الكتاب : المغني
المؤلف : أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد ، الشهير بابن قدامة المقدسي

أَحْمَدَ أَنَّهَا تُؤَثِّرُ ، فَيَلْزَمُهُمَا الْعُشْرُ إذَا بَلَغَ الزَّرْعُ جَمِيعُهُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ ، وَيُخْرِجُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عُشْرَ نَصِيبِهِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مِمَّنْ لَا عُشْرَ عَلَيْهِ ، كَالْمُكَاتَبِ وَالذِّمِّيِّ ؛ فَلَا يَلْزَمُ شَرِيكَهُ عُشْرٌ إلَّا أَنْ تَبْلُغَ حِصَّتُهُ نِصَابًا ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْمُسَاقَاةِ .

( 1871 ) فَصْلٌ : وَيُكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ بَيْعُ أَرْضِهِ مِنْ ذِمِّيٍّ وَإِجَارَتُهَا مِنْهُ ؛ لِإِفْضَائِهِ إلَى إسْقَاطِ عُشْرِ الْخَارِجِ مِنْهَا .
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى : سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ، عَنْ الْمُسْلِمِ يُؤَاجِرُ أَرْضَ الْخَرَاجِ مِنْ الذِّمِّيِّ ؟ قَالَ : لَا يُؤَاجِرُ مِنْ الذِّمِّيِّ ، إنَّمَا عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ ، وَهَذَا ضَرَرٌ .
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : لِأَنَّهُمْ لَا يُؤَدُّونَ الزَّكَاةَ .
فَإِنْ آجَرَهَا مِنْهُ ذِمِّيٌّ ، أَوْ بَاعَ أَرْضَهُ الَّتِي لَا خَرَاجَ عَلَيْهَا ذِمِّيًّا ، صَحَّ الْبَيْعُ وَالْإِجَارَةُ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الثَّوْرِيِّ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَشَرِيكٍ ، وَأَبِي عُبَيْدٍ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ فِيهَا عُشْرٌ وَلَا خَرَاجٌ .
قَالَ حَرْبٌ : سَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنْ الذِّمِّيِّ يَشْتَرِي أَرْضَ الْعُشْرِ ؟ قَالَ : لَا أَعْلَمُ عَلَيْهِ شَيْئًا ، إنَّمَا الصَّدَقَةُ كَهَيْئَةِ مَالِ الرَّجُلِ ، وَهَذَا الْمُشْتَرِي لَيْسَ عَلَيْهِ .
وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ يَقُولُونَ فِي هَذَا قَوْلًا حَسَنًا ، يَقُولُونَ : لَا نَتْرُكُ الذِّمِّيَّ يَشْتَرِي أَرْضَ الْعُشْرِ .
وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ يَقُولُونَ قَوْلًا عَجِيبًا .
يَقُولُونَ : يُضَاعَفُ عَلَيْهِمْ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ : أَنَّهُمْ يُمْنَعُونَ مِنْ شِرَائِهَا .
اخْتَارَهَا الْخَلَّالُ وَصَاحِبُهُ .
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، وَصَاحِبِهِ .
فَإِنْ اشْتَرَوْهَا ضُوعِفَ عَلَيْهِمْ الْعُشْرُ ، وَأُخِذَ مِنْهُمْ الْخُمْسُ ؛ لِأَنَّ فِي إسْقَاطِ الْعُشْرِ مِنْ غَلَّةِ هَذِهِ الْأَرْضِ إضْرَارًا بِالْفُقَرَاءِ ، وَتَقْلِيلًا لِحَقِّهِمْ ، فَإِذَا تَعْرِضُوا لِذَلِكَ ضُوعِفَ عَلَيْهِمْ الْعُشْرُ ، كَمَا لَوْ اتَّجَرُوا بِأَمْوَالِهِمْ إلَى غَيْرِ بَلَدِهِمْ ، ضُوعِفَتْ عَلَيْهِمْ الزَّكَاةُ ، فَأُخِذَ مِنْهُمْ نِصْفُ الْعُشْرِ .
وَهَذَا قَوْلُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ ، وَأَبِي يُوسُفَ .
وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيِّ .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : الْعُشْرُ بِحَالِهِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تَصِيرُ أَرْضَ خَرَاجٍ .
وَلَنَا ، أَنَّ هَذِهِ أَرْضٌ لَا خَرَاجَ عَلَيْهَا ، فَلَا يَلْزَمُ فِيهَا الْخَرَاجُ بِبَيْعِهَا ،

كَمَا لَوْ بَاعَهَا مُسْلِمًا ، وَلِأَنَّهَا مَالُ مُسْلِمٍ يَجِبْ الْحَقُّ فِيهِ لِلْفُقَرَاءِ عَلَيْهِ ، فَلَمْ يُمْنَعْ مِنْ بَيْعِهِ لِلذِّمِّيِّ كَالسَّائِمَةِ ، وَإِذَا مَلَكَهَا الذِّمِّيُّ فَلَا عُشْرَ عَلَيْهِ فِيمَا يَخْرُجُ مِنْهَا ؛ لِأَنَّهَا زَكَاةٌ ، فَلَا تَجِبُ عَلَى الذِّمِّيِّ ، كَزَكَاةِ السَّائِمَةِ ، وَمَا ذَكَرَهُ يَبْطُلُ بِالسَّائِمَةِ ؛ فَإِنَّ الذِّمِّيَّ يَصِحُّ أَنْ يَشْتَرِيَهَا ، وَتَسْقُطُ الزَّكَاةُ مِنْهَا ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ تَضْعِيفِ الْعُشْرِ ، تَحَكُّمٌ لَا نَصَّ فِيهِ ، وَلَا قِيَاسَ .

( 1872 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَتُضَمُّ الْحِنْطَةُ إلَى الشَّعِيرِ ، وَتُزَكَّى إذَا كَانَتْ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ ، وَكَذَلِكَ الْقِطْنِيَّاتُ ، وَكَذَلِكَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ ) ، وَعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ، رِوَايَةٌ أُخْرَى ، أَنَّهَا لَا تُضَمُّ ، وَتُخْرَجُ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ إنْ كَانَ مَنْصِبًا لِلزَّكَاةِ .
الْقِطْنِيَّاتُ ، بِكَسْرِ الْقَافِ : جَمْعُ قِطْنِيَّةٍ ؛ وَيُجْمَعُ أَيْضًا قَطَانِيُّ .
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : هِيَ صُنُوفُ الْحُبُوبِ ، مِنْ الْعَدَسِ ، وَالْحِمَّصِ ، وَالْأُرْزِ ، وَالْجُلُبَّانِ ، وَالْجُلْجُلَانِ - يَعْنِي السِّمْسِمَ - وَزَادَ غَيْرُهُ : الدُّخْنَ ، وَاللُّوبِيَا ، وَالْفُولَ ، وَالْمَاشَ .
وَسُمِّيَتْ قِطْنِيَّةً ، فِعْلِيَّةٌ ، مِنْ قَطَنَ يَقْطُنُ فِي الْبَيْتِ ، أَيْ يَمْكُثُ فِيهِ .
وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ ، فِي غَيْرِ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ ، أَنَّهُ لَا يُضَمُّ جِنْسٌ إلَى جِنْسٍ آخَرَ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ .
فَالْمَاشِيَةُ ثَلَاثَةُ أَجْنَاسٍ : الْإِبِلُ ، وَالْبَقَرُ ، وَالْغَنَمُ ، لَا يُضَمُّ جِنْسٌ مِنْهَا إلَى آخَرَ .
وَالثِّمَارُ لَا يُضَمُّ جِنْسٌ إلَى غَيْرِهِ ، فَلَا يُضَمُّ التَّمْرُ إلَى الزَّبِيبِ ، وَلَا إلَى اللَّوْزِ ، وَالْفُسْتُقِ ، وَالْبُنْدُقِ وَلَا يُضَمُّ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ إلَى غَيْرِهِ ، وَلَا تُضَمُّ الْأَثْمَارُ إلَى شَيْءٍ مِنْ السَّائِمَةِ ، وَلَا مِنْ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ .
وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ ، فِي أَنَّ أَنْوَاعَ الْأَجْنَاسِ يُضَمُّ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ فِي إكْمَالِ النِّصَابِ .
وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ أَيْضًا فِي أَنَّ الْعُرُوضَ تُضَمُّ إلَى الْأَثْمَانِ ، وَتُضَمُّ الْأَثْمَانُ إلَيْهَا ، إلَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّ لَا يَضُمُّهَا إلَّا إلَى جِنْسِ مَا اُشْتُرِيَتْ بِهِ ، لِأَنَّ نِصَابَهَا مُعْتَبَرٌ بِهِ .
وَاخْتَلَفُوا فِي ضَمِّ الْحُبُوبِ بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ ، وَفِي ضَمِّ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ إلَى الْآخَرِ ، فَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي الْحُبُوبِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ ؛ إحْدَاهُنَّ ، لَا يُضَمُّ جِنْسٌ مِنْهَا إلَى غَيْرِهِ ، وَيُعْتَبَرُ النِّصَابُ فِي كُلِّ جِنْسٍ مِنْهَا مُنْفَرِدًا هَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ ، وَمَكْحُولٍ ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى ،

وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ ، وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ ، وَشَرِيكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ ؛ لِأَنَّهَا أَجْنَاسٌ ، فَاعْتُبِرَ النِّصَابُ فِي كُلِّ جِنْسٍ مِنْهَا مُنْفَرِدًا ، كَالثِّمَارِ أَيْضًا وَالْمَوَاشِي .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ ، أَنَّ الْحُبُوبَ كُلَّهَا تُضَمُّ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ .
اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ .
وَهَذَا قَوْلُ عِكْرِمَةَ ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ طَاوُسٌ .
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : لَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ الْمَاضِينَ جَمَعَ بَيْنَهُمَا إلَّا عِكْرِمَةَ .
وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا زَكَاةَ فِي حَبٍّ وَلَا ثَمَرٍ حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ } وَمَفْهُومُهُ وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِيهِ إذَا بَلَغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ .
وَلِأَنَّهَا تَتَّفِقُ فِي النِّصَابِ وَقَدْرِ الْمُخْرَجِ ، وَالْمَنْبِتِ وَالْحَصَادِ ، فَوَجَبَ ضَمُّ بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ ، كَأَنْوَاعِ الْجِنْسِ .
وَهَذَا الدَّلِيلُ مُنْتَقِضٌ بِالثِّمَارِ .
وَالثَّالِثَةُ ، أَنَّ الْحِنْطَةَ تُضَمُّ إلَى الشَّعِيرِ ، وَتُضَمُّ الْقِطْنِيَّاتُ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ .
نَقَلَهَا أَبُو الْحَارِثِ ، عَنْ أَحْمَدَ ، وَحَكَاهَا الْخِرَقِيِّ .
قَالَ الْقَاضِي : وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ .
وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ ، وَاللَّيْثِ ، إلَّا أَنَّهُ زَادَ ، فَقَالَ : السُّلْتُ ، وَالذُّرَةُ ، وَالدُّخْنُ ، وَالْأُرْزُ ، وَالْقَمْحُ ، وَالشَّعِيرُ ، صِنْفٌ وَاحِدٌ وَلَعَلَّهُ يَحْتَجُّ بِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ مُقْتَاتٌ ، فَيُضَمُّ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ ، كَأَنْوَاعِ الْحِنْطَةِ .
وَقَالَ الْحَسَنُ ، وَالزُّهْرِيُّ : تُضَمُّ الْحِنْطَةُ إلَى الشَّعِيرِ ؛ لِأَنَّهَا تَتَّفِقُ فِي الِاقْتِيَاتِ وَالْمَنْبَتِ وَالْحَصَادِ وَالْمَنَافِعِ ، فَوَجَبَ ضَمُّهَا ، كَمَا يُضَمُّ الْعَلَسُ إلَى الْحِنْطَةِ ، وَأَنْوَاعُ الْجِنْسِ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ .
وَالرِّوَايَةُ الْأُولَى أَوْلَى ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّهَا أَجْنَاسٌ يَجُوزُ التَّفَاضُلُ فِيهَا ، فَلَمْ يُضَمُّ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ كَالثِّمَارِ .
وَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَى الْعَلَسِ مَعَ الْحِنْطَةِ ؛

لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنْهَا ، وَلَا عَلَى أَنْوَاعِ الْجِنْسِ ؛ لِأَنَّ الْأَنْوَاعَ كُلَّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ يَحْرُمُ التَّفَاضُلُ فِيهَا ، وَثَبَتَ حُكْمُ الْجِنْسِ فِي جَمِيعِهَا ، بِخِلَافِ الْأَجْنَاسِ .
وَإِذَا انْقَطَعَ الْقِيَاسُ ، لَمْ يَجُزْ إيجَابُ الزَّكَاةِ بِالتَّحَكُّمِ ، وَلَا بِوَصْفٍ غَيْرِ مُعْتَبَرٍ ، ثُمَّ هُوَ بَاطِلٌ بِالثِّمَارِ ، فَإِنَّهَا تَتَّفِقُ فِيمَا ذَكَرُوهُ ، وَلَا يُضَمُّ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْوُجُوبِ ، فَمَا لَمْ يَرِدْ بِالْإِيجَابِ نَصٌّ أَوْ إجْمَاعٌ أَوْ مَعْنَاهُمَا ، لَا يَثْبُتُ إيجَابُهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَلَا خِلَافَ فِيمَا نَعْلَمُهُ فِي ضَمِّ الْحِنْطَةِ إلَى الْعَلَسِ ؛ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنْهَا .
وَعَلَى قِيَاسِهِ السُّلْتُ يُضَمُّ إلَى الشَّعِيرِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْهُ .
( 1873 ) فَصْلٌ : وَلَا تَفْرِيعَ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ ؛ لِوُضُوحِهِمَا .
فَأَمَّا الثَّالِثَةُ ، وَهِيَ ضَمُّ الْحِنْطَةِ إلَى الشَّعِيرِ ، وَالْقِطْنِيَّاتُ بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ ، فَإِنَّ الذُّرَةَ تُضَمُّ إلَى الدُّخْنِ ، لِتَقَارُبِهِمَا فِي الْمَقْصِدِ ، فَإِنَّهُمَا يُتَّخَذَانِ خُبْزًا وَأُدْمًا ، وَقَدْ ذُكِرَا مِنْ جُمْلَةِ الْقِطْنِيَّاتِ أَيْضًا ، فَيَضُمَّانِ إلَيْهَا .
وَأَمَّا الْبُزُورُ فَلَا تُضَمُّ إلَى الْقِطْنِيَّاتِ ، وَلَكِنَّ الْأَبَازِيرَ يُضَمُّ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ ؛ لِتَقَارُبِهَا فِي الْمَقْصِدِ ، فَأَشْبَهَتْ الْقِطْنِيَّاتِ .
وَحُبُوبُ الْبُقُولِ لَا تُضَمُّ إلَى الْقِطْنِيَّاتِ ، وَلَا إلَى الْبُزُورِ ، فَمَا تَقَارَبَ مِنْهَا ضُمَّ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ ، وَمَا لَا فَلَا ، وَمَا شَكَكْنَا فِيهِ لَا يُضَمُّ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْوُجُوبِ ، فَلَا يَجِبُ بِالشَّكِّ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ( 1874 ) فَصْلٌ : وَذَكَرَ الْخِرَقِيِّ فِي ضَمِّ الذَّهَبِ إلَى الْفِضَّةِ رِوَايَتَيْنِ .
وَقَدْ ذَكَرْنَاهُمَا فِيمَا مَضَى ، وَاخْتَارَ أَبُو بَكْرٍ ، أَنَّهُ لَا يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ ، مَعَ اخْتِيَارِهِ الضَّمَّ فِي الْحُبُوبِ ؛ لِاخْتِلَافِ نِصَابِهِمَا ، وَاتِّفَاقِ نِصَابِ الْحُبُوبِ .
.

( 1875 ) فَصْلٌ : وَمَتَى قُلْنَا بِالضَّمِّ ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ تُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ عَلَى قَدْرِ مَا يَخُصُّهُ ، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ جِنْسٍ عَنْ غَيْرِهِ ، فَإِنَّنَا إذَا قُلْنَا فِي أَنْوَاعِ الْجِنْسِ : يُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مَا يَخُصُّهُ .
فَأَوْلَى أَنْ يُعْتَدَّ ذَلِكَ فِي الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ ، مَعَ تَفَاوُتِ مَقَاصِدهَا ، إلَّا الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ، فَإِنَّ فِي إخْرَاجِ أَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ رِوَايَتَيْنِ .

( 1876 ) فَصْلٌ : وَيُضَمُّ زَرْعُ الْعَامِ الْوَاحِدِ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ ، سَوَاءٌ اتَّفَقَ وَقْتُ زَرْعِهِ وَإِدْرَاكِهِ ، أَوْ اخْتَلَفَ .
وَلَوْ كَانَ مِنْهُ صَيْفِيٌّ وَرَبِيعِيٌّ ، ضُمَّ الصَّيْفِيُّ إلَى الرَّبِيعِيِّ .
وَلَوْ حَصَدْت الذُّرَةَ وَالدُّخْنَ ، ثُمَّ نَبَتَ أُصُولُهُمَا يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ ؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ زَرْعُ عَامٍ وَاحِدٍ ، فَضُمَّ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ ، كَمَا لَوْ تَقَارَبَ زَرْعُهُ وَإِدْرَاكُهُ .

( 1877 ) فَصْلٌ : وَتُضَمُّ ثَمَرَةُ الْعَامِ الْوَاحِدِ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ ، سَوَاءٌ اتَّفَقَ وَقْتُ إطْلَاعِهَا وَإِدْرَاكِهَا ، أَوْ اخْتَلَفَ ، فَيُقَدَّمُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ فِي ذَلِكَ .
وَلَوْ أَنَّ الثَّمَرَةَ جُذَّتْ ثُمَّ أَطْلَعَتْ الْأُخْرَى وَجُذَّتْ ، ضُمَّتْ إحْدَاهُمَا إلَى الْأُخْرَى .
فَإِنْ كَانَ لَهُ نَخْلٌ يَحْمِلُ فِي السَّنَةِ حَمْلَيْنِ ، ضُمَّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ .
وَقَالَ الْقَاضِي : لَا يُضَمُّ .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ حَمَلٌ يَنْفَصِلُ عَنْ الْأَوَّلِ ، فَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ حَمْلِ عَامٍ آخَرَ .
وَإِنْ كَانَ لَهُ نَخْلٌ يَحْمِلُ مَرَّةً ، وَنَخْلٌ يَحْمِلُ مَرَّتَيْنِ ، ضَمَمْنَا الْحَمْلَ الْأَوَّلَ إلَى الْحَمْلِ الْمُنْفَرِدِ ، وَلَمْ يَجِبْ فِي الثَّانِي شَيْءٌ ، إلَّا أَنْ يَبْلُغَ بِمُفْرَدِهِ نِصَابًا .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ أَحَدَ الْحَمْلَيْنِ يُضَمُّ إلَى الْآخَرِ .
ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ وَابْنُ عَقِيلٍ ؛ لِأَنَّهُمَا ثَمَرَةُ عَامٍ وَاحِدٍ ، فَيُضَمُّ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ ، كَزَرْعِ الْعَامِ الْوَاحِدِ ، وَكَالذُّرَةِ الَّتِي تُنْبِتُ ، مَرَّتَيْنِ ، وَلِأَنَّ الْحَمْلَ الثَّانِي يُضَمُّ إلَى الْحَمْلِ الْمُنْفَرِدِ لَوْ لَمْ يَكُنْ حَمْلٌ أَوَّلُ ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ ، فَإِنَّ وُجُودَ الْحَمْلِ الْأَوَّلِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَانِعًا ، بِدَلِيلِ حَمَلِ الذُّرَةِ الْأَوَّلِ ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ الِانْفِصَالِ يَبْطُلُ بِالذُّرَةِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

بَابُ زَكَاةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَهِيَ وَاجِبَةٌ بِالْكِتَابِ ، وَالسُّنَّةِ ، وَالْإِجْمَاعِ زَكَاةِ .
أَمَّا الْكِتَابُ ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } .
وَالْآيَةُ الْأُخْرَى .
وَلَا يُتَوَعَّدُ بِهَذِهِ الْعُقُوبَةِ إلَّا عَلَى تَرْكِ وَاجِبٍ وَأَمَّا السُّنَّةُ ، فَمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ، قَالَ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ لَا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا ، إلَّا إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ، صُفِّحَتْ لَهُ صَفَائِحَ مِنْ نَارٍ ، فَأُحْمِيَ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ ، فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وَجَبْهَتُهُ وَظَهْرُهُ ، كُلَّمَا بَرَدَتْ أُعِيدَتْ عَلَيْهِ ، فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ، حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ بَيْنَ الْعِبَادِ } أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ .
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ ، فِي كِتَابِ أَنَسٍ : { وَفِي الرِّقَةِ رُبْعُ الْعُشْرِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ إلَّا تِسْعِينَ وَمِائَةً ، فَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ ، إلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا } .
وَالرِّقَةُ : هِيَ الدَّرَاهِمُ الْمَضْرُوبَةُ .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ فِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ ، وَعَلَى أَنَّ الذَّهَبَ إذَا كَانَ عِشْرِينَ مِثْقَالًا ، وَقِيمَتُهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ ، أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبْ فِيهِ ، إلَّا مَا اُخْتُلِفَ فِيهِ عَنْ الْحَسَنِ .

( 1878 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ : ( وَلَا زَكَاةَ فِيمَا دُونَ الْمِائَتَيْ دِرْهَمٍ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي مِلْكِهِ ذَهَبٌ أَوْ عُرُوضٌ لِلتِّجَارَةِ ، فَيُتِمُّ بِهِ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ نِصَابَ الْفِضَّةِ مِائَتَا دِرْهَمٍ ، لَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ ، وَقَدْ بَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ الَّتِي رَوَيْنَاهَا بِحَمْدِ اللَّهِ ، وَالدَّرَاهِمُ الَّتِي يُعْتَبَرُ بِهَا النِّصَابُ هِيَ الدَّرَاهِمُ الَّتِي كُلُّ عَشَرَةٍ مِنْهَا وَزْنُ سَبْعَةِ مَثَاقِيلَ بِمِثْقَالِ الذَّهَبِ ، وَكُلُّ دِرْهَمٍ نِصْفُ مِثْقَالٍ وَخُمْسُهُ ، وَهِيَ الدَّرَاهِمُ الْإِسْلَامِيَّةُ الَّتِي تُقَدَّرُ بِهَا نُصُبُ الزَّكَاةِ ، وَمِقْدَارُ الْجِزْيَةِ ، وَالدِّيَاتُ ، وَنِصَابُ الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ ، وَغَيْرُ ذَلِكَ .
وَكَانَتْ الدَّرَاهِمُ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ صِنْفَيْنِ ، سُودًا ، وَطَبَرِيَّةً ، وَكَانَتْ السُّودُ ثَمَانِيَةَ دَوَانِيقَ ، وَالطَّبَرِيَّةُ أَرْبَعَةَ دَوَانِيقَ ، فَجُمِعَا فِي الْإِسْلَامِ ، وَجُعِلَا دِرْهَمَيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ ، فِي كُلِّ دِرْهَمٍ سِتَّةُ دَوَانِيقَ ، فَعَلَ ذَلِكَ بَنُو أُمَيَّةَ ، فَاجْتَمَعَتْ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا ، أَنَّ كُلَّ عَشَرَةٍ وَزْنُ سَبْعَةٍ .
وَالثَّانِي ، أَنَّهُ عَدْلٌ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ .
وَالثَّالِثُ ، أَنَّهُ مُوَافِقٌ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدِرْهَمِهِ الَّذِي قَدَّرَ بِهِ الْمَقَادِيرَ الشَّرْعِيَّةَ .
وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ التِّبْرِ وَالْمَضْرُوبِ .
وَمَتَى نَقَصَ النِّصَابُ عَنْ ذَلِكَ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ ، سَوَاءٌ كَانَ النَّقْصُ كَثِيرًا أَوْ يَسِيرًا .
هَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَإِسْحَاقَ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ } .
وَالْأُوقِيَّةُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا .
بِغَيْرِ خِلَافٍ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ .
وَقَالَ غَيْرُ الْخِرَقِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا : إنْ كَانَ النَّقْصُ يَسِيرًا ، كَالْحَبَّةِ وَالْحَبَّتَيْنِ ، وَجَبَتْ الزَّكَاةُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُضْبَطُ غَالِبًا ،

فَهُوَ كَنَقْصِ الْحَوْلِ سَاعَةً أَوْ سَاعَتَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ نَقْصًا بَيِّنًا ، كَالدَّانَقِ وَالدَّانَقَيْنِ ، فَلَا زَكَاةَ فِيهِ .
وَعَنْ أَحْمَدَ .
أَنَّ نِصَابَ الذَّهَبِ إذَا نَقَصَ ثُلُثَ مِثْقَالٍ زَكَّاهُ .
وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَسُفْيَانَ .
وَإِنْ نَقَصَ نِصْفًا لَا زَكَاةَ فِيهِ .
وَقَالَ أَحْمَدُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : إذَا نَقَصَ ثُمْنًا لَا زَكَاةَ فِيهِ .
اخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ .
وَقَالَ مَالِكٌ : إذَا نَقَصَتْ نَقْصًا يَسِيرًا يَجُوزُ جَوَازَ الْوَازِنَةِ ، وَجَبَتْ الزَّكَاةُ ، لِأَنَّهَا تَجُوزَ جَوَازَ الْوَازِنَةِ ، أَشْبَهَتْ الْوَازِنَةَ .
وَالْأَوَّلُ ظَاهِرُ الْخَبَرِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَعْدِلَ عَنْهُ .
فَأَمَّا قَوْلُهُ : " إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي مِلْكِهِ ذَهَبٌ أَوْ عُرُوضٌ لِلتِّجَارَةِ فَيُتِمُّ بِهِ " .
فَإِنَّ عُرُوضَ التِّجَارَةِ تُضَمُّ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ، وَيَكْمُلُ بِهِ نِصَابُهُ .
لَا نَعْلَمُ فِيهِ اخْتِلَافًا .
قَالَ الْخَطَّابِيُّ : لَا أَعْلَمُ عَامَّتَهُمْ اخْتَلَفُوا فِيهِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الزَّكَاةَ إنَّمَا تَجِبْ فِي قِيمَتِهَا ، فَتُقَوَّمُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، فَتُضَمُّ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا .
وَلَوْ كَانَ لَهُ ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ وَعُرُوضٌ ، وَجَبَ ضَمُّ الْجَمِيعِ بَعْضِهِ إلَى بَعْضٍ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ ؛ لِأَنَّ الْعَرْضَ مَضْمُومٌ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، فَيَجِبُ ضَمُّهُمَا إلَيْهِ ، وَجَمْعُ الثَّلَاثَةِ .
فَأَمَّا إنْ كَانَ لَهُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مَا لَا يَبْلُغُ نِصَابًا بِمُفْرَدِهِ ، أَوْ كَانَ لَهُ نِصَابٌ مِنْ أَحَدِهِمَا وَأَقَلُّ مِنْ نِصَابٍ مِنْ الْآخَرِ ، فَقَدْ تَوَقَّفَ أَحْمَدُ عَنْ ضَمِّ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ ، فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ وَجَمَاعَةٍ ، وَقَطَعَ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ ، أَنَّهُ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ حَتَّى يَبْلُغَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصَابًا .
وَذَكَرَ الْخِرَقِيِّ فِيهِ رِوَايَتَيْنِ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ ، إحْدَاهُمَا لَا يُضَمُّ .
وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى ، وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ ، وَشَرِيكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَبِي عُبَيْدٍ ، وَأَبِي ثَوْرٍ .

وَاخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ .
} وَلِأَنَّهُمَا مَالَانِ يَخْتَلِفُ نِصَابُهُمَا ، فَلَا يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ ، كَأَجْنَاسِ الْمَاشِيَةِ ، وَالثَّانِيَةُ ، يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ .
وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ ، وَمَالِكٍ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يُضَمُّ إلَى مَا يُضَمُّ إلَيْهِ الْآخَرُ ، فَيُضَمُّ إلَى الْآخَرِ .
كَأَنْوَاعِ الْجِنْسِ ، وَلِأَنَّ نَفْعَهُمَا وَاحِدٌ ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُمَا مُتَّحِدٌ .
فَإِنَّهُمَا قِيَمُ الْمُتْلَفَاتِ ، وَأُرُوشُ الْجِنَايَاتِ ، وَأَثْمَانُ الْبِيَاعَاتِ ، وَحُلِيٌّ لِمَنْ يُرِيدُهُمَا لِذَلِكَ ، فَأَشْبَهَا النَّوْعَيْنِ ، وَالْحَدِيثُ مَخْصُوصٌ بِعَرْضِ التِّجَارَةِ ، فَنَقِيسُ عَلَيْهِ .
فَإِذَا قُلْنَا بِالضَّمِّ ، فَإِنَّ أَحَدَهُمَا يُضَمُّ إلَى الْآخَرِ بِالْأَجْزَاءِ ، يَعْنِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُحْتَسَبُ مِنْ نِصَابِهِ ، فَإِذَا كَمَلَتْ أَجْزَاؤُهُمَا نِصَابًا ، وَجَبَتْ الزَّكَاةُ ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ نِصْفُ نِصَابٍ مِنْ أَحَدِهِمَا ، وَنِصْفُ نِصَابٍ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ الْآخَرِ ، أَوْ ثُلُثٌ مِنْ أَحَدِهِمَا ، وَثُلُثَانِ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ الْآخَرِ .
فَلَوْ مَلَكَ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَعَشَرَةَ دَنَانِيرَ ، أَوْ مِائَةً وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا وَخَمْسَةَ دَنَانِيرَ ، أَوْ مِائَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا وَثَمَانِيَةَ دَنَانِيرَ ، وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِيهِمَا .
وَإِنْ نَقَصَتْ أَجْزَاؤُهُمَا عَنْ نِصَابٍ فَلَا زَكَاةَ فِيهِمَا .
سُئِلَ أَحْمَدُ ، عَنْ رَجُلٍ عِنْدَهُ ثَمَانِيَةُ دَنَانِيرَ وَمِائَةُ دِرْهَمٍ ؟ فَقَالَ : إنَّمَا قَالَ مَنْ قَالَ فِيهَا الزَّكَاةُ ، إذَا كَانَ عِنْدَهُ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ وَمِائَةُ دِرْهَمٍ .
وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ ، وَأَبِي يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٍ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ إذَا كَانَ مُنْفَرِدًا ، فَلَا تُعْتَبَرُ إذَا كَانَ عِنْدَهُ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ مَضْمُونَةً كَالْحُبُوبِ

وَالثِّمَارِ وَأَنْوَاعِ الْأَجْنَاسِ كُلِّهَا .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ ، فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ ، أَنَّهَا تُضَمُّ بِالْأَحْوَطِ مِنْ الْأَجْزَاءِ وَالْقِيمَةِ .
وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يُقَوَّمُ الْغَالِي مِنْهُمَا بِقِيمَةِ الرَّخِيصِ ، فَإِذَا بَلَغَتْ قِيمَتُهُمَا بِالرَّخِيصِ مِنْهُمَا نِصَابًا وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِيهِمَا ؛ فَلَوْ مَلَكَ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَتِسْعَةَ دَنَانِيرَ قِيمَتُهَا مِائَةُ دِرْهَمٍ ، أَوْ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ وَتِسْعِينَ دِرْهَمًا قِيمَتُهَا عَشَرَةُ دَنَانِيرَ ، وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِيهَا .
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي تَقْوِيمِ الدَّنَانِيرِ بِالْفِضَّةِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ نِصَابِ وَجَبَ فِيهِ ضَمُّ الذَّهَبِ إلَى الْفِضَّةِ ، ضُمَّ بِالْقِيمَةِ ، كَنِصَابِ الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ ، وَلِأَنَّ أَصْلَ الضَّمِّ لِتَحْصِيلِ حَظِّ الْفُقَرَاءِ ، فَكَذَلِكَ صِفَةُ الضَّمِّ .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ الْأَثْمَانَ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي أَعْيَانِهَا ، فَلَا تُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا ، كَمَا لَوْ انْفَرَدَتْ .
وَيُخَالِفُ نِصَابَ الْقَطْعِ ، فَإِنَّ نِصَابَ الْقَطْعِ فِيهِ الْوَرِقُ خَاصَّةً فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ ، وَفِي الْأُخْرَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي الذَّهَبِ حَتَّى يَبْلُغَ رُبْعَ دِينَارٍ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( 1879 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَكَذَلِكَ دُونَ الْعِشْرِينَ مِثْقَالًا ) يَعْنِي أَنَّ مَا دُونَ الْعِشْرِينَ لَا زَكَاةَ فِيهِ إلَّا أَنْ يَتِمَّ بِوَرِقٍ أَوْ عُرُوضِ تِجَارَةٍ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الذَّهَبَ إذَا كَانَ عِشْرِينَ مِثْقَالًا قِيمَتُهَا مِائَتَا دِرْهَمٍ ، أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِيهَا ، إلَّا مَا حُكِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ : لَا زَكَاةَ فِيهَا حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ عِشْرِينَ مِثْقَالًا وَلَا يَبْلُغُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ .
وَقَالَ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ : نِصَابُ الذَّهَبِ عِشْرُونَ مِثْقَالًا مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ قِيمَتِهَا ، إلَّا مَا حُكِيَ عَنْ عَطَاءٍ ، وَطَاوُسٍ ، وَالزُّهْرِيِّ ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ ، وَأَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ ، أَنَّهُمْ قَالُوا : هُوَ مُعْتَبَرٌ بِالْفِضَّةِ ، فَمَا كَانَ قِيمَتُهُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ ، فَفِيهِ الزَّكَاةُ ، وَإِلَّا فَلَا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقْدِيرٌ فِي نِصَابِهِ ، فَثَبَتَ أَنَّهُ حَمَلَهُ عَلَى الْفِضَّةِ .
وَلَنَا مَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَيْسَ فِي أَقَلَّ مِنْ عِشْرِينَ مِثْقَالًا مِنْ الذَّهَبِ ، وَلَا فِي أَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ صَدَقَةٌ } .
رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ .
وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، وَعَائِشَةَ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْخُذُ مِنْ كُلِّ عِشْرِينَ دِينَارًا فَصَاعِدًا نِصْفَ دِينَارٍ ، وَمِنْ الْأَرْبَعِينَ دِينَارًا دِينَارًا } .
وَرَوَى سَعِيدٌ ، وَالْأَثْرَمُ ، عَنْ عَلِيٍّ : " فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِينَارًا دِينَارًا ، وَفِي كُلِّ عِشْرِينَ دِينَارًا نِصْفَ دِينَارٍ " ، وَرَوَاهُ غَيْرُهُمَا مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَلِأَنَّهُ مَالٌ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهِ ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ بِغَيْرِهِ ، كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ الزَّكَوِيَّةِ .

( 1880 ) فَصْلٌ : وَمَنْ مَلَكَ ذَهَبًا ، أَوْ فِضَّةً مَغْشُوشَةً ، أَوْ مُخْتَلِطًا بِغَيْرِهِ ، فَلَا زَكَاةَ فِيهِ ، حَتَّى يَبْلُغَ قَدْرُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ نِصَابًا ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنْ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ .
} فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ قَدْرَ مَا فِيهِ مِنْهُمَا ، وَشَكَّ هَلْ بَلَغَ نِصَابًا أَوْ لَا ، خُيِّرَ بَيْنَ سَبْكِهِمَا لِيَعْلَمَ قَدْرَ مَا فِيهِ مِنْهُمَا ، وَبَيْنَ أَنْ يَسْتَظْهِرَ وَيُخْرِجَ ، لِيَسْقُطَ الْفَرْضُ بِيَقِينٍ .
فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يُخْرِجَ اسْتِظْهَارًا ، فَأَرَادَ إخْرَاجَ الزَّكَاةِ مِنْ الْمَغْشُوشَةِ ، نَظَرْت ، فَإِنْ كَانَ الْغِشُّ لَا يَخْتَلِفُ ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ الْغِشُّ فِي كُلِّ دِينَارٍ سُدُسَهُ ، وَعَلِمَ ذَلِكَ ، جَازَ أَنْ يُخْرِجَ مِنْهَا ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُخْرِجًا لِرُبْعِ الْعُشْرِ .
وَإِنْ اخْتَلَفَ قَدْرُ مَا فِيهَا ، أَوْ لَمْ يُعْلَمْ ، لَمْ يَجُزْهُ الْإِخْرَاجُ مِنْهَا ، إلَّا أَنْ يَسْتَظْهِرَهُ ، بِحَيْثُ يَتَيَقَّنُ أَنَّ مَا أَخْرَجَهُ مِنْ الذَّهَبِ مُحِيطٌ بِقَدْرِ الزَّكَاةِ .
وَإِنْ أَخْرَجَ عَنْهَا ذَهَبًا لَا غِشَّ فِيهِ ، فَهُوَ أَفْضَلُ ، وَإِنْ أَرَادَ إسْقَاطَ الْغِشِّ ، وَإِخْرَاجَ الزَّكَاةِ عَنْ قَدْرِ مَا فِيهِ مِنْ الذَّهَبِ ، كَمَنْ مَعَهُ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ دِينَارًا ، سُدُسُهَا غِشٌّ ، فَأَسْقَطَ السُّدُسَ أَرْبَعَةً ، وَأَخْرَجَ نِصْفَ دِينَارٍ عَنْ عِشْرِينَ ، جَازَ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ سَبَكَهَا لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا ذَلِكَ ، وَلِأَنَّ غِشَّهَا لَا زَكَاةَ فِيهِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ فِضَّةً ، وَلَهُ مِنْ الْفِضَّةِ مَا يَتِمُّ بِهِ النِّصَابُ ، أَوْ لَهُ نِصَابٌ سِوَاهُ ، فَيَكُونُ عَلَيْهِ زَكَاةُ الْغِشِّ حِينَئِذٍ .
وَكَذَلِكَ إنَّ قُلْنَا بِضَمِّ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ إلَى الْآخَرِ .
وَإِذَا ادَّعَى رَبُّ الْمَالِ أَنَّهُ يَعْلَمُ الْغِشَّ ، أَوْ أَنَّهُ اسْتَظْهَرَهُ وَأَخْرَجَ الْفَرْضَ ، قُبِلَ مِنْهُ بِغَيْرِ يَمِينٍ .
وَإِنْ زَادَتْ قِيمَةُ الْمَغْشُوشِ بِالْغِشِّ ، فَصَارَتْ قِيمَةُ الْعِشْرِينَ تُسَاوِي اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ ، فَعَلَيْهِ إخْرَاجُ رُبْعِ عُشْرِهَا مِمَّا قِيمَتُهُ كَقِيمَتِهَا ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ

إخْرَاجَ زَكَاةِ الْمَالِ الْجَيِّدِ مِنْ جِنْسِهِ ، بِحَيْثُ لَا يَنْقُصُ عَنْ قِيمَتِهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( فَإِذَا تَمَّتْ ، فَفِيهَا رُبْعُ الْعُشْرِ ) .
يَعْنِي إذَا تَمَّتْ الْفِضَّةُ مِائَتَيْنِ ، وَالدَّنَانِيرُ عِشْرِينَ ، فَالْوَاجِبُ فِيهَا رُبْعُ عُشْرِهَا .
وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أَنَّ زَكَاةَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ رُبْعُ عَشْرِهَا ، فَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { فِي الرِّقَةِ رُبْعُ الْعُشْرِ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { هَاتُوا رُبْعَ الْعُشُورِ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمًا ، وَلَيْسَ فِي تِسْعِينَ وَمِائَةٍ شَيْءٌ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ : قَالَ الْبُخَارِيُّ ، فِي هَذَا الْحَدِيثِ : هُوَ صَحِيحٌ عِنْدِي .
وَرَوَاهُ سَعِيدٌ ، وَلَفْظُهُ : " فَهَاتُوا صَدَقَةَ الرِّقَةِ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمًا " .
وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ فِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ ، وَعَائِشَةُ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْخُذُ مِنْ كُلِّ عِشْرِينَ دِينَارًا فَصَاعِدًا نِصْفَ دِينَارٍ ، وَمِنْ الْأَرْبَعِينَ دِينَارًا دِينَارًا .
}

( 1882 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَفِي زِيَادَتِهَا وَإِنْ قَلَّتْ ) رُوِيَ هَذَا عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا .
وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَمَالِكٌ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٌ ، وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَعَطَاءٌ ، وَطَاوُسٌ ، وَالْحَسَنُ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَمَكْحُولٌ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ : لَا شَيْءَ فِي زِيَادَةِ الدَّرَاهِمِ حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ ، وَلَا فِي زِيَادَةِ الدَّنَانِيرِ حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعَةَ دَنَانِيرِ ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمًا } .
وَعَنْ مُعَاذٍ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا بَلَغَ الْوَرِقُ مِائَتَيْنِ ، فَفِيهِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ ، ثُمَّ لَا شَيْءَ فِيهِ حَتَّى يَبْلُغَ إلَى أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا .
} وَهَذَا نَصٌّ .
وَلِأَنَّ لَهُ عَفْوًا فِي الِابْتِدَاءِ ، فَكَانَ لَهُ عَفْوٌ بَعْدَ النِّصَابِ ، كَالْمَاشِيَةِ .
وَلَنَا ، مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { هَاتُوا رُبْعَ الْعُشْرِ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمًا ، وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ شَيْءٌ حَتَّى يَتِمَّ مِائَتَيْنِ ، فَإِذَا كَانَتْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ ، فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ ، فَمَا زَادَ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ .
} رَوَاهُ الْأَثْرَمُ ، وَالدَّارَقُطْنِيّ .
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ ، وَالْحَارِثِ ، عَنْ عَلِيٍّ ، إلَّا أَنَّهُ قَالَ : أَحْسَبُهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ مَوْقُوفًا عَلَيْهِمْ ، وَلَمْ نَعْرِفْ لَهُمَا مُخَالِفًا مِنْ الصَّحَابَةِ ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا .
وَلِأَنَّهُ مَالٌ مُتَّجَرٌ ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ عَفْوٌ بَعْدَ النِّصَابِ كَالْحُبُوبِ .
وَمَا احْتَجُّوا بِهِ مِنْ الْخَبَرِ الْأَوَّلِ فَهُوَ احْتِجَاجٌ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ ، وَالْمَنْطُوقُ مُقَدَّمٌ

عَلَيْهِ .
وَالْحَدِيثُ الْآخَرُ يَرْوِيه أَبُو الْعَطُوفِ الْجَرَّاحُ بْنُ مِنْهَالٍ ، وَهُوَ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ .
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ ، وَقَالَ مَالِكٌ : هُوَ دَجَّالٌ مِنْ الدَّجَاجِلَةِ .
وَيَرْوِيه عَنْ عُبَادَةَ بْنِ نُسَيٍّ ، عَنْ مُعَاذٍ ، وَلَمْ يَلْقَ عُبَادَةَ مُعَاذًا ، فَيَكُونُ مُرْسَلًا .
وَالْمَاشِيَةُ يَشُقُّ تَشْقِيصُهَا ، بِخِلَافِ الْأَثْمَانِ .

( 1883 ) فَصْلٌ : وَيُخْرِجُ الزَّكَاةَ مِنْ جِنْسِ مَالِهِ .
فَإِنْ كَانَ أَنْوَاعًا مُتَسَاوِيَةَ الْقِيَمِ ، جَازَ أَنْ يُخْرِجَ الزَّكَاةَ مِنْ أَحَدِهَا ، كَمَا تُخْرَجُ مِنْ أَحَدِ نَوْعَيْ الْغَنَمِ .
وَإِنْ كَانَتْ مُخْتَلِفَةَ الْقِيَمِ أَخَذَ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مَا يَخُصُّهُ .
وَإِنْ أَخْرَجَ مِنْ أَوْسَطِهَا مَا يَفِي بِقَدْرِ الْوَاجِبِ وَقِيمَتِهِ ، جَازَ .
وَإِنْ أَخْرَجَ الْفَرْضَ مِنْ أَجْوَدِهَا بِقَدْرِ الْوَاجِبِ ، جَازَ ، وَلَهُ ثَوَابُ الزِّيَادَةِ .
وَإِنْ أَخْرَجَهُ بِالْقِيمَةِ ، مِثْلُ أَنْ يُخْرِجَ عَنْ نِصْفِ دِينَارٍ ثُلُثَ دِينَارٍ جَيِّدٍ ، لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصَّ عَلَى نِصْفِ دِينَارٍ ، فَلَمْ يَجُزْ النَّقْصُ مِنْهُ .
وَإِنْ أَخْرَجَ مِنْ الْأَدْنَى ، وَزَادَ فِي الْمُخْرَجِ مَا يَفِي بِقِيمَةِ الْوَاجِبِ ، مِثْلُ أَنْ يُخْرِجَ عَنْ دِينَارٍ دِينَارًا وَنِصْفًا يَفِي بِقِيمَتِهِ ، جَازَ .
وَكَذَلِكَ لَوْ أَخْرَجَ عَنْ الصِّحَاحِ مُكَسَّرَةً ، وَزَادَ بِقَدْرِ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْفَضْلِ ، جَازَ ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى الْوَاجِبَ عَلَيْهِ قِيمَةً وَقَدْرًا .
وَإِنْ أَخْرَجَ عَنْ كَثِيرِ الْقِيمَةِ قَلِيلَ الْقِيمَةِ ، فَكَذَلِكَ .
فَإِنْ أَخْرَجَ بَهْرَجًا عَنْ الْجَيِّدِ ، وَزَادَ بِقَدْرِ مَا يُسَاوِي قِيمَةَ الْجَيِّدِ ، فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : يَجُوزُ .
وَقَالَ الْقَاضِي : يَلْزَمُهُ إخْرَاجُ جَيِّدٍ ، وَلَا يَرْجِعُ فِيمَا أَخْرَجَهُ مِنْ الْمَعِيبِ ؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَ مَعِيبًا فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَخْرَجَ مَرِيضَةً عَنْ صِحَاحٍ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، إلَّا أَنَّ أَصْحَابَهُ قَالُوا : لَهُ الرُّجُوعُ فِيمَا أَخْرَجَ مِنْ الْمَعِيبِ ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجُوزُ إخْرَاجُ الرَّدِيئَةِ عَنْ الْجَيِّدَةِ ، وَالْمَكْسُورَةِ عَنْ الصَّحِيحَةِ ، مِنْ غَيْرِ جُبْرَانٍ ؛ لِأَنَّ الْجَوْدَةَ إذَا لَاقَتْ جِنْسَهَا فِيمَا فِيهِ الرِّبَا لَا قِيمَةَ لَهَا .
وَلَنَا ، أَنَّ الْجَوْدَةَ مُتَقَوِّمَةٌ ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ أَتْلَفَ جَيِّدًا ، لَمْ يُجْزِئْهُ أَنْ يَدْفَعَ عَنْهُ رَدِيئًا ، وَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَجْبُرْهُ

بِمَا يُتِمُّ بِهِ قِيمَةَ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ ، دَخَلَ فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ } .
وَلِأَنَّهُ أَخْرَجَ رَدِيئًا عَنْ جَيِّدٍ بِقَدْرِهِ ، فَلَمْ يَجُزْ ، كَمَا فِي الْمَاشِيَةِ ، وَلِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ مَعْلُومُ الْقَدْرِ وَالصِّفَةِ ، فَلَمْ يَجُزْ النَّقْصُ فِي الصِّفَةِ ، كَمَا لَا يَجُوزُ فِي الْقَدْرِ .
وَأَمَّا الرِّبَا فَلَا يَجْرِي هَاهُنَا ؛ لِأَنَّ الْمُخْرَجَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى ، وَلَا رِبَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَسَيِّدِهِ ، وَلِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ فِي الْمِعْيَارِ الشَّرْعِيِّ إنَّمَا اُعْتُبِرَتْ فِي الْمُعَاوَضَاتِ ، وَالْقَصْدُ مِنْ الزَّكَاةِ الْمُوَاسَاةُ ، وَإِغْنَاءُ الْفَقِيرِ ، وَشُكْرُ نِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى ، فَلَا يَدْخُلُ الرِّبَا فِيهَا .
فَإِنْ قِيلَ : فَلَوْ أَخْرَجَ فِي الْمَاشِيَةِ رَدِيئَتَيْنِ عَنْ جَيِّدَةٍ ، أَوْ أَخْرَجَ قَفِيزَيْنِ رَدِيئَيْنِ عَنْ قَفِيزٍ جَيِّدٍ ، لَمْ يَجُزْ ، فَلِمَ أَجَزْتُمْ أَنْ يُخْرِجَ عَنْ الصَّحِيحِ أَكْثَرَ مِنْهُ مُكَسَّرًا ؟ قُلْنَا : يَجُوزُ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي إخْرَاجِهِ عَيْبٌ سِوَى نَقْصِ الْقِيمَةِ ، وَإِنْ سَلَّمْنَاهُ ، فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْقَصْدَ مِنْ الْأَثْمَانِ الْقِيمَةُ لَا غَيْرُ ، فَإِذَا تَسَاوَى الْوَاجِبُ وَالْمُخْرَجُ فِي الْقِيمَةِ وَالْقَدْرِ ، جَازَ ، وَسَائِرُ الْأَمْوَالِ يُقْصَدُ الِانْتِفَاعُ بِعَيْنِهَا ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ التَّسَاوِي فِي الْأَمْرَيْنِ الْإِجْزَاءُ ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَفُوتَ بَعْضُ الْمَقْصُودِ .

