الكتاب : المغني
المؤلف : أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد ، الشهير بابن قدامة المقدسي

( 1749 ) فَصْلٌ : وَإِنْ عَجَّلَ زَكَاةَ نِصَابٍ مِنْ الْمَاشِيَةِ ، فَتَوَالَدَتْ نِصَابًا ، ثُمَّ مَاتَتْ الْأُمَّهَاتُ وَحَالَ الْحَوْلُ عَلَى النِّتَاجِ ، أَجْزَأَ الْمُعَجَّلُ عَنْهَا ؛ لِأَنَّهَا دَخَلَتْ فِي حَوْلِ الْأُمَّهَاتِ ، وَقَامَتْ مَقَامَهَا ، فَأَجْزَأَتْ زَكَاتُهَا عَنْهَا .
فَإِذَا كَانَ عِنْدَهُ أَرْبَعُونَ مِنْ الْغَنَمِ ، فَعَجَّلَ عَنْهَا شَاةً ، ثُمَّ تَوَالَدَتْ أَرْبَعِينَ سَخْلَةً ، وَمَاتَتْ الْأُمَّهَاتُ ، وَحَالَ الْحَوْلُ عَلَى السِّخَالِ ، أَجْزَأَتْ الْمُعَجَّلَةُ عَنْهَا ، لِأَنَّهَا كَانَتْ مُجْزِئَةً عَنْهَا وَعَنْ أُمَّهَاتِهَا لَوْ بَقِيَتْ ، فَلَأَنْ تُجْزِئَ عَنْ إحْدَاهُمَا أَوْلَى .
وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ ثَلَاثُونَ مِنْ الْبَقَرِ ، فَعَجَّلَ عَنْهَا تَبِيعًا ، ثُمَّ تَوَالَدَتْ ثَلَاثِينَ عِجْلَةً ، وَمَاتَتْ الْأُمَّهَاتُ ، وَحَالَ الْحَوْلُ عَلَى الْعُجُولِ ، احْتَمَلَ أَنْ يُجْزِئَ عَنْهَا ، لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لَهَا فِي الْحَوْلِ .
وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا يُجْزِئَ عَنْهَا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ عَجَّلَ عَنْهَا تَبِيعًا مَعَ بَقَاءِ الْأُمَّهَاتِ لَمْ يُجْزِئْ عَنْهَا ، فَلَأَنْ لَا يُجْزِئَ عَنْهَا إذَا كَانَ التَّعْجِيلُ عَنْ غَيْرِهَا أَوْلَى .
وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي مِائَةِ شَاةٍ إذَا عَجَّلَ عَنْهَا شَاةً فَتَوَالَدَتْ مِائَةً ، ثُمَّ مَاتَتْ الْأُمَّهَاتُ ، وَحَالَ الْحَوْلُ عَلَى السِّخَالِ .
وَإِنْ تَوَالَدَ نِصْفُهَا ، وَمَاتَ نِصْفُ الْأُمَّهَاتِ ، وَحَالَ الْحَوْلُ عَلَى الصِّغَارِ وَنِصْفِ الْكِبَارِ ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ ، أَجْزَأَ الْمُعَجَّلُ عَنْهُمَا جَمِيعًا .
وَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي ، فَعَلَيْهِ فِي الْخَمْسِينَ سَخْلَةً شَاةٌ ؛ لِأَنَّهَا نِصَابٌ لَمْ تُؤَدَّ زَكَاتُهُ .
وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي الْعُجُولِ إذَا كَانَتْ خَمْسَةَ عَشَرَ شَيْءٌ ، لِأَنَّهَا لَمْ تَبْلُغْ نِصَابًا ، وَإِنَّمَا وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِيهَا بِنَاءً عَلَى أُمَّهَاتِهَا الَّتِي عُجِّلَتْ زَكَاتُهَا .
وَإِنْ مَلَكَ ثَلَاثِينَ مِنْ الْبَقَرِ ، فَعَجَّلَ مُسِنَّةً زَكَاةً لَهَا وَلِنَتَاجِهَا ، فَنُتِجَتْ عَشْرًا ، أَجْزَأَتْهُ عَنْ الثَّلَاثِينَ دُونَ الْعَشْرِ ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ فِي الْعَشْرَ رُبْعُ مُسِنَّةٍ .

وَيَحْتَمِلُ أَنْ تُجْزِئَهُ الْمُسِنَّةُ الْمُعَجَّلَةُ عَنْ الْجَمِيعِ ؛ لِأَنَّ الْعَشْرَ تَابِعَةٌ لِلثَّلَاثِينَ فِي الْوُجُوبِ وَالْحَوْلِ فَإِنَّهُ لَوْلَا مِلْكُهُ لِلثَّلَاثِينَ لَمَا وَجَبَ عَلَيْهِ فِي الْعَشْرِ شَيْءٌ .
فَصَارَتْ الزِّيَادَةُ عَلَى النِّصَابِ مُنْقَسِمَةً أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا ، مَا لَا يَتْبَعُ فِي وُجُوبٍ وَلَا حَوْلٍ ، وَهُوَ الْمُسْتَفَادُ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ ، وَلَا يُجْزِئُ تَعْجِيلُ زَكَاتِهِ قَبْلَ وُجُودِهِ ، وَكَمَالِ نِصَابِهِ ، بِغَيْرِ خِلَافٍ .
الثَّانِي ، مَا يَتْبَعُ فِي الْوُجُوبِ دُونَ الْحَالِ ، وَهُوَ الْمُسْتَفَادُ مِنْ الْجِنْسِ بِسَبَبٍ مُسْتَقِلٍّ ، فَلَا يُجْزِئُ تَعْجِيلُ زَكَاتِهِ أَيْضًا قَبْلَ وُجُودِهِ ، مَعَ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ .
الثَّالِثُ ، مَا يَتْبَعُ فِي الْحَوْلِ دُونَ الْوُجُوبِ ، كَالنِّتَاجِ وَالرِّبْحِ إذَا بَلَغَ نِصَابًا ، فَإِنَّهُ يَتْبَعُ أَصْلَهُ فِي الْحَوْلِ ، فَلَا يُجْزِئُ التَّعْجِيلُ عَنْهُ قَبْلَ وُجُودِهِ ، كَاَلَّذِي قَبْلَهُ .
الرَّابِعُ ، مَا يَتْبَعُ فِي الْوُجُوبِ وَالْحَوْلِ ، وَهُوَ الرِّبْحُ وَالنِّتَاجُ إذَا لَمْ يَبْلُغْ نِصَابًا ، فَهَذَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا ، لَا يُجْزِئُ تَعْجِيلُ زَكَاتِهِ قَبْلَ وُجُودِهِ ، كَاَلَّذِي قَبْلَهُ .
وَالثَّانِي : يُجْزِئُ ؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لَهُ فِي الْوُجُوبِ وَالْحَوْلِ ، فَأَشْبَهَ الْمَوْجُودَ .

( 1750 ) فَصْلٌ : إذَا عَجَّلَ الزَّكَاةَ لِأَكْثَرَ مِنْ حَوْلٍ ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا ، لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ النَّصَّ لَمْ يَرِدْ بِتَعْجِيلِهَا لِأَكْثَرَ مِنْ حَوْلٍ .
وَالثَّانِيَةُ ، يَجُوزُ .
وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بَأْسًا أَنْ يُخْرِجَ الرَّجُلُ زَكَاةَ مَالِهِ قَبْلَ حِلِّهَا لِثَلَاثِ سِنِينَ ؛ لِأَنَّهُ تَعْجِيلٌ لَهَا بَعْدَ وُجُودِ النِّصَابِ ، أَشْبَهَ تَقْدِيمَهَا عَلَى الْحَوْلِ الْوَاحِدِ .
وَمَا لَمْ يَرِدْ بِهِ النَّصُّ يُقَاسُ عَلَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ إذَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ ، وَلَا نَعْلَمُ لَهُ مَعْنًى سِوَى أَنَّهُ تَقْدِيمٌ لِلْمَالِ الَّذِي وُجِدَ سَبَبُ وُجُوبِهِ عَلَى شَرْطِ وُجُوبِهِ ، وَهَذَا مُتَحَقِّقٌ فِي التَّقْدِيمِ فِي الْحَوْلَيْنِ ، كَتَحَقُّقِهِ فِي الْحَوْلِ الْوَاحِدِ .
فَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ عِنْدَهُ أَكْثَرُ مِنْ النِّصَابِ ، فَعَجَّلَ زَكَاتَهُ لِحَوْلَيْنِ ، جَازَ .
وَإِنْ كَانَ قَدْرُ النِّصَابِ مِثْلَ مَنْ عِنْدَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً فَعَجَّلَ شَاتَيْنِ لِحَوْلَيْنِ وَكَانَ الْمُعَجِّلُ مِنْ غَيْرِهِ جَازَ وَإِنْ أَخْرَجَ شَاةً مِنْهُ وَشَاةً مِنْ غَيْرِهِ جَازَ عَنْ الْحَوْلِ الْأَوَّلِ وَلَمْ يَجُزْ عَنْ الثَّانِي لِأَنَّ النِّصَابَ نَقَصَ فَإِنْ كَمَلَ بَعْدَ ذَلِكَ وَصَارَ إخْرَاجُ زَكَاتِهِ وَتَعْجِيلُهُ لَهَا قَبْلَ كَمَالِ نِصَابِهَا وَإِنْ أَخْرَجَ الشَّاتَيْنِ جَمِيعًا مِنْ النِّصَابِ لَمْ تَجُزْ الزَّكَاةُ فِي الْحَوْلِ الْأَوَّلِ إذَا قُلْنَا لَيْسَ لَهُ ارْتِجَاعُ مَا عَجَّلَهُ لِأَنَّهُ كَالتَّالِفِ فَيَكُونُ النِّصَابُ نَاقِصًا فَإِنْ كَمَلَ بَعْدَ ذَلِكَ اُسْتُؤْنِفَ الْحَوْلُ مِنْ حِينِ كَمَلَ النِّصَابُ وَكَانَ مَا عَجَّلَهُ سَابِقًا عَلَى كَمَالِ النِّصَابِ فَلَمْ يَجُزْ عَنْهُ .

( 1751 ) فَصْلٌ وَإِنْ عَجَّلَ زَكَاةَ مَالِهِ فَحَالُ الْحَوْلُ وَالنِّصَابُ نَاقِصٌ مِقْدَارَ مَا عَجَّلَهُ أَجْزَأَتْ عَنْهُ وَيَكُونُ حُكْمُ مَا عَجَّلَهُ حُكْمَ الْمَوْجُودِ فِي مِلْكِهِ يَتِمُّ النِّصَابُ بِهِ فَلَوْ زَادَ مَالُهُ حَتَّى بَلَغَ النِّصَابَ أَوْ زَادَ عَلَيْهِ وَحَالَ الْحَوْلُ أَجْزَأَ الْمُعَجَّلُ عَنْ زَكَاتِهِ لِمَا ذَكَرْنَا .
فَإِنْ نَقَصَ أَكْثَرُ مِمَّا عَجَّلَهُ فَقَدْ خَرَجَ بِذَلِكَ مِنْ كَوْنِهِ سَبَبًا لِلزَّكَاةِ ، مِثْلُ مَنْ لَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً فَعَجَّلَ شَاةً ثُمَّ تَلِفَتْ أُخْرَى فَقَدْ خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ سَبَبًا لِلزَّكَاةِ فَإِنْ زَادَ بَعْدَ ذَلِكَ إمَّا بِنَتَاجٍ أَوْ شِرَاءِ مَا يَتِمُّ بِهِ النِّصَابُ اُسْتُؤْنِفَ الْحَوْلُ مِنْ حِينِ كَمَلَ النِّصَابُ وَلَمْ يَجُزْ مَا عَجَّلَهُ عَنْهُ لِمَا ذَكَرْنَا .
وَإِنْ زَادَ بِحَيْثُ يَكُونُ انْضِمَامُهُ إلَى مَا عَجَّلَهُ يَتَغَيَّرُ بِهِ الْفَرْضُ ، مِثْلُ مَنْ لَهُ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ فَعَجَّلَ زَكَاتَهَا شَاةً ثُمَّ حَالَ الْحَوْلُ وَقَدْ أُنْتِجَتْ سَخْلَةٌ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ إخْرَاجُ شَاةٍ ثَانِيَةٍ وَبِمَا ذَكَرْنَاهُ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ مَا عَجَّلَهُ فِي حُكْمِ التَّالِفِ فَقَالَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ وَلَا يَكُونُ الْمُخْرَجُ زَكَاةً .
وَقَالَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ زِيَادَةٌ لِأَنَّ مَا عَجَّلَهُ زَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ فَلَمْ يُحْسَبْ مِنْ مَالِهِ كَمَا لَوْ تَصَدَّقَ بِهِ تَطَوُّعًا وَلَنَا أَنَّ هَذَا نِصَابٌ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ بِحَوْلِ الْحَوْلِ فَجَازَ تَعْجِيلُهَا مِنْهُ كَمَا لَوْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ وَلِأَنَّ مَا عَجَّلَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْجُودِ فِي إجْزَائِهِ عَنْ مَالِهِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْجُودِ فِي تَعَلُّقِ الزَّكَاةِ بِهِ وَلِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تُعَجَّلْ كَانَ عَلَيْهِ شَاتَانِ .
فَكَذَلِكَ إذَا عُجِّلَتْ لِأَنَّ التَّعْجِيلَ إنَّمَا كَانَ رِفْقًا بِالْمَسَاكِينِ فَلَا يَصِيرُ سَبَبًا لِنَقْصِ حُقُوقِهِمْ ، وَالتَّبَرُّعُ يُخْرِجُ مَا تَبَرَّعَ بِهِ عَنْ حُكْمِ الْمَوْجُودِ فِي مَالِهِ وَهَذَا فِي حُكْمِ الْمَوْجُودِ فِي الْإِجْزَاءِ عَنْ الزَّكَاةِ

( 1752 ) فَصْلٌ وَكُلُّ مَوْضِعٍ قُلْنَا لَا يُجْزِئُهُ مَا عَجَّلَهُ عَنْ الزَّكَاةِ فَإِنْ كَانَ دَفَعَهَا إلَى الْفُقَرَاءِ مُطْلَقًا فَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا وَإِنْ كَانَ دَفَعَهَا بِشَرْطِ أَنَّهَا زَكَاةٌ مُعَجَّلَةٌ فَهَلْ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَى وَجْهَيْنِ يَأْتِي تَوْجِيهُهُمَا

( 1753 ) فَصْلٌ فَأَمَّا تَعْجِيلُ الْعُشْرِ مِنْ الزَّرْعِ وَالثَّمَرِ فَظَاهِرُ كَلَامِ الْقَاضِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ قَالَ كُلُّ مَا تَتَعَلَّقُ الزَّكَاةُ فِيهِ بِسَبَبَيْنِ : حَوْلٌ وَنِصَابٌ جَازَ تَعْجِيلُ زَكَاتِهِ .
فَمَفْهُومُ هَذَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَعْجِيلُ زَكَاةِ غَيْرِهِ لِأَنَّ الزَّكَاةَ مُعَلَّقَةٌ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ وَهُوَ ادِّرَاكُ الزَّرْعِ وَالثَّمَرَةِ فَإِذَا قَدَّمَهَا قَدَّمَهَا قَبْلَ وُجُودِ سَبَبِهَا لَكِنْ إنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الْإِدْرَاكِ وَقَبْلَ يُبْسِ الثَّمَرَةِ وَتَصْفِيَةِ الْحَبِّ جَازَ ، وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ يَجُوزُ إخْرَاجُهَا بَعْدَ وُجُودِ الطَّلْعِ وَالْحِصْرِمِ ، وَنَبَاتِ الزَّرْعِ .
وَلَا يَجُوزُ قَبْلَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ وُجُودَ الزَّرْعِ وَاطِّلَاعَ النَّخِيلِ بِمَنْزِلَةِ النِّصَابِ ، وَالْإِدْرَاكُ بِمَنْزِلَةِ حُلُولِ الْحَوْلِ ؛ فَجَازَ تَقْدِيمُهَا عَلَيْهِ ، وَتَعَلُّقُ الزَّكَاةِ بِالْإِدْرَاكِ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ التَّعْجِيلِ بِدَلِيلِ أَنَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ يَتَعَلَّقُ وُجُوبُهَا بِهِلَالِ شَوَّالٍ ، وَهُوَ زَمَنُ الْوُجُوبِ .
فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا قَبْلَ ذَلِكَ ، لِأَنَّهُ يَكُونُ قَبْلَ وُجُودِ سَبَبِهَا .

( 1754 ) فَصْلٌ : وَإِنْ عَجَّلَ زَكَاةَ مَالِهِ ، ثُمَّ مَاتَ ، فَأَرَادَ الْوَارِثُ الِاحْتِسَابَ بِهَا عَنْ زَكَاةِ حَوْلِهِ ، لَمْ يَجُزْ .
وَذَكَرَ الْقَاضِي وَجْهًا فِي جَوَازِهِ ، بِنَاءً عَلَى مَا لَوْ عَجَّلَ زَكَاةَ عَامَيْنِ .
وَلَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ تَعْجِيلٌ لِلزَّكَاةِ قَبْلَ وُجُودِ سَبَبِهَا ، أَشْبَهَ مَا لَوْ عَجَّلَ زَكَاةَ نِصَابٍ لِغَيْرِهِ ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ سَبَبَ الزَّكَاةِ مِلْكُ النِّصَابِ ، وَمِلْكُ الْوَارِثِ حَادِثٌ ، وَلَا يَبْنِي الْوَارِثُ عَلَى حَوْلِ الْمَوْرُوثِ ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يُخْرِجْ الزَّكَاةَ ، وَإِنَّمَا أَخْرَجَهَا غَيْرُهُ عَنْ نَفْسِهِ ، وَإِخْرَاجُ الْغَيْرِ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ وِلَايَةٍ وَلَا نِيَابَةٍ لَا يُجْزِئُ وَلَوْ نَوَى ، فَكَيْفَ إذَا لَمْ يَنْوِ .
وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا : لَوْ أَخْرَجَ زَكَاتَهُ وَقَالَ : إنْ كَانَ مُوَرِّثِي قَدْ مَاتَ فَهَذِهِ زَكَاةُ مَالِهِ ، فَبَانَ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ ، لَمْ يَقَعْ الْمَوْقِعُ .
وَهَذَا أَبْلَغُ ، وَلَا يُشْبِهُ هَذَا تَعْجِيلَ زَكَاةِ الْعَامَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ عَجَّلَ بَعْدَ وُجُودِ السَّبَبِ ، وَأَخْرَجَهَا بِنَفْسِهِ ، بِخِلَافِ هَذَا .
فَإِنْ قِيلَ : فَإِنَّهُ لَمَّا مَاتَ الْمُوَرِّثُ قَبْلَ الْحَوْلِ ، كَانَ لِلْوَارِثِ ارْتِجَاعُهَا ، فَإِذَا لَمْ يَرْتَجِعْهَا احْتَسَبَ بِهَا كَالدَّيْنِ قُلْنَا : فَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَحْتَسِبَ الدَّيْنَ عَنْ زَكَاتِهِ لَمْ يَصِحَّ ، وَلَوْ كَانَ لَهُ عِنْدَ رَجُلٍ شَاةٌ مِنْ غَصْبٍ أَوْ قَرْضٍ ، فَأَرَادَ أَنْ يَحْسُبَهَا عَنْ زَكَاتِهِ ، لَمْ تُجْزِهِ .

( 1755 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَمَنْ قَدَّمَ زَكَاةَ مَالِهِ ، فَأَعْطَاهَا لِمُسْتَحِقِّهَا ، فَمَاتَ الْمُعْطَى قَبْلَ الْحَوْلِ ، أَوْ بَلَغَ الْحَوْلَ وَهُوَ غَنِيٌّ مِنْهَا ، أَوْ مِنْ غَيْرِهَا ، أَجْزَأَتْ عَنْهُ ) .
وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا دَفَعَ الزَّكَاةَ الْمُعَجَّلَةَ إلَى مُسْتَحِقِّهَا ، لَمْ يَخْلُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا ، أَنْ لَا يَتَغَيَّرَ الْحَالُ ، فَإِنَّ الْمَدْفُوعَ يَقَعُ مَوْقِعَهُ ، وَيُجْزِئُ عَنْ الْمُزَكِّي ، وَلَا يَلْزَمُهُ بَدَلُهُ ، وَلَا لَهُ اسْتِرْجَاعُهُ ، كَمَا لَوْ دَفَعَهَا بَعْدَ وُجُوبِهَا .
الثَّانِي : أَنْ يَتَغَيَّرَ حَالُ الْآخِذِ لَهَا ، بِأَنْ يَمُوتَ قَبْلَ الْحَوْلِ ، أَوْ يَسْتَغْنِيَ ، أَوْ يَرْتَدَّ قَبْلَ الْحَوْلِ .
فَهَذَا فِي حُكْمِ الْقِسْمِ الَّذِي قَبْلَهُ ، وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يُجْزِئُ ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ شَرْطًا لِلزَّكَاةِ إذَا عُدِمَ قَبْلَ الْحَوْلِ لَمْ يَجُزْ ، كَمَا لَوْ تَلِفَ الْمَالُ ، أَوْ مَاتَ رَبُّهُ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ أَدَّى الزَّكَاةَ إلَى مُسْتَحِقِّهَا ، فَلَمْ يَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ تَغَيُّرُ حَالِهِ ، كَمَا لَوْ اسْتَغْنَى بِهَا ، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ أَدَّاهُ إلَى مُسْتَحِقِّهِ ، فَبَرِئَ مِنْهُ ، كَالدَّيْنِ يُعَجِّلُهُ قَبْلَ أَجَلِهِ ، وَمَا ذَكَرُوهُ مُنْتَقِضٌ بِمَا إذَا اسْتَغْنَى بِهَا ، وَالْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ مَمْنُوعٌ ، ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ ، فَإِنَّ الْمَالَ إذَا تَلِفَ تَبَيَّنَ عَدَمُ الْوُجُوبِ ؛ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَدَّى إلَى غَرِيمِهِ دَرَاهِمَ يَظُنُّهَا عَلَيْهِ ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهَا لَيْسَتْ عَلَيْهِ ، وَكَمَا لَوْ أَدَّى الضَّامِنُ الدَّيْنَ ، فَبَانَ أَنَّ الْمَضْمُونَ عَنْهُ قَدْ قَضَاهُ ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا الْحَقُّ وَاجِبٌ ، وَقَدْ أَخَذَهُ مُسْتَحِقُّهُ .
الْقِسْمُ الثَّالِثُ ، أَنْ يَتَغَيَّرَ حَالُ رَبِّ الْمَالِ قَبْلَ الْحَوْلِ بِمَوْتِهِ أَوْ رِدَّتِهِ ، أَوْ تَلَفِ النِّصَابِ ، أَوْ نَقْصِهِ ، أَوْ بَيْعِهِ ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : لَا يَرْجِعُ بِهَا عَلَى الْفَقِيرِ ، سَوَاءٌ أَعْلَمَهُ أَنَّهَا زَكَاةٌ مُعَجَّلَةٌ أَوْ لَمْ يُعْلِمْهُ .
وَقَالَ الْقَاضِي : وَهُوَ

الْمَذْهَبُ عِنْدِي ؛ لِأَنَّهَا وَصَلَتْ إلَى الْفَقِيرِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ ارْتِجَاعُهَا ، كَمَا لَوْ لَمْ يُعْلِمْهُ ، وَلِأَنَّهَا زَكَاةٌ دُفِعَتْ إلَى مُسْتَحِقِّهَا ، فَلَمْ يَجُزْ اسْتِرْجَاعُهَا ، كَمَا لَوْ تَغَيَّرَ حَالُ الْفَقِيرِ وَحْدَهُ .
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ : إنْ كَانَ الدَّافِعُ لَهَا السَّاعِيَ ، اسْتَرْجَعَهَا بِكُلِّ حَالٍ ، وَإِنْ كَانَ الدَّافِعُ رَبَّ الْمَالِ ، وَأَعْلَمَهُ أَنَّهَا زَكَاةٌ مُعَجَّلَةٌ ، رَجَعَ بِهَا ، وَإِنْ أَطْلَقَ لَمْ يَرْجِعْ بِهَا .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ دَفَعَهُ عَمَّا يَسْتَحِقُّهُ الْقَابِضُ فِي الثَّانِي ؛ فَإِذَا طَرَأَ مَا يَمْنَعُ الِاسْتِحْقَاقَ ، وَجَبَ رَدُّهُ ، كَالْأُجْرَةِ إذَا انْهَدَمَتْ الدَّارُ قَبْلَ السُّكْنَى ، أَمَّا إذَا لَمْ يُعْلِمْهُ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَطَوُّعًا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هِبَةً ، فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي الرُّجُوعِ ، فَعَلَى قَوْلِ ابْنِ حَامِدٍ إنْ كَانَتْ الْعَيْنُ بَاقِيَةً لَمْ تَتَغَيَّرْ ، أَخَذَهَا ، وَإِنْ زَادَتْ زِيَادَةً مُتَّصِلَةً ، أَخَذَهَا بِزِيَادَتِهَا ؛ لِأَنَّهَا تُمْنَعُ فِي الْفُسُوخِ ، وَإِنْ كَانَتْ مُنْفَصِلَةً ، أَخَذَهَا دُونَ زِيَادَتِهَا ؛ لِأَنَّهَا حَدَثَتْ فِي مِلْكِ الْفَقِيرِ .
وَإِنْ كَانَتْ نَاقِصَةً ، رَجَعَ عَلَى الْفَقِيرِ بِالنَّقْصِ ؛ لِأَنَّ الْفَقِيرَ قَدْ مَلَكَهَا بِالنَّقْصِ ؛ فَكَانَ نَقْصُهَا عَلَيْهِ ، كَالْمَبِيعِ إذَا نَقَصَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي ، ثُمَّ عَلِمَ عَيْبَهُ .
وَإِنْ كَانَتْ تَالِفَةً أَخَذَ قِيمَتَهَا يَوْمَ الْقَبْضِ ؛ لِأَنَّ مَا زَادَ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ نَقَصَ فَإِنَّمَا هُوَ فِي مِلْكُ الْفَقِيرِ ، فَلَمْ يَضْمَنْهُ ، كَالصَّدَاقِ يَتْلَفُ فِي يَدِ الْمَرْأَةِ .
الْقِسْمُ الرَّابِعُ ، أَنْ يَتَغَيَّرَ حَالُهُمَا جَمِيعًا ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْقِسْمِ الَّذِي قَبْلَهُ سَوَاءٌ .

( 1756 ) فَصْلٌ : إذَا قَالَ رَبُّ الْمَالِ : قَدْ أَعْلَمْته أَنَّهَا زَكَاةٌ مُعَجَّلَةٌ ، فَلِي الرُّجُوعُ .
فَأَنْكَرَ الْآخِذُ .
فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْآخِذِ ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ وَالْأَصْلُ عَدَمُ الْإِعْلَامِ ، وَعَلَيْهِ الْيَمِينُ .
وَإِنْ مَاتَ الْآخِذُ ، وَاخْتَلَفَ الْمُخْرِجُ وَوَارِثُ الْآخِذِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَارِثِ ، وَيَحْلِفُ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّ مُوَرِّثَهُ أَعْلَمَ بِذَلِكَ .
فَأَمَّا مَنْ قَالَ بِعَدَمِ الِاسْتِرْجَاعِ ، فَلَا يَمِينَ وَلَا غَيْرَهَا .

( 1757 ) فَصْلٌ : إذَا تَسَلَّفَ الْإِمَامُ الزَّكَاةَ ، فَهَلَكَتْ فِي يَدِهِ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، وَكَانَتْ مِنْ ضَمَانِ الْفُقَرَاءِ .
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَسْأَلَهُ ذَلِكَ رَبُّ الْمَالِ أَوْ الْفُقَرَاءُ أَوْ لَمْ يَسْأَلْهُ أَحَدٌ ؛ لِأَنَّ يَدَهُ كَيَدِ الْفُقَرَاءِ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إنْ تَسَلَّفَهَا مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ ضَمِنَهَا ؛ لِأَنَّ الْفُقَرَاءَ رُشَّدٌ ، لَا يُوَلَّى عَلَيْهِمْ ، فَإِذَا قَبَضَ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ ضَمِنَ ، كَالْأَبِ إذَا قَبَضَ لِابْنِهِ الْكَبِيرِ .
وَإِنْ كَانَ بِسُؤَالِهِمْ كَانَ مِنْ ضَمَانِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلُهُمْ .
فَإِذَا كَانَ بِسُؤَالِ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ ، لَمْ يُجْزِئْهُمْ الدَّفْعُ ، وَكَانَ مِنْ ضَمَانِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلُهُمْ .
وَإِنْ كَانَ بِسُؤَالِهِمْ فَفِيهِ وَجْهَانِ ، أَصَحُّهُمَا ، أَنَّهُ مِنْ ضَمَانِ الْفُقَرَاءِ .
وَلَنَا ، أَنَّ لِلْإِمَامِ وِلَايَةً عَلَى الْفُقَرَاءِ ، بِدَلِيلِ جَوَازِ قَبْضِ الصَّدَقَةِ لَهُمْ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ سَلَفًا وَغَيْرِهِ ، فَإِذَا تَلِفَتْ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ ، لَمْ يَضْمَنْ ، كَوَلِيِّ الْيَتِيمِ إذَا قَبَضَ لَهُ .
وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِمَا إذَا قَبَضَ الصَّدَقَةَ بَعْدَ وُجُوبِهَا ، وَفَارَقَ الْأَبَ فِي حَقِّ وَلَدِهِ الْكَبِيرِ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْقَبْضُ لَهُ ؛ لِعَدَمِ وِلَايَتِهِ عَلَيْهِ ، وَلِهَذَا يَضْمَنُ مَا قَبَضَهُ لَهُ مِنْ الْحَقِّ بَعْدَ وُجُوبِهِ .

( 1758 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَلَا يَجُوزُ إخْرَاجُ الزَّكَاةِ إلَّا بِنِيَّةٍ ) .
إلَّا أَنْ يَأْخُذَهَا الْإِمَامُ مِنْهُ قَهْرًا .
مَذْهَبُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ النِّيَّةَ شَرْطٌ فِي أَدَاءِ الزَّكَاةِ ، إلَّا مَا حُكِيَ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ قَالَ : لَا تَجِبُ لَهَا النِّيَّةُ ، لِأَنَّهَا دَيْنٌ فَلَا تَجِبُ لَهَا النِّيَّةُ ، كَسَائِرِ الدُّيُونِ ، وَلِهَذَا يُخْرِجُهَا وَلِيُّ الْيَتِيمِ ، وَيَأْخُذُهَا السُّلْطَانُ مِنْ الْمُمْتَنِعِ .
وَلَنَا ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ } وَأَدَاؤُهَا عَمَلٌ ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَتَنَوَّعُ إلَى فَرْضٍ وَنَفْلٍ ، فَافْتَقَرَتْ إلَى النِّيَّةِ كَالصَّلَاةِ ، وَتُفَارِقُ قَضَاءَ الدَّيْنِ ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ ، وَلِهَذَا يَسْقُطُ بِإِسْقَاطِ مُسْتَحِقِّهِ ، وَوَلِيُّ الصَّبِيِّ وَالسُّلْطَانُ يَنُوبَانِ عِنْدَ الْحَاجَةِ .
فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ النِّيَّةَ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهَا زَكَاتُهُ ، أَوْ زَكَاةُ مَنْ يُخْرِجُ عَنْهُ .
كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ ، وَمَحَلُّهَا الْقَلْبُ ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ الِاعْتِقَادَاتِ كُلِّهَا الْقَلْبُ .
( 1759 ) فَصْلٌ : وَيَجُوزُ تَقْدِيمُ النِّيَّةِ عَلَى الْأَدَاءِ بِالزَّمَنِ الْيَسِيرِ ، كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِيهَا ، فَاعْتِبَارُ مُقَارَنَةِ النِّيَّةِ لِلْإِخْرَاجِ يُؤَدِّي إلَى التَّغْرِيرِ بِمَالِهِ ، فَإِنْ دَفَعَ الزَّكَاةَ إلَى وَكِيلِهِ ، وَنَوَى هُوَ دُونَ الْوَكِيلِ ، جَازَ إذَا لَمْ تَتَقَدَّمْ نِيَّتُهُ الدَّفْعَ بِزَمَنِ طَوِيلٍ .
وَإِنْ تَقَدَّمَتْ بِزَمَنٍ طَوِيلٍ لَمْ يَجُزْ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ نَوَى حَالَ الدَّفْعِ إلَى الْوَكِيلِ ، وَنَوَى الْوَكِيلُ عِنْدَ الدَّفْعِ إلَى الْمُسْتَحِقِّ ، وَلَوْ نَوَى الْوَكِيلُ وَلَمْ يَنْوِ الْمُوَكِّلُ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ يَتَعَلَّقُ بِهِ ، وَالْإِجْزَاءُ يَقَعُ عَنْهُ .
وَإِنْ دَفَعَهَا إلَى الْإِمَامِ نَاوِيًا وَلَمْ يَنْوِ الْإِمَامُ حَالَ دَفْعِهَا إلَى الْفُقَرَاءِ ، جَازَ ، وَإِنْ طَالَ ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلُ الْفُقَرَاءِ .
وَلَوْ تَصَدَّقَ الْإِنْسَانُ بِجَمِيعِ مَالِهِ

تَطَوُّعًا وَلَمْ يَنْوِ بِهِ الزَّكَاةَ ، لَمْ يُجْزِئْهُ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ : يُجْزِئُهُ اسْتِحْبَابًا وَلَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِ بِهِ الْفَرْضَ ، فَلَمْ يُجْزِئْهُ ، كَمَا لَوْ تَصَدَّقَ بِبَعْضِهِ ، وَكَمَا لَوْ صَلَّى مِائَةَ رَكْعَةٍ وَلَمْ يَنْوِ الْفَرْضَ بِهَا .
( 1760 ) فَصْلٌ : وَلَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ غَائِبٌ فَشَكَّ فِي سَلَامَتِهِ ، جَازَ لَهُ إخْرَاجُ الزَّكَاةِ عَنْهُ ، وَكَانَتْ نِيَّةُ الْإِخْرَاجِ صَحِيحَةً ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاؤُهُ .
فَإِنْ نَوَى إنْ كَانَ مَالِي سَالِمًا فَهَذِهِ زَكَاتُهُ ، وَإِنْ كَانَ تَالِفًا فَهِيَ تَطَوُّعٌ .
فَبَانَ سَالِمًا ، أَجْزَأَتْ نِيَّتُهُ ؛ لِأَنَّهُ أَخْلَصَ النِّيَّةَ لِلْفَرْضِ ، ثُمَّ رَتَّبَ عَلَيْهَا النَّفَلَ ، وَهَذَا حُكْمُهَا كَمَا لَوْ لَمْ يَقُلْهُ ، فَإِذَا قَالَهُ لَمْ يَضُرَّ .
وَلَوْ قَالَ : هَذَا زَكَاةُ مَالِي الْغَائِبِ أَوْ الْحَاضِرِ .
صَحَّ ؛ لِأَنَّ التَّعْيِينَ لَيْسَ بِشَرْطٍ ، بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ لَهُ أَرْبَعُونَ دِينَارًا إذَا أَخْرَجَ نِصْفَ دِينَارٍ عَنْهَا ، صَحَّ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يَقَعُ عَنْ عِشْرِينَ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ .
وَإِنْ قَالَ : هَذَا زَكَاةُ مَالِي الْغَائِبِ أَوْ تَطَوُّعٌ .
لَمْ يُجْزِئْهُ ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ لِأَنَّهُ لَمْ يُخْلِصْ النِّيَّةَ لِلْفَرْضِ .
أَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ : أُصَلِّي فَرْضًا أَوْ تَطَوُّعًا .
وَإِنْ قَالَ : هَذَا زَكَاةُ مَالِي الْغَائِبِ إنْ كَانَ سَالِمًا وَإِلَّا فَهُوَ زَكَاةُ مَالِي الْحَاضِرِ .
أَجْزَأَهُ عَنْ السَّالِمِ مِنْهُمَا .
وَإِنْ كَانَا سَالِمَيْنِ فَعَنْ أَحَدِهِمَا ، لِأَنَّ التَّعْيِينَ لَيْسَ بِشَرْطٍ .
وَإِنْ قَالَ : زَكَاةُ مَالِي الْغَائِبِ .
وَأَطْلَقَ ، فَبَانَ تَالِفًا ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَصْرِفَهُ إلَى زَكَاةِ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ عَيَّنَهُ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا عَنْ كَفَّارَةٍ عَيَّنَهَا فَلَمْ يَقَعْ عَنْهَا ، لَمْ يَكُنْ لَهُ صَرْفُهُ إلَى كَفَّارَةٍ أُخْرَى .
هَذَا التَّفْرِيعُ فِيمَا إذَا كَانَتْ الْمُعَيَّنَةَ مِمَّا لَا يَمْنَعُ إخْرَاجَ زَكَاتِهِ فِي بَلَدِ رَبِّ الْمَالِ ؛ إمَّا لِقُرْبِهِ ، أَوْ لِكَوْنِ الْبَلَدِ لَا

يُوجَدُ فِيهِ أَهْلُ السَّهْمَانِ ، أَوْ عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تَقُولُ بِإِخْرَاجِهَا فِي بَلَدٍ بَعِيدٍ مِنْ بَلَدِ الْمَالِ .
وَإِنْ كَانَ لَهُ مُوَرِّثٌ غَائِبٌ فَقَالَ : إنْ كَانَ مُوَرِّثِي قَدْ مَاتَ ، فَهَذِهِ زَكَاةُ مَالِهِ الَّذِي وَرِثْته مِنْهُ ، فَبَانَ مَيِّتًا ، لَمْ يُجْزِئْهُ مَا أَخْرَجَ ؛ لِأَنَّهُ يَبْنِي عَلَى غَيْرِ أَصْلٍ ، فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ لَيْلَةَ الشَّكِّ : إنْ كَانَ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ فَهُوَ فَرْضِي ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَهُوَ نَفْلٌ .

( 1761 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( إلَّا أَنْ يَأْخُذَهَا الْإِمَامُ مِنْهُ قَهْرًا ) .
مُقْتَضَى كَلَامِ الْخِرَقِيِّ ، أَنَّ الْإِنْسَانَ مَتَى دَفَعَ زَكَاتَهُ طَوْعًا لَمْ تُجْزِئْهُ إلَّا بِنِيَّةٍ ، سَوَاءٌ دَفَعَهَا إلَى الْإِمَامِ أَوْ غَيْرِهِ ، وَإِنْ أَخَذَهَا الْإِمَامُ مِنْهُ قَهْرًا ، أَجْزَأَتْ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ ؛ لِأَنَّ تَعَذُّرَ النِّيَّةِ فِي حَقِّهِ أَسْقَطَ وُجُوبَهَا عَنْهُ كَالصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ .
وَقَالَ الْقَاضِي : مَتَى أَخَذَهَا الْإِمَامُ أَجْزَأَتْ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ ، سَوَاءٌ أَخَذَهَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا .
وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ أَخْذَ الْإِمَامِ بِمَنْزِلَةِ الْقَسْمِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ ، فَلَمْ يَحْتَجْ إلَى نِيَّةٍ ، وَلِأَنَّ لِلْإِمَامِ وِلَايَةً فِي أَخْذِهَا ، وَلِذَلِكَ يَأْخُذُهَا مِنْ الْمُمْتَنِعِ اتِّفَاقًا وَلَوْ لَمْ يُجْزِئْهُ لَمَّا أَخَذَهَا ، أَوْ لَأَخَذَهَا ثَانِيًا وَثَالِثًا حَتَّى يَنْفَدَ مَالُهُ ؛ لِأَنَّ أَخْذَهَا إنْ كَانَ لِإِجْزَائِهَا فَلَا يَحْصُلُ الْإِجْزَاءُ بِدُونِ النِّيَّةِ ، وَإِنْ كَانَ لِوُجُوبِهَا فَالْوُجُوبِ بَاقٍ بَعْدَ أَخْذِهَا .
وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ وَابْنُ عَقِيلٍ : أَنَّهَا لَا تُجْزِئُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا بِنِيَّةِ رَبِّ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ إمَّا وَكِيلُهُ ، وَإِمَّا وَكِيلُ الْفُقَرَاءِ ، أَوْ وَكِيلُهُمَا مَعًا ، وَأَيَّ ذَلِكَ كَانَ فَلَا تُجْزِئُ نِيَّتُهُ عَنْ نِيَّةِ رَبِّ الْمَالِ ، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ تَجِبُ لَهَا النِّيَّةُ ، فَلَا تُجْزِئُ عَمَّنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ ، إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النِّيَّةِ كَالصَّلَاةِ ، وَإِنَّمَا أُخِذَتْ مِنْهُ مَعَ عَدَمِ الْإِجْزَاءِ حِرَاسَةً لِلْعِلْمِ الظَّاهِرِ كَالصَّلَاةِ يُجْبَرُ عَلَيْهَا لِيَأْتِيَ بِصُورَتِهَا ، وَلَوْ صَلَّى بِغَيْرِ نِيَّةٍ لَمْ يُجْزِئْهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : وَمَعْنَى قَوْلِ الْفُقَهَاءِ : يُجْزِئُ عَنْهُ .
أَيْ فِي الظَّاهِرِ ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُطَالَبُ بِأَدَائِهَا ثَانِيًا ، كَمَا قُلْنَا فِي الْإِسْلَامِ ، فَإِنَّ الْمُرْتَدَّ يُطَالَبُ بِالشَّهَادَةِ ، فَمَتَى أَتَى بِهَا حُكِمَ

بِإِسْلَامِهِ ظَاهِرًا ، وَمَتَى لَمْ يَكُنْ مُعْتَقِدًا صِحَّةَ مَا يَلْفِظُ بِهِ ، لَمْ يَصِحَّ إسْلَامُهُ بَاطِنًا .
قَالَ : وَقَوْلُ أَصْحَابِنَا : لَا تُقْبَلُ تَوْبَةُ الزِّنْدِيقِ .
مَعْنَاهُ : لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْقَتْلُ الَّذِي تَوَجَّهَ عَلَيْهِ ؛ لِعَدَمِ عِلْمِنَا بِحَقِيقَةِ تَوْبَتِهِ ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنَّهُ أَظْهَرَ إيمَانَهُ ، وَقَدْ كَانَ دَهْرَهُ يُظْهِرُ إيمَانَهُ ، وَيَسْتُرُ كُفْرَهُ ، فَأَمَّا عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنَّهَا تَصِحُّ إذَا عُلِمَ مِنْهُ حَقِيقَةُ الْإِنَابَةِ ، وَصِدْقُ التَّوْبَةِ ، وَاعْتِقَادُ الْحَقِّ وَمَنْ نَصَرَ قَوْلَ الْخِرَقِيِّ ، قَالَ : إنَّ لِلْإِمَامِ وِلَايَةً عَلَى الْمُمْتَنِعِ ، فَقَامَتْ نِيَّتُهُ مَقَامَ نِيَّتِهِ ، كَوَلِيِّ الْيَتِيمِ وَالْمَجْنُونِ ، وَفَارَقَ الصَّلَاةَ ؛ فَإِنَّ النِّيَابَةَ فِيهَا لَا تَصِحُّ ، فَلَا بُدَّ مِنْ نِيَّةِ فَاعِلِهَا .
وَقَوْلُهُ : لَا يَخْلُو مِنْ كَوْنِهِ وَكِيلًا لَهُ ، أَوْ وَكِيلًا لِلْفُقَرَاءِ ، أَوْ لَهُمَا .
قُلْنَا : بَلْ هُوَ وَالٍ عَلَى الْمَالِكِ ، وَأَمَّا إلْحَاقُ الزَّكَاةِ بِالْقِسْمَةِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ ، فَإِنَّ الْقِسْمَةَ لَيْسَتْ عِبَادَةً ، وَلَا يُعْتَبَرُ لَهَا نِيَّةٌ ، بِخِلَافِ الزَّكَاةِ .

( 1762 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَلِيَ تَفْرِقَةَ الزَّكَاةِ بِنَفْسِهِ ؛ لِيَكُونَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ وُصُولِهَا إلَى مُسْتَحِقِّهَا ، سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ أَوْ الْبَاطِنَةِ .
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : أَعْجَبُ إلَى أَنْ يُخْرِجَهَا ، وَإِنْ دَفَعَهَا إلَى السُّلْطَانِ .
فَهُوَ جَائِزٌ .
وَقَالَ الْحَسَنُ وَمَكْحُولٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ يَضَعُهَا رَبُّ الْمَالِ فِي مَوْضِعِهَا .
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ احْلِفْ لَهُمْ ، وَأَكْذِبْهُمْ ، وَلَا تُعْطِهِمْ شَيْئًا ، إذَا لَمْ يَضَعُوهَا مَوَاضِعَهَا ، وَقَالَ لَا تُعْطِهِمْ : وَقَالَ عَطَاءٌ : أَعْطِهِمْ .
إذَا وَضَعُوهَا مَوَاضِعَهَا .
فَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ لَا يُعْطِيهِمْ إذَا لَمْ يَكُونُوا كَذَلِكَ .
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ إذَا رَأَيْت الْوُلَاةَ لَا يَعْدِلُونَ ، فَضَعْهَا فِي أَهْلِ الْحَاجَةِ مِنْ أَهْلِهَا : وَقَالَ إبْرَاهِيمُ ضَعُوهَا فِي مَوَاضِعِهَا ، وَإِنْ أَخَذَهَا السُّلْطَانُ أَجْزَأَك .
وَقَالَ سَعِيدٌ : أَنْبَأَنَا أَبُو عَوَانَةَ ، عَنْ مُهَاجِرٍ أَبِي الْحَسَنِ قَالَ : أَتَيْت أَبَا وَائِلٍ وَأَبَا بُرْدَةَ بِالزَّكَاةِ وَهُمَا عَلَى بَيْتِ الْمَالِ ، فَأَخَذَاهَا ، ثُمَّ جِئْت مَرَّةً أُخْرَى ، فَرَأَيْت أَبَا وَائِلٍ وَحْدَهُ .
فَقَالَ لِي : رُدَّهَا فَضَعْهَا مَوَاضِعَهَا .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ : أَمَّا صَدَقَةُ الْأَرْضِ فَيُعْجِبُنِي دَفْعُهَا إلَى السُّلْطَانِ .
وَأَمَّا زَكَاةُ الْأَمْوَالِ كَالْمَوَاشِي ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يَضَعَهَا فِي الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ .
فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ اسْتَحَبَّ دَفْعَ الْعُشْرِ خَاصَّةً إلَى الْأَئِمَّةِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعُشْرَ قَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أَنَّهُ مَئُونَةُ الْأَرْضِ ، فَهُوَ كَالْخَرَاجِ يَتَوَلَّاهُ الْأَئِمَّةُ ، بِخِلَافِ سَائِرِ الزَّكَاةِ .
وَاَلَّذِي رَأَيْت فِي " الْجَامِعِ " قَالَ : أَمَّا صَدَقَةُ الْفِطْرِ ، فَيُعْجِبُنِي دَفْعُهَا إلَى السُّلْطَانِ .
ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ قِيلَ لِابْنِ عُمَرَ إنَّهُمْ يُقَلِّدُونَ بِهَا الْكِلَابَ ، وَيَشْرَبُونَ بِهَا الْخُمُورَ ؟ ، قَالَ : ادْفَعْهَا إلَيْهِمْ .

وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى وَأَبُو الْخَطَّابِ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَى الْإِمَامِ الْعَادِلِ أَفْضَلُ .
وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ .
وَمِمَّنْ قَالَ : يَدْفَعُهَا إلَى الْإِمَامِ ؛ الشَّعْبِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ وَأَبُو رَزِينٍ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ أَعْلَمُ بِمَصَارِفِهَا ، وَدَفْعُهَا إلَيْهِ يُبَرِّئُهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا ، وَدَفْعُهَا إلَى الْفَقِيرِ لَا يُبَرِّئُهُ بَاطِنًا ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُسْتَحِقٍّ لَهَا ، وَلِأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ الْخِلَافِ ، وَتَزُولُ عَنْهُ التُّهْمَةُ .
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَدْفَعُ زَكَاتَهُ إلَى مِنْ جَاءَهُ مِنْ سُعَاةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ ، أَوْ نَجْدَةَ الْحَرُورِيِّ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ ، قَالَ : أَتَيْت سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ فَقُلْت : عِنْدِي مَالٌ ، وَأُرِيدُ أَنْ أُخْرِجَ زَكَاتَهُ ، وَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ عَلَى مَا تَرَى ، فَمَا تَأْمُرُنِي ؟ قَالَ : ادْفَعْهَا إلَيْهِمْ .
فَأَتَيْت ابْنَ عُمَرَ ، فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ ، فَأَتَيْت أَبَا هُرَيْرَةَ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ ، فَأَتَيْت أَبَا سَعِيدٍ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ .
وَيُرْوَى نَحْوُهُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا .
وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو عُبَيْدٍ : لَا يُفَرِّقُ الْأَمْوَالَ الظَّاهِرَةَ إلَّا الْإِمَامُ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } .
وَلِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ ، طَالَبَهُمْ بِالزَّكَاةِ ، وَقَاتَلَهُمْ عَلَيْهَا ، وَقَالَ : لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهَا .
وَوَافَقَهُ الصَّحَابَةُ عَلَى هَذَا ، وَلِأَنَّ مَا لِلْإِمَامِ قَبْضُهُ بِحُكْمِ الْوِلَايَةِ ، لَا يَجُوزُ دَفْعُهُ إلَى الْمُوَلَّى عَلَيْهِ ، كَوَلِيِّ الْيَتِيمِ .
وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ كَالْمَذْهَبَيْنِ .
وَلَنَا ، عَلَى جَوَازِ دَفْعِهَا بِنَفْسِهِ أَنَّهُ دَفَعَ الْحَقَّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ الْجَائِزِ تَصَرُّفُهُ .
فَأَجْزَأهُ ، كَمَا لَوْ دَفَعَ الدَّيْنَ إلَى غَرِيمِهِ ، وَكَزَكَاةِ الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ ، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ

نَوْعَيْ الزَّكَاةِ ، فَأَشْبَهَ النَّوْعَ الْآخَرَ ، وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْإِمَامِ أَخْذَهَا .
وَلَا خِلَافَ فِيهِ ، وَمُطَالَبَةُ أَبِي بَكْرٍ لَهُمْ بِهَا ، لِكَوْنِهِمْ لَمْ يُؤَدُّوهَا إلَى أَهْلِهَا ، وَلَوْ أَدَّوْهَا إلَى أَهْلِهَا لَمْ يُقَاتِلْهُمْ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُخْتَلَفٌ فِي إجْزَائِهِ ، فَلَا تَجُوزُ الْمُقَاتَلَةُ مِنْ أَجْلِهِ ، وَإِنَّمَا يُطَالِبُ الْإِمَامُ بِحُكْمِ الْوِلَايَةِ وَالنِّيَابَةِ عَنْ مُسْتَحِقِّيهَا ، فَإِذَا دَفَعَهَا إلَيْهِمْ جَازَ ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ رُشْدٍ ، فَجَازَ الدَّفْعُ إلَيْهِمْ ، بِخِلَافِ الْيَتِيمِ .
وَأَمَّا وَجْهُ فَضِيلَةِ دَفْعِهَا بِنَفْسِهِ ، فَلِأَنَّهُ إيصَالُ الْحَقِّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ ، مَعَ تَوْفِيرِ أَجْرِ الْعِمَالَةِ ، وَصِيَانَةِ حَقِّهِمْ ، عَنْ خَطَرِ الْخِيَانَةِ ، وَمُبَاشَرَةِ تَفْرِيجِ كُرْبَةِ مُسْتَحِقِّهَا ، وَإِغْنَائِهِ بِهَا ، مَعَ إعْطَائِهَا لِلْأَوْلَى بِهَا ؛ مِنْ مَحَاوِيجِ أَقَارِبِهِ ، وَذَوِي رَحِمِهِ ، وَصِلَةِ رَحِمِهِ بِهَا ، فَكَانَ أَفْضَلَ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ آخِذُهَا مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَالْكَلَامُ فِي الْإِمَامِ الْعَادِلِ ، إذْ الْخِيَانَةُ مَأْمُونَةٌ فِي حَقِّهِ .
قُلْنَا : الْإِمَامُ لَا يَتَوَلَّى ذَلِكَ بِنَفْسِهِ ، وَإِنَّمَا يُفَوِّضُهُ إلَى نُوَّابِهِ ، فَلَا تُؤْمَنُ مِنْهُمْ الْخِيَانَةُ ، ثُمَّ رُبَّمَا لَا يَصِلُ إلَى الْمُسْتَحِقِّ الَّذِي قَدْ عَلِمَهُ الْمَالِكُ مِنْ أَهْلِهِ وَجِيرَانِهِ شَيْءٌ مِنْهَا ، وَهُمْ أَحَقُّ النَّاسِ بِصِلَتِهِ وَصَدَقَتِهِ وَمُوَاسَاتِهِ .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّ أَخْذَ الْإِمَامِ يُبَرِّئُهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا .
قُلْنَا : يَبْطُلُ هَذَا بِدَفْعِهَا إلَى غَيْرِ الْعَادِلِ ؛ فَإِنَّهُ يُبَرِّئُهُ أَيْضًا ، وَقَدْ سَلَّمُوا أَنَّهُ لَيْسَ بِأَفْضَلَ ، ثُمَّ إنَّ الْبَرَاءَةَ الظَّاهِرَةَ تَكْفِي .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّهُ تَزُولُ بِهِ التُّهْمَةُ .
قُلْنَا : مَتَى أَظْهَرَهَا زَالَتْ التُّهْمَةُ ، سَوَاءٌ أَخْرَجَهَا بِنَفْسِهِ ، أَوْ دَفَعَهَا إلَى الْإِمَامِ ، وَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ أَنَّ دَفْعَهَا إلَى الْإِمَامِ ، سَوَاءٌ كَانَ عَادِلًا أَوْ غَيْرَ عَادِلٍ ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ

مِنْ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ أَوْ الْبَاطِنَةِ ، وَيَبْرَأُ بِدَفْعِهَا سَوَاءٌ تَلِفَتْ فِي يَدِ الْإِمَامِ أَوْ لَمْ تَتْلَفْ ، أَوْ صَرَفَهَا فِي مَصَارِفِهَا أَوْ لَمْ يَصْرِفْهَا ؛ لِمَا ذَكَرْنَا عَنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَلِأَنَّ الْإِمَامَ نَائِبٌ عَنْهُمْ شَرْعًا فَبَرِئَ بِدَفْعِهَا إلَيْهِ ، كَوَلِيِّ الْيَتِيمِ إذَا قَبَضَهَا لَهُ ، وَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ أَيْضًا فِي أَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ يَجُوزُ أَنْ يُفَرِّقَهَا بِنَفْسِهِ .

( 1763 ) فَصْلٌ : إذَا أَخَذَ الْخَوَارِجُ وَالْبُغَاةُ الزَّكَاةَ ، أَجْزَأَتْ عَنْ صَاحِبِهَا .
وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ ، فِي الْخَوَارِجِ ، أَنَّهُ يُجْزِئُ .
وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ أَخَذَهَا مِنْ السَّلَاطِينِ ، أَجْزَأَتْ عَنْ صَاحِبِهَا ، سَوَاءٌ عَدَلَ فِيهَا أَوْ جَارَ ، وَسَوَاءٌ أَخَذَهَا قَهْرًا أَوْ دَفَعَهَا إلَيْهِ اخْتِيَارًا .
قَالَ أَبُو صَالِحٍ : سَأَلْت سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ وَابْنَ عُمَرَ وَجَابِرًا وَأَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَبَا هُرَيْرَةَ فَقُلْت : هَذَا السُّلْطَانُ يَصْنَعُ مَا تَرَوْنَ ، أَفَأَدْفَعُ إلَيْهِمْ زَكَاتِي ؟ فَقَالُوا كُلُّهُمْ : نَعَمْ وَقَالَ إبْرَاهِيمُ يُجْزِئُ عَنْك مَا أَخَذَ مِنْك الْعَشَّارُونَ .
وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ أَنَّهُ دَفَعَ صَدَقَتَهُ إلَى نَجْدَةَ .
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مُصَدِّقِ ابْنِ الزُّبَيْرِ ، وَمُصَدِّقِ نَجْدَةَ ، فَقَالَ : إلَى أَيِّهِمَا دَفَعْت أَجْزَأَ عَنْك .
وَبِهَذَا قَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ فِيمَا غُلِبُوا عَلَيْهِ .
وَقَالُوا : إذَا مَرَّ عَلَى الْخَوَارِجِ فَعَشَّرُوهُ ، لَا يُجْزِئُ عَنْ زَكَاتِهِ .
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي الْخَوَارِجِ يَأْخُذُونَ الزَّكَاةَ : عَلَى مَنْ أَخَذُوا مِنْهُ الْإِعَادَةَ ؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِأَئِمَّةٍ ، فَأَشْبَهُوا قُطَّاعَ الطَّرِيقِ .
وَلَنَا ، قَوْلُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ فِي عَصْرِهِمْ عَلِمْنَاهُ ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا وَلِأَنَّهُ دَفَعَهَا إلَى أَهْلِ الْوِلَايَةِ ، فَأَشْبَهَ دَفْعَهَا إلَى أَهْلِ الْبَغْيِ .

( 1764 ) فَصْلٌ : وَإِذَا دَفَعَ الزَّكَاةَ اُسْتُحِبَّ أَنْ يَقُولَ : اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا مَغْنَمًا وَلَا تَجْعَلْهَا مَغْرَمًا ، وَيَحْمَدُ اللَّهَ عَلَى التَّوْفِيقِ لِأَدَائِهَا .
فَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : إذَا أَعْطَيْتُمْ الزَّكَاةَ فَلَا تَنْسَوْا ثَوَابَهَا أَنْ تَقُولُوا : اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا مَغْنَمًا ، وَلَا تَجْعَلْهَا مَغْرَمًا } .
أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ .
وَيُسْتَحَبُّ لِلْآخِذِ أَنْ يَدْعُوَ لِصَاحِبِهَا فَيَقُولَ آجَرَك اللَّهُ فِيمَا أَعْطَيْت ، وَبَارَكَ لَك فِيمَا أَنْقَقْت ، وَجَعَلَهُ لَك طَهُورًا .
وَإِنْ كَانَ الدَّفْعُ إلَى السَّاعِي ، أَوْ الْإِمَامِ شَكَرَهُ وَدَعَا لَهُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إنَّ صَلَاتَك سَكَنٌ لَهُمْ } .
{ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى : كَانَ أَبِي مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَتَاهُ قَوْمٌ بِصَدَقَتِهِمْ ، قَالَ : اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ فُلَانٍ .
فَأَتَاهُ أَبِي بِصَدَقَتِهِ ، فَقَالَ : اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَالصَّلَاةُ هَاهُنَا الدُّعَاءُ وَالتَّبْرِيكُ وَلَيْسَ هَذَا بِوَاجِبٍ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ بَعَثَ مُعَاذًا إلَى الْيَمَنِ ، قَالَ : { أَعْلِمْهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ ، فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ .
} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
فَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالدُّعَاءِ .
وَلِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَجِبُ عَلَى الْفَقِيرِ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ ، فَالنَّائِبُ أَوْلَى .

( 1765 ) فَصْلٌ : وَيَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَى الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ ، سَوَاءٌ أَكَلَ الطَّعَامَ أَوْ لَمْ يَأْكُلْ .
قَالَ أَحْمَدُ يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ زَكَاتَهُ فِي أَجْرِ رَضَاعِ لَقِيطِ غَيْرِهِ ، هُوَ فَقِيرٌ مِنْ الْفُقَرَاءِ .
وَعَنْهُ : لَا يَجُوزُ دَفْعُهَا إلَّا إلَى مَنْ أَكَلَ الطَّعَامَ .
قَالَ الْمَرُّوذِيُّ : كَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ لَا يَرَى أَنْ يُعْطَى الصَّغِيرُ مِنْ الزَّكَاةِ ، إلَّا أَنْ يَطْعَمَ الطَّعَامَ .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّهُ فَقِيرٌ ، فَجَازَ الدَّفْعُ إلَيْهِ ، كَاَلَّذِي طَعِمَ ، وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الزَّكَاةِ لِأَجْرِ رَضَاعِهِ وَكِسْوَتِهِ وَسَائِرِ حَوَائِجِهِ ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ النُّصُوصِ ، وَيَدْفَعُ الزَّكَاةَ إلَى وَلِيِّهِ ؛ لِأَنَّهُ يَقْبِضُ حُقُوقَهُ ، وَهَذَا مِنْ حُقُوقِهِ .
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ دَفَعَهَا إلَى مَنْ يُعْنَى بِأَمْرِهِ ، وَيَقُومُ بِهِ مِنْ أُمِّهِ أَوْ غَيْرِهَا .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَكَذَلِكَ الْمَجْنُونُ ، قَالَ هَارُونُ الْحَمَّالُ : قُلْت لِأَحْمَدَ فَكَيْفَ يُصْنَعُ بِالصِّغَارِ ؟ قَالَ : يُعْطَى أَوْلِيَاؤُهُمْ .
فَقُلْت : لَيْسَ لَهُمْ وَلِيٌّ ، قَالَ : فَيُعْطَى مَنْ يُعْنَى بِأَمْرِهِمْ مِنْ الْكِبَارِ فَرَخَّصَ فِي ذَلِكَ .
وَقَالَ مُهَنَّا : سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُعْطَى مِنْ الزَّكَاةِ الْمَجْنُونُ ، وَالذَّاهِبُ عَقْلُهُ ؟ قَالَ : نَعَمْ .
قُلْت : مَنْ يَقْبِضُهَا لَهُ ؟ قَالَ : وَلِيُّهُ .
قُلْت : لَيْسَ لَهُ وَلِيٌّ ؟ قَالَ الَّذِي يَقُومُ عَلَيْهِ .
وَإِنْ دَفَعَهَا إلَى الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ ، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ .
قَالَ الْمَرُّوذِيُّ قُلْت لِأَحْمَدَ يُعْطَى غُلَامٌ يَتِيمٌ مِنْ الزَّكَاةِ ؟ قَالَ : نَعَمْ .
قُلْت : فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يُضَيِّعَهُ .
قَالَ : يَدْفَعُهُ إلَى مَنْ يَقُومُ بِأَمْرِهِ .
وَقَدْ رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ ، قَالَ : { بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِينَا سَاعِيًا ، فَأَخَذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِنَا فَرَدَّهَا فِي فُقَرَائِنَا ، } وَكُنْت غُلَامًا يَتِيمًا لَا مَالَ لِي ، فَأَعْطَانِي قَلُوصًا .

( 1766 ) فَصْلٌ : وَإِذَا دَفَعَ الزَّكَاةَ إلَى مَنْ يَظُنُّهُ فَقِيرًا ، لَمْ يَحْتَجْ إلَى إعْلَامِهِ أَنَّهَا زَكَاةٌ .
قَالَ الْحَسَنُ أَتُرِيدُ أَنْ تُقْرِعَهُ ، لَا تُخْبِرْهُ ؟ وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ : قُلْت لِأَحْمَدَ : يَدْفَعُ الرَّجُلُ الزَّكَاةَ إلَى الرَّجُلِ ، فَيَقُولُ : هَذَا مِنْ الزَّكَاةِ .
أَوْ يَسْكُتُ ؟ قَالَ : وَلِمَ يُبَكِّتْهُ بِهَذَا الْقَوْلِ ؟ يُعْطِيه وَيَسْكُتُ ، وَمَا حَاجَتُهُ إلَى أَنْ يُقْرِعَهُ ؟ .

( 1767 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَلَا يُعْطَى مِنْ الصَّدَقَةِ الْمَفْرُوضَةِ لِلْوَالِدَيْنِ ، وَإِنْ عَلَوْا ، وَلَا لِلْوَلَدِ ، وَإِنْ سَفَلَ ) قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الزَّكَاةَ لَا يَجُوزُ دَفْعُهَا إلَى الْوَالِدَيْنِ ، فِي الْحَالِ الَّتِي يُجْبَرُ الدَّافِعُ إلَيْهِمْ عَلَى النَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ ، وَلِأَنَّ دَفْعَ زَكَاتِهِ إلَيْهِمْ تُغْنِيهِمْ عَنْ نَفَقَتِهِ ، وَتُسْقِطُهَا عَنْهُ ، وَيَعُودُ نَفْعُهَا إلَيْهِ ، فَكَأَنَّهُ دَفَعَهَا إلَى نَفْسِهِ ، فَلَمْ تَجُزْ ، كَمَا لَوْ قَضَى بِهَا دَيْنَهُ ، وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ " لِلْوَالِدَيْنِ " يَعْنِي الْأَبَ وَالْأُمَّ .
وَقَوْلُهُ : " وَإِنْ عَلَوْا " يَعْنِي آبَاءَهُمَا وَأُمَّهَاتِهِمَا ، وَإِنْ ارْتَفَعَتْ دَرَجَتُهُمْ مِنْ الدَّافِعِ ، كَأَبَوَيْ الْأَبِ ، وَأَبَوَيْ الْأُمِّ ، وَأَبَوَيْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ، وَإِنْ عَلَتْ دَرَجَتُهُمْ ، مَنْ يَرِثُ مِنْهُمْ وَمَنْ لَا يَرِثُ .
وَقَوْلُهُ : " وَالْوَلَدُ وَإِنْ سَفَلَ " يَعْنِي وَإِنْ نَزَلَتْ دَرَجَتُهُ مِنْ أَوْلَادِهِ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ ، الْوَارِثِ وَغَيْرِ الْوَارِثِ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فَقَالَ : لَا يُعْطِي الْوَالِدَيْنِ مِنْ الزَّكَاةِ ، وَلَا الْوَلَدَ وَلَا وَلَدَ الْوَلَدِ ، وَلَا الْجَدَّ وَلَا الْجَدَّةَ وَلَا وَلَدَ الْبِنْتِ ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ } يَعْنِي الْحَسَنَ ، فَجَعَلَهُ ابْنَهُ وَلِأَنَّهُ مِنْ عَمُودَيْ نَسَبِهِ ، فَأَشْبَهَ الْوَارِثَ ، وَلِأَنَّ بَيْنَهُمَا قَرَابَةً جُزْئِيَّةً وَبَعْضِيَّةً ، بِخِلَافِ غَيْرِهَا .

( 1768 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا سَائِرُ الْأَقَارِبِ ، فَمَنْ لَا يُوَرَّثُ مِنْهُمْ يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَيْهِ ، سَوَاءٌ كَانَ انْتِفَاءُ الْإِرْثِ لِانْتِفَاءِ سَبَبِهِ ، لِكَوْنِهِ بَعِيدَ الْقَرَابَةِ مِمَّنْ لَمْ يُسَمِّ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ مِيرَاثًا ، أَوْ كَانَ لِمَانِعٍ ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ مَحْجُوبًا عَنْ الْمِيرَاثِ ، كَالْأَخِ الْمَحْجُوبِ بِالِابْنِ أَوْ الْأَبِ ، وَالْعَمِّ الْمَحْجُوبِ بِالْأَخِ وَابْنِهِ وَإِنْ نَزَلَ ، فَيَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ ؛ إلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا قَرَابَةَ جُزْئِيَّةً بَيْنِهِمَا وَلَا مِيرَاثَ ، فَأَشْبَهَا الْأَجَانِبَ .
وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا مِيرَاثٌ كَالْأَخَوَيْنِ اللَّذَيْنِ يَرِثُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْآخَرَ ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ ؛ إحْدَاهُمَا : يَجُوزُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَفْعُ زَكَاتِهِ إلَى الْآخَرِ ، وَهِيَ الظَّاهِرَةُ عَنْهُ ، رَوَاهَا عَنْهُ الْجَمَاعَةُ ، قَالَ فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ ، وَإِسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ ، وَقَدْ سَأَلَهُ : يُعْطِي الْأَخَ وَالْأُخْتَ وَالْخَالَةَ مِنْ الزَّكَاةِ ؟ قَالَ : يُعْطِي كُلَّ الْقَرَابَةِ إلَّا الْأَبَوَيْنِ وَالْوَلَدَ .
وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ هُوَ الْقَوْلُ عِنْدِي ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ ، وَهِيَ لِذِي الرَّحِمِ اثْنَانِ ؛ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ } فَلَمْ يَشْتَرِطْ نَافِلَةً وَلَا فَرِيضَةً ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْوَارِثِ وَغَيْرِهِ .
وَلِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَمُودَيْ نَسَبِهِ ، فَأَشْبَهَ الْأَجْنَبِيَّ .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ ، لَا يَجُوزُ دَفْعُهَا إلَى الْمَوْرُوثِ .
وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ لِقَوْلِهِ : وَلَا لِمَنْ تَلْزَمُهُ مُؤْنَتُهُ " وَعَلَى الْوَارِثِ مُؤْنَةُ الْمَوْرُوثِ ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ مُؤْنَتُهُ ، فَيُغْنِيه بِزَكَاتِهِ عَنْ مُؤْنَتِهِ ، وَيَعُودُ نَفْعُ زَكَاتِهِ إلَيْهِ ، فَلَمْ يَجُزْ ، كَدَفْعِهَا إلَى وَالِدِهِ ، أَوْ قَضَاءِ دَيْنِهِ بِهَا .
وَالْحَدِيثُ يَحْتَمِلُ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ ، فَيُحْمَلُ عَلَيْهَا .
فَعَلَى هَذَا

إنْ كَانَ أَحَدُهُمَا يَرِثُ الْآخَرَ ، وَلَا يَرِثُهُ الْآخَرُ ، كَالْعَمَّةِ مَعَ ابْنِ أَخِيهَا ، وَالْعَتِيقِ مَعَ مُعْتِقِهِ ، فَعَلَى الْوَارِثِ مِنْهُمَا نَفَقَةُ مُوَرِّثِهِ ، وَلَيْسَ لَهُ دَفْعُ زَكَاتِهِ إلَيْهِ ، وَلَيْسَ عَلَى الْمَوْرُوثِ مِنْهُمَا نَفَقَةُ وَارِثِهِ ، وَلَا يُمْنَعُ مِنْ دَفْعِ زَكَاتِهِ إلَيْهِ ، لِانْتِفَاءِ الْمُقْتَضِي لِلْمَنْعِ .
وَلَوْ كَانَ الْأَخَوَانِ لَأَحَدِهِمَا ابْنٌ ، وَالْآخَرِ لَا وَلَدَ لَهُ ، فَعَلَى أَبِي الِابْنِ نَفَقَةُ أَخِيهِ ، وَلَيْسَ لَهُ دَفْعُ زَكَاتِهِ إلَيْهِ ، وَلِلَّذِي لَا وَلَدَ لَهُ ، لَهُ دَفْعُ زَكَاتِهِ إلَى أَخِيهِ ، وَلَا يَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ مَحْجُوبٌ عَنْ مِيرَاثِهِ .
وَنَحْوُ هَذَا قَوْلُ الثَّوْرِيِّ فَأَمَّا ذَوُو الْأَرْحَامِ فِي الْحَالِ الَّتِي يَرِثُونَ فِيهَا ، فَيَجُوزُ دَفْعُهَا إلَيْهِمْ ، فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ ؛ لِأَنَّ قَرَابَتَهُمْ ضَعِيفَةٌ ، لَا يَرِثُ بِهَا مَعَ عَصَبَةٍ ، وَلَا ذِي فَرْضٍ ، غَيْرَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ ، فَلَمْ تَمْنَعْ دَفْعَ الزَّكَاةِ كَقَرَابَةِ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ ، فَإِنَّ مَالَهُ يَصِيرُ إلَيْهِمْ ، إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ .

( 1769 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَلَا لِلزَّوْجِ ، وَلَا لِلزَّوْجَةِ ) أَمَّا الزَّوْجَةُ فَلَا يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَيْهَا إجْمَاعًا .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ لَا يُعْطِي زَوْجَتَهُ مِنْ الزَّكَاةِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ نَفَقَتَهَا وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ ، فَتَسْتَغْنِي بِهَا عَنْ أَخْذِ الزَّكَاةِ ، فَلَمْ يَجُزْ دَفْعُهَا إلَيْهَا ، كَمَا لَوْ دَفَعَهَا إلَيْهَا عَلَى سَبِيلِ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا .
وَأَمَّا الزَّوْجُ ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا ، لَا يَجُوزُ دَفْعُهَا إلَيْهِ .
وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ ، فَلَمْ يَجُزْ لِلْآخَرِ دَفْعُ زَكَاتِهِ إلَيْهِ كَالْآخَرِ ، وَلِأَنَّهَا تَنْتَفِعُ بِدَفْعِهَا إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا ، تَمَكَّنَ بِأَخْذِ الزَّكَاةِ مِنْ الْإِنْفَاقِ ، فَيَلْزَمُهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَاجِزًا ، وَلَكِنَّهُ أَيْسَرِ بِهَا ، لَزِمَتْهُ نَفَقَةُ الْمُوسِرِينَ ، فَتَنْتَفِعُ بِهَا فِي الْحَالَيْنِ ، فَلَمْ يَجُزْ لَهَا ذَلِكَ ، كَمَا لَوْ دَفَعَتْهَا فِي أُجْرَةِ دَارٍ ، أَوْ نَفَقَةِ رَقِيقِهَا أَوْ بَهَائِمِهَا .
فَإِنْ قِيلَ : فَيُلْزَمُ عَلَى هَذَا الْغَرِيمَ ؛ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ دَفْعُ زَكَاتِهِ إلَى غَرِيمِهِ ، وَيُلْزَمُ الْآخِذَ بِذَلِكَ وَفَاءُ دَيْنِهِ ؛ فَيَنْتَفِعُ الدَّافِعُ بِدَفْعِهَا إلَيْهِ .
قُلْنَا : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا ، أَنَّ حَقَّ الزَّوْجَةِ فِي النَّفَقَةِ آكَدُ مِنْ حَقِّ الْغَرِيمِ ، بِدَلِيلِ أَنَّ نَفَقَةَ الْمَرْأَةِ مُقَدَّمَةٌ فِي مَالِ الْمُفْلِسِ عَلَى أَدَاءِ دَيْنِهِ ، وَأَنَّهَا تَمْلِكُ أَخْذَهَا مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ ، إذَا امْتَنَعَ مِنْ أَدَائِهَا ، وَالثَّانِي أَنَّ الْمَرْأَةَ تَنْبَسِطُ فِي مَالِ زَوْجِهَا بِحُكْمِ الْعَادَةِ ، وَيُعَدُّ مَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَالًا لِلْآخَرِ ، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي عَبْدٍ سَرَقَ مِرْآةَ امْرَأَةِ سَيِّدِهِ : عَبْدُكُمْ سَرَقَ مَالَكُمْ .
وَلَمْ يَقْطَعْهُ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَكَذَلِكَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ كُلِّ وَاحِدٍ

مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ ، بِخِلَافِ الْغَرِيمِ مَعَ غَرِيمِهِ .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ ، يَجُوزُ لَهَا دَفْعُ زَكَاتِهَا إلَى زَوْجِهَا .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ؛ { لِأَنَّ زَيْنَبَ امْرَأَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَتْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ ، إنَّك أَمَرْت الْيَوْمَ بِالصَّدَقَةِ ، وَكَانَ عِنْدِي حُلِيٌّ لِي ، فَأَرَدْت أَنَّ أَتَصَدَّقْ بِهِ ، فَزَعَمَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهُ هُوَ وَوَلَدَهُ أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْت عَلَيْهِمْ .
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَقَ ابْنُ مَسْعُودٍ ، زَوْجُك وَوَلَدُك أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْت بِهِ عَلَيْهِمْ .
} رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَرُوِيَ { أَنَّ امْرَأَةَ عَبْدِ اللَّهِ سَأَلْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَنِي أَخٍ لَهَا أَيْتَامٍ فِي حِجْرِهَا ، أَفَتُعْطِيهِمْ زَكَاتَهَا ؟ قَالَ : نَعَمْ } وَرَوَى الْجُوزَجَانِيُّ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ : { أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةٌ ، فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنَّ عَلَيَّ نَذْرًا أَنْ أَتَصَدَّقَ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا ، وَإِنَّ لِي زَوْجًا فَقِيرًا ، أَفَيُجْزِئُ عَنِّي أَنْ أُعْطِيَهُ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، لَك كِفْلَانِ مِنْ الْأَجْرِ .
} وَلِأَنَّهُ لَا تَجِبُ نَفَقَتُهُ ، فَلَا يُمْنَعُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَيْهِ ، كَالْأَجْنَبِيِّ ، وَيُفَارِقُ الزَّوْجَةَ ، فَإِنَّ نَفَقَتَهَا وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ جَوَازُ الدَّفْعِ لِدُخُولِ الزَّوْجِ فِي عُمُومِ الْأَصْنَافِ الْمُسَمَّيْنَ فِي الزَّكَاةِ ، وَلَيْسَ فِي الْمَنْعِ نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ .
وَقِيَاسُهُ عَلَى مِنْ ثَبَتَ الْمَنْعُ فِي حَقِّهِ غَيْرُ صَحِيحٍ ؛ لِوُضُوحِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا ، فَيَبْقَى جَوَازُ الدَّفْعِ ثَابِتًا ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَذَا أَقْوَى مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِالنُّصُوصِ ، لِضَعْفِ دَلَالَتِهَا ؛ فَإِنَّ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ ، لِقَوْلِهَا : أَرَدْت أَنْ أَتَصَدَّقَ بِحُلِيٍّ لِي .
وَلَا تَجِبُ الصَّدَقَةُ بِالْحِلِّي ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { زَوْجُك وَوَلَدُك أَحَقُّ

مَنْ تَصَدَّقْت بِهِ عَلَيْهِمْ .
} وَالْوَلَدُ لَا تُدْفَعُ إلَيْهِ الزَّكَاةُ .
وَالْحَدِيثُ الثَّانِي ، لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الزَّوْجِ ، وَذِكْرُ الزَّكَاةِ فِيهِ غَيْرُ مَحْفُوظٍ .
قَالَ أَحْمَدُ مَنْ ذَكَرَ الزَّكَاةَ فَهُوَ عِنْدِي غَيْرُ مَحْفُوظٍ ، إنَّمَا ذَاكَ صَدَقَةٌ مِنْ غَيْرِ الزَّكَاةِ ، كَذَا قَالَ الْأَعْمَشُ فَأَمَّا الْحَدِيثُ الْآخَرُ فَهُوَ مُرْسَلٌ ، وَهُوَ فِي النَّذْرِ .

( 1770 ) فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَ فِي عَائِلَتِهِ مِنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ كَيَتِيمِ أَجْنَبِيٍّ ، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ دَفْعُ زَكَاتِهِ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِدَفْعِهَا إلَيْهِ ، لِإِغْنَائِهِ بِهَا عَنْ مُؤْنَتِهِ .
وَالصَّحِيحُ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ ، جَوَازُ دَفْعِهَا إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي أَصْنَافِ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلزَّكَاةِ ، وَلَمْ يَرِدْ فِي مَنْعِهِ نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ وَلَا قِيَاسٌ صَحِيحٌ ، فَلَا يَجُوزُ إخْرَاجُهُ مِنْ عُمُومِ النَّصِّ بِغَيْرِ دَلِيلٍ ، وَإِنْ تَوَهَّمَ أَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِدَفْعِهَا إلَيْهِ ، قُلْنَا : قَدْ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ ، فَإِنَّهُ يَصْرِفُهَا فِي مَصَالِحِهِ الَّتِي لَا يَقُومُ بِهَا الدَّافِعُ ، وَإِنْ قَدَّرَ الِانْتِفَاعَ فَإِنَّهُ نَفْعٌ لَا يَسْقُطُ بِهِ وَاجِبٌ عَلَيْهِ ، وَلَا يُجْتَلَبُ بِهِ مَالٌ إلَيْهِ ، فَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ الدَّفْعَ ، كَمَا لَوْ كَانَ يَصِلُهُ تَبَرُّعًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مِنْ عَائِلَتِهِ .

( 1771 ) فَصْلٌ : وَلَيْسَ لِمُخْرِجِ الزَّكَاةِ شِرَاؤُهَا مِمَّنْ صَارَتْ إلَيْهِ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ وَمَالِكٍ قَالَ أَصْحَابُ مَالِكٍ : فَإِنْ اشْتَرَاهَا لَمْ يُنْقَضْ الْبَيْعُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ : يَجُوزُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ ، إلَّا لِخَمْسَةٍ ؛ رَجُلٍ ابْتَاعَهَا بِمَالِهِ } وَرَوَى سَعِيدٌ ، فِي " سُنَنِهِ " { أَنَّ رَجُلًا تَصَدَّقَ عَلَى أُمِّهِ بِصَدَقَةٍ ثُمَّ مَاتَتْ ، فَسَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : قَدْ قَبِلَ اللَّهُ صَدَقَتَك ، وَرَدَّهَا إلَيْكَ الْمِيرَاثُ .
} وَهَذَا فِي مَعْنَى شِرَائِهَا .
وَلِأَنَّ مَا صَحَّ أَنْ يُمْلَكَ إرْثًا ، صَحَّ أَنْ يُمْلَكَ ابْتِيَاعًا ، كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى عُمَرُ ، { أَنَّهُ قَالَ : حَمَلْت عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، فَأَضَاعَهُ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ ، وَظَنَنْت أَنَّهُ بَائِعُهُ بِرُخْصٍ ، فَأَرَدْت أَنْ أَشْتَرِيَهُ ، فَسَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : لَا تَبْتَعْهُ ، وَلَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِك وَلَوْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ ؛ فَإِنَّ الْعَائِدَ فِي صَدَقَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
فَإِنْ قِيلَ : يَحْتَمِلُ أَنَّهَا كَانَتْ حَبِيسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمَنَعَهُ لِذَلِكَ .
قُلْنَا : لَوْ كَانَتْ حَبِيسًا لَمَا بَاعَهَا الَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ ، وَلَا هَمَّ عُمَرُ بِشِرَائِهَا ، بَلْ كَانَ يُنْكِرُ عَلَى الْبَائِعِ وَيَمْنَعُهُ ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُقِرُّ عَلَى مُنْكَرٍ ، فَكَيْفَ يَفْعَلُهُ ، وَيُعِينُ عَلَيْهِ .
وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَنْكَرَ بَيْعَهَا ، إنَّمَا أَنْكَرَ عَلَى عُمَرَ الشِّرَاءَ ، مُعَلِّلًا بِكَوْنِهِ عَائِدًا فِي الصَّدَقَةِ .
الثَّانِي ، أَنَّنَا نَحْتَجُّ بِعُمُومِ اللَّفْظِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى خُصُوصِ السَّبَبِ ، فَإِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِك } أَيْ بِالشِّرَاءِ فَإِنَّ الْعَائِدَ فِي صَدَقَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ .
وَالْأَخْذُ

بِعُمُومِ اللَّفْظِ أَوْلَى مِنْ التَّمَسُّكِ بِخُصُوصِ السَّبَبِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَإِنَّ اللَّفْظَ لَا يَتَنَاوَلُ الشِّرَاءَ فَإِنَّ الْعَوْدَ فِي الصَّدَقَةِ ارْتِجَاعُهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ ، وَفَسْخٌ لِلْعَقْدِ ، كَالْعَوْدِ فِي الْهِبَةِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ .
} وَلَوْ وَهَبَ إنْسَانًا شَيْئًا ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ مِنْهُ ، جَازَ .
قُلْنَا : النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ ذَلِكَ جَوَابًا لِعُمَرَ حِينَ سَأَلَهُ عَنْ شِرَاءِ الْفَرَسِ ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ اللَّفْظُ مُتَنَاوِلًا لِلشِّرَاءِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ مُجِيبًا لَهُ ، وَلَا يَجُوزُ إخْرَاجُ خُصُوصِ السَّبَبِ مِنْ عُمُومِ اللَّفْظِ ؛ لِئَلَّا يَخْلُوَ السُّؤَالُ عَنْ الْجَوَابِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ قَالَ : إذَا جَاءَ الْمُصَدِّقُ فَادْفَعْ إلَيْهِ صَدَقَتَك ، وَلَا تَشْتَرِهَا ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ : ابْتَعْهَا فَأَقُولُ : إنَّمَا هِيَ لِلَّهِ .
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : لَا تَشْتَرِ طَهُورَ مَالِكَ .
وَلِأَنَّ فِي شِرَائِهِ لَهَا وَسِيلَةً إلَى اسْتِرْجَاعِ شَيْءٍ مِنْهَا ؛ لِأَنَّ الْفَقِيرَ يَسْتَحْيِ مِنْهُ ، فَلَا يُمَاكِسُهُ فِي ثَمَنِهَا ، وَرُبَّمَا رَخَّصَهَا لَهُ طَمَعًا فِي أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ صَدَقَةً أُخْرَى ، وَرُبَّمَا عَلِمَ أَنَّهُ إنْ لَمْ يَبِعْهُ إيَّاهَا اسْتَرْجَعَهَا مِنْهُ أَوْ تَوَهَّمَ ذَلِكَ ، وَمَا هَذَا سَبِيلُهُ يَنْبَغِي أَنْ يُجْتَنَبَ ، كَمَا لَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يَبِيعَهُ إيَّاهَا .
وَهُوَ أَيْضًا ذَرِيعَةٌ إلَى إخْرَاجِ الْقِيمَةِ ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ ذَلِكَ .
أَمَّا حَدِيثُهُمْ فَنَقُولُ بِهِ ، وَأَنَّهَا تَرْجِعُ إلَيْهِ بِالْمِيرَاثِ وَلَيْسَ هَذَا مَحَلَّ النِّزَاعِ .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ كُلُّ الْعُلَمَاء يَقُولُونَ : إذَا رَجَعَتْ إلَيْهِ بِالْمِيرَاثِ طَابَتْ لَهُ ، إلَّا ابْنَ عُمَرَ وَالْحَسَنَ بْنَ حَيٍّ .
وَلَيْسَ الْبَيْعُ فِي مَعْنَى الْمِيرَاثِ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ ثَبَتَ بِالْمِيرَاثِ حُكْمًا بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ ، وَلَيْسَ بِوَسِيلَةٍ إلَى شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا ،

وَالْحَدِيثُ الْآخَرُ مُرْسَلٌ ، وَهُوَ عَامٌّ ، وَحَدِيثُنَا خَاصٌّ صَحِيحٌ ، فَالْعَمَلُ بِهِ أَوْلَى مِنْ كُلِّ وَجْهٍ .
( 1772 ) فَصْلٌ : فَإِنْ دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى شِرَاءِ صَدَقَتِهِ ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ الْفَرْضُ جُزْءًا مِنْ حَيَوَانٍ لَا يُمْكِنُ الْفَقِيرَ الِانْتِفَاعُ بِعَيْنِهِ ، وَلَا يَجِدُ مِنْ يَشْتَرِيه سِوَى الْمَالِكِ لِبَاقِيهِ ، وَلَوْ اشْتَرَاهُ غَيْرُهُ لَتَضَرَّرَ الْمَالِكُ بِسُوءِ الْمُشَارَكَةِ ، أَوْ إذَا كَانَ الْوَاجِبُ فِي ثَمَرَةِ النَّخْلِ وَالْكَرْمِ عِنَبًا وَرُطَبًا ، فَاحْتَاجَ السَّاعِي إلَى بَيْعِهَا قَبْلَ الْجِذَاذِ ، فَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهَا مِنْ رَبِّ الْمَالِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ .
وَكَذَلِكَ يَجِيءُ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى ، وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى شِرَائِهِ لَهَا ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ الشِّرَاءِ فِي مَحَلِّ الْوِفَاقِ إنَّمَا كَانَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْفَقِيرِ ، وَالضَّرَرُ عَلَيْهِ فِي مَنْعِ الْبَيْعِ هَاهُنَا أَعْظَمُ ، فَدَفْعُهُ بِجَوَازِ الْبَيْعِ أَوْلَى .

( 1773 ) فَصْلٌ : قَالَ مُهَنَّا : سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ رَجُلٍ لَهُ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ بِرَهْنٍ وَلَيْسَ عِنْدَهُ قَضَاؤُهُ ، وَلِهَذَا الرَّجُلِ زَكَاةُ مَالٍ يُرِيدُ أَنْ يُفَرِّقَهَا عَلَى الْمَسَاكِينِ ، فَيَدْفَعُ إلَيْهِ رَهْنَهُ وَيَقُولُ لَهُ : الدَّيْنُ الَّذِي لِي عَلَيْك هُوَ لَك .
وَيَحْسُبُهُ مِنْ زَكَاةِ مَالِهِ .
قَالَ : لَا يُجْزِئُهُ ذَلِكَ .
فَقُلْت لَهُ : فَيَدْفَعُ إلَيْهِ مِنْ زَكَاتَهُ ، فَإِنْ رَدَّهُ إلَيْهِ قَضَاءً مِمَّا لَهُ ، أَخْذُهُ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ .
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ، وَقِيلَ لَهُ : فَإِنْ أَعْطَاهُ ، ثُمَّ رَدَّهُ إلَيْهِ ؟ قَالَ : إذَا كَانَ بِحِيلَةٍ فَلَا يُعْجِبُنِي .
قِيلَ لَهُ : فَإِنْ اسْتَقْرَضَ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ دَرَاهِمَ ، فَقَضَاهُ إيَّاهَا ثُمَّ رَدَّهَا عَلَيْهِ ، وَحَسَبَهَا مِنْ الزَّكَاةِ ؟ فَقَالَ : إذَا أَرَادَ بِهَا إحْيَاءَ مَالِهِ فَلَا يَجُوزُ فَحَصَلَ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّ دَفْعَ الزَّكَاةِ إلَى الْغَرِيمِ جَائِزٌ ، سَوَاءٌ دَفَعَهَا ابْتِدَاءً ، أَوْ اسْتَوْفَى حَقَّهُ ثُمَّ دَفَعَ مَا اسْتَوْفَاهُ إلَيْهِ ، إلَّا أَنَّهُ مَتَى قَصَدَ بِالدَّفْعِ إحْيَاءَ مَالِهِ ، أَوْ اسْتِيفَاءَ دَيْنِهِ ، لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ لَحِقِّ اللَّهِ تَعَالَى ، فَلَا يَجُوزُ صَرْفُهَا إلَى نَفْعِهِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْتَسِبَ الدَّيْنَ الَّذِي لَهُ مِنْ الزَّكَاةِ قَبْلَ قَبْضِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِأَدَائِهَا وَإِيتَائِهَا ، وَهَذَا إسْقَاطٌ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( 1774 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَلَا لِكَافِرٍ ، وَلَا لِمَمْلُوكٍ ) لَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا فِي أَنَّ زَكَاةَ الْأَمْوَالِ لَا تُعْطَى لِكَافِرٍ وَلَا لِمَمْلُوكٍ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الذِّمِّيَّ لَا يُعْطَى مِنْ زَكَاةِ الْأَمْوَالِ شَيْئًا .
{ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِمُعَاذٍ : أَعْلِمْهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ ، وَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ } .
فَخَصَّهُمْ بِصَرْفِهَا إلَى فُقَرَائِهِمْ ، كَمَا خَصَّهُمْ بِوُجُوبِهَا عَلَى أَغْنِيَائِهِمْ .
وَأَمَّا الْمَمْلُوكُ فَلَا يَمْلِكُهَا بِدَفْعِهَا إلَيْهِ ، وَمَا يُعْطَاهُ فَهُوَ لِسَيِّدِهِ ، فَكَأَنَّهُ دَفَعَهَا إلَى سَيِّدِهِ ، وَلِأَنَّ الْعَبْدَ يَجِبُ عَلَى سَيِّدِهِ نَفَقَتُهُ ، فَهُوَ غَنِيٌّ بِغِنَاهُ .

( 1775 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( إلَّا أَنْ يَكُونُوا مِنْ الْعَامِلِينَ عَلَيْهَا ، فَيُعْطَوْنَ بِحَقِّ مَا عَمِلُوا ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْعَامِلِ أَنْ يَأْخُذَ عِمَالَتَهُ مِنْ الزَّكَاةِ ، سَوَاءٌ كَانَ حُرًّا أَوْ عَبْدًا .
وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَافِرًا ، وَهَذِهِ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ { وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا } وَهَذَا لَفْظٌ عَامٌّ يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ عَامِلٍ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ كَانَ .
وَلِأَنَّ مَا يَأْخُذُ عَلَى الْعِمَالَةِ أُجْرَةُ عَمَلِهِ ، فَلَمْ يُمْنَعْ مِنْ أَخْذِهِ كَسَائِرِ الْإِجَارَاتِ .
وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ كَافِرًا ؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْعَامِلِ أَنْ يَكُونَ أَمِينًا ، وَالْكُفْرُ يُنَافِي الْأَمَانَةَ .
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَنِيًّا ، وَذَا قَرَابَةٍ لِرَبِّ الْمَالِ .
وَقَوْلُهُ : " بِحَقِّ مَا عَمِلُوا " يَعْنِي يُعْطِيهِمْ بِقَدْرِ أُجْرَتِهِمْ وَالْإِمَامُ مُخَيَّرٌ إذَا بَعَثَ عَامِلًا ؛ إنْ شَاءَ اسْتَأْجَرَهُ إجَارَةً صَحِيحَةً ، وَيَدْفَعُ إلَيْهِ مَا سَمَّى لَهُ ، وَإِنْ شَاءَ بَعَثَهُ بِغَيْرِ إجَارَةٍ ، وَيَدْفَعُ إلَيْهِ أَجْرَ مِثْلِهِ .
وَهَذَا كَانَ الْمَعْرُوفَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ لَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّهُ قَاطَعَ أَحَدًا مِنْ الْعُمَّالِ عَلَى أَجْرٍ ، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ السَّاعِدِيِّ ، قَالَ : { اسْتَعْمَلَنِي عُمَرُ عَلَى الصَّدَقَةِ ، فَلَمَّا فَرَغْت مِنْهَا وَأَدَّيْتهَا إلَيْهِ ، أَمَرَ لِي بِعِمَالَةٍ فَقُلْت ، إنَّمَا عَمِلْت لِلَّهِ وَأَجْرِي عَلَى اللَّهِ .
قَالَ : خُذْ مَا أُعْطِيتَ ، فَإِنِّي قَدْ عَمِلْت عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَمِلَنِي ، فَقُلْت مِثْلَ قَوْلِك ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إذَا أُعْطِيتَ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَسْأَلَهُ فَكُلْ وَتَصَدَّقْ } ( 1776 ) فَصْلٌ : وَيُعْطِي مِنْهَا أَجْرَ الْحَاسِبِ وَالْكَاتِبِ وَالْحَاشِرِ وَالْخَازِنِ وَالْحَافِظِ وَالرَّاعِي وَنَحْوِهِمْ .
فَكُلُّهُمْ

مَعْدُودُونَ مِنْ الْعَامِلِينَ ، وَيَدْفَعُ إلَيْهِمْ مِنْ حِصَّةِ الْعَامِلِينَ عَلَيْهَا ، فَأَمَّا أَجْرُ الْوَزَّانِ وَالْكَيَّالِ لِيَقْبِضَ السَّاعِي الزَّكَاةَ فَعَلَى رَبِّ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ مُؤْنَةِ دَفْعِ الزَّكَاةِ .

