الكتاب : المغني
المؤلف : أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد ، الشهير بابن قدامة المقدسي

مِلْكِهِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ جَنَى إنْسَانٌ عَلَى عَبْدِهِ .
ثُمَّ وَهَبَهُ لِغَيْرِهِ ، فَتَلِفَ بِالْجِنَايَةِ السَّابِقَةِ وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : يَصِحُّ الْعَفْوُ مُطْلَقًا ، وَيُؤْخَذُ مِنْ الرَّاهِنِ قِيمَتُهُ تَكُونُ رَهْنًا ؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ دَيْنَهُ عَنْ غَرِيمِهِ ، فَصَحَّ ، كَسَائِرِ دُيُونِهِ .
قَالَ : وَلَا يُمْكِنُ كَوْنُهُ رَهْنًا مَعَ عَدَمِ حَقِّ الرَّاهِنِ فِيهِ ، فَلَزِمَتْهُ الْقِيمَةُ ، لِتَفْوِيتِهِ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ تَلِفَ بَدَلُ الرَّهْنِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَصِحُّ الْعَفْوُ أَصْلًا ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ مُتَعَلِّقٌ بِهِ ، فَلَمْ يَصِحَّ عَفْوُ الرَّاهِنِ عَنْهُ كَالرَّهْنِ نَفْسِهِ ، وَكَمَا لَوْ وُهِبَ الرَّهْنُ أَوْ غُصِبَ ، فَعُفِيَ عَنْ غَاصِبِهِ .
وَهَذَا أَصَحُّ فِي النَّظَرِ ، وَإِنْ قَالَ الْمُرْتَهِنُ : أَسْقَطْت حَقِّي مِنْ ذَلِكَ .
سَقَطَ ؛ لِأَنَّهُ يَنْفَعُ الرَّاهِنَ وَلَا يَضُرُّهُ .
وَإِنْ قَالَ : أَسْقَطْت الْأَرْشَ .
أَوْ : أَبْرَأْت مِنْهُ .
لَمْ يَسْقُطْ ؛ لِأَنَّهُ مِلْكٌ لِلرَّاهِنِ ، فَلَا يَسْقُطُ بِإِسْقَاطِ غَيْرِهِ وَهَلْ يَسْقُطُ حَقُّهُ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، يَسْقُطُ .
وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَتَضَمَّنُ إسْقَاطَ حَقِّهِ ، فَإِذَا لَمْ يَسْقُطْ حَقُّ غَيْرِهِ سَقَطَ حَقُّهُ ، كَمَا لَوْ قَالَ : أَسْقَطْت حَقِّي وَحَقَّ الرَّاهِنِ .
وَالثَّانِي : لَا يَسْقُطُ ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ وَالْإِبْرَاءَ مِنْهُ لَا يَصِحُّ .
فَلَمْ يَصِحَّ مَا تَضَمَّنَهُ .

( 3353 ) فَصْلٌ : وَإِذَا أَقَرَّ رَجُلٌ بِالْجِنَايَةِ عَلَى الرَّهْنِ ، فَكَذَّبَاهُ ، فَلَا شَيْءَ لَهُمَا .
وَإِنْ كَذَّبَهُ الْمُرْتَهِنُ ، وَصَدَّقَهُ الرَّاهِنُ ، فَلَهُ الْأَرْشُ ، وَلَا حَقَّ لِلْمُرْتَهِنِ فِيهِ ، فَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُرْتَهِنُ وَحْدَهُ ، تَعَلَّقَ حَقُّهُ بِالْأَرْشِ ، وَلَهُ قَبْضُهُ .
فَإِذَا قَضَى الرَّاهِنُ الْحَقَّ ، أَوْ أَبْرَأَهُ الْمُرْتَهِنُ ، رَجَعَ الْأَرْشُ إلَى الْجَانِي ، وَلَا شَيْءَ لِلرَّاهِنِ فِيهِ .
وَإِنْ اسْتَوْفَى حَقَّهُ مِنْ الْأَرْشِ ، لَمْ يَمْلِكْ الْجَانِي مُطَالَبَةَ الرَّاهِنِ بِشَيْءِ ؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ لَهُ بِاسْتِحْقَاقِهِ .

( 3354 ) فَصْلٌ : وَلَوْ كَانَ الرَّهْنُ أَمَةً حَامِلًا ، فَضَرَبَ بَطْنَهَا أَجْنَبِيٌّ ، فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا ، فَفِيهِ عُشْرُ قِيمَةِ أُمِّهِ .
وَإِنْ أَلْقَتْهُ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ لِوَقْتِ يَعِيشُ مِثْلُهُ ، فَفِيهِ قِيمَتُهُ .
وَلَا يَجِبُ ضَمَانُ نَقْصِ الْوِلَادَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَيَّزُ نَقْصُهَا عَمَّا وَجَبَ ضَمَانُهُ مِنْ وَلَدِهَا .
وَيَحْتَمِلَ أَنْ يَضْمَنَ نَقْصَهَا بِالْوِلَادَةِ ؛ لِأَنَّهُ حُصِلَ بِفِعْلِهِ ، فَلَزِمَهُ ضَمَانُهُ ، كَمَا لَوْ غَصَبَهَا ثُمَّ جَنَى عَلَيْهَا .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَجِبَ أَكْثَرُ الْأَمْرَيْنِ ؛ مِنْ نَقْصِهَا ، أَوْ ضَمَانِ جَنِينِهَا ؛ لِأَنَّ سَبَبَ ضَمَانِهَا وُجِدَ ، فَإِذَا لَمْ يَجْتَمِعْ ضَمَانُهُمَا ، وَجَبَ ضَمَانُ أَكْثَرِهِمَا .
وَإِنْ ضَرَبَ بَطْنَ بَهِيمَةٍ ، فَأَلْقَتْ وَلَدَهَا مَيِّتًا ، فَفِيهِ مَا نَقَصَتْهَا الْجِنَايَةُ لَا غَيْرُ ، وَمَا وَجَبَ مِنْ ذَلِكَ كُلّه فَهُوَ رَهْنٌ مَعَ الْأُمِّ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ مَا وَجَبَ لِنَقْصِ الْأُمِّ ، أَوْ لِنَقْصِ الْبَهِيمَةِ ، فَهُوَ رَهْنٌ مَعَهَا ، وَكَذَلِكَ مَا وَجَبَ فِي وَلَدِهَا ، وَمَا وَجَبَ فِي جَنِينِ الْأَمَةِ فَلَيْسَ بِرَهْنٍ ؛ لِأَنَّ نَمَاءَ الرَّهْنِ لَيْسَ بِرَهْنٍ .
وَلَنَا أَنَّ هَذَا ضَمَانٌ يَجِبُ بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ عَلَى الرَّهْنِ ، فَكَانَ مِنْ الرَّهْنِ ، كَالْوَاجِبِ لِنَقْصِ الْوِلَادَةِ وَضَمَانِ وَلَدِ الْبَهِيمَةِ .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّ نَمَاءَ الرَّهْنِ لَا يَدْخُلُ فِي الرَّهْنِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ .

( 3355 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : وَإِذَا اشْتَرَى مِنْهُ سِلْعَةً ، عَلَى أَنْ يَرْهَنَهُ بِهَا شَيْئًا مِنْ مَالِهِ يَعْرِفَانِهِ ، أَوْ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ بِالثَّمَنِ حَمِيلًا يَعْرِفَانِهِ ، فَالْبَيْعُ جَائِزٌ .
فَإِنْ أَبَى تَسْلِيمَ الرَّهْنِ ، أَوْ أَبَى الْحَمِيلُ أَنْ يَتَحَمَّلَ ، فَالْبَائِعُ مُخَيَّرٌ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ ، وَفِي إقَامَتِهِ بِلَا رَهْنٍ وَلَا حَمِيلٍ الْحَمِيلُ : الضَّمِينُ .
وَهُوَ فَعِيلَ بِمَعْنَى فَاعِلٍ ، يُقَالُ : ضَمِينٌ ، وَحَمِيلٌ ، وَقَبِيلٌ ، وَكَفِيلٌ ، وَزَعِيمٌ ، وَصَبِيرٌ ، بِمَعْنَى وَاحِدٍ .
وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْبَيْعَ بِشَرْطِ الرَّهْنِ أَوْ الضَّمِينِ صَحِيحٌ ، وَالشَّرْطُ صَحِيحٌ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ مِنْ مَصْلَحَةِ الْعَقْدِ ، غَيْرُ مُنَافٍ لِمُقْتَضَاهُ ، وَلَا نَعْلَمُ فِي صِحَّتِهِ خِلَافًا إذَا كَانَ مَعْلُومًا ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْخِرَقِيِّ يَعْرِفَانِهِ فِي الرَّهْنِ وَالضَّمِينِ مَعًا وَمَعْرِفَةُ الرَّهْنِ تَحْصُلُ بِأَحَدِ شَيْئَيْنِ ؛ الْمُشَاهَدَةُ ، أَوْ الصِّفَةُ الَّتِي يُعْلَمُ بِهَا الْمَوْصُوفُ ، كَمَا فِي السَّلَمِ .
وَيَتَعَيَّنُ بِالْقَبْضِ .
وَأَمَّا الضَّمِينُ فَيُعْلَمُ بِالْإِشَارَةِ إلَيْهِ ، أَوْ تَعْرِيفِهِ بِالِاسْمِ وَالنَّسَبِ ، وَلَا يَصِحُّ بِالصِّفَةِ بِأَنْ يَقُولَ : رَجُلٌ غَنِيٌّ .
مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ ؛ لِأَنَّ الصِّفَةَ لَا تَأْتِي عَلَيْهِ .
وَلَوْ قَالَ : بِشَرْطِ رَهْنٍ أَوْ ضَمِينٍ .
كَانَ فَاسِدًا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ ، وَلَيْسَ لَهُ عُرْفٌ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ بِإِطْلَاقِ .
وَلَوْ قَالَ : بِشَرْطِ رَهْنِ أَحَدِ هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ .
أَوْ : يَضْمَنُنِي أَحَدُ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ .
لَمْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ يَخْتَلِفُ .
فَلَمْ يَصِحَّ مَعَ عَدَمِ التَّعْيِينِ ، كَالْبَيْعِ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ وَأَبِي ثَوْرٍ أَنَّهُ يَصِحُّ شَرْطُ الرَّهْنِ الْمَجْهُولِ ، وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ رَهْنًا بِقَدْرِ الدَّيْنِ ؛ لِأَنَّهُ وَثِيقَةٌ ، فَجَازَ شَرْطُهَا مُطْلَقًا ، كَالشَّهَادَةِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إذَا قَالَ : عَلَى أَنْ أَرْهَنَك أَحَدَ هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ .
جَازَ ؛ لِأَنَّ بَيْعَهُ جَائِزٌ عِنْدَهُ .

وَلَنَا ، أَنَّهُ شَرَطَ رَهْنًا مَجْهُولًا ، فَلَمْ يَصِحَّ ، كَمَا لَوْ شَرَطَ رَهْنَ مَا فِي كُمِّهِ ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ يَخْتَلِفُ فِيهِ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ ، فَلَمْ يَصِحَّ مَعَ الْجَهْلِ ، كَالْبَيْعِ ، وَفَارَقَ الشَّهَادَةَ ، فَإِنْ لَهَا عُرْفًا فِي الشَّرْعِ حُمِلَتْ عَلَيْهِ ، وَالْكَلَامُ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ قَدْ مَضَى فِي الْبَيْعِ ، فَإِنَّ الْخِلَافَ فِيهِمَا وَاحِدٌ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ إنْ وَفَّى بِالشَّرْطِ ، فَسَلَّمَ الرَّهْنَ ، أَوْ حَمَلَ عَنْهُ الْحَمِيلُ ، لَزِمَ الْبَيْعُ ، وَإِنْ أَبَى تَسْلِيمَ الرَّهْنِ ، أَوْ أَبَى الْحَمِيلُ أَنْ يَتَحَمَّلَ عَنْهُ ، فَلِلْبَائِعِ الْخِيَارُ بَيْنَ فَسْخِ الْبَيْعِ وَبَيْنَ إمْضَائِهِ وَالرِّضَا بِهِ بِلَا رَهْنٍ وَلَا حَمِيلٍ ، فَإِنْ رَضِيَ بِهِ لَزِمَهُ الْبَيْعُ .
وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ .
وَلَا يَلْزَمُ الْمُشْتَرِيَ تَسْلِيمُ الرَّهْنِ وَقَالَ مَالِك وَأَبُو ثَوْرٍ : يَلْزَمُ الرَّهْنُ إذَا كَانَ مَشْرُوطًا فِي عَقْدِ الْبَيْعِ .
وَيُجْبَرُ عَلَيْهِ الْمُشْتَرِي .
وَإِنْ وَجَدَهُ الْحَاكِمُ دَفَعَهُ إلَى الْبَائِعِ ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ وَقَعَ عَلَيْهِ ، فَأَشْبَهَ الْخِيَارَ وَقَالَ الْقَاضِي : مَا عَدَا الْمَكِيلَ وَالْمَوْزُونَ يَلْزَمُ فِيهِ الرَّهْنُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ .
وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِي أَوَّلِ الْبَابِ .
وَلِأَنَّهُ رَهْنٌ ، فَلَمْ يَلْزَمْ قَبْلَ الْقَبْضِ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ مَشْرُوطًا فِي الْبَيْعِ ، أَوْ كَغَيْرِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ ، وَإِنَّمَا لَزِمَ الْخِيَارُ وَالْأَجَلُ بِالشَّرْطِ ، لِأَنَّهُ مِنْ تَوَابِعِ الْبَيْعِ ، لَا يَنْفَرِدُ بِنَفْسِهِ ، وَالرَّهْنُ عَقْدٌ مُنْفَرِدٌ بِنَفْسِهِ لَيْسَ مِنْ التَّوَابِعِ ، وَلِأَنَّ الْخِيَارَ وَالْأَجَلَ يَثْبُتُ بِالْقَوْلِ ، وَلَا يَفْتَقِرُ إلَى تَسْلِيمٍ ، فَاكْتُفِيَ فِي ثُبُوتِهِ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ ، بِخِلَافِ الرَّهْنِ .
وَأَمَّا الضَّمِينُ ، فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ ، إذْ لَا يَلْزَمُهُ شَغْلُ ذِمَّتِهِ وَأَدَاءُ دَيْنِ غَيْرِهِ بِاشْتِرَاطِ غَيْرِهِ وَلَوْ وَعَدَهُ بِأَنَّهُ يَضْمَنُ ، ثُمَّ لَمْ يَفْعَلْ ، لَمْ

يَلْزَمْ فِي الْحُكْمِ ، كَمَا لَوْ وَعَدَهُ أَنَّهُ يَبِيعُهُ ، ثُمَّ أَبَى ذَلِكَ .
وَمَتَى لَمْ يَفِ الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ بِشَرْطِهِ ، كَانَ لَهُ الْفَسْخُ ، كَمَا لَوْ شَرَطَ صِفَةً فِي الثَّمَنِ ، فَلَمْ يَفِ بِهَا ، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ ، فَإِذَا لَمْ يَفِ بِمَا شَرَطَ فِي الْعَقْدِ ، ثَبَتَ الْخِيَارُ لِصَاحِبِهِ ، كَالْبَائِعِ إذَا شَرَطَ الْمَبِيعَ عَلَى صِفَةٍ ، فَبَانَ بِخِلَافِهَا .

( 3356 ) فَصْلٌ : وَلَوْ شَرَطَ رَهْنًا ، أَوْ ضَمِينًا مُعَيَّنًا ، فَجَاءَ بِغَيْرِهِمَا ، لَمْ يَلْزَمْ الْبَائِعَ قَبُولُهُ ، وَإِنْ كَانَ مَا أَتَى بِهِ خَيْرًا مِنْ الْمَشْرُوطِ ، مِثْلُ أَنْ يَأْتِيَ بِأَكْثَرَ قِيمَةً مِنْ الْمَشْرُوطِ ، وَحَمِيلٍ أَوْثَقَ مِنْ الْمُعَيَّنِ ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ عَلَى مُعَيَّنٍ ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُ غَيْرِهِ ، كَالْبَيْعِ ، وَلِأَنَّ الْغَرَضَ يَخْتَلِفُ بِالْأَعْيَانِ ، فَمِنْهَا مَا يَسْهُلُ بَيْعُهُ وَالِاسْتِيفَاءُ مِنْ ثَمَنِهِ ، وَمِنْهَا مَا هُوَ أَقَلُّ مُؤْنَةً وَأَسْهَلُ حِفْظًا ، وَبَعْضُ الذِّمَمِ أَمْلَأُ مِنْ بَعْضِ ، وَأَسْهَلُ إيفَاءً ، فَلَا يَلْزَمُهُ قَبُولُ غَيْرِ مَا عَيَّنَهُ ، كَسَائِرِ الْعُقُودِ .

( 3357 ) فَصْلٌ : وَإِنْ تَعَيَّبَ الرَّهْنُ ، أَوْ اسْتَحَالَ الْعَصِيرُ خَمْرًا قَبْلَ قَبْضِهِ ، فَلِلْبَائِعِ الْخِيَارُ بَيْنَ قَبْضِهِ مَعِيبًا ، وَرِضَاهُ بِلَا رَهْنٍ فِيمَا إذَا تَخَمَّرَ الْعَصِيرُ ، وَبَيْنَ فَسْخِ الْبَيْعِ وَرَدِّ الرَّهْنِ .
وَإِنْ عَلِمَ بِالْعَيْبِ بَعْدَ قَبْضِهِ ، فَكَذَلِكَ .
وَلَيْسَ لَهُ مَعَ إمْسَاكِهِ أَرْشٌ مِنْ أَجْلِ الْعَيْبِ ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ إنَّمَا لَزِمَ فِيمَا حَصَلَ قَبْضُهُ ، وَهُوَ الْمَوْجُودُ ، وَالْجُزْءُ الْفَائِتُ لَمْ يَلْزَمْ تَسْلِيمُهُ ، فَلَمْ يَلْزَمْ الْأَرْشُ بَدَلًا عَنْهُ ، بِخِلَافِ الْمَبِيعِ .
وَإِنْ تَلِفَ أَوْ تَعَيَّبَ بَعْدَ الْقَبْضِ ، فَلَا خِيَارَ لِلْبَائِعِ .
وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي زَمَنِ حُدُوثِ الْعَيْبِ ، وَهُوَ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ إلَّا قَوْلَ أَحَدِهِمَا ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ إنَّمَا تُرَادُ لِدَفْعِ الِاحْتِمَالِ ، وَهَذَا لَا يَحْتَمِلُ .
وَإِنْ احْتَمَلَ قَوْلَيْهِمَا مَعًا ، انْبَنَى عَلَى اخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعَيْنِ فِي حُدُوثِ الْعَيْبِ فِي الْمَبِيعِ ، وَفِيهِ رِوَايَتَانِ ، فَيَكُونُ فِيهِ هَاهُنَا وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، الْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ لِأَنَّ الْأَصْلَ صِحَّةُ الْعَقْدِ وَلُزُومُهُ وَالْآخَرُ ، الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ ، وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ لِقَوْلِهِ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْبَيْعِ ، لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي قَبْضِ الْمُرْتَهِنِ لِلْجُزْءِ الْفَائِتِ ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ ، كَمَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي قَبْضِ جُزْءٍ مُنْفَصِلٍ مِنْهُ .
وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي زَمَنِ التَّلَفِ ، فَقَالَ الرَّاهِنُ : بَعْدَ الْقَبْضِ .
وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ : قَبْلَهُ .
فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِلْقَبْضِ وَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ عَصِيرًا فَاسْتَحَالَ خَمْرًا ، وَاخْتَلَفَا فِي زَمَنِ اسْتِحَالَتِهِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
وَقَالَ الْقَاضِي : يُخَرَّجُ فِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى ، أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ ، كَالِاخْتِلَافِ فِي الْبَيْعِ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ

الْقَبْضِ ، كَمَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي زَمَنِ التَّلَفِ وَلَنَا ، أَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى الْعَقْدِ وَالْقَبْضِ ، وَاخْتَلَفَا فِيمَا يَفْسُدُ بِهِ ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ يَنْفِيه ، كَمَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي شَرْطٍ فَاسِدٍ ، وَيُفَارِقُ اخْتِلَافَهُمَا فِي حُدُوثِ الْعَيْبِ مِنْ وَجْهَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا ، أَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى الْقَبْضِ هَاهُنَا ، وَثَمَّ اخْتَلَفَا فِي قَبْضِ الْجُزْءِ الْفَائِتِ الثَّانِي ، أَنَّهُمَا اخْتَلَفَا هُنَا فِيمَا يُفْسِدُ الْعَقْدَ ، وَالْعَيْبُ بِخِلَافِهِ .

( 3358 ) فَصْلٌ : وَلَوْ وَجَدَ بِالرَّهْنِ عَيْبًا بَعْدَ أَنْ حَدَثَ عِنْدَهُ عَيْبٌ آخَرُ ، فَلَهُ رَدُّهُ وَفَسْخُ الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّ الْعَيْبَ الْحَادِثَ فِي مِلْكِ الرَّاهِنِ لَا يَلْزَمُ الْمُرْتَهِنَ ضَمَانُهُ ، بِخِلَافِ الْمَبِيعِ .
وَخَرَّجَهُ الْقَاضِي عَلَى رِوَايَتَيْنِ ، بِنَاءً عَلَى الْبَيْعِ ، فَعَلَى قَوْلِهِ : لَا يَمْلِكُ الرَّدَّ .
لَا يَمْلِكُ الْفَسْخَ .
وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرْنَاهُ .
وَإِنْ هَلَكَ الرَّهْنُ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ ، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ مَعِيبًا ، لَمْ يَمْلِكْ فَسْخَ الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ رَدُّهُ .
فَإِنْ قِيلَ : فَالرَّهْنُ غَيْرُ مَضْمُونٍ ، وَلِهَذَا لَا يُمْنَعُ رَدُّهُ بِحُدُوثِ الْعَيْبِ فِيهِ ، قُلْنَا : إنَّمَا تُضْمَنُ قِيمَتُهُ ، لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَقَعْ عَلَى مِلْكِهِ ، وَإِنَّمَا وَقَعَ عَلَى الْوَثِيقَةِ ، فَهُوَ مَضْمُونٌ بِالْوَثِيقَةِ ، أَمَّا إذَا تَعَيَّبَ فَقَدْ رَدَّهُ ، فَيَسْتَحِقُّ بَدَلَ مَا رَدَّهُ ، وَهَاهُنَا لَمْ يَرُدَّ شَيْئًا ، فَلَوْ أَوْجَبْنَا لَهُ بَدَلَهُ ، لَأَوْجَبْنَا عَلَى الرَّاهِنِ غَيْرَ مَا شَرَطَ عَلَى نَفْسِهِ .

( 3359 ) فَصْلٌ : وَلَوْ لَمْ يَشْتَرِطَا رَهْنًا فِي الْبَيْعِ ، فَتَطَوَّعَ الْمُشْتَرِي بِرَهْنٍ ، وَقَبَضَهُ الْبَائِعُ ، كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ الرَّهْنِ الْمَشْرُوطِ فِي الْبَيْعِ ، وَلَا يَنْفَكُّ شَيْءٌ مِنْهُ حَتَّى يَقْضِيَ جَمِيعَ الدَّيْنِ ، وَلَا يَمْلِكُ الرَّاهِنُ انْتِزَاعَهُ ، وَلَا التَّصَرُّفَ فِيهِ ، إلَّا بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ ، إلَّا أَنَّهُ إذَا رَدَّهُ بِعَيْبِ أَوْ غَيْرِهِ ، لَمْ يَمْلِكْ فَسْخَ الْبَيْعِ .

( 3360 ) فَصْلٌ : وَإِذَا تَبَايَعَا بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ رَهْنًا عَلَى ثَمَنِهِ ، لَمْ يَصِحَّ قَالَهُ ابْنُ حَامِدٍ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ الْمَبِيعَ حِينَ شَرَطَ رَهْنَهُ لَمْ يَكُنْ مِلْكًا لَهُ ، وَسَوَاءٌ شَرَطَ أَنَّهُ يَقْبِضُهُ ثُمَّ يَرْهَنُهُ ، أَوْ شَرَطَ رَهْنَهُ قَبْلَ قَبْضِهِ ، وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهُ قَالَ : إذَا حَبَسَ الْمَبِيعَ بِبَقِيَّةِ الثَّمَنِ ، فَهُوَ غَاصِبٌ ، وَلَا يَكُونُ رَهْنًا إلَّا أَنْ يَكُونَ شَرْطًا عَلَيْهِ فِي نَفْسِ الْبَيْعِ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الشَّرْطِ ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ ، فَجَازَ رَهْنُهُ .
وَقَالَ الْقَاضِي : مَعْنَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ ، أَنَّهُ شَرَطَ عَلَيْهِ فِي نَفْسِ الْبَيْعِ رَهْنًا غَيْرَ الْمَبِيعِ ، فَيَكُونُ لَهُ حَبْسُ الْمَبِيعِ حَتَّى يَقْبِضَ الرَّهْنَ ، وَإِنْ لَمْ يَفِ بِهِ فُسِخَ الْبَيْعُ .
فَأَمَّا شَرْطُ رَهْنِ الْمَبِيعِ بِعَيْنِهِ عَلَى ثَمَنِهِ ، فَلَا يَصِحُّ ؛ لِوُجُوهِ ، مِنْهَا أَنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لَهُ .
وَمِنْهَا أَنَّ الْبَيْعَ يَقْتَضِي إيفَاءَ الثَّمَنِ مِنْ غَيْرِ الْمَبِيعِ وَالرَّهْنُ يَقْتَضِي الْوَفَاءَ مِنْهُ .
وَمِنْهَا أَنَّ الْبَيْعَ يَقْتَضِي تَسْلِيمَ الْمَبِيعِ أَوَّلًا ، وَرَهْنُ الْمَبِيعِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يُسَلِّمَهُ حَتَّى يَقْبِضَ الثَّمَنَ .
وَمِنْهَا أَنَّ الْبَيْعَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ إمْسَاكُ الْمَبِيعِ مَضْمُونًا ، وَالرَّهْنُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ مَضْمُونًا ، وَهَذَا يُوجِبُ تَنَاقُضَ أَحْكَامِهِمَا .
وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ صِحَّةُ رَهْنِهِ .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ .
قُلْنَا إنَّمَا شَرَطَ رَهْنَهُ بَعْدَ مِلْكِهِ .
وَقَوْلُهُمْ الْبَيْعَ يَقْتَضِي إيفَاءَ الثَّمَنِ مِنْ غَيْرِ الْمَبِيعِ .
غَيْرُ صَحِيحٍ ، إنَّمَا يَقْتَضِي وَفَاءَ الثَّمَنِ مُطْلَقًا ، وَلَوْ تَعَذَّرَ وَفَاءُ الثَّمَنِ مِنْ غَيْرِ الْمَبِيعِ لَاسْتُوْفِيَ مِنْ ثَمَنِهِ .
وَقَوْلُهُمْ : الْبَيْعُ يَقْتَضِي تَسْلِيمَ الْمَبِيعِ قَبْلَ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ .
مَمْنُوعٌ .
وَإِنْ سُلِّمَ فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُثْبِتَ بِالشَّرْطِ خِلَافُهُ .
كَمَا أَنَّ مُقْتَضَى الْبَيْعِ حُلُولُ الثَّمَنِ وَوُجُوبُ تَسْلِيمه فِي

الْحَالِ ، وَلَوْ شَرَطَ التَّأْجِيلَ جَازَ ، وَكَذَلِكَ مُقْتَضَى الْبَيْعِ ثُبُوتُ الْمِلْكِ فِي الْمَبِيعِ ، وَالتَّمْكِينُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ ، وَيَنْتَفِي بِشَرْطِ الْخِيَارِ ، وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَنْ الْوَجْهِ الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ .
فَأَمَّا إنْ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ فِي الْبَيْعِ ، لَكِنْ رَهَنَهُ عِنْدَهُ بَعْدَ الْبَيْعِ ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ لُزُومِ الْبَيْعِ ، فَالْأَوْلَى صِحَّتُهُ ؛ لِأَنَّهُ يَصِحُّ رَهْنُهُ عِنْدَ غَيْرِهِ ، فَصَحَّ عِنْدَهُ كَغَيْرِهِ ، وَلِأَنَّهُ يَصِحُّ رَهْنُهُ عَلَى غَيْرِ ثَمَنِهِ ، فَصَحَّ رَهْنُهُ عَلَى ثَمَنِهِ .
وَإِنْ كَانَ قَبْلَ لُزُومِ الْبَيْعِ ، انْبَنَى عَلَى جَوَازِ التَّصَرُّفِ فِي الْمَبِيعِ ، فَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ جَازَ التَّصَرُّفُ فِيهِ جَازَ رَهْنُهُ ، وَمَا لَا فَلَا ؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ تَصَرُّفٍ ، فَأَشْبَهَ بَيْعَهُ .

( 3361 ) فَصْلٌ : وَإِذَا شَرَطَ فِي الْبَيْعِ رَهْنًا فَاسِدًا كَالْمُحَرَّمِ ، وَالْمَجْهُولِ ، وَالْمَعْدُومِ ، وَمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ ، أَوْ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ ، أَوْ شَرَطَ رَهْنَ الْمَبِيعِ عَلَى ثَمَنِهِ ، فَفِي فَسَادِ الْبَيْعِ رِوَايَتَانِ ، مَضَى تَوْجِيهُهُمَا فِي الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فِي الْبَيْعِ .
وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ هَاهُنَا فَسَادَ الْبَيْعِ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَقَدْ مَضَى ذِكْرُ ذَلِكَ .

( 3362 ) فَصْلٌ : وَالشُّرُوطُ فِي الرَّهْنِ تَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ ؛ صَحِيحًا وَفَاسِدًا ، فَالصَّحِيحُ مِثْلُ أَنْ يَشْتَرِطَ كَوْنَهُ عَلَى يَدِ عَدْلٍ عَيَّنَهُ ، أَوْ عَدْلَيْنِ ، أَوْ أَكْثَرِ ، أَوْ أَنْ يَبِيعَهُ الْعَدْلُ عِنْدَ حُلُولِ الْحَقِّ .
وَلَا نَعْلَمُ فِي صِحَّةِ هَذَا خِلَافًا ، وَإِنْ شَرَطَ أَنْ يَبِيعَهُ الْمُرْتَهِنُ ، صَحَّ .
وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ تَوْكِيلٌ فِيمَا يَتَنَافَى فِيهِ الْغَرَضَانِ ، فَلَمْ يَصِحَّ ، كَمَا لَوْ وَكَّلَهُ فِي بَيْعِهِ مِنْ نَفْسِهِ .
وَوَجْهُ التَّنَافِي أَنَّ الرَّاهِنَ يُرِيدُ الصَّبْرَ عَلَى الْمَبِيعِ ، وَالِاحْتِيَاطَ فِي تَوْفِيرِ الثَّمَنِ ، وَالْمُرْتَهِنَ يُرِيدُ تَعْجِيلَ الْحَقِّ ، وَإِنْجَازَ الْبَيْعِ .
وَلَنَا ، أَنَّ مَا جَازَ تَوْكِيلُ غَيْرِ الْمُرْتَهِنِ فِيهِ ، جَازَ تَوْكِيلُ الْمُرْتَهِنِ فِيهِ ، كَبَيْعِ عَيْنٍ أُخْرَى ، وَلِأَنَّ مَنْ جَازَ أَنْ يُشْتَرَطَ لَهُ الْإِمْسَاكُ ، جَازَ اشْتِرَاطُ الْبَيْعِ لَهُ ، كَالْعَدْلِ ، وَلَا يَضُرُّ اخْتِلَافُ الْغَرَضَيْنِ ، إذَا كَانَ غَرَضُ الْمُرْتَهِنِ مُسْتَحَقًّا لَهُ ، وَهُوَ اسْتِيفَاءُ الثَّمَنِ عِنْدَ حُلُولِ الْحَقِّ ، وَإِنْجَازِ الْبَيْعِ ؛ وَعَلَى أَنَّ الرَّاهِنَ إذَا وَكَّلَهُ مَعَ الْعِلْمِ بِغَرَضِهِ ، فَقَدْ سَمَحَ لَهُ بِذَلِكَ ، وَالْحَقُّ لَهُ ، فَلَا يُمْنَعُ مِنْ السَّمَاحَةِ بِهِ ، كَمَا لَوْ وَكَّلَ فَاسِقًا فِي بَيْعِ مَالِهِ وَقَبْضِ ثَمَنِهِ .
وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَوْكِيلُهُ فِي بَيْعِ شَيْءٍ مِنْ نَفْسِهِ ، وَإِنْ سَلَّمْنَا ، فَلِأَنَّ الشَّخْصَ الْوَاحِدَ يَكُونُ بَائِعًا مُشْتَرِيًا ، وَمُوجِبًا ، قَابِلًا ، وَقَابِضًا مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا .

( 3363 ) فَصْلٌ : وَإِذَا رَهَنَهُ أَمَةً ، فَشَرَطَ كَوْنَهَا عِنْدَ امْرَأَةٍ ، أَوْ ذِي مَحْرَمٍ لَهَا ، أَوْ كَوْنَهَا فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ ، أَوْ أَجْنَبِيٍّ عَلَى وَجْهٍ لَا يُفْضِي إلَى الْخَلْوَةِ بِهَا ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ لَهُمَا زَوْجَاتٌ ، أَوْ سَرَارِيٌّ ، أَوْ نِسَاءٌ مِنْ مَحَارِمِهِمَا مَعَهُمَا فِي دَارِهِمَا ، جَازَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُفْضِي إلَى مُحَرَّمٍ .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ ، فَسَدَ الشَّرْطُ ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى الْخَلْوَةِ الْمُحَرَّمَةِ ، وَلَا يُؤْمَنُ عَلَيْهَا .
وَلَا يَفْسُدُ الرَّهْنُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعُودُ إلَى نَقْصٍ ، وَلَا ضَرَرٍ فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ فِيهِ كَمَا لَوْ رَهَنَهَا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ ، يَصِحُّ الرَّهْنُ ، وَيَجْعَلُهَا الْحَاكِمُ عَلَى يَدِ مَنْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عِنْدَهُ .
وَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ عَبْدًا ، فَشَرَطَ مَوْضِعَهُ ، جَازَ ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ مَوْضِعَهُ ، صَحَّ أَيْضًا ، كَالْأَمَةِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَصِحَّ ؛ لِأَنَّ لِلْأَمَةِ عُرْفًا ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ، فَإِنَّ الْأَمَةَ إذَا كَانَ الْمُرْتَهِنُ مِمَّنْ يَجُوزُ وَضْعُهَا عِنْدَهُ كَالْعَبْدِ ، وَإِذَا كَانَ مُرْتَهِنُ الْعَبْدِ امْرَأَةً لَا زَوْجَ لَهَا ، فَشَرَطَتْ كَوْنِهِ عِنْدَهَا عَلَى وَجْهٍ يُفْضِي إلَى خَلْوَتِهِ بِهَا ، لَمْ يَجُزْ أَيْضًا ، فَاسْتَوَيَا .

( 3364 ) فَصْلٌ : وَالْقِسْمُ الثَّانِي ، الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ ، مِثْلُ أَنْ يَشْتَرِطَ مَا يُنَافِي مُقْتَضَى الرَّهْنِ نَحْوِ أَنْ يَشْتَرِطَ أَلَّا يُبَاعَ الرَّهْنُ عِنْدَ حُلُول الْحَقِّ ، أَوْ لَا يُسْتَوْفَى الدَّيْنُ مِنْ ثَمَنِهِ ، أَوْ لَا يُبَاعُ مَا خِيفَ تَلَفُهُ ، أَوْ بَيْعَ الرَّهْنِ بِأَيِّ ثَمَنٍ كَانَ ، أَوْ أَنْ لَا يَبِيعَهُ إلَّا بِمَا يُرْضِيه .
فَهَذِهِ شُرُوطٌ فَاسِدَةٌ ؛ لِمُنَافَاتِهَا مُقْتَضَى الْعَقْدِ ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مَعَ الْوَفَاءِ بِهَذِهِ الشُّرُوطِ مَفْقُودٌ وَكَذَلِكَ إنْ شَرَطَ الْخِيَارَ لِلرَّاهِنِ ، أَوْ أَنْ لَا يَكُونَ الْعَقْدُ لَازِمًا فِي حَقِّهِ ، أَوْ تَوْقِيتَ الرَّهْنِ ، أَوْ أَنْ يَكُونَ رَهْنًا يَوْمًا وَيَوْمًا لَا ، أَوْ كَوْنَ الرَّهْنِ فِي يَدِ الرَّاهِنِ ، أَوْ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ ، أَوْ يَنْتَفِعَ بِهِ الْمُرْتَهِنُ ، أَوْ كَوْنَهُ مَضْمُونًا عَلَى الْمُرْتَهِنِ أَوْ الْعَدْلِ ، فَهَذِهِ كُلّهَا فَاسِدَةٌ ، لِأَنَّ مِنْهَا مَا يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ ، وَمِنْهَا مَا لَا يَقْتَضِيه الْعَقْدُ ، وَلَا هُوَ مِنْ مَصْلَحَتِهِ .
وَإِنْ شَرَطَا شَيْئًا مِنْهَا فِي عَقْدِ الرَّهْنِ ، فَقَالَ الْقَاضِي : يَحْتَمِلُ أَنْ يَفْسُدَ الرَّهْنُ بِهَا بِكُلِّ حَالٍ ؛ لِأَنَّ الْعَاقِدَ إنَّمَا بَذَلَ مِلْكَهُ بِهَذَا الشَّرْطِ ، فَإِذَا لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ ، لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ ، لِعَدَمِ الرِّضَى بِهِ بِدُونِهِ .
وَقِيلَ : إنْ شَرَطَ الرَّهْنَ مُؤَقَّتًا ، أَوْ رَهَنَهُ يَوْمًا وَيَوْمًا لَا ، فَسَدَ الرَّهْنُ .
وَهَلْ يَفْسُدُ بِسَائِرِهَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ، بِنَاءً عَلَى الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فِي الْبَيْعِ .
وَنَصَرَ أَبُو الْخَطَّابِ فِي " رُءُوسِ الْمَسَائِلِ " صِحَّتَهُ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا يُغْلَقُ الرَّهْنُ } وَهُوَ مَشْرُوطٌ فِيهِ شَرْطٌ فَاسِدٌ .
وَلَمْ يُحْكَمْ بِفَسَادِهِ .
وَقِيلَ : مَا يُنْقِصُ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ يُبْطِلُهُ ، وَجْهًا وَاحِدًا ، وَمَا لَا فَعَلَى وَجْهَيْنِ ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ شَرَطَتْ لَهُ زِيَادَةٌ لَمْ تَصِحَّ لَهُ ، فَإِذَا فَسَدَتْ الزِّيَادَةُ لَمْ

يَبْطُلْ أَصْلُ الرَّهْنِ .

( 3365 ) فَصْلٌ : وَإِنْ شَرَطَ أَنَّهُ مَتَى حَلَّ الْحَقُّ وَلَمْ يُوَفِّنِي فَالرَّهْنُ لِي بِالدَّيْنِ أَوْ : فَهُوَ مَبِيعٌ لِي بِالدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْك .
فَهُوَ شَرْطٌ فَاسِدٌ .
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَشُرَيْحٍ وَالنَّخَعِيِّ ، وَمَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ .
وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَهُمْ .
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا رَوَى مُعَاوِيَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : لَا يُغْلَقُ الرَّهْنُ } رَوَاهُ الْأَثْرَمُ .
قَالَ الْأَثْرَمُ قُلْت : لِأَحْمَدْ مَا مَعْنَى قَوْله : { لَا يُغْلَقُ الرَّهْنُ } ؟ قَالَ : لَا يَدْفَعُ رَهْنًا إلَى رَجُلٍ ، وَيَقُولُ : إنْ جِئْتُك بِالدَّرَاهِمِ إلَى كَذَا وَكَذَا ، وَإِلَّا فَالرَّهْنُ لَك .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : هَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ : { لَا يُغْلَقُ الرَّهْنُ } عِنْدَ مَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَأَحْمَدَ وَفِي حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ أَنَّ رَجُلًا رَهَنَ دَارًا بِالْمَدِينَةِ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ، فَمَضَى الْأَجَلُ ، فَقَالَ الَّذِي ارْتَهَنَ : مَنْزِلِي .
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يُغْلَقُ الرَّهْنُ } وَلِأَنَّهُ عَلَّقَ الْبَيْعَ عَلَى شَرْطٍ ، فَإِنَّهُ جَعَلَهُ مَبِيعًا بِشَرْطِ أَنْ لَا يُوَفِّيَهُ الْحَقَّ فِي مَحِلِّهِ ، وَالْبَيْعُ الْمُعَلَّقُ بِشَرْطِ لَا يَصِحُّ ، وَإِذَا شَرَطَ هَذَا الشَّرْطَ فَسَدَ الرَّهْنُ .
وَيَتَخَرَّجُ أَنْ لَا يَفْسُدَ ، لِمَا ذَكَرْنَا فِي سَائِرِ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ ، وَهَذَا ظَاهِرُ قَوْلِ أَبِي الْخَطَّابِ فِي " رُءُوسِ الْمَسَائِلِ " وَاحْتَجَّ بُقُولِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يُغْلَقُ الرَّهْنُ } فَنَفَى غَلْقَهُ دُونَ أَصْلِهِ ، فَيَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ ، وَلِأَنَّ الرَّاهِنَ قَدْ رَضِيَ بِرَهْنِهِ مَعَ هَذَا الشَّرْطِ ، فَمَعَ بُطْلَانِهِ أَوْلَى أَنْ يَرْضَى بِهِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ رَهْنٌ بِشَرْطِ فَاسِدٍ ، فَكَانَ فَاسِدًا ، كَمَا لَوْ شَرَطَ تَوَفَّيْته ، وَلَيْسَ فِي الْخَبَرِ أَنَّهُ شَرَطَ ذَلِكَ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ ، فَلَا يَكُونُ فِيهِ حُجَّةٌ .

( 3366 ) فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ الْغَرِيمُ : رَهَنْتُك عَبْدِي هَذَا ، عَلَى أَنْ تَزِيدَنِي فِي الْأَجَلِ .
كَانَ بَاطِلًا ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ لَا يَثْبُتُ فِي الدَّيْنِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مَشْرُوطًا فِي عَقْدٍ وَجَبَ بِهِ ، فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ الْأَجَلُ ، لَمْ يَصِحَّ الرَّهْنُ ، لِأَنَّهُ جَعَلَهُ فِي مُقَابَلَتِهِ ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ يُضَاهِي رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ ، كَانُوا يَزِيدُونَ فِي الدَّيْنِ لِيَزْدَادُوا فِي الْأَجَلِ .

( 3367 ) فَصْلٌ : إذَا كَانَ لَهُ عَلَى رَجُلٍ أَلْفٌ ، فَقَالَ : أَقْرِضْنِي أَلْفًا ، بِشَرْطِ أَنْ أَرْهَنَك عَبْدِي هَذَا بِالْأَلْفَيْنِ فَنَقَلَ حَنْبَلٌ عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّ الْقَرْضَ بَاطِلٌ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ قَرْضٌ يَجُرُّ مَنْفَعَةً ، وَهُوَ الِاسْتِيثَاقُ بِالْأَلْفِ الْأَوَّلِ .
وَإِذَا بَطَلَ الْقَرْضُ بَطَلَ الرَّهْنُ .
فَإِذَا قِيلَ : أَلَيْسَ لَوْ شَرَطَ أَنَّهُ يُعْطِيَهُ رَهْنًا بِمَا يَقْتَرِضُهُ جَازَ ؟ قُلْنَا : لَيْسَ هَذَا قَرْضًا جَرَّ مَنْفَعَةً ؛ لِأَنَّ غَايَةَ مَا حَصَلَ لَهُ تَأْكِيدُ الِاسْتِيفَاءِ لِبَدَلِ مَا أَقْرَضَهُ ، وَهُوَ مِثْلُهُ ، وَالْقَرْضُ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْوَفَاءِ ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا شَرَطَ فِي هَذَا الْقَرْضِ الِاسْتِيثَاقَ لِدَيْنِهِ الْأَوَّلِ ، فَقَدْ شَرَطَ اسْتِيثَاقًا لِغَيْرِ مُوجِبِ الْقَرْضِ .
وَنَقَلَ مُهَنَّا أَنَّ الْقَرْضَ صَحِيحٌ .
وَلَعَلَّ أَحْمَدَ حَكَمَ بِصِحَّةِ الْقَرْضِ مَعَ فَسَادِ الشَّرْطِ ، كَيْ لَا يُفْضِيَ إلَى جَرِّ الْمَنْفَعَةِ بِالْقَرْضِ ، أَوْ حَكَمَ بِفَسَادِ الرَّهْنِ فِي الْأَلْفِ الْأَوَّلِ وَحْدَهُ ، وَصَحَّحَهُ فِيمَا عَدَاهُ .
وَلَوْ كَانَ مَكَانَ الْقَرْضِ بَيْعٌ ، فَقَالَ : بِعْنِي عَبْدَك هَذَا بِأَلْفٍ ، عَلَى أَنْ أَرْهَنَك عَبْدِي بِهِ وَبِالْأَلْفِ الْآخَرِ الَّذِي عَلَى .
فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ ، رِوَايَةً وَاحِدَةً ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ مَجْهُولٌ ، فَإِنَّهُ جَعَلَ الثَّمَنَ أَلْفًا وَمَنْفَعَةً هِيَ وَثِيقَةٌ بِالْأَلْفِ الْأَوَّلِ ، وَتِلْكَ الْمَنْفَعَةُ مَجْهُولَةٌ ، وَلِأَنَّهُ شَرَطَ عَقْدَ الرَّهْنِ بِالْأَلْفِ الْأَوَّلِ ، فَلَمْ يَصِحَّ ، كَمَا لَوْ أَفْرَدَهُ ، أَوْ كَمَا لَوْ بَاعَهُ دَارِهِ بِشَرْطِ أَنْ يَبِيعَهُ الْآخَرُ دَارِهِ .

( 3368 ) فَصْلٌ : وَإِذَا فَسَدَ الرَّهْنُ ، وَقَبَضَهُ الْمُرْتَهِنُ ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِحُكْمِ أَنَّهُ رَهْنٌ ، وَكُلُّ عَقْدٍ كَانَ صَحِيحُهُ غَيْرَ مَضْمُونٍ أَوْ مَضْمُونًا ، فَفَاسِدُهُ كَذَلِكَ .
فَإِنْ كَانَ مُؤَقَّتًا ، أَوْ شَرَطَ أَنَّهُ يَصِيرُ لِلْمُرْتَهِنِ بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّتِهِ ، صَارَ بَعْدَ ذَلِكَ مَضْمُونًا ؛ لِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ بِحُكْمِ بَيْعٍ فَاسِدٍ ، وَحُكْمُ الْفَاسِدِ مِنْ الْعُقُودِ حُكْمُ الصَّحِيحِ فِي الضَّمَانِ .
فَإِنْ كَانَ أَرْضًا فَغَرَسَهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ الْأَجَلِ ، فَهُوَ كَغَرْسِ الْغَاصِبِ ؛ لِأَنَّهُ غَرْسٌ بِغَيْرِ إذْنٍ ، وَإِنْ غَرَسَ بَعْدَ الْأَجَلِ ، وَكَانَ قَدْ شَرَطَ أَنَّ الرَّهْنَ يَصِيرُ لَهُ ، فَقَدْ غَرَسَ بِإِذْنِ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ وَإِنْ كَانَ فَاسِدًا ، فَقَدْ تَضَمَّنَ الْإِذْنَ فِي التَّصَرُّفِ ، فَيَكُونُ الرَّاهِنُ مُخَيَّرًا بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ ، بَيْنَ أَنْ يُقِرَّ غَرْسَهُ لَهُ ، وَبَيْنَ أَخْذِهِ بِقِيمَتِهِ ، وَبَيْنَ أَنْ يُجْبِرَهُ عَلَى قَلْعِهِ ، وَيَضْمَنَ لَهُ مَا نَقَصَ .

( 3369 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَلَا يَنْتَفِعُ الْمُرْتَهِنُ مِنْ الرَّهْنِ بِشَيْءِ ، إلَّا مَا كَانَ مَرْكُوبًا أَوْ مَحْلُوبًا ، فَيَرْكَبُ وَيَحْلُبُ بِقَدْرِ الْعَلَفِ ) الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي حَالَيْنِ ؛ أَحَدِهِمَا مَا لَا يَحْتَاجُ إلَى مُؤْنَةٍ ، كَالدَّارِ وَالْمَتَاعِ وَنَحْوِهِ ، فَلَا يَجُوزُ لِلْمُرْتَهِنِ الِانْتِفَاعُ بِهِ بِغَيْرِ إذْنِ الرَّاهِنِ بِحَالٍ .
لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ مِلْكُ الرَّاهِنِ ، فَكَذَلِكَ نَمَاؤُهُ وَمَنَافِعُهُ ، فَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَخْذُهَا بِغَيْرِ إذْنِهِ ، فَإِنْ أَذِنَ الرَّاهِنُ لِلْمُرْتَهِنِ فِي الِانْتِفَاعِ بِغَيْرِ عِوَضٍ ، وَكَانَ دَيْنُ الرَّهْنِ مِنْ قَرْضٍ ، لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ يُحَصِّلُ قَرْضًا يَجُرُّ مَنْفَعَةً ، وَذَلِكَ حَرَامٌ .
قَالَ أَحْمَدُ : أَكْرَهُ قَرْضَ ، الدُّورِ ، وَهُوَ الرِّبَا الْمَحْضُ .
يَعْنِي : إذَا كَانَتْ الدَّارُ رَهْنًا فِي قَرْضٍ يَنْتَفِعُ بِهَا الْمُرْتَهِنُ .
وَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ بِثَمَنِ مَبِيعٍ ، أَوْ أَجْرِ دَارٍ ، أَوْ دَيْنٍ غَيْرِ الْقَرْضِ ، فَأَذِنَ لَهُ الرَّاهِنُ فِي الِانْتِفَاعِ ، جَازَ ذَلِكَ .
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ ، وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ .
فَأَمَّا إنْ كَانَ الِانْتِفَاعُ بِعِوَضِ ، مِثْلُ إنْ اسْتَأْجَرَ الْمُرْتَهِنُ الدَّارَ مِنْ الرَّاهِنِ بِأُجْرَةِ مِثْلِهَا ، مِنْ غَيْر مُحَابَاةٍ ، جَازَ فِي الْقَرْضِ وَغَيْرِهِ ، لِكَوْنِهِ مَا انْتَفَعَ بِالْقَرْضِ ، بَلْ بِالْإِجَارَةِ ، وَإِنْ حَابَاهُ فِي ذَلِكَ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الِانْتِفَاعِ ، بِغَيْرِ عِوَضٍ ، لَا يَجُوزُ فِي الْقَرْضِ ، وَيَجُوزُ فِي غَيْرِهِ .
وَمَتَى اسْتَأْجَرَهَا الْمُرْتَهِنُ ، أَوْ اسْتَعَارَهَا ، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّهَا تَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهَا رَهْنًا ، فَمَتَى انْقَضَتْ الْإِجَارَةُ ، أَوْ الْعَارِيَّةُ ، عَادَ الرَّهْنُ بِحَالِهِ .
قَالَ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ بْنِ ثَوَابٍ عَنْ أَحْمَدَ إذَا كَانَ الرَّهْنُ دَارًا ، فَقَالَ الْمُرْتَهِنُ : اُسْكُنْهَا بِكِرَائِهَا ، وَهِيَ وَثِيقَةٌ بِحَقِّي يَنْتَقِلُ فَيَصِيرُ دَيْنًا ، وَيَتَحَوَّلُ عَنْ الرَّهْنِ .
وَكَذَلِكَ إنْ أَكْرَاهَا

لِلرَّاهِنِ ، قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ : إذَا ارْتَهَنَ دَارًا ، ثُمَّ أَكْرَاهَا لِصَاحِبِهَا ، خَرَجَتْ مِنْ الرَّهْنِ ، فَإِذَا رَجَعَتْ إلَيْهِ صَارَتْ رَهْنًا .
وَالْأَوْلَى أَنَّهَا لَا تَخْرُجُ عَنْ الرَّهْنِ ، إذَا اسْتَأْجَرَهَا الْمُرْتَهِنُ ، أَوْ اسْتَعَارَهَا ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ مُسْتَدَامٌ ، وَلَا تَنَافِي بَيْنَ الْعَقْدَيْنِ ، وَكَلَامُ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ بْنِ ثَوَابٍ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ أَذِنَ لِلرَّاهِنِ فِي سُكْنَاهَا ، كَمَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ ؛ لِأَنَّهَا خَرَجَتْ عَنْ يَدِ الْمُرْتَهِنِ ، فَزَالَ اللُّزُومُ لِزَوَالِ الْيَدِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا سَكَنَهَا الْمُرْتَهِنُ .
وَمَتَى اسْتَعَارَ الْمُرْتَهِنُ الرَّهْنَ صَارَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ .
وَمَبْنَى ذَلِكَ عَلَى الْعَارِيَّةِ ، فَإِنَّهَا عِنْدَنَا مَضْمُونَةٌ وَعِنْدَهُ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ .

( 3370 ) فَصْلٌ : فَإِنْ شَرَطَ فِي الرَّهْنِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ الْمُرْتَهِنُ فَالشَّرْطُ فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّهُ يُنَافِي مُقْتَضَى الرَّهْنِ .
وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَجُوزُ فِي الْمَبِيعِ ، قَالَ الْقَاضِي : مَعْنَاهُ أَنْ يَقُولَ : بِعْتُك هَذَا الثَّوْبَ بِدِينَارِ ، بِشَرْطِ أَنْ تَرْهَنَنِي عَبْدَك يَخْدُمُنِي شَهْرًا .
فَيَكُونُ بَيْعًا وَإِجَارَةً ، فَهُوَ صَحِيحٌ .
وَإِنْ أَطْلَقَ ، فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ ؛ لِجَهَالَةِ ثَمَنِهِ .
وَقَالَ مَالِكٌ : لَا بَأْسَ أَنْ يَشْتَرِطَ فِي الْبَيْعِ مَنْفَعَةَ الرَّهْنِ إلَى أَجَلٍ فِي الدُّورِ وَالْأَرْضِينَ ، وَكَرِهَهُ فِي الْحَيَوَانِ وَالثِّيَابِ ، وَكَرِهَهُ فِي الْقَرْضِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ شَرَطَ فِي الرَّهْنِ مَا يُنَافِيه ، فَلَمْ يَصِحَّ ، كَمَا لَوْ شَرَطَهُ فِي الْقَرْضِ .

( 3371 ) فَصْلٌ : الْحَالُ الثَّانِي مَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى مُؤْنَةٍ ، فَحُكْمُ الْمُرْتَهِنِ فِي الِانْتِفَاعِ بِهِ ، بِعِوَضٍ أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ ، بِإِذْنِ الرَّاهِنِ ، كَالْقِسْمِ الَّذِي قَبْلَهُ .
وَإِنْ أَذِنَ لَهُ فِي الْإِنْفَاقِ وَالِانْتِفَاعِ بِقَدْرِهِ ، جَازَ ؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ مُعَاوَضَةٍ .
وَأَمَّا مَعَ عَدَمِ الْإِذْنِ ، فَإِنْ الرَّهْنَ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ ؛ مَحْلُوبًا وَمَرْكُوبًا ، وَغَيْرَهُمَا ، فَأَمَّا الْمَحْلُوبُ وَالْمَرْكُوبُ ، فَلِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ ، وَيَرْكَبَ ، وَيَحْلُبَ ، بِقَدْرِ نَفَقَتِهِ ، مُتَحَرِّيًا لِلْعَدْلِ فِي ذَلِكَ .
وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ ، وَأَحْمَدَ بْن الْقَاسِمِ وَاخْتَارَهُ الْخِرَقِيِّ ، وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ .
وَسَوَاءٌ أَنَفَقَ مَعَ تَعَذُّرِ النَّفَقَةِ مِنْ الرَّاهِنِ ، لِغَيْبَتِهِ ، أَوْ امْتِنَاعِهِ مِنْ الْإِنْفَاقِ ، أَوْ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى أَخْذِ النَّفَقَةِ مِنْ الرَّاهِنِ ، وَاسْتِئْذَانِهِ .
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى ، لَا يُحْتَسَبُ لَهُ بِمَا أَنْفَقَ ، وَهُوَ مُتَطَوِّعٌ بِهَا ، وَلَا يَنْتَفِعُ مِنْ الرَّهْنِ بِشَيْءٍ .
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : الرَّهْنُ مِنْ رَاهِنِهِ ، لَهُ غُنْمُهُ ، وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ } .
وَلِأَنَّهُ مِلْكُ غَيْرِهِ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي الِانْتِفَاعِ بِهِ ، وَلَا الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ .
فَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ ، كَغَيْرِ الرَّهْنِ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ ، وَأَبُو دَاوُد ، وَالتِّرْمِذِيُّ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الظَّهْرُ يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ إذَا كَانَ مَرْهُونًا ، وَلَبَنُ الدَّرِّ يُشْرَبُ بِنَفَقَتِهِ إذَا كَانَ مَرْهُونًا } ، وَعَلَى الَّذِي يَرْكَبُ وَيَشْرَبُ النَّفَقَةُ .
فَجَعَلَ مَنْفَعَتَهُ بِنَفَقَتِهِ ، وَهَذَا مَحِلُّ النِّزَاعِ ، فَإِنْ قِيلَ : الْمُرَادُ بِهِ أَنَّ الرَّاهِنَ يُنْفِقُ وَيَنْتَفِعُ .
قُلْنَا : لَا يَصِحُّ لِوَجْهَيْنِ ؛ أَحَدِهِمَا ، أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ

الْأَلْفَاظِ : " إذَا كَانَتْ الدَّابَّةُ مَرْهُونَةً ، فَعَلَى الْمُرْتَهِنِ عَلْفُهَا ، وَلَبَنُ الدَّرِّ يُشْرَبُ ، وَعَلَى الَّذِي يَشْرَبُ وَيَرْكَبُ نَفَقَتُهُ " .
فَجَعَلَ الْمُنْفِقَ الْمُرْتَهِنَ ، فَيَكُونُ هُوَ الْمُنْتَفِعَ .
وَالثَّانِي ، أَنَّ قَوْلَهُ : ( بِنَفَقَتِهِ ) يُشِيرُ إلَى أَنَّ الِانْتِفَاعَ عِوَضُ النَّفَقَةِ ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ ، أَمَّا الرَّاهِنُ فَإِنْفَاقُهُ وَانْتِفَاعُهُ لَا بِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ لِأَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ ، وَلِأَنَّ نَفَقَةَ الْحَيَوَانِ وَاجِبَةٌ ، وَلِلْمُرْتَهِنِ حَقٌّ قَدْ أَمْكَنَهُ اسْتِيفَاءُ حَقِّهِ مِنْ نَمَاءِ الرَّهْنِ ، وَالنِّيَابَةِ عَنْ الْمَالِكِ فِيمَا وَجَبَ عَلَيْهِ وَاسْتِيفَاءِ ذَلِكَ مِنْ مَنَافِعِهِ ، فَجَازَ ذَلِكَ كَمَا ، يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَخْذُ مُؤْنَتِهَا مِنْ مَالِ زَوْجِهَا عِنْدَ امْتِنَاعِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، وَالنِّيَابَةُ عَنْهُ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا ، وَالْحَدِيثُ نَقُولُ بِهِ : وَالنَّمَاءُ لِلرَّاهِنِ ، وَلَكِنْ لِلْمُرْتَهِنِ وِلَايَةُ صَرْفِهَا إلَى نَفَقَتِهِ ، لِثُبُوتِ يَدِهِ عَلَيْهِ وَوِلَايَتِهِ ، وَهَذَا فِيمَنْ أَنْفَقَ مُحْتَسِبًا بِالرُّجُوعِ ، فَأَمَّا إنْ أَنْفَقَ مُتَبَرِّعًا بِغَيْرِ نِيَّةِ الرُّجُوعِ ، لَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ ، رِوَايَةً وَاحِدَةً .

( 3372 ) فَصْلٌ : وَأَمَّا غَيْرُ الْمَحْلُوبِ وَالْمَرْكُوبِ ، فَيَتَنَوَّعُ نَوْعَيْنِ ؛ حَيَوَانٌ ، وَغَيْرُهُ ، فَأَمَّا الْحَيَوَانُ كَالْعَبْدِ وَالْأَمَةِ وَنَحْوِهِمَا ، فَهَلْ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يُنْفِقَ وَيَسْتَخْدِمَهُ بِقَدْرِ نَفَقَتِهِ ؟ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ .
ذَكَرَهَا الْخِرَقِيِّ ، وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ .
قَالَ : سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّه يَسْأَلُ عَنْ الرَّجُلِ يَرْهَنُ الْعَبْدَ ، فَيَسْتَخْدِمُهُ فَقَالَ : الرَّهْنُ لَا يَنْتَفِعُ مِنْهُ بِشَيْءِ ، إلَّا حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ خَاصَّةً فِي الَّذِي يَرْكَبُ وَيَحْلُبُ وَيَعْلِفُ .
قُلْت لَهُ : فَإِنْ كَانَ اللَّبَنُ وَالرُّكُوبُ أَكْثَرَ ؟ قَالَ : لَا إلَّا بِقَدْرِ .
وَنَقَلَ حَنْبَلٌ ، عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّ لَهُ اسْتِخْدَامَ الْعَبْدِ أَيْضًا - وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ - إذَا امْتَنَعَ الْمَالِكُ مِنْ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : خَالَفَ حَنْبَلٌ الْجَمَاعَةَ ، وَالْعَمَلُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ مِنْ الرَّهْنِ بِشَيْءِ ، إلَّا مَا خَصَّهُ الشَّرْعُ بِهِ ، فَإِنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَنْتَفِعَ بِشَيْءِ مِنْهُ ، تَرَكْنَاهُ فِي الْمَرْكُوبِ وَالْمَحْلُوبِ لِلْأَثَرِ ، فَفِيمَا عَدَاهُ يُبْقِي عَلَى مُقْتَضَى الْقِيَاسِ .
النَّوْعُ الثَّانِي ، غَيْرُ الْحَيَوَانِ ، كَدَارٍ اسْتُهْدِمَتْ ، فَعَمَرَهَا الْمُرْتَهِنُ ، لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءِ .
رِوَايَةً وَاحِدَةً .
وَلَيْسَ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهَا بِقَدْرِ نَفَقَتِهِ ، فَإِنَّ عِمَارَتَهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَلَى الرَّاهِنِ ، فَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَنُوبَ عَنْهُ فِيمَا لَا يَلْزَمُهُ ، فَإِنْ فَعَلَ كَانَ مُتَبَرِّعًا ، بِخِلَافِ الْحَيَوَانِ ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى مَالِكِهِ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ ، لِحُرْمَتِهِ فِي نَفْسِهِ .

( 3373 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا الْحَيَوَانُ ، إذَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ مُتَبَرِّعًا لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءِ ؛ لِأَنَّهُ تَصَدَّقَ بِهِ ، فَلَمْ يَرْجِعْ بِعِوَضِهِ ، كَمَا لَوْ تَصَدَّقَ عَلَى مِسْكِينٍ .
وَإِنْ نَوَى الرُّجُوعَ عَلَى مَالِكِهِ ، وَكَانَ ذَلِكَ بِإِذْنِ الْمَالِكِ ، رَجَعَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ نَابَ عَنْهُ فِي الْإِنْفَاقِ بِإِذْنِهِ ، فَكَانَتْ النَّفَقَةُ عَلَى الْمَالِكِ ، كَمَا لَوْ وَكَّلَهُ فِي ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، فَهَلْ يَرْجِعُ عَلَيْهِ ؟ يُخَرَّجُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ ، بِنَاءً عَلَى مَا إذَا قَضَى دَيْنَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ ؛ لِأَنَّهُ نَابَ عَنْهُ فِيمَا يَلْزَمُهُ .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : إنْ قَدَرَ عَلَى اسْتِئْذَانِهِ فَلَمْ يَسْتَأْذِنْهُ ، فَهُوَ مُتَبَرِّعٌ ، لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ اسْتِئْذَانِهِ ، فَعَلَى رِوَايَتَيْنِ ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِيمَا إذَا مَاتَ الْعَبْدُ الْمَرْهُونُ فَكَفَنَهُ .
وَالْأَوَّلُ أَقْيَسُ فِي الْمَذْهَبِ ؛ إذْ لَا يُعْتَبَرُ فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ الْعَجْزُ عَنْ اسْتِئْذَانِ الْغَرِيمِ .

( 3374 ) فَصْلٌ : وَإِذَا انْتَفَعَ الْمُرْتَهِنُ بِالرَّهْنِ ، بِاسْتِخْدَامِ ، أَوْ رُكُوبٍ أَوْ لُبْسٍ ، أَوْ اسْتِرْضَاعٍ ، أَوْ اسْتِغْلَالٍ ، أَوْ سُكْنَى ، أَوْ غَيْرِهِ ، حَسَبَ مِنْ دَيْنِهِ بِقَدْرِ ذَلِكَ .
قَالَ أَحْمَدُ : يُوضَعُ عَنْ الرَّاهِنِ بِقَدْرِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ مِلْكُ الرَّاهِنِ ، فَإِذَا اسْتَوْفَاهَا فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا فِي ذِمَّتِهِ لِلرَّاهِنِ ، فَيُتَقَاصُّ الْقِيمَةَ وَقَدْرَهَا مِنْ الدَّيْنِ ، وَيَتَسَاقَطَانِ .

( 3375 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَغَلَّةُ الدَّارِ ، وَخِدْمَةُ الْعَبْدِ ، وَحَمْلُ الشَّاةِ وَغَيْرِهَا ، وَثَمَرَةُ الشَّجَرَةِ الْمَرْهُونَةِ ، مِنْ الرَّهْنِ ) أَرَادَ بِغَلَّةِ الدَّارِ أَجْرَهَا .
وَكَذَلِكَ خِدْمَةُ الْعَبْدِ .
وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ نَمَاءَ الرَّهْنِ جَمِيعَهُ وَغَلَّاتَهُ تَكُونُ رَهْنًا فِي يَدِ مَنْ الرَّهْنُ فِي يَدِهِ كَالْأَصْلِ .
وَإِذَا اُحْتِيجَ إلَى بَيْعِهِ فِي وَفَاءِ الدَّيْنِ ، بِيعَ مَعَ الْأَصْلِ ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْمُتَّصِلُ ، كَالسَّمْنِ وَالتَّعَلُّمِ ، وَالْمُنْفَصِلُ كَالْكَسْبِ وَالْأُجْرَةِ وَالْوَلَدِ وَالثَّمَرَةِ وَاللَّبَنِ وَالصُّوفِ وَالشَّعْرِ .
وَبِنَحْوِ هَذَا قَالَ النَّخَعِيُّ وَالشَّعْبِيُّ ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ : فِي النَّمَاءِ يَتْبَعُ ، وَفِي الْكَسْبِ لَا يَتْبَعُ ؛ لِأَنَّ الْكَسْبَ فِي حُكْمِ الْكِتَابَةِ وَالِاسْتِيلَادِ وَالتَّدْبِيرِ ، فَلَا يَتْبَعُ فِي الرَّهْنِ ، كَأَعْيَانِ مَالِ الرَّاهِنِ .
وَقَالَ مَالِكٌ : يَتْبَعُ الْوَلَدُ فِي الرَّهْنِ خَاصَّةً ، دُونَ سَائِرِ النَّمَاءِ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ الْأَصْلَ فِي الْحُقُوقِ الثَّابِتَةِ ، كَوَلَدِ أُمِّ الْوَلَدِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ : لَا يَدْخُلُ فِي الرَّهْنِ شَيْءٌ مِنْ النَّمَاءِ الْمُنْفَصِلِ ، وَلَا مِنْ الْكَسْبِ ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ تَعَلَّقَ بِالْأَصْلِ ، يُسْتَوْفَى مِنْ ثَمَنِهِ ، فَلَا يَسْرِي إلَى غَيْرِهِ ، كَحَقِّ الْجِنَايَةِ .
قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَوْ رَهَنَهُ مَاشِيًا مَخَاضًا ، فَنَتَجَتْ ، فَالنِّتَاجُ خَارِجٌ مِنْ الرَّهْنِ .
وَخَالَفَهُ أَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَمِنْ حُجَّتِهِمْ أَيْضًا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الرَّهْنُ مِنْ رَاهِنِهِ ، لَهُ غُنْمُهُ ، وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ } وَالنَّمَاءُ غُنْمٌ ، فَيَكُونُ لِلرَّاهِنِ .
وَلِأَنَّهَا عَيْنٌ مِنْ أَعْيَانِ مِلْكِ الرَّاهِنِ ، لَمْ يَعْقِدْ عَلَيْهَا عَقْدَ رَهْنٍ فَلَمْ تَكُنْ رَهْنًا ، كَسَائِرِ مَالِهِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ حُكْمٌ يَثْبُتُ فِي الْعَيْنِ بِعَقْدِ الْمَالِكِ ، فَيَدْخُلُ فِيهِ النَّمَاءُ وَالْمَنَافِعُ ، كَالْمِلْكِ بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ ،

وَلِأَنَّ ، النَّمَاءَ نَمَاءٌ حَادِثٌ مِنْ عَيْنِ الرَّهْنِ ، فَيَدْخُلُ فِيهِ ، كَالْمُتَّصِلِ ، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ مُسْتَقِرٌّ فِي الْأُمِّ ، ثَبَتَ بِرِضَى الْمَالِكِ ، فَيَسْرِي إلَى الْوَلَدِ ، كَالتَّدْبِيرِ وَالِاسْتِيلَادِ .
لَنَا عَلَى مَالِكٍ أَنَّهُ نَمَاءٌ حَادِثٌ مِنْ عَيْنِ الرَّهْنِ ، فَسَرَى إلَيْهِ حُكْمُ الرَّهْنِ كَالْوَلَدِ .
وَعَلَى أَبِي حَنِيفَةَ ؛ أَنَّهُ عَقْدٌ يَسْتَتْبِعُ النَّمَاءَ ، فَاسْتَتْبَعَ الْكَسْبَ كَالشِّرَاءِ .
فَأَمَّا الْحَدِيثُ .
فَنَقُولُ بِهِ ، وَأَنَّ غُنْمَهُ وَنَمَاءَهُ وَكَسْبَهُ لِلرَّاهِنِ ، لَكِنْ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الرَّهْنِ ، كَالْأَصْلِ ، فَإِنَّهُ لِلرَّاهِنِ ، وَالْحَقُّ مُتَعَلِّقٌ بِهِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ مَالِ الرَّاهِنِ ، أَنَّهُ تَبَعٌ ، فَثَبَتَ لَهُ حُكْمُ أَصْلِهِ .
وَأَمَّا حَقُّ الْجِنَايَةِ ، فَإِنَّهُ ثَبَتَ بِغَيْرِ رِضَى الْمَالِكِ ، فَلَمْ يَتَعَدَّ مَا ثَبَتَ فِيهِ ، وَلِأَنَّهُ جَزَاءُ عُدْوَانٍ ، فَاخْتَصَّ الْجَانِي كَالْقِصَاصِ ، وَلِأَنَّ السِّرَايَةَ فِي الرَّهْنِ لَا تُفْضِي إلَى اسْتِيفَاءِ أَكْثَرَ مِنْ دَيْنِهِ ، فَلَا يَكْثُرُ الضَّرَرُ فِيهِ .

( 3376 ) فَصْلٌ : وَإِذَا ارْتَهَنَ أَرْضًا ، أَوْ دَارًا ، أَوْ غَيْرَهُمَا ، تَبِعَهُ فِي الرَّهْنِ مَا يَتْبَعُ فِي الْبَيْعِ فَإِنْ كَانَ فِي الْأَرْضِ شَجَرٌ ، فَقَالَ : رَهَنْتُك هَذِهِ الْأَرْضَ بِحُقُوقِهَا .
أَوْ ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّجَرَ فِي الرَّهْنِ ، دَخَلَ فِيهِ ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ ، فَهَلْ يَدْخُلُ الشَّجَرُ فِي الرَّهْنِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ، بِنَاءً عَلَى دُخُولِهِ فِي الْبَيْعِ .
وَإِنْ رَهَنَهُ شَجَرًا مُثْمِرًا ، وَفِيهِ ثَمَرَةٌ ظَاهِرَةٌ ، لَمْ تَدْخُلْ فِي الرَّهْنِ ، كَمَا لَا تَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ ظَاهِرَةً دَخَلَتْ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا تَدْخُلُ الثَّمَرَةُ فِي الرَّهْنِ بِحَالٍ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تَدْخُلُ بِكُلِّ حَالٍ ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ عِنْدَهُ لَا يَصِحُّ عَلَى الْأُصُولِ دُونَ الثَّمَرَةِ ، وَقَدْ قَصَدَ إلَى عَقْدٍ صَحِيحٍ ، فَتَدْخُلُ الثَّمَرَةُ ضَرُورَةَ الصِّحَّةِ .
وَلَنَا ، أَنَّ الثَّمَرَةَ الْمُؤَبَّرَةَ لَا تَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ ، مَعَ قُوَّتِهِ ، وَإِزَالَتِهِ لِمِلْكِ الْبَائِعِ ، فَالرَّهْنُ مَعَ ضَعْفِهِ أَوْلَى ، وَعَلَى الشَّافِعِيِّ ، أَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى الشَّجَرَةِ فَاسْتَتْبَعَ الثَّمَرَةَ غَيْرَ الْمُؤَبَّرَةِ ، كَالْبَيْعِ ، وَيَدْخُلُ فِي الرَّهْنِ الصُّوفُ وَاللَّبَنُ الْمَوْجُودَانِ ، كَمَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ ، وَكَذَلِكَ الْحَمْلُ وَسَائِرُ مَا بِيعَ فِي الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ وَارِدٌ عَلَى الْعَيْنِ ، فَدَخَلَتْ فِيهِ هَذِهِ التَّوَابِعُ كَالْبَيْعِ ، وَلَوْ كَانَ الرَّهْنُ دَارًا فَخَرِبَتْ ، كَانَتْ أَنْقَاضُهَا رَهْنًا ؛ لِأَنَّهَا مِنْ أَجْزَائِهَا ، وَلَوْ كَانَتْ مَرْهُونَةً قَبْلَ خَرَابِهَا ، وَلَوْ رَهَنَهُ أَرْضًا ، فَنَبَتَ فِيهَا شَجَرٌ ، فَهُوَ مِنْ الرَّهْنِ ، سَوَاءٌ نَبَتَ بِفِعْلِ الرَّاهِنِ ، أَوْ بِفِعْلِ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ نَمَائِهَا .

( 3377 ) فَصْلٌ وَلَيْسَ لِلرَّاهِنِ الِانْتِفَاعُ بِالرَّهْنِ ، بِاسْتِخْدَامٍ ، وَلَا وَطْءٍ ، وَلَا سُكْنَى ، وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ وَلَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ ، بِإِجَارَةِ ، وَلَا إعَارَةٍ ، وَلَا غَيْرِهِمَا ، بِغَيْرِ رِضَا الْمُرْتَهِنِ .
وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَقَالَ مَالِكٌ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالشَّافِعِيُّ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ : لِلرَّاهِنِ إجَارَتُهُ وَإِعَارَتُهُ مُدَّةً لَا يَتَأَخَّرُ انْقِضَاؤُهَا عَنْ حُلُولِ الدَّيْنِ .
وَهَلْ لَهُ أَنْ يَسْكُنَ بِنَفْسِهِ ؟ عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَهُمْ فِيهِ .
وَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ عَبْدًا ، فَلَهُ اسْتِيفَاء مَنَافِعِهِ بِغَيْرِهِ .
وَهَلْ لَهُ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ ؟ عَلَى الْخِلَافِ .
وَلَيْسَ لَهُ إجَارَةُ الثَّوْبِ وَلَا مَا يَنْقُصُ بِالِانْتِفَاعِ .
وَبَنَوْهُ عَلَى أَنَّ الْمَنَافِعَ لِلرَّاهِنِ ، لَا تَدْخُلُ فِي الرَّهْنِ ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقُّهُ .
وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِي هَذَا .
وَلِأَنَّهَا عَيْنٌ مَحْبُوسَةٌ ، فَلَمْ يَكُنْ لِلْمَالِكِ الِانْتِفَاعُ بِهَا ، كَالْبَيْعِ الْمَحْبُوسِ عِنْدَ الْبَائِعِ عَلَى اسْتِيفَاءِ ثَمَنِهِ .
أَوْ نَقُولُ : نَوْعُ انْتِفَاعٍ ، فَلَا يَمْلِكُهُ الرَّاهِنُ ، كَاَلَّذِي يُنْقِصُ قِيمَةَ الرَّهْنِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ الْمُتَرَاهِنَيْنِ إذَا لَمْ يَتَّفِقَا عَلَى الِانْتِفَاعِ بِهَا ، لَمْ يَجُزْ الِانْتِفَاعُ بِهَا ، وَكَانَتْ مَنَافِعُهَا مُعَطَّلَةً ، فَإِنْ كَانَتْ دَارًا أُغْلِقَتْ ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا أَوْ غَيْرَهُ تَعَطَّلَتْ مَنَافِعُهُ حَتَّى يَفُكَّ الرَّهْنُ .
وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى إجَارَةِ الرَّهْنِ ، أَوْ إعَارَتِهِ ، جَازَ ذَلِكَ .
هَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ لِأَنَّهُ جَعَلَ غَلَّةَ الدَّارِ وَخِدْمَةَ الْعَبْدِ رَهْنًا ، وَلَوْ عُطِّلَتْ مَنَافِعُهُمَا لَمْ يَكُنْ لَهُمَا غَلَّةٌ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى : إنْ أَذِنَ الرَّاهِنُ لِلْمُرْتَهِنِ فِي إعَارَتِهِ ، أَوْ إجَارَتِهِ ، جَازَ وَالْأُجْرَةُ رَهْنٌ ، وَإِنْ أَجَرَهُ الرَّاهِنُ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ ، خَرَجَ مِنْ الرَّهْنِ ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ، وَالْآخَرُ لَا يَخْرُجُ ، كَمَا لَوْ أَجَرَهُ الْمُرْتَهِنُ .
وَقَالَ أَبُو

الْخَطَّابِ ، فِي الْمُشَاعِ : يُؤْجِرُهُ الْحَاكِمُ لَهُمَا .
وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ فِي الْخِلَافِ ، أَنَّ مَنَافِعَ الرَّهْنِ تُعَطَّلُ مُطْلَقًا ، وَلَا يُؤْجَرَاهُ .
وَهَذَا قَوْلُ الثَّوْرِيِّ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ .
وَقَالُوا : إذَا أَجَرَ الرَّاهِنُ الرَّهْنَ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ ، كَانَ إخْرَاجًا مِنْ الرَّهْنِ ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ يَقْتَضِي حَبْسَهُ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ أَوْ نَائِبِهِ عَلَى الدَّوَامِ ، فَمَتَى وُجِدَ عَقْدٌ يَسْتَحِقُّ بِهِ زَوَالَ الْحَبْسِ زَالَ الرَّهْنُ .
وَلَنَا ، أَنَّ مَقْصُودَ الرَّهْنِ الِاسْتِيثَاقُ بِالدَّيْنِ ، وَاسْتِيفَاؤُهُ مِنْ ثَمَنِهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ اسْتِيفَائِهِ مِنْ ذِمَّةِ الرَّاهِنِ ، وَهَذَا لَا يُنَافِي الِانْتِفَاعَ بِهِ ، وَلَا إجَارَتَهُ ، وَلَا إعَارَتَهُ ، فَجَازَ اجْتِمَاعُهُمَا ، كَانْتِفَاعِ الْمُرْتَهِنِ بِهِ ، وَلِأَنَّ تَعْطِيلَ مَنْفَعَتِهِ تَضْيِيعٌ لِلْمَالِ ، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ ، وَلِأَنَّهُ عَيْنٌ تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ الْوَثِيقَةِ ، فَلَمْ يَمْنَعْ إجَارَتَهَا ، كَالْعَبْدِ إذَا ضَمِنَ بِإِذْنِ سَيِّده ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ مُقْتَضَى الرَّهْنِ الْحَبْسُ ، وَإِنَّمَا مُقْتَضَاهُ تَعَلُّقُ الْحَقِّ بِهِ عَلَى وَجْهٍ تَحْصُلُ بِهِ الْوَثِيقَةُ ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُنَافٍ لِلِانْتِفَاعِ بِهِ ، وَلَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ مُقْتَضَاهُ الْحَبْسُ ، فَلَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَأْجِرُ نَائِبًا عَنْهُ فِي إمْسَاكِهِ وَحَبْسِهِ ، وَمُسْتَوْفِيًا لِمَنْفَعَتِهِ لِنَفْسِهِ .

( 3378 ) فَصْلٌ : وَلَا يُمْنَعُ الرَّاهِنُ مِنْ إصْلَاحِ الرَّهْنِ ، وَدَفْعِ الْفَسَادِ عَنْهُ ، وَمُدَاوَاتِهِ إنْ احْتَاجَ إلَيْهَا ، فَإِذَا كَانَ الرَّهْنُ مَاشِيَةً فَاحْتَاجَتْ إلَى إطْرَاقِ الْفَحْلِ ، فَلِلرَّاهِنِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَصْلَحَةً لِلرَّهْنِ ، وَزِيَادَتَهُ ، وَذَلِكَ زِيَادَةٌ ، فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ ، وَإِنْ كَانَتْ فُحُولًا لَمْ يَكُنْ لِلرَّاهِنِ إطْرَاقُهَا بِغَيْرِ رِضَا الْمُرْتَهِنِ ؛ لِأَنَّهُ انْتِفَاعٌ لَا مَصْلَحَةَ لِلرَّهْنِ فِيهِ ، فَهُوَ كَالِاسْتِخْدَامِ ، إلَّا أَنْ يَصِيرَ إلَى حَالٍ يَتَضَرَّرُ بِتَرْكِ الْإِطْرَاقِ ، فَيَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ كَالْمُدَاوَاةِ لَهُ .

( 3379 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَمُؤْنَةُ الرَّهْنِ عَلَى الرَّاهِنِ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا فَمَاتَ ، فَعَلَيْهِ كَفَنُهُ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُخَزَّنُ ، فَعَلَيْهِ كِرَاءُ مَخْزَنِهِ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مُؤْنَةَ الرَّهْنِ مِنْ طَعَامِهِ ، وَكُسْوَتِهِ ، وَمَسْكَنِهِ ، وَحَافِظِهِ ، وَحِرْزِهِ ، وَمَخْزَنِهِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ عَلَى الرَّاهِنِ .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ ، وَالْعَنْبَرِيُّ ، وَإِسْحَاقُ : وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : أَجْرُ الْمَسْكَنِ وَالْحَافِظِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ مُؤْنَةِ إمْسَاكِهِ وَارْتِهَانِهِ .
وَلَنَا ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الرَّهْنُ مِنْ رَاهِنِهِ لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ } وَلِأَنَّهُ نَوْعُ إنْفَاقٍ ، فَكَانَ عَلَى الرَّاهِنِ ، كَالطَّعَامِ ، وَلِأَنَّ الرَّهْنَ مِلْكٌ لِلرَّاهِنِ ، فَكَانَ عَلَيْهِ مَسْكَنُهُ وَحَافِظُهُ ، كَغَيْرِ الرَّهْنِ .
وَإِنْ أَبَقَ الْعَبْدُ فَأُجْرَةُ مَنْ يَرُدُّهُ عَلَى الرَّاهِنِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَكُونُ بِقَدْرِ الْأَمَانَةِ عَلَى الرَّاهِنِ ، وَبِقَدْرِ الضَّمَانِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ .
وَإِنْ اُحْتِيجَ إلَى مُدَاوَاتِهِ لِمَرَضٍ أَوْ جُرْحٍ فَذَلِكَ عَلَى الرَّاهِنِ .
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، هُوَ كَأَجْرِ مَنْ يَرُدُّهُ مِنْ إبَاقِهِ .
وَبَنَى ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ يَدَ الْمُرْتَهِنِ يَدُ ضَمَانٍ ، بِقَدْرِ دَيْنِهِ فِيهِ ، وَمَا زَادَ فَهُوَ أَمَانَةٌ عِنْدَهُ .
وَالْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
وَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ كَانَتْ مُؤْنَتُهُ ، كَتَجْهِيزِهِ ، وَتَكْفِينه ، وَدَفْنِهِ عَلَى الرَّاهِنِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَابِعٌ لِمُؤْنَتِهِ ، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ لَزِمَتْهُ مُؤْنَةُ شَخْصٍ كَانَتْ مُؤْنَتُهُ كَتَجْهِيزِهِ وَدَفْنِهِ عَلَيْهِ ، كَسَائِرِ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ وَالْأَقَارِبِ مِنْ الْأَحْرَارِ .

( 3380 ) فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ ثَمَرَةً فَاحْتَاجَتْ إلَى سَقْيٍ وَتَسْوِيَةٍ وَجُذَاذٍ ، فَذَلِكَ عَلَى الرَّاهِنِ ، وَإِنْ احْتَاجَتْ إلَى تَجْفِيفٍ ، وَالْحَقُّ مُؤَجَّلٌ ، فَعَلَيْهِ التَّجْفِيفُ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَسْتَبْقِيَهَا رَهْنًا حَتَّى يَحِلَّ الْحَقُّ .
وَإِنْ كَانَ حَالًّا ، بِيعَتْ وَلَمْ يَحْتَجْ إلَى تَجْفِيفِهَا .
وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى بَيْعِهَا وَجَعْلِ ثَمَنِهَا رَهْنًا بِالْحَقِّ الْمُؤَجَّلِ ، جَازَ ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي ذَلِكَ ، قُدِّمَ قَوْلُ مَنْ يَسْتَبْقِيهَا بِعَيْنِهَا ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَقْتَضِي ذَلِكَ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا تَقِلُّ قِيمَتُهُ بِالتَّجْفِيفِ ، وَقَدْ جَرَتْ الْعَادَةُ بِبَيْعِهِ رَطْبًا ، فَإِنَّهُ يُبَاعُ ، وَيُجْعَلُ ثَمَنُهُ مَكَانَهُ .
وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى قَطْعِ الثَّمَرَةِ فِي وَقْتٍ ، فَلَهُمَا ذَلِكَ ، سَوَاءٌ كَانَ الْحَقُّ حَالًّا أَوْ مُؤَجَّلًا ، وَسَوَاء كَانَ الْأَصْلَحُ الْقَطْعَ أَوْ التَّرْكَ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَخْرُجُ عَنْهُمَا ، وَإِنْ اخْتَلَفَا قَدَّمْنَا قَوْلَ مِنْ طَلَبَ الْأَصْلَحَ ، إنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ حُلُولِ الْحَقِّ .
وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ حَالًّا قُدِّمَ قَوْلُ مَنْ طَلَبَ الْقَطْعَ ، لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْمُرْتَهِنَ ، فَهُوَ طَالِبٌ لِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ الْحَالِّ ، فَلَزِمَ إجَابَتُهُ ، وَإِنْ كَانَ الرَّاهِنَ ، فَهُوَ يَطْلُبُ تَبْرِئَةَ ذِمَّتِهِ ، وَتَخْلِيصَ عَيْنِ مِلْكِهِ مِنْ الرَّهْنِ ، وَالْقَطْعُ أَحْوَطُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ فِي تَبَقَّيْته غَرَرًا .
ذَكَرَ الْقَاضِي هَذَا فِي الْمُفْلِسِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ، وَهَذَا فِي مَعْنَاهُ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُنْظَرَ فِي الثَّمَرَةِ ، فَإِنْ كَانَتْ تَنْقُصُ بِالْقَطْعِ نَقْصًا كَثِيرًا ، لَمْ يُجْبَرْ الْمُمْتَنِعُ مِنْ قَطْعِهَا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إتْلَافٌ ، فَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ ؛ كَمَا لَا يُجْبَرُ عَلَى نَقْضِ دَارِهِ لِيَبِيعَ أَنْقَاضِهَا ، وَلَا عَلَى ذَبْحِ فَرَسِهِ لِيَبِيعَ لَحْمَهَا ، وَإِنْ كَانَتْ الثَّمَرَةُ مِمَّا لَا يُنْتَفَعُ بِهَا قَبْلَ كَمَالِهَا ، لَمْ يَجُزْ قَطْعُهَا قَبْلَهُ ، وَلَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ بِحَالٍ .

( 3381 ) فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ مَاشِيَةً تَحْتَاجُ إلَى إطْرَاقِ الْفَحْلِ ، لَمْ يُجْبَرْ الرَّاهِنُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ مَا يَتَضَمَّنُ زِيَادَةً فِي الرَّهْنِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِبَقَائِهَا ، وَلَا يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِكَوْنِهَا زِيَادَةً لَهُمَا ، لَا ضَرَرَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ فِيهِ .
وَإِنْ احْتَاجَتْ إلَى رَعْيٍ ، فَعَلَى الرَّاهِنِ أَنْ يُقِيمَ لَهَا رَاعِيًا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى عَلْفِهَا .
وَإِنْ أَرَادَ الرَّاهِنُ السَّفَرَ بِهَا لِيَرْعَاهَا فِي مَكَان آخَرَ ، وَكَانَ لَهَا فِي مَكَانِهَا مَرْعَى تَتَمَاسَكُ بِهِ ، فَلِلْمُرْتَهِنِ مَنْعُهُ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ فِي السَّفَرِ بِهَا إخْرَاجَهَا عَنْ نَظَرِهِ وَيَدِهِ .
وَإِنْ أَجْدَبَ مَكَانُهَا ، فَلَمْ يَجِدْ مَا تَتَمَاسَكُ بِهِ فَلِلرَّاهِنِ السَّفَرُ بِهَا ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ ضَرُورَةٍ ، لِأَنَّهَا تَهْلَكُ إذَا لَمْ يُسَافِرْ بِهَا ، إلَّا أَنَّهَا تَكُونُ فِي يَدِ عَدْلٍ يَرْضَيَانِ بِهِ ، أَوْ يَنْصِبُهُ الْحَاكِمُ ، وَلَا يَنْفَرِدُ الرَّاهِنُ بِهَا ، فَإِنْ امْتَنَعَ الرَّاهِنُ مِنْ السَّفَرِ بِهَا ، فَلِلْمُرْتَهِنِ نَقْلُهَا ؛ لِأَنَّ فِي بَقَائِهَا هَلَاكَهَا ، وَضَيَاعَ حَقِّهِ مِنْ الرَّهْنِ .
فَإِنْ أَرَادَا جَمِيعًا السَّفَرَ بِهَا ، وَاخْتَلَفَا فِي مَكَانِهَا ، قَدَّمْنَا قَوْلَ مَنْ يُعَيِّنُ الْأَصْلَحَ ، فَإِنْ اسْتَوَيَا ، قَدَّمْنَا قَوْلَ الْمُرْتَهِن .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُقَدَّمُ قَوْلُ الرَّاهِنِ ، وَإِنْ كَانَ الْأَصْلَحُ غَيْرَهُ ؛ لِأَنَّهُ أَمْلَكُ بِهَا ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مَأْوَاهَا إلَى يَدِ عَدْلٍ .
وَلَنَا ، أَنَّ الْيَدَ لِلْمُرْتَهِنِ ، فَكَانَ أَوْلَى ، كَمَا لَوْ كَانَا فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ ، وَأَيُّهُمَا أَرَادَ نَقْلَهَا عَنْ الْبَلَدِ مَعَ خِصْبِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ، سَوَاءٌ أَرَادَ نَقْلَهَا إلَى مِثْلِهِ ، أَوْ أَخْصَبِ مِنْهُ ، إذْ لَا مَعْنَى لِلْمُسَافِرَةِ بِالرَّهْنِ مَعَ إمْكَانِ تَرْكِ السَّفَرِ بِهِ .
وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى نَقْلِهَا ، جَازَ أَيْضًا ، سَوَاءٌ كَانَ أَنْفَعَ لَهَا أَوْ لَا ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا ، لَا يَخْرُجُ عَنْهُمَا .

( 3382 ) فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ عَبْدًا يَحْتَاجُ إلَى خِتَانٍ ، وَالدَّيْنُ حَالٌّ ، أَوْ أَجَلُهُ قَبْلَ بُرْئِهِ ، مُنِعَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ يُنْقِصُ ثَمَنَهُ ، وَفِيهِ ضَرَرٌ ، وَإِنْ كَانَ يَبْرَأُ قَبْلَ مَحِلِّ الْحَقِّ ، وَالزَّمَانُ مُعْتَدِلٌ لَا يَخَافُ عَلَيْهِ فِيهِ ، فَلَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ ، وَيَزِيدُ بِهِ الثَّمَنُ ، وَلَا يَضُرُّ الْمُرْتَهِنَ ، وَمُؤْنَتُهُ عَلَى الرَّاهِنِ .
فَإِنْ مَرِضَ ، فَاحْتَاجَ إلَى دَوَاءٍ ، لَمْ يُجْبَرْ الرَّاهِنُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ يَتَحَقَّقُ أَنَّهُ سَبَبٌ لِبَقَائِهِ ، وَقَدْ يَبْرَأُ بِغَيْرِ عِلَاجٍ ، بِخِلَافِ النَّفَقَةِ ، وَإِنْ أَرَادَ الرَّاهِنُ مُدَاوَاتَهُ بِمَا لَا ضَرَرَ فِيهِ ، لَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ مَصْلَحَةٌ لَهُمَا مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ بِوَاحِدِ مِنْهُمَا .
وَإِنْ كَانَ الدَّوَاءُ مِمَّا يُخَافُ غَائِلَتُهُ ، كَالسُّمُومِ ، فَلِلْمُرْتَهِنِ مَنْعُهُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ تَلَفَهُ .
وَإِنْ احْتَاجَ إلَى فَصْدٍ ، أَوْ احْتَاجَتْ الدَّابَّةُ إلَى تَوْدِيجٍ ، وَمَعْنَاهُ فَتْحُ الْوَدَجَيْنِ حَتَّى يَسِيلَ الدَّمُ ، وَهُمَا عِرْقَانِ عَرِيضَانِ غَلِيظَانِ مِنْ جَانِبَيْ ثَغْرَةِ النَّحْرِ ، أَوْ تَبْزِيغٍ ، وَهُوَ فَتْحُ الرَّهْصَةِ ، فَلِلرَّاهِنِ فِعْلُ ذَلِكَ ، مَا لَمْ يَخَفْ مِنْهُ ضَرَرًا .
وَإِنْ اُحْتِيجَ إلَى قَطْعِ شَيْءٍ مِنْ بَدَنِهِ بِدَوَاءٍ لَا يُخَافُ مِنْهُ ، جَازَ ، وَإِنْ خِيفَ مِنْهُ ، فَأَيُّهُمَا امْتَنَعَا مِنْهُ لَمْ يُجْبَرْ .
وَإِنْ كَانَتْ بِهِ آكِلَةٌ كَانَ لَهُ قَطْعُهَا ؛ لِأَنَّهُ يُخَافُ مِنْ تَرْكِهَا لَا مِنْ قَطْعِهَا ، لِأَنَّهُ لَا يُحِسُّ بِلَحْمِ مَيِّتٍ .
وَإِنْ كَانَتْ بِهِ خَبِيثَةٌ ، فَقَالَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ : الْأَحْوَطُ قَطْعُهَا .
وَهُوَ أَنْفَعُ مِنْ بَقَائِهَا ، فَلِلرَّاهِنِ ذَلِكَ ، وَإِلَّا فَلَيْسَ لَهُ فِعْلُهُ .
وَإِنْ تَسَاوَى الْخَوْفُ عَلَيْهِ فِي الْحَالَيْنِ لَمْ يَكُنْ لَهُ قَطْعُهَا ؛ لِأَنَّهُ يُحْدِثُ جُرْحًا فِيهِ لَمْ يَتَرَجَّحْ إحْدَاثُهُ .
وَإِنْ كَانَتْ بِهِ سِلْعَةٌ أَوْ إصْبَعٌ زَائِدَةٌ ، لَمْ يَمْلِكْ الرَّاهِنُ قَطْعَهَا ؛ لِأَنَّ قَطْعَهَا يُخَافُ مِنْهُ ، وَتَرْكَهَا لَا يُخَافُ مِنْهُ .

وَإِنْ كَانَتْ الْمَاشِيَةُ جَرِبَةً ، فَأَرَادَ الرَّاهِنُ دَهْنَهَا بِمَا يُرْجَى نَفْعُهُ ، وَلَا يُخَافُ ضَرَرُهُ ، كَالْقَطِرَانِ وَالزَّيْتِ الْيَسِيرِ ، لَمْ يُمْنَعْ .
وَإِنْ خِيفَ ضَرَرُهُ ، كَالْكَثِيرِ ، فَلِلْمُرْتَهِنِ مَنْعُهُ .
وَقَالَ الْقَاضِي : لَهُ ذَلِكَ بِغَيْرِ إذْنِ الْمُرْتَهِنِ ؛ لِأَنَّ لَهُ مُعَالَجَةَ مِلْكِهِ ، وَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ ، لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ .
وَلَوْ أَرَادَ الْمُرْتَهِنُ مُدَاوَاتَهَا بِمَا يَنْفَعُهَا ، وَلَا يُخْشَى ضَرَرُهُ ، لَمْ يُمْنَعْ ؛ لِأَنَّ فِيهِ إصْلَاحَ حَقِّهِ بِمَا لَا يَضُرُّ بِغَيْرِهِ ، وَإِنْ خِيفَ مِنْهُ الضَّرَرُ لَمْ يُمَكَّنْ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ فِيهِ خَطَرًا بِحَقِّ غَيْرِهِ .

( 3383 ) فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ نَخْلًا ، فَاحْتَاجَ إلَى تَأْبِيرٍ ، فَهُوَ عَلَى الرَّاهِنِ ، وَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ مَنْعُهُ ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَصْلَحَةً بِغَيْرِ مَضَرَّةٍ .
وَمَا يَسْقُطُ مِنْ لِيفٍ أَوْ سَعَفٍ أَوْ عَرَاجِينَ ، فَهُوَ مِنْ الرَّهْنِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَجْزَائِهِ ، أَوْ مِنْ نَمَائِهِ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ لَيْسَ مِنْ الرَّهْنِ .
بِنَاءً مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ النَّمَاءَ لَيْسَ مِنْهُ .
وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ هَاهُنَا ؛ لِأَنَّ السَّعَفَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَعْيَانِ الَّتِي وَرَدَ عَلَيْهَا عَقْدُ الرَّهْنِ ، فَكَانَتْ مِنْهُ ، كَالْأُصُولِ وَأَنْقَاضِ الدَّارِ .
وَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ كَرْمًا فَلَهُ زِبَارُهُ ، لِأَنَّهُ لِمَصْلَحَتِهِ ، وَلَا ضَرَرَ فِيهِ .
وَالزَّرَجُونُ مِنْ الرَّهْنِ .
وَلَوْ كَانَ الشَّجَرُ مُزْدَحِمًا ، وَفِي قَطْعِ بَعْضِهِ صَلَاحٌ لِمَا يُبْقِي ، فَلَهُ ذَلِكَ .
وَإِنْ أَرَادَ تَحْوِيلَهُ كُلَّهُ لَمْ يَمْلِكْ ذَلِكَ .
وَإِنْ قِيلَ : هُوَ الْأَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَعْلَقُ فَيَفُوتُ الرَّهْنُ .
وَإِنْ امْتَنَعَ الرَّاهِنُ مِنْ فِعْلِ هَذَا كُلِّهِ ، لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ فِعْلُ مَا فِيهِ زِيَادَةٌ مِنْ الرَّهْنِ .

( 3384 ) فَصْلٌ : وَكُلُّ زِيَادَةٍ تَلْزَمُ الرَّاهِنَ إذَا امْتَنَعَ ، أَجْبَرَهُ الْحَاكِمُ عَلَيْهَا ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ اكْتَرَى لَهُ الْحَاكِمُ مِنْ مَالِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ اكْتَرَى مِنْ الرَّهْنِ .
فَإِنْ بَذَلَهَا الْمُرْتَهِنُ مُتَطَوِّعًا لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ .
وَإِنْ أَنْفَقَ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ ، أَوْ إذْنِ الْحَاكِمِ عِنْدَ تَعَذُّرِ إذْنِ الرَّاهِنِ ، مُحْتَسِبًا ، رَجَعَ بِهِ .
وَإِنْ تَعَذَّرَ إذْنُهُمَا ، أَشْهَدَ عَلَى أَنَّهُ أَنْفَقَ ، لِيَرْجِعَ بِالنَّفَقَةِ .
وَلَهُ الرُّجُوعُ بِهَا ، وَإِنْ أَنْفَقَ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانِ الْحَاكِمِ مَعَ إمْكَانِهِ ، أَوْ مِنْ غَيْر إشْهَاد بِالرُّجُوعِ عِنْدَ تَعَذُّرِ اسْتِئْذَانِهِ لِيَرْجِعَ بِهِ ، فَهَلْ يَرْجِعُ بِهِ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ .
وَإِنْ أَنْفَقَ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ ؛ لِيَكُونَ الرَّهْنُ رَهْنًا بِالنَّفَقَةِ وَالدَّيْنِ الْأَوَّلِ ، لَمْ يَصِحَّ ، وَلَمْ يَصِرْ رَهْنًا بِالنَّفَقَةِ لِمَا ذَكَرْنَا .
وَإِنْ قَالَ الرَّاهِنُ : أَنْفَقْت مُتَبَرِّعًا .
وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ : بَلْ أَنْفَقْت مُحْتَسِبًا بِالرُّجُوعِ .
فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ ؛ لِأَنَّ الْخِلَافَ فِي نِيَّتِهِ ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِهَا ، وَلَا اطِّلَاعَ لِغَيْرِهِ مِنْ النَّاسِ عَلَيْهَا ، وَعَلَيْهِ الْيَمِينُ ؛ لِأَنَّ مَا قَالَهُ الرَّاهِنُ مُحْتَمِلٌ .
وَكُلُّ مُؤْنَةٍ لَا تَلْزَمُ الرَّاهِنَ ، كَنَفَقَةِ الْمُدَاوَاةِ وَالتَّأْبِيرِ وَأَشْبَاهِهِمَا ، لَا يَرْجِعُ بِهَا الْمُرْتَهِنُ إذَا أَنْفَقَهَا مُحْتَسِبًا أَوْ مُتَبَرِّعًا .

