لَهُ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَرَوَى مُسْلِمٌ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : { صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جِنَازَةٍ فَحَفِظْت مِنْ دُعَائِهِ ، وَهُوَ يَقُولُ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ ، وَارْحَمْهُ ، وَعَافِهِ ، وَاعْفُ عَنْهُ وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ ، وَأَوْسِعْ مُدْخَلَهُ ، وَاغْسِلْهُ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ ، وَنَقِّهِ مِنْ الْخَطَايَا ، كَمَا نَقَّيْت الثَّوْبَ الْأَبْيَضَ مِنْ الدَّنَسِ ، وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ وَأَهْلًا خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ ، وَزَوْجًا خَيْرًا مِنْ زَوْجِهِ ، وَأَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَمِنْ عَذَابِ النَّارِ .
حَتَّى تَمَنَّيْت أَنْ أَكُونَ ذَلِكَ الْمَيِّتَ .
} ( 1561 ) فَصْلٌ : زَادَ أَبُو الْخَطَّابِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ : اللَّهُمَّ جِئْنَاك شُفَعَاءَ لَهُ ، فَشَفِّعْنَا فِيهِ ، وَقِه فِتْنَةَ الْقَبْرِ ، وَعَذَابَ النَّارِ ، وَأَكْرِمْ مَثْوَاهُ ، وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ ، وَجِوَارًا خَيْرًا مِنْ جِوَارِهِ ، وَافْعَلْ بِنَا ذَلِكَ وَبِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ .
وَزَادَ ابْنُ أَبِي مُوسَى : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَمَاتَ وَأَحْيَا ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي يُحْيِي الْمَوْتَى ، لَهُ الْعَظَمَةُ وَالْكِبْرِيَاءُ ، وَالْمُلْكُ وَالْقُدْرَةُ وَالثَّنَاءُ ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .
اللَّهُمَّ إنَّهُ عَبْدُك ، ابْنُ عَبْدِك ، ابْنُ أَمَتِك ، أَنْتَ خَلَقْته وَرَزَقْته ، وَأَنْتَ أَمَتَّهُ وَأَنْتَ تُحْيِيهِ ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ سِرَّهُ جِئْنَاك شُفَعَاءَ لَهُ فَشَفِّعْنَا فِيهِ ، اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَجِيرُ بِحَبْلِ جِوَارِك لَهُ ، إنَّك ذُو وَفَاءٍ وَذِمَّةٍ ، اللَّهُمَّ وَقِه مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ ، وَمِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ ، اللَّهُمَّ إنْ كَانَ مُحْسِنًا فَجَازِهِ بِإِحْسَانِهِ ، وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا

فَتَجَاوَزْ عَنْهُ ، اللَّهُمَّ قَدْ نَزَلَ بِك وَأَنْتَ خَيْرُ مَنْزُولٍ بِهِ ، فَقِيرًا إلَى رَحْمَتِك ، وَأَنْتَ غَنِيٌّ عَنْ عَذَابِهِ ، اللَّهُمَّ ثَبِّتْ عِنْدَ الْمَسْأَلَةِ مَنْطِقَهُ ، وَلَا تَبْتَلِهِ فِي قَبْرِهِ اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ ، وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُ .
( 1562 ) فَصْلٌ : وَقَوْله : لَا نَعْلَمُ إلَّا خَيْرًا إنَّمَا يَقُولُهُ لِمَنْ لَمْ يَعْلَمْ مِنْهُ شَرًّا ، لِئَلَّا يَكُونَ كَاذِبًا .
وَقَدْ رَوَى الْقَاضِي حَدِيثًا ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ أَبِيهِ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَهُمْ الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأَحْيَائِنَا وَأَمْوَاتِنَا ، وَصَغِيرِنَا وَكَبِيرِنَا ، وَشَاهِدِنَا وَغَائِبِنَا ، اللَّهُمَّ إنَّ عَبْدَك وَابْنَ عَبْدِك نَزَلَ بِفِنَائِك فَاغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ ، وَلَا نَعْلَمُ إلَّا خَيْرًا فَقُلْت ، وَأَنَا أَصْغَرُ الْجَمَاعَةِ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَإِنْ لَمْ أَعْلَمْ خَيْرًا ؟ قَالَ لَا تَقْلُ إلَّا مَا تَعْلَمُ } وَإِنَّمَا شُرِعَ هَذَا لِلْخَبَرِ ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أُثْنِيَ عِنْدَهُ عَلَى جِنَازَةٍ بِخَيْرٍ ، فَقَالَ : " وَجَبَتْ " وَأُثْنِيَ عَلَى أُخْرَى بِشَرٍّ ، فَقَالَ : " وَجَبَتْ " ثُمَّ قَالَ { إنَّ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ شَهِيدٌ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَفِي حَدِيثٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يَمُوتُ ، يَشْهَدُ لَهُ اثْنَانِ مِنْ جِيرَانِهِ الْأَدْنَيْنَ بِخَيْرٍ ، إلَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : قَدْ قَبِلْت شَهَادَةَ عِبَادِي عَلَى مَا عَلِمُوا ، وَغَفَرْت مَا أَعْلَمُ } .
رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، فِي " الْمُسْنَدِ " وَفِي لَفْظٍ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَمُوتُ ، فَيَقُومُ رَجُلَانِ مِنْ جِيرَانِهِ الْأَدْنَيْنَ ، فَيَقُولَانِ : اللَّهُمَّ لَا نَعْلَمُ إلَّا خَيْرًا ، إلَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : قَدْ قَبِلْت شَهَادَتَهُمَا لِعَبْدِي ، وَغَفَرْت لَهُ مَا لَا يَعْلَمَانِ } أَخْرَجَهُ اللَّالَكَائِيُّ .
( 1563 ) فَصْلٌ

: وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ طِفْلًا ، جَعَلَ مَكَانَ الِاسْتِغْفَارِ لَهُ : اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ فَرَطًا لِوَالِدَيْهِ ، وَذُخْرًا وَسَلَفًا وَأَجْرًا ، اللَّهُمَّ ثَقِّلْ بِهِ مَوَازِينَهُمَا ، وَأَعْظِمْ بِهِ أُجُورَهُمَا ، اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ فِي كَفَالَةِ إبْرَاهِيمَ وَأَلْحِقْهُ بِصَالِحِ سَلَفِ الْمُؤْمِنِينَ ، وَأَجِرْهُ بِرَحْمَتِك مِنْ عَذَابِ الْجَحِيمِ ، وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ ، وَأَهْلًا خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأَسْلَافِنَا وَأَفْرَاطِنَا وَمَنْ سَبَقَنَا بِالْإِيمَانِ .
وَنَحْوَ ذَلِكَ وَبِأَيِّ شَيْءٍ دَعَا مِمَّا ذَكَرْنَا أَوْ نَحْوَهُ أَجْزَأَهُ وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مُوَقَّتٌ

( 1564 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَيُكَبِّرُ الرَّابِعَةَ ، وَيَقِفُ قَلِيلًا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ لَا يَدْعُو بَعْدَ الرَّابِعَةِ شَيْئًا وَنَقَلَهُ عَنْ أَحْمَدَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ .
وَقَالَ : لَا أَعْلَمُ فِيهِ شَيْئًا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِيهِ دُعَاءٌ مَشْرُوعٌ لَنُقِلَ .
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَدْعُو ، ثُمَّ يُسَلِّمُ ، لِأَنَّهُ قِيَامٌ فِي صَلَاةٍ ، فَكَانَ فِيهِ ذِكْرٌ مَشْرُوعٌ ، كَاَلَّذِي قَبْلَ التَّكْبِيرَةِ الرَّابِعَةِ .
قَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى وَأَبُو الْخَطَّابِ يَقُولُ : رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ وَقِيلَ يَقُولُ : اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ ، وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُ .
وَهَذَا الْخِلَافُ فِي اسْتِحْبَابِهِ ، وَلَا خِلَافَ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ وَأَنَّ الْوُقُوفَ بَعْدَ التَّكْبِيرِ قَلِيلًا مَشْرُوعٌ ، وَقَدْ رَوَى الْجُوزَجَانِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُكَبِّرُ أَرْبَعًا ثُمَّ ، يَقُولُ مَا شَاءَ اللَّهُ ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ .
قَالَ الْجُوزَجَانِيُّ وَكُنْتُ أَحْسَبُ أَنَّ هَذِهِ الْوَقْفَةَ لِيُكَبِّرَ آخِرُ الصُّفُوفِ ، فَإِنَّ الْإِمَامَ إذَا كَبَّرَ ثُمَّ سَلَّمَ ، خِفْتُ أَنْ يَكُونَ تَسْلِيمُهُ قَبْلَ أَنْ يُكَبِّرَ آخِرُ الصُّفُوفِ ، فَإِنْ كَانَ هَكَذَا فَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُوَفِّقُ لَهُ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ فَإِنِّي أَبْرَأُ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ أَنْ أَتَأَوَّلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرًا لَمْ يُرِدْهُ ، أَوْ أَرَادَ خِلَافَهُ .

( 1565 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ ( وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي كُلِّ تَكْبِيرَةٍ ) .
أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ عَلَى الْجَنَائِزِ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي أَوَّلِ تَكْبِيرَةٍ يُكَبِّرُهَا ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي كُلِّ تَكْبِيرَةٍ وَبِهِ قَالَ سَالِمٌ ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَعَطَاءٌ ، وَقَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ ، وَالزُّهْرِيُّ وَإِسْحَاقُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ مَالِكٌ ، وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ إلَّا فِي الْأُولَى ؛ لِأَنَّ كُلَّ تَكْبِيرَةٍ مَقَامُ رَكْعَةٍ ، وَلَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي فِي جَمِيعِ الرَّكَعَاتِ .
وَلَنَا ، مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ { : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي كُلِّ تَكْبِيرَةٍ } رَوَاهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ ، وَأَنَسٍ أَنَّهُمَا كَانَا يَفْعَلَانِ ذَلِكَ .
وَلِأَنَّهَا تَكْبِيرَةٌ حَالَ الِاسْتِقْرَارِ أَشْبَهَتْ الْأُولَى ، وَمَا ذَكَرُوهُ غَيْرُ مُسَلَّمٍ ، فَإِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ فَإِنَّهُ يَحُطُّهُمَا عِنْدَ انْقِضَاءِ التَّكْبِيرِ ، وَيَضَعُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى ، كَمَا فِي بَقِيَّةِ الصَّلَوَاتِ .
وَفِيمَا رَوَى ابْنُ أَبِي مُوسَى { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ ، فَوَضَعَ يَمِينَهُ عَلَى شِمَالِهِ .
}

( 1566 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَيُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً عَنْ يَمِينِهِ .
السُّنَّةُ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى الْجِنَازَةِ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً .
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : التَّسْلِيمُ عَلَى الْجِنَازَةِ تَسْلِيمَةٌ وَاحِدَةٌ ، عَنْ سِتَّةٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ فِيهِ اخْتِلَافٌ إلَّا عَنْ إبْرَاهِيمَ وَرُوِيَ تَسْلِيمَةٌ وَاحِدَةٌ عَنْ عَلِيٍّ ، وَابْنِ عُمَرَ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَجَابِرٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ ، وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، وَابْنِ أَبِي أَوْفَى ، وَوَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ .
وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ ، وَأَبُو أُمَامَةَ بْنُ سَهْلٍ ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، وَالْحَارِثُ ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ وَإِسْحَاقُ .
وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ : مَنْ سَلَّمَ عَلَى الْجِنَازَةِ تَسْلِيمَتَيْنِ فَهُوَ جَاهِلٌ جَاهِلٌ ، وَاخْتَارَ الْقَاضِي أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ تَسْلِيمَتَانِ ، وَتَسْلِيمَةٌ وَاحِدَةٌ تُجْزِي .
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ، قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الصَّلَوَاتِ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَلَّمَ عَلَى الْجِنَازَةِ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً .
} رَوَاهُ الْجُوزَجَانِيُّ بِإِسْنَادِهِ ، وَأَنَّهُ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ ، وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُمْ مُخَالِفٌ فِي عَصْرِهِمْ ، فَكَانَ إجْمَاعًا قَالَ أَحْمَدُ : لَيْسَ فِيهِ اخْتِلَافٌ إلَّا عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ الْجُوزَجَانِيُّ هَذَا عِنْدَنَا لَا اخْتِلَافَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ إنَّمَا يَكُونُ بَيْنَ الْأَقْرَانِ وَالْأَشْكَالِ ، أَمَّا إذَا أَجْمَعَ النَّاسُ وَاتَّفَقَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ، فَشَذَّ عَنْهُمْ رَجُلٌ ، لَمْ يُقَلْ لِهَذَا اخْتِلَافٌ .
وَاخْتِيَارُ الْقَاضِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ إمَامِهِ وَأَصْحَابِهِ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ الْمُسْتَحَبَّ أَنْ يُسَلِّمَ

تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً عَنْ يَمِينِهِ ، وَإِنْ سَلَّمَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ فَلَا بَأْسَ قَالَ أَحْمَدُ : يُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً .
وَسُئِلَ يُسَلِّمُ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ ؟ قَالَ : كُلُّ هَذَا ، وَأَكْثَرُ مَا رُوِيَ فِيهِ عَنْ يَمِينِهِ .
قِيلَ : خِفْيَةً ؟ قَالَ : نَعَمْ .
يَعْنِي أَنَّ الْكُلَّ جَائِزٌ ، وَالتَّسْلِيمُ عَنْ يَمِينِهِ أَوْلَى ، لِأَنَّهُ أَكْثَرُ مَا رُوِيَ ، وَهُوَ أَشْبَهُ بِالتَّسْلِيمِ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ .
قَالَ أَحْمَدُ يَقُولُ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ .
وَرَوَى عَنْهُ عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ أَنَّهُ قَالَ : إذَا قَالَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ .
أَجْزَأَهُ .
وَرَوَى الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى عَلَى يَزِيدَ بْنِ الْمُكَفِّفِ فَسَلَّمَ وَاحِدَةً عَنْ يَمِينِهِ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ .

( 1567 ) فَصْلٌ : وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ : إذَا صَلَّيْتَ فَلَا تَبْرَحْ مُصَلَّاكَ حَتَّى تُرْفَعَ .
قَالَ وَرَأَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ لَا يَبْرَحُ مُصَلَّاهُ إذَا صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ حَتَّى يَرَاهَا عَلَى أَيْدِي الرِّجَالِ .
قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ لَا تُنْقَضُ الصُّفُوفُ حَتَّى تُرْفَعَ الْجِنَازَةُ .

( 1568 ) فَصْلٌ : وَالْوَاجِبُ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ النِّيَّةُ ، وَالتَّكْبِيرَاتُ ، وَالْقِيَامُ ، وَقِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ ، وَالصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَدْنَى دُعَاءٍ لِلْمَيِّتِ ، وَتَسْلِيمَةٌ وَاحِدَةٌ .
وَيُشْتَرَطُ لَهَا شَرَائِطُ الْمَكْتُوبَةِ ، إلَّا الْوَقْتَ .
وَتَسْقُطُ بَعْضُ وَاجِبَاتِهَا عَنْ الْمَسْبُوقِ ، عَلَى مَا سَنُبَيِّنُ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى الْجَنَائِزِ وَهُوَ رَاكِبٌ ؛ لِأَنَّهُ يُفَوِّتُ الْقِيَامَ الْوَاجِبَ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَبِي ثَوْرٍ وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا .

( 1569 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُصَفَّ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَائِزِ ثَلَاثَةُ صُفُوفٍ ، لِمَا رُوِيَ عَنْ مَالِكِ بْنِ هُبَيْرَةَ - حِمْصِيٌّ وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ صُفُوفٍ فَقَدْ أَوْجَبَ } قَالَ فَكَانَ مَالِكُ بْنُ هُبَيْرَةَ إذَا اسْتَقَلَّ أَهْلَ الْجِنَازَةِ جَزَّأَهُمْ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ .
رَوَاهُ الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ .
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ .
قَالَ أَحْمَدُ : أُحِبُّ إذَا كَانَ فِيهِمْ قِلَّةٌ أَنْ يَجْعَلَهُمْ ثَلَاثَةَ صُفُوفٍ ، قَالُوا : فَإِنْ كَانَ وَرَاءَهُ أَرْبَعَةٌ كَيْفَ يَجْعَلُهُمْ ؟ قَالَ : يَجْعَلُهُمْ صَفَّيْنِ ، فِي كُلِّ صَفٍّ رَجُلَيْنِ ، وَكَرِهَ أَنْ يَكُونُوا ثَلَاثَةً فَيَكُونُ فِي صَفٍّ رَجُلٌ وَاحِدٌ .
وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ أَنَّ عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ رَوَى ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ ، فَكَانُوا سَبْعَةً ، فَجَعَلَ الصَّفَّ الْأَوَّلَ ثَلَاثَةً ، وَالثَّانِيَ اثْنَيْنِ ، وَالثَّالِثَ وَاحِدًا .
قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ وَيُعَايَا بِهَا ، فَيُقَالُ : أَيْنَ تَجِدُونَ فَذًّا انْفِرَادُهُ أَفْضَلُ ؟ وَلَا أَحْسَبُ هَذَا الْحَدِيثَ صَحِيحًا ، فَإِنِّي لَمْ أَرَهُ فِي غَيْرِ كِتَابِ ابْنِ عَقِيلٍ ، وَأَحْمَدُ قَدْ صَارَ إلَى خِلَافِهِ ، وَكَرِهَ أَنْ يَكُونَ الْوَاحِدُ صَفًّا ، وَلَوْ عَلِمَ أَحْمَدُ فِي هَذَا حَدِيثًا لَمْ يَعْدُهُ إلَى غَيْرِهِ .
وَالصَّحِيحُ فِي هَذَا أَنْ يَجْعَلَ كُلَّ اثْنَيْنِ صَفًّا .

( 1570 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ تَسْوِيَةُ الصَّفِّ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَقِيلَ لِعَطَاءٍ : أُخِذَ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَصُفُّوا عَلَى الْجِنَازَةِ كَمَا يَصُفُّونَ فِي الصَّلَاةِ ؟ قَالَ : لَا ، قَوْمٌ يَدْعُونَ وَيَسْتَغْفِرُونَ وَلَمْ يُعْجِبْ أَحْمَدَ ، قَوْلُ عَطَاءٍ هَذَا .
وَقَالَ يُسَوُّونَ صُفُوفَهُمْ ، فَإِنَّهَا صَلَاةٌ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَى النَّجَاشِيَّ فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ ، وَخَرَجَ إلَى الْمُصَلَّى ، فَصَفَّ بِهِمْ ، وَكَبَّرَ أَرْبَعًا .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ أَنَّهُ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ ، فَالْتَفَتَ ، فَقَالَ اسْتَوُوا لِتَحْسُنَ شَفَاعَتُكُمْ .

( 1571 ) فَصْلٌ : وَلَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ فِي الْمَسْجِدِ إذَا لَمْ يُخَفْ تَلْوِيثُهُ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُد وَكَرِهَ ذَلِكَ مَالِكٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فِي الْمَسْجِدِ فَلَا شَيْءَ لَهُ } مِنْ الْمُسْنَدِ .
وَلَنَا مَا رَوَى مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : مَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سُهَيْلِ ابْنِ بَيْضَاءَ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ .
وَقَالَ سَعِيدٌ : حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ سَالِمٍ أَبِي النَّضْرِ قَالَ : لَمَّا مَاتَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَتْ عَائِشَةُ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مُرُّوا بِهِ عَلَيَّ حَتَّى أَدْعُوَ لَهُ .
فَأَنْكَرَ النَّاسُ ذَلِكَ ، فَقَالَتْ : مَا أَسْرَعَ مَا نَسِيَ النَّاسُ ، مَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سُهَيْلِ ابْنِ بَيْضَاءَ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ .
وَقَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ : صُلِّيَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ فِي الْمَسْجِدِ وَقَالَ : حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : صُلِّيَ عَلَى عُمَرَ فِي الْمَسْجِدِ وَهَذَا كَانَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَلَمْ يُنْكَرْ ، فَكَانَ إجْمَاعًا ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ فَلَمْ يُمْنَعْ مِنْهَا فِي الْمَسْجِدِ كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ ، وَحَدِيثُهُمْ يَرْوِيهِ صَالِحٌ مَوْلَى التَّوْأَمَةِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَنْ لَا يَقْبَلُ مِنْ حَدِيثِهِ شَيْئًا لِضَعْفِهِ ، لِأَنَّهُ اخْتَلَطَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْبَلُ مِنْهُ مَا رَوَاهُ عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ خَاصَّةً ، ثُمَّ يُحْمَلُ عَلَى مَنْ خِيفَ عَلَيْهِ الِانْفِجَارُ ، وَتَلْوِيثُ الْمَسْجِدِ .