( 1777 ) فَصْلٌ : وَلَا يُعْطَى الْكَافِرُ مِنْ الزَّكَاةِ ، إلَّا لِكَوْنِهِ مُؤَلَّفًا ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ الْإِنْسَانُ ذَا قَرَابَتِهِ مِنْ الزَّكَاةِ ؛ لِكَوْنِهِ غَازِيًا ، أَوْ مُؤَلَّفًا ، أَوْ غَارِمًا فِي إصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ ، أَوْ عَامِلًا ، وَلَا يُعْطِي لِغَيْرِ ذَلِكَ .
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ ، إلَّا لِخَمْسَةٍ : لِغَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، أَوْ لِعَامِلٍ عَلَيْهَا ، أَوْ لِغَارِمٍ ، أَوْ رَجُلٍ ابْتَاعَهَا بِمَالِهِ ، أَوْ لِرَجُلٍ كَانَ لَهُ جَارٌ مِسْكِينٌ ، فَتَصَدَّقَ عَلَى الْمِسْكِينِ ، فَأَهْدَى الْمِسْكِينُ إلَى الْغَنِيِّ } وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ عَطَاءٍ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

( 1778 ) فَصْلٌ : وَإِنْ اجْتَمَعَ فِي وَاحِدٍ أَسْبَابٌ تَقْتَضِي الْأَخْذَ بِهَا ، جَازَ أَنْ يُعْطَى بِهَا ، فَالْعَامِلُ الْفَقِيرُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ عِمَالَتَهُ ، فَإِنْ لَمْ تُغْنِهِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا يَتِمُّ بِهِ غِنَاهُ ، فَإِنْ كَانَ غَازِيًا فَلَهُ أَخْذُ مَا يَكْفِيه لِغَزْوِهِ ، وَإِنْ كَانَ غَارِمًا أَخَذَ مَا يَقْضِي بِهِ غُرْمَهُ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ يَثْبُتُ حُكْمُهُ بِانْفِرَادِهِ ، فَوُجُودِ غَيْرِهِ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ حُكْمِهِ ، كَمَا لَمْ يَمْنَعْ وُجُودَهُ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ : إذَا كَانَ لَهُ مِائَتَانِ وَعَلَيْهِ مِثْلُهَا ، لَا يُعْطَى مِنْ الزَّكَاةِ ؛ لِأَنَّ الْمُغْنِيَ خَمْسُونَ دِرْهَمًا .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي الدَّفْعِ إلَى الْغَارِمِ أَنْ يَكُونَ فَقِيرًا فَإِذَا أُعْطِيَ لِأَجْلِ الْغُرْمِ وَجَبَ صَرْفُهُ إلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ ، وَإِنْ أُعْطِيَ لِلْفَقِيرِ جَازَ أَنْ يَقْضِيَ بِهِ دَيْنَهُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَلَا لِبَنِي هَاشِمٍ ) لَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي أَنَّ بَنِي هَاشِمٍ لَا تَحِلُّ لَهُمْ الصَّدَقَةُ الْمَفْرُوضَةُ ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَنْبَغِي لِآلِ مُحَمَّدٍ ، إنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ .
} أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : { أَخَذَ الْحَسَنُ تَمْرَةً مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كِخْ كِخْ .
لِيَطْرَحَهَا ، وَقَالَ : أَمَا شَعَرْت أَنَّا لَا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ .
} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .

( 1780 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَلَا لِمَوَالِيهِمْ ) يَعْنِي أَنَّ مَوَالِيَ بَنِي هَاشِمٍ ، وَهُمْ مَنْ أَعْتَقَهُمْ هَاشِمِيٌّ ، لَا يُعْطَوْنَ مِنْ الزَّكَاةِ .
وَقَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ : يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِقَرَابَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُمْنَعُوا الصَّدَقَةَ كَسَائِرِ النَّاسِ ، وَلِأَنَّهُمْ لَمْ يُعَوَّضُوا عَنْهَا بِخُمُسِ الْخُمُسِ ، فَإِنَّهُمْ لَا يُعْطَوْنَ مِنْهُ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُحَرِّمُوهَا كَسَائِرِ النَّاسِ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى أَبُو رَافِعٍ ، { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ رَجُلًا مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ عَلَى الصَّدَقَةِ ، فَقَالَ لِأَبِي رَافِعٍ : اصْحَبْنِي كَيْمَا تُصِيبَ مِنْهَا .
فَقَالَ : لَا حَتَّى آتِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْأَلَهُ .
فَانْطَلَقَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ .
فَقَالَ : إنَّا لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ ، وَإِنَّ مَوَالِيَ الْقَوْمِ مِنْهُمْ } .
أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ ، وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَلِأَنَّهُمْ مِمَّنْ يَرِثُهُمْ بَنُو هَاشِمٍ بِالتَّعْصِيبِ ، فَلَمْ يَجُزْ دَفْعُ الصَّدَقَةِ إلَيْهِمْ كَبَنِي هَاشِمٍ .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّهُمْ لَيْسُوا بِقَرَابَةٍ .
قُلْنَا : هُمْ بِمَنْزِلَةِ الْقَرَابَةِ ، بِدَلِيلِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ .
} وَقَوْلُهُ { : مَوَالِي الْقَوْمِ مِنْهُمْ .
} وَثَبَتَ فِيهِمْ حُكْمُ الْقَرَابَةِ مِنْ الْإِرْثِ وَالْعَقْلِ وَالنَّفَقَةِ ، فَلَا يَمْتَنِعُ ثُبُوتُ حُكْمِ تَحْرِيمِ الصَّدَقَةِ فِيهِمْ .

( 1781 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا بَنُو الْمُطَّلِبِ ، فَهَلْ لَهُمْ الْأَخْذُ مِنْ الزَّكَاةِ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ .
نَقَلَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ وَغَيْرُهُ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : إنَّا وَبَنُو الْمُطَّلِبِ لَمْ نَفْتَرِقْ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إسْلَامٍ ، إنَّمَا نَحْنُ وَهُمْ شَيْءٌ وَاحِدٌ } .
وَفِي لَفْظٍ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي " مُسْنَدِهِ " : { : إنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ } .
وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ .
وَلِأَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ مِنْ خُمْسِ الْخُمْسِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ الْأَخْذُ كَبَنِي هَاشِمٍ ، وَقَدْ أَكَّدَ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّلَ مَنْعَهُمْ الصَّدَقَةَ بِاسْتِغْنَائِهِمْ عَنْهَا بِخُمْسِ الْخُمْسِ ، فَقَالَ : { أَلَيْسَ فِي خُمْسِ الْخُمْسِ مَا يُغْنِيكُمْ ؟ } .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ ، لَهُمْ الْأَخْذُ مِنْهَا .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُمْ دَخَلُوا فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى { : إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ } .
الْآيَةُ .
لَكِنْ خَرَجَ بَنُو هَاشِمٍ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : إنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَنْبَغِي لِآلِ مُحَمَّدٍ } ، فَيَجِبُ أَنْ يَخْتَصَّ الْمَنْعُ بِهِمْ ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ بَنِي الْمُطَّلِبِ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ ؛ لِأَنَّ بَنِي هَاشِمٍ أَقْرَبُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَشْرَفُ ، وَهُمْ آلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ وَمُشَارَكَةُ بَنِي الْمُطَّلِبِ لَهُمْ فِي خُمْسِ الْخُمْسِ مَا اسْتَحَقُّوهُ بِمُجَرَّدِ الْقَرَابَةِ ، بِدَلِيلِ أَنَّ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَبَنِي نَوْفَلٍ يُسَاوُونَهُمْ فِي الْقَرَابَةِ ، وَلَمْ يُعْطَوْا شَيْئًا ، وَإِنَّمَا شَارَكُوهُمْ بِالنُّصْرَةِ ، أَوْ بِهِمَا جَمِيعًا ، وَالنُّصْرَةُ لَا تَقْتَضِي مَنْعَ الزَّكَاةِ .
( 1782 ) فَصْلُ وَرَوَى الْخَلَّالُ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ ، أَنَّ خَالِدَ بْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بَعَثَ إلَى عَائِشَةَ سُفْرَةً مِنْ الصَّدَقَةِ .
فَرَدَّتْهَا ، وَقَالَتْ : إنَّا آلِ

مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِهَا عَلَى أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
( 1783 ) فَصْلٌ : وَظَاهِرُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ هَاهُنَا ، أَنَّ ذَوِي الْقُرْبَى يُمْنَعُونَ الصَّدَقَةَ ، وَإِنْ كَانُوا عَامِلِينَ ، وَذَكَرَ فِي بَابِ قَسْمِ الْفَيْءِ وَالصَّدَقَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى إبَاحَةِ الْأَخْذِ لَهُمْ عِمَالَةً .
وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا ؛ لِأَنَّ مَا يَأْخُذُونَهُ أَجْرٌ ، فَجَازَ لَهُمْ أَخْذُهُ ، كَالْحَمَّالِ وَصَاحِبِ الْمَخْزَنِ إذَا أَجَرَهُمْ مَخْزَنَهُ .
وَلَنَا ، حَدِيثُ أَبِي رَافِعٍ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ ، وَمَا رَوَى مُسْلِمٌ بِإِسْنَادِهِ ، { أَنَّهُ اجْتَمَعَ رَبِيعَةُ بْنُ الْحَارِثِ ، وَالْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، فَقَالَا : وَاَللَّهِ لَوْ بَعَثْنَا هَذَيْنِ الْغُلَامَيْنِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلَّمَاهُ ، فَأَمَّرَهُمَا عَلَى هَذِهِ الصَّدَقَاتِ ، فَأَدَّيَا مَا يُؤَدِّي النَّاسُ ، وَأَصَابَا مَا يُصِيبُ النَّاسُ ؟ فَبَيْنَمَا هُمَا فِي ذَلِكَ إذْ جَاءَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، فَوَقَفَ عَلَيْهِمَا ، فَذَكَرَا لَهُ ذَلِكَ ، قَالَ عَلِيٌّ : لَا تَفْعَلَا .
فَوَاَللَّهِ مَا هُوَ بِفَاعِلٍ فَانْتَحَاهُ رَبِيعَةُ بْنُ الْحَارِثِ فَقَالَ : وَاَللَّهِ مَا تَصْنَعُ هَذَا إلَّا نَفَاسَةً مِنْك عَلَيْنَا .
قَالَ : فَأَلْقَى عَلِيٌّ رِدَاءَهُ ، ثُمَّ اضْطَجَعَ ، ثُمَّ قَالَ : أَنَا أَبُو الْحَسَنِ .
وَاَللَّهِ لَا أَرِيمُ مَكَانِي حَتَّى يَرْجِعَ إلَيْكُمَا ابْنَاكُمَا بِخَبَرِ مَا بَعَثْتُمَا بِهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَذَكَرَ الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَ : فَأَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَنْتَ أَبُو النَّاسِ ، وَأَوْصَلُ النَّاسِ ، وَقَدْ بَلَغْنَا النِّكَاحَ ، فَجِئْنَا لِتُؤَمِّرَنَا عَلَى بَعْضِ هَذِهِ الصَّدَقَاتِ ، فَنُؤَدِّيَ إلَيْك كَمَا يُؤَدِّي النَّاسُ ، وَنُصِيبَ كَمَا يُصِيبُونَ .
فَسَكَتَ طَوِيلًا ثُمَّ قَالَ : إنَّ هَذِهِ الصَّدَقَةَ لَا تَنْبَغِي لِآلِ مُحَمَّدٍ ، إنَّمَا هِيَ

أَوْسَاخُ النَّاسِ .
وَفِي لَفْظٍ أَنَّهُ قَالَ : إنَّ الصَّدَقَةَ إنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ ، وَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ وَلَا لِآلِ مُحَمَّدٍ } .
( 1784 ) فَصْلٌ : وَيَجُوزُ لِذَوِي الْقُرْبَى الْأَخْذُ مِنْ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ .
قَالَ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ : إنَّمَا لَا يُعْطَوْنَ مِنْ الصَّدَقَةِ الْمَفْرُوضَةِ ، فَأَمَّا التَّطَوُّعِ ، فَلَا .
وَعَنْ أَحْمَدَ ، رِوَايَةٌ أُخْرَى : أَنَّهُمْ يُمْنَعُونَ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ أَيْضًا ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { : إنَّا لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ } .
وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : الْمَعْرُوفُ كُلُّهُ صَدَقَةٌ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ } .
وَقَالَ تَعَالَى { : فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } .
وَلَا خِلَافَ فِي إبَاحَةِ الْمَعْرُوفِ إلَى الْهَاشِمِيِّ ، وَالْعَفْوِ عَنْهُ وَإِنْظَارِهِ .
وَقَالَ إخْوَةُ يُوسُفَ : { وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا } .
وَالْخَبَرُ أُرِيدَ بِهِ صَدَقَةُ الْفَرْضِ ؛ لِأَنَّ الطَّلَبَ كَانَ لَهَا ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ تَعُودُ إلَى الْمَعْهُودِ .
وَرَوَى جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَشْرَبُ مِنْ سِقَايَاتٍ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ .
فَقُلْت لَهُ : أَتَشْرَبُ مِنْ الصَّدَقَةِ ؟ فَقَالَ : إنَّمَا حُرِّمَتْ عَلَيْنَا الصَّدَقَةُ الْمَفْرُوضَةُ .
وَيَجُوزُ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ الْوَصَايَا لِلْفُقَرَاءِ ، وَمِنْ النُّذُورِ ؛ لِأَنَّهُمَا تَطَوُّعٌ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ وَصَّى لَهُمْ .
وَفِي الْكَفَّارَةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا ، يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِزَكَاةٍ وَلَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ ، فَأَشْبَهَتْ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ .
وَالثَّانِي ، لَا يَجُوزُ لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ أَشْبَهَتْ الزَّكَاةَ .

( 1785 ) فَصْلٌ : وَكُلُّ مَنْ حُرِمَ صَدَقَةَ الْفَرْضِ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ وَقَرَابَةِ الْمُتَصَدِّقِ وَالْكَافِرِ وَغَيْرِهِمْ ، يَجُوزُ دَفْعُ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ إلَيْهِمْ ، وَلَهُمْ أَخْذُهَا ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا } .
وَلَمْ يَكُنْ الْأَسِيرُ يَوْمَئِذٍ إلَّا كَافِرًا ، وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، قَالَتْ : { قَدِمْتُ عَلَى أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ ، فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ أُمِّي قَدِمَتْ عَلَيَّ وَهِيَ رَاغِبَةٌ ، أَفَأَصِلُهَا ؟ قَالَ : نَعَمْ ، صِلِي أُمَّك } .
وَكَسَا عُمَرُ أَخًا لَهُ حُلَّةً كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَاهُ إيَّاهَا .
وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا أَنْفَقَ الْمُسْلِمُ عَلَى أَهْلِهِ ، وَهُوَ يَحْتَسِبُهَا ، فَهِيَ لَهُ صَدَقَةٌ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَعْدٍ { : إنَّ نَفَقَتَك عَلَى أَهْلِك صَدَقَةٌ ، وَإِنَّ مَا تَأْكُلُ امْرَأَتُك صَدَقَةٌ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .

( 1786 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الصَّدَقَةَ جَمِيعَهَا كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ ، فَرْضَهَا وَنَفْلَهَا ؛ لِأَنَّ اجْتِنَابَهَا كَانَ مِنْ دَلَائِلِ نُبُوَّتِهِ وَعَلَامَاتِهَا ، فَلَمْ يَكُنْ لِيُخِلَّ بِذَلِكَ ، وَفِي حَدِيثِ إسْلَامِ سَلْمَانِ الْفَارِسِيِّ ، أَنَّ الَّذِي أَخْبَرَهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَصَفَهُ ، قَالَ { : إنَّهُ يَأْكُلُ الْهَدِيَّةَ ، وَلَا يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ } .
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ { : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أُتِيَ بِطَعَامٍ سَأَلَ عَنْهُ ؟ فَإِنْ قِيلَ صَدَقَةٌ .
قَالَ لِأَصْحَابِهِ : كُلُوا .
وَلَمْ يَأْكُلْ ، وَإِنْ قِيلَ : هَدِيَّةٌ ضَرَبَ بِيَدِهِ ، فَأَكَلَ مَعَهُمْ .
} أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ .
{ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لَحْمٍ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ : هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ ، وَهُوَ لَنَا هَدِيَّةٌ } ، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { : إنِّي لَأَنْقَلِبُ إلَى أَهْلِي ، فَأَجِدُ التَّمْرَةَ سَاقِطَةً عَلَى فِرَاشِي فِي بَيْتِي ، فَأَرْفَعُهَا لِآكُلَهَا ، ثُمَّ أَخْشَى أَنْ تَكُونَ صَدَقَةً ، فَأُلْقِيهَا } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَقَالَ { : إنَّا لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ } .
وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَشْرَفَ الْخَلْقِ ، وَكَانَ لَهُ مِنْ الْمَغَانِمِ خُمْسُ الْخُمْسِ وَالصَّفِيُّ ، فَحُرِمَ نَوْعَيْ الصَّدَقَةِ فَرْضَهَا وَنَفْلَهَا ، وَآلُهُ دُونَهُ فِي الشَّرَفِ ، وَلَهُمْ خُمْسُ الْخُمْسِ وَحْدَهُ ، فَحُرِمُوا أَحَدَ نَوْعَيْهَا ، وَهُوَ الْفَرْضُ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ لَمْ تَكُنْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ .
قَالَ الْمَيْمُونِيُّ : سَمِعْت أَحْمَدَ يَقُولُ : الصَّدَقَةُ لَا تَحِلُّ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَهْلِ بَيْتِهِ ؛ صَدَقَةُ الْفِطْرِ ، وَزَكَاةُ الْأَمْوَالِ ، وَالصَّدَقَةُ يَصْرِفُهَا الرَّجُلُ عَلَى مُحْتَاجٍ يُرِيدُ بِهَا وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى ، فَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَلَا ، أَلَيْسَ يُقَالُ : كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ ؟ وَقَدْ كَانَ يُهْدَى لِلنَّبِيِّ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَسْتَقْرِضُ ، فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ جِنْسِ الصَّدَقَةِ عَلَى وَجْهِ الْحَاجَةِ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى إبَاحَةِ الصَّدَقَةِ لَهُ ، إنَّمَا أَرَادَ أَنَّ مَا لَيْسَ مِنْ صَدَقَةِ الْأَمْوَالِ عَلَى الْحَقِيقَةِ ، كَالْقَرْضِ وَالْهَدِيَّةِ وَفِعْلِ الْمَعْرُوفِ ، غَيْرُ مُحَرَّمٍ عَلَيْهِ ، لَكِنَّ فِيهِ دَلَالَةً عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آلِهِ فِي تَحْرِيمِ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ عَلَيْهِمْ ، لِقَوْلِهِ بِأَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الْمُحْتَاجِ يُرِيدُ بِهَا وَجْهَ اللَّهِ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمَا .
وَهَذَا هُوَ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ ، فَصَارَتْ الرِّوَايَتَانِ فِي تَحْرِيمِ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ عَلَى آلِهِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَلَا لِغَنِيٍّ ، وَهُوَ الَّذِي يَمْلِكُ خَمْسِينَ دِرْهَمًا ، أَوْ قِيمَتَهَا مِنْ الذَّهَبِ ) .
يَعْنِي لَا يُعْطَى مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ غَنِيٌّ ، وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَهَا لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ، وَالْغَنِيُّ غَيْرُ دَاخِلٍ فِيهِمْ ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ { : أَعْلِمْهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ ، فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ .
وَقَالَ : لَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ ، وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ .
وَقَالَ : لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ ، وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ } .
أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد ، وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ وَلِأَنَّ أَخْذَ الْغَنِيِّ مِنْهَا يَمْنَعُ وُصُولَهَا إلَى أَهْلِهَا ، وَيُخِلُّ بِحِكْمَةِ وُجُوبِهَا ، وَهُوَ إغْنَاءُ الْفُقَرَاءِ بِهَا .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْغِنَى الْمَانِعِ مِنْ أَخْذِهَا .
وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ فِيهِ رِوَايَتَانِ : أَظْهَرُهُمَا ، أَنَّهُ مِلْكُ خَمْسِينَ دِرْهَمًا ، أَوْ قِيمَتِهَا مِنْ الذَّهَبِ ، أَوْ وُجُودُ مَا تَحْصُلُ بِهِ الْكِفَايَةُ عَلَى الدَّوَامِ ؛ مِنْ كَسْبٍ ، أَوْ تِجَارَةٍ ، أَوْ عَقَارٍ ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ .
وَلَوْ مَلَكَ مِنْ الْعُرُوضِ ، أَوْ الْحُبُوبِ أَوْ السَّائِمَةِ ، أَوْ الْعَقَارِ ، مَا لَا تَحْصُلُ بِهِ الْكِفَايَةُ ، لَمْ يَكُنْ غَنِيًّا ، وَإِنْ مَلَكَ نِصَابًا ، هَذَا الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِهِ ، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَإِسْحَاقَ .
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ ، أَنَّهُمَا قَالَا : لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِمَنْ لَهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا ، أَوْ عَدْلُهَا ، أَوْ قِيمَتُهَا مِنْ الذَّهَبِ .
وَذَلِكَ لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ سَأَلَ وَلَهُ مَا يُغْنِيهِ جَاءَتْ مَسْأَلَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُمُوشًا ، أَوْ خُدُوشًا ، أَوْ كُدُوحًا فِي وَجْهِهِ .
فَقِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا الْغِنَى ؟ قَالَ خَمْسُونَ دِرْهَمًا ، أَوْ

قِيمَتُهَا مِنْ الذَّهَبِ .
} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا يَرْوِيهِ حَكِيمُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَكَانَ شُعْبَةُ لَا يَرْوِي عَنْهُ ، وَلَيْسَ بِقَوِيٍّ فِي الْحَدِيثِ .
قُلْنَا : قَدْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ لِسُفْيَانَ : حِفْظِي أَنَّ شُعْبَةَ لَا يَرْوِي عَنْ حَكِيمِ بْنِ جُبَيْرٍ .
فَقَالَ سُفْيَانُ : حَدَّثَنَاهُ زُبَيْدٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ .
وَقَدْ قَالَ عَلِيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ مِثْلَ ذَلِكَ .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ ، أَنَّ الْغِنَى مَا تَحْصُلُ بِهِ الْكِفَايَةُ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجًا حَرُمَتْ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ ، وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ شَيْئًا ، وَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا حَلَّتْ لَهُ الصَّدَقَةُ ، وَإِنْ مَلَكَ نِصَابًا ، وَالْأَثْمَانُ وَغَيْرُهَا فِي هَذَا سَوَاءٌ .
وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي الْخَطَّابِ وَابْنِ شِهَابٍ الْعُكْبَرِيِّ وَقَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِقَبِيصَةَ بْنِ الْمُخَارِقِ { لَا تَحِلُّ الْمَسْأَلَةُ إلَّا لِأَحَدِ ثَلَاثَةٍ : رَجُلٌ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَقُولَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ : قَدْ أَصَابَتْ فُلَانًا فَاقَةٌ ، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ ، أَوْ سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
فَمَدَّ إبَاحَةَ الْمَسْأَلَةِ إلَى وُجُودِ إصَابَةِ الْقِوَامِ أَوْ السِّدَادِ ، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ هِيَ الْفَقْرُ ، وَالْغِنَى ضِدُّهَا ، فَمَنْ كَانَ مُحْتَاجًا فَهُوَ فَقِيرٌ يَدْخُلُ فِي عُمُومِ النَّصِّ ، وَمَنْ اسْتَغْنَى دَخَلَ فِي عُمُومِ النُّصُوصِ الْمُحَرِّمَةِ ، وَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ فِيهِ ضَعْفٌ ، ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ تَحْرُمَ الْمَسْأَلَةُ وَلَا يَحْرُمُ أَخْذُ الصَّدَقَةِ إذَا جَاءَتْهُ مِنْ غَيْرِ الْمَسْأَلَةِ ، فَإِنَّ الْمَذْكُورَ فِيهِ تَحْرِيمُ الْمَسْأَلَةِ ، فَنَقْتَصِرُ عَلَيْهِ .
وَقَالَ الْحَسَنُ وَأَبُو عُبَيْدٍ : الْغِنَى مِلْكُ أُوقِيَّةٍ ، وَهِيَ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا ؛ لِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : مَنْ

سَأَلَ وَلَهُ قِيمَةُ أُوقِيَّةٍ فَقَدْ أَلْحَفَ } .
وَكَانَتْ الْأُوقِيَّةُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ : الْغِنَى الْمُوجِبُ لِلزَّكَاةِ هُوَ الْمَانِعُ مِنْ أَخْذِهَا ، وَهُوَ مِلْكُ نِصَابٍ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ ، مِنْ الْأَثْمَانِ ، أَوْ الْعُرُوضِ الْمُعَدَّةِ لِلتِّجَارَةِ ، أَوْ السَّائِمَةِ ، أَوْ غَيْرِهَا { ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ : أَعْلِمْهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ ، فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ } ، فَجَعَلَ الْأَغْنِيَاءَ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِمْ الزَّكَاةُ ، فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ غَنِيٌّ ، وَمَنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ لَيْسَ بِغَنِيٍّ ، فَيَكُونُ فَقِيرًا ، فَتُدْفَعُ الزَّكَاةُ إلَيْهِ ؛ لِقَوْلِهِ : " فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ " .
وَلِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلزَّكَاةِ غِنًى ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ الِاشْتِرَاكِ ، وَلِأَنَّ مَنْ لَا نِصَابَ لَهُ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ فَلَا يُمْنَعُ مِنْهَا ، كَمَنْ يَمْلِكُ دُونَ الْخَمْسِينَ ، وَلَا لَهُ مَا يَكْفِيه .
فَيَحْصُلُ الْخِلَافُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فِي أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ : أَحَدُهَا ، أَنَّ الْغِنَى الْمَانِعَ مِنْ الزَّكَاةِ غَيْرُ الْمُوجِبِ لَهَا عِنْدَنَا .
وَدَلِيلُ ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَهُوَ أَخَصُّ مِنْ حَدِيثِهِمْ .
فَيَجِبُ تَقْدِيمُهُ ، وَلِأَنَّ حَدِيثَهُمْ دَلَّ عَلَى الْغِنَى الْمُوجِبِ ، وَحَدِيثُنَا دَلَّ عَلَى الْغِنَى الْمَانِعِ ، وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا .
فَيَجِبُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا .
وَقَوْلُهُمْ : الْأَصْلُ عَدَمُ الِاشْتِرَاكِ .
قُلْنَا : قَدْ قَامَ دَلِيلُهُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ ، فَيَجِبُ الْأَخْذُ بِهِ .
الثَّانِي ، أَنَّ مَنْ لَهُ مَا يَكْفِيه مِنْ مَالٍ غَيْرِ زَكَائِيٍّ ، أَوْ مِنْ مَكْسَبِهِ ، أَوْ أُجْرَةِ عَقَارَاتٍ أَوْ غَيْرِهِ ، لَيْسَ لَهُ الْأَخْذُ مِنْ الزَّكَاةِ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : إنَّ دَفَعَ الزَّكَاةَ إلَيْهِ فَهُوَ قَبِيحٌ ، وَأَرْجُو أَنْ

يُجْزِئَهُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَسَائِرُ أَصْحَابِهِ : يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِغَنِيٍّ ، لِمَا ذَكَرُوهُ فِي حُجَّتِهِمْ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، حَدَّثَنَا يُحْيِي بْنُ سَعِيدٍ ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ ، { عَنْ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمَا أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَاهُ الصَّدَقَةَ ، فَصَعَّدَ فِيهِمَا الْبَصَرَ ، فَرَآهُمَا جَلْدَيْنِ ، فَقَالَ : إنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا ، وَلَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ ، وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ } .
قَالَ أَحْمَدُ : مَا أَجْوَدَهُ مِنْ حَدِيثٍ .
وَقَالَ : هُوَ أَحْسَنُهَا إسْنَادًا وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ ، وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ .
إلَّا أَنَّ أَحْمَدَ قَالَ : لَا أَعْلَمُ فِيهِ شَيْئًا يَصِحُّ .
قِيلَ : فَحَدِيثُ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ؟ قَالَ : سَالِمٌ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ .
وَلِأَنَّ لَهُ مَا يُغْنِيه عَنْ الزَّكَاةِ .
فَلَمْ يَجُزْ الدَّفْعُ إلَيْهِ ، كَمَالِكِ النِّصَابِ .
الثَّالِثُ ، أَنَّ مَنْ مَلَكَ نِصَابًا زَكَائِيًّا ، لَا تَتِمُّ بِهِ الْكِفَايَةُ مِنْ غَيْرِ الْأَثْمَانِ ، فَلَهُ الْأَخْذُ مِنْ الزَّكَاةِ .
قَالَ الْمَيْمُونِيُّ : ذَاكَرْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ فَقُلْت : قَدْ يَكُونُ لِلرَّجُلِ الْإِبِلُ وَالْغَنَمُ تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ ، وَهُوَ فَقِيرٌ وَيَكُونُ لَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً ، وَتَكُونُ لَهُمْ الضَّيْعَةُ لَا تَكْفِيه ، فَيُعْطَى مِنْ الصَّدَقَةِ ؟ قَالَ : نَعَمْ .
وَذَكَرَ قَوْلَ عُمَرَ أَعْطُوهُمْ ، وَإِنْ رَاحَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ الْإِبِلِ كَذَا وَكَذَا .
قُلْت : فَهَذَا قَدْرٌ مِنْ الْعَدَدِ أَوْ الْوَقْتِ ؟ قَالَ : لَمْ أَسْمَعْهُ .
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ : إذَا كَانَ لَهُ عَقَارٌ يَشْغَلُهُ أَوْ

ضَيْعَةٌ تُسَاوِي عَشَرَةَ آلَافٍ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ لَا تُقِيمُهُ ، يَأْخُذُ مِنْ الزَّكَاةِ .
وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ : لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا إذَا مَلَكَ نِصَابًا زَكَائِيًّا ؛ لِأَنَّهُ تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ ، فَلَمْ تَجِبْ لَهُ لِلْخَبَرِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ مَا يُغْنِيه ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى كَسْبِ مَا يَكْفِيه ، فَجَازَ لَهُ الْأَخْذُ مِنْ الزَّكَاةِ كَمَا لَوْ كَانَ مَا يَمْلِكُ لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ ، وَلِأَنَّ الْفَقْرَ عِبَارَةٌ عَنْ الْحَاجَةِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : يَأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إلَى اللَّهِ } .
أَيْ : الْمُحْتَاجُونَ إلَيْهِ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : فَيَا رَبِّ إنِّي مُؤْمِنٌ بِك عَابِدٌ مُقِرٌّ بِزَلَّاتِي إلَيْك فَقِيرُ وَقَالَ آخَرُ : وَإِنِّي إلَى مَعْرُوفِهَا لَفَقِيرُ وَهَذَا مُحْتَاجٌ ، فَيَكُونُ فَقِيرًا غَيْرَ غَنِيٍّ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَا يَمْلِكُهُ لَا زَكَاةَ فِيهِ لَكَانَ فَقِيرًا ، وَلَا فَرْقَ فِي دَفْعِ الْحَاجَةِ بَيْنَ الْمَالَيْنِ ، وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الَّذِينَ لَهُمْ سَفِينَةٌ فِي الْبَحْرِ مَسَاكِينَ ، فَقَالَ تَعَالَى { : أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ .
} وَقَدْ بَيَّنَّا بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْغِنَى يَخْتَلِفُ مُسَمَّاهُ ، فَيَقَعُ عَلَى مَا يُوجِبُ الزَّكَاةَ ، وَعَلَى مَا يَمْنَعُ مِنْهَا ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ أَحَدِهِمَا وُجُودُ الْآخَرِ ، وَلَا مِنْ عَدَمِهِ عَدَمُهُ ، فَمَنْ قَالَ : إنَّ الْغِنَى هُوَ الْكِفَايَةُ .
سَوَّى بَيْنَ الْأَثْمَانِ وَغَيْرِهَا ، وَجَوَّزَ الْأَخْذَ لِكُلِّ مَنْ لَا كِفَايَةَ لَهُ ، وَإِنْ مَلَكَ نُصُبًا مِنْ جَمِيعِ الْأَمْوَالِ .
وَمَنْ قَالَ بِالرِّوَايَةِ الْأُخْرَى ، فَرَّقَ بَيْنَ الْأَثْمَانِ وَغَيْرِهَا ؛ لِخَبَرِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَلِأَنَّ الْأَثْمَانَ آلَةُ الْإِنْفَاقِ الْمُعَدَّةُ لَهُ دُونَ غَيْرِهَا ، فَجَوَّزَ الْأَخْذَ لِمَنْ لَا يَمْلِكُ خَمْسِينَ دِرْهَمًا ، أَوْ قِيمَتَهَا مِنْ الذَّهَبِ ، وَلَا مَا تَحْصُلُ بِهِ الْكِفَايَةُ ، مِنْ مَكْسَبٍ ، أَوْ أُجْرَةٍ أَوْ عَقَارٍ ، أَوْ غَيْرِهِ ،

أَوْ نَمَاءِ سَائِمَةٍ أَوْ غَيْرِهَا .
وَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ مُعَدٌّ لِلْإِنْفَاقِ مِنْ غَيْرِ الْأَثْمَانِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ تُعْتَبَرَ الْكِفَايَةُ بِهِ فِي حَوْلٍ كَامِلٍ ؛ لِأَنَّ الْحَوْلَ يَتَكَرَّرُ وُجُوبُ الزَّكَاةِ بِتَكَرُّرِهِ ، فَيَأْخُذُ مِنْهَا كُلَّ حَوْلِ مَا يَكْفِيه إلَى مِثْلِهِ ، وَيُعْتَبَرُ وُجُودُ الْكِفَايَةِ لَهُ وَلِعَائِلَتِهِ وَمَنْ يَمُونُهُ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَقْصُودٌ دَفْعُ حَاجَتِهِ ، فَيُعْتَبَرُ لَهُ مَا يُعْتَبَرُ لِلْمُنْفَرِدِ .
وَإِنْ كَانَ لَهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا ، جَازَ أَنْ يَأْخُذَ لِعَائِلَتِهِ حَتَّى يَصِيرَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خَمْسُونَ .
قَالَ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد ، فِي مَنْ يُعْطِي الزَّكَاةَ وَلَهُ عِيَالٌ : يُعْطَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ عِيَالِهِ خَمْسِينَ خَمْسِينَ .
وَهَذَا لِأَنَّ الدَّفْعَ إنَّمَا هُوَ إلَى الْعِيَالِ ؛ وَهَذَا نَائِبٌ عَنْهُمْ فِي الْأَخْذِ .

( 1788 ) فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ لِلْمَرْأَةِ الْفَقِيرَةِ زَوْجٌ مُوسِرٌ يُنْفِقُ عَلَيْهَا ، لَمْ يَجُزْ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَيْهَا ؛ لِأَنَّ الْكِفَايَةَ حَاصِلَةٌ لَهَا بِمَا يَصِلُهَا مِنْ نَفَقَتِهَا الْوَاجِبَةِ ، فَأَشْبَهَتْ مَنْ لَهُ عَقَارٌ يَسْتَغْنِي بِأُجْرَتِهِ .
وَإِنْ لَمْ يُنْفِقْ عَلَيْهَا ، وَتَعَذَّرَ ذَلِكَ ، جَازَ الدَّفْعُ إلَيْهَا ، كَمَا لَوْ تَعَطَّلَتْ مَنْفَعَةُ الْعَقَارِ .
وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى هَذَا .

( 1789 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَلَا يُعْطَى إلَّا فِي الثَّمَانِيَةِ الْأَصْنَافِ الَّتِي سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى ) يَعْنِي قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى { : إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ } وَقَدْ ذَكَرَهُمْ الْخِرَقِيِّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ، فَنُؤَخِّرُ شَرْحَهُمْ إلَيْهِ .
وَقَدْ رَوَى زِيَادُ بْنُ الْحَارِثِ الصُّدَائِيُّ .
قَالَ : { أَتَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَايَعْتُهُ .
قَالَ : فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ : أَعْطِنِي مِنْ الصَّدَقَةِ .
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّ اللَّهَ لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِ نَبِيٍّ وَلَا غَيْرِهِ فِي الصَّدَقَاتِ ، حَتَّى حَكَمَ فِيهَا هُوَ ، فَجَزَّأَهَا ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ ، فَإِنْ كُنْت مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ أَعْطَيْتُكَ حَقَّكَ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَأَحْكَامُهُمْ كُلُّهَا بَاقِيَةٌ .
وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ : انْقَطَعَ سَهْمُ الْمُؤَلَّفَةِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ أَعَزَّ اللَّهُ تَعَالَى الْإِسْلَامَ وَأَغْنَاهُ عَنْ أَنْ يَتَأَلَّفَ عَلَيْهِ رِجَالٌ ، فَلَا يُعْطَى مُشْرِكٌ تَالِفًا بِحَالٍ .
قَالُوا : وَقَدْ رُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَرَ .
وَلَنَا ، كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى الْمُؤَلَّفَةَ فِي الْأَصْنَافِ الَّذِينَ سَمَّى الصَّدَقَةَ لَهُمْ ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَمَ فِيهَا ، فَجَزَّأَهَا ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ .
وَكَانَ يُعْطِي الْمُؤَلَّفَةَ كَثِيرًا ، فِي أَخْبَارٍ مَشْهُورَةٍ ، وَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى مَاتَ } ، وَلَا يَجُوزُ تَرْكُ كِتَابِ اللَّهِ وَسَنَةِ رَسُولِهِ إلَّا بِنَسْخٍ ، وَالنَّسْخُ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ .
ثُمَّ إنَّ النَّسْخَ إنَّمَا يَكُونُ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، لِأَنَّ النَّسْخَ

إنَّمَا يَكُونُ بِنَصٍّ ، وَلَا يَكُونُ النَّصُّ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَانْقِرَاضِ زَمَنِ الْوَحْيِ ، ثُمَّ إنَّ الْقُرْآنَ لَا يُنْسَخُ إلَّا بِقُرْآنٍ ، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ نَسْخٌ كَذَلِكَ وَلَا فِي السُّنَّةِ ، فَكَيْفَ يُتْرَكُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ بِمُجَرَّدِ الْآرَاءِ وَالتَّحَكُّمِ ، أَوْ بِقَوْلِ صَحَابِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ ، عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ حُجَّةً يُتْرَكُ لَهَا قِيَاسٌ ، فَكَيْفَ يَتْرُكُونَ بِهِ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ ، قَالَ الزُّهْرِيُّ : لَا أَعْلَمُ شَيْئًا نَسَخَ حُكْمَ الْمُؤَلَّفَةِ .
عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْمَعْنَى لَا خِلَافَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، فَإِنَّ الْغِنَى عَنْهُمْ لَا يُوجِبُ رَفْعَ حُكْمِهِمْ ، وَإِنَّمَا يَمْنَعُ عَطِيَّتَهُمْ حَالَ الْغِنَى عَنْهُمْ ، فَمَتَى دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى إعْطَائِهِمْ أُعْطُوا ، فَكَذَلِكَ جَمِيعُ الْأَصْنَافِ ، إذَا عُدِمَ مِنْهُمْ صِنْفٌ فِي بَعْضِ الزَّمَانِ ، سَقَطَ حُكْمُهُ فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ خَاصَّةً ، فَإِذَا وُجِدَ عَادَ حُكْمُهُ ، كَذَا هُنَا .

( 1790 ) فَصْلٌ : وَلَا يَجُوزُ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَى غَيْرِ مَنْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى ، مِنْ بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَالْقَنَاطِرِ وَالسِّقَايَاتِ وَإِصْلَاحِ الطُّرُقَاتِ ، وَسَدِّ الْبُثُوقِ ، وَتَكْفِينِ الْمَوْتَى ، وَالتَّوْسِعَةِ عَلَى الْأَضْيَافِ ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ مِنْ الْقُرْبِ الَّتِي لَمْ يَذْكُرْهَا اللَّهُ تَعَالَى .
وَقَالَ أَنَسٌ وَالْحَسَنُ : مَا أَعْطَيْت فِي الْجُسُورِ وَالطُّرُقِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مَاضِيَةٌ .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ } .
" وَإِنَّمَا " لِلْحَصْرِ وَالْإِثْبَاتِ ، تُثْبِتُ الْمَذْكُورَ ، وَتَنْفِي مَا عَدَاهُ ، وَالْخَبَرُ الْمَذْكُورُ .
قَالَ أَبُو دَاوُد : سَمِعْت أَحْمَدَ ، وَسُئِلَ : يُكَفَّنُ الْمَيِّتُ مِنْ الزَّكَاةِ ؟ قَالَ : لَا ، وَلَا يُقْضَى مِنْ الزَّكَاةِ دَيْنُ الْمَيِّتِ .
وَإِنَّمَا لَمْ يَجُزْ دَفْعُهَا فِي قَضَاءِ دَيْنِ الْمَيِّتِ ؛ لِأَنَّ الْغَارِمَ هُوَ الْمَيِّتُ وَلَا يُمْكِنُ الدَّفْعُ إلَيْهِ ، وَإِنْ دَفَعَهَا إلَى غَرِيمِهِ صَارَ الدَّفْعُ إلَى الْغَرِيمِ لَا إلَى الْغَارِمِ .
وَقَالَ أَيْضًا : يُقْضَى مِنْ الزَّكَاةِ دَيْنُ الْحَيِّ ، وَلَا يُقْضَى مِنْهَا دَيْنُ الْمَيِّتِ ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَكُونُ غَارِمًا .
قِيلَ : فَإِنَّمَا يُعْطِي أَهْلُهُ .
قَالَ : إنْ كَانَتْ عَلَى أَهْلِهِ فَنِعْمَ .

( 1791 ) فَصْلٌ : وَإِذَا أَعْطَى مَنْ يَظُنُّهُ فَقِيرًا فَبَانَ غَنِيًّا .
فَعَنْ أَحْمَدَ فِيهِ رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا ، يُجْزِئُهُ .
اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ .
وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ { ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى الرَّجُلَيْنِ الْجَلْدَيْنِ ، وَقَالَ : إنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا مِنْهَا ، وَلَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ ، وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ } .
وَقَالَ لِلرَّجُلِ الَّذِي سَأَلَهُ الصَّدَقَةَ { إنْ كُنْت مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ أَعْطَيْتُكَ حَقَّكَ } .
وَلَوْ اعْتَبَرَ حَقِيقَةَ الْغِنَى لَمَا اكْتَفَى بِقَوْلِهِمْ .
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : قَالَ رَجُلٌ لَأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ ، فَوَضَعَهَا فِي يَدِ غَنِيٍّ ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ : تَصَدَّقَ عَلَى غَنِيٍّ فَأُتِيَ فَقِيلَ لَهُ : أَمَّا صَدَقَتُك فَقَدْ قُبِلَتْ ، لَعَلَّ الْغَنِيَّ أَنْ يَعْتَبِرَ فَيُنْفِقَ مِمَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ ، لَا يُجْزِئُهُ ؛ لِأَنَّهُ دَفَعَ الْوَاجِبَ إلَى غَيْرِ مُسْتَحِقِّهِ ، فَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ عُهْدَتِهِ ، كَمَا لَوْ دَفَعَهَا إلَى كَافِرٍ ، أَوْ ذِي قَرَابَتِهِ ، وَكَدُيُونِ الْآدَمِيِّينَ .
وَهَذَا قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ وَأَبِي يُوسُفَ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ كَالرِّوَايَتَيْنِ .
فَأَمَّا إنْ بَانَ الْآخِذُ عَبْدًا ، أَوْ كَافِرًا ، أَوْ هَاشِمِيًّا ، أَوْ قَرَابَةً لِلْمُعْطِي مِمَّنْ لَا يَجُوزُ الدَّفْعُ إلَيْهِ ، لَمْ يُجْزِهِ ، رِوَايَةً وَاحِدَةً ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُسْتَحَقٍّ ، وَلَا تَخْفَى حَالُهُ غَالِبًا ، فَلَمْ يُجْزِهِ الدَّفْعُ إلَيْهِ ، كَدُيُونِ الْآدَمِيِّينَ ، وَفَارَقَ مَنْ بَانَ غَنِيًّا ؛ بِأَنَّ الْفَقْرَ وَالْغِنَى مِمَّا يَعْسَرُ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهِ وَالْمَعْرِفَةُ بِحَقِيقَتِهِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ } .
فَاكْتَفَى بِظُهُورِ الْفَقْرِ ، وَدَعْوَاهُ بِخِلَافِ غَيْرِهِ .

( 1792 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( إلَّا أَنْ يَتَوَلَّى الرَّجُلُ إخْرَاجَهَا بِنَفْسِهِ ، فَيَسْقُطُ الْعَامِلُ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا تَوَلَّى إخْرَاجَ زَكَاتِهِ بِنَفْسِهِ ، سَقَطَ حَقُّ الْعَامِلِ مِنْهَا ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَأْخُذُ أَجْرًا لِعَمَلِهِ ، فَإِذَا لَمْ يَعْمَلْ فِيهَا شَيْئًا فَلَا حَقَّ لَهُ ، فَيَسْقُطُ ، وَتَبْقَى سَبْعَةُ أَصْنَافٍ ، إنْ وَجَدَ جَمِيعَهُمْ أَعْطَاهُمْ ، وَإِنْ وَجَدَ بَعْضَهُمْ اكْتَفَى بِعَطِيَّتِهِ ، وَإِنْ أَعْطَى الْبَعْضَ مَعَ إمْكَانِ عَطِيَّةِ الْجَمِيعِ ، جَازَ أَيْضًا .
.