( 1884 ) فَصْلٌ : وَهَلْ يَجُوزُ إخْرَاجُ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ عَنْ الْآخَرِ ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ .
نَصَّ عَلَيْهِمَا ؛ إحْدَاهُمَا ، لَا يَجُوزُ .
وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ ؛ لِأَنَّ أَنْوَاعَ الْجِنْسِ لَا يَجُوزُ إخْرَاجُ أَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ إذَا كَانَ أَقَلَّ فِي الْمِقْدَارِ ، فَمَعَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ أَوْلَى .
وَالثَّانِيَةُ ، يَجُوزُ ، وَهُوَ أَصَحُّ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ أَحَدِهِمَا يَحْصُلُ بِإِخْرَاجِ الْآخَرِ ، فَيُجْزِئُ ، كَأَنْوَاعِ الْجِنْسِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُمَا جَمِيعًا الثَّمَنِيَّةُ وَالتَّوَسُّلُ بِهَا إلَى الْمَقَاصِدِ ، وَهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِيهِ عَلَى السَّوَاءِ ، فَأَشْبَهَ إخْرَاجَ الْمُكَسَّرَةِ عَنْ الصِّحَاحِ ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَجْنَاسِ وَالْأَنْوَاعِ ، مِمَّا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ ، فَإِنَّ لِكُلِّ جِنْسٍ مَقْصُودًا مُخْتَصًّا بِهِ ، لَا يَحْصُلُ مِنْ الْجِنْسِ الْآخَرِ ، وَكَذَلِكَ أَنْوَاعُهَا ، فَلَا يَحْصُلُ بِإِخْرَاجِ غَيْرِ الْوَاجِبِ مِنْ الْحِكْمَةِ مَا يَحْصُلُ بِإِخْرَاجِ الْوَاجِبِ ، وَهَا هُنَا الْمَقْصُودُ حَاصِلٌ ، فَوَجَبَ إجْزَاؤُهُ ، إذْ لَا فَائِدَةَ بِاخْتِصَاصِ الْإِجْزَاءِ بِعَيْنٍ ، مَعَ مُسَاوَاةِ غَيْرِهَا لَهَا فِي الْحِكْمَةِ وَكَوْنِ ذَلِكَ أَرْفَقَ بِالْمُعْطِي وَالْآخِذِ ، وَأَنْفَعَ لَهُمَا ، وَيَنْدَفِعُ بِهِ الضَّرَرُ عَنْهُمَا ، فَإِنَّهُ لَوْ تَعَيَّنَ إخْرَاجُ زَكَاةِ الدَّنَانِيرِ مِنْهَا ، شَقَّ عَلَى مِنْ يَمْلِكُ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ دِينَارًا إخْرَاجُ جُزْءٍ مِنْ دِينَارٍ ، وَيَحْتَاجُ إلَى التَّشْقِيصِ ، وَمُشَارَكَةِ الْفَقِيرِ لَهُ فِي دِينَارٍ مِنْ مَالِهِ ، أَوْ بَيْعِ أَحَدِهِمَا نَصِيبَهُ ، فَيَسْتَضِرُّ الْمَالِكُ وَالْفَقِيرُ ، وَإِذَا جَازَ إخْرَاجُ الدَّرَاهِمِ عَنْهَا ، دَفَعَ إلَى الْفَقِيرِ مِنْ الدَّرَاهِمِ بِقَدْرِ الْوَاجِبِ ، فَيَسْهُلُ ذَلِكَ عَلَيْهِ ، وَيَنْتَفِعُ الْفَقِيرُ مِنْ غَيْرِ كُلْفَةٍ وَلَا مَضَرَّةٍ .
وَلِأَنَّهُ إذَا دَفَعَ إلَى الْفَقِيرِ قِطْعَةً مِنْ الذَّهَبِ فِي مَوْضِعٍ لَا يُتَعَامَلُ بِهَا فِيهِ ، أَوْ قِطْعَةً مِنْ دِرْهَمٍ فِي مَكَان لَا يُتَعَامَلُ بِهَا فِيهِ ، لَمْ يَقْدِرْ عَلَى

قَضَاءِ حَاجَتِهِ بِهَا ، وَإِنْ أَرَادَ بَيْعَهَا بِحَسَبِ مَا يُتَعَامَلُ بِهَا احْتَاجَ إلَى كُلْفَةِ الْبَيْعِ ، وَرُبَّمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ ، وَلَا يُفِيدُهُ شَيْئًا ، وَإِنْ أَمْكَنَ بَيْعُهَا احْتَاجَ إلَى كُلْفَةِ الْبَيْعِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا تَنْقُصُ عِوَضُهَا عَنْ قِيمَتِهَا ، فَقَدْ دَارَ بَيْنَ ضَرَرَيْنِ ، وَفِي جَوَازِ إخْرَاجِ أَحَدِهِمَا عَنْ الْآخِرِ نَفْعٌ مَحْضٌ ، وَدَفْعٌ لِهَذَا الضَّرَرِ ، وَتَحْصِيلٌ لِحِكْمَةِ الزَّكَاةِ عَلَى التَّمَامِ وَالْكَمَالِ ، فَلَا حَاجَةَ وَلَا وَجْهَ لِمَنْعِهِ ، وَإِنْ تُوُهِّمَتْ هَاهُنَا مَنْفَعَةٌ تَفُوتُ بِذَلِكَ ، فَهِيَ يَسِيرَةٌ مَغْمُورَةٌ ، فِيمَا يَحْصُلُ مِنْ النَّفْعِ الظَّاهِرِ ، وَيَنْدَفِعُ مِنْ الضَّرَرِ وَالْمَشَقَّةِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ، فَلَا يُعْتَبَرُ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ الْإِبْدَالُ فِي مَوْضِعٍ يَلْحَقُ الْفَقِيرَ ضَرَرٌ ، مِثْلُ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ مَا لَا يُنْفِقُ عِوَضًا عَمَّا يُنْفِقُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَجُزْ إخْرَاجُ أَحَدِ النَّوْعَيْنِ عَنْ الْآخَرِ مَعَ الضَّرَرِ ، فَمَعَ غَيْرِهِ أَوْلَى .
وَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ مِنْ الْجِنْسِ ، وَاخْتَارَ الْفَقِيرُ الْأَخْذَ مِنْ غَيْرِهِ ؛ لِضَرَرٍ يَلْحَقُهُ فِي أَخْذِ الْجِنْسِ ، لَمْ يَلْزَمْ الْمَالِكَ إجَابَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَدَّى مَا فُرِضَ عَلَيْهِ ، لَمْ يُكَلَّفْ سِوَاهُ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( 1885 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَلَيْسَ فِي حُلِيِّ الْمَرْأَةِ زَكَاةٌ إذَا كَانَ مِمَّا تَلْبَسُهُ أَوْ تُعِيرُهُ ) هَذَا ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، وَجَابِرٍ ، وَأَنَسٍ ، وَعَائِشَةَ ، وَأَسْمَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَبِهِ قَالَ الْقَاسِمُ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَقَتَادَةُ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ ، وَعَمْرَةُ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو عُبَيْدٍ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ .
وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي مُوسَى عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةً أُخْرَى ، أَنَّهُ فِيهِ الزَّكَاةُ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ ، وَابْنِ مَسْعُودٍ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، وَعَطَاءٍ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ ، وَابْنِ سِيرِينَ ، وَمَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ ، وَالزُّهْرِيِّ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { فِي الرِّقَةِ رُبْعُ الْعُشْرِ ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ .
} مَفْهُومُهُ أَنَّ فِيهَا صَدَقَةً إذَا بَلَغَتْ خَمْسَ أَوَاقٍ .
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، قَالَ : { أَتَتْ امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهَا ابْنَةٌ لَهَا فِي يَدَيْهَا مَسْكَتَانِ مِنْ ذَهَبٍ ، فَقَالَ : هَلْ تُعْطِينَ زَكَاةَ هَذَا ؟ قَالَتْ : لَا .
قَالَ : أَيَسُرُّك أَنْ يُسَوِّرَك اللَّهُ بِسِوَارَيْنِ مِنْ نَارٍ ؟ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَلِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ ، أَشْبَهَ التِّبْرَ .
وَقَالَ مَالِكٌ : يُزَكَّى عَامًا وَاحِدًا .
وَقَالَ الْحَسَنُ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُتْبَةَ ، وَقَتَادَةُ : زَكَاتُهُ عَارِيَّتُهُ .
قَالَ أَحْمَدُ : خَمْسَةٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُونَ : لَيْسَ فِي الْحُلِيِّ زَكَاةٌ .
وَيَقُولُونَ : زَكَاتُهُ عَارِيَّتُهُ .
وَوَجْهُ الْأَوَّلِ ، مَا رَوَى عَافِيَةُ بْنُ أَيُّوبَ ، عَنْ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ ، عَنْ جَابِرٍ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

أَنَّهُ قَالَ : { لَيْسَ فِي الْحُلِيِّ زَكَاةٌ } .
وَلِأَنَّهُ مَرْصَدٌ لِاسْتِعْمَالِ مُبَاحٍ ، فَلَمْ تَجِبْ فِيهِ الزَّكَاةُ ، كَالْعَوَامِلِ ، وَثِيَابِ الْقُنْيَةِ .
وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي احْتَجُّوا بِهَا ، فَلَا تَتَنَاوَلُ مَحِلَّ النِّزَاعِ ؛ لِأَنَّ الرِّقَةَ هِيَ الدَّرَاهِمُ الْمَضْرُوبَةُ .
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : لَا نَعْلَمُ هَذَا الِاسْمَ فِي الْكَلَامِ الْمَعْقُولِ عِنْدَ الْعَرَبِ إلَّا عَلَى الدَّرَاهِمِ الْمَنْقُوشَةِ ، ذَاتِ السِّكَّةِ السَّائِرَةِ فِي النَّاسِ .
وَكَذَلِكَ الْأَوَاقِي لَيْسَ مَعْنَاهَا إلَّا الدَّرَاهِمَ كُلُّ أُوقِيَّةٍ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا .
وَأَمَّا حَدِيثُ الْمَسْكَتَيْنِ ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : لَا نَعْلَمُهُ إلَّا مِنْ وَجْهٍ قَدْ تَكَلَّمَ النَّاسُ فِيهِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا .
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ : لَيْسَ يَصِحُّ فِي هَذَا الْبَابِ شَيْءٌ .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالزَّكَاةِ إعَارَتَهُ ، كَمَا فَسَّرَهُ بِهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ ، وَذَهَبَ إلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَغَيْرُهُمْ وَالتِّبْرُ غَيْرُ مُعَدٍّ لِلِاسْتِعْمَالِ ، بِخِلَافِ الْحُلِيِّ .
وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ " إذَا كَانَ مِمَّا تَلْبَسُهُ أَوْ تُعِيرُهُ " .
يَعْنِي أَنَّهُ إنَّمَا تَسْقُطُ عَنْهُ الزَّكَاةُ إذَا كَانَ كَذَلِكَ أَوْ مُعَدًّا لَهُ فَأَمَّا الْمُعَدُّ لِلْكِرَى أَوْ النَّفَقَةِ إذَا اُحْتِيجَ إلَيْهِ ، فَفِيهِ الزَّكَاةُ ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَسْقُطُ عَمَّا أُعِدَّ لِلِاسْتِعْمَالِ ، لِصَرْفِهِ عَنْ جِهَةِ النَّمَاءِ ، فَفِيمَا عَدَاهُ يَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ ، وَكَذَلِكَ مَا اُتُّخِذَ حِلْيَةً فِرَارًا مِنْ الزَّكَاةِ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ .
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الْحُلِيِّ الْمُبَاحِ مَمْلُوكًا لِامْرَأَةِ تَلْبَسُهُ أَوْ تُعِيرُهُ ، أَوْ لِرَجُلٍ يُحَلِّي بِهِ أَهْلَهُ ، أَوْ يُعِيرُهُ أَوْ يُعِدُّهُ لِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مَصْرُوفٌ عَنْ جِهَةِ النَّمَاءِ إلَى اسْتِعْمَالٍ مُبَاحٍ ، أَشْبَهَ حَلْيَ الْمَرْأَةِ .

( 1886 ) فَصْلٌ وَقَلِيلُ الْحُلِيِّ وَكَثِيرُهُ سَوَاءٌ فِي الْإِبَاحَةِ وَالزَّكَاةِ .
وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ يُبَاحُ مَا لَمْ يَبْلُغْ أَلْفَ مِثْقَالٍ ، فَإِنْ بَلَغَهَا حَرُمَ ، وَفِيهِ الزَّكَاةُ ؛ لِمَا رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ ، وَالْأَثْرَمُ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ ؟ قَالَ : سُئِلَ جَابِرٌ عَنْ الْحُلِيِّ ، هَلْ فِيهِ زَكَاةٌ ؟ قَالَ : لَا .
فَقِيلَ لَهُ : أَلْفُ دِينَارٍ ؟ فَقَالَ : إنَّ ذَلِكَ لَكَثِيرٌ .
وَلِأَنَّهُ يَخْرُجُ إلَى السَّرَفِ وَالْخُيَلَاءِ ، وَلَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الِاسْتِعْمَالِ ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَبَاحَ التَّحَلِّي مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ ، فَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُهُ بِالرَّأْيِ وَالتَّحَكُّمِ ، وَحَدِيثُ جَابِرٍ لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي نَفْيِ الْوُجُوبِ .
وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى التَّوَقُّفِ ، ثُمَّ قَدْ رُوِيَ عَنْهُ خِلَافُهُ ، فَرَوَى الْجُوزَجَانِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ ، قَالَ : سَأَلْت جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ ، عَنْ الْحُلِيِّ فِيهِ زَكَاةٌ ؟ قَالَ : لَا .
قُلْت : إنَّ الْحُلِيَّ يَكُونُ فِيهِ أَلْفُ دِينَارٍ .
قَالَ : وَإِنْ كَانَ فِيهِ ، يُعَارُ وَيُلْبَسُ .
ثُمَّ إنَّ قَوْلَ جَابِرٍ قَوْلُ صَحَابِيٍّ خَالَفَهُ غَيْرُهُ مِمَّنْ أَبَاحَهُ مُطْلَقًا بِغَيْرِ تَقْيِيدٍ ، فَلَا يَبْقَى قَوْلُهُ حُجَّةً ، وَالتَّقْيِيدُ بِالرَّأْيِ الْمُطْلَقِ وَالتَّحَكُّمُ غَيْرُ جَائِزٍ .

( 1887 ) فَصْلٌ : وَإِذَا انْكَسَرَ الْحُلِيُّ كَسْرًا لَا يَمْنَعُ الِاسْتِعْمَالَ وَاللُّبْسَ ، فَهُوَ كَالصَّحِيحِ ، لَا زَكَاةَ فِيهِ ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَ كَسْرَهُ وَسَبْكَهُ ، فَفِيهِ الزَّكَاةُ حِينَئِذٍ ، لِأَنَّهُ نَوَى صَرْفَهُ عَنْ الِاسْتِعْمَالِ .
وَإِنْ كَانَ الْكَسْرُ يَمْنَعُ الِاسْتِعْمَالَ ، فَقَالَ الْقَاضِي : عِنْدِي أَنَّ فِيهِ الزَّكَاةَ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ بِمَنْزِلَةِ النُّقُودِ وَالتِّبْرِ .

( 1888 ) فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ الْحُلِيُّ لِلُّبْسِ ، فَنَوَتْ بِهِ الْمَرْأَةُ التِّجَارَةَ ، انْعَقَدَ عَلَيْهِ حَوْلُ الزَّكَاةِ مِنْ حِينِ نَوَتْ ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ هُوَ الْأَصْلُ ، وَإِنَّمَا انْصَرَفَ عَنْهُ لِعَارِضِ الِاسْتِعْمَالِ ، فَعَادَ إلَى الْأَصْلِ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ مِنْ غَيْرِ اسْتِعْمَالٍ ، فَهُوَ كَمَا لَوْ نَوَى بِعَرْضِ التِّجَارَةِ الْقُنْيَةَ ، انْصَرَفَ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِعْمَالٍ .

( 1889 ) فَصْلٌ : وَيُعْتَبَرُ فِي النِّصَابِ فِي الْحُلِيِّ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ بِالْوَزْنِ ، فَلَوْ مَلَكَ حُلِيًّا قِيمَتُهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ ، وَوَزْنُهُ دُونَ الْمِائَتَيْنِ ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ زَكَاةٌ .
وَإِنْ بَلَغَ مِائَتَيْنِ وَزْنًا ، فَفِيهِ الزَّكَاةُ ، وَإِنْ نَقَصَ فِي الْقِيمَةِ ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنْ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ .
} .
اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْحُلِيُّ لِلتِّجَارَةِ فَيُقَوَّمُ ، فَإِذَا بَلَغَتْ قِيمَتُهُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ نِصَابًا ، فَفِيهِ الزَّكَاةُ ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْقِيمَةِ ، وَمَا لَمْ يَكُنْ لِلتِّجَارَةِ فَالزَّكَاةُ فِي عَيْنِهِ ، فَيُعْتَبَرُ أَنْ يَبْلُغَ بِقِيمَتِهِ وَوَزْنِهِ نِصَابًا ، وَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ إخْرَاجِ رُبْعِ عُشْرِ حُلِيِّهِ مَشَاعًا ، أَوْ دَفْعِ مَا يُسَاوِي رُبْعَ عُشْرِهَا مِنْ جِنْسِهَا ، وَإِنْ زَادَ فِي الْوَزْنِ عَلَى رُبْعِ الْعُشْرِ ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الرِّبَا لَا يَجْرِي هَاهُنَا .
وَلَوْ أَرَادَ كَسْرَهَا وَدَفَعَ رُبْعَ عُشْرِهَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ يَنْقُصُ قِيمَتَهَا .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ مَالِكٌ الِاعْتِبَارُ بِالْوَزْنِ ، وَإِذَا كَانَ وَزْنُ الْحُلِيِّ عِشْرِينَ وَقِيمَتُهُ ثَلَاثُونَ ، فَعَلَيْهِ نِصْفُ مِثْقَالٍ ، لَا تَزِيدُ قِيمَتُهُ شَيْئًا ؛ لِأَنَّهُ نِصَابٌ مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ ، فَتَعَلَّقَتْ الزَّكَاةُ بِوَزْنِهِ ، لَا بِصِفَتِهِ ، كَالدَّرَاهِمِ الْمَضْرُوبَةِ .
وَلَنَا ، أَنَّ الصِّنَاعَةَ صَارَتْ صِفَةً لِلنِّصَابِ لَهَا قِيمَةٌ مَقْصُودَةٌ ، فَوَجَبَ اعْتِبَارُهَا كَالْجَوْدَةِ فِي سَائِرِ أَمْوَالِ الزَّكَاةِ .
وَدَلِيلُهُمْ نَقُولُ بِهِ ، وَأَنَّ الزَّكَاةَ تَتَعَلَّقُ بِوَزْنِهِ وَصِفَتِهِ جَمِيعًا ، كَالْجَيِّدِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ، وَالْمَوَاشِي ، وَالْحُبُوبِ ، وَالثِّمَارِ ، فَإِنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ إخْرَاجُ رَدِيءٍ عَنْ جَيِّدٍ ، كَذَلِكَ هَاهُنَا .
وَإِنْ أَرَادَ إخْرَاجَ الْفِضَّةِ عَنْ حُلِيِّ الذَّهَبِ ، أَوْ الذَّهَبِ عَنْ الْفِضَّةِ ، أَخْرَجَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ ، كَمَا قَدَّمْنَا فِي إخْرَاجِ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ

عَنْ الْآخَرِ .
وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي قَدْرِ النِّصَابِ أَيْضًا بِالْقِيمَةِ ، فَلَوْ مَلَكَ حُلِيًّا وَزْنُهُ تِسْعَةَ عَشَرَ ، وَقِيمَتُهُ عِشْرُونَ لِأَجْلِ الصِّنَاعَةِ ، فَفِيهِ الزَّكَاةُ ، وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ اعْتِبَارُ الْوَزْنِ ، وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ ، لِقَوْلِهِ : { لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ } .
وَلِأَنَّهُ مَالٌ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهِ ، فَلَا تُعْتَبَرُ قِيمَةُ الدَّنَانِيرِ الْمَضْرُوبَةِ ، لِأَنَّ زِيَادَةَ الْقِيمَةِ بِالصِّنَاعَةِ ، كَزِيَادَتِهَا بِنَفَاسَةِ جَوْهَرِهِ ، فَكَمَا لَا تَجِبُ الزِّيَادَةُ فِيمَا كَانَ نَفِيسَ الْجَوْهَرِ ، كَذَلِكَ الْآخَرُ .

( 1890 ) فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَ فِي الْحُلِيِّ جَوْهَرٌ وَلَآلِئُ مُرَصَّعَةٌ ، فَالزَّكَاةُ فِي الْحُلِيِّ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ دُونَ الْجَوْهَرِ ، لِأَنَّهَا لَا زَكَاةَ فِيهَا عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ .
فَإِنْ كَانَ الْحُلِيُّ لِلتِّجَارَةِ ، قَوَّمَهُ بِمَا فِيهِ مِنْ الْجَوَاهِرِ ؛ لِأَنَّ الْجَوَاهِرَ لَوْ كَانَتْ مُفْرَدَةً وَهِيَ لِلتِّجَارَةِ ، لَقُوِّمَتْ وَزُكِّيَتْ ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ فِي حُلِيِّ التِّجَارَةِ .

( 1891 ) فَصْلٌ : وَإِذَا اتَّخَذَتْ الْمَرْأَةُ حُلِيًّا لَيْسَ لَهَا اتِّخَاذُهُ ، كَمَا إذَا اتَّخَذَتْ حِلْيَةَ الرِّجَالِ كَحِلْيَةِ السَّيْفِ وَالْمِنْطَقَةِ ، فَهُوَ مُحَرَّمٌ ، وَعَلَيْهَا الزَّكَاةُ ، كَمَا لَوْ اتَّخَذَ الرَّجُلُ حُلِيَّ الْمَرْأَةِ .

( 1892 ) فَصْلٌ : وَيُبَاحُ لِلنِّسَاءِ مِنْ حُلِيِّ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْجَوَاهِرِ كُلُّ مَا جَرَتْ عَادَتُهُنَّ بِلُبْسِهِ ، مِثْلُ السِّوَارِ وَالْخَلْخَالِ وَالْقُرْطِ وَالْخَاتَمِ ، وَمَا يَلْبَسْنَهُ عَلَى وُجُوهِهِنَّ ، وَفِي أَعْنَاقِهِنَّ ، وَأَيْدِيهِنَّ ، وَأَرْجُلِهِنَّ ، وَآذَانِهِنَّ وَغَيْرِهِ ، فَأَمَّا مَا لَمْ تَجْرِ عَادَتُهُنَّ بِلُبْسِهِ ، كَالْمِنْطَقَةِ وَشِبْهِهَا مِنْ حُلِيِّ الرِّجَالِ ، فَهُوَ مُحَرَّمٌ ، وَعَلَيْهَا زَكَاتُهُ ، كَمَا لَوْ اتَّخَذَ الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ حُلِيَّ الْمَرْأَةِ .

( 1893 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَلَيْسَ فِي حِلْيَةِ سَيْفِ الرَّجُلِ وَمِنْطَقَتِهِ وَخَاتَمِهِ زَكَاةٌ وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَا كَانَ مُبَاحًا مِنْ الْحُلِيِّ ، فَلَا زَكَاةَ فِيهِ إذَا كَانَ مُعَدًّا لِلِاسْتِعْمَالِ ، سَوَاءٌ كَانَ لِرَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ ؛ لِأَنَّهُ مَصْرُوفٌ عَنْ جِهَةِ النَّمَاءِ إلَى اسْتِعْمَالٍ مُبَاحٍ ، فَأَشْبَهَ ثِيَابَ الْبِذْلَةِ وَعَوَامِلَ الْمَاشِيَةِ ، وَيُبَاحُ لِلرِّجَالِ مِنْ الْفِضَّةِ الْخَاتَمُ ؛ { لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ .
} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَحِلْيَةُ السَّيْفِ ، بِأَنْ تُجْعَلَ قَبِيعَتُهُ فِضَّةً أَوْ تَحْلِيَتُهَا بِفِضَّةٍ ؛ فَإِنَّ أَنَسًا قَالَ : { كَانَتْ قَبِيعَةُ سَيْفِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِضَّةً .
} وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ : كَانَ سَيْفُ الزُّبَيْرِ مُحَلًّى بِالْفِضَّةِ .
رَوَاهُمَا الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ .
وَالْمِنْطَقَةُ تُبَاحُ تَحْلِيَتُهَا بِالْفِضَّةِ ؛ لِأَنَّهَا حِلْيَةٌ مُعْتَادَةٌ لِلرَّجُلِ ، فَهِيَ كَالْخَاتَمِ وَقَدْ نُقِلَ كَرَاهَةُ ذَلِكَ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ ، فَهُوَ كَالطَّوْقِ ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الطَّوْقَ لَيْسَ بِمُعْتَادٍ فِي حَقِّ الرَّجُلِ ، بِخِلَافِ الْمِنْطَقَةِ .
وَعَلَى قِيَاسِ الْمِنْطَقَةِ ، الْجَوْشَنُ ، وَالْخُوذَةُ ، وَالْخُفُّ ، وَالرَّانُ ، وَالْحَمَائِلُ .
وَتُبَاحُ الْفِضَّةُ فِي الْإِنَاءِ وَمَا أَشْبَهَهَا ؛ لِلْحَاجَةِ ، وَنَعْنِي بِالْحَاجَةِ أَنَّهُ يُنْتَفَعُ بِهَا فِي ذَلِكَ ، وَإِنْ قَامَ غَيْرُهَا مَقَامَهَا .
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ ، أَنَسٍ { أَنَّ قَدَحَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْكَسَرَ ، فَاتَّخَذَ مَكَانَ الشَّعْبِ سِلْسِلَةً مِنْ فِضَّةٍ .
} وَقَالَ الْقَاضِي : يُبَاحُ الْيَسِيرُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِحَاجَةٍ .
وَإِنَّمَا كَرِهَ أَحْمَدُ الْحَلْقَةَ فِي الْإِنَاءِ ؛ لِأَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ .
وَأَمَّا الذَّهَبُ ، فَيُبَاحُ مِنْهُ مَا دَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَيْهِ ، كَالْأَنْفِ فِي حَقِّ مِنْ قُطِعَ أَنْفُهُ ؛ لِمَا رُوِيَ { عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ طُرْفَةَ ، أَنَّ جَدَّهُ عَرْفَجَةَ بْنَ

أَسْعَدَ .
قُطِعَ أَنْفُهُ يَوْمَ الْكِلَابِ ، فَاتَّخَذَ أَنْفًا مِنْ وَرِقٍ فَأَنْتَنَ عَلَيْهِ ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاتَّخَذَ أَنْفًا مِنْ ذَهَبٍ .
} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : رَبْطُ الْأَسْنَانِ بِالذَّهَبِ إذَا خُشِيَ عَلَيْهَا أَنْ تَسْقُطَ قَدْ فَعَلَهُ النَّاسُ ، فَلَا بَأْسَ بِهِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ .
وَرَوَى الْأَثْرَمُ ، عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ ، وَأَبِي جَمْرَةَ الضُّبَعِيُّ ، وَأَبِي رَافِعٍ ، وَثَابِتٍ اسْتَرْقُوا وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ زَيْدٍ بْنِ ثَابِتٍ ، وَالْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، أَنَّهُمْ شَدُّوا أَسْنَانَهُمْ بِالذَّهَبِ .
وَعَنْ الْحَسَنِ ، وَالزُّهْرِيِّ ، وَالنَّخَعِيِّ ، أَنَّهُمْ رَخَّصُوا فِيهِ .
وَمَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ الذَّهَبِ ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ ، رَحِمَهُ اللَّهُ ، الرُّخْصَةُ فِيهِ فِي السَّيْفِ .
قَالَ الْأَثْرَمُ ، قَالَ أَحْمَدُ : قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ فِي سَيْفِ عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ مِسْمَارٌ مِنْ ذَهَبٍ ، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فَذَاكَ الْآنَ فِي السَّيْفِ .
وَقَالَ : إنَّهُ كَانَ لِعُمَرَ سَيْفٌ سَبَائِكُهُ مِنْ ذَهَبٍ .
مِنْ حَدِيثِ إسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ ، عَنْ نَافِعٍ .
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ مَزْيَدَةَ الْعَصَرِيِّ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَكَّةَ وَعَلَى سَيْفِهِ ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ .
} وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى تَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ .
قَالَ الْأَثْرَمُ : قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : يَخَافُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْقُطَ يَجْعَلُ فِيهِ مِسْمَارًا مِنْ ذَهَبٍ ؟ قَالَ : إنَّمَا رُخِّصَ فِي الْأَسْنَانِ ، وَذَلِكَ إنَّمَا هُوَ عَلَى الضَّرُورَةِ ، فَأَمَّا الْمِسْمَارُ ، فَقَدْ رُوِيَ : { مَنْ تَحَلَّى بِخُرَيْصِيصَةٍ ، كُوِيَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
قُلْت : أَيُّ شَيْءٍ خُرَيْصِيصَةٌ ؟ قَالَ : شَيْءٌ صَغِيرٌ مِثْلُ الشُّعَيْرَةِ .
وَرَوَى الْأَثْرَمُ أَيْضًا ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ ، قَالَ : { مَنْ حُلِّيَ ، أَوْ تَحَلَّى بِخُرَيْصِيصَةٍ ، كُوِيَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، مَغْفُورًا لَهُ

أَوْ مُعَذَّبًا } .
وَحُكِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا ، أَنَّهُ أَبَاحَ يَسِيرَ الذَّهَبِ ، وَلَعَلَّهُ يَحْتَجُّ بِمَا رَوَيْنَاهُ مِنْ الْأَخْبَارِ ، وَبِقِيَاسِ الذَّهَبِ عَلَى الْفِضَّةِ ، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ الْمُحَرَّمَةِ عَلَى الذُّكُورِ دُونَ الْإِنَاثِ ، فَلَمْ يَحْرُمْ يَسِيرُهُ كَسَائِرِهَا ، وَكُلُّ مَا أُبِيحَ مِنْ الْحُلِيِّ ، فَلَا زَكَاةَ فِيهِ ، إذَا كَانَ مُعَدًّا لِلِاسْتِعْمَالِ .

( 1894 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَالْمُتَّخِذُ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ عَاصٍ ، وَفِيهَا الزَّكَاةُ ) وَجُمْلَتُهُ ، أَنَّ اتِّخَاذَ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ حَرَامٌ عَلَى النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ جَمِيعًا ، وَكَذَلِكَ اسْتِعْمَالُهُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ : لَا يَحْرُمُ اتِّخَاذُهَا ؛ لِأَنَّ النَّصَّ إنَّمَا وَرَدَ فِي تَحْرِيمِ الِاسْتِعْمَالِ ، فَيَبْقَى إبَاحَةُ الِاتِّخَاذِ عَلَى مُقْتَضَى الْأَصْلِ فِي الْإِبَاحَةِ .
وَلَنَا ، أَنَّ مَا حَرُمَ اسْتِعْمَالُهُ حَرُمَ اتِّخَاذُهُ عَلَى هَيْئَةِ الِاسْتِعْمَالِ كَالْمَلَاهِي ، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الرِّجَالُ ، وَالنِّسَاءُ ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الْمُقْتَضِيَ لِلتَّحْرِيمِ يَعُمُّهَا ، وَهُوَ الْإِفْضَاءُ إلَى السَّرَفِ وَالْخُيَلَاءِ ، وَكَسْرِ قُلُوبِ الْفُقَرَاءِ ، فَيَسْتَوِيَانِ فِي التَّحْرِيمِ ، وَإِنَّمَا أُحِلَّ لِلنِّسَاءِ التَّحَلِّي لِحَاجَتِهِنَّ إلَيْهِ لِلتَّزَيُّنِ لِلْأَزْوَاجِ ، وَلَيْسَ هَذَا بِمَوْجُودٍ فِي الْآنِيَةِ ، فَيَبْقَى عَلَى التَّحْرِيمِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّ فِيهَا الزَّكَاةَ ، بِغَيْرِ خِلَافٍ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَلَا زَكَاةَ فِيهَا حَتَّى تَبْلُغَ نِصَابًا بِالْوَزْنِ ، أَوْ يَكُونَ عِنْدَهُ مَا يَبْلُغُ نِصَابًا بِضَمِّهَا إلَيْهِ .
وَإِنْ زَادَتْ قِيمَتُهُ لِصِنَاعَتِهِ ، فَلَا عِبْرَةَ بِهَا ؛ لِأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ فَلَا قِيمَةَ لَهَا فِي الشَّرْعِ ، وَلَهُ أَنْ يُخْرِجَ عَنْهَا قَدْرَ رُبْعِ عُشْرِهَا بِقِيمَتِهِ غَيْرَ مَصُوغٍ .
وَإِنْ أَحَبَّ كَسْرَهَا ، أَخْرَجَ رُبْعَ عُشْرِهَا مَكْسُورًا ، وَإِنْ أَخْرَجَ رُبْعَ عُشْرِهَا مَصُوغًا ، جَازَ ؛ لِأَنَّ الصِّنَاعَةَ لَمْ تَنْقُصْهَا عَنْ قِيمَةِ الْمَكْسُورِ .
وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ وَجْهًا فِي اعْتِبَارِ قِيمَتِهَا .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

( 1895 ) فَصْلٌ : وَكُلُّ مَا كَانَ اتِّخَاذُهُ مُحَرَّمًا مِنْ الْأَثْمَانِ ، لَمْ تَسْقُطْ زَكَاتُهُ بِاِتِّخَاذِهِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِيهَا ، لِكَوْنِهَا مَخْلُوقَةً لِلتِّجَارَةِ ، وَالتَّوَسُّلِ بِهَا إلَى غَيْرِهَا ، وَلَمْ يُوجَدْ مَا يَمْنَعُ ذَلِكَ ، فَبَقِيَتْ عَلَى أَصْلِهَا .
قَالَ أَحْمَدُ : مَا كَانَ عَلَى سَرْجٍ أَوْ لِجَامٍ ، فَفِيهِ الزَّكَاةُ .
وَنَصَّ عَلَى حِلْيَةِ الثُّفْرِ وَالرِّكَابِ وَاللِّجَامِ ، أَنَّهُ مُحَرَّمٌ .
وَقَالَ ، فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ : أَكْرَهُ رَأْسَ الْمُكْحُلَةِ فِضَّةً .
ثُمَّ قَالَ : وَهَذَا شَيْءٌ تَأَوَّلْته .
وَعَلَى قِيَاسِ مَا ذَكَرَهُ ، حِلْيَةُ الدَّوَاةِ ، وَالْمِقْلَمَةِ ، وَالسَّرْجِ ، وَنَحْوِهِ مِمَّا عَلَى الدَّابَّةِ .
وَلَوْ مَوَّهَ سَقْفَهُ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ ، فَهُوَ مُحَرَّمٌ ، وَفِيهِ الزَّكَاةُ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ : يُبَاحُ ؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِلْمُبَاحِ ، فَيَتْبَعُهُ فِي الْإِبَاحَةِ .
وَلَنَا ، أَنَّ هَذَا إسْرَافٌ ، وَيُفْضِي فِعْلُهُ إلَى الْخُيَلَاءِ ، وَكَسْرِ قُلُوبِ الْفُقَرَاءِ ، فَحَرُمَ ، كَاِتِّخَاذِ الْآنِيَةِ ، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ التَّخَتُّمِ بِخَاتَمِ الذَّهَبِ لِلرَّجُلِ ، فَتَمْوِيهُ السَّقْفِ أَوْلَى .
وَإِنْ صَارَ التَّمْوِيهُ الَّذِي فِي السَّقْفِ مُسْتَهْلَكًا لَا يَجْتَمِعُ مِنْهُ شَيْءٌ ، لَمْ تَحْرُمْ اسْتِدَامَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي إتْلَافِهِ وَإِزَالَتِهِ ، وَلَا زَكَاةَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ مَالِيَّتَهُ ذَهَبَتْ وَإِنْ لَمْ تَذْهَبْ مَالِيَّتُهُ ، وَلَمْ يَكُنْ مُسْتَهْلَكًا ، حَرُمَتْ اسْتَدَامَتْهُ .
وَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَمَّا وَلِي ، أَرَادَ جَمْعَ مَا فِي مَسْجِدِ دِمَشْقَ مِمَّا مُوِّهَ بِهِ مِنْ الذَّهَبِ ، فَقِيلَ لَهُ : إنَّهُ لَا يَجْتَمِعُ مِنْهُ شَيْءٌ .
فَتَرَكَهُ .
وَلَا يَجُوزُ تَحْلِيَةُ الْمَصَاحِفِ وَلَا الْمَحَارِيبِ ، وَلَا اتِّخَاذَ قَنَادِيلَ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ؛ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْآنِيَةِ .
وَإِنْ وَقَفَهَا عَلَى مَسْجِدٍ أَوْ نَحْوِهِ لَمْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِبِرٍّ وَلَا مَعْرُوفٍ ، وَيَكُونُ ذَلِكَ

بِمَنْزِلَةِ الصَّدَقَةِ ، فَيُكْسَرُ وَيُصْرَفُ فِي مَصْلَحَةِ الْمَسْجِدِ وَعِمَارَتِهِ .
وَكَذَلِكَ إنَّ حَبَسَ الرَّجُلُ فَرَسًا لَهُ لِجَامٌ مُفَضَّضٌ .
وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ : فِي الرَّجُلِ يَقِفُ فَرَسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَمَعَهُ لِجَامٌ مُفَضَّضٌ : فَهُوَ عَلَى مَا وَقَفَهُ ، وَإِنْ بِيعَتْ الْفِضَّةُ مِنْ السَّرْجِ وَاللِّجَامِ وَجُعِلَتْ فِي وَقْفِ مِثْلِهِ فَهُوَ أَحَبُّ إلَيَّ ؛ لِأَنَّ الْفِضَّةَ لَا يُنْتَفَعُ بِهَا ، وَلَعَلَّهُ يَشْتَرِي بِذَلِكَ سَرْجًا وَلِجَامًا ، فَيَكُونُ أَنْفَعَ لِلْمُسْلِمِينَ .
قِيلَ : فَتُبَاعُ الْفِضَّةُ ، وَيُنْفِقُ عَلَى الْفَرَسِ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى إبَاحَةِ حِلْيَةِ السَّرْجِ وَاللِّجَامِ بِالْفِضَّةِ ، لَوْلَا ذَلِكَ لَمَا قَالَ : هُوَ عَلَى مَا وَقَفَ .
وَهَذَا لِأَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِهِ ، فَأَشْبَهَ حِلْيَةَ الْمِنْطَقَةِ .
وَإِذَا قُلْنَا بِتَحْرِيمِهَا فَصَارَ بِحَيْثُ لَا يَجْتَمِعُ مِنْهُ شَيْءٌ ، لَمْ يَحْرُمْ اسْتَدَامَتْهُ ، كَقَوْلِنَا فِي تَمْوِيهِ السَّقْفِ ، وَأَبَاحَ الْقَاضِي عِلَاقَةَ الْمُصْحَفِ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً لِلنِّسَاءِ خَاصَّةً .
وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ ؛ لِأَنَّ حِلْيَةَ الْمَرْأَةِ مَا لَبِسَتْهُ ، وَتَحَلَّتْ بِهِ فِي بَدَنِهَا أَوْ ثِيَابِهَا ، وَمَا عَدَاهُ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْأَوَانِي ، لَا يُبَاحُ لِلنِّسَاءِ مِنْهُ إلَّا مَا أُبِيحَ لِلرِّجَالِ .
وَلَوْ أُبِيحَ لَهَا ذَلِكَ لَأُبِيحَ عِلَاقَةُ الْأَوَانِي وَالْأَدْرَاجِ وَنَحْوِهِمَا .
ذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ .
( 1896 ) فَصْلٌ : وَكُلُّ مَا يَحْرُمُ اتِّخَاذُهُ ، فَفِيهِ الزَّكَاةُ إذَا كَانَ نِصَابًا ، أَوْ بَلَغَ بِضَمِّهِ إلَى مَا عِنْدَهُ نِصَابًا ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ .

( 1897 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَمَا كَانَ مِنْ الرِّكَازِ ، وَهُوَ دِفْنُ الْجَاهِلِيَّةِ ، قَلَّ أَوْ كَثُرَ ، فَفِيهِ الْخَمْسُ لِأَهْلِ الصَّدَقَاتِ ، وَبَاقِيه لَهُ الدِّفْنُ ، بِكَسْرِ الدَّالِ : الْمَدْفُونُ .
وَالرِّكَازُ : الْمَدْفُونُ فِي الْأَرْضِ .
وَاشْتِقَاقُهُ مِنْ رَكَزَ يَرْكِزُ .
مِثْلُ غَرَزَ يَغْرِزُ : إذَا خَفِيَ .
يُقَالُ : رَكَزَ الرُّمْحَ ، إذَا غَرَزَ أَسْفَلَهُ فِي الْأَرْضِ .
وَمِنْهُ الرِّكْزُ ، وَهُوَ الصَّوْتُ الْخَفِيُّ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا } .
وَالْأَصْلُ فِي صَدَقَةِ الرِّكَازِ ، مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ ، وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ .
} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَهُوَ أَيْضًا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ لَا نَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَ هَذَا الْحَدِيثَ ، إلَّا الْحَسَنَ فَإِنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ مَا يُوجَدُ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ ، وَأَرْضِ الْعَرَبِ ، فَقَالَ : فِيمَا يُوجَدُ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ الْخُمْسُ ، وَفِيمَا يُوجَدُ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ الزَّكَاةُ .

( 1898 ) فَصْلٌ : وَأَوْجَبَ الْخُمْسَ فِي الْجَمِيعِ الزُّهْرِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَأَصْحَابُهُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ ، وَغَيْرُهُمْ .
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى خَمْسَةِ فُصُولٍ : ( 1899 ) الْفَصْلُ الْأَوَّلُ ، أَنَّ الرِّكَازَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الْخُمْسِ مَا كَانَ مِنْ دِفْنِ الْجَاهِلِيَّةِ .
هَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ ، وَالشَّعْبِيِّ ، وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَبِي ثَوْرٍ .
وَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ بِأَنْ تُرَى عَلَيْهِ عَلَامَاتُهُمْ ، كَأَسْمَاءِ مُلُوكِهِمْ ، وَصُوَرِهِمْ وَصُلُبِهِمْ ، وَصُوَرِ أَصْنَامِهِمْ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ .
فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ عَلَامَةُ الْإِسْلَامِ ، أَوْ اسْمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ أَحَدٌ مِنْ خُلَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ ، أَوْ وَالٍ لَهُمْ ، أَوْ آيَةٌ مِنْ قُرْآنِ أَوَنَحْوُ ذَلِكَ ، فَهُوَ لُقَطَةٌ ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُ مُسْلِمٍ لَمْ يُعْلَمْ زَوَالُهُ عَنْهُ .
وَإِنْ كَانَ عَلَى بَعْضِهِ عَلَامَةُ الْإِسْلَامِ ، وَعَلَى بَعْضِهِ عَلَامَةُ الْكُفْرِ ، فَكَذَلِكَ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ صَارَ إلَى مُسْلِمٍ ، وَلَمْ يُعْلَمْ زَوَالُهُ عَنْ مِلْكِ الْمُسْلِمِينَ ، فَأَشْبَهَ مَا عَلَى جَمِيعِهِ عَلَامَةُ الْمُسْلِمِينَ .