( 1572 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا الصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ فِي الْمَقْبَرَةِ فَعَنْ أَحْمَدَ فِيهَا رِوَايَتَانِ .
إحْدَاهُمَا : لَا بَأْسَ بِهَا ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى قَبْرٍ وَهُوَ فِي الْمَقْبَرَةِ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ ذَكَرَ نَافِعٌ أَنَّهُ صُلِّيَ عَلَى عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ وَسْطَ قُبُورِ الْبَقِيعِ صَلَّى عَلَى عَائِشَةَ أَبُو هُرَيْرَةَ ، وَحَضَرَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ وَفَعَلَ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ : يُكْرَهُ ذَلِكَ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : وَالْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إلَّا الْمَقْبَرَةَ وَالْحَمَّامَ } وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَوْضِعٍ لِلصَّلَاةِ غَيْرِ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ فَكُرِهَتْ فِيهِ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ كَالْحَمَّامِ .

( 1573 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَمَنْ فَاتَهُ شَيْءٌ مِنْ التَّكْبِيرِ قَضَاهُ مُتَتَابِعًا ، فَإِنْ سَلَّمَ مَعَ الْإِمَامِ وَلَمْ يَقْضِ ، فَلَا بَأْسَ وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَسْبُوقَ بِتَكْبِيرِ الصَّلَاةِ فِي الْجِنَازَةِ يُسَنُّ لَهُ قَضَاءُ مَا فَاتَهُ مِنْهَا .
وَمِمَّنْ قَالَ : يَقْضِي مَا فَاتَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَعَطَاءٌ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَابْنُ سِيرِينَ ، وَقَتَادَةُ ، وَمَالِكٌ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ فَإِنْ سَلَّمَ قَبْلَ الْقَضَاءِ فَلَا بَأْسَ .
هَذَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ ، وَالْحَسَنِ ، وَأَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ قَالُوا : لَا يَقْضِي مَا فَاتَ مِنْ تَكْبِيرَةِ الْجِنَازَةِ .
قَالَ أَحْمَدُ : إذَا لَمْ يَقْضِ لَمْ يُبَالِ .
الْعُمَرِيُّ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ لَا يَقْضِي .
وَإِنْ كَبَّرَ مُتَتَابِعًا فَلَا بَأْسَ .
كَذَلِكَ قَالَ إبْرَاهِيمُ وَقَالَ أَيْضًا يُبَادِرُ بِالتَّكْبِيرِ قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَ وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ إنْ سَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَهُ فَهَلْ تَصِحُّ صَلَاتُهُ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ ؛ إحْدَاهُمَا : لَا تَصِحُّ .
وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا ، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا } وَفِي لَفْظٍ : " فَاقْضُوا " وَقِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الصَّلَوَاتِ .
وَلَنَا ، قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنِّي أُصَلِّي عَلَى الْجِنَازَةِ ، وَيَخْفَى عَلَيَّ بَعْضُ التَّكْبِيرِ ؟ قَالَ { : مَا سَمِعْتِ فَكَبِّرِي ، وَمَا فَاتَكِ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْكِ } وَهَذَا صَرِيحٌ .
وَلِأَنَّهَا تَكْبِيرَاتٌ مُتَوَالِيَاتٌ حَالَ الْقِيَامِ ، فَلَمْ يَجِبْ قَضَاءُ مَا فَاتَهُ مِنْهَا ، كَتَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ ، وَحَدِيثُهُمْ وَرَدَ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي صَدْرِ الْحَدِيثِ : { وَلَا تَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَسْعَوْنَ } وَرُوِيَ أَنَّهُ سَعَى فِي جِنَازَةِ سَعْدٍ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ ، فَعُلِمَ ،

أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِالْحَدِيثِ هَذِهِ الصَّلَاةَ ، ثُمَّ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَيْنَاهُ أَخَصُّ مِنْهُ ، فَيَجِبُ تَقْدِيمُهُ .
وَالْقِيَاسُ عَلَى سَائِرِ الصَّلَوَاتِ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْضِي فِي شَيْءٍ مِنْ الصَّلَوَاتِ التَّكْبِيرَ الْمُنْفَرِدَ ، ثُمَّ يَبْطُلُ بِتَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ مَتَى قَضَى أَتَى بِالتَّكْبِيرِ مُتَوَالِيًا ، لَا ذِكْرَ مَعَهُ كَذَلِكَ قَالَ أَحْمَدُ وَحَكَاهُ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ : يُبَادِرُ بِالتَّكْبِيرِ مُتَتَابِعًا ، وَإِنْ لَمْ يَرْفَعْ قَضَى مَا فَاتَهُ ، وَإِذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي الدُّعَاءِ عَلَى الْمَيِّتِ تَابَعَهُ فِيهِ ، فَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ كَبَّرَ ، وَقَرَأَ الْفَاتِحَةَ ، ثُمَّ كَبَّرَ وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَبَّرَ وَسَلَّمَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : مَتَى دَخَلَ الْمَسْبُوقُ فِي الصَّلَاةِ ابْتَدَأَ الْفَاتِحَةَ ثُمَّ أَتَى بِالصَّلَاةِ فِي الثَّانِيَةِ .
وَوَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ الْمَسْبُوقَ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ يَقْرَأُ فِيمَا يَقْضِيهِ الْفَاتِحَةَ وَسُورَةً ، عَلَى صِفَةِ مَا فَاتَهُ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ هَاهُنَا بِالْقِرَاءَةِ عَلَى صِفَةِ مَا فَاتَهُ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

( 1574 ) فَصْلٌ : وَإِذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِيمَا بَيْنَ تَكْبِيرَتَيْنِ فَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَنْتَظِرُ الْإِمَامَ حَتَّى يُكَبِّرَ مَعَهُ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ؛ لِأَنَّ التَّكْبِيرَاتِ كَالرَّكَعَاتِ ، ثُمَّ لَوْ فَاتَتْهُ رَكْعَةٌ لَمْ يَتَشَاغَلْ بِقَضَائِهَا ، وَكَذَلِكَ إذَا فَاتَتْهُ تَكْبِيرَةٌ .
وَالثَّانِيَةُ ، يُكَبِّرُ وَلَا يَنْتَظِرْ .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ مَتَى أَدْرَكَ الْإِمَامَ كَبَّرَ مَعَهُ ، وَلَمْ يَنْتَظِرْ ، وَلَيْسَ هَذَا اشْتِغَالًا بِقَضَاءِ مَا فَاتَهُ ، وَإِنَّمَا يُصَلِّي مَعَهُ مَا أَدْرَكَهُ ، فَيُجْزِئُهُ ، كَاَلَّذِي عَقِيبَ تَكْبِيرِ الْإِمَامِ ، أَوْ يَتَأَخَّرُ عَنْ ذَلِكَ قَلِيلًا .
وَعَنْ مَالِكٍ كَالرِّوَايَتَيْنِ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : سَهَّلَ أَحْمَدُ فِي الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا وَمَتَى أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى فَكَبَّرَ ، وَشَرَعَ فِي الْقِرَاءَةِ ، ثُمَّ كَبَّرَ الْإِمَامُ قَبْلَ أَنْ يُتِمَّهَا ، فَإِنَّهُ يُكَبِّرُ ، وَيُتَابِعُهُ ، وَيَقْطَعُ الْقِرَاءَةَ كَالْمَسْبُوقِ فِي بَقِيَّةِ الصَّلَوَاتِ ، إذَا رَكَعَ الْإِمَامُ قَبْلَ إتْمَامِ الْقِرَاءَةِ .

( 1575 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَيُدْخَلُ قَبْرَهُ مِنْ عِنْدِ رِجْلَيْهِ إنْ كَانَ أَسْهَلَ عَلَيْهِمْ ) الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ " رِجْلَيْهِ " يَعُودُ إلَى الْقَبْرِ .
أَيْ : مِنْ عِنْدِ مَوْضِعِ الرِّجْلَيْنِ .
وَذَلِكَ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ أَنْ يُوضَعَ رَأْسُ الْمَيِّتِ عِنْدَ رِجْلِ الْقَبْرِ ، ثُمَّ يُسَلُّ سَلًّا إلَى الْقَبْرِ .
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، وَأَنَسٍ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْأَنْصَارِيِّ ، وَالنَّخَعِيِّ ، وَالشَّعْبِيِّ ، وَالشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ تُوضَعُ الْجِنَازَةُ عَلَى جَانِبِ الْقَبْرِ ، مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ ، ثُمَّ يُدْخَلُ الْقَبْرَ مُعْتَرِضًا ؛ لِأَنَّهُ يُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلِأَنَّ النَّخَعِيّ قَالَ : حَدَّثَنِي مَنْ رَأَى أَهْلَ الْمَدِينَةِ فِي الزَّمَنِ الْأَوَّلِ يُدْخِلُونَ مَوْتَاهُمْ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ وَأَنَّ السَّلَّ شَيْءٌ أَحْدَثَهُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْأَنْصَارِيِّ ، { أَنَّ الْحَارِثَ أَوْصَى أَنْ يَلِيَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ ، فَصَلَّى عَلَيْهِ ، ثُمَّ دَخَلَ الْقَبْرَ ، فَأَدْخَلَهُ مِنْ رِجْلَيْ الْقَبْرِ ، وَقَالَ : هَذَا السُّنَّةُ .
} وَهَذَا يَقْتَضِي سُنَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُلَّ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ سَلًّا .
} وَمَا ذُكِرَ عَنْ النَّخَعِيِّ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ مَذْهَبَهُ بِخِلَافِهِ ، وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَى الْعَدَدِ الْكَثِيرِ أَنْ يُغَيِّرُوا سُنَّةً ظَاهِرَةً فِي الدَّفْنِ إلَّا بِسَبَبٍ ظَاهِرٍ ، أَوْ سُلْطَانٍ قَاهِرٍ .
قَالَ : وَلَمْ يُنْقَلْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ ، وَلَوْ ثَبَتَ فَسُنَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى فِعْلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَإِنْ كَانَ الْأَسْهَلُ عَلَيْهِمْ أَخْذَهُ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ ، أَوْ مِنْ رَأْسِ الْقَبْرِ ، فَلَا حَرَجَ فِيهِ ، لِأَنَّ اسْتِحْبَابَ أَخْذِهِ مِنْ رِجْلَيْ الْقَبْرِ ، إنَّمَا كَانَ طَلَبًا لِلسُّهُولَةِ عَلَيْهِمْ ، وَالرِّفْقِ بِهِمْ فَإِذَا

كَانَ الْأَسْهَلُ غَيْرَهُ كَانَ مُسْتَحَبًّا .
قَالَ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : كُلٌّ لَا بَأْسَ بِهِ .

( 1576 ) فَصْلٌ : قَالَ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : يُعَمَّقُ الْقَبْرُ إلَى الصَّدْرِ ، الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ .
كَانَ الْحَسَنُ ، وَابْنُ سِيرِينَ يَسْتَحِبَّانِ أَنْ يُعَمَّقُ الْقَبْرُ إلَى الصَّدْرِ .
وَقَالَ سَعِيدٌ حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُهَاجِرٍ ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَمَّا مَاتَ ابْنُهُ ، أَمَرَهُمْ أَنْ يَحْفِرُوا قَبْرَهُ إلَى السُّرَّةِ وَلَا يُعَمِّقُوا ، فَإِنَّ مَا عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَفْضَلُ مِمَّا سَفَلَ مِنْهَا .
وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُعَمَّقَ قَدْرَ قَامَةٍ وَبَسْطَةً .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { احْفِرُوا ، وَأَوْسِعُوا ، وَأَعْمِقُوا } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَلِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَوْصَى بِذَلِكَ فِي قَبْرِهِ ، وَلِأَنَّهُ أَحْرَى أَنْ لَا تَنَالَهُ السِّبَاعُ ، وَأَبْعَدُ عَلَى مَنْ يَنْبُشُهُ .
وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ تَعْمِيقُهُ إلَى الصَّدْرِ ، لِأَنَّ التَّعْمِيقَ قَدْرَ قَامَةٍ وَبَسْطَةٍ يَشُقُّ ، وَيَخْرُجُ عَنْ الْعَادَةِ .
وَقَوْلُ النَّبِيِّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( أَعْمِقُوا ) لَيْسَ فِيهِ بَيَانٌ لِقَدْرِ التَّعْمِيقِ ، وَلَمْ يَصِحَّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ أَوْصَى بِذَلِكَ فِي قَبْرِهِ ، وَلَوْ صَحَّ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ لَمْ يَعْدُهُ إلَى غَيْرِهِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَحْسِينُهُ وَتَعْمِيقُهُ وَتَوْسِيعُهُ ؛ لِلْخَبَرِ .
وَقَدْ رَوَى زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ ، قَالَ : وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَبْرٍ ، فَقَالَ : ( اصْنَعُوا كَذَا ، اصْنَعُوا كَذَا ) ، ثُمَّ قَالَ : { مَا بِي أَنْ يَكُونَ يُغْنِي عَنْهُ شَيْئًا ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إذَا عُمِلَ الْعَمَلُ أَنْ يُحْكَمَ } قَالَ مَعْمَرُ وَبَلَغَنِي أَنَّهُ قَالَ : " وَلَكِنَّهُ أَطْيَبُ لِأَنْفُسِ أَهْلِهِ " رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ .

( 1577 ) فَصْلٌ : وَالسُّنَّةُ أَنْ يُلْحَدَ قَبْرُ الْمَيِّتِ ، كَمَا صُنِعَ بِقَبْرِ النَّبِيِّ .
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ الْحَدُوا لِي لَحْدًا ، وَانْصِبُوا عَلَيَّ اللَّبِنَ نَصْبًا ، كَمَا صُنِعَ بِرَسُولِ اللَّهِ .
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَمَعْنَى اللَّحْدِ ، أَنَّهُ إذَا بَلَغَ أَرْضَ الْقَبْرِ حَفَرَ فِيهِ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ مَكَانًا يُوضَعُ الْمَيِّتُ فِيهِ ، فَإِنْ كَانَتْ الْأَرْضُ رَخْوَةً جَعَلَ لَهُ مِنْ الْحِجَارَةِ شِبْهَ اللَّحْدِ .
قَالَ أَحْمَدُ وَلَا أُحِبُّ الشَّقَّ .
لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { اللَّحْدُ لَنَا ، وَالشَّقُّ لِغَيْرِنَا } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ : هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ اللَّحْدُ شُقَّ لَهُ فِي الْأَرْضِ ، وَمَعْنَى الشَّقِّ أَنْ يَحْفِرَ فِي أَرْضِ الْقَبْرِ شَقًّا يَضَعُ الْمَيِّتَ فِيهِ ، وَيَسْقُفَهُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ ، وَيَضَعَ الْمَيِّتَ فِي اللَّحْدِ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ ، مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ بِوَجْهِهِ ، وَيَضَعَ تَحْتَ رَأْسِهِ لَبِنَةً ، أَوْ حَجَرًا ، أَوْ شَيْئًا مُرْتَفِعًا ، كَمَا يَصْنَعُ الْحَيُّ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : إذَا جَعَلْتُمُونِي فِي اللَّحْدِ فَأَفْضُوا بِخَدِّي إلَى الْأَرْضِ .
وَيُدْنَى مِنْ الْحَائِطِ لِئَلَّا يَنْكَبَّ عَلَى وَجْهِهِ وَيُسْنَدُ مِنْ وَرَائِهِ بِتُرَابٍ ، لِئَلَّا يَنْقَلِبَ .
قَالَ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : مَا أُحِبُّ أَنْ يُجْعَلَ فِي الْقَبْرِ مُضَرَّبَةٌ وَلَا مِخَدَّةٌ .
وَقَدْ جُعِلَ فِي قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطِيفَةٌ حَمْرَاءُ ، فَإِنْ جَعَلُوا قَطِيفَةً فَلِعِلَّةٍ ، فَإِذَا فَرَغُوا نَصَبُوا عَلَيْهِ اللَّبِنَ نَصْبًا .
وَيُسَدُّ خَلَلُهُ بِالطِّينِ لِئَلَّا يَصِلَ إلَيْهِ التُّرَابُ ، وَإِنْ جَعَلَ مَكَانَ اللَّبِنِ قَصَبًا ، فَحَسَنٌ .
لِأَنَّ الشَّعْبِيَّ قَالَ : جُعِلَ عَلَى لَحْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طُنُّ قَصَبٍ ، فَإِنِّي رَأَيْتُ الْمُهَاجِرِينَ يَسْتَحِبُّونَ ذَلِكَ

.
قَالَ الْخَلَّالُ : كَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَمِيلُ إلَى اللَّبِنِ ، وَيَخْتَارُهُ عَلَى الْقَصَبِ ، ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ .
وَمَالَ إلَى اسْتِحْبَابِ الْقَصَبِ عَلَى اللَّبِنِ ، وَأَمَّا الْخَشَبُ فَكَرِهَهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ .
وَرَخَّصَ فِيهِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ إذَا لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُ ، وَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ اسْتِحْبَابُ اللَّبِنِ ، وَتَقْدِيمُهُ عَلَى الْقَصَبِ ؛ لِقَوْلِ سَعْدٍ : انْصِبُوا عَلَيَّ اللَّبِنَ نَصْبًا ، كَمَا صُنِعَ بِرَسُولِ اللَّهِ .
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَوْلُ سَعْدٍ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ الشَّعْبِيِّ فَإِنَّ الشَّعْبِيَّ لَمْ يَرَ ، وَلَمْ يَحْضُرْ ، وَأَيُّهُمَا فَعَلَهُ كَانَ حَسَنًا .
قَالَ حَنْبَلٌ : قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَبِنٌ ؟ قَالَ يُنْصَبُ عَلَيْهِ الْقَصَبُ وَالْحَشِيشُ ، وَمَا أَمْكَنَ مِنْ ذَلِكَ ، ثُمَّ يُهَالُ عَلَيْهِ التُّرَابُ .

( 1578 ) فَصْلٌ : رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ حَضَرَ جِنَازَةً ، فَلَمَّا أُلْقِيَ عَلَيْهَا التُّرَابُ ، قَامَ إلَى الْقَبْرِ ، فَحَثَى عَلَيْهِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى مَكَانِهِ وَقَالَ : قَدْ جَاءَ عَنْ عَلِيٍّ وَصَحَّ ، أَنَّهُ حَثَى عَلَى قَبْرِ ابْنِ مُكَفِّفٍ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : إنْ فَعَلَ فَحَسَنٌ ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلَا بَأْسَ .
وَوَجْهُ اسْتِحْبَابِهِ مَا رُوِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ ، ثُمَّ أَتَى قَبْرَ الْمَيِّتِ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ ، فَحَثَى عَلَيْهِ ثَلَاثًا .
} أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ .
وَعَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ فَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا ، ثُمَّ أَتَى الْقَبْرَ فَحَثَى عَلَيْهِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ وَهُوَ قَائِمٌ عِنْدَ رَأْسِهِ .
} رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ .
وَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَثَى عَلَى الْمَيِّتِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ بِيَدَيْهِ جَمِيعًا .
} أَخْرَجَهُ الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَدِهِ .
وَفَعَلَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّهُ لَمَّا دَفَنَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ حَثَى فِي قَبْرِهِ ثَلَاثًا ، وَقَالَ : هَكَذَا يَذْهَبُ الْعِلْمُ .

( 1579 ) فَصْلٌ : وَيَقُولُ حِينَ يَضَعُهُ فِي قَبْرِهِ مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا أُدْخِلَ الْمَيِّتُ الْقَبْرَ ، قَالَ : بِسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرُوِيَ وَعَلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ .
وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ : { حَضَرْتُ ابْنَ عُمَرَ فِي جِنَازَةٍ فَلَمَّا وَضَعَهَا فِي اللَّحْدِ ، قَالَ : بِسْمِ اللَّهِ ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا أَخَذَ فِي تَسْوِيَةِ اللَّبِنِ عَلَى اللَّحْدِ ، قَالَ : اللَّهُمَّ أَجِرْهَا مِنْ الشَّيْطَانِ ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ ، اللَّهُمَّ جَافِ الْأَرْضَ عَنْ جَنْبَيْهَا ، وَصَعِّدْ رُوحَهَا ، وَلَقِّهَا مِنْكَ رِضْوَانًا قُلْتُ : يَا ابْنَ عُمَرَ أَشَيْءٌ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ قُلْتَهُ بِرَأْيِكَ ؟ قَالَ : إنِّي إذًا لَقَادِرٌ عَلَى الْقَوْلِ ، بَلْ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ .
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ إذَا سُوِّيَ عَلَى الْمَيِّتِ قَالَ : اللَّهُمَّ أَسْلَمَهُ إلَيْكَ الْأَهْلُ وَالْمَالُ وَالْعَشِيرَةُ ، وَذَنْبُهُ عَظِيمٌ ، فَاغْفِرْ لَهُ .
رَوَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ .

( 1580 ) فَصْلٌ : إذَا مَاتَ فِي سَفِينَةٍ فِي الْبَحْرِ فَقَالَ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : يُنْتَظَرُ بِهِ إنْ كَانُوا يَرْجُونَ أَنْ يَجِدُوا لَهُ مَوْضِعًا يَدْفِنُونَهُ فِيهِ ، حَبَسُوهُ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ ، مَا لَمْ يَخَافُوا عَلَيْهِ الْفَسَادَ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدُوا غُسِّلَ ، وَكُفِّنَ ، وَحُنِّطَ ، وَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَيُثَقَّلُ بِشَيْءٍ ، وَيُلْقَى فِي الْمَاءِ .
وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ ، وَالْحَسَنِ .
قَالَ الْحَسَنُ : يُتْرَكُ فِي زِنْبِيلٍ ، وَيُلْقَى فِي الْبَحْرِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُرْبَطُ بَيْنَ لَوْحَيْنِ ؛ لِيَحْمِلَهُ الْبَحْرُ إلَى السَّاحِلِ فَرُبَّمَا وَقَعَ إلَى قَوْمٍ يَدْفِنُونَهُ ، وَإِنْ أَلْقَوْهُ فِي الْبَحْرِ لَمْ يَأْثَمُوا .
وَالْأَوَّلُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ السَّتْرُ الْمَقْصُودُ مِنْ دَفْنِهِ ، وَإِلْقَاؤُهُ بَيْنَ لَوْحَيْنِ تَعْرِيضٌ لَهُ لِلتَّغَيُّرِ وَالْهَتْكِ ، وَرُبَّمَا بَقِيَ عَلَى السَّاحِلِ مَهْتُوكًا عُرْيَانًا ، وَرُبَّمَا وَقَعَ إلَى قَوْمٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ، فَكَانَ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى .

( 1581 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَالْمَرْأَةُ يُخَمَّرُ قَبْرُهَا بِثَوْبٍ ) لَا نَعْلَمُ فِي اسْتِحْبَابِ هَذَا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ سِيرِينَ ، أَنَّ عُمَرَ كَانَ يُغَطِّي قَبْرَ الْمَرْأَةِ .
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ مَرَّ بِقَوْمٍ قَدْ دَفَنُوا مَيِّتًا ، وَبَسَطُوا عَلَى قَبْرِهِ الثَّوْبَ ، فَجَذَبَهُ وَقَالَ : إنَّمَا يُصْنَعُ هَذَا بِالنِّسَاءِ .
وَشَهِدَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ دَفْنَ أَبِي زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ فَخَمَّرَ الْقَبْرَ بِثَوْبٍ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَنَسٍ : ارْفَعُوا الثَّوْبَ ، إنَّمَا يُخَمَّرُ قَبْرُ النِّسَاءِ ، وَأَنَسٌ شَاهِدٌ عَلَى شَفِيرِ الْقَبْرِ لَا يُنْكِرُ .
وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ عَوْرَةٌ ، وَلَا يُؤْمَنُ أَنْ يَبْدُوَ مِنْهَا شَيْءٌ فَيَرَاهُ الْحَاضِرُونَ ، فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ رَجُلًا كُرِهَ سَتْرُ قَبْرِهِ .
لِمَا ذَكَرْنَا .
وَكَرِهَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ وَلَمْ يَكْرَهْهُ أَصْحَابُ الرَّأْيِ وَأَبُو ثَوْرٍ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ فِعْلَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَنَسٍ يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَتِهِ ، وَلِأَنَّ كَشْفَهُ أَمْكَنُ وَأَبْعَدُ مِنْ التَّشَبُّهِ بِالنِّسَاءِ ، مَعَ مَا فِيهِ مِنْ اتِّبَاعِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ .
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

( 1582 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَيُدْخِلُهَا مَحْرَمُهَا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَالنِّسَاءُ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَالْمَشَايِخُ .
) لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أَنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِدْخَالِ الْمَرْأَةِ قَبْرَهَا مَحْرَمُهَا ، وَهُوَ مَنْ كَانَ يَحِلُّ لَهُ النَّظَرُ إلَيْهَا فِي حَيَاتِهَا ، وَلَهَا السَّفَرُ مَعَهُ ، وَقَدْ رَوَى الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَامَ عِنْدَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ تُوُفِّيَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ فَقَالَ : أَلَا إنِّي أَرْسَلْتُ إلَى النِّسْوَةِ مَنْ يُدْخِلُهَا قَبْرَهَا فَأَرْسَلْنَ مَنْ كَانَ يَحِلُّ لَهُ الدُّخُولُ عَلَيْهَا فِي حَيَاتِهَا .
فَرَأَيْتُ أَنْ قَدْ صَدَقْنَ .
وَلَمَّا تُوُفِّيَتْ امْرَأَةُ عُمَرَ قَالَ لِأَهْلِهَا : أَنْتُمْ أَحَقُّ بِهَا وَلِأَنَّ مَحْرَمَهَا أَوْلَى النَّاسِ بِوَلَايَتِهَا فِي الْحَيَاةِ ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ .
وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّ الْأَقَارِبَ يُقَدَّمُونَ عَلَى الزَّوْجِ .
قَالَ الْخَلَّالُ : اسْتَقَامَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ إذَا حَضَرَ الْأَوْلِيَاءُ وَالزَّوْجُ ، فَالْأَوْلِيَاءُ أَحَبُّ إلَيْهِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْأَوْلِيَاءُ فَالزَّوْجُ أَحَقُّ مِنْ الْغَرِيبِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ خَبَرِ عُمَرَ .
وَلِأَنَّ الزَّوْجَ قَدْ زَالَتْ زَوْجِيَّتُهُ بِمَوْتِهَا ، وَالْقَرَابَةُ بَاقِيَةٌ .
وَقَالَ الْقَاضِي : الزَّوْجُ أَحَقُّ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ ، لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَدْخَلَ امْرَأَتَهُ قَبْرَهَا دُونَ أَقَارِبِهَا ، وَلِأَنَّهُ أَحَقُّ بِغُسْلِهَا مِنْهُمْ ، فَكَانَ أَوْلَى بِإِدْخَالِهَا قَبْرَهَا ، كَمَحَلِّ الْوِفَاقِ ، وَأَيُّهُمَا قُدِّمَ فَالْآخَرُ بَعْدَهُ .
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ : أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُدْخِلَهَا النِّسَاءُ ؛ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ لَهُنَّ النَّظَرُ إلَيْهَا ، وَهُنَّ أَحَقُّ بِغُسْلِهَا .
وَعَلَى هَذَا يُقَدَّمُ الْأَقْرَبُ مِنْهُنَّ فَالْأَقْرَبُ ، كَمَا فِي حَقِّ الرَّجُلِ .
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ النِّسَاءَ لَا يَسْتَطِعْنَ أَنْ يَدْخُلْنَ الْقَبْرَ ، وَلَا

يَدْفِنَّ .
وَهَذَا أَصَحُّ وَأَحْسَنُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ مَاتَتْ ابْنَتُهُ أَمَرَ أَبَا طَلْحَةَ فَنَزَلَ فِي قَبْرِهَا .
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { أَيُّكُمْ لَمْ يُقَارِفْ اللَّيْلَةَ ؟ قَالَ أَبُو طَلْحَةَ : أَنَا .
فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَ فَأَدْخَلَهَا قَبْرَهَا } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَرَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النِّسَاءَ فِي جِنَازَةٍ ، فَقَالَ : " هَلْ تَحْمِلْنَ ؟ " قُلْنَ : لَا .
قَالَ : " هَلْ تُدْلِينَ فِي مَنْ يُدْلِي ؟ " قُلْنَ : لَا .
قَالَ { : فَارْجِعْنَ مَأْزُورَاتٍ غَيْرَ مَأْجُورَاتٍ } .
رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
وَهَذَا اسْتِفْهَامُ إنْكَارٍ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ لَهُنَّ بِحَالٍ وَكَيْفَ يُشْرَعُ لَهُنَّ وَقَدْ نَهَاهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ ؟ وَلِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ مَشْرُوعًا لَفُعِلَ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ خُلَفَائِهِ ، وَلَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ ، وَلِأَنَّ الْجِنَازَةَ يَحْضُرُهَا جُمُوعُ الرِّجَالِ ، وَفِي نُزُولِ النِّسَاءِ فِي الْقَبْرِ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ هَتْكٌ لَهُنَّ ، مَعَ عَجْزِهِنَّ عَنْ الدَّفْنِ ، وَضَعْفِهِنَّ عَنْ حَمْلِ الْمَيِّتَةِ وَتَقْلِيبِهَا ، فَلَا يُشْرَعُ .
لَكِنْ إنْ عُدِمَ مَحْرَمُهَا ، اُسْتُحِبَّ ذَلِكَ لِلْمَشَايِخِ ؛ لِأَنَّهُمْ أَقَلُّ شَهْوَةً وَأَبْعَدُ مِنْ الْفِتْنَةِ ، وَكَذَلِكَ مَنْ يَلِيهِمْ مِنْ فُضَلَاءِ النَّاسِ وَأَهْلِ الدِّينِ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَبَا طَلْحَةَ ، فَنَزَلَ فِي قَبْرِ ابْنَتِهِ دُونَ غَيْرِهِ .

( 1583 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا الرَّجُلُ فَأَوْلَى النَّاسِ بِدَفْنِهِ أَوْلَاهُمْ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ مِنْ أَقَارِبِهِ ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ طَلَبُ الْحَظِّ لِلْمَيِّتِ وَالرِّفْقُ بِهِ .
قَالَ عَلِيٌّ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّمَا يَلِي الرَّجُلَ أَهْلُهُ .
وَلَمَّا تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلْحَدَهُ الْعَبَّاسُ ، وَعَلِيٌّ وَأُسَامَةُ .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَلَا تَوْقِيفَ فِي عَدَدِ مَنْ يَدْخُلُ الْقَبْرَ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
فَعَلَى هَذَا يَكُونُ عَدَدُهُمْ عَلَى حَسَبِ حَالِ الْمَيِّتِ وَحَاجَتِهِ وَمَا هُوَ أَسْهَلُ فِي أَمْرِهِ .
وَقَالَ الْقَاضِي : يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ وِتْرًا ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلْحَدَهُ ثَلَاثَةٌ ، وَلَعَلَّ هَذَا كَانَ اتِّفَاقًا أَوْ لِحَاجَتِهِمْ إلَيْهِ .
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي مَرْحَبٍ ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ نَزَلَ فِي قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : كَأَنِّي أَنْظُرُ إلَيْهِمْ أَرْبَعَةً .
وَإِذَا كَانَ الْمُتَوَلِّي فَقِيهًا كَانَ حَسَنًا ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى مَعْرِفَةِ مَا يَصْنَعُهُ فِي الْقَبْرِ .

( 1584 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ ( وَلَا يُشَقُّ الْكَفَنُ فِي الْقَبْرِ ، وَتُحَلُّ الْعُقَدُ .
) أَمَّا شَقُّ الْكَفَنِ فَغَيْرُ جَائِزٍ ، لِأَنَّهُ إتْلَافٌ مُسْتَغْنًى عَنْهُ ، وَلَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِهِ ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا كَفَّنَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُحْسِنْ كَفَنَهُ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَتَخْرِيقُهُ يُتْلِفُهُ ، وَيَذْهَبُ بِحُسْنِهِ .
وَأَمَّا حَلُّ الْعُقَدِ مِنْ عِنْدِ رَأْسِهِ وَرِجْلَيْهِ ، فَمُسْتَحَبٌّ ؛ لِأَنَّ عَقْدَهَا كَانَ لِلْخَوْفِ مِنْ انْتِشَارِهَا ، وَقَدْ أُمِنَ ذَلِكَ بِدَفْنِهِ ، وَقَدْ رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَدْخَلَ نُعَيْمَ بْنَ مَسْعُودٍ الْأَشْجَعِيَّ الْقَبْرَ نَزَعَ الْأَخِلَّةَ بِفِيهِ .
} وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَسَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ نَحْوُ ذَلِكَ .

( 1585 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : " وَلَا يُدْخِلُ الْقَبْرَ آجُرًّا ، وَلَا خَشَبًا ، وَلَا شَيْئًا مَسَّتْهُ النَّارُ " قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ اللَّبِنَ وَالْقَصَبَ مُسْتَحَبٌّ ، وَكَرِهَ أَحْمَدُ الْخَشَبَ .
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ اللَّبِنَ وَيَكْرَهُونَ الْخَشَبَ .
وَلَا يُسْتَحَبُّ الدَّفْنُ فِي تَابُوتٍ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَصْحَابِهِ ، وَفِيهِ تَشَبُّهٌ بِأَهْلِ الدُّنْيَا ، وَالْأَرْضُ أَنْشَفُ لِفَضَلَاتِهِ .
وَيُكْرَهُ الْآجُرُّ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بِنَاءِ الْمُتْرَفِينَ ، وَسَائِرُ مَا مَسَّتْهُ النَّارُ ، تَفَاؤُلًا بِأَنْ لَا تَمَسَّهُ النَّارُ .

( 1586 ) فَصْلٌ : وَإِذَا فَرَغَ مِنْ اللَّحْدِ أَهَالَ عَلَيْهِ التُّرَابَ ، وَيُرْفَعُ الْقَبْرُ عَنْ الْأَرْضِ قَدْرَ شِبْرٍ ؛ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ قَبْرٌ ، فَيُتَوَقَّى وَيُتَرَحَّمَ عَلَى صَاحِبِهِ .
وَرَوَى السَّاجِيُّ ، عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُفِعَ قَبْرُهُ عَنْ الْأَرْضِ قَدْرَ شِبْرٍ .
وَرَوَى الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، قَالَ : قُلْتُ لِعَائِشَةَ : يَا أُمَّهْ اكْشِفِي لِي عَنْ قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبَيْهِ فَكَشَفَتْ لِي عَنْ ثَلَاثَةِ قُبُورٍ ، لَا مُشْرِفَةٍ وَلَا لَاطِئَةٍ ، مَبْطُوحَةٍ بِبَطْحَاءِ الْعَرْصَةِ الْحَمْرَاءِ .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَلَا يُسْتَحَبُّ رَفْعُهُ بِأَكْثَرَ مِنْ تُرَابِهِ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، وَرَوَى بِإِسْنَادِهِ ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ قَالَ : " لَا يُجْعَلُ فِي الْقَبْرِ مِنْ التُّرَابِ أَكْثَرُ مِمَّا خَرَجَ مِنْهُ حِينَ حُفِرَ .
وَرَوَى الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ { : نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُزَادَ عَلَى الْقَبْرِ عَلَى حُفْرَتِهِ } وَلَا يُسْتَحَبُّ رَفْعُ الْقَبْرِ إلَّا شَيْئًا يَسِيرًا ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { : لَا تَدَعْ تِمْثَالًا إلَّا طَمَسْتَهُ ، وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إلَّا سَوَّيْتَهُ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ .
وَالْمُشْرِفُ مَا رُفِعَ كَثِيرًا ، بِدَلِيلِ قَوْلِ الْقَاسِمِ فِي صِفَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبَيْهِ : لَا مُشْرِفَةٍ ، وَلَا لَاطِئَةٍ .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُرَشَّ عَلَى الْقَبْرِ مَاءٌ لِيَلْتَزِقَ تُرَابُهُ .
قَالَ أَبُو رَافِعٍ { سَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَعْدًا وَرَشَّ عَلَى قَبْرِهِ مَاءً .
} رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
وَعَنْ جَابِرٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَشَّ عَلَى قَبْرِهِ مَاءً } رَوَاهُمَا الْخَلَّالُ جَمِيعًا .

( 1587 ) فَصْلٌ : وَلَا بَأْسَ بِتَعْلِيمِ الْقَبْرِ بِحَجَرٍ أَوْ خَشَبَةٍ .
قَالَ أَحْمَدُ لَا بَأْسَ أَنْ يُعَلِّمَ الرَّجُلُ الْقَبْرَ عَلَامَةً يَعْرِفُهُ بِهَا ، وَقَدْ عَلَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْرَ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادِهِ عَنْ الْمُطَّلِبِ قَالَ { : لَمَّا مَاتَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ أُخْرِجَ بِجِنَازَتِهِ ، فَدُفِنَ ، أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا أَنْ يَأْتِيَهُ بِحَجَرٍ فَلَمْ يَسْتَطِعْ حَمْلَهُ ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَسَرَ عَنْ ذِرَاعَيْهِ ، ثُمَّ حَمَلَهَا ، فَوَضَعَهَا عِنْدَ رَأْسِهِ ، وَقَالَ : أُعَلِّمُ بِهَا قَبْرَ أَخِي ، وَأَدْفِنُ إلَيْهِ مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِهِ } وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ رِوَايَةِ أَنَسٍ .

( 1588 ) فَصْلٌ : وَتَسْنِيمُ الْقَبْرِ أَفْضَلُ مِنْ تَسْطِيحِهِ .
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَالثَّوْرِيُّ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : تَسْطِيحُهُ أَفْضَلُ .
قَالَ : وَبَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَطَّحَ قَبْرَ ابْنِهِ إبْرَاهِيمَ .
وَعَنْ الْقَاسِمِ قَالَ : رَأَيْتُ قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مُسَطَّحَةً .
وَلَنَا مَا رَوَى سُفْيَانُ التَّمَّارُ ، أَنَّهُ قَالَ : رَأَيْتُ قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسَنَّمًا .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ بِإِسْنَادِهِ وَعَنْ الْحَسَنِ مِثْلُهُ وَلِأَنَّ التَّسْطِيحَ يُشْبِهُ أَبْنِيَةَ أَهْلِ الدُّنْيَا ، وَهُوَ أَشْبَهُ بِشِعَارِ أَهْلِ الْبِدَعِ ، فَكَانَ مَكْرُوهًا .
وَحَدِيثُنَا أَثْبَتُ مِنْ حَدِيثِهِمْ وَأَصَحُّ ، فَكَانَ الْعَمَلُ بِهِ أَوْلَى .

( 1589 ) فَصْلٌ : وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ الْوُقُوفِ عَلَى الْقَبْرِ بَعْدَمَا يَدْفِنُ ، يَدْعُو لِلْمَيِّتِ ؟ قَالَ : لَا بَأْسَ بِهِ ، قَدْ وَقَفَ عَلِيٌّ وَالْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ ، وَرَوَى أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادِهِ عَنْ عُثْمَانَ ، قَالَ { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا دَفَنَ الرَّجُلَ وَقَفَ عَلَيْهِ ، فَقَالَ : اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ ، وَاسْأَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ ، فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ } .
وَرَوَى الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ وَمُسْلِمٌ وَالْبُخَارِيُّ عَنْ السَّرِيِّ قَالَ : لَمَّا حَضَرَتْ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ الْوَفَاةُ ، قَالَ : اجْلِسُوا عِنْدَ قَبْرِي قَدْرَ مَا يُنْحَرُ جَزُورٌ ، وَيُقْسَمُ ، فَإِنِّي أَسْتَأْنِسُ بِكُمْ .

( 1590 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا التَّلْقِينُ بَعْدَ الدَّفْنِ فَلَمْ أَجِدْ فِيهِ عَنْ أَحْمَدَ شَيْئًا ، وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ لِلْأَئِمَّةِ قَوْلًا ، سِوَى مَا رَوَاهُ الْأَثْرَمُ قَالَ : قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَهَذَا الَّذِي يَصْنَعُونَ إذَا دُفِنَ الْمَيِّتُ ، يَقِفُ الرَّجُلُ ، وَيَقُولُ : يَا فُلَانُ بْنَ فُلَانَةَ ، اُذْكُرْ مَا فَارَقْتَ عَلَيْهِ ، شَهَادَةَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ؟ فَقَالَ : مَا رَأَيْتُ أَحَدًا فَعَلَ هَذَا إلَّا أَهْلَ الشَّامِ ، حِينَ مَاتَ أَبُو الْمُغِيرَةِ جَاءَ إنْسَانٌ ، فَقَالَ ذَاكَ .
قَالَ : وَكَانَ أَبُو الْمُغِيرَةِ يَرْوِي فِيهِ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ ، عَنْ أَشْيَاخِهِمْ ، أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَهُ ، وَكَانَ ابْنُ عَيَّاشٍ يَرْوِي فِيهِ ، ثُمَّ قَالَ فِيهِ : إنَّمَا لِأُثْبِتَ عَذَابَ الْقَبْرِ .
قَالَ الْقَاضِي ، وَأَبُو الْخَطَّابِ : يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ .
وَرَوَيَا فِيهِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : إذَا مَاتَ أَحَدُكُمْ ، فَسَوَّيْتُمْ عَلَيْهِ التُّرَابَ ، فَلْيَقِفْ أَحَدُكُمْ عِنْدَ رَأْسِ قَبْرِهِ ، ثُمَّ لِيَقُلْ : يَا فُلَانُ بْنَ فُلَانَةَ فَإِنَّهُ يَسْمَعُ ، وَلَا يُجِيبُ ، ثُمَّ لِيَقُلْ : يَا فُلَانُ بْنَ فُلَانَةَ الثَّانِيَةَ ، فَيَسْتَوِي قَاعِدًا ، ثُمَّ لِيَقُلْ : يَا فُلَانُ بْنَ فُلَانَةَ ، فَإِنَّهُ يَقُولُ : أَرْشِدْنَا يَرْحَمُكَ اللَّهُ ، وَلَكِنْ لَا تَسْمَعُونَ .
فَيَقُولُ : اُذْكُرْ مَا خَرَجْتَ عَلَيْهِ مِنْ الدُّنْيَا ، شَهَادَةَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، وَأَنَّكَ رَضِيتَ بِاَللَّهِ رَبًّا ، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا ، وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيًّا ، وَبِالْقُرْآنِ إمَامًا .
فَإِنَّ مُنْكَرًا وَنَكِيرًا يَتَأَخَّرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيَقُولُ : انْطَلِقْ ، فَمَا يُقْعِدُنَا عِنْدَ هَذَا وَقَدْ لُقِّنَ حُجَّتَهُ ، وَيَكُونُ اللَّهُ تَعَالَى حُجَّتَهُ دُونَهُمَا فَقَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ اسْمَ أُمِّهِ ؟ قَالَ : فَلْيَنْسُبْهُ إلَى حَوَّاءَ } رَوَاهُ ابْنُ شَاهِينَ فِي ( كِتَابِ ذِكْرِ

الْمَوْتِ ) بِإِسْنَادِهِ .