( 1793 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَإِنْ أَعْطَاهَا كُلَّهَا فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ ، أَجْزَأَهُ إذَا لَمْ يُخْرِجْهُ إلَى الْغِنَى ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ مِنْ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهَا شَخْصًا وَاحِدًا .
وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَحُذَيْفَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ وَعَطَاءٌ ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَرُوِيَ عَنْ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ قَالَ : إنْ كَانَ الْمَالُ كَثِيرًا يَحْتَمِلُ الْأَصْنَافَ ، قَسَمَهُ عَلَيْهِمْ ، وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا ، جَازَ وَضْعُهُ فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ .
وَقَالَ مَالِكٌ : يَتَحَرَّى مَوْضِعَ الْحَاجَةِ مِنْهُمْ ، وَيُقَدِّمُ الْأَوْلَى فَالْأَوْلَى وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالشَّافِعِيُّ : يَجِبُ أَنْ يَقْسِمَ زَكَاةَ كُلِّ صِنْفٍ مِنْ مَالِهِ ، عَلَى الْمَوْجُودِ مِنْ الْأَصْنَافِ السِّتَّةِ الَّذِينَ سُهْمَانُهُمْ ثَابِتَةٌ ، قِسْمَةً عَلَى السَّوَاءِ ، ثُمَّ حِصَّةُ كُلِّ صِنْفٍ مِنْهُمْ ، لَا تُصْرَفُ إلَى أَقَلِّ مِنْ ثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ ، إنْ وَجَدَ مِنْهُمْ ثَلَاثَةً أَوْ أَكْثَرَ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ إلَّا وَاحِدًا ، صَرَفَ حِصَّةَ ذَلِكَ الصِّنْفِ إلَيْهِ .
وَرَوَى الْأَثْرَمُ عَنْ أَحْمَدَ كَذَلِكَ .
وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الصَّدَقَةَ لِجَمِيعِهِمْ ، وَشَرَّك بَيْنَهُمْ فِيهَا ، فَلَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى بَعْضِهِمْ كَأَهْلِ الْخُمْسِ .
وَلَنَا { ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ : أَعْلِمْهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً ، تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ ، فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ } .
فَأَخْبَرَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِرَدِّ جُمْلَتِهَا فِي الْفُقَرَاءِ ، وَهُمْ صِنْفٌ وَاحِدٌ ، وَلَمْ يَذْكُرْ سِوَاهُمْ ، ثُمَّ أَتَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ مَالٌ ، فَجَعَلَهُ فِي صِنْفٍ ثَانٍ سِوَى الْفُقَرَاءِ ، وَهُمْ الْمُؤَلَّفَةُ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ وَعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ وَعَلْقَمَةُ بْنُ عُلَاثَةَ ، وَزَيْدٌ الْخَيْرُ قَسَّمَ فِيهِمْ الذَّهَبِيَّةَ الَّتِي بَعَثَ بِهَا إلَيْهِ عَلِيٌّ مِنْ الْيَمَنِ .

وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ الصَّدَقَةُ .
ثُمَّ أَتَاهُ مَالٌ آخَرُ ؛ فَجَعَلَهُ فِي صِنْفٍ آخَرَ ؛ لِقَوْلِهِ لِقَبِيصَةَ بْنِ الْمُخَارِقُ حِينَ تَحَمَّلَ حِمَالَةً ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُهُ ، فَقَالَ { : أَقِمْ يَا قَبِيصَةُ حَتَّى تَأْتِيَنَا الصَّدَقَةُ ، فَنَأْمُرَ لَك بِهَا } .
وَفِي حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ الْبَيَّاضِي ، أَنَّهُ أَمَرَ لَهُ بِصَدَقَةِ قَوْمِهِ .
وَلَوْ وَجَبَ صَرْفُهَا إلَى جَمِيعِ الْأَصْنَافِ لَمْ يَجُزْ دَفْعُهَا إلَى وَاحِدٍ ، وَلِأَنَّهَا لَا يَجِبُ صَرْفُهَا إلَى جَمِيعِ الْأَصْنَافِ إذَا أَخَذَهَا السَّاعِي ، فَلَمْ يَجِبْ دَفْعُهَا إلَيْهِمْ إذَا فَرَّقَهَا الْمَالِكُ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَجِدْ إلَّا صِنْفًا وَاحِدًا ، وَلِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ تَعْمِيمُ أَهْلِ كُلِّ صِنْفٍ بِهَا ، فَجَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَى وَاحِدٍ ، كَمَا لَوْ وَصَّى لِجَمَاعَةٍ لَا يُمْكِنُ حَصْرُهُمْ ، وَيُخَرَّجُ عَلَى هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ الْخُمْسُ ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ تَفْرِيقُهُ عَلَى جَمِيعِ مُسْتَحِقِّيهِ ، وَاسْتِيعَابُ جَمِيعِهِمْ بِهِ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ ، وَالْآيَةُ أُرِيدَ بِهَا بَيَانُ الْأَصْنَافِ الَّذِينَ يَجُوزُ الدَّفْعُ إلَيْهِمْ ، دُونَ غَيْرِهِمْ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّ الْمُسْتَحَبَّ صَرْفُهَا إلَى جَمِيعِ الْأَصْنَافِ ، أَوْ إلَى مَنْ أَمْكَنَ مِنْهُمْ ؛ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ الْخِلَافِ ، وَيَحْصُلُ الْإِجْزَاءُ يَقِينًا فَكَانَ أَوْلَى .
( 1794 ) فَصْلٌ : قَوْلُ الْخِرَقِيِّ : " إذَا لَمْ يُخْرِجْهُ إلَى الْغِنَى " .
يَعْنِي بِهِ الْغِنَى الْمَانِعَ مِنْ أَخْذِ الزَّكَاةِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ .
وَظَاهِرُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ لَا يَدْفَعُ إلَيْهِ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْغِنَى ، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ مَا يُغْنِيه مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي مَوَاضِعَ وَذَكَرَهُ أَصْحَابُهُ ، فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَدْفَعُ إلَيْهِ زِيَادَةً عَلَى مَا يَحْصُلُ بِهِ الْغِنَى .
وَهَذَا قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ .
وَقَالَ أَصْحَابُ

الرَّأْيِ : يُعْطَى أَلْفًا وَأَكْثَرَ إذَا كَانَ مُحْتَاجًا إلَيْهَا ، وَيُكْرَهُ أَنْ يُزَادَ عَلَى الْمِائَتَيْنِ .
وَلَنَا ، أَنَّ الْغِنَى لَوْ كَانَ سَابِقًا مَنَعَ ، فَيَمْنَعُ إذَا قَارَنَ ، كَالْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي النِّكَاحِ .

( 1795 ) فَصْلٌ : وَكُلُّ صِنْفٍ مِنْ الْأَصْنَافِ يُدْفَعُ إلَيْهِ مَا تَنْدَفِعُ بِهِ حَاجَتُهُ ، مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ ، فَالْغَارِمُ وَالْمُكَاتَبُ يُعْطَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا يَقْضِي بِهِ دَيْنَهُ وَإِنْ كَثُرَ ، وَابْنُ السَّبِيلِ يُعْطَى مَا يُبْلِغُهُ إلَى بَلَدِهِ ، وَالْغَازِي يُعْطَى مَا يَكْفِيه لِغَزْوِهِ ، وَالْعَامِلُ يُعْطَى بِقَدْرِ أَجْرِهِ .
قَالَ أَبُو دَاوُد : سَمِعْت أَحْمَدَ ، قِيلَ لَهُ : يَحْمِلُ فِي السَّبِيلِ بِأَلْفٍ مِنْ الزَّكَاةِ ؟ قَالَ : مَا أَعْطَى فَهُوَ جَائِزٌ ، وَلَا يُعْطَى أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ زِيَادَةً عَلَى مَا تَنْدَفِعُ بِهِ الْحَاجَةُ ؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ لَهَا ، فَلَا يُزَادُ عَلَى مَا تَقْتَضِيه .
.

( 1796 ) فَصْلٌ : وَأَرْبَعَةُ أَصْنَافٍ يَأْخُذُونَ أَخْذًا مُسْتَقِرًّا ، فَلَا يُرَاعَى حَالُهُمْ بَعْدَ الدَّفْعِ ، وَهُمْ : الْفُقَرَاءُ ، وَالْمَسَاكِينُ ، وَالْعَامِلُونَ ، وَالْمُؤَلَّفَةُ ، فَمَتَى أَخَذُوهَا مَلَكُوهَا مِلْكًا دَائِمًا مُسْتَقِرًّا ، لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ رَدُّهَا بِحَالٍ ، وَأَرْبَعَةٌ مِنْهُمْ ، وَهُمْ الْغَارِمُونَ ، وَفِي الرِّقَابِ ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَابْنُ السَّبِيلِ ؛ فَإِنَّهُمْ يَأْخُذُونَ أَخْذًا مُرَاعًى ، فَإِنْ صَرَفُوهُ فِي الْجِهَةِ الَّتِي اسْتَحَقُّوا الْأَخْذَ لِأَجْلِهَا ، وَإِلَّا اُسْتُرْجِعَ مِنْهُمْ .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْأَصْنَافِ وَاَلَّتِي قَبْلَهَا ، أَنَّ هَؤُلَاءِ أَخَذُوا لِمَعْنًى لَمْ يَحْصُلْ بِأَخْذِهِمْ لِلزَّكَاةِ ، وَالْأَوَّلُونَ حَصَلَ الْمَقْصُودُ بِأَخْذِهِمْ ، وَهُوَ غِنَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ، وَتَأْلِيفُ الْمُؤَلَّفِينَ ، وَأَدَاءُ أَجْرِ الْعَامِلِينَ .
وَإِنْ قَضَى هَؤُلَاءِ حَاجَتَهُمْ بِهَا ، وَفَضَلَ مَعَهُمْ فَضْلٌ ، رَدُّوا الْفَضْلَ ، إلَّا الْغَازِي ، فَإِنَّ مَا فَضَلَ لَهُ بَعْدَ غَزْوِهِ فَهُوَ لَهُ .
ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
وَظَاهِرُ قَوْلِهِ فِي الْمُكَاتَبِ أَنَّهُ لَا يَرُدُّ مَا فَضَلَ فِي يَدِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ : وَإِذَا عَجَزَ الْمُكَاتَبُ وَرُدَّ فِي الرِّقِّ ، وَكَانَ قَدْ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ ، فَهُوَ لِسَيِّدِهِ وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ أَيْضًا فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ وَالْكَوْسَجِ .
وَنَقَلَ عَنْهُ حَنْبَلٌ : إذَا عَجَزَ يَرُدُّ مَا فِي يَدَيْهِ فِي الْمُكَاتَبِينَ .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ : إنْ كَانَ بَاقِيًا بِعَيْنِهِ اُسْتُرْجِعَ مِنْهُ لِأَنَّهُ إنَّمَا دُفِعَ إلَيْهِ لِيَعْتِقَ بِهِ وَلَمْ يَقَعْ وَقَالَ الْقَاضِي : كَلَامُ الْخِرَقِيِّ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الَّذِي بَقِيَ فِي يَدِهِ لَمْ يَكُنْ عَيْنَ الزَّكَاةِ ، وَإِنَّمَا تَصَرَّفَ فِيهَا وَحَصَلَ عِوَضُهَا وَفَائِدَتُهَا .
وَلَوْ تَلِفَ الْمَالُ الَّذِي فِي يَدِ هَؤُلَاءِ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ ، لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَلَا يَجُوزُ نَقْلُ الصَّدَقَةِ مِنْ بَلَدِهَا إلَى بَلَدٍ تُقْصَرُ فِي مِثْلِهِ الصَّلَاةُ ) الْمَذْهَبُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَقْلُ الصَّدَقَةِ مِنْ بَلَدِهَا إلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ .
قَالَ أَبُو دَاوُد : سَمِعْت أَحْمَدَ سُئِلَ عَنْ الزَّكَاةِ يُبْعَثُ بِهَا مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ ؟ قَالَ لَا .
قِيلَ : وَإِنْ كَانَ قَرَابَتُهُ بِهَا ؟ قَالَ : لَا .
وَاسْتَحَبَّ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ لَا تُنْقَلَ مِنْ بَلَدِهَا .
وَقَالَ سَعِيدٌ : حَدَّثَنَا سُفْيَانُ ، عَنْ مَعْمَرٍ ، عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ فِي كِتَابِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ : مَنْ أَخْرَجَ مِنْ مِخْلَافٍ إلَى مِخْلَافٍ ، فَإِنَّ صَدَقَتَهُ وَعُشْرَهُ تُرَدُّ إلَى مِخْلَافِهِ .
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ رَدَّ زَكَاةً أُتِيَ بِهَا مِنْ خُرَاسَانَ إلَى الشَّامِ ، إلَى خُرَاسَانَ .
وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ أَنَّهُمَا كَرِهَا نَقْلَ الزَّكَاةِ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ ، إلَّا لِذِي قَرَابَةٍ .
وَكَانَ أَبُو الْعَالِيَةِ يَبْعَثُ بِزَكَاتِهِ إلَى الْمَدِينَةِ .
وَلَنَا ، { قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ : أَخْبِرْهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ ، فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ } .
وَهَذَا يَخْتَصُّ بِفُقَرَاءِ بَلَدِهِمْ .
وَلَمَّا بَعَثَ مُعَاذٌ الصَّدَقَةَ مِنْ الْيَمَنِ إلَى عُمَرَ ، أَنْكَرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ عُمَرُ ، وَقَالَ : لَمْ أَبْعَثْك جَابِيًا ، وَلَا آخِذَ جِزْيَةٍ ، وَلَكِنْ بَعَثْتُك لِتَأْخُذَ مِنْ أَغْنِيَاءِ النَّاسِ ، فَتَرُدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ .
فَقَالَ مُعَاذٌ : مَا بَعَثْت إلَيْك بِشَيْءِ وَأَنَا أَجِدُ أَحَدًا يَأْخُذُهُ مِنِّي رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ فِي الْأَمْوَالِ .
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَطَاءٍ مَوْلَى عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ ، أَنَّ زِيَادًا ، أَوْ بَعْضَ الْأُمَرَاءِ ، بَعَثَ عِمْرَانَ عَلَى الصَّدَقَةِ ، فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ : أَيْنَ الْمَالُ ؟ قَالَ : أَلِلْمَالِ بَعَثْتَنِي ؟ أَخَذْنَاهَا مِنْ حَيْثُ كُنَّا نَأْخُذُهَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَضَعْنَاهَا حَيْثُ كُنَّا نَضَعُهَا

عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ إغْنَاءُ الْفُقَرَاءِ بِهَا ، فَإِذَا أَبَحْنَا نَقْلَهَا أَفْضَى إلَى بَقَاءِ فُقَرَاءِ ذَلِكَ الْبَلَدِ مُحْتَاجِينَ .
( 1798 ) فَصْلٌ : فَإِنْ خَالَفَ وَنَقَلَهَا ، أَجْزَأَتْهُ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
قَالَ الْقَاضِي : وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ يَقْتَضِي ذَلِكَ ، وَلَمْ أَجِدْ عَنْهُ نَصًّا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ فِيهَا رِوَايَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا ، يُجْزِئُهُ .
وَاخْتَارَهَا ؛ لِأَنَّهُ دَفَعَ الْحَقَّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ ، فَبَرِئَ مِنْهُ كَالدَّيْنِ ، وَكَمَا لَوْ فَرَّقَهَا فِي بَلَدِهَا .
وَالْأُخْرَى ، لَا تُجْزِئُهُ .
اخْتَارَهَا ابْنُ حَامِدٍ ؛ لِأَنَّهُ دَفَعَ الزَّكَاةَ إلَى غَيْرِ مَنْ أُمِرَ بِدَفْعِهَا إلَيْهِ ، أَشْبَهَ مَا لَوْ دَفَعَهَا إلَى غَيْرِ الْأَصْنَافِ .

( 1799 ) فَصْلٌ : فَإِنْ اسْتَغْنَى عَنْهَا فُقَرَاءُ أَهْلِ بَلَدِهَا ، جَازَ نَقْلُهَا .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، فَقَالَ : قَدْ تُحْمَلُ الصَّدَقَةُ إلَى الْإِمَامِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا فُقَرَاءُ أَوْ كَانَ فِيهَا فَضْلٌ عَنْ حَاجَتِهِمْ ، وَقَالَ أَيْضًا : لَا تُخْرَجُ صَدَقَةُ قَوْمٍ عَنْهُمْ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهَا فَضْلٌ عَنْهُمْ ؛ لِأَنَّ الَّذِي كَانَ يَجِيءُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ ، وَعُمَرَ مِنْ الصَّدَقَةِ ، إنَّمَا كَانَ عَنْ فَضْلٍ مِنْهُمْ ، يُعْطَوْنَ مَا يَكْفِيهِمْ ، وَيُخْرَجُ الْفَضْلُ عَنْهُمْ .
وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ ، فِي كِتَابِ " الْأَمْوَالِ " ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبِ ، أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ لَمْ يَزَلْ بِالْجُنْدِ ، إذْ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى مَاتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَدِمَ عَلَى عُمَرَ ، فَرَدَّهُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ ، فَبَعَثَ إلَيْهِ مُعَاذٌ بِثُلُثِ صَدَقَةِ النَّاسِ ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عُمَرُ ، وَقَالَ : لَمْ أَبْعَثْك جَابِيًا ، وَلَا آخِذَ جِزْيَةٍ ، لَكِنْ بَعَثْتُك لِتَأْخُذَ مِنْ أَغْنِيَاءِ النَّاسِ ، فَتَرُدَّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ .
فَقَالَ مُعَاذٌ : مَا بَعَثْت إلَيْك بِشَيْءٍ وَأَنَا أَجِدُ أَحَدًا يَأْخُذُهُ مِنِّي .
فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الثَّانِي ، بَعَثَ إلَيْهِ بِشَطْرِ الصَّدَقَةِ ، فَتَرَاجَعَا بِمِثْلِ ذَلِكَ ، فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الثَّالِثُ بَعَثَ إلَيْهِ بِهَا كُلِّهَا ، فَرَاجَعَهُ عُمَرُ بِمِثْلِ مَا رَاجَعَهُ ، فَقَالَ مُعَاذٌ : مَا وَجَدْت أَحَدًا يَأْخُذُ مِنِّي شَيْئًا .
وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ بِبَادِيَةٍ ، وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يَدْفَعُهَا إلَيْهِ ، فَرَّقَهَا عَلَى فُقَرَاءِ أَقْرَبِ الْبِلَادِ إلَيْهِ .

فَصْلٌ : قَالَ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ : إذَا كَانَ الرَّجُلُ فِي بَلَدٍ ، وَمَالُهُ فِي بَلَدٍ ، فَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ تُؤَدَّى حَيْثُ كَانَ الْمَالُ ، فَإِنْ كَانَ بَعْضُهُ حَيْثُ هُوَ ، وَبَعْضُهُ فِي مِصْرٍ ، يُؤَدِّي زَكَاةَ كُلِّ مَالٍ حَيْثُ هُوَ .
فَإِنْ كَانَ غَائِبًا عَنْ مِصْرِهِ وَأَهْلِهِ ، وَالْمَالُ مَعَهُ ، فَأَسْهَلُ أَنْ يُعْطِيَ بَعْضَهُ فِي هَذَا الْبَلَدِ ، وَبَعْضَهُ فِي هَذَا الْبَلَدِ ، وَبَعْضَهُ فِي الْبَلَدِ الْآخَرِ .
فَأَمَّا إذَا كَانَ الْمَالُ فِي الْبَلَدِ الَّذِي هُوَ فِيهِ حَتَّى يَمْكُثَ فِيهِ حَوْلًا تَامًّا ، فَلَا يَبْعَثُ بِزَكَاتِهِ إلَى بَلَدٍ آخَرَ .
فَإِنْ كَانَ الْمَالُ تِجَارَةً يُسَافِرُ بِهِ ، فَقَالَ الْقَاضِي : يُفَرِّقُ زَكَاتَهُ حَيْثُ حَالَ حَوْلُهُ ، فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ .
وَمَفْهُومُ كَلَامِ أَحْمَدَ فِي اعْتِبَارِهِ الْحَوْلَ التَّامَّ ، أَنَّهُ يَسْهُلُ فِي أَنْ يُفَرِّقَهَا فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ ، وَغَيْرِهِ مِنْ الْبُلْدَانِ الَّتِي أَقَامَ بِهَا فِي ذَلِكَ الْحَوْلِ .
وَقَالَ فِي الرَّجُلِ يَغِيبُ عَنْ أَهْلِهِ ، فَتَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ : يُزَكِّيه فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي كَثُرَ مُقَامُهُ فِيهِ .
فَأَمَّا زَكَاةُ الْفِطْرِ فَإِنَّهُ يُفَرِّقُهَا فِي الْبَلَدِ الَّذِي وَجَبَتْ عَلَيْهِ فِيهِ ، سَوَاءٌ كَانَ مَالُهُ فِيهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ ؛ لِأَنَّهُ سَبَبُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ ، فَفُرِّقَتْ فِي الْبَلَدِ الَّذِي سَبَبُهَا فِيهِ .

( 1801 ) فَصْلٌ : وَالْمُسْتَحَبُّ تَفْرِقَةُ الصَّدَقَةِ فِي بَلَدِهَا ، ثُمَّ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ مِنْ الْقُرَى وَالْبُلْدَانِ .
قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ : لَا بَأْسَ أَنْ يُعْطِيَ زَكَاتَهُ فِي الْقُرَى الَّتِي حَوْلَهُ مَا لَمْ تُقْصَرْ الصَّلَاةُ فِي أَثْنَائِهَا ، وَيَبْدَأُ بِالْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ .
وَإِنْ نَقَلَهَا إلَى الْبَعِيدِ لِتَحَرِّي قَرَابَةٍ ، أَوْ مَنْ كَانَ أَشَدَّ حَاجَةً ، فَلَا بَأْسَ ، مَا لَمْ يُجَاوِزْ مَسَافَةَ الْقَصْرِ .

( 1802 ) فَصْلٌ : وَإِذَا أَخَذَ السَّاعِي الصَّدَقَةَ ، وَاحْتَاجَ إلَى بَيْعِهَا لِمَصْلَحَةِ مَنْ كَلَّفَهُ فِي نَقْلِهَا أَوْ مَرَضِهَا أَوْ نَحْوِهِمَا ، فَلَهُ ذَلِكَ ؛ لِمَا رَوَى قَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى فِي إبِلِ الصَّدَقَةِ نَاقَةً كَوْمَاءَ ، فَسَأَلَ عَنْهَا ؟ فَقَالَ الْمُصَدِّقُ : إنِّي ارْتَجَعْتهَا بِإِبِلٍ .
فَسَكَتَ .
} رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ ، فِي " الْأَمْوَالِ " ، وَقَالَ : الرَّجْعَةُ أَنْ يَبِيعَهَا ، وَيَشْتَرِيَ بِثَمَنِهَا مِثْلَهَا أَوْ غَيْرَهَا .
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَاجَةٌ إلَى بَيْعِهَا ، فَقَالَ الْقَاضِي : لَا يَجُوزُ وَالْبَيْعُ بَاطِلٌ ، وَعَلَيْهِ الضَّمَانُ .
وَيَحْتَمِلُ الْجَوَازَ ؛ لِحَدِيثِ قَيْسٍ ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَكَتَ حِينَ أَخْبَرَهُ الْمُصَدِّقُ بِارْتِجَاعِهَا ، وَلَمْ يَسْتَفْصِلْ .

( 1803 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَإِذَا بَاعَ مَاشِيَةً قَبْلَ الْحَوْلِ بِمِثْلِهَا ، زَكَّاهَا إذَا تَمَّ حَوْلٌ مِنْ وَقْتِ مِلْكِهِ الْأَوَّلِ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا بَاعَ نِصَابًا لِلزَّكَاةِ ، مِمَّا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْحَوْلُ بِجِنْسِهِ ، كَالْإِبِلِ بِالْإِبِلِ ، أَوْ الْبَقَرِ بِالْبَقَرِ ، أَوْ الْغَنَمِ بِالْغَنَمِ ، أَوْ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ ، أَوْ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ ، لَمْ يَنْقَطِعْ الْحَوْلُ ، وَبَنَى حَوْلَ الثَّانِي عَلَى حَوْلِ الْأَوَّلِ .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَنْبَنِي حَوْلُ نِصَابٍ عَلَى حَوْلِ غَيْرِهِ بِحَالٍ ؛ لِقَوْلِهِ : { لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ } .
وَلِأَنَّهُ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ ، فَلَمْ يَنْبَنِ عَلَى حَوْلِ غَيْرِهِ ، كَمَا لَوْ اخْتَلَفَ الْجِنْسَانِ .
وَوَافَقَنَا أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْأَثْمَانِ .
وَوَافَقَ الشَّافِعِيَّ فِيمَا سِوَاهَا ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ إنَّمَا وَجَبَتْ فِي الْأَثْمَانِ لِكَوْنِهَا ثَمَنًا ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَشْمَلُهَا ، بِخِلَافِ غَيْرِهَا .
وَلَنَا ، أَنَّهُ نِصَابٌ يُضَمُّ إلَيْهِ نَمَاؤُهُ فِي الْحَوْلِ ، فَبُنِيَ حَوْلُ بَدَلِهِ مِنْ جِنْسِهِ عَلَى حَوْلِهِ ، كَالْعُرُوضِ ، وَالْحَدِيثُ مَخْصُوصٌ بِالنَّمَاءِ وَالرِّبْحِ وَالْعُرُوضِ ، فَنَقِيسُ عَلَيْهِ مَحَلَّ النِّزَاعِ ، وَالْجِنْسَانِ لَا يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ مَعَ وُجُودِهِمَا .
فَأَوْلَى أَنْ لَا يُبْنَى حَوْلُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ .

( 1804 ) فَصْلٌ : قَالَ أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ : سَأَلْت أَحْمَدَ ، عَنْ الرَّجُلِ يَكُونُ عِنْدَهُ غَنَمٌ سَائِمَةٌ ، فَيَبِيعُهَا بِضِعْفِهَا مِنْ الْغَنَمِ ، أَيُزَكِّيهَا كُلَّهَا ، أَمْ يُعْطِي زَكَاةَ الْأَصْلِ ؟ قَالَ : بَلْ يُزَكِّيهَا كُلَّهَا ، عَلَى حَدِيثِ عُمَرَ فِي السَّخْلَةِ يَرُوحُ بِهَا الرَّاعِي ؛ لِأَنَّ نَمَاءَهَا مَعَهَا .
قُلْت : فَإِنْ كَانَتْ لِلتِّجَارَةِ ؟ قَالَ : يُزَكِّيهَا كُلَّهَا عَلَى حَدِيثِ حَمَاسٍ ، فَأَمَّا إنْ بَاعَ النِّصَابَ بِدُونِ النِّصَابِ انْقَطَعَ الْحَوْلُ ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ مِائَتَانِ فَبَاعَهُمَا بِمِائَةٍ فَعَلَيْهِ زَكَاةُ مِائَةٍ وَحْدَهَا .

( 1805 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَكَذَلِكَ إنْ أَبْدَلَ عِشْرِينَ دِينَارًا بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ ، أَوْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ بِعِشْرِينَ دِينَارًا ، لَمْ تَبْطُلْ الزَّكَاةُ بِانْتِقَالِهَا ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ مَتَى أَبْدَلَ نِصَابًا مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ ، انْقَطَعَ حَوْلُ الزَّكَاةِ وَاسْتَأْنَفَ حَوْلًا ، إلَّا الذَّهَبَ بِالْفِضَّةِ ، أَوْ عُرُوضَ التِّجَارَةِ ؛ لِكَوْنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ كَالْمَالِ الْوَاحِدِ ، إذْ هُمَا أُرُوشُ الْجِنَايَاتِ ، وَقِيَمُ الْمُتْلَفَاتِ ، وَيَضُمُّ أَحَدَهُمَا إلَى الْآخَرِ فِي الزَّكَاةِ .
وَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَى عَرْضًا لِلتِّجَارَةِ بِنِصَابٍ مِنْ الْأَثْمَانِ ، أَوْ بَاعَ عَرْضًا بِنِصَابٍ ، لَمْ يَنْقَطِعْ الْحَوْلُ ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي قِيمَةِ الْعُرُوضِ ، لَا فِي نَفْسِهَا ، وَالْقِيمَةُ هِيَ الْأَثْمَانُ ، فَكَانَا جِنْسًا وَاحِدًا .
وَإِذَا قُلْنَا : إنَّ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ لَا يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى صَاحِبِهِ ، لَمْ يُبْنَ حَوْلُ أَحَدِهِمَا عَلَى حَوْلِ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّهُمَا مَالَانِ لَا يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ ، فَلَمْ يُبْنَ حَوْلُهُ عَلَى حَوْلِهِ ، كَالْجِنْسَيْنِ مِنْ الْمَاشِيَةِ .
وَأَمَّا عُرُوضُ التِّجَارَةِ ، فَإِنَّ حَوْلَهَا يُبْنَى عَلَى حَوْلِ الْأَثْمَانِ بِكُلِّ حَالٍ .

( 1806 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَاشِيَةٌ ، فَبَاعَهَا قَبْلَ الْحَوْلِ بِدَرَاهِمَ ، فِرَارًا مِنْ الزَّكَاةِ ، لَمْ تَسْقُطْ الزَّكَاةُ عَنْهُ ) قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ إبْدَالَ النِّصَابِ بِغَيْرِ جِنْسِهِ يَقْطَعُ الْحَوْلَ ، وَيَسْتَأْنِفُ حَوْلًا آخَرَ .
فَإِنْ فَعَلَ هَذَا فِرَارًا مِنْ الزَّكَاةِ ، لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُبْدَلُ مَاشِيَةً أَوْ غَيْرَهَا مِنْ النُّصُبِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَتْلَفَ جُزْءًا مِنْ النِّصَابِ ، قَصْدًا لِلتَّنْقِيصِ ، لِتَسْقُطَ عَنْهُ الزَّكَاةُ ، لَمْ تَسْقُطْ ، وَتُؤْخَذُ الزَّكَاةُ مِنْهُ فِي آخِرِ الْحَوْلِ ، إذَا كَانَ إبْدَالُهُ وَإِتْلَافُهُ عِنْدَ قُرْبِ الْوُجُوبِ .
وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ ، لَمْ تَجِبْ الزَّكَاةُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَظِنَّةٍ لِلْفِرَارِ .
وَبِمَا ذَكَرْنَاهُ قَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ : تَسْقُطُ عَنْهُ الزَّكَاةُ ؛ لِأَنَّهُ نَقَصَ قَبْلَ تَمَامِ حَوْلِهِ ، فَلَمْ تَجِبْ فِيهِ الزَّكَاةُ ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ لِحَاجَتِهِ .
وَلَنَا ، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { إنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلَا يَسْتَثْنُونَ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ } .
فَعَاقَبَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ ، لِفِرَارِهِمْ مِنْ الصَّدَقَةِ ، وَلِأَنَّهُ قَصَدَ إسْقَاطَ نَصِيبِ مَنْ انْعَقَدَ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِهِ ، فَلَمْ يَسْقُطْ ، كَمَا لَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا قَصَدَ قَصْدًا فَاسِدًا ، اقْتَضَتْ الْحِكْمَةُ مُعَاقَبَتَهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ ، كَمَنْ قَتَلَ مَوْرُوثَهُ لِاسْتِعْجَالِ مِيرَاثِهِ ، عَاقَبَهُ الشَّرْعُ بِالْحِرْمَانِ ، وَإِذَا أَتْلَفَهُ لِحَاجَتِهِ ، لَمْ يَقْصِدْ قَصْدًا فَاسِدًا .

( 1807 ) فَصْلٌ : وَإِذَا حَالَ الْحَوْلُ أَخْرَجَ الزَّكَاةَ مِنْ جِنْسِ الْمَالِ الْمَبِيعِ ، دُونَ الْمَوْجُودِ ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي وَجَبَتْ الزَّكَاةُ بِسَبَبِهِ ، وَلَوْلَاهُ لَمْ تَجِبْ فِي هَذَا زَكَاةٌ .

فَصْلٌ : فَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ بِالْبَيْعِ وَلَا بِالتَّنْقِيصِ الْفِرَارَ ، انْقَطَعَ الْحَوْلُ ، وَاسْتَأْنَفَ بِمَا اسْتَبْدَلَ بِهِ حَوْلًا ، إنْ كَانَ مَحَلًّا لِلزَّكَاةِ فَإِنْ وَجَدَ بِالثَّانِي عَيْبًا ، فَرَدَّهُ أَوْ بَاعَهُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ ، ثُمَّ اسْتَرَدَّهُ ، اسْتَأْنَفَ أَيْضًا حَوْلًا ؛ لِزَوَالِ ؛ مِلْكِهِ بِالْبَيْعِ ، قَلَّ الزَّمَانُ أَوْ كَثُرَ ، وَقَدْ ذَكَرَ الْخِرَقِيِّ هَذَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ، فَقَالَ : وَالْمَاشِيَةُ إذَا بِيعَتْ بِالْخِيَارِ فَلَمْ يَنْقَضِ الْخِيَارُ حَتَّى رُدَّتْ ، اسْتَقْبَلَ الْبَائِعُ بِهَا حَوْلًا ، سَوَاءٌ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ أَوْ لِلْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّهُ تَجْدِيدُ مِلْكٍ .
وَإِنْ حَالَ الْحَوْلُ عَلَى النِّصَابِ الَّذِي اشْتَرَاهُ وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ ، فَإِنْ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا قَبْلَ إخْرَاجِ زَكَاتِهِ فَلَهُ الرَّدُّ ، سَوَاءٌ قُلْنَا الزَّكَاةُ تَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ ، أَوْ بِالذِّمَّةِ ؛ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ أَنَّ الزَّكَاةَ لَا تَجِبُ فِي الْعَيْنِ بِمَعْنَى اسْتِحْقَاقِ الْفُقَرَاءِ جُزْءًا مِنْهُ ، بَلْ بِمَعْنَى تَعَلُّقِ حَقٍّ بِهِ ، كَتَعَلُّقِ الْأَرْشِ بِالْجَانِي ، فَيَرُدُّ النِّصَابَ ، وَعَلَيْهِ إخْرَاجُ زَكَاتِهِ مِنْ مَالٍ آخَرَ .
فَإِنْ أَخْرَجَ الزَّكَاةَ مِنْهُ ، ثُمَّ أَرَادَ رَدَّهُ ، انْبَنَى عَلَى الْمَعِيبِ إذَا حَدَثَ بِهِ عَيْبٌ آخَرُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي ، هَلْ لَهُ رَدُّهُ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ ، وَانْبَنَى أَيْضًا عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ ، فَإِنْ قُلْنَا : يَجُوزُ .
جَازَ الرَّدُّ هَاهُنَا ، وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ .
وَمَتَى رَدَّهُ فَعَلَيْهِ عِوَضُ الشَّاةِ الْمُخْرَجَةِ ، تُحْسَبُ عَلَيْهِ بِالْحِصَّةِ مِنْ الثَّمَنِ ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي قِيمَتِهَا مَعَ يَمِينِهِ ، إذَا لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ ؛ لِأَنَّهَا تَلِفَتْ فِي يَدِهِ ، فَهُوَ أَعْرَفُ بِقِيمَتِهَا ، وَلِأَنَّ الْقِيمَةَ مُدَّعَاةٌ عَلَيْهِ ، فَهُوَ غَارِمٌ ، وَالْقَوْلُ فِي الْأُصُولِ قَوْلُ الْغَارِمِ .
وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ ، أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْبَائِعِ ؛ لِأَنَّهُ يَغْرَمُ الثَّمَنَ ، فَيَرُدُّهُ .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ الْغَارِمَ لِثَمَنِ الشَّاةِ الْمُدَّعَاةِ هُوَ

الْمُشْتَرِي .
فَإِنْ أَخْرَجَ الزَّكَاةَ مِنْ غَيْرِ النِّصَابِ ، فَلَهُ الرَّدُّ وَجْهًا وَاحِدًا .
( 1809 ) فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا ، لَمْ يَنْقَطِعْ حَوْلُ الزَّكَاةِ فِي النِّصَابِ ، وَبَنَى عَلَى حَوْلِهِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ مَا انْتَقَلَ فِيهِ إلَّا أَنْ يَتَعَذَّرَ رَدُّهُ ، فَيَصِيرَ كَالْمَغْصُوبِ ، عَلَى مَا مَضَى .

( 1810 ) فَصْلٌ : وَيَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي النِّصَابِ الَّذِي وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِيهِ ، بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَأَنْوَاعِ التَّصَرُّفَات ، وَلَيْسَ لِلسَّاعِي فَسْخُ الْبَيْعِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ تَصِحُّ ، إلَّا أَنَّهُ إذَا امْتَنَعَ مِنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ نَقَضَ الْبَيْعَ فِي قَدْرِهَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ قَوْلَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّنَا إنْ قُلْنَا إنَّ الزَّكَاةَ تَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ ، فَقَدْ بَاعَ مَا لَا يَمْلِكُهُ ، وَإِنْ قُلْنَا تَتَعَلَّقُ بِالذِّمَّةِ ، فَقَدْرُ الزَّكَاةِ مُرْتَهَنٌ بِهَا ، وَبَيْعُ الرَّهْنِ غَيْرُ جَائِزٍ .
وَلَنَا ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا .
} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَمَفْهُومُهُ صِحَّةُ بَيْعِهَا إذَا بَدَا صَلَاحُهَا ، وَهُوَ عَامٌّ فِيمَا وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ وَغَيْرُهُ .
وَنَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ ، وَبَيْعِ الْعِنَبِ حَتَّى يَسْوَدَّ .
وَهُمَا مِمَّا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ .
وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ فِي الذِّمَّةِ ، وَالْمَالُ خَالٍ عَنْهَا ، فَصَحَّ بَيْعُهُ ، كَمَا لَوْ بَاعَ مَالَهُ ، وَعَلَيْهِ دَيْنُ آدَمِيٍّ ، أَوْ زَكَاةُ فِطْرٍ .
وَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِالْعَيْنِ ، فَهُوَ تَعَلُّقٌ لَا يَمْنَعُ التَّصَرُّفَ فِي جُزْءٍ مِنْ النِّصَابِ ، فَلَمْ يَمْنَعْ بَيْعَ جَمِيعِهِ ، كَأَرْشِ الْجِنَايَةِ .
وَقَوْلُهُمْ : بَاعَ مَا لَا يَمْلِكُهُ .
لَا يَصِحُّ ؛ فَإِنَّ الْمِلْكَ لَمْ يَثْبُتْ لِلْفُقَرَاءِ فِي النِّصَابِ ، بِدَلِيلِ أَنَّ لَهُ أَدَاءَ الزَّكَاةِ مِنْ غَيْرِهِ ، وَلَا يَتَمَكَّنُ الْفُقَرَاءُ مِنْ إلْزَامِهِ أَدَاءَ الزَّكَاةِ مِنْهُ ، وَلَيْسَ بِرَهْنٍ ، فَإِنَّ أَحْكَامَ الرَّهْنِ غَيْرُ ثَابِتَةٍ فِيهِ ، فَإِذَا تَصَرَّفَ فِي النِّصَابِ ثَمَّ أَخْرَجَ الزَّكَاةَ مِنْ غَيْرِهِ ، وَإِلَّا كُلِّفَ إخْرَاجَهَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُلِّفَ تَحْصِيلَهَا ، فَإِنْ عَجَزَ بَقِيَتْ الزَّكَاةُ فِي ذِمَّتِهِ ، كَسَائِرِ الدُّيُونِ ، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ النِّصَابِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُفْسَخَ الْبَيْعُ فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ ، وَتُؤْخَذَ مِنْهُ ،

وَيَرْجِعُ الْبَائِعُ عَلَيْهِ بِقَدْرِهَا ؛ لِأَنَّ عَلَى الْفُقَرَاءِ ضَرَرًا فِي إتْمَامِ الْبَيْعِ ، وَتَفْوِيتًا لِحُقُوقِهِمْ ، فَوَجَبَ فَسْخُهُ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ } وَهَذَا أَصَحُّ .

( 1811 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَالزَّكَاةُ تَجِبُ فِي الذِّمَّةِ بِحُلُولِ الْحَوْلِ وَإِنْ تَلِفَ الْمَالُ ، فَرَّطَ أَوْ لَمْ يُفَرِّطْ ) هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى أَحْكَامٍ ثَلَاثَةٍ : أَحَدُهَا ، أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي الذِّمَّةِ .
وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ إخْرَاجَهَا مِنْ غَيْرِ النِّصَابِ جَائِزٌ ، فَلَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً فِيهِ ، كَزَكَاةِ الْفِطْرِ ، وَلِأَنَّهَا لَوْ وَجَبَتْ فِيهِ ، لَامْتَنَعَ تَصَرُّفُ الْمَالِكِ فِيهِ ، وَلَتَمَكَّنَ الْمُسْتَحِقُّونَ مِنْ إلْزَامِهِ أَدَاءَ الزَّكَاةِ مِنْ عَيْنِهِ ، أَوْ ظَهَرَ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ ثُبُوتِهِ فِيهِ ، وَلَسَقَطَتْ الزَّكَاةُ بِتَلَفِ النِّصَابِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ ، كَسُقُوطِ أَرْشِ الْجِنَايَةِ بِتَلَفِ الْجَانِي .
وَالثَّانِيَةُ ، أَنَّهَا تَجِبُ فِي الْعَيْنِ .
وَهَذَا الْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ هِيَ الظَّاهِرَةُ عِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِنَا ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فِي أَرْبَعِينَ شَاةٍ شَاةٌ .
وَقَوْلِهِ : فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ ، وَفِيمَا سُقِيَ بِدَالِيَةٍ أَوْ نَضْحٍ نِصْفُ الْعُشْرِ } .
وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْوَارِدَةِ بِحَرْفِ " فِي " وَهِيَ لِلظَّرْفِيَّةِ .
وَإِنَّمَا جَازَ الْإِخْرَاجُ مِنْ غَيْرِ النِّصَابِ رُخْصَةً .
وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ أَنَّهَا إذَا كَانَتْ فِي الذِّمَّةِ ، فَحَالَ عَلَى مَالِهِ حَوْلَانِ ، لَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُمَا ، وَجَبَ عَلَيْهِ أَدَاؤُهَا لِمَا مَضَى ، وَلَا تَنْقُصُ عَنْهُ الزَّكَاةُ فِي الْحَوْلِ الثَّانِي ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ نِصَابٍ ، لَمْ تَنْقُصْ الزَّكَاةُ ، وَإِنْ مَضَى عَلَيْهِ أَحْوَالٌ ، فَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً مَضَى عَلَيْهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ لَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا ، وَجَبَ عَلَيْهِ ثَلَاثُ شِيَاهٍ ، وَإِنْ كَانَتْ مِائَةَ دِينَارٍ ، فَعَلَيْهِ سَبْعَةُ دَنَانِيرَ وَنِصْفٌ ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ فِي ذِمَّتِهِ ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِي تَنْقِيصِ النِّصَابِ .
لَكِنْ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ آخَرُ يُؤَدِّي الزَّكَاةَ مِنْهُ ، احْتَمَلَ أَنْ

تَسْقُطَ الزَّكَاةُ فِي قَدْرِهَا ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ .
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : لَا تَسْقُطُ الزَّكَاةُ بِهَذَا بِحَالٍ ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يُسْقِطُ نَفْسَهُ ، وَقَدْ يُسْقِطُ غَيْرَهُ ، بِدَلِيلِ أَنَّ تَغَيُّرَ الْمَاءِ بِالنَّجَاسَةِ فِي مَحَلِّهَا لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ طَهَارَتِهَا وَإِزَالَتِهَا بِهِ ، وَيَمْنَعُ إزَالَةَ نَجَاسَةِ غَيْرِهَا .
وَالْأَوَّلُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ الثَّانِيَةَ غَيْرُ الْأُولَى .
وَإِنْ قُلْنَا : الزَّكَاةُ تَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ .
وَكَانَ النِّصَابُ مِمَّا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهِ ، فَحَالَتْ عَلَيْهِ أَحْوَالٌ لَمْ تُؤَدَّ زَكَاتُهَا ، تَعَلَّقَتْ الزَّكَاةُ فِي الْحَوْلِ الْأَوَّلِ مِنْ النِّصَابِ بِقَدْرِهِ ، فَإِنْ كَانَ نِصَابًا لَا زِيَادَةَ عَلَيْهِ ، فَلَا زَكَاةَ فِيهِ ، فِيمَا بَعْدَ الْحَوْلِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ النِّصَابَ نَقَصَ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ نِصَابٍ عَزَلَ قَدْرَ فَرْضِ الْحَوْلِ الْأَوَّلِ ، وَعَلَيْهِ زَكَاةُ مَا بَقِيَ .
وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ ، فِي رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ .
وَقَالَ ، فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ : إذَا كَانَتْ الْغَنَمُ أَرْبَعِينَ ، فَلَمْ يَأْتِهِ الْمُصَدِّقُ عَامَيْنِ ، فَإِذَا أَخَذَ الْمُصَدِّقُ شَاةً ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْبَاقِي ، وَفِيهِ خِلَافٌ .
وَقَالَ ، فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ : إذَا كَانَ عِنْدَ الرَّجُلِ مِائَتَا دِرْهَمٍ ، فَلَمْ يُزَكِّهَا حَتَّى حَالَ عَلَيْهَا حَوْلٌ آخَرُ ، يُزَكِّيهَا لِلْعَامِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ تَصِيرُ مِائَتَيْنِ غَيْرَ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ .
وَقَالَ ، فِي رَجُلٍ لَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ ، فَلَمْ يُزَكِّهَا سِنِينَ : يُزَكِّي فِي أَوَّلِ سَنَةٍ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ ، ثُمَّ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِحِسَابِ مَا بَقِيَ .
وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَبِي عُبَيْدٍ .
فَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ أَرْبَعُونَ مِنْ الْغَنَمِ نُتِجَتْ سَخْلَةً فِي كُلّ حَوْلٍ ، وَجَبَ عَلَيْهِ فِي كُلّ سَنَةٍ شَاةٌ ؛ لِأَنَّ النِّصَابَ كَمَلَ بِالسَّخْلَةِ الْحَادِثَةِ ، فَإِنْ كَانَ نَتَاجُ السَّخْلَةِ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ بِمُدَّةٍ ، اُسْتُؤْنِفَ الْحَوْلُ

الثَّانِي مِنْ حِينِ نُتِجَتْ ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ كَمَلَ .