( 1900 ) الْفَصْلُ الثَّانِي ، فِي مَوْضِعِهِ ، وَلَا يَخْلُو مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا ، أَنْ يَجِدَهُ فِي مَوَاتٍ ، أَوْ مَا لَا يُعْلَمُ لَهُ مَالِكٌ ، مِثْلُ الْأَرْضِ الَّتِي يُوجَدُ فِيهَا آثَارُ الْمُلْكِ ، كَالْأَبْنِيَةِ الْقَدِيمَةِ ، وَالتُّلُولِ ، وَجُدْرَانِ الْجَاهِلِيَّةِ ، وَقُبُورِهِمْ .
فَهَذَا فِيهِ الْخُمْسُ بِغَيْرِ خِلَافٍ ، سِوَى مَا ذَكَرْنَاهُ .
وَلَوْ وَجَدَهُ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ عَلَى وَجْهِهَا ، أَوْ فِي طَرِيقٍ غَيْرِ مَسْلُوكٍ ، أَوْ قَرْيَةٍ خَرَابٍ ، فَهُوَ كَذَلِكَ فِي الْحُكْمِ ؛ لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، قَالَ : { سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ اللُّقَطَةِ ؟ فَقَالَ : مَا كَانَ فِي طَرِيقٍ مَأْتِيٍّ ، أَوْ فِي قَرْيَةٍ عَامِرَةٍ ، فَعَرِّفْهَا سَنَةً ، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا ، وَإِلَّا فَلَكَ ، وَمَا لَمْ يَكُنْ فِي طَرِيقٍ مَأْتِيٍّ ، وَلَا فِي قَرْيَةٍ عَامِرَةٍ ، فَفِيهِ وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ } رَوَاهُ النَّسَائِيّ .
الْقِسْمُ الثَّانِي ، أَنْ يَجِدَهُ فِي مِلْكِهِ الْمُنْتَقِلِ إلَيْهِ ، فَهُوَ لَهُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ مَالُ كَافِرٍ مَظْهُورٌ عَلَيْهِ فِي الْإِسْلَامِ ، فَكَانَ لِمَنْ ظَهَرَ عَلَيْهِ كَالْغَنَائِمِ ، وَلِأَنَّ الرِّكَازَ لَا يُمْلَكُ بِمِلْكِ الْأَرْضِ ، لِأَنَّهُ مُودَعٌ فِيهَا ، وَإِنَّمَا يُمْلَكُ بِالظُّهُورِ عَلَيْهِ ، وَهَذَا قَدْ ظَهَرَ عَلَيْهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَمْلِكَهُ .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ ، هُوَ لِلْمَالِكِ قَبْلَهُ إنْ اعْتَرَفَ بِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَرِفْ بِهِ فَهُوَ لِلَّذِي قَبْلَهُ كَذَلِكَ إلَى أَوَّلِ مَالِكٍ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ كَانَتْ يَدُهُ عَلَى الدَّارِ ، فَكَانَتْ عَلَى مَا فِيهَا .
وَإِنْ انْتَقَلَتْ الدَّارُ بِالْمِيرَاثِ ، حُكِمَ بِأَنَّهُ مِيرَاثٌ ، فَإِنْ اتَّفَقَ الْوَرَثَةُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِمَوْرُوثِهِمْ ، فَهُوَ لِأَوَّلِ مَالِكٍ فَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ أَوَّلُ مَالِكٍ ، فَهُوَ كَالْمَالِ الضَّائِعِ الَّذِي لَا يُعْرَفْ لَهُ مَالِكٌ .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ الرِّكَازَ لَا يُمْلَكُ بِمِلْكِ

الدَّارِ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَجْزَائِهَا وَإِنَّمَا هُوَ مُودَعٌ فِيهَا ، فَيَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْمُبَاحَاتِ مِنْ الْحَشِيشِ وَالْحَطَبِ وَالصَّيْدِ يَجِدُهُ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ ، فَيَأْخُذُهُ ، فَيَكُونُ أَحَقَّ بِهِ ، لَكِنْ إنْ ادَّعَى الْمَالِكُ الَّذِي انْتَقَلَ الْمِلْكُ عَنْهُ أَنَّهُ لَهُ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّ يَدَهُ كَانَتْ عَلَيْهِ ، لِكَوْنِهَا عَلَى مَحِلِّهِ ، وَإِنْ لَمْ يَدَّعِهِ ، فَهُوَ لِوَاجِدِهِ .
وَإِنْ اخْتَلَفَ الْوَرَثَةُ ، فَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ لِمُوَرِّثِهِمْ ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ الْبَاقُونَ ، فَحُكْمُ مَنْ أَنْكَرَ فِي نَصِيبِهِ حُكْمُ الْمَالِكِ الَّذِي لَمْ يَعْتَرِفْ بِهِ ، وَحُكْمُ الْمُعْتَرِفِينَ حُكْمُ الْمَالِكِ الْمُعْتَرِفِ .
الْقِسْمُ الثَّالِثُ ، أَنْ يَجِدَهُ فِي مِلْكِ آدَمِيٍّ مُسْلِمٍ مَعْصُومٍ أَوْ ذِمِّيٍّ ، فَعَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لِصَاحِبِ الدَّارِ ؛ فَإِنَّهُ قَالَ ، فِي مَنْ اسْتَأْجَرَ حَفَّارًا لِيَحْفِرَ فِي دَارِهِ ، فَأَصَابَ فِي الدَّارِ كَنْزًا عَادِيًّا : فَهُوَ لِصَاحِبِ الدَّارِ .
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ .
وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لِوَاجِدِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِي مَسْأَلَةِ مَنْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا لِيَحْفِرَ لَهُ فِي دَارِهِ ، فَأَصَابَ فِي الدَّارِ كَنْزًا : فَهُوَ لِلْأَجِيرِ .
نَقَلَ ذَلِكَ عَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْكَحَّالُ .
قَالَ الْقَاضِي هُوَ الصَّحِيحُ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرِّكَازَ لِوَاجِدِهِ .
وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ ، وَأَبِي ثَوْرٍ .
وَاسْتَحْسَنَهُ أَبُو يُوسُفَ .
وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكَنْزَ لَا يُمْلَكُ بِمِلْكِ الدَّارِ ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْقِسْمِ الَّذِي قَبْلَهُ ، فَيَكُونُ لِمَنْ وَجَدَهُ ، لَكِنْ إنْ ادَّعَاهُ الْمَالِكُ .
فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّ يَدَهُ عَلَيْهِ بِكَوْنِهَا عَلَى مَحِلِّهِ .
وَإِنْ لَمْ يَدَّعِهِ ، فَهُوَ لِوَاجِدِهِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : هُوَ لِمَالِكِ الدَّارِ إنْ اعْتَرَفَ بِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَرِفْ بِهِ ، فَهُوَ لِأَوَّلِ مَالِكٍ ، لِأَنَّهُ فِي يَدِهِ .
وَيُخَرَّجُ لَنَا مِثْلُ ذَلِكَ ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ

مِنْ الرِّوَايَةِ فِي الْقِسْمِ الَّذِي قَبْلَهُ .
وَإِنْ اسْتَأْجَرَ حَفَّارًا لِيَحْفِرَ لَهُ طَلَبًا لِكَنْزٍ يَجِدُهُ ، فَوَجَدَهُ ، فَلَا شَيْءَ لِلْأَجِيرِ ، وَيَكُونُ الْوَاجِدُ لَهُ هُوَ الْمُسْتَأْجِرُ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِذَلِكَ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَحْتَشَّ لَهُ أَوْ يَصْطَادَ ، فَإِنَّ الْحَاصِلَ مِنْ ذَلِكَ لِلْمُسْتَأْجِرِ دُونَ الْأَجِيرِ .
وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ لَأَمْرٍ غَيْرِ طَلَبِ الرِّكَازِ ، فَالْوَاجِدُ لَهُ هُوَ الْأَجِيرُ .
وَهَكَذَا قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : إذَا اسْتَأْجَرْت أَجِيرًا لِيَحْفِرَ لِي فِي دَارِي ، فَوَجَدَ كَنْزًا ، فَهُوَ لَهُ .
وَإِنْ قُلْت : اسْتَأْجَرْتُكَ لِتَحْفِرَ لِي هَاهُنَا .
رَجَاءَ أَنَّ أَجِدَ كَنْزًا ، فَسَمَّيْت لَهُ ، فَلَهُ أَجْرُهُ ، وَلِي مَا يُوجَدُ .
( 1901 ) فَصْلٌ : وَإِنْ اكْتَرَى دَارًا ، فَوَجَدَ فِيهَا رِكَازًا ، فَهُوَ لِوَاجِدِهِ ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ، وَالْآخَرُ هُوَ لِلْمَالِكِ ، بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ ، فِي مَنْ وَجَدَ رِكَازًا فِي مِلْكٍ انْتَقَلَ إلَيْهِ ، وَإِنْ اخْتَلَفَا ، فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا : هَذَا لِي .
فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا ، الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ ؛ لِأَنَّ الدِّفْنَ تَابِعٌ لِلْأَرْضِ .
وَالثَّانِي ، الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُكْتَرِي ؛ لِأَنَّ هَذَا مُودَعٌ فِي الْأَرْضِ ، وَلَيْسَ مِنْهَا ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ مِنْ يَدُهُ عَلَيْهَا ، كَالْقُمَاشِ .
الْقِسْمُ الرَّابِعُ ، أَنْ يَجِدَهُ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ إلَّا بِجَمَاعَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، فَهُوَ غَنِيمَةٌ لَهُمْ ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ ، فَهُوَ لِوَاجِدِهِ ، حُكْمُهُ حُكْمُ مَا لَوْ وَجَدَهُ فِي مَوَاتٍ فِي أَرْضِ الْمُسْلِمِينَ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ : إنْ عُرِفَ مَالِكُ الْأَرْضِ ، وَكَانَ حَرْبِيًّا ، فَهُوَ غَنِيمَةٌ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ فِي حِرْزِ مَالِكٍ مُعَيَّنٍ ؛ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَخَذَهُ مِنْ بَيْتٍ أَوْ خِزَانَةٍ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ لَيْسَ لِمَوْضِعِهِ مَالِكٌ مُحْتَرَمٌ ، أَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يُعْرَفْ مَالِكُهُ .
وَيُخَرَّجُ لَنَا مِثْلُ قَوْلِهِمْ ، بِنَاءً عَلَى قَوْلِنَا إنَّ

الرِّكَازَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ يَكُونُ لِمَالِكِ الْأَرْضِ .

( 1902 ) الْفَصْلُ الثَّالِثُ ، فِي صِفَةِ الرِّكَازِ الَّذِي فِيهِ الْخُمْسُ ، وَهُوَ كُلُّ مَا كَانَ مَالًا عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ ، مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ وَالصُّفْرِ وَالنُّحَاسِ وَالْآنِيَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ .
وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ ، وَأَبِي عُبَيْدٍ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ ، وَالْقَوْلُ الْآخَرُ : لَا تَجِبُ إلَّا فِي الْأَثْمَانِ .
وَلَنَا ، عُمُومُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ } .
وَلِأَنَّهُ مَالٌ مَظْهُورٌ عَلَيْهِ مِنْ مَالِ الْكُفَّارِ ، فَوَجَبَ فِيهِ الْخُمْسُ مَعَ اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ ، كَالْغَنِيمَةِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ الْخُمُسَ يَجِبُ فِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ ، فِي قَوْلِ إمَامِنَا ، وَمَالِكٍ ، وَإِسْحَاقَ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ ، وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ .
وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ : يُعْتَبَرُ النِّصَابُ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ مَالٍ يَجِبْ فِيمَا اُسْتُخْرِجَ مِنْ الْأَرْضِ ، فَاعْتُبِرَ فِيهِ النِّصَابُ ، كَالْمَعْدِنِ وَالزَّرْعِ .
وَلَنَا ، عُمُومُ الْحَدِيثِ ، وَلِأَنَّهُ مَالٌ مَخْمُوسٌ ، فَلَا يُعْتَبَرُ لَهُ نِصَابٌ ، كَالْغَنِيمَةِ ، وَلِأَنَّهُ مَالُ كَافِرٍ مَظْهُورٌ عَلَيْهِ فِي الْإِسْلَامِ ، فَأَشْبَهَ الْغَنِيمَةَ ، وَالْمَعْدِنُ وَالزَّرْعُ يَحْتَاجُ إلَى عَمَلٍ وَنَوَائِبَ ، فَاعْتُبِرَ فِيهِ النِّصَابُ تَخْفِيفًا ، بِخِلَافِ الرِّكَازِ ، وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِمَا مُوَاسَاةٌ ، فَاعْتُبِرَ النِّصَابُ لِيَبْلُغَ حَدًّا يَحْتَمِلُ الْمُوَاسَاةَ مِنْهُ ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا .

( 1903 ) الْفَصْلُ الرَّابِعُ ، فِي قَدْرِ الْوَاجِبِ فِي الرِّكَازِ ، وَمَصْرِفِهِ ، أَمَّا قَدْرُهُ فَهُوَ الْخُمْسُ ؛ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ الْحَدِيثِ وَالْإِجْمَاعِ ، وَأَمَّا مَصْرِفُهُ فَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِيهِ ، مَعَ مَا فِيهِ مِنْ اخْتِلَافِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
فَقَالَ الْخِرَقِيِّ : هُوَ لِأَهْلِ الصَّدَقَاتِ .
وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ ، فَقَالَ : يُعْطِي الْخُمْسَ مِنْ الرِّكَازِ عَلَى مَكَانِهِ ، وَإِنْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَى الْمَسَاكِينِ أَجْزَأَهُ .
وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ عَلَيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ ، أَمَرَ صَاحِبَ الْكَنْزِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى الْمَسَاكِينِ .
حَكَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، وَقَالَ : حَدَّثَنَا سَعِيدٌ ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بِشْرٍ الْخَثْعَمِيِّ ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ قَوْمِهِ يُقَالُ لَهُ : ابْنُ حُمَمَةَ ، قَالَ : سَقَطْت عَلَيَّ جَرَّةٍ مِنْ دَيْرٍ قَدِيمٍ بِالْكُوفَةِ ، عِنْدَ جَبَّانَةِ بِشْرٍ ، فِيهَا أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ ، فَذَهَبْت بِهَا إلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ : اقْسِمْهَا خَمْسَةَ أَخْمَاسٍ .
فَقَسَمْتهَا ، فَأَخَذَ عَلِيٌّ مِنْهَا خُمْسًا ، وَأَعْطَانِي أَرْبَعَةَ أَخْمَاسٍ ، فَلَمَّا أَدْبَرْت دَعَانِي ، فَقَالَ : فِي جِيرَانِك فُقَرَاءُ وَمَسَاكِينُ ؟ قُلْت : نَعَمْ .
قَالَ : فَخُذْهَا فَاقْسِمْهَا بَيْنَهُمْ .
وَلِأَنَّهُ مُسْتَفَادٌ مِنْ الْأَرْضِ ، أَشْبَهَ الْمَعْدِنَ وَالزَّرْعَ .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ ، مَصْرِفُهُ مَصْرِفُ الْفَيْءِ .
نَقَلَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَكَمِ ، عَنْ أَحْمَدَ .
وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أَصَحُّ ، وَأَقْيَسُ عَلَى مَذْهَبِهِ .
وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالْمُزَنِيُّ لِمَا رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ ، عَنْ هُشَيْمٍ عَنْ مُجَالِدٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ ، أَنَّ رَجُلًا وَجَدَ أَلْفَ دِينَارٍ مَدْفُونَةً خَارِجًا مِنْ الْمَدِينَةِ ، فَأَتَى بِهِمَا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ، فَأَخَذَ مِنْهَا الْخَمْسَ مِائَتَيْ دِينَارٍ ، وَدَفَعَ إلَى الرَّجُلِ بَقِيَّتَهَا ، وَجَعَلَ عُمَرُ يَقْسِمُ الْمِائَتَيْنِ بَيْنَ مَنْ حَضَرَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، إلَى أَنْ فَضَلَ مِنْهَا فَضْلَةٌ ،

فَقَالَ : أَيْنَ صَاحِبُ الدَّنَانِيرِ ؟ فَقَامَ إلَيْهِ ، فَقَالَ عُمَرُ : خُذْ هَذِهِ الدَّنَانِيرَ فَهِيَ لَكَ .
وَلَوْ كَانَتْ زَكَاةً خَصَّ بِهَا أَهْلَهَا ، وَلَمْ يَرُدَّهُ عَلَى وَاجِدِهِ ، وَلِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الذِّمِّيِّ ، وَالزَّكَاةُ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّهُ مَالٌ مَخْمُوسٌ زَالَتْ عَنْهُ يَدُ الْكَافِرِ ، أَشْبَهَ خُمْسَ الْغَنِيمَةِ .

( 1904 ) الْفَصْلُ الْخَامِسُ ، فِي مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْخُمْسُ .
وَهُوَ كُلُّ مَنْ وَجَدَهُ ، مِنْ مُسْلِمٍ وَذِمِّيٍّ ، وَحُرٍّ وَعَبْدٍ وَمُكَاتَبٍ ، وَكَبِيرٍ وَصَغِيرٍ ، وَعَاقِلٍ وَمَجْنُونٍ ، إلَّا أَنَّ الْوَاجِدَ لَهُ إذَا كَانَ عَبْدًا فَهُوَ لِسَيِّدِهِ ؛ لِأَنَّهُ كَسْبُ مَالٍ ، فَأَشْبَهَ الِاحْتِشَاشَ وَالِاصْطِيَادَ ، وَإِنْ كَانَ مُكَاتَبًا مَلَكَهُ ، وَعَلَيْهِ خُمْسُهُ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ كَسْبِهِ ، وَإِنْ كَانَ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا فَهُوَ لَهُمَا ، وَيُخْرِجُ عَنْهُمَا وَلِيُّهُمَا .
وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، عَلَى أَنَّ عَلَى الذِّمِّيِّ فِي الرِّكَازِ يَجِدُهُ الْخُمْسَ .
قَالَهُ مَالِكٌ ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَأَهْلُ الْعِرَاقِ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ، وَغَيْرُهُمْ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَجِبُ الْخُمْسُ إلَّا عَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ ؛ لِأَنَّهُ زَكَاةٌ .
وَحُكِيَ عَنْهُ فِي الصَّبِيِّ وَالْمَرْأَةِ أَنَّهُمَا لَا يَمْلِكَانِ الرِّكَازَ .
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَأَبُو عُبَيْدٍ : إذَا كَانَ الْوَاجِدُ لَهُ عَبْدًا ، يُرْضَخُ لَهُ مِنْهُ ، وَلَا يُعْطَاهُ كُلَّهُ .
وَلَنَا ، عُمُومُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ } .
فَإِنَّهُ يَدُلُّ بِعُمُومِهِ عَلَى وُجُوبِ الْخُمْسِ فِي كُلِّ رِكَازٍ يُوجَدُ ، وَبِمَفْهُومِهِ عَلَى أَنَّ بَاقِيَهُ لِوَاجِدِهِ مَنْ كَانَ ، وَلِأَنَّهُ مَالُ كَافِرٍ مَظْهُورٌ عَلَيْهِ ، فَكَانَ فِيهِ الْخُمْسُ عَلَى مَنْ وَجَدَهُ وَبَاقِيه لِوَاجِدِهِ ، كَالْغَنِيمَةِ ، وَلِأَنَّهُ اكْتِسَابُ مَالٍ ، فَكَانَ لِمُكْتَسِبِهِ إنْ كَانَ حُرًّا ، أَوْ لِسَيِّدِهِ إنْ كَانَ عَبْدًا ، كَالِاحْتِشَاشِ ، وَالِاصْطِيَادِ .
وَيَتَخَرَّجُ لَنَا أَنْ لَا يَجِبَ الْخُمْسُ إلَّا عَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ ، بِنَاءً عَلَى قَوْلِنَا إنَّهُ زَكَاةٌ .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ .
( 1905 ) فَصْلٌ : وَيَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّى الْإِنْسَانُ تَفْرِقَةَ الْخُمْسِ بِنَفْسِهِ .
وَبِهِ قَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ ، وَابْنُ

الْمُنْذِرِ ، لِأَنَّ عَلِيًّا أَمَرَ وَاجِدَ الْكَنْزِ بِتَفْرِقَتِهِ عَلَى الْمَسَاكِينِ .
قَالَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ .
وَلِأَنَّهُ أَدَّى الْحَقَّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ ، فَبَرِئَ مِنْهُ ، كَمَا لَوْ فَرَّقَ الزَّكَاةَ ، أَوْ أَدَّى الدَّيْنَ إلَى رَبِّهِ .
وَيَتَخَرَّجُ أَنْ لَا يَجُوزَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ فَيْءٌ ، فَلَمْ يَمْلِكْ تَفْرِقَتَهُ بِنَفْسِهِ ، كَخُمْسِ الْغَنِيمَةِ .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو ثَوْرٍ .
قَالَ : وَإِنْ فَعَلَ ضَمَّنَهُ الْإِمَامُ .
قَالَ الْقَاضِي : وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ رَدُّ خَمْسِ الرِّكَازِ ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ مَالٍ ، فَلَمْ يَجُزْ رَدُّهُ عَلَى مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ ، كَالزَّكَاةِ ، وَخُمْسِ الْغَنِيمَةِ .
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ رَدَّ بَعْضَهُ عَلَى وَاجِدِهِ ، وَلِأَنَّهُ فَيْءٌ ، فَجَازَ رَدُّهُ أَوْ رَدُّ بَعْضِهِ عَلَى وَاجِدِهِ ، كَخَرَاجِ الْأَرْضِ .
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ .

( 1906 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَإِذَا أَخْرَجَ مِنْ الْمَعَادِنِ مِنْ الذَّهَبِ عِشْرِينَ مِثْقَالًا ، أَوْ مِنْ الْوَرِقِ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ ، أَوْ قِيمَةَ ذَلِكَ مِنْ الزِّئْبَقِ وَالرَّصَاصِ وَالصُّفْرِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُسْتَخْرَجُ مِنْ الْأَرْضِ ، فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ مِنْ وَقْتِهِ ) اشْتِقَاقُ الْمَعْدِنِ مِنْ عَدَنَ فِي الْمَكَانِ ، يَعْدِنُ : إذَا أَقَامَ بِهِ .
وَمِنْهُ سُمِّيَتْ جَنَّةَ عَدْنٍ ، لِأَنَّهَا دَارُ إقَامَةٍ وَخُلُودٍ .
قَالَ أَحْمَدُ : الْمَعَادِنُ : هِيَ الَّتِي تُسْتَنْبَطُ ، لَيْسَ هُوَ شَيْءٌ دُفِنَ .
وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي فُصُولٍ أَرْبَعَةٍ : ( 1907 ) أَحَدُهَا ، فِي صِفَةِ الْمَعْدِنِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الزَّكَاةِ .
وَهُوَ كُلُّ مَا خَرَجَ مِنْ الْأَرْضِ ، مِمَّا يُخْلَقُ فِيهَا مِنْ غَيْرِهَا مِمَّا لَهُ قِيمَةٌ ، كَاَلَّذِي ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ وَنَحْوِهِ مِنْ الْحَدِيدِ ، وَالْيَاقُوتِ ، وَالزَّبَرْجَدِ ، وَالْبِلَّوْرِ ، وَالْعَقِيقِ ، وَالسَّبَجِ ، وَالْكُحْلِ ، وَالزَّاجِّ .
وَالزِّرْنِيخِ ، وَالْمَغْرَةِ .
وَكَذَلِكَ الْمَعَادِنُ الْجَارِيَةُ ، كَالْقَارِ ، وَالنِّفْطِ ، وَالْكِبْرِيتِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ .
وَقَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ : لَا تَتَعَلَّقُ الزَّكَاةُ إلَّا بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا زَكَاةَ فِي حَجَرٍ .
} وَلِأَنَّهُ مَالٌ يُقَوَّمُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مُسْتَفَادٌ مِنْ الْأَرْضِ ، أَشْبَهَ الطِّينَ الْأَحْمَرَ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ : تَتَعَلَّقُ الزَّكَاةُ بِكُلِّ مَا يَنْطَبِعُ ، كَالرَّصَاصِ وَالْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ ، دُونَ غَيْرِهِ .
وَلَنَا ، عُمُومُ قَوْله تَعَالَى : { وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ } وَلِأَنَّهُ مَعْدِنٌ ، فَتَعَلَّقَتْ الزَّكَاةُ بِالْخَارِجِ مِنْهُ كَالْأَثْمَانِ ، وَلِأَنَّهُ مَالٌ لَوْ غَنِمَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ خُمْسُهُ ، فَإِذَا أَخْرَجَهُ مِنْ مَعْدِنٍ وَجَبَتْ الزَّكَاةُ كَالذَّهَبِ .
وَأَمَّا الطِّينُ فَلَيْسَ بِمَعْدِنٍ ؛ لِأَنَّهُ تُرَابٌ .
وَالْمَعْدِنُ : مَا كَانَ فِي الْأَرْضِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا .

( 1908 ) الْفَصْلُ الثَّانِي ، فِي قَدْرِ الْوَاجِبِ وَصِفَتِهِ ، وَقَدْرُ الْوَاجِبِ فِيهِ رُبْعُ الْعُشْرِ .
وَصِفَتُهُ أَنَّهُ زَكَاةٌ .
وَهَذَا قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَمَالِكٍ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْوَاجِبُ فِيهِ الْخُمْسُ ، وَهُوَ فَيْءٌ .
وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : هُوَ زَكَاةٌ .
وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي قَدْرِهِ كَالْمَذْهَبَيْنِ .
وَاحْتَجَّ مِنْ أَوْجَبَ الْخُمْسَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَا لَمْ يَكُنْ فِي طَرِيقٍ مَأْتِيٍّ ، وَلَا فِي قَرْيَةٍ عَامِرَةٍ ، فَفِيهِ وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ } .
رَوَاهُ النَّسَائِيّ ، وَالْجُوزَجَانِيُّ ، وَغَيْرُهُمَا .
وَفِي رِوَايَةٍ : { مَا كَانَ فِي الْخَرَابِ ، فَفِيهِ وَفِي الرِّكَازِ الْخُمْسُ } .
وَرَوَى سَعِيدٌ ، وَالْجُوزَجَانِيُّ ، بِإِسْنَادِهِمَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الرِّكَازُ هُوَ الذَّهَبُ الَّذِي يَنْبُتُ مِنْ الْأَرْضِ } .
وَفِي حَدِيثٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { وَفِي الرِّكَازِ الْخُمْسُ ، قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَمَا الرِّكَازُ ؟ قَالَ : هُوَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ الْمَخْلُوقَانِ فِي الْأَرْضِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ } .
وَهَذَا نَصٌّ .
وَفِي حَدِيثٍ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، أَنَّهُ قَالَ : { وَفِي السُّيُوبِ الْخُمْسُ } .
قَالَ : وَالسُّيُوبُ عُرُوقُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ الَّتِي تَحْتَ الْأَرْضِ .
وَلِأَنَّهُ مَالٌ مَظْهُورٌ عَلَيْهِ فِي الْإِسْلَامِ ، أَشْبَهَ الرِّكَازَ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَائِهِمْ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَقْطَعَ بِلَالَ بْنَ الْحَارِثِ الْمُزَنِيَّ مَعَادِنَ الْقَبَلِيَّةِ فِي نَاحِيَةِ الْفَرْعِ ، قَالَ : فَتِلْكَ الْمَعَادِنُ لَا يُؤْخَذُ مِنْهَا إلَّا الزَّكَاةُ إلَى الْيَوْمِ } .
وَقَدْ أَسْنَدَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرِ بْنِ عَوْفٍ ،

إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ .
وَرَوَاهُ الدَّرَاوَرْدِيُّ ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ الْمُزَنِيّ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ مِنْهُ زَكَاةَ الْمَعَادِنِ الْقَبَلِيَّةِ .
} قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : الْقَبَلِيَّةُ بِلَادٌ مَعْرُوفَةٌ بِالْحِجَازِ .
وَلِأَنَّهُ حَقٌّ يَحْرُمُ عَلَى أَغْنِيَاءِ ذَوِي الْقُرْبَى ، فَكَانَ زَكَاةً ، كَالْوَاجِبِ فِي الْأَثْمَانِ الَّتِي كَانَتْ مَمْلُوكَةً لَهُ .
وَحَدِيثُهُمْ الْأَوَّلُ لَا يَتَنَاوَلُ مَحَلَّ النِّزَاعِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ فِي جَوَابِ سُؤَالِهِ عَنْ اللُّقَطَةِ ، وَهَذَا لَيْسَ بِلُقَطَةٍ ، وَلَا يَتَنَاوَلُ اسْمَهَا ، فَلَا يَكُونُ مُتَنَاوِلًا لِمَحَلِّ النِّزَاعِ .
وَالْحَدِيثُ الثَّانِي يَرْوِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ ، وَهُوَ ضَعِيفٌ .
وَسَائِرُ أَحَادِيثِهِمْ لَا يُعْرَفُ صِحَّتُهَا ، وَلَا هِيَ مَذْكُورَةٌ فِي الْمَسَانِيدِ وَالدَّوَاوِينِ .
ثُمَّ هِيَ مَتْرُوكَةُ الظَّاهِرِ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ هُوَ الْمُسَمَّى بِالرِّكَازِ .
وَالسُّيُوبُ : هُوَ الرِّكَازُ ، لِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ السَّيْبِ ، وَهُوَ الْعَطَاءُ الْجَزِيلُ .

( 1909 ) الْفَصْلُ الثَّالِثُ ، فِي نِصَابِ الْمَعَادِنِ وَهُوَ مَا يَبْلُغُ مِنْ الذَّهَبِ عِشْرِينَ مِثْقَالًا ، وَمِنْ الْفِضَّةِ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ ، أَوْ قِيمَةَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِمَا .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَوْجَبَ أَبُو حَنِيفَةَ الْخُمْسَ فِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ ، مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ نِصَابٍ ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ رِكَازٌ ؛ لِعُمُومِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي احْتَجُّوا بِهَا عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ لَهُ حَوْلٌ ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ لَهُ نِصَابٌ كَالرِّكَازِ .
وَلَنَا ، عُمُومُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ } .
وَقَوْلِهِ : { لَيْسَ فِي تِسْعِينَ وَمِائَةٍ شَيْءٌ .
} وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ فِي الذَّهَبِ شَيْءٌ ، حَتَّى يَبْلُغَ عِشْرِينَ مِثْقَالًا } .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِرِكَازٍ ، وَأَنَّهُ مُفَارِقٌ لِلرِّكَازِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الرِّكَازَ مَالُ كَافِرٍ أُخِذَ فِي الْإِسْلَامِ ، فَأَشْبَهَ الْغَنِيمَةَ .
وَهَذَا وَجَبَ مُوَاسَاةً وَشُكْرًا لِنِعْمَةِ الْغِنَى ، فَاعْتُبِرَ لَهُ النِّصَابُ كَسَائِرِ الزَّكَوَاتِ .
وَإِنَّمَا لَمْ يُعْتَبَرْ لَهُ الْحَوْلُ ؛ لِحُصُولِهِ دُفْعَةً وَاحِدَةٍ ، فَأَشْبَهَ الزُّرُوعَ وَالثِّمَارَ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ إخْرَاجُ النِّصَابِ دُفْعَةً وَاحِدَةً أَوْ دَفَعَاتٍ ، لَا يُتْرَكُ الْعَمَلُ بَيْنَهُنَّ تَرْكَ إهْمَالٍ ، فَإِنْ خَرَجَ دُونَ النِّصَابِ ، ثُمَّ تَرَكَ الْعَمَلَ مُهْمِلًا لَهُ ، ثُمَّ أَخْرَجَ دُونَ النِّصَابِ ، فَلَا زَكَاةَ فِيهِمَا وَإِنْ بَلَغَا بِمَجْمُوعِهِمَا نِصَابًا .
وَإِنْ بَلَغَ أَحَدُهُمَا نِصَابًا دُونَ الْآخَرِ ، زَكَّى النِّصَابَ ، وَلَا زَكَاةَ فِي الْآخَرِ .
وَفِيمَا زَادَ عَلَى النِّصَابِ بِحِسَابِهِ .
فَأَمَّا تَرْكُ الْعَمَلِ لَيْلًا ، أَوْ لِلِاسْتِرَاحَةِ ، أَوْ لِعُذْرٍ مِنْ مَرَضٍ ، أَوْ لِإِصْلَاحِ الْأَدَاةِ ، أَوْ إبَاقِ عَبِيدِهِ وَنَحْوِهِ ، فَلَا يَقْطَعُ حُكْمَ الْعَمَلِ ، وَيُضَمُّ مَا خَرَجَ فِي الْعَمَلَيْنِ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ فِي إكْمَالِ النِّصَابِ .
وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مُشْتَغِلًا بِالْعَمَلِ ، فَخَرَجَ بَيْنَ الْمَعْدِنَيْنِ

تُرَابٌ ، لَا شَيْءَ فِيهِ .
وَإِنْ اشْتَمَلَ الْمَعْدِنُ عَلَى أَجْنَاسٍ ، كَمَعْدِنٍ فِيهِ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ .
فَذَكَرَ الْقَاضِي : أَنَّهُ لَا يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ ، وَأَنَّهُ يُعْتَبَرُ النِّصَابُ فِي الْجِنْسِ بِانْفِرَادِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَجْنَاسٌ ، فَلَا يَكْمُلُ نِصَابُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ ، كَغَيْرِ الْمَعْدِنِ .
وَالصَّوَابُ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ ، أَنَّهُ إنْ كَانَ الْمَعْدِنُ يَشْتَمِلُ عَلَى ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ فَفِي ضَمِّ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخِرِ وَجْهَانِ ؛ بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي ضَمِّ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ فِي غَيْرِ الْمَعْدِنِ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ أَجْنَاسٌ مِنْ غَيْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ، ضُمَّ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي قِيمَتِهَا ، وَالْقِيمَةُ وَاحِدَةٌ ، فَأَشْبَهَتْ عُرُوضَ التِّجَارَةِ .
وَإِنْ كَانَ فِيهَا أَحَدُ النَّقْدَيْنِ ، وَجِنْسٌ آخَرُ ، ضُمَّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ ، كَمَا تُضَمُّ الْعُرُوض إلَى الْأَثْمَانِ .
وَإِنْ اسْتَخْرَجَ نِصَابًا مِنْ مَعْدِنَيْنِ ، وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ مَالُ رَجُلٍ وَاحِدٍ ، فَأَشْبَهَ الزَّرْعَ فِي مَكَانَيْنِ .

( 1910 ) الْفَصْلُ الرَّابِعِ ، فِي وَقْتِ الْوُجُوبِ ، وَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ حِينَ يَتَنَاوَلُهُ وَيَكْمُلُ نِصَابُهُ ، وَلَا يُعْتَبَرُ لَهُ حَوْلٌ .
وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ .
وَقَالَ إِسْحَاقُ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ : لَا شَيْءَ فِي الْمَعْدِنِ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ } .
وَلَنَا ، أَنَّهُ مَالٌ مُسْتَفَادٌ مِنْ الْأَرْضِ ، فَلَا يُعْتَبَرُ فِي وُجُوبِ حَقِّهِ حَوْلٌ ، كَالزَّرْعِ وَالثِّمَارِ وَالرِّكَازِ ، وَلِأَنَّ الْحَوْلَ إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي غَيْرِ هَذَا لِتَكْمِيلِ النَّمَاءِ ، وَهُوَ يَتَكَامَلُ نَمَاؤُهُ دُفْعَةً وَاحِدَةً ، فَلَا يُعْتَبَرُ لَهُ حَوْلٌ كَالزُّرُوعِ ، وَالْخَبَرُ مَخْصُوصٌ بِالزَّرْعِ وَالثَّمَرِ ، فَيُخَصُّ مَحَلُّ النِّزَاعِ بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَلَا يَجُوزُ إخْرَاجُ زَكَاتِهِ إلَّا بَعْدَ سَبْكِهِ ، وَتَصْفِيَتِهِ ، كَعُشْرِ الْحَبِّ ، فَإِنْ أَخْرَجَ رُبْعَ عُشْرِ تُرَابِهِ قَبْلَ تَصْفِيَتِهِ ، وَجَبَ رَدُّهُ إنْ كَانَ بَاقِيًا ، أَوْ قِيمَتُهُ إنْ كَانَ تَالِفًا .
وَالْقَوْلُ فِي قَدْرِ الْمَقْبُوضِ قَوْلُ الْآخِذِ ؛ لِأَنَّهُ غَارِمٌ ، فَإِنْ صَفَّاهُ الْآخِذُ ، فَكَانَ قَدْرَ الزَّكَاةِ ، أَجْزَأَ ، وَإِنْ زَادَ رَدَّ الزِّيَادَةَ ، إلَّا أَنْ يَسْمَحَ لَهُ الْمُخْرِجُ .
وَإِنْ نَقَصَ فَعَلَى الْمُخْرِجِ .
وَمَا أَنْفَقَهُ الْآخِذُ عَلَى تَصْفِيَتِهِ ، فَهُوَ مِنْ مَالِهِ ، لَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمَالِكِ وَلَا يَحْتَسِبُ الْمَالِكُ مَا أَنْفَقَهُ عَلَى الْمَعْدِنِ فِي اسْتِخْرَاجِهِ مِنْ الْمَعْدِنِ ، وَلَا فِي تَصْفِيَتِهِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا تَلْزَمُهُ الْمُؤْنَةُ مِنْ حَقِّهِ .
وَشَبَّهَهُ بِالْغَنِيمَةِ ، وَبَنَاهُ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ هَذَا رِكَازٌ فِيهِ الْخُمْسُ .
وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ .
وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَاجِبَ فِي هَذَا زَكَاةٌ ، فَلَا يُحْتَسَبُ بِمُؤْنَةِ اسْتِخْرَاجِهِ فَتَصْفِيَتِهِ كَالْحَبِّ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَيْهِ احْتَسَبَ بِهِ ، كَمَا يَحْتَسِبُ بِمَا

أَنْفَقَ عَلَى الزَّرْعِ .

( 1911 ) فَصْلٌ : وَلَا زَكَاةَ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ الْبَحْرِ ، كَاللُّؤْلُؤِ وَالْمَرْجَانِ وَالْعَنْبَرِ وَنَحْوِهِ ، فِي ظَاهِرِ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ ، وَاخْتِيَارِ أَبِي بَكْرٍ .
وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ .
وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَعَطَاءٌ ، وَمَالِكٌ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى ، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَمُحَمَّدٌ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَأَبُو عُبَيْدٍ .
وَعَنْ أَحْمَدَ ، رِوَايَةٌ أُخْرَى ، أَنَّ فِيهِ الزَّكَاةَ ؛ لِأَنَّهُ خَارِجٌ مِنْ مَعْدِنٍ ، فَأَشْبَهَ الْخَارِجَ مِنْ مَعْدِنِ الْبَرِّ .
وَيُحْكَى عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، أَنَّهُ أَخَذَ مِنْ الْعَنْبَرِ الْخُمْسَ .
وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ ، وَالزُّهْرِيِّ .
وَزَادَ الزُّهْرِيُّ فِي اللُّؤْلُؤِ يُخْرَجُ مِنْ الْبَحْرِ .
وَلَنَا ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ .
قَالَ : لَيْسَ فِي الْعَنْبَرِ شَيْءٌ ، إنَّمَا هُوَ شَيْءٌ أَلْقَاهُ الْبَحْرُ .
وَعَنْ جَابِرٍ نَحْوُهُ .
رَوَاهُمَا أَبُو عُبَيْدٍ .
وَلِأَنَّهُ قَدْ كَانَ يَخْرُجُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ ، فَلَمْ يَأْتِ فِيهِ سُنَّةٌ عَنْهُ ، وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ خُلَفَائِهِ مِنْ وَجْهٍ يَصِحُّ ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْوُجُوبِ فِيهِ ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى مَعْدِنِ الْبَرِّ ؛ لِأَنَّ الْعَنْبَرَ إنَّمَا يُلْقِيه الْبَحْرُ ، فَيُوجَدُ مُلْقًى فِي الْبَرِّ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ غَيْرِ تَعَبٍ ، فَأَشْبَهَ الْمُبَاحَاتِ الْمَأْخُوذَةَ مِنْ الْبَرِّ ، كَالْمَنِّ وَالزَّنْجَبِيلِ ، وَغَيْرِهِمَا .
وَأَمَّا السَّمَكُ فَلَا شَيْءَ فِيهِ بِحَالٍ ، فِي قَوْلِ أَهْلِ الْعِلْمِ كَافَّةً ، إلَّا شَيْءٌ يُرْوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ .
رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ عَنْهُ .
وَقَالَ : لَيْسَ النَّاسُ عَلَى هَذَا ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا يَعْمَلُ بِهِ .
وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَحْمَدَ أَيْضًا .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا لَا شَيْءَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ صَيْدٌ ، فَلَمْ يَجِبْ فِيهِ زَكَاةٌ كَصَيْدِ الْبَرِّ ، وَلِأَنَّهُ لَا نَصَّ وَلَا إجْمَاعَ عَلَى الْوُجُوبِ فِيهِ ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى مَا

فِيهِ الزَّكَاةُ ، فَلَا وَجْهَ لِإِيجَابِهَا فِيهِ .

( 1912 ) فَصَلِّ : وَالْمَعَادِنُ الْجَامِدَةُ تُمْلَكُ بِمِلْكِ الْأَرْضِ الَّتِي هِيَ فِيهَا ؛ لِأَنَّهَا جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ ، فَهِيَ كَالتُّرَابِ وَالْأَحْجَارِ الثَّابِتَةِ ، بِخِلَافِ الرِّكَازِ ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ ، وَإِنَّمَا هُوَ مُودَعٌ فِيهَا .
وَقَدْ رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ الْمُزَنِيّ ، قَالَ : { أَقْطَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَالًا أَرْضَ كَذَا ، مِنْ مَكَانِ كَذَا إلَى كَذَا ، وَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ جَبَلٍ أَوْ مَعْدِنٍ .
قَالَ : فَبَاعَ بَنُو بِلَالٍ مِنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَرْضًا ، فَخَرَجَ فِيهَا مَعْدِنَانِ ، فَقَالُوا : إنَّمَا بِعْنَاكَ أَرْضَ حَرْثٍ ، وَلَمْ نَبِعْكَ الْمَعْدِنَ .
وَجَاءُوا بِكِتَابِ الْقَطِيعَةِ الَّتِي قَطَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِيهِمْ فِي جَرِيدَةٍ ، قَالَ : فَجَعَلَ عُمَرُ يَمْسَحُهَا عَلَى عَيْنَيْهِ ، وَقَالَ لِقَيِّمِهِ : اُنْظُرْ مَا اسْتَخْرَجْت مِنْهَا ، وَمَا أَنْفَقْت عَلَيْهَا ، فَقَاصِّهِمْ بِالنَّفَقَةِ ، وَرُدَّ عَلَيْهِمْ الْفَضْلَ .
} فَعَلَى هَذَا مَا يَجِدُهُ فِي مِلْكٍ أَوْ فِي مَوَاتٍ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ ، فَإِنْ سَبَقَ اثْنَانِ إلَى مَعْدِنٍ فِي مَوَاتٍ ، فَالسَّابِقُ أَوْلَى بِهِ مَا دَامَ يَعْمَلُ ، فَإِذَا تَرَكَهُ جَازَ لِغَيْرِهِ الْعَمَلُ فِيهِ .
وَمَا يَجِدُهُ فِي مَمْلُوكٍ يَعْرِفُ مَالِكَهُ ، فَهُوَ لِمَالِكِ الْمَكَانِ .
فَأَمَّا الْمَعَادِنُ الْجَارِيَةُ ، فَهِيَ مُبَاحَةٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ .
إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ لَهُ دُخُولُ مِلْكِ غَيْرِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهَا : تُمْلَكُ بِمِلْكِ الْأَرْضِ الَّتِي هِيَ فِيهَا ؛ لِأَنَّهَا مِنْ نَمَائِهَا وَتَوَابِعِهَا ، فَكَانَتْ لِمَالِكِ الْأَرْضِ ، كَفُرُوعِ الشَّجَرِ الْمَمْلُوكِ وَثَمَرَتِهِ .

( 1913 ) فَصْلٌ : وَيَجُوزُ بَيْعُ تُرَابِ الْمَعْدِنِ وَالصَّاغَةِ بِغَيْرِ جِنْسِهِ ، وَلَا يَجُوزُ بِجِنْسِهِ إنْ كَانَ مِمَّا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا .
وَالزَّكَاةُ عَلَى الْبَائِعِ ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ فِي يَدِهِ ، كَمَا لَوْ بَاعَ الثَّمَرَةَ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا .
وَقَدْ رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ فِي الْأَمْوَالِ أَنَّ أَبَا الْحَارِثِ الْمُزَنِيّ اشْتَرَى تُرَابَ مَعْدِنٍ بِمِائَةِ شَاةٍ مُتْبِعٍ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ثَمَنَ أَلْفِ شَاةٍ .
فَقَالَ لَهُ الْبَائِعُ : رُدَّ عَلَيَّ الْبَيْعَ .
فَقَالَ : لَا أَفْعَلُ .
فَقَالَ : لَآتِيَنَّ عَلِيًّا فَلَآتِيَنَّ عَلَيْكَ - يَعْنِي أَسْعَى بِكَ - فَأَتَى عَلَيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ ، فَقَالَ : إنَّ أَبَا الْحَارِثِ أَصَابَ مَعْدِنًا .
فَأَتَاهُ عَلِيٌّ .
فَقَالَ : أَيْنَ الرِّكَازُ الَّذِي أَصَبْت ؟ فَقَالَ مَا أَصَبْت رِكَازًا ، إنَّمَا أَصَابَهُ هَذَا ، فَاشْتَرَيْته مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ مُتْبِعٍ .
فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ مَا أَرَى الْخُمْسَ إلَّا عَلَيْكَ .
قَالَ : فَخَمْسُ الْمِائَةِ شَاةٍ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ زَكَاةُ الْمَعْدِنِ ، لَا زَكَاةُ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ إنَّمَا تَعَلَّقَتْ بِعَيْنِ الْمَعْدِنِ ، أَوْ بِقِيمَتِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ بَاعَ السَّائِمَةَ بَعْدَ حَوْلِهَا ، أَوْ الزَّرْعَ أَوْ الثَّمَرَةَ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا .

( 1914 ) فَصْلٌ : وَمِنْ أَجَرَ دَارِهِ ، فَقَبَضَ كِرَاهَا فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيهِ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ ، وَعَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهُ يُزَكِّيه إذَا اسْتَفَادَهُ .
وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ } .
وَلِأَنَّهُ مَالٌ مُسْتَفَادٌ بِعَقْدِ مُعَاوَضَةٍ ، فَأَشْبَهَ ثَمَنَ الْمَبِيعِ .
وَكَلَامُ أَحْمَدَ ، فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى ، مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ أَجَرَ دَارِهِ سَنَةً ، وَقَبَضَ أُجْرَتَهَا فِي آخِرِهَا ، فَأَوْجَبَ عَلَيْهَا زَكَاتَهَا ، لِأَنَّهُ قَدْ مَلَكَهَا مِنْ أَوَّلِ الْحَوْلِ ، فَصَارَتْ كَسَائِرِ الدُّيُونِ ، إذَا قَبَضَهَا بَعْدَ حَوْلٍ زَكَّاهَا حِينَ يَقْبِضُهَا ، فَإِنَّهُ قَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ ، فَيُحْمَلُ مُطْلَقُ كَلَامِهِ عَلَى مُقَيَّدِهِ .

بَابُ زَكَاةِ التِّجَارَةِ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي قِيمَةِ عُرُوضِ التِّجَارَةِ ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ فِي الْعُرُوضِ الَّتِي يُرَادُ بِهَا التِّجَارَةُ الزَّكَاةَ ، إذَا حَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ .
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ ، وَابْنِهِ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ .
وَبِهِ قَالَ الْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ ، وَالْحَسَنُ ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ ، وَمَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ ، وَطَاوُسٌ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو عُبَيْدٍ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ ، وَدَاوُد ، أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِيهَا ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { عَفَوْت لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ } .
وَلَنَا ، مَا رَوَى أَبُو دَاوُد ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ ، قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُنَا أَنْ نُخْرِجَ الزَّكَاةَ مِمَّا نُعِدُّهُ لِلْبَيْعِ .
} وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ ، قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { فِي الْإِبِلِ صَدَقَتُهَا ، وَفِي الْغَنَمِ صَدَقَتُهَا ، وَفِي الْبَزِّ صَدَقَتُهُ } .
قَالَهُ بِالزَّايِ ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهَا لَا تَجِبُ فِي عَيْنِهِ ، وَثَبَتَ أَنَّهَا تَجِبُ فِي قِيمَتِهِ .
وَعَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ حَمَاسٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : أَمَرَنِي عُمَرُ ، فَقَالَ : أَدِّ زَكَاةَ مَالِكَ .
فَقُلْت : مَا لِي مَالٌ إلَّا جِعَابٌ وَأَدْمٌ .
فَقَالَ : قَوِّمْهَا ثُمَّ أَدِّ زَكَاتَهَا .
رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، وَأَبُو عُبَيْدٍ .
وَهَذِهِ قِصَّةٌ يَشْتَهِرُ مِثْلُهَا وَلَمْ تُنْكَرْ ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا .
وَخَبَرُهُمْ الْمُرَادُ بِهِ زَكَاةُ الْعَيْنِ ، لَا زَكَاةُ الْقِيمَةِ ، بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا ، عَلَى أَنَّ خَبَرَهُمْ عَامٌّ وَخَبَرَنَا خَاصٌّ ، فَيَجِبُ تَقْدِيمُهُ .

( 1915 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَالْعُرُوضُ إذَا كَانَتْ لِتِجَارَةٍ قَوَّمَهَا إذَا حَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ ، وَزَكَّاهَا الْعُرُوض : جَمْعُ عَرْضٍ .
وَهُوَ غَيْرُ الْأَثْمَانِ مِنْ الْمَالِ ، عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ ، مِنْ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ وَالْعَقَارِ وَسَائِرِ الْمَالِ .
فَمِنْ مَلَكَ عَرْضًا لِلتِّجَارَةِ ، فَحَالَ عَلَيْهِ حَوْلٌ ، وَهُوَ نِصَابٌ ، قَوَّمَهُ فِي آخِرِ الْحَوْلِ ، فَمَا بَلَغَ أَخْرَجَ زَكَاتَهُ ، وَهُوَ رُبْعُ عُشْرِ قِيمَتِهِ .
وَلَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا فِي اعْتِبَارِ الْحَوْلِ .
وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ } .
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِيهِ فِي كُلِّ حَوْلٍ .
وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو عُبَيْدٍ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يُزَكِّيه إلَّا لِحَوْلٍ وَاحِدٍ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مُدَبَّرًا ؛ لِأَنَّ الْحَوْلَ الثَّانِي لَمْ يَكُنْ الْمَالُ عَيْنًا فِي أَحَدِ طَرَفَيْهِ ، فَلَمْ تَجِبْ فِيهِ الزَّكَاةُ ، كَالْحَوْلِ الْأَوَّلِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي أَوَّلِهِ عَيْنًا .
وَلَنَا ، أَنَّهُ مَالٌ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ فِي الْحَوْلِ الْأَوَّلِ ، لَمْ يَنْقُصْ عَنْ النِّصَابِ ، وَلَمْ تَتَبَدَّلْ صِفَتُهُ ، فَوَجَبَتْ زَكَاتُهُ فِي الْحَوْلِ الثَّانِي ، كَمَا لَوْ نَقَصَ فِي أَوَّلِهِ .
وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي أَوَّلُهُ عَيْنًا لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ .
وَإِذَا اشْتَرَى عَرْضًا لِلتِّجَارَةِ ، بِعَرْضٍ لِلْقُنْيَةِ ، جَرَى فِي حَوْلِ الزَّكَاةِ مِنْ حِينِ اشْتَرَاهُ .

( 1916 ) فَصْلٌ : وَيُخْرِجُ الزَّكَاةَ مِنْ قِيمَةِ الْعُرُوضِ دُونَ عَيْنِهَا .
وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ فِي آخَرَ : هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْإِخْرَاجِ مِنْ قِيمَتِهَا ، وَبَيْنَ الْإِخْرَاجِ مِنْ عَيْنِهَا .
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ .
لِأَنَّهَا مَالٌ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ ، فَجَازَ إخْرَاجُهَا مِنْ عَيْنِهِ ، كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ .
وَلَنَا أَنَّ النِّصَابَ مُعْتَبَرٌ بِالْقِيمَةِ ؛ فَكَانَتْ الزَّكَاةُ مِنْهَا كَالْعَيْنِ فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي الْمَالِ ، وَإِنَّمَا وَجَبَتْ فِي قِيمَتِهِ .

فَصْلٌ : وَلَا يَصِيرُ الْعَرْضُ لِلتِّجَارَةِ إلَّا بِشَرْطَيْنِ ؛ أَحَدِهِمَا أَنْ يَمْلِكَهُ بِفِعْلِهِ ، كَالْبَيْعِ ، وَالنِّكَاحِ ، وَالْخُلْعِ ، وَقَبُولِ الْهِبَةِ ، وَالْوَصِيَّةِ ، وَالْغَنِيمَةِ ، وَاكْتِسَابِ الْمُبَاحَاتِ ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ الزَّكَاةِ بِدُخُولِهِ فِي مِلْكِهِ لَا يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ ، كَالصَّوْمِ .
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَمْلِكَهُ بِعِوَضٍ أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ .
ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو الْخَطَّابِ ، وَابْنُ عَقِيلٍ ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِفِعْلِهِ ، أَشْبَهَ الْمَوْرُوثَ .
وَالثَّانِي ، أَنْ يَنْوِيَ عِنْدَ تَمَلُّكِهِ أَنَّهُ لِلتِّجَارَةِ فَإِنْ لَمْ يَنْوِ عِنْدَ تَمَلُّكِهِ أَنَّهُ لِلتِّجَارَةِ لَمْ يَصِرْ لِلتِّجَارَةِ وَإِنْ نَوَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ .
وَإِنْ مَلَكَهُ بِإِرْثٍ ، وَقَصَدَ أَنَّهُ لِلتِّجَارَةِ ، لَمْ يَصِرْ لِلتِّجَارَةِ لِأَنَّ الْأَصْلَ الْقُنْيَةُ ، وَالتِّجَارَةُ عَارِضٌ ، فَلَمْ يَصِرْ إلَيْهَا بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ ، كَمَا لَوْ نَوَى الْحَاضِرُ السَّفَرَ ، لَمْ يَثْبُتْ لَهُ حُكْمُ السَّفَرِ بِدُونِ الْفِعْلِ .
وَعَنْ أَحْمَدَ ، رِوَايَةٌ أُخْرَى ، أَنَّ الْعَرْضَ يَصِيرُ لِلتِّجَارَةِ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ ؛ { لِقَوْلِ سَمُرَةَ : أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ نُخْرِجَ الصَّدَقَةَ مِمَّا نُعِدُّ لِلْبَيْعِ .
} ، فَعَلَى هَذَا لَا يُعْتَبَرُ أَنْ يَمْلِكَهُ بِفِعْلِهِ ، وَلَا أَنْ يَكُونَ فِي مُقَابَلَةِ عِوَضٌ ، بَلْ مَتَى نَوَى بِهِ التِّجَارَةَ صَارَ لِلتِّجَارَةِ .

( 1918 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَمَنْ كَانَتْ لَهُ سِلْعَةٌ لِلتِّجَارَةِ ، وَلَا يَمْلِكُ غَيْرَهَا ، وَقِيمَتُهَا دُونَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ ، فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ ، مِنْ يَوْمِ سَاوَتْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ الْحَوْلُ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي مَالِ التِّجَارَةِ ، وَلَا يَنْعَقِدُ الْحَوْلُ حَتَّى يَبْلُغَ نِصَابًا ، فَلَوْ مَلَكَ سِلْعَةً قِيمَتُهَا دُونَ النِّصَابِ ، فَمَضَى نِصْفُ الْحَوْلِ وَهِيَ كَذَلِكَ ، ثُمَّ زَادَتْ قِيمَةُ النَّمَاءِ بِهَا أَوْ تَغَيَّرَتْ الْأَسْعَارِ فَبَلَغَتْ نِصَابًا ، أَوْ بَاعَهَا بِنِصَابٍ ، أَوْ مَلَكَ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ عَرْضًا آخَرَ ، أَوْ أَثْمَانًا تَمَّ بِهَا النِّصَابُ ، ابْتَدَأَ الْحَوْلَ مِنْ حِينَئِذٍ فَلَا يَحْتَسِبُ بِمَا مَضَى .
وَهَذَا قَوْلُ الثَّوْرِيِّ ، وَأَهْلِ الْعِرَاقِ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَإِسْحَاقَ ، وَأَبِي عُبَيْدٍ ، وَأَبِي ثَوْرٍ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ ، وَلَوْ مَلَكَ لِلتِّجَارَةِ نِصَابًا ، فَنَقَصَ عَنْ النِّصَابِ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ ، ثُمَّ زَادَ حَتَّى بَلَغَ نِصَابًا ، اسْتَأْنَفَ الْحَوْلَ عَلَيْهِ ، لِكَوْنِهِ انْقَطَعَ بِنَقْصِهِ فِي أَثْنَائِهِ .
وَقَالَ مَالِكٌ : يَنْعَقِدُ الْحَوْلُ عَلَى مَا دُونَ النِّصَابِ ، فَإِذَا كَانَ فِي آخِرِهِ نِصَابًا زَكَّاهُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُعْتَبَرُ فِي طَرَفَيْ الْحَوْلِ دُونَ وَسَطِهِ ؛ لِأَنَّ التَّقْوِيمَ يَسْبِقُ فِي جَمِيعِ الْحَوْلِ ، فَعُفِيَ عَنْهُ إلَّا فِي آخِرِهِ ، فَصَارَ الِاعْتِبَارُ بِهِ ، وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ تُعْرَفَ قِيمَتُهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ ، لِيَعْلَمَ أَنَّ قِيمَتَهُ فِيهِ تَبْلُغُ نِصَابًا وَذَلِكَ يَشُقُّ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ مَالٌ يُعْتَبَرُ لَهُ الْحَوْلُ وَالنِّصَابُ ، فَوَجَبَ اعْتِبَارُ كَمَالِ النِّصَابِ فِي جَمِيعِ الْحَوْلِ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ الَّتِي يُعْتَبَرُ لَهَا ذَلِكَ .
وَقَوْلُهُمْ : يَشُقُّ التَّقْوِيمُ لَا يَصِحُّ .
فَإِنَّ غَيْرَ الْمُقَارِبِ لِلنِّصَابِ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَقْوِيمٍ ، لِظُهُورِ مَعْرِفَتِهِ ، وَالْمُقَارِبُ لِلنِّصَابِ إنْ سَهُلَ عَلَيْهِ التَّقْوِيمُ ، وَإِلَّا فَلَهُ الْأَدَاءُ .
وَالْأَخْذُ

بِالِاحْتِيَاطِ ، كَالْمُسْتَفَادِ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ إنَّ سَهُلَ عَلَيْهِ ضَبْطُ مَوَاقِيتِ التَّمَلُّكِ ، وَإِلَّا فَلَهُ تَعْجِيلُ زَكَاتِهِ مَعَ الْأَصْلِ .

( 1919 ) فَصْلٌ : وَإِذَا مَلَكَ نُصُبًا لِلتِّجَارَةِ فِي أَوْقَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ ، لَمْ يَضُمَّ بَعْضَهَا إلَى بَعْضٍ ؛ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ أَنَّ الْمُسْتَفَادَ لَا يُضَمُّ إلَى مَا عِنْدَهُ فِي الْحَوْلِ .
وَإِنْ كَانَ الْعَرْضُ الْأَوَّلُ لَيْسَ بِنِصَابٍ وَكَمَلَ بِالثَّانِي نِصَابًا ، فَحَوْلُهُمَا مِنْ حِينِ مَلَكَ الثَّانِي ، وَنَمَاؤُهُمَا تَابِعٌ لَهُمَا ، وَلَا يُضَمُّ الثَّالِثُ إلَيْهِمَا ، بَلْ ابْتِدَاءُ الْحَوْلِ مِنْ حِينِ مَلَكَهُ وَتَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ وَإِنْ كَانَ دُونَ النِّصَابِ ؛ لِأَنَّ قَبْلَهُ نِصَابًا ، وَلِهَذَا يُخْرِجُ عَنْهُ بِالْحِصَّةِ ، وَنَمَاؤُهُ تَابِعٌ لَهُ

( 1920 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَتُقَوَّمُ السِّلَعُ إذَا حَالَ الْحَوْلُ بِالْأَحُظِّ لِلْمَسَاكِينِ ، مِنْ عَيْنٍ أَوْ وَرِقٍ ، وَلَا يُعْتَبَرُ مَا اُشْتُرِيت بِهِ يَعْنِي إذَا حَالَ الْحَوْلُ عَلَى الْعُرُوضِ وَقِيمَتُهَا بِالْفِضَّةِ نِصَابٌ ، وَلَا تَبْلُغُ نِصَابًا بِالذَّهَبِ قَوَّمْنَاهَا بِالْفِضَّةِ ؛ لِيَحْصُلَ لِلْفُقَرَاءِ مِنْهَا حَظٌّ ، وَلَوْ كَانَتْ قِيمَتُهَا بِالْفِضَّةِ دُونَ النِّصَابِ وَبِالذَّهَبِ تَبْلُغُ نِصَابًا ، قَوَّمْنَاهَا بِالذَّهَبِ ؛ لِتَجِبَ الزَّكَاةُ فِيهَا .
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ اشْتِرَاؤُهَا بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ عُرُوضٍ .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : تُقَوَّمُ بِمَا اشْتَرَاهُ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ ؛ لِأَنَّ نِصَابَ الْعَرُوضِ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا اشْتَرَاهُ بِهِ ، فَيَجِبُ أَنْ تَجِبَ الزَّكَاةُ فِيهِ ، وَتُعْتَبَرُ بِهِ كَمَا لَوْ لَمْ يَشْتَرِ بِهِ شَيْئًا .
وَلَنَا أَنَّ قِيمَتَهُ بَلَغَتْ نِصَابًا فَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ ، كَمَا لَوْ اشْتَرَاهُ بِعَرْضٍ وَفِي الْبَلَدِ نَقْدَانِ مُسْتَعْمَلَانِ ، تَبْلُغُ قِيمَةُ الْعُرُوضِ بِأَحَدِهِمَا نِصَابًا ، وَلِأَنَّ تَقْوِيمَهُ لِحَظِّ الْمَسَاكِينِ ، فَيُعْتَبَرُ مَا لَهُمْ فِيهِ الْحَظُّ كَالْأَصْلِ .
وَأَمَّا إذَا لَمْ يَشْتَرِ بِالنَّقْدِ شَيْئًا ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ فِي عَيْنِهِ ، لَا فِي قِيمَتِهِ ، بِخِلَافِ الْعَرْضِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ النَّقْدُ مُعَدًّا لِلتِّجَارَةِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ الزَّكَاةُ فِيهِ إذَا بَلَغَتْ قِيمَتُهُ بِالنَّقْدِ الْآخَرِ نِصَابًا ، وَإِنْ لَمْ تَبْلُغْ بِعَيْنِهِ نِصَابًا ؛ لِأَنَّهُ مَالُ تِجَارَةٍ بَلَغَتْ قِيمَتُهُ نِصَابًا ، فَوَجَبَتْ زَكَاتُهُ كَالْعُرُوضِ ، فَأَمَّا إذَا بَلَغَتْ قِيمَةُ الْعَرُوضِ نِصَابًا بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الثَّمَنَيْنِ ، قَوَّمَهُ بِمَا شَاءَ مِنْهُمَا ، وَأَخْرَجَ رُبْعَ عُشْرِ قِيمَتِهِ مِنْ أَيِّ النَّقْدَيْنِ شَاءَ ، لَكِنَّ الْأَوْلَى أَنْ يُخْرِجَ مِنْ النَّقْدِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي الْبَلَدِ ، لِأَنَّهُ أَحْظُ لِلْمَسَاكِينِ ، وَإِنْ كَانَا مُسْتَعْمَلَيْنِ أَخْرَجَ مِنْ الْغَالِبِ فِي الِاسْتِعْمَالِ لِذَلِكَ ، فَإِنْ تَسَاوَيَا أَخْرَجَ مِنْ

أَيِّهِمَا شَاءَ .
وَإِذَا بَاعَ الْعُرُوضَ بِنَقْدٍ ، وَحَالَ الْحَوْلُ عَلَيْهِ ، قَوَّمَ النَّقْدَ دُونَ الْعُرُوضِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُقَوِّمُ مَا حَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ دُونَ غَيْرِهِ .

( 1921 ) فَصْلٌ : وَإِذَا اشْتَرَى عَرْضًا لِلتِّجَارَةِ ، بِنِصَابٍ مِنْ الْأَثْمَانِ ، أَوْ بِمَا قِيمَتُهُ نِصَابٌ مِنْ عُرُوضِ التِّجَارَةِ ، بَنَى حَوْلَ الثَّانِي عَلَى الْحَوْلِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ مَالَ التِّجَارَةِ إنَّمَا تَتَعَلَّقُ الزَّكَاةُ بِقِيمَتِهِ ، وَقِيمَتُهُ هِيَ : الْأَثْمَانُ نَفْسُهَا ، وَكَمَا إذَا كَانَتْ ظَاهِرَةً فَخَفِيَتْ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ لَهُ نِصَابٌ فَأَقْرَضَهُ ، لَمْ يَنْقَطِعْ حَوْلُهُ بِذَلِكَ .
وَهَكَذَا الْحُكْمُ إذَا بَاعَ الْعَرْضَ بِنِصَابٍ أَوْ بِعَرْضٍ قِيمَتُهُ نِصَابٌ ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ كَانَتْ خَفِيَّةً ، فَظَهَرَتْ ، أَوْ بَقِيَتْ عَلَى خَفَائِهَا ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ لَهُ قَرْضٌ فَاسْتَوْفَاهُ ، أَوْ أَقْرَضَهُ إنْسَانًا آخَرَ ، وَلِأَنَّ النَّمَاءَ فِي الْغَالِبِ فِي التِّجَارَةِ إنَّمَا يَحْصُلُ بِالتَّقْلِيبِ ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ يَقْطَعُ الْحَوْلَ لَكَانَ السَّبَبُ الَّذِي وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ لِأَجْلِهِ يَمْنَعُهَا ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ لَا تَجِبُ إلَّا فِي مَالٍ نَامٍ .
وَإِنْ قَصَدَ بِالْأَثْمَانِ غَيْرَ التِّجَارَةِ لَمْ يَنْقَطِعْ الْحَوْلُ أَيْضًا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَنْقَطِعُ قَوْلًا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهِ دُونَ قِيمَتِهِ ، فَانْقَطَعَ الْحَوْلُ بِالْبَيْعِ بِهِ ، كَالسَّائِمَةِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْقِيمَةِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ الزَّكَاةُ بِهَا ، فَلَمْ يَنْقَطِعْ الْحَوْلُ بِبَيْعِهَا بِهِ ، كَمَا لَوْ قَصَدَ بِهِ التِّجَارَةَ ، وَفَارَقَ السَّائِمَةَ ، فَإِنَّهَا مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْقِيمَةِ ، فَأَمَّا إنْ أَبْدَلَ عَرْضَ التِّجَارَةِ بِمَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهِ كَالسَّائِمَةِ ، وَلَمْ يَنْوِ بِهِ التِّجَارَةَ ، لَمْ يَبْنِ حَوْلَ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ ؛ لِأَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ .
وَإِنْ أَبْدَلَهُ بِعَرْضٍ لِلْقُنْيَةِ ، بَطَلَ الْحَوْلُ .
وَإِنْ اشْتَرَى عَرْضَ التِّجَارَةِ بِعَرْضِ الْقُنْيَةِ ، انْعَقَدَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ مِنْ حِينِ مَلَكَهُ إنْ كَانَ نِصَابًا ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِمَا لَا زَكَاةَ فِيهِ ، فَلَمْ يُمْكِنْ بِنَاءُ الْحَوْلِ عَلَيْهِ .
وَإِنْ اشْتَرَاهُ بِنِصَابٍ مِنْ السَّائِمَةِ ،

لَمْ يَبْنِ عَلَى حَوْلِهِ ؛ لِأَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ .
وَإِنْ اشْتَرَاهُ بِمَا دُونَ النِّصَابِ مِنْ الْأَثْمَانِ ، أَوْ مِنْ عُرُوضِ التِّجَارَةِ ، انْعَقَدَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ مِنْ حِينِ تَصِيرُ قِيمَتُهُ نِصَابًا ؛ لِأَنَّ مُضِيَّ الْحَوْلِ عَلَى نِصَابٍ كَامِلٍ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا اشْتَرَى لِلتِّجَارَةِ نِصَابًا مِنْ السَّائِمَةِ ، فَحَالَ الْحَوْلُ ، وَالسَّوْمُ وَنِيَّةُ التِّجَارَةِ مَوْجُودَانِ ، زَكَّاهُ زَكَاةَ التِّجَارَةِ .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالثَّوْرِيُّ .
وَقَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ : يُزَكِّيهَا زَكَاةَ السَّوْمِ ؛ لِأَنَّهَا أَقْوَى ، لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَيْهَا ، وَاخْتِصَاصِهَا بِالْعَيْنِ ، فَكَانَتْ أَوْلَى .
وَلَنَا ، أَنَّ زَكَاةَ التِّجَارَةِ أَحَظُّ لِلْمَسَاكِينِ ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ فِيمَا زَادَ بِالْحِسَابِ ، وَلِأَنَّ الزَّائِدَ عَنْ النِّصَابِ قَدْ وُجِدَ سَبَبُ وُجُوبِ زَكَاتِهِ ، فَيَجِبُ كَمَا لَوْ لَمْ يَبْلُغْ بِالسَّوْمِ نِصَابًا ، وَإِنْ سَبَقَ وَقْتُ وُجُوبِ زَكَاةِ السَّوْمِ وَقْتَ وُجُوبِ زَكَاةِ التِّجَارَةِ ، مِثْلُ أَنْ يَمْلِكَ أَرْبَعِينَ مِنْ الْغَنَمِ قِيمَتُهَا دُونَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ ، ثُمَّ صَارَتْ قِيمَتُهَا فِي نِصْفِ الْحَوْلِ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ ، فَقَالَ الْقَاضِي : يَتَأَخَّرُ وُجُوبُ الزَّكَاةِ حَتَّى يَتِمَّ حَوْلُ التِّجَارَةِ ؛ لِأَنَّهُ أَنْفَعُ لِلْفُقَرَاءِ ، وَإِلَّا يُفْضِي التَّأْخِيرُ إلَى سُقُوطِهَا ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِيهَا إذَا تَمَّ حَوْلُ التِّجَارَةِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَجِبَ زَكَاةُ الْعَيْنِ عِنْدَ تَمَامِ حَوْلِهَا ؛ لِوُجُودِ مُقْتَضِيهَا مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ .
فَإِذَا تَمَّ حَوْلُ التِّجَارَةِ ، وَجَبَتْ زَكَاةُ الزَّائِدِ عَنْ النِّصَابِ ؛ لِوُجُودِ مُقْتَضِيهَا ، لِأَنَّ هَذَا مَالٌ لِلتِّجَارَةِ ، حَالَ الْحَوْلُ عَلَيْهِ وَهُوَ نِصَابٌ ، وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ الزَّكَاتَيْنِ بِكَمَالِهِمَا ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى إيجَابِ زَكَاتَيْنِ فِي حَوْلٍ وَاحِدٍ ، بِسَبَبٍ وَاحِدٍ ، فَلَمْ يَجُزْ ذَلِكَ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تُثْنِي فِي الصَّدَقَةِ } .
وَفَارَقَ هَذَا زَكَاةَ التِّجَارَةِ ، وَزَكَاةَ الْفِطْرِ ، فَإِنَّهُمَا يَجْتَمِعَانِ لِأَنَّهُمَا بِسَبَبَيْنِ ، فَإِنَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ ، تَجِبُ عَنْ بَدَنِ الْإِنْسَانِ الْمُسْلِمِ طُهْرَةً لَهُ ، وَزَكَاةُ التِّجَارَةِ تَجِبُ عَنْ قِيمَتِهِ شُكْرًا لِنِعْمَةِ الْغِنَى وَمُوَاسَاةً لِلْفُقَرَاءِ .
فَأَمَّا

إنْ وُجِدَ نِصَابُ السَّوْمِ دُونَ نِصَابِ التِّجَارَةِ ، مِثْلُ أَنْ يَمْلِكَ ثَلَاثِينَ مِنْ الْبَقَرِ ، قِيمَتُهَا مِائَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا ، وَحَالَ الْحَوْلُ عَلَيْهَا كَذَلِكَ ، فَإِنَّ زَكَاةَ الْعَيْنِ تَجِبُ بِغَيْرِ خِلَافٍ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ لَهَا مُعَارِضٌ ، فَوَجَبَتْ ، كَمَا لَوْ لَمْ تَكُنْ لِلتِّجَارَةِ .

( 1923 ) فَصْلٌ : وَإِنْ اشْتَرَى نَخْلًا أَوْ أَرْضًا لِلتِّجَارَةِ ، فَزُرِعَتْ الْأَرْضُ وَأَثْمَرَتْ النَّخْلُ ، فَاتَّفَقَ حَوْلَاهُمَا ، بِأَنْ يَكُونَ بُدُوُّ الصَّلَاحِ فِي الثَّمَرَةِ وَاشْتِدَادُ الْحَبِّ عِنْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ ، وَكَانَتْ قِيمَةُ الْأَرْضِ وَالنَّخْلِ بِمُفْرَدِهَا نِصَابًا لِلتِّجَارَةِ ، فَإِنَّهُ يُزَكِّي الثَّمَرَةَ وَالْحَبَّ زَكَاةَ الْعُشْرِ ، وَيُزَكِّي الْجَمِيعَ زَكَاةَ الْقِيمَةِ .
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَبِي ثَوْرٍ .
وَقَالَ الْقَاضِي وَأَصْحَابُهُ : يُزَكِّي الْجَمِيعَ زَكَاةَ الْقِيمَةِ .
وَذَكَرَ أَنَّ أَحْمَدَ أَوْمَأَ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ مَالُ تِجَارَةٍ ، فَتَجِبُ فِيهِ زَكَاةُ التِّجَارَةِ ، كَالسَّائِمَةِ .
وَلَنَا ، أَنَّ زَكَاةَ الْعُشْرِ أَحَظُّ لِلْفُقَرَاءِ ، فَإِنَّ الْعُشْرَ أَحَظُّ مِنْ رُبْعِ الْعُشْرِ ، فَيَجِبُ تَقْدِيمُ مَا فِيهِ الْحَظُّ ، وَلِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى رُبْعِ الْعُشْرِ قَدْ وُجِدَ سَبَبُ وُجُوبِهَا فَتَجِبُ ، وَفَارَقَ السَّائِمَةَ الْمُعَدَّةَ لِلتِّجَارَةِ ، فَإِنَّ زَكَاةَ السَّوْمِ أَقَلُّ مِنْ زَكَاةِ التِّجَارَةِ .

( 1924 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَإِذَا اشْتَرَاهَا لِلتِّجَارَةِ ، ثُمَّ نَوَاهَا لِلِاقْتِنَاءِ ، ثُمَّ نَوَاهَا لِلتِّجَارَةِ ، فَلَا زَكَاةَ فِيهَا حَتَّى يَبِيعَهَا ، وَيَسْتَقْبِلَ بِثَمَنِهَا حَوْلًا .
لَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ فِي أَنَّهُ إذَا نَوَى بِعَرْضِ التِّجَارَةِ الْقُنْيَةَ ، أَنَّهُ يَصِيرُ لِلْقُنْيَةِ ، وَتَسْقُطُ الزَّكَاةُ مِنْهُ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَقَالَ مَالِكٌ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ : لَا يَسْقُطُ حُكْمُ التِّجَارَةِ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ ، كَمَا لَوْ نَوَى بِالسَّائِمَةِ الْعَلْفَ .
وَلَنَا ، أَنَّ الْقُنْيَةَ الْأَصْلُ ، وَيَكْفِي فِي الرَّدِّ إلَى الْأَصْلِ مُجَرَّدُ النِّيَّةِ ، كَمَا لَوْ نَوَى بِالْحُلِيِّ التِّجَارَةَ ، أَوْ نَوَى الْمُسَافِرُ الْإِقَامَةَ ، وَلِأَنَّ نِيَّةَ التِّجَارَةِ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْعُرُوضِ ، فَإِذَا نَوَى الْقُنْيَةَ زَالَتْ نِيَّةُ التِّجَارَةِ ، فَفَاتَ شَرْطُ الْوُجُوبِ ، وَفَارَقَ السَّائِمَةَ إذَا نَوَى عَلْفَهَا ، لِأَنَّ الشَّرْطَ فِيهَا الْإِسَامَةُ دُونَ نِيَّتِهَا ، فَلَا يَنْتَفِي الْوُجُوبُ إلَّا بِانْتِفَاءِ السَّوْمِ .
وَإِذَا صَارَ الْعَرْضُ لِلْقُنْيَةِ بِنِيَّتِهَا ، فَنَوَى بِهِ التِّجَارَةَ ، لَمْ يَصِرْ لِلتِّجَارَةِ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ ، عَلَى مَا أَسْلَفْنَاهُ .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَالثَّوْرِيُّ وَذَهَبَ ابْنُ عَقِيلٍ ، وَأَبُو بَكْرٍ ، إلَى أَنَّهُ يَصِيرُ لِلتِّجَارَةِ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ .
وَحَكَوْهُ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ ، لِقَوْلِهِ : فِي مِنْ أَخْرَجَتْ أَرْضُهُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ ، فَمَكَثَتْ عِنْدَهُ سِنِينَ لَا يُرِيدُ بِهَا التِّجَارَةَ ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ زَكَاةٌ ، وَإِنْ كَانَ يُرِيدُ التِّجَارَةَ فَأَعْجَبُ إلَيَّ أَنْ يُزَكِّيَهُ .
قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : هَذَا عَلَى أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ ؛ لِأَنَّ نِيَّةَ الْقُنْيَةِ بِمُجَرَّدِهَا كَافِيَةٌ ، فَكَذَلِكَ نِيَّةُ التِّجَارَةِ ، بَلْ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْإِيجَابَ يُغَلَّبُ عَلَى الْإِسْقَاطِ احْتِيَاطًا ، وَلِأَنَّهُ أَحَظُّ لِلْمَسَاكِينِ ، فَاعْتُبِرَ كَالتَّقْوِيمِ ، وَلِأَنَّ سَمُرَةَ قَالَ : {

أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ نُخْرِجَ الصَّدَقَةَ مِمَّا نُعِدُّهُ لِلْبَيْعِ .
} وَهَذَا دَاخِلٌ فِي عُمُومِهِ ، وَلِأَنَّهُ نَوَى بِهِ التِّجَارَةَ ، فَوَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ ، كَمَا لَوْ نَوَى حَالَ الْبَيْعِ .
وَلَنَا ، أَنَّ كُلَّ مَا لَا يَثْبُتُ لَهُ الْحُكْمُ بِدُخُولِهِ فِي مِلْكِهِ ، لَا يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ ، كَمَا لَوْ نَوَى بِالْمَعْلُوفَةِ السَّوْمَ ، وَلِأَنَّ الْقُنْيَةَ الْأَصْلُ ، وَالتِّجَارَةُ فَرْعٌ عَلَيْهَا ، فَلَا يَنْصَرِفُ إلَى الْفَرْعِ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ ، كَالْمُقِيمِ يَنْوِي السَّفَرَ ، وَبِالْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ مَا لَوْ نَوَى الْقُنْيَةَ ، فَإِنَّهُ يَرُدُّهَا إلَى الْأَصْلِ ، فَانْصَرَفَ إلَيْهِ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ ، كَمَا لَوْ نَوَى الْمُسَافِرُ الْإِقَامَةَ .
فَكَذَلِكَ إذَا نَوَى بِمَالِ التِّجَارَةِ الْقُنْيَةَ ، انْقَطَعَ حَوْلُهُ ، ثُمَّ إذَا نَوَى بِهِ التِّجَارَةَ ، فَلَا شَيْءَ فِيهِ حَتَّى يَبِيعَهُ ، وَيَسْتَقْبِلَ بِثَمَنِهِ حَوْلًا .

( 1925 ) فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَاشِيَةٌ لِلتِّجَارَةِ نِصْفَ حَوْلٍ ، فَنَوَى بِهَا الْإِسَامَةَ ، وَقَطَعَ نِيَّةَ التِّجَارَةِ ، انْقَطَعَ حَوْلُ التِّجَارَةِ ، وَاسْتَأْنَفَ حَوْلًا .
كَذَلِكَ قَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ؛ لِأَنَّ حَوْلَ التِّجَارَةِ انْقَطَعَ بِنِيَّةِ الِاقْتِنَاءِ ، وَحَوْلُ السَّوْمِ لَا يَنْبَنِي عَلَى حَوْلِ التِّجَارَةِ .
وَالْأَشْبَهُ بِالدَّلِيلِ أَنَّهَا مَتَى كَانَتْ سَائِمَةً مِنْ أَوَّلِ الْحَوْلِ ، وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِيهَا عِنْدَ تَمَامِهِ .
وَهَذَا يُرْوَى نَحْوُهُ عَنْ إِسْحَاقَ ، لِأَنَّ السَّوْمَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ وُجِدَ فِي جَمِيعِ الْحَوْلِ خَالِيًا عَنْ مُعَارِضٍ ، فَوَجَبَتْ بِهِ الزَّكَاةُ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَنْوِ التِّجَارَةَ ، أَوْ كَمَا لَوْ كَانَتْ السَّائِمَةُ لَا تَبْلُغُ نِصَابًا بِالْقِيمَةِ .

( 1926 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَإِذَا كَانَ فِي مِلْكِهِ نِصَابٌ لِلزَّكَاةِ ، فَاتَّجَرَ فِيهِ ، فَنَمَا ، أَدَّى زَكَاةَ الْأَصْلِ مَعَ النَّمَاءِ ، إذَا حَالَ الْحَوْلُ وَجُمْلَتُهُ أَنَّ حَوْلَ النَّمَاءِ مَبْنِيٌّ عَلَى حَوْلِ الْأَصْلِ ؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لَهُ فِي الْمِلْكِ ، فَتَبِعَهُ فِي الْحَوْلِ ، كَالسِّخَالِ وَالنِّتَاجِ .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ ، وَإِسْحَاقُ وَأَبُو يُوسُفَ .
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ ، فَإِنَّهُ بَنَى حَوْلَ كُلِّ مُسْتَفَادٍ عَلَى حَوْلِ جِنْسِهِ نَمَاءً كَانَ أَوْ غَيْرَهُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إنْ نَضَّتْ الْفَائِدَةُ قَبْلَ الْحَوْلِ لَمْ يَبْنِ حَوْلَهَا عَلَى حَوْلِ النِّصَابِ ، وَاسْتَأْنَفَ لَهَا حَوْلًا ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ .
} وَلِأَنَّهَا فَائِدَةٌ تَامَّةٌ لَمْ تَتَوَلَّدْ مِمَّا عِنْدَهُ ، فَلَمْ يَبْنِ عَلَى حَوْلِهِ ، كَمَا لَوْ اسْتَفَادَ مِنْ غَيْرِ الرِّبْحِ .
وَإِنْ اشْتَرَى سِلْعَةً بِنِصَابٍ ، فَزَادَتْ قِيمَتُهَا عِنْدَ رَأْسِ الْحَوْلِ ، فَإِنَّهُ يَضُمُّ الْفَائِدَةَ ، وَيُزَكِّي عَنْ الْجَمِيعِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ السِّلْعَةَ قَبْلَ الْحَوْلِ بِأَكْثَرَ مِنْ نِصَابٍ ، فَإِنَّهُ يُزَكِّي عِنْدَ رَأْسِ الْحَوْلِ عَنْ النِّصَابِ ، وَيَسْتَأْنِفُ لِلزِّيَادَةِ حَوْلًا .
وَلَنَا ، أَنَّهُ نَمَاءٌ جَارٍ فِي الْحَوْلِ ، تَابِعٌ لِأَصْلِهِ فِي الْمِلْكِ ، فَكَانَ مَضْمُومًا إلَيْهِ فِي الْحَوْلِ ، كَالنِّتَاجِ ، وَكَمَا لَوْ لَمْ يَنِضَّ ، وَلِأَنَّهُ ثَمَنُ عَرْضٍ تَجِبُ زَكَاةُ بَعْضِهِ ، وَيُضَمُّ إلَى ذَلِكَ الْبَعْضِ قَبْلَ الْبَيْعِ ، فَيُضَمُّ إلَيْهِ بَعْدَهُ كَبَعْضِ النِّصَابِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ بَقِيَ عَرْضًا زَكَّى جَمِيعَ الْقِيمَةِ ، فَإِذَا نَضَّ كَانَ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُتَحَقِّقًا ، وَلِأَنَّ هَذَا الرِّبْحَ كَانَ تَابِعًا لِلْأَصْلِ فِي الْحَوْلِ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَنِضَّ ، فَبِنَضِّهِ لَا يَتَغَيَّرُ حَوْلُهُ .
وَالْحَدِيثُ فِيهِ مَقَالٌ ، وَهُوَ مَخْصُوصٌ بِالنِّتَاجِ ، وَبِمَا لَمْ يَنِضَّ ، فَنَقِيسُ عَلَيْهِ .

( 1927 ) فَصْلٌ : وَإِنْ اشْتَرَى لِلتِّجَارَةِ مَا لَيْسَ بِنِصَابٍ ، فَنَمَا حَتَّى صَارَ نِصَابًا ، انْعَقَدَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ مِنْ حِينَ صَارَ نِصَابًا .
فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَقَالَ مَالِكٌ : إذَا كَانَتْ لَهُ خَمْسَةُ دَنَانِيرَ ، فَاتَّجَرَ فِيهَا ، فَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ وَقَدْ بَلَغَتْ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ ، يُزَكِّيهَا .
وَلَنَا ، أَنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْحَوْلُ عَلَى نِصَابٍ ، فَلَمْ تَجِبْ فِيهِ الزَّكَاةُ ، كَمَا لَوْ نَقَصَ فِي آخِرِهِ .

( 1928 ) فَصْلٌ : وَإِذَا اشْتَرَى لِلتِّجَارَةِ شِقْصًا بِأَلْفٍ ، فَحَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ وَهُوَ يُسَاوِي أَلْفَيْنِ ، فَعَلَيْهِ زَكَاةُ أَلْفَيْنِ ، فَإِنْ جَاءَ الشَّفِيعُ أَخَذَهُ بِأَلْفٍ ، لِأَنَّ الشَّفِيعَ إنَّمَا يَأْخُذُ بِالثَّمَنِ لَا بِالْقِيمَةِ ، وَالزَّكَاةُ عَلَى الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ وَهُوَ فِي مِلْكِهِ .
وَلَوْ لَمْ يَأْخُذْهُ الشَّفِيعُ ، لَكِنْ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَرَدَّهُ ، فَإِنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ الْبَائِعِ أَلْفًا .
وَلَوْ انْعَكَسَتْ الْمَسْأَلَةُ ، فَاشْتَرَاهُ بِأَلْفَيْنِ ، وَحَالَ الْحَوْلُ وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ ، فَعَلَيْهِ زَكَاةُ أَلْفٍ ، وَيَأْخُذُهُ الشَّفِيعُ إنْ أَخَذَهُ ، وَيَرُدُّهُ بِالْعَيْبِ بِأَلْفَيْنِ ؛ لِأَنَّهُمَا الثَّمَنُ الَّذِي وَقَعَ الْبَيْعُ بِهِ .

( 1929 ) فَصْلٌ : وَإِنْ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفًا مُضَارَبَةً ، عَلَى أَنَّ الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ، فَحَالَ الْحَوْلُ وَقَدْ صَارَ ثَلَاثَةَ آلَافٍ ، فَعَلَى رَبِّ الْمَالِ زَكَاةُ أَلْفَيْنِ ؛ لِأَنَّ رِبْحَ التِّجَارَةِ حَوْلُهُ حَوْلُ أَصْلِهِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ : عَلَيْهِ زَكَاةُ الْجَمِيعِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ لَهُ ، وَالرِّبْحُ نَمَاءُ مَالِهِ .
وَلَا يَصِحُّ ، لِأَنَّ حِصَّةَ الْمُضَارِبِ لَهُ ، وَلَيْسَتْ مِلْكًا لِرَبِّ الْمَالِ ، بِدَلِيلِ أَنَّ لِلْمُضَارِبِ الْمُطَالَبَةَ بِهَا ، وَلَوْ أَرَادَ رَبُّ الْمَالِ دَفْعَ حِصَّتِهِ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْمَالِ ، لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهُ ، وَلَا تَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ زَكَاةُ مِلْكِ غَيْرِهِ ، وَلِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ يَقُولُ : حِصَّتُكَ أَيُّهَا الْعَامِلُ مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَ أَنْ تَسْلَمَ فَتَكُونَ لَك ، أَوْ تَتْلَفَ فَلَا تَكُونُ لِي وَلَا لَكَ ، فَكَيْفَ يَكُونُ عَلَيَّ زَكَاةُ مَا لَيْسَ لِي بِوَجْهِ مَا ، وَقَوْلُهُ : إنَّهُ نَمَاءُ مَالِهِ .
قُلْنَا : لَكِنَّهُ لِغَيْرِهِ ، فَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ زَكَاةٌ ، كَمَا لَوْ وَهَبَ نَتَاجَ سَائِمَتِهِ لِغَيْرِهِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ يُخْرِجُ الزَّكَاةَ مِنْ الْمَالِ ، لِأَنَّهُ مِنْ مُؤْنَتِهِ ، فَكَانَ مِنْهُ ، كَمُؤْنَةِ حَمْلِهِ ، وَيَحْسُبُ مِنْ الرِّبْحِ ؛ لِأَنَّهُ وِقَايَةٌ لِرَأْسِ الْمَالِ .
وَأَمَّا الْعَامِلُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ زَكَاةٌ فِي حِصَّتِهِ حَتَّى يَقْتَسِمَا ، وَيَسْتَأْنِفُ حَوْلًا مِنْ حِينَئِذٍ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ ، وَابْنِ مَنْصُورٍ .
فَقَالَ : إذَا احْتَسَبَا يُزَكِّي الْمُضَارِبُ إذَا حَالَ الْحَوْلُ مِنْ حِينِ احْتَسَبَهُ ؛ لِأَنَّهُ عَلِمَ مَالَهُ فِي الْمَالِ ، وَلِأَنَّهُ إذَا اتَّضَعَ بَعْدَ ذَاكَ كَانَتْ الْوَضِيعَةُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ .
يَعْنِي إذَا اقْتَسَمَا .
لِأَنَّ الْقِسْمَةَ فِي الْغَالِبِ تَكُونُ عِنْدَ الْمُحَاسَبَةِ ، أَلَا تَرَاهُ يَقُولُ : إنَّ اتَّضَعَ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَتْ الْوَضِيعَةُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ .
وَإِنَّمَا يَكُونُ هَذَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : يُحْتَسَبُ حَوْلُهُ مِنْ حِينِ ظُهُورِ

الرِّبْحِ .
يَعْنِي إذَا كَمَّلَ نِصَابًا .
إلَّا عَلَى قَوْلِ مِنْ قَالَ : إنَّ الشَّرِكَةَ تُؤَثِّرُ فِي غَيْرِ الْمَاشِيَةِ ، قَالَ : وَلَا يَجِبُ إخْرَاجُ زَكَاتِهِ حَتَّى يَقْبِضَ الْمَالَ ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ يَمْلِكُ الرِّبْحَ بِظُهُورِهِ ، فَإِذَا مَلَكَهُ جَرَى فِي حَوْلِ الزَّكَاةِ ، وَلِأَنَّ مِنْ أَصْلِنَا أَنَّ فِي الْمَالِ الضَّالِّ وَالْمَغْصُوبِ وَالدَّيْنِ عَلَى مُمَاطِلٍ الزَّكَاةَ ، وَإِنْ كَانَ رُجُوعُهُ إلَى مِلْكِ يَدِهِ مَظْنُونًا ، كَذَا هَاهُنَا .
وَلَنَا ، أَنَّ مِلْكَ الْمُضَارِبِ غَيْرُ تَامٍّ ، لِأَنَّهُ يَعْرِضُ أَنْ تَنْقُصَ قِيمَةَ الْأَصْلِ أَوْ يَخْسَرَ فِيهِ ، وَهَذَا وِقَايَةٌ لَهُ ، وَلِهَذَا مُنِعَ مِنْ الِاخْتِصَاصِ بِهِ ، وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ بِحَقِّ نَفْسِهِ ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ زَكَاةٌ ، كَمَالِ الْمُكَاتَبِ ، يُؤَكِّدُ هَذَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ مِلْكًا تَامًّا لَاخْتَصَّ بِرِبْحِهِ ، فَلَوْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ عَشَرَةً فَاتَّجَرَ فِيهِ فَرَبِحَ عِشْرِينَ ، ثُمَّ اتَّجَرَ فَرَبِحَ ثَلَاثِينَ ، لَكَانَتْ الْخَمْسُونَ الَّتِي رَبِحَهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، وَلَوْ تَمَّ مِلْكُهُ بِمُجَرَّدِ ظُهُورِ الرِّبْحِ ، لَمَلَكَ مِنْ الْعِشْرِينَ الْأُولَى عَشَرَةً ، وَاخْتَصَّ بِرِبْحِهَا ، وَهِيَ عَشَرَةٌ مِنْ الثَّلَاثِينَ ، وَكَانَتْ الْعِشْرُونَ الْبَاقِيَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، فَيَمْلِكُ الْمُضَارِبُ ثَلَاثِينَ ، وَلِرَبِّ الْمَالِ ثَلَاثُونَ ، كَمَا لَوْ اقْتَسَمَا الْعِشْرِينَ ثُمَّ خَلَطَاهَا .
وَفَارَقَ الْمَغْصُوبَ وَالضَّالَّ ، فَإِنَّ الْمِلْكَ فِيهِ ثَابِتٌ تَامٌّ إنَّمَا حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا .
وَمِنْ أَوْجَبَ الزَّكَاةَ عَلَى الْمُضَارِبِ .
فَإِنَّمَا يُوجِبُهَا عَلَيْهِ إذَا حَالَ الْحَوْلُ مِنْ حِينِ تَبْلُغُ حِصَّتُهُ نِصَابًا بِمُفْرَدِهَا أَوْ بِضَمِّهَا إلَى مَا عِنْدَهُ مِنْ جِنْسِ الْمَالِ ، أَوْ مِنْ الْأَثْمَانِ ، إلَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تَقُولُ إنَّ لِلشَّرِكَةِ تَأْثِيرًا فِي غَيْرِ السَّائِمَةِ .
وَلَيْسَ عَلَيْهِ إخْرَاجُهَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ ، كَالدِّينِ لَا يَجِبُ الْإِخْرَاجُ مِنْهُ قَبْلَ قَبْضِهِ .
وَإِنْ أَرَادَ إخْرَاجَهَا مِنْهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ

لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ وِقَايَةٌ لِرَأْسِ الْمَالِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَجُوزَ ، لِأَنَّهُمَا دَخَلَا عَلَى حُكْمِ الْإِسْلَامِ ، وَمِنْ حُكْمِهِ وُجُوبُ الزَّكَاةِ ، وَإِخْرَاجُهَا مِنْ الْمَالِ .