( 1591 ) فَصْلٌ : سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ تَطْيِينِ الْقُبُورِ فَقَالَ : أَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ .
وَرَخَّصَ فِي ذَلِكَ الْحَسَنُ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَرَوَى أَحْمَدُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَتَعَاهَدُ قَبْرَ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ .
قَالَ نَافِعٌ وَتُوُفِّيَ ابْنٌ لَهُ وَهُوَ غَائِبٌ ، فَقَدِمَ فَسَأَلَنَا عَنْهُ ، فَدَلَلْنَاهُ عَلَيْهِ ، فَكَانَ يَتَعَاهَدُ الْقَبْرَ وَيَأْمُرُ بِإِصْلَاحِهِ .
وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَزَالُ الْمَيِّتُ يَسْمَعُ الْأَذَانَ مَا لَمْ يُطَيَّنْ قَبْرُهُ .
أَوْ قَالَ : مَا لَمْ يُطْوَ قَبْرُهُ .
}

( 1592 ) فَصْلٌ : وَيُكْرَهُ الْبِنَاءُ عَلَى الْقَبْرِ ، وَتَجْصِيصُهُ ، وَالْكِتَابَةُ عَلَيْهِ لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " قَالَ : { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ ، وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ ، وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ .
} زَادَ التِّرْمِذِيُّ وَأَنْ يُكْتَبَ عَلَيْهِ .
وَقَالَ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَلِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ زِينَةِ الدُّنْيَا ، فَلَا حَاجَةَ بِالْمَيِّتِ إلَيْهِ .
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى الرُّخْصَةِ فِي طِينِ الْقَبْرِ ، لِتَخْصِيصِهِ التَّجْصِيصَ بِالنَّهْيِ وَنَهَى عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنْ يُبْنَى عَلَى الْقَبْرِ بِآجُرٍّ ، وَأَوْصَى بِذَلِكَ .
وَأَوْصَى الْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ أَنْ لَا تَجْعَلُوا عَلَى قَبْرِي آجُرًّا وَقَالَ إبْرَاهِيمُ كَانُوا يَكْرَهُونَ الْآجُرَّ فِي قُبُورِهِمْ .
وَكَرِهَ أَحْمَدُ أَنْ يُضْرَبَ عَلَى الْقَبْرِ فُسْطَاطٌ وَأَوْصَى أَبُو هُرَيْرَةَ حِينَ حَضَرَهُ الْمَوْتُ أَنْ لَا تَضْرِبُوا عَلَيَّ فُسْطَاطًا .

( 1593 ) فَصْلٌ : وَيُكْرَهُ الْجُلُوسُ عَلَى الْقَبْرِ ، وَالِاتِّكَاءُ عَلَيْهِ ، وَالِاسْتِنَادُ إلَيْهِ ، وَالْمَشْيُ عَلَيْهِ ، وَالتَّغَوُّطُ بَيْنَ الْقُبُورِ ؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَفِي حَدِيثِ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيِّ : { لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ ، وَلَا تُصَلُّوا إلَيْهَا } صَحِيحٌ .
وَذُكِرَ لِأَحْمَدَ أَنَّ مَالِكًا يَتَأَوَّلُ حَدِيثَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُجْلَسَ عَلَى الْقُبُورِ أَيْ لِلْخَلَاءِ .
فَقَالَ : لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ ، وَلَمْ يُعْجِبْهُ رَأْيُ مَالِكٍ وَرَوَى الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَأَنْ أَطَأَ عَلَى جَمْرَةٍ ، أَوْ سَيْفٍ ، أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَطَأَ عَلَى قَبْرِ مُسْلِمٍ ، وَلَا أُبَالِي أَوَسْطَ الْقُبُورِ قَضَيْتُ حَاجَتِي ، أَوْ وَسْطَ السُّوقِ } رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .

( 1594 ) فَصْلٌ : وَلَا يَجُوزُ اتِّخَاذُ السَّرْجِ عَلَى الْقُبُورِ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ ، الْمُتَّخِذَاتِ عَلَيْهِنَّ الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ ، وَلَفْظُهُ : لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ .
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ أُبِيحَ لَمْ يَلْعَنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ فَعَلَهُ ، وَلِأَنَّ فِيهِ تَضْيِيعًا لِلْمَالِ فِي غَيْرِ فَائِدَةٍ ، وَإِفْرَاطًا فِي تَعْظِيمِ الْقُبُورِ أَشْبَهَ تَعْظِيمَ الْأَصْنَامِ وَلَا يَجُوزُ اتِّخَاذُ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ لِهَذَا الْخَبَرِ ؛ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ ، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } يُحَذِّرُ مِثْلَ مَا صَنَعُوا .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَقَالَتْ عَائِشَةُ : إنَّمَا لَمْ يُبْرَزْ قَبْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِئَلَّا يُتَّخَذَ مَسْجِدًا ، وَلِأَنَّ تَخْصِيصَ الْقُبُورِ بِالصَّلَاةِ عِنْدَهَا يُشْبِهُ تَعْظِيمَ الْأَصْنَامِ بِالسُّجُودِ لَهَا ، وَالتَّقَرُّبِ إلَيْهَا ، وَقَدْ رَوَيْنَا أَنَّ ابْتِدَاءَ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ تَعْظِيمُ الْأَمْوَاتِ ، بِاتِّخَاذِ صُوَرِهِمْ ، وَمَسْحِهَا ، وَالصَّلَاةِ عِنْدَهَا .

( 1595 ) فَصْلٌ : وَالدَّفْنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ أَعْجَبُ إلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مِنْ الدَّفْنِ فِي الْبُيُوتِ ؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ ضَرَرًا عَلَى الْأَحْيَاءِ مِنْ وَرَثَتِهِ ، وَأَشْبَهُ بِمَسَاكِنِ الْآخِرَةِ ، وَأَكْثَرُ لِلدُّعَاءِ لَهُ ، وَالتَّرَحُّمِ عَلَيْهِ .
وَلَمْ يَزَلْ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ يُقْبَرُونَ فِي الصَّحَارِي .
فَإِنْ قِيلَ : فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُبِرَ فِي بَيْتِهِ ، وَقُبِرَ صَاحِبَاهُ مَعَهُ ؟ قُلْنَا : قَالَتْ عَائِشَةُ إنَّمَا فُعِلَ ذَلِكَ لِئَلَّا يُتَّخَذَ قَبْرُهُ مَسْجِدًا .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْفِنُ أَصْحَابَهُ فِي الْبَقِيعِ ، وَفِعْلُهُ أَوْلَى مِنْ فِعْلِ غَيْرِهِ ، وَإِنَّمَا أَصْحَابُهُ رَأَوْا تَخْصِيصَهُ بِذَلِكَ .
وَلِأَنَّهُ رُوِيَ : " يُدْفَنُ الْأَنْبِيَاءُ حَيْثُ يَمُوتُونَ " وَصِيَانَةً لَهُمْ عَنْ كَثْرَةِ الطُّرَّاقِ ، وَتَمْيِيزًا لَهُ عَنْ غَيْرِهِ .

( 1596 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ الدَّفْنُ فِي الْمَقْبَرَةِ الَّتِي يَكْثُرُ فِيهَا الصَّالِحُونَ وَالشُّهَدَاءُ ؛ لِتَنَالَهُ بَرَكَتُهُمْ ، وَكَذَلِكَ فِي الْبِقَاعِ الشَّرِيفَةِ .
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ بِإِسْنَادِهِمَا { أَنَّ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُدْنِيَهُ إلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَوْ كُنْتُ ثَمَّ لَأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ عِنْدَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ .
}

( 1597 ) فَصْلٌ : وَجَمْعُ الْأَقَارِبِ فِي الدَّفْنِ حَسَنٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَمَّا دَفَنَ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ أَدْفِنُ إلَيْهِ مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِهِ } وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَسْهَلُ لِزِيَارَتِهِمْ ، وَأَكْثَرُ لِلتَّرَحُّمِ عَلَيْهِمْ .
وَيُسَنُّ تَقْدِيمُ الْأَبِ ثُمَّ مَنْ يَلِيهِ فِي السِّنِّ وَالْفَضِيلَةِ ، إذَا أَمْكَنَ .

( 1598 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ دَفْنُ الشَّهِيدِ حَيْثُ قُتِلَ قَالَ أَحْمَدُ : أَمَّا الْقَتْلَى فَعَلَى حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { ادْفِنُوا الْقَتْلَى فِي مَصَارِعِهِمْ } وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِقَتْلَى أُحُدٍ أَنْ يُرَدُّوا إلَى مَصَارِعِهِمْ .
فَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَلَا يُنْقَلُ الْمَيِّتُ مِنْ بَلَدِهِ إلَى بَلَدٍ آخَرَ إلَّا لِغَرَضٍ صَحِيحٍ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الْأَوْزَاعِيِّ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ .
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ : تُوُفِّيَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ بِالْحَبَشَةِ ، فَحُمِلَ إلَى مَكَّةَ فَدُفِنَ ، فَلَمَّا قَدِمَتْ عَائِشَةُ أَتَتْ قَبْرَهُ ثُمَّ قَالَتْ : وَاَللَّهِ لَوْ حَضَرْتُكَ مَا دُفِنْتَ إلَّا حَيْثُ مِتَّ ، وَلَوْ شَهِدْتُكَ مَا زُرْتُكَ وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَخَفُّ لِمُؤْنَتِهِ وَأَسْلَمُ لَهُ مِنْ التَّغْيِيرِ .
فَأَمَّا إنْ كَانَ فِيهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ جَازَ .
وَقَالَ أَحْمَدُ : مَا أَعْلَمُ بِنَقْلِ الرَّجُلِ يَمُوتُ فِي بَلَدِهِ إلَى بَلَدٍ أُخْرَى بَأْسًا .
وَسُئِلَ الزُّهْرِيُّ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : قَدْ حُمِلَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ ، وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ ، مِنْ الْعَقِيقِ إلَى الْمَدِينَةِ .
وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ مَاتَ ابْنُ عُمَرَ هُنَا ، فَأَوْصَى أَنْ لَا يُدْفَنَ هَاهُنَا ، وَأَنْ يُدْفَنَ بِسَرِفٍ .

( 1599 ) فَصْلٌ : وَإِذَا تَنَازَعَ اثْنَانِ مِنْ الْوَرَثَةِ ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا : يُدْفَنُ فِي الْمَقْبَرَةِ الْمُسَبَّلَةِ .
وَقَالَ الْآخَرُ : يُدْفَنُ فِي مِلْكِهِ دُفِنَ فِي الْمُسَبَّلَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا مِنَّةَ فِيهِ ، وَهُوَ أَقَلُّ ضَرَرًا عَلَى الْوَارِثِ .
فَإِنْ تَشَاحَّا فِي الْكَفَنِ ، قُدِّمَ قَوْلُ مَنْ قَالَ : نُكَفِّنُهُ مِنْ مِلْكِهِ ؛ لِأَنَّ ضَرَرَهُ عَلَى الْوَارِثِ بِلُحُوقِ الْمِنَّةِ ، وَتَكْفِينُهُ مِنْ مَالِهِ قَلِيلُ الضَّرَرِ .
وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ الرَّجُلِ يُوصِي أَنْ يُدْفَنَ فِي دَارِهِ قَالَ : يُدْفَنُ فِي الْمَقَابِرِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ ، إنْ دُفِنَ فِي دَارِهِ أَضَرَّ بِالْوَرَثَةِ .
وَقَالَ : لَا بَأْسَ أَنْ يَشْتَرِيَ الرَّجُلُ مَوْضِعَ قَبْرِهِ ، وَيُوصِيَ أَنْ يُدْفَنَ فِيهِ ، فَعَلَ ذَلِكَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ ، وَعَائِشَةُ ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ .
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ

( 1600 ) فَصْلٌ : وَإِذَا تَشَاحَّ اثْنَانِ فِي الدَّفْنِ فِي الْمَقْبَرَةِ الْمُسَبَّلَةِ ، قُدِّمَ أَسْبَقُهُمَا ، كَمَا لَوْ تَنَازَعَا فِي مَقَاعِدِ الْأَسْوَاقِ ، وَرِحَابِ الْمَسَاجِدِ ، فَإِنْ تَسَاوَيَا أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا .

( 1601 ) فَصْلٌ : وَإِنْ تَيَقَّنَ أَنَّ الْمَيِّتَ قَدْ بَلِيَ وَصَارَ رَمِيمًا ، جَازَ نَبْشُ قَبْرِهِ ، وَدَفْنُ غَيْرِهِ فِيهِ وَإِنْ شَكَّ فِي ذَلِكَ رَجَعَ إلَى أَهْلِ الْخِبْرَةِ .
فَإِنْ حَفَرَ ، فَوَجَدَ فِيهَا عِظَامًا دَفَنَهَا ، وَحَفَرَ فِي مَكَان آخَرَ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، وَاسْتَدَلَّ بِأَنَّ كَسْرَ عَظْمِ الْمَيِّتِ كَكَسْرِ عَظْمِ الْحَيِّ .
وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ الْمَيِّتِ يُخْرَجُ مِنْ قَبْرِهِ إلَى غَيْرِهِ فَقَالَ : إذَا كَانَ شَيْءٌ يُؤْذِيهِ ، قَدْ حُوِّلَ طَلْحَةُ وَحُوِّلَتْ عَائِشَةُ وَسُئِلَ عَنْ قَوْمٍ دُفِنُوا فِي بَسَاتِينَ وَمَوَاضِعَ رَدِيئَةٍ .
فَقَالَ : قَدْ نَبَشَ مُعَاذٌ امْرَأَتَهُ ، وَقَدْ كَانَتْ كُفِّنَتْ فِي خَلَقَيْنِ فَكَفَنَهَا وَلَمْ يَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بَأْسًا أَنْ يُحَوَّلُوا .

( 1602 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَمَنْ فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ صَلَّى عَلَى الْقَبْرِ ) .
وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ ، فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهَا ، مَا لَمْ تُدْفَنْ ، فَإِنْ دُفِنَتْ ، فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى الْقَبْرِ إلَى شَهْرٍ .
هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِمْ ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي مُوسَى ، وَابْنِ عُمَرَ ، وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْأَوْزَاعِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ النَّخَعِيُّ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَمَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ : لَا تُعَادُ الصَّلَاةُ عَلَى الْمَيِّتِ ، إلَّا لِلْوَلِيِّ إذَا كَانَ غَائِبًا ، وَلَا يُصَلَّى عَلَى الْقَبْرِ إلَّا كَذَلِكَ ، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَكَانَ قَبْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلَّى عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ .
وَلَنَا ، مَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ رَجُلًا مَاتَ ، فَقَالَ : فَدَلُّونِي عَلَى قَبْرِهِ فَأَتَى قَبْرَهُ ، فَصَلَّى عَلَيْهِ .
} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّهُ مَرَّ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَبْرٍ مَنْبُوذٍ ، فَأَمَّهُمْ وَصَلَّوْا خَلْفَهُ .
} قَالَ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَمَنْ شَكَّ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْقَبْرِ يَرْوِي عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ سِتَّةِ وُجُوهٍ كُلُّهَا حِسَانٌ وَلِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ ، فَيُسَنُّ لَهُ الصَّلَاةُ عَلَى الْقَبْرِ ، كَالْوَلِيِّ ، وَقَبْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَى الْقَبْرِ بَعْدَ شَهْرٍ .

( 1603 ) فَصْلٌ : وَمَنْ صَلَّى مَرَّةً فَلَا يُسَنُّ لَهُ إعَادَةُ الصَّلَاةِ عَلَيْهَا .
وَإِذَا صُلِّيَ عَلَى الْجِنَازَةِ مَرَّةً لَمْ تُوضَعْ لِأَحَدٍ يُصَلِّي عَلَيْهَا .
قَالَ الْقَاضِي : لَا يَحْسُنُ بَعْدَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ ، وَيُبَادَرُ بِدَفْنِهِ ، فَإِنْ رُجِيَ مَجِيءُ الْوَلِيِّ أُخِّرَ إلَى أَنْ يَجِيءَ ، إلَّا أَنْ يُخَافَ تَغَيُّرُهُ .
قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ لَا يَنْتَظِرُ بِهِ أَحَدٌ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي طَلْحَةَ بْنِ الْبَرَاءِ { اعْجَلُوا بِهِ ، فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِجِيفَةِ مُسْلِمٍ أَنْ تُحْبَسَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ أَهْلِهِ } فَأَمَّا مَنْ أَدْرَكَ الْجِنَازَةَ مِمَّنْ لَمْ يُصَلِّ ، فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهَا ، فَعَلَ ذَلِكَ عَلِيٌّ ، وَأَنَسٌ ، وَسَلْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ ، وَأَبُو حَمْزَةَ وَمَعْمَرُ بْنُ سَمِيرٍ .

( 1604 ) فَصْلٌ : وَيُصَلَّى عَلَى الْقَبْرِ ، وَتُعَادُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ قَبْلَ الدَّفْنِ جَمَاعَةً وَفُرَادَى .
نَصَّ عَلَيْهِمَا أَحْمَدُ وَقَالَ : وَمَا بَأْسٌ بِذَلِكَ ، قَدْ فَعَلَهُ عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ { انْتَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى قَبْرٍ رَطْبٍ ، فَصَفُّوا خَلْفَهُ ، وَكَبَّرَ أَرْبَعًا .
} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .

( 1605 ) فَصْلٌ : وَتَجُوزُ الصَّلَاةُ عَلَى الْغَائِبِ فِي بَلَدٍ آخَرَ بِالنِّيَّةِ فَيَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ ، وَيُصَلِّي عَلَيْهِ كَصَلَاتِهِ عَلَى حَاضِرٍ ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَيِّتُ فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ أَوْ لَمْ يَكُنْ ، وَسَوَاءٌ كَانَ بَيْنَ الْبَلَدَيْنِ مَسَافَةُ الْقَصْرِ أَوْ لَمْ يَكُنْ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ مَالِكٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَجُوزُ .
وَحَكَى ابْنُ أَبِي مُوسَى عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةً أُخْرَى كَقَوْلِهِمَا ؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ حُضُورَهَا ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ كَانَ فِي الْبَلَدِ لَمْ تَجُزْ الصَّلَاةُ عَلَيْهَا مَعَ غَيْبَتِهَا عَنْهُ .
وَلَنَا ، مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ نَعَى النَّجَاشِيَّ صَاحِبَ الْحَبَشَةِ الْيَوْمَ الَّذِي مَاتَ فِيهِ ، وَصَلَّى بِهِمْ بِالْمُصَلَّى ، فَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا .
} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَيَحْتَمِلُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زُوِيَتْ لَهُ الْأَرْضُ ، فَأُرِيَ الْجِنَازَةَ .
قُلْنَا : هَذَا لَمْ يُنْقَلْ ، وَلَوْ كَانَ لَأَخْبَرَ بِهِ .
وَلَنَا أَنْ نَقْتَدِيَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَمْ يَثْبُتْ مَا يَقْتَضِي اخْتِصَاصَهُ ، وَلِأَنَّ الْمَيِّتَ مَعَ الْبُعْدِ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ وَإِنْ رُئِيَ ، ثُمَّ لَوْ رَآهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَاخْتَصَّتْ الصَّلَاةُ بِهِ ، وَقَدْ صَفَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى بِهِمْ .
فَإِنْ قِيلَ : لَمْ يَكُنْ بِالْحَبَشَةِ مَنْ يُصَلِّي عَلَيْهِ ، قُلْنَا : لَيْسَ هَذَا مَذْهَبَكُمْ ، فَإِنَّكُمْ لَا تُجِيزُونَ الصَّلَاةَ عَلَى الْغَرِيقِ ، وَالْأَسِيرِ ، وَمَنْ مَاتَ بِالْبَوَادِي ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّ هَذَا بَعِيدٌ ؛ لِأَنَّ النَّجَاشِيَّ مَلِكُ الْحَبَشَةِ ، وَقَدْ أَسْلَمَ وَظَهَرَ إسْلَامُهُ ، فَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ لَمْ يُوَافِقْهُ أَحَدٌ يُصَلِّي عَلَيْهِ .