فَصْلٌ : فَإِنْ مَلَكَ خَمْسًا مِنْ الْإِبِلِ ، فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا أَحْوَالًا ، فَعَلَيْهِ فِي كُلِّ سَنَةٍ شَاةٌ .
نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ .
قَالَ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ : الْمَالُ غَيْرُ الْإِبِلِ إذَا أُدِّيَ مِنْ الْإِبِلِ ، لَمْ يَنْقُصْ ، وَالْخَمْسُ بِحَالِهَا ، وَكَذَلِكَ مَا دُونَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ مِنْ الْإِبِلِ ، لَا تَنْقُصُ زَكَاتُهَا فِيمَا بَعْدَ الْحَوْلِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ يَجِبُ مِنْ غَيْرِهَا ، فَلَا يُمْكِنُ تَعَلُّقُهُ بِالْعَيْنِ .
وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا ، أَنَّ زَكَاتَهَا تَنْقُصُ ، كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ ، فَإِذَا كَانَ عِنْدَهُ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ ، فَمَضَى عَلَيْهَا أَحْوَالٌ ، لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ فِيهَا إلَّا شَاةٌ وَاحِدَةٌ ؛ لِأَنَّهَا نَقَصَتْ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهَا فِي الْحَوْلِ الْأَوَّلِ عَنْ خَمْسٍ كَامِلَةٍ ، فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ فِيهَا شَيْءٌ ، كَمَا لَوْ مَلَكَ أَرْبَعًا وَجُزْءًا مِنْ بَعِيرٍ .
وَلَنَا ، أَنَّ الْوَاجِبَ مِنْ غَيْرِ النِّصَابِ ، فَلَمْ يَنْقُصْ بِهِ النِّصَابُ ، كَمَا لَوْ أَدَّاهُ ، وَفَارَقَ سَائِرَ الْمَالِ ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ يَتَعَلَّقُ وُجُوبُهَا بِعَيْنِهِ ، فَيَنْقُصُهُ ، كَمَا لَوْ أَدَّاهُ مِنْ النِّصَابِ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ مَلَكَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ ، فَحَالَتْ عَلَيْهَا أَحْوَالٌ ، فَعَلَيْهِ فِي الْحَوْلِ الْأَوَّلِ بِنْتُ مَخَاضٍ ، وَعَلَيْهِ لِكُلِّ حَوْلٍ بَعْدَهُ أَرْبَعُ شِيَاهٍ .
وَإِنْ بَلَغَتْ قِيمَةُ الشَّاةِ الْوَاجِبَةِ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ بِنْتُ مَخَاضٍ ، فَالْوَاجِبُ فِيهَا مِنْ غَيْرِ عَيْنِهَا ، فَيَجِبُ أَنْ لَا تَنْقُصَ زَكَاتُهَا أَيْضًا فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا .
قُلْنَا : إذَا أَدَّى عَنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ أَكْبَرَ مِنْ بِنْتِ مَخَاضٍ ، جَازَ فَقَدْ أَمْكَنَ تَعَلُّقُ الزَّكَاةِ بِعَيْنِهَا ، لِإِمْكَانِ الْأَدَاءِ مِنْهَا ، بِخِلَافِ عِشْرِينَ مِنْ الْإِبِلِ ، فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ وَاحِدَةٌ مِنْهَا ، فَافْتَرَقَا .

( 1813 ) فَصْلٌ : الْحُكْمُ الثَّانِي ، أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ بِحُلُولِ الْحَوْلِ ، سَوَاءٌ تَمَكَّنَ مِنْ الْأَدَاءِ أَوْ لَمْ يَتَمَكَّنْ .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ فِي الْآخَرِ : التَّمَكُّنُ مِنْ الْأَدَاءِ شَرْطٌ ، فَيُشْتَرَطُ لِلْوُجُوبِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ : الْحَوْلُ ، وَالنِّصَابُ ، وَالتَّمَكُّنُ مِنْ الْأَدَاءِ .
وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ .
حَتَّى لَوْ أَتْلَفَ الْمَاشِيَةَ بَعْدَ الْحَوْلِ قَبْلَ إمْكَانِ الْأَدَاءِ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ ، إذَا لَمْ يَقْصِدْ الْفِرَارَ مِنْ الزَّكَاةِ ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ ، فَيُشْتَرَطُ لِوُجُوبِهَا إمْكَانُ أَدَائِهَا كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ .
وَلَنَا ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ } .
فَمَفْهُومُهُ ، وُجُوبُهَا عَلَيْهِ إذَا حَالَ الْحَوْلُ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ الْأَدَاءِ حَتَّى حَالَ عَلَيْهِ حَوْلَانِ ، وَجَبَتْ عَلَيْهِ زَكَاةُ الْحَوْلَيْنِ ، وَلَا يَجُوزُ وُجُوبُ فَرْضَيْنِ فِي نِصَابٍ وَاحِدٍ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ ، وَقِيَاسُهُمْ يَنْقَلِبُ عَلَيْهِمْ ، فَإِنَّنَا نَقُولُ : هَذِهِ عِبَادَةٌ ، فَلَا يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِهَا إمْكَانُ أَدَائِهَا ، كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ ، فَإِنَّ الصَّوْمَ يَجِبُ عَلَى الْحَائِضِ وَالْمَرِيضِ الْعَاجِزِ عَنْ أَدَائِهِ ، وَالصَّلَاةُ تَجِبُ عَلَى الْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالنَّائِمِ ، وَمَنْ أَدْرَكَ مِنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ جُزْءًا ثُمَّ جُنَّ أَوْ حَاضَتْ الْمَرْأَةُ ، وَالْحَجُّ يَجِبُ عَلَى مِنْ أَيْسَرَ فِي وَقْتٍ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْحَجِّ فِيهِ ، أَوْ مَنَعَهُ مِنْ الْمُضِيِّ مَانِعٌ .
ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ، أَنَّ تِلْكَ عِبَادَاتٌ بَدَنِيَّةٌ ، يُكَلَّفُ فِعْلَهَا بِبَدَنِهِ ، فَأَسْقَطَهَا تَعَذُّرُ فِعْلِهَا ، وَهَذِهِ عِبَادَةٌ مَالِيَّةٌ ، يُمْكِنُ ثُبُوتُ الشَّرِكَةِ لِلْمَسَاكِينِ فِي مَالِهِ وَالْوُجُوبُ فِي ذِمَّتِهِ مَعَ عَجْزِهِ عَنْ الْأَدَاءِ ، كَثُبُوتِ الدُّيُونِ فِي ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ وَتَعَلُّقِهَا بِمَالِهِ بِجِنَايَتِهِ .

( 1814 ) فَصْلٌ : الثَّالِثُ ، أَنَّ الزَّكَاةَ لَا تَسْقُطُ بِتَلَفِ الْمَالِ ، فَرَّطَ أَوْ لَمْ يُفَرِّطْ .
هَذَا الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ ، وَحَكَى عَنْهُ الْمَيْمُونِيُّ أَنَّهُ إذَا تَلِفَ النِّصَابُ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْأَدَاءِ ، سَقَطَتْ الزَّكَاةُ عَنْهُ ، وَإِنْ تَلِفَ بَعْدَهُ ، لَمْ تَسْقُطْ .
وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ مَذْهَبًا لِأَحْمَدَ .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ، وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحِ ، وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ .
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، إلَّا فِي الْمَاشِيَةِ ، فَإِنَّهُ قَالَ : لَا شَيْءَ فِيهَا حَتَّى يَجِيءَ الْمُصَدِّقُ ، فَإِنْ هَلَكَتْ قَبْلَ مَجِيئُهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تَسْقُطُ الزَّكَاةُ بِتَلَفِ النِّصَابِ عَلَى كُلِّ حَالٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ قَدْ طَالَبَهُ بِهَا فَمَنَعَهَا ؛ لِأَنَّهُ تَلَفٌ قَبْلَ مَحَلِّ الِاسْتِحْقَاقِ ، فَسَقَطَتْ الزَّكَاةُ ، كَمَا لَوْ تَلْفِت الثَّمَرَةُ قَبْلَ الْجِذَاذِ ، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ ، فَسَقَطَ بِتَلَفِهَا ، كَأَرْشِ الْجِنَايَةِ فِي الْعَبْدِ الْجَانِي .
وَمَنْ اشْتَرَطَ التَّمَكُّنَ قَالَ : هَذِهِ عِبَادَةٌ يَتَعَلَّقُ وُجُوبُهَا بِالْمَالِ ، فَيَسْقُطُ فَرْضُهَا بِتَلَفِهِ قَبْلَ إمْكَانِ أَدَائِهَا ، كَالْحَجِّ .
وَمَنْ نَصَرَ الْأَوَّلَ قَالَ : مَالٌ وَجَبَ فِي الذِّمَّةِ ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِتَلَفِ النِّصَابِ ، كَالدَّيْنِ ، أَوْ لَمْ يُشْتَرَطْ فِي ضَمَانِهِ إمْكَانُ الْأَدَاءِ ، كَثَمَنِ الْمَبِيعِ ، وَالثَّمَرَةُ لَا تَجِبُ زَكَاتُهَا فِي الذِّمَّةِ حَتَّى تُحْرَزَ ؛ لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ غَيْرِ الْمَقْبُوضِ ، وَلِهَذَا لَوْ تَلِفَتْ بِجَائِحَةٍ كَانَتْ فِي ضَمَانِ الْبَائِعِ ، عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْخَبَرُ .
وَإِذَا قُلْنَا بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْعَيْنِ ، فَلَيْسَ هُوَ بِمَعْنَى اسْتِحْقَاقِ جُزْءٍ مِنْهُ ، وَلِهَذَا لَا يُمْنَعُ التَّصَرُّفُ فِيهِ ، وَالْحَجُّ لَا يَجِبُ حَتَّى يَتَمَكَّنَ مِنْ الْأَدَاءِ ، فَإِذَا وَجَبَ لَمْ يَسْقُطْ بِتَلَفِ الْمَالِ ، بِخِلَافِ الزَّكَاةِ ، فَإِنَّ التَّمَكُّنَ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِهَا ، عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ .
وَالصَّحِيحُ ، إنْ شَاءَ

اللَّهُ ، أَنَّ الزَّكَاةَ تَسْقُطُ بِتَلَفِ الْمَالِ ، إذَا لَمْ يُفَرِّطْ فِي الْأَدَاءِ ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ عَلَى سَبِيلِ الْمُوَاسَاةِ ، فَلَا تَجِبُ عَلَى وَجْهٍ يَجِبُ أَدَاؤُهَا مَعَ عَدَمِ الْمَالِ وَفَقْرِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ ، وَمَعْنَى التَّفْرِيطِ ، أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ إخْرَاجِهَا فَلَا يُخْرِجُهَا ، وَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ إخْرَاجِهَا ، فَلَيْسَ بِمُفْرِطٍ ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ لِعَدَمِ الْمُسْتَحِقِّ ، أَوْ لِبُعْدِ الْمَالِ عَنْهُ ، أَوْ لِكَوْنِ الْفَرْضِ لَا يُوجَدُ فِي الْمَالِ ، وَيَحْتَاجُ إلَى شِرَائِهِ ، فَلَمْ يَجِدْ مَا يَشْتَرِيه ، أَوْ كَانَ فِي طَلَبِ الشِّرَاءِ ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ .
وَإِنْ قُلْنَا بِوُجُوبِهَا بَعْدَ تَلَفِ الْمَالِ ، فَأَمْكَنَ الْمَالِكَ أَدَاؤُهَا أَدَّاهَا ، وَإِلَّا أُنْظِرَ بِهَا إلَى مَيْسَرَتِهِ ، وَتَمَكُّنِهِ مِنْ أَدَائِهَا مِنْ غَيْرِ مَضَرَّةٍ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَزِمَ إنْظَارُهُ بِدَيْنِ الْآدَمِيِّ الْمُتَعَيِّنِ فَبِالزَّكَاةِ الَّتِي هِيَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى أَوْلَى .

( 1815 ) فَصْلٌ : وَلَا تَسْقُطُ الزَّكَاةُ بِمَوْتِ رَبِّ الْمَالِ ، وَتُخْرَجُ مِنْ مَالِهِ ، وَإِنْ لَمْ يُوصِ بِهَا .
هَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ ، وَالْحَسَنِ ، وَالزُّهْرِيِّ ، وَقَتَادَةَ ، وَمَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَإِسْحَاقَ ، وَأَبِي ثَوْرٍ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ .
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ ، وَاللَّيْثُ ، تُؤْخَذُ مِنْ الثُّلُثِ ، مُقَدَّمَةً عَلَى الْوَصَايَا ، وَلَا يُجَاوِزُ الثُّلُثَ .
وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ ، وَدَاوُد بْنُ أَبِي هِنْدٍ ، وَحُمَيْدٌ الطَّوِيلُ ، وَالْمُثَنَّى ، وَالثَّوْرِيُّ : لَا تُخْرَجُ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَوْصَى بِهَا .
وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ ، وَجَعَلُوهَا إذَا أَوْصَى بِهَا وَصِيَّةً تُخْرَجُ مِنْ الثُّلُثِ ، وَيُزَاحَمُ بِهَا أَصْحَابُ الْوَصَايَا ، وَإِذَا لَمْ يُوصِ بِهَا سَقَطَتْ ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ مِنْ شَرْطِهَا النِّيَّةُ ، فَسَقَطَتْ بِمَوْتِ مَنْ هِيَ عَلَيْهِ ، كَالصَّوْمِ .
وَلَنَا ، أَنَّهَا حَقٌّ وَاجِبٌ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِهِ ، فَلَمْ تَسْقُطْ بِالْمَوْتِ ، كَدَيْنِ الْآدَمِيِّ ، وَلِأَنَّهَا حَقٌّ مَالِيٌّ وَاجِبٌ فَلَمْ يَسْقُطْ بِمَوْتِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ ، كَالدَّيْنِ ، وَيُفَارِقُ الصَّوْمَ وَالصَّلَاةَ ، فَإِنَّهُمَا عِبَادَتَانِ بَدَنِيَّتَانِ لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِهِمَا ، وَلَا النِّيَابَةُ فِيهِمَا .
ا هـ .

( 1816 ) فَصْلٌ : وَتَجِبُ الزَّكَاةُ عَلَى الْفَوْرِ ، فَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ إخْرَاجِهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ ، وَالتَّمَكُّنِ مِنْهُ ، إذَا لَمْ يَخْشَ ضَرَرًا .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَهُ التَّأْخِيرُ مَا لَمْ يُطَالَبْ ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِأَدَائِهَا مُطْلَقٌ ، فَلَا يَتَعَيَّنْ الزَّمَنُ الْأَوَّلُ لِأَدَائِهَا دُونَ غَيْرِهِ ، كَمَا لَا يَتَعَيَّنُ لِذَلِكَ مَكَانٌ دُونَ مَكَان .
وَلَنَا ، أَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ يَقْتَضِي الْفَوْرَ ، عَلَى مَا يُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهِ ، وَلِذَلِكَ يَسْتَحِقُّ الْمُؤَخِّرُ لِلِامْتِثَالِ الْعِقَابَ ، وَلِذَلِكَ أَخْرَجَ اللَّهُ تَعَالَى إبْلِيسَ ، وَسَخِطَ عَلَيْهِ وَوَبَّخَهُ ، بِامْتِنَاعِهِ عَنْ السُّجُودِ ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَمَرَ عَبْدَهُ أَنْ يَسْقِيَهُ ، فَأَخَّرَ ذَلِكَ ، اسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ ، وَلِأَنَّ جَوَازَ التَّأْخِيرِ يُنَافِي الْوُجُوبَ ، لِكَوْنِ الْوَاجِبِ مَا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ ، وَلَوْ جَازَ التَّأْخِيرُ ، لَجَازَ إلَى غَيْرِ غَايَةٍ ، فَتَنْبَغِي الْعُقُوبَةُ بِالتَّرْكِ ، وَلَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ لَا يَقْتَضِي الْفَوْرَ ، لَاقْتَضَاهُ فِي مَسْأَلَتِنَا ، إذْ لَوْ جَازَ التَّأْخِيرُ هَاهُنَا لَأَخَّرَهُ بِمُقْتَضَى طَبْعِهِ ، ثِقَةً مِنْهُ بِأَنَّهُ لَا يَأْثَمُ بِالتَّأْخِيرِ ، فَيَسْقُطُ عَنْهُ بِالْمَوْتِ ، أَوْ بِتَلَفِ مَالِهِ ، أَوْ بِعَجْزِهِ عَنْ الْأَدَاءِ ، فَيَتَضَرَّرَ الْفُقَرَاءُ .
وَلِأَنَّ هَاهُنَا قَرِينَةً تَقْتَضِي الْفَوْرَ ، وَهُوَ أَنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ لِحَاجَةِ الْفُقَرَاءِ ، وَهِيَ نَاجِزَةٌ ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْوُجُوبُ ، نَاجِزًا وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَتَكَرَّرُ ، فَلَمْ يَجُزْ تَأْخِيرُهَا إلَى وَقْتِ وُجُوبِ مِثْلِهَا ، كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ .
قَالَ الْأَثْرَمُ : سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ سُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يَحُولُ الْحَوْلُ عَلَى مَالِهِ ، فَيُؤَخِّرُ عَنْ وَقْتِ الزَّكَاةِ ؟ فَقَالَ : لَا ، وَلَمْ يُؤَخِّرُ إخْرَاجَهَا ؟ وَشَدَّدَ فِي ذَلِكَ .
قِيلَ : فَابْتَدَأَ فِي إخْرَاجِهَا ، فَجَعَلَ يُخْرِجُ أَوَّلًا فَأَوَّلًا .
فَقَالَ : لَا ، بَلْ يُخْرِجُهَا كُلَّهَا إذَا حَالَ

الْحَوْلُ .
فَأَمَّا إذَا كَانَتْ عَلَيْهِ مَضَرَّةٌ فِي تَعْجِيلِ الْإِخْرَاجِ ، مِثْلُ مَنْ يَحُولُ حَوْلُهُ قَبْلَ مَجِيءِ السَّاعِي ، وَيَخْشَى إنْ أَخْرَجَهَا بِنَفْسِهِ أَخَذَهَا السَّاعِي مِنْهُ مَرَّةً أُخْرَى ، فَلَهُ تَأْخِيرُهَا .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
وَكَذَلِكَ إنْ خَشِيَ فِي إخْرَاجِهَا ضَرَرًا فِي نَفْسِهِ أَوْ مَالٍ لَهُ سِوَاهَا ، فَلَهُ تَأْخِيرُهَا ؛ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ } وَلِأَنَّهُ إذَا جَازَ تَأْخِيرُ قَضَاءِ دَيْنِ الْآدَمِيِّ لِذَلِكَ ، فَتَأْخِيرُ الزَّكَاةِ أَوْلَى .

( 1817 ) فَصْلٌ : فَإِنْ أَخَّرَهَا لِيَدْفَعَهَا إلَى مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِهَا ، مِنْ ذِي قَرَابَةٍ ، أَوْ ذِي حَاجَةٍ شَدِيدَةٍ ، فَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا ، فَلَا بَأْسَ ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا ، لَمْ يَجُزْ .
قَالَ أَحْمَدُ : لَا يُجْزِئُ عَلَى أَقَارِبِهِ مِنْ الزَّكَاةِ فِي كُلِّ شَهْرٍ .
يَعْنِي لَا يُؤَخِّرُ إخْرَاجَهَا حَتَّى يَدْفَعَهَا إلَيْهِمْ مُتَفَرِّقَةً ، فِي كُلِّ شَهْرٍ شَيْئًا ، فَأَمَّا إنْ عَجَّلَهَا فَدَفَعَهَا إلَيْهِمْ ، أَوْ إلَى غَيْرِهِمْ مُتَفَرِّقَةً أَوْ مَجْمُوعَةً ، جَازَ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤَخِّرْهَا عَنْ وَقْتِهَا ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ عِنْدَهُ مَالَانِ ، أَوْ أَمْوَالٌ ، زَكَاتُهَا وَاحِدَةٌ ، وَتَخْتَلِفُ أَحْوَالُهَا ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ نِصَابٌ ، وَقَدْ اسْتَفَادَ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ مِنْ جِنْسِهِ دُونَ النِّصَابِ ، لَمْ يَجُزْ تَأْخِيرُ الزَّكَاةِ لِيَجْمَعَهَا كُلَّهَا ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ جَمْعُهَا بِتَعْجِيلِهَا فِي أَوَّلِ وَاجِبٍ مِنْهَا .

( 1818 ) فَصْلٌ : فَإِنْ أَخَّرَ الزَّكَاةَ ، فَلَمْ يَدْفَعْهَا إلَى الْفَقِيرِ حَتَّى ضَاعَتْ ، لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ .
كَذَلِكَ قَالَ الزُّهْرِيُّ ، وَالْحَكَمُ ، وَحَمَّادٌ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَأَبُو عُبَيْدٍ .
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ ، إلَّا أَنَّهُ قَالَ : إنْ لَمْ يَكُنْ فَرَّطَ فِي إخْرَاجِ الزَّكَاةِ ، وَفِي حِفْظِ ذَلِكَ الْمُخْرَجِ ، رُجِعَ إلَى مَالِهِ ، فَإِنْ كَانَ فِيمَا بَقِيَ زَكَاةٌ أَخْرَجَهَا ، وَإِلَّا فَلَا .
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ : يُزَكِّي مَا بَقِيَ ، إلَّا أَنْ يَنْقُصَ عَنْ النِّصَابِ فَتَسْقُطَ الزَّكَاةُ ، فَرَّطَ أَوْ لَمْ يُفَرِّطْ .
وَقَالَ مَالِكٌ : أَرَاهَا تُجْزِئُهُ إذَا أَخْرَجَهَا فِي مَحَلِّهَا ، وَإِنْ أَخْرَجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ ضَمِنَهَا .
وَقَالَ مَالِكٌ : يُزَكِّي مَا بَقِيَ بِقِسْطِهِ ، وَإِنْ بَقِيَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ حَقٌّ مُتَعَيِّنٌ عَلَى رَبِّ الْمَالِ ، تَلِفَ قَبْلَ وُصُولِهِ إلَى مُسْتَحِقِّهِ ، فَلَمْ يَبْرَأْ مِنْهُ بِذَلِكَ ، كَدَيْنِ الْآدَمِيِّ .
قَالَ أَحْمَدُ : وَلَوْ دَفَعَ إلَى أَحَدٍ زَكَاتَهُ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ ، فَقَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهَا مِنْهُ ، قَالَ : اشْتَرِ لِي بِهَا ثَوْبًا أَوْ طَعَامًا .
فَذَهَبَتْ الدَّرَاهِمُ ، أَوْ اشْتَرَى بِهَا مَا قَالَ فَضَاعَ مِنْهُ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَ مَكَانَهَا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْهَا مِنْهُ ، وَلَوْ قَبَضَهَا مِنْهُ ثُمَّ رَدَّهَا إلَيْهِ ، وَقَالَ : اشْتَرِ لِي بِهَا .
فَضَاعَتْ ، أَوْ ضَاعَ مَا اشْتَرَى بِهَا ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ فَرَّطَ .
وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّ الزَّكَاةَ لَا يَمْلِكُهَا الْفَقِيرُ إلَّا بِقَبْضِهَا ، فَإِذَا وَكَّلَهُ فِي الشِّرَاءِ بِهَا كَانَ التَّوْكِيلُ فَاسِدًا ، لِأَنَّهُ وَكَّلَهُ فِي الشِّرَاءِ بِمَا لَيْسَ لَهُ ، وَبَقِيَتْ عَلَى مِلْكِ رَبِّ الْمَالِ ، فَإِذَا تَلِفَتْ كَانَتْ فِي ضَمَانِهِ .

فَصْلٌ : وَلَوْ عَزَلَ قَدْرَ الزَّكَاةِ ، فَنَوَى أَنَّهُ زَكَاةٌ ، فَتَلِفَ ، فَهُوَ فِي ضَمَانِ رَبِّ الْمَالِ ، وَلَا تَسْقُطُ الزَّكَاةُ عَنْهُ بِذَلِكَ ، سَوَاءٌ قَدَرَ عَلَى أَنْ يَدْفَعَهَا إلَيْهِ أَوْ لَمْ يَقْدِرْ ، وَالْحُكْمُ فِيهِ كَالْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا .
ا هـ .

( 1820 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَمَنْ رَهَنَ مَاشِيَةً ، فَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ ، أَدَّى مِنْهَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يُؤَدِّي عَنْهَا ، وَالْبَاقِي رَهْنٌ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا رَهَنَ مَاشِيَةً ، فَحَالَ الْحَوْلُ وَهِيَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ ، وَجَبَتْ زَكَاتُهَا عَلَى الرَّاهِنِ ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ فِيهَا تَامٌّ ، فَإِنْ أَمْكَنَهُ أَدَاؤُهَا مِنْ غَيْرِهَا ، وَجَبَتْ ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ مِنْ مُؤْنَةِ الرَّهْنِ ، وَمُؤْنَةُ الرَّهْنِ تَلْزَمُ الرَّاهِنَ ، كَنَفَقَةِ النِّصَابِ ، وَلَا يُخْرِجُهَا مِنْ النِّصَابِ ، لِأَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ مُتَعَلِّقٌ بِهِ تَعَلُّقًا يَمْنَعُ تَصَرُّفَ الرَّاهِنِ فِيهِ ، وَالزَّكَاةُ لَا يَتَعَيَّنُ إخْرَاجُهَا مِنْهُ ، فَلَمْ يَمْلِكْ إخْرَاجَهَا مِنْهُ كَزَكَاةِ مَالٍ سِوَاهُ .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يُؤَدِّي مِنْهُ سِوَى هَذَا الرَّهْنِ ، فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَالٌ يُمْكِنُ قَضَاءُ الدَّيْنِ مِنْهُ ، وَيَبْقَى بَعْدَ قَضَائِهِ نِصَابٌ كَامِلٌ ، مِثْلُ أَنْ تَكُونَ الْمَاشِيَةُ زَائِدَةً عَلَى النِّصَابِ قَدْرًا يُمْكِنُ قَضَاءُ الدَّيْنِ مِنْهُ ، وَيَبْقَى النِّصَابُ ، فَإِنَّهُ يُخْرِجُ الزَّكَاةَ مِنْ الْمَاشِيَةِ ، وَيُقَدِّمُ حَقَّ الزَّكَاةِ عَلَى حَقِّ الْمُرْتَهِنِ ، لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ يَرْجِعُ إلَى بَدَلٍ ، وَهُوَ اسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ ، وَحُقُوقُ الْفُقَرَاءِ فِي الزَّكَاةِ لَا بَدَلَ لَهَا .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ يَقْضِي بِهِ الدَّيْنَ ، وَيَبْقَى بَعْدَ قَضَائِهِ نِصَابٌ ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا ، تَجِبُ الزَّكَاةُ أَيْضًا .
وَلَا يَمْنَعُ الدَّيْنُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ ، وَهِيَ الْمَوَاشِي وَالْحُبُوبُ .
قَالَهُ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ .
قَالَ : لِأَنَّ الْمُصَدِّقَ لَوْ جَاءَ فَوَجَدَ إبِلًا وَغَنَمًا ، لَمْ يَسْأَلْ صَاحِبَهَا أَيَّ شَيْءٍ عَلَيْك مِنْ الدَّيْنِ ، وَلَكِنَّهُ يُزَكِّيهَا ، وَالْمَالُ لَيْسَ كَذَلِكَ ، وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ هَاهُنَا ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ عَامٌّ فِي كُلِّ مَاشِيَةٍ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ آكَدُ ؛ لِظُهُورِهَا ، وَتَعَلُّقِ

قُلُوبِ الْفُقَرَاءِ بِهَا ، لِرُؤْيَتِهِمْ .
إيَّاهَا ، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى حِفْظِهَا أَشَدُّ ، وَلِأَنَّ السَّاعِيَ يَتَوَلَّى أَخْذَ الزَّكَاةِ مِنْهَا وَلَا يَسْأَلُ عَنْ دَيْنِ صَاحِبِهَا .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ ؛ لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهَا .
وَيَمْنَعُ الدَّيْنُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي الْأَمْوَالِ كُلِّهَا مِنْ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ .
قَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى : الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ الدَّيْنَ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ .
وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَمَكْحُولٍ ، وَالثَّوْرِيِّ .
وَحَكَى ذَلِكَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُمْ فِي الزَّرْعِ إذَا اسْتَدَانَ عَلَيْهِ صَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيْ الزَّكَاةِ ، فَيَمْنَعُ الدَّيْنُ وُجُوبَهَا ، كَالنَّوْعِ الْآخَرِ ، وَلِأَنَّ الْمَدِينَ مُحْتَاجٌ ، وَالصَّدَقَةُ إنَّمَا تَجِبُ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ ، بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { أُمِرْت أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ ، فَأَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِهِمْ } .
{ وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : لَا صَدَقَةَ إلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى } .
وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ ، فِي كِتَابِ " الْأَمْوَالِ " ، عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ ، قَالَ : سَمِعْت عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ يَقُولُ : هَذَا شَهْرُ زَكَاتِكُمْ فَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلْيُؤَدِّهِ ، حَتَّى تُخْرِجُوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ زَكَاةٌ لَمْ تُطْلَبْ مِنْهُ ، حَتَّى يَأْتِيَ تَطَوُّعًا .
قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ : أَرَاهُ يَعْنِي شَهْرَ رَمَضَانَ .

( 1821 ) فَصْلٌ : وَلَوْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، وَأَقَامَ بِهَا سِنِينَ لَمْ يُؤَدِّ زَكَاةً ، أَوْ غَلَبَ الْخَوَارِجُ عَلَى بَلْدَةٍ ، فَأَقَامَ أَهْلُهُ سِنِينَ لَا يُؤَدُّونَ الزَّكَاةَ ، ثُمَّ غَلَبَ عَلَيْهِمْ الْإِمَامُ ، أَدَّوْا الْمَاضِيَ ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ : لَا زَكَاةَ عَلَيْهِمْ لِمَا مَضَى فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ .
وَلَنَا ، أَنَّ الزَّكَاةَ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ ، فَلَمْ تَسْقُطْ عَمَّنْ هُوَ فِي غَيْرِ قَبْضَةِ الْإِمَامِ ، كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ .

( 1822 ) فَصْلٌ : إذَا تَوَلَّى الرَّجُلُ إخْرَاجَ زَكَاتِهِ ، فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَبْدَأَ بِأَقَارِبِهِ الَّذِينَ يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَيْهِمْ ؛ { فَإِنَّ زَيْنَبَ سَأَلَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَيُجْزِئُ عَنِّي مِنْ الصَّدَقَةِ النَّفَقَةُ عَلَى زَوْجِي ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَهَا أَجْرَانِ : أَجْرُ الصَّدَقَةِ ، وَأَجْرُ الْقَرَابَةِ } .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ، وَابْنُ مَاجَهْ .
وَفِي لَفْظٍ : أَيَسَعُنِي أَنْ أَضَعَ صَدَقَتِي فِي زَوْجِي وَبَنِي أَخٍ لِي أَيْتَامٍ ؟ فَقَالَ " نَعَمْ ، لَهَا أَجْرَانِ : أَجْرُ الصَّدَقَةِ وَأَجْرُ الْقَرَابَةِ " .
رَوَاهُ النَّسَائِيّ .
{ وَلَمَّا تَصَدَّقَ أَبُو طَلْحَةَ بِحَائِطِهِ ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اجْعَلْهُ فِي قَرَابَتِك } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَبْدَأَ بِالْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ مَنْ هُوَ أَشَدُّ حَاجَةً فَيُقَدِّمَهُ ، وَلَوْ كَانَ غَيْرُ الْقَرَابَةِ أَحْوَجَ أَعْطَاهُ .
قَالَ أَحْمَدُ : إنْ كَانَتْ الْقَرَابَةُ مُحْتَاجَةً أَعْطَاهَا ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُمْ أَحْوَجَ أَعْطَاهُمْ ، وَيُعْطِي الْجِيرَانَ .
وَقَالَ : إنْ كَانَ قَدْ عَوَّدَ قَوْمًا بِرًّا فَيَجْعَلُهُ فِي مَالِهِ ، وَلَا يَجْعَلُهُ مِنْ الزَّكَاةِ ، وَلَا يُعْطِي الزَّكَاةِ مَنْ يَمُونُ ، وَلَا مَنْ تَجْرِي عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ ، وَإِنْ أَعْطَاهُمْ لَمْ يَجُزْ .
وَهَذَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - إذَا عَوَّدَهُمْ بِرًّا مِنْ غَيْرِ الزَّكَاةِ ، وَإِذَا أَعْطَى مَنْ تَجْرِي عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ شَيْئًا يَصْرِفُهُ فِي نَفَقَتِهِ ، فَأَمَّا إنَّ عَوَّدَهُمْ دَفْعَ زَكَاتِهِ إلَيْهِمْ ، أَوْ أَعْطَى مَنْ تَجْرِي عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ تَطَوُّعًا شَيْئًا مِنْ الزَّكَاةِ يَصْرِفُهُ فِي غَيْرِ النَّفَقَة وَحَوَائِجِهِ ، فَلَا بَأْسَ .
وَقَالَ أَبُو دَاوُد : قُلْت لِأَحْمَدَ : يُعْطِي أَخَاهُ وَأُخْتَه مِنْ الزَّكَاةِ ؟ قَالَ : نَعَمْ ؛ إذَا لَمْ يَقِ بِهِ مَالَهُ ، أَوْ يَدْفَعْ بِهِ مَذَمَّةً .
قِيلَ لِأَحْمَدَ : فَإِذَا اسْتَوَى فُقَرَاءُ قَرَابَاتِي وَالْمَسَاكِينُ ؟ قَالَ : فَهُمْ كَذَلِكَ أَوْلَى ، فَأَمَّا

إنْ كَانَ غَيْرُهُمْ أَحْوَجَ ، فَإِنَّمَا يُرِيدُ يُغْنِيهِمْ وَيَدَعُ غَيْرَهُمْ ، فَلَا .
قِيلَ لَهُ : فَيُعْطِي امْرَأَةَ ابْنِهِ مِنْ الزَّكَاةِ .
قَالَ : إنْ كَانَ لَا يُرِيدُ بِهِ كَذَا - شَيْئًا ذَكَرَهُ - فَلَا بَأْسَ بِهِ .
كَأَنَّهُ أَرَادَ مَنْفَعَةَ ابْنِهِ .
قَالَ أَحْمَدُ : كَانَ الْعُلَمَاءُ يَقُولُونَ فِي الزَّكَاةِ : لَا تُدْفَعُ بِهَا مَذَمَّةٌ ، وَلَا يُحَابَى بِهَا قَرِيبٌ ، وَلَا يُبْقِي بِهَا مَالًا .
وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ رَجُلٍ لَهُ قَرَابَةٌ يُجْرِي عَلَيْهَا مِنْ الزَّكَاةِ ؟ قَالَ : إنْ كَانَ عَدَّهَا مِنْ عِيَالِهِ ، فَلَا يُعْطِيهَا .
قِيلَ لَهُ : إنَّمَا يُجْرِي عَلَيْهَا شَيْئًا مَعْلُومًا فِي كُلِّ شَهْرٍ ، قَالَ : إذَا كَفَاهَا ذَلِكَ .
وَفِي الْجُمْلَةِ ، مَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ ، فَلَهُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَيْهِ ، وَيُقَدِّمُ الْأَحْوَجَ فَالْأَحْوَجَ ، فَإِنْ شَاءُوا قَدَّمَ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ إلَيْهِ ، ثُمَّ مَنْ كَانَ أَقْرَبَ فِي الْجِوَارِ وَأَكْثَرَ دَيْنًا .
وَكَيْفَ فَرَّقَهَا ، بَعْدَ مَا يَضَعُهَا فِي الْأَصْنَافِ الَّذِينَ سَمَّاهُمْ اللَّهُ تَعَالَى ، جَازَ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ زَكَاةِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ وَالْأَصْلُ فِيهَا الْكِتَابُ ، وَالسُّنَّةُ ؛ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ } وَالزَّكَاةُ تُسَمَّى نَفَقَةً ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } .
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : حَقُّهُ : الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ .
وَقَالَ مَرَّةً : الْعُشْرُ ، وَنِصْفُ الْعُشْرِ .
.
وَمِنْ السُّنَّةِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ ، { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ وَكَانَ عَثَرِيًّا الْعُشْرُ ، وَفِيمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ } .
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ ، وَأَبُو دَاوُد ، وَالتِّرْمِذِيُّ .
وَعَنْ جَابِرٍ ، أَنَّهُ { سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : فِيمَا سَقَتْ الْأَنْهَارُ وَالْغَيْمُ الْعُشْرُ ، وَفِيمَا سُقِيَ بِالسَّانِيَةِ نِصْفُ الْعُشْرِ } أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ ، وَأَبُو دَاوُد .
وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ وَاجِبَةٌ فِي الْحِنْطَةِ ، وَالشَّعِيرِ ، وَالتَّمْرِ ، وَالزَّبِيبِ .
قَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ

( 1823 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ ( وَكُلُّ مَا أَخْرَجَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ الْأَرْضِ مِمَّا يَيْبَسُ وَيَبْقَى ، مِمَّا يُكَالُ وَيَبْلُغُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ فَصَاعِدًا ، فَفِيهِ الْعُشْرُ ، إنْ كَانَ سَقْيُهُ مِنْ السَّمَاءِ والسوح ، وَإِنْ كَانَ يُسْقَى بِالدَّوَالِي وَالنَّوَاضِحِ وَمَا فِيهِ الْكَلَفُ ، فَنِصْفُ الْعُشْرِ ) .
هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى أَحْكَامٍ ؛ مِنْهَا ، أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِيمَا جَمَعَ هَذِهِ الْأَوْصَافَ : الْكَيْلُ ، وَالْبَقَاءُ ، وَالْيُبْسُ ، مِنْ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ ، مِمَّا يُنْبِتُهُ الْآدَمِيُّونَ ، إذَا نَبَتَ فِي أَرْضِهِ ، سَوَاءٌ كَانَ قُوتًا ، كَالْحِنْطَةِ ، وَالشَّعِيرِ ، وَالسُّلْتِ ، وَالْأُرْزِ ، وَالذُّرَةِ ، وَالدُّخْنِ ، أَوْ مِنْ الْقُطْنِيَّاتِ ، كَالْبَاقِلَّا ، وَالْعَدَسِ ، وَالْمَاشِ وَالْحِمَّصِ ، أَوْ مِنْ الْأَبَازِيرِ ، كَالْكُسْفُرَةِ ، وَالْكَمُّونِ ، وَالْكَرَاوْيَا ، أَوْ الْبُزُورِ ، كَبَزْرِ الْكَتَّانِ ، وَالْقِثَّاءِ ، وَالْخِيَارِ ، أَوْ حَبِّ الْبُقُولِ ، كَالرَّشَادِ ، وَحَبِّ الْفُجْلِ ، وَالْقُرْطُمِ ، وَالتُّرْمُسِ ، وَالسِّمْسِمِ ، وَسَائِرِ الْحُبُوبِ ، وَتَجِبُ أَيْضًا فِيمَا جَمَعَ هَذِهِ الْأَوْصَافَ مِنْ الثِّمَارِ ، كَالتَّمْرِ ، وَالزَّبِيبِ ، وَالْمِشْمِشِ ، وَاللَّوْزِ ، وَالْفُسْتُقِ ، وَالْبُنْدُقِ .
وَلَا زَكَاةَ فِي سَائِرِ الْفَوَاكِهِ ، كَالْخَوْخِ ، وَالْإِجَّاصِ ، وَالْكُمَّثْرَى ، وَالتُّفَّاحِ ، وَالْمِشْمِشِ ، وَالتِّينِ ، وَالْجَوْزِ .
وَلَا فِي الْخُضَرِ ، كَالْقِثَّاءِ ، وَالْخِيَارِ ، وَالْبَاذِنْجَانِ .
، وَاللِّفْتِ ، وَالْجَزَرِ .
وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ فِي الْحُبُوبِ كُلِّهَا ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ ، فَإِنَّهُمَا قَالَا : لَا شَيْءَ فِيمَا تُخْرِجُهُ الْأَرْضُ ، إلَّا مَا كَانَتْ لَهُ ثَمَرَةٌ بَاقِيَةٌ ، يَبْلُغُ مَكِيلُهَا خَمْسَةَ أَوْسُقٍ .
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ : لَا شَيْءَ فِي الْأَبَازِيرِ ، وَلَا الْبُزُورِ ، وَلَا حَبِّ الْبُقُولِ .
وَلَعَلَّهُ لَا يُوجِبُ الزَّكَاةَ إلَّا فِيمَا كَانَ قُوتًا أَوْ أُدْمًا ؛ لِأَنَّ مَا عَدَاهُ لَا نَصَّ فِيهِ ، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى

الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فَيَبْقَى عَلَى النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ .
وَقَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ : لَا زَكَاةَ فِي ثَمَرٍ ، إلَّا التَّمْرَ وَالزَّبِيبَ ، وَلَا فِي حَبٍّ ، إلَّا مَا كَانَ قُوتًا فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ لِذَلِكَ ، إلَّا فِي الزَّيْتُونِ ، عَلَى اخْتِلَافٍ .
وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ : إلَّا فِي الْحِنْطَةِ ، وَالشَّعِيرِ ، وَالتَّمْرِ ، وَالزَّبِيبِ .
وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ ، وَمُوسَى بْنِ طَلْحَةَ ، وَالْحَسَنِ ، وَابْنِ سِيرِينَ ، وَالشَّعْبِيِّ ، وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى ، وَابْنِ الْمُبَارَكِ ، وَأَبِي عُبَيْدٍ .
وَالسُّلْت : نَوْعٌ مِنْ الشَّعِيرِ .
وَوَافَقَهُمْ إبْرَاهِيمُ ، وَزَادَ الذُّرَةَ .
وَوَافَقَهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَزَادَ الزَّيْتُونَ ؛ لِأَنَّ مَا عَدَا هَذَا لَا نَصَّ فِيهِ وَلَا إجْمَاعَ ، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ ، وَلَا الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ ، فَيَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ .
وَقَدْ رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ، أَنَّهُ قَالَ { : إنَّمَا سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزَّكَاةَ فِي الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ ، وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ .
} وَفِي رِوَايَةٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { وَالْعُشْرُ فِي التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ ، وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ } .
وَعَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ ، عَنْ عُمَرَ ، أَنَّهُ قَالَ : { إنَّمَا سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزَّكَاةَ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ : الْحِنْطَةِ ، وَالشَّعِيرِ ، وَالتَّمْرِ ، وَالزَّبِيبِ .
} وَعَنْ أَبِي بُرْدَةَ ، عَنْ أَبِي مُوسَى وَمُعَاذٍ ، { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُمَا إلَى الْيَمَنِ يُعَلِّمَانِ النَّاسَ أَمْرَ دِينِهِمْ ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ لَا يَأْخُذُوا الصَّدَقَةَ إلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ : الْحِنْطَةِ ، وَالشَّعِيرِ ، وَالتَّمْرِ ، وَالزَّبِيبِ } .
رَوَاهُنَّ كُلَّهُنَّ الدَّارَقُطْنِيّ .
وَلِأَنَّ غَيْرَ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ لَا نَصَّ فِيهَا وَلَا إجْمَاعَ ، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَاهَا فِي غَلَبَةِ

الِاقْتِيَاتِ بِهَا ، وَكَثْرَةِ نَفْعِهَا ، وَوُجُودِهَا ، فَلَمْ يَصِحَّ قِيَاسُهُ عَلَيْهَا ، وَلَا إلْحَاقُهُ بِهَا ، فَيَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي كُلِّ مَا يُقْصَدُ بِزِرَاعَتِهِ نَمَاءُ الْأَرْضِ ، إلَّا الْحَطَبَ ، وَالْقَصَبَ ، وَالْحَشِيشَ ؛ { لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ } .
وَهَذَا عَامٌّ ، وَلِأَنَّ هَذَا يُقْصَدُ بِزِرَاعَتِهِ نَمَاءُ الْأَرْضِ ، فَأَشْبَهَ الْحَبَّ .
وَوَجْهُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ ، أَنَّ عُمُومَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ } .
وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِمُعَاذٍ : { خُذْ الْحَبَّ مِنْ الْحَبِّ } .
يَقْتَضِي وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي جَمِيعِ مَا تَنَاوَلَهُ ، خَرَجَ مِنْهُ مَا لَا يُكَالُ ، وَمَا لَيْسَ بِحَبٍّ ، بِمَفْهُومِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { لَيْسَ فِي حَبٍّ وَلَا تَمْرٍ صَدَقَةٌ ، حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ .
فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى انْتِفَاءِ الزَّكَاةِ مِمَّا لَا ، تَوْسِيقَ فِيهِ ، وَهُوَ مِكْيَالٌ ، فَفِيمَا هُوَ مَكِيلٌ يَبْقَى عَلَى الْعُمُومِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى انْتِفَاءِ الزَّكَاةِ مِمَّا سِوَى ذَلِكَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ اعْتِبَارِ التَّوْسِيقِ .
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَيْسَ فِي الْخَضْرَاوَاتِ صَدَقَةٌ } .
وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَيْسَ فِيمَا أَنْبَتَتْ الْأَرْضُ مِنْ الْخَضِرِ صَدَقَةٌ } .
وَعَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، وَعَنْ أَنَسٍ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُهُ .
رَوَاهُنَّ الدَّارَقُطْنِيّ .
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ { مُعَاذٍ ، أَنَّهُ كَتَبَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُهُ عَنْ الْخَضْرَاوَاتِ ، وَهِيَ : الْبُقُولُ ، فَقَالَ : لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ } .
وَقَالَ : يَرْوِيه الْحَسَنُ بْنُ عُمَارَةَ ، وَهُوَ ضَعِيفٌ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ مُرْسَلٌ .
وَقَالَ مُوسَى بْنُ طَلْحَةَ : جَاءَ الْأَثَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خَمْسَةِ أَشْيَاءَ : الشَّعِيرِ ، وَالْحِنْطَةِ ، وَالسُّلْت ، وَالزَّبِيبِ ، وَالتَّمْرِ ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ فَلَا عُشْرَ فِيهِ .
وَقَالَ : إنَّ مُعَاذًا لَمْ يَأْخُذْ مِنْ الْخَضِرِ صَدَقَةً .
وَرَوَى الْأَثْرَمُ ، بِإِسْنَادِهِ ، أَنَّ عَامِلَ عُمَرَ كَتَبَ إلَيْهِ فِي كُرُومٍ ، فِيهَا مِنْ الْفِرْسِكِ وَالرُّمَّانِ مَا هُوَ أَكْثَرُ غَلَّةً مِنْ الْكُرُومِ أَضْعَافًا فَكَتَبَ عُمَرُ : إنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهَا عُشْرٌ ، هِيَ مِنْ الْعِضَاهِ .