( 1930 ) فَصْلٌ : وَإِذَا أَذِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ لِصَاحِبِهِ فِي إخْرَاجِ زَكَاتِهِ ، أَوْ أَذِنَ رَجُلَانِ غَيْرُ شَرِيكَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ فِي إخْرَاجِ زَكَاتِهِ ، فَأَخْرَجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا زَكَاتَهُ وَزَكَاةَ صَاحِبِهِ مَعًا ، فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ ، ضَمِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَصِيبَ صَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا انْعَزَلَ مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ عَنْ الْوَكَالَةِ ، لِإِخْرَاجِ مِنْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ زَكَاتَهُ بِنَفْسِهِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَضْمَنَ ، إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِإِخْرَاجِ صَاحِبِهِ ، إذَا قُلْنَا إنَّ الْوَكِيلَ لَا يَنْعَزِلُ ؛ قَبْلَ الْحَكَمِ بِعَزْلِ الْمُوَكَّلِ أَوْ بِمَوْتِهِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَضْمَنَ ، وَإِنْ قُلْنَا إنَّهُ يَنْعَزِلُ ؛ لِأَنَّهُ غَرَّهُ بِتَسْلِيطِهِ عَلَى الْإِخْرَاجِ ، وَأَمَرَهُ بِهِ ، وَلَمْ يُعْلِمْهُ بِإِخْرَاجِهِ ، فَكَانَ خَطَرُ التَّغْرِيرِ عَلَيْهِ ، كَمَا لَوْ غَرَّهُ بِحُرِّيَّةِ أَمَةٍ .
وَهَذَا أَحْسَنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَعَلَى هَذَا ، إنْ عَلِمَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ ، فَعَلَى الْعَالِمِ الضَّمَانُ دُونَ الْآخَرِ .
فَأَمَّا إنْ أَخْرَجَهَا أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْآخَرِ ، فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا ضَمَانَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا إذَا لَمْ يَعْلَمْ ، وَعَلَى الْأَوَّلِ عَلَى الثَّانِي الضَّمَانُ دُونَ الْأَوَّلِ .

بَابُ زَكَاةِ الدَّيْنِ وَالصَّدَقَةِ الصَّدَقَةُ : هِيَ الصَّدَاقُ ، وَجَمْعُهَا صَدُقَاتٌ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً } .
وَهِيَ مِنْ جُمْلَةِ الدُّيُونِ ، وَحُكْمُهَا حُكْمُهَا وَإِنَّمَا أَفْرَدَهَا بِالذِّكْرِ لِاشْتِهَارِهَا بِاسْمٍ خَاصٍّ .
( 1931 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَإِذَا كَانَ مَعَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ ، فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الدَّيْنَ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي الْأَمْوَالَ الْبَاطِنَةِ ، رِوَايَةً وَاحِدَةً .
وَهِيَ الْأَثْمَانُ ، وَعُرُوضُ التِّجَارَةِ .
وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ ، وَمَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ ، وَالْحَسَنُ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَاللَّيْثُ ، وَمَالِكٌ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَقَالَ رَبِيعَةُ ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ ، وَالشَّافِعِيُّ فِي جَدِيدِ قَوْلَيْهِ : لَا يَمْنَعُ الزَّكَاةَ ؛ لِأَنَّهُ حُرٌّ مُسْلِمٌ مَلَكَ نِصَابًا حَوْلًا ، فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ ، كَمَنْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ .
وَلَنَا مَا رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ فِي " الْأَمْوَالِ " : حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ ، عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ ، قَالَ : سَمِعْت عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ يَقُولُ : هَذَا شَهْرُ زَكَاتِكُمْ ، فَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلْيُؤَدِّهِ ، حَتَّى تُخْرِجُوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ .
وَفِي رِوَايَةٍ : فَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلْيَقْضِ دَيْنَهُ ، وَلْيُزَكِّ بَقِيَّةَ مَالِهِ .
.
قَالَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ ، فَلَمْ يُنْكِرُوهُ ، فَدَلَّ عَلَى اتِّفَاقِهِمْ عَلَيْهِ .
وَرَوَى أَصْحَابُ مَالِكٍ ، عَنْ عُمَيْرِ بْنِ عِمْرَانَ ، عَنْ شُجَاعٍ ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا كَانَ لِرَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ ، وَعَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ ، فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ } .
وَهَذَا نَصٌّ .
وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أُمِرْت أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ ، فَأَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِكُمْ .
} فَدَلَّ

عَلَى أَنَّهَا إنَّمَا تَجِبُ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ وَلَا تُدْفَعُ إلَّا إلَى الْفُقَرَاءِ ، وَهَذَا مِمَّنْ يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ الزَّكَاةِ ، فَيَكُونُ فَقِيرًا ، فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَجِبُ إلَّا عَلَى الْأَغْنِيَاءِ ، لِلْخَبَرِ ، وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { لَا صَدَقَةَ إلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى } .
وَيُخَالِفُ مَنْ لَا دَيْنَ لَهُ عَلَيْهِ ، فَإِنَّهُ غَنِيٌّ يَمْلِكُ نِصَابًا ، يُحَقِّقُ هَذَا أَنَّ الزَّكَاةَ إنَّمَا وَجَبَتْ مُوَاسَاةً لِلْفُقَرَاءِ ، وَشُكْرًا لِنِعْمَةِ الْغِنَى ، وَالْمَدِينُ مُحْتَاجٌ إلَى قَضَاءِ دَيْنِهِ كَحَاجَةِ الْفَقِيرِ أَوْ أَشَدِّ ، وَلَيْسَ مِنْ الْحِكْمَةِ تَعْطِيلُ حَاجَةِ الْمَالِكِ لِحَاجَةِ غَيْرِهِ ، وَلَا حَصَلَ لَهُ مِنْ الْغِنَى مَا يَقْتَضِي الشُّكْرَ بِالْإِخْرَاجِ ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { ابْدَأْ بِنَفْسِكَ ، ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ .
}

( 1932 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا الْأَمْوَالُ الظَّاهِرَةُ وَهِيَ السَّائِمَةُ ، وَالْحُبُوبُ ، وَالثِّمَارُ ، فَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّ الدَّيْنَ يَمْنَعُ الزَّكَاةَ أَيْضًا فِيهَا ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ .
قَالَ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ : يَبْتَدِئُ بِالدَّيْنِ فَيَقْضِيه ، ثُمَّ يَنْظُرُ مَا بَقِيَ عِنْدَهُ بَعْدَ إخْرَاجِ النَّفَقَةِ ، فَيُزَكِّي مَا بَقِيَ ، وَلَا يَكُونُ عَلَى أَحَدٍ ، دَيْنُهُ أَكْثَرُ مِنْ مَالِهِ ، صَدَقَةٌ فِي إبِلٍ ، أَوْ بَقَرٍ ، أَوْ غَنَمٍ ، أَوْ زَرْعٍ ، وَلَا زَكَاةٌ .
وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ ، وَالْحَسَنِ ، وَسُلَيْمَانَ ، وَمَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ ، وَالنَّخَعِيِّ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَاللَّيْثِ ، وَإِسْحَاقَ ، لِعُمُومِ مَا ذَكَرْنَا .
وَرُوِيَ ، أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ الزَّكَاةَ فِيهَا .
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ ، وَالشَّافِعِيِّ .
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ : قَدْ اخْتَلَفَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : يُخْرِجُ مَا اسْتَدَانَ أَوْ أَنْفَقَ عَلَى ثَمَرَتِهِ وَأَهْلِهِ ، وَيُزَكِّي مَا بَقِيَ .
وَقَالَ الْآخَرُ : يُخْرِجُ مَا اسْتَدَانَ عَلَى ثَمَرَتِهِ ، وَيُزَكِّي مَا بَقِيَ .
وَإِلَيْهِ أَذْهَبُ أَنْ لَا يُزَكِّيَ مَا أَنْفَقَ عَلَى ثَمَرَتِهِ خَاصَّةً ، وَيُزَكِّي مَا بَقِيَ ؛ لِأَنَّ الْمُصَدِّقَ إذَا جَاءَ فَوَجَدَ إبِلًا ، أَوْ بَقَرًا ، أَوْ غَنَمًا ، لَمْ يَسْأَلْ أَيَّ شَيْءٍ عَلَى صَاحِبِهَا مِنْ الدَّيْنِ ، وَلَيْسَ الْمَالُ هَكَذَا .
فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ ، لَا يَمْنَعُ الدَّيْنُ الزَّكَاةَ فِي الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ ، إلَّا فِي الزَّرْعِ وَالثِّمَارِ ، فِيمَا اسْتَدَانَهُ لِلْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا خَاصَّةً .
وَهَذَا ظَاهِرُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ ، لِأَنَّهُ قَالَ فِي الْخَرَاجِ : يُخْرِجُهُ ، ثُمَّ يُزَكِّي مَا بَقِيَ .
جَعَلَهُ كَالدَّيْنِ عَلَى الزَّرْعِ .
وَقَالَ فِي الْمَاشِيَةِ الْمَرْهُونَةِ : ( يُؤَدِّي مِنْهَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ يُؤَدِّي عَنْهَا ) .
فَأَوْجَبَ الزَّكَاةَ فِيهَا مَعَ الدَّيْنِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الدَّيْنُ الَّذِي تَتَوَجَّهُ فِيهِ الْمُطَالَبَةُ يَمْنَعُ فِي سَائِرِ

الْأَمْوَالِ ، إلَّا الزَّرْعَ وَالثِّمَارَ .
بِنَاءً مِنْهُ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِيهَا لَيْسَ بِصَدَقَةٍ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ أَنَّ تَعَلُّقَ الزَّكَاةِ بِالظَّاهِرَةِ آكَدُ ، لِظُهُورِهَا وَتَعَلُّقِ قُلُوبِ الْفُقَرَاءِ بِهَا ، وَلِهَذَا يُشْرَعُ إرْسَالُ مِنْ يَأْخُذُ صَدَقَتَهَا مِنْ أَرْبَابِهَا ، { وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبْعَثُ السُّعَاةَ ، فَيَأْخُذُونَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَرْبَابِهَا ، } وَكَذَلِكَ الْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ ، وَعَلَى مَنْعِهَا قَاتَلَهُمْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَمْ يَأْتِ عَنْهُ أَنَّهُمْ اسْتَكْرَهُوا أَحَدًا عَلَى صَدَقَةِ الصَّامِتِ ، وَلَا طَالَبُوهُ بِهَا ، إلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِهَا طَوْعًا ، وَلِأَنَّ السُّعَاةَ يَأْخُذُونَ زَكَاةَ مَا يَجِدُونَ ، وَلَا يَسْأَلُونَ عَمَّا عَلَى صَاحِبِهَا مِنْ الدَّيْنِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ زَكَاتَهَا ، وَلِأَنَّ تَعَلُّقَ أَطْمَاعِ الْفُقَرَاءِ بِهَا أَكْثَرُ ، وَالْحَاجَةَ إلَى حِفْظِهَا أَوْفَرُ ، فَتَكُونُ الزَّكَاةُ فِيهَا أَوْكَدُ .

( 1933 ) فَصْلٌ : وَإِنَّمَا يَمْنَعُ الدَّيْنُ الزَّكَاةَ ، إذَا كَانَ يَسْتَغْرِقُ النِّصَابِ أَوْ يَنْقُصُهُ ، وَلَا يَجِدُ مَا يَقْضِيه بِهِ سِوَى النِّصَابِ ، أَوْ مَا لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ لَهُ عِشْرُونَ مِثْقَالًا ، وَعَلَيْهِ مِثْقَالٌ أَوْ أَكْثَرُ أَوْ أَقَلُّ ، مِمَّا يَنْقُصُ بِهِ النِّصَابُ إذَا قَضَاهُ بِهِ ، وَلَا يَجِدُ قَضَاءً لَهُ مِنْ غَيْرِ النِّصَابِ ، فَإِنْ كَانَ لَهُ ثَلَاثُونَ مِثْقَالًا ، وَعَلَيْهِ عَشَرَةٌ ، فَعَلَيْهِ زَكَاةُ الْعِشْرِينَ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ عَشَرَةٍ ، فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ .
وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ خَمْسَةٌ ، فَعَلَيْهِ زَكَاةُ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ .
وَلَوْ أَنَّ لَهُ مِائَةً مِنْ الْغَنَمِ ، وَعَلَيْهِ مَا يُقَابِلُ سِتِّينَ ، فَعَلَيْهِ زَكَاةُ الْأَرْبَعِينَ .
فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ مَا يُقَابِلُ إحْدَى وَسِتِّينَ ، فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ يَنْقُصُ النِّصَابَ ، وَإِنْ كَانَ لَهُ مَالَانِ مِنْ جِنْسَيْنِ ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ جَعَلَهُ فِي مُقَابَلَةِ مَا يَقْضِي مِنْهُ ، فَلَوْ كَانَ لَهُ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ وَمِائَتَا دِرْهَمٍ ، فَإِنْ كَانَتْ عَلَيْهِ سَلَمًا أَوْ دِيَةً ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يُقْضَى بِالْإِبِلِ ، جَعَلْت الدَّيْنَ فِي مُقَابَلَتِهَا ، وَوَجَبَتْ عَلَيْهِ زَكَاةُ الدَّرَاهِمِ .
وَإِنْ كَانَ أَتْلَفْهَا أَوْ غَصَبَهَا ، جَعَلْت قِيمَتَهَا فِي مُقَابَلَةِ الدَّرَاهِمِ ؛ لِأَنَّهَا تُقْضَى مِنْهَا .
وَإِنْ كَانَتْ قَرْضًا ، خُرِّجَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِيمَا يُقْضَى مِنْهُ ، فَإِنْ كَانَتْ ، إذَا جَعَلْنَاهَا فِي مُقَابَلَةِ أَحَدِ الْمَالَيْنِ ، فَضَلَتْ مِنْهَا فَضْلَةٌ تَنْقُصُ النِّصَابَ الْآخَرَ ، وَإِذَا جَعَلْنَاهَا فِي مُقَابَلَةِ الْآخَرِ ، لَمْ يَفْضُلْ مِنْهَا شَيْءٌ ، كَرَجُلِ لَهُ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ وَمِائَتَا دِرْهَمٍ ، وَعَلَيْهِ سِتٌّ مِنْ الْإِبِلِ قِيمَتُهَا مِائَتَا دِرْهَمٍ ، فَإِذَا جَعَلْنَاهَا فِي مُقَابَلَةِ الْمِائَتَيْنِ لَمْ يَفْضُلْ مِنْ الدَّيْنِ شَيْءٌ ، نَقَصَ نِصَابَ السَّائِمَةِ ، وَإِذَا جَعَلْنَاهَا فِي مُقَابَلَةِ الْإِبِلِ فَضَلَ مِنْهَا بَعِيرٌ ، يَنْقُصُ نِصَابَ الدَّرَاهِمِ ، أَوْ كَانَتْ بِالْعَكْسِ ، مِثْلُ

أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا ، وَلَهُ مِنْ الْإِبِلِ خَمْسٌ أَوْ أَكْثَرُ تُسَاوِي الدَّيْنَ ، أَوْ تَفْضُلُ عَلَيْهِ ، جَعَلْنَا الدَّيْنَ فِي مُقَابَلَةِ الْإِبِلِ هَاهُنَا ، وَفِي مُقَابَلَةِ الدَّرَاهِمِ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى ؛ لِأَنَّ لَهُ مِنْ الْمَالِ مَا يَقْضِي بِهِ الدَّيْنَ سِوَى النِّصَابِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ مِائَةُ دِرْهَمٍ ، وَلَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَتِسْعٌ مِنْ الْإِبِلِ ، فَإِذَا جَعَلْنَاهَا فِي مُقَابَلَةِ الْإِبِلِ لَمْ يَنْقُصْ نِصَابُهَا ، لِكَوْنِ الْأَرْبَعِ الزَّائِدَةِ عَنْهُ تُسَاوِي الْمِائَةَ وَأَكْثَرَ مِنْهَا .
وَإِنْ جَعَلْنَاهُ فِي مُقَابَلَةِ الدَّرَاهِمِ سَقَطَتْ الزَّكَاةُ مِنْهَا ، فَجَعَلْنَاهَا فِي مُقَابَلَةِ الْإِبِلِ ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي الَّتِي قَبْلَهَا ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَحَظُّ لِلْفُقَرَاءِ .
وَذَكَرَ الْقَاضِي نَحْوَ هَذَا ، فَإِنَّهُ قَالَ : إذَا كَانَ النِّصَابَانِ زَكَوِيَّيْنِ ، جَعَلْت الدَّيْنَ فِي مُقَابَلَةِ مَا الْحَظُّ لِلْمَسَاكِينِ فِي جَعْلِهِ فِي مُقَابَلَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الدَّيْنِ .
فَإِنْ كَانَ أَحَدُ الْمَالَيْنِ لَا زَكَاةَ فِيهِ ، وَالْآخَرُ فِيهِ الزَّكَاةُ ، كَرَجُلٍ عَلَيْهِ مِائَتَا دِرْهَمٍ ، وَلَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ ، وَعُرُوضٌ لِلْقُنْيَةِ تُسَاوِي مِائَتَيْنِ ، فَقَالَ الْقَاضِي : يَجْعَلُ الدَّيْنَ فِي مُقَابَلَةِ الْعُرُوضِ .
وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ ، وَأَبِي عُبَيْدٍ ، قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِمِائَتَيْنِ زَائِدَةٍ عَنْ مَبْلَغِ دَيْنِهِ ، فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ زَكَاتُهَا ، كَمَا لَوْ كَانَ جَمِيعُ مَالِهِ جِنْسًا وَاحِدًا .
وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ ، رَحِمَهُ اللَّهُ ، أَنَّهُ يَجْعَلُ الدَّيْنَ فِي مُقَابَلَةِ مَا يَقْضِي مِنْهُ ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي رَجُلٍ عِنْدَهُ أَلْفٌ وَعَلَيْهِ أَلْفٌ وَلَهُ عُرُوضٌ بِأَلْفٍ : إنْ كَانَتْ الْعُرُوض لِلتِّجَارَةِ زَكَّاهَا ، وَإِنْ كَانَتْ لِغَيْرِ التِّجَارَةِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ .
وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَيُحْكَى عَنْ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ ، لِأَنَّ الدَّيْنَ يُقْضَى مِنْ جِنْسِهِ عِنْدَ التَّشَاحِّ ،

فَجَعْلُ الدَّيْنِ فِي مُقَابَلَتِهِ أَوْلَى ، كَمَا لَوْ كَانَ النِّصَابَانِ زَكَوِيَّيْنِ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُ أَحْمَدَ هَاهُنَا عَلَى مَا إذَا كَانَ الْعَرْضُ تَتَعَلَّقُ بِهِ حَاجَتُهُ الْأَصْلِيَّةُ ، وَلَمْ يَكُنْ فَاضِلًا عَنْ حَاجَتِهِ ، فَلَا يَلْزَمُهُ صَرْفُهُ فِي وَفَاءِ الدَّيْنِ ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ أَهَمُّ ، وَلِذَلِكَ لَمْ تَجِبْ الزَّكَاةُ فِي الْحُلِيِّ الْمُعَدِّ لِلِاسْتِعْمَالِ ، وَيَكُونُ قَوْلُ الْقَاضِي مَحْمُولًا عَلَى مَنْ كَانَ الْعَرْضُ فَاضِلًا عَنْ حَاجَتِهِ ، وَهَذَا أَحْسَنُ ؛ لِأَنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ مَالِكٌ لِنِصَابٍ فَاضِلٍ عَنْ حَاجَتِهِ وَقَضَاءِ دَيْنِهِ ، فَلَزِمَتْهُ زَكَاتُهُ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ .
فَأَمَّا إنْ كَانَ عِنْدَهُ نِصَابَانِ زَكَوِيَّانِ ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِمَا ، وَلَا يُقْضَى مِنْ أَحَدِهِمَا ، فَإِنَّك تَجْعَلُهُ فِي مُقَابَلَةِ مَا الْحَظُّ لِلْمَسَاكِينِ فِي جَعْلِهِ فِي مُقَابَلَتِهِ .

( 1934 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا دَيْنُ اللَّهِ تَعَالَى ، كَالْكَفَّارَةِ وَالنَّذْرِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، يَمْنَعُ الزَّكَاةَ كَدَيْنِ الْآدَمِيِّ ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ يَجِبُ قَضَاؤُهُ ، فَهُوَ كَدَيْنِ الْآدَمِيِّ .
يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { دَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى } .
وَالْآخَرُ : لَا يَمْنَعُ ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ آكَدُ مِنْهُ لِتَعَلُّقِهَا بِالْعَيْنِ ، فَهُوَ كَأَرْشِ الْجِنَايَةِ ، وَيُفَارِقُ دَيْنَ الْآدَمِيِّ ، لِتَأَكُّدِهِ ، وَتَوَجُّهِ الْمُطَالَبَةِ بِهِ .
فَإِنْ نَذَرَ الصَّدَقَةَ بِمُعَيَّنٍ ، فَقَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهَذِهِ الْمِائَتَيْ دِرْهَمٍ إذَا حَالَ الْحَوْلُ .
فَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : يُخْرِجُهَا فِي النَّذْرِ ، وَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ النَّذْرَ آكَدُ لِتَعَلُّقِهِ بِالْعَيْنِ ، وَالزَّكَاةُ مُخْتَلَفٌ فِيهَا .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَلْزَمَهُ زَكَاتُهَا ، وَتُجْزِئُهُ الصَّدَقَةُ بِهَا ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الزَّكَاةَ بِقَدْرِهَا ، وَيَكُونُ ذَلِكَ صَدَقَةً تُجْزِئُهُ عَنْ الزَّكَاةِ وَالنَّذْرِ ؛ لِكَوْنِ الزَّكَاةِ صَدَقَةً ، وَسَائِرُهَا يَكُونُ صَدَقَةً لِنَذْرِهِ وَلَيْسَ بِزَكَاةٍ .
وَإِنْ نَذَرَ الصَّدَقَةَ بِبَعْضِهَا ، وَكَانَ ذَلِكَ الْبَعْضُ قَدْرَ الزَّكَاةِ أَوْ أَكْثَرَ ، فَعَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ يُخْرِجُ الْمَنْذُورَ ، وَيَنْوِي الزَّكَاةَ بِقَدْرِهَا مِنْهُ .
وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ عَقِيلٍ ، يَحْتَمِلُ أَنْ تَجِبَ الزَّكَاةُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ النَّذْرَ إنَّمَا تَعَلَّقَ بِالْبَعْضِ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الزَّكَاةِ وَتَمَامِ شَرْطِهِ ، فَلَا يَمْنَعُ الْوُجُوبَ ، لِكَوْنِ الْمَحِلِّ مُتَّسِعًا لَهُمَا جَمِيعًا .
وَإِنْ كَانَ الْمَنْذُورُ أَقَلَّ مِنْ قَدْرِ الزَّكَاةِ ، وَجَبَ قَدْرُ الزَّكَاةِ ، وَدَخَلَ النَّذْرُ فِيهِ ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ، وَفِي الْآخَرِ يَجِبُ إخْرَاجُهُمَا جَمِيعًا .

( 1935 ) فَصْلٌ : إذَا قُلْنَا : لَا يَمْنَعُ الدَّيْنُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ .
فَحَجَرَ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ ، لَمْ يَمْلِكْ إخْرَاجَهَا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ انْقَطَعَ تَصَرُّفُهُ فِي مَالِهِ .
وَإِنْ أَقَرَّ بِهَا بَعْدَ الْحَجْرِ ، لَمْ يُقْبَلْ إقْرَارُهُ ، وَكَانَتْ عَلَيْهِ فِي ذِمَّتِهِ كَدَيْنِ الْآدَمِيِّ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَسْقُطَ إذَا حُجِرَ عَلَيْهِ قَبْلَ إمْكَانِ أَدَائِهَا ، كَمَا لَوْ تَلِفَ مَالُهُ .
فَإِنْ أَقَرَّ الْغُرَمَاءُ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ ، أَوْ ثَبَتَ بِبَيِّنَةِ .
أَوْ كَانَ قَدْ أَقَرَّ بِهَا قَبْلَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ ، وَجَبَ إخْرَاجُهَا مِنْ الْمَالِ ، فَإِنْ لَمْ يُخْرِجُوهَا فَعَلَيْهِمْ إثْمُهَا .

فَصْلٌ : وَإِذَا جَنَى الْعَبْدُ الْمُعَدُّ لِلتِّجَارَةِ جِنَايَةً تَعَلَّقَ أَرْشُهَا بِرَقَبَتِهِ ، مَنَعَ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِيهِ ، إنْ كَانَ يَنْقُصُ النِّصَابَ ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ وَإِنْ لَمْ يَنْقُصْ النِّصَابُ ، مَنَعَ الزَّكَاةَ فِي قَدْرِ مَا يُقَابِلُ الْأَرْشَ .

( 1937 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَإِذَا كَانَ لَهُ دَيْنٌ عَلَى مَلِيءٍ فَلَيْسَ عَلَيْهِ زَكَاةٌ حَتَّى يَقْبِضَهُ ، فَيُؤَدِّي لِمَا مَضَى وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الدَّيْنَ عَلَى ضَرْبَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا ، دَيْنٌ عَلَى مُعْتَرِفٍ بِهِ بَاذِلٍ لَهُ ، فَعَلَى صَاحِبِهِ زَكَاتُهُ ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إخْرَاجُهَا حَتَّى يَقْبِضَهُ ، فَيُؤَدِّي لِمَا مَضَى ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ .
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَقَالَ عُثْمَانُ وَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَجَابِرٌ وَطَاوُسٌ وَالنَّخَعِيُّ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَالْحَسَنُ ، وَمَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ وَالزُّهْرِيُّ وَقَتَادَةُ وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدٍ عَلَيْهِ إخْرَاجُ الزَّكَاةِ فِي الْحَالِ ، وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْهُ ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَخْذِهِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ ، فَلَزِمَهُ إخْرَاجُ زَكَاتِهِ ، كَالْوَدِيعَةِ .
وَقَالَ عِكْرِمَةُ لَيْسَ فِي الدَّيْنِ زَكَاةٌ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ نَامٍ ، فَلَمْ تَجِبْ زَكَاتُهُ ، كَعُرُوضِ الْقُنْيَةِ .
وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ وَأَبِي الزِّنَادِ : يُزَكِّيه إذَا قَبَضَهُ لِسَنَةٍ وَاحِدَةٍ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ دَيْنٌ ثَابِتٌ فِي الذِّمَّةِ ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ الْإِخْرَاجُ قَبْلَ قَبْضِهِ ، كَمَا لَوْ كَانَ عَلَى مُعْسِرٍ ، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ عَلَى طَرِيقِ الْمُوَاسَاةِ ، وَلَيْسَ مِنْ الْمُوَاسَاةِ أَنْ يُخْرِجَ زَكَاةَ مَالٍ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ .
وَأَمَّا الْوَدِيعَةُ ، فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ مَا فِي يَدِهِ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَوْدَعَ نَائِبٌ عَنْهُ فِي حِفْظِهِ ، وَيَدُهُ كَيَدِهِ ، وَإِنَّمَا يُزَكِّيه لِمَا مَضَى ؛ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ لَهُ يَقْدِرُ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِهِ ، فَلَزِمَتْهُ زَكَاتُهُ ، كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ .
الضَّرْبُ الثَّانِي ، أَنْ يَكُونَ عَلَى مُعْسِرٍ ، أَوْ جَاحِدٍ ، أَوْ مُمَاطِلٍ بِهِ .
فَهَذَا هَلْ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ ؛ إحْدَاهُمَا ، لَا

تَجِبُ ، وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ ، وَإِسْحَاقَ ، وَأَبِي ثَوْرٍ ، وَأَهْلِ الْعِرَاقِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِهِ ، أَشْبَهَ مَالَ الْمُكَاتَبِ .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ ، يُزَكِّيه إذَا قَبَضَهُ لِمَا مَضَى .
وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الدَّيْنِ الْمَظْنُونِ ، قَالَ : إنْ كَانَ صَادِقًا ، فَلْيُزَكِّهِ إذَا قَبَضَهُ لِمَا مَضَى .
وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ .
رَوَاهُمَا أَبُو عُبَيْدٍ وَلِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ ، فَوَجَبَتْ زَكَاتُهُ لِمَا مَضَى ، كَالدَّيْنِ عَلَى الْمَلِيءِ .
وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ كَالرِّوَايَتَيْنِ ، وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَالْحَسَنِ ، وَاللَّيْثِ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ ، وَمَالِكٍ يُزَكِّيه إذَا قَبَضَهُ لِعَامٍ وَاحِدٍ .
وَلَنَا ، أَنَّ هَذَا الْمَالَ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ عَلَى حَالٍ وَاحِدٍ ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَسَاوَى فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ أَوْ سُقُوطِهَا ، كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الْغَرِيمِ يَجْحَدُهُ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ ، أَوْ فِيهِمَا .
( 1938 ) فَصْلٌ : وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ ، أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْحَالِّ وَالْمُؤَجَّلِ ؛ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ تَصِحُّ مِنْ الْمُؤَجَّلِ ، وَلَوْلَا أَنَّهُ مَمْلُوكٌ لَمْ تَصِحَّ الْبَرَاءَةُ مِنْهُ ، لَكِنْ يَكُونُ فِي حُكْمِ الدَّيْنِ عَلَى الْمُعْسِرِ ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ قَبْضُهُ فِي الْحَالِ .

( 1939 ) فَصْلٌ : وَلَوْ أَجَرَ دَارِهِ سَنَتَيْنِ بِأَرْبَعِينَ دِينَارًا ، مَلَكَ الْأُجْرَةَ مِنْ حِينِ الْعَقْدِ ، وَعَلَيْهِ زَكَاةُ جَمِيعِهَا إذَا حَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُكْرِي عَلَيْهِ تَامٌّ بِدَلِيلِ جَوَازِ التَّصَرُّفِ فِيهَا بِأَنْوَاعِ التَّصَرُّفَاتِ .
وَلَوْ كَانَتْ جَارِيَةً كَانَ لَهُ وَطْؤُهَا ، وَكَوْنُهَا بِعَرَضِ الرُّجُوعِ لِانْفِسَاخِ الْعَقْدِ ، لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ ، كَالصَّدَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ .
ثُمَّ إنْ كَانَ قَدْ قَبَضَ الْأُجْرَةَ أَخْرَجَ الزَّكَاةَ مِنْهَا ، وَإِنْ كَانَتْ دَيْنًا فَهِيَ كَالدِّينِ ، مُعَجَّلًا كَانَ أَوْ مُؤَجَّلًا .
وَقَالَ مَالِكٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُزَكِّيهَا حَتَّى يَقْبِضَهَا ، وَيَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأُجْرَةَ لَا تُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ ، وَإِنَّمَا تُسْتَحَقُّ بِانْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ .
وَهَذَا يُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهِ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَعَنْ أَحْمَدَ ، رَحِمَهُ اللَّهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى ، فِي مَنْ قَبَضَ مِنْ أَجْرِ عَقَارٍ نِصَابًا ، يُزَكِّيه فِي الْحَالِ .
وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ، وَحَمَلْنَاهُ عَلَى أَنَّهُ حَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ قَبْلَ قَبْضِهِ .

( 1940 ) فَصْلٌ : وَلَوْ اشْتَرَى شَيْئًا بِعِشْرِينَ دِينَارًا ، أَوْ أَسْلَمَ نِصَابًا فِي شَيْءٍ ، فَحَالَ الْحَوْلُ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ ، أَوْ يَقْبِضَ الْمُسْلَمَ فِيهِ وَالْعَقْدُ بَاقٍ ، فَعَلَى الْبَائِعِ وَالْمُسْلَمِ إلَيْهِ زَكَاةُ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ ثَابِتٌ فِيهِ ، فَإِنْ انْفَسَخَ الْعَقْدُ لِتَلَفِ الْمَبِيعِ ، أَوْ تَعَذَّرَ الْمُسْلَمُ فِيهِ ، وَجَبَ رَدُّ الثَّمَنِ ، وَزَكَاتُهُ عَلَى الْبَائِعِ .

( 1941 ) فَصْلٌ : وَالْغَنِيمَةُ يَمْلِكُ الْغَانِمُونَ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهَا بِانْقِضَاءِ الْحَرْبِ ، فَإِنْ كَانَتْ جِنْسًا وَاحِدًا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ ، كَالْأَثْمَانِ وَالسَّائِمَةِ ، وَنَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْهَا نِصَابٌ ، فَعَلَيْهِ زَكَاتُهُ إذَا انْقَضَى الْحَوْلُ ، وَلَا يَلْزَمُهُ إخْرَاجُ زَكَاتِهِ قَبْلَ قَبْضِهِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الدِّينِ عَلَى الْمَلِيءِ .
وَإِذَا كَانَ دُونَ النِّصَابِ ، فَلَا زَكَاةَ فِيهِ ، إلَّا أَنْ تَكُونَ سَائِمَةً أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهَا تَبْلُغُ النِّصَابَ ، فَتَكُونَ خُلْطَةً ، وَلَا تُضَمُّ إلَى الْخُمْسِ ؛ لِأَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِيهِ .
فَإِنْ كَانَتْ الْغَنِيمَةُ أَجْنَاسًا ، كَإِبِلٍ وَبَقَرٍ وَغَنَمٍ ، فَلَا زَكَاةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ ؛ لِأَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْسِمَ بَيْنَهُمْ قِسْمَةً بِحُكْمِ ، فَيُعْطِي كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ أَيِّ أَصْنَافِ الْمَالِ شَاءَ ، فَمَا تَمَّ مِلْكُهُ عَلَى شَيْءٍ مُعَيَّنٍ بِخِلَافِ الْمِيرَاثِ .

( 1942 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَإِذَا غُصِبَ مَالًا ، زَكَّاهُ إذَا قَبَضَهُ لِمَا مَضَى ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ، وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى ، قَالَ : لَيْسَ هُوَ كَالدَّيْنِ الَّذِي مَتَى قَبَضَهُ زَكَّاهُ ، وَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُزَكِّيَهُ قَوْلُهُ : إذَا غُصِبَ مَالًا .
أَيْ إذَا غُصِبَ الرَّجُلُ مَالًا ، فَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ الْمَرْفُوعُ مُسْتَتِرٌ فِي الْفِعْلِ ، وَالْمَالُ هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي ، فَكَذَلِكَ نَصِيبُهُ ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ : وَإِذَا غُصِبَ مَالَهُ .
وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ ، وَالْحُكْمُ فِي الْمَغْصُوبِ وَالْمَسْرُوقِ وَالْمَجْحُودِ وَالضَّالِّ وَاحِدٌ ، وَفِي جَمِيعِهِ رِوَايَتَانِ ؛ إحْدَاهُمَا ، لَا زَكَاةَ فِيهِ .
نَقَلَهَا الْأَثْرَمُ ، وَالْمَيْمُونِيُّ .
وَمَتَى عَادَ صَارَ كَالْمُسْتَفَادِ ، يَسْتَقْبِلُ بِهِ حَوْلًا .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ فِي قَدِيمِ قَوْلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ خَرَجَ عَنْ يَدِهِ وَتَصَرُّفِهِ ، وَصَارَ مَمْنُوعًا مِنْهُ ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ زَكَاتُهُ ، كَمَالِ الْمُكَاتَبِ .
وَالثَّانِيَةُ ، عَلَيْهِ زَكَاتُهُ ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ عَلَيْهِ تَامٌّ ، فَلَزِمَتْهُ زَكَاتُهُ ، كَمَا لَوْ نَسِيَ عِنْدَ مَنْ أَوْدَعَهُ ، أَوْ كَمَا لَوْ أُسِرَ ، أَوْ حُبِسَ ، وَحِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَالِهِ ، وَعَلَى كِلْتَا الرِّوَايَتَيْنِ لَا يَلْزَمُهُ إخْرَاجُ زَكَاتِهِ قَبْلَ قَبْضِهِ .
وَقَالَ مَالِكٌ : إذَا قَبَضَهُ زَكَّاهُ لِحَوْلٍ وَاحِدٍ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْحَوْلِ فِي يَدِهِ ، ثُمَّ حَصَلَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي يَدِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَسْقُطَ الزَّكَاةُ عَنْ حَوْلٍ وَاحِدٍ .
وَلَيْسَ هَذَا بِصَحِيحِ ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ وُجُوبِ الزَّكَاةِ إذَا وُجِدَ فِي بَعْضِ الْحَوْلِ ، يَمْنَعُ ، كَنَقْصِ النِّصَابِ .

( 1943 ) فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ الْمَغْصُوبُ سَائِمَةً ، مَعْلُوفَةً عِنْدَ صَاحِبِهَا وَغَاصِبِهَا ، فَلَا زَكَاةَ فِيهَا ؛ لِفِقْدَانِ الشَّرْطِ .
وَإِنْ كَانَتْ سَائِمَةً عِنْدَهُمَا فَفِيهَا الزَّكَاةُ ، عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تَقُولُ بِوُجُوبِهَا فِي الْمَغْصُوبِ .
وَإِنْ كَانَتْ مَعْلُوفَةً عِنْدَ صَاحِبِهَا ، سَائِمَةً عِنْدَ غَاصِبِهَا ، فَفِيهَا وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهَا لَمْ يَرْضَ بِإِسَامَتِهَا ، فَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ بِفِعْلِ الْغَاصِبِ كَمَا لَوْ رَعَتْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسِيمَهَا .
وَالثَّانِي ، عَلَيْهِ الزَّكَاةُ لِأَنَّ السَّوْمَ يُوجِبُ الزَّكَاةَ مِنْ الْمَالِكِ فَأَوْجَبَهَا مِنْ الْغَاصِبِ كَمَا لَوْ كَانَتْ سَائِمَةً عِنْدَهُمَا ، وَكَمَا لَوْ غَصَبَ بَذْرًا فَزَرَعَهُ وَجَبَ الْعُشْرُ فِيمَا خَرَجَ مِنْهُ وَإِنْ كَانَتْ سَائِمَةً عِنْدَ مَالِكِهَا مَعْلُوفَةً عِنْدَ غَاصِبِهَا فَلَا زَكَاةَ فِيهَا ؛ لِفِقْدَانِ الشَّرْطِ ، وَقَالَ الْقَاضِي فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِيهَا لِأَنَّ الْعَلَفَ مُحَرَّمٌ فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِي الزَّكَاةِ كَمَا لَوْ غَصَبَ أَثْمَانًا فَصَاغَهَا حُلِيًّا لَمْ تَسْقُطْ الزَّكَاةُ عَنْهَا بِصِيَاغَتِهِ .
قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْآمِدِيُّ : هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّ الْعَلَفَ إنَّمَا أَسْقَطَ الزَّكَاةَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمُؤْنَةِ وَهَا هُنَا لَا مُؤْنَةَ عَلَيْهِ وَلَنَا : أَنَّ السَّوْمَ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ وَلَمْ يُوجَدْ فَلَمْ تَجِبْ الزَّكَاةُ ، كَنَقْصِ النِّصَابِ وَالْمِلْكِ وَقَوْلُهُ : إنَّ الْعَلَفَ مُحَرَّمٌ .
غَيْرُ صَحِيحٍ وَإِنَّمَا الْمُحَرَّمُ الْغَصْبُ وَإِنَّمَا الْعَلَفُ تَصَرُّفٌ مِنْهُ فِي مَالِهِ بِإِطْعَامِهَا إيَّاهُ ، وَلَا تَحْرِيمَ فِيهِ ، وَلِهَذَا لَوْ عَلَفَهَا عِنْدَ مَالِكِهَا لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ وَمَا ذَكَرَهُ الْآمِدِيُّ مِنْ خِفَّةِ الْمُؤْنَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ فَإِنَّ الْخِفَّةَ لَا تُعْتَبَرُ بِنَفْسِهَا ، وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ بِمُظِنِّهَا ، وَهِيَ السَّوْمُ ثُمَّ يَبْطُلُ مَا ذَكَرَاهُ بِمَا إذَا كَانَتْ مَعْلُوفَةٍ عِنْدَهُمَا جَمِيعًا وَيَبْطُلُ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي بِمَا إذَا عَلَفَهَا

مَالِكُهَا عَلَفًا مُحَرَّمًا أَوْ أَتْلَفَ شَاةً مِنْ النِّصَابِ فَإِنَّهُ مُحَرَّمٌ وَتَسْقُطُ بِهِ الزَّكَاةُ وَأَمَّا إذَا غَصَبَ ذَهَبًا فَصَاغَهُ حُلِيًّا ، فَلَا يُشْبِهُ مَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ ، فَإِنَّ الْعَلَفَ فَاتَ بِهِ شَرْطُ الْوُجُوبِ وَالصِّيَاغَةُ لَمْ يَفُتْ بِهَا شَيْءٌ وَإِنَّمَا اُخْتُلِفَ فِي كَوْنِهَا مُسْقِطَةً بِشَرْطِ كَوْنِهَا مُبَاحَةً فَإِذَا كَانَتْ مُحَرَّمَةً لَمْ يُوجَدْ شَرْطُ الْإِسْقَاطِ ، وَلِأَنَّ الْمَالِكَ لَوْ عَلَفَهَا عَلَفًا مُحَرَّمًا لَسَقَطَتْ الزَّكَاةُ وَلَوْ صَاغَهَا صِيَاغَةً مُحَرَّمَةً لَمْ تَسْقُطْ فَافْتَرَقَا ، وَلَوْ غَصَبَ حُلِيًّا مُبَاحًا فَكَسَرَهُ أَوْ ضَرَبَهُ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ ، لِأَنَّ الْمُسْقِطَ لِلزَّكَاةِ زَالَ .
فَوَجَبَتْ الزَّكَاةُ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَجِبَ ، كَمَا لَوْ غَصَبَ مَعْلُوفَةً فَأَسَامَهَا وَلَوْ غَصَبَ عُرُوضًا فَاتَّجَرَ فِيهَا لَمْ تَجِبْ فِيهَا الزَّكَاةُ لِأَنَّ نِيَّةَ التِّجَارَةِ شَرْطٌ ، وَلَمْ تُوجَدْ مِنْ الْمَالِكِ ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ لِلتِّجَارَةِ عِنْدَ مَالِكِهَا أَوْ لَمْ تَكُنْ ؛ لِأَنَّ بَقَاءَ النِّيَّةِ شَرْطٌ وَلَمْ يَنْوِ التِّجَارَةَ بِهَا عِنْدَ الْغَاصِبِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَجِبَ الزَّكَاةُ إذَا كَانَتْ لِلتِّجَارَةِ عِنْدَ مَالِكِهَا ، وَاسْتَدَامَ النِّيَّةَ ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَخْرُجْ عَنْ مِلْكِهِ بِغَصْبِهَا وَإِنْ نَوَى بِهَا الْغَاصِبُ الْقُنْيَةَ .
وَكُلُّ مَوْضِعٍ أَوْجَبْنَا الزَّكَاةَ فَعَلَى الْغَاصِبِ ضَمَانُهَا لِأَنَّهُ نَقْصٌ حَصَلَ فِي يَدِهِ فَوَجَبَ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ ، كَتَلَفِهِ

( 1944 ) فَصْلٌ إذَا ضَلَّتْ وَاحِدَةٌ مِنْ النِّصَابِ أَوْ أَكْثَرُ ، أَوْ غُصِبَتْ فَنَقَصَ النِّصَابُ فَالْحُكْمُ فِيهِ كَمَا لَوْ ضَلَّ جَمِيعُهُ أَوْ غُصِبَ لَكِنْ إنْ قُلْنَا بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ ، فَعَلَيْهِ الْإِخْرَاجُ عَنْ الْمَوْجُودِ عِنْدَهُ .
وَإِذَا رَجَعَ الضَّالُّ أَوْ الْمَغْصُوبُ أَخْرَجَ عَنْهُ ، كَمَا لَوْ رَجَعَ جَمِيعُهُ .