( 1606 ) فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ فِي أَحَدِ جَانِبَيْ الْبَلَدِ لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ مَنْ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ قَالَ : وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي حَفْصٍ الْبَرْمَكِيِّ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْحُضُورُ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ ، أَوْ عَلَى قَبْرِهِ ، وَصَلَّى أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ عَلَى مَيِّتٍ مَاتَ فِي أَحَدِ جَانِبَيْ بَغْدَادَ وَهُوَ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ لِأَنَّهُ غَائِبٌ ، فَجَازَتْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ ، كَالْغَائِبِ فِي بَلَدٍ آخَرَ ، وَهَذَا مُنْتَقِضٌ بِمَا إذَا كَانَ مَعَهُ فِي هَذَا الْجَانِبِ .

( 1607 ) فَصْلٌ : وَتَتَوَقَّفُ الصَّلَاةُ عَلَى الْغَائِبِ بِشَهْرٍ ، كَالصَّلَاةِ عَلَى الْقَبْرِ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ بَقَاؤُهُ مِنْ غَيْرِ تَلَاشٍ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ .
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي أَكِيلِ السَّبُعِ ، وَالْمُحْتَرِقِ بِالنَّارِ : يَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ ؛ لِذَهَابِهِ بِخِلَافِ الضَّائِعِ وَالْغَرِيقِ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ بَقِيَ مِنْهُ مَا يُصَلَّى عَلَيْهِ ، وَيُصَلَّى عَلَيْهِ إذَا غَرِقَ قَبْلَ الْغُسْلِ ، كَالْغَائِبِ فِي بَلَدٍ بَعِيدٍ ؛ لِأَنَّ الْغُسْلَ تَعَذَّرَ لِمَانِعٍ ، أَشْبَهَ الْحَيَّ إذَا عَجَزَ عَنْ الْغُسْلِ وَالتَّيَمُّمِ ، صَلَّى عَلَى حَسَبِ حَالِهِ .

( 1608 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ ( وَإِنْ كَبَّرَ الْإِمَامُ خَمْسًا كَبَّرَ بِتَكْبِيرِهِ ) لَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى سَبْعِ تَكْبِيرَاتٍ ، وَلَا أَنْقَصُ ، مِنْ أَرْبَعٍ وَالْأَوْلَى أَرْبَعٌ لَا يُزَادُ عَلَيْهَا ، وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّ الْإِمَامَ إذَا كَبَّرَ خَمْسًا تَابَعَهُ الْمَأْمُومُ ، وَلَا يُتَابِعُهُ فِي زِيَادَةٍ عَلَيْهَا .
رَوَاهُ الْأَثْرَمُ عَنْ أَحْمَدَ وَرَوَى حَرْبٌ عَنْ أَحْمَدَ إذَا كَبَّرَ خَمْسًا ، لَا يُكَبِّرُ مَعَهُ ، وَلَا يُسَلِّمُ إلَّا مَعَ الْإِمَامِ .
قَالَ الْخَلَّالُ : وَكُلُّ مَنْ رَوَى عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ يُخَالِفُهُ .
وَمِمَّنْ لَمْ يَرَ مُتَابَعَةَ الْإِمَامِ فِي زِيَادَةٍ عَلَى أَرْبَعٍ ؛ الثَّوْرِيُّ ، وَمَالِكٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَاخْتَارَهَا ابْنُ عَقِيلٍ ؛ لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ غَيْرُ مَسْنُونَةٍ لِلْإِمَامِ ، فَلَا يُتَابِعُهُ الْمَأْمُومُ فِيهَا ، كَالْقُنُوتِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى .
وَلَنَا : مَا رُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ أَنَّهُ { كَبَّرَ عَلَى جِنَازَةٍ خَمْسًا ، وَقَالَ : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكَبِّرُهَا .
} أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَغَيْرُهُمَا .
وَفِي رِوَايَةِ سَعِيدٍ : فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ ، فَقَالَ : سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ سَعِيدٌ : ثنا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ يَحْيَى الْجَابِرِيِّ عَنْ عِيسَى مَوْلًى لِحُذَيْفَةَ ، أَنَّهُ كَبَّرَ عَلَى جِنَازَةٍ خَمْسًا فَقِيلَ لَهُ فَقَالَ : مَوْلَايَ وَوَلِيُّ نِعْمَتِي صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ وَكَبَّرَ عَلَيْهَا خَمْسًا .
وَذَكَرَ حُذَيْفَةُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ ذَلِكَ وَرَوَى بِإِسْنَادِهِ أَنَّ عَلِيًّا صَلَّى عَلَى سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ فَكَبَّرَ عَلَيْهِ خَمْسًا .
وَكَانَ أَصْحَابُ مُعَاذٍ يُكَبِّرُونَ عَلَى الْجَنَائِزِ خَمْسًا وَرَوَى الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ : كُلُّ ذَلِكَ قَدْ كَانَ ، أَرْبَعًا وَخَمْسًا وَأَمَرَ النَّاسَ بِأَرْبَعٍ .
قَالَ أَحْمَدُ فِي

إسْنَادِ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ : إسْنَادٌ جَيِّدٌ رَوَاهُ شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُصَلِّينَ مَعَهُ كَانُوا يُتَابِعُونَهُ .
وَرَوَى الْأَثْرَمُ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرِ أَهْلِ بَدْرٍ خَمْسًا ، وَعَلَى سَائِرِ النَّاسِ أَرْبَعًا .
وَهَذَا أَوْلَى مِمَّا ذَكَرُوهُ .
فَأَمَّا إنْ زَادَ الْإِمَامُ عَنْ خَمْسٍ ، فَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يُكَبِّرُ مَعَ الْإِمَامِ إلَى سَبْعٍ .
قَالَ الْخَلَّالُ : ثَبَتَ الْقَوْلُ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ يُكَبِّرُ مَعَ الْإِمَامِ إلَى سَبْعٍ ، ثُمَّ لَا يُزَادُ عَلَى سَبْعٍ ، وَلَا يُسَلِّمُ إلَّا مَعَ الْإِمَامِ .
وَهَذَا قَوْلُ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيّ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ كَبِّرْ مَا كَبَّرَ إمَامُكَ فَإِنَّهُ لَا وَقْتٌ وَلَا عَدَدٌ .
وَوَجْهُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَبَّرَ عَلَى حَمْزَةَ سَبْعًا } رَوَاهُ ابْنُ شَاهِينَ .
وَكَبَّرَ عَلِيٌّ عَلَى جِنَازَةِ أَبِي قَتَادَةَ سَبْعًا وَعَلَى سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ سِتًّا ، وَقَالَ : إنَّهُ بَدْرِيٌّ .
وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَمَعَ النَّاسَ فَاسْتَشَارَهُمْ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : كَبَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْعًا .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : خَمْسًا .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : أَرْبَعًا ، فَجَمَعَ عُمَرُ النَّاسَ عَلَى أَرْبَعِ تَكْبِيرَاتٍ ، وَقَالَ : هُوَ أَطْوَلُ الصَّلَاةِ وَقَالَ الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ : إنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَلَّى عَلَى سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ ، فَكَبَّرَ عَلَيْهِ سِتًّا ، وَكَانُوا يُكَبِّرُونَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ خَمْسًا وَسِتًّا وَسَبْعًا .
فَإِنْ زَادَ عَلَى سَبْعٍ لَمْ يُتَابِعْهُ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد : إنْ زَادَ عَلَى سَبْعٍ يَنْبَغِي أَنْ يُسَبِّحَ بِهِ ، وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ بِالزِّيَادَةِ عَلَى سَبْعٍ إلَّا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ فَإِنَّ

عَلْقَمَةَ رَوَى أَنَّ أَصْحَابَ عَبْدِ اللَّهِ قَالُوا لَهُ : إنَّ أَصْحَابَ مُعَاذٍ يُكَبِّرُونَ عَلَى الْجَنَائِزِ خَمْسًا ، فَلَوْ وَقَّتَّ لَنَا وَقْتًا فَقَالَ : إذَا تَقَدَّمَكُمْ إمَامُكُمْ فَكَبِّرُوا مَا يُكَبِّرُ ، فَإِنَّهُ لَا وَقْتٌ وَلَا عَدَدٌ .
رَوَاهُ سَعِيدٌ وَالْأَثْرَمُ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُزَادُ عَلَى سَبْعٍ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ ، وَلَكِنْ لَا يُسَلِّمُ حَتَّى يُسَلِّمَ إمَامُهُ .
قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ لَا يَخْتَلِفُ قَوْلُ أَحْمَدَ إذَا كَبَّرَ الْإِمَامُ زِيَادَةً عَلَى أَرْبَعٍ ، أَنَّهُ لَا يُسَلِّمُ قَبْلَ إمَامِهِ ، عَلَى الرِّوَايَاتِ الثَّلَاثِ ، بَلْ يَتْبَعُهُ وَيَقِفُ فَيُسَلِّمُ مَعَهُ .
قَالَ الْخَلَّالُ الْعَمَلُ فِي نَصِّ قَوْلِهِ ، وَمَا ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ يُكَبِّرُ مَا كَبَّرَ الْإِمَامُ إلَى سَبْعٍ وَإِنْ زَادَ عَلَى سَبْعٍ فَلَا ، وَلَا يُسَلِّمُ إلَّا مَعَ الْإِمَامِ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي أَنَّهُ لَا يُسَلِّمُ قَبْلَ إمَامِهِ .
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَنْصَرِفُ ، كَمَا لَوْ قَامَ الْإِمَامُ إلَى خَامِسَةٍ ، فَارَقَهُ ، وَلَمْ يَنْتَظِرْ تَسْلِيمَهُ .
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : مَا أَعْجَبَ حَالَ الْكُوفِيِّينَ ، سُفْيَانُ يَنْصَرِفُ إذَا كَبَّرَ الرَّابِعَةَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَبَّرَ خَمْسًا ، وَفَعَلَهُ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ وَحُذَيْفَةُ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ كَبِّرْ مَا كَبَّرَ إمَامُكَ .
وَلِأَنَّ هَذِهِ زِيَادَةُ قَوْلٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ ، فَلَا يُسَلِّمُ قَبْلَ إمَامِهِ إذَا اشْتَغَلَ بِهِ ، كَمَا لَوْ صَلَّى خَلْفَ مَنْ يَقْنُتُ فِي صَلَاةٍ يُخَالِفُهُ الْإِمَامُ فِي الْقُنُوتِ فِيهَا .
وَيُخَالِفُ مَا قَاسُوا عَلَيْهِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا ، أَنَّ الرَّكْعَةَ الْخَامِسَةَ لَا خِلَافَ فِيهَا .
وَالثَّانِي ، أَنَّهَا فِعْلٌ ، وَالتَّكْبِيرَةُ الزَّائِدَةُ بِخِلَافِهَا ، وَكُلُّ تَكْبِيرَةٍ قُلْنَا يُتَابِعُ الْإِمَامَ فِيهَا فَلَهُ فِعْلُهَا ، وَمَا لَا فَلَا .
( 1609 ) فَصْلٌ : وَالْأَفْضَلُ أَنْ لَا يَزِيدَ عَلَى أَرْبَعٍ لِأَنَّ فِيهِ

خُرُوجًا مِنْ الْخِلَافِ ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَرَوْنَ التَّكْبِيرَ أَرْبَعًا ؛ مِنْهُمْ عُمَرُ وَابْنُهُ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ ، وَجَابِرٌ ، وَابْنُ أَبِي أَوْفَى ، وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ ، وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَعُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ ، وَابْنُ الْحَنَفِيَّةِ ، وَعَطَاءٌ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَالشَّافِعِيِّ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَبَّرَ عَلَى النَّجَاشِيِّ أَرْبَعًا .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَكَبَّرَ عَلَى قَبْرٍ بَعْدَمَا دُفِنَ أَرْبَعًا .
وَجَمَعَ عُمَرُ النَّاسَ عَلَى أَرْبَعٍ .
وَلِأَنَّ أَكْثَرَ الْفَرَائِضِ لَا تَزِيدُ عَلَى أَرْبَعٍ ، وَلَا يَجُوزُ النُّقْصَانُ مِنْهَا .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَبَّرَ عَلَى الْجِنَازَةِ ثَلَاثًا ، وَلَمْ يُعْجِبْ ذَلِكَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَقَالَ : قَدْ كَبَّرَ أَنَسٌ ثَلَاثًا نَاسِيًا فَأَعَادَ .
وَلِأَنَّهُ خِلَافُ مَا نُقِلَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ الرُّبَاعِيَّةَ إذَا نَقَصَ مِنْهَا رَكْعَةً بَطَلَتْ ، كَذَلِكَ هَاهُنَا فَإِنْ نَقَصَ مِنْهَا تَكْبِيرَةً عَامِدًا بَطَلَتْ ، كَمَا لَوْ تَرَكَ رَكْعَةً عَمْدًا ، وَإِنْ تَرَكَهَا سَهْوًا احْتَمَلَ أَنْ يُعِيدَهَا ، كَمَا فَعَلَ أَنَسٌ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُكَبِّرَهَا ، مَا لَمْ يَطُلْ الْفَصْلُ ، كَمَا لَوْ نَسِيَ رَكْعَةً ، وَلَا يُشْرَعُ لَهَا سُجُودُ سَهْوٍ فِي الْمَوْضِعَيْنِ .

( 1610 ) فَصْلٌ : قَالَ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ : يُكَبِّرُ عَلَى الْجِنَازَةِ فَيَجِيئُونَ بِأُخْرَى ، يُكَبِّرُ إلَى سَبْعٍ ثُمَّ يَقْطَعُ ، وَلَا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى تُرْفَعَ الْأَرْبَعُ .
قَالَ أَصْحَابُنَا : إذَا كَبَّرَ عَلَى جِنَازَةٍ ، ثُمَّ جِيءَ بِأُخْرَى ، كَبَّرَ الثَّانِيَةَ عَلَيْهِمَا ، وَيَنْوِيهِمَا فَإِنْ جِيءَ بِثَالِثَةٍ كَبَّرَ الثَّالِثَةَ عَلَيْهِنَّ ، وَنَوَاهُنَّ ، فَإِنْ جِيءَ بِرَابِعَةٍ كَبَّرَ الرَّابِعَةَ عَلَيْهِنَّ ، وَنَوَاهُنَّ ، ثُمَّ يُكْمِلُ التَّكْبِيرَ عَلَيْهِنَّ إلَى سَبْعٍ ، لِيَحْصُلَ لِلرَّابِعَةِ أَرْبَعُ تَكْبِيرَاتٍ ، إذْ لَا يَجُوزُ النُّقْصَانُ مِنْهُنَّ ، وَيَحْصُلُ لِلْأُولَى سَبْعٌ ، وَهُوَ أَكْثَرُ مَا يَنْتَهِي إلَيْهِ التَّكْبِيرُ ، فَإِنْ جِيءَ بِخَامِسَةٍ لَمْ يَنْوِهَا بِالتَّكْبِيرِ ، وَإِنْ نَوَاهَا لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ دَائِرٌ بَيْنَ أَنْ يَزِيدَ عَلَى سَبْعٍ أَوْ يَنْقُصَ فِي تَكْبِيرِهَا عَنْ أَرْبَعٍ ، وَكِلَاهُمَا لَا يَجُوزُ ، وَهَكَذَا لَوْ جِيءَ بِثَانِيَةٍ بَعْدَ الرَّابِعَةِ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُكَبِّرَ عَلَيْهَا الْخَامِسَةَ ؛ لِمَا بَيَّنَّا .
فَإِنْ أَرَادَ أَهْلُ الْجِنَازَةِ الْأُولَى رَفْعَهَا قَبْلَ سَلَامِ الْإِمَامِ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ السَّلَامَ رُكْنٌ لَا تَتِمُّ الصَّلَاةُ إلَّا بِهِ .
إذَا تَقَرَّرَ هَذَا ، فَإِنَّهُ يَقْرَأُ فِي التَّكْبِيرَةِ الْخَامِسَةِ الْفَاتِحَةَ ، وَفِي السَّادِسَةِ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَدْعُو فِي السَّابِعَةِ لِيَكْمُلَ لِجَمِيعِ الْجَنَائِزِ الْقِرَاءَةُ وَالْأَذْكَارُ كَمَا كَمُلَ لَهُنَّ التَّكْبِيرَاتُ .
وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ وَجْهًا ثَانِيًا ، قَالَ : وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُكَبِّرَ مَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِ مُتَتَابِعًا ، كَمَا قُلْنَا فِي الْقَضَاءِ لِلْمَسْبُوقِ ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَبَّرَ سَبْعًا ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرْوَ أَنَّهُ قَرَأَ قِرَاءَتَيْنِ .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَةَ وَمَا بَعْدَهَا جَنَائِزُ ، فَيُعْتَبَرُ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِنَّ شُرُوطُ الصَّلَاةِ وَوَاجِبَاتُهَا ، كَالْأُولَى .

( 1611 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَالْإِمَامُ يَقُومُ عِنْدَ صَدْرِ الرَّجُلِ وَوَسَطِ الْمَرْأَةِ ) ، لَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ فِي أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يَقُومَ الْإِمَامُ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ حِذَاءَ وَسَطِ الْمَرْأَةِ ، وَعِنْدَ صَدْرِ الرَّجُلِ أَوْ عِنْدَ مَنْكِبَيْهِ ، وَإِنْ وَقَفَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْقِفِ خَالَفَ سُنَّةَ الْمَوْقِفِ ، وَأَجْزَأَهُ .
وَهَذَا قَوْلُ إِسْحَاقَ ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ إلَّا أَنَّ بَعْضَ أَصْحَابِهِ قَالَ : يَقُومُ عِنْدَ رَأْسِ الرَّجُلِ .
وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٍ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ { أَنَّهُ صَلَّى عَلَى رَجُلٍ ، فَقَامَ عِنْدَ رَأْسِهِ ، ثُمَّ صَلَّى عَلَى امْرَأَةٍ فَقَامَ حِيَالَ وَسَطِ السَّرِيرِ ، فَقَالَ لَهُ الْعَلَاءُ بْنُ زِيَادٍ : هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ عَلَى الْجِنَازَةِ مَقَامَكَ مِنْهَا ، وَمِنْ الرَّجُلِ مَقَامَكَ مِنْهُ ؟ قَالَ : نَعَمْ .
فَلَمَّا فَرَغَ ، قَالَ : احْفَظُوا } .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَقُومُ عِنْدَ صَدْرِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ ؛ لِأَنَّهُمَا سَوَاءٌ ، فَإِذَا وَقَفَ عِنْدَ صَدْرِ الرَّجُلِ فَكَذَا الْمَرْأَةُ .
وَقَالَ مَالِكٌ : يَقِفُ مِنْ الرَّجُلِ عِنْدَ وَسَطِهِ ؛ لِأَنَّهُ يُرْوَى مِثْلُ هَذَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَيَقِفُ مِنْ الْمَرْأَةِ عِنْدَ مَنْكِبَيْهَا ؛ لِأَنَّ الْوُقُوفَ عِنْدَ أَعَالِيهَا أَمْثَلُ وَأَسْلَمُ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى سَمُرَةُ ، قَالَ { : صَلَّيْتُ وَرَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى امْرَأَةٍ مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا فَقَامَ وَسَطَهَا } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَحَدِيثُ أَنَسٍ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ ، وَالْمَرْأَةُ تُخَالِفُ الرَّجُلَ فِي الْمَوْقِفِ ، فَجَازَ أَنْ تُخَالِفَهُ هَاهُنَا .
وَلِأَنَّ قِيَامَهُ عِنْدَ وَسَطِ الْمَرْأَةِ أَسْتَرُ لَهَا مِنْ النَّاسِ ، فَكَانَ أَوْلَى .
فَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ : يَقِفُ عِنْدَ رَأْسِ الرَّجُلِ فَغَيْرُ مُخَالِفٍ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ بِالْوُقُوفِ عِنْدَ الصَّدْرِ ؛ لِأَنَّهُمَا مُتَقَارِبَانِ ، فَالْوَاقِفُ عِنْدَ أَحَدِهِمَا وَاقِفٌ عِنْدَ الْآخَرِ ،

وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( 1612 ) فَصْلٌ : فَإِنْ اجْتَمَعَ جَنَائِزُ رِجَالٍ وَنِسَاءٍ ، فَعَنْ أَحْمَدَ فِيهِ رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا ، يُسَوِّي بَيْنَ رُءُوسِهِمْ .
وَهَذَا اخْتِيَارُ الْقَاضِي ، وَقَوْلُ إبْرَاهِيمَ وَأَهْلِ مَكَّةَ ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ يُرْوَى عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، أَنَّهُ كَانَ يُسَوِّي بَيْنَ رُءُوسِهِمْ .
وَرَوَى سَعِيدٌ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ الشَّعْبِيِّ ، أَنَّ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عَلِيٍّ وَابْنَهَا زَيْدَ بْنَ عُمَرَ تُوُفِّيَا جَمِيعًا ، فَأُخْرِجَتْ جِنَازَتَاهُمَا ، فَصَلَّى عَلَيْهِمَا أَمِيرُ الْمَدِينَةِ ، فَسَوَّى بَيْنَ رُءُوسِهِمَا وَأَرْجُلِهِمَا حِينَ صَلَّى عَلَيْهِمَا وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ ، قَالَ : قَدِمَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ ، وَهُمْ يُسَوُّونَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ إذَا صُلِّيَ عَلَيْهِمَا ، فَأَرَادَهُمْ عَلَى أَنْ يَجْعَلُوا رَأْسَ الْمَرْأَةِ عِنْدَ وَسَطِ الرَّجُلِ ، فَأَبَوْا عَلَيْهِ .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ ، أَنْ يَصُفَّ الرِّجَالَ صَفًّا وَالنِّسَاءَ صَفًّا ، وَيَجْعَلَ وَسَطَ النِّسَاءِ عِنْدَ صُدُورِ الرِّجَالِ .
وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي الْخَطَّابِ ؛ لِيَكُونَ مَوْقِفُ الْإِمَامِ عِنْدَ صَدْرِ الرَّجُلِ وَوَسَطِ الْمَرْأَةِ .
وَقَالَ سَعِيدٌ : حَدَّثَنِي خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ أَبِي مَالِكٍ الدِّمَشْقِيُّ .
قَالَ : حَدَّثَنِي أَبِي ، قَالَ : رَأَيْتُ وَاثِلَةَ بْنَ الْأَسْقَعِ يُصَلِّي عَلَى جَنَائِزِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إذَا اجْتَمَعَتْ ، فَيَصُفُّ الرِّجَالَ صَفًّا ، ثُمَّ يَصُفُّ النِّسَاءَ خَلْفَ الرِّجَالِ ، رَأْسُ أَوَّلِ امْرَأَةٍ يَضَعُهَا عِنْدَ رُكْبَةِ آخِرِ الرِّجَالِ ، ثُمَّ يَصُفُّهُنَّ ، ثُمَّ يَقُومُ وَسَطَ الرِّجَالِ ، وَإِذَا كَانُوا رِجَالًا كُلُّهُمْ صَفَّهُمْ ، ثُمَّ قَامَ وَسَطَهُمْ .
وَهَذَا يُشْبِهُ مَذْهَبَ مَالِكٍ ، وَقَوْلَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ .
وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ مَدْلُولٌ عَلَيْهِ بِفِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا حُجَّةَ فِي قَوْلِ أَحَدٍ خَالَفَ فِعْلَهُ أَوْ قَوْلَهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَلَا يُصَلَّى عَلَى الْقَبْرِ بَعْدَ شَهْرٍ ) .
وَبِهَذَا قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يُصَلَّى عَلَيْهِ أَبَدًا وَاخْتَارَهُ ابْنُ عَقِيلٍ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ بَعْدَ ثَمَانِي سِنِينَ .
حَدِيثٌ صَحِيحٌ ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ يُصَلَّى عَلَيْهِ مَا لَمْ يَبْلَ جَسَدُهُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُصَلِّي عَلَيْهِ الْوَلِيُّ إلَى ثَلَاثٍ ، وَلَا يُصَلِّي عَلَيْهِ غَيْرُهُ بِحَالٍ .
وَقَالَ إِسْحَاقُ : يُصَلِّي عَلَيْهِ الْغَائِبُ إلَى شَهْرٍ ، وَالْحَاضِرُ إلَى ثَلَاثٍ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ { ، أَنَّ أُمَّ سَعْدٍ مَاتَتْ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَائِبٌ ، فَلَمَّا قَدِمَ صَلَّى عَلَيْهَا ، وَقَدْ مَضَى لِذَلِكَ شَهْرٌ .
} أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ .
وَقَالَ أَحْمَدُ : أَكْثَرُ مَا سَمِعْنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى قَبْرِ أُمِّ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ بَعْدَ شَهْرٍ .
وَلِأَنَّهَا مُدَّةٌ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ بَقَاءُ الْمَيِّتِ فِيهَا ، فَجَازَتْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ فِيهَا ، كَمَا قَبْلَ الثَّلَاثِ ، وَكَالْغَائِبِ ، وَتَجْوِيزُ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ مُطْلَقًا بَاطِلٌ بِقَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ الْآنَ اتِّفَاقًا ، وَكَذَلِكَ التَّحْدِيدُ بِبِلَى الْمَيِّتِ ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَبْلَى ، وَلَا يُصَلَّى عَلَى قَبْرِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَالْخَبَرُ دَلَّ عَلَى الْجَوَازِ بَعْدَ شَهْرٍ ، فَكَيْفَ مَنَعْتُمُوهُ ؟ قُلْنَا : تَحْدِيدُهُ بِالشَّهْرِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ عِنْدَ رَأْسِهِ ، لِيَكُونَ مُقَارِبًا لِلْحَدِّ ، وَتَجُوزُ الصَّلَاةُ بَعْدَ الشَّهْرِ قَرِيبًا مِنْهُ ؛ لِدَلَالَةِ الْخَبَرِ عَلَيْهِ ، وَلَا يَجُوزُ بَعْدَ ذَلِكَ لِعَدَمِ وُرُودِهِ .

( 1614 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَإِذَا تَشَاحَّ الْوَرَثَةُ فِي الْكَفَنِ ، جُعِلَ بِثَلَاثِينَ دِرْهَمًا ، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا فَبِخَمْسِينَ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَحْسِينُ كَفَنِ الْمَيِّتِ ، بِدَلِيلِ مَا رَوَى مُسْلِمٌ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ قُبِضَ ، فَكُفِّنَ فِي كَفَنٍ غَيْرِ طَائِلٍ ، فَقَالَ : { إذَا كَفَّنَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ ، فَلْيُحْسِنْ كَفَنَهُ } .
وَيُسْتَحَبُّ تَكْفِينُهُ فِي الْبَيَاضِ ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْبَسُوا مِنْ ثِيَابِكُمْ الْبَيَاضَ ؛ فَإِنَّهُ أَطْهَرُ وَأَطْيَبُ ، وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ } .
رَوَاهُ النَّسَائِيّ .
وَكُفِّنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ سَحُولِيَّةٍ .
وَإِنْ تَشَاحَّ الْوَرَثَةُ فِي الْكَفَنِ ، جُعِلَ كَفَنُهُ بِحَسَبِ حَالِهِ ، إنْ كَانَ مُوسِرًا كَانَ كَفَنُهُ رَفِيعًا حَسَنًا ، وَيُجْعَلُ عَلَى حَسَبِ مَا كَانَ يَلْبَسُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ ، وَإِنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَعَلَى حَسَبِ حَالِهِ .
وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ : " جُعِلَ بِثَلَاثِينَ دِرْهَمًا ، وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا فَبِخَمْسِينَ " لَيْسَ هُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّحْدِيدِ ، إذْ لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ ، وَلَا فِيهِ إجْمَاعٌ ، وَالتَّحْدِيدُ إنَّمَا يَكُونُ بِأَحَدِهِمَا ، وَإِنَّمَا هُوَ تَقْرِيبٌ ، فَلَعَلَّهُ كَانَ يَحْصُلُ الْجَيِّدُ وَالْمُتَوَسِّطُ فِي وَقْتِهِ بِالْقَدْرِ الَّذِي ذَكَرَهُ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ ، أَنَّهُ أَوْصَى أَنْ يُكَفَّنَ بِنَحْوٍ مِنْ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا .
وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُكَفَّنَ فِي جَدِيدٍ ، إلَّا أَنْ يُوصِيَ الْمَيِّتُ بِغَيْرِ ذَلِكَ ، فَتُمْتَثَلُ وَصِيَّتُهُ .
كَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : كَفِّنُونِي فِي ثَوْبَيَّ هَذَيْنِ ، فَإِنَّ الْحَيَّ أَحْوَجُ إلَى الْجَدِيدِ مِنْ الْمَيِّتِ ، وَإِنَّمَا هُمَا لِلْمَهْنَةِ وَالتُّرَابِ .
وَذَهَبَ ابْنُ عَقِيلٍ إلَى أَنَّ التَّكْفِينَ فِي الْخَلِيعِ أَوْلَى لِهَذَا الْخَبَرِ ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِدَلَالَةِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى

اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِعْلِ أَصْحَابِهِ عَلَيْهِ .

( 1615 ) فَصْلٌ : وَيَجِبُ كَفَنُ الْمَيِّتِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِهِ ، وَلِأَنَّ سُتْرَتَهُ وَاجِبَةٌ فِي الْحَيَاةِ ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ مُقَدَّمًا عَلَى الدَّيْنِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ ؛ لِأَنَّ حَمْزَةَ ، وَمُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا لَمْ يُوجَدْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا ثَوْبٌ ، فَكُفِّنَ فِيهِ ، وَلِأَنَّ لِبَاسَ الْمُفْلِسِ مُقَدَّمٌ عَلَى قَضَاءِ دَيْنِهِ ، فَكَذَلِكَ كَفَنُ الْمَيِّتِ .
وَلَا يَنْتَقِلُ إلَى الْوَارِثِ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ إلَّا مَا فَضَلَ عَنْ حَاجَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ ، وَكَذَلِكَ مَئُونَةُ دَفْنِهِ وَتَجْهِيزِهِ ، وَمَا لَا بُدَّ لِلْمَيِّتِ مِنْهُ ، فَأَمَّا الْحَنُوطُ وَالطِّيبُ ، فَلَيْسَ بِوَاجِبٍ .
ذَكَرَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ وَلِأَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي الْحَيَاةِ ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ .
وَقَالَ الْقَاضِي : يَحْتَمِلُ أَنَّهُ وَاجِبٌ ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا جَرَتْ الْعَادَةُ بِهِ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ فَإِنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ بِتَحْسِينِ الْكَفَنِ ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ .

( 1616 ) فَصْلٌ : وَكَفَنُ الْمَرْأَةِ وَمَئُونَةُ دَفْنِهَا مِنْ مَالِهَا إنْ كَانَ لَهَا مَالٌ .
وَهَذَا قَوْلُ الشَّعْبِيِّ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ ، وَبَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ .
وَاخْتَلَفُوا عَنْ مَالِكٍ فِيهِ .
وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ كُسْوَتَهَا وَنَفَقَتَهَا وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ فَوَجَبَ عَلَيْهِ كَفَنُهَا ، كَسَيِّدِ الْعَبْدِ وَالْوَالِدِ .
وَلَنَا ، أَنَّ النَّفَقَةَ وَالْكُسْوَةَ تَجِبُ فِي النِّكَاحِ لِلتَّمَكُّنِ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ ، وَلِهَذَا تَسْقُطُ بِالنُّشُوزِ وَالْبَيْنُونَةِ ، وَقَدْ انْقَطَعَ ذَلِكَ بِالْمَوْتِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ انْقَطَعَ بِالْفُرْقَةِ فِي الْحَيَاةِ ، وَلِأَنَّهَا بَانَتْ مِنْهُ بِالْمَوْتِ فَأَشْبَهَتْ الْأَجْنَبِيَّةَ ، وَفَارَقَتْ الْمَمْلُوكَ ، فَإِنَّ نَفَقَتَهُ تَجِبُ بِحَقِّ الْمِلْكِ لَا بِالِانْتِفَاعِ وَلِهَذَا تَجِبُ نَفَقَةُ الْآبِقِ وَفِطْرَتُهُ ، وَالْوَلَدُ تَجِبُ نَفَقَتُهُ بِالْقَرَابَةِ ، وَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ بِالْمَوْتِ ؛ بِدَلِيلِ أَنَّ السَّيِّدَ وَالْوَالِدَ أَحَقُّ بِدَفْنِهِ وَتَوَلِّيهِ .
إذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مَالٌ ، فَعَلَى مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهَا مِنْ الْأَقَارِبِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَفِي بَيْتِ الْمَالِ ، كَمَنْ لَا زَوْجَ لَهَا .

( 1617 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَالسِّقْطُ إذَا وُلِدَ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ، غُسِّلَ ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ .
السِّقْطُ : الْوَلَدُ تَضَعُهُ الْمَرْأَةُ مَيِّتًا ، أَوْ لِغَيْرِ تَمَامٍ ، فَأَمَّا إنْ خَرَجَ حَيًّا وَاسْتَهَلَّ ، فَإِنَّهُ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ ، بِغَيْرِ خِلَافٍ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الطِّفْلَ إذَا عُرِفَتْ حَيَاتُهُ وَاسْتَهَلَّ صُلِّيَ عَلَيْهِ .
وَإِنْ لَمْ يَسْتَهِلَّ ، فَقَالَ أَحْمَدُ : إذَا أَتَى لَهُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ غُسِّلَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ .
وَهَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، وَابْنِ سِيرِينَ ، وَإِسْحَاقَ ، وَصَلَّى ابْنُ عُمَرَ عَلَى ابْنٍ لِابْنَتِهِ وُلِدَ مَيِّتًا .
وَقَالَ الْحَسَنُ ، وَإِبْرَاهِيمُ ، وَالْحَكَمُ وَحَمَّادٌ ، وَمَالِكٌ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ : لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ حَتَّى يَسْتَهِلَّ .
وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ كَالْمَذْهَبَيْنِ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : الطِّفْلُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ ، وَلَا يَرِثُ ، وَلَا يُورَثُ ، حَتَّى يَسْتَهِلَّ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ حُكْمُ الْحَيَاةِ وَلَا يَرِثُ وَلَا يُورَثُ ، فَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ ، كَمَنْ دُونَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى الْمُغِيرَةُ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : وَالسِّقْطُ يُصَلَّى عَلَيْهِ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَفِي لَفْظِ رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ : ( وَالطِّفْلُ يُصَلَّى عَلَيْهِ ) وَقَالَ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ، وَذَكَرَهُ أَحْمَدُ وَاحْتَجَّ بِهِ ، وَبِحَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : مَا أَحَدٌ أَحَقَّ أَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِ مِنْ الطِّفْلِ ، وَلِأَنَّهُ نَسَمَةٌ نُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ فَيُصَلَّى عَلَيْهِ كَالْمُسْتَهِلِّ ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ فِي حَدِيثِهِ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ ، أَنَّهُ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ لِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ .
وَحَدِيثُهُمْ ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ : قَدْ اضْطَرَبَ النَّاسُ فِيهِ ، فَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ

مَوْقُوفًا .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : كَأَنَّ هَذَا أَصَحُّ مِنْ الْمَرْفُوعِ .
وَأَمَّا الْإِرْثُ فَلِأَنَّهُ لَا تُعْلَمُ حَيَاتُهُ حَالَ مَوْتِ مُوَرِّثِهِ ، وَذَلِكَ مِنْ شَرْطِ الْإِرْثِ .
وَالصَّلَاةُ مِنْ شَرْطِهَا أَنْ تُصَادِفَ مَنْ كَانَتْ فِيهِ حَيَاةٌ ، وَقَدْ عُلِمَ ذَلِكَ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحَدِيثِ ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ دُعَاءٌ لَهُ وَلِوَالِدَيْهِ ، وَخَيْرٌ ، فَلَا يُحْتَاجُ فِيهَا إلَى الِاحْتِيَاطِ وَالْيَقِينِ ؛ لِوُجُودِ الْحَيَاةِ ، بِخِلَافِ الْمِيرَاثِ .
فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَأْتِ لَهُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ ، فَإِنَّهُ لَا يُغَسَّلُ ، وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ ، وَيُلَفُّ فِي خِرْقَةٍ ، وَيُدْفَنُ .
وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا ، إلَّا عَنْ ابْنِ سِيرِينَ ، فَإِنَّهُ قَالَ : يُصَلَّى عَلَيْهِ إذَا عُلِمَ أَنَّهُ نُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ وَحَدِيثُ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ إلَّا بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ، وَقَبْلَ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ نَسَمَةً ، فَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ ، كَالْجَمَادَاتِ وَالدَّمِ .

( 1618 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( فَإِنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ ، أَذَكَرٌ هُوَ أَمْ أُنْثَى ، سُمِّيَ اسْمًا يَصْلُحُ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى ) هَذَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْبَابِ ؛ لِأَنَّهُ يُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { سَمُّوا أَسْقَاطَكُمْ ، فَإِنَّهُمْ أَسْلَافُكُمْ } رَوَاهُ ابْنُ السَّمَّاكِ بِإِسْنَادِهِ قِيلَ : إنَّهُمْ إنَّمَا يُسَمَّوْنَ لِيُدْعَوْا يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَسْمَائِهِمْ .
فَإِذَا لَمْ يُعْلَمْ هَلْ السِّقْطُ ذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى ، سُمِّيَ اسْمًا يَصْلُحُ لَهُمَا جَمِيعًا ؛ كَسَلَمَةَ ، وَقَتَادَةَ ، وَسَعَادَةَ ، وَهِنْدٍ ، وَعُتْبَةَ ، وَهِبَةِ اللَّهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ .

( 1619 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَتُغَسِّلُ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ تُغَسِّلُ زَوْجَهَا إذَا مَاتَ .
قَالَتْ عَائِشَةُ : لَوْ اسْتَقْبَلْنَا مِنْ أَمْرِنَا مَا اسْتَدْبَرْنَا مَا غَسَّلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا نِسَاؤُهُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَأَوْصَى أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ تُغَسِّلَهُ امْرَأَتُهُ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ ، وَكَانَتْ صَائِمَةً ، فَعُزِمَ عَلَيْهَا أَنْ تُفْطِرَ ، فَلَمَّا فَرَغَتْ مِنْ غُسْلِهِ ذَكَرَتْ يَمِينَهُ ، فَقَالَتْ : لَا أُتْبِعُهُ الْيَوْمَ حِنْثًا .
فَدَعَتْ بِمَاءٍ فَشَرِبَتْ .
وَغَسَّلَ أَبَا مُوسَى امْرَأَتُهُ أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ ، وَأَوْصَى جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ أَنْ تُغَسِّلَهُ امْرَأَتُهُ .
قَالَ أَحْمَدُ لَيْسَ فِيهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ النَّاسِ .

( 1620 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَإِنْ دَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَى أَنْ يُغَسِّلَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ ، فَلَا بَأْسَ .
الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ لِلزَّوْجِ غُسْلَ امْرَأَتِهِ .
وَهُوَ قَوْلُ عَلْقَمَةَ ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ ، وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، وَقَتَادَةَ ، وَحَمَّادٍ ، وَمَالِكٍ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَإِسْحَاقَ .
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ ، لَيْسَ لِلزَّوْجِ غَسْلُهَا .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَالثَّوْرِيِّ ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ فُرْقَةٌ تُبِيحُ أُخْتَهَا ، وَأَرْبَعًا سِوَاهَا ، فَحَرَّمَتْ النَّظَرَ وَاللَّمْسَ ، كَالطَّلَاقِ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ غَسَّلَ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَاشْتُهِرَ ذَلِكَ فِي الصَّحَابَةِ فَلَمْ يُنْكِرُوهُ ، فَكَانَ إجْمَاعًا وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَائِشَةَ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { لَوْ مِتَّ قَبْلِي لَغَسَّلْتُكِ وَكَفَّنْتُكِ } رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
وَالْأَصْلُ فِي إضَافَةِ الْفِعْلِ إلَى الشَّخْصِ أَنْ يَكُونَ لِلْمُبَاشَرَةِ ، وَحَمْلُهُ عَلَى الْأَمْرِ يُبْطِلُ فَائِدَةَ التَّخْصِيصِ .
وَلِأَنَّهُ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ ، فَأُبِيحَ لَهُ غَسْلُ صَاحِبِهِ كَالْآخَرِ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ يَسْهُلُ عَلَيْهِ إطْلَاعُ الْآخَرِ عَلَى عَوْرَتِهِ دُونَ غَيْرِهِ ، لِمَا كَانَ بَيْنَهُمَا فِي الْحَيَاةِ ، وَيَأْتِي بِالْغُسْلِ عَلَى أَكْمَلِ مَا يُمْكِنُهُ ، لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْمَوَدَّةِ وَالرَّحْمَةِ .
وَمَا قَاسُوا عَلَيْهِ لَا يَصِحُّ ، لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الزَّوْجَةَ مِنْ النَّظَرِ ، وَهَذَا بِخِلَافِهِ ، وَلِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ إلَّا بَقَاءُ الْعِدَّةِ ، وَلَا أَثَرَ لَهَا ، بِدَلِيلِ ، مَا لَوْ مَاتَ الْمُطَلِّقُ ثَلَاثًا ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهَا غَسْلُهُ مَعَ الْعِدَّةِ وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَوْ وَضَعَتْ حَمْلَهَا عَقِبَ مَوْتِهِ كَانَ لَهَا غَسْلُهُ ، وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا .
وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ وَإِنْ دَعَتْ

الضَّرُورَةُ إلَى أَنْ يُغَسِّلَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ فَلَا بَأْسَ " يَعْنِي بِهِ ، أَنَّهُ يُكْرَهُ لَهُ غَسْلُهَا مَعَ وُجُودِ مَنْ يُغَسِّلُهَا سِوَاهُ ، لِمَا فِيهِ مِنْ الْخِلَافِ وَالشُّبْهَةِ ، وَلَمْ يَرِدْ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ ؛ فَإِنَّ غَسْلَهَا لَوْ كَانَ مُحَرَّمًا لَمْ تُبِحْهُ الضَّرُورَةُ ، كَغَسْلِ ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ وَالْأَجْنَبِيَّاتِ .