( 1824 ) فَصْلٌ : وَلَا شَيْءَ فِيمَا يَنْبُتُ مِنْ الْمُبَاحِ الَّذِي لَا يُمْلَكُ إلَّا بِأَخْذِهِ ، كَالْبُطْمِ ، وَالْعَفْصِ ، وَالزَّعْبَلِ وَهُوَ شَعِيرُ الْجَبَلِ ، وَبَزْرُ قَطُونَا ، وَبَزْرُ الْبَقْلَةِ ، وَحَبُّ الثُّمَامِ ، وَالْقَتُّ وَهُوَ بَزْرُ الْأُشْنَانِ إذَا أَدْرَكَ وَتَنَاهَى نُضْجُهُ حَصَلَتْ فِيهِ مُرُورَةٌ وَمُلُوحَةٌ ، وَأَشْبَاهُ هَذَا .
ذَكَرَهُ ابْنُ حَامِدٍ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُمْلَكُ بِحِيَازَتِهِ ، وَأَخْذُ الزَّكَاةِ إنَّمَا تَجِبُ فِيهِ إذَا بَدَا صَلَاحُهُ ، وَفِي تِلْكَ الْحَالِ لَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا لَهُ ، فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْوُجُوبُ ، كَاَلَّذِي يَلْتَقِطُهُ اللَّقَّاطُ مِنْ السُّنْبُلِ ، فَإِنَّهُ لَا زَكَاةَ فِيهِ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي الْمُبَاحِ أَنَّ فِيهِ الزَّكَاةَ إذَا نَبَتَ فِي أَرْضِهِ ، وَلَعَلَّهُ بَنَى هَذَا عَلَى أَنَّ مَا نَبَتَ فِي أَرْضِهِ مِنْ الْكَلَأِ يَكُونُ مِلْكًا لَهُ ، وَالصَّحِيحُ خِلَافُهُ .
فَأَمَّا إنْ نَبَتَ فِي أَرْضِهِ مَا يَزْرَعُهُ الْآدَمِيُّونَ ، مِثْلُ أَنْ سَقَطَ فِي أَرْضِ إنْسَانٍ حَبٌّ مِنْ الْحِنْطَةِ أَوْ الشَّعِيرِ ، فَنَبَتَ فَفِيهِ الزَّكَاةُ ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُهُ .
وَلَوْ اشْتَرَى زَرْعًا بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ فِيهِ ، أَوْ ثَمَرَةً قَدْ بَدَا صَلَاحُهَا ، أَوْ مَلَكَهَا بِجِهَةٍ مِنْ جِهَاتِ الْمِلْكِ ، لَمْ تَجِبْ فِيهِ الزَّكَاةُ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا .

( 1825 ) فَصْلٌ : وَلَا تَجِبُ فِيمَا لَيْسَ بِحَبٍّ وَلَا ثَمَرٍ ، سَوَاءٌ وُجِدَ فِيهِ الْكَيْلُ وَالِادِّخَارُ أَوْ لَمْ يُوجَدْ ، فَلَا تَجِبُ فِي وَرَقٍ مِثْلِ وَرَقِ السِّدْرِ وَالْخِطْمِيِّ وَالْأُشْنَانِ وَالصَّعْتَرِ وَالْآسِ وَنَحْوِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ عَلَيْهِ ، وَلَا فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ ، وَمَفْهُومُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { لَا زَكَاةَ فِي حَبٍّ وَلَا ثَمَرٍ حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ } .
أَنَّ الزَّكَاةَ لَا تَجِبُ فِي غَيْرِهِمَا .
قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : فِي ثَمَرِ السِّدْرِ ، فَوَرَقُهُ أَوْلَى .
وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ لَا تَجِبُ فِي الْحَبِّ الْمُبَاحِ ، فَفِي الْوَرَقِ أَوْلَى .
وَلَا زَكَاةَ فِي الْأَزْهَارِ ، كَالزَّعْفَرَانِ ، وَالْعُصْفُرِ ، وَالْقُطْنِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَبٍّ وَلَا ثَمَرٍ ، وَلَا هُوَ بِمَكِيلٍ ، فَلَمْ تَجِبْ فِيهِ زَكَاةٌ ، كَالْخَضْرَاوَاتِ .
قَالَ أَحْمَدُ : لَيْسَ فِي الْقُطْنِ شَيْءٌ .
وَقَالَ : لَيْسَ فِي الزَّعْفَرَانِ زَكَاةٌ .
وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ ، وَاخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ .
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ فِي الْفَاكِهَةِ وَالْبَقْلِ وَالتَّوَابِلِ وَالزَّعْفَرَانِ زَكَاةٌ .
وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : إنَّمَا سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزَّكَاةَ فِي الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ .
وَكَذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ .
وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّ فِي الْقُطْنِ وَالزَّعْفَرَانِ زَكَاةً .
وَخَرَّجَ أَبُو الْخَطَّابِ فِي الْعُصْفُرِ وَالْوَرْسِ وَجْهًا ، قِيَاسًا عَلَى الزَّعْفَرَانِ .
وَالْأَوْلَى مَا ذَكَرْنَاهُ ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِأُصُولِ أَحْمَدَ ؛ قَالَ : الْمَرْوِيُّ عَنْهُ رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا ، أَنَّهُ لَا زَكَاةَ إلَّا فِي الْأَرْبَعَةِ .
وَالثَّانِيَةُ : أَنَّهَا إنَّمَا تَجِبُ فِي الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَالذُّرَةِ وَالسُّلْتِ وَالْأُرْزِ وَالْعَدَسِ ، وَكُلِّ شَيْءٍ يَقُومُ مَقَامَ هَذِهِ حَتَّى يُدَّخَرَ ، وَيَجْرِيَ فِيهِ الْقَفِيزُ ، مِثْلُ : اللُّوبِيَا وَالْحِمَّصِ وَالسَّمَاسِمِ وَالْقُطْنِيَّاتِ ؛ فَفِيهِ الزَّكَاةُ .
وَهَذَا لَا يَجْرِي فِيهِ الْقَفِيزُ ، وَلَا هُوَ

فِي مَعْنَى مَا سَمَّاهُ .

( 1826 ) فَصْلٌ : وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي الزَّيْتُونِ .
فَقَالَ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ ابْنِهِ صَالِحٍ : فِيهِ الْعُشْرُ إذَا بَلَغَ - يَعْنِي خَمْسَةَ أَوْسُقٍ - وَإِنْ عُصِرَ قُوِّمَ ثَمَنُهُ ؛ لِأَنَّ الزَّيْتَ لَهُ بَقَاءٌ .
وَهَذَا قَوْلُ الزُّهْرِيِّ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ ، وَمَالِكٍ ، وَاللَّيْثِ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَأَبِي ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } .
فِي سِيَاقِ قَوْلِهِ : { وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ } .
وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُ ادِّخَارُ غَلَّتِهِ ، أَشْبَهَ التَّمْرَ وَالزَّبِيبَ .
وَعَنْ أَحْمَدَ : لَا زَكَاةَ فِيهِ .
وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ .
وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى ، وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ ، وَأَبِي عُبَيْدَةَ ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُدَّخَرُ يَابِسًا ، فَهُوَ كَالْخَضْرَاوَاتِ ، وَالْآيَةُ لَمْ يُرَدْ بِهَا الزَّكَاةُ ، لِأَنَّهَا مَكِّيَّةٌ ، وَالزَّكَاةُ إنَّمَا فُرِضَتْ بِالْمَدِينَةِ ، وَلِهَذَا ذُكِرَ الرُّمَّانُ وَلَا عُشْرَ فِيهِ .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ : إذَا حَصَدَ زَرْعَهُ أَلْقَى لَهُمْ مِنْ السُّنْبُلِ ، وَإِذَا جَذَّ نَخْلَهُ أَلْقَى لَهُمْ مِنْ الشَّمَارِيخِ .
وَقَالَ النَّخَعِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ : هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ ، عَلَى أَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا يَتَأَتَّى حَصَادُهُ ، بِدَلِيلِ أَنَّ الرُّمَّانَ مَذْكُورٌ بَعْدَهُ ، وَلَا زَكَاةَ فِيهِ ا هـ .

( 1827 ) فَصْلٌ : الْحَكَمُ الثَّانِي ، أَنَّ الزَّكَاةَ لَا تَجِبُ فِي شَيْءٍ مِنْ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ حَتَّى تَبْلُغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ .
هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ؛ مِنْهُمْ ابْنُ عُمَرَ ، وَجَابِرٌ ، وَأَبُو أُمَامَةَ بْنُ سَهْلٍ ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ ، وَالْحَسَنُ ، وَعَطَاءٌ ، وَمَكْحُولٌ ، وَالْحَكَمُ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَمَالِكٌ ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٌ ، وَسَائِرُ أَهْلِ الْعِلْمِ .
لَا نَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَهُمْ ، إلَّا مُجَاهِدًا ، وَأَبَا حَنِيفَةَ ، وَمَنْ تَابَعَهُ ، قَالُوا : تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي قَلِيلِ ذَلِكَ وَكَثِيرِهِ ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ } .
وَلِأَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ لَهُ حَوْلٌ فَلَا يُعْتَبَرُ لَهُ نِصَابٌ .
وَلَنَا ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَهَذَا خَاصٌّ يَجِبُ تَقْدِيمُهُ ، وَتَخْصِيصُ عُمُومِ مَا رَوَوْهُ بِهِ ، كَمَا خَصَّصْنَا قَوْلَهُ { : فِي سَائِمَةِ الْإِبِلِ الزَّكَاةُ } بِقَوْلِهِ { : لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ } .
وَقَوْلَهُ : { فِي الرِّقَةِ رُبْعُ الْعُشْرِ } بِقَوْلِهِ : { لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ } .
وَلِأَنَّهُ مَالٌ تَجِبُ فِيهِ الصَّدَقَةُ ، فَلَمْ تَجِبْ فِي يَسِيرِهِ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ الزَّكَائِيَّةِ ، وَإِنَّمَا لَمْ يُعْتَبَرْ الْحَوْلُ ؛ لِأَنَّهُ يَكْمُلُ نَمَاؤُهُ بِاسْتِحْصَادِهِ لَا بِبَقَائِهِ ، وَاعْتُبِرَ الْحَوْلُ فِي غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَظِنَّةٌ لِكَمَالِ النَّمَاءِ فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ ، وَالنِّصَابُ اُعْتُبِرَ لِيَبْلُغَ حَدًّا يَحْتَمِلُ الْمُوَاسَاةَ مِنْهُ ، فَلِهَذَا اُعْتُبِرَ فِيهِ ، يُحَقِّقُهُ أَنَّ الصَّدَقَةَ إنَّمَا تَجِبُ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ ، بِمَا قَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ ، وَلَا يَحْصُلُ الْغِنَى بِدُونِ النِّصَابِ ، كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ الزَّكَائِيَّةِ .
ا هـ .

( 1828 ) فَصْلٌ : وَتُعْتَبَرُ خَمْسَةُ الْأَوْسُقِ بَعْدَ التَّصْفِيَةِ فِي الْحُبُوبِ ، وَالْجَفَافِ فِي الثِّمَارِ ، فَلَوْ كَانَ لَهُ عَشَرَةُ أَوْسُقٍ عِنَبًا ، لَا يَجِيءُ مِنْهُ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ زَبِيبًا ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ ، لِأَنَّهُ حَالُ وُجُوبِ الْإِخْرَاجِ مِنْهُ ، فَاعْتُبِرَ النِّصَابُ بِحَالِهِ .
وَرَوَى الْأَثْرَمُ عَنْهُ : أَنَّهُ يُعْتَبَرُ نِصَابُ النَّخْلِ وَالْكَرْمِ عِنَبًا وَرُطَبًا ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ مِثْلُ عُشْرِ الرُّطَبِ تَمْرًا .
اخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ .
وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ يُؤْخَذُ عُشْرُ مَا يَجِيءُ بِهِ مِنْهُ مِنْ التَّمْرِ إذَا بَلَغَ رُطَبُهَا خَمْسَةَ أَوْسُقٍ ؛ لِأَنَّ إيجَابَ قَدْرِ عُشْرِ الرُّطَبِ مِنْ التَّمْرِ إيجَابٌ لِأَكْثَرَ مِنْ الْعُشْرِ ، وَذَلِكَ يُخَالِفُ النَّصَّ وَالْإِجْمَاعَ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ كَلَامُ أَحْمَدَ ، وَلَا قَوْلُ إمَامٍ ا هـ .

( 1829 ) فَصْلٌ : وَالْعَلَسُ : نَوْعٌ مِنْ الْحِنْطَةِ يُدَّخَرُ فِي قِشْرِهِ ، وَيَزْعُمُ أَهْلُهُ أَنَّهُ إذَا أُخْرِجَ مِنْ قِشْرِهِ لَا يَبْقَى بَقَاءَ غَيْرِهِ مِنْ الْحِنْطَةِ ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ يَخْرُجُ عَلَى النِّصْفِ فَيُعْتَبَرُ نِصَابُهُ فِي قِشْرِهِ لِلضَّرَرِ فِي إخْرَاجِهِ ، فَإِذَا بَلَغَ بِقِشْرِهِ عَشَرَةَ أَوْسُقٍ ، فَفِيهِ الْعُشْرُ ؛ لِأَنَّ فِيهِ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ ، وَإِنْ شَكَكْنَا فِي بُلُوغِهِ نِصَابًا ، خُيِّرَ صَاحِبُهُ بَيْنَ إخْرَاجِ عُشْرِهِ وَبَيْنَ إخْرَاجِهِ مِنْ قِشْرِهِ ، لِيُقَدِّرَهُ بِخَمْسَةِ أَوْسُقٍ .
كَقَوْلِنَا فِي مَغْشُوشِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ، إذَا شَكَكْنَا فِي بُلُوغِ مَا فِيهِمَا نِصَابًا .
وَلَا يَجُوزُ تَقْدِيرُ غَيْرِهِ مِنْ الْحِنْطَةِ فِي قِشْرِهِ ، وَلَا إخْرَاجُهُ قَبْلَ تَصْفِيَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ لَا تَدْعُو إلَى إبْقَائِهِ فِي قِشْرِهِ ، وَلَا الْعَادَةُ جَارِيَةٌ بِهِ وَلَا يُعْلَمُ قَدْرُ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ .

( 1830 ) فَصْلٌ : وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّ نِصَابَ الْأُرْزِ مَعَ قِشْرِهِ عَشَرَةُ أَوْسُقٍ ؛ لِأَنَّهُ يُدَّخَرُ مَعَ قِشْرِهِ ، وَإِذَا أُخْرِجَ مِنْ قِشْرِهِ ، لَمْ يَبْقَ بَقَاءَ مَا فِي الْقِشْرِ ، فَهُوَ كَالْعَلَسِ سَوَاءٌ فِيمَا ذَكَرْنَا .
وَقَالَ غَيْرُهُ : لَا يُعْتَبَرُ نِصَابُهُ بِذَلِكَ ، إلَّا أَنْ يَقُولَ ثِقَاتٌ مِنْ أَهْلِ الْخِبْرَةِ إنَّهُ يَخْرُجُ عَلَى النِّصْفِ فَيَكُونُ كَالْعَلَسِ ، وَمَتَى لَمْ يُوجَدْ ثِقَاتٌ يُخْبِرُونَ بِهَذَا ، أَوْ شَكَكْنَا فِي بُلُوغِهِ نِصَابًا ، خَيَّرْنَا رَبَّهُ بَيْنَ إخْرَاجِ عُشْرِهِ فِي قِشْرِهِ ، وَبَيْنَ تَصْفِيَتِهِ لِيُعْلَمَ قَدْرُهُ مُصَفًّى ، فَإِنْ بَلَغَ نِصَابًا أُخِذَ مِنْهُ ، وَإِلَّا فَلَا ؛ لِأَنَّ الْيَقِينَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِذَلِكَ ، فَاعْتَبَرْنَاهُ كَمَغْشُوشِ الْأَثْمَانِ ا هـ .

( 1831 ) فَصْلٌ : وَنِصَابُ الزَّيْتُونِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ .
وَنِصَابُ الزَّعْفَرَانِ وَالْقُطْنِ وَمَا أُلْحِقَ بِهِمَا مِنْ الْمَوْزُونَاتِ ، أَلْفٌ وَسِتُّمِائَةِ رِطْلٍ بِالْعِرَاقِيِّ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَكِيلٍ ، فَيَقُومُ وَزْنُهُ مَقَامَ كَيْلِهِ .
ذَكَرَهُ الْقَاضِي ، فِي " الْمُجَرَّدِ " .
وَحُكِيَ عَنْهُ : إذَا بَلَغَتْ قِيمَتُهُ نِصَابًا مِنْ أَدْنَى مَا تُخْرِجُهُ الْأَرْضُ مِمَّا فِيهِ الزَّكَاةُ ، فَفِيهِ الزَّكَاةُ .
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ فِي الزَّعْفَرَانِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُمْكِنْ اعْتِبَارُهُ بِنَفْسِهِ فَاعْتُبِرَ بِغَيْرِهِ ، كَالْعُرُوضِ تُقَوَّمُ بِأَدْنَى النِّصَابَيْنِ مِنْ الْأَثْمَانِ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِي الزَّعْفَرَانِ : تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ .
وَلَا أَعْلَمُ لِهَذِهِ الْأَقْوَالِ دَلِيلًا ، وَلَا أَصْلًا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ .
وَيَرُدُّهَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ } .
وَإِيجَابُ الزَّكَاةِ فِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ مُخَالِفٌ لِجَمِيعِ أَمْوَالِ الزَّكَاةِ وَاعْتِبَارُهُ بِغَيْرِهِ مُخَالِفٌ لِجَمِيعِ مَا يَجِبُ عُشْرُهُ ، وَاعْتِبَارُهُ بِأَقَلَّ مَا فِيهِ الزَّكَاةُ قِيمَةً لَا نَظِيرَ لَهُ أَصْلًا ، وَقِيَاسُهُ عَلَى الْعُرُوضِ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ الْعُرُوضَ لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهَا ، وَإِنَّمَا تَجِبُ فِي قِيمَتِهَا ، تُؤَدَّى مِنْ الْقِيمَةِ الَّتِي اُعْتُبِرَتْ بِهَا ، وَالْقِيمَةُ يُرَدُّ إلَيْهَا كُلُّ الْأَمْوَالِ الْمُتَقَوِّمَاتِ ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ الرَّدِّ إلَيْهَا الرَّدُّ إلَى مَا لَمْ يُرَدَّ إلَيْهِ شَيْءٌ أَصْلًا ، وَلَا تُخْرَجُ الزَّكَاةُ مِنْهُ ، وَلِأَنَّ هَذَا مَالٌ تُخْرَجُ الزَّكَاةُ مِنْ جِنْسِهِ ، فَاعْتُبِرَ نِصَابُهُ بِنَفْسِهِ ، كَالْحُبُوبِ ، وَلِأَنَّهُ خَارِجٌ مِنْ الْأَرْضِ يَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ أَوْ نِصْفُهُ ، فَأَشْبَهَ سَائِرَ مَا يَجِبُ فِيهِ ذَلِكَ ، وَلِأَنَّهُ مَالٌ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ ، فَلَمْ يَجِبْ فِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ ، كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ ، وَلِأَنَّهُ لَا نَصَّ فِيمَا ذَكَرُوهُ وَلَا إجْمَاعَ ،

وَلَا هُوَ فِي مَعْنَاهُمَا .
فَوَجَبَ أَنْ لَا يُقَالَ بِهِ ، لِعَدَمِ دَلِيلِهِ .
ا هـ .
انْتَهَى

( 1832 ) فَصْلٌ : الْحُكْمُ الثَّالِثُ ، أَنَّ الْعُشْرَ يَجِبُ فِيمَا سُقِيَ بِغَيْرِ مُؤْنَةٍ ، كَاَلَّذِي يَشْرَبُ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَنْهَارِ ، وَمَا يَشْرَبُ بِعُرُوقِهِ ، وَهُوَ الَّذِي يُغْرَسُ فِي أَرْضٍ مَاؤُهَا قَرِيبٌ مِنْ وَجْهِهَا ، فَتَصِلُ إلَيْهِ عُرُوقُ الشَّجَرِ ، فَيَسْتَغْنِي عَنْ سَقْيٍ ، وَكَذَلِكَ مَا كَانَتْ عُرُوقُهُ تَصِلُ إلَى نَهْرٍ أَوْ سَاقِيَةٍ .
وَنِصْفُ الْعُشْرِ فِيمَا سُقِيَ بِالْمُؤَنِ ، كَالدَّوَالِي وَالنَّوَاضِحِ ؛ لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا .
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ ، وَغَيْرِهِمْ .
وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ أَوْ كَانَ عَثَرِيًّا الْعُشْرُ ، وَمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ } .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْعَثَرِيُّ : مَا تَسْقِيهِ السَّمَاءُ ، وَتُسَمِّيهِ الْعَامَّةُ : الْعِذْيَ .
وَقَالَ الْقَاضِي : هُوَ الْمَاءُ الْمُسْتَنْقَعُ فِي بِرْكَةٍ أَوْ نَحْوِهَا ، يَصُبُّ إلَيْهِ مَاءُ الْمَطَرِ فِي سَوَاقٍ تُشَقُّ لَهُ ، فَإِذَا اجْتَمَعَ سُقِيَ مِنْهُ ، وَاشْتِقَاقُهُ مِنْ الْعَاثُورِ ، وَهِيَ السَّاقِيَةُ الَّتِي يَجْرِي فِيهَا الْمَاءُ ، لِأَنَّهَا يَعْثُرُ بِهَا مَنْ يَمُرُّ بِهَا .
وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ : { وَفِيمَا يُسْقَى بِالسَّانِيَةِ نِصْفُ الْعُشْرِ } .
وَالسَّوَانِي : هِيَ النَّوَاضِحُ ، وَهِيَ الْإِبِلُ يُسْتَقَى بِهَا لِشِرْبِ الْأَرْضِ .
وَعَنْ مُعَاذٍ ، قَالَ : { بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْيَمَنِ ، فَأَمَرَنِي أَنْ آخُذَ مِمَّا سَقَتْ السَّمَاءُ ، أَوْ سُقِيَ بِعَلَا ، الْعُشْرَ ، وَمَا سُقِيَ بِدَالِيَةٍ نِصْفَ الْعُشْرِ } .
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : الْبَعْلُ ، مَا شَرِبَ بِعُرُوقِهِ مِنْ غَيْرِ سَقْيٍ .
وَفِي الْجُمْلَةِ كُلُّ مَا سُقِيَ بِكُلْفَةٍ وَمُؤْنَةٍ ، مِنْ دَالِيَةٍ أَوْ سَانِيَةٍ أَوْ دُولَابٍ أَوْ نَاعُورَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ، فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ ، وَمَا سُقِيَ بِغَيْرِ مُؤْنَةٍ ، فَفِيهِ الْعُشْرُ ؛ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْخَبَرِ ، وَلِأَنَّ لِلْكُلْفَةِ تَأْثِيرًا فِي

إسْقَاطِ الزَّكَاةِ جُمْلَةً ، بِدَلِيلِ الْمَعْلُوفَةِ ، فَبِأَنْ يُؤَثِّرَ فِي تَخْفِيفِهَا أَوْلَى ، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ إنَّمَا تَجِبُ فِي الْمَالِ النَّامِي ، وَلِلْكُلْفَةِ تَأْثِيرٌ فِي تَقْلِيلِ النَّمَاءِ ، فَأَثَّرَتْ فِي تَقْلِيلِ الْوَاجِبِ فِيهَا ، وَلَا يُؤَثِّرُ حَفْرُ الْأَنْهَارِ وَالسَّوَاقِي فِي نُقْصَانِ الزَّكَاةِ ؛ لِأَنَّ الْمُؤْنَةَ تَقِلُّ ، لِأَنَّهَا تَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ إحْيَاءِ الْأَرْضِ وَلَا تَتَكَرَّرُ كُلَّ عَامٍ .
وَكَذَلِكَ لَا يُؤَثِّرُ احْتِيَاجُهَا إلَى سَاقٍ يَسْقِيهَا ، وَيُحَوِّلُ الْمَاءَ فِي نَوَاحِيهَا ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي كُلِّ سَقْيٍ بِكُلْفَةٍ ، فَهُوَ زِيَادَةٌ عَلَى الْمُؤْنَةِ فِي التَّنْقِيصِ ، يَجْرِي مَجْرَى حَرْثِ الْأَرْضِ وَتَحْسِينَهَا .
وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ يَجْرِي مِنْ النَّهْرِ فِي سَاقِيَةٍ إلَى الْأَرْضِ ، وَيَسْتَقِرُّ فِي مَكَان قَرِيبٍ مِنْ وَجْهِهَا ، لَا يَصْعَدُ إلَّا بِغَرْفٍ أَوْ دُولَابٍ ، فَهُوَ مِنْ الْكُلْفَةِ الْمُسْقِطَةِ لِنِصْفِ الزَّكَاةِ ، عَلَى مَا مَرَّ ؛ لِأَنَّ مِقْدَارَ الْكُلْفَةِ وَقُرْبَ الْمَاءِ وَبُعْدَهُ لَا يُعْتَبَرُ ، وَالضَّابِطُ لِذَلِكَ هُوَ أَنْ يَحْتَاجَ فِي تَرْقِيَةِ الْمَاءِ إلَى الْأَرْضِ بِآلَةٍ مِنْ غَرْفٍ أَوْ نَضْحٍ أَوْ دَالِيَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ وَقَدْ وُجِدَ .
ا هـ .

( 1833 ) فَصْلٌ : فَإِنْ سُقِيَ نِصْفَ السَّنَةِ بِكُلْفَةٍ ، وَنِصْفَهَا بِغَيْرِ كُلْفَةٍ ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْعُشْرِ .
وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَوْ وُجِدَ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ لَأَوْجَبَ مُقْتَضَاهُ ، فَإِذَا وُجِدَ فِي نِصْفِهَا أَوْجَبَ نِصْفَهُ ، وَإِنْ سُقِيَ بِأَحَدِهِمَا أَكْثَرَ مِنْ الْآخَرِ اُعْتُبِرَ أَكْثَرُهُمَا ، فَوَجَبَ مُقْتَضَاهُ ، وَسَقَطَ حُكْمُ الْآخَرِ .
نَصَّ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ : يُؤْخَذُ بِالْقِسْطِ .
وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُمَا لَوْ كَانَا نِصْفَيْنِ أَخَذَ بِالْحِصَّةِ ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ ، كَمَا لَوْ كَانَتْ الثَّمَرَةُ نَوْعَيْنِ .
وَوَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ اعْتِبَارَ مِقْدَارِ السَّقْيِ وَعَدَدِ مَرَّاتِهِ وَقَدْرِ مَا يُشْرَبُ فِي كُلِّ سَقْيَةٍ يَشُقُّ وَيَتَعَذَّرُ ، فَكَانَ الْحُكْمُ لِلْأَغْلَبِ مِنْهُمَا كَالسَّوْمِ فِي الْمَاشِيَةِ .
وَإِنْ جُهِلَ الْمِقْدَارُ ، غَلَّبْنَا إيجَابَ الْعُشْرِ احْتِيَاطًا .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ وُجُوبُ الْعُشْرِ ، وَإِنَّمَا يَسْقُطُ بِوُجُودِ الْكُلْفَةِ ، فَمَا لَمْ يَتَحَقَّقْ الْمُسْقِطُ يَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْكُلْفَةِ فِي الْأَكْثَرِ ، فَلَا يَثْبُتُ وُجُودُهَا مَعَ الشَّكِّ فِيهِ ، وَإِنْ اخْتَلَفَ السَّاعِي وَرَبُّ الْمَالِ ، فِي أَيِّهِمَا سُقِيَ بِهِ أَكْثَرَ ، فَالْقَوْلُ ، قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ بِغَيْرِ يَمِينٍ ، فَإِنَّ النَّاسَ لَا يُسْتَحْلَفُونَ عَلَى صَدَقَاتِهِمْ .
ا هـ .

( 1834 ) فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ حَائِطَانِ ، سَقَى أَحَدَهُمَا بِمُؤْنَةٍ ، وَالْآخَرَ بِغَيْرِ مُؤْنَةٍ ، ضَمَّ غَلَّةَ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ أَوْ أَخْرَجَ مِنْ الَّذِي سُقِيَ بِغَيْرِ مُؤْنَةٍ عُشْرَهُ ، وَمِنْ الْآخَرِ نِصْفَ عُشْرِهِ ، كَمَا يَضُمُّ أَحَدَ النَّوْعَيْنِ إلَى الْآخَرِ ، وَيُخْرِجُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا وَجَبَ فِيهِ .

( 1835 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَالْوَسْقُ سِتُّونَ صَاعًا ، وَالصَّاعُ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ بِالْعِرَاقِيِّ ) أَمَّا كَوْنُ الْوَسْقِ سِتِّينَ صَاعًا ، فَلَا خِلَافَ فِيهِ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ هُوَ قَوْلُ كُلِّ مَنْ يُحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَقَدْ رَوَى الْأَثْرَمُ ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الْوَسْقُ سِتُّونَ صَاعًا } .
وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ ، وَجَابِرٌ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ ذَلِكَ ، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
وَأَمَّا كَوْنُ الصَّاعِ خَمْسَةَ أَرْطَالٍ وَثُلُثًا فَفِيهِ اخْتِلَافٌ ذَكَرْنَاهُ فِي بَابِ الطَّهَارَةِ ، وَبَيَّنَّا أَنَّهُ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ بِالْعِرَاقِيِّ ، فَيَكُونُ مَبْلَغُ الْخَمْسَةِ الْأَوْسُقِ ثَلَاثَمِائَةِ صَاعٍ ، وَهُوَ أَلْفٌ وَسِتُّمِائَةِ رِطْلٍ بِالْعِرَاقِيِّ ، وَالرِّطْلُ الْعِرَاقِيُّ : مِائَةٌ وَثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا وَأَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ ، وَوَزْنُهُ بِالْمَثَاقِيلِ سَبْعُونَ مِثْقَالًا ، ثُمَّ زِيدَ فِي الرِّطْلِ مِثْقَالٌ آخَرُ ، وَهُوَ دِرْهَمٌ وَثَلَاثَةُ أَسْبَاعٍ فَصَارَ إحْدَى وَتِسْعِينَ مِثْقَالًا ، وَكَمَلَتْ زِنَتُهُ بِالدَّرَاهِمِ مِائَةً وَثَلَاثِينَ دِرْهَمًا ، وَالِاعْتِبَارُ بِالْأَوَّلِ قَبْلَ الزِّيَادَةِ ، فَيَكُونُ الصَّاعُ بِالرِّطْلِ الدِّمَشْقِيِّ ، الَّذِي هُوَ سِتُّمِائَةِ دِرْهَمٍ ، رِطْلًا وَسُبْعًا ، وَذَلِكَ أُوقِيَّةٌ وَخَمْسَةُ أَسْبَاعِ أُوقِيَّةٍ ، وَمَبْلَغُ الْخَمْسَةِ الْأَوْسُقِ بِالرِّطْلِ الدِّمَشْقِيِّ ثَلَاثُمِائَةِ رِطْلٍ وَاثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ رِطْلًا وَعَشْرُ أَوَاقٍ وَسُبْعُ أُوقِيَّةٍ ، وَذَلِكَ سِتَّةُ أَسْبَاعِ رِطْلٍ .

( 1836 ) فَصْلٌ : وَالنِّصَابُ مُعْتَبَرٌ بِالْكَيْلِ ، فَإِنَّ الْأَوْسَاقَ مَكِيلَةٌ ، وَإِنَّمَا نُقِلَتْ إلَى الْوَزْنِ لِتُضْبَطَ وَتُحْفَظَ وَتُنْقَلَ ، وَلِذَلِكَ تَعَلَّقَ وُجُوبُ الزَّكَاةِ بِالْمَكِيلَاتِ دُونَ الْمَوْزُونَاتِ ، وَالْمَكِيلَاتُ تَخْتَلِفُ فِي الْوَزْنِ ، فَمِنْهَا الثَّقِيلُ ، كَالْحِنْطَةِ وَالْعَدَسِ .
وَمِنْهَا الْخَفِيفُ ، كَالشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ ، وَمِنْهَا الْمُتَوَسِّطِ .
وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّ الصَّاعَ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ مِنْ الْحِنْطَةِ وَرَوَى جَمَاعَةٌ عَنْهُ ، أَنَّهُ قَالَ : الصَّاعُ وَزَنْتُهُ فَوَجَدْته خَمْسَةَ أَرْطَالٍ وَثُلُثَيْ رِطْلٍ حِنْطَةً .
وَقَالَ حَنْبَلٌ قَالَ : أَحْمَدُ أَخَذْت الصَّاعَ مِنْ أَبِي النَّضْرِ ، وَقَالَ أَبُو النَّضِرِ : أَخَذْته مِنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ .
وَقَالَ : هَذَا صَاعُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي يُعْرَفُ بِالْمَدِينَةِ .
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ، فَأَخَذْنَا الْعَدَسَ ، فَعَيَّرْنَا بِهِ ، وَهُوَ أَصْلَحُ مَا يُكَالُ بِهِ ، لِأَنَّهُ لَا يَتَجَافَى عَنْ مَوَاضِعِهِ ، فَكِلْنَا بِهِ وَوَزَنَّاهُ ، فَإِذَا هُوَ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ .
وَهَذَا أَصَحُّ مَا وَقَفْنَا عَلَيْهِ ، وَمَا بُيِّنَ لَنَا مِنْ صَاعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ : أَجْمَعَ أَهْلُ الْحَرَمَيْنِ عَلَى أَنَّ مُدَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِطْلٌ وَثُلُثٌ قَمْحًا مِنْ أَوْسَطِ الْقَمْحِ ، فَمَتَى بَلَغَ الْقَمْحُ أَلْفًا وَسِتَّمِائَةِ رِطْلٍ ، فَفِيهِ الزَّكَاةُ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ قَدَّرُوا الصَّاعَ بِالثَّقِيلِ ، فَأَمَّا الْخَفِيفُ فَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ ، إذَا قَارَبَ هَذَا وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْهُ .
وَمَتَى شَكَّ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ ، وَلَمْ يُوجَدْ مِكْيَالٌ يُقَدِّرُ بِهِ ، فَالِاحْتِيَاطُ الْإِخْرَاجُ ، وَإِنْ لَمْ يُخْرِجْ فَلَا حَرَجَ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ ، فَلَا تَجِبُ بِالشَّكِّ .

( 1837 ) فَصْلٌ : قَالَ الْقَاضِي : وَهَذَا النِّصَابُ مُعْتَبَرٌ تَحْدِيدًا ، فَمَتَى نَقَصَ شَيْئًا ، لَمْ تَجِبْ الزَّكَاةُ ، لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ } .
وَالنَّاقِصُ عَنْهَا لَمْ يَبْلُغْهَا ، إلَّا أَنْ يَكُونَ نَقْصًا يَسِيرًا يَدْخُلُ فِي الْمَكَايِيلِ ، كَالْأُوقِيَّةِ وَنَحْوِهَا ، فَلَا عِبْرَةَ بِهِ ؛ لِأَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَ فِي الْمَكَايِيلِ ، فَلَا يَنْضَبِطُ ، فَهُوَ كَنَقْصِ الْحَوْلِ سَاعَةً أَوْ سَاعَتَيْنِ .

( 1838 ) فَصْلٌ : وَلَا وَقَصَ فِي نِصَابِ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ بَلْ مَهْمَا زَادَ عَلَى النِّصَابِ أَخْرَجَ مِنْهُ بِالْحِسَابِ ، فَيُخْرِجُ عُشْرَ جَمِيعِ مَا عِنْدَهُ .
فَإِنَّهُ لَا ضَرَرَ فِي تَبْعِيضِهِ ، بِخِلَافِ الْمَاشِيَةِ ، فَإِنَّ فِيهَا ضَرَرًا ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ .

( 1839 ) فَصْلٌ : وَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ عُشْرٌ مَرَّةً ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ عُشْرٌ آخَرُ ، وَإِنْ حَالَ عِنْدَهُ أَحْوَالًا ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَمْوَالَ غَيْرُ مُرْصَدَةٍ لِلنَّمَاءِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، بَلْ هِيَ إلَى النَّقْصِ أَقْرَبُ ، وَالزَّكَاةُ إنَّمَا تَجِبُ فِي الْأَشْيَاءِ النَّامِيَةِ ، لِيُخْرِجَ مِنْ النَّمَاءِ فَيَكُونَ أَسْهَلَ .
فَإِنْ اشْتَرَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لِلتِّجَارَةِ صَارَ عَرْضًا ، تَجِبُ فِيهِ زَكَاةُ التِّجَارَةِ إذَا حَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( 1840 ) فَصْلٌ : وَوَقْتُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْحَبِّ إذَا اشْتَدَّ ، وَفِي الثَّمَرَةِ إذَا بَدَا صَلَاحُهَا .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى : تَجِبُ زَكَاةُ الْحَبِّ يَوْمَ حَصَادِهِ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ أَنَّهُ لَوْ تَصَرَّفَ فِي الثَّمَرَةِ أَوْ الْحَبِّ قَبْلَ الْوُجُوبِ ، لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِيهِ قَبْلَ الْوُجُوبِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَكَلَ السَّائِمَةَ أَوْ بَاعَهَا قَبْلَ الْحَوْلِ ، وَإِنْ تَصَرَّفَ فِيهَا بَعْدَ الْوُجُوبِ لَمْ تَسْقُطْ الزَّكَاةُ عَنْهُ ، كَمَا لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي السَّائِمَةِ ، وَلَا يَسْتَقِرُّ الْوُجُوبُ عَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ حَتَّى تَصِيرَ الثَّمَرَةُ فِي الْجَرِيبِ وَالزَّرْعُ فِي الْبَيْدَرِ وَلَوْ تَلِفَ قَبْلَ ذَلِكَ بِغَيْرِ إتْلَافِهِ أَوْ تَفْرِيطٍ مِنْهُ فِيهِ ، فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ .
قَالَ أَحْمَدُ : إذَا خُرِصَ وَتُرِكَ فِي رُءُوسِ النَّخْلِ ، فَعَلَيْهِمْ حِفْظُهُ ، فَإِنْ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ فَذَهَبَتْ الثَّمَرَةُ ، سَقَطَ عَنْهُمْ الْخَرْصُ ، وَلَمْ يُؤْخَذُوا بِهِ وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ ، عَلَى أَنَّ الْخَارِصَ إذَا خَرَصَ الثَّمَرَةَ ، ثُمَّ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إذَا كَانَ قَبْلَ الْجِذَاذِ ، وَلِأَنَّهُ قَبْلَ الْجِذَاذِ فِي حُكْمِ مَا لَا تَثْبُتُ الْيَدُ عَلَيْهِ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى ثَمَرَةً فَتَلِفَتْ بِجَائِحَةٍ رَجَعَ بِهَا عَلَى الْبَائِعِ ، وَإِنْ تَلِفَ بَعْضُ الثَّمَرَةِ ، فَقَالَ الْقَاضِي : إنْ كَانَ الْبَاقِي نِصَابًا فَفِيهِ الزَّكَاةُ ، وَإِلَّا فَلَا .
وَهَذَا الْقَوْلُ يُوَافِقُ قَوْلَ مَنْ قَالَ : لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ إلَّا يَوْمَ حَصَادِهِ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ النِّصَابِ شَرْطٌ فِي الْوُجُوبِ ، فَمَتَى لَمْ يُوجَدْ وَقْتُ الْوُجُوبِ لَمْ يَجِبْ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّ الْوُجُوبَ ثَبَتَ إذَا بَدَا الصَّلَاحُ وَاشْتَدَّ الْحَبُّ ، فَقِيَاسُ قَوْلِهِ : إنْ تَلِفَ الْبَعْضُ .
إنْ كَانَ قَبْلَ الْوُجُوبِ ، فَهُوَ كَمَا قَالَ الْقَاضِي ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ ، وَجَبَ فِي الْبَاقِي

بِقَدْرِهِ ، سَوَاءٌ كَانَ نِصَابًا أَوْ لَمْ يَكُنْ نِصَابًا ؛ لِأَنَّ الْمُسْقِطَ اخْتَصَّ بِالْبَعْضِ ، فَاخْتَصَّ السُّقُوطُ بِهِ ، كَمَا لَوْ تَلِفَ بَعْضُ نِصَابِ السَّائِمَةِ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهَا .
وَهَذَا فِيمَا إذَا تَلِفَ بِغَيْرِ تَفْرِيطِهِ وَعُدْوَانِهِ .
فَأَمَّا إنْ أَتْلَفَهَا ، أَوْ تَلِفَتْ بِتَفْرِيطِهِ أَوْ عُدْوَانِهِ بَعْدَ الْوُجُوبِ ، لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ الزَّكَاةُ ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْوُجُوبِ ، سَقَطَتْ ، إلَّا أَنْ يَقْصِدَ بِذَلِكَ الْفِرَارَ مِنْ الزَّكَاةِ ، فَيَضْمَنُهَا ، وَلَا تَسْقُطُ عَنْهُ ، وَمَتَى ادَّعَى رَبُّ الْمَالِ تَلَفَهَا بِغَيْرِ تَفْرِيطِهِ ، قُبِلَ قَوْلُهُ مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْخَرْصِ أَوْ بَعْدَهُ ، وَيُقْبَلُ قَوْلُهُ أَيْضًا فِي قَدْرِهَا بِغَيْرِ يَمِينٍ ، وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى .
قَالَ أَحْمَدُ : لَا يُسْتَحْلَفُ النَّاسُ عَلَى صَدَقَاتِهِمْ ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى ، فَلَا يُسْتَحْلَفُ فِيهِ ، كَالصَّلَاةِ وَالْحَدِّ .

( 1841 ) فَصْلٌ : وَإِنْ جَذَّهَا وَجَعَلَهَا فِي الْجَرِينِ ، أَوْ جَعَلَ الزَّرْعَ فِي الْبَيْدَرِ ، اسْتَقَرَّ وُجُوبُ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ ، عِنْدَ مَنْ لَمْ يَرَ التَّمَكُّنَ مِنْ الْأَدَاءِ شَرْطًا فِي اسْتِقْرَارِ الْوُجُوبِ .
فَإِنْ تَلِفَتْ بَعْدَ ذَلِكَ ، لَمْ تَسْقُطْ الزَّكَاةُ عَنْهُ ، وَعَلَيْهِ ضَمَانُهَا ، كَمَا لَوْ تَلِفَ نِصَابُ السَّائِمَةِ أَوْ الْأَثْمَانِ بَعْدَ الْحَوْلِ .
وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى ، فِي كَوْنِ التَّمَكُّنِ مِنْ الْأَدَاءِ مُعْتَبَرًا ، لَا يَسْتَقِرُّ الْوُجُوبُ فِيهَا حَتَّى تَجِفَّ الثَّمَرَةُ ، وَيُصَفَّى الْحَبُّ ، وَيَتَمَكَّنَ مِنْ أَدَاءِ حَقِّهِ ، فَلَا يَفْعَلُ ، وَإِنْ تَلِفَ قَبْلَ ذَلِكَ ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي غَيْرِ هَذَا .

( 1842 ) فَصْلٌ : وَيَصِحُّ تَصَرُّفُ الْمَالِكِ فِي النِّصَابِ قَبْلَ الْخَرْصِ ، وَبَعْدَهُ ، بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَغَيْرِهِمَا .
فَإِنْ بَاعَهُ أَوْ وَهَبَهُ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ ، فَصَدَقَتُهُ عَلَى الْبَائِعِ وَالْوَاهِبِ .
وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ ، وَمَالِكٌ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَبِهِ قَالَ اللَّيْثُ ، إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهَا عَلَى الْمُبْتَاعِ ، وَإِنَّمَا وَجَبَتْ عَلَى الْبَائِعِ ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ وَاجِبَةً عَلَيْهِ قَبْلَ الْبَيْعِ فَبَقِيَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ ، وَعَلَيْهِ إخْرَاجُ الزَّكَاةِ مِنْ جِنْسِ الْمَبِيعِ وَالْمَوْهُوبِ .
وَعَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يُخْرِجَ ثَمَرًا أَوْ مِنْ الثَّمَنِ .
قَالَ الْقَاضِي : وَالصَّحِيحُ أَنَّ عَلَيْهِ عُشْرَ الثَّمَرَةِ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ إخْرَاجُ الْقِيمَةِ فِي الزَّكَاةِ ، عَلَى صَحِيحِ الْمَذْهَبِ ، وَلِأَنَّ عَلَيْهِ الْقِيَامَ بِالثَّمَرَةِ حَتَّى يُؤَدِّيَ الْوَاجِبَ مِنْهَا ثَمَرًا ، فَلَا يَسْقُطُ ذَلِكَ عَنْهُ بِبَيْعِهَا وَلَا هِبَتِهَا .
وَيَتَخَرَّجُ أَنْ تَجِبَ الزَّكَاةُ عَلَى الْمُشْتَرِي ، عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ : إنَّ الزَّكَاةَ إنَّمَا تَجِبُ يَوْمَ حَصَادِهِ ، لِأَنَّ الْوُجُوبَ إنَّمَا تَعَلَّقَ بِهَا فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي ، فَكَانَ عَلَيْهِ .
وَلَوْ اشْتَرَى ثَمَرَةً قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا ، ثُمَّ بَدَا صَلَاحُهَا فِي يَدِ الْمُشْتَرِي عَلَى وَجْهٍ صَحِيحٍ ، مِثْلُ أَنْ يَشْتَرِيَ نَخْلَةً مُثْمِرَةً ، وَيَشْتَرِطَ ثَمَرَتَهَا ، أَوْ وُهِبَتْ لَهُ ثَمَرَةٌ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا ، فَبَدَا صَلَاحُهَا فِي يَدِ الْمُشْتَرِي أَوْ الْمُتَّهِبِ ، أَوْ وَصَّى لَهُ بِثَمَرَةٍ فَقَبِلَهَا بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي ، ثُمَّ بَدَا صَلَاحُهَا ، فَالصَّدَقَةُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ وُجِدَ فِي مِلْكِهِ ، فَكَانَ عَلَيْهِ ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى سَائِمَةً أَوْ اتَّهَبَهَا ، فَحَالَ الْحَوْلُ عَلَيْهَا عِنْدَهُ .
ا هـ

( 1843 ) فَصْلٌ : وَإِذَا اشْتَرَى ثَمَرَةً قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا ، فَتَرَكَهَا حَتَّى بَدَا صَلَاحُهَا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَرَطَ الْقَطْعَ ، فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ ، وَهِيَ بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ ، وَزَكَاتُهَا عَلَيْهِ ، وَإِنْ شَرَطَ الْقَطْعَ ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ أَيْضًا ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ فِيهَا كَمَا لَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ الْقَطْعَ ، وَرُوِيَ أَنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ ، وَيَشْتَرِكَانِ فِي الزِّيَادَةِ .
فَعَلَى هَذَا يَكُونُ عَلَى الْمُشْتَرِي زَكَاةُ حِصَّتِهِ مِنْهَا إنْ بَلَغَتْ نِصَابًا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمُشْتَرِي مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ ، كَالْمُكَاتَبِ وَالذِّمِّيِّ ، فَلَا زَكَاةَ فِيهَا ، وَإِنْ عَادَ الْبَائِعُ فَاشْتَرَاهَا بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ أَوْ غَيْرِهِ ، فَلَا زَكَاةَ فِيهَا ، إلَّا أَنْ يَكُونَ قَصَدَ بِبَيْعِهَا الْفِرَارَ مِنْ الزَّكَاةِ ، فَلَا تَسْقُطُ .