( 1945 ) فَصْلٌ وَإِنْ أُسِرَ الْمَالِكُ لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ الزَّكَاةُ سَوَاءٌ حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَالِهِ أَوْ لَمْ يُحَلْ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ فِي مَالِهِ نَافِذٌ يَصِحُّ بَيْعُهُ وَهِبَتُهُ وَتَوْكِيلُهُ فِيهِ

( 1946 ) فَصْلٌ : وَإِنْ ارْتَدَّ قَبْلَ مُضِيِّ الْحَوْلِ وَحَالَ الْحَوْلُ وَهُوَ مُرْتَدٌّ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ نَصَّ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فَعَدَمُهُ فِي بَعْضِ الْحَوْلِ يُسْقِطُ الزَّكَاةَ كَالْمِلْكِ وَالنِّصَابِ وَإِنْ رَجَعَ إلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ مُضِيِّ الْحَوْلِ اسْتَأْنَفَ حَوْلًا ؛ لِمَا ذَكَرْنَا .
قَالَ أَحْمَدُ : إذَا أَسْلَمَ الْمُرْتَدُّ وَقَدْ حَالَ عَلَى مَالِهِ الْحَوْلُ فَإِنَّ الْمَالَ لَهُ وَلَا يُزَكِّيه حَتَّى يَسْتَأْنِفَ بِهِ الْحَوْلَ لِأَنَّهُ كَانَ مَمْنُوعًا مِنْهُ ، فَأَمَّا إنَّ ارْتَدَّ بَعْدَ الْحَوْلِ لَمْ تَسْقُطْ الزَّكَاةُ عَنْهُ وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ تَسْقُطُ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِهَا النِّيَّةَ فَسَقَطَتْ بِالرِّدَّةِ كَالصَّلَاةِ وَلَنَا : أَنَّهُ حَقُّ مَالٍ فَلَا يَسْقُطُ بِالرِّدَّةِ كَالدَّيْنِ وَأَمَّا الصَّلَاةُ فَلَا تَسْقُطُ أَيْضًا ، لَكِنْ لَا يُطَالَبُ بِفِعْلِهَا لِأَنَّهَا لَا تَصِحُّ مِنْهُ وَلَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ فَإِذَا عَادَ وَجَبَتْ عَلَيْهِ وَالزَّكَاةُ تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ وَلَا تَسْقُطُ بِالرِّدَّةِ كَالدَّيْنِ وَيَأْخُذُهَا الْإِمَامُ مِنْ الْمُمْتَنِعِ وَكَذَا هَاهُنَا يَأْخُذُهَا الْإِمَامُ مِنْ مَالِهِ كَمَا يَأْخُذُهَا مِنْ الْمُسْلِمِ الْمُمْتَنِعِ فَإِنْ أَسْلَمَ بَعْدَ أَخْذِهَا لَمْ يَلْزَمْهُ أَدَاؤُهَا لِأَنَّهَا سَقَطَتْ عَنْهُ بِأَخْذِهَا كَمَا تَسْقُطُ بِأَخْذِهَا مِنْ الْمُسْلِمِ الْمُمْتَنِعِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَسْقُطَ لِأَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ ، فَلَا تَحْصُلُ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ وَأَصْلُ هَذَا مَا لَوْ أَخَذَهَا الْإِمَامُ مِنْ الْمُسْلِمِ الْمُمْتَنِعِ ، وَقَدْ ذُكِرَ فِي غَيْرِ هَذَا .
وَإِنْ أَخَذَهَا غَيْرُ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبُهُ ، لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ فَلَا يَقُومُ مَقَامَهُ بِخِلَافِ نَائِبِ الْإِمَامِ وَإِنْ أَدَّاهَا فِي حَالِ رِدَّتِهِ لَمْ تُجْزِهِ لِأَنَّهُ كَافِرٌ فَلَا تَصِحُّ مِنْهُ كَالصَّلَاةِ

( 1947 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَاللَّقْطَةُ إذَا صَارَتْ بَعْدَ الْحَوْلِ كَسَائِرِ مَالِ الْمُلْتَقِطِ ، اسْتَقْبَلَ بِهَا حَوْلًا ثُمَّ زَكَّاهَا فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا زَكَّاهَا لِلْحَوْلِ الَّذِي كَانَ الْمُلْتَقِطُ مَمْنُوعًا مِنْهَا ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّ اللُّقَطَةَ تُمْلَكُ بِمُضِيِّ حَوْلِ التَّعْرِيفِ وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُهَا حَتَّى يَخْتَارَ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَيُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَمَتَى مَلَكَهَا اسْتَأْنَفَ حَوْلًا فَإِذَا مَضَى وَجَبَتْ عَلَيْهِ زَكَاتُهَا وَحَكَى الْقَاضِي فِي مَوْضِعٍ أَنَّهُ إذَا مَلَكَهَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِثْلُهَا إنْ كَانَتْ مِثْلِيَّةً ، أَوْ قِيمَتُهَا إنْ لَمْ تَكُنْ مِثْلِيَّةً .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَيُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَمُقْتَضَى هَذَا أَنْ لَا تَجِبَ عَلَيْهِ زَكَاتُهَا ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ فَمَنَعَ الزَّكَاةَ كَسَائِرِ الدُّيُونِ وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : يَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَجِبَ الزَّكَاةُ فِيهَا لِمَعْنًى آخَرَ ، وَهُوَ أَنَّ مِلْكَهُ غَيْرُ مُسْتَقَرٍّ عَلَيْهَا ، وَلِصَاحِبِهَا أَخْذُهَا مِنْهُ مَتَى وَجَدَهَا .
وَالْمَذْهَبُ مَا ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ ، وَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي يُفْضِي إلَى ثُبُوتِ مُعَاوَضَةٍ فِي حَقِّ مَنْ لَا وِلَايَةَ عَلَيْهِ ، بِغَيْرِ فِعْلِهِ ، وَلَا اخْتِيَارِهِ ، وَيَقْتَضِي ذَلِكَ أَنْ يَمْنَعَ الدَّيْنُ الَّذِي عَلَيْهِ الْمِيرَاثَ وَالْوَصِيَّةَ ، كَسَائِرِ الدُّيُونِ ، وَالْأَمْرُ بِخِلَافِهِ .
وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ : يَبْطُلُ بِمَا وَهَبَهُ الْأَبُ لِوَلَدِهِ ، وَبِنِصْفِ الصَّدَاقِ ، فَإِنَّ لَهُمَا اسْتِرْجَاعَهُ ، وَلَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فَأَمَّا رَبُّهَا إذَا جَاءَ فَأَخَذَهَا ، فَذَكَرَ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ يُزَكِّيهَا لِلْحَوْلِ الَّذِي كَانَ الْمُلْتَقِطُ مَمْنُوعًا مِنْهَا ، وَهُوَ حَوْلُ التَّعْرِيفِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي الضَّالِّ رِوَايَتَيْنِ وَهَذَا مِنْ جُمْلَتِهِ .
وَعَلَى مُقْتَضَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ أَنَّ الْمُلْتَقِطَ لَوْ لَمْ يَمْلِكْهَا مِثْلُ مَنْ لَمْ يُعَرِّفْهَا ، فَإِنَّهُ لَا زَكَاةَ عَلَى مُلْتَقِطِهَا ، وَإِذَا جَاءَ

رَبُّهَا زَكَّاهَا لِلزَّمَانِ كُلِّهِ ، وَإِنَّمَا تَجِبُ عَلَيْهِ زَكَاتُهَا إذَا كَانَتْ مَاشِيَةً بِشَرْطِ كَوْنِهَا سَائِمَةً عِنْدَ الْمُلْتَقِطِ ، فَإِنْ عَلَفَهَا فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْمَغْصُوبِ

( 1948 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ وَالْمَرْأَةُ إذَا قَبَضَتْ صَدَاقَهَا زَكَّتْهُ لِمَا مَضَى وَجُمْلَةُ ذَلِكَ ، أَنَّ الصَّدَاقَ فِي الذِّمَّةِ دَيْنٌ لِلْمَرْأَةِ ، حُكْمُهُ حُكْمُ الدُّيُونِ ، عَلَى مَا مَضَى إنْ كَانَ عَلَى مَلِيءٍ بِهِ فَالزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ فِيهِ ، إذَا قَبَضَتْهُ أَدَّتْ لِمَا مَضَى ، وَإِنْ كَانَ عَلَى مُعْسِرٍ أَوْ جَاحِدٍ فَعَلَى الرِّوَايَتَيْنِ .
وَاخْتَارَ الْخِرَقِيِّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِيهِ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ فِي الذِّمَّةِ ، فَهُوَ كَثَمَنِ مَبِيعِهَا ، فَإِنْ سَقَطَ نِصْفُهُ بِطَلَاقِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ ، وَأَخَذَتْ النِّصْفَ ، فَعَلَيْهَا زَكَاةُ مَا قَبَضَتْهُ ، دُونَ مَا لَمْ تَقْبِضْهُ ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ لَمْ تَتَعَوَّضْ عَنْهُ ، وَلَمْ تَقْبِضْهُ ، فَأَشْبَهَ مَا تَعَذَّرَ قَبْضُهُ لِفَلَسٍ أَوْ جَحْدٍ .
وَكَذَلِكَ لَوْ سَقَطَ كُلُّ الصَّدَاقِ قَبْلَ قَبْضِهِ ، لِانْفِسَاخِ النِّكَاحِ بِأَمْرٍ مِنْ جِهَتِهَا ، فَلَيْسَ عَلَيْهَا زَكَاتُهُ لِمَا ذَكَرْنَا وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي كُلِّ دَيْنٍ يَسْقُطُ قَبْلَ قَبْضِهِ مِنْ غَيْرِ إسْقَاطِ صَاحِبِهِ ، أَوْ يَئِسَ صَاحِبُهُ مِنْ اسْتِيفَائِهِ وَالْمَالُ الضَّالُّ إذَا يَئِسَ مِنْهُ ، فَلَا زَكَاةَ عَلَى صَاحِبِهِ ؛ فَإِنَّ الزَّكَاةَ مُوَاسَاةٌ ، فَلَا تَلْزَمُ الْمُوَاسَاةُ إلَّا مِمَّا حَصَلَ لَهُ .
وَإِنْ كَانَ الصَّدَاقُ نِصَابًا ، فَحَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ ثُمَّ سَقَطَ نِصْفُهُ ، وَقَبَضَتْ النِّصْفَ ، فَعَلَيْهَا زَكَاةُ النِّصْفِ الْمَقْبُوضِ ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ فِيهِ ، ثُمَّ سَقَطَتْ مِنْ نِصْفِهِ لِمَعْنًى اخْتَصَّ بِهِ ، فَاخْتَصَّ السُّقُوطُ بِهِ .
وَإِنْ مَضَى عَلَيْهِ حَوْلٌ قَبْلَ قَبْضِهِ ، ثُمَّ قَبَضَتْهُ كُلَّهُ ، زَكَّتْهُ لِذَلِكَ الْحَوْلِ .
وَإِنْ مَضَتْ عَلَيْهِ أَحْوَالٌ قَبْلَ قَبْضِهِ ، ثُمَّ قَبَضَتْهُ ، زَكَّتْهُ لِمَا مَضَى كُلِّهِ ، مَا لَمْ يَنْقُصْ عَنْ النِّصَابِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا تَجِبُ عَلَيْهَا الزَّكَاةُ مَا لَمْ تَقْبِضْهُ ؛ لِأَنَّهُ بَدَلٌ عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ ، فَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ ، كَدَيْنِ الْكِتَابَةِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ دَيْنٌ

يُسْتَحَقُّ قَبْضُهُ ، وَيُجْبَرُ الْمَدِينُ عَلَى أَدَائِهِ فَوَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ كَثَمَنِ الْمَبِيعِ .
وَيُفَارِقُ دَيْنَ الْكِتَابَةِ فَإِنَّهُ لَا يُسْتَحَقُّ قَبْضُهُ ، وَلِلْمُكَاتَبِ الِامْتِنَاعُ مِنْ أَدَائِهِ ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُمْ عَلَيْهِ ، فَإِنَّهُ عِوَضٌ عَنْ مَالٍ .

( 1949 ) فَصْلُ فَإِنْ قَبَضَتْ صَدَاقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ ، وَمَضَى عَلَيْهِ حَوْلٌ ، فَزَكَّتْهُ ، ثُمَّ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ قَبْلَ الدُّخُولِ ، رَجَعَ فِيهَا بِنِصْفِهِ ، وَكَانَتْ الزَّكَاةُ مِنْ النِّصْفِ الْبَاقِي لَهَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ أَقْوَالِهِ : يَرْجِعُ الزَّوْجُ بِنِصْفِ الْمَوْجُودِ وَنِصْفِ قِيمَةِ الْمُخْرَجِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَلِفَ الْكُلُّ رَجَعَ عَلَيْهَا بِنِصْفِ قِيمَتِهِ ، فَكَذَلِكَ إذَا تَلِفَ الْبَعْضُ .
وَلَنَا ، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } .
وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الرُّجُوعُ فِي الْعَيْنِ ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ إلَى الْقِيمَةِ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَتْلَفْ مِنْهُ شَيْءٌ .
وَيَخْرُجُ عَلَى هَذَا مَا لَوْ تَلِفَ كُلُّهُ فَإِنَّهُ مَا أَمْكَنَهُ الرُّجُوعُ فِي الْعَيْنِ .
وَإِنْ طَلَّقَهَا بَعْدَ الْحَوْلِ وَقَبْلَ الْإِخْرَاجِ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الْإِخْرَاجُ مِنْ النِّصَابِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ تَعَلَّقَ بِهِ عَلَى وَجْهِ الشَّرِكَةِ ، وَالزَّكَاةُ لَمْ تَتَعَلَّقْ بِهِ عَلَى وَجْهِ الشَّرِكَةِ ، لَكِنْ تُخْرِجُ الزَّكَاةَ مِنْ غَيْرِهِ ، أَوْ يَقْسِمَانِهِ ، ثُمَّ تُخْرِجُ الزَّكَاةَ مِنْ حِصَّتِهَا .
فَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الْحَوْلِ مَلَكَ النِّصْفَ مُشَاعًا ، وَكَانَ حُكْمُ ذَلِكَ كَمَا لَوْ بَاعَ نِصْفَهُ قَبْلَ الْحَوْلِ مُشَاعًا ، وَقَدْ بَيَّنَّا حُكْمَهُ .

( 1950 ) فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَ الصَّدَاقُ دَيْنًا ، فَأَبْرَأَتْ الزَّوْجَ مِنْهُ بَعْدَ مُضِيِّ الْحَوْلِ ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ ؛ إحْدَاهُمَا ، عَلَيْهَا الزَّكَاةُ ؛ لِأَنَّهَا تَصَرَّفَتْ فِيهِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَبَضَتْهُ وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ ، زَكَاتُهُ عَلَى الزَّوْجِ ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ مَا مُلِّكَ عَلَيْهِ ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْهُ .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ، وَمَا ذَكَرْنَا لِهَذِهِ الرِّوَايَةِ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَمْ يَمْلِكْ شَيْئًا ، وَإِنَّمَا سَقَطَ الدَّيْنُ عَنْهُ ، ثُمَّ لَوْ مَلَكَ فِي الْحَالِ لَمْ يَقْتَضِ هَذَا وُجُوبَ زَكَاةِ مَا مَضَى .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَجِبَ الزَّكَاةُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الزَّوْجِ ، وَالْمَرْأَةُ لَمْ تَقْبِضْ الدَّيْنَ ، فَلَمْ تَلْزَمْهَا زَكَاتُهُ ، كَمَا لَوْ سَقَطَ بِغَيْرِ إسْقَاطِهَا ، وَهَذَا إذَا كَانَ الدَّيْنُ مِمَّا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ إذَا قَبَضَتْهُ ، فَأَمَّا إنْ كَانَ مِمَّا لَا زَكَاةَ فِيهِ ، فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهَا بِحَالٍ .
وَكُلُّ دَيْنٍ عَلَى إنْسَانٍ أَبْرَأَهُ صَاحِبُهُ مِنْهُ بَعْدَ مُضِيِّ الْحَوْلِ عَلَيْهِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الصَّدَاقِ فِيمَا ذَكَرْنَا قَالَ أَحْمَدُ : إذَا وَهَبَتْ الْمَرْأَةُ مَهْرَهَا لِزَوْجِهَا ، وَقَدْ مَضَى لَهُ عَشْرُ سِنِينَ ، فَإِنَّ زَكَاتَهُ عَلَى الْمَرْأَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَالَ كَانَ لَهَا .
وَإِذَا وَهَبَ رَجُلٌ لِرَجُلٍ مَالًا ، فَحَالَ الْحَوْلُ ، ثُمَّ ارْتَجَعَهُ الْوَاهِبُ ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْتَجِعَهُ ، فَإِنْ ارْتَجَعَهُ فَالزَّكَاةُ عَلَى الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ .
وَقَالَ فِي رَجُلٍ بَاعَ شَرِيكَهُ نَصِيبَهُ مِنْ دَارِهِ ، فَلَمْ يُعْطِهِ شَيْئًا ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ سَنَةٍ ، قَالَ : لَيْسَ عِنْدِي دَرَاهِمُ فَأَقِلْنِي ، فَأَقَالَهُ ، قَالَ : عَلَيْهِ أَنْ يُزَكِّيَ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ مَلَكَهُ حَوْلًا .

( 1951 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ وَالْمَاشِيَةُ إذَا بِيعَتْ بِالْخِيَارِ ، فَلَمْ يَنْقَضِ الْخِيَارُ حَتَّى رُدَّتْ ، اسْتَقْبَلَ بِهَا الْبَائِعُ حَوْلًا ، سَوَاءٌ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ أَوْ لِلْمُشْتَرِي ، لِأَنَّهُ تَجْدِيدُ مِلْكٍ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ ، أَنَّ الْبَيْعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ يَنْقُلُ الْمِلْكَ إلَى الْمُشْتَرِي عَقِيبَهُ ، وَلَا يَقِفُ عَلَى انْقِضَاءِ الْخِيَارِ ، سَوَاءٌ كَانَ الْخِيَارُ لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا .
وَعَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهُ لَا يَنْتَقِلُ حَتَّى يَنْقَضِيَ الْخِيَارُ .
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَنْتَقِلُ إنْ كَانَ لِلْبَائِعِ ، وَإِنْ كَانَ لِلْمُشْتَرِي خَرَجَ عَنْ الْبَائِعِ ، وَلَمْ يَدْخُلْ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي .
وَعَنْ الشَّافِعِيِّ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ قَوْلَانِ كَالرِّوَايَتَيْنِ ، وَقَوْلٌ ثَالِثٌ ، أَنَّهُ مُرَاعًى ، فَإِنْ فَسَخَاهُ تَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَمْ يَنْتَقِلْ ، وَإِنْ أَمْضَيَاهُ تَبَيَّنَّا أَنَّهُ انْتَقَلَ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ بَيْعٌ صَحِيحٌ فَنُقِلَ الْمِلْكُ عَقِيبَهُ ، كَمَا لَوْ لَمْ يُشْتَرَطْ الْخِيَارُ .
وَإِنْ كَانَ الْمَالُ زَكَائِيًّا انْقَطَعَ الْحَوْلُ بِبَيْعِهِ ، لِزَوَالِ مِلْكِهِ عَنْهُ ، فَإِنْ اسْتَرَدَّهُ أَوْ رُدَّ عَلَيْهِ اسْتَأْنَفَ حَوْلًا ؛ لِأَنَّهُ مِلْكٌ مُتَجَدِّدٌ حَدَثَ بَعْدَ زَوَالِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَأْنِفَ لَهُ حَوْلًا كَمَا لَوْ كَانَ الْبَيْعُ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ خِيَارٍ .
وَهَكَذَا الْحُكْمُ لَوْ فَسَخَا الْبَيْعَ فِي مُدَّةِ الْمَجْلِسِ بِخِيَارِهِ ؛ لَا يَمْنَعُ نَقْلَ الْمِلْكِ أَيْضًا ، فَهُوَ كَخِيَارِ الشَّرْطِ .
وَلَوْ مَضَى الْحَوْلُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ ، ثُمَّ فَسَخَا الْبَيْعَ ، كَانَتْ زَكَاتُهُ عَلَى الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ .
وَإِنْ قُلْنَا بِالرِّوَايَةِ الْأُخْرَى ، لَمْ يَنْقَطِعْ الْحَوْلُ بِبَيْعِهِ ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْبَائِعِ لَمْ يَزُلْ عَنْهُ .
وَلَوْ حَالَ الْحَوْلُ عَلَيْهِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ ، كَانَتْ زَكَاتُهُ عَلَى الْبَائِعِ فَإِنْ أَخْرَجَهَا مِنْ غَيْرِهِ ، فَالْبَيْعُ بِحَالِهِ ، وَإِنْ أَخْرَجَهَا مِنْهُ بَطَلَ الْبَيْعُ فِي الْمُخْرَجِ ، وَهَلْ يَبْطُلُ فِي الْبَاقِي ؟ عَلَى

وَجْهَيْنِ ، بِنَاءً عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ .
وَإِنْ لَمْ يُخْرِجْهَا حَتَّى سَلَّمَهُ إلَى الْمُشْتَرِي وَانْقَضَتْ مُدَّةُ الْخِيَارِ لَزِمَ الْبَيْعُ فِيهِ وَكَانَ عَلَيْهِ الْإِخْرَاجُ مِنْ غَيْرِهِ ، كَمَا لَوْ بَاعَ مَا وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِيهِ .
وَلَوْ اشْتَرَى عَبْدًا ، فَهَلَّ هِلَالُ شَوَّالٍ ، فَفِطْرَتُهُ عَلَى الْمُشْتَرِي ، وَإِنْ كَانَ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ ، وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى ، هِيَ عَلَى الْبَائِعِ ، إنْ كَانَ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ لِأَنَّهُ مِلْكَهُ وَلِأَنَّهُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ .

بَابُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ تُحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، عَلَى أَنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ فَرْضٌ .
وَقَالَ إِسْحَاقُ : هُوَ كَالْإِجْمَاعِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَزَعَمَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَدَاوُد ، يَقُولُونَ : هِيَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ .
وَسَائِرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهَا وَاجِبَةٌ ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ ، { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ عَلَى النَّاسِ ، صَاعًا مِنْ تَمْرٍ ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ ، عَلَى كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ ذَكَرٍ وَأُنْثَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ .
} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَلِلْبُخَارِيِّ : { وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ .
} وَعَنْهُ { ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إلَى الصَّلَاةِ } .
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : كُنَّا نُخْرِجَ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا .
قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي قَوْله تَعَالَى : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } : هُوَ زَكَاةُ الْفِطْرِ .
وَأُضِيفَتْ هَذِهِ الزَّكَاةُ إلَى الْفِطْرِ ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ بِالْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ .
وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ : وَقِيلَ لَهَا فِطْرَةٌ لِأَنَّ الْفِطْرَةَ الْخِلْقَةُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا } أَيْ جِبِلَّتَهُ الَّتِي جَبَلَ النَّاسَ عَلَيْهَا ، وَهَذِهِ يُرَادُ بِهَا الصَّدَقَةُ عَنْ الْبَدَنِ وَالنَّفْسِ كَمَا كَانَتْ الْأُولَى صَدَقَةً عَنْ الْمَالِ .
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : وَهَلْ تُسَمَّى فَرْضًا مَعَ الْقَوْلِ بِوُجُوبِهَا ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا فَرْضٌ ؛ لِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ : { فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ } .
وَلِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ عَلَى

أَنَّهَا فَرْضٌ ؛ وَلِأَنَّ الْفَرْضَ إنْ كَانَ الْوَاجِبَ فَهِيَ وَاجِبَةٌ ، وَإِنْ كَانَ الْوَاجِبَ الْمُتَأَكِّدَ فَهِيَ مُتَأَكِّدَةٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا .

( 1952 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ وَزَكَاةَ الْفِطْرِ عَلَى كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ ، ذَكَرٍ وَأُنْثَى ، مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَجُمْلَتُهُ أَنَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ تَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ ، مَعَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ ، وَالذُّكُورِيَّةِ وَالْأُنُوثِيَّةِ ، فِي قَوْلِ أَهْلِ الْعِلْمِ عَامَّةً ، وَتَجِبُ عَلَى الْيَتِيمِ ، وَيُخْرِجُ عَنْهُ وَلِيُّهُ مِنْ مَالِهِ ، لَا نَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَ فِي هَذَا ، إلَّا مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ ، قَالَ لَيْسَ فِي مَالِ الصَّغِيرِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ صَدَقَةٌ .
وَقَالَ الْحَسَنُ ، وَالشَّعْبِيُّ : صَدَقَةُ الْفِطْرِ عَلَى مَنْ صَامَ مِنْ الْأَحْرَارِ ، وَعَلَى الرَّقِيقِ .
وَعُمُومُ قَوْلِهِ { فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ عَلَى كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ ، وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى ، وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ ، مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، } يَقْتَضِي وُجُوبَهَا عَلَى الْيَتِيمِ ، وَلِأَنَّهُ مُسْلِمٌ فَوَجَبَتْ فِطْرَتُهُ كَمَا لَوْ كَانَ لَهُ أَبٌ ( 1953 ) فَصْلُ وَلَا تَجِبُ عَلَى كَافِرٍ حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا .
وَلَا نَعْلَمُ بَيْنَهُمْ خِلَافًا فِي الْحُرِّ الْبَالِغِ وَقَالَ إمَامُنَا ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ : لَا تَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ أَيْضًا ، وَلَا عَلَى الصَّغِيرِ .
وَيُرْوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَعَطَاءٍ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، وَالنَّخَعِيِّ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَإِسْحَاقَ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ ، أَنَّ عَلَى السَّيِّدِ الْمُسْلِمِ أَنْ يُخْرِجَ الْفِطْرَةَ عَنْ عَبْدِهِ الذِّمِّيِّ وَقَالَ .
أَبُو حَنِيفَةَ : يُخْرِجُ عَنْ ابْنِهِ الصَّغِيرِ إذَا ارْتَدَّ .
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { أَدُّوا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ ، صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ ، يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ أَوْ مَجُوسِيٍّ ، نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ } .
وَلِأَنَّ كُلَّ زَكَاةٍ وَجَبَتْ بِسَبَبِ عَبْدِهِ الْمُسْلِمِ ، وَجَبَتْ بِسَبَبِ عَبْدِهِ الْكَافِرِ ، كَزَكَاةِ التِّجَارَةِ وَلَنَا ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ : { مِنْ الْمُسْلِمِينَ } وَرَوَى أَبُو دَاوُد ، عَنْ ابْنِ

عَبَّاسٍ ، قَالَ { فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ ، مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ ، فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ ، وَمِنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ ، فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنْ الصَّدَقَاتِ } .
إسْنَادُهُ حَسَنٌ وَحَدِيثُهُمْ لَا نَعْرِفُهُ ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ أَصْحَابُ الدَّوَاوِينِ وَجَامِعُو السُّنَنِ .
وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ يُخَالِفُهُ ، وَهُوَ رَاوِي حَدِيثِهِمْ .
وَزَكَاةُ التِّجَارَةِ تَجِبُ عَنْ الْقِيمَةِ ، وَلِذَلِكَ تَجِبُ فِي سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ وَسَائِرِ الْأَمْوَالِ ، وَهَذِهِ طُهْرَةٌ لِلْبَدَنِ ، وَلِهَذَا اُخْتُصَّ بِهَا الْآدَمِيُّونَ ، بِخِلَافِ زَكَاةِ التِّجَارَةِ

( 1954 ) فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَ لِكَافِرٍ عَبْدٌ مُسْلِمٌ ، وَهَلَّ هِلَالُ شَوَّالٍ وَهُوَ فِي مِلْكِهِ فَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ عَلَى الْكَافِرِ إخْرَاجَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَنْهُ .
وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي .
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : يَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَجِبَ .
وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِهِمْ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ لَا صَدَقَةَ عَلَى الذِّمِّيِّ فِي عَبْدِهِ الْمُسْلِمِ ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { مِنْ الْمُسْلِمِينَ } وَلِأَنَّهُ كَافِرٌ فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْفِطْرَةُ كَسَائِرِ الْكُفَّارِ ، وَلِأَنَّ الْفِطْرَةَ زَكَاةٌ فَلَا تَجِبُ عَلَى الْكَافِرِ ، كَزَكَاةِ الْمَالِ .
وَلَنَا ، أَنَّ الْعَبْدَ مِنْ أَهْلِ الطُّهْرَةِ ، فَوَجَبَ أَنْ تُؤَدَّى عَنْهُ الْفِطْرَةُ ، كَمَا لَوْ كَانَ سَيِّدِهِ مُسْلِمًا ، وَقَوْلُهُ : { مِنْ الْمُسْلِمِينَ } يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمُؤَدَّى عَنْهُ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لِلْمُسْلِمِ عَبْدٌ كَافِرٌ لَمْ يَجِبْ فِطْرَتُهُ ، وَلِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ كُلَّ عَبْدٍ وَصَغِيرٍ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ الْمُؤَدَّى عَنْهُ ، لَا الْمُؤَدِّي ، وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا وَجْهَانِ كَالْمَذْهَبَيْنِ .

( 1955 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : صَاعًا بِصَاعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهُوَ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ صَاعٌ عَنْ كُلِّ إنْسَانٍ ، لَا يُجْزِئُ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ مِنْ جَمِيعِ أَجْنَاسِ الْمُخْرَجِ .
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، وَالْحَسَنِ ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ ، وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ ، وَمُعَاوِيَةَ ، أَنَّهُ يُجْزِئُ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ الْبُرِّ خَاصَّةً .
وَهُوَ مَذْهَبُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، وَعَطَاءٍ ، وَطَاوُسٍ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ ، وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ .
وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ عَلِيٍّ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَالشَّعْبِيِّ ، فَرُوِيَ صَاعٌ ، وَرُوِيَ نِصْفُ صَاعٍ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الزَّبِيبِ رِوَايَتَانِ ؛ إحْدَاهُمَا ، صَاعٌ ، وَالْأُخْرَى نِصْفُ صَاعٍ .
وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَى ثَعْلَبَةُ بْنُ صُعَيْرٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { صَاعٌ مِنْ قَمْحٍ بَيْنَ كُلِّ اثْنَيْنِ .
} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ مُنَادِيًا فِي فِجَاجِ مَكَّةَ : أَلَا إنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ ، ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى ، حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ ، مُدَّانِ مِنْ قَمْحٍ أَوْ سِوَاهَا صَاعًا مِنْ طَعَامٍ } .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ .
وَقَالَ سَعِيدٌ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ ، عَنْ عَبْدِ الْخَالِقِ الشَّيْبَانِيِّ ، قَالَ سَمِعْت سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ : { كَانَتْ الصَّدَقَةُ تُدْفَعُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ نِصْفَ صَاعِ بُرٍّ .
} وَقَالَ هُشَيْمٌ : أَخْبَرَنِي سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ ، عَنْ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، قَالَ {

خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ ذَكَرَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ ، فَحَضَّ عَلَيْهَا وَقَالَ : نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ ، أَوْ صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ ، ذَكَرٍ وَأُنْثَى } وَلَنَا : مَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، قَالَ : { كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ إذْ كَانَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ فَلَمْ نَزَلْ نُخْرِجُهُ حَتَّى قَدِمَ مُعَاوِيَةُ ، الْمَدِينَةَ ، فَتَكَلَّمَ فَكَانَ مِمَّا كَلَّمَ النَّاسَ : أَنِّي لَأَرَى ، مُدَّيْنِ مِنْ سَمْرَاءِ الشَّامِ تَعْدِلُ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ .
فَأَخَذَ النَّاسُ بِذَلِكَ .
} قَالَ أَبُو سَعِيدٍ : فَلَا أَزَالَ أُخْرِجُهُ كَمَا كُنْت أُخْرِجُهُ وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَضَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ ، صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ ، قَالَ فَعَدَلَ النَّاسُ إلَى نِصْفِ صَاعٍ ، مِنْ بُرٍّ .
} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا ، وَلِأَنَّهُ جِنْسٌ يُخْرَجُ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ ، فَكَانَ قَدْرُهُ صَاعًا كَسَائِرِ الْأَجْنَاسِ .
وَأَحَادِيثُهُمْ لَا تَثْبُتُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَحَدِيثُ ثَعْلَبَةَ تَفَرَّدَ بِهِ النُّعْمَانُ بْنُ رَاشِدٍ .
قَالَ الْبُخَارِيُّ : هُوَ يَهِمُ كَثِيرًا ، وَهُوَ صَدُوقٌ فِي الْأَصْلِ .
وَقَالَ مُهَنَّا : ذَكَرْت لِأَحْمَدَ حَدِيثَ ثَعْلَبَةَ بْنِ أَبِي صُعَيْرٍ ، فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ .
فَقَالَ : لَيْسَ بِصَحِيحٍ ، إنَّمَا هُوَ مُرْسَلٌ ، يَرْوِيه مَعْمَرُ بْنُ جُرَيْجٍ ، عَنْ الزُّهْرِيِّ مُرْسَلًا .
قُلْت مِنْ قِبَلِ مَنْ هَذَا ؟ قَالَ مِنْ قِبَلِ النُّعْمَانِ بْنِ رَاشِدٍ ، لَيْسَ هُوَ بِقَوِيٍّ فِي الْحَدِيثِ .
وَضَعَّفَ حَدِيثَ ابْنَ أَبِي صُعَيْرٍ وَسَأَلْته عَنْ ابْنِ أَبِي صُعَيْرٍ ، أَمَعْرُوفٌ هُوَ ؟ قَالَ : مَنْ يَعْرِفُ ابْنَ أَبِي صُعَيْرٍ لَيْسَ هُوَ بِمَعْرُوفٍ وَذَكَرَ أَحْمَدُ ، وَعَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ ، ابْنَ أَبِي صُعَيْرٍ فَضَعَّفَاهُ

جَمِيعًا .
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : لَيْسَ دُونَ الزُّهْرِيِّ مَنْ يَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ وَرَوَاهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْجُوزَجَانِيُّ : حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ ، عَنْ النُّعْمَانِ ، عَنْ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ ثَعْلَبَةَ ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَدُّوا صَدَقَةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ قَمْحٍ أَوْ قَالَ بُرٍّ ، عَنْ كُلِّ إنْسَانٍ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ .
} وَهَذَا حُجَّةٌ لَنَا ، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ .
قَالَ الْجُوزَجَانِيُّ : وَالنِّصْفُ صَاعٍ ، ذَكَرَهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرِوَايَتُهُ لَيْسَ تَثْبُتُ ، وَلِأَنَّ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ احْتِيَاطًا لِلْفَرْضِ ، وَمُعَاضَدَةً لِلْقِيَاسِ

( 1956 ) فَصْلُ وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ الصَّاعَ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ بِالْعِرَاقِيِّ فِيمَا مَضَى وَالْأَصْلُ فِيهِ الْكَيْلُ ، وَإِنَّمَا قَدَّرَهُ الْعُلَمَاءُ بِالْوَزْنِ لِيُحْفَظَ وَيُنْقَلَ .
وَقَدْ رَوَى جَمَاعَةٌ عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهُ قَالَ : الصَّاعُ وَزَنْتُهُ فَوَجَدْتُهُ خَمْسَةَ أَرْطَالٍ وَثُلُثًا حِنْطَةً .
وَقَالَ حَنْبَلٌ .
قَالَ أَحْمَدُ : أَخَذْت الصَّاعَ مِنْ أَبِي النَّضْرِ .
وَقَالَ أَبُو النَّضِرِ : أَخَذْته عَنْ ابْنِ أَبِي ذُؤَيْبٍ وَقَالَ : هَذَا صَاعُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي يُعْرَفُ بِالْمَدِينَةِ .
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : فَأَخَذْنَا الْعَدَسَ ، فَعَيَّرْنَا بِهِ ، وَهُوَ أَصْلَحُ مَا وَقَفْنَا عَلَيْهِ يُكَالُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَجَافَى عَنْ مَوْضِعِهِ ، فَكِلْنَا بِهِ ، ثُمَّ وَزَنَّاهُ ، فَإِذَا هُوَ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ .
وَقَالَ هَذَا أَصْلَحُ مَا وَقَفْنَا عَلَيْهِ ، وَمَا تَبَيَّنَ لَنَا مِنْ صَاعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَإِذَا كَانَ الصَّاعُ خَمْسَةَ أَرْطَالٍ وَثُلُثًا مِنْ الْبَرّ وَالْعَدَسِ ، وَهُمَا مِنْ أَثْقَلِ الْحُبُوبِ ، فَمَا عَدَاهُمَا مِنْ أَجْنَاسِ الْفِطْرَةِ أَخَفُّ مِنْهُمَا ، فَإِذَا أَخْرَجَ مِنْهُمَا خَمْسَةَ أَرْطَالٍ وَثُلُثًا ، فَهِيَ أَكْثَرُ مِنْ صَاعٍ .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : إنْ أَخْرَجَ خَمْسَةَ أَرْطَالٍ وَثُلُثًا بُرًّا ، لَمْ يُجْزِهِ .
لِأَنَّ الْبُرَّ يَخْتَلِفُ ، فَيَكُونُ فِيهِ الثَّقِيلُ وَالْخَفِيفُ .
وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ : يُخْرِجَ خَمْسَةَ أَرْطَالٍ مِمَّا سَوَاءٌ كَيْلُهُ وَوَزْنُهُ ، وَهُوَ الزَّبِيبُ وَالْمَاشُ .
وَمُقْتَضَى كَلَامِهِ أَنَّهُ إذَا أَخْرَجَ ثَمَانِيَةَ أَرْطَالٍ مِمَّا هُوَ أَثْقَلُ مِنْهَا لَمْ يُجْزِئْهُ ، حَتَّى يَزِيدَ شَيْئًا ، يَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ بَلَغَ صَاعًا .
وَالْأَوْلَى لِمَنْ أَخْرَجَ مِنْ الثَّقِيلِ بِالْوَزْنِ أَنْ يَحْتَاطَ ، فَيَزِيدَ شَيْئًا يَعْلَمُ بِهِ أَنَّهُ لِمَنْ أَخْرَجَ صَاعًا بِالرِّطْلِ الدِّمَشْقِيِّ ، الَّذِي هُوَ سِتُّمِائَةِ دِرْهَمٍ مُدٌّ وَسُبْعٌ ، وَالسُّبْعُ أُوقِيَّةٍ وَخَمْسَةُ أَسْبَاعِ أُوقِيَّةٍ ، وَقَدْرُ ذَلِكَ بِالدَّرَاهِمِ

سِتُّمِائَةِ دِرْهَمٍ وَيُجْزِئُ إخْرَاجُ رِطْلٍ بِالدِّمَشْقِيِّ مِنْ جَمِيعِ الْأَجْنَاسِ ؛ لِأَنَّهُ أَكْبَرُ مِنْ الصَّاعِ ، وَقَدْ رَأَيْت مُدًّا ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ مُدُّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُدِّرَ الْمُدُّ الدِّمَشْقِيُّ بِهِ ، فَكَانَ الْمُدُّ الدِّمَشْقِيُّ قَرِيبًا مِنْ خَمْسَةِ أَمْدَادٍ

( 1957 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : مِنْ كُلِّ حَبَّةٍ وَثَمَرَةٍ تُقْتَاتُ يَعْنِي عِنْدَ عَدَمِ الْأَجْنَاسِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا ، يُجْزِئُهُ كُلُّ مُقْتَاتٍ مِنْ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ .
وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ الْمُقْتَاتُ مِنْ غَيْرِهَا ، كَاللَّحْمِ وَاللَّبَنِ .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ يُعْطِي مَا قَامَ مَقَامَ الْأَجْنَاسِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا عِنْدَ عَدَمِهَا .
وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ : يُجْزِئُهُ عِنْدَ عَدَمِهَا الْإِخْرَاجُ مِمَّا يَقْتَاتُهُ ، كَالذُّرَةِ وَالدُّخْنِ ، وَلُحُومِ الْحِيتَانِ وَالْأَنْعَامِ ، وَلَا يَرُدُّونَ إلَى أَقْرَبِ قُوتِ الْأَمْصَارِ

( 1958 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ وَإِنْ أَعْطَى أَهْلُ الْبَادِيَةِ الْأَقِطَ صَاعًا ، أَجْزَأَ إذَا كَانَ قُوتَهُمْ ، أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يُوجِبُونَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَلَى أَهْلِ الْبَادِيَةِ .
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ ، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَالْحَسَنُ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَقَالَ عَطَاءٌ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَرَبِيعَةُ : لَا صَدَقَةَ عَلَيْهِمْ .
وَلَنَا ، عُمُومُ الْحَدِيثِ ، وَلِأَنَّهَا زَكَاةٌ ، فَوَجَبَتْ عَلَيْهِمْ كَزَكَاةِ الْمَالِ ، وَلِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ ، فَيَجِبُ عَلَيْهِمْ صَدَقَةُ الْفِطْرِ كَغَيْرِهِمْ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّهُ يُجْزِئُ أَهْلَ الْبَادِيَةِ إخْرَاجُ الْأَقِطِ إذَا كَانَ قُوتَهُمْ .
وَكَذَلِكَ مِنْ لَمْ يَجِدْ مِنْ الْأَصْنَافِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا سِوَاهُ .
فَأَمَّا مَنْ وَجَدَ سِوَاهُ فَهَلْ يُجْزِئُ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا ، يُجْزِئُهُ أَيْضًا ؛ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ ، وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ قَالَ { فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ .
} أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ .
وَالثَّانِيَة ، لَا يُجْزِئُهُ ؛ لِأَنَّهُ جِنْسٌ لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ ، فَلَا يُجْزِئُ إخْرَاجُهُ لِمَنْ يَقْدِرُ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْأَجْنَاسِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا كَاللَّحْمِ .
وَيُحْمَلُ الْحَدِيثُ عَلَى مَنْ هُوَ قُوتٌ لَهُ ، أَوْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى غَيْرِهِ ، فَإِنْ قَدَرَ عَلَى غَيْرِهِ مَعَ كَوْنِهِ قُوتًا لَهُ ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ جَوَازُ إخْرَاجِهِ .
وَإِنْ قَدَرَ عَلَى غَيْرِهِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ أَوْ لَمْ يَكُنْ ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ لَمْ يُفَرِّقْ .
وَقَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ : كُنَّا نُخْرِجُ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ ، وَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ ، وَإِنَّمَا خَصَّ أَهْلَ الْبَادِيَةِ بِالذِّكْرِ ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّهُ لَا يَقْتَاتُهُ غَيْرُهُمْ .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : لَا يُجْزِئُ إخْرَاجُ الْأَقِطِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى مَا سِوَاهُ

فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ .
وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ .
وَذَكَرِ الْقَاضِي أَنَّهُ إذَا عَدِمَ الْأَقِطَ ، وَقُلْنَا لَهُ إخْرَاجُهُ ، جَازَ إخْرَاجُ اللَّبَنِ ؛ لِأَنَّهُ أَكْمَلُ مِنْ الْأَقِطِ ، لِأَنَّهُ يَجِيءُ مِنْهُ الْأَقِطُ وَغَيْرُهُ .
وَحَكَاهُ أَبُو ثَوْرٍ ، عَنْ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ الْحَسَنُ : إنْ لَمْ يَكُنْ بُرٌّ وَلَا شَعِيرٌ أَخْرَجَ صَاعًا مِنْ لَبَنٍ .
وَظَاهِرُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ اللَّبَنُ بِحَالٍ ؛ لِقَوْلِهِ : مِنْ كُلِّ حَبَّةٍ أَوْ ثَمَرَةٍ تُقْتَاتُ .
وَقَدْ حَمَلْنَا ذَلِكَ عَلَى حَالَةِ الْعَدَمِ .
وَلَا يَصِحُّ مَا ذَكَرُوهُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ أَكْمَلَ مِنْ الْأَقِطِ ، لَجَازَ إخْرَاجُهُ مَعَ وُجُودِهِ ، وَلِأَنَّ الْأَقِطَ أَكْمَلُ مِنْ اللَّبَنِ مِنْ وَجْهٍ ؛ لِأَنَّهُ بَلَغَ حَالَةَ الِادِّخَارِ وَهُوَ جَامِدٌ ، بِخِلَافِ اللَّبَنِ ، لَكِنْ يَكُونُ حُكْمُ اللَّبَنِ حُكْمَ اللَّحْمِ ، يُجْزِئُ إخْرَاجُهُ عِنْدَ عَدَمِ الْأَصْنَافِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا عَلَى قَوْلِ ابْنِ حَامِدٍ ، وَمَنْ وَافَقَهُ .
وَكَذَلِكَ الْجُبْنُ وَمَا أَشْبَهَهُ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَاخْتِيَارُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ إخْرَاجُ التَّمْرِ .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : وَاسْتَحَبَّ مَالِكٌ إخْرَاجَ الْعَجْوَةِ مِنْهُ .
وَاخْتَارَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو عُبَيْدٍ إخْرَاجَ الْبُرِّ .
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ : يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الشَّافِعِيُّ قَالَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْبُرَّ كَانَ أَغْلَى فِي وَقْتِهِ وَمَكَانِهِ لِأَنَّ الْمُسْتَحَبَّ أَنْ يُخْرِجَ أَغْلَاهَا ثَمَنًا وَأَنْفَسَهَا ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ سُئِلَ عَنْ أَفْضَلِ الرِّقَابِ ، فَقَالَ : { أَغْلَاهَا ثَمَنًا وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا } وَإِنَّمَا اخْتَارَ أَحْمَدُ إخْرَاجَ التَّمْر اقْتِدَاءً بِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاتِّبَاعًا لَهُ .
وَرَوَى بِإِسْنَادِهِ ، عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ ، قَالَ : قُلْت لِابْنِ عُمَرَ : { إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْسَعَ ، وَالْبُرُّ أَفْضَلُ مِنْ التَّمْرِ } قَالَ : إنَّ أَصْحَابِي سَلَكُوا طَرِيقًا ، وَأَنَا أُحِبُّ أَنَّ أَسْلُكَهُ .
وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ جَمَاعَةَ الصَّحَابَةِ كَانُوا يُخْرِجُونَ التَّمْرَ فَأَحَبَّ ابْنُ عُمَرَ مُوَافَقَتَهُمْ ، وَسُلُوكَ طَرِيقَتِهِمْ ، وَأَحَبَّ أَحْمَدُ ، أَيْضًا الِاقْتِدَاءَ بِهِمْ وَاتِّبَاعَهُمْ .
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، أَنَّهُ قَالَ : { فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ ، صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ ، فَعَدَلَ النَّاسُ بِهِ صَاعًا مِنْ بُرٍّ .
} فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُخْرِجُ التَّمْرَ ، فَأَعْوَزَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ التَّمْرِ ، فَأَعْطَى شَعِيرًا .
وَلِأَنَّ التَّمْرَ فِيهِ قُوَّةٌ وَحَلَاوَةٌ وَهُوَ أَقْرَبُ تَنَاوُلًا وَأَقَلُّ كُلْفَةً ، فَكَانَ أَوْلَى ( 1960 ) فَصْلٌ : وَالْأَفْضَلُ بَعْدَ التَّمْرِ الْبُرُّ .
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : الْأَفْضَلُ بَعْدَهُ الزَّبِيبُ ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ تَنَاوُلًا وَأَقَلُّ كُلْفَةً فَأَشْبَهَ التَّمْرَ .
وَلَنَا ، أَنَّ الْبُرَّ أَنْفَعُ فِي الِاقْتِيَاتِ ، وَأَبْلَغُ فِي دَفْعِ حَاجَةِ