( 1621 ) فَصْلٌ : فَإِنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ، ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا فِي الْعِدَّةِ ، وَكَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا ، فَحُكْمُهُمَا حُكْمُ الزَّوْجَيْنِ قَبْلَ الطَّلَاقِ ؛ لِأَنَّهَا زَوْجَةٌ تَعْتَدُّ لِلْوَفَاةِ ، وَتَرِثُهُ وَيَرِثُهَا ، وَيُبَاحُ لَهُ وَطْؤُهَا .
وَإِنْ كَانَ بَائِنًا لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ اللَّمْسَ وَالنَّظَرَ مُحَرَّمٌ حَالَ الْحَيَاةِ ، فَبَعْدَ الْمَوْتِ أَوْلَى .
وَإِنْ قُلْنَا : إنَّ الرَّجْعِيَّةَ مُحَرَّمَةٌ لَمْ يُبَحْ لِأَحَدِهِمَا غَسْلُ صَاحِبِهِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ .

( 1622 ) فَصْلٌ : وَحُكْمُ أُمِّ الْوَلَدِ حُكْمُ الْمَرْأَةِ فِيمَا ذَكَرْنَا وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : يَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَجُوزَ لَهَا غَسْلُ سَيِّدِهَا ؛ لِأَنَّ عِتْقَهَا حَصَلَ بِالْمَوْتِ ، وَلَمْ يُبْقِ عُلْقَةً مِنْ مِيرَاثٍ وَلَا غَيْرِهِ .
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَلَنَا ، أَنَّهَا فِي مَعْنَى الزَّوْجَةِ فِي اللَّمْسِ وَالنَّظَرِ وَالِاسْتِمْتَاعِ ، فَكَذَلِكَ فِي الْغُسْلِ ، وَالْمِيرَاثُ لَيْسَ مِنْ الْمُقْتَضَى ، بِدَلِيلِ الزَّوْجَيْنِ إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا رَقِيقًا ، وَالِاسْتِبْرَاءُ هَاهُنَا كَالْعِدَّةِ .
وَلِأَنَّهَا إذَا مَاتَتْ يَلْزَمُهُ كَفَنُهَا وَدَفْنُهَا وَمُؤْنَتُهَا ، بِخِلَافِ الزَّوْجَةِ .
فَأَمَّا غَيْرُ أُمِّ الْوَلَدِ مِنْ الْإِمَاءِ ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَجُوزَ لَهَا غَسْلُ سَيِّدِهَا ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ انْتَقَلَ فِيهَا إلَى غَيْرِهِ ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ مَا تَصِيرُ بِهِ فِي مَعْنَى الزَّوْجَاتِ .
وَلَوْ مَاتَ قَبْلَ الدُّخُولِ بِامْرَأَتِهِ احْتَمَلَ أَنْ لَا يُبَاحَ لَهَا غَسْلُهُ لِذَلِكَ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( 1623 ) فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَتْ الزَّوْجَةُ ذِمِّيَّةً ، فَلَيْسَ لَهَا غَسْلُ زَوْجِهَا ، لِأَنَّ الْكَافِرَ لَا يُغَسِّلُ الْمُسْلِمَ ، لِأَنَّ النِّيَّةَ وَاجِبَةٌ فِي الْغُسْلِ ، وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا ، وَلَيْسَ لِزَوْجِهَا غَسْلُهَا ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُغَسِّلُ الْكَافِرَ ، وَلَا يَتَوَلَّى دَفْنَهُ ، وَلِأَنَّهُ لَا مِيرَاثَ بَيْنَهُمَا ، وَلَا مُوَالَاةَ ، وَقَدْ انْقَطَعَتْ الزَّوْجِيَّةُ بِالْمَوْتِ وَيَتَخَرَّجُ جَوَازُ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى جَوَازِ غَسْلِ الْمُسْلِمِ الْكَافِرَ .

( 1624 ) فَصْلٌ : وَلَيْسَ لِغَيْرِ مَنْ ذَكَرْنَا مِنْ الرِّجَالِ غَسْلُ أَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ ، وَلَا أَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ غَسْلُ غَيْرِ مَنْ ذَكَرْنَا مِنْ الرِّجَالِ وَإِنْ كُنَّ ذَوَاتِ رَحِمٍ مَحْرَمٍ .
وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ أَنَّهُ غَسَّلَ ابْنَتَهُ .
وَاسْتَعْظَمَ أَحْمَدُ هَذَا ، وَلَمْ يُعْجِبْهُ وَقَالَ : أَلَيْسَ قَدْ قِيلَ : اسْتَأْذِنْ عَلَى أُمِّكَ .
وَذَلِكَ لِأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ حَالَ الْحَيَاةِ ، فَلَمْ يَجُزْ غَسْلُهَا كَالْأَجْنَبِيَّةِ ، وَأُخْتِهِ مِنْ الرَّضَاعِ .
فَإِنْ دَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَى ذَلِكَ بِأَنْ لَا يُوجَدَ مَنْ يُغَسِّلُ الْمَرْأَةَ مِنْ النِّسَاءِ ، فَقَالَ مُهَنَّا : سَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنْ الرَّجُلِ يُغَسِّلُ أُخْتَهُ إذَا لَمْ يَجِدْ نِسَاءً قَالَ : لَا .
قُلْتُ : فَكَيْفَ يَصْنَعُ ؟ قَالَ : يُغَسِّلُهَا وَعَلَيْهَا ثِيَابُهَا ، يَصُبُّ عَلَيْهَا الْمَاءَ صَبًّا .
قُلْتُ لِأَحْمَدَ : وَكَذَلِكَ كُلُّ ذَاتِ مَحْرَمٍ تُغَسَّلُ وَعَلَيْهَا ثِيَابُهَا ؟ قَالَ : نَعَمْ .
وَقَالَ الْحَسَنُ وَمُحَمَّدٌ وَمَالِكٌ : لَا بَأْسَ بِغَسْلِ ذَاتِ مَحْرَمٍ عِنْدَ الضَّرُورَةِ فَأَمَّا إنْ مَاتَ رَجُلٌ بَيْنَ نِسْوَةٍ أَجَانِبَ ، أَوْ امْرَأَةٌ بَيْنَ رِجَالٍ أَجَانِبَ ، أَوْ مَاتَ خُنْثَى مُشْكِلٌ ، فَإِنَّهُ يُيَمَّمُ .
وَهَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، وَالنَّخَعِيِّ ، وَحَمَّادٍ ، وَمَالِكٍ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ وَابْنِ الْمُنْذِرِ .
وَحَكَى أَبُو الْخَطَّابِ رِوَايَةً ثَانِيَةً ، أَنَّهُ يُغَسَّلُ مِنْ فَوْقِ الْقَمِيصِ ، يُصَبُّ عَلَيْهِ الْمَاءُ مِنْ فَوْقِ الْقَمِيصِ صَبًّا ، وَلَا يُمَسُّ .
وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ ، وَإِسْحَاقَ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى تَمَّامٌ الرَّازِيّ فِي " فَوَائِدِهِ " بِإِسْنَادِهِ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ وَاثِلَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : إذَا مَاتَتْ الْمَرْأَةُ مَعَ الرِّجَالِ ، لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُمْ مَحْرَمٌ ، تُيَمَّمُ كَمَا يُيَمَّمُ الرِّجَالُ } .
وَلِأَنَّ الْغُسْلَ مِنْ غَيْرِ مَسٍّ لَا يَحْصُلُ بِهِ التَّنْظِيفُ ، وَلَا إزَالَةُ النَّجَاسَةِ ، بَلْ رُبَّمَا كَثُرَتْ وَلَا يَسْلَمُ مِنْ

النَّظَرِ ، فَكَانَ الْعُدُولُ إلَى التَّيَمُّمِ أَوْلَى ، كَمَا لَوْ عُدِمَ الْمَاءُ .

( 1625 ) فَصْلٌ : وَلِلنِّسَاءِ غَسْلُ الطِّفْلِ بِغَيْرِ خِلَافٍ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ يُحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ تُغَسِّلُ الصَّبِيَّ الصَّغِيرَ .
قَالَ أَحْمَدُ : لَهُنَّ غَسْلُ مَنْ لَهُ دُونَ سَبْعِ سِنِينَ .
وَقَالَ الْحَسَنُ : إذَا كَانَ فَطِيمًا ، أَوْ فَوْقَهُ .
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : ابْنُ أَرْبَعٍ أَوْ خَمْسٍ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ : الَّذِي لَمْ يَتَكَلَّمْ .
- وَلَنَا ، أَنَّ مَنْ لَهُ دُونَ السَّبْعِ لَمْ نُؤْمَرْ بِأَمْرِهِ بِالصَّلَاةِ ، وَلَا عَوْرَةَ لَهُ ، فَأَشْبَهَ مَا سَلَّمُوهُ ، فَأَمَّا مَنْ بَلَغَ السَّبْعَ وَلَمْ يَبْلُغْ عَشْرًا ، فَحَكَى أَبُو الْخَطَّابِ فِيهِ رِوَايَتَيْنِ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ مَنْ بَلَغَ عَشْرًا لَيْسَ لِلنِّسَاءِ غَسْلُهُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ } .
وَأَمَرَ بِضَرْبِهِمْ لِلصَّلَاةِ لِعَشْرٍ .
وَمَنْ دُونَ الْعَشْرِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَلْحَقَ بِمَنْ دُونَ السَّبْعِ ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَلْحَقَ بِهِ ، لِأَنَّهُ يُفَارِقُهُ فِي أَمْرِهِ بِالصَّلَاةِ ، وَقُرْبِهِ مِنْ الْمُرَاهَقَةِ .
فَأَمَّا الْجَارِيَةُ الصَّغِيرَةُ ، فَلَمْ يَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَنْ يُغَسِّلَهَا الرَّجُلُ ، وَقَالَ : النِّسَاءُ أَعْجَبُ إلَيَّ .
وَذُكِرَ لَهُ أَنَّ الثَّوْرِيَّ يَقُولُ : تُغَسِّلُ الْمَرْأَةُ الصَّبِيَّ ، وَالرَّجُلُ الصَّبِيَّةَ .
قَالَ : لَا بَأْسَ أَنْ تُغَسِّلَ الْمَرْأَةُ الصَّبِيَّ ، وَأَمَّا الرَّجُلُ يُغَسِّلُ الصَّبِيَّةَ فَلَا أَجْتَرِئُ عَلَيْهِ ، إلَّا أَنْ يُغَسِّلَ الرَّجُلُ ابْنَتَهُ الصَّغِيرَةَ ، فَإِنَّهُ يُرْوَى عَنْ أَبِي قِلَابَةَ أَنَّهُ غَسَّلَ بِنْتًا لَهُ صَغِيرَةً .
وَالْحَسَنُ قَالَ : لَا بَأْسَ أَنْ يُغَسِّلَ الرَّجُلُ ابْنَتَهُ ، إذَا كَانَتْ صَغِيرَةً .
وَكَرِهَ غَسْلَ الرَّجُلِ الصَّغِيرَةَ سَعِيدٌ وَالزُّهْرِيُّ .
قَالَ الْخَلَّالُ : الْقِيَاسُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ ، لَوْلَا أَنَّ التَّابِعِينَ فَرَّقُوا بَيْنَهُمَا ، فَكَرِهَهُ أَحْمَدُ لِذَلِكَ .
وَسَوَّى أَبُو الْخَطَّابِ بَيْنَهُمَا ،

فَجَعَلَ فِيهِمَا رِوَايَتَيْنِ ، جَرْيًا عَلَى مُوجِبِ الْقِيَاسِ .
وَالصَّحِيحُ مَا عَلَيْهِ السَّلَفُ ، مِنْ أَنَّ الرَّجُلَ لَا يُغَسِّلُ الْجَارِيَةَ ، وَالتَّفْرِقَةُ بَيْنَ عَوْرَةِ الْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ ؛ لِأَنَّ عَوْرَةَ الْجَارِيَةِ أَفْحَشُ ، وَلِأَنَّ الْعَادَةَ مُعَانَاةُ الْمَرْأَةِ لِلْغُلَامِ الصَّغِيرِ ، وَمُبَاشَرَةُ عَوْرَتِهِ فِي حَالِ تَرْبِيَتِهِ ، وَلَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِمُبَاشَرَةِ الرَّجُلِ عَوْرَةَ الْجَارِيَةِ فِي الْحَيَاةِ ، فَكَذَلِكَ حَالَةَ الْمَوْتِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَأَمَّا الصَّبِيُّ إذَا غَسَّلَ الْمَيِّتَ ، فَإِنْ كَانَ عَاقِلًا صَحَّ غَسْلُهُ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا ؛ لِأَنَّهُ يَصِحُّ طَهَارَتُهُ ، فَصَحَّ أَنْ يُطَهِّرَ غَيْرَهُ ، كَالْكَبِيرِ فَصْلٌ : وَيَصِحُّ أَنْ يُغَسِّلَ الْمُحْرِمُ الْحَلَالَ ، وَالْحَلَالُ الْمُحْرِمَ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَصِحُّ طَهَارَتُهُ وَغَسْلُهُ ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يُغَسِّلَ غَيْرَهُ .

( 1627 ) فَصْلٌ : وَلَا يَصِحُّ غُسْلُ الْكَافِرِ لِلْمُسْلِمِ ؛ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ ، وَلَيْسَ الْكَافِرُ مِنْ أَهْلِهَا .
وَقَالَ مَكْحُولٌ فِي امْرَأَةٍ تُوُفِّيَتْ فِي سَفَرٍ ، وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ وَنِسَاءٌ نَصَارَى : يُغَسِّلُهَا النِّسَاءُ .
وَقَالَ سُفْيَانُ فِي رَجُلٍ مَاتَ مَعَ نِسَاءٍ ، لَيْسَ مَعَهُنَّ رَجُلٌ ، قَالَ : إنْ وَجَدُوا نَصْرَانِيًّا أَوْ مَجُوسِيًّا ، فَلَا بَأْسَ إذَا تَوَضَّأَ أَنْ يُغَسِّلَهُ ، وَيُصَلِّيَ عَلَيْهِ النِّسَاءُ .
وَغَسَّلَتْ امْرَأَةَ عَلْقَمَةَ امْرَأَةٌ نَصْرَانِيَّةٌ .
وَلَمْ يُعْجِبْ هَذَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ .
وَقَالَ : لَا يُغَسِّلُهُ إلَّا مُسْلِمٌ ، وَيُيَمَّمُ ؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ نَجِسٌ ، فَلَا يُطَهِّرُ غُسْلُهُ الْمُسْلِمَ .
وَلِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ فَلَا يَصِحُّ غُسْلُهُ لِلْمُسْلِمِ ، كَالْمَجْنُونِ .
وَإِنْ مَاتَ كَافِرٌ مَعَ مُسْلِمِينَ ، لَمْ يُغَسِّلُوهُ ، سَوَاءٌ كَانَ قَرِيبًا لَهُمْ أَوْ لَمْ يَكُنْ ، وَلَا يَتَوَلَّوْا دَفْنَهُ ، إلَّا أَنْ لَا يَجِدُوا مَنْ يُوَارِيهِ .
وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ .
وَقَالَ أَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ : يَجُوزُ لَهُ غُسْلُ قَرِيبِهِ الْكَافِرِ ، وَدَفْنُهُ .
وَحَكَاهُ قَوْلًا لِأَحْمَدَ ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { قُلْت لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّ عَمَّك الشَّيْخَ الضَّالَّ قَدْ مَاتَ .
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اذْهَبْ فَوَارِهِ } .
وَلَنَا ، أَنَّهُ لَا يُصَلِّي عَلَيْهِ ، وَلَا يَدْعُو لَهُ ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ غُسْلُهُ ، وَتَوَلِّي أَمْرِهِ ، كَالْأَجْنَبِيِّ ، وَالْحَدِيثُ إنْ صَحَّ يَدُلُّ عَلَى مُوَارَاتِهِ لَهُ ، وَذَلِكَ إذَا خَافَ مِنْ التَّعْيِيرِ بِهِ ، وَالضَّرَرِ بِبَقَائِهِ .
قَالَ أَحْمَدُ ، رَحِمَهُ اللَّهُ ، فِي يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ مَاتَ ، وَلَهُ وَلَدٌ مُسْلِمٌ : فَلْيَرْكَبْ دَابَّةً ، وَلْيَسِرْ أَمَامَ الْجِنَازَةِ ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْفِنَ رَجَعَ ، مِثْلُ قَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .

( 1628 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَالشَّهِيدُ إذَا مَاتَ فِي مَوْضِعِهِ ، لَمْ يُغَسَّلْ ، وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ ) يَعْنِي إذَا مَاتَ فِي الْمُعْتَرَكِ ، فَإِنَّهُ لَا يُغَسَّلُ ، رِوَايَةً وَاحِدَةً ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا ، إلَّا عَنْ الْحَسَنِ ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، قَالَا : يُغَسَّلُ الشَّهِيدُ ، مَا مَاتَ مَيِّتٌ إلَّا جُنُبًا .
وَالِاقْتِدَاءُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ فِي تَرْكِ غُسْلِهِمْ أَوْلَى .
فَأَمَّا الصَّلَاةُ عَلَيْهِ ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ .
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَإِسْحَاقَ .
وَعَنْ أَحْمَدَ ، رِوَايَةٌ أُخْرَى ، أَنَّهُ يُصَلَّى عَلَيْهِ .
اخْتَارَهَا الْخَلَّالُ .
وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ .
إلَّا أَنَّ كَلَامَ أَحْمَدَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ يُشِيرُ إلَى أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ مُسْتَحَبَّةٌ ، غَيْرُ وَاجِبَةٍ .
قَالَ فِي مَوْضِعٍ : إنْ صُلِّيَ عَلَيْهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ .
وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ ، قَالَ : يُصَلَّى ، وَأَهْلُ الْحِجَازِ لَا يُصَلُّونَ عَلَيْهِ ، وَمَا تَضُرُّهُ الصَّلَاةُ ، لَا بَأْسَ بِهِ .
وَصَرَّحَ بِذَلِكَ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ ، فَقَالَ : الصَّلَاةُ عَلَيْهِ أَجْوَدُ ، وَإِنْ لَمْ يُصَلُّوا عَلَيْهِ أَجْزَأَ .
فَكَأَنَّ الرِّوَايَتَيْنِ فِي اسْتِحْبَابِ الصَّلَاةِ ، لَا فِي وُجُوبِهَا ، إحْدَاهُمَا يُسْتَحَبُّ ؛ لِمَا رَوَى عُقْبَةُ ، أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ يَوْمًا ، فَصَلَّى عَلَى أَهْلِ أُحُدٍ صَلَاتَهُ عَلَى الْمَيِّتِ ، ثُمَّ انْصَرَفَ إلَى الْمِنْبَرِ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ } .
وَلَنَا ، مَا رَوَى جَابِرٌ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِدَفْنِ شُهَدَاءِ أُحُدٍ فِي دِمَائِهِمْ ، وَلَمْ يُغَسِّلْهُمْ ، وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَلِأَنَّهُ لَا يُغَسَّلُ مَعَ إمْكَانِ غُسْلِهِ ، فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ ، كَسَائِرِ مَنْ لَمْ يُغَسَّلْ ، وَحَدِيثُ عُقْبَةَ