( 3385 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَالرَّهْنُ إذَا تَلِفَ بِغَيْرِ جِنَايَةٍ مِنْ الْمُرْتَهِنِ ، رَجَعَ الْمُرْتَهِنُ بِحَقِّهِ عِنْدَ مَحِلِّهِ ، وَكَانَتْ الْمُصِيبَةُ فِيهِ مِنْ رَاهِنِهِ ، وَإِنْ كَانَ بِتَعَدِّي الْمُرْتَهِنِ ، أَوْ لَمْ يَحْرُزْهُ ، ضَمِنَ ) أَمَّا إذَا تَعَدَّى الْمُرْتَهِنُ فِي الرَّهْنِ ، أَوْ فَرَّطَ فِي الْحِفْظِ لِلرَّهْنِ الَّذِي عِنْدَهُ حَتَّى تَلِفَ ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ .
لَا نَعْلَمُ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ خِلَافًا ؛ وَلِأَنَّهُ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ ، فَلَزِمَهُ إذَا تَلِفَ بِتَعَدِّيهِ أَوْ تَفْرِيطِهِ ، كَالْوَدِيعَةِ .
وَأَمَّا إنْ تَلِفَ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ مِنْهُ وَلَا تَفْرِيطٍ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، وَهُوَ مِنْ مَالِ الرَّاهِنِ .
يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ ، وَالزُّهْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَيُرْوَى عَنْ شُرَيْحٍ وَالنَّخَعِيِّ وَالْحَسَنِ أَنَّ الرَّهْنَ يَضْمَنُ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : الرَّهْنُ بِمَا فِيهِ } وَقَالَ .
مَالِكٌ إنْ كَانَ تَلَفُهُ بِأَمْرِ ظَاهِرٍ ، كَالْمَوْتِ وَالْحَرِيقِ ، فَمِنْ ضَمَانِ الرَّاهِنِ ، وَإِنْ ادَّعَى تَلَفَهُ بِأَمْرٍ خَفِيٍّ ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ ، وَضَمِنَ .
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ : يَضْمَنُهُ الْمُرْتَهِنُ بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهِ أَوْ قَدْرِ الدَّيْنِ وَيَرْوِي ذَلِكَ عُمَرُ بْن الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَى عَطَاءٌ ، أَنَّ رَجُلًا رَهَنَ فَرَسًا ، فَنَفَقَ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ ، فَجَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ ، فَقَالَ : { ذَهَبَ حَقُّك } .
وَلِأَنَّهَا عَيْنٌ مَقْبُوضَةٌ لِلِاسْتِيفَاءِ ، فَيَضْمَنُهَا مَنْ قَبَضَهَا لِذَلِكَ ، أَوْ مَنْ قَبَضَهَا نَائِبُهُ ، كَحَقِيقَةِ الْمُسْتَوْفَى ، وَلِأَنَّهُ مَحْبُوسٌ بِدَيْنٍ ، فَكَانَ مَضْمُونًا ، كَالْمَبِيعِ إذَا حُبِسَ لِاسْتِيفَاءِ ثَمَنِهِ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ

الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : لَا يُغْلَقُ الرَّهْنُ ، لِصَاحِبِهِ غُنْمُهُ ، وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ } رَوَاهُ الْأَثْرَمُ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ ابْنِ أَبِي فُدَيْكٍ عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ ، وَلَفْظُهُ : { الرَّهْنُ مِنْ صَاحِبِهِ الَّذِي رَهَنَهُ } وَبَاقِيه سَوَاءٌ .
قَالَ : وَوَصَلَهُ ابْنُ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ أَوْ مِثْلَ مَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُنَيْسَةَ .
وَلِأَنَّهُ وَثِيقَةٌ بِالدَّيْنِ ، فَلَا يَضْمَنُ ، كَالزِّيَادَةِ عَلَى قَدْرِ الدَّيْنِ ، وَكَالْكَفِيلِ وَالشَّاهِدِ ، وَلِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ بِعَقْدِ وَاحِدٍ بَعْضُهُ أَمَانَةٌ ، فَكَانَ جَمِيعُهُ أَمَانَةً ، كَالْوَدِيعَةِ .
وَعِنْدَ مَالِكٍ : أَنَّ مَا لَا يُضْمَنُ بِهِ الْعَقَارُ ، لَا يُضْمَنُ بِهِ الذَّهَبُ .
كَالْوَدِيعَةِ ، فَأَمَّا حَدِيثُ عَطَاءٍ فَهُوَ مُرْسَلٌ ، وَقَوْلُ عَطَاءٍ يُخَالِفُهُ ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ : يَرْوِيه إسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ ، وَكَانَ كَذَّابًا ، وَقِيلَ : يَرْوِيه مُصْعَبُ بْنُ ثَابِتٍ وَكَانَ ضَعِيفًا .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ ، ذَهَبَ حَقُّك مِنْ الْوَثِيقَةِ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَمْ يَسْأَلْ عَنْ قَدْرِ الدَّيْنِ وَقِيمَةِ الْفَرَسِ ، وَحَدِيثُ أَنَسٍ إنْ صَحَّ ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ مَحْبُوسٌ بِمَا فِيهِ ، وَأَمَّا الْمُسْتَوْفَى فَإِنَّهُ صَارَ مِلْكًا لِلْمُسْتَوْفِي ، وَلَهُ نَمَاؤُهُ وَغُنْمُهُ ، فَكَانَ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ وَغُرْمُهُ ، بِخِلَافِ الرَّهْنِ ، وَالْبَيْعُ قَبْلَ الْقَبْضِ مَمْنُوعٌ .

( 3386 ) فَصْلٌ : وَإِذَا قَضَاهُ جَمِيعَ الْحَقِّ ، أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْ الدَّيْنِ ، بَقِيَ الرَّهْنُ أَمَانَةً فِي يَدِهِ ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إذَا قَضَاهُ كَانَ مَضْمُونًا ، وَإِذَا أَبْرَأهُ أَوْ وَهَبَهُ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا اسْتِحْسَانًا .
وَهَذَا مُنَاقَضَةٌ ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ مَضْمُونٌ مِنْهُ ، لَمْ يَزُلْ ، وَلَمْ يُبْرِئْهُ مِنْهُ .
وَعِنْدَنَا أَنَّهُ كَانَ أَمَانَةً ، وَبَقِيَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ رَدُّهُ ؛ لِأَنَّهُ أَمْسَكَهُ بِإِذْنِ مَالِكِهِ ، وَلَا يَخْتَصُّ بِنَفْعِهِ ، فَهُوَ كَالْوَدِيعَةِ ، بِخِلَافِ الْعَارِيَّةِ فَإِنَّهُ يَخْتَصُّ بِنَفْعِهَا ، وَبِخِلَافِ مَا لَوْ أَطَارَتْ الرِّيحُ إلَى دَارِهِ ثَوْبًا ، لَزِمَهُ رَدُّهُ إلَى مَالِكِهِ ؛ لِأَنَّ مَالِكَهُ لَمْ يَأْذَنْ فِي إمْسَاكِهِ ، فَأَمَّا إنْ سَأَلَ مَالِكُهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ دَفْعَهُ إلَيْهِ ، لَزِمَ مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ ، مِنْ الْمُرْتَهِنِ أَوْ الْعَدْلِ دَفْعُهُ إلَيْهِ ، إذَا أَمْكَنَهُ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ، صَارَ ضَامِنًا ، كَالْمُودَعِ إذَا امْتَنَعَ مِنْ رَدِّ الْوَدِيعَةِ عِنْدَ طَلَبِهَا .
وَإِنْ كَانَ امْتِنَاعُهُ لِعُذْرٍ ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ طَرِيقٌ مُخِيفٌ ، أَوْ بَابٌ مُغْلَقٌ لَا يُمْكِنُهُ فَتْحُهُ ، أَوْ كَانَ يَخَافُ فَوْتَ جُمُعَةٍ أَوْ جَمَاعَةٍ ، أَوْ فَوْتَ صَلَاةٍ ، أَوْ بِهِ مَرَضٌ ، أَوْ جُوعٌ شَدِيدٌ ، وَمَا أَشْبَهَهُ ، فَأَخَّرَ التَّسْلِيمَ لِذَلِكَ ، فَتَلِفَ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا تَفْرِيطَ مِنْهُ ، فَأَشْبَهَ الْمُودِعَ .

( 3387 ) فَصْلٌ : وَإِذَا قَبَضَ الْمُرْتَهِنُ الرَّهْنَ ، فَوَجَدَهُ مُسْتَحَقًّا ، لَزِمَهُ رَدُّهُ عَلَى مَالِكِهِ ، وَالرَّهْنُ بَاطِلٌ مِنْ أَصْلِهِ فَإِنْ أَمْسَكَهُ ، مَعَ عِلْمِهِ بِالْغَصْبِ ، حَتَّى تَلِفَ فِي يَدِهِ ، اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الضَّمَانُ ، وَلِلْمَالِكِ تَضْمِينُ أَيِّهِمَا شَاءَ ، فَإِنْ ضَمَّنَ الْمُرْتَهِنَ ، لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ لِذَلِكَ ، وَإِنْ ضَمَّنَ الرَّاهِنَ ، رَجَعَ عَلَيْهِ .
وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِالْغَصْبِ حَتَّى تَلِفَ بِتَفْرِيطِهِ ، فَالْحُكْمُ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ ، وَإِنْ تَلِفَ بِغَيْرِ تَفْرِيطِهِ ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ ؛ أَحَدُهَا يَضْمَنُ ، وَيَسْتَقِرُّ الضَّمَانُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ مَالَ غَيْرِهِ تَلِفَ تَحْتَ يَدِهِ الْعَادِيَةِ ، فَاسْتَقَرَّ الضَّمَانُ عَلَيْهِ ، كَمَا لَوْ عَلِمَ .
وَالثَّانِي ، لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ عَلَى أَنَّهُ أَمَانَةٌ مِنْ غَيْر عِلْمه ، فَلَمْ يَضْمَنْهُ ، كَالْوَدِيعَةِ .
فَعَلَى هَذَا يَرْجِعُ الْمَالِكُ عَلَى الْغَاصِبِ لَا غَيْرُ .
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ ، أَنَّ لِلْمَالِكِ تَضْمِينَ أَيِّهِمَا شَاءَ ، وَيَسْتَقِرُّ الضَّمَانُ عَلَى الْغَاصِبِ ، فَإِنْ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ ، وَإِنْ ضَمَّنَ الْمُرْتَهِنَ رَجَعَ عَلَى الْغَاصِبِ ؛ لِأَنَّهُ غَرَّهُ ، فَرَجَعَ عَلَيْهِ ، كَالْمَغْرُورِ بِحُرِّيَّةِ أَمَةٍ .

( 3388 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْقِيمَةِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ مَعَ يَمِينِهِ ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الْحَقِّ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ مَعَ يَمِينِهِ ، إذَا لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدِ مِنْهُمَا بِمَا قَالَ بَيِّنَةٌ ) .
يَعْنِي : إذَا اخْتَلَفَا فِي قِيمَةِ الرَّهْنِ ، إذَا تَلِفَ فِي الْحَالِ الَّتِي يَلْزَمُ الْمُرْتَهِنَ ضَمَانُهُ ، وَهِيَ إذَا تَعَدَّى ، أَوْ لَمْ يَحْرُزْ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّهُ غَارِمٌ ، وَلِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِوُجُوبِ الزِّيَادَةِ عَلَى مَا أَقَرَّ بِهِ ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الْحَقِّ ، نَحْوُ أَنْ يَقُولَ الرَّاهِنُ : رَهَنْتُك عَبْدِي هَذَا بِأَلْفٍ .
فَقَالَ الْمُرْتَهِنُ : بَلْ بِأَلْفَيْنِ .
فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ .
وَبِهَذَا قَالَ النَّخَعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ وَالْبَتِّيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَحُكِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ ، أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ ، مَا لَمْ يُجَاوِزْ ثَمَنَ الرَّهْنِ ، أَوْ قِيمَتَهُ ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ مَالِكٍ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الرَّهْنَ يَكُونُ بِقَدْرِ الْحَقِّ .
وَلَنَا ، أَنَّ الرَّاهِنَ مُنْكِرٌ لِلزِّيَادَةِ الَّتِي يَدَّعِيهَا الْمُرْتَهِنُ ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ ؛ لَقَوْلِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ ، لَادَّعَى قَوْمٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ ، وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَنْفِيهَا ، كَمَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي أَصْلِ الدَّيْنِ ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ الظَّاهِرِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ ؛ فَإِنَّ الْعَادَةَ رَهْنُ الشَّيْءِ بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ ، إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ فِي قَدْرِ مَا رَهَنَهُ بِهِ ، سَوَاءٌ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ رَهَنَهُ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ أَوْ اخْتَلَفَا ، فَلَوْ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ الدَّيْنَ أَلْفَانِ ،

وَقَالَ الرَّاهِنُ : إنَّمَا رَهَنْتُك بِأَحَدِ الْأَلْفَيْنِ .
وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ : بَلْ رَهَنْته بِهِمَا .
فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ مَعَ يَمِينِهِ ، لِأَنَّهُ يُنْكِرُ تَعَلُّقَ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ فِي أَحَدِ الْأَلْفَيْنِ بِعَبْدِهِ ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ .
وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ رَهْنٌ بِأَحَدِ الْأَلْفَيْنِ ، وَقَالَ الرَّاهِنُ : هُوَ رَهْنٌ بِالْمُؤَجَّلِ .
وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ : بَلْ بِالْحَالِّ .
فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ مَعَ يَمِينِهِ ، لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ ، وَلِأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ فِي أَصْلِ الرَّهْنِ ، فَكَذَلِكَ فِي صِفَتِهِ ، وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ بَيِّنَةٌ ، فَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ ، حُكِمَ بِهَا ، بِغَيْرِ خِلَافٍ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ .

( 3389 ) فَصْلٌ : وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الرَّهْنِ ، فَقَالَ : رَهَنْتُك هَذَا الْعَبْدَ .
قَالَ : بَلْ هُوَ وَالْعَبْدَ الْآخَرَ .
فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ .
وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا .
وَإِنْ قَالَ : رَهَنْتُك هَذَا الْعَبْدَ .
قَالَ : بَلْ هَذِهِ الْجَارِيَةَ .
خَرَجَ الْعَبْدُ مِنْ الرَّهْنِ ، لِاعْتِرَافِ الْمُرْتَهِنِ بِأَنَّهُ لَمْ يَرْهَنْهُ ، وَحَلَفَ الرَّاهِنُ عَلَى أَنَّهُ مَا رَهَنَهُ الْجَارِيَةَ ، وَخَرَجَتْ مِنْ الرَّهْنِ أَيْضًا .
وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي رَدِّ الرَّهْنِ إلَى الرَّاهِنِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ ، وَالْأَصْلُ مَعَهُ .
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْمُسْتَأْجِرِ ، إذَا ادَّعَى رَدَّ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : يَتَخَرَّجُ فِيهِمَا وَجْهٌ آخَرُ ، أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ وَالْمُسْتَأْجِرِ فِي الرَّدِّ ، بِنَاءً عَلَى الْمُضَارِبِ وَالْوَكِيلِ بِجَعْلٍ ، إذَا ادَّعَيَا الرَّدَّ ، فَإِنَّ فِيهِمَا وَجْهَيْنِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمُرْتَهِنِ ، أَنَّ الْمُرْتَهِنَ قَبَضَ الْعَيْنَ لِيَنْتَفِعَ بِهَا ، وَكَذَلِكَ الْمُسْتَأْجِرُ وَالْوَكِيلُ ، قَبَضَ الْعَيْنَ لِيَنْتَفِعَ بِالْجَعْلِ لَا بِالْعَيْنِ ، وَالْمُضَارِبُ قَبَضَهَا لِيَنْتَفِعَ بِرِبْحِهَا لَا بِهَا ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي تَلَفِ الْعَيْنِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّ يَدَهُ يَدُ أَمَانَةٍ ، وَيَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى التَّلَفِ ، فَقُبِلَ قَوْلُهُ فِيهِ ، كَالْمُودَعِ .

( 3390 ) فَصْلٌ : فَإِنْ قَالَ : بِعْتُك هَذَا الثَّوْبَ ، عَلَى أَنْ تَرْهَنَنِي بِثَمَنِهِ عَبْدَيْك هَذَيْنِ .
قَالَ : بَلْ عَلَى أَنْ أَرْهَنَك هَذَا وَحْدَهُ .
فَفِيهَا رِوَايَتَانِ ، حَكَاهُمَا الْقَاضِي ، إحْدَاهُمَا ، يَتَحَالَفَانِ ، لِأَنَّهُ اخْتِلَافٌ فِي الْبَيْعِ ، فَهُوَ كَالِاخْتِلَافِ فِي الثَّمَنِ .
وَالثَّانِيَةُ ، الْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِشَرْطِ رَهْنِ الْعَبْدِ الَّذِي اخْتَلَفَا فِيهِ ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ ، وَهَذَا أَصَحُّ .

( 3391 ) فَصْلٌ : وَإِنْ قَالَ : أَرْسَلْت وَكِيلَك ، فَرَهَنَنِي عَبْدَك ، عَلَى عِشْرِينَ قَبَضَهَا .
قَالَ : مَا أَمَرْته بِرَهْنِهِ إلَّا بِعَشْرَةِ ، وَلَا قَبَضْت إلَّا عَشَرَةً سُئِلَ الرَّسُولُ ، فَإِنْ صَدَّقَ الرَّاهِنَ ، فَعَلَيْهِ الْيَمِينُ أَنَّهُ مَا رَهَنَهُ إلَّا بِعَشْرَةِ ، وَلَا قَبَضَ إلَّا عَشَرَةً ، وَلَا يَمِينَ عَلَى الرَّاهِنِ ، لِأَنَّ الدَّعْوَى عَلَى غَيْرِهِ ، فَإِذَا حَلَفَ الْوَكِيلُ بَرِئَا جَمِيعًا ، وَإِنْ نَكِلَ ، فَعَلَيْهِ الْعَشَرَةُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا ، وَلَا يَرْجِعُ بِهَا عَلَى أَحَدٍ ؛ لِأَنَّهُ يُصَدِّقُ الرَّاهِنَ فِي أَنَّهُ مَا أَخَذَهَا ، وَلَا أَمَرَهُ بِأَخْذِهَا ، وَإِنَّمَا الْمُرْتَهِنُ ظَلَمَهُ .
وَإِنْ صَدَّقَ الْوَكِيلُ الْمُرْتَهِنَ ، وَادَّعَى أَنَّهُ سَلَّمَ الْعِشْرِينَ إلَى الرَّاهِنِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ مَعَ يَمِينه .
فَإِنْ نَكِلَ ، قُضِيَ عَلَيْهِ بِالْعَشَرَةِ ، وَيَدْفَعُ إلَى الْمُرْتَهِنِ ، وَإِنْ حَلَفَ بَرِئَ ، وَعَلَى الرَّسُولِ غَرَامَةُ الْعَشَرَةِ لِلْمُرْتَهِنِ ؛ لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّهَا حَقٌّ لَهُ وَإِنَّمَا الرَّاهِنُ ظَلَمَهُ .
وَإِنْ عَدِمَ الرَّسُولَ ، أَوْ تَعَذَّرَ إحْلَافُهُ ، فَعَلَى الرَّاهِنِ الْيَمِينُ أَنَّهُ مَا أَذِنَ فِي رَهْنِهِ إلَّا بِعَشْرَةٍ ، وَلَا قَبَضَ أَكْثَرَ مِنْهَا ، وَيَبْقَى الرَّهْنُ بِالْعَشَرَةِ الْأُخْرَى .

( 3392 ) فَصْلٌ : إذَا كَانَ عَلَى رَجُلٍ أَلْفَانِ ، أَحَدُهُمَا بِرَهْنٍ ، وَالْآخَرُ بِغَيْرِ رَهْنٍ ، فَقَضَى أَلْفًا ، وَقَالَ : قَضَيْت دَيْنَ الرَّهْنِ .
وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ : بَلْ قَضَيْت الدَّيْنَ الْآخَرَ .
فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ مَعَ يَمِينه ، سَوَاءٌ اخْتَلَفَا فِي نِيَّةِ الرَّاهِنِ بِذَلِكَ أَوْ فِي لَفْظِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِنِيَّتِهِ وَصِفَةِ ، دَفْعِهِ ، وَلِأَنَّهُ يَقُولُ : إنَّ الدَّيْنَ الْبَاقِيَ بِلَا رَهْنٍ ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي أَصْلِ الرَّهْنِ ، فَكَذَلِكَ فِي صِفَتِهِ ، وَإِنْ أَطْلَقَ الْقَضَاءَ ، وَلَمْ يَنْوِ شَيْئًا ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : لَهُ صَرْفُهَا إلَى أَيِّهِمَا شَاءَ ، كَمَا لَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ حَاضِرٌ وَغَائِبٌ ، فَأَدَّى قَدْرَ زَكَاةِ أَحَدِهِمَا ، كَانَ لَهُ أَنْ يُعَيِّنَ عَنْ أَيِّ الْمَالَيْنِ شَاءَ .
وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ، وَقَالَ بَعْضِهِمْ : يَقَعُ الدَّفْعُ عَنْ الدَّيْنَيْنِ مَعًا ، عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ ؛ لِأَنَّهُمَا تَسَاوَيَا فِي الْقَضَاءِ ، فَتُسَاوَيَا فِي وُقُوعِهِ عَنْهُمَا ، فَأَمَّا إنْ أَبْرَأَهُ الْمُرْتَهِنُ مِنْ أَحَدِ الدَّيْنَيْنِ ، وَاخْتَلَفَا ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ ، عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الرَّاهِنِ ، ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ .

( 3393 ) فَصْلٌ : وَإِذَا اتَّفَقَ الْمُتَرَاهِنَانِ عَلَى قَبْضِ الْعَدْلِ لِلرَّهْنِ لَزِمَ الرَّهْنُ فِي حَقِّهِمَا ، وَلَمْ يَضُرَّ إنْكَارُهُ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا ، وَإِنْ قَالَ أَحَدُهُمَا : قَبَضَهُ الْعَدْلُ .
فَأَنْكَرَ الْآخَرُ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ ، كَمَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي قَبْضِ الْمُرْتَهِنِ لَهُ .
وَلَوْ شَهِدَ الْعَدْلُ بِالْقَبْضِ ، لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةُ الْوَكِيلِ لِمُوَكِّلِهِ .

( 3394 ) فَصْلٌ : إذَا كَانَ فِي يَدِ رَجُلٍ عَبْدٌ ، فَقَالَ : رَهَنْتنِي عَبْدَك هَذَا بِأَلْفٍ فَقَالَ : بَلْ قَدْ غَصَبْته ، أَوْ اسْتَعَرْته .
فَالْقَوْلُ قَوْلُ السَّيِّدِ ، سَوَاءٌ اعْتَرَفَ بِالدَّيْنِ أَوْ جَحَدَهُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الرَّهْنِ .
وَإِنْ قَالَ السَّيِّدُ : بِعْتُك عَبْدِي هَذَا بِأَلْفٍ قَالَ : بَلْ رَهَنْته عِنْدِي بِهَا .
فَالْقَوْلُ قَوْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْعَقْدِ الَّذِي يُنْكِرُهُ ، وَيَأْخُذُ السَّيِّدُ عَبْدَهُ .
وَهَكَذَا لَوْ قَالَ : رَهَنْتَكَهُ بِأَلْفٍ أَقْرَضْتنِيهِ .
قَالَ : بَلْ بِعْتنِيهِ بِأَلْفٍ قَبَضْته مِنِّي ثَمَنًا .
فَكَذَلِكَ ، وَيَرُدُّ صَاحِبُ الْعَبْدِ الْأَلْفَ ، وَيَأْخُذُ عَبْدَهُ .

( 3395 ) فَصْلٌ : وَإِذَا ادَّعَى عَلَى رَجُلَيْنِ ، فَقَالَ : رَهَنْتُمَانِي عَبْدَكُمَا بِدَيْنِي عَلَيْكُمَا .
فَأَنْكَرَاهُ .
فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمَا ، فَإِنْ شَهِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ إذَا كَانَ عَدْلًا ، وَلِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَيَصِيرَ جَمِيعُهُ رَهْنًا ، أَوْ يَحْلِفَ مَعَ أَحَدِهِمَا وَيَصِيرَ نَصِيبُ الْآخَرِ رَهْنًا ، وَإِنْ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا ، ثَبَتَ فِي حَقِّهِ وَحْدَهُ .
وَإِنْ شَهِدَ الْمُقِرُّ عَلَى الْمُنْكِرِ ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ إنْ كَانَ عَدْلًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجْلُبُ لِنَفْسِهِ نَفْعًا ، وَلَا يَدْفَعُ عَنْهَا ضَرَرًا .
وَبِهَذَا قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إذَا أَنْكَرَا جَمِيعًا فِي شَهَادَتِهِمَا نَظَرَ ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ لَهُ يَدَّعِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ظَالِمٌ لَهُ بِجُحُودِهِ حَقَّهُ مِنْ الرَّهْنِ ، فَإِذَا طَعَنَ الْمَشْهُودُ لَهُ فِي شُهُودِهِ ، لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ لَهُ .
قُلْنَا : لَا يَصِحُّ هَذَا ؛ فَإِنَّ إنْكَارَ الدَّعْوَى لَا يَثْبُتُ بِهِ فِسْقُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ .
وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ عَلَيْهِ ، لِجَوَازِ أَنْ يَنْسَى ، أَوْ تَلْحَقهُ شُبْهَةٌ فِيمَا يَدَّعِيه أَوْ يُنْكِرهُ .
وَكَذَلِكَ لَوْ تَدَاعَى رَجُلَانِ شَيْئًا ، وَتَخَاصَمَا فِيهِ ، ثُمَّ شَهِدَا عِنْدَ الْحَاكِمِ بِشَيْءٍ ، لَمْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُمَا ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا كَاذِبًا فِي مُخَالَفَتِهِ لِصَاحِبِهِ ، وَلَوْ ثَبَتَ الْفِسْقُ بِذَلِكَ ، لَمْ يَجُزْ قَبُولُ شَهَادَتِهِمَا جَمِيعًا ، مَعَ تَحَقُّقِ الْجَرْحِ فِي أَحَدِهِمَا .

فَصْلٌ : وَإِذَا رَهَنَ عَيْنًا عِنْدَ رَجُلَيْنِ ، فَنِصْفُهَا رَهْنٌ عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِدَيْنِهِ ، وَمَتَى وَفَّى أَحَدُهُمَا ، خَرَجَتْ حِصَّتُهُ مِنْ الرَّهْنِ ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْوَاحِدِ مَعَ الِاثْنَيْنِ بِمَنْزِلَةِ عَقْدَيْنِ ، فَكَأَنَّهُ رَهَنَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا النِّصْفَ مُفْرَدًا ، فَإِنْ أَرَادَ مُقَاسَمَةَ الْمُرْتَهِنِ ، وَأَخْذَ نَصِيبِ مَنْ وَفَّاهُ ، وَكَانَ الرَّهْنُ مِمَّا لَا تَنْقُصُهُ الْقِسْمَةُ ، كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ ، لَزِمَ ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا تَنْقُصُهُ الْقِسْمَةُ ، لَمْ تَجِبْ قِسْمَتُهُ ؛ لِأَنَّ عَلَى الْمُرْتَهِنِ ضَرَرًا فِي قِسْمَتِهِ ، وَيُقَرُّ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ ، نِصْفُهُ رَهْنٌ ، وَنِصْفُهُ وَدِيعَةٌ ، وَإِنْ رَهَنَ اثْنَانِ عَبْدَهُمَا عِنْدَ رَجُلٍ ، فَوَفَّاهُ أَحَدُهُمَا ، انْفَكَّ الرَّهْنُ فِي نَصِيبِهِ .
وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا ، فِي رَجُلَيْنِ رَهَنَا دَارًا لَهُمَا عِنْدَ رَجُلٍ ، عَلَى أَلْفٍ ، فَقَضَاهُ أَحَدُهُمَا ، وَلَمْ يَقْضِ الْآخَرُ : فَالدَّارُ رَهْنٌ عَلَى مَا بَقِيَ ، وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ فِي رَجُلٍ رَهَنَ عَبْدَهُ عِنْدَ رَجُلَيْنِ ، فَوَفَّى أَحَدُهُمَا ، فَجَمِيعُهُ رَهْنٌ عِنْدَ الْآخَرِ ، حَتَّى يُوَفِّيَهُ ، وَهَذَا مِنْ كَلَامِ أَحْمَدَ وَأَبِي الْخَطَّابِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلرَّاهِنِ مُقَاسَمَةُ الْمُرْتَهِنِ ، لِمَا عَلَيْهِ مِنْ الضَّرَرِ ، لَا بِمَعْنَى أَنَّ الْعَيْنَ كُلَّهَا تَكُونُ رَهْنًا ، إذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ رَهَنَ نِصْفَ الْعَبْدِ عِنْدَ رَجُلٍ ، فَصَارَ جَمِيعُهُ رَهْنًا .
وَلَوْ رَهَنَ اثْنَانِ عَبْدًا لَهُمَا عِنْدَ اثْنَيْنِ بِأَلْفٍ ، فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ عُقُودٍ ، وَيَصِيرُ كُلُّ رُبْعٍ مِنْ الْعَبْدِ رَهْنًا بِمِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ ، فَمَتَى قَضَاهَا مَنْ هِيَ عَلَيْهِ ، انْفَكَّ مِنْ الرَّهْنِ ذَلِكَ الْقَدْرُ .
قَالَهُ الْقَاضِي ، وَهُوَ الصَّحِيحُ .

( 3397 ) فَصْلٌ : وَلَوْ ادَّعَى رَجُلَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ رَهَنَهُمَا عَبْدَهُ وَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا : رَهَنَهُ عِنْدِي دُونَ صَاحِبِي .
فَأَنْكَرَهُمَا جَمِيعًا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ .
وَإِنْ أَنْكَرَ أَحَدَهُمَا ، وَصَدَّقَ الْآخَرَ ، سُلِّمَ إلَى مَنْ صَدَّقَهُ ، وَحُلِّفَ الْآخَرُ .
وَإِنْ قَالَ : لَا أَعْلَمُ عَيْنَ الْمُرْتَهِنِ مِنْهُمَا .
حَلَفَ عَلَى ذَلِكَ ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ مِنْهُمَا مَعَ يَمِينه .
وَإِنْ كَانَ فِي أَيْدِيهِمَا ، حَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى نِصْفِهِ ، وَصَارَ رَهْنًا عِنْدَهُ .
وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ غَيْرِهِمَا ، أَقْرَعِ بَيْنَهُمَا ، فَمَنْ قَرَعَ صَاحِبَهُ ، حَلَفَ وَأَخَذَهُ ، كَمَا لَوْ ادَّعَيَا مِلْكَهُ .
وَلَوْ قَالَ : رَهَنْته عِنْدَ أَحَدِهِمَا ، ثُمَّ رَهَنْته لِلْآخَرِ ، وَلَا أَعْلَمُ السَّابِقَ مِنْهُمَا .
فَكَذَلِكَ ، وَإِنْ قَالَ : هَذَا هُوَ السَّابِقُ بِالْعَقْدِ وَالْقَبْضِ .
سُلِّمَ إلَيْهِ ، وَحَلَفَ لِلْآخَرِ ، وَإِنْ نَكِلَ وَالْعَبْدُ فِي يَدِ الْأَوَّلِ ، أَوْ يَدِ غَيْرِهِ ، فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِلثَّانِي ، كَمَا لَوْ قَالَ : هَذَا الْعَبْدُ لِزَيْدٍ ، وَغَصَبْته مِنْ عَمْرٍو .
فَإِنَّهُ يُسَلَّمُ إلَى زَيْدٍ ، وَيَغْرَمُ قِيمَتَهُ لِعَمْرٍو .
وَإِنْ نَكِلَ وَالْعَبْدُ فِي يَدِ الثَّانِي ، أَقَرَّ فِي يَدِهِ ، وَغَرِمَ قِيمَتَهُ لِلْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بَعْدَ مَا فَعَلَ مَا حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ أَقَرَّ لَهُ ، فَلَزِمَتْهُ قِيمَتُهُ ، كَمَا قُلْنَا .
وَقَالَ الْقَاضِي : إذَا اعْتَرَفَ بِهِ لِغَيْرِ مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ ، فَهَلْ يَرْجِعُ صَاحِبُ الْيَدِ أَوْ الْمُقِرُّ لَهُ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ .
وَلَوْ اعْتَرَفَ لَأَحَدِهِمَا وَهُوَ فِي يَدَيْهِمَا .
ثَبَتَتْ يَدُ الْمُقِرِّ لَهُ فِي النِّصْفِ ، وَفِي النِّصْفِ الْآخَرِ وَجْهَانِ .

( 3398 ) فَصْلٌ : إذَا أَذِنَ لِلرَّاهِنِ فِي بَيْعِ الرَّهْنِ بَعْدَ حُلُولِ الْحَقِّ ، جَازَ ، وَتَعَلَّقَ حَقُّهُ بِثَمَنِهِ .
وَإِنْ أَذِنَ لَهُ قَبْلَ حُلُولِهِ مُطْلَقًا ، فَبَاعَهُ ، بَطَلَ الرَّهْنُ ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ عِوَضُهُ ؛ لِأَنَّهُ أَذِنَ لَهُ فِيمَا يُنَافِي حَقَّهُ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَذِنَ فِي عِتْقِهِ ، وَلِلْمَالِكِ أَخْذُ ثَمَنِهِ .
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ : يَكُونُ الثَّمَنُ رَهْنًا ؛ لِأَنَّ الرَّاهِنَ بَاعَ الرَّهْنَ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ فَوَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ حَقُّهُ فِيهِ ، كَمَا لَوْ حَلَّ الدَّيْنُ .
قَالَ الطَّحَاوِيُّ : حَقُّ الْمُرْتَهِنِ مُتَعَلِّقٌ بِعَيْنِ الرَّهْنِ ، وَالثَّمَنُ بَدَلُهُ ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ ، مُتْلِفٌ .
وَلَنَا أَنَّهُ تَصَرُّفٌ يُبْطِلُ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ مِنْ عَيْنِ الرَّهْنِ لَا يَمْلِكُهُ الْمُرْتَهِنُ ، فَإِذَا أَذِنَ فِيهِ ، أَسْقَطَ حَقَّهُ ، كَالْعِتْقِ ، وَيُخَالِفُ مَا بَعْدَ الْحُلُولِ ، لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ يَسْتَحِقُّ الْبَيْعَ ، وَيُخَالِفُ الْإِتْلَافَ ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الْمُرْتَهِنِ .
فَإِنْ قَالَ : إنَّمَا أَرَدْت بِإِطْلَاقِ الْإِذْنِ أَنْ يَكُونَ ثَمَنُهُ رَهْنًا .
لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى دَعْوَاهُ ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَ الْإِذْنِ يَقْتَضِي بَيْعًا بِفَسْخِ الرَّهْنِ ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَإِنْ أَذِنَ فِيهِ بِشَرْطِ أَنْ يَجْعَلَ ثَمَنَهُ مَكَانَهُ رَهْنًا ، أَوْ يُعَجِّلَ لَهُ دَيْنَهُ مِنْ ثَمَنِهِ ، جَازَ ، وَلَزِمَ ذَلِكَ ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْإِذْنِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ .
وَإِنْ أَذِنَ فِي الْبَيْعِ ، وَاخْتَلَفَا فِي شَرْطِ جَعْلِ ثَمَنِهِ رَهْنًا ، أَوْ تَعْجِيلِ دَيْنِهِ مِنْهُ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الشَّرْطِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُرْتَهِنِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الْوَثِيقَةِ .
وَإِنْ أَذِنَ الرَّاهِنُ فِي الْبَيْعِ ، ثُمَّ رَجَعَ قَبْلَ الْبَيْعِ ، فَبَاعَهُ الْمُرْتَهِنُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالرُّجُوعِ ، لَمْ يَصِحَّ بَيْعُهُ ، وَإِنْ بَاعَهُ بَعْدَ

الرُّجُوعِ ، وَقَبْلَ الْعِلْمِ ، احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ ، بِنَاءً عَلَى عَزْلِ الْوَكِيلِ قَبْلَ عِلْمِهِ .
فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الرُّجُوعِ قَبْلَ الْبَيْعِ ، فَقَالَ الْقَاضِي : الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الرُّجُوعِ ، وَعَدَمُ الْبَيْعِ قَبْلَ الرُّجُوعِ ، فَتَعَارَضَ الْأَصْلَانِ ، وَبَقِيت الْعَيْنُ رَهْنًا عَلَى مَا كَانَتْ .
وَبِهَذَا كُلِّهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَهَذَا فِيمَا لَا يُحْتَاجُ إلَى بَيْعِهِ ، فَأَمَّا مَا دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى بَيْعِهِ ، كَاَلَّذِي خِيفَ تَلَفُهُ ، إذَا أَذِنَ فِي بَيْعِهِ مُطْلَقًا ، تَعَلَّقَ الْحَقُّ بِثَمَنِهِ ، لِأَنَّ بَيْعَهُ مُسْتَحَقٌّ ، فَأَشْبَهَ مَا بِيعَ بَعْدَ حُلُولِ الدَّيْنِ .

( 3399 ) فَصْلٌ : إذَا حَلَّ الْحَقُّ ، لَزِمَ الرَّاهِنَ الْإِيفَاءُ ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ حَالٌّ ، فَلَزِمَ إيفَاؤُهُ ، كَاَلَّذِي لَا رَهْنَ بِهِ ، فَإِنْ لَمْ يُوَفِّ ، وَكَانَ قَدْ أَذِنَ لِلْمُرْتَهِنِ أَوْ لِلْعَدْلِ فِي بَيْعِ الرَّهْنِ ، بَاعَهُ ، وَوَفَّى الْحَقَّ مِنْ ثَمَنِهِ ، وَمَا فَضَلَ مِنْ ثَمَنِهِ فَلِمَالِكِهِ ، وَإِنْ فَضَلَ مِنْ الدَّيْنِ شَيْءٌ فَعَلَى الرَّاهِنِ .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَذِنَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِ ، أَوْ كَانَ قَدْ أَذِنَ لَهُمَا ثُمَّ عَزَلَهُمَا ، طُولِبَ بِالْوَفَاءِ وَبَيْعِ الرَّهْنِ ، فَإِنْ فَعَلَ ، وَإِلَّا فَعَلَ الْحَاكِمُ مَا يَرَى مِنْ حَبْسِهِ وَتَعْزِيرِهِ لِبَيْعِهِ ، أَوْ يَبِيعُهُ بِنَفْسِهِ أَوْ أَمِينِهِ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَبِيعُهُ الْحَاكِمُ ، لِأَنَّ وِلَايَةَ الْحَاكِمِ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ ، لَا عَلَى مَالِهِ ، فَلَمْ يَنْفُذْ بَيْعُهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ حَقٌّ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ ، فَإِذَا امْتَنَعَ مِنْ أَدَائِهِ ، قَامَ الْحَاكِمُ مَقَامَهُ فِي أَدَائِهِ كَالْإِيفَاءِ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ ، وَإِنْ وَفَّى الدَّيْنَ مِنْ غَيْرِ الرَّهْنِ ، انْفَكَّ الرَّهْنُ .

( 3400 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَالْمُرْتَهِنُ أَحَقُّ بِثَمَنِ الرَّهْنِ مِنْ جَمِيعِ الْغُرَمَاءِ ، حَتَّى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ ، حَيًّا كَانَ الرَّاهِنُ أَوْ مَيِّتًا ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا ضَاقَ مَالُ الرَّاهِنِ عَنْ دُيُونِهِ ، وَطَالَبَ الْغُرَمَاءُ بِدُيُونِهِمْ ، أَوْ حُجِرَ عَلَيْهِ لِفَلْسِهِ ، وَأُرِيدَ قِسْمَةُ مَالِهِ بَيْنَ غُرَمَائِهِ ، فَأَوَّلُ مَنْ يُقَدَّمُ مَنْ لَهُ أَرْشُ جِنَايَةٍ يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَةِ بَعْض عَبِيدِ الْمُفْلِسِ ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ ، ثُمَّ مَنْ لَهُ رَهْنٌ ؛ فَإِنَّهُ يُخَصُّ بِثَمَنِهِ عَنْ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِعَيْنِ الرَّهْنِ وَذِمَّةِ الرَّاهِنِ مَعًا ، وَسَائِرُهُمْ يَتَعَلَّقُ حَقُّهُ بِالذِّمَّةِ دُونَ الْعَيْنِ ، فَكَانَ حَقُّهُ أَقْوَى ، وَهَذَا مِنْ أَكْثَرِ فَوَائِدِ الرَّهْنِ ، وَهُوَ تَقْدِيمُهُ بِحَقِّهِ عِنْدَ فَرْضِ مُزَاحَمَةِ الْغُرَمَاءِ ، وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ وَغَيْرِهِمْ ، فَيُبَاعُ الرَّهْنُ ، فَإِنْ كَانَ ثَمَنُهُ وَفْقَ حَقِّهِ أَخَذَهُ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ عَنْ دَيْنِهِ رُدَّ الْبَاقِي عَلَى الْغُرَمَاءِ ، وَإِنْ فَضَلَ مِنْ دَيْنِهِ شَيْءٌ أَخَذَ ثَمَنَهُ ، وَضَرَبَ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِبَقِيَّةِ دَيْنِهِ ، ثُمَّ مَنْ بَعْدِ ذَلِكَ مَنْ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا ، ثُمَّ يُقْسَمُ الْبَاقِي بَيْنَ الْغُرَمَاءِ ، عَلَى قَدْرِ دُيُونِهِمْ ، وَلَوْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ دَيْنُهُ ثَابِتٌ بِجِنَايَةِ الْمُفْلِسِ ، لَمْ يُقَدَّمْ ، وَكَانَ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ ؛ لِأَنَّ أَرْشَ جِنَايَتِهِ يَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهِ دُونَ مَالِهِ ، فَهُوَ كَبَقِيَّةِ الدُّيُونِ ، بِخِلَافِ أَرْشِ جِنَايَةِ الْعَبْدِ ، فَإِنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ ، فَلِذَلِكَ كَانَ أَحَقَّ بِهِ مِمَّنْ تَعَلَّقَ حَقُّهُ بِمُجَرَّدِ الذِّمَّةِ ، وَلَا فَرْقَ فِي اسْتِحْقَاقِ ثَمَنِ الرَّهْنِ وَالِاخْتِصَاصِ بِهِ بَيْنَ كَوْنِ الرَّهْنِ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا ؛ لِأَنَّ تَقْدِيمَ حَقِّهِ مِنْ حَيْثُ كَانَ حَقُّهُ مُتَعَلِّقًا بِعَيْنِ الْمَالِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَخْتَلِفُ بِالْحَيَاةِ

وَالْمَوْتِ ، فَكَذَلِكَ مَا ثَبَتَ بِهِ ، كَأَرْشِ الْجِنَايَةِ .

( 3401 ) فَصْلٌ : وَلَوْ بَاعَ شَيْئًا أَوْ بَاعَهُ وَكِيلُهُ وَقَبَضَ الثَّمَنَ ، أَوْ بَاعَ الْعَدْلُ الرَّهْنَ وَقَبَضَ الثَّمَنَ فَتُلْفِ ، وَتَعَذَّرَ رَدُّهُ ، وَخَرَجَتْ السِّلْعَةُ مُسْتَحَقَّةً ، سَاوَى الْمُشْتَرِي الْغُرَمَاءَ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِعَيْنِ الْمَالِ ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ أَرْشِ جِنَايَةِ الْمُفْلِسِ .
وَذَكَرَ الْقَاضِي احْتِمَالًا آخَرَ ، أَنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَى الْغُرَمَاءِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِمُجَرَّدِ الذِّمَّةِ ، فَكَانَ أَوْلَى كَالْمُرْتَهِنِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُقَدَّمْ عَلَى الْغُرَمَاءِ ، لَامْتَنَعَ النَّاسُ عَنْ شِرَاءِ مَالِ الْمُفْلِسِ ، خَوْفًا مِنْ ضَيَاعِ أَمْوَالِهِمْ ، فَتَقِلُّ الرَّغَبَاتُ فِيهِ ، وَيَقِلُّ ثَمَنُهُ ، فَكَانَ تَقْدِيمُ الْمُشْتَرِي بِذَلِكَ عَلَى الْغُرَمَاءِ أَنْفَعَ لَهُمْ .
وَهَذَا وَجْهٌ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ، وَلَنَا ، أَنَّ هَذَا حَقٌّ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِعَيْنِ الْمَالِ ، فَلَمْ يُقَدَّمْ ، كَاَلَّذِي جَنَى عَلَيْهِ الْمُفْلِسُ ، وَفَارَقَ الْمُرْتَهِنَ ، فَإِنَّ حَقَّهُ تَعَلَّقَ بِالْعَيْنِ ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ مُنْتَقَضٌ بِأَرْشِ جِنَايَةِ الْمُفْلِسِ ، وَالثَّانِي مَصْلَحَةٌ لَا أَصْلَ لَهَا ، فَلَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِهَا .
فَأَمَّا إنْ كَانَ الثَّمَنُ مَوْجُودًا ، يُمْكِنُ رَدُّهُ ، وَجَبَ رَدُّهُ ، وَيَنْفَرِدُ بِهِ صَاحِبُهُ ؛ لِأَنَّ عَيْنَ مَالِهِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ ، وَكَذَلِكَ صَاحِبُ السِّلْعَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ يَأْخُذُهَا ، وَمَتَى بَاعَ الْعَدْلُ مَالَ الْمُفْلِسِ ، أَوْ بَاعَ الرَّهْنَ وَخَرَجَتْ السِّلْعَةُ مُسْتَحَقَّةً ، فَالْعُهْدَةُ ، عَلَى الْمُفْلِسِ ، فَلَا شَيْءَ عَلَى الْعَدْلِ ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ .

( 3402 ) فَصْلٌ : وَمَنْ اسْتَأْجَرَ دَارًا أَوْ بَعِيرًا بِعَيْنِهِ ، أَوْ شَيْئًا غَيْرَهُمَا بِعَيْنِهِ ، ثُمَّ أَفْلَسَ الْمُؤَجِّرُ فَالْمُسْتَأْجِرُ أَحَقُّ بِالْعَيْنِ الَّتِي اسْتَأْجَرَهَا مِنْ الْغُرَمَاءِ ، حَتَّى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِعَيْنِ الْمَالِ ، وَالْمَنْفَعَةُ مَمْلُوكَةٌ لَهُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ ، فَكَانَ أَحَقَّ بِهَا ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى مِنْهُ شَيْئًا .
فَإِنْ هَلَكَ الْبَعِيرُ ، أَوْ انْهَدَمَتْ الدَّارُ ، قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ ، انْفَسَخَتْ الْإِجَارَةُ ، وَيَضْرِبُ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِبَقِيَّةِ الْأُجْرَةِ .
وَإِنْ اسْتَأْجَرَ جَمَلًا فِي الذِّمَّةِ أَوْ غَيْرَهُ ، ثُمَّ أَفْلَسَ الْمُؤَجِّرُ ، فَالْمُسْتَأْجِرُ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالْعَيْنِ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا .
فَإِنْ آجَرَ دَارًا ثُمَّ أَفْلَسَ ، فَاتَّفَقَ الْغُرَمَاءُ وَالْمُفْلِسُ عَلَى الْبَيْعِ قَبْلَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ ، فَلَهُمْ ذَلِكَ ، وَيَبِيعُونَهَا مُسْتَأْجَرَةً ، وَإِنْ اخْتَلَفُوا ، قُدِّمَ قَوْلُ مَنْ طَلَبَ الْبَيْعَ فِي الْحَالِ ؛ لِأَنَّهُ أَحْوَطُ مِنْ التَّأْخِيرِ ، فَإِذَا اسْتَوْفَى الْمُسْتَأْجِرُ يُسَلِّمُ الْمُشْتَرِي .
وَإِنْ اتَّفَقُوا عَلَى تَأْخِيرِ الْبَيْعِ حَتَّى تَنْقَضِيَ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ ، فَلَهُمْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمْ ، لَا يَخْرُجُ عَنْهُمْ .

( 3403 ) فَصْلٌ : وَلَوْ بَاعَ سِلْعَةً ، ثُمَّ أَفْلَسَ قَبْلَ تَقْبِيضِهَا ، فَالْمُشْتَرِي أَحَقُّ بِهَا مِنْ الْغُرَمَاءِ ، سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ أَوْ غَيْرِهِمَا ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَدْ مَلَكَهَا ، وَثَبَتَ مِلْكُهُ فِيهَا ، فَكَانَ أَحَقَّ بِهَا ، كَمَا لَوْ قَبَضَهَا ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ وَمَا بَعْدَهُ .
وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ سَلَمٌ فَوَجَدَ الْمُسْلِمُ الثَّمَنَ قَائِمًا .
فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ ، فَلَهُ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ حَقُّهُ بِعَيْنِ مَالٍ ، وَلَا ثَبَتَ مِلْكُهُ فِيهِ ، وَيَضْرِبُ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِالْمُسْلِمِ فِيهِ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ دُونَ الثَّمَنِ ، فَيُعْزَلُ لَهُ قَدْرُ حَقِّهِ ، فَإِنْ كَانَ فِي الْمَالِ جِنْسُ حَقِّهِ ، أَخَذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا يَسْتَحِقُّهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ جِنْسُ حَقِّهِ ، عُزِلَ لَهُ بِقَدْرِ حَقِّهِ ، فَيَشْتَرِي بِهِ الْمُسْلَمَ فِيهِ ، فَيَأْخُذُهُ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمَعْزُولَ بِعَيْنِهِ ؛ لِئَلَّا يَكُونَ بَدَلًا عَمَّا فِي الذِّمَّةِ مِنْ الْمُسْلَمِ فِيهِ .
وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الْبَدَلِ عَنْ الْمُسْلَمِ فِيهِ .
وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَشْتَرِي بِالْمَعْزُولِ أَكْثَرِ مِمَّا قُدِّرَ لَهُ ، لِرُخْصِ الْمُسْلَمِ فِيهِ ، اُشْتُرِيَ لَهُ بِقَدْرِ حَقِّهِ ، وَرُدَّ الْبَاقِي عَلَى الْغُرَمَاءِ .
مِثَالُهُ ، رَجُلٌ أَفْلَسَ وَلَهُ دِينَارٌ ، وَعَلَيْهِ لِرَجُلٍ دِينَارٌ ، وَلِآخَرَ قَفِيزُ حِنْطَةٍ مِنْ سَلَمٍ قِيمَتُهُ دِينَارٌ .
فَإِنَّهُ يُقْسَمُ دِينَارُ الْمُفْلِسِ نِصْفَيْنِ ، لِصَاحِبِ الدِّينَارِ نِصْفُهُ ، وَيُعْزَلُ نِصْفُهُ لِلْمُسْلِمِ ، فَإِنْ رَخَّصَتْ الْحِنْطَةُ ، فَصَارَ قِيمَةُ الْقَفِيزِ نِصْفَ دِينَارٍ ، تَبَيَّنَّا أَنَّ حَقَّهُ مِثْلُ نِصْفِ حَقِّ صَاحِبِ الدِّينَارِ ، فَلَا يَسْتَحِقُّ مِنْ دِينَارِ الْمُفْلِسِ إلَّا ثُلُثَهُ ، يَشْتَرِي لَهُ بِهِ ثُلُثَا قَفِيزٍ ، فَيُدْفَعُ إلَيْهِ ، وَيُرَدُّ سُدُسُ الدِّينَارِ عَلَى الْغَرِيمِ الْآخَرِ ، فَإِنْ غَلَا الْمُسْلَمُ فِيهِ ، فَصَارَ قِيمَةُ الْقَفِيزِ دِينَارَيْنِ ، تَبَيَّنَّا

أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ مِثْلَيْ مَا يَسْتَحِقُّهُ صَاحِبُ الدِّينَارِ ، فَيَكُونُ لَهُ مِنْ دِينَارِ الْمُفْلِسِ ثُلُثَاهُ فَيَشْتَرِي لَهُ بِالنِّصْفِ الْمَعْزُولِ ، وَيُرْجَعُ عَلَى الْغَرِيمِ بِسُدُسِ دِينَارٍ ، يَشْتَرِي لَهُ بِهِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْمَعْزُولَ مِلْكُ الْمُفْلِسِ ، وَإِنَّمَا لِلْمُسْلِمِ قَدْرُ حَقِّهِ ، فَإِنْ زَادَ فَلِلْمُفْلِسِ ، وَإِنْ نَقَصَ فَعَلَيْهِ .