الْفَقِيرِ .
وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو مِجْلَزٍ لِابْنِ عُمَرَ : الْبُرُّ أَفْضَلُ مِنْ التَّمْرِ .
يَعْنِي أَنْفَعُ وَأَكْثَرُ قِيمَةً .
وَلَمْ يُنْكِرْهُ ابْنُ عُمَرَ وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْهُ اتِّبَاعًا لِأَصْحَابِهِ ، وَسُلُوكًا لِطَرِيقَتِهِمْ .
وَلِهَذَا عَدَلَ نِصْفَ صَاعٍ مِنْهُ بِصَاعٍ مِنْ غَيْرِهِ .
وَقَالَ مُعَاوِيَةُ : إنِّي لَأَرَى مُدَّيْنِ مِنْ سَمْرَاءِ الشَّامِ يَعْدِلُ صَاعًا مِنْ التَّمْرِ .
فَأَخَذَ النَّاسُ بِهِ ، وَتَفْضِيلُ التَّمْرِ إنَّمَا كَانَ لِاتِّبَاعِ الصَّحَابَةِ ، فَفِيمَا عَدَاهُ يَبْقَى عَلَى مُقْتَضَى الدَّلِيلِ فِي تَفْضِيلِ الْبُرِّ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْأَفْضَلُ بَعْدَ التَّمْرِ مَا كَانَ أَعْلَى قِيمَةً وَأَكْثَرَ نَفْعًا

( 1961 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَمَنْ قَدَرَ عَلَى التَّمْرِ ، أَوْ الزَّبِيبِ ، أَوْ الْبُرِّ ، أَوْ الشَّعِيرِ ، أَوْ الْأَقِطِ فَأَخْرَجَ غَيْرَهُ لَمْ يُجْزِهِ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْعُدُولُ عَنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ ، مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا سَوَاءٌ كَانَ الْمَعْدُولُ إلَيْهِ قُوتَ بَلَدِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : يَتَوَجَّهُ قَوْلٌ آخَرُ أَنَّهُ يُعْطِي مَا قَامَ مَقَامَ الْخَمْسَةِ ، عَلَى ظَاهِرِ الْحَدِيثِ ، صَاعًا مِنْ طَعَامٍ وَالطَّعَامُ قَدْ يَكُونُ الْبُرَّ وَالشَّعِيرَ وَمَا دَخَلَ فِي الْكَيْلِ .
قَالَ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ مُحْتَمَلٌ ، وَأَقْيَسُهُمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ غَيْرُ الْخَمْسَةِ ، إلَّا أَنْ يَعْدَمَهَا ، فَيُعْطِيَ مَا قَامَ مَقَامَهَا .
وَقَالَ مَالِكٌ : يُخْرِجُ مِنْ غَالِبِ قُوتِ الْبَلَدِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : أَيُّ قُوتٍ كَانَ الْأَغْلَبَ عَلَى الرَّجُلِ ، أَدَّى الرَّجُلُ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْهُ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ ؛ فَمِنْهُمْ مِنْ قَالَ بُقُولِ مَالِكٍ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : الِاعْتِبَارُ بِغَالِبِ قُوتِ الْمُخْرِجِ ، ثُمَّ إنْ عَدَلَ عَنْ الْوَاجِبِ إلَى أَعْلَى مِنْهُ ، جَازَ ، وَإِنْ عَدَلَ إلَى دُونِهِ ، فَفِيهِ قَوْلَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، يَجُوزُ ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { اغْنُوهُمْ عَنْ الطَّلَبِ } وَالْغِنَى يَحْصُلُ بِالْقُوتِ وَالثَّانِي ، لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ عَدَلَ عَنْ الْوَاجِبِ إلَى أَدْنَى مِنْهُ ، فَلَمْ يُجْزِئْهُ ، كَمَا لَوْ عَدَلَ عَنْ الْوَاجِبِ فِي زَكَاةِ الْمَالِ إلَى أَدْنَى مِنْهُ .
وَلَنَا ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَضَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ أَجْنَاسًا مَعْدُودَةً ، فَلَمْ يَجُزْ الْعُدُولُ عَنْهَا ، كَمَا لَوْ أَخْرَجَ الْقِيمَةَ وَذَلِكَ لِأَنَّ ذِكْرَ الْأَجْنَاسِ بَعْدَ ذِكْرِهِ الْفَرْضَ تَفْسِيرٌ لِلْمَفْرُوضِ ، فَمَا أُضِيفَ إلَى الْمُفَسَّرِ يَتَعَلَّقُ بِالتَّفْسِيرِ ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْأَجْنَاسُ مَفْرُوضَةً فَيَتَعَيَّنُ الْإِخْرَاجُ مِنْهَا ، وَلِأَنَّهُ إذَا أَخْرَجَ غَيْرَهَا عَدَلَ عَنْ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ ، فَلَمْ يُجْزِ ، كَإِخْرَاجِ الْقِيمَةِ ، وَكَمَا لَوْ أَخْرَجَ عَنْ زَكَاةِ الْمَالِ مِنْ

غَيْرِ جِنْسِهِ ، وَالْإِغْنَاءُ يَحْصُلُ بِالْإِخْرَاجِ مِنْ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ ، فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ ؛ لِكَوْنِهِمَا جَمِيعًا يَدُلَّانِ عَلَى وُجُوبِ الْإِغْنَاءِ بِأَدَاءِ أَحَدِ الْأَجْنَاسِ الْمَفْرُوضَةِ .

( 1962 ) فَصْلٌ : وَالسُّلْتُ نَوْعٌ مِنْ الشَّعِيرِ ، فَيَجُوزُ إخْرَاجُهُ ؛ لِدُخُولِهِ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ ، وَقَدْ صُرِّحَ بِذِكْرِهِ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ ، قَالَ { كَانَ النَّاسُ يُخْرِجُونَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ ، أَوْ صَاعًا مِنْ سُلْتٍ .
} وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ ، قَالَ { لَمْ نُخْرِجْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا صَاعًا مِنْ تَمْرٍ ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ أَوْ صَاعًا مِنْ دَقِيقٍ أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ ، أَوْ صَاعًا مِنْ سُلْتٍ .
} قَالَ : ثُمَّ شَكَّ فِيهِ سُفْيَانُ بَعْدُ ، فَقَالَ { دَقِيقٍ أَوْ سُلْتٍ } .
رَوَاهُمَا النَّسَائِيّ .

( 1963 ) فَصْلٌ : وَيَجُوزُ إخْرَاجُ الدَّقِيقِ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَكَذَلِكَ السَّوِيقُ ، قَالَ أَحْمَدُ : وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ سَوِيقٍ أَوْ دَقِيقٍ .
وَقَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ : لَا يُجْزِئُ إخْرَاجُهُمَا ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ ؛ وَلِأَنَّ مَنَافِعَهُ نَقَصَتْ فَهُوَ كَالْخُبْزِ .
وَلَنَا : حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ ، وَقَوْلُهُ فِيهِ : { أَوْ صَاعًا مِنْ دَقِيقٍ } وَلِأَنَّ الدَّقِيقَ وَالسَّوِيقَ أَجْزَاءُ الْحَبِّ بَحْتًا يُمْكِنُ كَيْلُهُ وَادِّخَارُهُ ، فَجَازَ إخْرَاجُهُ ، كَمَا قَبْلَ الطَّحْنِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الطَّحْنَ إنَّمَا فَرَّقَ أَجْزَاءَهُ ، وَكَفَى الْفَقِيرَ مُؤْنَتَهُ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَزَعَ نَوَى التَّمْرِ ثُمَّ أَخْرَجَهُ .
وَيُفَارِقُ الْخُبْزَ وَالْهَرِيسَةَ والكبولا ؛ لِأَنَّ مَعَ أَجْزَاءِ الْحَبِّ فِيهَا مِنْ غَيْرِهِ ، وَقَدْ خَرَجَ عَنْ حَالِ الِادِّخَارِ وَالْكَيْلِ ، وَالْمَأْمُورُ بِهِ صَاعٌ ، وَهُوَ مَكِيلٌ ، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ لَمْ يَقْتَضِ مَا ذَكَرُوهُ ، وَلَمْ يَعْمَلُوا بِهِ .

( 1964 ) فَصْلٌ : وَلَا يَجُوزُ إخْرَاجُ الْخُبْزِ ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ الْكَيْلِ وَالِادِّخَارِ .
وَلَا الْهَرِيسَةِ وَالْكُبُولَا وَأَشْبَاهِهِمَا ؛ لِذَلِكَ ، وَلَا الْخَلِّ وَلَا الدِّبْسِ ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا قُوتًا ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُخْرِجَ حَبًّا مَعِيبًا ، كَالْمَسُوسِ وَالْمَبْلُولِ ، وَلَا قَدِيمًا تَغَيَّرَ طَعْمُهُ ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { : وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ } ، فَإِنْ كَانَ الْقَدِيمُ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ ، إلَّا أَنَّ الْحَدِيثَ أَكْثَرُ قِيمَةً مِنْهُ ، جَازَ إخْرَاجُهُ ؛ لِعَدَمِ الْعَيْبِ فِيهِ ، وَالْأَفْضَلُ إخْرَاجُ الْأَجْوَدِ .
قَالَ أَحْمَدُ : كَانَ ابْنُ سِيرِينَ يُحِبُّ أَنْ يُنَقِّيَ الطَّعَامَ ، وَهُوَ أَحَبُّ إلَيَّ لِيَكُونَ عَلَى الْكَمَالِ ، وَيَسْلَمَ مِمَّا يُخَالِطُهُ مِنْ غَيْرِهِ فَإِنْ كَانَ الْمُخَالِطُ لَهُ يَأْخُذُ حَظًّا مِنْ الْمِكْيَالِ ، وَكَانَ كَثِيرًا بِحَيْثُ يُعَدُّ عَيْبًا فِيهِ ، لَمْ يُجْزِئْهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكْثُرْ ، جَازَ إخْرَاجُهُ إذَا زَادَ عَلَى الصَّاعِ قَدْرًا يَزِيدُ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ غَيْرِهِ ، حَتَّى يَكُونَ الْمُخْرَجُ صَاعًا كَامِلًا

( 1965 ) فَصْلٌ : وَمِنْ أَيِّ الْأَصْنَافِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا أَخْرَجَ جَازَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قُوتًا لَهُ ، وَقَالَ مَالِكٌ : يُخْرِجُ مِنْ غَالِبِ قُوتِ الْبَلَدِ وَذَكَرْنَا قَوْلَ الشَّافِعِيِّ .
وَلَنَا : أَنَّ خَبَرَ الصَّدَقَةِ وَرَدَ بِحَرْفِ التَّخْيِيرِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَصْنَافِ ، فَوَجَبَ التَّخْيِيرُ فِيهِ ، وَلِأَنَّهُ عَدَلَ إلَى مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ ، فَجَازَ ، كَمَا لَوْ عَدَلَ إلَى الْأَعْلَى ، وَالْغِنَى يَحْصُلُ بِدَفْعِ قُوتٍ مِنْ الْأَجْنَاسِ ، وَيَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ خَيَّرَ بَيْنَ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَالْأَقِطِ ، قُوتًا لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ أَنْ يَكُونَ قُوتًا لِلْمُخْرِجِ .

( 1966 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَمَنْ أَعْطَى الْقِيمَةَ ، لَمْ تُجْزِئْهُ ) قَالَ أَبُو دَاوُد قِيلَ لِأَحْمَدَ وَأَنَا أَسْمَعُ : أُعْطِي دَرَاهِمَ - يَعْنِي فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ - قَالَ : أَخَافُ أَنْ لَا يُجْزِئَهُ خِلَافُ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ ، قَالَ لِي أَحْمَدُ لَا يُعْطِي قِيمَتَهُ ، قِيلَ لَهُ : قَوْمٌ يَقُولُونَ ، عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَانَ يَأْخُذُ بِالْقِيمَةِ ، قَالَ يَدَعُونَ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَقُولُونَ قَالَ فُلَانٌ ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ : فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ } .
وَقَالَ قَوْمٌ يَرُدُّونَ السُّنَنَ : قَالَ فُلَانٌ ، قَالَ فُلَانٌ .
وَظَاهِرُ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ إخْرَاجُ الْقِيمَةِ فِي شَيْءٍ مِنْ الزَّكَوَاتِ .
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ وَقَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ : يَجُوزُ .
وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَالْحَسَنِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مِثْلُ قَوْلِهِمْ ، فِيمَا عَدَا الْفِطْرَةَ .
وَقَالَ أَبُو دَاوُد : سُئِلَ أَحْمَدُ ، عَنْ رَجُلٍ بَاعَ ثَمَرَةَ نَخْلِهِ .
قَالَ : عُشْرُهُ عَلَى الَّذِي بَاعَهُ .
قِيلَ لَهُ : فَيُخْرِجُ ثَمَرًا ، أَوْ ثَمَنَهُ ؟ قَالَ : إنْ شَاءَ أَخْرَجَ ثَمَرًا ، وَإِنْ شَاءَ أَخْرَجَ مِنْ الثَّمَنِ .
وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ إخْرَاجِ الْقِيَمِ .
وَوَجْهُهُ قَوْلُ مُعَاذٍ لِأَهْلِ الْيَمَنِ : ائْتُونِي بِخَمِيصٍ أَوْ لَبِيسٍ آخُذُهُ مِنْكُمْ ، فَإِنَّهُ أَيْسَرُ عَلَيْكُمْ ، وَأَنْفَعُ لِلْمُهَاجِرِينَ بِالْمَدِينَةِ .
وَقَالَ سَعِيدٌ : حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو ، وَعَنْ طَاوُسٍ ، قَالَ لَمَّا قَدِمَ مُعَاذٌ الْيَمَنَ ، قَالَ : ائْتُونِي بِعَرْضِ ثِيَابٍ آخُذُهُ مِنْكُمْ مَكَانَ الذُّرَةِ وَالشَّعِيرِ ، فَإِنَّهُ أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ وَخَيْرٌ لِلْمُهَاجِرِينَ ، بِالْمَدِينَةِ .
قَالَ : وَحَدَّثَنَا جَرِيرٌ ، عَنْ لَيْثٍ ، عَنْ عَطَاءٍ ، قَالَ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَأْخُذُ الْعُرُوضَ فِي الصَّدَقَةِ مِنْ

الدَّرَاهِمِ .
وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ دَفْعُ الْحَاجَةِ ، وَلَا يَخْتَلِفُ ذَلِكَ بَعْدَ اتِّحَادِ قَدْرِ الْمَالِيَّةِ بِاخْتِلَافِ صُوَرِ الْأَمْوَالِ وَلَنَا ، قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ : { فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ ، وَصَاعًا مِنْ شَعِيرٍ } فَإِذَا عَدَلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَدْ تَرَكَ الْمَفْرُوضَ .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { فِي أَرْبَعِينَ شَاةٍ شَاةٌ وَفِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ } .
وَهُوَ وَارِدٌ بَيَانًا لِمُجْمَلِ قَوْله تَعَالَى : { وَآتُوا الزَّكَاةَ } فَتَكُونُ الشَّاةُ الْمَذْكُورَةُ هِيَ الزَّكَاةُ الْمَأْمُورُ بِهَا ، وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ .
وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَضَ الصَّدَقَةَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ، وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى ، فَفِي كِتَابِ أَبِي بَكْرٍ الَّذِي كَتَبَهُ فِي الصَّدَقَاتِ أَنَّهُ قَالَ : { هَذِهِ الصَّدَقَةُ الَّتِي فَرَضَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى .
وَكَانَ فِيهِ : فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ مِنْ الْإِبِلِ بِنْتُ مَخَاضٍ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ بِنْتُ مَخَاضٍ ، فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ ، } وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ عَيْنَهَا لِتَسْمِيَتِهِ إيَّاهَا .
وَقَوْلُهُ : { فَإِنْ لَمْ تَكُنْ بِنْتُ مَخَاضٍ فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ .
} وَلَوْ أَرَادَ الْمَالِيَّةَ أَوْ الْقِيمَةَ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ خَمْسًا وَعِشْرِينَ لَا تَخْلُو عَنْ مَالِيَّةِ بِنْتِ مَخَاضٍ ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ فَإِنَّهُ لَوْ أَرَادَ الْمَالِيَّةَ لَلَزِمَهُ مَالِيَّةُ بِنْتِ مَخَاضٍ ، دُونَ مَالِيَّةِ ابْنِ لَبُونٍ .
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد ، وَابْنُ مَاجَهْ ، بِإِسْنَادِهِمَا ، عَنْ { مُعَاذٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ ، فَقَالَ خُذْ الْحَبَّ مِنْ الْحَبِّ ، وَالشَّاةَ مِنْ الْغَنَمِ ، وَالْبَعِيرَ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرَ مِنْ الْبَقَرِ .
} وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ لِدَفْعِ حَاجَةِ الْفَقِيرِ ، وَشُكْرًا لِنِعْمَةِ الْمَالِ ، وَالْحَاجَاتُ مُتَنَوِّعَةٌ ، فَيَنْبَغِي

أَنْ يَتَنَوَّعَ الْوَاجِبُ لِيَصِلَ إلَى الْفَقِيرِ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مَا تَنْدَفِعُ بِهِ حَاجَتُهُ ، وَيَحْصُلُ شُكْرُ النِّعْمَةِ بِالْمُوَاسَاةِ مِنْ جِنْسِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِهِ ، وَلِأَنَّ مُخْرِجَ الْقِيمَةِ قَدْ عَدَلَ عَنْ الْمَنْصُوصِ ، فَلَمْ يُجْزِئْهُ ، كَمَا لَوْ أَخْرَجَ الرَّدِيءَ مَكَانَ الْجَيِّدِ ، وَحَدِيثُ مُعَاذٍ ، الَّذِي رَوَوْهُ فِي الْجِزْيَةِ ، بِدَلِيلِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ بِتَفْرِيقِ الصَّدَقَةِ فِي فُقَرَائِهِمْ ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِحَمْلِهَا إلَى الْمَدِينَة .
وَفِي حَدِيثِهِ هَذَا : فَإِنَّهُ أَنْفَعُ لِلْمُهَاجِرِينَ بِالْمَدِينَةِ .

( 1967 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَيُخْرِجُهَا إذَا خَرَجَ إلَى الْمُصَلَّى الْمُسْتَحَبُّ إخْرَاجُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ يَوْمَ الْفِطْرِ قَبْلَ الصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إلَى الصَّلَاةِ .
فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ : { مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ ، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنْ الصَّدَقَاتِ } .
فَإِنْ أَخَّرَهَا عَنْ الصَّلَاةِ تَرَكَ الْأَفْضَلَ ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ السُّنَّةِ ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا الْإِغْنَاءُ عَنْ الطَّوَافِ وَالطَّلَبِ فِي هَذَا الْيَوْمِ ، فَمَتَى أَخَّرَهَا لَمْ يَحْصُلْ إغْنَاؤُهُمْ فِي جَمِيعِهِ ، لَا سِيَّمَا فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ .
وَمَالَ إلَى هَذَا الْقَوْلِ ، عَطَاءٌ ، وَمَالِكٌ ، وَمُوسَى بْنُ وَرْدَانَ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَقَالَ الْقَاضِي : إذَا أَخْرَجَهَا فِي بَقِيَّةِ الْيَوْمِ لَمْ يَكُنْ فَعَلَ مَكْرُوهًا ؛ لِحُصُولِ الْغَنَاء بِهَا فِي الْيَوْمِ .
قَالَ سَعِيدٌ : حَدَّثَنَا أَبُو مَعْشَرٍ ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، قَالَ : أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ نُخْرِجَ .
وَذَكَرَ الْحَدِيثَ .
قَالَ : فَكَانَ يُؤْمَرُ أَنْ يُخْرِجَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ ، فَإِذَا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسَمَهُ بَيْنَهُمْ ، وَقَالَ : أَغْنَوْهُمْ عَنْ الطَّلَبِ فِي هَذَا الْيَوْمِ .
وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ الْخَبَرِ وَالْمَعْنَى مَا يَقْتَضِي الْكَرَاهَةَ ؛ فَإِنْ أَخَّرَهَا عَنْ يَوْمِ الْعِيدِ أَثِمَ وَلَزِمَهُ الْقَضَاءُ .
وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ ، وَالنَّخَعِيِّ ، الرُّخْصَةُ فِي تَأْخِيرِهَا عَنْ يَوْمِ الْعِيدِ وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْكَحَّالُ ، قَالَ : قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : فَإِنْ أَخْرَجَ الزَّكَاةَ ، وَلَمْ يُعْطِهَا .
قَالَ : نَعَمْ ، إذَا أَعَدَّهَا لِقَوْمٍ .
وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَحْمَدَ ، وَاتِّبَاعُ السُّنَّةِ أَوْلَى .

( 1968 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا وَقْتُ الْوُجُوبِ فَهُوَ وَقْتُ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ ، فَإِنَّهَا تَجِبُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ آخِرِ شَهْرِ رَمَضَانَ .
فَمَنْ تَزَوَّجَ أَوْ مَلَكَ عَبْدًا ، أَوْ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ أَوْ أَسْلَمَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ ، فَعَلَيْهِ الْفِطْرَةُ .
وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْغُرُوبِ ، لَمْ تَلْزَمْهُ .
وَلَوْ كَانَ حِينَ الْوُجُوبِ مُعْسِرًا ، ثُمَّ أَيْسَرَ فِي لَيْلَتِهِ تِلْكَ أَوْ فِي يَوْمِهِ ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ فِي وَقْتِ الْوُجُوبِ مُوسِرًا ، ثُمَّ أَعْسَرَ ، لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ اعْتِبَارًا بِحَالَةِ الْوُجُوبَ .
وَمِنْ مَاتَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ لَيْلَةَ الْفِطْرِ ، فَعَلَيْهِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
وَبِمَا ذَكَرْنَا فِي وَقْتِ الْوُجُوبِ قَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَمَالِكٌ ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ ، وَالشَّافِعِيُّ ، فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ .
وَقَالَ اللَّيْثُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ : تَجِبُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ يَوْمَ الْعِيدِ .
وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ ؛ لِأَنَّهَا قُرْبَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْعِيدِ ، فَلَمْ يَتَقَدَّمْ وُجُوبُهَا يَوْمَ الْعِيدِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ كَالْأُضْحِيَّةِ .
وَلَنَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ : { إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ } .
وَلِأَنَّهَا تُضَافُ إلَى الْفِطْرِ ، فَكَانَتْ وَاجِبَةً بِهِ ، كَزَكَاةِ الْمَالِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ دَلِيلُ الِاخْتِصَاصِ ، وَالسَّبَبُ أَخُصُّ بِحُكْمِهِ مِنْ غَيْرِهِ ، وَالْأُضْحِيَّةُ لَا تَعَلَّقَ لَهَا بِطُلُوعِ الْفَجْرِ وَلَا هِيَ وَاجِبَةٌ وَلَا تُشْبِهُ مَا نَحْنُ فِيهِ .
فَعَلَى هَذَا إذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ ، وَالْعَبْدُ الْمَبِيعُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ ، أَوْ وُهِبَ لَهُ عَبْدٌ فَقَبِلَهُ وَلَمْ يَقْبِضْهُ ، أَوْ اشْتَرَاهُ وَلَمْ يَقْبِضْهُ ، فَالْفِطْرَةُ عَلَى الْمُشْتَرِي وَالْمُتَّهِبِ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَهُ ، وَالْفِطْرَةُ عَلَى الْمَالِكِ .
وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِعَبْدٍ وَمَاتَ الْمُوصِي قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ ، فَلَمْ

يَقْبَلْ الْمُوصَى لَهُ حَتَّى غَابَتْ ، فَالْفِطْرَةُ عَلَيْهِ ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ، وَالْآخَرُ عَلَى وَرَثَةِ الْمُوصِي ، بِنَاءً عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي الْمُوصَى بِهِ هَلْ يَنْتَقِلُ بِالْمَوْتِ أَوْ مِنْ حِينِ الْقَبُولِ ؟ وَلَوْ مَاتَ الْمُوصَى لَهُ قَبْلَ الرَّدِّ وَقَبْلَ الْقَبُولِ ، فَقَبِلَ وَرَثَتُهُ ، وَقُلْنَا بِصِحَّةِ قَبُولِهِمْ ، فَهَلْ تَكُونُ فِطْرَتُهُ عَلَى وَرَثَةِ الْمُوصِي ، أَوْ فِي تَرِكَةِ الْمُوصَى لَهُ ؟ وَجْهَيْنِ ؛ وَقَالَ الْقَاضِي : فِطْرَتُهُ فِي تَرِكَةِ الْمُوصَى لَهُ ؛ لِأَنَّنَا حَكَمْنَا بِانْتِقَالِ الْمِلْكِ مِنْ حِينِ الْقَبُولِ .
وَلَوْ مَاتَ قَبْلَ الرَّدِّ وَقَبْلَ الْقَبُولِ ، فَإِنْ كَانَ مَوْتُهُ بَعْدَ هِلَالِ شَوَّالٍ ، فَفِطْرَةُ الْعَبْدِ فِي تَرِكَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْوَرَثَةَ إنَّمَا قَبِلُوهُ لَهُ .
وَإِنْ كَانَ مَوْتُهُ قَبْلَ هِلَالِ شَوَّالٍ ، فَفِطْرَتُهُ عَلَى الْوَرَثَةِ .
وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِرَقَبَةِ عَبْدٍ ، وَلِآخَرَ بِمَنْفَعَتِهِ ، فَقَبِلَا ، كَانَتْ الْفِطْرَةُ عَلَى مَالِكِ الرَّقَبَةِ ؛ لِأَنَّ الْفِطْرَةَ تَجِبُ بِالرَّقَبَةِ لَا بِالْمَنْفَعَةِ وَلِهَذَا تَجِبُ عَلَى مَنْ لَا نَفْعَ فِيهِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهَا حُكْمَ نَفَقَتِهِ ، وَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ ؛ أَحَدُهَا ، أَنَّهَا عَلَى مَالِكِ نَفْعِهِ .
وَالثَّانِي : عَلَى مَالِكِ رَقَبَتِهِ .
وَالثَّالِثُ : فِي كَسْبِهِ .

( 1969 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ وَإِنْ قَدَّمَهَا قَبْلَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ ، أَجْزَأَهُ وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ يَجُوزُ تَقْدِيمُ الْفِطْرَةِ قَبْلَ الْعِيدِ بِيَوْمَيْنِ ، لَا يَجُوزُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ .
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : كَانُوا يُعْطُونَهَا قَبْلَ الْفِطْرِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : يَجُوزُ تَعْجِيلُهَا مِنْ بَعْدِ نِصْفِ الشَّهْرِ ، كَمَا يَجُوزُ تَعْجِيلُ أَذَانِ الْفَجْرِ وَالدَّفْعِ مِنْ مُزْدَلِفَةَ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : وَيَجُوزُ تَعْجِيلُهَا مِنْ أَوَّلِ الْحَوْلِ ؛ لِأَنَّهَا زَكَاةٌ فَأَشْبَهَتْ زَكَاةَ الْمَالِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَجُوزُ مِنْ أَوَّلِ شَهْرِ رَمَضَانَ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الصَّدَقَةِ الصَّوْمُ وَالْفِطْرُ عَنْهُ ، فَإِذَا وُجِدَ أَحَدُ السَّبَبَيْنِ ، جَازَ تَعْجِيلُهَا ، كَزَكَاةِ الْمَالِ بَعْدَ مِلْكِ النِّصَابِ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى الْجُوزَجَانِيُّ : حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونُ .
قَالَ : أَخْبَرَنَا أَبُو مَعْشَرٍ ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ بِهِ ، فَيُقْسَمُ - قَالَ يَزِيدُ أَظُنُّ : هَذَا يَوْمَ الْفِطْرِ - وَيَقُولُ أَغْنَوْهُمْ عَنْ الطَّوَافِ فِي هَذَا الْيَوْمِ " .
وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ ، وَمَتَى قَدَّمَهَا بِالزَّمَانِ الْكَثِيرِ لَمْ يَحْصُلْ إغْنَاؤُهُمْ بِهَا يَوْمَ الْعِيدِ ، وَسَبَبُ وُجُوبِهَا الْفِطْرُ ؛ بِدَلِيلِ إضَافَتِهَا إلَيْهِ ، وَزَكَاةُ الْمَالِ سَبَبُهَا مِلْكُ النِّصَابِ ، وَالْمَقْصُودُ إغْنَاءُ الْفَقِيرِ بِهَا فِي الْحَوْلِ كُلِّهِ فَجَازَ إخْرَاجُهَا فِي جَمِيعِهِ ، وَهَذِهِ الْمَقْصُودُ مِنْهَا الْإِغْنَاءُ فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ فَلَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُهَا قَبْلَ الْوَقْتِ .
فَأَمَّا تَقْدِيمُهَا بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ فَجَائِزٌ ؛ لِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، قَالَ { : فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ .
وَقَالَ فِي آخِرِهِ : وَكَانُوا يُعْطُونَ قَبْلَ الْفِطْرِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ } وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى جَمِيعِهِمْ ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا ،

وَلِأَنَّ تَعْجِيلَهَا بِهَذَا الْقَدْرِ لَا يُخِلُّ بِالْمَقْصُودِ مِنْهَا ، فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهَا تَبْقَى أَوْ بَعْضَهَا إلَى يَوْمِ الْعِيدِ ، فَيُسْتَغْنَى بِهَا عَنْ الطَّوَافِ وَالطَّلَبِ فِيهِ ، وَلِأَنَّهَا زَكَاةٌ ، فَجَازَ تَعْجِيلُهَا قَبْلَ وُجُوبِهَا ، كَزَكَاةِ الْمَالِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

( 1970 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَيَلْزَمُهُ أَنْ يُخْرِجَ عَنْ نَفْسِهِ ، وَعَنْ عِيَالِهِ ، إذَا كَانَ عِنْدَهُ فَضْلٌ عَنْ قُوتِ يَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ .
عِيَالُ الْإِنْسَانِ : مَنْ يَعُولُهُ .
أَيْ يَمُونُهُ فَتَلْزَمُهُ فِطْرَتُهُمْ ، كَمَا تَلْزَمُهُ مُؤْنَتُهُمْ ، إذَا وَجَدَ مَا يُؤَدِّي عَنْهُمْ ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ ، { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَضَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ ، عَنْ كُلِّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ ، حُرٍّ وَعَبْدٍ ، مِمَّنْ تَمُونُونَ .
} وَاَلَّذِي يَلْزَمُ الْإِنْسَانَ نَفَقَتُهُمْ وَفِطْرَتُهُمْ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ : الزَّوْجَاتُ ، وَالْعَبِيدُ ، وَالْأَقَارِبُ .
فَأَمَّا الزَّوْجَاتُ فَعَلَيْهِ فِطْرَتُهُنَّ .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ : لَا تَجِبُ عَلَيْهِ فِطْرَةُ امْرَأَتِهِ .
وَعَلَى الْمَرْأَةِ فِطْرَةُ نَفْسِهَا ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { صَدَقَةُ الْفِطْرِ عَلَى كُلِّ ذَكَرٍ وَأُنْثَى } .
وَلِأَنَّهَا زَكَاةٌ فَوَجَبَتْ عَلَيْهَا ، كَزَكَاةِ مَالِهَا .
وَلَنَا ، الْخَبَرُ ، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ سَبَبٌ تَجِبُ بِهِ النَّفَقَةُ ، فَوَجَبَتْ بِهِ الْفِطْرَةُ ، كَالْمِلْكِ وَالْقَرَابَةِ ، بِخِلَافِ زَكَاةِ الْمَالِ فَإِنَّهَا لَا تُتَحَمَّلُ بِالْمِلْكِ وَالْقَرَابَةِ ، فَإِنْ كَانَ لِامْرَأَتِهِ مَنْ يَخْدُمُهَا بِأُجْرَةٍ ، فَلَيْسَ عَلَى الزَّوْجِ فِطْرَتُهُ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ الْأَجْرُ دُونَ النَّفَقَةِ .
وَإِنْ كَانَ لَهَا نَظَرْت ، فَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا يَجِبُ لَهَا خَادِمٌ ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ نَفَقَةُ خَادِمِهَا ، وَلَا فِطْرَتُهُ ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ يُخْدَمُ مِثْلُهَا ، فَعَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَخْدُمَهَا ، ثُمَّ هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهَا خَادِمًا ، أَوْ يَسْتَأْجِرَ أَوْ يُنْفِقَ عَلَى خَادِمِهَا ، فَإِنْ اشْتَرَى لَهَا خَادِمًا أَوْ اخْتَارَ الْإِنْفَاقَ عَلَى خَادِمِهَا فَعَلَيْهِ فِطْرَتُهُ ، وَإِنْ اسْتَأْجَرَ لَهَا خَادِمًا فَلَيْسَ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ وَلَا فِطْرَتُهُ ، سَوَاءٌ شَرَطَ عَلَيْهِ مُؤْنَتَهُ أَوْ لَمْ يَشْرِطْ ؛ لِأَنَّ الْمُؤْنَةَ إذَا

كَانَتْ أُجْرَةً فَهِيَ مِنْ مَالِ الْمُسْتَأْجِرِ .
وَإِنْ تَبَرَّعَ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى مِنْ لَا تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ تَبَرَّعَ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى أَجْنَبِيٍّ ، وَسَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَإِنْ نَشَزَتْ الْمَرْأَةُ فِي وَقْتِ الْوُجُوبِ ، فَفِطْرَتُهَا عَلَى نَفْسِهَا دُونَ زَوْجِهَا ؛ لِأَنَّ نَفَقَتَهَا لَا تَلْزَمُهُ .
وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّ عَلَيْهِ فِطْرَتَهَا ؛ لِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ ثَابِتَةٌ عَلَيْهَا فَلَزِمَتْهُ فِطْرَتُهَا كَالْمَرِيضَةِ الَّتِي لَا تَحْتَاجُ إلَى نَفَقَةٍ .
وَالْأَوَّلُ : أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ مِمَّنْ لَا تَلْزَمُهُ مُؤْنَتُهُ ، فَلَا تَلْزَمُهُ فِطْرَتُهُ كَالْأَجْنَبِيَّةِ ، وَفَارَقَ الْمَرِيضَةَ ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا لِعَدَمِ الْحَاجَةِ ، لَا لِخَلَلٍ فِي الْمُقْتَضَى لَهَا ، فَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ ثُبُوتِ تَبَعِهَا ، بِخِلَافِ النَّاشِزِ .
وَكَذَلِكَ كُلُّ امْرَأَةٍ لَا يَلْزَمُهُ نَفَقَتُهَا ، كَغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا إذَا لَمْ تُسَلَّمْ إلَيْهِ ، وَالصَّغِيرَةِ الَّتِي لَا يُمْكِنْ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا ، فَإِنَّهُ لَا تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهَا وَلَا فِطْرَتُهَا ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِمَّنْ يُمَوَّنُ .

( 1971 ) فَصْلٌ : وَأَمَّا الْعَبِيدُ فَإِنْ كَانُوا لِغَيْرِ التِّجَارَةِ ، فَعَلَى سَيِّدِهِمْ فِطْرَتُهُمْ .
لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا .
وَإِنْ كَانُوا لِلتِّجَارَةِ ، فَعَلَيْهِ أَيْضًا فِطْرَتُهُمْ .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ ، وَاللَّيْثُ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَقَالَ عَطَاءٌ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ : لَا تَلْزَمُهُ فِطْرَتُهُمْ ؛ لِأَنَّهَا زَكَاةٌ وَلَا تَجِبُ فِي مَالٍ وَاحِدٍ زَكَاتَانِ ، وَقَدْ وَجَبَتْ فِيهِمْ زَكَاةُ التِّجَارَةِ ، فَيَمْتَنِعُ وُجُوبُ الزَّكَاةِ الْأُخْرَى ، كَالسَّائِمَةِ إذَا كَانَتْ لِلتِّجَارَةِ .
وَلَنَا ، عُمُومُ الْأَحَادِيثِ وَقَوْلُ ابْنِ عُمَرَ : { فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ عَلَى الْحُرِّ وَالْعَبْدِ } وَفِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ : { أَلَا إنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ ، ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى ، حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ ، صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ } .
وَلِأَنَّ نَفَقَتَهُمْ وَاجِبَةٌ فَوَجَبَتْ فِطْرَتُهُمْ ، كَعَبِيدِ الْقُنْيَةِ .
أَوْ نَقُولُ مُسْلِمٌ تَجِبُ مُؤْنَتُهُ ، فَوَجَبَتْ فِطْرَتُهُ ، كَالْأَصْلِ ، وَزَكَاةُ الْفِطْرَةِ تَجِبُ عَلَى الْبَدَنِ ، وَلِهَذَا تَجِبُ عَلَى الْأَحْرَارِ ، وَزَكَاةُ التِّجَارَةِ تَجِبُ عَنْ الْقِيمَةِ ، وَهِيَ الْمَالُ بِخِلَافِ السَّوْمِ وَالتِّجَارَة ، فَإِنَّهُمَا يَجِبَانِ بِسَبَبِ مَالٍ وَاحِدٍ ، مَتَى كَانَ عَبِيدُ التِّجَارَةِ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ وَجَبَتْ فِطْرَتُهُمْ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ لِأَنَّ مُؤْنَتَهُمْ مِنْهَا .
وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ الشَّافِعِيِّ ، أَنَّهَا عَلَى رَبِّ الْمَالِ .
وَلَنَا ، أَنَّ الْفِطْرَةَ تَابِعَةٌ لِلنَّفَقَةِ ، وَهِيَ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ ، فَكَذَلِكَ الْفِطْرَةُ .

( 1972 ) فَصْلٌ : وَتَجِبُ فِطْرَةُ الْعَبْدِ الْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ الَّذِي تُعْلَمُ حَيَاتُهُ ، وَالْآبِقِ ، وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ ، وَالْمَرْهُونِ ، وَالْمَغْصُوبِ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ عَوَامُّ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ عَلَى الْمَرْءِ زَكَاةَ الْفِطْرِ عَنْ مَمْلُوكِهِ الْحَاضِرِ غَيْرِ الْمُكَاتَبِ ، وَالْمَغْصُوبِ ، وَالْآبِقِ ، وَعَبِيدِ التِّجَارَةِ .
فَأَمَّا الْغَائِبُ ، فَعَلَيْهِ فِطْرَتُهُ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ حَيٌّ ، سَوَاءٌ رَجَا رَجْعَتَهُ أَوْ أَيِسَ مِنْهَا ، وَسَوَاءٌ كَانَ مُطْلَقًا أَوْ مَحْبُوسًا كَالْأَسِيرِ وَغَيْرِهِ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَرَوْنَ أَنْ تُؤَدَّى زَكَاةُ الْفِطْرِ عَنْ الرَّقِيقِ ، غَائِبِهِمْ وَحَاضِرِهِمْ .
لِأَنَّهُ مَالِكٌ لَهُمْ ، فَوَجَبَتْ فِطْرَتُهُمْ عَلَيْهِ كَالْحَاضِرِينَ .
وَمِمَّنْ أَوْجَبَ فِطْرَةَ الْآبِقِ الشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَأَوْجَبَهَا الزُّهْرِيُّ إذَا عُلِمَ مَكَانُهُ وَالْأَوْزَاعِيُّ إنْ كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ .
وَمَالِكٌ إنْ كَانَتْ غَيْبَتُهُ قَرِيبَةً .
وَلَمْ يُوجِبْهَا عَطَاءٌ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ ، فَلَا تَجِبُ فِطْرَتُهُ كَالْمَرْأَةِ النَّاشِزِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ مَالٌ لَهُ ، فَوَجَبَتْ زَكَاتُهُ فِي حَالِ غَيْبَتِهِ ، كَمَالِ التِّجَارَةَ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ إخْرَاجُ زَكَاتِهِ حَتَّى يَرْجِعَ إلَى يَدِهِ كَزَكَاةِ الدَّيْنِ وَالْمَغْصُوبِ .
ذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ .
وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ ، أَنَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ تَجِبُ تَابِعَةً لِلنَّفَقَةِ ، وَالنَّفَقَةُ تَجِبُ مَعَ الْغَيْبَةِ ؛ بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ رَدَّ الْآبِقَ رَجَعَ بِنَفَقَتِهِ .
وَأَمَّا مَنْ شُكَّ فِي حَيَاتِهِ مِنْهُمْ ، وَانْقَطَعَتْ أَخْبَارُهُ ، لَمْ تَجِبْ فِطْرَتُهُ ، نَصَّ عَلَيْهِ ، فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ بَقَاءُ مِلْكِهِ عَلَيْهِ ، وَلَوْ أَعْتَقَهُ فِي كَفَّارَتِهِ لَمْ يُجْزِئْهُ ، فَلَمْ تَجِبْ فِطْرَتُهُ كَالْمَيِّتِ .
فَإِنْ مَضَتْ عَلَيْهِ سُنُونَ ، ثُمَّ عَلِمَ حَيَاتَهُ ، لَزِمَهُ الْإِخْرَاجُ لِمَا مَضَى

؛ لِأَنَّهُ بَانَ لَهُ وُجُودُ سَبَبِ الْوُجُوبِ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْإِخْرَاجُ لِمَا مَضَى ، كَمَا لَوْ سَمِعَ بِهَلَاكِ مَالِهِ الْغَائِبِ ، ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ كَانَ سَالِمًا .
وَالْحُكْمُ فِي الْقَرِيبِ الْغَائِبِ ، كَالْحُكْمِ فِي الْبَعِيدِ ؛ لِأَنَّهُمْ مِمَّنْ تَجِبُ فِطْرَتُهُمْ مَعَ الْحُضُورِ ، فَكَذَلِكَ مَعَ الْغَيْبَةِ كَالْعَبِيدِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَجِبَ فِطْرَتُهُمْ مَعَ الْغَيْبَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ بَعْثُ نَفَقَتهمْ إلَيْهِمْ ، وَلَا يَرْجِعُونَ بِالنَّفَقَةِ الْمَاضِيَةِ

( 1973 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا عَبِيدُ عَبِيدِهِ ؛ فَإِنْ قُلْنَا إنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُهُمْ بِالتَّمْلِيكِ ، فَالْفِطْرَةُ عَلَى السَّيِّدِ ، لِأَنَّهُمْ مِلْكُهُ .
وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ .
وَقَوْلُ أَبِي الزِّنَادِ ، وَمَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ وَإِنْ قُلْنَا يَمْلِكُ بِالتَّمْلِيكِ ، فَقَدْ قِيلَ : لَا تَجِبُ فِطْرَتُهُمْ عَلَى أَحَدٍ ؛ لِأَنَّ السَّيِّدَ لَا يَمْلِكُهُمْ ، وَمِلْكُ الْعَبْدِ نَاقِصٌ .
وَالصَّحِيحُ وُجُوبُ فِطْرَتِهِمْ ؛ لِأَنَّ فِطْرَتَهُمْ تَتْبَعُ النَّفَقَةَ ، وَنَفَقَتُهُمْ وَاجِبَةٌ فَكَذَلِكَ فِطْرَتُهُمْ وَلَا يُعْتَبَرُ فِي وُجُوبِهَا كَمَالُ الْمِلْكِ ، بِدَلِيلِ وُجُوبِهَا عَلَى الْمُكَاتَبِ عَنْ نَفْسِهِ وَعَبِيدِهِ ، مَعَ نَقْصِ مِلْكِهِ .