مَخْصُوصٌ بِشُهَدَاءِ أُحُدٍ ، فَإِنَّهُ صَلَّى عَلَيْهِمْ فِي الْقُبُورِ بَعْدَ ثَمَانِي سِنِينَ ، وَهُمْ لَا يُصَلُّونَ عَلَى الْقَبْرِ أَصْلًا ، وَنَحْنُ لَا نُصَلِّي عَلَيْهِ بَعْدَ شَهْرٍ .
وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ يَرْوِيهِ الْحَسَنُ بْنُ عُمَارَةَ ، وَهُوَ ضَعِيفٌ ، وَقَدْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ شُعْبَةُ رِوَايَةَ هَذَا الْحَدِيثِ .
وَقَالَ : إنَّ جَرِيرَ بْنَ حَازِمٍ يُكَلِّمُنِي فِي أَنْ لَا أَتَكَلَّمْ فِي الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ ، وَكَيْفَ لَا أَتَكَلَّمُ فِيهِ وَهُوَ يَرْوِي هَذَا الْحَدِيثَ ثُمَّ نَحْمِلُهُ عَلَى الدُّعَاءِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَيَحْتَمِلُ أَنَّ تَرْكَ غُسْلِ الشَّهِيدِ لِمَا تَضَمَّنَهُ الْغُسْلُ مِنْ إزَالَةِ أَثَرِ الْعِبَادَةِ الْمُسْتَحْسَنَةِ شَرْعًا ، فَإِنَّهُ جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لَا يُكْلَمُ أَحَدٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ ، إلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَاللَّوْنُ لَوْنُ دَمٍ ، وَالرِّيحُ رِيحُ مِسْكٍ .
} رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ قَطْرَتَيْنِ وَأَثَرَيْنِ : أَمَّا الْأَثَرَانِ ، فَأَثَرٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَأَثَرٌ فِي فَرِيضَةٍ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى .
} رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ : هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ ، وَقَدْ جَاءَ ذِكْرُ هَذِهِ الْعِلَّةِ فِي الْحَدِيثِ ، فَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ ثَعْلَبَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { زَمِّلُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ ، فَإِنَّهُ لَيْسَ كَلْمٌ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إلَّا يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَدْمَى ، لَوْنُهُ لَوْنُ الدَّمِ ، وَرِيحُهُ رِيحُ الْمِسْكِ .
} رَوَاهُ النَّسَائِيّ .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْغُسْلَ لَا يَجِبُ إلَّا مِنْ أَجْلِ الصَّلَاةِ ، إلَّا أَنَّ الْمَيِّتَ لَا فِعْلَ لَهُ ، فَأُمِرْنَا بِغُسْلِهِ لِنُصَلِّيَ عَلَيْهِ ، فَمَنْ لَمْ تَجِبْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ لَمْ يَجِبْ غُسْلُهُ ، كَالْحَيِّ .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الشُّهَدَاءَ فِي الْمَعْرَكَةِ يَكْثُرُونَ ، فَيَشُقُّ

غُسْلُهُمْ ، وَرُبَّمَا يَكُونُ فِيهِمْ الْجِرَاحُ فَيَتَضَرَّرُونَ ، فَعُفِيَ عَنْ غُسْلِهِمْ لِذَلِكَ .
وَأَمَّا سُقُوطُ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ عِلَّتُهُ كَوْنَهُمْ أَحْيَاءً عِنْدَ رَبِّهِمْ ، وَالصَّلَاةُ إنَّمَا شُرِعَتْ فِي حَقِّ الْمَوْتَى .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّ ذَلِكَ لِغِنَاهُمْ عَنْ الشَّفَاعَةِ لَهُمْ ، فَإِنَّ الشَّهِيدَ يُشَفَّعُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِهِ ، فَلَا يَحْتَاجُ إلَى شَفِيعٍ ، وَالصَّلَاةُ إنَّمَا شُرِعَتْ لِلشَّفَاعَةِ .

( 1629 ) فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَ الشَّهِيدُ جُنُبًا غُسِّلَ ، وَحُكْمُهُ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ حُكْمُ غَيْرِهِ مِنْ الشُّهَدَاءِ .
وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يُغَسَّلُ ؛ لِعُمُومِ الْخَبَرِ .
وَعَنْ الشَّافِعِيِّ كَالْمَذْهَبَيْنِ .
وَلَنَا ، مَا رُوِيَ { أَنَّ حَنْظَلَةَ بْنَ الرَّاهِبِ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا شَأْنُ حَنْظَلَةَ ؟ فَإِنِّي رَأَيْت الْمَلَائِكَةَ تُغَسِّلُهُ .
فَقَالُوا : إنَّهُ جَامَعَ ، ثُمَّ سَمِعَ الْهَيْعَةَ فَخَرَجَ إلَى الْقِتَالِ .
} رَوَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ ، فِي " الْمَغَازِي " .
وَلِأَنَّهُ غُسْلٌ وَاجِبٌ لِغَيْرِ الْمَوْتِ ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِالْمَوْتِ كَغُسْلِ الْجَنَابَةِ .
وَحَدِيثُهُمْ لَا عُمُومَ لَهُ ، فَإِنَّهُ قَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ وَرَدَ فِي شُهَدَاءِ أُحُدٍ ، وَحَدِيثُنَا خَاصٌّ فِي حَنْظَلَةَ ، وَهُوَ مِنْ شُهَدَاءِ أُحُدٍ ، فَيَجِبُ تَقْدِيمُهُ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَمَنْ وَجَبَ الْغُسْلُ عَلَيْهِ بِسَبَبٍ سَابِقٍ عَلَى الْمَوْتِ ، كَالْمَرْأَةِ تَطْهُرُ مِنْ حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ ، ثُمَّ تُقْتَلُ ، فَهِيَ كَالْجُنُبِ ؛ لِلْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا .
وَلَوْ قُتِلَتْ فِي حَيْضِهَا أَوْ نِفَاسِهَا ، لَمْ يَجِبْ الْغُسْلُ ؛ لِأَنَّ الطُّهْرَ مِنْ الْحَيْضِ شَرْطٌ فِي الْغُسْلِ ، أَوْ فِي السَّبَبِ الْمُوجِبِ ، فَلَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِدُونِهِ .
فَأَمَّا إنْ أَسْلَمَ ، ثُمَّ اُسْتُشْهِدَ ، فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ أُصَيْرِمَ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ أَسْلَمَ يَوْمَ أُحُدٍ ، ثُمَّ قُتِلَ ، فَلَمْ يُؤْمَرْ بِغُسْلِهِ .

( 1630 ) فَصْلٌ : وَالْبَالِغُ وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٌ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَثْبُتُ حُكْمُ الشَّهَادَةِ لِغَيْرِ الْبَالِغِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ مُسْلِمٌ قُتِلَ فِي مُعْتَرَكِ الْمُشْرِكِينَ بِقِتَالِهِمْ ، أَشْبَهَ الْبَالِغَ ، وَلِأَنَّهُ أَشْبَهَ الْبَالِغَ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَالْغُسْلِ إذَا لَمْ يَقْتُلْهُ الْمُشْرِكُونَ ، فَيُشْبِهُهُ فِي سُقُوطِ ذَلِكَ عَنْهُ بِالشَّهَادَةِ ، وَقَدْ كَانَ فِي شُهَدَاءِ أُحُدٍ حَارِثَةُ بْنُ النُّعْمَانِ ، وَعُمَيْرُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ أَخُو سَعْدٍ ، وَهُمَا صَغِيرَانِ ، وَالْحَدِيثُ عَامٌّ فِي الْكُلِّ .
وَمَا ذَكَرَهُ يَبْطُلُ بِالنِّسَاءِ .

( 1631 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَدُفِنَ فِي ثِيَابِهِ ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْجُلُودِ وَالسِّلَاحِ نُحِّيَ عَنْهُ ) أَمَّا دَفْنُهُ بِثِيَابِهِ ، فَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا ، وَهُوَ ثَابِتٌ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { ادْفِنُوهُمْ بِثِيَابِهِمْ } .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد ، وَابْنُ مَاجَهْ ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَمَرَ بِقَتْلَى أُحُدٍ أَنْ يُنْزَعَ عَنْهُمْ الْحَدِيدُ وَالْجُلُودُ ، وَأَنْ يُدْفَنُوا فِي ثِيَابِهِمْ ، بِدِمَائِهِمْ .
} وَلَيْسَ هَذَا بِحَتْمٍ ، لَكِنَّهُ الْأَوْلَى .
وَلِلْوَلِيِّ أَنْ يَنْزِعَ عَنْهُ ثِيَابَهُ ، وَيُكَفِّنَهُ بِغَيْرِهَا ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُنْزَعُ عَنْهُ شَيْءٌ ؛ لِظَاهِرِ الْخَبَرِ .
وَلَنَا ، مَا رُوِيَ ، { أَنَّ صَفِيَّةَ أَرْسَلَتْ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَوْبَيْنِ ؛ لِيُكَفِّنَ فِيهِمَا حَمْزَةَ ، فَكَفَّنَهُ فِي أَحَدِهِمَا ، وَكَفَّنَ فِي الْآخَرِ رَجُلًا آخَرَ .
} رَوَاهُ يَعْقُوبُ بْنُ شَيْبَةَ ، وَقَالَ : هُوَ صَالِحُ الْإِسْنَادِ .
فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْخِيَارَ لِلْوَلِيِّ .
وَالْحَدِيثُ الْآخَرُ يُحْمَلُ عَلَى الْإِبَاحَةِ وَالِاسْتِحْبَابِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّهُ يُنْزَعُ عَنْهُ مِنْ لِبَاسِهِ مَا لَمْ يَكُنْ مِنْ عَامَّةِ لِبَاسِ النَّاسِ ، مِنْ الْجُلُودِ وَالْفِرَاءِ وَالْحَدِيدِ .
قَالَ أَحْمَدُ : لَا يُتْرَكُ عَلَيْهِ فَرْوٌ ، وَلَا خُفٌّ ، وَلَا جِلْدٌ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ .
وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يُنْزَعُ عَنْهُ فَرْوٌ وَلَا خُفٌّ وَلَا مَحْشُوٌّ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { ادْفِنُوهُمْ بِثِيَابِهِمْ .
} وَهَذَا عَامٌّ فِي الْكُلِّ ، وَمَا رَوَيْنَاهُ أَخَصُّ ، فَكَانَ أَوْلَى .

( 1632 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَإِنْ حُمِلَ وَبِهِ رَمَقٌ غُسِّلَ ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ ) مَعْنَى قَوْلِهِ : " رَمَقٌ " أَيْ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ .
فَهَذَا يُغَسَّلُ ، وَيُصَلَّى عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ شَهِيدًا ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { غَسَّلَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ ، وَصَلَّى عَلَيْهِ ، وَكَانَ شَهِيدًا ، رَمَاهُ ابْنُ الْعَرِقَةِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ بِسَهْمٍ ، فَقَطَعَ أَكْحَلَهُ ، فَحُمِلَ إلَى الْمَسْجِدِ ، فَلَبِثَ فِيهِ أَيَّامًا ، حَتَّى حَكَمَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ ، ثُمَّ انْفَتَحَ جُرْحُهُ فَمَاتَ .
} وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ مَتَى طَالَتْ حَيَاتُهُ بَعْدَ حَمْلِهِ غُسِّلَ ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ مَاتَ فِي الْمُعْتَرَكِ ، أَوْ عَقِبَ حَمْلِهِ ، لَمْ يُغَسَّلْ ، وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ .
وَنَحْوُ هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ ، قَالَ : إنْ أَكَلَ ، أَوْ شَرِبَ ، أَوْ بَقِيَ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً ، غُسِّلَ .
وَقَالَ أَحْمَدُ فِي مَوْضِعٍ : إنْ تَكَلَّمَ ، أَوْ أَكَلَ ، أَوْ شَرِبَ ، صُلِّيَ عَلَيْهِ .
وَقَوْلُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ نَحْوٌ مِنْ هَذَا .
وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْمَجْرُوحِ إذَا بَقِيَ فِي الْمُعْتَرَكِ يَوْمًا إلَى اللَّيْلِ ، ثُمَّ مَاتَ ، فَرَأَى أَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : إنْ مَاتَ حَالَ الْحَرْبِ ، لَمْ يُغَسَّلْ ، وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ ، وَإِلَّا فَلَا .
وَالصَّحِيحُ : التَّحْدِيدُ بِطُولِ الْفَصْلِ ، أَوْ الْأَكْلِ ؛ لِأَنَّ الْأَكْلَ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ ذِي حَيَاةٍ مُسْتَقِرَّةٍ ، وَطُولُ الْفَصْلِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ، وَقَدْ ثَبَتَ اعْتِبَارُهُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِع .
وَأَمَّا الْكَلَامُ وَالشُّرْبُ ، وَحَالَةُ الْحَرْبِ ، فَلَا يَصِحُّ التَّحْدِيدُ بِشَيْءٍ مِنْهَا ؛ لِأَنَّهُ يُرْوَى { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ أُحُدٍ : مَنْ يَنْظُرُ مَا فَعَلَ سَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ ؟ فَقَالَ رَجُلٌ : أَنَا أَنْظُرُ لَك يَا رَسُولَ اللَّهِ .
فَنَظَرَ فَوَجَدَهُ جَرِيحًا ، بِهِ رَمَقٌ ، فَقَالَ لَهُ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَنِي أَنْ أَنْظُرَ فِي الْأَحْيَاءِ أَنْتَ أَمْ

فِي الْأَمْوَاتِ ؟ قَالَ : فَأَنَا فِي الْأَمْوَاتِ ، فَأَبْلِغْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِّي السَّلَامَ .
وَذَكَرَ الْحَدِيثَ ، قَالَ : ثُمَّ لَمْ أَبْرَحْ أَنْ مَاتَ .
} وَرُوِيَ أَنَّ أُصَيْرِمَ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ وُجِدَ صَرِيعًا يَوْمَ أُحُدٍ ، فَقِيلَ لَهُ : مَا جَاءَ بِك ؟ قَالَ : أَسْلَمْت ، ثُمَّ جِئْت .
وَهُمَا مِنْ شُهَدَاءِ أُحُدٍ ، دَخَلَا فِي عُمُومِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { ادْفِنُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ وَثِيَابِهِمْ } .
وَلَمْ يُغَسِّلْهُمْ ، وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ ، وَقَدْ تَكَلَّمَا ، وَمَاتَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ .
وَفِي قِصَّةِ أَهْلِ الْيَمَامَةِ ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، أَنَّهُ طَافَ فِي الْقَتْلَى ، فَوَجَدَ أَبَا عَقِيلٍ الْأُنَيْفِيَّ قَالَ : فَسَقَيْته مَاءً ، وَبِهِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ جُرْحًا ، كُلُّهَا قَدْ خَلَصَ إلَى مَقْتَلٍ ، فَخَرَجَ الْمَاءُ مِنْ جِرَاحَاتِهِ كُلِّهَا ، فَلَمْ يُغَسَّل .
.
وَفِي فُتُوحِ الشَّامِ : أَنَّ رَجُلًا قَالَ : أَخَذْت مَاءً لِعَلِيٍّ أَسْقِي ابْنَ عَمِّي إنْ وَجَدْت بِهِ حَيَاةً ، فَوَجَدْت الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ فَأَرَدْت أَنْ أَسْقِيَهُ ، فَإِذَا رَجُلٌ يَنْظُرُ إلَيْهِ ، فَأَوْمَأَ لِي أَنْ أَسْقِيَهُ ، فَذَهَبْت إلَيْهِ لِأَسْقِيَهُ ، فَإِذَا آخَرُ يَنْظُرُ إلَيْهِ ، فَأَوْمَأَ لِي أَنْ أَسْقِيَهُ ، فَلَمْ أَصِلْ إلَيْهِ حَتَّى مَاتُوا كُلُّهُمْ ، وَلَمْ يُفْرَدْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِغُسْلٍ وَلَا صَلَاةٍ ، وَقَدْ مَاتُوا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ .

( 1633 ) فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَ الشَّهِيدُ عَادَ عَلَيْهِ سِلَاحُهُ فَقَتَلَهُ ، فَهُوَ كَالْمَقْتُولِ بِأَيْدِي الْعَدُوِّ .
وَقَالَ الْقَاضِي : يُغَسَّلُ ، وَيُصَلَّى عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ بِغَيْرِ أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ ، أَشْبَهَ مَا لَوْ أَصَابَهُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْمُعْتَرَكِ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى أَبُو دَاوُد ، عَنْ { رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَغَرْنَا عَلَى حَيٍّ مِنْ جُهَيْنَةَ ، فَطَلَبَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ رَجُلًا مِنْهُمْ ، فَضَرَبَهُ فَأَخْطَأَهُ ، فَأَصَابَ نَفْسَهُ بِالسَّيْفِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَخُوكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ .
فَابْتَدَرَهُ النَّاسُ ، فَوَجَدُوهُ قَدْ مَاتَ ، فَلَفَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثِيَابِهِ وَدِمَائِهِ ، وَصَلَّى عَلَيْهِ ، فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَشَهِيدٌ هُوَ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، وَأَنَا لَهُ شَهِيدٌ .
} وَعَامِرُ بْنُ الْأَكْوَعِ بَارَزَ مَرْحَبًا يَوْمَ خَيْبَرَ ، فَذَهَبَ يُسْفِلُ لَهُ ، فَرَجَعَ سَيْفُهُ عَلَى نَفْسِهِ ، فَكَانَتْ فِيهَا نَفْسُهُ .
فَلَمْ يُفْرَدْ عَنْ الشُّهَدَاءِ بِحُكْمٍ .
وَلِأَنَّهُ شَهِيدُ الْمَعْرَكَةِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَتَلَهُ الْكُفَّارُ ، وَبِهَذَا فَارَقَ ، مَا لَوْ كَانَ فِي غَيْرِ الْمُعْتَرَكِ ، فَأَمَّا إنْ سَقَطَ مِنْ دَابَّتِهِ ، أَوْ وُجِدَ مَيِّتًا وَلَا أَثَرَ بِهِ ، فَإِنَّهُ يُغَسَّلُ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، وَتَأَوَّلَ الْحَدِيثَ : { ادْفِنُوهُمْ بِكُلُومِهِمْ } .
فَإِذَا كَانَ بِهِ كَلْمٌ لَمْ يُغَسَّلْ .
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الَّذِي يُوجَدُ مَيِّتًا لَا أَثَرَ بِهِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يُغَسَّلُ بِحَالٍ ؛ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ مَاتَ بِسَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الْقِتَالِ .
وَلَنَا ، أَنَّ الْأَصْلَ وُجُوبُ الْغُسْلِ ، فَلَا يَسْقُطُ بِالِاحْتِمَالِ ، وَلِأَنَّ سُقُوطَ الْغُسْلِ فِي مَحَلِّ الْوِفَاقِ مَقْرُونٌ بِمَنْ كُلِمَ ، فَلَا يَجُوزُ حَذْفُ ذَلِكَ عَنْ دَرَجَةِ الِاعْتِبَارِ .

( 1634 ) فَصْلٌ : وَمَنْ قُتِلَ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ فِي الْمَعْرَكَةِ ، فَحُكْمُهُ فِي الْغُسْلِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ ، حُكْمُ مَنْ قُتِلَ فِي مَعْرَكَةِ الْمُشْرِكِينَ ؛ لِأَنَّ عَلِيًّا لَمْ يُغَسِّلْ مَنْ قُتِلَ مَعَهُ ، وَعَمَّارٌ أَوْصَى أَنْ لَا يُغَسَّلَ ، وَقَالَ : ادْفِنُونِي فِي ثِيَابِي ، فَإِنِّي مُخَاصِمٌ .
قَالَ أَحْمَدُ : قَدْ أَوْصَى أَصْحَابُ الْجَمَلِ : إنَّا مُسْتَشْهِدُونَ غَدًا ، فَلَا تَنْزِعُوا عَنَّا ثَوْبًا ، وَلَا تَغْسِلُوا عَنَّا دَمًا .
وَلِأَنَّهُ شَهِيدُ الْمَعْرَكَةِ ، أَشْبَهَ قَتِيلَ الْكُفَّارِ .
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ، فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ : يُغَسَّلُونَ ؛ لِأَنَّ أَسْمَاءَ غَسَّلَتْ ابْنَهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ .
وَالْأَوَّلُ أَوْلَى ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ ، وَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ فَإِنَّهُ أُخِذَ وَصُلِبَ ، فَهُوَ كَالْمَقْتُولِ ظُلْمًا ، وَلَيْسَ بِشَهِيدِ الْمَعْرَكَةِ .
وَأَمَّا الْبَاغِي ، فَقَالَ الْخِرَقِيِّ : مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ ، غُسِّلَ ، وَكُفِّنَ ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ .
وَيُحْتَمَلُ إلْحَاقُهُ بِأَهْلِ الْعَدْلِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ إلَيْنَا غُسْلُ أَهْلِ الْجَمَلِ وَصِفِّينَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ، وَلِأَنَّهُمْ يَكْثُرُونَ فِي الْمُعْتَرَكِ ، فَيَشُقُّ غُسْلُهُمْ ، فَأَشْبَهُوا أَهْلَ الْعَدْلِ .
فَأَمَّا الصَّلَاةُ عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّنَا شَبَّهْنَاهُمْ بِشُهَدَاءِ مَعْرَكَةِ الْمُشْرِكِينَ فِي الْغُسْلِ ، فَكَذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَلَّى عَلَيْهِمْ .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71