( 3404 ) فَصْلٌ : قَالَ عَبْدُ اللَّه بْنُ أَحْمَدَ : سَأَلْت أَبِي عَنْ رَجُلٍ عِنْدَهُ رُهُونٌ كَثِيرَةٌ ، لَا يَعْرِفُ أَصْحَابَهَا ، وَلَا مَنْ رَهَنَ عِنْدَهُ قَالَ : إذَا أَيِسَتْ مِنْ مَعْرِفَتِهِمْ ، وَمَعْرِفَةِ وَرَثَتِهِمْ ، فَأَرَى أَنْ تُبَاعَ وَيُتَصَدَّقَ بِثَمَنِهَا ، فَإِنْ عَرَفَ بَعْدُ أَرْبَابَهَا ، خَيَّرَهُمْ بَيْنَ الْأَجْرِ أَوْ يَغْرَمُ لَهُمْ ، هَذَا الَّذِي أَذْهَبُ إلَيْهِ .
وَقَالَ أَبُو الْحَارِثِ عَنْ أَحْمَدَ فِي الرَّهْنِ يَكُونُ عِنْدَهُ السِّنِينَ الْكَثِيرَةَ ، يَأْيَسُ مِنْ صَاحِبِهِ : يَبِيعُهُ ، وَيَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ ، فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ يَسْتَوْفِي حَقَّهُ .
وَنَقَلَ أَبُو طَالِبٍ : لَا يَسْتَوْفِي حَقَّهُ مِنْ ثَمَنِهِ .
وَلَكِنْ إنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَطَلَبِهِ ، أَعْطَاهُ إيَّاهُ ، وَطَلَبَ مِنْهُ حَقَّهُ ، وَأَمَّا إنْ رَفَعَ أَمْرَهُ إلَى الْحَاكِمِ ، فَبَاعَهُ وَوَفَّاهُ مِنْهُ حَقَّهُ ، جَازُ ذَلِكَ .

كِتَابُ الْمُفْلِسِ الْمُفْلِسُ هُوَ الَّذِي لَا مَالَ لَهُ ، وَلَا مَا يَدْفَعُ بِهِ حَاجَتَهُ ، وَلِهَذَا لَمَّا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ { : أَتَدْرُونَ مَنْ الْمُفْلِسُ ؟ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ .
قَالَ : لَيْسَ ذَلِكَ الْمُفْلِسَ ، وَلَكِنَّ الْمُفْلِسَ مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ الْجِبَالِ ، وَيَأْتِي وَقَدْ ظَلَمَ هَذَا ، وَلَطَمَ هَذَا ، وَأَخَذَ مِنْ عِرْضِ هَذَا ، فَيَأْخُذُ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، فَإِنْ بَقِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ ، فَرُدَّ عَلَيْهِ ، ثُمَّ صَكَّ لَهُ صَكٌّ إلَى النَّارِ } أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ بِمَعْنَاهُ فَقَوْلُهُمْ ذَلِكَ إخْبَارٌ عَنْ حَقِيقَةِ الْمُفْلِسِ ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَيْسَ ذَلِكَ الْمُفْلِسَ " تَجُوزُ لَمْ يُرِدْ بِهِ نَفْيَ الْحَقِيقَةِ ، بَلْ أَرَادَ أَنَّ فَلَسَ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَعْظَمُ ؛ بِحَيْثُ يَصِيرُ مُفْلِسُ الدُّنْيَا بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ كَالْغَنِيِّ .
وَنَحْوُ هَذَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ ، وَلَكِنَّ الشَّدِيدَ الَّذِي يَغْلِبُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ } وَقَوْلُهُ : { لَيْسَ السَّابِقُ مَنْ سَبَقَ بَعِيرُهُ ، وَإِنَّمَا السَّابِقُ مَنْ غُفِرَ لَهُ } وَقَوْلُهُ { لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ ، إنَّمَا الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ } وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ لَيْسَ مَنْ مَاتَ فَاسْتَرَاحَ بِمَيِّتٍ إنَّمَا الْمَيْتُ مَيِّتُ الْأَحْيَاءِ وَإِنَّمَا سُمِّيَ هَذَا مُفْلِسًا ؛ لِأَنَّهُ لَا مَالَ لَهُ إلَّا الْفُلُوسَ ، وَهِيَ أَدْنَى أَنْوَاعِ الْمَالِ .
وَالْمُفْلِسُ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ : مَنْ دَيْنُهُ أَكْثَرُ مِنْ مَالِهِ ، وَخَرَّجَهُ أَكْثَرُ مِنْ دَخْلِهِ .
وَسَمَّوْهُ مُفْلِسًا وَإِنْ كَانَ ذَا مَالٍ ؛ لِأَنَّ مَالَهُ مُسْتَحَقُّ الصَّرْفِ فِي جِهَةِ دَيْنِهِ ، فَكَأَنَّهُ مَعْدُومٌ .
وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ تَفْسِيرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُفْلِسُ الْآخِرَةِ ، فَإِنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّ لَهُ حَسَنَاتٍ

أَمْثَالَ الْجِبَالِ ، لَكِنَّهَا كَانَتْ دُونَ مَا عَلَيْهِ ، فَقُسِمَتْ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ ، وَبَقِيَ لَا شَيْءَ لَهُ .
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِمَا يَئُولُ إلَيْهِ مِنْ عَدَمِ مَالِهِ بَعْدَ وَفَاءِ دَيْنِهِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سُمِّيَ بِذَلِكَ ، لِأَنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ ، إلَّا الشَّيْءَ التَّافِهَ الَّذِي لَا يَعِيشُ إلَّا بِهِ ، كَالْفُلُوسِ وَنَحْوِهَا .

( 3405 ) فَصْلٌ : وَمَتَى لَزِمَ الْإِنْسَانَ دُيُونٌ حَالَّةٌ ، لَا يَفِي مَالُهُ بِهَا ، فَسَأَلَ غُرَمَاؤُهُ الْحَاكِمَ الْحَجْرَ عَلَيْهِ ، لَزِمَتْهُ إجَابَتُهُمْ ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَظْهَرَ الْحَجْرُ عَلَيْهِ لِتُجْتَنَبَ مُعَامَلَتُهُ ، فَإِذَا حُجِرَ عَلَيْهِ ثَبَتَ بِذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَحْكَامٍ ؛ أَحَدُهَا ، تَعَلُّقُ حُقُوقِ الْغُرَمَاءِ بِعَيْنِ مَالِهِ .
وَالثَّانِي ، مَنْعُ تَصَرُّفِهِ فِي عَيْنِ مَالِهِ .
وَالثَّالِثُ ، أَنَّ مَنْ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ عِنْدَهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا مِنْ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ إذَا وَجَدَتْ الشُّرُوطُ .
الرَّابِعُ ، أَنَّ لِلْحَاكِمِ بَيْعَ مَالِهِ وَإِيفَاءَ الْغُرَمَاءِ .
وَالْأَصْلُ فِي هَذَا مَا رَوَى كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ ، { أَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَرَ عَلَى مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ ، وَبَاعَ مَالَهُ .
} رَوَاهُ الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبٍ ، قَالَ : كَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ مِنْ أَفْضَلِ شَبَابِ قَوْمِهِ ، وَلَمْ يَكُنْ يُمْسِكُ شَيْئًا ، فَلَمْ يَزَلْ يُدَانُ حَتَّى أَغْرَقَ مَالَهُ فِي الدَّيْنِ ، فَكَلَّمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُرَمَاؤُهُ ، فَلَوْ تُرِك أَحَدٌ مِنْ أَجْلِ أَحَدٍ لَتَرَكُوا مُعَاذًا مِنْ أَجْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَاعَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَالَهُ ، حَتَّى قَامَ مُعَاذٌ بِغَيْرِ شَيْءٍ .
قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ : إنَّمَا لَمْ يَتْرُكْ الْغُرَمَاءُ لِمُعَاذٍ حِينَ كَلَّمَهُمْ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَهُودًا .

( 3406 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَإِذَا فَلَّسَ الْحَاكِمُ رَجُلًا ، فَأَصَابَ أَحَدُ الْغُرَمَاءِ عَيْنَ مَالِهِ ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ ، إلَّا أَنْ يَشَاءَ تَرْكَهُ ، وَيَكُونَ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْمُفْلِسَ مَتَى حُجِرَ عَلَيْهِ ، فَوَجَدَ بَعْضُ غُرَمَائِهِ سِلْعَتَهُ الَّتِي بَاعَهُ إيَّاهَا بِعَيْنِهَا ، بِالشُّرُوطِ الَّتِي يَذْكُرُهَا ، مَلَكَ فَسْخَ الْبَيْعِ ، وَأَخَذَ سِلْعَتَهُ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ .
وَبِهِ قَالَ عُرْوَةُ ، وَمَالِكٌ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَالْعَنْبَرِيُّ وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَقَالَ الْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ : هُوَ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ كَانَ لَهُ حَقُّ الْإِمْسَاكِ لِقَبْضِ الثَّمَنِ ، فَلَمَّا سَلَّمَهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ مِنْ الْإِمْسَاكِ ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي ذَلِكَ بِالْإِفْلَاسِ ، كَالْمُرْتَهِنِ إذَا سَلَّمَ الرَّهْنَ إلَى الرَّاهِنِ .
وَلِأَنَّهُ سَاوَى الْغُرَمَاءَ فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ ، فَيُسَاوِيهِمْ فِي الِاسْتِحْقَاقِ ، كَسَائِرِهِمْ .
وَلَنَا مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : مَنْ أَدْرَكَ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ إنْسَانٍ قَدْ أَفْلَسَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
قَالَ أَحْمَدُ : لَوْ أَنَّ حَاكِمًا حَكَمَ أَنَّهُ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ ، ثُمَّ رُفِعَ إلَى رَجُلٍ يَرَى الْعَمَلَ بِالْحَدِيثِ ، جَازَ لَهُ نَقْضُ حُكْمِهِ ، وَلِأَنَّ هَذَا الْعَقْدَ يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ بِالْإِقَالَةِ ، فَجَازَ فِيهِ الْفَسْخُ ؛ لِتَعَذُّرِ الْعِوَضِ ، كَالْمُسْلَمِ فِيهِ إذَا تَعَذَّرَ .
وَلِأَنَّهُ إذَا شَرَطَ فِي الْبَيْعِ رَهْنًا ، فَعَجَزَ عَنْ تَسْلِيمِهِ ، اسْتَحَقَّ الْفَسْخَ ، وَهُوَ وَثِيقَةٌ بِالثَّمَنِ ، فَالْعَجْزُ عَنْ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ بِنَفْسِهِ أَوْلَى .
وَيُفَارِقُ الْمَبِيعُ الرَّهْنَ ؛ فَإِنْ إمْسَاكَ الرَّهْنِ إمْسَاكٌ مُجَرَّدٌ عَلَى سَبِيلِ الْوَثِيقَةِ ، وَلَيْسَ بِبَدَلٍ ، وَالثَّمَنُ هَاهُنَا بَدَلٌ عَنْ الْعَيْنِ ، فَإِذَا تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهُ

، رَجَعَ إلَى الْمُبْدَلِ .
وَقَوْلُهُمْ : تَسَاوَوْا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ .
قُلْنَا : لَكِنْ اخْتَلَفُوا فِي الشَّرْطِ ، فَإِنَّ بَقَاءَ الْعَيْنِ شَرْطٌ لِمِلْكِ الْفَسْخِ ، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي حَقِّ مَنْ وَجَدَ مَتَاعَهُ دُونَ مَنْ لَمْ يَجِدْهُ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّ الْبَائِعَ بِالْخِيَارِ ، إنْ شَاءَ رَجَعَ فِي السِّلْعَةِ ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَرْجِعْ ، وَكَانَ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ السِّلْعَةُ مُسَاوِيَةً لِثَمَنِهَا أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ ؛ لِأَنَّ الْإِعْسَارَ سَبَبٌ يُثْبِتُ جَوَازَ الْفَسْخِ ، فَلَا يُوجِبهُ ، كَالْعَيْبِ وَالْخِيَارِ ، وَلَا يَفْتَقِرُ الْفَسْخُ إلَى حُكْمِ حَاكِمٍ لِأَنَّهُ فَسْخٌ ثَبَتَ بِالنَّصِّ ، فَلَمْ يَفْتَقِرْ إلَى حُكْمِ حَاكِمٍ ، كَفَسْخِ النِّكَاحِ لِعِتْقِ الْأَمَةِ .

( 3407 ) فَصْلٌ : وَهَلْ خِيَارُ الرُّجُوعِ عَلَى الْفَوْرِ ، أَوْ عَلَى التَّرَاخِي ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ، بِنَاءً عَلَى خِيَارِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ ، وَفِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ ؛ إحْدَاهُمَا ، هُوَ عَلَى التَّرَاخِي ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ رُجُوعٍ يَسْقُطُ إلَى عِوَضٍ ، فَكَانَ عَلَى التَّرَاخِي ، كَالرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ .
وَالثَّانِي ، هُوَ عَلَى الْفَوْرِ ؛ لِأَنَّهُ خِيَارٌ يَثْبُتُ فِي الْبَيْعِ لِنَقْصٍ فِي الْعِوَضِ ، فَكَانَ عَلَى الْفَوْرِ ، كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ .
وَلِأَنَّ جَوَازَ تَأْخِيرِهِ يُفْضِي إلَى الضَّرَرِ بِالْغُرَمَاءِ ، لِإِفْضَائِهِ إلَى تَأْخِيرِ حُقُوقِهِمْ ، فَأَشْبَهَ خِيَارَ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ .
وَنَصَرَ الْقَاضِي هَذَا الْوَجْهَ ، وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ كَهَذَيْنِ .

( 3408 ) فَصْلٌ : فَإِنْ بَذَلَ الْغُرَمَاءُ الثَّمَنَ لِصَاحِبِ السِّلْعَةِ لِيَتْرُكَهَا ، لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهُ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَقَالَ مَالِكٌ : لَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ إنَّمَا يَجُوزُ لِدَفْعِ مَا يَلْحَقُهُ مِنْ النَّقْصِ فِي الثَّمَنِ ، فَإِذَا بُذِلَ بِكَمَالِهِ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ ، كَمَا لَوْ زَالَ الْعَيْبُ مِنْ الْمَعِيبِ .
وَلَنَا ، الْخَبَرُ الَّذِي رَوَيْنَاهُ ، وَلِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ بِدَفْعِ الْحَقِّ مِنْ غَيْرِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ ، فَلَمْ يُجْبَرْ صَاحِبُ الْحَقِّ عَلَى قَبْضِهِ ، كَمَا لَوْ أَعْسَرَ الزَّوْجُ بِالنَّفَقَةِ ، فَبَذَلَهَا غَيْرُهُ ، أَوْ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ ، فَبَذَلَ غَيْرُهُ مَا عَلَيْهِ لِسَيِّدِهِ ، وَبِهَذَا يَنْتَقِضُ مَا ذَكَرُوهُ ، وَسَوَاءٌ بَذَلُوهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ أَوْ خَصُّوهُ بِثَمَنِهِ مِنْ التَّرِكَةِ ، وَفِي هَذَا الْقَسَمِ ضَرَرٌ آخَرُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ تَجَدُّدَ ثُبُوتِ دَيْنٍ آخَرَ ، فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ دَفَعُوا إلَى الْمُفْلِسِ الثَّمَنَ ، فَبَذَلَهُ لِلْبَائِعِ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الْفَسْخُ ؛ لِأَنَّهُ زَالَ الْعَجْزُ عَنْ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ ، فَزَالَ مِلْكُ الْفَسْخِ ، كَمَا لَوْ أَسْقَطَ سَائِرُ الْغُرَمَاءِ حُقُوقَهُمْ عَنْهُ ، فَمَلَكَ أَدَاءَ الثَّمَنِ .
وَلَوْ أَسْقَطَ الْغُرَمَاءُ حُقُوقَهُمْ عَنْهُ ، فَتَمَكَّنَ مِنْ الْأَدَاءِ ، أَوْ وُهِبَ لَهُ مَالٌ .
فَأَمْكَنَهُ الْأَدَاءُ مِنْهُ ، أَوْ غَلَتْ أَعْيَانُ مَالِهِ ، فَصَارَتْ قِيمَتُهَا وَافِيَةً بِحُقُوقِ الْغُرَمَاءِ ، بِحَيْثُ يُمْكِنُهُ أَدَاءُ الثَّمَنِ كُلِّهِ ، لَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ الْفَسْخُ ؛ لِزَوَالِ سَبَبِهِ ، وَلِأَنَّهُ أَمْكَنَهُ الْوُصُولُ إلَى ثَمَنِ سِلْعَتِهِ مِنْ الْمُشْتَرِي ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ الْفَسْخُ ، كَمَا لَوْ لَمْ يُفْلِسْ .

( 3409 ) فَصْلٌ : فَإِنْ اشْتَرَى الْمُفْلِسُ مِنْ إنْسَانٍ سِلْعَةً بَعْدَ ثُبُوتِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ فِي ذِمَّتِهِ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الْفَسْخُ ؛ لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ ، سَوَاءٌ عَلِمَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ .
وَلِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْمُطَالَبَةَ بِثَمَنِهَا ، فَلَا يَسْتَحِقُّ الْفَسْخَ لِتَعَذُّرِهِ ، كَمَا لَوْ كَانَ ثَمَنُهَا مُؤَجَّلًا .
وَلِأَنَّ الْعَالِمَ بِالْعَيْبِ دَخَلَ عَلَى بَصِيرَةٍ بِخَرَابِ الذِّمَّةِ ، فَأَشْبَهَ مَنْ اشْتَرَى مَعِيبًا يَعْلَمُ عَيْبَهُ .
وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ ، أَنَّ لَهُ الْخِيَارَ ؛ لِعُمُومِ الْخَبَرِ ، وَلِأَنَّهُ عَقَدَ عَلَيْهِ وَقْتَ الْفَسْخِ ، فَلَمْ يَسْقُطْ حَقُّهُ مِنْ الْفَسْخِ ، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَتْ امْرَأَةٌ فَقِيرًا مُعْسِرًا بِنَفَقَتِهَا وَفِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ ، إنْ بَاعَهُ عَالِمًا بِفَلَسِهِ فَلَا فَسْخَ لَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلَهُ الْفَسْخُ ، كَمُشْتَرِي الْمَعِيبِ .
وَيُفَارَقُ الْمُعْسِرُ بِالنَّفَقَةِ ؛ لِكَوْنِ النَّفَقَةِ يَتَجَدَّدُ وُجُوبُهَا كُلَّ يَوْمٍ ، فَالرِّضَى بِالْمُعْسِرِ بِهَا رِضَى بِعَيْبِ مَا لَمْ يَجِبْ ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا ، وَإِنَّمَا يُشْبِهُ هَذَا إذَا تَزَوَّجَتْهُ مُعْسِرًا بِالصَّدَاقِ وَسَلَّمَتْ نَفْسَهَا إلَيْهِ ، ثُمَّ أَرَادَتْ الْفَسْخَ .

( 3410 ) فَصْلٌ : وَمَنْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِيَزْرَعَهَا ، فَأَفْلَسَ قَبْلَ مُضِيِّ شَيْءٍ مِنْ الْمُدَّةِ فَلِلْمُؤَجَّرِ فَسْخُ الْإِجَارَةِ ؛ لِأَنَّهُ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ ، فَهُوَ غَرِيمٌ بِالْأُجْرَةِ .
وَإِنْ كَانَ بَعْدَ مُضِيِّ بَعْضِهَا ، لَمْ يَمْلِكْ الْفَسْخَ فِي قِيَاسِ قَوْلِنَا فِي الْمَبِيعِ إذَا تَلِفَ بَعْضُهُ ، فَإِنَّ الْمُدَّةَ هَاهُنَا كَالْمَبِيعِ ، وَمُضِيُّ بَعْضِهَا كَتَلَفِ بَعْضِهِ ، لَكِنْ يُعْتَبَرُ مُضِيُّ مُدَّةٍ لِمِثْلِهَا أُجْرَةٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْ مُضِيِّ جُزْءٍ مِنْهَا بِحَالِ وَقَالَ الْقَاضِي ، فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : مَنْ اكْتَرَى أَرْضًا فَزَرَعَهَا ، ثُمَّ أَفْلَسَ ، فَفَسَخَ صَاحِبُ الْأَرْضِ ، فَعَلَيْهِ تَبْقِيَةُ زَرْعِ الْمُفْلِسِ إلَى حِينِ الْحَصَادِ بِأَجْرِ مِثْله ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الْمَنْفَعَةُ ، فَإِذَا فَسَخَ الْعَقْدَ ، فَسَخَهُ فِيمَا مَلَكَ عَلَيْهِ بِالْعَقْدِ ، وَقَدْ تَعَذَّرَ رَدُّهَا عَلَيْهِ ، فَكَانَ عَلَيْهِ عِوَضُهَا ، كَمَا لَوْ فَسَخَ الْبَيْعَ بَعْدَ أَنْ أَتْلَفَ الْمَبِيعَ ، فَلَهُ قِيمَتُهُ ، وَيَضْرِبُ بِذَلِكَ مَعَ الْغُرَمَاءِ ، كَذَا هَاهُنَا ، وَيَضْرِبُ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِأَجْرِ الْمِثْلِ دُونَ الْمُسَمَّى وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَهَذَا لَا يَقْتَضِيه مَذْهَبُنَا ، وَلَا يَشْهَدُ لِصِحَّتِهِ الْخَبَرُ ، وَلَا يَصِحُّ فِي النَّظَرِ ؛ أَمَّا الْخَبَرُ ، فَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا قَالَ : { مَنْ أَدْرَكَ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ رَجُلٍ قَدْ أَفْلَسَ ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ } .
وَهَذَا مَا أَدْرَكَ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ ، وَلَا هُوَ أَحَقُّ بِهِ بِالْإِجْمَاعِ ، فَإِنَّهُمْ وَافَقُوا عَلَى وُجُوبِ تَبَقَّيْتِهَا ، وَعَدَمِ الرُّجُوعِ فِي عَيْنِهَا ، وَلِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ : ( مَنْ أَدْرَكَ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ ) أَيْ عَلَى وَجْهٍ يُمْكِنُهُ أَخْذُهُ ، لَا يَتَعَلَّقُ حَقُّهُ بِعَيْنِهِ ، وَلَيْسَ هَذَا كَذَلِكَ .
وَأَمَّا النَّظَرُ فَلِأَنَّ الْبَائِعَ إنَّمَا كَانَ أَحَقَّ بِعَيْنِ مَالِهِ ؛ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِ بِالْعَيْنِ ، وَإِمْكَانِ رَدِّ مَالِهِ إلَيْهِ

بِعَيْنِهِ ، فَيَرْجِعُ عَلَى مَنْ تَعَلَّقَ حَقُّهُ بِمُجَرَّدِ الذِّمَّةِ ، وَهَذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ حَقُّهُ بِالْعَيْنِ ، وَلَا أَمْكَنَ رَدُّهَا إلَيْهِ ، وَإِنَّمَا صَارَ فَائِدَةُ الرُّجُوعِ الضَّرْبَ بِالْقِيمَةِ دُونَ الْمُسَمَّى ، وَلَيْسَ هَذَا هُوَ الْمُقْتَضَى فِي مَحِلِّ النَّصِّ ، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ ، فَإِثْبَاتُ الْحُكْمِ بِهِ تَحَكُّمٌ بِغَيْرِ دَلِيلٍ وَلَوْ اكْتَرَى رَجُلًا يَحْمِلُ لَهُ مَتَاعًا إلَى بَلَدٍ ، ثُمَّ أَفْلَسَ الْمُكْتَرِي قَبْلَ حَمْلِ شَيْءٍ ، فَلِلْمُكْتَرِي الْفَسْخُ .
وَإِنْ حَمَلَ الْبَعْضَ ، أَوْ بَعْضَ الْمَسَافَةِ فَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ لَيْسَ لَهُ الْفَسْخُ ، وَقِيَاسُ قَوْلِ الْقَاضِي : لَهُ ذَلِكَ .
فَإِذَا فَسَخَ سَقَطَ عَنْهُ حَمْلُ مَا بَقِيَ ، وَضَرَبَ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِقِسْطِ مَا حَمَلَ مِنْ الْأَجْرِ الْمُسَمَّى وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ الْقَاضِي : يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ فِي الْجَمِيعِ ، وَيَضْرِبُ بِقِسْطِ مَا حَمَلَ مِنْ أَجْرِ الْمِثْلِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي حَكَيْنَا قَوْلَهُ فِيهَا .

( 3411 ) فَصْلٌ : فَإِنْ أَقْرَضَ رَجُلًا مَالًا ، ثُمَّ أَفْلَسَ الْمُقْتَرِضُ ، وَعَيْنُ الْمَالِ قَائِمٌ ، فَلَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { مَنْ أَدْرَكَ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ رَجُلٍ قَدْ أَفْلَسَ ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ } .
وَلِأَنَّهُ غَرِيمٌ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ ، فَكَانَ لَهُ أَخْذُهَا ، كَالْبَائِعِ .
وَإِنْ أَصْدَقَ امْرَأَةً لَهُ عَيْنًا ، ثُمَّ انْفَسَخَ نِكَاحُهَا بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهَا يُسْقِطُ صَدَاقَهَا ، أَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ دُخُولِهِ بِهَا ، فَاسْتَحَقَّ الرُّجُوعَ فِي نِصْفِهِ ، وَقَدْ أَفْلَسَتْ وَوَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا ؛ لِمَا ذَكَرْنَا .

( 3412 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( فَإِنْ كَانَتْ السِّلْعَةُ قَدْ تَلِفَ بَعْضُهَا ، أَوْ مَزِيدَةً بِمَا لَا تَنْفَصِلُ زِيَادَتُهَا ، أَوْ نَقَدَ بَعْضَ ثَمَنِهَا ، كَانَ الْبَائِعُ فِيهَا كَأُسْوَةِ الْغُرَمَاءِ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْبَائِعَ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ فِي السِّلْعَةِ بِخَمْسِ شَرَائِطَ ؛ أَحَدُهَا ، أَنْ تَكُونَ السِّلْعَةُ بَاقِيَةً بِعَيْنِهَا ، لَمْ يَتْلَفْ بَعْضُهَا ، فَإِنْ تَلِفَ جُزْءٌ مِنْهَا كَبَعْضِ أَطْرَافِ الْعَبْدِ ، أَوْ ذَهَبَتْ عَيْنُهُ ، أَوْ تَلِفَ بَعْضُ الثَّوْبِ ، أَوْ انْهَدَمَ بَعْضُ الدَّارِ ، أَوْ اشْتَرَى شَجَرًا مُثْمِرًا لَمْ تَظْهَرْ ثَمَرَتُهُ ، فَتَلْفِت الثَّمَرَةُ ، أَوْ نَحْوُ هَذَا ، لَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ الرُّجُوعُ ، وَكَانَ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ وَبِهَذَا قَالَ إِسْحَاقُ .
وَقَالَ مَالِكٌ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ ، وَالْعَنْبَرِيُّ : لَهُ الرُّجُوعُ فِي الْبَاقِي ، وَيَضْرِبُ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِحِصَّةِ التَّالِفِ ؛ لِأَنَّهَا عَيْنٌ يَمْلِكُ الرُّجُوعَ فِي جَمِيعِهَا ، فَمَلَكَ الرُّجُوعَ فِي بَعْضِهَا ، كَاَلَّذِي لَهُ الْخِيَارُ ، وَكَالْأَبِ فِيمَا وَهَبَ لِوَلَدِهِ وَلَنَا ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ أَدْرَكَ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ إنْسَانٍ قَدْ أَفْلَسَ ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ } .
فَشَرَطَ أَنْ يَجِدَهُ بِعَيْنِهِ ، وَلَمْ يَجِدْهُ بِعَيْنِهِ .
وَلِأَنَّهُ إذَا أَدْرَكَهُ بِعَيْنِهِ ، حَصَلَ لَهُ بِالرُّجُوعِ فَصْلُ الْخُصُومَةِ ، وَانْقِطَاعُ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْمُعَامَلَةِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا وَجَدَ بَعْضَهُ .
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَرْضَى بِالْمَوْجُودِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ ، أَوْ يَأْخُذَهُ بِقِسْطِهِ مِنْ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّهُ فَاتَ شَرْطُ الرُّجُوعِ وَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ عَيْنَيْنِ ، كَعَبْدَيْنِ ، أَوْ ثَوْبَيْنِ تَلِفَ أَحَدُهُمَا ، أَوْ بَعْضُ أَحَدُهُمَا ، فَفِي جَوَازِ الرُّجُوعِ فِي الْبَاقِي مِنْهُمَا رِوَايَتَانِ ؛ إحْدَاهُمَا ، لَا يَرْجِعُ .
نَقَلَهَا أَبُو طَالِبٍ ، عَنْ أَحْمَدَ ، قَالَ : لَا يَرْجِعُ بِبَقِيَّةِ الْعَيْنِ ، وَيَكُونُ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِدْ الْمَبِيعِ بِعَيْنِهِ ، فَأَشْبَهَ

مَا لَوْ كَانَ عَيْنًا وَاحِدَةً .
وَلِأَنَّ بَعْضَ الْمَبِيعِ تَالِفٌ ، فَلَمْ يَمْلِكْ الرُّجُوعَ ، كَمَا لَوْ قُطِعَتْ يَدُ الْعَبْدِ وَنَقَلَ الْحَسَنُ بْنُ ثَوَابٍ عَنْ أَحْمَدَ ، إنْ كَانَ ثَوْبًا وَاحِدًا ، فَتَلِفَ بَعْضُهُ ، فَهُوَ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ ، وَإِنْ كَانَ رِزَمًا ، فَتَلِفَ بَعْضُهَا ، فَإِنَّهُ يَأْخُذُ بِقِيمَتِهَا إذَا كَانَ بِعَيْنِهِ ؛ لِأَنَّ السَّالِمَ مِنْ الْمَبِيعِ وَجَدَهُ الْبَائِعُ بِعَيْنِهِ ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ أَدْرَكَ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ إنْسَانٍ قَدْ أَفْلَسَ .
فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ } .
وَلِأَنَّهُ مَبِيعٌ ، وَجَدَهُ بِعَيْنِهِ ، فَكَانَ لِلْبَائِعِ الرُّجُوعُ فِيهِ ، كَمَا لَوْ كَانَ جَمِيعَ الْمَبِيعِ .

( 3413 ) فَصْلٌ : وَإِنْ بَاعَ بَعْضَ الْمَبِيعِ ، أَوْ وَهَبَهُ ، أَوْ وَقَفَهُ ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ تَلَفِهِ ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ مَا أَدْرَكَ مَالَهُ بِعَيْنِهِ .

( 3414 ) فَصْلٌ : وَإِنْ نَقَصَتْ مَالِيَّةُ الْمَبِيعِ ، لِذَهَابِ صِفَةٍ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ ، كَعَبْدٍ هَزِلَ ، أَوْ نَسِيَ صِنَاعَةً أَوْ كِتَابَةً ، أَوْ كَبِرَ ، أَوْ مَرِضَ ، أَوْ تَغَيَّرَ عَقْلُهُ ، أَوْ كَانَ ثَوْبًا فَخَلِقَ ، لَمْ يَمْنَعْ الرُّجُوعَ ؛ لِأَنَّ فَقْدَ الصِّفَةِ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ عَيْنَ مَالِهِ ، لَكِنَّهُ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ أَخْذِهِ نَاقِصًا بِجَمِيعِ حَقِّهِ ، وَبَيْنَ أَنْ يَضْرِبَ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِكَمَالِ ؛ ثَمَنِهِ ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ لَا يَتَقَسَّطُ عَلَى صِفَةِ السِّلْعَةِ مِنْ سِمَنٍ ، أَوْ هُزَالٍ ، أَوْ عِلْمٍ ، أَوْ نَحْوِهِ ، فَيَصِيرُ كَنَقْصِهِ لِتَغَيُّرِ الْأَسْعَارِ وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ أَمَةً ثَيِّبًا ، فَوَطِئَهَا الْمُشْتَرِي ، وَلَمْ تَحْمِلْ ، فَلَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا ؛ لِمَا ذَكَرْنَا ، فَإِنَّهَا لَمْ تَنْقُصْ فِي ذَاتٍ وَلَا فِي صِفَاتِ .
وَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا ، فَقَالَ الْقَاضِي : لَهُ الرُّجُوعُ ؛ لِأَنَّهُ فَقَدَ صِفَةً ، فَإِنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ مِنْهَا جَزْءٌ ، وَإِنَّمَا هُوَ كَالْجِرَاحِ .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : لَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ ؛ لِأَنَّهُ أَذْهَبَ مِنْهَا جُزْءًا ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ فَقَأَ عَيْنَهَا .
وَإِنْ وُجِدَ الْوَطْءُ مِنْ غَيْرِ الْمُفْلِسِ ، فَهُوَ كَوَطْءِ الْمُفْلِسِ ، فِيمَا ذَكَرْنَا .

( 3415 ) فَصْلٌ : وَإِنْ جُرِحَ الْعَبْدُ أَوْ شُجَّ ، فَعَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ : لَا يَرْجِعُ ؛ لِأَنَّهُ ذَهَبَ جُزْءٌ يَنْقُصُ بِهِ الثَّمَنُ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ فُقِئَتْ عَيْنُ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّهُ ذَهَبَ مِنْ الْعَيْنِ جُزْءٌ لَهُ بَدَلٌ فَمَنَعَ الرُّجُوعَ ، كَمَا لَوْ قُطِعَتْ يَدُ الْعَبْدِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ نَقَصَ صِفَةً مُجَرَّدَةً ، لَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ مِنْ الرُّجُوعِ فِيهَا شَيْءٌ سِوَاهُ ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي هُزَالِ الْعَبْدِ ، وَنِسْيَانِ الصَّنْعَةِ ، وَهَاهُنَا بِخِلَافِهِ ، وَلِأَنَّ الرُّجُوعَ فِي الْمَحِلِّ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ يَقْطَعُ النِّزَاعَ ، وَيُزِيلُ الْمُعَامَلَةَ بَيْنَهُمَا ، فَلَا يَثْبُتُ فِي مَحِلٍّ لَا يَحْصُلُ بِهِ هَذَا الْمَقْصُودُ وَقَالَ الْقَاضِي : قِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّ لَهُ الرُّجُوعَ ؛ لِأَنَّهُ فَقَدَ صِفَةً ، فَأَشْبَهَ نِسْيَانَ الصَّنْعَةِ ، وَاسْتِخْلَاقَ الثَّوْبِ .
فَإِذَا رَجَعَ ، نَظَرْنَا فِي الْجَرْحِ ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا أَرْشَ لَهُ ، كَالْحَاصِلِ بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى ، أَوْ فِعْلِ بَهِيمَةٍ ، أَوْ جِنَايَةِ الْمُفْلِسِ ، أَوْ جِنَايَةِ عَبْدِهِ ، أَوْ جِنَايَةِ الْعَبْدِ عَلَى نَفْسِهِ ، فَلَيْسَ لَهُ مَعَ الرُّجُوعِ أَرْشٌ .
وَإِنْ كَانَ الْجَرْحُ مُوجِبًا لِأَرْشٍ كَجِنَايَةِ الْأَجْنَبِيِّ ، فَلِلْبَائِعِ إذَا رَجَعَ أَنْ يَضْرِبَ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِحِصَّةِ مَا نَقَصَ مِنْ الثَّمَنِ ، فَيَنْظُرُ كَمْ نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ ، فَيَرْجِعُ بِقِسْطِ ذَلِكَ مِنْ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَى الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ بِالثَّمَنِ فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا جَعَلْتُمْ لَهُ الْأَرْشَ الَّذِي وَجَبَ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَجِبْ بِهِ أَرْشٌ لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءِ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ بِأَكْثَرَ مِنْ الْأَرْشِ .
قُلْنَا : لَمَّا أَتْلَفَهُ الْأَجْنَبِيُّ ، صَارَ مَضْمُونًا بِإِتْلَافِهِ لِلْمُفْلِسِ ، فَكَانَ بِالْأَرْشِ لَهُ وَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَى الْمُفْلِسِ لِلْبَائِعِ بِالثَّمَنِ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَضْمَنَهُ بِالْأَرْشِ ، وَإِذَا لَمْ يُتْلِفْهُ أَجْنَبِيٌّ ، فَلَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا ، فَلَمْ يَجِبْ بِفَوَاتِهِ شَيْءٌ .
فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا كَانَ

هَذَا الْأَرْشُ لِلْمُشْتَرِي كَكَسْبِهِ ، لَا يَضْمَنُهُ لِلْبَائِعِ قُلْنَا : الْكَسْبُ بَدَلُ مَنَافِعِهِ ، وَمَنَافِعُهُ مَمْلُوكَةٌ لِلْمُشْتَرِي بِغَيْرِ عِوَضٍ ، وَهَذَا بَدَلُ جُزْءٍ مِنْ الْعَيْنِ ، وَالْعَيْنُ جَمِيعُهَا مَضْمُونَةٌ بِالْعِوَضِ ، فَلِهَذَا ضَمِنَ ذَلِكَ لِلْمُشْتَرِي .

( 3416 ) فَصْلٌ : فَإِنْ اشْتَرَى زَيْتًا ، فَخَلَطَهُ بِزَيْتٍ آخَرَ ، أَوْ قَمْحًا ، فَخَلَطَهُ بِمَا لَا يُمْكِنُ تَمْيِيزُهُ مِنْهُ ، سَقَطَ حَقُّ الرُّجُوعِ .
وَقَالَ مَالِكٌ : يَأْخُذُ زَيْتَهُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إنْ خَلَطَهُ بِمِثْلِهِ أَوْ دُونِهِ ، لَمْ يَسْقُطْ الرُّجُوعُ ، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَتَاعَهُ بِالْكَيْلِ أَوْ الْوَزْنِ ، وَإِنْ خَلَطَهُ بِأَجْوَدَ مِنْهُ ، فَفِيهِ قَوْلَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، يَسْقُطُ حَقُّهُ مِنْ الْعَيْنِ قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَبِهِ أَقُولُ .
وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ عَيْنَ مَالِهِ مَوْجُودَةٌ مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ ، فَكَانَ لَهُ الرُّجُوعُ كَمَا لَوْ كَانَتْ مُنْفَرِدَةً ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ اخْتِلَاطِ مَالِهِ بِغَيْرِهِ ، فَلَمْ يَمْنَعْ الرُّجُوعَ ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا فَصَبَغَهُ ، أَوْ سَوِيقًا فَلَتَّهُ وَلَنَا ، أَنَّهُ لَمْ يَجِدْ عَيْنَ مَالِهِ ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ ، كَمَا لَوْ تَلِفَتْ ، وَلِأَنَّ مَا يَأْخُذُهُ مِنْ غَيْرِ عَيْنِ مَالِهِ ، إنَّمَا يَأْخُذُهُ عِوَضًا عَنْ مَالِهِ ، فَلَمْ يَخْتَصَّ بِهِ دُونَ الْغُرَمَاءِ ، كَمَا لَوْ تَلِفَ مَالُهُ .
وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ أَدْرَكَ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ } .
أَيْ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ ، وَتَمَكَّنَ مِنْ أَخْذِهِ مِنْ الْمُفْلِسِ ؛ بِدَلِيلِ مَا لَوْ وَجَدَهُ بَعْدَ زَوَالِ مِلْكِ الْمُفْلِسِ ، أَوْ كَانَتْ مَسَامِيرَ قَدْ سَمَّرَ بِهَا بَابًا ، أَوْ حَجَرًا قَدْ بَنِي عَلَيْهِ ، أَوْ خَشَبًا فِي سَقْفِهِ ، أَوْ أَمَةً اسْتَوْلَدَهَا ، وَهَذَا إذَا أَخَذَ كَيْلَهُ أَوْ قِيمَتَهُ إنَّمَا يَأْخُذُ عِوَضَ مَالِهِ ، فَهُوَ كَالثَّمَنِ وَالْقِيمَةِ .
وَفَارَقَ الْمَصْبُوغَ ، فَإِنْ عَيْنَهُ يُمْكِنُهُ أَخْذُهَا ، وَالسَّوِيقُ كَذَلِكَ ، فَاخْتَلَفَا .

( 3417 ) فَصْلٌ : وَإِنْ اشْتَرَى حِنْطَةً فَطَحَنَهَا أَوْ زَرَعَهَا ، أَوْ دَقِيقًا فَخَبَزَهُ ، أَوْ زَيْتًا فَعَمِلَهُ صَابُونًا ، أَوْ ثَوْبًا فَقَطَعَهُ قَمِيصًا ، أَوْ غَزْلًا فَنَسَجَهُ ثَوْبًا ، أَوْ خَشَبًا فَنَجَّرَهُ أَبْوَابًا ، أَوْ شَرِيطًا فَعَمِلَهُ إبَرًا ، أَوْ شَيْئًا فَعَمِلَ بِهِ مَا أَزَالَ اسْمَهُ ، سَقَطَ حَقُّ الرُّجُوعِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : فِيهِ قَوْلَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، بِهِ أَقُولُ ، يَأْخُذُ عَيْنَ مَالِهِ ، وَيُعْطِي قِيمَةَ عَمَلِ الْمُفْلِسِ فِيهَا ؛ لِأَنَّ عَيْنَ مَالِهِ مَوْجُودَةٌ ، وَإِنَّمَا تَغَيَّرَ اسْمُهَا ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ الْمَبِيعُ حَمَلًا فَصَارَ كَبْشًا ، أَوْ وَدِيًّا فَصَارَ نَخْلًا وَلَنَا ، أَنَّهُ لَمْ يَجِدْ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ ، كَمَا لَوْ تَلِفَ ، وَلِأَنَّهُ غَيَّرَ اسْمَهُ وَصِفَتَهُ ، فَلَمْ يَمْلِكْ الرُّجُوعَ ، كَمَا لَوْ كَانَ نَوَى فَنَبَتَ شَجَرًا .
وَالْأَصْلُ الَّذِي قَاسُوا عَلَيْهِ مَمْنُوعٌ ، وَإِنْ سَلَّمَ ، فَإِنَّهُ لَمْ يَتَغَيَّرْ اسْمُهُ ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا .

( 3418 ) فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ حَبًّا فَصَارَ زَرْعًا ، أَوْ زَرْعًا فَصَارَ حَبًّا ، أَوْ نَوًى فَنَبَتَ شَجَرًا ، أَوْ بَيْضًا فَصَارَ فِرَاخًا ، سَقَطَ حَقُّ الرُّجُوعِ .
وَقَالَ الْقَاضِي : لَا يَسْقُطُ .
وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّ الزَّرْعَ نَفْسُ الْحَبِّ ، وَالْفَرْخَ نَفْسُ الْبَيْضَةِ وَلَنَا ، أَنَّهُ لَمْ يَجِدْ عَيْنَ مَالِهِ ، فَلَمْ يَرْجِعْ ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ مُتْلِفٌ فَأَخَذَ قِيمَتَهُ .
وَلِأَنَّ الْحَبَّ أَعْيَانٌ ابْتَدَأَهَا اللَّهُ تَعَالَى ، لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً عِنْدَ الْبَيْعِ ، وَكَذَلِكَ أَعْيَانُ الزَّرْعِ وَالْفَرْخِ .
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا ، وَاشْتَرَى بَذْرًا وَمَاءً ، فَزَرَعَ ، وَسَقَى ، وَاسْتَحْصَدَ ، وَأَفْلَسَ ، فَالْمُؤَجَّرُ وَبَائِعُ الْبَذْرِ وَالْمَاءِ غُرَمَاءُ ، لَا حَقَّ لَهُمْ فِي الرُّجُوعِ ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا أَعْيَانَ أَمْوَالِهِمْ .
وَعَلَى قَوْلِ مِنْ قَالَ : لَهُ الرُّجُوعُ فِي الزَّرْعِ .
يَكُونُ عَلَيْهِ غَرَامَةُ الْأُجْرَةِ وَثَمَنُ الْمَاءِ ، أَوْ قِيمَةُ ذَلِكَ .

( 3419 ) فَصْلٌ : وَإِنْ اشْتَرَى ثَوْبًا فَصَبَغَهُ ، أَوْ سَوِيقًا فَلَتَّهُ بِزَيْتٍ ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا : لِبَائِعِ الثَّوْبِ وَالسَّوِيقِ الرُّجُوعُ فِي أَعْيَانِ أَمْوَالِهِمَا وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ عَيْنَ مَالِهِمَا قَائِمَةٌ مُشَاهَدَةٌ ، مَا تَغَيَّرَ اسْمُهَا ، وَيَكُونُ الْمُفْلِسُ شَرِيكًا لِصَاحِبِ الثَّوْبِ وَالسَّوِيقِ بِمَا زَادَ عَنْ قِيمَتِهِمَا .
فَإِنْ حَصَلَ زِيَادَةٌ ، فَهِيَ لَهُ ، وَإِنْ حَصَلَ نَقَصَ ، فَعَلَيْهِ .
وَإِنْ نَقَصَتْ قِيمَةُ الثَّوْبِ أَوْ السَّوِيقِ ، فَإِنْ شَاءَ الْبَائِعُ أَخَذَهُمَا نَاقِصَيْنِ ، وَلَا شَيْءَ لَهُ ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُمَا ، وَلَهُ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ ؛ لِأَنَّ هَذَا نَقْصَ صِفَةٍ ، فَهُوَ كَالْهُزَالِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ الرُّجُوعُ إذَا زَادَتْ الْقِيمَةُ ؛ لِأَنَّهُ اتَّصَلَ بِالْمَبِيعِ زِيَادَةٌ لِلْمُفْلِسِ ، فَمَنَعَتْ الرُّجُوعَ ، كَمَا لَوْ سَمِنَ الْعَبْدُ ، وَلِأَنَّ الرُّجُوعَ هَاهُنَا لَا يَتَخَلَّصُ بِهِ الْبَائِعُ مِنْ الْمُفْلِسِ ، وَلَا يَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ مِنْ قَطْعِ الْمُنَازَعَةِ ، وَإِزَالَةِ الْمُعَامَلَةِ ، بَلْ يَحْصُلُ بِهِ ضَرَرُ الشَّرِكَةِ ، فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ ، فَلَا يُمْكِنُ إلْحَاقُهُ بِهِ .

( 3420 ) فَصْلٌ : وَإِنْ اشْتَرَى صَبْغًا فَصَبَغَ بِهِ ثَوْبًا ، أَوْ زَيْتًا فَلَتَّ بِهِ سَوِيقًا ، فَبَائِعُهُمَا أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : لَهُ الرُّجُوعُ ؛ لِأَنَّهُ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ .
قَالُوا : وَلَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا وَصَبْغًا ، وَصَبَغَ الثَّوْبَ بِالصَّبْغِ ، رَجَعَ بَائِعُ كُلِّ شَيْءٍ فِي عَيْنِ مَالِهِ ، وَكَانَ بَائِعُ الصَّبْغِ شَرِيكًا لِبَائِعِ الثَّوْبِ .
وَإِنْ حَصَلَ نَقْصٌ ، فَهُوَ مِنْ صَاحِبِ الصَّبْغِ ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي يَتَفَرَّقُ وَيَنْقُصُ وَالثَّوْبُ بِحَالِهِ ، فَإِذَا كَانَتْ قِيمَةُ الثَّوْبِ عَشَرَةً ، وَقِيمَةُ الصَّبْغِ خَمْسَةً ، فَصَارَتْ قِيمَتُهُمَا اثْنَا عَشَرَ ، كَانَ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ خَمْسَةُ أَسْدَاسِهِ ، وَلِلْآخَرِ سُدُسُهُ ، وَيَضْرِبُ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِمَا نَقَصَ ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَذَكَرَ الْقَاضِي مِثْلَ هَذَا فِي مَوْضِعٍ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ لَمْ يَجِدْ عَيْنَ مَالِهِ ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ ، كَمَا لَوْ تَلِفَ ، وَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ شَغَلَهُ بِغَيْرِهِ عَلَى وَجْهِ الْبَيْعِ ، فَلَمْ يَمْلِكْ بَائِعُهُ الرُّجُوعَ فِيهِ ، كَمَا لَوْ كَانَ حَجَرًا بُنِيَ عَلَيْهِ ، أَوْ مَسَامِيرَ سَمَّرَ بِهَا بَابًا .
وَلَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا وَصِبْغًا مِنْ وَاحِدٍ ، فَصَبَغَهُ بِهِ ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا : لَا فَرْقَ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ كَوْنِ الصَّبْغِ مِنْ غَيْرِ بَائِعِ الثَّوْبِ .
فَعَلَى قَوْلِهِمْ يَرْجِعُ فِي الثَّوْبِ وَحْدَهُ ، وَيَكُونُ الْمُفْلِسُ شَرِيكًا لَهُ بِزِيَادَةِ الصَّبْغِ ، وَيَضْرِبُ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِثَمَنِ الصَّبْغِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِمَا هَاهُنَا ؛ لِأَنَّهُ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ مُتَمَيِّزًا عَنْ غَيْرِهِ ، فَكَانَ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهِ ، لِلْخَبَرِ ، وَلِأَنَّ الْمَعْنَى فِي الْمَحِلِّ الَّذِي يَثْبُتُ فِيهِ الرُّجُوعُ مَوْجُودٌ هَاهُنَا ، فَيَمْلِكُ الرُّجُوعَ بِهِ ، كَمَا يَمْلِكُهُ ثَمَّ ، وَلَوْ أَنَّهُ اشْتَرَى رُفُوفًا وَمَسَامِيرَ مِنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ ، فَسَمَّرَهَا بِهَا ، رَجَعَ بَائِعُهُمَا فِيهِمَا كَذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ مَا أَشْبَهَهُ .