( 1974 ) فَصْلٌ : وَأَمَّا زَوْجَةُ الْعَبْدِ فَذَكَرَ أَصْحَابُنَا الْمُتَأَخِّرُونَ أَنَّ فِطْرَتَهَا عَلَى نَفْسِهَا إنْ كَانَتْ حُرَّةً ، وَعَلَى سَيِّدِهَا إنْ كَانَتْ أَمَةً .
وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ عِنْدِي وُجُوبُ فِطْرَتِهَا عَلَى سَيِّدِ الْعَبْدِ ؛ لِوُجُوبِ نَفَقَتِهَا عَلَيْهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَجِبُ عَلَيْهِ فِطْرَةُ خَادِمِ امْرَأَتِهِ ، مَعَ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُهَا ؛ لِوُجُوبِ نَفَقَتِهَا ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَدُّوا صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَمَّنْ تَمُونُونَ } .
وَهَذِهِ مِمَّنْ يَمُونُونَ .
وَقَدْ ذَكَرَ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ لَوْ تَبَرَّعَ بِمُؤْنَةِ شَخْصٍ ، لَزِمَتْهُ فِطْرَتُهُ ، فَمَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ أَوْلَى .
وَهَكَذَا لَوْ زَوَّجَ الِابْنُ أَبَاهُ ، وَكَانَ مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ وَنَفَقَةُ امْرَأَتِهِ ، فَعَلَيْهِ فِطْرَتُهُمَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

( 1975 ) فَصْلٌ : وَإِنْ تَبَرَّعَ بِمُؤْنَةِ إنْسَانٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ، فَأَكْثَرُ أَصْحَابِنَا يَخْتَارُونَ وُجُوبَ الْفِطْرَةِ عَلَيْهِ .
وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ .
أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد ، فِي مَنْ ضَمَّ إلَى نَفْسِهِ يَتِيمَةً يُؤَدِّي عَنْهَا ؛ وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { : أَدُّوا صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَمَّنْ تَمُونُونَ } .
وَهَذَا مِمَّنْ يُمَوَّنُونَ ، وَلِأَنَّهُ شَخْصٌ يُنْفِقُ عَلَيْهِ ، فَلَزِمَتْهُ فِطْرَتُهُ كَعَبْدِهِ وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ لَا تَلْزَمُهُ فِطْرَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا تَلْزَمُهُ مُؤْنَتُهُ ، فَلَمْ تَلْزَمْهُ فِطْرَتُهُ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَمُنْهُ .
وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَكَلَامُ أَحْمَدَ فِي هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ ، لَا عَلَى الْإِيجَابِ ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ تَلْزَمُهُ مُؤْنَتُهُ ، لَا عَلَى حَقِيقَةِ الْمُؤْنَةِ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ تَلْزَمُهُ فِطْرَةُ الْآبِقِ وَلَمْ يَمُنْهُ ، وَلَوْ مَلَكَ عَبْدًا عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ ، أَوْ تَزَوَّجَ ، أَوْ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ ، لَزِمَتْهُ فِطْرَتُهُمْ ؛ لِوُجُوبِ مُؤْنَتِهِمْ عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَمُنْهُمْ ، وَلَوْ بَاعَ عَبْدَهُ أَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ، أَوْ مَاتَا ، أَوْ مَاتَ وَلَدُهُ ، لَمْ تَلْزَمْهُ فِطْرَتُهُمْ ، وَإِنْ مَانَهُمْ ؛ وَلِأَنَّ قَوْلَهُ : ( مِمَّنْ تَمُونُونَ ) فِعْلٌ مُضَارِعٌ ، فَيَقْتَضِي الْحَالَ أَوْ الِاسْتِقْبَالَ دُونَ الْمَاضِي ، وَمِنْ مَانَهُ فِي رَمَضَانَ إنَّمَا وُجِدَتْ مُؤْنَتُهُ فِي الْمَاضِي ، فَلَا يَدْخُلُ فِي الْخَبَرِ ، وَلَوْ دَخَلَ فِيهِ لَاقْتَضَى وُجُوبَ الْفِطْرَةِ عَلَى مَنْ مَانَهُ لَيْلَةً وَاحِدَةً ، وَلَيْسَ فِي الْخَبَرِ مَا يُقَيِّدُهُ بِالشَّهْرِ وَلَا بِغَيْرِهِ ، فَالتَّقْيِيدُ بِمُؤْنَةِ الشَّهْرِ تَحَكُّمٌ .
فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَكُونُ فِطْرَةُ هَذَا الْمُخْتَلَفِ فِيهِ عَلَى نَفْسِهِ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَمُنْهُ .
وَعَلَى قَوْلِ أَصْحَابِنَا الْمُعْتَبَرُ الْإِنْفَاقُ فِي جَمِيعِ الشَّهْرِ .
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : قِيَاسُ مَذْهَبِنَا أَنَّهُ إذَا مَانَهُ آخِرَ لَيْلَةٍ ، وَجَبَتْ فِطْرَتُهُ ،

قِيَاسًا عَلَى مَنْ مَلَكَ عَبْدًا عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ .
وَإِذَا مَانَهُ جَمَاعَةٌ فِي الشَّهْرِ كُلِّهِ ، أَوْ مَانَهُ إنْسَانٌ بَعْضَ الشَّهْرِ ، فَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ ابْنِ عَقِيلٍ هَذَا تَكُونُ فِطْرَتُهُ عَلَى مِنْ مَانَهُ آخِرَ لَيْلَةٍ ، وَعَلَى قَوْلِ غَيْرِهِ يَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَجِبَ فِطْرَتُهُ عَلَى أَحَدٍ مِمَّنْ مَانَهُ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ الْمُؤْنَةُ فِي جَمِيعِ الشَّهْرِ وَلَمْ يُوجَدْ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَجِبَ عَلَى الْجَمِيعِ فِطْرَةٌ وَاحِدَةٌ بِالْحِصَصِ ؛ لِأَنَّهُمْ اشْتَرَكُوا فِي سَبَبِ الْوُجُوبِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اشْتَرَكُوا فِي مِلْكِ عَبْدٍ .

( 1976 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ إذَا كَانَ عِنْدَهُ فَضْلٌ عَنْ قُوتِ يَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ وَاجِبَةٌ عَلَى مَنْ قَدَرَ عَلَيْهَا ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِي وُجُوبِهَا نِصَابٌ .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَأَبُو الْعَالِيَةِ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَعَطَاءٌ ، وَابْنُ سِيرِينَ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَمَالِكٌ ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ : لَا تَجِبُ إلَّا عَلَى مَنْ يَمْلِكُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ ، أَوْ مَا قِيمَتُهُ نِصَابٌ فَاضِلٌ عَنْ مَسْكَنِهِ ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا صَدَقَةَ إلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى } وَالْفَقِيرُ لَا غِنَى لَهُ فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّهُ تَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ ، فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ ، كَمَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا .
وَلَنَا مَا رَوَى ثَعْلَبَةُ بْنُ أَبِي صُعَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَدُّوا صَدَقَةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ قَمْحٍ أَوْ قَالَ : بُرٍّ عَنْ كُلِّ إنْسَانٍ ، صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ ، حُرٍّ أَوْ مَمْلُوكٍ ، غَنِيٍّ أَوْ فَقِيرٍ ، ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى أَمَّا غَنِيُّكُمْ فَيُزَكِّيهِ اللَّهُ ، وَأَمَّا فَقِيرُكُمْ فَيَرُدُّ اللَّهُ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَى } .
وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد : { صَاعٌ مِنْ بُرٍّ أَوْ قَمْحٍ عَنْ كُلِّ اثْنَيْنِ } .
وَلِأَنَّهُ حَقُّ مَالٍ لَا يَزِيدُ بِزِيَادَةِ الْمَالِ ، فَلَا يُعْتَبَرُ وُجُوبُ النِّصَابِ فِيهِ .
كَالْكَفَّارَةِ ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ وَيُعْطَى لِمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْعُشْرُ ، وَاَلَّذِي قَاسُوا عَلَيْهِ عَاجِزٌ ، فَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ ، وَحَدِيثُهُمْ مَحْمُولٌ عَلَى زَكَاةِ الْمَالِ

( 1977 ) فَصْلٌ : وَإِذَا لَمْ يَفْضُلْ إلَّا صَاعٌ أَخْرَجَهُ عَنْ نَفْسِهِ ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { ابْدَأْ بِنَفْسِكَ ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ } وَلِأَنَّ الْفِطْرَةَ تَنْبَنِي عَلَى النَّفَقَةِ ، فَكَمَا يَبْدَأُ بِنَفْسِهِ فِي النَّفَقَةِ فَكَذَلِكَ فِي الْفِطْرَةِ .
فَإِنْ فَضَلَ آخَرُ أَخْرَجَهُ عَنْ امْرَأَتِهِ ؛ لِأَنَّ نَفَقَتَهَا آكَدُ ، فَإِنَّ نَفَقَتَهَا تَجِبُ عَلَى سَبِيلِ الْمُعَاوَضَةِ مَعَ الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ وَنَفَقَةُ الْأَقَارِبِ صِلَةٌ تَجِبُ مَعَ الْيَسَارِ دُونَ الْإِعْسَارِ .
فَإِنْ فَضَلَ آخَرُ أَخْرَجَهُ عَنْ رَقِيقِهِ ؛ لِوُجُوبِ نَفَقَتِهِمْ فِي الْإِعْسَارِ .
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : يَحْتَمِلُ تَقْدِيمُ الرَّقِيقِ عَلَى الزَّوْجَةِ ؛ لِأَنَّ فِطْرَتَهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا ، وَفِطْرَتُهَا مُخْتَلَفٌ فِيهَا .
فَإِنْ فَضَلَ آخَرُ أَخْرَجَهُ عَنْ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ ، لِأَنَّ نَفَقَتَهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا وَمُجْمَعٌ عَلَيْهَا .
وَفِي الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ الْكَبِيرِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، يُقَدَّمُ الْوَلَدُ لِأَنَّهُ كَبَعْضِهِ .
وَالثَّانِي الْوَالِدُ ؛ لِأَنَّهُ كَبَعْضِ وَالِدِهِ .
وَتُقَدَّمُ فِطْرَةُ الْأُمِّ عَلَى فِطْرَةِ الْأَبِ ، لِأَنَّهَا مُقَدَّمَةٌ فِي الْبِرِّ ، بِدَلِيلِ { قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَعْرَابِيِّ لَمَّا سَأَلَهُ مَنْ أَبَرُّ ؟ قَالَ أُمَّكَ .
قَالَ : ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ أُمَّكَ .
قَالَ ثُمَّ مَنْ قَالَ أُمَّك قَالَ ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ ثُمَّ أَبَاكَ } .
وَلِأَنَّهَا ضَعِيفَةٌ عَنْ الْكَسْبِ .
وَيُحْتَمَلُ تَقْدِيمُ فِطْرَةِ الْأَبِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ } .
ثُمَّ بِالْجَدِّ ، ثُمَّ الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ ، عَلَى تَرْتِيبِ الْعَصَبَاتِ فِي الْمِيرَاثِ .
وَيُحْتَمَلُ تَقْدِيمُ فِطْرَةِ الْوَلَدِ عَلَى فِطْرَةِ الْمَرْأَةِ ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ، قَالَ : { أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّدَقَةِ ، فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ : عِنْدِي دِينَارٌ .
قَالَ : تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى نَفْسِكَ .
قَالَ : عِنْدِي آخَرُ .
قَالَ : تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى وَلَدِكَ

.
قَالَ عِنْدِي آخَرُ ، قَالَ : تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى زَوْجَتِكَ .
قَالَ : عِنْدِي آخَرُ ، قَالَ : تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى خَادِمِكَ .
قَالَ عِنْدِي آخَرُ ، قَالَ : أَنْتَ أَبْصَرُ .
} فَقَدَّمَ الْوَلَدَ فِي الصَّدَقَةِ عَلَيْهِ ، فَكَذَلِكَ فِي الصَّدَقَةِ عَنْهُ .
وَلِأَنَّ الْوَلَدَ كَبَعْضِهِ ، فَيُقَدَّمُ كَتَقْدِيمِ نَفْسِهِ ، وَلِأَنَّهُ إذَا ضَيَّعَ وَلَدَهُ لَمْ يَجِدْ مِنْ يُنْفِقُ عَلَيْهِ ، فَيَضِيعُ ، وَالزَّوْجَةُ إذَا لَمْ يُنْفِقْ عَلَيْهَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا ، وَكَانَ لَهَا مَنْ يَمُونُهَا ، مِنْ زَوْجٍ أَوْ ذِي رَحِمٍ .
وَلِأَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ عَلَى سَبِيلِ الْمُعَاوَضَةِ ، فَكَانَتْ أَضْعَفَ فِي اسْتِتْبَاعِ الْفِطْرَةِ مِنْ النَّفَقَةِ الْوَاجِبَةِ عَلَى سَبِيلِ الصِّلَةَ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْعِوَضِ الْمُقَدَّرِ لَا يَقْتَضِي وُجُوبَ زِيَادَةٍ عَلَيْهِ يَتَصَدَّقُ بِهَا عَمَّنْ لَهُ الْعِوَضُ وَلِهَذَا لَمْ تَجِبُ فِطْرَةُ الْأَخِيرِ الْمَشْرُوطِ لَهُ مُؤْنَتُهُ ، بِخِلَافِ الْقَرَابَةِ ، فَإِنَّهَا كَمَا اقْتَضَتْ صِلَتَهُ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ ، اقْتَضَتْ صِلَتَهُ بِتَطْهِيرِهِ بِإِخْرَاجِ الْفِطْرَةِ عَنْهُ .

( 1978 ) فَصْلٌ : فَإِنْ لَمْ يَفْضُلْ إلَّا بَعْضُ صَاعٍ فَهَلْ يَلْزَمُهُ إخْرَاجُهُ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ ؛ إحْدَاهُمَا لَا يَلْزَمُهُ .
اخْتَارَهَا ابْنُ عَقِيلٍ ؛ لِأَنَّهَا طُهْرَةٌ فَلَا تَجِبُ عَلَى مَنْ لَا يَمْلِكُ جَمِيعَهَا ، كَالْكَفَّارَةِ .
وَالثَّانِيَةُ ، يَلْزَمُهُ إخْرَاجُهُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ .
} وَلِأَنَّهَا طُهْرَةٌ ، فَوَجَبَ مِنْهَا مَا قَدَرَ عَلَيْهِ ، كَالطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ ، وَلِأَنَّ الْجُزْءَ مِنْ الصَّاعِ يُخْرَجُ عَنْ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ ، فَجَازَ أَنْ يُخْرَجَ عَنْ غَيْرِهِ كَالصَّاعِ

( 1979 ) فَصْلٌ : وَإِنْ أَعْسَرَ بِفِطْرَةِ زَوْجَتِهِ ، فَعَلَيْهَا فِطْرَةُ نَفْسِهَا ، أَوْ عَلَى سَيِّدِهَا إنْ كَانَتْ مَمْلُوكَةً ؛ لِأَنَّهَا تُتَحَمَّلُ إذَا كَانَ ثَمَّ مُتَحَمِّلٌ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَادَ إلَيْهَا ، كَالنَّفَقَةِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَجِبَ عَلَيْهَا شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَجِبْ عَلَى مَنْ وُجِدَ سَبَبُ الْوُجُوبِ فِي حَقِّهِ لِعُسْرَتِهِ ، فَلَمْ تَجِبْ عَلَى غَيْرِهِ ، كَفِطْرَةِ نَفْسِهِ .
وَتُفَارِقُ النَّفَقَةَ ، فَإِنَّ وُجُوبَهَا آكَدُ ؛ لِأَنَّهَا مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ ، وَتَجِبُ عَلَى الْمُعْسِرِ ، وَالْعَاجِزِ ، وَيُرْجَعُ عَلَيْهَا بِهَا عِنْدَ يَسَارِهِ ، وَالْفِطْرَةُ بِخِلَافِهَا .

( 1980 ) فَصْلٌ : وَمَنْ وَجَبَتْ فِطْرَتُهُ عَلَى غَيْرِهِ ، كَالْمَرْأَةِ وَالنَّسِيبِ الْفَقِيرِ ، إذَا أَخْرَجَ عَنْ نَفْسِهِ بِإِذْنِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ ، صَحَّ بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ ؛ لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْهُ .
وَإِنْ أَخْرَجَ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، يُجْزِئُهُ لِأَنَّهُ أَخْرَجَ فِطْرَتَهُ فَأَجْزَأْهُ كَاَلَّتِي وَجَبَتْ عَلَيْهِ .
وَالثَّانِي : لَا يُجْزِئُهُ ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى مَا وَجَبَ عَلَى غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، فَلَمْ يَصِحَّ ، كَمَا لَوْ أَدَّى عَنْ غَيْرِهِ .

( 1981 ) فَصْلٌ : وَمَنْ لَهُ دَارٌ يَحْتَاجُ إلَيْهَا لِسُكْنَاهَا ، أَوْ إلَى أَجْرِهَا لِنَفَقَتِهِ ، أَوْ ثِيَابُ بِذْلَةٌ لَهُ ، أَوْ لِمَنْ تَلْزَمُهُ مُؤْنَتُهُ ، أَوْ رَقِيقٌ يَحْتَاجُ إلَى خِدْمَتِهِمْ هُوَ أَوْ مَنْ يَمُونُهُ ، أَوْ بَهَائِمُ يَحْتَاجُونَ إلَى رُكُوبِهَا وَالِانْتِفَاعِ بِهَا فِي حَوَائِجِهِمْ الْأَصْلِيَّةِ أَوْ سَائِمَةٌ يَحْتَاجُ إلَى نَمَائِهَا كَذَلِكَ ، أَوْ بِضَاعَةٌ يَخْتَلُّ رِبْحُهَا الَّذِي يَحْتَاجُ إلَيْهِ بِإِخْرَاجِ الْفِطْرَةِ مِنْهَا ، فَلَا فِطْرَةَ عَلَيْهِ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا تَتَعَلَّقُ بِهِ حَاجَتُهُ الْأَصْلِيَّةُ ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ بَيْعُهُ ، كَمُؤْنَةِ نَفْسِهِ .
وَمَنْ لَهُ كُتُبٌ يَحْتَاجُ إلَيْهَا لِلنَّظَرِ فِيهَا وَالْحِفْظِ مِنْهَا ، لَا يَلْزَمُهُ بَيْعُهَا .
وَالْمَرْأَةُ إذَا كَانَ لَهَا حُلِيٌّ لِلُبْسٍ أَوْ لِكِرَاءٍ يُحْتَاجُ إلَيْهِ ، لَمْ يَلْزَمْهَا بَيْعُهُ فِي الْفِطْرَةِ .
وَمَا فَضَلَ مِنْ ذَلِكَ عَنْ حَوَائِجِهِ الْأَصْلِيَّةِ ، وَأَمْكَنَ بَيْعُهُ وَصَرْفُهُ فِي الْفِطْرَة وَجَبَتْ الْفِطْرَةُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ أَدَاؤُهَا مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ أَصْلِيٍّ ، أَشْبَهَ مَا لَوْ مَلَكَ مِنْ الطَّعَامِ مَا يُؤَدِّيه فَاضِلًا عَنْ حَاجَتِهِ .

( 1982 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي مُكَاتَبِهِ زَكَاةٌ وَعَلَى الْمُكَاتَبِ أَنْ يُخْرِجَ عَنْ نَفْسِهِ زَكَاةَ الْفِطْرِ ، وَمِمَّنْ قَالَ : لَا تَجِبُ فِطْرَةُ الْمُكَاتَبِ عَلَى سَيِّدِهِ ، أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَأَوْجَبَهَا عَلَى السَّيِّدِ عَطَاءٌ ، وَمَالِكٌ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ ؛ لِأَنَّهُ عَبْدٌ ، فَأَشْبَهَ سَائِرَ عَبِيدِهِ .
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ : " مِمَّنْ تَمُونُونَ " .
وَهَذَا لَا يَمُونُهُ ، وَلِأَنَّهُ لَا تَلْزَمُهُ مُؤْنَتُهُ ، فَلَمْ تَلْزَمْهُ فِطْرَتُهُ ، كَالْأَجْنَبِيِّ ، وَبِهَذَا فَارَقَ سَائِرَ عَبِيدِهِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّ عَلَى الْمُكَاتَبِ فِطْرَةَ نَفْسِهِ ، وَفِطْرَةَ مِنْ تَلْزَمُهُ مُؤْنَتُهُ كَزَوْجَتِهِ ، وَرَقِيقِهِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ : لَا تَجِبُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ نَاقِصُ الْمِلْكِ ، فَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الْفِطْرَةُ ، كَالْقِنِّ ، وَلِأَنَّهَا زَكَاةٌ فَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ كَزَكَاةِ الْمَالِ .
وَلَنَا ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَضَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَلَى الْحُرِّ وَالْعَبْدِ ، وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى .
وَهَذَا عَبْدٌ وَلَا يَخْلُو مِنْ كَوْنِهِ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى ، وَلِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ نَفَقَةُ نَفْسِهِ ، فَلَزِمَتْهُ فِطْرَتُهَا كَالْحُرِّ الْمُوسِرِ وَيُفَارِقُ زَكَاةَ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهَا يُعْتَبَرُ لَهَا الْغِنَى وَالنِّصَابُ وَالْحَوْلُ ، وَلَا يَحْمِلُهَا أَحَدٌ عَنْ غَيْرِهِ ، بِخِلَافِ الْفِطْرَةِ .
( 1983 ) فَصْلٌ : وَتَلْزَمُ الْمُكَاتَبَ فِطْرَةُ مِنْ يَمُونُهُ كَالْحُرِّ ؛ لِدُخُولِهِمْ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { أَدُّوا صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَمَّنْ تَمُونُونَ }

( 1984 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَإِذَا مَلَكَ جَمَاعَةٌ عَبْدًا أَخْرَجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ صَاعًا ، وَعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى ، صَاعًا عَنْ الْجَمِيعِ وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ فِطْرَةَ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ وَاجِبَةٌ عَلَى مَوَالِيهِ .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ ، وَأَبُو ثَوْرٍ .
وَقَالَ الْحَسَنُ ، وَعِكْرِمَةُ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَأَبُو يُوسُفَ : لَا فِطْرَةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ وِلَايَةٌ تَامَّةٌ ، أَشْبَهَ الْمُكَاتَبَ .
وَلَنَا ، عُمُومُ الْأَحَادِيثِ ، وَلِأَنَّهُ عَبْدٌ مُسْلِمٌ مَمْلُوكٌ لِمَنْ يَقْدِرُ عَلَى الْفِطْرَةِ ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِهَا فَلَزِمَتْهُ لِمَمْلُوكِ الْوَاحِدِ ، وَفَارَقَ الْمُكَاتَبَ ، فَإِنَّهُ لَا تَلْزَمُ سَيِّدَهُ مُؤْنَتُهُ ، وَلِأَنَّ الْمُكَاتَبَ يُخْرِجُ عَنْ نَفْسِهِ زَكَاةَ الْفِطْرِ ، بِخِلَافِ الْقِنِّ ، وَالْوِلَايَةُ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي وُجُوبِ الْفِطْرَةِ ، بِدَلِيلِ عَبْدِ الصَّبِيِّ ، ثُمَّ إنَّ وِلَايَتَهُ لِلْجَمِيعِ ، فَتَكُونُ فِطْرَتُهُ عَلَيْهِمْ .
وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي قَدْرِ الْوَاجِبِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ، فَفِي إحْدَاهُمَا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ صَاعٌ ؛ لِأَنَّهَا طُهْرَةٌ فَوَجَبَ تَكْمِيلُهَا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشُّرَكَاءِ ، كَكَفَّارَةِ الْقَتْلِ .
وَالثَّانِيَةُ ، عَلَى الْجَمِيعِ صَاعٌ وَاحِدٌ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِقَدْرِ مِلْكِهِ فِيهِ .
وَهَذَا الظَّاهِرُ عَنْ أَحْمَدَ .
قَالَ فُورَانُ : رَجَعَ أَحْمَدُ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، وَقَالَ : يُعْطِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نِصْفَ صَاعٍ .
يَعْنِي رَجَعَ عَنْ إيجَابِ صَاعٍ كَامِلٍ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ .
وَهَذَا قَوْلُ سَائِرِ مَنْ أَوْجَبَ فِطْرَتَهُ عَلَى سَادَتِهِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْجَبَ صَاعًا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ .
وَهَذَا عَامٌّ فِي الْمُشْتَرَكِ وَغَيْرِهِ ، وَلِأَنَّ نَفَقَتَهُ تُقْسَمُ عَلَيْهِمْ ، فَكَذَلِكَ فِطْرَتُهُ التَّابِعَةُ لَهَا ، وَلِأَنَّهُ شَخْصٌ وَاحِدٌ ، فَلَمْ تَجِبْ عَنْهُ

صِيعَانٌ كَسَائِرِ النَّاسِ ، وَلِأَنَّهَا طُهْرَةٌ فَوَجَبَتْ عَلَى سَادَتِهِ بِالْحِصَصِ ، كَمَاءِ الْغُسْلِ مِنْ الْجَنَابَةِ إذَا اُحْتِيجَ إلَيْهِ ، وَبِهَذَا يَنْتَقِضُ مَا ذَكَرْنَاهُ لِلرِّوَايَةِ الْأُولَى

( 1985 ) فَصْلٌ : وَمَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ فَفِطْرَتُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى سَيِّدِهِ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَقَالَ مَالِكٌ : عَلَى الْحُرِّ بِحِصَّتِهِ ، وَلَيْسَ عَلَى الْعَبْدِ شَيْءٌ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ عَبْدٌ مُسْلِمٌ تَلْزَمُ فِطْرَتُهُ شَخْصَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْفِطْرَةِ ، فَكَانَتْ فِطْرَتُهُ عَلَيْهِمَا كَالْمُشْتَرَكِ ، ثُمَّ هَلْ يَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاعٌ أَوْ بِالْحِصَصِ ؟ يَنْبَنِي عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُعْسِرًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَعَلَى الْآخَرِ بِقَدْرِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ ، وَلَوْ كَانَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ السَّيِّدِ مُهَايَأَةٌ أَوْ كَانَ الْمُشْتَرِكُونَ فِي الْعَبْدِ قَدْ تَهَايَئُوا عَلَيْهِ ، لَمْ تَدْخُلْ الْفِطْرَةُ فِي الْمُهَايَأَةِ لِأَنَّ الْمُهَايَأَةَ مُعَاوَضَةُ كَسْبٍ بِكَسْبٍ ؛ وَالْفِطْرَةُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى ، فَلَا تَدْخُلُ فِي ذَلِكَ ، كَالصَّلَاةِ .

( 1986 ) فَصْلٌ : وَلَوْ أَلْحَقَتْ الْقَافَةُ وَلَدًا بِرَجُلَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ ، فَالْحُكْمُ فِي فِطْرَتِهِ كَالْحُكْمِ فِي الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ .
وَلَوْ أَنَّ شَخْصًا حُرًّا لَهُ قَرِيبَانِ فَأَكْثَرُ عَلَيْهِمْ نَفَقَتُهُ بَيْنَهُمْ ، كَانَتْ فِطْرَتُهُ عَلَيْهِمْ ، كَالْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ ، عَلَى مَا ذُكِرَ فِيهِ .

( 1987 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ وَيُعْطِي صَدَقَةَ الْفِطْرِ لِمَنْ يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ صَدَقَةَ الْأَمْوَالِ إنَّمَا كَانَتْ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ زَكَاةٌ ، فَكَانَ مَصْرِفُهَا مَصْرِفَ سَائِرِ الزَّكَوَاتِ ، وَلِأَنَّهَا صَدَقَةٌ ، فَتَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى : { إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ } الْآيَة .
وَلَا يَجُوزُ دَفْعُهَا إلَى مَنْ لَا يَجُوزُ دَفْعُ زَكَاةِ الْمَالِ إلَيْهِ ، وَلَا يَجُوزُ دَفْعُهَا إلَى ذِمِّيٍّ .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ ، وَاللَّيْثُ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجُوزُ .
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ ، وَعَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلِ ، وَمُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ ، أَنَّهُمْ كَانُوا يُعْطُونَ مِنْهَا الرُّهْبَانَ .
وَلَنَا ، أَنَّهَا زَكَاةٌ ، فَلَمْ يَجُزْ دَفْعُهَا إلَى غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ ، كَزَكَاةِ الْمَالِ ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ زَكَاةَ الْمَالِ لَا يَجُوزُ دَفْعُهَا إلَى غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنْ لَا يُجْزِئَ أَنْ يُعْطَى مِنْ زَكَاةِ الْمَالِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّة .
( 1988 ) فَصْلٌ : وَيَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ مِنْ أَقَارِبِهِ مِنْ يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهُ مِنْ زَكَاةِ مَالِهِ ، وَلَا يُعْطِي مِنْهَا غَنِيًّا ، وَلَا ذَا قُرْبَى ، وَلَا أَحَدًا مِمَّنْ مُنِعَ أَخْذَ زَكَاةِ الْمَالِ .
وَيَجُوزُ صَرْفُهَا فِي الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ ؛ لِأَنَّهَا صَدَقَةٌ فَأَشْبَهَتْ صَدَقَةَ الْمَالِ .

( 1989 ) فَصْلٌ : وَإِنْ دَفَعَهَا إلَى مُسْتَحِقِّهَا ، فَأَخْرَجَهَا آخِذُهَا إلَى دَافِعَهَا ، أَوْ جُمِعَتْ الصَّدَقَةُ عِنْدَ الْإِمَامِ ، فَفَرَّقَهَا عَلَى أَهْلِ السُّهْمَانِ ، فَعَادَتْ إلَى إنْسَانٍ صَدَقَتُهُ ، فَاخْتَارَ الْقَاضِي ، جَوَازَ ذَلِكَ .
قَالَ : لِأَنَّ أَحْمَدَ قَدْ نَصَّ فِي مَنْ لَهُ نِصَابٌ مِنْ الْمَاشِيَةِ وَالزَّرْعِ ، أَنَّ الصَّدَقَةَ تُؤْخَذُ مِنْهُ ، وَتُرَدُّ عَلَيْهِ ، إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ قَدْرُ كِفَايَتِهِ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَلِأَنَّ قَبْضَ الْإِمَامِ أَوْ الْمُسْتَحِقِّ أَزَالَ مِلْكَ الْمُخْرِجِ ، وَعَادَتْ إلَيْهِ بِسَبَبٍ آخَرَ ، فَجَازَ كَمَا لَوْ عَادَتْ بِمِيرَاثٍ .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : مَذْهَبُ أَحْمَدُ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُهَا ؛ لِأَنَّهَا طُهْرَةٌ لَهُ ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ أَخْذُهَا كَشِرَائِهَا ؛ { وَلِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ الْفَرَسَ الَّذِي حَمَلَ عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ .
فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا تَشْتَرِهَا وَلَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ ، فَإِنَّ الْعَائِدَ فِي صَدَقَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ } ، فَأَمَّا إنْ اشْتَرَاهَا لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِلْخَبَرِ .
وَإِنْ وَرِثَهَا فَلَهُ أَخْذُهَا ؛ لِأَنَّهَا رَجَعَتْ إلَيْهِ بِغَيْرِ فِعْلٍ مِنْهُ .

( 1990 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَيَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ الْوَاحِدَ مَا يَلْزَمُ الْجَمَاعَةَ وَالْجَمَاعَةَ مَا يَلْزَمُ الْوَاحِدَ إعْطَاءُ الْجَمَاعَةِ مَا يَلْزَمُ الْوَاحِدَ لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا لِأَنَّهُ صَرَفَ صَدَقَتَهُ إلَى مُسْتَحِقَّهَا ، فَبَرِئَ مِنْهَا كَمَا لَوْ دَفَعَهَا إلَى وَاحِدٍ ؛ وَأَمَّا إعْطَاءُ الْوَاحِدِ صَدَقَةَ الْجَمَاعَةِ ، فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ وَمَنْ وَافَقَهُ ، أَوْجَبُوا تَفْرِقَةَ الصَّدَقَةِ عَلَى سِتَّةِ أَصْنَافٍ ، وَدَفْعَ حِصَّةِ كُلِّ صِنْفٍ إلَى ثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلَ هَذَا .
وَقَدْ ذَكَرْنَا الدَّلِيلَ عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّهَا صَدَقَةٌ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ ، فَجَازَ صَرْفُهَا إلَى وَاحِدٍ كَالتَّطَوُّعِ .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .

( 1991 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَمَنْ أَخْرَجَ عَنْ الْجَنِينِ ، فَحَسَنٌ وَكَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُخْرِجُ عَنْ الْجَنِينِ الْمَذْهَبُ أَنَّ الْفِطْرَةَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَلَى الْجَنِينِ .
وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ لَا يُوجِبُونَ عَلَى الرَّجُلِ زَكَاةَ الْفِطْرِ عَنْ الْجَنِينِ فِي بَطْنِ أُمَّهُ .
وَعَنْ أَحْمَدَ ، رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهَا تَجِبُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ آدَمِيٌّ ، تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لَهُ ، وَبِهِ وَيَرِثُ فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْأَخْبَارِ ، وَيُقَاسُ عَلَى الْمَوْلُودِ .
وَلَنَا أَنَّهُ جَنِينٌ فَلَمْ تَتَعَلَّقْ الزَّكَاةُ بِهِ ، كَأَجِنَّةِ الْبَهَائِمِ وَلِأَنَّهُ لَمْ تَثْبُتْ لَهُ أَحْكَامُ الدُّنْيَا إلَّا فِي الْإِرْثِ وَالْوَصِيَّةِ ، بِشَرْطِ أَنْ يَخْرُجَ حَيًّا .
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ إخْرَاجُهَا عَنْهُ ؛ لِأَنَّ عُثْمَانَ كَانَ يُخْرِجُهَا عَنْهُ ، وَلِأَنَّهَا صَدَقَةٌ عَمَّنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ ، فَكَانَتْ مُسْتَحَبَّةً كَسَائِرِ صَدَقَاتِ التَّطَوُّعِ

( 1992 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَمَنْ كَانَ فِي يَدِهِ مَا يُخْرِجُهُ عَنْ صَدَقَةَ الْفِطْرِ ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مِثْلُهُ ، لَزِمَهُ أَنْ يُخْرِجَ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مُطَالَبًا بِالدَّيْنِ ، فَعَلَيْهِ قَضَاءُ الدَّيْنِ وَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ إنَّمَا لَمْ يَمْنَعْ الدَّيْنُ الْفِطْرَةَ ؛ لِأَنَّهَا آكَدُ وُجُوبًا بِدَلِيلِ وُجُوبِهَا عَلَى الْفَقِيرِ ، وَشُمُولِهَا لِكُلِّ مُسْلِمٍ قَدَرَ عَلَى إخْرَاجِهَا ، وَوُجُوبِ تَحَمُّلِهَا عَمَّنْ وَجَبَتْ نَفَقَتُهُ عَلَى غَيْرِهِ ، وَلَا تَتَعَلَّقُ بِقَدْرٍ مِنْ الْمَالِ فَجَرَتْ مَجْرَى النَّفَقَةِ وَلِأَنَّ زَكَاةَ الْمَالِ تَجِبُ بِالْمِلْكِ ، وَالدَّيْنُ يُؤَثِّرُ فِي الْمِلْكِ ، فَأَثَّرَ فِيهَا ، وَهَذِهِ تَجِبُ عَلَى الْبَدَنِ ، وَالدَّيْنُ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ ، وَتَسْقُطُ الْفِطْرَةُ عِنْدَ الْمُطَالَبَةِ بِالدَّيْنِ ، لِوُجُوبِ أَدَائِهِ عِنْدَ الْمُطَالَبَةِ ، وَتَأَكُّدِهِ بِكَوْنِهِ حَقَّ آدَمِيٍّ مُعَيَّنٍ لَا يَسْقُطُ بِالْإِعْسَارِ ، وَكَوْنُهُ أَسْبَقَ سَبَبًا وَأَقْدَمَ وُجُوبًا يَأْثَمُ بِتَأْخِيرِهِ ، فَإِنَّهُ يُسْقِطُ غَيْرَ الْفِطْرَةِ ، وَإِنْ لَمْ يُطَالَبْ بِهِ ؛ لِأَنَّ تَأْثِيرَ الْمُطَالَبَةِ إنَّمَا هُوَ فِي إلْزَامِ الْأَدَاءِ وَتَحْرِيمِ التَّأْخِيرِ .

( 1993 ) فَصْلٌ : وَإِنْ مَاتَ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْفِطْرَةُ قَبْلَ أَدَائِهَا ، أُخْرِجَتْ مِنْ تَرِكَتِهِ فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَهُ مَالٌ يَفِي بِهِمَا ، قُضِيَا جَمِيعًا ، وَإِنْ لَمْ يَفِ بِهِمَا ، قُسِّمَ بَيْنَ الدَّيْنِ وَالصَّدَقَةِ بِالْحِصَصِ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي زَكَاةِ الْمَالِ ، أَنَّ التَّرِكَةَ تُقْسَمُ بَيْنَهُمَا ، وَكَذَا هَاهُنَا .
فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ زَكَاةُ مَالٍ وَصَدَقَةُ فِطْرٍ وَدَيْنٌ ، فَزَكَاةُ الْفِطْرِ وَالْمَالِ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ لِاتِّحَادِ مَصْرِفِهِمَا ، فَيُحَاصَّانِ الدَّيْنَ ، وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ حَقَّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ ، وَحَقَّ الْآدَمِيِّ ، إذَا تَعَلَّقَا بِمَحِلٍّ وَاحِدٍ ، فَكَانَا فِي الذِّمَّةِ ، أَوْ كَانَا فِي الْعَيْنِ ، تَسَاوَيَا فِي الِاسْتِيفَاءِ

( 1994 ) فَصْلٌ : وَإِذَا مَاتَ الْمُفْلِسُ ، وَلَهُ عَبِيدٌ ، فَهَلَّ شَوَّالٌ قَبْلَ قِسْمَتِهِمْ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ ، فَفِطْرَتُهُمْ عَلَى الْوَرَثَةِ ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ لَا يَمْنَعُ نَقْلَ التَّرِكَة ، بَلْ غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ رَهْنًا بِالدَّيْنِ ، وَفِطْرَةُ الرَّهْنِ عَلَى مَالِكِهِ .

( 1995 ) فَصْلٌ : وَلَوْ مَاتَ عَبِيدُهُ ، أَوْ مَنْ يَمُونُهُ ، بَعْدَ وُجُوبِ الْفِطْرَةِ ، لَمْ تَسْقُطْ ، لِأَنَّهَا دَيْنٌ ثَبَتَ فِي ذِمَّتِهِ بِسَبَبِ عَبْدِهِ ، فَلَمْ تَسْقُطْ بِمَوْتِهِ ، كَمَا لَوْ اسْتَدَانَ الْعَبْدُ بِإِذْنِهِ دَيْنًا وَجَبَ فِي ذِمَّتِهِ ، وَلِأَنَّ زَكَاةَ الْمَالِ لَا تَسْقُطُ بِتَلَفِهِ ، فَالْفِطْرَةُ أَوْلَى ، فَإِنْ زَكَاةَ الْمَالِ تَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ ، وَزَكَاةُ الْفِطْرِ بِخِلَافِهِ .

فُصُولٌ فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ : ( 1996 ) فَصْلُ وَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً } .
وَأَمَرَ بِالصَّدَقَةِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةِ ، وَحَثَّ عَلَيْهَا وَرَغَّبَ فِيهَا .
وَرَوَى أَبُو صَالِحٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ وَلَا يَصْعَدُ إلَى اللَّهِ إلَّا الطَّيِّبُ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقْبَلُهَا بِيَمِينِهِ ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهَا ، كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ ، حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَصَدَقَةُ السِّرِّ أَفْضَلُ مِنْ صَدَقَةِ الْعَلَانِيَةِ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { إنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ، وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ } وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّ عَرْشِهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ وَذَكَرَ مِنْهُمْ رَجُلًا تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا ، حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَنَّ صَدَقَةَ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ } .
وَيُسْتَحَبُّ الْإِكْثَارُ مِنْهَا فِي أَوْقَاتِ الْحَاجَاتِ ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { أَوْ إطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ } .
وَفِي شَهْرِ رَمَضَانَ ؛ لِأَنَّ الْحَسَنَاتِ تُضَاعَفُ فِيهِ ، وَلِأَنَّ فِيهِ إعَانَةً عَلَى أَدَاءِ الصَّوْمِ الْمَفْرُوضِ .
وَمَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ وَتُسْتَحَبُّ الصَّدَقَةُ عَلَى ذِي الْقَرَابَةِ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ } .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ ، وَهِيَ عَلَى ذِي الرَّحِمِ اثْنَتَانِ ، صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ } .
وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ .
{ وَسَأَلَتْ زَيْنَبُ

امْرَأَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ يَنْفَعُهَا أَنْ تَضَعَ صَدَقَتَهَا فِي زَوْجِهَا وَبَنِي أَخٍ لَهَا يَتَامَى ؟ قَالَ : نَعَمْ ، لَهَا أَجْرَانِ ؛ أَجْرُ الْقَرَابَةِ ، وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ .
} رَوَاهُ النَّسَائِيّ .
وَتُسْتَحَبُّ الصَّدَقَةُ عَلَى مِنْ اشْتَدَّتْ حَاجَتُهُ ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ }

( 1997 ) فَصْلٌ : وَالْأَوْلَى أَنْ يَتَصَدَّقَ مِنْ الْفَاضِلِ عَنْ كِفَايَتِهِ ، وَكِفَايَةِ مَنْ يَمُونُهُ عَلَى الدَّوَامِ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى ، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، .
فَإِنْ تَصَدَّقَ بِمَا يَنْقُصُ عَنْ كِفَايَةِ مَنْ تَلْزَمُهُ مُؤْنَتُهُ ، وَلَا كَسْبَ لَهُ ، أَثِمَ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { كَفَى بِالْمَرْءِ إثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَمُونُ } .
وَلِأَنَّ نَفَقَةَ مِنْ يَمُونُهُ وَاجِبَةٌ ، وَالتَّطَوُّعَ نَافِلَةٌ ، وَتَقْدِيمُ النَّفْلِ عَلَى الْفَرْضِ غَيْرُ جَائِزٍ فَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ وَحْدَهُ أَوْ كَانَ لِمَنْ يُمَوَّنُ كِفَايَتُهُمْ فَأَرَادَ الصَّدَقَةَ بِجَمِيعِ مَالِهِ ، وَكَانَ ذَا مَكْسَبٍ ، أَوْ كَانَ وَاثِقًا مِنْ نَفْسِهِ ، يُحْسِنُ التَّوَكُّلَ وَالصَّبْرَ عَلَى الْفَقْرِ ، وَالتَّعَفُّفَ عَنْ الْمَسْأَلَةِ ، فَحَسَنٌ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { سُئِلَ عَنْ أَفْضَلِ الصَّدَقَةِ ، فَقَالَ : جُهْدٌ مِنْ مُقِلٍّ إلَى فَقِيرٍ فِي السِّرِّ } .
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَتَصَدَّقَ ، فَوَافَقَ ذَلِكَ مَالًا عِنْدِي ، فَقُلْت الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ إنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا ، فَجِئْتُهُ بِنِصْفِ مَالِي ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ ؟ قُلْت : أَبْقَيْت لَهُمْ مِثْلَهُ ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ ، فَقَالَ لَهُ : مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ ؟ قَالَ : اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقُلْت : لَا أُسَابِقُكَ إلَى شَيْءٍ بَعْدَهُ أَبَدًا } .
فَهَذَا كَانَ فَضِيلَةً فِي حَقِّ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِقُوَّةِ يَقِينِهِ ، وَكَمَالِ إيمَانِهِ ، وَكَانَ أَيْضًا تَاجِرًا ذَا مَكْسَبٍ ، فَإِنَّهُ قَالَ حِينَ وَلِيَ : قَدْ عَلِمَ النَّاسُ أَنَّ كَسْبِي لَمْ يَكُنْ لِيَعْجِزَ عَنْ مُؤْنَةِ عِيَالِي .
أَوْ كَمَا قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِي الْمُتَصَدِّقِ أَحَدُ هَذَيْنِ كُرِهَ ؛

لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ .
قَالَ : { كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ جَاءَ رَجُلٌ بِمِثْلِ بَيْضَةٍ مِنْ ذَهَبٍ ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَصَبْت هَذِهِ مِنْ مَعْدِنٍ ، فَخُذْهَا فَهِيَ صَدَقَةٌ مَا أَمْلِكُ غَيْرَهَا .
فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَتَاهُ مِنْ قِبَلِ رُكْنِهِ الْأَيْمَنِ ، فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ ، ثُمَّ أَتَاهُ مِنْ قِبَلِ رُكْنِهِ الْأَيْسَرِ ، فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَتَاهُ مِنْ خَلْفِهِ ، فَأَخَذَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَذَفَهُ بِهَا ، فَلَوْ أَصَابَتْهُ لَأَوْجَعَتْهُ أَوْ لَعَقَرَتْهُ ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَأْتِي أَحَدُكُمْ بِمَا يَمْلِكُ ، وَيَقُولُ : هَذِهِ صَدَقَةٌ ثُمَّ يَقْعُدُ يَسْتَكِفُّ النَّاسَ ، خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى .
} فَقَدْ نَبَّهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي كَرِهَ مِنْ أَجْلِهِ الصَّدَقَةَ بِجَمِيعِ مَالِهِ وَهُوَ أَنْ يَسْتَكِفَّ النَّاسَ ، أَيْ يَتَعَرَّضَ لَهُمْ لِلصَّدَقَةِ ، أَيْ يَأْخُذَهَا بِبَطْنِ كَفِّهِ يُقَالُ : تَكَفَّفَ وَاسْتَكَفَّ .
إذَا فَعَلَ ذَلِكَ وَرَوَى النَّسَائِيّ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى رَجُلًا ثَوْبَيْنِ مِنْ الصَّدَقَةِ ، ثُمَّ حَثَّ عَلَى الصَّدَقَةِ ، فَطَرَحَ الرَّجُلُ أَحَدَ ثَوْبَيْهِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَلَمْ تَرَوْا إلَى هَذَا ، دَخَلَ بِهَيْئَةٍ بَذَّةٍ فَأَعْطَيْته ثَوْبَيْنِ ، ثُمَّ قُلْت : تَصَدَّقُوا .
فَطَرَحَ أَحَدَ ثَوْبَيْهِ ، خُذْ ثَوْبَكَ .
وَانْتَهَرَهُ } .
وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا أَخْرَجَ جَمِيعَ مَالِهِ ، لَا يَأْمَنُ فِتْنَةَ الْفَقْرِ وَشِدَّةَ نِزَاعِ النَّفْسِ إلَى مَا خَرَجَ مِنْهُ فَيَنْدَمُ ، فَيَذْهَبُ مَالُهُ وَيَبْطُلُ أَجْرُهُ ، وَيَصِيرُ كَلًّا عَلَى النَّاسِ .
وَيُكْرَهُ لِمَنْ لَا صَبْرَ لَهُ عَلَى الْإِضَافَةِ أَنْ يَنْقُصَ نَفْسَهُ مِنْ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71