( 1844 ) فَصْلٌ : وَإِنْ تَلِفَتْ الثَّمَرَةُ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ ، أَوْ الزَّرْعُ قَبْلَ اشْتِدَادِ الْحَبِّ ، فَلَا زَكَاةَ فِيهِ .
وَكَذَلِكَ إنَّ أَتْلَفَهُ الْمَالِكُ ، إلَّا أَنْ يَقْصِدَ الْفِرَارَ مِنْ الزَّكَاةِ ، وَسَوَاءٌ قَطَعَهَا لِلْأَكْلِ ، أَوْ لِلتَّخْفِيفِ عَنْ النَّخِيلِ لِتَحْسِينِ بَقِيَّةِ الثَّمَرَةِ ، أَوْ حِفْظِ الْأَمْوَالِ إذَا خَافَ عَلَيْهَا الْعَطَشَ أَوْ ضَعْفَ الْجِمَارِ ، فَقَطَعَ الثَّمَرَةَ أَوْ بَعْضَهَا ، بِحَيْثُ نَقَصَ النِّصَابُ ، أَوْ قَطَعَهَا لِغَيْرِ غَرَضٍ ، فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهَا تَلِفَتْ قَبْلَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ ، وَتَعَلُّقِ حَقِّ الْفُقَرَاءِ بِهَا ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ هَلَكَتْ السَّائِمَةُ قَبْلَ الْحَوْلِ ، وَإِنْ قَصَدَ بِقَطْعِهَا الْفِرَارَ مِنْ الزَّكَاةِ ، لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ قَطْعَ حَقِّ مَنْ انْعَقَدَ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِهِ ، فَلَمْ تَسْقُطْ ، كَمَا لَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ .

( 1845 ) فَصْلٌ : وَيَنْبَغِي أَنْ يَبْعَثَ الْإِمَامُ سَاعِيَهُ إذَا بَدَا صَلَاحُ الثِّمَارِ ، لِيَخْرُصَهَا ، وَيَعْرِفَ قَدْرَ الزَّكَاةِ وَيُعَرِّفَ الْمَالِكَ ذَلِكَ .
وَمِمَّنْ كَانَ يَرَى الْخَرْصَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ، وَسَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ ، وَمَرْوَانُ ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، وَالْحَسَنُ ، وَعَطَاءٌ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ ، وَعَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ أَبِي الْمُخَارِقِ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَحُكِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّ الْخَرْصَ بِدْعَةٌ .
وَقَالَ أَهْلُ الرَّأْيِ : الْخَرْصُ ظَنٌّ وَتَخْمِينٌ ، لَا يَلْزَمُ بِهِ حُكْمٌ ، وَإِنَّمَا كَانَ الْخَرْصُ تَخْوِيفًا لِلْأَكَرَةِ لِئَلَّا يَخُونُوا ، فَأَمَّا أَنْ يَلْزَمَ بِهِ حُكْمٌ ، فَلَا .
وَلَنَا ، مَا رَوَى الزُّهْرِيُّ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، عَنْ عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَبْعَثُ عَلَى النَّاسِ مَنْ يَخْرُصُ عَلَيْهِمْ كُرُومَهُمْ وَثِمَارَهُمْ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَابْنُ مَاجَهْ ، وَالتِّرْمِذِيُّ .
وَفِي لَفْظٍ عَنْ عَتَّابٍ ، قَالَ : { أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُخْرَصَ الْعِنَبُ ، كَمَا يُخْرَصُ النَّخْلُ ، وَتُؤْخَذَ زَكَاتُهُ زَبِيبًا ، كَمَا تُؤْخَذُ زَكَاةُ النَّخْلِ تَمْرًا } .
وَقَدْ عَمِلَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَصَ عَلَى امْرَأَةٍ بِوَادِي الْقُرَى حَدِيقَةً لَهَا ، وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي " مُسْنَدِهِ " .
وَعَمِلَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَهُ وَالْخُلَفَاءُ .
وَقَالَتْ عَائِشَةُ ، وَهِيَ تَذْكُرُ شَأْنَ خَيْبَرَ : { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبْعَثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ إلَى يَهُودَ ، فَيَخْرُصُ عَلَيْهِمْ النَّخْلَ حِينَ يَطِيبُ قَبْلَ أَنْ يُؤْكَلَ مِنْهُ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَقَوْلُهُمْ : هُوَ ظَنٌّ .
قُلْنَا : بَلْ هُوَ اجْتِهَادٌ فِي مَعْرِفَةِ قَدْرِ الثَّمَرِ وَإِدْرَاكِهِ بِالْخَرْصِ ، الَّذِي هُوَ نَوْعٌ مِنْ الْمَقَادِيرِ وَالْمَعَايِيرِ ، فَهُوَ كَتَقْوِيمِ

الْمُتْلَفَاتِ .
وَوَقْتُ الْخَرْصِ حِينَ يَبْدُو صَلَاحُهُ ، لِقَوْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا يَبْعَثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ ، فَيَخْرُصُ عَلَيْهِمْ النَّخْلَ حِينَ يَطِيبُ ، قَبْلَ أَنْ يُؤْكَلَ مِنْهُ .
وَلِأَنَّ فَائِدَةَ الْخَرْصِ مَعْرِفَةُ الزَّكَاةِ ، وَإِطْلَاقُ أَرْبَابِ الثِّمَارِ فِي التَّصَرُّفِ فِيهَا ، وَالْحَاجَةُ إنَّمَا تَدْعُو إلَى ذَلِكَ حِينَ يَبْدُو الصَّلَاحُ ، وَتَجِبُ الزَّكَاةُ

( 1846 ) فَصْلٌ : وَيُجْزِئُ خَارِصٌ وَاحِدٌ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَبْعَثُ ابْنَ رَوَاحَةَ ، فَيَخْرُصُ ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَعَهُ غَيْرَهُ ، وَلِأَنَّ الْخَارِصَ يَفْعَلُ مَا يُؤَدِّيهِ اجْتِهَادُهُ إلَيْهِ ، فَهُوَ كَالْحَاكِمِ وَالْقَائِفِ ، وَيُعْتَبَرُ فِي الْخَارِصِ أَنْ يَكُونَ أَمِينًا غَيْرَ مُتَّهَمٍ .

( 1847 ) فَصْلٌ : وَصِفَةُ الْخَرْصِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الثَّمَرَةِ ، فَإِنْ كَانَ نَوْعًا وَاحِدًا ، فَإِنَّهُ يُطِيفُ بِكُلِّ نَخْلَةٍ أَوْ شَجَرَةٍ ، وَيَنْظُرُ كَمْ فِي الْجَمِيعِ رُطَبًا أَوْ عِنَبًا ، ثُمَّ يُقَدِّرُ مَا يَجِيءُ مِنْهَا تَمْرًا ، وَإِنْ كَانَ أَنْوَاعًا خَرَصَ كُلَّ نَوْعٍ عَلَى حِدَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْأَنْوَاعَ تَخْتَلِفُ ، فَمِنْهَا مَا يَكْثُرُ رُطَبُهُ وَيَقِلُّ تَمْرُهُ ، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ بِالْعَكْسِ ، وَهَكَذَا الْعِنَبُ ، وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ قَدْرِ كُلِّ نَوْعٍ ، حَتَّى يُخْرِجَ عُشْرَهُ ، فَإِذَا خَرَصَ عَلَى الْمَالِكِ ، وَعَرَّفَهُ قَدْرَ الزَّكَاةِ ، خَيَّرَهُ بَيْنَ أَنْ يَضْمَنَ قَدْرَ الزَّكَاةِ ، وَيَتَصَرَّفَ فِيهَا بِمَا شَاءَ مِنْ أَكْلٍ وَغَيْرِهِ ، وَبَيْنَ حِفْظِهَا إلَى وَقْتِ الْجَدَادِ وَالْجَفَافِ ، فَإِنْ اخْتَارَ حِفْظَهَا ثُمَّ أَتْلَفَهَا أَوْ تَلِفَتْ بِتَفْرِيطِهِ ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُ نَصِيبِ الْفُقَرَاءِ بِالْخَرْصِ ، وَإِنْ أَتْلَفَهَا أَجْنَبِيٌّ ، فَعَلَيْهِ قِيمَةُ مَا أَتْلَفَ .
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ رَبَّ الْمَالِ وَجَبَ عَلَيْهِ تَجْفِيفُ هَذَا الرُّطَبِ ، بِخِلَافِ الْأَجْنَبِيِّ ، وَلِهَذَا قُلْنَا فِي مَنْ أَتْلَفَ أُضْحِيَّتَهُ الْمُتَعَيِّنَةَ : عَلَيْهِ أُضْحِيَّةٌ مَكَانَهَا .
وَإِنْ أَتْلَفَهَا أَجْنَبِيٌّ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا .
وَإِنْ تَلِفَتْ بِجَائِحَةٍ مِنْ السَّمَاءِ ، سَقَطَ عَنْهُمْ الْخَرْصُ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ؛ لِأَنَّهَا تَلِفَتْ قَبْلَ اسْتِقْرَارِ زَكَاتِهَا ، وَإِنْ ادَّعَى تَلَفَهَا بِغَيْرِ تَفْرِيطِهِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ بِغَيْرِ يَمِينٍ ، كَمَا تَقَدَّمَ ، وَإِنْ حَفِظَهَا إلَى وَقْتِ الْإِخْرَاجِ ، فَعَلَيْهِ زَكَاةُ الْمَوْجُودِ لَا غَيْرُ ، سَوَاءٌ اخْتَارَ الضَّمَانَ ، أَوْ حَفِظَهَا عَلَى سَبِيلِ الْأَمَانَةِ ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ أَكْثَرَ مِمَّا خَرَصَهُ الْخَارِصُ أَوْ أَقَلَّ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ مَالِكٌ : يَلْزَمُهُ مَا قَالَ الْخَارِصُ ، زَادَ أَوْ نَقَصَ ، إذَا كَانَتْ الزَّكَاةُ مُتَقَارِبَةً ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ انْتَقَلَ إلَى مَا قَالَ السَّاعِي ، بِدَلِيلِ وُجُوبِ مَا قَالَ عِنْدَ تَلَفِ الْمَالِ .

وَلَنَا ، أَنَّ الزَّكَاةَ أَمَانَةٌ ، فَلَا تَصِيرُ مَضْمُونَةً بِالشَّرْطِ كَالْوَدِيعَةِ ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْحُكْمَ انْتَقَلَ إلَى مَا قَالَ السَّاعِي ، وَإِنَّمَا يُعْمَلُ بِقَوْلِهِ إذَا تَصَرَّفَ فِي الثَّمَرَةِ ، وَلَمْ يَعْلَمْ قَدْرَهَا ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ إصَابَتُهُ .
قَالَ أَحْمَدُ : إذَا خَرَصَ عَلَى الرَّجُلِ ، فَإِذَا فِيهِ فَضْلٌ كَثِيرٌ ، مِثْلُ الضَّعْفِ ، تَصَدَّقَ بِالْفَضْلِ ؛ لِأَنَّهُ يَخْرُصُ بِالسَّوِيَّةِ .
وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تَدُلُّ عَلَى مِثْلِ قَوْلِ مَالِكٍ .
وَقَالَ : إذَا تَجَافَى السُّلْطَانُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ الْعُشْرِ ، يُخْرِجُهُ فَيُؤَدِّيهِ .
وَقَالَ : إذَا حَطَّ مِنْ الْخَرْصِ عَنْ الْأَرْضِ ، يَتَصَدَّقُ بِقَدْرِ مَا نَقَصُوهُ مِنْ الْخَرْصِ .
وَإِنْ أَخَذَ مِنْهُمْ أَكْثَرَ مِنْ الْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ ، فَقَالَ أَحْمَدُ : يُحْتَسَبُ لَهُمْ مِنْ الزَّكَاةِ لِسَنَةٍ أُخْرَى وَنَقَلَ عَنْهُ أَبُو دَاوُد لَا يُحْتَسَبُ بِالزِّيَادَةِ لِأَنَّ هَذَا غَاصِبٌ .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَبِهَذَا أَقُولُ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ ، فَيُحْتَسَبُ بِهِ إذَا نَوَى صَاحِبُهُ بِهِ التَّعْجِيلَ ، وَلَا يُحْتَسَبُ بِهِ إذَا لَمْ يَنْوِ ذَلِكَ .

فَصْلٌ وَإِنْ ادَّعَى رَبُّ الْمَالِ غَلَطَ الْخَارِصِ وَكَانَ مَا ادَّعَاهُ مُحْتَمَلًا ، قُبِلَ قَوْلُهُ بِغَيْرِ يَمِينٍ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَمَلًا ، مِثْلُ أَنْ يَدَّعِيَ غَلَطَ النِّصْفِ وَنَحْوِهِ ، لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ ، فَيُعْلَمُ كَذِبُهُ .
وَإِنْ قَالَ : لَمْ يَحْصُلْ فِي يَدَيَّ غَيْرُ هَذَا .
قُبِلَ مِنْهُ بِغَيْرِ يَمِينٍ لِأَنَّهُ قَدْ يَتْلَفُ بَعْضُهَا بِآفَةٍ لَا نَعْلَمُهَا .

( 1849 ) فَصْلٌ : وَعَلَى الْخَارِصِ أَنْ يَتْرُكَ فِي الْخَرْصِ الثُّلُثَ أَوْ الرُّبْعَ ، تَوْسِعَةً عَلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ ؛ لِأَنَّهُمْ يَحْتَاجُونَ إلَى الْأَكْلِ هُمْ وَأَضْيَافُهُمْ ، وَيُطْعِمُونَ جِيرَانَهُمْ وَأَهْلَهُمْ وَأَصْدِقَاءَهُمْ وَسُؤَّالَهُمْ .
وَيَكُونُ فِي الثَّمَرَةِ السُّقَاطَةُ ، وَيَنْتَابُهَا الطَّيْرُ وَتَأْكُلُ مِنْهُ الْمَارَّةُ ، فَلَوْ اسْتَوْفَى الْكُلَّ مِنْهُمْ أَضَرَّ بِهِمْ .
وَبِهَذَا قَالَ إِسْحَاقُ ، وَنَحْوُهُ قَالَ اللَّيْثُ ، وَأَبُو عُبَيْدٍ .
وَالْمَرْجِعُ فِي تَقْدِيرِ الْمَتْرُوكِ إلَى السَّاعِي بِاجْتِهَادِهِ ، فَإِنْ رَأْي الْأَكَلَةَ كَثِيرًا تَرَكَ الثُّلُثَ ، وَإِنْ كَانُوا قَلِيلًا تَرَكَ الرُّبْعَ ؛ لِمَا رَوَى سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ { ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ : إذَا خَرَصْتُمْ فَخُذُوا وَدَعُوا الثُّلُثَ ، فَإِنْ لَمْ تَدَعُوا الثُّلُثَ فَدَعُوا الرُّبْعُ } .
رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ ، وَأَبُو دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ ، وَالتِّرْمِذِيُّ .
وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ مَكْحُولٍ ، قَالَ { : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا بَعَثَ الْخُرَّاصَ قَالَ : خَفِّفُوا عَلَى النَّاسِ ، فَإِنَّ فِي الْمَالِ الْعَرِيَّةَ وَالْوَاطِئَةَ وَالْأَكَلَةَ } .
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : الْوَاطِئَةُ : السَّابِلَةُ سُمُّوا بِذَلِكَ لِوَطْئِهِمْ بِلَادَ الثِّمَارِ مُجْتَازِينَ .
وَالْأَكَلَةُ : أَرْبَابُ الثِّمَارِ وَأَهْلُوهُمْ ، وَمَنْ لَصِقَ بِهِمْ .
وَمِنْهُ حَدِيثُ سَهْلٍ فِي مَالِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَعْدٍ ، حِينَ قَالَ : لَوْلَا أَنِّي وَجَدْت فِيهِ أَرْبَعِينَ عَرِيشًا ، لَخَرَصْته تِسْعَمِائَةِ وَسْقٍ ، وَكَانَتْ تِلْكَ الْعُرُشُ لِهَؤُلَاءِ الْأَكَلَةِ .
وَالْعَرِيَّةُ : النَّخْلَةُ أَوْ النَّخَلَاتُ يَهَبُ إنْسَانًا ثَمَرَتَهَا .
فَجَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : لَيْسَ فِي الْعَرَايَا صَدَقَةٌ } .
وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ ، عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِسَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ : إذَا أَتَيْت عَلَى نَخْلٍ قَدْ حَضَرَهَا قَوْمٌ ، فَدَعْ لَهُمْ مَا يَأْكُلُونَ .

وَالْحُكْمُ فِي الْعِنَبِ كَالْحُكْمِ فِي النَّخِيلِ سَوَاءٌ ، فَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ لَهُمْ الْخَارِصُ شَيْئًا ، فَلَهُمْ الْأَكْلُ بِقَدْرِ ذَلِكَ ، وَلَا يُحْتَسَبُ عَلَيْهِمْ بِهِ .
نَصَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهُمْ ، فَإِنْ لَمْ يُخْرِجْ الْإِمَامُ خَارِصًا فَاحْتَاجَ رَبُّ الْمَالِ إلَى التَّصَرُّفِ فِي الثَّمَرَةِ ، فَأَخْرَجَ خَارِصًا ، جَازَ أَنْ يَأْخُذَ بِقَدْرِ ذَلِكَ .
ذَكَرَهُ الْقَاضِي .
وَإِنْ خَرَصَ هُوَ وَأَخَذَ بِقَدْرِ ذَلِكَ ، جَازَ وَيَحْتَاطُ فِي أَنْ لَا يَأْخُذَ أَكْثَرَ مِمَّا لَهُ أَخْذُهُ .

( 1850 ) فَصْلٌ : وَيُخْرَصُ النَّخْلُ وَالْكَرْمُ ؛ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْأَثَرِ فِيهِمَا ، وَلَمْ يُسْمَعْ بِالْخَرْصِ فِي غَيْرِهِمَا ، فَلَا يُخْرَصُ الزَّرْعُ فِي سُنْبُلِهِ .
وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَمَالِكٌ ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِالْخَرْصِ فِيهِ ، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ ثَمَرَةَ النَّخْلِ وَالْكَرْمِ تُؤْكَلُ رُطَبًا ، فَيُخْرَصُ عَلَى أَهْلِهِ لِلتَّوْسِعَةِ عَلَيْهِمْ ، لِيُخَلِّيَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَكْلِ الثَّمَرَةِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهَا ، ثُمَّ يُؤَدُّونَ الزَّكَاةَ مِنْهَا عَلَى مَا خُرِصَ ، وَلِأَنَّ ثَمَرَةَ الْكَرْمِ وَالنَّخْلِ ظَاهِرَةٌ مُجْتَمِعَةٌ ، فَخَرْصُهَا أَسْهَلُ مِنْ خَرْصِ غَيْرِهَا ، وَمَا عَدَاهُمَا فَلَا يُخْرَصُ .
وَإِنَّمَا عَلَى أَهْلِهِ فِيهِ الْأَمَانَةُ إذَا صَارَ مُصَفًّى يَابِسًا ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْهُ مَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِأَكْلِهِ ، وَلَا يُحْتَسَبُ عَلَيْهِمْ .
وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَمَّا يَأْكُلُ أَرْبَابُ الزُّرُوعِ مِنْ الْفَرِيكِ ؟ قَالَ : لَا بَأْسَ بِهِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ صَاحِبُهُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ .
وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِهِ ، فَأَشْبَهَ مَا يَأْكُلُهُ أَرْبَابُ الثِّمَارِ مِنْ ثِمَارِهِمْ ، فَإِذَا صُفِّيَ الْحَبُّ أَخْرَجَ زَكَاةَ الْمَوْجُودِ كُلِّهِ ، وَلَمْ يُتْرَكْ مِنْهُ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا تُرِك لَهُمْ فِي الثَّمَرَةِ شَيْءٌ لِكَوْنِ النُّفُوسِ تَتُوقُ إلَى أَكْلِهَا رَطْبَةً ، وَالْعَادَةُ جَارِيَةٌ بِهِ ، وَفِي الزَّرْعِ إنَّمَا يُؤْكَلُ شَيْءٌ يَسِيرٌ ، لَا وَقْعَ لَهُ .

( 1851 ) فَصْلٌ : وَلَا يُخْرَصُ الزَّيْتُونُ ، وَلَا غَيْرُ النَّخْلَ وَالْكَرْمِ ؛ لِأَنَّ حَبَّهُ مُتَفَرِّقٌ فِي شَجَرِهِ ، مَسْتُورٌ بِوَرَقِهِ ، وَلَا حَاجَةَ بِأَهْلِهِ إلَى أَكْلِهِ ، بِخِلَافِ النَّخْلِ وَالْكَرْمِ ، فَإِنَّ ثَمَرَةَ النَّخْلِ مُجْتَمِعَةٌ فِي عُذُوقِهِ ، وَالْعِنَبِ فِي عَنَاقِيدِهِ ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَأْتِيَ الْخَرْصُ عَلَيْهِ ، وَالْحَاجَةُ دَاعِيَةٌ إلَى أَكْلِهِمَا فِي حَالِ رُطُوبَتِهِمَا .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ .
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَاللَّيْثُ : يُخْرَصُ ؛ لِأَنَّهُ ثَمَرٌ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ ، فَيُخْرَصُ كَالرُّطَبِ وَالْعِنَبِ .
وَلَنَا : أَنَّهُ لَا نَصَّ فِي خَرْصِهِ ، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ ، فَيَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ .

( 1852 ) فَصْلٌ : وَوَقْتُ الْإِخْرَاجِ لِلزَّكَاةِ بَعْدَ التَّصْفِيَةِ فِي الْحُبُوبِ وَالْجَفَافِ فِي الثِّمَارِ ؛ لِأَنَّهُ أَوَانُ الْكَمَالِ وَحَالُ الِادِّخَارِ .
وَالْمُؤْنَةُ الَّتِي تَلْزَمُ الثَّمَرَةَ إلَى حِينِ الْإِخْرَاجِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ الثَّمَرَةَ كَالْمَاشِيَةِ ، وَمُؤْنَةُ الْمَاشِيَةِ وَحِفْظُهَا وَرَعْيُهَا ، وَالْقِيَامُ عَلَيْهَا إلَى حِينَ الْإِخْرَاجِ ، عَلَى رَبِّهَا ، كَذَا هَاهُنَا .
فَإِنْ أَخَذَ السَّاعِي الزَّكَاةَ قَبْلَ التَّجْفِيفِ ، فَقَدْ أَسَاءَ ، وَيَرُدُّهُ إنْ كَانَ رَطْبًا بِحَالِهِ ، وَإِنْ تَلِفَ رَدَّ مِثْلَهُ ، وَإِنْ جَفَّفَهُ وَكَانَ قَدْرَ الزَّكَاةِ ، فَقَدْ اسْتَوْفَى الْوَاجِبَ ، وَإِنْ كَانَ دُونَهُ أَخَذَ الْبَاقِيَ ، وَإِنْ كَانَ زَائِدًا رَدَّ الْفَضْلَ .
وَإِنْ كَانَ الْمُخْرِجُ لَهَا رَبَّ الْمَالِ ، لَمْ يُجْزِئْهُ ، وَلَزِمَهُ إخْرَاجُ الْفَضْلِ بَعْدَ التَّجْفِيفِ ؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَ غَيْرَ الْفَرْضِ ، فَلَمْ يُجْزِئْهُ ، كَمَا لَوْ أَخْرَجَ الصَّغِيرَةَ مِنْ الْمَاشِيَةِ عَنْ الْكِبَارِ .

( 1853 ) فَصْلٌ : وَإِنْ اُحْتِيجَ إلَى قَطْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ كَمَالِهَا ، خَوْفًا مِنْ الْعَطَشِ ، أَوْ لِضَعْفِ الْجِمَارِ ، جَازَ قَطْعُهَا ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْفُقَرَاءِ إنَّمَا يَجِبُ عَلَى طَرِيقِ الْمُوَاسَاةِ ، فَلَا يُكَلَّفُ الْإِنْسَانُ مِنْ ذَلِكَ مَا يُهْلِكُ أَصْلَ مَالِهِ ، وَلِأَنَّ حِفْظَ الْأَصْلِ أَحْفَظُ لِلْفُقَرَاءِ مِنْ حِفْظِ الثَّمَرَةِ ، لِأَنَّ حَقَّهُمْ يَتَكَرَّرُ بِحِفْظِهَا فِي كُلِّ سَنَةٍ ، فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي النَّخْلِ .
ثُمَّ إنْ كَانَ يَكْفِي تَجْفِيفُ الثَّمَرَةِ دُونَ قَطْعِ جَمِيعِهَا ، جَفَّفَهَا ، وَإِنْ لَمْ يَكْفِ إلَّا قَطْعُ جَمِيعِهَا ، جَازَ .
وَكَذَلِكَ إنْ أَرَادَ قَطْعَ الثَّمَرَةَ لِتَحْسِينِ الْبَاقِي مِنْهَا جَازَ .
وَإِذَا أَرَادَ ذَلِكَ ، فَقَالَ الْقَاضِي : يُخَيَّرُ السَّاعِي بَيْنَ أَنْ يُقَاسِمَ رَبَّ الْمَالِ الثَّمَرَةَ قَبْلَ الْجَدَادِ بِالْخَرْصِ ، وَيَأْخُذَ نَصِيبَهُمْ نَخْلَةً مُفْرَدَةً ، وَيَأْخُذَ ثَمَرَتَهَا ، وَبَيْنَ أَنْ يَجُذَّهَا ، وَيُقَاسِمَهُ إيَّاهَا بِالْكَيْلِ ، وَيَقْسِمَ الثَّمَرَةَ فِي الْفُقَرَاءِ ، وَبَيْنَ أَنْ يَبِيعَهَا مِنْ رَبِّ الْمَالِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ قَبْلَ الْجَدَادِ أَوْ بَعْدَهُ ، وَيَقْسِمَ ثَمَنَهَا فِي الْفُقَرَاءِ .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : عَلَيْهِ الزَّكَاةُ فِيهِ يَابِسًا .
وَذَكَرَ أَنَّ أَحْمَدَ نَصَّ عَلَيْهِ .
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْعِنَبِ الَّذِي لَا يَجِيءُ مِنْهُ زَبِيبٌ ، كَالْخَمْرِيِّ ، وَالرُّطَبِ الَّذِي لَا يَجِيءُ مِنْهُ تَمْرٌ جَيِّد ، كالبرنبا والهلياث .
فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا قُلْتُمْ لَا زَكَاةَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُدَّخَرُ ، فَهُوَ كَالْخَضْرَاوَاتِ ، وَطَلْعِ الْفُحَّالِ .
قُلْنَا : لِأَنَّهُ يُدَّخَرُ فِي الْجُمْلَةِ ، وَإِنَّمَا لَمْ يُدَّخَرْ هَاهُنَا ، لِأَنَّ أَخْذَهُ رُطَبًا أَنْفَعُ ، فَلَمْ تَسْقُطْ مِنْهُ الزَّكَاةُ بِذَلِكَ ، وَلَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ حَتَّى يَبْلُغَ حَدًّا يَكُونُ مِنْهُ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ تَمْرًا أَوْ زَبِيبًا ، إلَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى .
وَإِذَا أَتْلَفَ رَبُّ الْمَالِ هَذِهِ الثَّمَرَةَ ، فَقَالَ الْقَاضِي : عَلَيْهِ قِيمَتُهَا ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَهَا غَيْرُ رَبِّ الْمَالِ .
وَعَلَى

قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ : يَجِبُ فِي ذِمَّتِهِ الْعُشْرُ تَمْرًا ، أَوْ زَبِيبًا ، كَمَا فِي غَيْرِ هَذِهِ الثَّمَرَةِ .
قَالَ : فَإِنْ لَمْ يَجُدَّ التَّمْرَ ، فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا ، يُؤْخَذُ مِنْهُ قِيمَتُهُ .
وَالثَّانِي : يَكُونُ فِي ذِمَّتِهِ ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ .

( 1854 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا كَيْفِيَّةُ الْإِخْرَاجِ ، فَإِنْ كَانَ الْمَالُ الَّذِي فِيهِ الزَّكَاةُ نَوْعًا وَاحِدًا ، أَخَذَ مِنْهُ جَيِّدًا كَانَ أَوْ رَدِيئًا ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْفُقَرَاءِ يَجِبُ عَلَى طَرِيقِ الْمُوَاسَاةِ ، فَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الشُّرَكَاءِ ، لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا .
وَإِنْ كَانَ أَنْوَاعًا ، أَخَذَ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مَا يَخُصُّهُ .
هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَقَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ : يُؤْخَذُ مِنْ الْوَسَطِ .
وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ ، إذَا شَقَّ عَلَيْهِ إخْرَاجُ زَكَاةِ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهُ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : وَقَالَ غَيْرُهُمَا : يُؤْخَذُ عُشْرُ ذَلِكَ مِنْ كُلٍّ بِقَدْرِهِ .
وَهُوَ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْفُقَرَاءَ بِمَنْزِلَةِ الشُّرَكَاءِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَسَاوَوْا فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنْهُ ، وَلَا مَشَقَّةَ فِي ذَلِكَ ، بِخِلَافِ الْمَاشِيَةِ إذَا كَانَتْ أَنْوَاعًا ، فَإِنَّ إخْرَاجَ حِصَّةِ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهُ يُفْضِي إلَى تَشْقِيصِ الْوَاجِبِ ، وَفِيهِ مَشَقَّةٌ بِخِلَافِ الثِّمَارِ ، وَلِهَذَا وَجَبَ فِي الزَّائِدِ بِحِسَابِهِ ، وَلَا يَجُوزُ إخْرَاجُ الرَّدِيءِ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { { وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ } قَالَ أَبُو أُمَامَةَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ : هُوَ الْجُعْرُورُ وَلَوْنُ الْحُبَيْقِ ، فَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُؤْخَذَ فِي الصَّدَقَةِ } رَوَاهُ النَّسَائِيّ ، وَأَبُو عُبَيْدٍ .
قَالَ : وَهُمَا ضَرْبَانِ مِنْ التَّمْرِ .
أَحَدُهُمَا إنَّمَا يَصِيرُ قِشْرًا عَلَى نَوَى ، وَالْآخَرُ إذَا أَثْمَرَ صَارَ حَشَفًا .
وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الْجَيِّدِ عَنْ الرَّدِيءِ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ } .
فَإِنْ تَطَوَّعَ رَبُّ الْمَالِ بِذَلِكَ ، جَازَ ، وَلَهُ ثَوَابُ الْفَضْلِ ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي فَضْلِ الْمَاشِيَةِ .

( 1855 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا الزَّيْتُونُ ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا زَيْتَ لَهُ ، فَإِنَّهُ يُخْرِجُ مِنْهُ عُشْرَهُ حَبًّا ، إذَا بَلَغَ النِّصَابَ ، لِأَنَّهُ حَالَ كَمَالِهِ وَادِّخَارِهِ يُخْرِجُ مِنْهُ ، كَمَا يَخْرُصُ الرُّطَبَ فِي حَالِ رُطُوبَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ لَهُ زَيْتٌ أَخْرَجَ مِنْهُ زَيْتًا ، إذَا بَلَغَ الْحَبُّ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ .
وَهَذَا قَوْلُ الزُّهْرِيِّ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ ، وَمَالِكٍ ، وَاللَّيْثِ .
قَالُوا : يُخْرَصُ الزَّيْتُونُ ، وَيُؤْخَذُ زَيْتًا صَافِيًا .
وَقَالَ مَالِكٌ : إذَا بَلَغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ أَخَذَ الْعُشْرَ مِنْ زَيْتِهِ بَعْدَ أَنْ يُعْصَرَ .
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ : يُخْرِجُ مِنْ حَبِّهِ كَسَائِرِ الثِّمَارِ ، وَلِأَنَّهُ الْحَالَةُ الَّتِي تُعْتَبَرُ فِيهَا الْأَوْسَاقُ ، فَكَانَ إخْرَاجُهُ فِيهَا كَسَائِرِ الثِّمَارِ .
وَهَذَا جَائِزٌ ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ يَكْفِي الْفُقَرَاءَ مُؤْنَتَهُ ، فَيَكُونُ أَفْضَلِ ، كَتَجْفِيفِ التَّمْرِ ، وَلِأَنَّهُ حَالُ كَمَالِهِ وَادِّخَارِهِ ، فَيُخْرِجُ مِنْهُ ، كَمَا يَخْرُصُ الرُّطَبَ فِي حَالِ رُطُوبَتِهِ ، وَيُخْرِجُ مِنْهُ إذَا يَبِسَ .

( 1856 ) فَصْلٌ : وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ أَنَّ فِي الْعَسَلِ الْعُشْرَ .
قَالَ الْأَثْرَمُ : سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : أَنْتَ تَذْهَبُ إلَى أَنَّ فِي الْعَسَلِ زَكَاةً ؟ قَالَ : نَعَمْ .
أَذْهَبُ إلَى أَنَّ فِي الْعَسَلِ زَكَاةً ، الْعُشْرُ ، قَدْ أَخَذَ عُمَرُ مِنْهُمْ الزَّكَاةَ .
قُلْت : ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ تَطَوَّعُوا بِهِ ؟ قَالَ لَا .
بَلْ أَخَذَهُ مِنْهُمْ .
وَيَرْوِي ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَمَكْحُولٍ ، وَالزُّهْرِيِّ ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى ، وَالْأَوْزَاعِيِّ ، وَإِسْحَاقَ .
وَقَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى ، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ : لَا زَكَاةَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ مَائِعٌ خَارِجٌ مِنْ حَيَوَانٍ ، أَشْبَهَ اللَّبَنَ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : لَيْسَ فِي وُجُوبِ الصَّدَقَةِ فِي الْعَسَلِ خَبَرٌ يَثْبُتُ وَلَا إجْمَاعٌ ، فَلَا زَكَاةَ فِيهِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنْ كَانَ فِي أَرْضِ الْعُشْرِ فَفِيهِ الزَّكَاةُ ، وَإِلَّا فَلَا زَكَاةَ فِيهِ .
وَوَجْهُ الْأَوَّلِ مَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ { ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُؤْخَذُ فِي زَمَانِهِ مِنْ قِرَبِ الْعَسَلِ ، مِنْ كُلِّ عَشْرِ قِرَبٍ قِرْبَةٌ مِنْ أَوْسَطِهَا .
} رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ ، وَالْأَثْرَمُ ، وَابْنُ مَاجَهْ .
وَعَنْ سُلَيْمَانِ بْنِ مُوسَى { ، أَنَّ أَبَا سَيَّارَةَ الْمُتَعِيَّ قَالَ : قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ : إنَّ لِي نَحْلًا .
قَالَ : أَدِّ عُشْرَهَا .
قَالَ : فَاحْمِ إذَا جَبَلَهَا .
فَحَمَاهُ لَهُ .
} رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ ، وَابْنُ مَاجَهْ .
وَرَوَى الْأَثْرَمُ عَنْ ابْنِ أَبِي ذُبَابٍ ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ ، أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَمَرَهُ فِي الْعَسَلِ بِالْعُشْرِ .
أَمَّا الِابْنُ فَإِنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ فِي أَصْلِهِ وَهِيَ السَّائِمَةُ ، بِخِلَافِ الْعَسَلِ .
وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ يَنْبَنِي عَلَى أَنَّ الْعُشْرَ وَالْخَرَاجَ لَا يَجْتَمِعَانِ ، وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

( 1857 ) فَصْلٌ : وَنِصَابُ الْعَسَلِ عَشَرَةُ أَفَرَاقٍ .
وَهَذَا قَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٌ : خَمْسَةُ أَوْسَاقٍ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ .
} وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تَجِبُ فِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ ، بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ .
وَوَجْهُ الْأَوَّلِ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ نَاسًا سَأَلُوهُ ، فَقَالُوا : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ لَنَا وَادِيًا بِالْيَمَنِ ، فِيهِ خَلَايَا مِنْ نَحْلٍ ، وَإِنَّا نَجِدُ نَاسًا يَسْرِقُونَهَا .
فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إنْ أَدَّيْتُمْ صَدَقَتَهَا ، مِنْ كُلِّ عَشَرَةِ أَفْرَاقٍ فَرَقًا ، حَمَيْنَاهَا لَكُمْ .
.
رَوَاهُ الْجُوزَجَانِيُّ .
وَهَذَا تَقْدِيرٌ مِنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَيَتَعَيَّنُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ الْفَرْقَ سِتَّةَ عَشَرَ رِطْلًا بِالْعِرَاقِيِّ ، فَيَكُونُ نِصَابُهُ مِائَةً وَسِتِّينَ رِطْلًا .
وَقَالَ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد : قَالَ الزُّهْرِيُّ ، فِي عَشَرَةِ أَفْرَاقٍ فَرَقٌ ، وَالْفَرَقُ سِتَّةَ عَشَرَ رِطْلًا .
وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ الْفَرَقُ سِتُّونَ رِطْلًا ، فَيَكُونُ النِّصَابُ سِتَّمِائَةِ رِطْلٍ ، فَإِنَّهُ يَرْوِي أَنَّ الْخَلِيلَ بْنَ أَحْمَدَ ، قَالَ : الْفَرْقُ ، بِإِسْكَانِ الرَّاءِ : مِكْيَالٌ ضَخْمٌ مِنْ مَكَايِيلِ أَهْلِ الْعِرَاقِ .
وَقِيلَ : هُوَ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ رِطْلًا ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نِصَابُهُ أَلْفَ رِطْلٍ ، لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، أَنَّهُ كَانَ يُؤْخَذُ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قِرَبِ الْعَسَلِ مِنْ كُلِّ عَشْرِ قِرَبٍ قِرْبَةٌ مِنْ أَوْسَطِهَا .
وَالْقِرْبَةُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ مِائَةُ رِطْلٍ ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْقُلَّتَيْنِ خَمْسُ قِرَبٍ ، وَهِيَ خَمْسُمِائَةِ رِطْلٍ .
وَرَوَى سَعِيدٌ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي ذُبَابٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ قَالَ لِقَوْمِهِ :

إنَّهُ لَا خَيْرَ فِي مَالٍ لَا زَكَاةَ فِيهِ .
قَالَ : فَأَخَذْت مِنْ كُلِّ عَشْرِ قِرَبٍ قِرْبَةً ، فَجِئْت بِهَا إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، فَأَخَذَهَا ، فَجَعَلَهَا فِي صَدَقَاتِ الْمُسْلِمِينَ .
وَوَجْهُ الْأَوَّلِ قَوْلُ عُمَرَ : مِنْ كُلِّ عَشَرَةِ أَفْرَاقٍ فَرَقًا وَالْفَرَقُ ، بِتَحْرِيكِ الرَّاءِ : سِتَّةَ عَشَرَ رِطْلًا .
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : لَا خِلَافَ بَيْنَ النَّاسِ أَعْلَمُهُ ، فِي أَنَّ الْفَرَق ثَلَاثَةُ آصُعٍ { .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ : أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ فَرَقًا مِنْ طَعَامٍ .
فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّهُ ثَلَاثَةُ آصُعٍ .
} وَقَالَتْ عَائِشَةُ : { كُنْت أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إنَاءٍ ، هُوَ الْفَرَقُ } .
هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فَيَنْصَرِفُ الْإِطْلَاقُ إلَيْهِ .
وَالْفَرَقُ : هُوَ مِكْيَالٌ ضَخْمٌ لَا يَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَيْهِ ؛ لِوُجُوهِ : أَحَدُهَا ، أَنَّهُ غَيْرُ مَشْهُورٍ فِي كَلَامِهِمْ ، فَلَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ الْمُطْلَقُ مِنْ كَلَامِهِمْ .
قَالَ ثَعْلَبٌ : قُلْ فَرَّقَ وَلَا تَقُلْ فَرَقٌ .
قَالَ خِدَاشُ بْنُ زُهَيْرٍ : يَأْخُذُونَ الْأَرْشَ فِي إخْوَتِهِمْ فَرَقَ السَّمْنِ وَشَاةً فِي الْغَنَمِ الثَّانِي ، أَنَّ عُمَرَ ، قَالَ : مِنْ كُلِّ عَشَرَةِ أَفِرَاق فَرَّقَ ، والأفراق جَمْعُ فَرَّقَ ، بِفَتْحِ الرَّاءِ ، وَجَمْعُ الْفَرْقِ ، بِإِسْكَانِ الرَّاءِ ، فُرُوقٌ ، وَفِي الْقِلَّةِ أَفْرُق ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ عَلَى وَزْنِ فَعَلَ سَاكِنَ الْعَيْنِ غَيْرَ مُعْتَلٍّ ، فَجَمْعُهُ فِي الْقِلَّةِ أَفْعَلُ ، وَفِي الْكَثْرَةِ فِعَالُ أَوْ فَعُوِّلَ .
وَالثَّالِثُ ، أَنَّ الْفَرْقَ الَّذِي هُوَ مِكْيَالٌ ضَخْمٌ مِنْ مَكَايِيلِ أَهْلِ الْعِرَاقِ لَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ كَلَامُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَإِنَّمَا يُحْمَلُ كَلَامُ عُمَرَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى مَكَايِيلِ أَهْلِ الْحِجَازِ ؛ لِأَنَّهُ بِهَا وَمِنْ أَهْلِهَا ، وَيُؤَكِّدُ مَا ذَكَرْنَا تَفْسِيرَ الزُّهْرِيِّ لَهُ فِي نِصَابِ الْعَسَلِ بِمَا قُلْنَاهُ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ ذَكَرَهُ فِي مَعْرِضِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ ذَهَبَ إلَيْهِ .

وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( 1858 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَالْأَرْضُ أَرْضَانِ : صُلْحٌ ، وَعَنْوَةٌ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْأَرْضَ قِسْمَانِ : صُلْحٌ وَعَنْوَةٌ ، فَأَمَّا الصُّلْحُ فَهُوَ كُلُّ أَرْضٍ صَالَحَ أَهْلُهَا عَلَيْهَا لِتَكُونَ لَهُمْ ، وَيُؤَدُّونَ خَرَاجًا مَعْلُومًا ، فَهَذِهِ الْأَرْضُ مِلْكٌ لِأَرْبَابِهَا ، وَهَذَا الْخَرَاجُ فِي حُكْمِ الْجِزْيَةِ ، مَتَى أَسْلَمُوا سَقَطَ عَنْهُمْ ، وَلَهُمْ بَيْعُهَا وَهِبَتُهَا وَرَهْنُهَا ؛ لِأَنَّهَا مِلْكٌ لَهُمْ ، وَكَذَلِكَ إنْ صَالَحُوا عَلَى أَدَاءِ شَيْءٍ غَيْرِ مُوَظَّفٍ عَلَى الْأَرْضِ ، وَكَذَلِكَ كُلُّ أَرْضٍ أَسْلَمَ عَلَيْهَا أَهْلُهَا ، كَأَرْضِ الْمَدِينَةِ وَشِبْهِهَا ، فَهَذِهِ مِلْكٌ لِأَرْبَابِهَا ، لَا خَرَاجَ عَلَيْهَا ، وَلَهُمْ التَّصَرُّفُ فِيهَا كَيْفَ شَاءُوا .
وَأَمَّا الثَّانِي ، وَهُوَ مَا فُتِحَ عَنْوَةً ، فَهِيَ مَا أُجْلِيَ عَنْهَا أَهْلُهَا بِالسَّيْفِ ، وَلَمْ تُقَسَّمْ بَيْنَ الْغَانِمِينَ ، فَهَذِهِ تَصِيرُ لِلْمُسْلِمِينَ ، يُضْرَبُ عَلَيْهَا خَرَاجٌ مَعْلُومٌ ، يُؤْخَذُ مِنْهَا فِي كُلِّ عَامٍ ، يَكُونُ أُجْرَةً لَهَا ، وَتَقَرُّ فِي أَيْدِي أَرْبَابِهَا ، مَا دَامُوا يُؤَدُّونَ خَرَاجَهَا ، سَوَاء كَانُوا مُسْلِمِينَ أَوْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ .
وَلَا يَسْقُطُ خَرَاجُهَا بِإِسْلَامِ أَرْبَابِهَا ، وَلَا بِانْتِقَالِهَا إلَى مُسْلِمٍ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ أُجْرَتِهَا ، وَلَمْ نَعْلَمْ أَنَّ شَيْئًا مِمَّا فُتِحَ عَنْوَةً قُسِمَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إلَّا خَيْبَرَ ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسَمَ نِصْفَهَا ، فَصَارَ ذَلِكَ لِأَهْلِهِ ، لَا خَرَاجَ عَلَيْهِ ، وَسَائِرُ مَا فُتِحَ عَنْوَةً مِمَّا فَتَحَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَنْ بَعْدَهُ ، كَأَرْضِ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَمِصْرَ وَغَيْرهَا ، لَمْ يُقَسَّمْ مِنْهُ شَيْءٌ ، فَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ ، فِي " الْأَمْوَالِ " أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدِمَ الْجَابِيَةَ ، فَأَرَادَ قِسْمَةَ الْأَرْضِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ، فَقَالَ لَهُ مُعَاذٌ : وَاَللَّهِ إذَا لَيَكُونَنَّ مَا تَكْرَهُ ، إنَّك إنَّ قَسَّمْتهَا الْيَوْمَ صَارَ الرَّيْعُ الْعَظِيمُ فِي أَيْدِي الْقَوْمِ ، ثُمَّ

يَبِيدُونَ فَيَصِيرُ ذَلِكَ إلَى الرَّجُلِ الْوَاحِدِ وَالْمَرْأَةِ ، ثُمَّ يَأْتِي بَعْدِهِمْ قَوْمٌ أَخَّرَ يَسُدُّونَ مِنْ الْإِسْلَامِ مَسَدًّا وَهُمْ لَا يَجِدُونَ شَيْئًا ، فَانْظُرْ أَمْرًا يَسَعُ أَوَّلَهُمْ وَآخِرَهُمْ .
فَصَارَ عُمَرُ إلَى قَوْلِ مُعَاذٍ وَرَوَى أَيْضًا ، قَالَ : قَالَ الْمَاجِشُونِ : قَالَ بِلَالٌ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْقُرَى الَّتِي افْتَتَحُوهَا عَنْوَةً : اقْسِمْهَا بَيْنَنَا ، وَخُذْ خُمْسَهَا .
فَقَالَ عُمَرُ : لَا ، هَذَا عَيْنُ الْمَالِ ، وَلَكِنِّي أَحْبِسُهُ فَيْئًا يَجْرِي عَلَيْهِمْ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ .
فَقَالَ بِلَالٌ وَأَصْحَابُهُ لِعُمَرَ : اقْسِمْهَا بَيْنَنَا .
فَقَالَ عُمَرُ : اللَّهُمَّ اكْفِنِي بِلَالًا وَذَوِيهِ .
قَالَ فَمَا حَالَ الْحَوْلُ وَمِنْهُمْ عَيْنٌ تَطْرِفُ .
وَرَوَى ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ وَهْبٍ الْخَوْلَانِيِّ ، قَالَ : لَمَّا افْتَتَحَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ مِصْرَ ، قَامَ ابْنُ الزُّبَيْرُ ، فَقَالَ : يَا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ ، اقْسِمْهَا .
فَقَالَ عَمْرو : لَا أَقْسِمُهَا .
فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرُ : لَتَقْسِمَنهَا كَمَا قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ .
فَقَالَ عَمْرو : لَا أَقْسِمُهَا حَتَّى أَكْتُبَ إلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ، فَكَتَبَ إلَى عُمَرَ ، فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ : أَنَّ دَعْهَا حَتَّى يَعْرَوْا مِنْهَا حَبَلُ الْحَبَلَةِ .
قَالَ الْقَاضِي : وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ قَسَمَ أَرْضًا عَنْوَةً إلَّا خَيْبَرَ .