( 3421 ) فَصْلٌ : إذَا اشْتَرَى ثَوْبًا فَقَصَرَهُ ، لَمْ يَخْلُ مِنْ حَالَيْنِ ؛ أَحَدِهِمَا ، أَنْ لَا تَزِيدَ قِيمَتُهُ بِذَلِكَ ، فَلِلْبَائِعِ الرُّجُوعُ فِيهِ ؛ لِأَنَّ عَيْنَ مَالِهِ قَائِمَةٌ لَمْ يَزُلْ اسْمُهَا ، وَلَمْ يَتْلَفْ بَعْضُهَا وَلَا اتَّصَلَتْ بِغَيْرِهَا ، فَكَانَ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا ، كَمَا لَوْ عَلَّمَ الْعَبْدَ صِنَاعَةً لَمْ تَزِدْ قِيمَتُهُ بِهَا .
وَسَوَاءٌ نَقَصَتْ قِيمَتُهُ بِذَلِكَ أَوْ لَمْ تَنْقُصْ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ النَّقْصَ نَقْصُ صِفَةٍ ، فَلَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ ، كَنِسْيَانِ صِنَاعَةٍ ، وَهُزَالِ الْعَبْدِ ، وَلَا شَيْءَ لَهُ مَعَ الرُّجُوعِ الثَّانِي ، أَنْ تَزِيدَ قِيمَتُهُ بِذَلِكَ ، فَلَيْسَ لِلْبَائِعِ الرُّجُوعُ ، عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ زَادَ زِيَادَةً لَا تَتَمَيَّزُ فَلَمْ يَمْلِكْ الْبَائِعُ الرُّجُوعَ فِيهِ ، كَمَا لَوْ سَمِنَ الْعَبْدُ ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَجِدْ عَيْنَ مَالِهِ مُتَمَيِّزَةً عَنْ غَيْرِهَا ، فَلَمْ يَمْلِكْ الرُّجُوعَ ، كَبَائِعِ الصِّبْغِ إذَا صَبَغَ بِهِ ، وَالزَّيْتِ إذَا لَتّ بِهِ سَوِيقٌ .
وَقَالَ الْقَاضِي وَأَصْحَابُهُ .
لَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا ، لِأَنَّهُ أَدْرَكَ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ ، وَلِأَنَّهُ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ لَمْ يَتَغَيَّرْ اسْمُهَا وَلَا ذَهَبَتْ عَيْنُهَا ، فَمَلَكَ الرُّجُوعَ فِيهَا ، كَمَا لَوْ صَبَغَهَا فَعَلَى قَوْلِهِمْ إنْ كَانَتْ الْقُصَارَةُ بِعَمَلِ الْمُفْلِسِ ، أَوْ بِأُجْرَةٍ وَفَّاهَا ، فَهُمَا شَرِيكَانِ فِي الثَّوْبِ ، فَإِذَا كَانَتْ قِيمَةُ الثَّوْبِ خَمْسَةً ، فَصَارَ يُسَاوِي سِتَّةً ، فَلِلْمُفْلِسِ سُدُسُهُ ، وَلِبَائِعِهِ خَمْسَةُ أَسْدَاسِهِ ، فَإِنْ اخْتَارَ الْبَائِعُ دَفْعَ قِيمَةِ الزِّيَادَةِ إلَى الْمُفْلِسِ ، لَزِمَهُ قَبُولُهَا ؛ لِأَنَّهُ يَتَخَلَّصُ بِذَلِكَ مِنْ ضَرَرِ الشَّرِكَةِ مِنْ غَيْرِ مَضَرَّةٍ تَلْحَقُهُ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ دَفَعَ الشَّفِيعُ قِيمَةَ الْبِنَاءِ إلَى الْمُشْتَرِي .
وَإِنْ لَمْ يَخْتَرْ بِيعَ الثَّوْبُ ، وَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقَدْرِ حَقِّهِ .
وَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ مِنْ صَانِعٍ لَمْ يَسْتَوْفِ أَجْرَهُ ، فَلَهُ حَبْسُ الثَّوْبِ عَلَى اسْتِيفَاءِ أَجْرِهِ فَإِنْ كَانَتْ

الزِّيَادَةُ بِقَدْرِ الْأَجْرِ ، دُفِعَتْ إلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ ، فَلَهُ حَبْسُ الثَّوْبِ عَلَى اسْتِيفَاءِ قَدْرِ الزِّيَادَةِ ، وَيَضْرِبُ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِمَا بَقِيَ ، وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ ، مِثْلُ أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ دِرْهَمَيْنِ ، وَالْآخَرُ دِرْهَمٌ ، فَلَهُ قَدْرُ أَجْرِهِ ، وَمَا فَضَلَ لِلْغُرَمَاءِ .

( 3422 ) فَصْلٌ : الشَّرْطُ الثَّانِي ، أَنْ لَا يَكُونَ الْمَبِيعُ زَادَ زِيَادَةً مُتَّصِلَةً ، كَالسِّمَنِ ، وَالْكِبَرِ ، وَتَعَلُّمِ الصِّنَاعَةِ أَوْ الْكِتَابَةِ أَوْ الْقُرْآنِ .
وَنَحْوُ ذَلِكَ .
وَاخْتَلَفَ الْمَذْهَبُ فِي هَذَا ، فَذَهَبَ الْخِرَقِيِّ إلَى أَنَّهَا تَمْنَعُ الرُّجُوعَ .
وَرَوَى الْمَيْمُونِي ، عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهَا لَا تَمْنَعُ .
وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ، إلَّا أَنَّ مَالِكًا يُخَيِّرُ الْغُرَمَاءَ بَيْنَ أَنْ يُعْطُوهُ السِّلْعَةَ أَوْ ثَمَنِهَا الَّذِي بَاعَهَا بِهِ .
وَاحْتَجُّوا بِالْخَبَرِ ، وَبِأَنَّهُ فَسْخٌ لَا تَمْنَعُ مِنْهُ الزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ ، فَلَا تَمْنَعُهُ الْمُتَّصِلَةُ ، كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ ، وَفَارَقَ الطَّلَاقَ ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِفَسْخٍ ، وَلِأَنَّ الزَّوْجَ يُمْكِنُهُ الرُّجُوعُ فِي قِيمَةِ الْعَيْنِ ، فَيَصِلُ إلَى حَقِّهِ تَامًّا .
وَهَاهُنَا لَا يُمْكِنُهُ الرُّجُوعُ فِي الثَّمَنِ وَلَنَا ، أَنَّهُ فَسْخٌ بِسَبَبٍ حَادِثٍ ، فَلَمْ يَمْلِكْ بِهِ الرُّجُوعَ فِي عَيْنِ الْمَالِ الزَّائِدَةِ زِيَادَةً مُتَّصِلَةً ، كَفَسْخِ النِّكَاحِ بِالْإِعْسَارِ أَوْ الرَّضَاعِ ، وَلِأَنَّهَا زِيَادَةٌ فِي مِلْكِ الْمُفْلِسِ ، فَلَمْ يَسْتَحِقَّ الْبَائِعُ أَخْذَهَا ، كَالْمُنْفَصِلَةِ ، وَكَالْحَاصِلَةِ بِفِعْلِهِ ، وَلِأَنَّ النَّمَاءَ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ مِنْ الْبَائِعِ ، فَلَمْ يَسْتَحِقَّ أَخْذَهُ مِنْهُ ، كَغَيْرِهِ مِنْ أَمْوَالِهِ ، وَفَارَقَ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ لِوَجْهَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا ، أَنَّ الْفَسْخَ فِيهِ مِنْ الْمُشْتَرِي ، فَهُوَ رَاضٍ بِإِسْقَاطِ حَقِّهِ مِنْ الزِّيَادَةِ ، وَتَرْكِهَا لِلْبَائِعِ ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا وَالثَّانِي ، أَنَّ الْفَسْخَ ثُمَّ لِمَعْنَى قَارَنَ الْعَقْدَ ، وَهُوَ الْعَيْبُ الْقَدِيمُ ، وَالْفَسْخُ هَاهُنَا لِسَبَبٍ حَادِثٍ ، فَهُوَ أَشْبَهُ بِفَسْخِ النِّكَاحِ الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ اسْتِرْجَاعَ الْعَيْنِ الزَّائِدَةِ .
وَقَوْلهمْ : إنَّ الزَّوْجَ إنَّمَا لَمْ يَرْجِعْ فِي الْعَيْنِ لِكَوْنِهِ يَنْدَفِعُ عَنْهُ الضَّرَرُ بِالْقِيمَةِ - لَا يَصِحُّ ؛ فَإِنَّ انْدِفَاعَ الضَّرَرِ عَنْهُ بِطَرِيقٍ آخَرَ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ أَخْذِ حَقِّهِ مِنْ

الْعَيْنِ ، وَلَوْ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلزِّيَادَةِ لَمْ يَسْقُطْ حَقُّهُ مِنْهَا بِالْقُدْرَةِ عَلَى أَخْذِ الْقِيمَةِ ، كَمُشْتَرِي الْمَعِيبِ ثُمَّ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَأْخُذَ قِيمَةَ الْعَيْنِ زَائِدَةً ؛ لِكَوْنِ الزِّيَادَةِ مُسْتَحَقَّةً ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ ، عُلِمَ أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الرُّجُوعِ كَوْنُ الزِّيَادَةِ لِلْمَرْأَةِ ، وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ فَصْلُهَا ، فَكَذَلِكَ هَاهُنَا ، بَلْ أَوْلَى ؛ فَإِنَّ الزِّيَادَةَ يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقُّ الْمُفْلِسِ وَالْغُرَمَاءِ ، فَمَنْعُ الْمُشْتَرِي مِنْ أَخْذِ زِيَادَةٍ لَيْسَتْ لَهُ ، أُولَى مِنْ تَفْوِيتِهَا عَلَى الْغُرَمَاءِ الَّذِينَ لَمْ يَصِلُوا إلَى تَمَامِ دُيُونِهِمْ ، وَالْمُفْلِسِ الْمُحْتَاجِ إلَى تَبْرِئَةِ ذِمَّتِهِ عِنْدَ اشْتِدَادِ حَاجَتِهِ ( 3423 ) فَصْلٌ : وَأَمَّا الْخَبَرُ فَمَحْمُولٌ عَلَى مَنْ وَجَدَ مَتَاعَهُ عَلَى صِفَتِهِ ، لَيْسَ بِزَائِدٍ ، وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقٌّ آخَرُ ، وَهَاهُنَا قَدْ تَعَلَّقَتْ بِهِ حُقُوقُ الْغُرَمَاءِ ، لِمَا فِيهِ مِنْ الزِّيَادَةِ ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلِيلِ ، يُحَقِّقُهُ أَنَّهُ إذَا كَانَ تَلَفُ بَعْضِ الْمَبِيعِ مَانِعًا مِنْ الرُّجُوعِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ يَلْحَقُ بِالْمُفْلِسِ ، وَلَا بِالْغُرَمَاءِ ، فَلَأَنْ يَمْنَعَ الزِّيَادَةَ فِيهِ مَعَ تَفْوِيتِهَا بِالرُّجُوعِ عَلَيْهِمْ أَوْلَى ، وَلِأَنَّهُ إذَا رَجَعَ فِي النَّاقِصِ ، فَمَا رَجَعَ إلَّا فِيمَا بَاعَهُ وَخَرَجَ مِنْهُ ، وَإِذَا رَجَعَ فِي الزَّائِدِ ، أَخَذَ مَا لَمْ يَبِعْهُ ، وَاسْتَرْجَعَ مَا لَمْ يَخْرُجْ عَنْهُ ، فَكَانَ بِالْمَنْعِ أَحَقَّ .

( 3424 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا الزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ ، كَالْوَلَدِ وَالثَّمَرَةِ وَالْكَسْبِ ، فَلَا تَمْنَعُ الرُّجُوعَ .
بِغَيْرِ خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ .
وَسَوَاءٌ نَقَصَ بِهَا الْمَبِيعُ أَوْ لَمْ يَنْقُصْ ، إذَا كَانَ نَقْصَ صِفَةٍ ، وَالزِّيَادَةُ لِلْمُفْلِسِ .
هَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ ؛ لِأَنَّهُ مَنَعَ الرُّجُوعَ بِالزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ ، لِكَوْنِهَا لِلْمُفْلِسِ ، فَالْمُنْفَصِلَةُ أَوْلَى .
وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ حَامِدٍ وَالْقَاضِي ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : الزِّيَادَةُ لِلْبَائِعِ .
وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ .
وَنَقَلَ حَنْبَلٌ عَنْ أَحْمَدَ ، فِي وَلَدِ الْجَارِيَةِ ، وَنِتَاجِ الدَّابَّةِ : هُوَ لِلْبَائِعِ ؛ لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ ، فَكَانَتْ لِلْبَائِعِ كَالْمُتَّصِلَةِ .
وَلَنَا ، أَنَّهَا زِيَادَةٌ انْفَصَلَتْ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَكَانَتْ لَهُ ، كَمَا لَوْ رَدَّهُ بِعَيْبٍ ، وَلِأَنَّهُ فَسْخٌ اسْتَحَقَّ بِهِ اسْتِرْجَاعَ الْعَيْنِ ، فَلَمْ يَسْتَحِقَّ أَخْذَ الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ ، كَفَسْخِ الْبَيْعِ بِالْعَيْبِ أَوْ الْخِيَارِ أَوْ الْإِقَالَةِ ، وَفَسْخِ النِّكَاحِ بِسَبَبِ مِنْ أَسْبَابِ الْفَسْخِ ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ } .
يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّمَاءَ وَالْغَلَّةَ لِلْمُشْتَرِي لِكَوْنِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ ، وَأَمَّا الزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ ، فَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّهَا لِلْمُفْلِسِ أَيْضًا ، وَفِي ذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى كَوْنِ الْمُنْفَصِلَةِ لَهُ ثُمَّ لَوْ سَلَّمْنَا ثَمَّ ، فَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ ، فَإِنَّ الْمُتَّصِلَةَ تَتْبَعُ فِي الْفُسُوخِ وَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ ، بِخِلَافِ الْمُنْفَصِلَةِ ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ فِي هَذَا اخْتِلَافٌ لِظُهُورِهِ ، وَكَلَامُ أَحْمَدَ ، فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ ، يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ بَاعِهِمَا فِي حَالِ حَمْلِهِمَا ، فَيَكُونَانِ مَبِيعَيْنِ ، وَلِهَذَا خَصَّ هَذَيْنِ بِالذِّكْرِ دُونَ بَقِيَّةِ النَّمَاءِ .

( 3425 ) فَصْلٌ : وَلَوْ اشْتَرَى أَمَةً حَامِلًا ، ثُمَّ أَفْلَسَ وَهِيَ حَامِلٌ ، فَلَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْحَمْلُ قَدْ زَادَ بِكِبَرِهِ ، وَكَثُرَتْ قِيمَتُهَا مِنْ أَجْلِهِ ، فَيَكُونَ مِنْ قَبِيلِ الزَّائِدِ زِيَادَةً مُتَّصِلَةً ، عَلَى مَا مَضَى .
وَإِنْ أَفْلَسَ بَعْدَ وَضْعِهَا ، فَقَالَ الْقَاضِي : لَهُ الرُّجُوعُ فِيهِمَا بِكُلِّ حَالٍ ، مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّنَا إنْ قُلْنَا : إنَّ الْحَمْلَ لَا حُكْمَ لَهُ .
فَالْوَلَدُ زِيَادَةٌ مُنْفَصِلَةٌ ، فَعَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ ، لَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ فِيهِمَا ، وَعَلَى قَوْلِ غَيْرِهِ ، يَكُونُ الْوَلَدُ لِلْمُفْلِسِ ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَمْنَعَ الرُّجُوعَ فِي الْأُمِّ ؛ لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْأُمِّ وَوَلَدِهَا ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْأُمِّ ، وَيَدْفَعَ قِيمَةَ الْوَلَدِ ؛ لِيَكُونَا جَمِيعًا .
لَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ، بِيعَتْ الْأُمُّ وَوَلَدُهَا جَمِيعًا ، وَقُسِمَ الثَّمَنُ عَلَى قَدْرِ قِيمَتِهِمَا ، فَمَا خَصَّ الْأُمَّ فَهُوَ لِلْبَائِعِ ، وَمَا خَصَّ الْوَلَدَ كَانَ لِلْمُفْلِسِ وَإِنْ قُلْنَا إنَّ لِلْوَلَدِ حُكْمًا .
وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ ، فَإِنْ كَانَتْ الْأُمُّ وَالْوَلَدُ قَدْ زَادَا بِالْوَضْعِ ، فَحُكْمُهُمَا حُكْمُ الْمَبِيعِ الزَّائِدِ زِيَادَةً مُتَّصِلَةً .
وَإِنْ لَمْ يَزِيدَا ، جَازَ الرُّجُوعُ فِيهِمَا .
وَإِنْ زَادَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ ، خَرَجَ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِيمَا إذَا كَانَ الْمَبِيعُ عَيْنَيْنِ فَتَلِفَ بَعْضُ أَحَدِهِمَا ، فَهَلْ يَمْنَعُ ذَلِكَ الرُّجُوعَ فِي الْأُخْرَى كَذَلِكَ ؟ يُخَرَّجُ هَاهُنَا وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، أَنَّهُ لَهُ الرُّجُوعَ فِيمَا لَمْ يَزِدْ ، دُونَ مَا زَادَ ، فَيَكُونُ حُكْمُهُ كَحُكْمِ الرُّجُوعِ فِي الْأُمِّ دُونَ الْوَلَدِ ، عَلَى مَا فَصَّلْنَاهُ الثَّانِي ، لَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ فِي شَيْءٍ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِدْ الْمَبِيعَ إلَّا زَائِدًا ، فَامْتَنَعَ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ ، كَالْعَيْنِ الْوَاحِدَةِ .
وَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ حَيَوَانًا غَيْرَ الْأَمَةِ ، فَحُكْمُهُ حُكْمُهَا ، إلَّا فِي أَنَّ التَّفْرِيقَ

بَيْنَهَا وَبَيْنَ وَلَدِهَا جَائِزٌ ، وَالْأَمَةُ بِخِلَافِ ذَلِكَ .

( 3426 ) فَصْلٌ : وَإِنْ اشْتَرَى حَائِلًا ، فَحَمَلَتْ ، ثُمَّ أَفْلَسَ وَهِيَ حَامِلٌ ، فَزَادَتْ قِيمَتُهَا بِهِ ، فَهِيَ زِيَادَةٌ مُتَّصِلَةٌ تَمْنَعُ الرُّجُوعَ ، عَلَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ ، وَلَا تَمْنَعُهُ ، عَلَى رِوَايَةِ الْمَيْمُونِي ، وَإِنْ أَفْلَسَ بَعْدَ وَضْعِهَا ، فَهِيَ زِيَادَةٌ مُنْفَصِلَةٌ ، فَتَكُونُ لِلْمُفْلِسِ ، عَلَى الصَّحِيحِ .
وَيَمْتَنِعُ الرُّجُوعُ فِي الْأُمِّ دُونَ وَلَدِهَا ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا .
وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْأُمِّ ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الَّتِي قَبْلَهَا وَعَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ ، الزِّيَادَةُ لِلْبَائِعِ ، فَيَكُونُ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهِمَا .
وَقَالَ الْقَاضِي : إذَا وَجَدْنَا حَامِلًا ، انْبَنَى عَلَى أَنَّ الْحَمْلَ هَلْ لَهُ حُكْمٌ أَوْ لَا ؟ فَإِنْ قُلْنَا : لَا حُكْمَ لَهُ .
جَرَى مَجْرَى الزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ .
وَإِنْ قُلْنَا : لَهُ حُكْمٌ .
فَالْوَلَدُ فِي حُكْمِ الْمُنْفَصِلِ ، يَتَرَبَّصُ بِهِ حَتَّى تَضَعَ ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ فِيهِ كَمَا لَوْ وَجَدَهُ بَعْدَ وَضْعِهِ .
وَإِنْ كَانَ الْحَمْلُ فِي غَيْر الْآدَمِيَّةِ ، جَازَ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا ، كَمَا تَقَدَّمَ .

( 3427 ) فَصْلٌ : إذَا كَانَ الْمَبِيعُ نَخْلًا أَوْ شَجَرًا ، فَأَفْلَسَ الْمُشْتَرِي ، لَمْ يَخْلُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدِهَا ، أَنْ يُفْلِسَ وَهِيَ بِحَالِهَا ، لَمْ تَزِدْ وَلَمْ تُثْمِرْ وَلَمْ يَتْلَفْ بَعْضُهَا ، فَلَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا .
الثَّانِي ، أَنْ يَكُونَ فِيهَا ثَمَرٌ ظَاهِرٌ ، أَوْ طَلْعٌ مُؤَبَّرٌ ، وَيَشْتَرِطَهُ الْمُشْتَرِي ، فَيَأْكُلَهُ ، أَوْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ ، أَوْ يَذْهَبَ بِجَائِحَةٍ ، ثُمَّ يُفْلِسَ ، فَهَذَا فِي حُكْمِ مَا لَوْ اشْتَرَى عَيْنَيْنِ فَتَلِفَتْ إحْدَاهُمَا ، ثُمَّ أَفْلَسَ ، فَهَلْ لِلْبَائِعِ الرُّجُوعُ فِي الْأُصُولِ ، وَيَضْرِبُ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِحِصَّةِ التَّالِفِ مِنْ الثَّمَرِ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ وَإِنْ تَلِفَ بَعْضهَا ، فَهُوَ كَتَلَفِ جَمِيعِهَا .
وَإِنْ زَادَتْ ، أَوْ بَدَا صَلَاحُهَا ، فَهَذِهِ زِيَادَةٌ مُتَّصِلَةٌ فِي إحْدَى الْعَيْنَيْنِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا بَيَانَ حُكْمِهَا .
الْحَالُ الثَّالِثُ ، أَنْ يَبِيعَهُ نَخْلًا قَدْ أَطْلَعَتْ وَلَمْ تُؤَبَّرْ ، أَوْ شَجَرًا فِيهَا ثَمَرَةٌ لَمْ تَظْهَرْ ، فَهَذِهِ الثَّمَرَةُ تَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ ، فَإِنْ أَفْلَسَ بَعْدَ تَلَفِ الثَّمَرَةِ ، أَوْ تَلَفِ بَعْضِهَا ، أَوْ الزِّيَادَةِ فِيهَا ، أَوْ بُدُوِّ صَلَاحٍ ، فَحُكْمُ ذَلِكَ حُكْمُ تَلَفِ بَعْضِ الْمَبِيعِ وَزِيَادَتِهِ الْمُتَّصِلَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْعَيْنِ الْوَاحِدَةِ ، وَلِهَذَا دَخَلَ الثَّمَرُ فِي مُطْلَقِ الْبَيْعِ ، بِخِلَافِ الَّتِي قَبْلَهَا الْحَالُ الرَّابِعُ ، بَاعَهُ نَخْلًا حَائِلًا فَأَثْمَرَ ، أَوْ شَجَرًا فَأَثْمَرَ ، فَذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ ؛ أَحَدِهَا ، أَنْ يُفْلِسَ قَبْلَ تَأْبِيرِهَا ، فَالطَّلْعُ زِيَادَةٌ مُتَّصِلَةٌ ، تَمْنَعُ الرُّجُوعَ ، عَلَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ ، كَالسِّمَنِ وَالْكِبَرِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَرْجِعَ فِي النَّخْلِ دُونَ الطَّلْعِ ، لِأَنَّهُ يُمْكِنُ فَصْلُهُ ، وَيَصِحُّ إفْرَادُهُ بِالْبَيْعِ ، فَهُوَ كَالْمُؤَبَّرِ ، بِخِلَافِ السِّمَنِ وَالْكِبَرِ .
وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ حَامِدٍ .
وَعَلَى رِوَايَةِ الْمَيْمُونِي ، لَا يَمْنَعُ ، بَلْ يَرْجِعُ ، وَيَكُونُ الطَّلْعُ لِلْبَائِعِ ، كَمَا لَوْ فُسِخَ

بِعَيْبِ .
وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَالْقَوْلُ الثَّانِي ، يَرْجِعُ فِي الْأَصْلِ دُونَ الطَّلْعِ ، وَكَذَلِكَ عِنْدَهُمْ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ ، وَالْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ .
الضَّرْبُ الثَّانِي ، أَفْلَسَ بَعْدَ التَّأْبِيرِ وَظُهُورِ الثَّمَرَةِ ، فَلَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ .
بِغَيْرِ خِلَافٍ ، وَالطَّلْعُ لِلْمُشْتَرِي ، إلَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ .
وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ ، لِأَنَّ الثَّمَرَةَ لَا تَتْبَعُ فِي الْبَيْعِ الَّذِي ثَبَتَ بِتَرَاضِيهِمَا ، فَفِي الْفَسْخِ الْحَاصِلِ بِغَيْرِ رِضَا الْمُشْتَرِي أَوْلَى .
وَلَوْ بَاعَهُ أَرْضًا فَارِغَةً فَزَرَعَهَا الْمُشْتَرِي ، ثُمَّ أَفْلَسَ ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ فِي الْأَرْضِ دُونَ الزَّرْعِ ، وَجْهًا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ الْمُشْتَرِي الضَّرْبُ الثَّالِثُ ، أَفْلَسَ وَالطَّلْعُ غَيْرُ مُؤَبَّرٍ ، فَلَمْ يَرْجِعْ حَتَّى أَبَّرَ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ ، كَمَا لَوْ أَفْلَسَ بَعْدَ تَأْبِيرِهَا ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ لَا تَنْتَقِلُ إلَّا بِاخْتِيَارِهِ لَهَا ، وَهَذَا لَمْ يَخْتَرْهَا إلَّا بَعْدَ تَأْبِيرِهَا .
فَإِنْ ادَّعَى الْبَائِعُ الرُّجُوعَ قَبْلَ التَّأْبِيرِ ، وَأَنْكَرَهُ الْمُفْلِسُ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُفْلِسِ مَعَ يَمِينِهِ ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ مِلْكِهِ ، وَعَدَمُ زَوَالِهِ .
وَإِنْ قَالَ لَهُ الْبَائِعُ : بِعْت بَعْدَ التَّأْبِيرِ ، وَقَالَ الْمُفْلِسُ : بَلْ قَبْلَهُ .
فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ ؛ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ .
فَإِنْ شَهِدَ الْغُرَمَاءُ لِلْمُفْلِسِ ، لَمْ تُسْمَعْ شَهَادَتُهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ يَجُرُّونَ إلَى أَنْفُسِهِمْ نَفْعًا .
وَإِنْ شَهِدُوا لِلْبَائِعِ ، وَهُمْ عُدُولٌ ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ ؛ لِعَدَمِ التُّهْمَةِ الضَّرْبُ الرَّابِعُ ، أَفْلَسَ بَعْدَ أَخْذِ الثَّمَرَةِ ، أَوْ ذَهَبَتْ بِجَائِحَةِ ، أَوْ غَيْرِهَا ، رَجَعَ الْبَائِعَ فِي الْأَصْلِ ، وَالثَّمَرَةُ لِلْمُشْتَرِي ، إلَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ .
وَكُلُّ مَوْضِعٍ لَا يَتْبَعُ الثَّمَرُ الشَّجَرَ إذَا رَجَعَ الْبَائِعُ فِيهِ ، فَلَيْسَ لَهُ مُطَالَبَةُ الْمُفْلِسِ بِقَطْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ أَوَانِ الْجُذَاذِ .
وَكَذَلِكَ إذَا رَجَعَ فِي الْأَرْضِ ، وَفِيهَا زَرْعٌ

لِلْمُفْلِسِ ، فَلَيْسَ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِأَخْذِهِ قَبْلَ أَوَانِ الْحَصَادِ ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ زَرَعَ فِي أَرْضِهِ بِحَقِّ ، وَطَلْعُهُ عَلَى الشَّجَرِ بِحَقِّ ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ أَخْذُهُ ، قَبْلَ كَمَالِهِ كَمَا لَوْ بَاعَ الْأَصْلَ وَعَلَيْهِ الثَّمَرَةُ أَوْ الزَّرْعُ ، وَلَيْسَ عَلَى صَاحِبِ الزَّرْعِ أَجْرٌ ؛ لِأَنَّهُ زَرَعَ فِي أَرْضِهِ زَرْعًا تَجِبُ تَبْقِيَتُهُ ، فَكَأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنْفَعَةَ الْأَرْضِ ، فَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ضَمَانُ ذَلِكَ إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنْ اتَّفَقَ الْمُفْلِسُ وَالْغُرَمَاءُ عَلَى التَّبْقِيَةِ ، أَوْ الْقَطْعِ ، فَلَهُمْ ذَلِكَ ، وَإِنْ اخْتَلَفُوا فَطَلَبَ بَعْضُهُمْ قَطْعَهُ ، وَبَعْضُهُمْ تَبْقِيَتُهُ ، نَظَرْنَا ؛ فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا قِيمَةَ لَهُ مَقْطُوعًا ، أَوْ قِيمَتُهُ يَسِيرَةً ، لَمْ يُقْطَعْ ؛ لِأَنَّ قَطْعَهُ سَفَهٌ .
وَتَضْيِيعٌ لِلْمَالِ ، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ إضَاعَتِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ كَثِيرَةً ، فَفِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، يُقَدَّمُ قَوْلُ مَنْ طَلَبَ الْقَطْعَ ؛ لِأَنَّهُ أَحْوَطُ ، فَإِنَّ فِي تَبْقِيَتُهُ غَرَرًا ، وَلِأَنَّ طَالِبَ الْقَطْعِ إنْ كَانَ الْمُفْلِسَ فَهُوَ يَقْصِدُ تَبْرِئَةَ ذِمَّتِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْغُرَمَاءَ فَهُمْ يَطْلُبُونَ تَعْجِيلَ حُقُوقِهِمْ ، وَذَلِكَ حَقٌّ لَهُمْ وَهَذَا قَوْلُ الْقَاضِي ، وَأَكْثَرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ .
وَالثَّانِي ، يُنْظَرُ إلَى مَا فِيهِ الْحَظُّ فَيُعْمَلُ بِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَنْفَعُ لِجَمِيعِهِمْ ، وَالظَّاهِرُ سَلَامَتُهُ ، وَلِهَذَا يَجُوزُ أَنْ يُزْرَعَ لِلْمُوَلَّى عَلَيْهِ .
وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ أَنَّهُ .
إنْ كَانَ الطَّالِبُ لِلْقَطْعِ الْغُرَمَاءَ ، وَجَبَتْ إجَابَتُهُمْ ؛ لِأَنَّ حُقُوقَهُمْ حَالَّةٌ ، فَلَا يَلْزَمُهُمْ تَأْخِيرُهَا مَعَ إمْكَانِ إيفَائِهَا ، وَإِنْ كَانَ الطَّالِبُ لَهُ الْمُفْلِسَ دُونَهُمْ ، وَكَانَ التَّأْخِيرُ أَحَظَّ لَهُ ، لَمْ يَقْطَعْ ؛ لِأَنَّهُمْ رَضُوا بِتَأْخِيرِ حُقُوقِهِمْ لِحَظٍّ يَحْصُلُ لَهُمْ وَلِلْمُفْلِسِ ، وَالْمُفْلِسُ يَطْلُبُ مَا فِيهِ ضَرَرٌ بِنَفْسِهِ ، وَمَنْعٌ لِلْغُرَمَاءِ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْقَدْرِ الَّذِي

يَحْصُلُ مِنْ الزِّيَادَةِ بِالتَّأْخِيرِ ، فَلَا يَلْزَمُ الْغُرَمَاءَ إجَابَتُهُ إلَى ذَلِكَ .

( 3428 ) فَصْلٌ : إذَا أَقَرَّ الْغُرَمَاءُ بِأَنَّ الزَّرْعَ أَوْ الطَّلْعَ لِلْبَائِعٍ ، وَلَمْ يَشْهَدُوا بِهِ ، أَوْ شَهِدُوا بِهِ وَلَمْ يَكُونُوا عُدُولًا ، أَوْ لَمْ يُحْكَمْ بِشَهَادَتِهِمْ .
حَلَفَ الْمُفْلِسُ ، وَثَبَتَ الطَّلْعُ لَهُ يَنْفَرِدُ بِهِ دُونَهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ يُقِرُّونَ أَنَّهُمْ لَا حَقَّ لَهُمْ فِيهِ فَإِنْ أَرَادَ دَفْعَهُ إلَى أَحَدِهِمْ وَتَخْصِيصَهُ بِثَمَنِهِ ، فَلَهُ ذَلِكَ ؛ لِإِقْرَارِ بَاقِيهمْ بِعَدَمِ حَقِّهِمْ فِيهِ ، فَإِنْ امْتَنَعَ ذَلِكَ الْغَرِيمُ مِنْ قَبُولِهِ ، أُجْبِرَ عَلَى قَبُولِهِ ، أَوْ الْإِبْرَاءِ مِنْ قَدْرِهِ مِنْ دَيْنِهِ ، فَيُقَالُ لَهُ : إمَّا أَنْ تَقْبِضَهُ ، وَإِمَّا أَنْ تُبْرِئَ مِنْ قَدْرِ ذَلِكَ مِنْ دَيْنِك ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ مَحْكُومٌ بِهِ عَلَى الْمُفْلِسِ ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ دَيْنَهُ مِنْهُ ، كَمَا لَوْ أَدَّى الْمُكَاتَبُ إلَى سَيِّدِهِ نُجُومَ كِتَابَتِهِ ، فَقَالَ سَيِّدُهُ : هَذَا حَرَامٌ .
وَأَنْكَرَ الْمُكَاتَبُ .
وَإِنْ أَرَادَ قِسْمَتَهُ عَلَى الْغُرَمَاءِ ، لَزِمَهُمْ قَبُولُهُ ، أَوْ الْإِبْرَاءُ ؛ لِذَلِكَ .
فَإِنْ قَبَضُوا الثَّمَرَةَ بِعَيْنِهَا ، لَزِمَهُمْ رَدُّ مَا حَصَلَ لَهُمْ إلَى الْبَائِعِ ؛ لِأَنَّهُمْ يُقِرُّونَ لَهُ بِهَا ، فَلَزِمَهُمْ دَفْعُهَا إلَيْهِ ، كَمَا لَوْ أَقَرُّوا بِعِتْقِ عَبْدٍ فِي مِلْكِ غَيْرهمْ ، ثُمَّ اشْتَرَوْهُ مِنْهُ وَإِنْ بَاعَ الثَّمَرَةَ ، وَفَرَّقَ ثَمَنَهَا فِيهِمْ ، أَوْ دَفَعَهُ إلَى بَعْضِهِمْ ، لَمْ يَلْزَمْهُمْ رَدُّ مَا أَخَذُوا مِنْ ثَمَنهَا ؛ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا اعْتَرَفُوا بِالْعَيْنِ ، لَا بِثَمَنِهَا .
وَإِنْ شَهِدَ بَعْضُ الْغُرَمَاءِ دُونَ بَعْضٍ ، أَوْ أَقَرَّ بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ ، لَزِمَ الشَّاهِدَ أَوْ الْمُقِرَّ الْحُكْمُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ ، دُونَ غَيْرِهِ .
وَإِنْ عَرَضَ عَلَيْهِمْ الْمُفْلِسُ الثَّمَرَةَ بِعَيْنِهَا ، فَأَبَوْا أَخْذَهَا ، لَمْ يَلْزَمْهُمْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُهُمْ الِاسْتِيفَاءُ مِنْ جِنْسِ دُيُونِهِمْ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ مَنْ لَهُ جِنْسٌ مِنْ الثَّمَرِ أَوْ الزَّرْعِ ، كَالْمُقْرِضِ أَوْ الْمُسْلِمِ ، فَيَلْزَمُهُ أَخْذُ مَا عُرِضَ عَلَيْهِ ،

إذَا كَانَ بِصِفَةِ حَقِّهِ وَلَوْ أَقَرَّ الْغُرَمَاءُ بِأَنَّ الْمُفْلِسَ أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ قَبْلَ فَلَسِهِ ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُمْ ، إلَّا أَنْ يَشْهَدَ مِنْهُمْ عَدْلَانِ ، وَيَكُونُ حُكْمُهُمْ فِي قَبْضِ الْعَبْدِ أَوْ أَخْذِ ثَمَنِهِ إنْ عَرَضَهُ عَلَيْهِمْ ، حُكْمَ مَا لَوْ أَقَرُّوا بِالثَّمَنِ لِلْبَائِعِ ، وَكَذَلِكَ إنْ أَقَرُّوا بِعَيْنِ مِمَّا فِي يَدَيْهِ أَنَّهَا غَصْبٌ أَوْ عَارِيَّةٌ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ ، فَالْحُكْمُ كَمَا ذَكَرْنَا سَوَاءٌ وَإِنْ أَقَرُّوا بِأَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدَهُ بَعْدَ فَلَسِهِ ، انْبَنَى عَلَى صِحَّةِ عِتْقِ الْمُفْلِسِ ، فَإِنْ قُلْنَا : لَا يَصِحُّ عِتْقُهُ .
فَلَا أَثَرَ لَإِقْرَارِهِمْ ، وَإِنْ قُلْنَا بِصِحَّتِهِ ، فَهُوَ كَإِقْرَارِهِمْ بِعِتْقِهِ قَبْلَ فَلَسِهِ ، وَإِنْ حَكَمَ الْحَاكِمُ بِصِحَّتِهِ ، أَوْ بِفَسَادِهِ ، نَفَذَ حُكْمُهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ ؛ لِأَنَّهُ فِعْلٌ مُجْتَهَدٌ فِيهِ ، فَيَلْزَمُ مَا حَكَمَ بِهِ الْحَاكِمُ ، وَلَا يَجُوزُ نَقْضُهُ وَلَا تَغْيِيرُهُ .

( 3429 ) فَصْلٌ : وَإِنْ صَدَّقَ الْمُفْلِسُ الْبَائِعَ فِي الرُّجُوعِ قَبْلَ التَّأْبِيرِ ، وَكَذَّبَهُ الْغُرَمَاءُ ، لَمْ يُقْبَلْ إقْرَارُهُ ؛ لِأَنَّ حُقُوقَهُمْ تَعَلَّقَتْ بِالثَّمَرَةِ ظَاهِرًا ، فَلَمْ يُقْبَلْ إقْرَارُهُ ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِالنَّخِيلِ ، وَعَلَى الْغُرَمَاءِ الْيَمِينُ ، أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ الْبَائِعَ رَجَعَ قَبْلَ التَّأْبِيرِ ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْيَمِينَ لَا يَنُوبُونَ فِيهَا عَنْ الْمُفْلِسِ ، بَلْ هِيَ ثَابِتَةٌ فِي حَقِّهِمْ ابْتِدَاءً ، بِخِلَافِ مَا لَوْ ادَّعَى حَقًّا وَأَقَامَ شَاهِدًا فَلَمْ يَحْلِفْ ، لَمْ يَكُنْ لِلْغُرَمَاءِ أَنْ يَحْلِفُوا مَعَهُ ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ ثُمَّ عَلَى الْمُفْلِسِ ، فَلَوْ حَلَفُوا حَلَفُوا لِيُثْبِتُوا حَقًّا لَغَيْرِهِمْ ، وَلَا يَحْلِفُ الْإِنْسَانُ لِيُثْبِتَ لِغَيْرِهِ حَقًّا ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَائِبًا فِيهَا ؛ لِأَنَّ الْأَيْمَانَ لَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا الْأَصْلُ أَنَّ هَذَا الطَّلْعَ قَدْ تَعَلَّقَتْ حُقُوقُهُمْ بِهِ ، لِكَوْنِهِ فِي يَدِ غَرِيمِهِمْ ، وَمُتَّصِلٌ بِنَخْلِهِ ، وَالْبَائِعُ يَدَّعِي مَا يُزِيلُ حُقُوقَهُمْ عَنْهُ ، فَأَشْبَهَ سَائِرَ أَعْيَانِ مَالِهِ ، وَيَحْلِفُونَ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ ؛ لِأَنَّهُ يَمِينٌ عَلَى نَفْيِ الدَّيْنِ عَنْ الْمَيِّتِ وَلَوْ أَقَرَّ الْمُفْلِسُ بِعَيْنٍ مِنْ أَعْيَانِ مَالِهِ لِأَجْنَبِيٍّ ، أَوْ لِبَعْضِ غُرَمَائِهِ ، فَأَنْكَرَهُ الْغُرَمَاءُ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمْ ، وَعَلَيْهِمْ الْيَمِينُ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ .
وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ بِغَرِيمٍ آخَرَ يَسْتَحِقُّ مُشَارَكَتَهُمْ ، فَأَنْكَرُوهُ ، فَعَلَيْهِمْ الْيَمِينُ أَيْضًا ، وَيَكُونُ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ لِذَلِكَ .
وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ ، أَعْتَقَ عَبْدَهُ ، انْبَنَى ذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ عِتْقِ الْمُفْلِسِ فَإِنْ قُلْنَا : يَصِحُّ عِتْقُهُ صَحَّ إقْرَارُهُ ، وَعَتَقَ ؛ لِأَنَّ مَنْ مَلَكَ شَيْئًا مَلَكَ الْإِقْرَارَ بِهِ ، وَلِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْعِتْقِ يَحْصُلُ بِهِ الْعِتْقُ ، فَكَأَنَّهُ أَعْتَقَهُ فِي الْحَالِ .
وَإِنْ قُلْنَا : لَا يَصِحُّ عِتْقُهُ .
لَمْ يُقْبَلْ إقْرَارُهُ ، وَكَانَ عَلَى الْغُرَمَاءِ

الْيَمِينُ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ .
وَكُلُّ مَوْضِعٍ قُلْنَا عَلَى الْغُرَمَاءِ الْيَمِينُ ، فَهُوَ عَلَى جَمِيعِهِمْ ، فَإِنْ حَلَفُوا أَخَذُوا ، وَإِنْ نَكَّلُوا قُضِيَ لِلْمُدَّعِي بِمَا ادَّعَاهُ ، إلَّا أَنْ نَقُولَ بِرَدِّ الْيَمِينِ ، فَتُرَدُّ عَلَى الْمُدَّعِي ، فَيَحْلِفَ وَيَسْتَحِقُّ ، وَإِنْ حَلَفَ بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ ، أَخَذَ الْحَالِفُ نَصِيبَهُ ، وَحُكْمُ النَّاكِلِ مَا ذَكَرْنَاهُ .

( 3430 ) فَصْلٌ : وَإِنْ أَقَرَّ الْمُفْلِسُ أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدَهُ مُنْذُ شَهْرٍ ، وَكَانَ الْعَبْدُ قَدْ اكْتَسَبَ بَعْدَ ذَلِكَ مَالًا ، وَأَنْكَرَ الْغُرَمَاءُ ، فَإِنْ قُلْنَا : لَا يُقْبَلُ إقْرَارُهُ .
حَلَفُوا ، وَاسْتَحَقُّوا الْعَبْدَ وَكَسْبَهُ .
وَإِنْ قُلْنَا : يُقْبَلُ إقْرَارُهُ .
لَمْ يُقْبَلْ فِي كَسْبِهِ ، وَكَانَ لِلْغُرَمَاءِ أَنْ يَحْلِفُوا أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ قَبْلَ الْكَسْبِ ، وَيَأْخُذُونَ كَسْبَهُ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ إنَّمَا قُبِلَ فِي الْعِتْقِ دُونَ غَيْرِهِ لِصِحَّتِهِ مِنْهُ ، وَلِبِنَائِهِ عَلَى التَّغْلِيبِ وَالسِّرَايَةِ ، فَلَا يُقْبَلُ فِي الْمَالِ ، لِعَدَمِ ذَلِكَ فِيهِ ، وَلِأَنَّنَا نَزَّلْنَا إقْرَارَهُ مَنْزِلَةَ إعْتَاقِهِ فِي الْحَالِ ، فَلَا تَثْبُتُ لَهُ الْحُرِّيَّةُ فِيمَا مَضَى ، فَيَكُونُ كَسْبُهُ مَحْكُومًا بِهِ لِسَيِّدِهِ ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِعِتْقِهِ ، ثُمَّ أَقَرَّ لَهُ بِعَيْنٍ فِي يَدِهِ .

( 3431 ) فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ أَرْضًا فَبَنَاهَا الْمُشْتَرِي ، أَوْ غَرَسَهَا ، ثُمَّ أَفْلَسَ ، فَأَرَادَ الْبَائِعُ الرُّجُوعَ فِي الْأَرْضِ ، نَظَرْت ؛ فَإِنْ اتَّفَقَ الْمُفْلِسُ وَالْغُرَمَاءُ عَلَى قَلْعِ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ ، فَلَهُمْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمْ ، لَا يَخْرُجُ عَنْهُمْ ، فَإِذَا قَلَعُوهُ ، فَلِلْبَائِعِ الرُّجُوعُ فِي أَرْضِهِ ؛ لِأَنَّهُ وَجَدَ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ قَالَ أَصْحَابُنَا ، وَيَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ قَبْلَ الْقَلْعِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَسْتَحِقَّهُ حَتَّى يُوجَدَ الْقَلْعُ ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ الْقَلْعِ لَمْ يُدْرِكْ مَتَاعَهُ إلَّا مَشْغُولًا بِمِلْكِ الْمُشْتَرِي ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَتْ مَسَامِيرَ فِي بَابِ الْمُشْتَرِي .
فَإِنْ قُلْنَا : لَهُ الرُّجُوعُ قَبْلَ الْقَلْعِ .
فَقَلَعُوهُ ، لَزِمَهُمْ تَسْوِيَةُ الْأَرْضِ مِنْ الْحَفْرِ ، وَأَرْشُ نَقْصِ الْأَرْضِ الْحَاصِلِ بِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ نَقْصٌ حَصَلَ لِتَخْلِيصِ مِلْكِ الْمُفْلِسِ ، فَكَانَ عَلَيْهِ ، كَمَا لَوْ دَخَلَ فَصِيلُهُ دَارَ إنْسَانٍ وَكَبِرَ ، فَأَرَادَ صَاحِبُهُ إخْرَاجَهُ ، فَلَمْ يُمْكِنْ إلَّا بِهَدْمِ بَابِهَا ، فَإِنَّ الْبَابَ يُهْدَمُ لِيَخْرُجَ ، وَيَضْمَنُ صَاحِبُهُ مَا نَقَصَ ، بِخِلَافِ مَا إذَا وَجَدَ الْبَائِعُ عَيْنَ مَالِهِ نَاقِصَةً .
فَرَجَعَ فِيهَا ، فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ فِي النَّقْصِ لِأَنَّ النَّقْصَ كَانَ فِي مِلْكِ الْمُفْلِسِ ، وَهُنَا حَدَثَ بَعْدَ رُجُوعِهِ فِي الْعَيْنِ ، فَلِهَذَا ضَمِنُوهُ ، وَيَضْرِبُ بِالنَّقْصِ مَعَ الْغُرَمَاءِ وَإِنْ قُلْنَا : لَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ قَبْلَ الْقَلْعِ .
لَمْ يَلْزَمْهُمْ تَسْوِيَةُ الْحَفْرِ ، وَلَا أَرْشُ النَّقْصِ ؛ لِأَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ فِي أَرْضِ الْمُفْلِسِ قَبْلَ رُجُوعِ الْبَائِعِ فِيهَا ، فَلَمْ يَضْمَنُوا النَّقْصَ ، كَمَا لَوْ قَلَعَهُ الْمُفْلِسُ قَبْلَ فَلَسِهِ ، فَأَمَّا إنْ امْتَنَعَ الْمُفْلِسُ وَالْغُرَمَاءُ مِنْ الْقَلْعِ ، فَلَهُمْ ذَلِكَ ، وَلَا يُجْبَرُونَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ غَرْسٌ بِحَقٍّ .
وَمَفْهُومُ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَامُ : { لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ } .
أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ ظَالِمًا

فَلَهُ حَقٌّ فَإِنْ بَذَلَ الْبَائِعُ قِيمَةَ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ ، لِيَكُونَ لَهُ الْكُلُّ .
أَوْ قَالَ : أَنَا أَقْلَعُ ، وَأَضْمَنُ مَا نَقَصَ فَإِنْ قُلْنَا : لَهُ الرُّجُوعُ قَبْلَ الْقَلْعِ .
فَلَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ وَالْغِرَاسَ حَصَلَ فِي مِلْكِهِ لِغَيْرِهِ بِحَقٍّ ، فَكَانَ لَهُ أَخْذُهُ بِقِيمَتِهِ ، أَوْ قَلْعُهُ وَضَمَانُ نَقْصِهِ ، كَالشَّفِيعِ إذَا أَخَذَ الْأَرْضَ وَفِيهَا غِرَاسٌ وَبِنَاءٌ لِلْمُشْتَرِي ، وَالْمُعِيرِ إذَا رَجَعَ فِي أَرْضِهِ بَعْدَ غَرْسِ الْمُسْتَعِيرِ وَإِنْ قُلْنَا : لَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ قَبْلَ الْقَلْعِ .
لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ بِنَاءَ الْمُفْلِسِ وَغَرْسَهُ فِي مِلْكِهِ ، فَلَمْ يُجْبَرْ عَلَى بَيْعِهِ لِهَذَا الْبَائِعِ ، وَلَا عَلَى قَلْعِهِ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَرْجِعْ فِي الْأَرْضِ .
فَأَمَّا إنْ امْتَنَعَ الْبَائِعُ مِنْ بَذْلِ ذَلِكَ ، سَقَطَ حَقُّ الرُّجُوعِ .
وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ حَامِدٍ ، وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ الْقَاضِي : يَحْتَمِلُ أَنَّ لَهُ الرُّجُوعَ .
وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِي ؛ لِأَنَّهُ أَدْرَكَ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ ، وَفِيهِ مَالُ الْمُشْتَرِي عَلَى وَجْهِ التَّبَعِ ، فَلَمْ يَمْنَعْهُ ذَلِكَ الرُّجُوعَ ، كَالثَّوْبِ إذَا صَبَغَهُ الْمُشْتَرِي وَلَنَا ، أَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ مَتَاعَهُ عَلَى وَجْهٍ يُمْكِنُهُ أَخْذُهُ مُنْفَرِدًا عَنْ غَيْرِهِ ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَخْذُهُ ، كَالْحَجَرِ فِي الْبِنَاءِ ، وَالْمَسَامِيرِ فِي الْبَابِ ، وَلِأَنَّ فِي ذَلِكَ ضَرَرًا عَلَى الْمُشْتَرِي وَالْغُرَمَاءِ ، وَلَا يُزَالُ الضَّرَرِ ، وَلِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ بِالرُّجُوعِ هَاهُنَا انْقِطَاعُ النِّزَاعِ وَالْخُصُومَةِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا وَجَدَهَا غَيْر مَشْغُولَةٍ بِشَيْءِ .
وَأَمَّا الثَّوْبُ إذَا صَبَغَهُ ، فَلَا نُسَلَّمُ لَهُ الرُّجُوعَ ، فَهُوَ كَمَسْأَلَتِنَا ، فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا ، أَنَّ الصَّبْغَ تَقَرَّرَ فِي الثَّوْبِ ، فَصَارَ كَالصِّفَةِ فِيهِ ، بِخِلَافِ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ ، فَإِنَّهُ أَعْيَانٌ مُتَمَيِّزَةٌ ، وَأَصْلٌ فِي نَفْسِهِ .
وَالثَّانِي ، أَنَّ الثَّوْبَ لَا يُرَادُ لِلْبَقَاءِ ،

بِخِلَافِ الْأَرْضِ وَالْبِنَاءِ ، فَإِذَا قُلْنَا : لَا يَرْجِعُ .
فَلَا كَلَامَ .
وَإِنْ قُلْنَا : يَرْجِعُ .
فَرَجَعَ ، وَاتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى بَيْعِهِمَا ، بِيعَا لَهُمَا ، وَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ بِقَدْرِ حَقِّهِ وَإِنْ امْتَنَعَ أَحَدُهُمَا مِنْ الْبَيْعِ ، احْتَمَلَ أَنْ يُجْبَرَ عَلَيْهِ ، كَمَا لَوْ كَانَ الْمَبِيعُ ثَوْبًا ، فَصَبَغَهُ الْمُشْتَرِي ، فَإِنَّ الثَّوْبَ يُبَاعُ لَهُمَا ، كَذَا هَاهُنَا .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُجْبَرَ ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ طَالِبُ الْبَيْعِ أَنْ يَبِيعَ مِلْكَهُ مُفْرَدًا ، بِخِلَافِ الثَّوْبِ الْمَصْبُوغِ ، فَإِنْ بِيعَا لَهُمَا ، قَسَمَا الثَّمَنَ عَلَى قَدْرِ الْقِيمَتَيْنِ ، فَتُقَوَّمُ الْأَرْضُ غَيْرَ ذَاتِ شَجَرٍ وَلَا بِنَاءٍ ، ثُمَّ تُقَوَّمُ وَهُمَا فِيهَا ، فَمَا كَانَ قِيمَةَ الْأَرْضِ بِغَيْرِ غِرَاسٍ وَلَا بِنَاءٍ ، فَلِلْبَائِعِ قِسْطُهُ مِنْ الثَّمَنِ ، وَمَا زَادَ فَهُوَ لِلْمُفْلِسِ وَالْغُرَمَاءِ .
وَإِنْ قُلْنَا : لَا يُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ عَلَى الْبَيْعِ .
أَوْ لَمْ يَطْلُبْ أَحَدُهُمَا الْبَيْعَ فَاتَّفَقَا عَلَى كَيْفِيَّةِ كَوْنِهِمَا بَيْنَهُمَا ، جَازَ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ ، وَإِنْ اخْتَلَفَا ، كَانَتْ الْأَرْضُ لِلْبَائِعِ ، وَالْغِرَاسُ وَالْبِنَاءُ لِلْمُفْلِسِ وَالْغُرَمَاءِ ، وَلَهُمْ دُخُولُ الْأَرْضِ لِسَقْيِ الشَّجَرِ وَأَخْذِ الثَّمَرَةِ ، وَلَيْسَ لَهُمْ دُخُولُهَا لِلتَّفَرُّجِ وَلِغَيْرِ حَاجَةٍ ، وَلِلْبَائِعِ دُخُولُهَا لِلزَّرْعِ ، وَلَمَّا شَاءَ ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ لَهُ وَمِلْكُهُ .
وَإِنْ بَاعُوا الشَّجَرَ وَالْبِنَاءَ لَإِنْسَانٍ ، فَحُكْمُهُ فِي ذَلِكَ حُكْمُهُمْ .
وَلَوْ بَذَلَ الْمُفْلِسُ وَالْغُرَمَاءُ ، أَوْ الْمُشْتَرِي مِنْهُمْ ، قِيمَةَ الْأَرْضِ لِلْبَائِعِ ، لِيَدْفَعهَا لَهُمْ ، لَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ أَصْلٌ ، فَلَا يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهَا ، بِخِلَافِ مَا فِيهَا مِنْ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ .

( 3432 ) فَصْلٌ : إذَا اشْتَرَى غِرَاسًا ، فَغَرَسَهُ فِي أَرْضِهِ ، ثُمَّ أَفْلَسَ ، وَلَمْ يَزِدْ الْغِرَاسُ ، فَلَهُ الرُّجُوعُ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ أَدْرَكَ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ .
وَإِذَا أَخَذَهُ ، فَعَلَيْهِ تَسْوِيَةُ الْأَرْضِ ، وَأَرْشُ نَقْصِهَا الْحَاصِلُ بِقِلْعِهِ ؛ لِأَنَّهُ نَقْصٌ حَصَلَ لِتَخْلِيصِ مِلْكِهِ مِنْ مِلْكِ غَيْره .
وَإِنْ بَذَلَ الْمُفْلِسُ وَالْغُرَمَاءُ لَهُ قِيمَتَهُ ، لِيَمْلِكُوهُ بِذَلِكَ ، لَمْ يُجْبَرْ عَلَى قَبُولِهَا ؛ لِأَنَّهُ إذَا اخْتَارَ أَخْذَ مَالِهِ ، وَتَفْرِيغَ مِلْكِهِمْ ، وَإِزَالَةَ ضَرَرِهِ عَنْهُمْ ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَنْعُهُ ، كَالْمُشْتَرِي إذَا غَرَسَ فِي الْأَرْضِ الْمَشْفُوعَةِ .
وَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ الْقَلْعِ ، فَبَذَلُوا لَهُ الْقِيمَةَ لِيَمْلِكَهُ الْمُفْلِسُ ، أَوْ أَرَادُوا قَلْعَهُ وَضَمَانَ النَّقْصِ ، فَلَهُمْ ذَلِكَ .
وَكَذَلِكَ إذَا أَرَادُوا قَلْعَهُ مِنْ غَيْرِ ضَمَانِ النَّقْصِ ؛ لِأَنَّ الْمُفْلِسَ إنَّمَا ابْتَاعَهُ مَقْلُوعًا ، فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ إبْقَاؤُهُ فِي أَرْضِهِ وَقِيلَ : لَيْسَ لَهُمْ قَلْعُهُ مِنْ غَيْرِ ضَمَانِ النَّقْصِ ؛ لِأَنَّهُ غَرْسٌ بِحَقٍّ ، فَأَشْبَهَ غَرْسَ الْمُفْلِسِ فِي الْأَرْضِ الَّتِي ابْتَاعَهَا إذَا رَجَعَ بَائِعُهَا فِيهَا .
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ ؛ فَإِنَّ إبْقَاءَ الْغِرَاسِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ حَقٌّ عَلَيْهِ ، فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ بِفِعْلِهِ ، وَفِي الَّتِي قَبْلَهَا إبْقَاؤُهُ حَقٌّ لَهُ فَوَجَبَ لَهُ بِغِرَاسِهِ فِي مِلْكِهِ .
فَإِنْ اخْتَارَ بَعْضُهُمْ الْقَلْعَ ، وَبَعْضُهُمْ التَّبْقِيَةَ ، قُدِّمَ قَوْلُ مَنْ طَلَبَ الْقَلْعَ ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُفْلِسَ أَوْ الْغُرَمَاءَ ، أَوْ بَعْضَ الْغُرَمَاءَ ؛ لِأَنَّ الْإِبْقَاءَ ضَرَرٌ غَيْرُ وَاجِبٍ ، فَلَمْ يَلْزَمْ الْمُمْتَنِعَ مِنْهُ الْإِجَابَةُ إلَيْهِ وَإِنْ زَادَ الْغِرَاسُ فِي الْأَرْضِ ، فَهِيَ زِيَادَةٌ مُتَّصِلَةٌ ، تَمْنَعُ الرُّجُوعَ عَلَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ ، وَلَا تَمْنَعُهُ عَلَى رِوَايَةِ الْمَيْمُونِي .

( 3433 ) فَصْلٌ : وَإِنْ اشْتَرَى أَرْضًا مِنْ رَجُلٍ ، وَغِرَاسًا مِنْ آخَرَ ، فَغَرَسَهُ فِيهَا ، ثُمَّ أَفْلَسَ وَلَمْ يَزِدْ الشَّجَرُ ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الرُّجُوعُ فِي عَيْنِ مَالِهِ ، وَلِصَاحِبِ الْأَرْضِ قَلْعُ الْغِرَاسِ مِنْ غَيْرِ ضَمَانِ نَقْصِهِ بِالْقَلْعِ ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، لِأَنَّ الْبَائِعَ إنَّمَا بَاعَهُ مَقْلُوعًا ، فَلَا يَسْتَحِقُّهُ إلَّا كَذَلِكَ وَإِنْ أَرَادَ بَائِعُهُ قَلْعَهُ مِنْ الْأَرْضِ ، فَقَلَعَهُ ، فَعَلَيْهِ تَسْوِيَةُ الْحَفْرِ ، وَضَمَانُ نَقْصِهَا الْحَاصِلِ بِهِ ؛ لِمَا تَقَدَّمَ .
وَإِنْ بَذَلَ صَاحِبُ الْغِرَاسِ قِيمَةَ الْأَرْضِ لِصَاحِبِهَا لِيَمْلِكَهُ ، لَمْ يُجْبَرْ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ أَصْلٌ ، فَلَا يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهَا تَبَعًا .
وَإِنْ بَذَلَ صَاحِبُ الْأَرْضِ قِيمَةَ الْغِرَاسِ لِيَمْلِكَهُ إذَا امْتَنَعَ مِنْ الْقَلْعِ ، فَلَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ غَرْسَهُ حَصَلَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِحَقٍّ ، فَأَشْبَهَ غَرْسَ الْمُفْلِسِ فِي أَرْضِ الْبَائِعِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَمْلِكَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى إبْقَائِهِ إذَا امْتَنَعَ مِنْ دَفْعِ قِيمَتِهِ ، أَوْ أَرْشِ نَقْصِهِ ، فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَتَمَلَّكَهُ بِالْقِيمَةِ ، بِخِلَافِ الَّتِي قَبْلَهَا وَالْأُولَى أَوْلَى .
وَهَذَا يَنْتَقِضُ بِغَرْسِ الْغَاصِبِ .

( 3434 ) فَصْلٌ : الشَّرْطُ الثَّالِثُ ، أَنْ لَا يَكُونَ الْبَائِعُ قَبَضَ مِنْ ثَمَنِهَا شَيْئًا .
فَإِنْ كَانَ قَدْ قَبَضَ بَعْضَ ثَمَنِهَا ، سَقَطَ حَقُّ الرُّجُوعِ .
وَبِهَذَا قَالَ إِسْحَاقُ ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ ، وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ : لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي قَدْرِ مَا بَقِيَ مِنْ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ تَرْجِعُ بِهِ الْعَيْنُ كُلُّهَا إلَى الْعَاقِدِ ، فَجَازَ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ بَعْضُهَا ، كَالْفُرْقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي النِّكَاحِ وَقَالَ مَالِكٌ : هُوَ مُخَيَّرٌ ، إنْ شَاءَ رَدَّ مَا قَبَضَهُ وَرَجَعَ فِي جَمِيعَ الْعَيْنِ ، وَإِنْ شَاءَ حَاصَّ الْغُرَمَاءَ وَلَمْ يَرْجِعْ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَيُّمَا رَجُلٍ بَاعَ سِلْعَةً ، فَأَدْرَكَ سِلْعَتَهُ بِعَيْنِهَا عِنْدَ رَجُلٍ قَدْ أَفْلَسَ ، وَلَمْ يَكُنْ قَدْ قَبَضَ مِنْ ثَمَنِهَا شَيْئًا ، فَهِيَ لَهُ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ قَبَضَ مِنْ ثَمَنِهَا شَيْئًا فَهُوَ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَابْنُ مَاجَهْ ، وَالدَّارَقُطْنِيّ .
وَلِأَنَّ فِي الرُّجُوعِ فِي قِسْطِ مَا بَقِيَ تَبْعِيضًا لِلصَّفْقَةِ عَلَى الْمُشْتَرِي ، وَإِضْرَارًا بِهِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِلْبَائِعِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ مَالَهُ يُبَاعُ ، وَلَا يَبْقَى لَهُ ، فَيَزُولُ عَنْهُ الضَّرَرُ قُلْنَا : لَا يَنْدَفِعُ الضَّرَرُ بِالْبَيْعِ ؛ فَإِنْ قِيمَتَهُ تَنْقُصُ بِالتَّشْقِيصِ ، وَلَا يُرْغَبُ فِيهِ مُشَقَّصًا ، فَيَتَضَرَّرُ الْمُفْلِسُ وَالْغُرَمَاءُ بِنَقْصِ الْقِيمَةِ .
وَلِأَنَّهُ سَبَبٌ يُفْسَخُ بِهِ الْبَيْعُ ، فَلَمْ يَجُزْ تَشْقِيصُهُ ، كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَالْخِيَارِ ، وَقِيَاسُ الْبَيْعِ عَلَى الْبَيْعِ أَوْلَى مِنْ قِيَاسِهِ عَلَى النِّكَاحِ .
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الْمَبِيعِ عَيْنًا وَاحِدَةً ، أَوْ عَيْنَيْنِ ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحَدِيثِ وَالْمَعْنَى فَإِنْ قِيلَ : حَدِيثُكُمْ يَرْوِيه أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا ، وَلَا حُجَّةَ فِي

الْمَرَاسِيلِ .
قُلْنَا : قَدْ رَوَاهُ مَالِكٌ وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، كَذَلِكَ ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي " سُنَنِهِمْ " مُتَّصِلًا ، فَلَا يَضُرُّ إرْسَالُ مَنْ أَرْسَلَهُ ، فَإِنَّ رَاوِيَ الْمُسْنَدِ مَعَهُ زِيَادَةٌ لَا يُعَارِضُهَا تَرْكُ مُرْسِلِ الْحَدِيثِ لَهَا ، وَعَلَى أَنَّ الْمُرْسَلَ حُجَّةٌ ، فَلَا يَضُرُّ إرْسَالُهُ .

( 3435 ) فَصْلٌ : الشَّرْطُ الرَّابِعُ ، أَنْ لَا يَكُونَ تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ الْغَيْرِ .
فَإِنْ رَهَنَهَا الْمُشْتَرِي ، ثُمَّ أَفْلَسَ أَوْ وَهَبَهَا ، لَمْ يَمْلِكْ الْبَائِعُ الرُّجُوعَ ، كَمَا لَوْ بَاعَهَا أَوْ أَعْتَقَهَا ، وَلِأَنَّ فِي الرُّجُوعِ إضْرَارًا بِالْمُرْتَهِنِ ، وَلَا يُزَالُ الضَّرَرُ بِالضَّرَرِ ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ وَجَدَ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ رَجُلٍ قَدْ أَفْلَسَ ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ } .
وَهَذَا لَمْ يَجِدْهُ عِنْدَ الْمُفْلِسِ .
وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا فَإِنْ كَانَ دَيْنُ الْمُرْتَهِنِ دُونَ قِيمَةِ الرَّهْنِ ، بِيعَ كُلُّهُ ، فَقُضِيَ مِنْهُ دَيْنُ الْمُرْتَهِنِ ، وَالْبَاقِي يُرَدُّ عَلَى سَائِرِ مَالِ الْمُفْلِسِ ، وَيَشْتَرِكُ الْغُرَمَاءُ فِيهِ ، وَإِنْ بِيعَ بَعْضُهُ ، فَبَاقِيه بَيْنَهُمْ يُبَاعُ لَهُمْ أَيْضًا ، وَلَا يَرْجِعُ بِهِ الْبَائِعُ .
قَالَ الْقَاضِي : لَهُ الرُّجُوعُ بِهِ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ مَالِهِ ، لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ غَيْرِهِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ لَمْ يَجِدْ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَخْذُهُ ، كَمَا لَوْ كَانَ الدَّيْنُ مُسْتَغْرِقًا لَهُ .
وَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي لَا يُخَرَّجُ عَلَى الْمَذْهَبِ ؛ لِأَنَّ تَلَفَ بَعْضِ الْمَبِيعِ يَمْنَعُ الرُّجُوعَ ، فَكَذَلِكَ ذَهَابُ بَعْضِهَا بِالْبَيْعِ وَلَوْ رَهَنَ بَعْضَ الْعَبْدِ لَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ الرُّجُوعُ فِي بَاقِيه ؛ لِمَا ذَكَرْنَا .
وَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ عَيْنَيْنِ ، فَرَهَنَ إحْدَاهُمَا ، فَهَلْ يَمْلِكُ الْبَائِعُ الرُّجُوعَ فِي الْأُخْرَى ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ، بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِيمَا إذَا تَلِفَتْ إحْدَى الْعَيْنَيْنِ .
وَإِنْ فَكَّ الرَّهْنَ قَبْلَ فَلَسِ الْمُشْتَرِي .
أَوْ أُبْرِئَ مِنْ دَيْنِهِ ، فَلِلْبَائِعِ الرُّجُوعُ ؛ أَنَّهُ أَدْرَكَ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي .
وَإِنْ أَفْلَسَ وَهُوَ رَهْنٌ ، فَأَبْرَأَ الْمُرْتَهِنُ الْمُشْتَرِي مِنْ دَيْنِهِ ، أَوْ قَضَى الدَّيْنَ مِنْ غَيْرِهِ ، فَلِلْبَائِعِ الرُّجُوعُ أَيْضًا كَذَلِكَ .

( 3436 ) فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ عَبْدًا ، فَأَفْلَسَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ تَعَلُّقِ أَرْشِ الْجِنَايَةِ بِرَقَبَتِهِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، لَيْسَ لِلْبَائِعِ الرُّجُوعُ ؛ لِأَنَّ تَعَلُّقَ الرَّهْنِ بِهِ يَمْنَعُ الرُّجُوعَ ، وَأَرْشُ الْجِنَايَةِ يُقَدَّمُ عَلَى حَقِّ الْمُرْتَهِنِ ، فَأَوْلَى أَنْ لَا يَرْجِعَ .
ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ .
وَالثَّانِي ، لَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لَا يَمْنَعُ تَصَرُّفَ الْمُشْتَرِي فِيهِ ، فَلَمْ يَمْنَعْ الرُّجُوعَ ، كَالدَّيْنِ فِي ذِمَّتِهِ .
وَفَارَقَ الرَّهْنَ ؛ فَإِنَّهُ يَمْنَعُ تَصَرُّفَ الْمُشْتَرِي فِيهِ .
فَإِنْ قُلْنَا : لَا يَرْجِعُ .
فَحُكْمُهُ حُكْمُ الرَّهْنِ .
وَإِنْ قُلْنَا : لَهُ الرُّجُوعُ .
فَهُوَ مُخَيَّرٌ ؛ إنْ شَاءَ رَجَعَ فِيهِ نَاقِصًا بِأَرْشِ الْجِنَايَةِ ، وَإِنْ شَاءَ ضَرَبَ بِثَمَنِهِ مَعَ الْغُرَمَاءِ وَإِنْ أَبْرَأَ الْغَرِيمَ مِنْ الْجِنَايَةِ ، فَلِلْبَائِعِ الرُّجُوعُ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ وَجَدَ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ خَالِيًا مِنْ تَعَلُّقِ حَقِّ غَيْرِهِ بِهِ .

( 3437 ) فَصْلٌ : وَإِنْ أَفْلَسَ بَعْدَ خُرُوجِ الْمَبِيعِ مِنْ مِلْكِهِ ؛ بِبَيْعٍ ، أَوْ هِبَةٍ ، أَوْ وَقْفٍ ، أَوْ عِتْقٍ ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ، لَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ الرُّجُوعُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ الْمُفْلِسِ ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُشْتَرِي يُمْكِنُهُ اسْتِرْجَاعُهُ بِخِيَارِ لَهُ ، أَوْ عَيْبٍ فِي ثَمَنِهِ ، أَوْ رُجُوعِهِ فِي هِبَةِ وَلَدِهِ ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا وَخُرُوجُ بَعْضِهِ كَخُرُوجِ جَمِيعِهِ ؛ لِمَا تَقَدَّمَ .
فَإِنْ أَفْلَسَ بَعْد رُجُوعِ ذَلِكَ إلَى مِلْكِهِ ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا ، لَهُ الرُّجُوعُ ؛ لِلْخَبَرِ ، وَلِأَنَّهُ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ خَالِيًا عَنْ حَقِّ غَيْرِهِ ، أَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَبِعْهُ .
وَالثَّانِي ، لَا يَرْجِعُ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْمِلْكَ لَمْ يَنْتَقِلْ إلَيْهِ مِنْهُ ، فَلَمْ يَمْلِكْ فَسْخَهُ .
ذَكَرَ أَصْحَابُنَا هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ .
وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مِثْلُ ذَلِكَ .
وَالثَّالِثُ ، أَنَّهُ إنْ عَادَ إلَيْهِ بِسَبَبٍ جَدِيدٍ ، كَبَيْعٍ ، أَوْ هِبَةٍ ، أَوْ إرْثٍ ، أَوْ وَصِيَّةٍ ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ .
لَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ الرُّجُوعُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ إلَيْهِ مِنْ جِهَتِهِ .
وَإِنْ عَادَ إلَيْهِ بِفَسْخٍ ، كَالْإِقَالَةِ ، وَالرَّدِّ بِعَيْبٍ أَوْ خِيَارٍ ، وَنَحْوُ ذَلِكَ ، فَلِلْبَائِعِ الرُّجُوعُ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْمِلْكَ اسْتَنَدَ إلَى السَّبَبِ الْأَوَّلِ ، فَإِنَّ فَسْخَ الْعَقْدِ الثَّانِي لَا يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْمِلْكِ ، وَإِنَّمَا أَزَالَ السَّبَبَ الْمُزِيلَ لِمُلْكِ الْبَائِعِ ، فَثَبَتَ الْمِلْكُ بِالسَّبَبِ الْأَوَّلِ ، فَمَلَكَ اسْتِرْجَاعَ مَا ثَبَتَ الْمِلْكُ فِيهِ بِبَيْعِهِ .

( 3438 ) فَصْلٌ وَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ شِقْصًا مَشْفُوعًا ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : الْبَائِعُ أَحَقُّ بِهِ .
هَذَا قَوْلُ ابْنِ حَامِدٍ ؛ لِلْخَبَرِ ، وَلِأَنَّهُ إذَا رَجَعَ فِيهِ عَادَ الشِّقْصُ إلَيْهِ ، فَزَالَ الضَّرَرُ عَنْ الشَّفِيعِ ، لِأَنَّهُ عَادَ كَمَا كَانَ قَبْلَ الْبَيْعِ ، وَلَمْ تَتَجَدَّدْ شَرِكَةُ غَيْرِهِ .
وَالثَّانِي ، أَنَّ الشَّفِيعَ أَحَقُّ .
ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ لِأَنَّ حَقَّهُ أَسْبَقُ فَكَانَ أَوْلَى ، بَيَانُهُ أَنَّ حَقَّ الْبَائِعِ ثَبَتَ بِالْحَجْرِ ، وَحَقَّ الشَّفِيعِ ثَبَتَ بِالْبَيْعِ ، وَلِأَنَّ حَقَّهُ آكَدُ ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ انْتِزَاعَ الشِّقْصِ مِنْ الْمُشْتَرِي ، وَمِمَّنْ نَقَلَهُ إلَيْهِ ، وَحَقُّ الْبَائِعِ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ ، مَا دَامَتْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي ، وَلَا يَزُولُ الضَّرَرُ عَنْهُ بِرَدِّهِ إلَى الْبَائِعِ ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي لِبَائِعِهِ ، أَوْ وَهَبَهُ إيَّاهُ ، أَوْ أَقَالَهُ ، لَمْ يَسْقُطْ حَقُّ الشَّفِيعِ ، وَلِأَنَّ الْبَائِعَ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ فِي عَيْنٍ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا حَقُّ الْغَيْرِ ، وَهَذِهِ قَدْ تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ الشَّفِيعِ الْوَجْهُ الثَّالِثُ ، أَنَّ الشَّفِيعَ إنْ كَانَ طَالَبَ بِالشُّفْعَةِ ، فَهُوَ أَحَقُّ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ تَأَكَّدَ هُنَا بِالْمُطَالَبَةِ ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُطَالِبْ بِهَا ، فَالْبَائِعُ أَوْلَى .
وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ ، كَالْأَوَّلَيْنِ ، وَلَهُمْ وَجْهٌ ثَالِثٌ ، أَنَّ الثَّمَنَ يُؤْخَذُ مِنْ الشَّفِيعِ ، فَيَخْتَصُّ بِهِ الْبَائِعُ ، جَمْعًا بَيْنَ الْحَقَّيْنِ ، فَإِنْ غَرَضَ الشَّفِيعِ فِي عَيْنِ الشِّقْصِ الْمَشْفُوعِ ، وَغَرَضَ الْبَائِعِ فِي ثَمَنِهِ ، فَيَحْصُلُ ذَلِكَ بِمَا ذَكَرْنَا .
وَلَيْسَ هَذَا جَيِّدًا ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْبَائِعِ إنَّمَا ثَبَتَ فِي الْعَيْنِ ، فَإِذَا صَارَ الْأَمْرُ إلَى وُجُوبِ الثَّمَنِ ، تَعَلَّقَ بِذِمَّتِهِ ، فَسَاوَى الْغُرَمَاءُ فِيهِ .

( 3439 ) فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ صَيْدًا ، فَأَفْلَسَ الْمُشْتَرِي وَالْبَائِعُ مُحْرِمٌ ، لَمْ يَرْجِعْ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ تَمَلَّكَ الصَّيْدَ ، فَلَمْ يَجُزْ مَعَ الْإِحْرَامِ ، كَشِرَاءِ الصَّيْدِ .
وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ حَلَالًا فِي الْحَرَمِ ، وَالصَّيْدُ فِي الْحِلِّ ، فَأَفْلَسَ الْمُشْتَرِي ، فَلِلْبَائِعِ الرُّجُوعُ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْحَرَمَ إنَّمَا يَحْرُمُ الصَّيْدُ الَّذِي فِيهِ ، وَهَذَا لَيْسَ مِنْ صَيْدِهِ ، فَلَا يَحْرُمُ ، وَلَوْ أَفْلَسَ الْمُحْرِمُ ، وَفِي مِلْكِهِ صَيْدٌ ، بَائِعُهُ حَلَالٌ ، فَلَهُ أَخْذُهُ ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي حَقِّهِ .

( 3440 ) فَصْلٌ : وَإِذَا أَفْلَسَ ، وَفِي يَدِهِ عَيْنُ مَال ، دَيْنُ بَائِعِهَا مُؤَجَّلٌ ، وَقُلْنَا : لَا يَحِلُّ الدَّيْنُ بِالْفَلَسِ .
فَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ بْنِ ثَوَابٍ : يَكُونُ مَالُهُ مَوْقُوفًا إلَى أَنْ يَحِلّ دَيْنُهُ ، فَيَخْتَارَ الْبَائِعُ الْفَسْخَ أَوْ التَّرْكَ .
وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ .
وَالْمَنْصُوصُ عَنْ الشَّافِعِيِّ ، أَنَّهُ يُبَاعُ فِي الدُّيُونِ الْحَالَّةِ .
وَيَتَخَرَّجُ لَنَا مِثْلُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهَا حُقُوقٌ حَالَّةٌ ، فَقُدِّمَتْ عَلَى الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ ، كَدَيْنِ مَنْ لَمْ يَجِدْ عَيْنَ مَالِهِ .
وَلِلْأَوَّلِ الْخَبَرُ ، وَلِأَنَّ حَقَّ هَذَا الْبَائِعِ تَعَلَّقَ بِالْعَيْنِ ، فَقُدِّمَ عَلَى غَيْرِهِ ، وَإِنْ كَانَ مُؤَجَّلًا .
كَالْمُرْتَهِنِ ، وَالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ .

( 3441 ) فَصْلٌ : قَالَ أَحْمَدُ ، فِي رَجُلٍ ابْتَاعَ طَعَامًا نَسِيئَةً ، وَنَظَرَ إلَيْهِ وَقَلَّبَهُ ، وَقَالَ : أَقْبِضُهُ غَدًا .
فَمَاتَ الْبَائِعُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ ، فَالطَّعَامُ لِلْمُشْتَرِي ، وَيَتْبَعُهُ الْغُرَمَاءُ فِي الثَّمَنِ ، وَإِنْ كَانَ رَخِيصًا .
وَكَذَلِكَ قَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، لِأَنَّ الْمِلْكَ ثَبَتَ لِلْمُشْتَرِي فِيهِ بِالشِّرَاءِ ، وَزَالَ مِلْكُ الْبَائِعِ عَنْهُ ، فَلَمْ يُشَارِكْهُ غُرَمَاءُ الْبَائِعِ فِيهِ ، كَمَا لَوْ قَبَضَهُ .
الشَّرْطُ الْخَامِسُ ، أَنْ يَكُونَ الْمُفْلِسُ حَيًّا .
وَيَأْتِي شَرْحُ ذَلِكَ فِي آخِرِ الْبَابِ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

( 3442 ) فَصْلٌ : وَرُجُوعُ الْبَائِعِ فِي الْمَبِيعِ فَسْخٌ لِلْبَيْعِ ، لَا يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ الْمَبِيعِ ، وَلَا الْقُدْرَةِ عَلَى تَسْلِيمِهِ ، وَلَا اشْتِبَاهِ الْمَبِيعِ بِغَيْرِهِ ، فَلَوْ رَجَعَ فِي الْمَبِيعِ الْغَائِبِ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةٍ يَتَغَيَّرُ فِيهَا ، ثُمَّ وَجَدَهُ عَلَى حَالِهِ لَمْ يَتْلَفْ شَيْءٌ مِنْهُ ، صَحَّ رُجُوعُهُ .
وَإِنْ رَجَعَ فِي الْعَبْدِ بَعْدَ إبَاقِهِ ، أَوْ الْجَمَلِ بَعْد شُرُودِهِ ، أَوْ الْفَرَسِ الْعَاثِرِ ، صَحَّ ، وَصَارَ ذَلِكَ لَهُ ، فَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ أَخَذَهُ ، وَإِنْ ذَهَبَ كَانَ مِنْ مَالِهِ وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ تَالِفًا حِينَ اسْتِرْجَاعِهِ ، لَمْ يَصِحَّ اسْتِرْجَاعُهُ ، وَكَانَ لَهُ أَنْ يَضْرِبَ مَعَ الْغُرَمَاءِ فِي الْمَوْجُودِ مِنْ مَالِهِ .
وَإِنْ رَجَعَ فِي الْمَبِيعِ ، وَاشْتَبَهَ بِغَيْرِهِ ، فَقَالَ الْبَائِعُ : هَذَا هُوَ الْمَبِيعُ .
وَقَالَ الْمُفْلِسُ : بَلْ هَذَا .
فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُفْلِسِ ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِاسْتِحْقَاقِ مَا ادَّعَاهُ الْبَائِعُ ، وَالْأَصْلُ مَعَهُ .

مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : وَمَنْ وَجَبَ لَهُ حَقٌّ بِشَاهِدٍ ، فَلَمْ يَحْلِفْ ، لَمْ يَكُنْ لِلْغُرَمَاءِ أَنْ يَحْلِفُوا مَعَهُ ، وَيَسْتَحِقُّوا .
وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُفْلِسَ فِي الدَّعْوَى كَغَيْرِهِ ، فَإِذَا ادَّعَى حَقًّا لَهُ بِهِ شَاهِدُ عَدْلٍ ، وَحَلَفَ مَعَ شَاهِدِهِ ، ثَبَتَ الْمَالُ ، وَتَعَلَّقَتْ بِهِ حُقُوقُ الْغُرَمَاءِ .
وَإِنْ امْتَنَعَ لَمْ يُجْبَرْ ؛ لِأَنَّنَا لَا نَعْلَمُ صِدْقَ الشَّاهِدِ ، وَلَوْ ثَبَتَ الْحَقُّ بِشَهَادَتِهِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى يَمِينٍ مَعَهُ ، فَلَا يُجْبَرُ عَلَى الْحَلِفِ عَلَى مَا لَا يَعْلَمُ صِدْقَهُ كَغَيْرِهِ .
فَإِنْ قَالَ الْغُرَمَاءُ : نَحْنُ نَحْلِفُ مَعَ الشَّاهِدِ .
لَمْ يَكُنْ لَهُمْ ذَلِكَ وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ ، وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ : يَحْلِفُونَ مَعَهُ ؛ لِأَنَّ حُقُوقَهُمْ تَعَلَّقَتْ بِالْمَالِ ، فَكَانَ لَهُمْ أَنْ يَحْلِفُوا ، كَالْوَرَثَةِ يَحْلِفُونَ عَلَى مَالِ مَوْرُوثِهِمْ .
وَلَنَا ، أَنَّهُمْ يُثْبِتُونَ مِلْكًا لِغَيْرِهِمْ ؛ لِتَعَلُّقِ حُقُوقِهِمْ بِهِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُمْ ذَلِكَ ، كَالْمَرْأَةِ تَحْلِفُ لِإِثْبَاتِ مِلْكٍ لِزَوْجِهَا ؛ لِتَعَلُّقِ نَفَقَتِهَا بِهِ ، وَكَالْوَرَثَةِ قَبْلَ مَوْتِ مَوْرُوثِهِمْ .
وَفَارَقَ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ ، فَإِنَّ الْمَالَ انْتَقَلَ إلَيْهِمْ ، وَهُمْ يُثْبِتُونَ بِأَيْمَانِهِمْ مِلْكًا لَأَنْفُسِهِمْ .

( 3444 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : وَإِذَا كَانَ عَلَى الْمُفْلِسِ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ ، لَمْ يَحِلَّ بِالتَّفْلِيسِ ، وَكَذَلِكَ فِي الدَّيْنِ الَّذِي عَلَى الْمَيِّتِ ، إذَا وَثَّقَ الْوَرَثَةُ وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الدَّيْنَ الْمُؤَجَّلَ يَحِلُّ بِفَلَسِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ ، رِوَايَةً وَاحِدَةً .
قَالَهُ الْقَاضِي .
وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ فِيهِ رِوَايَةً أُخْرَى ، أَنَّهُ يَحِلُّ .
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ .
وَعَنْ الشَّافِعِيِّ كَالْمَذْهَبَيْنِ .
وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الْإِفْلَاسَ يَتَعَلَّقُ بِهِ الدَّيْنُ بِالْمَالِ ، فَأَسْقَطَ الْأَجَلَ كَالْمَوْتِ .
وَلَنَا ، أَنَّ الْأَجَلَ حَقٌّ لِلْمُفْلِسِ ، فَلَا يَسْقُطُ بِفَلَسِهِ ، كَسَائِرِ حُقُوقِهِ ، وَلِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ حُلُولَ مَالِهِ ، فَلَا يُوجِبُ حُلُولَ مَا عَلَيْهِ ، كَالْجُنُونِ وَالْإِغْمَاءِ ، وَلِأَنَّهُ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ عَلَى حَيٍّ ، فَلَمْ يَحِلَّ قَبْلَ أَجَلِهِ ، كَغَيْرِ الْمُفْلِسِ ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الدَّيْنَ يَحِلُّ بِالْمَوْتِ ، فَهُوَ كَمَسْأَلَتِنَا ، وَإِنْ سَلَّمْنَا ، فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ ذِمَّتَهُ خَرِبَتْ وَبَطَلَتْ بِخِلَافِ الْمُفْلِسِ إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّهُ إذَا حُجِرَ عَلَى الْمُفْلِسِ ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا لَا يُشَارِكُ أَصْحَابُ الدُّيُونِ الْمُؤَجَّلَةِ غُرَمَاءَ الدُّيُونِ الْحَالَّةِ ، بَلْ يُقْسَمُ الْمَالُ الْمَوْجُودُ بَيْنَ أَصْحَابِ الدُّيُونِ الْحَالَّةِ ، وَيَبْقَى الْمُؤَجَّلُ فِي الذِّمَّةِ إلَى وَقْتِ حُلُولِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَقْتَسِمْ الْغُرَمَاءُ حَتَّى حَلَّ الدَّيْنُ ، شَارَكَ الْغُرَمَاءَ ، كَمَا لَوْ تَجَدَّدَ عَلَى الْمُفْلِسِ دَيْنٌ بِجِنَايَتِهِ ، وَإِنْ أَدْرَكَ بَعْضَ الْمَالِ قَبْلَ قَسَمَهُ ، شَارَكَهُمْ فِيهِ ، وَيَضْرِبُ فِيهِ بِجَمِيعِ دَيْنِهِ ، وَيَضْرِبُ سَائِرُ الْغُرَمَاءِ بِبَقِيَّةِ دُيُونِهِمْ .
وَإِنْ قُلْنَا : إنَّ الدَّيْنَ يَحِلُّ .
فَإِنَّهُ يَضْرِبُ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِدَيْنِهِ ، كَغَيْرِهِ مِنْ أَرْبَابِ الدُّيُونِ الْحَالَّةِ .
فَأَمَّا إنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دُيُونٌ مُؤَجَّلَةٌ ، فَهَلْ تَحِلُّ بِالْمَوْتِ ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ ؛ إحْدَاهُمَا ، لَا تَحِلُّ إذَا وَثَّقَ الْوَرَثَةُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ وَعَبْدِ

اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ ، وَإِسْحَاقَ ، وَأَبِي عُبَيْدٍ .
وَقَالَ طَاوُسٌ ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدٍ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَسَعْدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ : الدَّيْنُ إلَى أَجَلِهِ .
وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ .
وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى ، أَنَّهُ يَحِلُّ بِالْمَوْتِ .
وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَسَوَّارٌ ، وَمَالِكٌ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَبْقَى فِي ذِمَّةِ الْمَيِّتِ ، أَوْ الْوَرَثَةِ ، أَوْ يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ ، لَا يَجُوزُ بَقَاؤُهُ فِي ذِمَّةِ الْمَيِّتِ لِخَرَابِهَا ، وَتَعَذُّرِ مُطَالَبَتِهِ بِهَا ، وَلَا ذِمَّةِ الْوَرَثَةِ ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَلْتَزِمُوهَا ، وَلَا رَضِيَ صَاحِبُ الدَّيْنِ بِذِمَمِهِمْ ، وَهِيَ مُخْتَلِفَةٌ مُتَبَايِنَةٌ ، وَلَا يَجُوزُ تَعْلِيقُهُ عَلَى الْأَعْيَانِ وَتَأْجِيلُهُ ؛ لِأَنَّهُ ضَرَرٌ بِالْمَيِّتِ وَصَاحِبِ الدَّيْنِ ، وَلَا نَفْعَ لِلْوَرَثَةِ فِيهِ ؛ أَمَّا الْمَيِّتُ فَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الْمَيِّتُ مُرْتَهَنٌ بِدَيْنِهِ ، حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ } .
وَأَمَّا صَاحِبُهُ فَيَتَأَخَّرُ حَقُّهُ ، وَقَدْ تَتْلَفُ الْعَيْنُ فَيَسْقُطُ حَقُّهُ وَأَمَّا الْوَرَثَةُ ، فَإِنَّهُمْ لَا يَنْتَفِعُونَ بِالْأَعْيَانِ ، وَلَا يَتَصَرَّفُونَ فِيهَا ، وَإِنْ حَصَلَتْ لَهُمْ مَنْفَعَةٌ ، فَلَا يَسْقُطُ حَظُّ الْمَيِّتِ وَصَاحِبِ الدَّيْنِ لِمَنْفَعَةِ لَهُمْ .
وَلَنَا ، مَا ذَكَرْنَا فِي الْمُفْلِسِ ، وَلِأَنَّ الْمَوْتَ مَا جُعِلَ مُبْطِلًا لِلْحُقُوقِ ، وَإِنَّمَا هُوَ مِيقَاتٌ لِلْخِلَافَةِ ، وَعَلَامَةٌ عَلَى الْوِرَاثَةِ ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ تَرَكَ حَقًّا أَوْ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ } وَمَا ذَكَرُوهُ إثْبَاتُ حُكْمٍ بِالْمَصْلَحَةِ الْمُرْسَلَةِ ، وَلَا يَشْهَدُ لَهَا شَاهِدُ الشَّرْعِ بِاعْتِبَارِ ، وَلَا خِلَافَ فِي فَسَادِ هَذَا ، فَعَلَى هَذَا يَبْقَى الدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ الْمَيِّتِ كَمَا كَانَ ، وَيَتَعَلَّقُ بِعَيْنِ مَالِهِ كَتَعَلُّقِ حُقُوقِ الْغُرَمَاءِ بِمَالِ الْمُفْلِسِ عِنْدَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ .
فَإِنْ أَحَبَّ الْوَرَثَةُ أَدَاءَ

الدَّيْنِ ، وَالْتِزَامَهُ لِلْغَرِيمِ ، وَيَتَصَرَّفُونَ فِي الْمَالِ ، لَمْ يَكُنْ لَهُمْ ذَلِكَ ، إلَّا أَنْ يَرْضَى الْغَرِيمُ أَوْ يُوَثِّقُوا الْحَقَّ بِضَمِينٍ مَلِيءٍ ، أَوْ رَهْنٍ يَثِقُ بِهِ لِوَفَاءِ حَقِّهِ ، فَإِنَّهُمْ قَدْ لَا يَكُونُونَ أَمْلِيَاءً ، وَلَمْ يَرْضَ بِهِمْ الْغَرِيمُ ، فَيُؤَدِّي إلَى فَوَاتِ الْحَقِّ وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ الْحَقَّ يَنْتَقِلُ إلَى ذِمَمِ الْوَرَثَةِ بِمَوْتِ مُوَرِّثِهِمْ ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يُشْتَرَطَ الْتِزَامُهُمْ لَهُ .
وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَلْزَمَ الْإِنْسَانَ دَيْنٌ لَمْ يَلْتَزِمْهُ ، وَلَمْ يَتَعَاطَ سَبَبَهُ ، وَلَوْ لَزِمَهُمْ ذَلِكَ لِمَوْتِ مُوَرِّثِهِمْ لَلَزِمَهُمْ وَإِنْ لَمْ يُخْلِفْ وَفَاءً ، وَإِنْ قُلْنَا : إنَّ الدَّيْنَ يَحِلُّ بِالْمَوْتِ .
فَأَحَبَّ الْوَرَثَةُ الْقَضَاءَ مِنْ غَيْرِ التَّرِكَةِ ، وَاسْتِخْلَاصَ التَّرِكَةَ ، فَلَهُمْ ذَلِكَ ، وَإِنْ قَضَوْا مِنْهَا ، فَلَهُمْ ذَلِكَ ، وَإِنْ امْتَنَعُوا مِنْ الْقَضَاءِ ، بَاعَ الْحَاكِمُ مِنْ التَّرِكَةِ مَا يَقْضِي بِهِ الدَّيْنَ وَإِنْ مَاتَ مُفْلِسٌ وَلَهُ غُرَمَاءُ ، بَعْضُ دُيُونِهِمْ مُؤَجَّلٌ ، وَبَعْضُهَا حَالٌ ، وَقُلْنَا : الْمُؤَجَّلُ يَحِلُّ بِالْمَوْتِ .
تَسَاوَوْا فِي التَّرِكَةِ ، فَاقْتَسَمُوهَا عَلَى قَدْرِ دُيُونِهِمْ .
وَإِنْ قُلْنَا : لَا يَحِلُّ بِالْمَوْتِ .
نَظَرْنَا ؛ فَإِنْ وَثَقَ الْوَرَثَةُ لِصَاحِبِ الْمُؤَجَّلِ ، اخْتَصَّ أَصْحَابُ الْحَالِ بِالتَّرِكَةِ ، وَإِنْ امْتَنَعَ الْوَرَثَةُ مِنْ التَّوْثِيقِ ، حَلَّ دَيْنُهُ ، وَشَارَكَ أَصْحَابَ الْحَالِ ، لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى إسْقَاطِ دَيْنِهِ بِالْكُلِّيَّةِ .

( 3445 ) فَصْلٌ : حَكَى بَعْضُ أَصْحَابِنَا فِيمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ ، هَلْ يَمْنَعُ الدَّيْنُ نَقْلَ التَّرِكَةِ إلَى الْوَرَثَةِ ؟ رِوَايَتَيْنِ ؛ إحْدَاهُمَا ، لَا يَمْنَعُهُ ؛ لِلْخَبَرِ ، وَلِأَنَّ تَعَلُّقَ الدَّيْنِ بِالْمَالِ لَا يُزِيلُ الْمِلْكَ فِي حَقِّ الْجَانِي وَالرَّاهِنِ وَالْمُفْلِسِ ، فَلَمْ يَمْنَعْ نَقْلَهُ .
فَإِنْ تَصَرَّفَ الْوَرَثَةُ فِي التَّرِكَةِ بِبَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ ، صَحَّ تَصَرُّفُهُمْ ، وَلَزِمَهُمْ أَدَاءُ الدَّيْنِ ، فَإِنْ تَعَذَّرَ وَفَاؤُهُ ، فُسِخَ تَصَرُّفُهُمْ ، كَمَا لَوْ بَاعَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ الْجَانِي ، أَوْ النِّصَابَ الَّذِي وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ ، يَمْنَعُ نَقْلَ التَّرِكَةِ إلَيْهِمْ ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ } .
فَجَعَلَ التَّرِكَةَ لِلْوَارِثِ مِنْ بَعْدِ الدَّيْنِ وَالْوَصِيَّةِ ، فَلَا يَثْبُتُ لَهُمْ الْمِلْكُ قَبْلَهُمَا فَعَلَى هَذَا ، لَوْ تَصَرَّفَ الْوَرَثَةُ ، لَمْ يَصِحَّ تَصَرُّفُهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ تَصَرَّفُوا فِي غَيْرِ مِلْكِهِمْ ، إلَّا أَنْ يَأْذَنَ الْغُرَمَاءُ لَهُمْ ، وَإِنْ تَصَرَّفَ الْغُرَمَاءُ ، لَمْ يَصِحَّ إلَّا بِإِذْنِ الْوَرَثَةِ .

مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : وَكُلُّ مَا فَعَلَهُ الْمُفْلِسُ فِي مَالِهِ قَبْلَ أَنْ يَقِفَهُ الْحَاكِمُ ، فَجَائِزٌ يَعْنِي قَبْلَ أَنْ يَحْجُرَ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ .
فَنَبْدَأُ بِذِكْرِ سَبَبِ الْحَجْرِ ، فَنَقُولُ : إذَا رُفِعَ إلَى الْحَاكِمِ رَجُلٌ عَلَيْهِ دَيْنٌ ، فَسَأَلَ غُرَمَاؤُهُ الْحَاكِمَ الْحَجْرَ عَلَيْهِ ، لَمْ يُجِبْهُمْ حَتَّى تَثْبُتَ دُيُونُهُمْ بِاعْتِرَافِهِ أَوْ بِبَيِّنَةٍ ، فَإِذَا ثَبَتَتْ ، نَظَرَ فِي مَالِهِ ، فَإِنْ كَانَ وَافِيًا بِدَيْنِهِ ، لَمْ يَحْجُرْ عَلَيْهِ ، وَأَمَرَهُ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ ، فَإِنْ أَبَى حَبَسَهُ ، فَإِنْ لَمْ يَقْضِهِ ، وَصَبَرَ عَلَى الْحَبْسِ قَضَى الْحَاكِمُ دَيْنَهُ مِنْ مَالِهِ ، وَإِنْ احْتَاجَ إلَى بَيْعِ مَالِهِ فِي قَضَاءِ دَيْنِهِ بَاعَهُ ، وَإِنْ كَانَ مَالُهُ دُونَ دَيْنِهِ ، وَدُيُونُهُ مُؤَجَّلَةٌ ، لَمْ يَحْجُرْ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا تُسْتَحَقُّ مُطَالَبَتُهُ بِهَا ، فَلَا يَحْجُرُ عَلَيْهِ مِنْ أَجْلِهَا وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا مُؤَجَّلًا ، وَبَعْضُهَا حَالًّا ، وَمَالُهُ يَفِي بِالْحَالِّ ، لَمْ يَحْجُرْ عَلَيْهِ أَيْضًا كَذَلِكَ .
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ : إنْ ظَهَرَتْ أَمَارَاتُ الْفَلَسِ ، لِكَوْنِ مَالِهِ بِإِزَاءِ دَيْنِهِ ، وَلَا نَفَقَةَ لَهُ إلَّا مِنْ مَالِهِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، يَحْجُرُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مَالَهُ يَعْجِزُ عَنْ دُيُونِهِ ، فَهُوَ كَمَا لَوْ كَانَ مَالُهُ نَاقِصًا .
وَلَنَا : أَنَّ مَالَهُ وَافٍ بِمَا يَلْزَمُهُ أَدَاؤُهُ ، فَلَمْ يُحْجَرْ عَلَيْهِ ، كَمَا لَوْ لَمْ تَظْهَرْ أَمَارَاتُ الْفَلَسِ ، وَلِأَنَّ الْغُرَمَاءَ لَا يُمْكِنُهُمْ طَلَبُ حُقُوقِهِمْ فِي الْحَالِ ، فَلَا حَاجَةَ إلَى الْحَجْرِ .
وَأَمَّا إنْ كَانَتْ دُيُونُهُ حَالَّةً ، يَعْجِزُ مَالُهُ عَنْ أَدَائِهَا ، فَسَأَلَ غُرَمَاؤُهُ الْحَجْرَ عَلَيْهِ ، لَزِمَتْهُ إجَابَتُهُمْ وَلَا يَجُوزُ الْحَجْرُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ سُؤَالِ غُرَمَائِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ فِي ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُهُ لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ ، فَاعْتُبِرَ رِضَاهُمْ بِهِ .
وَإِنْ اخْتَلَفُوا ، فَطَلَبَ بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ ، أُجِيبَ مَنْ طَلَبَ ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهُ .
وَبِهَذَا

قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَيْسَ لِلْحَاكِمِ الْحَجْرُ عَلَيْهِ ، فَإِذَا أَدَّى اجْتِهَادُهُ إلَى الْحَجْرِ عَلَيْهِ ثَبَتَ ؛ لِأَنَّهُ فَصْلٌ مُجْتَهَدٌ فِيهِ ، وَلَيْسَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي مَالِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ عَلَيْهِ ، إلَّا أَنَّ الْحَاكِمَ يُجْبِرُهُ عَلَى الْبَيْعِ إذَا لَمْ يُمْكِنْ الْإِيفَاءُ بِدُونِهِ ، فَإِنْ امْتَنَعَ لَمْ يَبِعْهُ ، وَكَذَلِكَ إنْ امْتَنَعَ الْمُوسِرُ مِنْ وَفَاءِ الدَّيْنِ ، لَا يَبِيعُ مَالَهُ ، وَإِنَّمَا يَحْبِسُهُ لِيَبِيعَ بِنَفْسِهِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ أَحَدُ النَّقْدَيْنِ ، وَمَالُهُ مِنْ النَّقْدِ الْآخَرِ ، فَيَدْفَعُ الدَّرَاهِمَ عَنْ الدَّنَانِيرَ ، وَالدَّنَانِيرَ عَنْ الدَّرَاهِمِ ؛ لِأَنَّهُ رَشِيدٌ لَا وِلَايَةَ عَلَيْهِ ، فَلَمْ يَجُزْ لِلْحَاكِمِ بَيْعُ مَالِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، كَاَلَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ ، وَخَالَفَهُ صَاحِبَاهُ فِي ذَلِكَ وَلَنَا ، مَا رَوَى كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَرَ عَلَى مُعَاذٍ ، وَبَاعَ مَالَهُ فِي دَيْنِهِ .
رَوَاهُ الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْن الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ ، وَقَالَ : أَلَا إنَّ أُسَيْفِعَ جُهَيْنَةَ قَدْ رَضِيَ مِنْ دِينِهِ وَأَمَانَتِهِ بِأَنْ يُقَالَ : سَبَقَ الْحَاجَّ ، فَادَّانَ مُعَرِّضًا ، فَأَصْبَحَ وَقَدْ رِينَ بِهِ ، فَمَنْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ مَالٌ فَلْيَحْضُرْ غَدًا ، فَإِنَّا بَائِعُو مَالِهِ ، وَقَاسِمُوهُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ وَلِأَنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ ، مُحْتَاجٌ إلَى قَضَاءِ دَيْنِهِ ، فَجَازَ بَيْعُ مَالِهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ ، كَالصَّغِيرِ وَالسَّفِيهِ ، وَلِأَنَّهُ نَوْعُ مَالٍ ، فَجَازَ بَيْعُهُ فِي قَضَاءِ دَيْنِهِ ، كَالْأَثْمَانِ .
وَقِيَاسُهُمْ يَبْطُلُ بِبَيْعِ الدَّرَاهِمِ بِالدَّنَانِيرِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا عُدْنَا إلَى مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ ، فَنَقُولُ : مَا فَعَلَهُ الْمُفْلِسُ قَبْلَ حَجْرِ الْحَاكِمِ عَلَيْهِ ، مِنْ بَيْعٍ ، أَوْ هِبَةٍ ، أَوْ إقْرَارٍ ، أَوْ قَضَاءِ بَعْضِ الْغُرَمَاءِ ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ، فَهُوَ جَائِزٌ نَافِذٌ وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٌ ،

وَالشَّافِعِيُّ .
وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَهُمْ .
وَلِأَنَّهُ رَشِيدٌ غَيْرُ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ ، فَنَفَذَ تَصَرُّفُهُ كَغَيْرِهِ ، وَلِأَنَّ سَبَبَ الْمَنْعِ الْحَجْرُ ، فَلَا يَتَقَدَّمُ سَبَبَهُ ، وَلِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ التَّصَرُّفِ ، وَلَمْ يُحْجَرْ عَلَيْهِ ، فَأَشْبَهَ الْمَلِيءَ ، وَإِنْ أَكْرَى جَمَلًا بِعَيْنِهِ ، أَوْ دَارًا ، لَمْ تَنْفَسِخْ إجَارَتُهُ بِالْفَلَسِ ، وَكَانَ الْمُكْتَرِي أَحَقَّ بِهِ ، حَتَّى تَنْقَضِيَ مُدَّتُهُ .

( 3447 ) فَصْلٌ : وَمَتَى حُجِرَ عَلَيْهِ ، لَمْ يَنْفُذْ تَصَرُّفُهُ فِي شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ ، فَإِنْ تَصَرَّفَ بِبَيْعِ ، أَوْ هِبَةٍ ، أَوْ وَقْفٍ ، أَوْ أَصْدَقَ امْرَأَةً مَالًا لَهُ ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ ، لَمْ يَصِحَّ .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ ، وَقَالَ فِي آخَرَ : يَقِفُ تَصَرُّفُهُ ، فَإِنْ كَانَ فِيمَا بَقِيَ مِنْ مَالِهِ وَفَاءُ الْغُرَمَاء نَفَذَ ، وَإِلَّا بَطَلَ وَلَنَا ، أَنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ بِحُكْمِ حَاكِمٍ ، فَلَمْ يَصِحَّ تَصَرُّفُهُ ، كَالسَّفِيهِ ، وَلِأَنَّ حُقُوقَ الْغُرَمَاءِ تَعَلَّقَتْ بِأَعْيَانِ مَالِهِ ، فَلَمْ يَصِحَّ تَصَرُّفُهُ فِيهَا ، كَالْمَرْهُونَةِ .
فَأَمَّا إنْ تَصَرَّفَ فِي ذِمَّتِهِ ، فَاشْتَرَى ، أَوْ اقْتَرَضَ ، أَوْ تَكَفَّلَ ، صَحَّ تَصَرُّفُهُ ؛ لِأَنَّهُ أَهْلٌ لِلتَّصَرُّفِ ، وَإِنَّمَا وُجِدَ فِي حَقِّهِ الْحَجْرُ ، وَالْحَجْرُ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِمَالِهِ لَا بِذِمَّتِهِ ، وَلَكِنْ لَا يُشَارِكُ أَصْحَابُ هَذِهِ الدُّيُونِ الْغُرَمَاءَ ؛ لِأَنَّهُمْ رَضُوا بِذَلِكَ ، إذَا عَلِمُوا أَنَّهُ مُفْلِسٌ وَعَامَلُوهُ ، وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ فَقَدْ فَرَّطَ فِي ذَلِكَ ، فَإِنَّ هَذَا فِي مَظِنَّةِ الشُّهْرَةِ ، وَيُتْبَعُ بِهَا بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ وَإِنْ أَقَرَّ بِدِينٍ ، لَزِمَهُ بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، وَمُحَمَّدِ بْن الْحَسَنِ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَالشَّافِعِيِّ فِي قَوْلٍ ، وَقَالَ فِي الْآخَرِ : يُشَارِكُهُمْ ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ ثَابِتٌ مُضَافٌ إلَى مَا قَبْلَ الْحَجْرِ ، فَيُشَارِكُ صَاحِبُهُ الْغُرَمَاءَ ، كَمَا لَوْ ثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ ، فَلَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ فِيمَا حُجِرَ عَلَيْهِ فِيهِ ، كَالسَّفِيهِ ، أَوْ كَالرَّاهِنِ يُقِرُّ عَلَى الرَّهْنِ ، وَلِأَنَّهُ إقْرَارٌ يُبْطِلُ ثُبُوتُهُ حَقَّ غَيْرِ الْمُقِرِّ ، فَلَمْ يُقْبَلْ ، أَوْ إقْرَارٌ عَلَى الْغُرَمَاءِ ، فَلَمْ يُقْبَلْ ، كَإِقْرَارِ الرَّاهِنِ ، وَلِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي إقْرَارِهِ ، فَهُوَ كَالْإِقْرَارِ عَلَى غَيْرِهِ ، وَفَارَقَ الْبَيِّنَةَ ، فَإِنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِي حَقِّهَا

وَلَوْ كَانَ الْمُفْلِسُ صَانِعًا ، كَالْقِصَارِ ، وَالْحَائِكِ ، فِي يَدَيْهِ مَتَاعٌ ، فَأَقَرَّ بِهِ لِأَرْبَابِهِ ، لَمْ يُقْبَلْ إقْرَارُهُ ، وَالْقَوْلُ فِيهَا كَاَلَّتِي قَبْلَهَا ، وَتُبَاعُ الْعَيْنُ الَّتِي فِي يَدَيْهِ ، وَتُقْسَمُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ ، وَتَكُونُ قِيمَتُهَا وَاجِبَةً عَلَى الْمُفْلِسِ إذَا قَدَرَ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّهَا صُرِفَتْ فِي دَيْنِهِ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ ، فَكَانَتْ قِيمَتُهَا عَلَيْهِ ، كَمَا لَوْ أَذِنَ فِي ذَلِكَ .
وَإِنْ تَوَجَّهَتْ عَلَى الْمُفْلِسِ يَمِينٌ ، فَنَكِلَ عَنْهَا ، فَقُضِيَ عَلَيْهِ ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ إقْرَارِهِ ، يَلْزَمُ فِي حَقِّهِ ، وَلَا يُحَاصُّ الْغُرَمَاءَ .

( 3448 ) فَصْلٌ : وَإِنْ أَعْتَقَ الْمُفْلِسُ بَعْضَ رَقِيقِهِ ، فَهَلْ يَصِحُّ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ ؛ إحْدَاهُمَا ، يَصِحُّ وَيَنْفُذُ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ ، وَإِسْحَاقَ ؛ لِأَنَّهُ عِتْقٌ مِنْ مَالِكٍ رَشِيدٍ ، فَنَفَذَ ، كَمَا قَبْلَ الْحَجْرِ ، وَيُفَارِقُ سَائِرَ التَّصَرُّفَاتِ ؛ لِأَنَّ لِلْعِتْقِ تَغْلِيبًا وَسِرَايَةً ، وَلِهَذَا يَسْرِي إلَى مِلْكِ الْغَيْرِ ، وَيَسْرِي وَاقِفِهِ ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ .
وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى ، لَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَاخْتَارَهُ أَبُو الْخَطَّابِ ، فِي " رُءُوسِ الْمَسَائِلِ " ؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ التَّبَرُّعِ لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ ، فَلَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُ كَالْمَرِيضِ الَّذِي يَسْتَغْرِقُ دَيْنُهُ مَالَهُ ، وَلِأَنَّ الْمُفْلِسَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ ، فَلَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُ كَالسَّفِيهِ ، وَفَارَقَ الْمُطْلَقَ وَأَمَّا سِرَايَتُهُ إلَى مِلْكِ الْغَيْرِ ، فَمِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ مُوسِرًا ، يُؤْخَذُ مِنْهُ قِيمَةُ نَصِيبِ شَرِيكِهِ ، فَلَا يَتَضَرَّرُ ، وَلَوْ كَانَ مُعْسِرًا ، لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُ إلَّا فِيمَا يَمْلِكُ ، صِيَانَةً لِحَقِّ الْغَيْرِ ، وَحِفْظًا لَهُ عَنْ الضَّيَاعِ ، كَذَا هَاهُنَا .
وَهَذَا أَصَحُّ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

( 3449 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ إظْهَارُ الْحَجْرِ عَلَيْهِ ، لِتُجْتَنَبَ مُعَامَلَتُهُ ، كَيْ لَا يَسْتَضِرَّ النَّاسُ بِضَيَاعِ أَمْوَالِهِمْ عَلَيْهِ ، وَالْإِشْهَادُ عَلَيْهِ ، لِيَنْتَشِرَ ذَلِكَ عَنْهُ ، وَرُبَّمَا عُزِلَ الْحَاكِمُ أَوْ مَاتَ ، فَيَثْبُتُ الْحَجْرُ عِنْدَ الْآخَرِ ، فَيُمْضِيه ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى ابْتِدَاءِ حَجْرٍ ثَانٍ .

( 3450 ) فَصْلٌ : وَإِنْ ثَبَتَ عَلَيْهِ حَقٌّ بِبَيِّنَةٍ شَارَكَ صَاحِبُهُ الْغُرَمَاءَ ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ ثَابِتٌ قَبْلَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ بِهِ قَبْلَ الْحَجْرِ .
وَلَوْ جَنَى الْمُفْلِسُ بَعْدَ الْحَجْرِ جِنَايَةً أَوْجَبَتْ مَالًا ، شَارَكَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ الْغُرَمَاءَ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ ثَبَتَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَلَوْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ مُوجِبَةً لِلْقِصَاصِ ، فَعَفَا صَاحِبُهَا عَنْهَا إلَى مَالٍ ، أَوْ صَالَحَهُ الْمُفْلِسُ عَلَى مَالٍ ، شَارَكَ الْغُرَمَاءَ ؛ لِأَنَّ سَبَبَهُ ثَبَتَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِ صَاحِبِهِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَوْجَبَتْ الْمَالَ .
فَإِنْ قِيلَ : أَلَا قَدَّمْتُمْ حَقَّهُ عَلَى الْغُرَمَاءِ ، كَمَا قَدَّمْتُمْ حَقَّ مِنْ جَنَى عَلَيْهِ بَعْضُ عَبِيدِ الْمُفْلِسِ ؟ قُلْنَا : لِأَنَّ الْحَقَّ فِي الْعَبْدِ الْجَانِي تَعَلَّقَ بِعَيْنِهِ ، فَقُدِّمَ لِذَلِكَ ، وَحَقُّ هَذَا تَعَلَّقَ بِالذِّمَّةِ ، كَغَيْرِهِ مِنْ الدُّيُونِ ، فَاسْتَوَيَا .

( 3451 ) فَصْلٌ : وَلَوْ قَسَمَ الْحَاكِمُ مَالَهُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ ، ثُمَّ ظَهَرَ غَرِيمٌ آخَرُ ، رَجَعَ عَلَى الْغُرَمَاءِ بِقِسْطِهِ ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ ، وَحُكِيَ عَنْهُ : لَا يَحَاصُّهُمْ ؛ لِأَنَّهُ نَقْضٌ لِحُكْمِ الْحَاكِمِ وَلَنَا ، أَنَّهُ غَرِيمٌ لَوْ كَانَ حَاضِرًا قَاسَمَهُمْ ، فَإِذَا ظَهَرَ بَعْدَ ذَلِكَ ، قَاسَمَهُمْ ، كَغَرِيمِ الْمَيِّتِ يَظْهَرُ بَعْدَ قَسَمَ مَالِهِ ، وَلَيْسَ قَسْمُ الْحَاكِمِ مَالَهُ حُكْمًا ، إنَّمَا هُوَ قِسْمَةٌ بَانَ الْخَطَأُ فِيهَا ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَسَّمَ مَالَ الْمَيِّتِ بَيْنَ غُرَمَائِهِ ثُمَّ ظَهَرَ غَرِيمٌ آخَرُ .
أَوْ قَسَمَ أَرْضًا بَيْنَ شُرَكَاءَ ، ثُمَّ ظَهَرَ شَرِيكٌ آخَرُ .
أَوْ قَسَمَ الْمِيرَاثَ بَيْنَ وَرَثَةٍ ، ثُمَّ ظَهَرَ وَارِثٌ سِوَاهُ ، أَوْ وَصِيَّةٌ ، ثُمَّ ظَهَرَ مُوصَى لَهُ آخَرُ .

( 3452 ) فَصْلٌ : وَلَوْ أَفْلَسَ وَلَهُ دَارٌ مُسْتَأْجَرَةٌ ، فَانْهَدَمَتْ بَعْدَ قَبْضِ الْمُفْلِسِ الْأُجْرَةَ ، انْفَسَخَتْ الْإِجَارَةُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ الْمُدَّةِ ، وَسَقَطَ مِنْ الْأُجْرَةِ بِقَدْرِ ذَلِكَ ، ثُمَّ إنْ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ ، أَخَذَ بِقَدْرِ ذَلِكَ ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ ، ضَرَبَ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِقَدْرِهِ .
وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ قَسْمِ مَالِهِ ، رَجَعَ عَلَى الْغُرَمَاءِ بِحِصَّتِهِ ؛ لِأَنَّهُ سَبَبُ وُجُوبِهِ قَبْلَ الْحَجْرِ ، وَلِذَلِكَ يُشَارِكُهُمْ إذَا وَجَبَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَلَوْ بَاعَ سِلْعَةً ، وَقَبَضَ ثَمَنَهَا ، ثُمَّ أَفْلَسَ فَوَجَدَ بِهَا الْمُشْتَرِي عَيْبًا ، فَرَدَّهَا بِهِ ، أَوْ رَدَّهَا بِخِيَارٍ ، أَوْ اخْتِلَافٍ فِي الثَّمَنِ ، وَنَحْوِهِ ، وَوَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ ، أَخَذَهَا ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَمَّا انْفَسَخَ ، زَالَ مِلْكُ الْمُفْلِسِ عَنْ الثَّمَنِ ، كَزَوَالِ مِلْكِ الْمُشْتَرِي عَنْ الْمَبِيعِ ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ تَصَرُّفِهِ فِيهِ ، شَارَكَ الْمُشْتَرِي الْغُرَمَاءَ .

( 3453 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : وَيُنْفَقُ عَلَى الْمُفْلِسِ ، وَعَلَى مَنْ تَلْزَمُهُ مُؤْنَتُهُ بِالْمَعْرُوفِ مِنْ مَالِهِ ، إلَى أَنْ يُفْرَغَ مِنْ قِسْمَتِهِ بَيْنَ غُرَمَائِهِ وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا حُجِرَ عَلَى الْمُفْلِسِ ، وَكَانَ ذَا كَسْبٍ يَفِي بِنَفَقَتِهِ ، وَنَفَقَةِ مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ ، فَنَفَقَتُهُ فِي كَسْبِهِ ، فَإِنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى إخْرَاجِ مَالِهِ مَعَ غِنَاهُ بِكَسْبِهِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَخْذُ مَالِهِ ، كَالزِّيَادَةِ عَلَى النَّفَقَةِ ، وَإِنْ كَانَ كَسْبُهُ دُونَ نَفَقَتِهِ ، كَمَّلْنَاهَا مِنْ مَالِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَا كَسْبٍ ، أُنْفِقَ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ مُدَّةَ الْحَجْرِ ، وَإِنْ طَالَتْ ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ بَاقٍ ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { ابْدَأْ بِنَفْسِك ، ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ } .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ فِيمَنْ يَعُولُهُ مَنْ تَجِبُ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ ، وَيَكُونُ دَيْنًا عَلَيْهِ ، وَهِيَ الزَّوْجَةُ ، فَإِذَا قَدَّمَ نَفَقَةَ نَفْسِهِ عَلَى نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ ، فَكَذَلِكَ عَلَى حَقِّ الْغُرَمَاءِ ، وَلِأَنَّ الْحَيَّ آكَدُ حُرْمَةً مِنْ الْمَيِّتِ ، لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ بِالْإِتْلَافِ ، وَتَقْدِيمُ تَجْهِيزِ الْمَيِّتِ ، وَمُؤْنَةِ دَفْنِهِ عَلَى دَيْنِهِ ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
فَنَفَقَتُهُ أَوْلَى وَتُقَدَّمُ أَيْضًا نَفَقَةُ مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ مِنْ أَقَارِبِهِ ، مِثْلِ الْوَالِدَيْنِ ، وَالْمَوْلُودِينَ ، وَغَيْرِهِمْ ، مِمَّنْ تُحَبُّ نَفَقَتُهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ يَجْرُونَ مَجْرَى نَفْسِهِ ، لِأَنَّ ذَوِي رَحِمِهِ مِنْهُمْ يَعْتِقُونَ إذَا مَلَكَهُمْ ، كَمَا يَعْتِقُ إذَا مَلَكَ نَفْسَهُ ، فَكَانَتْ نَفَقَتُهُمْ كَنَفَقَتِهِ ، وَكَذَلِكَ زَوْجَتُهُ تُقَدَّمُ نَفَقَتُهَا لِأَنَّ نَفَقَتَهَا آكَدُ مِنْ نَفَقَةِ الْأَقَارِبِ ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ مِنْ طَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ ، وَفِيهَا مَعْنَى الْإِحْيَاءِ ، كَمَا فِي الْأَقَارِبِ ، وَمِمَّنْ أَوْجَبَ الْإِنْفَاقَ عَلَى الْمُفْلِسِ وَزَوْجَتِهِ وَأَوْلَادِهِ الصِّغَارِ مِنْ مَالِهِ ، أَبُو حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَهُمْ .
وَتَجِبُ كُسْوَتُهُمْ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا

بُدَّ مِنْهُ ، وَلَا تَقُومُ النَّفْسُ بِدُونِهِ ، وَالْوَاجِبُ مِنْ النَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ أَدْنَى مَا يُنْفَقُ عَلَى مِثْلِهِ بِالْمَعْرُوفِ ، وَأَدْنَى مَا يَكْتَسِي مِثْلُهُ ، إنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الطَّعَامِ أَوْ مُتَوَسِّطِهِ ، وَكَذَلِكَ كُسْوَتُهُ مِنْ جِنْسِ مَا يَكْتَسِبهُ مِثْلُهُ ، وَكُسْوَةُ امْرَأَتِهِ وَنَفَقَتُهَا مِثْلُ مَا يُفْتَرَضُ عَلَى مِثْلِهِ وَأَقَلُّ مَا يَكْفِيه مِنْ اللِّبَاسِ قَمِيصٌ ، وَسَرَاوِيلُ ، وَشَيْءٌ يَلْبَسُهُ عَلَى رَأْسِهِ ، إمَّا عِمَامَةٌ وَإِمَّا قَلَنْسُوَةٌ أَوْ غَيْرُهُمَا ، مِمَّا جَرَتْ بِهِ عَادَتُهُ ، وَلِرِجْلِهِ حِذَاءٌ ، إنْ كَانَ يَعْتَادُهُ .
وَإِنْ احْتَاجَ إلَى جُبَّةٍ ، أَوْ فَرْوَةٍ لِدَفْعِ الْبَرْدِ ، دُفِعَ إلَيْهِ ذَلِكَ .
وَإِنْ كَانَتْ لَهُ ثِيَابٌ لَا يَلْبَسُ مِثْله مِثْلَهَا ، بِيعَتْ ، وَاشْتُرِيَ لَهُ كُسْوَةٌ مِثْلُهَا ، وَرُدَّ الْفَضْلُ عَلَى الْغُرَمَاءِ ، فَإِنْ كَانَتْ إذَا بِيعَتْ ، وَاشْتُرِيَ لَهُ كُسْوَةٌ ، لَا يَفْضُلُ مِنْهَا شَيْءٌ تُرِكَتْ ؛ فَإِنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي بَيْعِهَا .

( 3454 ) فَصْلٌ : وَإِنْ مَاتَ الْمُفْلِسُ ، كُفِّنَ مِنْ مَالِهِ ؛ لِأَنَّ نَفَقَتَهُ كَانَتْ وَاجِبَةً مِنْ مَالِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ ، فَوَجَبَ تَجْهِيزُهُ مِنْهُ بَعْدَ الْمَوْتِ ، كَغَيْرِهِ .
وَكَذَلِكَ يَجِبُ كَفَنُ مَنْ يُمَوِّنُهُ ؛ لِأَنَّهُمْ بِمَنْزِلَتِهِ ، وَلَا يَلْزَمُ تَكْفِينُ الزَّوْجَةِ ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ فِي مُقَابَلَةِ الِاسْتِمْتَاعِ ، وَقَدْ فَاتَ بِالْمَوْتِ ، فَسَقَطَتْ النَّفَقَةُ .
وَيُفَارِقُ الْأَقَارِبَ ؛ لِأَنَّ قَرَابَتَهُمْ بَاقِيَةٌ .
وَإِنْ مَاتَ مِنْ عَبِيدِهِ وَاحِدٌ ، وَجَبَ تَكْفِينُهُ وَتَجْهِيزُهُ ؛ لِأَنَّ نَفَقَتَهُ لَيْسَتْ فِي مُقَابَلَةِ الِانْتِفَاعِ بِهِ ، وَلِذَلِكَ تَجِبُ نَفَقَةُ الصَّغِيرِ وَالْمَبِيعِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ ، وَيُكَفَّنُ فِي ثَلَاثَةٍ أَثْوَابٍ ، كَمَا كَانَ يَلْبَسُ فِي حَيَاتِهِ ثَلَاثَةً ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُكَفَّنَ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ يَسْتُرُهُ ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَكْفِيه ، فَلَا حَاجَةَ إلَى الزِّيَادَةِ ، وَفَارَقَ حَالَةَ الْحَيَاةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ تَغْطِيَةِ رَأْسِهِ ، وَكَشْفُ ذَلِكَ يُؤْذِيه ، بِخِلَافِ الْمَيِّتِ وَيَمْتَدُّ الْإِنْفَاقُ عَلَى الْمُفْلِسِ إلَى حِينِ فَرَاغِهِ مِنْ الْقِسْمَةِ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَزُولُ مِلْكُهُ إلَّا بِذَلِكَ .
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْفَصْلِ قَرِيبٌ مِمَّا ذَكَرْنَا .

( 3455 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : وَلَا تُبَاعُ دَارُهُ الَّتِي لَا غِنَى لَهُ عَنْ سُكْنَاهَا .
وَجُمْلَته أَنَّ الْمُفْلِسَ إذَا حُجِرَ عَلَيْهِ ، بَاعَ الْحَاكِمُ مَالَهُ ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَحْضُرَ الْمُفْلِسُ الْبَيْعَ ، لَمَعَانٍ أَرْبَعَةٍ ؛ أَحَدُهَا ، لِيُحْصِيَ ثَمَنَهُ ، وَيَضْبِطَهُ .
الثَّانِي ، أَنَّهُ أَعْرَفُ بِثَمَنِ مَتَاعِهِ ، وَجَيِّدِهِ وَرَدِيئِهِ ، فَإِذَا حَضَرَ تَكَلَّمَ عَلَيْهِ ، وَعَرَفَ الْغَبْنَ مِنْ غَيْرِهِ .
الثَّالِثُ ، أَنْ تَكْثُرَ الرَّغْبَةُ فِيهِ ، فَإِنَّ شِرَاءَهُ مِنْ صَاحِبِهِ أَحَبُّ إلَى الْمُشْتَرِي الرَّابِعُ ، أَنَّ ذَلِكَ أَطْيَبُ لِنَفْسِهِ ، وَأَسْكَنُ لِقَلْبِهِ .
وَيُسْتَحَبُّ إحْضَارُ الْغُرَمَاءِ أَيْضًا ، لَأُمُورٍ أَرْبَعَةٍ ؛ أَحَدُهَا ، أَنَّهُ يُبَاعُ لَهُمْ .
الثَّانِي ، أَنَّهُمْ رُبَّمَا رَغِبُوا فِي شِرَاءِ شَيْءٍ مِنْهُ ، فَزَادُوا فِي ثَمَنِهِ ، فَيَكُونُ أَصْلَحَ لَهُمْ وَلِلْمُفْلِسِ .
الثَّالِثُ ، أَنَّهُ أَطْيَبُ لِقُلُوبِهِمْ ، وَأَبْعَدُ مِنْ التُّهْمَةِ .
الرَّابِعُ ، أَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ فِيهِمْ مَنْ يَجِدُ عَيْنَ مَالِهِ ، فَيَأْخُذُهَا فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ، وَبَاعَهُ مِنْ غَيْرِ حُضُورِهِمْ كُلِّهِمْ ، جَازَ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَوْكُولٌ إلَيْهِ ، وَمُفَوَّضٌ إلَى اجْتِهَادِهِ ، وَرُبَّمَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى خِلَافِ ذَلِكَ ، وَبَانَتْ لَهُ الْمَصْلَحَةُ فِي الْمُبَادَرَةِ إلَى الْبَيْعِ قَبْلَ إحْضَارِهِمْ .
وَيَأْمُرُهُمْ الْحَاكِمُ أَنْ يُقِيمُوا مُنَادِيًا يُنَادِي لَهُمْ عَلَى الْمَتَاعِ ، فَإِنْ تَرَاضَوْا بِرَجُلٍ ثِقَةٍ ، أَمْضَاهُ الْحَاكِمُ ، وَإِنْ اتَّفَقُوا عَلَى غَيْرِ ثِقَةٍ رَدَّهُ .
فَإِنْ قِيلَ : فَلِمَ يَرُدُّهُ وَأَصْحَابُ الْحَقِّ قَدْ اتَّفَقُوا عَلَيْهِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اتَّفَقَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ عَلَى أَنْ يَبِيعَ الرَّهْنَ غَيْرُ ثِقَةٍ لَمْ يَكُنْ لِلْحَاكِمِ الِاعْتِرَاضُ ؟ قُلْنَا : لِأَنَّ لِلْحَاكِمِ هَاهُنَا نَظَرًا وَاجْتِهَادًا ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يَظْهَرُ غَرِيمٌ آخَرُ ، فَيَتَعَلَّقُ حَقُّهُ بِهِ ، فَلِهَذَا نَظَرَ فِيهِ ، بِخِلَافِ الرَّهْنِ ، فَإِنَّهُ لَا نَظَرَ لِلْحَاكِمِ فِيهِ فَإِنْ اخْتَارَ الْمُفْلِسُ رَجُلًا ، وَاخْتَارَ

الْغُرَمَاءُ آخَرُ ، أَقَرَّ الْحَاكِمُ الثِّقَةَ مِنْهُمَا ، فَإِنْ كَانَا ثِقَتَيْنِ ، قَدَّمَ الْمُتَطَوِّعَ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّهُ أَوْفَرُ ، فَإِنْ كَانَا مُتَطَوِّعَيْنِ ، ضَمَّ أَحَدَهُمَا إلَى الْآخَرِ ، وَإِنْ كَانَا بِجَعْلٍ ، قَدَّمَ أَعْرَفَهُمَا وَأَوْثَقَهُمَا ، فَإِنْ تَسَاوَيَا قَدَّمَ مَنْ يَرَى مِنْهُمَا .
فَإِنْ وَجَدَ مُتَطَوِّعًا بِالنِّدَاءِ ، وَإِلَّا دُفِعَتْ الْأُجْرَةُ مِنْ مَالِ الْمُفْلِسِ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ حَقٌّ عَلَيْهِ ، لِكَوْنِهِ طَرِيقَ وَفَاءِ دَيْنِهِ وَقِيلَ يَدْفَعُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْمَصَالِحِ ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي أَجْرِ مَنْ يَحْفَظُ الْمَتَاعَ وَالثَّمَنَ ، وَأَجْرِ الْحَمَّالِينَ ، وَنَحْوِهِمْ .
وَيُسْتَحَبُّ بَيْعُ كُلِّ شَيْءٍ فِي سُوقِهِ ؛ الْبَزُّ فِي الْبَزَّازِينَ ، وَالْكُتُبُ فِي سُوقِهَا ، وَنَحْوُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ أَحْوَطُ وَأَكْثَرُ لِطُلَّابِهِ ، وَمَعْرِفَةُ قِيمَتِهِ .
فَإِنْ بَاعَ فِي غَيْرِ سُوقِهِ بِثَمَنِ مِثْلِهِ ، جَازَ ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ تَحْصِيلُ الثَّمَنِ ، وَرُبَّمَا أَدَّى الِاجْتِهَادُ إلَى أَنَّ ذَلِكَ أَصْلَحُ ، وَلِذَلِكَ لَوْ قَالَ : بِعْ ثَوْبِي فِي سُوقِ كَذَا بِكَذَا .
فَبَاعَهُ بِذَلِكَ فِي سُوقٍ آخَرَ ، جَازَ وَيَبِيعُ بِنَقْدِ الْبَلَدِ ؛ لِأَنَّهُ أَوْفَرُ .
فَإِنْ كَانَ فِي الْبَلَدِ نُقُودٌ بَاعَ بِغَالِبِهَا ، فَإِنْ تَسَاوَتْ بَاعَ بِجِنْسِ الدَّيْنِ ، وَإِنْ زَادَ فِي السِّلْعَةِ زَائِدٌ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ ، أَلْزَمَ الْأَمِين الْفَسْخَ ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَهُ بَيْعُهُ بِثَمَنِ ، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ بِدُونِهِ ، كَمَا لَوْ زِيدَ فِيهِ قَبْلَ الْعَقْدِ وَإِنْ زَادَ بَعْدَ لُزُومِ الْعَقْدِ ، اُسْتُحِبَّ لِلْأَمِينِ سُؤَالُ الْمُشْتَرِي الْإِقَالَةَ ، وَاسْتُحِبَّ لِلْمُشْتَرِي الْإِجَابَةُ إلَى ذَلِكَ ؛ لِتَعْلِيقِهِ بِمَصْلَحَةِ الْمُفْلِسِ ، وَقَضَاءِ دَيْنِهِ ، فَيَبْدَأُ بِبَيْعِ الْعَبْدِ الْجَانِي ، فَيَدْفَعُ إلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ ثَمَنِهِ أَوْ أَرْشِ جِنَايَتِهِ ، وَمَا فَضَلَ مِنْهُ رَدَّهُ إلَى الْغُرَمَاءِ ، ثُمَّ يَبِيعُ الرَّهْنَ ، فَيَدْفَعُ إلَى الْمُرْتَهِنِ قَدْرَ دَيْنِهِ ، وَمَا فَضَلَ مِنْ

ثَمَنِهِ رَدَّهُ إلَى الْغُرَمَاءِ ، وَإِنْ بَقِيَتْ مِنْ دَيْنِهِ بَقِيَّةٌ ، ضَرَبَ بِهَا مَعَ الْغُرَمَاءِ ، ثُمَّ يَبِيعُ مَا يُسْرِعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ مِنْ الطَّعَامِ الرَّطْبِ ؛ لِأَنَّ بَقَاءَهُ يُتْلِفُهُ بِيَقِينٍ ، ثُمَّ يَبِيعُ الْحَيَوَانَ ، لِأَنَّهُ مُعَرَّضٌ لِلتَّلَفِ ، وَيَحْتَاجُ إلَى مُؤْنَةٍ فِي بَقَائِهِ ، ثُمَّ يَبِيعُ السِّلَعَ وَالْأَثَاثَ ، لِأَنَّهُ يُخَافُ عَلَيْهِ ، وَتَنَالُهُ الْأَيْدِي ، ثُمَّ الْعَقَارَ آخِرًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يُخَافُ تَلَفُهُ ، وَبَقَاؤُهُ أَشْهَرُ لَهُ وَأَكْثَرُ لِطُلَّابِهِ وَمَتَى بَاعَ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ ، وَكَانَ الدَّيْنُ لَوَاحِدٍ وَحْدَهُ ، دَفَعَهُ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى تَأْخِيرِهِ ، وَإِنْ كَانَ لَهُ غُرَمَاءُ ، فَأَمْكَنَ قِسْمَتُهُ عَلَيْهِمْ ، قَسَمَ وَلَمْ يُؤَخِّرْ ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ قِسْمَتُهُ ، أُودِعَ عِنْدَ ثِقَةٍ ، إلَى أَنْ يَجْتَمِعَ ، وَيُمْكِنَ قِسْمَتُهُ فَيُقْسَمُ .
وَإِنْ احْتَاجَ فِي حِفْظِهِ إلَى غَرَامَةٍ ، دَفَعَ ذَلِكَ إلَى مَنْ يَحْفَظُهُ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا عُدْنَا إلَى مَسْأَلَةٌ الْكِتَابِ ، فَنَقُولُ : لَا تُبَاعُ دَارُهُ الَّتِي لَا غِنَى لَهُ عَنْ سُكْنَاهَا وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَإِسْحَاقُ .
وَقَالَ شُرَيْحٌ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ : تُبَاعُ ، وَيَكْتَرِي لَهُ بَدَلَهَا .
وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الَّذِي أُصِيبَ فِي ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا ، فَكَثُرَ دَيْنُهُ ، فَقَالَ لِغُرَمَائِهِ { خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ } .
وَهَذَا مِمَّا وَجَدُوهُ ، وَلِأَنَّهُ عَيْنُ مَالِ الْمُفْلِسِ فَوَجَبَ صَرْفُهُ فِي دَيْنِهِ ، كَسَائِرِ مَالِهِ وَلَنَا ، أَنَّ هَذَا مِمَّا لَا غِنَى لِلْمُفْلِسِ عَنْهُ ، فَلَمْ يُصْرَفْ فِي دَيْنِهِ ، كَثِيَابِهِ وَقُوتِهِ ، وَالْحَدِيثُ قَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَقَارٌ ، وَلَا خَادِمٌ ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ ) مِمَّا تَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ ، فَإِنَّ الْمَذْكُورَ قَبْلَ ذَلِكَ ، كَذَلِكَ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { :

تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ .
فَتَصَدَّقُوا عَلَيْهِ ، فَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ وَفَاءَ دَيْنِهِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ .
} أَيْ مِمَّا تَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَتَصَدَّقْ عَلَيْهِ بِدَارٍ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى سُكْنَاهَا وَلَا خَادِمٍ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى خِدْمَتِهِ ، وَلِأَنَّ الْحَدِيثَ مَخْصُوصٌ بِثِيَابِ الْمُفْلِسِ وَقُوتِهِ ، فَنَقِيسُ عَلَيْهِ مَحِلَّ النِّزَاعِ ، وَقِيَاسُهُمْ مُنْتَقِضٌ بِذَلِكَ أَيْضًا ، وَبِأَجْرِ الْمَسْكَنِ ، وَسَائِرِ مَالِهِ يُسْتَغْنَى عَنْهُ ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا .

( 3456 ) فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ لَهُ دَارَانِ يَسْتَغْنِي بِسُكْنَى إحْدَاهُمَا ، بِيعَتْ الْأُخْرَى ؛ لِأَنَّ بِهِ غِنًى عَنْ سُكْنَاهَا .
وَإِنْ كَانَ مَسْكَنُهُ وَاسِعًا ، لَا يَسْكُنُ مِثْلُهُ فِي مِثْلِهِ ، بِيعَ ، وَاشْتُرِيَ لَهُ مَسْكَنُ مِثْلِهِ ، وَرُدَّ الْفَضْلُ عَلَى الْغُرَمَاءِ ، كَالثِّيَابِ الَّتِي لَهُ إذَا كَانَتْ رَفِيعَةً لَا يُلْبَسُ مِثْلُهُ مِثْلَهَا .
وَلَوْ كَانَ الْمَسْكَنُ وَالْخَادِمُ اللَّذَيْنِ لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُمَا عَيْنَ مَالِ بَعْضِ الْغُرَمَاءِ ، أَوْ كَانَ جَمِيعُ مَالِهِ أَعْيَانَ أَمْوَالٍ أَفْلَسَ بِأَثْمَانِهَا ، وَوَجَدَهَا أَصْحَابُهَا ، فَلَهُمْ أَخْذُهَا ، بِالشَّرَائِطِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : مَنْ أَدْرَكَ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ رَجُلٍ قَدْ أَفْلَسَ ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ .
} وَلِأَنَّ حَقَّهُ تَعَلَّقَ بِالْعَيْنِ ، فَكَانَ أَقْوَى سَبَبًا مِنْ الْمُفْلِسِ ، وَلِأَنَّ الْإِعْسَارَ بِالثَّمَنِ سَبَبٌ يَسْتَحِقُّ بِهِ الْفَسْخَ ، فَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنْهُ تَعَلُّقُ حَاجَةِ الْمُشْتَرِي ، كَمَا قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَكَالْعَيْبِ وَالْخِيَارِ .
وَلِأَنَّ مَنْعَهُمْ مِنْ أَخْذِ أَعْيَانِ أَمْوَالِهِمْ يَفْتَحُ بَابَ الْحِيَلِ ، بِأَنْ يَجِيءَ مَنْ لَا مَالَ لَهُ ، فَيَشْتَرِيَ فِي ذِمَّتِهِ ثِيَابًا يَلْبَسُهَا ، وَدَارًا يَسْكُنُهَا ، وَخَادِمًا يَخْدِمُهُ ، وَفَرَسًا يَرْكَبُهَا ، وَطَعَامًا لَهُ وَلِعَائِلَتِهِ وَيَمْتَنِعُ عَلَى أَرْبَابِهَا أَخْذُهَا ؛ لِتَعَلُّقِ حَاجَتِهِ بِهَا ، فَتَضِيعُ أَمْوَالُهُمْ وَيَسْتَغْنِي هُوَ بِهَا .
فَعَلَى هَذَا يُؤْخَذُ ذَلِكَ .
وَلَا يُتْرَكُ لَهُ شَيْءٌ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ أَعْيَانُ أَمْوَالِ النَّاسِ ، فَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا مِنْهُ ، كَمَا لَوْ كَانَتْ فِي أَيْدِيهِمْ ، أَوْ أَخَذَهَا مِنْهُمْ غَصْبًا .

( 3457 ) فَصْلٌ : وَلَوْ كَانَ الْمُفْلِسُ ذَا صَنْعَةٍ ، يَكْسِبُ مَا يُمَوِّنُهُ وَيُمَوَّنُ مَنْ تَلْزَمُهُ مُؤْنَتُهُ ، أَوْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَكْسِبَ ذَلِكَ بِأَنْ يُؤْجِرَ نَفْسَهُ ، أَوْ يَتَوَكَّلَ لَإِنْسَانٍ ، أَوْ يَكْتَسِبَ مِنْ الْمُبَاحَاتِ مَا يَكْفِيه ، لَمْ يُتْرَكْ لَهُ مِنْ مَالِهِ شَيْءٌ .
وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ ، تُرِكَ لَهُ مِنْ مَالِهِ قَدْرُ مَا يَكْفِيه .
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد : وَيُتْرَكُ لَهُ قُوتٌ يَتَقَوَّتُ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ لَهُ عِيَالٌ تُرِكَ لَهُ قِوَامٌ .
وَقَالَ ، فِي رِوَايَةِ الْمَيْمُونِي : يُتْرَكُ لَهُ قَدْرُ مَا يَقُومُ بِهِ مَعَاشُهُ ، وَيُبَاعُ الْبَاقِي .
وَهَذَا فِي حَقِّ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ ، وَذَوِي الْهَيْئَاتِ الَّذِينَ لَا يُمْكِنُهُمْ التَّصَرُّفُ بِأَبْدَانِهِمْ .
وَيَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ بَعْضِهِمْ بِعَيْنِهِ ؛ لِأَنَّ مَنْ تَعَلَّقَ حَقُّهُ بِالْعَيْنِ أَقْوَى سَبَبًا مِنْ غَيْرِهِ .

( 3458 ) فَصْلٌ : وَإِذَا تَلِفَ شَيْءٌ مِنْ مَالِ الْمُفْلِسِ تَحْتَ يَدِ الْأَمِينِ ، أَوْ بِيعَ شَيْءٌ مِنْ مَالِهِ وَأُودِعَ ثَمَنُهُ فَتَلِفَ عِنْدَ الْمُودَعِ ، فَهُوَ مِنْ ضَمَانِ الْمُفْلِسِ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ مَالِكٌ الْعُرُوض مِنْ مَالِهِ ، وَالدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ مِنْ مَالِ الْغُرَمَاءِ .
وَقَالَ الْمُغِيرَةُ : الدَّنَانِيرُ مِنْ مَالِ أَصْحَابِ الدَّنَانِيرِ ، وَالدَّرَاهِمُ مِنْ مَالِ أَصْحَابِ الدَّرَاهِمِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ مِنْ مَالِ الْمُفْلِسِ ، وَنَمَاؤُهُ لَهُ ، فَكَانَ تَلَفُهُ فِي مَالِهِ ، كَالْعُرُوضِ .

( 3459 ) فَصْلٌ : وَإِذَا اجْتَمَعَ مَالُ الْمُفْلِسِ قُسِمَ بَيْنَ غُرَمَائِهِ ، فَإِنْ كَانَتْ دُيُونُهُمْ مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ ، أَخَذُوهَا ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ دَيْنُهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْأَثْمَانِ كَالْقَرْضِ بِغَيْرِ الْأَثْمَانِ ، فَرَضِيَ أَنْ يَأْخُذَ عِوَضَ حَقِّهِ مِنْ الْأَثْمَانِ ، جَازَ ، وَإِنْ امْتَنَعَ .
وَطَلَبَ جِنْسَ حَقِّهِ ، اُبْتِيعَ لَهُ بِحِصَّتِهِ مِنْ جِنْسِ دَيْنِهِ .
وَلَوْ أَرَادَ الْغَرِيمُ الْأَخْذَ مِنْ الْمَالِ الْمَجْمُوعِ ، وَقَالَ الْمُفْلِسُ : لَا أُوَفِّيك إلَّا مِنْ جِنْسِ دَيْنِك .
قُدِّمَ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّ هَذَا عَلَى سَبِيلِ الْمُعَاوَضَةِ ، فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِتَرَاضِيهِمَا عَلَيْهِ .
وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ لَهُ دَيْنٌ مِنْ سَلَمٍ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْخُذَ إلَّا مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ ، وَإِنْ تَرَاضَيَا عَلَى دَفْعِ عِوَضِهِ ؛ لِأَنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ مِنْ السَّلَمِ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْبَدَلِ عَنْهُ ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ ، فَلَا يَصْرِفْهُ إلَى غَيْرِهِ .
}

( 3460 ) فَصْلٌ : وَإِذَا فُرِّقَ مَالُ الْمُفْلِسِ ، وَبَقِيَتْ عَلَيْهِ بَقِيَّةٌ ، وَلَهُ صَنْعَةٌ ، فَهَلْ يُجْبِرُهُ الْحَاكِمُ عَلَى إيجَارِ نَفْسِهِ ، لِيَقْضِيَ دَيْنَهُ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ ؛ إحْدَاهُمَا ، لَا يُجْبِرُهُ ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ } .
وَلَمَّا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ ، { أَنَّ رَجُلًا أُصِيبَ فِي ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا ، وَكَثُرَ دَيْنُهُ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ .
فَتَصَدَّقُوا عَلَيْهِ ، فَلَمْ يَبْلُغْ وَفَاءَ دَيْنِهِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ ، وَلَيْسَ لَكُمْ إلَّا ذَلِكَ .
} رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَلِأَنَّ هَذَا تَكَسُّبٌ لِلْمَالِ ، فَلَمْ يُجْبِرْهُ عَلَيْهِ ، كَقَبُولِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ ، وَكَمَا لَا تُجْبَرُ الْمَرْأَةُ عَلَى التَّزْوِيجِ لِتَأْخُذَ الْمَهْرَ .
وَالثَّانِيَةُ ، يُجْبَرُ عَلَى الْكَسْبِ .
وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَسَوَّارٍ وَالْعَنْبَرِيِّ وَإِسْحَاقَ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاعَ سَرَقًا فِي دَيْنِهِ ، وَكَانَ سَرَقَ رَجُلًا دَخَلَ الْمَدِينَةَ ، وَذَكَرَ أَنَّ وَرَاءَهُ مَالًا ، فَدَايَنَهُ النَّاسُ ، فَرَكِبَتْهُ دُيُونٌ ، وَلَمْ يَكُنْ وَرَاءَهُ مَالٌ ، فَسَمَّاهُ سَرَقًا ، وَبَاعَهُ بِخَمْسَةِ أَبْعِرَةٍ .
وَالْحُرُّ لَا يُبَاعُ ، ثَبَتَ أَنَّهُ بَاعَ مَنَافِعَهُ .
وَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ تَجْرِي مَجْرَى الْأَعْيَانِ ، فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا وَتَحْرِيمِ أَخْذِ الزَّكَاةِ ، وَثُبُوتِ الْغِنَى بِهَا ، فَكَذَلِكَ فِي وَفَاءِ الدَّيْنِ مِنْهَا .
وَلِأَنَّ الْإِجَارَةَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ ، فَجَازَ إجْبَارُهُ عَلَيْهَا ، كَبَيْعِ مَالِهِ فِي وَفَاءِ الدَّيْنِ مِنْهَا .
وَلِأَنَّهَا إجَارَةٌ لِمَا يَمْلِكُ إجَارَتَهُ ، فَيُجْبَرُ عَلَيْهَا فِي وَفَاءِ دَيْنِهِ ، كَإِجَارَةِ أَمِّ وَلَدِهِ .
وَلِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى وَفَاءِ دَيْنِهِ ، فَلَزِمَهُ .
كَمَالِكِ مَا يَقْدِرُ عَلَى الْوَفَاءِ مِنْهُ .
فَإِنْ قِيلَ : حَدِيثُ سَرَقٍ مَنْسُوخٌ ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْحُرَّ لَا

يُبَاعُ ، وَالْبَيْعُ وَقَعَ عَلَى رَقَبَتِهِ ، بِدَلِيلِ أَنَّ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْغُرَمَاءَ قَالُوا لِمُشْتَرِيهِ : مَا تَصْنَعُ بِهِ ؟ قَالَ أُعْتِقُهُ .
قَالُوا : لَسْنَا بِأَزْهَدَ مِنْك فِي إعْتَاقِهِ .
فَأَعْتَقُوهُ .
قُلْنَا : هَذَا إثْبَاتُ النَّسْخِ بِالِاحْتِمَالِ ، وَلَا يَجُوزُ ، وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّ بَيْعَ الْحُرِّ كَانَ جَائِزًا فِي شَرِيعَتِنَا ، وَحَمْلُ لَفْظِ بَيْعِهِ عَلَى بَيْعِ مَنَافِعِهِ أَسْهَلُ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى بَيْعِ رَقَبَتِهِ الْمُحَرَّمِ ، فَإِنَّ حَذْفَ الْمُضَافِ وَإِقَامَةَ الْمُضَافِ إلَيْهِ مُقَامَهُ سَائِغٌ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ ، وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ } { .
وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ .
} { وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ .
} وَغَيْرِ ذَلِكَ .
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : " أُعْتِقُهُ " .
أَيْ مِنْ حَقِّي عَلَيْهِ .
وَكَذَلِكَ قَالَ : " فَأَعْتَقُوهُ " يَعْنِي الْغُرَمَاءَ ، وَهُمْ لَا يَمْلِكُونَ إلَّا الدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ .
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ .
} فَيَتَوَجَّه مَنْعُ كَوْنِهِ دَاخِلًا تَحْتَ عُمُومِهَا ؛ فَإِنَّ هَذَا فِي حُكْمِ الْأَغْنِيَاءِ ، فِي حِرْمَانِ الزَّكَاةِ ، وَسُقُوطِ نَفَقَتِهِ عَنْ قَرِيبِهِ ، وَوُجُوبِ نَفَقَةِ قَرِيبِهِ عَلَيْهِ ، وَحَدِيثُهُمْ قَضِيَّةُ عَيْنٍ ، لَا يَثْبُتُ حُكْمُهَا إلَّا فِي مِثْلِهَا ، وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّ لِذَلِكَ الْغَرِيمِ كَسْبًا يَفْضُلُ عَنْ قَدْرِ نَفَقَتِهِ .
وَأَمَّا قَبُولُ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ ، فَفِيهِ مِنَّةٌ وَمَعَرَّةٌ تَأْبَاهَا قُلُوبُ ذَوِي الْمُرُوءَاتِ ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَلَا يُجْبَرُ عَلَى الْكَسْبِ إلَّا مَنْ فِي كَسْبِهِ فَضْلَةٌ عَنْ نَفَقَتِهِ ، وَنَفَقَةِ مِنْ يُمَوِّنُهُ ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ .

( 3461 ) فَصْلٌ : وَلَا يُجْبَرُ عَلَى قَبُولِ هَدِيَّةٍ ، وَلَا صَدَقَةٍ ، وَلَا وَصِيَّةٍ وَلَا قَرْضٍ ، وَلَا تُجْبَرُ الْمَرْأَةُ عَلَى التَّزَوُّجِ ، لِيَأْخُذَ مَهْرَهَا ، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ ضَرَرًا لِلُحُوقِ الْمِنَّةِ فِي الْهَدِيَّةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَصِيَّةِ ، وَالْعِوَضِ فِي الْقَرْضِ ، وَمِلْكِ الزَّوْجِ لِلْمَرْأَةِ فِي النِّكَاحِ ، وَوُجُوبِ حُقُوقِهِ عَلَيْهَا .
وَلَوْ بَاعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ ، ثُمَّ أَفْلَسَ ، فَالْخِيَارُ بِحَالِهِ ، وَلَا يُجْبَرُ عَلَى مَا فِيهِ الْحَظُّ مِنْ الرَّدِّ وَالْإِمْضَاءِ ؛ لِأَنَّ الْفَلَسَ يَمْنَعُهُ مِنْ إحْدَاثِ عَقْدٍ ، أَمَّا مِنْ إمْضَائِهِ وَتَنْفِيذِ عُقُودِهِ فَلَا .
وَإِنْ جُنِيَ عَلَى الْمُفْلِسِ جِنَايَةٌ تُوجِبُ الْمَالَ ، ثَبَتَ الْمَالُ ، وَتَعَلَّقَتْ حُقُوقُ الْغُرَمَاءِ بِهِ ، وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ الْعَفْوُ عَنْهُ .
وَإِنْ كَانَتْ مُوجِبَةً لِلْقِصَاصِ ، فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَالْعَفْوِ ، وَلَا يُجْبَرُ عَلَى الْعَفْوِ عَلَى مَالٍ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُفَوِّتُ الْقِصَاصَ الَّذِي يَجِبُ لِمَصْلَحَتِهِ ، فَإِنْ اقْتَصَّ ، لَمْ يَجِبْ لِلْغُرَمَاءِ شَيْءٌ .
وَإِنْ عَفَا عَلَى مَالٍ ، ثَبَتَ ، وَتَعَلَّقَتْ حُقُوقُ الْغُرَمَاءِ بِهِ .
وَإِنْ عَفَا مُطْلَقًا ، انْبَنَى عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ ، فِي مُوجِبِ الْعَمْدِ ، إنْ قُلْنَا : الْقِصَاصُ خَاصَّةً .
لَمْ يَثْبُتْ شَيْءٌ ، وَسَقَطَ الْقِصَاصُ .
وَإِنْ قُلْنَا : أَحَدُ أَمْرَيْنِ .
ثَبَتَتْ لَهُ الدِّيَةُ ، وَتَعَلَّقَتْ بِهَا حُقُوقُ الْغُرَمَاءِ .
وَإِنْ عَفَا عَلَى غَيْرِ مَالٍ ، فَعَلَى الرِّوَايَتَيْنِ أَيْضًا .
فَإِنْ قُلْنَا : الْقِصَاصُ عَيْنًا .
لَمْ يَثْبُتْ شَيْءٌ .
وَإِنْ قُلْنَا : أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ .
تَثْبُتُ الدِّيَةُ ، وَلَمْ يَصِحَّ إسْقَاطُهُ ، لِأَنَّ عَفْوَهُ عَنْ الْقِصَاصِ يُثْبِتُ لَهُ الدِّيَةَ ، وَلَا يَصِحُّ إسْقَاطُهَا .
وَإِنْ وَهَبَ هِبَةً بِشَرْطِ الثَّوَابِ ، ثُمَّ أَفْلَسَ ، فَبُذِلَ لَهُ الثَّوَابُ ، لَزِمَهُ قَبُولُهُ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ إسْقَاطُهُ ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ عَلَى سَبِيلِ الْعِوَضِ عَنْ الْمَوْهُوبِ ، فَلَزِمَهُ قَبُولُهُ ، كَالثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ .
وَلَيْسَ لَهُ إسْقَاطُ شَيْءٍ مِنْ

ثَمَنِ مَبِيعٍ ، أَوْ أُجْرَةٍ فِي إجَارَةٍ ، وَلَا قَبْضُهُ رَدِيئًا ، وَلَا قَبْضُ الْمُسْلَمِ فِيهِ دُونَ صِفَاتِهِ ، إلَّا بِإِذْنِ غُرَمَائِهِ .
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْفَصْلِ كُلِّهِ كَمَذْهَبِنَا .

( 3462 ) فَصْلٌ إذَا فُرِّقَ مَالُ الْمُفْلِسِ ، فَهَلْ يَنْفَكُّ عَنْهُ الْحَجْرُ بِذَلِكَ ، أَوْ يَحْتَاجُ إلَى فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، يَزُولُ بِقِسْمَةِ مَالِهِ ؛ لِأَنَّهُ حُجِرَ عَلَيْهِ لِأَجْلِهِ ، فَإِذَا زَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ ، زَالَ سَبَبُ الْحَجْرِ ، فَزَالَ الْحَجْرُ ، كَزَوَالِ حَجْرِ الْمَجْنُونِ ، لِزَوَالِ جُنُونِهِ .
وَالثَّانِي ، لَا يَزُولُ إلَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِحُكْمِهِ ، فَلَا يَزُولُ إلَّا بِحُكْمِهِ ، كَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ .
وَفَارَقَ الْجُنُونَ ، فَإِنَّهُ يَثْبُتُ بِنَفْسِهِ ، فَزَالَ بِزَوَالِهِ .
وَلِأَنَّ فَرَاغَ مَالِهِ يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةٍ وَبِحَثِّ ، فَوَقْفُ ذَلِكَ عَلَى الْحَاكِمِ ، بِخِلَافِ الْمَجْنُونِ .

( 3463 ) فَصْلٌ : وَمَتَى ثَبَتَ إعْسَارُهُ عِنْدَ الْحَاكِمِ ، لَمْ يَكُنْ لَأَحَدٍ مُطَالَبَتُهُ وَمُلَازَمَتُهُ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لِغُرَمَائِهِ مُلَازَمَتُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمْنَعُوهُ مِنْ الْكَسْبِ ، فَإِذَا رَجَعَ إلَى بَيْتِهِ ، فَأَذِنَ لَهُمْ فِي الدُّخُولِ ، دَخَلُوا مَعَهُ ، وَإِلَّا مَنَعُوهُ مِنْ الدُّخُولِ ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : لِصَاحِبِ الْحَقِّ الْيَدُ وَاللِّسَانُ .
} وَلَنَا ، أَنَّ مَنْ لَيْسَ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مُطَالَبَته ، لَمْ يَكُنْ لَهُ مُلَازَمَتُهُ ، كَمَا لَوْ كَانَ دَيْنُهُ مُؤَجَّلًا ، وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى { : فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ } .
وَمَنْ وَجَبَ إنْظَارُهُ ، حَرُمَتْ مُلَازَمَتُهُ ، كَمَنْ دَيْنُهُ مُؤَجَّلٌ .
وَالْحَدِيثُ فِيهِ مَقَالٌ .
قَالَهُ .
ابْنُ الْمُنْذِرِ ثُمَّ نَحْمِلُهُ عَلَى الْمُوسِرِ ، بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا ، فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِغُرَمَاءِ الَّذِي أُصِيبَ فِي ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا ، فَكَثُرَ دَيْنُهُ : { خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ ، وَلَيْسَ لَكُمْ إلَّا ذَلِكَ .
} رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، وَالتِّرْمِذِيُّ .
وَإِنْ فُكَّ الْحَجْرُ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ لَأَحَدٍ مُطَالَبَتُهُ ، وَلَا مُلَازَمَتُهُ ، حَتَّى يَمْلِكَ مَالًا ، فَإِنْ جَاءَ الْغُرَمَاءُ عَقِيبَ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ ، فَادَّعَوْا أَنَّ لَهُ مَالًا ، لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى قَوْلِهِمْ ، حَتَّى يُثْبِتُوا سَبَبَهُ ، فَإِنْ جَاءُوا بَعْدَ مُدَّةٍ ، فَادَّعَوْا أَنَّ فِي يَدِهِ مَالًا ، أَوْ ادَّعَوْا ذَلِكَ عَقِيبَ فَكِّ الْحَجْرِ ، وَبَيَّنُوا سَبَبَهُ أَحْضَرَهُ الْحَاكِمُ وَسَأَلَهُ ، فَإِنْ أَنْكَرَ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَا فَكَّ الْحَجْرُ عَنْهُ حَتَّى لَمْ يَبْقَ لَهُ شَيْءٌ ، وَإِنْ أَقَرَّ ، وَقَالَ : هُوَ لِفُلَانٍ ، وَأَنَا وَكِيلُهُ أَوْ مُضَارِبُهُ .
وَكَانَ الْمُقَرُّ لَهُ حَاضِرًا ، سَأَلَهُ الْحَاكِمُ ، فَإِنْ صَدَّقَهُ فَهُوَ لَهُ ، وَيَسْتَحْلِفُهُ الْحَاكِمُ ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَا تَوَاطَأَ عَلَى ذَلِكَ .
لِيَدْفَعَ الْمُطَالَبَةَ عَنْ الْمُفْلِسِ .
وَإِنْ قَالَ : مَا هُوَ لِي .

عَرَفْنَا كَذِبَ الْمُفْلِسِ ، فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ : الْمَالُ لِي .
فَيُعَادُ الْحَجْرُ عَلَيْهِ إنْ طَلَبَ الْغُرَمَاءُ ذَلِكَ .
وَإِنْ أَقَرَّ لِغَائِبٍ ، أَقَرَّ فِي يَدَيْهِ حَتَّى يَحْضُرَ الْغَائِبُ ، ثُمَّ يُسْأَلُ ، كَمَا حَكَمْنَا فِي الْحَاضِرِ .
وَمَتَى أُعِيدَ الْحَجْرُ عَلَيْهِ لِدُيُونِ تَجَدَّدَتْ عَلَيْهِ ، شَارَكَ غُرَمَاءُ الْحَجْرِ الْأَوَّلِ غُرَمَاءَ الْحَجْرِ الثَّانِي إلَّا أَنَّ الْأَوَّلِينَ يَضْرِبُونَ بِبَقِيَّةِ دُيُونِهِمْ ، وَالْآخَرِينَ يَضْرِبُونَ بِجَمِيعِهَا .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ مَالِكٌ لَا يَدْخُلُ غُرَمَاءُ الْحَجْرِ الْأَوَّلِ عَلَى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَجَدَّدَتْ حُقُوقُهُمْ ، حَتَّى يَسْتَوْفُوا ، إلَّا أَنْ تَكُونَ لَهُ فَائِدَةٌ مِنْ مِيرَاثٍ ، أَوْ يُجْنَى عَلَيْهِ جِنَايَةٌ ، فَيَتَحَاصُّ الْغُرَمَاءُ فِيهِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُمْ تَسَاوَوْا فِي ثُبُوتِ حُقُوقِهِمْ فِي ذِمَّتِهِ ، فَتَسَاوَوْا فِي الِاسْتِحْقَاقِ ، كَاَلَّذِينَ تَثْبُتُ حُقُوقُهُمْ فِي حَجْرٍ وَاحِدٍ ، وَكَتَسَاوِيهِمْ فِي الْمِيرَاثِ وَأَرْشِ الْجِنَايَةِ ، وَلِأَنَّ مَكْسَبَهُ مَالٌ لَهُ ، فَتَسَاوَوْا فِيهِ ، كَالْمِيرَاثِ .

( 3464 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَقٌّ ، فَذَكَرَ أَنَّهُ مُعْسِرٌ بِهِ ، حُبِسَ إلَى أَنْ يَأْتِيَ بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ بِعُسْرَتِهِ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ دَيْنٌ حَالٌ ، فَطُولِبَ بِهِ ، وَلَمْ يُؤَدِّهِ ، نَظَرَ الْحَاكِمُ ؛ فَإِنْ كَانَ فِي يَدِهِ مَالٌ ظَاهِرٌ أَمَرَهُ بِالْقَضَاءِ ، فَإِنْ ذَكَرَ أَنَّهُ لِغَيْرِهِ ، فَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَهُ فِي الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ لَهُ مَالًا ظَاهِرًا ، فَادَّعَى الْإِعْسَارَ ، فَصَدَّقَهُ غَرِيمُهُ ، لَمْ يُحْبَسْ ، وَوَجَبَ إنْظَارُهُ ، وَلَمْ تَجُزْ مُلَازَمَتُهُ ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { : وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ } .
وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِغُرَمَاءِ الَّذِي كَثُرَ دَيْنُهُ : { خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ ، وَلَيْسَ لَكُمْ إلَّا ذَلِكَ .
} وَلِأَنَّ الْحَبْسَ إمَّا أَنْ يَكُونَ لِإِثْبَاتِ عُسْرَتِهِ أَوْ لِقَضَاءِ دَيْنِهِ ، وَعُسْرَتُهُ ثَابِتَةٌ ، وَالْقَضَاءُ مُتَعَذِّرٌ ، فَلَا فَائِدَةَ فِي الْحَبْسِ .
وَإِنْ كَذَّبَهُ غَرِيمُهُ فَلَا يَخْلُو ، إمَّا أَنْ يَكُونَ عُرِفَ لَهُ مَالٌ أَوْ لَمْ يُعْرَفْ ، فَإِنْ عُرِفَ لَهُ مَالٌ لِكَوْنِ الدَّيْنِ ثَبَتَ عَنْ مُعَاوَضَةٍ ، كَالْقَرْضِ وَالْبَيْعِ ، أَوْ عُرِفَ لَهُ أَصْلُ مَالٍ سِوَى هَذَا ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ غَرِيمِهِ مَعَ يَمِينِهِ .
فَإِذَا حَلَفَ أَنَّهُ ذُو مَالٍ ، حُبِسَ حَتَّى تَشْهَدَ الْبَيِّنَةُ بِإِعْسَارِهِ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَكْثَرُ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ وَقُضَاتِهِمْ ، يَرَوْنَ الْحَبْسَ فِي الدَّيْنِ ، مِنْهُمْ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَالنُّعْمَانُ وَسَوَّارٌ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ وَرُوِيَ عَنْ شُرَيْحٍ ، وَالشَّعْبِيِّ .
وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَقُولُ : يُقْسَمُ مَالُهُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ ، وَلَا يُحْبَسُ .
وَبِهِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَلَنَا أَنَّ الظَّاهِرَ قَوْلُ الْغَرِيمِ ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ ، كَسَائِرِ الدَّعَاوَى .
فَإِنْ شَهِدَتْ الْبَيِّنَةُ بِتَلَفِ مَالِهِ ، قُبِلَتْ

شَهَادَتُهُمْ ، سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ أَهْلِ الْخِبْرَةِ الْبَاطِنَةِ أَوْ لَمْ تَكُنْ ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَهْلُ الْخِبْرَةِ وَغَيْرُهُمْ .
وَإِنْ طَلَبَ الْغَرِيمُ إحْلَافَهُ عَلَى ذَلِكَ ، لَمْ يُجَبْ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَكْذِيبٌ لِلْبَيِّنَةِ ، وَإِنْ شَهِدَتْ مَعَ ذَلِكَ بِالْإِعْسَارِ اُكْتُفِيَ بِشَهَادَتِهَا ، وَثَبَتَتْ عُسْرَتُهُ ، وَإِنْ لَمْ تَشْهَدْ بِعُسْرَتِهِ ، وَإِنَّمَا شَهِدَتْ بِالتَّلَفِ لَا غَيْرُ ، وَطَلَبَ الْغَرِيمُ يَمِينَهُ عَلَى عُسْرِهِ ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مَالٌ آخَرُ ، اسْتَحْلَفَ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَا شَهِدَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ .
وَإِنْ لَمْ تَشْهَدْ بِالتَّلَفِ ، وَإِنَّمَا شَهِدَتْ بِالْإِعْسَارِ ، لَمْ تُقْبَلْ الشَّهَادَةُ إلَّا مِنْ ذِي خِبْرَةٍ بَاطِنَةٍ ، وَمَعْرِفَةٍ مُتَقَادِمَةٍ لِأَنَّ هَذَا مِنْ الْأُمُورِ الْبَاطِنَةِ ، لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ فِي الْغَالِبِ إلَّا أَهْلُ الْخِبْرَةِ وَالْمُخَالَطَةِ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ : لَا تُسْمَعُ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْإِعْسَارِ ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ عَلَى النَّفْيِ ، فَلَمْ تُسْمَعْ ، كَالشَّهَادَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى قَبِيصَةُ بْنُ الْمُخَارِقِ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ { : يَا قَبِيصَةُ ، إنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إلَّا لِأَحَدِ ثَلَاثَةٍ : رَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمَالَةً ، فَحَلَّتْ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَهَا ، ثُمَّ يُمْسِكَ ، وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ ، فَاجْتَاحَتْ مَالَهُ ، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ ، حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ أَوْ قَالَ سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ ، وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ ، حَتَّى يَقُولَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ : لَقَدْ أَصَابَتْ فُلَانًا فَاقَةٌ .
فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ أَوْ قَالَ : سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ .
} رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى النَّفْيِ لَا تُقْبَلُ .
قُلْنَا : لَا تُرَدُّ مُطْلَقًا ، فَإِنَّهُ لَوْ شَهِدَتْ الْبَيِّنَةُ أَنَّ هَذَا وَارِثُ الْمَيِّتِ ، لَا

وَارِثَ لَهُ سِوَاهُ قُبِلَتْ ، وَلِأَنَّ هَذِهِ وَإِنْ كَانَتْ تَتَضَمَّنُ النَّفْيَ ، فَهِيَ تُثْبِتُ حَالَةً تَظْهَرُ ، وَيُوقَفُ عَلَيْهَا بِالْمُشَاهَدَةِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا شَهِدَتْ أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ ، فَإِنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ ، وَلَا يُشْهَدُ بِهِ حَالٌ يَتَوَصَّلُ بِهَا إلَى مَعْرِفَتِهِ بِهِ ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا .
وَتُسْمَعُ الْبَيِّنَةُ فِي الْحَالِ ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا تُسْمَعُ فِي الْحَالِ ، وَيُحْبَسُ شَهْرًا ، وَرُوِيَ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ ، وَرُوِيَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ، حَتَّى يَغْلِبَ عَلَى ظَنَّ الْحَاكِمِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ لَأَظْهَرَهُ .
وَلَنَا ، أَنَّ كُلَّ بَيِّنَةٍ جَازَ سَمَاعُهَا بَعْدَ مُدَّةٍ ، جَازَ سَمَاعُهَا فِي الْحَالِ ، كَسَائِرِ الْبَيِّنَاتِ ، وَمَا ذَكَرُوهُ لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَأَغْنَى عَنْ الْبَيِّنَةِ .
فَإِنْ قَالَ الْغَرِيمُ : أَحْلِفُوهُ لِي مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهُ لَا مَالَ لَهُ ، لَمْ يُسْتَحْلَفْ فِي ظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ لِأَنَّهُ قَالَ ، فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ فِي رَجُلٍ جَاءَ بِشُهُودِ عَلَى حَقٍّ ، فَقَالَ الْغَرِيمُ اسْتَحْلِفُوهُ : لَا يَسْتَحْلِفُ ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ : " الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي ، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ " .
قَالَ الْقَاضِي : سَوَاءٌ شَهِدَتْ الْبَيِّنَةُ بِتَلَفِ الْمَالِ أَوْ بِالْإِعْسَارِ وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهَا بَيِّنَةٌ مَقْبُولَةٌ ، فَلَمْ يَسْتَحْلِفْ مَعَهَا ، كَمَا لَوْ شَهِدَتْ بِأَنَّ هَذَا عَبْدُهُ ، أَوْ هَذِهِ دَارُهُ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَسْتَحْلِفَ .
وَهَذَا الْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِي لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّ لَهُ مَالًا خَفِيَ عَلَى الْبَيِّنَةِ .
وَيَصِحُّ عِنْدِي إلْزَامُهُ الْيَمِينَ عَلَى الْإِعْسَارِ ، فِيمَا إذَا شَهِدَتْ الْبَيِّنَةُ بِتَلَفِ الْمَالِ ، وَسُقُوطِهَا عَنْهُ فِيمَا إذَا شَهِدَتْ بِالْإِعْسَارِ ، لِأَنَّهَا إذَا شَهِدَتْ بِالتَّلَفِ ، صَارَ كَمَنْ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ أَصْلُ مَالٍ أَوْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَقَرَّ لَهُ غَرِيمُهُ بِتَلَفِ ذَلِكَ الْمَالِ ، وَادَّعَى أَنَّ لَهُ مَالًا سِوَاهُ ، أَوْ أَنَّهُ

اسْتَحْدَثَ مَالًا بَعْدَ تَلَفِهِ .
وَلَوْ لَمْ تَقُمْ الْبَيِّنَةُ ، وَأَقَرَّ لَهُ غَرِيمُهُ بِتَلَفِ مَالِهِ وَادَّعَى أَنَّ لَهُ مَالًا سِوَاهُ ، لَزِمَتْهُ الْيَمِينُ ، فَكَذَلِكَ إذَا قَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ ، فَإِنَّهَا لَا تَزِيدُ عَلَى الْإِقْرَارِ .
وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ يَثْبُتُ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ مُقَابَلَةِ مَالٍ أَخَذَهُ ، كَأَرْشِ جِنَايَةٍ ، وَقِيمَةِ مُتْلَفٍ ، وَمَهْرٍ أَوْ ضَمَانٍ أَوْ كَفَالَةٍ ، أَوْ عِوَضِ خُلْعٍ ، إنْ كَانَ امْرَأَةً ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ لَهُ مَالٌ ، حَلَفَ أَنَّهُ لَا مَالَ لَهُ ، وَخَلَّى سَبِيلَهُ ، وَلَمْ يُحْبَسْ .
وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَابْنِ الْمُنْذِرِ فَإِنْ شَهِدَتْ الْبَيِّنَةُ بِإِعْسَارِهِ ، قُبِلَتْ ، وَلَمْ يُسْتَحْلَفْ مَعَهَا ؛ لِمَا تَقَدَّمَ .
وَإِنْ شَهِدَتْ أَنَّهُ كَانَ لَهُ مَالٌ ، فَتَلِفَ ، لَمْ يُسْتَغْنَ بِذَلِكَ عَنْ يَمِينِهِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ .
وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ لَهُ بِهِ غَرِيمُهُ ، وَإِنَّمَا اكْتَفَيْنَا بِيَمِينِهِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْمَالِ ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِحَبَّةَ وَسَوَاءٍ ابْنَيْ خَالِدِ بْنِ سَوَاءٍ { : لَا تَيْئَسَا مِنْ الرِّزْقِ مَا اهْتَزَّتْ رُءُوسُكُمَا ، فَإِنَّ ابْنَ آدَمَ يُخْلَقُ وَلَيْسَ لَهُ إلَّا قِشْرَتَاهُ ، ثُمَّ يَرْزُقُهُ اللَّهُ تَعَالَى .
} قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : الْحَبْسُ عُقُوبَةٌ ، وَلَا نَعْلَمُ لَهُ ذَنْبًا يُعَاقَبُ بِهِ .
وَالْأَصْلُ عَدَمُ مَالِهِ ، بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى ، فَإِنَّ الْأَصْلَ ثُبُوتُ مَالِهِ ، فَيُحْبَسُ حَتَّى يُعْلَمَ ذَهَابُهُ .
وَالْخِرَقِيُّ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْحَالَيْنِ ، لَكِنَّهُ يُحْمَلُ كَلَامُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى الْفَرْقِ .

( 3465 ) فَصْلٌ : إذَا امْتَنَعَ الْمُوسِرُ مِنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ ، فَلِغَرِيمِهِ مُلَازَمَتُهُ ، وَمُطَالَبَتُهُ ، وَالْإِغْلَاظُ لَهُ بِالْقَوْلِ ، فَيَقُولُ : يَا ظَالِمُ ، يَا مُعْتَدٍ .
وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : لَيُّ الْوَاجِدِ ، يُحِلُّ عُقُوبَتَهُ وَعِرْضَهُ } .
فَعُقُوبَتُهُ حَبْسُهُ ، وَعِرْضُهُ أَيْ يُحِلُّ الْقَوْلَ فِي عِرْضِهِ بِالْإِغْلَاظِ لَهُ .
وَقَالَ : النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ } .
وَقَالَ { : إنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالًا .
}

( 3466 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَإِذَا مَاتَ ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ مُفْلِسًا ، لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنْ الْغُرَمَاءِ أَنْ يَأْخُذَ عَيْنَ مَالِهِ ) هَذَا الشَّرْطُ الْخَامِسُ لِاسْتِحْقَاقِ اسْتِرْجَاعِ عَيْنِ الْمَالِ مِنْ الْمُفْلِسِ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ حَيًّا ، فَإِنْ مَاتَ ، فَالْبَائِعُ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ ، سَوَاءٌ عَلِمَ بِفَلَسِهِ قَبْلَ الْمَوْتِ ، فَحَجَرَ عَلَيْهِ ثُمَّ مَاتَ ، أَوْ مَاتَ فَتَبَيَّنَ فَلَسُهُ .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَإِسْحَاقُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَهُ الْفَسْخُ وَاسْتِرْجَاعُ الْعَيْنِ ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ خَلْدَةَ الزُّرَقِيُّ ، قَاضِي الْمَدِينَةِ قَالَ : أَتَيْنَا أَبَا هُرَيْرَةَ فِي صَاحِبٍ لَنَا قَدْ أَفْلَسَ ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : هَذَا الَّذِي قَضَى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : أَيُّمَا رَجُلٍ مَاتَ ، أَوْ أَفْلَسَ ، فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أَحَقُّ بِمَتَاعِهِ إذَا وَجَدَهُ بِعَيْنِهِ .
} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَابْنُ مَاجَهْ .
وَاحْتَجُّوا بِعُمُومِ قَوْلِهِ : عَلَيْهِ السَّلَامُ { مَنْ أَدْرَكَ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ رَجُلٍ ، أَوْ إنْسَانٍ ، قَدْ أَفْلَسَ ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ } .
وَلِأَنَّ هَذَا الْعَقْدَ يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ بِالْإِقَالَةِ ، فَجَازَ فَسْخُهُ لِتَعَذُّرِ الْعِوَضِ ، كَمَا لَوْ تَعَذَّرَ الْمُسْلَمَ فِيهِ ، وَلِأَنَّ الْفَلَسَ سَبَبٌ لِاسْتِحْقَاقِ الْفَسْخِ ، فَجَازَ الْفَسْخُ بِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ كَالْعَيْبِ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الْمُفْلِسِ { : فَإِنْ مَاتَ فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ .
} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَرَوَى أَبُو الْيَمَانِ ، عَنْ الزُّبَيْدِيِّ ، عَنْ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : أَيُّمَا امْرِئٍ مَاتَ ، وَعِنْدَهُ مَالُ امْرِئٍ بِعَيْنِهِ ، اقْتَضَى مِنْ ثَمَنِهِ شَيْئًا ، أَوْ لَمْ يَقْتَضِ ، فَهُوَ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ .
} رَوَاهُ ابْن مَاجَهْ .
.
وَلِأَنَّهُ تَعَلَّقَ

بِهِ حَقُّ غَيْرِ الْمُفْلِسِ وَالْغُرَمَاءِ ، وَهُمْ الْوَرَثَةُ فَأَشْبَهَ الْمَرْهُونَ .
وَحَدِيثُهُمْ مَجْهُولُ الْإِسْنَادِ ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ يَرْوِيه أَبُو الْمُعْتَمِرِ ، عَنْ الزُّرَقِيُّ ، وَأَبُو الْمُعْتَمِرِ غَيْرُ مَعْرُوفٍ بِحَمْلِ الْعِلْمِ .
ثُمَّ هُوَ غَيْرُ مَعْمُولٍ بِهِ إجْمَاعًا ؛ فَإِنَّهُ جَعَلَ الْمَتَاعَ لِصَاحِبِهِ بِمُجَرَّدِ مَوْتِ الْمُشْتَرِي ، مِنْ غَيْرِ شَرْطِ فَلَسِهِ ، وَلَا تَعَذُّرِ وَفَائِهِ ، وَلَا عَدَمِ قَبْضِ ثَمَنِهِ ، وَالْأَمْرُ بِخِلَافِ ذَلِكَ عِنْدَ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ ، إلَّا مَا حُكِيَ عَنْ الْإِصْطَخْرِيِّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ، أَنَّهُ قَالَ : لِصَاحِبِ السِّلْعَةِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا إذَا مَاتَ الْمُشْتَرِي ، وَإِنْ خَلَّفَ وَفَاءً .
وَهَذَا شُذُوذٌ عَنْ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَخِلَافٌ لِلسُّنَّةِ لَا يَعْرُجُ عَلَى مِثْلِهِ .
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْآخَرُ ، فَنَقُولُ بِهِ ، وَإِنَّ صَاحِبَ الْمَتَاعِ أَحَقُّ بِهِ إذَا وَجَدَهُ عِنْدَ الْمُفْلِسِ ، وَمَا وَجَدَهُ فِي مَسْأَلَتِنَا عِنْدَهُ ، إنَّمَا وَجَدَهُ عِنْدَ وَرَثَتِهِ ، فَلَا يَتَنَاوَلُهُ الْخَبَرُ ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ بِمَفْهُومِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ فِيهِ ، ثُمَّ هُوَ مُطْلَقٌ وَحَدِيثُنَا يُقَيِّدُهُ ، وَفِيهِ زِيَادَةٌ ، وَالزِّيَادَةُ مِنْ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ .
وَتُفَارِقُ حَالَةُ الْحَيَاةِ حَالَ الْمَوْتِ لِأَمْرَيْنِ ؛ أَحَدِهِمَا ، أَنَّ الْمِلْكَ فِي الْحَيَاةِ لِلْمُفْلِسِ ، وَهَا هُنَا لِغَيْرِهِ .
وَالثَّانِي ، أَنَّ ذِمَّةَ الْمُفْلِسِ خَرِبَتْ هَاهُنَا خَرَابًا لَا يَعُودُ ، فَاخْتِصَاصُ هَذَا بِالْعَيْنِ يَسْتَضِرُّ بِهِ الْغُرَمَاءُ كَثِيرًا ، بِخِلَافِ حَالَةِ الْحَيَاةِ .

( 3467 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَمَنْ أَرَادَ سَفَرًا وَعَلَيْهِ حَقٌّ يُسْتَحَقُّ قَبْلَ مُدَّةِ سَفَرِهِ فَلِصَاحِبِ الْحَقِّ مَنْعُهُ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ إذَا أَرَادَ السَّفَرَ ، وَأَرَادَ غَرِيمُهُ مَنْعَهُ ، نَظَرْنَا ؛ فَإِنْ كَانَ مَحَلُّ الدَّيْنِ قَبْلَ مَحَلِّ قُدُومِهِ مِنْ السَّفَرِ ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ سَفَرُهُ إلَى الْحَجِّ لَا يَقْدَمُ إلَّا فِي صَفَرٍ ، وَدَيْنُهُ يَحِلُّ فِي الْمُحَرَّمِ أَوْ ذِي الْحِجَّةِ ، فَلَهُ مَنْعُهُ مِنْ السَّفَرِ ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ ضَرَرًا فِي تَأْخِيرِ حَقِّهِ عَنْ مَحَلِّهِ .
فَإِنْ أَقَامَ ضَمِينًا مَلِيئًا ، أَوْ دَفَعَ رَهْنًا يَفِي بِالدَّيْنِ عِنْدَ الْمَحَلِّ ، فَلَهُ السَّفَرُ ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ يَزُولُ بِذَلِكَ .
وَأَمَّا إنْ كَانَ الدَّيْنُ لَا يَحِلُّ إلَّا بَعْدَ مَحَلِّ السَّفَرِ ، مِثْل أَنْ يَكُونَ مَحَلُّهُ فِي رَبِيعٍ ، وَقُدُومُهُ فِي صَفَرٍ ، نَظَرْنَا ؛ فَإِنْ كَانَ سَفَرُهُ إلَى الْجِهَادِ ، فَلَهُ مَنْعُهُ إلَّا بِضَمِينٍ أَوْ رَهْنٍ ؛ لِأَنَّهُ سَفَرٌ يَتَعَرَّضُ فِيهِ لِلشَّهَادَةِ ، وَذَهَابِ النَّفْسِ ، فَلَا يَأْمَنُ فَوَاتَ الْحَقِّ .
وَإِنْ كَانَ السَّفَرُ لِغَيْرِ الْجِهَادِ فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مَنْعُهُ ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ لِأَنَّ هَذَا السَّفَرَ لَيْسَ بِأَمَارَةٍ عَلَى مَنْعِ الْحَقِّ فِي مَحَلِّهِ ، فَلَمْ يَمْلِكْ مَنْعَهُ مِنْهُ ، كَالسَّفَرِ الْقَصِيرِ ، وَكَالسَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَيْسَ لَهُ مَنْعُهُ مِنْ السَّفَرِ ، وَلَا الْمُطَالَبَةُ بِكَفِيلٍ إذَا كَانَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلًا بِحَالٍ ، سَوَاءٌ كَانَ الدَّيْنُ يَحِلُّ قَبْلَ مَحَلِّ سَفَرِهِ أَوْ بَعْدَهُ ، أَوْ إلَى الْجِهَادِ أَوْ إلَى غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْمُطَالَبَةَ بِالدَّيْنِ ، فَلَمْ يَمْلِكْ مَنْعَهُ مِنْ السَّفَرِ ، وَلَا الْمُطَالَبَةَ بِكَفِيلٍ ، كَالسَّفَرِ الْآمِنِ الْقَصِيرِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ سَفَرٌ يَمْنَعُ اسْتِيفَاءَ الدَّيْنِ فِي مَحَلِّهِ ، فَمَلَكَ مَنْعَهُ مِنْهُ ، إنْ لَمْ يُوَثِّقْهُ بِكَفِيلٍ ، أَوْ رَهْنٍ ، كَالسَّفَرِ بَعْدَ حُلُولِ الْحَقِّ ، وَلِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ

تَأْخِيرَ الدَّيْنِ عَنْ مَحَلِّهِ ، وَفِي السَّفَرِ الْمُخْتَلِفِ فِيهِ تَأْخِيرُهُ عَنْ مَحَلِّهِ ، فَلَمْ يَمْلِكْهُ ، كَجَحْدِهِ .

كِتَابُ الْحَجْرِ الْحَجْرُ ؛ فِي اللُّغَةِ : الْمَنْعُ وَالتَّضْيِيقُ .
وَمِنْهُ سُمِّيَ الْحَرَامُ حِجْرًا ، قَالَ تَعَالَى : { وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا .
} أَيْ حَرَامًا مُحَرَّمًا ، وَيُسَمَّى الْعَقْلُ حِجْرًا ، قَالَ اللَّه تَعَالَى { : هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ ؟ } .
أَيْ عَقْلٍ .
سُمِّيَ حِجْرًا ؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ صَاحِبَهُ مِنْ ارْتِكَابِ مَا يَقْبَحُ ، وَتَضُرُّ عَاقِبَتُهُ ، وَهُوَ فِي الشَّرِيعَةِ : مَنْعُ الْإِنْسَانِ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ ، وَالْحَجْرُ عَلَى ضَرْبَيْنِ ، حَجْرٌ عَلَى الْإِنْسَانِ لِحَقِّ نَفْسِهِ ، وَحَجْرٌ عَلَيْهِ لِحَقِّ غَيْرِهِ ، فَالْحَجْرُ عَلَيْهِ لِحَقِّ غَيْرِهِ ، كَالْحَجْرِ عَلَى الْمُفْلِسِ ، لِحَقِّ غُرَمَائِهِ ، وَعَلَى الْمَرِيضِ فِي التَّبَرُّعِ بِزِيَادَةٍ عَلَى الثُّلُثِ ، أَوْ التَّبَرُّعِ بِشَيْءِ لِوَارِثِ لِحَقِّ وَرَثَتِهِ ، وَعَلَى الْمُكَاتَبِ وَالْعَبْدِ لِحَقِّ سَيِّدِهِمَا ، وَالرَّاهِنِ يُحْجَرُ عَلَيْهِ فِي الرَّهْنِ لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ ، وَلِهَؤُلَاءِ أَبْوَابٌ يُذْكَرُونَ فِيهَا .
وَأَمَّا الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ لِحَقِّ نَفْسِهِ ، فَثَلَاثَةٌ ؛ الصَّبِيُّ ، وَالْمَجْنُونُ ، وَالسَّفِيهُ ، وَهَذَا الْبَابُ مُخْتَصٌّ بِهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ .
وَالْحَجْرُ عَلَيْهِمْ حَجْرٌ عَامٌ ؛ لِأَنَّهُمْ يُمْنَعُونَ التَّصَرُّفَ فِي أَمْوَالِهِمْ وَذِمَمِهِمْ .
وَالْأَصْلُ فِي الْحَجْرِ عَلَيْهِمْ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا .
} وَالْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا .
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةُ هُوَ مَالُ الْيَتِيمِ عِنْدَك ، لَا تُؤْتِهِ إيَّاهُ ، وَأَنْفِقْ عَلَيْهِ .
وَإِنَّمَا أَضَافَ الْأَمْوَالَ إلَى الْأَوْلِيَاءِ وَهِيَ لِغَيْرِهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ قِوَامُهَا وَمُدَبِّرُوهَا ، وقَوْله تَعَالَى : { وَابْتَلُوا الْيَتَامَى .
} يَعْنِي ، اخْتَبِرُوهُمْ فِي حِفْظِهِمْ لِأَمْوَالِهِمْ .
{ حَتَّى إذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ .
} أَيْ مَبْلَغَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ .
{ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا .
} أَيْ أَبْصَرْتُمْ وَعَلِمْتُمْ مِنْهُمْ حِفْظًا لِأَمْوَالِهِمْ ، وَصَلَاحًا فِي تَدْبِيرِ

مَعَايِشِهِمْ .

( 3468 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ رَحِمَهُ اللَّهُ : ( وَمَنْ أُونِسَ مِنْهُ رُشْدٌ ، دُفِعَ إلَيْهِ مَالُهُ ، إذَا كَانَ قَدْ بَلَغَ ) الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي فُصُولٍ ثَلَاثَةٍ : ( 3469 ) أَحَدُهَا ، فِي وُجُوبِ دَفْعِ الْمَالِ إلَى الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ إذَا رَشَدَ وَبَلَغَ ، وَلَيْسَ فِيهِ اخْتِلَافٌ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : اتَّفَقُوا عَلَى ذَلِكَ ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فِي نَصِّ كِتَابِهِ ، بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : { وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ .
} وَلِأَنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ إنَّمَا كَانَ لِعَجْزِهِ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ عَلَى وَجْهِ الْمَصْلَحَةِ ، حِفْظًا لِمَالِهِ عَلَيْهِ ، وَبِهَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ يَقْدِرُ عَلَى التَّصَرُّفِ ، وَيُحْفَظُ مَالُهُ ، فَيَزُولُ الْحَجْرُ ، لِزَوَالِ سَبَبِهِ .
وَلَا يُعْتَبَرُ فِي زَوَالِ الْحَجْرِ عَنْ الْمَجْنُونِ إذَا عَقَلَ حُكْمَ حَاكِمٍ ، بِغَيْرِ خِلَافٍ ، وَلَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي الصَّبِيِّ إذَا رَشَدَ وَبَلَغَ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ مَالِكٌ لَا يَزُولُ إلَّا بِحَاكِمٍ .
وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ اجْتِهَادٍ وَنَظَرٍ ، فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ فِي مَعْرِفَةِ الْبُلُوغِ وَالرُّشْدِ إلَى اجْتِهَادٍ ، فَيُوقَفُ ذَلِكَ عَلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ ، كَزَوَالِ الْحَجْرِ عَنْ السَّفِيهِ .
وَلَنَا ، أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِدَفْعِ أَمْوَالِهِمْ إلَيْهِمْ عِنْدَ الْبُلُوغِ وَإِينَاسِ الرُّشْدِ ، فَاشْتِرَاطُ حُكْمِ الْحَاكِمِ زِيَادَةٌ تَمْنَعُ الدَّفْعَ عِنْدَ وُجُوبِ ذَلِكَ بِدُونِ حُكْمِ الْحَاكِمِ ، وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ ، وَلِأَنَّهُ حَجْرٌ بِغَيْرِ حُكْمِ حَاكِمٍ فَيَزُولُ بِغَيْرِ حُكْمِهِ ، كَالْحَجْرِ عَلَى الْمَجْنُونِ ، وَبِهَذَا فَارَقَ السَّفِيهَ .
وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّ الْحَجْرَ عَلَى السَّفِيهِ يَزُولُ بِزَوَالِ السَّفَهِ .
وَالْأَوَّلُ أَوْلَى .
فَصَارَ الْحَجْرُ مُنْقَسِمًا إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ ، قِسْمٌ يَزُولُ بِغَيْرِ حُكْمِ حَاكِمٍ ، وَهُوَ حَجْرُ

الْمَجْنُونِ ، وَقِسْمٌ لَا يَزُولُ إلَّا بِحَاكِمِ ، وَهُوَ حَجْرُ السَّفِيهِ ، وَقِسْمٌ فِيهِ الْخِلَافُ ، وَهُوَ حَجْرُ الصَّبِيِّ .

( 3470 ) الْفَصْلُ الثَّانِي ، أَنَّهُ لَا يُدْفَعُ إلَيْهِ مَالُهُ قَبْلَ وُجُودِ الْأَمْرَيْنِ ، الْبُلُوغِ وَالرُّشْدِ وَلَوْ صَارَ شَيْخًا .
وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَكْثَرُ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ ، وَالْعِرَاقِ ، وَالشَّامِ ، ، وَمِصْرَ ، يَرَوْنَ الْحَجْرَ عَلَى كُلِّ مُضَيِّعٍ لِمَالِهِ ، صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا .
وَهَذَا قَوْلُ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ .
وَرَوَى الْجُوزَجَانِيُّ ، فِي " كِتَابِهِ " ، قَالَ : كَانَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ يَلِي أَمْرَ شَيْخٍ مِنْ قُرَيْشٍ ذِي أَهْلٍ وَمَالٍ ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَمْرٌ فِي مَالِهِ دُونَهُ ؛ لِضَعْفِ عَقْلِهِ .
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ : رَأَيْته شَيْخًا يُخَضِّبُ ، وَقَدْ جَاءَ إلَى الْقَاسِمِ بْن مُحَمَّدٍ ، فَقَالَ : يَا أَبَا مُحَمَّدٍ ، ادْفَعْ إلَيَّ مَالِي ، فَإِنَّهُ لَا يُوَلَّى عَلَى مِثْلِيٍّ فَقَالَ : إنَّك فَاسِدٌ .
فَقَالَ : امْرَأَتُهُ طَالِقٌ أَلْبَتَّةَ ، وَكُلُّ مَمْلُوكٍ لَهُ حُرٌّ ، إنْ لَمْ تَدْفَعْ إلَيَّ مَالِي .
فَقَالَ لَهُ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَمَا يَحِلُّ لَنَا أَنْ نَدْفَعَ إلَيْك مَالَك عَلَى حَالِك هَذِهِ .
فَبَعَثَ إلَى امْرَأَتِهِ ، وَقَالَ : هِيَ حُرَّةٌ مُسْلِمَةٌ ، وَمَا كُنْت لِأَحْبِسهَا عَلَيْك وَقَدْ فُهْت بِطَلَاقِهَا .
فَأَرْسَلَ إلَيْهَا فَأَخْبَرَهَا ذَلِكَ ، وَقَالَ : أَمَّا رَقِيقُك فَلَا عِتْقَ لَك ، وَلَا كَرَامَةَ .
فَحَبَسَ رَقِيقَهُ .
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ : مَا كَانَ يُعَابُ عَلَى الرَّجُلِ إلَّا سَفَّهَهُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُدْفَعُ مَالُهُ إلَيْهِ قَبْلَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً ، وَإِنْ تَصَرَّفَ نَفَذَ تَصَرُّفُهُ ، فَإِذَا بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً ، فُكَّ عَنْهُ الْحَجْرُ .
وَدُفِعَ إلَيْهِ مَالُهُ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إلَّا بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ .
} وَهَذَا قَدْ بَلَغَ أَشُدَّهُ ، وَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ جَدًّا ، وَلِأَنَّهُ حُرٌّ بَالِغٌ عَاقِلٌ مُكَلَّفٌ ، فَلَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ ،

كَالرَّشِيدِ .
وَلَنَا ، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } .
عَلَّقَ الدَّفْعَ عَلَى شَرْطَيْنِ ، وَالْحُكْمُ الْمُعَلَّقُ عَلَى شَرْطَيْنِ لَا يَثْبُتُ بِدُونِهِمَا ، وَقَالَ اللَّه تَعَالَى : { وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ } .
يَعْنِي أَمْوَالَهُمْ ، وَقَوْلُ اللَّه تَعَالَى : { فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ } فَأَثْبَتِ الْوِلَايَةَ عَلَى السَّفِيهِ ، وَلِأَنَّهُ مُبَذِّرٌ لِمَالِهِ ، فَلَا يَجُوزُ دَفْعُهُ إلَيْهِ ، كَمَنْ لَهُ دُونَ ذَلِكَ .
وَأَمَّا الْآيَةُ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا ، فَإِنَّمَا يَدُلُّ بِدَلِيلِ خِطَابِهَا ، وَهُوَ لَا يَقُولُ بِهِ ، ثُمَّ هِيَ مُخَصَّصَةٌ فِيمَا قَبْلَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً بِالْإِجْمَاعِ ، لِعِلَّةِ السَّفَهِ ، وَهُوَ مَوْجُودٌ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ ، فَيَجِبُ أَنْ تُخَصَّ بِهِ أَيْضًا ، كَمَا أَنَّهَا لَمَّا خُصِّصَتْ فِي حَقِّ الْمَجْنُونِ لِأَجْلِ جُنُونِهِ قَبْلَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ ، خُصَّتْ أَيْضًا بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْمَنْطُوقِ أَوْلَى مِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ الْمَفْهُومِ الْمُخَصَّصِ ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ كَوْنِهِ جَدًّا لَيْسَ تَحْتَهُ مَعْنَى يَقْضِي الْحُكْمَ ، وَلَا لَهُ أَصْلٌ يَشْهَدُ لَهُ فِي الشَّرْعِ ، فَهُوَ إثْبَاتٌ لِلْحُكْمِ بِالتَّحَكُّمِ .
ثُمَّ هُوَ مُتَصَوَّرٌ فِي مَنْ لَهُ دُونَ هَذِهِ السِّنِّ ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ تَكُونُ جَدَّةً لِإِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً ، وَقِيَاسُهُمْ مُنْتَقِضٌ بِمَنْ لَهُ دُونَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً ، وَمَا أَوْجَبَ الْحَجْرَ قَبْلَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ يُوجِبُهُ بَعْدَهَا .
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ ، وَلَا إقْرَارُهُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَصِحُّ بَيْعُهُ وَإِقْرَارُهُ .
وَإِنَّمَا لَا يُسَلَّمُ إلَيْهِ مَالُهُ ؛ لِأَنَّ الْبَالِغَ عِنْدَهُ لَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا مُنِعَ تَسْلِيمُ مَالِهِ إلَيْهِ لِلْآيَةِ .
وَقَالَ أَصْحَابُنَا فِي إقْرَارِهِ :

يَلْزَمُهُ بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ ، إذَا كَانَ بَالِغًا .
وَلَنَا ، أَنَّهُ لَا يُدْفَعُ إلَيْهِ مَالُهُ لِعَدَمِ رُشْدِهِ ، فَلَا يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ وَإِقْرَارُهُ ، كَالصَّبِيِّ ، وَالْمَجْنُونِ ، وَلِأَنَّهُ إذَا نَفَذَ تَصَرُّفُهُ وَإِقْرَارُهُ تَلِفَ مَالُهُ ، وَلَمْ يُفِدْ مَنْعُهُ مِنْ مَالِهِ شَيْئًا ، وَلِأَنَّ تَصَرُّفَهُ لَوْ كَانَ نَافِذًا ، لَسُلِّمَ إلَيْهِ مَالُهُ ، كَالرَّشِيدِ ، فَإِنَّهُ إنَّمَا يُمْنَعُ مَالَهُ حِفْظًا لَهُ ، فَإِذَا لَمْ يُحْفَظْ بِالْمَنْعِ ، وَجَبَ تَسْلِيمُهُ إلَيْهِ بِحُكْمِ الْأَصْلِ .

( 3471 ) الْفَصْلُ الثَّالِثُ ، فِي الْبُلُوغِ ، وَيَحْصُلُ فِي حَقِّ الْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ ، وَفِي حَقِّ الْجَارِيَةِ بِشَيْئَيْنِ يَخْتَصَّانِ بِهَا ، أَمَّا الثَّلَاثَةُ الْمُشْتَرَكَةُ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى ، فَأَوَّلُهَا خُرُوجُ الْمَنِيِّ مِنْ قُبُلِهِ ، وَهُوَ الْمَاءُ الدَّافِقُ الَّذِي يُخْلَقُ مِنْهُ الْوَلَدُ ، فَكَيْفَمَا خَرَجَ فِي يَقَظَةٍ أَوْ مَنَامٍ ، بِجِمَاعِ ، أَوْ احْتِلَامٍ ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ، حَصَلَ بِهِ الْبُلُوغُ .
لَا نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمْ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا } وَقَوْلِهِ { وَاَلَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ } وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ ؛ عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ .
} وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِمُعَاذِ { : خُذْ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا } .
رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد .
وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْفَرَائِضَ وَالْأَحْكَامَ تَجِبُ عَلَى الْمُحْتَلِمِ الْعَاقِلِ ، وَعَلَى الْمَرْأَةِ بِظُهُورِ الْحَيْضِ مِنْهَا .
وَأَمَّا الْإِنْبَاتُ فَهُوَ أَنْ يَنْبُتَ الشَّعْرُ الْخَشِنُ حَوْلَ ذَكَرِ الرَّجُلِ ، أَوْ فَرْجِ الْمَرْأَةِ ، الَّذِي اسْتَحَقَّ أَخْذَهُ بِالْمُوسَى ، وَأَمَّا الزَّغَبُ الضَّعِيفُ ، فَلَا اعْتِبَارَ بِهِ ، فَإِنَّهُ يَثْبُتُ فِي حَقِّ الصَّغِيرِ .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ ، وَقَالَ فِي الْآخَرِ : هُوَ بُلُوغٌ فِي حَقِّ الْمُشْرِكِينَ ، وَهَلْ هُوَ بُلُوغٌ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا اعْتِبَارَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ نَبَاتُ شَعْرٍ ، فَأَشْبَهَ نَبَاتَ شَعْرِ سَائِرِ الْبَدَنِ .
وَلَنَا ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا حَكَّمَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ ، حَكَمَ بِأَنْ تُقْتَلَ مُقَاتِلَتُهُمْ ، وَتُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ ، وَأَمَرَ أَنْ يُكْشَفَ عَنْ مُؤَازَرَتِهِمْ ، فَمَنْ أَنْبَتَ ، فَهُوَ مِنْ الْمُقَاتِلَةِ ، وَمَنْ لَمْ يُنْبِتْ ، أَلْحَقُوهُ بِالذُّرِّيَّةِ .
وَقَالَ عَطِيَّةُ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71