( 1859 ) فَصْلٌ : قَالَ أَحْمَدُ : وَمَنْ يَقُومُ عَلَى أَرْضِ الصُّلْحِ وَأَرْضِ الْعَنْوَةِ ، وَمِنْ أَيْنَ هِيَ ، وَإِلَى أَيْنَ هِيَ ؟ وَقَالَ : أَرْضُ الشَّامِ عَنْوَةٌ ، إلَّا حِمْصَ وَمَوْضِعًا آخَرَ .
وَقَالَ : مَا دُونَ النَّهْرِ صُلْحٌ ، وَمَا وَرَاءَهُ عَنْوَةٌ ، وَقَالَ : فَتَحَ الْمُسْلِمُونَ السَّوَادَ عَنْوَةً ، إلَّا مَا كَانَ مِنْهُ صُلْحٌ ، وَهِيَ أَرْضُ الْحِيرَةِ ، وَأَرْضُ مَانَقِيَا .
وَقَالَ : أَرْضُ الثَّرِيِّ خَلَطُوا فِي أَمْرِهَا ، فَأَمَّا مَا فُتِحَ عَنْوَةً مِنْ نَهَاوَنْدَ إلَى طَبَرِسْتَانَ خَرَاجٌ .
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : أَرْضُ الشَّامِ عَنْوَةٌ ، مَا خَلَا مُدُنَهَا ، فَإِنَّهَا فُتِحَتْ صُلْحًا ، إلَّا قَيْسَارِيَّةَ ، اُفْتُتِحَتْ عَنْوَةً ، وَأَرْضُ السَّوَادِ وَالْحِلِّ وَنَهَاوَنْدَ وَالْأَهْوَازَ وَمِصْرَ وَالْمَغْرِبِ .
قَالَ مُوسَى بْنُ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ ، عَنْ أَبِيهِ : الْمَغْرِبُ كُلُّهُ عَنْوَةٌ .
فَأَمَّا أَرْضُ الصُّلْحِ فَأَرْضُ هَجَرَ ، وَالْبَحْرَيْنِ ، وَأَيْلَةَ ، وَدُومَةِ الْجَنْدَلِ ، وَأَذْرُحَ ، فَهَذِهِ الْقُرَى الَّتِي أَدَّتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجِزْيَةَ ، وَمُدُن الشَّامِ مَا خَلَا أَرْضَهَا إلَّا قَيْسَارِيَّةَ وَبِلَادَ الْجَزِيرَةِ كُلَّهَا ، وَبِلَادُ خُرَاسَانَ كُلُّهَا أَوْ أَكْثَرُهَا صُلْحٌ ، وَكُلُّ مَوْضِعٍ فُتِحَ عَنْوَةً فَإِنَّهُ وَقْفٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ .

( 1860 ) فَصْلٌ : وَمَا اسْتَأْنَفَ الْمُسْلِمُونَ فَتْحَهُ ، فَإِنْ فُتِحَ عَنْوَةً فَفِيهِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ : إحْدَاهُنَّ ، أَنَّ الْإِمَامَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ قِسْمَتِهَا عَلَى الْغَانِمِينَ ، وَبَيْنَ وَقَفَّيْتهَا عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّ كِلَا الْأَمْرَيْنِ قَدْ ثَبَتَ فِيهِ حُجَّةٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسَّمَ نِصْفَ خَيْبَرَ ، وَوَقَفَ نِصْفَهَا لِنَوَائِبِهِ وَوَقَفَ عُمَرُ الشَّامَ وَالْعِرَاقَ وَمِصْرَ وَسَائِرَ مَا فَتَحَهُ ، وَأَقَرَّهُ عَلَى ذَلِكَ عُلَمَاءُ الصَّحَابَةِ ، وَأَشَارُوا عَلَيْهِ بِهِ ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ مَنْ بَعْدَهُ مِنْ الْخُلَفَاءِ ، وَلَمْ يُعْلَمْ أَحَدٌ مِنْهُمْ قَسَمَ شَيْئًا مِنْ الْأَرْضِ الَّتِي افْتَتَحُوهَا .
وَالثَّانِيَةُ ، أَنَّهَا تَصِيرُ وَقْفًا بِنَفْسِ الِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا ؛ لِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ ، وَقِسْمَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ كَانَ فِي بَدْءِ الْإِسْلَامِ ، وَشِدَّةِ الْحَاجَةِ ، فَكَانَتْ الْمَصْلَحَةُ فِيهِ ، وَقَدْ تَعَيَّنَتْ الْمَصْلَحَةُ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ فِي وَقْفِ الْأَرْضِ ، فَكَانَ ذَلِكَ هُوَ الْوَاجِبَ .
وَالثَّالِثَةُ ، أَنَّ الْوَاجِبَ قِسْمَتُهَا .
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، وَأَبِي ثَوْرٍ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ ذَلِكَ ، وَفِعْلُهُ أَوْلَى مِنْ فِعْلِ غَيْرِهِ ، مَعَ عُمُومِ قَوْله تَعَالَى : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ } .
الْآيَةُ .
يُفْهَمُ مِنْهَا أَنَّ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسهَا لِلْغَانِمِينَ .
وَالرِّوَايَةُ الْأُولَى أَوْلَى ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا فِي خَيْبَرَ ، وَلِأَنَّ عُمَرَ قَالَ : لَوْلَا آخِرُ النَّاسِ لَقَسَمْت الْأَرْضَ كَمَا قَسَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ .
فَقَدْ وَقَفَ الْأَرْضَ مَعَ عِلْمِهِ بِفِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ فِعْلَهُ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُتَعَيِّنًا ، كَيْفَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ

وَقَفَ نِصْفَ خَيْبَرَ ، وَلَوْ كَانَتْ لِلْغَانِمِينَ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَقْفُهَا .
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : تَوَاتَرَتْ الْآثَارُ فِي افْتِتَاحِ الْأَرْضِينَ عَنْوَةً بِهَذَيْنِ الْحُكْمَيْنِ ؛ حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خَيْبَرَ حِينَ قَسَمَهَا ، وَبِهِ أَشَارَ بِلَالٌ وَأَصْحَابُهُ عَلَى عُمَرَ فِي أَرْضِ الشَّامِ ، وَأَشَارَ بِهِ الزُّبَيْرُ فِي أَرْضِ مِصْرَ ، وَحُكْمِ عُمَرَ فِي أَرْضِ السَّوَادِ وَغَيْرِهِ حِينَ وَقَفَهُ ، وَبِهِ أَشَارَ عَلِيٌّ ، وَمُعَاذٌ ، عَلَى عُمَرَ فِي أَرْضِ الشَّامِ وَلَيْسَ فِعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَادًّا لِفِعْلِ عُمَرَ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اتَّبَعَ آيَةً مُحْكَمَةً ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ } .
وَقَالَ : { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } .
الْآيَةُ .
فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرَيْنِ جَائِزًا ، وَالنَّظَرُ فِي ذَلِكَ إلَى الْإِمَامِ ، فَمَا رَأَى مِنْ ذَلِكَ فَعَلَهُ .
وَهَذَا قَوْلُ الثَّوْرِيِّ ، وَأَبِي عُبَيْدٍ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ الِاخْتِيَارَ الْمُفَوَّضَ إلَى الْإِمَامِ اخْتِيَارُ مَصْلَحَةٍ ، لَا اخْتِيَارُ تُشَهِّ فَيَلْزَمُهُ فِعْلُ مَا يَرَى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْعُدُولُ عَنْهُ ، كَالْخِيَرَةِ بَيْنَ الْقَتْلِ وَالِاسْتِرْقَاقِ ، وَالْفِدَاءِ وَالْمَنِّ فِي الْأَسْرَى ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى النُّطْقِ بِالْوَقْفِ ، بَلْ تَرْكُهُ لَهُ مِنْ غَيْرِ قِسْمَةٍ هُوَ وَقْفُهُ لَهَا ، كَمَا أَنَّ قَسَمَهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ لَا يَحْتَاجُ مَعَهُ إلَى لَفْظٍ ؛ وَإِنْ عُمَرَ وَغَيْرَهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ فِي وَقْفِ الْأَرْضِ لَفْظُ الْوَقْفِ ، وَلِأَنَّ مَعْنَى وَقْفِهَا هَاهُنَا ، أَنَّهَا بَاقِيَةٌ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ ، يُؤْخَذُ خَرَاجُهَا ، وَيُصْرَفُ فِي مَصَالِحِهِمْ ، وَلَا يُخَصُّ أَحَدٌ بِمِلْكِ شَيْءٍ مِنْهَا ، وَهَذَا حَاصِلٌ بِتَرْكِهَا .

فَصْلٌ : فَأَمَّا مَا جَلَا عَنْهَا أَهْلُهَا خَوْفًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، فَهَذِهِ تَصِيرُ وَقْفًا بِنَفْسِ الظُّهُورِ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُتَعَيِّنٌ فِيهَا ، إذْ لَمْ يَكُنْ لَهَا غَانِمٌ ، فَكَانَ حُكْمُهَا حُكْمَ الْفَيْءِ يَكُونُ لِلْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهَا لَا تَصِيرُ وَقْفًا حَتَّى يَقِفَهَا الْإِمَامُ ، وَحُكْمُهَا حُكْمُ الْعَنْوَةِ إذَا وُقِفَتْ .
وَمَا صَالَحَ عَلَيْهِ الْكُفَّارَ مِنْ أَرْضِهِمْ ، عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ لَنَا ، وَنُقِرُّهُمْ فِيهَا بِخُرَّاجِ ، مَعْلُومٍ ، فَهُوَ وَقْفٌ أَيْضًا ، حُكْمُهُ حُكْمُ مَا ذَكَرْنَاهُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَحَ خَيْبَرَ ، وَصَالَحَ أَهْلَهَا عَلَى أَنْ يَعْمُرُوا أَرْضَهَا ، وَلَهُمْ نِصْفُ ثَمَرَتِهَا ، فَكَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ ، وَصَالَحَ بَنِي النَّضِيرِ عَلَى أَنْ يُجْلِيَهُمْ مِنْ الْمَدِينَةِ ، وَلَهُمْ مَا أُقِلْت الْإِبِلُ مِنْ الْأَمْتِعَةِ وَالْأَمْوَالِ ، إلَّا الْحَلْقَةَ - يَعْنِي السِّلَاحَ - فَكَانَتْ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ .
فَأَمَّا مَا صُولِحُوا عَلَيْهِ ، عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ لَهُمْ ، وَنُقِرُّهُمْ فِيهَا بِخُرَّاجِ مَعْلُومٍ .
فَهَذَا الْخَرَاجُ فِي حُكْمِ الْجِزْيَةِ ، تَسْقُطُ بِإِسْلَامِهِمْ ، وَالْأَرْضُ لَهُمْ لَا خَرَاجَ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ الَّذِي ضُرِبَ عَلَيْهِمْ إنَّمَا كَانَ مِنْ أَجْلِ كُفْرِهِمْ ، بِمَنْزِلَةِ الْجِزْيَةِ الْمَضْرُوبَةِ عَلَى رُءُوسِهِمْ ، فَإِذَا أَسْلَمُوا سَقَطَ ، كَمَا تَسْقُطُ الْجِزْيَةُ ، وَتَبْقَى الْأَرْضُ مِلْكًا لَهُمْ ، لَاخْرَاجَّ عَلَيْهَا .
وَلَوْ انْتَقَلَتْ الْأَرْضُ إلَى مُسْلِمٍ ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا خَرَاجٌ لِذَلِكَ .

( 1862 ) فَصْلٌ : وَلَا يَجُوزُ شِرَاءُ شَيْءٍ مِنْ الْأَرْضِ الْمَوْقُوفَةِ وَلَا بَيْعُهُ ، فِي قَوْلَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ؛ مِنْهُمْ عُمَرُ ، وَعَلِيٌّ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ ، وَقَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ ، وَمُسْلِمِ بْنِ مُسْلِمٍ ، وَمَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ ، وَمَالِكٍ ، وَأَبِي إِسْحَاقَ الْفَزَارِيِّ .
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : لَمْ يَزُلْ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ شِرَاءِ أَرْضِ الْجِزْيَةِ ، وَيَكْرَهُهُ عُلَمَاؤُهُمْ .
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : أَجْمَعَ رَأْيُ عُمَرَ ، وَأَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا ظَهَرُوا عَلَى الشَّامِ ، عَلَى إقْرَارِ أَهْلِ الْقُرَى فِي قُرَاهُمْ ، عَلَى مَا كَانَ بِأَيْدِيهِمْ مِنْ أَرْضِهِمْ ، يَعْمُرُونَهَا ، وَيُؤَدُّونَ خَرَاجَهَا إلَى الْمُسْلِمِينَ ، وَيَرَوْنَ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لَأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ شِرَاءُ مَا فِي أَيْدِيهمْ مِنْ الْأَرْضِ طَوْعًا وَلَا كَرِهَا .
وَكَرِهُوا ذَلِكَ مِمَّا كَانَ مِنْ اتِّفَاقِ عُمَرَ وَأَصْحَابِهِ فِي الْأَرْضِينَ الْمَحْبُوسَةِ عَلَى آخِرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، لَا تُبَاعُ وَلَا تُورَثُ ، قُوَّةً عَلَى جِهَادِ مَنْ لَمْ تَظْهَرْ عَلَيْهِ بَعْدُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ .
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ : إذَا أَقَرَّ الْإِمَامُ أَهْلَ الْعَنْوَةِ فِي أَرْضِهِمْ ، تَوَارَثُوهَا وَتَبَايَعُوهَا وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ ابْنِ سِيرِينَ ، وَالْقُرْطُبِيِّ ؛ لِمَا رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ أَنَّ ، ابْنَ مَسْعُودٍ اشْتَرَى مِنْ دِهْقَانَ أَرْضًا ، عَلَى أَنْ يَكْفِيَهُ جِزْيَتَهَا .
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ السَّفَرِ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ } .
ثُمَّ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : فَكَيْفَ بِمَالِ بِزَاذَانَ ، وَبِكَذَا ، وَبِكَذَا ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهُ مَالًا بِزَاذَانَ .
وَلِأَنَّهَا أَرْضٌ لَهُمْ ، فَجَازَ بَيْعُهَا .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهُ قَالَ : إنْ كَانَ الشِّرَاءُ أَسْهَلَ يَشْتَرِي الرَّجُلُ مَا

يَكْفِيه وَيُغْنِيه عَنْ النَّاسِ ، هُوَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ .
وَكَرِهَ الْبَيْعَ فِي أَرْضِ السَّوَادِ .
وَإِنَّمَا رَخَّصَ فِي الشِّرَاءِ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - لِأَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ اشْتَرَى ، وَلَمْ يُسْمَعْ عَنْهُمْ الْبَيْعُ ، وَلِأَنَّ الشِّرَاءَ اسْتِخْلَاصٌ لِلْأَرْضِ ، فَيَقُومُ فِيهَا مَقَامَ مَنْ كَانَتْ فِي يَدِهِ ، وَالْبَيْعُ أَخْذُ عِوَضٍ عَنْ مَا لَا يَمْلِكُهُ وَلَا يَسْتَحِقُّهُ ، فَلَا يَجُوزُ .
وَلَنَا : إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : لَا تَشْتَرُوا رَقِيقَ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَلَا أَرْضَهُمْ .
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ : اشْتَرَى عُتْبَةُ بْنُ فَرْقَدٍ أَرْضًا عَلَى شَاطِئِ الْفُرَاتِ ، لِيَتَّخِذَ فِيهَا قَصَبًا ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِعُمَرَ ، فَقَالَ : مِمَّنْ اشْتَرَيْتهَا ؟ قَالَ : مِنْ أَرْبَابِهَا .
فَلَمَّا اجْتَمَعَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ ، قَالَ : هَؤُلَاءِ أَرْبَابُهَا ، فَهَلْ اشْتَرَيْت مِنْهُمْ شَيْئًا ؟ قَالَ : لَا .
قَالَ : فَارْدُدْهَا عَلَى مَنْ اشْتَرَيْتهَا مِنْهُ ، وَخُذْ مَالَك .
وَهَذَا قَوْلُ عُمَرَ فِي الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ بِمَحْضَرِ سَادَةِ الصَّحَابَةِ وَأَئِمَّتِهِمْ ، فَلَمْ يُنْكَرْ ، فَكَانَ إجْمَاعًا ، وَلَا سَبِيلَ إلَى وُجُودِ إجْمَاعٍ أَقْوَى مِنْ هَذَا وَشِبْهِهِ ، إذْ لَا سَبِيلَ إلَى نَقْلِ قَوْلِ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ فِي مَسْأَلَةٍ ، وَلَا إلَى نَقْلِ قَوْلِ الْعَشَرَةِ ، وَلَا يُوجَدُ الْإِجْمَاعُ إلَّا الْقَوْلَ .
الْمُنْتَشِرَ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ خَالَفَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ بِمَا ذَكَرْنَاهُ عَنْهُ .
قُلْنَا : لَا نُسَلِّمُ الْمُخَالَفَةَ .
وَقَوْلُهُمْ اشْتَرَى .
قُلْنَا : الْمُرَادُ بِهِ : اكْتَرَى .
كَذَلِكَ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ : عَلَى أَنْ يَكْفِيَهُ جِزْيَتَهَا .
وَلَا يَكُونُ مُشْتَرِيًا لَهَا وَجِزْيَتُهَا عَلَى غَيْرِهِ .
وَقَدْ رَوَى عَنْهُ الْقَاسِمُ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ أَقَرَّ بِالطَّسْقِ فَقَدْ أَقَرَّ بِالصِّغَارِ وَالذُّلِّ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشِّرَاءَ هَاهُنَا الِاكْتِرَاءُ .
وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ رُوِيَتْ عَنْهُ الرُّخْصَةُ فِي

الشِّرَاءِ فَمَحْمُولٌ عَلَى ذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ : فَكَيْفَ بِمَالِ بِزَاذَانَ .
فَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الشِّرَاءِ ، وَلِأَنَّ الْمَالَ أَرْضٌ ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ مَالًا مِنْ السَّائِمَةِ أَوْ التِّجَارَةِ أَوْ الزَّرْعِ .
أَوْ غَيْرِهِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرْضٌ أَكْتَرَاهَا ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ غَيْرَهُ ، وَقَدْ يَعِيبُ الْإِنْسَانُ الْفِعْلَ الْمَعِيبَ مِنْ غَيْرِهِ .
جَوَابٌ ثَانٍ ، أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ الشِّرَاءَ ، وَبَقِيَ قَوْلُ عُمَرَ فِي النَّهْيِ عَنْ الْبَيْعِ غَيْرَ مُعَارِضٍ ، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلِأَنَّهَا مَوْقُوفَةٌ ، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا ، كَسَائِرِ الْأَحْبَاسِ وَالْوُقُوفِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى وَقْفِهَا النَّقْلُ وَالْمَعْنَى ؛ أَمَّا النَّقْلُ ، فَمَا نُقِلَ مِنْ الْأَخْبَارِ ، أَنَّ عُمَرَ لَمْ يَقْسِمْ الْأَرْضَ الَّتِي افْتَتَحَهَا ، وَتَرَكَهَا لِتَكُونَ مَادَّةً لِأَجْنَادِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَقَدْ نَقَلْنَا بَعْضَ ذَلِكَ ، وَهُوَ مَشْهُورٌ تُغْنِي شُهْرَتُهُ عَنْ نَقْلِهِ .
وَأَمَّا الْمَعْنَى ، فَلِأَنَّهَا لَوْ قُسِمَتْ لَكَانَتْ لِلَّذِينَ افْتَتَحُوهَا ، ثُمَّ لِوَرَثَتِهِمْ ، أَوْ لِمَنْ انْتَقَلَتْ إلَيْهِ عَنْهُمْ ، وَلَمْ تَكُنْ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَلِأَنَّهَا لَوْ قُسِمَتْ ، وَلَمْ تَخْفَ بِالْكُلِّيَّةِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَلَيْسَ فِي هَذَا مَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْوَقْفُ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ تَرَكَهَا لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً ، فَيَكُونُ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ ، وَالْإِمَامُ نَائِبُهُمْ ، فَيَفْعَلُ مَا يَرَى فِيهِ الْمَصْلَحَةَ ، مِنْ بَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ تَرَكَهَا لِأَرْبَابِهَا ، كَفِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ .
قُلْنَا : أَمَّا الْأَوَّلُ فَلَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ عُمَرَ إنَّمَا تَرَكَ قِسْمَتَهَا لِتَكُونَ مَادَّةً لِلْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ ، يَنْتَفِعُونَ بِهَا ، مَعَ بَقَاءِ أَصْلِهَا ، وَهَذَا مَعْنَى الْوَقْفِ ، وَلَوْ جَازَ تَخْصِيصُ قَوْمٍ بِأَصْلِهَا لَكَانَ الَّذِينَ افْتَتَحُوهَا أَحَقَّ بِهَا ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَمْنَعَهَا أَهْلَهَا

لِمُفْسِدَةِ ، ثُمَّ يَخُصُّ بِهَا غَيْرَهُمْ مَعَ وُجُودِ الْمَفْسَدَةِ الْمَانِعَةِ .
وَالثَّانِي أَظْهَرُ فَسَادًا مِنْ الْأَوَّلِ ، فَإِنَّهُ إذَا مَنَعَهَا الْمُسْلِمِينَ الْمُسْتَحِقِّينَ ، كَيْفَ يَخُصُّ بِهَا أَهْلَ الذِّمَّةِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا حَقَّ لَهُمْ وَلَا نَصِيبَ ؟ .

( 1863 ) فَصْلٌ : وَإِذَا قُلْنَا بِصِحَّةِ الشِّرَاءِ ، فَإِنَّهَا تَكُونُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي عَلَى مَا كَانَتْ فِي يَدِ الْبَائِعِ ، يُؤَدِّي خَرَاجَهَا ، وَيَكُونُ مَعْنَى الشِّرَاءِ هَاهُنَا نَقْلَ الْيَدِ مِنْ الْبَائِعِ إلَى الْمُشْتَرِي بِعِوَضِ .
وَإِنْ شَرَطَ الْخَرَاجَ عَلَى الْبَائِعِ كَمَا فَعَلَ ابْنُ مَسْعُودٍ ، فَيَكُونُ اكْتِرَاءً لَا شِرَاءَ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَشْتَرِطَ بَيَانَ مُدَّتِهِ ، كَسَائِرِ الْإِجَارَاتِ .
( 1864 ) فَصْلٌ : وَإِذَا بِيعَتْ هَذِهِ الْأَرْضُ ، فَحَكَمَ بِصِحَّةِ الْبَيْعِ حَاكِمٌ ، صَحَّ ؛ لِأَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ ، فَصَحَّ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ ، كَسَائِرِ الْمُجْتَهَدَاتِ .
وَإِنْ بَاعَ الْإِمَامُ شَيْئًا لِمُصْلِحَةِ رَآهَا ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَرْضِ مَا يَحْتَاجُ إلَى عِمَارَةٍ لَا يَعْمُرُهَا إلَّا مِنْ يَشْتَرِيهَا ، صَحَّ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْإِمَامِ كَحُكْمِ الْحَاكِمِ .
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَائِذٍ ، فِي كِتَابِ فُتُوحِ الشَّامِ ، قَالَ : قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ مَشْيَخَتِنَا إنَّ النَّاسَ سَأَلُوا عَبْدَ الْمَلِكِ وَالْوَلِيدَ وَسَلْمَانَ أَنْ يَأْذَنُوا لَهُمْ فِي شِرَاءِ الْأَرْضِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ ، فَأَذِنُوا لَهُمْ عَلَى إدْخَالِ أَثْمَانِهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ .
فَلَمَّا وَلِي عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَعْرَضَ عَنْ تِلْكَ الْأَشْرِيَةِ ؛ لِاخْتِلَاطِ الْأُمُورِ فِيهَا لِمَا وَقَعَ فِيهَا مِنْ الْمَوَارِيثِ وَمُهُورِ النِّسَاءِ وَقَضَاءِ الدُّيُونِ ، وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى تَخْلِيصِهِ وَلَا مَعْرِفَةِ ذَلِكَ وَكَتَبَ كِتَابًا قُرِئَ عَلَى النَّاسِ سَنَةَ الْمِائَةِ ، أَنَّ مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا بَعْدَ سَنَةِ مِائَةٍ فَإِنَّ بَيْعَهُ مَرْدُودٌ وَسَمَّيْ سَنَةَ مِائَةٍ سَنَةَ الْمُدَّةِ ، فَتَنَاهَى النَّاسُ عَنْ شِرَائِهَا ، ثُمَّ اشْتَرَوْا أَشَرْيَةً كَثِيرَةً كَانَتْ بِأَيْدِي أَهْلِهَا تُؤَدِّي الْعُشْرَ وَلَا جِزْيَةَ عَلَيْهَا ، فَلَمَّا أَفْضَى الْأَمْرُ إلَى الْمَنْصُورِ رُفِعَتْ تِلْكَ الْأَشْرِيَةِ إلَيْهِ ، وَأَنَّ ذَلِكَ أَضَرَّ بِالْخَرَاجِ فَأَرَادَ رَدَّهَا إلَى أَهْلِهَا فَقِيلَ لَهُ : قَدْ وَقَعَتْ فِي الْمَوَارِيثِ وَالْمُهُورِ ، وَاخْتَلَطَ أَمْرُهَا فَبَعَثَ

الْمُعَدِّلِينَ ، مِنْهُمْ : عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ إلَى حِمْصَ ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشِ إلَى بَعْلَبَكَّ ، وَهِضَابُ بْنُ طَوْقٍ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ زُرَيْقٍ إلَى الْغُوطَةِ .
وَأَمَرَهُمْ أَنْ لَا يَضَعُوا عَلَى الْقَطَائِعِ وَالْأَشْرِيَةِ الْعَظِيمَةِ الْقَدِيمَةِ خَرَاجًا وَوَضَعُوا الْخَرَاجَ عَلَى مَا بَقِيَ بِأَيْدِي الْأَنْبَاطِ ، وَعَلَى الْأَشْرِيَةِ الْمُحْدَثَةِ مِنْ بَعْدِ سَنَةِ مِائَةٍ إلَى السَّنَةِ الَّتِي عُدِّلَ فِيهَا .
فَيَنْبَغِي أَنْ يَجْرِيَ مَا بَاعَهُ إمَامٌ ، أَوْ بِيعَ بِإِذْنِهِ أَوْ تَعَذَّرَ رَدُّ بَيْعِهِ ، هَذَا الْمَجْرَى ، فِي أَنْ يُضْرَبَ عَلَيْهِ خَرَاجٌ بِقَدْرِ مَا يَحْتَمِل ، وَيُتْرَكَ فِي يَدِ مُشْتَرِيه ، أَوْ مِنْ انْتَقَلَ إلَيْهِ ، إلَّا مَا بِيعَ قَبْلَ الْمِائَةِ السَّنَة فَإِنَّهُ لَا خَرَاجَ عَلَيْهِ ، كَمَا نُقِلَ فِي هَذَا الْخَبَرِ .

( 1865 ) فَصْلٌ : وَحُكْمُ إقْطَاعِ هَذِهِ الْأَرْضِ حُكْمُ بَيْعِهَا فِي أَنَّ مَا كَانَ مِنْ عُمَرَ ، أَوْ مِمَّا كَانَ قَبْلَ مِائَةِ سَنَةٍ ، فَهُوَ لِأَهْلِهِ .
وَمَا كَانَ بَعْدَهَا ، ضُرِبَ عَلَيْهِ ، كَمَا فَعَلَ الْمَنْصُورُ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ ، فَيَكُونُ بَاطِلًا ، وَذَكَرَ ابْنُ عَائِذٍ ، فِي كِتَابِهِ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عُتْبَةَ ، أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدٍ - أَظُنُّهُ الْمَنْصُورَ - سَأَلَهُ فِي مَقْدِمِهِ الشَّامَ ، سَنَةَ ثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ ، عَنْ سَبَبِ الْأَرْضِينَ الَّتِي بِأَيْدِي أَبْنَاء الصَّحَابَةِ ، يَذْكُرُونَ أَنَّهَا قَطَائِعُ لِآبَائِهِمْ قَدِيمَةٌ .
فَقُلْت : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَظْهَرَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى بِلَادِ الشَّامِ ، وَصَالَحُوا أَهْلَ دِمَشْق وَأَهْلَ حِمْصَ ، كَرِهُوا أَنْ يَدْخُلُوهَا دُونَ أَنْ يَتِمَّ ظُهُورُهُمْ ، وَإِثْخَانُهُمْ فِي عَدُوِّ اللَّهِ ، فَعَسْكَرُوا فِي مَرْجِ بَرَدَى ، بَيْنَ الْمِزَّةِ إلَى مَرْجِ شَعْبَانَ ، وَجَنْبَتَيْ بَرَدَى مُرُوجٌ كَانَتْ مُبَاحَةً فِيمَا بَيْنَ أَهْلِ دِمَشْق وَقُرَاهَا ، لَيْسَتْ لَأَحَدٍ مِنْهُمْ ، فَأَقَامُوا بِهَا حَتَّى أَوْطَأَ اللَّهُ بِهِمْ الْمُشْرِكِينَ قَهْرًا وَذُلًّا ، فَأَحْيَا كُلُّ قَوْمٍ مَحَلَّتَهُمْ ، وَهَيَّئُوا بِهَا بِنَاءً ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ ، فَأَمْضَاهُ لَهُمْ ، وَأَمْضَاهُ عُثْمَانُ مِنْ بَعْدِهِ إلَى وِلَايَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ .
قَالَ : وَقَدْ أَمْضَيْنَاهُ لَهُمْ .
وَعَنْ الْأَحْوَصِ بْنِ حَكِيمٍ ، أَنَّ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ فَتَحُوا حِمْصَ لَمْ يَدْخُلُوهَا ، بَلْ عَسْكَرُوا عَلَى نَهْرِ الْأَرْبَدِ ، فَأَحْيَوْهُ ، فَأَمْضَاهُ لَهُمْ عُمَرُ وَعُثْمَانُ ، وَقَدْ كَانَ مِنْهُمْ أُنَاسٌ تَعَدَّوْا إذْ ذَاكَ إلَى جِسْرِ الْأَرْبَدِ ، الَّذِي عَلَى بَابِ الرَّسْتَنِ ، فَعَسْكَرُوا فِي مَرْجِهِ مُسَلَّحَةٌ لِمَنْ خَلْفَهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَلَمَّا بَلَغَهُمْ مَا أَمْضَاهُ عُمَرُ لِلْمُعَسْكِرِينَ عَلَى نَهْرِ الْأَرْبَدِ ، سَأَلُوا أَنْ يُشْرِكُوهُمْ فِي تِلْكَ الْقَطَائِعِ ، وَكَتَبُوا إلَى عُمَرَ فِيهِ ،

فَكَتَبَ أَنْ يُعَوَّضُوا مِثْلَهُ مِنْ الْمُرُوجِ الَّتِي كَانُوا عَسْكَرُوا فِيهَا عَلَى بَابِ الرَّسْتَنِ ، فَلَمْ تَزُلْ تِلْكَ الْقَطَائِعُ عَلَى شَاطِئِ الْأَرْبَدِ ، وَعَلَى بَابِ حِمْصَ ، وَعَلَى بَابِ الرستن ، مَاضِيَةً لِأَهْلِهَا ، لَا خَرَاجَ عَلَيْهَا ، تُؤَدِّي الْعُشْرَ .
( 1866 ) فَصْلٌ : وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الْأَرْضِ الْمُغِلَّةِ ، أَمَّا الْمَسَاكِنُ فَلَا بَأْسَ بِحِيَازَتِهَا وَبَيْعِهَا وَشِرَائِهَا وَسُكْنَاهَا .
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ مَا عَلِمْنَا أَحَدًا كَرِهَ ذَلِكَ ، وَقَدْ اقْتَسَمَتْ الْكُوفَةُ خِطَطًا فِي زَمَنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِإِذْنِهِ ، وَالْبَصْرَةُ ، وَسَكَنِهِمَا أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَلِكَ الشَّامُ وَمِصْرُ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْبُلْدَانِ ، فَمَا عَابَ ذَلِكَ أَحَدٌ وَلَا أَنْكَرَهُ .

( 1867 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( فَمَا كَانَ مِنْ الصُّلْحِ ، فَفِيهِ الصَّدَقَةُ ) يَعْنِي مَا صُولِحُوا عَلَيْهِ ، عَلَى أَنَّ مِلْكَهُ لِأَهْلِهِ ، وَلَنَا عَلَيْهِمْ خَرَاجٌ مَعْلُومٌ ، فَهَذَا الْخَرَاجُ فِي حُكْمِ الْجِزْيَةِ ، مَتَى أَسْلَمُوا سَقَطَ عَنْهُمْ ، وَإِنْ انْتَقَلَتْ إلَى مُسْلِمٍ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ خَرَاجٌ ، وَفِي مِثْلِهِ جَاءَ عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ ، قَالَ : { بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْبَحْرَيْنِ وَإِلَى هَجَرَ ، فَكُنْت آتِي الْحَائِطَ تَكُونُ بَيْنَ الْإِخْوَةِ ، يُسْلِمُ أَحَدُهُمْ ، فَآخُذُ مِنْ الْمُسْلِمِ الْعُشْرَ ، وَمِنْ الْمُشْرِكِ الْخَرَاجَ .
} رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ ، فَهَذَا فِي أَحَدِ هَذَيْنِ الْبَلَدَيْنِ ؛ لِأَنَّهُمَا فُتِحَا صُلْحًا ، وَكَذَلِكَ كُلُّ أَرْضٍ أَسْلَمَ أَهْلُهَا عَلَيْهَا ، كَأَرْضِ الْمَدِينَةِ ، فَهِيَ مِلْكٌ لَهُمْ ، لَيْسَ عَلَيْهَا خَرَاجٌ وَلَا شَيْءٌ .
أَمَّا الزَّكَاةُ فَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ ، وَلَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ الْعُشْرِ فِي الْخَارِجِ مِنْ هَذِهِ الْأَرْضِ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، عَلَى أَنَّ كُلَّ أَرْضٍ أَسْلَمَ أَهْلُهَا عَلَيْهَا قَبْلَ قَهْرِهِمْ عَلَيْهَا ، أَنَّهَا لَهُمْ ، وَأَنَّ أَحْكَامَهُمْ أَحْكَامُ الْمُسْلِمِينَ ، وَأَنَّ عَلَيْهِمْ فِيمَا زَرَعُوا فِيهَا الزَّكَاةَ .

( 1868 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَمَا كَانَ عَنْوَةً أُدِّيَ عَنْهَا الْخَرَاجُ ، وَزُكِّيَ مَا بَقِيَ إذَا كَانَ خَمْسَةَ أَوَسْقً ، وَكَانَ لِمُسْلِمٍ ) .
يَعْنِي مَا فُتِحَ عَنْوَةً وَوُقِفَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، وَضُرِبَ عَلَيْهِمْ خَرَاجٌ مَعْلُومٌ ، فَإِنَّهُ يُؤَدِّي الْخَرَاجُ مِنْ غَلَّتِهِ ، وَيُنْظَرُ فِي بَاقِيهَا ، فَإِنْ كَانَ نِصَابًا فَفِيهِ الزَّكَاةُ إذَا كَانَ لِمُسْلِمِ ، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ نِصَابًا ، أَوْ بَلَغَ نِصَابًا وَلَمْ يَكُنْ لِمُسْلِمِ ، فَلَا زَكَاةَ فِيهِ ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ لَا تَجِبُ عَلَى غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ .
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي كُلِّ أَرْضٍ خَرَاجِيَّةٍ .
وَهَذَا قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَالزُّهْرِيِّ ، وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيِّ ، وَرَبِيعَةَ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ ، وَمَالِكٍ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَمُغِيرَةَ ، وَاللَّيْثِ ، وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى ، وَابْنِ الْمُبَارَكِ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَإِسْحَاقَ ، وَأَبِي عُبَيْدٍ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ : لَا عُشْرَ فِي الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { لَا يَجْتَمِعُ الْعُشْرُ وَالْخَرَاجُ فِي أَرْضِ مُسْلِمٍ } .
وَلِأَنَّهُمَا حَقَّانِ سَبَبَاهُمَا مُتَنَافِيَانِ ، فَلَا يَجْتَمِعَانِ ، كَزَكَاةِ السَّوْمِ وَالتِّجَارَةِ ، وَالْعُشْرِ ، وَزَكَاةِ الْقِيمَةِ .
وَبَيَانُ تَنَافِيهِمَا أَنَّ الْخَرَاجَ وَجَبَ عُقُوبَةً ؛ لِأَنَّهُ جِزْيَةُ الْأَرْضِ ، وَالزَّكَاةُ وَجَبَتْ طُهْرَةً وَشُكْرًا ، وَلَنَا : قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ } وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ .
} وَغَيْرُهُ مِنْ عُمُومَاتِ الْأَخْبَارِ .
قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ } .
ثُمَّ قَالَ : نَتْرُكُ الْقُرْآنَ لِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَلِأَنَّهُمَا حَقَّانِ يَجِبَانِ لِمُسْتَحِقَّيْنِ يَجُوزُ وُجُوبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْمُسْلِمِ ، فَجَازَ اجْتِمَاعُهُمَا كَالْكَفَّارَةِ وَالْقِيمَةِ فِي الصَّيْدِ الْحَرَمِيِّ الْمَمْلُوكِ ، وَحَدِيثُهُمْ يَرْوِيه يَحْيَى بْنُ

عَنْبَسَةَ ، وَهُوَ ضَعِيفٌ ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، ثُمَّ نَحْمِلُهُ عَلَى الْخَرَاجِ الَّذِي هُوَ جِزْيَةٌ .
وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ : " وَكَانَ لِمُسْلِمِ " يَعْنِي أَنَّ الزَّكَاةَ لَا تَجِبُ عَلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ إذَا لَمْ يَكُنْ مُسْلِمًا ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي أَرْضِهِ سِوَى الْخَرَاجِ .
قَالَ أَحْمَدُ ، رَحِمَهُ اللَّهُ : لَيْسَ فِي أَرْضِ أَهْلِ الذِّمَّةِ صَدَقَةٌ ، إنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { صَدَقَةٌ تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } .
فَأَيُّ طُهْرَةٍ لِلْمُشْرِكِينَ ، وَقَوْلُهُمْ : إنَّ سَبَبَيْهِمَا يَتَنَافَيَانِ .
غَيْرُ صَحِيحٍ .
فَإِنَّ الْخَرَاجَ أُجْرَةُ الْأَرْضِ ، وَالْعُشْرُ زَكَاةُ الزَّرْعِ ، وَلَا يَتَنَافَيَانِ ، كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا فَزَرَعَهَا ، وَلَوْ كَانَ الْخَرَاجُ عُقُوبَةً لِمَا وَجَبَ عَلَى مُسْلِمٍ ، كَالْجِزْيَةِ .
.

( 1869 ) فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَ فِي غَلَّةِ الْأَرْضِ مَا لَا عُشْرَ فِيهِ ، كَالثِّمَارِ الَّتِي لَا زَكَاةَ فِيهَا ، وَالْخَضْرَاوَاتِ ، وَفِيهَا زَرْعٌ فِيهِ الزَّكَاةُ ، جُعِلَ مَا لَا زَكَاةَ فِيهِ فِي مُقَابَلَةِ الْخَرَاجِ ، وَزُكِّيَ مَا فِيهِ الزَّكَاةُ ، إذَا كَانَ مَا لَا زَكَاةَ فِيهِ وَافِيًا بِالْخَرَاجِ .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا عَلَيْهِ إلَّا مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ ، أُدِّيَ الْخَرَاجُ مِنْ غَلَّتِهَا ، وَزُكِّيَ مَا بَقِيَ .
وَهَذَا قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ .
رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي عَبْلَةَ ، قَالَ : كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عَوْفٍ عَامِلِهِ عَلَى فِلَسْطِينَ ، فِي مَنْ كَانَتْ فِي يَدِهِ أَرْضٌ يَحْرُثهَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، أَنْ يَقْبِضَ مِنْهَا جِزْيَتَهَا ، ثُمَّ يَأْخُذَ مِنْهَا زَكَاةَ مَا بَقِيَ بَعْدَ الْجِزْيَةِ .
قَالَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ : أَنَا اُبْتُلِيت بِذَلِكَ ، وَمِنِّي أَخَذُوا ذَلِكَ لِأَنَّ الْخَرَاجَ مِنْ مُؤْنَةِ الْأَرْضِ ، فَيُمْنَعُ وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِي قَدْرِهِ ، كَمَا قَالَ أَحْمَدُ : مَنْ اسْتَدَانَ مَا أَنْفَقَ عَلَى زَرْعِهِ ، وَاسْتَدَانَ مَا أَنْفَقَ عَلَى أَهْلِهِ ، احْتَسَبَ مَا أَنْفَقَ عَلَى زَرْعِهِ دُونَ مَا أَنْفَقَ عَلَى أَهْلِهِ .
لِأَنَّهُ مِنْ مُؤْنَةِ الزَّرْعِ .
وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ : يَحْتَسِبُ بِالدَّيْنَيْنِ جَمِيعًا ، ثُمَّ يُخْرِجُ مِمَّا بَعْدَهُمَا .
وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّ الدَّيْنَ كُلَّهُ يَمْنَعُ الزَّكَاةَ فِي الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ .
فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يَحْسِبُ كُلَّ دَيْنٍ عَلَيْهِ ، ثُمَّ يُخْرِجُ الْعُشْرَ مِمَّا بَقِيَ إنَّ بَلَغَ نِصَابًا .
وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ نِصَابًا فَلَا عُشْرَ فِيهِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَاجِبَ زَكَاةٌ ، فَمَنَعَ الدَّيْنُ وُجُوبَهَا ، كَزَكَاةِ الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ ، وَلِأَنَّهُ دَيْنٌ ، فَمَنَعَ وُجُوبَ الْعُشْرِ ، كَالْخَرَاجِ ، وَمَا أَنْفَقَهُ عَلَى زَرْعِهِ .
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى ، أَنَّ مَا كَانَ مِنْ مُؤْنَةِ الزَّرْعِ ، فَالْحَاصِلُ فِي مُقَابَلَتِهِ يَجِبُ

صَرْفُهُ إلَى غَيْرِهِ ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ .

( 1870 ) فَصْلٌ : وَمَنْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا فَزَرَعَهَا ، فَالْعُشْرُ عَلَيْهِ دُونَ مَالِكِ الْأَرْضِ .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَشَرِيكٌ ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : هُوَ عَلَى مَالِك الْأَرْضِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ مُؤْنَتِهَا ، فَأَشْبَهَ الْخَرَاجَ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ وَاجِبٌ فِي الزَّرْعِ ، فَكَانَ عَلَى مَالِكِهِ ، كَزَكَاةِ الْقِيمَةِ فِيمَا إذَا أَعَدَّهُ لِلتِّجَارَةِ ، وَكَعُشْرِ زَرْعِهِ فِي مِلْكِهِ ، وَلَا يَصِحُّ قَوْلُهُمْ : إنَّهُ مِنْ مُؤْنَةِ الْأَرْضِ .
لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ مُؤْنَتِهَا لَوَجَبَ فِيهَا وَإِنْ لَمْ تُزْرَعْ ، كَالْخَرَاجِ ، وَلَوَجَبَ عَلَى الذِّمِّيِّ كَالْخَرَاجِ ، وَلْتُقَدَّرْ بِقَدْرِ الْأَرْضِ لَا بِقَدْرِ الزَّرْعِ ، وَلَوَجَبَ صَرْفُهُ إلَى مَصَارِفِ الْفَيْءِ دُونَ مَصْرِفِ الزَّكَاةِ .
وَلَوْ اسْتَعَارَ أَرْضًا فَزَرَعَهَا ، فَالزَّكَاةُ عَلَى صَاحِبِ الزَّرْعِ ؛ لِأَنَّهُ مَالِكُهُ .
وَإِنْ غَصَبَهَا فَزَرَعَهَا وَأَخَذَ الزَّرْعَ ، فَالْعُشْرُ عَلَيْهِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ عَلَى مِلْكِهِ .
وَإِنْ أَخَذَهُ مَالِكُهَا قَبْلَ اشْتِدَادِ حَبِّهِ ، فَالْعُشْرُ عَلَيْهِ .
وَإِنْ أَخَذَهُ بَعْدَ ذَلِكَ ، احْتَمَلَ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ أَخْذَهُ إيَّاهُ اسْتَنَدَ إلَى أَوَّلِ زَرْعِهِ ، فَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ تِلْكَ الْحَالِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ زَكَاتُهُ عَلَى الْغَاصِبِ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مِلْكًا لَهُ حِينَ وُجُوبِ عُشْرِهِ ، وَهُوَ حِينَ اشْتِدَادِ حَبِّهِ .
وَإِنْ زَارَعَ رَجُلًا مُزَارِعَةً فَاسِدَةً ، فَالْعُشْرُ عَلَى مَنْ يَجِبُ الزَّرْعُ لَهُ .
وَإِنْ كَانَتْ صَحِيحَةً ، فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عُشْرُ حِصَّتِهِ .
وَإِنْ بَلَغَتْ خَمْسَةَ أَوَسْقً ، أَوْ كَانَ لَهُ مِنْ الزَّرْعِ مَا يَبْلُغُ بِضَمِّهِ إلَيْهَا خَمْسَةَ أَوْسُقٍ ، وَإِلَّا فَلَا عُشْرَ عَلَيْهِ .
وَإِنْ بَلَغَتْ حِصَّةُ أَحَدِهِمَا دُونَ صَاحِبِهِ النِّصَابَ ، فَعَلَى مَنْ بَلَغَتْ حِصَّتُهُ النِّصَابَ عُشْرُهَا ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْآخَرِ ؛ لِأَنَّ الْخُلْطَةَ لَا تُؤَثِّرُ فِي غَيْرِ السَّائِمَةِ ، فِي الصَّحِيحِ .
وَنُقِلَ عَنْ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71